کامل البهائي

هویة الکتاب

سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.

عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی

عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].

مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :

وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری

يادداشت:عربی

يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم

رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384

رده بندی دیویی:297/95

شماره کتابشناسی ملی:2583425

ص: 1

المجلد1

اشارة

ص: 2

مقدّمة المترجم

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نازعتني نفسي أن أقنع بشبه المقدّمة التي صدّرها الناشر للكتاب و أسلم من المؤاخذات التي تحاسبني على مقدّمتي بعد كتابتها، إذ ليس من اللائق بي بعد صرف هذا الجهد المضني على الترجمة أن أترك إبداء الملاحظات التي بدت لي خلالها مع علمي بمكانة المؤلّف العلميّة، فهو كما نصّ عليه أرباب التراجم: الشيخ الفقيه عماد الدين و عماد الإسلام الموثوق به عند العلماء الأعيان، العالم الخبير المتدرّب النحرير، المتكلّم الجليل، المحدّث النبيل، الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ أو «الطبرسيّ» الآمليّ الاسترآباديّ، كان معاصرا للمحقّق الطوسيّ و المحقّق الحلّيّ و العلّامة (1)، آرائه الفقهيّة منقولة في الكتب نقلها الشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة، و المحقّق السبزواريّ في ذخيرته عند مبحث صلاة الجمعة و كذلك القاضي نور اللّه التستري و آخرون، كان من أفاضل عصره و من فحول الإماميّة و أكابرهم، له مصنّفات جيّدة في الفقه و الحديث و الكلام و غيرها، همّ فيها بتشييد قواعد الدين و تحقيق حقائق المذهب.

ص: 3


1- انظر المصادر الآتية لا سيّما رياض العلماء 1: 268 و أعيان الشيعة 5: 213 و اعلم بأنّ هذا الكلام ليس منّي و إنّما نقلته من مقال عنه في مقدّمة «أسرار الإمامة» له.

و قد نالت كتبه الفقهيّة اهتمام الفقهاء المتأخّرين، و نقلوا آرائه في كتبهم، و هذا دليل ساطع على جلالته و وثوقه عند فقهاء كبار أمثال الشهيد الثاني و صاحب الذخيرة و غيرهما، و ثمّة دليل آخر على تبحّره في العلوم الإسلاميّة و خاصّة الفقه و الكلام، هو ما نستشفّه من كلمات الثناء التي مدحه بها أصحاب التراجم، و أشرنا إلى بعضها في البداية.

يقول المرحوم المحدّث القمّي الذي أورد ترجمة مفصّلة للمؤلّف في كتاب (الفوائد الرضويّة): و اعتنى به الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي حكومة بلاد فارس في عصر هلاكو، و كانت للشيخ منزلة رفيعة و مكانة سامية عنده.

نسبه و موطنه:

ذكر معظم أرباب التراجم نسب المؤلّف على النحو الآتي: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن عليّ بن الحسن عماد الدين الطبريّ، و ذهب بعض آخر منهم إلى أنّه الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن الحسن عماد الدين الطبريّ.

و قال المؤلّف عن نفسه في مواضع من كتاب (كامل البهائي) أنّه الحسن بن عليّ ابن محمّد بن الحسن الطبريّ، و إذا علمنا أنّ المؤلّف سمّى نفسه في مواطن أخرى الحسن بن عليّ الطبريّ فإنّنا على يقين أنّه كان يراعي الاختصار في تعريف نفسه و أنّ جدّه الأوّل محمّد، و جدّه الثاني عليّ، و جدّه الثالث الحسن كما جاء ذلك أيضا في كتاب كامل البهائيّ المطبوع، و هكذا ذكره صاحب الذريعة في أكثر المواضع التي أورد فيها مؤلّفاته.

و أمّا نسبته إلى طبرستان فشي ء ذكره المؤلّف مرارا و صرّح به أرباب التراجم كما أنّه نفسه انتسب أيضا إلى مازندران و هما واحد، و لا شكّ أيضا في كونه من بلد

ص: 4

آمل الذي كان في القديم أوّل طبرستان كما نسبه إليه جمع كثير من العلماء و هذا العنوان كما يطلق عليه يطلق على بعض آخر من العلماء أيضا ... الخ، انتهى موضع الحاجة منه.

و مؤلّفاته تعرب عن فضله لا سيّما ما كان منها في تشييد المذهب، و رجل كهذا كيف يخترق مجاله العلميّ فيؤخذ عليه أنّه قال ما لا ينبغي أن يقال، أو كتب ما لا يصحّ خلا أنّني وجدت كثيرا من هذا و ذاك في كتابه «كامل البهائي» و داخلتني الحيرة و تأرجح قلمي بين ما تراه عيني و يشعر به فكري و بين مكانة المؤلّف السامية في عالم التشيع لأنّه واحد من روّاده في أقطار البلد المحروس ايران. و ينبغي أن تستثنى مدينة «قم» حيث أنّها لم يسبقها سابق في هذه الريادة و لم يلحق بها لا حق، و لعمري أنّها سبقت العالم كلّه في تبلور الشخصيّة الشيعيّة داخل إطار المذهب الجعفريّ، و أنّ لها مواقف لا تطال في الدعوة إلى الأخذ بهذه المدرسة ليس في ايران وحدها بل في الوطن الإسلامي كلّه.

و لا يخامرني ريب بأنّها حامي حمى الإسلام في ايران و لولاها لكانت ايران في عهد رضاخان قد تحوّلت من النقيض إلى النقيض و كان هذا الجبّار ينوي أن يقوم في ايران بالدور الذي قام به أتاتورك في تركية لو لا أنّه ارتطم في الصخرة التي لا تؤثّر فيها معاول الزمن و هي «قم» المدينة المقدّسة العالمة، و قاسى هذا البلد الأمين ما قاساه من صولة الحاكم المتمذهب بغير مذهبها و لكنّها صبرت على اللأواء و الشدّه صبر الأحرار حتّى قهرت الزمن و لم يقهرها، و طامنت من جماحة فلان عصيه لها و سمّاها المعصوم: «عشّ آل محمّد» و هي بحقّ عشّ ذهبي لهم و لشيعتهم، و لست أرى بلدا في الإسلام نظير هذا البلد لم يأو إلى دوحه سوى مذهب آل محمّد منذ نشأته على يد الأشاعرة الشيعة و إلى يوم الناس هذا لذلك يعتبر طليعة الروّاد في المذهب. أمّا خارج حدود هذا البلد الأمين و في محيط الأمّة الإيرانيّة فقد تسود

ص: 5

المذاهب العاميّة الأخرى بعنف دمويّ لأنّ أوّل الدواء عندها كآخره القتل و القتل وحده و تصفية الخصم، فكانت نقمة جبّارة على ذاتها و على غيرها من الذوات، و حينئذ حين يطلع في هذا الجوّ المكفهرّ كوكب وضّاء يضي ء للشيعة حوالك الزمن كصاحبنا عماد الدين و ينطلق من أسار هذا المناخ القائم و يجنح شطر الحق لا لمصلحة اقتضت ذلك منه بل انجذابا إلى الدليل الذي لا يخترق و البرهان الذي لا يقهر.

هنا يبدأ الغلوّ في الحرص من أبناء المذهب على مثل هذه الشخصيّة فيعد الحديث عنه بغير الأكبار و الإعجاب ضربا من التفريط به و لم يكن ذلك محض تعصّب و عناد بل نظرا لعطائه الضخم في علوم زمانه ممّا يجعل من المستحيل تحميله الهفوات الواردة في كتابه لبساطتها بحيث لا تخفى على من همّ دونه بمراتب كثيرة فما بالك به و هو العالم المتكلّم البحّاثة الواعي الملمّ بعلوم عصره و المحيط بمعارف زمانه.

و هنا أقول بصراحة: خامرتني هيبة من يرمي بنفسه إلى البحر من سفينة في أن أقول لعماد الدين: أخطأت أو قصّرت أو التبس عليك أو أو أو إلى آخره، إلّا أنّي رأيت الأمانة العلميّة و علاقتي النقيّة مع القارئ المقامة على الحقّ و الصدق و الصراحة أكبر من هذه المشاعر فحملني ذلك كلّه على كتابة المقدّمة و إن جرّ البعض إلى لومي و تقريعي و الذي يشفع لي فيما رأيت أنّي أنقد مستغربا لا جارحا، و قطع عليّ التعجّب من المؤلّف بعد الإعجاب به أنّي عزوت جلّ الهفوات إلى يد خفيّة تصرّفت بالكتاب تصرّفا إن لم تفقده مكانته العلميّة التي استحقّها بين الكتب فقد رقطت وجهه الناصع بها كما يرقط الوجه الجميل بالنمش.

وجدت في الكتاب أخطاءا لغويّة و تاريخيّة و حتّى كلاميّة أيضا و لكن بعد إجهاد الفكر و اضطرابه في هذا المنحى الصعب أخالني بلغت شاطئ الحقيقة و لم أبحر في أعماقها حتّى النهاية بما بادهني من الشعور المستأنس بأنّ النصّ قد تصرّف-

ص: 6

بالبناء للمجهول- فيه. و تسربت إليه خيوط من غير نسجه من أنوال جاهله و ربّما كانت عفويّة و لكن لا أستبعد أن يكون ذلك قصدا، و يبقى من المهمّ جدّا التعرف على الدافع الذي حمل الناسخ على استبدال لفظ مكان آخر أو وضع جملة محلّ أخرى، و إنّما عصبت التهمة بجبين الناسخ و نظرائه ممّن يملكون القدرة على التلاعب بالآثار، فلأنّ الألفاظ التي جرى تغييرها ليست ممّا يخطأ فيه الغبي الجاهل فضلا عن الحكيم العالم، خذ على سبيل المثال ترجمة المؤلّف قول الإمام لمروان «أما إنّ له إمرة» بالمرأة- زن- فهذا كيف يخطأ فيه عماد الدين المتكلّم و المؤرّخ و الفقيه الحاذق، و المؤلّف باللغة العربيّة أيضا، و جلّ الألفاظ المبدلة على هذا النمط البسيط.

أضف إلى هذا لغة الكتاب الفارسيّة فما كانت تشبه سبك عصر المؤلّف و هي أقرب إلى الفترة القاجاريّه منها إلى ذلك العصر المغولي. هذا كلّه و منه ما أترك بيانه لدارسي الكتاب و المؤلّف و عصره من ذوي الاختصاص حملني على الاعتقاد بتسرب نسيج العنكبوت إلى خيوط هذا الكتاب القيّم الحريريّة فعلمت أنّ وراء هذا الإسفاف عقولا متدنيّة إلى درجة العناء.

لا سيّما و الكتاب غير محقّق و لم يشر الناشر إلى النسخة التي اعتمدها في طبع الكتاب فللكتاب نسخ عدّة ذكرها الشيخ أغا بزرك الطهراني رحمه اللّه و ليست نسخة واحدة، و يجمل بنا أن نذكر هنا ما قاله شيخنا العظيم الأغا بزرك الطهرانيّ رحمة اللّه تعالى عليه فإنّه قال في الذريعة:

«كامل البهائي» فارسيّ في الإمامة و شرح ما جرى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لذا يسمّى ب «كامل السقيفة» للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبريّ، و في النسخة المطبوعة بدل جدّه علي الطبري الحسن، و هو المعاصر للخواجه نصير الدين الطوسي، كتبه بأمر الوزير بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس

ص: 7

الدين محمّد الجويني صاحب الديوان و المتولّي لحكومة اصفهان في دولة هولاكو المغول.

إلى أن يقول: قال في الرياض: و هو كتاب كبير في مجلّدين، و المتداول منه المجلّد الأوّل و هو في أحوال أمير المؤمنين و إثبات إمامته و إبطال غيره، و المجلّد الثاني في أحوال باقي الأئمّة و قد رأيت منه نسخة تامّة بكاشان عند كلانتر تلك البلدة و أخرى بأسترآباد في كتب المولى حسين الأردبيلي و يوجد أيضا نسخة عتيقة عند المولى ذو الفقار و نسخة تامّة في اصفهان عند الميرزا أشرف بن الميرزا حسيب و الذي عندنا إنّما هو المجلّد الأوّل منه، و قال قبل ذلك: إنّ الموجود عندي هو المجلّد الأوّل إلى آخر شهادة الحسين عليه السّلام.

أقول: الميرزا أشرف هو صاحب فضائل السادات المطبوع، و قد كانت عنده النسخة بتمامها و ينقل عنها في كتابه كما صرّح به في (الرياض)، فلو وجد في كتابه النقل عن (الكامل) مع عدم وجوده في النسخة المطبوعة منه يعلم أنّه منقول عن مجلّده الثاني فإنّ الطبوع منه هو المجلّد الأوّل فقط كما يأتي، و نسخة الرضويّة المكتوبة في 974 ق مطابق مع المطبوع، و نسخة في المجلس: 2077 غير مؤرّخة يرجع إلى القرن الثامن ساقط الأوّل و الأخير.

إلى أن قال: و قد طبع في بمبئي في 1323 المجلّد الأوّل فقط و فيه حكاية سماعه في اصفهان في 603 عن مفتي يزيديّ، و منه إلى فراغ الكتاب أزيد من سبعين سنة، فإمّا تاريخ السماع غلط أو أنّه كان من المعمّرين لأنّه ألّف أسرار الإمامة في 698 و الأوّل أظهر لأنّ النسخة المطبوعة مغلوطة للغاية، و أمّا المجلّد الثاني فما عثرت عليه إلى اليوم (1).

ص: 8


1- الذريعة 17: 252.

فهل أنّ النسخة المطبوعة اليوم طبعت على نسخة بمبئي لابدّ أن تكون الحال كذلك لكثرة أغلاطها.

و كان على الناشر أن يتحرّى الدقّة في نشره الكتاب بتحرّيه الخير، فلا يجمد على ما أسداه الأوائل لعصرهم و عليه القيام بتحقيق هذا التراث القيّم فيميط عنه ما علّق به من غبار التشويه و التغيير فيعمد إلى تحقيق الكتاب و على رأس ذلك صحّة نسبته لمؤلّفه و تبيين النسخ المعتمدة الخطّيّه في طباعته أو حتّى النسخة الواحدة إن لم يوجد سواها إلّا أنّه لا يوجد شي ء من هذا في الطبعة الإيرانيّة للكتاب، و لست أعرف السرّ في إهمال مثل هذا الكتاب بدون تحقيق، و لو صرف مثّقّفونا بعض الجهد على تحقيقه لكان خيرا من عشرات الكتب التي كتبت بعده أو في عصرنا، و أخرجت إخراجا جيّدا أنيقا، و ما كان مردودها ليناسب جمال إخراجها، أمّا هذا الكتاب و غيره من الكتب المدافعة عن المذهب فلست واجدا من يعني بأمرها.

و الكتاب تجاوز صداه اللغة التي كتب بها و صار مفزع العلماء و مصدرهم الذي لا يستغنى عنه في موضوعه و لكنّي وجدت محتواه التاريخيّ في بعض جوانبه دون سمعته بأشواط لأنّ غرائبه كثيرة و فيه أساطير يكذّبها العقل و النقل نظير قتل معاوية لعائشة بالشكل الذي أورده رحمه اللّه فإنّه لا يعقل على الإطلاق و المشكله أنّه أورده مرسلا و هي طريقته في المستغربات و لم يعزه إلى مصدر أيضا حتّى بالوجادة فثبوت وضعه لا يحتاج إلى كبير جهد، و مثل هذه الأمور تجد الكثير في الكتاب.

هذا من جهة و من جهة أخرى، تجده يقصر في إشباع الموضوع الذي أثبت الفصل من أجله نظير الفصل الذي خصّصه لدحض النسب الأمويّ فلم يأت بشي ء يذكر اللهمّ إلّا جملة قصيرة في صدره ثمّ الخوض في مسائل لا ينظمها سلك واحد.

ص: 9

و أعجب ما رأيت منه إعراضه عن ذكر أمّ البنين عليها السّلام بل تجنّب ذكرها من رأس كأنّه لا يصحّح وجودها بل هذا هو رأيه على الحقيقة فلم يشر إلى وجودها و لو على طريقة الردّ و إنّما نسب العبّاس عليه السّلام إلى ليلى بنت مسعود الثقفيّة و جعل له أخا واحدا منها و سمّاه جعفرا و كنّاها بأمّ البنين، و هذا خرق غير مسئول لإجماع المؤرّخين و كان عليه تحقيقا أن يشير إلى من ذكر وجودها ثمّ يعمد إلى إثبات ما يراه فلماذا لم يفعل ذلك ليت شعري.

كما أنّه يؤكّد وفاة أمّ كلثوم في دمشق الشام فإذا ثبت ما يقوله البعض من أنّ زينب هي أمّ كلثوم يقع شطر من تاريخ كربلاء في مهبّ الشكوك و إن إفاد في رفع طائلة الإبهام عن القبر المنسوب في دمشق.

و يزعم أنّ بقاء أهل البيت في دمشق امتدّ إلى أكثر من عشرة أيّام من ربيع الأوّل و فيه رحلوا إلى مدينة جدّهم و لازم هذا القول إنكار يوم الأربعين و لم يصرّح بذلك لفظا لو لا اقتضاء اللزوم، و لعلّه أوّل من فتح للشيخ النوري الطريق إلى إنكاره لأنّه اعتمد على كامل البهائي و جعله من أوّل مصادره في كتابه «لؤلؤ و مرجان» و ناقش الشيخ الطوسي بقوّة ما رواه السيّد ابن طاووس في آخر اللهوف من أنّ أهل البيت قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري رحمه اللّه و جماعة من بني هاشم ... الخ (1). و ما من ريب أنّ النوريّ رحمه اللّه تأثّر بكتابه فقد ذكره بكثير من الإعجاب و أثنى عليه و سمّاه العالم الجليل البصير عماد الدين الحسن بن عليّ الطبرسيّ صاحب المؤلّفات الرائقة مثل أسرار الإمامة و غيرها مثل كامل السقيفة المعروف بكامل البهائي ... الخ (2)

ص: 10


1- النوري، لؤلؤ و مرجان: 149.
2- نفسه: 158.

و لا بدّ من كون الشيخ النوري حائز على النسخة الصحيحة و إلّا لما اعتعنى بالكتاب.

و أعجب ما رأيت من هذا المؤلّف هو غارته الشعواء على كتاب «التعجّب» للشيخ الكراجكيّ فقد استلّ بل استلب منه ما ينيف على الربع في مناظراته من دون إشارة و لو بالكناية إلى صاحبه أو إليه، و مهما قلنا عن حسن نيّة المؤلّف أو عن مكانته العلميّة فإنّه لا يعذر على الإطلاق، على أنّه استند إلى كتب ليست في مستوى التعجّب من قبيل كتاب فعلت فلا تلم في المثالب أو الحاوية فإنّه ذكرها أحسن ذكر، فما السبب في إهمال كتاب التعجّب و قد أتخم كتابه من مادّته البديعة، و الكتاب و إن صغر حجمه إلّا أنّه كبير المحتوى عظيم الفائدة على كلّ مسلم مطالعته بإمعان ليقف على حقيقة الخصوم، و لا يمكن أن تكون المسألة عفويّة و لا عكسيّة لأنّ الكراجكيّ عليه الرحمة توفّي سنة 449 و اسم الكتاب الكامل «التعجّب من أغلاط العامّه في مسألة الإمامة» و عماد الدين الطبري صاحبنا كتب كامل البهائي سنة 675 فبين الكتابين حدود: 236 سنة، و لم يشر أحد إلى ذلك ممّن كتب عن الكامل أو مؤلّفه و لا أقصد هنا التشهير به نعوذ باللّه من ذلك لأنّي أعتزّ بالمؤلّف اعتزازا فاق حدود المتصوّر، و لكنّي أردت جلاء الحقيقة و إن أوقف القارئ على جليّة الأمر لأنّي دهشت حقّا حين رأيت الرجل ينقل مناظرات الكراجكيّ بقضّها و قضيضها إلى كتابه دونما إشارة إليه و رأيت ذلك حقّا مضيّعا للكراجكيّ فآثرت الإشارة إليه و خلصت إلى نتيجة و ثقت بها لنفسي من أنّ عماد الدين الطبريّ رحمه اللّه مناظر لا يشقّ له غبار و هفوته مغفورة في هضم حقّ الكراجكيّ يشفع له الهدف السامي من تأليف الكامل الذي نصّ عليه في آخر الكتاب و لكن المؤرّخ يتضائل فيه إلى درجة الإسفاف.

ثمّ أنا على يقين من أنّ الهفوات اللغويّة في الكتاب ليست منه بل هي مدسوسة

ص: 11

فيه، و نحتاج لكي نصل إلى نتيجة مرضيّة إلى دراسته ببذل جهد طائل مركّز، كما أنّي واثق بل لا محيد عن ذلك من أنّ الرجوع إلى نسخة الخطّيّة يفيد كثيرا في كشف الحقيقة، أمّا الهفوات فقد ذكرتها في الهوامش و سيطّلع عليها القارئ و لا حاجة إلى تكرارها في المقدّمة.

نبذة عن الكتاب

و الكتاب نفيس للغاية و مهمّ جدّا و فيه ريّ لأوام الولي و شفاء لعلّته بما يورده من حجج دامغة على الخصم تبصرة بحقيقته إن كان ممّن يتبصّر، و كان من الحقّ ألّا تخلو المكتبة العربيّة منه، لذلك عرض عليّ الأستاذ الكبير و الناشر القدير صاحب المكتبة المضيئة أمس و اليوم و غدا إن شاء اللّه الأخ أبو زينب ترجمته فلبّيت مسرعا و جعلته شكرا للّه على سلامتنا هو من مرضه الذي ألمّ به و أنا من حادث الاصطدام الذي كاد يؤدّي بحياتي لو لا فضل اللّه عليّ و عليه و شكرا له على تعاهدة مثل هذه الآثار و تعهّده للمؤلّفين و المترجمين ببذل خير الجهد لنشر آثارهم و الحمد للّه بدءا و ختاما.

و أختم المقدّمة بالتصدير الذي صدّر به الناشر الكتاب و قد أخذه من الفوائد الرضويّه و فيه ذكر لمؤلّفات الطبري التي أغنانا عن ذكرها في المقدّمة.

المترجم- محمّد شعاع فاخر

ص: 12

بسم اللّه الرحمن الرحيم

[كلام محدث القمى]

التصدير: شرح حال المؤلّف مطابقا لما تفضّل به المحدّث القمّي رضوان اللّه عليه

قال المحدّث القمّي في كتابه الفوائد الرضويّة ص 111: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن الحسن عماد الدين الطبريّ شيخ عالم، ماهر خبير، متدرّب، نحرير متكلّم جليل محدّث نبيل، فاضل، فهّامة.

معاصر للخواجه نصر الدين الطوسي و المحقّق الحلّي و العلّامة الحلّي، و هو صاحب الكتب الشريفة في أصول المذهب و تشييد قواعد الدين و الفقه و الحديث و غير ذلك، مثل:

1- معارف الحقائق

2- عيون المحاسن

3- بضاعة الدين

4- الكفاية في الإمامة

5- النقض على معالم فخر الدين الرازي

6- المنهج في فقه العبادات و الأدعية و الآداب الدينيّة.

7- كتاب أسرار الإمامة

ص: 13

8- جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول

9- العمدة في أصول الدين و فروعه

10- نهج الفرقان

11- تحفة الأبرار في أصول الدين

12- مناقب الطاهرين

13- أربعين بهائي

14- كتاب (أحوال السقيفة) (و هو كامل البهائي).

و كان الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي لحكومة الممالك الإيرانيّة في أيّام السلطان هلاكو خان و كان نظير الصاحب بن عباد له عنايه خاصّة بالعلماء و شيعة الإمام أمير المؤمنين.

و كانت عنايته بالشيخ الطبري أكبر و كان ينزله عنده بالمنزلة الرفيعة و الدرجة الخصيصة، فلا بدع أن يبادله المؤلّف نفس المشاعر الخاصّه فيوقف عليه خاطره المتدفّق بالثروات العلميّة فيؤلّف له عددا من الكتب منها «أربعين بهائي» في تفضيل أمير المؤمنين، و الكتاب الذي بأيدينا الآن «كامل البهائي في السقيفة».

و قال في ديباجة الكامل: و لمّا ألّفت كتبي في مناقب الطاهرين و هي بمجموعها في التولّي، لزمني من ذلك أن أكتب كتبا في التبرّي، فكتب كتاب الكامل في موضوع التبرّي.

و كلا الكتابين هما بمثابة السيف و الرمح على المخالفين و نيف كلاهما على ثلاثين ألف سطر.

و طبع الكامل بمدينة بمبئي إلّا أنّ نسخه شحّت حتّى لا تكاد تحصل على نسخة واحدة منه، و لمّا اجتزت بتلك الديار حصلت بيدي نسخة منه و لكن لم يقدّر لي و يا

ص: 14

للأسف تصحيحها و كانت غاية في ردائة الطبع و الأخطاء إلى درجة يتعذّر على غير العالم الاستفادة منها، و هو كتاب جليل جمّ الفوائد كثير العوائد، و قد فرغ من تأليفه في سنة (675) و بقي في تحريره اثني عشر سنة بذل جهدا عظيما في جمع مادّته و ترتيبها و لكنّه لم يقتصر عليه وحده بل أخرج في هذه المدّة مع انشغاله به كتبا عدّة نفع بها العالم و المتعلّم.

و يظهر من مادّة الكتاب أنّ عند الشيخ أصول النسخ من كتب الأصحاب القدماء من قبيل كتاب «فعلت فلا تلم» و هو في المثالب و من مؤلّفات أبي الجيش مظفّر بن محمّد الخراسانيّ و هو من متكلّمي الشيعة و العارف بأخبارهم و من تلامذة أبي سهل النوبختي.

و مثله كتاب «الحاوية» و هو في مثالب معاوية لعنه اللّه، و مؤلّفه القاسم بن محمّد ابن أحمد المأموني السنّي.

و بعد أن يفيض الشيخ في نقل قضايا عدّة من كتاب الكامل، يقول:

و صفوة القول: أنّي لا أعرف تاريخ وفاته و لا موضع قبره و لم يذكرهما أحد، و قال صاحب روضات الجنّات: إنّ هذا الشيخ أشار إلى نبذ من ظرائف أحواله و لطائف أخباره و من جملة قضاياه مناظرته لأهل بروجرد في تنزيه اللّه تعالى من التشبيه، و منها انتقاله من البلدة الطيّبة قم إلى اصفهان بأمر الوزير المشار إليه يعني بهاء الدين صاحب الديوان و إقامته في تلك البقاع سبعة أشهر و اجتماع الناس عليه من اصفهان و شيراز و أبرقو و اقليم آذربيجان و قرؤوا عليه مختلف العلوم الربّانيّة و انتفعوا به، و ممّن انتفع بعلمه السادات و الأكابر و الصدور، إلى غير ذلك من نوادر أخباره، و اللّه العالم.

ختام كلام المحدّث القمّي

ص: 15

ص: 16

ديباجة الكتاب

سبحان الملك الأحد الذي لا يحيط بكرسيّ عظمته أوهام الإنس و الجنّ: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (1) أي لا يحيط به علم مخلوق من مخلوقاته.

و يستحيل تصوّر الكمّيّة و الكيفيّة في أعتاب قدسه، و لا يمكن توهّمهما لجلال ذاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (2) و يستفاد من هذا أنّه عالم بكلّ سماع و رؤية.

و لا يجوز النقصان و الزوال و التغيّر على غرّة كماله: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3) أي إنّ ذاته الربوبيّة الأكبر و الأكرم.

و لا تحتاج شمس قدرته إلى جلال أو معين: وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ (4).

و لوح علمه يجلّ عن السهو و الغفلة و الخجل: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ (5).

و لم ينسج طيلسان رحمته إلّا من خيوط العدل و الرحمة: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (6).

ص: 17


1- طه: 110.
2- الشورى: 11.
3- الرحمان: 27.
4- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 38.
5- البقرة: 255.
6- الكهف: 49.

و ذروة قدسه العليا أرفع من أن تحلق إليها طيور عقول البشريّة و أرواح و نفوس الملكيّة، أو ترقى إلى قممها العليّة: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1).

و عقاب وحدته ما فتئ منزّها عن العوارض و الأوصاف الخلقيّة: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).

و شرح صفات ذاته العليا أجلّ من أن يأتي عليه ذووا الصفات الخفّاشيّة أذكياء الإنسانيّة الذين وسموا على غررهم بميسم الحدوث: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (3).

و على أحداقهم بنور القدم: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (4).

و بقيت على عرصة الوجود أبديّة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (5).

أولئك الذين يقبسون النور من شمس الوجود و من غرّة المعبود: «يا من لا يعرف و لا يدري كيف هو إلّا هو، يا من لا يقدر على قدرته إلّا هو، يا من هو كلّ يوم في شأن، يا من لا يشغله شأن عن شأن، يا من لا إله إلّا هو و إليه المصير».

و نهدي مئات ألوف الألوف من هديّة الصلوات و تحف التحيّات من جنابه سبحانه إلى المجلى الشريف و الوجود المطهّر، صدر الكونين، مقتدى الثقلين، و مقصود العالمين محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن عدي بن تيم بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر- و هو قريش- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.

ص: 18


1- الإسراء: 85.
2- الإخلاص: 3 و 4.
3- الدهر: 1.
4- الرحمان: 26.
5- آل عمران: 26.

إلى محمّد ذاك الذي بدأ بشارة أوّلا: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين» و بدأ آخرا بالظهور، و تجلّى بإظهار المعجزات، و استخفى بدلالة العصمة.

الذي تمنّى آدم مع اصطفائه، و إدريس مع عظمة منزلته و دراسته، و نوح مع طول عمره و كثرة عبادته، و إبراهيم مع خلّته، و موسى مع رفعته بالمناجاة، و عيسى مع دلالة نبويّه أن يكونوا في أعتاب دولته و سدّة إرادته، من: «اللّهمّ من أمّة محمّد» و سلّموا قياد أرواحهم إلى حضرة واجب الوجود.

و على أولاده و عترته عليهم الصلاة و السلام الذين هم كمال الدين و برهان اليقين، و بناة الشريعة و مقتدى الملّة، و أمناء الرحمان و مفسّر و القرآن، و حجج اللّه تعالى و أوصياء المصطفى صلّى اللّه عليه و آله المعصومون: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).

المنصوص عليهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2).

و المراد من أولي الأمر ملوك العدل، أي الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، و نوّابهم و سادتهم- أي سادة النوّاب-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (3).

و واهبوا نفوسهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (4).

و المطعمون: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ (5).

ص: 19


1- الأحزاب: 33.
2- النساء: 59.
3- التوبة: 119.
4- التوبة: 111.
5- الدهر: 8.

أوّلهم أمير المؤمنين و حجّة ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف صاحب العزّة.

المعنيّ بهذا الحديث: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في حلمه، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام- يعني ما وجد في الأنبياء موجود في عليّ عليه السّلام.

و آخرهم صاحب الدولة: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا.

أمّا بعد؛ فاعلم بأنّ رواة الأخبار رووا عن داود النبيّ أنّه كان يقول في مناجاته: إلهي، لم خلقت العالم و ما فيها؟! فخاطبه الحقّ تعالى قائلا: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف».

مع أنّ العلماء أجمعوا على أنّ خلق الإنسان كان من طريق الإحسان ءليه، على صفة الدوام، و لا يتحقّق ذلك إلّا بالتكليف بعد بلوغه و كمال عقله، و نصب الأدلّة و إزاحة العلّة، و لم يكن الغرض منه دوام التعظيم و الإجلال، لأمكن أن يكون أعطاه ابتداءا من غير استحقاق كما يعطي ذلك الصالحين و الطالحين. و كمال التكليف مع الألطاف لأنّ بعثة الأنبياء و إنزال الكتب مع الوعد و الوعيد و الإنذار و التخويف كان ذلك لإتمام الحجّة، قال: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (1).

و لو أنّنا افترضنا أنّ الوجود لا يحتوي إلّا على شخص واحد يجوز عليه الخطأ و العصيان لكان إرسال الأنبياء أو الأئمّة إليه من الواجبات: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ

ص: 20


1- الإسراء: 15.

مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (1).

و الدليل على صحّة ذلك إرسال آدم إلى إبليس، و إن لم يجر من الإنسان إلّا ذنب واحد حيث قتل قابيل هابيل فإنّ اللّه تعالى أرسل آدم إلى بنيه الآدميّين و لمّا فارق الدنيا أرسل اللّه شيثا هبته إلى الخلق عامّة و إلى ذرّيّة قابيل خاصّة، فكان أبناء هابيل و شيث جميعا مسلمين كما كان أبناء قابيل جميعا كفّارا إلى أن استأصل اللّه شأفتهم و أتى على ذراريهم بالطوفان زمن نوح عليه السّلام فأغرقهم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (2).

و لم يخل زمن و لا فترة من نبيّ أو وصيّ نبيّ، و من نوح إلى سام و حام و يافت، و منهم إلى يهودا و صالح و إبراهيم و لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيّوب و شعيب و موسى و يوشع و طالوت و داود و سليمان و زكريّا و يحيى و عيسى و شمعون و خالد و برده (3)!! و من برده إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و منه إلى مذهب أهل البيت بدءا بعليّ، و منه إلى الحسن، و منه إلى الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ الزكي العسكري و الحجّة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان محمّد بن الحسن عليهم السّلام واحدا بعد واحد حتّى هذه الآية: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (4).

و من يعتقد هذه العقيدة يسمّى شيعة و إماميّا و اثنا عشريّا، و لكن على مذهب الجمهور يكون المعتقد كما يلي: أنّ أمر الدين و الشريعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله يكون

ص: 21


1- طه: 134.
2- نوح: 25.
3- لا أعرف في الأنبياء نبيّا بهذا الاسم و لعلّه مصحّف من بريده أو نظيره. (المترجم).
4- آل عمران: 34.

باختيار الأمّة، فهي التي تبايع من تختاره لمقام الخلافة على يد أهل الحلّ و العقد، و هؤلاء يدعون بأهل السنّة.

أمّا الطائفة الأولى فهم الذين ينزّهون اللّه من صفات الحدث، و من الشريك؛ لا في القدم و لا في الذات و لا في الصفات، و لا يثبتون له معاني القدم بل يقولون: هو القادر و العالم و الحيّ و الموجود، و هذه الصفات الذاتيّة و هي أزليّة أبديّة، و تعتبر ألفاظ الصفات من قول الواصف و هي من حيث كونها ألفاظا ينطق بها الواصف محدثة.

و يعتقدون بعدم وقوع الرؤية عليه لأنّ ذلك من صفات المخلوقين، و لا يوصف بالجسميّة أو الجوهر أو العرض، و لا تحويه جهة أو مكان.

و يعتقدون بأنّه عادل لا يظلم مثقال ذرّة أو أصغر من ذلك أو أكبر، و أنّه صادق سبحانه.

و يرون العبد فاعلا مختارا.

و يثبتون العصمة للأنبياء من الولادة إلى الوفاة.

و يعظّمون ذرّيّة النبيّ و يجعلون لهم نصيبا في أموالهم امتثالا لقوله تعالى:

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (1).

و لا يقدّمون أحدا من أتباع النبيّ الذين يجوز عليهم الخطأ و قد أسلموا بعد كفر على آل النبيّ المعصومين.

و يقولون بعصمة أهل بيت النبيّ محمّد عليه و عليهم الصلاة و السلام.

و يرسلون اللعنة على من ظلم أهل هذا البيت أو آذاهم.

و يصلّون عليهم.

ص: 22


1- الأنفال: 41.

و يحرّمون الخمر و الدفّ و الناي و المزمار و الربابة و الشطرنج و النرد و الفقاع؛ قليله و كثيره، و يرونه رجسا من عمل الشيطان.

و لا يسبغون الوضوء بالخمر، و يزيلون الخبث بالماء بعد البول أو الغائط، و يرون المني نجسا، و يسجدون على الأرض أو ما أنبتت ممّا لا يؤكل و لا يلبس، و يصلّون بجلد مأكول اللحم، و لا يصلّون إلّا بما أجمع المسلمون على جوازه من اللباس أو المكان.

و يحتاطون في أمور النساء، و يثبتون العدّة لهنّ، و لا ينكحون ذات العدّة حتّى تخرج من عدّة، و لا يعملون الحيلة بالمحلّل فينكحونها في صلاة العشاء للمحلّل و يؤتون بها صباحا إلى البيت لأنّهم يرون أنّها لو علقت فإنّ ما في أحشائها لا يعلم من أبوه حيث يشتبه الأمر فلا يطيب جنين يسقى من مائين في بطن أمّه.

و لا يصلّون وراء الفاجر الخمّار أو الفاسق، و إن كان فسقه باللعب بالجوز.

و لا يجيزون المعصية على الأنبياء؛ قلّت أو كثرت، من يوم الولادة إلى يوم الوفاة على الإطلاق.

و إذا أذنبوا اعتبروا أنفسهم مخطئين و مجرمين، و لا يلقون التبعة على ربّهم سبحانه، من ثمّ لا يموت ميّتهم إلّا عن توبة، و يرون التوبة حقّا.

و يحرّمون وطأ الغلمان، و لا يجيزون إجراء صيغة العقد عليهم.

و لا يقيمون الصلاة بجلد الكلب، و لا يجيزون الصلاة إلّا بالثوب الطاهر من جميع الأدناس و النجاسات.

و لا يلحقون الولد بالمرأة إذا لم تكن على فراش زوجها، و لا يقولون بأنّ رجلا لو كان في المشرق و أمرأة في المغرب ثمّ ولدت ولدا من دون أن ترى الزوج أو يراها لا يعتبر هذا الولد ابن زنا.

و لا يقولون ببقاء الولد أربع سنين في بطن أمّه، إذ من المحتمل إذا كان الأمر

ص: 23

كذلك أن تأتي امرأة بعد موت زوجها أو غيابه بولد فينسب إليه، فيسمّى ابنه و هو من حرام.

و إذا صاموا لا يفطرون حتّى يدخل الليل بغروب الشمس و حدوث الظلمة.

و لا يصبحون في شهر رمضان على جنابة.

و يوجبون الكفّارة على من أفطر عمدا و القضاء، و لا يجيزون الجماع إذا أفطروا عمدا بزعم حلّيّته و لا بغير ذلك.

و يورثون أولاد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بآيات المواريث، و ظاهر الكتاب، و لا يعملون بخبر الواحد، و لا ينسخون القرآن بخبر الواحد، و لا يخصّصون عامّه.

و لا يرون الآيات الواردة في أهل البيت منسوخة.

و لا يتمرّدون على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يعطون الوزارة لمن نفاه النبيّ من المدينة.

و لا يسلّطون الظالم و الفاسق على المسلمين.

و لا يرسلون الخمّار إلى بلد واليا أو إماما.

و يقدّمون الأعلم و الأصلح.

و لا يسمّون من لم يستخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خليفة.

و يرون آل رسول اللّه أولى بملك الدنيا من أولئك الذين قتلوهم و داروا برؤوسهم في البلدان.

و لا يظهرون الفرح و الزينة في يوم عزاء الرسول، و لا يكتحلون، بل يبكون و ينوحون و يوافقون رسول اللّه بيوم عزائه.

و يرون آباء الأنبياء و أمّهاتهم مؤمنين احتراما لهم.

ص: 24

و لا يقذفون الأنبياء بالزنا و لا يقولون بأنّهم كانوا مغرمين بحبّ النساء و مغازلتهنّ.

و لا يقولون أنّ النكتة السوداء التي أخرجت من قلب محمّد بعد شقّ الصدر كانت علامة الكفر.

و يتمّون الركوع و السجود في الصلاة و لا يظهرون سوء الأدب في صلاتهم بنظرهم إلى اليمين تارة و إلى اليسار أخرى بل يصوّبون النظر إلى مواضع السجود.

و إذا استقبلوا محاريبهم رفعوا أصواتهم بالأذان و الإقامة، و يكثرون من الدعاء و الذكر، و لا يظهرون سوء الأدب عند النيّة، و يقيمون النيّة في قلوبهم لتخلو من الرياء، فإذا سلّموا بعد الصلاة ما يزالون متوجّهين إلى القبلة بطمأنينة يذكرون اللّه كثيرا و يدعونه و يسبّحون و يهلّلون و يكثرون من الدعاء، و لا يتركون مكان الصلاة بسوء الأدب بل يصلّون على الأنبياء و الأوصياء و يدعون لأحبّتهم و ذويهم، و يثنون على اللّه أحسن الثناء، و يلعنون أعدائهم على سبيل الإجمال ثمّ يختمون بسجدة الشكر.

و لا يختمون الصلاة بالضرطة (1)، و لا يسجدون لمشايخهم، و لا يستقبلون القبلة بالبول أو الغائط، فإذا أخذهم النوم تطهّروا، و لا يقربون الصلاة بعد النوم من دون وضوء، و لا يتطهّرون إلّا بنيّة، و لا يقتدون في الصلاة باليهود فيضعون يدا على يد، و لا يعتريهم الشكّ بدينهم و مذهبهم، من ثمّ هم في: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (2) قائمون، و لا يقولون في ختام الفاتحة آمين.

ص: 25


1- نعتذر من هذه الكلمة و لو لا أنّ المؤلّف ذكرها بالعربيّة لغيّرناها إلى لفظ أكثر نزاكة منها. (المترجم).
2- الفاتحة: 6.

و يقولون: إنّ اللّه سبحانه ساق لنا الهداية بالقرآن و النبيّ و أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين، و يعطون زكاة أموالهم إلى صلحائهم في ظاهرهم، و عرفوا الفرائض و السنن ...

و من ادّعى بعد رسول اللّه بأنّ: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» لا يقبلون قوله، و لا يطيعون أمره، و يقولون: إنّ اللّه تعالى قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) و لم يقل ما حرمكم (2) فلان و فلان.

و يقولون: ينبغي على الخليفة أن يكون أعلم الخلق لا أنّه يجهل معنى «الأبّ» الذي جعله اللّه فاكهة للبهائم كما جعل الفاكهة لابن آدم، لكي لا يتوقّف عندما يسئل عن شي ء، و يقول على المنبر أمام الخلائق حين احتجّت عليه امرأة فحجّته:

«كلّكم أفقه منّي حتّى العجائز- أو قال: المخدّرات- في البيوت» (3).

و يقولون بحكم قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (4) لا يخلو المكلّف من حجّة ناطقة عليه.

و يقولون: إنّ ما أعطاه الرسول لأولاده لا يحقّ لمن يأتي بعده أن يغتصبه منهم.

و يعتقدون بحجّيّة العقل و أنّه مبنى الشرايع جميعا، و عليه يقوم التوحيد و العدل.

و يقولون: إنّ اللّه لا يفعل فعلا بغير حكمة لأنّ ذلك يؤدّي إلى العبث.

و يقولون: لا ينال شرع رسول اللّه بالقياس بل على أساس: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.

ص: 26


1- الحشر: 7.
2- حرمكم من الحرمان لا التحريم. (المترجم).
3- و في رواية: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر». البكري عن العقد الفريد 1: 341 ط مصر 1321 ه.
4- القيامة: 36.

و لا يستبيحون في غيبة إمامهم دما أو مالا كائنا ما كان، و لا يأكلون لحوم الضباع و يحرّمون لحوم الأرانب.

و يعتقدون بأهل البيت في التختّم باليمين، و يأنفون من وضع الخاتم في اليسار لأنّها تلي الفرج، و يقولون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: «اليمين للوجه و اليسار للفرج».

و يرون أنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و لا يدخل المؤمن النار و الكافر الجنّة، و لا يفعل الفعل خلافا لما وعد.

و لا يعتقدون بمذهب وضع بعد النبيّ بمأتي سنة أو ثلاثمائة سنة، و يقولون: كلّ مذهب ليس لأهل البيت فهو باطل.

و لم يختلف أئمّة هذه الطائفة من محمّد بن الحسن إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم و أبنائهم، فكلّهم على صراط واحد سويّ و مذهب واحد، و كانوا جميعا على مذهب أبيهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان أمير المؤمنين على مذهب رسول اللّه باتفاق لا على طريقة الصحابة.

و يقولون: إنّ الاختلاف برهان البطلان بدليل قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).

و أئمّة هذه الطائفة هم ذرّيّة الرسول و أولاده و وارثه، و يصلّي عليهم العالمون، و هم آل محمّد على التعيين و اليقين، و من خاطبهم منهم فلا يخاطبهم إلّا بهذه العبارة: يابن رسول اللّه، و يابن بنت رسول اللّه، و إليه مشاهدهم قبلة ذوي الحاجات في العالمين، و ملجأ المؤمنين و المنافقين، و يظهر في كلّ عام معاجز عدّة في مشاهدهم المشرّفة.

و لا يمرّ يوم إلّا و يزيد اللّه في مواليهم و محبّيهم كما هو الحال في خطّة مازندران

ص: 27


1- النساء: 82.

موطن ولادة مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن، و لم يكن فيه قبل قرن من الزمان خمسمائة شخص على مذهب التشيّع، و في هذا اليوم و هو سنة خمسة و سبعين و ستمائة (675) ليس فيه خمسمائة إنسان على غير هذا المذهب، و لقد آمن جميع أهل المنطقة بمعجزة الأئمّة عليهم السّلام، و لا يأتي طويل زمان على هذا المذهب حتّى يختاره أهل العالم بنصّ القرآن حيث قال سبحانه و تعالى: وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (1).

و لا يأتي إيذاء هذه الطائفة على المؤذين بخير كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما عادانا بيت إلّا و خرب، و لا نبح علينا كلب إلّا جرب» و من شكّ في هذا الحديث فلينظر بعين العبرة إلى آل أبي سفيان ماذا رأوا و ماذا جنى آل زياد و آل العبّاس و البرامكة، و هم من جملة الخوارج، ليس لهؤلاء اليوم أثر يذكر، فلا مضجع ظاهر و لا قبر يزار، و ليس لهم موالون و لا ذرّيّة يذكرون، لقد استأصل الجميع و انقطع نسلهم على يد السلاطين العادلين و الملوك العاملين من دون أن يعلق بممالكهم أثر أو ضرر، و بعد القضاء على هؤلاء و استئصالهم مالوا إلى السادات و إلى أهل البيت، و رفعوا عنهم طوق القهر، و بالغوا في إكرامهم إلى أقصى حدّ، من ثمّ كان سادات أهل البيت في المشرق و المغرب أكثر عددا من النجوم و جميعهم يحيون في الرفاه و بلهنية العيش و رخاء البال مع النعمة و الجاه و الاقتدار و الإنعام و الإنظار لكي يبسط الباري ببركة وجودهم رايات هؤلاء الفاتحين على أقصى بلاد ايران و الطورانيّين و الهند و الروم و العرب و العجم، بل من مطلع الشمس إلى مغربها، و انقاد إلى أمرهم سلاطين العالم و انتهوا عند نهيهم و أطاعوا أوامرهم و امتثلوا لحكمهم، و أحاطت هيبتهم و قوّتهم، و سمو أمرهم بالمكان و الزمان حتّى قصد تجّار

ص: 28


1- النور: 55.

الصين المغرب و أمنوا الطريق: لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا (1) و إنّما قال «نيلا» لأنّ رغبة العدوّ اليوم في الشرّ، على مركب من قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (2) لأنّهم على الحقّ و يسعون من أجله.

و إن كنت في شكّ ممّا قلناه فالق نظرك على العدل و الرحمة و العظمة و العطف، و الإدارة و رعاية الدين أيّ ملك ظاهر في المملكة و السلطنة و النسب العالي و الجوهر الخالص و علوّ الهمّة و الإحاطة بأنواع العلوم و فنون الكفاية و الكياسة و حسن السيرة و صفاء السريرة و معتمد المذهب و حافظ الدين و الدنيا، من يكون بهذه الصفات إلّا المخدوم المطلق، حجّة الحقّ على الخلق، أعدل سلاطين الأوّلين و الآخرين، علاء الإسلام و المسلمين محمّد بن الصاحب الأعظم، عرق من شجرة المملكة و نبقة من دوحة السلطنة، شمس الحقّ و الدين، عماد الإسلام و المسلمين، محمّد بن محمّد صاحب الديوان حرس اللّه عليهما- كذا وردت- و أبقاهما مبرقعين بالعزّة و الجلال، قابضين على أعزّ الرفعة و الكمال، ناهضين في عقدة المجد على أقدام الهمم، فيّاضين للأيادي و النعم، باسطين للعدل في الأمم، بحقّ محمّد و عليّ و أهل بيتهما الطاهرين، آمين إلى يوم الدين.

و لقد بسط اللّه رايته على أقاصي العالم ببركة حسن سيرته و بسطه العدل و اعتقاده الصادق بآل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و البرائة من عدوّهم، و تعاهده السادات و علماء أهل البيت عليهم السّلام، و اعتكف سلاطين الربع المسكون بمقتضى الآية: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ (3) على عتبة جلاله، و خسف بأعادي إقباله و مبغضي طائفته

ص: 29


1- التوبة: 120.
2- البقرة: 38، المائدة: 69 و ...
3- آل عمران: 26.

الأرض: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ (1)، و غاص بعضهم في بحر الهلاك: فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2) فأصبحوا أثرا بعد عين لمفارقتهم موالاة آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يتلون الآية: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (3) على سبيل الحسرة.

و حرّمت التقيّة في زمنهم بظهور دولتهم بعد أن كانت واجبة لقلّة الأنصار و الأعوان و كثرة الأعداء بمقتضى قوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ (4) و قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (5) و قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (6) و أمثال ذلك من الآيات و الأحاديث.

و حين أشرقت شمس هذه الدولة من مشرق السعادة، و غمر نور الرحمة و العدالة البسيطة بأجمعها، اقتلعت أنياب ظلم الظالمين من عباد اللّه، و مرّغت صولتهم و بطشهم برغام الذلّة، و أرباب الظلم و الطغيان أدخلوا رؤوسهم في ثقوب الثوبة و تسلسل الإخلاص، و تصنّعوا ورد التسبيح و التهليل: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (7) و لقد نزل فيهم: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (8).

تعالى اللّه ما أعلاه قدراو أجراه على سنن اعتدال

عليها للإله الفرد حمدلما أسدى إلينا من نوال

ص: 30


1- القصص: 81.
2- الإسراء: 103.
3- النساء: 73.
4- المؤمن: 28.
5- آل عمران: 28.
6- النحل: 106.
7- يونس: 91.
8- آل عمران: 90.

و هذا كلّه دعاء لصاحب الديوان الداعي لهذه الدولة- يعني المؤلّف نفسه- و المؤلّف و الجامع لهذا الحديث فإنّه يفخر بثنائه و دعائه و خدمته لهذه الحضرة على علماء الأرض، و يتباهى على حكماء الأوّلين و الآخرين، و إن شاقك البرهان على ذلك، فاعلم:

إنّ أوّل شخص من محبّي أهل البيت عليهم السّلام و مواليهم و رفقائهم الذين احتموا بهذه الدولة و أثبتوا حقوق خدماتهم الدينيّة و كتبوا لصاحب الحضرة ملجأ العالم الكتب الشيعيّة هو هذا العبد، أقلّ العباد شأنا و أدناهم مقاما، فقد كتب بتوفيق اللّه تعالى و ببركة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بمعجزة من قائم آل محمّد عليه السّلام و باسم هذه القدرة الملكيّة كتاب مناقب الطاهرين، و بدأه بولادة رسول اللّه إلى خاتم الأوصياء صاحب الأمر و بيان معجزاته و مناقب سيرته، ثمّ إظهار ما أقامه المنافقون و الخارجون من مظالم عليهم.

و كذلك منهجهم في العبادات و الصلاة و الصوم و الزكاة و الخمس و الجهاد، مع مجمل توابعها من الفرائض و النوافل و الأدعية و النيابة و أحكامها، و كيفيّة العبادات و ما يحتاجها المكلّف في العام كلّه، و كذلك عرضنا أربعين البهائيّ في تفضيل أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه و نظائره في الإمامة و غيرها، و بما أنّ عقيدة صاحب الحضرة طاهرة، و جوهره كبير، و طينة الأسرة المالكة و السلطنة و الوزارة و الإرادة صادقة مع عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تعاهده للعلماء و تدليله لغرس نعمته عظيم، فقد قبل هذا كلّه قبول الرضا.

و حصل التسليم بما في الكتاب من المؤالف و المخالف بحضور علماء الطوائف زمانا بعد زمان، و هذه نعمة يجب شكرها و هو فرض عين على الشيعة كافّة، و يوم القيامة يتباهي بذلك المصطفى و المرتضى و الحسن و الحسين و الأئمّة جميعا صلوات

ص: 31

اللّه عليهم، و سائر الشيعة على الأنبياء عليهم السّلام، و الأمم السالفة، و يكونون شفعاء لصاحب الحضرة عند اللّه سبحانه.

و الأمل معقود أنّه سوف يدخل الجنّة بدون شفاعة بل ربّما كان شافعا للأمراء و الملوك و السلاطين في العالم، في عرصة القيامة إن شاء اللّه تعالى.

و كما قيل في هذا الباب بالآيات و الأخبار و الدلائل العقليّة في صدر الكتاب:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1).

و لمّا كانت مناقب الطاهرين و نظائرها داخلة في فرع التولّي رأينا من اللازم أن نشرع ببسط فرع التبرّي أيضا، و مزجناه بالعربيّة و الفارسيّة لتعمّ الفائدة، و هو مبنى على أبواب و فصول و دلائل و مسائل، و بعد الاستخارة و طلب الإذن من واجب الوجود عمّت عاطفته و قدرته على العالمين، سمّيناه: «كامل البهائي في السقيفة» جعل اللّه تعالى هذه التحفة على مخدومنا مباركة، و زيّن اللّه أيّام هذه الدولة بأنواع العزّة و الكرامة، و ما زال منبر دين الإسلام و الملّة و الوحي و التنزيل و سمّو محمّد و أهل بيته قائما ببقاء هذه الدولة، و ما زالت الموفّقيّة و العناية الإلهيّة و الرحمة و نظرة العطف و اللطف على هذه الدولة هاطلة، و سرادق هذه المملكة ضاربة أطنابها على البسيطة على كرّ الدهور و العصور، من قاف إلى قاف، و من جابلقا إلى جالبلسا بأوتاد الأبد، و جنّبها اللّه ريح الحسد النكباء من عيون الحسّاد، و أبعدها عن هذه الساحة المنظورة للمولى، و المتحقّقة فيها إرادة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و تواترت على هذا المجلس نعمة العالمين، و رعاية السلطان، و توالت آناء الليل و أطراف النهار.

ص: 32


1- الأعراف: 43.

و جعل اللّه أولياء هذه الدولة و أحبّائها ممكّنين منصورين، و أعدائها مخذولين و مقهورين.

و أقرّ اللّه عين سيّد العالم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان بدين قرّة العين بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، و بقاء أيّام دولته، و استجاب اللّه دعاء هذا الحقير عقب تلاوة القرآن و القيام بالفرائض المكتوبة ليلا و نهارا، و سرّا و جهارا، في حقّ هذه الدولة و هذه الأسرة، و كما أنّ الحقّ عزّ و جلّ و علا أنعم عليهم بملك الدنيا نسأله أن ينعم عليهم بنعيم الآخرة الأبديّ في جنّات النعيم: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (1).

و بناءا على هذا الحديث: «المرء مع من أحبّه» كما أنّه في هذا العالم مقيم على محبّة أهل البيت عليهم السّلام أن يكون غدا يوم القيامة محشورا تحت لواء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ العسكري و الحجّة القائم محمّد الحسن صاحب الزمان صلوات اللّه و سلامه عليهم بحقّ محمّد و عترته الطيّبين الطاهرين.

ختام الديباجة

ص: 33


1- الدهر: 20.

الباب الأوّل في أقسام العلم

اعلم أنّ العلم إمّا ضروريّ أو كتبيّ «كسبيّ». فلو كان ضروريّا كلّه لارتفع الخلاف بين العقلاء، و لو كان استدلاليّا بأجمعه لما أمكن تحقيق أيّ علم و أيّ بحث و لأدّى ذلك إلى التسلسل، فإذا كان البحث في المنقولات كان البدء و الختام مبنيّا فيها على التصادق، و إذا كان في المعقولات بني على التناصف و التسليم أو على الضروريّ إن تعذّر التناصف. نظير حدوث العالم الذي جعله علماء الكلام المسلمون على تغيّره أو غير ذلك ممّا هو لازم العالم كالأوصاف و الأشكال و التركيب و الاختصاص بالجهة و التميز.

و أمّا العلم الضروري و هو ما يعبّر عنه بالجبليّ أيضا و الفطري أظهر و أشهر من قبيل شكر المنعم؛ من ثمّ بدأ اللّه كتابه و شريعته و دستور خير الأنبياء و الأنام بقوله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)، لئلّا يرى الجهّال الذين لم يتعمّقوا في بحور العلوم الدينيّة و لم يصلوا إلى أعماقها، و لم يستخرجوا الدرر و اللئالي من أصدافها بالغوص في قيعانها أنّ القرآن محض تقليد و لا يوافق الأدلّة العقليّة.

ص: 34


1- الفاتحة: 2.

أ لا ترى كيف علّل سبحانه وجه الحكمة في تحريم الخمر و الميسر بإيقاع العداوة بين الأودّاء، و إظهار البغضاء كما قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (1) و كلّ أمر جلب الشرّ و العداء و أوجد الشقاق و الخلاف بين الناس ينبغي الاحتراز منه بالضرورة.

و من هنا علّل وجوب الصلاة بأن جعل سبب ذلك الوجوب أنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (2) أي إنّ الصلاة من جملة الألطاف في الواجبات النقليّة و ترك القبائح العقليّة.

و ما لم يبيّن حكمته أو كله إلى العلوم الفطريّة و الضروريّة، كما قال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ (3) و قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (4). و من المعلوم أنّنا لم نكن هناك ساعة المسائلة بل الغرض من بيان ذلك تحصيل العلم الضروري، و مركوز في فطرة الإنسان أنّه حيثما يوجد صنع فهناك صانع؛ شاهدا أو غائبا، و دليله قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (5) فيكون جواب الحقّ تعالى من هذا المنطق على قوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى و ليس بقول لسان أو كتابة بنان.

ففي كلّ شي ء له آيةدليل على أنّه صانع

ص: 35


1- المائدة: 91.
2- العنكبوت: 45.
3- يس: 60.
4- الأعراف: 172.
5- لقمان: 25.

و روي: واحد (1).

و منه قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2).

و تسبيح غير العاقل دليل على الصنع العجيب و التركيب اللطيف الدالّ على الصانع القادر المختار، لكي يحمل العاقل عند مشاهدة ذلك ببصيرة العقل أن يقول:

«سبحانه من خالق قادر، سبحانه ما أعظم شأنه» و أمثال هذا الذي يضطرّ العاقل عنده إلى التسبيح.

و منه قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) و نحوها من الآيات.

ص: 36


1- الشعر لأبي نؤاس و هو هكذا: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد و في كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد (المترجم)
2- الإسراء: 44.
3- الدهر: 4.

الباب الثاني في أقسام النعم

اشارة

أمّا أعظم النعم فأوّلها الوجود بعد العدم.

ثانيها: إفاضة الحياة و التمايز عن الجمادات.

ثالثها: الشكل الخاصّ للإنسان بصورته و فيه الخلاصة البشريّة و هي العقل و الترقّي بالنظر في عالم الملكوت و علوّ الدرجة بالعمل الصالح: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (1). و فيه أيضا الشهوات البهيميّة و هي أدنى المراتب في الحيوان، فإذا امتثلتم الأوامر و النواهي: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) جزتم درجات الملائكة، أمّا إذا ركنتم إلى الشيطان فكنتم من حزبه و اتّبعتم المعاصي انحطّت درجاتكم عن دركات البهائم؛ لأنّ البهائم لم تكن عرضة للوساوس الشيطانيّة بخلاف الإنسان بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ (3).

ص: 37


1- فاطر: 10.
2- الحشر: 7.
3- الإسراء: 70.

رابعها: كمال العقل و هو خلاصة الوجود و الأنموذج من عالم الملكوت، سبب الحياة الباقية و السلطان العادل على عالم الطبيعة، و مفتي مسند الشريعة و القاضي المولّى من قبل واجب الوجود، الذي لا يتيسّر بدونه معرفة الصانع و إدراك الكلّيّات و الجزئيّات من العالم العلوي و السفلي، ما استنبحه بنظر إرادته و بصيرته هو الحقّ، و ما قاله هو الصدق، ما سمعه الصواب: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى* أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (1).

و القوى الخمس الأركان و العناصر الجسمانيّة عبيده و مؤتمرة بأمره: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (2).

و جنّة المأوى نتاج طاعته، و النعيم الأخروي و الحور و القصور و نيل الرغبات البشريّة في الجنّة ثمرة الائتمار بأمره، و معالم امتثال أوامره و نواهيه.

و الجحيم التي هي سجن العصاة، و معتقل المجرمين و المعاندين و الفاسقين كانت مسبّبة عن عصيانه.

و بعهدته اتّباع أحكام الأنبياء و ترجيح حكم اللّه على الهوى و الشهوة.

و النار المحرقة المجدّدة: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها (3)، وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (4)، و نصيب المعذّب من: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (5)، و طبيعة شرابه: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ (6) كلّ

ص: 38


1- النجم: 11 و 12.
2- النحل: 50.
3- النساء: 56.
4- الحجّ: 21.
5- الحاقّة: 30 و 31.
6- الكهف: 29.

ذلك من ترك أوامره و ارتكاب نواهيه.

الخامس: الإعلام و الإلهام و الإرشاد و نصب الأدلّة و إزالة العلّة بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة و ما يتّبع ذلك، و توفيق تحصيل هذه المعاني ب: وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1)، و منه قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (2) و قوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3).

السادس: التكليف؛ لأنّه إذا حصل العلم بمعرفة الذات و الصفات فإنّ الحكيم تعالى يكره أن تكون ساحة العبد معطّلة و يظلّ خالي الوفاض، و الشيطان يقول:

فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (4)، فلم يترك الحقّ سبحانه عبده فارغ البال و خليع العذار: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (5)، بل ألقى في عنقه قيد التكليف، و هو تأديب في الدنيا و حصول الثواب في العقبى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (6).

السابع: الابتلاء و الامتحان، قال اللّه تعالى: أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (7)، و قال: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ (8)، و قال: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (9) و تفسير الآية عند بعضهم على الوجه التالي: أنّنا

ص: 39


1- الأعراف: 43.
2- العلق: 5.
3- يوسف: 3.
4- ص: 82.
5- القيامة: 36.
6- الذاريات: 56.
7- العنكبوت: 2.
8- البقرة: 155.
9- البقرة: 143.

لم نحوّل القبلة إلى الكعبة التي كانت تدور في خلدك و كانت رغبة لك إلّا لنميّز من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبه و يعود إلى كفره الأوّل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (1) أي الكافر من المسلم.

و في موضع آخر دلّ على كثرة الخبيث كما قال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2)، و الطهارة عبارة عن الإسلام، و الخبث عبارة عن الكفر و النفاق، و هذا الابتلاء محك لرجال العالم و المائز بين العالمين و الجاهلين، و إظهار لكفر الكافرين و نفاق المنافقين: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3).

الثامن: هديّة الهدى لعباده كرامة من لدنه سبحانه و لم يسلمهم إلى حيّز الابتلاء بل ألهمهم كيفيّة الاستدلال و ألزمهم الحجّة على ذلك، و جعل مدح الدنيا و مدح ثواب الآخرة في عرض طاعة العبوديّة كما قال: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (4) و قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (5).

و جعل ذمّ الدنيا و استحقاق عقاب الآخرة في عرض معصية العباد كما قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (6)، و قال: وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (7).

و بعض هذه الدلالة و التنبيه تكون حاصلة بالأدلّة العقليّة و كيفيّتها مركوزة في

ص: 40


1- آل عمران: 179.
2- المائدة: 100.
3- الأنفال: 42.
4- الكهف: 30.
5- الكهف: 107.
6- الجنّ: 23.
7- الانفطار: 14- 16.

جبلّة بني آدم، و بعضها الآخر ببيان الأنبياء؛ لأنّ العلم بكيفيّة العبادة من حيث التفصيل و المقدار لا تستقلّ بإدراكها العقول ما لم ترشد إلى ذلك و تنبّه عليه، و منه قوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (1)، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (2)، و قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (3).

و ينبغي على العقال أن يقيم بناء الدين و الملّة على هاتين الحجّتين: إحداهما العقليّة التي تنظر فيم موضعها في الدليل لا في الشبهة، و الثانية: السمعيّة في موضعها، و تضع العقل في ميزان النقل و تأوّل ما وافقه العقل.

و بما أنّ العامّة لا يملكون المهارات لدفع الشّبه و قعدوا عن تطلّب العلوم، و يقنعون بالتقليد و نظائره، و ليست لهم قوّة التميّز بين الطبع و الهوى، و العقل و رضا اللّه، أو أنّ بعضهم يستبدلون الدنيا الفانية بالمذهب ترغيبا بالحكّام أو ترهيبا، و لا يبدون اهتماما بالثواب الأبديّ و العقاب السرمديّ، لذلك عمد أهل البدع على وضع المذاهب بعد مرور قرن أو قرنين أو أكثر من ذلك، فأقاموا بناء الدين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طمعا بالجاه الدنيوي أو اغترارا بكثرة السواد التابع، أو طلبا للصيت و الشهرة في الدنيا، و بحثا عن المقلّدين على النشوء و الارتقاء، و ظلّوا تابعين حيث ولدوا، فلم يسعوا وراء الحقّ عن طريق الانصاف و التتبّع، وقنعوا بهذا المقدار الذي كشفته الآية: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (4)

ص: 41


1- الأنعام: 48، الكهف: 56.
2- النساء: 165.
3- الإسراء: 15.
4- الزخرف: 23.

و قال اللّه تعالى بحقّهم: أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (1).

أو إنّهم قنعوا بتقليد المعلّم فلم يبحثوا عن الحقّ بطريق الانصاف عن المذهب الآخر ليعرفوه ما هو و ماذا فيه و ما هي مقالته؟ لكي يوازنوا بين الأقوال و يقارنوا بعضها ببعض كي يختاروا القول الحقّ منها بالنظر الصافي و العقل الكافي، و مع هذا يدّعي كلّ واحد منهم قائلا: أنا مع الحقّ، و منه قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (2).

في بيان ما هو المذهب الحقّ من المذاهب المتعدّدة

اعلم أنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا من هذه المذاهب، و الدليل على ذلك الإشارة من صاحب الشريعة خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين و سبعين ملّة و ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين ملّة كلّهم في النار إلّا ملّة واحدة. قالوا: و ما هي يا رسول اللّه؟ قال: الذين هم على ما أنا عليه و أصحابي (3).

ص: 42


1- الأنبياء: 54.
2- المؤمنون: 53.
3- علينا الآن أن نورد لك المصادر التي ذكرت الحديث عند أهل السنّة و أهل التشيّع و سوف يظهر لك أنّ عبارة «ما أنا عليه و أصحابي» مقحمة في الحديث و ليست منه. 1- مسند أحمد بن حنبل، حديث رقم 8302، و ليس فيه الجملة، و حديث رقم 16545، و فيه: كلّها في النار إلّا واحدة و هي الجماعة. و رواه ابن ماجة عن عوف بن مالك و فيه: لتفترقنّ أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة، واحدة في الجنّة و ثنتان و سبعون في النار. قيل: يا رسول اللّه، من هم؟ قال: الجماعة. و رقم الحديث هنا 4075 و هو مرويّ عن عوف بثلاث طرق، و سياقها واحد تقريبا. و رواه الدارميّ عن معاوية بن أبي سفيان، باب في افتراق هذه الأمّة، و رقم الحديث 2516 و ليس فيه الجملة المقحمة. و رواه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان أيضا و رقمه 4480، و فيه جملة: و هي الجماعة. و في طريق آخر عن أبي هريرة برقم 4479 و ليس فيه الجملة. و رواه الترمذي عن أبي هريرة باب ما جاء في افتراق هذه الأمّة، و رقم الحديث هنا 2710 و ليس فيه الجملة، و عقّب عليه بقوله: قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. و في طريق آخر عن عبد اللّه بن عمرو برقم 2711 و يختلف سياقه عنها جميعا، و فيه الجملة المقحمة التي ذكرها المؤلّف: «ما أنا عليه و أصحابي» و تعقّبه الترمذيّ بقوله: هذا حديث حسن مفسّر غريب لا نعرفه مثل هذا إلّا من هذا الوجه. و رواه في مصباح الزجاجة عن عوف بن مالك برقم 1412، و الجملة فيه: من هم؟ قال: «الجماعة». و رواه في عون المعبود عن أبي هريرة، رقم 4586 فاقدا للجملة المقحمة بطريقين. و أخرج حديثي الترمذيّ صاحب التحفة و لم يزد عليهما بشي ء. و هناك مصادر حديثيّة لأهل السنّة روت هذا الحديث و قلّ منها من ذكر الجملة المقحمة: «ما عليه أنا و أصحابي». و هذه الجملة يدحضها العقل و النقل، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يذكر هؤلاء الأصحاب الذين تابعوه من هم، و لم يذكرهم في حياته أو بعد وفاته، و من المعلوم أنّ أصحابه خالفوه حيّا و ميّتا، و اختلفوا بعده كما اختلفوا و هو على قيد الحياة فكيف يكون اتّباعهم عاصما من الافتراق، و العجب من المؤلّف حين يذكر هذه الجملة دونما نقد و حتّى إيعاز و إحالة إلى من رواها و أخرجها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الآن لندرسها في مصادر الشيعة: ... عن يحيى البكّاء، عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة منها فرقة ناجية و الباقون هالكة، و الناجية الذين يتمسّكون بولايتكم و يقتبسون من علمكم و لا يعملون برأيهم، فأولئك ما عليهم من سبيل. فسألت عن الأئمّة، فقال: عدد نقباء بني إسرائيل. (الخزّاز القمّي، كفاية الأثر، ص 155). و قال ابن البطريق تعقيبا على قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا»: و هذا الأمر منه صلّى اللّه عليه و آله بالتمسّك بأهل بيته عامّ لكلّ أهل الإسلام، و هو أيضا واجب يدلّ على وجوبه و قبح تركه، لأنّه عليه السّلام قال: ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، فجعل ترك التمسّك بهما هو الضلال، فصار ترك هذا الأمر قبيحا نعلم وجوبه لقبح تركه، ثمّ جعل ذلك مستمرّا ممتدّا بذكر الأبد في لفظ الخبر و ضرب لها غاية ينتهي إليها، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: حتّى يردا عليّ الحوض، فصار ذلك دليلا على الاقتداء بهما إلى آخر الأبد، فقد صار الخبر الوارد بإجماع كافّة أهل الإسلام من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: افترقت أمّة أخي موسى إلى إحدى و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، و افترقت أمّة أخي عيسى اثنين و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، و ستفترق أمّتي ثلاثا و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، بيانا عن الفرقة الناجية من أمّته، و هي التمسّك بالثقلين، و هما كتاب اللّه و عترة رسوله بدليل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» فصار التمسّك بهما هو طريق النجاة و ترك التمسّك بهما هو طريق الضلال ... الخ. (ابن البطريق، العمدة، ص 74). نعم، ذكر السيّد ابن طاووس الحسني في الطرائف عن أنس بن مالك قال: كنّا جلوسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فتذاكرنا رجلا يصلّي و يتصدّق و يزكّي، فقال لنا رسول اللّه: لا أعرفه- و ساق الحديث إلى أن قال:- قال لعليّ عليه السّلام: فاقتله فإنّك إن قتلته لم يقع الضلال و الاختلاف بين أمّتي أبدا. قال عليّ: فأخذت السيف و دخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول اللّه و قلت: ما رأيته، فقال: يا أبا الحسن، إنّ أمّة موسى افترقت أحد و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّة عيسى افترقت أحد و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّة عيسى افترقت على اثنين و سبعين فرقة، فرقنة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّتي ستفترق على ثلاث و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار. فقال: يا رسول اللّه، من الناجي؟ قال: المتمسّك بما أنت عليه و أصحابك ... الخ. (الطرائف: 430) هذا هو الحقّ في الرواية، و الرواية التي اعتمدها المؤلّف هي رواية سنّيّة، و الجملة التي يذكر فيها النبي «أصحابي» جملة مقحمة يكذّبها العقل و النقل، و أنا أستغفر اللّه لي و للمؤلّف حيث روى الرواية من غير نظر إلى أصولها ثمّ هو لم ينقدها مع علمه بما داخلها من الوضع. (المترجم).

ص: 43

و بناءا على هذا فإنّ أصحاب الرسول ما هم معتزلة و لا أحنافا و لا شوافع و لا موالك أو حنابلة بل إنّ هذه المذاهب لم تظهر إلى الوجود إلّا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا بعد سنين طويلة.

ص: 44

و جاء القرآن مؤيّدا للحديث كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1)، و قال اللّه تعالى: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)، و قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (3).

و هذه الآيات دلائل واضحة على أنّ الحقّ واحد لا يتعدّد، فعلى المكلّف النظر في الملل الإسلاميّة و أقوال علمائهم و أئمّتهم، و ليعرض أقوالهم على الأدلّة العقليّة و الآيات القرآنيّة؛ فما وافقها فليقبله، و ما حاد عنها فليعتبره ردّا و باطلا و غير مقبول و خارجا عن الدين و الملّة، و اللّه أعلم بالصواب.

في بيان عقيدة الشيعة و أهل السنّة

اعلم بأنّ فرق الإسلام يدور معظمها على مدارين:

الأوّل: الجماعة التي يقال لها أهل السنّة و الجماعة، و هذه الطائفة يعتقدون بالصحابة بعد النبيّ و يجيزون الخطأ على الإمام، و يقولون: صلّوا وراء كلّ برّ و فاجر، و يقتدون بالفسّاق.

الثاني: الجماعة المسمّاة بالشيعة، و هذه الطائفة لا تجيز الاقتداء بالفاسق، و يعتقدون بإمامة عترة النبيّ و أولاده، و يقولون بعصمتهم، و يقولون عن الصحابة أتباع النبيّ، و لا يصحّ تقديم التابع على الخالق، و يقولون: لم يقدّم التابع من عهد آدم إلى رسول اللّه على ذرّيّة النبيّ؛ لأنّ للذرّيّة الأهليّة، و هي تحقّقة لأمير المؤمنين عليّ و أولاده بإجماع المسلمين لو تركهم العدوّ، و ينبغي أن يكون الأمر في عهد النبيّ

ص: 45


1- يونس: 32.
2- سبأ: 24.
3- الأنعام: 153.

كما كان عليه في سائر العهود، و هذه سنّة الأنبياء بأمر اللّه تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1).

سؤال: و اعترض خصوم الشيعة بالطعن عليهم قائلين: إنّ الفرق ما بيننا و بينكم هو في الأقلّيّة و الأكثريّة، و الأكثريّة بجانبنا.

فأجاب الشيعة بعدّة أجوبة:

أوّلها: إنّ الكثرة وقعت موقع المذمّة و النقصان، و دلّت على البطلان، و لقد قال إمامكم الفخر الرازي: إنّ كثرة أسباب الضلالة موجبة لكثرة الضلالة.

ثانيها: في قصّة نوح عليه السّلام: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (2)، و جاء في التفاسير أنّ هؤلاء كانوا سبعين أو اثنين و ثمانين شخصا، و لمّا هبطوا من السفينة كفروا بأجمعهم إلّا ثمانية أشخاص و هم: نوح و سام و حام و يافث مع أزواجهم، و كفر الباقون و رجعوا إلى عبادة الأصنام.

و وجه الدلالة في هذا أنّ نوحا لبث فيهم ألفا إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه فما آمن معه إلّا قليل، و ظلّ الباقون من أهل العلم على كفرهم و ضلالتهم، فما يضير الشيعة أن يقلّ عددهم عن غيرهم.

الثالث: قصّة موسى عليه السّلام كما ذكرها اللّه و فيها ذكر القوم الذين آمنوا به: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (3)، و جاء في التفسير أنّ فرعون أرسل في مقدّمة الجيش خمسمائة قائد، و كلّ قائد معه عدد من الجيوش تجشّمهم يتعقّب بني إسرائيل، و خرج فرعون بجيش لا يحصى عدده إلّا اللّه تعالى، و خرج موسى بثمانين

ص: 46


1- الإسراء: 77.
2- هود: 40.
3- الشعراء: 54 و 55.

ألفا و معهم القسيّ، يقابل كلّ واحد من بني إسرائيل عشرة آلاف رجل من أعدائهم الأقباط، بل يزيدون. و قال بعض المفسّرين: كان عدد بني إسرائيل ستّمائة ألف إنسان مع الرجال و النساء و الأطفال و العبيد و الجواري، أمّا جيش فرعون فكان في مقدّمته خمسمائة ألف قائد و أمير، و خرج فرعون بالسواد الأعظم الذي لم ير الرائون مثله.

و وجه الدلالة فيه أنّ قلّة أصحاب موسى عليه السّلام لا تدلّ على بطلان مذهبهم كما لا تدلّ الكثرة مع فرعون على أحقّيّته، و مثله يقال في قلّة سواد الشيعة إذ لا يدلّ على بطلان مذهبهم.

الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (1).

الخامس: قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2).

السادس: في قصّة داود عليه السّلام: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ (3)، و كان جيش طالوت مؤلّفا من ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و جيش جالوت لا يحصى و لا يعدّ.

السابع: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4)، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (5) و أمثال هذه الآيات حيث وردت الكثرة موردا للذمّ و الملام و التقبيح و القدح و البطلان.

ص: 47


1- الأنعام: 116.
2- المائدة: 100.
3- البقرة: 249.
4- الأعراف: 187.
5- العنكبوت: 63.

الثامن: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (1)، و قوله تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)، وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (3)، وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (4)، و قوله تعالى:

فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (5)، و قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ (6)، و قال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها (7).

و هذا دليل على أنّ الضلالة في صفّ الكثرة و الجمهور غالبا.

التاسع: قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (8)؛ لأنّ اللّه وعد جهنّم أن يملأها و لم يعد الجنّة بذلك، من ثمّ يكون امتلائها ممّا لا بدّ منه، و لا يكون ذلك إلّا بالكثرة، و الشيعة جمع قليل فلا يشملهم هذا الوعد.

و كذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه اللّه: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (9)، و المستثنى أقلّ من المستثنى منه بإجماع العلماء، لذلك يقول النحاة: الاستثناء هو إخراج الجزء من الكلّ.

و أمّا عرفا، فالعقلاء على علم من أنّ النفيس هو الجزء الأقلّ في العالم و ما كان خسيسا فهو الكثير الذي لا يضبط عدّه لكثرته، و لا نظير لهذه الحجج الذي يتمسّك بها الشيعة.

ص: 48


1- الزخرف: 78.
2- سبأ: 13.
3- النحل: 83.
4- التوبة: 8.
5- الأنفال: 66.
6- آل عمران: 13.
7- الأعراف: 179.
8- ق: 30.
9- ص: 82- 83.

الباب الثالث في بيان مذاهب أهل السنّة، و الجواب عنها للشيعة

اشارة

في فصول كثيرة.

الفصل الأوّل

تعتقد طائفة من أهل السنّة أنّ اللّه تعالى استوى على العرش، و يرون اللّه سبحانه جسما يزول من مكان إلى مكان، و أثبتوا له النزول و الصعود.

و الجواب: قال شيعة أهل البيت: لا يجوز اعتقاد الجسميّة له سبحانه، لأنّه إن كان جسما فلا بدّ أن يكون مشاركا للأجسام بوجه و مخالفا لها بوجه آخر، كما لا بدّ من حدوث المغايرة بين ما به المشاركة و ما به المخالفة، و حينئذ يلزم من ذلك القول بالتركيب، و المركّب محتاج إلى جزئه و جزئه غيره، و ما احتاج إلى غيره فهو الممكن، و لا يكون قديما.

و أيضا: يقول اللّه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ (1) فكيف يشابه الأجسام، و لو كان

ص: 49


1- الشورى: 11.

جسما فلا يخلو من عوارض الجسميّة كالحركات و السكنات و الأشكال و الجهات و الصور، و هذه بجملتها عوارض الحدوث، و ما لم يخل من عوارض الحدوث فهو المحدث.

ثمّ وجدنا بعد الاستقراء أنّ ذوي الحرف و الصنّاع لا يشبهون صناعاتهم، و اللّه سبحانه خالق الجسم و الجوهر و العرض فلا بدّ من منافاته مع جميع مخلوقاته، و عدم تشابهه معها.

ثمّ إنّ العرش و الجبل من خلقه و مثلها مساجد همدان التي هي مهابطه و منازله سبحانه عمّا يقول الجهّال- كما يزعم الخصم- و هذه محدثة بالإجماع، و اللّه تعالى قديم و هو مستغن عنها منذ الأزل بذاته، و الصفات الذاتيّة لا تتغيّر.

و كذلك يمنع العقل بدلائله من التجسيم، و مثله السمع: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، و آية «استوى» معناها: استولى.

يقول مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ الطبريّ: حضرت في سنة (670) في مدينة يزدجرد، فسمعت العامّة تعتقد في اللّه أمورا لا يجوز ذكرها، فنهضت إلى مفتي البلد و كان يعرف بالزهد و الورع و العلم، و قد أسند إليه منصب القضاء و الولاية في البلد المذكور، و قلت: يلزمك و أنت معتمد هذه الخطّة و مقتداهم أن تحول بين العامّة و بين ما تقوله و تعتقده في اللّه سبحانه، فقال بعد أن ضحك: يا فلان، ماذا تقول لو علمت بأنّي أقول من هذا بأكثر من قولهم، و أعتقده بأكثر من اعتقادهم!

و بقيت شهرا أحاوره في هذا و شبهه، و كانت حالي معه مشبهة لحال نوح مع قومه: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (1).

ص: 50


1- نوح: 6.

و كان لي صديق يحاور كبيرا لهم من أهل هذه الديار، فقال له: أيجمل باللّه أن يهبك رأسا و لحية ثمّ يخلي نفسه منهما؟!

و حضرت يوما مسجدهم الجامع فسمعت الواعظ يذكر منقبة لمعاوية، و قال في ختام كلامه: يقام يوم القيامة لمعاوية سرير فوق العرش بمساحة كذا، و يجلس الحقّ تعالى تحت هذا السرير! «فاعتبروا يا أولي الأبصار».

الفصل الثاني

و أكثر أهل السنّة يثبتون المعاني في الصفات، فيقولون: إنّ اللّه عالم بعلم، و قادر بقدرة، و حيّ بحياة، و هكذا.

و الجواب عن ذلك: يقول الشيعة: إنّ صفات اللّه سبحانه ذاتيّة فهو قادر بذاته، و القدرة و العلم و الحياة صفات ذاتيّة له، و أمّا باقي الصفات من قبيل كونه مريدا و كارها و سميعا و بصيرا و مدركا فمردّها إلى العلم و تابعة له.

و إذا قلنا بأنّه قادر بقدرة فإنّ ذلك يؤول إلى تعدّد القدماء و هو مذهب قريب من الشرك، ثمّ هذا القول تماما مشبه لمذهب النصارى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (1)، و لأنّ النصارى أثبتوا القدماء ثلاثة فاستحقّوا العقوبة لذلك، و قال عنهم: لَقَدْ كَفَرَ ... الآية، كيف نسبوا الجمع إلى القديم و حاصله ضرب ثلاثة في مثلها (2).

ص: 51


1- المائدة: 73.
2- لم يتّضح لي معنى العبارة فترجمتها كما وردت، و المعروف عن النصارى أنّهم يقولون الواحد ثلاثة و الثلاثة واحد، و يمكن أن يريد المؤلّف بأنّ قولهم هذا يؤدّي إلى أن يكونوا تسعة حين تنسب كلّ أقنوم إلى صنويه على حدّة مثلا تقول: الأب و الابن و الروح القدس، فهؤلاء ثلاثة، ثمّ الابن و الأب و الروح القدس ثلاثة فصاروا ستّة، ثمّ روح القدس و الابن و الأب ثلاثة فهؤلاء تسعة، هذا ما وصل إليه إدراكي و لا أجزم به، و العلم عند اللّه. (المترجم).

مسألة: و كذلك يقولون بقدم القرآن.

و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ القرآن معجزة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و محمّد محدث فكيف تكون معجزته قديمة؟! و إذا جاز القدم لمعجزته جاز كذلك لمعاجز الأنبياء، و لو قيل بقدم ما في الدفّتين فإنّه مكتوب بالضرورة، و هذا المعنى حادث.

و لو قلنا بأنّ القرآن هو الحرف و الصوت فإنّ ذلك محال قطعا لأنّ الحرف و الصوت لا يكونان قديمين لأنّ فيه سابقا و لا حقا، و كلّ واحد منهما محدود بحدود الزمان، و ما كان كذلك فما هو بقديم.

و يقول الحقّ أيضا: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (1)، و قال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2) و المراد من الذكر القرآن بدليل قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (3)، و قال: هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (4)، و قال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (5)، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (6)، و قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (7). وردّ اللّه على المشركين بقوله: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (8).

و إذا كان القرآن قديما فإنّ سائر الكتب المنزلة مثله، فيكون الأنبياء و الصلحاء

ص: 52


1- الطور: 34.
2- الأنبياء: 2.
3- الحجر: 9.
4- الأنبياء: 50.
5- الزخرف: 3.
6- القدر: 1.
7- البقرة: 185.
8- الأحقاف: 11.

و الفسّاق و الكفّار الذين جاء ذكرهم في القرآن هؤلاء جميعا قدماء، «سبحانك هذا بهتان عظيم».

الفصل الثالث

و أكثر أهل السنّة و الجماعة يثبتون الرؤية، و يرون مشاهدة اللّه بالعين الباصرة جائزة.

و الجواب عنه: قال الشيعة: إنّ سلامة الرؤية مرتبطة بسلامة العين و سلامة المرئي، و رفع الحجاب عنه، و اليوم هذه الشروط الثلاثة متوفّرة، فلو كان اللّه يرى لرأيناه اليوم، و حيث لا نراه اليوم فهو دليل على استحالة رؤيته.

و لو جازت الرؤية عليه لا يخلو من كونه جسما أو جوهرا أو عرضا، و هذا محال لأنّ هذه حادثة و هو قديم، و قال اللّه سبحانه كذلك: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ (1)، فكيف لم يره موسى على عظمته و جلالة قدره و رتبة نبوّته، و يراه الجاهل؟

سؤال: و ربّما قيل: إذا كانت الرؤية ممتنعة فكيف طلبها موسى من ربّه، فقال:

أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (2)، و الأنبياء لا يسألون المحال؟

و الجواب عنه: إنّ موسى كان مضطرّا بسؤاله الرؤية، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ (3)، و لو كانت الرؤية تحصل بالسؤال لم يهلكهم اللّه بالصاعقة

ص: 53


1- الأعراف: 143.
2- الأعراف: 143.
3- النساء: 153.

و لم يقل: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ.

و للشيعة دليلان على عدم الرؤية: عقليّ و نقليّ، و أمّا أهل السنّة فقد تمسّكوا بالنقل وحده فتعارض النقلان ما لنا و ما لهم، و ترجّح ما عندنا عليهم لوجود الحجّة العقليّة عندنا و عدم وجودها عندهم. ثمّ إنّ الدليل النقليّ لا يعدو التأويل.

و أظهر دليل على امتناع الرؤية قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (1).

أضف إلى ذلك أنّه لو أمكنت رؤيته فلا تمكن بالكيفيّة، و لو عدم الكيفيّة لم يكن مشاهدا مرئيّا، و الكيف محدث.

و بناءا على ما تقدّم: فلو أمكنت رؤيته لكان أحدهما معرضا على الآخر، فلو أعرض اللّه عن عبده فويل لذلك العبد، و لو أعرض العبد عن ربّه فهو الكفر بعينه.

الفصل الرابع

و أكثر أهل السنّة لا يقولون بالعدل كما يقولون: إنّ اللّه تعالى يجوز أن يكلّف عبده بما لا يطاق، و أمر أبا جهل و هو لا يريده، و ليس من المستحيل أن يسلب الإيمان من المؤمن عند موته و يعطيه الكفر ... كما لا يستحيل أن يسوق المؤمن يوم القيامة إلى النار و الكافر إلى الجنّة، و لا يقولون بالحسن و القبح العقليّين و إنّما يعرف ذلك بالنقل، و فعل اللّه خال من الحكمة، و أمثال هذه الطامّات.

و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و العقلاء يقبّحون القبيح لقبحه بالضرورة كتكليف الأعمى بتنقيط المصاحف على الدقّة، و أمر الإنسان بالطيران في الهواء.

ص: 54


1- الأنعام: 103.

و مع هذا فإنّ نفي التكليف بما لا يطاق ورد سمعا من اللّه تعالى حيث يقول:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (1)، و قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2)، و قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (3)، و لهذه نظائر جمّة.

مسألة: و لمّا كان التلبيس و التعمية ممتنعين على اللّه تعالى فلا يصحّ أن يأمر عبده بالإيمان و هو لا يريده، و لو صحّ لكان أبو جهل ممدوحا على كفره و يستحقّ المثوبة على ترك الإيمان، لأنّ ما فعله ما هو إلّا الامتثال لأمر اللّه، فلو عذّبه اللّه بالنار لكان ظالما له على مذهبهم، و له أن يخاطب ربّه يوم القيامة: يا ربّ، إنّك أردت الكفر منّي ففعلته فلم تعذّبني بنارك؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم على اللّه».

و يقال أيضا: كيف يجوز على اللّه تعالى أن يبعث نبيّا مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معه كتاب كالقرآن و فيه الأوامر و النواهي و كلاهما كذب لأنّهما أنزلهما و هو لا يريد هما و لا يريد ما قاله الرسول الذي أمر باتّباعه أو ورد في القرآن؟! «نعوذ باللّه من هذا الاعتقاد».

مسألة: و لو جاز أن يسلب العبد إيمانه عند الموت فهو الظلم الصريح، و الجور القبيح، فكيف يستساغ أن يرسل اللّه تعالى مأة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألفا و مع مأة كتاب و أربع كتب منها عشرة مع آدم الصفي، و خمسون مع هبة اللّه شيث ابن آدم، و ثلاثون مع إدريس و هو أوّل من تعلّم الكتابة، و عشر مع إبراهيم، و ينزل التوراة على موسى، و الإنجيل على عيسى، و الزبور على داود، و الفرقان على

ص: 55


1- البقرة: 286.
2- البقرة: 185.
3- النساء: 28.

محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قال في هذه الكتب كلّها: آمنوا بي لأدخلكم الجنّة، فآمن المكلّف المسكين رجاء أن يدخل الجنّة و ينال الثواب الأبدي، و جاهد في سبيل الحقّ سنين عددا، و حارب الشيطان و عبد الرحمان بناءا على ما وعده اللّه و طمعا بثوابه فكيف يجوز على اللّه خلف الوعد و يكذّب هذه الكتب كلّها و يردّ دعوى أنبيائه و رسله فيسلب عبده وقت الموت إيمانه و يهبه لآخر غيره، و ربّما كان هذا الغير مشركا باللّه سنيّه كلّها، عاصيا لربّه، فيكذّب الكتب المنزلة و من أنزلت عليهم من الرسل؟!

انصفوا أيّها العقلاء، أيّ فاسق يرضى بهذا؟ و أيّ ظلم أظهر من هذا الظلم؟

حاشاه من ذلك، سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

قال سحرة فرعون لفرعون: إذا نحن غلبنا موسى ألنا أجر عندك؟ قال: بلى، و ذلك قوله تعالى: أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (1)، فالعجب كلّ العجب من عبيد فرعون المجازيين يتمنّون نيل الخير منه، و أنزلوا الثقة بفرعون، و راحوا يتمنّون عليه و هم يصدّقونه، و عبيد اللّه الحقيقيّون يرون اللّه يكذب عليهم!!

مسألة: ما يقولون من عدم معرفة الحسن و القبح بالعقل قول باطل.

اعلم أنّ البراهمة و نظائرهم المنكرين للشرع و المكذّبين للرسل يحكمون بحسن المحسنات و قبح المقبّحات، مع أنّهم ليس لهم سماعيّات و لا نقليّات و لكنّ العقلاء على العموم يعرفون القبح في ضرب شخص ليخرج من كونه إنسانا، أو ليكون جمادا، أو ليترك النفس في الهواء، أو يخرج من ملك اللّه، أو يزيل جبل أحد من مكانه، أو ماء البحر الأبيض المتوسّط بكفّه بالضرورة. كذلك يعرفون حسن شكر المنعم و برّ الوالدين و قضاء حاجة المحتاج.

ص: 56


1- الشعراء: 41 و 42.

مسألة: لو كانت أفعال اللّه من غير غرض معتدّ به لجرّ ذلك إلى العبث و هو يستحيل على الحكيم، و قال تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1)، و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار، كذلك ما بيّنه الحديث القدسي: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.

الفصل الخامس

ما يقال عن الأكثر من أهل السنّة جبريّ و قدريّ بناءا على أنّهم سلبوا الاختيار من العبد و ما يفعله العبد من خير أو شرّ فهو من اللّه، و الظلم و الشرك و المعاصي كلّها و الزنا و اللواط و شرب الخمر و قتل المؤمنين و الفاسقين و نواهي العالم كلّما ما هي إلّا بمشيئة اللّه تعالى و إرادته، و جرى التقدير على هذا، و لا يجري غيره و ما يصدر من المؤمن و الكافر بتقدير حكم اللّه عليها، و لا يقدران على التغيير.

و الجواب عنه: و الشيعة يقولون بأنّ العبد فاعل مختار في ما يفعله من خير و شرّ، من الطاعة و المعصية و الإباحة، و هذا ضروريّ لا يحتاج إلى دليل. و لو لم يكن مختارا لما استحقّ المدح أو الذمّ على فعله، ألا ترى لا يمدح زيد بفعل عمر و لا يذمّ، و لمّا كان المدح و الذمّ على الفعل عائدا إلينا كان عود الفعل علينا أيضا.

و أيضا: لو لم يكن العبد فاعلا مختارا لبطل الأمر و النهي و وعيد الأنبياء و إنزال الكتب و الجنّة و النار و التماس الفعل و الترك و طلب عمل و استدعاء عامل و قضاء الحاجة و ما شابه ذلك، كان جميعه عبثا و كذبا و خال من الحكمة، و حاشا اللّه من

ص: 57


1- الذاريات: 56.
2- البيّنة: 5.

ذلك، و كيف يجوز على اللّه أن يدخل عبدا النار بذنب غيره؟!

حكاية: يحكى عن محمّد بن سليمان و هو من ملوك بني أميّة. و كان المجبّرة دائموا النقص عليه و القدح فيه أمام محمّد بن سليمان و كان مجبّرا مثلهم، و ذات يوم اجتمع المجبّرة عنده و رجوه أن يحضر ذلك العالم الشيعيّ حتّى يحاججوه و يفلجوا حجّته، و قالوا: إنّه يطعن في مذهبك و يقبّحه و أنت سلطان الوقت، و يكفّر علماء الإسلام و يضلّلهم، و يراك مخطئا بقبولك هذا المذهب، و يرى ملوك بني أميّة كلّهم فسّاقا فجّارا.

فأمر محمّد بن سليمان بإحضاره، فلمّا حضر بالغ في تهديده و توبيخه، و قال له في ختام كلامه معه: أنت القائل بأنّ العبد فاعل مختار، و ليس فعله بتقدير من اللّه؟!

فقال الشيعيّ: أيّها الأمير، ائذن لي بقول كلمة واحدة قبل إصدار أمرك.

فقال: قد أذنت لك.

فقال العالم الشيعيّ: افترض أيّها الأمير أنّني و صاحبا لي كنّا ليلا عندك و كنت عند صاحبتك فلانة التي تهواها و سمرت عندها، فلمّا أصبح الصباح عمدت أنا في السوق إلى ذكر محاسنك و عدلك و عفّتك و طهرك و كتمت ما رأيته منك من الزنا و الفواحش و المكر و الخديعة و الظلم، و أمّا صاحبي فقد فضح أمرك و شهّر بك بين الناس و أفشى سرّك، فأسألك باللّه أيّ منّا نحن الاثنين تحبّه دون صاحبه؟

قال: أحبّك أنت الذي كتمت سرّي و أأمر بإكرامك.

فقال الشيعيّ: أنت صاحب الكبائر الذي ارتكبت هذا كلّه لا ترضى أن أفضحك و أكشف أمرك و أبوح بسرّك، و اللّه المنزّه عن هذا كلّه: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1) أعني كيف يرضى الكريم الغني أّينسب إليه شرك أهل العالم كلّهم و كفر بني

ص: 58


1- الكهف: 49.

آدم و معاصي الفسّاق و الأجلاف و أولاد الزنا و قتل الأنبياء و الأوصياء من لدن آدم إلى انقراض العالم؟!

ثمّ قال: يا أمير، هذا هو مذهب إبليس: بِما أَغْوَيْتَنِي (1).

فهزم المجبّرة الحاضرون شرّ هزيمة، فأكرم الأمير العالم الشيعي الإكرام الذي يستحقّه و أجازه جائزة سنيّة، و قال: إذهب آمنا و لا تطعن على الأمير فإنّك لا تسلم من العتاب.

حكاية: يقول أبو بكر طاهر بن الحسين السمّان: دعى مجبّر مجوسيّا إلى الإسلام، فقال المجوسيّ: ليس الأمر لي، يريد أنّه غير مختار ليترك أو يفعل إنّما قضى اللّه عليه هذا و قدّره. فقال الجبري: صدقت يا مجوسي.

و روي أيضا أنّه كان لعبد اللّه بن داود مولى و كان عبد اللّه علما من أعلام زمانه، فقرأ قارئ في مجلسه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ (2) و كان المولى عالما بمذهب الجبر، فقال: هو الذي منعه من السجود، و لو قال إبليس ذلك لكان صادقا و قد أخطأ إبليس الحجّة، و لو كانت أنا حاضرا لقلت له أنت منعته.

و كان في المجلس شيعيّ، فقال: ألا تستحي أيّها الرجل من ربّك! تحتجّ لإبليس عليه و إبليس مع ما هو عليه من الشيطنة لم يحتجّ بها لنفسه، بعدا لك و سحقا، فانقطع الجبريّ و سكت.

و قال أبو بكر أيضا: سأل عدليّ جبريّ: هل الزنا خير أو تركه؟ فقال الجبريّ:

بل الزنا خير. فقال العدليّ: لم ذلك؟!

فقال الجبريّ: لأنّ اللّه قضى عليه و قضاء اللّه خير.

ص: 59


1- الحجر: 39.
2- ص: 75.

فقال العدليّ: ويلك يا جبريّ، أتقول الكفر خير من الإيمان و الزنا خير من الإحصان؟!

أيّها العاقل، فهذا هو مذهب القوم، الكفر لأبي جهل خير من الإيمان لأنّه أطاع اللّه بكفره، فلو آمن لكان خلاف مشيئة اللّه تعالى، و العجب كلّ العجب أن يقاد إلى النار بعد هذه الطاعة.

أحلف باللّه الذي لا يموت بأنّي سمعت من علماء المجبّرة يقولون: إبليس خير من آدم لأنّ إبليس انقاد إلى إرادة اللّه و عمل آدم خلاف إرادته، و إنّ موسى لمّا دعا إبليس تاب إبليس و لكنّه لم يقبل توبته، فكان إبليس مطيعا و موسى عاصيا، نعوذ باللّه من هذا المذهب.

و أمّا الأخبار الواردة في هذا الباب فقد روى الشيخ الفقيه الزاهد أبو بكر بن الحسين بن عليّ السمّان عن الحسن البصريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن يلقى العبد ربّه بذنب أعظم من الإشراك باللّه، و أن يعمل بمعصية ثمّ يزعم أنّها من اللّه.

و عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تقوم الساعة حتّى يحمل على اللّه كلّ ذنب عصي به.

و عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: سمعت رسول اللّه يقول: سيأتي قوم يعملون و يقولون: هي من عند اللّه، فإذا رأيتموهم فكذّبوهم فكذّبوهم فكذّبوهم- ثلاث مرّات-.

و عن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه كان يذكّرنا في آخر الزمان من الشدّة و الظلم، قال: إذا كان ذلك نشأ نشو، يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، عليهم لحق اللعنة و عليهم تقوم الساعة ...

و عن الحسن أنّه قرأ: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ

ص: 60

مُسْوَدَّةٌ (1)، فقال: هم المجوس و اليهود و النصارى و ناس من هذه الأمّة زعموا أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي و عذّبهم عليها و كذبوا و أثموا على اللّه، و اللّه تعالى يسوّد وجوههم لذلك.

روي عن أبي الشعثاء أنّ لصّا اجتاز بابن عبّاس، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: قدّر عليّ. فقال ابن عبّاس: كلمته أشدّ من سرقته، يحمل ذنبه على اللّه.

و روى الزهري عن مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السّلام أنّ سارقا مرّ بحلقة عبد اللّه بن عبّاس، فقال أحد الحاضرين: نعوذ باللّه من قضاء السوء. فغضب ابن عبّاس و قال: لقولكم أعظم من سرقته، ثمّ ما زال يشنّع على قولهم حتّى تابوا منه.

و عن ابن عمر قال: القدريّة مجوس هذه الأمّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، و إن ماتوا فلا تصلّوا عليهم، و إن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم. قيل: أيّهم؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، كتبها عليهم.

أمّا الآيات الواردة في ذلك لا سيّما تلك التي تصف القرشيين بالجبريّة فقد رفعوها من القرآن، و كان معاوية و يزيد ابنه لعنهما اللّه قد أحييا هذه السنّة الخبيثة في عهدهما و أدخلوها إلى الإسلام، فكان الجبريّة من أتباعهما، و الدليل على ذلك قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا (2)، و قوله تعالى:

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ

ص: 61


1- الزمر: 60.
2- الأنعام: 148.

أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (1).

ألم يقل آدم و هو في الدنيا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (2)؟

و قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (3).

و قال ذو النون: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (4).

و قال داود: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (5).

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ الأنبياء جميعا ينزّهون اللّه تعالى و ينسبون ذنوبهم إلى أنفسهم، و لو كان الذنب ليس من العبد فما الحاجة إلى التوبة؟ و قال: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (6). كامل البهائي ج 1 62 الفصل الخامس ..... ص : 57

قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (7).

و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (8) أي: إنّ كفركم و إيمانكم على أنفسكم لا على اللّه، و هذا من أوّل القرآن إلى آخره يلقي التبعة في المعاصي على الإنسان.

و قال إبليس: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (9)، و لو كان الفعل من اللّه لكان لعن إبليس

ص: 62


1- الأعراف: 28.
2- الأعراف: 23.
3- القصص: 16.
4- الأنبياء: 87.
5- ص: 24.
6- سبأ: 50.
7- النساء: 79.
8- التغابن: 2.
9- ص: 82.

غير سائغ حيث قال: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1).

و غرضهم من هذا الاعتقاد حيث ردّوا شقاوة الأشقياء إلى تقدير اللّه تعالى و إرادته أنّهم حين رأوا بعض الصحابة و التابعين ظلموا عترة المصطفى و غصبوهم حقّهم، و أفتوا بالظلم و الطغيان، وسعوا في هلاك أهل البيت عليهم السّلام فلطّخوا أيديهم بدمائهم، و حملوا الأمّة عليهم، و جرّأوهم على الاستخفاف بحقّهم، و أصبحوا تحت طائلة ملام العقلاء، فوضعوا هذه البدع لدفع هذه الملامات، من أنّ العبد لا اختيار له، و الفعل كلّه من اللّه تعالى لأنّ هذا هو قضاء إرادته و محلّ تقديره أن يكون الأمر على هذه الكيفيّة، ليقصروا من لوم الناس لهم و لعنتهم إيّاهم، و ذلك حين اتّضح للناس أنّ الصحابة هم الذين ظلموا الصدّيقة عليها السّلام في فدك، و ظلموا أمير المؤمنين و الإمام الحسن و الإمام الحسين و عليّ بن الحسين عليهم السّلام.

و يجيب المخالفون على هذا أنّ اللّه تعالى أراد هذا منهم: فأراد من آدم أن يعصيه، و كذلك موسى و ذو النون و يوسف و داود و محمّد، و يقولون بأنّ يوسف داعب زليخا، و ارتكب داود القبيح مع زوج وزيره أوريا، و النبيّ مع امرأة زيد، و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (2)، و قال في سورة الأنعام: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ (3)، إلى أن يقول بعد ذكر الأنبياء: وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)، و قال بعد ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (5)، أمر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالاقتداء بهم، فلو جازت عليهم

ص: 63


1- ص: 78.
2- آل عمران: 33.
3- الأنعام: 83.
4- الأنعام: 87.
5- الأنعام: 90.

الذنوب و المعاصي فلا يبقى فرق بينهم و بين الفسّاق و الأجلاف حينئذ.

و الأدلّة العقليّة تعضد الآيات القرآنيّة الدالّة على العصمة من قبيل «اصطفى» و «اجتبيناهم» و «هديناهم».

و سبب نفيهم للعصمة هو ما يقول به الشيعة من وجوب عصمة الإمام و أنّ المشرك لا ينال الإمامة و إن تاب، من ثمّ نفوا وجوب العصمة عن اللّه تعالى و جوّزوا المعصية من الأنبياء من أجل تنزيه عمل الشيخين و معاوة و يزيد و أمثالهم ليجنّبوهم لعنة اللاعنين، فجعلوا اللّه تعالى و الأنبياء في منزلة الفسّاق و محلّهم.

الفصل السادس

جلّ أهل السنّة يقولون بجواز القياس في الشريعة.

الجواب عنه: و لا يجيز الشيعة القياس في الشرع كما قال عبد اللّه بن عبّاس:

أوّل من قاس إبليس حيث قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1)، و قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) و لم يأت النبيّ بالقياس، و لو جاز لأحد من الناس لكان رسول اللّه أولى به.

و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3) فلو أنّه فارق الدنيا من دون تبليغ لكان مخطئا، و يكون القرآن كذب علينا و حاشاهما من ذلك.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأيا» أي يوجد من نفسه ما لا يوجد.

ص: 64


1- الأعراف: 12، ص 76.
2- الحشر: 7.
3- النحل: 44.

و الغرض من وضع القياس هو التستّر على جهل أئمّتهم لأنّهم تصدّوا للإمامة فارغي الوفاض من العلم فالتجئوا إلى القياس، و القياس يعارض اللّه تعالى لأنّه يقوم في مقابل حكم اللّه و رسوله فيحكم عليهما فكأنّه قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (1).

و حرّم اللّه الخمر و النرد و الشطرنج و غيرها من أنواع القمار و هؤلاء يستحلّونها ردّا على اللّه و خلافا للقرآن حيث يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مسكر حرام» و لم يفرّق بين القليل و الكثير، و هؤلاء يستحلّونه إلى حدّ الإسكار و يرون ذلك تديّنا و عبادة مخالفة لقول اللّه تعالى القائل:

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً (3)، و قال: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ الآية (4).

و بناءا على مذهب الشيعة أنّ من ارتكب هذه المعاصي و اعتقد بأنّه مصيب بفعل هذا و مات على غير توبة فإنّه يحرم يوم القيامة من نعيم الجنّة كما قال تعالى:

أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا (5).

سؤال: و هذه المعاصي يفعلها كثير من الشيعة.

الجواب: نعم و لكن علماء الشيعة و صلحائهم و زهّادهم مبرّؤون من هذه الترّهات، و لا يفعلون ذلك قطّ، و لكن أهل الدنيا منهم و ملوكهم و سلاطينهم و العامّة الذين يأتون هذه الموبقات يعدّون أنفسهم عصاة مخطئين، و كلّما ذكروا استغفروا منها و استقالوا من جريرتها، و هم دائبون في تطلّب التوبة يوما بعد يوم.

ص: 65


1- الأنعام: 93.
2- المائدة: 90.
3- الأعراف: 51.
4- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 36.
5- الأحقاف: 20.

و لكن المخالف يخرج من هذه الدنيا عن غير توبة لأنّهم يرونها من الطاعات و هي معاصي، ثمّ إنّهم لا يرون لأنفسهم اختيارا في الفعل أو الترك، و إنّما فعلوا ذلك بإرادة من اللّه تعالى، و بعضهم يرى وطئ المملوك فعلا مباحا كما يقول مالك.

حكاية: في سنة اثنين و سبعين و ستّمائة (672) لمّا سافرت- أنا الداعي إلى المؤمنين و مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن الطبريّ- من قم إلى اصفهان بقيت هناك سبعة أشهر بأمر من سيّد العالم بهاء الحقّ و الدين صاحب الديوان محمّد، فنال توفيق الهداية جماعة بسبب مثولي في تلك الخطّة و أفادوا من العلوم الدينيّة من أهل اصفهان و شيراز و أبرقوه و يزد و نواحي أذربيجان من السادات و الصدور و الأكابر، الذين كانوا في ذلك الجزء من العالم ملتجئين إلى غوث العالم، فنالوا النفع كما كان عليه الحال بين العرب و العجم ممّا لا يكاد يخفى، و يعترفون اليوم به و سوف يظلّون كذلك مذعنين إلى يوم القيامة.

و خلاصة القول: أنّ بعض السادة حضروا من شيراز و حكوا لنا، قالوا: كنّا في شيراز و متى ما خرجنا من بيوتنا لطلب التطهّر و الاستنجاء ورآنا أهل السنّة و معنا المطهّرة، رفعوا عقائرهم بشتمنا.

فيا للعجب! إنّ من لم يتطهّر من الحدث و لم يجر عليه الماء ليزيل أخباثه يعتبر سنّيّا صحيح العقيدة، و من فعل ذلك نزولا عند قول اللّه تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) يعتبر رافضيّا.

فائدة: و كلّما نعتوا هؤلاء بالرافضة فإنّ الشيعة يطلقون عليهم رافضة أيضا، و يضيفون إلى ذلك ألقابا أخرى زيادة على ما تقدّم: الأوّل: خارجي، و الثاني:

ناصبي، و الثالث: يزيدي، و الرابع: جبري، و الخامس: مشبّهة، و السادس:

ص: 66


1- الأنفال: 11.

منافق، و السابع: مرواني، و الثامن: قدري، و التاسع: عدوّ أهل البيت أو ظالم آل محمّد، و العاشر: حطب جهنّم، و أمثال ذلك.

بيّنة: لو اجتمع أهل العالم و أرادوا إثبات ذنب واحد أو خطيئة واحدة للشيعة لما استطاعوا إلّا بقولهم أنّهم لا يؤمنون بخلافة أبي بكر، و ينكرون خلافته.

و الجواب عنه: يقول القوم- و هو من الموارد التي اتفقوا عليها- أنّ إمامة أبي بكر تمّت باختيار جماعة من الصحابة و الاختيار باطل، فإنّ اللّه تعالى يقول: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) ثمّ إنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار من قومه سبعين كما قال سبحانه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (2) و ختام أمرهم كان الهلاك بالصاعقة، لقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (3) و لم يكن اختيارهم موفّقا و قد حكى اللّه تعالى هذا المعنى في قصّته.

فكيف يصحّ اختيار خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و أبي سفيان بن حرب الذين ما منهم أحد إلّا و قد حارب رسول اللّه أربعا و ثمانين حربا، و قتل آلافا من المسلمين، و يكون اختيارهم صوابا؟! و نذكر جانبا من هذا الباب.

نكتة: في كتاب «الزينة» من كتب المخالفين: إنّ من الأسماء اسم الشيعة وحده كان مشهورا في عهد النبوّة و لم يكن لقب إلّا و جاء في مدحه أو ثلبه حديث إلّا اسم الشيعة فلم يرد حديث واحد ينقصهم.

ثمّ قال: كان هذا الاسم معروفا زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان مشتهرا بين الصحابة، و قد دعي به جماعة، منهم: سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمّار بن ياسر،

ص: 67


1- القصص: 68.
2- الأعراف: 155.
3- النساء: 153.

و المقداد بن الأسود الكندي و غيرهم، و كان هؤلاء لا يكادون ينحازون عن أمير المؤمنين أو يفارقونه، فسمّوا يومئذ شيعة عليّ عليه السّلام، و لمّا اشتعلت الحرب بين معاوية و المولى أمير المؤمنين عليه السّلام عرف أولياء عليّ و محبّوه باسم الشيعة، و جيش معاوية و تابعوه باسم أهل السنّة، و لمّا حصلت منازلة بين شخصين من العسكرين، فقال أحدهما: أنت سنّيّ، فقال الآخر: و أنا سنّيّ، و كان المقصود بهذا اللقب شيعة عليّ و ليس أمرا آخر، «إنّ في ذلك لعبرة لأولي الألباب».

نكتة: جاء في تفاسير أهل البيت عليهم السّلام: و لمّا اطلع اللّه تعالى إبراهيم الخليل على علوّ رتبة عليّ و فضله، دعا إبراهيم، فقال: اللهمّ اجعلني من شيعة عليّ، فاستجاب اللّه دعائه، بقوله: «و جعلناكم من شيعته»، فحكى رسول اللّه هذه الحكاية: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (1) (2).

و كذلك حكى عن موسى، فقال: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ (3) فكان أتباع الأنبياء و الأوصياء و الأولياء يدعون بالشيعة، و اليوم بقي هذا اللقب ملازما لشيعته.

حكاية: قال عليّ بن نصر أبو الحسن الحنفيّ في بعض تصانيفه: حضر مجلس الإمام جعفر الصادق أحد موالي أهل البيت و قال: يابن رسول اللّه، عرضت لي حاجة مهمّة إلى السلطان و ليس لي وسيلة توصلني إليه، و جئتك الآن لتكون لي شافعا عنده لقضاء حاجتي.

فقال له الإمام الصادق عليه السّلام: قم الساعة و التحق بالسلطان و انتظر الفرصة حتّى يعرض لك رجل من صفته كذا و كذا فإنّه من خواصّ حجّابه، و جدّ في الأمر حتّى

ص: 68


1- الصافّات: 83.
2- راجع التبيان للطوسيّ 8: 508.
3- القصص: 15.

تكلّمه على انفراد، فقل له: أرسلني الإمام جعفر إليك و بعث معي علامة لتقضي حاجتي عند السلطان، ففعل ما أمره الإمام و قضي حاجته، فعاد الولي إلى الإمام الصادق عليه السّلام و قال: يابن رسول اللّه، إنّ الرجل سمع اسمك كاد يغمي عليه من النشاط و الفرح، فذهب إلى ذلك الجبّار حالا و قضى حاجتي، فما يصنع وليّكم مع هذا الحبّ في دار عدوّكم؟!

فقال الإمام عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى قضى لنا من الكرامة بأن جعل عند عدوّنا واحدا من موالينا أو أكثر مقرّبا إليه و من خواصّه و أركان ملكه ليقضي حاجات ذوي الحاجات من موالينا.

من ثمّ لم يخل وجه خليفة بدءا من الخلافة العبّاسيّة حتّى انقراض دولتهم من وجود وزير أو وكيل خراج أو حاجب خاصّ أو مدبّر لأمر ذلك الملك شيعيّ، و كذلك الحال في سلاطين خوارزم الذين أكثر وزرائهم من قم أو كاشان، و أمراء خراسان كانوا شيعة بأجمعهم، و لا تخلو بقعة من بلاد الإسلام من وجود مؤمن محترم و مكرّم؛ إمّا ظاهر الاعتقاد بالتشيّع أو عاملا بالتقيّة، كعمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبي طالب عليه السّلام يخفي إيمانهم ليلتئم مع صناديد قريش و أكابرهم بظاهره، و يوافقهم، و بهذا يستطيع أن يمدّ رسول اللّه و أصحابه بالمعونة، و ينصره بماله و بيده و روحه و كذلك بجاهه، و كان جانب النبيّ و أتباعه قويّا ما دام عمّه على قيد الحياة، فلمّا وافته منيّته هبط الأمين جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه، و أمره بالهجرة: «فقد مات ناصرك»، و اتفق العلماء على قوله تعالى: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) في بيت أبي طالب، و قال اللّه تعالى في حقّ مواليه: وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا (2).

ص: 69


1- الضحى: 6.
2- الأنفال: 72 و 74.

يقول مصنّف هذا الكتاب: و قد استدللت يوما على إسلام أبي طالب و إيمانه في مدينة اصفهان بحضور المولى الأعظم بهاء الدين صاحب الديوان محمّد بهذه الآية.

نكتة: اتفق العلماء على أنّ يوم الحساب في عرصة التغابن و الندامة، تبدأ المسائلة فتأتي كلّ فرقة بعذرها ... فيقول بعضهم: حاد بي عن العبادة ضعف الهرم و تناهي الشيخوخة.

و يقول البعض الآخر: كنّا أقنانا في طاعة العباد فلم يتيسّر لنا أداء المقامين:

العبوديّة و العبادة، فصعب علينا القيام بطاعتك.

و يجيب الآخرون بأنّ أنفسنا كانت عليلة.

و يعتذر بعضهم بما أوتي من المال و الملك عن القيام بواجب الطاعة.

و يقول بعضهم: حال بيننا و بين العبادة الفقر و الفاقة: «كاد الفقر أن يكون كفرا».

و يقول قوم غيرهم: شغلنا الملك و السلطان عن عبادتك.

فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1) فيقول اللّه للشيوخ: كان عبدي نوح النبي أكبر منكم سنّا و كان يومئذ قد بلغ تسعمائة و خمسين عاما و هي مدّة أداء الوحي و مع ما هو عليه من الضعف و الشيخوخة لم يزل يزيد في العبادة كلّ يوم.

و يقول للأقنان و المماليك: كلّا، فإنّ يوسف كان مملوكا و أسيرا عند عزيز مصر منذ الطفولة و حتّى الكهولة فلم تحل عبوديّته لعزيز مصر عن عبادتنا و طاعتنا.

و يقول للمرضى: كلّا، فإنّ أيّوب النبيّ عاش في السقم زمانا فلم يزدد إلّا إقبالا على عبادتنا يزيد فيها كلّ يوم.

و يخاطب ذوي الثروات فيقول: كلّا، إنّ إبراهيم في أيّامه الأولى منعّما حائزا على نعم عظيمة، فنال في الآخر لا نقياده لأامرنا درجة الخلّة ببذله ذلك المال و إنفاقه في

ص: 70


1- الأنعام: 149.

طريق عبادتنا، فلم يكن عند أحد من البشر ما عنده من المال، و لم يصل بشر إلى ما وصل إليه من العبادة.

و يقول للفقراء: كلّا، فإنّ محمّدا الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و موسى و عيسى و يحيى و هارون و زكريّا و أمثالهم كانوا فقراء و مقلّين مع درجتهم في النبوّة و العصمة و الرسالة.

و يخاطب الملوك و السلاطين: كلّا، فإنّ في الطبقة الأولى كان كيومرث أوّل ملك في الأرض مع ما حازه من الملك و الدولة و القيادة فقد كان منقادا لأمرنا و لم تفته عبادة من الواجبات بالعدل و السياسة مدّة ثلاثين عاما، و هي أيّام ملكه، و ثبتت الشريعة بسيفه و قويت، و كان في زمن نبوّة شيث.

و في الطبقة الثانية كان أفريدون، حكم العالم مدّة خمسمائة عام بالعدل و القسط و تعاهد الرعيّة، و قام بكلّ ما وجب عليه.

و في الطبقة الثالثة يوسف بن يعقوب، سلطان مصر.

و في الطبقة الرابعة الاسكندر الرومي، و يقال: إنّه متقدّم على يوسف، فملك الربع المسكون، و رأى عجائب العالم، و قهر غالب الملوك مع الاقتدار و الانتصار و الحكم، و كان النور قائد عسكره، و السائق الظلمة، و الملائكة المقرّبون أعوانه، و نزلت فيه آيات من سورة الكهف.

و في الطبقة الخامسة طالوت و داود النبي مع الشوكة و القوّة و مرتبة الرسالة و الصولة، و كان يحيط بخيمته في كلّ آن أربعون ألفا من رجال الحرب على أهبة الاستعداد لتلقّي أوامره، و أتباعه و حشمه يتلقّون أرزاقهم منه.

و في الطبقة السادسة سليمان بن داود الذي كان معسكره مأة فرسخ، خمس و عشرون فرسخا للناس، و خمس و عشرون فرسخا للجنّ، و خمس و عشرون فرسخا للوحوش و السباع، و خمس و عشرون فرسخا للطيور و الهوام و أمثالهم، و سخّرت له الريح فكانت تنقلهم بأقصر وقت صباحا من الكوفة و يهبطون

ص: 71

خراسان في الليل: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ (1)، و لم تثبت عمره كلّه في ديوانه جريمة واحدة؛ لا صغيرة و لا كبيرة، فقبضه اللّه إليه مطهّرا معصوما، و هذا الملك العظيم لم يمنعه من عبادة اللّه جلّ جلاله، و رفع اللّه عنه الحساب في ماله و ملكه و معيشته: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (2).

و يقيم الحقّ تعالى إثبات النيّة و إلزام الحجّة على هؤلاء الطوائف أصحاب الذرائع و العلل، فيسكت الجميع و يطأطأون رؤوسهم هوانا و افتضاحا: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (3) حتّى يصل النداء: خذوا هؤلاء المجرمين إلى جهنّم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (4).

و الغرض أنّ في كلّ دورة من دورات الزمن شخصا ذا رئاسة و دولة و سلطان، يمدّه الحقّ و يعينه، و في زماننا طلع بهاء الدنيا و الدين محمّد صاحب الديوان رفع اللّه رايات الإسلام و المسلمين ببقاء دولته، فطاب باطنا و ظاهرا.

ص: 72


1- سبأ: 12.
2- ص: 39.
3- إبراهيم: 43.
4- الحاقّة: 30- 32.

الباب الرابع في أنّ الشيعة ناجية

اعلم أنّه لا خلاف بين أهل القبلة بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق» (1)، و لا ريب أنّ من كان

ص: 73


1- راجع لتخريج الحديث الكتب التالية: المستدرك 2: 343 تحقيق المرعشي، ط بيروت، دار المعرفة 1406، و الجزء الثالث منه ص 151. و مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168 خرّجه في أربع طرق عن أبي ذر و عن ابن عبّاس و عن عبد اللّه ابن الزبير و عن أبي سعيد الخدري .. و السياق متقارب تقريبا. و أخرجه الطبرانيّ في المعجم الصغير 1: 139 ط دار الكتب العلميّة- بيروت في مجلّدين بدون تاريخ، و كذلك أخرجه في الجزء الثاني منه ص 22، و أخرجه في المعجم الأوسط بثلاث طرق: الأوّل عن أبي ذر (4: 10)، و الثاني عنه أيضا (5: 355)، و الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه (6: 85)، و أخرجه الطبراني أيضا في المعجم الكبير عن أبي ذر بطريقين، و الثالث عن ابن عبّاس (3: 45)، و في الجزء الثاني عشر عن ابن عبّاس أيضا (ص 27). و ذكره ابن سلامة في مسند الشهاب عن المقدام بن معدي كرب (2: 273) و مثله عن ابن عبّاس و عن أبي ذر. و جاء ذكر الحديث في شرح ابن أبي الحديد 1: 218. و ذكره ابن الآبار في درر السمط في خبر السبط بعبارة فخمة حيث يقول: ما غدر الأمويّة و أبنائها في قتل العلويّة و أفنائها «أهم يقسمون رحمة ربّك» دليل في غاية الوضوح على أنّهم كسفينة نوح من ركب فيها نجى و من تخلّف عنها غرق، ثمّ يحبسهم آل الطليق و يطردهم آل الطريد، و ما نقموا منهم إلّا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد ... الخ (ص 116). و ذكره الزرندي الحنفي في كتاب نظم درر السمطين (ص 235). و ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1: 373 برقم 2442، و في الجزء الثاني ص 533 و رقمه 8162. و جاء في كنز العمّال بالأرقام التالية: 34169، 34170، 34151، 34170. و سمّاهم المناوي في فيض القدير (2: 658) فقال: (أهل بيتي) فاطمة و عليّ و ابنيهما و بنيهما أهل العدل و الديانة ... الخ، أي العصمة. و قال في الجزء الخامس بعد ذكره الحديث معلّقا على قوله (سفينة نوح): و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم و عظّمهم شكرا لنعمة جدّهم و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم و هلك في معادن الطغيان. هذا تخريج الحديث في كتب أهل السنّة و الجماعة، و أمّا الشيعة فالحديث متواتر عندهم و لا تحصى الكتب التي أخرجته منهم، و سياقه لا يختلف كثيرا عن سياق العامّة. (المترجم).

خارج السفينة كان هالكا بشهادة النبيّ و نصّ القرآن الكريم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (1) و من كان معه في السفينة كتبت له النجاة.

و بناءا على هذا فإنّ مصنّف الكتاب يحمد اللّه حقّ حمده حيث وفّقه في عنفوان الشباب و أيّام الجدّة و الحداثة إلى التمسّك بأهل هذا البيت و التمذهب بمذهبهم، و سدّده لبلوغ هذه العقيدة المرضيّة، و للاعتصام بالعروة الوثقى، قال تالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (2)، و جاء في الحديث القدسيّ: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».

و الإنسان نزولا على حكم الفطرة يكون مؤمنا حتّى الخامسة عشرة و بعدها

ص: 74


1- نوح: 25.
2- الروم: 30.

يسمّى مؤمنا بتصديقه بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، كأمير المؤمنين عليه السّلام الذي صدّق رسول اللّه و هو ابن الثالثة عشرة أو العاشرة، و المسألة اتفاقيّة على إيمانه قبل البلوغ، و مذهب الشيعة على هذا بانّ عليّا عليه السّلام صدّق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الفترة من عمره و إلّا فلم يكن بحاجة إلى أن يؤمن؛ لأنّ الإيمان لا يكون إلّا عن شرك، و عليّ عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين، و كان غيره محتاجا إلى الإيمان. و اتفق محقّقو الشيعة على أنّ عليّا لا ينبغي أن يقال عنه بأنّه آمن لأنّه كان ممّن يجب الإيمان به و بولايته و إمامته على العالمين و هو جزء من أجزاء الإيمان.

روى بابويه القمّي في كتاب العيون المحاسن عن الثقاة عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى أنّه قال: «ولاية عليّ بن أبي طالب حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» (1).

و قال الإمام زين العابدين عليه السّلام:

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده (2) و قال الحارث الهمدانيّ يوما لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا علي، إنّي أحبّك، و أخاف

ص: 75


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 146.
2- في البحار نسبها إلى الإمام الباقر عليه السّلام مرّة و إلى زين العابدين عليه السّلام أخرى، في روايتين الأولى عن عبد اللّه بن المبارك و فيها أربعة أبيات منسوبة للإمام السجّاد عليه السّلام: لنحن على الحوض روّاده نذود و نسقي ورّاده و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده و الثانية عن بعضهم و الأبيات منسوبة لمحمّد بن عليّ بن الحسين (الباقر) عليهم السّلام (46: 91). (المترجم).

حالتين من حالاتي: النزع، و حالة المرور على الصراط. فقال عليه السّلام: لا تخف يا حارث، فما من أحد من أوليائي و أعدائي إلّا و هو يراني في هاتين الحالتين و أراه و يعرفني و أعرفه.

يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه بنعته و اسمه و ما فعلا

و أنت عند الصراط معترضي فلا تخف عثرة و لا زللا

أقول للنار حين تعرض للعرض ذريه لا تقربي الرجلا

ذريه لا تقريبه إنّ له حبلا بحبل الوصيّ متّصلا

أسقيك من بارد على ظمأتخاله في الحلاوة العسلا

هذا لنا خالص لشيعتناأعطاني اللّه فيهم الأملا (1) أبو الصلت الهروي قال: كان الإمام ذات يوم في مجلس المأمون، و جرى نقاش بينه و بين بعض المنافقين حتّى سألوه: يا بن رسول اللّه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة و النار، فكيف يكون ذلك؟

فقال الإمام عليه السّلام: اانّ محبّته موجبة لدخول الجنّة، و عداوته موجبة لدخول النار، و بهذا ينقسم أهل النار و أهل الجنّة بمحبّته و عداوته، ثمّ شرع في بيان المسألة بيانا شافيا، و ذكر تقريرا لطيفا نال إعجاب الحاضرين من أولياء و أعداء فأطروه كثيرا، و سرّ المأمون من بيانه.

قال أبو الصلت: فلمّا خلوت بالإمام بعد قيامه من المجلس، قلت له: يا مولاي،

ص: 76


1- وردت الرواية في البحار أكثر تفصيلا و ذكر أنّ الشعر للسيّد الحميري، و أوّله: قول عليّ لحارث عجب كم ثمّ أعجوبة له حملا ج 39: 241. (المترجم)

إنّ لك اليوم اليد البيضاء على مواليك بتقريرك اللطيف، فلقد أحييت قلوبا ميتة.

فقال الإمام: يا أبا الصلت، إنّ الذي سمعته طابق مذهب القوم الذي نطقت به كتبهم و إلّا فمذهبنا أهل البيت على أنّ الإمام أمير المؤمنين يقف على شفير جهنّم يوم القيامة و يقول: يا نار خذي هذا فإنّه من أعدائي و ذري ذاك فإنّه من أحبّائي ... (1).

يقول عبد اللّه الدامغاني في كتاب «سوق العروس» في مدح فاطمة و الحسن و الحسين و أهل بيت رسول اللّه و الثناء عليهم و هو من العلماء و أصحاب الحديث و من أهل السنّة و الجماعة:

تطاول ليلي و لم أرقدفكنت كذي اللدغ و الأرمد

بذكر النبيّ و ذكر الوصي و ذكر هوى المصطفى أحمد

حسان الوجوه عظام الحلوم كرام المغارس و المحتد

و من دنس الرجس قد طهرواففاز الذي بهم يقتدي

ص: 77


1- عثرت على هذا الحديث في عيون أخبار الرضا عليه السّلام على النحو التالي: عن أبي الصلت الهروي قال: قال المأمون يوما للرضا عليه السّلام: يا أبا الحسن، أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين بأيّ وجه هو قسيم الجنّة و النار؟ و بأيّ معنى فقد كثر فكري في ذلك؟ فقال له الرضا عليه السّلام: يا أمير المؤمنين، ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: حبّ عليّ إيمان و بغضه كفر؟ فقال: بلى. فقال الرضا عليه السّلام: فقسمة الجنّة و النار إذا كانت على حبّه و بغضه فهو قسيم الجنّة و النار. فقال المأمون: لا أبقاني بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال أبو الصلت الهروي: فلمّا انصرف الرضا عليه السّلام إلى منزلته أتيته فقلت له: يابن رسول اللّه، ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين! فقال الرضا عليه السّلام: يا أبا الصلت، إنّما كلّمته حيث هو، و لقد سمعت أبي يحدّث عن آبائه عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، أنت قسيم الجنّة يوم القيامة، تقول للنار: هذا لي، و هذا لك. (عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 91 ط الأعلمي، الأولى 1404).

عليّ أبو الحسن و الحسين رشيدين للراشد المرشد(1) أورد إبراهيم الثعلبي و الزمخشري و النهرواني و أضرابهم و هم من علماء السنّة في آية القرابة يعني قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى(2) رواية عن جرير بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له من قبره باب إلى الجنّة.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة.

و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه.

ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (3).

ص: 78


1- الأبيات تحتوي على أخطاء صحّحتها بناءا على ذوقي: اللاغ اللدغ، و ذكر هو و ذكر هوى. (المترجم).
2- الشورى: 23.
3- تفسير القرطبي 16: 23 عن الزمخشري و فيه زيادة على ما ذكر المؤلّف: ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، و ذكر القرطبي قبل ذلك قول الثعالبي: و ليس بالقوي، إنّما يعني قول من قال عن الآية: «قل لا أسألكم» الآية، و قال قوم: الآية منسوخة و إنّما نزلت بمكّة، فقال القرطبي: و ليس بالقوي .. و كفى قبحا بقول من يقول: إنّ التقرّب إلى اللّه بطاعته و مودّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته منسوخ، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا، إلى آخر الحديث.

نكتة: قال النهرواني: سألوا من النبيّ: يا رسول اللّه، من قرابتك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

عليّ و فاطمة و ابناهما.

و يقول أمير المؤمنين: ذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكوت إليه حسد الصحابة لي، و العبارة كما يلي: شكوت ألى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، فقال: أما ترضى (يا علي- المؤلّف) أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت الحسن و الحسين و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرّيّتنا خلف أزواجنا (و شيعتنا و رائنا- المؤلّف) و شيعتنا من خلف ذرّيّتنا (1).

و اتفق المفسّرون من كافّة الطوائف على وجوب محبّة عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام بآية القرابة.

يقول مصنّف هذا الكتاب: الدليل على وجوب محبّة أهل البيت قوله تعالى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و معنى الآيه هكذا: ندعو كلّ فريق يوم القيامة مع إمامه و نحشره معه، فنحشر اليزيديّ مع يزيد و نسوقه إلى جهنّم، و محبّي معاوية معه، و أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعيّ و حنبل نحشرهم كلّ فريق تحت لواء إمامه، و يكون الشيعة مع أمير المؤمنين و أولاده و أبي ذر و سلمان و عمّار و المقداد بإجماع هذه الطائفة من أهل الجنّة، فيكون حشر الشيعة معهم.

و منه الجواب عنه لعليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق (3).

ص: 79


1- ابن البطريق، العمدة، ص 50 و نسبها محقّق الكتاب إلى تفسير الكشّاف للزمخشري 3: 81.
2- الإسراء: 71.
3- هذا الحديث صحيح و قد اخرجه مسلم في جامعه، و العثور عليه سهل لمن أراده. (المترجم).

و روى المحدّث الدربنديّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين عليهم السّلام في حظيرة القدس في قبّة بيضاء، سقفها عرش الرحمان (1) بدليل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) يعني عليّا و أولاده. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، شيعتك هم الفائزون.

و يقول المخالفون: و نحن أيضا نحبّ النبيّ و أهل بيته.

الجواب: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (3).

حكاية: حضرت يوما مع نجل مخدومي بمنتزه قرية بطرية في قرية واقعة بين قم و كاشان في العاشر من محرّم الحرام سنة ثلاث و سبعين و ستّمائة (673) و كنت أتلو جانبا من مقتل عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان أحد العلماء حاضرا ساعتئذ و راح يصدّقني على ما أقول و يعينني خوفا من بطشه و طمعا في ماله «يقصد صاحب الديوان»، و لمّا خلا إلى شياطينه من النواصب بلغني عنه ذمّه للإمام الحسين معهم و مدحه ليزيد، مع أنّه يقال عنه أنّه أكثر انصافا من غيره من علمائهم، فإذا كانت هذه حال المنصف فما ظنّك بغير المنصف منهم!

كنت في اصفهان سنة اثنتين و سبعين، و لمّا رجعت يوما من ديوان الدولة جائني علويّ مستعرب و قال لي: أي فلان، كنت اليوم عند أحد العلماء فدعوت اللّه له بما قدرت عليه من الدعاء، و قلت له في آخره: حشرك اللّه مع أبي بكر و عمر و عثمان، فأجابني: أقسم باللّه لو أدخل هؤلاء إلى الدرك الأسفل من النار لكان أحبّ إليّ أن

ص: 80


1- كتاب الأربعين، لمحمّد بن طاهر القمّي الشيرازي، ص 473، و فيه: أنا و فاطمة، مكان قوله: «سقفها عرش الرحمان» قوله: «و هي قبّة المجد»، راجع: إحقاق الحقّ 9: 220 عنه.
2- الطور: 21.
3- الفتح: 11.

أكون معهم من أن أكون مع عليّ و أهل بيته في جنّة الخلد مع النعيم و الحور و القصور.

و قال أحمد بن حنبل: قلت يوما لمؤمن و أنا أحاوره: لا يكون الرجل مؤمنا حتّى يبغض عليّا قليلا (1). فقال المؤمن: لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يحبّ عليّا كثيرا، لا تعرف حقيقة المرء أو اعتقاده إلّا في حال الغضب، و نادرا ما يمكن معرفة ذلك في حال الصفاء و السلم.

و غرضنا من ذكر هذه الحكايات هو إعلام المؤمنين بأنّهم كما يبغضون الصحابة الذين ظلموا أهل البيت فإنّ مخالفي أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين يبغضونهم كذلك و لكنّهم يحجمون عن كشف ذلك لعلوّ درجة أهل البيت و سموّ مقامهم، و لمّا لم تكن هذه المنزلة للصحابة فإنّ الشيعة يجأرون ببغضهم ما لم تكن هناك تقيّة يتّقونها.

بيّنة: قال السيّد المرتضى علم الهدى رحمه اللّه: سأل سائل السيّد الحميري- و لم يكن هاشميّا و إنّما كان السيّد لقبه و كان رجلا فاضلا شاعرا مشهورا بين علماء أهل القبلة-: كيف أحببت عليّا و أهل البيت مع أنّ أبويك يلعنانه و يواليان بني أميّة (2) و أنت تواليهم و تحبّهم و تمدحهم بصدق؟

قال: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، فلقد غاصت عليّ الرحمة غوصا، و أخرجتني من بحر الجهل و الضلالة و العداوة لآل الرسول صلّى اللّه عليه و آله وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (3).

ص: 81


1- لعن اللّه أحمد بن حنبل فأين هو من قول النبيّ لعليّ: لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق، و أنا المترجم أقسم باللّه بأنّ دينهم النفاق و هم أعظم كفرا من إمامهم ابن آكلة الأكباد لعنه اللّه.
2- كانا على دين الأباضية و لم يكونا شيعة لبني أميّة. (المترجم).
3- النساء: 83.

قال السيّد المرتضى: صدق الحميري؛ لأنّ أبويه كانا من أتباع بني أميّة و من النواصب ظاهري النصب و العداوة لأهل البيت عليهم السّلام، و جرت العادة على أنّ المرء تابع لمحيطه و البيئة التي عاش فيها و ينشأ على أخلاقها و عاداتها أو على ما درج عليه أبواه و أقربائه و أقرانه، أو على توجيه الأدباء و العلماء له، و هؤلاء جميعا كانوا نواصب، و عاش الحميري بين ظهرانيهم فخرج من بينهم مؤمنا طاهر الاعتقاد، فلا يكون ذلك إلّا بفضل من اللّه و بتوفيق ربّانيّ خاص.

فائدة: اعلم بأنّ ملوك بني أميّة كانوا جميعا يعرفون فضل عليّ و فاطمة و أولادهما، و علوّ مرتبتهم، و حصل لهم العلم بذلك، و أمّا غيرهم فهم كما قال اللّه حكاية عن موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (1)، و هؤلاء يقينا عرفوا رسالة موسى و لكنّهم أنكروها، و كذلك فعلوا مع محمّد و القرآن كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (2).

و مثله حال بني إسرائيل مع هارون عليه السّلام و هو نبيّ و وصيّ موسى، و عرف أولئك الناس مقامه و رفيع منزلته عند اللّه و قربه من موسى، قال تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (3) و كان ابن عمّ لبني إسرائيل و لكنّهم تركوه وحده و مالوا إلى عبادة العجل، و كذلك إخوة يوسف عرفوه بعلمه و ورعه و نبوّته أكثر من غيرهم و مع ذلك أرادوا قتله كما ظهر ذلك للعلماء و العقلاء، كما ذكر في كتاب اللّه: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا (4) و إنّما قالوا ذلك لأنّهم أبناء علات،

ص: 82


1- الصف: 5.
2- البقرة: 89.
3- الأعراف: 150.
4- يوسف: 8.

و أرادوا بأخيه شقيقه بنيامين.

و قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (1).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الشقشقيّة بعد ذكره القوم و ما جنوه عليه و شكايته منهم و جرأتهم عليه: بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّهم حليت الدنيا بأعينهم و راقهم زبرجها، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (2) كما قتل عمر بن سعد عليه اللعنة الإمام الحسين طمعا بملك الري و قزوين و الديلم، فدخلت روحه الخبيثة النار قبل أن يرى هذا الملك بعينيه، خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (3).

سؤال: إذا كان القوم لا يجهلون مقام أمير المؤمنين عليه السّلام فكيف إذا شتموه و لعنوه و هم يعرفونه؟

الجواب: كان إبليس يعرف نبوّة آدم، و مثله بنو إسرائيل يعرفون مرتبة موسى و عزّته، و عرف أولاد يعقوب أخاهم يوسف، و يقول اللّه أيضا: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (4) و كان إيمانهم تقليدا فخذلهم اللّه تعالى، و عندنا و في مذهبنا هم كفّار باللّه و رسوله و بمخالفتهم إمام زمانهم، و صدق في حقّهم كلام اللّه حكاية عن إبليس لعنه اللّه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (5) و قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (6).

ص: 83


1- النحل: 83.
2- لقمان: 33.
3- حج: 11
4- الأنعام: 91.
5- ص: 82.
6- النساء: 20.

و مع هذا فلا يخفى على أهل العقل مقام أمير المؤمنين و قرابته و أهل بيته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان بنو أميّة على فرق شديد خشية أن يعرف العامّة فضلهم و علوّ مرتبتهم و عزّتهم على صعيد الترفّع و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيخرجون عليهم.

و ذكرت كتب التاريخ و السير أنّهم كانوا يحرّضون الناس عليهم و يلعنونهم و لكنّهم لا يذكرونهم بأسمائهم، فيسمّون أمير المؤمنين أبا تراب، و الحسن و الحسين أولاد أبي تراب، فخرجوا على أهل البيت عليهم السّلام و أرادوا محو شريعة الإسلام، و يرفعونها من بين الأمّة، و اشتروا ذمم العلماء و أصحاب المعرفة بالجاه و المال و كثرة العطايا فعرّوهم عن دينهم.

و جرت حالهم مع عليّ و أولاده على نسق حال بلعم بن باعورا مع موسى و هارون، أو كبر صيصا الراهب: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (1).

سلّمنا بأنّ العامّة كانت تعلم بفضلهم و تعرف حالهم فكان شأن العامّة كشأن إخوة يوسف عليه السّلام، قال اللّه تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (2) لا سيّما اليهود فقد عرفوا موسى و عيسى، قال اللّه تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3)، و قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (4).

سؤال: بناء على هذا فإنّ العامّة لا تستحقّ اللوم و التعنيف؟!

ص: 84


1- إبراهيم: 28 و 29.
2- النساء: 54.
3- البقرة: 75.
4- البقرة: 146.

الجواب: قال اللّه تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ (1) إلى أن قال تعالى:

فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2)، و قال تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (3) و يشمل الآل هنا الأقارب و الأباعد لأنّ اللّه أهلكهم جميعا معه و أدخلهم إلى جهنّم.

و قال تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ (4)، وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (5) و هذا محض كذب منهم، و في القرآن أمثال هذه الآيات واردة في مواضع لا تعدّ و هي افتراء الواحد و اتّباع الآخرين له، و إعانته على ظلمه.

و في القيامة يتبرّأ التابع من المتبوع كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (6)، و قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (7).

و أوضح من هذه الآيات الآيتان التاليتان: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (8).

الجواب الآخر: النظر واجب على المكلّف في مثل هذه القضايا و التقليد غير جائز، و المقلّد و إن كان على الحقّ هالك لأنّ التقليد باطل، فكان الواجب على العامّة أن يتحرّوا في أمر الشيعة و أهل البيت حين شوّه العدوّ صورتهم الحقّ

ص: 85


1- الزخرف: 54.
2- الإسراء: 103.
3- المؤمن: 46.
4- الأنعام: 71.
5- الفرقان: 4.
6- الأحزاب: 67- 68.
7- البقرة: 166.
8- إبراهيم: 28 و 29.

و الدقّة، بل هذا هو واجب العلماء قبل أن يجب على العامّة.

الجواب الآخر: على المكلّف أن لا يلقي بالا لما يقوله والداه و لا لما يقوله أهل الباطل.

لمّا وصل الملك السعيد محمود بن سبكتكين إلى العراق و كانت رايته قد بلغت الري، جاءه جماعة من النواصب و شكوا إليه الشيعة بأنّهم يسبّون الصحابة، فلم يقنع السلطان بأقوالهم و حكّم عقله، و شرع بالبحث و التحرّي و الفحص، و اجتهد في هذا الأمر بعد الجدّ و المثابرة، فعلم بتوفيق من اللّه أنّ الحقّ مع الشيعة، و المرجئة و القدريّة على الباطل، فاستبصر و نبذ ما كان يعتقد من العقيدة الباطلة، و لكنّه أخفى مذهبه صيانة لملكه لما رأى الضلال قد استحوذ على العالمين، فكان يمدّ الشيعة و الأشراف بالمعونة مادام على قيد الحياة بجدّ و اجتهاد بالحدّ المقدور له.

و هذه القصّة ذكرها أبو الفضل الكرماني في تاريخه، و كان يستعمل خواصّه من الوزير و غيره و أصحاب أعماله من الشيعة دائما، و كذلك ملوك مازندران كانا مؤمنين أبا عن جدّ، و مثلهم الأمراء عضد الدولة و ركن الدولة و ناصر الدولة (1)، و كان بين الخلفاء من هو من الشيعة إلّا أنّه يتخفّى منهم الخليفة الناصر، و كان من أعيان تلك الدولة الصاحب كافي الكفاة و لم يكن أحد نظيره، و له عشرة آلاف بيت في مناقب أهل البيت و مثالب أعدائهم و التبرّي من هؤلاء الأعداء.

و كان في وزراء سلاطين خوارزم القمّي و الكاشي، و آخر خليفة الذي أغار على الكرخ و نهب أهل البيت و آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يهنأ بذلك و وقع البلاء على رأسه.

و السلطان ملكشاه الذي قبل أقوال نظام الملك و قتل الكثير من الشيعة لم يمرّ عليه عام واحد حتّى هلك، و وصل نظام الملك الناصبي أيضا إلى الدرك الأسفل.

ص: 86


1- إن كان يقصد آل بويه فهم شيعة و لا يتخفّون عن أحد لأنّ السلطان كان لهم يومذاك. (المترجم).

و إذا نظرت بعين الحقيقة فلن تجد بيتا عادى هذه الطائفة إلّا هلك، في الصدر الأوّل حين أظهر قوم من الصحابة عداوتهم أدال اللّه منهم و لم يبق لهم أمر و لا لأولادهم، فإذا سمعت عن فلان بأنّه بكريّ أو عمريّ أي أنّه من ذرّيّة هذين الاثنين فهو كذب محض، و الدليل على ذلك أنّ القوم ليست لهم شجرة و لم يقل أحد أنّ لهم أخلافا.

الثاني بنو أميّة مثل معاوية و يزيد و عثمان إلى خمسة عشر ملكا، و قضى على آخرهم الأمير الغازي أبو مسلم المروزي بجيش من خراسان، و قتلة الحسين قضى عليهم المختار و المسيّب قضاءا مبرما، و تركاهم جذاذا، و أرسلا إلى جهنّم أضعافا مضاعفة منهم، و يقرؤون اليوم هذه الآية: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا الآية (1).

و لمّا جائت النوبة إلى بني العبّاس بدؤوا حكمهم بقتل السادة و الأئمّة كما دلّ على ذلك كتاب «مقاتل الطالبيين» الذي ألّفه الاصفهاني حيث قتل كلّ خليفة منهم الآلاف ردّا على قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (2).

و جعل اللّه ما قوله الناصبون من ترّهات عن ملوكهم و سلاطينهم فيدعون هذا أمير المؤمنين، و ذاك خليفة المسلمين هباءا منثورا، و مدّ ظلّ راية محبّي أهل البيت و دولتهم على أقاصي العالم، و وضع بني زياد و بني مروان و بني العبّاس و بني سفيان و أتباعهم حيث يريد محبّو أهل البيت عليهم السّلام.

بيّنة: حكى عبد اللّه النيشابوري قال: كانت بيني و بين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فذهبت إليه يوما و أقمت في موضع، فلمّا علم بمقدمي أرسل إليّ

ص: 87


1- الأحزاب: 67.
2- الكوثر: 1.

أحد رجاله فدعاني و أنا ما أزال في ثياب السفر، فذهبت إليه و كنّا في شهر رمضان، فدعاني إلى الجلوس، فأمر لي بماء و وضوء، فغسلت يدي، و أمر لي بطعام فنسيت أنّنا في شهر رمضان فرفعت إلى فمي لقمة أو لقمتين فتذكّرت أنّنا في شهر رمضان فأمسكت عن الطعام، فقال لي حميد: مالك؟ أعرضت عن الأكل.

فقلت له: لعلّ لك عذرا من مرض و غيره منعك من الصوم، أمّا أنا فلا عذر لي.

فقال: و أنا أيضا ليس لي عذر يوجب الإفطار و لكنّي يائس من رحمة اللّه، ثمّ شرع بالبكاء، و لمّا فرغ من الأكل سألته: يا أمير، مالك تبكي هكذا؟

قال: لمّا وصل هارون الرشيد إلى طوس، دعاني ليلة و جائني خادمه فقال:

أجب أمير المؤمنين، فلمّا جئته وجدت بين يديه شمعا يضي ء، فسلّمت عليه و أنا خائف على نفسي منه، و وجدت سيفا إلى جانبه، فرفع رأسه و قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال، فردّني إلى البيت حالا.

فما بلغت بيتي حتّى جائني خادمه ثانيا و قال: أجب أمير المؤمنين، فاسترجعت و قلت في نفسي: ما دعاني إلّا للقتل، فوقفت بين يديه أرتعد من الخوف، فلمّا رآني، قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ قلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال و الأهل و الولد و الدين، فضحك و دفع إليّ السيف الذي معه و قال: اذهب مع هذا الخادم و اعمل بما يأمرك به.

ثمّ سار بي الخادم إلى البيت فرأيت فيه حفرة عميقة جدّا، و رأيت في البيت أبوابا ثلاثة مغلّقة، و فيه ستّون علويّا من أولاد فاطمة محبوسين؛ منهم الشيخ و الشابّ و الكهل، فاخجرهم واحدا بعد الآخر و أمرني بضرب أعناقهم و ألقاهم في الحفرة حتّى قتلت منهم سبعا و خمسين رجلا، و رأيت بينهم شيخا حلو الطلعة،

ص: 88

مديد القامة، فلمّا رآني قال: أيّها الشقي، أما تستحي منّا و نحن من أهل بيت النبوّة و الإمامة، فماذا تقول لربّك يوم القيامة و بماذا تجيب المصطفى و المرتضى و فاطمة و الحسن و الحسين؟

فارتعدت فرائصي من قول الرجل، فقال لي الخادم اللعين: أتريد أن تعصي أمير المؤمنين؟ فضربت عنق ذلك الشيخ خوفا على نفسي إلى أن قتلت الستّين و كلّهم فاطميّون و علويّون، أيّها الرجل، فإذا كانت حالي بهذه المثابة فماذا ينفعني الصوم و الصلاة؟! لا شكّ بأنّي من أهل النار.

بيّنة: المعروف عن المنصور الخليفة أنّه كان يقيم البناء ببغداد و يضع سادات العلويّين في جدره حتّى يموتوا، و ذكر ذلك الكبار في تصانيفهم و الشعراء بأشعارهم، و كان كلّ خليفة يأتي يفخر على صاحبه بأنّه زاد عليه بقتل العلويّين، و قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (1)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ حسب و نسب ينقطع إلّا حسبي و نسبي.

و كره اللّه استئصال أهل البيت و أراد بقائهم في الدنيا، فلن تجد اليوم بقعة من بقاع الإسلام إلّا و فيها من السادة الآحاد أو العشرات أو المئات و الآلاف، يموجون كما يموج النمل في قراه، و يلعنون ظالمي آبائهم و أجدادهم كما يلعنون الشامتين بهم، و خلاصة الأمر أنّ أبا مسلم المروزي رفع اللعن عن أهل البيت.

أمّا التعصّب فقد كان ضاربا بجرانه بين الملل الإسلاميّة حتّى وصلت النوبة إلى الصاحب الأعظم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان، فرفع التعصّب عن العالمين و صار سادات الدنيا و علماء الزمان بإكرامه و إنعامه عليهم و نظمه لأمورهم

ص: 89


1- الكوثر: 3.

و إدرار المعاش عليهم مرفّهين، و لم يشاهد السادات في الحقب كلّها مثل هذه العزّة، و مثل هذا التقدير و الاحترام الحادث في زمانه، و كان سادات أهل البيت و أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاسون الأمرّ مع الخصوم و المخالفين في مدى الأحقاب و السنين، و كانوا واقعين تحت طائلة العداوات و الخصومات، يتحمّلون المحن و الشدائد و الشتائم، بل شنّت عليهم الحرب العوان إلى هذا اليوم، حتّى بلغت النوبة الملك و العاهل. مخدومنا محبّ أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، موالي العترة الطاهرة، رضيع قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) وارث ملك دارا و الاسكندر المهيب: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2)، سيف اللّه: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) فأخرج العصبيّة من هامات القدريّة، انتقام اللّه على المنافقين، حجّة اللّه على سلاطين الجور و الجبر، بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، الذي سلب القوّة في العالم كلّه من المنافقين و المعاندين و المخالفين، فلا يستطيع أحد منهم و إن أوتي الحول و الطول أن يظهر عصبيّة أو خصاما، بل أكثر القوم خوفا من هذه الدولة يظهرون التشيّع و ليكن ما يكون.

و إنّي أنا العبد الأقلّ أحبّ أن أبيّن بعض الدلائل على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أولاده عليهم السّلام قبل البدء في الموضوع المزمع بيانه لأنّ التوليّ سابق على التبرّي، لكي لا يخلو هذا الكتاب النفيس من فائدتين، و يكون مرجعا للشيعة، و يلمّوا منه بتحقيق المذهب، لأنّ علمائنا حين فقدوا الناصر و كثر عليهم العدوّ مالوا عن التصريح إلى التلميح، و اكتفوا عن البيان بالتعريض و الكنايات، و ما

ص: 90


1- النور: 36.
2- الحشر: 13.
3- الحديد: 25.

يسطرونه في أسفارهم لا يعدو التعريض إلّا القليل منهم، و لكنّي أنا العبد واثق باللطف الإلهي بمعاجز الأئمّة عليهم السّلام، و ما علمته كتبت أربعة دوانق منه و ذهب دانقان هدرا «لأنّ الإجماع حصل بأنّ التقيّة واجبة ...» (1).

و لقد وجدنا نحن العون و الظهير بسلطان كمخدومنا بهاء الدين محمّد، و لم يكن للعلماء هذا السند و الظهير، و ما توفيقي إلّا باللّه، و ما الاستعانة إلّا منه، و عليه أتوكّل و إليه أنيب.

ص: 91


1- أمّا في زماننا فقد ذهب موضوع التقيّة إلى غير رجعة، و يجب أن نعرّي أعداء اللّه النواصب من ثيابهم حتّى تبدو سوءاتهم، لا لأنّنا أقوى منهم بل قوّتنا بالحقّ و الحجّة. (المترجم).

الباب الخامس في دلائل حجّة اللّه على خلق اللّه أمير المؤمنين عليّ و أولاده الطاهرين صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين

اشارة

الدليل الأوّل: اعلم أننا وجدنا الأمّة اختلفت بعد نبيّها بالخلافة، فقال بعضهم: أبو بكر، و قال بعضهم: عليّ، و لمّا بحتنا الأمر و قلّبناه على وجوهه و فحصناه فحصا دقيقا وجدنا ثلاثا و سبعين مذهبا، مدحوا عليّا في كتبهم العلميّة و على لسان خطبائهم و وعّاظهم و أهل بيته و أثنوا عليه و عليهم و لم يعترضهم الشكّ في إمامته و لم يختلفوا و لو يوما واحدا، إلّا أنّ طائفة قالوا إنّه الإمام بعد النبيّ بلا فصل، و طائفة قالوا بعد عثمان. و اتفقت فرق الشيعة و هم ثمانية عشر فرقة على إمامته و إبطال إمامة الشيخين، فحصل الإجماع من الفرق الإسلاميّة كافّة على إمامته و بقي من عداه موضع تنازع و اختلاف، و أهل العقل يدركون على أنّ الاقتداء بالمتفق عليه أولى من المختلف فيه على كلّ حال.

الدليل الثاني: رأيت العالمين اتفقوا على عدالة عليّ و صلاحيّته و علمه و زهده و ورعه، و قال

ص: 92

الشيعة بعصمته بالدلائل العقليّة و النقليّة، و الإجماع حاصل على عدم معصوميّة أبي بكر و كان مشركا في ستّ و أربعين سنة من عمره حتّى أسلم، و اختلفوا في عدالته فنفاها بعضهم و كذلك أهليّته، و أثبتهما البعض الآخر له بعد الإسلام.

و لمّا لم يكن رسول اللّه بين ظهرانينا ليقطع مادّة النزاع بيننا و نقتدي به وجب الاقتداء بمقطوع العدالة و الورع و الصلاحيّة، و الاقتداء به أولى من الاقتداء بمن اختلف في عدالته، و طال النزاع حولها حتّى بلغت الأقوال فيها الآلاف، و لو عمد القوم إلى الانصاف، و أخرجوا التعصّب للمذهب من رؤوسهم فإنّهم لا يستطيعون إثبات العصمة و الأهليّة لأحد من الناس لا سيّما بناءا على مذهبهم الذي يجيز المعاصي حتّى على الأنبياء، و يقولون: ليس من المستحيل أن يسلب اللّه العبد إيمانه عند موته و يحلّ محلّه الكفر بإرادته، و في مذهب الشيعة لا يجوز هذا الظلم على اللّه تعالى.

أمّا الذين أثبتوا له الأهليّة و الصلاحيّة فحجّتهم ظاهرة، و أمّا الّذين نفوهما عنه فإنّهم قالوا: لو كانت للرجل صلاحيّة أو ورع لم يتقدّم على عليّ صاحب الحقّ و لم يغصب فدكا من فاطمة الزهراء عليها السّلام التي نحلها النبيّ (1) إيّاها، و لأعطى الخلافة عند هلاكه إلى عليّ عليه السّلام لأنّه صاحب الحقّ، و أجرى الحدّ على خالد بن الوليد الذي زنى بزوج مالك بن نويرة كما أشار عليه عمر بن الخطّاب و لكنّه رفض ذلك.

الدليل الثالث: طالعت كتب التاريخ، و السير زائدا على ذلك حاورت علماء الطوائف متفحّصا

ص: 93


1- يستعمل المؤلّف دائما كلمة «الرسول» و أنا لا أستحلّ استعمالها لأنّ المبشّرين و منهم عدوّ اللّه لويس شيخو لعنه اللّه استعملوها كيدا و دسّا بزعم أنّ رسول اللّه كان رسولا من رسل كنيستهم فلذلك يطلقون عليه، هذه الكلمة ليسرّوا حسوا في ارتغاء و أنا استبدلت كلمة النبيّ بها. (المترجم).

فرأيت أنّه ما من نبيّ أو رسول كان خليفته و القائم مقامه مشركا من قبل و آمن بعد سلخ أربعين سنة من عمره في الشرك، و خلّى ورائه ثلاثمائة و ستّين صنما ثمّ أسلم، و لمّا لم يشاهد هذا في تاريخ الأنبياء فإنّ نبيّنا و هو الأفضل و خاتم الأنبياء كيف يكون خليفته على خلاف ما عليه خلفاء الأنبياء، و اللّه تعالى يقول: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (1)؟ و كيف يرتكب خليفة المعاصي و يفعل النواهي و عبد اللات و العزّى إلهين من دون اللّه؟ و جميع فرق الإسلام يقولون: إنّ عليا عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين أبدا، فوجدت العدالة و العفّة و العصمة هذه اللوازم للإمامة موجودة في عليّ عليه السّلام و ليست في غيره من سائر الخلفاء فقطعت ببطلان خلافتهم و صحّة خلافته عليه السّلام.

الدليل الرابع: تتبّعت آثار و أخبار و تواريخ علماء السلف فوجدت أنّ نبيّا لم يخرج من الدنيا حتّى يكون ذرّيّته و أقربائه خلفائه و القائمين مقامه؛ فكان وصيّ آدم ولده شيث و اسمه هبة اللّه، و وصيّ نوح سام ابنه، و أولاد إبراهيم: إسماعيل و إسحاق أوصيائه، و وصيّ يعقوب يوسف، و موسى أقام مقامه أخاه هارون في حياته، و يوشع بن نون بعد وفاته، و يوشع بن نون عمّ موسى، و داود ولده سليمان، و عيسى و يحيى و كلاهما أبناء خالفة، و زكريّا قريب عسى، و ما فعله هؤلاء الأنبياء من نصب أقاربهم خلفائهم لا بدّ من كونه بأمر اللّه تعالى فيكون هذه السنّة مطّردة في جميع الأنبياء من اللّه تعالى، كما قال: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و مفهوم هذه الآية: إنّك ماض على سنن من قبلك من الأنبياء.

ص: 94


1- الأحقاف: 9.
2- الإسراء: 77.

و الإجماع حاصل على أنّ سنّة الأنبياء لم تنسخ في هذه الشريعة فلا بدّ من بقاء التوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة لكي لا يكون معنى الآية معطّلا.

و قال: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ (1) و كان إبراهيم قد استخلف ذرّيّته فلا بدّ من كون خليفة نبيّنا من أقربائه، وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2) و لم يكن مستحقّا لهذا الأمر و مؤهّلا له بعد النبيّ من أقربائه إلّا عليّ و أولاده عليهم السّلام لو لا ما فعله الصحابة.

الدليل الخامس: كذلك استقرأت الكتب و إجماع أهل القبلة فلم أجد رسولا مات و لم يوص إلى أحد، كما قال تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بلا وصيّة مات ميتة جاهليّة (4). و نظير هذه الأخبار الدالّة على تحريضه أمّته على الوصيّة، فلا بدّ من أن يبادر إلى العمل بها قبل أمّته لأنّ اللفظ ورد بصيغة العموم، و اللّه تعالى يقول:

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (5).

و الإجماع منعقد على أنّ أبا بكر و عمر لم يكونا وصيّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل الوصيّ عليّ عليه السّلام، يشهد بذلك المؤالف و المخالف، على ذلك و كان أوصياء أنبياء السلف أئمّة

ص: 95


1- آل عمران: 95.
2- الأنفال: 75.
3- البقرة: 132.
4- الحديث موجود بكثرة في كتب أهل السنّة و الجماعة بالصيغة التي ذكر المؤلّف، و في بعض كتبهم غيّروا في السياق فرووه هكذا: من مات بلا إمام مات ميتة جاهليّة. (مسند أحمد، رقم 16489).
5- البقرة: 44.

و لم يكونوا خلفاء حيث لم يكن في ذلك الزمان خليفة فينبغي أن يكون في زماننا وصيّ نبيّنا إماما كذلك.

الدليل السادس: قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1)، و قال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (2)، و يس محمّد صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى: يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3).

و آل إبراهيم هم إسماعيل و إسحاق و يعقوب كانوا جميعا أنبياء و أوصياء، و آل عمران موسى و هارون و كانا نبيّين و لهما اختيار الأنبياء في زمانهما، و كان نبيّنا أفضل الأنبياء فينبغي أن يكون آله أفضل الآل من آل إبراهيم و آل عمران و كان لهما مرتبة النبوّة، و لم يكن أبو بكر و عمر من الآل بالإجماع و إنّما آله عليّ و الحسن و الحسين و باقي الأئمّة عليهم السّلام، و الذي كان مشركا ثمّ أسلم لا يقدّم على من هو أفضل من الأنبياء و هم آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يمكن أن يراد بالآل جميع الأمّة لتخصيص اللفظ في القرآن بآل إبراهيم و آل عمران، و بظاهر اللغة لقول علماء السلف: آل الرجل ما يؤول إليه بالنسب و هو مشتّق من الأوّل و هو الرجوع، و تكون الأفضليّة بالعصمة و العلم و الورع و الجهاد في سبيل اللّه، و لا يوجد هذا المعنى إلّا في عليّ عليه السّلام و يفقد ذلك الصحابة كلّهم في أنفسهم على كلّ حال.

ص: 96


1- آل عمران: 33.
2- الصافّات: 130.
3- يس: 1- 3.

الدليل السابع: لا خلاف بوقوع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار على الخلافة و كانت حجّة المهاجرين عليهم أنّ «الأئمّة من قريش» و رسول اللّه منهم، و كون الإمام من قريش لأجل قرابتهم من النبيّ، و الأنصار ليست لهم هذه القرابة يقينا، و عليّ و الحسن و الحسين وارثوا رسول اللّه، و عليّ ابن عمّه و الحسنان ابناه.

و القرابة التي كانت لأبي بكر مع النبيّ صلّى اللّه عليه و اله كانت لعمرو بن العاص و لخالد بن الوليد و لسائر القرشيّين و لم يكن أحد من هؤلاء يستحقّ الخلافة لبعد قرابتهم و رفع العصمة عنهم و نفي النصّ بشأنهم، أو لخوفهم من اللّه تعالى القائل: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فلم يتقدّم أحد منهم إلى هذا الخطر العظيم ما عدى أبا بكر الذي صدقت عليه الآية: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه اختار من ولد إبراهيم، إسماعيل، و اختار من إسماعيل قريشا، و اختار من قريش هاشما.

و لا يحقّ للصحابة أن يؤخّروا من قدّمه اللّه و اختاره و يخذلوه و يعدوّه رعيّة، و يحكموا غيره الذين خذلهم اللّه و يقدّموهم، و يعدّوا اختيار أبي سفيان المنافق و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مقدّما على اختيار اللّه و راجحا، فإذا ثبت هذا ثبتت إمامة عليّ و خلافته.

الدليل الثامن: اشتهر عند المؤالف و المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: الحقّ مع عليّ و عليّ مع

ص: 97


1- الحجرات: 1.
2- الشعراء: 227.

الحقّ يدور معه حيثما دار (1). و إذا ثبت بهذا الحديث أنّ الحقّ مع عليّ، تكون كلّ دعوى تخالفه باطلة، كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2) و لازم هذا بطلان خلافة أبي بكر بصورة واضحة و صريحة.

الدليل التاسع: روت أمّ سلمة و نقل روايتها المخالف و المؤالف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (3)، و الخصم يعترف بهذا، فمن لم يكن مع القرآن كان ضالّا مضلّا، و ثبت لدينا بنقل شايع مستفيض أنّ عليّا عليه السّلام قال: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه (4)، و قوله: أنا أوّل من يحشر يوم القيامة للخصومة (5) و أمثال هذه الشكايات التي صدرت من جنابه، و أجمعت

ص: 98


1- راجع مجمع الزوائد للهيثميّ 7: 235، المعيار و الموازنة: 35 و نسبه في هامش الكتاب إلى فرائد السمطين 1: 176 ط 1، و تحت الرقم 1160 من ترجمة أمير المؤمنين عليه السّلام من تاريخ دمشق 3: 117، و في الباب 25 من الفصل الأخير من غاية المرام: 539، و أيضا ذكره في ص 119 المعيار و الموازنة و ص 321 و 322، و فيه تتمّة: لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض، و جاء في شرح نهج البلاغة 2: 297 و 18: 72.
2- يونس: 32.
3- المستدرك 3: 124 و قال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، مجمع الزوائد 9: 134، المعجم الصغير للطبرانيّ 1: 256، المعجم الأوسط له أيضا 5: 135، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177، كنز العمّال 11: 603 رقم 31912، فيض القدير 4: 47.
4- الإمام عليّ عليه السّلام لأحمد الرحمانيّ الهمداني: 739، عبد اللّه الحسن، المناظرات في الإمامة: 44، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 306 و 10: 286.
5- ذكره في كتاب المناظرات في الإمامة بسياق آخر و بنفس المعنى إلّا أنّ فيه تتمّة «مع الثلاثة» ص 395، و ذكره البخاري في صحيحه 5: 6 ط دار الفكر- بيروت بالأفست عن طبعة استانبول 1401 ه، المستدرك 2: 386، النووي على مسلم 18: 166، مقدمة فتح الباري لابن حجر: 370، و فتح الباري 8: 116 و 337 و 11: 343، و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 206، كنز العمّال 2: 472 رقم 453، تفسير الطبري 17: 172، شواهد التنزيل للحسكاني: 503، تفسير القرطبي 12: 25، تفسير ابن كثير 3: 222، الدرّ المنثور للسيوطي 4: 348، تفسير الثعالبيّ 4: 113، هذه جميعها كتب للعامّة و لم نستشهد بها ثقة بها و لكن لندينها من فمها. (المترجم).

الأمّة على أنّ الحقّ مع القرآن، فمن خرج على القرآن كان ضالّا فاسقا و هو على الباطل، و عدوّ القرآن عدوّ اللّه و رسوله، فمن كان عدوّ اللّه و رسوله لا يليق بالخلافة كذلك القرآن دستور الشريعة الصامت و الإمام دستورها الناطق، و دستور الشريعة مقدّم و عدوّه عدوّ اللّه.

الدليل العاشر: ينبغي أن يكون الإمام أعلم رعيّته، له علم بكلّ ما تحتاجه و إلّا احتاج إلى إمام فوقه يعلمه و هذا يجرّ إلى التسلسل، و التسلسل باطل، و عليّ أعلم الصحابة و جاء فيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ (1) و كان يفتيهم، و لم يستطيعوا البتّ في قضيّة في غيابه، و لقد قال عمر ما يقرب من سبعين مرّة: لو لا عليّ لهلك عمر، و جمعت قضايا الإمام عند الفرق كلّها.

و جاء في كتب أهل القبلة أنّه سئل أبو بكر و عمر عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) فقالا: لا نعرف معنى الأبّ، و قال عليّ عليه السّلام على المنبر مرّة بعد أخرى و المهاجر حاضر: سلوني قبل أن تفقدوني، و قال: علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب من العلم ففتح لي من كلّ باب ألف باب، فإذا ثبت كونه الأعلم ثبتت إمامته لأنّ

ص: 99


1- فتح الباري 10: 478 و اقتصر على الجزء الأوّل، شرح نهج البلاغة 1: 18 و 7: 219، المنافي في فيض القدير 1: 285، كشف الخفاء للعجلوني 1: 162، تفسير القرطبي 15: 162 و 164 و كلّها ذكرت الجزء الأوّل من الحديث. (المترجم).
2- عبس: 31.

تقديم الجاهل على العالم قبيح عند العقلاء كما قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (1)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (2).

الدليل الحادي عشر: اعلم بأنّ القوّة و العلم من صفات الكمال و صفات الأنبياء، فقد قال اللّه تعالى:

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3).

و قال في حقّ جبرئيل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (4).

و لمّا ذكر طالوت و وصفه لبني إسرائيل بعد إنكارهم نبوّته، قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (5).

و قال عن داود: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ (6).

و قال عن موسى حكاية لقول ابنة شعيب: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (7).

و قال عن هود: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ (8).

ص: 100


1- الزمر: 9.
2- المجادلة: 11.
3- الذاريات: 58.
4- النجم: 5 و 6.
5- البقرة: 247.
6- ص: 17.
7- القصص: 26.
8- الأعراف: 69.

و جعل العلم في الأنبياء ضمن صفات الكمال و حصول القوّة و العلم لهم برهانا على صحّة نبوّتهم و إمامتهم، هذا و القوم يعلمون أنّ شيوخهم ليس عندهم عشر معشار ما لعليّ عليه السّلام من القوّة و العلم فلم يؤثر عنهم اشتراك في حرب أو قتل كافر على أيديهم، أو أنّهم أصلحوا اعوجاجا أو خلالا في الإسلام، بل كانوا دائما مصداقا لقوله تعالى: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1) كما فعلوا يوم أحد.

و لا يخفى على العلماء أنّ عثمان بن عفّان فرّ ثلاثة أيّام في وقعة أحد ثمّ عاد بعدها و كان مختفيا هذه المدّة كلّها في غار و لم يملك قوّة القلب التي يخرج بها منه، فهذا علمهم و هذه شجاعتهم، و لكن إذا يحاس الحيس يتقدّمون، و كان عليّ ظاهرا و لم يطلبه أحد.

و إذا تكون كريهة أدعى لهاو إذا يحاس الحيس يعدى جندب و لمّا ثبت أنّ عليّا أعلم و أشجع ثبتت إمامته و بطلت إمامة غيره على الوجه الأحسن.

الدليل الثاني عشر: لقد حصل الاتفاق منّا و منهم و بشهادة أبي بكر أنّه لا بجوز اتّباع غير عليّ عليه السّلام لا سيّما بناءا على مذهب الخصم من صحّة إمامة أبي بكر، فلقد قال بحضور المهاجرين و الأنصار على منبر رسول اللّه: أقيلوني و لست بخيركم و عليّ فيكم، و يزعم الخصم أنّه ندم على قبوله الخلافة. إذن، خلافته لم تصحّ بأدلّة عقليّة لأنّ العقل ليس بحجّة عند الخصم، و لم تكن بالنقل إذ لو كانت بالنقل لما وقع الخلاف (2)

ص: 101


1- القمر: 45.
2- أخشى أن يستدلّ الخصم بالصلاة مع وجود النقل فيها، فقد اختلفوا في كيفيّتها و شرائطها و غير ذلك، أقول: هذا الاختلاف لا بدّ منه في المسائل النظريّة و لا يقصد المؤلّف مثله إنّما يقصد الخلاف الواقع في الصحّة و البطلان و هو أصل المسألة و كذلك خلافة أبي بكر. (المترجم).

بين المهاجرين و الأنصار و مع ذلك فالخصم لا يدّعي نقلا يدلّ على النصّ عليه، فلم يبق في جعبتهم إلّا الاختيار، و كذلك تمّ فعلا حيث اختاره الصحابة، و لكنّه عزل نفسه و أخرجها من الخلافة و لم يأتنا خبر أكيد باختيارهم ثانية له أم لا.

و يظهر من كلامه أنّ خلافته باختيار الأمّة و يقول اللّه تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) فسلب الاختيار من الأمّة.

و اعترف بأنّه ليس خيرهم فتناول الحكم جميع الصحابة فلم يستثن أحدا فيقتضي على هذا أن يكون كلّ صحابيّ خيرا منه و أكبر و أعلم، و على هذا القياس يكون مفضولا لكلّ صحابيّ، و الصحابة خير منه فيكون تقدّمه باطلا لا سيّما و قد قال: «و عليّ فيكم» أي أنّ الحقّ معه و الأهليّة له و فيه و هو حاضر لديكم فانتخبوه.

الدليل الثالث عشر: لمّا أنزلت سورة برائة و فيها نبذ العهد المشرك أعطاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر و بعثه إلى مكّة، و لمّا خرج أبو بكر من المدينة هبط الأمين جبرئيل على النبيّ و قال له: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يقرئك السلام و يقول لك: لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبيّ: عليّ منّي و أنا من عليّ، فوجّهه على ناقته العضباء و كانت لرسول اللّه، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه برائة و يقرأها على الناس بمكّة، و قال:

خيّره بالرواح معك أو الرجوع، و العبارة النبويّة هي: اركب يا فتى ناقتي العضباء و الحق أبا بكر فخذ برائة من يده و امض بها إلى مكّة فانبذ بها عهد المشركين إليهم،

ص: 102


1- القصص: 68.

و خيّر أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع إليّ ...

فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر خاف و أخذ يسأل عليّا عليه السّلام عن الحال، فقال: خير إن شاء اللّه، و أخبره بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا رجع إلى رسول اللّه، قال: يا رسول اللّه، إنّك جعلتني لأمر طالت الأعناق إليه، فلمّا توجّهت له رددتني عنه، هل نزلت فيّ آية؟ قال: لا و لكن الأمين هبط عليّ عن اللّه تعالى بأنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، و عليّ منّي و لا يؤدّي عنّي إلّا عليّ عليه السّلام (1).

و كانت قوّة الإسلام بنبذ عهد المشركين، هذا و به ظهر صلاح حال المسلمين، و كان طلائع فتح مكّة، و هذا ملحق بمرتبة أمير المؤمنين العظيمة و مقاماته الرفيعة فإنّ اللّه لم ير من يليق لهذه المرتبة و هذه العزّة سواه، و شهدت بهذا كتب ثلاثة و سبعين مذهبا.

و وجه الاستدلال به أنّ سنة النبيّ باقية لا تتغيّر لا سيّما السنّة التي اعتضدت بنصّ إلهي فهي ليوم القيامة باقية: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) فيكون على هذا عزل أبي بكر قائما إلى يوم القيامة، و ولاية أمير المؤمنين و توليته كذلك باقية إلى يوم القيامة، و العجب من قوم يرونه خليفة و اللّه تعالى لم يره أهلا لتبليغ آية إلى الخلق حتّى أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة جبرئيل أن يعز له و ينصب عليّا عليه السّلام لهذا العمل الكبير.

ص: 103


1- راجع للحديث الكتب التاليه للشيعة و العامّة: أحمد الرحماني الهمداني، الإمام عليّ، ص 183؛ الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول 1: 264؛ البيهقي، السنن الكبرى 5: 111 و قد غيّروا في السياق و حرّفوا الكلام ليصونوا ماء وجه صدّيقهم، و يأبى اللّه إلّا إراقته؛ الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين: 132؛ تفسير نور الثقلين 2: 179 و 181 و 184.
2- الإسراء: 77.

الدليل الرابع عشر: لمّا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة من مكّة، أمر عليّا أن ينام في فراشه، و الحكاية على النحو التالي:

ائتمرت قبائل قريش على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهبط جبرئيل عليه و أخبره بما يعدّون له، و قال له: يا محمّد، إنّ هذه الجماعة تريد قتلك و استئصال شريعتك فاستخلف عليّا مكانك و مره بالنوم في فراشك، فأحضره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حاوره في الأمر، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا رسول اللّه، أو تنجو إن رقدت أنا في فراشك و تسلم نفسك أم لا؟ فقال رسول اللّه: نعم أسلم إن شاء اللّه إن نمت في فراشي، فنام عليّ عليه السّلام ليلا في فراشه و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متخفّيا من مكّة و نادى مناديه بين أصحابه أن لا يخرج الليلة أحد من بيته من أصحابي، فرأى أبا بكر في طريقه قائما في الطريق، فقال: يا أبا بكر، ألم تسمع النداء؟ قال: نعم سمعته و لكنّي رأيت قريشا مختلفة الأهواء فحضرتهم، فاصطحبه معه لأنّ الصلاح في ذلك، و قال: ربّما تعرّض لضرب قريش فأخبرهم عنّي، و أرسل إلى عليّ عليه السّلام في اليوم الثالث أن أحمل أهلي؛ النساء و بناتي معك فإنّي لا أثق بغيرك و لا أعتمد على سواك في العالم كلّه لطهارتك و أمانتك و طيب نفسك.

فخرج عليّ عليه السّلام من بين الأعداء بعقل و رأي صائب و كفائة خلقيّة عظيمة، بحيث لم يلحق بأحد من الخارجين معه أيّ ضرر أو يشعر بخطر، و لم يظفر بهم أحد من الكفّار، و لم يجرأ أحد على التعرّض لهم في الطريق من قطّاعه لعلمهم بشجاعة عليّ عليه السّلام، و سار من مكّة ماشيا على قدميه مهاجرا حتّى بلغ المدينة و وصل إلى «قبا» و صحب رسول اللّه بأهله و عياله إلى المدينة بيوم واحد.

و لمّا كان عليّ في أوّل الهجرة خليفة رسول اللّه و القائم مقامه فلا بدّ أن يكون

ص: 104

خليفته أيضا في ختام الأمر لتبقى سنّة الرسول قائمة دون نسخ أو تحريف إلى يوم القيامة، و كان أبو بكر في تلك الآونة خادما، و شأنه شأن المكارين في خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان خليفته على أمّته عليّ عليه السّلام، و لم تكن لياقة ذلك لبشر سواه، و لمّا كان في هجرته الأولى من بلد إلى بلد على خلفته فينبغي أن يكون في هجرته الأخرى من الدار الفانية إلى الدار الباقية عليّ أيضا ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ (1).

الدليل الخامس عشر: لمّا فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من غزاة حنين أمره اللّه تعالى بأن يبادر إلى غزاة تبوك، و تبوك موضع في بلاد الروم، و جائه جبرئيل فأخبره بعدم الحرب هناك لذلك ما من حاجة إلى وجود عليّ في هذه الغزوة، لأنّهم سوف يصالحونك و ينالون رضاك، فأضمر المنافقون و أعراب المدينة الشرّ في أنفسهم و قالوا: سوف نغزوا المدينة و نغير عليها بعد خروجه و نأسر نساء المهاجرين و الأنصار و أطفالهم، و هذا يؤدّي إلى خراب الدين و تشويه سمعة الإسلام و تدنيس عرض أهله، و لمّا علم اللّه ما في قلوبهم أمر جبرئيل النبيّ بإبقاء عليّ في المدينة لحمايتها و استخلافه بها رعاية لحفظ دين الإسلام: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2) و أعلمهم اللّه بوجود جماعة من المنافقين كثيرة بينهم، فأراد سبحانه أن يميز المنافقين عن المؤمنين و تعرف المؤمنون نفاقهم.

و لمّا علم الحال من جبرئيل، أمر المنادي بتحريض المسلمين على القتال أيّاما، فأبى كثير منهم و تقاعسوا عن الجهاد، و بعضهم احتجّ بالحرّ الشديد و نضوج الثمر فلو أنّهم ذهبوا لتلفت الثمرة، و مع هذا فإنّ قوّتنا عاجزة عن قتال عدد مثل الروم،

ص: 105


1- ق: 29.
2- الحشر: 13.

فأقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا مقامه و جعله نائبا عنه و خليفة، و خرج من المدينة في وضح النهار، فأراد المنافقون أن يأخذ عليّا معه ليخلو لهم الجوّ، و ينالوا مناهم، فأرجفوا به و قالوا: لم يتركه في المدينة حبّا به و إنّما استثقالا له، فلمّا بلغت مقالتهم أمير المؤمنين عليه السّلام خرج مسرعا ينحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخبره بما سمعه من ذوي النفاق، قائلا: يا رسول اللّه، إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلّفتني استثقالا و مقتا، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ارجع يا أخي إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي، و دار هجرتي، و قومي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (1).

ص: 106


1- تخريج حديث المنزلة: نحن نعرض لبعض المصادر التي أخرجته بما يتيسّر لنا إيذانا منّا بأنّ العلماء كتبوا في هذا الحديث خاصّة سندا و دلالة الكتب التي بلغت العشرات، و نقتصر على كتب الخصوم: 1- النسائي، فضائل الصحابة، ص 13، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أخرجه بعدّة طرق. 2- صحيح مسلم 7: 120، ط دار الفكر- بيروت، في عدّة طرق. 3- سنن الترمذي 5: 302، ط دار الفكر- الثانية سنة 1403، بثلاث طرق. 4- المستدرك 2: 337، ط دار المعرف- بيروت، 1406، بطريق واحد، و 3: 109 بطريقين. 5- السنن الكبرى للبيهقي 9: 40، ط دار الفكر بيروت، بطريق واحد. 6- شرح النووي على صحيح مسلم 15: 174، ط دار الكتاب العربي- بيروت، الثانية 1407 ه، و قال النووي في التعقيب عليه: قال القاضي: هذا الحديث ممّا تعلّقت به الروافض و الإماميّة و سائر فرق الشيعة في أنّ الخلافة كانت لعليّ و أنّه وصّى له بها ... الخ. 7- مجمع الزوائد 9: 109، ط دار الكتب العلميّة، 1408، بخمس طرق. 8- فتح الباري 7: 60 و 9: 53، ط دار إحياء التراث العربي، رابعة. 9- الديباج على مسلم للسيوطي 5: 386، ط السعوديّة، دار ابن عفّان، 1416 أولى. 10- تحفة الأحوذي 10: 157، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1410 ه. 11- مسند أبي داود الطيالسيّ: 28، ط دار الحديث- بيروت، بثلاث طرق. 12- المصنّف للصنعاني 5: 406، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، ط المجلس العلمي، و 11: 226. 13- مسند الحميدي 1: 38، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1409 ه. 14- مسند ابن الجعد: 301، تحقيق البغوي و عامر أحمد حيدر، ط دار الكتب العلميّة- بيروت. 15- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 496، تحقيق اللحّام، ط دار الفكر- بيروت، أولى 1409 ه، بخمس طرق، و في 8: 562 بطريق واحد. 16- مسند ابن راهويه 5: 37، ط المدينة المنوّرة، مكتب الإيمان، أولى 1412 ه، تحقيق الدكتور برد البلوسي. 17- الدورقي، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، تحقيق صبري، ط دار البشار الإسلاميّة- بيروت، أولى 1407، بستّ طرق. 18- ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث: 13، تحقيق الأسعردي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت. 19- الضحّاك، الآحاد و المثاني 5: 172، تحقيق الجوابرة، ط دار الدراية، أولى 1411. 20- كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 551، تحقيق الألباني، ط المكتب الإسلامي- بيروت، الثالثة 1413، بعشرين طريقا. 21- مجلسان من إملاء النسائي: 83، تحقيق الأثري، ط دار ابن الجوزي- الدمّام، أولى 1415، اثنين و ثلاثين طريقا. 22- النسائي، خصائص أمير المؤمنين: 48، تحقيق الأميني، ط نينوى الحديثة، اثنين و عشرين طريقا. 23- مسند أبي يعلى 1: 286، تحقيق حسين سليم أسد، ط دار المأمون للتراث، بطريق واحد، و 2: 57 بستّ طرق، و 12: 310 بطريق واحد. و أعجب من كلّ عجيب عبد اللّه بن سليمان الأشعث في قصيدته حين روى الحديث المتواتر في عليّ، في أبي بكر و عمر، ص 43، تحقيق محمود محمّد الحدّاد، ط أولى 1408- دار طيبة الرياض، و الممسوخ هو كما يلي: و تسميتهما بالوزيرين بيّن روي من حديث ابن عبّاس و أبي سعيد و أبي ذر و ابن عمر و أبي أمامة و غيرهم بألفاظ، منها: لكلّ نبيّ وزيران، إنّ لي وزيرين، وزيراي، إنّ اللّه أيّدني بوزيرين أهل، أبو بكر و عمر منّي بمنزلة هارون من موسى، و انظر الكنز 11566 و رجعت الكنز فما وجدت شيئا من هذا، و تفاهة هذا القول لا تحتاج إلى ردّ فإنّه موضوع ليضاهوا به الحديث المتواتر الذي نحن بصدده. 24- جزء الحميري: 28، تحقيق زيد بن مجدد عليزئي، ط أولى، دار الطحاوي، حديث أكادمي- الرياض، 1413. 25- أمالي المحاملي، تأليف الحسين بن إسماعيل المحاملي، ص 209، ط أولى 1412، تحقيق الدكتور إبراهيم القيسي، بطريقين. 26- خيثمة بن سليمان الإطرابلسي، حديث خيثمة، ص 199، تحقيق الدكتور عمر عبد السلام التدمري، ط 1400 دار الكتاب العربي- بيروت. 27- صحيح ابن حبّان 15: 16، تحقيق شعيب الأرناؤط، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1414 ه، بأربع طرق. 28- المعجم الصغير للطبراني 2: 22، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، بطريقين. 29- الأوسط 2: 126 بطريق واحد، و 3: 139 بطريق واحد، و 5: 287 بطريق واحد، و 6: 83 بطريقين، و 7: 311 بطريق واحد، و 8: 40 بطريق احد، و الكتاب طبع دار الحرمين، تحقيق إبراهيم الحسيني. 30- الكبير 1: 146 بثلاث طرق، ط ثانية، مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ، و 2: 247 بطريق واحد، و 4: 17 بطريقين، و 5: 203 بثلاث طرق، و 11: 61 بطريقين، و 12: 15 بطريقين، و 19: 291 بطريق واحد، و 23: 377 بطريق واحد، و 24: 147 بخمس طرق. 31- الحاكم النيسابوري ذكره في معرفة علوم الحديث من غير تخريج، ص 252، ط دار الآفاق الجديدة- بيروت، الرابعة 1400. 32- ابن عمرو النقّاش، فوائد العراقيين، ص 94، ط مكتبة القرآن- القاهرة، تحقيق مجدي السيّد إبراهيم، بطريق واحد. 33- ابن بشكوال، جزء بقي ابن مخلد، ص 126، تحقيق عبد القادر محمّد عطا صوفي، ط المدينة المنوّرة، مكتبة العلوم و الحكم، أولى 1413، بطريق واحد. 34- موارد الظمئان للهيثمي: 543، تحقيق محمّد عبد الرزاق حمزة، ط بيروت- دار الكتب العلميّة، من غير تاريخ، بطريق واحد. 35- كنز العمّال 5: 734 رقم 14241، تحقيق الحياني و صفوة السقاط، مؤسسة الرسالة- بيروت، لبنان، و 9: 167 رقم 25554، و 25555، و 11: 567. و هنا قاصمة الظهر، فقد روى الحديث في الشيخين و لفظه: أبو بكر و عمر منّي بمنزلة هارون من موسى ... و بالطبع هذا من الموضوعات التي طلبها معاوية من الوضّاعين لتناقض الحديث المتواتر حيث كتب إلى الآفاق أنّ الأحاديث في الشيخين كترت فانظروا لا تدعوا حديثا يروى في فضل ابن أبي طالب إلّا وجئتموني بمناقض له في الخلفاء، ذكر ذلك جلّ المؤرّخين، فلعن اللّه معاوية و من تابعه و شايعه و رضي عنه. و ص 599 الرقم 32881 و 32886، و ص 603 رقم 32915، و ص 606 رقم 32931- 32934، و ص 607 رقم 32935- 32937، و 13: 106 رقم 36345، و ص 124 رقم 36392 و 36395، و ص 151 رقم 36470، و ص 158 رقم 36488 و 36489، و ص 163 رقم 36495 و 36496، و ص 151 رقم 36470، و ص 158 رقم 36488 و 36489، و ص 163 رقم 36495 و 36496، و ص 172 رقم 36517، و ص 192 رقم 36572، و 16: 186 رقم 44216. و هذه الأرقام كلّها كتب و طرق أشار إليها المؤلّف بالأسماء و الأرقام و نحن اكتفينا بالثاني اختصارا. 36- الفتني، تذكرة الموضوعات: 8، ذكره و نفى عنه الوضع، و ذكره ص 97 و قال: متفق عليه، و في موضع آخر ذكر له زيادة و هي: لو كان لكنته. قال الخطيب: زيادة: و لو كان لكنته لا نعلم رواها إلّا ابن أبي الأزهر، و ذكره العجلوني في كشف الخفاء 2: 382 و قال: رواه أحمد و الشيخان و الترمذي و ابن ماجة عن سعد بن أبي وقّاص، و الكتاب مطبوع في دار الكتب العلميّة، ثانية 1408 ه. 37- نظام المتناثر من الحديث المتواتر، للشيخ محمّد جعفر الكتالي، ص 195، قال: و قد تتبّع ابن عساكر طرقه في جزء فبلغ عدد الصحابة فيه نيّفا و عشرين، و في شرح الرسالة للشيخ جسوس رحمه اللّه ما نصّه: و حديث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» متواتر، جاء عن نيّف و عشرين صحابيّا، و استودعها ابن عساكر في نحو عشرين ورقة، انتهى، طب الكتاب في مصر، دار الكتب السلفيّة، تحقيق شرف حجازي، طبعة ثانية. 38- حسن بن عليّ السقّاف، إرغام المبتدع الغبي: 59، و قال: رواه البخاري من طريق عبيد اللّه بن موسى العبسي ... و الكتاب مؤلّفه: الغماري الحسني، و محقّقه السقّاف، ط دار الإمام النووي، ط ثانية 1412. 39- إرواء الغليل للألباني، ذكره و قال: و هذا إسناد صحيح على شرط البخاري و قد أخرجه، و في ج 8 من فتح الباري ص 86، و ج 5 ص 11، و قال في ج 8 ص 127: أخرجه البخاري 2: 436 و 3: 177، فما من حاجة إلى أن نذكر البخاري هنا في من أخرجه بعد ذكر الألباني له، و الكتب التي خرّجت الحديث كثيرة جدّا نكتفي منها بهذا، و الحمد للّه.

ص: 107

ص: 108

ص: 109

و هذا نصّ صريح في استخلافه، لأنّ هارون كان خليفة موسى عليهما السّلام، و الآيات شاهد على ذلك: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1)، و قال اللّه تعالى في جوابه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2)، و لو عاش هارون بعد موسى لما جاز عزله؛ لا بعد وفاته و لا في حال حياته، لأنّ دعاء موسى كان على الإطلاق، و أجابه اللّه جوابا على العموم: أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.

و بناءا على هذا فقد ثبت النصّ على إمامة عليّ عليه السّلام و الحجّة قائمة في فعل الرسول و سنّته إلى يوم القيامة.

الدليل السادس عشر: لمّا حجّ النبيّ حجّه الوداع و أقبل قافلا منها ينحو المدينة وصل إلى موضع يدعى غدير خمّ و هو واد قد اجتمعت فيه مياه السيول، و لم يكن في ذلك الموضع مكان للنزول، و كان الجوّ حارّا جدّا، فنزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (3).

ص: 110


1- طه: 25- 32.
2- طه: 36.
3- المائدة: 67.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خوف من المخالفين و المنافقين من الصحابة، لأنهم أعلنوا عداوتهم لعليّ عليه السّلام و كان وجلا منهم، فوعد اللّه نبيّه بالحفظ منهم و من شرّهم، و كان الموضع مفترقا للقبائل إلى ديارهم و مساكنهم و بواديهم، فنزل النبيّ و أمر المسلمين بالنزول، و أمر مناديا ينادي: «الصلاة جامعة»، فداروا بالنبيّ و صنعوا له منبرا من حدوج الإبل، فرقاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رفع عليّا معه، و خطبهم خطبة بليغة، و لمّا فرغ منها و فيها الحمد و الثناء، قال:

يا قوم، إنّي دعيت و يوشك أن أجيب، و قدّمني خفوق، من بين أظهركم، و إنّي مخلّف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ثمّ رفع صوته عاليا و قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: اللهمّ بلى، فقال لهم على النسق و رفع بضبع عليّ حتّى بان بياض إبطيهما، و قال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، ثمّ نزل من المنبر و ذهب إلى الخيمة المعدّة لذلك، و كان الحرّ شديدا إلى درجة لفّ القوم أرجلهم بأرديتهم، و لاذوا حول المنبر.

و لمّا دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخيمة أذّن المؤذّن للصلاة، فصلّى بهم النبيّ جماعة، و أمر بنصب خيمة أخرى إلى جانب خيمته و أجلس عليّا فيها، و أمر من كان حاضرا هناك بالسلام عليه بالإمامة، و أن يبايعوه بإمرة المؤمنين فبايعه المهاجرون و الأنصار كلّهم، و من بينهم عمر بن الخطّاب، فحيّاه و هنّئه و قال فيما قال: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة إلى يوم القيامة، و لمّا بايعه الرجال أمر النساء ببيعته، و كانت على النحو التالي: أمر بإناء ملي ء بالماء و وضع عليّ يده بالماء، و وضع الإناء على باب الخيمة فتأتي النساء للسلام عليه ثمّ يضعن أيديهنّ بالطشت و يذهبن، و كان هذا هو شكل بيعتهنّ.

ص: 111

و استأذن حسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضيه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا حسان، على اسم اللّه، فقام حسان واقفا على قدميه و دار به الناس و اجتمعوا حوله، فأنشد أبياتا من الشعر مطابقة لمقتضى الحال، و لمّا فرغ من الإنشاد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال يا حسان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، و لمّا كان النبيّ يعلم ما يصير إليه أمر حسان جعل الدعاء مشروطا بلفظ «ما نصرتنا» و لم يجعله مطلقا، و مثله القول في نساء النبيّ لمّا علم اللّه مصير بعضهنّ جعل القول فيهنّ مشروطا لا مطلقا: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ (1).

و لمّا علم طهارة أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و عصمتهم و ثباتهم على الإيمان و الصلاحيّة، جعل آية مثوبتهم مطلقة و ليست مشروطة، كما قال تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (2).

الدليل السابع عشر: قال اللّه تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ (3)، يقول اللّه تعالى: الرحم أولى من غيره بمقام رحمه، و أمير المؤمنين عليه السّلام حاز الصفات الثلاث: فهو رحم و هو مهاجر و هو مؤمن:

و أمّا الدليل على إيمانه فسورة هل أتى و أمثالها، و الحديث المشهور الذي رواه

ص: 112


1- الأحزاب: 32.
2- الدهر: 8- 12.
3- الأحزاب: 6.

المخالف و المؤالف عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال:

أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين (1).

و الحديث المشهور أيضا: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عمّار و سلمان (2).

و عندنا أنّ أبا بكر لا يستحقّها لأنّه ليس مهاجرا كما قيل إن شاء اللّه، و العبّاس و إن كان رحما إلّا أنّه ليس مهاجرا لأنّه كان من طلقاء بدر.

و لمّا اجتمع في عليّ عليه السّلام الإيمان و الهجرة و الرحم كان أولى بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غيره وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (3).

الدليل الثامن عشر: قال اللّه تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (4) أنزل اللّه هذه الآية يوم المباهلة، و أبناءنا هنا الحسنان عليهما السّلام، و نساءنا فاطمة عليها السّلام بإجماع المفسّرين و اتفاق العالمين، و لم يكن أبو بكر و عمر حاضرين حين المباهلة، و أنفسنا لم يكن أحد غير عليّ عليه السّلام، و لا يعقل أن يكون الداعي و المدعوّ واحدا، فلزم أن يكون أنفسنا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. ثمّ إنّ العطف يدلّ على

ص: 113


1- الحسكاني، شواهد التنزيل 1: 185، تحقيق محمودي، ط أولى، مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، و وافق سياق المؤلّف تفسير القرطبي 16: 22، ط بيروت- دار إحياء التراث العربي، 1405، كنز العمّال 13: 639 بحذف الصدر الأوّل من الرواية، المستدرك 2: 151 مثله، و كنز العمّال أيضا 12: 98. (المترجم).
2- في كنز العمّال 13: 296: تشتاق الجنّة إلى أربعة: إلى عليّ و أبي ذر و عمّار و المقداد.
3- المائدة: 44.
4- آل عمران: 61.

المغايرة ثمّ لا يجوز الفصل طبقا لقواعد اللغة بين الشي ء و نفسه بأجنبيّ (1)، فتبيّن من هذا أنّ أنفسنا غير الداعي، و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، نفسك نفسي، و دمك دمي، و لحمك لحمي (2).

و لمّا ثبت كون عليّ عليه السّلام نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكون خلافة أبي بكر و عمر باطلة لوجود نفس رسول اللّه بينهم، و يحرم تقدّمهما عليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3).

الدليل التاسع عشر: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (4). لم يؤثر عن أحد منذ خلق اللّه آدم إلى يومنا هذا أنّه أعطى الزكاة و هو راكع سوى عليّ عليه السّلام، و الحكاية كالتالي:

كان عليّ عليه السّلام يصلّي في مسجد رسول اللّه، فجاء سائل و الإمام راكع، فسأله، فأشار إليه باصبعه إلى خاتم في بنصره.

قال جار اللّه العلّامة: كان من عادة عليّ عليه السّلام أن يتختّم باليمين، و ما قيل من أنّ

ص: 114


1- ينبغي إيضاح ذلك للقاري، فقوله: العطف يدلّ على المغايرة، ناظر إلى أنّ في «ندعو» ضمير يعود على النبيّ أي «هو» و أنفسنا معطوف عليه كلفظ «نسائنا» فلا بدّ من كون المعطوف «أنفسنا» مغايرا للمعطوف عليه «هو» و هذه سنن العطف، أضف إلى ذلك لو قلنا بأنّ أنفسنا مع ضمير «هو» في قوله «ندعو» واحد لكنّا فصّلنا بينه و بين نفسه بأجنبيّ و هو «أبناءنا و نسائنا» و هذا لا يجوز في قواعد اللغة. (المترجم).
2- اقتصر على الجزء الأخير في مناظرات الإمامة لعبد اللّه حسن، و أحال على: لسان الميزان 3: 247، مجمع الزوائد 9: 111، ينابيع المودّة: 50 الباب السادس، نظم درر السمطين: 79، فرائد السمطين 1: 150 ح 113 و ص 332 ح 257.
3- الحجرات: 1.
4- المائدة: 55.

الصلاة سنّة و الصدقة سنّة و لو قيل بأنّهما فرضان فلا يتداخلان أيضا لأنّهما متغايران، فالصلاة تغاير الزكاة.

و انتزع السائل الخاتم من اصبعه.

و في الآية إشاره إلى أنّه المتصرّف في أمور الدين و القيّم على الإسلام، و من كان بهذه الصفة أعني متصرّفا في أمور الدين بنصّ من اللّه و قيّما على عباد اللّه لا بدّ أن يكون إماما و وليّا على الناس.

الدليل العشرون: روي عن طريق المخالفين و الشيعة هذه الروايه المشهورة و هي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى الراية يوم خيبر لأبي بكر، ثمّ أعطاها ثانية لعمر، و في الثالثة أعطاها لعمرو ابن عاص (1) فعادوا بها منهزمين، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فتطاولت إليها أعناق الصحابة، فلمّا أصبح الصباح نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول اللّه، يشتكي عينيه، فبعث خلفه، فلمّا حضر وضع من ريقه في عينيه فعافاه اللّه حالا، فأعطاه الراية (2)، فقال عليّ عليه السّلام: أقاتلهم حتّى

ص: 115


1- لم يكن يومها ابن العاص قد أسلم، فقد كان إسلامه سنة ثمان قبل الفتح بستّة أشهر، و لعلّ المؤلّف استند إلى رواية تقول: إنّه أسلم عام خيبر، و لو صحّ فإنّ ذلك لا يكون إلّا بعد الواقعة لأنّ العام لم يسمّ باسم الواقعة حتّى وقعت، و على كلا التقديرين فإنّ إعطائه الراية غير صحيح. راجع: أسد الغابة 4: 116. (المترجم).
2- ذخائر العقبى: 73؛ فضائل الصحابة للنسائي: 16؛ مسند أحمد 1: 99 و 185، 4: 52؛ صحيح البخاري 5: 76؛ صحيح مسلم 5: 195، 7: 120 و 122؛ سنن ابن ماجة: 45؛ و سنن الترمذي 5: 302؛ السنن الكبرى 6: 362 و 9: 107 و 131؛ شرح النووي على صحيح مسلم 1: 141؛ مجمع الزوائد 6: 150 و 9: 123 بخمس طرق؛ فتح الباري 7: 365؛ المصنّف لابن أبي شيبة 8: 520، بطريقين؛ الدورقي، مسند سعد، ص 51، و كتب أخرى يضيق المجال عن حصرها أعرضنا عنها. (المترجم).

يكونوا مثلنا؟! فقال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه أن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم.

و هذا الحديث أجمع عليه أهل القبلة، و هو دليل على عزل أبي بكر و عمر و نصب عليّ عليه السّلام، و غضب النبيّ عليهما، و حبّ اللّه لعليّ الصادق الصدّيق.

الدليل الواحد و العشرون: كانت خلافة أبي بكر بالبيعة و هي باطلة؛ لأنّ الإمامة لو كانت بالبيعة أو لو كانت البيعة تدلّ على صحّتها لكان بنو أميّة بأجمعهم أئمّة حتّى لعين اللعناء يزيد بن معاوية كان إماما حقّا، و من الممكن أن يبايع كافرا و لصّا جماعة فكيف تعقد بيعتهما، بل كيف يكون المبايع (بفتح الياء) خليفة على الأمّة ببيعة جماعة معدودة له، إذ أنّ هذه الجماعة بايعت عن أنفسها لا عن الآخرين، فلو أنكرها غيرهم لبطلت لأنّها لم تكن بأمر اللّه و رسوله.

ثمّ إنّ أبا بكر قال: «أقيلوني و لست بخيركم» فلو كان منصوصا عليه لكان قوله هذا كفرا لأنّه ردّ على اللّه و رسوله (1)، و لمّا كانت البيعة باطلة و أبو بكر تمّت له الخلافة بالبيعة فتكون خلافته باطلة أيضا، و ببطلانها تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ص: 116


1- أقول: قول أبي بكر هذا لا يستلزم كفره لأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام ردّ البيعة أيضا بعد مصرع عثمان لعنه اللّه، فقال: «دعوني و التمسوا غيري» الخ، و لكن يثبت كفر أبي بكر بادّعائه الإمامة فشأنه شأن مسيلمة الكذّاب، فهو أبو بكر الكذّاب لعنه اللّه. (المترجم).

الدليل الثاني و العشرون: أوصى أبو بكر إلى عمر و جعلها عمر شورى (1)، و عثمان قتل من دون وصيّة، فإن كان أبو بكر محقّا فالثاني و الثالث مبطلان، و إن كان محقّين فالأوّل مبطل، و على المكلّف الاقتداء بهم، و الاقتداء بأيّ واحد منهم باطل لأنّه مناقض للاقتداء بالآخر لأنّهم اختلفوا، فيكون الثلاثة مبطلين، و الحقّ مع عليّ لأنّ الثلاثة كلّهم خالفوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هذا الدليل بعينه يبطل مذهبهم لأنّ أبا حنيفة اختلف مع باقي الأئمّة في مسائل كثيرة، و مثله الشافعيّ، و تصحيح قول أيّ واحد من الأئمّة إبطال لقول الآخر و لحجّته، و لا ترجيح لأحدهم على الآخر فيكون جميعهم على الباطل، و الأئمّة الإثني عشر عليهم السّلام قول أوّلهم هو نفسه قول آخرهم، و لم يظهر خلاف واحد بينهم على الإطلاق.

فما كان من عند اللّه استحال أن يختلف، و ما كان من عند غيره فالاختلاف فيه كبير، كما قال اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2).

الدليل الثالث و العشرون: روى أنس بن مالك قال: أهدت أمّ أيمن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طائرا مشويّا، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي هذا الطير،

ص: 117


1- الشورى مجرّد ادّعاء و الهدف منها إيصال عثمان إلى الحكم من أجل دخول بني أميّة عالم الإسلام من موضع القوّة لمسخه، و قد بيّنّا ذلك في كتابنا «جهاد كربلاء و الإنسان» ما يزال مخطوطا نسأل اللّه الإعانة على طبعه، آمين. (المترجم).
2- النساء: 82.

فأرسلت عائشة و حفصة و كلّ واحد من النساء إلى آبائهنّ و قبائلهنّ ليحضروا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

يقول أنس: فجاء عليّ ثلاث مرّات و لكنّي أصرفه فأقول: رسول اللّه عنك مشغول، فيرجع من حيث أتى، إلى أن كانت الثلاثة فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، ما أبطأك عنّي؟ فقال: يا رسول اللّه، هذه هي المرّة الثالثة آتي و يصرفني أنس، فقال لأنس: لم فعلت هذا؟ فقال: سمعت دعاءك يا رسول اللّه فأحببت أن يكون رجلا من الأنصار، فقال النبيّ: إنّ الرجل يحبّ قومه.

و هذه رواية لا خلاف فيها من أحد، و لمّا كان عليّ أحبّ الخلق إلى اللّه بإجماع المسلمين فيلزم تقديمه كما أنّ رسول اللّه أحبّ الخلق إلى اللّه (1).

الدليل الرابع و العشرون: كانت إمامة الرجلين باختيار من الصحابة، و الاختيار باطل؛ لأنّ الإمامة ركن

ص: 118


1- تخريج الحديث من كتب الخصوم: الحاكم النيسابوري، المستدرك 2: 132، ط دار المعرفة- بيروت، تحقيق المرعشلي. الإسكافي، المعيار و الموازنة: 324، تحقيق المحمودي. أمالي المحاملي، للحسين بن إسماعيل المحاملي: 443، ط دار ابن القيّم، الأردن، أولى 1412، تحقيق الدكتور إبراهيم القيسي. الطبرانيّ، المعجم الأوسط 2: 207، تحقيق إبراهيم الحسيني، ط دار الحرمين، و أيضا 6: 90 و 7: 267 و 9: 146. عبد اللّه بن عدي، الكامل 2: 252، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر- بيروت، ثالثة 1409 ه. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 9: 376، تحقيق عطاء، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1417 ه. ابن عساكر، تاريخ دمشق 42: 250 و 257، تحقيق علي شيري، ط دار الفكر- بيروت. ابن الأثير، أسد الغابة 4: 30، ط طهران- إسماعيليان. و الإسكافي ليس من خصومنا و إن لم يكن على مذهبنا.

عظيم في الدين تعادل النبوّة و هي تقابل الرسالة كلّها، كما قال اللّه تعالى: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) فكيف يجوز أن توضع معظم أمور الدين باختيار الخلق لأنّه لو جاز اختيار الإمام جاز اختيار النبيّ أيضا، فإذا أجابونا بأنّ الرسول تصدّقه المعجزة أجبناهم بأنّ الإمام تصدّقه العصمة و النّص.

من جهة أخرى فإنّ اللّه تعالى نفى الاختيار عن الخلق حيث قال: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2).

و من جهة ثالثة فإنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار سبعين شخصا من قومه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (3) فاستحقّ جميعهم العذاب و الصاعقة بما قالوا: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ (4) و الغاية من تكرار هذه القصّة هو تنبيه الغافلين ليعلموا أنّ الناس ليس لهم اختيار مع اللّه تعالى في أمور الدين و الشريعة و إنّما عليهم الامتثال فحسب في الأمر و النهي، كما قال تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (5)، و إذا بطل الاختيار لم يبق إلّا النصّ و العصمة و هما متحقّقان في أمير المؤمنين و أولاده عليهم السّلام.

الدليل الخامس و العشرون: الحديث المتلقّى بالقبول من الأمّة جميعا: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجى، و من تخلّف عنها غرق و هوى (6).

ص: 119


1- المائدة: 67.
2- القصص: 68.
3- الأعراف: 155.
4- النساء: 153.
5- الحشر: 7.
6- سبق تخريج هذا الحديث. (المترجم).

و الغرض من هذا الحديث لزوم التمسّك بأهل البيت عليهم السّلام؛ فمن تمسّك بولايتهم نحبى، و من بعد عنهم هلك و هوى كقوم نوح، و هذا نصّ صريح على أنّ الشيعة من أهل الجنّة، من هنا حيث قال النبيّ: يا علي، شيعتك هم الفائزون (1).

و لمّا كان التمسّك بهم سبب النجاة كان التخلّي عنهم سببا للهلاك فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2).

الدليل السادس و العشرون: أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، أنظروني (كذا) تخلفوني فيهما.

يقول زيد بن أرقم: نزل رسول اللّه على ماء بين مكّة و المدينة، فخطب الناس، و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجبت، و أنا تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا كتاب اللّه و استمسكوا به، و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي (3)، الحديث.

و يلزم بناءا على هذا ترك غيرهم.

ص: 120


1- مشكاة الأنوار: 151، بحار الأنوار 65: 7 و 110: 12، النمازي في مستدرك سفينة البحار 10: 570، بشارة المصطفى: 42 و 256، الأبطحي في الشيعة في أحاديث الفريقين: 175.
2- يونس: 32.
3- لا يحتاج هذا الحديث إلى تخريج لشهرته بل لتواتره، و قد تركنا حديث الغدير أيضا من دون تخريج لأنّ حديثا كتب فيه مولانا الأميني كتاب الغدير لا يحتاج إلى تخريج، فمن أراده فليرجع إليه هناك.

الدليل السابع و العشرون: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش (1).

ص: 121


1- تخريج الحديث: كثر مخرجوا هذا الحديث من الحفّاظ، و ممّن أخرجه البخاري و مسلم، و من ثمّ كثرت سياقاته، و نحن نذكر بعض من أخرجه و ندع الباقين لكثرتهم. 1- مسند أحمد 5: 90 و 93 و 98 بثلاث طرق، و ص 99 و 100 و 101 و 106، ط دار صادر- بيروت. 2- صحيح مسلم 6: 3، بثلاث طرق، ط دار الفكر- بيروت. كامل البهائي ج 1 121 الباب الخامس في دلائل حجة الله على خلق الله أمير المؤمنين علي و أولاده الطاهرين صلوات الله عليه و عليهم أجمعين ..... ص : 92 3- سنن أبي داود 2: 309، ط دار الفكر- بيروت، أولى 1410 ه، تحقيق سعيد محمّد اللحّام، و ذكر الحديث النووي في شرحه على صحيح مسلم و تخبّط في توجيه الحديث و سار على غير هدى، «إنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»، راجع 2: 201، ط دار الكتاب العربي، الثانية 1407 ه، و فعل مثله ابن حجر في فتح الباري 13: 181 و خبط خبط عشواء، و ذكر حيرة قومه و تخبّطهم بهذا الحديث. 4- تحفة الأحوذي 6: 391، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1410. 5- عون المعبود 11: 344، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ثانية 1415، و 12: 260. 6- مسند أبي داود الطيالسي: 105، ط دار الحديث- بيروت. 7- الضحّاك، الآحاد و المثاني 3: 126، تحقيق الجوابره، ط دار الدراية، أولى 1411. 8- عمرو بن عاصم، كتاب السنّة، ص 518، تحقيق الألباني، ط المكتب الإسلامي- بيروت، ط ثالثة 1413. 9- صحيح ابن حبّان 15: 44، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1414 ه. 10- المعجم الكبير 2: 195 و 232، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، دار إحياء التراث العربي، الثانية. 11- كفايه الخطيب: 95، تحقيق أحمد عمر هاشم، ط دار الكتاب العربي- بيروت، 1405 ه. 12- كنز العمّال 11: 246 رقم 31398، و 12: 32 رقم 33850 و 33851، تحقيق بكري حياتي و السقاط، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان. 13- المناوي، فيض القدير 2: 582 و 3: 679، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1415 ه، تحقيق أحمد عبد السلام. 14- تفسير ابن كثير 2: 34، ط دار المعرفة- بيروت، 1412. و قال ابن كثير: و في هذا الحديث دلالة على أنّه لا بدّ من وجوب اثني عشر خليفة عادل، و ليسوا هم بأئمّة الشيعة الإثني عشر، فإنّ كثيرا من أولئك لم يكن لهم من الأمر شي ء (3: 312). و أقول لابن كثير: أيّها الأموي الخبيث، أخطأت أستك الحفرة. 15- نعيم بن حمّاد المروزي، كتاب الفتن: 274، تحقيق الدكتور سهيل زكار، ط دار الفكر- بيروت، 1414. 16- البداية النهاية لابن كثير 6: 221 و 9: 229، تحقيق علي شيري، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، أولى 1408. أقول: إنّ عبارة: «كلّهم من قريش» ليست من النبيّ بل و إنّما وضعها الوضّاعون، و إنّما قال النبيّ: «كلّهم من بني هاشم» و الشاهد على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الأئمّة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم. (نهج البلاغة، فضل أهل البيت، ص 301) و كأنّه قالها عليه السّلام على شكل الاستنكار على من قال: الأئمّة من قريش.

و روي: لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّاهم اثنا عشر رجلا كلّهم من قريش.

و من قال: الأئمّة اثنا عشر، لا يريد بهم إلّا عليّا و أولاده، و لزم كونهم اثني عشر بناءا على قول الخصم كما ذكره في المصابيح.

قالت أمّ عطيّة: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشا فيهم عليّ، فسمعته و هو رافع يديه يقول: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا (1).

و روى البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت منّي و أنا منك (2).

ص: 122


1- رواه الخوارزميّ في مناقبه: 70- 71 ح 46، تحقيق المحمودي، ط مؤسسة نشر الإسلامي، الثانية 1411 ه عن أمّ عطيّة، و الطبريّ في ذخائر العقبى: 94، و قال: أخرجه الترمذي، و قال: حسن غريب، ط 1356 مصوّرة عن نسخة دار الكتب المصريّة و دار الكتب التيموريّة، مكتبة القدسي.
2- ابن البطريق، العمدة، ص 201، تحقيق جامعة المدرّسين- قم، ط أولى 1407 مؤسسة النشر الإسلاميّ، النسائي، خصائص أمير المؤمنين: 88، ط مكتبة نينوى، تحقيق هادي الأميني، مجمع النورين: 242، تنبيه الغافلين: 143، صحيفة الحسين: 252.

و روى البراء أيضا قال: رأيت النبيّ و الحسن بن عليّ على عاتقه، يقول: اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه، و قال للحسين: اللهمّ إنّي أحبّه و أحبّ من يحبّه.

قال ابن زعرة (1): رأيت النبيّ على منبره و الحسن بن عليّ إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرّة و عليه أخرى، و هو يقول: إنّ ابني هذا سيّد، و لعلّ اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

و قال ابن عمر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين هما ريحانتاي من الدنيا.

و قال زيد بن أرقم: أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة و الحسن و الحسين، فقال:

أنا حرب لمن حاربهم و سلم لمن سالمهم.

عن ابن ربيعة: إنّ العبّاس دخل على رسول اللّه مغضبا و أنا عنده، فقال: ما أغضبك يا عبّاس؟ قال: ما لنا و لقريش! إذا تلاقوهم تلاقوا بوجوه مستبشرة، و إذا لقونا لقونا بغير ذلك. فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى احمرّ وجهه ثمّ قال: و الذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسول اللّه. ثمّ قال: أيّها الناس، من آذى عمّي فقد آذاني (2).

ص: 123


1- لم يتيسّر لي معرفة ابن زعرة هذا و لعلّه تصحيف من ابن زهرة أو ابن عمر.
2- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 122، تحقيق المحمودي، أولى 1412 ه، ط م مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة؛ القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار 2: 493، تحقيق الجلالي، ط مؤسسة النشر الإسلامي؛ ذخائر العقبى: 9 بسياق مختلف، و قال: خرّجه الترمذي و قال: حسن صحيح، و خرّجه أحمد و قال بعد قوله: حتّى احمرّ وجهه و حتّى استدرّ عرق بين عينيه؛ النسائي، فضائل الصحابة: 22، المسند 1: 207 و 208، و 4: 165، بطريقين؛ الترمذي 5: 318؛ المستدرك 3: 333 بطريقين، و ص 568 و فيه: و أتاه ابن عبّاس فقال: إنّي انتهيت الخ، و 4: 75. و مجمع الزوائد 1: 88 و 9: 170؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 518؛ السنن الكبرى 5: 51؛ الطبرانيّ في المعجم الصغير 1: 239 و 2: 96؛ المعجم الأوسط 5: 52 و 7: 373؛ و المعجم الكبير 20: 285 بطريقين؛ كنز العمّال 11: 700 رقم 33395، و 12: 41 رقم 33906 و 33907، و ص 104 رقم 34202، و 13: 642 رقم 37623؛ المناوي في فيض القدير 1: 255 و قال: رواه الطبراني بإسناد صحيح. و ضعّف الألباني قوله: من آذى عمّي في ضعيف الترمذي: 506؛ تفسير ابن كثير 4: 122 بطريقين؛ السيوطي، الدرّ المنثور 6: 7 ط الفتح- جدّة، أولى 1365؛ تاريخ بغداد 4: 146؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 26: 300 بأربع طرق؛ أسد الغابة 3: 110 و 331؛ المزّي في تهذيب الكمال 14: 228، تحقيق بشارة عوّاد معروف، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1413 ه، و 33: 341؛ الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 88 و 12: 156، تحقيق شعيب الأرناؤوط و صالح السم، ط مؤسسة الرسالة، التاسعة 1413؛ الإصابة 4: 317، تحقيق عادل أحمد عبّود، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1415 ه. ابن شبّه النميري، تاريخ المدينة 2: 639، تحقيق فهيم شلتوت، ط القدس- قم، دار الفكر- بيروت، بطريقين؛ الطبري، المنتخب من ذيل المذيّل: 49 ط مؤسسة الأعلمي- بيروت؛ ابن كثير في البداية و النهاية 2: 315؛ و في السيرة النبويّة 1: 192 تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط أولى 1396، دار المعرفة- بيروت؛ سبيل الهدى و الرشاد 10: 476 و 11: 4 و 445؛ القندوزي في ينابيع المودّة 1: 54 و 2: 110 و 261 و 475، ط دار الأسوة، تحقيق أشرف الحسيني، أولى 1416 ه.

و هذه الأحاديث بأجمعها مرويّة من طريق المخالفين، و ترشد الخصم إلى خلافة أمير المؤمنين.

الدليل الثامن و العشرون: روى البراء بن عازب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: أنت منّي و أنا منك.

و قال عمران بن حصين: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ عليّا منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي.

و روى زيد بن أرقم عن النبيّ أنّه قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و ولاية

ص: 124

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عامّة على جميع الخلق فيلزم أن تكون لعليّ مثل هذه الولاية.

قال حبيش بن جنادة: قال رسول اللّه: عليّ منّي و أنا من عليّ، و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ (1).

و بناءا على هذا لم يحدث لأبي بكر و عمر تأدية الشريعة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو يقدموا على أحد، و لم ينوبوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحكم يبلغونه الناس.

و لمّا آخى بين المهاجرين و الأنصار قرن كلّ واحد إلى نظبره و الشبه إلى شبهه مثل أبي بكر و عمر، و طلحة و الزبير، و أبي ذر و سلمان، و ترك عليّا وحده، فقال:

يا رسول اللّه، لم تركتني من غير أخ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (2).

و قيل: قال العبّاس: يا رسول اللّه، لم تركت عليّا؟ فقال: ما أخّرته إلّا لنفسي.

و عن عليّ عليه السّلام: كنت إذا سألت من رسول اللّه أعطاني، و إذا سكتّ ابتدأني (3).

ص: 125


1- هذه الأحاديث لتواترها لا تحتاج إلى تخريج لأنّها موجودة في جلّ كتبهم.
2- مناقب ابن شهر آشوب 2: 33: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين أصحابه، فجاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول اللّه، آخيت بين أصحابك و لم تؤاخ بيني و بين أحد؟! فقال النبيّ: أنت أخي في الدنيا و الآخرة. و ذكر الحاكم في المستدرك نحوه 3: 14؛ و نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 94 من مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامّة، ط أولى 1377 ه؛ و تنبيه الغافلين لابن كرامة: 73 ط مركز الغدير للدراسات، المطبعة محمّد، ط أولى، تحقيق السيّد تحسين آل شبيب، 1420 ه و قال في الهامش: رواه الحاكم في 3: 414، و ابن ماجة في صحيحه: 12، و النسائي في سننه 3: 18، و المتقي في كنز العمّال 9: 394.
3- ذخائر العقبى: 94، و قال: أخرجه الترمذي و قال: حديث حسن؛ سنن الترمذي 5: 301؛ المستدرك 3: 125؛ تحفة الأحوذي 10: 154؛ المعيار و الموازنة: 300؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 495؛ السنن الكبرى للنسائي 5: 142؛ خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 112؛ كنز العمّال 13: 120 رقم 36387، و 16: 137 رقم 44166؛ المناوي في فيض القدير 4: 470؛ العلوي في دفع الارتياب عن حديث الباب: 15. شواهد التنزيل 1: 48؛ تفسير ابن كثير 3: 523؛ ابن سعد في الطبقات الكبرى 2: 338 ط دار صادر- بيروت؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 377 و 378 و 386؛ أسد الغابة 4: 29؛ ابن النجّار البغدادي، ذيل تاريخ بغداد 5: 74، تحقيق عطاء، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ط أولى 1417 ه؛ تهذيب الكمال 15: 373؛ تهذيب ابن حجر 5: 297 ط دار الفكر، أولى 1404؛ أنساب الأشراف: 98، تحقيق المحمودي، ط مؤسسة الأعلمي- بيروت، أولى 1394؛ ينابيع المودّة 2: 184 و 394.

و عن جابر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه ...

و لمّا قدم المدينة و كان عدد أصحابه قليلا و حين بنى المسجد فتحوا من بيوتهم عليه أبوابا ليكونوا يدا واحدة و يعلموا أخبار بعضهم بعضا، فلمّا قوي الإسلام هبط جبرئيل و أمره بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ، و قال النبيّ: لا يحلّ لأحد يستطرقه غيري و غيرك.

و روى البراء بن عازب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعليّ عليه السّلام: أنت منّي و أنا منك.

و من هذه الأخبار التي رويتها من كتب المخالفين نستنبط بأنّ عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حكمه حكمه، و كما أنّ التقدّم على النبيّ ضلالة فالتقدّم عليه ضلالة أيضا.

الدليل التاسع و العشرون: عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من سرّه أن يحيا حياتي و يموت يموتي و يدخل جنّة عدن غرسها ربّي فليوالي عليّا بعدي، و ليقتد بأولاده من بعده فإنّهم خلقوا من طينتي، رزقوا علما و فهما، فويل للمكذّبين

ص: 126

بفضلهم من أمّتي، لا ينالهم شفاعتي (1).

و عن فاطمة الكبرى قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ ولد أنثى ينتمون إلى عصبتهم إلّا ولد فاطمة عليها السّلام فأنا وليّهم و أنا عصبتهم (2).

و هذه الأخبار تدلّ على إمامة عليّ و أولاده.

الدليل الثلاثون: إنّ اللّه تعالى لم يجعل أحدا قسيمه سوى عليّ و أولاده، كما قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (3) فجعل الأقسام ثلاثة: اللّه و رسوله و ذووا القربى و هم عليّ و أولاده، و باقي الأصنام من يتامى و مساكين و أبناء السبيل و هم الذين يجتاحهم حاجة في الغربة و إن كانوا في وطنهم أغنياء بشرط كونهم من بني هاشم، فلم يستحقّ المساهمة مع اللّه و رسوله إلّا عليّ و أولاده، و هذا أعلى المناصب و دالّ على فضلهم، و تقديم المفضول على الفاضل قبيح على كلّ حال.

الدليل الواحد و الثلاثون: لم يوجب اللّه تعالى محبّة أحد من الناس على التعيين إلّا محبّة عليّ و أهل بيته،

ص: 127


1- مجموعة الرسائل للصافي 2: 69 و قال: أخرجه أبو نعيم الاصفهاني عن ابن عبّاس؛ لسان الميزان 2: 34.
2- مجمع الزوائد 4: 224 و 9: 173؛ مسند أبي يعلى 12: 109؛ المعجم الكبير 3: 44 و 22: 423؛ الجامع الصغير 2: 278؛ كنز العمّال 12: 98 رقم 34168، و ص 114 رقم 34253، و ص 116 رقم 34266؛ تذكرة الموضوعات: 98؛ فيض القدير 5: 22؛ كشف الخفاء 2: 119 و 120؛ ضعفاء العقيلي 3: 223؛ تاريخ بغداد 11: 283؛ تاريخ دمشق 36: 313 و 70: 14؛ تهذيب الكمال 19: 483؛ ميزان الاعتدال 3: 36 ط دار المعرفة- بيروت، تحقيق البجاري.
3- الأنفال: 41.

و هم القربى الذين عناهم اللّه سبحانه بقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1)، و الدليل على هذا هو الحديث المروي من طريق المخالف و المؤالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.

الا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.

ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة اللّه.

ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا.

ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (2).

و غير خفيّ على العقلاء أنّهم غصبوا فدكا من الزهراء و سلبوا العترة الخمس، و أفتوى بإباحة دماء عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هذا بالضرورة ليس من المحبّة بل من العداوة.

الدليل الثاني و الثلاثون: عن البراء بن عازب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يا علي، قل: اللهمّ اجعل لي

ص: 128


1- الشورى: 23.
2- تخريج الحديث: تفسير القرطبي 16: 23، قال القرطبي: قلت: ذكر الزمخشري هذا الخبر بأطول من هذا و ساق الحديث بطوله؛ الثعالبي 5: 157 ط دار إحياء التراث العربي، أولى 1418، تحقيق أبو سنة، معوض، عبد الموجود؛ المقريزي، فضل آل البيت: 128، تحقيق عاشور؛ ينابيع المودّة 2: 333 و 3: 139.

عندك عهدا، و في قلوب المؤمنين ودّا (مودّة- المؤلّف)، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (1). (2)

عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (3) فيوشع بن نون سبق إلى موسى بن عمران، و عليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول اللّه.

و عن ابن عبّاس قال: نظر النبيّ إلى عليّ عليه السّلام، فقال: أنت سيّد في الدنيا و سيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي و حبيبي حبيب اللّه، و عدوّك عدوّي و عدوّي عدوّ اللّه، و الويل لمن أبغضك بعدي (4).

و عن أبي سعيد الخدري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، أنت معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تذود بها المنافقين عن حوضي (5).

عن ابن عبّاس: ما كان أحد أعلم بسرّ رسول اللّه و جهره من عليّ بن أبي طالب.

عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام: ما بعث رسول اللّه عليّا قطّ إلّا أعطاه الراية (6).

هذا الأخبار بمجموعها جائت من طريق المخالفين و هي دليل إمامته و برهان على خلافته و على إبطال عمل الآخرين.

ص: 129


1- مريم: 96.
2- تفسير فرات الكوفيّ: 250 تحقيق محمّد كاظم، الطبعة الثانية، ط المطبعة التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي، أولى 1410؛ شواهد التنزيل للحسكاني 1: 469.
3- الواقعة: 10 و 11.
4- المستدرك 3: 128 و قال: صحيح على شرط الشيخين.
5- مجمع الزوائد 9: 135؛ المعجم الصغير 2: 89؛ ميزان الاعتدال 2: 178، تحقيق البجاري، ط دار المعرفة- بيروت، أولى 1382 ه؛ تهذيب التهذيب 4: 249؛ جواهر المطالب 1: 233؛ ينابيع المودّة 1: 396 و 2: 375 و 462.
6- مجمع الزوائد 9: 125؛ المعجم الكبير 2: 79 بطريقين و 3: 80.

الدليل الثالث و الثلاثون: عن ابن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا دار الحكمة و عليّ بابها، و من أراد الدار فليأتها من بابها (1).

و عنه عليه الصلاة و السلام و آله أنّه قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (2).

و الغرض من هذا الحديث هو الدلالة إلى أنّ من أراد دخول الشريعة فعليه الإيمان أوّلا بولاية عليّ و أهل بيته عليهم السّلام، و منه قوله تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ

ص: 130


1- الترمذي 5: 301؛ تحفة الأحوذي 10: 155؛ مسند أبي يعلى 2: 58؛ الجامع الصغير 1: 415؛ كنز العمّال 11: 600 رقم 32889 و 13: 147 رقم 36462؛ فيض القدير 3: 60 و قال تعقيبا على الحديث: فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، و هذه المنقبة ما أعلاها، و من زعم أنّ المراد بقوله: «و عليّ بابها» أنّه مرتفع من العلوّ و هو الارتفاع فقد تنحّل لغرضه الفاسد بما لا يجزاه نفعا و لا يسمنه و لا يغنيه. أقول: إذن لما ذا تقدّمون عليه ابن آوى و أخويه؟! العجلوني في كشف الخفاء 1: 203، و نقل عن أبي سعيد العلائي قوله: الصواب أنّه حسن باعتبار تعدّد طرقه لا صحيح و لا ضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا، هذا بعد أن نقل فيه أقوالا مختلفة. ردّ اعتبار الجامع الصغير: 15، تحقيق أحمد درويش، ط دار الباز شيكاگو؛ فتح الملك العلي: 45، ط مكتبة أمير المؤمنين، تحقيق محمّد هادي الأميني، و للكتاب طبعة أخرى بمطبعة السعادة بمصر 1389 ه و حقّقه النقشبندي؛ دفع الارتياب: 3 و 9 و 10 و 11 و 14 و 21 و 43 و 52 و 53؛ كتاب المجروحين 2: 94؛ تاريخ دمشق 42: 378؛ ابن الجوزي في الموضوعات 1: 349 رواه عن طريق عليّ بخمس طرق، و عن ابن عبّاس بعشر طرق، و عن جابر بطريق واحد، ثمّ قال: هذا حديث لا يصحّ من جميع الوجوه و قد فنّد القماري دعوى من أنكره بكتاب مستقلّ سمّاه: فتح الملك العلي، و قد أتى فيه بالعجب و العجاب، و ألقم ابن الجوزي و نظرائه ألف حجر و حجر. و قال الذهبيّ في ميزان الاعتدال 3: 668 بعد أن عزاه إلى الترمذي: فما أدري من وضعه؟ البدآية و النهاية 7: 375؛ سبل الهدى و الرشاد 1: 475 و 11: 292؛ ينابيع المودّة 1: 218 و 2: 9 و 393.
2- راجع: رفع الارتياب: 3، و اقرأ كتاب فتح الملك العلي تجزم بتوتر الحديث إن شاء اللّه.

أَبْوابِها (1) و معنى البيوت هنا أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الباب عليّ عليه السّلام و إلّا فيكون الكلام لغوا إذ لا فائدة من ذكر إتيان البيوت من أبوابها إلّا بهذا التأويل.

الدليل الرابع و الثلاثون: قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2)، و طاعة الرسول واجبة بالإجماع مطلقا فينبغي أن يكون حكم المعطوف و هم أولوا الأمر حكم المعطوف عليه و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطاعتهم مطلقا و على كلّ حال واجبة، و لا يصحّ أن يأمر اللّه بطاعة غير المعصوم الذي يصدر منه الخطأ و الذنب لأنّه ربّما أمر المطيع بالمعصية، و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).

و إذا جاز الخطأ و الذنب على أولي الأمر كان أبو بكر و عمر و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سعد بن سعيد و مروان بن الحكم و أبو سفيان و معاوية و يزيد كلّهم من جنس واحد لا فرق بينهم؛ فوجبت العصمة على هذا لأولي الأمر و هي ليست لأحد إلّا لعليّ و أولاده عليهم السّلام.

ص: 131


1- البقرة: 189.
2- النساء: 59.
3- مسند أحمد 1: 131 و 409 و 5: 66؛ مجمع الزوائد 5: 226 و 9: 177؛ شرح سنن النسائي للسيوطي 3: 17، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، تحقيق عبد الفتاح، الثانية 1406؛ تحفة الأحوذي 3: 193 و 5: 298؛ مصنّف الصنعاني 2: 383؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 738؛ الحارث ابن أبي أسامة في بغية الباحث: 190، تحقيق السعدني، ط دار الطلايع؛ المعجم الأوسط 4: 182 و 321؛ المعجم الكبير 18: 165 و 170 و 177 و 185 و 229؛ الدارقطنيّ في سؤالات حمزة: 76، ط مكتبة المعارف- الرياض، أولى 1404، تحقيق موفّق بن عبد اللّه؛ مسند شهاب 2: 55.

الدليل الخامس و الثلاثون: ذكر أحمد سقي صاحب «مناشير الصحابة» أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في خلّته، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (1). أي إنّ هذه الأوصاف اجتمعت على الوجه الأكمل في الأنبياء و هي مجتمعة جميعها في عليّ عليه السّلام وحده، و الحقيقة أنّ ما تفرّق في الأنبياء منها اجتمع في عليّ، فهو بناءا على هذا أفضل من الأنبياء، و أبو بكر الذي أسلم عن شرك كيف يقال بأنّه أفضل من الأنبياء، و الاتفاق حاصل من المخالفين أنّ أبا بكر ليست له درجة أيّ واحد من الأنبياء.

و بناءا على هذا الحديث يكون عليّ عليه السّلام أفضل من الأنبياء، و كما أنّ موسى و عيسى و إبراهيم لهم التقدّم على رعاياهم في زمانهم و لا ينبغي لأحد من أتباعهم التقدّم عليهم فكذلك عليّ عليه السّلام و هو أفضلهم لا يحقّ لأحد التقدّم عليه في الإمامة و العمران من رعيّته.

و أمّا تعطيل إمامته و عزله عن تولّي شئونات الولاية فهو نظير تعطيل هارون و انزوائه أيّام ظهور السامري و عبدة العجل، و كما كان هارن يفتقر إلى القوّة التي تعينه على الخروج فعليّ مثله تماما، و لمّا نال القوّة في زمان معاوية أظهر نفسه و خرج إلى حقّه.

ص: 132


1- ابن حجر في لسان الميزان 6: 24؛ الخوارزمي في المناقب: 83 و 311، ط مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط ثانية، تحقيق مالك المحمودي؛ الحلّي في كشف اليقين: 52 و أحال على البغوي في الصحاح، و أحال على البيهقي في فضائل الصحابة؛ أيضا الصافي في مجموعة الرسائل 2: 42.

الدليل السادس و الثلاثون: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ خير البشر، من أبى فقد كفر (1). و من حيث كونه خير البشر لا يجوز لأبي بكر التقدّم عليه، و إن كان تغلّب بالقوّة وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2).

الدليل السابع و الثلاثون: و إنّما احتاجت الرعيّة إلى الإمام لسلب العصمة عنهم، فلو جاز اقتراف الذنب على الإمام و سلبت العصمة عنه أيضا لاحتاج إلى إمام فوقه يرشده و يهديه و هكذا يحصل التسلسل. و الخلفاء الذين سبقوا الإمام إلى الحكم ليسوا من أهل العصمة باتفاق المسلمين، و الإمام عقلا و شرعا هو من امتنع عليه الخطأ و الذنب، و حينئذ لا بدّ من كونه عليّا؛ لأنّ من قال بعصمة الإمام لم يعد عليّا و أولاده فثبتت لهم العصمة.

الدليل الثامن و الثلاثون: قال اللّه تعالى بعد ذكره الأنبياء و أولادهم و ذرّيّاتهم: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ

ص: 133


1- خيثمة بن سليمان الاطرابلسي في حديث خيثمة: 201، تحقيق الدكتور عمر التدمري، ط دار الكتاب العربي- بيروت، 1400؛ ابن عدي في الكامل 4: 10، ط دار الفكر- بيروت، الثالثة، تحقيق سهيل زكار؛ تاريخ بغداد 7: 433؛ ابن عساكر في تاريخ دمشق 42: 372 بخمس طرق؛ ميزان الاعتدال 2: 404؛ سير أعلام النبلاء 8: 205؛ سبط ابن العجمي في الكشف الحثيث: 94 و اقتصر على الجزء الأوّل من الحديث، و في ص 243 ذكر الحديث كلّه، تحقيق صبحي السامرائي، مكتبة النهضة العربيّة، مطبعة عالم الكتاب، أولى 1407؛ لسان الميزان 2: 252 و 3: 268؛ البدآية و النهاية 7: 395؛ ينابيع المودّة 2: 78 و 273 و 274.
2- الشعراء: 227.

بَعْضٍ (1) فأعطاهم ربّهم الولاية و الإمامة، فلو كان أبو بكر على حقّ لكانت الخلافة لأولاده، و يقال مثل ذلك في عمر، و لمنحهم اللّه ذرّيّة صالحة، و لكن لمّا كانت وصاياهم إلى الأجنبيّ لا إلى ذراريهم دلّ ذلك على نيلهم الحكم بالقهر و الغلبة، و بالغصب لا بحكم الشريعة و إذن من صاحبها.

أمّا عليّ عليه السّلام فكان من عترة النبيّ و أقربائه، و الحسن و الحسين إلى قائم آل محمّد من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وارثيه؛ فالإمامة حقّهم بقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الدليل التاسع و الثلاثون: روى المخالف و المؤالف عن مسروق، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة بضعة منّي، يسوئني من سائها، و يسرّني من سرّها (2).

و روى حذيفة قال: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال لي: إنّ هذا ملك لم ينزل الأرض قطّ قبل هذه الليلة، استأذن ربّه أن يسلّم عليّ و يبشّرني بأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، و أنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة (3).

ص: 134


1- آل عمران: 34.
2- هذا الحديث مستفيض مشهور متواتر، رواه جمع من الحفّاظ لا يعدّ و لا يحصى، و نحن نقتصر على الصحيحين فى م نقله لإمكان العثور عليه للقارئ الكريم في جلّ كتب الحديث، و نحبّ أن نلفت الأذهان إلى أنّ محمّد بن إسماعيل البخاري تصرّف في الحديث كما هي عادته فحرّف منه ما علم فيه إدانة لإماميه، أمّا مسلم فقد روى الحديث بلفظ «يؤذيني». صحيح البخاري 4: 210 و 212 و 6: 158، و صحيح مسلم 7: 141 بطريقين، و في الثاني: يؤذيني ما آذاها. و إنّما تجنّب البخاري كلمة «يؤذيني» فلأنّ مؤذي النبيّ كافر، و القوم آذوا ابنته فآذوه فأدّى ذلك إلى كفرهم.
3- سنن الترمذي 5: 326؛ مجمع الزوائد 9: 183 و لم يذكر في الحديث فاطمة عليها السّلام؛ المعجم الأوسط 6: 238 و اقتصر على ذكر الحسنين عليهما السّلام، و مثله المعجم الكبير 3: 37 و 38 و 22: 403 و فيه: و أمّهما سيّدة نساء أهل الجنّة؛ كنز العمّال 12: 96 رقم 34158 و 13: 640 رقم 37617 و ص 665 رقم 37695 و ليس فيه ذكر الزهراء عليها السّلام؛ عليّ بن معصوم في الدرجات الرفيعة: 285، ط مكتبة بصيرتي- قم، الثانية 1397؛ ابن عدي في الكامل 5: 368؛ تاريخ دمشق 13: 208؛ سير أعلام النبلاء 2: 127 و قال: سنده حسن، و 3: 252؛ البداية و النهاية 8: 225؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 161 و 162.

و بناءا على هذه الأحاديث فإنّ من آذى فاطمة فقد آذى أباها و من آذاه فقد آذى اللّه، و من آذاه لا يستحقّ خلافة رسول اللّه و النيابة عنه.

و كذلك عليّ هو من أهل الجنّة و صادق القول فإذا كانت فاطمة أوذيت لأنّ أبا بكر غصبها فدكا و خالف كتاب اللّه و تمسّك بحديث مفترى فإنّه ردّ شهادة عليّ عليه السّلام و لم يعتن بحديث «فاطمة بضعة منّي» و لا بآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (1)، و لمّا ثبتت عصمتها فكيف يردّ المذنب المخطأ شهادة المعصوم، و هذا الفعل من أعظم الخطيئات، و هذا ممّا يقول به الخصم أيضا، و من كانت حاله على هذه الكيفيّة فلن يستحقّ الخلافة أبدا، و لمّا بطلت خلافة الأوّل بإيذائه فاطمة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام لئلّا يخرج الحقّ من الأمّة.

الدليل الأربعون: اعلم بأنّه ما من نبيّ ينتقل من هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى إلّا و يظهر من بعده الظلمة و يدّعون مقامه و خلافته، و يستأصلون شأفة أهل بيته، و الدليل على ذلك من وجوه:

الوجه الأوّل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّه بالقذّة (2).

ص: 135


1- الأحزاب: 33.
2- المستدرك 4: 469 بسياق يختلف عن سياق المؤلّف و المعنى واحد؛ مسند أبي داود الطيالسي: 153، نشر دار الحديث- بيروت؛ مصنّف ابن أبي شيبة 8: 636؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 286؛ كنز العمّال 11: 230 رقم 32335؛ ينابيع المودّة 3: 283 بسياق يتفق مع المؤلّف و يزيد عليه.

و معناه انّ ما يحدث في أمّتي حدث مثله في بني إسرائيل، و قال اللّه تعالى:

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1) يعني يغيّرون كلام اللّه كما فعل اليهود و النصارى فإنّ أتباع النبيّ يفعلون ذلك.

و اتفق أهل السير و التاريخ بأنّ صفوراء زوج موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام بنت شعيب طغت و بغت و خرجت على يوشع بن نون وصيّ موسى كما فعلت عائشة بصحبة طلحة و الزبير بخروجها على أمير المؤمنين عليه السّلام، و تغلّب يوشع وصيّ موسى عليها و قتل الطاغين و أسر صفوراء بنت شعيب.

الوجه الثاني: قال اللّه تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ (2) و يسمّى جماعة رهبانا و هم الذين يفصلون أنفسهم عن المجتمع و يضربون عرض الصحراء، و هذا يعتبر بدعة ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ بل هم الذين ابتدعوا هذه الحياة الخارجة على نظام الشرع (3).

الوجه الثالث: اتفق أهل القبلة على أنّ موسى و عيسى أخبرا أمّتهم بمبعث النبيّ و شرح أحواله كما أخبروها بكلّ نبيّ يأتي بعدهما، و لكنّ الأمّة لم تصخ سمعها إليهما و ركبت رأسها و أصرّت على كفرها و ضلالها سنين طوالا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل، فينبغي أن يجري بعد النبيّ ما جرى بعد موسى

ص: 136


1- النساء: 46.
2- الحديد: 27.
3- لم يتيسّر لي و يا للأسف معرفة ارتباط هذا الوجه بما نحن فيه إلّا أن يقصد المؤلّف أنّ شورى الخلافة ما هي إلّا بدعة لم يأت بها شرع و شأنها شأن الرهبانيّة، و هذا توجيه لا أثق به.

و عيسى، و قال تعالى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1) و لكن النصارى ردّوا و قوله و أصرّوا على كفرهم و زعموا أنّهم قائمون على مستحكم الدين.

الوجه الرابع: و قال اللّه تعالى في سورة الأعراف بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ ... الآية (2)، و هذا الوضع بعينه حدث فيما بين الصحابة لأنّهم جميعا يقرؤون الكتاب و يعلمون و يتركون العمل، و الخلف هو الذي يزعم أنّه خليفة و نائب لأحد و لكنّه كاذب و مفتري و خائن و مدغل في الدين و يستحقّ الذمّ على ذلك.

الوجه الخامس: قال اللّه تعالى في سورة مريم بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (3) كما تركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أيّام في بيته لم يصلّوا عليه و ذهبوا إلى سقيفة بني ساعدة ينازعون على السلطان، و كانوا يرون الصلاة عليه تفوّت الفرصة عليهم، و تذهب الإمامة إلى بني هاشم أَضاعُوا الصَّلاةَ الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ استبدّوا بأمور الخلافة.

الوجه السادس: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (4) لقد عرف الصحابة مناقب عليّ و فاطمة و أولادهما و رحمهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّهم أنكروها.

ص: 137


1- الصفّ: 6.
2- الأعراف: 169.
3- مريم: 59.
4- الصف: 5.

الوجه السابع: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و ليس الغرض من بيان هذا الأمر الحكاية بل العبرة و التذكير، و الدليل عليه يقوله تعالى: فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ (2) و قال اللّه تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ (3)، و قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (4)؛ فما فعله الرسل في الزمن الغابر و فعلته أممهم معهم تفعله هذه الأمّة مع رسولها، و كما أصرّت تلك الطوائف على كفرها آلاف السنين فقد يجري على هذه الأمّة ما جرى على تلك و يحصل لها ما حصل لأولئك الماضين من الإصرار على الكفر.

الوجه الثامن: قال اللّه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (5) تركوا اللّه ورائهم ظهريّا كما اتّخذت تلك الطائفة رهبانهم آلهة من دون اللّه، و طائفة الإسلام المشمولة لهذه العبر اتخذوا مشايخهم و بعض الصحابة آلهة، و الدليل على ذلك سجودهم لمشايخهم و قبلاتهم لأعتابهم، و اتخاذهم كفر القوم المحض طاعة و عبادة، و يعدّون من تمسّك بأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الأشرار، و حاشاهم، و يعيبونهم بذلك، و العجب من قوم ينسبون الفسق إلى خالقهم و كذلك الشرّ، و يزنّون الأنبياء و يرمونهم بالمعاصي و الإجرام، و المشركون الذين أسلموا بعد الشيخوخة يرونهم الخلفاء و القدوة لأهل العالم، و يعوّلون عليهم في النجاة من عذاب اللّه، و يأملون في الخلاص بهم، و حاشا للّه أن تكون الحال كما يرون، و الأمر كما يظنّون و يتخيّلون.

ص: 138


1- البقرة: 89.
2- يوسف: 111.
3- البقرة: 118.
4- الأحقاف: 9.
5- التوبة: 31.

و يروننا نحن الذين نعبد ربّا عادلا منزّها سبحانه و تعالى عمّا يقولون، و نثبت العصمة للأنبياء من المهد إلى اللحد، و نقتدي بالإمام المعصوم من أهل بيت النبوّة و الإمامة، أقول: يروننا ضالّين، و يسمّوننا روافض، و عندنا هم الروافض و النواصب و الخوارج و اليزيديّون و المروانيّون و القدريّة و الجبريّة كما مرّ ذلك سالفا.

و هذه الوجوه بجملتها أفاضها الحقّ على قلبي و لم أقتبسها من كتاب مع كثير من الدلائل المذكورة في الكتاب و قد سلفت.

الفصل الأوّل في من ظلم العترة و سبّهم

ذكر الحافظ إسماعيل الاصفهاني المحدّث في قصص الصحابة عن سعيد بن جبير أنّه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ قوما يقعون في عليّ عليه السّلام فقال لابنه عليّ بن عبد اللّه: خذ بيدي فأذهب بي إليهم، فأخذ بيده حتّى أتى إليهم، فقال: أيّكم السابّ للّه؟

فقالوا: سبحان اللّه، من يسبّ اللّه فقد أشرك.

فقال: أيّكم السابّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: من يسبّ رسول اللّه فقد كفر.

فقال: أيّكم السابّ عليّا؟ قالوا: قد كان ذلك.

قال: فأشهد لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من سبّ عليّا فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه أكبّه اللّه على وجهه في النار (1).

ص: 139


1- تخريج الحديث: مسند أحمد 6: 323 و اكتفى منه بالجزء الأوّل؛ المستدرك 3: 121 بطريقين و في الثاني: و من سبّني فقد سبّ اللّه؛ مجمع الزوائد 9: 130 و قال: رجاله رجال الصحيح؛ السنن الكبرى 5: 133 بطريقين: الأولى عن بريدة، و الثانية عن أمّ سلمة؛ خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 99 بطريقين؛ جزء الحميري، لعليّ بن محمّد الحميري: 28، ط دار الطحاوي- الرياض، أولى 1412، تحقيق الزبير ... و فيه: فقد سبّني و من سبّني سبّه اللّه. نظم درر السمطين: 105؛ الجامع الصغير 2: 608؛ كنز العمّال 11: 573 و فيه: من سبّ اللّه عذّبه اللّه، رقم 32713، و ص 602 رقم 32903؛ فيض القدير 6: 190؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 14: 132 و 30: 179؛ و 42: 266 و 267 و الحديث هنا موقوف على أمّ سلمة، و ص 533؛ البداية و النهاية 7: 391؛ الموفّق الخوارزمي في المناقب: 137 و سياقه يتفق مع المؤلّف، و ص 149؛ و ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السّلام: 65، تحقيق المحمودي، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، ثالثة 1414؛ ابن الدمشقيّ في جواهر المطالب 1: 165، تحقيق المحمودي، ط دانش- قم المقدّسة 1415 ه؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250 و 294. ينابيع المودّة 1: 152 و 2: 102 و 156 بطريقين، و ص 274 و 278 و فيه رواية سعيد بن جبير و ص 395.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي، و قاتلهم و المعين لهم، أولئك لا خلاق لهم و ما لهم من نصيب (1).

و روى العلماء عن الأئمّة قولهم: الشكّ فينا كفر.

و روي عن الأئمّة عليهم السّلام، قولهم: نحن أهل بيت لا يقاس بالناس، ما عادانا بيت إلّا خرب، و ما نبح علينا كلب إلّا جرب، لعن اللّه الداخل فينا من غير نسب، و الخارج عنّا من غير سبب.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا» (2)، معنى ذلك أنّ من

ص: 140


1- تفسير القرطبي 16: 22 و الحديث سياقه مختلف إلّا في الجزء الأوّل؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 9؛ ينابيع المودّة 3: 139؛ تنبيه الغافلين: 103، تحقيق السيّد تحسين آل شبيب، أولى 1420 ه، ط مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة.
2- الشيخ الصدوق في كمال الدين: 14؛ الطبريّ الشيعيّ في نوادر المعجزات: 5؛ المفيد في الاعتقادات: 104؛ عليّ بن يونس العامليّ في الصراط المستقيم 2: 232؛ بحار الأنوار 8: 366 و 27: 61 و 29: 31؛ حجازي خسروشاهي في درر الأخبار: 104.

أنكر الإمام صاحب الزمان كان كمن أنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و اتفقت كتب أهل السنّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ يوم غدير خم (1):

اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و العن من ظلمه.

و ذكروا أيضا أنّ عليّا عليه السّلام قال: و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّيّ إليّ أن لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق (2).

و المعروف عن جابر أنّه كان يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: مروا أولادكم بحبّ عليّ بن أبي طالب.

و قال الإمام زين العابدين:

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

ص: 141


1- الحديث متواتر و قد أخرجه جلّ الحفّاظ من أهل السنّة فلا حاجة إلى تجشّم عناء البحث في الكتب.
2- تخريجه: الغارات لإبراهيم بن محمّد الثقفي 2: 946، تحقيق المحدّث، ط بهمن؛ شرح الأخبار 1: 436؛ كنز الفوائد للكراجكيّ: 225، ط مكتبة مصطفوي، ط ثانية 1410؛ مناقب ابن شهر آشوب 3: 9؛ ابن البطريق في العمدة: 218؛ ذخائر العقبى: 91 و قال: أخرجه مسلم؛ صحيح مسلم 1: 61، ط دار الفكر- بيروت؛ شرح النووي على صحيح مسلم 2: 64؛ فتح الباري لابن حجر 7: 58، ط دار المعرفة- بيروت، الثانية. نظم درر السمطين: 102؛ النسائي في خصائص أمير المؤمنين: 104؛ ينابيع المودّة 2: 392؛ محمّد بن عقيل في النصائح الكافية: 93، ط دار الثقافة- قم المقدّسة، أولى 1412؛ محمّد محمّديان في حياة أمير المؤمنين عن لسانه 1: 229، ط مؤسسة النشر الإسلامي- قم، أولى 1417. و الحديث له شواهد منها قول ابن عبّاس: كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه ببغضهم عليّا، أو كما قال.

الفصل الثاني في مناقب عليّ عليه السّلام على سبيل الإجمال

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلق الناس من شجر شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة (1).

و قال أيضا: خلقت أنا و عليّ من نور واحد (2).

عليّ بن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو هاشميّ من جهة الأم- و الأب أيضا (المترجم)- و أبو طالب ابن هاشم و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و لأقرباء النبيّ الصلحاء من المناقب أعلاها، و هو صهر النبيّ على ابنة مثل فاطمة عليها السّلام سيّدة نساء أهل الجنّة،

ص: 142


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 78 و في الحديث زيادة على ما ذكره المؤلّف؛ أيضا الصدوق في الخصال: 21؛ الغارات 1: 21؛ الكوفي في مناقب أمير المؤمنين 1: 476 و 480؛ النعمانيّ في شرح الأخبار 2: 587؛ الاحتجاج 1: 208؛ ابن طاووس في إقبال الأعمال 1: 506؛ الصراط المستقيم 1: 228؛ بحار الأنوار 21: 280 و 22: 278، و راجع الأجزاء التالية من البحار: 35 و 36 و 37 و 40 و 99؛ المستدرك 2: 241 و قال: حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ مجمع الزوائد 9: 100 و صحّفت كلمة «علي» إلى «ليع» خبثا منهم و تعمية، ط دار الكتب العلميّة، ط 1408 ه. المعجم الوسيط 4: 263؛ نظم درر السمطين: 79؛ كنز العمّال 11: 608 رقم 32944؛ شواهد التنزيل 1: 375 و 376 بطريقين، و ص 554؛ تفسير القرطبي 9: 283؛ الدرّ المنثور 4: 44؛ ضعفاء العقيلي 2: 212، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين القلعجي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ثانية 1418 ه؛ تاريخ دمشق 42: 64؛ ميزان الاعتدال 2: 306؛ عليّ بن محمّد العلوي في المجدي في أنساب الطالبيين: 320 و فيه: «و ابنا أبي طالب» مكان «علي»، تحقيق الدامغاني، ط سيّد الشهداء، أولى 1409 مكتبة المرعشي؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 296؛ الحسيني في تأويل الآيات 1: 228، ط مطبعة أمير قم، تحقيق مدرسة الإمام المهدي، أولى 1407؛ السيّد مرتضى الأبطحي في الشيعة في أحاديث الفريقين: 158.
2- علل الشرايع 1: 134؛ ينابيع المودّة 1: 422 و 2: 307 و 308؛ الشيعة في أحاديث الفريقين: 210.

و أب للحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، و للإمام زين العابدين إلى محمّد المهدي صاحب الزمان صلوات اللّه عليهم أجمعين، و أولاده سادات المشرق و المغرب، و نقبائهما، و هو وارث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خليفته، و مصداق قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1).

و كان رسول اللّه في بيت أبيه منذ عهد الطفولة حين فقد أبويه و بلغ الثامنة و الثلاثين، و بذل أبواه للنبيّ من الودّ و الرعاية و النصرة بالنفس و النفيس، و تعهّداه بالحبّ و الخدمة حتّى وافاهما الأجل ... (2)، و نصره في أيّام الشعب أبوه و إخوانه و عمّاه، و كان أبو طالب عليه الصلاة و السلام رئيس ناصريه.

و عندما هاجر النبيّ فداه بنفسه حين نام في فراشه، و كان لأبيه موقف ممتاز في خطبه النبيّ سيّدتنا خديجة عليها السّلام؛ فقد كان هو الخاطب و الخطيب، و كان يمدّ رسول اللّه بالعون و النصرة، و يجلّي بفعله هذا كروبه و كروب من آمن به.

و كان عليّ عليه السّلام نعم المجاهد مع النبيّ، لم يولّ الأعداء ظهره قطّ، و لم يؤذ النبيّ مرّة واحدة طيلة حياته.

و هرع الصحابة في آخر أيّام النبيّ إلى طلب السلطان و تركوا النبيّ جثّة على المغتسل، فلم يحضروا تجهيزه و لم يصلّوا عليه، و كان عليّ عليه السّلام حاضرا حين فارقت النبيّ روحه الطاهرة و لم يفارقه، و قام بواجب الخدمة في تلك الساعات الحرجة، ثمّ شرع في جهازه فغسله و كفّنه و دفنه بعد أن صلّى عليه، و قام بالعزاء و حفظ الشريعة.

ص: 143


1- الكوثر: 1.
2- قال المؤلّف كلمة لم أجدها صالحة و هي قوله: «ربّياه» بل اللّه ربّاه و علّمه لذلك لم أستعملها في الجمل التي ترجمت بها عبارته.

و كان عليّ مفزع أصحاب رسول اللّه في المعاضل و المشاكل لا سيّما الثلاثة الذين يبادرون إلى الإمام كلّما عظّتهم المشاكل المعقدة فيحلّها لهم على هدي الإسلام و نور الشريعة حتّى أثر عن عمر بأنّه قال سبعين مرّة: «لو لا عليّ لهلك عمر» (1). و لو لا حضوره لما قدروا على حلّ قضيّة واحدة.

و كان أعبد الصحابة كلّهم، و عصمه اللّه من الصغائر و الكبائر، و لم يطلب الدنيا، و لا ركبه الغرور مع ما له من السوابق النادرة، و لم يزل مظلوما بعد رسول اللّه، مغصوبا حقّه، معتدى عليه، و كان في زمن النبيّ محسودا، و لكنّه كثير البشر، مشرق الوجه و النفس، و أصبح ضريحه قبلة العالم و ملجأ لذوي الحاجات.

ص: 144


1- مسند زيد: 335، ط دار الحياة- بيروت، تحقيق أحد علماء الزيديين؛ أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 346، ط غمضان- صنعاء، 1400؛ ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: 152، تحقيق الأسعردي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18 و 141، و 12: 179 و 204 و 205 و 206؛ ينابيع المودّة 1: 216.

الباب السادس في الآيات التي لم يعملوا بها

لمّا عكفت على تأليف هذا الكتاب في السنة التي حضرت فيها إلى سدّة سيّد العالم الشامخة بهاء الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، كنت يوما بين جماعة من العلماء فعرضت مسائل كثيرة دينيّة في العلم و العمل، و جميعها تخصّ مذهب الشيعة، و لمّا انفضّ المجلس عمّ الجدل الحاضرين لما عليه المذهب من الانتظام، و في ذلك اليوم جمعت في خاطري مائة و أربعين آية من القرآن الكريم رفضها الصحابة و لم يعملوا بها، و لو لا خوف الإطالة لذكرتها كلّها و لكنّي أعرض منها طلبا للاختصار و تسهيلا على القرّاء أربعين آية و أترك الباقي.

الآية الأولى: آية الخمس وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ (1).

فطعنوا في هذه الآية و سلبوا سادات المشرق و المغرب حقّهم في الخمس، و منذ زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة تركوا سادات أهل البيت بحاجة ماسّة إلى ما

ص: 145


1- الأنفال: 41.

بأيدي الناس، و حرموهم من حقّهم، و فرضوا عليهم العجز و الذلّة عداءا لأمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و غرضهم من هذه المقاطعة المالية أن يبقى ذرّيّة النبيّ على طرف الحاجة لكي يعرضوهم للمسألة فيبدون في أعين الناس و كأنّهم أهل طمع يتزلّفون إلى أصحاب الجاه و الثروة، و بهذا تنخفض درجاتهم في أنفس الناس، و لم يجعل اللّه من يستحقّ هذا النصيب و المساهمة سوى أمير المؤمنين و أولاده مع اللّه و رسوله، و لكن الحاجة المفروضة عليهم غيّرت قلوب الناس عليهم.

الآية الثانية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1).

فلم يعملوا بهذه الآية، و اختاروا عداوتهم على مودّتهم، و آثروا الحرام على الواجب من ولائهم، و منعوهم حقوقهم الدينيّة كالإمامة، و الدنيويّة كالخمس، و اللّه تعالى لم يجعل مودّة أحد من العالم واجبة إلّا مودّة عليّ و أولاده عليهم السّلام، و هذه منقبة عظيمة من مناقبهم.

الآية الثالثة: عزل اللّه أبا بكر و رسوله عن أداء الآيات الأولى من سورة برائة لأهل الموسم، و نصب أمير المؤمنين مكانه بأمر اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الآية الرابعة: عزل أبو بكر و عمر و نحيا عن حمل الراية يوم خيبر و أقيم عليّ مقامهما، ثمّ إنّ هزيمتهما دليل على أنّهما لم يعملا بهذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا

ص: 146


1- الشورى: 23.

كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (1).

الآية الخامسة: لم يعمل بها عثمان و هي قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (2).

الآية السادسة: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3).

و من الثابت القطعيّ أنّهم كانوا يفتون بقرائحهم، و لكن أمير المؤمنين يبادر فيصحّح أخطائهم و يتلافى زلّاتهم، و هذا عين ما نهت عنه الآية، لأنّهم اقتفوا ما ليس لهم به علم.

الآية السابعة: لم يعمل أبو بكر بآية: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (4).

هذا إذا كانا عزبين فإنّ حكمهما الجلد، و قد درأ أبو بكر الحدّ عن خالد بن الوليد حين زنى بزوج مالك بن نويرة بعد قتله.

الآية الثامنة: لم يعملوا بالآية: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (5) فدرئوا الحدّ عن «شيبة» (6) حين

ص: 147


1- الصفّ: 4.
2- الأنعام: 52.
3- الإسراء: 36.
4- النور: 2.
5- النور: 4.
6- بل هو الوليد بن عقبة لعنه اللّه، و أعتقد أنّ الخطأ ليس من المؤلّف.

حسا الخمرة و وقع ثملا في المحراب و تقيّأ فيه، و مثله عبد اللّه بن عامر حين اصطبح و صلّى بالناس صلاة الصبح سكرانا أربع ركعات، و كان واليا من قبل عثمان لعنه اللّه.

الآية التاسعة: لم يعملوا بها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) و حديث:

أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ، و مع نزارة علمهم و ضحالة فهمهم و قلّة إدراكهم تقدّموا على عليّ و هو أعلمهم.

الآية العاشرة: التي لم يعملوا بها: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2).

توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ ذو رحمه، فنحّوه عن مقامه و ظلموه و غصبوه حقّه.

الآية الحادية عشرة: التي لم يعملوا بها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (3).

فحرموا الزهراء من إرثها، و مثلها الآية: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (4) و آية: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (5) فوهب اللّه له يحيى.

فأبطلوا عددا من الآيات بحديث مفترى «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» حاشا ثمّ حاشا أن يكون هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 148


1- الزمر: 9.
2- الأنفال: 75.
3- النساء: 11.
4- النمل: 16.
5- مريم: 5 و 6.
6- لو صحّ هذا الحديث- و هو موضوع بالضرورة- لكان أفحش ظلم يدخل على أهل البيت، لأنّ اللّه تعالى حرّم عليهم الصدقة ثمّ هو يجعل إرثهم صدقة، فمن أين يأكلون ليت شعري؟ و هل ظلم أحد في التاريخ بمثل هذا الظلم؟ كلّا و حاشا اللّه أن يظلم عباده لا سيّما أهل بيت حبيبه، و لكن الخبيث الأوّل لعنه اللّه لمّا لم يجد مفرّا من حجج الزهراء لجأ إلى الوضع على رسول اللّه فتبوّأ مقعده من النار بل شارك الوضّاع آثامهم و نيرانهم لأنّه سنّ هذه السنّة السيّئة فعليه إثمها و إثم من عمل بها. و إنّي عثرت على بعض العلماء من الشيعة يحاولون توجيه هذا الكذب فيجعلون «ما» الموصولة موضع المفعول ل «نورث» فكأنّه قال: الذي تركناه صدقة لا نورثه، من هؤلاء العلماء الشيخ المفيد في بعض كتبه، و الشيخ البياضي في الصراط المستقيم، و الشهيد الصدر في فدك. و أقول لهم: إنّكم تحاولون بحسن نيّة نصرة هذا الخبيث لعنه اللّه على سيّدة النساء فاتركوا هذا التمحّل و ارجعوا إلى الحقّ فإنّة كبياض الصبح، و إنّي على يقين أنّ من المتأخّرين من يحاول توجيه هذه الموضوعة فإنّه يعين أبا بكر عدوّ الصدّيقة و يتحمّل قسطا من إثمه و عذابه فالحذر ثمّ الحذر. (المترجم).

الآية الثانية عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (1).

فدخلوا بيوت النبيّ بعد وفاته و رقدوا فيها من غير إذنه، و اليوم مرّ على دفنهم فيها سبعمائة عام- زمن تأليف الكتاب (المترجم)-.

الآية الثالثة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (2).

و لكنّهم دخلوا بيت فاطمة بدون إذنها فقادوا بعلها عليّا عليه السّلام مكتوفا ليبايعهم، و كذلك دخلوا بيت النبيّ من دون إذنه أو إذن ابنته فاطمة عليها السّلام.

ص: 149


1- الأحزاب: 53.
2- النور: 27.

الآية الرابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1).

عن أبي سعيد الخدري قال: لمّا نزلت: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة فأعطاها فدك (2).

فأبطلوا حكم هذه الآية التي أجرى حكمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غصبوا فدكا من فاطمة.

الآية الخامسة عشرة: التي لم يعملوا بها: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3).

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّ عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فتظاهر القوم بعداوتهم و برهان ذلك دفع آية الخمس و غصب فدك منهم.

الآية السادسة عشرة: التي لم يعملوا بها: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (4).

و معنى الآية- و اللّه العالم- قبولهم حكم النبيّ طائعين مختارين راضين.

وقع بين عثمان و يهوديّ نزاع على درع، فقال اليهوديّ: نختصم عند محمّد، و قال عثمان: بل عند حبركم؛ لأنّ عثمان على علم بأنّ النبيّ لا يقضي إلّا بالحقّ، و لا يرتشى، و أنّ الحقّ مع اليهوديّ و ليس مع عثمان حتّى نزلت الآية و فضحت عثمان

ص: 150


1- الإسراء: 26.
2- مجمع الزوائد 7: 49، قال: رواه الطبرانيّ ... الخ.
3- الأحزاب: 21.
4- النساء: 65.

و أعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الدرع إلى اليهودي.

الآية السابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (1) و لم يعملوا بالآية:

لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (2).

أعاد عثمان مروان و أباه الحكم بعد أن طردهما النبيّ، و فوّض أمر وزارته إلى مروان مع عدائهما للّه و رسوله، و نفي النبيّ لهما و طرده إيّاهما من المدينة بأمر اللّه من اللّه.

الآية الثامنة عشرة: لم يعمل بها عثمان: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (3).

أخذ مروان و هو رأس المنافقين فلم يقتله و إنّما أمّره على المسلمين، و هذه الآية طبّقت على معاوية أيضا.

الآية التاسعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ (4).

فكان عثمان سامعا مطيعا لمروان المنافق لعنه اللّه، طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 151


1- المجادلة: 22.
2- الممتحنة: 13.
3- الأحزاب: 61.
4- الأحزاب: 1 و 48.

الآية العشرون: التي لم يعملوا بها: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا (1).

فآذوا بني هاشم بإخراج الخلافة و الإمامة منهم، و آذوا فاطمة و عليّا بدفعهم آية الخمس عنهما و حرمانهما و آلهما منه، و غصبوا فدك، و نفوا أباذر جندب رضى اللّه عنه إلى الربذة، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسوله (2).

و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّا لآلمه إيذائهم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (3)، و قال: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (4).

الآية الواحدة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر لعنه اللّه: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ (5).

لأنّ أبا قحافة والده كان حيّا أبّان خلافته و كان له الحكم عليه.

ص: 152


1- الأحزاب: 58.
2- ذخائر العقبى: 9 و 193 و 194؛ فضائل الصحابة للنسائي: 22؛ مسند أحمد 1: 207 و 208، و 4: 165؛ سنن الترمذي 5: 318؛ مستدرك الحاكم 3: 333 و 4: 75؛ مصنّف ابن أبي شيبة الكوفي 7: 518؛ السنن الكبرى 5: 51؛ المعجم الكبير 20: 285؛ كنز العمّال 11: 700 رقم 33395، و 12: 104 رقم 34202، و 13: 642 رقم 37623؛ تفسير ابن كثير 4: 122؛ الدرّ المنثور 6: 7؛ تاريخ دمشق 26: 300 و 301؛ أسد الغابة 3: 110 و 331؛ سير أعلام النبلاء 4: 88 و 12: 156؛ الإصابة 4: 317، هذا و قد أعرضنا عن الأكثر من هذه الكتب.
3- الأحزاب: 57.
4- الجنّ: 23.
5- الإسراء: 23.

الآية الثانية و العشرون: التي لم يعملوا بها آية التمتّع: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ (1).

و هذا الفرض من اللّه على عباده أبطلوه.

الآية الثالثة و العشرون: التي لم يعملوا بها آية المتعة: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ (2).

و إنّما منعوا العمل بها ليميل الناس شطر الزنا، و الدليل على ذلك قول أمير المؤمنين: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي (3).

و قال عمر أيضا: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (4)، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى

ص: 153


1- البقرة: 196.
2- النساء: 24.
3- ابن رشد في بدآية المجتهد 2: 47، تحقيق خالد العطّار، دار الفكر- بيروت، ط 1415 و عزى القول إلى ابن عبّاس؛ مصنّف الصنعاني 7: 497 و 500؛ ابن سلمة في شرح معاني الآثار 3: 26، تحقيق محمّد زهري النجّار، ط دار الكتاب العلميّة، الثالثة 1416 ه؛ ناسخ الحديث و منسوخه لابن شاهين: 365، تحقيق سمير بن أمين الزهري، ط أولى 1408، ط مكتبة المنار الزرقاء. شرح ابن أبي الحديد 2: 253 و 20: 25؛ كنز العمّال 16: 523 رقم 45728؛ جامع البيان للطبري 5: 19، ضبط صدقي جميل العطّار، ط دار الفكر- بيروت، 1415؛ تفسير القرطبي 5: 130؛ عبد الرحمن البكري في عمر بن الخطّاب: 109.
4- أحمد المرتضى في شرح الا. هار 2: 139؛ السرخسي في المبسوط 4: 27، ط دار المعرفة- بيروت، 1406، تحقيق جمع من الأفاضل؛ المغني لابن قدامة 7: 572، ط دار الكتاب العربي، تحقيق جماعة من العلماء؛ عبد الرحمن بن قدامة في الشرح الكبير 7: 537، ط دار الكتاب العربي- بيروت؛ ابن حزم في المحلّى 7: 107، تحقيق أحمد محمّد شاكر، ط دار الفكر- بيروت؛ مسند أحمد 3: 325 عن جابر بسياق آخر؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 182 و 12: 251و 252 و 254 و فيها يعتذر عن عمر بعد ذكر قوله، و 16: 265؛ كنز العمّال 16: 521. أحكام القرآن للجصّاص 1: 352، ط دار الكتب العلميّة، أولى 1415، و 2: 191؛ تفسير القرطبي 2: 392؛ الجصّاص في الأصول 3: 205، تحقيق الدكتور النمشي، ط أولى 1405؛ أصول السرخسي 2: 6، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني 2: 6، ط لجنة إحياء المعارف النعمانيّة- الهند، أولى 1414؛ علل الدارقطني 2: 156، تحقيق محفوظ الرحمان السلفي، ط دار طيبة- الرياض، أولى 1405 ه؛ تاريخ بغداد 14: 202؛ تاريخ دمشق 64: 71؛ تهذيب الكمال 31: 214، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، ط أولى 1413، ط مؤسسة الرسالة؛ تذكرة الحفّاظ 1: 366؛ الإمام جعفر الصادق للجندي: 264، ط 1397.

الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ (1). و إنّ من بدّل حكم اللّه بعد ما سمعه لأعظم جرما ممّن بدّله و لم يسمعه، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (2).

الآية الرابعة و العشرون: لم يعمل بها عمر: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (3).

فقال عمر: لا تغالوا في مهور نسائكم، و قال: من أصدق امرأة أكثر من أربعمائة درهم أوجعته ضربا و أخذت المال و وضعته في بيت المال، فقامت امرأة طوال و صاحت بأعلى صوتها، و قالت: قال اللّه تعالى: آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً و أنت تحرّمه؟! أنأخذ بقولك أم بقول اللّه تعالى؟! و تلت الآية، فاستحيا عمر و قال:

كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و روي: حتّى المخدّرات في البيوت (4).

ص: 154


1- البقرة: 181.
2- المائدة: 47.
3- النساء: 20.
4- المجموع لمحيي الدين النووي 16: 327، ط دار الفكر- بيروت؛ المبسوط للسرخسي 10: 153؛ ابن حجر في سبل السلام 3: 149، ط البابي الحلبي- مصر، الرابعة 1379؛ فقه السنّة 2: 158؛ السنن الكبرى 7: 233؛ مجمع الزوائد 4: 284؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 182، و 12: 15 و 208، و 17: 171؛ كنز العمّال 16: 537 رقم 45796، و ص 538 رقم 45798؛ فيض القدير 2: 8؛ العجلوني في كشف الخفاء 1: 269 و 2: 117 و 118؛ الألباني في إرواء الغليل 6: 348 و هضم الحقّ حين استمات في الدفاع عن الباطل؛ تفسير ابن كثير 1: 478، و كتب أخرى.

الآية الخامسة و العشرون: لم يعمل بها عثمان، و هي: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (1).

و لمّا اضطربت أوضاع المدينة في عهد عثمان و شكى الناس من تسلّط مروان على مقدّرات الأمّة و نهضوا لتأديب مروان أو قتله، فعمل الخبيث الحيلة حتّى سرّب رسالة إلى مصر تأمر الوالي بقتل محمّد بن أبي بكر، و لمّا فاتحوا عثمان بأمر الرسالة و أنكرها و لكنّه أعلن حمايته غير المحدودة لمروان لئلّا يقتل، حتّى جرّ الأمر إلى مقتله هو.

الآية السادسة و العشرون: التي لم يعملوا بها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (2).

زعم الخصم أنّ النبيّ مات بلا وصيّة، نعوذ باللّه من هذا القول، و غرضهم من هذا القول إنكار حقّ عليّ عليه السّلام و مخالفة أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مع نسبتهم هذا الفعل إلى النبيّ فقد خالفه أبو بكر و أوصى بها إلى ابن الخطّاب و صيّرها عمر شورى ليفضي الأمر فيها إلى عثمان، و قتل عثمان و لم يوص، فتبيّن من هذا أنّ أحدا منهم لم يتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فبعدوا عن محبّة اللّه لهم.

ص: 155


1- النساء: 105.
2- آل عمران: 31.

الآية السابعة و العشرون: لم يعمل أئمّتهم بها: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).

ذلك أنّ أحكامهم بجملتهم وضعت على خلاف القرآن، و اختلفوا فيما بينهم؛ فنقض واحد ما أثبته الآخر، و أبطل الأوّل حكم الثاني، و الثاني حكم الأوّل، و هكذا الثالث و الرابع، و كان لكلّ واحد منهم مذهب بعينه كالشافعي و أبي حنيفة و مالك و أحمد بن حنبل، و لو أنّ ما قالوه وافق كتاب اللّه لما وقع خلاف أصلا، شأن أئمّة الشيعة الذين ليس بينهم خلاف على الإطلاق، لأنّهم ساروا على سنّة النبيّ بأجمعهم؛ ابتداء من الأوّل إلى الثاني عشر عليهم السلام جميعا.

الآية الثامنة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (2).

و قد خالف أبو بكر رسول اللّه و تقدّم عليه في صلاة الصبح و أمّ المسلمين- كما يزعمون- و لمّا كان إماما كان عليه إسماع المؤمومين و قد منعه اللّه من التقدّم و الإسماع.

و اتفق علماء الإسلام على أنّ عائشة هي التي قدّمت أباها، و لمّا سمع النبيّ صوته نهض متّكئا بإحدى يديه على عليّ عليه السّلام و بالأخرى على الفضل بن العبّاس و ذهب إلى المسجد و لم يبن على صلاة أبي بكر بل أخّره و صلّى بالمسلمين مستأنفا. و قد ذكر ابن الأعثم السنّيّ الكوفيّ صاحب الفتوح نظير هذه الرواية في كتابه، و هذا هو

ص: 156


1- النساء: 82.
2- الحجرات: 1.

مذهب الشيعة (1).

الآية التاسعة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (2).

فقد رفع صوته على النبيّ في الصلاة المزعومة فوق صوت النبيّ، و كانت هذه آخر صلاة يصلّيها النبيّ فيكون بناءا على هذا مات مأموما لابن أبي قحافة كما يزعم الخصم و مقتد به، و خلع نفسه من الإمامة، و حاشاه من ذلك.

الآية الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (3).

فحسدوا عليّا عليه السّلام حتّى قال: شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، و هذا المعنى جاء في تفسير السلماني و جاء مثله في مصابيحه.

الآية الواحدة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ (4).

و كان منهم ما كان يوم أحد و حنين من الهزيمة حتّى أدخلوا الوهن على الإسلام، و لم يعد عثمان من هزيمته إلّا بعد مضي ثلاثة أيّام.

ص: 157


1- لقد أعطى الشيخ العظيم آية اللّه محمّد رضا المظفّر الموضوع حقّه في كتابه النفيس السقيفة و لا بأس بمراجعته فإنّه يعطيك القول الفصل في صلاة أبي فصيل لعنه اللّه. (المترجم).
2- الحجرات: 2.
3- النساء: 54.
4- الحجّ: 78.

الآية الثانية و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أكثر العلماء على أنّهم هم الذين أرسلوا إلى عبد اللّه بن أبي سلول يوم أحد لمّا سمعوا الصيحة «قتل محمّد» ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان حتّى يعودوا إلى مكّة فأنزل اللّه هذه الآية: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (1).

و قد عاهدوا اللّه عهدا على أن لا يفرّوا، فما وفوا بعهده الذي عاهدوا عليه:

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (2).

الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (3).

الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (4).

و جاء في السنّة: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.

و هم تسمّوا بالخلافة كذبا و سمّوا أنفسهم خليفة رسول اللّه و أمير المؤمنين مع أنّهم يروون أنّ رسول اللّه مضى و لم يستخلف، و هذا هو الكذب على اللّه و رسوله.

ص: 158


1- آل عمران: 144.
2- الأحزاب: 15.
3- الأحزاب: 15.
4- الأنعام: 21.

الآية الرابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية (1).

أعطى اللّه تعالى الإمارة و الولاية إلى عليّ عليه السّلام بهذه الآية الصريحة الواضحة باتفاق المفسّرين و لكنّهم ولّوا أنفسهم عليه و حكموا الناس.

الآية الخامسة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (2).

و بحكم هذه الآية نصب رسول اللّه عليّا يوم غدير خم للإمامة فمنعوه من ذلك و قدّموا أنفسهم عليه.

الآية السادسة و الثلاثون: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (3).

نزلت هذه الآية بحقّ عليّ عليه السّلام حين أوجب اللّه محبّته على العالمين، و لكن القوم نصبوا له العداء فهم خارجون من تحت ظلّ هذه الآية.

الآية السابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (4).

ص: 159


1- المائدة: 55.
2- المائدة: 67.
3- مريم: 96.
4- المجادلة: 12.

الآية الثامنة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (1).

و كانوا على وفاق تامّ مع المنافقين كمروان و معاوية و أبي سفيان و عمرو بن العاص، و يتودّدون إليهم. و هذا الحديث دلّ على المنافقين: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة، و البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام (2)، و لم يمل عليّ إليهم و استقام على صراط اللّه.

و منه قول رسول اللّه: لا تسبّوا عليّا فإنّه خشن في ذات اللّه (3)، و لهذا السبب حرم من حقه و حظي الآخرون به.

ص: 160


1- التوبة: 73.
2- قرب الإسناد: 26 غير سياق المؤلّف؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 72 مثله؛ محمّد بن سليمان الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 470؛ القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار 1: 153 و 446 مثله، و 2: 351 أوقفه على بعض الصحابة؛ الكراجكي في التعجّب: 35؛ ابن حمزة الطوسي في الثاقب: 122؛ ابن شهر آشوب 3: 10؛ العمدة: 216 و 264؛ ابن طاوس في الطرائف: 77؛ ذخائر العقبى: 91؛ الصراط المستقيم 2: 50؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي في كتاب الأربعين: 198 و 457 و 461 و 465؛ بحار الأنوار 36: 32 و 39: 263 و 295 و 301 و 302 و 303. الماحوزي في كتاب الأربعين: 244؛ الشيرواني في مناقب أهل البيت: 101؛ المستدرك 3: 129 و سيأتي ما يقرب من المؤلّف؛ جزء الحميري: 34؛ فوائف الصواف: 84؛ المعجم الأوسط 2: 328؛ شرح ابن أبي الحديد 4: 83 و 9: 135 و 13: 251؛ كنز العمّال 13: 106 رقم 36346 بسياق المؤلّف إلّا كلمة؛ شواهد التنزيل 2: 470؛ تفسير القرطبي 1: 267؛ الدرّ المنثور 6: 66؛ الطوسيّ في اختيار معرفة الرجال 1: 210؛ تهذيب المقال للأبطحي 3: 179 و سياقه سياق المؤلّف: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلوات و البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ تاريخ دمشق 42: 285؛ أنساب الأشراف: 113؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 290؛ ينابيع المودّة 2: 461.
3- الإرشاد 1: 173؛ بحار الأنوار 21: 385؛ نظم درر السمطين: 119 بصيغ متقاربة المعنى و إن اختلفت ألفاظها.

الآية التاسعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1).

كان القوم بحاجة إلى عليّ عليه السّلام إلى كثير من أحكام الدين و هو هاديهم و لكنّهم لم يتّبعوه، و الدليل على ذلك:

أوّلا: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2).

ثانيا: الحديث الذي رواه المخالفون: و إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم (3).

الآية الأربعون: التي لم يعملوا بها: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (4).

و ادّعوا أنّهم استخلفوا باختيار الصحابة و هم أهل الحلّ و العقد و قد بايعونا، و لم يلقوا نظرة إلى أنّ الاختيار مسلوب من المسلمين و هو بأمر اللّه تعالى.

و كذلك لم يعملوا بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ

ص: 161


1- يونس: 35.
2- رعد: 7.
3- المستدرك 2: 142 و قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه؛ المعيار و الموازنة: 36 و 321؛ الحاكم النيسابوريّ في معرفة علوم الحديث: 29، ط دار الآفاق الجديدة- بيروت، الرابعة 1400، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي؛ كنز العمّال 11: 631 رقم 33075 و 13: 237 رقم 36710؛ شواهد التنزيل 1: 80 و 81؛ عبد اللّه بن عدي في الكامل 5: 313؛ تاريخ بغداد 4: 70 و 11: 48؛ تاريخ دمشق 42: 419 و 420، و 44: 235؛ أنساب الأشراف: 102؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250.
4- القصص: 68.

عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (1) و لم يقولوا نحن لسنا من ذرّيّة محمّد بل نسبوا إليه عدم الذرّيّة، بينما هم يقرّون و يعترفون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عليّا منّي و أنا منه، و قال: عليّ منّي و أنا من عليّ و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ.

و لم يعملوا بهذه الآية: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ (2).

و لو لا خوف الملل لبالغنا في بسط هذا الكتاب، و لكن من كانت له أهليّة فباستطاعته أن يضبط من القرآن ربعه بل ثلثيه ... لم يعمل به القوم «و اللّه يؤتي فضله من يشاء».

ص: 162


1- آل عمران: 33- 34.
2- البقرة: 79.

الباب السابع في بيان ما اجتمع بالقوم من الخصال الساقطة المنافية للإمامة

اشارة

الأوّل: إنّ نكاح أمّهاتهم كان في الجاهليّة، و نكاح الجاهليّة أكثره سفاح، و لكن عليّا عليه السّلام قال له رسول اللّه: يا علي، أنا و أنت من نكاح لا من سفاح، من لدن آدم إلى عبد المطّلب عليهم السّلام (1)، و دلّ القرآن على هذا بقوله: وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (2).

الثاني: كانت حياتهم متقوّمة بالخمر و لحم الخنزير، و كانت حياة عليّ متقوّمة بخدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: عبدوا الأصنام بعد بلوغهم كاللات و العزّى، و نشأوا على المحرّمات.

الرابع: شاركوا الكفّار بإيذاء المؤمنين بالنفي و الإحراق و الخديعة، و كانوا

ص: 163


1- الخصال: 551؛ الاحتجاج 1: 170؛ حلية الأبرار 2: 309؛ مدينة المعاجز 3: 27؛ بحار الأنوار 29: 11؛ حياة أمير المؤمنين عن لسانه 2: 188 و 230. و أمّا كتب السنّة فقد خصّت النبيّ بها و لم تشرك معه الإمام و لكنّه مشارك له إلى عبد المطلّب بالضرورة و اقرأ الكتب التالية: المجموع للنووي البحر الرائق لابن نجيم المصري ج 3 و ج 4؛ الدرّ المختار للحصفكي ج 3؛ حاشية ردّ المختار لابن عابدين، ج 2؛ المغني لابن قدامة، ج 7؛ الشرح الكبير لعبد الرحمان بن قدامة و كلاهما ج 7 و غيرها.
2- الشعراء: 219.

يحيون آمين لأنّهم يعيشون في عالم النفاق حتّى ماتوا.

الخامس: لم تكن أسمائهم في الصحيفة.

السادس: لم يدخلوا الشعب أيّام المقاطعة.

السابع: لم يكونوا من المهاجرين مع الرسول إنّما كانوا قد هاجروا لغايات في أنفسهم (1).

الثامن: لم يهربوا من مكّة إلى أيّ مكان آخر لا إلى الطائف و لا إلى غيره لأنّهم كانوا مع المشركين بقلوبهم و أرواحهم و لكنّهم صحبوا المؤمنين طمعا في حطام الدنيا كما قال صاحب الأمر: إنّهم سمعوا من أهل الكتاب أنّ محمّدا سوف يكون صاحب دولة و سوف ينالون منها جزاء سعيهم و صحبتهم إيّاه، و ما لهم في الآخرة من خلاق.

التاسع: لم يكونوا من أهل الكساء ساعة نزول آية التطهير في بيت أمّ سلمة.

العاشر: سدّت الأبواب في المسجد عليهم.

الحادي عشر: لم يؤاخهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني عشر: لم يحضروا المباهلة.

الثالث عشر: لم يعملوا بآية المناجاة و الصدقة.

الرابع عشر: كانوا ممّن ولوّا الدبر يوم أحد و حنين و خيبر.

الخامس عشر: لم يدفعوا مكيدة عن النبيّ و لا عن الإسلام.

السادس عشر: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتل مروان فعصوه.

السابع عشر: عزل أبو بكر من أداء سورة برائة.

ص: 164


1- ذكر المؤلّف هذه الغاية و هي التزويج من فاطمة، و تحاشيت ذكرها ما لم أعلّق عليها، و العجب من المؤلّف كيف استباح ذكرها و هم أقلّ و أذلّ من أن يدور بخلدهم هذا لعنهم اللّه.

الثامن عشر: أراد من رسول اللّه رمّانا فأبى أن يعطيه لأنّه طعام أهل الجنّة، و لا يحلّ إلّا لوصيّ أو سبط نبيّ في الدنيا، ثمّ أعطى النبيّ نصف رمّانة لعليّ عليه السّلام و أولاده و خصّ نفسه بالنصف الآخر: لا يأكل هذا إلّا نبيّ أو وصيّ أو سبطاه.

التاسع عشر: حرم من مشاركة النبيّ بالطائر لأنّه صلّى اللّه عليه و آله دعا فقال: آتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ فأكل معه.

العشرون: حرّم عليهم الخمس.

الواحد العشرون: لم يؤمّرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سريّة.

الثاني و العشرون: لم يرسلهم جباة للصدقة قطّ.

الثالث و العشرون: أمّر عليهم عليّا و لم يؤمّرهم عليه.

الرابع و العشرون: أمّر عمرا بن العاص على أبي بكر و عمر.

الخامس و العشرون: قبض النبيّ و هم رعايا تحت راية أسامة بن زيد.

السادس و العشرون: لم يساعدوا في تجهيز جيش أبدا.

السابع و العشرون: لم يستخلفهم النبيّ على المدينة أو غيرها.

الثامن و العشرون: لم يكن بينهم و بين النبيّ رحم.

التاسع و العشرون: لم يختموا القرآن قطّ.

الثلاثون: لم يجمع أبو بكر و عمر القرآن للأمّة.

الواحد و الثلاثون: لم يكونا صهري رسول اللّه.

الثاني و الثلاثون: لم يكونوا عند النبيّ آخر عهده بالدنيا.

الثالث و الثلاثون: لم ينجزوا مواعيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الرابع و الثلاثون: لم يحضروا تجهيز رسول اللّه فلم يشاركوا في غسله و كفنه و دفنه بل ذهبوا إلى السقيفة يلاطمون على السلطان لئلّا تفوتهم الفرصة الدنيويّة.

الخامس و الثلاثون: لم يكن معهم سلاح رسول اللّه و رايته و عمامته و خاتمه.

ص: 165

السادس و الثلاثون: أبعد النبيّ أبا بكر من المحراب و طرده من الصلاة عند وفاته.

السابع و الثلاثون: لم تتّفق الأمّة على إيمانهم و إسلامهم.

الثامن و الثلاثون: لم يبايعهم بنو هاشم و لا سعد بن عبادة و خاصّته.

التاسع و الثلاثون: سلّ الزبير السيف عليهم و أبي أن يبايعهم.

الأربعون: و كذلك ردّ بيعتهم أبو ذر و عمّار و سلمان و المقداد رضي اللّه عنهم.

الواحد و الأربعون: ردّ بنو حنيفة بيعة أبي بكر و امتنعوا من دفع زكاتهم له فقاتلهم و نكّل بهم و سمّاهم أهل الردّة.

الثاني و الأربعون: أرسل إلى حربهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل المقاتلة و سبّى النساء و الذرّيّة، و في ليلة واحدة قتل زعيمهم مالك بن نويرة و زنا بزوجته و أغار على أموالهم و اقتسمها بينه و بين أصحابه.

الثالث و الثلاثون: لم تكن خلافتهم بنصّ من اللّه و رسوله.

الرابع و الأربعون: أنزل الحسن بن عليّ أبا بكر من المنبر في اليوم الأوّل من حكمه.

الخامس و الأربعون: لم يبايعهم بلال و ترك الأذان و الإقامة.

السادس و الأربعون: تأمّر على أبيه و كان حيّا يوم ذاك خلافا لأمر اللّه و رسوله.

السابع و الأربعون: قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا يعتريني (1).

ص: 166


1- مصنّف عبد الرزّاق الصنعاني 11: 336؛ شرح ابن أبي الحديد 6: 20 و 17: 156 و 157- 161؛ كنز العمّال 5: 590 رقم 1405؛ ابن سعد في الطبقات الكبرى 3: 212، ط دار صادر- بيروت؛ تاريخ دمشق 30: 303 و 304؛ تاريخ الطبري 2: 460 ط مؤسسة الأعلمي؛ البداية و النهاية 6: 334؛ ابن قتيبة في الإمامة و السياسة 1: 22 و 34، تحقيق الزيني، أولى 1412، ط الحلبي و شركاه- القاهرة؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 315.

الثامن و الأربعون: و قال أيضا: أقيلوني لست بخيركم و عليّ فيكم (1)، و نظير هذه الجملة التي تدلّ على بطلان خلافته و إمامته.

التاسع و الأربعون: كشف بيت فاطمة و دخله بدون إذنها و أمر بإخراج من فيه.

الخمسون: أمر بضرب فاطمة عليها السّلام.

الواحد و الخمسون: قتل المحسن و هو جنين في بطنها.

الثاني و الخمسون: أخذ ميراث الزهراء من أبيها و غصب فدك و هي نحلة لها و لأولادها منها و من بنيها.

الثالث و الخمسون: غصب الأنفال و الخمس من أهل البيت.

الرابع و الخمسون: ماتت فاطمة عليها السّلام غاضبة عليهم.

الخامس و الخمسون: لم يحضروا جنازتها.

السادس و الخمسون: أمر خالد بن الوليد بقتل عليّ عليه السّلام.

السابع و الخمسون: وضعه الحديث على النبيّ بقوله: إنّا لا نورّث، خلافا لنصوص القرآن.

الثامن و الخمسون: نقصان الأذان فصلين.

التاسع و الخمسون: بدعة المسح على الخفّين.

الستّون: التكفير بوضع اليد على الصدر احياءا لسنن اليهود.

الواحد و الستّون: رفع القنوت و رفع اليدين في الصلاة عند التكبير.

الثاني و الستّون: إشراك الجدّ في الإرث مع الأب.

الثالث و الستّون: ائتمان المغيرة على تأليف القرآن و أكثر الروايات على أنّ هذا الفعل يعود لعثمان.

ص: 167


1- الشيباني في السير الكبير 1: 36؛ شرح ابن أبي الحديد 17: 155.

الرابع و الستّون: طلب الشهود العشر على كلّ آية.

الخامس و الستّون: فتح الباب الذي أغلقه النبيّ عليهم.

السادس و الستّون: قيل إنّهم تزوّجوا مطلّقتين للنبيّ.

السابع و الستّون: حرمان نساء النبيّ من ميراثهنّ.

الثامن و الستّون: «نجاه» (1) لم يبايع أبا بكر و قال: إن قلت هذا الأمر بقرابة الرسول فأهله أحقّ به منك، و إن قلت هذا الأمر بالشرف فأنا أشرف منك، لهذا أمر بإحراقه.

التاسع و الستّون: إطلاق سراح الأشعث بن قيس و كان يستحقّ القتل، و القضيّة كما يلي: لمّا ارتدّ الأشعث أسر و أرسلوا به إلى أبي بكر فعرض عليه الإسلام فأباه و بقي على ارتداده فأطلقه (2).

السبعون: زوّجه أخته.

الواحد و السبعون: قتل بني حنيفة بأجمعهم لأنّهم أبوا خلافته و لم يسلّموا باختياره.

الثاني و السبعون: لمّا قال له «خضر» (كذا) يا خليفة الناس، أمر بطرده.

الثالث و السبعون: عهد إلى عمر عند موته و كان الناس يكرهونه لفظاظته.

الرابع و السبعون: أمر بدفنه مع النبيّ في حجرته بدون إذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو من ورّاثه.

الخامس و السبعون: لمّا هلك كان في ذمّته لبيت مال المسلمين عشرون ألف دينار.

ص: 168


1- هكذا ورد في النسخة المترجمة و لم أتعرّف عليه و يمكن أن يكون مصحّفا و لعلّه «الفجائة» الذي أحرقه أبو بكر في البقيع.
2- بل زوّجه أخته أمّ فروة جزاءا على ردّته، و قاتل الناس على عقال.

السادس و السبعون: لم يرد عن رسول اللّه رواية واحدة و ما رواه لم يكن إلّا للإضرار بعليّ عليه السّلام و هو من مفترياته (1).

السابع و السبعون: درء الحد عن خالد بن الوليد و دفع القود منه.

الثامن و السبعون: كان مشمولا للآية وَ تَرَكُوكَ قائِماً (2) يعني كان من أهل اللهو و اللعب الذين تركوا النبيّ في صلاة الجمعة فنزلت فيهم الآية.

التاسع و السبعون: سمّى نفسه خليفة رسول اللّه و أمر بمتابعته.

الثمانون: كان أوّل من غصب أهل بيت النبيّ حقّهم و اعتدى عليهم، و أوّل من ابتزّ رسول اللّه مقامه، و كان الصحابة شركائه في هذه الخصال من بين فاعل و ناصر و راض إلّا عباد اللّه المخلصين، و قليل من عبادي الشكور.

خصال عمر التي تفرّد بها

أمّا ما اختصّ بعمر من الخصال و ما تفرّد بها فهي:

الأوّل: تمزيق الصكّ الذي كتبه صاحبه للزهراء عليها السّلام.

الثاني: ضرب الصدّيقة الطاهرة بكفّه حتّى بقي أثره على جسمها الشريف (3).

الثالث: ضربها على بطنها (4).

الرابع: تحريمه متعة النساء و قد قال ابن عبّاس: ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم اللّه بها أمّة محمّد لو لا عمر نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلّا شقيّ و النفر القليل من

ص: 169


1- نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، إلى آخر الموضوعة.
2- الجمعة: 11.
3- اللهمّ العنه لعنا و بيلا و عذّبه عذابا أليما و خذ للزهراء بحقّها منه و ممّن شايعه و تابعه.
4- الشهرستانيّ في الملل و النحل 1: 157؛ الوافي بالوفيات 6: 30 نقلا عن النظام.

الناس، و هذا الحديث أورده جار اللّه في مترجم الأخبار (1).

الخامس: أسقط متعة الحجّ كما قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (2).

السادس: أوّل من وضع الضمان على الناس أو العرفاء (3).

السابع: أوّل من وضع الديوان في الإسلام.

الثامن: أوّل من ردّ شهادة المملوك.

التاسع: أوّل من وضع الخراج في الإسلام.

العاشر: أوّل من قسم الأرض إلى عامر و غابر.

الحادي عشر: أحدث تغييرا كبيرا في أحكام الزكاة.

الثاني عشر: وضع بدعة صلاة التراويح.

الثالث عشر: فضل العرب على العجم و الموالي في العطاء.

الرابع عشر: ردّ كثيرا من مسائل الإرث و قبلها عن المشهور، و أقام البدع في هذا السبيل من قبيل مسائل «العول» و نظائرها.

الخامس عشر: منع وصول المراكب إلى شواطئ الجزيرة بالبرّ القادم من مصر لكي تنقله البدو بأباعرها و يكون أجر الحمل لهم.

السادس عشر: غير موضع الحجر الأسود من المكان الذي وضعه النبيّ فيه إلى ما كان عليه في العهد الجاهلي.

السابع عشر: لمّا امتنع الإمام من مصاهرته عمد إلى أشياء في الدين فغيّرها انتقاما.

ص: 170


1- مرّ تخريجه بالعشرات منسوبا إليه و إلى الإمام عليه السّلام.
2- من أنت يا كلب يا لكع حتّى تحرّم ما أحلّ اللّه! كامل البهائي ج 1 170 خصال عمر التي تفرد بها ..... ص : 169
3- الترجمة ليست دقيقة.

الثامن عشر: لجأ إلى الشورى حين وافاه الهلاك و هي من سنن الجاهليّة.

التاسع عشر: تأوّه عند الموت كثيرا، فلمّا سأله ابنه عبد اللّه، قال: على بني هاشم أن لا أصيب من يذلّهم بعدي.

العشرون: فضّل عائشة و ابنته حفصة على باقي نساء النبيّ عداءا لفاطمة و عليّ عليهما السّلام لأنّ هاتين المرأتين لعنة اللّه عليهما يبغضان الإمام و الصدّيقة الطاهرة عليها السّلام و لم تكن سائر أمّهات المؤمنين على هذه الصفة.

الواحد و العشرون: حمل صاحبه على التحريض على بيعته.

الثاني و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).

الثالث و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).

الثالث و العشرون: أمر بصلاة التراويح و نوافل رمضان أن تصلّى جماعة، و هي بدعة.

الرابع و العشرون: وضع البدعة القائلة: لا نكاح إلّا بولي و شاهدين. و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأيّم أملك بنفسها من وليّها.

الخامس و العشرون: أجاز طلاق الثلاث في مجلس واحد.

السادس و العشرون: وضع عداوة عليّ و أهل بيته بين الناس. و قال أبو ذر الغفاري: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحناير، ما ينفعكم حتّى تحبّوا آل رسول اللّه.

و الحناير جمع الحنيرة و هي قوس بلا وتر، و قيل للعقد المضروب (2).

ص: 171


1- البقرة: 184.
2- نهاية ابن الأثير 1: 433؛ تاج العروس 3: 159 و ذكر الحديث و ختم بقوله: أي لو تعبّدتم حتّى تنحني ظهوركم، و ذكر الزمخشريّ الحديث في الفائق 1: 282 و قال: الحنايا، و في لسان العرب 4: 216، مجمع البحرين 1: 587، و العجيب أنّي عثرت على الحديث في كتب اللغة لا كتب الحديث.

عدوّ عليّ لا صلاة له و لوبجبهته صدر البعير و كلكله بيّنة: كان الصحابة يقولون: مات الرسول و ما خلّف بيضاء و لا صفراء حتّى يوصّي، عداوة لعليّ عليه السّلام لئلّا يقول الناس وصيّ رسول اللّه و هو الأولى بمقامه منهم ردّا على اللّه في كتابه، و على النبيّ في سنّته، قال: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (1) الآية، و قال: وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ (2)، و قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة (4).

ص: 172


1- البقرة: 132.
2- لقمان: 13.
3- البقرة: 180.
4- أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 470؛ البكري الدمياضيّ في إعانة الطالبين 3: 234، ط دار الفكر- لبنان، أولى 1418 السياق مختلف و المعنى واحد؛ السيّد البجنوردي 6: 222؛ الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين: 482، ط الرضي- قم، تحقيق الخرسان؛ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة 19: 259، ط مؤسسة آل البيت، مطبعة مهر- قم، الثانية 1414 ه، و 13: 352، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، تحقيق محمّد الرازي؛ الطبرسيّ في مكارم الأخلاق: 362، ط الرضي، السادسة 1392 ه. مناقب ابن شهر آشوب 2: 246؛ كشف المحجّة لابن طاووس: 37، ط الحيدريّة- النجف، 1370 ه؛ الطرائف له أيضا: 382، ط الخيّام- قم، أولى 1371؛ مشكاة الأنوار لأبي الفضل عليّ الطبرسيّ: 585، ط الحيدريّة- النجف، تقديم صالح الجعفري، الثانية 1385؛ الفصول المهمّة للحرّ العاملي 2: 313، تحقيق القايني، ط نگين- قم، أولى 1418 ه، مؤسسة معارف اسلامي امام رضا عليه السّلام؛ مجمع البيان 1: 494؛ ابن جبر في نهج الإيمان: 208، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة ستاره- قم، مجتمع إمام هادي مشهد.

و عن سلمان: قلت: من وصيّك يا رسول اللّه؟ فقال: هل تدري من كان وصيّ موسى؟ قلت: يوشع بن نون. قال: و هل تدري لم كان كان أوصاه؟ إنّما كان أوصاه لأنّه أعلم أمّته بعده، و وصيّي و أعلم أمّتي بعدي عليّ بن أبي طالب (1).

و نظائر هذه الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى الدالّة على وجوب الوصيّة. هذا و الاتفاق حاصل بأنّ أولئك الشيوخ لم يكونوا أوصياء رسول اللّه، قال اللّه تعالى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و قال: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (3).

و اتفقت الأمّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجى و من تخلّف عنها غرق (4).

و كذلك قال: من أطاع عليّا فقد أطاعني (5).

و قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (6).

و في الحديث الأوّل أبان عن موضع النجاة، و في الثاني عن موضع الطاعة، و في الثالث عن موضع العلم.

ص: 173


1- الأمالي للصدوق: 63؛ مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام للكوفيّ 1: 240؛ الطبري الشيعي في المسترشد: 262؛ شرح الأخبار 1: 414؛ العمدة: 76؛ الطرائف: 22 و كتب أخرى.
2- الإسراء: 71.
3- يس: 12.
4- سبق تخريجه.
5- مولانا الأميني في الغدير 7: 177 نقلا عن مستدرك الحاكم 3: 121 و 128؛ الأحمدي في مكاتيب الرسول 1: 565 نقلا عن المستدرك، أيضا قال: هذا حديث صحيح الإسناد، و قال الذهبي: صحيح؛ الأحمدي في مواقف الشيعة 3: 112 نقلا عن كنز العمّال ح 1213؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 42: 270 و فيها كلّها تتمّة الحديث: و من عصى عليّا فقد عصاني، و لم يورده المؤلّف.
6- سبق تخريجه.

و اختلفوا في الإمامة و ينبغي الالتزام بإمامة من اتفق على إمامته و ترك من عداه، و آكد منه قوله تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (1).

ذكر الشيخ المفيد في كتاب «البساط في الإمامة» (2): توفّي النبيّ و الإجماع منعقد على عليّ و لم ينعقد لغيره بل كان الخلاف قائما فيه، و لا خلاف في صلاح بني هاشم للخلافة، و كان عليّ من بينهم مختصّا بهذه اللياقة، و لو تركوه لأجمعت الأمّة عليه، و في غيره لم يحصل الإجماع.

و كذلك أجمعوا على أنّ النبيّ أوصى عليّا عليه السّلام في أداء ديونه، و لكنّ الشيعة تقول بأنّه أوصاه بالإمامة أيضا و ليس من المعقول أن يخالف النبيّ كتاب اللّه، حيث يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3) و قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (4)، و قوله تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (5)، و قال صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة (6).

و ليس من اللايق بالنبيّ أن يوصي بشي ء من الخير و يتركه بلا حجّة أو سبب، و على هذا فينبغي الاقتداء بالمجمع عليه لا المختلف فيه، و هما الشيخان.

و قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (7) و قد نصح في الدين و الدنيا،

ص: 174


1- الأنفال: 75.
2- لم أعثر للشيخ على كتاب بهذا الاسم و أقرب الاحتمالات أنّ تصحيفا ورد في الكلمة.
3- البقرة: 180.
4- النساء: 11.
5- البقرة: 132.
6- سبق تخريجه.
7- الأحزاب: 6.

كما أوصى في سريّة مؤتة، فقال: إن أصيب جعفر بن أبي طالب فأميرهم زيد، و إن أصيب زيد فأميرهم عبد اللّه بن رواحة، و لم يقل أمرهم شورى كما فعل عمر بن الخطّاب، أو على ما يزعمه هو أنّه لم يوص لأحد بعد موته، و اختار الأصحاب رفيقه يوم السقيفة أو أنّه فعل ما فعله عثمان من إرجاء الأمر حتّى كبت به بطنته، و يا للعجب حين لم يترك النبيّ أمر سريّة واحدة عطلا ثمّ هو يترك الناس فوضى! و ينتقل إلى الرفيق الأعلى، و يموت بلا وصيّة، و الضرورة قاضية بأنّ الناس من بعده أحوج إلى الإمام منهم في حياته، فإذا ثبتت الوصيّة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام، و كان الشيوخ الثلاثة ليسوا أوصياء بالإجماع و لا هم خلفاء من قبل اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (1).

ص: 175


1- كان على شيخنا الجليل أن يفرد الوصيّة بباب خاصّ ثمّ يشبعه بحثا و تمحيصا و لا يبحثه عرضا لأنّه موضوع جوهريّ في بحث الإمامة بل عليها ابتنت نظريّة الشيعة و على عدمها نظريّة خصومهم.

الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم

اشارة

الحديث الأوّل: اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر.

رواية هذا الحديث المفترى تارة بالنصب و أخرى بالرفع، و على كلا الحالتين فالمأمور بالاقتداء هما، و كأنّه قال: اقتدوا أيّها الناس من بعدي بكتاب اللّه و عترتي، أبو بكر و عمر (1).

ص: 176


1- و نحن نورد أوّلا الكتب التي أخرجته من أولياء هذين الرجلين ثمّ نجيب عنه بما أجاب عنه الأوّلون: عون المعبود 12: 235؛ مجمع الزوائد 9: 53؛ تحفة الأحوذي 7: 368 و 10: 102 و 209؛ المعجم الأوسط 4: 140 و 5: 345؛ مسند الشاميّين 2: 58؛ معرفة علوم الحديث: 252؛ شرح مسند أبي حنيفة: 498؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 160؛ الفصول في الأصول للجصّاص 3: 334؛ اللمع في أصول الفقه للشيرازي: 271؛ أصول السرخسي 2: 106؛ المنخول للغزالي: 585؛ المحصول للرازي 4: 175 و 6: 130 و 185؛ الأحكام للآمدي 1: 234 و 241؛ الطبقات الكبرى 2: 334؛ الثقات 7: 573؛ الكامل لابن عدي 7: 196؛ تاريخ بغداد 12: 21؛ التعديل و التجريح لسليمان الباجي 1: 17؛ تاريخ دمشق 41: 422 و 44: 227؛ تهذيب الكمال للمزي 30: 356؛ تهذيب التهذيب لابن حجر 11: 77؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 245. و ربّما كان جواب المأمون للعلماء من خيرة الأجوبة و قد ذكره الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السّلام (2: 200) و قال بعد مسائلتهم و تفضيلهم الاثنين بالكلام الموضوع: اقتدوا باللذين من بعدي ... الخ، قال المأمون: الروايات كثيرة و لا بدّ أن تكون كلّها حقّا أو كلّها باطلا، أو بعضها حقّا أو بعضها باطلا. فلو كانت كلّها حقّا كانت كلّها باطلا من قبل أنّ بعضها ينقض بعضا، و لو كانت كلّها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين و دروس الشريعة، فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار و هو بعضها حقّ و بعضها باطل. فإذا كان كذلك فلا بدّ من دليل على ما يحقّ منها لتعتقد و ينفى خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّا كان أولى ما اعتقده و أخذ به، و روايتك هذه من الأخبار التي أدلّتها باطلة في نفسها، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحكم الحكماء و أولى الخلق بالصدق و أبعد الناس من الأمر بالمحال، و حمل الناس على التديّن بالخلاف. و ذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كلّ جهة أو مختلفين؛ فإن كانا متفقين من كلّ جهة كانا واحدا في العدد و الصفة و الصورة و الجسم و هذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كلّ جهة، و إن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، و هذا تكليف ما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر. و الدليل على اختلافهما أنّ أبا بكر سبى أهل الردّة و ردّهم عمر أحرارا، و أشار إلى أبي بكر بعزل خالد و بقتله بمالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، و حرّم عمر المتعتين و لم يفعل ذلك أبو بكر، و وضع عمر ديوان العطيّة و لم يفعله أبو بكر، و استخلف أبو بكر و لم يفعل ذلك عمر، و لهذا نظائر كثيرة. قال مصنّف هذا الكتاب (الصدوق) رضي اللّه عنه: في هذا فصل و لم يذكر المأمون لخصمه و هو أنّهم لم يرووا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر، و إنّما رووا أبو بكر و عمر، و منهم من روى أبا بكر و عمر، فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب: اقتدوا باللذين من بعدي كتاب اللّه و عترتي يا أبا بكر و عمر، و معنى قوله بالرفع: اقتدوا أيّها الناس و أبو بكر و عمر باللذين من بعدي كتاب اللّه و العترة ... انتهى موضع الحاجة منه. أقول: هذا توجيه ركيك جدّا لا ينطق به سيّد الفصحاء و البلغاء، و لو صحّ التوجيه الأوّل لقال: اقتديا، و لا معنى لإفرادهما بالذكر في التوجيه الثاني عن الناس بعد شمول الخطاب لهما، و هذا ما أجلّ عنه سيّدي الصدوق و أحذّر الشيعة منه فإنّهم يعمدون إلى المفتريات على النبيّ من القوم فيلتمسون لها الوجوه و التأويلات ليكون لها نسب في الحقّ، و حاشا لرسول اللّه أن يأمرنا بالاقتداء بأبناء الزواني، و لو صحّ هذا القول لكان الضراط على منبر رسول اللّه من أوكد المستحبّات لأنّ عمر كان يفعله!!

ص: 177

و الدليل على هذا المعنى ما اتفق على روايته المؤالف و المخالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. و في رواية أخرى: خلّفت فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا.

و حديث: اقتدوا باللّذين من بعدي ... الخ مجرّد دعوى ادّعاها مدّع، و حديث الثقلين رواها الشيعة و صدّقهم جمهور أهل السنّة (1) فدلّ على أنّ الحديث المزعوم ليس فيه دلالة على إمامتهما.

و الجواب عن هذه المفترات: نصب عمر أبو بكر للإمامة، و عمر لجأ إلى الشورى، و قتل عثمان و لم يسمّ أحدا للخلافة و ترك المكان شاغرا، و لمّا بان الاختلاف بينهم كان الاقتداء بأحدهم يناقض الاقتداء بالآخر، و أشار عمر على أبي بكر بإجراء الحدّ على خالد بن الوليد لزناه بزوج مالك بن نويرة فأبي أبو بكر و قال: خالد سيف من سيوف اللّه.

و كان أبو بكر يرى إباحة المتعتين و عمر منعهما.

و أبو بكر أمضى صكّ فدك و أعطاه فاطمة، و عمر فتحه و بصق به و محاه ثمّ خرقه- لذلك خرق اللّه جوفه-.

أبو بكر أمر بصلاة التراويح فرادى و عمر أمر بها جماعة.

ص: 178


1- الذين رووها من أهل السنّة أكثر ممّن رواها من الشيعة.

و أبو بكر و عمر لم يردا مروان و الحكم طريدي رسول اللّه و قرّبا أبا ذر، و عثمان خالفهما فنفى أبا ذر و ردّ مروان و أباه.

و أمثال هذه المتناقضات كثيرة، فيكون و الحال هذه الاقتداء بكلّ واحد مخالفا للاقتداء بالآخر: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)، و كما أنّ القرآن ليس فيه اختلاف فإنّ كلام من عمل به ليس فيه اختلاف أيضا كأئمّة الشيعة عليهم السّلام الاثني عشر، فقد قال آخرهم بما قال به أوّلهم، و ليس كأئمّة القوم لكلّ واحد منهم مذهب يتمذهب به و يضلّون به عباد اللّه.

جواب آخر: قال اللّه تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ (2) و قال: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (3) و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (4)، و قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (5).

الحديث الثاني: من المفتريات: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا (6).

ص: 179


1- النساء: 82.
2- الممتحنة: 6.
3- آل عمران: 31.
4- النساء: 80.
5- النساء: 59.
6- المحلّى لابن حزم 1: 35 و 9: 287؛ مسند أحمد 1: 434 و 439 و 455 و 463 و 4: 4 و 5؛ صحيح البخاري 4: 191؛ صحيح مسلم 7: 109؛ سنن الكبرى للبيهقي 6: 246؛ مجمع الزوائد 9: 44 و 45؛ الديباج على مسلم للسيوطي 2: 344؛ مسند الطيالسي: 39 و 42؛ المصنّف لعبد الرزّاق 5: 430 و 10: 263؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 350؛ مسند ابن راهويه 1: 41 و 2: 22؛ كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 563، و لو ذهبنا نستقصي الكتب التي أخرجت هذه الفرية لطال بنا التجوال.

جواب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (1). قال المخالف: المراد ب «من أحببت» أبو طالب، و من هنا يظهر وضع هذا الحديث المفترى.

و قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2) يظهر من حديث الخصم بأنّ أبا بكر لم يكن مؤمنا، لأنّه لو كان مؤمنا لاتّخذه الرسول وليّا و لأحبّه، و قال اللّه تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (3) و هذا خلاف ما عليه الحال بين المؤمنين، و ما زعمه الخصم يظهر أنّ النبيّ لم يحبّ أبا بكر، و الناس جميعا إمّا أن يكونوا أحبّاء النبيّ أو أعدائه، فإذا انتفت المحبّة ثبت نقيضها.

أمّا عن عليّ عليه السّلام فقد روى المخالف بلا خلاف عندهم: من أراد أن يحييا حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّي أحبّه» (4).

و هذا نصّ صريح و بيان صحيح أنّ النبيّ اتخذ عليّا حبيبا، و حياة الرسول و مماته على حبّ عليّ.

و جاء في سائر الأخبار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام في خيبر بعد أن رجع أبو بكر و عمر منهزمين: «و اللّه لأعطينّ الراية ... الخ» و كانت أعناق الصحابة قد تطاولت إليها، و كان عليّ عليه السّلام أرمد العين، فأرسل الرسول ورائه من يدعوه إليه و سقاه من ريقه فشفاه و أعطاه الراية، و كان فتح خيبر على يديه.

و جاء في المصابيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسن بن عليّ عليهما السّلام: «اللهمّ إنّي أحبّه

ص: 180


1- القصص: 56.
2- التوبة: 71.
3- آل عمران: 28.
4- شرح ابن أبي الحديد 9: 170؛ كنز العمّال 12: 103 رقم 34198؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 42 للّه 240 و 242؛ ينابيع المودّة 2: 489.

و أحبّ من يحبّه» (1).

و لمّا كانت المؤاخاة بين أبي بكر و عمر، و بين طلحة و الزبير، و بين عبد الرحمان و عثمان موجبة للصداقة و الخلّة كانت مؤاخاة النبيّ لعليّ كذلك، قال اللّه تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) حكمت هذه الآية على الأمّة بحبّ عليّ و أهل بيته و صيّرته من الفروض الواجبة، و هذا الحكم شامل لرسول اللّه أيضا لأنّه من غير المعقول أن يدعو الأمّة إلى أمر ثمّ يعزل نفسه منها: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (3)، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (4).

و يقول اللّه تعالى كذلك: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (5) و هذه الآية تدلّ على أنّ العلاقة بين المتقين هي الخلّة، و لو كان أبو بكر من أهل التقوى لخالله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب الثاني: ذكر أبو الفتوح العجلي الاصفهاني و غيرهم من علمائهم أنّه سئل من عائشة: أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالت: فاطمة. قيل:

ص: 181


1- نيل الأوطار للشوكاني 6: 140؛ ذخائر العقبى: 121 و 122؛ فضائل الصحابة للنسائي: 19 و 20؛ مسند أحمد 2: 249 و 331 و 532 و 4: 292؛ صحيح البخاري 4: 217 و 7: 55؛ صحيح مسلم 7: 129 و 130؛ سنن ابن ماجة 1: 51؛ سنن الترمذي 5: 327؛ مستدرك الحاكم 3: 196 و 177 و 178؛ سنن البيهقي 10: 233؛ مجمع الزوائد 9: 176؛ مسند الحميدي 2: 451؛ مسند ابن الجعد: 295؛ الأدب المفرد: 30 و 252، و كتب أخرى كثيرة.
2- الشورى: 23.
3- البقرة: 44.
4- الصفّ: 2 و 3.
5- الزخرف: 67.

من الرجال؟ قالت: زوجها (1).

عن أنس قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيّ بنيك أحبّ إليك؟ قال: الحسن و الحسين.

و جاء في المصابيح: قال أسامة: كنت جالسا عند رسول اللّه إذ جائه عليّ و العبّاس يستأذنان، فقال: أتدري ما جاء بهما؟ قلت: لا. قال: لكنّي أدري، ائذن لهما، فدخلا، فقالا: يا رسول اللّه، جئناك نسألك أيّ أهلك أحبّ إليك؟ قال:

فاطمة بنت محمّد. قال: ما جئناك نسألك عن نساء أهلك، قال: أحبّ أهلي إليّ من أنعم اللّه عليه و أنعمت عليه، فقال أسامة. قال: ثمّ من؟ قال: عليّ بن أبي طالب. فقال العبّاس: جعلت عمّك آخرهم! قال: إنّ عليّا يسبقك بالهجرة (2).

بيّنة: في سنة (673) لمّا حملت مناقب الطاهرين معي إلى اصفهان و أردت تقديمه إلى حضرة سيّد العالم بهاء الدين محمّد صاحب الديوان، و كان في مقدّمة الكتاب شي ء من التوحيد، فشاور داعي الدولة ربّه قائلا: أرى من الصلاح

ص: 182


1- محمّد بيومي، السيّدة فاطمة الزهراء: 17 عن ابن عبد البرّ.
2- سنن الترمذي 5: 342؛ مسند أبي داود الطيالسي: 88 و اقتصر على ذكر فاطمة؛ كنز العمّال 13: 273 رقم 36802؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 514 و ضعّفه عن المشكاة و الجامع الصغير و نقل قول الترمذي: هذا حديث حسن، و كان شعبة يضعّف عمر بن أبي سلمة ... الخ. و تملكني العجب من المؤلّف أن ينقل مثل هذا الحديث الذي يجعل زيد بن حارثة أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ و هو و إن لم يصرّح؛ بذلك إلّا أنّ قول النبيّ: من أنعم اللّه عليه و أنعمت يدلّ على ذلك، و قد صرّح به الترمذي فقال: زيد بن حارثة، و هذا يأباه كلّ ذي لبّ، و زيد بن حارثة على فضله لا يبلغ من قلب رسول اللّه ما بلغه ابن عمّه و وصيّة، و كيف يكون أحبّ إليه من عليّ و عندنا مئات الأحاديث تدلّ على عكس ذلك، و قد تسالم الفريقان على نقلها، و إنّي أتّهم فيه أسامة بن زيد، و لو لا قول الإمام الصادق فيه: لا تقولوا إلّا خيرا، لأوضحت للقاري من يكون أسامة هذا إلّا أنّي أمسك عنه مرغما امتثالا لأمر الإمام الصادق عليه السّلام و في القلب ما فيه على هذا الرجل.

عرض الكتاب على فلان العالم، و كان من المقرّبين عنده و إن خالفه في المذهب، فاستخرنا اللّه فخرجت هذه الآية: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ (1) إلى أن أمكنت الفرصة فحضر عند العرض علماء الدولة في تلك الديار فلم يمكنهم إلّا السكوت و لم يقبل صاحب الديوان من الرسول اتخاذ ذلك العالم من جملة المحبّين.

الحديث الثالث: و رووا عن عليّ أنّه قال على المنبر: خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر و عمر (2).

الجواب: لو صحّ هذا القول لم يؤمّر رسول اللّه عليهم عمرا بن العاص في حرب خيبر (3)، و حرب ذات السلاسل، و لم يؤمّر عليهم أسامة بن زيد بل لم يؤمّر عليهم عليّا في سرايا كثيرة، و لو كان الأمر كما يقولون لما ردّ اللّه أبا بكر في سورة برائة

ص: 183


1- النحل: 58- 59.
2- مسند أحمد 1: 106 بطرق كثيرة؛ مسند أبي يحيى الكوفي: 48 و 154؛ مصنّف الصنعاني 3: 448. و أخرجت هذا القول كتب كثيرة نشير إليها بالاسم فقط: مسند الجعد، مصنّف ابن أبي شيبة، سؤالات الآجري لأبي داود، كتاب السنة لابن أبي عاصم، المعجم الأوسط ج 1 و 3 و 4 و 5 و 7 و 8، و المعجم الكبير ج 1، كنز العمّال ج 11 و 12، نظم المتناثر للكتاني: 190، الثقات ج 7 و 8، كامل لابن عدي ج 1 و 7 و 7، طبقات المحدّثين باصبهان ج 2 و 3، علل الدارقطني ج 3 و 4 و 6، تاريخ بغداد ج 1 و 4 و 9 و 11 و 12 و 14، و تاريخ دمشق ج 23، و هكذا. و حملني هذا القول على التسائل: ما الذي يفضّل المرء على غيره في الإسلام؟ و أجبت نفسي بأنّه العلم و الشجاعة و الدين و الإقدام و الجهاد و السبق إلى الإسلام و هكذا، ثمّ تسائلت مرّة ثانية من نفسي: أيّة واحدة من هذه القيم موجودة في الرجلين حتّى يفضلا على بلال أو على خباب بن الأرت أو على صهيب الرومي أو على عمّار بن ياسر لا على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و لم أملك بعد ذلك إلّا لعن من افترى هذه الفرية على أمير المؤمنين عليه السّلام.
3- مرّ فيما سلف أنّ عمرو بن العاص لم يشهد خيبر.

و أرسل بها عليّا؛ فظهر من هذا أنّ قولهم كذب و افتراء على أمير المؤمنين عليه السّلام.

و كيف يكون خير الأمّة من كان يسجد للات و العزّى، و إن كان كذا فلا بدّ أن يكون العبّاس أولى بهذه الرتبة لأنّه عمّ رسول اللّه و هو أرشدهم و أكبرهم سنّا، و من قريش و هاشميّ كذلك، و لم يكن أبو بكر قرشيّا.

و قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا، و قال عمر: أنا شاكّ في الإسلام كما جاء في كتاب «البياض و السواد» من كتب النواصب في الجزء الأوّل منه، و سأل حذيفة مرّتين:

هل أنا منافق أو لا؟ و إنّ طائفة هذه أوصافهم كيف يكونون خير الأمّة بعد نبيّها.

و قال عليّ عليه السّلام: أنا أولى بمجلس رسول اللّه و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا (1).

و قال أيضا: لو لا قرب الناس بالكفر لجاهدتهم (2).

و قال عليه السّلام: كيف يكونان خير الأمّة و قد عبدت اللّه قبلهما، و عبدته بعدهما (3).

و الدليل على كذب هذا الحديث قول أبي بكر أيضا: «لست بخيركم و عليّ فيكم» و اتفقت الأمّة أنّ عليّا عليه السّلام لم يذكر هما بخير طرفة عين و لم يذكر هما إلّا في معرض الشكوى منهما بأنّهما خاناه و ظلماه، و لو كانا خير الأمّة لم يظلما أهل بيت العصمة و الطهارة.

ص: 184


1- عيون أخبار الرضا 2: 201؛ بحار الأنوار 49: 192؛ مواقف الشيعة 1: 296.
2- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 251؛ مسألتان في النصّ على عليّ 2: 28 للمفيد أيضا؛ الصراط المستقيم للعاملي 3: 158.
3- الإيضاح للفضل بن شاذان: 519؛ المسترشد للطبري الشيعي: 227؛ الفصول المختارة: 168 و 261 و 279؛ كنز الفوائد للكراجكي: 122؛ كتاب الأربعين للشيرازي: 328؛ بحار الأنوار 38: 269 و 285؛ مناقب أهل البيت للشيرواني: 44؛ مواقف الشيعة 2: 268؛ شرح ابن أبي الحديد 2: 25 و 262؛ الدرجات الرفيعة: 22؛ المجدي للعلوي: 10؛ حياة الإمام الرضا عليه السّلام للقرشي 2: 255.

و روى المخالف في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال- كما ذكر ذلك أحمد البيهقي في كتاب مشاهير الصحابة-: من أراد أن ينظر إلى آدم ... الحديث، هذه الصفات التي تفرّقت في أولي العزم اجتمعت في عليّ عليه السّلام، و مع وجود رجل كهذا كيف يكون مشرك أسلم بعد أن أشرك أكثر عمره خير هذه الأمّة؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم».

الحديث الرابع: قالوا: إنّ أبا بكر رجع إلى نفسه و قال: هل من مقيل فأستقيله (1)، فقال عليّ عليه السّلام: قدّمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن ذا يؤخّرك؟!

الجواب: لو كان الأمر كما يقولون لسارع عليّ إلى بيعته قبل الصحابة، و لم يحتج إلى الحضور في سقيفة بني ساعدة، أمّا ضرورة مذهبنا فقاضية بأنّ عليّا عليه السّلام مظلوم و مغصوب حقّه، و يعترف المخالفون بأنّه لم يبايع حتّى ماتت فاطمة عليها السّلام، و قال قوم:

بايع بعد ستّة أشهر، و قال قوم: بعد أربعين يوما، و في مذهبنا أنّه لم يبايع قطّ، و لو كان يعلم عليّ بتقدّمه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما تأخّر عن بيعته.

و أيضا لو كان أبو بكر يعلم من نفسه أنّ رسول اللّه قدّمه لما طلب الاستقالة؛ لأنّ كلّ ما يقوله الرسول و يفعله فبوحي من اللّه تعالى، و حينئذ تكون استقالته من أعظم آثامه و ذنوبه، كما قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (2) لا سيّما و قد رضي بتقديمه في حياة رسول اللّه، ثمّ هاهو يتأخّر عنها بعد وفاته، فهو من المجرمين بفحوى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

ص: 185


1- هكذا تكون العبارة صحيحة مستقيمة، أمّا عبارة المؤلّف فهي كما يلي: هل من مستقيل فأقله ... و هي خطأ حتما.
2- الجنّ: 23.

وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (1) و مع كلّ هذا يقول أنصاره المخالفون لنا: إنّ رسول اللّه مات و لم يستخلف، و هذه الحكاية تكذّب الحديث الأوّل.

ثمّ إنّ الخصم يزعم أنّ إمامة أبي بكر صحّت باختيار الصحابة و إجماع أهل الحلّ و العقد، فلو كان رسول اللّه قدّمه لما طلب الإقالة منها.

و أيضا من الأدلّة الرادّة لهذه المزعمة أنّ الرجل لو قدّمه رسول اللّه في حياته لما قال: رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبا عبيدة و عمر، و لو كان رسول اللّه قدّمه لم يتخلّف عن بيعته بنو هاشم و زهّاد الصحابة و سعد بن عبادة مع الخزرج، و لا زال قول أمير المؤمنين يتموّج في الدنيا حين قال بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أكثر من مرّة:

ما زلت مظلوما، و هذه الخطبة الشقشقيّة تشهد بما جرى.

الحديث الخامس: و رووا عن عمرو بن العاص أنّه قال للنبيّ: يا رسول اللّه، من أحبّ الناس إليك؟ فقال: عائشة. فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها (2).

الجواب: هذا الحديث باطل بحديث الطائر الذي رواه المخالفون عن أنس الذي قال: أهدي إلى رسول اللّه طائر مشوي، فقال: اللهمّ آتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير .. و هذا الحديث يكذّب ذاك، إذ لو كان صادقا لحضر أبو بكر هناك، و هو معارض بالحديث الوارد من طرق المخالفين و قد بسطناه في الحديث الثاني، و هو أنّه سئلت عائشة: من أحبّ الخلق إلى رسول اللّه؟ فقالت: فاطمة. قيل: من

ص: 186


1- الأنفال: 24.
2- المستدرك 4: 12؛ سنن البيهقي 7: 299 و 10: 233؛ لسان الميزان 3: 216، و فيه زيادة: فقالت فاطمة: لم أرك قلت في عليّ شيئا؟ قال: إنّ عليّا نفسي، هل رأيت أحدا يقول في نفسه شيئا. قال ابن حجر: فهذه الزيادة موضوعة و الآفة من ظفر أو من شيخه الزهراني .. الخ.

الرجال؟ قالت: زوجها. و ليس لأبي بكر ذكر في باقي الأحاديث.

مع أنّه لا يمكن أن يعمد رجل يتحلّى بقسط من الأنفة و الغيرة، يطري زوجته أمام رجل فاسق فاجر كعمرو بن العاص و يصرّح بحبّها ثمّ لا تدركه الغيرة عليها، فكيف يفعل رسول اللّه ما يأنف البشر العاديون من فعله.

أضف إلى هذا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طالما شكى من عائشة و حفصة و من إيذائهما له حتّى عاتب اللّه نبيّه بسببهما في سورة التحريم، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ (1) الآية، و نهاه أن يبتغي مرضاتهما، فقال: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ (2) و اعتزلهنّ رسول اللّه شهرا بكامله، و تشهد بذلك سورة نوح حيث بلغ النبيّ من قول المنافقين بسبب عائشة ما آلمه و آذاه، و من قرأ تفسير القرآن للفرق كافّة فسوف يطّلع على مبلغ الألم الذي عاناه رسول اللّه من عائشة و حفصة، و لكنّه صبر، و إن لم تصدّقني فارجع إلى مصابيح الأخبار من كتب المخالفين و اقرأ بإمعان باب العترة و أهل البيت و الأزواج لتعرف صدق ما أقول لك.

جواب آخر: إنّ الذي أوجب حبّه على الأمّة إنّما هو عليّ و أهل بيته بحكم الآية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3).

ثانيا: إنّ المؤالف و المخالف قالوا بأنّ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (4) نزلت في عليّ عليه السّلام، و مثلها قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (5).

ص: 187


1- التحريم: 1.
2- الآية نفسها.
3- الشورى: 23.
4- مريم: 96.
5- المائدة: 54.

و ذكروا في مصابيح المخالفين أنّ النبيّ قال- و عليّ غائب عن البيت-: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا.

جواب آخر: قال اللّه تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (1) لعلّكم لم تقرأوا القرآن، و لو كنتم قرأتموه لما فهمتموه أنّ اللّه تعالى حذّر من النساء «و قد قيل: حبّك الشي ء يعمي و يصمّ»، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «اتّقوا شرار النساء» (2) و كونوا من خيارهنّ على حذر، و قال رسول اللّه في مرضه لعائشة عندما قدّمت أباها بدون إذنه للصلاة: «إنّكنّ لصويحبات يوسف» (3)، و هنّ اللواتي قال اللّه بحقّهنّ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (4) و كذلك: وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ (5).

و في مذهب الشيعة الأكثر على أنّ النبيّ أو كل طلاق نسائه إلى عليّ إن عصينه، و طلّق عليّ عائشة في حرب الجمل (6)، و إن لم تصدّقني فارجع إلى كتاب الفتوح لابن الأعثم (7) و هو من علمائهم الكبار الذي رمز إلى ذلك في باب الطلاق عند ذكر

ص: 188


1- التغابن: 14.
2- الكافي 8: 517؛ وسائل الشيعة 20: 179 و 14: 128؛ عيون الحكم و المواعظ للواسطي: 90؛ بحار الأنوار 88: 255 و 100: 224؛ درر الأخبار: 624؛ نزهة الناظر و تنبيه الخاطر للحلواني: 53؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 44.
3- الفصول المختارة: 124؛ التعجّب: 22؛ الصراط المستقيم 3: 134؛ كتاب الأربعين: 620؛ بحار الأنوار 28: 160؛ مناقب أهل البيت: 399؛ أحاديث أمّ المؤمنين عائشة للعسكري 1: 79؛ شرح نهج البلاغة 9: 197؛ الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 590.
4- يوسف: 28.
5- يوسف: 29.
6- أقول: لا موضوعيّة للطلاق بعد مرور ثلاثين سنة على وفاة رسول اللّه إلّا أن يقال بأنّه حكم خاصّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
7- طبع هذا الكتاب أخيرا في بيروت و لكن لعبت به الأيدي و غيّرت أسلوبه و محتواه فتجد فيه مثل كلمة «مليون» المولدة التي دخلت اللغة العربيّة في القرن العشرين، ثمّ حذف منه الكثير و الكثير، و لحدّ الآن لم نطّلع على الجهة التي فعلت هذا الفعل.

عائشة، و إن لم يجد الشجاعة الكافية لنقل الخبر برمّته «الحرّ تكفيه الإشارة».

و هل كان رسول اللّه يحبّ عائشة لأنّها غازية و مجاهدة في سبيل اللّه في حرب الجمل و يحبّ أباها لأنّه ظلم آل رسول اللّه و نام ألف سنة (1) في بيت رسول اللّه بدون إذنه خلافا لقول اللّه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2)؟!

الحديث السادس: و رووا عن عليّ عليه السّلام بأنّه قال: من فضّلني على أبي بكر و عمر أجلده جلدة المفتري.

و روى المخالف عن ابن مسعود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر.

الحديث الأوّل روايه المدّعي و أنكره الخصم، و الحديث الثاني رواية المخالف و صدّقه الخصم و هو يعارضه؛ فالثاني صادق و الأوّل كذب موضوع.

و روى المخالف أيضا أنّ رسول اللّه قال: أعلمكم عليّ و أفضلكم و أقضاكم عليّ (3)، و حديث الطير، و حديث الراية، و آية المباهلة، و آية فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (4)، و آية التطهير، و آية الخمس و آية ذوي القربى،

ص: 189


1- تمّ تأليف هذا الكتاب سنة (675) فكيف يكون مرّ على دفن أبي بكر ألف سنة!
2- الأحزاب: 53.
3- تهذيب الأحكام 6: 306؛ مستدرك الوسائل للنوري 17: 390؛ النكت الاعتقاديّة للشيخ المفيد: 41؛ الاحتجاج 2: 103 و 163؛ مناقب أهل البيت: 192 و 199؛ طرق أحاديث الأئمّة الاثني عشر لكاظم آل نوح: 92؛ مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 28؛ كشف اليقين للحلّي: 45؛ الكنى و الألقاب للشيخ عبّاس القمّي 1: 203.
4- النساء: 95.

و حديث: لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين، هذه جميعا رواها المخالف أيضا، و هي تكذّب الحديث المفترى.

ثمّ إنّ ما يوجب حدّ الجلد معلوم، و لا يدخل فيه التفضيل، أعني من فضّل أحدا على أحد، و ليس من المعقول أن يجلد الإمام على الكذب، و لما ذكرهم عليّ فقال: زرعوا الفجور، و سقوا الغرور، و حصدوا الثبور (1).

و لما ذكر أبا بكر، قال: «و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء» و لو كان هو الأفضل، فما معنى الهجوم عليه و مقاتلته و نسبة زرع الفجور و سقي الغرور و حصد الثبور إليه؟

و الاتفاق حاصل أيضا بأنّ أبا بكر قال: «لست بخيركم و عليّ فيكم» فإن كان صادقا فما هو بأفضل من أحد من الصحابة، و إن كان كاذبا فما هو للإمامة بأهل.

و لست أدري ما هو وجه تفضيله و لا يذكر له المخالف إلّا الغار، و كان شريكه عبد اللّه بن يقطر، و كان عليّ صاحب فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه المرتبة أفضل من تلك، و إن قيل: إنّه ختن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فللنبيّ ثمانية عشر ختنا و هو أحدهم، و مثله صاحبه، و لم يعط النبيّ من ابنتيهما أولادا و إلّا لكانتا قد ادّعتا الربوبيّة، و إذا كان هو ختن رسول اللّه فعليّ مثله ختنه من جهة أمّ هاني (2) و صهره و ابن عمّه شقيق والده.

ص: 190


1- نهج البلاغة، الخطب 1: 30؛ كتاب الأربعين: 199 و 437؛ بحار الأنوار 23: 117؛ النجمي في أضواء على الصحيحين: 323؛ ميزان الحكمة 3: 223؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 138؛ ينابيع المودّة: 449.
2- لم يتزوّج النبيّ بأمّ هاني، إنّما خطبها فاعتذرت بأنّها ميتّم و لا تستطيع أن تقوم بواجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت تخشى أن يشغلها أولادها عنه.

الحديث السابع: و رووا عن النبيّ أنّه قال: أبو بكر و عمر سيّدا كهول أهل الجنّة.

الاتفاق حاصل بين المسلمين أنّ الجنّة ليس فيها شيوخ و لا كهول، و ذات يوم قال النبيّ لامرأة عجوز كانت حاضرة عنده- «أسجعيّة» (كذا)- على سبيل الدعابة و الخلق الحسن: «لا تدخل الجنّة عجوز» فأجهشت العجوز باكية، فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (1) و معناه- و اللّه العالم- أنّهنّ يتحوّلن في الجنّة إلى أبكار عذارى، و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لأمزح و لا أقول إلّا حقّا.

و غرضهم من هذه المفتراة مناقضة الحديث المشهور الذي اتفق عليه أهل القبلة لصدقه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين، و أبوهما خير منهما (2).

ص: 191


1- الواقعة: 35 و 36.
2- مسند زيد: 461؛ الأحكام ليحيى 1: 40؛ المبسوط للسرخسي 16: 122؛ سبل السلام 4: 125؛ فقه السنّة لسيّد سابق: 417؛ ذخائر العقبى: 129؛ فضائل الصحابة للنسائي: 20 و 58؛ المسند لابن حنبل 3: 3 و 62 و 64 و 82، و 5: 391 و 392؛ سنن ابن ماجة 1: 44؛ سنن الترمذي 5: 321 و 326؛ مستدرك الحاكم 3: 167 و 381؛ شرح النووي على صحيح مسلم 16: 41؛ مجمع الزوائد 9: 165 و فيه: «و أبوهما و الذي بعثني بالحقّ خير منهما»، و ص 182 و 183 و 184 و 201؛ المعيار و الموازنة: 151 و 206 و 323؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 512؛ بغية الباحث لابن أبي أسامة؛ سنن النسائي الكبير 5: 50 و 81 و 145- 150؛ الخصائص له أيضا: 117 و 118 و 123 و 124؛ مسند أبي يعلى 2: 295؛ صحيح ابن حبّان 15: 411- 413. المعجم الأوسط 2: 347 و 4: 325 و 5: 243 و 6: 10 و 327؛ المعجم الكبير 3: 35- 40 و 57، و 19: 292 و 22: 403؛ سؤالات حمزة للدارقطني: 216؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 30 و 16: 14؛ درر السمط في خبر السبط لابن الآبار: 78؛ نظم درر السمطين: 214 و 227؛ موارد الظمئان للهيثمي: 551؛ الجامع الصغير 1: 20 و 589، و في الحديث المرقّم 3821 «و أبوهما خير منهما»؛ كنز العمّال 7: 26 رقم 17795 و 11: 573 رقم 32713 و 12: 96 رقم 34158 بطرق عدّة، و 13: 640 بطرق عدّة. نور العين للاسفراييني: 35 و 65 و 66؛ فيض القدير 3: 550؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 34 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و ص 358؛ نظم المتناثر للكتاني: 196؛ إغام المبتدع الغبي للسقّاف: 34؛ تناقضات الألباني 2: 256؛ دفع الارتياب عن حديث الباب للعلوي: 47؛ شواهد التنزيل 1: 199؛ الدّر المنثور للسيوطي 4: 262؛ الكامل لابن عدي 2: 220 و 221 و 357 و 413، و 3: 435 و 5: 323 و 368، و فيه: قال عطاء: حدّثونا أنّه قال: «و أبوهما خير منهما»، و 6: 373 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 7: 284؛ علل الدارقطني 3: 166 و 11: 191 و فيه: «فمن أحبّهما فقد أحبّني و من أبغضهما فقد أبغضني»؛ تاريخ بغداد 1: 150 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 2: 181 و 4: 429 و 6: 369 و 9: 230 و 231، و 10: 230 و 11: 91 و 13: 4؛ تاريخ دمشق 5: 374 و 12: 269 و 13: 207- 212 و 402، و 14: 130- 137، و 27: 399 و 30: 179 و فيه: «و لا تسبّوا عليّا فإنّه من سبّ عليّا فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه و من سبّ اللّه عزّ و جلّ عذّبه اللّه»، و 34: 447 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 42: 130 و فيه: «و أبوهما و الذي بعثني بالحقّ خير منهما»، و 64: 35، و 70: 113. أسد الغابة 1: 311 و 2: 11 و 5: 574؛ تهذيب الكمال للمزّي 6: 229 قال: زاد بعضهم: «و أبوهما خير منهما»، و ص 401، و 7: 110 و 12: 254 و 26: 391 و 32: 243؛ ميزان الاعتدال 1: 585 و 2: 250 و 4: 33 و 149 و فيه: «و أبوهما خير منهما»؛ سير أعلام النبلاء 2: 127 و 3: 251 و 252 و 255 و 282، و 5: 63 و 11: 416؛ تهذيب التهذيب 2: 258 و 3: 309 و 4: 241؛ لسان الميزان 2: 157 و 343؛ الإصابة 1: 624 و 2: 63 و 6: 252 و فيه: «و أبوهما خير منهما»؛ الأنساب للسمعاني 3: 477 و سمّاه متواترا؛ تاريخ جرجان: 395؛ ذكر أخبار اصفهان 2: 343؛ البداية و النهاية 2: 61 و 8: 39 و 193 و 224 و 225. رأس الحسين لابن تيميّة: 201؛ قصص الأنبياء لابن كثير 2: 357؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي 2: 199؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 47 و 11: 46 و 57 و 60 و 61 و 162 و 250. هذه الكتب التي أخرجت الحديث كلّها لأبناء العامّة، و أنا بدوري أتحدّى كلّ من ينتمي إلى أهل السنّة أن يأتيني بكتاب شيعيّ واحد أخرج شيئا من مفترياتهم. و أمّا كهول الجنّة فقد أخرجه منهم: مجمع الزوائد 9: 53 و أكمل الحديث بقول البزّار: لا نعلم، و بعبد الرحمان بن مالك قال: قلت: هو متروك؛ تاريخ دمشق 30: 170 و 176 و 44: 168 و 169؛ تهذيب الكمال 12: 387؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250؛ لسان العرب 11: 600.

ص: 192

و في رواية أخرى: إنّ أهل الجنّة شباب كلّهم و إنّه لا يدخلها العجز.

و بناءا على هذا لو قدّر لهما الدخول إلى الجنّة لدخلوها شابّين و يكون الحسنان أفضل منهما، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الدنيا سجن المؤمن و القبر بيته و الجنّة مأواه، و الدنيا جنّة الكافر و القبر محبسه و النار مأواه، إلّا أن يكون النبيّ أراد جنّة الدنيا لأنّ الجنّة ليس فيها كهول، و إن كان الغرض كهولتهم بالقياس إلى أعمار الدنيا فإنّ الأنبياء نوح و لقمان و إبراهيم، و من الصحابة سلمان منّا أهل البيت أولى بهذه المرتبة.

الحديث الثامن: و رووا أيضا: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر.

و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أبطأ عنّي جبرئيل إلّا ظننت أنّه بعث إلى عمر.

و في رواية أخرى: ما احتبس عنّي الوحي إلّا ظننته قد نزل على عمر (1).

الجواب: جاء في كتبهم أنّ عمر قال: هل أنا منافق أو لا؟ و سأل حذيفة عن

ص: 193


1- نحن نذكر بعض كتبهم التي أخرجته و ما قبله: مجمع الزوائد 9: 68؛ شرح ابن أبي الحديد 2: 178؛ كنز العمّال 11: 581 رقم 32761؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 94؛ كشف الخفاء 2: 154 و 164 و قال الصفائي عن حديث نظيره: موضوع؛ الكامل لابن عدي 3: 155 و 216؛ الموضوعات 1: 320 و قال ابن الجوزي: لا يصحّان.

ذلك مرّتين، و كان عليّ عليه السّلام يقول: «حذيفة كان عرّافا بالمنافقين». فمن كان شاكّا في دينه كيف يصحّ نزول الوحي عليه؟! و يكون شريك محمّد في رسالته و هو خاتم الأنبياء؟!

و إذا صحّ الحديث يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعدى عدوّ لعمر لأنّه فوّت عليه هذه الفرصة الثمينة و هي النبوّة التي لا يعادلها شي ء، و لا يسمو إلى رتبتها مقام، و يكون عمر أعدى عدوّ للنبيّ لأنّه إذا انقطع عنه الوحي استبدّ به الهاجس أنّه انصرف إلى عمر فيمتلأ حقدا عليه، نزولا عند الفطرة و موضعا لجبلة البشريّة التي يعادي الإنسان بها كلّ من ينافسه على شي ء ثمين، و يكون في موضع قلق و عذاب من وجود عمر، و ربّما زاد في عذابه ما يقتضي له رؤية عمر كلّ يوم مرّات، من الهمّ و الألم.

و العجيب في الأمر أنّ حصول عمر على هذا المقام المنيع و الوسام الرفيع من أيّة جهة؟ و لأيّ خصلة فيه و صفة له؟ و هو قد شاح في خدمة اللات و العزّى حتّى أخرجه الإسلام منها، هذا و إن جوّز شيعته الصغائر على الأنبياء و الأئمّة.

و أيضا يرى شيعة عمر و أتباعه وقوع الشي ء خلاف علم اللّه محالا ... و تكون المسألة على النحو التالي: إنّ اللّه علم برسالة عمر منذ الأزل و لكنّه لم يبعث و هذا خلاف ما علم اللّه و إن لم يكن قد علم بها فلا تقع أصلا، و يكون رسول اللّه في أمان من وقوعها لأنّها لم تكن في علم اللّه، و ما لم يكن حالا في علم اللّه فوقوعه محال من ثمّ هو على يقين بأنّ هذه الرسالة المدعاة لعمر لن تقع أصلا.

ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (1) الآية، و قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ

ص: 194


1- الأحزاب: 7.

مِنْ بَعْدِهِ (1) فكيف لم يأخذ اللّه الميثاق من عمر؟

الحديث التاسع: و رووا عن النبيّ أنّه نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسّم و قال: إنّ اللّه باهى بعباده عامّة و باهى بعمر خاصّة (2).

الجواب: و هذا محال أن يترك اللّه سيّد أنبيائه و يباهي بعمر و يفاخر به و قد كان في الجاهليّة عاكفا على الذنوب و الكبائر و كان على الشرك، و في الإسلام شاكّا في إيمانه لا يدري أهو منافق أو مسلم، و نال محمّد العزّة قاب قوسين، و بلغ من الأمكنة القدسيّة ما لم يبلغه مخلوق لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (3) و أقسم بموطئ أقدامه لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (4) و ختم اللّه به مألف ألف و أربعا و عشرين ألفا من الأنبياء، أترى اللّه يعرض عن إنسان كهذا و يفاخر بعمر ابن صهّاك و هو من أدنى الناس و عامّتهم، ينبغي أن يستحي من اللّه من يقول هذا أو يعتقده «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

ثمّ إنّ اللّه تعالى أخذ من عباده الميثاق حيث قال: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5) و لم يكن أبو بكر و عمر هناك لأنّهما أنكرا التوحيد حقبة طويلة من عمريهما، و كانا يسجدان لربّهما

ص: 195


1- النساء: 163.
2- كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 572؛ كنز العمّال 12: 594 رقم 3585 و تمامه: و إن لم يبعث نبيّا، و 13: 3 رقم 36087 و سياقه مختلف؛ تاريخ دمشق 44: 117 و 118 و 56: 92؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 267.
3- الحجر: 72.
4- البلد: 1 و 2.
5- الأعراف: 172.

اللات، فهذا و اللّه من العجب.

و لكن لا عجب من القوم الذين يزعمون أنّ النبيّ لمّا عرج به إلى السماء و بلغ الجنّة سمع خفق نعال بلال لأنّه سبقه إلى الجنّة لأنّه غلام أبي بكر، فيكون أفضل من رسول اللّه فليس عجيبا أن يكون عمر أفضل «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

الحديث العاشر: و رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو نزل العذاب ما نجى منه إلّا عمر (1).

الجواب: و بناءا على هذه الفرية فإنّ أبا بكر و عثمان يهلكان أيضا إلّا ابن الخطّاب و على مذهب القوم يهلك حتّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و حاشا للّه أن يعتقد بهذا مسلم.

ثمّ إنّ اللّه تعالى بشّر المؤمنين بشارة عامّة فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2) فجعل حياة النبيّ أمان الناس فإذا انتقل إلى الرفيق الأعلى كان الاستغفار أمانا لهم، فهل كان أبو بكر و عثمان على غير استغفار؟

و لا ينبغي للنبي أن يقول عن عمر ما نسبوا إليه بعد نزول هذه الآية.

و لمّا دخل عمر في السياق و عرف أنّه صائر إلى الهلاك كان يستغيث من أعماله الشنيعة فيقول: واويلاه، و اثبوراه، يا ليتني كنت ترابا، يا ليت أمّي لم تلدني، و كان يردّد دائما: ليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر ... فيكون أبو بكر بهذه الدرجة أولى من عمر.

ص: 196


1- المبسوط للسرخسي 10: 139. قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضا لأنّ اللّه تعالى يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: «و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم» (الأنفال: 33) فجعلتم عمر مثل الرسول. (عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 203)
2- الأنفال: 33.

و أوكل النبيّ النجاة إلى أهل بيته في حديثه المتواتر المشهور بين الأمّة: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح» الحديث (1)، و قال أيضا: «النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأهل الأرض» (2) و أمثال هذه الأخبار المروية عن طريق المؤالف و المخالف، و نتيجة لما تقدّم: إنّ رسول اللّه قال: هؤلاء في الجنّة.

الحديث الحادي عشر: قالوا: إنّ رسول اللّه قال: أبو بكر في الجنّة و عمر في الجنّة و عثمان في الجنّة و عليّ في الجنّة و طلحة في الجنّة و الزبير في الجنّة و عبد الرحمان بن عوف في الجنّة و سعد ابن أبي وقّاص في الجنّة و سعيد بن زيد في الجنّة و عبيدة بن الجرّاح في الجنّة.

الجواب: قد قال عمر لحذيفة يوما: نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا؟ فلو أنّه صدّق رسول اللّه ببشارته لما كان سأل حذيفة عن وضعه الديني، و لم يقع في شكّ من أمره، و لا يصحّ في مذهب الخصم تكذيب الرسول، و يسأل حذيفة في حالة الشكّ عن حقيقة أمره، و هذا يدلّ على كذب حديث العشرة، و أنّه افتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو بكر: «إنّ شيطانا يعتريني» و بهذا يكون مصاحبا للشيطان فكيف يبشّر بالجنّة.

و لا يصحّ في مذهب الخصم الحديث إلّا بحقّ عليّ عليه السّلام، و يبقى الباقون في العراء.

و الدليل على كذب هذا الحديث ما رواه صاحب الفتوح ابن أعثم الكوفي عن عمر أنّه قال في سكرات الموت لابنه عبد اللّه: لو رأيت أباك يقاد إلى النار أتفدينّه؟

ص: 197


1- سبق تخريجه.
2- المستدرك 3: 149؛ كنز العمّال 2/ 102؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 7؛ ينابيع المودّة 2: 443؛ النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 45 و عزاه في هامش الينابيع إلى الصواعق.

و مثله حديث المصابيح: فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني، و الاتفاق حاصل على أنّهم غصبوا منها فدكا و آذوها و تأذّى النبيّ لأذيّتها، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية (1).

و كان النبيّ قد دعاهم إلى قتل رجل من الخوارج فلم يطيعوا رسول اللّه أو يقبلوا قوله، و قالوا: لا نقتله لعلّه يقرأ القرآن.

و ذكر أبو بكر الشيرازي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسل عمر يوم الحديبيّة إلى أهل مكّة فأبى قبول ذلك، و قال: لا أذهب، فأرسل عثمان فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (2) فلو كان مؤمنا لأطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و اشتهر بين الخاص العام بأنّ عمر قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه على أهل مكّة فإنّي جئت إليه و قلت: يا رسول اللّه، ألست بنبي؟

فقال: بلى، فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت له: فلم تعطي الدنيّة من نفسك؟ فقال: إنّها ليست بدنيّة و لكنّها خير لك. فقلت له: أو ليس وعدتنا أن تدخل مكّة؟ قال: بلى. قلت: فما لنا أن لا ندخلها؟ قال: وعدتك أن ندخلها العام؟ قلت: لا، قال: فسندخلها إن شاء اللّه تعالى.

و جاء في تفسير السلماني: يا علي، أنت في الجنّة و شيعتك في الجنّة (3).

ص: 198


1- الأحزاب: 57.
2- الأنفال: 24.
3- مقام الإمام علي و كنز العمّال و فيض القدير و تاريخ دمشق و ذيل تاريخ بغداد، و اقتصر هؤلاء على طرف الحديث: يا علي أنت في الجنّة ... و راجع للحديث كلّه مسند زيد: 456؛ مجمع الزوائد 9: 173؛ المعجم الأوسط 6: 355 و 7: 343؛ كنز العمّال 1: 223 رقم 1127 و 11: 323 رقم 31631؛ شواهد التنزيل 1: 414؛ الكامل لابن عدي 3: 83 و 7: 213؛ تاريخ بغداد 12: 284 و 353؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 332 و 334 و 335؛ الموضوعات 1: 397؛ ميزان الاعتدال 1: 421 قال الذهبي: ذكره ابن الجوزي في الموضوعات .. الخ و ليسس بحجّة راجع للردّ عليه اللئالي المصنوعة للسيوطي، و 2: 18 و 4: 371؛ ينابيع المودّة 1: 425.

جرت العادة أنّ في الدعاوي إقرار المدّعي يكون فتحا عظيما، و إنّ طلحة و الزبير لمّا خرجا على الإمام فهما مرتدّان كما نسب ذلك إلى القوم الذين قتلهم أبو بكر حين خرجوا عليه بمنع الزكاة «هذا كيلا بكيل ردّة بردة» دعنا من هذا و لكن الردّة على عليّ أولى و أجلى بوجوه:

الأوّل: لعصمة عليّ.

الثاني: بآية المباهلة عليّ نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: اتفق المسلمون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «حربك حربي و سلمك سلمي» (1) و محارب رسول اللّه كافر فيكون محارب عليّ مثله.

الرابع: استخلف أبو بكر باختيار الناس و استخف عليّ عليه السّلام باختيار اللّه و رسوله.

و ذكر أبو سعيد ابن علي السمّان الحافظ الزاهد المحدّث السنّي في كتابه «المثالب» أنّ راوي الحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، رواه في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المغيرة بن شعبة حاضر و مع ناس كثيرون، فلم يشهد أحد بسماعه من رسول اللّه غير سعيد، ثمّ إنّه أدخل نفسه مع المبّشرين بالجنّة، و هذا مدعاة لردّ الحديث بناءا على مذهب العلماء في السنّة و لو لا ذلك لأمكن النظر في الحديث من حيث القبول أو الرد، أمّا و الحال هذه فيعتبر مكذوبا به على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الحديث الثاني عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر ... الخ (2).

ص: 199


1- ينابيع المودّة 1: 172؛ مناقب الخوارزمي: 129.
2- صحيح ابن حبّان 15: 315؛ كنز العمّال 11: 575 رقم 32725؛ فيض القدير 5: 586؛ كشف الخفاء 2: 302؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 267: و ليس فيها ذكر للظلّ و في بعضها: ما في السماء ملك إلّا و هو يوقر عمر و لا في الأرض شيطان إلّا و هو يفرّ من عمر ... الخ.

الجواب: يقال: إنّ الشيطان وسوس لآدم كما جاء في القرآن الكريم: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ الآية (1)، و وسوس لموسى حيث قال: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ (2)، و قال أيّوب: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (3)، و يقولون: ما من رسول إلّا و قد وقع عرضة لهذه الوسوسة: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (4)، و قالوا: كان النبيّ في المسجد الحرام يصلّي و كان المشركون مجتمعين هناك و النبيّ يقرأ سورة و النجم حتّى وصل إلى قوله: وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (5) فألقى الشيطان في كلامه: «تلك الغرانيق العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى» ففرح المشركون بهذا و قالوا: لقد عظّم محمّد أصنامنا و أثبت لهنّ الشفاعة، فحزن النبيّ جرّاء ذلك حزنا شديدا و تألّم منه فأنزل اللّه عليه هذه الآية: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.

و العجب من القوم أنّهم يجيزون وسوسة الشيطان على الأنبياء و المرسلين مع أنّهم لم يعبدوا صنما قط، و هذا عمر قضى أكثر عمره في عبادة الأصنام و كان مشركا باللّه، صار الشيطان يفرّ منه.

و لو نظرت بعين البصيرة إلى الحقيقة لكانت هذه الفرية مدعاة إلى القدح في عمر لأنّ الناس يقولون بلغ فلانا حدّا صار الشيطان يفرّ منه أي بلغ هذا الحدّ في الشيطنة.

ص: 200


1- طه: 120.
2- القصص: 15.
3- ص: 41.
4- الحجّ: 52.
5- النجم: 20.

الحديث الثالث عشر: و رووا عن الرسول أيضا بأنّه قال: وضعت في كفّة الميزان و وضعت أمّتي في أخرى فرجحت، فوضع مكاني أبو بكر فرجح، ثمّ وضع عمر فرجح بهم، ثمّ رفع الميزان (1).

الجواب: ليس في الدنيا شي ء أرخص من الكذب و أسهل منه، و قد أسلم عمر بعد شرك فكيف يرجح على رسول اللّه ثلاث مرّات، فإن كان الرجحان بالعلم فإنّه لم يعرف الأبّ حين سئل عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) و قد أحصر في سبعين قضيّة و قضى بها عليّ عليه السّلام و هو القائل: «لو لا عليّ لهلك عمر» (3) و قال على المنبر:

كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و هذا القول مثبت في كتب أنصاره و شيعته، و أراد أن يحفظ سورة البقرة فأنفق عمره على حفظها فلم يتسنّ له و علم أنّ العلم في الكبر كالرقم على الماء.

و إن كان الرجحان بالزهد و الورع و حسن الخلق أو بالجهاد فقد أمن عمر من هذه القيم و عاش معافى منها و سليما من عاهاتها!!! أو كان بالقرابة فإنّها جميعا اجتمعت في عليّ عليه السّلام، مع أنّ عمر كان قد تمنّى أن يكون شعره في صدر أبي بكر (4).

ص: 201


1- كنز العمّال 13: 241 رقم 36720 و فيه: ثمّ جي ء بعثمان فوزن فوزنهم ثمّ استيقظت و رفعت ...؛ تاريخ دمشق 39: 116.
2- عبس: 31.
3- مناقب الخوارزمي: 81؛ نظم درر السمطين: 130؛ أحمد بن الصدّيق الغماري: 71؛ دفع الارتياب عن حديث الباب لعلي بن محمّد العلوي: 16؛ ينابيع المودّة 3: 147؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 151 و أحال على الاستيعاب 3: 1103، و ص 189 و 369؛ الهاشميّات العلويّات: 154؛ مسند زيد: 335.
4- كنز العمّال 12: 492 رقم 35626.

و كان أبو بكر يقول: ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن (1).

و العجب منه أنّه سرعان ما ارتفع نجمه و رجحت كفّة ميزانه إلى هذه الدرجة.

ثمّ إنّ الأعمال هي أعراض فكيف بالإمكان وزن العرض و الخصم لا يستطيع أن يثبت له عملا ليس مثله لأدنى الصحابة؟! و إن كان غرضهم من الوزن هيكل عمر و حجمه المسبطر فإنّ من اليقين أنّ عمر لم يكن بهذا الثقل بحيث يرجح على العالمين بالوزن ثلاث مرّات، و قيمة الجسم عائدة إلى قيمة الروح.

الحديث الرابع عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه جبرئيل و قال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام و يقول لك: اقرأ منّي على أبي بكر السلام و قل له: إنّي عنك راض فهل أنت عنّي راض؟!

الجواب: ألا يعلم المفتري أنّ اللّه تعالى عالم بالجزئيّات، فإذا كان أبو بكر راضيا عن اللّه تعالى فإنّ اللّه يعلم ذلك حتما و لو أنّه قدّر رضاه لوقع حتما و إلّا فوقوعه ممتنع و لا يسأل اللّه تعالى عن المحال.

ثمّ إنّ هذا القول لا يقع موقعا حسنا من مذهب القوم إذ ليس من المستحيل أن يسلبه اللّه الرضا عند الموت، و يحلّ محلّه الغضب و البغض و هو من اللّه حسن كما سبق تقريره، لأنّ الخصم لا يقول بالحسن و القبح العقليين.

ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول لنبيّه: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (2) و عبّر عن ذلك بلفظ «عسى»، و لو صحّ هذا الحديث فإنّ أبا بكر لا يكون مؤمنا لأنّ اللّه تعالى يقول عن عباده المؤمنين في مواضع عدّة: رَضِيَ اللَّهُ

ص: 202


1- فيض القدير 4: 418.
2- الإسراء: 79.

عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (1).

و يحضرني الآن أنّ هذه الافتراءات إنّما يفتريها الدهريّون، كما قال تعالى: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (2) و عاش أبو بكر في الشرك إلى شيخوخته و قد أسمن ترائبه و نحره و عروقه و أمعائه بشرب الخمر و أكل ما ذبح على النصب، و في إسلامه أدخل الظلم على أهل البيت و كان البادئ بذلك و فتح باب الشرّ عليهم، كما يعلم ذلك كلّ الناس، فكيف يعطى هذه المكافئة على تلكم الأعمال.

و بلغ كذبهم إلى درجة أن رووا أنّه كان النبيّ ذات يوم راكبا و أبو بكر إلى جانبه يسير على رجليه فهبط عليه الأمين جبرئيل و قال: ألا تستحي أنت راكب و أبو بكر راجل، و عليك أن تمشي ليركب أبو بكر ... و قد قال اللّه تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3) و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى (4) و قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (5) و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (6).

و بناءا على هذا فإنّ اللّه تعالى أمر بالتواضع بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أمر بالتمرّغ في تراب نعليه، و أمر بالخضوع و الخشوع عند مخاطبته فكيف يؤنّب رسوله على ركوبه بين يدي أبي بكر و لقد أجمعت الفرق الثلاث و السبعون عن عليّ عليه السّلام على أنّ

ص: 203


1- البيّنة: 8.
2- الجاثية: 24.
3- الحجرات: 2.
4- الحجرات: 3.
5- النور: 63.
6- الأنفال: 24.

مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مجلس حلم و حياء، فكيف ينسب إليه المزاح و مع هذا فقد خاطبه اللّه بقوله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) فلو صحّ ما قاله الخصم فإنّا نقول له: أليس أبو بكر من المؤمنين؟ أو أنّه لم يكن تابعا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟ ثمّ إنّ اللّه تعالى يحكي للمسلمين حاله معهم فيقول: وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) فوصفه اللّه بالحياء و وصفه الخصم بقلّة الحياء، و اللّه أولى بالصدق من العدوّ المخالف.

الحديث الخامس عشر: و رووا عن بريدة أنّه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض مغازيه فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه سالما أن أضرب بين يديك بالدفّ. قال: إن كنت نذرت فاضربي و إلّا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت أستها (ثمّ) قعدت عليه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالسا و هي تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، (فلمّا دخلت أنت ألقت الدف- المؤلّف) ثمّ دخلت أنت يا عمر فألقت الدف (3).

الجواب: هل كان ضرب المرأة بالدفّ طاعة أو معصية؟ فإن كان طاعة فلا سبيل إلى تركه لحضور أحد، و إن كان معصية فلا سبيل إلى فعله بين يدي النبي

ص: 204


1- الشعراء: 215.
2- الأحزاب: 53.
3- أسد الغابة 4: 64؛ فتح الباري 11: 510 و قال: أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، و أخرجه أحمد و الترمذي من حديث بريدة، الخ.

و أصحابه و هم قادرون على دفعها و منعها.

و أمّا خوف الشيطان من عمر فإنّه لم يخف من اللّه تعالى و لا من أنبيائه، و كما يزعم شيعة عمر لم يبق نبيّ لم يوسوس له الشيطان كرّة بعد كرّة لأنّه يجيزون على الأنبياء فعل المعصية فمن أين جاءت لعمر هذه الدرجة الرفيعة و الرتبه القصوى؟

ثمّ كيف ينشغل النبيّ و أصحابه باللهو و اللعب و اللّه تعالى يقول: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (1)، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً الآية (2) و هم بمدحهم عمر ينتقصون جانب أخويه أبي بكر و عثمان.

الحديث السادس عشر: عن سعد بن أبي وقّاص: استأذن عمر بن الخطّاب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده نسوة من قريش عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فدخل عمر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يضحك، فقال عمر: أضحك اللّه سنّك يا رسول اللّه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.

فقال عمر: يا عدوّات أنفسهنّ، أتهبنني و لا تهبن رسول اللّه؟ فقلن: نعم، أنت أفظّ و أغلظ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا قطّ إلّا سلك فجّا غير فجّك (3).

الجواب: إنّ هذا الحديث ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المعصية بالعمل على خلاف

ص: 205


1- المؤمنون: 115.
2- الأعراف: 51.
3- مسند أحمد 1: 171 و 182 و 187؛ صحيح البخاري 4: 96 و 199؛ صحيح مسلم 7: 115؛ تحفة الأحوذي 10: 122 و 123؛ سنن النسائي 6: 60؛ مسند أبي يعلى 2: 133؛ صحيح ابن حبّان 15: 316؛ ابن أبي الحديد 2: 178؛ الطبقات 8: 181 و كتب أخرى.

أوامر اللّه، لأنّ اللّه تعالى يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ (1) و هل قصّر رسول اللّه على مذهب الخصوم في التبليغ فلم يتل هذه الآية على النساء لكي لا يرفعن أصواتهنّ على صوت النبيّ؟ حاشا من ذلك.

و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (2) و قال تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3).

هذه الآيات و أمثالها أنزلن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى حمل الأصحاب على خفض الصوت في حضرته، فهل من المعقول أن لا يكون بلغها النساء ليعرفن أنّ رفع الصور محضور بين يديه.

ثمّ لو تغاضينا عن هذا كلّه فأنّى لنا بالسكوت عن اتهام النبيّ بالانشغال مع النساء بالحديث خلافا لمقتضى آيات القرآن، و بناءا على ما افتروه ينبغي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكل الأمر في الشريعة إلى عمر ليسوّي ميلها و يقيم معوجّها لأنّ رسول اللّه كما يزعمه الخصم لا يبلغ الشريعة كما ينبغي له، و اللّه تعالى يقول: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (4).

أضف إلى ذلك أنّ رفع الصوت إن كان طاعة فقد تسبّب عمر في رفعها، و إن كان معصية فالرسول أولى منه بمنعها.

و أمّا قول عمر: «أتهبنني» فإنّ اللّه تعالى لم يقل: خافوا من عمر و لا خافوا من رسول اللّه بل قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5)، و قال أيضا: فَاتَّقُوا اللَّهَ

ص: 206


1- النور: 31.
2- الحجرات: 3.
3- الحجرات: 2.
4- الشعراء: 3.
5- التغابن: 16.

وَ أَطِيعُونِ (1) و وقع هذا القول موقعه.

و أمّا قولهنّ لعمر: «أنت أفظّ و أغلظ» فهذا يدلّ على نقصان حال عمر لأنّ الغلظة و الفظاظة صفة المنافقين و الكافرين لا المؤمنين، و هذا يدلّ على سلب الإيمان من عمر، لأنّ النبيّ قال: «المؤمن إلف مألوف» (2).

و قال اللّه تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (3) و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون هيّنون ليّنون (4)، كما قال تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (5)، و قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (6).

الحديث السابع عشر: عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا فسمعنا لغطا و صوت صبيان، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإذا حبشيّة ترقص و الصبيان حولها، فقال: يا عائشة، تعالي و انظري، فجئت فوضعت يدي على منكب رسول اللّه فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت أما شبعت، فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فارفض الناس عنها، فقال رسول اللّه: إنّي لأنظر إلى

ص: 207


1- آل عمران: 50.
2- فقه السنّة 2: 599 و تمامه: و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف؛ مسند الشهاب لابن سلامة 1/ 108؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10/ 39؛ فيض القدير 6/ 329؛ كشف الخفاء 2/ 295؛ كتاب المجروحين لابن حبّان 2/ 79؛ تاريخ مدينة دمشق 8/ 404؛ ميزان الاعتدال 3/ 248. و رواه الشيعة أيضا راجع: مستدرك الوسائل 8/ 450؛ بحار الأنوار 64/ 64.
3- آل عمران: 159.
4- مسند الشهاب 1/ 114؛ الفائق 1/ 56؛ الجامع الصغير 2/ 663؛ كنز العمّال 1/ 143؛ فيض القدير 6/ 335؛ كشف الخفاء 2/ 291؛ نهاية ابن الأثير 1/ 76 و له تتمّة.
5- الفتح: 29.
6- المائدة: 54.

شياطين الجنّ و الإنس قد فرّوا من عمر (1).

الجواب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يحبّ السهل الطلق، و قال أيضا: و أوّل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن. و امتنّ اللّه على نبيّه بالخلق الحسن حيث قال:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (2)، و قال رسول اللّه: إنّ اللّه يبغض العفريتة النفريتة.

فتبيّن من هذا أنّ عباد اللّه هم ذووا الخلق الحسن، أمّا الفظاظة و الغلظة فهي من الصفات الذميمة لأهل النار.

و الدليل على كذب هذا الحديث قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (3)، و عمر لم يكن من الملائكة بالضرورة، و لم يكن من الجنّ أو الشياطين، فعلى هذا ليس للشياطين أن يفرّ منه لا سيّما على مذهب أهل السنّة و الجماعة الذي يجوّزون على الأنبياء وسوسة الشياطين، و حاشا للّه أن يقدّر هذا على أنبيائه الكرام و رسله العظام.

و يقول المخالف عن النبيّ أنّه قال: إنّ اللّه يغار للمؤمن فليغر (4).

ص: 208


1- سنن الترمذي 5: 284 و مكان ترقص، تزفن؛ فتح الباري 2: 370؛ سنن النسائي 5: 309؛ فيض القدير للمناوي شرح الجامع الصغير 3: 17؛ تاريخ مدينة دمشق 44: 82؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 174 بسياق مختلف.
2- القلم: 4.
3- محيي الدين النووي في المجموع 6: 529؛ مواهب الجليل للخطاب الرعيني 7: 499 تحقيق زكريّا عميرات، ط دار الكتب العلميّة- لبنان، أولى 1416؛ المبسوط 11: 37؛ كشف القناع للبهوتي 1: 572، دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1418؛ نيل الأوطار 6: 368؛ فقه السنّة لسيّد سابق 1: 464، ط دار الكتاب العربي- بيروت؛ شرح نهج البلاغة 2: 139؛ مسند أحمد 3: 156 و 285 و 309؛ صحيح البخاري 2: 258؛ صحيح مسلم 7: 8، و كتب أخرى.
4- عثرت عليه في وسائل الشيعة (الإسلاميّة) 14: 176 و (آل البيت) 20: 238. و تمامه: و من لا يغار فإنّه منكوس القلب.

و قال أيضا: الربّ غيور.

و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا: إنّ سعدا لغيور، أنا أغير منه (1)، و اللّه أغير منّا، و من غيرته حرّم الفواحش.

فأيّ عاقل يدعو زوجته لمشاهدة الرجال الأجانب كيف يرقصون و يلعبون و لمعصية اللّه، و أقسم باللّه العظيم لو أنّ هذه الحكاية نسبت إلى فاسق فاجر جلف جاف مستهتر لشانته فما بالك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!

الحديث الثامن عشر: عن ابن عمر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج ذات يوم و دخل المسجد و أبو بكر و عمر أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله، و هو آخذ بأيديهما، فقال: هكذا نبعث يوم القيامة (2).

ص: 209


1- هذا شعر جاء في طرائف السيّد ابن طاووس: 223 و أوّله: إنّ سعدا لغيورو أنا أغير منه و إله العرش أوفى غيرة بالنقل عنه فإذا ما بانت الغيرةمن رأس فبنه مستحل ... تحصى الخوف عنه إن تخنه خلق السيف لرأس خلت النخوة منه و أخرجها في مجمع الزوائد هكذا: عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: عمر غيور و أنا أغير منه (4: 328) و قال: رواه الطبراني في الأوسط و فيه المقدام بن داود و هو ضعيف، و في حديث آخر في نفس الصفحة: و اللّه أغير منّي و من غيرته حرّم الفواحش، و 9: 74 مثله. المصنّف للصنعاني 10: 409؛ المعجم الأوسط 9: 20 و أسد الغابة 2: 284، و فيه: إنّ سعدا لغيور و أنا أغير منه، الحديث. و ما تقدّم كلّه لعمر.
2- و إليك الكتب التي أخرجته: سنن الترمذي 5: 274؛ مستدرك الحاكم 3: 68 و 4: 280؛ مجمع الزوائد 9: 53؛ كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 602؛ المعجم الأوسط 8: 157؛ ابن مندة الاصفهاني: 41، تحقيق مسعد عبد الحميد، دار الصحابة للتراث- طنطا، أولى 1412؛ كنز العمّال 13: 17 رقم 36130؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 491، تحقيق زهير الشاويش، ط مكتبة الإسلامي- الرياض، أولى 1411؛ المجروحين لابن حبّان 1: 321، تحقيق محمود إبراهيم زايد؛ الكامل لابن عدي 3: 279؛ طبقات المحدّثين باصبهان لعبد اللّه بن حبّان 4: 239؛ تاريخ بغداد 5: 128 و 12: 136؛ تاريخ دمشق 21: 296 و 297 و 44: 187 و 188؛ ميزان الاعتدال 2: 158؛ لسان الميزان 2: 154.

الجواب: هذا الحديث مخالف لكتاب اللّه القائل: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (1) و قال: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا ورد منّي عليكم حديث فأعرضوه على كتاب اللّه؛ إن وافق فاقبلوه و إلّا فردّوه على الحائط (3).

فلمّا خالف كتاب اللّه وجب ردّه، و عندي أنّ هذا النشور لا يلائم مقام النبوّة لأنّه سوف تحيا بناته معه و هنّ بالقرب من رسول اللّه و على هذا فينبغي أن يستبعد عن مقامه الشريف الأجنبي البعيد من قبل هذين الاثنين و بناءا على هذا ينبغي أن نقول بثقة و اطمئنان أنّ هذا الحديث كذب صراح (4).

و روى الخاصّ و العام عن أبي ذر الغفاري بأنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ: أنت أوّل من يصافحني يوم القيامة و أنت الصدّيق الأكبر، و أنت الفاروق

ص: 210


1- مريم: 95.
2- الأنعام: 94.
3- عون المعبود 12: 232؛ أبو رية في أضواء على السنّة المحمّديّة: 99، ط دار الكتاب الإسلامي؛ أحكام القرآن للجصّاص 1: 629 و 3: 380؛ تفسير القرطبي 1: 38؛ أصول السرخسي 1: 365 و 2: 68 و 76؛ تاريخ ابن معين 1: 326؛ الأحكام للترمذي 2: 323.
4- أقول لشيخنا المؤلّف مع احترامي غير المحدود لسيادتك: فإنّ هذا دليل يتماشى مع ما عليه الأوضاع في الدنيا أمّا في عالم الآخرة لا سيّما يوم المحشر فإنّ له وضعا آخر لا يقاس به وضع الدنيا على أنّ قوله هذا رشيق جدّا و يأخذ بمجامع القلوب إلّا أنّ عليه أخذ ذلك الاعتبار بنظره.

الأعظم تفرق بين الحق و الباطل، و أنت يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الكفّار (1).

الحديث التاسع عشر: و قالوا: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من نبيّ إلّا و له وزيران من أهل السماء، و وزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل و ميكائيل، و أمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر و عمر (2).

الجواب: و هذا يصادم الحديث الذي رووه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أخي و وزيري و خير من أترك من بعدي، يقضي ديني و ينجز وعدي عليّ بن أبي طالب.

قال أبو بكر الشيرازي: قال ابن عبّاس: عن أسماء بنت عميس، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: اللهمّ إنّي أقول كما قال موسى بن عمران: اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهلي عليّ بن أبي طالب.

و أمّا من طريقنا أيّها الشيعة فقد وردت روايات جمّة في هذا المعنى و لكن الحديثين المذكورين ثبتا برواية رواتهم.

الحديث العشرون: قال المخالف: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل ابن هشام أو بعمر بن الخطّاب (3).

ص: 211


1- كنز الفوائد للكراجكي: 121؛ الروضة في المعجزات و الفضائل: 142؛ طريق الأئمّة لآل نوح: 32؛ جامع الرواة 2: 387.
2- سنن الترمذي 5: 278؛ تحفة الأحوذي 10: 114؛ قصيدة عبد اللّه بن الأشعث: 43؛ كنز العمّال 11: 560 رقم 32647، و ص 566 رقم 32648، و 13: 15 رقم 36121؛ الكامل لابن عدي 2: 87 و 3: 454؛ تاريخ دمشق 30: 119 و 120، و كتب أخرى كثيرة.
3- مسند أحمد 2: 95؛ سنن الترمذي 5: 279 و 280؛ فتح الباري 7: 39؛ تحفة الأحوذي 10: 115؛ كنز العمّال 11: 582 و 583 و 12: 595؛ فيض القدير 5: 381؛ كشف الخفاء 1: 183 و 184؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 493؛ تفسير القرطبي 11: 164؛ الدرّ المنثور 3: 43؛ فتح القدير 2: 160؛ تهذيب الكمال 1: 241؛ الإصابة 2: 398؛ البداية و النهاية 3: 101.

الجواب: لا فخر لعمر في مقارنته بأبي جهل، و أورد أبو بكر الشيرازي في تفسير سورة الحجّ، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أبا بكر قائلا: خذ السيف و اقتل فلانا داخل المسجد الآن لأنّه صاحب فتنة و بدعة، فلمّا جائه وجده راكعا، فرجع و قال: يا رسول اللّه رأيته ساجدا، فأمر عمر بقتله، فرجع كما رجع صاحبه، و قال: يا رسول اللّه، رأيته ساجدا، ثمّ أعطى السيف في الثالثة إلى عليّ عليه السّلام و قال: أنت صاحبه فإن وجدته فاقتله و إلّا فعد إلينا، فلمّا دخل عليّ المسجد وجد الرجل قد لاذ بالفرار.

قال أبو بكر الشيرازي: و هذا قتله عليّ عليه السّلام في صفّين (1).

أيّها القارئ الكريم، هذا هو إعزاز الدين عندهم، يقول لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقتلا صاحب البدعة مفجر الفتنة في العالم، فلم يقتلاه و تركا أمر رسول اللّه ورائهما ظهريّا.

قال الكسائيّ في قصّة: مكتوب على العرش: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه،

ص: 212


1- الرواية مذكورة في كتبهم بسياقات مختلفة و أخرجها الكثير من الحفّاظ و أذكر الآن ما جاء في نيل الأوطار 7: 350 للشوكاني، فقد قال: أخرج أحمد بسند جيّد عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّي مررت بواد كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشّع يصلّي فيه، فقال: اذهب إليه فاقتله. قال: فذهب أبو بكر فلمّا رآه يصلّي كره أن يقتله، فرجع، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمر: اذهب فاقتله، فرآه يصلّى على تلك الحالة فرجع، فقال: يا علي، اذهب إليه فاقتله، فذهب عليّ عليه السّلام فلم يره، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا و أصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (فلا) يعودون فيه قاقتلوهم هم شرّ البريّة. قال الحافظ بعد أن قال: إنّ إسناده جيّد: له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى و رجاله ثقات.

أيّدته بعليّ و نصرته به» (1).

قال أبو بكر الشيرازي: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (2) يعني بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و قال أيضا: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) في سيف عليّ ذي الفقار الذي أهداه اللّه تعالى إلى آدم من الجنّة و كان قد صنعه من ورقة من آس الجنّة، و كتب عليه: لا يزال الأنبياء يحاربون به، نبيّ بعد نبيّ، و صدّيق بعد صدّيق، حتّى يرثه أمير المؤمنين.

ثمّ قال: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ هذه هي النصرة، و الناصر عليّ، و كانت عزّة الإسلام بذي الفقار و بنصر عليّ عليه السّلام و جهاده، و ليس لعمر في النصرة و الجهاد اسم يذكر و لا خبر يؤثر، من أنّه فعل شيئا قبل الهجرة أو بعدها.

ثمّ إنّنا قد نصدّق بما قاله النبيّ عن عمر ليس للخوف منه لأنّه ليس ملكا و لا رئيسا و لا شجاعا لكي يحذروه أو يفرقوا منه و لكنّه كان ذا فتنة حتّى و هو مشرك و من أهل المكر و الحيلة و الاستبداد و الشطارة، فما كان المسلمون يأمنون شرّه و لا كيده فيهم من ثمّ دعا النبيّ عليه لكي يحمي اللّه المسلمين من شرّه، و يدفع عنهم ضرره بإظهاره الإسلام.

ص: 213


1- ذخائر العقبى: 69؛ مجمع الزوائد 9: 121؛ المعجم الكبير 22: 200؛ نظم درر السمطين: 120؛ كنز العمّال 11: 624 رقم 33040؛ شواهد التنزيل 1: 293؛ الدرّ المنثور 3: 199 و 4: 153؛ تاريخ بغداد 11: 173؛ تاريخ مدينة دمشق 6: 456 و 42: 336 و 47: 344؛ تهذيب الكمال للمزّي 33: 260؛ ميزان الاعتدال 1: 269 و 530 و 2: 76 و 382 و 3: 549؛ سبط العجمي في الكشف الحثيث: 96 و 148؛ لسان الميزان 1: 457 و 2: 268 و 484 و 3: 238 و 5: 167؛ الشفا للقاضي عياض 1: 174؛ ينابيع المودّة 1: 69 و 70 و 282 و 413 و 2: 160 و 247 و 309، هذا و لم نستند إلى كتاب واحد من كتب الشيعة على كثرتها لتكون حجّتنا على الخصوم أبلغ.
2- الأنفال: 62.
3- الحديد: 25.

الحديث الواحد و العشرون: و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر (1).

الجواب: عنوان الخيريّة يتحقّق إمّا بالحسب أو النسب، و هاتان الخصلتان موجودتان في عليّ لا في عمر.

و إمّا بالعبادة، و زعم الخصم أنّ قوله تعالى: وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (2) نزلت في عليّ عليه السّلام الذي عبد اللّه قبل عمر و عبده بعده، و كان عليه السّلام متقدّما عليهم جميعا بالسخاء و العطاء و الجهاد، و كلّما تفرضه من فعل الخير.

و إمّا بالعلم، و هو باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقول المخالف كما جاء في نكت فصول أبي الفتوح الاصفهاني نقلا عن الصحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوحى اللّه تعالى في عليّ ثلاثا: سيّد المسلمين، و إماما المتقين، و قائد الغرّ المحجّلين، و الذي يكون بهذه الصفة لا يمكن أن يكون إلّا حاكما على عمر، و خيرا منه (3).

لا يختلف المخالفون عن أبي بريرة بأنّ فاطمة عليها السّلام قالت: يا رسول اللّه، تزوّجني من عليّ بن أبي طالب و هو فقير و لا مال له، فقال: أما ترضين أنّ اللّه تعالى اطّلع على أهل الدنيا فاختار رجلين: أحدهما أبوك و الآخر بعلك.

ص: 214


1- سنن الترمذي 5: 281؛ المستدرك 3: 90؛ تحفة الأحوذي 10: 118؛ كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 573؛ الجامع الصغير 2: 499؛ كنز العمّال 11: 577 و 13: 5 رقم 36089؛ فيض القدير 5: 579 رقم 7937؛ ضعيف سنن الترمذي: 493؛ ضعفاء العقيلي 3: 4؛ تاريخ دمشق 44: 193 و 194؛ ميزان الاعتدال 2: 603؛ لسان الميزان 3: 448.
2- آل عمران: 17.
3- روضة الواعظين: 108؛ مناقب آل أبي طالب 2: 63 و 263؛ العمدة: 269؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمي الشيرازي: 41؛ الجواهر السنيّة للحرّ العاملي: 227 و 231؛ كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 303؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: 49، تحقيق آل شبيب، طب أولى 1420، ط مركز الغدير للدراسات.

و روي: إنّ اللّه تعالى قد اطّلع على أهل الدنيا فاختار منهم أباك، فاتخذه نبيّا ثمّ اطّلع ثانيا فاختار منهم بعلك (1).

و لو كان الحديث صحيحا فهل بمستطاع الخصم أن يفضل عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذا محال، و الذي يؤدّي إلى المحال محال أيضا.

الحديث الثاني و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه (2).

الجواب: يقول جار اللّه: شاور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر و عمر في شأن العبّاس و عقيل، فقال أبو بكر: يطلق سراحه، و قال عمر: يقتل، فقبل رسول اللّه قول أبي بكر و ردّ قول عمر، فلو وضع الحقّ على قلبه و لسانه لما ردّ رسول اللّه قوله.

ثمّ إنّ اللّه تعالى أوجب طاعة رسوله و الأخذ بقوله بحكم: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ (3)، وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (4) فقال لأبي بكر و عمر اقتلا ذلك المبتدع في المسجد و أعطاهما السيف، فلم يطيعا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لو وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه لما سأل حذيفة: هل أنا منافق أو لا؟ و لم يشكّ في الإسلام طرفة عين.

[حديث آخر] و بهذا يبطل قول المخالفين من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: بينا أنا نائم رأيت الناس

ص: 215


1- مناقب ابن شهر آشوب 1: 220؛ المراجعات: 304 و قال: أخرجه الخطيب في المتفق بسنده المعتبر؛ المستدرك للحاكم 3: 129.
2- منتخب مسند عبد الحميد: 245 تحقيق صبحي السامراء و محمود الصعيدي، ط النهضة العربيّة، أولى 1408؛ علل الدارقطني 6: 258؛ تاريخ مدينة دمشق 44: 97 و 103 و 48: 73.
3- الأنفال: 24.
4- الحشر: 7.

يعرضون عليّ و عليهم قمص منها ما يبلغ الثدي و منها دون ذلك، و عرض عليّ عمر ابن الخطّاب، و عليه قميص يجرّه، قالوا: فما أوّلت يا رسول اللّه؟ قال: الدين (1).

الجواب: و هذا باطل أيضا لأنّه لو كان من أهل الدين لما شكّ في الإسلام و لم يشكّ في آية لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (2) و لم يشكّ بقول الرسول و قد اعترف بذلك حين قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه أهل مكّة (3)، و مرّ بيان هذا الحديث في الحادي عشر.

الحديث الثالث و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن حتّى لأرى الري يخرج من أظافري، ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطّاب. قالوا: فما أوّلته يا رسول اللّه؟ قال: العلم (4).

الجواب: اتفق المخالفون على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال في أوّل خطبة على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد مقتل عثمان: سلوني عمّا دون العرش، سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض (5).

ص: 216


1- صحيح البخاري 4: 201 و 8: 75؛ صحيح مسلم 7: 112؛ سنن النسائي 8: 113؛ أسد الغابة 4: 62.
2- الفتح: 27.
3- المسترشد للطبري الشيعي: 535؛ الفصول المختارة: 27؛ بحار الأنوار 29: 21؛ عين العبرة لابن طاووس: 22؛ الدرّ المنثور للسيوطي 6: 77؛ سبل الهدى و الرشاد 5: 53 و سمّاه البخاري أمرا عظيما، 4: 26 و 125؛ و أخرجه مسلم 3: 1412؛ و الطبراني في الكبير 6: 109؛ و ابن سعد 1: 20؛ و انظر المجمع 3: 312 و 5: 67 عن هامش سبل الهدى و الرشاد 5: 53 تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، ط أولى 1414 دار الكتب العلميّة- بيروت.
4- صحيح البخاري 1: 29 و 8: 74 و 79 و 81.
5- نهج البلاغة 2: 130 خطب الإمام بتغيير يسير؛ كامل الزيارات: 155.

ثمّ قال: لو وضعت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم (1)، و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا برّ و لا سهل و لا جبل و لا سماء و لا أرض إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أيّ شي ء نزلت.

و قال أبو بكر الشيرازي: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2) و أهل الذكر عليّ عليه السّلام، و كان عنده علم الصحابة.

و يقرّ المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها، و قال: أقضاكم عليّ، و القضاء محتاج إلى علوم عدّة تتقدّمه، و من لا يدري هل هو مسلم أو لا، أين يقع من العلم، و لو كان يعلم لعلم معنى وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (3).

الحديث الرابع و العشرون: و قالوا: دعا رسول اللّه في مرض موته عائشة و قال: ادعي لي أبا بكر، و أخاك حتّى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ و يقول قائل: أنا و لا غيري، و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر (4).

و كذلك قالوا: أتت امرأة النبيّ فكلّمته في شي ء فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا

ص: 217


1- عوالي اللئالي 4: 128؛ نهج السعادة 7: 147؛ غوالي اللئالي 4: 128.
2- النحل: 43.
3- عبس: 31.
4- صحيح مسلم 7: 110؛ السنن الكبرى للبيهقي 8: 153؛ فتح الباري 1: 186 و 13: 177؛ كتاب الوفاة للنسائي: 26؛ السنن الكبرى 4: 253؛ الطبراني في الأوسط 5: 23 و 6: 340؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 13 و قال: غير صحيح؛ كنز العمّال 11: 546 رقم 32562؛ الطبقات الكبرى 3: 180؛ تاريخ دمشق 30: 267؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 247.

رسول اللّه، إن جئت و لم أجدك، كأنّها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر (1).

الجواب: أجمع المخالفون على أنّ النبيّ رحل عن الدنيا و لم يوص في أمر الخلافة بشي ء، فإن كان الإجماع صحيحا كان حديث عائشة باطلا و كذبا.

و أمّا قوله: «و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر» فهذا نصّ على خلافته و الخصم يدّعي الاختيار، فإن صحّ هذا فالاختيار باطل.

ثمّ إنّ قوله «و المؤمنون» يشمل بني هاشم و مواليهم و شيعتهم و أكابر الصحابة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و عمّار و محمّدا بن أبي بكر (2) و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود (3) و سعد بن عبادة الخزرجي و جماعته و بني حنيفة أجمع هؤلاء كلّهم «المؤمنون» و قد أنكر و خلافة الأوّل و أبوها و منهم من حاربه، و أضف إليهم أتباعهم أيضا.

و لقد أجمع علماء الخلاف على صحّة حديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، حديث مجمع عليه و لا يمكن تسويته بما هو مفتعل موضوع، و أمّا ما لفّقوه عن المرأة و أمر النبيّ إيّاها بإتيان أبي بكر هو باطل و معارض بحديث المصابيح حيث ورد عن ابن عبّاس: قال سألت رسول اللّه: إذا كان ما نعوذ باللّه منه، فإلى من؟ فأشار إلى عليّ عليه السّلام فقال:

هذا، فإنّه مع الحقّ و الحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماما مفترضة طاعتهم كطاعته (4).

ص: 218


1- صحيح البخاري 4: 191 و 8: 127؛ فتح الباري 7: 16.
2- محمّد رضي اللّه عنه لم يولد بعد.
3- هذا الرجل من أخبث القوم و أنصبهم لعليّ عليه السّلام.
4- الصراط المستقيم 2: 121؛ بحار الأنوار 36: 300؛ إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسيّ 2: 164 تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- قم، ط أولى، ربيع الأوّل 1417 ه- مطبعة ستارة؛ كشف الغمّة 3: 309 ط دار الأضواء- الثانية 1405- بيروت لبنان.

و كذلك رووا عن عمرو بن العاص بأنّه قال: إنّ النبيّ بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته، فقلت: أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها (1).

رددنا على هذه الفرية فيما تقدّم و هنا نقول: إنّه معارض بحديث عائشة و هو مشهور في كتب المخالفين، فقد سألوها: أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟ قالت:

فاطمة، فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها (2).

و رووا كذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أوّل من ينشقّ عنه الأرض أنا ثمّ أبو بكر ثمّ عمر.

رددنا عليه بحديث أبي بكر القائل: إنّ الرسول قال: عليّ أوّل من آمن بي، و أوّل من يصافحني يوم القيامة (3).

هذا هو عليّ عليه السّلام الذي أمر النبيّ بسدّ الأبواب من المسجد إلّا بابه، و منع

ص: 219


1- صحيح البخاري 5: 113؛ صحيح مسلم 7: 109؛ مستدرك الحاكم 4: 12؛ مسند ابن راهعويه 2: 15 ط مكتبة الإيمان- المدينة المنوّرة، أولى 1412 تحقيق برد البلوسي.
2- ذخائر العقبى: 35 و 62؛ المستدرك للحاكم 3: 157.
3- مسند زيد: 452؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 65؛ الأمالي للصدوق: 274؛ معاني الأخبار: 402؛ مجمع الزوائد 9: 102؛ معجم الكبير للطبراني 6: 269؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 228؛ نظم درر السمطين: 82؛ كنز العمّال 11: 616 رقم 32990؛ فيض القدير 4: 472؛ ضعفاء العقيلي 2: 47؛ الكامل لابن عدي 4: 229؛ تاريخ بغداد 9: 460؛ تاريخ دمشق 42: 41 و 42 و 43 و 450؛ أسد الغابة 5: 287؛ ميزان الاعتدال 1: 188 و 2: 3 و 417؛ سير أعلام النبلاء 23: 79؛ لسان الميزان 1: 457 و 2: 414 و 3: 283؛ الإصابة 7: 294؛ البلاذري في أنساب الأشراف: 118؛ المقريزي في النزاع و التخاصم: 129؛ ينابيع المودّة 1: 195 و 244 و 387.

الصحابة من سلوك المسجد إلّا عليّا، فقد كان كرسول اللّه يخرج و يدخل من الباب الذي ظلّ مفتوحا.

جاء في المصابيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: لا يحلّ لأحد يجنب في المسجد غيري و غيرك (1).

قال حمّاد بن صرد: معناه: لا يحلّ لأحد يستطرقه جنبا غيري و غيرك.

و في رواية: في هذا المسجد غيري و غيرك، فإذا كان النبيّ في حياته سدّ في وجههم الباب و فتحه لعليّ فكيف يجوز فتحه في وجوههم يوم القيامة و قد حرّم عليهم في الدنيا مع أنّهم لم يشهدوا جنازة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رقدوا في بيت رسول اللّه بدون إذن فاطمة عليها السلام هذه السنين.

و جاء جواب آخر في نكت الفصول للعجلي: بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشّر فاطمة بأنّها أوّل أهله لحوقا به، فتوفّيت بعد رسول اللّه، فإذا كانت فاطمة عنده كما يقول بذلك الخصم أيضا فكيف يحضرهما رجل أجنبيّ، قال اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2)، فإذا كانت فاطمة مع أبيها، فما من أحد يستطيع

ص: 220


1- روضة الطالبين 5: 352. قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلّا من هذا الوجه؛ حواشي الشرواني 1: 271 ط دار إحياء التراث العربي- بيروت؛ البحر الرائق لابن نجيم المصري 1: 340؛ فتح الباري 7: 13؛ تحفة الأحوذي 9: 140 و 10: 113؛ الأسعودي في فضائل سنن الترمذي: 40؛ القول المسدّد لابن حجر: 19 ط مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، أولى 1401؛ كنز العمّال 11: 626 رقم 33051 و 33052؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 95؛ كشف الخفاء 2: 383؛ فتح الملك العلي: 46؛ تفسير ابن كثير 1: 513؛ تاريخ دمشق 42: 140؛ تهذيب الكمال 26: 252؛ ذيل تذكرة الحفّاظ: 214؛ سير أعلام النبلاء 13: 273؛ من له رواية في الكتب الستّة 1: 107؛ تهذيب التهذيب 9: 344؛ البداية و النهاية 7: 379 و 11: 77؛ نهج الإيمان لابن جبر: 444؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 423؛ ينابيع المودّة 2: 170 و 394.
2- الطور: 21.

خرق حجاب النور المضروب عليها، و اجتمعت كلمة المنافقين أنّ فاطمة إذا دخلت عرصة القيامة نادى مناد: يا أهل الموقف، غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1).

و إذا ما قال المخالف: يفرق في القيامة بينها و بين أبيها، فإنّنا نقول: نعوذ باللّه ممّن يفرق بينها و بين أبيها لأنّه حينئذ يسلك به إلى جهنّم في طريق مستقيم.

و لو قال مخالفنا بأنّ نشر الزهراء بعيد عن نشر أبيها يوم القيامة، فإنّنا نقول:

و هذا القول يضرّ مخالفنا و لا ينفعه و ينقض عليه قوله.

الحديث الخامس و العشرون: و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل فأخذ بيدي، فأتى باب الجنّة الذي يدخل أمّتي، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، وددت أنّي كنت معك حتّى أنظر إليك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما إنّك يا أبا بكر، أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي (2).

الجواب: الحديث منقوض بما رواه السلماني و الزمخشري من علماء أهل السنّة في تفاسيرهم، عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا، و ذرّيّتنا خلف أزواجنا، و شيعتنا من ورائنا (3).

هذا الحديث يكذّب الحديث الأوّل و يصدّق الشيعة، و الحديث الأوّل رواية

ص: 221


1- مستدرك الحاكم 3: 153: صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، و ص 161؛ لسان الميزان 2: 415 و 3: 237 و 395.
2- سنن أبي داود 2: 402؛ عون المعبود 12: 265؛ المعجم الأوسط 2: 93؛ كنز العمّال 11: 544 رقم 32551، و ص 575 رقم 32624؛ تاريخ دمشق 30: 105 و 106؛ تهذيب الكمال 33: 278؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 256.
3- سبق تخريج هذا الحديث.

سفيان و تكذيب الشيعة لهذا الحديث يستند إلى القرآن، قال اللّه تعالى: أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (1) و ليس دخول الجنّة بالطمع وحده بل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (2).

الحديث السادس و العشرون: و قالوا أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره.

الجواب: هذا الحديث باطل برواية الخصم الذي قال: صلّوا خلف كلّ برّ و فاجر (3). فإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أذن بالصلاة وراء كلّ برّ و فاجر فلا بدع أن يكون أبو بكر فاجرا.

و قال رسول اللّه أيضا- كما يزعمون-: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، و لم يفضل أحدا على أحد و إنّما ساوى بالاقتداء بينهم جميعا، فيكون التخصيص بأبي بكر من ضمن المفتريات على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و هذا الحديث مطلق ينسحب على زمن النبي في حياته و بعد وفاته فينبغي أن يكون رسول اللّه ائتمّ بأبي بكر لئلّا يكون من مصاديق الآية: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (4) و ليس من اللائق بجنابه أن يأمر أمّته بأمر ثمّ لا يجريه مع الإمكان، و لا يقول بائتمامه بأبي بكر مسلم.

ص: 222


1- المعارج: 38.
2- التوبة: 111.
3- شرح الأزهار لأحمد المرتضى 1: 282؛ فتح العزيز لعبد الكريم الرافعي 4: 331، ط دار الفكر؛ شرح النووي 5: 268 ط دار الفكر؛ تلخيص الحبير لابن حجر 4: 331؛ مغني المحتاج 3: 75، ط دار إحياء التراث العربي، 1377؛ المبسوط للسرخسي 1: 40؛ تحفة الفقهاء للسمرقندي 1: 229؛ بدايع الصنايع للكاشاني 1: 156؛ الجوهر النقي للمارديني 4: 19؛ البحر الرائق 1: 610 و 8: 334؛ نيل الأوطار 1: 429؛ سنن البيهقي 4: 19.
4- البقرة: 44.

الحديث السابع و العشرون: و رووا أيضا عن الصحابة بأنّهم قالوا: كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدا ثمّ عمر ثمّ عثمان، ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم.

و روي: كنّا نقول و رسول اللّه حيّ: أفضل أمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعده أبو بكر، ثمّ عمر ثمّ عثمان (1).

الجواب: هذا الحديث باطل بناءا على ما رواه المخالف الذي روى حديث النبيّ في فضل عليّ عليه السّلام أنّه قال: أعلمكم و أفضلكم عليّ.

و جاء في كتاب النكت عن عائشة أنّها قالت: كنت عند النبيّ إذ أقبل عليّ، فقال: هذا سيّد العرب. فقلت: بأبي أنت و أمّي، ألست سيّد العرب؟ فقال: أنا سيّد العالمين و هو سيّد العرب (2).

و ذكر السلماني و الزمخشري في تفسيريهما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سبّاق الأمم

ص: 223


1- صحيح البخاري 4: 203؛ سنن أبي داود 2: 397؛ فتح الباري 7: 14؛ كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 553؛ سير أعلام النبلاء 10: 463؛ الإصابة 1: 24؛ البداية و النهاية 7: 230.
2- ابن عابدين، حاشية ردّ المختار 3: 690؛ ذخائر العقبى: 70؛ المستدرك 3: 124؛ مجمع الزوائد 9: 116 و 131؛ المعجم الأوسط 2: 127؛ المعجم الكبير 3: 88؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 170 و 11: 66؛ كنز العمّال 11: 618 رقم 33007 و رقم 33008، و 13: 143 رقم 36448، و ص 145 رقم 336456؛ فيض القدير 3: 60؛ كشف الخفاء 1: 462 و 2: 71؛ إرغام المبتدع الغبي للسقاف: 58؛ الردّ على الألباني المبتدع، لعبد اللّه بن الصدّيق: 5 و 6؛ تاريخ بغداد 11: 90 و 91؛ تاريخ دمشق 42: 304 و 305 و 306؛ ذيل تاريخ بغداد 5: 60؛ ميزان الاعتدال 3: 185 و هو و إن زعم أنّ متنه باطل إلّا أنّه متّهم على ما يحكم به على الأحاديث في أهل البيت، و 4: 115؛ الكشف الحثيث: 194، و فيه يقول الذهبي: و يعمل بالظنّ؛ لسان الميزان 4: 290 و 6: 39؛ ذكر أخبار اصفهان 1: 308؛ جواهر المطالب 1: 105؛ ينابيع المودّة 1: 265 و 266 و 277، و 2: 74 و 161 و 281.

ثلاثة، لم يكفروا باللّه طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون، و هم الصدّيقون و عليّ أفضلهم.

و ما قاله قائلهم: ثمّ نترك أصحاب رسول اللّه لا نفاضل بينهم، فهذا خلاف لقول اللّه تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (1)، و من الطبيعي أن لا يكونوا جميعا سواء في التقوى و إلّا لكان هذا الكلام لغوا و كان وجود المنافقين كالعدم.

و قال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (2) و هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (3)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (4)، و: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً (5)، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا (6)، و قال: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (7).

و هذه الدرجة الأوليّة في القرآن الكريم، و أجمع أهل القبلة على أنّ النبيّ كان يقرّب أهل بدر أكثر من غيرهم، و يدني مجلسهم من مجلسه في المسجد.

و أمّا باقي الصحابة فقد قال في حقّ سلمان: «سلمان منّا أهل البيت».

و قال لعمّار: خالط الإيمان لحمه و دمه، يدور مع الحقّ حيث ما دار، و كذلك أبو ذر.

و أمّا عليّ فقد كان تقديمه أظهر من الشمس كما كشفنا مضمره فيما سلف.

ص: 224


1- الحجرات: 13.
2- الزمر: 9.
3- الأنعام: 50، الرعد: 16.
4- المجادلة: 11.
5- الحديد: 10.
6- الأنفال: 72.
7- التوبة: 100.

فتبيّن من هذا أنّ القرآن و الإجماع يدلّان على كذب هذا الحديث و الإجماع حاصل على أنّ عثمان لم يكن بدريّا. كامل البهائي ج 1 225 الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم ..... ص : 176

الحديث الثامن و العشرون: و قالوا عن النبيّ بأنّه قال لأبي بكر: أنت صاحبي في الغار، و صاحبي في الحوض (1).

الجواب: لمّا كان أبو بكر صاحبه في الغار فينبغي أن يكون صاحبه في موضع آخر بناء على قائل هذا الدليل، بينما أمر النبي عليّا أن ينام في فراشه حتّى نزلت بحقّه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2) و بالطبع رتبة صاحب الفراش أرفع من رتبة صاحب الغار، لأنّ هذه الخدمة ممكنة لكلّ أحد، أمّا تلك الخدمة فليست إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ.

و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه الأرقط كان من الصحابة الذين حضروا في الغار مع النبي (3) و ليست الصحبة في الغار ذات مستوى رفيع ليتباهوا بها فقد كانت السباع و الوحوش و الأبالسة مع نوح في السفينة شهورا متعدّدة، و مثله يقال في أهل الكهف و صاحبهم الكلب. و سيأتي مزيد كلام حول هذا المعنى إن شاء اللّه.

ص: 225


1- مجمع الزوائد 9: 50؛ فتح الباري 8: 239؛ حديث خيثمة: 137، تحقيق التدمري، ط دار الكتاب العربي- بيروت 1400؛ صحيح ابن حبان 15: 17؛ المعجم الكبير 11: 316؛ ابن عمرو النقّاش في فوائد العراقيين: 23، تحقيق مجدي السيّد إبراهيم، ط مكتبة القرآن- القاهرة؛ تفسير الطبري 10: 84؛ شواهد التنزيل 1: 315 و 316؛ زاد المسير 3: 266؛ الدرّ المنثور 3: 241؛ الكامل لابن عدي 3: 256؛ تاريخ دمشق 3: 89 الخ.
2- البقرة: 207.
3- لم يشر المؤلّف إلى المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة لنتابعه، و الآية تردّ ذلك لأنّ اللّه تعالى يقول: «ثاني اثنينى» فلو كان معهما ثالث لقال: ثالث ثلاثة أو أكثر.

ثمّ إنّ بني هاشم بصفة عامّة و عليّ بصفة خاصّة هاشميّ و قرشيّ و ابن عمّ و صهر و ناصر و ابن ناصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أخ كما قال: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (1)، كما جاء في مصابيحهم.

و كان نجيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، جاء في المصابيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما انتجيته و لكنّ اللّه انتجاه (2). و للحديث دلالة واضحة تشبّه عليّا بموسى بن عمران، فكلاهما ناجاه اللّه تعالى.

و قال سلمان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوّلكم ورودا عليّ الحوض، و أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب (3).

ص: 226


1- ذخائر العقبى: 66؛ سنن الترمذي 5: 300؛ المستدرك 3: 14؛ شرح ابن أبي الحديد 13: 227؛ نظم درر السمطين: 94 و 119؛ الجامع الصغير 2: 176؛ كنز العمّال 11: 598 رقم 32879؛ تذكرة الموضوعات: 97؛ فيض القدير 4: 468؛ ردّ اعتبار الجامع الصغير: 16؛ الكامل ابن عدي 2: 166 و 219؛ تاريخ دمشق 42: 51 و 52 و 96؛ أسد الغابة 4: 16 و 29؛ تهذيب الكمال 5: 126 و 20: 484؛ ميزان الاعتدال 1: 421؛ البداية و النهاية 7: 371؛ عيون الأثر لابن سيّد الناس 1: 264؛ سبل الهدى و الرشاد 3: 363 و 364، و 11: 297؛ ينابيع المودّة 1: 159 و 178 و 242، و 2: 77 و 96 و 289 و 392.
2- ذخائر العقبى: 85؛ سنن الترمذي 5: 303؛ كتاب السنّة: 584؛ مسند أبي يعلى 4: 119؛ المعجم الكبير 2: 186؛ شرح ابن أبي الحديد 7: 24 و 9: 173؛ كنز العمّال 11: 625 رقم 33049 و 12: 139؛ ضعيف سنن الترمذي: 502؛ شواهد التنزيل 2: 325 و 326 و 327 و 328 و 424؛ الكامل لابن عدي 1: 428 و 6: 247؛ تاريخ بغداد 7: 414؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 315 و 316 و 317؛ أسد الغابة 4: 27؛ ذكر أخبار اصبهان 1: 141؛ البداية و النهاية 7: 393؛ ينابيع المودّة 1: 183 و 184 و 2: 494.
3- شرح ابن أبي الحديد 13: 299؛ مسند زيد: 455؛ المستدرك 2: 136؛ تاريخ بغداد 2: 79؛ النصائح الكافية: 237.

عن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تطرد بها المنافقين عن حوضي (1).

و يقول أمير المؤمنين للحارث الهمداني:

أسقيك من بارد على ظمإتخاله في الحلاوة العسلا أمّا الأحاديث الواردة عن طريق الشيعة، فعن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يا علي، أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، و تمنعون من كرهتم، و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و تحزن الناس و لا تحزنون، فيكم نزلت الآية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (2). (3)

و سئل رسول اللّه عن الحوض، فقال: إنّ الحوض عرضه ما بين صنعاء إلى إيله، و إنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السماء، عليه أمير المؤمنين، يسقي منه أوليائه، و يبعد عنه أعدائه بالعصى التي معه، و هي عصى من عوسج يسمّى نفعه.

قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:

لنحن على الحوض روّاده نذود و نسقي ورّاده

و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده

ص: 227


1- مجمع الزوائد 9: 135؛ المعجم الصغير 2: 89؛ ميزان الاعتدال 2: 178؛ تهذيب التهذيب 4: 249؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي 1: 233؛ ينابيع المودّة 1: 396 و 2: 375 و 462.
2- الأنبياء: 101.
3- الأمالي للصدوق: 657؛ شرح الأخبار 2: 397 و 3: 444؛ فضائل الشيعة للصدوق: 16؛ بحار الأنوار 7: 179 و 8: 28 و 39: 307 و 65: 46؛ تفسير فرات الكوفي: 268؛ تفسير الصافي 3: 356؛ الأصفى 2: 792؛ تفسير نور الثقلين للحويزي 3: 460؛ تفسير الميزان 14: 336؛ بشارة المصطفى: 278؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: 331؛ الشيعة في أحاديث الفريقين لمرتضى الأبطحي: 66.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده (1) الحديث التاسع و العشرون: عن حفصة بنت عمر، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم جالسا و قد وضع ثوبه على ركبته، فجاء أبو بكر فاستأذن له و الرسول على هيئته، ثمّ جاء عمر و كان على هيئته، ثمّ جاء عليّ و كان على هيئته، ثمّ ناس من أصحابه و كان على هيئته، ثمّ جاء عثمان يستأذنه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثوبه فتحلّله، قالت: فتحدّثوا فخرجوا، فقلت: يا رسول اللّه، جاء أبو بكر و عمر و عليّ و الناس من أصحابك و أنت على هيئتك، فلمّا جاء عثمان تحلّلت بثوبك! فقال صلّى اللّه عليه و آله: أما نستحي ممّن يستحي الملائكة (كذا) .. (2).

و في رواية أخرى للمصابيح أنّه قال: إنّ عثمان رجل حيي و خفت أن أئذن له و أنا على هذه الهيئة فلا يفضي بحاجته حياءا.

الجواب: أين كان حياءه يوم ولّى منهزما في حرب أحد (3) و لمّا قتل حمزة دخل

ص: 228


1- مناقب ابن شهر آشوب 3: 295؛ بحار الأنوار 6: 181؛ ذكر الأبيات و فيها تغيير يسير و لم ينسبها للإمام السجّاد عليه السّلام، و 46: 91 ذكر نسبتها، و ص 271 نسبها للباقر عليه السّلام؛ مستدرك سفينة البحار 5: 472؛ نهج السعادة للمحمودي، نسبها في الهامش إلى الباقر عليه السّلام؛ بشارة المصطفى: 179؛ كشف الغمّة 2: 354 نسبها للباقر عليه السّلام؛ ينابيع المودّة 1: 80 نسبها للباقر عليه السّلام، و 3: 136.
2- الغدير 9: 290 و قال مولانا الأميني: ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 203، فقال: هذا حديث غريب، و في سنده ضعف؛ المعجم الكبير 12: 252؛ كتاب المجروحين 1: 110؛ البداية و النهاية 7: 228 تحقيق علي شيري، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، أولى.
3- لا ملازمة بين الحياء و الشجاعة، و قد قيل إنّ الحيي لا يكون شجاعا، و لذا تمدح فيمن جمع الخصلتين: يغضي حياء و يفضى من مهابته فلا يكلّم إلّا حين يبتسم و لكن عثمان لا يدلّ هربه على صلفه بل كان من الشجرة الملعونة التي ذكرها السيّد حيدر فقال: صلابة أعلاك الذي بلل الحيابه جفّ أم من لين أسفلك الندي

الوهن على مقاتلة المسلمين و كان عثمان أوّل من هرب منهم و هو سبب هذا الوهن، و لم يعد إلّا بعد مضيّ ثلاثة أيّام، و اختبأ في غار هناك.

و أين كان حيائه يوم حنين لمّا هرب كالغزال في الهزيمة.

و لمّا تلاحيا هو و يهودي، قاضاه إلى حكم يهوديّ و قاضاه اليهودي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يرض ذلك عثمان لعنه اللّه حتّى نزلت هذه الآية: لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (1)، فأين طار حيائه يومئذ؟!

و لمّا آوى طريد رسول اللّه مروان و صيّره وزيرا مقرّبا، و نفى أبا ذر إلى الربذة أين كان حيائه؟ و أين كان حيائه و هو يقصف بيت المال قصفا؟

و لست أدري في أيّ بقعة من بدنه كان حيائه يوم ولّى على بلاد المسلمين حمارا يعاقرها صرفا غير مشمولة و يصلّي بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات، و كان عثمان يعلم به و لا يمنعه؟

و أين كان حيائه أيضا حين سلّط بني أميّة على أشعار المسلمين و أبشارهم؟

في كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: إنّ عثمان كان يأمر للرجل الواحد بمائة ألف درهم. قال: ثمّ قدم عليه عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أميّة فوصله بثلاثمائة ألف .. (2).

ثمّ بعث إلى الحكم بن أبي العاص فردّه إلى المدينة و هو طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ

ص: 229


1- النساء: 65.
2- ذكر المؤلّف أنّها ثلاثمائة ألف من بيت المال.

وصله بمأة ألف درهم من بيت مال المسلمين (و جعل له خمس أفريقيا) (1).

و بينما كان عثمان يبدّد بيت المال هنا و هناك، كان أبناء المهاجرين و الأنصار و معهم بنو هاشم و هم آل رسول اللّه و أقربائه، يتضوّرون جوعا، فأين كان حيائه و هو يخالف سنّة المصطفى؟

قال: فكبر ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كرهوا ذلك من فعله- لمّا رأوا من جوره و إتلافه أموال المسلمين، و ما عليه أبناء المهاجرين و الأنصار من الضعة و الهوان، و ما يرفل فيه بنو أميّة من الملك و الرفاهيّة ... المؤلّف- ثمّ إنّهم كتبوا كتابا و ذكروا كلّ حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم، ثمّ إنّهم خوّفوه في الكتاب و أعلموه أنّه إن لم ينزع عمّا هو عليه خلعوه و استبدلوا به غيره.

قال: فكتبوا هذا الكتاب، ثمّ قالوا: ننطلق به جميعا حتّى نضعه في يده فإنّنا إن ذهبنا نكلّمه و ليس معنا كتاب لم يحضرنا من الكلام ما نريد، ثمّ أقبلوا على عمّار بن ياسر و قالوا له: يا أبا اليقظان، هل لك أن تكفينا هذا الأمر و تنطلق بالكتاب إلى عثمان؟ فقال عمّار: أفعله، ثمّ أخذ الكتاب و انطلق إلى عثمان ... فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضربا شديدا حتّى وقع لجنبه ثمّ تقدّم إليه عثمان فوطئ بطنه و مذاكيره حتّى غشي عليه و أصابه الفتق، فسقط لما به لا يعقل من أمره شيئا ...

ثمّ انطلقوا- بنو مخزوم- بعمّار إلى منزله مغشيّا عليه، فلم يصلّ ظهرا و لا عصرا و لا مغربا و لا عشاءا حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلاته كلّها (2).

فقام أصحاب رسول اللّه من أجل هذا التصرّف الأهوج و قتلوه، و صاحب

ص: 230


1- الفتوح 2: 369 و 370 ط دار الكتب العلميّة، 1406- أولى.
2- الفتوح 2: 370 و 372، و المؤلّف حذف فقرات من الرواية و ذكر ما يتمّ به الشاهد فحسب.

الفتوح لا يتّهم على ما ينقل عن نعثل لأنّه من كبار أهل السنّة و الجماعة.

و نتسائل الآن بعد ما ذكر عن حيائه و هو يضرب صحابيّا كبيرا من طراز عمّار ابن ياسر مع أنّ النبيّ قال- على ما يزعم الخصم-: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عثمان و عمّار، و هذا الحديث مذكور في كتاب «النكت العجلى».

قال صاحب الفتوح: فبلغ ذلك أبا ذر و كان مقيما بالشام، فجعل يظهر عيب عثمان هناك و يذكر منه خصالا قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان ...

فكتب إليه عثمان لعنه اللّه: فابعث به إليّ و احمله على أغلظ المراكب و أوعرها، و ابعث معه دليلا يسير به الليل مع النهار حتّى يغلبه النوم فينسيه ذكري و ذكرك.

قال: فقدم بأبي ذر المدينة و قد سقط لحم فخذيه ... قال: ثمّ أمر مروان بن الحكم أن يخرج أبا ذر من المدينة على بعير بغير وطاء (1)- إلى الربذة- و تبعه جماعة من الناس يشيّعونه و يحزنون لحزنه، منهم عليّ و الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم و عمّار بن ياسر و المقداد بن الأسود و عيينة بن عبّاس (كذا) (2) و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يعزّي أبا ذر عمّا نزل به و ينصحه و يوصيه بالصبر و الشكر، و المؤمنون يبكون لأبي ذر، و ودّعه أمير المؤمنين عليه السّلام و الحزن غالب عليه، و لمّا رجع من وداعه، استقبله مروان فقال: أليس قد أمر أمير المؤمنين أن لا يخرج أحد مع هذا الشيخ و لا يشيّعه أحد من الصحابة؟ قال: فرفع عليّ عليه السّلام (رضي اللّه عنه) قضيبا كان في يده فضرب به بين أذني بعير مروان ثمّ قال: إليك عنّا يابن الزرقاء، أمثلك يعترض علينا في الذي نصنع؟

قال: فرجع مروان إلى عثمان فأخبره بذلك، (فاستدعى عثمان أمير المؤمنين

ص: 231


1- الفتوح 2: 373 و 375 مع حذف بعض الفقرات من المؤلّف.
2- نفسه 2: 375 و ذكر المؤلّف أنّه عبد اللّه بن عبّاس و هو الصواب.

و عاتبه بكلام شديد .. المؤلّف) فقال عليّ عليه السّلام: ليس كلّ ما تأمر به يجب أن نقبل، و إن كان غير صواب.

فقال عثمان: هذا مروان يذكر أنّك ضربت بين أذني بعيره و شتمته، فأرضه من حقّه!

فقال عليّ عليه السّلام: هذا بعيري فليضرب بين أذنيه كما ضربت بين أذني بعيره و أمّا الشتيمة (1) فو اللّه لئن شتمني مروان لأشتمنّك لأنّ مروان ليس لي بكفؤ فأشاتمه (2).

قال: و لم يزل أبو ذر مقيما بالربذة يغشاه الصادر و الوارد من الحاج و غيرهم، فيعرضون عليه الحوائج فلا يقبل من أحد شيئا إلى أن حضرته الوفاة (3) ...

قال: و بلغ ذلك عثمان فقال: رحم اللّه أبا ذر، فقال عمّار بن ياسر: رحم اللّه أبا ذر من كلّ قلوبنا.

قال: فغضب عثمان ثمّ قال: يا كذا و كذا، أتظنّ أنّي ندمت على تسييره إلى الربذة؟ فقال عمّار: لا و اللّه ما أرى ذلك، فقال عثمان: ادفعوا في قفاه و أنت فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر و لا تبرحه أبدا ما بقيت و أنا حيّ. فقال عمّار: و اللّه إنّ جوار السباع لأحبّ من جوارك.

ثمّ قام عمّار فخرج من عنده، قال: و عزم عثمان على نفي عمّار. و أقبلت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه فقالوا: إنّه يا أبا الحسن، قد علمت بأنّا أخوال أبيك أبي طالب و هذا عثمان بن عفّان قد أمر بتسيير عمّار بن ياسر و قد أحببنا أن نلقاه فنكلّمه في ذلك و نسأله أن يكفّ عنه و لا يؤذينا فيه ...

ص: 232


1- عند المؤلّف: و أمّا الشتيمة فما شاتمته لأنّه ليس لي بكفؤ فأشاتمه.
2- الفتوح 2: 375.
3- هذه هي عبارة صاحب الفتوح، و المؤلّف أخذ منه و لكنّه غيّر العبارة إلى قوله: يغشاه الصادر و الوارد و يعطونه القوت إلى أن وافته المنيّة. (راجع الفتوح نفس الجزء و الصفحة).

إلى أن يقول صاحب الفتوح: فقال عثمان: لأنت أحقّ بالمسير منه، فو اللّه ما أفسد عليّ عمّارا و غيره سواك! فقال عليّ رضى اللّه عنه: و اللّه يا عثمان! ما أنت بقادر على ذلك و لا إليه بواصل، فرم ذلك إن شئت .. ثمّ قول صاحب الفتوح (1).

أيّها العزيز! انظر الواقع بعين العبرة تعرف معنى حياء عثمان، نعم هذا هو الحياء الذي حمله على السلوك الخشن مع الأبرار من الصحابة مثل أبي ذر و عمّار، و على الكلام غير اللائق مع عليّ عليه السّلام الذي سمعته، سبحان اللّه من هذا الكذب الذي ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سبحانك هذا بهتان عظيم.

و أمّا قوله عن النبيّ من أنّه أبرز ركبتيه فإنّهما في مذهب أهل السنّة و الجماعة من العورة و يجب سترهما فكيف يجوز نسبة إبدائهما مع كونهما كما ذكرنا بين الحاضرين و لقد أجمع المسلمون على أنّ مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجلس حلم و حياء، و هذا يرشدنا إلى كذب الحديث، أنّ نسبة هذا إلى النبيّ يحتاج إلى وقاحة زائدة لكي يقولوا عثمان أكثر تمسّكا بالأخلاق منه، و أجدر بالحياة الفاضلة، و ليس في الناس أشدّ حياءا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث وصفه اللّه تعالى بقوله: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) و لم ينزل في حياء عثمان شي ء من كتاب اللّه تعالى، و صدق اللّه حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (3).

الحديث الثلاثون: و تحدّثوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لمّا عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلّا وجدت مكتوبا: محمّد رسول اللّه، و أبو بكر زوجه ابنته و حمله إلى دار الهجرة، و أعتق بلالا

ص: 233


1- فيه زيادة على ما نقله المؤلّف يسيرة (انظر ج 2 منه ص 276 و 277).
2- الأحزاب: 53.
3- التوبة: 31.

من ماله، و ما نفعني في الإسلام مال كمال أبي بكر، و رحم اللّه عثمان؛ تسبيحه كتسبيح الملائكة، و جهّز جيش العسرة، و زاد في مسجدنا حتّى وسعنا (1).

الجواب: أجمع المحقّقون و علماء الإسلام أنّه مكتوب على ساق العرش:

«لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، أيّدته بعليّ و نصرته ...» (2).

و اشتهر عند علماء الإماميّة أنّ النبيّ لمّا عاد من المعراج قال: جائتني الملائكة و أنا في المعراج أفواجا أفواجا يسلّمون عليّ و يسألوني عن عليّ عليه السّلام بهذه العبارة:

كيف ابن عمّك عليّ بن أبي طالب.

و لمّا نزلت من المعراج قالوا بأجمعهم: اقرأ على ابن عمّك منّا السلام، فقال أمير المؤمنين: أو كنت معروفا هناك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنت معروف في السماء و مشهور في الأرض.

و قال أبو بكر الشيرازي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا بلغت العرش رأيت عليّا يسبّح اللّه و يقدّسه تحت العرش، فقلت لجبرئيل عليه السّلام: سبقني عليّ بن أبي طالب؟! فقال جبرئيل: لا يا محمّد و لكنّي أخبرك، اعلم يا محمّد أنّ اللّه عزّ و جلّ يكثر من الصلاة و الثناء على عليّ بن أبي طالب فوق عرشه فاشتاق العرش إلى علّي بن أبي طالب عليه السّلام فخلق اللّه عزّ و جلّ هذا الملك على صورة عليّ بن أبي طالب تحت عرشه

ص: 234


1- الظاهر أنّ هذا ليس حديثا واحدة بل هي جملة أحاديث جمعها المؤلّف في سياق واحد و ليس بنا من حاجة إلى تخريج هذه الموضوعات!!
2- نظم درر السمطين: 120؛ تاريخ بغداد 11: 173؛ تاريخ مدينة دمشق 47: 344؛ سبط ابن العجمي في الكشف الحثيث: 96؛ لسان الميزان 3: 238 و 5: 167، و هذا غير الكتب الشيعيّة التي أخرجت الحديث و هي كثيرة مثل كفاية الأثر، روضة الواعظين، مناقب أمير المؤمنين، الروضة في المعجزات، المحتضر، الجواهر السنيّة، مدينة المعاجز و غيرها إلّا أنّ السياق ليس واحدا فقد يتفق مع سياق المؤلّف و قد يزيد عليه، و لكن المؤدّى واحد.

لينظر إليه العرش فيسكن شوقه، و جعل تسبيح هذا الملك و تحميده ثوابا لشيعته و شيعة أهل بيتك يا محمّد.

ثمّ قال: يا محمّد، أحبّ عليّ بن أبي طالب فإنّ اللّه يحبّه و يحبّ من يحبّه، إنّه لا يحبّه إلّا مؤمن تقي، و لا يبغه إلّا منافق ردي، يا محمّد، إنّ حملة العرش و الكرسي و الصافّين حول العرش و الكرّوبيّين و الروحانيّين أشدّ معرفة لعليّ بن أبي طالب من أهل الأرض له.

يا محمّد، من أحبّ أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في زهده، و إلى المسيح في صومه، و إلى سليمان في سخائه، و إلى موسى الكليم في غلظته، و إلى داود في خلقه و بكائه، فلينظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و يقول المخالف: إنّ عمر وضع في الميزان فرجح على النبيّ و أبي بكر و العلم كلّه ثلاث مرّات، فكتب اسمه في السماوات أولى من أبي بكر، و أحسب أنّ واضع هذا الكذب و الافتراء فاته أنّ عمر أيضا زوّجه ابنته فيكون عمر بناءا على ما يدّعيه الخصم أفضل من أبي بكر لرجحانه في الميزان.

و كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمانية عشر امرأة أكبرهنّ خديجة، ثمّ أمّ سلمة، و عائشة هي تلك المرأة التي اعتلت غارب الجمل و قادت العسكر، و برزت امام الناس، و كتّبت الكتائب من الميمنة إلى الميسرة كما ذكر المؤرّخون، و أهل الجمل ملعونون عند اللّه تعالى و هم عند الشيعة مرتدّون و كفّار، فإذا ما فخر الخصم بعائشة و أضافوها إلى حسنات أبيها المزعومة فإنّ فاطمة هي الأولى بإجماع المفسّرين: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) و هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. و حكاية هذا الحديث كما أجمع عليه المفسّرون ما روته أمّ سلمة

ص: 235


1- الأحزاب: 33.

رضي اللّه عنها و الاتفاق حاصل على معناه و لكن الاختلاف في ألفاظه .. قالت:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عندي و طبخت له طعاما و هو قائل في البيت إذ أقبل الحسنان و جلسا عند جدّهما، و جائت فاطمة عليها السّلام و جلست إلى جانب أبيها ثمّ جاء عليّ بعدها، فلمّا استيقظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأيته و البشر طافح على وجهه الشريف، فرأى بردا خيبريّا موضوعا هناك فأخذه و جلّلهم به، و قال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فهبط جبرئيل بهذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ، الآية، فقالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، ألست من أهل بيتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك إلى خير و إنّما أهل بيتي هؤلاء (1).

و ذكر الأبيات التالية أبو عبد اللّه الدامغاني و هو من أهل الحديث، في كتابه سوق العروس، في شرح هذه الآية:

إنّ يوم الطهور يوم عظيم فاز بالفضل فيه أهل الكساء

قام فيه النبيّ مبتهلا ضارعا إلى ربّه بحسن الرجاء

قال يا ربّ إنّهم أهل بيتي فاستجب فيهم إلهي دعائي

أذهب الرجس عنهم و عن الأبناء منهم و عن بني الأبناء

رحمة اللّه و السلام عليكم و صلاة الأبرار و الأتقياء (2)

ص: 236


1- تذكرة الفقهاء للحلّي 2: 477؛ كشف الغطاء لجعفر كاشف الغطاء 1: 8؛ الشرح الكبير لابن قدامة 6: 230؛ ذخائر العقبى: 23؛ الجمل لضامر بن شدقم: 150، تحقيق تحسين الموسوي، ط أولى، مطبعة (محمّد)؛ الأربعين للماحوزي: 41؛ خصائص النسائي: 49 و 81؛ المعجم الأوسط 4: 236؛ نظم درر السمطين: 133؛ التبيان 8: 339؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: 42 و 136 و 138؛ صحيفة الإمام الحسن للقيّومي: 178، ط دفتر انتشارات اسلامي؛ السيّدة فاطمة الزهراء للبيومي: 24 و 25.
2- ذكرها في ذيل كشف الظنون و نسبها إلى الدامغاني: 55، و في البيت الثاني زحاف. و ذكرها في الذريعة منسوبة إليه من كتابه سوق العروس 12: 256 الذريعة و ص 257، و في الذريعة: يوم التطهير، و هو أنسب.

و كان زواج الزهراء في السماء أو في الجنّة باختلاف الروايات التي رواها المخالف و المؤالف، و قد شرحت هذا المجلس في كتاب مناقب الطاهرين و إنّما ذكرناه هنا بأخصر عبارة لتعمّ به الفائدة.

قال أبو بكر الشيرازي: قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: كنت يوما بين يدي النبي في المسجد، فأقبل أبو بكر على النبي و قال: يا رسول اللّه، إنّك تعرف صحبتي لك و تركي قومي في الهجرة لأجلك و إنفاقي ما لي عليك، و أعتقت بلالا من أجلك و جئتك اليوم لتزوّجني ابنتك فاطمة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حتّى ينزل الوحي بهذا، فخرج من عنده فاستقبله عمر بن الخطّاب فسأله عن أمره، فقال: كنت عند رسول اللّه، و قصّ عليه القصّة، فأقبل عمر حتّى دخل على النبيّ المسجد و حكى له ما كانت عليه حاله من الإسلام و الهجرة و المحبّة و الجهاد في الإسلام، و طلب منه يد سيّدتنا فاطمة، فقال النبي: إنّما أمري و أمرها إلى اللّه فما لم يأذن بذلك لا أفعله.

فقال عمر: فخرجت من عنده فتلاقيت و عليّا في الطريق، فقال لي: من أين أقبلت يا أبا حفص؟ فقلت: حضرت عند النبيّ و خطبت فاطمة فأوكل أمرها إلى الوحي.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جلست إلى جانبه و قلت:

يا رسول اللّه، إنّك تعرف حقّي و حقّ أبي طالب عليك و تعرف قرابتي منك و جهادي الكفّار، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجهي و قال: يا علي، هل من حاجة؟ فأجبته:

جئتك خاطبا ابنتك فاطمة، فقال النبيّ: و هل معك شي ء من المال؟ فقلت: يا رسول اللّه، ناضحي و درعي. فقال: لا غنى لك عن ناضحك، فبع الدرع و جئني

ص: 237

بثمنه، فقال عليه السّلام: فبعته في السوق بأربعمائة و ثمانين درهما و أقبلت بها فصببتها في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان جماعة من أصحابه عنده.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فأمرني رسول اللّه أن أخطب لنفسي ففعلت، و أشهد النبيّ على نفسه أصحابه و قال في الختام: معاشر أصحابي، اعلموا أنّي أنكحت فاطمة من عليّ عليه السّلام بأمر من اللّه تعالى و لقد هبط عليّ جبرئيل و قال: إنّ اللّه يقرئك السلام و يأمرك أن تزوّج عليّا من فاطمة و إنّي زوّجتها منه قبل خلق السماوات بألفي عام، و كان الخطيب جبرئيل و الملائكة حملة العرش شهود، و أوحى إلى شجرة طوبى أنّي إنّما خلقتك لهذا اليوم فاحملي ما قدرت عليه من الجواهر و الدرر و انثريه كرامة لفاطمة، و زيّن الحور العين باليواقيت و الحلل و أنواع الزينة و أمرهنّ بالحضور تحت شجرة طوبى، قفلمّا حضر الجمع أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما حملتيه على الحور العين و أمرهنّ بالتقاطه و رحن يتهادينه و يقلن: «هذا نثار فاطمة بنت محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبضة من ثمن الدرع و دفعها إلى سلمان و قال: اذهب إلى السوق و اشتر ما تحتاجه من الثياب و أثاث البيت، و أعطى قبضة ثانية إلى المقداد ليشتري لها طيبا، و قال أبو ذر: أعط ذلك إلى أمّ هانئ أخت الإمام لتضعها بمفرق فاطمة عليها السّلام، و لمّا فرغ من الجهاز قال لعليّ عليه السّلام: اذهب إلى بيت فاطمة عليها السّلام «و إيّاك أن تمسّها حتّى آتيكم».

فما مضت ساعة من الوقت حتّى وقف رسول اللّه على بابها و طرق الباب، فقالت أمّ هاني: من؟ فقال النبيّ: أخي عليّ هنا؟ فقالت: يا رسول اللّه، أخوك و تزوّجه ابنتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه أوقع الأخوّة بيني و بينه كما أوقع الأخوة بين موسى و هارون، عند ذلك أقبل النبيّ على الفراش، فقال النبيّ: يا علي، هذا جبرئيل قد حضر و معه سبعون ألفا من الملائكة و هم يزفّون فاطمة إليك.

ص: 238

ثمّ قال النبيّ لأمّ هاني: ناوليني قدحا فيه ماء، فتناوله من يدها و رشّ منه على صدر فاطمة صلّى اللّه عليها و قال: اللهمّ إنّي أعيذها و ذرّيّتها من الشيطان الرجيم، ثمّ تناول كفّا أخرى من الماء و رشّها بين كتفي الإمام عليه السّلام و قال: اللهمّ إنّي أعيذ أخي عليّا بن أبي طالب و ذرّيّته من الشيطان الرجيم، ثمّ قال: بارك اللّه فيكما و بارك لكما و بارك عليكما.

و أمّا ما قالوه من أنّ أبا بكر حمله إلى دار الهجرة، فإنّ أبا بكر لم يكن له مأوى في المدينة إنّما حلّ ضيفا على الأنصار، و الذي نذهب إليه أنّ النبيّ لم يصطحبه معه و الذي يدلّ على كذب الحديث قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ (1) و لم يقل «لحامله»، و عبد اللّه بن الأرقط أولى بهذه الصفة من أبي بكر، لأنّه كان دليل النبيّ في هجرته، و قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (2) بضمير الواحد و لم يأت بالتثنية «هما» فينبغي أن يكون الكفّار أخرجوا النبي، و كان أبو بكر من نافلة القول.

و إذا لزم الخصم جانب العناد فلنا أن نخصمه بقول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (3)، فلو كان مع النبيّ أو كان لهجرته فضل لمدحه اللّه عليه و كما مدح الناصرين مدح الحاملين أيضا، فلمّا سكت اللّه عن ذلك فإنّنا نسكت عنه أيضا بحكم الأثر: «فاسكتوا عمّا سكت اللّه عنه».

و أمّا ما قالوه من أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: احفظوني في أصحابي، آووا و نصروا فإنّهم خيار أمّتي، و قال: من أحبّ جميع أصحابي و تولّاهم و استغفر لهم جعله اللّه يوم القيامة معهم في الجنّة، و قال: مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشي ء منها

ص: 239


1- التوبة: 40.
2- التوبة: 40.
3- الأنفال: 30.

اهتدى، و قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (1)، و قال اللّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار المذكورة في مناقب المهاجرين و الأنصار، و كلّها تدلّ على أنّ المسلم لا ينبغي له أن يقول فيهم إلّا الخير، آمنّا و صدّقنا، أنّ الاستغفار لنفر خاصّ من الصحابة واجب كوجوب الصلاة و الصيام، و أمّا الذين برء منهم طائفة الشيعة فهم جماعة من الصحابة عرّفوهم بأسمائهم و أنسابهم و هم الذين ظلموا أهل بيت العصمة و الطهارة ظلما صريحا و جورا قبيحا، و اللّه تعالى يقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (3).

و الشيعة قول واحد أنّه لا يجوز سبّ أحد منهم إلّا إذا ثبت بالبرهان القاطع حاله، و أنّ سبّه ما لم يقم الدليل عليه، و عداوته من أعظم الخطيئات و المعاصي، و قد نزل ربع القرآن في المنافقين و هم الذين خانوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أراد النبيّ بيان حالهم و كشف أمرهم و لكنّ اللّه لم يأذن له، و قال له: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ (4)، و قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ (5) و قال: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (6).

إذا: الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، و في الآية الثانية أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ

ص: 240


1- التوبة: 100.
2- الفتح: 18.
3- هود: 18.
4- الأحزاب: 48.
5- الأحزاب: 60.
6- المعارج: 36- 38.

لا يعني به الكفّار لأنّ الكافر لا طمع له بدخول الجنّة، و لم يكن الكافرون حول النبيّ ليصدق بحقّهم عن اليمين و عن الشمال عزين؛ فتبيّن من هذا بأنّهم قوم لزموا رسول اللّه و لكنّهم لم يعملوا عملا حسنا يستحقّون به دخول الجنّة و إن طمعوا في دخولها.

و جاء في مصابيحهم أنّ النبيّ قال في حجّة الوداع: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1).

و قال فيه: أنا فرطكم على الحوض من مرّ بي شرب و من شرب لم يظمأ أبدا، و ليرون (كذا) قوم أعرفهم و يعرفونني ثمّ يحال بيني و بينهم، فأقول: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثو بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غيّر بعدي (2) و قال

ص: 241


1- سبل السلام لابن حجر 2: 214؛ نيل الأوطار للشوكاني 1: 377 و 3: 379 و 381 و 5: 156؛ مسند أحمد 5: 39 و 44 و 45 و 49 و 68 و 73؛ سنن الدارمي 2: 69؛ صحيح البخاري 2: 191 و 192 و 7: 112 و 8: 16 و 36 و 91؛ مجمع الزوائد 1: 156؛ الديباج على مسلم 1: 86؛ شرح سنن النسائي 7: 126؛ تحفة الأحوذي 6: 361؛ عون المعبود 12: 288 و 13: 167؛ مسند الطيالسي: 92؛ المصنّف لابن أبي شيبة 8: 602 و 603 و 8: 616؛ خلق أفعال العباد للبخاري: 79؛ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 13؛ بغية الباحث لابن أبي أسامة: 128 و 245؛ الآحاد و المثاني للضحّاك 3: 209 و 210 و 302؛ سنن النسائي الكبرى 2: 316 و 443 و 3: 446؛ مسند أبي يعلى الموصلي 3: 39 و 7: 37 و 9: 223 و 435 و 442 و 12: 217؛ المنتقى من السنن المسندة لابن جارود النيسابوري: 212، تحقيق عبد اللّه البارودي، ط مؤسسة الكتاب الثقافيّة- بيروت، أولى 1408؛ صحيح ابن حبّان 1: 416 و 13 268 و 289، و كتب أخرى يصعب استقصائها لا سيّما كتب الشيعة منها.
2- المسند 1: 257 و 384 و 402 و 406 و 407 و 425 و 439 و 453 و 455 و 2: 408 و 5: 333 و سياقه أقرب إلى المؤلّف، و ص 339 مثله؛ صحيح البخاري 7: 206 و 207 و 8: 87؛ صحيح مسلم 7: 66 و 68؛ سنن ابن ماجة 2: 1439 و 1440؛ المستدرك 4: 74؛ مجمع الزوائد 2: 85 و 6: 254 و 10: 364؛ مصنّف عبد الرزّاق 11: 60؛ مسند الحميدي 2: 342 و 343؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 412 و 8: 602 و 603؛ كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 331 و 341 و 345؛ المعجم الأوسط 3: 186؛ المعجم الكبير 6: 137 و 143 و 156 و 171 و 6: 200 و 11: 28 و غير هذه الكتاب كتب أخرى، أمّا حديث أنا فرطكم على الحوض فهو من المتواترات و لم يبق حافظ لم يخرجه.

تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ (1).

و أمثال هذا كثير في القرآن و هي مبنيّ على ارتداد أمّة النبيّ من بعده و إن كان بزعم الخصم أنّة مدح جماعة من الصحابة فهذا صحيح إلّا أنّ صيغته للعموم و لا يصحّ حملها على قوم بخصوصهم بل لا تتناول إلّا من توفّرت فيه شروط خاصّة و هو من يتيقّن صلاحه أو مجهول الحال مع أنّ الرواية وردت عن طريق الخصم هكذا: احفظوني في عترتي فإنّهم خيار عشيرتي (2).

[حديث آخر:] و قولهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ لكلّ نبيّ رفيقا و إنّ رفيقي في الجنّة عثمان (3).

الجواب: هذا الحديث مخالف للقرآن بالتخصيص لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ

ص: 242


1- آل عمران: 144.
2- ورد الحديث من طريق الشيعة هكذا: احفظوني في عترتي و ذرّيّتي، فمن حفظني فيهم حفظه اللّه، الحديث. الأما لي للطوسي: 703؛ بحار الأنوار 30: 51؛ كلمات الإمام الحسين للشيخ الشريفي: 118؛ كشف الغمّة 2: 42. و جائت تتمّته في المصادر الشيعيّة: ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم، ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم- ثلاثا-. و جاء من طريق الخصم على النحو التالي: احفظوني في أصحابي فإنّهم خيار أمّتي، و احفظوني في أهل بيتي ... مسند الشهاب لابن سلامة 1: 419، تحقيق حمدي السلفي، ط مؤسسة الرسالة- بيروت، أولى 1405.
3- تهذيب الكمال 2: 457؛ تهذيب التهذيب 4: 292؛ الإصابة 4: 387؛ البدآية و النهاية 7: 237. قال الترمذي: هذا حديث غريب و ليس إسناده بالقوي و إسناده منقطع.

وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (1) و المعنى- و اللّه العالم- أنّ أهل الطاعة مع الأنبياء في الجنّة، و رفقاء الأنبياء فيها هم الصدّيقون و الشهداء و الصلحاء، و سوف يضرب بين الرجال و النساء بحجاب، و دليلنا على ذلك وجوه:

الأوّل: حديث فاطمة عليها السّلام حيث أجمعت كلمة علماء أهل القبلة بأنّ فاطمة حين تجتاز يوم المحشر إلى موقفها ينادي مناد من بطنان العرش: غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثانيا: قال اللّه تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (2) فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون رفيق رسول اللّه إلّا ذرّيّته لوجود بنات رسول اللّه و نسائه، كما قال تعالى:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (3) مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا و كافل اليتيم في الجنّة، و أشار بالسبّابة و الوسطى، و بالضرورة لا ينال شرف رتبة الرفاقة إلّا كافل اليتيم و لا تخلو محلّة من محالّ المسلمين من وجود واحد و اثنين أو أكثر من كفلاء الأيتام و كلّ واحد درجته تربو على درجة عثمان.

فإذا ثبت حديث عثمان فهذا ثابت لا مرية فيه مع أنّ جماعة من المفسّرين قالوا عن قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ (4) أنّ هذا العدوّ هو أبو بكر و عمر و عثمان لأنّهم يكيدون النبيّ دائما و أبدا، و يعيقون بكذبهم و افترائهم أعمال النبيّ و يؤخّرون تقدّم المسيرة الجهاديّة له. و كان ممّا كادوا فيه النبيّ استمرار الكذب عليه و الافتراء ليختلط الحقّ بالباطل و الخير بالشرّ، فتتقدّم مكائدهم.

ص: 243


1- النساء: 69.
2- الصافّات: 48.
3- الطور: 21.
4- الأنعام: 112.

ثمّ إنّ ما رواه المخالف من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل من يدخل الجنّة أنا و الحسن و الحسين» (1) يكذّب هذا الحديث.

و في كتاب «المنتهى» لعبد اللّه بن عبد الأعلى القطّان الاصفهاني و مناقب أبي بكر مردويه الاصفهاني و تفسير أبي بكر الشيرازي عن رسول اللّه أنّه قال لعمر يوما:

إنّ في الجنّة شجرة تغطّيها و أصلها نابت في جنّتي، و وصف الشجرة في اليوم الثالث و قال: أصلها في بيت عليّ عليه السّلام. فقال له عمر: يا رسول اللّه، ألست قلت ذلك اليوم أنّ أصل الشجرة في جنّتك و اليوم تقول في بيت عليّ؟! فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عمر، ألا تعلم أنّ بيتي و بيت عليّ واحد، و قصري و قصره واحد، و داري و داره واحدة.

[حديث آخر] و أمّا الذي رووه عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد النبي؟ قال: أبو بكر. قلت: ثمّ من؟ قال: عمر، و خشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمّ أنت؟ قال: ما أنا إلّا رجل من المسلمين (2).

الجواب: لو صحّ هذا الزعم، لما جرّ الحسن أبا بكر من على المنبر إلى الأرض، و لو صحّ هذا لما تقاعد أمير المؤمنين عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر حتّى ماتت فاطمة ثمّ بايع، و هذا ما يزعمه الخصم، أمّا نحن أيّها الشيعة فنقول: إنّ عليّا لم يبايع أبا بكر

ص: 244


1- المستدرك 3: 151: أوّل من يدخل الجنّة أنا و فاطمة و الحسن و الحسين. قلت: يا رسول اللّه، فمحبّونا؟ قال: من ورائكم، صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ كنز العمّال 12: 98 رقم 34166 و 13: 639 رقم 37614؛ شواهد التنزيل 1: 185؛ تفسير القرطبي 16: 22؛ تاريخ مدينة دمشق 14: 169؛ ميزان الاعتدال 3: 635؛ مناقب الخوارزمي: 62 و 317 و فيه: أوّل من يدخل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر: 181 و 182؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: 229؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 7؛ ينابيع المودّة 2: 202 و 355 و 445 و 451 و 3: 140، و استثنينا كتب الشيعة لأنّها ليست حجّة على الخصوم، و إن كانت أوثق من مصادرهم.
2- صحيح البخاري 4: 195؛ فتح الباري 7: 26 و 27؛ الإصابة 1: 24.

قطّ ... و جائت الأخبار متواترة من طريق المخالف بأنّ عليّا خير الخلق و الدليل على هذا الحديث ما جاء في كتاب «الفصول العجلى» أنّ النبيّ لمّا أخبر عن ذي الثدية، قال: يقتله خير الخلق، و روي خير هذه الأمّة (1)، و ذو الثدية قتله عليّ عليه السّلام.

و كنت قد حرّرت هذه المسألة في جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول ببسط تامّ.

و ذكر إسماعيل الاصفهاني في الأربعين: عليّ خير البشر من أبى فقد كفر.

و إنّ كتب الفرق البالغة ثلاثا و سبعين فرقة ناطقة كلّها بمناقب عليّ عليه السّلام، و نزلت في حقّه وحده سورة هل أتى، و سبق في الهجرة، فنزلت آيات عدّة تشيّد بمواقف السابقين و مع هذه المناقب كيف يجوز على عليّ أن يقول: أمّا أنا فرجل من المسلمين؟!

و إذا كان هذا الحديث صحيحا فكيف اعتبره المخالفون الإمام الرابع؟ و لماذا أعلن مرارا على المنبر عن ذمّ من تقدّمه منهم؟ و إنّي لأحسب أنّ كلّ من وقف على هذه الأحاديث المفتراة و وقف على ردّها و نقضها فإنّه يصير صاحب ملكة فلا يسمع حديثا مفترى و إن لم نتعرض لإبطاله فإنّه قادر على ردّه و دفع الشبهة المودعة فيه.

و لمّا فرغ أبو الفتوح الحسين بن عليّ بن محمّد الخزاعي من مناقب أبي بكر و عمر و عثمان التي استمعت إلى ردّها و نسفها بعون اللّه، فقد جعل خاتمة كلامه حديثا في مناقب عليّ عليه السّلام و هو كما يلي: روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كنت في الموسم أحدّث الناس فأقبل رجل يعتمّ عمامة سوداء و وقف يعظ الناس، فقال في ختام كلامه: من

ص: 245


1- اختيار معرفة الرجال 1: 239، و قال محقّق الكتاب: رواه القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف 2: 615.

عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا صاحب رسول اللّه جندب بن جنادة البدري الغفاري، أبو ذر، و لقد رأيت رسول اللّه في هذا المكان بعيني و إلّا عميتا، و سمعته بأذنيّ و إلّا صمّتا، يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) أمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم، و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها في شي ء إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2). (3)

عن ابن عبّاس قال: كنت في سنة من السنين في موسم الحجّ (4) فرأيت رجلا على هيئة الأعراب، عليه عمامة سوداء، فكلّما حدّثت بحديث حدّث به، ثمّ قال:

معاشر الناس، من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا أنبئه باسمي، أنا جندب بن جنادة البدري الغفاري، أنا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سمعته يقول في هذا المكان و إلّا صمّت أذناي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (5) فأمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم،

ص: 246


1- آل عمران: 33 و 34.
2- الشعراء: 227.
3- يوجد شطر من هذا الحديث ضمن حديث طويل في كتاب سليم بن قيس: 156، و الاحتجاج 1: 231، و بحار الأنوار 27: 319 و 28: 247 و 275.
4- نقلت هذا السياق من الماحوزي، كتاب الأربعين، ص 337 و جعلته ضمن المتن لعدم اختلافه مع سياق المؤلّف إلّا في مواضع يسيرة، و لأنّ سياق المؤلّف مترجم إلّا قول أبي ذر.
5- آل عمران: 33 و 34.

و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

[حديث آخر] قال الأحنف بن قيس: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار، قلت: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصا على قتل صاحبه (1).

الجواب: و هذا الراوي ظاهر الحال هو عدوّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان غرضه منع الناس من نصرة عليّ عليه السّلام مع أنّ عمّار استشهد في حرب صفّين.

و جاء في صحيح البخاري محمّد بن إسماعيل عن أبي سعيد أنّه قال: كنّا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة و كان عمّار لبنتين لبنتين، فمرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسح عن رأسه الغبار، فقال: ويح عمّار يدعوهم إلى الجنّة و يدعونه إلى الجنّة و يدعونه إلى النار (2). ويح عمّار تقتله الفئة

ص: 247


1- تجده مرويا عن أبي بكرة من دون ذكر الأحنف في نيل الأوطار 6: 77 و 7: 198 و قال: متفق عليه. و رواه الصدوق في العلل 2: 462 و فيه: إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنّة ... الحديث. و تهذيب الأحكام 6: 174 و الحديث مستفيض مشهور رواه جلّ الفريقين. و الرجل المبهم في سياق المؤلّف هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد أجاب عنه المؤلّف بما يشفي الصدور.
2- البخاري 1: 115.

الباغية، عمّار يدعوهم إلى اللّه و يدعونه إلى النار (1).

و هذا الحديث الثاني يناقض الحديث الأوّل مع أنّ الحديث الثاني مجمع عليه و متلقّى بالقبول، و في صفّين استشهد عمّار و خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و أبو الهيثم ابن التيّهان و عبد اللّه بن بديل الخزاعي و هاشم بن عتبة ابن أخي سعد بن أبي وقّاص، و صعصعة بن صوحان، و أويس القرني مع سبعين رجلا قتلوا جميعا في يوم واحد مع عليّ بسيف معاوية، و هذه الجماعة كلّها كما قال النبيّ من أهل الجنّة.

جواب آخر: بنصّ سورة هل أتى و آية التطهير و آية المباهلة إنّ الحسين عليه السّلام من أهل الجنّة، و شهد النبيّ بحقّه من أنّه سيّد شباب أهل الجنّة، و قد رويت أحاديث في هذا المعنى من طرق المؤالف و المخالف، من غير تحديد، و كذلك عترته بدلالة حديث مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ... الحديث.

و أجمعت الأمّة على أنّ شهداء كربلاء من المؤمنين و من أهل الجنّة مع الملائكة الذين يزورون الحسين و أصحابه و عترته، و مشهد قبلة الحاجات للعالمين، و لا تمرّ سنة على هذا الضريح إلّا و تظهر منه معاجز و كرامات مع أنّهم قتلوا بأيدي (من يسمّون) (2) مسلمين.

جواب آخر: اجتمع المهاجرون و الأنصار على قتل عثمان، و إذا ما صحّ الحديث كان القاتل و المقتول من الصحابة جميعا في النار و ينصّ القرآن شاهدا على كونهم من أهل الجنّة لا سيّما على مذهب الشيعة.

جواب آخر: و هذا طلحة و الزبير و هما من العشرة المبشّرة بالجنّة بلا خلاف

ص: 248


1- البخاري 3: 207 و راجع المستدرك ج 2 و ج 3، و مجمع الزوائد ج 7 و ج 9، و تحفة الأحوذي ج 10، و مسند أبي داود الطيالسي، و صحيح ابن حبّان ج 15، و المعجم الأوسط ج 8، و الطبقات لابن سعد، و الكامل لابن عدي، و تاريخ دمشق لابن عساكر و هكذا.
2- العبارة بين القوسين من المترجم.

عندهم و هما قتلا بأيد مسلمة، و كذلك عليّ عليه السّلام من العشرة و قتل بسيف المسلمين.

جواب آخر: و الحديث مخالف لكتاب اللّه تعالى حيث قال: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (1)، أجمع المفسّرون على سبب نزول هذه الآية عن عبد اللّه بن عبّاس (2) أنّ النبيّ ركب حمارا و أتى محفلا من محافل الأنصار، فبال الحمار، فخمر عبد اللّه بن أبي سلول أنفه و قال: أبعد عنّا حمارك فقد آذتنا رائحة بوله، فقال عبد اللّه بن رواحة: حمار رسول اللّه أفضل منك و بوله أطيب ريحا من طيبك، فغادر النبيّ المكان و اشتبك الأوس و الخزرج بالأيدي و النعال و جريد النخل، فكانت فتنة عظيمة حتّى جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصلح بينهم (3).

[حديث آخر] روى البخاري عن عائشة أنّ فاطمة عليها السّلام بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد

ص: 249


1- الحجرات: 9.
2- لم أعثر على من أخرجها عن ابن عبّاس، إنّما هي مرويّة عند العامّة عن أنس بن مالك، راجع البخاري 3: 166؛ مسند أحمد 2: 157 و 3: 219؛ صحيح مسلم 5: 183؛ السنن الكبرى للبيهقي 8: 173 و كلّ هؤلاء حذو حذو البخاري في السياق إلّا من صرّح باسم عبد اللّه بن رواحة.
3- نقل القضيّة في صحيح البخاري هكذا: حدّثنا المعتمر قال: سمعت أبي أنّ أنسا رضي اللّه عنه قال: قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو أتيت عبد اللّه بن أبي، فانطلق إليه النبيّ و ركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه و هي أرض سبخة، فلمّا أتاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: إليك عنّي، و اللّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: و اللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللّه رجل من قومه فشتما فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد و النعال و الأيدي، فبلغنا أنّها أنزلت «و إن طائفتان ...» الآية.

في هذا المال و إنّي و اللّه لا أغيّر شيئا من صدقة رسول اللّه.

إلى أن قالت: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، و عاشت بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ستّة أشهر، فلمّا توفيّت دفنها زوجها عليّ ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر، و صلّى عليها، و كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته و لم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا لا يأتنا أحد معك كراهيّة أن يحضر عمر، فقال عمر: لا و اللّه لا تدخل عليهم وحدك (1).

الجواب: لا تخفى عصمة الزهراء و صدق لهجتها و طهرها على أحد في العالم، بحيث روى عماد الدين «شفروه» (2) و هو حنفيّ المذهب عن عائشة أنّها إذا ذكرت فاطمة بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قالت: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منها إلّا أن يكون هو الذي ولدها.

ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها.

و قال: فاطمة بضعة منّي، يسّرني ما سرّها و يؤذيني ما آذاها.

و بناءا على هذا لا يجوز الكذب على فاطمة و ردّها مع طهارتها و عصمتها، و غضبها عليه إلى أن ماتت دليل على أنّه كان ظالما لها و كانت هي مظلومة.

و قول أبي بكر: يابنة رسول اللّه، لبس الحقّ عليك و تصديقه على هذا القول إيذاء لفاطمة مع كونها مظلومة، نعوذ باللّه من إيذائها.

ص: 250


1- البخاري 5: 82.
2- كثير من الأعلام التي توجد في الكتاب مصحّفة و إنّي أعتذر إلى القارئ من عدم التتبّع لتصحيحها لعدم وجود الظرف المناسب و الوقت الكافي، و ترجم لشفروه أحمد الحسيني في تراجم الرجال 1: 234 و غيره من أصحاب الفهارس.

و كذلك ذكر عماد الدين أنّ عائشة أقبلت تعود فاطمة في مرض موتها فلم تأذن لها، و أرسلت إلى أسماء بنت عميس أن لا تدعها تدخل.

و أورد مخلص الدين محمّد بن معمر في صدر مسند فاطمة عليها السّلام أنّها من شدّة غضبها على عائشة أوصت بإخفاء قبرها لئلّا تقول عائشة أنّه بيتي و تدفن معها، و نهت ان يصلّي عليها أبو بكر، و العقلاء يعقلمون شدّة غضب الزهراء عليهم من فعلها هذا و عمق ما كانت تعانيه من الألم جرّاء ظلمهم لها من خلال وصيّتها.

و كلام البخاري يدلّ على أنّ فاطمة عليها السّلام دفنت إلى جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و الدليل على صحّة هذا الحديث ما كان يقوله أمير المؤمنين عليه السّلام لرسول اللّه في حال دفن فاطمة من حديث السرار، يقول في كلام طويل: ستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فاحفها السؤال و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد و لم يخل منك الذكر (1).

الجواب الآخر: كان عليّ عليه السّلام من الخلفاء الراشدين فتخلّفه عن بيعة أبي بكر و تقاعسه عنها دليل على علمه بعدم أهليّته لها، لا سيّما و الزهراء على قيد الحياة حيث كان يتقوّى بوجاهتها (2) و لمّا توفيت فاطمة خاف من الناس فبادر إلى البيعة. و يظهر من لفظ البخاري أنّ بين عليّ و بين عمر عداوة، و هو من ألدّ أعداء الإمام عليه السّلام، و لو كانت خلافة الأوّل بالنصّ لما قعد عنها الإمام هذه المدّة، لأنّه جاء

ص: 251


1- الأمالي للشيخ المفيد: 282؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي الشيرازي: 189؛ حياة الإمام الحسن للقرشي 1: 274؛ صحيفة الزهراء عليها السّلام للقيّومي: 30.
2- هذا كلام بالهراء أشبه، و كان على المؤلّف أن ينظر فيه هل يصدق بحقّ عليّ عليه السّلام صاحب الحقّ المنصوص عليه و الذي تواليه الأمّة الإسلاميّة يومذاك كلّها إلّا خفتة من الناس يقودهم حزب المهاجرين فما حاجته إلى أن يتقوّى بأحد و إن كانوا ملائكة السماء و هو صاحب النصّ و الإمام المنصوب على المسلمين.

في كتب أهل القبلة و علماء الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه لم يتقاعس عن نصّ نصّه رسول اللّه بحال من الأحوال في يوم من الأيّام بل كان السابق على كلّ أحد في قبوله و تنفيذه، و هذه الرواية التي رواها المخالف تدلّ على ذلك: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ. فينبغي أخذ النتيجة من هذه المقدّمات و هي أنّ ما فعله عليّ هو الحقّ و خلافة أبي بكر باطلة.

و لو كانت الخلافة بالإجماع فإنّ بني هاشم- و الحمد للّه و المنّة له- لم يكونوا مجهولين و لا مغمورين إلى الدرجة التي يجوز تجاهلهم بل كانت لهم الشهرة و التقدّم بحسبهم و نسبهم و قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علوّ مناصبهم، و كانوا بجملتهم علماء عبادا، و لم يكونوا بمعزل عن الأحداث لكي يجوز نبذهم و تنحيتهم بل كانوا يطمعون بإسناد الحلّ و العقد إليهم و أنّهم كانوا من أكابر المهاجرين، و لمّا لم يحضروا الاجتماع فذاك دليل على عدم الإجماع، على أنّه لم يحضر الخزرجيّون بأجمعهم ذلك الاجتماع و لم يبايعوا الأوّل و هم عمدة الأنصار.

يقول البخاري في حديثه عن أبي هريرة: أما إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، و إذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم نسكا و زهدا و برّا فعليكم به.

و في رواية أخرى: من سرّه أن ينظر إلى شبيه عيسى بن مريم خلقا و خلقا فلينظر إلى أبي ذر (1).

و إذا كان أبو ذر بهذه الصفة فإنّ عثمان أخرجه من حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يوجّه إليه تهمة في حضور المهاجرين و الأنصار، و كانوا جميعا على علم بدرجة

ص: 252


1- كنى البخاري عن عبد اللّه بن عمر: ص 23؛ المستدرك عن أبي الدرداء 3: 342؛ المعجم الأوسط 5: 223؛ تفسير القرطبي 1: 36.

زهده و الاحترام الذي كان يحضى به من شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في حقّه نزل قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ (1). (2)

روى البخاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلئون عنه (3) فأقول: يا ربّ (إنّهم) أصحابي، فيقول- إنّك ... البخاري- لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري .. (4).

فلم يكذب- و حاشاه- رسول اللّه، فلا بدّ من قتلهم عليّا يوما و إيذائهم سلمان، و نفيهم أبا ذر.

و كذلك يروون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (5).

و لمّا كان الصحابة قد ظلموا أهل البيت و آذوا صلحاء الأصحاب، اختصّ حديث «أصحابي النجوم» بهؤلاء (6) كما اختصّ الحديث الأوّل بالمؤذين و الظالمين من هذه الطائفة.

ص: 253


1- الأنعام: 52.
2- لم أجد من قصّر نزولها على أبي ذر بل لم يسمّه أحد من المفسّرين في الضعفاء الذين نزلت الآية فيهم.
3- فينهون عنّي- المؤلّف.
4- صحيح البخاري 7: 208.
5- شرح ابن أبي الحديد 20: 28؛ لسان الميزان 2: 118 و 137: من اقتدى بشي ء منها اهتدى، و قال: أخرجه الدارقطني من غرائب مالك و الخطيب في الرواة عن مالك- إلى أن قال:- و رواته مجهولون.
6- على تقدير صحّته و لكنّه موضوع، و هذه من مصائبنا حيث نأتي إلى كذب القوم فنوجد له الوجوه و التأويلات.

حدّث أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل (1) قال: عن ابن عبّاس: لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله الوجع، قال: ايتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده. قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجه و عندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا و كثر اللغط، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قوموا عنّي و لا ينبغي عندي تنازع، فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه. و في رواية أخرى، فقالوا: ما شأنه أهجر و استفهموه (2).

و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ في الأمم لمحدّثين لمروّعين كملهمين، و إنّ عمر منهم (3).

و روي أنّ الحقّ لينطق على لسان عمر (4).

و الجواب مشهور و هو أنّ عمر قال: إنّ الرجل ليهجر، و روي: يهذي، و العقلاء يدركون أنّ طلب النبيّ الدواة و الكتف ليكتب كتابا لن يضلّوا بعده ليس هذيانا

ص: 254


1- لا ينبغي أن يذكر هذا الخبيث بكلمة إطراء و إن كانت بالكنية و اللقب.
2- هذا الحديث يثبت كفر عمر لعنه اللّه، و قد تواتر وروده عن النبيّ فلا سبيل إلى إنكاره أو تضعيفه، من ثمّ ترى القوم وقعوا على باقعة منه لذلك راحوا يرقصون الكلمة التي قالها عمر: النبيّ يهجر، و يحوّلونها إلى مختلف الصيغ فما تأتى لهم، و ثبت كفر ابن الزانية لعنه اللّه الذي صار السبب الأكبر في تفرّق المسلمين أمس و اليوم. و راجع للحديث الكتب التالية: البخاري 1: 37 و 5: 138 و 8: 161؛ مسند أحمد 1: 325؛ مقدّمة فتح الباري: 307 و قال: القائل عمر (لعنه اللّه)؛ الطبقات 2: 344؛ البداية و النهاية 5: 247؛ الشفاء لعياض 2: 192؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 451؛ و أخرجه مسلم صاحب الصحيح أيضا.
3- المستصطفى للغزالي: 170، و راجع خلاصة عقبات الأنوار 3: 118 فلقد أفاد و أجاد و بلغ أقصى المراد.
4- نيل الأوطار 8: 233؛ مسند أحمد 1: 106: السكينة تنطق، و 2: 53 و 5: 145 و 165 و 177؛ سنن ابن ماجة 1: 40؛ سنن أبي داود 2: 20؛ المستدرك 3: 87؛ السنن الكبرى للبيهقي 6: 295؛ مجمع الزوائد 9: 66 و 67؛ فتح الباري 7: 41؛ تحفة الأحوذي 10: 116؛ عون المعبود 8: 126 و كتب أخرى كثيرة.

و لو كان الحقّ ينطق على لسان عمر لما تفوّه بهذه الكلمة، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا: فإنّه خالف النبيّ و ردّ عليه بقوله: حسبنا كتاب ربّنا، و هذا من طراز قول الخوارج: لا حكم إلّا للّه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: كلمة حقّ يراد بها باطل.

و قال اللّه تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (1) و يقولون: إنّه يهجر و يهذي.

و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (3).

إنّ الاستماع لهذه الآيات و العمل بهنّ واجب، و لو كان عمر ينطق بالحقّ فكيف ردّ على رسول اللّه حتّى أغضبه و كثر اللغط عنده و هو مسجّى، و أخرجهم من عنده بقوله: قوموا عنّي؟!

و قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (4) و قال: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (5) فلو كان عمر و أصحابه مؤمنين لما طردهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و عمل عمر و أصحابه بخلاف قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (6) فقد تجرّؤوا على مقام النبوّة، و استعملوا قلّة الأدب، و منافاة اللياقة، و شغلوا النبيّ و هو في ساعة حرجة حتّى طردهم عنه بقوله: قوموا عنّي، و كثر الكلام و اللغط في مجلس النبيّ.

ص: 255


1- الحشر: 7.
2- الأحزاب: 36.
3- الأنفال: 24.
4- الشعراء: 215.
5- الأنعام: 52.
6- الحجرات: 2.

و ذكر مخلص الدين محمّد بن معمر الاصفهاني و الترمذي و القزويني و أمثالهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا ألقينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري (1) ممّا أمرت به أو ممّا نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه ... (2).

و هذا الحديث مكذّب قول عمر، فتبيّن أنّ الحقّ لم ينطق على لسانه. ثمّ إنّ كتاب اللّه ليس غنيّا عن البيان ففيه الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و المجمل، و العام و الخاص و أمثال ذلك، فكان على النبيّ بيانه، فكيف يقولون: لا نريد قول رسول اللّه و يردّونه و ينكرونه؟!

جواب آخر: وقع نزاع بين القوم، و كان حكم اللّه غالبا عليهم و حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عمر لمّا رمى رسول اللّه بالهجر فكيف يتّفق مع حكم اللّه القائل: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (3).

ص: 256


1- ممّا أمرت به- المؤلّف.
2- الشافعي في الأم 7: 16 ط دار الفكر- بيروت، أولى 1400، و ص 303؛ الرسالة، له: ص 89 و 226 و 403؛ المسند له أيضا: ص 151 و 234؛ مسند أحمد 2: 367 و سياقه مختلف، و ص 483 و 4: 131 و 132 و 6: 8؛ سنن الدارمي 1: 144؛ سنن ابن ماجة 1: 6 و 7 و 10؛ سنن أبي داود 2: 45 و 392؛ سنن الترمذي 4: 144؛ المستدرك 1: 108 و 109؛ سنن البيهقي 7: 76 و 9: 304 و 331 و 332؛ مجمع الزوائد 1: 154 و 155؛ تحفة الأحوذي 7: 354 و 355؛ عون المعبود 12: 332 و 333؛ جزء الأشيب للأشيب البغدادي: 73، ط دار علوم الحديث- الأمارات- دبي، أولى 1410 ه؛ مسند الحميدي 1: 252؛ الآحاد و المثاني 3: 45. مسند أبي يعلى 3: 347؛ شرح معاني الآثار لابن سلمة 4: 209؛ صحيح ابن حبّان 1: 189؛ المعجم الأوسط 7: 185 و 8: 292 و 351؛ المعجم الكبير 1: 316 و 327 و 4: 111 و 18: 258 و 20: 275 و 283؛ مسند الشاميين 1: 401 و 2: 137 و 3: 103 و 138، ط مؤسسة الرسالة- بيروت، تحقيق السلفي، الثانية 1417؛ سؤالات حمزة الدارقطني: 5؛ سنن الدارقطني 4: 190 و 191؛ كفاية الخطيب: 23، و ما أعرضنا عنه من الكتب أكثر.
3- النساء: 65.

[حديث آخر] حدّث البخاري فقال: جاء رجل من أهل مصر حجّ البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟

قالوا: عبد اللّه بن عمر. قال: يا بن عمر، إنّي سائلك عن شي ء فحدّثني عنه، هل تعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: تعلم إنّه تغيّب عن بدر و لم يشهد؟

قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان و لم يشهدها؟ قال: نعم. قال:

اللّه أكبر.

قال ابن عمر: تعال أبيّن لك؛ أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ اللّه عفى عنه و غفر له، و أمّا تغيّبه عن بدر فإنّه كان تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت مريضة، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لك أجر رجل ممّن شهد بدرا و سهمه، و أمّا تغيّبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكّة من عثمان لبعثه مكانه فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عثمان و كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر: اذهب (به) الآن (معك) (1).

الجواب: أورد عماد الدين شفروه الاصفهاني اعتراضا على هذا القول:

الأوّل: إنّ ابن عمر لم يؤيّد قوله في جوابه للمصري بحجّة من القرآن أو الأخبار و لم يشهد له شاهد عدل و لا غير عدل، فكلامه المجرّد من ذلك لا حجّة فيه على أمر من أمور الدين.

و الثاني: إنّ عثمان مختار أبيه و مرضيه لسرير الخلافة فكان عليه تعديله في كلّ حين أمام المهاجرين و الأنصار لتصويب رأي أبيه فيه و هذا الأمر من جملة لوازم

ص: 257


1- البخاري 4: 203 و 5: 34.

النبوّة حيث لا يمكنه الرضا بتلويث ساحة أبيه باختيار رجل له هذه المساوي و هذه جبلّة بشريّة و طبيعة إنسانيّة، و لمّا وقع أبوه موقع التهمة فما عليه إلّا ردّها بتزكية عثمان.

يقول عماد: سألت الشيخ رشيد الدين عبد اللّه بن محمّد بن عبد الواحد بن أبي سعد المدني: كيف جرى على عثمان ما جرى مع حضور المهاجرين و الأنصار فلم ينكروا ذلك لا باللسان و لا باليد، و لم يمدّه منهم أحد إلى الحدّ الذي سمعتك ذات يوم أنت الخواجه رشيد الدين عبد اللّه تقول: كان عليّ حاضرا في المسجد يفتي الناس فسمع ضجّة مرتفعة فسأل: ما الذي جرى؟ قالوا: قتل عثمان، فقال عليّ:

قتل، و مضى في كلامه من غير اكتراث منه و لا اعتراض له عليه، و لم يلتفت إليه.

فقال الشيخ عبد اللّه: لقد غالطت كثيرا يا عماد، لكن ألا تعلم بأنّ أهل الكوفة كتبوا كتابا يوم خروج عائشة إلى عليّ عليه السّلام و أرادوا منه ايضاح السبب عمّا ألمّ بعثمان و سألوا عن حال قتلته.

فقال عماد: قلت له: بلى أعرف ذلك و قد كتب إليهم أمير المؤمنين كتابا كما يلي:

أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه و كنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقلّ عتابه، و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، و أرفق حدائهما العنيف، و كان من عائشة فلتة غضب فأتيح له قوم قتلوه، و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين بل طائعين مخيّرين، و اعلموا أنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها، و جاشت جيش المرجل و قامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوّكم (1).

فقال الشيخ رشيد الدين المدني: يجب عليّ رعاية لحقّ الصحبة و أداء لحقّ

ص: 258


1- بحار الأنوار 32: 84.

الخدمة أن أزيل هذه الشبهة عن ذهنك، اعلم أنّ الشيخ مخلص الدين محمّد بن معمر ذكر في جامع العلوم أنّ عثمان صدرت منه أمور وجبت قتله، بهذه العبارة:

نعم كانت لها أسباب و إنّ ممّا نقموا على عثمان حركات عشرا منكرات:

الأولى: ضرب عبد اللّه بن مسعود.

الثانية: ضرب عمّار ضربا مبرحا حتّى أغمي عليه.

الثالثة: إعطائه مروان خمسمائة ألف درهم.

الرابعة: نفى أبي ذر إلى الربذة.

الخامسة: إقطاع السنّة.

السادسة: إعطاء الحكم بن العاص مأة ألف درهم مرّة واحدة.

السابعة: تولية الوليد أخيه من أمّه على الكوفة.

الثامنة: جمعه المصاحف من أطراف المدينة و أكنافها و حرقها.

التاسعة: كان الوليد مدمنا على الشراب إلى الحدّ الذي صلّى بهم صلاة الصبح أربع ركعات، و لمّا سلّم أقبل على المصلّين و قال: أريدكم؟ و قالوا: لمّا افتتح الصلاة و شرع بقرائة الحمد لم يدر ما يقول ثملا، فقال:

عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا فلمّا سلّم قال: لأزيدنّكم فإنّي طرب، و هذا الوليد هو الذي نزل في حقّه: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ (1) و الآية: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (2).

العاشرة: و كان من ذنوب عثمان إرجاعه مروان و أباه الحكم طريدي رسول اللّه و أبي بكر و عمر، و قد أبعدهما الرجلان عشرين فرسخا أخرى إضافة على مكان

ص: 259


1- الحجرات: 6.
2- السجدة: 18.

نفيهما اقتداءا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مروان ابن عمّ عثمان فردّهما و فوّض إليهما شئون الإسلام و المسلمين ولّاهما على المهاجرين و الأنصار، و أعطى وزارته إلى مروان، و كان يستصوب رأيه و يعمل به، فكان مروان يقدّم من أخّره رسول اللّه و يؤخّر من قدّمه، و يهين صلحاء الصحابة و يذلّهم، و يعظّم الفسّاق و يوقّرهم، و يستهزئ بالدين و الشريعة.

و كان السبب في ضرب عمّار أنّ عثمان قال ذات يوم: إنّ الرسول كان يؤثر قريشا على سائر الناس إشعارا بأنّ بني أميّة منهم، فردّ عليه عمّار و قال: ليس الأمر كما تقول، فضربه على هذا ضربا مبرحا و ركله برجله حتّى ظنّوه قد مات.

و أمّا كيفيّة قتله فقد كان ابن أبي سرح واليا من قبل عثمان على مصر و كان أخا عثمان من الرضاعة، فأظهر الظلم بين الناس و عمل بالجور فيهم، فجاء رجل إلى عثمان يتظلّم، فأرسل إليه عثمان توبيخا شديد اللهجة، فلم يحدّ من سلوكه السيّئ حتّى قتل أحد المتظلّمين، و ضرب آخرين تأديبا لهم.

فخرج من مصر سبعمائة شخص و قصدوا المدينة و عليهم عبد الرحمان بن عديس البلوي و عمرو بن الحمق الخزاعي و كنانة بن بشر الكندي و سوار بن حمران المرادي، فبلغوا المدينة و الصلاة قائمة، و تظلّموا كثيرا و شنّعوا على واليهم ابن أبي سرح و توسّلوا بأمير المؤمنين عليه السّلام و عائشة، فقبل عثمان شفاعتهم و قال لعليّ عليه السّلام: قل لهم يختاروا لولايتهم من أحبّوا لكي أولّيه، فاختار المصريّون محمّدا ابن أبي بكر، فولّاه عثمان على مصر و توابعها، و أمر جماعة من المهاجرين و الأنصار بالذهاب مع محمّد إلى مصر ليقفوا على جلية الحال و صحّة ما يقال، من شكواهم من ابن أبي سرح، فخرج المصريّون من المدينة مع محمّد بن أبي بكر، فلمّا ساروا ثلاثة أيّام بلياليها شاهدوا راكبا مضطربا على هيئة الهارب و كأنّه يطلب شيئا ضيّعه، فسألوه عمّن أرسله، فكان يقول: أرسلني عثمان، و أحيانا يقول مروان،

ص: 260

فعرفوا أنّ في الأمر سرّا، فقالوا له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: أذهب إلى والي مصر. فقالوا: تركت الوالي بالمدينة؟ قال: أنا ذاهب إلى الوالي القاطع لا إلى الوالي الجديد. فقالوا: هل معك كتاب؟ قال: كلّا، ففتّشوه فعثروا معه على رسالة قد خبأها في شنّ بالية، و الرسالة على النحو التالي:

من عثمان إلى ابن أبي سرح، إذا أتاك محمّد بن أبي بكر فاحتل بقتله و أبطل كتابه و قرّ على عملك و احبس المتظلّمين حتّى يأتيك.

و لمّا قرأ المصريّون الكتاب عادوا إلى المدينة فورا و دفعوا الكتاب إلى أمير المؤمنين، فبعث بالكتاب إلى عثمان، فقال: الختم ختمي، و اللّه ما كتبت و لا أمليت و لا أمرت و لا ختمت.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الناس أرسلوني إليك، و قد استفسروني بينك و بينهم، فو اللّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي ء فنبلغكه، و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما صحبنا، و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك، و أنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شيجة رحم منهما و قد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه (اللّه) في نفسك، فإنّك و اللّه ما تبصر من عمّى و لا تعلم من جهل، و إنّ الطرق لواضحة، و إنّ أعلام الدين لقائمة، فاعلم أنّ أفضل الناس عند اللّه إمام عادل هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة، و إنّ السنن لنيّرة لها أعلام، و إنّ البدع لظاهرة لها أعلام، و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنّم (ف) يدور فيها كما يدور الرحى،

ص: 261

ثمّ يهبط (1) في قعرها، و إنّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها، و يبثّ الفتن عليها (2) فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجا، و يمرجون فيها مرجا فلا تكوننّ لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ و تقضّي العمر (3).

و لمّا فشا أمر الكتاب بين الناس أقبل مالك الأشتر و معه مئتان من أهل الكوفة و مثله فعل حكيم بن جبلة، و حاصروا منزل عثمان و منعوه من حضور الصلاة، فاستناب عنه في الصلاة أبا هريرة، و تارة يخلفه ابن عبّاس، و أخرى أبو أيّوب، و منعوه من الماء العذب (4) فإذا أرسلت إليه قربة ماء تدافع الناس لمنعها، من ثمّ يصاب بالجروح جماعة ممّن هم على الباب لا سيّما الأمويّون و الهاشميّون.

و لمّا اشتدّ عليه الحصار استدعى الإمام أمير المؤمنين الحسنين عليهما السّلام و قال: اذهبا بسيفكما حتّى تقوما على باب عثمان لا معان (كذا) الناس عنه (5)، و أرسل طلحة

ص: 262


1- يرتبط- النهج.
2- فيها- المؤلّف.
3- نهج البلاغة، باب الخطب، ص 68.
4- أقول: هذه كذبة أمويّة إذ أنّ وضع المدينة ليس كوضع المدن المبنيّة على الأنهار، إنّما تشرب المدينة من مياه الآبار، و كان يومئذ أكثر بيوتها تحتوي على آبار داخلها تشرب منها و تقضي بها حاجاتها الأخرى، و بيت عثمان و هو بيت الخليفة و فيه من السكّان ما لا يوجد في البيوت الأخرى و هو من البيوت الكبرى يومئذ فلو خلت البيوت جميعها من الآبار فليس من المعقول أن يخلو بيت عثمان منها، و أيضا لو صحّت هذه الفرية لعطش معه كلّ من يضمّه الحصار و لكنّنا لا نسمع إلّا بعطش عثمان ممّا يدلّ على أنّها فرية يراد منها جلب عطف الناس عليه، و أكثر الناس و منهم المؤلّف غابت عنهم هذه الحقيقة.
5- جرى للكلمة تصحيف و أحسبها «لمنع الناس» و جاءت الجملة هكذا: فلا تدعا أحدا يصل إليه ... أحاديث أمّ المؤمنين عائشة 1: 117 مرتضى العسكري، و هذه كذبة أخرى فليس من المعقول أن يحول سيفان بين عثمان و بين مئات السيوف المسلولة عليه.

و الزبير جماعة من الأصحاب مددا لعثمان (1) و لكن أصحاب الحصار منعوهم من الوصول إليه، و أحدثوا ثقبا في جدار بيته و كسروا بابه و قتلوه، و قتلوا عبد اللّه بن عامر بن كريز خال عثمان و الي البصرة الأهواز و خوزستان، و كان من أشدّ الظالمين عتوّا، و أوشك على تدمير البلاد.

و أمّا شأن أبي ذر فقد كان في الشام في خلافة عثمان، فبنى معاوية الخضراء في دمشق، و جاء بأبي ذر إليها، فلمّا دخلها قال له معاوية: يا أبا ذر، كيف ترى ما هاهنا؟ فقال أبو ذر: إن بنيتها من مال اللّه فأنت من الخائنين، و إن كنت بنيتها من مال نفسك فأنت من المسرفين، فلم يرض قوله معاوية فشكاه إلى عثمان، فبعث إليه عثمان أن أرسله إليّ، و لمّا قدم المدينة و رأى ما عليه مروان من الجرأة و التحكّم و الاستبداد في أمور الدين و الشريعة، شرع بنصيحته و ملامته و أكثر من ذلك، فشكاه إلى عثمان، فأمر عثمان بنفيه إلى الربذة، و لمّا أخرجوه خرج عليّ لوداعه و قال:

يا أبا ذر، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك، و ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسدا، فلو أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا على عبد ثمّ اتقى اللّه سبحانه لجعل اللّه له منهما مخرجا، لا يؤنسنّك إلّا الحقّ، و لا يوحشنّك إلّا الباطل، فلو

ص: 263


1- كيف يعقل هذا و هما اللذان أجلبا عليه و هيّجا هذه الفتنة و منعا من دفنه، و المعروف تاريخيّا أنّ مروان قتل طلحة ثارا بعثمان.

قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك (1). (2)

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في أبي ذر أقوالا كثيرة، منها قوله: أبو ذر وعاء علم أوكأ فلم يخرج منه شي ء حتّى قبض.

روى عماد الدين شفروه بأسانيد صحيحة عن ابن عبّاس أنّه كان حاضرا في مجلس معاوية فأقبل مروان و قال: اقض حوائجي يا أمير المؤمنين، فو اللّه إنّ مؤونتي لعظيمة، إنّي أصبحت أبا عشرة و أخا عشرة و عمّ عشرة، فلمّا خرج مروان من عنده قال معاوية: يا بن عبّاس، أما تعلم أنّ رسول اللّه قال: فإذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا أموال اللّه بينهم دولا و عباده خولا و كتابه دغلا، فإذا بلغوا تسعة و تسعين و أربعمائة كان هلاكهم أسرع من الثمرة؟ قال ابن عبّاس: اللهمّ نعم (3).

ثمّ قال معاوية: أنشدك اللّه يابن عبّاس، إنّ رسول اللّه ذكر هذا- يعني مروان-

ص: 264


1- لقتلوك- المؤلّف.
2- نهج البلاغة، الخطب، ص 13، و الخطأ من الناسخ إذ لا معنى لقوله: قتلوك، و لكن المؤلّف ترجمها إلى هذا المعنى.
3- الحديث أخرجه أكثر الحفّاظ من الفريقين و لكنّ صيغه مختلفة، ففي الاحتجاج: إذا بلغوا ثلاثمائة و عشرا حقّت اللعنة عليهم و لهم، فإذا بلغوا أربعمائة و خمسة و خمسين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة (1: 410)؛ العمدة لابن البطريق: 472؛ البحار 18: 126 و هو أقرب إلى سياق المؤلّف؛ مجمع الزوائد 5: 243؛ المعجم الكبير 12: 183؛ أسرع من الثمرة ... الخ؛ المعجم الكبير 19: 382؛ كنز العمّال 11: 165 رقم 31056: لوك تمرة ... 11: 361: أسرع من لوك التمرة، و في لفظ: لوك تمرة؛ تفسير نور الثقلين 5: 623؛ تاريخ مدينة دمشق 37: 126: كان هلاكهم أسرع من التمرة، 57: 252؛ كتاب الفتن للمروزي: 73؛ البداية و النهاية 6: 272: لوك ثمرة، 8: 284: لوك تمرة، 10: 52: لوك تمرة؛ الطبرسي في إعلام الورى 1: 98؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 90؛ صحيفة الإمام الحسن: 256.

فقال: أبو الجبابرة الأربعة (1)؟ قال عبد اللّه بن عبّاس: اللهمّ نعم.

و أسر مروان يوم الجمل فتشفّع فيه الحسنان عليهما السلام فقبل شفاعتهما و أطلق سراحه، فقال الحسنان عليهما السلام: يا أمير المؤمنين، يريد أن يبايعك! فقال: أو لم يبايعني بعد قتل عثمان فإنّه كان بايعه مع طلحة و الزبير، لا حاجة لي في بيعته، إنّها يد يهوديّة، و لو بايع بيده لغدر، أما إنّه له إمرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمّة منه موتا أحمر، و لكنّي لا أحبّ أن تلي هذه الأمّة سفهائها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا، و الصالحين حربا (2).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فسائني ذلك (3).

و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما ينزو القردة و الخنازير. قال: فأصبح كالمتغيّض، فما رؤي رسول اللّه مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات. و هذا الحديث من رواية المخالفين (4).

ص: 265


1- مجمع الزوائد 5: 243؛ المعجم الكبير 12: 183 و 19: 383؛ كنز العمّال 11: 361 رقم 31745؛ النزاع و التخاصم: 84 مضافا إلى الكتب السالفة.
2- العجيب من المؤلّف أنّه ترجم قول الإمام عليه السّلام: «له إمرة» فقال: «آگاه باش كه مرا او را زنى است» فظنّه يقول امرأة، و لم يدرك أنّ ذكر المرأة هنا لا معنى له و إنّما يريد الإمام إمارته التي لم تتجاوز الستّة أشهر فهي كلعقة الكلب.
3- مجمع الزوائد 5: 244؛ فتح الباري 8: 302 بدون حرف جرّ؛ المعجم الكبير 2: 96 يتعاورون منبري و فيه تتمّة موضوعة لحساب بني العبّاس؛ تفسير الميزان 13: 149؛ الدرّ المنثور 4: 191؛ تاريخ مدينة دمشق 57: 340: يتعاورون على منبري؛ سبل الهدى و الرشاد 3: 68 و 10: 90 و فيه التتمّة الموضوعة، و معنى يتعاورون: أي يختلفون و يتناوبون، كلّما مضى واحد خلفه آخر، راجع نهاية ابن الأثير و لسان العرب.
4- مسند أبي يعلى 11: 348؛ كنز العمّال 11: 117 رقم 30845، و ص 165 و 167 و 358؛ تاريخ-

حكاية: روى البخاري عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و أبو بكر بالسنح يعني بالعالية، قال عمر: يقولون مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عمر: و اللّه ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال عمر: ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك، و ليبعثنّه اللّه فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبّله فقال: بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و ميّتا، و الذي نفسك بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثمّ خرج و قال: أيّها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلّم أبو بكر جلس عمر فحمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه و قال: ألا من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و قال: إنّك ميّت و إنّهم ميّتون، و قال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (1). (2)

فنشج الناس يبكون، و اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير و منكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصدّيق و عمر بن الخطّاب و عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، و كان عمر يقول: و اللّه ما أردت بذلك إلّا أنّي قد هيّأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، إلى أن قال أبو بكر: نحن الأمراء و أنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر:

ص: 266


1- آل عمران: 144.
2- صحيح البخاري 4: 193. و أسأل أصحاب الضمائر النقيّة: إذا كان أبو بكر بالسنح و هو يبعد عن المدينة بما يقرب من أربعة أميال أو أكثر فكيف صلّى في المسلمين في مرض النبيّ و زعم أبو بكر ابن مجاهد للرشيد أنّه صلّى ثمانية أيّام، هذا من جانب، و من جانب آخر: أترى أنّ عمر لم يصدق بموت النبيّ؟ كلّا و اللّه فكيف صدّق بموته يوم أحد و هرب لا يلوي على شي ء، بل أراد أن يوقع الناس في بلبلة حتّى يأتي صاحبه، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، إنّها مؤامرة دنيئة على أهل بيت النبيّ، لعن اللّه أطرافها بلعنة الأبد.

لا و اللّه لا نفعل، منّا أمير و منكم أمير. فقال أبو بكر: لا و لكنّا الأمراء و أنتم الوزراء، هم المهاجرون و اللّه أوسط العرب دارا و أقربهم أحسابا، فبياعوا عمر أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيّدنا و أحبّنا إلى رسول اللّه، فأخذه عمر بيده فبايعه و بايعه الناس، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة (1).

الجواب: أقسم عمر أنّ رسول اللّه لم يمت مع علمه بموته، و لم يظهر على الناس اضطراب أو خلل و لا بد منهم مخاصم استحقّ اليمين من عمر لدرء الخطر فكان يمينه عبثا لأنّه من دون ذريعة و لا سبب، حتّى قال له صاحبه: على رسلك أيّها الحالف، ثمّ كان الأمر يقتضيهم تأجيل الخلافة حتّى يجهّزوا النبيّ و يدفنونه و يحضرون تلك المشاعد المروعة مع الناس فإنّه أدعى إلى الاحترام و أكثر صونا لشرف الإسلام و النبوّة.

و إذا كانت الخلافة هي حاجة الأمّة و يخشى من تأخيرها وقوع الأمّة في حيص بيض فكان النبيّ أولى منهم بذلك، و أحقّ بالقيام به رعاية للأمّة لأنّها إرادة اللّه و رسوله.

و الخصم يزعم أنّ النبيّ ما قام بنصب الإمام و بهذا يظهر أنّ الحاجة إليه مفقودة أو أنّ النبيّ أو كل الأمر إلى إجماع الصحابة. و إذا صحّ ذلك كان عليهم تأخير البتّ في أمر الخلافة حتى يحضر جماعة بني هاشم و باقي الخزرج إلى مسرح الاختيار و يتشاوروا فيما بينهم بحكم قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (2) لأنّه عمل عظيم و حركة كبرى و ما كان اتصال أثره و نفعه بالناس جميعا و هو مؤسّس لصلاح العباد فينبغي أن تتكاتف الأيدي عليه و يجتمع الناس عليه خصوصا من ذكرناهم.

ص: 267


1- البخاري 4: 193.
2- آل عمران: 159.

و لمّا سارع القوم إلى اهتبال الفرصة و لم يستشيروا أحدا في أمر الحكم و لم يستعينوا بأحد من بني هاشم أو الأخيار من صحابة الرسول، علمنا أنّهم بادروا إلى الفرصة ليغتنموها لأنّهم لو تمهّلوا فإنّها سوف تذهب من أيديهم و تضيع الخلافة منهم، و هذا هو الرأي الصحيح الذي عليه مذهب أهل البيت.

و خاف القوم من بني هاشم بعد فراغهم من تجهيز الرسول أن يظهروا في الساحة فلا تنتج خطّتهم، من هنا اندلعت الفتنة فكانت منّا أمير و منكم أمير، و قال أبو بكر: بايعوا سعدا، و قيل: قتل اللّه سعدا، و قيل «بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها» (1)، و قال أبو بكر: «أقيلوني و ليست بخيركم».

إنّ هذا العمل المرتجل من غير أن يستشار فيه جماعة العقلاء أدّى إلى هذه الإفرازات السيّئة، و أنتج هذه الثمرة الخبيثة، و لمّا بلغ خبر السقيفة أمير المؤمنين و هو منشغل بتجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بلغته مقالة الأنصار: منّا أمير و منكم أمير، فقال: هلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و «ماذا في هذه الحجّة عليهم» (2) قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم، أي لو كان يلون الخلافة و الإمارة و الوصاية ما أوصى بهم النبيّ لأنّ الشخص لا يكون وصيّا من جهة و يوصى به من جهة أخرى.

ثمّ قال عليه السّلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، فقال: عليه السّلام: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.

ص: 268


1- القاضي المغربي، دعائم الإسلام 1: 85؛ الاقتصاد للطوسي: 208؛ صحيح البخاري 8: 26؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 615؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 31 و 13: 224 و 17: 164 و 20: 21؛ الثقات لابن حبّان 2: 156؛ اليعقوبي 2: 158؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 127 و 12: 311؛ العدد القويّة لعلي بن يوسف الحلّيّ: 286.
2- الظاهر أنّ هذه الجملة سؤال موجّه إلى أمير المؤمنين و لكن المؤلّف أدخله ضمن قوله ... و في خصائص الأئمّة للشريف الرضي: 86، قالوا: و ما في هذا من حجّة عليهم ..؟ الخ.

و مذ تمسّك القوم بالصحبة، قال عليه السّلام: أتكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة؟!

و قال أيضا لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول اللّه فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونهم، و إن يكن لغيره فالأنصار على دعواهم (1). و لأمير المؤمنين في هذا الباب:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (2) و لمّا بايع الناس أبا بكر انحاز العبّاس و أبو سفيان (3) و الزبير بن العوام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قالوا: نبايعك و اللّه أنت أولى بهذا الأمر، فقال عليّ عليه السّلام: ما حال السقيفة؟ قال: بويع أبو بكر، فقال عليه السّلام:» اطّلع نجوم الفتى ...» أيّها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة «و عرّجوا عن طريق المنافرة» وضعوا تيجان المفاخرة- و نكّبوا عن طريق المنافرة .. اليقين- أفلح من نهج بجناح أو استسلم فأراح (هذا) ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها، و مجتني الثمرة لغير وقت أيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا حرص على الملك، و إن أسكت يقولوا جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا و اللتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه (لكن) بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (4).

ص: 269


1- نهج البلاغة، الخطب، ص 33.
2- نفسه: 42.
3- لم يكن أبو بكر معهم و جاء بآخره يستنهض الإمام للمطالبة فردّه لعلمه بسوء دخيلته و إنّه يبغي الغائلة و ليس هدفه الحق.
4- اليقين للعلّامة الحلّي: 180.

و قال أبو سفيان: ما هذا إلّا خوفا، و اللّه لأملأنّها خيلا و رجلا، فقال عليّ عليه السّلام:

و اللّه لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري و و اللّه لأسلمنّ أمور المسلمين ما لم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصّة التماسا لأجر ذلك و فضله و زهدا فيما تنافستموه من زخرفة و زبرجة و لا يعاب المرء بتأخّر حقّه و إنّما يعاب من أخذ ما ليس له.

ثمّ استقبل قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: بأبي أنت و أمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة و الأنباء و أخبار السماء، خصصت حتّى صرت مسليا عمّن سواك، و عممت حتّى صار الناس فيك سواء، و لو لا أنّك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون، و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا و قلالك، لكنّه ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه، بأبي أنت و أمّي اذكرنا عند ربّك و اجعلنا من بالك (1).

ثمّ بكى بكاءا شديدا و قال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، و إنّه قبلك و بعدك لجلل، ثمّ خرج العبّاس من عنده، فأقبلت قريش عليه و راحوا يسألونه، فقال:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن (2)

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعلم الناس بالآداب و السنن

و أقرب الناس عهدا بالنبيّ و من جبريل عونا له بالغسل و الكفن

من فيه ما في جميع الناس كلّهم و ليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردّه عنكم لنعرفه ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتن

ص: 270


1- نهج البلاغة 2: 228.
2- نسبها في الإرشاد 1: 32 لخزيمة بن ثابت الأنصاري. و في النصّ و الاجتهاد لعتبة بن أبي لهب: 23، و في طرق حديث الأئمّة لربيعة بن الحرث: 44، و في أسد الغابة 4: 40 نسبها إلى الفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب، و نسبها السيّد الجزائري رحمه اللّه في قصص الأنبياء إلى حسان.

حديث: عن البخاري، عن عائشة: لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة، فأذّن، فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فقيل له: إنّ أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس، و أعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فخرج أبو بكر فصلّى، فوجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من نفسه خفّة فخرج يهادي بين رجلين كأنّي أنظر رجليه يخطّان الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخّر فأومأ إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن مكانك، ثمّ أتى به حتّى جلس إلى جنبه.

فقيل للأعمش: و كان النبيّ يصلّي و أبو بكر يصلّي بصلاته و الناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم. (رواه أبو داود عن شعبة عن الأعمش بعضه و زاد ابو معاوية: جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلّي قائما) (1).

و في رواية عبد اللّه عن عائشة: فخرج بين رجلين يخطّ رجلاه الأرض فكان بين العبّاس و رجل آخر، فسئل عن عبد اللّه: من الرجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و عن البخاري عن مصعب بن سعد عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج إلى تبوك و استخلف عليّا، فقال: أتخلفني في الصبيان و النساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي (2). (3)

الجواب: اعلم بأنّ هذا باطل من عدّة وجوه:

الأوّل: إنّ لعائشة عداوة ظاهرة مع عليّ عليه السّلام و الدليل على ذلك بأنّها أخفت اسمه

ص: 271


1- البخاري 1: 162، نفسه 1: 57 و 162.
2- لا نبيّ بعدي- المؤلّف.
3- صحيح البخاري 5: 129.

فلم تصرّح به كما صرّحت باسم ابن عبّاس، لبعضها إيّاه (لعنة اللّه عليها و على أبيها- المترجم) و عبّرت عنه برجل.

الثاني: لو لم تعاده لما ارتحلت الجمل و تخطّت المسافات من بلد إلى بلد و من ولاية إلى أخرى لحربه.

الثالث: كان بينها و بين فاطمة عليها السّلام عداوة و الدليل عليها أنّها صدّت بواسطة أسماء لمّا جائت لعيادة فاطمة عليها السّلام، و لم تأذن لها بالدخول فعادت أدراجها من حيث أتت، كما روى ذلك البخاري (1).

الرابع: كانت عائشة تؤذي النبيّ دائما من أجل خديجة عليها السّلام كلّما ذكرها النبيّ بخير كما ذكر ذلك في مصابيحهم (2).

الخامس: ظلم أبو بكر فاطمة و غصب منها فدكا و قدّم نفسه على عليّ عليه السّلام

ص: 272


1- أنقل لك ما عثرت عليه عند مولانا الأميني في الغدير 7: 228: فجائت تدخل فمنعتها أسماء، فقالت: لا تدخلي، فشكت إلى أبي بكر و قالت: هذه الخثعميّة تحول بيننا و بين بنت رسول اللّه، فوقف أبو بكر على الباب و قال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبيّ أن يدخلن على بنت رسول اللّه و قد صنعت لها هودج العروس- أنظر إلى هذا النذل يستكثر على ابنة رسول اللّه النعش و القصد منه صيانة جسمها الشريف أن لا يبدو للناظر، ألا لعنة اللّه عليه ... المترجم- قالت هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد و أمرتني أن أصنع لها ذلك. قال مولانا الأميني: راجع الاستيعاب 2: 772؛ ذخائر العقبى: 53؛ أسد الغابة 5: 524؛ تاريخ الخميس 1: 313؛ كنز العمّال 7: 114؛ شرح صحيح مسلم للسنوي 6: 281؛ شرح الآبي لمسلم 6: 1282؛ أعلام النساء 3: 1221.
2- عن عائشة: إنّ رسول اللّه ذكر خديجة، فقلت: لقد أعقبك اللّه عزّ و جلّ من امرأة، قال عفان: من عجوزة من عجائز قريش من نساء قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر. قالت: فتمعّر وجهه تمعّرا ما كنت أراه إلّا عند نزول الوحي، أو عند المخيلة حتّى ينظر أرحمة أم عذاب؟- مسند أحدم 6: 150؛ صحيح البخاري 4: 331؛ صحيح مسلم 7: 134؛ المستدرك 4: 286؛ سنن البيهقي 7: 307.

و عزله، و هذا بالضرورة يقضي على عائشة أن تجد لأبيها مخرجا من هذا المأزق بمثل هذه الأعذار، و ربّما كانت تجرّ النار إلى قرصها فيما ترويه لأبيها و عنه كما قال ابوها في حقّ عليّ حين ردّ شهادته للزهراء بأنّه يجرّ النار إلى قرصه، و في هذه الصورة تكون دعوى النفع ألصق بعائشة لأنّها تدور بين النبوّة و الأبوّة و هي ثابتة لا تتغيّر بخلاف ما عليه الحال بين الزوج و زوجته، فإنّ العلاقة بينهما غير ثابتة فليس من البعيد أن تؤول إلى الفراق و بسهولة و يسر أيضا (1).

ثمّ إنّ البخاري يقول: عن الزهري قال: قال الوليد بن عبد الملك أبلغك أنّ عليّا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا و لكن أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمان و أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث أنّ عائشة قالت لهما: كان عليّ مسيئا في شأنها و قولها في هذا الحديث (2).

و نرجع إلى مسألة الصلاة، فقولها عن أبيها جلس عن يسار النبي دليل على أنّه لم يكن إماما بل كان مأموما، و هذا المعنى مذكور ضمن الحديث.

ثمّ إنّ قيام رسول اللّه مع ضفعه المتناهي بحيث لم يقدر على المشي وحده حتّى اتّكأ على رجلين دليل آخر على أنّه غير راض بإمامته.

ص: 273


1- أقول: لا ينبغي أن يقال مثل هذا الكلام هنا لأنّه ينتظم العلاقة بين سيّدة النساء و الإمام بالعلاقة الزوجيّة العامّة و هذا و أجل المؤلّف منه غير سديد.
2- البخاري 5: 60. أقول: إنّ القوم يحكمون بكفر من قذف عائشة و إن تاب و رجع و أبوها كان فيمن قذفها فما باله لم يكفّر بل صار صدّيقا، و أنا أنقل لك موضع الشاهد من الرواية: فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو بكر فدخل عليّ، فقال: يا رسول اللّه، ما تنتظر بهذه التي خانتك و فضحتني. (المعجم الكبير 23: 117؛ مجمع الزوائد 9: 229؛ المعجم الأوسط 6: 271؛ تاريخ المدينة لابن شبّة النميري 1: 324) و كلّها يروي العبارة نفسها «خانتك و فضحتني»، فهو يرمي عائشة بالخيانة الزوجيّة و لست أدري ما معنى القذف إن لم يكن هكذا، و اليوم لو قذف إنسان امرأة بالخيانة الزوجيّة عند القاضي ثمّ لم يأت بأربعة شهود ألا يستحقّ الحدّ يجري عليه!!!

أضف إلى هذا كلّه أنّ النبيّ مشرّع فكيف يأمر إنسانا بأمر ثمّ يعمد إلى نسخه قبل الشروع فيه، و ذلك الإنسان ممتثل للأمر مقبل عليه، و إن صحّ هذا فهناك أمر آخر و ذلك حين أمره النبي بقرائة تسع آيات من سورة البقرة ثمّ عزله و أرسل بها عليّا مكانه بعد أن طوى شطرا من الطريق ليعلم الناس بأنّه لا يليق للإمامة و لا تليق به، و لم يكن راوي هذا الحديث غير عائشة.

و أمّا رواة الحديث الدالّ على خلافته و هو حديث المنزلة و الذي تكشف الآية عن معناه و تفصح عمّا أراد النبيّ به فقد قال الحكيم في كتابه: وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي (1) فهم عن طريق ابن مردويه، سعد بن أبي وقاص، و مصعب بن سعد، و عائشة، و سعد بن أبي وقاص، و سعيد بن المسيّب، و سعيد بن زيد، و عقيل ابن أبي طالب، و أبو سعيد الخدري، و عبد اللّه بن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و أبو هريرة، و حبشي بن جنادة السكوني، و أنس بن مالك، و جابر بن سلمة، و مالك بن الحرب، و أبو أيّوب الأنصاري، و زيد بن أبي أوفى، و زيد بن أرقم، و البراء بن عازب، و عبد اللّه بن عمر، و بريدة بن الخطيب الأسلمي، و خالد ابن عرفط، و حذيفة بن أسيد الغفاري، و أبو الطفيل، و أمّ سلمة، و أسماء بنت عميس، و فاطمة بنت الحمزة بن عبد المطّلب عليه السّلام.

و روى عماد الدين شفروه عن الإمام برهان الدين المطرزي صاحب المغرب و الإيضاح في شرح المقامات، عن مشايخه عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه يوم دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك، فقم به بذلك يوم الخميس ثمّ دعا الناس إلى عليّ، فأخذ بضبعه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطه ثمّ لم يتفرّقا حتّى نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 274


1- الأعراف: 142.

نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1)، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالتي و الولاية لعليّ. ثمّ قال: اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.

فقال حسان بن ثابت: يا رسول اللّه، ائذن لي أن أقول أبياتا؟ قال: قل ببركة اللّه. قال حسان: يا مشيخة قريش، اسمعوا شهادة رسول اللّه، و أنشأ يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

و قال: فمن مولاكم و وليّكم؟فقالوا و لم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّناو لا تجدن منّا لأمرك عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا (2) و روى ابن مردويه في تفسير الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ عن أبي هريرة: من صام يوم ثمانيه عشر من ذي الحجّة كانت له صيام ستّين سنة و هو يوم غدير خم لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ، قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول اللّه. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، قال له عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن

ص: 275


1- المائدة: 3.
2- رسائل المرتضى 4: 131 و ذكر منها أربعة أبيات؛ الاقتصاد للطوسي: 321؛ الأمالي للصدوق، و زاد فيها بيتين: فقام عليّ أرمد العين يبتغي لعينيه ممّا يشتكيه مداويا فداواه خير الناس منه بريقه فبورك مرقيّا و بورك راقيا خصائص الأئمّة: 42؛ روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 103؛ شرح أصول الكافي 6: 130؛ نظم درر السطمين: 112؛ شواهد التنزيل 1: 202 و 257؛ نهج الإيمان لابن جبر: 116.

أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مسلم و مسلمة (1)، فأنزل اللّه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال: من صام سبعا و عشرين من رجب كانت له صيام سبعين سنة و هو اليوم الذي هبط فيه جبرئيل بالرسالة أوّل يوم هبط فيه.

و رواة حديث الغدير هم: البراء بن عازب، و سعد بن أبي وقّاص، و طلحة بن عبيد اللّه، و العبّاس، و ابنه عبد اللّه، و الحسن بن عليّ عليهما السلام، و ابن مسعود، و عمّار بن ياسر، و أبو ذر، و أبو أيّوب، و ابن عمر، و عمران بن حصين، و بريدة بن الخضيب، و أبو هريرة، و جابر بن عبد اللّه، و أبو سعيد الخدري، و أبو رافع مولى النبي و اسمه أسلم، و حبشي بن جنادة، و أبو بردة الأسلمي، و جرير بن عبد اللّه البجلي، و أنس، و حذيفة بن أسيد الغفاري، و زيد بن أرقم، و أبو الحمراء خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عبد الرحمان بن يعمر الديلمي، و عمرو بن الحمق الخزاعي، و يزيد بن شراحيل، و ناحية بن عمر، و جابر بن سمرة، و مالك بن الحارث، و أبو ذؤيب شاعر، و عبد اللّه بن ربيعة، و عبد اللّه بن أبي أوفى، و عامر بن عمير الفهري العامري، و عامر بن واثلة، و أبو الطفيل، و سعد بن عبادة (2).

و ذكر الحافظ أبو موسى في كتاب تتمّة المعرفة عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد عليّ عليه السّلام في الرحبة من سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم غدير خمّ ما قال إلّا قام، و لا يقوم إلّا من سمعه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقام بضعة عشر رجلا. قال الأصبغ بن نباتة: كأنّي أنظر إلى أحدهم عليه إزار إلى أنصاف ساقيه فيهم، و أسماء هؤلاء مذكورة: أبو أيّوب الأنصاري، و أبو عمرة بن محصن، و سهل بن حنيف، و خزيمة بن ثابت،

ص: 276


1- المناقب للخوارزمي: 156؛ روضة الواعظين: 351.
2- أحصاهم مولانا الأميني في الجزء الأوّل من كتابه المبارك «الغدير» فبلغوا العشرات فارجع إلى هناك.

و عبد اللّه بن عازم الأنصاري و النعمان بن عجلان الأنصاري و عبد الرحمان بن عبد الربّ، و ثابت، و يزيد بن وديعة الأنصاري و أبو فضالة الأنصاري.

قالوا: نشهد أنّا سمعنا لرسول اللّه، و أخذ بيدك يوم غدير خم فرفعها حتّى رأى بياض أباطها، فقال: ألستم تشهدون أنّي بلّغت الرسالة و النصيحة؟ فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ وليّي و أنا وليّ المؤمنين، ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و أحبّ من أحبّه و أبغض من أبغضه و أعن من أعانه، فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك من رسول اللّه، و كتم قوم فما خرجوا من الدنيا حتّى عموا و أصابتهم آفة منهم من هؤلاء جماعة مذكورة أسمائهم كعبد اللّه بن فدلج (1) و يزيد بن وديعة، و في رواية ابن مردويه: و عمرو بن الحمق (2) و يزيد بن شراحيل و عامر بن أبي ليلى، و الذين أصابتهم آفة العمى عشرة أشخاص كما روى الرواة ذلك.

و ذكر عماد الدين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ عليّا مع الحقّ و الحقّ معه لن يزالا حتّى يردا عليّ الحوض ... و راوي الحديث عائشة و أمّ سلمة و ابو موسى و أبو سعيد الخدري و سهل بن شهيب (كذا) النهمي و أبي رافع و حذيفة و عمّار و زيد بن صوحان. و ذكر عماد الدين شفروه هذا الحديث و قال في آخره: و لذا لزم البيت و ترك البيعة و لم يكن لأحد أن يطالبه بها.

و يقول عماد الدين: لمّا امتنع بنو حنيفة عن أداء الزكاة خرج عليّ بنفسه إلى حربهم (3).

ص: 277


1- يكثر التصحيف في أسماء الأعلام عند المؤلّف و يصعب عليّ ضبطها لعدم ذكره المصادر و التي يذكرها مفقودة مع مزيد الأسف.
2- لا شكّ بأنّه غير خزاعي الذي قتل عثمان لعنه اللّه و قتله معاوية لعنه اللّه.
3- لعن اللّه الكاذب، فهذه كتب التاريخ التي ذكرت حروب الردّة لم تذكر مشهدا واحدا لعليّ يعين به القوم، اللهمّ إلّا كذبه افترتها عائشة و جهازها و هي أنّ أبا بكر لمّا همّ بالخروج للحرب احتضنه الإمام و قال: أمتعنا بنفسك يا خليفة رسول اللّه، و هي كذبة أوضح من الشمس الطالعة، فما كان علي ينسى جرأتهم على بيته بهذه السرعة و لم يمض على وفاة النبيّ عشرة أيّام فقد حدثت هذه الحروب بعد أيّام عشر من وفاته صلّى اللّه عليه و آله.

و لمّا فتحهم قال في أثناء حكاية بنوع من الشكاية: إنّ اللّه بعث محمّدا نذيرا للعالمين و مهيمنا على المرسلين، فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده فو اللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي (على بالي) أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله عن أهل بيته و أنّهم منعوه عنّي من بعده، فما راعني إلّا انثيال الناس علي فلان- نهج البلاغة- على أبي بكر .. المؤلّف- يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام (و أهله يدعون إلى محق دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله) (1) أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت و لا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق و اطمأنّ الدين و تنهنه (2).

الجواب: كان عليّ عليه السّلام دائما يطالب بحقّه، يقرّع تلك الفتنة، و إنّه في مذهب أهل البيت لم يشارك بأيّ حرب من حروبهم، سواءا ما شنّوها على العرب باسم الردّة

ص: 278


1- هذه الفقرة محذوفة من الكتاب.
2- نهج البلاغة 3: 119 و هو كتاب بعثه إلى أهل مصر مع مالك لمّا ولّاه إمارتها، فأين هو من حروب بني حنيفة، و لعلّ في قول الإمام عليه السّلام: «فنهضت في تلك الأحداث» ما يدخل اللبس على الأذهان من أنّه شارك في حروب ما يسمّى بالردّة، و هذا بعيد جدّا لأنّ الأحداث التي عناها الإمام هي أحداث الخلافة و ما يتبعها من الأمور التي جهل القيام بها أولئك و لم يدركوها فكانوا يفتون الناس من عند أنفسهم كيفما يحلو لهم، فاستدرك الإمام ذلك عليهم و شاركهم في الفتوى و إيضاح ما أبهم عليهم و بيان ما عجزوا عن بيانه.

أو ما شنّوها خارج الجزيرة للغزو و التوسّع (1) و الذي تولّى كبر قتال بني حنيفة هو خالد بن الوليد (الدموي الشهواني- المترجم) و ليس بين المؤرّخين خلاف حول المسألة.

أمّا حجّتنا على ذلك في مطالبته بحقّه و إبطال دعوى القوم فما رواه عماد الدين قال: قال عمر لعليّ في ملأ من المهاجرين و الأنصار: إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقال: بل أنتم و اللّه أحرص و أبعد و أنا أخصّ و أقرب، و إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه، فو اللّه ما زلت مدفوعا عن أمري، مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيّة حتّى يومنا هذا (2).

روى البخاري عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمان أخبره أنّ المسوّر بن مخرمة أخبره أنّ الرهط الذين ولّاهم عمر (لعنه اللّه- المترجم) (3) اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمان: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر و لكنّكم إن شئت اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمان، فلمّا ولّوا عبد الرحمان أمرهم فمال الناس على عبد الرحمان حتّى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط و لا يطأ عقبه و مال الناس على عبد الرحمان يشاورونه تلك الليالي (حتّى إذا كانت تلك الليلة أصبحنا فبايعنا عثمان).

قال المسوّر: طرقني عبد الرحمان بعد هجع من الليل (ربع من الليل) فضرب

ص: 279


1- في هذه الفقرة زيادة معنى على ما ذكره المؤلّف رأى المترجم زيادتها لازمة.
2- ابن أبي الحديد 9: 35، و تمام الكلام: فلمّأ قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ كأنّه بهت لا يدر ما يجيبني به، الخ. و أنا أقول للإمام: بأبي أنت و أمّي «فبهت الذي كفر» لك اللّه يا مولاي على طول معاناتك من أولاد الزواني و العواهر.
3- إنّي أرى ضرورة إعادة لعنهم كما كان يفعل أسلافنا لأنّنا تركنا ذلك حتّى صارت لهم مكانة في النفوس.

الباب حتّى استيقظت، فقال: أراك نائما، فو اللّه ما اكتحلت هذه الليلة (الثلث) بكبير نوم، انطلق فادعوا الزبير و سعدا، فدعوتهما له فشاورهما ثمّ دعاني، فقال:

ادع لي عليّا، فدعوته فناجاه حتّى ابهارّ الليل ثمّ قام عليّ من عنده و هو على طمع و قد كان عبد الرحمان يخشى من عليّ شيئا (1)، ثمّ قال: ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتّى فرّق المؤذّن بينهما بالصبح، فلمّا صلّى الناس الصبح و اجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين و الأنصار، و أرسل إلى أمراء الأجناد و كانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر، فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال: أمّا بعد، يا علي، إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا، فقال: أبايعك على سنّة اللّه و رسوله و الخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمان و بايعه الناس المهاجرون و الأنصار و أمراء الأجناد و المسلمون (2).

و يروى أنّه لمّا اجتمع أهل الشورى قبل أن ينعقد أمر عثمان و يتكلّم عبد الرحمان، قال طلحة و الزبير: نبايعك على أنّا شريكان في هذا الأمر، فقال: لا و لكنّكما شريكان في القوّة و الاستعانة و عونان على العجز و الأود (3).

و تكلّم عبد الرحمان و مال إلى عثمان لمصاهرته، و أبى عليّ عليه السّلام و تكلّم كما روى أبو عبد اللّه المدني عن مشايخه عن عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى و عليّ عليه السّلام في البيت، فسمعته يقول: استخلف ابو بكر و أنا في نفسي أحقّ

ص: 280


1- و هذا الذي يخشاه هو هجومه لعنه اللّه و أخزاه على بيت فاطمة بعد وفاة أبيها مع عمر و خالد بن الوليد لعنهما اللّه.
2- راجع قول الرجلين و جواب الإمام لهما في نهج البلاغة 4: 46.
3- صحيح البخاري 8: 123 و هنا يتجلّى لي أنّ سنّة الخليفتين صارت تعدل سنّة اللّه و رسوله فهما ركن من أركان الإسلام و عدم اتّباعهما يساوي عدم اتّباع القرآن و النبيّ، و هذا من مصائب الدهر.

بها منه، فسمعت و أطعت، و استخلف عمر و أنا في نفسي أحقّ بها منه، فسمعت و أطعت، و أنتم تريدون أن تستخلفوا عثمان إذن لا أسمع و لا أطيع، و إنّ عمر جعلني في خمسة أنا سادسهم لا يعرف لي عليهم فضل، نحن سواء، أما و اللّه لأحاجّهم بما لا تستطيع عربهم و لا عجمهم و لا المعاهد منهم و لا المشرك أن ينكر منها فضيلة.

قال: أنشدكم باللّه أيّها الخمسة، أفيكم أحد أخو رسول اللّه غيري؟ قالوا:

اللهمّ لا.

قال: أمنكم واحد له عمّ مثل عمّي الحمزة بن عبد المطّلب أسد اللّه و رسوله غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أمنكم أحد له ابن عمّ مثل ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزيّن بجناحين يطير مع الملائكة في الجنّة؟

قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد له زوجة مثل زوجي فاطمة بنت رسول اللّه سيّدة نساء هذه الأمّة غيري؟ قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد ردّت عليه الشمس بعد غروبها حتّى صلّى العصر غيري؟

قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد سكن المسجد يمرّ فيه جنبا غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أمنكم أحد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قرّب إليه الطير فأعجبه و قال: اللهمّ آتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجئت أنا لا أعلم ما كان و ممّن قوله فدخلت، فقال: و إليّ يا ربّ، و إلىّ يا ربّ؟ قالوا: لا.

و كذا روى المدني عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليّا يقول: بايع الناس أبا بكر و أنا و اللّه أولى بهذا الأمر منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع الناس كفّارا، ثمّ أنتم

ص: 281

تريدون أن تبايعوا عثمان، إذن لا أسمع و لا أطيع، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضل عليهم في الصلاح و لا يعرفونه لي كما نحن فيه سواء، و أيم اللّه لو شئت أن أتكلّم بما لا يستطيع عربهم و لا عجمهم و لا المعاهد و لا المشرك ردّ خصلة منها.

ثمّ قال: أنشدكم باللّه أيّها النافر جميعا أفيكم أحد أخو رسول اللّه غيري؟ قالوا:

اللهمّ لا.

قال: أنشدكم باللّه أيّها النفر أفيكم أحد صلّى القبلتين قبلي؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أنشدكم باللّه أيّها النفر أفيكم أحد من له عمّ مثل حمزة أسد اللّه و رسوله و سيّد الشهداء غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أخ مثل أخي جعفر ذي الجناحين المزيّنتين بالجواهر يطير بهما في الجنّة حيث شاء؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول اللّه؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد له ابنان مثل الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة؟

قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان أقتل للمشركين عند كلّ شدّة تنزل على رسول اللّه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان أعظم غناءا عن رسول اللّه اضطجع على فراشه فوقاه بنفسه و بذل مهجته و دمه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان يأخذ الخمس غيري و غير فاطمة؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد يظهر كتاب اللّه و يعرف تنزيله و تفسيره و تأويله غيري؟

قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد فتح النبيّ بابه في المسجد حين سدّ أبواب المهاجرين

ص: 282

و الأنصار، حتّى قام إليه عمّاه حمزة و العبّاس فقالا: يا رسول اللّه، سددت أبوابنا و فتحت باب عليّ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أنا فتحت بابه و لا سددت أبوابكم بل اللّه فتح بابه و سدّ أبوابكم؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد تمّم اللّه نوره حين قال: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد ناجى رسول اللّه ستّة عشر مرّة غيري حين نزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (2)؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد تولّى غمض رسول اللّه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد عهد رسول اللّه حتّى وضعه في حفرته غيري؟ قالوا: اللهمّ لا (3).

الجواب: اختار عمر للشورى هؤلاء الستّة و هم عليّ و طلحة و الزبير و عبد الرحمان بن عوف و سعد بن أبي وقّاص و عثمان بن عفّان و أوصى إليهم عمر و قال: هؤلاء النفر الستّة يليقون للخلافة فاختاروا أحدهم و الاختيار باطل.

جواب آخر: لمّا أدركت أبا بكر الوفاة و عرف في مرضه أنّه مفارق الحياة استخلف عمر بن الخطّاب و بايعه فكان عمر خليفة الخليفة، فلماذا صيّر الأمر شورى و خالف ابا بكر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (لأنّ رسول اللّه مضى و لم يستخلف و أبو بكر مضى و استخلف و عمر مضى و أولى أمره في الشورى، فظهر من خلافه للنبيّ و أبي بكر الدليل على بطلان عمله.

جواب آخر: بناءا على مذهب أهل السنّة أنّ عمر رجح ميزانه على النبيّ و العالم

ص: 283


1- الروم: 38.
2- المجادلة: 12.
3- لا شكّ أنّ هذه المناشدة لم تأت على وجهها الصحيح فقد ذكر فيها ما لا فضل فيه كالعمّ و الأخ و غيرهما و إذا كان طيب العمّ يزين فإنّ سوء العمّ يشين أيضا، و رسول اللّه و عليّ عمّهما أبو لهب. ثمّ ما بال المناشدة خلت من ذكر الغدير فهل حذف ذلك منها؟ أنا لا أشكّ في ذلك.

مرّتين، و كان في مذهبهم أعلم العلماء، فهو حينئذ أعلم بأحوال الناس من أنفسهم و من غيرهم، فلماذا لم يختر من يخلفه مع علمه هذا و أوكل الأمر إلى الشورى؟

جواب آخر: الأفضليّة شرط في الخلافة و ينبغي أن يكون هؤلاء الستّة متساوين في الفضل فلا سبق لأحد على أحد منهم و كان يذهب إذا اختير اثنين معا إلى قتلهما و على هذا لا يجوز اختيار أحدهم أصلا.

جواب آخر: و لمّا دخلوا على عمر و هو مطعون أخذ يصف لهم أنفسهم، فقال لعثمان: أمّا عثمان فكلف بأقاربه، و أمّا عليّ فرجل فيه دعابة، أمّا الزبير فوعق لقس، أي إنّ أخلاقه سيّئة، و أمّا طلحة فرجل فيه بأو، أي يجبّ الجماع (1)، و أمّا سعد فذو مقنب من مقانبكم (2). أمّا عبد الرحمان فرجل صالح لا يخلو من نوع قصور في الاستبداد بهذا الأمر، فإذا كانت هذه صفات القوم و كلّها مذمومة، و ليس فيهم من صفة رافعة إلّا كونهم من أهل بدر فلماذا اختارهم إذن؟ أليس هذا الفعل عين الخيانة للرعيّة و الأمّة؟

روى رشيد الدين بأسانيده عن الحسن أنّه قال: نابت أصحاب محمّد نائبة، فجمعهم عمر، فقال لعليّ: تكلّم فأنت خيرهم (3).

جواب آخر: كان عمر على علم تامّ بأنّ عليّا يستحقّ الخلافة و التصدّي لشؤونها كما روى أبو عبد اللّه المدني: أنّ عمر بن الخطّاب قال: من يستخلفون بعدي؟ فقال رجل من القوم نستخلف عليّا. قال: إنّكم لعمري لا تستخلفونه

ص: 284


1- الظاهر أنّ المؤلّف لم يحسن قرائة الكلمة من ثمّ أخطأ في معناها لأنّ البأو العجب و التكبّر، انظر الفائق للزمخشري 3: 168.
2- المقنب: جماعة الخيل، ليست بالقليلة و لا الكثيرة؛ رسائل المرتضى 4: 113.
3- الطرائف: 255؛ نهج الإيمان لابن جبر: 558 و تمامه: و أعلمهم، راجع كنز العمّال 5: 736 رقم 14258.

و الذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ و إن كرهتم.

و بناءا على هذا لئن كان يعلم من عليّ هذه الصفة و أنّة يقيم الناس على الحقّ فلماذا قرنه مع من هو دونه، و صار سببا في إضلال الناس و الحقيقة الناصعة بأنّه لو اختار عليّا لما تردّد عن بيعته أحد لاستحقاقه الخلافة و ثقة الناس به، و على هذا فإنّه عجز- أو تعمّد- عن اختيار الخليفة اللائق المستحقّ و هو خليفة فكيف يطمع بالرعيّة أن تختاره، و هذا مثل قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (1).

جواب آخر: روى المدني عن ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: دخلت على عمر فتنفّس نفسا شديدا، فقلت: ما أخرج هذا إلّا همّ شديد. قال: لهذا الأمر الذي لا أدري من له بعدي. قال: ثمّ أقبل عليّ فقال: لعلّك ترضى صاحبك لهذا- يعني عليّا-. فقلت: و ما يمنعه من ذلك، أليس بمكان ذلك في قرابته من رسول اللّه و سوابقه في الخير و مناقبه في الإسلام؟! فقال: إنّه كذلك، فذكرت له جماعة، ثمّ أقبل عليّ، فقال: إنّ أحرى من وليها و حملهم على كتاب اللّه و سنّة نبيّه صاحبك.

و في رواية: إنّ الأجلح من أحقّ القوم أن يحملهم على المحجّة البيضاء- يعني بالأجلح عليّا-.

و بهذا الطريق أيضا عن عبد اللّه بن عبّاس قال: أقبلت يوما إلى عمر بن الخطّاب فألفيته في جماعة من بطانته و خالص جلسائه و حواشيه، فإذا هو و هم في ذكر شعراء أهل الجاهليّة، و ساق الحديث إلى أن قال: قال عمر: و ما أحد أحقّ بهذا الفخر من بني هاشم لقيام رسول اللّه منهم. فقلت: وفّقك اللّه و سدّد منطقك. قال:

فكأنّه استقلّه، فقال: أتدري ما منع قومكم (منكم) [أن تعروا] (كذا) يعني الخلافة

ص: 285


1- البقرة: 44.

مع سلطان محمّد فيكم؟ قال ابن عبّاس: فكرهت أن استخرج عقوقه (1)، فقلت:

إن كنت لا أدري فأمير المؤمنين يدري. فقال: إنّهم كرهوا أن يجمعوا لكم مع النبوّة الملك و الخلافة، فبتحجوا بذلك على قومكم بحجا بحجا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت في اختيارها، و مع ذلك فمالنا أن نتقدّمكم و نحن بخدمتكم لها كافيا (كذا).

قلت: سبحان اللّه! للعجب العجاب، أليس من بني هاشم المختصّ بعد النبيّ في الدين بمعظمه، و من السبق بأقدمه، و من العلم بغايته، و من الحكم بأرجحه، و من الرأي بأسدّه، و من الجهاد بأشدّه؟ قال: عليّ؟! قال: للّه إنّه عليّ أخو النبيّ في المشاكلة، و نفسه في المباهلة، و وزيره الخاصّ من أهله، و شريكه في أمره إلّا النبوّة، فإنّ اللّه ختمها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، أ و لم يخبرنا بأمير المؤمنين عليّا بعد ما بدا أنّ رسول اللّه خلفه عام تبوك في أهله، و قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون

ص: 286


1- وقع في هذا الخبر حذف و تصحيف و أنا أنقل لك ما في الإيضاح و أذكر لك المصادر لتكون على بصيرة منه: عن سعيد بن المسيّب قال: كان عمر جالسا مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عبّاس (فساق القصّة إلى غير ذلك من الموارد التي تفضي الإشارة إليها إلى طول: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا قوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا إنس إذا أمتوا، جنّ إذا فزعواموزّعون بها ليل إذا جهدوا محسّدون على ما كان من نعم لا ينزل اللّه منهم ماله حسدوا فقال عمر: أحسن و ما أحد أولى بهذا الشعر من هذا الحيّ من بني هاشم، لفضل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرابتهم منه، فقال له ابن عبّاس: وفّقت يا أمير المؤمنين، و لم تزل موفّقا. فقال ابن عبّاس: أتدري ما منع قومكم منكم ... الخ. الإيضاح لفضل بن شاذان: 169؛ المسترشد لمحمّد بن جرير الطبري الشيعي: 686؛ الطرائف: 433؛ بحار الأنوار 28: 408؛ المراجعات: 394؛ سبيل النجاة لشيخ حسين الراضي: 381؛ السقيفة للمظفّر: 89؛ فدك في التاريخ للصدر: 66؛ ابن سبأ للعسكري 1: 112 و 141؛ الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 105؛ تاريخ الطبري 3: 289؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 211.

من موسى و لا نبيّ بعدي؟ قال: بلى. قال: أو لم تخبرني أنّ رسول اللّه قلّده الراية يوم خيبر و قد يولي الناس بها ثانية بعد أولى ففتح اللّه تعالى على يده؟ قال: نعم.

قال: فما أحببت الإمارة بعد اليوم (إلّا يومئذ).

قال ابن عبّاس: أخذ عمر بيدي و أنا أريد أن أقصّ مناقب أبي الحسن، قال:

خفّض عليك يابن عبّاس، فإنّ عليّا شرك أصحاب محمّد في فضائلهم و بان عنهم بفضائل و مناقب كريمة لا يعدله بها أو بمثلها أحد (1).

جواب آخر: و إذا كان عمر عالما بعدم اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد فلماذا صيّر عليّا واحدا من رجال الشورى؟

جواب آخر: و إن صحّ ما قاله عمر من أنّ الخلافة و النبوّة لا يجتمعان في بيت واحد فكيف بايع المهاجرون و الأنصار طوعا و رغبة و إيثارا منهم عليّا و اعترفوا بإمامته و بمقتضى الحديث «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» لا يمكن أن تجتمع خلافا للرواية على الضلالة، و يكون عمر وحده المهتدي و المحقّ و الصادق.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ خلافة عليّ حقّ و لعلّ عمر لم يكن جادّا بما قال، فقد اجتمعت الخلافة و الإمامة و كان الحقّ في إجماع المهاجرين و الأنصار و لكن بين عمر و عليّ عداوة كانت ظاهرة و قد أخبر اللّه تعالى في كتابه المجيد عن اجتماع الخلافة و النبوّة بقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (2).

جواب آخر: و حين جعلها شورى بين الستّة و ساوى بين الجميع في كامل البهائي ج 1 287 الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم ..... ص : 176

ص: 287


1- ستجد في هذه الرواية تصحيفا كثيرا أحال المعنى و غيّره و لم يشر المصنّف إلى النصّ الذي رجع إليها و لم أعثر أنا على المصدر بعد طول التتبّع.
2- النساء: 54.

الاستحقاق، عاد و خصّ عبد الرحمان بمزيد عناية و جعل القبول و الردّ بيديه، و قال: هؤلاء الخمسة تبع له فمن اختاره وجب عليهم اختياره، و هذه الحال مهزلة تدعو إلى الهزء و السخرية، و كأنّه هزأ بهؤلاء الخمسة، و يبقى الأمر على ما قاله الشيعة من أنّ عمر كان يعلم بشديد عداوة عبد الرحمان لعليّ عليه السّلام (1)، و مثله الشديد لعثمان لمصاهرتهما، و هذا الملحق إنّما ألحقه عمر لئلّا يلام أمام الرأي العام أو العامّة و هو قد شفى غيظه من عليّ بإبعاده عن الخلافة فقد أسّس هذا الخبث الغريب على هذه الحبكة العجيبة، و كما قال العقلاء عن المفسدين أنّهم أربعة أحدهم عمر بن الخطّاب لعنه اللّه، و كان عبد الرحمان لا يجهل مناقب عليّ عليه السّلام و لكنّه باع الدين بالدنيا (لعنه اللّه من ذي صفقة خاسرة).

فقد روى ابن مردويه عن مصعب بن عبد اللّه بن عبد الرحمان بن عوف، قال: لمّا فتح رسول اللّه مكّة، انصرف على الطائف يحاصرهم سبع عشرة أو ثمان عشرة يوما، فلم يفتحها، ثمّ أوغل غدوة أو روحة ثمّ يهجّر، فقال: أيّها الناس، إنّي لكم فرط و أوصيكم بعترتي خيرا، و إنّ موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة و لتأتنّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلا منّي أو كنفسي ليضربنّ أعناق مقاتليكم أو ليسبينّ ذراريكم.

قال: فرأى الناس أنّه أبو بكر و عمر، قال: فأخذ بيد عليّ، فقال: هو هذا.

قال: فقلت: ما حمل عبد الرحمان على ما فعل؟ قال: من ذاك أعجب (2)، أنّهم

ص: 288


1- كان أحد الذين هجموا على دار فاطمة عليهما السّلام و أحرقوها و هو الذي هدّد عليّا عليه السّلام بالقتل، و كان فوق هذا و ذاك صهرا لعثمان لعنهما اللّه.
2- أمالي الطوسي: 504؛ بحار الأنوار 21: 152 و 40: 30؛ المستدرك 2: 120؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 498 و 8: 543؛ تفسير الميزان 9: 181؛ الدرّ المنثور 3: 213. و لا عجيب في الأمر و قد كشف الإمام عليه السّلام زيفهم حين قال لعبد الرحمان بن عوف لعنه اللّه: و اللّه ما رجوت منه إلّا ما رجى صاحبك من صاحبه، دقّ اللّه بينكما عطر منشم ... و منشم امرأه كانت تبيع العطر في الجاهليّة فإذا أراد العرب الحرب تطيّبوا من طيبها فصارت مثالا على الشؤم، و استجيب لأمير المؤمنين في اللعينين فمات عبد الرحمان مقاطعا لعثمان.

علموا و لكنّهم عملوا عمل السامري و قومه حين عرفوا منزلة هارون و تجاهلوها، و فعل إخوان يوسف بعد أن عرفوه و كان منهم ما كان، و مثل قوم موسى الذين قصّ اللّه سبحانه قصّتهم، فقال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (1) و صار ترك العمل بعد العلم علّة لوقوع العذاب فيهم.

و كان عمر يعرف فضيلة عليّ كما ينبغي أن تعرف، فقد قال يوما: «لولاك لافتضحنا» و قال في أكثر من سبعين واقعة: لو لا عليّ لهلك عمر، و هو القائل: العلم ستّة أسداس، فلعليّ خمسة أسداس و للناس سدس واحد و لقد شاركنا في سدسنا حتّى هو أعلم به منّا.

جواب آخر: و لمّا كان عبد الرحمان أمين الخليفة فقد كان عليه أن يرعى الأمانة حقّ رعايتها و لا يخون أو يداهن، و كان عليه أن يعرف فضل عليّ بالحديث المذكور، و يختاره بناءا عليه، و يراعي جانب الصدق، و لا يخطب مستحقّ الخلافة بقوله: يا علي، نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا فلا تجعل على نفسك سبيلا. و كان عليه أن يتخلّص من هذا الطوق الثقيل و يرميه عن عنقه و يقول للناس: أيّها الناس، الخلافة حقّ عليّ و إنّي انتزعتها من عنقي و وضعتها في يده. فويل لهم من يوم تجتمع فيه الخصوم يوم القيامة فماذا يجيبون رسول اللّه عمّا جنوه على آله الكرام؟!

جواب آخر: أمّا ما قاله عمر عن عليّ عليه السّلام بأنّه رجل فيه دعابة «أمّا عليّ فرجل

ص: 289


1- الصفّ: 5.

فيه دعابة» أي إنّه مزّاح، و هذا لا يقدح في خلافته فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمزح كثيرا، و لقد قال: «إنّي لأمزح و لا أقول إلّا حقّا».

قال يوما لأنس: يا ذا الأذنين.

و قال آخر: سألت رسول اللّه و نحن في الطريق: احملني على جمل يا رسول اللّه، فقال: أحملك على ابن الناقة.

و قوله لغلام: (عصفور) (كذا) (له عصفور) يا أبا عمير ما فعل النغير (1).

و قوله كثيرا للحسن و الحسين عليهما السّلام: ترق عين بقّة.

و قوله لسلمان عند وجع بطنه: «الغيب دودا» (2).

و هذا مثل قول عمرو بن العاص فقد قيل إنّه قال: إنّ عليّا فيه دعابة (3)، فبلغ ذلك عليّا فكأنّه قد تأذّى من قوله و قال: عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة و إنّي امرء تلعابة، أعافس و أمارس، لقد قال باطلا و نطق كاذبا، و شرّ القول الكذب، إنّه ليقول فيكذب، و يعد فيخلف، و يسأل فيلحف، و يسأل فيبخل، و يخون العهد و قطع الإلّ، فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر و آمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته، أما و اللّه إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة (4).

فبطل حديث عمر بقول عليّ عليه السّلام.

ص: 290


1- تذكرة الفقهاء 1: 343؛ جامع المقاصد 3: 277: كان يقول لصبيّ أفلت طائره: يا أبا عمير ... الخ؛ البحر الرائق 3: 72؛ مسند أحمد 3: 115؛ صحيح البخاري 7: 102 و النغير تصغير نغر و هي طير كالعصافير حمر المناقير، الصحاح 2: 833.
2- لم يتّضح لي معناها و لم أجدها في كتاب فرجائي من القاري تصحيحها إن وجدها.
3- تلقّاها من أستاذه الأكبر في النصب عمر بن الخطّاب لعنة اللّه عليهما.
4- نهج البلاغة، الخطب، ص 147.

جواب آخر: تواتر عن عليّ عليه السّلام أو هو شبيه بالمتواتر أنّه كان يتظلّم منهم و يطالب بحقّه و يعارض بلسان فصيح، و يردّ على أبي بكر، و لقد قعد عن بيعته ستّة أشهر كما زعم الخصم، و كذلك في عهد عثمان كان يطالب بحقّه و يشكو منه، فإمّا أن يكون ذلك بحقّ أو بباطل؛ فإن كان الثاني فلماذا سكت الصحابة و لم يبدوا احتجاجا عليه، و لم يقارعوه بالبراهين و الأدلّة حتّى يسكتوه و يظهر أنّه لا حقّ له، و ينعقد الإجماع، لأنّ مثل عليّ عليه السّلام في عصمته و طهارته لا يطلب شيئا ليس له.

و إذا كان بحقّ فلماذا قعد الصحابة أهل الانساع و أصحاب الشرع عن حقّه و لم يعينوه عليه ليستحقّوا المدح في الآخرة و الثواب في الدنيا؟!

في جامع العلوم و هو من تصانيف قدوة الحفّاظ أبي عبد اللّه محمّد بن معمر بن الفاخر القرشي، في الحديث الخامس و الثلاثين من مسند البراء، عن البخاري، عن زهير، عن علاء بن المسيّب، عن أبيه قال: قلت للبراء بن عازب: طوبى لك أنت ممّن رضي اللّه عنه و بايع تحت الشجرة. قال: يابن أخي، إنّك لا تدري ما أحدثناه بعده، و لا تكون شهادة أعدل من هذه الشهادة، و لن تكون أبدا.

و في ولاية دامغان سنة ستّ و خمسين و ستّمائة انبرى أحد علمائها المعاصرين فقال على سبيل العتب و التقريع بعد أن عرف مؤلّف هذا الكتاب الحسن بن علي المازندراني و عرف اعتقاده: ما بال قوم ذهبوا منذ مئات السنين و لم يؤذوا أحدا منكم لا في نفسه و لا في أهله لماذا تظهروا الغيظ منهم و الحقد عليهم؟

فأجابه الداعي قائلا: ما بال الشيوخ أبناء السبعين يفعلون أفعالا تبقى عالقة في الأمّة حيث يتألّم منها الشباب أبناء الثلاثين بعد خمس و خمسين و ستّمائة من السنين؟! فألقم المقرع حجرا بعد أن سمع ما أوردناه عليه، و الدليل على هذا الكلام حديث البراء بن عازب السالف من رواية البخاري و ابن معمر القرشي.

ص: 291

حديث: عن البخاري كما ورد في جامع العلوم عن عبد اللّه بن عمر قال: كنّا نتحدّث على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ خير هذه الأمّة بعد نبيّة أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان .. (1).

الجواب: روى الحافظ أبو عبد اللّه محمّد بن معمر القرشي من علماء اصفهان صاحب جامع العلوم عن ابن مردويه عن مشايخه عن ابن وائلة عن حذيفة قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ خير البشر فمن أبي فقد كفر (2).

و عن ابن مردويه و ساق السند إلى سلمان قال: رآني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فناداني، فقلت: لبيّك، فقال: أشهدك اليوم أنّ عليّا بن أبي طالب خيرهم و أفضلهم.

و بهذا الإسناد عن عقبة بن عامر قال: أتيت النبيّ ظهيرة، فقال لي: ما جاء بك يا جهنّي في هذا الوقت؟ قال: قلت: أمر عرض لي. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما ذاك يا جهني؟ قال: قلت: يا رسول اللّه، ما تقول في هؤلاء القوم الذين يقاتلون معك منهم من يقول: أبو بكر خير هذه الأمّة من بعدك، و منهم من يقول: عمر خير هذه الأمّة من بعدك فإن حدث بك اتّبعناه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: اتّبعوا من اختاره اللّه من بعدي، و من اشتقّ له اسما من أسمائه، و من زوّجه اللّه ابنتي من عنده، و من و كلّ به ملائكة يقاتلون مع عدوّه.

قلت: و من هو يا رسول اللّه؟ قال: عليّ بن أبي طالب (3).

ص: 292


1- مسند أحمد 1: 125 و 127 و لم يذكر عثمان؛ عمرو بن عاصم في كتاب السنّة: 554 و 555؛ المعجم الأوسط 7: 239؛ المعجم الكبير للطبراني 1: 107؛ صحيح البخاري 4: 203.
2- ألقاب الرسول و عترته من قدماء المحدّثين: 36؛ الشهيد نور اللّه التستري في الصوارم المهرقة: 337؛ مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 48.
3- العاملي، الصراط المستقيم 2: 69 بسياق مختلف و المعنى واحد؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي في كتاب الأربعين: 74 سياق المؤلّف نفسه عن ابن مردويه، و ص 457.

عن أبي بكر بن مردويه إلى إسحاق عن الحارث قال: قال عليّ: نحن أهل البيت لا نقاس بالناس. فقام رجل فأتى عبد اللّه بن عبّاس فأخبره بذلك، فقال: صدق عليّ، أو ليس كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يقاس بالناس؟! ثمّ قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (1).

ذكر عماد الدين شفرويه في بعض تصانيفه عن الشيخ المدني القرشي صاحب جامع العلوم، عن ابن مردويه، عن الباقر عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه قال: كنت أنا و عليّ نورا بين يدي اللّه من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللّه آدم سلك ذلك النور في الأصلاب، فلم يزل ينقله من صلب إلى صلب آخر حتّى أقرّه صلب عبد المطّلب ثمّ أخرجه من صلب عبد المطّلب و يقسمه قسمين، فصيّر قسما في صلب عبد اللّه و قسما في صلب أبي طالب؛ فعليّ منّي و أنا منه، لحمه لحمي، و دمه دمي، فمن أحبّه أحبّني، و من يبغضه يبغضني و أبغضه (2).

و مثله مذكور في البخاري و قد تكرّر لمزيد الفائدة.

ذكر عماد الدين في كتاب «تناقضات أخبار البخاري» في الحديث الثاني عشر، و مثله في المصابيح، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة، فقلت لأبي: ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: قال: كلّهم من قريش.

ص: 293


1- البيّنة: 7.
2- كشف الغطاء 1: 10 طبعة حجريّة- مهدوي اصفهان؛ الخصال للصدوق: 640: فمن أحبّه فبحبّي أحبّه، و من أبغضه فببغضي أبغضه، و عبارة الكتاب مصحّفة عن هذه العبارة؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلّي: 97؛ مقام الإمام علي لنجم الدين العسكري: 59 و قال: أخرجه ابن مردويه في المناقب، و الخوارزمي، و شهاب الدين أحمد، و المطرزي، و العاصمي، و الأحاديث كثيرة جدّا في هذا الباب.

و كان عماد الدين من المخالفين لأنّه ذكر معاوية بن أبي سفيان و عمر بن عبد العزيز من الاثني عشر و لم يذكر الحسن و الحسين منهم، و قال: ليسا من الخلفاء. و لمّا تعرّض لذكر أئمّة الشيعة في الحديث، قال: و أمّا تعيين الشيعة للأئمّة الاثني عشر فإنّه تحكّم محض لم يخرج من آل و لم ينفض من غبار غلّ لإخراجهم من الخلافة الخلفاء الثلاثة .. و إنّما ذكرنا قوله ليعلم أنّه حنفيّ المذهب كسائر معتزلة خوارزم فيكون كلامه حجّة.

و إنّه روى في هذا الحديث عن أبي سلمى الراعي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

سمعت رسول اللّه يقول: ليلة أسري بي إلى السماء قال الجليل جلّ جلاله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ (1)، فقلت: و المؤمنون؟ قال: صدقت يا محمّد، من خلّفت في أمّتك؟ قلت: خيرها. قال: عليّ بن أبي طالب؟ قلت: نعم يا ربّ.

قال: يا محمّد، إنّي اطّلعت على الأرض اطّلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسما من أسمائي، فلا أذكر في موقع إلّا ذكرت معي، فإنّي المحمود و أنت محمّد، ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت منها عليّا، و شققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى و هو عليّ.

يا محمّد، إنّي خلقتك و خلقت عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ولده من سنخ نوري (2)، و عرضت ولايتكم على أهل السماوات و أهل الأرض؛ فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، و من جهلها كان عندي من الكافرين.

يا محمّد، لو أنّ عبدا من عبيدي عبدني ثمّ ينقطع حتّى يصير كالشنّ البالي، أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتّى يقرّ بولايتكم.

يا محمّد، أتحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربّ، فقال: التفت عن يمين العرش،

ص: 294


1- البقرة: 285.
2- من سنخ نور من نوري- المؤلّف.

فالتفتّ فإذا بعليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد و موسى بن جعفر و عليّ بن موسى و محمّد بن عليّ و عليّ بن محمّد و الحسن بن عليّ و محمّد بن الحسن المهدي في ضحضاح من نور قائمون يصلّون و هو في وسطهم- يعني المهدي- كأنّه كوكب درّيّ، فقال: يا محمّد، هؤلاء الحجج و هو الباهر من عترتك و المنتقم من أعدائي (1).

و روى عقب هذا الحديث رواية عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان المحمّدي قال: دخلت على النبيّ و إذا الحسين بن عليّ على فخذه و هو يقبّل عينيه و يلثم فاه و يقول: أنت السيّد ابن السيّد أبو السادة، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمّة، أنت حجّة ابن حجّة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم (2).

و روى أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا، كذبوا علينا، أن رفعنا اللّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستبغى الهدي، و يستجلى العمى، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في

ص: 295


1- الأربعون لمنتجب الدين بن بابويه: 4، و يوجد هذا الحديث في كشف الغطاء 1: 7؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر: 353؛ الجواهر القدسيّة للحرّ العاملي: 312؛ مدينة المعاجز 2: 312؛ بحار الأنوار 27: 200؛ كتاب الأربعين للماحوزي: 212.
2- الإمامة و التبصرة لابن بابويه: 110؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1: 56؛ الخصال: 475؛ كمال الدين و تمام النعمة للصدوق: 262؛ كفاية الأثر للخزّاز القمّي: 46؛ كتاب سليم بن قيس: 460؛ مقتضب الأثر للجوهريّ: 11؛ مناقب ابن شهر آشوب 3: 226؛ الطرائف لابن طاووس: 174؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي الشيرازي: 355؛ بحار الأنوار 36: 241 و 43: 295؛ كتاب الأربعين للماحوزي: 214؛ العوالم للبحراني: 38 و 73؛ المراجعات: 278؛ رسالة في إمامة الأئمّة الاثني عشر للتبريزي: 4؛ معجم رجال الحديث للخوئي 9: 243؛ إعلام الورى بأعلام الهدى 2: 180؛ حياة الإمام الحسين للقرشي 1: 95.

هذا البطن من هاشم، لا تصلح الإمامة على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم (1).

و هذه الأخبار تدلّ على أنّ خير الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

روى أبو العلماء الحافظ الهمداني عن ابن عبّاس، قال رجل: يا بن عبّاس، ما أكثر مناقب عليّ و فضائله، إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف. فقال ابن عبّاس: أو لا تقول إنّها إلى ثلاثين ألفا أقرب (2).

و روى الحافظ المدني عن أحمد بن حنبل أنّه قال: ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه من الفضائل ما جاء لعليّ عليه السّلام (3).

و نقل في الصحاح عن ابن مسعود: كنّا جلوسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فدخل عليّ فسلّم و صعد (4).

ص: 296


1- نهج البلاغة، الخطب، ص 27.
2- حلية الأبرار للبحراني 2: 131؛ بحار الأنوار 40: 49؛ المناظرات في الإمامة: 123؛ شواهد التنزيل للحسكاني 1: 31؛ ميزان الاعتدال 1: 484؛ لسان الميزان 2: 200؛ نهج الإيمان: 667.
3- الصراط المستقيم 1: 153؛ بحار الأنوار 4: 124؛ المراجعات: 254؛ الشيخ حسين الراضي في سبيل النجاة في تتمّة المراجعات: 165؛ نجم الدين العسكري في مقام الإمام علي: 25؛ الغدير للأميني 1: 301؛ الإمام علي للرحماني: 134؛ عبد اللّه حسن في المناظرات في الإمامة: 123؛ نظم درر السمطين: 80؛ قاموس شتائم للسقاف: 198؛ خصائص الوحي المبين: 80 عن محمّد ابن هارون الحضرمي؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 418؛ المناقب للخوارزمي: 11 و 34؛ نهج الإيمان لابن جبر: 668؛ ينابيع المودّة 1: 9.
4- شرح الأخبار للمغربي 2: 595؛ أحاديث أمّ المؤمنين عائشة، و لكنّها جعلت عليّا عليه السّلام الثالث بعد التوأم أي أبو بكر و عمر لعنهما اللّه؛ مسند أحمد 3: 380؛ مجمع الزوائد 9: 117؛ طبقات المحدّثين باصبهان 4: 132 بعد طلوع الثنائي أو التوأم؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 322؛ موسوعة التاريخ الإسلامي 2: 370.

و في الصحاح عن مسند عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ أخي في الدنيا و الآخرة ... (1).

جواب: روى المخالف عن أبي هريرة قال: ابنا العاص مؤمنان: عمرو و هشام (2).

و في رواية أخرى: أسلم الناس (صيغة أفعل التفضيل- المترجم) و آمن الناس ابنا العاص.

و هذا الحديث مناقض لحديث آخر لأبي هريرة مروي من طريق المخالف، قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت في النوم بني الحكم و بني العاص (3) ينزون على منبري نزو القردة و الخنازير. قال: فأصبح كالمغيظ، فما رؤي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستجمعا متبسّما حتّى مات.

و لو كانوا مؤمنين لأمن المسلمون من شرّهم لا سيمّا أهل البيت و هم أهل العصمة و الطهارة، فقد أشاعوا سبّهم ثمانين عاما في الشرق و الغرب.

حديث: جاء في جامع العلوم عن مسند عائشة، قالت: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّه بين حاقنتي و ذاقنتي- و في رواية: بين سحري و نحري- و لا أكره شدّة الموت لأحد بعد الذي رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 297


1- الخلاف للطوسي 1: 28؛ هامش المسترشد للطبري الشيعي: 332 عن كنز العمّال 11: 602 الرقم 32907؛ الأمالي للطوسي: 137.
2- مسند أحمد 2: 304 و 327 و 353 و 354؛ المستدرك 3: 240؛ مجمع الزوائد 9: 352؛ الآحاد و المثاني 2: 99 و كتب أخرى.
3- لست أدري كيف يخطأ المؤلّف على فضله و سعة اطّلاعه بأبسط الأشياء فهو هنا يعتبر بني العاص هم السهميّون و إنّما عنى النبيّ الأمويّين فالعاص في الحديث ابن أميّة و والد عمر و هو العاص بن وائل السهمي، و يا بعد ما بين الاثنين، و لكنّ المؤلّف رحمه اللّه يفتقر إلى الدقّه في كتابه و كان عليه أن يتريّث فيما لا يعلم حتّى تثبت صحّته عنده.

و في رواية إنّها قالت: ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدّة موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

الجواب: و جاء في جامع العلوم أيضا عن أمّ سلمة قالت: و الذي تحلف به أمّ سلمة إنّ أقرب الناس عهدا برسول اللّه عليّ. و لمّا كان غداة قبض رسول اللّه و كان في حاجة فجعل يقول: جاء عليّ- ثلاث مرّات- فجاء قبل طلوع الشمس، فلمّا أن عرفنا أنّ له إليه حاجة خرجنا من البيت و كنت في آخر من خرج من البيت، ثمّ جلست أدناهنّ من الباب، قالت: فأجلسه عليّ و كان آخر الناس به عهدا، جعل يسارّه و يناجيه (2).

عن ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في بيتي لمّا حضره الموت: ادعوا لي حبيبي، فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا لي حبيبي ويلكم، فقلت: ويلكم ادعوا له عليّ بن أبي طالب فو اللّه ما يريد غيره، فلمّا رآه فرج الثوب الذي كان عليه ثمّ أدخله فيه فلم يزل يناجيه حتّى قبض و يده عليه (3).

و روى ابن مردويه أيضا قال: لمّا كان اليوم الذي توفّي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و ظهره إلى صدر عائشة فهي مسندة و الناس مجتمعون في المسجد، فقال النبيّ: ادعي إلى أخي و صاحبي، فدعت عليّا، فلمّا دخل عليّ ورآه عمر، قام

ص: 298


1- رواه البخاري في صحيحه رقم 4266 بما هو أكثر اختصارا، و في رقم 4259 اقتصر على قولها: و رأسه بين حاقنتي و ذاقنتي، و الحاقنة ما سفل من البطن، و الذاقنة ما علا منها؛ فتح الباري 11: 312؛ كتاب الوفاة للنسائي: 50؛ سنن النسائي 1: 602؛ المعجم الأوسط 8: 333، هذا ما كانت تردّده عائشة كثيرا تتباهى به.
2- السنن الكبرى للنسائي 4: 261 و 5: 154.
3- الطرائف لابن طاووس: 154؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 393.

ليخرج أو يخرج من البيت فسلّمته عائشة حتّى وضعت رأسه على المرفقة و قامت، فأخبر نبيّ اللّه عليّا بألف باب يكون قبل يوم القيامة يفتح من كلّ باب ألف باب ... (1).

عن ابن مردويه و ساق السند إلى الأرقم بن سرحيل (كذا)- الصحيح شرحبيل ... المترجم- عن ابن عبّاس قال: لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة، فقال: ادعو لي عليّا. قالت عائشة: ندعوا لك أبا بكر؟ قال: ادعوه، قالت حفصة: يا رسول اللّه، ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، قالت أمّ الفضل: يا رسول اللّه، ندعوا لك العبّاس، قال: أدعوه، فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّا، فسكت، فقال عمر: قوموا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2) فلو كانت له إلينا حاجة ذكرها، ففعل ذلك ثلاث مرّات.

و كذلك روي عن جابر أنّ عليّا عليه السّلام كان عند النبيّ حين حضرته الوفاة، فأمره و عهد إليه بما شاء، فلمّا كان زمان عمر جاء كعب الأحبار و نحن جلوس عند عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان آخر ما تكلّم به نبيّكم؟ قال: سل عليّا. قال: أين هو؟ قال: ها هو ذا، فسأله، فقال: أسندته إليّ فوضع رأسه على منكبي فقال:

الصلاة الصلاة. قال كعب: ذلك آخر عهد الأنبياء و به أمروا و عليه بعثوا. قال: فمن غسّله؟ قال: سل عليّا، فلمّا سأله قال: كنت غسّلته و كان عبّاس جالسا و كان

ص: 299


1- حذف الناسخ جزءا من الحديث و هو دعوة حفصة لأبيها عمر، و لم أعثر عليه في المصادر الموجودة في حيازتي و قد بحثت عنه جهد الطاقة فلم أوفّق للحصول عليه و أحيط القارئ علما بذلك.
2- الطبري الشيعي في المسترشد: 122، مناقب ابن شهر آشوب 1: 203؛ البحار 22: 521؛ مسند أحمد 1: 356.

أسامة بن زيد و شقرى مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يختلفان بالماء (1).

و بهذا افتخر عليّ عليه السّلام: و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّي لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ، و لقد واسيته في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، و يتأخّر فيها الأقدام، نجدة أكرمني اللّه بها، و لقد قبض رسول اللّه و إنّ رأسه على صدري، و لقد اسلت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي، و لقد ولّيت غسله و الملائكة أعواني، فضجّت الدار و الأفنية؛ ملأ يهبط و ملأ يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه حتّى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا و ميّتا (2).

و يتعارض حديث عائشة مع حديث أمّ سلمة، مع أنّ حديث أمّ سلمة يفضل حديث عائشة لأنّ أمّ سلمة من جملة المخدّرات وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى (3):

أوّلا: لم تعمل عائشة بهذه الآية.

ثانيا: يعترف الخصم بأنّ عائشة بغت على الإمام و لم تكن أمّ سلمة مثلها، و جرت العادة على أنّ الرجل إذا بلغ السياق و بلغت روحه التراق يتولّى أمره الرجال لا سيّما و أنّ الزوجيّة مسلوبة عن عائشة بسبب عدم استحقاقها للإرث من النبيّ و إنّما تستحقّه بالزوجيّة، فلمّا انتفت انتفى الإرث بها فهي ليست زوجة في تلك الساعة.

ص: 300


1- المراجعات: 329؛ سبيل النجاة للشيخ راضي: 247؛ معالم المدرستين للعسكري 1: 224؛ أحاديث عائشة 2: 203؛ كنز العمّال 7: 253 رقم 18789؛ الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 262؛ سبل الهدى و الرشاد للصالحي الشامي 12: 258.
2- نهج البلاغة 2: 172 باب الخطب.
3- الأحزاب: 33.

الجواب: قال البخاري: أبو إدريس سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول اللّه عن الخير، و كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول اللّه، إنّا كنّا في الجاهليّة و شرّ فنجّانا اللّه بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم و فيه دخن. قلت: و ما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هدي، تعرف منهم و تنكر. قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنّم من أجابهم إليها فذاق فيها. قلت: يا رسول اللّه، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا و يتكلّمون بألسنتنا. قلت: ما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين و إمامهم. قلت: فإن لم يكن جماعة و إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلّها و لو أن تعضّ بأصل شجرة حتّى يدركك الموت و أنت على ذلك (1).

و في رواية عبد اللّه بن عمر قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذكر الفتن حتّى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول اللّه، و ما فتنة الأحلاس؟ قال: هي فتنة هرب و حرب، ثمّ فتنة السرّاء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنّه منّي و ليس منّي، إنّما وليّي المتقون (2) ثمّ يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثمّ فتنة الدهيا (3) لا تدع أحدا من هذه الأمّة إلّا لطمته لطمة ... الحديث (4).

و ذكر محمّد بن معمر في جامع العلوم عن قوله: «فتنة الاخلاص شبها بالخليص لظلمتها أو ركودها و دوامها، و الورك و لا يستقرّ على ضلع فكأنّه جعله مثلا فيمن ليس له الملك و لا استقلال به ...

ص: 301


1- صحيح البخاري 4: 178 و 8: 92.
2- جائت العبارة عند المؤلّف هكذا: «إنّما أوليائي المتقول) و هي تصحيف ما في ذلك ريب.
3- الدهماء- المؤلّف.
4- مسند أحمد 2: 133؛ سنن أبي داود 2: 299؛ المستدرك 4/ 467؛ الفايق 1: 265؛ كنز العمّال 11: 130 رقم 30911؛ الدرّ المنثور 6: 56؛ تهذيب الكمال 22: 527 و معنى الورك على ضلع، أي يصطلحون على أمر واه لا نظام له و لا استقامة.

و يقول مؤلّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن الطبري: فهل بعد هذا الخير، إشارة إلى زمان نزول الوحي و وجود النبي بينهم.

قوله: من شر، إشارة إلى زمان الخلفاء الثلاثة الذين كانوا شرّا على العترة، و إيذاءا للمؤمنين، و فتنة عامّة.

و قوله: و هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، إشارة إلى عهد الإمام عليّ عليه السّلام.

و قوله: فيه دخن، إشارة إلى معاوية لعنه اللّه و حربه لأمير المؤمنين عليه السّلام، و بغيه على إمام زمانه أمير المؤمنين عليه السّلام.

«و هل بعد ذلك الخير من شر» قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنّم من أجابهم إليها فذاق فيها»، إشارة إلى ملوك بني أميّة و إلى العبّاسيّين.

و قوله: هم من أهل جلدتنا، يعني من قريش.

و يتكلّمون بألسنتنا، يعني يتمسّكون بظاهر شرعنا نظاما للملك.

و قوله: جماعة المسلمين و إمامهم، يعني التابعين لأهل البيت عليهم السّلام، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي.

و قوله: تلك الفرق كلّها، إشارة إلى زمن غيبة الإمام عليه السّلام.

و شرح عماد الدين شفروه هذا الحديث شرحا فاحشا بعيدا عن العقل و النقل في باب الحديث السابع عشر من كتاب «التناقض»، و لشدّة وهنه و ركاكة معناها ارتكب حماقات نسبها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ثمّ أعرضنا عنه؛ فإن كان قالها معتقدا بها فويل له يوم القيامة، و إن قالها صيانة للجاه و المال يفوّض أمره إلى اللّه تعالى و لكن: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (1).

ص: 302


1- الأنعام: 21.

و لقد كشف الإمام عن هذه الحال ببيان معجب لطيف في بعض خطبه، فقال: ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة، و احذروا بوائق النقمة، و ثبتوا في قتام العشوة و اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، و ظهور كمينها، و انتصار قطبها، و مداد رحاها، تبدو في مدارج خفية و تؤول إلى فضاعة جليّة، شبابها كشباب الغلام، و آثارها كآثار السلام، يتنافسون في دنيا دنيّة، و يتكالبون على جيفة مريحة، و عن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند اللقاء.

ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الحقيقة الرجوف، القاصمة الزحوف، فتزيغ قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة، قد اضطرب معقود الحبل، و عمي وجه الأمر، تفيض فيها الحكمة، و تنطق فيها الظلمة، و تدقّ أهل البدو تسجّلها، و ترضهم بكلكلها، يضيع في غبارها الوجدان، و يهلك في طريقها الركبان، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط الدماء، و تثلم منار الدين، و تنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، و تدبّرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام، بريّها سقيم، و ظاعنها مقيم (1).

و أوضح هذا كلّه بقوله: ألا و إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطّتها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء من عمي عنها، و أيم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تقدم بفيها و تخبط بيدها، و تزين برجلها و تمنع درّها، لا يزالون

ص: 303


1- نهج البلاغة 2: 37 و 38 باب الخطب.

بكم حتّى لا يتركوا منكم إلّا نافعا لهم أو غير ضائر بهم، و لا يزال البلاء حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه، و الصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، و قطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلّا السيف، و لا يجلسهم إلّا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش بالدنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا، و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم، ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني ... (1).

جواب: سنّة اللّه و رسوله و أمير المؤمنين فيما يقولون هو بيان الرموز و الإشارات عن البيّنة و إظهار الحجّة و الدعوة العامّة و إفاضة الخير، كما قال تعالى: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (2) و قد بيّنّا جانبا من هذا الباب.

حديث: و رووا أنّ امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكلّمته بشي ء فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول اللّه، إن جئت و لم أجدك، كأنّها تقول: الموت، قال صلّى اللّه عليه و آله: إن (فإن) لم تجديني فأتي أبا بكر (3).

الجواب: أجبنا فيما سلف عن هذا الباب إلّا أنّنا نضيف هنا أشياء لم تكن هناك نقلا عن كتاب «المناقضات» من المخالف، عن الأصبغ بن سلمان أنّه سئل رسول

ص: 304


1- نهج البلاغة 1: 183 باب الخطب.
2- المعارج: 36- 38.
3- صحيح البخاري 4: 191 و 8: 128؛ تحفة الأحوذي 10: 112؛ المعجم الكبير 2: 132؛ البداية و النهاية 5: 248؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 452.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عليّ و فاطمة عليهما السّلام، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليكم بعليّ بن أبي طالب فإنّه مولاكم فأحبّوه، و كبيركم فاتّبعوه، و عالمكم فأكرموه، و قائدكم إلى الجنّة فعزّزوه، و إذا دعاكم فأجيبوه، و إذا أمركم فأطيعوه، فأحبّوه بحبّي، و أكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في عليّ إلّا ما أمرني ربّي جلّت عظمته (1).

فتبيّن من هذا أنّ الحديث الأوّل حكم خاصّ مع شخص خاصّ في أمر خاصّ، و الحديث الثاني حكم عام بملأ عام في أمور عامّة، و في مثل هذه الأمور تغليب الأمر العام على الأمر الخاص أولى و أحقّ من تغليب الخاصّ على العام، و الإمامة عامّة للمكلّفين و ليست خاصّة لشخص معيّن.

حديث: قال أبو سعيد الخدري: قال أبو بكر: ألست أحقّ الناس بها، ألست أوّل من أسلم (2).

الجواب: روى صدر الأئمّة و ساق الحديث إلى الزمخشري عن أبي ذر قال: لمّا كان أوّل يوم في البيعة لعثمان، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ (3) قال أبو ذر: فاجتمع المهاجرون و الأنصار في المسجد و نظرت إلى أبي محمّد عبد الرحمان بن عوف، و قد اعتجر بريطة، و قد اختلفوا و كثرت المناجزة إذ جاء أبو الحسن- بأبي هو و أمّي- قال: فلمّا بصروا بأبي الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام سرّ القوم طرّا، فأنشأ عليّ عليه السّلام يقول:

إنّ أحسن ما ابتدأ به المبتدئون و تنطّق به الناطقون و تفوّه به القائلون حمد اللّه

ص: 305


1- محمّد بن أحمد القمّي، مائة منقبة: 62؛ الكراجكي، كنز الفوائد: 209؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي، كتاب الأربعين: 80؛ بحار الأنوار 27: 112 و 28: 152.
2- ابن عقيل، النصائح الكافية: 228، و قال: أخرجه الترمذي و ابن حبّان في صحيحه.
3- الأنفال: 42.

و الثناء عليه بما هو أهله، و الصلاة على النبيّ محمّد و آله؛ الحمد للّه المتفرّد بدوام البقاء، المتوحّد بالملك و المجد و الثناء- إلى أن قال:- فأنشدكم اللّه يا معاشر المهاجرين و الأنصار، هل تعلمون أنّ جبرئيل عليه السّلام (أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد، لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علي، هل تعلمون كان هذا؟ قالوا: اللهمّ نعم) (1).

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أن تحبّ عليّا و تحبّ من يحبّه فإنّ اللّه تعالى يحبّ عليّا و يحبّ من يحبّ عليّا؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا أسري بي إلى السماء السابعة رفعت إلى رفارف من نور ثمّ رفعت إلى حجب من نور فوعد النبيّ الجبّار لا إله إلّا هو أشياء، فلمّا رجع من عنده نادى مناد من وراء الحجب: نعم الأب أبوك إبراهيم و نعم الأخ أخوك عليّ بن أبي طالب فاستوص به؟ قال: أتعلمون معاشر المهاجرين و الأنصار كان هذا؟ فقال أبو محمّد من بينهم- يعني عبد الرحمان ابن عوف-: سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلّا فصمّتا.

ثمّ قال: أتعلمون أنّ أحدا كان يدخل المسجد جنبا غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ أبواب المسجد سدّها [رسول اللّه] و ترك بابي بأمر اللّه؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: هل تعلمون أنّي كنت قاتلت عن يمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قاتلت الملائكة عن يساره؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه قال لي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ قالوا: اللهمّ نعم.

ص: 306


1- هذه الفقرة لم يذكرها المؤلّف.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ الحسن و الحسين فجعل يقول: هي يا حسن، فقالت فاطمة: يا رسول اللّه، إنّ الحسين أصغر و أضعف ركنا منه، فقال لها رسول اللّه: ألا ترضين أن أقول أنا هي يا حسين، و يقول جبرئيل:

هي يا حسين؟ فقالوا: اللهمّ نعم.

قال: فهل لخلق منكم مثل هذه المنزلة ... نحن الصابرون ليقضي اللّه في هذه البيعة أمرا كان مفعولا (1).

جواب: نعود إلى كلام أبي بكر القائل: من أولى بها منّي و أنا أوّل من أسلم. فعدّ السبق إلى الإسلام دلالة على استحقاق الإمامة، و هذا باطل، لأنّ الإمامة لا تصحّ حتّى يحصل الإجماع (عندهم طبعا) و في السابق إلى الإسلام اختلاف بين المسلمين، فمن قائل أنّه عليّ، و منهم من قال زيد بن حارثة، و قيل بلال بن رباح، و قيل أمّ المؤمنين خديجة عليها السّلام و هلمّ جرّا (2).

روي عن عبد اللّه المدني عن ابن مردويه عن معاذة العدويّة قالت: سمعت عليّا و هو على منبر البصرة يقول: أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر (3).

ص: 307


1- نهج السعادة 1: 116؛ تاريخ مدينة دمشق 29: 198؛ مناقب الخوارزمي: 299؛ ينابيع المودّة 1: 433. و أنا بدوري أتسائل: لم لم يحتجّ أمير المؤمنين بيوم الغدير عليهم و هو لا بديل عنه في مثل هذا اليوم؟ أنا على يقين من أنّ الأيدي الخائنة لعبت في النصّ فحذفت كثيرا منه و ما زال هذا دأبها و ديدنها إلى اليوم فإلى اللّه المشتكى، كلّ هذا من أجل أن لا نخسر بيدقا اسمه عمر و بيدقا آخر اسمه أبو بكر في رقعة التاريخ المبسوطة للعب الأمزجة و الخواطر و الغايات.
2- لا اختلاف بين المسلمين في أوّل من أسلم، فقد أجمعوا على أنّ سيّدتنا خديجة عليها الصلاة و السلام أوّل من أسلم، ثمّ تلاها أمير المؤمنين، و لكن الاختلاف الذي حدث هو من صنع عائشة حين ادّعت لأبيها هذا السبق و نابعها على ذلك بطانتها.
3- المسترشد: 264؛ الفصول المختارة: 261؛ الإرشاد 1: 31؛ كنز الفوائد: 121؛ الاحتجاج 2: 149؛ مناقب آل أبي طالب 1: 289؛ المستجاد من الإرشاد للعلّامة الحلّي: 34؛ الصراط المستقيم 1: 235؛ بحار الأنوار 38: 226 و 268.

و روى ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه قال: أوّل من آمن خديجة ثمّ عليّ بن أبي طالب، ثمّ زيد بن حارثة، ثمّ أبو بكر.

جواب آخر: إن كان مجرّد السبق إلى الإسلام يثبت التقدّم و الاستحقاق في الخلافة فينبغي أن يكون عثمان أولى بالخلافة من عمر، و مقدّما عليه، لأنّه أسلم قبله كما ينبغي أن يلي الخلافة عليّ بعد أبي بكر، لأنّ عليّا سبق عثمان و عمر إلى الإسلام بإجماع الخصوم (1) و ليس الأمر كذلك فتبيّن من هذا أنّ السبق لا يثبت الأولويّة في الحكم.

حديث: يقول المخالفون عن عليّ عليه السّلام قال: ذكرت الأمراء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إن تبايعوا أبا بكر، تجدوه ضعيفا في نفسه و قويّا في أمر اللّه، و إن تبايعوا عليّا و لن تفعلوه تجدوه هاديا يسلك بكم الطريق المستقيم (2).

الجواب: هذه الرواية ذكرها صاحب كتاب المناقضات «مناقضات البخاري»

ص: 308


1- أقول: إنّ الذي فهمته من قول أبي بكر أو قولهم على لسانه أنّ الأولويّة في السبق شرط في التقدّم و لا يترتّب على ذلك تسلسل العدد بأن يكون الثاني بعد الأوّل و الثالث بعد الثاني في الأوّليّة و هكذا و حينئذ لا محلّ لقول المؤلّف، فينبغي عليه أن يورد عليهم من وجه آخر.
2- الإيضاح لابن شاذان: 237؛ الغارات 2: 518؛ مناقب أمير المؤمنين للكوفي: 448 و ليس ذكر لأبي بكر؛ السقيفة و فدك للجوهري: 76؛ مسند أحمد 1: 109 و فيه زيادة؛ المستدرك 3: 70؛ مجمع الزوائد 5: 176؛ شرح ابن أبي الحديد 6: 52 و 11: 11؛ كنز العمّال 5: 799 و 11: 612؛ شواهد التنزيل 1: 82 و 83 و 84؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 420 و 421 و 44: 236؛ أسد الغابة 4: 31؛ ميزان الاعتدال 3: 363؛ الإصابة 4: 468؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250 و في أكثرها يذكر عمر أيضا.

و يروي كذلك عن الطبراني عن اسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزّاق عن أبيه عن ميثاق عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة قد بايع الجنّ، فتنفّس، فقلت: مالك يا رسول اللّه؟ قال: نعيت إليّ نفسي يابن مسعود. قلت: استخلف يا رسول اللّه، قال: من يابن مسعود؟ قلت: أبو بكر، فسكت ثمّ مضى ساعة ثمّ تنفّس، فقلت: ما شأنك يا رسول اللّه؟ قال: نعيت إليّ نفسي يابن مسعود. قلت:

فاستخلف. قال: من؟ قلت: عليّ بن أبي طالب. قال: أما و الذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنّة (1).

الجواب: اعلم أنّ عبد اللّه المدني روى عن سلمان الفارسي أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ وصيّي و خليفتي و خير من أترك من بعدي ينجز موعدي و يقضي ديني عليّ بن أبي طالب.

و يقول: من كنت مولاه فعليّ مولاه.

و يقول: إنّي تارك فيكم الثقلين .. الخ.

و يقول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

و يقول: اللهمّ أدر الحقّ مع عليّ حيث ما دار (2).

قال المصنّف: إنّ قوله: إن تبايعوا أبا كر تجدوه ضعيفا على نفسه دليل على بطلان هذا الحديث و وضعه لأنّه يخالف القرآن، فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا ورد عليكم

ص: 309


1- الفضل بن شاذان: 93؛ الروضة في المعجزات و الفضائل: 119.
2- هذه جملة أحاديث و قد سبق تخريجها إلّا الحديث الأوّل عن سلمان و قد أخرجه ابن شهر آشوب في المناقب 2: 246 و 2: 256 أخرجه عن أنس؛ معالم المدرستين 1: 216 عن أبي سعيد؛ و ابن أبي الحديد 13: 228؛ تهذيب التهذيب 3: 91؛ كشف اليقين للحلّي: 270؛ مجموعة الرسائل للطف اللّه الصافي 2: 40.

منّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه فإنّ وافق فاقبلوه (1)، و يقول تعالى في حقّ طالوت لمّا ردّه بنو إسرائيل و أبوا ملكه و إمارته: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (2) و القوّة من الصفات الممدوحة كما قال اللّه تعالى في حقّ نفسه:

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3) و قال في حقّ جبرائيل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (4).

و «قويّا في أمر اللّه تعالى» باطل أيضا، و لو كان صحيحا لما آذى فاطمة المعصومة البضعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمّ السادات و الأئمّة و سيّدة نساء العالمين حتّى ماتت غاضبة عليه بغصّتها، و أوصت أن تدفن سرّا، و لا يشهد جنازتها كما جاء في صحيح البخاري.

و ما روي في حقّ عمر «قويّا في نفسه» إن كان القصد بها الفظاظة و الغلظة و شراسة الخلق فإنّها صفات ذمّ و نقصان: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (5) و هي علامة على شقاء تلك الدار و قساوة القلب في هذه الدار، و إن كان المقصود منها الشجاعة فليس من المعروف عن عمر أنّه شارك في قتال أو قتل

ص: 310


1- عون المعبود 12: 232، قال الخطابي: فإنّه حديث باطل لا أصل له، و قد حكى زكريّا الساجي عن يحيى بن معنى أنّه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة؛ تذكرة الموضوعات: 28؛ كشف الخفاء 1: 86 و 2: 423؛ أضواء على السنّة المحمّديّة لأبو رية: 99؛ التبيان للطوسي 1: 5؛ تفسير مجمع البيان 1: 36 و 39؛ أحكام القرآن لجصّاص: 1: 629 و 3: 38؛ تفسير القرطبي 1: 38؛ أصول السرخسي 1: 365 و 2: 68 و 76؛ المحصول 3: 91 و 4: 338؛ الأحكام للآمدي 2: 323؛ شيخ المضيرة: 238؛ تاريخ ابن معين 1: 326.
2- البقرة: 247.
3- الذاريات: 58.
4- النجم: 5 و 6.
5- آل عمران: 159.

خصما للّه و رسوله، و كان ينهزم في كلّ حرب تشنّ على الإسلام لا سيّما في أحد و حنين و بدر و ما قاله في حقّ عليّ «و لن تفعلوه» دليل واضح على أنّ الصحابة يميلون عنه إلى غيره و هو مهدي و هاد و ليس كغيره ضالّا مضلّا و هو الصراط المستقيم في فاتحة الكتاب و اتّباعه طريق الإسلام.

جواب آخر: كلا الحديثين مرويّ من طريق علماء القوم و الحديث الأوّل لا يدلّ على خلافة الثلاثة و لا برهان لهم فيه عليها، و الحديث الثاني دالّ على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

جواب آخر: إنّ مذهب المخالفين أنّ عليّا عليه السّلام أقلّ مرتبة منهم و أدنى، و هذه العقيدة استحكمت فيهم جدّا حتّى أنّني جرى لي بحث ذات يوم في مدينة يزدجرد و كنت قد استولى عليّ كرب مع عالم منهم في تلك البقعة من الأرض حول المذهب، فقال لي ذات يوم في طوايا البحث: إنّ النبيّ عندنا بمنزلة الإبهام، و أبو بكر السبّابة و عمر الوسطى و عثمان الخنصر و عليّ البنصر، و عليّ أدنى منهم بكلّ اعتبار، و العجب هنا أنّ هذا القول إن كان حقّا فالحديث كذب و باطل لأنّ فيه أبا بكر ضعيف و عمر له مرتبتان و عليّ حائز على عدد من المراتب أعلى مستوى منهم، و هذا الحديث عين نقصانهم و به بانت فضيحتهم، و إذا جاز تقديم المفضول على الفاضل فلا بدع أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدنى آحاد الأمّة و الإجماع منعقد على أنّه أفضل أفراد الأمّة و أفضل بمفرده من جميع الأنبياء، و عمر هو القائل: عجزت النساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب (1).

ص: 311


1- قول عمر: عجز النساء، رواه الرواة في معاذ، راجع: المغني 10: 139؛ الشرح الكبير 10: 133؛ المحلّى 10: 316 و 7: 355؛ البداية و النهاية 7: 75.

و قال: لا أبقاني اللّه لمعضلة (لم يكن فيها عليّ بن أبي طالب) (1) بعدك يا علي (2).

و قال: اللهمّ لا تبقني لمعضلة لم يكن فيها عليّ بن أبي طالب حيّا (3).

حديث: روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يبقينّ في المسجد باب إلّا سدّ إلّا باب أبي بكر (4).

الجواب: روى أبو بكر ابن مردويه عن مشايخه عن الملائي أنّه قال: أتيت المدينة فدخلت على عليّ بن الحسين زين العابدين، فقلت: جعلني اللّه فداك، رجل من مواليك أريد أن أسألك فحدّثني به، قال: و ما ذاك؟ قلت: حدّثني في شأن الأبواب، سمعت فيها شيئا من أبيك.

قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدي فقال: إنّ موسى بن عمران سأله ربّة أن يطهّر المسجد لهارون و ذرّيّته من بعده، و إنّي سألت ربّي أن يطهّر مسجدي لك و لذرّيّتك من بعدي، ثمّ لم يكن إلّا قليلا حتّى أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك، فاسترجع أبو بكر، ثمّ قال:

هل فعل هذا بأحد قبلي؟ قال: لا، فقال: سمعا و طاعة، ثمّ فعل، ثمّ أرسل إلى عمر أن سدّ بابك، فاسترجع و قال: هل فعل بآخر قبلي؟ قالوا: بأبي بكر، قال: لي

ص: 312


1- هذه العبارة من المترجم.
2- المسترشد: 653: مناقب ابن شهر آشوب 2: 182؛ البحار 3: 678.
3- أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 346.
4- صحيح البخاري 1: 120 و 4: 191؛ تحفة الأحوذي 10: 112؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 471؛ مسند أبي يعلى 2: 63؛ كنز العمّال 11: 551 رقم 39590؛ نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: 194؛ الطبقات 2: 227؛ تاريخ مدينة دمشق 24: 8 و 40: 226؛ مقام عليّ للعسكري: 27؛ الغدير للأميني 2: 97؛ فيض القدير للمناوي 4: 470؛ المناقب للخوارزمي: 101؛ جواهر المطالب: 200؛ الأنوار العلويّة للنقدي: 89؛ عمر بن الخطّاب: 371.

بأبي بكر أسوة يفعل، ثمّ أرسل إلى العبّاس أن سدّ بابك فغضب غضبا شديدا ثمّ قال: ارجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقل: أليس عمّ الرجل صنو أبيه؟ فقال: بلى و لكن سدّ بابك، فلمّا سمعت فاطمة سدّ الأبواب خرجت فجلست على بابها تنتظر من يرسل إليها بسدّ الأبواب، فخرج العبّاس ينتظر هل يسدّ باب عليّ عليه السّلام، فرأى فاطمة جالسة و الحسن و الحسين عليهما السّلام معها، فلمّا رأى العبّاس قال: خرجت و بسطت ذراعي مثل الأسد أخرجت شبليها و قال: خاض الناس في سدّ أبوابهم و ترك باب عليّ، فلمّا سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك صعد المنبر فقال: ما الذي خضتم فيه و ما أنا الذي سددت أبوابكم و لا فتحت باب عليّ و لكنّ اللّه سدّ أبوابكم و فتح باب عليّ عليه السّلام (1).

فصل

في كتاب شرف النبي من تصانيف الأستاذ أبي سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ عن رؤيا أبي بكر في جاهليّه في المنام أنّ القمر نزل على الأرض في مكّة و تقطّع إربا إربا على سطح الكعبة و وقعت كلّ قطعة منه في حجرات مكّة و منه قطعة وقعت في داره ثمّ عادت القطع فتجمّعت حتّى صارت قمرا و استدار كما كان فلم يقصص أبو بكر رؤياه على أحد إلى أن كان العام الذي خرج فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتجارة خديجة و كان أبو بكر في ذلك الركب، فلمّا نزلوا بقرب دير الراهب بحيرا رأى الراهب الغمامة التي أظلّت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأضافهم بحيرا و عهد بالنبيّ إلى أبي طالب عليه السّلام و قال: خذ حذرك من اليهود على هذا الغلام.

فلمّا سمع أبو بكر ما قاله بحيرا قصّ رؤياه عليه، فقال بحيرا: إنّ هذا الغلام سوف يرسله اللّه إلى الخلق و تكون أنت الخليفة بعده، فابتهج أبو بكر بهذه البشرى و كتم

ص: 313


1- محمّد بن سليمان الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 461.

ذلك في قلبه، طمعا في الخلافة، فلمّا بعث رسول اللّه دعا أبا بكر إلى الإسلام، فقال له أبو بكر: ما هو الدليل الذي أصدّقك به؟ فقال: بآية الرؤيا التي رأيتها و عبّرها لك بحيرا الراهب.

و كان أبو سعيد الواعظ من النواصب و هو من كبار أهل السنّة.

الجواب: هذا ما يقوله علماء الشيعة بأنّ إسلام أبي بكر كان طمعا في الخلافة، و من أجل هذا زوّج ابنته عائشة رسول اللّه، و كان النبيّ معرضا عنها، و لكن شفع لأبي بكر جماعة من رؤساء العرب فاستحيي النبيّ منهم و رضي بها، و طالما كاد النبيّ و تآمر عليه لقتله كي ينال الخلافة من بعده.

و لكنّي أنا المؤلّف لا أقطع بهذا حتّى اطّلعت على كلام النواصب هذا فقطعت الشكّ باليقين و ثبت لديّ ما اتفق عليه علماء الشيعة من أنّ إسلام أبي بكر ما كان إلّا لنيل الملك و ليس مخلصا للّه فيه، و لا محبّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان القمر الذي رآه في النوم رسول اللّه، و ما رآه من تفرّقه في حجرات مكّة فتأويله سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي ظهر في قريش، و نال به جماعة حظّا من الدنيا و جماعة حظّا من الدين، و خسر قوم الدنيا و الآخرة، و فتن أناس فيما جرى بحجرته قبل وفاته و طرده لهم إشارة و تنبيه على أنّ صاحب الفتنة ليس بعيدا عن مشركي قريش و لا فضل له عليهم، و هو مثل سائرهم، و آخر الأمر عاد إلى الصواب و هو أن كان القوم قد نالوا حظّا من الدولة و لكنّهم تعرّضوا للهلاك بجملتهم إلى أن هلكوا في ختام الأمر و بقيت ظلمات الكفر معهم فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (1) و تكون الخلافة في نهاية الأمر لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعني ينالها المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه آخر الزمان و هو حجّة اللّه و وارث الأنبياء

ص: 314


1- البقرة: 17.

و الأوصياء، و الكتاب السماء، و يستقيم العالم بعدله، و يستضي ء الدهر و الأرض بنوره، و يؤمن النواصب إيمان الحقّ، و ينتزع اللّه محبّة الفاسقين من قلوبهم، و يحلّ محلّها حبّ أهل البيت.

و ينبغي أن يجري التحقيق على ما تقرّر من إيمانهم فإنّه لم يكن على الحقيقة و إنّما أساسه الطمع و حبّ الجاه و السطوة، خلا أنّهم أفلسوا من هذا و ذاك، كما قال تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها (1)، و السلام على من اتّبع الهدى.

ص: 315


1- الأحقاف: 20.

الباب التاسع في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه

اشارة

الباب التاسع في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه (1)

البدعة الأولى: تسميته نفسه أمير المؤمنين و حكمه على أهل الإسلام، و الحال أنّه منصوب بدون إذن اللّه و رسوله و تنصيبهما.

البدعة الثانية: أخذه البيعة لنفسه من الصحابة على أنّه وصيّ رسول اللّه و خليفته، و السبب في ذلك أنّ المنافقين أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر و اتفقوا معه على أن يكونوا يدا واحدة لهدم الدين و إبطال الإسلام، كما قال اللّه تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (2) فاتّحدت هذه الجماعة قلبا

ص: 316


1- أحربها أن تكون صاحباه، لأنّي لم أقف على معنى الرسيل بما يقصده المؤلّف هنا، لأنّ الرسيل في اللغة الرسول، و الرسيل- كأمير- الواسع الطفيف، و الرسيل الفحل، و الرسيل المراسل في نضال و غيره، و الرسيل الماء العذب، راجع تاج العروس، و لا أجد من هذه المعاني معنى ينطبق على عمر و عثمان.
2- الحجرات: 14.

و قالبا لاتفاق المصالح و ليقوم أحدهم بالآخر، و يتعاونون و يتناصحون فيما بينهم، و سلك مسلكهم آخرون لخوفهم من التلف على مالهم و أنفسهم و لحفظ عرضهم، و أيضا لقلّة عددهم و كثرة عدوّهم، و خدع بهم آخرون و لبسوا عليهم فاغترّوا بهم فرأوا باطلهم بعين الحقّ و لم يكن كذلك، و يكون العدّ كالتالي:

هلاك الجماعة الأولى بكفرها، و أنّها كافرة بربّها و نبيّه و كتابه، و أمّا الجماعة الثانية فلم تخرج من دائرة الإيمان و ظلّت محافظة على دينها و إسلامها، و أمّا الجماعة الثالثة فإن كانت ذات جهل مركّب أي أنّها تملك الذكاء و الكياسة و بإمكانها البحث عن الدليل و تحرّي الحقّ و التمييز بين القبيح و الحسن و الحقّ و الباطل، ثمّ لم تفعل ذلك فإنّها هالكة لا محالة، و إن لم تكن بتلك القوّة و ذلك الاستعداد و لم تستطع دفع الشبهات فإنّها في حكم المجانين و السفهاء.

و قال بعضهم: إنّ أمر هؤلاء إلى اللّه إن شاء عذّبهم و إن شاء رحمهم و عفى عنهم.

و نعود إلى الفرقة الأولى فإنّها لم تنسلخ عن صورة الإسلام و لم تتجرد من الشريعة ذلك لغاية في النفس تشتمل على ترويج أمور الدنيا، و حفظ الإمارة و السلطان، و علموا أنّ هذه الخطّه خير وسيلة للأخذ بثأر الجاهليّة في بدر و حنين، كما أنّهم فعلوا ذلك بهدوء و حذر و تأنّي فجدّدوا قوانين الجاهليّة و أضمروا الدخائل السوداء بتمنّيهم عودة أهل هذا الدين إلى منشأهم الجاهلي الأوّل، و علموا أنّ الناس عبّاد المظاهر و لا أرب لهم في المخابر، و ليسوا من أهل الأسرار، و كان الأوّل يكتب في رسائله معنونا لها بأنّه خليفة رسول اللّه، و هذا افتراء على النبيّ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (1) و كان مع ذلك يبيد المسلمين بالقتل و التمثيل، و يحتجّ على ذلك بالردّة المزعومة، و ينسبها إليهم.

ص: 317


1- طه: 61.

و حمل الجباة على الناس فراحوا يلزمونهم على الأخماس و الزكوات بأقبح الوجوه من القهر و الاستيلاء بالقوّة عليها، ولّى على كلّ قبيلة و حاضره حاكما، و صنع له جيشا عرمرما، و لم يحاول أحد مسألته عن مفارقته حيث يزعم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مات و لم يستخلف، فكيف إذن تسمّى بخليفة رسول اللّه؟ و من سمّاه؟ و ما هي حجّته على ذلك؟ و إن كانت الخلافة بالنصّ و العصمة و العلم و الورع فأنت فاقد لها.

و بناءا على هذا فإنّ من سلخ من عمره ستّا و أربعين عاما في الكفر حتّى أسلم و ليس فيه خصلة واحدة من خصال الإمامة من المعجزات (1) و النصّ و العصمة و الورع ثمّ هو الآن يدّعي خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا يجوز تسميته خليفة رسول اللّه بحال من الأحوال، لأنّ النبيّ قال: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (2) و أوّل من كذب على رسول اللّه متعمّدا هذا الرجل، و هم يتبعونه و يروون أنّ النبيّ مضى و لم يستخلف، و هذا الحديث مشهور مستفيض عندهم.

و إنّهم يقولون بأنّ ما فعل المهاجرون و الأنصار من تنصيب أبي بكر و الاجتماع

ص: 318


1- الكرامات- المؤلّف.
2- السرائر لابن إدريس الحلّي 2: 154؛ مستند الشيعة للمحقّق النراقي 18: 133؛ مصباح الفقاهة للخوئي 1: 116 و 388؛ الرسالة للشافعي: 396؛ مغني المحتاج للشربيني 4: 420؛ حواشي الرشواني 10: 220؛ حشاية ردّ المحتار لابن عابدين 1: 138؛ كشف القناع للبهوتي 5: 36؛ المحلّى لابن حزم 9: 111 و 336؛ سبل السلام لابن حجر 3: 223؛ نيل الأوطار 8: 85؛ نهج البلاغة 2: 187؛ من لا يحضره الفقيه 3: 569 و 4: 364؛ ذخائر العقبى: 76؛ مسند أحمد 1: 65 و 78 و 130 و 165 و 166 و 293، و كذلك أخرجه في أجزائه الخمسة الأخرى، صحيح البخاري 1: 35 و 2: 81 و 4: 145 و 7: 118؛ صحيح مسلم 1: 7 و 8 و 8: 229؛ المستدرك 1: 103 و 111 و 112 و 113 و 3: 262 و كتب كثيرة أخرجت هذا الحديث و هو متواتر على قلّة الحديث المتواتر عندهم بخلاف الشيعة فإنّ أحاديثهم المتواترة كثيرة.

عليه إنّما كان لحفظ الدين و حماية بيضته و تثبيت أمر الأمّة و نظام الإسلام.

الجواب: إنّ ثبات الأمّة و اجتماع الكلمة بقول اللّه و رسوله أولى، و ليس بسبب اجتماع ثلّة من المسلمين، و إذا كان هذا الاجتماع لصلاح الدين فإنّ إجماع المسلمين على قتل عثمان يجب أن يكون حقّا بناء على قول الخصوم.

و قال اللّه تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1)، و لم يرد حديث مقطوع به أنّهم مأذون لهم فيما صنعوا بل الحديث وارد بنهيهم عمّا فعلوا.

و إذا ادّعوا بأنّ الأمّة رأت فيهم الكفائة دون غيرهم و أنّهم المستحقّون لتقديم هذا العمل.

الجواب: و لكن اللّه و رسوله رأيا غيرهم أولى بهذا العمل منهما، مع أنّ أبا بكر لم يكن أهلا لهذا العمل بشهادته على نفسه حين قال: أقيلوني فلست بخيركم و إنّ لي شيطانا يعتريني (2).

مع أنّ أعلام الصحابة من المهاجرين و الأنصار لم يبايعوه، فمن المهاجرين: خالد ابن سعيد، و المقداد بن الأسود، و أبيّ بن كعب، و عبد اللّه بن عبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و عمّار بن ياسر، و أبو ذر الغفاري، و سلمان الفارسي، و بريدة الأسلمي، و محمّد بن أبي بكر (3). و من الأنصار خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و سهل بن

ص: 319


1- القصص: 68.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام للصدوق 1: 256؛ كنز العمّال 5: 590؛ الطبقات الكبرى 2: 212؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 303 و 304؛ البداية و النهاية لابن كثير 6: 334؛ الإمامة و السياسة 1: 22 و 34؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 315؛ الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي 2: 43؛ مجمع النورين للمرندي: 109؛ صحيفة الرضا عليه السّلام للقيّومي (فارسي): 310.
3- مات أبوه و عمره يومئذ سنتان فكيف يمتنع عن بيعته و هو بهذه السنّ، اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه لمّا علم بطلان خلافة أبيه مال عنه إلى أمير المؤمنين بعد أن بلغ مبلغ الرجال فكان كمن أبى له بالبيعة.

حنيف و أبو أيوب و أبو الهيثم بن التيّهان.

هؤلاء أعلام الصحابة ألمعروفون بالعلم و الزهد و الورع لمّا عرفوا باطل القوم و أنّ البيعة لهم باطلة أبوها و لم ينساقوا ورائهم و لا شايعوهم على الباطل، اللهمّ إلّا عبد اللّه بن عبّاس و محمّد بن أبي بكر فإنّهما طلبا من الإمام الذهاب إلى القوم و الردّ عليهم (1) فلم يأذن لهما الإمام و حذّرهما من ذلك قائلا: إنّي أخاف عليكما هذا الجمع و حدوث الفتنة و تكأكأ الناس عليكما و قتلكما، اذهبا إليهم واحدا واحدا فإنّهم لا يستطيعون قتل الواحد إذا علموا أنّ الثاني ردء له، فكانا يفعلان ما أمرهما به أمير المؤمنين عليه السّلام و يتلوان حكاية الغدير و وصيّة رسول اللّه و النصوص الواردة في الإمامة و يلزمون القوم الحجّة بتأكيدها و تبيينها و لكن الرجل الذي هفى قلبه إلى الحكم و جنح إلى الدنيا وراقه الزبرج منها لا يصغي إلى عتب عاتب و لا إلى لوم اللائمين.

و أطاعهم جلّ قبائل العرب إمّا جهلا بواقع الحال أو رغبه في الحطام أو خوفا من شرّهم المستطير، إلّا تلك القبيلة التي أبت أن تعطيهم زكاة أموالها و قالت: إنّ رسول اللّه لم يأذن لنا بإعطاء الزكاة أو الخمس إلى ابن أبي قحافة و إنّما أمرنا بدفعها إلى وصيّه عليّ بن أبي طالب إمام المسلمين، و أمّا أنت يابن أبي قحافة فلا تستحقّ شيئا من هذا، جئنا برخصة من اللّه و رسوله و حجّة غالبة و إلّا فلن تنال منّا شيئا، فعجز عن إجابتهم و حكم بارتدادهم.

و أرسل خالدا بن الوليد على رأس عسكر مجرّ، و لمّا اشتغل خالد بالحرب، ارتفع صوت المؤذّن للصلاة، فترك أهل تلك القبيلة الحرب و أقبلوا على الصلاة، فأنكر الصحابة شنّ الحرب عليهم، فأبى خالد أن يستمع إلى أحد و قال: لا بدّ من

ص: 320


1- قد عرفت حال محمّد، و أمّا ابن عبّاس فكان يومئذ صبيّا صغيرا رضوان اللّه عليهما.

قتالهم، و أمهلهم حتّى شرعوا في الصلاة و مال عليهم بالجيش فأبادهم جميعا و قتل رئيسهم مالكا ابن نويرة، و وضع رأسه أثفية للقدر، باعتبار العداء المستحكم بينهما في الجاهليّة (1).

و دخل بزوجته في الليلة التي قتل بها زوجها فشاع الخبر في الجيش و بين الناس، فأنكروه على خالد و جماعته، و أغار خالد على النساء و البنات و الأموال فغنمها و اشتغل المهاجرون و الأنصار هناك بفعل القبيح مع بنات المسلمين إلّا جماعة قليلة أنكرت هذا الفعل و اعتزلت القوم، و لمّا عادوا إلى المدينة أبعدوا الحوامل منها إلى أقصى البلاد لئلّا يطّلع الناس على بشاعة الجريمة، و باعوهنّ، و كان عمر صديقا لمالك بن نويرة (2) في قديم الزمان.

فلمّا عادوا إلى المدينة و اقتسموا الأموال و النساء و الأولاد، فأصاب عمر نصيب من ذلك فقبله و لم يتصرّف فيه، و لم يقسمه بين قريش، و لمّا نال الخلافة عمد إلى ما تبقى من هذه الغنائم فجمعها و أرسلها إلى ذويها و من لم يكن حيّا منهم دفعها إلى ورثته.

ص: 321


1- أقول: اقتصر المؤلّف رحمه اللّه على وجه واحد من وجوه هذه الحرب البشعة و لعلّة اختاره لأنّه أشدّ بشاعة منها، أمّا حرب ما يسمّى بالردّة فهي طويلة و فصولها كثيرة تدمي القلب و تؤذي كلّ مسلم، و انتظر كتابنا حول هذا المعنى إن شاء اللّه. أمّا العداوة التي تحدّث عنها بين خالد و مالك فلم أسمع من مؤرّخ ذكرها و سبب قتل مالك هو زوجته الحسناء، هكذا قال المؤرّخون.
2- هذه الصداقة لم أطّلع عليها، و لعلّ المؤلّف استعظم أن يكون مثل عمر منكرا للمنكر فحاول إيجاد سبب إلى إنكاره فاستنبط لهما هذه الصداقة الموهومة و لو فكّر قليلا لعلم بأنّ عمر لم يثأر لمالك أو لزوجته و لا للحقّ و لكنّه خاف من خالد أن يتقوّى به أبو بكر فيستغني عن عمر و يهمله و عندئذ تذهب أحلام عمر أدراج الرياح من ثمّ راح يشنّع على خالد و يأمر أبا بكر بإجراء الحدّ عليه، و اللّه يعلم أنّه كاذب فيما يدّعي و لو صدق لأجراه على خالد حين وصل إلى سدّة الحكم، ألا لعن اللّه القوم الظالمين.

و كان عمر أبّان الحرب ينكر على خالد فعله الشنيع و شدّد النكير عليه عند أبي بكر و يلومه لوما شديدا على ما جنت يداه، و أشار على أبي بكر بالقصاص من خالد لأنّه زنى و قتل مسلما، و قال لأبي بكر: عمله هذا مخالف للّه و لرسوله لأنّ القوم المقتولين كانوا مسلمين و لقد سمعت أنا و سمعت أنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أمرت أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فإذا قالوها منعوا بها دمائهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابها على اللّه.

و لم يملك أبو بكر ردّا لقوله إلّا أن قال: لو منعوني عقال بعير ممّا كانوا يعطونه إلى رسول اللّه لحاربتهم (1).

و ندم الجيش على ما اقترف في حقّ الأبرياء و لات حين مندم، و كان عمر يتحيّن الفرص للقضاء على خالد و كان خالد كثير الحذر منه، يحيى بعيدا عن متناول يده و لم تمكن الفرصة عمر لقتله، و كانت العصبيّة لمالك و الحبّ له يغلي في باطن عمر إلى أن آلت الخلافة إلى عمر فعنّ له خالد ذات يوم و هو في أحد حوائط

ص: 322


1- الظاهر أنّ شيخنا المؤلّف طاب ثراه كان يكتب من الذاكرة لأنّ قول أبي بكر لعمر كان قبل أن تنشب الحرب و قول عمر لأبي بكر عن خالد بعد وقوع الكارثة، و المؤلّف خلط بينهما. و إليك مصادر حديث: «أمرت أن أقاتل الناس ... الحديث»: الأمّ للشافعي 4: 181 و 182 و 252 و 255 و 6: 180 و 7: 86 و 319؛ كتاب الموطّأ 1: 11؛ حاشية الدسوقي 1: 131؛ المبسوط للسرخسي 10: 2 و 24: 84؛ بدايع الصنايع لأبي بكر الكاشاني 7: 100 و 105؛ الجوهر النقي 3: 92 و 366؛ المغني لابن قدامة 2: 34 و 299 و 434؛ مسند الشافعي: 208؛ مسند أحمد 1: 11 و 19 و 35 و 48، و أخرجه في باقي الأجزاء؛ صحيح البخاري 1: 11 و 2: 110 و 4: 6 و 8: 50 و 140 و 162؛ و صحيح مسلم 1: 38 و 39؛ سنن ابن ماجة 1: 27 و 28 و 2: 1295؛ سنن أبي داود 1: 347 و 594 و 2: 78؛ سنن الترمذي 4: 117 و 118 و 5: 110؛ سنن النسائي 5: 14. و أخرج الحديث كتب كثيرة لا حصر لها، و أحبّ أن لا يفوتك خبث البخاري لعنه اللّه فقد تعمّد أن يدسّ في الحديث جملة هي: «و يؤتوا الزكاة» على عادته في التصرّف بالمتون لتكون عاذرا لإمامه لعنه اللّه و لعن إمامه.

المدينة فناداه: أأنت قاتل مالك و الزاني بزوجته؟ فأجابه: أجل يا أمير المؤمنين، كانت بيني و بينه عداوة قديمة فقتلته تشفّيا لي و لأبي بكر، و لكنّي شفيت نفسك أيضا بقتلي سعدا بن عبادة.

و لمّا سمع عمر ذلك قصرت يده عن قتل مالك، و ربت على كتفه و قرّ و قرّبه إليه و قبّله ما بين عينيه و قال: أنت يا خالد سيف اللّه و سيف رسوله، فاشتهر خالد بين العوام بهذا اللقب و قال له: إن كنت جرحت قلبي بقتل مالك فلقد شفيت غيظي بقتل سعد.

و قال جماعة: إنّ عمر لمّا قال لأبي بكر: أجر الحدّ على خالد، لأنّه قاتل زاني، أجابه أبو بكر: خالد سيف من سيوف اللّه، فلزمه اللقب من ذلك اليوم، و على كلا الروايتين إنّ خالد نال هذا اللقب لقتله المسلمين المؤمنين.

قصّة سعد بن عبادة

كان سعد رئيس قبيلة الخزرج و كان من نقباء الأنصار، و للأنصار اثنا عشر نقيبا، و لمّا بايع الناس أبا بكر قال الأنصار: إذا جاز ترك النصّ من اللّه و رسوله على الخليفة الحقّ فليس أحد الرجلين أولى بها من الآخر، و نحن الأنصار أصحاب العدد و الشوكة و الحسب أكثر من غيرنا، و نختار سعدا بن عبادة رئيسا لنا و هو خليفة علينا. فقال سعد: لا أبيع الدين بالدنيا، و لا أكفر بعد أن أسلمت، و لا أجعل من اللّه و رسوله خصما لي، و لا أقبل هذا المنصب حتّى يحدث الفرق بيننا و بين غيرنا.

فلمّا نطق سعد بهذا قوي جانب أبي بكر و مال الناس نحوه و طلبوا من سعد البيعة له فأبى سعد ذلك أشدّ الإباء، و قال: أأبى هذا الادّعاء لنفسي فكيف أقبله

ص: 323

لغيري، و لا أدخل النار من أجل غيري، فلم يبايع هو و لا قومه أبا بكر، و لمّا آل الأمر إلى عمر ألحّ عليه و لكنّه أبى و لم يقدروا أن يكروهوه عليه لكثرة أتباعه، و كانوا يصانعونه لينالوا رضاه بالبيعة سرّا، إلى أن استقبل قيس بن سعد ذات يوم عمر و قال له: استمع إلى نصحي، إشفاقا عليكم، فإنّ سعدا أقسم أن لا يبايعكم و أنتم لا تقدرون على قسره عليها، كما أنّه ليس باستطاعتكم حمل قومه الخزرج على بيعتكم مادام سعد لم يبايع إلّا بقتله، و لا يقتل سعد حتّى تقتل الخزرج بأجمعها، و لا تقتل الخزرج حتّى يقتل الأوس كلّهم، و لا يقتل الأوس حتّى تستأصل بطون اليمن كلّها، و هذا خارج عن قدرتكم و لا يتّسع له حولكم.

و حدث أن خرج سعد إلى الشام في أيّام عمر لمهمّة تخصّه و كان خالد بن الوليد في الشام، فقصد سعد ذات ليلة حيّا من بني الأزد، فبلغ خالد نبأ خروجه في الليل، و كان خالد شديد الساعدين، راميا حاذقا، فأعطى بعض المرتزقة شيئا من الدنانير و استأجرهم تلك الليلة فقطعوا على سعد طريقه و رموه بسهم و أردوه قتيلا، و أشاعوا بين العامّة لدرء خطرهم عنهم بأنّ الجنّ هي التي قتلت سعدا، و أنشدوا على لسان الجنّ:

قد قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده و رميناه بسهمين فلم نخطأ فؤاده فانتقم خالد منه لأنّه لم يبايع أبا بكر و عمر (1).

و في كتاب المؤالف لمحمّد بن جرير الطبري عن ابن علقمة عن سعد بن عبادة

ص: 324


1- و لم تنطل الحيلة على الشعراء، فقال في ذلك أحدهم: يقولون سعد شكّت الجنّ قبله ألا ربّما صحّحت دينك بالغدر و ما ذنب سعد أنّه بال قائماو لكنّ سعدا لم يبايع أبا بكر و قد صبرت من لذّة العيش أنفس و ما صبرت عن لذّة النهي و الأمر شرح ابن أبي الحديد 10: 111.

قال ابن علقمة: قلت لابن عبادة: قد مال الناس إلى بيعة أبي بكر. قال: فقلت: ألا تدخل فيما قد دخل فيه المسلمون؟ قال: إليك عنّي فو اللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول: إذا أنا متّ تضلّ الأهواء و يرجع الناس على أعقابهم، فالحقّ يومئذ مع عليّ و كتاب اللّه بيده لا نبايع لأحد غيره. فقلت له: هل سمع هذا الخبر غيرك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: سمع أناس في قلوبهم أحقاد و ضغائن. قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس كلّهم، فحلف أنّه لم يهمّ بها، و لم يردها، و أنّهم لو بايعوا عليّا كان أوّل من بايع سعد (1).

و كان سعد رئيس الأنصار و شيخهم قتل في أيّام عمر و تولّى الرئاسة بعده ابنه قيس بن سعد و هو من شجعان العرب و سار على منوال أبيه فلم يبايعهم، و الذين بايعوهم إنّما صدروا عن روح الطمع أو عداوة لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو خوفا من بطشهم لأنّ الوهن دخل على الصحابة بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّ الدين لم يدخل قلوبهم إلّا جماعة يسيرة منهم، و هم أهل الدين و البصيرة و اليقين، رسخت العقيدة فيهم و قامت بهم الشريعة، و يعزى بقاء القرآن اليوم السائر بين الناس و وجود الإسلام و سنّة الرسول إلى بركة وجود هذه الجماعة القليلة.

و على مذهبنا أيّها الشيعة إنّ الذي حفظ الشريعة و صانها من العبث و التبديل هو أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الأئمّة الاثني عشر، و الحافظ اليوم للشرع الشرف هو قائم آل محمّد عجّل اللّه تعالى فرجه.

نكتة: و لمّا بايع الناس ابا بكر، قال له عمر: إنّ هذا الأمر لم يتمّ بعد و لن يتمّ إلّا إذا أوصيت بالخلافة لي من بعدك حتّى أتمّ هذا الأمر بتدبيري، فعاهده أبو بكر على

ص: 325


1- نهج السعادة للمحمودي 5: 205، مطبعة النعمان- النجف الأشرف، أولى 1386.

ذلك و أشهد على نفسه بأنّ عمر الخليفة من بعده، فقال له عمر عندئذ: لم يبق في العرب من ينازعنا الأمر إلّا عليّ و أولاده، و لهم قول أصيل، و دعواهم لها أنصار بين الناس و سبل ردعهم عن التطلّع لهذا الأمر هو انتزاع نحلة فاطمة و بلغتها و توقع بهم، لكي يقول الناس أنّها العداوة المتأصّلة بينهما من زمان سحيق، و أنّ الغرض من هذا الجدال بين القوم هو الملك لا الدين، و حينئذ يقلّ الإقبال على كلامهم و يستخفي منهم و يستخف الناس بهم.

فعمل أبو بكر بنصيحته و انتزع فدكا من فاطمة عليها السّلام فأرسلت فاطمة عليها السّلام إلى أبي بكر فردّ كلامها و لم تذهب بنفسها الشريفة إليه و إنّما أرسلت وكيلها كما ذكر أصحاب الكتب و المؤرّخون، إلى أن غضبت عليهم و خرجت من هذه الدنيا غاضبة عليهم، و أوصت أن لا يحضروا جنازتها.

و بناءا على هذا المقتضي فإنّ الناس ردّوا عليهم و أطلقوا الألسن بذمّهم و لومهم، و قالوا: إنّ هذا الملك حقّ الزهراء فاطمة عليها السّلام و كانت تتصرّف فيه في حياة رسول اللّه تصرّف المالك بملكه بلا مانع أو منازع، و النبيّ ملّكه إيّاها في حياته.

فخاف أبو بكر من ألسنة الناس و من تشنيعهم عليه، فاستشار عمر، فقال له:

إنّي أرى أن ترسل إلى فاطمة رسولا و تطلب منها البيّنة، فشهد لها أمير المؤمنين و الحسنان و أمّ أيمن، فردّ أبو بكر شهادتهم، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا أبا بكر، إن جاءك شاك و ادّعى على أحد من الناس أنّه غصب ضيعته بغير حقّ، فماذا تصنع؟

أكنت تطلب البيّنة من المدّعي أو المدّعى عليه؟

فقال أبو بكر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «البيّنة على من ادّعى، و اليمين على من أنكر»، كنت أأخذ المدّعي بالبيّنة من قبيل شاهدين عدلين لا يمتان إلى المدّعي بصلة، فإذا أخلّ بها، أخذت المدّعى عليه باليمين.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فأنت المدّعي لفدك و أنت الراوي و أنت الشاهد،

ص: 326

و الذين صدّقوك هم قوم يمتون إليك بالصلاة (بكسر الصاد- المترجم) و ينبغي أن يكون الراوي و البيّنة خارج أهل هذا الحقّ، و هؤلاءهم بنو هاشم الذين حرّم اللّه عليهم الصدقة، بحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «نحن أهل البيت لا تحلّ لنا الصدقة»، و لمّا لم تكن معك البيّنة و أنت المدّعي كان اليمين على الزهراء عليها السّلام، فلم تفعل شيئا من هذا، و كلّمه بنحو من هذا الكلام، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو شهد شاهدان على فاطمة بما يوجب الحدّ أكنت تقيمه عليها؟ قال: بلى أقيمه، فقال عند ذلك أمير المؤمنين: إذن تخرج من ربقة الإسلام و تكذّب كتاب اللّه. فقال أبو بكر: و كيف ذلك؟ فقال أمير المؤمنين: بآية التطهير الناصّة على عصمة فاطمة و التي نطق بها القرآن الكريم. فاستحيا أبو بكر و قام من بين أصحابه و دخل داره و لم يخرج طيلة النهار حياءا من الناس، و كان غرض الإمام من إيراد مثل هذا الكلام هو إلزامه بالحجّة القاطعة و المحجّة الناصعة، و فرض العقوبة عليه و إن علم عليه السّلام منذ أوّل وهلة أنّه لا يجيب.

و العجب ممّا قاله المخالف في قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1) و مثله من الآيات لا يوجب الإرث و لم يعلم أنّ الإرث لا يجب إلّا بعد الموت، و كان سليمان و أبوه على قيد الحياة نبيّا له علوم النبوّة و مزاياها، كما قال تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (2)، و كان لآدم عدد من الأولاد و ليس فيهم هبة اللّه إلّا شيث و كان الباقون أتباعا، فلو كانت النبوّة ميراثا لكان أولاد آدم جميعا أنبياء، و اليهود بأجمعهم رسلا و أنبياء، و لا ينبغي أن يكون في الزمان حقبة تسمّى «الفترة» لأنّ أولاد الأنبياء لم يفارقوا الساحة قطّ

ص: 327


1- النمل: 16.
2- الأنبياء: 78.

و ربّ الكعبة، و كانوا يعيشون بين الناس، و هكذا لو كان للنبيّ أولاد فإنّهم يكونون جميعا أنبياء و كذلك الزهراء و أولادهم عليهم السّلام.

بدعة أخرى: أو عز إلى خالد في صلاة الصبح أنّه إذا بلغنا السلام أقتل عليّا، ثمّ ندم على ذلك و قال في نفسه: لعلّه يعجز عن قتله و ينكشف الأمر و تقع الفتنة التي لا يمكن تداركها، و كانوا قد اتّعدوا على قتله بعد السلام، فقال أبو بكر قبل أن يسلّم: لا تفعلنّ خالد ما أمرتك، و قال أتباعه: إنّه سلّم أوّلا سرّا، و هذا قدح في صلاة الجماعة أن تكون سلامين. و قال قوم منهم: لم يكن الأمر كذلك، و الحاصل أنّه لم يرد بهذه البدعة لا حديث موضوع و لا صحيح، و الإجماع حاصل بأنّه من فعل أبي بكر.

و نحن أيّها الشيعة نقول إنّها بدعة لا أصل لها في الشرع بل هي أكاذيب مفتراة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بري ء منها.

بدعة أخرى: كان رزق أبي بكر كلّ يوم من بيت المال ثلاثة دراهم، فإن كانت من الخمس فهي لأهل البيت لا لأبي بكر و عمر، و إن كانت من الزكاة فإنّ أصناف المستحقّين لها ظاهرة بيّنة، و ليس أبو بكر واحدا منهم.

فلو قال الخصم: إنّه من العاملين عليها فقد كذب، إذ أنّ ذلك لو ثبت له فقط بطلت خلافته. ثمّ إنّ العامل نائب للخليفة و مأمون من جهته، و اتحاد النائب و المنوب عنه في شخص محال.

و إذا كان هذا المال مال المصالحة و يقال له الجزية التي تؤخذ من الكتابي كاليهودي و النصراني و المجوسي الذين يعيشون بين المسلمين، و يشكّلون جزءا من

ص: 328

مجموع السكّان المتمازج فإنّ أبا بكر لا يستحقّ هذا أيضا، لأنّ اللّه سبحانه أباح الجزية لأهل مكّة لأنّ لهم علاقات تجاريّة مع المشركين، فلمّا حرّم عليهم الدخول إلى المسجد الحرام حيث قال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1).

و رأى الشيعة أنّ اللّه وهبهم هذا المال تفضّلا منه لأنّه حرّم على عملائهم دخول المسجد الحرام إلّا أنّ أهل الخلاف يقولون: حكم هذا المال حكم مال الصدقة و مستحقّه مستحقّه، و نحن أيّها الشيعة لا نطلق عليه لفظ الصدقة ليمتاز ما يؤخذ من المسلمين عمّا يؤخذ من غيرهم، و لكن أبا بكر لم يكن من مستحقّيه، و ميراث من لا وارث له و أمثاله هو حقّ للفقراء و المساكين في العالم فكيف يحلّ للخليفة قضمه و يظلّ الفقراء يعانون من مسّ الحاجة في شرق الأرض و غربها؟!

و إذا كان هذا المال جزءا من أموال الغنام فإنّ أبا بكر لم يكن من ضمن الغزاة ليستحقّ مال الغنيمة فكيف استحقّ الأجر من غير عمل؟!

و لئن قالوا: إنّه استحقّ المال لسعيه في أمور الدين و لأنّه خليفة الزمان من ثمّ أذن له في تناوله.

فإنّنا نقول: لم يأت نصّ من القرآن و لا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدلّان على أنّ للخليفة حقّا في هذا المال، بناءا على هذا يكون لأجير الإسلام لا للخليفة، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص العامل بها شيئا من ثوابه، و من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص العامل بها شيئا.

و بناءا على هذا فكلّ من سار على منوال أبي بكر و فرض لنفسه فرضا من بيت

ص: 329


1- التوبة: 28.

المال من الخلفاء و غيرهم فإنّ وزرهم على أبي بكر لأنّه المبتدع الأوّل لهذه السنّة إلى يوم القيامة. و كيف يحلّ له و لغيره أكل مال المسلمين و فقراء الدنيا بغير إذنهم، و قد قال اللّه تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (1) و قال: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (2).

و لمّا استتب للقوم الأمر عقدوا اجتماعا بينهم شمل الأطراف التي اغتصبت الحقّ، و تشاوروا فيما بينهم، و قالوا: ما كنّا نظنّ بأنّ الأمر يتمّ لنا على هذه السرعة، و ينحى عليّ منه، و اليوم لم تبق معه إلّا حجّة القرآن الذي يحمله بيده و هو عالم بتأويله فينبغي علينا أن نختطّ لنا خطّة نحجبه عن العمل بالقرآن أو الاحتجاج به، فنادى مناديهم: من كان معه شي ء من القرآن فليأت به و معه شاهدان على عدم تحريفه أو إضافته و تغييره.

و العجب من هؤلاء الجاهلين كأنّهم لم يسمعوا قوله تعالى: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ (3)، و بناءا على هذا فكيف يستطيعون محو الآية: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (4).

و الأعجب من هذا كلّه اثباتهم قرآنيّة القرآن بالشاهد و اليمين، فإذا كانوا على جهل بتنزيله فكيف يمكنهم العمل بتأويله؟

و أعجب من هذا كلّه القوم الذين يتّبعونهم و يقتدون بهم و يتّخذونهم أئمّة و هم الجاهلون و ينحّون أمير المؤمنين عليه السّلام عن منصبه و هو عالم بالتنزيل و التأويل.

ص: 330


1- البقرة: 188.
2- المائدة: 44.
3- الإسراء: 88.
4- الحجر: 9.

بدعة أخرى: لقد أمّر رسول اللّه عليهم أسامة بن زيد في مرضه الذي توفّي فيه و استبقى أمير المؤمنين معه؛ لأنّك الوصيّ من بعدي و يلزمك حضوري ساعة وفاتي، و خرج أسامة بن زيد من المدينة و عسكر بالجرف للذهاب إلى موقع في الشام من أرض فلسطين، و كان النبيّ في كلّ يوم مرارا و تكرارا يحثّ على تجهيز جيش أسامة، فامتنع أبو بكر و عمر عن الذهاب معه و يقولون: إن مات محمّد ذهبت الفرصة من أيدينا و أفلسنا من الخلافة إلى أن حملوا النبيّ على أن يقول: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة.

و لمّا قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بايعه الناس أرسل إلى أسامة: إنّ الناس بايعوني، و أنا بحاجة إلى معاضدة عمر، فأذن له أن يبقى إلى جانبي، فأجابه أسامة على يد رسوله: العجب أنّه من رعاياي بأمر اللّه و رسوله و تأمّر بغير إذني، ثمّ هاهو ذا يطلب غيري، و أرسل إليه: إن كنت مؤمنا برسول اللّه فقم أنت و عمر و ائتيا إليّ بحكم رسول اللّه، و بقي هذا الجذب و الشدّ بينهما حتّى استطاع إقناع أسامة بالمكر و الحيلة و دفع الرشاوى ... (1).

و إنّهما تأخّرا عن جيش أسامة خلافا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (2) و قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ

ص: 331


1- أقول: يحول بيني و بين أسامة قول الإمام الصادق عليه السّلام: لا تقولوا إلّا خيرا، فأنا ملجم بهذا اللجام الذي يصعب عليّ تخطّيه مع علمي بما فعل أسامة و ما قال، و علمي أيضا بانحرافه عن أمير المؤمنين، أسأل اللّه أن يجزاه على ما نوى، و ما ذكره المؤلّف من قول أسامة للعينين لم يروه غيره و لم أقع عليه أو على ما يثبته في كتاب آخر، و أنا أقسم باللّه إنّ أسامة أقلّ من أن يقول لهما ذلك لأنّهم خدعوه بتسميته أميرا و انطلت على المسكين الحيلة.
2- النساء: 80.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً (1)، وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (2) و أمر الرسول واحد في حال حياته و موته، و يكفر من خالفه، و هذا دليل واضح على كونهما رعيّة و ليسا إمامين.

بدعة أخرى: لمّا دنى من أبي بكر أجله أراد أن يخفّف عنه ذنوبه فاستدعى عمر و عهد بالخلافة إليه و حمل الناس بالإكراه على البيعة له، و تخطّى نصيحة خيار الصحابة الذين قالوا له: تجنّب هذا الظلم لأنّك تحكّمت في المسلمين بدون حقّ فلا تجعل بعدك آخر تستخلفه، لأنّ ظرفك هذا الحرج هو ظرف توبة و استغفار، فلم يسمع نصيحة أحد منهم، قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (3).

بدعة أخرى: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اختار له من بقاع العالم بقعة صيّرها بيتا له خاصّا فعمدوا إليه و جعلوه مقبرة لهم لأنّهم أرادوا أن لا ينقطع إيذائهم له حيّا و ميّتا، فيؤذون النبيّ ميّتا كما آذوه حيّا. فإن كانا استحقّا الدفن بإرث ابنتيهما فإنّ لهما التسع من الثمن و الباقي غصب و ظلم، و إن استحقّا بالصدقة فإنّ المسلمين سواء فيه إلى يوم القيامة، فإن أبى مسلم واحد فلا يحلّ لهما الدفن هناك إلّا بأن يسحبا من أقدامهما و يقذفا في العراء: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (4) فلا يحلّ لهما الدخول في حياة النبيّ إلّا بإذن فهل أذن لهما بعد موته لست أدري؟

ص: 332


1- الجنّ: 23.
2- النساء: 93.
3- الأعراف: 179.
4- الأحزاب: 53.

و عندنا حديث مشهور: من غصب بقعة من الأرض جعلت يوم القيامة من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا طوقا في عنقه إلى أن يفرغ اللّه من حساب الخلق ثمّ يجعلها معه في النار (1).

إلى غير ذلك من البدع التي أحدثاها في حياتهما و حسّنها الأتباع و الأشياع و ساروا في نهجها ليتحمّلا تبعة ذلك و يكون عليهما إثمها و إثم من عمل بها. و هم قد اتفقوا على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: كلّ محدثة بدعة (2)، و كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة في النار (3).

و لست أدري أين يتوجّه بالتابع و المتبوع غدا يوم القيامة احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (4).

بدعة أخرى: ابتدع أبو بكر في خلافته غسل الرجلين و مسح الأذنين و الرأس، و قال ذلك

ص: 333


1- سبل السلام 3: 70 و تختلف ألفاظ السياق بعض الاختلاف، و قال ابن حجر: متفق عليه؛ مسند أبي يعلى 2: 90؛ كتاب العين 5: 194؛ مسند أحمد 2: 432؛ صحيح مسلم 5: 58؛ المستدرك 4: 296؛ سنن البيهقي الكبرى 6: 98؛ مجمع الزوائد 4: 179؛ تاريخ مدينة دمشق 21: 85؛ تهذيب الكمال للمزي 10: 452؛ البداية و النهاية 1: 21؛ إعانة الطالبين للبكري الدمياطي 4: 321؛ نيل الأوطار 6: 63.
2- المبسوط للسرخسي 1: 138؛ بدايع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 1: 150 و 5: 127؛ فقه السنّة للسيّد سابق 1: 564.
3- التغنّي بالقرآن للبيب سعد: 43، ط الهيئة العامّة للتأليف و النشر، 1970 م؛ أحكام الجنائز للألباني: 4، ط المكتب الإسلامي، الرابعة 1406، و ص 18 أيضا؛ مسند أحمد 1: 371 الاقتصار على الجزء الأوّل من الحديث، و 4: 126 الاقتصار على جزئين، و ص 127؛ سنن الدارمي 1: 45؛ سنن ابن ماجة 1: 18؛ سنن أبي داود 2: 393؛ المستدرك 1: 97؛ السنن الكبرى 3: 214، و كتب أخرى كثيرة يطول تعدادها.
4- الصافّات: 22 و 23.

أوّل ممّا عهد فبدّل حكم القرآن و السنّة، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا صلاة إلّا بوضوء» (1)، و قال صلّى اللّه عليه و آله: بين الكفر و الإيمان ترك الصلاة؛ فمن لا صلاة له فهو كافر (2)؛ و بما أنّ وضوء الشيخ مخالف لما يريده اللّه فلا بدّ من بطلان صلاته.

و هو الذي وضع بدعة المسح على الخفّين، و هو غدا يحشر مع البهائم لأنّ اللّه تعالى أمر بمسح الرجلين، و يوم يوقف الناس للعرض و يعطى ثواب الوضوء لفاعله يكون الحيوان المسكين شريكا للسنّي في ثوابه لأنّه شاركه في العبادة بما جرى على جلده من المسح للوضوء ...

و العجب من أمر هذه الطائفة التي تترك قول الخالق لقول المخلوق، و تقتدي به و هو بشر معرض للخطأ و الجهل، و قد سجد للصنم ستّا و أربعين عاما من عمره، و اليوم بعد إيمانه اشتغل بتكذيب اللّه و رسوله، و صدق اللّه حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (3).

بدعة أخرى: تذرّع أبو بكر و أتباعه بذريعة للتقليل من شأن الصلاة و ذلك بادّعائهم أنّ الناس تركوا الغزو و أقبلوا على الصلاة فينبغي صرفهم عن ذلك، و قالوا: الصلاة خير العمل، فإذا ارتفع صوت المؤذّن بذلك فإنّهم يعرضون عن كلّ شي ء إلّا عن الصلاة، فعمدوا إلى حذف هذا الفصل من الأذان و وضعوا مكانه في صلاة الفجر:

الصلاة خير من النوم، و قال النبيّ: الصلاة خير الأعمال، و هم قالوا: هي خير من

ص: 334


1- تلخيص الحبير 1: 390؛ بدايع الصنايع 1: 33؛ المحلى لابن حزم 2: 115 و 7: 356.
2- سنن الترمذي 4: 125؛ الحدائق الناضرة للبحراني 6: 15؛ منهاج الصالحين لمحمّد سعيد الحكيم: 155؛ ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 231؛ وسائل الشيعة 3: 29؛ الفصول المهمّة في أصول الأئمّة 2: 65؛ بحار الأنوار 79: 217.
3- التوبة: 31.

النوم، و اليقين حاصل أنّ الكذب منهم و هم أولى به، و كان غرضهم من ذلك تخريب الدين و إحياء سنن الجاهليّة.

بدعة أخرى: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تبدأ الصلاة بالتكبير و تنتهي بالتسليم، فأبطلوا ذلك بالحيلة فقدّموا السلام على التشهّد، فيقولون هكذا: التحيّات و الصلاة و الطيّبات، السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّه و بركاته، السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، فإذا بطل السلام بطلت الصلاة فيكون قد صلّى بدون ذكر الشهادتين، و أجمعت الأمّة على أنّ الصلاة لا تتمّ إلّا بالتشهّد، من ثمّ تكون صلاتهم باطلة.

و كذلك زيادتهم آمين بعد الفاتحة لكي يتخلّل الصلاة كلام أجنبيّ مبطل لها، و لا بدّ من نطق الأتباع بها لأنّهم الضالّون الطالبون الهداية من اللّه بقول «آمين» لكن شيعة عليّ على الصراط المستقيم بمحبّته و تنزيه اللّه و توحيده و بالعدل و النبوّة و الإمامة بالأدلّة الناصعة و البراهين القاطعة فهم المهتدون و لا حاجة لهم بقول آمين، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نحن أهل بيت لا يضلّ من تمسّك بنا.

بدعة أخرى: التكفير أي وضع اليد على اليد الأخرى، و استدلّوا بهذه الآية: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (1) و لم يعلموا أنّه مأخوذ من القنوت و التواضع و هو يحصل بغير فعل التكفير، و هذا فعل اليهود الذين يضعون الأيدي على الأيدي على الأيدي ساعة الصلاة.

سأل عمر رسول اللّه ذات يوم فقال: يا رسول اللّه، إنّ لليهود أشياء جيّدة منها

ص: 335


1- البقرة: 238.

وضع اليد على الأخرى، فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاطب عمر قائلا: ألا تعلم لو كان موسى و عيسى حيّين ما وسعهما إلّا اتّباعي (1).

و لمّا آلت الدولة إلى عمر أحيا سنن اليهود و منها التكفير.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تبركوا في الصلاة كبرك البعير، و لا تنقروا كنقر الديك، و لا تقعوا كإقعاء الكلب، و لا تلتفتوا كالتفات القرد (2). و معنى ذلك الابتداء بوضع اليد على الأرض دون التسرّع في الركوع و السجود، و لا تقعوا كإقعاء الكلب في التشهّد و لا تميلوا على الجانب الأيسر كالقرد، و لا يكن نظركم كنظر القرد يمينا و شمالا ساعة الصلاة.

و وضعوا أمثال هذه البدع لتضيع الحقيقة على طالبها، و لا يحصل العلم بها لمن يبتغيه، و بها يحيون سنن الجاهليّة، و لم يكن باستطاعة الصحابة اعتراضهم بل منهم من مال وراقه زبرج الدنيا، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما من أهله، جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه قد ألجم بلجام من النار.

بدعة أخرى: الصلاة عند غياب القرص و الإفطار من الصوم كذلك، و اعلم بأنّ المغرب لا يحلّ إلّا إذا غابت الشمس في تلك العين الحمأة أي الحارّة و تظهر النجوم و تتلألأ في صفحة السماء و حينئذ على المكلّف أداء فرض الصلاة، ثمّ يتناول إفطاره، و من لم يفعل ذلك فقد أفسد صلاته و صومه، و السبب أولئك الذين وضعوا هذه البدعة فأفسدوا بذلك صلاة المسلمين و صيامهم، و حملوهم على ذلك قبل دخول الوقت ردّا على اللّه و رسوله و إظهارا للسنة الباطلة.

ص: 336


1- تفسير ابن كثير 3: 105، و لم يذكر عن عمر شيئا.
2- بحار الأنوار 30: 361.

بدعة أخرى: قسّم أبو بكر الصدقات في خلافته كما كان يقسّمها رسول اللّه على الأصناف الثمانية بالسواء، فلمّا استخلف عمر فضّل بعضا على بعض، و قال: أرى من الأحسن تفضيل المهاجرين من قريش على المهاجرين من غيرهم، و أفضّل المهاجرين على الأعراب، و الأعراب على العجم، و الناس رضوا بذلك تبعا للمصلحة، و لم يكن العجم يومذاك جميعا مسلمين، فلمّا أسلموا لم يستطيعوا دفع هذا الحيف عنهم، و استقرّت الحالة على ما فعله ابن الخطّاب، فكان العرب و العجم يأكلون المال الحرام بسبب ذلك.

بدعة أخرى: قال عمر: إنّ رأيي أن أسقط الصدقات و أضع مكانها الخراج على الأرض، ثمّ أمر بمسح العراق و وضع على كلّ جريب درهما، و على كلّ قفيز جملة مقدرة من نتاجه جريا على ما كان عليه ملوك الفرس في الجاهليّة. و وضع على كلّ جريب في مصر دينارا و أردبا من الحبوب كما كان في الجاهليّة زمن فرعون، و قد منع رسول اللّه من الاستنان بسنن الجاهليّة و برئ من الفاعل، و كان عمر يظهر اتّباع السنّة و تطبيق الإسلام و الشريعة حتّى قال: منفعة العراق دراهمها و قفيزها، و منفعة المصر دينارها و أردبها.

فتبيّن من هذا أنّ عمر ردّ صدقات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حديثه برأيه و أحيا سنن الجاهليّة، و صار العالم كلّة يقضم الحرام قضما، و ذنب هذا كلّه في عنق عمر إلى يوم القيامة، و بطلت سنّة الزكاة في الدنيا.

بدعة عثمان: و لمّا آلت الخلافة إليه و عطفت الدنيا عليه رأى بيت المال و كانت أموال الدنيا

ص: 337

تصبّ فيها ممّا يحوشه له أعوانه و أصحابه من غصب أموال المسلمين بالقهر و الغلبة، فجمعوها عنده و خوّلوها إلى ذهب من الدنانير الوفيرة و بائوا بإثم الظلم و التعدّي، و قد قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (1) و قال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (2).

و لمّا خطفت بصره الدنانير الكثيرة في بيت المال أطلق فيها يده و أنفقها بجملتها على بني أميّة و بني الأعمام و بني الأخوال و الأقرباء، فمكّنهم و قوّاهم بما أعطاهم، و حرم السواد الأعظم من المسلمين من القوت، فانطلقت الألسن بذمّه و ثلبه، فلم يعبأ بذلك و استظهر ببني أميّة، و اتّخذ لنفسه و أسرته حياة الجبابرة من الأكاسرة و الفراعنة، و بذخ بذخهم، فاتّخذ الرقيق من الترك و الروم و الخطا، فاشتراهم من هذه الأموال، و اشترى الخيل و البغال و زينتها، و راح يعدّ العدّة لمديدة و تعدّيه و تغلّبه على الناس.

فأرسل مماليكه إلى نواحي العراق و الحجاز ليجوسوا خلال الديار لكي يحملوا له المراعي و الجبال و الأرض الزراعيّة و يرسموها لديوانه و يوقفوها عليه و على بطانته حتّى ضاقت الأرض على ساكنها، و نادى مناديه: من أراد أن يعلف دابّته في أرض فليأت و ليشتر المرعى منّي، فأقبل الناس لشدّة احتياجهم طوعا أو كرها إلى عثمان و يبتاعون الدغل الذي أنبته اللّه للناس و جعلهم فيه شرعا منه.

و مثله فعل عمر الذي أبطل الزكاة و كان يأخذ المال حيث لم يجب و يتركه حيث وجب، لأنّه كان يأخذه بناءا على طريقة مسح الأرض، و لا تؤدّى هذه الطريقة إلّا إلى ذلك.

ص: 338


1- الطلاق: 1.
2- المدّثّر: 38.

بدعة أخرى: استأجر عمر قوما للجهاد لأنّ الناس ضاقت بالحرب ذرعا فأخذت تهرب منها، و أقبلوا على الزراعة، و طلب المعاش ما عدا جماعة منهم آثروا الجهاد و هؤلاء أيضا يجاهدون بثمن، فحرموا من ثواب الجهاد، و كذلك استأجر قوما لتعليم حديث الإسلام و أمور الدين، و ينفق عليهم من أموال الزكاة، و هو لا يعلم أنّ الزكاة واجبة و تعليم الجاهل واجب على العلماء، فإذا أخذوا الأجر على ذلك بطل ثوابهم.

قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (1).

و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما من أهله جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه قد ألجم بلجام من نار (3).

ص: 339


1- البقرة: 159.
2- البقرة: 174.
3- تحرير الأحكام للعلّامة الحلّي 1: 3 و 24؛ الرسالة السعديّة للحلّي: 6؛ السراج الوهّاج للقطيفي: 21؛ زبدة البيان للمحقّق الأردبيلي: 206؛ التحفة السنيّة (مخطوط) للسيّد عبد اللّه الجزائري: 11 و 334؛ الحداق الناضرة 1: 161؛ كشف القناع 6: 282؛ بصائر الدرجات: 30؛ مستدرك الوسائل 17: 275؛ منية المريد للشهيد الثاني: 136؛ بحار الأنوار 2: 70 و 105: 15؛ مسند أحمد 2: 449 و 508؛ سنن ابن ماجة 1: 97؛ المستدرك 1: 102؛ النووي شرح مسلم 3: 111؛ مجمع الزوائد 1: 163؛ كتاب العلم لأبي خيثمة: 33؛ المصنّف 6: 232؛ صحيح ابن حبّان 1: 297 ز 298؛ المعجم الأوسط 5: 108.

و عند العلماء تعليم معالم الدين و فرائض العلماء من الواجبات، و يستحقّ الذمّ بتركه، و كيف يعطى الأجر على فعل الواجب؟!

بدعة أخرى: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحكم بن العاص و نفاه من المدينة، و كذلك أبو بكر و عمر، فلمّا جاءت النوبة إلى عثمان ردّه خلافا لرسول اللّه، و خوّله ديوان الخلافة، و بالغ في إعزازه و إكرامه، قال اللّه تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (1) ولو آمن عثمان بهذه الآية لما ردّ طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما شرّفه و لم يجعله منشئ أهل الإسلام و أمينهم.

بدعة أخرى: و لمّا استتب له الأمر نادى مناديه يطلب المصحف الذي عند الناس و من أبى ألجئه على دفعه، و طلب مصحف عبد اللّه بن مسعود فلم يعطه إيّاه فأقبل بنفسه إلى بيته و عذّبه و كسر خاصرتيه و عانى ابن مسعود من هذا الضرب حتّى مات متأثّرا بجراحه، و أخذ المصحف منه قهرا، و وضع المصاحف التي جمعها في المغاسل و أجرى عليها الماء أو أحرق جلّها حتّى مصحف ابن مسعود، ثمّ أمر مروان بن الحكم و زياد بن نمرة كاتبه أن يستنسخوا له نسخة من القرآن، و اعتمد على هذين الفاسقين و كتب بخطّه مصحفا على ما كتباه و أمر زيد بن ثابت أن يقرأه، و أمر الناس بأخذ مصاحفهم من قرائة زيد و عبد اللّه بن مسعود و أصحابه لم يقبل حكمهم، و تصرّف بالمصحف كيفما شاء، و ما بأيدي الناس اليوم إنّما هو بقيّة من مصحف ابن مسعود، و عصى اللّه بما فعل من غسله باقي المصاحف و إحراقها، فما

ص: 340


1- المجادلة: 22.

حال من أحرق كتاب اللّه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (1) و منع الناس من معرفة ما في تلك المصاحف.

و كذلك فعل بعمّار حين خاطبه و هو على المنبر، فقال: لا يحقّ لك أن تفعل هذا، فنزل عن المنبر و أمر بضربه حتّى قيل: مات عمّار، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عمّار مع الحقّ و الحقّ معه يدور حيثما دار، فإذا افترق الناس يمينا و شمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمّار فاتبعوه فإنّه يدور مع الحقّ (2).

و حينئذ لا يكون ضرب رجل كعمّار بصفاته التي تقدّمت إلّا الفسق و الفجور و الظلم و معصية اللّه و رسوله، و كذلك فعل بأبي ذر فقد نفاه من حرم اللّه لأنّه يقول الحقّ و ينطق بالصدق، و كان عثمان يكره ذلك، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (3).

و كذلك أخبر اللّه تعالى رسوله بأنّه يحبّ أربعة من أصحابه: علي و سلمان و المقداد و أبو ذر، و العجب من عثمان حيث يخرج من حرم الرسول حبيب اللّه.

و كبس العيد في عرفة و خطب خطبة العيد يوم عرفة، فأفسد على الناس حجّهم و أضحياتهم و صلاتهم في العيد، و انتهج المسلمون بعد ذلك نهج عثمان و تولّى كبر هذه البدعة و بقيت عالقة به إلى يوم القيامة.

ص: 341


1- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 9.
2- علل الشرائع 1: 223؛ وسائل الشيعة 20: 276؛ بحار الأنوار 44: 35؛ خلاصة عبقات الأنوار 3: 61؛ الغدير 1: 331 و 8: 343 و 9: 25 و 259 و 10: 312؛ نهج السعادة 2: 239؛ كنز العمّال 13: 539 رقم 37411؛ الطبقات 3: 262؛ تاريخ مدينة دمشق 43: 476؛ موسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي 1: 623، و المصادر هذه خالفت سياق المؤلّف و كأنّه أدرج حديثيني في واحد.
3- مسند أحمد بن حنبل 5: 197؛ المستدرك 3: 342 و 4: 344 و 480؛ فتح الملك العلي لأحمد بن الصدّيق المغربي: 157؛ تفسير القرطبي 1: 36؛ التاريخ الكبير للبخاري 9: 23؛ تذكرة الحفّاظ للذهبي 1: 18؛ المناقب للخوارزمي: 84.

و أمر عليّا عليه السّلام أن يحجّ في الناس في العام التالي، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: الخير أن ترسلني لأن أحجّ بحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أحجّ بحجّك، لذلك عزب عن بعث أمير المؤمنين عليه السّلام في الحجّ و بعث غيره.

و من جملة هذه البدع ما جرى على عمر بعد طعنه و انتشر الخبر في المدينة أنّ علجا قتل عمر فبلغت أبنائه (عبد اللّه بن عمر- المؤلّف) عبيد اللّه بن عمر و قال: لا يعدو هذا العلج الهرمزان، و صال عليه فقتله بريئا لا ذنب له في قتل عمر، و لم يرض عمر بقتله، و قال: لا يرضى عليّ منّا إلّا بالقصاص للهرمزان لأنّه مولاه، فإذا أنا عوفيت فإنّي أدفع ابني عبيد اللّه إليه ليفعل فيه ما شاء، و لكنّه مات، فأرسل عليّ إلى عثمان بالقصاص للهرمزان من عبيد اللّه، فأبى عثمان و قال: قتل عمر أمس و أقتل ابنه اليوم لتستأصل شأفه آل الخطّاب، فأجابه أمير المؤمنين: الحكم حكم القرآن و الأمر للّه و لرسوله، فلم يعبأ عثمان بذلك و أصرّ على مخالفة القرآن و ردّ أحكامه، فلجأ عبيد اللّه إلى عثمان، و لمّا قتل عثمان فرّ إلى معاوية، و حضر معه حرب صفّين إلى أن قتل هناك.

بدعة أخرى: و لمّا آلت الخلافة إلى عمر أدخل الظلم على أهل البيت، و نهب بيت المال و غيّر مجرى الصدقات و الأخماس، فضجر الناس منه و ارتفعت أصواتهم بالتظلّم منه، حتّى خاف على نفسه، فكان لا يخرج ليلا من بيته مطلقا، و عجز عن بلوغ المسجد حتّى أحدث نفقا في الأرض يفضي به إلى المسجد، فكمن له أبو لؤلؤة في ذلك النفق حتّى طعنه في بطنه و قتله.

و لمّا ظهرت المظالم من عثمان خاف على نفسه فافترى على النبيّ حديثا و هو قوله: نوّروا في الفجر فإنّه أعظم الأجر، و حرف صلاة الصبح عن موضعها من

ص: 342

الوقت حتّى يذهب إلى المسجد و الضوء قد انتشر، و قد ذهب الخوف عنه.

و أمّا سبب قتل عثمان فإنّه استعمل على مصر عاملا شديد الوطأة كثير الظلم و التعدّي، فتظلّم الناس منه إلى عثمان كثيرا فأعطى عثمان محمّدا بن أبي بكر كتابا و أمره أن يمشي بالصلح بين الناس و عامله، فذهب محمّد حتّى إذا دنى من مصر رأى راكبا يسرع به قلوصه و غادرهم مسرعا، فقال لمحمّد رفيقه: إنّ الراكب قادم من العراق و ذاهب إلى مصر بسرعة، فارتاب فيه محمّد و أرسل ورائه فلمّا مثل بين يديه و فتّشوه و إذا هو مولى لعثمان يحمل كتابا إلى الوالي، فأنكر أوّلا ثمّ فتّشوه و أخرجوا منه الكتاب فإذا فيه الأمر بقتل محمّد بن أبي بكر، فأخذوه و عادوا إلى المدينة، و حدّثوا الناس بحديث الغلام و الكتاب، فاستنكروا هذا الفعل و أقبلوا على عثمان و قالوا: ما تقول في هذا؟ فقال: الغلام غلامي، و الجمل جملي، و المهر مهري، و الخطّ ليس خطّي بل خطّ مروان، فقال المهاجرون و الأنصار: ادفع إلينا مروان حتّى نقتله، فقال: هيهات لن أفعل ذلك، فأجمع الأصحاب على قتل عثمان فقتلوه و فيهم أهل الحلّ و العقد.

بدعة أخرى: كانت رقيّة و زينب زوجتي عثمان ليستا ابنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خديجة بل ابنتي أبي هند و هو رجل من بني تميم تزوّج هالة أخت خديجة فأولدها هندا، و ولدت منه أيضا رقيّة و زينب، ثمّ مات عنها و كانت حاملا بهند فولدته بعد موت أبيه، و كانت هالة معدمة و لها هؤلاء الأيتام الثلاثة، فعمدت خديجة فصيّرتهم إليها لإعاشتهم، و لم تكن قد تزوّجت من قبل بل كانت بكرا، فلمّا رغب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالزواج منها فكانت هالة الواسطة بينها و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى رضيت خديجة بزواجها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 343

فلمّا تمّ عقد رسول اللّه عليها توفّيت هالة و عهدت بأيتامها إلى خديجة، فبالغت خديجة في برّهم و إيوائهم، و فعل رسول مثل فعلها و أوصى بهم خديجة و أمرها أن تلطف بهم غاية اللطف ليتمهم، كما كان يفعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا في بيت خديجة بالمنزلة الخصّيصة و المقام الرفيع حتّى قالت قريش: هؤلاء أبناء خديجة، و نسبهم البعض إلى رسول اللّه بناءا على سنّة قريش و هي سنة جاهليّة من إلحاق اليتيم بمتبنّيه، كما كانوا يقولون للعبيد موالي جمع مولى، لأنّ المولى يطلق على الولد و الأب و السيّد و العبد و ابن العمّ و هكذا دواليك.

فزوّج رسول اللّه زينب من أبي العاص بن الربيع، و رقيّة من عتبة بن أبي لهب (1)، فلمّا بعث بالنبوّة استدعت صناديد قريش عتبة بن أبي لهب و أمروه

ص: 344


1- انساق المؤلّف وراء صاحب الاستغاثة الذي ابتدع القول بنفي السيّدتين من بنوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يسبقه أحد من أهل الإسلام من قبله و لا من بعده، و صاحب الاستغاثة لا يوثق به مطلقا لارتفاعه أوّلا، و لدعوته- بكسر الدال- أي ادّعائه النسب العلوي و هو ادّعاء مردود صرّح بذلك كبار علماء الرجال و منهم النجاشي و هو مخمس، قال ذلك في ترجمته المقدّس الأردبيلي رحمه اللّه ثمّ لعن المخمّسة بعد أن نصّ على نسبته إليهم فتناولته اللعنة معهم، و كان جعفر مرتضى العاملي قد طبع كتيّبا لتأييد هذه الفرية فرددت عليه في فصل مسهب من كتابي «فاطمة عليها السّلام» و لا أريد هنا أن أعيد ذلك الجدال الذي يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث يصعب عليه أن ينفى عنه فلذات كبده و يصنع لهما أب من بني تميم. و من الحجج التي تنفي قول هؤلاء أنّه لو صحّ ما ادّعوه لكان رسول اللّه قد زوّج زينب من أخيها العاص لأنّه ابن هالة أيضا بإجماع المؤرّخين و منهم صاحب الاستغاثة، فكيف يسوغ هذا القول لمسلم؟! ثمّ إنّي رأيت المؤلّف يخبط خبط عشواء في التاريخ و كأنّه يكتب من الذاكرة و هي قد تخون صاحبها حيث زعم هنا أنّ هالة توسّطت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند خديجة حتّى رضيت به، و الإجماع حاصل من الأمّة كلّها أنّ خديجة عليها السّلام هي التي تقدّمت للنبيّ بطلب الزواج لا العكس، إنّما الأمويّون كانوا يشيعون بين الناس أنّ النبيّ لم ترض قريش بمصاهرته ليتمه و قلّة ذات يده، و هناك أمور أخرى يبطنونها لعنهم اللّه فجاء المؤلّف بحسن نيّته أو بجهله فاتّبع هذا القول المنافي للواقع.

بفراق رقيّة و كان لم يدخل بها بعد، و أطمعوه بمن يختاره من بنات قريش، فأطاعهم و طلّقها، و طلبوا ذلك من أبي العاص فأباه و قال: لا أفعل، لم أر من صاحبتي إلّا الخير، و دعا رسول اللّه على عتبة بقوله: اللهمّ سلّط على عتبة كلبا من كلابك و العنه، فخاف أبو لهب على ولده لمّا بلغه الدعاء، و قال: أخاف أن تلحقه اللعنة.

و كانت عادة قريش إذا أخرجت عيرها إلى الشام أن تقرع بين رجال القافلة فمن خرجت القرعة باسمه يولّى عليها و يجعل أمير الركب، فخرجت القرعة ذلك العام باسم عتبة، فقال أبو لهب: أخشى عليه الأسد لكثرتها في طريق الشام من دعاء محمّد عليه، فجاء إليه أهل القافلة و ضمنوا له عتبة، فامتنع أبو لهب من قبول ذلك حتّى قالوا له: لا نفارقه في نوم و لا يقظة بل نجعله بيننا حللنا أو ارتحلنا، فإذا نمنا وضعناه بيننا و أحطناه بالرحال و الحمال، و نقوم على حراسته واحدا إثر الآخر، فرضي أبو لهب بهذا الشرط، فلمّا بلغوا أحد المواضع جاء أسد و تخطّى الجمال، و حمل على عتبة فلو عنقه و كسرها ثمّ أكله، فلمّا بلغت أنباء الواقعة أبا لهب تألّم ألما شديدا و بالغ في إدخال الأذى على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا زوج أبي العاص زينب، فقد أسر زوجها أبو العاص في بدر و كان المكّيّون يرسلونا إلى أسراهم ألف درهم لكلّ أسير من الذهب و غيره من المتاع، و افتدوا أسراهم و كانت زينب قد أسلمت و أخفت إسلامها، فأخذت تجيل الفكر في مكّة و خافت أن ترسل في فدائه فتتّهم بالردّة عن الإسلام (1) أو لا ترسل الفداء فتتّهمها

ص: 345


1- لم تكن عبارة المصنّف هكذا بل العبارة كما يلي: فتراجعت عن إرسال الفداء خشية أن يقول محمّد (هكذا باسمه صلّى اللّه عليه و آله) ارتدّت عن ديني، و هي عبارة قاسية وحشيّة و غير مؤدّبة.

قريش بالإسلام، و أخيرا قالت: يسهل القدر مع محمّد (هكذا يصرّح باسم النبيّ و لم ينعته بالرسالة و لا وصفه بأنّه أبوها لما صدر عنه من تكذيب ذلك اتّباعا لصاحب الاستغاثة، و هذا لعمري جفاء غير مقبول من مؤمن مثله- المترجم) فأرسلت بقلادتها التي أدخلتها بها خديجة عليها السّلام على زوجها، فعرف النبيّ العقد و قال لأبي العاص: هذا عقد خديجة أعطتك زينب إيّاه فقد أطلقتك إكراما لزينب، و أعطيتك العقد لتردّه عليها و لكن عاهدني أن تردّ زينب عليّ مع أمامة ابنتها إذا عدت إلى مكّة، فعاهده أبو العاص على ذلك (1).

و عجب الناس من وفاء أبي العاص، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علمت بأنّه سيفي لي، و هو الذي كان يأتينا بالطعام سرّا و نحن في الشعب.

و عاد أبو العاص إلى مكّة و لمّا عاد عير قريش إلى مكّة وقعت القرعة على أبي العاص، فسار في القافلة، و لكنّه قابل قوما من أهل الإسلام فأسروه في طائفة من رفاقه و ساقوهم أسرى إلى المدينة فاحتال حتّى أبلغ زينب عن أسره و طلب منها أن تشفع له عند أبيها، فحارت في أمرها، فلم تجد وسيلة إلى الشفاعة إلّا بأن

ص: 346


1- بين ما نقله المؤلّف عن فداء أبي العاص و ما نقله المؤرّخون بون شاسع جدّا، و إنّي هنا أنقل الحكاية و أترك للقاري الحكم عليه .. إنّ أبا العاص بن الربيع كان ممّن شهدا بدرا مع المشركين، فأسره عبد اللّه بن جبير بن النعمان الأنصاري، فلمّا بعث أهل مكّة في فداء أساراهم قدم في فداء أبي العاص أخو عمرو بن الربيع و بعثت معه زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله- و هي يومئذ بمكّة- بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار- و ظفار جبل باليمن- و كانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص ابن الربيع حين بنى بها، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القلادة عرفها و رقّ لها و ذكر خديجة و ترحّم عليها، و قال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردّوا إليها متاعها فعلتم، قالوا: نعم يا رسول اللّه، فأطلقوا أبا العاص بن الربيع و ردّوا على زينب قلادتها، و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أبي العاص أن يخلّي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل ... الطبقات الكبرى 8: 32؛ نصب الراية للزيلعي 4: 261؛ الاستغاثة 1: 66.

أخرجت رأسها من النافذة المطلّة على المسجد بعد فراغ النبي من صلاة الصبح و استقبلته بوجهها و قالت: يا رسول اللّه، و يا معاشر المهاجرين و الأنصار، إنّي زينب ابنة رسول اللّه، قد أجرت أبا العاص و رفاقه، فأجاز النبيّ أمانها، و قال: لا أجيز بعد اليوم جوار النساء.

فلمّا أقبل أبو العاص على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له النبيّ: يا أبا العاص، أما آن الأوان أن تقرّ بوحدانيّة اللّه و بنبوّتي، فأسلم أبو العاص و ردّ النبيّ عليه زينب بالعقد الأوّل، و لم يكن في الإسلام، و مات ولد زينب قبل البلوغ، و أدركت ابنتها أمامة البلوغ (1).

و قال أبو العاص: يا محمّد، إنّ قريشا إذا علمت بإسلامي قالت إنّما أسلمت طمعا في مالهم عندي، أفتأذن لي بالرجوع إلى مكّة فأردّ عليهم و دائعهم و بضائعهم التي معي و أنصرف إليك؟ فأذن له في ذلك، فمضى أبو العاص إلى مكّة فردّ عليهم ما كان معه، ثمّ قال: هل بقي لأحد منكم عندي شي ء؟ قالوا: لا، قال: إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رجع إلى المدينة و بقي فيها زمنا ثمّ مات، و أعطى النبيّ رقيّة إلى عثمان، فلمّا توفّيت زوّجه من زينب (2)، و كانت المرأتان تميميّتين و عثمان تميميّ أيضا (3).

و كان هند بن هالة مع أختيه، فلمّا بلغ مبلغ الرجال نشأ صالحا متديّنا و استشهد في كربلاء مع الحسين بن عليّ عليهما السّلام.

ص: 347


1- زعم صاحب الاستغاثة بأنّ لزينب ولدا و اسمه الربيع، و ابنتا و اسمها أمامة من أبي العاص. الاستغاثة 1: 66.
2- و هذا قول شاذّ لم يقل به أحد من المؤرّخين بل زوّجه النبيّ أختها أمّ كلثوم و لكن المؤلّف اتّبع أبا القاسم الكوفي الذي لا يقرّ بوجودها أصلا، راجع الاستغاثة 1: 66.
3- عثمان أمويّ و لست أدري ما يقصد بتميميّته.

و من المعلوم المحقّق أنّ أبا العاص كان مشركا فكيف يزوّج النبيّ ابنته إلى مشرك بدون عقد أو بعقد الشرك و النبيّ لم يشرك باللّه طرفة عين و لم يعبد صنما، و المسألة إجماعيّة، لأنّ من كان مشركا ثمّ أسلم لا يبعد في حقّه أن يعود إلى الشرك مرّة أخرى، فيرتدّ عن الإسلام كما قال اللّه تعالى: ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً (1)، و العصمة تحمي من الشرك و الارتداد، و من هذه الجهة نحن نثبت العصمة للنبيّ و الإمام.

و قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2)، و قال حكاية عن إبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (3)، و من هنا ثبت القول القائل بأنّ الإمام لا يمكن أن يكون مشركا.

فرحة لم يتعبّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأيّة شريعة من شرايع الأنبياء، لأنّ دين اللّه و شريعته واحدة لا تبديل لكلماته، و لن يكون هذا التبديل لا سيّما و إنّ الأنبياء جميعا من آدم إلى عيسى كانوا يدعون أممهم إلى التديّن بدين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ (4) على ملّة إبراهيم، فإنّه من باب إظهار مزيد العناية بإبراهيم عليه السّلام و تخصيصه بالفضل على من عداه و تمييزه و تفضيله، نظير قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (5)،

ص: 348


1- النساء: 137.
2- لقمان: 13.
3- البقرة: 124.
4- الأنعام: 79.
5- البقرة: 98.

و قال: لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (1).

و غرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث يقول: على ملّة إبراهيم، من أنّه من سلالته، و إنّي على الدين و الملّة التي كان جدّي عليها ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (2)، و كما كان على ملّة إبراهيم فهو على ملّة عيسى أيضا، لأنّ دين الأنبياء و ملّتهم واحدة، لكن إبراهيم خاصّة له منزلة عند جميع الطوائف و محبّة متمكّنة من القلوب، من هذه الجهة ميّزه اللّه عن الأنبياء و أفرده بالذكر.

ثمّ إنّ النبيّ و الإمام لا يجوز لهما الاختلاط بالمشرك أو تزويجه إلّا في حالة الاضطرار، فإنّ ذلك ربّما جاز.

و يقول محمّد بن عبد الرحمان بن محمّد الاصفهاني في كتابه: «التواريخ»: كانت خديجة عليها السّلام عذراء حين تزوّجها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكيف يكون لها أولاد و هي لم يمسّها بشر، و لم يحدث ذلك لبنات حوّاء إلّا لمريم عليها السّلام، فقد ولدت ولدا بإذن اللّه من دون أب.

و يقول أيضا (3): و لمّا وقع بيني و بين من نسب إلى هند من ولده مجادلات و مناظرات، فيما ينسبون إليه من خديجة و ما يجهلون من جدّتهم هالة» (4) فإنّهم

ص: 349


1- الإسراء: 55.
2- الأحقاف: 9.
3- نسب المؤلّف هذا القول إلى محمّد بن عبد الرحمان الاصفهاني بينما هو لأبي القاسم الكوفي صاحب الاستغاثة، و نحن نقلنا عبارته.
4- راجع الاستغاثة 1: 70 و ليس فيه الكلام الذي أعقب قوله هذا عند المؤلّف، و المؤلّف يضرب على وتر حسّاس من إنكار بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الثلاث فيحاول جهد الطاقة أن يرد نسبهنّ إلى النبيّ بما يستطيعه من اللفّ و الدوران، الاصفهاني هذا لم أعرفه و لم أعرف كتابه التواريخ، و لم أعرف السبب الذي جعل شيخنا المؤلّف ينسب هذا القول إليه و هو لأبي القاسم الكوفي، بل لم يجر ذكر للكوفي هنا و هو أوّل من أطلق هذا الفرية، و لم تكن عند أحد من المؤلّفين و المؤرّخين غيره.

قالوا: إنّ الحسن و الحسين أولاد أختنا، و إنّ هندا بن أبي هند المقتول بكربلاء خال الحسين بن عليّ عليهما السّلام من قبل الأمّ، فأخرجت لهم ديوان الأنساب و فيه: إنّ خديجة لم تكن قد تزوّجت قبل رسول اللّه فكانت عذراء حين بنى عليها.

و لكن العجب ممّن رضي بما يقال عن خديجة من أنّها أعرضت عمّن تقدّم لخطبتها من أشراف قريش و العرب فكيف ترضى برجل لئيم من بني تميم (1).

بيان في أنّ عثمان و بني أميّة لم يكونوا من قريش و أنّ أميّة غلام روميّ

ذكر محمّد بن عبد الرحمان بن محمّد الاصفهاني في كتاب «البديع»، قال: كان أميّة غلاما روميّا لعبد شمس شقيق هاشم عليه السّلام بن عبد مناف، فتبنّاه عبد شمس و عاش تحت رعايته، و كان أصله من الروم، كما جاء في القرآن الكريم و نصّ على ذلك:

الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ (2) أي أنّهم سوف يغلبون على سرير الملك و الخلافة ثمّ يطوح بهم الدهر و يلفظهم الزمان إلى الذلّ و النسيان، و يقهرهم و يغلبهم، و المقصود من الروم هم بنو مروان.

و كان هذا القانون سائدا في جزيرة العرب فقد جرى على زيد ما جرى على أميّة حين تبنّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كذلك الزبير بن العوام، مملوك أسد بن خويلد.

ص: 350


1- أقول: فرغت من الردّ على أصحاب هذا القول أعني المنكرين لبنوّة السيّدات الثلاث زينب و رقيّة و أمّ كلثوم في كتابي «فاطمة الزهراء دراسة و محاضرات» ببحث مسهب فارجع إليه إن شئت.
2- الروم: 1- 4.

و قصّة زيد كما يلي: فقد اشتراه رسول اللّه على غرار ما كان يفعله العرب من سوق عكاظ من مال خديجة (1) و هو حارثة الكلبي و هو من قبيلة كلب، و كان رجلا كبيرا في المقام، و لمّا اشتراه النبيّ بعث بالنبوّة فأسلم زيد فأعتقه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن استوهبه من خديجة عليها السّلام.

و لمّا بلغت أنباء زيد أباه أقبل مع جماعة من رجاله إلى مكّة و نزل على أبي طالب عليه السّلام و تشفّع به عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ردّ ولده أو بيعه عليه و أخذ ثمنه، فقام أبو طالب و معه حارثة الكلبي و جماعة من أعلام قومه، الذين صحبوه إلى مكّة، و أقبلوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فتحدّث أبو طالب بحديث حارثة و زيد ابنه و عرضه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّي حرّرت زيدا و الأمر إليه إن اختارني أو اختار أباه، فقال زيد: إنّي اخترت صحبة الرسول و خدمته و لا أفارقه ما دمت حيّا، فآلم قوله حارثة أباه، فقال: معاشر قريش، إنّي تألّمت من زيد فاشهدوا بأنّي قد خلعته فلا هو ابني و لا أنا أبوه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: معاشر قريش، اعلموا بأنّي قد تبنّيت زيدا فهو ابني، و عرف بعد ذلك اليوم بزيد بن محمّد، إلى أن طلّق زوجه و تزوّجها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليعلم الناس بأنّ زيدا ما هو بابنه على الحقيقة، و جاء في القرآن نفيه من بنوّة النبيّ، قال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ (2)، و قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) و لمّا لم يكن سبق زيد إلى الإسلام موجبا لتعلّق حقّة بالخلافة

ص: 351


1- هذا كلام من لا يدري، فإنّ زيدا اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بأربعمائة درهم. الإصابة 1: 563.
2- الأحزاب: 37.
3- الأحزاب: 40.

كذلك القول في سبق غيره إلى الإسلام ما عدا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و أولادهما.

بيّنة و أمّا زواج عمر من أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين فقد كان زواجا بالقهر، و لمّا كان باستطاعتهم أخذ الخلافة منه و هي عطيّة مالك الملك سبحانه فلا عجب من قهره على الزواج بابنته و إن كان كارها لذلك، و شأن أمير المؤمنين شأن لوط النبيّ صلّى اللّه عليه حيث قال: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ (1) و قال الصادق عليه السّلام:

ذلك أوّل فرج غصبناه (2) [غصبنا عليه- المؤلّف].

و قيل عن هذه الحكاية كما يلي: إنّ عمر أرسل العبّاس إلى أمير المؤمنين يخطب عليه ابنته أمّ كلثوم فأبى الإمام ذلك، فقال عمر: إنّ عليّا يأنف منّي، أقسم باللّه لأقتلنّه، فأخبر العبّاس أمير المؤمنين عن نيّة عمر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ قتلي في جانب و الخطبة في جانب آخر، و إنّي لا أزوّجه ابنتي. فقال عمر للعبّاس: تعال للمسجد يوم الجمعة لتسمع ما يجب أن تسمعه، فقال يوم الجمعة في آخر الخطبة:

ص: 352


1- هود: 78.
2- المسائل السرويّة للشيخ المفيد: 87؛ جواهر الكلام 37: 9؛ الكافي 5: 346؛ وسائل الشيعة 20: 561؛ بحار الأنوار 42: 106 اللمعة البيضاء: 281 و مهما نفى النافون أو أثبت المثبتون من هذا الزواج فإنّه لا يرفع من قدر عمر إلّا بما يرتفع به قدر فرعون من زواجه بابنة مزاحم و لا ينخفض قدر سيّدتنا أمّ كلثوم إلّا بقدر ما ينخفض قدر نظيرتها من زواجها بفرعون، و ليس هذا غريبا على الأولياء من زواج الخبيثين بالطيّبات أو الطيّبات بالخبيثين، و الحمد للّه الذي لم يجعل لعمر ما يزكّيه إلّا هذه الأمور قليلة الشأن التي لا يكترث بها عاقل من زواج بسيّدة من البيت النبوي أو تسمية ولد من أولادهم باسمه، و لو صحّ هذا و ذاك فإنّ القطرة العذبة تلقى في الملح الأجاج لا تصيّره عذبا.

يا أيّها الناس، هاهنا رجل من أصحاب رسول اللّه قد زنا و هو محصن و قد اطّلع أميركم وحده فما أنتم قائلون؟ فقال الناس من كلّ جانب: إذا كان أمير المؤمنين اطّلع عليه فما حاجته أن يطّلع عليه غيره [أمير المؤمنين لا يحتاج إلى شاهد و القول قوله، و إذا أمرنا قتلنا ذلك الزاني].

فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس: امض إليه فأعلمه ما قد سمعت، فو اللّه لئن لم يفعل لأفعلنّ، فصار العبّاس إلى عليّ عليه السّلام فعرّفه ذلك، فقال عليّ صلوات اللّه عليه:

أنا أعلم أنّ ذلك ممّا يهون عليه و ما كنت بالذي أفعل ما تلتمسه أبدا، [فقال العبّاس: يقتلك و اللّه ليس في الأمر مزاح و هو مجرم و وقح، و خشن الطبع] إن لم تفعل أنت فأنا أهله، و أقسمنت عليك أن خالفت قولي و فعلي [لتمحى السخيمة من صدره و لا يتضرر الإسلام من هذا الوضع، فاحتمل أنّ هذه البنت قد ماتت فامتنع أمير المؤمنين أشدّ الامتناع].

فمضى العبّاس إلى عمر و أعلمه أن يفعل ما يريد من ذلك [فمضى العبّاس إلى عمر و قال: هل تريد شيئا غير الخطبة، إنّ عليّا لا يفعل ذلك و لكنّي أفعله ...]

فجمع عمر الناس، فقال: إنّ هذا العبّاس عمّ عليّ و قد جعل إليه أمر ابنته أمّ كلثوم و قد أمره أن يزوّجني منها، فزوّجه العبّاس و بعث بعد مدّة يسيرة فحوّلها إليه (1)، و سكت أمير المؤمنين بوصيّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا العقد بعينه مشابه لعقد فرعون على آسية بنت مزاحم.

مسألة قال المخالفون: إنّ رسول اللّه أمر أبا بكر بإقامة صلاة العصر و صلّى خلفه

ص: 353


1- مستدرك الوسائل 14: 443 و ما بين الحاصرتين من إضافات المؤلّف؛ الصراط المستقيم 3: 130.

أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هذا نصّ على إمامته، لأنّ ما يجب في إمامة الصلاة يجب في الإمامة العامّة.

و يقولون أيضا: لمّا سمع النبيّ صوت أبي بكر يكبّر للصلاة خرج يتهادى بين عليّ عليه السّلام و بين الفضل بن العبّاس و قد وضع يديه على منكبيهما و رجلاه يخطّان في الأرض حتّى بلغ المسجد فاستقبل القبلة فصلّى بالناس و صلّى أبو بكر بصلاته، و صلّى الناس بصلاة أبي بكر.

فإذا كانت صلاته بإذن رسول اللّه و رأيه فإنّ عزله بأمر اللّه و وحيه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1)، و مثله ما فعل في سورة برائة فقد أثبت للأمّة فإنّ اللّه أمر رسوله بعزله عن أدائها ليعلم الناس أنّه غير أهل لأداء الشريعة كما هو غير أهل لإمامة الصلاة.

و لمّا فتح رسول اللّه مكّة، و بان له النصر الأكيد، فأراد الصلاة في العصرين في المسجد الحرام فاستناب عتاب بن أسيد في إمامة الصلاة فأمره أن يقيمها و يصلّيها بالنيابة عنه، فإذا كانت إمامة الصلاة موجبة لاستحقاق الخلافة فإنّ عتاب بن أسيد أولى بها من أبي بكر، حيث يقيمها في المسجد الحرام و النبيّ صحيح معافى، و في صلاة أبي بكر كانت الصورة قائمة فالنبيّ في أشدّ حالات المرض، فإذا ائتمّ بأبي بكر في صلاته فيعتبر حينئذ معزولا من نبوّته لأنّه آخر عمل أقامه ثمّ توفّي من بعده، و قال تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (2) و قال: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3) و أمثالها الدالّة على حرمة التقدّم على رسول اللّه بكلّ وجه من

ص: 354


1- النجم: 3 و 4.
2- الحجرات: 2.
3- الحجرات: 1.

الوجوه، و حينئذ يعتبر أبو بكر عاصيا لرسول اللّه بهذا الفعل.

و في مذهب أهل البيت عليهم السّلام إنّ النبيّ لم يأمر أبا بكر بالصلاة و إنّما صدر الأمر من عائشة إلى بلال بالأذان لكي يصلّي أبوها بالناس، و لمّا رفع أبو بكر صوته بالأذان و بلغت مسامع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: من الذي قدّم هذا؟ فقالت عائشة: بلال يا رسول اللّه. فقال: أسندوني، أمّا إنّكنّ لصويحبات يوسف.

و كنّ في عهد يوسف كاذبات و حريصات على الحبّ و الغزل و الدلال و الفتنة، و حريصات على تحصيل الأماني و الشهوات و اللذّات الدنيويّة.

و قام النبيّ عجلا بعد سماعه صوت أبي بكر مكبّرا واضعا يده على منكب ميمونة و يده الأعرى على منكب عليّ عليه السّلام ينحو المسجد، و لمّا خرج من البيت وافاه الفضل بن العبّاس فصرف ميمونة و وضع يده على منكب الفضل و عادت ميمونة من حيث أتت، و أبعد ابا بكر من المحراب و استأنف الصلاة (1).

مسألة: قال المخالفون إنّهما وزيرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب: إن كانت وزارتهما مشاركة للنبوّة فهو الكفر المحض، أم أنّ وزارتهما معناها النيابة عن النبيّ في إدارة الأمور و كفاية الحروب، فإنّ أبا بكر حمل الراية مرّة واحدة في خيبر فرجع منهزما، و مثله فعل عمر عاد بالهزيمة الفاضحة إلى أن أخذ الراية أمير المؤمنين عليه السّلام و تمّ فتح خيبر على يديه، و في كلّ آية يذكر اللّه فيها الحرب و الفرار من الزحف و النفاق فإنّهما المعنيّان بها، و كانا أكثر الناس فرارا من الزحف

ص: 355


1- كان المؤلّف قد عقد هذا الفصل لنفي الأمويّين من قريش و لكنّه لم يأت بحجّة واحدة تنفيهم و إنّما أخذ يتنقّل في الأحاديث من فصل إلى آخر دونما مناسبة.

ليدخلا الوهن على الإسلام، و إذا ذكر النفاق في موضع فهما الشريك الأكبر فيه.

و يقول اللّه تعالى مخاطبا لنبيّه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (1) و تاب بعض المنافقين من نفاقهم أمّا هم فقد ماتوا على النفاق، إنّ اللّه أمره بمشورتهم لئلّا يقولوا بأنّ محمّدا لا يشركنا في قضاياه كسائر أصحابه، و عندئذ يكيدون للإسلام ما شاء لهم خبثهم، و يغدرون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ساعة الشدّة، و إلّا فالنبيّ غنيّ بالوحي عن المشورة، و لقد أعطاه اللّه من المكارم ما لا يحتاج معها إلى استشارة أحد من الناس، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2).

مسألة: ما يقال من أنّ أبا بكر أنفق أربعين ألف درهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب: مرّ شرح هذه المسألة بإسهاب مضافا إلى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّ بعد الهجرة ضيفا على الأنصار و كان أبو بكر فقيرا معدما يحتاج إلى برّ الأنصار و هو طفيليّ بركاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد الهجرة، يسّر اللّه لرسوله فتح البلاد و أغناه بالغنائم المحرّرة، هذا ما يخصّ حال النبّي بعد الهجرة، و أمّا قبل الهجرة فقد أغناه اللّه بمال خديجة عن مال أبي بكر، على أنّ الصدقة على رسول اللّه حرام، و اكترى أبو بكر جملا فهاجر عليه فأين كانت ثروته و هو لا يملك حتّى راحلة يهاجر عليها؟!

و الدليل على أنّه لا يملك أربعين ألف درهم لينفقها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ بعض الناس كانوا يختلون بالنبيّ و يساررونه أو يسألونه عن بعض المسائل فاقتدى بهم

ص: 356


1- آل عمران: 159.
2- آل عمران: 159.

البقيّة و مالوا إلى حبّ الخلوة مع النبيّ حتّى أضجروه، فأنزل اللّه هذه الآية عليه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (1)، فلمّا نزلت الآيه باع أمير المؤمنين عليه السّلام دينارا عندهم بدرهم، و قيل استدان عشرة دراهم، و سأل عشرة أسئلة و لم يعمل بهذه الآية غيره حتّى نسخ حكمها بآية: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (2)، فلو كان لأبي بكر مال لأنفق بعضه و حظى بمناجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لو كان بحوزته أربعون ألف درهم ثمّ لم يتصدّق فإنّه أبخل الناس.

و لو صحّ حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر و عمر (3) لم يحتج إلى البيعة و لم يجادله الأنصار على الخلافة، و لا حتجّ بهذا الحديث لا بحديث «الأئمّة من قريش».

و قالوا: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أبو بكر أفضلكم، و أعلمكم، و لم يقولوا إنّ أبا بكر جهل معنى الكلالة و مثله عمر، و كلاهما لم يعرف معنى لفظ «الأبّ» كما قال الثعلبي، و طالما قال عمر: لو لا علي لهلك عمر، لو لا معاذ لهلك عمر (4).

ص: 357


1- المجادلة: 12.
2- المجادلة: 13.
3- هذا الحديث الموضوع تكذيبه سهل جدّا لأنّ الرجلين لم يتفقا عمرهما كلّه بل كانا في خلاف دائم كخلافهما في حروب ما يسمّى بالردّة، و خلافهما حول خالد و فعلته النكراء مع مالك و زوجته، فبمن نقتدي إذن؟! و الاقتداء بأحدهما مخالفة للآخر و ردّ لحديث النبيّ- إن صحّ- و هو موجب للكفر، و حينئذ كيف يصحّ حديث يوجب الكفر على المسلم!!
4- سنن البيهقي 7: 443؛ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18 و 141 و 12: 179؛ كنز العمّال 13: 584 رقم 37499؛ تفسير القرطبي 9: 288؛ تاريخ مدينة دمشق 58: 422؛ سير أعلام النبلاء 1: 452؛ الإصابة 6: 108؛ ينابيع المودّة 1: 216 و 227؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 151 و 189 و 369 و 371؛ و في تاج العروس 10: 445: لو لا زيد لهلك عمر؛ شرح الرضي على الكافية 1: 275؛ مختصر المعاني للتفتازاني: 95.

و ما يقال: من أنّ النبيّ قال: مكتوب على ساق العرش: أبو بكر و عمر، يردّه حديث صحيح عن النبيّ أنّه قال: مكتوب على ساق العرش: «لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه»، و كيف يصحّ كتابة اسم من عبد الصنم خمسين أو أربعين عاما و بعد ذلك التحف الإسلام، إلّا أنّ ذلك يصحّ في عليّ عليه السّلام لأنّه معصوم و مطهّر من الصغائر و الكبائر من يوم ولادته إلى أن نال درجة الشهادة، فلا مانع من كتابة اسمه في ساق العرش، و كلّ حديث قاله النبيّ في عليّ نسبوه إلى أنفسهم (1).

و قالوا: إنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر، و لم يذكروا قول عمر عن نفسه في حرب أحد: كنت كالماعز الجبلبة أفرّ من جبل إلى جبل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا (2). و لو صحّ ما قالوا لما فرّ و لما استزلّه الشيطان.

و قالوا: إنّ النبيّ دعى اللّه سائلا: اللهمّ أعزّ هذا الدين بأبي جهل أو بعمر، فاستجاب اللّه لنبيّه في عمر فنصر به الرسول و قوي دينه به و عزّ.

[الجواب] قال اللّه في مواضع من كتابه أنّه هو الذي أعزّ الدين و نصره و هو الذي نصر رسله حيث قال: لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (3) و قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ

ص: 358


1- ليس هم الذين نسبوه بل هم الذين حاولوا طمسه و لكن دار ضرب الحديث التي أسّسها معاوية و اشترى لها ذمما رخيصة كذمّة عائشة و أبي هريرة و سمرة بن جندب و أمثالهم، هم الذين فعلوا هذا الفعل الشائن، و لا أقول ذلك دفاعا عنهما لعنهما اللّه و لكنّهما أقلّ و أذلّ من ارتكاب هذه الحماقة .. و عليّ عليه السّلام على قيد الحياة.
2- آل عمران: 155.
3- غافر: 51.

كُلِّهِ (1)، و قال: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ (2) و نحوها، فكيف يحتاج النبيّ إلى المشرك في نصر دينه.

و ما يقال: من أنّ عثمان جهزّ جيش العسرة فإنّ ذلك في غزوة تبوك باتفاق الأمّة و كانوا خمسا و عشرين ألف مقاتل، و قالوا: إنّ النبيّ أمر المسلمين جميعا أن يأتوا بما عندهم لتمويل الجيش و كان لعثمان مأتا بعير أعطاهم لتحمل أربعمائة من المقاتلين، فماذا فعل للباقين؟! و تخلّف الفقراء المعدمون عن اللحاق بهم، فلو كان عثمان جهّزهم لما تخلّفوا، لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (3)؛ و هذه الآية تكذّب ما افتروه عن عثمان.

و قالوا عن النبيّ أنّه قال ذات يوم: من يصلح بئر رومة و أعطيه بيتا في الجنّة، فقال عثمان: أنا يا رسول اللّه، و لكن أضمنها و أنت رسول اللّه لي.

فلو كان مصدّقا رسول اللّه و معتقدا برسالته حقّا و مؤمنا بالجنّة لما طلب ضامنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و طلب الضامن دليل على شكّه في صدق قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في المعاد و لو كان مؤمنا حقّا لما كان بحاجة إلى ضمان، و لو لم يكن مؤمنا فإنّ دخوله إلى الجنّة محال، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يضمن المحال.

و لمّا تمّ تحرير هذه المقدّمات من كلّ نوع و كلّ باب من كتب المؤالف و المخالف صار لزوما علينا الإتيان بموجز هذا الباب، و كيف تمّت الغلبة على بني هاشم، و تمّ النصر لبني تميم و عدي و بني أميّة و أضرابهم عليهم.

ص: 359


1- التوبة: 33، الفتح: 28، الصفّ: 9.
2- آل عمران: 160. كامل البهائي ج 1 359 بيان في أن عثمان و بني أمية لم يكونوا من قريش و أن أمية غلام رومي ..... ص : 350
3- التوبة: 91 و 92.

الباب العاشر في حجّة الوداع و ذكر الغدير و وصيّة الرسول و وفاته و فيه ما يتبع ذلك

الفصل الأوّل: في حجّة الوداع

روى البراء بن عازب و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و عمّار بن ياسر و حذيفة بن اليمان و غيرهم، قالوا: لمّا صالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نصارى نجران، هبط عليه الأمين جبرئيل و قال: إنّ اللّه يأمرك أن تحجّ هذا العام، لأنّ أجلك قد دنى.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أرسل عليّا إلى اليمن لقبض ما أقرّه من الجزية على أهل نجران، و أمر النبيّ بالاستعداد للحجّ، و لمّا أعدّ العدّة للسفر خرج من المدينة بجمع عظيم، و من هناك كتب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قائلا: إنّنا ذهبنا إلى حجّ بيت اللّه فإذا فرغت من عملك فوافنا هناك من طريق اليمن، لنلتقي إن شاء اللّه.

فلمّا بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذي الحليفة كانت أسماء بنت عميس حاملا بمحمّد بن أبي بكر فولدته هناك، فأوقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الركب يوما بكامله من أجلها.

فلمّا وصل كتاب النبيّ إلى عليّ عليهما السّلام أخذ يتأهّب للسفر و معه ما كان قد حازه من

ص: 360

الغنائم، و أقبل و من معه متوجّهين نحو مكّة، و لمّا بلغ ميقات أهل اليمن أحرم منه، و كان معه من الهدي أربع و أربعون، و كان حجّة حجّ القرآن المفرد، و لم يشرع حجّ التمتّع بعد، فلمّا وصل مكّة نزلت آية التمتّع و هي قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ (1) و كان النبيّ قد أحرم قبل نزول الآية، فخطب الناس و قال: من لم يحرم فإحرامه إلى العمرة، و لو كنت أعلم قبل علمي لما سقت الهدي حتّى أحلّ من الحرام و لكنّي لا أستطيع أن أحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه، و على من لم يسبق الهدي الإحلال الآن و يحجّ حجّ التمتّع ثمّ يحرم بعد ذلك، فاستجاب بعضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبى بعضهم الآخر، فعاتبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: لا نحلّ و أنت محرم، فقال: أنا عذري معي فقد سقت الهدي معي، أمّا أنتم فلا عذر لكم، فلم يقبلوا قوله و أصرّوا على فعلهم، و قالوا: لا نحلّ حتّى تحلّ، فقال النبيّ: إنّكم لتقولون منكرا من القول وزورا، و ها أنا قد سقت معي الهدي ستّا و ستّين بدنة و نويت القران فكيف أحلّ إذن، فقال المنكرون: كيف نحلّ و نخلو بالنساء و نخرج و رؤوسنا تقطر ماءا و رسول اللّه أشعث أغبر (2).

و لمّا دنى أمير المؤمنين من مكّة أقام أحد أصحابه مقامه و أسرع باللحوق برسول اللّه، فلقي رسول اللّه على أبواب مكّة فسأله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ماذا صنعت؟ قال:

صنعت ما أمرتني به، و استوفيت من القوم ما عليهم، و خلّفتها عند أصحابي في الوادي، و ألحح بي الشوق على لقائك عاجلا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و بماذا نويت يا علي في إحرامك؟ فقال عليّ عليه السّلام: إنّك أبلغتني بالحجّ في كتابك و لكنّي نويت على

ص: 361


1- البقرة: 196.
2- رأس المنكرين عمر بن الخطّاب لعنه اللّه و هو صاحب الكلمة و ليس فيها رؤوسنا تقطر ماءا، بل كذا: تقطر منيّا، و ما هو بعابئ برسول اللّه بل بشعارات الجاهليّة يخشى عليها أن تتحلّل.

ما نويت عليه، و قلت: اللهمّ اجعل إهلالي كإهلال نبيّك، فقال: أو سقت الهدي؟

قال: نعم أربعا و أربعين بدنة، فقال النبيّ: اللّه أكبر، شاركتني في حجّي و هديي، فقد سقت أنا ستّا و ستّين بدنة فاذهب الآن و ائتني بأصحابك.

فذهب أمير المؤمنين عليه السّلام إليهم فوجدهم قد عبثوا بالمال و فتحوا الرحال و استخرجوا الحلل فلبسوها، فعاتب الذي ائتمنه على القوم، فقال: إنّهم طلبوا منّي أن يلبسوا الحلل و يحرموا بها، فقال أمير المؤمنين: سبحان اللّه! كيف ساغ لك لبسها قبل أن يراها النبيّ؟! فاستدعاهم جميعا و أمرهم بنزعها و أن يجعلوها في الأثقال، و أقبلوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكوه إلى النبيّ، و قالوا: إنّه انتزع الحلل منّا، فقال النبيّ: لقد فعل عليّ الصواب، فكانوا يطعنون على عليّ لما في صدورهم من حقد عليه، و أطلقوا ألسنتهم في أمره، فرقى النبيّ المنبر و خطبهم قائلا: ارفعوا ألسنتكم عن عليّ بن أبي اطلب فإنّه خشن في ذات اللّه تعالى، غير مداهن في دينه.

و لمّا رأى الناس غضب النبيّ أمسكوا عن الطعن على عليّ عليه السّلام، و أتمّ النبيّ حجّة ثمّ قفل راجعا إلى المدينة.

الفصل الثاني: في ذكر الغدير

و أقبل النبيّ عائدا من منزل إلى منزل حتّى بلغ موضعا يدعى «غدير خم» و هو واقع على مفترق الطرق، و منه تتفرّق القبائل إلى مساكنها، و لكن ليس فيه مكان يصلح للنزول، فهبط جبرئيل على النبيّ آخذا بزمام ناقته، و قال: إنّ اللّه تعالى يقرئك السلام و يأمرك بالنزول على غير ماء أوكلأ لكي تبلغ رسالته المهمّة إلى الناس قبل أن يتفرّقوا، و معه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ (1)، فنزل رسول اللّه

ص: 362


1- المائدة: 67.

و نادى مناديه بالنزول، و دعى الذاهبين منهم إلى الرجوع، و تأنّى قليلا حتّى لحق به من تخلّف منهم.

و كانت هناك دوحات نابتة على ضفاف الغدير، فأمر أن يقممن و نزل النبيّ تحتها و أمر أن تجمع له حدوج الإبل، و وضعت على شكل منبر، ثمّ صعد النبيّ عليه، و كان المهاجرون و الأنصار حضورا بين يديه، فخطب تلك الخطبة المعروفة، و قال في ختامها:

يا قوم، نعيت إليّ نفسي، و حان منّي حقوق من بين أظهركم، و قد دعيت و يوشك أن أجيب، و إنّي مخلّف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. ثمّ قال: اللهمّ هل بلّغت. ثمّ قال كلاما بعده، و قال أخيرا: عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى. و ذكر في هذه الخطبة مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام و أعلن على الملأ نصّ إمامته ثمّ دعاه و أخذ بضبعه و رفعه أمام الناس.

حكاية: كان الشبليّ في مطلع أمره رئيسا من رؤساء دماوند و كان رجلا عاقلا، فبعثه ملك مازندران بكتاب إلى الخليفة، فلمّا بلغ بغداد، و شاهد معالمها الحضاريّة و اجتمع بعلمائها، أعلن عن توبته هناك و إعراضه عن الدنيا (القصّة) (1) زار الشبلي يوما نقيب بغداد و قال له: هل تعلم يا سيّدي ما هو غرض المصطفى من هذا الحديث حيث أمسك بضبع أبيك و رفعه أمام أعين الناس؟

فقال: لا يا أيّها الشيخ.

ص: 363


1- تأتي هذه الكلمة أحيانا في النثر الفارسي القديم حكايه عن نهج الاختصار أو الحذف الذي مارسه الكاتب و هي عربيّة و كان يستعملها أيضا القدماء بهذا المعنى.

فقال الشبلي: فتنت زليخا بيوسف و كان يوسف معرضا عنها، فعمدت إلى صنع مأدبة للمصريّات اللواتي لمنها و قرعنها على ما بدر منها تجاه يوسف، و قالت:

أريد أن أريكم وضع حالي معه، و آتت كلّ واحدة منها سكيّنا و اعتدت لهنّ متّكئا و وضعت بين أيديهنّ الفاكهة و هي عبارة عن «الأترنج» و قالت لهنّ: اقطعن لي منها قطعة و ناولنني إيّاها، و رجت يوسف و أقسمت عليه بسابق عهدها من الخدمة و الرعاية أن يخرج عليهنّ، فخرج يوسف من مكانه إلى حيث يجلس النساء، فلمّا رأينه طمثن جميعهنّ حتّى تخضّبت الزرابيّ منهنّ، و قطّعن أيديهنّ مكان الأترنج، و قلن: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (1)، فلم يرمق يوسف إحداهنّ بنظرة واحدة، فقلن: لو كان بشرا لطالعنا و نظر إلينا، فقالت زليخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ.

و هكذا كان رسول اللّه يثنى على عليّ أمام الناس و يبين عن فضله و يكشف مناقبه، فلا يجد عند الحسّاد و المنافقين إلّا البعد عنه و الطعن عليه، حتّى جلاه لهم يوم غدير خمّ فعرفوه (2) (القصّة).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا سريعا: بلى.

فقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و العن من ظلمه، اللهمّ هل بلّغت (3).

ص: 364


1- يوسف: 31.
2- لو رزق اللّه الشبلي السلامة من هذا التنظير الركيك لكان خيرا له، و لا أعرف الحسن فيه الذي حمل المؤلّف على كتابته، و لعلّ الشبلي يرى في حادثة الغدير ما يراه غيره من اتّباع قوم من الصحابة ليس فيه إلّا بيان الفضل و ذكر المناقب و ما هو بنصّ على إمامته، و ليس ذلك بعيدا، فالشبلي ليس من أهل الولاء.
3- الهداية للصدوق: 150 و ليس فيه «العن من ظلمه»؛ دعائم الإسلام 1: 16؛ معاني الأخبار: 67؛ ذخائر العقبى: 67؛ مسند أحمد 1: 118 و 119؛ مجمع الزوائد 9: 104 و 105 و 106؛ سنن النسائي 5: 136 و 5: 155؛ خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 103 و 104 و 132؛ المعجم الكبير للطبراني 4: 17 و 5: 192؛ شرح ابن أبي الحديد 3: 208 و 13: 193 و 18: 72؛ كنز العمّال 11: 609 رقم 32946، و ص 610 رقم 32951؛ كنز العمّال 13: 131؛ فيض القدير للمناوي 6: 282؛ الكامل في الرجال 3: 256؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 207 و 208 و 210 و 211؛ ذكر أخبار اصفهان 2: 359؛ البداية و النهاية 5: 229 و 230 و 7: 370 و 384؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 418 و 419 و 420؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 294؛ ينابيع المودّة 2: 282 و 283 و 284 و 369؛ لسان العرب لابن منظور 15: 409، أمّا كتب الشيعة فهي كثيرة جدّا و لا حاجة بنا إلى ذكرها لأنّها لا تكون حجّة لنا على الخصم.

ثمّ نزل عن المنبر و أقاموا للصلاة و صلّى بهم جماعة و دخل الخيمة، و أمر أن تضرب لعليّ عليه السّلام خيمة أخرى مواجهة لخيمته، و أمره بالجلوس فيها، ثمّ نادى مناد في المهاجرين و الأنصار أن يدخلوا عليه يهنّئونه بالإمامة و البيعة، فلمّا بلغت النوبة إلى عمر، دخل عليه و بالغ في الثناء عليه و قال في تهنئته: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فلمّا هنّأه الرجال دخل عليه النساء لتهنئته، بالطريقة التي مرّ ذكرها، فاستأذن حسان بن ثابت من رسول اللّه أن ينشد أبياتا في ذلك، فأذن له و قال: باسم اللّه سبحانه و تعالى، فقال حسان:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

فقال: فمن مولاكم و وليّكم فقالوا: و لم يبدو هناك التعاميا

أنت (إلهك) مولانا و أنت وليّناو لن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعى اللهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال يا حسان مؤيّدا بروح القدس بما نصرتنا.

ص: 365

إنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله يرفع عليّا يوما و يعليه و يجلّيه أمام الأعداء كما حدث في المباهلة، و يوما أمام الأولياء كما حدث في غدير خمّ.

يقول أبو سعيد الخدري: و اللّه ما تفرّقنا حتّى نزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1)، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند نزول هذه الآية: اللّه أكبر على إكمال الدين و تمام النعمة و رضا الربّ برسالتي و بولاية عليّ من بعدي.

ثمّ التفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الإمام و قال: يوم بيوم، إنّ اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا.

و إنّما قال النبيّ لعليّ هذا لأنّ عليّا بارز مرحبا اليهودي و هو من شجعان العرب و أبطالهم (2) فأورده حمام الردى و ساقه إلى نار الغضى، فقال جبرئيل عليه السّلام: يا رسول اللّه، إنّ له يوما عندك، يوما بيومه هذا.

كنت في اصفهان سنة ستّمائة و ثلاث و سبعين حاضرا في مجلس شخص ما و كان في المجلس أحد مفتي الفرق و يدعى يزيد التقي، و كان معروفا بالنصب و العداوة لأهل البيت، و كان يردّد قول النبيّ: إنّ له يوما عندك يوما بيومه، و لكن هذا التقي الشقي روى رواية عن أبيه عن ابن مسعود أنّ عليّا في يوم أحد كان يصول على الكتائب و يردي الأبطال قتلى عن اليمين و عن الشمال و من وراء و من أمام، فلمّا رأى النبيّ ذلك قال: لا تقيّة في الإسلام بعدك، ما عذر من كتم الحقّ و أنت ناصره. و لمّا نزلت الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (3) فكان الرسول صلّى اللّه عليه و آله على حيرة من

ص: 366


1- المائدة: 3.
2- بل هو يهوديّ يا سيّدي كما قلت أوّلا.
3- المائدة: 67.

أمره، يجيل الفكر في هذه المهمّة الصعبة، فدعا عليّا إليه شرح له واقع الأمر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا رسول اللّه، أما إنّك قد قلت لي يوم أحد: ما عذر من كتم الحقّ و أنت ناصره، فاليوم ما عذر من كتم الحقّ و اللّه عاصمه.

قال أبو إسحاق الثعلبي إمام أصحاب الحديث في تفسيره الكشف (و البيان):

سئل سفيان بن عيينة عن قول اللّه سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ (1) فيمن نزلت؟ فقال:

لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك، حدّثني أبي عن جعفر بن محمّد عن آبائه، فقال:

لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغدير خم نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ رضى اللّه عنه، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه (2) فشاع ذلك و طار في البلاد، فبلغ الحرث بن النعمان الفهري، فأتى رسول اللّه على ناقة له حتّى أتى الأبطح فنزل عن ناقته و أناخها و عقلها، ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمّد، أمرتنا عن اللّه أن نشهد لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه فقبلناه منك، و أمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك، و أمرتنا بالزكاة فقبلنا، و أمرتنا بالحجّ فقبلنا، و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا و قلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي ء منك أم من اللّه تعالى؟

فقال: و الذي لا إله إلّا هو هذا من اللّه.

فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته و هو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتّى رماه اللّه

ص: 367


1- المعارج: 1.
2- مسند أحمد 1: 84 و 5: 347؛ و المستدرك 3: 110؛ و مصنّف ابن أبي شيبة 7: 495، عن محقّق الكتاب.

بحجر، فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل اللّه سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (1).

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنّ «ما» في قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هي «ما» في قوله:

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (2) و ذلك أنّ النبيّ أبلغ في تلك الحال بأنّ عليه إقامة عليّ مقامه خليفة و وصيّا عند ما يبلغ الكتاب أجله، فلمّا كان يوم الغدير قال له: بلّغ ما أنزل إليك ليلة المعراج.

الفصل الثالث: في ذكر وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بدأ المرض يعاود رسول اللّه في يوم الثلاثاء، و قيل في يوم الأحد فقبض على يد عليّ و قصد به البقيع، و اجتمع الصحابة من ورائهم، فلمّا وصل إلى البقيع، قال:

السلام عليكم يا أهل القبور، إنّ الدين سيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، و قال: يوشك أن أدعى فأجيب، لأنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن في العام مرّة و في هذا العام عرضه عليّ مرّتين، و هذا يدلّ على قرب أجلي، و لقد خيّرني ربّي بين جواره و بين خزائن العالم و البقاء إلى يوم المحشر فاخترت جواره و الجنّة، و ترتكت الدنيا الفائتة «الدنيا بالنسبة إلى الآخرة أن يجعل أحدكم اصبعه السبّابة في اليمّ فلينظر بم يرجع» (3).

ثمّ أوصى عليّا بوصاياه، فقال: يا علي، إذا أنا متّ فغسّلني و جهّزني بيدك (4)

ص: 368


1- المعارج: 1 و 2.
2- النجم: 10.
3- هذا حديث شريف رواه ابن حبّان في صحيحه 14: 29، و ابن سلامة في مسند الشهاب 2: 291 و 292.
4- و فيه: و لقّنّي قبل و جهّزني، و لكنّي رأيتها لا تنسجم مع النبوّة فحذفتها.

و ليعينك الفضل بن العبّاس و عمّي العبّاس بحمل الماء إليك، و إنّما أعوانك الملائكة، و لا يجوز لأحد النظر إلى عورتي، فإنّه يفقد بصره سواك يا علي، عند ذلك أمر أمير المؤمنين الفضل و أباه العبّاس أن يعصّبا عينينهما، فوقعت عين العبّاس على عورة رسول اللّه فأضرّ في الحال (1).

و اشتدّ برسول اللّه المرض يوم الأربعاء فاتّكأ على عليّ و العبّاس عليهما السّلام و دخل المسجد على هذه الحال ثمّ رقى المنبر و قال: من كانت له عليّ بيعة أو يأخذني بقصاص فليأت إليّ، فإنّ فضوح الدنيا خير من فضوح الآخرة.

فقام رجل فقال: إنّك يا رسول اللّه وعدتني أن تزوّجني، فأقبل على الفضل بن العبّاس و قال له: ادفع له ثلاث أواق من الفضّة.

فقام عكاشة فقال: يا رسول اللّه، كنت ألعب مع أقراني فضربتني بسوطك و أطلبك اليوم بقصاص، فقال رسول اللّه: يا بلال، اذهب إلى بيت فاطمة و ائتني بالقضيب ليقتصّ عكاشة منّي، فلمّا سمعت فاطمة عليها السّلام بكت و قالت: ما يصنع أبي بالقضيب و هو في حالة المرض؟ و كيف يطيق تحمّل الضرب و هو و قيد؟ فقال العبّاس: يا عكاشة، اضربني عشرا و اعف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه لا يطيق ذلك.

فقال عكاشة: لا أقتصّ إلّا منه، ثمّ أخذ عكاشة القضيب و ارتقى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على المنبر و قال: يا نبيّ اللّه، كنت مكشوفا يوم ضربتني، فرفع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ردائه عن كتفيه، فبان بياضهما، فلمّا رأى عكاشة ذلك ألقى السوط من يده و احتضن النبيّ و قبّل في جبينه و قال: فدتك روحي ألف مرّة، سمعتك تقول: لا تمسّ النار أحدا قبّل وجه النبيّ، و لقد رميت إلى هذا في طلب القصاص، فليس عليك قصاص بأبي أنت و أمّي.

ص: 369


1- لم يحدّثنا التاريخ عن ذلك، و لم يفقد العبّاس بصره حتّى مات، و المؤلّف أهمل المصدر الذي اعتمد عليه.

و قام آخر و طلب ذلك من رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: سبقك بها عكاشة فلم يصل أحد إلى ما وصل إليه عكاشة، فلمّا كانت الجمعة خرج إلى المسجد و صلّى صلاة الجمعة و وعظ الناس وعظا شديدا.

الفصل الرابع: في ذكر الوصيّة

يقول أمير المؤمنين: لمّا نزلت سورة «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» بدأ المرض برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يمكث في بيته بل خرج يوم الخميس معصوب الرأس، فصعد على المنبر و قد امتقع لونه الشريف، فجرت دموعه و نادى بلال أن يجمع له الناس، فصاح فيهم: الصلاة جامعة، هلمّوا إلى رسول اللّه ليوصيكم فإنّها آخر وصاياه، فأمّ الناس المسجد من رجل و امرأة و صغير و كبير، حتّى غصّ بهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وسّعوا لمن وراءكم، وسّعوا لمن وراءكم، ثمّ قام قائما على قدميه و الدموع جارية على وجنتيه، و قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و حمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على إخوانه الأنبياء.

ثمّ قال: أنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، لا نبيّ بعدي، أيّها الناس اعلموا أنّ نفسي نعيت، و حان فراقي من الدنيا، و اشتقت لقاء ربّي، فواحزناه على فراق أمّتي، ماذا يقولون من بعدي، اللهمّ سلّم سلّم، أيّها الناس اسمعوا وصيّتي لكم، أيّها الناس قد بيّن اللّه لكم في محكم كتابه ما أحلّ لكم و ما حرّم عليكم، فأحلّوا حلاله و حرّموا حرامه، و آمنوا بمتشابهه و اعملوا بمحكمه و اعتبروا بأمثاله، ثمّ رفع طرفه إلى السماء و قال: اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إيّاكم و هذه الأهواء الضالّة البعيدة من اللّه، و البعيدة من الجنّة، و القريبة من النار، اللهمّ هل بلّغت.

ص: 370

اللّه اللّه في دينكم و ما آتاكم اللّه.

اللّه اللّه فيما ملكت أيمانكم؛ أطعموهم ممّا تأكلون، و اكسوهم ممّا تكسون، و لا تكلّفوهم ممّا لا يطيقون فإنّها لحم و دم، و خلق أمثالكم، ألا و من ظلمهم فأنا خصمه يوم القيامة، و اللّه حاكمهم.

اللّه اللّه في النساء أوفوا لهنّ مهورهنّ و لا تظلموهنّ فتخرّ بكم حسناتكم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، أطيعوا ولاة أموركم و لا تعصوهم، و إن كان عبدا حبشيّا مجدعا؛ فمن أطاعهم فقد أطاعني، و من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصاني، و من عصاني فقد عصى اللّه، ألا لا تخرجوا عليهم و لا تنقضوا عهودهم، اللهمّ هل بلّغت (1).

أيّها الناس، عليكم بحبّ أهل بيتي، عليكم بحبّ حملة القرآن، عليكم بحبّ أهل العلم و لا تنقضوهم و لا تحسدوهم و لا تطعنوا فيهم، ألا و من أحبّهم فقد أحبّني، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، أدّوا زكاة أموالكم، الا و من لم يزكّ فلا صلاة له، و لا دين له، و لا صوم له، و لا حجّ له، و لا جهاد له، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إنّ اللّه قد فرض الحجّ على من استطاع إليه سبيلا، و من لم يفعل فليمت على أيّ حال شاء؛ يهوديّا أو نصرانيّا أو مجوسيّا، إلّا أن يكون به مرض

ص: 371


1- لا يشكّ عاقل بأنّ الغرض من ولاة الأمرهم المعصومون لأنّ النبيّ لا يأمر بطاعة غير المعصوم لما يلزم ذلك من فعله المعصية و اتّباعه عليها لأنّه غير مأمون من ذلك فكيف يأمر النبيّ بطاعة من شأنه المعاصي و طبيعته اقتراف السيّئات و حينئذ يكون النبيّ قد أعان على فعل الذنب و حاشاه، أمّا العبد المجدع فالذي يظهر لي أنّ الغرض منه هو الوالي الذي يستنيبه المعصوم على المدن و الأقاليم.

جالس، أو منع سلطان جائر، ألا لا نصيب له في شفاعتي و لا يرد حوضي، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إنّ اللّه جامعكم يوم القيامة في صعيد واحد في مقام عظيم و هول شديد، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، احفظوا ألسنتكم، و أبكوا أعينكم، و أتعبوا أبدانكم، و جاهدوا عدوّكم، و اعمروا مساجدكم، و أخلصوا إيمانكم، و انصحوا إخوانكم، و قدّموا لأنفسكم، و احفظوا فروجكم، و تصدّقوا من أموالكم، و لا تحاسدوا فيذهب حياءكم، و لا يغتب بعضكم بعضا فتهلكوا أنفسكم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، اسعوا في فكاك رقابكم و اعملوا الخير ليوم وقوفكم وفاقتكم.

أيّها الناس، لا تظلموا فإنّ اللّه الطالب لمن خان، و عليه حسابكم، و إليه إيابكم، فإنّ اللّه لا يرضى منكم بالمعصية.

أيّها الناس، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (1)، وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2).

أيّها الناس، إنّي قادم على ربّي، و قد نعيت إليّ نفسي، فأستودع اللّه دينكم و أمانتكم، و السلام عليكم يا معشر أصحابي و على جميع أمّتي و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

الفصل الخامس: في تمام قصّة موته صلّى اللّه عليه و آله

و دخل البيت و لم يخرج منه، و بقي في بيت أمّ سلمة و زاد عليه الوجع، و ظلّ

ص: 372


1- فصّلت: 46.
2- البقرة: 281.

هناك يومين حتّى قدمت عائشة في اليوم الثالث و دعته إلى بيتها، فنهض رسول اللّه إلى بيتها، و لمّا بلغ البيت أذّن المؤذّن، فأمرت عائشة أباها بالصلاة، و لمّا سمع رسول اللّه صوت أبي بكر بالتكبير، نادى: من قال لهذا يصلّي بالناس؟ فقالت عائشة: أنا أمرته يا رسول اللّه. قال: إنّكنّ لصويحبات يوسف، أي تأمرن بالشي ء و تفعلنه لا لصواب، ثمّ وضع يده على عاتق عليّ و اليد الأخرى على عاتق ميمونة و خرج من البيت، و إذا بالفضل بن العبّاس قادم، فصرف ميمونة و وضع يده على عاتقه، و إنّ رجليه ليخطّان الأرض حتّى بلغ المسجد، و أشار إلى أبي بكر بيده فتنحّى له عن المحراب، و لم يعبأ بصلاته بل استأنف الصلاة و عاد إلى منزله.

و حضر عنده أبو بكر و عمر، فقال لهما رسول اللّه: ألم آمركما بالخروج مع أسامة؟ فقال أبو بكر: لم أشأ أن أسأل عنك الركبان؟! فاستدعى أسامة و أمره بتعجيل الخروج بأصحابه، و قال: إنّي اخترتك لهذا الأمر، و أغمي عليه، فارتفعت الضجّة في البيت، فلمّا أفاق قال: آتوني بدواة و كتف أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا، ثمّ أغمي عليه، فقاموا ليأتوه بما طلب، فاعترضهم عمر و قال: الرجل يهدي، فلمّا أفاق من غشوته قالوا: يا رسول اللّه، أنأتيك بما طلبته؟ فقال: أبعد الذي قلتم ما أردتم و سمعته، يعني قول عمر لعنه اللّه.

و أمر المسلمين بمتابعة أهل بيته و أوصاهم بهم، و قال أخيرا: الصلاة، و ما ملكت أيمانكم، و كرّر هذا القول مرارا، و يقول في كلّ ساعة: أنفذوا جيش أسامة، و قال بعد ذلك: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة، و حوّل وجهه عمّن في المجلس، فلمّا رأوه فعل ذلك قاموا و لم يبق إلّا أمير المؤمنين و العبّاس و الفضل بن العبّاس، فقال العبّاس: يا رسول اللّه، و كيف نكون بعدك؟ قال: تظلمون و تغلبون، فصاح أهل البيت، فأقبل على عمّه العبّاس و قال: تقبل وصيّتي؟ فقال العبّاس:

عمّك شيخ و ما به على هذا الأمر طاقة، ثمّ قال لأمير المؤمنين: أتقبل وصيّتي؟

ص: 373

فقال: نعم، فأعطاه خاتمه و قال: ضعه في يدك، و أعطاه سلاحه و ما يرجع إليه من الثياب و الدراعة و السوط و نظير ذلك، و قال: خذها و أنا حيّ و تصرّف بها.

و لم يفارقه أمير المؤمنين عليه السّلام إلّا لضرورة، فلمّا أفاق لم يجده عنده، فقال: ادعوا لي أخي، فأسرعت عائشة و صاحبتها حفصة إلى دعوة أبيهما، فلمّا فتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عينه رآهما عندها، فقال: إنّي لم أرد هذين، و قال لأمّ سلمة: ادعي لي عليّا، فلمّا جاءه ناجاه طويلا ثمّ وضع لسانه في فمه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح اللّه لي من كلّ باب ألف باب، و أوصاه بوصاياه، فقال:

سوف أقوم بها جميعا طاعة للّه و رسوله، فقال رسول اللّه: يا عليّ، وقعت في النزع، فضمّ رأسي إليك، فإذا ما فارقت روحي بدني فأمرر بها على وجهك فسينفتح لك علم الأوّلين و الآخرين.

فبينما هم كذلك و إذا بأعرابيّ يطرق الباب، فقالت فاطمة: انصرف فإنّ رسول اللّه مريض، فعاد ثانية و طرق الباب، ثمّ الثالثة، و في كلّ مرّة لا يتوقّف عن قرع الباب، فخافت فاطمة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة، افتحي له، فإنّه ملك الموت، هادم اللذّات، الذي فصل الأنبياء عن النبوّة، و أيتم الأطفال، و أخرب الديار، و أقسم باللّه أنّه لم يستأذن على أحد إلّا عليّ من لدن آدم إلى يومنا هذا، ففتحت الباب فاطمة عليها السّلام، فدخل ملك الموت و سلّم، و قال: إنّ اللّه يقرئك السلام و يقول لك: إن شئت البقاء خلّدناك، و إن شئت رضاي فاستسلم لأمر اللّه، و أمرني أن أفعل ما يرضيك، فقال رسول اللّه: و ما بعد ذلك يا ملك الموت؟ فقال:

آخره الموت و الفناء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلّمت لأمر اللّه.

و شرع ملك الموت يتولّى أمره، فبدأ بقدميه حتّى بلغت روحه ركبتيه، فعجز النبيّ عن التحمّل، فقال: إنّ أمّتي ضعيفة فهل تصنع بها هذا الصنيع؟ فقال ملك الموت: أقسم باللّه أنّي حملتك جزءا من ألف جزء من ألم الموت، فشفّع النبيّ

ص: 374

إلى اللّه أن يسهّل الموت على أمّته، فقبل اللّه تعالى شفاعته، و لمّا بلغت روحه التراق، شفع مرّة أخرى، فقال اللّه تعالى: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (1)، و لمّا فارقت رسول اللّه الروح مسح أمير المؤمنين بها وجهه و وجّهه إلى القبلة و أسبل يديه و أغمض عينيه، و ساعده الفضل بن العبّاس و أبوه، فكان الإمام يسكب عليه الماء و يناوله العبّاس الماء، و يقلّبه جبرئيل، فلمّا فرغ من جانبه الأيمن، قال:

يا رسول اللّه، بماذا تأمرني بعد ذلك؟ فانقلب على جهته الأخرى بإذن اللّه تعالى حتّى فرغ من تغسيلها.

و كان هذا المشهد ردّا على ما فعله أمير المؤمنين لرسول اللّه عندما وضعته فاطمة بنت أسد عليهما السّلام في المخضب بعد ولادته و غسله النبيّ غسل الولادة، فكان أمير المؤمنين يتقلّب على جنبيه من دون أن يقلّبه رسول اللّه، و هنا بكى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالت أمّ أمير المؤمنين عليهما السّلام: لماذا بكيت يا ولدي؟ فقال رسول اللّه: كأنّي به هو الذي يغسّلني و أنا أتقلّب على اليمين و الشمال، و لمّا ثقل عليه الموت أمر بطست ملي ء ماءا فكان يضع فيه يده و يرشّه على صدره ليخفّف عنه ثقل وطأة الموت، و قال:

مر أمّتي أن تفعل ذلك.

قيل: جاء إبليس و الإمام مشغول بتغسيل النبيّ، و وقف بجانب البيت، و قال: يا عليّ، لا تغسل النبيّ فإنّه طاهر، و أراد اللعين أن يقدم النبيّ على ربّه من دون تغسيل، فقال أمير المؤمنين: أيّها اللعين، إنّ رسول اللّه و إن كان طاهرا إلّا أنّه أمرنا بتغسيله، ثمّ وضع عليه الكافور الذي جاء به جبرئيل عليه السّلام، و كان بمقدار أربعين درهما و قد قسمه رسول اللّه قبل موته إلى ثلاثة أقسام له و لفاطمة و الثلث الآخر لعليّ عليهم السّلام، فوضعه الإمام عليه السّلام على مساجده السبعة و مسح بشي ء منه الكفن و هو

ص: 375


1- الضحى: 5.

حلّة من الجنّة جاء بها جبرئيل، و صلّى عليه أمير المؤمنين، و قال: رسول اللّه إمامنا حيّا و ميّتا، و ليس لأحد ان يكون إماما بحضرته، و بقي في البيت يوم الثلاثاء و الأربعاء و الخميس فلم يتغيّر ريحه بل يزداد طيبا كلّما مرّ عليه يوم بعد يوم، بينما يسرع التغيّر إلى الميّت في المدينة كما قيل، و كان الناس يدخلون عليه أفواجا صغارا و كبارا، و ذكورا و إناثا، عشرة عشرة، و اثنتين اثنتين، و واحدا واحدا، و الأصحّ أنّه دفن في الليلة التي توفّي بها.

و اختلفوا في موضع دفنه، فقال عليّ عليه السّلام: إنّ أشرف بقاع الأرض للبقعة التي قبض عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدفنه يكون هناك، فقبل الجمع قوله، و قال جمع من الصحابة: نحمله إلى الشام في مقابر الأنبياء (1)، فمنع عليّ من ذلك.

و كان العبّاس و أبو عبيدة بن الجرّاح يحفران لأهل مكّة، و زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة، فأحضروه و قالوا له: احفر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قيل: إنّ قبر النبيّ حفره أبو طلحة، و لمّا تمّ الحفر شرع عليّ و العبّاس و أسامة بن زيد بدفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وقف المدنيّون وراء الباب، و قالوا: يا علي، نسألك حقّنا من رسول اللّه، و خذ أحدنا ليكون معك لننال هذا الشرف إلى يوم القيامة، فقال عليّ عليه السّلام: أرسلوا لنا «أويس الخويلي» (2) و كان رجلا صالحا من أهل بدر، فأرسله الإمام في اللحد و حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّمه إليه و إلى العبّاس و الفضل ولده، فوضعوه في تراب القبر، و لمّا وضعوه في القبر أمر أمير المؤمنين القوم أن

ص: 376


1- لا شكّ أنّ هذا رأي عدوّه اللدود عمر بن الخطّاب لأنّه لا يريد أن يبقى لرسول اللّه ذكر في جزيرة العرب، و كأنّها ملك صهّاك.
2- لم أتعرّف على هذا الاسم في كتب الرجال، و ذكر ابن ماكولا عددا بهذا الاسم و لم يذكر أحدا منهم حضر دفن النبيّ، و قال ابن حجر: و الذي شهد الدفن الكريم هو أوس بن خولي قلبه بعض الرواة. (الإصابة 2: 293).

يخرجوا من القبر و نزل هو إلى القبر و وضع وجه رسول اللّه على التراب من جهة خدّه الأيمن، و حلّ عقدة الكفن من جهة الرأس، و وضع لبنة تحت خدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالوسادة و وجّهه إلى القبلة، و أشرج عليه اللبن، و خرج من القبر، ثمّ أهال عليه التراب، و كان أسامة و العبّاس و الفضل ولده يساعدونه في تسوية القبر و إقامته، و هم يرتّلون قوله تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» و أقبل الناس على القبر يزورونه، و لكن كره الناس بعد ذلك زيارته لوقوع قبر العمرين إلى جانب قبره الشريف (1). و كان بعضهم يجافي الأدب عند قبر النبيّ حين يركل قبريهما برجليه.

و في العصر العبّاسي ردم باب القبّة و حرم الناس من زيارة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقال:

إنّهم قصدوا بذلك أن يزوره الشيعة من غير الجهة التي فيها قبرهما، و لو كان قبرهما في غير هذا الموضع لأمكن لشيعتهما الفقراء زيارتهما بأمن و راحة.

و أمّا عثمان فقد دفن في موضع يقال له: حشّ كوكب و هو مقبرة لليهود و الكفّار (2)، و باعتبار أنّ الإجماع من المسلمين حصل على قتله من المهاجرين و الأنصار فإنّهم أبوا أن يدفن في مقابر المسلمين، و طرح في قبور أهل الذمّة، و لمّا آلت الحكومة إلى معاوية أدخل ذلك الموضع في مقابر المسلمين، و بلغني أنّه لم يدفن شيعيّ في ذلك الموضع، و لن يدفن إلى يوم القيامة إلّا أن يشاء اللّه تعالى.

ص: 377


1- ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ و لاعلى الزكيّ بقرب الرجس من ضرر
2- بل هو كنيف لرجل يهودي ألقي فيه عثمان لعنه اللّه.

الباب الحادي عشر في بناء السقيفة

اشارة

و لمّا انتشر خبر وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأطراف و الأكناف من ديار العرب، أقبل الرؤساء و الأمراء و قبال العرب للعزاء بوفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صاروا يتقاطرون على المدينة يعزّون بني هاشم، و كانوا مشغولين بإقامة العزاء عليه، فاغتنم الصحابة انشغالهم بالعزاء فرصة و قالوا: إذا فرغوا من العزاء فإنّ الأمر لا يتمّ لنا حتما، و ينبغي أن نسارع إلى اهتبال الفرصة لئلّا تضيع من أيدينا.

روي أنّ أوّل خلاف ظهر في الإسلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول عمر عن رسول اللّه: لم يمت بل غاب كما غاب موسى في الطور ثمّ رجع، و سيرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و من قال مات فسوق أقيم عليه الحدّ، فلمّا سمعه أبو بكر قام من فوره و دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كشف الغطاء عن وجهه و قال: مات رسول اللّه، و أخبر الناس بموته، فصدّق به بعض و لم يصدّقه آخرون (1).

ص: 378


1- لا أدري عن مصادر المؤلّف شيئا لأنّه لم يذكرها إلّا ما اقتضت الضرورة ذكرها، و ما أقلّها، و هنا خالف المؤلّف مؤرّخي الشيعة فقد أجمعت كلمتهم على أنّ عمر ما كان يجهل موت النبيّ و لكنّه أراد أن يحدث بلبلة في الأذهان و حالة ترقّب بينهم حتّى يرجع صاحبه في المؤامرة أبو بكر فقد-

و لمّا بلغت عليّا عليه السّلام هذه الأنباء دعا الناس و قال: أيّها الناس، إنّ اللّه تعالى يقول للنبيّ في حياته: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1)، فقبل الناس قوله، و ارتفعت الضجّة و الصراخ من كلّ مكان: مات رسول اللّه، و لمّا أيقنوا بموته اضطربوا، و اقبلوا يأمون سقيفة بني ساعدة، و كان قد حضرها ساعتئذ عبد الرحمان بن عوف و خالد ابن الوليد، و سعد بن أبي وقّاص، و سعيد بن العاص القرشي، و أبو عبيدة بن الجرّاح، و سالم مولى حذيفة بن اليمان مع أبي بكر و عمر، و تشاوروا بينهم بشأن الخلافة، و اجتمع الأنصار من جهتهم عند سعد بن عبادة الخزرجي و كان مريضا قد أشفى، و قالوا له: أنت رئيسنا و إمامنا فمن خالفك قاتلناه، و كان قيس بن سعد يبلّغ الناس كلامه و هو يتكلّم، و قال: إنّ قريشا رهط النبيّ آذوه و أخرجوه قهرا من داره، و نحن الأنصار آويناه و أوسعناه له أكنافنا و نصرناه بالمال و الأنفس، فإذا كان رسول اللّه قد قبض فنحن أولى بخلافته من قريش.

و قيل: أوّل من دعى الناس إلى خلافة سعد خزيمة و قال: إنّ عليّا أعرض عنها و سكن في بيته مشغولا بعزاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يستحقّها من قريش سواه، فلمّا سمع الأنصار كلامه أقبلوا على سعد بأجمعهم.

و المحقّقون من العلماء مجمعون على أنّ عمر بايع أبا بكر يوم وفاة النبيّ ثمّ خالد بن الوليد ثمّ بايعه جماعة ممّن يناصب أهل البيت العداء، و أخذوا الناس بالبيعة لأبي بكر أخذا شديدا، و ذكرنا في هذا الفصل المبادرين إلى بيعته توّا، و هم أفراد معدودون، و ذهبوا في تلك الليلة إلى عكرمة بن أبي جهل و الحارث بن شهاب

ص: 379


1- الزمر: 30.

و غيرهما و دعوهما إلى البيعة و أهدوا إليهما و أغروهما بالولايات، و بعثوهما إلى النواحي لأخذ البيعة.

و لمّا علم أبو سفيان بواقع الحال أقبل مبادرا إلى بيت عليّ عليه السّلام و قال: يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، أرضيتم أن يكون هذا الأمر في أخسّ بيت و أذلّه من قريش، و قرأ عليهم شعره:

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم و لا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

و ما الأمر إلّا فيكم و إليكم و ليس لها إلّا أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد لها كفّ حازم فإنّك بالأمر الذي يرتجي ملي فقال له أمير المؤمنين: اسكت فإنّك لا تبتغي إلّا الفتنة، و تريد إفساد الأمّة و ليس الإصلاح، و إنّي مشغول بعزاء رسول اللّه، فلا أتركه و أذهب أنازع على سلطانه.

و قال جماعة: لم يتمّ أمر البيعة في اليوم الأوّل، و لمّا أصبح الصباح قال عمر لأبي بكر: أردت أمس بيعتك و لكن حيل دون ذلك، فقال أبو بكر: أنت أحقّ بها منّي، و عليّ مبايعتك، فقال عمر: أنت شيخنا و أنت الأحقّ و الأولى.

فلمّا كان اليوم الثالث عقدوا له البيعة، و أرضوا أبا سفيان فقطعوا لسانه لعنه اللّه و ذلك بوعده بتولية ولده يزيد على جيش أسامة بعد عزله، فلمّا تمّ لأسامة أربعون يوما عاد من رحلته، فأرسلوا يزيد بن أبي سفيان مكانه إلى الشام و بقي هناك لهذا السبب، و بقي معه معاوية أخوه ينوب عنه و عن الخلفاء.

و لمّا بلغت عليّا أخبار السقيفة، قال: كيف وقع ذلك؟ قالوا: وقع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار، فقالوا: منّا أمير و منكم أمير، فغلبهم أبو بكر بما رواه من أنّ الأئمّة من قريش، فسلّم له الأنصار ذلك، فقال عليّ عليه السّلام: فإنّ قريشا شجرة

ص: 380

بنو هاشم ثمرتها، فكيف أنّ الصحابة احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة (1).

و روت عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى أنّه قال: قلّبت مشارق الأرض و مغاربها فلم أجد بني أب خيرا من بني هاشم، و كان عليّ هاشميّا من الأبوين؛ فأبوه أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم.

قيل لعليّ: إنّ الحقّ حقّك فما بالك قعدت عنه؟ فقال: ماذا أصنع، إنّ على المسلمين طلب إمامهم إلّا أنّهم ذهبوا إلى آخر غيره ليس بإمام خلافا لقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و اليوم و النبيّ على فراش الموت و قد جاء الناس من كلّ حدب و صوب إليه للعزاء و أنا المعزّى به، فلو أذهب أطلب السلطان لسخر الناس منّي و عابوني بأنّي لم أصبر على عزاء رجل مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة أيّام و خرجت مخلّفا إيّاه جنازة على الفراش مطالبا بالملك، إنّ هذا لا يكون أبدا، و لا بدّ من مقامي هنا لقبول العزاء طوعا أو كرها، و لو فعل الناس فعل سلمان الفارسي و المقداد و عمّار بن ياسر و حذيفة و جندب و هو الذي نفاه أبو بكر من المدينة و أبو ذر و هو الذي نفاه عثمان إلى الربذة (2) و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و خزيمة بن ثابت

ص: 381


1- جاء في نهج البلاغة: لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال عليه السّلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير و منكم أمير، قال عليه السّلام: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: و ما في هذا من الحجّة عليهم؟ فقال عليه السّلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصاية بهم، ثمّ قال عليه السّلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله. فقال عليه السّلام: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة ... نهج البلاغة 1: 116 باب الخطب.
2- لم يتيسّر لي معرفة جندب المنفي، و لكن أبا ذر يدعى جندبا و نفاه عثمان، و لعلّ الأمر التبس على المؤلّف و أخشى أن تكون يدا امتدّت إلى الكتاب بالتحريف لكثرة ما أرى من خلطه مع فضله العظيم و اطّلاعه الجمّ.

و عبد اللّه بن عبّاس رضي اللّه عنهم فإنّهم صاروا إليّ و تركوا بيعة أبي بكر.

و رابط أسامة في المدينة أيّاما لينضمّ إليه الرجلان فيكونان من رعيّته و كان هدف النبيّ إبعاد المشاغبين عن سماء المدينة ليصفوا الأمر إلى بني هاشم و عليّ عليه السّلام، فقال الناس لأبي بكر: ليتك لم تبعث بأسامة إلى الروم ليقوم بردع من تسوّل له نفسه الخروج عليك أو من يأبى أن يبايع.

فذهب أبو بكر و عمر إلى أسامة: أيّها الأمير، أنت ترى ما عليه الصحابة فمرنا بأمرك هنا و اذهب مع الجيش حيث أمرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان غرضهما عزله بعد أن يستتب لهما الأمر، فأمرهما بأمره و ذهب إلى الشام تنفيذا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا مضى عليه أربعون يوما بعثوا يزيد بن أبي سفيان ورائه و نحّوه عن إمارة الجيش، فجاء أسامة إلى المدينة و وقف على باب المسجد و قال: يا سبحان اللّه! بالأمس كنت أميرا عليهم بنصّ رسول اللّه و اليوم عزلوني بالقوّة و تأمّروا عليّ مستبدّين، فلم يعبأ أحد منهم بقوله، و كان سبب عزله أنّ أبا بكر كتب إليه أنّ المسلمين بايعوني و لم يبق سواك فهلّم و بايع، فأجابه أسامة: أنا أحد المسلمين و لا أرضى بك.

الفصل الأوّل: في خلاف الصحابة

فقام أسيد بن حضير (1) الأنصاري و خطب خطبة، فقال: معاشر الأنصار، أنا رجل ممّن يهوون سعدا و أوسيّ، و قد أكرمكم اللّه تعالى بهجرة النبيّ إليكم و نصرتكم إيّاه، و إنّي أرى أن لا تلوّثوا أنفسكم بالخلافة، و دعوا هذا الأمر لقريش، فوقع هذا القول من الأنصار موقع القبول.

ص: 382


1- حصين- المؤلّف.

فقام أرثم بن ساعدة الأنصاري فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: إنّكم تتداولون هذا الأمر مكرا و حيلة و هو حقّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فليس من العدل إدخال الظلم عليهم و أخذ الحقّ منهم و نصحهم كثيرا، فما استجابوا له و لم يتأثّروا بقوله.

فقام معن بن عدي الأنصاري و شتم أرثم و قال: إنّ أهل البيت في شغل شاغل بمصيبتهم و لا يمكن تأجيل أمر هذا الدين إلى حين فراغهم، و يجب تقديم أبي بكر.

فائدة: قيل: أراد أبو بكر و عمر الذهاب إلى بيت رسول اللّه للعزاء ثمّ يخرجون من هناك لتدبير أمر الحكم، و اضطرب الأنصار في أمر خلافة سعد بن عبادة فظهر الأمر للمغيرة بن شعبة فقام من ساعته و أقبل على أبي بكر و عمر و عثمان و شرح لهم واقع الحال و أعلمهم بما ينوي فعله الأنصار، فقال عمر: دفع حجّة الأنصار تقع على عاتق عليّ لأنّنا لا نقوى على ردّها.

فقال المغيرة لما يضمره من البغض لعليّ عليه السّلام و العداء: ما هذا الخذلان؟ و أيّ حليم يرضى بهذا؟ لو أشركت عليّا في أمرك لسدّ عليك الذرائع، و حكم هو و بنو هاشم و سوف نبقى ما دمنا أحياءا و أولادنا أسرى أولاد ابن أبي طالب، و نظلّ لهم خولا و رعيّة ما عشنا و عاشوا، لأنّ الرجل ملي ء علما و حجّته قويّة جدّا، إيّاك ثمّ إيّاك أن تشاوره في الأمر أو تشركه به فإنّ ذلك بعيد عن الصواب جدّا.

فقال عمر: لقد أصدقتني القول، فما العمل إذن؟! ارجع لننتبذ ناحية و نتداول الأمر بيننا كيف ندفعهم و نهتبل الفرصة مادام عليّ و بنو هاشم خارج الساحة، فقبض على يده و قصدا قصد السقيفة، و أحكما الخطّة، و أهل البيت كلمة واحدة على أنّ القوم لم يشهدوا تجهيز النبيّ و لم يحضروا الصلاة عليه، و اعتذروا عن عدم ذلك بأنّه فرض كفاية لا فرض عين، و لمّا حضره بنو هاشم سقط الوجوب عنّا، و اعتزالنا كان للدين لأنّه لا بدّ من نصب الخليفة، و ما علما أنّ رعاية مصلحة الدين

ص: 383

ليست إليهم بل هي للّه تعالى و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله صاحب الشرع.

و لمّا تمّ لهم الأمر قالوا لأبي بكر: اخطب خطبة تجمع الناس لتشتهر بينهم خلافتك، و نادى مناديهم في الناس أن اجتمعوا في المسجد، فاجتمعوا و قام أبو بكر خطيبا فيهم، و هي أوّل خطبة خطبها، و ذكرها أبو زيد عمر بن شبّة و هو من أكابر علماء أهل السنّة و الجماعة، و موثوقا به عندهم، و مع كلّ هذا فالإجماع حاصل عليها: يا أيّها الناس، إنّكم تكلّفون سنّة نبيّكم محمّد، ألا و إنّ لي شيطانا يعتريني فإذا اعتراني فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم، و تعاهدوني بأنفسكم، فإذا استقمت فاتّبعوني، و إذا زغت (1) فقوّموني (2).

و روي أنّه قال: أيّها الناس، إنّي ولّيتكم و ليست بخيركم، إنّما أنا رجل منكم، و لكنّي أطولكم شغلا و أثقلكم حملا، و طاعتي ما أطعت اللّه فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، و إن عدلت فاتّبعوني، و إن ملت فاعتزلوني، ألا و إنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي فاتّقوني لا أؤثر بأشعاركم و أبشاركم، أو يفرط منّي إليكم ما أندم عليه.

و هذه رواية الحسن البصري و هو المغالي في ولاء أبي بكر و طالما أثنى عليه.

و يا عجبا من رجل له شيطان يعتريه بحيث يؤثر في أموال الناس و أعراضهم و لم يكن معصوما بإقراره على نفسه أنّ الشيطان يستولي عليه، فكيف يجوز للمسلمين الاقتداء به؟! و أيضا لا يؤمن شرّه في كلّ أوقاته لأنّه معرض لعروض الشيطان عليه، و أيّ عاقل يشهد على نفسه هذه الشهادة و يعترف عليها بما لا يقوله العدوّ في عدوّه؟!

ص: 384


1- رغبت- المؤلّف.
2- يوجد هذا النصّ في تاريخ مدينة دمشق 30: 303 مع اختلاف يسير.

و لا يبعد أنّ الشيطان حمله على افتراء هذا الحديث «الأئمّة من قريش» و حديث نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث ما تركناه صدقة، أو أنّ الشيطان أقرّه على تولّي أمر الخلافة و طلب البيعة من الناس لنفسه و إبطال حقّ عليّ في الإمامة.

و قال أيضا: فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، و إن عدلت فاتّبعوني، فأثبت على نفسه جواز المعصية و أمر الرعيّة أن تمتنع من طاعته ساعة عروض المعصية له، و بناءا على زعمه هذا أن يكون إماما في وقت دون وقت.

نعود إلى أصل المطلب: و لمّا تمّ له الخلافة قام في وجهه ناس من صلحاء الصحابة و احتجّوا عليه بما يأتي إن شاء اللّه. فندم أبو بكر على قبولها و قال: أقيلوني فلست بخيركم و عليّ فيكم، و نزل من المنبر و دخل بيته، فارتفع البكاء و الصيحة من المسجد فقبض عبيدة بن الجرّاح على يد أبي بكر و أدخله داره و بقيت الفتنة تضطرم ثلاثة أيّام، و وقع الناس في هرج و مرج، و طال الأخذ و الردّ بينهم.

فجاء عثمان في اليوم الثالث و معه مأة من الرجال و مثله فعل أبو عبيدة و سالم مولى حذيفة، و جاء خالد بن الوليد في جمع عظيم و مثله فعل المغيرة بن شعبة و قد لبسوا السلاح و سلّوا السيوف، و جاء عمر و أخذ بيد أبي بكر و قال له: قم إلى المسجد، فامتنع أبو بكر أشدّ الامتناع، فقال عمر: أفي هذا الساعة بعد أن خاضت فينا ألسنة الناس، إنّك لو أبيت هذا الأمر فإنّ الناس يطعنون بنا إلى يوم القيامة فكان أبو بكر يمتنع و عمر يصرّ عليه و يقول: بالأمس سخرت منّا و بدأت عمل الخلافة و اليوم تستقيلها، فإمّا أن تذهب إلى تولّي الأمر و أّت موفور الاحترام و إلّا قتلتك.

فقال أبو بكر: إنّ الناس يحتجّون عليّ و أنا يدركني الحياء، فقبض عمر على يده و أخرجه من البيت و أجلسه على المنبر و قال: أيّها الناس، من قام من مجلسه هذا و كلّم الشيخ بما كلّموه به أمس ضربت عنقه.

ص: 385

فقام خالد بن سعيد و قال: أتخوّفنا بالسيف يا عمر، و لو لا طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أنّ إمامنا عليّا لا يأذن لنا لعلمت من منّا الغالب و من المغلوب، و لكنّ طاعة إمامنا واجبة على كلّ حال.

سؤال: فيا للعجب كيف يصحّ أن يقع مثل هذا المنكر العظيم مع حضور عليّ و بني هاشم في وسط المعمعة فلا يغيرون و لا يستطيعون دفعا لما حدث بعد علمهم بالأمر و اطّلاعهم على واقع الحال، فما بالهم أخلدوا إلى السكوت؟

الجواب: نقول: شأنهم شأن هارون أخي موسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام، فقد كان صاحبه و خليفته و يحيطه الآلاف من المؤمنين و عبد قومه العجل فلم يصنع شيئا يدفع به هذا المنكر إلّا عدم الرضا به، و نهيهم عنه، و كان آدم و معه آلاف من الملائكة في الجنّة و كفر إبليس بحضرتهم، و مثله يقال في نوح و إبراهيم و شعيب و سائر الأنبياء الذين كان لهم حضور في قومهم و كفروا باللّه العظيم فلم يملكوا القوّة الرادعة لمنعهم من هذا الكفر.

سؤال:

و مع علم أمير المؤمنين بحقّه و شجاعته الخارقة للعادة و قوّته الإلهيّة الضاربة كيف التئم معهم و صانعهم على باطلهم؟

الجواب: ممّا لا شكّ فيه أنّ درجة النبوّة أعلى من درجة الإمامة، و لمّا ذهب موسى إلى الطور و عاد منه و رأى ما رأى من قومه، أبان هارون عن عذره، فقال: يابن

ص: 386

أمّي ... إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (1) و قال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (2) أي أنّ الحلّ الوحيد هو إعلان الحرب عليهم و بذلك أخاف عليهم الفرقة و الانقسام فتكثر الفتنة و تزداد اشتعالا، و حينئذ نقول: إنّ عذر عليّ من جنس عذر هارون إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ (3).

و هنا وجدوا عليّا ضعيفا أي لا يملك العدد و المدد، و عبد الناس العجل، و كان عليّ عليه السّلام يكثر من قول: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، و مرّ هذا الباب مشروحا بأكثر ممّا قلناه هنا.

و لمّا بلغ بالقوم المقام إلى هذا الحدّ قالوا: لا يقف في وجوهنا شي ء اليوم، لكنّنا يتحتّم علينا أخذ البيعة من عليّ عليه السّلام بأيّة وسيلة كانت و إلّا بقي أمرنا على غير التمام، و لا ينتظم لنا أبدا أمر.

تقول عائشة: ما بايع عليّ و فاطمة على قيد الحياة ستّة أشهر بعد وفاة

ص: 387


1- الأعراف: 150.
2- طه: 94.
3- الأعراف: 150. هذا جواب واقعيّ و هو عين الصواب، فقد قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة الجزء الثالث ص 301 و 302: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد، فقلت له: إنّي لأعجب من عليّ عليه السّلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ و كيف ما اغتيل و فتك به في جوف منزله مع تلظّي الأكباد عليه؟! فقال: لو لا أنّه أرغم أنفه بالتراب و وضع خدّه في حضيض الأرض لقتل و لكنّه أخمل نفسه و اشتغل بالعبادة و الصلاة و النظر في القرآن و خرج عن ذلك الزي الأوّل و ذلك الشعار و نسي السيف و صار كالفاتك يتوب و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال، فلمّا أطاع القوم الذين ولّوا الأمر صار أذلّ لهم من الحذاء (كذا) تركوه و سكتوا عنه. (بحار الأنوار 29: 139).

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هذا على روايتها، و أمّا ما رويناه في ذلك فيختلف عنها، و مرّت شذرة من ذلك.

يقول جعفر بن محمّد الصادق عليهما الصلاة و السلام: لم يتمّ تجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى تنكّروا لعهده و تجمّعوا على خلاف ما أمرهم به.

شعر:

من مبلغ عنّا النبيّ محمّداأنّ الورى عادوا إلى العدوان

إنّ الذين أمرتهم أن يعدلوالم يعدلوا إلّا عن الأيمان

غصبوا أمير المؤمنين مكانه و استأثروا بالملك و السلطان

بطشوا بفاطمة البتول و أخذوا (1)ميراثها طعنا على الفرقان فلمّا فرغ الإمام من دفن النبيّ و الاشتغال بعزائه قيّد نفسه بجمع القرآن، و ائتمّ به الشيعة و لم يبق معه إلّا النزر اليسير من الصحابة.

و قال عمر لأبي بكر: إنّ جماعة الناس بايعونا ما عدا عليّا فأرسل إليه من يحضره للبيعة، فبعث عمر قنفذ لعنه اللّه- و هو ابن عمّه- إلى أمير المؤمنين، فقال:

أجب خليفة رسول اللّه. فقال عليّ عليه السّلام: ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه! و نكثتم فارتددتم، و قال لقنفذ: إنّما أنت سمّيت نفسك بهذا الاسم.

فلمّا بلّغه قنفذ الرسالة، قام عمر مغضبا و أقبل يريد عليّا، فاستوقفه أبو بكر و قال: صدق عليّ ما أنا بخليفة لرسول اللّه، و قال لقنفذ: اذهب إليه و قل له:

أمير المؤمنين يدعوك، فأبلغه قنفذ الرسالة، فقال عليّ: يا قنفذ، قل له: إنّك انتحلت اسما هو لغيرك، فقد لقّب رسول اللّه غيرك به و هو لقبي الذي وضعه رسول اللّه عليّ.

ص: 388


1- لا يستقيم وزن الصدر إلّا إذا وضعنا مكان «أخذوا»، «صادروا».

و بلّغ قنفذ أبا بكر قول عليّ، فهبّ عمر واقفا و قال: إنّ أمرنا لا يتمّ بغير قتل عليّ، و سآتيك برأسه من ساعتي هذه، فأقسم عليه أبو بكر أن يجلس، و قال لقنفذ:

اذهب إليه و قل له: أبو بكر يدعوك إليه، فجائه قنفذ فأبلغه ما قاله أبو بكر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و ما كنت بالذي أترك وصيّة حبيبي و أخي إلى باطلكم، و ما اجتمعتم عليه من الجور و الفساد في أمّة محمّد.

فرجع قنفذ و أبلغهم الذي سمعه من عليّ، فغضب عمر غضبا شديدا و دعا خالدا بن الوليد و جماعة من المنافقين، فجمعوا الحطب و أقبلوا إلى بيت فاطمة به و هي لا تعلم لما داهمها من شدّة المصاب، و قد جلست جلسة الحزين مطأطأة الرأس، و قد بكت كثيرا فأصابها ألم برأسها عليها السّلام، و ما فتئت تنشأ المرثية بعد الأخرى لفراق أبيها، و ما زالت يغشى عليها مرّة و تفيق أخرى، فإذا تذكّرت أباها رسول اللّه دعت الحسنين إليها و نظرت إليهما و قالت: أين أبو كما الذي يكرمكما؟

أين أبو كما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما؟ أين أبوكما الذي كان لا يدعكما تمشيان على الأرض؟ إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، لا أرى جدّكما يفتح هذا الباب لا يحملكما على عاتقه.

لفاطمة عليها السّلام:

و كنّا كغصني بانة وسط روضةففرّقنا ريب الزمان الموارب

كذا الموت لا يبقى خليلا لخلّةأنوح و أشكو لا أراك مجاويي

فيا ساكني الصحراء علّمني البكاو حزنك أنساني جميع المصائب

إذا اشتدّ شوقي زرت قبرك باكياأنوح و أشكو لا أراك مجاويي

فإن تك عنّي في التراب مغيّبافما أنت عن قلبي الحزين بغائب و بينما هم كذلك و إذا بعمر و معه أصحاب العناد و النفاق على الباب، و قال عمر:

يابن أبي طالب، افتح الباب و إلّا أضرمنا عليك الدار نارا. فقالت فاطمة عليها السّلام: اتّق

ص: 389

اللّه يا عمر في حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لا تدخل فإنّه عليك حرام، فعاندها عمر و دخل البيت مع المنافقين، فصاحت فاطمة: يا أبتاه، ما لقينا من أبي بكر و عمر بعدك، و رفع عمر سيفه و هو في غمده فضرب به جنب مولاتنا فاطمة عليها السّلام (لعن اللّه عمر بن الخطّاب- المترجم) و ضربها قنفذ لعنه اللّه بالسوط على متنها، فصاحت فاطمة: يا أبتاه، ما لقي أهل بيتك من أبي بكر و عمر من بعدك.

فنهض أمير المؤمنين و أمسك عمر من تلابيبه و جلد به الأرض و أراد قتله، فتذكّر وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلقه، و كان من المنظرين: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (1)، و قال: يابن صهّاك الحبشيّة، لو لا وصيّة سبقت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلمت أيّنا الأضعف، و اللّه لقد همّ رسول اللّه بقتلك و أمرني بذلك، فجائت هذه الآية: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (2).

و جاء عمر المدد و سلّ خالد سيفه ليقتل به عليّا، فسلّ الزبير سيفه على خالد، فأقسم عليه الإمام أن لا يفعل، فجاء سلمان و المقداد و أبو ذر مددا لعليّ، و لكن جيش النفاق تغلّب عليهم و أخرجوا عليّا معهم من بيته و ورائه فاطمة تصيح، و المسلمون يقولون: ما أسرع ما نسيتم رسول اللّه و أخرجتم الضغائن التي في صدوركم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، ذهب الإسلام اليوم.

و قال بريدة لعمر: أتظلم أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنت الذي تعرفه قريش.

و جاء خالد و معه السيف في الغمد و أوقف أمير المؤمنين قبال أبي بكر، فصاح أبو بكر ليوهم الناس: خلّوا سبيله، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأبي بكر: أغدرتم بأخي رسول اللّه و ظلمتموه، بأيّة حجّة تدعو الناس إلى بيعتك؟ أنسيت اليوم

ص: 390


1- الحجر: 37- 38، ص: 80- 81.
2- مريم: 84.

الذي بايعتني به بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لقد توفّي رسول اللّه و هو غاضب عليكم، و كنت أنت العاصي.

فقال أبو بكر: دعنا من أباطيلك و هلّم فبايع و إلّا ضربت عنقك.

فقال عليّ عليه السّلام: إذن أكون عبد اللّه و أخا رسوله المقتول، و لو لا وصيّة رسول اللّه لأريتكم تفاهة شأنكم و عجزكم عن مقارعتي.

فقال بريدة لأبي بكر: أمس أمرك رسول اللّه بالسلام على أمير المؤمنين عليه السّلام، باللّه أقسم لا أبقى في بلد أنت فيه، فأمر أبو بكر بتعتعته و إخراجه بعيدا من المجلس.

فقام سلمان و كانت له مع أبي بكر و عمر عداوة ظاهريّة، و وعظ أبا بكر و أبان عن فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ قام من بعده مقداد و أبو ذر و وعظا القوم كثيرا، و قالا في الختام: لو كنّا نعلم بأنّ الظلم يدفع عن أهل البيت بقتالنا لسللنا سيوفنا و قاتلنا حتّى يستقيم أمر العترة، و يعود الحقّ إلى صاحبه.

و كان أبو بكر على المنبر و القوم يخاطبونه حتّى قال له عمر: مالك ساكت، مره حتّى يبايع و إلّا ضربنا عنقه، و بكى الحسن و الحسين حين سمعا بهذا و كانا مع أبيهما، و أبكيا جماعة ممّن حضروا مثل أبي ذر و بريدة و سلمان و المقداد و آخرين، فضمّهما عليّ عليه السّلام إلى صدره، و لمّا سمعت أمّ أيمن بكاء الحسنين، قالت: يا أبا بكر، أأظهرتم النفاق و أغلظت لهم القول.

فقال أبو بكر: يا علي، بايع، قال: فإن لم أفعل فما أنت صانع؟ قال: أضرب عنقك، فكرّر القول ثلاث مرّات لإكمال الحجّة، و في جميع ذلك يقول أبو بكر:

نضرب عنقك.

فقام خالد المنافق و قبض على تلابيب أمير المؤمنين، فصارعه أبو ذر و قال له:

إنّ عداوتك و عداوة أبيك لرسول اللّه و أهل بيته قديمة، و اليوم أبنت عنها.

فخاف أبو بكر الفتنة على نفسه من العامّة فنزل عن المنبر و ضرب بيده على يد

ص: 391

أمير المؤمنين موهما أنّه بايع و كان يقول كاذبا: إنّ عليّا بايعني، فبايعوني أنتم أيضا.

فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام من هناك و معه سلمان و المقداد و بريدة و الحسن و الحسين عليهما السّلام و ذهبوا إلى ضريح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شكوا إليه غدر الصحابة، و أقبل جماعة من المسلمين على عليّ عليه السّلام و قالوا له: عزّ و اللّه علينا ما صنع بك بعد رسول اللّه، ادعنا إلى ما شئت فإنّا لك بحيث تحبّ.

فعلم أمير المؤمنين بأنّ المنافقين يفوقون المؤمنين بالعدد، فنهاهم عن الخروج لأنّهم لا يملكون العدّة و العدد الكافيين.

و كانت فاطمة عليها السّلام تستنهض الأنصار؛ الصغار و الكبار، و قيل: إنّها خرجت و هي مريضة إلى بيوت الأنصار تستنهضهم و تستعين بهم لإتمام الحجّة عليهم، و عليّ و الحسنان عليهم السّلام معها، فلم يجبها أحد منهم، و كان جوابهم لها واحدا: ليس لنا بالقوم طاقة لأنّهم أقوياء و حريصون على الظلم.

و يقال: إنّ معاذ بن جبل سأل أباه: ما كان غرض فاطمة في مجيئها إليك؟ فقال:

طلبت منّي نصرها على ظالميها فلم أجبها لذلك، فغضب على أبيه و قال: لا كلّمتك من رأسي أبدا، أتأتيك بنت رسول اللّه مستصرخة ثمّ تخرج آيسة من نصرك.

و قيل: إنّ فاطمة أسقطت المحسن لضرب عمر (لعنه اللّه- المترجم) إيّاها على بطنها.

و لمّا أدركها اليأس من نصرة أصحاب أبيها لها عادت إلى بيتها مهمومة مغمومة، و جلست في بيتها حتّى غصبوا فدكا منها، فلمّا فعل الرجل ذلك جاءت إليه و قالت: يا أبا بكر، أما علمت بأنّ فدكا لي حتّى غصبتها، و وعظته وعظا كثيرا، فطلب أبو بكر بياضا ليكتب لها كتابا بفدك، فسأله عمر: يا خليفة رسول اللّه، ماذا

ص: 392

تصنع؟ فقال: جائت ابنة رسول اللّه و ادّعت أنّ رسول اللّه نحلها فدكا في حياته (1)، فتناول البياض من يد أبي بكر و خرّقه، و قال: أيّتها المرأة، ايتينا بشاهد أنّ رسول اللّه أعطاك فدكا، و كان مع الزهراء عدد من النساء فاتّجهت من بينهنّ إلى أمّ أيمن و قالت: يا أمّ أيمن، اشهدي بما تعلمين.

فقالت أمّ أيمن لا أشهد حتّى تشهدوا بما قاله لي رسول اللّه في بيته من أنّي امراة في الجنّة، فقالوا: نعم سمعناه قال ذلك. ثمّ قالت: ناشدتكم اللّه أما سمعتم قول النبيّ:

من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار؟ فصاحوا بأجمعهم: اللهمّ نعم. قالت:

فلو كذبت على رسول اللّه لبدّل اللّه بيتي الذي في الجنّة إلى بيت في النار. ثمّ قالت:

أشهد أنّ رسول اللّه تصدّق على فاطمة بنته بفدك، و شهد أمير المؤمنين أيضا.

فقام عمر مغضبا، و قال: لا نقبل شهادتك لأنّك امرأة من العجم و لا تفهمين العربيّة، و عليّ يجرّ النار إلى قرصه (2).

الفصل الثاني: في وفاة فاطمة عليها السّلام

فعادت فاطمة إلى البيت منهم غاضبة، و أنشبت العلّة فيها أظفارها، فكانت

ص: 393


1- رحم اللّه المؤلّف، يظهر من كلامه أنّ أبا بكر ألين من عمر عريكة، و أحسنه طريقة، و لكنّ الواقع أنّه شرّ منه لشقوته و نكرانه جميل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّه صاحب المزاج العصبي الذي أحرق آلاف المسلمين شيبا و شبّانا و صبيانا، ذكورا و إناثا فيما أطلق عليه حروب الردّة و هو صاحب الفكرة في سحب عليّ من بيته و إحراقه عليهم، و هو صاحب التهديد بضرب العنق، و هو صاحب الجرائم الكبرى التي سطرها الطبري في تاريخه، و لك أن ترجع إليه لتعرف سرّ ما أقول لك، فلعنه اللّه و أخزاه.
2- فما لأبي بكر لا يجيب؟! فهل قطع اللّه لسانه يومذاك؟! إنّي أردّ كثيرا ممّا قاله المؤلّف حيث يضفي شكلا من أشكال الخير على أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد و آل محمّد، لعنه اللّه.

تزداد في كلّ يوم ذبولا، إلى أن مرّ عليها أربعون يوما و هي راقدة على فراش المرض من ظلمهم لها.

فأقبل أبو بكر و عمر لعيادتها، فلم تأذن لهما فاطمة عليها السّلام، فظهر الجزع على أبي بكر، و قال: و اللّه لا أعود إلى بيتي حتّى تأذن لي فاطمة، و ترضى عنّي، و خرجت فاطمة تلك الليلة إلى البقيع.

و رأى عمر أمير المؤمنين في تلك الليلة و قال: و اللّه إنّ أبا بكر صادق فيما قال، و قد أقسم باللّه لا يذهب إلى بيته حتّى ترضى عنه فاطمة (1)، فلو استأذنت فاطمة في زيارتها عسى أن تأذن له بشفاعتك.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام طاهر القلب، سليم النفس، فقال: أفعل إن شاء اللّه.

فأقبل عليها و قال لها: يابنة العم، و يابنة خير خلق اللّه، إنّ أبا بكر و عمر استأذنا في زيارتك و طلب رضاك و العفو عمّا بدر منهما بحقّك.

فقالت فاطمة عليها السّلام: يابن العمّ، المنزل منزلك و الإذن فيه إليك، و النساء تبع للرجال، فسمعا و طاعة، فاصنع ما بدالك، و أعوذ باللّه أن أعصيك طرفة عين، و أذنت لهما و قالت: يا علي، ألحفني الثوب، و قالت لنساء بحضرتها: حوّلن وجهي إلى الحائط.

فأقبل الرجلان و سلّما، فلم تردّ عليهما، فقال أبو بكر: نحن إنّما جئنا لطلب رضاك يابنة رسول اللّه قبل موتنا و نريد منك إبراءا للذمّتنا.

فقالت فاطمة: لا و اللّه و لا كرامة، ثمّ قالت: أريد أن أسألكم و أريد أن تصدّقاني إن صدقتما، و بعد ذلك أقول ما يصلحنا.

ص: 394


1- لو كان صادقا فيما يقول لردّ عليها ما أخذه منها و تنحّى لهم عن إمامتهم، و أعلن التوبة عسى اللّه أن يتوب عليه، أمّا أن يظهر الندم و هو مصرّ على ما فعل فإنّما هي دموع التماسيح.

قالا: لنصدّقنّك.

قالت: أما قال أبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه؟

فقالا: أجل و اللّه لقد سمعناه قال ذلك.

ثمّ قالت فاطمة: اللهمّ إنّي أشهدك و جميع ملائكتك و رسلك و جميع من حضر أنّهما آذياني في حياتي بعد موت أبي، أخرجا عنّي، و اللّه لا رضيت عنكما حتّى ألقى أبي و أبثّه الشكوى، و أخبره بما ظلمتماني به.

فقام أبو بكر خزيان يدعو بالويل و الثبور، و خرج من عندها، فقال عمر: ما أعجبك، ويل للقوم الذين أمّروك عليهم، و ما زال به حتّى استلّ السخيمة من نفسه، و قال له: كيف يجزع الرجل لقول امرأة و يفرح لرضاها.

و بقيت الزهراء طريحة الوسادة و قيده أربعين ليلة إلى أن دنى أجلها، فاستدعت عليّا عليه السّلام و أسماء بنت عميس الخثعميّة و أمّ أيمن، و قالت: أخبروني بموتي و أنّي أوصيكم. فقال عليّ عليه السّلام: أوص بما شئت. فأوصت فاطمة بوصيّتها، فقالت: يا علي، إنّي حفظت رضا اللّه و رسوله و رضاك لأنّك زوجي، و لم أكذب قطّ، و لم يرتفع صوتي بالقهقهة، و قالت جملا مثل ذلك، ثمّ قالت: تزوّج أمامة من بعدي، فإنّها امرأه مشفقة على أولادي (1)، و إنّي أرى الملائكة قد حضروا لتجهيزي، و ينبغي أن تحضر أسماء و فلانة و فلانة إلى أربع نسوة غسلي، و ادفنّي يا علي ليلا لئلّا يحضر عدوّ اللّه و رسوله جنازتي، و لئلّا يصلّوا عليّ.

ص: 395


1- لم يقل عن أمامة أنّها ابنة أخت الصدّيقة عليها السّلام لأنّه ذهب إلى ما ذهب إليه صاحب الاستغاثة من كون زينب و رقيّة من رجل تميميّ تزوّج هالة أخت خديجة فأولدها إيّاهما، و لكن فات المؤلّف أنّ زينب لو كانت بنت هالة لم يزوّجها النبيّ من أبي العاص لأنّه ابن هالة أيضا فيكون أخاها من جهة الأمّ فكيف يتزوّجها، يا ناس! أرجو أن يفتح عينيه جيّدا من يذهب هذا المذهب.

و لمّا أسلمت الروح عليها السّلام فارتفعت الصيحة من نساء قريش، فبكى الحسن و الحسين و أمّ كلثوم على أمّهم، و بكى الناس لبكائهم، فجاء أبو بكر و عمر إلى عليّ و عزّياه عنها، فلم يجبهما أمير المؤمنين، و قالا: لا بدّ من إخبارنا لحضور جنازتها و الصلاة عليها، فلم يجبهما أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عمر: إنّ عليّا لا يجيب لحزنه ممّا نزل به.

فخرج سلمان و قال: اذهبوا إلى بيوتكم فقد أخرّنا تجهيز الزهراء.

فقال عمر: أقسم باللّه ما أرادوا بالتأخير إلّا دفنها سرّا فلا نحضر جنازتها.

فلمّا تفرّق القوم و مضى هزيع من الليل أحضروا نعش فاطمة، و دار به عليّ و الحسن و الحسين و سلمان و أبو ذر و المقداد و العبّاس و ولداه عبد اللّه و الفضل، و حضرها عقيل بن أبي طالب و عبد اللّه بن جعفر و بريدة و عمّار و الزبير و أسامة و بنات عليّ و نساء من قريش، و صلّى الحاضرون على جنازة الزهراء عليها السّلام ثمّ دفنوها إلى جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جهة منبره.

فلمّا أصبح الصباح اجتمع الناس عند بيت فاطمة عليها السّلام للصلاة عليها، فلمّا بصر المقداد بأبي بكر، قال: إنّنا ألحدناها ليلا.

فقال عمر: ألم أخبرك يا أبا بكر بما ينوون.

فقال المقداد: إنّ فاطمة أوصت بذلك لئلّا تحضروا جنازتها.

فرفع عمر يده و ضرب المقداد على وجهه، و ما زال يضربه حتّى كلّ من الضرب، فحال الحاضرون بينهما، و خلّصوا المقداد من شرّه.

فلمّا خلص المقداد من يده استقبله بوجهه و قال: لا عجب من ضربك إيّاي فقد ضربت بنت رسول اللّه بالسيف- و هو مغمد- على جنبها فأدميته و ألهبت متنيها بالسوط حتّى ماتت على هذه الحالة، و أنا أدنى منزلة منها و من بعلها.

و لمّا سمعوا هذا الكلام منه، قالوا: و اللّه لأحقّ الناس بالضرب و العقوبة عليّ بن

ص: 396

أبي طالب، و أقبلوا نحو عليّ و إذا به جالس على باب داره، فدار به أصحابه، و ناداه عمر: يابن أبي طالب، ما أنت بتارك حسدك القديم، غسّلت رسول اللّه من دون علمنا، و صلّيت على فاطمة و لم نحضرها، و حملت الحسن على أن يخاطب أبا بكر قائلا: انزل عن منبر أبي.

فاحتقره عليّ عليه السّلام و لم يجبه، فانبرى عقيل للجواب، و قال: و أنتم و اللّه لأشدّ الناس حسدا و أقدم عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته، ضربتموها بالأمس و خرجت من الدنيا و ظهرها بدم (1) (كذا) و هي غير راضية عنكما، فمدّ عمر يده إلى عقيل، فلمّا بصره به عليّ يفعل هذا أخذه من تلابيبه و قال: و اللّه ما أراك تنتهي يابن الخطّاب حتّى نتكلّم بما فيك!!

و قام بنو هاشم يظاهرون عليّا عليه السّلام و نهض معهم الزبير بن العوام و العبّاس و عبد اللّه بن جعفر و سلمان و المقداد و أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب و أبو ذر و عمّار و خيار المؤمنين الصحابة مددا لعليّ عليه السّلام، و سلّ خالد السيف على عليّ، فقال له عليّ عليه السّلام: يا فاسق الخبيث، ما كان ظالما أشرّ على رسول اللّه بسيفك هذا أنت و أبوك (2)، فقام أبو بكر و قبض على يد عليّ و قال له: اجلس يا أبا الحسن، فقال:

ص: 397


1- هكذا وردت الكلمة، و الصحيح أنّها «مدمى».
2- من الواضح أنّ أخبار المؤلّف هذه لم يعزها إلى أحد و لم يشر إلى مصدرها و ليس لها سند للنظر فيه، و الذي يجعلها مقبولة عندنا الثقة بناقلها رحمه اللّه، و مع انعدام المصدر يذهب البحث و التحرّي سدى، و هذه العبارة مغلوطة و لم أستطع التأكّد من صحّتها لعدم الثور على راويها أو الكتاب الذي أخذها المؤلّف منه لذلك تركتها كما ذكرها المؤلّف، ثمّ هو لم يترجمها لأهتدي إلى صيغتها الصحيحة من معنى العبارة المترجمة إليها و أحيط القارئ علما بانّ كثيرا من هذه الأخبار عثرت عليه لأوّل مرّة في كتاب الكامل على أنّ بعض السياقات أشكّ في صحّتها لتكرّر الضرب و الاقتتال و سلّ السيوف بين كلمة و كلمة، و هذا إن لم يكن عجيبا من الخصوم فهو عجيب من أهل البيت عليهم السّلام.

كلّا بل نذهب إلى القبر فنجلس بينه و بين المنبر.

فلمّا بلغوا المكان أقسم أمير المؤمنين هناك قائلا: بحقّ المنبر و من فيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصاني أن لا يرى جسمي أحد سواك و من رأى عورتي عمي، فقلت: يا رسول اللّه، من يعينني؟ قال: جبرئيل و الملائكة، فغسّلت رسول اللّه و عصّبت عيني الفضل بن العبّاس، و كان ينقل لي الماء و الملائكة تقلّب رسول اللّه كما أريد، فأردت أن أخلع قميصه فهتف بي هاتف فكنت أسمع صوته و لا أرى شخصه: لا تنزع الثوب من رسول اللّه، فأحضرت الحنوط و الكفن و أدرجت رسول اللّه في كفنه و خلعت بعده قميصه.

و أمّا الحسن فقد كان معلوما لديكم أنّ النبيّ إذا خطب يأتي و يجلس على كتفي النبي و يضع رجليه خلفه في عنقه، فلمّا وقعت عينه على غير جدّه على المنبر غضب الطفل و آلمه ذلك، فقال: انزل عن منبر أبي، و أقسم باللّه أنّي ما علّمته الذي قاله.

و أمّا ما كان بينكما و بين فاطمة فهو معلوم لديكما، و لقد ماتت غاضبة عليكما و أوصتني و قالت: إن هما صلّيا عليّ شكوتك إلى أبي بمثل الذي أشكوهما، فكرهت أن أغضبها.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: تحالف القوم على قتل أمير المؤمنين، و قالوا: لن يخلو لنا الجوّ حتّى نقتل عليّا، فدعوا خالدا و قالوا: لنا إليك حاجة، إن قبلتها. قال:

أطعتكما و لو أمرتماني بضرب عنق عليّ بن أبي طالب. فقالا: هذا هو ما نريده منك. فاتعدوا على أن يأتي خالد بالسيف عند صلاة العتمة فإذا رفع أبو بكر صوته بالصلاة علاه خالد بالسيف.

و جائت أسماء بنت عميس ليلا و أخبرت عليّا بما ينوي الرجلان من قتله بيد خالد بن الوليد، و أمرته بالحذر، فندم أبو بكر و هو في الصلاة، فسلّم إخفاتا لئلّا

ص: 398

يسمعه خالد و قال: لا يفعلنّ خالد ما أمرته فإن فعل لأضربنّ عنقه، و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

و أجاز المخالفون التكلّم في الصلاة بناءا على فعل أبي بكر.

فقبض أمير المؤمنين عليه السّلام على يد خالد و قال: أأنت فاعل ما أمروك به؟ فقال خالد: نعم، و اللّه أردت ضرب عنقك بالسيف، فقبض الإمام على قلاصمه حتّى كاد يختنق، و نهض عقيل يخاصم خالدا و يدافع عن أخيه و يطلق لسانه في أبي بكر و عمر.

ثمّ قال عمر: و اللّه لأستخرجنّ فاطمة من قبرها و لأقيمنّ الصلاة عليها، فقال عليّ: لو فعلت ذلك لأجرّدنّ سيفي فيكم حتّى أقتل، و اجتمع نساء بني هاشم في المسجد و صحن بصوت واحد: أردتم قتل رسول اللّه فلم تقدروا عليه فقتلتم ابنته بالأمس و تريدون قتل أخيه، و اغوثاه باللّه و برسوله، ما من منكر فينكر، ما من مسلم يقوم فيتكلّم بالحقّ بما صنع بوصيّ رسول اللّه و خليفته من بعده، فلم يجبهنّ أحد إلّا نفر قليل من المسلمين.

فخرج عليّ من بينهم و تبعه بنو هاشم، و أقبل على قبر النبيّ و أرخى عينيه بالدموع فبكى بكاءا كثيرا.

قال ابن عبّاس: ما إن وقعت عين عليّ عليه السّلام على قبر رسول اللّه حتّى قال: ي ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (1)، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (2)، و أقسم على الناس فرجعن من حيث جئن.

ص: 399


1- الأعراف: 150.
2- طه: 94.

الفصل الثالث

سأل أبان بن تغلب من الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: يابن رسول اللّه، أما ردّ أحد من الصحابة على مدّعي الإمامة؟ فقال: بلى، ردّ عليهم اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول اللّه و هم: خالد بن سعيد بن العاص، و المقداد، و أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود، و عمّار، و أبوذر الغفاري، و سلمان، و بريدة من المهاجرين، و من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، و سهل بن حنيف، و أبو أيّوب، و أبو الهيثم بن التيّهان.

اجتمع هؤلاء و تعاهدوا على جذب أبي بكر من المنبر، و قال أحدهم: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1)، قالوا: نذهب إلى عليّ عليه السّلام نستشيره.

فقال عليّ عليه السّلام: لو فعلتم ذلك لكنتم كالمال المنهوب لا يأتي بشي ء، و كالملح المذاب في المرجل، إنّ القوم رجعوا إلى جاهليّتهم الأولى و أظهروا العداوة للّه و رسوله، و أظهروا حقدهم القديم، و إنّ رسول اللّه أخذ عليّ السكوت و إلّا استأصلت أنا و أهل بيتي، و أنا شاورت أهلي فرأوا الصواب فيما أفعل لعلمهم أنّ قلوب القوم ملئت بالعداوة للّه و رسوله، و قال لي رسول اللّه: عليك بالصبر حتّى ينزل الأمر، ألا و إنّهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلا إلى إذلالك و سفك دمك، فإنّ الأمّة ستغدر بك بعدي كذلك أخبرني جبرئيل عن ربّي (2).

ص: 400


1- البقرة: 195.
2- و الرواية ذكرها الشيخ في الخصال و لكن بسياق آخر قريب من سياق المؤلّف و نحن نأتيك به ليكون مائز بين رواية المؤلّف المترجمة و بين الأصل. عن زيد بن وهب قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة و تقدّمه على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام اثني عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار، و كان من المهاجرين: خالد بن سعيد ابن العاص و المقداد بن الأسود و أبيّ بن كعب و عمّار بن ياسر و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و عبد اللّه بن مسعود و بريدة الأسلمي، و كان من الأنصار خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و سهل بن حنيف و أبو أيّوب الأنصاري و أبو الهيثم بن التيّهان و غيرهم، فلمّا صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره، فقال بعضهم: هلّا نأتيه فننزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، و قال اللّه عزّ و جلّ: «و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، و لكن امضوا بنا إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام نستشيره و نستطلع أمره. فأتوا عليّا عليه السّلام فقالوا: يا أمير المؤمنين، ضيّعت نفسك و تركت حقّا أنت أولى به، و قد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّ الحقّ حقّك و أنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك. فقال لهم عليّ عليه السّلام: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلّا حربا لهم، و لا كنتم إلّا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، و قد اتفقت عليه الأمّة التاركة لقول نبيّها، و الكاذبة على ربّها، و لقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلّا السكوت لما تعلمون من وغر صدور القوم و بغضهم للّه عزّ و جلّ و لأهل بيت نبيّه عليهم السّلام، و أنّهم يطالبون بثارات الجاهليّة، و اللّه لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدّين للحرب و القتال كما فعلوا ذلك حتّى قهروني و غلبوني على نفسي، و لبّبوني، و قالوا لي: بايع و إلّا قتلناك، فلم أجد حيلة إلّا أن أدفع القوم عن نفسي و ذاك أنّي ذكرت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّ القوم نقضوا أمرك و استبدّوا بها دونك و عصوني فيك، فعليك بالصبر حتّى ينزل الأمر، ألا و إنّهم سيغدرون بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السّلام عن ربّي تبارك و تعالى، و لكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيّكم و لا تجعلوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أعظم للحجّة عليه و أزيد و أبلغ في عقوبته إذا أتى ربّة و قد عصى نبيّه ... الخ. و اقتصرنا في الهامش على هذا المقدار من رواية الخصال، و أتممنا بما تبقّى من الرواية سياق المؤلّف في المتن لأنّه لا يختلف عنه إلّا بجمل بسيطة جدّا، و قد وضعنا ما اختلف بين قوسين أو حاصرتين تمييزا له، راجع الخصال: 462، نشر جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة في قم، تحقيق غفاري.

ثمّ انطلقوا حتّى أتوا منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحفّوا به يوم جمعة، فقالوا للمهاجرين:

إنّ اللّه عزّ و جلّ بدأ بكم في القرآن، فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ

ص: 401

وَ الْأَنْصارِ (1) فبكم بدأ، و كان أوّل من بدأ و قام خالد بن سعيد بن العاص، بإدلاله ببني أميّة، (و كان أبو بكر على المنبر) فقال: يا أبا بكر، اتّق اللّه، فقد علمت ما تقدّم لعليّ عليه السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ألا تعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لنا و نحن محتوشوه في يوم بني قريظة و قد أقبل على رجال منّا ذوي قدر، فقال: يا معشر المهاجرين و الأنصار، أوصيكم بوصيّة فاحفظوها، و إنّي مؤدّ إليكم أمرا فاقبلوه، ألا و إنّ عليّا أميركم من بعدي و خليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربّي و هو أعلم، و إنّكم إن لم تحفظوا وصيّتي فيه و لم تؤدّوا أمر دينكم (و تؤووه و تنصروه اختلفتم في أحكامكم و اضطرب عليكم أمر دينكم) و ولي عليكم ألأمر شراركم، ألا و إنّ أهل بيتي هم الوارثون الأمر (أمري)، القائمون (القائلون) بأمر أمّتي من بعدي، اللهمّ فمن أطاعهم من أمّتي و حفظ فيهم وصيّتي فاحشره في زمرتي و اجعله له من مرافقتي نصيبا يدرك به فوز الآخرة، اللهمّ و من أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها السماوات و الأرض.

فقال له عمر بن الخطّاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة (الشورى) و لا ممّن يرضى بقوله.

فقال خالد: بل اسكت أنت يابن الخطّاب، فو اللّه إنّك لتعلم أنّك تنطق بغير لسانك، و تعتصم بغير اركانك، و اللّه إنّ قريشا لتعلم [أنّي أعلاها حسبا، و أقواها أدبا، و أجملها ذكرا، و أقلّها غنى من اللّه و رسوله، و] أنّك ألأمها حسبا، و أقلّها عددا، و أخملها ذكرا، و أقلّها من اللّه عزّ و جلّ و من رسوله، و أنّك لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، مالك في قريش مفخر.

قال: فأسكته خالد، فجلس.

ص: 402


1- التوبة: 117.

ثمّ قام أبو ذر رحمة اللّه عليه، فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه: أمّا بعد، يا معشر المهاجرين و الأنصار، لقد علمتم و علم خياركم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الأمر لعليّ عليه السّلام بعدي ثمّ للحسن و الحسين عليهما السّلام ثمّ في أهل بيتي من ولد الحسين، فأطرحتم قول نبيّكم و تناسيتم ما أوعز إليكم و اتّبعتم الدنيا الفانية و تركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا تهدم بنيانها (الذي لا يهرم شبابها) و لا يزول نعيمها، و لا يحزن أهلها و لا يموت سكّانها، و كذلك الأمّة التي كفرت بعد أنبيائها و غيّرت و بدّلت فساويتموها (فحاذيتموها) حذو القدّة بالقذة، و النعل بالنعل، فعمّا قليل تذوقون و بال امركم و ما اللّه بظلّام للعبيد.

ثمّ قام سلمان الفارسي رحمه اللّه فقال: يا أبا بكر، إلى من تسند أمرك إذا نزل بك القضاء؟ و إلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلم و في القوم من هو أعلم منك و أكثر في الخير أعلاما و مناقب منك، و أقرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قدمة في حياته، و قد أوعز إليكم فتركتم قوله و تناسيتم وصيّته (و وبّخه كثيرا و قال: قد سمعت كما سمعنا و رأيت كما رأينا، فلم يردعك ذلك عمّا أنت فاعله، فاللّه اللّه في نفسك و قد أعذر من أنذر- المؤلّف).

ثمّ قام المقداد بن الأسود رحمة اللّه عليه فقال: يا أبا بكر، أربع على نفسك و قس شبرك بفترك- أي لا تتجاوز حدّك .. المترجم- و الزم بيتك، و ابك على خطيئتك، فإنّ ذلك أسلم لك في حياتك و مماتك، و ردّ هذا الأمر إلى حيث جعله اللّه عزّ و جلّ و رسوله، و لا تركن إلى الدنيا، و لا يغرّنك من قد ترى من أوغادها فعمّا قليل تضمحلّ عنك دنياك ثمّ تصير إلى ربّك فيجريك بعملك و قد علمت أنّ هذا الأمر لعليّ عليه السّلام و هو صاحبه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد نصحتك إن قبلت نصحي.

ثمّ قام بريدة الأسلمي و بالغ في الوعظ و النصيحة، و قال: يا أبا بكر، نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك، أما تذكر إذ أمرنا رسول اللّه فسلّمنا على عليّ عليه السّلام

ص: 403

بإمرة المؤمنين و نبيّنا بين أظهرنا، فاتّق اللّه ربّك و أدرك نفسك قبل أن لا تدركها، و أنقذها من هلكتها و دع هذا الأمر و وكله إلى من هو أحقّ به منك، و لا تماد في غيّك و ارجع و أنت تستطيع الرجوع، فقد نصحتك نصحي و بذلت لك ما عندي فإن قبلت وفّقت و رشدت.

ثمّ قام عبد اللّه بن مسعود (1) فقال: يا معشر قريش، قد علمتم و علم خياركم أنّ أهل بيت نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منكم و إن كنتم إنّما تدّعون هذا الأمر بقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقولون: إنّ السابقة لنا فأهل نبيّكم أقرب إلى رسول اللّه منكم و أقدم سابقة منكم و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام صاحب هذا الأمر بعد نبيّكم فأعطوه ما جعله اللّه له و لا ترتدّوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

ثمّ قام عمّار بن ياسر فقال: يا أبا بكر، لا تجعل لنفسك حقّا جعله اللّه عزّ و جلّ لغيرك، و لا تكن أوّل من عصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خالفه في أهل بيته ...

ثمّ قام خزيمة ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر، ألست تعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل شهادتي و حدي و لم يردّ معي غيري؟ قال: نعم. قال: فأشهد باللّه أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و هم الأئمّة الذين يقتدى بهم.

ثمّ قام أبو الهيثم بن التيّهان فقال: يا أبا بكر، أنا أشهد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه أقام عليّا فقالت الأنصار: ما أقامه إلّا للخلافة، و قال بعضهم: ما أقامه إلّا ليعلم الناس أنّه وليّ من كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مولاه، فقال عليه السّلام: إنّ أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدّموهم و لا تقدّموهم.

ص: 404


1- إن كان عبد اللّه بن مسعود هو الذي يسمّيه النبيّ ابن أمّ عبد و هو صاحب المصحف المعروف فهو من المنحرفين عن الإمام عليه السّلام و قد جنح مع الظالمين رجاء دنيا يصيبها فخيّب اللّه ظنّة و مات مغضوبا عليه منهم.

ثمّ قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال على المنبر:

إمامكم من بعدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو أنصح الناس لأمّتي (1).

ثمّ قام زيد بن وهب فتكلّم، و قام جماعة من بعده فتكلّموا بنحو هذا، فأخبر الثقة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث (خرج من بيته و أقبل يطرق الأبواب مستقيلا قائلا: أقيلوني أقيلوني) ثمّ أتاه عمر بن الخطّاب و طلحة و الزبير!! و عثمان بن عفّان و عبد الرحمان بن عوف و سعد بن أبي وقّاص و أبو عبيدة بن الجرّاح مع كلّ واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم، شاهرين السيوف (مع كلّ واحد مأة رجل من عشائرهم- المؤلّف) فأخرجوه من منزله و علا المنبر، و قال قائل منهم: و اللّه لئن عاد منكم أحد فتكلّم بمثل الذي تكلّم به لنملأنّ أسيافنا منه، فجلسوا في منازلهم و لم يتكلّم أحد بعد ذلك .. (2).

الفصل الرابع

إنّ بريدة الأسلمي أتى عمران بن حصين فدخل عليه في منزله حين بايع الناس

ص: 405


1- و هو نصح لأمّتي- المؤلّف، و العبارة الأولى أجدر بالسياق و أقرب للبلاغة النبويّة.
2- لا ندري عن مصدر المؤلّف في هذا النصّ شيئا و وجدناه في الخصال: 463 و اضطرّتنا الحال أن نترجم قسما منه و نحذف العبارة الطويلة التي تخرج النصّ من اختيار المؤلّف على أنّنا وضعنا من غير استقصاء بعض الاختلافات بين المؤلّف و الخصال بين قوسين و أحيانا بين حاصرتين، و أخرج هذا النصّ صاحب الاحتجاج 1: 100، و ابن طاووس في اليقين: 339، و محمّد طاهر الشيرازي في الأربعين: 239، و أخرجه في بحار الأنوار 28: 196، و الأحمدي الميانجي في مواقف الشيعة 1: 426، و في الدرجات الرفيعة اقتصر على موقف أبي ذر و ذكر أقواله: 237، و أخرجه ابن جبر في كتابه نهج الإيمان: 580، و ذكره الطريحي في المجمع: 86 بسياق آخر، و مجمع البحرين هنا في مجلّد واحد و هي الطبعة القديمة الحجريّة.

أبا بكر، فقال: يا عمران، ترى القوم نسوا ما سمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حائط بني فلان أهل بيت من الأنصار، فجعل لا يدخل عليه أحد من المسلمين فيسلّم عليه إلّا ردّ عليه السلام، ثمّ قال له: سلّم على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلم يردّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ أحد من الناس إلّا عمر فإنّه قال: عن أمر اللّه أو عن أمر رسول اللّه؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل من اللّه و من رسوله.

قال عمران: قد أذكر ذا.

فقال بريدة: فانطلق بنا إلى أبي بكر فنسأله عن هذا الأمر فإن كان عنده عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهده إليه بعد هذا الأمر أو أمر أمر به فإنّه لا يخبرنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكذب و لا يكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).

فانطلقنا فدخلنا على أبي بكر فذكرنا ذلك اليوم و قلنا له: فلم يدخل أحد من المسلمين فسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا قال له: (سلّم على أمير المؤمنين عليّ) و كنت أنت ممّن سلّم عليه بإمرة المؤمنين، فقال أبو بكر: قد أمر أذكر ذلك.

فقال له بريدة: لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتأمّر على أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بعد أن سمّاه رسول اللّه بأمير المؤمنين، فإن كان عندك عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهده إليك أو أمرك به فأنت عندنا مصدّق.

فقال أبو بكر: لا و اللّه ما عندي عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أمر يأمرني به و لكن المسلمين رأوا رأيا فتابعتهم به على رأيهم.

فقال له بريدة: و اللّه ما ذلك لك و لا للمسلمين خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال أبو بكر: أرسل لكم عمر، فجائه، فقال له أبو بكر: إنّ هذين سألاني عن أمر قد شهدته و قصّ عليه كلامهما، فقال عمر: قد سمعت ذلك و لكن عندي المخرج من ذلك.

ص: 406


1- بلى و اللّه إنّه أوّل من تبوّأ مقعده من النار بموضوعه: لا نورث ما تركناه صدقة.

فقال له بريدة: عندك؟

قال: عندي.

قال: فما هو؟

قال: لا تجتمع النبوّة و الملك في أهل بيت واحد.

قال: فاغتنمها بريدة و كان رجلا مفوّها جريّا على الكلام، فقال: يا عمر، إنّ اللّه عزّ و جلّ قد أبي ذلك عليك، أما سمعت اللّه في كتابه يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (1) فقد جمع اللّه لهم النبوّة و الملك.

قال: فغضب عمر حتّى رأيت عينيه توقدان، ثمّ قال: ما جئتما إلّا لتفرّقا جماعة هذه الأمّة و تشتّتا أمرها، فما زلنا نعرف منه الغضب حتّى هلك (2).

روى هشام بن عروة عن أبيه أنّ أبا بكر و عمر و أبا عبيدة بن الجرّاح لم يحضروا دفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا ساعتها في السقيفة يلاطمون على الخلافة لئلّا تذهب الفرصة من أيديهم، و كان أبو بكر يقول: البدار البدار قبل البوار، و يحثّ الناس على البيعة.

يقول البراء بن عازب: قصد أبو بكر و عمر بعد وفاة النبيّ بليلتين منزل العبّاس عمّ رسول اللّه و كان معهما أبو عبيدة بن الجرّاح و المغيرة بن شعبة، فقال أبو بكر: يا عمّ رسول اللّه، إنّ الأمّة اختارتني، و لكن لا يخلو من طعن طاعن و نحن نعرف لك منزلتك و قرابتك، فأردنا أن يكون لك في الأمر نصيب و يبقى من بعدك لأولادك.

فقال عمر: لم تأت بنا حاجة إليك و لكن نخشى من طاعن علينا، فإذا أردت فأنت شريكنا في الأمر.

ص: 407


1- النساء: 54.
2- السيّد ابن طاووس الحسني في كتاب؟؟؟: 273.

فقال العبّاس: يا أبا بكر، إن كنت أخذت الخلافة برسول اللّه فحقّنا أخذت، إذ لا قرابة بينك و بينه، و إن كنت أخذتها برضى المؤمنين، فنحن منهم و لا نرضى بك و نكره خلافتك، و هذا الذي تعطيه لي و لأولادي إن كان لك فاحتفظ به لنفسك، و إن كان للمؤمنين فليس لك التصرّف به، و إن كان لنا فلا نرضى ببعض دون بعض فأعطنا كلّه و لا حرج عليك، و أقول ذلك من باب الحجّة عليك؛ رسول اللّه الشجرة، و نحن فروعها، و أنتم جيرانها.

فقال عمر: أتخوّفني بالناس، فاعلم بأنّ هذا أوّل عصيان منك.

الفصل الخامس

لمّا بايع محمّد بن أبي بكر أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: يا محمّد، إنّي آخذ منك البيعة لإقرارك على أنّ أباك أوّل من ظلمني بعد وفاة رسول اللّه، و عبارة أمير المؤمنين كما يلي: أبايعك أنّ أباك أوّل من ظلمني و أنّي أولى الناس بالناس، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يتقدّمك بعدي إلّا كافر، و إنّ أهل السماوات يسمّونك أمير المؤمنين.

الفصل السادس

قال النعمان بن بشير: رأيت المقداد يبكي في اليوم الذي اجتمع الناس فيه على بيعة أبي بكر.

و قال سلمان: ما دخل قلبي فرح منذ أخرج هذا الأمر عن بني هاشم.

قال جابر: ما زلت أعرف الغم في وجه سلمان منذ بايع الناس أبا بكر.

و قال المقداد: لا فرحت بشي ء بعد غمّي بالأثرة على عليّ و فاطمة عليهما السّلام.

ص: 408

قال: كان رسول اللّه يحبّ ثلاث قبائل من قريش أوّلهم بنو هاشم، و ثانيهم بنو أسد بن عبد العزّى- عبد العزيز ... المؤلّف- لأنّ خديجة بنت خويلد منهم، و الثالثة بنو زهرة لأنّ آمنة أمّه منهم، و يكره قبائل أربعا من قريش: بنو مخزوم لأنّ أبا جهل منهم، ثمّ بنو تيم و بنو عدي و بنو عبد الدار الذين منهم عمر بن الخطّاب و أصحابه و هو يبغضهم لعلمه بما يجري منه علينا.

و قد أمر النبيّ تسعة منهم بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين، و هم: أبو بكر و عمر و عثمان و المقداد و ابن مسعود و بريدة و أمثالهم، و هم رواة هذا الأمر بأجمعهم، أوّلا في حائط بني النجّار، و يوم الغدير، فقد سلّم عليه جماعة المهاجرين و الأنصار بإمرة المؤمنين.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم لعليّ عليه السّلام: يا علي، لا تفش سرّك على ثلاثة من قريش فإنّهم عدوّ لي و لك يا علي. فقال عليّ عليه السّلام: سمّهم لي يا رسول اللّه. فقال النبيّ: لا أخبرك بهم حتّى ينزل الوحي، و مرّ على هذا القول زمان، و ذات يوم و هو في بيته و قد أذن للمهاجرين و الأنصار فاجتمعوا على النبيّ حتّى اضطرّ أمير المؤمنين أن ينحاز خارج الدار، فناداه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قرّبه حتّى أدناه فصار إلى جنبه، فأوسع النبيّ له، و جاء بعده أبو بكر و عمر و عثمان فلم يسعهم المكان حتّى جلسوا على عتبة الباب، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، قدّمت عليّا عليّ و أوسعت له حتّى جلس إلى جانبك، فلماذا لم تفعل بي هكذا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد أبديت ما في قلبك و ما بقي لعليّ في قلبك أشدّ و أجلّ.

و قال عمر نحوا من قول صاحبه، فقال رسول اللّه: إنّ اللّه لم يجعلك عندي و عليّا (سواء- الترجم).

فقال عثمان: إنّ في البيت من أنا أحقّ بالجلوس في البيت منه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لا ينقص الحقّ و لا يعطي الفي ء غير من جعله اللّه له.

ص: 409

فلمّا انفضّ المجلس قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: أخبرني الوحي بأنّ هؤلاء عدوّك و قد بيّن اللّه أمرهم فاحذرهم أنّى يؤفكون.

الفصل السابع

اعلم بأنّ أبا بكر لم يكن من الأنصار و ليس من المهاجرين بوجوه عدّة:

الأوّل: لمّا كان خادما للنبيّ كان بمثابة دليله و حمّاله الذين لازماه، فإذا جاز تسمية هذين مهاجرين جاز تسمية أبي بكر مهاجرا لوحدة الشأن و الغاية «و هذا باطل فذاك باطل أيضا».

الثاني: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فينبغي أن تكون الهجرة إلى اللّه و رسوله و لذا عدّاها بالحرف «إلى» لا بالحرف «مع» ليكون من صحب النبيّ مهاجرا و لم تكن هجرة أبي بكر للّه و رسوله لذا لا يسمّى مهاجرا.

الثالث: إنّ غرض أبي بكر و عمر و عثمان من الهجرة هو خطبة فاطمة، فحرّمهم اللّه و رسوله منها و أعطاها لعليّ (2).

الرابع: قال المؤرّخون: لمّا نزل النبيّ بقباء استأذنه أبو بكر في الذهاب إلى أصحابه في المدينة، فأذن له النبيّ و بقي النبيّ ثلاثة أيّام في قباء و أبو بكر متخلّف عنه عند أصحابه، فتبيّن أنّ هجرته إنّما كانت لزيارة الأصدقاء و تجديد العهد بهم لا لنفس الهجرة و صحبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه الصورة لا يصدق على هجرته حرف

ص: 410


1- النساء: 100.
2- لا أعتقد أنّ هؤلاء الأوغاد تمنّيهم أنفسهم نيل ذلك لعلمهم بما عزم عليه النبيّ و لو كان ذلك يدور في خلدهم لما كتموه و هم في مكّة إذ لا داعي للهجرة من أجله، فقد كان بوسعهم طلبه و هم في مكّة.

«إلى»، فإذا كان الأمر كذلك فخلافته باطلة لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (1).

سؤال: الرضا بالظلم و التسليم به ظلم أيضا، فلماذا سكت أمير المؤمنين عليه السّلام عن حقّه و لم يقاتل القوم لكي يظفر بحقّه لو كان له حقّ بالخلافة؟

الجواب: أمره رسول اللّه بالصبر لئلّا يستأصله المنافقون و أولاده. و جاء في الرواية بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ، إنّه سيلي هذا الأمر أبو بكر؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك، ثمّ يلي بعده عمر؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك، ثمّ يلي بعده عثمان؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك.

ثمّ إنّ قوام الدين بعد النبيّ منوط به و بأولاده، و لو أنّه خرج فإنّ بني هاشم لا يقفون عن معاضدته و إنّهم لفئة قليلة و لا بدّ من وقوع السيف بين هؤلاء و هؤلاء، و حينئذ تدور الدائرة على بني هاشم فيهلكون بأجمعهم، و هلاكهم هلاك الدين، و في المدينة يكثر المنافقون و خارجها المرتدّون ... (2) فإنّ الغلبة لهم، و سوف يهتبلون الفرصة و يدمّرون بني هاشم طلبا لثاراتهم القديمة، فكان أمير المؤمنين يودّ أن يبقى من الدين و لو رمق واحد على أن يهلك كلّه و إن ظلّ محروما من حقّه، من هذه الجهة تباطأ عن القتال، لأنّه خاف محق الدين.

و هذا المعنى ظاهر من كلامه، معلوم بيّن، فقد قال لمّا بويع أبو بكر: أتاني نفر من

ص: 411


1- الأنفال: 72.
2- أخشى أن يكون المؤلّف على فضله أخذ بالدعاية المضلّلة من أنّ الذين حاربوا أبا بكر مرتدّون و الواقع أنّهم ليسوا كذلك و إنّما كان ارتدادهم عن أبي بكر لا عن الدين، فلم تنقل عن أحدهم كلمة واحدة مضادّة للدين ليثبت ارتدادهم، إنّما أبوا البيعة و دفع المال لأبي فصيل ....

أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعرفهم بالنصح للّه و لرسوله و لدينه و للمسلمين، فدعوني إلى أخذ حقّي و بذلوا أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا بذلك الحقّ عنهم لي فعلمت أنّ نصب نفسي لطلب حقّي مع جدّة الإسلام و قرب عهده بالجاهليّة و المنازعة في ذلك، قال قائل فيه نعم، و قال قائل فيه: لا، فنرى في ذلك من القول إلى الفعل حتّى يصيروا إلى الحرب، فيتقيني عصبة ألّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باللين مرّة و بالشدّة أخرى.

إلى أن قال: و نحن أهل بيت لا سقوف لبيوتنا، و لا ستور و لا أبواب إلّا جرايد نتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، و ربّما أتانا النبيّ بالشي ء ممّا أفاء اللّه عليه و صيّره لنا خاصّة دون غيرنا، و نحن على ما وصفت من حالنا فنؤثر به أرباب النعم (1) و الأموال تألّفا منه لهم، و استكثارا منهم، فكنت أحقّ من لم يفسد هذه العصابة ألّفها رسول اللّه و لم يحملها على الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فتاء آجالها قبلها لأنّي لو نصبت نفسي حتّى أدعوهم إلى نصرتي مع إطباقهم على ما أطبقوا عليه، كانوا في أمري على إحدى المنزلتين: إمّا متّبع فقاتل او مقتول، و إمّا خاذل يكفر بخذلانه إيّاي، و قد علم أنّي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة هارون من موسى يحلّ به في مخالفتي و ترك نصرتي ما أحلّ به قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون، و رأيت الإمساك حتّى يقضي اللّه ما أحبّ (2).

جواب آخر: يقول المخالفون: إنّ المهاجرين و الأنصار بايعوا بأجمعهم أبا بكر، و بناءا على هذا كيف يستطيع عليّ محاربة هؤلاء؟!

ص: 412


1- فيؤثر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرباب النعم و الأموال تأليفا منه لهم ... الخ، السياق يدلّ على صحّة هذه العبارة دون التي ذكرها المؤلّف، و هي في ج 1 ص 349 من شرح الأخبار للمغربي.
2- القاضي النعماني المغربي، شرح الأخبار 1: 349؛ الخصال: 373 بسياق مختلف عن سياق المؤلّف و المعنى واحد؛ الاختصاص للمفيد: 172؛ حلية الأبرار للبحراني 2: 369؛ بحار الأنوار 38: 175؛ حياة أمير المؤمنين عن لسانه 2: 242.

جواب آخر: إنّ إبليس خالف أمر اللّه و عصاه فلم يسجد لآدم و كان بين الألوف المؤلّفة من الملائكة و مع هذا فلم يقاتله الملائكة، و كان عليّ منفردا وحده.

و لمّا كان إبراهيم لا طاقة له بعدوّه فعاش محتقرا و ألقي في النار، و لكنّه حين قوي على القتال قاتل حتّى قتل بأنّه اشترى ثلاثمائة غلام ليقاتلوا معه بالعصى و عمد الخشب.

و لمّا كان يوسف ضعيفا رضي بالعبوديّة، و لمّا استقوى خلّص نفسه.

و لم يقاتل موسى و هارون عبدة العجل السامري و لكن لمّا قويا قاتلا عنصرين من عناصر جيشه رجلا و امرأة حين زنيا، و مثله بنو إسرائيل فقد كانوا لا يدخلون بيت المقدس فلم يحاربهم موسى.

و نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لم يقاتل أيّام الشعب و الغار و أوّل الهجرة، و لكنّه قاتل بعد الهجرة إلى المدينة حين ملك القوّة،، و لا ذمّ على الأنبياء في تركهم للحرب في ضعفهم.

و مثلهم عليّ عليه السّلام حين لم يجد الأعوان، و لمّا ملك العدّة و العدد أيّام معاوية حاربه حربا شرسة، و كان عليّ يقول: لو كان لي أعوان لجاهدتهم.

و قال أيضا كما قال سلفه الأنبياء: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (1).

الفصل الثامن

النبوّة دعوة الخلق إلى الطاعة و الإسلام و الإيمان بعد الوحي، و الإمامة بالنصّ، و النصّ يكون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ دعاهم إلى إمامة عليّ عليه السّلام يوم الغدير، و يوم حائط بني النجّار، و يوم الحديبيّة، و يوم تبوك، و نظائر ذلك.

و يمكن أن نشبّهها بسجدة آدم، فقد أمر بها اللّه تعالى و لم يوجب على آدم دعوة

ص: 413


1- هود: 80.

إبليس إلى السجدة فإذا أبى حاربه بل هذا الأمر يعود إلى اللّه تعالى، فلمّا امتنع إبليس عن السجود قال اللّه له: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1) و لم يأذن للملائكة بقتاله.

و لو قلنا بوجوب إقامة البيّنة فلا يستبعد أن يحتال القوم على شهادة الشهود، و حينئذ لا يجني منها إلّا نقصان درجة المدّعي و كماله و الاستخفاف به و تجرّ إلى إذلاله و إهانته و إهانة الشهود، و تداني رتبة الشاهد عند الناس كما فعل أبو بكر (مع الزهراء)، و شهد جماعة على المغيرة بن شعبة بالزنا فدفع عمر شهادتهم بكلّ ما يملك من الاحتيال، فأدّى ذلك إلى خجل الشهود أمام الناس.

و أيضا لماذا لم يثبت إمامته بإظهار المعجزة و هذه في ظاهر الحال من خصائص النبوّة.

و لمّا أبى سعد من بيعته و قال له: أعطني سيفا يقتل الكافر دون المسلم، قال عليّ عليه السّلام: إنّ إمامتي نصّ من صاحب المعجزة و ليس في المعاجز تعنّت، و سئل رسول اللّه مثل هذا السؤال بتعنّت و أعرض عن السائل، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (2) الآية، و قال: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ (3).

و قال عليّ عليه السّلام: ألا إنّ أبا بكر تقدّمني عليها و هو يعلم أنّي خير منه و أولى بها منه، ألا ما زلت مظلوما، ألا ما زلت مقهورا منذ قبض اللّه نبيّه ... و الخطبة الشقشقيّة شاهد عدل على ذلك.

ص: 414


1- ص: 78.
2- النساء: 153.
3- الفرقان: 7- 8.

ثمّ إنّ القوم أثاروا شبهة يوم السقيفة و تمكّنت من عقول الناس و لو أظهر عليّ دعواه فلا بدّ من إزالة هذه الشبهة، و هذا لا يتمّ إلّا بظهور الفتنة، و لمّا كان ضرر الفتنة عامّا كان دفعها واجبا بالصبر و التحمّل و السكوت.

جواب آخر: لو كان لأحد دين على أحد فإنّ المطالبة به واجبة بأحسن وجه، و ليس بالحرب و القتال، بل الواجب طلب الدين و إن جحده الغريم و إلّا فالصبر إلى موعد القيامة، و لمّا كان عليّ على علم تامّ بأنّ المطالبة بحقّه يجرّ إلى هلاكه و هلاك أهل بيته و كثير من المسلمين المؤمنين و تثور فتنة في الإسلام تأتي على الأخضر و اليابس، فإنّ فرض الجهاد حينئذ يسقط عنه، قال اللّه تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (1).

جواب آخر: اتفق المخالف و المؤالف على أنّ بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر طيلة حياة فاطمة عليها السّلام، و لم يقبل عليّ ولايتهم و لا شاركهم في غزو، و كان كثير المطالبة بحقّه، و ينكر على الصحابة ما فعلوه، و أعانه قوم من أصحاب النبيّ كسلمان و مقداد و عمّار، حيث رووا عن النبيّ أنّ الحقّ حقّه و غيره مبطل، و لمّا عاد الحقّ إلى أهله و ألقي زمامها إلى أمير المؤمنين و أصبحت الخلافة في حوزته و استأصل إليه شأفة عدوّه، لم يتقدّم أحد بالاعتراض عليه أو الردّ بأخذ ما ليس حقّه، و هذا بمجمله دليل على أحقّيّته، و إبطال دعاوى الآخرين، و طلحة و الزبير لم ينكرا حقّ عليّ و لا مرتبته في الدين بل توسّلوا بقتل عثمان فموّهوا على الناس أنّه تمّ بسعي عليّ عليه السّلام، و ليس كذلك و إنّما هو بإجماع من الصحابة و اتفاقهم عليه، و لو أراد عليّ القصاص مثلا فكيف السبيل إلى قتل كلّ هؤلاء القوم، ثمّ إنّ الذين قتلوه قتلوه بحجّة حتّى قالوا: قتلناه كافرا، كما جاء في نكت الفصول للاصفهاني.

ص: 415


1- الأنفال: 25.

و أيضا: إنّ صاحب النكت من فرقة النواصب إلى الحدّ الذي رأيته يمحو من بعض النكت المكتوب فيها عليّ أمير المؤمنين لفظ «أمير المؤمنين» و يكتب اسم عليّ مكانها، و يكتب عن شيوخه فلان و فلان بخطّ يده «أمير المؤمنين»، و أوّل من بايع عليّا من الصحابة طلحة و كان هو و الزبير يدعون الناس إلى بيعة أمير المؤمنين، و لكن استحوذ عليهم الشيطان و سوّل لهم النكث.

و كانت عائشة تحرّض الناس على قتل عثمان و بعد أن قتلته أخذت تطالب بدمه، و قال لها الإمام: إنّ وليّ عثمان المطالب بدمه أولاده، فأمّا أنت فلست من أوليائه، و ان قتله قتل «عمية» أي بين عدّة من المهاجمين لا يمكن إلقاء تبعة قتله على أحد منهم.

و عرض عليهم يوم الجمل كتاب اللّه فلم يقبلوه ثمّ طالبهم بالسنّة فردّوها و أرادوا أن يتأمّروا على الأمّة فلم يمكّنهم اللّه من ذلك و ضلّ سعيهم فأهلكهم سبحانه، و تمثّل أمير المؤمنين بهذه الأبيات:

لنا ما يدّعوه بغير حقّ إذا ميز الصحاح من المراض

عرفتم حقّنا فجحدتموه كما عرف السواد من البياض

كتاب اللّه شاهدنا عليكم و قاضينا الإله فنعم قاضي قال إسحاق بن جعفر: إنّ الأعمش قال: شهد عندي عشرة من خيار التابعين بأنّ البراء بن عازب قال: إنّي أبرأ حتّى الموت من أولئك الذين تقدّموا على عليّ، و أبرأ في الدنيا و الآخرة منهم، و كانت آخر كلمة قالها الأعمش عند النزاع: أنا إلى اللّه منهم بري ء، ثمّ أسلم الروح.

بيّنة: قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت أماشي عمر ذات يوم، فرفع صوته بآية نزلت في

ص: 416

عليّ عليه السّلام ثمّ استقبلني بوجهه و قال: إنّ عليّا أحقّ بالأمر من الجماعة. و في رواية:

أما و اللّه إنّ صاحبكم أحقّ بالأمر منّا.

قال عبد اللّه: فقلت: فلماذا منعتموه حقّه أنت و صاحبك؟

قال: كنّا خائفين أن لا يجتمع العرب عليه، لأنّه و ترهم جميعا.

فقال عبد اللّه: إنّ اللّه قدّمه فكيف تؤخّره العرب، و مع ذلك فإنّ قتلهم كان بأمر اللّه و رسوله لا باختياره.

قال عمر: استصغرنا سنّة فأخّرناه.

قال عبد اللّه: إنّ رسول اللّه أعطاه سورة برائة و بعثه في الموسم فما استصغره، كما زوّجه فاطمة عليها السّلام، و كذلك حمّله الراية يوم خيبر فلم يستصغره، كما بعثه إلى اليمن و هو في هذه السنّ.

قال عمر: ما فعلنا ذلك عن عداوة و لكنّا خفنا أن لا يجتمع عليه قريش و العرب.

و قال أيضا: لو أدركت سالما مولى حذيفة ما تخالجني الشكّ، و سالم مولى امرأة من الأنصار و هي وارثته (1).

و كذلك قال: لو أدركت أعمش عبد القيس لسلّمتها إليه، يعني الجارود العبدي، و غرضه من ذلك الاستخلاف.

قال أبو بكر: الأئمّة من قريش.

و ما أعجب هذا التناقض! لست أدري هل الصدق في جانب عمر أو صاحبه؟!

ثمّ اعلم أنّ عمر أقرّ يوما بالخلافة لسالم و يوما للجارود العبدي و يوما لعليّ عليه السّلام

ص: 417


1- غفر اللّه للمؤلّف، هو يقول سالم مولى حذيفة، ثمّ يقول مولى امرأة من الأنصار، و حذيفة هذا هو ابن اليمان، و سالم مولاه، ثمّ العبارة التي ساقها المؤلّف ناقصة و تمامها «بتوليته».

و صيّرها يوما شورى، فإن كان مصيبا في واحد فقد أخطأ في الأخرى، «فاعتبروا يا أولي الأبصار».

رقبة بن مصقلة عن أبيه عن جدّه، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو أنّ السماوات السبع وضعت في كفّة و وضع إيمان عليّ في كفّة لرجح إيمان عليّ (1).

و هو الذي غصب حقّ عليّ و تقدّمه، و العجب من أمر القوم أنّ اللّه و رسوله أراد تقديم عليّ على الأمّة و لكن الأعراب و قريشا كرهوا ذلك، و إرادتهم مقدّمة على إرادة اللّه و رسوله، و لها الاعتبار و لا اعتبار لأمر اللّه و رسوله و نهيه.

و كذلك قال عمر لأصحاب الشورى الستّة: إنّ الأمر فيكم ما بقي منكم أحد فلا تختلفوا فيه فيغلبكم عليه معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لمكرهم و غنائهم، و مع هذا ولّى معاوية من قبله على الشام (2).

و قال لعثمان: أمّا أنت يا عثمان فو اللّه لروثة خير منك، و أنت من أهل النار.

و قال للزبير: أنت كافر الغضب مؤمن الرضا.

و قال لطلحة بن عبد اللّه: إنّي لا أحبّك و لا تحبّني، و أنت الذي أردت نكاح أزواج النبيّ من بعده «و لا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا».

و قال لسعد بن أبي وقّاص: إنّك لفاروق هذه الأمّة في سحرك.

و قال لعبد الرحمان: لست عاقلا و لا فصيحا.

ص: 418


1- مستدرك الوسائل 15: 329؛ مناقب ابن شهر آشوب 1: 292 و 2: 191؛ الأربعين: 450؛ بحار الأنوار 31: 28 و 133؛ مقام علي لنجم الدين العسكري عن ذخائر العقبى: 14 إلى آخره؛ لسان الميزان لابن حجر 5: 97؛ مناقب الخوارزمي: 131؛ كشف اليقين: 110.
2- في كتابي «الحكم و الأخلاق في منطق الثورة الحسينيّة» جرّدت عمر من ثيابه حتّى بدت سوئته في هذه المسألة.

و قال لعليّ: لو وزن إيمانك بأهل الأرض لوزنتهم.

ثمّ قال: اذهب يا صهيب و صلّ بالناس، فإن مضت ثلاثة أيّام و رضي خمسة و أبي واحد فاضربوا عنقه، و إن أبي اثنان فاضربوا أعناقهما، و إن مضت ثلاثة أيّام و لم يجتمعوا على شي ء فاضربوا أعناقهم.

فقال الوليد بن عتبة (1): يا عمر، سمّ الخليفة أنت و عثمان أهل لها، فقال عمر مستنكرا على عثمان و خلافته: فكيف محبّته لأهل بيته و حبّه للمال.

و قال آخر: سمّ لها طلحة فإنّه جدير بها، فقال: كيف يستخلفون رجلا كان أوّل شي ء يحلّه رسول اللّه أرضا فجعله من مهر يهوديّة.

فقال أحدهما: أين أنت عن عليّ عليه السّلام فاستخلفه، قال: إنّكم لا تستخلفونه و لو أنّكم استخلفتموه لأقامكم على الحقّ و إن كرهتم.

و العجب من هذا الرجل زعم أنّ رسول اللّه توفّي و هو راض عن هؤلاء الستّة، و لم يأتوا ما يحلّ له دمهم لكي يقتلوا من الزنا و قتل النفس بغير الحقّ أو السعي فسادا في الأرض و أمثال ذلك، و لكنّه أمر بقتلهم عند موته!!

تأمّلوا أيّها العقلاء، و شاهدوا هذا الحال بعين الاعتبار فقد أمر بقتلهم بعد ثلاثة أيّام من وفاته فهل حكم اللّه و رسوله بهذا، و قد قال اللّه تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (2) إلّا أنّه يقول الخصم: إنّ حكم الأكاسرة و الفراعنة و القياصرة و النماردة، و ليس حكم اللّه و رسوله.

ص: 419


1- لعلّه الوليد بن عقبة، و تجد خطاب عمر للستّة بصيغ متباعدة في الكتب التالية: الإيضاح: 500 و 501؛ المسترشد: 456؛ الأمالي للمفيد: 62؛ الصراط المستقيم 3: 23؛ كتاب الأربعين لمحمّد بن طاهر القمّي: 567؛ بحار الأنوار 21: 359؛ الغدير 5: 364؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 185؛ كنز العمّال 5: 741 رقم 14267 و غيرها كثير.
2- المائدة: 44.

جواب: لمّا أمر عمر بوضع الديوان و جاؤوه بالسجلّ فأمر أن يكتب اسم عليّ و الحسن و الحسين في رأس الجريدة و أمر لكلّ واحد منهم بخمسة آلاف درهم لكلّ سنة، فقال له بعضهم: لم لم تبدأ باسمك؟ قال: بل أكتبه بينهم، و لمّا مضت أيّام طلب الصحيفة، و أمر بمحو اسم عليّ و الحسنين منها، فقال: إن كان لهم هذا المال في كلّ سنة فسوف يترفون و يأخذهم البطر فيهبون للطلب بميراث النبيّ و خلافته فينبغي أن يظلّوا دائما في الجوع و الحاجة حتّى يعجزوا عن القيام لتحلّ بهم النكبة.

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: نشدتك باللّه يا عمر حين كتبت في صدر الصحيفة أكنت تعدّها من حسناتك؟ قال: اللهمّ نعم، قال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتّى رأيتك تمحو حسناتك بيدك، قيل: فطلب عند ذلك الصحيفة و أمر بإثبات بوضع أسمائهم في مكانها.

الفصل التاسع: في فوائد هذا الكتاب

قال ثوبان في وصف يوم السقيفة: ذلك يوم نحس مستمرّ.

و قال سعد بن عبادة: كاد هذا الأمر يضمحلّ يوم السقيفة، و كان غرضه من ذلك دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو ذر: ما عدلت عندي مصيبة خروج هذا الأمر عن بني هاشم.

قال سلمان: أنا قلت لأبي بكر: لم يخرج أمّة قطّ إمارتها من بيت نبوّتها إلّا وقعت في شرّ.

مرّ أبيّ بن كعب عشيّة يوم السقيفة على حلقة فيها الأنصار جلوس، فقالوا له:

من أين قدمت؟ قال: من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقالوا: كيف خلّفتهم؟ فقال:

كيف أخلّف قوما كان فيهم رسول اللّه و جبرئيل و اليوم فقدوهما و غصب حقّهم، فأبكى الحاضرين جميعا.

ص: 420

كان خزيمة بن ثابت و أبو الهيثم و الأنصار في يوم صفّين بذلوا غاية الجهد في نصر أمير المؤمنين، فقال عليّ عليه السّلام: إنّهم إن خذلونا في البداية و لكنّهم تابوا في النهاية، و علموا أنّ ما عملوه قبل اليوم كان شرّا كلّه.

مسألة: قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. و روي: فاضربوا عنقه.

و المراد من الفلتة أنّه لم يكن بإجماع الأمّة بل أمر ارتجل من غير رويّة و تفكّر، و ذلك أنّ الصحابة لم يكونوا راضين به، فإذا كان هذا رأيه في بيعة صاحبه و لم يمنع من وقوع الفلتة بل أعان عليها فهو مخطئ.

فلو قيل: ما كان ذلك بمستطاع له، فنقول: و كذلك عليّ لم يكن قادرا على دفع ظلمهم.

و لئن قالوا: هذا القول موضوع على لسان عمر و إنّة قوّل ما لم يقل، فإنّنا نقول:

و كذلك الأحاديث الموضوعة في مناقبهم.

و يجوز قتل صاحبه طبقا لفتواه بل يجب و ما كذب الخليفة فقد أنكر عليه الأمر خالد بن سعيد بن العاص كما قال عبد اللّه بن عبّاس: يا بني هاشم، أنتم هداة البشر و لكن ختم اللّه الأديان و النبوّات فما بالكم سكتّم فقوموا إلى سيوفكم المرهفة الحدّين.

مسألة: مذهبنا بأنّ بني هاشم قاطبة و أتباعهم كأبي ذرّ و سلمان و المقداد لم يبايعوا قطّ.

و قال عمر لسلمان يوما: إنّ تلكّأ بنو هاشم عن البيعة فلإدلالهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فخرهم به، و أنّهم يقولون: أفضل الخلق بعد النبيّ فما الذي خلّفك أنت؟

فقال سلمان: أنا شيعة لهم في الدنيا و الآخرة، أتخلّف بتخلّفهم، و أبايع ببيعتهم.

ص: 421

و البراء بن عازب و بريدة بن الحصين كانا مدّة قعود أمير المؤمنين معه يأتونه بأخبار القوم.

الفصل العاشر

لمّا انتقل النبيّ إلى الرفيق الأعلى، قيل: إنّ الصحابة اجتمعوا في المسجد و قال بعضهم: نبايع عليّا، و قال البعض الآخر: لا نبايع إلّا أبا بكر، ثمّ قاموا إلى بيت عائشة و بايعوا أبا بكر.

فقال عمر: لا يتمّ لنا هذا الأمر ما لم يبايع عليّ عليه السّلام، فذهب إلى بيت فاطمة عليها السّلام و معه فريق من الناس، فصاح بعليّ كما تقدّم: أين أبو الحسن؟ أين أبو الحسن؟ ثمّ قبض عليه من ثيابه و أخرجه خارج البيت، و قال: أترى أولادك يحمونك بمال الخمس الذي يأكلونه، فلن يطعموه بعد اليوم و لن ينالوه إلى الأبد، قال: «الثرى في فيك». فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: بل الثرى في فيك، و انتزاع ردائه من يده و سار معه و جلس ناحيه في المسجد مهموما يفكّر في ما آل إليه أمر الأمّة، و سرح في فكر عميق، و يضع التصاميم، ثمّ قال: إنّ هذا الذي بايعه الناس سوف يظلّ حاكما لمدّة محدودة و يأتيه حتفه و يموت بحمامه، و أمّا عمر فإنّه يظلّ حاكما سنين عدّة من بعده ثمّ يوافيه الأجل قتلا و يريق اللّه دمه.

يقول حبشي بن جنادة: وقع ما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام كلّه لم يتقدّم يوما و لم يتأخّر يوما، و كان حبشي أحد الصحابة.

الفصل الحادي عشر

وقع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار في موضوع الإمامة حتّى قال قائل منهم:

ص: 422

«منّا أمير و منكم أمير» و هذا دليل على أنّ موضوع الخلافة يختصّ بالملك و السلطان و ليس بالخلافة بعد النبوّة أو الإمامة، و كانت حجّة أبي بكر «الأئمّة من قريش» فانقاد الأنصار له عند سماع هذا الحديث و لكنّه لا يعرف كيف يستدلّ به، فإنّ قريشا كثيرون و التخصيص يحتاج إلى دليل، و هو إمّا بنصّ من اللّه و رسوله، و إمّا بالقرابة أو بكليهما، و هذه كلّها مفقود في الجماعة و مجموعة في عليّ عليه السّلام؛ لأنّ عمر قرشيّ و له قرابة و لا تخصيص في هذه المرويّة إلّا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ من بني هاشم، و قريش بمنزلة الشجرة و بنو هاشم ثمرتها.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

فقال: لا تقدّموهم فإنّهم أفضل منكم، و لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.

و خصّ عليّا عليه السّلام من بينهم فقال: إنّه هاد مهدي يسلك بكم المحجّة البيضاء، و إنّه أقضى الأمّة، و إنّه عالم على (كذا) تأويل القرآن كما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزيله (1).

هذا مع أنّ الخزرج بقيادة رئيسهم سعد بن عبادة لم يبايعوا و مات سعد على إنكار البيعة و بايع فريق من الأوس و فريق آخر لم يبايع، و الذين بايعوا كانت بيعتهم بدافع قبليّ محض حيث حملهم الحسد و العداوة القديمة في الجاهليّة بين الأوس و الخزرج، و كان اللّه قد ألّف بين قلوبهم في الإسلام ببركة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا فارق النبيّ الدنيا عاد القوم إلى جاهليّتهم و عداوتهم، في يوم السقيفة، و رفع الغطاء عن الأضغان القديمة، و استجدّت في الإسلام أخرى، و لهذا قال خزرجيّ لأوسيّ بعد أن بايع أبا بكر: ما حملك على ما صنعت إلّا حسد ابن عمّك سعد.

ص: 423


1- هذه مجموعة أحاديث اشتهرت بين الأمّة و تواتر بعضها، فما من حاجة إلى تخريجها لأنّك تجدها مرويّة و مخرّجة بأحسن الطرق عند معظم الحفّاظ إلّا الشاذّ منهم.

و يقال عن الواقدي في فتوح الشام بأنّه قال عن أبي بكر أنّه قال: قد علمت أنّي داخل في النار. و روي: واردها، و ليت شعري أخرج أم لا.

و كان الواقديّ عثمانيّا و هو من شيعة أبي بكر، و يوثق به عند أهل السنّة و الجماعة.

المعروف عن أبي بكر أنّه كان يظهر اللين و الرفق بأمير المؤمنين عليه السّلام، و كان يظهر النفرة من الخلافة و عدم الرضا بها لا سيّما إذا رأى أمير المؤمنين عليه السّلام أو جلس بحضرته، و سنحت له الفرصة ذات يوم فأقبل عليه و قال: يا أبا الحسن، أنت تعلم بأنّي لم أكن صاحب مال و لا خدم أو حشم، و لم أرغب في الإمرة، و لا تمنّيتها، فمالك تميل عنّي بوجهك و تظهر الكراهيّة على وجهك و الألم عند لقياي؟

فقال عليّ عليه السّلام: إن لم تكن ذا رغبة بها فمالك قبلتها و أخذت حقّا لم يكن لك؟

قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا تجتمع أمّتي على ضلال، من ثمّ تقبّلتها، و لو علمت أنّ أحدا من الأمّة غير راض بي لما أقدمت على هذا الفعل الخطير، و لعزلت نفسي.

فقال عليّ عليه السّلام: يا أبا بكر، أنا واحد من أمّة محمّد و مثلي سلمان و أبو ذر و المقداد و عمّار و سعد بن عبادة و الأنصار من الخزرج، و لم يطعن بهم أحد، و لم يتّهمهم بالتقصير في ذات اللّه و وصيّة رسوله.

فقال أبو بكر: خفت على الأمّة من الارتداد إن لم أقم في الأمر أو يتخلى الناس عن الإسلام، و عند ذلك يصاب الإسلام بخلل لا يسدّ، و كسر لا يجبر.

فقال عليّ عليه السّلام لأبي بكر: بم يحصل هذا الأمر؟

فقال: بالنصيحة و الوقار و رفع المداهنة و المخاتلة و حسن السيرة و إظهار العدل و العلم بالكتاب و السنّة و فصل الخطاب مع الزهد في الدنيا و قلّة الرغبة فيها، و انتصار المظلوم من الظالم للقريب و البعيد.

ص: 424

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و السابقة و القرابة. ثمّ قال: ناشدتك اللّه، أهذه الخصال فيك أم فيّ؟

فقال أبو بكر: فيك يا أبا الحسن.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أأنا السابق في الإسلام أم أنت؟ قال: بل أنت.

فقال: أأنا كنت مولى المسلمين كلّهم أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال: أأنا وليّ المسلمين لمّا تصدّقت بالخاتم فأنزل اللّه فيّ قرآنا يتلى أم أنت؟

قال: بل أنت.

قال: أأنا لرسول اللّه بمنزلة هارون من موسى أم أنت؟

قال: بل أنت.

فقال: هل باهل رسول اللّه بي و بأولادي و زوجتي أو بك و بأهل بيتك؟ قال:

بل باهل بك و بأهل بيتك.

قال: هل نزلت آية التطهير فيّ و بأهل بيتي أو فيك و بأهل بيتك؟ قال: بل فيك و في أهل بيتك.

قال: المدعوّ تحت الكساء أنا و أهل بيتي أو أنت و أهل بيتك؟ قال: بل أنت و أهل بيتك.

فقال: أفيك نزلت آية يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (1) الآية، و في أهل بيتك أو فيّ و في أهل بيتي؟ قال: بل فيك و في أهل بيتك.

قال: و في وقعة أحد حين نادى جبرئيل بين السماء و الأرض: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علي، أكان هذا النداء في حقّك أم في حقّي؟

و هل ردّت الشمس لي أو لك بعد غروبها؟

ص: 425


1- الإنسان: 7.

و في يوم خيبر أعطي الراية لي و كان الفتح على يدي أم لك و على يديك؟

و من كشف الغمّ عن وجه رسول اللّه و المسلمين يوم الأحزاب و الخندق بقتل عمرو بن عبد ودّ، أنت أم أنا؟

و هل ائتمنني رسول اللّه على رسالته إلى الجنّ أو ائتمنك فأجابه بل إاتمنك.

و هل طهّرني رسول اللّه أم طهّرك بقوله: «يا علي، أنا و أنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطّلب»؟

و اختارني لفاطمة كفوا أم اختارك؟

و أنا أب لسيّدي شباب الجنّة أم أنت؟

و أخي يطير مع الملائكة في الجنّة جعفر أم أخوك؟

و أنا قاضي دين رسول اللّه أم أنت؟

و أنا مرسل من قبله للنداء في أهل الموسم أم أنت؟

و أنا منجز عدات رسول اللّه أم أنت؟

أنا المدعوّ إلى الطير المشويّ مع رسول اللّه أم أنت؟

و أنا الذي قمت بتجهيز رسول اللّه و أغمضت له عينيه و أسبلت له يديه و قمت بدفنه أم أنت؟

و أنا الذي دعا لي بعلم القضاء و فصل الخطاب و قال عنّي: أقضاكم عليّ، أم أنت؟ كامل البهائي ج 1 426 الفصل الحادي عشر ..... ص : 422

من منّا أمر النبيّ الصحابة أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، أنا أم أنت؟

و من منّا أنزل اللّه عليه دينارا لقضاء حاجته و بايعه جبرئيل و شاراه، فأضاف الرسول و أولاده، أكان ذلك الشخص أنا أم أنت؟

ص: 426

قيل: و هاهنا بكى أبو بكر (1).

ثمّ قال: و أنا الذي رقيت على منكب النبيّ حتّى هشمت أصنام الكعبة أم أنت؟

ثمّ قال: لو شئت أنال أفق السماء لنلتها.

و من صاحب لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدنيا و الآخرة، أنا أم أنت؟

و سدّ رسول اللّه جميع أبواب أصحابه المحاذيه للمسجد و ترك بابي مفتوحا أم بابك؟

و من صاحب مناجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المتصدّق قبل التسبيح في الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (2) أنا أم أنت؟

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: «زوجك أوّل الناس إيمانا، و أرجحهم إسلاما» عنّي أم عنك؟

و كان أبو بكر لا يجيب على سؤال الإمام عليه السّلام إلّا بقوله: أنت لا غيرك، و ناشده بأمثال هذه الرتب العالية كثيرا، و كان يثني على الإمام كثيرا، و بكى في آخر الحديث و قال: يا أبا الحسن، أخرجني من هذا المأزق الذي وقعت فيه و خلّصني من عذاب اللّه يوم القيامة.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الأمر إليك إن شئت ذلك، اردد عليّ حقّي و حقّ أولادي الذي لا تستحقّه أنت، فرضي بأن يفعل ذلك، و خرج على هذا القرار عند الإمام عليه السّلام.

و كان عمر يبحث عنه طول يومه و قد تملّكته الحيرة من غيابه، حيث لا يعلم

ص: 427


1- إن كان أبو بكر بهذا القلب الرقيق و العواطف السامية و يتحلّى بالنجابة التي تحمله على الشهادة لخصمه بحقّه و فضله إذن من الذي ظلم عليّا و غصبه حقّه ..؟؟!
2- المجادلة: 12.

الوجهة التي استخفى فيها، و كان يعلم منه اللين و الرضوح للحقّ أحيانا (1) لذلك لا يدعه وحده بحال من الأحوال، و كان يخشى أن يرجع الحقّ إلى عليّ عليه السّلام، و لمّا علم أنّه مختل بعليّ خاف.

و في تلك الليلة رأى أبو بكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عالم الرؤيا فسلّم عليه و لكن النبيّ لم يرد جواب سلامه و أشاح بوجهه الشريف عنه، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، ما ذنبي حتّى أدرت وجهك عنّي؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أردّ السلام عليك و قد عاديت من والى اللّه و رسوله، ردّ الحقّ إلى أهله. قال: فقلت: من أهله؟ فقال: من عاتبك عليه، عليّ. فقال أبو بكر: قد رددته عليه يا رسول اللّه. و غاب رسول اللّه عن عينه.

فما أن أصبح الصباح حتّى وافى ابو بكر بيت الإمام و أخبره عن الرؤيا و قال: مدّ يدك لأبايعك، فمدّ الإمام يده فبايعه و سلّمه الخلافة و قال: يا أبا الحسن، سأذهب إلى المسجد و أحكي للأمّة عن قصّة الرؤيا و أكشف لهم وجه حجّتك، و أستقيلهم من الحكم و أسلّمه لك. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: لعلّك تفعل ذلك.

فلمّا خرج من عنده و إذا بعمر مقبل عليه، فقال: يا خليفة رسول اللّه مالك تغيّر لونك؟ فحكى له أبو بكر الرؤيا و ما شاور فيه أمير المؤمنين و ما اتفقا عليه، فقال له عمر: إنّك وقعت تحت تأثير سحر بني هاشم، و ما زال يوسوس له حتّى صرفه عمّا عاهد عليه الإمام عليه السّلام، و ردّه إلى وضعه السابق اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (2).

ص: 428


1- أمّا هذه الصفات فأبو بكر منها براء، و هو صاحب الانفعالات و المزاج العصبي الشديد الذي لا يلين، و على أثر هذا المزاج الحادّ قامت حروب التأسيس أو ما يسمّى بالردّة، فقد وقف المسلمون بجانب يستنكرون الحرب، و وقف أبو بكر بالجانب الآخر يأمر بها حتّى غلبت إرادته و قامت الحرب فأين لينه؟؟ ليت شعري.
2- المجادلة: 19.

فذهب عليّ عليه السّلام إلى المسجد على العهد الذي عاهده عليه أبو بكر و لكنّه رأى المسجد مقفرا فخرج منه «خائفا من شرّ غائلتهم عازما (على) زيارة روضة الرسول» فلحق به عمر في الطريق و سخر منه، و قال له: لن أدعك تنال الحكم أنت و أولادك ما دمت على قيد الحياة، فزار الإمام النبيّ و عاد إلى بيته.

الفصل الثاني عشر

كلّما اجتمع أبو بكر بعليّ يقول له: أعذرني. قال ابن عبّاس: أحصيت لأبي بكر عشرة مواضع سمعته يقول فيها لعليّ عليه السّلام: «أعذرني».

قال سلمان: ما وقعت عين أبي بكر على عليّ إلّا قال له: المعذرة إليك من التقدّم عليك.

و قال يوما و قد ضمّه المجلس مع عليّ و العبّاس: أعذروني أعذركم اللّه بالتقدّم، ما تقدّمنا عليكم عن رأينا و لكن غلبنا عليه (1).

قال عبد اللّه بن عبّاس: جاء أبي العبّاس يوم السقيفة المغيرة بن شعبة و أخذ يعتذر له، فقال أبي: لا عذّر اللّه من عذرك، اعزب عنّا لعنة اللّه عليك.

ص: 429


1- لست أدري من أين استقى المؤلّف هذه الأخبار و قد ساقها من غير ذكر للسند و لا للكتاب الذي تناولها منه، و قد بعد زماننا عن زمانه فليس لنا أن نحكم عليه بخطأ أو صواب حتّى يتبيّن لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، و أنّى لنا بذلك، أمّا عن أبي بكر و ما يحكيه المؤلّف عنه من سماحة الخلق و رجاجة الرأى و تفانيه في خدمة الإمام حتّى عاهده على الاستقالة و ردّ حقّه إليه لولا ما فعله عمر فهو كلام فارغ لا أساس له من الصحّة إطلاقا، و الرجل أبعد الناس من هذه الأخلاق، ولو صحّ فيه ما قاله المؤلّف لكان ردّه فدكا على الزهراء و إرثها عليها و سهم ذوي القربى أهون من ردّ الخلافة، فما باله مات و هو مصرّ على ذنبه، عاكف على جريمته، عفى اللّه عن المؤلّف فإنّه خلط الحابل بالنابل.

و رأى الإمام عليّ عليه السّلام أبا عبيدة بن الجرّاح، فقال له: و أنت أيضا تظاهر علينا؟

فقال: معذرة عليك، فحوّل الإمام وجهه عنه، و قال: هذا أوان لا يعذرون و لا يؤذن لهم فينتصرون.

يقول الزهري:

عليّ لعمري كان بالناس أرؤفاو في العلم بالأحكام أقضى و أعرفا

فما عذر قوم أخّروه و قدّمواعديّا و تيما و هو أعلى و أشرفا ***

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، تمّ بحمد اللّه و منّه و بتوفيق منه و عناية الجزء الأوّل من كتاب «كامل البهائي» في السقيفة، و نسأله سبحانه أن يمنّ علينا بالتوفيق لإتمام الجزء الثاني منه.

شعبان المعظّم 1376 ه (1)

ص: 430


1- الظاهر أنّ تجزئة الكتاب من الناشر و الدعاء و التاريخ منه أيضا، و الحمد للّه أوّلا و آخرا.

فهرس المحتويات

مقدّمة المترجم 3

شرح حال المؤلّف مطابقا لما تفضّل به المحدّث القمّي رضوان اللّه عليه 13

ديباجة الكتاب 17

الباب الأوّل: في أقسام العلم 34

الباب الثاني: في أقسام النعم 37

في بيان ما هو المذهب الحقّ من المذاهب المتعدّدة 42

في بيان عقيدة الشيعة و أهل السنّة 45

الباب الثالث: في بيان مذاهب أهل السنّة، و الجواب عنها للشيعة 49

الفصل الأوّل 49

الفصل الثاني 51

الفصل الثالث 53

الفصل الرابع 54

الفصل الخامس 57

الفصل السادس 64

الباب الرابع: في أنّ الشيعة ناجية 73

الباب الخامس: في دلائل حجّة اللّه على خلق اللّه أمير المؤمنين عليّ و أولاده الطاهرين صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين 92

الفصل الأوّل: في من ظلم العترة و سبّهم 139

الفصل الثاني: في مناقب عليّ عليه السّلام على سبيل الإجمال 142

الباب السادس: في الآيات التي لم يعملوا بها 145

الباب السابع: في بيان ما اجتمع بالقوم من الخصال الساقطة المنافية للإمامة 163

ص: 431

خصال عمر التي تفرّد بها 169

الباب الثامن: في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم 176

فصل 313

الباب التاسع: في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه 316

قصّة سعد بن عبادة 323

بيان في أنّ عثمان و بني أميّة لم يكونوا من قريش و أنّ أميّة غلام روميّ 350

الباب العاشر: في حجّة الوداع و ذكر الغدير و وصيّة الرسول و وفاته و فيه ما يتبع ذلك 360

الفصل الأوّل: في حجّة الوداع 360

الفصل الثاني: في ذكر الغدير 362

الفصل الثالث: في ذكر وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 368

الفصل الرابع: في ذكر الوصيّة 370

الفصل الخامس: في تمام قصّة موته صلّى اللّه عليه و آله 372

الباب الحادي عشر: في بناء السقيفة 378

الفصل الأوّل: في خلاف الصحابة 382

الفصل الثاني: في وفاة فاطمة عليها السّلام 393

الفصل الثالث 400

الفصل الرابع 405

الفصل الخامس 408

الفصل السادس 408

الفصل السابع 410

الفصل الثامن 413

الفصل التاسع: في فوائد هذا الكتاب 420

الفصل العاشر 422

الفصل العاشر 422

الفصل الحادي عشر 422

الفصل الثاني عشر 429

ص: 432

المجلد2

هویة الکتاب

سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.

عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی

عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].

مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :

وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری

يادداشت:عربی

يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم

رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384

رده بندی دیویی:297/95

شماره کتابشناسی ملی:2583425

ص: 1

اشارة

ص: 2

الباب الثاني عشر في فدك

اشارة

قال مولانا زين العابدين عليه السّلام: كانت أمّ أيمن تذمّ أبا بكر لما ردّ شهادتها، و قالت:

و اللّه ما أنطق لساني بذمّك حتّى سمعت أذني ذمّ رسول اللّه لك.

قال أبيّ بن كعب: فاطمة عندي صدّيقة (صادقة- المترجم) في فدك، و الشيعة على هذا المذهب بأنّ فدكا حقّ فاطمة، و أبو بكر اغتصبها منها بالقهر و الظلم، و زعم أنّها من أموال الصدقة و كانت طعمة لفاطمة و هي في يدها على هذا النحو.

و العجب ممّن يدّعي الإسلام ثمّ يثب على طعمة أطعمها رسول اللّه ابنته فيسلبها منها بعد وفاته. زه زه لهذا الخليفة و مع ذلك يدّعي بأنّ النبيّ قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، فلم يصدّقه واحد من الرواة في هذا الحديث، و النبيّ لم يقل هكذا؛ لا لعترته و لا لأمّته.

و إنّه لمحض جهل من قائله أنّ تصرّف الزهراء بفدك يحلّ يوما و يحرم يوما، و أنّ النبيّ لا يميّز بين الحرام و الحلال، و يطعم آله الحرام لا سيّما الأولاد و الأعزّة و الأوصياء، حاشا عن رسول اللّه من ذلك و حاشا مائة ألف مرّة.

و طلب البيّنة من الزهراء عليها السّلام و هو حقّها خلافا لما أجمع عليه المسلمون من عدم

ص: 3

طلب البيّنة من صاحب اليد لأنّها أمارة الملكيّة، و كانت البيّنة على أبي بكر لأنّه المدّعي و مع هذا فقد جاءت فاطمة عليها السّلام بأمّ أيمن التي بشّرها رسول اللّه بالجنّة، فردّ أبو بكر شهادتها قائلا: إنّها امرأة من العجم لا تفصح، كما ردّ شهادة عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام قائلا: إنّهم يجرّون النار إلى أقراصهم، على أنّهم عليهم السّلام لم تمتدّ أيديهم إلى هذا النفع مدّة ملكهم ليثبتوا للناس كذب ادّعاء الخليفة، و أنّ الغرض من شهادتهم يوم ذاك لم يكن مجرّد النفع، بل الغرض الأساسي هو امتثال أمر اللّه سبحانه وحده: وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ (1)، و على ممّن قال في حقّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيث ما دار، و هو رجل من أهل الجنّة، و رجل هذه صفته كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يقيم الشهادة كذبا و زورا؟!

فتأذّت فاطمة عليها السّلام و أقسمت أن لا تكلّمه إلى أن تموت، و أوصت أن لا يحضروا جنازتها، و أن تدفن سرّا، و فعل أمير المؤمنين بما أوصته و لكنّ عمر بحث عن قبرها ليخرجها و يصلّي عليها و لكنّ اللّه أخفى القبر عنه.

و أجمعت كلمة القوم على أنّ النبيّ قال لفاطمة عليها السّلام: فاطمة بضعة منّي؛ من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً* وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (2).

عن صادق آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إنّ فاطمة كانت تطرق بيوت المهاجرين و الأنصار ليلا و هي مريضة فلم يسعفها أحد منهم، فتألّمت من خذلانهم إلى أن قبضت سلام اللّه عليها. و حرم الناس من زيارة قبرها لظلمهم لها و رضاهم بظلمها.

ص: 4


1- الطلاق: 2.
2- الأحزاب: 57 و 58.

سؤال: لقائل أن يقول: لعلّها أوصت أن تدفن ليلا مبالغة في الحجاب عن أعين الناس منها لا لسبب غضبها على القوم.

الجواب: لو كان الأمر كما تقدّم لبقي قبرها ظاهرا معلوما و ليس خفيّا مستورا، و القوم لم يحضروا الصلاة على جنازة أبيها فما بالك بجنازتها.

كان أبو بكر ذات يوم يحاور أمير المؤمنين بشأن فدك و الإمام يردّ عليه، فقال له فيما قال: إنّ البيّنة عليك لا على فاطمة لأنّك أنت المدّعي دونها، و في أثناء كلامه قال له: يا أبا بكر، لو شهد شاهد عدل على فاطمة بال ..... (1) أكنت تقيم عليها الحدّ؟ فقال أبو بكر: نعم أفعل!! فقال أمير المؤمنين: إذن و اللّه تخرج من دين اللّه و دين رسوله. و قال أمير المؤمنين: لأنّك كذّبت اللّه و رسوله و صدّقت الناس؛ لأنّ اللّه قال في حقّها و أهل بيت النبيّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2) فقد شهد اللّه بعصمتها و فاطمة في هذه الآية معصومة بناءا على قول اللّه تعالى، فكيف يصحّ ارتكابها ... و أنت تسقط شهادة اللّه و تقبل شهادة عبده المضادّة لشهادته، و حينئذ كيف تدّعي المعصومة الباطل، و تطلب الصدقة المحرّمة عليها؟!

و ما قاله لعليّ عليه السّلام يصدق عليه، لأنّه قال: ما شهد عليّ إلّا ليجرّ النار إلى قرصه أي توخّيا لطلب المنفعة، و الحديث الذي افتراه أبو بكر لم يكن إلّا لطلب المنفعة،

ص: 5


1- ما أغثّ هذا المؤلّف و ما أسمجه! أيجوز له أن يطلق هذه الكلمة المتناهية البعد عن الأدب في حقّ بضعة الرسول و المعروف في الرواية أنّه قال: سرقت، فكيف ملك المؤلّف الجرأة فكتبها في كتابه، و ليس عليّ إلّا أن أستغفر اللّه له ما دمت حيّا.
2- الأحزاب: 33.

لأنّه مالك للصدقة و لبيت المال، و الدليل على ذلك أنّه لمّا هلك كان في ذمّته لبيت المال عشرون ألف دينار، و من شهد له أو أعانه من المهاجرين و الأنصار و أيتامها أو من صدّقه منهم فإنّما الغرض من ذلك جلب النفع و تحصيل الفوائد، إذن يردّ حديثه عليه.

و أمّا الحديث «نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة» فإنّه عامّ مشهور بين الناس كافّة، و خمس أهل البيت و الإنفال لم تقتصر معرفته على الحديث فحسب بل القرآن نصّ على ذلك و لا يدلّ الحديث وحده على حرمة الصدقة على أهل البيت.

وجه آخر: إنّ واضع خبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ..» إلى آخره، جاهل لا يعلم شيئا من العلم، و القرآن يكذب الخبر بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1) و قال اللّه تعالى عن زكريّا: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (2) و بما أنّ الرجل يفتري بالكذب فعليه أن يقرأ القرآن أوّلا لئلّا يأتي بمناقض له، و كان عليه أن يروي حديثه الموضوع بالصيغة التالية: أنا من بين الأنبياء لا أورث، و ما أخلف يكون صدقة على المسلمين. و لا يكذب على رسول اللّه لأجل فدك و غصبها من الزهراء عليها السّلام، و لا يناقض كتاب اللّه، و كان المسكين الراوي المفتري جاهلا بالقرآن و بعلم الإعراب و بالقيامة و بالجنّة و النار.

سؤال: و ماذا عمّا يقال من أنّ سليمان ورث من داود النبوّة؟

ص: 6


1- النمل: 16.
2- مريم: 4- 6.

الجواب: كان سليمان نبيّا و أبوه على قيد الحياة مضافا إلى أنّ النبوّه لا تورث بل لا تكون إلّا بالوحي من اللّه و بالعصمة و لو كانت النبوّة تورث لكان أولاد الأنبياء جميعهم أنبياء بالمشاركة كأولاد آدم و نوح و إبراهيم و يعقوب و موسى، و من أولاد الأنبياء اليهود و هم باقون إلى اليوم فينبغي أن يكونوا أنبياء بوراثتهم النبوّة من أبيهم، و لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ورث نسائه بيوته و سكنّ فيها و أخذ أمير المؤمنين ثياب النبيّ و دراعته و عمّامته و أمثالها و ورثها أولاده من بعده فلم ينازعهم على ذلك أحد و لم يقل أحد بأنّها صدقة؛ لا البيوت و لا غيرها.

و وقعت بردة الرسول إلى بني العبّاس إلى زمن المقتدر كما جائت الرواية بذلك، فلو كانت هذه البردة صدقة على المسلمين و الصدقة حرام على العبّاسيّين فلو لم تكن ميراثا و كان ميراثه صدقة فكيف ساغ لأئمّة أهل السنّة و الجماعة أن يحتفظوا بالحرام لأنفسهم هذه السنين الطويلة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من بدّل دين اللّه فاقتلوه»، فيكون على هذا أنّ الخلفاء جميعا كفّار و دمهم مباح و قتلهم جائز، و كيف يقول مسلم بهذا؟! فظهر ممّا تقدّم أنّ رسول اللّه يورث كسائر الأمّة.

سؤال: لو قال قائل بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى تلك الأشياء لعليّ في حياته.

جواب: و نحن نقول أيضا أنّه أعطى فدكا لفاطمة في حياته، و لو كان أعطاها لها بعد وفاته فإنّها تحسب بحساب الصدقة بناءا على ما ادّعاه أبو بكر، على أنّ العبّاس و الزهراء عليها السّلام احتكما إلى القضاء فحكم لهما بمخلفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف ينبعض الحكم فيكون هنا إرثا و في مسألة فدك صدقة. و هذا عين التناقض.

و يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (و حاشاه) خان عترته لأنّه بلّغ أمّته و ما بلّغهم أو أنّه قال لهم

ص: 7

و لكنّهم أبوه و هذا شاهد على كفرهم- و حاشاهم- و قد أجمعت الأمّة على أنّها من أهل الجنّة بنصّ من اللّه و رسوله، و لو لم يبلّغ النبيّ لا العترة و لا الأمّة لكان قد أوقع الفتنة بين الناس و حاشاه من ذلك مع أنّه لم يؤثر عن أحد من الصحابة أو الخلفاء الإنكار على العبّاس أو عليّ في طلبهما إرث رسول اللّه؛ لأنّ النبيّ بزعم الأوّل لا يورث.

الفصل الأوّل في ردّ عمر بن عبد العزيز فدكا إلى محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام

اعلم أنّ أبا بكر بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ فدكا من فاطمة عليها السّلام بمساعدة عمر بن الخطّاب، و لقد روى علماء النواصب عن عتبة و أبي سعيد الخدري أنّهما قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا نزلت آية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1): يا فاطمة، لك فدك.

و ردّا دعوى فاطمة و لم يقبلا كلامها مع أنّ القرآن شاهد بعصمتها و طهارتها، و شهد لها عليّ و الحسنان و أمّ أيمن، و لم يقبلوا شهادتهم، و ظلّت هذه المسألة سنّة بين أتباعهما و دخلت ظلامتها معهما قبريهما.

و قالا لفاطمة عليها السّلام: «أمّ أيمن مولاتك و مولاة أمّك».

قال الواقدي- و هو من كبار علماء النواصب- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:

سمعت عمر يقول: لمّا توفّي رسول اللّه خرجت أنا و أبو بكر و عليّ بن أبي طالب و هو في بيت فاطمة و عنده المهاجرون، قال عمر: فقلت: يا علي، ماذا تقول؟ قال:

أقول خيرا، نحن أولى برسول اللّه و ما ترك. قلت: و الذي بخيبر؟ قال: نعم، قلت:

و الذي بفدك؟ قال: نعم، قلت: كلّا و الذي نفسي بيده حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير.

ص: 8


1- الإسراء: 26.

يريد بخيبر أرضا تدعى العوالي و هي حقّ لفاطمة عليها السّلام، و هذا الحديث يدلّ على أنّ نيّتهم مبيّتة لقصد آل رسول اللّه بالشرّ و القتل و غصب الحقوق.

و عرف عمر بن عبد العزيز حقّ أهل بيت النبيّ أكثر من أبي بكر و عمر لأنّهما ظلماهم و هو أجرى العدل فيهم و ردّ فدكا على الإمام الباقر عليه السّلام، و هما آذيا النبيّ و هو دفع عنهم الأذى، فقال له الناس: طعنت على الشيخين، قال: هما طعنا على أنفسهما.

روى أبو صالح (الناني عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن شريك) عن هشام ابن معاذ، قال: كنت جليسا لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب، فأتاه محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام فدخل إليه مولاه مزاحم، فقال: إنّ محمّد بن عليّ بالباب، فقال له: أدخله يا مزاحم، قال: فدخل و عمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمّد بن عليّ: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا و كذا يابن رسول اللّه.

فقال محمّد بن عليّ: يا عمر، إنّما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرجوا بما يضرّهم، و كم من قوم قد ضرّهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتّى أتاهم الموت فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبّوا من الآخرة عدّة و لا ممّا كرهوا جنّة، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم، و صاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن و اللّه عزّ و جلّ محققون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها و ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نتخوّف عليهم منها فنكفّ عنها؛ فاتّق اللّه و اجعل في قلبك اثنين: تنظر الذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فابتغ فيه البدل، و لا تذهبنّ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، فاتّق اللّه عزّ و جلّ (يا عمر) و افتح الأبواب و سهّل الحجاب و انظر

ص: 9

المظلوم و ردّ الظالم (1).

فدعا عمر بدواة و قرطاس و كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمّد بن عليّ- الباقر- فدك (2). و اعترف أنّ الثلاثة أبا بكر و عمر و عثمان (لعنهم اللّه) ظلموا فاطمة عليها السّلام.

و العجب كلّ العجب منهما حين فرضا لابنتيهما اثني عشر ألف درهم يستوفيانها من بيت المال عاما بعام، و منعوا ابنة رسول اللّه ميراثها، و لمّا آل الحكم إلى عثمان (لعنه اللّه) حسبا أنّ العادة جارية كما كانت عليه الحال زمن أبينهما و لكنّه أبى إباءا شديدا، فألحّا عليه و بالغا بالإلحاح فلم يتأثّر عثمان بذلك، و قال: لا و اللّه و لا كرامة، ما ذاك لكما عندي، و قال: ألستما اللتين شهدتما بالكذب عند أبيكما و لفّقتما معكما أعرابيّا يتطهّر ببوله- و هو مالك بن أوس بن الحرثان- فشهدتم أنّ النبيّ قال: لا نورث ما تركناه صدقة. و عجيب أمرهما حين زعما يوما أنّ النبيّ لا يورث و جاءا يوما آخر يطلبان بميراثه.

و قال أكثر المؤرّخين: إنّ أكثر أهل الكوفة عارضوا عمر بن عبد العزيز بردّه فدكا و قالوا: سفّهت رأي الشيخين و فضحتهما و هذا الأمر ليس إليك لأنّ الأمّة بأجمعها تلقّت عملهما بالقبول، فقال: إنّي أمسك الأصل و أعطي الثمرة محمّدا الباقر، فرضي الكوفيّون بهذا القدر (3).

قال جميل بن درّاج: جاء عليّ و العبّاس إلى أبي بكر يطلبان ميراثهما من

ص: 10


1- الخصال للصدوق: 104، المسترشد: 506، البحار 46: 326 و 75: 181، نور الثقلين 4: 360.
2- الخصال: 140.
3- المشهور أنّ المعترضين هم بنو أميّة، أمّا أهل الكوفة فقوم معروفون بولائهم لأهل البيت و بغضهم لبني أميّة، و القرينة الحاليّة شاهدة بذلك، إذ كيف يسكت أهل الشام عن عمر و ينقم عليه أهل الكوفة من بين البلاد كلّها!!

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قاضى العبّاس عليّا- كما جاء في الرواية- و سألت عن هذه المسألة الإمام الصادق و قلت له: رضاهما بقضائه مرشد إلى اعتباره حكما عدلا؟

فقال عليه السّلام: يا جميل، هذه حجّة عليه، و لو علم عليّ أنّ للعبّاس حقّا عنده لردّه إليه، و كذلك يفعل العبّاس و لكن عليّا قال يوما للعبّاس: يا عمّ، إنّ هذا الرجل غصب ميراثنا و مقامنا و ينبغي علينا دفعه عمّا اغتصبه، و قال عليّ عليه السّلام: و ليس لذلك من وسيلة إلّا أن تذهب بنفسك إليه و تخاصمني في ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلمّا حضرا عند أبي بكر، قال للعبّاس: ألا تعلم أنّ رسول اللّه في أوّل البعثة صنع طعاما لبني عمومته من أولاد عبد المطّلب و كان عددهم أربعين شخصا فحضروا جميعا، و قال لهم بعد الطعام: من منكم يؤازرني على هذا فيكون وزيري و وارثي و وصيّي و أخي- إلى ثلاث مرّات- فلم يجبه أحد ما عدا عليّا و كان أصغرهم سنّا؟

فقال العبّاس: أ أنت تذكر ذلك أم نسيته؟ فقال: نعم أذكره و لا أنساه.

فقال العبّاس: فلقد ظلمته حين غصبته وزارته و وصايته و وراثته و أخوّته.

فاستيقظ أبو بكر كما يستيقظ النائم و هو يقول: نحّوهم عنّي لأنّهما خادعاني و مكرابي غدرا و أنا غافل عنهما!

قال الصادق عليه السّلام: إنّما كان غرض عليّ و العبّاس الإشعار بأنّ أهل بيت النبيّ لا سيّما عليّ عليه السّلام أولى بمقامه.

و لمّا ألزمه العبّاس الحجّة و عجز عنها و لم يحر جوابا بعد أن ألقمه حجرا توسّل بقدرته فقال: «نحّوهما عنّي» و كانا أراد فضحه أمام الناس و كانت خصومتهما في بغلة رسول اللّه و سلاحه و حجرات نسائه و قطائعه التي أقطعها لبني هاشم. و كان العبّاس يعرف قدر عليّ لكنّه أراد أن يعلم أبا بكر بظلمه كما فعل جبرئيل و ميكائيل

ص: 11

بداود إذ تسوّروا عليه المحراب، و لم يكن مجيئهما على الحقيقة بل لإشعار داود و إعلامه على انّ ما فعلته يجدر بك غيره، و هكذا الحال هنا.

حكاية: قال عبد اللّه بن عبّاس: كنّا يوما عند أبي بكر و كان عمر حاضرا هناك، و تقدّما إلى الحجاب أن لا يأذن لأحد، فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا شيخ طويل القامة حلو المحضر، عليه رداء أحمر، و بيده عصى و في رجليه نعلان، فسلّم علينا و أمره أبو بكر بالجلوس، فأبى و قال: أنا رجل حاجّ و إلى جواري امرأة توفّي أبوها و خلّف لها ضيعة و كانت تعيش من ثمراتها و تتقوّت منها، فعمد والي البلد إلى مصادرتها و أخذ منافعها له، و أوصتني المرأة قالت: إذا جئت المدينة فاحك حالي للخليفة.

فقال أبو بكر: لا كرامة للغادر الفاجر.

و قال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إلى هذا الغاشم الظالم من يسوقه إليك مكتوفا.

فعاد الشيخ عليهما و قال: فمن أظلم ممّن يظلم بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟!

فقال أبو بكر: ردّوه ردّوه، فتقهقر الرجل و لم يقعوا له على عين و لا أثر، فسألوا الحاجب و البوّاب عنه، فقال: ما وقعت عيني على الرجل، و قال غيره: ما دخل عليكم أحد أبدا و لم يخرج أحد، فخاف أبو بكر و قال لعمر: أرأيت و سمعت، فقال عمر: الذي أصابنا في وادي الجنّ أعظم من هذا، و إنّ الشيطان ليتحامل على المؤمن و الحاكم ليفتنه و يضلّه، فصاح بهم هاتف (1):

ص: 12


1- و أنا أسوق لك الرواية كما وردت في الصراط المستقيم لعليّ بن يونس العاملي (2: 290): روي عن ابن عبّاس أنّه دخل على أبي بكر رجل فسلّم و قال: عزمت الحجّ فأتتني جارية و قالت لي أبلّغك رسالة و هي أنّي امرأة ضعيفة و إنّي عائلة و كان لأبي أريضة جعلها لي تعينني على دهري فكنت أعيش منها أنا و زوجي و ولدي، فلمّا توفّي أبي انتزعها و الي البلد منّي فصيّرها في يد وكيله و استغلّها لنفسه و أطعم من شاء و حرمني. فقال أبو بكر: ليس له ذلك و لا كرامة، لأكتبنّ إليه و لأعذّبنّ هذا الظلوم الغشوم، و لأعزلنّه عن ولايتي. و قال عمر: لا تمهله و أنفذ إليه من ينكل به و يأتي به مكتوفا و أحسن أدبه على خيانته و فسقه. فقال أبو بكر: من هذا الوالي؟ و في أيّ بلد؟ و ما اسم المرميّة بهذا المنكر؟ فقال الرجل: نعوذ باللّه من غضب اللّه، نعوذ با للّه من مقت اللّه، و أيّ حكم أجور و أظلم ممّن ظلم بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ خرج، فقال أبو بكر لخدمه: ردّوه، فقالوا: ما خرج علينا أحد و إنّ الباب لمغلق، فقال عمر: لا يهولنّك هذا فربّما يخيّل إبليس علينا و على أمّة محمّد ليفتنهم، فقال أبو بكر لابن عبّاس: إن تسمع ما سمعت أحدا، فسمعنا هاتفا يقول: يا من يسمّى باسم لا يليق به اعدل على آل ياسين الميامينا أتجعل الخضر إبليسا لقد ذهبت بك المذاهب من رأي المضلّينا فتب إلى اللّه ممّا قد ركبت به آل النبيّ ودع ظلم الوليّينا فاللّه يشهد أنّ الحقّ حقّهم لا حقّ تيم و لا حقّ المخلّينا فأجابه الآخر: عدلت أخا تيم على كلّ ظالم و جرت على آل النبيّ محمّد و أغنيت تيما مع عدي و زهرةو أفقرت غرّا من سلالة أحمد أفي فدك شكّ بأنّ محمّداحباها لها من دون تيم بمشهد و عليّ و سلمان و مقداد منها*جندب مع عمّار في وسط مسجد و أشهدنا و الناس أنّ تراثه لفاطم من دون البعيد المبعّد فنحن شهود يوم تلقى محمّدابظلمكم آل النبيّ المسدّد فلا زلت ملعونا يمسّك سخطه و لا زلت مخذولا عظيم التلدّد (*) منهم- المترجم. فدخل ابن عبّاس على عليّ فحدّثه بالحديث، فلمّا أصبح أبو بكر دعا بفاطمة و كتب لها كتابا بفدك فأخذه عمر و بقره، فدعت عليه بالبقر و استجيب لها فيه. هذا ما ذكره عليّ بن يونس العاملي في الصراط المستقيم و هو يختلف مع ما ذكره المؤلّف لا سيّما الأبيات المختومة بالنون و الألف، و أحسب المؤلّف حذف آخر الأبيات لما فيه من إقواء و أخطاء، و نحن ترجمنا ما ذكره المؤلّف و ذكرنا رواية الصراط المستقيم ليكون القاري على بصيرة من أمرها.

ص: 13

يا من تحلّى باسم لا يليق به اعدل على آل ياسين الميامينا

أتجعل الخضر إبليسا لقد ذهبت بك المذاهب من بين المضلّينا

نحن الشهود و قد دلّت على فدك بنت الرسول أمينا غير مغبونا (1)

اللّه يعلم أنّ الحقّ حقّهم لا حقّ تيم و لا حقّ العديّينا

و قد شهدت أخا تيم وصيّته للأصلع الهادي القوّام بالدينا

لا تغمطنّ أخا تيم أبا حسن ما خصّه اللّه من بين الوصيّينا

خصّ النبيّ عليّا يوم فارقه بالحلم و العلم و القرآن و الدينا فخاف أبو بكر و عمر، و غشي عليهما، و قد وصل رسول أمير المؤمنين إلى ابن عبّاس و قال: «أجب ابن عمّك» فأقسم عليه أبو بكر أن لا يفشينّ السرّ إلى أحد.

قال عبد اللّه بن عبّاس: فلمّا رآني أمير المؤمنين عليه السّلام تبسّم حتّى بدت نواجذه، و قال: يا بن العمّ، بالرحم و القرابة، هل حفظت الشعر أو لا؟ قلت: نعم حفظتها إلّا بيتين منها، فأعاد عليّ عليه السّلام الحكاية، و قال: كان ذلك أخي الخضر فقد حضر مجلسكم هذه الساعة، و أخبرني بما دار بين القوم و بيننا، و قال: ما ابتلي أحد بأحد كما ابتلي أبو بكر بعمر، و ما عادى أحد قوما أشدّ من معادات عمر لأهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله (2).

ص: 14


1- لو قال: «ليس مغبونا» لما كان إقواء في البيت- المترجم.
2- عثرت للمؤلّف على مواقف كثيرة يتهاود فيها مع أبي بكر و هو رأس الضلال و أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد و آل محمّد، و الذي قال فيه أمير المؤمنين: «فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّر ضرعيها ...» و رجل يقال له مثل هذا الكلام ليس بالصفة التي تحدّث عنها المؤلّف، و إنّما هو عدوّ لأهل البيت، غاصب إرث الزهراء و سارق نحلتها، و هو صاحب الفكرة الخبيثة في إحراق دارها، فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين.

قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (1).

قيل: إنّ عمر استعمل رجلا و أوصاه قائلا: إيّاك و ظلم عباد اللّه، فقال له الرجل:

يا عمر، فكيف ظلمت بنت رسول اللّه و غصبت منها فدكا و رددتم قول رسول اللّه فيها و أنكرتم وصيّته و سيكون اللّه خصمك و رسوله يوم القيامة، فويل لك.

و جاءت الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ أبا بكر و عمر كانا في ملأ عظيم من المهاجرين و الأنصار إذ انبرى لهما شابّ جميل طويل القامة، حسن الثياب، و قال:

من منكم الخليفة؟ فأشاروا إلى أبي بكر، فقال له: أنت هو الخليفة؟ فقال: نعم أنا هو الخليفة، فقال: إنّ امرأة ضعيفة لها حوائط تقيت منها عيالها، فأخذها الحاكم منها تعدّيا و ظلما و انتزعها من يده من دون بيّنة، فقال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إليه ليقبضوا عليه و يأتوا به إلى هنا لتقصر يده عن أموال الناس و يردّ حائط المرأة الضعيفة عليها.

فقال الرجل: فلم أخذت فدكا من فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كانت في يدها و قد نحلها النبيّ إيّاها، و مات و هي في يدها، ثمّ خرج من بينهم حالا فأرسل ابن عبّاس في طلبه فلم يقع منه على عين و لا أثر، فخاف أبو بكر خوفا شديدا، فقال له عمر:

لا تجزع فإنّ هذا شيطان ظهر لك، فأجابهم هاتف من جانب البيت:

عدلت أخا تيم على كلّ ملحدو جزت على آل النبيّ محمّد

ص: 15


1- الفرقان: 27.

و أغنيت تيما مع عدي و زهرةو أفقرت غرّا من سلالة أحمد

أفي فدك شكّ بأنّ محمّداحباطها لفطم دون تيم بمشهد

لأسرع ما بدّلتم و نقضتم عهودكم يا قوم بعد التوكّد عقد المأمون مجلسا في يوم عرفة للانتصاف من القريب و البعيد، و القوّاد و الخاصّة و العامّة، فقام رجل مدنيّ من أفصح الناس و قال: إن كنت منصفا فأنصف فاطمة.

فقال المأمون: أتكون وكيلا عنها؟

فقال الرجل: نعم.

ثمّ أقام وكيلا عن أبي بكر و عمر، فقال المدني: اعلم بأنّ النبيّ أخذ فدكا صلحا من غير أن يوجف عليها بخيل و لا رجال بل بمدد من الملائكة وحدهم، و كانت من جملة الفي ء الموكول إلى النبيّ أمره، فأعطاها لفاطمة عليها السّلام فكانت في يدها مدّة حياة أبيها ثلاث سنوات تتصرّف فيها تصرّف المالك بملكه، و بعد موت أبيها كان وكيلها يقوم مقامها في التصرّف فغصبها منها أبو بكر ظلما و عدوانا و مع كونها صاحبة اليد فقد طالبها بالبيّنة و شهدت لها أمّ أيمن بحقّها و هي امرأة مشهود لها بالجنّة فردّ أبو بكر شهادتها، و إذا جاءه أعرابيّ بوّال على عقبيه و ادّعى على رسول اللّه دعوى يعطيه بلا بيّنة، و شهد لفاطمة نظير هؤلاء الصلحاء فلم يقبلهم.

و شهد يحيى بن أكثم و غيره من الفقهاء على أنّ الزهراء عليها السّلام ماتت بغصّتها مظلومة.

و قال المؤمن المدني: و الأعجب من ذلك أنّ رسول اللّه لا يورث.

فقال المأمون: هل يعرف ذلك المسلمون؟

ص: 16

فقال المؤمن: لمّا نزلت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) صعد النبيّ على المنبر و قال:

ستكثر عليّ الكذابة من بعدي، بالعبارة التالية: معاشر الناس، إنّي نعيت إليّ نفسي و إلى اللّه و أنزل عليّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ألا و قد دنا حقوقي من بين أظهركم فإذا جاءكم الحديث عنّي فاضربوه على كتاب اللّه و سنّتي؛ فما خالف كتاب اللّه فارفضوه، و ما وافق كتاب اللّه و سنّتي فخذوه، و هذا الحديث مخالف للكتاب و السنّة بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (2) و بقوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (3)، و بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (4) فهل تخرجون فاطمة من أهل بيت النبيّ نعوذ باللّه منه لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «لا توارث بين الملّتين».

فشهد يحيى و الفقهاء بأنّ فاطمة خرجت من الدنيا متظلّمة لم تنصف.

و قال أبو بكر ثلاث فعلتها وددت أنّي لم أفعلها، يا ليتني لم آخذ فدكا من فاطمة، و لم أحرق بابها، و لم أتخلّف عن جيش أسامة، و هذه الثلاث ظلم عظيم لأنّ إيذاء فاطمة عليها السّلام إيذاء اللّه و رسوله و إيذاء عليّ و هو من أهل الجنّة، و بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ (5) الآية، و إيذا المسلمين ذنب عظيم.

و التخلّف عن جيش أسامة معصية للّه و لرسوله، يقول اللّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (6) و قال اللّه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً (7).

ص: 17


1- الزمر: 30.
2- النمل: 16.
3- مريم: 5- 6.
4- النساء: 11.
5- الأحزاب: 57.
6- النساء: 59.
7- المزّمّل: 15.

و قال أيضا: ثلاث لم أفعلها وددت أنّي فعلتها: الأولى: ليتني قتلت خالدا بن الوليد في قصاص مالك بن نويرة، و ليتني قتلت الأشعث بن قيس و طليحة الأسدي لأنّ هؤلاء الثلاثة للقتل مستحقّون، و قال أيضا: ليتني سألت رسول اللّه عن الذي يقوم مقامه من بعده.

و تغافل و تجاهل يوم الغدير و عن يوم حائط بني النجار كما روى ذلك عمران بن الحصين الخزاعي و بريدة الأسلمي و غيرهم، و قد تقدّم ذلك حتّى قال بريدة لأبي بكر: لماذا لم تعقد بيعتك على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عقد لك البيعة أبو عبيدة و عمرو سالم مولى أبي حذيفة في زاوية سرّا على جميع المسلمين، مع أنّك لم تحز من علم الشريعة و السنن شيئا، بل أنت يلازم باب على رسولك كلّما نابتك نائبة أو نزلت بك نازلة ليحلّها لك ابن أبي طالب عليه السّلام.

و قال: ليتيني سألت رسول اللّه حقّا ما هو نصيبه؟! و ليتني سألته عن ذبائح أهل الكتاب أحلال هي أم حرام؟ و قال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر، و كذلك قال: لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس أبو الحسن فيها (1).

فصدّق الحاضرون المؤمن، و قال المأمون: يجب الإغضاء عن ذلك و يلزم تجاوزه.

فقال المؤمن: لا يجوز الإغضاء لأنّ اللّه لم يغض كما قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (2)، و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (3) الآية.

ص: 18


1- مقدّمة نهج البلاغة 2: 1، وسائل الشيعة 28: 108 ط أهل البيت، و 18: 381 طبع الإسلاميّة، الإيضاح: 192، المسترشد: 653، دلائل الإمامة: 32، شرح ابن أبي الحديد 1: 18، نظم درر السمطين: 132، أنساب الأشراف: 100، عمر الخطّاب للبكري: 191 و غيرها.
2- الإسراء: 74 و 75.
3- الحاقّة: 44.

فعمد المأمون إلى كتابة صكّ بقلمه من أوراق عدّة و أرسلها إلى المشرق و المغرب و فيها ردّ فدك إلى السادات من بني فاطمة و كتب إلى عامل المدينة أن ردّ فدكا إلى عليّ بن موسى الرضا و أطلق فيها يده لتئول من بعده إلى ابنه محمّد الجواد التقي، و أشهد الحاضرين على نفسه و على من بعده بعدم أخذها مرّة أخرى.

تنبيه: إنّ الذي افترى حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» هي عائشة و تابعتها عليه حفصة و رجل آخر يدعى أوس من قبيلة بني نضر و لم يروه أحد غيرهم .. (1).

تنبيه: لماذا لم يستردّ الإمام أمير المؤمنين فدكا في خلافته؟ يرجع ذلك إلى وجوه:

الأوّل: إنّ اللّه سبحانه أعطى الغاصب و المغصوب منه ما يستحقّانه من الثواب و العقاب (2).

الثاني: كره عليه السّلام أن تخرج فاطمة من الدنيا مغصوبا حقّها و قد تألّمت و حزنت لذلك حزنا شديدا فلم تطب نفسه أن يفرح أولاده باسترداد ما غصب من فاطمة و ذهبت إلى أبيها حزينة مكلومة غضبى من أجله؛ أسوة بفاطمة و اقتداء بجنابها، و ربّما كان من أجل إطلاق اسم الغصب عليه أبت نفسه التصرّف فيه، من ثمّ عزب عن استرداده، ثمّ إنّ أولاد عليّ من فاطمة عليهم السّلام لم يطلبوا منه ذلك فلم يسعه عليه السّلام أن

ص: 19


1- ليتني أدرك السبب في تحاشى المؤلّف اتّهام أبي بكر و لينه عليه و الواقع أنّ الأمر بالعكس فهو الذي افتراه و تابعته عليه عائشة و صاحبتها و الأعرابي.
2- أقول: كيف عرف هؤلاء أنّ الإمام لم يستردّها؟ بل استردّها فيما استردّ من القطائع و الضياع التي نهبت في زمن الثلاثة لا سيّما في زمن عثمان، و كانت الدنيا كلّها تحت تصرّفه و هو الخليفة و بيده أمر فدك و غيرها فما صنعه في خلافته فيها يعتبر استردادا لها.

يذهب إلى مقاضاة الخصم دون طلب من أصحاب القضيّة، نعم أجاب الإمام زين العابدين عليه السّلام عن هذه المسألة فقال:

فمن غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده ثمّ إنّ عليّا عليه السّلام عجز عن تغيير بدع الثلاثة و محدثاتهم غير الشرعيّة، و كان يخشى عدوّه فيتّقيه فلم يقدر على محو بدعهم، و لمّا نهى عن صلاة التراويح جماعة، ارتفع ضجيج العامّة و الغوغاء، و قالوا: نهينا عن سنّة عمر.

و أيضا كان ذلك منه استدراجا للناس لئلّا يحملوه على طلب النفع في شهادته للزهراء يوم الغصب و تكذيبا لعدوّه.

تنبيه: روى أبو سعيد الخدري السبب الذي من أجله أعطى رسول اللّه فدكا لفاطمة عليها السّلام نحلة، و صدّقه المخالفون و المؤالفون، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) دعا رسول اللّه فاطمة و أعطاها فدكا، فقال: هي لك ... و استلمتها و تصرّفت فيها تصرّف المالك، و كانت يدها أمارة ملكيّتها، فتكون طلب البيّنة منها غاية في الجهل أو التجاهل.

سلّمنا أنّ طلب البيّنة منها لتصحيح دعوى النحلة و لكن أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام و أمّ أيمن رضي اللّه عنها أقاموا الشهادة لها، قال تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2)، و قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) و ظاهر الآية يدلّ على وجوب قبول الشهادة و لا تخصّص لها بآية أخرى بالولد و الزوج، و لم يستثنهما

ص: 20


1- الإسراء: 26.
2- الطلاق: 2.
3- البقرة: 282.

اللّه تعالى، و إنّما اشترط العدالة وحدها و من أعدل من المعصوم ليت شعري، و إذا كانت نحلة فلا تعود إلى الأولاد لا سيّما بعد الموت و آية الميراث عامّة.

و يقول المخالفون: إنّ زكريّا طلب من اللّه وارثا للنبوّة و ليس للدنيا ويّات.

الجواب: و هذا القول قدح بنبوّة زكريّا و حاشاه من ذلك، و يجرّ إلى كفره لأنّه قال: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي (1) أجمع المفسّرون على أنّ المقصود من الموالي أولاد العمّ فلو أنّه طلب وارثا للنبوّة يكون قد خاف من أولاد عمّه أن يكونوا ورّاثا لها و النبوّة لا تكون بالمشورة و لا بالطلب بل بالاستحقاق و الأهليّة، و يكون زكريّا قد دفعها عن أولاد عمّه حسدا من عند نفسه، فيؤدّي ذلك إلى كفره، و حاشاه لعدم رضاه بقضاء اللّه و تقديره، و هو بري ء من هذا التصوّر إلى أن قال:

وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2) و النبيّ لا بدّ و أن يكون رضيّا فلو كان مراده وراثة النبوّة تكون الجملة مكرّرة و هي لغو لا فائدة منها، و لا يجوز العدول من ظاهر اللفظ إلى التأويل.

و نهاية الأمر لو قال المخالف أنّ النحلة لم تثبت بل تثبت وراثتها لفدك و الوراثة يردّها حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» و الترجيح له من ثمّ أخذها الشيخ.

فالجواب: اتفق المسلمون على حديث أبي سعيد الخدري و تلقّاه الناس بالقبول بأنّ النبيّ أعطى الزهراء فدكا في حياته و الحديث الذي رواه أبو بكر مطعون فيه و مردود من قبل المهاجرين و الأنصار جميعا، سلّمنا به جدلا و لكنّه معارض بحديث آخر مثله و هو حديث أبي سعيد، فتبقى آية الميراث ثابتة و هي

ص: 21


1- مريم: 5.
2- مريم: 6.

قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (1) و أمثالها.

و الاتفاق حاصل على أنّ ذا الفقار كان مبتدئا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان وهبه لعليّ عليه السّلام فأخذ فدكا من فاطمة مع كونها هبة و ترك ذي الفقار عند عليّ و هو مثلها في الحكم ليس إلّا لعناد متحكّم في القوم و عداوة لرسول اللّه وردّ على قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ.

و كذلك ادّعت عائشة وراثة حجرتها و تشهد على فاطمة بأنّها لا إرث لها، إنّها من مفارقات أمّ المؤمنين، قال الصادق عليه السّلام: كان لرسول اللّه قطائع عدّة: الأوّل:

فدك، و الثاني: حسى، و الثالث: مشربة أمّ إبراهيم، و الرابع: الزلال، و الخامس:

الميثم، و السادس: الصافية، و السابع: العواف (2)، و قد أعطاها رسول اللّه إلى فاطمة عليها السّلام فانتزعها أبو بكر منها و تابعه بقيّة الشيوخ و شهد له عمر و أبو عبيدة و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة.

و جائت عائشة بعد مضي زمن طويل إلى عثمان تطلب ميراثها من رسول اللّه، فقال لها عثمان: كما أمضى أبوك شهادتك على فاطمة فإنّي أمضي شهادتك على نفسك أي لا أدفع إليك شيئا ممّا تدّعين.

ص: 22


1- النساء: 11.
2- بذلت جهدا للوصول إلى الرواية فلم أوفّق، و يا للأسف لذلك لم أضبط الأسماء الواردة فيها ضبطا يرفع الشكّ، فأعتذر إلى سيّدي القارئ من ذلك.

الفصل الثاني في أمور وضعها الخلفاء خلافا لأمير المؤمنين و بني هاشم

روى المخالف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الوقت الأوّل رضوان اللّه، و الوقت الآخر عفو اللّه، و لا يختاره المسلم إلّا لعذر من مرض و غيره، و لمّا علموا أنّ بني هاشم يصلّون الصلاة في أوّل الوقت و هو الرضوان حوّلوه إلى وقت العفو و جعلوه مختارهم.

و كذلك المسح على الخفّين وضعوه مخالفة لعليّ و بني هاشم لأنّهم علموا أنّ بني هاشم عند المسح ينزعون أخفافهم.

و مثله الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، فقد تركوه مضادّة لبني هاشم مع أنّ الجهر عندهم لا يفسد الصلاة.

و عمّموا السجود على ما يؤكل و يلبس لأنّهم علموا بأنّ عليّا يسجد على الأرض.

و كان أمير المؤمنين اقتداءا بالنبيّ يكبّر على الجنازة خمس تكبيرات لذلك نقصوها واحدة و كبّروا أربعا عنادا له.

و قال أمير المؤمنين: الجنازة متبوعة و ليست بتابعة لأنّ من كان أمامها فالجنازة تتبعه، فوضعوا بدعة المشي أمام الجنازة خلافا له. و روى أتباعهم بأنّ عليّا عليه السّلام قال: لقد علم أبو بكر أنّ المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها.

و مثله فعلوا في إباحة ذبائح أهل الذمّة و إباحة الأرانب و أمثالها خلافا لأمير المؤمنين عليه السّلام، و قيل: إنّه من قاطني الجنّة.

و شرع أمير المؤمنين بتغيير بدعهم بالهوينى و الرفق و ما عجز عن تغييره تركه

ص: 23

على حاله و كان حذرا من الفتنة و البلبلة التي يثيرها الجهّال عليه من هذا الباب و عمل بالتقيّه طيلة هذه المدّة كما قال تعالى تنبيها عليه من موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (2).

الفصل الثالث في أنّ عليّا لم يقدر على تبديل ما غيّروا عن أصله لخوفه من أصحابه و ترك محاربتهم

اعلم أنّه لا يسئل عن نفي العلّة لانتفاء المعلول و إنّما يسئل عن العلّة في إثبات المعلول، مضافا إلى أنّ الاعتراض على الإمام من سوء أدب الرعيّة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (3) فلا يجوز أن يقال عن الإمام لماذا حارب معاوية و لم يحاربهم؟ ثمّ إنّ في حربه مع معاوية كان معه من الجيش مائة ألف جندي يحاربون معه و لم يكن معه يومذاك إلّا نفر يسير و مع قلّتهم فإنّ مذاهبهم مختلفة و لكنّهم كانوا معه في حرب معاوية على رأي واحد من ثمّ لم يكن هناك مجال للتقيّة، و تأسّس بما فعله رسول اللّه مع المشركين حين حشّد المنافقين لقتالهم، و كان أكثر الصحابة على هذا الرأي و هو أنّه الخليفة الرابع و أنّ شرعيّة خلافته نظير خلافة أبي بكر و عمر، و ينظرون إليه كما ينظرون إليهما و يعتبرونه بمثابتهم، و يسير بسيرتهما، و لو علموا منه أيّ اتجاه مخالف لخرجوا عليه و حاربوه كما فعلوا معه في صلاة التراويح حين أمر بأدائها فرادى فكانوا يصيحون «نهينا عن سنّة عمر» و راحوا يشنّعون عليه

ص: 24


1- الشعراء: 21.
2- طه: 67.
3- الأنبياء: 23.

و يؤلّبون الرعيّة، و أوشكت الغوغاء أن تحدث شغبا لو لا أنّه قال: اذهبوا و افعلوا ما شئتم.

و ما حارب طلحة و الزبير و معاوية حتّى بدى للناس أنّهم ناكثون و قاسطون، و اعتبروا عدوّه يحبّب قتاله كعدوّ من تقدّمه، مع أنّ أصحابه لا يطيعونه إلّا في القليل حتّى أعلنها على المنبر مرارا و تكرارا و عبّر عن نقمته عليهم و شهد بذلك العدوّ و الصديق، و خطبته في هذا المعنى شاهد عدل على ذلك.

و قال ذات يوم لبني هاشم و خواصّ شيعته: لقد علمت الولاة قبلي أنّهم خالفوا رسول اللّه متعمّدين خلافه، ناقضين لعهده، متغيّرين لسنّته، و لو أحمل الناس على تركها و أحملها على مواضعها و إلى ما كانت على عهد رسول اللّه، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، و في قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه و سنّة نبيّه (1) (و سنّة رسول اللّه- الكافي) صلّى اللّه عليه و آله، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السّلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ورددت فدكا إلى ورثة فاطمة عليها السّلام ورددت صاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما كان و أمضيت قطائع أقطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضى بها و نزعت نساءا تحت رجال بغير حقّ ورددتهنّ إلى أزواجهنّ (2) و استقبلت بهنّ الحكم في الفروج و الأرحام، و سبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسّم من أرض خيبر، و محوت دواوين

ص: 25


1- رجعت إلى كتاب الكافي و لم أتّبع المؤلّف في السياق لأنّ رواية الكافي تحتوي على جميع ما ذكره المؤلّف رحمه اللّه.
2- في الهامش: كنّ طلّقن بغير شهود و على غير طهر كما أبدعوه و نفذوه و غير ذلك، الخ، و لا يبعد أن يكون الإمام يشير إلى سبيّات ما يسمّى بحرب الردّة كأمّ تميم التي نكحها خالد في الليلة التي قتل بها زوجها، و هذا يدلّنا على فصل مطمور وراء الأحداث ينبغي كشفه للأمّة.

العطايا و أعطيت كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسويّة و لم أجعلها دولة بين الأغنياء، و ألقيت المساحة و سردت ما فتح فيه من الأبواب، و فتحت ما سدّ منه و حرّمت المسح على الخفّين، و حددت على النبيذ، و أمرت بإحلال المتعتين، و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و أخرجت من أدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مسجده ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرجه، و أدخلت من أخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدخله، و حملت الناس على حكم القرآن و على الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها، ورددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و مواضعها، و رددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس و سائر الأمم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إذا لتفرّقوا عنّي، و اللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا، إلى آخر الرواية (1).

و قال له شريح القاضي و عبيدة السلماني و مسروق و أبو وائل- و كانوا من أهل عسكره- مرّات عدّة: لئن فارقت سيرة الشيخين لنفارقنّك، و خذله مسروق و سار إلى معاوية يحرّضه على حربه، و ردّ عليه عبيدة السلماني حكمه في الأمّهات و أولادهنّ و غيره من اللعناء ينطوون على الفتنة و يتحيّنون الفرص لإحداث الشغب، و لمّا اعترضه عبيدة سكت أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقدر على إظهار مذهبه أمام عسكره كما لم يقدر على بيان بدعهم و إظهار البرائة منهم إلّا بحضرة الخواصّ من شيعته و أهل بيته.

ص: 26


1- الكافي 8: 59، و ارجع إلى الهوامش ففيها تعاليق نافعة تتضمّن شروحا للحوادث الغامضة الواردة في الرواية و منعنا من ذكرها خشية الإطالة.

و كذلك لم يطعه الناس في أشياء خالف بها عمر الإسلام و ردّها الإمام إلى واقعها، و كذّبوه إلى أن قال ذات يوم على المنبر: زعم قوم أنّي أكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من عبده، أم على رسوله؟ فأنا أوّل من آمن به و صدّقه.

و كانت الجواسيس تراوح عسكره و تغاديه، تتجسّس عليه و تسرب أخبار عسكره إلى العدوّ، و طالما سألوه عن الشيخين لعلّهم يظفرون منه بكلمة يستيبحون بها دمه و أخيرا اتّهموه و أولاده بقتل عثمان بن عفّان، و لمّا كان عثمان قد أظهر الظلم و الجور و اتّفقت الأمّة على قتله و منهم المهاجرون و الأنصار و أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم بأجمعهم أفتوا بقتل عثمان بن عفّان، لذلك أمكن الإمام في هذه الحال أن يظهر جانبا من ظلمه و يمثّل للناس ما كان يرتكبه من المنكرات و الغشم و الجور، و هذا بعكس ما كان عليه الشيخان فقد سخط عليهما بعض الأمّة و لم يحصل إجماع الأمّة ضدّهما فما كان باستطاعة الإمام إلّا التفاعل مع الوضع القائم في دولته بل و عسكره خاصّة تجاه الشيخين.

و يمكن أن يقال أيضا: أنّ اللّه تعالى أمرنا بالجهاد و لم يفصل لنا العلّة، اللهمّ إلّا جانبا منها و هو صلاح الدين، و هنا يمكن أن نقنع بالإجمال من سكوت عليّ عليه السّلام بأنّه لصلاح الدين و أهل الإسلام.

ثمّ إنّ النبيّ كفّ عن القتال في أيّام الحصار بالشعب و ما تلاه من الزمن قبل الهجرة و لمّا هاجر و وجد الأنصار و الأعوان قاتل و جاهد في اللّه حقّ جهاده.

و لقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم، و كانت الأكثريّة من الأمّة مقلّدة و ليس في وسعها دفع الشبهة لو حدثت، و ربّما داهمهم

ص: 27

الفكر بإعلان الردّة، فقد ظهر في بني حنيفة «ابن طيّاش» (1) و مسيلمة الكذّاب و ادّعيا النبوّة، و كان بعض الناس يشكّ في صدق دعوى أمير المؤمنين عليه السّلام لذلك كفّ عن الحرب.

و لمّا كانت أيّام معاوية اختلفت معها الحال حيث استحكم الإسلام في القلوب و ثبتت الحقيقة في الأفئدة، و الدليل على ذلك ما كتبه أمير المؤمنين إلى معاوية و فيه:

و قد كان أبوك أتاني حين شرع أبو بكر في عقد الأمر لنفسه، فقال: أنت أحقّ بهذا الأمر بعد النبيّ فهلمّ أبايعك، فكرهت ذلك مخالفة الفرقة من الإسلام و لقرب عهد الناس بالكفر.

و قال المخالفون: إنّ عليّا وتر الأحياء بقتل أمواتهم فاستحكمت الضغائن في القلوب و تلظّت الأكباد عليه و صار هذا الأمر مانعا من تقديمه.

و الجواب: إن كان هذا القتل بإذن اللّه و رسوله فلا موضع للأحقاد بل ربّما كان ببركة رسول اللّه أدعى إلى تأليف القلوب، و لقد فعل اللّه ذلك بناءا على قوله تعالى:

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (2) و لمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادت القلوب إلى ما كانت عليه و رجعت ضغائنها و أحقادها كما كانت، و ثاروا ضدّ خليفة رسول اللّه و حاربوه، و قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأمّة ستغدر بك، و قال أيضا: إن قاتلت فلك و إن تركت فهو خير لك (بعدي) (3).

ص: 28


1- لم أجد في تاريخ المدّعين أحدا بهذا الاسم.
2- الأنفال: 63.
3- كشف الغطاء 1: 10، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 72، الخصال: 462، الغارات 2: 444 و 487، مناقب أمير المؤمنين 2: 533 و 545، المسترشد: 363، شرح الأخبار 1: 152 و 436، و 2: 446، الإرشاد للمفيد 1: 285، كنز الفوائد: 79، الأمالي: 476، الاحتجاج 1: 98 و 280، مناقب ابن

و حاله كحالة هارون الذي قال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (1) و من هنا قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، قال: أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا؛ ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير، و أمّا لوط فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (2)، و قال موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (3)، و قوله: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي (4)، و قوله: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (5)، و قال هارون:

أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (6)، و من هنا امتنع عن البيعة.

و قال أبو بكر لخالد: اضرب عنقه، ثمّ ندم و قال: «يا خالد لا تفعل ما أمرتك».

و قال عمر لعنه اللّه لفاطمة: يا فاطمة، ما هذا المجموع الذي يجتمع بين يديك لئن انتهيت عن هذا و إلّا لأحرقنّ البيت.

و كان إسحاق بن راهويه قد ذكر هذا الحديث و قال في ختامه: إنّما كان هذه تغليظا من عمر.

و كما لا يلام الرسول على ترك الجهاد في مكّة كذلك لا يلام عليّ على تركه لأنّ الأسباب الحاكمة على كليهما واحدة.

ص: 29


1- طه: 90.
2- هود: 80.
3- الشعراء: 21.
4- المائدة: 25.
5- الشعراء: 14.
6- طه: 94.

و أمّا ما كان يقبضه عليّ من العطايا منهم فإنّها بمثابة ما كان يقبضه يحيى بن زكريّا من جبّار زمانه و لعلّ ما كان يأخذه عليّ منهم إنّما كان سهمه من الخمس و لا دليل في ذلك على رضاه بإمامة الأوّل.

و أمّا عن اقتدائه بهم في الصلاة فإنّه يجعل بينه و بينهم حجابا اعتباريّا بمثابة الحائط و يصلّي لنفسه و كذلك كان أولاده يفعلون حين اقتدائهم بمن لا يقتدى به إلّا أنّ الخوف و التقيّة يقتضيان ائتمامهم بهم، و لعلّه يصلّي الفرائض في بيته و يصلّي النوافل في المسجد، و النافلة لا تصلّى جماعة لكونها بدعة و حراما، و في مذاهبنا أنّه ترك الحضور في المسجد بعد محاولة اغتياله على يد خالد بن الوليد و إن خرج معهم في سفر فإنّما كان لغرض التعليم لأنّه كان مرجعهم في الفتوى و حلّ المشاكل و المعضلات و المعاضل التي تحدث بينهم لا تخصّهم، و إنّما تتوجّه رأسا إلى حريم الإسلام فيصبح عرضة لتقوّل المنافقين و طعناتهم ثمّ استهزائهم بالرسالة و صاحبها من هنا كان الأصحاب يحملون عليّا عليه السّلام على السفر معهم من أجل حفظ بيضة الدين ....

و القوم يروون روايات ليس لها صحّة في مذهبنا و لا تعرف من طريقنا اللهمّ إلّا رواية واحدة و هي أنّ أبا بكر غاضبه أحدهم فغضب و خرج خارج المدينة فتبعه الإمام و أرضاه مع من غاضبه و عاد إلى المدينة ثانية.

و أمّا ما قالوه من ضربه الوليد بن عقبة الحدّ بحضرة عثمان فهذا لا يدلّ على أحقّيّة عثمان لأنّ إقامة الحدود بعهدة إمام الزمان بأيّ صفة كان فإنّه يجب عليه إقامتها و كان عليّ إماما في ذلك الزمان و لا يستقيم الأثر إلّا بهذا كما فعل النبيّ دانيال حين كان يقيم الحدود في مملكته و يؤدّي الأحكام الشرعيّة و أعطى الطاغية الوسيلة لفعل ذلك، و كان ابن مسعود يقيم الصلاة في بيته مع الأسود و علقمة ثمّ يخرج إلى المسجد يصلّيها مع الجماعة، و المشهور بين الأصحاب أنّ عثمان (لعنه اللّه-

ص: 30

المترجم) لا شأن له في الأمر و لا يستحقّ من الخلافة شيئا و على هذا الأساس بني إجماع الأمّة على قتله.

ثمّ إنّ الكثير من الصحابة صلّوا خلف معاوية و يزيد و ملوك بني أميّة و هذا لا يدلّ على إمامة الظالمين الحقّة.

و اتّفقوا على انّ عبد الرحمان بن عوف قال يوم الشورى: تأخذها بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر (لعنهما اللّه- المترجم) فقال عليّ عليه السّلام:

بكتاب اللّه و سنّة رسوله، أمّا سنّة أبي بكر و عمر فلا.

و يقول المخالف أيضا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقتدى بعبد الرحمان بن عوف في الصلاة فلم تثبت لعبد الرحمان الإمامة و لا النبوّة.

و قال: صلّى رسول اللّه وراء أبي بكر فعلى هذا ينغبي أن يكون أبو بكر الرسول و النبيّ تابع له.

حكاية: خرج عمر مع العبّاس إلى الشام و كانت فرسه سابقة لفرس العبّاس، تمشي أمامه، فكان أهل الشام يخضعون لعمر، حتّى أرادوا السجود له كما قال اللّه تعالى:

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) كما يفعل اليوم أتباع المشايخ و أحبّائهم، و كانوا ينادون عمر بأمير المؤمنين، فقال العبّاس: إنّه ليس أمير المؤمنين و أنا أولى بها منه، فسمعه عمر، فحزّ كلامه في نفسه و قال: ألا أخبرك بمن هو أحقّ بها منّي و منك؟ فقال: نعم، قال عمر: رجل خلّفناه بالمدينة- يعني عليّا عليه السّلام-.

فقال العبّاس: فما منعك و صاحبك من ذلك؟ فقال عمر: نحن نقرّ بفضله و نعترف به إلّا أنّنا ما قدّمناه لأنّ قريشا تحمل له الحقد في قلوبها فخفنا أن لا يجتمع عليه

ص: 31


1- التوبة: 31.

العرب فيخرج الأمر من أيدينا و كان تقدّمنا عليه و تأخّره عنّا لهذا السبب، ثمّ قال:

و كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و اللّه أعلم أصبنا أم أخطأنا (1).

الجواب: لقد كان حقد قريش على رسول اللّه أكثر و أكبر من حقدها على أمير المؤمنين، فيكون بناءا على قول عمر أن لا يمكن من تحقيق رسالته، و يقدّم عليه أبو لهب و أبو جهل و أبو سفيان، لأنّ قريشا كانت توالي هؤلاء و لا تواليه، نعوذ باللّه من هذا الكلام (2).

ثمّ إنّ هذا القتال من عليّ كان بأمر اللّه و رسوله فعداوته عداوة للّه و رسوله، و اجتمع العرب على معاوية و على ابنه يزيد (لعنهما اللّه) فينبغي على قول عمر أن يكونا إمامين في زمانهما.

تنبيه: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ هذا الأمر لا يكون في عليّ و لا في أحد من ولده» عنى بالأمر الخلافة.

و أورد أبو جعفر ابن بابويه القمّي هذا الحديث على طريق الاعتراض، و قال:

و لعلّه لهذا السبب زعموا أنّ النبوّة و الإمامة لا يجتمعان في بيت واحد، ثمّ واصل الجواب، فقال: و لو صحّ هذا الحديث لما جعل عمر عليّا واحدا من أصحاب

ص: 32


1- ورد الحديث في الإيضاح طويلا و فيه قول عمر لابن عبّاس: و ما كفى ما قال لي أبوك: قال- الراوي- فقلت لابن عبّاس: و ما قال له أبوك؟ قال: لقيه رجل من أهل الشام، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال العبّاس: لست و اللّه للمؤمنين بأمير هو ذاك و أنا و اللّه أحقّ بها منه، فسمعه عمر فقال: أحقّ و اللّه بها منّي و منك رجل خلّفناه بالمدينة أمس- يعني عليّا- (الإيضاح: 173، الصراط المستقيم 2: 56، مواقف الشيعة 1: 221).
2- هذا يا شيخ كلام من لا يؤمن باللّه و لا بنبوّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الشورى، و كذلك لم يفوّض الإمام أمر الخلافة إلى الحسن و لم يبايع المهاجرون و الأنصار عليّا و لم يجمع أهل القبلة و معهم العالم على إمامته.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ إجماع المسلمين حاصل هنا و الإجماع حجّة مع أنّ مخالفينا يروون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «المهدي من ولد فاطمة» و استخلف عليّ خمس سنوات و اتّخذه أهل القبلة إماما لهم و خليفة عليهم فإجماعهم مبطل لهذه الرواية و ثبت كذبها.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تجتمع أمّتي على ضلال، مع أنّ واضع هذا الحديث هم بنو أميّة و أرادوا بالشبهة الملبسة بلباس الدليل صرف الخلافة عن أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و رووا أيضا بأنّ العبّاس قال لعليّ عليه السّلام: هلمّ أبايعك، فيقال عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّ رسول اللّه. و ينبغي على ما ذهبوا إليه أنّ العبّاس خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سؤال: من الجائز أن لا يكون العبّاس لم يسمعه من النبيّ أو سمعه و نسيه.

الجواب: فلم لا يكون جائزا حينئذ أن ينسى الصحابة من ذلك الجمع و فيهم المحبّ الصادق أحاديث إمامة عليّ و كتمها الأعداء.

تنبيه: مذهب العلماء على أنّ الخلفاء لم يحضروا جهاز النبيّ و لا الصلاة عليه، بل كانا يتحيّنون الفرصة هناك و قد علموا أنّهم إذا شاركوا في تجهيز النبيّ خرجت الخلافة من أيديهم و كان أبو بكر و عمر يشكّان في موت النبيّ (1)، قال: أيّها الناس، كفّوا

ص: 33


1- و هذه لا أرضاها من المؤلّف فقد مثّل عمر دور الجاهل انتظارا لصاحبه حتّى يعود فلمّا عاد ختمت التمثيليّة.

ألسنتكم عن نبيّ اللّه فإنّ نبي اللّه لم يمت و لكن اللّه واعده كما واعد موسى، و هو آتيكم، و اللّه لا نسمع أحدا يذكر النبيّ توفّي إلّا علوته بسيفي هذا و لكن أمير المؤمنين سارع إلى دفع هذه الشبهة من أذهان الناس.

و أيضا أتظنّ أنّ عمر لم يقرأ هذه الآية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) و قد نزلت قبل وفاة النبيّ بأحد عشر سنة، و كذلك قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (2) و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (3) و كان النبيّ يقول على رؤوس الأشهاد: «نعيت إليّ نفسي»، و العجيب في أمر عمر أنّه يرى أو يسمع بغسل النبيّ و كفنه و دفنه ثمّ يقول: أضرب بسيفي من يقول أنّ رسول اللّه مات.

قال عبد اللّه بن عبّاس عن عمر بأنّه قال: لو مات رسول اللّه كيف يكون علينا شهيدا، يموت الرسول و لم يظهر على الناس، فإيّاكم أن تفتتنوا أيّها الناس كما افتتن قوم موسى حين غاب منهم إلى الطور فرجع إليهم فعاقبهم.

فقبل قوله جهّال الصحابة و اجتمعوا على باب بيت النبيّ و شرعوا في إحداث الشغب قائلين: لا تحرّكوا رسول اللّه و لا تغسّلوه و لا تكفّنوه لأنّه حيّ قائم.

فخرج عليهم العبّاس و طالبهم بإثبات ما يقولون و سأل عمر و المنادين معه:

متى قال النبيّ أنا لا أموت؟! فصاحوا بأجمعهم: لا علم لنا بذلك، فأقسم العبّاس أنّه مات و قرأ الآيات الدالّة على موته، فقبل الصحابة ذلك، و لكن كان لعمر غاية وراء هذا القول و هو أنّ الحزن لا بدّ و أن يعمّ الأصحاب بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا بدّ من

ص: 34


1- الزمر: 30.
2- آل عمران: 144.
3- الأنبياء: 34- 35.

بكائهم ساعة علمهم بموته، و عمر مقبل على ملك عضوض و هو فرح به مستبشر، و طالب من القوم تهنئته على هذا النصر العظيم و هي لا تجامع الحزن فمن الحزم الحيلولة بينهم و بين البكاء لئلّا تفوته فرحة النصر على العدوّ و الفوز بالملك العقيم، و كان يستحي من الظهور بمظهر الجذل و الفرح فلا بدّ من افتعال هذه الزوبعة لتمرير غابته (1).

و أيضا إنّ أرذل القبائل قبيلة أبي بكر و عمر و كان قبل الإسلام بطّالا إذا أصاب طعاما أو شرابا على خوان أحدهم قصفه، أمّا أبو بكر فكان أحيانا عضروطا أو سمسارا أو معلّم فتيان عبادة الأصنام و أحيانا يبيع البزّ، فلمّا رفع من الرفش إلى العرش فلا بدّ من أن تعمّه الفرحة التي لا حدود لها، و هم يقولون: إنّ أبا بكر ألفت ذهن عمر إلى موت رسول اللّه بقرائة الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (2) فأقسم عمر كأنّه لم يسمعها قبل اليوم، و العجب من القوم أنّهم يقولن كان عمر معلّما لأبي بكر و كان أعلم منه و كان حلّ المعضلات التي تعترض أبا بكر على يديه ثمّ هو يجهل هذه الآية مع ادّعائهم أنّه كتب القرآن و جمعه و حين هلك ذهب تسعة أعشار العلم بهذه العبارة: «لمّا مات عمر ذهب تسعة أعشار العلم».

و قوله: إنّ رسول اللّه للّه شهيد علينا ألا يعلم أنّ هذه الشهادة في الآخرة لا في الدنيا.

ص: 35


1- رحم اللّه المؤلّف حين يطمئنّ إلى هذا التوجيه البارد و الواقع أنّ موت النبيّ فاجأ عمر و أبو بكر صاحبه بالسنح فخاف أن يطول مكثه هناك فأراد أن يشغل الناس بهذه الفرية حتّى يعود صاحبه و لذلك لمّا عاد ابو بكر و تلا عليه آية «إنّك ميّت و إنّهم ميّتون» سكت عمر من تهديده و قال: كأنّي لم أسمع، نعم كان أعمى أصمّ و صاحبه في السنح أمّا الآن فقد عاد سميعا بصيرا، ألا لعنه اللّه و لعن صاحبه.
2- الزمر: 30.

الفصل الرابع

و لمّا انتقل رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى أمر عليّا و العبّاس بإلباسه حلّة يمنيّة، و يغسل فيها، فكان العبّاس يسكب الماء و الفضل يقوم بنقله إليه و الإمام يقلّب رسول اللّه و يدلّكه، و احتاج الفضل إلى الخروج من مكان الغسل لقضاء مهمّة عرضت، فانتدب مكانه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب من بني هاشم و من الأنصار أبيّ بن كعب و أوسى بن خولّى كانا مع بني هاشم خارج موضع الغسل، و كان السبب في دخولهما مع عليّ عليه السّلام و بني هاشم أنّ الأنصار قالوا لعليّ: ناشدناك اللّه و حقّنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأشركنا معكم في غسل رسول اللّه، ففعل عليه السّلام، هذا ما في روايات القوم.

و أمّا عندنا فإنّ عليّا لم يشركه أحد في غسل رسول اللّه إلّا الفضل بن العبّاس حيث كان ينقل الماء و الملائكة أعوان عليّ عليه السّلام و معهم جبرئيل في فوج من الملائكة المقرّبين.

و يقول ابن بابويه: لم يحضر الأنصار إلّا في الصلاة، و هذه مسألة قطعيّة عنده لا تقبل النقاش، و هي متّفق عليها عندنا إلّا أنّ الإجماع حاصل من أنّ عليّا عليه السّلام بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «يا عليّ، أنت أوّل من آمن بي و آخر من يسلّمني إلى ربّي» أمّا مخالفونا فلقد افتروا فرى ليس لها واقع أصلا من قبيل مشاركة العبّاس و أسامة و الفضل و أبي سفيان ابن الحرث و غرضهم من ذلك الوضع من مرتبة عليّ و فضله و ليس مع عليّ غير الفضل يأتيه بالماء و باقي أعوانه من الملائكة، و لم يصلّ في مسجد النبيّ ذلك اليوم أحد سوى بني هاشم فقد كانوا في شغل شاغل عن كلّ شي ء إلّا عن مصيبتهم و عن الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجهيزه، و كان أبو بكر في

ص: 36

سقيفة بني ساعدة يلاطم على الملك حتّى إذا فرغ بنو هاشم من مأتمهم على النبيّ يكون قد أحكم السيطرة على الملك.

الفصل الخامس

روى يوسف بن كليب المسعودي السنيّ عن إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن عبد اللّه بن لهيعة المصري، عن أسود بن عروة بن الزبير (الزهر) أنّه قال: أوّل من قطع سهم ذوي القربى و سهم المؤلّفة قلوبهم أبو بكر، و يوسف هذا من قطيع السنّة النواصب، ثمّ قال: و ما أخذه منهم أنفقه على العسكر في عدّته و عدده.

الجواب: إنّ اللّه سبحانه و رسوله أعلم بترتيب الشريعة و النظر لصلاح الناس من هؤلاء القوم و أمر اللّه و رسوله لأهل البيت بحقّهم في هذه الآية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) و أمثالها، و أمر اللّه بإكرام أهل البيت و محبّتهم بهذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) و كيف يستلب منهم ما جعله اللّه حقّا لهم و تحيّة لجنابهم دون سائر الناس ثمّ يعطي إلى قوم غيرهم؟

و ذكر مسلم الأصمّ و الجاحظ و حفص و هؤلاء من أعلام النواصب: كان في ذمّة أبي بكر عند موته أربعون ألف دينار من بيت مال المسلمين، و مات و هي في ذمّته لم تؤدّ عنه، و أمر في وصيّته بأدائها عنه و لكن الخليفة من بعده لم يردّ حقوق أحد من المسلمين حتّى يؤدّيها عنه، و أخذوا حقّ أهل بيت الرسول و تركوهم جياعا عراة و قضموا حقوقهم: يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع.

ص: 37


1- الإسراء: 26.
2- الشورى: 23.

حكاية: يقال: إنّه كان في الريّ حاكم ظالم جدّا، فقبض يوما على أحد الدهاقين و صادر أمواله كلّها، و حدث ذات يوم أنّ مغنّيا كان يردّد رجزا جميلا و فيه: إنّ الوالي الذي صادر الدهقان أعطاه مال المصادرة، و لمّا بلغ الخبر الدهقان بكى و قال: يأخذ ممّن ليس عليه شي ء، و يعطيه من ليس له عنده شي ء.

و هذا الخبر منطبق على أبي بكر تمام الانطباق، لأنّه أخذ مال من لا يجوز أخذ ماله و أنفقه على من لا ينبغي أن ينفقه عليه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (1).

و كان مذهب الشافعي على هذا و هو أنّه في آخر عهد عمر قدم بمال كثير من فارس و كرمان و الأهواز و تستر إلى المدينة، فقال عمر: إنّ حصّة بني هاشم من هذا المال الخمس و أنا أرجوهم أن يقرضوه لي لأصلح به حال المسلمين على أنّي سوف أعوّضهم عنه في فرصة قادمة من مال آخر، فأقرضه أمير المؤمنين إيّاه و فعل بنو هاشم فعله، فطالت المدّة و لم يعوّضهم عمر عنه حتّى هلك، و لمّا جاءت نوبة عثمان بقيت الحال على ما هي عليه من سنّة عمر، و جاء الخلفاء و قد تنوسي الخمس فلم يعطوا أهل البيت شيئا.

و في رواية أخرى عن الشافعيّ عن أبي ليلى أنّه روى عن عليّ قال: ذهبت أنا و فاطمة و العبّاس و زيد بن حارثة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قلنا: يا رسول اللّه، إنّنا نخشى أن لا نعطى حقّنا من الخمس بعدك، فأعطناه في حياتك لكي لا يعترض علينا أحد أو يعارضنا، فرضي النبيّ بذلك و دفع إلينا الخمس و بقي في أيدينا أيّام أبي بكر حتّى إذا كانت أيّام عمر جائه مال كثير فأخرج خمسه و دفعه لنا، فقلت

ص: 38


1- المنافقون: 7.

لبني هاشم: ما حاجتنا بهذا المال ادفعوه إلى المسلمين لإصلاح حالهم، لعلّهم يعطونا عوضه في فرصة أخرى مؤاتية، فقبضه عمر على أنّه قرض و أعمل فيه يده بالتصرّف فأنكر العبّاس على عليّ هذا الموقف و قال: لا ينبغي لك أن تفعل هذا لأنّي أخاف أن يحلو المال بأعينهم فلا يعطوننا شيئا بعده، و كان كذلك فعلا فقد هلك عمر و لم يؤدّ إلى بني هاشم قرضهم كما سلف و بقي هذا الدين عالقا في ذمّة عمر .. و هاتان الروايتان من الشافعي.

تنبيه: لقد تمّت الصيغة الكاملة للصلاة و الزكاة و الخمس بنصّ القرآن الكريم فمن أنكر واحدة منها أو امتنع عن أدائها عدّ كافرا بالقرآن و بمنزله و رسوله.

قال الحارث بن المغيرة: طلب «نجية» الإذن على الإمام الصادق فأذن له و دخل عليه يسأله عن قضيّة الخمس و منعه، فقال ذلك الإمام: يا نجية، إنّ الخمس لنا في كتاب اللّه و لنا الأنفال و صفوة الأموال و هما و اللّه أوّل من ظلمنا و منعنا حقّنا و كانا أوّل من ركب أعناقنا- إلى أن قال:- و سوف يكشف أحوالهما قائمنا كما يستحقّون.

و وردت أخبار نظير هذا لا تقبل الحصر.

الفصل السادس في مثالب بني تيم

ذكر أصحاب السير و المؤرّخون عن بني تيم بأنّهم كانوا أهل مسكنة و فقر، و أخمل و أجهل بطون العرب، و سقطوا في الجاهليّة فليس لهم قدر و لا جاه، و قد ذمّهم دغفل النسّابة عند معاوية، و قال فيهم جرير:

ص: 39

و يقضي الأمر دون رجال تيم (1)و لا يستأذنون و هم شهود

و إنّك لو رأيت عبيد تيم و تيما قلت أيّها العبيد و لم يكن فيهم لا سيّد مشهور و لا تاجر معروف و لا جواد مذكور، و كان دغفل النسّابة عربيّا عارفا بأنساب العرب و سأله معاوية ذات يوم عن القبائل، فقال بعد أن ذكر عددا منها و سأله معاوية عن بني تيم:

أهل فحش فاش، أحلام الفراش! إن شبعوا بخلوا، و إن افتقروا ألحفوا (ألحّوا- المؤلّف).

و قال أبو العبّاس- لعلّه المبرّد- المترجم- قال حجر ابن جوين لأبيه: هجوت قبائل العرب و تركت تيما فما هو سبب تركك هجائهم؟ فقال: يا بني، لم أجد لهم حسبا أضعه و لا بيتا أهدمه.

و اسم أبي قحافة عثمان بن عامر و كان يعرف في قريش ب «لواطة» و كان من لؤمه ينادي على طعام عبد اللّه بن جدعان (2) و كان يعطيه عبد اللّه على فعله هذا في كلّ يوم درهما وحدا، و يملأ جوفه من فضلات طعام الأضياف و يذكر ذلك أمّية ابن أبي الصلت عن ابن جدعان، فيقول:

له داع بمكّة مشمعلّ و آخر فوق دارته ينادي إلى آخر الشعر، و المنادي هنا أبو قحافة.

و كان صائدا يصيد الطيور فصاد طيرا في الصحراء و باعه بذي الحليفة.

و كان له شريك يقطن بذي الحليفة و يدعى سعد الغاري من الغارة بن الهون بن

ص: 40


1- في العيون و المحاسن للشيخ المفيد: و يقضي الأمر حين تغيب تيم- و هو أبلغ و فيه الطباق: غياب و شهود.
2- و من يفعل ذلك يسمّونه «عضروط» و ليس «لواطه».

خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (1) و قال بعضهم اسمه سعيد.

و حاصل الكلام أنّ سعيدا هذا خان أبا قحافة حين أخذ طائره الذي اصطاده فكتمها أبو قحافة في نفسه و لم يبدها لأحد و صبر على مضض و كان يبالغ في التكتّم، فدعاه شريكه ذات يوم إلى بيته فأجلسه فيه و خرج لحاجة عرضت له، فعمد أبو قحافة إلى بيته في غيابه فانتهبه و أخذ منه ما قدر على أخذه، و من هذه الجهة سمّي أبا قحافة، يقال: اقتحف اقتحافا أي شرب شربا شديدا، جمع ما في الإناء من الماء. و كان لا يقول الشعر و لكنّه قال شعرا في هذه الواقعة:

أسعد جزاك اللّه شرّ جزائه بما نلت منّي في الخيانة و الظلم

وثقت به حيّا و قلت لعلّه يكون على أمر بعيد من الظلم

فلمّا رأيت المرء ينوي خيانتي شددت عليه شدّة الليث ذي الضغم

و قلت له هذا جزاءك ظالمالما قدّمت منك اليدان مع الفم و تظهر مروئة أبي قحافة و كرمه و سخائه من هنا حيث سرق بيت شريكه و مضيّفه و هجاه من أجل طائر، و لا بدّ أن ينعكس شرفه هذا على أهل بيته فيكونون على مثل مروئته و شرفه، و كلماتنا هذه تنبيه على أباطيل من ينسبون إليه الفضائل، إذ قلّت الخبرة- خبرة- بأحواله.

قال أهل السير من الأسلاف: كان جماعة يذكرون مناقب معاوية في أحد المجالس، فقال أحدهم: كان معاوية بدريّا أي أنّه حضر موقعة بدر، و كان هشام ابن الحكم حاضرا، فقال: نعم كان بدريّا و لكنّه من جانب المشركين.

ص: 41


1- أحيط القارئ علما بأنّي عاجز عن التأكّد من أسماء الأعلام الواردة في هذا الكتاب لأنّ نصوصه العربيّة أكثرها دخلها التصحيف و التحريف و لا أملك إلّا نسخة واحدة هي التي أقوم بترجمتها من ثمّ أكل الأمر إلى القاري في تحقيق ما يراه خطأ أو مصحّفا أو محرّفا.

إنّ الجماعة الذين يوالون هؤلاء ينسبون إليهم المناقب على مثل طريقة العرب في التفاؤل حيث يسمّون الأشياء بأضدادها فيسمّون الأعمى بصيرا، و اللديغ سليما، و الصحراء المهلكة مفازة «حبّك الشي ء يعمي و يصمّ».

و الدليل على خساسة طبعهم أنّه لمّا بايع القوم أبا بكر بعد وفاة النبيّ سأل أبو قحافة: من بايعه الناس؟! قالوا: ابنك، فقال: كيف رضي بنو عبد مناف بذلك؟- لأنّه علم أنّ الأشراف و علية القوم لا يقرّون له اختيارا لذلك تملكه العجب من هذه المهزلة- فقالوا له: رضى المسلمون به، فقال: لا مانع لما أعطى اللّه، و كأنّه كان جبريّا و من ثمّ اعتقد بأنّ خلافة ولده كانت بقدر من اللّه تعالى و لم يدر أنّها تمّت بالقهر و الغلبة و الحيلة و الغدر، فإن كانت خلافته قدرا من اللّه و هبة منه سبحانه فإنّ ملك معاوية و يزيد و سائر بني أميّة و ملك الأكاسرة و القياصرة بقدر من اللّه كذلك «نعوذ باللّه منه».

قال أبو بكر لأبيه يوما: ترى صلاتنا متعبة مقيمة مقعدة و العجب أنّه لا يرى عمل الصائد بأقدامه الحافية راكضا في صحراء مترامية الأطراف وراء الطيور عملا متعبا و مقيما مقعدا، و يرى الصلاة كذلك، و هي تؤدّى في محلّ واحد!

حكاية: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما بين مكّة و المدينة و قد مرّ على قبر أبي سعيد بن العاص، فقال ابو بكر: لعن اللّه صاحب هذا القبر فإنّه كان يكذّب اللّه و رسوله- و كان ابنه سعيد حاضرا- فقال: بل لعن اللّه أبا قحافة لأنّه لا يقري الضيف و لا يدفع الضيم و لا يقاتل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا سببتم المشركين فعمّوهم بالسبّ و لا تسبّوا الأموات فإنّ سبّهم يغضب الأحياء، و ذكر أصحاب السير و التواريخ أيضا (1).

ص: 42


1- إلى هنا و انتهى الفصل و لم يذكر ما قاله أصحاب السير و التواريخ.

الفصل السابع

اعلم أنّ أبا بكر لم يثبت له قتال في الإسلام و لم ينقل عنه أنّه قتل مشركا واحدا و لم يذكر ذلك أهل المغازي، نعم، قيل أنّه استأذن من رسول اللّه يوم الخندق أن يبارز ولده فلمّا خرج إليه و دنا منه، قال له: ويحك، ما بقي من مالي؟ فقال ابنه: لم يبق إلّا شكّة و يعيبوب و فارس يضرب ضلال الشيب، و اليعبوب اسم فرس.

قال الجاحظ الناصبي اليزيدي في كتابه «العثمانيّة»: إنّ أبا بكر لمّا أسلم أسلم معه أهل بيته كلّهم، و هذا قول باطل بعبد الرحمان ابنه الذي كان كافرا يوم الخندق.

و قيل عنه: أنفق ماله بعد إسلامه و لم يبق منه درهم واحد، و هذه الدعوى الباطلة يكذّبها قوله لولده: «ويحك ما بقي من مالي».

و المشهور عنه و عن صاحبه عمر أنّهما كانا أوّل المنهزمين في وقعة خيبر و حنين.

و كان يخجل من الذهاب إلى ولده ظاهرا ليسأله عن ماله فجاء النبيّ و استأذنه في البراز يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (1) و مع هذا فقد ظهرت الفرحة على بعض المسلمين أنّ فلانا الذي لم يعرف الصحور في الحرب و لم يقاتل بمقدار جناح بعوضة سوف يخرج اليوم للمبارزة فينبغي أن يكتب له حرز عن العيون: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر» و لمّا علم أبو بكر بما جرى لماله من ابنه رجع من ميدان القتال.

ص: 43


1- البقرة: 9.

الفصل الثامن

يقول المخالفون: إنّ الأصحاب هم الذين نطق القرآن بفضلهم و نوّهت السنّة بهم، و كلّ الذي عليه أهل القبلة من الدين و الديانة و العقيدة وصل إليهم منهم فكيف يجتمعون على الكذب و ينكرون نصّ رسول اللّه مع أنّهم يدركون رفعة مقام عليّ و فاطمة و يقرّون بفضلهما. و أهل السنّة اليوم في مجالسهم و نوادي وعظهم مشغولون بالحديث عن فضلهما و صالح أعمالهما، فكيف يتصوّر على هؤلاء إنكار النصّ فيكفرون من أجل غيرهم؟

الجواب: إذا كانت المناظرة من جهة الأخبار احتاجت إلى التصادق، و إن كانت من جهة العقل احتاجت إلى التناصف، و ما ورد من القرآن و السنّة في فضل الصحابة فإنّهم أولئك الذين لم ينكروا فضل أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا جحدوا فضائلهم و مناقبهم أبدا نظير بني هاشم و أبي ذر و عمّار و غيرهم، لم يأت القرآن و السنّة الموثوق بها بالتخصيص و إنّما أتت بطريق العموم، و وردت مجملة و مع هذا فقد ورد مثله آيات في ارتداد القوم كما سنقصّ عليك زمرة منها.

ثمّ إنّ الصحابة كانوا هم على الشرك و من سلالة مشركين و كان أولاد يعقوب من سلالة الأنبياء و يعرفون مناقب أخيهم يوسف فأرادوا قتله- كما هو مشهور في التاريخ و مذكور في سورة يوسف- من الحسد و العداوة مع أنّهم يعرفون منزلة يوسف و علوّ درجته.

و كذلك فعل قابيل فإنّه لم يقتل أخاه بناءا على الجبلّة الإنسانيّة و الغيرة الأخويّة و إنّما قتله لعلمه بعلوّ رتبته «عند اللّه و عند أبيه آدم».

و كان رسول اللّه في الوهلة الأولى لم يعاده أحد و لكن حين ظهرت بوادر شرفه

ص: 44

و منصبه و جاهه و رفعته حسدوه و ناصبوه العداء و كان في مراحله الأولى ساكتا حتّى إذا وجد المعين و الناصر خرج بالسيف، ثمّ إنّ عدوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله ظاهروا الشرك، و عدوّ عليّ ظاهروا الصلاح و العدالة، و الشرك و المعصية مقيمان في الباطن منهم فلم يدرك الجهّال حقيقتهم لتستّرهم بقناع الإسلام و كانوا يموّهون على الناس في ظلمهم لأهل البيت بظاهر الشرع و الإسلام فلم يتيسّر لكلّ أحد معرفتهم أو الاطّلاع على حقيقتهم و كان عدوّ محمّد مشركا و عدوّ عليّ منافقا.

لقد كان النمرود و فرعون يرون المعجزات رأي العين فلم يكونوا يجهلون رتبة موسى و إبراهيم، و كان بنو إسرائيل يعرفون منذو البداية ما لزكريّا و عيسى من رفيع الدرجة و علوّ المنزلة و غيرهما من الأنبياء كما جاء في كتب السلف و قد ذكر الماضون أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون في كلّ يوم مائة و اثني عشر نبيّا، و لا تنس أهل العقبة فما كانوا يجهلون فضل رسول اللّه بل عرفوه على حقيقته.

أمّا الشريعة فهي مبنيّة بالقرآن الكريم و إجماع أهل القبلة و نحن شيعة أئمّة أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرفنا المجمل من القرآن و ما يحتاج إلى تفسير و بيان من أقوال المعصومين من أهل البيت عليهم السّلام و من الصحابة الذين لم يخالفوهم و لم يختلفوا معهم مثل أبي ذر و سلمان و عمّار و أمثالهم من بني هاشم.

و أمّا خصومنا فقد ارتدّوا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قيد الحياة و كان و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: «نفّذوا جيش أسامة» إلى أن قال: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة، و قد أخبر اللّه تعالى عن هذا الارتداد بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (1) و من الواضح أنّ أولئك الذين تجمهروا في سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتماعهم مجرّد صفاء و اتفاق بل كانت المجادلات و المشاحنات بينهم على أشدّها فما أكثر ما تسابّوا

ص: 45


1- آل عمران: 144.

و تشاتموا و تضاربوا بالنعال و كفّر بعضهم البعض الآخر و صدرت أوامر من بعضهم بقتل البعض الآخر و مناديهم ينادي: منّا أمير و منكم أمير، و الذين بايعوا أبا بكر سلّوا السيوف بينهم.

و هؤلاء قوم موسى عرفوا نبوّة موسى و علموا بمناجاته اللّه تعالى و آمنوا بنبوّة هارون و عرفوا قدره و مع ذلك فقد عبدوا العجل و حينئذ تكون حال على حال هؤلاء الأنبياء.

و سؤال السائل مردود عليه بإجماع الصحابة على قتل عثمان و الخصم يزعم لعثمان الفضل و المنازل العالية، و الأصحاب كانوا جميعا حضروا في المدينة، فلم يذكر لأحد منهم مشاركة في الدفاع عن عثمان و ما يقوله الخصم من حجّة في توجيه تصرّفهم نقوله نحن في دفع شبهته لا سيّما على مذهب الخواجة الذي يرى الإيمان عطاءا وهبة و عسى أن يسلب اللّه العبد ما وهبه في خاتمته كما جرى لبلعم بن باعورا و برصيصا الراهب.

و طبقا لما يعتقده القوم في طلحة و الزبير و عائشة و معاوية أنّهم من أعلامهم من العشرة المبشّرة و لكنّهم خرجوا على الخليفة الرابع و بغوا عليه و هو إمام زمانهم فهم بغاة بناءا على مذهب الخصوم، و كفرة بناءا على مذهب الشيعة و قد أحدثوا في الدين أحداثا لا سيّما طلحة و الزبير و معاوية، و أجّحوا نار الفتنة في الدين، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أقاتلهم و هم مشركون».

و من المعلوم عند الأمّة أنّ عثمان ارتكب مظالم كثيرة ضدّ المسلمين حتّى قام الإجماع من المهاجرين و الأنصار على استباحة دمه، و قدامة بن مظعون شرب الخمر و أجروا عليه الحدّ فجلدوا ظهره، و زنى المغيرة و شهد عليه الشهود و لكن عمر درأ عنه الحدّ بحيلة واضحة عرفها الخاصّ و العام، و حدّوا حسّان بن ثابت و مسطح بن أثاثة في القذف، و أقرّ النعمان بن بشير على نفسه في حربه مع معاوية

ص: 46

و قال: أبصرت (رشد) نفسي ثمّ تركته و أنّه إن حرم عليّ الجنّة و زيتونها فإنّه يقاتل على الغوطة و زيتونها.

و يقول خصومنا أنّ سعدا بن أبي وقّاص والد عمر لعنه اللّه و محمّدا بن مسلمة و حسّان بن ثابت لم يبايعوا عليّا و بايعه طلحة و الزبير، و أظهر المغيرة الطعن على عليّ عليه السّلام كثيرا و أظهر له العداوة و أغرى عائشة بالخروج عليه و قتاله و قال لها:

تموتين بأجلك و تدخلين الجنّة و نشنع بك على عليّ إن قتلك .. يعني عليّا (1).

و أشهر منه في الخبث و العداوة أبو موسى الأشعري لعنه اللّه الذي خان إمام المسلمين و عزله، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّ الضغائن في أنفس قوم لا يبدونها إلّا بعدي (2).

ص: 47


1- الذي أعهده من هذا الكلام أنّه لعمرو بن العاص و ليس للمغيرة.
2- هذا الحديث روي هكذا: عن أبي عثمان النهدي قوله: أخذ عليّ يحدّثنا إلى أن قال: جذبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بكى، فقلت: يا رسول اللّه، ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلّا بعدي. فقلت: بسلامة من ديني؟ قال: نعم بسلامة من دينك (علي الشهرستاني، وضوء النبي، 2: 204). و في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا متّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم يتمالئون و يمنعونك حقّك (2: 72). و راجع للحديث بصيغه المختلفة الكتب التالية: كفاية الأثر: 124 و 158، كتاب سليم بن قيس تحقيق الأنصاري: 136 و 305، الإيضاح لفضل بن شاذان: 455، مناقب أمير المؤمنين للكوفي 1: 231 و 232 و 243 و 2: 551؛ المسترشد للطبري الإمامي: 341، شرح الأخبار للقاضي نعمان 2: 464، الاحتجاج 1: 209، الطرائف لابن طاووس: 428، الصراط المستقيم للعاملي 2: 116، وصول الأخيار للبهائي: 68، الصوارم المهرقة: 198، الجمل: 10، كتاب الأربعين: 264، بحار الأنوار 22: 536 و 26: 350 و 31: 343 و 32: 154 و 36: 328 و 337، الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 118، مسند أبي يعلى 1: 427، المعجم الكبير 11: 61، شرح ابن أبي الحديد 4: 107، كنز العمّال 13: 176 الرقم 36523، الكامل في الرجال 7: 173، تاريخ بغداد 12: 394، تاريخ دمشق 42: 322 و 323 و 324، ميزان الاعتدال 4: 480، المناقب للخوارزمي: 65، كشف اليقين للحلّي: 460، جواهر المطالب لابن الدمشقي 1: 230.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ قوما من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال و يذهب بهم إلى النار، فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم مشوا القهقرى، فأقول لهم: بعدا و سحقا (1).

و قال: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد موتي (2).

و قال أيضا: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3).

ص: 48


1- و أمّا هذا الحديث فقد روي بصيغ مختلفة و إليك الكتب التي أخرجته: الصراط المستقيم 3: 107 و قال: أخرجه البخاري، بحار الأنوار 7: 82 و 28: 22، أجوبة مسائل جار اللّه للسيّد شرف الدين رحمه اللّه: 13، النصّ و الاجتهاد: 525، الغدير للأميني 2: 296، أضواء على الصحيحين للنجمى: 432، دراسات في الحديث و المحدّثين للسيّد هاشم الحسيني: 87. و من كتب العامّة و الجماعة: صحيح البخاري 4: 110 و 5: 192، جزء بقي بن مخلد لابن بشكوال: 149، أضواء على السنّة المحمّديّة لأبي رية: 354، جامع البيان للطبري 27: 220 و 249، تاريخ مدينة دمشق 6: 243 و 245، تهذيب الكمال 28: 406، سير أعلام النبلاء للذهبي 7: 271.
2- الأمالي للصدوق: لا يراني بعد أن يفارقني، مجمع الزوائد 1: 112، مسند ابن راهويه 4: 140، المعجم الكبير 23: 318 و 319، كنز العمّال 11: 197 رقم 31211، النهاية لابن الأثير 1: 154، لسان العرب 14: 83.
3- و هذا الحديث رواه كثير من الشيعة و لكنّنا نتجاوزه من كتبهم إلى كتب الخصوم: المجموع للنووي 14: 230 و 19: 155، المحلّى 11: 399، سبل السلام لابن حجر 2: 214 و قال: أخرجه البخاري، نيل الأوطار للشوكاني 1: 377 و 3: 379 و 381 و 5: 156 و قال: رواه أحمد و البخاري، مسند أحمد 1: 230 و 402 و 2: 85 و 87 و 104 بطريقين .. و 4: 351 و 358 و 366 بطريقين .. و 5: 39 و 44 و 45 و 49 و 68 و 73، سنن الدرامي 2: 69، صحيح البخاري 1: 38 و 2: 191 و 192 و 5: 126 بطريقين .. و 7: 112 و 8: 16 و 36 بطريقين .. و 91 بأربع طرق، صحيح مسلم 1: 58، سنن ابن ماجة 2: 1300، سنن أبي داود 2: 409، سنن الترمذي 3: 329 بطريقين، سنن النسائي 7: 126 بطريقين .. و 127 بطريقين .. و 128 بطريقين، المستدرك للحاكم 1: 93، السنن الكبرى للبيهقي 5: 140 و 6: 92 و 97 و 8: 20، مجمع الزوائد 1: 156 و 3: 266 و 270 و 273 و 4: 172 و 6: 283 بطريقين .. و 284 و 7: 295 بطريقين .. و 296 بطريقين .. و 10: 365، مسند الطيالسي: 92، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 602 بطريقين .. و 603، خلق أفعال العباد للبخاري: 79، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 13، بغية الباحث لابن أبي أسامة: 128 و 245، الآحاد و المثاني للضحّاك 3: 209 و 210 و 302. و راجع: السنن الكبرى للنسائي ج 2 و 3، و مسند أبي يعلى الموصلي ج 3 و 7 و 9 و 12، المنتقى لابن الجارود، صحيح ابن حبّان ج 1 و 13، الحدّ الفاصل للرامهرمزي، المعجم الصغير للطبراني ج 1، و الأوسط ج 4 و 7 و 8، و الكبير ج 2 و 4 و 6 و 8 و 10 و 12 و 22، و مسند الشاميين له أيضا ج 1، أدب الإملاء و الاستملاء للسمعاني، شرح ابن أبي الحديد ج 1، الأذكار النوويّة، رياض الصالحين للنووي أيضا، الجامع الصغير للسيوطي ج 2، كنز العمّال ج 1 و 5 و 11 و 14، تفسير ابن كثير ج 2، شواهد التنزيل للحسكاني ج 2، الدرّ المنثور للسيوطي ج 3، لباب النقول له، المحصول للرازي، الطبقات لابن سعد ج 2 و 3، ضعفاء العقيلي ج 1 و 4، الثقات لابن حبّان، الكامل لابن عدي ج 4 و 7، علل الدارقطني ج 5، تاريخ بغداد ج 8، الإكمال لابن ماكولا ج 1، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 42 و 43 و 44 و 45، الموضوعات لابن الجوزي ج 1، أسد الغابة ج 3، تهذيب الكمال للمزّي ج 21، ميزان الاعتدال ج 1، سير أعلام النبلاء ج 1 و 9 و 4 من له رواية في مسند أحمد، لسان الميزان لابن حجر ج 2، تعجيل المنفعة له، كتاب الفتن للمروزي، البداية و النهاية لابن كثير ج 5، السيرة النبويّة لابن كثير ج 4، لسان العرب لابن منظور ج 5، تاج العروس للزبيدي ج 3، غريب الحديث لابن قتيبة ج 1. كلّ هؤلاء أخرجوا الحديث و أمّا ابن الجوزي في الموضوعات فقد ذكره ضمن أقوال أمير المؤمنين يوم الشورى، و مثل هؤلاء بل أكثر من الشيعة الذين أخرجوا الحديث.

و وقف يوما على الشهداء و قال: أنا الشهيد على هؤلاء، فقال بعض الأصحاب:

و نحن أسلمنا أيضا و جاهدنا معك و رجوه أن يقول فيهم ما قاله في شهداء أحد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لا أدري ما تفعلون بعدي، و قال في حقّهم تلك اللفظة.

قال أبوذر رحمه اللّه: أصحاب العقبة قوم من أهل النار و إنّي لا آسى عليهم إنّما آسي

ص: 49

على من يضلّ بهم من خلق اللّه تعالى و هم كثير.

و قال: لقد تعاهدوا فيما بينهم أنّه متى توفّى محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ندع أهل بيته ينالون الخلافة من بعده و نزل فيهم قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ إلى قوله أَجْمَعِينَ (1).

قال حبيب بن أبي ثابت: قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ (2) الآية، قال حذيفة: الذين نفّروا ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة لكي تلقيه عن ظهرها و هم يقتلونه إذا بلغوه هم أربعة عشر نفرا: طلحة و الزبير و أبو سفيان و عتبة بن أبي سفيان و أبو الأعور و المغيرة و سعد بن أبي وقّاص و أبو قتادة و عمرو ابن العاص و أبو موسى الأشعري و عبد الرحمان بن عوف و الخلفاء الثلاثة.

قال الواقدي- و هو ناصبيّ-: لمّا طعن عمر بن الخطّاب رفعه عثمان من التراب، فقال عمر: دعني، و قال: ويلي ويلي من النار، الآن لو كانت لي الدنيا لافتديت بها من النار و لم أرها، و رواية الواقدي عن عمر حجّة.

و هذا دليل واضح على علم عمر بكونه من أهل النار و هذا مصداق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة أرى رجالا يختلجون دوني فيذهب بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي أصحابي، إلى آخر الحديث (3).

و نزل فيهم قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ (4)، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (5) و سبب نزول الآية التالية هو أنّ طلحة و الزير

ص: 50


1- النمل: 50 و 51.
2- الفتح: 6.
3- ذكرنا مصادر صيغ الحديث فيما تقدّم و نزيد عليها: كتاب السنّة: 340، مسند أبي يعلى 7: 35، علل الدارقطني 7: 299.
4- التوبة: 74.
5- التوبة: 12.

و الثلاثة راسلوا اليهود أن يجيروهم إذا نزلت الهزيمة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ (1).

و قال عثمان لطلحة يوما- و قد جرى بينهما نزاع-: إنّك لأوّل أصحاب محمّد تزوّج يهوديّة، و نزل فيه: وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (2).

و كان عثمان قد اشترى أرضا من أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ ندم و أراد ردّها عليه فأبى عليّ أن يقبلها و قال: ليس لك أن تردّها فقد بعتك أنا و اشتريت أنت فهلمّ إلى رسول اللّه نحتكم عنده، فقال عثمان: كلّا، بل نذهب إلى قضاة اليهود، فأنزل فيه:

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (3).

و قال طلحة و عثمان: أينكح محمّد نسائنا و لا ننكح نسائه! إنّ هذا أمر لا يكون، و كان يطمع طلحة بعائشة و عثمان بأمّ سلمة (4) فأنزل اللّه قوله تعالى: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (5).

و نزل في عبد الرحمان بن عوف قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ إلى قوله: الدُّنْيا قَلِيلٌ (6).

ص: 51


1- المائدة: 51.
2- النور: 47 و 48.
3- النور: 49 و 50.
4- هذا التخرّص من المؤلّف فلم يذكر أحد ذلك عن عثمان و اقتصروا على ذكر طلحة فقط.
5- الأحزاب: 53.
6- النساء: 77.

أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه في مكّة أن يجلس كلّ واحد منهم إلى جنب مشرك فإذا ظفر المشركون بالمسلمين و قتلوا واحدا منهم فإنّه يقتله مكان أخيه المسلم، و كان عبد الرحمان يتمنّى القتال و يقول للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ليت أنّا أمرنا بالقتال، فلمّا هاجروا إلى المدينة و أوجب اللّه الجهاد كان عبد الرحمان بن عوف يقول: لو تركنا نموت على فراشنا كان أحبّ إلينا.

روى أبو جعفر أنّ فاطمة عليها السّلام ذهبت يوم الأربعاء- و هو اليوم الذي دفن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- إلى روضته، فقال لها أبو بكر: أصبح و اللّه صباحك صباح السوء، و هذا القول شماتة منه بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ الأدب يقتضيه أن يقوم بتسليتها و إدخال العزاء على قلبها، و غرضه من هذا القول أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله دفن بقبره في يوم نحس و هذا يدلّ على نحس حاله (نعوذ باللّه من هذا القول).

أمّا ما يقال من أنّ أهل السنّة و الجماعة يذكرون عليّا و فاطمة في بلادهم فهذا صحيح إلّا أنّهم يرونهما دون أبي بكر و عمر و عثمان و عائشة و حفصة، فإذا فاه بمدحهم أحد دون أن يذكر أئمّة القوم أو أنّه مدح الزهراء دون عائشة فإنّه يرمى بالرفض فورا.

و قد وضع بنو أميّة نير العداوة و الكفر على أعناق الأمّة في الشرق و الغرب، و جهدوا في إخفاء مناقب عليّ، و حضروا على أحد ذكره ما دام العالم، و حوّلوا اسم عليّ إلى أبي تراب حتّى يتلاشى اسمه و لقبه من ذاكرة الأمّة، و لكنّ اللّه ردّ كيدهم في نحورهم و لم يتحقّق لهم ما أرادوا بمقتضى قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).

و لمّا علم أهل الخلاف بأنّ هذا عمل مستحيل عمدوا إلى ذكر مناقبه طوعا

ص: 52


1- التوبة: 33.

و كرها، و كتبها علماؤهم في دفاترهم، و ليس ذلك راجعا إلى سرّ حبّهم أو خلوص اعتقادهم بل بتوفيق من اللّه و تيسير منه سبحانه، قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1) لأنّ المشركين لا يقدرون على إنكار ذلك.

و حرّف علماء اليهود من التوراة النصّ الخاصّ برسول اللّه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (2).

و إذا كان أبناء الشرك قد غيّروا نصّ رسول اللّه و حرّفوه و أخفوه فإنّ الأدهى من ذلك أنّهم عمدوا إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام فحوّلوها إلى أبي بكر و عمر و عثمان افتراءا منهم على النبيّ، و حشدا للأحاديث الواردة في غيرهم لهم و هم لا يعدلون عند اللّه شيئا.

الفصل التاسع

قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أرى الآن جعفرا في السفينة يجري في البحر، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيه أنا، فمسح على عيني فأبصرته، فحدث في قلبي أن قلت: إنّ محمّدا ساحر عظيم.

قال الباقر عليه السّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (3) أي بكلمة الشهادة و نبوّة محمّد وَ الْإِحْسانِ أي ولاية عليّ بن أبي طالب وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يعني الأئمّة وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يعني أبا بكر و عمر و عثمان، و هؤلاء الثلاثة ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ (4) الآية.

ص: 53


1- لقمان: 25، الزمر: 38.
2- النساء: 46.
3- النحل: 90 إلى قوله «و البغي».
4- الفرقان: 27.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1).

و الناس في الم* أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2).

و هؤلاء الثلاثة ظالمون، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (3) و هما أبو بكر و عمر.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (4) و هم المخاطبون بالآية.

و المشهور عن عمر أنّه قال لصاحبه أبي بكر يوم الحديبيّة: أتراه رسول اللّه و هو يردّ المؤمنين، و النبيّ فعل ذلك في حال الضرورة و عمر يردّ عليه.

روى هشام بن حسّان البصري أنّه قال لعمر: لم جعلت الأمر في الخلافة إلى هؤلاء الستّة؟ قال: لأنّي سمعت رسول اللّه يقول: لا أقف يوم القيامة إلّا و يد عليّ ابن أبي طالب في يدي.

و جاء أبو بكر و عمر لعيادة رسول اللّه في مرض موته و كان عليّ حاضرا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يموت حتّى توسعاه غدرا و غيظا ثمّ تجداه صابرا، قال تعالى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (5) و هذا هو جواب الخصم الذي يقول: لم لم يقاتل عليّ أهل الشورى لمّا أدخله عمر فيهم؟ نقول: لأنّه فاقد للقدرة و النبيّ أمره بالصبر، و كذلك الحسن صبر و مضى على ما مضى عليه أبوه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مروّتنا أهل البيت إعطاء من حرمنا و العفو عمّن ظلمنا.

قيل: إنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام خرج ذات يوم من بيته ميمّما مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 54


1- الزخرف: 36.
2- العنكبوت: 1 و 2.
3- الآية متكرّرة في سورة الرحمان.
4- يس: 63.
5- فصّلت: 34.

و معه جماعة من أصحابه، فرآه شاميّ في الطريق، فقال: من هذا؟ قيل: الحسن بن عليّ عليه السّلام، قال: هذا الضالّ ابن الضالّ! فقال الحسن عليه السّلام: لعلّك غريب! و لم يردّ عليه شيئا و اتّخذ طريقه إلى المسجد، فأقبل الشامي إلى المسجد و أعاد كلامه على الحسن عليه السّلام، فأحسن إليه الإمام للطفه و كرمه، فخجل الشامي و وقع على يديه و رجليه يقبّلهما، فقال الحسن عليه السّلام: استعملنا فيه أدب اللّه تعالى كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.

ذكر ابن الراوندي عن رجل من حمج (كذا) (و لعلّه مذحج- المترجم) (1) قال:

قدمت المدينة بعد الحرب التي كانت بين أهل العراق و الشام فرأيت رجلا فسألت عنه، فقيل لي: هذا الحسن بن عليّ عليهما السّلام، فحسدت عليّا أن يكون له مثله، فقلت له:

أنت ابن أبي طالب؟ فقال: لا، أنا ابن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت له، شتمته و شتمت أباه، فلم يردّ عليّ خلافا، فلمّا فرغت أقبل عليّ فقال: أظنّك غريبا، فلو استغثتنا أغثناك، و لو سألتنا أعطيناك، و لو استرشدتنا أرشدناك، و لو استحملتنا حملناك.

قال الحمجي: فولّيت عنه و ليس على الأرض أحبّ إليّ منه.

و فيهم نزلت هذه الآية: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ (2) الآية.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) «الوالد» رسول اللّه و أنا، «و ما ولد» الحسن و الحسين عليهما السّلام.

و قال: لا يجتمع إمامان إلّا و أحدهما صامت لا ينطق حتّى يهلك الأوّل كالحسن و الحسين ابني عليّ عليهم السّلام.

ص: 55


1- الرواية يرويها السمعاني عن أبي المعافى الرجبي، حيّ من همدان عن صديق له من أهل الشام، و لم يسمّه و لم ينسبه. انظر: الأنساب للسمعاني 3: 47.
2- آل عمران: 134.
3- البلد: 3.

الباب الثالث عشر في حالات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما يتبعه

اعلم أنّ حالته الأولى يوم كان طفلا يتيما في حضن أبي طالب و زوجه فاطمة بنت أسد عليهما السّلام، فقد تكفّلاه، و قاما بشأنه خير قيام، فأنزل اللّه فيه: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) و هذا المأوى و المكان الآمن باتفاق المسلمين كان بيت عليّ عليه السّلام.

الحالة الثانية: أيّام بعثته و تحزّب قريش ضدّه و مبالغته في أذاه و كان مدده عليّ و الحمزة عمّه و أبا طالب أباه عليهم السّلام جميعا، و كان في حمايتهم بعد عناية اللّه به حتّى استظهر بهم.

الحالة الثالثة: خطبته خديجة الكبرى عليها السّلام و قام بهذا العمل الهام عمّه أبو طالب عليه السّلام و هيّأ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجال الخطبة و الزواج.

الحالة الرابعة: حصار الشعب، و هنا احتاج النبيّ و من معه إلى مدد عظيم، و قال مخالفونا: كان عليّ عليه السّلام يوم ذاك يعمل في حوائط اليهود فيسقيها ماءا من الآبار و يأخذ الأجرة و يجعلها طعاما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان في حماية أبيه و أعمامه.

ص: 56


1- الضحى: 6.

الحالة الخامسة: يوم الهجرة فقد نزل جبرئيل عليه السّلام على النبيّ و قال: يجمع أربعون شخصا من قريش ليوقعوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمر عليّا بالنوم على فراشك و بارتداء ردائك، و ليتمثّل بشكلك، و هذا دليل على إمامته من وجوه عدّة جليّة:

الوجه الأوّل: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمره ينام في مكانه في حال غيابه و لم تكن لأبي بكر هذه المنزلة، و بحكم قوله تعالى: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1) لا بدّ من أن يقوم عليّ مقامه في غيابه الدائم.

الوجه الثاني الجلي: شبّه عليّ نفسه ليلتئذ برسول اللّه و لم تكن لأبي بكر تلكم المنزلة.

الوجه الثالث: إنّ اللّه تعالى حبى عليّا عليه السّلام الصبر العظيم و قوّة العزم و الصلابة و الجلاد المتناهي الشدّة و هذه هي درجة الأنبياء: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (2) و قال: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا (3).

و كان أبو بكر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار بمأمن عظيم و مع ذلك فقد أخبره رسول اللّه بسلامتهم و نجاتهم من القتل و هو خائف مضطرب و قد أمر اللّه العنكبوت فنسجت بيتها على فم الغار و نبت يمامتان عشّهما على فم الغار أيضا بوحي من اللّه تعالى، و كلا الأمرين لم يزيلا الخوف من قلب أبي بكر، فما زال يمزّق الهلع أحشائه و هو يضطرب، فتبيّن أنّ خوفه و اضطرابه ناشئان من عدم ثقته بوعد اللّه و رسوله له، و كان عليّ آمنا لثقته بوعد اللّه له، و كان الخصم و هو أربعون كافرا بأيديهم السلاح على مقربة منه يراهم و يرونه، فلم يطرق له الخوف جوفا، و بين

ص: 57


1- الإسراء: 77.
2- الأحقاف: 35.
3- السجدة: 24.

أبي بكر و العدوّ مسافات بعيدة، إلى أن حمى اللّه عليّا من القتل بما ألقاه في قلوب القرشيّين من الانصراف عن ذلك.

و قيل: إنّ أبا لهب حال بينهم و بينه للرحم فلم يفعلوا. كامل البهائي ج 2 58 الباب الثالث عشر في حالات الرسول صلى الله عليه و آله و ما يتبعه ..... ص : 56

وجه الرابع الجلي: في ساعات الحرب و شنّ الغارات و الغزو اتّفق الرواة و المؤرّخون على أنّ أبا بكر و عمر لم يهزما جيشا و لم يدخلا حربا و إنّما كانوا دائما مثارا للفتنة في الدين بسبب هزائمهم كما حدث ذلك في حنين و خيبر و ذات السلاسل و بدر، و قد نزل في حقّهم: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1).

الوجه الخامس الجلي: لم يكن غير عليّ حاضرا تجهيز رسول اللّه سواءا غسله و كفنه و دفنه، فلم يشهد ذلك منهم أحد بل اغتنموها فرصة ذهبيّة و ذهبوا يلاطمون على الحكم و يبرمون عقد السلطان، و على هذا متى عمل أبو بكر للّه؟

و في أيّ موضع نال رضا اللّه؟

بيّنة: أعظم فتح جرى على يد عليّ عليه السّلام في الجهاد هو يوم الأحزاب حتّى قال رسول اللّه فيه: «فضرب» لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين (2).

و يوم خيبر و يوم حنين و يوم أحد و يوم بدر فقد قتل في هذا اليوم يوم بدر

ص: 58


1- القمر: 45.
2- مجمع الفائدة للأردبيلي 3: 216، كتاب الإجارة، الأوّل، للخوئي 1: 243، شرح أصول الكافي للمازندراني 12: 412، الطرائف لابن طاووس: 519، عوالي اللئالي للإحسائي 4: 86، الأربعين للقمّي: 430، بحار الأنوار 39: 2، الغدير للأميني 7: 206، الإمام علي عليه السّلام للرحماني: 339 و له: الإمام علي (فارسي): 369، مواقف الشيعة للأحمدي 3: 123، المناظرات في الإمامة لعبد اللّه الحسن: 501، درر السمط لابن الآبار: 86، موسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي 2: 492، كشف اليقين: 83، وفيات الأئمّة: 12.

سبعون من المشركين قتل عليّ وحده منهم ثلاثين شخصا و شرك الصحابة في الأربعين، قال اللّه تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1).

و هذه الفضيلة باتفاق المسلمين ليست لغير عليّ عليه السّلام من غير عليّ أولئك الذين يسمّيهم المخالفون العشرة المبشّرة لم يؤذ رسول اللّه و المؤمنين.

ص: 59


1- النساء: 95.

الباب الرابع عشر في الغار و صاحبه

لا فضل لأبي بكر في آية الغار لأنّ إبليسا كان مع نوح في السفينة، و كذلك صاحبته في السفينة السباع و الوحوش و البهائم، و كان الكلب مع أصحاب الكهف في الغار، و امرأة لوط و امرأة نوح صحبتا زوجيهما، و يدعم ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (1) و جاء في سورة الكهف: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (2) و على هذا فما هو الفضل في مجرّد الصحبة؟

و لقد عدوت و صاحبي وحشيّةتحت الرداء بصيرة بالمشرف

و لقد دعوت الوحش فيه و صاحبي محض القوائم من هجان هيكل الصاحب هنا: الفرس.

و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا (3) فأيّ فضل فيها للرجل و اللّه تعالى مع البرّ

ص: 60


1- عبس: 34- 36.
2- الكهف: 37.
3- التوبة: 40.

و الفاجر كما قال تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ (1) فتبيّن أنّ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ مَعَنا لا فضل فيها.

و أمّا قوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (2) فإنّها عائدة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجوه:

الوجه الأوّل: بدليل عطف الملائكة على الجملة و من الواضح البيّن أنّ الملائكة تتنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا على أبي بكر.

الوجه الثاني: جاء في الحديث أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، فقد فرّ الأصحاب يوم حنين إلّا سبعة من بني هاشم: الأوّل العبّاس الذي أخذ بلجام البغلة، و خمسة من المقاتلين الذين شهروا سلاحهم بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقدّموا بين يديه يحمونه من الرماة، و كان أمير المؤمنين في القلب، فمرّة يحمل على القوم يقاتلهم من كلّ جانب و يحمل عليهم و يهزمهم ليحمي بيضة الإسلام و يخلّص رسول اللّه من بين المشركين، فقصّ اللّه قصّتهم فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) و المؤمنون هم عليّ و الأشخاص السبعة من بني هاشم، و هنا يظهر جليّا أنّ السكينة نزلت عليهم و على رسول اللّه، و كان عليّ كلّما هزم فوجا من المشركين تجمهروا مع أصحابهم و تقوّوا بهم فأمدّ اللّه رسوله بالمعجزة و هم الملائكة الذين قاتلوا معه بنصّ القرآن الكريم، و ضاقت الأرض بما رحبت على أبي بكر و عمر حيث سلّموا رسول اللّه في هذا الموضع المخيف للعدوّ و هربوا لا يلوون على شي ء.

ص: 61


1- المجادلة: 7.
2- التوبة: 40.
3- التوبة: 25- 26.

و لو سلّمنا بنزول السكينة على أبي بكر فليس فيها مدح له حيث أنّه لم يكن واثقا بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يصدّقه بما قال، و كان ينوي الصراخ من شدّة خوفه في الغار لكي يسمع طالبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه السكينة عليه حماية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا كان حزنه خطأ كان معصية للّه لأنّ النبيّ لا ينهى عن الطاعة بل عن المعصية.

و في صورة جواز الخطأ لو قال الخصم أنّ اللّه خاطب موسى بقوله: أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ (1) فإنّنا نقول في جوابه: الخصم يجيز صغائر الذنوب على الأنبياء و بعض المجبّرة يجيزون حتّى الكبيرة، و بناءا على مذهبهم فإنّ اللّه منع عن المعصية و هم لا يجيزون ذلك، أمّا على مذهبنا فإنّ مؤلّف هذا الكتاب يقول: إنّ المعنى يشير إلى أنّ القضيّة وقعت على وجه الإعجاز و الغيب و ما تحقّق في العصا و اليد البيضاء إشارة إلى أنّها من تدبير اللّه تعالى لا من فعل الشيطان أو الخيال، آمنك اللّه.

و في مذهبنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يصطحبه معه اختيارا و إنّما خرج بمهجته الشريفة و رآه قادما في الطريق فاصطحبه معه لئلّا يشي به، و لقد قال المتنبّي:

* و يستصحب الإنسان من لا يلائمه*

لأنّه لو تخلّى عنه و تركه ينساب كالأرقط حيث يقصد لأخبر المشركين عنه و صار سببا للقبض عليه، لأنّه كما يزعم أنصاره صدّيق و الصدّيق كيف يكذب، فلو سأله أحد: أين خلّفت النبيّ لدلّ على مكانه و صار سببا لهلاكه.

و العجب من القوم أنّه مع وجود هذي العيوب تراهم يتباهون بيوم الغار و لا يذكرون عليّا الباذل لمجهته في سبيل اللّه و البائت على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزل فيه قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2).

ص: 62


1- القصص: 31.
2- البقرة: 207.

يقول السيّد المرتضى علم الهدى: و كما أنّ إسماعيل استسلم لذبح إبراهيم الخليل فقد استسلم عليّ لسيوف المشركين، مع أنّ العادت جرت بعلم الولد برحمة أبيه إيّاه فلن يقتله لا سيّما إذا كان هذا الأب نبيّا و له رتبة الخلّة مع ثقته بأنّه لم يجن ذنبا و لم يقترف إثما يستحقّ عليه القتل. و عدوّ أمير المؤمنين المشركون و الكافرون و هم غلاظ شداد لا دين لهم و لا اعتقاد، و يرون النبيّ و الوصيّ يستحقّان القتل بسبّهما لآلهتهم، لا سيّما عليّ و قد أثار حميّتهم الجاهليّة لمكره بهم و تغريره لهم، و تقويته النبيّ الذي أفلت من أيديهم.

قال السيّد المرتضى رحمه اللّه: فقام عليّ عليه السّلام يجالدهم و قد ظهر عليهم و أخذ يضربهم بكلّ قوّته و هم يضربونه حتّى نجى من شرّهم، إذن فالإمام عليه السّلام قام بأمرين عظيمين: فدى رسول اللّه بنفسه، و قام مقامه في الرقاد على فراشه، و كان الإمام يردّد ذلك متباهيا به:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى و من طاف بالبيت العتيق و بالحجر

رسول إله الخلق قد مكروا به فنجّاه ذو الطول الكريم من المكر

فبتّ أراعيهم و ما يثبتونني و قد وطّنت نفسي على القتل و الأسر و قال أبو بكر في معنى هجرته أبياتا ذكر هنّ أبو إسحاق في كتاب السير من تأليفاته:

فلمّا ولجت الغار قال محمّدأمنت فثق في كلّ ممس و مدلج

بربّك إنّ اللّه ثالثنا الذي وثقنا به في كلّ مثوى و مفرج

و لا تحزنن فالحزن لا شكّ فتنةو إثم على ذي اللهجة المتحرّج (1)

ص: 63


1- الصراط المستقيم 3: 139. و مدلج- بضمّ الميم- قبيلة من كنانة و منهم القافة و أبو دليجة كنية .. و لم نعثر على الأبيات إلّا في الصراط المستقيم و نقلناها منه لأنّ أبيات المؤلّف مغلوطة غلطا يغيّر المعنى.

فقد شهد على نفسه في شعره أنّ النبيّ جعل حزنه فتنة و هي أكبر من القتل و لم يصدّقه عليه.

الثاني: ظهر أنّ حزنه فتنة و هي إثم و خطيئة عظمى فتبيّن أن لا فخر له في هذه الآية مع أنّ النبيّ قال: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) و الشيطان ذلك الملعون و الإنسان هو المكرّم وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ (2) و العجيب من أمرهم أنّهم يرون آية الغار أشرف آية في القرآن و نسوا الآية التي نزلت في أمير المؤمنين يوم بات على فراش رسول اللّه و هي قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ (3) لبغضهم الشديد و عداوتهم له و لأولاده الطاهرين.

و آية الختم التي أعطاه فيها الولاية و هي قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ .. (4) و آية المباهلة التي جعل اللّه فيها عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما قال:

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ إلى قوله: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (5) و سورة هل أتى التي أظهر اللّه فيها صفاته و صفات أهل بيته بالوفاء و السخاء و الصبر و الشكر و الخوف و الإخلاص و الإسلام و الإيمان كما عبّر عن عميق اعتقادهم الثابت الوطيد.

و هم يعلمون أنّه ما من آية في القرآن و فيها «يا أيّها الذين آمنوا» إلّا و لعليّ عليه السّلام نصيب فيها بل سيّدهم و رئيسهم.

ص: 64


1- نيل الأوطار 6: 367 و 368 عن أحمد و الترمذي، فقه السنّة للسيّد سابق 1: 464، مسند أحمد 3: 156 و 285 و 309 و 6: 337، سنن الدارمي 2: 320 بطريقين، صحيح البخاري 2: 258 و 259 و 4: 93 و 8: 114، صحيح مسلم 7: 8 بطريقين، سنن ابن ماجة 1: 566، سنن أبي داود 1: 552 و 2: 417 و 476، سنن الترمذي 2: 319، مجمع الزوائد 10: 222 و كتب أخرى كثيرة و لا أرى وجها لذكره هنا إلّا أن يشير المؤلّف إلى قول أبي بكر: إنّ لي شيطانا .. الخ، و لكن من دون تمهيد.
2- الإسراء: 70.
3- البقرة: 207.
4- المائدة: 55.
5- آل عمران: 61.

و لا يذكر الجهاد و المجاهدين إلّا وجدت عليّا في الطليعة.

و لا يذكر الصالحون في القرآن إلّا و عليّ منهم.

و لا تذكر عبادة فيه إلّا و عليّ القائم بها على أنّه انفرد بآيات لم يشركه فيها أحد كآية الخاتم و آية المباهلة و آية الغدير و آية المناجات، و لكن منعهم من إظهار ذلك شديد عداوتهم له و لأهل بيته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرّات فكأنّما قرأ جميع القرآن (1)، و قال في فاتحة الكتاب: كلّ صلاة بغير الفاتحة خداج (2).

و غير هذه الآيات، فقد جاء بفضلها أحاديث كثيرة و نوّهت هذه الأحاديث بعلوّ شأن الكثير من الآيات و السور و كثرة ثواب قارئها، فلم يذكروا شيئا من ذلك و لكن لآية الغار شأنا عندهم فهي يرونها أشرف آيات الكتاب (3).

و قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اصطحبه ليأنس به، حاشا للّه و لرسوله أن يفعل ذلك بل أخذه معه خوفا من وشايته و لئلّا تكون نفس رسول اللّه في خطر، و إلّا فمؤنس النبيّ الملائكة و الوحي الإلهي (4).

ص: 65


1- المبسوط للسرخسي 30: 311.
2- المسائل الصاغانيّة للمفيد: 119، الناصريّات للمرتضى: 219، الرسالة السعديّة للحلّي: 102، ذخيرة المعاد للسبزواري 2: 272، كشف اللثام للفاضل الهندي 1: 216، الحدائق الناضرة للبحراني 8: 94 و 400، كتاب الأمّ للشافعي 1: 129، المجموع للنووي 3: 328، موطّا مالك (لعنه اللّه) 1: 84، المدوّنة الكبرى 1: 68 له أيضا، تنوير الحوالك للسيوطي: 105، الجوهر النقي للمارديني 2: 159، المغني لابن قدامة 1: 601.
3- أقول لشيخنا المؤلّف رحمه اللّه: بغضنا لأبي بكر لعنه اللّه لا يحملنا على معاداة كتاب اللّه نعوذ باللّه من هذه الوسوسات الباطلة.
4- أقول: ماذا في هجرته من الفضل حتّى يبذل المؤلّف هذا الجهد في التقليل من شأنها، و يكفي أن نقول فيها: و لا بدّ للصيّاد من صحبة الكلب.

مسألة: يقول الشيعة: يكفي في الدلالة على إمامة أمير المؤمنين آية الغدير و لكنّ جلّ المخالفين لا كلّهم يقولون أنّها نزلت في زيد بن حارثة.

و لكن هؤلاء الجهّال نسوا بأنّ زيدا بن حارثة استشهد في مؤتة قبل نزولها بمدّة طويلة و نزلت آية الغدير: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) في حجّة الوداع و هي ختام رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو بكر بن مردويه المحدّث و المفسّر الأصفهاني في كتاب المناقب: كان بين نزول آية الغدير و موت النبيّ مائة يوم لا زائد و لا ناقص مع أنّه علّق على الآية قائلا: في هذه الآية جمع قوله تعالى في «ما بلّغت» الرسالة كلّها فينبغي أن يكون ما يقابلها مثلها و هي الإمامة و حفظ الشرع و ضبط الدين على طريقة العموم.

مسألة: إمامة عليّ عليه السّلام ثبتت بالنصّ من قبل اللّه و رسوله كالنصّ على الصلاة و الزكاة و الصيام إلّا أنّ في هذا الواجبات لم يحدث خلاف و لكن حدث الخلاف هنا من أجل الخلافة فقد للناس رغباتهم فيها و ميولهم الخاصّة من ثمّ حدث الاختلاف و ليس بسبب أمر آخر.

سؤال: يقولون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم ينصّ على أحد رحمة بالأمّة لئلّا تخالفه فتكفر:

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2).

الجواب: إنّ رحمة اللّه بالخلق أكثر من رحمة رسوله و مع هذا فقد أرسل رسلا و أنبياء

ص: 66


1- المائدة: 67.
2- التوبة: 128.

فكفر أكثر الناس بمخالفتهم و كذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا الناس إلى الشرائع مع علمه بأنّ أكثر الخلق لا يعملون بها كما هو الظاهر من تركهم الصلاة و الصيام.

مسألة: و رووا أنّه: كلّ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، و ما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح (1).

الجواب: و مراده الإجماع على إمامة أبي بكر و هذا باطل لأنّ أمير المؤمنين و جماعة بني هاشم و طائفة من أكابر الصحابة لم يقبلوها بل قبّحوها و كذلك الشيعة في الشرق و الغرب فكيف تتمّ هذه الدعوى بأنّ المسلمين جميعا رضوا بها و حسّنوها.

مسألة: و قالوا بأنّ رسول اللّه قال: لا تجتمع أمّتي على ضلالة (2) فلا تجهل الأمّة الفرض

ص: 67


1- المبسوط للسرخسي 12: 45 و 138 و 15: 160، مسند أحمد 1: 379، المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 78، مجمع الزوائد 1: 177، مسند الطيالسي: 33، المعجم الأوسط 4: 58، المعجم الكبير 9: 113، شرح ابن أبي الحديد 6: 39 و 8: 123 و 12: 86، نصب الراية للزيلعي 1: 20 و 5: 288 بطريقين، كنز العمّال 12: 485 رقم 35590، تذكرة الموضوعات للفتني: 91 و قال: موقوف حسن على ابن مسعود، و قد رفعه ابن أبي الحديد و الزيلعي أيضا، فيض القدير 5: 577، كشف الخفاء 1: 169 مرفوعا عن ابن مسعود و 2: 188 و قال: رواه أحمد في كتاب السنّة و ليس في مسنده لعلّه يريد رواه مرفوعا، أمّا المسند فقد ورد الحديث فيه عن ابن مسعود، تفسير ابن كثير 2: 180، الدرّ المنثور للسيوطي 3: 44، الأحكام لابن حزم 6: 759، المستصفى للغزالي: 172 رفعه، المحصول للرازي 2: 79 رفعه و 3: 220 مرفوع أيضا و 4: 80 و 98 و 5: 118 و 247 و 326 و 398، الأحكام للآمدي 1: 219 و 4: 156 و 159 بطريقين و 240 كلّ ذلك رفعه، علل الدارقطني 5: 66، تاريخ بغداد 4: 387 و الحديث في الأصحاب عنده و قد رفعه، تاريخ مدينة دمشق 30: 294 بطريقين، البداية و النهاية 10: 361، سبل الهدى و الرشاد 10: 277.
2- المبسوط 12: 138، بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 5: 3 و 6: 58، كشف القناع للبهيوتي 5:9، مسند أحمد 1: 396، سنن الدارمي 1: 29، سنن ابن ماجة 2: 1303، سنن الترمذي 3: 315، المستدرك 1: 115 في طرق كثيرة، مجمع الزوائد 1: 177.

و السنّة لكي تجتمع على الخطأ.

الجواب: الإمامة عندهم لا هي بالفرض و لا بالسنّة فاجتماع الأمّة لا يعدّ خطأ لأنّ الخطأ في الفرض و السنّة هكذا يقولون، أو أن يكون الحديث خبرا بمعنى النهي كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ (1).

أو أنّ الإمامة ليست عامّة و إنّما هي خاصّة بأهل البيت عليهم السّلام، و لو كانت عامّة فإنّ الاجتماع عليها لم يكن عامّا لأنّ أهل البيت و بني هاشم و الخزرج شيعتهم لم يجتمعوا عليها أو أنّ عين «لا تجتمع» ساكنة و الراوي نطقها بالضمّ عفوا أو أنّه لا يعرف علم الإعراب و عنده أنّ معنى السكون في العين و الحركة واحد من ثمّ ارتكب الخطأ المنهيّ عنه شأنه شأن النواهي الأخرى (2).

مسألة: لا يجب على عليّ عليه السّلام الإعلان عن إمامته لأنّ الإمام عليه السّلام كالبحر أو كالكعبة يأتيه الناس لا أنّه يأتي الناس، و كان على اللّه أن ينصب الإمام كما قال لإبراهيم عليه و على نبيّنا و آله السلام: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (3) فأوكل أمر الإمامة إلى نفسه سبحانه و أبان عن صفة الإمام من كونه غير ظالم، و المخطئ ظالم أي مرتكب الخطيئة، و من يجوز عليه ارتكابها لا سيّما المشرك و عابد الوثن.

ص: 68


1- البقرة: 197.
2- يريد المؤلّف أنّ «لا» هنا ناهية و ليست للنفي و لا الناهية تجزم الفعل المضارع و علامته السكون.
3- البقرة: 124.

قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (1)، و قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً إنّ اللّه تعالى أوكل أمر الإمامة و الخلافة إلى نفسه، و أهل السنّة و الجماعة يردّون عليه حين يجعلونها موكولة إلى خلقه، ألا يرون أنّ الخلافة من آدم إلى الخاتم لم تكن موكولة إلّا إلى اللّه تعالى، و لا اختيار للناس فيها بل هي بمشيئة اللّه و إرادته وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و هي سنّة بالغة.

مسألة: و قالوا: لو كان القوم على غير الهدى لنازعهم عليّ عليه السّلام و منعهم من ذلك، و هذا أمر منفيّ، و لا يعلّل النفي، و لا يكون العدم علّة.

الثاني: صالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبيّة بآية: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (3) و الصلح يحسن في حال عدم الناصر و العون و انقطاع المدد، و لكنّه حارب عندما تبدّلت الحال بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (4) و كذلك الإمام عليّ عليه السّلام فقد سالم مع فقدان الناصر، و لمّا ثبت كونه إماما منصوصا عليه من اللّه و رسوله فالإنكار على ما فعل أو ما ترك إنكار على اللّه و رسوله و هو كفر محض.

و من عجائبهم أنهم يروون عن رسول اللّه: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (5) و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من عصى اللّه بمعصية؛ صغرت

ص: 69


1- ص: 26.
2- الإسراء: 77.
3- الحجر: 85.
4- التوبة: 5.
5- المحلّى لابن حزم 9: 111، سبل السلام لابن حجر 3: 223، نيل الأوطار 8: 85، ذخائر العقبى: 76، مسند الشافعي: 239 باختلاف في ألفاظ الحديث، مسند أحمد 1: 47 و 78 و 130 و 165 و 167 و 293 و 323 و 401 و 402 و 405 و 454 و 2: 413 و 519، و مثله الجزء الثالث و الرابع و الخامس فقد أخرجه فيها بعدّة طرق، صحيح البخاري 1: 35 بثلاثه طرق .. و 2: 81، صحيح مسلم 1: 8، و الحديث متواتر و لم يبق حافظ أو صاحب دراية إلّا أخرجه سوى النزر اليسير منهم و قد تلقّته الأمّة بالقبول و أجمعت على صحّته.

أم كبرت ثمّ اتّخذها دينا و مضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم (1)، و مع هذا فقد اتفقوا على أنّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه، و إنّما كانت إمامته بالبيعة و اختيار الأمّة و إلّا لكان قوله: «أقيلوني» كفرا و لم يقل رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، و هم يسمّونه و الحال هذه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يستخلفه النبيّ باعترافهم، و فتحوا له بسبب هذا الافتراء بابا على جهنّم، و هم يقولون: مات رسول اللّه و لم يستخلف، و مثلهم كمثل الذي اشترى مملوكا و بعد شرائه صار حاكما عليه فهم الذين اختاروا أبا بكر و بايعوه بأيديهم فينبغي أن يكون الحكم لهم عليه لكن انعكست الآية فصار حاكما عليهم.

و العجيب في الأمر أنّه خليفتهم و لكن نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من أجل تخدير العامّة لئلّا يطعنوا عليهم عداوة منهم لآل البيت و مع ذلك يأبون اعتباره حاكما فإذا غضبوا عليه عزلوه كما فعلوا بعثمان و يقولون عنه: إنّ الإمام وكيل عن المسلمين ما داموا رضاين بوكالته فإذا لم يرضهم نحّوه عن وكالته.

و لا يقولون ولاية عباد اللّه بيد اللّه سبحانه و هو أولى بالتصرّف في ملكه و أعلم بما يصلح عباده و لا يعلمون أنّ التصرّف بملك الغير بدون إذنه لا يستساغ، و كذلك التصرّف في عبيده تصرّف بغير إذنه و لا ترخيص منه، و من فعل لك فهو غاصب و ضامن و آثم.

قال اللّه تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ (2) و يقرؤون هذه الآية:

ص: 70


1- حياة الإمام الرضا عليه السّلام للقرشي 2: 272.
2- الأنعام: 12.

فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1) و من الواضح أنّ الخليفة الذي لم ينصبه النبيّ و إنّما اختاره جماعة من الأمّة فينبغي أن يكون على باطل.

سؤال: و أقوى حجّة قال بها القوم: إنّ النبيّ لو كان نصّ على عليّ عليه السّلام لما خالفته الأمّة برمّتها.

الجواب: و ما أكثر النصوص التي خالفتها الأمّة خلافا من بعد خلاف، ثمّ إنّ موسى استخلف أخاه هارون كما نطق بذلك كتاب اللّه وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي (2) و كان موسى ترجى عودته بعد استخلافه أخاه و كان هارون عذب الحديث، فصيحا، مدرها، و القوم عبدوا العجل مع وجود هذين النبيّين بين أظهرهم فلا عجب من ترك أمّة نبيّ لا ترجى عودته خليفته و الميل إلى السامري و عجله، و هناك: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (3) أي أنّه صنع أيديهم و ليس فيه إلّا خروج الصوت منه على غير ما جرت به العادة و هنا «عجلا جسدا له كلام» و هناك سامريّ واحد قام بالالمر و هنا مائة سامريّ.

اعلم بأنّ عليّا عليه السّلام جاهد في سبيل اللّه بين يدي رسول اللّه فلم يترك بيتا ليس فيه واعية على واحد أو اثنين قتلهم عليّ بسيفه من ثمّ قاموا ضدّه انتقاما لقتلاهم و خالفوا النصّ مع أنّ النصّ هنا منقول شفاها و لا يحتاج إلّا إلى دقّة النظر و في مسألة موسى و هارون خالفوا العقل و النقل و ردّوا نبوّة النبيّ و تركوا أقواله و كان

ص: 71


1- يونس: 32.
2- الأعراف: 142.
3- الأعراف: 148.

النبيّان يومئذ حيّين و مع وجود هذه الحجج المتعدّدة فقد ارتدّ قوم موسى و لم يستحل ذلك عليهم فيكون ارتداد قوم لا يرون إلّا حجّة واحدة من طريق أولى.

مسألة: يقول المخالفون: لو كان النصّ على عليّ متواترا لكان العلم به ضروريّا لكلّ سامع كالصوم و الصلاة، و هذا باطل إذ لم يحصل به العلم الضروري.

الجواب: اعلم بأنّ منكري نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقولون: لو كانت معجزات محمّد متواترة لحصل العلم بها من السامع بالضرورة و ليست كذلك هي، و قالوا: و هي و إن صارت اليوم متواترة لكنّها لم تستو أطرافها فقد رواها في أوّل وقوعها فئة قليلة من الناس.

الجواب: و هذا نفس ما يقوله اليهود و النصارى أنّ معجزات النبيّ و إن تواترت اليوم إلّا أنّ رواتها فئة قليلة في أوّل وهلة، و جوابهم جوابنا لأنّ شبهة القوم واحدة.

مسألة: و قالوا: لماذا خصّ عليّ بالنصّ دون غيره؟

الجواب: و هذا الكلام باطل و منقوض بالأنبياء، فإنّ تخصيص محمّد بالرسالة كتخصيص عليّ بالولاية، فبماذا امتازا عن سائر خلق اللّه تعالى وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (1) إنّ النبوّة و الإمامة فضل من اللّه و منّة منه على عباده يؤتيها من يشاء و اللّه أعلم.

ص: 72


1- البقرة: 105.

الباب الخامس عشر في اختيار الإمام

أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ لم يعهد إلى أحد اختيار رئيس أو أمير من أمرائه بل كان يتولّى ذلك بنفسه فيرسلهم إلى المدائن و على القبائل، فهو الذي يجيّش الجيوش و يختار الأمراء، كما اختار جعفرا قائدا حين بعث سريّة إلى مؤتة، و قال:

إن قتل فأميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فأميركم عبد اللّه بن رواحة، فكيف يسوغ عدم نصبه إماما بعد موته و يترك الأمّة هملا؟

ثمّ إنّ رحمته بالأمّة كرحمة الوالد بولده كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أنا لكم كالوالد (1)، و جاء في القرآن الكريم: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2) و على هذا فكيف يترك أمّته بمضيعة دون أن يقيم عليها إماما بعد موته مع شديد عنايته بها و حبّه لها و مع حكمته و رأيه الوثيق؟

و هو بالضرورة أعلم بمن يليق لهذا المنصب بواسطة الوحي، و يصلح به أمر

ص: 73


1- الغدير للأميني 7: 242 نقلا عن تفسير الخازن 3: 314، تفسير النسفي في هامش الخازن 3: 314، كنز العمّال 9: 512 رقم 27208، الكامل لابن عدي 6: 465.
2- التوبة: 128.

الأمّة، و تنتظم شئون حياتها، و هو مؤهّل لحمل هذا العبأ الباهض، هذا مع علمه بما يجري في الأمّة من النزاع و الاختلاف لا سيّما و قد أخبر الأمّة بذلك حين قال:

ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة و الناجية منها واحدة (1)، فلو لم يبيّن موقع النجاة لعدّ مقصّرا و حاشاه من ذلك في أمر الدين، و تكون آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2) كذبا، و فساد هذا الاعتقاد لا يخفى على العقلاء.

فتبيّن ممّا تقدّم وجوب نصب الإمام على النبيّ لئلّا يقع الفساد الذي وقع، و أخبر عنه قبل وقوعه، و من قال: الإمام منصوص عليه، حصر الإمامة في عليّ و أولاده الأحد عشر إلى قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

مسألة: و قالوا: ليس على الأمّة تنفيذ الأحكام الدينيّة من إقامة الحدود و تجهيز الفيالق و الجيوش لكنّهم يختارون واحدا منهم يكون ذلك بعهدته.

و العجب أنّ الإمام واحد منهم، و حكم عدم الجواز يشمله فمن أين أتته الرخصة في تنفيذ الأحكام؟ أمن اختيار الأمّة له؟ و هو غير جائز.

مسألة: و قالوا: يبقى عمل الأمّة و تنفيذ الشرع معطّلا حتّى يختار أهل الحلّ و العقد إماما

ص: 74


1- روى هذا الحديث غير الشيعة: أحمد في المسند 2: 332، سنن ابن ماجة 2: 1321 و 1322، سنن أبي داود 2: 390، سنن الترمذي 4: 134، المستدرك للحاكم 1: 6 و 128 بطريقين، و قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه، سنن البيهقي 1: 208 بطريقين، مجمع الزوائد 1: 189 و 7: 323، المذكّر و المؤنّث لابن أبي عاصم: 86، و كتاب السنّة له: 7 و 32 و 33 و 35، مسند أبي يعلى 10: 317 و 382 و 502، صحيح ابن حبّان 14: 140 و 15: 125،، المعجم الصغير 1: 256، الأوسط 5: 137، الكبير 8: 273 و 18: 51 و 70.
2- المائدة: 3.

لهم، و قالوا: فإذا اختير في كلّ بلاد واحدا لا يبقى أمر الشرع معطّلا و لا مضطرب حبل الدين حتّى يختاروا واحدا من هذا المجموع ثمّ يعملون برأيه.

عجبا، إذا كان ذلك صحيحا و سائغا فما بال أصحاب السقيفة لم يصبروا حتّى يفرغ بنو هاشم من عزاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلّهم يشاركون في الاختيار و يدلّون برأيهم كغيرهم و هم أولى من غيرهم بهذا الاقتراع لو تحقّق بينما سارع القوم إلى خوض غمار هذه اللعبة بلا تمهّل أو انتظار، و لم يظهر على الأمّة أيّة أعراض لفتنة مقبلة أو إحداث شغب أو خصومة لكي يجعلوا ذلك ذريعة لأعمالهم المرتجلة أو يقولوا إنّا عجّلنا لإطفاء نائرة الفتنة.

فظهر أنّ الغرض الوحيد من هذه المسارعة هو اهتبال الفتنة قبل فراغ بني هاشم كي لا تتغيّر الأحداث و تتبدّل وجوهها، فقد لا يرضى بنو هاشم إلّا باستخلافهم دون من عداهم و حينئذ تفلت الدنيا من أيدي أركان السقيفة، و أخيرا اعترف عمر بن الخطّاب بهذا الأمر الذي دلّت عليه قرائن الحال و المقال بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها؛ فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ... (1).

و أعجب من هذا كلّه قوله: إنّ اختيار الإمام بيد علماء الأمّة فإنّ اختيار أبي بكر

ص: 75


1- الاقتصاد للطوسي: 208، السقيفة و فدك للجوهري: 46 و نسب القول لأبي بكر بقوله: كانت بيعتي، مسند أحمد 1: 55، صحيح البخاري 8: 25 و 26، مجمع الزوائد 6: 5 قال ابن حجر: و الفلتة ما يعمل بغير رويّة، مقدّمة فتح الباري: 164، المصنّف لعبد الرزّاق 5: 441 و 445، مصنّف ابن أبي شيبة 7: 615 و 8: 570، سنن النسائي 4: 272 و 273، صحيح ابن حبّان 2: 148 و 155 و 157 بطريقين و عقّب الثاني بقوله: يريد أنّ بيعة أبي بكر كابتدائها من غير ملأ، الخ، الفائق للزمخشري 3: 50، شرح ابن أبي الحديد 2: 23 و 6: 47 و نسبها لأبي بكر .. و 9: 31 و 13: 224، كنز العمّال 5: 649 رقم 14137.

من أبي عبيدة، و عمر من أبي بكر، و عثمان من عبد الرحمان بن عوف، و ليس أحد من العلماء كان حاضرا يوم ذاك، فهل حصلت شروط الاختيار هنا؟

و الأعجب من هذا أنّ الرجل في حياة النبيّ لم يكن ليستحقّ الصلاة في الناس جماعة، و لم تكن له أهليّة تبليغ آية من سورة برائة لأهل الموسم و قد عزله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلا الحالين فكيف استحقّ بعد رسول اللّه إمامة الناس أجمعين؟ ما أشدّ وقاحة القوم!

مسألة: و زعموا أنّ رسول اللّه قال: اختاروا وليّكم فإنّهم وفودكم إلى اللّه (1)، و كذلك قال: يؤمّكم أقرأكم، فقالوا: إن كانوا في القرائة سواء؟ قال: فأفقههم (2).

و بهذه الرواية التي رووها يعلمون بأنّ عليّا كان حافظا للقرآن و لم يكن أبو بكر كذلك، و عليّ أفقه منه في العلوم الدينيّة و حلّ المشاكل و كان مفتي الصحابة و معهذا فقد قدّموا أبا بكر لإمامة الصلاة و غيرها نقضا للحديث المروي عنهم.

و يعلمون أنّ النبيّ سدّ جميع الأبواب الشارعة في المسجد إلّا باب عليّ عليه السّلام (3)،

ص: 76


1- عثرت على رواية ذكرها أبو الفتح الكراجكي رحمه اللّه: «و إنّ أئمّتكم وفودكم إلى اللّه فانظروا من توفدون في دينكم» (ص 152) أمّا الرواية التي ذكرها المؤلّف فلم أعثر عليها في مصدر و تركتها على حالها.
2- عثرت عليها عند الشيعة و في السياق اختلاف في صياغة الحديث و المعنى واحد: تذكرة الفقهاء للحلّي 1: 179 و عزاه رحمه اللّه إلى ابن سيرين و الثوري و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي و ابن المنذر، الشهيد الأوّل في الذكرى: 272، مجمع الفائدة 3: 252 و سمّاه طريق العامّة، مصباح الفقيه ج 2 ق 2 ص 681 و 682، التعجّب للكراجكي: 10، الغدير للأميني 10: 53. و الظاهر أنّ الرواية عامية و فيها إضافات و في قبالها رواية شيعيّة في معناها.
3- عثرت على هذا الكلام المتقدّم في كتاب التعجّب لأبي الفتح الكراجكي (ص 11 طبع سنة 1411 ثانية في مكتبة المصطفوي بقم) و أنا أنقله هنا لتعتاض به عن الترجمة، قال: و من عجيب أمرهم أنّهم يعترفون بأنّ الأمّة ليس لها أن تمضي حكما و لا تقيم على أحد حدّا و لا تنفّذ جيشا و يزعمون أنّ لها أن تجعل هذه لأحدها و تردّ إليها ما لم يرد إليها، و تملّكه من الشريعة أشياء لا تملكها من غير أن يأذن لها في ذلك مالكها، و هذا من أطراف الأمور و أعجبها. و من عجيب أمرهم أنّهم فيما ذهبوا إليه من الاختيار قد أجازوا إهمال أمر الأمّة إلى أن يختار علمائها واحدا مع أنّه لو اختار أهل مدن مختلفة عدّة أئمّة وجب عندهم أن يقف أمرهم إلى أن ينظروا من الأولى منهم فيقدّموه و يبطلوا إمامة من سواه و يسقطوه، فإن كان قد عقد لهم في وقت واحد سقطت إمامتهم كلّهم فأباحوا بهذا ترك الناس في هذه المهلة بغير إمام، و ربّما تراخت و طالت و اضطرب فيها أمر الأمّة و حدثت أمور لا مدبّر لها، و تولّد مضارّ عامّة لا مصلح لفسادها. و قيل لهم على هذا الرأي: لم لم يصبر أصحاب السقيفة عن المبادرة لإمام و المسارعة التي انفردوا بها عن الإمام ريثما يفرغ بنو هاشم من تجهيز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مواراته و قضاء مفترض حقّه في مراعاته حتّى إذا تنجّزت هذه الحال حضروا معهم العقد لشاركوهم في الرأي و الأمر فإنّهم إن لم يكونوا أخصّ بهذا الأمر فيه شركائهم، و نصيبهم فيه على أقلّ الوجوه نصيبهم؟ فقالوا: إنّما فعلوا ذلك مبادرة بالأمر الذي يخشى فواته، و يخاف المضرّه بتأخيره مع العلم العام بأنّهم ما اضطرّوا في ذلك الوقت إلى هذا البدار و لم تختلف الكلمة لو لا ما فعلوه اختلافا يعظم به المضارّ و لا قصدهم من الأعداء قاصد و لا أحاط بهم عدوّ و معاند، فما هذه العجلة و البدار مع ما جيناه عنهم في شرائط الاختيار لو لا أنّ القوم اغتنموا الفرصة فانتهزوها و بادروا المكنة فاختلسوها و إنّ مصوّبتهم ناقضوا فعلهم و ناصريهم أوضحوا زللهم مع أنّ رأيهم في الاختيار، و ما ساقهم إليه أحكام التقيّة في هذا الزمان المخلّة بنصبة الإمام قد أدّاهم إلى إهمال أمر الأمّة و تركهم بغير إمام. و من عجيب أمرهم قولهم أنّ اختيار الأمّة إلى العلماء و أنّ الجماعة يختارهم الذين لا يغلطون في اختيارهم و يعلمون مع هذا أنّ أبا بكر اختاره أبو عبيدة، و أنّ عمر اختاره أبو بكر، و أنّ عثمان اختاره عبد الرحمان و ليس فيهم من حصل الشرط الذي ذكروا. فصل: في أغلاطهم في اختيارهم أبا بكر و من عجيب أمرهم أنّهم قصدوا إلى رجل أمر اللّه بتأخيره و لم يره أهلا للنيابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تأدية تسع آيات من سورة برائة إلى أهل مكّة و هم بعض الأمّة و رسول اللّه حيّ موجود مع قوله صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون أكفاء؛ تتساوى دمائهم و يسعى بذمّتهم أدناهم، و يجيز عليهم أقصاهم، و هم يد على من سواهم، فلا يراه اللّه مع ذلك أهلا لتأدية ذمّة و لا منفّذا لأمر فيه مصلحة للأمّة، و عزله عن جيش ظهر فيه غوله و عجزه و منعه، سكن المسجد و سدّ بابه و أخّره عن الصلاة التي قدّمه بلال إليها بأمر عائشة ابنته فقدّموه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رئيسا على جميع أمّته و ردّوا إليه أحكام ملّته حيث يكون تتميم تنفيذ الأمم في يديه، و أحكام الشريعة مردودة كلّها إليه، و يكون القائم مقام خير خلق اللّه تعالى محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المنفّذ لشرعه، إنّ هذا لشي ء عجيب يحار فيه عقل اللبيب. و من عجيب أمرهم اعتقادهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر الناس أن يختاروا لأنفسهم إذا اجتمعوا إمام الصلاة و يروون عنه أنّة قال: اختاروا أئمّتكم فإنّهم وفدكم إلى اللّه عزّ و جلّ، و قال: يؤمّكم أقرأكم، و في خبر آخر: قالوا له: فإن كانوا في القرائة سواء؟ قال: فأفقههم، و صاحب المسجد أولى بمسجده، ثمّ يروون مع ذلك أنّ من الواجب تقديم أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السّلام و يرون أنّه أولى منه بالتقديم على الناس في الصلاة مع علمهم بأنّ أبا بكر لم يكن حافظا لكتاب اللّه و أنّ أمير المؤمنين كان حافظا بغير خلاف. و مع علمهم بأنّ رسول اللّه سدّ جميع أبواب الصحابة التي كانت إلى المسجد حتّى سدّ باب عمّه و ترك باب عليّ، و قال: إنّ اللّه أمر موسى بن عمران أن يتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا هو و هارون و ابناه شبّر و شبير، و أنّه أمرني أن أتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا أنا و عليّ و ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام.

ص: 77

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى أمر موسى بن عمران أن يتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا هو و هارون و ابناه شبّر و شبير، و إنّه أمرني أن اتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا أنا و عليّ و ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام، فاجتمعت الخصال الموجبة لتقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام فياليت شعري بأيّ فضّل قدّموا عليه أبا بكر.

و لمّا سئل هو و عمر عن قوله تعالى: وَ أَبًّا (1) فما أحارا جوابا و لم يعرفا لها معنى.

و أبو بكر هو القائل: ولّيتكم و لست بخيركم، أقيلوني أقيلوني و لست بخيركم؛

ص: 78


1- عبس: 31.

فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و إنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فتجنّبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم (1).

و اختاروه مع قلّة علمه و نقصان فهمه و فقهه في الدين على عليّ الذي بسط اللّه يده على العالم كافّة مع كثرة العلم و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زهده و طهارته كلّ ذلك يعلمونه منه كما يعرفون الجهل من صاحبهم، و لكنّهم أخّروه ردّا على اللّه و رسوله حيث قال: لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (2).

مسألة: و قال الأنصار: نحن أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لنصرتنا إيّاه، و قال المهاجرون: بل نحن أولى به لقرابتنا و هجرتنا، و لم يدر بخلدهم أنّ عليّا حوى الفصيلتين: فهو أنصاريّ مهاجريّ و قرشيّ هاشميّ، فقال عليّ عليه السّلام: إنّ المهاجرين حاجّوا الأنصار بقرب قريش من رسول اللّه فإن كانت حجّتهم ثابتة فقد كنت إذن أحقّ بها لأنّي أقرب منهم، و لمّا بلغته بيعة أبي بكر قال هذين البيتين من الشعر:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (3) و قال عليه السّلام: بم احتجّ المهاجرون على الأنصار؟ قالوا: بصحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،

ص: 79


1- راجع التعجّب أيضا (ص 9) و ليس فيه أقيلوني أقيلوني أثناء كلام الشيخ عن شيطانه، لا يعتريني الشكّ أنّ المؤلّف رحمه اللّه أخذ من الكراجكي لتقدّمه عليه فقد توفّي الكراجكي سنة 449 (راجع الذريعة للطهراني) و لكنّه لم يشر إليه بل عمد إلى كلام الشيخ الكراجكي فقطع أوصاله و أفقده الوحدة و حشر في أثنائه كلاما لا يبلغ مستواه ممّا أوقع المترجم بحيرة مدهشة، و استمرّ المؤلّف يكيل من كلام الكراجكي كلّما حلى له، و ربّما أعرض عنه بكلام ينشأه من نفسه، و لو أنّه أشار إلى كتابه لأراح و استراح رحمه اللّه.
2- الأعراف: 179.
3- و قيل إنّه قول قيس بن سعد، التعجّب: 9.

فقال: يا عجبا! تكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة!

و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ إمامة أبي بكر تثبت عن إذن من أهل الحلّ و العقد و اختيار و تأمّل، هذا مع سماعهم قول عمر بن الخطّاب: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و هذا القول يكذب مزاعمهم، لأنّ الفلتة التي هي العجلة و البدار تضادّ ما يدّعون من التأمّل و الاختيار.

مسألة: و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ الأمّة اجتمعت على إمامة أبي بكر مع علمهم بقلّة عدد المعاقد لها و تأخّر من تأخّر عنها، و إنكار المنكرين لها، و الخلف الواقع فيها في حال السقيفة و بعدها، فيقولون: إنّ من خالف من الأنصار و تأخّر من بني هاشم الأخيار (1) و ما كان مع أبي بكر إلّا نفر من قريش و هم عمر و عثمان و عبد الرحمان بن عوف و خالد بن الوليد و سعيد بن أبي وقّاص القرشي و سعيد بن العاص القرشي و سالم بن حذيفة الدعي، و جماعة من المجهولين حسبا و نسبا، و ليس من قريش إلّا هؤلاء العشرة و مع ذلك يسمّونه الإجماع.

ثمّ ينكرون أن يكون الإجماع حصل على حصار عثمان و قلعه و تكفيره و قتله، و لم يكن بالمدينة من أهلها و لا ممّن كان بها من أهل مصر و غيرهم إلّا محارب أو خاذل، و لم يحفظ عليهم في الإنكار إلّا قول القلل، و يدّعون أنّه و عبيده المحاصرين معه في الدار و مروان ابن عمّه قادحون في الإجماع، هذا و قد رام قوم من بني أميّة أن يصلّوا عليه فلم يتمكّنوا و همّوا أن يدفنوه في مقابر المسلمين فلم يتركوه حتّى مضوا إلى حشّ كوكب و هو بستان بقرب البقيع ثمّ أتوا ليجزّوا رأسه فصاح نسوة

ص: 80


1- هذه عبارة الكراجكي في التعجّب (ص 13) رأيناه أجدر بالعناية من عبارة الترجمة، حيث أنّ المؤلّف أخذها بالترجمة بعد التحوير و التغيير.

من أهله و ضربن وجوههنّ فتركوه و داسه عمير بن أبي صابي فكسر ضلعا من أضلاعه ... (1) فلم ينكر عليهم أحد، و هذا المعنى أولى باسم الإجماع، فظهر من هذا بأنّ إجماعهم ربّما بني على الباطل و الظلم و غصب حقوق المسلمين (2).

و من عجيب أمرهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسله إلى خيبر و أرسل بعده عمر فرجعا منهزمين و كان على رأس الجيش، و أرسل النبيّ أبا بكر مع جيش إلى واد قريب من المدينة ليلا فرجعوا منهزمين، فلم يحسن أن يدبّر الجيش بعقله و يرضي اللّه و رسوله فكيف يصحّ تحكيمه بالأمّة و حكمه عليها؟

و قاد الجيش عليّ بعده فهزم أولئك اللعناء و فرّق جمعهم و بدّد شملهم و كفى اللّه المسلمين شرّهم به، و إنّ رجلا بهذه الصفة من حسن القيادة و الحكمة أولى بالتقديم.

ص: 81


1- هذه عبارة صاحب التعجّب (ص 13) و فيها عبارة المؤلّف و زيادة.
2- عبارة الكراجكي: و بقي مكانه مرميّا ثلاثة أيّام لم يستعظم في بابه مستعظم و لا أنكره منكر، و من تأمّل هذا الحال علم أنّها أحقّ و أولى بالإجماع (ص 13).

الباب السادس عشر في صفات الإمام

و قالوا: إنّ الإمام قدوة في الشريعة مع جواز جهله ببعضها، و لا يجيزون أن يكون فيها مع جهله بجميعها و قولهم: إنّه يرجع في البعض الذي لا يعلمه إلى الأمّة و لا يجيزون أن يرجع في الكلّ إذا لم يعلمه إلى أحد من الأمّة و لسنا نجد فرقا بين حاجته إلى رعيّته في بعض ما لا يعلمه و بين حاجته إليهم في كلّ ما لا يعلمه.

بل من العجب ان يكون الإمام محتاجا إلى من هو محتاج إليه، و مقتديا برعيّة يقتدون به، لأنّ هذا عند العقلاء من المناقضة القبيحة و هو دور واضح.

و من عجيب أمرهم أنّهم يروون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من تولّى شيئا من أمور المسلمين فولّى رجلا شيئا من أمورهم و هو يعلم مكان رجل هو أعلم منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين، أي إنّ من حكم المسلمين لزم عليه إسناد الحكم و الرياسة إلى أعلمهم.

مع ذلك إنّ أبا بكر و عمر لم يولّيا أيّامهما عليّا عليه السّلام مع معرفتهما بكمال علمه، و يقدّمان الجهّال في الولايات عليه، و لا يستدلّون بذلك على خيانتهما للّه و لرسوله

ص: 82

و للمؤمنين (1) و إنّما نحّوه لئلّا يدرك الناس أنّه الأولى بالأمر، و لكن إذا نابتهم نائبة أو ألمت بهم مشكلة رجعوا إليه و اعتمدوا عليه .. و لو أنّهم دعوه لتولّى شأن من شئونهم لما قبله و حاشاه من قبول ذلك إلّا أنّ هذا لا يمنع من نسبة الخيانة إليهم.

مسألة: و من عجيب أمرهم قولهم: إنّ علوم الشريعة متفرّقة في الأمّة و أنّها قد أحاطت بها و هي الملجأ و المفزع فيها مع ما يدّعون من عصمتها، و يستعظمون قولنا أنّ الإمام هو المحيط بها و العالم بجميعها و الملجأ و المفزع فيها، و هو المسدّد المعصوم دونها (و ما انكروه منّا منكر منهم و ما أوردوه علينا وارد عليهم في عصمة الأمّة) و يقيمون أنفسهم في ذلك مقام المشركين الذين قالوا فيما تضمّنه الذكر المبين: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (2) (3).

مسألة: و رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: خذوا ثلث دينكم عن عائشة، لا بل خذوا ثلثي دينكم من عائشة.

فيا عجبا كيف يثبت لعائشة هذا الكمال الذي تميّزت به عن الأنام و استحال مثله في الإمام (4) (و هو مدينة علم النبي).

و من العجب إنكارهم أن يكون خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمّته و المنفّذ بعده

ص: 83


1- التعجّب: 14.
2- ص: 5.
3- لمّا ثبت عندي أنّ المؤلّف أخذ نصوصه من كتاب التعجّب و لكنّه حوّر العبارة و غيّرها بالحذف و الإضافة لتكون له، رأيت نقل عبارة التعجّب أولى و إن كنت لا أهمل زيادات المؤلّف فأضعها بين قوسين.
4- نفسه (15).

أحكام شريعته حافظا لعلوم الشريعة محيطا بأحكام الملّة، مستغنيا في ذلك عن الرعيّة، و يدّعون أنّ شيخهم الجاحظ لعنه اللّه (1) على سخافته و هزله و خداعته و صلاعته و قبيح فعله و مشتهر فسقه قد عرف كلّ علم، و صنّف الرياضيّات و رسوم الأدبيّات إلّا و قد خاض فيه و عرف متصرّفاته و عجائبه و معايبه (2) الخ (لأنّ الجاحظ أظهر عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و عداوة أهل بيته و كتب في ذلك الكتب منتقصا بها عليّا و أهل بيته ... و قد ذكر في عدّة مواضع أنّ النبيّ قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (3)) و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، اللهمّ أدر

ص: 84


1- اللعنة التي أصابت الجاحظ من الكراجكي المؤلّف و أنا أقول: ألف ألف لعنة عليه.
2- نفسه: 15.
3- هذا الحديث أنكره أولاد الزواني و العواهر حتّى قال آخرهم و هو نكرة ظهر علينا في أحذ مواقع الانترنت «البرهان» بصفحات تافهة جدّا سمّاها مناظرة مجهولة الزمان و المكان و الأطراف و كان لا يعبّر عن مناظريه بأسمائهم لئلّا يفتضح طبعا و إنّما يسمّيهم «سيّدهم» و «أحدهم» و هكذا، و لو كانت المناظرة صحيحة أو كان هو الغالب فيها كما يدّعي لما تردّد في ذكر أسماء مناظريه، و على كلّ حال اسم المناظرة «انتصار الحقّ» و صاحب القلم الذي خطّها خادم السنّة (طبعا سنّة معاوية) مجدي محمّد علي محمّد ... و فيها: أحدهم السائل: من أعلم الصحابة؟ العبد للّه: أبو بكر أعلم الصحابة. السائل: ما دليلك على ذلك؟ العبد للّه: النبيّ قدّمه للصلاة بالناس عند مرضه الأخير و معلوم في الفقه أنّ الذي يؤمّ القوم أعلمهم و تقديم أبي بكر للصلاة بالمسلمين أعظم شهادة من الرسول المعصوم بأنّه أعلم الناس و أفضلهم. السائل: أليس الرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا مدينة العلم و عليّ بابها و هذا أدلّ على أنّ عليّا عليه السّلام هو أعلم الصحابة؟ العبد للّه: هذا الحديث لا يثبت عندنا فلا يصحّ الاحتجاج به. السائل: لكن هذا الحديث موجود في كتبكم! العبد للّه: علم الحديث عندنا ليس بالسطحيّة التي هي عليها الآخرون بل هو علم واسع ألّفت فيه كتب و مؤلّفات لا تحصى لكثرتها، و أفنى فيه علماء كثيرون أعمارهم لجمع الحديث- إلى أن يقول:- و حديثك هذا غير ثابت .. الخ، ثمّ يعلّق عليه في الهامش: بل هو مكذوب موضوع و عند رجوعي إلى منزلي بحثت فيه فوجدته قد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ... الخ (ص 40 و 41 و 42). صحّة الحديث: أقول: مجدي محمّد هذا قد طبع اللّه على قلبه فلا حاجة إلى تذكيره لأنّه من الذين جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم، فالحديث معه ضرب على حديد بارد، و لكنّي أخاطب أصحاب القلوب الواعية، فأقول: الرواية أخرجها الحاكم في المستدرك على الصحيحين و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، و تعقّبه الذهبي في التلخيص فقال: بل موضوع، قال: و أبو الصلت ثقة، قلت: لا و اللّه لا ثقة و لا مأمون (اه). و إنّما ضعّفوا الحديث و رموه بالوضع نظرا لرواية أبي الصلت له، و تكلّموا فيه بغير هذا الحديث و كذلك فعل ابن الجوزي فإنّه لم يورد له في الموضوعات سوى حديثين و هو منهم تحامل لا دليل عليه و لا موجب له سوى موالاته لأهل البيت كعادتهم مع غيره، فإنّه لم ينفرد بهذين الحديثين حتّى يتّهم بهما و يتحامل عليه من أجلهما. قال السيّد الغماري: و أمّا ابن الجوزي فهو مقلّد لمن سبقه فلا ينبغي أن يعدّ في الحاكمين على الحديث بالوضع لأنّه لم يقل ذلك عن اجتهاد فهو بمنزلة العدم كحال كلّ مقلّد، و لو فرضنا أنّه حكم بذلك اجتهادا فتساهله و تهوّره معلوم حتّى قال الحافظ فيه: إنّه حاطب ليل لا يدري ما يخرج من رأسه، و قد كثر اعتراض الناس عليه و تعقّبه فيما حكم عليه بالوضع و التحذير من الاغترار به كما بسطته في غير هذا الموضع و قد تعقّبوه على هذا الحديث كما سيأتي قريبا إن شاء اللّه. و أمّا الذهبي فلا ينبغي أن يقبل قوله في الأحاديث الواردة بفضل عليّ عليه السّلام فإنّه سامحه اللّه (بل لعنه و أخزاه- المترجم) كان إذا وقع نظره عليها اعترته حدّة أتلفت شعوره و غضب أذهب وجدانه حتّى لا يدري ما يقول، و ربّما سبّ و لعن من روى فضائل عليّ عليه السّلام كما وقع منه في غير موضع من الميزان، و طبقات الحفّاظ تحت ستارة أنّ الحديث موضوع، و لكنّه لا يفعل ذلك فيمن يروي الأحاديث الموضوعة في مناقب أعدائه، و لو بسطت المقام في هذا لذكرت لك ما تقضي منه بالعجب من الذهبي رحمه اللّه (بل لعنه اللّه- المترجم) و يكفي في ردّ كلامه أنّه قال في الميزان: عبد السلام بن صالح الهروي، الرجل الصالح إلّا أنّه شيعيّ جلد، انتهى، فما وصفه بضعف و لا رماه بكذب ثمّ ذكر عند ذكر هذا الحديث في المستدرك: أقسم باللّه أنّ عبد السلام بن صالح ما هو ثقة و لا هو مأمون، فكيف الجمع بين هذا و ذاك؟! و قد تعقّبه الحافظ في حكمه على هذا الحديث بالوضع في ترجمة جعفر بن محمّد الفقيه فإنّه أورد له هذا الحديث، و قال: موضوع، فتعقّبه الحافظ في اللسان بقوله: و هذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق عليه القول بالوضع، انتهى. و قد سبق قول الحافظ السيوطي في الجامع الكبير: كنت أجيب دهرا عن هذا الحديث بأنّه حسن إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليّ في تهذيب الآثار مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عبّاس فاستخرت اللّه تعالى و جزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحيح (اه). و نقل في اللئالي المصنوعة عن الحافظ العلائي أنّه قال في أجوبته عن الأحاديث التي تعقّبها السراج القزويني على مصابيح البغوي و ادّعى أنّها موضوعة، ما نصّه: حديث «أنا مدينة العلم و عليّ بابها» قد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات من طرق عدّة و جزم ببطلان الكلّ و كذلك قال بعده جماعة منهم الذهبي في الميزان و غيره، و المشهور به رواية أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي عن أبي معاوية عن الأعمش عن ابن عبّاس، و أبو الصلت مختلف فيه لكنّه توبع فبرئ من عهدته، و أبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ و حفّاظهم المتّفق عليهم و قد تفرّد به الأعمش فكان ماذا؟ و أيّ استحالة في أن يقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا في حقّ عليّ رضي اللّه عنه و لم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث و جزم بوضعه بجواب عن الروايات الصحيحة عن ابن معين في توثيقه و تصحيح حديثه و مع ذلك فله شاهد: رواه الترمذي في جامعه و سنده حسن فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية، و لم يأت أبو الفرج و لا غيره بعلّة قادحة سوى دعوى الوضع دفعا بالصدر (اه) باختصار. راجع: أحمد بن محمّد بن الصدّيق الغماري، فتح الملك العلي، و هو كتاب جدير القرائة و الحفظ، هذا ما يقوله العلماء أصحاب الدين و الاجتهاد، الباحثون عن الحقّ، أمّا أعراب نجد و أتباعهم من أهل العناد كصاحب المناظرة فهم أشدّ كفرا و نفاقا و أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه.

ص: 85

ص: 86

الحقّ معه حيثما دار.

و اتفقوا على أنّ عليّا أعلمهم، و عبد اللّه بن عبّاس واحد من تلامذته، فقد كان عمر مع ما هو عليه من جاه الخلافة يفتقر إليه في المسائل و يقول: «غص يا غوّاص»، و اعتبر برجل تلميذه غوّاص فإنّه بالأعلميّة أولى.

و قال له عمر بغير خلاف لمّا ردّه أمير المؤمنين عليه السّلام عن مواضع ظهر منه فيه الأغلاط: لو لا عليّ لهلك عمر.

مسألة: قالوا عن عليّ و أهل بيته المعصومين: إنّ هذه العصمة إن كانت منهم جاز أن يقع في غيرهم فيساويهم في منزلتهم، و إن كانت من اللّه سبحانه فجبرهم و اضطرّهم و لم يستحقّوا ثوابا على عصمتهم.

و الجواب: إنّ هذا قول باطل، لأنّها مساوية لعصمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم مع ذلك معترفون بأنّ النبيّ معصوم في التأدية و التبليغ و معصوم عمّا سوى ذلك من جميع كبائر الذنوب في حال نبوّته و قبلها، و ما يجيبون به عن عصمة النبيّ فإنّه جوابنا بعينه بلا أدنى فرق.

الجواب: و من العجب قولهم أنّ العصمة ثابتة لجميع الأمّة منتفية عن كلّ واحد منها مع علمهم بأنّ آحادهم جماعتها و أنّها إذا كانت مؤمنة بأجمعها كان الإيمان حاصلا لا حاربا، و لو كفر جميعها لكان الكفر حاصلا مع كلّ واحد منها.

و قد قال أحد المعتزلة يوما و قد سمع هذا الكلام: فرق بين العصمة و ما ذكرت

ص: 87

من الكفر و الإيمان، و ذلك أنّ ما ثبت لكلّ واحد منها فهو ثابت لجماعتها، و ليس كلّ ما ثبت لجماعتها ثابت لكلّ واحد منها، فلذلك إذا آمن آحادها كان جميعها مؤمنين، و إذا كفر آحادها كان جميعها كافرين، و ليست إذا ثبت العصمة لجماعتها يكون آحادها معصومين.

فقلت له- الكراجكي-: ما رأيت أعجب من أمرك و انصرافك عن مقتضى قضيّتك إذا كان ما ثبت لكلّ واحد من الأمّة ثابتا لجميعها فقد ثبت عندي و عندكم الحكم على كلّ واحد منها بجواز الخطأ و النسيان و تعمّد الغلط في الأفعال و الأقوال فاحكم بثبوت ذلك بجميعها و أسقط ما ادّعيت من عصمتها، فلم يدر ما يقول بعدها ... (1).

و مع هذا يجيزون الخطأ على الآحاد و يدّعون العصمة للمجموع، و ما الفرق بين الآحاد في جواز اجتماعهم على الكفر و تبرئة الأمّة من ذلك بادّعاء عصمتها؟ و هل هذا إلّا محض عناد.

و مثال ذلك الماء فإنّ النقطة منه إن كانت رطبة فينبغي أن يكون المجموع كذلك، و كذلك الزنج فإذا كان أحدهم أسود فإنّ المجموع كذلك، و هذا من صور البسائط كون حكم الجزء و الكلّ واحدا بخلاف المركّب، و لمّا كان آحاد الأمّة يجوز عليهم الخطأ فجوازه على الأمّة كذلك و هي محتاجة إلى الإمام كآحادها، و لمّا كان جواز الخطأ في الكلّ قديما احتاج الكلّ إلى إمام معصوم، فإن لم نفترض عصمته احتاج إلى إمام معصوم يكون عليه يردّه عن الخطأ و إلّا لاحتاج إلى إمام آخر لا يخطأ و هكذا يؤدّي الحال إلى التسلسل.

ص: 88


1- التعجّب: 16. و هذا الكلام حاو لكلام المؤلّف و زيادة، و إنّما نقلته بالتفصيل فلأنّ المؤلّف أخذ منه كلّ أقواله و لم يشر إلى ذلك، و رأيت ما اختزله المؤلّف لا يؤدّي المعنى المراد لصاحب الكتاب.

و إنّهم جعلوا حجّتهم في عصمة الأمّة و في أنّ إجماعها صواب و حجّتهم خبر نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّه لا تجتمع أمّتي على ضلال، و هذا الخبر لا يمكنهم على أصلهم أن يدّعوا فيه التواتر إذا كان غير موجب لسامعيه على الضرورة بصحّته فهو لا محالة من أخبار الآحاد فهم إذا قد جعلوا دليل الدعوى بأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلال قول بعضها و الحجّة على عصمتها شهادة واحد منها و لم يعلموا أنّ الخلاف في قول جميعها يتضمّن الخلاف في قول بعضها و التخطئة بسائرها يدخل في التخطئة بواحدها ... (1). و يمكن أن يكون قول هذا الراوي واجد الخطأ و كذبا فيكون إجماع الأمّة على الكذب.

و من عجيب أمرهم أنّهم لا يجيزون إمامة الفاسق و يجوّزون أن يكون الإمام باطنه فاسقا، و يحتجّون في نفي من ظهر فسقه بأنّهم لا يأمنونه على إقامة الحدود و لا يثقون به في حفظ الأموال و صرفها في الواجبات ثمّ يأتمنون على هذه الأمور من يجوّزون عليه الفسق و الفجور و ارتكاب كبائر الذنوب و من لا يخيّلون أن يكون في باطن أمره على ضلال و كفر و إشراك (2)!

و العجب منهم أن لا يجيزوا إمامة الفاسق معلن الفسق و يجيزون إمامة الكافر في الباطن و بناءا على هذا لا يبعد أن يكون أئمّتهم كافرين باطنا و إذا لم تجز إمامة الفاسق فكيف تجوز إمامة الكافر (3)!

مسألة: و قالوا: يجوز تقديم المفضول على الفاضل، و هذا يستنكره العقلاء و يقبّحونه

ص: 89


1- التعجّب: 17.
2- التعجّب: 17.
3- و عبارة صاحب التعجّب هكذا: و من عجيب العجيب امتناعهم من إمامة من علموه فاسقا و تجويزهم أن يكون في باطنه كافرا ... الخ (ص 17).

و غرضهم من هذا الأمر المخالف للعقل و الشرع تقديم أبي بكر الفاقد لكلّ خصلة حميدة و مزيّة مجيدة على عليّ و هو الأعلم و الأشجع و الأكمل و الأكثر عملا و الأشدّ خوضا في ميدان الجهاد و نصر دين اللّه (1) و مع ذلك قدّموه عليه على أنّه لا نسبة بينه و بين الإمامة، و يلزم أن يكون رعيّة فصيّروه راعيا، و من له التقدّم جعلوه رعيّة، و منعوه من أجل مراتبه و هي الإمامة، و لم يقبلوا أمره و نهيه، و صيّروه تابعا للجهّال، و مثلهم كمثل الذي أعطى المعلّم للمتعلّمين يعلّمونه، و النبيّ جعله تابعا للموالي و العبيد، و هذا شأن ينكره العقل و يقبّحه العقلاء (2) و قد استغاث فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام متظلّما و شكاهم إلى اللّه مستعديا فقال: اللهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي و اكفوا أثاثي و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه و في الحقّ أن تمنعه فاصبر مغموما أو مت متأسّفا.

و من عجيب أمرهم تمحّلهم الباطل في الاعتذار لتقديم المفضول على الفاضل، قولهم: إنّ العاقدين خافوا أن يلي الفاضل عليهم فيرتدّ إلى الكفر قوم منهم لما في نفوسهم عليه من الأحقاد و ما بينه و بينهم من الغائل و الترات فوجب تأخيره و تقديم من دونه ليؤمن من وقوع هذه الحال و تسكن نفس من يخاف منهم الارتداد (3).

ص: 90


1- و جاء في كتاب التعجّب: «فصلّ في أغلاطهم في إمامة المفضول»: فمن عجيب أمر القائلين بإمامة المفضول ... الخ، و هو كلام نفيس جدّا أخذ منه المؤلّف بعض عباراته و معناه و أضاف إليه كلاما دون مستواه (ص 17).
2- أخذ المؤلّف عبارة التعجّب الجزلة الحاوية للمعنى الدقيق فتصرّف فيها تصرّفا غير محمود حتّى مثال المعلّم و المتعلّمين فقد جاء عند الكراجكي هكذا: و ما زلنا نسمع العامّة تقول: يأتي على الناس زمان يسلم فيه المعلّم إلى الصبيان و يسوق فيه البغل على الطحّان ... الخ (ص 18).
3- التعجّب: 18- 19.

الجواب: و هذا باطل بإرسال الرسل (1) فقد نسوا ما قد أجمعوا عليه معنا و لم يخالفونا فيه من أنّ الحكيم يجب أن يفعل أفضل الأمور و أعلاها و أشرفها و أولاها، و إن ضلّ من ضلّ و كفر من كفر كإرساله سبحانه الأنبياء إلى من يعلم أنّهم يقتلونهم و يزدادون في غيّهم، و تبليغه أطفالا يعلم من حالهم أنّهم يكونون كفّارا إذا بلغهم و تكليفه قوما قد علم انّهم يضلّون إذا كلّفهم فكيف صار من الحكمة و العدل فعل هذه الأمور و إن ضلّ معها الجمهور، و من الظلم و الجور تقديم المفضول على الفاضل خوفا من ضلال قليل من كثير و لا انقادوا إلى هذا الفاضل و اتّبعوا في ذلك الواجب، فيكون الحجّة من خالف و عاند.

(قال المؤلّف (2):) و على هذا ينبغي أن لا يكلّف اللّه عباده بطاعة أمر رسله، لأنّه عند إرسال الرسل عاندهم الناس و كفروا و ارتدّوا و مع هذا فقد أرسل اللّه إليهم أفضل الناس.

و كذلك نقول: لو لا التكليف لكان الناس في بال من الأوامر و النواهي و مثله العقل إذ لولاه لكان الناس مجانين و عاشوا في أمن من التكاليف و كان الناس جميعا من أهل الجنّة ...

جواب آخر: إنّ الذي يدرأ الشرّ و الخبث و النفاق هو اتّباع الفاضل و الانقياد لأوامره و نواهيه، لكي يمتنع الفساد و الارتداد، ألا ترى أنّ موسى حين أزمع الغيبة نصب

ص: 91


1- و هنا ينبغي علينا نقل عبارة «التعجّب» لأنّها أكمل من عبارة المؤلّف و أوصل للمعنى، انظر ص 19.
2- قارن بين العبارتين.

أخاه هارون على بني إسرائيل مع علمه أنّ بني إسرائيل سوف يرتدّون و يعبدون العجل و اختار هارون لأنّه الأفضل لا واحدا من بني إسرائيل (1).

و يزعم الخصم: أنّ الأمّة لو قالت لا نؤمن حتّى تخرجوا هذا المؤمن من بيننا وجب حينئذ إخراجه كما فعل عثمان بأبي ذر الغفاري من بين الصحابة من أجل تسلية خاطره و هو حبيب رسول اللّه وردّ طريد رسول اللّه من النفي لكي لا يضلّ الناس بزعمهم «نعوذ باللّه من هذه الضلالة»:

لو سلّموا لوليّ الأمر أمرهم يأسل (2) بينهم في الأرض سيفان مسألة: و من عجيب أمرهم اعتمادهم على هذا الاعتذار مع علمهم باختلاف الناس بأبي بكر لما تقدّم و كراهيّتهم له مع علمهم و معرفته بما كان من أهل اليمامة لخالد بن الوليد: و اللّه لا أطعنا لأبي فصيل أبدا، و قول خالد: و اللّه لأرفعت السيف عنكم حتّى تتأمّروا بالفحل لا لأكبر، فكان من أمرهم معه ما قد اشتهر من الحرب المبيرة و الفتنة العظيمة و سفك الدم و سبي الحريم و هلاك من لا يحصى (3).

و قالوا: السبي غنيمة و هذا الارتداد ما كان لو لا تقديم أبي بكر على الناس،

ص: 92


1- إليك عبارة التعجّب التي أغار عليها المؤلّف: أو ليسوا مقرّين بأنّ اللّه تعالى قد علم من قوم موسى أنّهم يكفرون إذا قدّم عليهم أخاه هارون و يتّخذون العجل إلها من دون اللّه تعالى و لم ينهه عن تقديمه و لا منعه من استخلافه و تركه فعل الأفضل في حكمته و ليس لهم أن يقولوا بأنّه هو أى اللّه دون العباد و تقديمهم الفاضل (ص 19) و البيت الذي ذكره المؤلّف مأخوذ من التعجّب أيضا و هو كما يلي: لو سلّموا لوليّ اللّه أمرهم ما سلّ بينهم في الناس سيفان
2- كذا. و الصحيح: ما سلّ.
3- التعجّب: 20.

و من العجب نسيانهم عند هذا الاعتذار كراهيّة الناس تقديم أبي بكر عمر عليهم، و نفورهم من نصبه عليهم حتّى حلّفوه اللّه عزّ و جلّ و قالوا له: ما أنت قائل إذا لقيته و قد ولّيت علينا فظّا غليظا، و اللّه ما كنّا نطيقه و هو رعيّة فكيف إذا ملك الأمر فاتّق اللّه و لا تسلّطه على الناس، فغضب و قال: أبا للّه تخوّفوني؟!! أقول: يا ربّ، ولّيت عليهم خير أهلك (1)!

و هذا من العجب أن يكون تقديم هذين مع كراهة الأمّة لهما لا يقتضي تأخيرهما و كراهيّة بعضهم لعليّ تقتضي تأخيره ... (2).

و من العجب اعتذارهم في تأخير الفاضل بما قد اعتذروا به مع سماعهم قصّة طالوت المذكورة في القرآن و تلاوتها عليهم ما اتّصلت الأيّام و لا ينتهون بها من رقدة الضلال حيث كرهه الناس و قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ (3) فلم يمنع كراهتهم له من تقديمه، و أخبر اللّه سبحانه بما أوجب رياسته عليهم و تقدّمه، فقال: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (4) فأخبرهم أنّ اللّه آتاه من علمه و قوّته اقتضى تقديمه في حكمته فكيف لم يعتبروا بهذا من قول اللّه سبحانه فيعلموا أنّهم على ضلال في تقديم من عرف ضعفه في علمه و جسمه على من حصل الاجتماع على أنّ اللّه تعالى قد جعله في

ص: 93


1- التعجّب: 20.
2- عبارة التعجّب: و من العجب فضل عمر بن الخطّاب عند أبي بكر يقتضي تقديمه مع العلم بكراهيّة الناس له و لا يكون فضل أمير المؤمنين عليه السّلام عند جميع الأمّة تقتضي تقديمه عليهم و إن ظنّ كراهيّة بعضهم، الخ (ص 20).
3- البقرة: 247.
4- تتمّة الآية 247.

بسطة من العلم و الجسم كطالوت في قومه (1).

مسألة: و من عجيب أمرهم أنّهم اعترفوا بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام الفاضل بحكم اللّه أعلى الناس قدرا و أرفعهم محلّا و ذكرا، و أزكاهم عملا و أولاهم بالمدح و الثناء، و أنّه لا يحلّ استنقاصه و لا يسوغ ذمّه ثمّ أجمعوا مع ذلك على كفر الخارجين من طاعة أبي بكر و استحلال دم ما يعتد (كذا) الزكاة و سبي حريمهم و لم يقيموا للشاكّ في إمامتهم عذرا، ثمّ بسطوا عذرا للشاكّ في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و الممتنعين عن نصرته الخارجين عن وجوب طاعته كسعد بن أبي وقّاص و حسّان بن ثابت و عبد اللّه بن عمر و محمّد بن مسلم و أسامة بن زيد القاعدين عن إمامته و الخاذلين الناس عن نصرته (2).

هؤلاء الذين خرجوا على عليّ الأفضل عليه السّلام نحتوا لهم الأعذار و أقاموا لهم البيّنات على أنّهم مصيبون و تابوا، نعم إنّهم تابوا و لكن في نار جهنّم كما قال تعالى:

فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (3) و قال: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي

ص: 94


1- التعجّب: 21. و العبارة التي أنقلها تزيد على عبارة المؤلّف و قد يكون المؤلّف اختصرها بسطرين و لكنّهما لا ينقعان غلّة بل ربّما أدّيا إلى تغيير المعنى و تشويهه، اللهمّ إلّا بعض العبارات التي يضيفها من عنده ربّما كانت ذات ذات دلالة قويّة و لست أرى مانعا في نقل العبارة التي اعتمد عليها المؤلّف و اقتطع أجزاآ منها و إن لم ترد في كتابه لأنّها أمانة في عنقي وجدت لزاما على ردّها إلى أهلها و المؤلّف أهمل الإشارة إلى المصدر. و كأنّه هو صاحب هذه المعاني التي ألبسها ثيابا فارسيّة فقط فقد تطول و قد تقصر و نسبها إلى نفسه رحمة اللّه عليه.
2- التعجّب: 23.
3- المؤمن: 11.

كُنَّا نَعْمَلُ (1) و قالوا: إنّ الذين قاتلوا عليّا هم و إيّاه في الجنّة و من أعدائه عائشة و طلحة و الزبير و حسّان بن ثابت و محمّد بن مسلمة و أسامة بن زيد و عبد اللّه بن عمر و سعد بن أبي وقّاص، و يعتبرون هؤلاء من أهل الجنّة و هم مجتهدون في قتالهم لعليّ و تطلّبهم لقتله و قتل أهله و بنيه و هم مصيبون أيضا.

و العجب أنّ الشاكّ في خلافة المفضول يوجب الكفر و إباحة دم الفاضل و الشكّ في خلافة الفاضل و إعلان الحرب عليه شرع و دين «فاعتبروا يا أولي الأبصار من خرافات الأشرار» ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين.

ص: 95


1- فاطر: 37.

الباب السابع عشر في إمامة أبي بكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

قال بعض المخالفين عن عائشة أنّها قالت: لمّا ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عجز عن الخروج إلى الصلاة أمر أبا بكر بأن يصلّي بالناس، فلمّا كبّر تكبيرة الإحرام سمعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقام و رجلاه تخطّان في الأرض و هو متّكئ على رجلين أحدهما الفضل ابن العبّاس، فأخّر أبا بكر عن المحراب.

و قال بعضهم: أتمّ أبو بكر صلاته.

و هذا غير جائز بعدد من الحجج الجليّة:

الأوّل: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فإذا كان أبو بكر قد تقدّم فعلا فإنّه خالف قوله تعالى.

الثاني: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (2) فإذا كان أبو بكر إماما فلا بدّ من رفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مخالف لقول اللّه تعالى و ذلك كفر.

ص: 96


1- الحجرات: 1.
2- الحجرات: 2.

و يقول خصومنا: إنّها كانت صلاة الصبح.

الثالث: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (1) و لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عازما على الخروج فقد كان الأجدر بأبي بكر الصبر حتّى يخرج النبيّ إليهم و لكنّه عمل على خلاف قول اللّه تعالى.

روي أنّ رسول اللّه قال: إنّ الصلاة جائزة خلف البرّ و الفاجر و مع هذا لا يجيزون للفاجر أن يتولّى الإمامة العامّة و إمامة الصلاة داخلة في الإمامة العامّة إذن بالنسبة إلى إمامة الصلاة يجوز أن يكون الإمام فاجرا، و بناءا على هذا المذهب يقتضي أن يكون هذا الشخص فاجرا و غير فاجر في نفس الوقت، و حينئذ يجب أن يكون الإمام العام غير مقيم لصلاة الجماعة.

قالت عائشة: و لمّا سمع رسول اللّه صوت أبي بكر في المسجد يصلّي بالناس جماعة قام و هو مريض و اتّكأ على منكب عليّ و الفضل و رجلاه يخطّان في الأرض حتّى بلغ المسجد و تقدّم و صلّى بالناس و حينئذ لمّا عزله الرسول في آخر أيّامه عن صلاة الجماعة فلا تكون إمامته عامّة و لا يعلمون بأنّ النبيّ حين استأنف الصلاة بعد تنحيته أبا بكر دلّ ذلك على بطلان صلاته و صلاة من اقتدى به.

و قول عائشة هنا يدلّ على أنّه تقدّم للصلاة من دون إذن النبيّ و إلّا لما عزله.

و حينئذ يمكننا الجزم بأنّه تقدّم للصلاة بتدبير عائشة حيث أرسلت إليه بلال و آذنه بالصلاة.

مسألة: روى هؤلاء أنّه وقع تنازع بين قبيلتين من قبائل الأنصار فذهب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليصلح بينهما فتأخّر عن صلاة العشاء، فقدّموا عبد الرحمان بن عوف ليأمّهم في

ص: 97


1- الحجرات: 5.

الصلاة فجاء النبيّ و اقتدى بعبد الرحمان بن عوف و لمّا سلّم لم يرض المسلمون أن يأتمّ النبيّ بواحد من أمّته فلمّا فرغ، قالوا: يا رسول اللّه، أتصلّي خلف رجل من أمّتك؟ فقال: ما يموت نبيّ من الأنبياء حتّى يصلّي خلف رجل من أمّته ... (1).

فإن صحّت هذه الرواية كان عبد الرحمان أولى بالإمامة و الخلافة من أبي بكر، لأنّه لم يعزل عبد الرحمان هنا باتفاقهم و اقتدى به في الصلاة و أتمّ صلاته و هنا لم يقتد بأبي بكر و قطع صلاته. و هناك أجمعت الأمّة على إمامة عبد الرحمان و رضيه رسول اللّه إماما، و هنا اختيار عائشة و عزل رسول اللّه و عبد الرحمان بزعمهم مرضيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبو بكر صلّى صلاة متنازعا فيها و لم يتمّها، و عبد الرحمان إمام النبيّ و الأمّة و لا شي ء من هذا لأبي بكر.

مسألة: قال الخصم: كان عليّ يعظّم الصحابة و هذا دليل على صحّة إمامتهم.

الجواب: من الظاهر المعلوم بأنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام و محمّد بن الحنفيّة و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن جعفر و جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنهم و غيرهم يعظّمون معاوية من أجل التقيّة و هذا لا يدلّ على صحّة إمامة معاوية، و حال عليّ مع القوم كحال هؤلاء مع معاوية .. (2).

ص: 98


1- أبو الفتح الكراجكي، التعجّب: 22.
2- من المؤسف حقّا أن يأخذ الشيخ هذا الكلام من كتاب التعجّب و يوجزه إيجازا مخلّا ثمّ لا يشير إلى الكتاب بكثير أو قليل، و نحن إثباتا لما نقول ننقل لك جانبا من هذا الكلام من كتاب التعجّب: فمن عجيب أمر المعتزلة و ظاهر ظلمهم و دعواهم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يمدح أبا بكر و عمر في وقتهما و بعدهما، و أنّ ولده و شيعته كانوا يعظّمونهما و يثنون عليهما، و يجعلون هذه الدعوى دليلا على صوابهما، و رضاء أمير المؤمنين عليه السّلام و ذرّيّته بتقديمهم هذا مع المروي المشتهر من ضدّ هذا، فإذا قيل لهم على وجه تسليم الدعوى: ما ننكر أن يكون ما ذكرتموه ورد على سبيل التقيّة منهم مداراة لهما في وقتهما و استعظاما لشيعتهم من بعدهم استعظموا هذا القول و استبعدوه و أنكروه و جحدوه، فإذا سمعوا من سواهم من الحشويّة أنّ الدليل على صواب معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السّلام ما ظهر من الحسن و الحسين و محمّد بن عليّ عليهم السّلام و عبد اللّه بن العبّاس و عبد اللّه بن جعفر و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبي ذر الغفاري و أبي أيّوب الأنصاري و غيرهم من التعظيم له و الإجلال و إظهار الاتّباع و ترك الإنكار، قالوا لهم: إن كان هذا ممّن ذكرتموه على وجه التقيّة من معاوية لما كانوا عليه في أيّامه من أحكام الضرورة الملجئة إلى الاستعطاف و الاستمالة و لما علموه من المصلحة في ترك المشاقّة و المخالفة فيعتمدون نظير ما ينكرون و يستعملون الاحتجاج الذي يجحدون قلّة تأمآل بوجه المناقضة و عدم انصاف و ديانة .. الخ. انظر كيف أخذ المؤلّف بعضا من هذا الكلام الفاخر النفيس الذي ردّ به المؤلّف على المعتزلة و ليس أهل السنّة و الجماعة، لأنّ رأي هؤلاء في معاوية كرأيهم في الثلاثة بخلاف المعتزلة الذين يكفّرون معاوية و من ثمّ صحّ احتجاجه عليهم.

و لمّا نال عليّ الحكم غيّر كثيرا من الأحكام التي ابتدعوها في الإسلام و ما عجز عنه تركه على حاله كشأن نوافل شهر رمضان و كانوا يصلّونها جماعة فمنعهم عليّ عليه السّلام من ذلك فصاحوا صيحة واحدة (وا عمراه نهينا من سنّة عمر) و سمّوا البدعة سنّة.

و قال عليّ عليه السّلام: لو تشبّثت قدماي لغيّرت أمورا كثيرة (1).

ص: 99


1- و هذا أيضا أخذه من كتاب التعجّب و إليك العبارة التي اقتطف منها المصنّف عبارته: و من العجب قولهم: إذا كان أبو بكر و عمر و عثمان قد تركوا كثيرا من الأحكام و أظهروا البدع في الإسلام فلم لم يغيّر ذلك أمير المؤمنين لمّا انتهى الأمر إليه بعد عثمان و لا يطلعون أنّهم نهاهم عن الجماعة في صلاة نوافل شهر رمضان فتفرّقوا عنه و صاحوا: وا عمراه نهينا عن سنّة عمر بن الخطّاب، فإذا كانت هذه حاله معهم في النهي عن أمر يعلمون أنّ عمر ابتدعه يتحقّقون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عنه و أنكره و يجعلون البدعة من عمر سنّة فكيف لو غيّر أكثر من هذا بل لو غيّر بدعهم كلّها ... الخ (التعجّب: 24).

و كذلك قال: فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ اللّه عليم بما يصنعون (1) (و لا تأس على القوم الفاسقين- المؤلّف).

و يظهر من هذه الأخبار أنّه عليه السّلام لم يتمكّن من التغيير و إنفاذ حكمه، و الدليل الأشدّ وضوحا من هذا و الأكثر صراحة من هذه الرواية الخاصّة و العامّة أنّ عليّا عليه السّلام قال: و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينطق (يزهد- المؤلّف) كلّ كتاب و يقول: يا ربّ، قضى عليّ فينا (في هذا- المؤلّف) بقضائك ... (2).

و من هنا يعلم جيّدا أنّه لم يكن قادرا على تنفيذ الأحكام الشرعيّة لذلك كان يقول لقضاته: اقضوا بما كنتم تقضون حتّى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي (3).

مسألة: و هم لا يجيزون التقيّة على الإمام و يقولون: هو حجّة في الحرام و الحلال و الخطأ و الصواب و الأمر و النهي، من هنا لا تجوز التقيّة عليه.

مسألة: و يقولون: إنّ الأئمّة صفوة أخيار و طائفة أبرار و التقيّة عليهم جائزة إذا اعترضت الأسباب و إجماع الأمّة حجّة، و الأمّة معصومة كالإمام عندنا، و ما يقولونه في الجواب هنا فهو جواب لنا، و مع هذا و هم يعلمون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استعمل

ص: 100


1- نهج البلاغة 2: 64 تحقيق محمّد عبده، نشر دار المعرفة- بيروت.
2- نفسه: 24.
3- رسائل المرتضى 1: 393، تحقيق السيّد مهدي رجائي، ط دار القرآن 1405 ه- مطبعة سيّد الشهداء.

التقيّة في الشعب و في الغار كما أنّ فرار موسى من فرعون كان محض تقيّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قال تعالى: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (2) كما أنّ الأنبياء ما رسوا التقيّة كلّ بحسب ظروفه و ما صاحبنه من قرائن الأحوال، قال اللّه تعالى:

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (3) و لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (4) و هذه عين التقيّة، و لا تنس الصلح يوم الحديبيّة (5).

ص: 101


1- الشعراء: 21.
2- القصص: 20.
3- البقرة: 256.
4- الكافرون: 6.
5- سبحان اللّه! أخذ المؤلّف هذا كلّه من كتاب التعجّب و نحن نذكر عبارة التعجّب هنا لتمكّنك المقارنة بين القولين، قال الكراجكي: و من عجيب أمرهم قولهم كيف جازت التقيّة على الإمام و هو عندكم حجّة فيما فعل و قال به يقطع الخطأ من الصواب، و هم يعتقدون مع هذا أنّ في الأمّة جماعة هم الصفوة الأخيار، و الحجّة للّه على العباد، و بهم يعرف الحقّ و الصواب، و التقيّة عليهم جائزة إذا اعترضت الأسباب، فقد أقاموهم في كونهم حجّة مع الإمام، و أجازوا عليهم من التقيّة ما لم يجيزوا على الإمام، و هذا هو جور الأحكام. و ربّما قالوا أيضا: إذا جازت التقيّة على الإمام فلم لا تجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإذا قرّبنا بينهما في هذا الباب قالوا ليس بصحيح لكم فرق لأنّ عندكم هما حجّتان. إذا قيل لهم: أليس قد أجزتم التقيّة على الطائفة الأخيار و الصفوة الأئمّة الأبرار الذين قولهم بعد النبيّ حجّة في الحلال و الحرام فلم لا تجيزونها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هما عندكم حجّتان إن تعاطوا الفرق الذي عابوا نظيره و اضطرّوا للتشبّث بما أكروا إيراده. و من العجب إنكارهم جواز التقيّة على الأنبياء عليهم السّلام في شي ء من الأحوال مع علمهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استتر في الشعب و الغار و من قبله هرب موسى و أخبر اللّه تعالى أنّه قال: «ففررت منكم لمّا خفتكم» و كلّ قد اتّقى غيره من الأنبياء لكن القوم ليس من شأنهم الانصاف (التعجّب: 24). فأنت ترى أنّ المؤلّف أخذ عبارات الكراجكي إلّا أنّه صاغها صياغة جديدة و نحى بها نحوا آخر فلم يحظ بإجادته و لا أفاد فائدته.

الباب الثامن عشر فوائد تليق بهذا الكتاب

روى عبد اللّه بن عبّاس في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (1) قال: نزلت هذه الآية بشأن عليّ عليه السّلام.

و روى مجاهد عن أبيه: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ (2) محمّد وَ صَدَّقَ بِهِ عليّ.

و روي أيضا عن ابن عبّاس، و الاتفاق حاصل على ذلك: الصدّيقون ثلاثة:

حبيب بن مرّي النجّار و هو مؤمن آل يس، (مؤمن من الحواريّين- المؤلّف) (3) و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم.

و أجمع المحدّثون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (4).

ص: 102


1- الحديد: 19.
2- الزمر: 33.
3- هذه الروايات الثلاث وردت تباعا في التعجّب، و ذكرها المؤلّف على التعاقب كما وردت في الكتاب المذكور إلّا أنّ المؤلّف خالفه في موضعين، قوله: «مؤمن من الحواريّين» و قوله: مجاهد عن أبيه (ص 34).
4- التعجّب: 34.

و لا يسمّى أبو ذر مع ذلك صدّيقا، و جرت عادتهم على الاستهانة بأمر محبّي عليّ عليه السّلام وردّ حديثه (1)، و يسمّون أبا بكر خليفة رسول اللّه مع اعترافهم بأنّ رسول اللّه لم يستخلفه، فتبيّن على هذا أنّ في مذهبهم يسمّون من ليس بأمين و لا هو بقاض أو عالم و لا رسولا لرسول اللّه، أمينا و قاضيا و عالما و رسولا ...

و لمّا خرج النبيّ إلى تبوك، قال: يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، و قال:

أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (2).

و لم يختلفوا في هذا الحديث بشي ء قطّ، و مع هذا لم يستخلف، و قد تعجّب أمير المؤمنين عليه السّلام من استقالة أبي بكر و نصّه على عمر حيث قال: فواعجبا بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (و الغافل يعلم أنّ هذين الفعلين في غاية التناقض لأنّ الاستقالة تدلّ على التبرّي و الكراهة، و النصّ على الرغبة) و هذا معنى قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (3) ... وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (4).

و من العجب أن يؤمّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أسامة بن زيد على جماعة من أصحابه فيهم

ص: 103


1- أخذه من كتاب التعجّب: إنّ بغضهم لأمير المؤمنين عليه السّلام حملهم على تفضيل محاربيه و تبجيل أعاديه و معانديه، و إهمال ذكر أوليائه و المنسوبين إليه من أصفيائه (ص 34).
2- سبل السلام 1: 44، ذخائر العقبى: 120، فضائل الصحابة: 13 بثلاث طرق ... و ص 14 بثلاث طرق أيضا، صحيح مسلم 7: 120 بثلاث طرق ... و ص 121، سنن الترمذي 5: 302 و 304 بطريقين، المستدرك 2: 337 و 3: 109 و 133، السنن الكبرى 9: 40، مجمع الزوائد 9: 109 و 110 بطريقين ... و ص 111 بطريقين، مسند أبي داود الطيالسي: 28 و 29 بطريقين ..، مسند الصنعاني 5: 406 و 11: 226 بطريقين، مسند الحميدي 1: 38، مسند ابن الجعد: 301، مصنّف ابن أبي شيبة 7: 496 بخمس طرق .. و 8: 562، مسند ابن راهويه 5: 37، السنن الكبرى للنسائي 5: 44 بطرق متعدّدة، خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 48 بطرق كثيرة، مسند أبي يعلى 1: 286 و غير ذلك.
3- النحل: 25.
4- العنكبوت: 13.

أبو بكر و عمر، ثمّ يموت و لم يعزله فلا يسمّى أمير رسول اللّه ... و قد روي أنّ أسامة يوما غضب على أبي بكر و قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمّرني عليك فمن استعملك عليّ، فمشى إليه هو و عمر حتّى استرضياه، فكانا يسمّيانه مدّة حياته أميرا (1).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هذا فاروق أمّتي يفرق بين الحقّ و الباطل (2).

و جاءت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ محبّته علم على طيب الولادة و بغضه علم على خبث الولادة (3).

و روي في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة الخمس و البغض لعليّ بن أبي طالب (4).

و طالما قال عليّ عليه السّلام عن نفسه: «أنا الصدّيق الأكبر، أنا الفاروق الأعظم».

و من عجيب أمرهم مثل هذا قولهم أنّ عثمان بن عفّان ذو النورين و اعتقادهم من نحله هذا بأنّه تزوّج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول اللّه من خديجة بنت خويلد، و قد اختلفت الأقوال فيهما: فمن قائل أنّهما ربيبتاه، و أنّهما ابنتا خديجة من سواه،

ص: 104


1- هذا و ما قبله أخذه من التعجّب: 25.
2- اختزل المؤلّف هذا الحديث من كلام للمؤلّف نفيس نذكره لك لتكون على بصيرة من أمره: و من عجيب أمرهم تسميتهم عمر بن الخطّاب بالفاروق و ليس في نحله هذا الاسم لأحد منهم حجّة و لا لناصره شبهة، و لا ورد في رواية، و لا أوجبه لعمر دلالة، و لا هو مشتقّ من بعض أفعاله فيستحقّه على وجه الاستحقاق، و لم يسمّوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الفاروق و قد قال فيه النبيّ و يده في يده: هذا فاروق أمّتي، يفرّق بين الحقّ و الباطل (ص 25).
3- عبث المؤلّف بعبارة الكراجكي فأخذ جزءا و أهمل أجزاء، و أضاف إليها جزءا، و إليك العبارة من كتاب التعجّب: و روي عن ابن عمر أنّه ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه إلّا ببغضهم عليّا عليه السّلام. و في رواية أخرى: إنّ محبّته علم لطيب المولد، و بغضه علم على خبث المولد (ص 25).
4- و هذا الحديث تناوله المؤلّف من كتاب التعجّب، و أضاف إليه الجزء الأخير من كتاب آخر، انظر (ص 25) أوّل الصفحة.

و من قائل أنّهما ابنتا أخت خديجة من أمّها و أنّ خديجة ربّتهما لمّا ماتت أختها في حياتها (1) ... (و لا يقولون أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ذو النورين و هو أبو السبطين (2).

و سمّى اللّه نساء النبيّ جميعا أمّهات المؤمنين و هم خصّوا عائشة بهذا الاسم؛ لأنّ باقي النساء لم يحاربن عليّا عليه السّلام، بينما خديجة أوّل الناس إسلاما و أنفقت ألوف الدنانير و جملة من الجواهر الثمينة في سبيل اللّه، و قال رسول اللّه: ما نفعني مال كمالها، و رزقني اللّه الولد منها، و لم يتزوّج في حياتها إكراما لها، و كان يكثر من ذكرها و الثناء عليها، و لكثرة ما كان يذكرها قالت له عائشة يوما: تكثر من ذكر خديجة و قد أبدلك اللّه من هو خير منها، فقال: كلّا، و اللّه ما بدّلت بها من هو خير منها؛ صدّقتني إذ كذّبني الناس، و آوتني إذ طردني الناس، و أسعدتني بمالها، و رزقني اللّه منها الولد و لم أرزق (الولد) من غيرها (3).

ص: 105


1- نفس عبارة التعجّب (ص 34) إلّا بتقديم بعض العبارات و تأخير البعض الآخر، و كلامي هنا مع الكركي حيث يقول: «قد اختلفت فيهما الأقوال ... الخ» كلّا، لم تختلف فيهما الأقوال و إنّما هي فرية ظالمة أطلقها صاحب كتاب الإستغاثة و أنا أتحدّى اليوم من يأتيني بقول لعالم أو ظالم أو حتّى سوقيّ قبل صاحب الاستغاثة يقول هذا القول، و لو تبصّروا قليلا لعلموا أنّه قول واه يحرم على أحد أن يقوله لا سيّما من نسبهما إلى هالة أخت خديجة، فإنّ زينب عليها السّلام كبراهنّ تزوّجت أبا العاص بن الربيع و هو ابن هالة أخت خديجة فهل يجوز أن تتزوّج ابنة رسول اللّه أخاها من أمّها على شريعة المجوس، و قد عالجت هذه المسألة في كتابي «فاطمة الزهراء» علاجا كافيا شافيا و بإسهاب أيضا، فمن أراد فليرجع إليه ليزداد علما بالموضوع.
2- هذه عبارة التعجّب (ص 37) و المؤلّف لم ينقلها إنّما نقل جزءا منها مسخ المعنى، فقال في ختام قوله: و من قائل: أنّهما ابنتا خديجة من زوج آخر و يسمّون عليّا أبا السبطين .. الخ، و لا شكّ أنّه خطأ من الناسخ أمّا إن كان من المؤلّف فقد جاء بجملة من كلام الكراجكيّ و وضعها في غير موضعها فصارت بلا معنى.
3- الحديث موجود في التعجّب (ص 36) كما أنّ معنى الكلام بجملته مأخوذ منه و لكن الاختلاف بين المؤلّف و صاحب التعجّب في الجزء الأخير من الحديث فهو عند الكراجكي: «و رزقه اللّه الولد منها».

و عائشة (و حفصة- المؤلّف) مذيعة سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي شهد القرآن بأنّها و صاحبتها قد صغت قلوبهما و أنّهما تظاهرتا عليه و تحاملتا (1) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ (2) و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ (3) و يظهر من مفهوم الآية أنّهما ما كانتا مؤمنتين، و لا مؤتمنتين، و لم يكن عندهما إيمان و توبة.

و لمّا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لتقاتلين عليّا و أنت ظالمة له (مع قول اللّه تعالى أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (4) و كيف استحقّت هذه أن يعلن القول بأنّها أمّ المؤمنين و ينادى بتفضيلها على رؤوس العالمين، فإنّا لا نعرف فعلا استحقّت به هذا التمييز) اللهمّ إلّا أن تكون استحقّت بذلك بحربها أمير المؤمنين عليه السّلام و مجاهرتها بعداوته و القدح فيه (5) [و عداوتها لفاطمة عليها السّلام].

و إنّهم يقولون إنّ معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، و يقولون إنّه استحقّ بذلك بسبب أنّ أخته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان إحدى أزواج النبيّ الذين هنّ بنصّ القرآن للمؤمنين أمّهات و لا يسمّون محمّد بن أبي بكر (6) و لا عبد اللّه بن عمر،

ص: 106


1- عبارة التعجّب نفسها: 37.
2- التحريم: 4.
3- التحريم: 5.
4- هود: 18.
5- حصرنا كلام التعجّب بالقوسين و ما كان مشتركا بينهما تركناه بلا حصر، و ما جعلناه بين حاصرتين للمؤلّف وحده، و راجع ص 37 من التعجّب.
6- التعجّب: 37.

و السبب في ذلك أنّ معاوية شهر السيف في وجه عليّ و أنّه قاتله.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، و بعد ظهور الإسلام استسلم معاوية قبل وفاة النبيّ بخمسة أشهر أو ستّة أشهر، و قد هرب يوم فتح مكّة إلى اليمن، يطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يكتب إلى أبيه صخر يعيّره بإسلامه (1) بعد أن كتب إليه أبوه يستقدمه و يطلب منه أن يسلم، فكان جوابه يذكر فيه أمورا منكرة في حقّ النبيّ (2) و طرح نفسه على العبّاس بن عبد المطّلب فسأل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعفا عنه ثمّ شفع له أن يشرّفه و يضيفه إلى جملة الكتاب فأجابه، و كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و غيره كاتبا للوحي ثلاثا و عشرين سنة فما سمّوه كاتب الوحي و سمّوا معاوية كاتب الوحي، و لم يمرّ عليه في الكتابة إلّا ستّة أشهر، و كان كتّاب الوحي أربعة عشر كاتبا أقربهم من رسول اللّه و أحبّهم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضى معاوية عمره منافقا ناقما على الإسلام.

إنّ مجرّد الكتابة لا يحصل بها الفضل ما لم يقارنها صحيح الإيمان لأنّه قد كتب لرسول اللّه عبد اللّه بن أبي سرح ثمّ ارتدّ مشركا، و فيه نزل: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3)، و مثله النصراني الذي كان كاتب الوحي فارتدّ من الإسلام و مات على الكفر و دفن فلم تقبله الأرض ... فعل به ذلك ثلاث مرّات، و لّما طلع الصباح و أقبلوا على قبره وجدوه مرميا في الصحراء، فقال إخوانه النصارى: هذا من عمل محمّد و أصحابه، و لكنّهم علموا أنّ ذلك عملى دني ء لا يفعله النبيّ و لا الأصحاب بل كان على أثر ارتداده و كفره، و تركوه

ص: 107


1- التعجّب: 24.
2- و قد ذكر الكراجكي (ص 39) هذه الأمور و منها أبيات من الشعر أوّلها: يا صخر لا تسلمن يوما فتضحنابعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
3- النحل: 106.

بلا دفن حتّى أكلته السباع، و كان معاوية واحدا من هؤلاء (1).

(و المأثور أنّ رسول اللّه لعنه على منبره) و أخبر أنّه يموت على غير ملّته.

و روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: أتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمعته يقول: (يطلع عليكم رجل يموت على غير سنّتي) يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل من أهل النار، فطلع معاوية (2). (3)

و أخذ معاوية بيد أبيه يوما و النبيّ يخطب، فقال: لعن اللّه القائد و المقود ...

و المشهور أنّه هلك على حالة السكر و شربه سبع سنين، و وضع الصليب في عنقه يتداوى به و كان قد طلبه من يوحنّا (كنيسة يوحنّا- التعجّب 39) و علّقه في عنقه.

و روي أيضا أنّه تشا فى بلحم الخنزير فأكله قبل موته، و غير ذلك.

و إذا شككت بهذه الأخبار فاعلم يقينا أنّه قتل في يوم من أيّام صفّين سبعين صحابيّا أحدهم عمّار بن ياسر الذي قال في حقّه رسول اللّه: خالط الإيمان لحمه و دمه، و قال: يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية (4).

ص: 108


1- هذا كلّة أخذه المؤلّف من الكراجكي و زاد عليه، و زاد في العبارة و نقص منها، و لست أدري السبب الداعي لذلك لحدّ الآن، راجع ص 39 من التعجّب.
2- نفس السياق تقريبا إلّا أنّه قدّم و أخّر في الأحاديث و خالف التعجّب في الثالث (ص 39).
3- مناقب أمير المؤمنين لمحمّد بن سليمان 2: 311، شرح الأخبار للنعماني 2: 147، بحار الأنوار 33: 190 و 209، مناقب أهل البيت للشيرواوني: 465، الغدير للأميني 10: 141، مجمع الزوائد 1: 112 و قد غيّروا في ألفاظ الحديث فجاء مكان لفظ «معاوية»، «فطلع غيره»، شرح ابن أبي الحديد 15: 176 «فطلع معاوية»، ضعفاء العقيلي 3: 379 و أشار إلى الحديث و لم يذكره، لسان الميزان، و أشار إلى الحديث و قال: في إسناده نظر .. 4: 182، تاريخ الطبري 8: 186، مؤسسة الأعلمي تحقيق نخبة من العلماء، وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري: 220، النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 261، تقوية الإيمان: 137.
4- المعيار و الموازنة: 300، و أمّا الحديث الثاني فقد أخرجه عدد من الحفّاظ من الفريقين منها ذخائر العقبى: 330، فضائل الصحابة: 51، مسند أحمد 2: 161 و 164، صحيح البخاري 3: 207، صحيح مسلم 8: 186.

و قتل أويس القرني في ذلك اليوم.

و سنّ سبّ عليّ على المنابر في المحافل، و برأ من أهل بيت النبوّة، و حمل الناس على البرائة.

أليس شخص بهذه المثابة يكون التظلّم منه واجبا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ سيف على أعداء اللّه، و رحمته لأوليائه.

و قال على المنبر: أنا سيف اللّه على أعدائه و رحمته لأوليائه (1).

و أمّا خالد فقد سماّه أبو بكر سيف اللّه يوم قتل مالك بن نويرة وزنى بزوجته، و من المعلوم عند العلماء أنّه كان السبب في قتل المسلمين في يوم أحد، و ما ابتلي به الرسول من الأذى حتّى كسرت رباعيّته و أدمي فمه و شجّت جبهته، و قتل حمزة و سرى القتل في أنصاره، لأنّه هجم على المسلمين بمأتي راكب من ثغرة الجبل، و كمن للمسلمين حتّى إذا خلت الثغرة من الرماة و لم يبق إلّا قائدهم عبد اللّه بن جبير فقتله و استشهد معه جماعة من المسلمين على يد خالد بن الوليد، و ما دخل على الإسلام من وهن كان من ذلك اليوم المشوم.

و كان سيفه يقتل المسلمين و النبيّ على قيد الحياة و بعد وفاته، ثمّ لمّا تظاهر بالإسلام بعثه النبيّ إلى بني خزيمة ليأخذ منهم صدقاتهم، و كان بينه و بينهم عداوة، و ذحل في الجاهليّة، فخانه في عهده و خالفه على أمره، و قتل المسلمين و استعمل في ذلك ترة كانت بينه و بينهم في الجاهليّة حتّى قام النبيّ خطيبا بالإنكار عليه رافعا إلى السماء يديه حتّى رئي بياض إبطيه، و هو يقول: اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع

ص: 109


1- التعجّب: 40.

خالد، ثمّ أنفذ إليهم بأمير المؤمنين عليه السّلام ليلا في فارطه و أمره أن يدني القوم و يسترضيهم، ففعل ذلك إليهم، و بلغ به مبلغا سرى به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).

و لمّا قبض النبيّ و أنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا و مأتي نفس (ألفين و مأتي نفس- المؤلّف) و هم على ظاهر الإسلام، و قتل مالكا صبرا و هو مسلم (2).

و أراد قتل أمير المؤمنين بأمر أبي بكر حتّى كفاه اللّه شرّه.

و لمّا مضى بسوء عمله ورث ابنه عبد الرحمان عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و بارزه مع معاوية بالحرب و جاهر بسبّه.

و العجب من مخالفينا أنّهم يروون قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لقي اللّه و في قلبه مقت (بغض- المؤلّف) لعليّ بن أبي طالب لقى اللّه يهوديّا (و هو يهوديّ- المؤلّف) و هم يعلمون بأنّ خالدا لعنه اللّه يبغض عليّا عليه السّلام و مع ذلك يسمّونه سيف اللّه.

و من العجب أن تمنع بنو حنيفة من حمل الزكاة إلى أبي بكر و لم يصحّ عندهم إمامته فيسمّونهم أهل الردّة و يستحلّون دمائهم و أموالهم و نسائهم (و يفعل فيهم خالد ما قصصناه عليك و علمته- المؤلّف) ثمّ ينكث طلحة و الزبير بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام و يخرجان مع عائشة يستنفرون الخلق و يتناهون مع من تبعهم في حربه و لا يسمّون مع ذلك أهل الردّة (و لا يتحمّلون من فعلهم هذا أيّ غرم، و تصبح رممهم مشاهد تزار من أهل السنّة و الجماعة، و يسمّونهم مؤمنين، و بنو حنيفة لمنعهم الزكاة عن أبي بكر يستحقّون أن ينزل بهم ما نزل) و قد بلغهم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حربك يا عليّ حربي، و سلمك سلمي، و قد علمنا أنّ من حارب

ص: 110


1- التعجّب: 41، و طابقت عبارة المؤلّف ما في الكتاب إلّا ألفاظا لم يذكرها المؤلّف لا تغيّر المعنى.
2- التعجّب: 41.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كافر [فيجب أنّ من حارب أمير المؤمنين كافر كذلك] (1).

و العجيب من أمرهم أنّهم يأخذون الدين و شريعة رسول اللّه بالقياس و اجتهادات الرأي لآحاد الناس و بأهوائهم و فتاوى علمائهم متضادّة و مع ذلك يسمّون أنفسهم أهل السنّة و الجماعة، و الشيعة العاملون بنصوص الأئمّة المعصومين و بها يفتون و يرفضون القياس و اجتهاد أهل السنّة و الجماعة (2).

مسألة: لماذا لم يدع عليّ إلى نفسه في خلافتهم و قد كان الدين و الأمّة معه؟

الجواب: لقد جاءه العبّاس، فقال: يابن أخي، ابسط يدك حتّى أبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، فأجابه عليّ عليه السّلام: إنّ رسول اللّه عهد إليّ أن لا أدعو أحدا حتّى يأتوني، و لا أجرّد سيفا حتّى يبايعوني، فإنّما أنا

ص: 111


1- العبارات كلّها لصاحب التعجّب، و قد أدخل بينها المؤلّف عباراته فوضعناها بين قوسين، و ما انفرد به صاحب التعجّب جعلناه بين حاصرتين، و إليك الكتب التي خرّجت الحديث (حربك حربي): رياض المسائل 1: 481، الأمالي للصدوق: 156 و 656، تهذيب الأحكام للطوسي 1: 10، شرح أصول الكافي للمازندراني 7: 134 و 8: 353 و 354، مستدرك الوسائل 1: 19، الغارات 1: 62، مناقب أمير المؤمنين 1: 250، المسترشد للطبري: 621، شرح الأخبار للقاضي نعمان 1: 216 و 306 و 2: 102 و 382 و 397، تفضيل أمير المؤمنين: 24 و قال المحقّق: انظر سنن الترمذي 5: 699 رقم 387، و سنن ابن ماجة 1: 45 رقم 152، و مسند أحمد 2: 442، و المستدرك 3: 149.
2- عبارة صاحب التعجّب في هذا المعنى أفضل و المؤلّف ألمّ بالمعنى و خالف باللفظ، قال (ص 41): و من عجيب أمرهم أنّهم يسمّون أنفسهم بالسنّة و قد غيّروها و بدّلوها و استحدثوها بآرائهم و عقولهم ما ليس منها، و يدّعون أنّهم أهل الجماعة مع أقوالهم المختلفة و قياساتهم المتضادّة، و تكون الشيعة عندهم أهل بدعة و أقوالهم متّفقة و معهم النصّ في كلّ حاجة.

كالكعبة أقصد و لا أقصد، و مع هذا فلي برسول اللّه أسوة حسنة (1).

و نقول أيضا: لمّا علم عليه السّلام أنّ القوم بغاة فلا تؤثّر فيهم الدعوة لزمه حينئذ ترك الدعوة كما فعل هارون في قوم موسى أي بني إسرائيل، و الدليل على ذلك أنّه عليه السّلام لمّا وجد أنصارا بعد مقتل عثمان دعا إلى نفسه و حاربهم.

مسألة: أمّا كونه لم يغيّر أحكامهم فإنّه بسبب عجزه عن ذلك و قد صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشركين في الحديبيّة لوم يختلف معهم و لم يخالفهم.

و في يوم قتل فيه عثمان استخفى الإمام عن الناس في حائط بالمدينة لئلّا يقول الناس أنّه راغب في الأمر و طلبه لنفسه، فلمّا فرغ الثائرون من أمر عثمان أقبلوا إليه يطلبونه و غلبوه على أمره فأظهر الامتناع من القبول، فهدّدوه بالقتل إن أبى، و عبّر الإمام عن ذلك بهذه العبارة: حتّى أتى الحسنان و شققت أعطافهم و قيل لي: إن لم تجبنا ألحقناك بابن عفّان، و الحقّ أنّ عليّا لم يزل خائفا حتّى و افاه الأجل (2).

مسألة: حكم عمر في قضيّة واحدة أحكاما عدّة لا يشبه الواحد منها الآخر، و قال له

ص: 112


1- روي هذا القول بسياقات مختلفة و إليك الكتب التي أخرجته من الفريقين: بحار الأنوار 28: 289 و 329، الغدير 5: 343، شرح نهج البلاغة 1: 160 و 9: 196، الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 84 و فيه بعض سياق المؤلّف و نسبه السيّد للخاصّة، الإمامة و السياسة لابن قتيبة 1: 21 و 1: 12 الأوّل تحقيق الشري، و الثاني تحقيق الزيني، الجمل للشيخ المفيد، النزاع و التخاصم للمقريزي: 78، تقوية الإيمان لمحمّد بن عقيل: 205، و بالطبع اختلفت ألفاظ هذه الرواية و لم يرد سياق المؤلّف إلّا بعض منه عند ابن معصوم.
2- المذكور في نهج البلاغة: فما راعني إلّا و الناس عليّ كعرف الضبع حتّى لقد وطأ الحسنان و شقّ عطفاي، و المؤلّف هنا غيّر الكلام و لم نعلم من أين أخذه فصيّر الشقّ إشفاق و ترجمه ب «ترسيدم» و العطف لم يترجمه بل صيّر الجملة هكذا «و ترسيدم از اعطاف ايشان» و لا أعرف ماذا يقصد بها.

يوما رجل و قد حكم في قضيّة: أصبت و اللّه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: و ما يدريك أنّني أصبت فو اللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ (1).

و قال عمر: إنّي أستحيي من اللّه أن أخالف أبا بكر، قال عمر هذه الجملة بعد أن أفتى في الكلالة و قال: هم الورثة غير الأولاد و الأبوين، و خالف أبا بكر في ذلك، و خالفه في مأة قضيّة، كما أنّه في أهل الردّة كان على خلاف مع أبي بكر و لا بدّ من كون أحدهما مصيبا و الآخر مخطأ، لأنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا، و لا حياء في قول الحقّ أو فعله (2).

و لمّا سئل أبو بكر عن معنى الأب، قال: أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا قلت بآية من كتاب اللّه بغير ما أراد اللّه (3).

و لمّا سئل عن الكلالة، قال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمن قلبي، الكلالة ما دون الولد و الوالدين (4).

ص: 113


1- جاءت الرواية في المسترشد للطبري الشيعي على النحو التالي: قدم نصر بن عبد اللّه الثقفي على عمر من الطائف و معه ناس من أصحابه، فقال لهم: لا تبدؤوا أمير المؤمنين بشي ء حتّى يسألكم، فجائه رجلان يختصمان فحكم بينهما فقالا: أصبت أصاب اللّه بك، فقال عمر: و ما يدريكما فو اللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ .. ص 541.
2- لا حصر في هذين الأمرين إذ قد يكون كلاهما على باطل، كما لو قال زيد: العشرة تنقسم إلى ثلاث خمسمات و قال الآخر لا بل إلى أربعة.
3- العين العبرة لابن طاووس: 9، المستجاد من الإرشاد للحلّي: 116، تفسير القرطبي 1: 34، و نقل عن أبي بكر الأنباري قوله: و قد كان الأئمّة من السلف الماضي يتورّعون عن تفسير المشكل من القرآن الخ، ثمّ ساق الخبر غير إشارة إلى أبي بكر و عمر، تذكرة الحفّاظ للذهبي 1: 3 و صاغ الرواية صياغة أخرى تحرز كرامة أبي بكر، كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 69.
4- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 206، مناقب ابن شهر آشوب 1: 312، بحار الأنوار 4: 149.

الباب التاسع عشر في غلوّهم في حبّ الصحابة

اعلم بأنّ القوم نسبوا الكفر و الزندقة إلى اللّه تعالى و وضعوا الأنبياء في مقام الفاسقين و الفاجرين كآدم و يونس و نوح و إبراهيم و يوسف و يعقوب و موسى و هارون و داود و سليمان و إدريس و أيّوب عليهم السّلام، فقد نسبوا إلى كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء ما قدروا عليه من المعاصي، لا سيّما ما نسبوه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الهوس الجنسيّ بالنساء و أشياء أخرى لا يحلّ ذكرها و هي مستقبحة جدّا، و قائلها من أهل السنّة و الجماعة بجميع أبعاده، و ينسبون الرفض إلى من نزّه اللّه سبحانه و اعتقد العصمة للأنبياء، و يرونه عدوّا لهم، و هذا من فرط محبّتهم للصحابة، و يبرؤونهم من الظلم الذي لحق بأهل البيت منهم، و لا يؤمنون بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1) و قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (2) و أمثال هذه الآيات، و ذلك من أجل الصحابة لأنّهم أهل خطأ و عصيان، و كانوا مشركين فرجعوا عن الشرك إلى الإسلام

ص: 114


1- آل عمران: 33.
2- ص: 47.

فينسبون المعصية إلى الأنبياء ليدرؤوا العيب عن الصحابة و يصحّحون أخطائهم، و يهوّنون معاصيهم و ذنوبهم، و يتمسّكون بالمتشابه من القرآن لدفع غائلة الشيعة عنهم، و ما علموا أنّ اللّه تعالى قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)، و لا يرون العقل حجّة و يتمسّكون بآراء الرجال و بالقياس لقصور علمهم و كثرة جهلهم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأنهم: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد ما يفارقني (2).

و هم الذين تركوا خطبة النبيّ أثناء صلاة الجمعة كما قال تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً (3)، و كانوا يضحكون و يسخرون وراء رسول اللّه و هم في صلاة الجماعة.

و تقاعدوا عن حرب بدر و كرهوا القتال حتّى أنزل اللّه في حقّهم: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (4).

و كانوا بمكّة يستحثّون النبيّ على الحرب و الرسول يأبى، و لمّا نزل الجهاد في المدينة كرهوه و أبوه حتّى نزل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (5).

و كانوا مصداق الآية التالية فقد كانوا أمام رسول اللّه يظهرون بمظهر الأمانة

ص: 115


1- آل عمران: 7.
2- سبق تخريج هذا الحديث بصيغه المختلفة.
3- الجمعة: 11.
4- الأنفال: 5 و 6.
5- النساء: 77.

و لكنّهم يخونونه في السرّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1).

و تركوا الجهاد و طمعوا بالغنائم كما قال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (2). و قال تعالى: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3).

و في حرب الخندق كذّبوا بوعد رسول اللّه و شكّوا به، فأنزل اللّه تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلى قوله: إِلَّا غُرُوراً (4).

و عاهدوا اللّه تحت الشجرة أن لا ينهزموا فكانت هزيمتهم أظهر من الشمس كما فعلوا في حرب خيبر: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (5).

و هربوا عن رسول اللّه في حرب حنين و تركوه مع سبعة أو تسعة من أصحابه بيد العدوّ و ولّوا الأدبار: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (6).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لتتبعنّ سبيل الذين من قبلكم شبرا شبرا و ذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم، فقالوا: اليهود و النصارى؟ قال: فمن إذن (7).

ص: 116


1- الأنفال: 27.
2- الأنفال: 67.
3- الأنفال: 68.
4- الأحزاب: 10- 12.
5- الأحزاب: 15.
6- التوبة: 25.
7- للحديث صيغ متعدّدة و إليك تخريجه عند الفريقين: الاقتصاد للطوسي: 213، الرسائل العشر: 127، دعائم الإسلام للقاضي نعمان 1: 1، خاتمة المستدرك 1: 158، الإيضاح: 210، المسترشد للطبري الشيعي: 229، مسألتان في النصّ على عليّ للمفيد 2: 30، سعد السعود لابن طاووس: 64. و من كتب السنّة: صحيح البخاري 8: 151، صحيح مسلم 8: 58، سنن ابن ماجة 2: 1322، المستدرك للحاكم 1: 37 و 129 و 4: 455، مجمع الزوائد للهيثمي 7: 260 و 261 بطريقين، مسند الطيالسي: 289، المصنّف للصنعاني 11: 369، بغية الباحث للحارث بن أبي أسامة، كتاب السنّة لابن عاصم: 36 و 37، مسند أبي يعلى 11: 182، صحيح ابن حبّان 15: 95، المعجم الكبير 6: 186 و 17: 13، شرح ابن أبي الحديد 9: 286، الجامع الصغير للسيوطي 2: 401، كنز العمّال 1: 211 رقم 1059 و غيرها كثير.

و قال في حقّهم أيضا: سيجي ء برجال من أمّتي فيؤخذ ذات الشمال، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم، و منه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1)، و قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (2) الآية.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بينا أنا على الحوض إذ مرّ منكم زمر فتفرّق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلمّوا إلى الطريق، فنادى مناد: إنّهم بدّلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا ألا سحقا.

و قال قبل وفاته مرارا: جهّزوا جيش أسامة، فلم يفعلوا لئلّا تفوتهم فرصة الخلافة.

و قال في مرضه: آتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي، فقال عمر:

دعوه فإنّه يهجر في مرضه.

و هؤلاء الذين أظهروا الإيمان و الإسلام لم يكونوا في الباطن كما هم عليه في الظاهر، و لمّا كان عذاب نساء النبيّ في حال ارتكابهنّ للفاحشة مضاعفا لقربهنّ

ص: 117


1- آل عمران: 144.
2- الآية نفسها.

من النبيّ كان عذاب الصحابة كعذابهنّ لأنّ سبب المضاعفة واحد، قال اللّه تعالى:

يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (1) و يقولون: إنّ بعضهنّ تبن ممّا جرى منهنّ، و لكن الكفر مشهور، و التوبة مظنونة، و المقطوع به لا يعارضه المظنون.

قال اللّه تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (2)، و قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3).

ردّوا الجهّال إلى السنّة و عليكم بالمجمع عليه فإنّه لا ريب فيه (4).

و ينكرون العقل و الشرع في الحكم بالجنّة لعائشة و حفصة بمجرّد إثبات الزوجيّة لهنّ، ألا يعلمون ما قاله اللّه تعالى في امرأة نوح و امرأة لوط: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ (5) و اسم امرأة نوح والعة، و اسم امرأة لوط والهة، و دخل كلاهما النار و لم تغن عنهما نبوّة زوجيهما.

و جائت هذه الآية في حقّ ابن نوح: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (6).

ص: 118


1- الأحزاب: 30.
2- الإسراء: 36.
3- الزخرف: 86.
4- ورد الحديث في الكافي على النحو التالي: خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. و هذا القول من المؤلّف مأخوذ من كلام للكراجكي في المعنى، قال: و أحسن أحوالها- ما ورد في توبة القوم- أن توجب الظنّ لسامعها من غير علم و يقين يحصل بها، و ينتقلون بها من اليقين إلى الظنون، و ينصرفون من المعلوم إلى المجهول، يوالون بالظنّ من عاداه باليقين (التعجّب: 30).
5- التحريم: 10.
6- هود: 46.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة بنت محمّد، اعملي فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا. يا عبّاس، يا عمّ رسول اللّه، اعمل فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا (1).

و خاطب الأمم و هو على المنبر: أيّها الناس، لا يدّع مدّع و لا يتمنّى متمنّ و الذي بعثني بالحقّ نبيّا لا ينجي عمل إلّا مع رحمة اللّه، و لو عصيت لهويت، اللهمّ هل بلّغت- قالها ثلاثا- و هؤلاء لا تظلّهم هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ- إلى- عَشِيرَتَهُمْ (2).

و من عجب أنّهم يكرهون خروج فاطمة عليها السّلام من بيتها إلى مسجد أبيها و لا تعدل المسافة خمسة أذرع، تطالب بحقّها في فدك، و يحسنون خروج عائشة مع عشرة آلاف مقاتل من الرجال من اقليم إلى اقليم، و يصوّبون فعلها، و يرون أنّها تائبة، فبعدا للقوم الظالمين.

و من العجب قول المعتزلة أنّ سلمان قبل ولاية المدائن من عمر و هذا دليل على صحّة إمامة عمر (3).

ص: 119


1- تجد صيغة لهذا الحديث فيها اختلاف مع صيغة المؤلّف؛ أحاديث عائشة 2: 295.
2- المجادلة: 22.
3- ورد هذا القول في التعجّب بصورة أحلى و أجلى: و من عجيب أمر المعتزلة و ظاهر مناقضتهم أنّهم يجعلون تصرّف بعض وجوه الشيعة في الصدر الأوّل من قبل عمر بن الخطّاب في الظاهر دليلا على موالاتهم القوم في الباطن كولاية سلمان المدائن و عمّارا الكوفة، و يقولون: لو لم يتوالوهم و يعتقدوا صوابهم ما تصرّفوا تحت واحد منهم و لا تولّوا عملا من قبل من هو ظالم عندهم، و لا يلتفتون مع هذا إلى اعتقادهم أنّ الخيرة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تصرّفوا من قبل معاوية بن أبي سفيان و أظهروا اتّباعه و سمّوه بإمرة المؤمنين و عظّموه و أجلّوه و معاوية عند جميع المعتزلة ظالم فاسق يستحقّ الخلود في نار جهنّم، و يعلمون أنّه عقد لابنه يزيد الإمارة على وجوه الصحابة في حياته. و أنفذهم إلى قتال الروم تحت رايته حتّى بلغوا قسطنطنيّة ممتثلين أمره، منقادين إلى طاعته، متصرّفين تحت حكمه و تدبيره، منهم عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن عمر .. الخ. (ص 32).

مسألة: معاوية في مذهبنا كافر و في مذهبهم فاسق، و كان الصحابة بأجمعهم يعظّمونه و يدعونه بأمير المؤمنين، و كانوا يقبلون ولايته على الولايات و الأقاليم، و ذهبوا إلى قتال الروم تحت إمرة يزيد و بلغوا القسطنطينيّة منهم عبد اللّه بن العبّاس و عبد اللّه ابن عمر و عبد اللّه بن الزبير و أبو أيّوب الأنصاري و أبو هريرة و عمرو بن العاص و أمثالهم، و كان أبو هريرة قاضيا لمعاوية و واليا على المدينة من قبله و غالب بن فضالة واليا على خراسان و المغيرة بن شعبة على الكوفة و سمرة من قبل عبيد اللّه بن زياد على البصرة (1)، و العجب أنّهم لا يقيمون العذر عن هؤلاء و لا يستدلّون بهم على إيمان معاوية و إسلامه لأنّه كافر عند جماعة من المعتزلة «و أنا أيضا على ذلك من الشاهدين» و نستنتج من ذلك أنّ وضع سلمان مع عمر بن الخطّاب كوضع أولئك مع معاوية.

ص: 120


1- تابع هذا الكلام عند الكركيّ ثمّ اعجب من المؤلّف الذي لم يشر إلى المصدر بحرف واحد و قد أخذ كلّ هذا منه: و كذلك جماعة ممّن يفضّلهم المعتزلة قد تصرّفوا من قبل معاوية مثل أبي هريرة في ولايته على المدينة، و غالب بن فضالة الذي تولّى إماره خراسان و المغيرة بن شعبة الذي كان أميرا على الكوفة و سمرة الذي كان أميرا من قبل زياد على البصرة، و كلّ ما علم من تصرّف شيوخ المعتزلة من قبل الولاة الظلمة في قضاء و عمّاله بل يقيمون لهم المعاذير و يخرجون لهم الوجوه التي لا تجد مثلها في تولّي سلمان و عمّار من قبل عمر بن الخطّاب ... الخ. (ص 32).

الباب العشرون في أسمائهم و صفاتهم

اشارة

و هم يدّعون بأنّ ولائهم لأهل البيت أكثر من ولاء الشيعة، و مودّتهم تزيد على مودّتهم لهم، و مع هذا فهم ينبزون بالرفض من يذكر منقبة من مناقب أهل البيت أو فضيلة من فضائلهم، و إذا نسبها إلى شيوخهم صدّقوه و قالوا: حرام ذكر تقديم ذكر عليّ على الشيوخ.

و روي أنّه قال رجل لعليّ عليه السّلام: أحبّك و أتولّى عثمان، فقال له: الآن أنت أعور فإمّا أن تعمى و إمّا أن تبصر (1).

و إذا سمعوا من يقول: اللهمّ العن ظالمي آل محمّد، يغضبون و يقولون: هذا تعريض و رفض و تشرّد و بغض و المسلم لا يكون لعّانا، و الأفضل من اللعن التسبيح، و مع ذلك يلعنون الشيعة اللعن الصريح .. (2) (و يقولون اللعن حرام و التسبيح أولى من اللعن، و يلعنون الشيعة و المعتزلة .. المؤلّف).

و من عجيب أمرهم و ظاهر بغضهم لأهل البيت عليهم السّلام أنّهم إذا ذكروا الإمام الحسن بن عليّ عليه السّلام الذي هو ولد رسول اللّه و ريحانته و قرّة عينه و الذي نحله

ص: 121


1- الصوارم المهرقة: 248.
2- التعجّب: 42.

الإمامة و شهد له بالجنّة حذف من اسمه الألف و اللام و يقال: حسن بن عليّ و لأولاده أولاد حسن استصغارا له و احتقارا لذكره، ثمّ يقولون مع ذلك: الحسن البصري، فيثبتون في اسمه الألف و اللام إجلالا له و إعظاما و تفخيما لذكره و إكراما، و ذلك أنّ هذا البصري كان متجاوزا عن ولاية أهل البيت عليهم السّلام و هو القائل في عثمان قتله الكفّار و خذله المنافقون، و لم يكن في المدينة يوم قتله إلّا قاتل أو خاذل، فنسب جميع المهاجرين و الأنصار إلى الكفر و النفاق (1).

و حاصل الكلام أنّهم لو كانوا يحبّون أهل البيت لم يحملوا في قلوبهم هذه العداوة لهم و لا بدّ من أن يكون الصديق صديق الصديق و هنا نرى القضيّة بعكس ذلك «و الحسن البصريّ تخلّف عن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (تخلّف عن عليّ و الحسن و الحسين و لمّا وقف على واقعة الحسين خرج مع قتيبة بن مسلم في جند الحجّاج إلى خراسان ..- المؤلّف) (2).

و يقال أنّ في ديار العرب مدينة تسمّى قرطبة يأخذ شبابها في ليلة العاشور رأس بقرة ميتة و يجعلونه على عصى و يحمل و يطاف به في الشوارع و قد اجتمع حوله الصبيان يصفقون و يلعبون و يقفون به على أبواب البيوت (و يغنّون) و يقولون: يأمسه العروسة اطعمينا المطنفسة، يعنون القطائف، و أنّها تعد لهم

ص: 122


1- لمّا أخذ المؤلّف محتوى كلامه كلّه من كتاب التعجّب آثرنا عبارة صاحب التعجّب لأنّها أكثر تأدية للمعنى، و عبارة المؤلّف قاصرة و إليكها: و إذا ذكروا الحسن و الحسين حذفوا من اسميهما الألف و اللام تحقيرا، فإذا ذكروا اسم الحسن البصريّ ألصقوا به الألف و اللام لأنّ الحسن البصري من أعداء أهل بيت النبيّ .. الخ. راجع التعجّب ص 43 و قارن بعبارة المؤلّف.
2- التعجّب: 43 و لم يذكر واقعة الحسين التي ذكرها المؤلّف و ربط بها خروج الحسن مع قتيبة بل قال: ثمّ خرج مع قتيبة بن مسلم في جند الحجّاج إلى خراسان ... الخ و ما الذي يقصده المؤلّف في واقعة الحسين: هل يريد واقعة كربلاء فأين هي من زمن الحجّاج، و الذي أراه أنّ الخطأ من الناسخ و قد سقطت جملة أو جملتان من العبارة.

و يكرمون و يتبرّكون بما يفعلون ... و يعنون به رأس الحسين (1)، و المشهور أنّ سنّة العراق و خراسان يكتحلون يوم عاشوراء و يطبخون الحبوب من سبعة أصناف و يطبخون الطعام الفاخر المتنوّع و يتزيّنون بألوان الزينة و يلبسون أفضل الثياب، و هذا هو الحبّ الذي حدّثونا عنه حيث يجعلون اليوم الذي قتل فيه آل الرسول يوم فرح و استبشار و يسمّونه عيدا مع وجود آية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) في القرآن يتلونها و لكنّهم لا يعملون بها لأنّ أئمّتهم لشدّة عداوتهم لأهل البيت يزعمون أنّها من المنسوخ و هذه الآيه تكذب ما ادّعوه لأبي بكر من أنّه أنفق ماله على رسول اللّه و على أصحابه.

بيّنة: لا يزال أولاد قتلة الحسين معروفين بالشام إلى اليوم و هم معظّمون و مكرّمون عندهم بمثابة سادات بني هاشم فمنهم في الشام بنو السراويل لأنّ جدّ جدّهم نهب سراويل الحسين عليه السّلام.

و بنو السرج و هم أولاد الذين أسرجوا خيولهم و داسوا صدر الإمام و كسروا عظامه، و وصل بعض هذه الخيل إلى مصر فقلعت نعالها من حوافرها و سمّرت على أبواب الدور للتبرّك بها و جرت بذلك السنّة عندهم حتّى صاروا يتعمّدون على نظيرها على أبواب دور أكثرهم.

و بنو سنان و هم أولاد الذي حمل الرمح الذي على سنان رأس الحسين عليه السّلام.

و بنو الملحي و هم الذين ذروا الملح على جسد الحسين.

و بنو الطشتي و هم الذين وضعوا رأس الإمام بالطشت.

ص: 123


1- نفس عبارة التعجّب: 44، و الحقّ أنّي أدركني التعجّب من المؤلّف لعدم إشارته إلى الكتاب.
2- الشورى: 23.

و بنو القضيبي و هم أولاد الذين أتوا بالسوط إلى يزيد لعنه اللّه ليضرب ثنايا الحسين و هي مقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و بنو الدرجي فأولاد الذي ترك الرأس في درج جيرون.

و بنو المكبّري فهم أولاد الذي كان يكبّر خلف رأس الحسين و هو بدمشق مع بني الملحي معروفون. و نظم شاعر هذا المعنى فقال:

جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدمترمّلا بدمائه ترميلا

و كأنّما بك يابن بنت محمّدقتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا و لم يترقّبوافي قتلك التنزيل و التأويلا

و يكبّرون بأن قتلت و إنّماقتلوا بك التكبير و التهليلا و قد بلغنا أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السّلام: إنّا لنحبّكم أهل البيت، فقال عليه السّلام:

أنتم تحبّونا حبّ السنّورة من شدّة حبّها لولدها تأكله.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة للخصومة .. (1).

و لا يحاولون مسائلة أنفسهم عن هذا الحقد على عليّ و أهل بيته ما سببه؟ و من أين أتاهم؟ و ما هي دواعيه التي حملتهم على لعنه على منابرهم ألف سنة فلم ينكر عليهم مسلم واحد، و لم يردّ عليهم بقول أو عمل، و لم يسائلهم عن المبرّرات المبيحة للعنه و كيف استحقّها، و هنا من يلعن ظالمي عليّ أو ينطق به لسانه يهبّون فورا لخصومته.

فصل

و من أعاجيبهم أنّهم زعموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ في جنبي عمر ملكين كامل البهائي ج 2 124 فصل ..... ص : 124

ص: 124


1- تجد هذا كلّه سوى الشعر موجودا في التعجّب (ص 46) فما قبلها، و ذكر ابن شهر آشوب أنّ الشعر لخالد بن معدان (المناقب 3: 363).

يسدّدانه و يتّقيه، و إنّ ملكا ينطق على لسانه مع أنّهم ينسبون إلى رسول اللّه و إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام و يبرؤون ساحة عمر من المعاصي لحبّهم إيّاه و لأنّهم غاية في الجهل، و تناسوا إسلامه يوم أسلم و هو سكران، و عبادته لثلاثمائة و ستّين صنما.

و في يوم الحديبيّه شكّ في نبوّة محمّد- كما مرّ- حتّى آذى النبيّ فاستقبل عمر قائلا له: أين كنتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم (و الرسول يدعوكم) (1) و يوم الأحزاب: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (2).

و لمّا راى عمر لعنه اللّه غضب رسول اللّه قال: أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، و اللّه يا رسول اللّه إنّ الشيطان ركب على عنقي، فكيف يركب الشيطان على عنق من بينى عينيه ملك (ملكان) يسدّده؟!

فلمّا كان يوم الفتح أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مفتاح الكعبة و قال: ادعوا لي عمر، فلمّا أتاه قال: أي عمر، هذا الذي كنت قلت لكم، و كذلك لمّا عرّف في حجّه الوداع أحضره و قال له مثل ذلك. و روي عن عمر أنّه قال: ما شككت مثل يومئذ (3) و هذا من العجب أنّ النبيّ يحتاج إلى الوحي و ملكان يلازمان عمر.

(و من عجيب أمرهم في مثل هذا دعواهم أنّ النبيّ قال:) إنّ اللّه ضرب الحقّ على لسان عمر و قلبه، فكيف يصحّ هذه الدعوى و قد تكلّم في إمارته في الحدّ بسبعين قضيّة يخالف بعضها بعضا، و قال: لا تغلوا في مهور النساء فتجاوزوا أربعمائة درهم حتّى قامت إليه امرأة فقالت: كتاب اللّه أحقّ أن يتّبع أم قولك؟ قال:

ص: 125


1- اقتباس من الآية 153 من سورة آل عمران.
2- الأحزاب: 10.
3- التعجّب: 59 و 60.

بل كتاب اللّه، فتلت عليه قول اللّه تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (1)، فقال لمّا استمع ذلك: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ أحد أفقه منك حتّى النساء (2) (و عند المؤلّف أنّ عمر قال): ما علمت بهذا. فقالت المرأة: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ واحد أفقه منك حتّى النساء.

و حكم يوما بين رجلين فقال أحدهما: أصبت يا عمر، فقال: لا يعلم عمر أصاب أم أخطأ بل اللّه يعلم ذلك.

و رووا عن النبيّ أنّه قال: ما من أحد إلّا و له شيطانان يلازمانه (3)، فاستبدلوا الملكين بالشيطانين الملازمين لعمر بن الخطّاب الحاضرين لدى عينيه، و لكن أين كان هذان الملكان يوم كان مشركا يعبد اللات و العزّى؟!

مسألة: و ممّا يقدح في عمر ما قاله في أهل الشورى التي لا يقولها أحد في أحد «و قال لكلّ واحد قولا لا يصحّ معه أن يرد إليه إمارة مدينة و لا تدبير ضيعة ..» (4)

ص: 126


1- النساء: 20.
2- التعجّب: 60.
3- المروي عن النبيّ و جاء في عوالي اللئالي 4: 97: ما منكم أحد إلّا و له شيطان، فقيل له: و أنت يا رسول اللّه؟ فقال: و أنا و لكن أعانني اللّه عليه فأسلم، و نسبه محقّق الكتاب إلى أحمد بن حنبل 1: 257 س 2 و قال: قيل معناه: إنّ شيطاني أسلم أي صار مسلما فلم يعارضني في شي ء، و قيل معناه: أنّي أسلم منه بإعانة اللّه تعالى لي عليه فلم يضرّني بشي ء، و كأنّه أراد بالشيطان هنا القوّة الوهميّة المخالفة لأحكام العقل كما تقوله أهل الإشارة، لأنّهم يقولون أنّ المراد بآدم العقل و بإبليس هو الوهم و المراد بالملائكة باقي القوى الإنسانيّة الظاهره و الباطنة، و المراد بالسجود الإذعان و الطاعة (ص 97). و أقول: فات المحقّق عن أن يسأل أهل الإشارة عن حوّاء و ما من شكّ سوف يقولون: إنّها النفس رجما بالغيب، إذ لا دليل على هذا إلّا الأوهام و التخرّصات.
4- التعجّب: 60. قارن بعبارة المؤلّف.

(لا يصحّ معه مع وجود هذه العيوب التي نسبها إليه أن يسند إليه إدارة بيت أو خوان طعام أو أتون حمّام، فما بالك بملك العالم- المؤلّف). و مع ذلك فقد عهد إليه بإدارة الحكم و إمامة الناس. فدعا طلحة و وصفه بالنخوة و الكبر، و الزبير بالجفاء، و قال عنه: مؤمن الرضا كافر الغضب، و وصف سعدا بأنّه صاحب مقنب و قتال، و أنّه لا يقوم بتدبير قرية (1) (و عبد الرحمان بضعفه- التعجّب) و وصف عثمان بأنّه يحمل أهله على رقاب الناس و قال: إنّ روثة خير منه، و وصف عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بأنّه ذو لطافة و فكاهة (و بطالة) يقول هذه الجمله الخبيثة في إمام معصوم مفترض الطاعة على العالم، و كان يقول- و عليّ حاضر و الحسنان و العبّاس- دائما:

لو كان سالم مولى حذيفة ابن اليمان حيّا ما يخالجني فيه الشك (و بحضرته أمير المؤمنين و العبّاس فتخالجه الشكوك فيهما ..) و لم يدركه الحياء من أهل بيت النبيّ مع عصمتهم و طهارتهم و جعل الأمر شورى بين المسلمين فلا هي من اللّه و لا من رسوله.

و أعجب من هذا ما قاله في مرشّحيه للخلافة: إن اختلفوا ثلاثة و ثلاثة فالحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان و اقتلوا الثلاثة الأخرى!! (لأنّه يعلم أنّ هوى عبد الرحمان مع عثمان و ليس مع عليّ عليه السّلام لأنّ بين الاثنين عبد الرحمان و عليّ عداوة، و بينه و بين عثمان صداقة و صهر، و قال: اقتلوا التي ليس فيهم عبد الرحمان، فهل هذا إلّا قصد لقتل عليّ ... (2)).

ص: 127


1- أخطأ المؤلّف في فهم العبارة فترجم المقنب بالمقت أي الكره، و القتال بسوء الأفعال هكذا: «و سعد را صفت كرد به مقت و افعال بد!!» راجع ص 89 من الكامل و ص 60 من التعجّب. و المقنب جماعة الخيل و الفرسان، و قيل هي دون المائة، و تقرأ بالكسر. لسان العرب 1: 690 بتصرّف.
2- هذه عباره المؤلّف و هي نفس عبارة التعجّب لكن بإجراء شي ء من التغيير، راجع ص 60 من التعجّب.

و أعجب منه حين يأمر بقتل جماعة يزعمون أنّهم من أهل الجنّة بدون ذنب جنوه و لا جريمة ارتكبوها: إنّها الجرأة على الدماء و على محظورات الدين.

و من العجب قوله الحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان مع سماعه قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور حيثما دار (1).

ص: 128


1- شرح ابن أبي الحديد 9: 88 و 18: 72.

الباب الواحد و العشرون في بعض فوائد كتاب الفتوح لأبي محمّد أعثم الكوفي

اشارة

اعلم: أنّ ابن الأعثم من علماء أهل السنّة و هو متعصّب لهم إلى الدرجة التي يقول فيها في كتاب الفتوح هذه رواية أهل السنّة و لا أروي الروايات الأخرى لأنّي أخشى أن تقع بيد الشيعة فتكون حجّة علينا.

و يقول في أوّل كلام السقيفة إسنادا إلى الهيثم مالك بن التيّهان الأنصاريّ (1) أنّ رسول اللّه لمّا توفّي شمت فيه اليهود و النصارى و أظهر المنافقون الذين كانوا حول المدينة مردوا على النفاق نفاقهم وهبوا لإتلاف الدين و لكن لم يشر إلى هؤلاء المنافقين من أيّ فرقة هم، أمّا عبد اللّه بن سلول فقد هلك في عهد النبيّ و قد أخبر

ص: 129


1- يبدأ كتاب الفتوح بقول المؤلّف: الحمد للّه ربّ العالمين و العاقبة للمتقين و لا عدوان إلّا على الظالمين و صلّى اللّه على سيّدنا و نبيّنا محمّد خاتم النبيّين و المرسلين و على آله و صحبه أجمعين: إنّ رسول اللّه لمّا توفّي قام بالأمر بعده الإمام أبو بكر الصدّيق و قد بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه النبيّ بسقيفة بني ساعدة ... الخ، و لم يذكر ابن التيّهان الأنصاريّ هذا. راجع الفتوح 1: 3 ط دار الكتب العلميّة 1406- أولى، تقديم و تعليق نعيم زرزور، و الكتاب طالته يد التحريف و غيّرت حتّى عباراته و وردت فيه كلمة مليون و هي كلمة لم تعرفها العربيّة إلّا في العصر الحديث.

اللّه تعالى عن هذا الوضع بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ- إلى قوله- فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1) و نظير هذه الآية فتبيّن من هذا أنّ ظهور النفاق لم يكن سوى أبي بكر و جماعته، فقال قال: أيّها الناس (من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات) ... ألا و إنّ محمّد قد مضى لسبيله و لا بدّ لهذا الأمر من قائم يقوم فدبّروا و انظروا و هاتوا رأيكم (رحمكم اللّه) فناداه الناس من كلّ جانب: نصبح و نظر في ذلك إن شاء اللّه.

فلمّا كان من الغد انحازت طائفة من المهاجرين إلى أبي بكر و انحازت طائفة من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة و جلس عليّ بن أبي طالب مغموما بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عنده نفر من بني هاشم و فيهم الزبير بن العوام (2).

ثمّ قال: و كان أوّل من تكلّم يومئذ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و قال: يا معاشر الأنصار، إنّكم إذ قدّمتم اليوم ... (3) (قريشا) صاروا مقدّمين عليكم إلى يوم القيامة (و أنتم الأنصار في كتاب اللّه تعالى و إليكم كانت الهجرة، و فيكم قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله) فأجمعوا أمركم على رجل تهابه قريش و تأمنه الأنصار. قال: فقالت الأنصار: صدقت يا خزيمة، إنّ القول لعلى ما تقول: رضينا بصاحبنا سعد بن عبادة ....

ثمّ وثب أسيد بن حضير الأنصاريّ الأوسيّ (و نصح نصائحه ثمّ قال:) إنّ هذا الأمر في قريش دونكم فمن قدّموه فقدّموه، و من أخّروه فأخّروه، قال: فوثب إليه نفر من الأنصار فأغلظوا له في القول و سكّتوه فسكت.

ص: 130


1- آل عمران: 144.
2- الفتوح 1: 3 و 4.
3- قال الناشر: بياض في الأصل.

ثمّ وثب بشير بن سعد الأنصاريّ الأعور و كان أيضا من أفاضل الأنصار- فقال: (إنّما أنتم بقريش و قريش بكم، و لو كان ما تدّعون حقّا لما اعترض عليكم فيه، فإن قلتم بأنّا آوينا و نصرنا فما أعطاهم (اللّه) خير ممّا أعطيتم فلا تكونوا كالذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم، الآية. (و كان يميل لتقديم قريش).

ثمّ وثب عويمر بن ساعدة الأنصاريّ- و هو من الذين أنزل اللّه فيهم في مسجد قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (1)- فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من قاتل عن هذا الدين فلا تكونوا أوّل من قاتل أهله عليه، فإنّ الخلافة لا تكون إلّا لأهل النبوّة فاجعلوها حيث جعلها اللّه (جعلوها) فإنّ لهم دعوة إبراهيم.

قال: ثمّ وثب معن بن عدي الأنصاري فقال- و كان هواه في أبي بكر-: (يا معشر الأنصار، إن كان هذا الأمر لكم من دون قريش فخبّروهم بذلك حتّى يبايعوكم عليه، و إن كان لهم من دونكم فسلّموا لهم فو اللّه! ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى صلّى بنا أبو بكر فعلمنا أنّه رضيه لنا لأنّ الصلاة عماد الدين (2)؟

فبينا الأنصار كذلك في المحاورة إذ أقبل أبو بكر و عمر و عثمان و أبو عبيدة بن الجرّاح و جماعة من المهاجرين فإذا هم بسعد بن عبادة قد زمل بالثياب في سقيفة بني ساعدة من علّة كان يجدها في بدنه، قال: فقعد المهاجرون و سكتوا ساعة لا يتكلّمون بشي ء، فتكلّم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ... فقال: يا معاشر

ص: 131


1- التوبة: 108.
2- أعرض المؤلّف عن هذا الكلام و لقد أجاد في ذلك لأنّ أبا بكر لم يأمره النبيّ بالصلاة و هذا كلام موضوع.

المهاجرين، لقد علمتم و علمنا أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و كان في بدء أمره مقيما بمكّة على الأذى و التكذيب لا يأمره اللّه عزّ و جلّ إلّا بالكفّ و الصفح الجميل، ثمّ أمره بعد ذلك بالهجرة و كتب عليه القتال، و نقله من داره، فكنّا أنصاره و كانت أرضنا مهاجره و قراره، ثمّ إنّكم قدمتم علينا فقاسمناكم الأموال، و كفيناكم الأعمال، و أنزلناكم الديار، و آثرناكم بالمرافق؛ فنحن أنصار اللّه و كتيبة الإسلام.

إلى أن قال: و قد خرج من الدنيا و لم يستخلف رجلا بعينه و إنّما و كل الناس إلى ما وكلهم اللّه إليه من الكتاب و السنّة الجامعة، و اللّه تبارك و تعالى لا يجمع هذه الأمّة على الضلال ... (1).

جواب: إذا كان النبيّ توفّي و لم يستخلف فكيف صار أبو بكر أولى بها من بني هاشم و الأنصار؟! فإن كان قرشيّا فإنّ عليّا قرشيّ و هاشميّ و عالم. و أبو بكر ليس بهاشميّ.

جواب آخر: فمن دعاه خليفة رسول اللّه فقد كذب على رسول اللّه لأنّه خليفة الصحابة فينبغي أن يخاطب بهذا الاسم و إلّا فإنّه مسئول يوم القيامة عن هذه التسمية بالضرورة: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (2).

نعود إلى قصّة السقيفة: فلمّا فرغ ثابت بن قيس من كلامه أقبل عليه أبو بكر فقال: يا ثابت، أنتم لعمري كما وصفت به قومكم لا يدفعهم عن ذلك دافع، و نحن الذين أنزل اللّه فينا: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا

ص: 132


1- الفتوح 1: 4 و 5 و 6.
2- الصافّات: 24.

مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (1) و قد أمركم اللّه في آية أخرى أن تكونوا معنا حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (2).

جواب: وصف اللّه تعالى المهاجرين هنا بالفقراء و يزعم الخصوم أنّ أبا بكر لم يكن فقيرا بل كان موسرا متمكّنا، و مثله عثمان؛ لأنّ أبا بكر- كما يزعمون- أنفق أربعين ألف درهم في المدينة، و عثمان جهّز جيش العسره فهيّأ لهم عدّة الحرب من الزاد و الراحلة، و على هذا فمن يملك هذه الألوف من الدراهم و هذه القدرة على تجهيز جيش لا يعتبر من الفقراء، فعلم من هذا أنّ الآية لا تشملهما بناءا على ما ادّعاه الخصم لهما.

عجب من هؤلاء ينقلبون عند المباهات و المفاخره إلى موسرين و عند طلب الخلافة إلى فقراء؛ إمّا شاكرا و إمّا كفورا. فينبغي عليهم أن يثبتوا على حالة واحدة لكي نجيبهم و إلّا فإنّ الترك للتناقض.

جواب: قال: «و ينصرون اللّه و رسوله» متى نصر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ هل كان النبيّ يأوي إلى بيته مند الصغر حتّى بلغ الأربعين؟ و هل كان في زمن الحصار في الشعب عنده؟ و هل أعان على الحرب كبدر و حنين و أمثالهما؟ حاشا و كلّا بل كان في كلّ الحروب عاجزا مقهورا مولّيا للدبر هاربا «يولّون الدبر». فإن عدنا إلى طفولة

ص: 133


1- الحشر: 8.
2- التوبة: 119.

النبيّ فإنّ كافليه والدا عليّ عليهم السّلام أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) أي- و اللّه أعلم- أنّ عمّك أبا طالب آواك و خطب لك خديجة للتقوّى بمالها وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (2).

و في حصار الشعب كان ناصره أبا طالب و جعفرا الطيّار أخا عليّ عليهم السّلام، و أغنى عليّ بنفسه في الحروب كلّها (3) وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (4) بعليّ بن أبي طالب عليهما السّلام.

و إذا أراد بهذه النصرة ما كان بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه ذهب يلاطم على الملك و ترك رسول اللّه على المغتسل و لم يشهد جنازته لئلّا تفوته الفرصة، فمتى نصر رسول اللّه؟ و أيّ يوم من هذه الأيّام نصره به؟

جواب آخر: و قال: إنّ لي شيطانا يعتريني، و من كان بهذه الصفة فكيف يصنّف مع الصادقين مطلقا، و المراد من الصادق من صدّق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هذه صفة مشتركة بينه و بين الأمّة، و الباري تعالى لا يأمر باتّباع الصادقين الذين يجوز عليهم الخطأ لعدم الثقة بقوله أو فعله لطروّ الخطأ عليهما، إذ من الجائز أن يكون كلّ ما قاله أو فعله محض خطأ و انحراف و معصية، و على هذا لا يصحّ أن يكونوا معه دائما فينبغي أن يكون هذا الحكم حكما مقيّدا- أي كونوا مع الصادقين- و لا دليل على تقييده بل الدليل قائم على إطلاقه كما هو ظاهر الآية.

و دليل ما أثبتناه عن أبي بكر كلامه حيث يقول: فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و لا جرم أن يكون على اعوجاج دائما لوجود هذا الشيطان الذي يعتريه، فتبيّن من هذا أنّ الصادقين هم المعصومون و هم عليّ و أهل بيته

ص: 134


1- الضحى: 6.
2- الضحى: 8.
3- ذكر المؤلّف بأنّها أربع و ثمانون حربا.
4- الأحزاب: 25.

بدليل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).

دليل آخر: الحديث الصحيح: من أراد أن يحيى حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى و لن يدخلكم في ضلالة.

و منه: إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على الصراط المستقيم (2) و أمثال هذه الأحاديث المرويّة في كتب القوم التي تجلّ عن العدّ و الحصر، المعبّرة عن عصمة عليّ و طهره.

فلمّا ثبت أنّ الفقراء المذكورين في الآية ليسواهم، ثبت أنّهم عليّ (و أولاده) عليهم السّلام و الدليل على ذلك ما ورد عن طريق الخصوم بأنّ عليّا تصدّق بثلاثة أقراص من الشعير فأنزل اللّه تعالى سورة هل أتى في حقّه، و أعطى عشرة دراهم و نزلت آية النجوى فيه، و أعطى أربعة دراهم و نزل قوله تعالى فيه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً (3) قيل: كان لعليّ أربعة دراهم فتصدّق بدرهم منها ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم علانية و بدرهم سرّا فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ

ص: 135


1- الأحزاب: 33.
2- الحاكم 3: 128 و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، المعجم الكبير للطبراني 5: 194، كنز العمّال 11: 611 رقم 32960، خصائص الوحي المبين لابن البطريق: 30، التفسير الصافي للفيض الكاشاني 2: 357. و أمّا الحديث: «إن ولّيتموها عليّا» فقد أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 142 و قال: و هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. و الحسكانيّ في شواهد التنزيل 1: 85 و ليس فيه صدر الحديث بل اقتصر على الصحيح و هو: «إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم».
3- البقرة: 274.

الآية، في حقّه، و لئن كانت الدراهم التي أنفقها يسيرة و لكن الآيات النازلة فيه كثيرة، و كلّها مقبولة عند اللّه تعالى.

نعود إلى قصّة السقيفة: فقال أبو بكر: و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين:

عمر بن الخطّاب أو أبا عبيدة بن الجرّاح فبايعوا أيّهما شئتم. قال: فقال ثابت بن قيس: يا معشر المهاجرين، أرضيتم بما يقوله أبو بكر؟ فقالوا: قد رضينا، فقال: يا هؤلاء، ليس ينبغي لكم أن تنسبوا أبا بكر لعصيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: و كيف ذلك؟ فقال: لأنّكم ذكرتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختاره و رضيه لكم في حياته فقدّمه للصلاة و لم يفعل ذلك إلّا و قد استخلفه عليكم فقد عصى أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخراج نفسه من الخلافة و قوله: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطّاب و أبا عبيدة بن الجرّاح «فكيف لكما قدوة اللتين» (1) و قد اختاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فضّله عليهما، و لعلّكم يا معاشر المهاجرين أنتم الذين عصيتم اللّه في شهادتكم على نبيّكم أنّه استخلف أبا بكر.

(فقال المهاجرون: لقد قدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصلاة و هي الإمامة أي إمامة الصلاة .. فقال ثابت: كان رسول اللّه مريضا و أبو بكر يصلّي بالناس، فلمّا سمع النبيّ صوته قام من مكانه إلى المسجد و ذهب إلى الصفّ الأوّل و تقدّم للصلاة و صلّى بالناس فكانت تلك الصلاة بإمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس بإمامة أبي بكر، فصدّقه المهاجرون بأجمعهم) (2).

فقال ثابت أو المهاجرون: لقد علمتم يا معشر الأنصار أنّ أوّل من عبد اللّه على وجه الأرض و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوليائه و عشيرته، و هم أحقّ الناس من بعده

ص: 136


1- قال الناشر: كذا في الأصل.
2- هذه الفقرة محذوفة من الكتاب.

بهذا الأمر (1) (و أولى بالتقديم). و هذه القصّة مذكورة في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفيّ و هي حجّة ظاهرة على بطلان دعواهم.

قال: فوثب الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاريّ و صاح في بني عمّه صيحة ثمّ قال: يا معشر الأنصار، انظروا لا تخدعوا عن حقّكم، فو اللّه ما عبد اللّه علانية إلّا في بلادكم، و لا اجتمعت الصلاة إلّا في مساجدكم- إلى أن قال- فإن أبى هؤاء القوم ما نقول، فمنّا أمير و منكم أمير.

قال: فوثب أسيد بن حضير و بشير بن سعد فقالا: بئس ما قلت يا حباب، و ليس هذا برأي أن يكون أميران في بلد واحد ... فقال الحباب: (و اللّه يا أسيد و يا بشير بن سعد ما أردت بذلك إلّا عزّكما ... فقال عمر: «اللّه واحد، والدين واحد، و الإسلام واحد، و الكتاب واحد، و النبيّ واحد، فينبغي أن يكون الإمام واحدا ..» (2) لأنّه إن جرى اليوم إمامان جرى غدا إمامان- إلى أن قال عمر- لا يصلح لها إلّا أبو بكر، فأنكر عليه الحباب قوله و راح يحرّض الأنصار على أخذها و تقديم سعد بن عبادة الخزرجيّ، و جرى بين عمر و حباب مهاترات و شتائم، فكان عمر يميل إلى أبي بكر، و هوى حباب في سعد.

إل أن قال عمر: ألم تسمعوا ما قاله رسول اللّه لكم: الأئمّة من قريش، و لا يكون هذا الأمر إلّا فيهم (3)؟ فقال بشير بن سعد: بلى و اللّه قد سمعنا ذلك (و لا نخالفه).

فقال أبو بكر: أحسنت رحمك اللّه و جزاك عن الإسلام خيرا، إنّي لست أريد هذا الأمر، هذا عمر بن الخطّاب (و هذا) عبيدة بن الجرّاح فأيّهما شئتم بايعوا (عمر أو أبا عبيدة).

ص: 137


1- الفتوح 1: 6 و 7.
2- لم يرد كلام عمر في الفتوح بل ورد معناه، راجع 1: 8، و لذا وضعناه بين هلالين و أمّا الكلام بعده فهو للفتوح.
3- هذا القول قاله معن بن أبي عدي الأنصاريّ في الفتوح 1: 10، و المؤلّف نسبه إلى عمر.

فقال عمر و أبو عبيدة: لا يتولّى هذا الأمر أحد سواك، أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين في الغار، و خليفة رسول اللّه على الصلاة، فمن ذا الذي يتقدّمك و يتولّى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك حتّى نبايعك.

فقال بشير بن سعد الأنصاري: و اللّه ما يبايعه أحد قبلي، ثمّ تقدّم بشير فصفق على يدي أبي بكر بالبيعة، فقال له الحباب بن المنذر: يا بشير، ما الذي أحوجك إلى ما صنعت؟ أنفست على ابن عمّك سعد بن عبادة أن يكون أميرا؟ فقال بشير:

لا و اللّه و لكنّي كرهت أن أنازع قوما حقّا جعله اللّه لهم دوني. قال: فضرب الحباب ابن المنذر يده إلى سيفه فاستلّه من غمده و همّ أن يفعل شيئا، فبادرت إليه الأنصار فأخذوا بيده و سكّنوه، فقال: أتسكّنوني و قد فعلتم ما فعلتم؟ أما و اللّه و كأنّي بأبنائكم و قد وقفوا على أبوابهم يسألون الناس الماء فلا يسقون.

قال: فقال أبو بكر: و منّي تخاف ذلك يا حباب؟ فقال: إنّي لست أخاف منك و لكنّي أخاف من يأتي بعدك. فقال أبو بكر: فإذا كان ذلك و رأيت ما لا تحبّ فالأمر في ذلك الوقت إليك. فقال الحباب: هيهات ذلك يا أبا بكر من أن يكون ذلك، إذا مضيت أنا و أنت و جاءنا قوم من بعد يسومون أبنائنا سوء العذاب و اللّه المستعان.

قال: و تابعه الأنصار بالبيعة لأبي بكر و انكسرت الخزرج خاصّة لما كانوا عزموا عليه من أمر صاحبهم سعد بن عبادة. قال: فازدحم الناس بالبيعة على أبي بكر حتّى كادوا أن يطئوا سعد بن عبادة بأرجلهم، فقال رجل من الأنصار: يا هؤلاء، اتّقوا سعدا فإنّه عليل شديد العلّة (و حمل سعد من السقيفة إلى بيته. قال:

و أقبل عبد الرحمان بن عوف الزهريّ حتّى وقف على جماعة من الأنصار فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم إن كنتم ما ذكرتم من الفضل و الشرف و النصرة فو اللّه لا ينكر لكم ذلك .. الخ.

ص: 138

فقال له زيد بن أرقم الأنصاري: يابن عوف! إنّا لا ننكر فضل من ذكرت و إنّ منّا لسيّد الخزرج سعد بن عبادة .. الخ. يابن عوف، لو لا أنّ عليّا بن أبي طالب رضى اللّه عنه و غيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها، فانصرف و لا تهيّج على أصحابك ما لا تقوم له.

قال: فانصرف إلى أبي بكر فخبّره بما كان من مقالته للأنصار و بردّهم عليه، فقال أبو بكر: لقد كنت غنيّا عن هذا، أن تأتي قوما قد بايعوا و سكتوا فتذكر لهم ما قد مضى (1).

جواب: هذا الذي قدّمناه هو رواية ابن أعثم الكوفي حرفا بحرف، و هو مخالف للإجماع المدّعى على خلافة أبي بكر، و مع هذا الجدال العنيف كيف يكون الإجماع حاصلا، مع أنّ الخزرج أنكروا خلافة أبي بكر حتّى موته و لم يكونوا حاضرين، و حال من حضر قد كشفه ابن الأعثم و قد سمعته و قرأته و حينئذ كيف يحصل الإجماع مع كثرة المخالفين.

و دلّ كلام زيد بن أرقم على رجوع الأمر إلى بني هاشم و الذين غلبوا الأنصار بدعوى القرب من النبيّ بالقرشيّة لم ينصفوا بني هاشم، و لم يراعوا كونهم أقرب منهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و الذي عليه الشيعة أنّ القوم ائتمروا بينهم متى توفّي النبيّ فإنّهم يغتنمون اشتغال بني هاشم فرصة و يثبون على الخلافة، و ما قاله أبو بكر من رضاه بأحد اثنين: عمر و أبي عبيدة للأمّة فإنّه لم يكن رضا بالمعنى الحقيقيّ بل القلب كاره لما قاله مع أنّ رضاه لم يرتض لأنّ أبا عبيدة لم ينل الحكم، اللهمّ إلّا أن نقول بأنّه الرضا لجلب

ص: 139


1- ابن أعثم، الفتوح 1: 11 و 12.

الأتباع و تكثير السواد و تطييب الخاطر، و غصب حقّ بني هاشم، أو أنّه التزوّد للآخرة بهذا الزاد الوبي ء. و صدق اللّه حيث قال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (1).

الفصل الأوّل

يقول ابن الأعثم: ثمّ أرسل أبو بكر إلى عليّ فدعاه فأقبل و الناس حضور، فسلّم و جلس ثمّ أقبل على الناس فقال لهم: دعوتموني؟ فقال عمر: دعوناك للبيعة التي قد أجمع عليها المسلمون. فقال عليّ: يا هؤلاء، إنّما أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم و القرابة (من رسول اللّه (الأئمّة من قريش) فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر (و تركوا اللجاج) و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتجتم به على الأنصار: نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا لأنّا أهل بيته و أقرب الخلق إليه، فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفته الأنصار لكم.

قال: فقال عمر: إنّك أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام: إذا لا أقبل منك و لا أبايع من أنا أحقّ بالبيعة منه. فقال له عبيدة بن الجرّاح (لعنه اللّه): و اللّه يا أبا الحسن، إنّك لحقيق لهذا الأمر لفضلك و سابقتك و قرابتك، غير أنّ الناس قد بايعوا و رضوا بهذا الشيخ فارض بما رضي به المسلمون. فقال له عليّ كرّم اللّه وجهه: يا أبا عبيدة، (أنت أمين هذه الأمّة (2)) فاتّق اللّه في نفسك فإنّ هذا اليوم له ما بعده من الأيّام و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره إلى قعر دوركم ففي بيوتنا نزل القرآن و نحن معدن العلم

ص: 140


1- الفرقان: 4.
2- لو كان أمين هذه الأمّة لما خانها بهذه المؤامرة الدنيئة، و هذه الجملة لم يذكرها المؤلّف رحمه اللّه.

و الفقه و الدين و السنّة و الفرائض و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الأخسّ.

قال: فتكلّم بشير بن سعد الأنصاريّ، فقال: يا أبا الحسن، أما و اللّه لو أنّ هذا الكلام سمعه الناس منك قبل البيعة لما اختلف عليك رجلان و لبايعك الناس كلّهم، غير أنّك جلست في منزلك و لم تشهد هذا الأمر فظنّ الناس أن لا حاجة لك فيه ...

الخ. قال: فقال عليّ: ويحك يا بشير! أو كان يجب أن أترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (من غير تجهيز و أخرج ألاطم على سلطانه ...) (1).

قال: فأقبل عليه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن، إنّي لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر ما أردته و لا طلبته و قد بايع الناس فإن بايعتني فذلك ظنّي بك، و إن لم تبايع في وقتك هذا و تحبّ أن تنظر في أمرك لم أكرهك عليه فانصرف راشدا إذا شئت.

قال: فانصرف عليّ إلى منزله فلم يبايع حتّى توفّيت فاطمة عليها السّلام حتّى بايع بعد خمس و سبعين ليلة من وفاتها، و قيل: إلى بعد ستّة أشهر، و اللّه أعلم أيّ ذلك كان.

(و تقول عائشة: إنّ عليّا بايع بعد ستّة أشهر) (2).

أمّا الصيغة العربيّة لهذا الكلام و التي تحتجّ بها الشيعة فقد رواها ابن الأعثم كما يلي:

قال عليّ عليه السّلام: يا هؤلاء، أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم بالقرابة، لأنّكم زعمتم أنّ محمّدا منكم فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر، و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتججتم به على الأنصار، نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا، لأنّا

ص: 141


1- العبارة في الفتوح غير مفهومة و هي: أترك رسول اللّه من بينه إلى حضرته و أخرج أنازع الناس بالخلافة. (ص 13).
2- الفتوح 1: 13 و 14.

أهل بيته و أقرب الخلق إليه فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفت لكم الأنصار (1).

فقال عمر: أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام:

إذا لا أقبل ما يقول عمر، فلمّا فرغ من عمر أقبل على أبي عبيدة و قال: و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره ففي بيوتنا نزل الفرقان و نحن معدن العلم و الفقه و السنّة، و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الخسر.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب بشير: أو كان يجب عليّ أن أترك الرسول و لم أجنّه في حفرته فأخرج فأنازع الناس للخلافة؟!

فقال أبو بكر في هذه الحالة: يا أبا الحسن، لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته و ما طلبته و قد بايع الناس .. (2).

جواب: و هذا الحديث مبطل لما احتجّ به القوم علينا من أنّ عليّا لم ينفرد عنهم و كان راض بخلافتهم و كذلك ما احتجّ به الفخر الرازيّ و غيره من أنّ عليّا لو كان يعلم بأنّ الحقّ حقّه لخرج مطالبا به. أجل، طالب عليّ بحقّه بشهادة الحديث المتقدّم.

و ما يقوله الشيعة من اغتنام القوم الفرصة بانشغال عليّ عليه السّلام و بني هاشم بتجهيز النبيّ فنزوا على الحكم و السلطان يؤيّده الحديث المتقدّم.

و يؤيّده أيضا ما قاله الشيعة من غياب القوم عن دفن النبيّ، و يدفع قول عمر لعليّ: أيّها الرجل لست بمتروك حتّى تبايع ما زعموه من بيعة عليّ بمحض اختياره

ص: 142


1- الفتوح 1: 13.
2- مرّ هذا توّا من الفتوح.

و رغبته و هذا يدلّ على أنّه مكره على البيعة، و الشيعة يذهبون إلى أنّ الإمام عليّا لم يبايع أبا بكر أبدا.

و أمّا قول أبي بكر لعليّ عليه السّلام: لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته، و ما طلبته و قد بايع الناس فإنّه من الأعاجيب حيث تقدّم للحكم ارتجالا و بلا رويّة، ثمّ هو يندم الآن و يطلب الإقالة.

و هذا كلّه يدلّ على صحّة قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، و لو كان الرجل يحسب للآخرة حسابها و يخاف يوم المعاد وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (1) لأرجع الحقّ إلى أهله، و لم ينازع أهل بيت النبيّ فيه، و ما كان ينبغي لمن يخلف النبيّ أن يعمل عملا يؤول به إلى الندامة في الدنيا و الآخرة.

الفصل الثاني

لمّا طرق النبيّ الوجع استدعى أسامة بن زيد و أمّره على القوم و أمره بغزو بلاد الشام و كان ابو بكر و عمر لعنهما اللّه تحت لوائه، و سوف يأتي بيان ذلك.

و لمّا انتقل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الرفيق الأعلى قال عمر لأبي بكر: أرى أن تترك بعث أسامة لأنّ أعراب المدينة ارتدّوا و أخشى أن نحتاج إليه.

فأجابه: و كيف أفعل ذلك و قد أمر النبيّ ببعثه و عبارته كالتالي: لو علمت أنّ السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذت جيش أسامة كما قال النبيّ: أمضوا جيش أسامة، فقال عمر: لو خففت هذا العام عن كاهل القوم من بعض الزكاة لرجونا عودتهم إلى حضيرة الإسلام. فقال أبو بكر: و اللّه لو منعوني عقال ناقة ممّا كان

ص: 143


1- الصافّات: 24.

يأخذه منهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقاتلتهم عليه أبدا و لو كره المشركون. فقال عمر: ارفق بهم يا خليفة رسول اللّه، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دمائهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. و هؤلاء الجماعة يصلّون و لا يزكّون أو يزكّون و لا يصلّون (1) فأبى أبو بكر و قال: لأقاتلنّها، كما نصّ على ذلك ابن الأعثم في الفتوح.

الجواب: لقد ظهر الخلاف بين الرجلين الخليفة و ظهيره .. مسكينة هذه الرعيّة فإلى من منهما تميل؟ فإن مالت إلى أبي بكر و هو محقّ فإنّ عمر مبطل حتما و العكس صحيح، و لمّا استباح أبو بكر الحرب على عقال ناقة لا بدع أن يستبيح عليّ عليه السّلام الحرب من أجل ملك الشام مع معاوية (لعنه اللّه) و كما وجب قتال من خالف أبا بكر كذلك وجب قتال من خالف عليّا فيكون معاوية على الباطل.

و كذلك نقول عن عمر لمّا أمر بتعطيل جيش أسامة أنّه داخل تحت مفهوم هذه الآية: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ (2) و من لم يرض بحكم النبيّ فإنّه معلوم الحال و لا يحتاج إلى سؤال.

الفصل الثالث

و جاء في كتاب الفتوح أنّ أسامة بن زيد وجّه جيشه إلى خارج المدينة و لمّا استخلف أبو بكر قال لأسامة: امضي رحمك اللّه لوجهك الذي أمرك النبيّ و لا

ص: 144


1- أخطأ المؤلّف في نسبة ذلك إليهم لأنّ أبا بكر لم يقاتلهم على ذلك، بل قاتلهم على بيعته لأنّهم أنكروها و قالوا: لا نبايع أبا فصيل.
2- النساء: 65.

تقصر في أمورك، و إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطّاب بالمقام عندي، فإنّي أستأنس و أستعين برأيه. قال أسامة: فقد فعلت.

الجواب: فاعتبروا يا أولي الأبصار أنّ عمر بشهادة الخصم رعيّة لأسامة بأمر النبيّ فكيف يتأمّر عليه؟ و لو علم النبيّ بأنّ عمر أجدر بها من أسامة لم يؤمّره عليه و لم يجعله رعيّة له إلّا لكي يرشد الأمّة إلى عدم صلاحيّته للخلافة.

و إذا كان أبو بكر يطلب الإذن من أسامة لعمر فلماذا لم يطلبه لنفسه، اللهمّ إلّا أن يكون بالحكم المستثنى من الإمارة، و لكن كيف يصحّ للمتمرّد على حكم النبيّ و المنتزى على حقّ غيره الخروج من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّر أسامة عليهم و حكم النبيّ و أمره باقيان على حالهما إلى يوم القيامة و كلاهما خالف حكم رسول اللّه حين أعرضا عن الطاعة بعدم الخروج مع أسامة ...

ص: 145

الباب الثاني و العشرون في موت الخلفاء و كيفيّة قتلهم عليهم ما يستحقّون

اشارة

(من لعائن اللّه- المترجم) قال ابن الأعثم في الفتوح: و اشتدّ المرض بأبي بكر ... و دعا أبو بكر بدواة و بياض فكتب خلافة عمر ثمّ دفع الرقعة إلى رجل من المسلمين فقال: أخرج بهذه الرقعة إلى الناس فخبّرهم بما فيها، و أقبل طلحة بن عبيد اللّه حتّى دخل على أبي بكر، فقال: يا خليفة رسول اللّه، تستخلف على الناس عمر بن الخطّاب؟ فقال:

و لم لا أستخلفه يا طلحة؟ قال: لأنّك قد رأيت الناس من صرامته و غلظته فكيف إذا مضيت أنت و صار الأمر إليه؟ ثمّ قال: و بعد فإنّك قادم على ربّك فإنّه سائلك عن رعيّتك.

فسكت أبو بكر ساعة ثمّ رفع رأسه إلى طلحة، فقال: أبا لموت تفزعني أم بربّي تخوّفني؟ (نعم إذا أقدم على ربّي و سألني عن رعيّتي أقول: يا ربّ، استخلفت عليهم خير أهلك» و دار بينهما حوار و راح أبو بكر يوصي بوصاياه و أخيرا قال:

فإذا أنا متّ فاغسلوني و كفّنوني و حنّطوني و صلّوا عليّ ثمّ ائتوا بي إلى قبر حبيبي محمّد فاستأذنوا و قولوا: السلام عليك يا رسول اللّه، هذا أبو بكر بالباب فإن أذن

ص: 146

لكم في دفني إلى جنبه فادفنوني و إن لم يأذن لكم في ذلك فأتوا بي مقابر المسلمين (و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون) (1). و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و عشرين يوما.

الجواب: صدق اللّه حيث قال: وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (2) لمّا أدلى طلحة بحجّته عن عمر و إنّ الرجل لا يليق بالخلافة فكان جوابه فرض خلافة عمر على الأمّة، و لمّا خوّفه باللّه كان جوابه: أبا للّه تخوّفني و معناه أنّي لا أخاف اللّه، و قال اللّه تعالى:

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (3)، و قال: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (4)، و قال: وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (5) و أمثال هذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ العبد الصالح هو من خاف اللّه تعالى، و من هنا- أي من انعدام الخوف من اللّه في قلوبهم- ظلموا أهل بيتا لنبيّ و ذلك فعل لا يخفى على أحد لا سيّما ظلم فاطمة و أمير المؤمنين، و ينبغي أن يلابسه الخوف و لو قليلا عند موافاته السياق.

و أمّا قوله: ادفنوني عند رسول اللّه إن أذن لي فإنّ اللّه سبحانه منع من ذلك في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و العجيب من الرجل حين نسيه فضيّعه فهل أنساه ذلك طول العهد؟ كلّا فقد خاطب اللّه المسلمين عن بيوت النبيّ بقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ (6)، و قال: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ (7).

ص: 147


1- الفتوح 1: 121- 123 بتصرّف من المؤلّف.
2- الأعراف: 79.
3- آل عمران: 50.
4- الأنفال: 34.
5- الأحزاب: 37.
6- الأحزاب: 53.
7- النور: 27.

و ما قاله من طلب الإذن فإن حصل و إلّا فادفنوني في مقابر المسلمين، فلم يردنا في كتاب أو مرجع أنّ الإذن حاصل له، و بناءا على هذا فإنّه غصب المكان و فعل عمر فعله لأنّه وصيّه، بل صنع خلاف صنعه و لم يستأذن، لعلّه عرف بأنّ المكان المغصوب لا يحتاج إلى الاستئذان بل جرأ على ارتكابها من دون طلب الإذن (و كم مثلها ارتكبها و هي تصغر) و منها غصب الخلافة و التأمّر على أهل بيت النبي.

أم أنّه أراد أن يغصب البيت من الأولاد كما غصب فدكا من فاطمة لتتمّ حبكة السقيفة.

و إن أراد بالإذن من عائشة فإنّها قالت: ليس لرسول اللّه ما يرث و لا يورث.

و إن قصدو به آل الرسول فلم يحصل ذلك منهم و ماتا ظالمين لهم مانعين لحقّهم.

و العجب أن يلحد أبو بكر إلى جانب النبيّ و هو البعيد القصيّ عنه، و يدفن الحسن بمبعدة عن جدّه و هو ولده و فلذة كبده.

الفصل الأوّل في قتل عمر بن الخطّاب

اشارة

كان للمغيرة بن شعبة غلام يدعى أبا لؤلؤة و هو مجوسيّ، و لمّا عاد المغيرة إلى المدينة شكاه فيروز غلامه إلى عمر و قال: إنّه يضطهدني بما يحملني من الغرم الفادح في كلّ شهر مرسوم عليّ دفع مأة درهم إليه و أنا لا أطيق دفع هذا المبلغ الباهض فاشفع لي عنده لتخفيفه.

فأحضر عمر المغيرة و قال: التخفيف من الإنصاف و إن كان عن كافر فخفّف عنه بشفاعتي، ففعل، ثمّ قال للمملوك: لقد خفّف عنك صاحبك (1) و الآن قل لي:

ص: 148


1- الظاهر من روايات المؤرّخين أنّ عمر ردّ أبا لؤلؤة ردّا خشنا و لم يستمع إلى شكواه و لذلك أضمر الرجل قتله.

ماذا تجيد من الصنعة؟ فقال: إنّي أجيد عددا منها مثل التجارة و صناعة الأرحية.

فقال عمر: هل لك أن تصنع لي رحى في بيتي. فقال الغلام: سوف أصنع لك رحى تتحدّث عنها الناس في المشرق و المغرب.

فانزعج عمر من قوله هذا و قال لمن حضره: هل سمعتم ما قاله العلج، فإنّي متى شاهدته يحدث الرعب من مرآه في نفسي، إلى أن رقى المنبر ذات يوم و قال: رأيت في المنام ديكا أحمر اللون ضربني بمنقاره مرّتين أو ثلاثا فعلمت أنّ رجل من علوج فارس يقتلني بطعنة أو طعنتين. فقال الحاضرون: خيرا رأيت يا أمير.

و أمّا فيروز فقد صنع لنفسه خنجرا بحدّين و اندسّ بين الناس، فلمّا أقيمت الجماعة أخرج الخنجر من محزمه و حمل على عمر فطعنه ثلاث طعنات في السرّة و فوقها و تحتها ثمّ هرب فتعقّبه ثلاث عشرة إنسانا فقتل منهم جماعة و أمسك به أحدهم فلمّا شعر بأنّه مقبوض عليه طعن نفسه طعنات حتّى هلك.

و أمر عمر عبد الرحمان بن عوف أن يصلّي في الناس جماعة و بقي عمر حيّا في بيته ثلاثة أيّام و أوصى بوصاياه و أمر صهيبا بالصلاة عليه، و استدعى ولده عبد اللّه و قال له: إنّي مدين لبيت المال بمقدار من الدنانير الذهبيّة فاقضها عنّي. ثمّ قال: يا بني، لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه؟ فقال عبد اللّه: بلى بجميع ما ملكت. ثمّ قال: إن أذنت لي عائشة فادفنّي مع صاحبي و إلّا فادفنّي في البقيع.

فقالت عائشة: إنّي ادّخرت هذا المكان لنفسي و لكن أوثر به عمر. فتوفّي يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين، و كان عمره ثلاثا و ستّين عاما.

و لمّا طعن عمر حضر عنده طبيب مسلم فقال: أسقوه نبيذا حلوا، فلمّا تجرّعه خرج من جرحه فقال قوم ممّن حضره: إنّه الدم فأحضروا له طبيبا متنصّرا فسقاه لبنا فخرج من جرحه بلون اللبن، فاتّفق الطبيبان على هلاكه و أمراه بالوصيّة.

ص: 149

الجواب: فيا للعجب كيف يكون البيت لعائشة بدون حجّة و لا بيّنة، و تحرم فاطمة من نحلتها في فدك مع شهادة الشهود العدول أصحاب العصمة. سلّمنا فإنّ حقّها التسع من الثمن و الباقي مغتصب.

يقول ابن أعثم الكوفي: فدفن عمر إلى جنب أبي بكر فأوّلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الثاني أبو بكر و رأسه قريب من كتف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الثالث عمر و رأسه قريب من كتف أبي بكر. قال: و قد ضاق البيت لمّا دفن فيه عمر فصارت رجلا عمر تحت حائط البيت من موضع الأساس (1).

فخربوا جانبا من حائط البيت، فهل أذن لهم النبيّ في خراب بيته و اللّه تعالى يقول: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2) و كيف يأذن لهم النبيّ و هو ميّت؟

أمّا قوله لولده عبد اللّه: لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه .. الخ، ويحه أما سمع قوله تعالى: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً* يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ* وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ* وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ* كَلَّا إِنَّها لَظى* نَزَّاعَةً لِلشَّوى (3) و قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ (4) و نسي عبد اللّه أباه كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (5). و كذلك عبد اللّه أما قرأ قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ

ص: 150


1- الفتوح 2: 331.
2- الأحزاب: 53.
3- المعارج: 10- 16.
4- الحديد: 15.
5- الشعراء: 88 و 89.

مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (1) و حيث قال: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2).

أمّا ما قالوه عن النبيذ و شربه فإنّه يعلم أنّه خمر معروف و هذا مسلّم و لكن النبيذ الحلو غير المسلّم فهو لا يخلو من كونه خطأ، و هذا يصدر أحيانا في الأخبار، و أمّا كون القائلين به من أهل السنّة و الجبريّة و هم شيعة الخليفة لذلك أرادوا الاعتذار منه بوصف النبيذ بالحلو.

رواية أخرى في قتل عمر

جمع شهريار بن يزدجرد ملك العجم ثلاثمائة و ثلاثين ألفا من قوّاته و عزم على مهاجمة المدينة و المصادمة مع عمر بن الخطّاب، فلمّا بلغ عمر الخبر خاف منه و صعد المنبر و خطب في أصحابه و قال في آخر خطبته: إنّي جئت أستشيركم بأمر «شهريار» و محاربته.

فقام عثمان بن عفّان من بين الجمع و قال: أنت رجل ميمون النفقيبة، فإذا أردت حربه فاخرج بنفسك إليه و قاتله فإنّك تظفر به. فلم يرتض قوله عمر.

ثمّ قام آخر و قال: أيّها الخليفة، أرسل إليه الجيش. فلم يقع هذا القول من نفس عمر موقعا حسنا، و كان ينظر إلى أمير المؤمنين يلتمس رأيه، فلم يقل عليّ عليه السّلام شيئا في هذا الموقف، فنزل عمر عن المنبر و أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له:

الرأي عندك يا أبا الحسن.

فقال عليّ عليه السّلام: إن كنت تخاف على الإسلام فإنّي أرى أن ترسل إلى الثغور كثغر

ص: 151


1- الأنعام: 94.
2- يونس: 54.

الروم و فارس و الأهواز و حيث تقاتل عساكر الإسلام فتستدعي من العسكر نصفه و تبقي نصفه الآخر قبالة العدوّ، و أقم أنت بالمدينة و أرسل الفيالق فإنّ اللّه تعالى وعد بقهر الكفر و ظهور الإسلام عليه حيث قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1) فأعجبه الرأي و عمل به فاستدعى نصفا من فيالقه و استبقى النصف الآخر تقاتل العدوّ، فاجتمع عنده ثلاثون ألفا فأمّر عليهم النعمان بن مقرن و قال: فإن قتل فالأمير حذيفة، فإن قتل فأمير القوم جابر بن عبد اللّه.

قال عليّ عليه السّلام: ابعث معهم عمرو بن معدي كرب و طلحة بن خويلد و ليحتالوا ما وسعتهم الحيلة فإنّ رأيهم إلى صواب.

فلمّا تقابل العسكران وضع اللّه الرعب في قلب عسكر شهريار، فأسرع شهريار و أمر قومه بحفر الخندق من حولهم و أجرى فيه الماء خوفا من عسكر الإسلام ثمّ بدأت الحرب، فاستشار النعمان عمرا و قال: ماذا نصنع و نحن قلّة و المدد يأتينا من المدينة و قد بعدت شقّتها و العدوّ ما زال يأتيه الجمع بعد الجمع و تصل إليه المؤن و الذخائر باستمرار، و قد قارب زادنا النفاد. فقال عمرو: الرأي عندي أن ننادي بموت عمر ملك العرب لكي يجد العدوّ الجرأة على قتالنا فيخرجوا من خنادقهم لقتالنا فننكشف بين أيديهم لكن بصفوف منتظمة فإذا ما بلغتنا عساكرهم كررنا عليهم و قاتلناهم.

فلمّا أصبح الصباح أعملوا الحيلة مع العدوّ فخرج شهريار بجيشه للقائهم و لكن اختطّ الظلام فحجب بين المتقاتلين، فلمّا أصبح الصباح ركب النعمان فرسه و أقبل و عليه عمامة بيضاء و حام حول العسكر و أخذ يحضّ الناس على الجهاد و قال: أيّها الناس، عليكم بحميّة العرب فإنّها تأنف من الفرّ دون الكرّ، و قاتلوا في سبيل اللّه

ص: 152


1- التوبة: 33.

و رسوله فإنّ بيضة الإسلام بكم قائمة، و إيّاكم أن تولّوا الدبر لأنّكم إن فعلتم ذلك فإنّكم هالكون حتما عن بكرة أبيكم، و لن يرجع واحد منكم إلى المدينة لأنّها نائية الشقّة فانهضوا و كرّوا بالخيل على العدوّ بعد أن تشدّوا حزمتها و سرجها، و أقيلوا في ظلّها ساعة حتّى تهب الصبا فعندئذ نحمل حملة واحدة و ندع ما كان يفعله العرب في الحرب و لنأخذ بتقاليد العجم في الحرب فإنّهم يحملون بأجمعهم على العدوّ حملة واحدة و لكن قتالكم كلّكم بالرماح فستكون لكم الغلبة عليهم، فإذا قتلت فاكتموا خبري عن العدوّ و عموا عليه، فرضوا بقوله، و صادف أن أصيب النعمان يومها فقتل فلبس حذيفة ثيابه و أخفى عن العجم موته و خبأوه عن أعين الناس.

و نادى فيهم طلحة بن خويلد: أيّها الأصحاب، هلمّوا ليكون عشائنا في الجنّة، هلمّوا إلى الرواح إلى الجنّة ليضع ثلاثون ألفا أسنّتهم بين آذان خيولهم و ليحملوا على العدوّ حملة رجل واحد، و نضربه في القلب، و كما سوّى العجم صفوفهم و أحكموا موقع القلب صاحوا صيحة قويّة منكرة ارتجف لها جيش الإسلام فهزموهم في الحملة الأولى و أسروا فيروز مرّة ثانية و كان قائد عسكر شهريار، و أسروا ابنة شهريار شاه زنان التي تشرّفت بعد ذلك بالإسلام و اقترنت بالحسين، و غيّرت اسمها فكانت شهربانويه.

فقتل من السعكر جماعة و فرّ الباقون، فبعث حذيفة ببشارة الفتح إلى عمر بن الخطّاب، و كان عمر يخرج كلّ يوم إلى المدينة يتنسّم أخبارهم، فرأى ذات يوم أعرابيّا على راحلة فأخبر عمر عن الفتح و هو لا يعرفه، فأقبل يركض وراء الأعرابيّ فرسخا فلمّا وصل المدينة نزل إليه أصحاب الدكاكين يحيّونه، فنزل الرجل من راحلته و سلّم على عمر و اعتذر إلى عمر و بلّغه خبر الفتح، و لمّا بلغته الغنائم أراد بيع «شاه زنان» فنهاه الإمام و قال: ليس البيع على أبناء الملوك.

ص: 153

فائدة جليّة في زواج الحسين عليه السّلام من شهربانويه

قال عمر: أجلسوا شاه زنان على قارعة الطريق و أعرضوا المسلمين عليها فمن رغبت فيه فزوّجوها منه و مرّ هو عليها فسألت: من هذا؟ قيل لها: هذا هو الخليفة، فأعرضت عنه و قالت: شيخ لا يليق بي. و أخذ كبار القوم و أعيانهم يعرضون أنفسهم عليها فتأباهم حتّى اجتاز بها أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: من هذا؟

فقيل لها: هذا عليّ صهر رسول اللّه على فاطمة و ابن عمّه، فقالت: هذا جدير بي و لكنّي أستحي من فاطمة يوم القيامة، فمرّ الحسن من بعده، فقالت: من هذا؟

فسألت عن سائر شئونه فأعلموها و لكنّها امتنعت منه و قالت: الحسن كبير الشأن و يحتاج إلى نساء كثر، فمرّ بها الحسين عليه السّلام فقبلته و قالت: يمكن لهذا الشابّ الجميل أن يكون زوجا لي.

فأمر عمر بإقامة مراسم الزواج في المدينة ثلاثة أيّام، و حملوا الحسين على فرس و قيل: حمل عمر غاشية الحسين على متنه و أقبل بصحبته ينحو المدينة إلى ثلاثة أيّام و في اليوم الثالث أطلقوا على المرأة اسم «شهربانويه» و عقدوا عليها للحسين عليه السّلام و بنى عليها، و كانت في كلّ ليلة تعود عذراء كالحور العين في الجنّة، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كان من الحسن و لحسين زوجته تعود عذراء في كلّ ليلة، فإنّ الأئمّة من صلبه لذلك تزوّج الحسن عليه السّلام نساءا كثيرات فلمّا لم يجد عندهنّ السرّ الموعود طلّقهنّ و قال الحسين عليه السّلام للحسن ذات يوم: لا تحزن يا أخي، فإنّ ما كنت أنت طالبه فإنّي وجدته، فعلم الحسن أنّ الأئمّة ليسوا من صلبه (1).

ص: 154


1- عفى اللّه عن المؤلّف حين يأتي بخبر موضوع لا أساس له من الصحّة و يستخرج منه قاعدةمعرفة الأئمّة. أترى أنّ النبيّ أوكل إلى الحسنين معرفة الصلب الذي يخرج منه الأئمّة بهذه اللعبة؟! حاشاه. أليس قد أخبرنا بأسمائهم واحدا واحدا السابق و اللاحق، و عندنا مئات الأحاديث حول ذلك و قد أشارت إلى أنّ الأئمّة من صلب الحسين فكيف رضي المؤلّف بهذا السخف الذي لا يستحقّ الحبر الذي كتب فيه و رجل فاضل مثله يتورّع عن ذكر أخبار مضحكة كهذه الأخبار. ألا يعلم أنّ زواج الحسين من شهربانويه ردّه جلّ العلماء و قالوا قضيّة مكذوبة لا أصل لها إنّما وضعتها الشعوبيّه لترمي إلى غرض في نفوسهم، و هو الوراثة التي كانت عند ملوك الفرس ليجعلوا الإمامة بالتوارث أخذا من الفرس مع أسرتهم المالكة.

الفصل الثاني

و لمّا قسّمت الغنائم صار أبو لؤلؤة فيروز من نصيب المغيرة بن شعبة و كان صيقلا ماهرا، و صارت له علاقة بأمير المؤمنين عليه السّلام فكان يزوره بين الحين و الحين، فوضع عليه المغيرة ضريبة ثقيلة إذ كان عليه أن يدفع للمغيرة دانقين من الذهب، ثمّ صيّرهما نصف دينار، فكان يدفع ذلك، ثمّ رفع الضريبة إلى أربعة دوانق فأعطاها، ثمّ خمسا فأعطاها، و ان عمر يفعل ذلك و قال له: إن قطعت زيارتك لعليّ حرّرناك من الضريبة، فلم يرض أبو لؤلؤة بذلك. و أقبل يوما على عمر و قال: أيّها الخليفة، إنّي لأعجب منك و من عليّ أن يكون له سيف مثل ذي الفقار و إنّي لقادر على صنع ما هو خير منه لك بشرط أن لا تحجبني عنك، فقال عمر: افعل. و قال:

سأصنع السيف من معادن سبعة، و أخذ جملة من الحديد و بدأ بصنع السيف و كان يبكّر إلى عمر في كلّ يوم و يأتيه مرارا و يريه السيف الذي صنعه إلى أن تمّ صنع السيف، و كان ما تزال حرارة الضرب فيه، فأقبل على عمر بعد أن انفضّ المجلس و لم يبق فيه سواه و كان غلاف السيف من الخشب الأبيض، و قد ثقب قريبا من قائمه ثقبا و أنبت فيه مسمارا بحيث لا يستطيع أحد أن يسلّه إلّا صاحبه الذي صنعه،

ص: 155

فلمّا أعطاه عمر أراد أن يجرّده من الغمد فعسر عليه ذلك، فقال أبو لؤلؤة: ناولنيه، فلمّا تسلّمه أزال عنه المسمار و نظر يمينا و شمالا فلم يجد أحدا معهما فعند ذلك حمل على عمر و أغمد السيد في بطنه و تركه عليها و هرب.

قيل: أقبل ركضا إلى بيت عليّ عليه السّلام و كان عليّ جالسا على باب داره، فقام من مكانه و قعد في مكان آخر، فلمّا أقبل الناس يطلبون القاتل أقسم عليّ عليه السّلام أنّه منذ أن جلس في هذا المكان لم يشاهد أحدا، و حمل الإمام أبا لؤلؤة على دلدل و قال له:

أينما وقفت دلدل فقف هناك، و نفس الليلة استدعى امرأة و بعث معها رسالة إلى أهل قم و فيها: إذا بلغت قم فانكحوها منه، و لمّا حال الحول و جاؤوا يطلبونه إلى قم وجدوه قد تزوّج المرأة و أولدها ولدا، فعلموا انّ هذه من معاجز عليّ عليه السّلام.

و هذه الرواية لا صحّة لها، و إنّما بقي أبو لؤلؤة في المدينة و نهى عمر عن قتله و قال: لا يكون العبد ثأرا لي، و أمر بإطلاق سراحه.

و جوهر القول أنّ عمر بقي جريحا ثلاثة أيّام و هلك في اليوم الرابعة، و كان المغيرة يحضره كلّ ليلة و تأخّر عنه ليلتين، فسأله عمر عن سبب ذلك، فقال: وقع الناس في فتنة من يخلفك، فقال عمر: يا مغيرة، الناس يقولون ماذا؟ فقال: منهم من يراها لعليّ، و منهم لعثمان، و آخرون يرون طلحة أهلا لها، و قوم تعلّقوا بسعد و عبد الرحمان بن عوف.

فقال عمر: ماذا يقال في عليّ؟ إلّا أنّ هذا الأمر لا يتمّ به لحداثة سنّه و لعداوة قريش له و هو أيضا شديد التمسّك برأيه، و أراها تتمّ بعثمان لأنّه رأس بني أميّة، أمّا الزبير فرجل جبّار و من كان مثله لا يليق لإمامة الناس، و طلحة ساقط الهمّة لا شأن له، و سعد بن أبي وقّاص زئر نساء، و عبد الرحمان مليح الظاهر.

ثمّ أمر بإحضار رجل و أمره على مأة رجل و قال: إنّي أجعل الخلافة شورى بين ستّة، فأحضرهم في المسجد؛ فمن بايعه عبد الرحمان فعلى الباقين مبايعته و إن

ص: 156

لم يفعلوا فاضرب أعناقهم، و كان يعلم أنّ هوى عبد الرحمان ليس مع عليّ لما بينهما من العداوة السالفة.

فلمّا حضروا في المسجد قال عبد الرحمان لعليّ عليه السّلام: أبايعك على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيره عمر بن الخطّاب. فقال: بل على كتاب اللّه و سنّة رسوله، و لا أرضى بسيرة عمر لأنّه أحدث أمورا لا بدّ من تغييرها، فأعاد القول عليه ثانية فأجابه عليّ بما أجاب به أوّلا، إلى ثلاث مرّات، ثمّ أمسك يد عثمان و بايعه .. (1) على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة عمر، و كان هوى عبد الرحمان مع عثمان لأنّه صهره على أخته أمّ كلثوم من أمّه، و بايع طلحة و الزبير و نهض عليّ بعد أن مسح بيده على أيديهم و خرج من بينهم.

و قال عبد اللّه بن عبّاس (2): لم دخلت الشورى معهم يا أمير المؤمنين؟ فقال:

ذلك لأظهر كذب عمر لأنّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث، و الإمامة و النبوّة لا تجتمع في بيت وحد، فإن كنت لا أستحقّها فلم دعاني معهم، و لا يظهر باطه إلّا بهذا.

و ليثبت للملأ كذبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت مدّة خلافته عشر سنوات و سبعة أشهر و سبعة أيّام، و قيل: كان عمره ثلاثا و ستّين سنة (3).

ص: 157


1- لعن اللّه عبد الرحمان بن عوف فإنّه كان يطمع بها من بعد عثمان لعنه اللّه، و الآن دعني أن أسأل أصحاب الضمائر الحرّة لو أنّ عبد الرحمان بن عوف لعنه اللّه قال لعثمان لعنة اللّه عليه: أبايعك على التلمود و سيرة إبليس أكان عثمان يقول لا؟ كلّا و اللّه من هنا يعلم أنّهم تمالأوا على أهل البيت و أوقعوا الأمّة في هذا الشقاق الدائم من أجل نزوة في نفوسهم حرمهم اللّه منها و أعدّ لهم جهنّم و ساءت مصيرا.
2- ذكر المؤرّخون أنّ القول لأبيه العبّاس.
3- قالوا ذلك ليوافق عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مثله قالوا عن سنّ أبي بكر، و قد ثبت زيف ذلك عند المؤرّخين كافّة.

الفصل الثالث في خلافة عثمان

و لمّا نال الخلافة أرسل وراء مروان بن الحكم فأقدمه من منفاه و أسند إليه وزارته و كان طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ اللعين هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال النبيّ: لا أحبّ أن أرى مروان فطرده من المدينة إلى مكان يبعد عنها بعشرين فرسخا (1)، فلمّا استخلف أبو بكر أبعده عشرين فرسخا أخرى، فلمّا استخلف عثمان ردّه و آواه و أعطاه الوزارة حتّى قيل عنه: آوى طريد رسول اللّه و طرد أباذر حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 158


1- بل طرده رسول اللّه و أباه لحادثة أخرى معلومة.

الباب الثالث و العشرون في ذكر طرد عثمان (لعنه اللّه) أباذر الغفاريّ رحمة اللّه عليه

اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام: كان سبب نفي عثمان أباذر أنّه حضر عنده فرأى بين يديه مأة ألف درهم، فسأله: ما هذا المال يا عثمان؟ فقال: لبيت مال المسلمين و أريد أن أضيف إليه عددا آخر ثمّ أضعه حيث أختار، و كان قد جمع حوله بني أميّة. فقال أبوذر: أما تذكر يا عثمان حين دخلنا أنا و أنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجدناه كئيبا مغموما و دخلنا عليه في اليوم الثاني فوجدناه مستبشرا مسرورا، فقلت له: روحي فداك يا رسول اللّه، فيم غمّك أمس و سرورك اليوم؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

قسمت بيت المال فبقيت فيه بقيّة لم أقسمها و هي أربعة آلاف دينار فكان غمّي لها أن أكون ملوما عند اللّه و اليوم قسمتها ففرحت من أجل ذلك، و مائة ألف درهم أكثر من أربعة آلاف دينار.

و كان كعب الأحبار عند عثمان فأقبل عليه عثمان و قال: يا كعب، هل ترى من حرج على المرء إذا أعطى ما وجب عليه أن يستبقي الفاضل من المال؟ فقال كعب:

كلّا إذا أدّى ما وجب عليه فله أن يصوغ الباقي آجرا من ذهب و فضّة.

فقال أبو ذر: أيّها اليهودي، ما أنت و هذا الأمر، إنّما أنت يهوديّ، فكيف تفتي في

ص: 159

الإسلام، إنّ اللّه تعالى كذّبك حيث قال: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (1) و رفع عصاه و أهوى بها على رأس كعب.

فقال عثمان: لو لم تكن صاحب رسول اللّه و أنت شيخ قد خرفت لضربت عنقك.

فقال أبو ذر: كذبت يا عثمان ليس ذلك إليك فإنّ النبيّ أخبرني بانّكم غير قاتليّ و لكنّكم مخرجيّ من البلاد و إذا بلغ آل العاص ثلاثين اتخذوا دين اللّه دغلا و فسّروا كتاب اللّه برأيهم.

قيل: فكذّب من حضر من الصحابة أبا ذر من أجل عثمان، فقال عثمان لعنه اللّه:

أحضروا لي عليّا، فلمّا حضر عنده، قال له عثمان: أسمعت يا عليّ هذا الحديث من النبيّ فقد أجمع الصحابة على عدم سماعه منه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أظلّت الخضراء و ما أقلّت الغبراء على أحد أصدق لهجة من أبي ذر ... (2) و أبو ذر لا يكذب أبدا.

فصدّق الحاضرون أمير المؤمنين فقالوا سمعناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عند ذلك بكى أبوذر و قال: الحمد للّه ما كنت كاذبا.

فقال عثمان: أقسمت عليك بحقّ رسول اللّه أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: الحرمان فقد عبدت اللّه فيهما و أخبرني النبي بإبعادي إلى الربذة و قال: تعيش وحدك و تموت وحدك و تبعث أمّة وحدك و تحشر وحدك و تدخل الجنّة وحدك، و يحضرك جماعة

ص: 160


1- التوبة: 34- 35.
2- الكليني الكافي: 27، مسند أحمد 2: 175 و 223، سنن ابن ماجة 1: 55، المستدرك 3: 161، 342، 344، الفائق للزمخشري 1: 328، كنز العمّال 13: 311 رقم 36887، فتح الملك العلي: 157.

من أهل العراق عند موتك فيجهّزونك و يدفنونك، أخبرني بذلك في غزوة تبوك.

فأمر عثمان جلاوزته بترحيله إلى الربذة و هي مكان في البادية موحش تقع بين الشام و بلاد الروم (كذا) فلم يخرج لتشييعه إلّا الإمام أمير المؤمنين و الحسنان عليهم السّلام و بقي أبوذر في الربذة زمانا قصيرا ثمّ مرض، فقال له بعضهم: ماذا تشتهي؟ فقال:

رحمة ربّي، قالوا: ممّن تشكو؟ قال: مرض ذنوبي، فقال: أنجيئك بطبيب؟ قال:

الطبيب أمرضني (1)، فبكت ابنته و هي عند رأسه، فقالت: ابتاه من لي في هذا القفر الموحش؟ فقال أبوذر: بنيّة، إذا أنا متّ فضعي البساط على وجهي و قفي على قارعة الطريق إلى العراق، فسوف يصل إليك تجّار فأخبريهم بحالي فإنّهم يلون أمري، فامتثلت الفتاة أمر أبيها و إذا بتجّار قد أقبلوا عليها فقامت في وجوههم:

أيّها الناس، أبوذر صاحب رسول اللّه فارق الحياة فأعينوا على تجهيزه.

فلمّا سمع القوم اسم أبي ذر ترجّلوا بأجمعهم عن دوابّهم و شرعوا في البكاء و كان أحدهم جاء معه بأربعة آلاف حلّة فانتزع إحداها و كفّنه بها ثمّ شيّعوه إلى قبره و دفنوه بخير تجلّة. أنظر إلى صنع خليفة رسول اللّه، بخ بخ لهذا الخليفة، و بخ بخ لهذا الصلاح.

فصل في قتل عثمان بن عفّان

اعلم بأنّ عثمان حين استتبت له الأمرة أرسل عمّاله إلى الولايات و الأقاليم في بلاد العرب و العجم فبعث إلى مصر عاملا من أقرب قرباء مروان لم يدخل الإيمان جوفه و كان مدمنا، كثير الزنا و الفجور، لا يكاد يفارق الثمل، و اسمه عبد اللّه، فسكر

ص: 161


1- تنسب هذه لغيره و قيل هذا الحوار جرى بين ابن مسعود و عائديه.

ذات ليلة إلى الصباح فصلّى بهم الصبح أربع ركعات و قرأ مكان الفاتحة:

عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا ثمّ سلّم و التفت إلى المصلّين و قال: هل أزيدكم (1) أنا سكران فإن شئتم صلّيتها ثمانيا، فاجتمع الناس، قيل: ثلاثة و عشرون إنسانا، و قيل: ثمانون ألف رجلا، و قصدوا المدينة فلمّا وصلوا إلى المدينة كان عثمان على المنبر فصاحوا بعثمان: اعتزل امرنا أو اعتدل و غيّر عمّالنا. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه اللّه (2)، و تشاجر القوم معه و أخيرا قبلوا بتأمير محمّد على مصر، و كتب عثمان معه كتابا بتأميره، و كتب كتابا آخر سرّا، و فيه: إذا جاءكم محمّد بن أبي بكر فاقتلوه.

و قال أمير المؤمنين لمحمّد: كن من القوم على حذر و احتط لنفسك فإنّك لا تصل مصر، لأنّهم يضمرون قتلك.

و عاد محمّد إلى مصر و في الطريق شاهدوا راكبا مسرعا، فأحضره محمّد و طالبه بالكتاب، فأنكره، فقال له محمّد: أخبرني به من لا يكذب، و فتّشوه فوجد الكتاب معه و قد وضعه في شنّ بالية، و لمّا قرأوه عادوا بأجمعهم إلى المدينة فوجدوا عثمان على المنبر، فقرأوا الكتاب على الناس و هو يستمع، فاعتذر عثمان بمروان و قال: هو صاحبها، فقال الناس: ادفع إلينا مروان، فقال عثمان: لا أفعل، فصاحوا

ص: 162


1- ما قصّه المؤلّف علينا يخالف ما رواه الرواة و المؤرّخون فهذا الذي سمّاه عبد اللّه و نسبه إلى رحم مروان و ولّاه على مصر إنّما هو الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة و أخوه من أمّه و كان معاقرا و مدمنا للشراب و مولعا بالزنا، و مشهورا بذلك، فشرب الخمر ليلة و دخل المسجد ليؤمّ الناس لصلاة الصبح، فصلّى بهم أربعا ثمّ التفت إلى المأمومين فقال: هل أزيدكم؟ حتّى أنّه كان في الصلاة الكذائيّة فأنشد أبياتا عشقيّة .. الخ. (أضواء على الصحيحين للنجميّ: 298 عن أحمد ابن حنبل، و شرح ابن أبي الحديد 17: 23)
2- لست أدري كيف ألبس اللّه هذا الكلب القميص؟ و متى ألبسه إيّاه؟ و هل ألبسه القميص ليبدي سوأته لعنه اللّه؟

به، فنزل مسرعا عن المنبر و اختبأ في بيته، فحاصروه ثلاثة أيّام و منعوا عليه الماء (1)، و في اليوم الثالث دخل عليه محمّد و ضربه ضربات جارحة و هجم عليه المهاجرون و الأنصار مجتمعين و استباحوا دمه و قتلوه، و تركوه ملقى في بيته ثلاثة أيّام لم يأذنوا بدفنه.

و قيل: ربطوا في رجله حبلا و سحبوه في الأسواق (2) فمنع أمير المؤمنين من ذلك و قال: هذا لا يليق بنا فإنّ أهل الكتاب يعيبوننا و يقولون: انظروا إلى ما يصنعه المسلمون بإمامهم و لكنّهم لا يعرفون عن ظلمه شيئا و كيف كانت سيرته، و دفن في مقابر اليهود بالقرب ممّن يدعى كوكب (كذا)، فلمّا استخلف معاوية لعنه اللّه ألحق المكان في مقابر المسلمين و من هذه الجهة قال بعض الصحابة: قتلناه كافرا.

و العجب من مقاييس القوم فإنّهم يجعلون إجماع أهل السقيفة حقّا و إجماع يوم الدار على قتل عثمان باطلا، و الحقّ طرح الاثنين و اعتقاد الحقّ مع عليّ عليه السّلام فنقول:

الحقّ مع عليّ عليه السّلام في الحالين.

و قيل: لمّا رجع محمّد وجد عثمان على المنبر فقال: ما قولك فيمن يدّعي الإسلام و إمامة المسلمين ثمّ يأمر بقتل أخيه المسلم من غير ذنب؟ فقال عثمان: يجب قتله إن صحّ الذي تقوله، فأخرج حينئذ محمّد كتابه و قرأه على المهاجرين و الأنصار، فصاحوا بعثمان و حملوا عليه فقتلوه و قالوا: لا يدفن في مقابر المسلمين.

ص: 163


1- تحدّثنا عن هذه المزعمة فيما سبق و قلنا المدينة لا تشرب من نهر تقوم على ضفافه و إنّما تشرب من الآبار و ما من بيت إلّا و له بئر يستعذبها لشربه و بئر أخرى لحاجاته الأخرى، و عثمان في بيته آبار لا بئر واحدة فكيف مات عطشانا، و إذا صحّ ذلك فإنّ اللّه قتله عطشا حين سلّط النار على جوفه.
2- هذا القول لم أعثر عليه عند أحد و قد تظلّموا لعثمان كثيرا فلم يذكروا في ظلامته سحبه في الأسواق و لا ندري شيئا عن مصادر المؤلّف.

و كان الإمام في ذلك اليوم قد اجتنب الفتنة و خرج خارج المدينة، فلمّا قتل عثمان تجمهروا في المسجد و قالوا: أنتم تعلمون بما جناه عثمان على الأمّة و نرى الصلاح في مبايعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لأنّه أهل لها و هو صالح و عالم و عابد، و كان الحقّ حقّه، فقال عمّر و أبو الهيثم بن التيّهان و رفاعة بن نافع و مالك بن العجلان و أبو أيّوب و خالد بأجمعهم: الرأي ما رأيتم و نحن معكم فأخرجوا بنا إلى بيت عليّ عليه السّلام، فاجتمعوا على بابه فضجر من هذا الوضع أمير المؤمنين لأنّه على علم بعذر طلحة و الزبير، فقال له الناس: إن لم تقبل البيعة ألحقناك بعثمان، و أوّل من بايعه طلحة و الزبير (لعنهما اللّه) و كان طلحة يعاديه إلى آخر حدّ، فالتفت عليّ إليهما و قال:

دعوني و التمسوا غيري، و قال أيضا: لا أرضى ببيعتكم لأنّي غير آمن من شرّكم و بايعه القوم طائعين غير مكرهين.

و كان طلحة خازن بيت المال و صاحب البهم و الصدقات و الزكاة أيّام عثمان (1) و لمّا قتل عثمان أرسل المفاتيح إلى عائشة و لجأ إليها.

و بايع أهل المدينة جميعا- قلبا و لسانا- أمير المؤمنين و كان اجتماعهم على البيعة لا نظير له حتّى كاد القوم أن يهلكوا، فقال أمير المؤمنين: أرى من الصلاح أن نذهب إلى المسجد ليعلم الناس كلّهم بالبيعة و يرغبوا بها.

الفصل الثاني في ذكر بعض أحوال أمير المؤمنين عليه السّلام

و لمّا تمّت البيعة لعليّ عليه السّلام خطب الناس خطبة بليغة و أمر الناس بطاعة اللّه

ص: 164


1- لم يسند إلى طلحة هذا المنصب أيّام عثمان و المؤلّف يقول من غير علم و يخالف إجماع المؤرّخين و لا يرشد إلى المصدر.

و رسوله و طاعته، و قال: إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي، و أنّه غصب منّي بالظلم و الجور، ثمّ نزل عن المنبر و أوّل خطوة خطاها عزل ولاة عثمان و ترك أبا موسى الأشعريّ لأنّ مالكا تشفع فيه ثمّ ولّى قثم بن العبّاس على مكّة و ولّى (عبد اللّه) عبيد اللّه بن العبّاس اليمن، و ولّى عثمان بن حنيف على خراج البصرة و الحارث بن قدامة على إمامة صلاتها.

و يقال: إنّه ولّى عبد اللّه بن العبّاس على الشام فامتنع و قال: لا أقدر على ذلك، لأنّ فيها معاوية و هو ابن عمّ عثمان و أدنى غدره أن يحبسني، فشاوره أمير المؤمنين في الشام و أهله، فقال: اكتب كتاب تولية معاوية على الشام ليعلم بذلك أهل الشام ثمّ ابعثني إليه أعزله. و استدعى المغيرة و شاوره في أمر الشام، فقال المغيرة: الرأي أن تترك الشام لمعاوية و تولّي طلحه و الزبير على البصرة و الكوفة، و كان عبد اللّه بن عبّاس لا يرى رأي المغيرة و قال: يا أمير المؤمنين، البصرة و الكوفة هما السواد الأعظم، و طلحة و الزبير عدوّك فليس بعيدا أن يجمعا الرجال و يخرجا عليك، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الرأي ما رأيت، فاستاء المغيرة من ذلك و قال: لا أشاركك الرأي بعد اليوم و لو كان بمقدار نفس واحد أي لا أشير عليك ما دمت حيّا.

و عمد عبد اللّه بن عبّاس فكتب كتاب التولية إلى معاوية سرّا فلمّا علم به أمير المؤمنين لامه فقال: إن ردّ الكتاب فإنّما يردّ كتابي، و إن قبله فإنّ النفع صائر إليك، فكتب أمير المؤمنين كتابا إليه و قال: بايعني المهاجرون و الأنصار و عليك أن تقدم بأهل الشام عليّ للبيعة و ولاية الشام لك (1).

ص: 165


1- هذا القول لم يقله أمير المؤمنين و ما كان ليولّي معاوية الشام و هو يعرفه حقّ المعرفة فإنّه يكون حينئذ شريكه في جناياته التي لا حصر له، و قال أمير المؤمنين لمن أشار عليه بإبقاء معاوية كلمة واحدة «و ما كنت متّخذ المضلّين عضدا» و هذا هو الموافق لعصمة أمير المؤمنين و إمامته، أمّا إطلاق الشام لمعاوية فهو كذب و افتراء و لا ندري من أين أخذ المؤلّف لأنّه لا يذكر المصدر إلّا نادرا.

و لمّا قرا معاوية كتاب أمير المؤمنين أنكره و قال: لا ولاية لعليّ عليّ، و قال قوم:

رضي معاوية بتفويض أمر الشام إليه كما جرت عادة الخلفاء من قبله و لكن الإمام عليه السّلام لم يرض بذلك و شفع له عبد اللّه بن عبّاس أن يترك الإمام ولاية الشام له ثمّ يعمل بعد ذلك بما شاء، فقال أمير المؤمنين: ما عذري إلى اللّه غدا يوم القيامة و ما جوابي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أترك على المسلمين واليا مثل معاوية بن أبي سفيان.

و أنا- المؤلّف- آخذ بهذا القول و أعتمد عليه لأنّه الجدير بالعصمة و التقوى، و أمّا القول الأوّل فهو المكر والدهاء، و هذه السياسة لا تلائم مقام العصمة، و إن كانت إلى الساسة أقرب، و لمّا بلغ الإمام عليه السّلام إباء معاوية عن بيعته جمع أهل المدينة و حرّضهم على حرب معاوية.

الفصل الثالث في قتل (شهادة) عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام

جاء في الروايات أنّه بعد إبرام الصلح بين عليّ عليه السّلام و معاوية (لعنه اللّه) اجتمع جماعة من الخوارج في بيت اللّه الحرام و راحوا يتذكّرون قتلاهم في النهروان و يترحّمون عليهم و يذكرون مناقبهم و يصلّون عليهم، فقام ابن ملجم من بينهم و قال: أنا أكفيكم عليّا، و قال عبد اللّه بن سليمان: و أنا أكفيكم معاوية، و قال عمرو ابن بكر التميميّ- التيميّ- اعهدوا إليّ بقتل ابن العاص، و اتّعدوا مع بعضهم البعض و جعلوا الموعد ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، و صلّوا على عثمان و الزبير،

ص: 166

و قال: سننتقم لدماء هؤلاء (1).

و حدث لعمرو بن العاص ليلة الموعد عارض من علّة فاستناب مكانه للصلاة عبد اللّه بن خارجة التميمي فقتله عبد اللّه بن سليمى خطأ كما قيل.

و ضرب عمر بن بكر التيمي كتف معاوية- ضربه على عجيزته- فلم يعمل السيف فيه فأرادوا قتل عمرو فقال: يا معاويه أطلقني فإنّ لك عندي بشارة، فقال معاويه: ما هي؟ قال: سيأتيك غدا نبأ قتل عبد الرحمان بن ملجم عليّا، فقال معاوية: إن صدقت فإنّي مطلقك و أمر بحبسه، فلمّا بلغه قتل عليّ أطلق سراحه.

و أمّا حكايه عبد الرحمان بن ملجم لعنه اللّه فإنّه ذهب إلى الكوفة و خبأ نفسه فيها و كتم سرّه، و صادف أن جائت قطام اللعينة إلى البيت الذي فيه عبد الرحمان ملجم، فلمّا رآها هويها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: إنّ مهري ثقيل. فقال عبد الرحمان: و كم عساه يكون؟ فقالت: ثلاثة آلاف درهم و عبد وقينة و قتل عليّ. فقال: ما أسهل المال و لكن ما أصعب قتل عليّ. فقالت: اطلبه حتّى تصيب غرّته فإن قتلته لذّلك العيش معي، و إذا قتلت فلا تعدم ثواب الآخرة. فطلبت له شبيب و هو من الخوارج ليعينه، و أفضى هؤلاء اللعناء بالسرّ إلى الأشعث بن قيس و كانت قطام قد اعتكفت في مسجد الكوفة و قد توشّحت بالسواد و كان الإمام قد قتل أباها و أخاها في النهروان فحقدت على الإمام جرّاء ذلك حقدا شديدا.

و كان حجر مقيما في المسجد تلك الليلة يصلّي، فارتاب بهم، فخرج مسرعا ليخبر أمير المؤمنين، فاختلف معه في الطريق.

ص: 167


1- أمّا رأي الخوارج في عثمان فهو على النقيض ممّا ذكره المؤلّف و إنّهم ليلعنونه لعنا كثيرا لاعتقادهم بأنّه أوّل من أبدع في الإسلام و ألحد في الدين و رأيهم في أهل الجمل لا يختلف عن رأيهم في نعثل.

قالت أمّ كلثوم: إرق أبي تلك الليلة فلم يغمض له جفن، و قضى ليلته مصلّيا و يخرج بين فترة و فترة و يقول: ما كذبت و لا كذّبت. قالت أمّ كلثوم: فقلت له: ما الذي جرى لك يا أبتاه لم تنم الليلة؟ فقال: غدا تعلمين ما الذي يجري على أبيك.

و كان في رمضان الذي قتل فيه أعرض عن الأكل و اقتصر على ثلاث لقمات، فقيل له: يا أمير المؤمنين، مالك لا تأكل؟ فقال: أشتهي أن ألقى اللّه و رسوله و أنا خميص البطن، و كان إذا بلغ الألم به أشدّه من رعيّته يقبض على لحيته الكريمة: متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من دم رأسي.

قال أبو صالح: سمعت عليّا يقول: رأيت النبيّ في النوم و شكوت له أمّته، فقال لي: لا تحزن فإنّك عن قريب تلقاني و تنجو من غدرهم، فما مرّ على تلك الرؤيا ليلتان حتّى خضّبه ابن ملجم لعنه اللّه بسيفه.

و لمّا سمع الأذان أمير المؤمنين عزم على الخورج إلى المسجد، فقالت له أمّ كلثوم:

أرى أن ترسل إلى جعدة بن هبيرة للصلاة و تقيم أنت في البيت، فقال: حسنا رأيت و لكن استثنى من ذلك و قال: لا مهرب من الموت.

اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيك

و لا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك قيل: لمّا جاء ابن ملجم للبيعة، أخذ الإمام البيعة منه سبع مرّات، فقال الإمام الحسن: لم تفعل بأحد من الناس ما فعلته بهذا؟ فقال: لو بايع مائة مرّة فإنّه لا يترك فعلته.

و كان هذا اللعين يماشي الإمام عليه السّلام فوقفت دابّته، فأمر الإمام بإبدالها بأحسن منها، و لمّا اعتلى ابن ملجم صهوتها و أدبر، قال أمير المؤمنين:

أريد حبائه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي كان عمر بن الخطّاب يروي رواية و يقول: إذا شككت بمولد طفل هل هو

ص: 168

لسفاح أو لنكاح فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ضعه أمام عليّ فإذا تبسّم و ضحك فهو ابن حلال، و إن بكى فهو لغير رشده.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال لي إبليس: قل لعليّ يرد لي حقّي، فقال أمير المؤمنين:

و ما حقّ هذا اللعين- يا رسول اللّه- عليّ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قال: ما من عدوّ لعليّ إلّا و أشركت أباه فيه، قال اللّه تعالى: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ (1) و الحقيقة أنّ عدوّ أهل بيت النبيّ لا يمكن أن يكون إلّا لغير رشدة.

و لمّا خرج أمير المؤمنين خرج و هو يردّد «اشدد حيازيمك للموت» و لمّا توسّط صحن الدار صحن إوز أهدين للحسنين في وجهه فزجرتهنّ أمّ كلثوم، فقال أمير المؤمنين: دعيهنّ يا بنيّة، فإنّهنّ ينحن عليّ.

و جوهر القول أنّ الإمام لمّا بلغ المسجد كان النغل الزنيم راقدا فيه يرقب غرّة الإمام، فأخذه النوم فأقبل الإمام و نادى برفيع صوته «الصلاة أيّتها الجماعة» فنهض شبيب حين دخل الإمام محرابه و شرع في الصلاة فضربه شبيب ضربة خفيفة لم تؤثّر فيه و لاذ بالفرار، و كان الإمام إذا دخل في الصلاة انقطع عن العالم، حتّى جائه عبد الرحمان بن ملجم عليه اللعنة و ضربه ضربة شديدة فخفّف في الصلاة و قد جرى الدم على لحيته الشريفة فكان يأخذ الدم و يمسح به الجدار، يقال: إنّ هذا الدم ما يزال ظاهرا في ذلك المكان.

ثمّ هرب ذلك اللعين و دخل شبيب بيته و أخذ يحلّ الحرير عن صدره و كان له ابن عمّ مسلم، فقال له: يا عدوّ اللّه، كأنّك قتلت أمير المؤمنين، فأراد أن يقول لا، فقال: نعم، فضربه ابن عمّه بالسيف حتّى ألحقه بجهنّم.

و هرب عبد الرحمان فارتفع النداء في الكوفة بأنّ عبد الرحمان قتل عليّا عليه السّلام،

ص: 169


1- الإسراء: 64.

و جاء حمّاميّ و بيده بساط فلمّا رأى ابن ملجم يعدو هاربا ألقى البساط على عنقه و أخذ يجرّه حتّى قدم به على الحسنين فأوقدوا مشعلا و حملوا الإمام إلى بيته و أمر جعدة ابن أخت الإمام أن يصلّي بالناس فجاؤوا الإمام بشراب من اللبن، فقال:

احملوا لابن ملجم مثله لأنّه خائف.

فصاح الناس به: أيّها اللعين، لم قتلت الإمام؟ فقال: ما أنا الذي قتلته، و جاؤوا بجرّاح لسبر جرح أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا أرسل المسبار في جرح الإمام عليه السّلام و أخرجه قال: يا أمير المؤمنين، أوص وصيّتك فإنّ سيف الملعون نفذ إلى الدماغ، لأنّه قال: اشتريت سيفي بألف، و سممته بألف، ثمّ أوصى الإمام وصيّة للحسن عليه السّلام و هي الوصيّة التي أوصاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: يا حسن، أنت وصيّي، و الحسين من بعدك وصيّك، و من بعده ولده عليّ بن الحسين زين العابدين، و أخيرا قال: إن سلمت من ضربة ابن ملجم فأنا أولى بدمي؛ إن شئت اقتصصت و إن شئت عفوت، و إذا أنا متّ فاضربوه ضربه بضربه، فإذا قتلتموه فأحرقوا جثّته كقاتلي الأنبياء فإنّ جثثهم تحرق بعد قتلهم، ثمّ توفّي الإمام بعد ذلك، فعمل الحسن بوصيّة أبيه و ضربه ضربة واحدة و استوهبت أمّ الهيثم و هي امرأه مؤمنة جثّته من الإمام الحسن عليه السّلام و أحرقتها.

و توفّي أمير المؤمنين في الواحد و العشرين من شهر رمضان و أوصى: إذا غسلتموني فكفّنوني و احملوني إلى الغري، فسيرتفع المقدّم فارفعوا المؤخّر، و حيثما وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، و ادفنوني هناك، فلمّا توفّاه اللّه إليه قام الإمام الحسن عليه السّلام بتجهيزه فغسّله و كفّنه و تقدّم للصلاة عليه و صلّى ورائه مواليه، و لمّا حملوا جنازته سمعوا للملائكة دويّا كدويّ النحل، و حملوا النعش إلى الغري، و دفن هناك حيث قبره الآن في النجف.

و لمّا بلغوا الموضع لاحت لهم صخرة بيضاء تدلّ على القبر فاشتغلوا بحفره، فلمّا حفروا قدر ذراعين ظهر لهم قبر محفور و لحد مشقوق و ساجة منقوره و كتب عليها:

ص: 170

هذا القبر من نوح لأخيه عليّ (1) بن أبي طالب وصيّ محمّد، فدفنوه فيه و ضيّعوا القبر بأمر الإمام حيث أوصاهم بإخفاء القبر لعلمه أنّ الحكم يؤول إلى بني أميّة و آل مروان و إذا علموا به فإنّهم يحفرونه.

و لمّا رجع المؤمنون من دفنه و شاهدوا معجزة القبر الذي حفره نوح قبل آلاف السنين له، بقي من لم ير ذلك في شوق زائد إليه، حتّى إذا ظهر القبر للعيان رغب مواليه في زيارته و رؤية هذه المعجزة فزاروا و شاهدوها.

و قال جماعة ذهبوا لزيارته و تحرّوا رؤية القبر فلم يقعوا على أثر له لأنّ اللّه تعالى أخفاه و بقي مستورا حتّى أيّام هارون الرشيد، و ذات يوم خرج الرشيد يصطاد فرأى قطيعا من الضباء تجثم على ذكوة بيضاء فلمّا بصرت بهم تفرّقت يمينا و شمالا فأرسلوا عليهنّ كلاب الصيد فإذا بلغن موضع الذكوة تراجعن إلى الوراء.

فتحيّر هارون في أمرهنّ فبنى أطنابه هناك و أرسل إلى الكوفة وراء شيخ طاعن في السنّ و سأله عن جلية الحال، فقال: إنّي سمعت أسلافي يقولون: ها هنا قبر عليّ بن أبي طالب. فأقام هارون ثلاثة أيّام هناك، و شرع في الصلاة و التضرّع و الزيارة، و من طلب حاجة من اللّه هناك فإنّها تقضى له.

و قيل: إنّ الإمام الصادق عليه السّلام في المدينة فاستدعاه (2) و أمره بتعيين قبر أمير المؤمنين إلى أن أقام عليه هارون قبّة فأصبح اليوم قبلة ذوي الحاجات.

قيل: لمّا رجع الحسنان من دفن أبيهما سمعا أنينا عاليا فقصدا مقصدها، فرأيا شيخا أعمى عاجزا، فقالا له: ممّ أنينك يا شيخ؟ قال: أنا شيخ أعمى كبير عاجز و كان رجل يأتيني و يتعاهدني بالرعاية، فيحمل لي طعامي و مائي، و هذه ثلاثة أيّام افتقدته فيه و لست أدري ما الذي حدث له.

ص: 171


1- فيا عجبا لهذا المؤلّف، أما علم أنّ عليّا ابن نوح و ليس أخاه.
2- استشهد الإمام الصادق عليه السّلام في عصر المنصور جدّ الرشيد فكيف غفل المؤلّف عن هذا.

فقال له الإمام الحسن: أما سألته عن اسمه؟ قال: سألته، فأجابني: عبدا من عباد اللّه تعالى. فإذا جاءني أحس بإشراقة باطنيّة تستولي عليّ و يذكو هذا البيت بعرف عصمته.

فبكى الحسنان و مواليهما و قالا: هذه صفة أبينا، فقال الرجل: من أبوكما؟ و من أنتما؟ فقالا: نحن الحسنان و أبونا عليّ بن أبي طالب. فقال الشيخ: و ما الذي جرى لأبيكما؟ فقالا: الآن فرغنا من دفنه و أقبلنا من قبره، فرفع الشيخ يده و قبض على تلابيبه و قال: بحقّ أمير المؤمنين إلّا ما أخذتموني إلى قبره، فحملوه إلى القبر، فوضع الشيخ رأسه على القبر و بكى بكاءا شديدا و قال: اللهمّ أسألك بعصمة أمير المؤمنين و طهارته إلّا ما قبضت روحي فإنّي لا أحبّ الحياة هذه، دعا بهذا الدعاء ثمّ أسلم الروح فقام الحسنان على تجهيزه و دفناه عند قبر أمير المؤمنين.

و كان عمره الشريف ثلاثا و ستّين سنة، ولد قبل البعثة بعشر سنين و عاش بعد البعثة مع النبيّ ثلاثا و عشرين سنة، و ثلاثين سنة بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مدّة خلافته خمس سنوات و أشهر (1). عاش بعد البعثة يعاني الشدائد مع المشركين، و في أيّام خلافته عليه السّلام الظاهريّة عانى دائما من خبث معاوية و طلحة و الزبير و الخوارج و أمثالهم، و لم يلقّب أحد قبله و لا أحد بعده بأمير المؤمنين (2) و لم يجاهد جهاده نبيّ و لا وصيّ نبيّ، و لم يكن في شجاعته أحد من الناس.

زوجته فاطمة الزهراء مربّية رسول اللّه محمّد المصطفى منذ طفولته إلى يوم وفاته، أولاده الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، و حباه اللّه بكثرة النسل بما لم يحب به أحدا من الناس و هم السادات الكبار المعروفون بالاسم و النسب و ليس لنبيّ ما له من الذرّيّه الطاهرة، و يتّصلون برسول اللّه بواسطة الزهراء فاطمة عليها السّلام.

ص: 172


1- المعروف أنّ العام الخامس من ولايته لم يتمّ.
2- أمّا الذين تلقّوا به قبل الإمام و بعده فإنّهم تلقّبوا به ظلما و عدوانا و زورا.

الباب الرابع و العشرون في تعيين تاريخ أعمار الخلفاء الأربعة

اشارة

اعلم أنّ أبا موسى الأشعريّ كان واليا لعمر بن الخطّاب في بعض النواحي فكتب إلى عمر: إنّ كتبك تصل إليّ و لست عارفا بتاريخها، فجمع عمر أصحابه و شاورهم في الأمر فقال بعضهم: نجعل أوّل التاريخ مبعث الرسول، فلم يرضى عمر ذلك و استشار عليّا عليه السّلام، فقال عليّ عليه السّلام: خرج الرسول من أهل الشرك و هو يوم هاجر، فرضي بذلك عمر و جعله أوّل التاريخ و كتب إلى الولايات و الأقاليم به، فكان يوم الهجرة معتبرا في أوّل التاريخ.

الفصل الأوّل

و ذكر الشيخ أبو الحسن الفارسي الناصبي في كتابه تاريخ الخلفاء أنّ اسم أبي بكر عبد اللّه، و اسم أبيه عثمان، و لقّب بعتيق و هو عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن لؤي، و كنية أبيه أبو قحافة، و أمّه سلمى بنت صخر، و وزيره عثمان بن عفّان في بيت المال و أمثاله، و وزير تدبير الملك و القهر و تولية الولايات و العزل و تعيين النوّاب على البلاد عمر بن الخطّاب.

ص: 173

و استقال أبو بكر مرّات بقوله: «أقيلوني» فلست بخيركم و عليّ فيكم. و لم يترك عمر الناس كي يقيلوه و قالوا: لا نقيلك، و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و ثمانية أيّام، و قيل: ثلاثة عشر يوما.

أخذ البيعة من الناس في سقيفة بني ساعدة في اليوم الأوّل، و سانده جماعة من أعداء أهل البيت، توفّي في اليوم السابع و العشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة و عمره ستّون سنة (1)، و كان أبوه حيّا يوم وفاته، و لم يستخلف أحد من الخلفاء و أبوه على قيد الحياة سواه، و ليس ذلك لخير يريده اللّه به لأنّ أباه امرئ غير معصوم من الخطأ فقد يخطأ و يرتكب معصية توجب عليه الحدّ فإن أقامه عليه ابنه فقد عصى اللّه فيم قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما (2) و إن ترك الحدّ عصى في تركه (3).

أمّا يوسف و نظائره من الأنبياء فإنّ نبوّتهم أتتهم بعد وفاة آبائهم، سلّمنا أنّ منهم من كان نبيّا في حياة أبيه، إلّا أنّه من ذوي العصمة الذي لا يظنّ بهم السوء، ثمّ إنّ يوسف و أشباهه نوّاب آبائهم في حياتهم و لم يكونوا أنبياء على الاستقلال (4).

أمّا ما يقال من أنّ أبا بكر كان في مبعث النبيّ ابن الأربعين عاما و بقي مع النبيّ

ص: 174


1- سبق أن ذكر المؤلّف عمره ثلاثا و ستّين عاما.
2- الإسراء: 23.
3- لا أرى وجها لهذا القول لأنّ تحريم «الأف» في الآية لأمور تعود إلى النفس و تدعو إلى التذمّر و إقامة الحدّ يعود إلى حقّ اللّه فلا يدخل تحت مفهوم الآية.
4- سبحان اللّه! إنّ هذا لرأي بارد أجلّ المؤلّف عنه لأنّنا لو سلّمنا له بما قال عن الأنبياء و آبائهم فإنّ الإشكال باقى مع أمّهاتهم، و حقوق الأمّ إن لم تزد على حقوق الأب فإنّها لا تقلّ عنه، و كلّ ما قاله من نبوّتهم بعد موت آبائهم و نيابتهم عن آبائهم لا اصل له، فمنهم من تنبّأ و أبوه حيّ أو ليس بنبيّ أبوه، و حينئذ يبقى الإشكال الذي ساقه على أبي بكر على حاله، اللهمّ إلّا شي ء واحد ينبغي أن يقتصر عليه و هو عصمتهم بخلاف ابن أبي قحافة ذي المعاصي و صاحب الشيطان.

ثلاثا و عشرين سنة مدّة البعثة و بقي سنتين و ثلاثة أشهر و أيّاما بعد وفاة النبيّ فكان يوم وفاته له من العمر خمس و ستّون عاما و ثلاثة أشهر و أيّاما فإنّ هذا هو المعتمد لا الرواية الأولى.

و كان أبو بكر من بني «تيم اللات».

الفصل الثاني

و كنية عمر «أبو حفص» و قالوا: عمر بن الخطّاب بن نفيل ابن عبد العزيز بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و وزيره زياد بن مسلم، دامت خلافته عشرة أعوام و ستّة أشهر و أربعة أيّام، و قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة في السادس و العشرين من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين من الهجرة، و كان له من العمر ثلاث و ستّون سنة، و صلّى عليه صهيب مولى عبد اللّه بن جدعان.

سألوا الإمام الصادق عن أبي بكر و عمر كيف استقامت لهما الأمّة و لم تستقم لعثمان، فقال عليه السّلام: عدل الرجلان مع الناس إلّا مع أهل بيت النبيّ، أمّا عثمان فكان ظلمه عامّا؛ لأهل البيت و للناس قاطبة، من هذه الجهة اجتمع الناس عليه فقتلوه (1)، و سلبت ثقة الناس فيه، اللهمّ إلّا ما يذاع عنه من أفعال محمودة ليس لها واقع بل أنشئت كراهيّة للشيعة و أهل بيت الرسول و أذاعتها جماعة تطلق على نفسها العثمانيّة و كان عمر عدويّا.

ص: 175


1- لعلّ الإمام يريد بعد لهما مقيسا إلى ظلم عثمان فهما خير منه سيرة و سلوكا، أمّا العدل من حيث هو عدل فلا لأنّ حروب ما يسمّى بالردة و ما جناه أبو بكر على يدي السفّاح خالد بن الوليد من قتل الناس و إحراقهم و التمثيل بهم لم يترك للرجلين رائحة من العدل.

الفصل الثالث

و كنية عثمان أبو عبد اللّه و هو عثمان بن أبي العاص بن أميّة يعني عثمان بن أبي عاصم بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (1)، بويع في أوّل المحرّم سنة أربع و عشرين، و دامت خلافته اثني عشر عاما إلّا ثمانية أيّام، و قتل بالمدينة بإجماع المهاجرين و الأنصار لاثني عشر ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة ستّ و ثلاثين، و كان عمره ثمانين سنة و هو أوّل ملوك بني أميّة

الفصل الرابع

كانت خلافة مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ عليه السّلام أربع سنين و ثمانية أشهر و تسعة عشر يوما، و دفن يوم الجمعة ليلة الحادي و العشرين من شهر رمضان، و هو هاشميّ الأبوين، عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، ابن عمّ الرسول شقيق والده عبد اللّه، و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و عمره الشريف ثلاثة و ستّون عاما، و قيل: خمسة و ستّون.

الفصل الخامس

قال أبو عنان مالك بن إسماعيل الهنديّ و يسمّى الراهب أو الواهب: حضر محمّد بن أبي بكر عند أبيه في السياق و هو ينازع سكرات الموت، فقال له: أراك يا أبتى بحال لم تكن عليها من قبل، فقال: يا بني، للرجل عليّ مظلمة إذا حلّني منها رجوت أن أفيق (2).

ص: 176


1- تبعة هذا النسب على المؤلّف فإن ورد فيه خطأ فعليه وزره.
2- كان عمر محمّد رضى اللّه عنه عندما هلك أبوه سنتين.

و حديثه سقيم، فقال محمّد: من ذلك الرجل يا أبتى؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال محمّد: أنا الضامن لعليّ أن يحاللك لأنّه رجل سليم، ثمّ أقبل محمّد على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: تركت أبي على شرّ حال و ضمنت له أنّك تعفو عنه و تبرء ذمّته، إن كان ذلك من رأيك، و تترحّم عليه و تعفو منه.

فقال أمير المؤمنين: «كرامة لك» و لكن قل لأبيك أن يرقى المنبر و يخبر الناس بهذا ليخرج من ذمامي، فعاد محمّد إلى أبيه و قال: قد استجيب الدعاء فقد قال عليّ: كيت و كيت، فقال أبو بكر: ما أحبّ أن لا يصلّي عليّ بعدي اثنان (1) فإنّي إن أقل هذا القول أبق لعنة على ألسن الناس إلى يوم القيامة.

سأل أمير المؤمنين يوما محمّدا بن أبي بكر: أما سمعت أباك يقرأ هذه الآية:

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (2) و قال عمر لك أحذر يا بني أن يسمع منك ابن أبي طالب ما قال أبوك فيشمت بنا؟ فقال محمّد: صدقت يا علي، و قال: أنا سمعت (أبي) يلعنه و يقول: أنت أوردتني الموارد، فقال: بلى .. (3).

ص: 177


1- ينبغي أن تكون العبارة هكذا: أتحبّ أن لا يصلّي عليّ اثنان.
2- ق: 19.
3- من أجل الحقيقة و حدّها يجب أن لا نمرّ بهذه الأحاديث مرّ الكرام، فإنّ اليقين خير من الشكّ، و الصدق خير من نقيضه، و لا بدّ من معرفة العمر الحقيقيّ لمحمّد بن أبي بكر عند موت أبيه، فقد أجمعت كلمة المؤرّخين على صغر سنّه عند موت أبيه. قال الخوئي في معجم رجال الحديث عن وعظ محمّد لأبيه عند موته: إنّ عمر محمّد و قتئذ كان أقلّ من ثلاث سنين (9: 230)، و قال أيضا عن رجال الشيخ: محمّد بن أبي بكر ولد في حجّة الوداع و قتل بمصر سنة 38 من الهجرة في خلافة عليّ عليه السّلام، و إذا كان في وفاة أبيه بهذه السنة التي لا تتجاوز سنّ اللبن فكيف أمكنه محاورته أو وعظه و نصيحته، و المؤلّف يورد الرواية و يتركها مطلقة دون تحكيم العقل بنقدها، و إنّ هذا الأمر مريب و سرّ عجيب.

الفصل السادس

و جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» (1) أنّ أبا بكر و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح أدركهم الموت و هم في الويل و الثبور.

و قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي عند الموت: هذا محمّد و عليّ قد حضرا عندي و هما يبشّراني بالنار، و في يد محمّد صحيفة هي التي كتبنا فيها عهودنا و هما يقرءان فيها و يبشّراني و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح بجهنّم، و كانت عائشة و عبد الرحمان بن أبي بكر و عمر حاضرين عند أبي بكر، فقال عمر: إنّه ليهجر و لكن اكتموا هذا السرّ لئلّا يشمت بكم عليّ و بنو هاشم.

قال محمّد: فقال أبي: يا عمر، إنّي لا أهجر، ألا تذكر عندما كنت معه في الغار قال لي: إنّي لأرى سفينة جعفر تجري في بحر الحبشة، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيها، فمسح بيديه على عينيّ فرأيتها، فقلت في نفسي: هذا الرجل ساحر، و لمّا رجعت إلى المدينة قلت لك بما في نفسي، و اتفقنا أنا و أنت في الرأي عمرنا كلّه على أنّه ساحر؟

فقام عمر من عنده و ذهب خارج الدار.

قال محمّد: فقلت له: يا أبت، قل لا إله إلّا اللّه، فقال: و اللّه لا قلتها و لا أستطيع قولها حتّى أدخل النار و أكون في التابوت، فذكر التابوت فقلت في نفسي: إنّه ليهجر، فسألته: و ما التابوت؟ فقال: إنّه تابوت يكوت تحت طبقات جهنّم و دركاتها و فيه اثنا عشر شخصا: أنا و أبو بكر و عمر و عثمان و معاوية و يزيد إلى أن

ص: 178


1- كتاب «فعلت فلا تلم» في المثالب، لأبي الجيش المظفّر بن محمّد البلخي الخراسانيّ المتوفّى سنة 367. قال في الفهرست: و هو كتاب كبير، و ينقل عنه في الكامل البهائي في 673 و يقال له: قد فعلت فلا تلم، راجع الذريعة 16: 277.

عدّ آخرهم، ثمّ قال: إذا أمر اللّه النار أن تثب فإنّ هذا التابوت يخرج من موضعه المسمّى بالعنق.

قال محمّد: قلت له: «يا أبت تهذي»؟ قال: و اللّه ما أهذي، لعن اللّه ابن (الضحّاك) صهّاك هو الذي صدّني عن الذكر بعد ما جائني فبئس القرين، و وضع وجهه على الأرض و نادى بالويل و الثبور إلى أن هلك، فجائني عمر و أخي عبد الرحمان و سألاني: هل قال شيئا آخر؟ فقصصت عليهما ما قال، فقال: احذر أن تبلغ عليّا قوله.

قال محمّد: و أخبرني عليّ عليه السّلام بحالات أبي كأنّما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأتيه كلّ ليلة في النوم فيخبره بما يكون عليه حال القوم أو أنّه كان يحدّثني من الجفر الجامع للعلوم، أو أنّ ملكا يأتيه فيحدّثه كما كان يأتي مريم أمّ عيسى، أو أمّ موسى، أو زوج إبراهيم ساره التي كلّمتها الملائكة و رأتهم، و هذا كلّه مذكور في القرآن.

قال معاذ بن جبل عند موته: اتّعدنا في حجّة الوداع و تعاهدنا أن لا نترك عليّا يبلغ الخلافة، و كان بشير بن سعد و أسيد بن حضير في هذا العهد، فلمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال معاذ: أنا أكفيكم الأنصار و أنتم اكفونا قريشا.

تنبيه: قال عبد اللّه بن عمر: أحضر أبي عليّا عليه السّلام عند موته و طلب منه إبراء لذمّته، فقال عليّ عليه السّلام: أفعل إن رضيت بشهادة عدلين على ذلك، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط و سكت ساعة ثمّ أعاد القول ثانيا، فأعاد عليّ عليه السّلام قوله، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط ثمّ نهض عليّ خارجا من المكان.

و لمّا كانت الطعنة شديدة على عمر أوتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فقصده جماعة و بشّروه بالجنّة، فتنفّس عمر الصعداء حتّى كادت روحه أن تخرج، ثمّ قال:

و اللّه لو أنّ لي ما في الأرض من صفراء و بيضاء لافتديت بها من هول المطّلع. و هذه رواية ابن عبّاس.

ص: 179

و روي أنّه قال: لوددت أنّي لا أدخل النار، و أمثال هذه الروايات.

و دلائل قول أمير المؤمنين: ما زلت مغصوبا (حقّي) منذ قبض اللّه رسوله و لقد مات و إنّي و اللّه لأولى الناس بها مني بقميصي هذا.

و كان يقول دائما: و اللّه لو كان حمزة و جعفر حيّين ما طمع فيها أبو بكر و عمر و لكن ابتليت بحالفين حافيين عقيل و العبّاس (1) و راوية هذا الخبر أبو جعفر محمّد الباقر عليه السّلام.

الفصل السابع

جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» أنّ أبا بكر ندم في مرض موته و كان يقول: ليتني لم أؤمّن الأشعث بن قيس و لم أزوّجه أختي.

و القضيّة التي ملأت قلب الشيخ بالحسرة هي أنّ الأشعث كان قد ارتدّ و كان قد صدر الأمر بقتله، فاستشار أبو بكر أباه أبا قحافة و كان أبو قحافة قد عرض عليه الإسلام في ذلك اليوم، و قال لأبي بكر: آمنه و زوّجه أختك عسى أن ننال بذلك رفعة و فخرا، و لو كنت في الجاهليّة لما تيسّرت لك هذه الحال، ففعل أبو بكر ذلك طلبا للملك و الجاه و أجرى عليه حكم الإسلام، فقال الأصبغ بن حرملة الليثيّ:

أتيت بكنديّ قد ارتدّ و ارتقى إلى غاية من نقض ميثاقه كفرا

أكان ثواب النكث إحياء نفسه و كان ثواب الكفر تزويجه البكرا

فلو أنّه يأتي عليك نكاحهاو تزويجه يوما لأمهرته مهرا

و لو أنّه رام الزيادة مثلهالأنكحته عشرا و أتبعته عشرا

فقل لأبي بكر و قد شئت بعدهاقريشا و أحملت النباهة و الذكرا

أما كان في تيم بن مرّة واحدتزوّجه لولا أردت به الفخرا؟

ص: 180


1- لعلّهما حليفين حافيين، و لكن المؤلّف ترجمها بقوله: «دو سوگند خورنده و پا برهنه».

و لو كنت لما أن أتاك قتلته لأحرزتها ذكرا و قدّمتها ذخرا

فأضحى يرى ما قد فعلت فريضةعليك فلا حمدا حويت و لا أجرا (1) الندم الثاني قوله: «و ليتني لم أكشف بيت فاطمة» (2).

الجواب: هذا ليس ذنبه هو بل ذنب صاحبه عمر و خالد بن الوليد لينال عمر المكافأة ثمّ يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» أمّا يوم الجزاء لا ينفعه صاحبه و لا يغيثونه، يوم يفرّ المرء من أبيه.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده التأسّف الثالث قوله: ليتني لم أولّ السقيفة (3). و هذا يدلّ على ظهور عاقبة أمره لعينه و انكاشفها له بحكم قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (4) و يدلّ أيضا على أنّ فعله لم يكن بأمر اللّه و رسوله و لا بمشاورة المؤمنين و إلّا فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ما خاب من استشار» (5) و دليله قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة .. الخ.

ص: 181


1- الغدير 7: 175 نقلا عن تاريخ الطبريّ 3: 276، و ثمار القلوب للثعالبي: 69، الاستيعاب 1: 51، الكامل لابن الأثير 2: 160، مجمع الأمثال للميداني 2: 341، الإصابة 1: 51 و 3: 630.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 24، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 420، ميزان الاعتدال 3: 109، لسان الميزان 4: 189، تاريخ الطبري 2: 619.
3- تاريخ الطبري 2: 619، لسان الميزان لابن حجر 4: 189، ميزان الاعتدال 3: 109، تاريخ دمشق 30: 420.
4- ق: 22.
5- نور البراهين للجزائري 2: 330، شرح مسند أبي حنيفة لملّا علي القاري: 517، كشف الخفاء للعجلوني 2: 188.

و لقد قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1) و قوله تعالى: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ (2).

الندم الرابع قوله: وددت أنّي لم أكن حرقت (محارب) الفجاءة السلمي و قتلته سريحا أو خلّيته نجيحا؛ لأنّ التعذيب بالنار مخالف لقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (3).

الفصل الثامن في أنّهما دفنا في موضع غصب

و دليله قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (4).

الاستدلال: منع اللّه تعالى من دخول بيت النبيّ في حال حياته إلّا بإذنه فكيف يحلّ الدخول و هو في الرفيق الأعلى، فتكون الحال للرجلين أنّهما دفنا في مكان خالفا فيه اللّه و رسوله، و البيوت بيوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد سمّاها اللّه «بيوت النبي» فأضاف البيوت إليه.

و أمّا قولهم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجرة عائشة، فلا يدلّ هذا القول على التمليك لأنّ الإضافة بعلاقة التمييز الملابسة كما يقولون: خرج من حجرة لأدنى ملابسة إذ من المقطوع به أنّ الخارج لم يكن في الحجرة كلّها ساعة خروجه.

ص: 182


1- المؤمن: 52.
2- فاطر: 37.
3- تاريخ دمشق 30: 420، تاريخ الطبري 2: 619.
4- الأحزاب: 53.

لا يقال: بأنّهما دفنا في حصّة ابنتيهما عائشة و حفصة لما لهما من الثمن و سهمهما من الثمن «التسع» أي تعطى كلّ واحدة منهما التسع منالثمن و هو لا يقوم بشبر واحد بل دون الشبر فكيف يتّسع الشبران لقبرين؟

ثمّ ألم يقولوا: إنّ النبيّ لم يورث بل كان إرثه صدقة على المسلمين و حينئذ يتّسع الخرق على الراقع حيث يكونان قد دفنا في أرض المسلمين و لعلّ من المسلمين من لا يرضى بدفنهما في أرضه مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة (1).

لا سيّما إذا مرّ على ذلك سنون عدّة فتبيّن من هذا أنّ الرجلين دفنا في أرض مغصوبة.

و إن قال الخصم أنّ الحجرتين ميراثهما من رسول اللّه فوهبتاه إلى أبيهما.

الجواب: و هذا قول باطل، و اعلم أنّهما إن جاز ميراثهما من رسول اللّه فقد جاز للزهراء عليها السّلام أيضا و لكنّ الخصم يزعم أنّ النبيّ لا يورث. ما أعجب هذا القول:

لا ترث ابنة رسول اللّه أباها و ترث ابنة عمر و ابنة أبي بكر رسول اللّه، إنّ هذا لمضحك من القول و شرّ المصائب ما يضحك.

و إن كانت حجرتاهما ميراثا و وهبتاه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ الهبة لا يجوز الرجوع بها «الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه» (2) و بناءا على هذا يكون نقضا لعهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 183


1- إن كان غرضه من هذا القول أنّ الشقيّتين لا تحلّ عليهما الصدقة فهذا خلاف الواقع لأنّهما كانتا تأكلانها و تدفع إليهما باعتبار كونهما من غير أهل البيت المحرّمة عليهم الصدقة.
2- مسند أحمد 2: 208، سنن النسائي 6: 267، مسند ابن المبارك: 124، السنن الكبرى 4: 124، شرح معاني الآثار لابن مسلمة 4: 78، صحيح ابن حبّان 11: 523، المعجم الأوسط 4: 173، فيض القدير للمناوي 6: 502، الكامل 3: 68، إصلاح المنطق: 94.

الاستدلال الثاني: إنّ اللّه لم يأذن لأحد أن يقيم في بيت النبيّ ساعة من النهار و من فعل ذلك لامه اللّه و أدّبه فكيف يسوغ لهما بدون إذن من اللّه و رسوله النوم هناك و قال اللّه تعالى في ختام الآية: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ (1) و قال في حقّ من آذاه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (2).

وجه آخر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (3) و بقيت هذه السنّة إلى الآن لا يرفع القرّاء أصواتهم في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله احتراما له و امتثالا لأوامره و هؤلاء فعلوا ما فعلوا في محضر الرسول و وطأوا بساط النبوّة و كانت أصواتهم و نعراتهم تخترق المسافات حتّى تغطّي مساحة نصف المدينة، نسأل اللّه أن يرزقهم الحياء. و كان النبيّ مادام على قيد الحياة فهو في عسر معهم و بعد أن توفّاه اللّه إليه زادوا الطين بلّة، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) إنّ اللّه لم يرض بمناداة النبيّ من وراء الحجرات فكيف يرضى لهم النوم في حجرته، و تنطلق الأصوات هناك كأنّها الصواعق منهم.

بيّنة: بقي النساء اللواتي كنّ يسكنّ الحجرات في حجراتهنّ بعد وفاته تطبيقا لقوله تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (5) ما عدا عائشة فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخرجها من البيت.

و سرّ هذا الأمر واضح فإن كان يعلم بما يجري منها من ركوب الجمل، و غزوها و قتالها لتنال بذلك الثواب و فضلها القوم على غيرها بقصدها عليّا و حسنا و حسينا

ص: 184


1- الأحزاب: 53.
2- الأحزاب: 57.
3- الحجرات: 2.
4- الحجرات: 4.
5- الأحزاب: 33.

للقتال و غيرهم من الصحابة ممّن نصرهم، و أبى باقي النساء أن يسلكن مسلكها و ينبغي على صاحب هذا المعتقد أن يستحي من اللّه إن كان يعرف ما هو الحياء،.

و لمّا عرف النبيّ ذلك بالوحي و علم أنّ ذلك على حساب شرفه صلّى اللّه عليه و آله و حيائه حيث تقود زوجه جيشا و ترتّب ميمنته و ميسرته و قلبه لذلك أوكل أمر طلاقها إلى أمير المؤمنين فامتثل الإمام هذا الأمر لأنّه إذا فقدت البيت فقد العائل أيضا (1).

الفصل التاسع في إسلام عليّ عليه السّلام

سبق عليّ أبا بكر و عمر و عثمان بالإسلام، و عبد اللّه بعدهم حيث هلكوا قبله، و بقي يعبد اللّه بعدهم بل لم يصل العالم إلى العبادة الحقّة إلّا بفضل جهاده عليه السّلام.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» (2) و ما يقال من أنّه كان طفلا حين أسلم، الجواب: إن لم يكن لإيمان الطفل اعتبار فإنّ فطرته من نوع العبث فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (3) و مثلها الحديث: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء» (4) و الحديث: ما من مولود إلّا يولد على الفطرة و أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه

ص: 185


1- أنا أتوقّف في هذه المسألة لأنّ ذلك يخفّف من ذنبها حين تخرج من عصمة رسول اللّه و تكون امراة عادية بالطلاق أضف إلى ذلك أنّ الطلاق لا يكون إلّا و الزوج على قيدة الحياة و النبيّ غير مستثنى من هذه المسألة.
2- مجمع الفائدة 3: 216، شرح أصول الكافي 12: 412، الطرائف: 519، عوالي اللئالي 4: 86، كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي: 42، بحار الأنوار 39: 2، الغدير للأميني 7: 206، كشف اليقين: 82، وفيات الأئمّة: 12.
3- الروم: 30.
4- المحلّى لابن حزم: 389، المصنّف لعبد الرزّاق الصنعاني 11: 120، الآحاد و المثاني للضحّاك 2: 401، مجمع البيان للطبرسي 10: 28، تفسير نور الثقلين 5: 338.

أو يمجّسانه (1)، مع أنّ درجة النبوّة أعلى الدرجات و كانت للطفل جائزة فيكون الإيمان أقرب للجواز.

أعطى اللّه النبوّة ليحيى و هو طفل و قال سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (2)، و أعطى عيسى النبوّة و هو طفل: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (3) و هذه المعاني يمكن أن تكون بالإيمان، و كانت حال يوسف مشبهة لحال هؤلاء كما خاطبه و هو في البئر: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (4) و إذا أمكن أن يكون الطفل صاحب وحي أمكن أن يكون صاحب إيمان بطريق أولى.

جواب آخر: كان عليّ عليه السّلام عين الإيمان، و الإيمان به واجب بحكم أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (5).

جواب آخر: و عندنا اليوم لا يقال لمن ولد بين مسلمين قد أسلم لأنّه ولد على ذلك، و أشبهت حال عليّ عليه السّلام ذلك، لأنّه ولد بين يدي الرسول و لم يسجد لصنم أو يعبد صنما أبدا، و كان أبو بكر يعبد الأصنام ستّا و أربعين سنة، و من كان مثله يجب عليه أن يؤمن.

ص: 186


1- الخلاف 3: 591، مختلف الشيعة 6: 108، تذكرة الفقهاء 1: 425، المبسوط للسرخسيّ 5: 44، البحر الرائق 2: 331، حاشية ردّ المختار لابن عابدين 3: 216، المغني 6: 377، مسند أحمد 2: 315 و 364، صحيح البخاري 2: 97 و 98 و 104، و 6: 20، و 7: 211، صحيح مسلم 8: 52 و 53، سنن أبي داود 2: 416، سنن الترمذي 3: 303، سنن البيهقي 6: 202 و 203، مجمع الزوائد 7: 218، مسند الطيالسي: 311، مسند الحميدي 2: 473، المعجم الكبير 1: 283.
2- مريم: 12.
3- مريم: 30.
4- يوسف: 15.
5- النساء: 59.

جواب آخر: كان عمر عليّ عند الوفاة خمسا و أربعين سنة سلخ منها ثلاثا و عشرين عاما مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسعا و ثلاثين عاما سوى خمسة أشهر عاشها بعده، و يصحّ البلوغ في الثالثة عشرة و يبدأ النموّ في سنّ العاشرة، سلّمنا أنّه لم يكن بالغا عند ما أسلم و لكنّه لم يكفر كغيره و لم يستظلّ بظلّ الشرك- و حاشاه من ذلك-.

جواب آخر: سلّمنا بطفولته إلّا أنّ إسلامه بنحو الإلهام أو لا؟ فإن كان الأوّل فيكون إيمانه أعلى مراتب الإيمان، و إن كان الثاني فلا بدّ من كونه بطلب و دعوة من النبيّ و النبيّ لا يفعل ذلك إلّا بأمر اللّه كما قال اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1) و قال: ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (2) و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (3).

و تخصيصه من دون فتيان العالم بالدعوة لا بدّ من كونه لخاصيّة في شخصه و درجة عالية له بين الناس. و عندنا أنّ عناية كهذه تختصّ بالأنبياء أو الأئمّة و يظهر الإعلام عند ما يبلغ المعتنى به أشدّه كما فعل عيسى عند بلوغه من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إظهارا لنبوّته، و هذه البشارة من أعلام نبوّة المسيح على نبيّنا و آله و عليه السلام و إلّا لو افترضنا بأنّ إيمان عليّ عليه السّلام كان بالوحي أو من تلقاء نفسه فإنّها فضيلة لا تبلغها العقول، و لا يحيط بها خاطر، لأنّ النور ملأ قلبه في بيئة يغمرها الشرك، و تطغى عليها موجة الكفر.

ص: 187


1- النجم: 3 و 4.
2- ص: 86.
3- الحاقّة 46: 44.

جواب آخر: اتفق المسلمون على أنّ اللّه تعالى بعث نبيّه للمكلّفين البالغين لا للصبيان دون البلوغ و لا للمجانين، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاه- باتفاق العلماء- إلى الدين فلا بدّ من كونه و اصلا حدّ البلوغ المكلّف.

جواب آخر: خاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1) فكان على النبيّ أن يبدأ بقومه أوّلا بحكم هذه الآية و مقتضاها إذ العادة قاضية بأنّه ليس من الصحيح أن يتطلّب المرء إرشاد الغرباء و هدايتهم بالوعظ و النصيحة و يترك أهله و ذويه على طرف الضلال مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها (2)، و قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3).

و اتفقوا على أنّ عليّا كتب إلى معاوية:

سبقتكم إلى الإسلام طرّاغلاما ما بلغت أوان علمي و نزل الوحي على النبيّ يوم الاثنين و أسلم عليّ عليه السّلام يوم الثلاثاء و صلّى معه.

و قالوا: لمّا دعا النبيّ عليّا عليه السّلام قال: أمهلني حتّى أشاور أبي، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يا عليّ، إنّها أمانة، فقال عليّ عليه السّلام: إن كانت أمانة فقد أسلمت.

و قال ابن عبّاس: لمّا دعا رسول اللّه عليّا إلى الصلاة و الإسلام قال: إنّ هذا دين يخالف دين أبي حتّى أنظر فيه و أشاور أبا طالب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انظر و اكتم، فمكث هنيئة ثمّ قال: أجيبك (4)، و هذا الأمر من التفكير و حفظ السرّ و مشاورة

ص: 188


1- الشعراء: 214.
2- طه: 132.
3- التحريم: 6.
4- الفصول المختارة: 280، سعد السعود: 216.

الأب، و الصبر و التمهّل، و إدراك كون هذا الأمر لا ينبغي أن يشاور فيه، دليل على أنّ إسلام عليّ لم يكن بالتقليد و الاتّباع بل بالدليل الملزم و البرهان القاطع، و الطفل لا يملك حاسّة التميز بين الحقّ و الباطل.

و لو لم يكن عليّ بالغا مبلغ الرجال لما أوصاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكتمان السرّ و لم يأتمنه، و لمّا كان النبيّ قد ائتمنه فينبغي أن يكون واثقا به و قد أوضحت ذلك في كتاب «مناقب الطاهرين» و أشبعت هذا الباب بحثا فاطلبه هناك.

و نتيجة القول: إنّ عليّا عليه السّلام كان تحت ضغط المنافقين و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أوذي نبيّ كما أوذيت (1) و هذا يبرهن على أنّ وصيّ النبيّ و هو عليّ ما أوذي وصيّ بمثل ما أوذي به وصيّ محمّد.

الفصل العاشر

و من الترّهات ما رواه رواتهم من أنّ شاعرا أنشد النبيّ الشعر فلمّا طلع عليهم عمر أمره بالإمساك، فلمّا ولّى أمره بالإنشاد فأنشد و أخذ يتغنّى بشعره، و عاد عمر ثانية فعاد النبيّ يأمر الشاعر بالإمساك، و لمّا ولّى قال له: أنشد، فلمّا عاد قال له:

أمسك، فقال الشاعر: من هذا يا رسول اللّه؟ إذا جاء أمرتني بالإمساك، و إن ذهب أمرتني بالإنشاد، فقال رسول اللّه: إنّه عمر و إنّه لا يحبّ الباطل.

لقد حملهم حبّهم لعمر على نسبة الباطل إلى رسول اللّه فكيف يصحّ هذا أنّ النبيّ

ص: 189


1- كتاب التمحيص لمحمّد بن همام الإسكافي: 4، العوائد و الفوائد للسيّد مصطفى الخميني: 45، كامل الزيارات: 201، مناقب ابن شهر آشوب 3: 42، بحار الأنوار 39: 56، مستدرك سفينة البحار 10: 102، فتح الباري لابن حجر 7: 126، الجامع الصغير 2: 488، كنز العمّال 2: 130 رقم 5817 و 5818 و 11: 461 رقم 32160 و 32161.

يحبّ الباطل و عمر لا يحبّه، و إذا جاز حمل الباطل على النبيّ في مورد- و حاشاه من ذلك- جاز حمله عليه في كلّ الموارد، و الذي يهون الخطب أنّ اللّه سبحانه و تعالى في مذهب القوم فاعل لجميع القبائح و المظالم، و الغرض من هذا كلّه تنزيه عمر، و إذا نزّهوا عمر و نسبوا الباطل للنبيّ و أسمعوه الباطل فلا عجب من سوء مذهبهم، و مع هذا يروون عن عمر قوله: «أحبّ الأشياء إليّ الشعر»، و قال أيضا: علّموا أولادكم الشعر فإنّه ديوان العرب و معرفة أنسابكم و حفظ مناقبكم.

و قيل: إنّ سارية بن درهم (1) كان يقاتل في نهاوند و هو القائد على جيش المسلمين فأرسله عمر إلى غزاة فغلبه المشركون و هزم عسكره، فعلم عمر و هو في المدينة بما جرى عليه، فناداه: يا سارية الجبل هذا، فسمع سارية و التجأ إلى الجبل (2)، فإذا كان سارية سمع صوت عمر مع هذا البعد الشاسع فإنّه أفضل من عمر حين أوتي حدّه السمع هذه.

و الغرض من هذا تشبيه عمر برسول اللّه لمّا أخبر عن شهاده جعفر في غزوة مؤتة بوحي من اللّه و كشف الحجب له و ثنّى من بعده بزيد بن حارثة و من بعده بعبد اللّه بن رواحة، و هكذا فعل حين أخبر عن سارية و أمره باللجوء إلى الجبل.

و قالوا: سبّح الحصى بكفّ عثمان و الغرض من هذا الافتراء مساواة عثمان (البوّال على عقبيه- المترجم) برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لو كذبوا مئات بل آلافا لما بلغوا

ص: 190


1- سمّاه ابن قتيبة في مختلف الحديث «سارية بن زنم» ص 152.
2- كنز العمّال 12: 517 رقم 35789، فيض القدير 4: 664، كشف الخفاء 2: 380، الإكمال لابن ماكولا 3: 395، تاريخ مدينة دمشق 2: 366 و 20: 20، أسد الغابة 2: 244 و 4: 65، لسان الميزان 5: 301، ذكر ذلك استطرادا في حوار بين مؤمن الطاق و أبي حنيفة، الإصابة 3: 5، معجم البلدان 5: 99، تاريخ المدينة لابن شبة 2: 754، تاريخ اليعقوبي 2: 156، تاريخ الطبري 3: 254، البداية و النهاية 6: 93.

فضل سورة هل أتى و آية المباهلة حيث دعا اللّه عليّا نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و جاء في ذلك أحاديث شتّى مع معجزات جليلة صدرت من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و لقد بلغت رتبة عليّ عند اللّه و الناس درجة ادّعى بعضهم له الربوبيّة لعنهم اللّه و على الفرقة التي تعاديه و الذين لا يرضون بإمامته بعد الرسول بلا فصل.

و مع ما يسندونه إلى شيوخهم من الترّهات إذا سمعوا منّا في مناقب أهل البيت رفعوا عقيرتهم بنبزنا بقول (رافضيّ) فيا للعجب نحن الذين ننزّه ذات الباري من القبائح و نثبت للأنبياء العصمة و الأئمّة روافض، و هم الذين يخالفون هذه العقيدة يعتبرون أهل السنّة خالصين مسلمين و كذلك يتخيّلون.

و قالوا: أنفق أبو بكر على رسول اللّه أربعين ألف درهم أو دينار.

الجواب الأوّل: إنّ اللّه أغنى نبيّه بفضله عن مال أبي بكر حيث قال: وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (1).

الثاني: أغناه بالأنفال كما قال اللّه تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ (2).

الثالث: بالخمس، قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (3) و الصدقة محرّمة على رسول اللّه و أهل بيته كما قال: نحن أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة.

و قال رواتهم: كانت لأبي بكر راحلتان فأعطى إحداهما لرسول اللّه في الهجرة فلم يقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لن أقبلها إلّا بثمنها فإمّا أن تبيعها عليّ أو تؤجرنيها فإنّي لا أركب بعيرا ليس لي.

ص: 191


1- الضحى: 8.
2- الأنفال: 1.
3- الأنفال: 41.

و لقد كان أبو بكر أفقر بيت في أهل مكّه، و كان معلّما للأطفال آداب الجاهليّة، و كان سمسارا كما زعم الثعلبيّ و يبيع الكرابيس، و أبوه صيّادا، فمن أين جاءته هذه الثروة ليت شعري. و كان أكثر أهل مكّة قوم من الفقراء: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ (1).

و لمّا تلى أمير المؤمنين سورة برائة على أهل الموسم و نهى المشركين من الطواف في الكعبة و منعوا من زيارتها، شكى أهل مكّة الفقر و قالوا: كنّا نؤمن حاجتنا من نفقات الزوّار فأعطاهم اللّه تعالى الجزية المستوفاة من اليهود و النصارى و جعل ذبح الهدي لازما، و أعطي للقانع و المعتر من فقرائهم.

و توجّه المدح من اللّه إلى فقراء المهاجرين في كلّ موضع أثنى فيه على الصحابة:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ (2)، و قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (3) و قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (4).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر في آخر عمره: اللهمّ هل بلّغت، و يظهر من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هنا أنّه لم يتوان عن التبليغ و لقد بلّغ الأمر و النهي و الحلال و الحرام و الشرائع بمجملها، فلا مجال حينئذ للقياس و الاجتهاد و الاستحسان و هي أمور باطلة و علل شرعيّة مندكّة في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (5).

ص: 192


1- التوبة: 28.
2- الحشر: 8.
3- البقرة: 273.
4- المائدة: 3.
5- المائدة: 44.

فاللّه واحد، و النبيّ واحد، و الشريعة واحدة، و لكن قضى عليهم القياس أن يتفرّقوا إلى مذاهب كأنّهم لم يقرؤوا قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ (1) فأبطلت هذه الآية كلّ اختلاف جاء بالطوائف و الفرق لأنّ الحقّ واحد لا يتجزّأ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2)، و قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (3).

و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اختلاف أمّتي رحمة، و هذا من العجائب أن يكون اختلاف الأمّة رحمة و اتفاقها و اتحادها ليس رحمة، و لا حرج عليها من الاختلاف، و في الحديث: من حكم في وزن عشرة دراهم فأخطأ حكم اللّه يجي ء يوم القيامة مقطوعا يداه ..

و نقيض هذه الرواية صحّة الاجتهاد: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر و إذا اجتهد فأصاب فله أجران (4)، و قالوا: كلّ مجتهد مصيب (5)، و لمّا انكشفت تناقضات أئمّتهم للملأ اخترعوا مثل هذه الأحاديث ليغطّوا على أخطائهم فأضلّوا أنفسهم.

و العجب من هؤلاء أنّهم يعتقدون كلّ من اجتهد في مسألة في العالم مصيبا إلّا كامل البهائي ج 2 193 الفصل العاشر ..... ص : 189

ص: 193


1- آل عمران: 105.
2- يونس: 32.
3- النساء: 82.
4- الأمّ للشافعي 6: 216 و 7: 99، الرسالة للشافعي: 494، مختصر المزني: 299، مجموع النووي 3: 53، مغني المحتاج للشربيني 4: 372، فتح المعين للهندي 4: 39، البحر الرائق 7: 76، المغني لابن قدامة: 27، المحلّى لابن حزم 1: 69 و 70، سبل السلام 4: 778 و قال: متفق عليه، مسند أحمد 4: 197، صحيح البخاري 8: 157، صحيح مسلم 5: 131.
5- روضة الطالبين 7: 421، حواشي الشرواني 1: 50، المبسوط للسرخسي 10: 191 و 12: 69، المحلّى لابن حزم 1: 70، بداية المجتهد لابن رشد 1: 51.

الأئمّة الشيعة و علمائها كالإمام زين العابدين و محمّد الباقر و جعفر الصادق و موسى ابن جعفر و عليّ بن موسى و أمثالهم عليهم السّلام مع أنّهم أهل العصمة و الطهارة و من أهل البيت النبوي فإنّهم لم يذكروا لهم مسألة واحدة في أصل أو فرع .. و مع علمهم أيضا بأنّ علمائهم كأبي حنيفة و الشافعي من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السّلام.

و إن تعجب فعجب أمر هؤلاء أن يكون اجتهاد السقي حقّا و اجتهاد الإمام الصادق الذي روى عنه أربعة آلاف راو موثّق منهم أبو يزيد البسطامي و أبو حنيفة الكوفي، سبحان اللّه! ما أعظم هذه العداوة لهذه الضلالة مع عترة الرسول، مع أنّه ورد في كتبهم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي مختلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي. و قال عبد اللّه بن عبّاس: أوّل من قاس إبليس، و قال النبيّ: «أهل بيتي .. الحديث» و كذلك قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأمّتي (1).

و مع ما يروون من هذه الأخبار الآخذة بالأعناق يتمسّكون بأذيال الشافعيّ و أبي حنيفة و مالك و ابن حنبل بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (2)، و لم يلقوا بالا لأخبار العترة من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و يرونها من أخبار الآحاد و ما يرويه أبو هريرة أو المغيرة أو أبو موسى الأشعريّ فهو حقّ و متواتر مع أنّهم يقولون عن النبيّ أنّه قال لأبي هريرة: إنّ فيك شعبة من الكفر (3)، و زنى المغيرة و شهد عليه ثلاثة عند عمر،

ص: 194


1- كشف الغطاء للشيخ جعفر 1: 8، فقه الصادق 7: 370، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 30، مقتضب الأثر للجوهري: 15، التعجّب: 65، الاحتجاج 3: 48، العمدة: 308، الطرائف: 131، شرح الزيارة الجامعة للشبّر: 181، خلاصة عبقات الأنوار 1: 81 و 4: 315 و 318، المستدرك للحاكم 2: 448 و 3: 149، المعجم الأوسط 4: 237.
2- الكهف: 50.
3- جاء الخبر في مجمع الزوائد هكذا: عن أبي هريرة قال: سببت رجلا في الإسلام بأمّ له في الجاهليّة فاستعدى علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فيك شعبة من الكفر. فلمّا ذكر الكفر اضطربت رجلاي فقلت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ لا أسبّ مسلما بعده أبدا (8: 86).

و أخاف عمر الرابع فكتم الشهادة و تلجلج بها لأنّ المغيرة صاحب عمر و اجتمعت مصلحة الرجلين على بغض عليّ عليه السّلام، و هدّد الشاهد و أرهبه حتّى دفع شهادته، و قال النبيّ عن أبي موسى: إنّه إمام الفرقة المذبذبيّة (كذا).

و هم يروون عن حذيفة و عن سلمان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ستفترق أمّتي على ثلاث فرق: فرقة على الحقّ لا ينقبض الباطل منها شيئا، يحبّوني و يحبّون أهل بيتي، مثلهم مثل الذهبة الحمراء أوقد عليها صاحبها فلم تزدد إلّا خيارا، و فرقة على الباطل لا ينقبض الحقّ منها، يبغضوني و يبغضون أهل بيتي، مثلهم مثل الحديد أوقد عليه صاحبه فلم تزدد إلّا شرارا، و فرقة مذبذبة فيما بين هؤلاء و هؤلاء يقولون لا مساس إمامهم الأشعريّ.

و يروون أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما وليت أمّة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ... (1). و مع هذه الرواية فقد تركوا عليّا و هو الأعلم و اختاروا غيرهم و هم جهّال و سوف يرجعون في عهد صاحب الزمان إلى ما تركوه.

ص: 195


1- مستدرك الوسائل 11: 30، كتاب سليم بن قيس: 205، المسترشد: 600، كنز الفوائد للكراجكيّ: 215، التعجّب له: 14، الأمالي للشيخ الطوسيّ: 560، الاحتجاج 1: 219 و 2: 8، حلية الأبرار 2: 77 و 80، مدينة المعاجز للبحرانيّ 2: 87، بحار الأنوار 10: 143 و 27: 113 و 30: 323، الغدير للأميني 1: 198، ينابيع المودّة 3: 369، الأنوار العلويّة: 336، صحيفة الإمام الحسن: 184.

الفصل الحادي عشر في بيان جانب من الوقائع و المظالم التي أنزلوها في آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله

اعلم بأنّ الرجال أكثر عطفا على النساء في جميع قضاياهم، و بناءا على هذا فإنّ فاطمة عليها السّلام مع جلالة قدرها و قرابتها من رسول اللّه و قرب عهدها منه خرجت تستغيث من ظالمهم بهم واحدا واحدا فما أجابها واحد منهم.

و لمّا خرجت عائشة تريد قتل عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام اجتمع عليها ألف من المهاجرين، و كان غرضهم من سلب الخمس منهم تركهم فقراء مملقين لئلّا يجتمع الناس عليهم.

قال أبو بكر لفاطمة: ايتيني بأحمر أو بأسود ليشهد لك مع أنّها صاحبة اليد و هي المتصرّفة، و جاءت أبا بكر بعليّ و الحسن و الحسين و أمّ أيمن يشهدون لها، فقال أبو بكر: عليّ و ولداه يجرّون النار إلى أقراصهم، و أمّ أيمن امرأه، و لقد سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار، و قال في حقّ الحسن و الحسين عليهما السّلام: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة و هما إمامان قاما أو قعدا و أبوهما خير منهما (1).

و قال في حقّ فاطمة عليها السّلام: فاطمة بعضة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها (2).

ص: 196


1- بحار الأنوار 39: 90، الإمام علي للرحماني: 306 و 350، كنز العمّال 12: 122 رقم 34293 و جميعها خلت من جملة: هما إمامان قاما أو قعدا، و هي كما أعلم حديث مستقلّ.
2- فوائد الأحكام للحلّي 1: 122، مسند زيد: 459، أمالي الصدوق: 165، كفايه الأثر: 37 و 64 و 65، ذخائر العقبى: 37، الصراط المستقيم 1: 170 و 2: 118 و 282 و 289، فضائل الصحابة للنسائي: 78، مسند أحمد 4: 5، صحيح البخاري 4: 210 و 6: 158، صحيح مسلم 7: 141، سنن ابن ماجة 1: 644، سنن أبي داود 1: 460، سنن الترمذي 5: 359، المستدرك 3: 159، و المؤلّف ذكر حديثين في سياق واحد، و الثاني: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة، الحديث و أخرجه زيد في مسنده: 459، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1: 51، ينابيع المودّة 2: 56، اللمعة البيضاء: 133، و نسبه صاحب حقوق أهل البيت الشيخ محمّد حسين الحاج إلى كنز العمّال 1: 219.

و قال في حقّ أمّ أيمن: أنت على خير أو إلى خير.

و لم يمض طويل وقت حتّى جائه مال من البحرين و كان جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ إلى جانبه فقال له: يا أبا بكر، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أتاني مال البحرين حبوت لك (1)، فاستدناه أبو بكر و حثى له من ذلك المال الذي في كلّ درهم منه حقّ لفقير و سهم لجائع ثلاث حثوات، بلا حجّة أو سبب، و لم يطالبه بشاهد و اعتقد صدقه.

و العجب أنّهم يرون أبا بكر مصيبا و يرون المعصوم و قد شهد له المعصوم مخطئا و كاذبا مع أنّ عددا من الآيات تدلّ على صدق فاطمة عليها السّلام و صحّة دعواها.

هاهنا أعطى مال المسلمين لآخر بدون بيّنة، و هنا غصب مال المستحقّ مع وجود البيّنة، و في كلا الحالين ادّعت فاطمة ملكيّة أرض أنحلها إيّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ادّعى جابر وعد رسول اللّه و طلب إنجازها، و تلك صاحبة اليد و دعوى جابر خارجة عن التصرّف؛ فاعتبروا يا أولي الألباب.

و كذلك لمّا ادّعى سعد بن زيد زعم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شهد لجماعة بالجنّة: أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمان بن عوف و أبو عبيدة (2) و لم يشهد له أحد من الصحابة بصحّة ما قال و لم يصدّقه أحد، و مع كونه

ص: 197


1- لعلّها حثوت لك.
2- لم يرشح للجنّة مثل عمّار و المقداد و سلمان و خباب بن الأرت و سعد بن عبادة و مصعب بن عمير و حمزة و جعفر، و رشّح لها هؤلاء، إنّ هذا لأمر عجيب!

ادّعى هذه الدعوى للحصول على النفع و الجاه لأنّه منهم و هو شاهد لنفسه فقبل قوله و لم يردّوا دعواه، و ردّوا دعوى فاطمة و ما علموا أنّ مال الزوج و الزوجة لا يصل إلى الأولاد إلّا بالميراث أو النحلة، و كلّ الناس يرث بعضهم بعضا.

و يشهد على السابق إلى الإيمان و الإسلام الذي لم يشرك باللّه طرفة عين، و سبق الناس بالعلم و الزهد بعد رسول اللّه أمام رجل أشرك ستّا و أربعين عاما من عمره، و قدّم عبادة الأصنام على عبادة اللّه، و أكل لحم الخنزير طول عمره و لم يكن ذا علم أو عمل صالح أو ورع، و كان يتلكّأ عن الجهاد و هو أثقل عليه من الموت، و إذا سيق إلى الجهاد كأنّه و نظرائه يساقون إلى الموت، و توالت عزائمه و نكث عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رجل هذه صفاته يردّ شهادة عليّ عليه السّلام!!

و لا تعجب منه و اعجب من الأوباش الذين يثبتون له الإمامة و يرونه مصيبا، و يرون مثل عليّ مخطئا، و كذلك يرون أنّ عليّا طلب ما ليس له.

و الأعجب من هذا أنّهم يجرّدون النساء من كلّ علم لا سيّما علم الفقه و يقولون لهذا وقعت فاطمة في الخطأ و السهو، يقولون هذا عنها و هي معصومة، و يقولون عن عائشة بأنّ النبيّ قال في حقّها: خذوا ثلث دينكم عن عائشة لا بل ثلثي دينكم لا بل خذوا دينكم كلّه عن عائشة (1).

سبحان اللّه و يا للعجب أن تكون بنت أبي بكر عالمة إلى هذا الحدّ و بنت رسول اللّه و زوج عليّ و أمّ الحسن و الحسين جاهلة- حاشاها- إلى درجة لا تعرف مسألة واحدة، ما أصلف هؤلاء القوم و ما أقلّ حياءهم!

و يقول الخصم عن عليّ أنّه باب مدينة علم الرسول، و مع وفور علمه لا يعرف هذه المسألة مع أنّهم يعتقدون فيه المرشد لأبي بكر و عمر و عثمان، و يزعمون أنّ

ص: 198


1- التعجّب: 15. و ما زال الرجل يغير غارة شعواء على صاحب التعجّب فيأخذ منه العبارات الطويلة و يطعم بها كتابه.

النبيّ لم يعلم فاطمة عن حالها في النحلة و الميراث و لا أعلم غيرها من أهل بيته مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1)، و من العجب أن يعلّم و يؤدّب بنات الأمّة و يترك آله و ذويه على طرف الجهل مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ (2) و قال: أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3) الآية، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بعثت إلى أهل بيتي خاصّة و إلى الناس عامّة (4). فنسبوه إلى التقصير في تبليغ الوحي مع أنّه جرت عادته إذا أراد سفرا أن يذهب إلى بيت فاطمة و يطيل المكث فيه، ثمّ يخرج منه إلى مقصده تيمّنا و تبرّكا به، و إذا عاد من سفر بدأ ببيت فاطمة عليها السّلام ثمّ يخرج منه إلى باقي نسائه.

و العجب أنّ الرجل يطلب من فاطمة البيّنة على دعواها ثمّ يأتي بفرية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فلا يطالب نفسه بالبيّنة على ما ادّعاه، و في القرآن عدّة مواضع تردّ هذه الافتراء، و هذا تحامل على أهل البيت و غمز في دين الرجل.

و من عجائب الأمور تأتي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تطلب فدكا و تظهر أنّها تستحقّها فيكذّب قولها و لا تصدّق في دعواها و تردّ خائبة إلى بيتها، ثمّ تأتي عائشة بنت أبي بكر تطلب الحجرة التي أسكنها بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تزعم أنّها تستحقّها فيصدّق قولها و تقبل دعواها و لا تطالب ببيّنة عليها، و تسلّم هذه الحجرة إليها فتصرّف فيها و تضرب عند رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمعاول حتّى تدفن تيما و عديا فيها .. (5).

ص: 199


1- الشعراء: 214.
2- طه: 132.
3- التحريم: 6.
4- التعجّب: 54.
5- رأيت عبارة صاحب التعجّب أرشق و أجمع و المؤلّف أخذ عبارته منه يدلّ على ذلك قوله: «كلنگها كشيدند» قابل بها جملة و تضرب عند رأس النبيّ بالمعاول، انظر ص 56 من التعجّب.

و الأعجب من هذا لمّا انتقل الحسن إلى الرفيق الأعلى وصّى بجمله إلى جدّه في روضته بعد تغسيله ليجدّد به عهدا ثمّ منه ينقل إلى البقيع و يدفن هنالك عند جدّته فاطمة بنت أسد (1) و لمّا حملوا نعشه و أمّوا به روضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ركبت الغازية المجاهدة عائشة على بغلتها و استدعت مروان مع جيشه الأمويّ و قالت: لا ندعهم يدفنونه عند قبر جدّه (لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ) فقال عبد اللّه بن عبّاس:

الحسن أجلّ شأنا من ذلك، و أن يؤذى رسول اللّه و هو في قبره بضرب المعاول عند رأسه و لكنّه طلب تجديد العهد بجدّه بدخوله الروضة، فخاصمت عائشة عبد اللّه على ذلك، و قالوا: إنّ عائشة أخذت من مروان قوسه ثمّ رشقت جنازة الحسن بالنبل.

تجمّلت تبغّلت و لو عشت تفيّلت لك التّسع من الثّمن ففي كلّ تطعّمت و أعجب من هذا أنّهم غصبوا نحلة فاطمة التي أعطاها رسول اللّه لها و لأولادها و نهبوا الخمس الذي هو حقّها و حقّ زوجها و أولادها و طعنوا في القرآن الكريم بأنّه منسوخ و تركوا أولاد فاطمة لا يملكون عيشة الكفاف و في أضيق حال فلم يصلهم أحد على الجوع و العري إلّا نفر صالح مظلوم مثلهم من المؤمنين و أقرّوا لعائشة و حفصة اثني عشر ألف درهم في كلّ سنة لكلّ واحدة ستّة آلاف، بخ بخ لإمام مثل هذا يؤمّ المسلمين و بخ بخ لخليفة رسول اللّه يجيع ابنة رسول اللّه و أولادها.

ص: 200


1- هذه العبارة مسلوخة من عبارة التعجّب و إليكها: ثمّ تمنع الحسن بن رسول اللّه بعد موته منها و من أن يقربوا سريره إليها و تقول: لا تدخلوا بيتي من لا أحبّه و إنّما أتو؟ ا به ليبرك بوداع جدّه فصدّته عنه (ص 56).

الباب الخامس و العشرون في ذكر عائشة و طلحة و الزبير على طريق الإيجاز

اشارة

اعلم أنّ ابن وائلة أبا الطفيل عامرا يقول: سمعت من أمير المؤمنين يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعته عائشة أيضا: لعن أهل الجمل و أصحاب صفّين و أهل النهروان. قال عمر: سمعت هذا من أمير المؤمنين عليه السّلام يقوله في البصرة بعد ظفره بأصحاب الجمل فخرجت منه و دخلت على عائشة و سألتها الخبر، فقالت عائشة: و أنا أيضا سمعت ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما سمعه عليّ و لكنّي لست من أهل الجمل، و ظهر عليها الحياء و الانفعال.

و روي عن الإمام الصادق عليه السّلام (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ امرأة موسى عليه السّلام (صفوراء بنت شعيب) خرجت على وصيّه يوشع بن نون، فظفر بها فأشار عليه من حضر بما لا ينبغي فيها، فقال: أبعد مضاجعة موسى لها؟ و لكن أحفظه فيها .. (2) ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و إنّي لأخشى أن تخرج واحدة من نسائي على وصيّي من بعدي و تقاتله فيظفر بها و يأسرها فيحسن أسرها. فشاع الخبر بين أزواج

ص: 201


1- الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.
2- قصص الأنبياء للراوندي: 179، مستدرك سفينة البحار 10: 328، بحار الأنوار 13: 369.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذهبت جماعة منهنّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلن له: ادع اللّه لنا أن لا تكون الخارجة إحدانا. و قال: عليكنّ بتقوى اللّه و لا تركبن الجمل بعدي و قرن في بيوتكنّ و لا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى.

ثمّ قال النبيّ: و الذي بعثني بالحقّ نبيّا إنّ جبرئيل أخبرني بأنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان كلّ نبيّ بعثه قبلي و قد خاب من افترى.

و جاء أمير المؤمنين إلى النبيّ على الفور فلمّا رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يا علي، إنّك المظلوم بعدي، ثمّ أقبل على أصحابه و قال: أشهدكم أنّي سلم لمن سالمه، و حرب لمن حاربه، و أقبل عليه و قال: من حاربك فقد حاربني و من حاربني فقد حارب اللّه، و من فارقك فقد فارقني و من فارقني فقد فارق اللّه.

نكتة: اعلم أنّ في مذهب الشيعة يكفر من خرج على أمير المؤمنين أو آذاه عامدا قاصدا و هو من أهل النار، و الدليل على ذلك أنّ أهل اليمامة لمّا خرجوا على أبي بكر حكم عليهم بالارتداد و الكفر في مذهب مخالفينا فكذلك الخارج على إمامنا في مذهبنا، و الخبر كما يلي:

لمّا استخلف أبو بكر أرسل الجباة لجمع الزكاة، فقال الناس: نحن في زمن النبيّ كنّا نطعمها فقراء قبائلنا و مساكينها و سوف نفعل بها اليوم ما فعلناه أمس، و لو أنّنا أعطيناها لغيرنا فلا ندفعها إلّا لمستحقّيها و هو خليفة رسول اللّه و القائم مقامه، و أنت لست من ذلك في شي ء و إنّما تأمّرت على الأمّة بظلم و بدون رضاها، و لم ينطقوا بأكثر من هذا و لم يحاربوا أحدا و لم يشتموا مسلما و لم يسلّوا سيفا في الإسلام، فبعث أبو بكر خالدا بن الوليد و معه عسكر جرّار، فلمّا بلغهم بعسكره خرجوا من بيوتهم ليدفعوا شرّ خالد عنهم فأذّن المؤذّن و لمّا سمعوا الأذان وضعوا السلاح و مالوا إلى أداء الصلاة، فامتنع العسكر من مقاتلتهم فصاح فيهم خالد

ص: 202

و أمرهم بالهجوم على القوم و هم في حال الصلاة، فقتلوا المقاتلة و أكثرهم (راكعين و ساجدين و متوجّهين إلى اللّه و إلى قبلته ..) فاستأصلوهم و قتل خالد مالكا بن نويرة و كان رئيسهم و وضع رأسه أثفية للقدر بين لهب النار، و زنى في تلك الليلة بزوجته، و أسروا النساء و الأطفال من تلك القبيلة فلمّا علم عمر بواقع الحال أشار على أبي بكر أن يحدّ خالدا .. فقال أبو بكر: خالد سيف من سيوف اللّه (1).

و نقول هنا: إنّ ما استحقّه أهل اليمامة على كلمة واحدة قالوها كان أولى منهم بهذا أهل الجمل الذين ساروا من بلد إلى بلد قاصدين حرب إمام المسلمين و حجّة اللّه على الخلق أجمعين و سلّوا السيوف في وجهه و نكثوا عهده و بيعته، و أنكرا إمامته، فأظفر اللّه تعالى أمير المؤمنين عليه السّلام بهم فقتلهم اللّه و خذلهم.

إذن كما زعم الخصم بأنّ أهل اليمامة ارتدّوا و هم يقرّون بالتوحيد و العدل و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ طلحة و الزبير و عائشة كانوا كذلك. و قال المعتزلة: لقد تاب القوم و رووا عددا من الأخبار لا تدلّ على توبتهم.

نكتة: روي أنّ الشيخ المفيد أبا عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان حضر مجلس قاضي القضاة في بغداد و كان يستمع إلى درسه، و كان الشيخ صبيّا، فجاء رجل إلى مجلس قاضي القضاة و قال له: أيّها القاضي، يروى بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نصّ يوم غدير خم على إمامة عليّ عليه السّلام و خلافته و لكنّ عليّا لم يقم بالأمر بل قام به أبو بكر أي كان غاصبا لإمامته.

فقال القاضي: أيّها السائل، النصّ على عليّ رواية و خلافة أبي بكر دراية (و العاقل لا يترك الدراية للرواية).

ص: 203


1- لم يقصد عمر بذلك وجه اللّه أو تشييدا و تأييدا للحقّ بل خاف من خالد أن يتقوّى به أبو بكر فيعرض عن عمر و يفوته تشطّر الضرع.

فسمع المفيد هذا فصبر قليلا حتّى انفضّ المجلس و بقي القاضي وحده فالتفت إليه الشيخ و قال: ألك حاجة أيّها الصبي؟ فقال: إن أذنت لي، فقال القاضي:

هات، فقال الشيخ: روي بأنّ طلحة و الزبير حاربا عليّا في البصرة فكيف كانت الحال و عليّ خليفة؟

فقال القاضي: أيّها الفتى، لا شكّ في وقوع الحرب و لكنّهم تابوا.

فقال الشيخ: أيّها القاضي، الحرب دراية و التوبة رواية، و العاقل لا يترك الدراية للرواية.

فقال القاضي: من أنت أيّها الفتى؟

فقال الشيخ: محمّد بن محمّد النعمان، فقال القاضي: أنت المفيد حقّا، فاشتهر الشيخ بالمفيد من يومئذ (1).

نأتي إلى حكايتنا: و لمّا قتل طلحة في الحرب بيد مروان لعنه اللّه فيكون تصوّر التوبة له من نوع المحال مع أنّ الخبر اشتهر عن أمير المؤمنين أنّه مرّ على طلحة فأمر بإجلاسه فلمّا فعلوا، قال: يا طلحة، وجدت ما وعدك ربّك حقّا و قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا.

و قيل: لمّا مرّ به قال: لقد كان لك برسول اللّه صحبة لكن الشيطان دخل من منخريك فأوردك النار.

و كتب إلى عمّال الأقاليم عن الفتح بالعبارة التالية: إنّ اللّه قتل طلحة و الزبير على شقاقهما و بغيهما و نكثهما، فهزم معهما وردّت عائشة خاسرة .. (2). و لو كان للتوبة أثر في نفوسهم لم ينشر أمير المؤمنين هذا الكلام على الملأ.

ص: 204


1- راجع لهذا كتابنا حجّة الشيعة الكبرى: 35- 37.
2- الفصول المختارة: 142.

و إذا استطاع المخالف الحديث عن توبة طلحة و هو في حالات النزع فإنّ خصمه بإمكانه القول بتوبة أبي جهل و إسلامه و هو ينازع سكرات الموت.

و مثله يقال في جميع في الكفّار و المنافقين و الفسّاق، فلا بدع أن تحدث عندهم حالة التوبة التي حدثت عند طلحة و هو في ساعة الموت يعاني السياق و النزع فلا يمكن الحكم بكفر كافر و لا فسق فاسق بناءا على هذا المذهب.

و المخالف يروي عن النبيّ أنّه قال: يا عليّ، إنّك ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين (1). و هذا دليل على أنّ القوم هلكوا على بغيهم و ظلمهم، و من مات بعد التوبة لا تطلق عليه هذه الأوصاف نظير النكث و ما عداه.

و اشتهر عند العلماء كذلك بأنّ عائشة امتنعت من الذهاب إلى المدينة و كان الإمام ينصحها فلا تقبل، فأمر عبد اللّه بن عبّاس بأن يرحلها إلى المدينة، و ما سمّت عليّا أمير المؤمنين إلى أن ماتت، و من سماّه أمامها بهذا الاسم ظهر الامتعاض على وجهها (لعنة اللّه عليها- المترجم).

روى الواقديّ- و هو ناصبيّ عثمانيّ- أنّ عمّارا بن ياسر زار عائشة لمّا عادت إلى المدينة، فقال لها: يا عائشة، كيف رأيت ضرب بنيك على الحقّ (2)؟ فقالت عائشة:

ص: 205


1- رسائل المرتضى 1: 345 و 3: 110، الاقتصاد للطوسيّ: 181، تذكرة الفقهاء 1: 452، المستدرك 3: 139- 140، مجمع الزوائد 5: 186 و 6: 235 و 7: 238 بطريقين، مسند أبي يعلى 1: 397، المعجم الأوسط 8: 213 و 9: 165، المعجم الكبير 4: 172 و 10: 91 و 92، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 206 و 13: 183 و 287، كنز العمّال 11: 292 رقم 31552، ضعفاء العقيلي 3: 480، الكامل في الرجال 2: 188 و 219، علل الدارقطني 5: 148، تاريخ بغداد 13: 188، تاريخ مدينة دمشق 42: 468 و 469 بطرق عدّة، أسد الغابة 4: 33 بثلاث طرق، ميزان الاعتدال 1: 271، لسان الميزان 2: 446، سبل الهدى و الرشاد 10: 150 و 11: 290، لسان العرب 7: 378.
2- صحّفها المؤلّف إلى «بنيك» و ترجمها هكذا: چون ديدى ضرب پيغمبر تو را بر حق، و لها وجه.

يا عمّار، أجل، إنّك غلبت في أصحابك ... (1) فقال عمّار: استبصارا من ذلك، و اللّه لو ضربتمونا حتّى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و أنّكم على الباطل .. (2) فقالت عائشة: هذا تخيل إليك يا عمّار أذهبت دينك لابن أبي طالب.

ذكر الطبريّ: لمّا انتهى إلى عائشة قتل عليّ رضى اللّه عنه قالت:

فألقت عصاها و استقرّ بها النوى كما قرّ عينا بالأياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت:

فإن يك نائيا فلقد نعاه غلام ليس في فيه التراب و هذه الجملة تدلّ على إصرارها على ذنبها.

و جاءت الرواية على أنّها أبت الذهاب إلى المدينة، فقال عبد اللّه بن عبّاس:

دعها في البصرة، فقال عليه السّلام: إنّها لا تألوا شرّا و لكنّي أردّها إلى بيتها.

و روى محمّد بن إسحاق أنّها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرّض الناس على أمير المؤمنين عليه السّلام و كتبت إلى معاوية و أهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرّضهم عليه (3).

سؤال: و هذه أخبار آحاد.

ص: 206


1- الاقتصاد للطوسيّ: 228، الأمالي للطوسي: 143، و يؤكّد أنّ اللفظة «بنيك» جمع قوله من بعدها دون دينهم بالسيف، الصراط المستقيم 3: 162، بحار الأنوار 32: 266، خلاصة عقبات الأنوار 3: 31، الفتنة و وقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي: 172، الدرجات الرفيعة لعلي بن معصوم: 267، تاريخ الطبري 3: 539، الجمل للشيخ المفيد: 197، بشارة المصطفى لمحمّد بن عليّ الطبري: 434.
2- ترجم سعفات هجر ترجمة خاطئة.
3- الاقتصاد للطوسي: 229، الاحتجاج 1: 241، بحار الأنوار 32: 267.

جواب: و أخباركم ضعيفة أيضا، بل أضعف منها لأنّكم انفردتم بروايتها، أمّا الشيعة فقد رواها معهم خصومهم النواصب و هي مرويّة في كتبهم، غاية الأمر أنّنا نعارض خبرا مع خبر فيتساقطان و يبقى الأصل على حاله و هو فسق القوم و معصيتهم بل كفرهم عند الشيعة.

و لمّا جاء ابن جرموز برأس ابن الزبير و سيفه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سيف طالما جلّى به الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّ الحين و مصارع السوء.

و قال أمير المؤمنين: و اللّه لقد علمت صاحبة الهودج أنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبيّ الأمّيّ و قد خاب من افترى (1).

و روى البلاذري بإسناده إلى جويريّة بن أسماء قال: بلغني أنّ الزبير لمّا ولّى اعترضه عمّار بن ياسر و قال: أبا عبد اللّه، و اللّه ما أنت بجبان و لكنّي أحسبك شككت فقال: هو ذاك، و الشكّ خلاف التوبة.

و كذلك قال طلحة في حال النزاع: ما رأيت مصرع شيخ أضيق من مصرعي ..

فلو كان قد تاب لما ضاع مصرعه.

سؤال: روي أنّ طلحة لمّا أحسّ بالموت قال:

ندمت ندامة الكسعي لمارأت عيناه ما فعلت يداه جواب: هذا يدلّ على الندم و لا ينفع الندم، إنّما ندم لأنّه استشعر الخسران، قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ

ص: 207


1- الاقتصاد للطوسيّ: 228، بحار الأنوار 32: 335 و اقتصر على الروآية الأولى.

الْآنَ (1)، و قال في حقّ فرعون: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (2).

و الذي ورد عن عائشة لا يدلّ إلّا على شعورها بالذنب و على حيرتها و ليس على التوبة و الرجوع إلى الحقّ كما تمنّت الموت لأنّها رات بعينيها هزيمة جيشها و فقدانها الظفر على حجّة اللّه كما قالت مريم عليها السّلام: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (3) و ما قالت ذلك مريم لأنّها عصت اللّه و إنّما قالت ذلك لما يقابلها به الناس من سوء الظنّ و الرجم بالغيب ممّا لا أساس له، إذا ليست المرأة تائبة بل قالت ذلك لمّا فاتها ما كانت تحلم به. و قالوا: إنّ الإمام قال يوم الجمل: وددت أنّي متّ قبل اليوم بعشرين سنة (4) لأنّي لا أرى من الرعيّه مساعدة أو شدّ أزر و بذل مال و جهد.

و أيضا طرأ على بال عدد من الجهّال عن هذه الحرب هل هي جائزة و مأذون بها أو لا؟ مع أنّها كانت بإذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية، و قاتله معاوية.

و أمّا رجوع الزبير عن الحرب فلا يدلّ على ندامته و لا توبته، لأنّه لو تاب لا نضمّ إلى عسكر أمير المؤمنين و قاتل معه بل كان قتاله مع عائشة و لكنّه رأى

ص: 208


1- النساء: 18.
2- يونس: 91.
3- مريم: 23.
4- المستدرك 3: 373 و الرواية كما يلي: أجلس عليّ رضى اللّه عنه طلحة يوم الجمل فمسح التراب عن رأسه ثمّ التفت إلى الحسن بن عليّ فقال: وددت أنّي متّ قبل هذا بثلاثين سنة .. و أنا- المترجم- لا أزيد على قول كلمة واحدة: اللهمّ إنّي أسألك بجلال وجهك الكريم أن تجعل دم طلحة في عنقي؟؟ المصنّف 8: 713، أنساب الأشراف: 324، تاريخ ابن خلدون 2: 164 و هو يروى الكلمة لعائشة و الصحيح أنّها لها و لكن القوم بغضا لعليّ عليه السّلام رووها له، اللهمّ العن من يبغض عليّا و أهل بيته من الأوّلين و الآخرين.

إرهاصات النصر لعليّ لائحة لذلك ولّى الحرب ظهره و لاقى مصيره. و قيل: إنّه نوى اللجوء إلى معاوية ليسستمدّه و يحدث فتنة أخرى في خلافة الإمام عليه السّلام فقتله اللّه قبل بلوغه مراده.

و إذا كان إعراضه عن الحرب يعتبر توبة فإنّ الكفّار الذين انهزموا من كتائب رسول اللّه و ولّوا الدبر يعتبرون تائبين من الكفر، و هذا لا يقول به أحد.

و ما قاله المخالف عن الزبير من ندامته بعد نصح أمير المؤمنين له فترك الحرب عند ذلك و قال له ولده عبد اللّه بن الزبير: يا أبت، أتتركنا في هذا المقام بهذه الحالة؟

فقال له الزبير: يا ولدي، لقد ذكّرني عليّ أمرا كنت ناسيه، فقال عبد اللّه: كلّا ليس الأمر كذلك بل خفت من صوارم عليّ، فغضب الزبير و تناول رمحه و انتزع منه زجّه و حمل على عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال أمير المؤمنين لأصحابه: أفرجوا للشيخ فإنّه محرج، و هذه شهادة من قبله تدلّ على عدم التوبة.

و نقلوا كذلك عن ابن جرموز لمّا حمل رأس الزبير إلى عليّ عليه السّلام، قال عليّ عليه السّلام:

سمعت رسول اللّه يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار، فلو لم يكن من أهل الجنّة و التوبة لما ثبتت هذه البشارة في حقّه.

جواب: إن كان رجوعه عن الحرب بنصح عليّ يعتبر توبة فإنّ رجوعه بتحريض ولده على الحرب يعتبر نقضا لها، و إصرارا منه على الذنب لأنّه عند سماع كلام ولده ترك الذين للحميّة و العصبيّة و حبّ الرياسة.

و يقول السيّد المرتضى علم الهدى في الجواب: و كيف يجوز من أمير المؤمنين عليه السّلام أن يمكّن عدوّه و يمنع أصحابه من قتله، لأنّ المرء لا يدعو إلى الفسق و لا يبعث إلى خلاف الحقّ مع أنّ كلام ابنه غير مخرج لأهل الإيمان إلى إظهار الضلال و لا ملجأ لأحد من الخلق إلى ارتكاب المعاصي و الطغيان، و العبارات واضحة و جملتها لا

ص: 209

تحتاج إلى التفسير و لا يبعد أن يكون هذا الكلام على طريق الاستهزاء كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (1) و قال: وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً (2) و قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ (3) (4) و أمثال ذلك، و منع أصحابه من التعرّض له إمّا للاحتجاج و تكملة الحجّة أو على طريقة المنّة عليه كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أهل مكّة يوم فتحها و العفو عن الجاني و ترك تعجيل عقابه لا يدلّ على الرضا بمعاصيه بل هو دليل التأليف و الاستصلاح أو أنّه لإبلاغ الحجّة و الاستدراج له.

و قال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (5).

و قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً (6).

و بشارة قاتله بالنار لا يدلّ على إيمانه لأنّه قتل المعاهد و قتل الكافر للتشفّي و إراحة الغيظ لا لأجل الدين و نصره و إعلاء أمره، بل للتقرّب لمخلوق أو للعبث أو لإظهار الفساد و الفجور، و قتل المؤمن كذلك، كلّ هذه الأمور موجبة لدخول النار للقاتل، على أنّ المقتول من المستحقّين للقتل و كذلك قتل الكافر الكافر إلّا في صورة المؤمن المقتول بيد غير مؤمنه، كما ذكر المفيد ذلك في كلامه.

ص: 210


1- الدخان: 49.
2- طه: 97.
3- هود: 101.
4- الذي أظنّه- و اللّه العالم- أنّ المؤلف لم يدرك عبارة السيّد و العبارة و إن نسبها إليه فإنّها للشيخ المفيد و جاءت كالتالي: أمّا قول أمير المؤمنين عليه السّلام «أفرجوا للشيخ فإنّه محرج» فإنّه متى صحّ كان على طريق الاستهزاء و الذمّ لأنّه لا يجوز أن يأمر عليه السّلام أصحابه بالتمكين لعدوه من حربه، الخ. انظر ص 143 من الفصول المختارة.
5- مريم: 84.
6- آل عمران: 178.

حكاية: كان ابن جرموز في حرب الجمل مع عائشة و قتل جماعة من أصحاب أمير المؤمنين، و لمّا رأى الدائرة تدور على عائشة و حزبها و أنّ الأوضاع اضطربت عليها و علامات الظفر تلوح في جانب أمير المؤمنين عليه السّلام تشاور مع أصحابه بني سعد و خرج معهم إلى الأحنف بن قيس و كان قد اعتزل الحرب على بعد فرسخين من البصرة، فجاءه رجل و همس بأذنه سرّا بأنّ الزبير بوادي السباع خرج هاربا و هو يؤمّ المدينة، فرفع الأحنف عقيرته و صاح: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي السباع و قد جاء فقتل الناس بعضهم ببعض، و كان غرضه من هذا التحريض على قتله، فقام ابن جرموز مع رجلين من بني سعد و كانا شريكيه في قتال أصحاب أمير المؤمنين و إعانة أصحاب الجمل و اسم أحدهما فضالة بن حانس و اسم الآخر جميع بن عمير، فرب الثلاثة و أسرعوا العدو للّحاق بالزبير، و كان الزبير مترجّلا فلمّا بصر بهم استوى على فرسه فسبقهم عمير بن جرموز فحذر منه الزبير، فقال له عمير: لا بأس عليك أنا ذاهب لوجهي و سوف أسايرك.

فأمنه الزبير فاستغفله ابن جرموز فطعنه بالرمح في صدره و قتله و نزل من فرسه و احتزّ رأسه و أقبل به إلى الأحنف و منه ذهب به إلى عليّ عليه السّلام لينال عنده الحظوة و الرياسة و لكي يعتذر بذلك عن قتاله مع عائشة و قتله لأصحابه، و قد أخبر النبيّ وصيّه أنّ ابن جرموز لم يقتل الزبير فقها و تديّنا بل قتله لنيل الرياسة و طلب الجاه، و هو من أهل النار، و كلّ من قتل آخر بعد إعطاه الأمان فإنّه ملعون، و كان هو أيضا من الخوارج و قتله عليّ عليه السّلام في النهروان، و بشارته بالنار من الرسول إخبار بمصيره و عاقبة أمره.

و مثله فعل مع قرمان حين بشّره بالنار مع أنّه يقاتل معه و يعين أهل الإسلام و الصحابة يشكرونه على جهاده و استماتته، و النبيّ يقول: إنّ قرمان من أهل النار،

ص: 211

و ذات يوم جاء الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ «قرمان» استشهد، فقال النبيّ: يفعل اللّه ما يشاء و يحكم ما يريد، و أخبروا النبيّ عن جهاده و قتاله العظيم و أنّه قتل جماعة من المشركين و قد تحمّل في جسمه ما بين سبع إلى ثماني جراحة شديدة و حملوا من مصرعه إلى منازل بني ظفر، قال المسلمون: ابشر يا قرمان فقد أبليت اليوم، فقال: بم تبشّروني، فو اللّه ما قاتلت إلّا عن أحساب قومي و لو لا ذلك ما قاتلت.

فصعب عليه تحمّل الجراح فانتزع من كنانته سهما حادّا و قتل به نفسه. و لمّا كان النبيّ يعلم عاقبة أمره أخبر المسلمين بما يجري منه لئلّا يشتبه أمره على المسلمين، و لئلّا يقال عنه «مؤمن». و من أجل ذلك قاتل مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال النبيّ فيه:

«قاتل نفسه في النار».

فتكون حال ابن جرموز و ما أخبر النبيّ عليّا عن دخوله النار كحاله. و قال الشيخ المفيد: استحقّ ابن جرموز النار لعصيانه أوامر عليّ حيث نادى مناديه: ألا تتبعوا مدبرا و لا تجهّزوا على جريح، و لكم ما حوى عسكرهم من الكراع و السلاح، و خالف ابن جرموز أمر الإمام مفترض لطاعة و اتّبع الزبير فاستحقّ النار لهذا السبب و ليس لأنّ الزبير من أهل الجنّة لتوبته أو ندمه، و عندنا كلّ من خالف الإمام فقد خالف الرسول، و من خالف الرسول خالف اللّه، و مخالفة اللّه كفر و الكافر يستحقّ النار.

كان الزبير رأس البغاة و قتله من أعظم الجهاد و أعظم الثواب، و ينبغي أن يكون قاتله مستحقّا لأعظم الثواب و أعلى الدرجات بسبب قتله و إراحة الناس من شرّه،، و لكن بسبب كفر القاتل و نفاقه خسر الثواب و بطل منه الأجر ليس هذا فحسب بل استحقّ معه النار أيضا و كان لازما على الموحى إليه أن يخبر الأمّة بحاله لئلّا يغتر به من لا يعرفه و يعتقد له الإيمان و السلامة و يتقرّب إليه.

بيّنة:

ص: 212

و أمّا عصيان عائشة فإنّه لمخالفتها أمر ربّها و ما أمرها به من قوله سبحانه مخاطبا نساء النبيّ: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى (1) فلم تقرّ في بيتها و تنقّلت على جملها من حيّ إلى حيّ و من بلد إلى آخر، و كذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا علي، نفسك نفسي و حربك حربي، و حرب النبيّ كفر.

و ما يقال من أنّ المرأة لن تمسّها النار لأنّها لا مست نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ نوحا و لوطا نبيّان و لهما ذرّيّه من زوجتيهما و اسم زوجة نوح «والعة» و اسم زوجة لوط والهة، و كلتاهما ذهبتا إلى جهنّم و بئس المصير: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ إلى قوله: الدَّاخِلِينَ (2) و كلتا المرأتين في النار بنصّ الآية، و لم تقبل شفاعة زوجيهما النبيّين فيهما، و أولى منهما بالنار عائشة لأنها لم تلد للنبيّ و أعقم اللّه رحمها.

بيّنة: منزلة الولد أعظم من منزلة المرأة لأنّ المرأة يمكن فراقها بالموت أو الطلاق، أمّا الولد فلا يمكن إبعاده عن الأب بأيّ سبب من الأسباب لأنّه من صلبه، و بناءا على هذا إذا كان ابن نوح كنعان من أهل النار فإنّ زوجته أولى بدخول النار، و نزلت سورة التحريم بحقّ عائشة و حفصة و أبويهما حيث يقول اللّه تعالى في تالي الآيات:

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ (3) و الخصم يؤمن بدليل الخطاب و يقول به (4)، فينبغي أن لا يكونا

ص: 213


1- الأحزاب: 33.
2- التحريم: 10.
3- التحريم: 5.
4- دليل الخطاب و يسمّى مفهوم المخالفة و هو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. فقوله تعالى: «خيرا منكنّ مسلمات مؤمنات» الآية، فإنّ نقيض هذا الحكم أنّهما غير مؤمنات و لا مسلمات الخ.

مسلمتين و لا مؤمنتين و لا عابدتين و لا تائبتين و لا سائحتين و أمثال هذا، و بما أنّ القرآن أثبت نساءا خيرا منهنّ فإنّ ذلك خلاف ما ذهب إليه الخصم من كونهما أفضل النساء.

بيّنة: درج القوم على اعتبار من آذى أمير المؤمنين و أولاد فاطمة من الصحابة الإناث أو الذكور في المراتب العليا من الصحبة، و بعكس ذلك من أحبّهم و والاهم فإنّهم يصنّفون في أدنى مستويات الصحبة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و أمثالهم فلم يذكروهم بشأن من الشئون و لا ألقوا إليهم بالا، سبحان اللّه ما هذه العداوة مع آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (1).

فلو أنّ رجلا تمدح بالكذب ظالمي عليّ مأة عام، دون أن يطري عليّا بحرف واحد فإنّهم يحيّونه و يوالونه، و لو أنّه ذكر عليّ بكلمة دون ذكر خلفاء الجور فإنّهم يهدرون دمه لو أمكنهم ذلك، و يسمّونه رافضيّا، و لم يعلموا أنّ لهم في مقابل هذا الاسم عشرة أسماء تجري على أسماعهم مثل: خارجيّ و ناصبيّ و مجبريّ و مروانيّ و منافق و نعثليّ و حطب جهنّم و إبليسيّ و أصحاب النار و نحوها.

ص: 214


1- الأحزاب: 57.

الفصل الأوّل في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة

الفصل الأوّل في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة (1)

اعلم لمّا بايع الناس عليّا و تمّ الأمر له أنهى عبد اللّه بن سلمة خبر قتل عثمان و بيعة عليّ إلى عائشة فقالت: لا نالتها تيم بعد اليوم، ليت هذه أطبقت على هذه، و لم يبايع عليّ، و كانت عائشة يوم أردى عثمان خارج المدينة و كانت تحرّض الناس دائما على قتل عليّ عليه السّلام، و لمّا بلغتها أنباء بيعته كتبت إلى معاوية كتابا و حرّضته على العصيان، و كتب معاوية إلى الزبير و لكن عائشة قالت: لو كان كتب إلى طلحة.

و ذات ليلة أقبل طلحة و الزبير على أمير المؤمنين و طلبا منه أن يولّيهما، فقال لهما: إنّنا لا نولّي إلّا من ارتضينا أمانته و دينه، و إنّكم لا ترضون بعطاء اللّه إيّاكما و تطلبا الفضل و الزيادة و لمّا اطّلعوا على ما يضمره الإمام لهما قالا: يا علي، إنّك لتعلم ما كنّا عليه في أيّام الخلفاء الماضية من الاحترام و الجاه.

و كان الإمام عليه السّلام منصرفا ساعتها إلى تنظيم بيت المال فلمّا جلسا عنده و كلّماه نادى قنبر و أمره بتغيير السراج فقالا: يا أمير المؤمنين: ما هذا؟ لماذا رفعت السراج و نصبت غيره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: هذا سراج بيت المال و كنت أستعمله لتدبير اموال المسلمين، فلمّا كلّمتكم لم يجز لي الاستفادة منها فأبدلتها بما يحلّ لي استعماله، فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قام طلحة و الزبير فخرجا من

ص: 215


1- كتب المؤلّف عناوين كتابه باللغة العربيّة فأبقيناها على حالها و إن خالفت الجرس العربي، لأنّي أترجم الفارسيّة إلى العربيّة و لا استطيع ترجمة العربيّة بالعربيّة لأنّه تغيير لا أرضى إدخاله على أسلوب المؤلّف.

عنده و قال أحدهما للآخر: إنّ رجلا يضبط الأمور على هذه الشاكلة ما هو بمستعملنا و لا بمعطينا شيئا نرضاه، إنّه يترسّم خطى الشرع و يأمرنا بالالتزام بالزهد و الصلاح.

فلمّا أصبح الصباح أقبلا عليه و استئذنا للعمرة، فقال أمير المؤمنين: إنّكما لا تريدان العمرة و لكن تريدان الغدرة، فأقسما أنّهما لا ينويان إلّا الزيارة، و كانا قد كتبا إلى عائشة مع ابن أختها عبد اللّه بن الزبير كتابا يأمرانها بلزوم تحريض الناس على حرب عليّ عليه السّلام، و تحميلهم على نكث بيعته، و كانت عائشة دائبة على إغواء الناس و حملهم على قتال عليّ عليه السّلام و الطلب بدم عثمان.

و صفوة القول أنّ الرجلين حلّا في مكّه و دعوا الناس لحرب عليّ عليه السّلام، و جائهما عبد اللّه بن عامر والي مكّه من قبل عثمان و قبل دعوتهما و قال: أنا أكفيكم أمر البصرة و أجمع لكم من أهلها مائة ألف دينار نفقة لعسكركم.

فقال: انّ هذا بحدّ ذاته شي ء جميل و لكن لا بدّ من وجود إمام نفي ء إليه و يكون ردءا لنا و فئة، و لا يصلح لهذا الأمر إلّا عائشة، فإنّ لها شهرة و هي زوج محمّد، و إن أبت ذلك عائشة و قبضت نفسها عن إعانتنا فإنّ أمرنا لا ينفذ و غايتنا لا تتحقّق، فذهبوا إليها و خدعوها و رضيت بما عرضوا عليها و قالت: «بالرأس و العين» (1) ثمّ أقبلت عائشة و طلحة و الزبير إلى الحوأب (2) (الحورب- المؤلّف) على وزن كوكب و هو ماء في طريق البصرة فنبحتها كلابه و أجراء الكلاب في بطون أمّهاتها (3).

ص: 216


1- كانت عائشة منذ البداية عازمة على الطلب بدم عثمان و هي التي حملتهم على ذلك و ليس الأمر بالعكس، بدا منها ذلك يوم أخبرت ببيعة عليّ فصرخت و اعثماناه، و هذا مشعر بما تخبئ في سرّها.
2- في المناقب: و هو ماء نسب إلى الحوئب بنت كليب (2: 336).
3- ترجم المؤلّف بهذه الكلمة لفظ «بني كلاب».

فلمّا رأت عائشة ذلك صاحت: ردّوني ردّوني، فقد سمعت رسول اللّه يقول: إنّ امرأة من نسائي تخرج لحرب علي، هي ملعونة، و علامة ذلك أن تنبحها كلاب الحوأب، فشهد عندها أربعون و قيل ستّون شهادة كاذبة بأمر طلحة و الزبير على أنّ هذا الماء ليس ماء الحوأب، فكذبوا عليها كذبا صريحا و قلبوا أمرها رأسا على عقب .. (1).

فجاءت أمّ سلمة إلى عائشة و بالغت في نصحها و قالت لها: ألا تتذكّرين حين كنّا يوما بين يدي النبي نخدمه و كنّا على يساره و هو يناجي عليّا، فقلت أنت لعليّ:

يا علي، كلّما كانت ليلتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتيته فشغلته عنّي و لم تتركه ينصرف إليّ، فغضب رسول اللّه منك و قال: من عاداك يا علي فهو ابن زنا؟ قالت نعم أذكر ذلك.

قالت: ألا تذكرين يوم حملت قدر الحلوى الذي صنعته إلى النبيّ، فقال النبيّ: يا أمّ سلمة لا تكوني من أزواجي اللواتي يقاتلن عليّا عليه السّلام! فقلت: نعوذ باللّه من غضب اللّه و رسوله و وصيّ رسوله؟ فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

ثمّ قالت: ألا تذكرين يوم اجتمعنا في بيت حفصة فضرب النبيّ بيده على ظهرك و قال: صوني نفسك من أن تنبحك كلاب الحوأب يوما، فينفر منها جملك؟ فقالت عائشه: أجل لقد كان ذلك.

فقالت أمّ سلمة: يا عائشة، ألا تذكرين يوم أقبل النبيّ من السفر و غسل عليّ ثيابه و خاطها و خصف نعليه، فأقبل أبو بكر و عمر و قالا: لا ندري من يلي الأمر بعدك، فقال النبيّ: أخشى أن أخبركم فتكونوا كبني إسرائيل و تتفرّقون عنه كما

ص: 217


1- و أقول للمؤلّف رحمه اللّه: لا تحسن الظنّ بواحد من هؤلاء فإنّ الخبيثة علمت بانّه ماء الحوأب و لكن على عمد لبّست على نفسها.

تفرّقوا عن هارون، فلمّا خرجا من عند النبيّ قلت: يا رسول اللّه، من الخليفة من بعدك؟ فقال النبيّ: إنّه هو.

و جرت مشادة بين أمّ سلمة و بين عبد اللّه بن الزبير فكتبت أمّ سلمة لعليّ كتابا و فيه: إنّ عائشه خرجت لحربك بفيالقها فنصحتها، فقالت: نحن ذاهبون لإصلاح الأمّة، و جاءك عبد اللّه بن عامر للطلب بدم عثمان و لولا أنّي امرأة و النساء ليس عليهنّ جهاد لخرجت معك.

بيّنة: كان طلحة و الزبير أعظم عدوّين لعليّ عليه السّلام و هما اللذان أجلبا على عثمان و كانا دائبين في ثلبه، و طلحة هو الذي حاصر بيته و تولّى قتل عثمان بنفسه و مع كلّ ما جناه على عثمان جاء يطلب بدمه، و كانا مع عليّ في البيعة و لكنّهما نكثا بيعته و خرجا عليه.

قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت حاضرا عند عليّ إذ أقبل طلحة و الزبير و طلبا من عليّ السفر إلى مكّة لأجل العمرة، فأجابهما عليّ بأنّكما لا تبغيان العمرة، فتوسّلا به مرّة ثانية فلم يجزهما و توجّه إليّ و قال: و اللّه ما يريدان العمرة، فقلت له: فلا تأذن لهما إذن، فارسل إليهما في الحال و أمر بردّهما، و قال: ما تريدان إلّا نكثا لبيعتكما و التفريق- يعني بين المسلمين- فأقسما باللّه لا يريدان إلّا العمرة لا نكث البيعة و لا عصيان أمره، فلم يجزهما في الثانية، فلمّا خرجا قال أمير المؤمنين مردّدا قوله الأوّل: لا يريدان العمرة و لا يريدان إلّا الإفساد في الدين.

فقال عبد اللّه: مر بردّهما لئلّا يذهبا، فقال الإمام: إنّهما أقسما فأدركني الحياء منهما، و لكن لا يعدوان ما قلت، و من هنا خرجا إلى مكّة و أرسلا بين أيديهما أبا عبد الرحمان مسعود العبديّ و عبد اللّه بن الزبير إلى عائشة لكي تكون السابقة في هذا الأمر.

ص: 218

فقالت عائشة، لا أرضى حتّى تخرج معي أمّ سلمة لأنّ الحياء يمنعها من الخروج، و أرادات أن تغوي غيرها لتكون ضالّة مضلّة كليهما، ثمّ قامت إلى أمّ سلمة، فلمّا رأتها قالت: مرحبا بعائشة، و اللّه ما كنت لي بزوّارة فما بدا لك؟ قالت:

جئتك لتخرجي معي كي ينتظم أمر الإسلام، و نقتل قتلة عثمان و نحارب عليّا، فقالت أمّ سلمة: ألا تذكرين يوم كانت ليلتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد طهوت للنبيّ طعاما .. فقال: لا تمرّ الأيّام حتّى تنبح إحدى نسائي كلاب ماء بالعراق يدعى الحوأب، فوقع الإناء من يدي، فقال: مالك يا أمّ سلمة؟ فقلت: يا رسول اللّه، ألا يسقط الإناء من يدي و أنت تقول ما تقول، ما يؤمنني أن أكون أنا هي؟! فنظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: بم تضحكين يا حمراء الساقين، إنّي أخشاك هي (كذا) (1).

و أنشدك اللّه يا عائشة، أتذكرين مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي قبض فيه، فأتاك أبوك يعوده و معه عمر، و قد كان عليّ بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نعله و خفّه، و يصلح ما و هى منه، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي حضرميّة و هو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه، فأذن لهما، فقالا: يا رسول اللّه، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد اللّه تعالى، قالا: ما بدّ من الموت؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: لا بدّ منه، قالا: يا رسول اللّه، فهل استخلفت أحدا؟ فقال: ما خليفتي

ص: 219


1- جاءت الرواية في رسائل المرتضى هكذا: قالت: تخرجين معي فلعلّ اللّه أن يصلح بخروجنا أمر أمّة محمّد، فقالت: يا عائشة، أخرج و قد سمعت من رسول اللّه ما سمعت، نشدتك باللّه يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول اللّه فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها و هو عليه السّلام يقول: و اللّه لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إليّ فقال: ما بالك يا أمّ سلمة؟ قلت: يا رسول اللّه، ألا يسقط الإناء من يدي و أنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي، فضحكت أنت فالتفت إليك فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما يضحكك يا حمراء الساقين، إنّي لأحسبك هي .. (4: 67، و راجع أيضا: بحار الأنوار 32: 150).

فيكم إلّا خاصف النعل، فخرجا فمرّا على عليّ عليه السّلام و هو يخصف النعل (1).

و نشدتك باللّه يا عائشة، أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكان كذا و كذا و هو بيني و بين عليّ بن أبي طالب يحدّثنا فأدخلت جملك فحال بينه و بين عليّ، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك و قال: أما و اللّه ما يومك منه بواحدة، و لا بليّته منك بواحدة، أما إنّه لا يبغضه إلّا منافق أو كذّاب (2).

هذه الأحاديث نصوص ظاهرة على إمامة عليّ و خلافته، و ذكرها نصر بن مزاحم المنقريّ في كتابه و هو من علماء أهل السنّة.

و صفوة القول بأنّ عائشة لمّا استمعت إلى هذه المواعظ قالت لعبد اللّه بن الزبير:

إنّي عزمت على التوبة و لن أخرج معكم و لكنّها عادت بإغوائهم إلى ضلالها الأوّل، فلمّا تناصف الليل تحمّلت إلى البصرة و معها عسكر مجر لقتل عليّ، بخ بخ لأمّ المؤمنين.

بيّنة: اعلم بأنّ اللّه تعالى سمّى نساء النبيّ أمّهات المؤمنين بعد ما أقسم طلحة أنّه سوف يتزوّج عائشة أو أنّ اللّه حرّم على حفصة العقد و هذه الأمومة مجازيّة و لذلك لا يصدق على أقربائهنّ ما صدق عليهنّ، ألا ترى أنّه لا يقال: جدّ المؤمنين و لا عمّهم و لا أخوهم و لا أختهم و لا جدّتهم و أمثال هذه الاستعمالات في النسب، و بناءا على هذا لا ينبغي أن يقال: خال المؤمنين، على أنّهم لا يقولون ذلك إلّا لمعاوية، و إن كان أولى من معاوية بهذا الاسم محمّد بن أبي بكر و عبد الرحمان أخوه و عبد اللّه بن عمر إلّا أنّ هؤلاء لم يقصدوا أمير المؤمنين بالحرب و لم يطلبوا قتله، فلم

ص: 220


1- رسائل المرتضى 4: 67.
2- رسائل المرتضى 4: 67.

يكن لهم مقام معاوية عند السفيانيّين و اقتصرت الأسماء و الألقاب على من بالغ في عدائه لأمير المؤمنين، و اللّه أعلم.

الفصل الثاني

لمّا عزمت عائشة على الخروج جاؤوها بجمل صعب و قويّ ضخم عال يدعى «عسكر»، و لمّا سمعت عائشه باسمه أبت الخروج و قالت: نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: احذري يا عائشة أن تركبي جملا اسمه عسكر، و تخرجين إلى الحرب و تنبحك كلاب الحوأب.

فلبّس طلحة و الزبير عليها و غرّوها و أركبوها عليه فصاحت عند ذلك بأصحابها و أمرتهم بقتال عليّ و الطلب بدم عثمان و صاحت أمّ سلمة: لا يخرجنّ أحد لحرب عليّ، و من خرج لحربه فهو كافر و عاص لربّه.

و خرج مع عائشة طلحة و الزبير بن العوام، و سعد و مروان بن الحكم، و عبد الرحمان و محمّد بن طلحة، و عبد الرحمان بن أسيد و عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و هؤلاء أولاد الطلقاء، و دعت مروان بن الحكم و سعيد بن العاص إلى الحرب و الطلب بدم عثمان، فقال سعيد لمروان: إنّ هؤلاء الذين يرافقونك و ترافقهم هم قتلة عثمان، فتركه مروان.

و كتب مالك الأشتر كتابا إلى عائشة: اتّق اللّه الذي خاطبك بقوله: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (1) و لا تهتكي حجاب رسول اللّه فإنّ ذلك يغضبه و يؤذيه، إذ تخرج زوجه بين العساكر تحارب. فقالت عائشة: إنّ مالكا يقول هذا لأنّه مطالب بدم عثمان.

ص: 221


1- الأحزاب: 33.

فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام و معه سبعمائة من الرجال و نزل بذي قار، و لمّا علمت عائشة بذلك كتبت إلى حفصة: نزل عليّ بذي قار؛ إن تقدّم نحر و إن تأخّر عقر.

فجمعت حفصة النساء و ضربن بالمزامير و قلن:

ما الخبر ما الخبرعليّ في سفر

إن تقدّم نحرو إن تأخّر عقر (1) و صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «البغض يتوارث». فعلمت بذلك أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين، فلبست ثيابها و وضعت نقابها و تنكّرت و جاءت حتّى دخلت عليهنّ، و سمعت ما هنّ فيه من قول الباطل، فكشفت نقابها و أبرزت لهنّ وجهها، ثمّ قالت لحفصة: إن تظاهرت أنت و أختك على أمير المؤمنين فقد تظاهرتما على أخيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل أنزل اللّه عزّ و جلّ فيكما ما أنزل (2)، و اللّه من وراء حربكما، و أظهرت حفصة خجلا و قالت: إنّهنّ فعلن هذا بجهل، و فرّقتهنّ في الحال، ثمّ قالت أمّ كلثوم: ظلمك أنت و عائشة و والداكما لنا قديم.

و لمّا علمت أمّ الفضل والدة عبد اللّه بن العبّاس بخروج عائشة من بيتها، كتبت للإمام كتابا و أعطته رجلا من جهينة و قالت: اخرج مسرعا واعط هذا الكتاب بيد عليّ، و إن نفق جملك فعليّ ثمنه، فخرج الرجل مجدّا حتّى سلّم الكتاب لعليّ عليه السّلام فأذاع الإمام خروج عائشة على الناس، و خطب الناس فحمد اللّه و أثنى عليه، و ذكر النبيّ فصلّى عليه، ثمّ قال:

اعلموا أنّما الخلافة لي و أنا صاحبها و لكن اغتصبها القوم منّي و سكتّ حين

ص: 222


1- كتاب الأربعين للشيرازي: 627.
2- قوله تعالى: «و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير». (التحريم: 4). الجمل للمفيد: 149. و اقتضانا نظم العبارة التصرّف بسياق المؤلّف و عبارة الشيخ المفيد.

لم آمن الفرقة تحلّ في الأمّة و لهذا كرهت حين زفّت إليّ، و أوّل من بايعني طلحة و الزبير، و اليوم نكثا عهدهما و أركبا عائشة على جمل و ساقوها لحربي، و ينبغي عليكم أن تجتمعوا هاهنا غدا.

فحضر عنده أربعمائة و سبعون رجلا من المهاجرين، و مائتين و ثلاثين رجلا من الأنصار، و أمّروا على المدينة سهل بن حنيف.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يستعدّ يومذاك لحرب معاوية، فخطب الناس و رغّبهم في جهاد طلحة (لعنه اللّه) و أتباعه فصاحوا بأجمعهم «سمعا و طاعة» فقام حجّاج بن عرية الأنصاري فقال: قاتلت بسيفي هذا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اليوم أقاتل الناكثين طاعة للّه و رسوله، و أخذ يحرّض الناس على حرب المخالفين، و تلا عليهم شطرا من مناقب عليّ عليه السّلام، و تحمّل عليّ بمن معه حتّى نزل الربذة و هناك عقد لواءا لعمّار ليتقدّم الجيش إلى الشام.

فقال الحجّاج: أرسلني يا علي إلى حرب أهل البصرة، فقال عليّ عليه السّلام: اذهب على بركة اللّه، فركب الحجّاج و ساق معه جملا أورق و فرسا كميتا و توجّه إلى البصرة، فأقبلت عائشة بجيشها حتّى نزلت البصرة و كان عليها عثمان بن حنيف من قبل أمير المؤمنين، فكتبت عائشة إلى عثمان كتابا تخيّره بقدومها، فأعطى عثمان الكتاب إلى الأحنف بن قيس، فقال حكيم بن جبلة العبدي: رأيي أن لا تدعهم يدخلون البصرة لأنّهم إن دخلوها كانوا الغالبين و كنت أنت المغلوب، فصدّقه عثمان، و كتب عليّ إليه كتابا أن لا يدخلوها و قال: و أعذر إليهم فإن قبلوا و إلّا فقاتلهم، فأعذر إليهم عثمان فلم يستكينوا إلى أن جرّ الأمر إلى الحرب فغلبهم عثمان فمشى بينهم جماعة بالصلح بأن تكون دار الإمارة و إمامة المسجد لعثمان و يأذن لهم بالمقام في البصرة حتّى قدوم عليّ عليه السّلام.

ص: 223

و كان طلحة و الزبير يأخذان البيعة على الناس فبايعتهم بعض القبائل (1) فاجتمع منهم جيش و لبسوا الدروع و عليها الثياب، و حضروا صلاة الجمعة، و لم يطّلع عثمان على مكرهم فأمسكوا به و أوسعوه ضربا و نتفوا لحيته و شاربيه، و أرادوا قتله، فقال عثمان: اقتلوني، إنّ أخي سهلا في المدينة و اللّه لا يدع من أهلكم ديّارا، فأطلقوه و قتلوا سبعين مؤمنا من أهل بيته (2)، فخرج عليهم حكيم ابن جبلة العبديّ مع جماعة، و قال: أقاتلهم على حبّ اللّه و رسوله و أمير المؤمنين عليه السّلام الذي لا أحد أفضل منه تحت السماء، فمكر به طلحة و الزبير و خرجا عليه و ضرباه على رجليه حتّى فرّقوا بينهما و بين جسده، و مات على أثر ذلك.

و كتب سهل بن حنيف إلى عائشة كتابا شديد اللهجة و فيه الوعيد لخلاص أخيه عثمان من شرّها، فلمّا قرات الكتاب أطلقت سراح عثمان فخرج من البصرة و لحق بعليّ عليه السّلام بذي قار، فخطب عليّ بذي قار خطبة حمد اللّه فيها و ذكر ما جرى من قتل حكيم بن جبلة العبديّ و غيره من المؤمنين و بكى بكاءا طويلا حتّى ضجّ الناس من بكائه، و نزل من المنبر و كتب إلى أهل الكوفة كتابا يستنفرهم، و بعثه مع محمّد بن أبي بكر و محمّد بن جعفر، فلمّا بلغ كتابه أهل الكوفة كان أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) يثبط الناس عن الخروج، فأغلظ له محمّد بن أبي بكر و وصل هاشم بن عتبة بعد وصول الكتاب و معه كتاب آخر من عليّ عليه السّلام، فاستشار أبو موسى السائب في أمر عليّ عليه السّلام، فقال السائب: لا بدّ من النفور مع عليّ عليه السّلام، فانكر أبو موسى ذلك.

ص: 224


1- جرى تصحيف لأسماء القبائل لذلك لم أذكرهم في المتن و هم كما يلي: قبيلة بنو درد و بنو صبية قيس سلمان و بنو سليم و بنو عامر، و أحسبهم الأزد، و ظبّة و قيس عيلان و بنو سليم.
2- المقتولون هم السابحة قوم من الزطّ و عددهم اربعون. (الجمل للمفيد: 152).

و كان في كتاب عليّ لأهل الكوفة:

يا أهل الكوفة، إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي و لكنّي سكتّ عنه خوفا من حدوث الفرقة، و اليوم بايعوني (و نافق بعضهم) فاللّه اللّه (بوصيّ نبيّكم) فلا تتقاعدوا عن إمدادي و لا تكاسلوا عن الخروج معي.

و أرسل كتابا آخر مع الإمام الحسن و عمّار بن ياسر، فقال عبد اللّه بن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أترى أهل الكوفة لا يجيب منهم أحد؟!

و أمّا الإمام الحسن عليه السّلام فقد قرأ عليهم الكتاب و اتّكأ على عمود هناك و حمد اللّه و أثنى عليه و خطب خطبة غاية في البلاغة و الفصاحة، فعمّ الناس الوله و الوجد من فصاحته و بلاغته حتّى أتمّها، و دعا الناس إلى نصرة أمير المؤمنين عليه السّلام، فقام أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) إلى المنبر و خطب بمن بعده و قال: أيّها الناس، أمسكوا فقد سمعت رسول اللّه يقول: تكون من بعدي فتنة فإيّاكم و الوقوع فيها، و عليّ يدعوكم إلى قتل إخوانكم.

فقام عمّار و قال: يا أبا موسى، أنت كنت دائما رأس هذه الفتنة و أنا أشهد اللّه و رسوله على أنّي سمعت رسول اللّه يقول: يا عليّ، تقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين، و شهد أربعون إنسانا لعمّار بهذا الحديث، و قال: عليّ سابق الإسلام و ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مستحقّ الخلافة و غيره على الباطل و عثمان لا يستحقّها و ليس أهلا ليطلب بدمه لأنّه ظلم المسلمين و أتلف بيت المال و مات على غير توبة، ثمّ سأل أبا موسى: كم هم أصحاب العقبة؟ قال: ثلاثة عشر؟ قال: رابع عشرهم أنت؟ قال: نعم، لقد كنته و لكنّ رسول اللّه استغفر لي، فقال عمّار: أنا أشهد بأنّ رسول اللّه لعنك.

ص: 225

و قام رجل يدعى زيد (1) و ذكر مناقب عليّ عليه السّلام و فضله من السبق إلى الإسلام و القرابة و الشجاعة و السخاء، و قال: لا بدّ من وجود إمام على الأمّة يدفع عنها الظلم و يقيم لها صلاتها و صيامها و حجّها و جهادها و باقي أمورها الشرعيّة، و يقوّم أود الشريعة و لا يستحقّ هذا المقام اليوم إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ فانفروا معه و أمدّوه بالنفس و المال.

و استأذن مالك الأشتر عليّا عليه السّلام بالذهاب إلى الكوفة و قال: أنا أعرف الناس بهم و أعرف ضرر عداوتهم، فأذن له، و لمّا وصل الكوفة بالغ في ترغيبهم بالجهاد و تلا عليهم مناقب أمير المؤمنين و قال: إيّاكم و سماع ترّهات سعد بن العاص (لعنه اللّه- المترجم) و الوليد بن عتبة الفاسق الخمّار و أبي موسى.

و قام من بعده حاتم (كذا) عدي بن حاتم و من بعده حجر بن عدي و غيرهم، و كلّ واحد يدعو الناس إلى الجهاد و يرغّب فيه، و يحرّضهم على نصرة عليّ، و دعاهم أبو وهب أيضا للقتال، فقال أبو موسى: أبو وهب يكذب عليكم، فأمر مالك الأشتر بالقبض على يد أبي موسى و إنزاله عن المنبر إلى الأرض، و هكذا فعلوا و أخرجوه من المسجد إلى خارجه.

و قام عبد اللّه بن ربيعة ففعل فعلهم و دعا الناس إلى طاعة أمير المؤمنين، و أقام الإمام الحسن الصلاة بهم جماعة، و ولّى قرظ بن كعب الأنصاريّ على الكوفة نيابة عن الإمام أمير المؤمنين، و خرج من الكوفة بالجيش و قد اجتمع منهم اثنا عشر ألف مقاتل، و خرجوا تلبية لدعوة أمير المؤمنين و لحقوا به على دفعات، و بقي الإمام مستقرّا في ذي قار خمسة عشر يوما بانتظار مجي العسكر، فلمّا قدموا عليه خطبهم و شرح لهم نكث طلحة و الزبير بيعته و قال: إنّما دعوتكم لتعينوني

ص: 226


1- هو زيد بن صوحان رحمه اللّه و ليس مجهولا عند أحد ليعبّر عنه المؤلّف هذا التعبير.

و تنصروني على بغاة أهل البصرة الذين اجتمعوا على طلحة و الزبير و أقدموا عائشة من المدينة على حربي، فصاح أهل الكوفة بأجمعهم: نفديك بارواحنا و لا نحيد عن البصرة و ننصرك عليهم.

فقام عمّار و قال: يا عليّ، إخواننا و أهل قبلتنا لا يحلّ لنا قتلهم.

فقال عليّ عليه السّلام: إنّهم نكثوا عهدي و عهد عاملي عثمان بن حنيف على البصرة و قتلوا مائة نفس مؤمنة مصونة الدم فلو أنّهم قتلوا واحدا لحلّ دمهم، و لا يكون الحقّ معهم بادّعائه.

فاستحيا عمّار و سكت و قيل: إنّه لزم ركاب الإمام الحسين حتّى استشهد في كربلاء (1).

و تحمّل أمير المؤمنين من ذي قار و لم ينزل إلّا (بزانوقة) (كذا) في البصرة و أرسل إلى عبد اللّه بن عبّاس و زيد بن صوحان إلى طلحة و الزبير فلم يعتذرا و قالت عائشة: لا يجيب عليّا غيري، و قالت عائشة في جوابهما (2) ... و قد لبسوا جملها بجلد النمور و وضعوا عليها دروع الحديد و جاؤوا قاصدين الحرب للّه و رسوله و حجّة اللّه و المؤمنين، فليستحوا من اللّه تعالى، فأيّ رجل يرضى لامرأته أن تفعل هذا الفعل؟!

و أقبل عليّ عليه السّلام حاسرا اعزل من السلاح و وقف بين الصفّين و استدعى الزبير، فقالت عائشة: لا تذهب فإنّ عليّا يخدعك أو يريد تخويفك، فلمّا حضر الزبير

ص: 227


1- في صدر الحديث يخاله القارئ عمّار بن ياسر لأنّ المشترك إذا أطلق انصرف إلى أظهر أفراده، و لكنّه بيّن حقيقة عمّار هذا بشهادته في كربلاء.
2- لا بدّ من وجود حذف هنا تتمّ به الجملة، و المؤلّف لم يشر إلى مصادره لنرجع إليها و نتلافي الحذف، و الحديث و فيه الخطب كلّها مترجمة، و على القارئ إذا أراد الوقوف على المتن الصحيح البحث عنها في المصادر.

عنده، قال له: أناشدك اللّه، ألا تذكر يوم قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتحبّه؟ فقلت:

و ما يمنعني من حبّه، فقال: يأتي يوم تقاتله مع الناكثين و تخون عهد اللّه و رسوله و وصيّه، و لن تنال الظفر. فقال الزبير: نعم أذكر ذلك.

ثمّ قال: ألا تذكر يوما أقبل النبيّ فيه من بني عمرو بن عوف و يدك بيده، فسلّمت أنا على النبيّ فردّ سلامي و تبسّم في وجهي، فابتسمت له، فأنكرت عليّ ذلك و قلت: ما هذا التيه يا عليّ؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: صه يا زبير، فإنّ عليّا لا يتيه، و سوف تقاتله مع الفئة الباغية و أنت ظالم له و هو مظلوم. فقال الزبير: أجل، أذكر ذلك و لا أنساه.

ثمّ عاد الزبير إلى فئته و قال: أنا شاكّ في هذا الأمر و متحيّر، فقالت عائشة:

لست شاكّا و لكنّك خفت من سيف عليّ، و قال ابنه عبد اللّه نحوا من مقال خالته، فقال له أبوه: لعنك اللّه- ثلاث مرّات- و قال: لم يكن بيني و بين عليّ بغضاء حتّى نشأت فظهرت، و لو لا وجودك المشؤوم لما كان بيني و بينه إلّا الودّ، ثمّ استدعى الزبير طلحة و قال: اترك هذا الأمر و ارجع عنه، فأبى طلحة، و خرج الزبير من العسكر إلى أن قتل مدبرا.

فجعل أمير المؤمنين مالك الأشتر على الميمنة، و عمّار بن ياسر على الميسرة، و أعطى رايته محمّد بن الحنفيّة ولده، و استعدّ للحرب فاستعرت نارها، و في هذه الأثناء حمل محمّد بن أبي بكر مع جماعة على جيش عائشة و ضرب قائمة جملها بالسيف فلم يقع الجمل، و ثنّى بضربة أخرى فما أثّرت، فقال له عليّ عليه السّلام: يا محمّد، اضطرب الثالثة، ففعل محمّد متمثّلا أمر الإمام فوقع الجمل لجنبه، و قتل مروان طلحة في الحرب.

فأرسل عليّ عليه السّلام محمّدا بن أبي بكر إلى عائشة و قال: قل لها: إلى أين تبغي الذهاب؟ فقالت إلى المدينة، فأوكل بها نساءا أوصلنها إلى هناك، و كان مع عليّ من أهل البصرة ثلاثة آلاف مقاتل.

ص: 228

الفصل الثالث في بعض قصّة معاوية و يزيد

الفصل الثالث في بعض قصّة معاوية و يزيد (1)

و جاء في الرسالة «الحاوية» أنّ ركن الإسلام الخوارزميّ قال: لمّا جي ء برأس الإمام الحسين عليه السّلام إلى يزيد بن معاوية لعنهما اللّه، قام الرجس و وضع قدمه على الرأس الشريف، و كان زيد بن أرقم حاضرا (2)، فقال: لا تفعل ذلك يا يزيد، فإنّي رأيت رسول اللّه يقبّل ذلك الفم.

و أمّا عندنا فإنّ اللعين تناول سوطه و ضرب ثناياه.

و قال في «الحاوية» أيضا أنّ اللعين طلب الساقي و هو في تلك الحالة و الرأس بين يديه فسقاه، و قال العلماء كان ثملا ساعتئذ، و كان بعد ذلك يرقص على سطح قصره و هو سكران فوقع من أعلاه و ذهب إلى جهنّم و هو سكران كما مات أبوه ثملا، و قد وضع الصليب في عنقه.

و قال بعضهم: ذهب عدوّ اللّه إلى الصيد مع عسكره فعرضت له ظبية، فأجرى فرسه ورائها فأوحى اللّه إلى الأرض أن ابلعيه «فخسفنا بداره الأرض». و قيل: لمّا عرفه القوم في دمشق تكأكأوا عليه و صار لهم ضجيج و عجيج، فهرب منهم و وقع في الكنيف، فأقبل الناس إلى ذلك الكنيف و سدّوا فروجه، و بئر الكنيف هذا معروف في دمشق، و أنشد في مذمّته و مدح عليّ و آله صلوات اللّه عليهم و سلامه (شعر):

ص: 229


1- مرّ على القارئ أنّي لا أتصرّف بعناوين الفصول التي يضعها المؤلّف لأنّها باللغة العربيّة، و لا يجوز لي تغييرها لأنّ ذلك ليس من الترجمة و إن جائت على خلاف المباني الدستوريّة للّغة.
2- تنسب هذه إلى عدوّ اللّه عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه و كان ابن أرقم حاضرا عنده و لم يكن في الشام.

يهدى أسارى كربلا إلى الشئآم و البلاقد انتقلن بالدما ليس لهنّ ناعل

إلى يزيد الطاغيه معدن كلّ داهيه من نحو نار حاميه مجاهد و خاذل

حتّى رأى بدر الدجى رأى الإمام المرتجى بين يدي شرّ الورى و للّعين خاذل

يظلّ في بنانه قضيب خيزرانه ينكث في أسنانه قطعت الأنامل

أنامل لجاهد و حاقد مراصدمكائد معاند في صدره طوائل

طوائل بدريّه طوائل كفريّةشرّها جاهليّة ولّت لها الأفاضل و بعث يزيد بعد شهادة الحسين عليه السّلام جيشا إلى المدينة و أغار عليها و استباحها ثلاثة أيّام، فكان يسلب القرشيّة مقنعتها من رأسها، و من أغلق بابه و استتر في بيته أحرقوا عليه بابه (1).

قال أبو سعيد الخدري: ما كنّا نسمع الأذان إلّا من قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قتلوا في المدينة ستّة آلاف إنسان (2) و من هناك قصدوا مكّة و نصبوا المنجنيقات على أسوار البيت و خرّبوه و أحرقوا أستاره و وضعوا السيوف على عواتقهم، و القرآن تحت أقدامهم، و هدموا الكعبة مرّتين و أحرقوا مكّة.

و قيل: عثروا على الحجر الأسود بعد سنين في اليمن فأخذوه و ردّوا إلى مكانه و عمروا البيت (3)، و هذه هي سنّة معاوية و يزيد و أهل الشام، بخ بخ لإسلام كهذا، و ويل لمن يدعو هؤلاء مسلمين.

و كان غرض يزيد و الحجّاج من غزو البيت قتل عبد اللّه بن الزبير، فقتلوه

ص: 230


1- هذا درس بليغ تلقّاه يزيد لعنه اللّه من الأستاذ الأكبر أبي حفص عمر بن الخطّاب لعنه اللّه.
2- العدد أكثر من هذا بكثير.
3- إن كان يشير إلى أخذ القرامطة الحجر حين غزوا البيت فالأمر على خلاف ما قاله تماما، و إن كانت حكاية أخرى فإنّي لم أعثر عليه في التاريخ و لا بدع فما زال في الزوايا خبايا.

و صلبوه على شجرة في مكّة (1) فلمّا أنزل من الشجرة كانت قد جفّت، و كانت أمّه أسماء ذات النطاقين (2) قد شاخت و أضرّت، و لمّا وقفت على رأس ولدها وجدتهم قد مثّلوا به فقطعوا يديه و رجليه و أبانوا شفتيه، و شقّوا جوفه و وضعوا فيه الحجارة، و هو أوّل مولود في الإسلام من المهاجرين، و قد قتله الحجّاج اللعين و قال: طهّرت مكّة منه، و مكّن ليزيد معاوية أبوه ففعل ما فعل، و لقد مضى على القوم من هلالك عمر بن الخطّاب إلى هلاك يزيد سبع و أربعون سنة، و هلك يزيد لعنه اللّه بعد شهادة الحسين عليه السّلام (3).

و ما أعجب قول المخالف: نهى النبيّ عن لعن المصلّين، و معاوية و يزيد من المصلّين، و مع هذا يلعن علماء المعتزلة علماء الشيعة و يذمّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الجميع يصلّون و يترضّون عن معاوية و يزيد، أسأل اللّه أن يحشرهم معهما و هو كذلك فعلا طبقا للحديث «المرء مع من أحبّه» (4)، و يحشر علماء الشيعة مع أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 231


1- بل صلبوه في البيت الحرام.
2- أخت عائشة و قد لقّبت بذات النطاقين زورا لأنّهم زعموا أنّها قسمت نطاقها قسمين لرسول اللّه ليلة الهجرة.
3- قيل: هلك عمر سنة ثلاث و عشرين و قيل أربع و عشرين، و هلك يزيد سنة أربع و ستّين، هكذا ذكر الطبريّ في تاريخه عن وفاتيهما، فيكون الحاصل من طرح ثلاث و عشرين من أربع و ستّين، اثنين و أربعين سنة، أو واحد و أربعين على القول الثاني لوفاة عمر.
4- رسائل الشهيد الثاني: 319، علل الشرائع 1: 140، أمالي الصدوق: 252، مكارم الأخلاق: 456، مسند أحمد 1: 392 و 3: 104 بطرق كثيرة و 4: 239 بطرق أكثر، سنن الدارمي 2: 321، صحيح البخاري 7: 112 و 112 بطريقين، صحيح مسلم 8: 43، سنن ابن ماجة 2: 1118، سنن أبي داود 2: 504، سنن الترمذي 4: 22 و 23 و 5: 205 و 206، مجمع الزوائد 1: 286 و 9: 364 و 10: 280، عون المعبود 14: 24 و 25.

يقول صاحب الحاوية: تدخل فاطمة يوم القيامة عرصة المحشر و على يدها حلّة خضراء و على يدها الثانية حلّة حمراء و تنادي برفيع صوتها: ربّ احكم بيني و بين قاتل ولدي بأيّ ذنب قتلوهما أحدهما بالسمّ و الآخر بالسيف بالعبارة التالية: إنّ فاطمة تجي ء يوم القيامة بيدها قميص أخضر و بالأخرى قميص أحمر، فتقول: يا ربّ، انتصف لي من قتلة ولدي لم سمّ أحدهما و ذبح الآخر، فيحكم اللّه لها أوّلا يعني الحسن من معاوية، و ثانيا من يزيد لعنه اللّه.

و قال أيضا عن العبّاس: لمّا كانت ليلة زفّت فاطمة إلى عليّ عليه السّلام كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قدّامها و جبرئيل عن يمينها و ميكائيل عن يسارها و سبعون ألف ملك من ورائها يسبّحون اللّه و يقدّسونه حتّى الفجر.

و قال أيضا: أدخلت فاطمة عليها السّلام الحسن عليه السّلام على (رسول اللّه) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي التي كانت ترضعه أذهب جبرئيل في خيل من الملائكة قد نشروا أجنحتهم و يبكون حزنا على الحسين و أنّه علامة المصيبة للملائكة.

و قال أيضا: إنّ ملكا في البحار نزل إلى (الهجر الأعظم- كذا) و صاح صيحة و قال في صيحته: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن فإنّ فرخ محمّد مذبوح، ثمّ جاء إلى النبيّ فأخبره بذلك (1).

قال الحسام الخوارزمي: لو تصوّرتم مقدار المصيبة للبستم ثياب المصابين أو تغيّرت صوركم سودا حزنا على قتله.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه الحسين عليه السّلام، فعطش و لم نجد ماءا، فأعطاه لسانه فمصّه حتّى ارتوى، ثمّ فرحوا بقتله عطشان يلوك لسانه عند الذبح.

ص: 232


1- مدينة المعاجز 3: 438 و فيه: البحر الأعظم.

و عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أعطي الحسين من الفضل ما لم يعط أحد من ولد آدم ما خلا يوسف بن يعقوب.

يقول مؤلّف الكتاب: المراد من الفضل جمال الصورة و شرف المحتد من الأب و الجدّ و الأمّ كما كان ليوسف عليه السّلام، و ثانيا أحسن القصص لأنّ من قصص الأنبياء و حكاياتهم و الأوصياء و الأولياء حكاية يوسف و الحسين عليهما السّلام فإنّهما ملكا الشهرة في العالم، و الجميع يعرفون ذلك و يقرؤونه .. و يحزنون عليه .. و كذلك يقول صاحب الحاوية (1).

و يقول صاحب الحاوية أيضا: عن خيثمة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بي أنذرتم، ثمّ بعليّ بن أبي طالب اهتديتم، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2)، و بالحسن أعطيتم الإحسان، و بالحسين تسعدون و به تشقون، و إنّما الحسين باب من أبواب الجنّة؛ من عانده حرّم اللّه عليه ريح الجنّة (3).

عن أبي أيّوب الأنصاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ينادي مناد يوم القيامة من بطن العرش: يا أهل الجمع، نكّسوا رؤوسكم و غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الصراط.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة مهجة قلبي، و ابناها ثمرة لفؤادي، و بعلها نور بصري، و الأئمّة من ولدها أمناء ربّي و حبله الممدود بينه و بين خلقه، من اعتصم به نجى، و من تخلّف عنه هوى.

إذن ظهر من هذه الأحاديث واقع أولئك الذين غصبوا حقوقهم و قطعوا

ص: 233


1- لم أعثر في الذريعة على كتاب واحد للمولى محمّد و اسمه الحاوية في تحقيق أمر الزاوية.
2- الرعد: 7.
3- مائة منقبة لمحمّد بن أحمد القمّيّ: 22.

رؤوسهم و وضعوها على رؤوس الرماح، و أفتوا بإباحة دمائهم و أشلوا عليهم الفسّاق، و صاروا مبدء ذلك الظلم، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

و روى هذه الأخبار صاحب الحاوية أيضا بأنّ الإمام زين العابدين لمّا حملوه إلى يزيد أنشد يزيد لعنه اللّه هذا البيت:

لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم و أن نكفّ الأذى عنكم و تؤذونا

اللّه يعلم أنّا لا نحبّكم و لا نلومكم ألا تحبّونا و قال يزيد: يا غلام، ليس لكم فخر علينا، فقال الإمام عليه السّلام: يا بن معاوية و هند و صخر، لم تزل النبوّة و الإمرة لآبائي و أجدادي من قبل أن تولد، و لقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر و أحد و الأحزاب في يده راية الإسلام و ابوك و جدّك في أيديهما راية الكفر، ثمّ أنشد:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم

بعترتي و بأهلي عند مفتقدي منهم أسارى و منهم ضرّجوا بدم ثمّ قال: يا يزيد، لو تدري ما فعلت و ما الذي ارتكبت من قتل أبي و أهل بيتي و أخي و عمومتي إذن لهربت في الجبال و فرشت في الرمال و دعوت بالويل و الثبور، و يكون رأس الحسين بن فاطمة و ابن عليّ عليه السّلام منصوبا على باب مدينتكم و هو وديعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيكم فابشروا بالخزي و الملامة غدا إذا جمع الناس ليوم القيامة.

و جاء في الحاوية أنّ يزيد شرب خمرا و سكب فضلته على رأس الحسين عليه السّلام فغسلت زوجة يزيد الرأس الشريف بالماء و ماء الورد فرأت فاطمة بالليل بعالم الرؤيا و هي تعتذر إليها، ثمّ أمر يزيد أن يحمل رأس الحسين و رؤوس أهل بيته إلى أبواب المدينة فتنصب عليها.

و أورد الحاكم في رسالته: قال اللّه تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ

ص: 234

وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (1) و النبيّ طرد مروان من المدينة و هذا دليل على كفره، فلمّا استخلف عثمان (لعنه اللّه- المترجم) ردّه و أسند إليه منصب الوزارة، و طرد أبا ذر بخلاف حكم هذه الآية من المدينة و هو حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنصف من نفسك أيّها المخالف، إن صنع عثمان هذا لا يدلّ على صحّة خلافته بل و لا على إيمانه أو إسلامه.

و قال صدر الأئمّة البخاري: و أمر يزيد بنصب رأس الإمام الحسين عليه السّلام على باب مدينة دمشق و أسكن مخدّرات الرسالة في بيت يجاور بيته، و لمّا دخلن البيت خرجن نساء آل ابي سفيان لاستقبالهنّ و رحن يقبّلنّ أيديهنّ و أرجلهنّ و هنّ صارخات باكيات لاطمات، و أقمن العزاء ثلاثة أيّام، و لمّا رأين بنات النبيّ بهذه الحالة المزرية خلعن ملابسهنّ و رمينها عليهنّ، و حسرت امرأة يزيد عن رأسها و شقّت جيبها و عمدت إلى ستائر بيتها فمزّقتها و أقبلت حافية القدمين إلى مجلس يزيد و قالت: يا يزيد، أ أنت الذي أمرت بحمل رأس ابن بنت رسول اللّه على الرمح و نصبته على باب بيتك، و كان يزيد جالسا على عرش الملك و عليه تاج مرصّع بالدرّ و الياقوت و الحجارة الكريمة، فلمّا بصرت عينه بزوجته سافرة بادر إليها و سترها و قال: يا هندي، فاغفر (كذا) فاقعري و ابكي على بني بنت رسول اللّه.

و جاء في الحاوية أنّ النساء يتستّرن على ما جرى في كربلاء من قتل الرجال و الشباب على البنات و الولدان، و يعدن الأطفال الصغار بعودة آبائهم من هذا السفر إلى أن أدخلوهنّ بيت يزيد لعنه اللّه و كان معهنّ بنيّة لها من العمر أربع سنوات، انتبهت من نومها و صرخت تريد أباها الحسين عليه السّلام، لقد كان معي الساعة و أنا نائمة، فثارت للنساء و الأولاد ضجّة و صيحة، و كان يزيد لعنه اللّه يغط في نومه

ص: 235


1- الأنعام: 52.

العميق فانتبهه بإنزعاج و سأل: ما الخبر؟ فأخبروه بما جرى، فقال: خذوا لها رأس أبيها، فحملوه إليها و وضعوه بين يديها، فسألتهم: ما هذا؟ فقال لها اللعناء:

هذا رأس أبيك، فصرخت الطفلة مرعوبة و استولى عليها الرعب الشديد حتّى مرضت و بقيت من بعدها أيّاما ثمّ ماتت و أسلمت الروح إلى ربّها.

الفصل الرابع في أنّ بني أميّة لم يكونوا من قريش

اشارة

اعلم أنّ أميّة غلام روميّ لعبد الشمس و كان قد أعتقه و تبنّاه لما رأى سطوع الذكاء و الكياسة مرسوما على محيّاه، و ولد له أولاد كثيرون جلّهم لعناء.

و العلماء قول واحد أنّ الشجرة الخبيثة (الملعونة) هم بنو أميّة في قوله تعالى:

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (1).

الفائدة الأولى

سؤال: عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، فكيف يقال لمثله غلام، أو كان غلاما؟

الجواب: جرت عادة العرب أنّ المملوك إذا أعتقوه و تبنّوه يدعى عندهم بعتيق أو معتق، نظير هذا زيد بن حارثة حين أعتقه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تبنّاه فكان يدعونه زيد ابن محمّد، و اشتهر ذلك بين أهل مكّة و المدينة و كان اللّه سبحانه يكره ذلك. و لمّا طلّق زيد زوجه زينب بنت جحش و أمر اللّه رسوله أن يتزوّجها لكي يعلم الناس أنّه ليس ولده على الحقيقة و لا هو بوارث له، إنّما ترثه فاطمة و ابناها الحسن

ص: 236


1- إبراهيم: 26.

و الحسين عليهما السّلام، كما قال تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ (1) و كتب المفسّرون حكايه ذلك في سورة الأحزاب: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (2)، ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) و المراد بقوله «أبا أحد» دفع هذه الأبوّة.

و هكذا كان عبد الشمس و أميّة حين اشتهر الأخير بابن عبد شمس، و المؤرّخون أخذوا ظاهر القول، و هذا التحقيق بلغنا من المحقّقين الذين كشفوا الواقع و أبانوا عن حقيقة هذه البنوّة.

الفائدة الثانية

و لمّا ثبت كون بني أميّة روما، فقد قال اللّه تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ (4) فهذه الآية تعنيهم، و يغلب في مملكتهم أهل الصلاح و الدين و هم الغالبون، و المراد من غلبة الروم مذكور في آثار أهل البيت و الأئمّة الصادقين عليهم السّلام.

الفائدة الثالثة

وصف اللّه الشجرة الخبيثة بقوله ما لَها مِنْ قَرارٍ (5) و المعني بذلك هم، و لا تبقى مملكتهم أكثر من ألف شهر، فإذا انتهت هذه المدّة حلّ بهم الهلاك، و حينئذ يسطع نجم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يظهر المؤمنون الإيمان، و يفشو بينهم لعن الشجرة الخبيثة.

ص: 237


1- آل عمران: 61.
2- الأحزاب: 37.
3- الأحزاب: 40.
4- الروم: 1 و 2.
5- إبراهيم: 26.
الفائدة الرابعة

سئل الإمام الصادق عن ليلة القدر، فقيل: يا بن رسول اللّه، أتعرف ليلة القدر؟

فقال: كيف لا أعرفها، إنّ اللّه كشفها لنا، ففي هذه الليلة من كلّ سنة ينصب كرسيّ الكرامة لنا و يجلسنا عليه، و تأتي الملائكة المقرّبون و أرواح الأنبياء و المرسلين زرافات و وحدانا للسلام علينا و تهنئتنا، و تذهب إلى مصافها حتّى مطلع الفجر، و هي خير من ملك بني أميّة ألف ليلة.

و ما ناله بنو أميّة في هذه المدّة من اجتماع الفسّاق عليهم نحن نناله في كلّ سنة ليلة القدر و ما يضيرنا إذا جفانا الفسّاق.

الفائدة الخامسة

لمّا ثبت كون بني أميّة ليس من قريش بل من الروم بطلت خلافة عثمان و معاوية، و هذا على مزعمة القوم أنّ الأئمّة من قريش لأنّهم ليسوا منهم.

الفصل الخامس

سبّ عدي بن أرطاة على منبر البصرة أمير المؤمنين عليه السّلام و كان الحسن البصري حاضرا، فقال: و اللّه لقد سبّ أخا رسول اللّه .. (1).

قال عبد اللّه بن الحرث: ذهبنا أنا و عمرو بن الحجّاج إلى معاوية و ثنينا من بعده

ص: 238


1- الحسن البصري دجّال كبير و لا واقع لما يبدو عليه من حسن السمت فإنّه منحرف عن أمير المؤمنين، و لو صدق هنا لما سبّه في موضع آخر، فقال عنه: لا أبا لك، و الواقع أنّ هذا الخبيث الدجّال كان في عهد أمير المؤمنين ابن سنتين و من بعده لم يتقدّم به العمر ليكون بهذا المستوى من العقل و الفهم و الدين.

بعبيد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال: إنّ معاوية منعنا من رواية الحديث و قال: و اللّه لئن حدّثت لأضربنّ عنقك بالسيف. قال عبد اللّه بن الحرث: فقلت: و اللّه لو كانت عنقي لما تركت الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال: كنت يوما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمرّ معاوية يقود أباه و كان أرمد، و رسول اللّه على المنبر، فقال: لعن اللّه التابع و المتبوع (1) ثمّ حضرت عند النبيّ فأرسل وراء معاوية، فقيل له: يأكل، و أعاد الرسول مرّات و هو يأكل، فقال الرسول: يا رسول اللّه هو يأكل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ لا تشبع بطنه فلن يشبع، هل رأيتموه يشبع (2).

قال الراوي: فسألته: أ أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: سمت أذني و رأت عيني في المرّتين كليهما، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (3).

ص: 239


1- بحار الأنوار 33: 191 و فيه الجملة بسياق ثان، مناقب أهل البيت للشرواني: 467، شرح ابن أبي الحديد 4: 79 و فيه: ربّ يوم لأمّتي من معاوية ذي الاستاه، قالوا: يعني الكبير العجز.
2- كان سليمان بن عبد الملك ثعبانيّ الالتهام لقمانيّ الالتقام على أنّ جميع المروانيّة كانوا أمثالا في الأكل، إمامهم في الأكل في سبعة أمعاء معاوية (لعنه اللّه و لعنهم). (ربيع الأبرار 3: 253) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الكافر يأكل في سبعة أمعاء. (رواه أحمد في المسند 2: 21) و أخرجه كثيرون يتعذّر حصرهم.
3- شرح ابن أبي الحديد 15: 176، الكامل لابن عدي 2: 146 و 209 و 3: 419 و 5: 101 و 314 و 7: 83، تاريخ مدينة دمشق 59: 155 و 156 و 157، تهذيب الكمال 7: 102، سير أعلام النبلاء 6: 105، تهذيب التهذيب 2: 369 و 5: 96 و 8: 65، لسان الميزان 3: 54، البداية و النهاية 8: 141 و 142، تقوية الإيمان لمحمّد بن عقيل: 139. و عبثت يد الغدر و الخيانة لأتباع السنّة كما يصفون أنفسهم فحرّفوه «أقبلوه» و لم يفعلوا ذلك إلّا لأنّه إدانة لإمامهم الأكبر ابن صهّاك سوّد اللّه وجهه و لعنه.

الفصل السادس في فوائد و نكات

وردت في كتاب مثالب بني أميّة من كلام الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان و هو من علماء أهل السنّة، فنكتب ما هو من خلاصة كتابه و نوادره

قال الحسن البصريّ: كنت لا أستطيع ذكر اسم عليّ في عهد بني أميّة، فأقول:

حدّثني أبو زينب، خوفا من بني أميّة.

قال موسى بن داود: سمعت من عليّ و هو واقف عند أحجار الزيت، رافعا يديه يقول: اللّهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان، فحدّثت عبد الملك بذلك، فقال: ما أراه إلّا بريئا يا موسى. قلت: فلماذا يلعنونه على المنابر؟ فقال عبد الملك: لا يقوم الملك إلّا بذلك.

و كان قتل عثمان بسعي معاوية و لكنّه ما فتئ يشنّع على عليّ عليه السّلام و يدّعي الطلب بدم عثمان لعنه اللّه و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه بن سعد أقام بعسقلان بعد مقتل عثمان و لم ير وجه معاوية قطّ و قال: أكتب على نفسي أن لا أرى وجه رجل رضي بقتل عثمان و أعان عليه.

قال محمّد بن عبد الرحمان بن يزيد: قلت لأبي: يا أبتى، أتغزو في إمارة الحجّاج؟ فقال: يا بني، إنّ أصحاب رسول اللّه غزوا في زمن معاوية و هو شرّ من الحجّاج.

قال الأعمش: إنّ الحجّاج جرّد عبد الرحمان بن أبي ليلى من ثيابه و أمر بضربه حتّى تناثر لحمه و هو يقول: العن عليّا ابن أبي طالب، و هو يأبى.

قال عبد اللّه بن الزبير: أولاد الحكم ملعونون.

ص: 240

و كان رجل يحدّث عمر بن عبد العزيز فقال في أثناء كلامه: يزيد أمير المؤمنين (1) و كان عمر بن عبد العزيز في بني أميّة كمؤمن آل فرعون.

و قال مروان لحويطب: هممت أن أسلم فمنعني أبوك مرّات، و قال: لا تدع دين آبائك و أجدادك فيضيع شرفك، فلمّا أسلم عثمان و هو عمّك آلم أباك كثيرا و عاتبه و قال: إنّك فعلت سوءا.

قال الأحنف بن قيس: حضرت عند معاوية أنا و جماعة من أهل العراق فاختلفت آرائهم في يزيد و كلّ واحد قال ما عليه و كنت صامتا لا أنطق بكلمة، فقال معاوية: مالك يا أحنف ساكت أمام الملأ، فقمت و قلت بعد أن حمدت اللّه و أثنيت عليه: إنّك أعرف بيزيد ليله و نهاره، و سرّه و علنه، لأنّك أبوه، و اعلم بأنّنا شارفنا على النهاية فلا تزوّده الدنيا و تمكّنه من رقاب العباد و تذهب إلى ربّك فاللّه سائلك عن ذلك، فاتّق اللّه و لا تصيّره حاكما على رؤوس العباد، فبدر ملعون متزلّف كان حاضرا فقال: من أنكر ولاية معاوية و لم يقبل حكمه عليه ضربته بحدّ سيفي هذا، و أشار إلى قائم سيفه.

قيل: بلغ الظلم في عهد بني أميّة حدّا أن كان الناس يتمنّون الموت و قيام القيامة ليرتاحوا من ظلمهم و جورهم.

و كان سالم بن أبي حفصة يطوف في البيت و يقول: لبّيك مهلك بني أميّة لبّيك، فلمّا سمعه داود بن عليّ أرسل إليه ألف دينار مكافئة.

هرب عقبة بن شدّاد من عمر أيّام خلافته و نزل الكوفة و حضر صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام فاستشهد، فلمّا استولى معاوية لعنه اللّه أمر بهدم بيته.

و لمّا ذهب معاوية إلى الميقات لعقد الإحرام و أراد أن يقول لبّيك قيل له: هذا

ص: 241


1- لم يتمّ الرواية فإنّ عمر بن عبد العزيز ضرب هذا القائل خمسا و عشرين سوطا.

مكان مقدّس لأنّ عليّا لبّى منه، فترك معاوية الإحرام تعصّبا على عليّ عليه السّلام و ذهب إلى موضع آخر.

قال المصنّف: و اليوم أهل السنّة يتّبعون سنّته و إنّما قيل للسنّيّ سنّيّ لأنّه حافظ على سنّة معاوية و تبرّأ من عليّ و أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلّا فالمسلمون جميعا شركاء في سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما من حنبليّ إلّا و هو ينتقص عليّا و يبحث عن غميزة يغمزه بها (1).

و قال ابن المسيّب: ولد لأخي ولد من فضل اللّه عليه فسمّاه «وليد»، فلمّا علم الرسول بذلك منعه منه و قال: هذا اسم الفراعنة «ليكوننّ في أمّتي رجل يقال له الوليد، ألا هو شرّ لأمّتي من فرعون لقومه» (2) و حكم في الإسلام وليدان: الوليد ابن يزيد و الوليد بن عبد الملك (3).

جاء أعمى يوما إلى مجلس الحسن البصريّ و قال: ارحم أعمى ليس له قائد، فقال الحسن البصريّ: هذه السارية أسوء منك حالا، هذا عبد اللّه بن الزبير مع ما

ص: 242


1- صدقت يا شيخي الكريم، فهذا مشاهد للعيان معلوم لكلّ إنسان، و أنا إزاء هذا لا املك إلّا لعن الثلاثة: أبي بكر و عمر و عثمان، و ألحق بهم أحمد بن حنبل لعنه اللّه.
2- أمالي المرتضى 1: 89 و الرواية بصيغة أخرى و الولد هو لأخي أمّ سلمة. (مسند أحمد 1: 18، المستدرك 4: 494، و الرواية عن ابن المسيّب عن أبي هريرة، قال: ولد لأخي أمّ سلمة .. الخ، و المؤلّف أخطأ بنسبتها إلى ابن المسيّب، مجمع الزوائد 7: 312، فتح الباري 10: 478 و 479، المصنّف 11: 43، بغية الباحث لابن أبي أسامة: 252، القول المسدّد في مسند أحمد: 6 و 14 و 15، كنز العمّال 11: 257، فيض القدير 4: 172، كتاب المجروحين لابن حبّان 1: 125، تاريخ مدينة دمشق 63: 322، الإصابة 6: 480، البداية و النهاية 6: 271، و هناك مصادر أعرضنا عنها لكثرتها، كلّ هذا و تجد مدح الوليد و الثناء عليه في كتاب «العواصم من القواصم» و عند الخطيب محقّق الكتاب و هذا الواقع يكشف لك ما هو دين القوم؟!
3- و لا تنس الوليد بن عقبة لعنهم اللّه جميعا.

له من الخدم الحشم و المال ليس له من يقوده، و كان هذا اللعين قد أضرّ. «الحمد للّه على عماه في الدنيا و الآخرة و استيصال بني أميّة» (1).

قال داود بن عليّ و هو من أعلام الدنيا يومذاك: كان رجل من أهل العراق يلعن أهل الشام، فقال عليّ عليه السّلام: لا تسبّوا أهل الشام جمّا غفيرا فإنّ فيهم قوما كارهين لما يرون في الشام و فيهم يكون الأبدال (2).

يقول أبو حاتم سفيان بن عتبة: لم يكن في عليّ خصلة يقصر بها عن الخلافة و لم يكن في معاوية خصلة يستحقّ بها الإمامة و الخلافة.

قال عبيد بن شداد (الهار- كذا): لو شئت لصعدت المنبر و ذكرت مناقب عليّ من الفجر إلى غياب القرص ثمّ ليأخذوني من هناك و ليضربوا عنقي.

و سمع عليّ عليه السّلام رجلا يلعن أهل الشام، فقال: ويحك لا تعمّهم فإن كنت لا بدّ فاعلا فمعاوية و شيعته و عمرو بن العاص و شيعته.

يقال: إنّ أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السّلام ولدت لعمر ولدا و سمّته زيدا فدسّ عبد الملك بن مروان السمّ له فقتله لأنّ الناس كانوا يقولون: هذا ابن عليّ و عمر، و كان يخشاه على ملكه، و صلّى عليه عبد اللّه بن عمر.

قال شقيق: كنت أنا و مسروق في سفينة تحمل أصناما للنجاشي لبيعها في الهند، فقال شقيق: اغرقوا هذه السفينة، فقال مسروق: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فليست هي شرّا من معاوية بن أبي سفيان إمام المسلمين.

كان عقيل بن أبي طالب ضيفا على أخيه، جاء يطالبه بالعطاء، فقال له الإمام:

ص: 243


1- لا أعرف ابن الزبير هذا و لم يتيسّر لي الاطّلاع عليه و لا شكّ في تصحيفه.
2- الأبدال في الشام حديث موضوع ردّه جلّ العلماء إن لم يكن كلّهم بل لا أبدال في البين ليكونوا في الشام أو غيرها.

اصبر حتّى يخرج عطاء الناس فأعطيك، فألحّ عليه عقيل و كان إلى جانبهما شخص ثالث، فقال له عليّ عليه السّلام: يا رجل، خذ بيده إلى هذه الدكاكين و ليحمل منها ما شاء، فقال عقيل: يابن أمّ، أتريدني أن أكون لصّا بعد الهجرة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

و أنت تريد منّي أن أسرق لك أموال المسلمين؟! فقال عقيل: ائذن لي بالمصير إلى معاوية، فقال له: أذنت لك، فأنت و ذاك.

فصار عقيل إلى معاوية فلمّا وصل إليه أعطاه مأة ألف درهم و قال له: اصعد المنبر يا عقيل و اذكر عطائي و عطاء أخيك، فصعد المنبر و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: كانت حالي مع أخي و معاوية كيت و كيت، و لكن أخي اختار دينه عليّ، و معاوية اختارني على دينه.

قال أبو سعيد الخدري: كان معاوية يخطب على المنبر فسلّ رجل سيفه في الجمع، فقيل له: ما تصنع ويحك؟! فقال: سمعت رسول اللّه يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد (1) فاضربوا عنقه، و قال الحاضرون: و نحن أيضا سمعنا ما سمعته، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب لعنه اللّه فما ردّ عليهم الجواب إلى أن ذهب إلى جهنّم.

قال أبو سالم: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة .. (2).

و كان معاوية يقول: السخاء لبني هاشم، و الشجاعة لبني العوام، و الحلم

ص: 244


1- لم يدرك الكلمة فترجمها «بعيدها» أي الأعياد، و جاءت كذلك في الكتاب.
2- الغدير 8: 250، الآحاد و المثاني 3: 300. و أبو سالم هذا حمران بن جابر و هو جدّ عبد اللّه بن بدر. كنز العمّال 11: 165 رقم 31059 و 363 رقم 31750، أسد الغابة 2: 46 و 343، الإصابة 2: 104، تاريخ المدينة لابن شبة النميريّ 2: 600، ينابيع المودّة 2: 84، النصائح الكافية: 139، تنبيه الغافلين: 105.

(الحكم- المؤلّف) لبني أميّة، فوصل قوله إلى الإمام الحسن عليه السّلام، فقال: ما قصد المدح بل ألقى الخبر إلى الناس ليقصدوا بني هاشم فينفقون أموالهم فيحتاجون إليه، و يلقي ببني العوام بين لهوات الموت، و أعطى الحلم لبني أميّة ليجتمع عليهم الناس و يبلغوا بهم غاية الملك و السلطان.

و نادى منادي معاوية: من جالس أبا ذر قتلناه، فهرب الناس منه، و القصد من ذلك أن لا يستمعوا إلى ذكر مناقب عليّ منه لأنّه طالما كان يحدّث بفضائله التي رآها أو سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: زار أبو الأسود معاوية، فلمّا قام قائما انفلتت منه ريح، فقال أبو الأسود: يا معاوية، هذا مقام العائذ بك، و قال: أو يكون غير هذا .. (1). و أشهد أنّ ما وقع منّي يقع منك و من أبويك، و من لا يؤتمن على ريح كيف يؤتمن على أمارة الأمّة؟!

سئل الحجّاج بن يوسف من أبي سعيد الحسن البصريّ: ما تقول في عليّ؟

فقال: كان أوّل من اهتدى، و أوّل من اقتدى برسول اللّه، و أوّل من هاجر الهجرتين، فقال الحجّاج: صدقت، هذا من وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (2) و كان عليّ بن أبي طالب أوّل من هداه اللّه تعالى مع الحقّ و أوّل من التحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قال الحسن البصريّ: عمل معاوية أربعا كلّهنّ بوائق: ادّعائه زيادا، و استخلافه يزيد، و قتله حجر بن عديّ و أصحابه، و منازعته الأمر (3).

ص: 245


1- إن كانت الريح من معاوية فإنّه أهل لها، و إن كان المؤلّف يقصد بها أبا الأسود- و حاشاه- فإنّ ذلك من دسّ العدوّ فقد كانوا يعادونه غاية العدا لأنّه موال لأهل البيت، و ما وجدوا ما ينتقصه إلّا هذا و أمثاله، و هل هذا إلّا بعض أخلاق فاروقهم!
2- البقرة: 143.
3- القواعد الفقهيّة 4: 25 و لم ينسبها إلى أحد، البداية و النهاية 8: 139، كشف الغمّة 2: 45،

رأى بسر بن أرطاة زيدا خارجا من عند معاوية، و زيد من أمّ كلثوم بنت الإمام عليه السّلام، فشرع يسبّ عليّا، فسمعه زيد يسبّه فأقبل عليه و قبض على مراق بطنه و حمله ثمّ جلد به الأرض و كسر أضلاعه، فاجتمع الناس و خلّصوه من يد زيد، فبهت معاوية و بقي أيّاما لا يعي من أمره شيئا، و كان السيف لا يفارقه من خوف زيد، و لا يجرأ على عتابه، و كان زيد غاية في الشجاعة.

عاد معاوية عمّار فلمّا قام من عنده قال: اللهمّ لا تجعل موته بأيدينا، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية.

و لمّا قتل عمّار أقبل عمر بن حازم في ذلك اليوم على عمرو بن العاص باكيا، فسأله عمرو: ما بالك؟ فقال: قتل عسكرنا عمّارا بن ياسر و قد سمعت رسول اللّه يقول: يقتل عمّارا الفئة الباغية، فنهض عمرو مسرعا إلى معاوية و حدّثه بما سمع، فقال معاوية: على عمّار أن لا يأتي إلى هنا، و لقد قتله من جاء به، و لبّس عليهم بحيلته و مكره.

ناظر يوما عبد الرحمان بن أبي بكر مروان بن الحكم في أمر الخلافة، فقال مروان: و هذه تقاليد الأكاسرة و القياصرة إذا مات كسرى قام كسرى مقامه، و كذا القيصر، و لأجل ذلك منعوا أهل البيت حقّهم فأوصى بها أبو بكر لعمر و عمر للشورى و عثمان قتل من دون وصيّة (1). فلمّا بلغ الأمر عائشة حوّلت وجهها إلى مروان و قالت: أنت القائل لأخي كيت و كيت، و لكن أشهد اللّه أنّ اللّه لعنك و أنت في صلب أبيك.

ص: 246


1- هذا القول لعبد الرحمان حين انبرى إلى مروان و هو يحثّ على البيعة ليزيد، فقال له: كذبت يا عدوّ اللّه، إنّكم صيّرتموها قيصريّة، ثمّ اشتدّت الملاحات بينهما حتّى تداركتها عائشة، و المؤلّف غير دقيق في الترجمة من العربيّة و لا هو بصير بما ينقل من التاريخ.

قال الحسن عليه السّلام يوما: يا قوم، لو نظرتم ما بين جابلقا و جابلسا ما وجدتم رجلا جدّه نبيّ غيري و غير أخي الحسين (1) و إنّي أرى أن تجمعوا على معاوية، و ما أدري لعلّها فتنة لكم و متاع إلى حين.

و كان الحجّاج بن يوسف دائبا في تفضيل عبد الملك بن مروان لعنه اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يعرض بذلك و يقول للناس: أرسولكم أكرم عليكم أم خليفتكم على أهلكم، فيردّون عليه: بل خليفتنا على أهلنا، يريد بذلك عبد الملك خليفة اللّه و محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه.

و كان معاوية كلّما حزبه أمر أو ألّمت به معضلة يوجّه لها إلى عليّ بن أبي طالب إلى أن جائته مسألة في الخنثى فلم يعرف لها حلّا حتّى سأل عليّا ص عليه السّلام فأفتاه.

و سئل عليّ عليه السّلام عن قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (2)، قال: الذين بدّلوا هم بنو المغيرة و استأصلوا يوم بدر و بنو أميّة و متّعوا إلى حين.

و كتب معاوية إلى مروان و هو وال على المدينة أن انقل منبر رسول اللّه من مكانه و ابعث به إليّ، فلمّا شرع ذلك الملعون في قلعه من مكانه هبّت عاصفة شديدة اظلمّت لها الدنيا و كان الناس من شدّتها لا يرى بعضهم بعضا، و لا يسمع بعضهم بعضا، فلمّا رأى ذلك تركه في مكانه فهدأ العالم و سكنت العاصفة، فاستحيا مروان من عمله هذا و قال ماكرا بهم: إنّ معاوية أمرني برفعه عن الأرض، و شنّع عليه الناس فأضاف إليه اللعين ستّ مراق أخرى حتّى صار بتسع مراق.

ص: 247


1- شرح أصول الكافي 7: 228 و اقتصر على هذا الجزء و مثله فعل صاحب ينابيع المودّة، و زاد عليه أمورا أخرى (3: 369) و أحسب إضافة المؤلّف من كلام آخر للإمام الحسن عليه السّلام.
2- إبراهيم: 28 و 29.

قال عبد اللّه بن الزبير: لعن رسول اللّه الحكم و ما (كذا) يخرج من صلبه (1).

قيل: حجّ معاوية ذات عام فلمّا بلغ المدينة أجلس عن يمينه عبد اللّه بن عمر، و عن يساره عبد اللّه بن عبّاس، و أقبل على ابن عبّاس و قال: أنا أحقّ و أولى بالأمر من ابن عمّك، فقال ابن عبّاس: لماذا؟ فقال معاوية: لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلما، فقال عبد اللّه بن عبّاس: فهذا- و أشار إلى ابن عمر- أولى منك بها لأنّ أباه قتل مظلوما قبل ابن عمّك، فانقطع معاوية.

و كان سعد في المجلس حاضرا، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا علي، أنت مع الحقّ و الحقّ معك (2)، فقال معاوية: من سمعه غيرك؟ قال: أمّ سلمة، فقام معاوية إليها و قال: يا أمّ المؤمنين، كثرت الكذّابة على رسول اللّه، و يقول سعد كيت و كيت، فماذا تقولين أنت؟ فقالت: جرى هذا الحديث على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بيتي و سمعته أنا و سمعه سعد، فقال: لو كنت سمعته من رسول اللّه ما زلت خادما لعليّ حتّى أموت (3).

ص: 248


1- استأذن الحكم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ائذنوا له لعنة اللّه عليه و على من يخرج من صلبه إلّا المؤمنين و قليل ما هم. (الحدائق الناضرة 4: 196، المستدرك 4: 481، كنز العمّال 11: 357 رقم 31729.
2- المحاسن 1: 17، تحف العقول: 6، شرح الأخبار للقاضي نعمان 2: 67 و 119، بحار الأنوار 38: 33 و 9340 و 74: 68.
3- و يحسن بنا أن نروي الرواية بطولها فقد اختصرها المؤلّف فضيّع كثيرا من فوائدها: حجّ معاوية ابن أبي سفيان فأتى مجلس في حلقة فجلس بين عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب، فضرب بيده على فخذ ابن عبّاس ثمّ قال: أنا كنت أحقّ و أولى بالأمر من ابن عمّك، فقال ابن عبّاس: و لم؟ قال: لأنّي ابن عمّ الخليفة المظلوم المقتول ظلما، قال ابن عبّاس- و ضرب بيده على فخذ ابن عمر-: هذا أولى بالأمر منك لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمّك، قال: فانصاع، أو كلمة نحو هذا. ثمّ إنّ معاوية أقبل على سعد بن أبي وقّاص و كان حاضرا أيضا، فقال: و أنت يا سعد الذي لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا فتكون معنا أو علينا؟ قال سعد: إنّي لمّا رأيت الظلمة قد غشيت الأرض قلت: هبج، فأنخثه، حتّى إذا أسفرت مضيت، قال معاوية: و اللّه لقد قرأت المصحف- أو ما بين الدفّتين- ما وجدت فيه هبج، فقال سعد: أمّا إذا انتبهت فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لعليّ ابن أبي طالب عليه السّلام: أنت مع الحقّ و الحقّ معك. قال معاوية: لتجيئني عمّن سمعه معك أو لأفعلنّ بك كذا (و كذا). قال: (أمّ سلمة)، فقال: فقام و قاموا معه حتّى دخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها، قال: فبدأ معاوية فتكلّم فقال: يا أمّ المؤمنين، إنّ الكذبة قد كثرت على رسول اللّه بعده فلا يزال قائل يقول قال رسول اللّه ما لم يقل، و إنّ سعدا الآن روى حديثا زعم أنّك سمعته معه، قالت: و ما هو؟ قال: زعم أنّ رسول اللّه قال لعليّ: أنت مع الحقّ و الحقّ معك، قالت: صدق، في بيته قاله، فأقبل معاوية على سعد و قال: الآن أنت أكرم عليّ ممّا كنت (كذا) و اللّه لو سمعت هذا من رسول اللّه ما زلت خادما لعليّ بن أبي طالب حتّى أموت. (منتجب الدين بن بويه: 25، ط مؤسسة الهادي، أولى 1408- قم). أقول: لعن اللّه سعدا كما لعن معاوية: أيسمع هذا من رسول اللّه ثمّ يتردّد في نصرة الإمام؟! نعم لأنّهم حليت الدنيا بأعينهم وراقهم زبرجها.

جاء في المنقول عن الرواة: لمّا عزم أمير المؤمنين على حرب صفّين سبق معاوية إلى ماء الفرات، و وضع على مقدّمته أبا الأعور السلميّ و عدي بن أرطاة، فمنعوا أصحاب الإمام من ورود الماء، فبعث الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معاوية لعنه اللّه رجلا من أصحابه يقول له: إنّ أصحابك حالوا بين أصحابي و بين الماء، و لو كنت السابق لما منعتكم، فشاور معاوية عمرو بن العاص و عبد اللّه بن أبي سرح و هو أخو عثمان من أمّه، فقال عمرو بن العاص: إنّي أرى أن تتنحّى بجيشكم لهم عن الماء، و قال ابن سرح: كلّا دعهم هكذا حتّى يهلكوا جميعهم عطشا كما قتلوا عثمان عطشا.

فلمّا أصبح الصباح أقبل على الإمام اثنا عشر ألفا من الرجال و قال: أنموت عطشا و نحن ننظر إليه، فقال الإمام عليه السّلام: من فيكم يقوم بهذا الأمر؟ فقال الأشعث:

ص: 249

أنا، و كان الأشعث رجلا شجاعا قويّا، يرمي السهم ثمّ يعدو معه حتّى يسبقه، ثمّ إنّ الأشعث حمل بهم على جيش الشام فأزالهم عن مراكزهم و احتلّ الفرات و ضرب أطنابه هناك، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أما قلت لك لا تمنع الماء منهم، فرددت قولي حتّى أمكنت العدوّ من الظهور عليك، فقال معاوية: إنّ عليّا رجل حليم و كريم فلا يمنعنا من الماء، و أرسل رسله إلى الإمام، فأجابه مسرعا، و أرسل إلى الأشعث: خلّ بينهم و بين الماء.

مادام عليّ حيّا لم يدع معاوية إلّا بأمير، فلمّا استشهد دعوه «أمير المؤمنين» (1) و لقّبوه بذلك دونا استحقاق له.

قال حنظلة بن خويلد: كنت عند معاوية فأقبل رجلان و معهما رأس عمّار بن ياسر و هما يختصمان فيه، كلّ يقول أنا قتلته، و كان رجل حاضرا المشهد، فقال:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعمّار: يقتل عمّار الفتة الباغية، فتعسا لكما و لما تختصمان فيه.

و كان النبيّ قائما على بناء مسجده و أصحابه يساعدونه، كان ينقل كلّ واحد منهم لبنة لبنة و صخرة صخرة إلّا عمّار فكان يحمل اثنتين معا، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لحريص على الأجر، و إنّك من أهل الجنّة، و إنّك تقتلك الفئة الباغية (2).

قال سفيان بن ليلى: لمّا صالح الحسن معاوية ذهبت إليه في المدينة و دخلت عليه

ص: 250


1- بل دعي بذلك بعد التحكيم، لعن اللّه أبا موسى الأشعريّ.
2- بدايع الصنايع 1: 323، المحلّى لابن حزم 11: 97 و 304، فضائل الصحابة: 51، مسند أحمد 2: 161 و 164 و 206 و أخرجه في الأجزاء الثالث و الرابع و الخامس بطرق عدّة، صحيح البخاري 3: 207، صحيح مسلم 8: 186، سنن الترمذي 5: 333، المستدرك 2: 148 بطرق عدّة .. و 3: 386 بطرق عدّة أيضا، السنن الكبرى 8: 189، مجمع الزوائد 7: 241 بعدّة طرق .. و 9: 295 بعدّة طرق، سؤالات ابن أبي شيبة: 85، السنن الكبرى للنسائي 5: 75، خصائص أمير المؤمنين: 132.

و قلت: يا مذلّ المؤمنين، و عاتبته على الصلح كثيرا و على ترك القتال، فقال: يا سفيان، حملني عليه أنّي سمعت عليّا يقول: لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الأمّة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، لا يشبع و لا يموت حتّى لا يكون له عاذر في السماء و لا في الأرض، و إنّه معاوية، و إنّي عرفت أنّ اللّه بالغ أمره (1).

و نودي بالصلاة، فقال: هل لك يا سفيان في المسجد؟ قال: قلت: نعم، قال:

فخرجنا نمشي فمررنا على حالب يحلب ناقة فتناول منه قدحا فشرب قائما ثمّ سقاني ثمّ أتينا المسجد فصلّينا، ثمّ قال: ما جاء بك يا سفيان؟ قال: حبّكم و الذي بعث محمّدا بالهدى و دين الحقّ. قال: فابشر يا سفيان، إنّي سمعت عليّا يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يرد على الحوض أهل بيتي و من أحبّني من أمّتي كهاتين، و سوّى بين أصابعه [و سوّى بين اصبعين السبّابة و الوسطى- المؤلّف] و لو شئت لقلت:

كهاتين السبّابة و الوسطى، ليس لأحدهما فضل على الأخرى، ابشر يا سفيان فإنّ الدنيا ستتسع على البرّ و الفاجر، حتّى يبعث اللّه إمام الحقّ من آل محمّد (2).

جرت بين الإمام الحسين و بين مروان بن الحكم لعنه اللّه مشادّة لأنّ مروان أذن بلعن أهل البيت عليهم السّلام (3)، فقال له الحسين عليه السّلام: و اللّه لعنك اللّه على لسان نبيّه و أنت في ظهر أبيك.

و من جمله المعاصي التي صدرت من هذا العاصي و هي الطامّة الكبرى (4):

ص: 251


1- مناقب أمير المؤمنين للكوفيّ 2: 128 و فيه: يأكل و لا يشبع، و لا في الأرض حامد، و راجع: مقاتل الطالبيّين: 44، بحار الأنوار 44: 60، شرح ابن أبي الحديد 16: 44، كنز العمّال 11: 349.
2- مناقب أمير المؤمنين 2: 128.
3- أنا لا ألعن مروان وحده بل ألعن معه عمر بن الخطّاب لعنه اللّه لأنّه هو الذي زرع بني أميّة في ضلوع الإسلام.
4- الحديث عن معاوية بن أبي سفيان لعنهما اللّه.

أوّلها: النفاق و عداوة اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله و حربه لعليّ عليه السّلام، و سمّه الحسن، و إذنه بقتل الحسين عليه السّلام.

الثاني: استخلافه يزيد الكافر مع علمه بفسقه و فجوره العلنيّين.

الثالث: قتله حجر بن عدي مع أصحابه من دون ذنب جنوه بل لأنّهم يحبّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يعبدون اللّه حقّ عبادته، و حجر رجل مشهور عند العرب، قيل: كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة.

الرابع: استلحاقه زيادا فصيّره أخاه و دعاه يزيد عمّه، و هو زياد بن حسام (كذا) (1).

الخامس: كان ثملا عند هلاكه و قد وضع الصنم في عنقه، و مات على كفره القديم، و يزيد لعنه اللّه قصد تخريب مكّة و أشار على عبد الملك أن يرسل الحجّاج إلى مكّة ليقتل أهلها من أجل ابن زبير الذي لجأ من خوفهم إلى حرم اللّه (2).

و بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة و أمره بقتل الأنصار و أولادهم ثأرا لقتلاه في بدر و أباحها لهم ثلاثة أيّام.

و لمّا قتل الملعون الإمام الحسين عليه السّلام قال متمثّلا:

ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل و أوعز يزيد إلى ابن مرجانة بخراب مكّة، فقال اللعين: و اللّه لا أجمع له قتل الحسين ابن بنت رسول اللّه و قتل أهل الحرم و تخريب بيت اللّه.

و قال أبو بكر البخاري: و أيّ كفر أشدّ من ذلك، من مجاهدة اللّه و غزو بيته

ص: 252


1- حسام لا ريب أنّه تصحيف من عبيد أو غيره، فلم يعرف لزياد أب بهذا الاسم فيما أعلم، و اللّه العالم.
2- إنّما لجأ إلى الكعبة ظنّا منه أنّها محترمة عند بني أميّة فلا يقتلونه فيها و يظلّ يطاولهم و يجاولهم إلى أن تدور الدائرة عليهم و هو ملعون مثلهم لأنّه استحلّ حرمتها.

الكعبة و لا فرق بينه و بين أبرهة الحبشيّ.

حجّ معاوية ذات سنة فلمّا فرغ من المناسك سأل: كيف حال فلانة، قالوا: هي حيّة ترزق، فقال: احضروها لي، و اسمها تلك المرأة (دارميّة الحجونيّة- كذا) و كانت سوداء اللون بادنة، و لها ثديان كبيران، فلمّا أقبلت على معاوية سلّمت، فردّ عليها معاوية السلام و قال: كيف حالك يابنة حام؟ فقالت: أنا لست حامية بل أنا امرأة من بني كنانة.

فقال معاوية: أتعلمين لماذا أحضرتك هنا؟ فقالت: لا. قال: أردت أن أسألك بماذا أحببت عليّا و أبغضتنا، و واليتيه و عاديتنا؟ فقالت: اعفني، فقال معاوية: كلّا لا بدّ من ذلك، فقالت المرأة: إذا كنت مصرّا فإنّي أحببت عليّا على عدله في الرعيّة و قسمته بالسويّة، و أبغضك على قتالك مع من هو أولى بالأمر منك، و طلبك ما ليس لك، و واليت عليّا على ما عقد له رسول اللّه من الولاية و حبّه للمساكين و إعظامه لأهل الدين، و عاديتك على سفك الدماء و شقّ العصى.

و لمّا سمع معاوية قولها قال: هذا بهند و اللّه يضرب المثل (1) و هند هي أمّ معاوية، فغضبت المرأة، فقال معاوية: لا تغضبي فما أردت إلّا خيرا، فإذا عظمت العجزية استوت الجلسة، و بكبر الثدي يكثر الغذاء للولد.

ثمّ قال معاوية: هل رأيت عليّا و سمعت كلامه؟ فقالت: نعم، رأيته و سمعت كلامه، فقال: كيف كان؟ قالت: يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت (البيت المظلم)، قال: صدقت، ثمّ قال: ألك حاجة؟ فقالت: إن ذكرت حاجتي تقضيها لي، قال: أجل، فقالت: مأة من الإبل حمراء و معها رعاتها و ما يلزمها، فقال معاوية: و ما تصنعين بها؟ فقالت: أجعل من لبنها طعامي و ما زاد عليّ أهديه إلى

ص: 253


1- ينبغي أن تكون العبارة هكذا ليتّسق معناها مع السياق: بهذه لا بهند و اللّه يضرب المثل.

الفقراء و المساكين و أصلح بها ذات البين، و أصل بها الرحم، و أكسب بها الخير و مكارم الأخلاق، و أصلح بها خلل العشائر و الفقراء و أمثال هذا، فقال: إن أعطيتك أكون عندك بمنزلة عليّ؟ فقالت: لا يا معاوية، و أنشدته هذين البيتين:

إذا لم أجد بالحكم منّي عليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمّل للحكم

خذيها هنيئا و اذكري فعل ماجدحباك على حرب العداوة و السلم ثمّ قال: أعطوها ما أرادت، و قال لها: أما و اللّه لو كان عليّ ما أعطاك شيئا، قالت: اي و اللّه و لا وبرة واحدة من مال المسلمين يعطيني (1) لأنّه مؤمن و المؤمن لا يعطي مال المسلمين و أنت يا معاوية تعطيني مال المسلمين.

حجّ معاوية ذات عام فأخذ يد سعد بن أبي وقّاص و أجلسه معه على السرير و كان هذا دأبه، ثمّ أخذ يشتم عليّا عليه السّلام، فقال له سعد: ما أعجب أمرك، أدخلتني بيتك و أجلستني معك على سريرك، و رحت تشتم عليّا عليه السّلام، و اللّه إنّ لعليّ ثلاثا لو أنّ لي واحدة منها لكان خيرا لي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت:

الأولى: في غزوة تبوك لمّا خلّفه النبيّ على المدينة فأرجف به جماعة من المنافقين فقالوا: لقد سئم رسول اللّه من عليّ و ثقل عليه، لمّا سمع عليّ ذلك كبر عليه و لحق بالنبيّ و قال: يا رسول اللّه، خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال رسول اللّه: يا علي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

الثانية: لمّا كان يوم خيبر و أعطى الراية لأبي بكر و عمر و رجعا بها منهزمين من خيبر، قال: و اللّه لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله،

ص: 254


1- راجعها بسياقها العربي في «بلاغات النساء»: 73 مطبعة بصيرتي- قم المقدّسة، و سمّاها «الدارميّة الحجونيّة»، و قد وقع فيها حذف بسياق المؤلّف سوف تجده موفورا في البلاغات و من الحذف قولها: عاديتك .. الخ، قال: صدقت فلذلك انتفخ بطنك و كبر ثديك و عظمت عجيزتك، قالت: يا هذا بهند و اللّه يضرب المثل لا أنا .. الخ.

يفتح اللّه على يديه، كرّار غير فرّار.

و الثالثة: أنّه صهر رسول اللّه على فاطمة، و أولاده من فاطمة، و هذه المناقب أحبّ عندي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، ثمّ قام و نفض ثيابه و خرج من عند معاوية (1).

ص: 255


1- تخريج الحديثين: 1- حديث المنزلة: الهداية للشيخ الصدوق: 143، رسائل المرتضى 1: 333 و سمّاه متواترا بين الفريقين، الاقتصاد للطوسيّ: 222، الرسائل العشر له: 114، الكافي 8: 107، دعائم الإسلام للقاضي نعمان: 1: 16، علل الشرائع 1: 66 و 2: 474، كمال الدين و تمام النعمة للصدوق: 25، معاني الأخبار له: 57، كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 135، تحف العقول: 430 و كتب كثيرة يتعسّر عدّها للشيعة أخرجت هذا الحديث. و أمّا كتب العامّة فهي: ذخائر العقبى: 120، فضائل الصحابة: 13، صحيح مسلم: 7: 120، سنن الترمذي 5: 302، المستدرك 2: 337 و 3: 109 و 133، السنن الكبرى 9: 40، مجمع الزوائد 9: 109، مسند الطيالسي: 28، المصنّف 5: 406 و 11: 226، مسند الحميدي 1: 38، مسند ابن الجعد: 301، المصنّف للكوفي 7: 496 و 8: 562، مسند ابن راهويه 5: 37، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، الآحاد و المثاني للضحّاك 5: 173، كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 551، مجلسان من إملاء النسائي: 83، السنن الكبرى للنسائي 5: 44، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 48، المعجم الصغير 2: 22، المعجم الأوسط 2: 126 و 3: 139، المعجم الكبير 1: 146 و كتب كثيرة يتعسّر حصرها. 2- حديث الراية: الكافي 1: 294، رسائل المرتضى 4: 104 و 105، الدعوات للراوندي: 63، رسائل الكركي 1: 63، الكافي 8: 351، تحف العقول: 346، روضة الواعظين: 127، الإفصاح للمفيد: 34، الإرشاد 1: 64، الاختصاص: 150، أمالي الطوسي: 171، الاحتجاج 1: 190 و 406 و 2: 64، الخرائج و الجرائح 1: 159، الأربعون حديثا لابن بابويه: 42، مناقب ابن شهر آشوب 1: 95. و ذكر ابن البطريق في العمدة (ص 97) عن ربيعة الجرشي أنّه ذكر عليّ عند رجل و عنده سعد بن أبي وقّاص، فقال له سعد: أتذكر عليّا، إنّ له مناقب أربعا لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من كذا و كذا و ذكر حمر النعم، قوله: لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، و قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و نسي سفيان واحدة. الفضائل لشاذن بن جبرئيل: 152، إقبال الأعمال لابن طاووس 2: 369، الطرائف: 57، المستجاد من الإرشاد للحلّي: 74، الصراط المستقيم 1: 249، عوالي اللئالي 4: 88، الصوارم المهرقة للشهيد التستري رحمه اللّه: 84 هذا و كثير غيرها. و أمّا كتب العامّة: ذخائر العقبى: 73، فضائل الصحابة: 16، مسند أحمد 1: 99 و 189 و 4: 92، صحيح البخاري 5: 76، صحيح مسلم 5: 195 و 7: 120، سنن ابن ماجة 1: 45، سنن الترمذي 5: 302، السنن الكبرى للبيهقي 6: 362 و 9: 107، مجمع الزوائد 6: 150 و 9: 123، المصنّف 8: 520، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، بغية الباحث لابن أبي سلامة: 218، كتاب السنّة لأبي عاصم: 594، السنن الكبرى 5: 46 و 108، خصائص النسائي: 49، مسند أبي يعلى 1: 291 و 13: 522 و 531، صحيح ابن حبّان 15: 377 و 382، المعجم الأوسط 6: 59، المعجم الكبير 6: 152 و 6: 167 و 7: 133 و غيرها كثير.

بيّنة: وفد ضرار بن ضمرة النهشليّ على معاوية، فقال له معاوية: صف لنا عليّا، و كان ضرار من أصحاب عليّ عليه السّلام، فقال: اعفوني من ذلك، فقال معاوية: أقسمت عليك إلّا ما وصفته، قال: فإذا لم تقبل استقالتي فأنا أقول:

كان و اللّه بعيد المدى، شديد القوى، يتفجّر العلم من جوانبه، و تنطق الحكمة على لسانه، يستوحش من الدنيا و زهرتها، و يأنس بالليل و وحشته، و كان طويل الفكرة، غزير الدمعة، يقلّب كفّه، و يخاطب نفسه، كان فينا كأحدنا تقريبا إذا أتيناه، و يجيبنا إذا دعوناه، و نحن مع قربه منّا و تقريبه إيّانا لا نبتدئه لعظمته، و لا نكلّمه لهيبته، فإن تبسّم فعن أسنان مثل اللؤلؤ المنظوم، و يقدّم أهل الدين، و يفضّل المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، و لا ييأس الضعيف من عدله، و أقسم باللّه لرأيته في بعض أحواله و قد أرخى الليل سدوله و غابت نجومه و هو قابض على اللحية في محرابه، يتململ تململ السليم، و يبكي بكاء الحزين، و هو يقول في

ص: 256

بكائه: يا دنيا إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت، هيهات هيهات لا حان حينك، طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك، عيشك حقير، و خطرك يسير، و عمرك قصير، آه من قلّة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته و كفّها بكمّ (كفكفها بكمّه) و اختنق القوم جميعا بالبكاء، فقال معاوية: رحم اللّه أبا الحسن، لقد كان كذلك، فكيف كان حبّك إيّاه؟

قال: كحبّ أمّ موسى لموسى عليه السّلام، و أعتذر إلى اللّه من التقصير. قال: فكيف جزعك عليه يا ضرار؟ قال: جزع من ذبح ولدها في حجرها فما تسكن حرارتها، و لا ترقى دمعتها، ثمّ قام و خرج. فقال معاوية: و لكنّ أصحابي لو سئلوا عنّي بعد موتي ما أخبروا بشي ء مثل هذا (1).

و هذا الفصل من مختارات كلام أبي سعيد السمّان، و كلّ كلمة فيه حجّة للشيعة على المخالفين لأنّه من علماء أهل السنّة و من رواة أخبارهم و أحاديثهم.

ص: 257


1- و أنا أسأل ابن آكلة الأكباد لعنه اللّه و لعنها: و هل فيك صفة من هذا الصفات ليخبروا بها عنك، و أفضل صفاتك أكلك بمعي الكافر .. شرح الأخبار 2: 391، كشف الغطاء 1: 16، خصائص الأئمّة للرضي: 71، شرح أصول الكافي 7: 203، مناقب أمير المؤمنين لسليمان الكوفيّ 2: 51، الهداية الكبرى: 118، كنز الفوائد: 270، الأربعون حديثا لابن بابويه: 85، العمدة لابن البطريق: 16، شرح مأة كلمة لابن ميثم البحرانيّ: 227، الفضائل لابن شاذان: 97، ذخائر العقبى: 100، عدّة الداعي لابن فهد الحلّي: 195، حلية الأبرار للبحراني 2: 212، بحار الأنوار 33: 251، شرح ابن أبي الحديد 18: 225، نظم درر السمطين 135، فتح الملك العلي: 79، تاريخ مدينة دمشق 24: 401.

الباب السادس و العشرون في عداد الأشرار من بني أميّة

اشارة

و هم معاوية بن أبي سفيان، و ابنه يزيد، و مروان بن الحكم، و عبد الملك بن مروان، و الوليد بن عبد الملك، و سليمان بن عبد الملك، و الوليد بن يزيد بن عبد الملك، و يزيد بن الوليد بن عبد الملك، و إبراهيم بن الوليد المخلوع، و مروان بن محمّد بن مروان.

و أخذ معاوية البيعة لنفسه سنة أربعين بعد قتله الحسن، و دام ملكه عشرين سنة و خمسة أشهر و خمسة عشر يوما في دمشق مقرّ حكمه، و وصل إلى الدرك الأسفل من النار و هو سكران من خمر معتقة سبع سنوات، و وضع الصنم في عنقه، و قبره في دمشق، و هلك في رجب سنة ستّين من الهجرة و عمره ثمان و ثمانون سنة.

و كانت البيعة ليزيد في رجب سنة ستّين، و دام ملكه ثلاث سنوات و ثمانية أشهر، و قيل: أربع سنين و ستّة أشهر، و هلك في دمشق و دفن بين القذارات، و كان عليه يتبرزون، و إلى الآن هو باد للعيان و الناس يتفرّجون عليه. و قيل: خرج يتصيّد و جمح به الفرس فألقاه أرضا فقضى عليه.

و بايعوا بعده ولده معاوية في ربيع الأوّل سنة أربع و ستّين، و دام حكمه أربعين يوما.

ص: 258

ثمّ بايعوا بعده عبد اللّه بن الزبير في مكّه سنة أربع و ستّين و دام حكمه شهرين و اثني عشر يوما و قتل في زمان عبد الملك بن مروان و كنيته أبو بكر.

و بعد معاوية بن يزيد بايعوا مروان بن الحكم لعنهما اللّه في أوّل محرّم سنة خمس و ستّين، و كان مدّة حكمه شهرين و تسعة أيّام، و عمره واحد و ستّون سنة.

و بايعوا بعده عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه مباشرة في النصف من شهر رمضان سنة خمس و ستّين، و دام ملكه واحدا و عشرين سنة و شهرا و نصف الشهر، و مات في دمشق يوم الخميس النصف من شوّال سنة ستّ و ثمانين و عمره ثمان و خمسون عاما، و كنيته أبو الوليد.

و بايعوا بعده ابنه الوليد بن عبد الملك بن مروان، و كنيته أبو العبّاس، و مات بدمشق في النصف من جمادى الثانية سنة ستّ و تسعين، و عمره سبع و أربعون سنة.

و بايعوا بعده أخاه سليمان بن عبد الملك و كان يكنّى أبا أيّوب في النصف من رجب سنة ستّ و تسعين، و كانت مدّة سلطانه سنتين و ثمانية أشهر و خمسة أيّام، و مات يوم الجمعة بدابق من أرض قنّسرين سنة تسع و تسعين، و عمره خمس و أربعون سنة، و صلّى عليه عمر بن عبد العزيز.

و بايعوا بعده عمر بن عبد العزيز و كنيته أبو حفص، في سنة تسع و تسعين، و كانت خلافته سنتين و خمسة أشهر و أربعة أيّام، و توفّي بدير سمعان يوم الجمعة من رجب سنة أحد و مأة.

و بايعوا بعده يزيد بن عبد الملك و كانت خلافته أربع سنين و شهرين و يومين، و توفّي يوم الجمعة بالبلقاء من أرض دمشق في شعبان سنة خمس و مأة، و عمره ثلاثون سنة و ثمانية أشهر.

و بايعوا بعده هشاما بن عبد الملك أبا الوليد الأحول سنة خمس و مأة، و كانت

ص: 259

خلافته تسعة عشر سنة و سبعة أشهر و أحد عشر يوما، و توفّي في (بصاقة- كذا) يوم الأربعاء من ربيع الأوّل سنة خمس و عشرين و مأة، و عمره خمسون سنة و أربع سنين.

و بايعوا بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك أبا العبّاس، في سنة مأة و خمس و عشرين، و كانت خلافته سنة و شهرين و عشرين يوما.

و بايعوا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة ستّ و عشرين و مأة.

و بايعوا بعده إبراهيم بن الوليد أبا إسحاق في سنة مأة و عشرين و كانت خلافته شهرين و عشرة أيّام، و خلع نفسه يوم الاثنين من صفر سنة مأة و سبع و عشرين.

و بايعوا بعده مروان بن محمّد بن مروان أخا عبد الملك في صفر سنة مأة و سبع و عشرين و دامت خلافته خمس سنين و شهرين، و قتل سلخ ذي الحجّة سنة مأة و اثنين و ثلاثين في قرية من قرى مصر و عمره ستّون سنة.

و عدد ملوكهم خمسة عشر ملكا أوّلهم عثمان بن عفّان، و كانت مدّة ملكهم ألف شهر.

الفصل الأوّل

و لمّا عادت عائشة من البصرة و استقرّت في المدينة كتبت كتابا إلى معاوية ترغبه في قتل أمير المؤمنين و تحرّضه عليه فجمع معاوية جيشه و أقبل يريد حرب أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان مالك الأشتر يحارب مع أمير المؤمنين حتّى غلبوا معاوية و أوشك الفأر أن يقع في المصيدة و كادوا يقبضون على معاوية قبض اليد، فلمّا رأى عمرو بن العاص الواقعة حلّت بهم أمر برفع المصاحف على الرماح و نادى مناديه:

بيننا و بينكم كتاب اللّه تعالى، فلمّا رأى أصحاب الإمام ذلك أقبلوا عليه و قالوا: مر صاحبك الأشتر أن يعود من القتال و إلّا قتلناك، فنصحهم أمير المؤمنين عليه السّلام و بالغ

ص: 260

في نصحهم و أخبرهم بأنّ فعلهم هذا حيلة، فلم يقبلوا قوله، فأرسل إلى مالك:

أوقف الحرب و تعال إليّ، فقال مالك: قولوا لأمير المؤمنين يمهلني لحظة حتّى أقبض على معاوية، فأرسل إليه أمير المؤمنين: قد أحاط العسكر بخيمتي لقتلي فإن لم تعد فإنّك لن تراني بعد اليوم.

و أخيرا قرّروا أن يحكّموا بينهم حكما و يخلدوا إلى الصلح، و يأتي من قبل معاوية عمرو بن العاص، فلم يرتضوا عبد اللّه بن عبّاس و قالوا: لن نرضى به (1) و قالوا: لا نرضى إلّا بأبي موسى الأشعريّ، فلم يرضى به أمير المؤمنين، فشغب عليه العسكر و أجبروه على الرضا به و لكن على شرط أن يعمل بكتاب اللّه و إذا ترك العمل بكتاب اللّه سقط من الحكميّة.

و في الطريق قال له عمرو بن العاص: ادنوا منّي يا أبا موسى حتّى أكلّمك، فدنى منه فعلم عمرو بن العاص بأنّ الرجل أحمق مغفّل يدني منه أذنه في صحراء تخلو من المحتشم، ثمّ قال له: يا أبا موسى، عليّ و معاوية كلاهما فتنة للناس فاعزل أنت صاحبك عليّا و أعزل أنا صاحبي، و نستخلف ابن أخيك و يكون العالم بين أيدينا، قال هذا الشيخ الأحمق: و كذلك نفعل. فلمّا وصلوا الكوفة (2) فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: تقدّم فأنت صاحب رسول اللّه و أسنّ منّي، فرقى أبو موسى المنبر و خطب الناس و قال: أيّها الناس، ارتضاني أصحاب عليّ حكما من قبلهم، فأنا قد عزلته و انتزع خاتمه من اصبع يده اليمنى و وضعه في يده اليسرى و قال: كما نزعت خاتمي هذا، ثمّ نزل.

ص: 261


1- يقول المؤلّف إنّ عمرا بن العاص أبى ذلك و لكن التاريخ يردّه لأنّ ابن العاص لا سلطة له على مختار أصحاب الإمام.
2- لم تكنن الكوفة مسرح الأحداث إنّما هي دومة الجندل موعد لقائهم.

و صعد بعده عمرو بن العاص المنبر و قال بعد أن خطب الناس، قال: كان أبو موسى حكما من قبل علي فعزله و أنا عزلته كما عزله، و أجلست معاوية على منبر الخلافة و أثبتّه فيها، و سلّ سيفه من غمده ثمّ أغمده و قال: هكذا، فوّضت لمعاوية الإمامة و الخلافة.

فارتفعت الضجّة من الناس و نادى أبو موسى: ما على هذا اتفقنا، فاقتتل الناس بأيديهم و بالحجارة و قبضوا على رجل عمرو بن العاص و سحبوه، فاستطاع تخليص نفسه، و قال أبو موسى لعمرو: ويحك أغضبت عليّا عليّ فأشركني في الأمر، قال: سوف أفعل.

و قال بعضهم: إنّ المحادثات وقعت في دومة الجندل، و قال بعضهم كذلك بعث الإمام أمير المؤمنين ألفي رجل لرصد الحادثة إلى أن كان ما كان، و بعد هذه الحادثة انشقّ من عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام سبعون ألف فارس و قالوا: أنت عزلت نفسك برضاك بالحكمين و لو كنت مستيقنا بحقّك لما رضيت بهما.

فقال أمير المؤمنين: كنت مع رسول اللّه في صلح الحديبيّة و أنا كتبت الكتاب بين رسول اللّه و بين المشركين و فيه «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما تصالح عليه محمّد رسول اللّه و قريش» فقال (سراقة- المؤلّف) سهيل بن عمرو: لو كنت أعلم بأنّك رسول اللّه لما خاصمناك، فقال لي رسول اللّه: يا علي، امسح رسول اللّه و اكتب مكانها محمّد بن عبد اللّه، فأبيت أن أفعل ذلك تأدّبا منّي و رعاية لمقام النبوّة، فمحاها النبيّ بيده، فهل كان شاكّا برسالته؟ و هل قدح هذا المحو فيها؟ فقالوا: لا.

فرجع إلى صفّ أمير المؤمنين ثلاثون ألفا من المخالفين و بقي من عداهم على كفرهم و تبرّؤوا من عليّ و عثمان، و قتل جميعهم في النهروان بيد أمير المؤمنين إلّا عشرة أنفس منهم هربوا، ولاذ اثنان منهم بجزيرة العرب، و اثنان بكرمان، و اثنان بعمّان، و أربعة منهم بسيستان.

ص: 262

الباب السابع و العشرون في أحوال معاوية بن مسافر الذي اشتهر بين الناس بمعاوية بن أبي سفيان بن حرب

الفصل الأوّل في ولادته

قال الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان- و هو من علماء أهل السنّة و محدّث مشهور من الطبقة الأولى- في كتاب «مثالب بني أميّة»: كان مسافر بن عمرو يخالل هندا أمّ معاوية آكلة كبد حمزة عمّ رسول اللّه، و قد زنى بها مرارا، و كانت هذه الصلة الحرام بينهما سنين طويلة، و كان يعدها الزواج بها و لكنّ التقدير حال دون ذلك إلى أن اشتملت منه على جنين، و مرّ عليه في بطنها ستّة أشهر فخاف مسافر من الفضيحة فهرب إلى النعمان في الحيرة.

و زوّجت هند من أبي سفيان بسعي بعض الناس و زفّوها إلى بيتها بعد أن عقد عليها و تعلّلوا بشتّى العلل حتّى إذا مرّ عليها ثلاثة أشهر في بيت أبي سفيان ولدت معاوية على فراشه، و لمّا بلغت أخبار هند مسافرا، قال:

ص: 263

فأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما (1) و يشهد بهذا عداوتهم البالغة لأهل البيت و لرسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن تقيّ، و لا يبغضك إلّا منافق شقيّ.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده ذكر عليّ بن نصر المعروف بأبي الحسن البغداديّ الحنفيّ في تصنيفه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان ذات يوم يطوف فأقبل عليه شيخ بيده عصى و على رأسه عمامة من صوف و يرتدي جبّة صوف، فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، استغفر اللّه لي ليرحمني اللّه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اغرب يا ملعون عن وجهي، إنّ عملك إلى ضياع، و أنت من أهل النار، فلمّا خرج من عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك الشيخ قال عليّ عليه السّلام: لم يخرج أحد قبل هذا من حضرتك محروما من أهل الحاجات، فما بال هذا الشيخ قد طردته؟ فقال: يا علي، هذا ابليس طريد اللّه سبحانه.

فركض عليّ وراء إبليس ليقتله، فلمّا رأى إبليس بأنّ عليّا يقصده بالقتل لاذ

ص: 264


1- جاء عن النوفلي عن أبيه: إنّ مسافر بن عمرو بن أميّة كان من فتيان قريش جمالا و شعرا و سخاءا، قالوا: فعشق هندا بنت عتبة بن ربيعة و عشقته، فأتهم بها و حملت منه. قال بعض الرواة: فقال معروف بن خربوذ: فلمّا بان حملها أو كاد، قالت له: اخرج، فخرج حتّى أتى الحيرة، فأتى عمرا بن هند فكان ينادمه، و أقبل أبو سفيان بن حرب إلى الحيرة في بعض ما كان يأتيها فلقي مسافرا فسأله عن حال قريش و الناس، فأخبره و قال له فيما يقول: و تزوّجت هند بنت عتبة فدخله من ذلك ما اعتلّ معه حتّى استسقى بطنه، قال ابن خربوذ: فقال مسافر في ذلك: ألا إنّ هندا أصبحت منك محرّماو أصبحت من أدنى حموتها حمى و أصبحت كالمقمور جفن سلاحه يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما قال: و خرج يريد مكّة فمات بموضع يقال له هبالة و دفن بها، انتهى. (النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 113).

بالفرار ثمّ وقع، فلحق به عليّ عليه السّلام فجلس على صدره ليقتله، فضحك إبليس بوجه الإمام، فقال له عليّ: لم تضحك يا عدوّ اللّه؟ فقال: لن تستطيع قتلي لأنّي من المنظرين و لكنّي أبشّرك بشارة عظيمة، فقم عن صدري، فقام عليّ عليه السّلام عن صدره، فقال إبليس: ما تركت من أعداءك أحدا لم أشرك أباه في أمّه.

يقول مؤلّف هذا الكتاب: صدق قوله تعالى لإبليس: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (1) و أمثال هذا، و اللّه أعلم بالصواب.

الفصل الثاني في ذكر الفرق الذين يختلفون فيه

ينقسم الناس الذين يدينون بالإسلام إلى خمس فرق: الفرق الأولى الجليّة (2) هم النواصب، و هؤلاء أهل البغي و أشدّ الناس بغضا لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الثانية الجليّة، الخوارج و هم القائلون: لا حكم إلّا للّه، و هؤلاء يدعون المحكّمة، و هذه الفرقة تلعن معاوية أيضا.

الثالثة الجليّة، المخطئة و هم الذين يرون التحكيم خطأ و لكنّهم لا ينكرون إمامة عليّ عليه السّلام.

الرابعة الجليّة، المرجئة و هم الذين يتوقّفون في الحكمين فلا ينسبونهم إلى حقّ و لا إلى باطل، و هذه الطائفة يهبطون بمنزلة عليّ عليه السّلام إلى الموضع الأدنى إلّا أنّهم لا يكفّرونه.

ص: 265


1- الإسراء: 64.
2- «أوّل جلى» هذا قول المؤلّف و لم أدرك معنى جلي و ترجمتها إلى ما فهمته «الجليّة» و لست واثقا من معناها، فعلى القارئ أن يتنبّه لذلك.

و يقول أحمد بن الحسن بن الحسين البيهقيّ: إنّ معاوية أخطأ و لم يخرج عن الإيمان لعداوته لعليّ عليه السّلام و حربه إيّاه.

و يقول مصنّف هذا الكتاب: إنّ معاوية لم يؤمن لكي يخرج من الإيمان و إنّما خرج من عالم الكفر إلى عالم النفاق و رجع بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى كفره، ثمّ إنّ عليّا نفس الرسول و حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفر و كذلك الحرب على عليّ عليه السّلام، و كما حلّ قتال أهل اليمامة بمنعهم الزكاة عن أبي بكر و أغير عليهم و سبيت ذراريهم و سمّوا كفّارا و مرتدّين فكذلك الحال مع محاربي أمير المؤمنين عليه السّلام فإنّهم كفّار مرتدّون.

الخامسة الجليّة، المعتزلة، و هؤلاء افترقوا فرقتين: فرقة تفسّق معاوية و فرقة تكفّره، و الحاكم صاحب الرسالة المفسّر يلعنه مع إبليس و إخوانه المجبّرة.

الفصل الثالث في الآيات التي تدلّ على أنّ معاوية واجب اللعن

اعلم أنّ معاويه كان ظالما و غاصبا حقّ أهل البيت و قال اللّه تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (1) و ثبت أيضا و قد تقدّم ذكره: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و أولوا الأمر هنا عليّ عليه السّلام و بمقتضى العطف تكون طاعته واجبة كطاعة اللّه و رسوله، و من خالف اللّه و رسوله كفر، و استحقّ اللعنة، و انظر إلى معاوية أين بلغ بمخالفته عليّا عليه السّلام.

قال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً

ص: 266


1- هود: 18.
2- النساء: 59.

أَلِيماً (1) و هؤلاءهم الذين كانوا يخذّلون الناس عن عليّ في حرب معاوية و لم يخرج أحد منهم معه كما فعلوا مع رسول اللّه في تبوك و الحديبيّة، فقال اللّه تعالى عن لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً (2).

و الدليل على كونه ظالما ما يراه فقهاء العامّة من جواز تولّي القضاء الظالم و يجور حكم الكاذب نظير أبي هريرة و غيره كمعاوية فقد بلغ هذان الاثنان الولاية و القضاء، فظهر من هذا التمثيل أنّ معاوية كاذب و ظالم، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

معاوية فرعون هذه الأمّة، و عمرو بن العاص سامريّها، و أبو موسى الأشعريّ جاثليقها، و إنّه سفير بين اليهود، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (3)، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (4).

و استحقّ اللعنة بادّعائه الكاذب للإمامة و الخلافة، قال في آية المباهلة (عن سبيل المفهوم- كذا): فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (5)، و قال في آية الإفك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (6) و إفكهم على عليّ عليه السّلام اتّهامهم إيّاه بدم عثمان لعنه اللّه و أنّه قاتل له.

و لقد أجمعت الأمّة على كفر النصارى بقولهم حيث قال اللّه تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (7) و قال المجسّمة: إنّ اللّه جسم فكفروا أيضا بقولهم

ص: 267


1- الفتح: 16.
2- التوبة: 83.
3- المؤمن: 37.
4- طه: 79.
5- آل عمران: 61.
6- النور: 23.
7- المائدة: 17.

هذا و اعترفوا بالحجج المناقضة لمذهبهم لكنّهم قالوا: بأنّنا نقول أنّه جسم لا كالأجسام.

و كتم معاوية الحقّ عن أهل الشام و ستر مناقب عليّ الواردة في القرآن و السنّة عنهم، و قال اللّه تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (2) و قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (3) و قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ (4) الآية.

عن أبي ذر- كما ذكر صاحب الكشّاف- أنّه قال: قام رجل بعد الصلاة و سأل الناس فلم يعطه أحد شيئا، فرفع يده و قال: أشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا، و كان عليّ عليه السّلام راكعا فأشار إليه بخنصره فأخذ السائل من حنصر يده اليمنى خاتما فلمّا فرغ النبيّ من الصلاة، قال: اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فأعطيته سؤله، قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (5) الآية، فقلت: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (6)، و قلت: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ (7) ثمّ قال: اللهمّ و أمّا محمّد صفيّك يقول: ربّ اشرح لي صدري و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا أخي، اشدد به

ص: 268


1- البقرة: 89.
2- البقرة: 159.
3- النور: 55.
4- المائدة: 55.
5- طه: 25.
6- طه: 36.
7- القصص: 35.

أزري، الآية (1)، فلم يتمّ دعائه حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية.

روى صدر الأئمّة موفّق بن أحمد و هو من علماء أهل السنّة بإسناده عن سلمان، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليكم بعليّ بن أبي طالب فإنّه مولاكم فأحبّوه، و كبيركم فاتّبعوه، و عالمكم فأكرموه، و قائدكم إلى الجنّة فعزّزوه، و إذا دعاكم فأجيبوه، و إذا أمركم فأطيعوه، و أحبّوه بحبّي، و أكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في عليّ إلّا ما أمرني ربّي جلّت عظمته، و كاتم هذا النصّ (كاتم الحقّ.

قاضي القضاة) ذكر في كتابه «المحيط» أنّ خلافة عليّ أثبت و أحكم من خلافة الشيخين لأنّ خلافته بالنصّ و الاختيار و خلافة الخلفاء قبله بالاختيار وحده و أمّا فضائله في سورة هل أتى فهي مرتكزة على تلك الحال.

و ذكر الطحاويّ في مشكل الآثار، و الحاكم المفسّر في جلاء الأبصار: لمّا رجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع ما كان عليّ معه بل كان في اليمن، فتوقّف النبيّ في الغدير حتّى لحق به عليّ عليه السّلام فثنّى ردائه أربع ثنيات و وقف هناك و بعد الخطبة قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله، و قال عمر: بخ بخ يا علي أصبحت مولاي و مولى جميع المؤمنين و المؤمنات.

و كان حسام الدين من «العدليّة» و قال أبو القاسم بن إبراهيم بن أحمد المؤذّن:

كانت الواقعة يوم الخميس فقد دعى النبيّ عليّا عليه السّلام و أخذ بضبعه و رفعه حتّى بان بياض إبطيهما و يقال بأنّه ألبسه عمامته و أرخى لها رغزتين على كتفيه و قال: هكذا نزلت الملائكة، ثمّ قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الخ، و لم يفترقا حتّى نزلت

ص: 269


1- راجع الآيات 25- 36 من سورة طه.

الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: شكرا للّه على إكمال الدين و رضى الربّ برسالتي و الولاية لعليّ عليه السّلام، و أنشد حسان شعرا يطابق مقتضى الحال بعد أن أذن له النبيّ و قد مرّ شعره، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما علمه ألجم بلجام من نار (2). و معاوية كتم عددا من النصوص فمكانه معلوم أين يكون.

و قال تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ (3) و معاوية قتل الإمام الحسن، و قتل أربعين ألفا في صفّين من المهاجرين و الأنصار، و قاتل المؤمن ملعون بنصّ القرآن و إجماع الأمّة.

و قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) و قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (5) و اتفقت الأمّة على أنّ معاوية باغ فحلّ دمه حينئذ.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أعان على قتل امرئ مسلم و لو بسطر كلمة لقي اللّه يوم القيامة مكتوبا على جبهته آيس من رحمة اللّه.

و قال: من أخاف أهل المدينة إخافة ظلما فعليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا (6).

و أرسل معاوية (عدي- المؤلّف) بسر بن أرطاة من قبله إلى المدينة ليأخذ منهم

ص: 270


1- المائدة: 3.
2- مسند أحمد 2: 263 و 305، المستدرك 1: 101، المعجم الأوسط 4: 183، تاريخ بغداد 2: 32، لسان الميزان 6: 66.
3- النساء: 93.
4- الشورى: 42.
5- الحجرات: 9.
6- ترجم المؤلّف «الصرف» برگشتن و هذا يدلّ على أنّه لم يعرف معناه لأنّ الصرف و العدل، الواجب و المندوب.

البيعة، فلمّا صعد المنبر قالت أمّ سلمة: هذه بيعة ضلالة، و أذنت لولدها عمر بن أبي سلمة أن يبايع خوفا من القتل.

روى عين الأئمّة أنّ لعن معاوية جائز بعشر وجوه:

الأوّل: خروجه من طاعة أمير المؤمنين.

الثاني: سلّه السيف بوجه أمير المؤمنين.

الثالث: غصبه حقّ الإمام الهمام.

الرابع: إنكار أهل البيت.

الخامس: ادّعائه الإمامة.

السادس: كتمان فضل عليّ.

السابع: لعن عليّ على المنابر.

الثامن: اتّهامه بدم عثمان و هو منه بري ء.

التاسع: توليته يزيد الكافر.

العاشر: قتل الحسن بن عليّ عليهما السّلام و الوصيّة بقتل الحسين عليه السّلام.

فتبيّن من ذلك أنّه يستحقّ اللعنة بما فعل و لم يتب قبل الموت كسائر المؤمنين و المؤمنات كما قال أبو هاشم: ما فتئ معاوية يقول: لو لا هواي في يزيد، لأبصرت رشدي و عرفت قصدي.

و قال أبو علي بلعنه ظاهرا، لأنّ محبّته ليزيد و توليته على الناس تنفي توبته.

الفصل الرابع في الأخبار التي تدلّ على أنّ معاوية ملعون

قال عبيد اللّه بن عمرو بن العاص: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: ليدخل النار من مات على غير ملّتي، فطلع معاوية.

ص: 271

قال صاحب المصابيح: يطلع عليكم رجل من أهل النار فطلع معاوية (1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: معاوية في تابوت من نار مصمت عليه (2).

ذكر الحافظ عن ابن مسعود: لكلّ شي ء آفة و آفة هذا الدين بنو أميّة.

عن ابن عبّاس: لو اجتمع الناس على حبّ عليّ لما خلق اللّه النار، و هذا دليل على أنّ مبغضه في النار و محبّه في الجنّة (3).

ص: 272


1- مجمع الزوائد 1: 112 فطلع فلان و لم يسمّه. و بتر العقيلي لعنه اللّه الحديث و قال: عن عبد اللّه ابن عمر بن العاص قال: كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أوّل من يطلع عليكم من هذا الفجّ، و ذكر الحديث و لا يتابع عليه (3: 380). أمّا عبد اللّه بن عدي في الكامل فقد قلّب الحديث أو رواه مقلوبا عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة، فطلع معاوية 2: 331. و أنا أقول: لعن اللّه هذه الجنّة و لعن اللّه من يدخل فيها، و مثله فعل ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 59: 98، ميزان الاعتدال 1: 495 و 2: 623، و فيه: الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فطلع معاوية، فقال: أنت يا معاوية منّي و أنا منك لتزاحمني على باب الجنّة كهاتين، و أشار بإصبعيه. أقول: لم يتعقّب هذا الحديث الذهبيّ ابن الزانية لعنه اللّه، و إذا أدخل اللّه معاوية الجنّة فينبغي أن لا يدخل أحدا النار حتّى فرعون و هامان لأنّه ظلم و اللّه منزّه عنه. توضيح ذلك أنّ قاموس جرائم معاوية لو جمعناه لكان أضخم حجما من تاج العروس للزبيدي و لسان العرب لابن منظور، ثمّ هو مع هذه الجرائم كلّها يدخل الجنّة ثمّ يأتي اللّه إلى عباده فيدخل هذا على زنية زناها و ذاك على خمر شربه أو نفس قتلها النار، إنّ هذا لظلم عظيم و لو حابا أحدنا من الخلق مجرما فأكرمه لبصقنا في وجهه و نتفنا لحيته فكيف يحابي الخالق الرحيم هؤلاء القساة المجرمين الظالمين لعنهم اللّه.
2- شرح الأخبار 2: 536، بحار الأنوار 33: 210، مناقب أهل البيت: 466، الغدير 10: 142، و سمّى مولانا الأمينيّ الحديث مرفوعا مشهورا، شرح ابن أبي الحديد 15: 176، تاريخ الطبري 8: 186، النصائح الكافية: 261 و ليس في هذه الأحاديث الجملة: مصمت عليه.
3- الرسالة السعديّة للحلّي: 23، كشف الغطاء 1: 8 و 7، أمالي الصدوق: 755، عوالي اللئالي 4: 86، الجواهر السنيّة للحرّ العاملي: 236، بحار الأنوار 29: 42 و 39: 246 و 248 و 109: 32، مقام عليّ لنجم الدين العسكريّ: 39، ينابيع المودّة 1: 272 و 376 و 2: 290 و 293، الإمام عليّ في آراء الخلفاء: 68.

و روي عن صاحب المصابيح عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يموت معاوية على غير ملّتي (1).

و قال أبو علي: حكم المجبّرة و المجسّمة حكم من ارتدّ، و قال أبو هاشم: حكم أهل الكتاب و هم كفّار على كلا القولين، و كان معاوية لعنه اللّه رئيس المجبّرة.

و قال صاحب المصابيح: مات معاوية و الصليب في عنقه.

و قال الأحنف بن قيس: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: يموت معاوية على غير دين الإسلام فتخالج في قلبي شي ء من ذلك- يعني حين قال عليّ كلمته- قلت في قلبي:

كيف يكون ذلك إلى أن قصدت الشام فسمعت عن مرض معاوية، فذهبت إلى عيادته فرأيته و قد أسند ظهره على الحائط، فوضعت يدي على صدره فرأيت الصنم معقودا إلى عنقه ثمّ حوّل وجهه إليّ فرآني أبكي، فقال: أنا اليوم أمثل ...

فقال الأحنف: فأجبته: أنا لا أبكي عليك بل أبكي لما سمعته من عليّ أنّه قال:

يموت معاوية و الصنم في عنقه .. فقال: لعلّك استعظمت هذا يا أحنف، أمرني الطبيب بهذا فإنّه صنمي إنّه نافع. قال الأحنف: فخرجت من عنده فما بلغت المنزل حتّى سمعت الصراخ عليه و قائل يقول: مات معاوية.

و قال قاضي القضاة: إنّ معاوية مات مستشفيا بالصنم.

و يقال: إنّ أهل اليمن على هذه العقيدة بأنّ معاوية و أباه كافران و يقولون: لقد تقمّص الكفر هؤلاء و تسربلوه.

و قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت في مسجد المدينة يوما و كنت أصلّي صلاة بالإخفات، و قد تفرّق الناس و بقي أبو سفيان و ابنه معاوية، و كان أبو سفيان قد أضرّ، فقال لمعاوية: يا بني، هل في المسجد أحد؟ فقال معاوية: لا يا عبد اللّه،

ص: 273


1- مناقب أمير المؤمنين 2: 311، المسترشد: 534، شرح الأخبار 2: 147 و 153 و 531، بحار الأنوار 33: 187 و 209 و غيرها من الكتب.

و كنت وراء السارية، قال: انظر بالمصباح، فتناول معاوية المصباح و أخذ يسلّطه على الأطراف و الأكناف و كنت أدور حول السارية حيثما دار، فقال: ليس في المسجد أحد، فقال أبو سفيان: يا بني، أوصيك بدين الآباء و الأجداد، و إيّاك و دين محمّد فإنّه سبب فقرنا، و لا يهولنّك قول محمّد من البعث و النشور. و قال معاوية: ذاك رأيي يا أبتاه.

و جاء في الرواية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اللهمّ العن معاوية و مروان و أولادهما و أولاد أولادهما، و هذا المعنى علمه النبيّ بالوحي كما علم نوح حين قال: وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (1).

و ذكر أحمد بن الحسن البيهقيّ في كتابه فضائل الصحابة عن نصر بن عامر، قال:

دخلت المسجد و أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقولون: نعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، فقلت: ممّن ذاك؟ قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعن اللّه التابع و المتبوع، ربّ يوم لأمّتي من معاوية ذي الأستاه، قالوا: يعني الكبير العجز (2).

و قال البيهقيّ: قال مسلمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جالسا فاجتاز به معاوية و معه أبو سفيان و أخو معاوية أحدهما يسوق البعير و الآخر يقوده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 274


1- نوح: 27.
2- بحار الأنوار 33: 191 و لم يعرف المؤلّف معنى ذي الأستاه فترجمها هكذا: «و ذي الاستاه عبارت از شخصى است كه بر مال غيرى متصرّف شود و با ارباب رد كند ... الخ» الترجمة: «و هو الذي يستولي على مال الغير و يردّه على الأغنياء ..» (ص 216)، شجرة طوبى 1: 95، أحاديث أمّ المؤمنين عائشة 2: 235، مجمع الزوائد 5: 242، و أبهم اسم معاوية لعنه اللّه و أباه و بتر الحديث و قال: رواه الطبرانيّ و رجاله ثقات، المعجم الكبير 17: 176، شرح ابن أبي الحديد 4: 79 و صرّح باسم معاوية، الطبقات الكبرى 7: 78، أسد الغابة 3: 76 و قال: أخرجه الثلاثة، الإصابة 3: 465.

لعن اللّه القائد و الراكب و السائق.

و قال البيهقيّ: كان عليّ عليه السّلام يقنت بلعن معاوية (1).

و روى صاحب المصباح عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم التميميّ: وقع يوما خصام بين معاوية و أبي ذر، فقال أبو ذر: يا معاوية، إنّ أحدنا فرعون هذه الأمّة، فقال معاوية: أمّا أنا فلا .. و صدق بالحديث.

و خاطب أبو ذر معاوية لما هو عليه من الخبث بما خاطب به النبيّ أهل مكّة: أنا و إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، و بالطبع هذا القول مع كفّار مكّة، و أمّا حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو: معاوية فرعون هذه الأمّة.

و روي أيضا عن رجل قال: ذهبت إلى مكّة لأسلم فلمّا دخلت المسجد سمعت رسول اللّه يقول: أربعة في الدرك الأسفل من النار: نمرود بن كنعان، و شدّاد بن عاد، و فرعون موسى، و رجل يبايع بعدي بباب بابل، و لو لا مقالة فرعون أنا ربّكم الأعلى لكان أسفل منه- و في رواية الحافظ: لكان تحته- فلمّا استشهد أمير المؤمنين قصدت العراق فلمّا بلغت باب بابل رأيت معاوية على المنبر يأخذ من الناس البيعة له، فعرفت من هو الرابع أنّه معاوية و كان من المنافقين الذين قال اللّه فيهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (2).

سئل الإمام زين العابدين عليه السّلام: كيف أصبحت يابن رسول اللّه؟ قال: أصبحت في أمّتنا كبني إسرائيل في أيدي الفراعنة؛ يذبّحون أبنائهم و يستحيون نسائهم، و ليس أدنى شرّ من يزيد فإنّه أعظم شرّا منه.

ص: 275


1- كشف الغطاء 1: 19، مجمع الزوائد 1: 113 و أبهم أسمائهم .. و 5: 242، الآحاد و المثاني 2: 192، المعجم الكبير 17: 176، أسد الغابة 3: 76، الإصابة 3: 465.
2- النساء: 145.

قال كافي الكفاة أحمد بن عباد (الصاحب بن عبّاد):

قالت تحبّ معاويه قلت اسكتي يا زانيه

قالت أسأت جوابيه فأعدت قولي ثانيه

يا زانيه يا زانيه يا بنت ألفي زانيه

أ أحبّ من شتم الوصيّ أخا النبيّ علانيه

فعلى يزيد لعنة و على أبيه ثمانيه (1) و قال مالك الأشتر و عبد اللّه: الشجرة الملعونة و الظالم في قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (2) بنو أميّة و معاوية منهم.

يقول مصنّف الكتاب: و عثمان بن عفّان أوّل ملوك بني أميّة (لعنه اللّه- المترجم).

و قال رسول اللّه لعليّ: يا علي، ستقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين ... (3)

الناكثون هم طلحة و الزبير و أتباعهما بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ نكثوا البيعة و قال اللّه تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ (4) و القاسط معاوية وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (5) و المارقون: الخوارج.

قال الصاحب الكوفيّ:

قالت فمن قائد الأقوام إذ نكثوافقلت تفسيره في وقعة الجمل

قالت: فمن حارب الأنجاس إذ قسطوافقلت صفّين تبدي صفحة العمل

قالت: فمن قارع الأرجاس إذ مرقوافقلت معناه يوم المهرجان علي

ص: 276


1- و على عمر بن الخطّاب ألف ألف لعنة لأنّه هو الذي زرعه في ضلوع الإسلام.
2- هود: 18.
3- سبق تخريج الحديث.
4- الفتح: 10.
5- الجنّ: 15.

و هذا الشعر يشير إلى الوقائع الثلاثة: الجمل و صفّين و النهروان، و الطائفة الأولى هم الناكثون، و الثانية الظالمون و هم نجس، و الثالثة الخارجون و هم نجس أيضا و لذلك وصفهم بالأنجاس، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1) و وصفهم بالإرجاس، و الرجس هو الخبث، و يقال: رجس و رجز و كلاهما واحد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2) (و فيه ما فيه) (3). و كلا هذين القولين للمخالفين.

و في كتاب «الرسالة الحاوية في مذمّات معاوية» ذكر الشيخ الفاضل زين العابدين الواعظ و القاسم بن محمّد بن أحمد المأموني و هو من علماء أهل السنّة و الجماعة في هذا الباب العظيم الغالي ما هو حجّة عليهم «و الفضل ما شهدت به الأعداء» و الأحاديث التي أخرجوها جاء كلّ حديث منها بطرق عدّة و أسانيد متعدّدة أقرّها علمائهم الكبار، و عبد أهل البيت- المؤلّف- قد اختصرها و لكنّه في أثناء ذكرها حاول سرد أمور مفيدة تعين على فهمها كما ذكر الوجوه و التأويلات التي ذكرها المؤلّف حين تتبّعه لمعاني الحديث، و صرف مصنّف هذا الكتاب معانيها لتنسجم مع توجّهاتنا في هذا المؤلّف.

الفصل الخامس في ذكر الأصحاب الذين لم يشهدوا حرب صفّين

اشارة

سمّى أصحاب رسول اللّه معاوية لعينا كما ذكر ذلك صاحب «الرسالة الحاوية» أي الملعون الأبديّ، و هم قد سمعوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة الوحي.

قال أبو محمّد بن أحمد بن أعثم الكوفيّ في الفتوح: إنّ معاوية و عمرا بن العاص

ص: 277


1- التوبة: 28.
2- الحج: 30.
3- و كأنّ المؤلّف لم يرتض هذا التفسير.

كتبا إلى أهل المدينة: «أجيبوا إلى حرب عليّ رحمكم اللّه» و السلام، فكتبوا إليه في الجواب: أمّا أنت يا معاوية فطليق لعين، و أمّا أنت يا عمرو فخائن في الدين، فكفّا عن المكاتبة و ليس لكما في المدينة وليّ و لا نصير (1).

و أهل المدينة حكّام أهل القبلة و قد لعنوه و هذه المكاتبة كانت قبل حرب صفّين، فلعنه بعد وقوعها أولى و أوجب.

قال المأمونيّ: كتب خالد بن الوليد إلى معاوية: أمّا بعد، فإنّك وثن من أوثان أهل مكّة دخلت في الإسلام كارها و خرجت منه طائعا (2).

قال المصنّف: المراد من قوله: «وثن» كأنّه ناظر إلى قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (3) فكما أنّ اجتناب الأوثان واجب فكذلك اجتناب معاوية لعنه اللّه و محبّته و موالاته حرام.

و جاء في الفتوح بأنّ معاوية كتب إلى عبد اللّه بن عمر كتابا و دعاه إلى نفسه و وعده بجعل الخلافة له، و ذكر في الكتاب محمّد بن مسلمة و سعد بن مالك في شعر كتبه في أسفل الكتاب:

ثلاثة رهط من صحاب محمّدنجوم و مأوى للرجال الصعالك .. (4)

ص: 278


1- انظر عزيزي القارئ كيف لعبت يد الخيانة بالنصّ فصيّرته هكذا: أمّا أنت يا معاوية فطليق العيس، تجنّبا منهم لكلمة لعين حذار من أن تصيب معاوية اللعنة، راجع 2: 542 من الفتوح.
2- رحم اللّه المؤلّف كان عليه أن يتحرّى الحقيقة فيما يكتب و لا يقنع بما يرسله الرواة من دون تبصّر، فخالد بن الوليد لعنه اللّه هلك في عهد عمر بن الخطّاب لعنه اللّه و هذا الكتاب جرى بين قيس بن سعد و بين معاوية و كان البادئ بالسبّ معاوية، و سمّاه يهوديّ بن يهوديّ، فأجابه قيس: إنّما أنت وثن ابن وثن .. الخ.
3- الحج: 30.
4- جاء البيت الذي ذكره ابن الأعثم هكذا: ألا قل لعبد اللّه و اخصص محمّدافأرسنا المأمون سعد بن مالك ثمّ ذكر محقّق الكتاب بقيّه الشعر و فيه البيت الذي ذكره المؤلّف. (الفتوح 2: 544).

فكتب عبد اللّه بن عمر في جوابه: يا معاوية، إن نفسك حدّثتك أنّي أترك عليّا و المهاجرين و الأنصار- في المهاجرين و الأنصار- و أتبعك، و أجاب عن شعره:

أتطمع فينا يابن هند سفاهةعليك بعليا حمير و السكاسك .. (1)

و السكاسك جمع سكسك و هو ابن حمير ابن سبأ يضرب به المثل لكلّ كريم.

و قوله سفاهة إشارة إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (2). و قال المأموني: أعطى النبيّ عبد اللّه بن عمر سيفا و قال: سله من غمده على الكافرين، فوقع في شبهة من أمر هو لم يعلم أنّ أهل البغي بحكم الكفّار و قال عند موته: ما شي ء فاتني من الدنيا إلّا أنّي لم أقاتل مع عليّ أهل البغي (3).

و سئل الأحنف بن قيس: أكان معاوية حليما؟ فقال: لو كان حليما لما سفه الحقّ، و أشار إلى هذه الآية: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (4).

و كذلك قال- يعني المأموني- أنّ القاضي شريح سئل عن حلم معاوية، فقال:

هل كان معاوية إلّا سفيها بل كان معدن السفاهة. ثمّ قال: لمّا بلغه مقتل أمير المؤمنين استوى جالسا و كانت له جارية تغنّيه و كانت تخفي إيمانها، فاستدعاها و قال: يا جارية غنّ اليوم قرّت عيني، فقالت الجارية: ما الخبر السعيد اليوم، فقال معاوية: قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فقالت الجارية: لا غنّيت بعد اليوم،

ص: 279


1- أمر ابن أبي عزة أن يجيب عنه بأبيات و أوّلها: معاوي لا ترجو الذي لست نائلاو حاول بصيرا عند سعد بن مالك نفسه (ص 544 و 545).
2- البقرة: 13.
3- الفضل بن شاذان، الإيضاح: 369، المسترشد: 664، شرح الأخبار 2: 526، النصائح الكافية: 40، قال: ما آسى على شي ء إلّا أن أكون قاتلت الفئة الباغية .. علي الشهرستاني، وضوء النبي: 243.
4- البقرة: 130.

فأمر بضربها ضربا مبرحا بالسوط، إلى أن قالت: كفّوا عنّي ثمّ أنشأت تقول:

و كنّا قبل مهلكه زمانانرى نجوى رسول اللّه فينا

ألا أبلغ معاوية بن حرب فلا قرّت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونابخير الناس طرّا أجمعينا

قتلتم خير من ركب المطاياو أكرم كلّ من ركب السفينا

و من لبس النعال و من حذاهاو من قرأ المثاني و المئينا

فلا و اللّه لا أنسى عليّاو طول صلاته في الراكعينا

فلا تفخر معاوية بن حرب فإنّ بقيّة الخلفاء فينا

لقد علمت قريش حيث كانت بأنّك شرّهم حسبا و دينا و كان إلى جانب معاوية عمود فضرب رأس المسكينة حتّى استشهدت رحمة اللّه عليها (1).

و جاء في رسالة الحاوية: إنّ أعرابيّا سألوه: أتحبّ معاوية؟ فقال: وجدت له أربعا فكيف أحبّه؟ قيل: و ما تلك الأربعة؟ قال: سلّ أبوه السيف على رسول اللّه في ثمانين حربا، و أكلت أمّه هند كبد الحمزة، و قطع ابنه رأس سبط النبيّ الحسين عليهما السّلام، و قتل هو الحسن بالسمّ و حارب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و ذكر صاحب الحاوية الحكاية التالية أنّ جنّيّة أسلمت فكانت تأتي مجلس النبيّ كلّ يوم فغابت ثلاثة أيّام سويّا، فلمّا عادت سألها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أبطأك عنّي منذ ثلاثة أيّام؟ فقالت: نفست ابنة عمّ لي في الظلمات فذهبت لأقضي ما يجب من حقّها، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و ماذا عرض لك في الطريق؟ فقالت: اجتزت بالبحر

ص: 280


1- الشعر لأبي الأسود الدئلي، و قيل: لأروى بنت أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فكيف بلغ المغنّية قبل أن يقتل الإمام و قد قيل الشعر بعد شهادته لست أدري.

السابع فرأيت إبليس جالسا على صخرة رافعا يديه و هو يقول: اللهمّ إنّك أقسمت على نفسك لتعذّبني بالنار، اللهمّ فخذ رضاء نفسك من نفسي و أدخلني في عظيم عفوك، اللهمّ بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين افعل بي ذلك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: سلوا بنا فلو أنّ أحدكم حين يدعو السماوات و الأرض فيقول لهما: آتينا طوعا، فقالت السماوات و الأرض: أتينا طائعين.

قال صاحب الحاوية: ما أعجب حال إبليس و هو أخبث مخلوق حين قال:

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (1) إلّا معاوية فإنّه أخبث من إبليس فإنّه صحب الفسّاق و المجان و أصحاب الدعارات و عادى أوصياء رسول اللّه و حاربهم و آذاهم.

قال الحاكم المفسّر (2) في كتابه «الكشّاف» عن أبي أمامة: إنّ المراد بقوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (3) معاوية و جنوده.

و مذهب أهل الأصول: إنّ جوار أهل الكتاب جائز و جوار أهل البغي لا يجوز.

و قول القائل: اللعنة على معاوية و من بايعه و شايعه و نصره فإنّها أوكد و ألزم من لعنة الكفّار لأنّ الشبهة في الكفّار مرتفعة فيجوز ترك لعنهم، و أمّا أهل البغي و خصوم أهل البيت (و السلفيّة و الوهّابيّة و ابن تيميّة و محمّد بن عبد الوهّاب و أحمد ابن حنبل و أئمّتهم الثلاثة في الحكم و الثلاثة في الفقه- المترجم) فإنّ ترك لعّنهم يوجب حصول الشبهة فيجب إظهار لعنهم حينئذ يعلم الناس شقاوتهم (و هو

ص: 281


1- ص: 82 و 83.
2- لم يسمّه المؤلّف و لكن بقوله «المفسّر» ميّزه عن الحاكم المحدّث صاحب المستدرك.
3- آل عمران: 106.

أفضل الصدقات .. (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ليس له صدقة فليلعن اليهود (2) فتبيّن أنّ لعنهم أفضل الصدقات.

قال قاضي القضاة في أحكام البغاة: كما أنّ الاقتداء في أحكام الكفّار برسول اللّه لأنّه الأمين الثقة فكذلك في أحكام البغاة الاقتداء بعليّ عليه السّلام لأنّه الأمين الثقة، فإنّ فعله و حكمه و تقريره مصدر أحكامنا عليهم و فيهم، لأنّه كان على الحقّ لأنّ الرسول قال فيه: إنّ عليّا مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور كما دار، لا يفترقان حتّى يردا الحوض.

و جاء في الرسالة الحاوية، في قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (3) و هي: يا حامد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، و يا فاطر بحقّ فاطمة، و يا محسن بحقّ الحسن، و يا قديم الإحسان بحقّ الحسين عليهم السّلام فاغفر لي، فتاب عليه.

و قال أيضا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا مع سعد بن مالك بصدقات، فاستأذن سعد عليّا في ارتحال إبل الصدقة فأبى عليه ذلك، ثمّ غالب عليّ عليه السّلام لحاجة و استناب عنه رجلا، فلمّا عاد رأى ظهر ناقة منها قد مسّه الرحل، فقال: من ركبها؟ فقال:

«أنا»، فقال: بإذن من؟ قال: بإذن خليفتك، فغرّمه أمير المؤمنين عليه السّلام، فشكى سعد عليّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده على فخذ سعد و قال: لا تكره أخاك لدينه.

ص: 282


1- و هذا هو مذهبي الذي أدين به ربّي لأنّنا حين تركنا لعنهم صارت لهم نوع هيبة في القلوب فلا بدّ من إعادة لعنهم لتكسر هذه الهيبة الكاذبة.
2- كنز العمّال 15: 414، تاريخ بغداد 1: 274 و 14: 272، تهذيب الكمال 32: 371، تهذيب التهذيب 11 للّه 348، لسان الميزان 3: 331، تاريخ جرجان: 323، ميزان الاعتدال 2: 486 و 4: 454، الكشف الحثيث: 159.
3- البقرة: 37.

جاء إلى المدينة إمام أهل الشام شرحبيل تلميذ معاذ بن جبل برسالة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و نزل ضيفا على الإمام الحسين عليه السّلام، و كان في أيّام عيد الأضحى، فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام للصلاة و عليه قميص بلا جيب، قصير الكمّين، و عليه عمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و في يده القضيب الممشوق، فقال شرحبيل في نفسه:

اليوم أرى خوان عليّ ما لونه؟ فلمّا حضر الخوان وجد فيه خبز شعير بنخالته لم ينضح تماما، فأكل منه أمير المؤمنين عليه السّلام، فأشار أمير المؤمنين إلى الحسن قائلا:

أطعم ضيفك بما تطعم به الناس، فما كان في بيته شي ء، فاستعار من بيت المال قليلا من العسل، فمنعه أمير المؤمنين عليه السّلام منه، فقال الحسن عليه السّلام: أخذته من حصّتي.

فقال شرحبيل: حضرت يوما مع الحارث بن الأعور عند معاوية، فأحضروا له أربعين لونا من الطعام، فعجب الحارث من ذلك، و أخيرا حضروا طبقا من البلور مليئة بالطعام فأكل الحارث منه لقمة فلم يدر ما هو؟ فقال معاوية: هذا مخّ العصافير فيه دهن البلسان فكل منه فإنّه طيّب نافع للباه، فحسب شرحبيل أنّ خوان عليّ كذاك الخوان و لكنّه رأى ما رأى.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في حرب صفّين يحمل معه أربعين منّا من دقيق الشعير، و لمّا عاد فضل منه الكثير.

و روى بعض الصحابة أنّ أمير المؤمنين كان يصلّي معظم الليل في صفّين و كذلك أكثر أصحابه، و كنت في جوار خيمته حتّى فرغ من الصلاة و صلّى صلاة الصبح، اعتلى صهوة جواده فتقدّمت إليه فقال: هل عندك طعام قليل؟ فقدّمت له قليلا من خبز يابس و تمرا و وضعته على عنق فرسه حتّى أفطر، و كان عليه قبل اليوم صائما دائما إلّا اليوم فقد حملته الضرورة على الإفطار لأنّه لم يذق طعاما ليلا، و كانت سيرته على هذا المنوال فكيف يقال عن حربه أنّها كانت من أجل الدنيا أو الحكم و الرئاسة؟!

ص: 283

و كتب أمير المؤمنين إلى معاوية: أتدعوني يابن آكلة الأكباد إلى كتاب اللّه و أنتم به كافرون؟

و جاء في كتاب الفتوح أنّ الإمام عليّا عليه السّلام سماّهم: بقيّة الأحزاب، أي البقيّة الباقية من جيش مكّة الذي حارب في الخندق، و اعتبرهم بمثابة قوم عاد و ثمود الذين حاربوا أنبيائهم عليهم السّلام. و قال أبو علي: يريد عليّ عليه السّلام بذلك بقيّة أصحاب الخندق.

و لمّا كتب عبد اللّه بن أبي رافع عقد الصلح معهم كان كما يلي: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين عليه السّلام أبا الأعور السلميّ، فقام من أصحابه قوم و قالوا: لو عرفناك أنّك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فأمر أن يكتب الكتاب باسمه، و قال عليّ عليه السّلام: صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لمّا كان يوم الحديبيّة كتبت: هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه، فقال أبو سفيان و سهيل بن عمرو: لو أقررنا بأنّك رسول اللّه ما قاتلناك، فأمرني أن أكتب: محمّد بن عبد اللّه، و قال: يا علي، إنّ لك يوما كيومي، و اتّخذ رسول اللّه عليّا كنفسه و أصحابه كأصحابه.

و إنّما سماّهم أمير المؤمنين عليه السّلام بقيّة الأحزاب لأنّه كان متقلّدا في صفّين سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه سبعون ألفا من الصحابة و التابعين مثل أويس القرني و الربيع ابن خيثمة.

ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سيروا إلى بقيّة الأحزاب، سيروا إلى أهل الشام العماة الطغام، سيروا إلى أولياء الشيطان و أعداء السنّة و القرآن، فقد أمرت بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين.

قال عمّار:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي سيروا بخير الناس أتباع علي و كانت أعداد بقيّة الأحزاب مائة و ثمانين ألفا.

ص: 284

و جاء في الفتوح بأنّ أصحاب عليّ عليه السّلام عطشوا و هم في طريقهم إلى صفّين (و احتاجوا إلى الماء، و إذا براهب في صومعته، فدنا منه عليّ عليه السّلام و صاح به فأشرف عليه، فقال له رضي اللّه عنه: هل تعلم بالقرب منك ماءا نشرب منه؟ فقال: ما أعلم ذلك، و إنّ الماء ليمل إلينا من قريب من فرسخين. قال: فتركه عليّ رضى اللّه عنه و أقبل إلى موضع من الأرض فطاف به ثمّ أشار إلى مكان منه فقال: احفروا هنا، فحفروا قليلا و إذا هم بصخرة صفراء كأنّما طليت بالذهب و إذا هي على سبيل الرحى لا ينتقلها إلّا مائة رجل، فقال عليّ عليه السّلام: اقلبوها فالماء من تحتها، فاجتمع الناس عليها فلم يقدروا على قلبها.

قال: فنزل عليّ رضى اللّه عنه عن فرسه ثمّ دنا من الصخرة و قال: بسم اللّه، ثمّ حرّكها و رفعها فدحاها ناحية، قال: فإذا بعين من الماء لم ير الناس أعذب منها و لا أصفى و لا أبرد، فنادى في الناس أن هلمّوا إلى الماء. قال: فورد الناس فنزلوا و شربوا و سقوا ما معهم من الظهر و ملأوا أسقيتهم و حملوا من الماء ما أرادوا ثمّ حمل عليّ الصخرة و هو يحرّك شفنيه بمثل كلامه لا أوّل حتّى ردّ الصخرة إلى موضعها ..) (1)

[فدهّم الراهب على عين ماء «فاستخرجها عليّ عليه السّلام» فأعطاه الراهب كتابا بخطّ عيسى و قيل بخطّ شمعون و إملاء عيسى و قيل ليس في الدنيا من هو أملح خطّا من عيسى عليه السّلام، لأنّ معلّمه اللّه تعالى، و الرسالة هي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، الذي قضى فيما مضى و سطر فيها سطر أنّه باعث في الأمّيّين رسولا منهم يتلو عليهم الكتاب و الحكمة و يدلّهم على سبيل الرشاد

ص: 285


1- هذا ما ذكره صاحب الفتوح (2: 575) و أمّا ما ذكره المؤلّف فيختلف تماما عن هذا لأنّه زعم أنّ الراهب هو الذي أرشد الإمام إلى الماء، و عند صاحب الفتوح أنّ الراهب نفسه كان يشرب من مكان يبعد فرسخين عن ديره، و لست أدري إن كانت الرواية محذوفة من الفتوح أمّ أنّ المؤلّف تساهل بالنقل، و انظر الرواية التي ساقها المؤلّف في المتن.

و لا يكون فظّا غليظا و لا سخّابا في الأسواق، و لا يجزي بالسيّئة السيّئة و لكن يعفو و يصفح أمته (الحمّادون) لأنّهم الذين يحمدون اللّه على كلّ حال في هبوط الأرض و صعودها، ألسنتهم مديدة بالتسبيح و التحميد، ينصرون اللّه على من ناوأه، فإذا توفّاه اختلفت أمّته من بعده، فيمرّ بهذا النهر صالح يأمر بالمعروف، و ينهى عن المنكر، فمن أدرك هذا النبيّ فليؤمن، و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإنّه وصيّ خاتم النبيّين و القتل معه شهادة] (1).

و الشهيد في الحقيقة من قتل بأيدي الكفّار، فظهر من هذا بأنّ معاوية و جيشه من الكفّار.

فأسلم ذلك الراهب و سار مع أصحاب رسول اللّه إلى حرب معاوية و استشهد في صفّين فطلبه الإمام من بين القتلى فلمّا وجده صلّى عليه و دفنه و قال: هذا منّا أهل البيت.

و كان مالك الأشتر يبكي في صفّين، فلمّا سئل عن الأسباب قال: أخشى أن لا أنال درجة الشهادة.

و جاء في الفتوح، قال: و أصبح الناس و طلعت الشمس و ذلك في يوم الخميس، و دعا عليّ عليه السّلام بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلبسه، و بسيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتقلّده، و بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاعتجر بها، ثمّ بفرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستوى عليه، و جعل يقول:

أيّها الناس، من يبع نفسه يربح هذا اليوم فإنّه يوم له ما بعده من الأيّام، أما و اللّه أن لو لا أن تعطّل حدود اللّه و تبطل الحقوق و يظهر الظالمون و تفوز كلمة الشيطان ما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش و طيبه، ألا و إنّ خضاب النساء الحناء،

ص: 286


1- ما وضعناه بين حاصرتين هي رواية المؤلّف و الكتاب و صحبة الراهب للإمام و شهادته مرويّة في الفتوح ص 577 و 578 مع اختلاف يسير بينهما.

و خضاب الرجال الدماء، و الصبر خير عواقب الأمور، ألا إنّها إحن بدريّة و ضغائن أحديّة و أحقاد جاهليّة وثب بها معاوية حين الغفلة ليذكر (1) بها ثارات بني عبد شمس .. فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون (2).

و لمّا اشتدّ القتال صاح صيحة واحدة: الفرار من الحرب ارتداد عن الحقّ رغبة عن الإسلام، كقوله تعالى: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (3).

و تلى أمير المؤمنين في صيحة القتال هذا الدعاء و هو مناجات شعيب النبيّ عليه السّلام:

اللهمّ إليك نقلت الأقدام، و إليك أفضت القلوب و رفعت الأيدي و مدّت الأعناق و طلب الحوائج و شخصت الأبصار، ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين.

و قتل في هذا اليوم من الجانبين ستّة و أربعون رجلا.

و ذكر قاضي القضاة في كتاب المحيط: إنّ عليّا عليه السّلام لم يبدأهم بقتال حتّى قتل عمّار ابن ياسر رضوان اللّه عليه، فلمّا قتلوا عمّارا يوم السادس و الشعرين أجرى عليهم حكم الكفّار و صار يبدأهم بالقتال، فقتل في ليلة واحدة خمسمائة و ثلاثين من أصحاب معاوية، و في كلّ ضربة يكبّر تكبيرة واحدة كما هو الشأن في قتال الكافرين.

و قال عليّ عليه السّلام: من أصابه سيفي فهو في النار.

و جاء في الفتوح: إنّ عليّا خرج بين الصفّين فبارزه واحد فصرعه، ثمّ آخر حتّى

ص: 287


1- أجدر بها أن تكون «ليدرك بها ثارات» الخ.
2- الفتوح 3: 171 و 172.
3- الأنفال: 16.

أهلك أربعة منهم، ثمّ صاح: يا معاوية، أخرج إلى مبارزتي فيسرّ به الناس، فقال معاوية: أو ما يكفيك أربعة فتطلب خامسا.

فقال رجل: إذا أباها معاوية فأنا أخرج إليه، ثمّ خرج و دعا إلى المبارزة، فقال الأصحاب: يا أمير المؤمنين، نحن نكفيك هذا الكلب، قال: يريد القتل منّي، فصرعه، و قال: انطلق يا عدوّ اللّه فأخبر قومك بما رأيت، فو الذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا إنّه عاين النار و أصبح من النادمين، و حكم هذا اللعين حكم عاقر ناقة صالح فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (1) و حكم قابيل بن آدم، و لم يقل ذلك عليّ غضبا لنفسه إذ أنّ عليّا لم يقاتل لنفسه بل لم يفعل شيئا لها.

و قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: إنّ ما بينك و بين عليّ من الخصومات يحملك على مبارزته، فخرج عمرو بن العاص و طلب البراز من عليّ عليه السّلام، فخرج إليه أمير المؤمنين و قال: أتحمل عليّ أم أحمل عليك؟ فقال عمرو: بل أنت فاحمل عليّ لأنّك عليّ بن أبي طالب، فلمّا حمل عليه رمى بنفسه إلى الأرض و كشف عورته، فولّى الإمام عليه السّلام وجهه عنه، و قام عمرو بن العاص هاربا هاربا إلى خيمة معاوية، فلامه معاوية على فعلته، فقال: إنّي فعلت فعلا أوقفني قبالة عليّ حتّى كشفت له سوئتي، فافعل أنت فعلي إن قدرت على ذلك، و فعل بسر بن أرطاة نفس الفعل، فقال غلام من أهل الشام:

أفي كلّ يوم فارس ذو كريهةله عورة وسط العجاجة باديه

يكفّ بها عنه عليّ سنانه و يضحك منها في الخلاء معاويه فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: كان الحقّ يدور مع عمّار حيثما دار.

و كان عمّار يقول يوم شهادته: أنا مقتول في يومي هذا، و ودّع أصحابه و أوصى

ص: 288


1- الشعراء: 157.

بوصاياه، و كان عمره يوم مقتله أربعا و سبعين سنة.

و لمّا رأى عمّار رضى اللّه عنه راية معاوية، قال: إنّ هذه الرايات قاتلناها مع رسول اللّه و هذه رابعة و ما هي بخيرهنّ و لا أبرّهنّ (1)، ألا و إنّي مقتول في يومي هذا فألحقهم بالأوّلين، ثمّ إنّ عمّارا ألحقهم بالكفّار الذين قاتلوا النبيّ في أوّل الدعوة.

قصّة قيس بن سعد بن عبادة

كان سعد الرجل الذي فضّله الأنصار على أبي بكر و قدّموه عليه، أمّا قيس ولده فكان من عمّال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أرسله رسول اللّه يوما مع أبي رعال (2) لجمع الصدقة إلى الطائف و قال: اللهمّ اجعل بركاتك على آل سعد بن عبادة. فقال قيس:

نحن بين يدي أعلام جبرئيل عن يمينها، و عن يسارها ميكائيل، و أنتم بين يدي أعلام عن يمينها أبو جهل و عن يسارها أبو لهب، و كان اصحاب عليّ من هذا الطراز.

و لعن أمير المؤمنين معاوية بهذه الأرجوزة، فقال:

ما كان يرضى أحمد لو خبّراأن تعدلوا وصيّه و الأبترا

شاني النبيّ و لعينا آخراكلاهما في جنده قد عسكرا

قد باع هذا دينه و افتخرامن ذي بيعة قد خسرا .. (3)

أشار بلفظ الأبتر إلى قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (4) النازلة في شأن

ص: 289


1- لم تمكن قرائة الكلمتين عند المؤلّف فصحّحتها من شرح ابن أبي الحديد 5: 257.
2- لم يرد فيمن عرف بكنيته من أصحاب النبيّ أحد بهذه الكنية.
3- أحسبها هكذا: «من باع ذا بدينه قد خسرا» و قد جائت عند محقّق ابن أبي الحديد هكذا: «من ذا بدينا قد خسرا» راجع 1: 148 من شرح ابن أبي الحديد.
4- الكوثر: 3.

العاص بن وائل و آله عمرو بن العاص و اللعين الآخر معاوية.

و قد كان عمرو بن العاص لعنه اللّه هجى رسول اللّه بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ لا أحسن الشعر، فالعنه بكلّ بيت ألف لعنة.

قال بشر بن المعتمر:

تبرّا من عمرو و من معاويه و من بغاة في الزمان غاليه تبرّأ أوّلا من الأصنام و ثانيا من معاوية الوثن و عمرو بن العاص الوثن و عابدي الوثن، كما قال تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1).

و ذكر صاحب الفتوح قال: خرج رجل من أهل الشام حتّى وقف بين الصفّين ثمّ نادى بأعلى صوته: يا أبا الحسن، إنّي أكلّمك، قال: فخرج إليه عليّ عليه السّلام حتّى اختلف أعناق فرسيهما، فقال له الشاميّ: يا أبا الحسن، إنّ لك فضلا و قدما في الإسلام و هجرة و سابقة و إخوة و قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا يساميك أحد و لا يدانيك، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء هذه الأمّة و تأخير هذه الحروب إلى أن ترى في ذلك رأيك؟ فقال عليّ عليه السّلام: و ما ذاك؟ قال: أن ترجع إلى عراقك و نرجع إلى شامنا، فنخلّي بينك و بين العراق، و تخلّي بيننا و بين الشام، فقال عليّ عليه السّلام: لقد علمت أنّك إنّما عرضت هذه نصيحة و شفقة و لكن قد أهمّني هذا الأمر و أسهرني، و ضربت أنفه و عينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل اللّه عزّ و جلّ أو يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت؟ مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر، فوجدت القتلا أهون عليّ من معالجة الأغلال في نار جهنّم. قال: فرجع الشاميّ و هو يقول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون (2).

ص: 290


1- الممتحنة: 4.
2- الفتوح 3: 154 و 155.

و الدليل على ذلك أنّ اللّه تعالى لعن أهل الكتاب بتركهم الأمر بالمعروف حيث قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (1).

و جاء في الحاوية: و لمّا كان ترك عليّ حرب معاوية يؤدّي إلى الكفر فما حال من يرتكب هذا الفعل معه.

قال محمّد بن الحنفيّة: خاطبت معاوية و قومه و أشرت إليه بقولي: حثوا يا ذرّيّة النفاق و حثوا النار و يا حطب جهنّم عن الأسل النافذ و النجم الثاقب و القمر الباهر و الصراط المستقيم، تدرون ويلكم بأيّ عقبة تسيمون؟ و أيّ واد تقتحمون؟

و بصنو رسول اللّه تستهزؤون، كلّا سوف تعلمون، كلّا سوف تعلمون.

و استأذن عمرو بن العاص عمّارا أن يكلّمه، فأعطاه الأمان، فابتدأ قائلا:

أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فقال عمّار: اسكت، فلست من أهل الشهادة، فقد تركتها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اخطب خطبة الجاهليّة و قل قول من كان في الإسلام ذنبا و في الكفر رأسا، و هذا الكلام من عمّار دليل على نفاق ابن العاص، و اقتدائنا بأصحاب النبيّ الكبار (المنزّهين) من الواجبات.

الفصل السادس في إقرار أهل البغي ببغيهم

لمّا أعطى معاوية الحسن ثلاثة آلاف درهم أنكر عليه ذلك يزيد، فقال معاوية:

يا بنيّ، الحقّ و اللّه حقّهم فلا نردفهم على ركوبهم.

و لمّا ضربت معاوية اللقوة، قال: عقوبة عجّلت، إنّي دفعت عليّا من حقّه.

ص: 291


1- المائدة: 78 و 79.

و قال ليزيد: إنّي دفعت عليّا عن حقّه و حملت الوزر على ظهري.

كان لابن العاص جار أمويّ فسأله عن حال عليّ حين راسله معاوية و دعاه إلى نفسه، فقال: إنّ معاوية يدعوني إلى أمر عظيم فإنّه يدعوني إلى قتال عليّ، و من حاربه فكأنّما حارب رسول اللّه، فإنّه أخوه و وزيره و وصيّه و أحقّ الناس بالخلافة، و في قتاله هلاك الدين، و لا عوض من ذلك و لو كانت الدنيا كلّها.

فأجاب: فأمّا دعوتي إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي و التهوّر في الضلالة معك و أعانتي إيّاك على الباطل و اختراط السيف على وجه عليّ عليه السّلام و هو أخو رسول اللّه و منجزه وعده و وصيّه و وارثه و قاضي دينه و زوج ابنته سيّدة نساء العالمين و أبو السبطين سيّدي شباب أهل الجنّة. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم بني النضير: عليّ إمام البررة و قاتل الفجرة، منصور من نصره، و مخذول من خذله (1).

و نزل في حقّه آيات كثيرة، و ذكرها ابن العاص، و لكنّه لمّا أطمعه بمصر نسي هذا كلّه و وعظه ولده عبد اللّه و غلامه وردان فلم يتّعظ، و قال له وردان: يا مولاي، إنّ مع عليّ الآخرة و لا دنيا معه، و مع معاوية الدنيا و لا آخرة له و لا لمن معه، و الآخرة تبقى لك و الدنيا لا تبقى لك فاختر أيّهما شئت .. (2). فقال عمرو بن العاص:

ص: 292


1- الإمامة و التبصرة لابن بابويه القمّي: 151، بحار الأنوار 33: 53، الجامع الصغير 2: 177، كنز العمّال 11: 602 رقم 32909، مناقب ابن شهر آشوب: 200، نهج الإيمان: 416، كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 23، ينابيع المودّة 2: 78 و 96 و 238 و 285 و 401، النصائح الكافية لابن عقيل: 95.
2- جاء الخبر في الإمامة و السياسة لابن قتيبة 1: 116 على النحو التالي: ثمّ دعا غلاما له- عمرو- يقال له وردان و كان داهية، فقال له عمرو: يا وردان، احطط، يا وردان ارحل، يا وردان احطط، يا وردان ارحل، فقال وردان: أمّا إنّك إن شئت نبّاتك بما في نفسك، فقال عمرو: هات يا وردان، فقال: اعتركت الدين و الآخرة على قلبك، فقلت: مع عليّ الآخرة بلا دنيا، و مع معاوية الدنيا بغير آخرة، فإنّي واقف بينهما. فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي، فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ... الخ.

قاتل اللّه وردانا و فطنته، لقد أصاب الذي في قلبه (قلبي) فقال وردان:

أمّا عليّ فدين ليس يشركه دنيا و ذاك دين و سلطان (كذا)

فاخترت من طمعي دنيا على بصرو ما معي بالذي اخترت برهان

إنّي لأعرف ما فيها و أبصره و فيّ أيضا لما أهواه الولدان

لكن نفسي لحبّ العيش في شرف و ليس يرضى بذلّ النفس إنسان (1) و لمّا وصلوا إلى مفترق الطريق، قال له غلامه: يا مولاي، هذا طريق الدنيا، و هذا طريق الآخرة.

و كتب أمير المؤمنين في صفّين إلى ابن العاص:

لأصبحنّ العاص و ابن العاص سبعين ألفا عاقدي النواصي

مستقبحين خلق الدلاص قد جنّبوا الخيل مع القلاص

أسا و قيل حين لا مناص

فأجابه ابن العاص:

ما أنا بالعاصي و لا ابن العاص خوّفتني بلابسي الدلاص

بل مشعر من غالب مصاص و قائدي الخيل مع الدلاص

أهون بقوم في الوغى نكاص إذا رأونا ننفض النواصي هذا قوله! و في الحرب يكشف عن سوأته خوفا من سيف عليّ عليه السّلام.

و جاء في الفتوح: إنّ النعمان بن جبلة قال لمعاوية: رميتنا بين السيوف الحداد و السمر الصعاد من أجل دنياك، و إنّا اخترنا النار على هواك طلبا للدنيا، و أخذ

ص: 293


1- الشعر لركاكته لا يستحقّ التصليح.

يقاتل و هو يقول: إنّا سنقاتل عن الغوطة إن حرمنا الجنّة.

قال مصنّف هذا الكتاب: و إنّما ترك بعض الصحابة الإمام أمير المؤمنين و اتّجهوا وجهة أخرى طلبا للدنيا لا للجنّة، و قال الباقر عليه السّلام: إنّما سمّيت الغوطة غوطة لأنّ آدم يغوط بها (1).

قال عمرو بن العاص يوما لولده عبد اللّه: هل ترى عليّا؟ قال: ذاك عليّ على فرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتنفّس الصعداء و قال: يا بنيّ ليس هذا بذات السلاسل و لا بكذا و كذا، يا ليتني كنت عن هذا المجلس بعد المشرقين. فقال ابنه: و ما يمنعك؟

قال: حبّ الدنيا.

قال داود البكريّ: كنت مع عتبة بن أبي سفيان و لمّا رأى رايات علي و أهل بيته عليهم السّلام قال: هذه رايات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا حاربت هؤلاء أبدا فعيّره رجل فقال له عتبة: كأنّك لست من الإسلام في شي ء ....

و جاء في الفتوح: إنّ رجلا طلب مبارزة عليّ عليه السّلام، فقال له الإمام: لأدخلنّك النار يابن آكلة الأكباد، فقال ذاك اللعين: ستعلم من منّا يدخل النار، فتناوله عليّ عليه السّلام برمحه و علّقه في الهواء، فصاح ذاك اللعين: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت نار جهنّم فأصبحت من النادمين.

قال صدر الأئمّة الماوراء النهري: إنّ عليّا عليه السّلام قال: أنا قاضي دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا انتقل رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى كان عليه دين ثمانون ألف دينار فاستعنت اللّه على أدائها فأدّيتها إلّا قليلا منها أوصيت الحسن بأدائها بعد وفاتي، و هذا معنى قول رسول اللّه: قاضي ديني.

ص: 294


1- أجلّ الإمام الباقر روحي فداه من هذا القول، و الغوطة هي الأرض المنخفضة و منها أخذ الغائط و المتغوّط و ما شابه ذلك أكرمك اللّه.

الفصل السابع في البدع التي أحدثها معاوية

ورد في الحديث: لعن اللّه من غيّر منار الأرض (1). قال الحاكم المفسّر: يعني بمنار الأرض أحكام الشرع.

قال أبو يوسف بن إبراهيم بن جنيس الأنصاريّ صاحب أبي حنيفة في مجلس فقهه و درسه: أوّل من قاد الفئة الباغية معاوية لعنه اللّه، و أوّل من حكم بخلاف حكم رسول اللّه: الولد للفراش و للعاهر الحجر، لأجل زياد نسبه إلى أبيه أبي سفيان من فراش أبيه الذي ولد عليه.

و قاتل أوّل مؤمن، لم يكفر باللّه طرفة عين بعد إسلامه و لا زنا بعد إحصانه و هو حجر بن عدي أخو الطرمّاح (2).

و معاوية أوّل من أهدي إليه رأس مسلم و هو رأس عمرو بن الحمق الخزاعي، و أوّل من جلس على العرش في الإسلام كالأكاسرة و الفراعنة (3)، و أوّل من صالح المشركين من غير أن يأخذ الجزية، و أوّل من باع الأصنام و جعل للأصنام ثمنا، و أوّل من استعمل الحرس و باع أسرى المسلمين، و أوّل من جعل الحكم وراثة و أورثه إلى ولده، و قتل ولدي قثم بن العبّاس بيد بسر بن أرطاة لعنهما اللّه، و هذا ما

ص: 295


1- السنن الكبرى 6: 99، فتح الباري 10: 314، مصنّف عبد الرزّاق 11: 137، أصول السرخسي 2: 304، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4: 368 و 5: 127، تاج العروس للزبيدي 3: 588 و معنى منارها: أي أعلامها أراد من غير تخوم الأرضين و هو أن يقتطع طائفة من أرض جاره و يحول الحدّ من مكانه. و قال ابن الأثير: المنار جمع منارة و هي العلامة تجعل بين الحدّين.
2- لم أعثر على قائل لهذا القول لأنّ الأوّل كنديّ من اليمن و الثاني طائيّ ... فكيف يلتقيان.
3- عمر بن الخطّاب لعنه اللّه شجّعه على ذلك.

أملاه أبو يوسف كما ورد في الحاوية.

أمّا قوله: أوّل من قاد الفئة الباغية، قال ابن عبّاس: كنّا في حائط أبي سعيد الخدريّ و جرى حديث بناء مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: كنّا نحمل لبنة لبنة و كان عمّار يحمل اثنتين اثنتين، فجاء النبيّ و نفض التراب عن ظهر عمّار و نظفه له و قال: ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ فقال عمّار: أريد الأجر من اللّه، فيجعل رسول اللّه ينفض التراب عنه و يقول: ويحك تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنّة و يدعونك إلى النار.

و كان عمّار من أولئك الذين قال اللّه فيهم: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (1)، وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (2) الآية، و قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا (3) و قوله: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ (4) و قوله: إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (5) و قوله في حكاية: أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (6)، و قال: وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (7) كما قال المفسّرون و هو رابع أربعة أسلموا و له من العمر أربع و عشرون سنة، و أمّه أوّل شهيد في الإسلام و اسمها سميّة، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقّها: أوّل من استشهد في

ص: 296


1- الواقعة: 10 و 11.
2- التوبة: 100.
3- النحل: 110.
4- الأنعام: 52.
5- الأنعام: 54.
6- الأنعام: 53.
7- المطففين: 32.

أمّتي امرأة- و يعني بها سميّة عليها السّلام- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ (1) النساء:

أمّ عمّار سميّة، و الرجال ياسر أبوه.

و عمّار استشهد على يد كافر ليس أقلّ من أبي جهل الذي قتل والدي عمّار و استشهدا على يديه و سبب ذلك: لمّا هاجر النبيّ إلى المدينة تبعه أصحابه فلمّا علم المشركون بذلك أخذوا عليهم المراصد و الطرق، فمن قبضوا عليه خارج مكّة أوسعوه ضربا حتّى يسبّ النبيّ و يرجع إلى مكّة فقبض عليهم أبو جهل لعنه اللّه و طلب منهم أن يلعنوا النبيّ فأبوا ذلك أشدّ الإباء، فجرّد ياسر و سميّة من ثيابهما و راح يضربهما حتّى اختارا الشهادة و لم يطيعاه فيما طلب و قال ياسر: بحقّ نبيّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله إذا خرجت روحي من بدني فحوّل وجهي إلى القبلة، فوضعوا في عنق ياسر و سميّة حبلين علّقوهما فأرسل اللّه الملائكة حوّل وجهيهما إلى القبلة عند الموت و أخبر نبيّه بما جرى عليهما (2).

و قبض على عمّار بعد شهادة والديه و قال: العن ... و إلّا فعلت بك ما فعلته بأبويك، فقال عمّار ما أرادوه منه و نجى من قتلهم، و اختار الطريق الملتوي على الصراط المستقيم و أقبل ينحو المدينة، و لمّا دنى من المدينة هبط جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بأنّ عمّارا قادم، فخرج النبيّ بأصحابه يستقبلونه و قال النبيّ: إنّ الملائكة وضعت أجنحتها على الأرض لعمّار و خرج الصحابة حفاة لاستقبال عمّار و لمّا رأى عمّار رسول اللّه انخرط بالبكاء، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما بك يا عمّار؟ فقال عمّار: يا رسول اللّه، أبكاني الفراق و البعد عنّي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وجدت قلبك مطمئنّا بالإيمان، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن عادوا فعد أنت، و نزل في حقّه قوله

ص: 297


1- النساء: 98.
2- المعروف عن شهادتهما غير هذا و لا ندري عن مصدر المؤلّف شيئا.

تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (1) و ليست لأحد من الصحابة هذه الفضيلة من كونه و أباه و أمّه شهداء في الإسلام.

قيل: إنّ أبا جهل لعنه اللّه كان يعذّب سميّة عليها السّلام و كانت لا تطيق العذاب، فشتمت أبا جهل و كلّمته بكلام خشن، فغضب لعنه اللّه و أوجر بطنها بالحربة حتّى أسلمت الروح (صلّى اللّه عليها و على بعلها و ولدها).

و قيل: كان في مكّة لكلّ مستضعف مجير إلّا عمّار و أبوه ياسر لذلك كانا يتجرّعان أشدّ العذاب، و لمّا كان يوم الهودج كما جاء في الفتوح غلب الناس على الهودج فسلّ عمّار سيفه و هرع نحو الجمل و هو يرتجز:

إنّي لعمّار و شيخ ياسرصاح كلانا مؤمن مهاجر

إنّي لأصبحت فيه حاقرلا تبتلى بعد الممات عامر

إنّي إلى خيري و ضيري صابرو مالك حرما ليس فيها عاذر (2)

طلحة فينا و الزبير غادرو الحقّ في كفّ عليّ ظاهر و لمّا علم الصحابة بما دار بين عمّار و أبي جهل لعنه اللّه، قال الصحابة: يا رسول اللّه، كفر عمّار، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: خلط الإيمان بعمّار ما بين قرنه و بين قدمه، و خلط بلحمه و دمه يدور مع الحقّ حيث دار، فليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا.

و لمّا كان يوم صفّين و وقعت الحرب و ارتفعت الأصوات كوساتها و أبواقها، و قرعت طبولها، و صدحت سيوفها، و غنّت في الجماجم و الرؤوس، و تمازجت بها أصوات السلاح، و علت همهمة رجالها و صهيل خيولها، إلى الحدّ الذي يذوب معه قلب الشجاع الحليم، فكان عمّار يقاتل قتالا دونه قتال شابّ جلد قويّ، و كان

ص: 298


1- النحل: 106.
2- كذا.

عمره في ذلك اليوم أربعا و سبعين سنة، إلّا أن يكون عمّار أشجع الشجعان و في هذه الأثناء رفع يديه و قال: اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو كنت أعلم أنّ رضاك في وضع سيفي على بطني حتّى يخرج إلى ظهري لفعلت، و إنّي لأعلم شيئا هو خير لك من جهاد هؤلاء.

ثمّ قال: أيّها الناس، هذه الراية التي يحملها معاوية هي الراية ذاتها التي كان يحملها أبوه إمام المشركين في بدر و حنين و أحد في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اليوم هي المرّة الرابعة، و هو اليوم قاتليّ، فإذا قتلت فادفنوني بثيابي المزمّلة بدمي، و إيّاكم و ترك نصر أمير المؤمنين لأنّ يوم القيامة شيعته هم الفائزون. ثمّ قال: أنا أوّل من يختصم يوم القيامة بين يدي اللّه. و في رواية: فإنّي مخاصم.

و تقدّم معاوية فارتجز عمّار:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله ثمّ صاح بأهل الشام: إن هزمتمونا كلّ الهزيمة فإنّا على الحقّ و أنتم على الباطل، و كان يدمن الصوم نهارا و القيام ليلا لهذا ضعف بدنه.

و حملت عليه خيل معاوية بفرسان كثيرة فطعنه اللعين أبو الغادية فأمضّه، فحمل إلى الإمام و طلب ماءا فلم يكن الماء حاضرا، و كان أشعث أغبر فمزجوا له اللبن بالتمر، فلمّا شربه سال من الجرح الذي سدّده له أبو الغادية لعنه اللّه (1). قيل:

صاح ثلاث مرّات: اللّه أكبر، و قال: أخبرني رسول اللّه آخر شرابي من الدنيا اللبن و التمر، و يذر على وجهي و رأسي الخطمي، و قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر.

ص: 299


1- سمّاه المؤلّف: ابن حوي و هي تصحيف لا شكّ فيه.

فلمّا وصل أمير المؤمنين وجد عمّارا قتيلا مزمّلا بدمائه مرمّلا بالتراب عفيرا، قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، إنّ امرئ لم تدخل عليه مصيبة من قتل عمّار فما هو من الإسلام في شي ء. و جمهور العلماء على أنّ عمّارا قتل في المعركة، و أنشد الإمام عند قتل عمّار:

أيا موت كم هذا التفرّق عنوةفلست تبقي للخليل خليل (1)

أراك بصيرا بالذين أحبّهم كأنّك تمضي نحوهم بدليل يقول مصنّف هذا الكتاب: إنّ ما أوردناه من الآيات و الأخبار رويناها من كتب الخصوم و المخالفين، و كلّ ما نقلناه ممّا جرى في حقّ عمّار و ما جرى أضعافه في حقّ فاطمة عليها السّلام و في هاشم و أبي ذر الغفاري فقد أجراه الصحابة معهم و لم يبقوا عليهم.

قال المأموني: و لمّا رأى عليّ عمّارا قتيلا، قال: رحم اللّه عمّارا يوم قتل، رحم اللّه عمّارا يوم يبعث، رحم اللّه عمّارا يوم يسئل، و اللّه لقد رأيت عمّارا بن ياسر و ما يذكر من أصحاب رسول اللّه ثلاثا إلّا كان رابعا، و لا أربع إلّا كان خامسا، ثمّ قال: إنّ عمّارا أوجبت له الجنّة فلقد قيل له: مع الحقّ و الحقّ معه، كان الحقّ يدور معه حيث ما دار، فقاتل عمّار في النار، و سالب عمّار في النار. ثمّ تقدّم عليه السّلام و صلّى على عمّار مع من استشهد معه من أصحابه و دفن حيث أوصى أن يدفن.

و قال الحجّاج بن عرفة الأنصاريّ:

اليوم لعظم الهمّ أرقني *** و هاج حزني أبو اليقظان عمّار

ص: 300


1- ألا أيّها الموت الذي لست تاركي *** أرحني فقد أفنيت كلّ خليل كفاية الأثر للخزاز القمّيّ: 124، بحار الأنوار 33: 19. و فيه الروايات ما ذكره المؤلّف و ما ذكره صاحب كفاية الأثر.

أهوى له ابن جوى في فوارسه من السلون في الهيجاء أعصار

فاختلّ صدابي التقضان مفترضابالرمح قد وجبت فيه له النار

كانت علامة بغي القوم مقتله ما فيه شكّ و لا ما فيه إنكار

قال النبيّ له يقتلك شرذمةسبط لحومهم بالبغي فجّار و صفوة القول: إنّ حديث «ستقتلك الفئة الباغية لعمّار» اشتهر في عسكر العراق و الشام و وقف جيش الشام عن القتال لسماع هذا الحديث، فجاء عمرو بن العاص إلى معاوية ليردع معاوية، فقال له: قتل عمّار، لعلّ معاوية يكفّ عن الحرب و يتذكّر حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال معاوية: إنّما قتله الذي جاء به، لو لم يأت به عليّ لما قتلناه، و كان عبد اللّه بن عمرو بن العاص واقفا على باب الخيمة فصاح قائلا:

فحمزة بن عبد المطّلب يوم أحد ما قتله الوحشيّ و إنّما قتله النبيّ، فقال معاوية: نحّ هذا الموسوس عنّا، فلا يدري ما يقول، فقال عمرو بن العاص لابنه: اذهب إلى قاتل عمّار و قل له: خذ الحرب و لك النار، فقال الناس: إذا كان نصيبنا النار فإنّنا لا نقاتل، و أخيرا تمكّن عمرو بن العاص أن يردّهم إلى الحرب بالمكر و الحيلة و التأويل.

قيل لعائشة: إنّ فلانا لا يأكل اللحم و لكنّه يحسو مرقه، فقالت: كان بنو إسرائيل محرّما عليهم صيد السبت فلمّا كثر السمك يوم السبت في البحر فكانوا يحفرون الحفر العميقة فتجتمع فيها الأسماك فيصدّونها يوم الأحد و قال: منع اللّه من صيدها يوم السبت لا يوم الأحد، فحال اللحم و المرق كحال صيد اليهود إلى أن مسخهم اللّه كما مسخ معاوية فقد ضربته اللقوة و كان ثملا بخمر معتقة في دنّها سبع سنين، و الصنم معلّق في عنقه، و ذهب إلى جهنّم على هذه الحالة كما ذكر ذلك المأمونيّ في «الحاوية» بأسانيد صحيحة.

و نظم بشر بن المعتمر إمام المعتزلة في حبس هارون أربعين ألف بيت من الشعر، قال:

ص: 301

تبرّا من عمرو و من معاويه و من بغاة في الزمان غاليه يقول المأموني: لا تجوز الصلاة على البغاة بعد قتلهم و لا بعد موتهم لا سيّما الباغي الذي بغى على خير من في الأرض و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هذا ناظر إلى أنّ معاوية مات كافرا فلا تصحّ الصلاة عليه.

يقول مصنّف هذا الكتاب: و أمّا الطائفة التي سبقت معاوية بالبغي و بغوا على عليّ عليه السّلام و خرجوا في ذلك اليوم مع قرب عهدهم برسول اللّه و معرفتهم بعليّ الحقيقية و اعترافهم بمناقبه التي لا تنكر و ما خرجوا إلّا بتأويل و حيلة كتأويل معاوية و اعتذاره عن قتل عمّار، و لو كان مقدورا لهم لشاركوا في حرب كربلاء و حرب الجمل و صفّين بل هذه الفتن و الحروب كانت ثمرة ذلك الخروج على أمير المؤمنين عليه السّلام لأنّ في تلك الأيّام الثلاثة و غرسوا شجرة عداوة أهل البيت في القلوب بالترغيب و الترهيب و أثمرت بعدهم ثمرة حملوا بها رؤوس أهل البيت على رؤوس الرماح، و الحمد للّه الذي لم يجعلنا من تابعيهم.

أمّا قول أبي يوسف: معاوية أوّل من أخذ الخلافة بالسيف و كانت خلافة غيره كذلك لأنّ الخلافة إمّا بالنصّ كما يعتقد الشيعة أو بالإجماع كما يعتقد المخالفون، و لا يصحّ أن تكون بالسيف و الظلم كما قال تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (1).

يقول المصنّف: و كانت خلافة أبي بكر و عمر بالإجماع لا بالنصّ و إلّا لما قال أبو بكر: أقيلوني، و لم يجعلها عمر شورى، و لم يقتل عثمان على أمور لا طائل ورائها، و لم تكن خلافة الخلفاء بالإجماع أيضا لأنّها لو لم يعارضها إلّا بنو هاشم لكان قادحا بها بل لو لم يعارضها إلّا عليّ لكان خرقا للإجماع المزعوم، و كانوا ظالمين بادّعائها، و هذا كلام عليّ و أولاده عليهم السّلام ما زال يتماوج في أسماع الناس نظما و نثرا.

ص: 302


1- البقرة: 118.

و أمّا قوله: هو أوّل من استأثر الفي ء، و هذا مخالف لحكم اللّه حيث قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ (1).

و زعم أبو يوسف أنّ النبيّ يورث، و هذا طعن منه بمعاوية و العجب أنّ الحديث عند ما يكون عن فدك و فاطمة يدخل إلى الميدان الفرية القائلة «نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث» و به يستلبون حقّ الزهراء و يردّون به آيات القرآن، و عند ما يكون الخصام مع معاوية يثبت الميراث للنبوّة مع أنّ معاوية اقتدى بمن كان قبله من الأصحاب و هم أيضا فعلوا فعله بل أدهى و أمرّ من فعله و حينئذ لا فرق عندنا بين معاوية و أسلافه.

و أمّا قوله: هو أوّل من قضى بخلاف رسول اللّه حين ألحق زيادا بأبي سفيان بناءا على دعوى ادّعاها لا تثبت، و قال النبيّ: من نكاح أو من سفاح، و قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، فأبطل معاوية حكم رسول اللّه و ألحق زيادا الدعيّ بأبيه، و صدق اللّه: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ (2) لأنّه كان مثله ابن زنى، و أخا من سفاح «كلّ طائر يطير مع شكله»، و كفر بردّه حكم النبيّ و عدم رضاه به، و أراد زياد أن يدعى ابن أبي سفيان و عسر على الناس قولهم خلاف حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعرضوا الأمر على عائشة، فقالت: سمّوه ابن أبيه، فعرف بهذا الاسم من يومئذ.

يقول المؤلّف: إنّ تصديق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عامّ يشمل جميع الصور، و حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مروان بالنفي و حكمه حكم اللّه و لكن عثمان لعنه اللّه أعاده، و أدنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا ذر بمقتضى قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ

ص: 303


1- الحشر: 7.
2- النور: 26.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (1) و لكن عثمان نفاه .. و قال اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (2) فأعطى رسول اللّه لفاطمة فدكا، فصادرها منها أبو بكر، و قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3) و عداوة عمر لعليّ أظهر من الشمس.

و صفوة القول أنّ القوم كمعوية جملة و تفصيلا، فما نسبوه إلى معاوية و ما احتجّوا به من كفره، و استدلّوا عليه من نفاقه و استحقاقه اللعنة به فإنّ الكثير من أئمّتهم شاركه به و أشبهه عليه.

و أمّا قوله: و أوّل من قتل مسلما لم يكفر بعد الإسلام و لا زنى بعد الإحصان.

يقول المأموني: سمّ معاوية الإمام الحسن عليه السّلام فقتله، و قال: ذلك معروف.

قال المصنّف: يقول أصحابنا أنّ عمر لعنه اللّه ضرب فاطمة عليها السّلام على بطنها و قتل المحسن في بطنها، و لمّا أخذ معاوية البيعة من أهل الكوفة استعمل عليهم المغيرة بن شعبة و هو عدوّ لأهل البيت عليهم السّلام. و قيل: إنّ المغيرة مات هناك، و أعطى زيادا الكوفة لأنّه كان واليا على البصرة.

و قتلوا حجر بن عدي الذي كان مسلما لم يكفر فيستحقّ القتل، و لا زنى بعد إحصانه .. و كان على الكوفة في ذلك اليوم أربع حكّام: على ربع منها أبو بردة و معه مذحج، و أسيد و عمرو بن حريث المخزومي على اليمامة، و خالد بن عرفطة العذري على تميم و همدان، و قيس بن الوليد المخزومي على كندة و ربيعة، و حين أراد زياد لعنه اللّه قتل حجر بن عدي أحضر هؤلاء الرؤساء فشهدوا جميعا على أنّه خارج على معاوية.

ص: 304


1- الأنعام: 52.
2- الإسراء: 26.
3- الشورى: 23.

و كتب أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري محضرا و فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه أبو بردة للّه ربّ العالمين، شهد أنّ حجر بن عدي خلع الطاعة و فارق الجماعة و لعن الخليفة و دعى إلى الحرب و الفتنة و جمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة و خلع أمير المؤمنين معاوية و كفر باللّه كفرة صلعاء ... (1) فأمر زياد أن تثبت شهادتهم في محضر خاصّ، و بهذه الحجّه الواهية قتل معاوية لعنه اللّه حجرا و خمسمائة من أصحابه رضي اللّه عنهم و أرضاهم.

و أمّا قوله- يعني قول أبي يوسف-: و أوّل من أهدي إليه رأس مسلم ذلك هو رأس عمرو بن الحمق الخزاعيّ (الأنصاريّ- المؤلّف) و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّه، و كان عمرو يقول: ما زنيت قبل الإسلام قطّ، و لم أظلم أحدا، و كان قد حمل كتابا إلى معاوية فأنعم عليه معاوية لعنه اللّه بحلل مصريّة و أموال طائلة فردّها عليه و قال:

عندي خمسة و عشرون درهما تكفيني إلى أن أبلغ الكوفة، و من بعده أهدي رأس الحسين عليه السّلام إلى يزيد لعنه اللّه، و رأس عمرو بن الحمق أهدي إلى الأب، و كذلك أهدي رأس يحيى بن زكريّا إلى جبّار من بني إسرائيل.

يقول القاسم المأموني: على يزيد نصف عذاب أهل الدنيا.

قال البيهقي: و لمّا رأى عمر بن الخطّاب سرير معاوية و تاجه قال: هذا كسرى العرب (2) يعني جبّارها.

قال المصنّف: إن كان معاوية كسرى العرب فإنّه صنيعة عمر بن الخطّاب، و إن

ص: 305


1- الغارات 2: 565. و عند المؤلّف: خلع أمير المؤمنين معاوية كفرا صريحا و هو خطأ طبعا. و في الطبري 4: 200: كفرة صلعاء و يعني بذلك ما لا أجرا على التصريح به، و لكنّي أجرأ مثابا إن شاء اللّه على لعن عمر بن الخطّاب الذي زرع معاوية في ضلوع الإسلام لعن اللّه معاوية.
2- نعم بهذا و شبهه أمدّ له ابن صهّاك بالطغيان حتّى تجاوز الحدود فكان شريكه في جرائمه و مآثمه، و لعن اللّه الشريكين المشركين.

كان قال ما قال خوفا على الدين فلما ذا لم ينهه عنه، هل كان يخاف أحدا إن ردعه أو منعه، و لقد فصل معاوية الشام و استقلّ به عن عمر بن الخطّاب كما فعل مع الإمام أمير المؤمنين، و هذا باعث على نقصان ملك عمر بن الخطّاب، و كان غرض عمر اللطم على خلافة الدنيا و لم يغلبه همّ الدين.

يقول حسام الدين الحنفي: ما فعله يزيد مع الحسين كان بتمهيد و إعداد من أبيه و تجربة عمل أبيه.

و يقول المصنّف هذا الكتاب: و ما فعله معاوية إنّما كان بتمهيد و إعداد و نصيحة و إشارة من الصحابة و ذلك أنّ سكوت القوم عن ظلم فاطمة و عدم نصرتهم لها شجّع الناس على ظلم أهل البيت و العدوان عليهم (1).

و أمّا قول أبي يوسف: و أوّل من صالح المشركين من غير جزية بخلاف قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (2) هذا ما أمر اللّه به الجزية أو القتل، أمّا الكافر فلا يحبّه إلّا الكافر.

و أمّا قوله: و أوّل من باع أصناما تعبد من دون اللّه ليزاد في إثمها. روى ركن الإسلام عن مشايخه إلى صاحب أبي الإبل (3) أنّه قال: يا مسروق، كنّا في «سلسلة» فاجتازت بنا سفينة محمله بالأصنام يرسلها معاوية إلى الهند لبيعها. قال مسروق: فقلت: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون زيّن له سوء عمله فرآه حسنا أو يكون آيسا من الآخرة فهو يتمتّع بالدنيا و هذه صفة المشركين: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ

ص: 306


1- أشهد أنّ المؤلّف قال الحقّ و نطق الصدق و هكذا ينبغي أن يكون رأي الموالين في القوم و إلّا فلا.
2- التوبة: 29.
3- لا زلت ارتطم بأعلام في الكتاب غير مأنوسة و يعجز علمي عن التعرّف عليها و أحيل القارئ على كتب الأعلام إن كان يريد ضبطها فإنّي لا أجد غضاضة أن أثبتها كما رأيتها عند المؤلّف.

عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً (1) و الثانية صفة الكافرين: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (2)، و من هنا مات و الصليب في عنقه. و يقول القاسم المأموني: قد حصل الاتفاق على هذا من المتقدّمين و المتأخّرين و ذكره محمّد بن الحسن في السير الكبير على هذا الوجه.

يقول القاسم: و ما يقال من أنّ أبا حنيفة رخّص في بيع الأوثان و شرائها فهو كذب محض افتراه عليه النواصب كقدم القرآن و خلق الكفر، و هذا هو مذهب المرجئة و المجبّرة، و أبو حنيفة بري ء من هذا. إلى أن قال: فإنّه كان يعين زيدا بن عليّ على الخروج على بني أميّة و كان شيعيّا محبّا لآل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (3) و كان يقول:

خروج زيد كخروج محمّد يوم بدر، و بعث إليه جرابا من الورق له على الخروج، فقيل له: هلّا نصرته، قال: أخاف ضيعة الودائع، هذا كلامه بأسره.

و أمّا قول أبي يوسف: أوّل من اتّخذ حرسا في الإسلام لأنّه لمّا كان ظالما للأمّة بمثابة الفراعنة و القياصرة احتاج إلى من يحرسه.

و أمّا قوله: أوّل من جلس مجلس رسول اللّه بغير رضا من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد رأى رسول اللّه رؤيا في المنام كأنّ بني الحكم و بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فلم ير ضاحكا حتّى مات، و منه قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ (4).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. و روى صاحب

ص: 307


1- فاطر: 8.
2- الممتحنة: 13.
3- إنّ تحديدهم التشيّع من المضحكات لأنّهم قالوا: الشيعيّ هو الذي يفضّل عليّا على عثمان، و الرافضي هو الذي يفضّله على الثلاثة، و هذا القول إلى الهراء أقرب منه إلى أقوال العلماء.
4- الإسرا: 60.

المصابيح: و لقد أذلّهم اللّه حين فعلوا ذلك.

قال محمود بن لبيد: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: هذا سيريد هذا الأمر بعدي- يعني معاوية- فمن أدركه منكم فليشقّ بطنه.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية يطلب الملك فاضربوا عنقه (1).

و أمّا قوله: قتل ابني قثم بن عبّاس، فإنّ معاوية لعنه اللّه أرسل بسر بن أرطاة لعنه اللّه في ثلاثة آلاف إلى الحجاز و في المدينة طلب أبا أيّوب الأنصاريّ مضيّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو من كبار الصحابة و إلى الآن يستسقون بقبره فيسقون، فهرب أبو أيّوب إلى الكوفة فانتضى بسر اللعين سيفه و رقى منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

لو لا أنّ معاوية عهد إليّ لما تركت فيها رجلا واحدا و لا طفلا حيّا، و أرسل إلى بني مسلمة أحضروا لي جابرا بن عبد اللّه و إلّا ضربت أعناقكم جميعا. و استجار جابر بأمّ سلمة، فقالت أمّ سلمة: هذه بيعة ضلالة يا جابر، اذهب و بايع فأنا أمرت ولدي عمر بن أبي سلمة بالبيعة و مثله صهري.

و استنّ يزيد بن معاوية لعنهما اللّه بسنّة أبيه فأرسل مسلم بن عقبة المرّيّ إلى المدينة فجاء اللعين إليها و قتل هناك ثلاثة آلاف من أولاد المهاجرين و الأنصار و شيوخ الصحابة و ثلاثة آلاف من غيرهم من الأجانب و لكنّهم كانوا من الأخيار و المؤمنين و حفّاظ القرآن، ثمّ قصد مكّة لحرب ابن الزبير فيها، و قيل: هلك ما بين مكّه و المدينة و ذهب إلى جهنّم و استخلف الحصين بن نمير، فنصب هذا اللعين المنجنيق على الكعبة فنزلت صاعقة فأحرقته، و بقي يقاتل هناك أيّاما على أبواب مكّة حتّى جائه نعيّ يزيد و دام ملكه ثلاث سنين و ثمانية أشهر.

ص: 308


1- و ينبغي كذلك أن تضرب عنق ابن صهّاك عمر بن الخطّاب لعنه اللّه الذي أمدّ له بالطغيان و أعانه حتّى تسنّم غارب الحكم.

و قيل: إنّ اللعين قذف دما من فمه بلغ عشرين طستا حتّى مات، و قيل: وقع في الكنيف ميّتا، و قيل: مكان موته ظاهر لحدّ الآن، و قيل: ذهب يصطاد فضل في البيداء «خسر الدنيا و الآخرة».

و قبل هذا كان بسر قد قصد اليمن و عليها عبيد اللّه بن العبّاس من قبل عليّ عليه السّلام، و لمّا دخل اليمن هرب منها عبيد اللّه بن العبّاس إلى أمير المؤمنين لأنّه لا طاقة له ببسر، و استخلف على اليمن شخصا آخر فقتل أولاد العامل المستخلف و ولدين لعبيد اللّه بن العبّاس و كان الطفلان قد أودعا عند رجل، فقال ذلك الرجل لبسر: يا أمير، إنّهما لا ذنب لهما فاقتلني مكانهما، فقتله و قتل الطفلين و عاد إلى الشام و أوقع في طريقه بكلّ من له هوى في أمير المؤمنين عليه السّلام.

و لمّا بلغ أمير المؤمنين الخبر بعث محارب بن قدامة في ألفين و سرّحهما في طلب بسر ليقبضوا عليه أو يقتلوه فلم يدركاه، و هرب إلى الشام و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عقد للإمام الحسين عليه السّلام على عشرة آلاف و لقيس بن سعد مثله، و مثلهما أبو أيّوب الأنصاريّ و أمرهم بقصد الشام، و لكن ابن ملجم لعنه اللّه لم يمهل أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى قتله، و لمّا بلغ الحارث مكّة ليأخذ منهم البيعة بلغه خبر قتل أمير المؤمنين عليه السّلام فتفرّق الناس عنه، و ذهب عبيد اللّه بن عبّاس إلى مكّة و شكى إليه بسرا و أخبره بقتل ولديه، فقال له معاوية: إن ظفرت بابنيه فاقتلهما- ساخرا به- و إلّا فدونك الرجل.

و هرب ولدا جعفر الطيّار من كربلاء كما روى المخالفون فأدركهما صفوان الملعون فقتلهما و بعث برأسيهما إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، فقال له عبيد اللّه: إنّ هذين الطفلين لا ذنب لهما فلم قتلتهما، و أمر بضرب عنقه.

و كان عبيد اللّه رجلا فاضلا شجاعا و صاحب سخاء و بذل و جائه رجل من الأنصار فقال: وضعت امرأتي البارحة ولدا و سمّيته باسمك، فأمر في الحال بشراء

ص: 309

مرضعة له، و أعطاه مأتي دينار و أوقفها عليه ما دام حيّا، و كان يتعاهد سميّه الطفل، و ما فتى يردّد: لا أضيّع سمّيي.

الفصل الثامن

و معاوية أوّل من سنّ الغارة في الإسلام، فيقال: إنّه سرّح الضحّاك بن قيس إلى «الواقفة» (1) في ثلاثة آلاف مقاتل ليغيروا على من كان فيها على طاعة أمير المؤمنين، فأكثر الملعون الغارة و قتل كثيرا من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج منها إلى الثعلبيّة و أغار عليها و نهب ما فيها.

و بلغ عمر بن عمير محاطا بخدمه و مواليه و كان قاصدا حجّ البيت و معه عياله و أهل بيته فأغار عليه و منعه من الحجّ.

و كان معاوية يغير على قوافل الحجّاج كلّما سنحت له الفرصة، و لقد ذكر الإمام كثيرا من ذلك في نهج البلاغة.

و في الليلة التي رجع أمير المؤمنين عليه السّلام فيها من حرب الجمل تقدّم إليه مالك الأشتر و قيس بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص و عدي بن حاتم و عبد اللّه بن بديل ابن ورقاء و أمثالهم و قالوا: ائذن لنا أن نكون الليلة عندك فنعبد اللّه تعالى، و قال لمحمّد بن الحنفيّة و للعبّاس السقّاء: قفا هذه الليلة و احرسا المدينة فقد بلغني أنّ جيش معاوية بلغ القطقطانة لينهبا ماشية الناس.

و ذهب قيس في الليلة الثانية لحراسة الكوفة فلمّا تناصف الليل سمع صوتا عاليا فأصاخ السمع له و إذا هو صوت صعصعة بن صوحان و هو يقول: سمعت أنّ

ص: 310


1- أقول للقارئ العزيز: كن على حذر دائما من أسماء الأعلام التي لم يحقّقها المترجم لسبب من الأسباب، و لا تطمئنّ إلى صحّتها حتّى تقف على ذلك بنفسك إمّا بإشارة من المترجم أو بتحقيق تقوم به أنت نفسك.

أصحاب معاوية قادمون بخمسمائة مقاتل و معهم السلاح ابتاعوه و حملوه على أربعين حملا من بني فزارة، و ذهب صعصعة إلى الكوفة ليخبر الإمام عليه السّلام بواقع الحال، فاستقبله في الطريق مالك الأشتر فأخبره، فعجّل مالك بالخبر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و استأذن أمير المؤمنين و أخذ معه أربعمائة رجل و ذهب يتعقّب السلاح، و لمّا فرغ الإمام عليه السّلام من صلاة العتمة رأى قيس بن سعد بن عبادة قد عاد بأصحابه و بعد أن حيّوا الإمام أمير المؤمنين و استأذنوه لقتال القوم و إعادة السلاح، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: سبقك بها الأشتر.

و كان أمير عسكر معاوية مسعدة الفهريّ و معه ثلاثمائة و قد نزلوا على «رغاله» و لمّا رآهم مالك الأشتر فظنّوهم من الأعراب فهبوا للإغارة عليهم، قال عبد اللّه بن عاصم: كنت مع الأشتر، فقال: أيّها الناس، هؤلاء جمع الفسّاق و الظالمين فماذا تفعلون لينصركم اللّه عليهم، ثمّ حمل عليهم الأشتر بأصحابه فصاح مسعدة: من أنتم و ما تريدون؟ فقال مالك: أنا الأشتر النخعيّ و معي أصحاب أمير المؤمنين، فهرب القوم و أسر الأشتر مسعدة.

و أسرع أخ مالك عبد اللّه بن الحارث إلى خيمة الأريقط و كان الملعون نائما و قد ثمل، فلمّا أحسّ بقرب عبد اللّه منه استوى على ظهر فرسه و استلّ عبد اللّه سيفه، و أقبل تخبّ به فرسه فاقتتلوا قتالا شديدا، فجاء الأشتر مددا لأخيه، و حمل على الأريقط و أسره، فهرب أصحاب معاوية و أقبل مالك بالسلاح إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد شدّ مسعد و الأريقط بالوثاق، فسأل عليّ عليه السّلام عن وضع السلاح، فقالا: ابتعناه بالمال، فقال: هذا من بيت المال و نحن أولى به، ثمّ وضعه في بيت المال، و قالوا: إنّما أخذنا ماله نهبا من الناس الذين أغرنا عليهم، فأمر بالبحث عن أصحاب المال و ردّه عليهم، ثمّ أطلق الأسرى بلطفه و عدله و ذهبوا إلى الشام.

و منه كلام عليّ عليه السّلام: فتوا كلتم و تخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات.

ص: 311

الفصل التاسع في أنّ معاوية أوّل من زوّر الكتب في الإسلام

كان قيس واليا على مصر من قبل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فكتب إليه معاوية أن أقبل إليّ حتّى نطلب بدم عثمان و أعطيك ولاية العراقين و أقضي لك حاجاتك و حاجات أهل بيتك، فكتب إليه قيس: أمّا بعد، فالعجب من اغترارك و طمعك فيّ و أمرك إيّاي أن أترك وصيّ النبيّ و الإمام الهادي و جنّة المأوى و أدخل طاعتك طاعة الجبت و الطاغوت، هذا ممّا لا يكون. و أمّا قولك أنّك تملأ المصر خيلا فو اللّه إنّي أشغلك عن ذلك و إنّك لذو كيد و خدع، فكد كيدك فإنّ اللّه لا يهدي كيد الخائنين.

و لمّا قرأ معاوية كتاب قيس بن سعد أيس منه شرع يزوّر محضرا على قيس و افترى عليه بالوجه التالي: من قيس بن سعد الأنصاري إلى الأمير معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنّ قتل عثمان كان في الإسلام عظيما و قد نظرته لنفسي و ديني فصدّني عن مظاهرة قوم قتلوا عثمان إمامهم مسلما تقيّا نقيّا من الآثام بريئا طاهرا من الأجرام فليستغفر اللّه لذنوبنا و نساله العصمة لأدياننا، ألا و إنّي قد ألقيت إليكم السلام و أجبتكم إلى قتال رجل قتل إمام الهدى المظلوم في حرم رسول اللّه، فحوّل عليّ بما أحببت من الأموال و الرجال أعجل بها إليك أيّان شئت، و السلام.

و اشتهر بين العرب أنّ قيسا صالح معاوية، و كتب معاوية بذلك إلى المدينة إلى أخته أمّ حبيبة، فسمع أولاد عليّ هناك فأبلغوا عليّا به، فبعث أمير المؤمنين محمّدا ابن أبي بكر مكانه إلى مصر، و لم يكن محمّد في شجاعة قيس لأنّه كان من شجعان العرب، و لمّا فرغوا من حرب صفّين أرسل عمرو بن العاص معاوية بن خديج إلى

ص: 312

مصر ليقاتل محمّدا بها، ثمّ قبضوا عليه و وضعوه في جيفة حمار و أحرقوه.

الغرض: كان قيس يرى معاوية بمنزلة اليهود و يدعوه بالجبت و الطاغوت، و كان تحريفه الكتب من صفات اليهود «يحرّفون الكلم عن مواضعه».

قال أحمد بن أعثم الكوفيّ: إنّ معاوية أرسل إلى شرحبيل والي ابن السمط في حمّص و معه رؤساء الشام و قال: اشهدوا من الذي قتل عثمان، فشهد بسر بن أرطاة و جابر بن سعد الطاريّ و مخارق بن الحارث و حمزة بن مالك و أبو الأعور السلميّ و الضحّاك بن قيس الفهريّ و ذو الكلاع الحميريّ و حوشب ذو الظليم و غيرهم بقول واحد لفظا و معنى بأنّ عليّا قاتل عثمان.

ثمّ قال معاوية: لو لا أنّ عليّاص قتل عثمان لما خالفناه، فخدع بقوله شرحبيل و بايعه و خرج منه إلى ولايات الشام و مدنه و جمع رجالا كثيرا لحرب عليّ، و كتب إليه جماعة من أصحابه يسألونه فقال: أنا لا أردّ شهادة الشهود فإن كذبوا ففي أعناقهم و السلام (1).

و لو كان معاوية مسلما لما شهد شهادة الزور، و الزور أخو الشرك كما قال تعالى:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (2).

المعروف عن أمير المؤمنين أنّه أمر بأن لا يسدّوا طريق الماء على وارد، فلمّا أقبل معاوية و لم يجد على الماء أحدا أمر باحتلاله و منع عليّ و أصحابه منه، فأرسل الإمام عليه السّلام إليه رسولا يدعوه إلى ترك احتلال مورد الماء، فلم يفعل و استشار جماعة من أصحابه فأشاروا عليه بمنع الماء حتى يموتوا، فقال عمرو بن العاص: إنّي

ص: 313


1- تناول المؤلّف من الفتوح جملا و عبارات ليست منتظمة على شكل رواية لذلك آثرنا الإرشاد إلى الجزء و الصفحات التي يوجد فيها نقل المؤلّف الجزء الثاني ص 539 إلى آخره.
2- الحجّ: 30.

لست أرى أن تمنعهم عن الماء، افتح لهم طريق الماء و إلّا أخذوه منك قهرا، فما انثنى معاوية لقول ناصح و بات الناس و الكراع و الماشية على حرارة العطش، و قد أمضّ بهم ذلك و أجهدهم، فلمّا أصبح الصباح شكوا أمرهم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فأمر عليّ عليه السّلام باستنفار عدّة آلاف من المقاتلين ليبعّدوهم عن شاطئ الفرات، ثمّ اقتتلوا حتّى أبعدوا أولئك الكلاب عن مراكزهم و نزل أصحاب الإمام فيها و صار الماء في قبضة أيديهم. فقال عمرو بن العاص: ألم أقل لك لا يظمأ عليّ و سيفه على عاتقه فما ارعويت، فقال معاوية سوف نهلك نحن و ما شيتنا، فقال عمرو بن العاص: إنّ عليّا رجل حليم و كريم و لن يقابلك بالمثل، فأرسل إليه جماعة و طلب منه فتح طريق الماء، فلمّا عاد الرسل إلى معاوية بعد أن تضرّعوا لطلب الماء أمر عليّ حالا أن يخلّى بينهم و بين الماء، بينما لم يمرّ يومان على ما قاله الأشتر للإمام عليّ عليه السّلام: إنّنا يا أمير المؤمنين نشتري قربة الماء بثلاثة دراهم، و قال الأشعث: يا أمير المؤمنين، أو نموت عطشا و بأيدينا رماحنا و سهامنا و متنكّبين أقواسنا، ائذن لنا في الحرب، فأمر أن يخرج مع الأشتر و الأشعث اثنا عشر ألفا و أيديهم على مقابض سيوفهم، و دخلوا ميدان الحرب.

قيل: إنّ فيّاض بن الحارث قال لمعاوية: لو أنّ كفّارا من الروم جاؤونا يستقون الماء لما حلّ لنا منعهم و وجب سقيهم فكيف و هؤلاء صحابة رسول اللّه و فيهم وصيّه و ختنه و أولاده، فليس من الدين منع الماء عنهم، فلم يقبل قوله معاوية، و اقتدى عبيد اللّه بن زياد بمعاوية فمنع الماء على الحسين و أهل بيته.

قال القاسم المأموني في كتاب الحاوية: إنّ معاوية قال لسعد بن أبي وقّاص: و ما يمنعك من سبّ عليّ؟ فقال: ثلاثة أحاديث تمنعني من سبّه:

الأوّل: إنّ النبيّ قال له يوم خيبر: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله، فدفعها إلى عليّ.

ص: 314

و الثاني: لمّا خرج النبيّ إلى تبوك و أعلمه الوحي أنّ الحرب لا تقع هناك، و ترك المنافقين حول المدينة، قال لعليّ: لا يسدّ أحد مسدّك و لا يقوم مقامي غيرك في الحفاظ على النساء و الأطفال، فخلّفه في المدينة و اقامه مقامه، فلمّا سار عن المدينة فراسخ أرجف به المنافقون و قالوا: استثقله رسول اللّه فتركه في المدينة و استخلفه عليها، فتبعه عليّ و قال: أتتركني مع النساء و الصبيان؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أما يرضيك أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

و الثالث: يوم غدير خمّ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله.

يقول المأموني: لذلك عمد إلى قتله بالسمّ بعد سمّه الإمام الحسن عليه السّلام.

و روى أيضا بأسانيده عن أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: خلق من نور وجه عليّ عليه السّلام سبعون ألف ملك يستغفرون له و لمحبّيه (1).

و جاء في الفتوح أنّ عليّا أعطى الراية لهشام و قال: اخرج إلى عدوّي القرآن و حزب الشيطان، فخرج عليه رجل من أهل الشام و شرع بشتم أهل البيت، فوعظه هشام و تلا عليه مناقب عليّ، فقال الشاميّ: أو تقبل توبتي؟! فقال هشام:

أجل، و أقبل به إلى الإمام فبالغ بإكرامه.

و ذكر أهل النقل أنّ عبيد اللّه بن عمر لمّا هرب من عليّ عليه السّلام و لجأ إلى معاوية خوفا من القصاص لدم الهرمزان لأنّه قتله بظلم فأكرمه معاوية و أعطاه عشرين

ص: 315


1- مائة منقبة لمحمّد بن أحمد القمّي: 42 و 148 و 169، مناقب آل أبي طالب 2: 279 و عزاه إلى عمر بن الخطّاب، المحتضر: 95، مدينة المعاجز 3: 35 و 36 و 135 و 136، بحار الأنوار 23: 320 و 27: 118 و 39: 275 و 40: 125 و 65: 142، مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 25 و 45، مستدرك سفينة البحار 9: 426، المناقب للخوارزميّ: 71 و 329، تأويل الآيات 2: 670، مجمع النورين للمرندي: 245.

ألف درهم و فرسا و كسوة، و كان معاويه يبالغ في رفعه و التنويه فيه و يأمره أن يسبّ عليّا و يتبرّأ منه، فكان عبيد اللّه يأبى ذلك. إلى أن قال له يوما ليمتحنه: ماذا تقول في حقّ عليّ عليه السّلام؟ فقال: و ماذا أقول في حقّه؟ أبوه أبو طالب، و أمّه فاطمة بنت أسد، و هو في نفسه غنيّ عن التعريف، و الناس و أنا و أنت نعلم ذلك.

و أمره معاوية يوما أن يعتلي المنبر و يشتم عليّا، فلمّا حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبيّ، سكت فلم ينطق ببنة شفة، فخاف منه معاوية، فقال عبيد اللّه: كرهت أن أقطع شهادة اللّه بشهادة الزور، فاستحيا معاوية و قال: الرجل أحصر عن سبّ عليّ، فلا بيان له، و ليس من أهل الفصاحة، فقال عبد اللّه أبياتا منها:

معاوية لم أحبس لخطبة خاطب و لم أك عيّا في لويّ بن غالب و كفّر معاوية عبد اللّه بن بديل و أنكر صحبته و صحبة أبيه، بينما هو من الصحابة و شأنه شأن موسى و فرعون حين قال فرعون لموسى: وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (1).

و معاوية أوّل من أعلن سبّ أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صيّرها سنّة، فكان مصداق قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ (2) و قال اللّه تعالى: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (3) قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ في الإسلام سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها (4).

ص: 316


1- الشعراء: 19.
2- البقرة: 41.
3- الأعراف: 80.
4- التحفة السنيّة لعبد اللّه الجزائري- مخطوط: 33، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2: 416، روضة الطالبين لمحيي الدين النووي 1: 73، حاشية ردّ المختار لابن عابدين 1: 62، نيل الأوطار للشوكاني 7: 198، شرح أصول الكافي 12: 38، مستدرك الوسائل 2: 229، المسترشد: 511، الفصول المختارة: 136، الاختصاص: 215، منية المريد للشهيد الثاني، بحار الأنوار 2: 24، مسند أحمد 4: 357، صحيح مسلم 2: 87 و تركنا أكثر الكتب.

يقول مصنّف هذا الكتاب: ذكر صاحب الحاوية هذا الحديث و نسي أن يتذكّر بأنّ أوّل ظلم وقع على أهل البيت كان من الصحابة و ظلّ هذا الظلم ساريا فيهم إلى يوم القيامة، فكلّ ظلم جرى عليهم بعد ذاك الأوّل فهو من سنّتهم و سنّة الشيخين لعنهما اللّه.

و صفوة القول: خرج في اليوم الخامس عشر عبد اللّه بن بديل خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين مع أصحابهما و الحفّاظ بإذن أمير المؤمنين عليه السّلام فكسروا جفون سيوفهم و استشهدوا بأجمعهم في ذلك اليوم، فلمّا رأى معاوية عبد اللّه بن بديل قال:

من قتل هذا فله عندي ما أحبّ من أموالي أحكّمه فيها ياخذ منها ما شاء، فقال قاسم بن مسعدة: إن جئتك برأسه تعطيني ولاية مكّة؟ فقال معاوية: نعم هي لك، فخرج ذلك اللعين إليه، و قال عليّ عليه السّلام لمالك الأشتر: صر إلى جانب عبد اللّه و كن ردءا له حتّى إذا احتاج إليك أعنته، و أرسل عبد اللّه في أوّل حملة القاسم بن مسعدة إلى نار جهنّم، و خرج سهل بن عبيد اللّه و كان نديما لمعاوية لعنه اللّه فقتله عبد اللّه بن بديل، و صاح بهم معاوية: احملوا عليه من كلّ جانب، و اقتدى به عبيد اللّه بن زياد في حربه لمسلم بن عقيل عليه السّلام و كذلك عمر بن سعد الذي نادى بالإحاطة بالحسين عليه السّلام.

و لمّا رأى مالك تفاقم الوضع حمل حملته فثارت غبرة عظيمة سدّت الأفق و اظلمّ الهواء من العثير، و كسى التراب الرايات و لم يسمع إلّا وقع السيوف على الهام و على الدرق و الأسلحة، و جرح عبد اللّه، فقال معاوية: ارموه بالحجارة،

ص: 317

و كانت هذه السنّة لعمر بن سعد مع الحسين عليه السّلام، و لم يرضه هذا حتّى فرّق بين رأسه و بدنه، و أوطأ صدره الشريف الخيل (1) و أهدوا رأسه إلى الشام و كلّ ما جنوه سببه معاوية (2).

و صفوة القول: و لمّا قتل عبد اللّه بن بديل تمنّى أن يلحق به الأشعث الكنديّ و مالكا الأشتر، و كان في كلّ يوم يتحدّث عن كفر و بغي صحابة الرسول و هذه هي حاله وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (3) و هذا الجحد نابع من ظلمهم و تكبّرهم.

قال صاحب الكشّاف: سرق طعيمة بن الأهرق من أولاد بني ظفر درعا من جاره قتادة بن النعمان و خبأه في عنبر الدقيق ثمّ سربه إلى اليهود سرّا و قبضوا على طعيمة و اتّهموه بالدرع فأقسم باللّه أنّ الدرع ليس عنده و لم يكن قد سرقه، و رفعت عنه التهمة ليمينه التي أدّاها، من ثمّ أطلقوا سراحه، و ذهبوا إلى بيت اليهوديّ فوجدوا الدرع عنده، فساقوه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنزلت هذه الآية: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (4) و شهد اليهود عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ هذا الدرع خبأه طعيمة عند صاحبنا و لم يسرقه من أحد، فلم يقبلوا قوله، و خلاصة الحديث أنّ معاوية في كلّ يوم يعيب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يبهتهم.

روى زين الأئمّة إسماعيل البراري بإسناده عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سبّاق الأمم ثلاثة لم يشركوا باللّه طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، و يوسف بن حبيب

ص: 318


1- و هنا لا خيار لي إلّا لعنهم و على رأسهم ملهمهم و معلّمهم عمر بن الخطّاب لعنه اللّه.
2- و معاوية صنيعة ابن الخطّاب لعنهما اللّه.
3- النمل: 14.
4- النساء: 112.

النجّار، و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم (1).

قال أنس: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من أحد أفضل من إمام إن قال صدق، و إن حكم عدل، و إن استرحم رحم. قال المأموني: و هذه الخصال اجتمعت في عليّ عليه السّلام.

الفصل العاشر في إظهار إسلام معاوية

شهر معاوية لعنه اللّه إسلامه يوم فتح مكّة. و قال بعضهم: كان ذلك قبل فتح مكّة، و إن صحّ ذلك فينبغي أن يكون قد ارتدّ بعده لأنّه من المجمع عليه أنّ المهاجرين و الأنصار كانوا يخاطبونه بالطليق، و لم ينكر عليهم.

أمّا كيف أطلق عليه هذا اللفظ فإنّ صاحب الفتوح ذكر أنّ ابن عبّاس كتب إليه جوابا عن كتابه و فيه: أمّا أنت يا معاوية فطليق بن طليق رأس الأحزاب، ابن آكلة الأكباد.

دخل أبو هريرة و أبو الدرداء على معاوية كما ذكر ذلك صاحب الفتوح، فذكرا مناقبه من السبق إلى الإسلام و غيرها، و قالا: أنت طليق ابن طليق و أبوك من الأحزاب، فقال: بلى صدقتما و لكن لا أطلب الخلافة بل أطلب بدم عثمان (2).

ص: 319


1- الكفي 2: 254، و في السياقين اختلاف، و 3: 327، مناقب ابن شهر آشوب 1: 290، مدينة المعاجز 6: 110، بحار الأنوار 13: 58 و سياقه سياق المؤلّف، و 64: 205، مناقب الشيرواني: 43، مستدرك سفينة البحار 1: 509 و 4: 405، ألف حديث في المؤمن: 42، الصافي 4: 251، تفسير نور الثقلين 4: 283، تفسير الميزان 17: 83، قصص الأنبياء: 465.
2- أقول: كيف يقول أبو هريرة هذا لمعاوية و هو من أنصاره و عشّاق مضيرته، و من شانئي أمير المؤمنين و ناصبيّ لعين، و يطيب للرواة دائما أن يحشروهما معا أبو الدرداء و أبو هريرة، فما هو السبب؟

قال حسام الدين و أبو القاسم ابن أحمد المؤذني: قال الحسن: سمعت النبيّ يقول:

الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان و على الطلقاء و أبناء الطلقاء، و إذا رأيتم أحدا منهم على منبري فابقروا بطنه (1).

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لعمرو بن العاص لمّا رمى بنفسه و كشف سوئته:

أنت طليق دبرك أيّام عمرك (2).

و المهاجر كلّ من أسلم قبل الفتح، و الأنصاريّ كذلك، و الطليق أولئك الذين ساقهم رسول اللّه يوم فتح مكّه لقتلهم و هم ألف و خمسمائة ما بين رجل و امرأة، ثمّ عفى عنهم و أطلقهم و لم يقتلهم، من ثمّ يدعون الطلقاء، و كان الفتح سلخ شهر رمضان، و توفّي النبيّ في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، و كان معاوية قد قضى أكثر أوقاته في مكّة بعد الفتح، فمتى وجد الأهليّة للخلافة؟ و أين وجدها بل متى كتب الوحي للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟!

و ذكر أصحاب المغازي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يريد مكّة فقال و هو سائر: سيوافينا معاوية مرسلا من أهل مكّه بطلب الأمان، فبينما هم كذلك و النبيّ يحدّثهم إذ طلعت عليهم كوكبة و فيها أبو سفيان، فهرع نحوه الأصحاب فصاح: يا محمّد، إنّي مقتول، مرهم ليوصلوني للعبّاس، و كان العبّاس وكيله في الجاهليّة، فأشار النبيّ إلى أصحابه أن خذوه للعبّاس، فاستقبله العبّاس و عرض عليه الإسلام فلم يرض، و عرض عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإسلام و قال: أما آن لك يا أبا سفيان أن تسلم؟ فقال:

أمهلني أربعة أشهر، و قال بعضهم: إنّه أسلم ساعتها.

ص: 320


1- كلمات الإمام الحسين: 285 و فيه: إذا رأيتم معاوية، الحديث. حياة الإمام الحسين للقرشي 2: 275، و كلّ الأحاديث المرويّة تذكر آل أبي سفيان و ليس الطلقاء إلّا هذان المصدران.
2- الغدير 2: 161، المناقب للموفّق الخوارزمي: 236.

و صفوة القول: فلمّا أصبح الصباح أذّن المؤذّن فهب المسلمون للوضوء، فخاف أبو سفيان يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ (1) فقال للعبّاس: و ما يصنع هؤلاء؟ فقال له العبّاس: إنّهم يتطهّرون للصلاة، فقال أبو سفيان: إنّهم يطيعون كلّ ما يقوله محمّد. فقال العبّاس رضى اللّه عنه: نعم، فقال أبو سفيان: إذا نهاهم عن الأكل و الشرب؟ فقال: نعم يتركونهما و يفعلون ما يؤمرون. ثمّ قال: يا أبا سفيان، إنّي لأراهم سيهلكون قومك غدا.

فلمّا أصبح الصباح جاء به العبّاس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اترك اللات و العزّى، فقال: ما أصنع بهما إن تركتهما؟ فقال أحد الصحابة و كان حاضرا: تحروا عليه، فلمّا ركب الجيش أردف العبّاس أبا سفيان خلفه فمرّت عليه الكتائب كتيبة كتيبة إلى أن رأى راية رسول اللّه و السواد الأعظم، فقال: ما هذا السواد؟ فقال العبّاس: هذه كتائب ابن أخي، فقال أبو سفيان: ما أعظم ملك ابن أخيك! فقال:

ليس هو بملك و لكنّه النبوّة.

و صفوة القول: إنّ النبيّ لمّا أمر منايه فنادى: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فلمّا سمعت هند قالت: و اللّه لحري أوسع من دار أبي سفيان. و جاء أبو سفيان إلى مكّه و صاح: اسلموا تسلموا، و قالت هند: هذا قول من صبأ فجرته، و قيل:

قبضت عليه من لحيته و جرّته من ثيابه و رأسه و قالت: صبوت؟ و أنكر عليه معاوية ذلك و حدث تغيير كبير في الإسلام.

قيل: و فرّ معاوية ذلك اليوم و لمّا عاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة كتب معاوية كتابا إلى العبّاس أن يأخذ له الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ففعل العبّاس و جاء معاوية حتّى دخل على النبيّ و بقي النبيّ حيّا من بعد ذلك ستّة أشهر.

ص: 321


1- المنافقون: 4.

قيل: إنّ معاوية استشار يزيد في البيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له:

معاوي إنّ الشام شامك فاحترس و إيّاك أن تدخل عليك الأفاعيا

و حام علينا بالصوارم و القناو لا تك مقصور الذراعين وانيا

و إنّ عليّا ناظر ما تجيبه فاهد لنا حربا تشيب النواصيا (1) و كان مالك بن خالد القرشي حاضرا، فقال: يا معاوي، إنّك من أهل مكّة و ابنك شرّ منك، يا معاوية إنّ أباك قد أسلم و هو كاره، و إن كنت نسيت ذلك فإنّي أذكّرك حين ذهبت تلومه و تقرعه على الإسلام و تعيّره بهذه الأبيات:

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنابعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي و جدّي و عمّ الأمّ يالهم قتلى و حنظلة المهدي لنا الأرقا

لا تركنن إلى أمر تكلّفناو الراقصات به من مكّة الخرقا

فالموت أيسر من قول العصاة لناخيل ابن هند عن العزّى كذا (2) فرقا (3) قال معاوية: يا عجبا منكما أكرمكا و أموالكما و أنتما على عداوتكما إيّاي و بغضكما، و أورده بلفظ التثنية و الخطاب لمالك بن خالد على عادة العرب في إجراء الواحد مجرى التثنية عند استعظام الشي ء.

قال أبو سفيان ذات يوم و هو مختل بهند: العجب من اللّه حين أنزل القرآن على

ص: 322


1- الشعر للوليد بن عقبة أخي عثمان من أمّه، كتبه إلى معاوية و منه: و إلّا فاسلم إنّ في السلم راحةلمن لا يريد الحرب فاختر معاويا الغدير 1: 317، شرح ابن أبي الحديد 3: 84، تاريخ دمشق 59: 131 و 132، سير أعلام النبلاء 3: 140، أنساب الأشراف: 289، البداية و النهاية 8: 137، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 52.
2- لنا.
3- التعجّب: 38، الغدير 10: 168 و 169، شرح ابن أبي الحديد 6: 289، النزاع و التخاصم للمقريزي: 22، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدمشقي 2: 223.

يتيم أبي طالب و لم ينزله عليّ أنا أو على عبد اللّه بن سلول المدني. و لمّا دخل على النبيّ في اليوم الثالث قرأ عليه النبيّ هذه الآية: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1).

و جاء في كتاب الحاوية: و لمّا بايع الناس عثمان قال أبو سفيان: قد عاد ملكنا فنرجو أن يعود ديننا، و كان الملعون يتمنّى عودة الشرك.

يقول مصنّف الكتاب: إنّ الشرك لم يعد و لكنّهم انتقموا له و أخذوا بثأره، كما قتل النبيّ من المشركين و أخافهم و روّعهم فأظهروا الإسلام رهبة قاموا بعد وفاة النبيّ بأخذ الثأر منه للشرك فأخذوا نحلة ابنته و عزلوا وصيّه عن خلافته المنصوص عليها و إمامته الموروثة و منعوا ثياب الإسلام و حمل شعار النبيّ على الرأس و دفنوا أصول الدين بنفاقهم، و غيّروا معالم الدين و بدّلوها.

في كتاب «الإنسي في قتل آل النبي» أورد المأموني أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن معاوية في سبعة مواطن وردّدها الإمام الحسن عليه السّلام عليه في بعض محاوراته معه كما رواها حسام الدين القاسم من علماء أهل السنّة.

الموطن الأوّل: يوم خرج من المدينة و يوم عسير، و يوم الأحد، و يوم الأحزاب، و يوم منع الهدي أن يبلغ محلّه، و يوم غطفان، و يوم العقبة إذ همّ بما لم ينل مع اثني عشر رجلا و لم ينكر معاوية ما قاله.

خرج عبيد اللّه بن عمر يوم صفّين يطلب المبارزة فخرج إليه الحسن، فقال:

يا بن رسول اللّه، خالف أباك نولّك هذا الأمر فأنت خير منه، فقال الحسن عليه السّلام: لا تكفر باللّه و رسوله فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال حيث مدحنا: «أبوهما خير منهما» و أمّا

ص: 323


1- الزخرف: 31.

معاوية و أبوه فلم يسلما لكنّهما استسلما، و أنّه خدعك عن دينك (1)، فضحك عبيد اللّه و عاد إلى معاوية و قال: خدعت الحسن فلم ينخدع، و هذا الكلام يدلّ على أنّ التقدّم على عليّ كفر.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يتقدّمك بعدي إلّا كافر.

قال مصنّف الكتاب: و العجب من مؤلّف الحاوية المأموني و غيره حيث يروون هذا الحديث و مع ذلك يرون شيوخهم الذين تقدّموا على عليّ مصيبين، مع أنّ الإطلاق ظاهر الحديث.

الفصل الحادي عشر

و لمّا هلك يزيد لعنه اللّه و ذهب إلى جهنّم سائت مستقرّا و مقاما، انتقل الأمر إلى ولده معاوية، و كان وليّ عهد يزيد و لكنّه أعلن البرائة منه فرقى المنبر و لعن يزيد أباه و معاوية جدّه، فقالت له أمّه: يا بنيّ، ليتك كنت حيضة في خرقة، فقال:

وددت ذلك، و حكم أربعين يوما ثمّ قضوا عليه بالسمّ و قتلوا معلّمه بدفنه حيّا.

ذكر يوما عند معاوية شجاعة عليّ و الأشتر، فقال معاوية: فما منّا واحد إلّا و هو واتر له، فإذا اجتمعتم عليه فعسى أن تدركوا ثأركم منه، و شفيتم صدوركم، فأنكر عليه الوليد بن عقبة و قال: تقدّم الشيخين عليه، كان انتقاما من اللّه و رسوله لواقعة بدر و حنين.

ص: 324


1- سبق و أنّ ذكرها المؤلّف للحسين عليه السّلام. كامل البهائي ج 2 325 الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية ..... ص : 325

الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية

الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية (1)

يقول المأموني السنّيّ في كتابه «الحاوية» بأسانيد صحيحة أنّ معاوية خطب يوم الجمعة فأفلتت منه ريح عاصفة، فبان الانكساف في وجوه الحاضرين و سببه أنّ صلف معاوية حمله على عمل هذا الفعل القبيح على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2) فقطع هذا الوكح الخطبة و قال: الحمد للّه الذي خلق أبداننا و أسكنها أرواحنا، و جعل فيها رياحا و جعل خروجها للنفس راحة، فربّما اختلجت في غير أوانها و انقلبت في غير وقتها فلا جناح على من جاء منه ذلك، و السلام.

فقام صعصعة بن صوحان العبدي و قال: صدقت يا معاوية، إنّ اللّه خلق أبداننا و أسكنها أرواحنا و جعل فيها رياحا و جعل خروجها للنفس راحة، و لكن جعل إرسالها في الكنيف راحة و على منبر رسول اللّه بدعة (و قباحة) ثمّ قال: يا أهل الشام، قوموا فقد خرأ (أحدث) أميركم فلا صلاة لكم (3) ثمّ خرج و توجّه إلى المدينة.

ص: 325


1- بيّنت للقارئ الكريم أنّي أذر العناوين التي وضعها المؤلّف على ما هي عليه بدون أدنى تغيير لوضعها بالعربيّة و أنا أترجم الكتاب من الفارسيّة إلى العربيّة فإلى أيّة لغة أترجم العربيّة هذا و إن خالفت القواعد أو اللياقة.
2- لا شكّ أنّ الرجل اقتدى بأستاده في الظلم و بغض أهل البيت و الغشم و الغصب و الضراط عمر بن الخطّاب لعنة اللّه فقد كان يفعلها على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
3- شجرة طوبى 1: 95، مواقف الشيعة 3: 257.

الفصل الثالث عشر جلي في اشتقاق اسمه

اشارة

الفصل الثالث عشر جلي (1) في اشتقاق اسمه

قيل: اختلف شيعيّ و سنيّ في عليّ و معاوية، فحكموا أعرابيّا، فقال الأعرابيّ:

أنا لا أعرف أيّا منها و لكن من حيث الاشتقاق فمعاوية مشتقّ من «عوى الكلب عواءا»، و معاوية يقال لأنثى الكلاب التي تعاوي غيرها، و اشتقاق عليّ من «علا يعلو علوّا فهو عال، و عليّ فها هنا كريم عال و ثمة كلب، و عمّته حمّالة الحطب و هي أمّ جميل بنت الحرب أخت أبي سفيان و زوجها أبو لهب، و الشجرة الملعونة في القرآن معاوية و سائر بني أميّة.

في بيان مذهب معاوية

اعلم بأنّ واضع عقيدة الجبر معاوية.

في المصابيح عن عبيدة بن الجرّاح عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال أمراء أمّتي قائمين بالقسط حتّى يكون أوّل من ثلمه رجل من بني أميّة.

و قال أبو عليّ: أوّل من وضع الجبر معاوية بن أبي سفيان. يقول:

وجدنا معاوية بن البغي أكذب قولا من الفاختة

لقد أحدث الجبر في دينناو أحيا به البدع المائتة

متى ما أتى ما يزور الحجيج أتيناه بالحجج الثابتة

ص: 326


1- هكذا هي مسطورة في العنوان و لم أرد حذفها و أحسبها مشتقّة من الجلاء و أضعها بيد القارئ ليحتال لفهمها.

و آذى النبيّ و سبّ الوصيّ و سمّ ابن فاطمة القانتة

لذلك يلعنه اللاعنون و أنكر لعنته الثابتة

الفصل الرابع عشر الجلي في وفات معاوية

في آخر مرض مرضه حيث انتقل إلى دار البوار و جهنّم القرار خطب هذه الخطبة: أيّها الناس، إنّ من زرع قد استحصد، و إنّي ولّيتكم يزيد و لن يليكم أحد بعدي ألا و هو شرّ منّي كما كان من قبلي خير منّي، و ذكر أوضاعه و أوصى بوصاياه و أخذ البيعة ليزيد الكافر من أهل العراق و الحجاز و الشام، و قال: و لن أقدر على ابن العاص في أخذ البيعة منه- قال هذا ليزيد- فإذا فرغت من جهازي فأخبره بأنّ أبي أمر أن تنزله حفرته فإذا وضعني في القبر فجرّد السيف عليه و خوّفه بالقتل حتّى يبايع (1).

و لمّا نزل عمرو بن العاص في حفرة معاوية ليودعه لحده سلّ يزيد سيفه و قال:

بايع و إلّا ضربت عنقك و أدفنك مع أبي في حفرة واحدة، و كما أوصى معاوية يزيد بهذه الطريقة حمله على البيعة، فركل عمرو معاوية برجله مرّة أو مرّتين و قال:

أقسم باللّه بأنّ هذا النغل لا يهتدي إلى هذه الطريقة لو لا ما علّمته «هذا أيضا مكرك عشت لعينا و متّ لعينا سعّر اللّه لك نار جهنّم».

ص: 327


1- كانت وفاة عمرو بن العاص قد سبقت هذا التاريخ بوقت طويل حيث توفّي بعد صفّين بسنتين و لهذا يظهر أنّ الحكاية موضوعة و كنت أسمعها تتردّد على الألسن و لا أعرف مصدرها حتّى عثرت عليها هنا.

و صعد يزيد المنبر بعد دفنه أباه و قال (1): إنّ أبي أوصاني أن أحذر من آل أبي تراب.

و قال معاوية ليزيد: يا يزيد، لا تقتل حسينا، لا لأنّ قتله خطيئة و لكن لتشنيع أهل العراق عليك و لكن احبسه حتّى يموت في الحبس و هذا دليل على أنّ معاوية مات على الكفر.

و دعا معاوية خطباء الشام و مؤذّنيها و قال لهم: العنوا عليّا بعد كلّ أذان و خطبة ليكون ذلك سنّة في الناس، و رفعه عمر بن عبد العزيز بعد أن كان سائدا، و قال عامّة الناس يومذاك غيّرت السنّة و بدّلت السنّة.

يقول صاحب كتاب الفردوس: أوّل من يختصم يوم القيامة بين يدي اللّه عليّ مع معاوية (2) كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (3).

الفصل الخامس عشر في سمّ معاوية الحسن عليه السّلام

و لمّا انتقل أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الرفيق الأعلى صعد الإمام الحسن عليه السّلام المنبر و قال: قبض البارحة رجل لم يفتر من ذكر اللّه طرفة عين، لم يسبقه السابقون و لم يلحق به اللاحقون، و كان و الرسول حيّ طوع أمره و نهيه، و استقام الإسلام بجهاده، و كان النبيّ إذا أرسله على رأس جيش يكون جبرئيل عن يمينه و ميكائيل

ص: 328


1- من المعلوم بأنّ يزيد لم يكن حاضرا في دمشق مهلك أبيه و تولّى جهازه الضحّاك بن قيس و صعد المنبر و أكفان معاوية على ذراعه و هنا ينبغي أن ينظر إلى روايات المؤلّف بحذر شديد.
2- طبقات المحدّثين باصفهان 2: 301: أوّل من يختصم من هذه الأمّة بين يدي اللّه عليّ و معاوية .. الخ.
3- الزمر: 31.

عن يساره، و نصر اللّه تعالى بين يديه، و لم ينهزم بحرب قطّ، و مات في ليلة فيها رفع عيسى بن مريم، و توفّي يوشع بن نون، و لم يترك بيضاء و لا صفراء إلّا سبعمائة درهم اقتطعها من عطائه و أمرني أن أشتري بها خادمة لأهله، ثمّ اختنق بعبرته فأبكى من حضر و قال:

أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، ابن الداعي بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، أنا من أهل بيت افترض اللّه حبّهم فقال عزّ من قائل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1) و الحسنة مودّتنا أهل البيت.

ثمّ قام عبد اللّه بن عبّاس و قال: أيّها الناس، هذا ابن رسول اللّه و وصيّ إمامكم فبايعوه، فبايعه الناس، و أقبل عليه الحاضرون و رضوا بقتال عدوّه معه، فاجتمع حوله خمسون ألف رجل.

و لمّا بلغ معاوية نبأ شهادة الإمام عليه السّلام شمت به و بشّر الناس بذلك، ثمّ أرسل رجلين لاغتيال الإمام الحسن، أحدهما: من قيس، و الآخر من حمير، فانكشف أمرهما فقبض عليهما و قتلا في الحال.

فأقبل معاوية يريد العراق فاستقبله الحسن عليه السّلام و قدّم أمامه عبيد اللّه بن العبّاس و قال عن طريق المعجزة: فإن جرى له أمر فأمير الناس قيس بن سعد. فأغوى معاوية عبيد اللّه بالمال فلمّا جنّ عليه الليل تحمّل إلى معاوية مع خاصّته، فكتب قيس إلى الإمام الحسن فورا يعلمه بواقع الحال، و كتب رؤساء الجيش و أمراء الولاية إلى معاوية كتابا: إن شئت أوثقنا الحسن كتافا و أرسلناه إليك، و إن شئت بعثنا إليك برأسه، فجمع معاوية الكتب و بعث بها إلى الحسن، و قال له: أبهذا

ص: 329


1- الشورى: 23.

الجيش تحاربني، و أقبل الإمام الحسن إلى ساباط و خطب الناس في اليوم الثاني من نزوله بها فقال:

أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله بالحقّ، و أمينه على الوحي، أمّا بعد، فو اللّه إنّي لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه و منّته، و أنا أنصلح خلق اللّه بخلقه و ما أصبحت متحمّلا على مسلم ضغينة و لا مريدا له بسوء و لا غائلة (ألا و إنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة) ألا و إنّي ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري و لا تردّوا عليّ رأيي، غفر اللّه لي و لكم و أرشدني و إيّاكم لما فيه المحبّة الرضا (1).

قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه و اللّه يريد الصلح مع معاوية و يسلّم الأمر إليه فشدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتّى أخذوا مصلّاه من تحته، و نزعوا مطرفه من عاتقه، فبقي جالسا متقلّدا السيف بلا رداء.

و ركب الحسن و قال: مروا ربيعة و همدان أن يسكّتوا هؤلاء الغوغاء و كانت هاتان القبيلتان من أوليائه، و لمّا بلغ ساباط و قد خيّم الظلام عمد رجل و يدعى جرّاح بن سنان لعنه اللّه و ضرب الإمام عليه السّلام بمغول بيده في فخذه حتّى بلغ العظم و رمى بنفسه عليه ليغتاله و أحدق به جماعة من المؤمنين فضربه عبد اللّه بن حنظلة بالسيف حتّى برد.

و حمل الإمام الحسن عليه السّلام بمحفّة إلى المدائن، و نزل في بيت سعيد بن مسعود الثقفيّ و تفاقم الوضع في معسكر الإمام الحسن عليه السّلام و تواتر الكتب من قادة عسكره على

ص: 330


1- مقاتل الطالبيّين: 41، الإرشاد 2: 11، مناقب ابن شهر آشوب 3: 195، بحار الأنوار 44: 47، شرح ابن أبي الحديد 16: 40، الأخبار الطوال: 216.

معاوية يوما بعد يوم ليأذن لهم بقتل الحسن عليه السّلام أو بأسره أو إرساله إليه، و طلبوا حلوله في العراق، و أقبل معاوية إلى العراق و كتب بينه و بين الإمام الحسن عهدا أن لا يسبّ عليّا و أصون مواليه، و لا أخيف شيعتكم شريطة أن تقبع في زاوية و كتب في هذه الوثيقة أن لا يعهد في الأمر إلى يزيد من بعده.

و خرج الإمام الحسن إلى المدينة و منع مروان من الخطبة، فذهب مروان إلى الشام و حرّض معاوية على قتل الحسن عليه السّلام، فقال له معاوية: اذهب و افعل ما تراه ممكنا، فأقبل مروان إلى المدينة و جائته ذات يوم و هو في بيته جارية عبيد اللّه بن عمر و كانت مشّاطة تتردّد على بيوت الأعيان لتزيين نسائهم، و كان محمّد بن الحنفيّة قد قتل سيّدها عبيد اللّه بن عمر في حرب صفّين و سألها عن حالها ثمّ قال:

إنّ عندي سرّا إن عاهدتيني على كتمانه أفضيت به إليك، فأقسمت له يمينا غموسا أنّها تكتم السرّ إذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن توعزي إلى جعدة بنت الأشعث أن تدسّ السمّ إلى الحسن، و هي زوجته و بإمكانه ان تفعل.

فذهبت تلكم اللعينة إلى جعيدة و طلبت منها ذلك و قالت لها: إنّ معاوية يريد أن ينكحك ابنه يزيد و يعطيك ملك العرب، فوافقتها على ذلك فأرسل مروان مملوكه إلى معاوية و أخبره برضا جعيدة بسمّ الحسن عليه السّلام، فدفع لها معاوية ألف دينار و كتب إلى مروان أن يتمّ القضيّة، فأرسلت جعدة تطلب السمّ، فأرسل مروان ولده عبد الملك إلى معاوية ليأتي بالسمّ، و جاء معه بهدايا كثيرة إلى جعدة مع خاتم يحمل شعار الملك.

و كان الإمام الحسن يستطيب العسل الأبيض، فلمّا جاء إلى البيت كانت اللعينة قد وضعت ذلك السمّ في العسل و قدّمته للإمام الحسن عليه السّلام و حضر عنده محمّد بن الحنفيّة فنهاه الإمام عن شرب العسل و قال: إنّه لا يلائم حرّ مكّة و أنت قادم منها و قد أثّر فيك حرّها، و حضر الحسين فأرسلت اللعينة عسلا آخر إضافة على

ص: 331

الأوّل بدون سمّ للحسين عليه السّلام، ثمّ شرب الإمام الحسن العسل المسموم و لمّا جنّ على الإمام الحسن الليل شعر بآلام السمّ، فقاء كثيرا فسقوه لبنا قد غلي و في اليوم الثاني آلمه السمّ فصنعوا له شرابا من العسل فوضعت جعدة في العسل سما آخر فلمّا شرب الإمام شراب العسل ازداد الألم في أحشائه فقام من مكانه إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمل من تراب قبر النبيّ ذرّة و أمر أن تذوّب في شرابه و يسقاها، فسكن الألم عنده أربعين يوما.

و جاؤوا للإمام الحسن بطعام من بيت الحسين، و قالت جعدة ذات يوم: أتحفونا برطب من حائطنا أتأذن أن أجيئك بشي ء منه، فقال الحسن عليه السّلام: افعلي، فأقبلت بالطبق و سمّت جانبا و تركت جانبا آخر، و وضعت الجانب المسموم قبالة الإمام الحسن، فاكل الإمام من الطبق رطيبات مسمومة فازداد ألم السمّ، فقالت جعدة:

كان الرطب في الطبق و هو مكشوف لعلّ أفعى أو عقربا سمّت الرطب، فأبهمت الأمر على الإمام الحسن عليه السّلام و غابت عن البيت أربعين يوما و كان طبيب نصرانيّ يعالجه، فقال ذات يوم: الهواء هنا لا يطاق و ينبغي عليّ أن أذهب إلى الموصل.

و كتب مروان إلى معاوية أنّ الحسن سمّ مرّات فما أثّر السمّ فيه فلا تغفل عنه، فاستدعى معاوية واحدا من أهل التصوّف أعمى، و أعطاه مالا عددا من الدنانير و أعطاه عصى فيها زجّ مسموم، فجاء الإمام الحسن و أظهر محبّته و كان لا يفارق الإمام عليه السّلام، و عزم يوما على زيارة الإمام الحسن كما هي عادة المتصوّفة حيث يقبّلون يد الشيخ، فتقدّم إلى الإمام بحجّة تقبيل يده فوقع الزجّ على قدمه و اتكأ عليه بكلّ قوّته، فأراد الناس قتل الصوفيّ و منعهم الحسن عليه السّلام فخرج من هناك و ركب إلى دمشق فأمر عبد اللّه بضرب عنقه في الطريق.

و كان رجل يدعى إسماعيل يخدم الإمام الحسن فأعطاه يوما بطّيخا قد أعدّه للأكل بسكّين مسموم و أطعم منه الإمام الحسن عليه السّلام و ان يقطع لنفسه بسكّين

ص: 332

أخرى غير مسمومة، فأحسّ الإمام بالمرارة و علم بذلك فأراد الناس البطش بإسماعيل فمنعهم الحسن عليه السّلام منه، و قال: إسماعيل خدمنا و ختمها بذهابه إلى النار.

و كان سعد مولى أمير المؤمنين في الشام، و لمّا عاد رأى في موضع من الطريق شخصا قتيلا و جملا نافقا، و أمام القتيل آثار البطّيخ مطروحا، فترجّل إلى الأرض و رأى في تلك الرسالة ما كتبه معاوية إلى إسماعيل و معها زجاجة السمّ التي أرسلها معها، و لمّا وصل سعد إلى المدينة رأى الإمام الحسن عليه السّلام عليلا فبكى و أعطى الكتاب إلى الإمام الحسن عليه السّلام فقرأه و خبأها تحت جنحه.

و لم توات الفرصة مسعودا الثقفيّ و لا المختار ليتحدّثوا مع الإمام الحسن عليه السّلام فأشاروا إلى عبد اللّه بن عبّاس فتعجّل عبد اللّه و أخذ الكتاب و دفعه إلى مسعود، فقال: نحن مع العدوّ ليلنا و نهارنا و لا نعلم بخبره، فرام المختار قتل إسماعيل فقال له الإمام الحسن عليه السّلام: كلّا فأنت رجل ثائر و قتله يهيج العامّة و لكن ليذهب عون و يحضر لنا إسماعيل، فذهب عون و أقبل بإسماعيل، فقال الحسن عليه السّلام: يا إسماعيل، من هم آل يس في هذه الأمّة؟ فقال: عليّ و فاطمة و أنت و أخوك الحسين، فأعطاه الحسن كتاب معاوية، فنهض المختار و ضرب عنق ذلك اللعين و نهب متاعه و قتل ولده، عند ذلك غادر الإمام الحسن ذلك المكان إلى الكوفة و زار قبر والده و عاد إلى المدينة.

و أعاد معاوية الكرّة فأرسل السمّ ثانيه إلى مروان مع مسحوق من ألماس، فبعث مروان به و بالسمّ إلى جعدة مع هدايا و عهود و مواثيق جديدة، فأصلحت جعدة من نفسها و أقبلت إلى الإمام الحسن عليه السّلام و قالت في نفسها: إن بصر بي أحد فأنا ذاهبة إلى زوجي، و إلّا فسوف أعمل ما أريد، و وضعت اللعينة سلّما و ارتقت إلى سطح الدار فرأت القوم نياما، و رأت الكوز الذي يشرب منه الحسن مغطّئا، فوضعت مسحوق ألماس في الكوز و مسحت يدها به و نزلت من أعلى الدار

ص: 333

و خبأت السلّم، و لمّا استيقظ الإمام وجد الكوز على حاله و كان محتاطا من غدر جعدة، و لمّا شرب جرعات من الماء عاوده الألم بأكثر ممّا كان، فصاح بأعلى صوته يريد حسينا عليه السّلام، فأوصاه بوصاياه و سلّمه سلاح رسول اللّه و أمير المؤمنين التي أودعاه عند الإمام، و حوّل إليه الإمامة و مقاليد الشريعة، و قال: أنا أعرف من هو الذي سمّني و لكن احذر أن تأخذ بريئا بدمي و أن تريق من أجلي محجمة دم، و خذني إلى قبر جدّي بعد تجهيزي، فإن منعوك أن تدفنني هناك عنده خذني إلى البقيع عند قبر خالي إبراهيم بن محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جدّتي فاطمة بنت أسد، و أراد الحسين عليه السّلام أن يشرب ماءا من ذلك الكوز فانتزع الحسن عليه السّلام من يده و ضرب بها الأرض فتكسّرت، و لمّا انفلق عمود الصبح ترك الوجود الفاني إلى الوجود الباقي، و فارق الدنيا إلى الرفيق الأعلى.

و لمّا فرغ الإمام الحسين عليه السّلام من تجهيزه و وضعه على السرير، عزم على حمله إلى روضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هنا أحضر مروان من جند الشام الموجودين في المدينة خمسين ألفا من الرجال و أرسلهم إلى عائشة حتّى ركبت البغلة و تقدّمت الجيش و جرت بينها و بين الحسين عليه السّلام و عبد اللّه بن عبّاس مناظرات حادّه، فقال لها عبد اللّه:

تجمّلت تبغّلت و لو عشت تفيّلت لك التسع من الثمن و في الكلّ تملّكت يوما على جمل تخرجين لحرب أبيه، و يوما تخرجين غلى بغل لحرب الولد، و ما نلتيه من اسم و شرف هو من عندنا كما قال اللّه تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (1)، فتناولت عائشة القوس من مروان، و رمت الجنازة بسهم، و قالت: لا تدخلوا بيتي عدوّي و ابن عدوّي و أبعدوه عنّي، و فعل الحسين عليه السّلام بوصيّة الحسن فحمله إلى البقيع و قال: لو لا وصيّة سبقت منه لدفنته مع جدّه و ليكن ما يكون، فلجأت تلك

ص: 334


1- الأحزاب: 33.

اللعينة جعيدة إلى بيت مروان و حملها إلى الشام، فسألها معاوية عمّا جرى و قال:

أما استحييت أيّتها اللعينة من اللّه و رسوله ممّا فعلت بسبط رسول اللّه؟! فأمر بأخذها خارج بيته و قتلها، فخسرت الدنيا و الآخرة لعنة اللّه عليها.

الفصل السادس عشر قتل معاوية عائشة

و لمّا وصل معاوية إلى مكّة لأخذ البيعة ليزيد و قد بايعه أهل العراق و أهل الحجاز، فهدّدته عائشة لقتله أخاها محمّدا بن أبي بكر و أرسلت له: إنّك قتلت أخي و تريد أن تأخذ البيعة لولدك يزيد، و خوّفه عمرو بن العاص قائلا: إن سلّطت عائشة عليك لسانها فستهيّج عليك العامّة فانظر لنفسك.

فبعث إليها بهدايا عدّة بيد أبي هريرة و شرحبيل على دفعات و وعدها بالمصالحة و تولية أخيها عبد الرحمان بن أبي بكر و نظير هذه الوعود و قال: نحبّ أن تزورنا أمّ المؤمنين في يوم من الأيّام بنفسها و عمد إلى بئر فاحتفرها و ملأها بالنورة و وضع عليها فراشا غالي الثمن و نصب عليه منبرا و دعاها وقت الصلاة و قال:

لأجعلنّ آلاف الدنانير نثارا لقدومك، فخرجت عائشة و معها غلام هنديّ على حمار مصريّ، فبالغ معاوية بإعزازها و إكرامها و أومأ إليها بالجلوس على الكرسيّ، و ما أن جلست عليه حتّى انهار بها داخل البئر و أمر معاوية فورا بقتل المملوك و الحمار و رموهما في تلك البئر و ساووه بالالرض.

اختلف الناس فيما بينهم فمن قائل أنّها ذهبت إلى المدينة، و من قائل بأنّها ذهبت شطر اليمن، و كان الحسين وحده يعلم واقع الحال و جماعة من أصحاب معاوية،

ص: 335

و أعطى الإمام الحسين ميراثها إلى ذويها (1).

الفصل السابع عشر في يزيد اللعين و قتله للحسين عليه السّلام و أصحابه

و لمّا هلك معاوية جلس يزيد في عزائه أيّاما سبعة و خطب في اليوم السابع و دعا الناس إلى تجديد البيعة و نزل من المنبر و خلع على الأمراء و شاور وزرائه و كتّابه في الحسين بن عليّ عليه السّلام و عبد اللّه بن الزبير و عبد اللّه بن عمر و عبد الرحمان بن أبي بكر، فقالوا له: أرسل إلى المدينة لكي يأخذوا البيعة منهم لك و إن يفعلوا فليرسلوا برؤوسهم إليك، فكتب يزيد كتابا إلى الوليد بن عتبة و كان عامله على المدينة، و حين بلغه الكتاب بعث مروان بن الحكم رجلين في طلب الحسين عليه السّلام فوجدوه و عبد اللّه بن الزبير في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال الحسين عليه السّلام: أظنّ طاغيتهم قد هلك و بعث ورائنا الوالي لأخذ البيعة ليزيد، و لمّا عاد عبد اللّه بن الزبير إلى البيت هرب مع أخيه ابراهيم تحت جنح الظلام إلى مكّة فخرج في طلبه في اليوم الثاني ثمانون رجلا فلم يعثروا له على عين و لا أثر.

و أقبل الحسين عليه السّلام إلى البيت و اصطحب معه إلى ديوان الوالي خمسين رجلا من أقربائه و معهم سلاحهم، و قال: كونوا على الباب فإذا جرى عليّ أمر و سمعتم صوتي قد علا فاهجموا عليه و خلّصوني من بين يديه. فدلف الحسين عليه السّلام إلى دار الأمير و سلّم، و كان مروان و ابن عتبة على السرير و إلى جانبهم قوم وقوف، و لمّا

ص: 336


1- لست أدري ما الحاجة إلى نقل هذه الغرائب التي تسي ء إلى المذهب و أهله، و كيف التصديق برواية ليس لها سند و لا هي معزوّة إلى مصدر حتّى بالوجادة، و المؤلّف فاضل و رائد للتشيّع و لكن له ولع خاصّ بمثل هذه الروايات المستغربة.

أخذ مكانه من المجلس رمى إليه الأمير كتاب يزيد فقرأه و قال: أمهلوني هذه الليلة لآخذ للأمر أهبته و غدا يكون الجواب، و نهض الحسين عليه السّلام من فوق السرير.

و قال مروان للوليد و ألحّ عليه أن لا يترك الحسين يفلت من يديه، و قال: لا تدعه يخرج و إلّا تعرّضت لعتاب يزيد، و إنّك لا تقدر على مثلها منه بعد اليوم حتّى تسيل الدماء بينك و بينه. و أقبل يلحوا الأمير و ينحي عليه باللائمة و يأمره بالقبض على الحسين عليه السّلام، فأمسك الحسين عليه السّلام كرسيّا من الحديد كان مسندا إلى الجدار و رمى به مروان فهرب مروان إلى داره و وقع الكرسيّ في الحائط و تخلع الكرسي.

و كانت الواقعة في اليوم السابع و العشرين من شهر رجب، و لمّا عاد الإمام إلى البيت أعدّ مائتين و خمسين بعيرا للسفر و حمل عليها الأهل و الأقارب من بني هاشم من الرجال و النساء ما عدا محمّدا بن الحنفيّة بقي في المدينة، و قال لقيس بن سعد بن عبادة: تعقبني و معك من الرجال مائتان لئلّا يخرج أحد في طلبنا، فإن خرج أطبقنا عليه نحن الاثنين أنا و أنت و نقضي عليهم جميعا (1).

و قال له أصحابه و أهل بيته: لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير و أخوه إبراهيم، فقال الحسين عليه السّلام: أعوذ باللّه من أن أذلّ، لا أمشي إلّا بالجادّة العظمى، خلق المرء للموت. و انطلق من المدينة و وصل إلى مكّة سلخ شعبان (2)، و لمّا وقعت عينه على بيوت مكّة قال: وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ (3) الآية، و لمّا دخل مكّة نزل في

ص: 337


1- أقول: كيف يكون الطلب بينهما و هو إن خرج وراء الحسين فإنّما يخرج بعد لحوق قيس له اللهمّ إلّا أن يتربّص به قيس الخروج ثمّ يتعقّبه.
2- و هذا لا يصحّ لأنّه إن خرج صبيحة لقائه مع الوليد فهو اليوم السابع و العشرون من رجب و المسافة لا تقتضي هذه المدّة و إنّما وصل إلى مكّة في الخامس من شعبان و هذا هو المؤكّد من الرواة.
3- القصص: 22.

بطحائها، و ثقل قدومه على ابن الزبير لأنّ أهل مكّة من بدو و حضر تركوا ابن الزبير و أقبلوا عليه يسألونه عن الحلال و الحرام و مناسك الحجّ، و كان عبد اللّه بن الزبير يزوره بين الحين و الحين.

الفصل الثامن عشر الجلي في أهل الكوفة و دعوتهم للحسين عليه السّلام

اجتمع في بيوت القاضي شريح سبعون رئيسا فتعاهدوا بينهم و أقسموا بالأيمان المغلّظة أن يمدّوا الحسين عليه السّلام بالمال و النفس و النفيس، و كتبوا إليه: ليس علينا إمام و ليس لنا جمعة و لا جماعة، و كانت الكتب تردّه أسبوعا بأسبوع يدعونه إليهم و يوفدون إليه الرسل على التوالي و التواتر حتّى وصل إليه في أيّام معدودة مائة كتاب، و لمّا تمّت الحجّة للإمام عليه السّلام و وعدته الرعيّة بالنصرة و إظهار الحقّ و الدعوة و إقامة قواعد الدين، و كان الإمام الحسين عليه السّلام في مكّة و المدينة يعيش في أجواء التقيّة و اضطرّه إليها ظروف الخوف المحيطة بجنابه عليه السّلام.

و دعا مسلما بن عقيل عليه السّلام و كتب معه كتابا إلى أهل الكوفة و أوفده إليهم و كان رجلا أمينا جلدا ثقة، و فيها: بعثت إليكم مسلما الأمين الثقة من أهل بيتي، ابن عمّي، ليطلعني على أمركم و اجتماع ملأكم و يكتب إليّ بذلك، و أنا على أثره إن شاء اللّه.

فاستأذن مسلم عليه السّلام و خرج من طريق المدينة و زار قبر النبيّ و قبر الحسن صلّى اللّه عليهما و آلهما، و قال: عسى أن لا أعود بعد سفري هذا، و أحيا ليال ثلاثا بالعبادة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ ودّع عياله و أخذ دليلا يدلّه على الطريق،

ص: 338

و تجنّب الطريق العام، فعطشوا في الطريق و مات الدليلان و نجى بحشاشة نفسه إلى أن وصل إلى موضع يقال له: المضيق من بطن الخبت، و كتب من هناك كتابا إلى الحسين و أرسله مع قيس بن فهر و أعلمه بحاله و ما جرى عليه و قال: إنّي تخوّفت من وجهي هذا و استعفى الحسين عليه السّلام، و جائه الجواب: لا سبيل إلى ترك ذلك فهذه كتب أهل الكوفة لا تكاد تفارقنا و هي حجّة الرعيّة علينا، و قد تمّت.

فسار مسلم إلى الكوفة و نزل بدار المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ، فاجتمع حوله الرؤساء و الأمراء و قاموا بإعزازه و إكرامه، و حملوا كتاب الحسين عليه السّلام على رؤوسهم و بلغ النعمان بن بشير مجي ء مسلم و هو في قصر الإمارة عامل على الكوفة من قبل يزيد، و بايع مسلم من أهل الكوفة ثاني يوم من نزوله فيها ثمانية عشر ألفا على أنّهم ينصرون الحسين و يحمونه من العدوّ، و إن أراد قتالا قاتلوا معه.

و أقبل النعمان بن بشير من قصره و صعد المنبر و شرع بتهديد القوم، و قال: إنّ جيش الشام على الأعتاب و هو حمل ثقيل عليكم، و يزيد هو وليّ المسلمين اليوم فأخشى أن ينالكم بأذى، فقال له عبد اللّه بن الحضرميّ: الملك عقيم فاقبض على مسلم واقتله، و كان النعمان حسن السيرة فأبى عليه ذلك، و كتب إلى يزيد كتابا يعلمه فيه بحال مسلم، فلمّا قرأ كتابه أسرع إلى نصب عبيد اللّه بن زياد مكانه، و كان هذا اللعين حاكما على البصرة، فولّاه يزيد على العراق كلّه، فاستخلف عبيد اللّه أخاه عثمان على البصرة و سار إلى الكوفة و معه عسكر مجر، و لمّا وصل الكوفة وصلها ملثّما على عادة العرب في أسفارها، فظنّه الناس الحسين بن عليّ عليه السّلام فرحّبوا به و ما مرّ على ملأ إلّا خفّوا في وجهه قائلين: مرحبا بك يا بن رسول اللّه، و كان اللعين يردّ عليهم بإشارة السوط، فقال بعضهم: ليست هذه أخلاق الحسين.

فلمّا وصلوا إلى باب القصر حسر عن لثامه و قال: كم تقولون: ابن رسول اللّه، أنا عبيد اللّه بن زياد، أمرني يزيد على مصركم هذا و دخل قصر الإمارة و معه

ص: 339

رؤساء الولايات و قال: سأفعل بكم ما تريدون فعله فيّ، فبايعه الجميع من شدّة خوفهم ثمّ خطبهم و قال في خطبته: إنّ يزيد ولّاني على العراق و أمرني بالإحسان إلى المطيع و قطع رأس العاصي و أن أبعثه إليه، و نادى مناديه: من كان في بيته من طلبة يزيد أحد فليوجّه به إلينا و إلّا أحرقنا داره و قتلناه على بابها و نهبنا ماله.

فانتقل مسلم من بيت المختار إلى بيت هاني بن عروة و هو و إن كان على خوف شديد من عبيد اللّه و لكن حسن الرأي حمله على استضافة مسلم عليه السّلام، و دعا عبيد اللّه مملوكا له اسمه معقل و أرسله للتجسّس عليهم و معرفة أخبار مسلم من شيعته، و لمّا علم بمسلم في بيت هاني أخبر بذلك عبيد اللّه فاستدعى هاني و هدّده بإنزال العقاب الشديد به، فخرجت مذحج وراء هاني و هي قبيلته تثير الشغب و لكن القاضي شريح لعنه اللّه استطاع أن يخمد هذه الفتنة.

و خرج مسلم من دار هاني و قد دار به أربعة آلاف رجل، و لمّا بلغ باب المسجد تناقص عددهم فلم يبق معه إلّا خمسمائة رجل و هرب الباقون، و قصد بهم مسلم باب قصر الإمارة و لم يكن معه إلّا شرذمة قليلون، فخاف عبيد اللّه و أقبل الكوفيّون يدخلون القصر من درب الرومي، و صعد لعينان منهم على السطح فنادى مناديهما: أيّها الناس، احذروا الأمير يزيد فإنّ جيش الشام على الأبواب، فكان الناس يأتون إخوانهم و أقربائهم و يأخذونهم من الجمع إلى بيوتهم، و كان مسلم رجلا شجاعا فلم يثن ذلك من عزمه و بقي يقاتل حتّى غابت الشمس و اجتمع حوله الهمج الرعاع من السكك و الحارات ثلاثون ألفا، و لمّا ذهب إلى المسجد و وقف للصلاة هربوا بأجمعهم إلّا ثلاثة، فلمّا هوى إلى سجدة الشكر رفع رأسه فلم يجد هؤلاء الثلاثة فبقي وحيدا فريدا. فخرج من المسجد يتلدد في الطرقات إلى أن وصل إلى باب امرأة مؤمنة من شيعة أهل البيت تدعى «طوعة» فطلب مسلم منها ماءا، فلمّا شرب و عادت بالقدح رجعت و إذا مسلم ما يزال على

ص: 340

الباب واقفا، فقالت: يا رجل، سقيتك ماءا فاذهب راشدا من هنا، فإنّ وقوفك على بابي في هذا الليل يدعو إلى الريبة، و نصحته ثلاث مرّات كلّما دخلت و خرجت، و كان مسلم ساكتا لا يحير جوابا، إلى أن قال لها: أنا غريب في هذا البلد، فهل لك في أجر و ثواب تبيتينني عندك هذه الليلة، فقالت طوعة: من أنت؟

فأخبرها بأمره، فأدخلته طوعة دارها و مهّدت له فراشا و آتته طعاما، فاعتذر عن الأكل، و طلب ماءا للوضوء و قال: هذه الليلة آخر عمري، و أحيا الليل كلّه.

و كان لطوعة ولد اسمه بلال من أصحاب عبيد اللّه بن زياد، فمضى هزيع من الليل حتّى رجع إلى البيت، فلامته طوعة على تأخّره في العودة، و قال: إنّ الأمير وعد بجوائز سنيّه لمن وجد مسلما و كنت جادّا في طلبه، و كانت طوعة تكثر من التردّد على مسلم، فاتّهمها بلال في وضعها المريب، فألحّ عليها لتخبره، فامتنعت أوّلا، و ما زال يلحّ عليها حتّى أخذت عليه العهود الموثّقة و المواثيق المغلّظة أن يكتم سرّها، ثمّ قالت له: أبشّرك بأنّ اللّه تعالى ساق لنا الخير كلّه، فهذا مسلم بن عقيل في بيتنا، و قد قسم اللّه لنا الشرف كلّه، فخبأناه في دارنا و سوف نسعد غدا يوم القيامة بشفاعة المصطفى و المرتضى و فاطمة الزهراء، و ننجو من عذاب النار.

فلمّا أصبح اللعين خرج مبادرا إلى عبيد اللّه بن زياد فأمّر محمّدا بن الأشعث على سبعين رجلا و قال له: اذهب و أتني بمسلم، فقصد ابن الأشعث دار المرأة طوعة، فلمّا سمعت صهيل الخيل و كان مسلم يعبد اللّه و يدعوه فعجّل في دعائه و أفرغ عليه لامة حربه و قال لها: لقد نلت شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- يا طوعة- بإحسانك هذا، و لقد سنح لي عمّي أمير المؤمنين هذه الليلة و قال: إنّك قادم علينا غدا.

و بلغ الجيش باب الدار، فخاف مسلم أن يحرقوه عليهم، فأسرع مبادرا للخروج من الدار، و قتل من الأوباش اثنين و أربعين رجلا و هرب الباقون، و كان يمدّهم عبيد اللّه بن زياد ساعة بعد ساعة بالخيل و الرجال، و صاح بهم عبيد اللّه بن

ص: 341

زياد: أما تستحون! تفرّون من واحد و أنتم جماعة! فقال له محمّد بن الأشعث:

لعلّك جهلت سواعد بني هاشم .. و وردت على مسلم جراحات كثيرة، فعجز عن الحرب و لم يسعفه أحد من الناس، فأعطاه ابن الأشعث الأمان و أخذه إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، و قال اللعين: ما بعثتك لتأمنه بل لتأتيني به، و لمّا أوقفوه بين يديه أعرض عن السلام عليه، فقال عبيد اللّه لبكر بن حمران الأحمري: اصعد به إلى أعلى القصر و اضرب عنقه، و كان مسلم يحمد اللّه و يثني عليه و يصلّي على النبيّ و آله و يتشهّد الشهادتين حتّى استشهد.

و قتل عبيد اللّه هاني ابن عروة في نفس اليوم الذي قتل فيه مسلما، و قتل الرجلين اللذين كانا مع مسلم، و أرسل الرؤوس إلى الشام، و أمر بملأ أفواه السكك بالرجال، و منع الدخول و الخروج لئلّا يصل الخبر إلى الحسين عليه السّلام.

ص: 342

الباب الثامن و العشرون في خروج الحسين عليه السّلام من مكّة

اشارة

و أرسل يزيد لعنه اللّه إلى رؤساء الحجاز من يأمرهم بطلب الحسين عليه السّلام و أرسل إلى حكّام مكّة للقبض عليه، فكان الحسين عليه السّلام خائفا، فلمّا أقبل ذو الحجّة أحرم بالحجّ فلمّا شعر بالطلب أبدل حجّه إلى عمرة مفردة و حلّ من إحرامه و عزم على الفراق، و كان الفرزدق الشاعر من موالي عليّ عليه السّلام و كان حاجّا بأمّه في ذلك العام، فلمّا وصل إلى مكّة ذهب إلى حضرة الحسين عليه السّلام و سأله عن بعض المسائل الأخرى التي تعمّ بها البلوى، و قال: يا بن رسول اللّه، ما أعجلك عن الحجّ؟ قال: لو لم أعجّل لأخذت. فقال الفرزدق: فسألني: من أين أنت؟ قلت: رجل من العرب، قال: أخبرني عن الناس خلفك، قال الفرزدق: من الخبير سألت، أصدقك، قال:

الصدق أريد، فقال الفرزدق: أمّا القلوب فمعك و أمّا السيوف فمع بني أميّة، فقال الحسين عليه السّلام: ما أراك إلّا صادقا، إنّ الناس عبيد المال و إنّ الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت لهم معائشهم فإذا محّصوا للابتلاء قلّ الديّانون (1). فودّعه

ص: 343


1- الأنوار البهيّة للشيخ عبّاس القمّي: 102، لواعج الأشجان للسيّد محسن الأمين: 102، الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 548، حياة الإمام الحسين عليه السّلام للقرشي: 225، صحيفة الحسين: 278 و 342.

الفرزدق و سار بأهله.

و تحوّل الإمام الحسين عليه السّلام من منزله، و لمّا بلغ «ذات رمل» أرسل عبد اللّه بن يقطر و قيل قيس بن مسهّر الصيداوي إلى أهل الكوفة ليخبرهم بقدومه عليهم، و لمّا بلغ القادسيّة كان الحصين بن نمير و معه الجيش هناك يحرس الطريق، فقبض عليه و أرسله إلى الكوفة إلى عبيد اللّه بن زياد، فقتله عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، و لم يعلم به الحسين عليه السّلام حتّى بلغ زبالة و نزل فيها و كان في تلك الليل يجيل الفكر مهموما و يقول:

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسةفقدر ثواب اللّه أعلى و أجزل

و إن تكن الأموال للترك جمعهافما بال متروك به المرء يبخل

و إن تكن الأرزاق قسما مقدّرافقلّة حرص المرء في الكسب أجمل

و إن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ في اللّه بالسيف أفضل

عليكم سلام اللّه يا آل أحمدفإنّي أراني عنكم سوف أرحل و أخذ ينتقل من منزل إلى منزل، إلى أن كبّر أحد أصحاب الحسين عليه السّلام فكبّروا معه و كبّر الحسين عليه السّلام، و قالوا للأوّل: ما الذي عرض لك حتّى كبّرت؟ فقال:

رأيت نخل الكوفة، و كان مع الإمام رجلان من بني أسد، فقال: ما تزال الكوفة بعيدة لا تبصر معالمها و ليس ها هنا نخل، فقال الإمام عليه السّلام: دقّقوا النظر باحتياط تامّ، ففعلوا، و قال قائلهم: إنّنا نشاهد أسنّه الرماح، و طلب الإمام الحسين الماء من الأسديّين فأرشداه إليه و سار نحوه و نزل عليه.

و إذا بالحرّ بن يزيد الرياحيّ و معه ألف فارس، و كان وقت الصلاة قد دنا،

ص: 344

فصلّى الإمام صلاتي الظهر و العصر بالفريقين ثمّ وعظهم و قال: أنتم دعوتموني فإذا بدى لكم فإنّي أعود من حيث أتيت، قال الحرّ: بل أرسلت لقتالك، و أرسلني الحصين بن نمير و أمرني أن لا أفارقك حتّى أضعك بيد ابن زياد، فقال الحسين عليه السّلام بطريق المعجز: الموت أقرب إليك من ذلك.

و كلّما سار الإمام الحسين قطع الحرّ عليه دربه، و كتب الحرّ من هناك كتابا إلى عبيد اللّه بن زياد بأنّ الحسين عنده و أنّه يقول: إن أباني أهل الكوفة فإنّي عائد إلى قبر جدّي في المدينة، فكتب إليه الجواب: لا تفارق الحسين و جعجع به و أنزله في أرض عراء في غير ظلّ و ماء، فلمّا وصله الكتاب ناوله الحسين عليه السّلام، فقال عليه السّلام:

دعني أنزل في هذه القرى القريبة من الماء لأنّ معي عيالا و أطفالا و هم لا يستطيعون تحمّل مسّ الظماء، فقال: إنّ أمر الأمير معك و قد قرأته، فعاد الحسين عليه السّلام و نزل بكربلاء و نزل الحرّ بأزائه.

فلمّا أصبح الصباح كان يوم الخميس الثاني من المحرّم، و وصل رسول عبيد اللّه ابن زياد إلى الحرّ و قال: شدّد قبضتك على الحسين حتّى يخرج و حين يصلك كتابي فلا تنزله إلّا في أرض جرداء ليس فيها نبات و شجرة في غير ماء و لا كلاء، و إنّي أمرت رسولي أن لا يفارقك حتّى تعود إليّ و قد نفذت أمري، و السلام.

الفصل الأوّل في نزول الحسين عليه السّلام بكربلاء

و لمّا نزل كربلاء أتاه عمر بن سعد بأربعة آلاف مقاتل و نزل نينوى، و كان ذلك في سنة إحدى و ستّين للهجرة، و جمع الرؤساء حوله و أمرهم بمناشدة الحسين عليه السّلام عن سبب مجيئه، فلم يرض منهم أحد فعل ذلك، و قالوا: نحن ممّن كاتبه و رضي

ص: 345

بآخره كثير بن عبد اللّه الشعبيّ و كان من فتّاكي العرب و كان من ألدّ أعداء أهل البيت و قال: إن شئت جئتك برأسه، و لمّا وصل إلى مضارب الإمام عليه السّلام استقبله أبو ثمامة و قال: أعطني سيفك و ادخل على الإمام، فقال: لا و لا كرامة، إنّما أنا رسول، فقال: أقبض على سيفك و تتكلّم أنت؟ فقال: لا و لا هذه، فعاد اللعين من حيث أتى، فأرسل عمر قرّة بن قيس الحنظليّ إلى الإمام الحسين عليه السّلام، فقال:

كاتبني أهل مصركم هذا فإن كرهني رجعت إلى موطني.

فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد ما دار بينه و بين الحسين عليه السّلام، فأرسل إليه بجواب:

و الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص و كتب إليه: خذ البيعة من الحسين و أصحابه ليزيد، و أرسله إليّ سلما لأرى فيه رأيي، و إلّا فابعث إليّ برأسه و رؤوس أصحابه، و صعد عبيد اللّه بن زياد المسجد الجامع و أمر بالنداء لحرب الحسين، بأن يخرج الرجال بأسلحتهم و من وجد بعد النداء في المدينة قتل، فخرج من الناس سبعون ألفا و نزلوا وادي كربلاء ما بين فارس و راجل، و استعرض عمر بن سعد قوّاته في كربلاء و كان مصرّا على العجلة لينال ما وعد به من ولاية الري و قزوين و الديلم جزاءا على قتل الحسين، و لكنّه قبل أن يشاهد هذا الحلم ذهب إلى نار جهنّم.

و أمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيري بالنزول على شاطئ المسنّاة و معه خمسمائة فارس و يمنعون الحسين و أصحابه من شرب الماء، فطلب الحسين عليه السّلام في تلك الليلة الاجتماع مع ابن سعد و نصبت لهما خيمة ما بين العسكرين، و حضر فيها، فقال له الحسين: ارفع الحصار عنّي لأعود إلى مدينة جدّي أو أذهب إلى مدينة من

ص: 346

مدن الإسلام أو أذهب إلى يزيد (1).

و لمّا كتب ابن سعد بهذا الأمر إلى عبيد اللّه أجابه أنّ يزيد بن معاوية أقسم أن لا ينام على الوثير و لا يشبع من خبر الفطير و لا يضع تحت رأسه و سادة حتّى يؤتى برأس الحسين، و كان شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه حاضرا، فقال: يا أمير، وقع الصيد في الفخّ فلا تتركه يفلت، و كتب عبيد اللّه كتابا: إنّي سرّحت الشمر و معه عدّة آلاف فإن اخترت قتل الحسين فقد أحسنت و فعلت الصواب و إلّا فخلّ بين الشمر و بين العسكر و أعطه عهد الري، و لمّا قرأ عمر بن سعد كتاب ابن زياد أمر بضرب الطبول و حمل على معسكر الحسين بسبعين ألفا، و كان الحسين عليه السّلام متّكئا على قائم سيفه و قد أخذته سنة، فرأى النبيّ في المنام و هو يقول له: أنت غدا عندنا بعد أن تستشهد.

و رمى ابن سعد عسكر الحسين بسهم و قال: أيّها الناس، اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل من رمى الحسين بسهم. فأرسل الحسين إلى ابن سعد: أمهلنا سواد هذه الليلة حتّى نعبد اللّه فإنّها آخر ليلة من ليالينا، و كانت الحادثة هذه يوم التاسع من المحرّم، فأبى عليه عمر بن سعد، فقال عمر بن الحجّاج بن سلمة بن يغوث الزبيديّ: سبحان اللّه! لو كانوا من الكفّار من الروم أو الخزر ثمّ استمهلونا

ص: 347


1- و هذه طامّة كبرى من المؤلّف لأنّه يكتب من غير تحقيق، و لو دقّق بالمسألة قليلاص لعلم أنّ بيعة الحسين ليزيد و هو في كربلاء أهون عليه من ذهابه إليه فكيف يطلبه و لو كان هذا شعاره لأراح و استراح و هو في مكّة و هل نهضة الحسين إلّا بسبب ولاية يزيد، و كيف يصفه للوليد بشارب الخمور و فاعل الفجور ثمّ يلجأ إليه؟ و ما أدراه أن لا يفعل به ما فعل أبوه بالحسن من السمّ القتال و هل يؤمن يزيد على أرنب أو قطاة أو دجاجة ليأتمنه الحسين على نفسه و حرمه، قبّح؛ اللّه ابن سعد أراد ان يستريح من الحرب فافترى هذه الفرية على الحسين، و لقد قال عقبة بن سمعان صاحبت الحسين فيم حلّه و ترحاله حتّى استشهد، و اللّه ما سمعته قال: أذهب إلى يزيد.

لأمهلناهم فكيف و هم ذرّيّة رسول اللّه و أنتم تدّعون الإسلام! فأذن ابن سعد بالمهلة، و دخل الحسين عليه السّلام خيمته و أحاط به أصحاب الشبب و الشبّان، فقال عليه السّلام: هذا الليل قد غشيكم فليأخذ كلّ واحد منكم بيد زوجه و أولاده و تفرّقوا في البلاد فإنّي طلبة القوم، فأجابوه بأجمعهم: ما جوابنا إلى اللّه و رسوله و إلى عليّ المرتضى و فاطمة و الحسين عليهم السّلام غدا يوم القيامة، فلم نضرب معك بسيف و لم نرم بسهم و لم نطعن برمح، لا و اللّه لا يصل إليك سوء و فينا عين تطرف، فأنت إمامنا و ابن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله. فدعا لهم الحسين و جزّاهم خيرا، و قال: هذه آخر ليلة من حياتكم فقضّوها بحمد اللّه و الثناء عليه حتّى يصبح الصباح.

قال زين العابدين عليه السّلام: كنت يومئذ مريضا، فجاء أبي إلى خيمتي و بعد أن صلّى صلاة المغرب و العشاء دعا مولى لأبي ذر و كان عارفا بصقل السلاح، و قال له:

اصلح لنا سلاحنا، و كانت عمّتي حاضرة لديه و قد تناهبتها الأفكار و الهواجس، و سمعت أبي ينشد:

يا دهر أفّ لك من خليل كم لك بالإشراق و الأصيل

من صاحب و طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل

و إنّما الأمر إلى الجليل و كلّ حيّ سالك سبيلي فعلمت أنّ البلاء قد نزل، فخنقتني العبرة و صبرت، أمّا عمّتي فلم تصبر و من شأن النساء الرقّة و الجزع، فأقبلت على أخيها الحسين (1) و هي باكية و نادت:

اليوم ماتت أمّي فاطمة الزهراء و أبي عليّ و أخي الحسن، يا خليفة الماضي و ثمال

ص: 348


1- قال المؤلّف كلمة تحرّجت من ترجمتها في المتن و لكنّي أشير إليها في الحاشية ليعرف القارئ عوارها، قال: «سر برهنه كرد» أي حسرت عن رأسها، و هل يعقل هذا ببنت عليّ و فاطمة أن تفعله سامح اللّه المؤلّف، إنّي وجدته حاطب ليل.

الباقي، ليتني و سدّت أطباق الثرى، و أخذت تندبه بهذا و نحوه، فقال الحسين عليه السّلام:

يا أختاه، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، و ترقرقت عيناه بالدموع و قال: يا أختاه، لو ترك القطا لنام، و أغمي عليها فنضح أبي على وجهها الماء حتّى عادت إلى وعيها، و قال: أخيّه، أخيّه اتّقي اللّه و تعزّي بعزاء اللّه، إنّ أهل الأرض و السماء لا يبقون، و إن كلّ شي ء هالك إلّا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته و إليه يعود و هو واحد، أبي خير منّي و أمّي خير منّي، فهما ماتا، و ما زال بها حتّى هدأ روعها، و خرجت من خيمته و أمر أن تقرب المضارب بعضها من بعض لئلّا يهاجمهم العدوّ ليلا، ثمّ أمرهم بالاستغفار و قرائه القرآن لأنّها ليلة آخر العمر.

الفصل الثاني في صفة الحرب

و كان عسكر الحسين عليه السّلام ثلاثين فارسا و أربعين راجلا، فجعل زهير بن القين على الميمنة، و حبيب بن مظاهر على الميسرة، و أعطى رايته أخاه العبّاس و قال:

نحن فئة قليلة و ليس بمقدورنا الحرب من جهتين فأمر بحفر خندق وراء المضارب و ملأه بالحطب، فلمّا أصبح الصباح أوقد فيه النار ليحول بينهم و بين العدوّ، و كان اليوم يوم جمعة العاشر من شهر محرّم الحرام سنة إحدى و ستّين من الهجرة.

و لم يبق في الكوفة أحد أو نواحيها إلّا سرّحه ابن زياد طوعا أو كرها لحرب الحسين في كربلاء، و سلّحهم بالسهام و السيوف و العصي و الحجارة و غيرها ليفرغوا من الحرب بأقصى سرعة ممكنة، و كان ورود الجيش إلى كربلاء ساعة بعد ساعة، و منعوا الحسين و أصحابه من الماء ثلاثة أيّام.

و عبّأ عمر بن سعد عسكره فجعل عمرو بن الحجّاج الزبيدي على الميمنة،

ص: 349

و شمر بن ذي الجوشن على الميسرة، و على الخيّالة عزرة بن قيس، و على الرجّالة شبث بن ربعي، و وقفوا جميعهم مقابل اثنين و سبعين رجلا، و قال الحسين عليه السّلام لإتمام الحجّة عليهم بعد أن وقف بين الصفّين: يا قوم، إنّ الموت حقّ و إنّي لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، اسمعوا منّي كلمات للّه فيها رضا و لكم فيها صلاح، فأوقف جيش الكوفة قرع الطبوع و الكوسات و أنصتوا له:

أيّها الناس، اسمعوا قولي و لا تعجلوني حتّى أعظكم بما لكم عليّ من حقّ و حتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم (و أظهر الحجّة عليكم) فإن قبلتم عذري و صدّقتم قولي و أعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم عليّ سبيل، و إن لم تقبلوا منّي العذر و لم تعطوا النّصف من أنفسكم أجمعوا أمركم و شركائكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ و لا تنظرون، إنّ وليّي اللّه الذي نزّل الكتاب و هو يتولّى الصالحين.

ثمّ قال: أمّا بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي و انتهاك حرمتي (و نهب مالي و سبي عيالي)، فمن عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول اللّه و ابن وصيّه و ابن إمامكم و ابن عمّ رسول اللّه نبيّكم، أبي عليّ أوّل المؤمنين باللّه و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه، أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر الطيّار الذي يطير بجناحيه مع الملائكة عمّي؟ و أمّي بنت رسول اللّه فاطمة الزهراء؟ ألم يقل رسول اللّه بحقّي و حقّ أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة و قرطا العرش و ريحانة قلبي؟ فإن صدّقتماني بما أقول و هو الحقّ (و اللّه ما تعمّدت الكذب مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله و يضربه من اختلقه) و إن كذّبتموني فإنّ فيكمم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبا سعيد الخدري أو سهل بن سعد الساعدي أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك و أمثالهم يخبروكم أنّهم

ص: 350

سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لي و لأخي، مرارا و تكرارا، و سمعوا الآيات التي نزلت في حقّي و حقّ أخي و أبي، و هم يعلمون ذلك، فاسألوهم فإنّهم يشهدون بذلك.

فجعلوا لا يردّون عليه جوابا، ثمّ قال: يا أهل الكوفة، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ و قتل أهل بيتي؟ أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته! أو مال لكم استهلكته؟ أو فساد في الأرض فعلته فتطلبوني به؟ فلم تصدر منّي خطيئة و لا ذنب أو جرم يوجب قتلي، أليست الآية: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (1) نزلت في شأني و شأن أخي؟ و آية المباهلة: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (2) نزلت في حقّي و حقّ أخي و أبي و أمّي؟ أليست محبّتي واجبة عليكم بمقتضى قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3) فإن جههلتم هذا، أو تجهلون أنّه ليس فيما بين جابلقا و جابلسا ابن بنت نبيّ غيري؟

ثمّ نادى: يا شبث بن ربعي و يا حجّار بن أبجر و يا قيس بن الأشعث و يا يزيد بن الحارث- و عدّ خمسين واحدا من رؤوسهم و قال- ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار و أخضرّ الجناب و إنّما تقدم على جند لك مجنّدة لك، و وعدتموني بالوعود الصالحة و أعجلتموني و كنتم ترسلون إليّ بالرسل يوما بعد آخر، و جئت على أثر كتبكم و حططت رحالي في بلدكم فأقبلتم تقاتلوني من غير جريمة فعلتها ترضية للطاغي الباغي فإن كنتم على ما فعلتم نادمين فدعوني أرجع إلى مأمني و أعود إلى قبر جدّي صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 351


1- الرحمن: 22.
2- آل عمران: 61.
3- الشورى: 23.

الفصل الثالث في توبة الحرّ بن يزيد الرياحي رحمة اللّه عليه

فلمّا رأى الحرّ أنّهم مقاتلوه، فقال في نفسه: أرى نفسي بين الجنّة و النار و إنّي أختار الجنّه على النار، ثمّ أقبل على ابن سعد و قال: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فقال: اي و اللّه حربا أيسرها أن تطيح فيها الرؤوس و الأيدي فتكون الرؤوس في الميدان بمنزلة الكرة الطائرة و السواعد البائنة من الأجساد بمنزلة الطير الفارّ من عشّه.

فقال الحرّ: يابن سعد، و ما قولك فيما قاله لكم؟! قال: لو كان الأمر إليّ ما فعلته و لكنّ أميرك أبى.

ثمّ أقبل الحرّ على الفرات و سقى فرسه توجّه تلقاء الحسين عليه السّلام و نزل من على فرسه و طأطأ إلى الأرض و تاب و قال: هل لي من توبة؟ فقال الحسين: نعم و أنت حرّ في الدنيا و الآخرة، و لا أدخل الجنّة بدونك.

الفصل الرابع الجلي في مبدأ القتال إلى آخره

و لمّا نشبت الحرب تبارز الناس من عسكر الحسين و عسكر الملاعين، فرأى أنّ ذلك يؤدّي إلى فنائهم و قتل رجل من أصحاب الحسين مأة رجل من أصحاب عمر بن سعد، فقالوا: لو بقينا على المبارزة فإنّه الفناء الأكيد، و لا يبقى منّا أحد، و نرى من الأصلح أن نهاجمهم بأجمعنا، فحمل عمرو بن الحجّاج بجيش الكوفة على ميمنة أصحاب الحسين عليه السّلام فشرعوا له الرماح، فأقبلت الخيل لتقدم فرأت

ص: 352

الرماح مشرعة فعادت منهزمة، فرموهم أصحاب الحسين بالسهام فقتلوا منهم جماعة و جرحوا آخرين من اللعناء. فصاح عمرو بن الحجّاج: أيّها الحمقى، إنّكم تقاتلون فرسان المصر، فارموهم بالسهام و الحجارة، فاستصوب رأيه ابن سعد، فاستشهد الحرّ بن يزيد و مسلم بن عوسجة من أصحاب الحسين عليه السّلام.

و حمل شمر بن ذي الجوشن من جهة الميسرة فاقتتلوا قتالا شديدا مع أصحاب الحسين عليه السّلام حتّى أصاب عسكر الكوفه الهلع من ذلك، و كان عسكر الحسين عليه السّلام اثنين و ثلاثين فارسا و أربعين راجلا، و ان المشاة من أصحاب الحسين عليه السّلام أينما هجموا هزموا أهل الكوفة و تتهاوى الرجال على الرجال، و صاح عزرة بن قيس:

لقد قتل فرساني على يد هؤلاء النفر القليل، فأقبل الرماة نحوه فرموا خيل أصحاب الحسين فجرحوا منها أفراسا و من الفرسان جماعة، و نشب قتال شديد و حمل شمر بن ذي الجوشن على ميمنة الحسين، فحمل عليه زهير بن القين و معه عشرة من المقاتلين حتّى صدّوه، و كان القتل يبين بأصحاب الحسين لقلّتهم، و لو قتل واحد منهم، و لا يبين في أهل الكوفة لكثرتهم و لو قتل منهم ألف.

و استمرّ القتال حتّى زالت الشمس فصلّى الإمام بأصحابه صلاة الخوف الشديد، و بعد الصلاة استشهد أصحاب الحسين و لم يبق معه إلّا أهل بيته؛ أخوه و بنو عمومته. فبرز عليّ بن الحسين و كان الرجل و الرجلان يخرج منهم لقتال الأعداء فينكئ فيهم يقتل رجالا و ينكّس فرسانا، و كان الحسين عليه السّلام يحمل الشهداء و الجرحى منهم إلى المخيّم و بعد أن استشهد جميع أهل بيته و إخوانه و أبناء عمّه و أبناء إخوانه لم تبق إلّا مهجة الحسين الشريفة فاستقبل العدوّ بها إلى أن استنفدت قواه فرماه لعين منهم بسهم فوقع في جبهته، فتقدّم العبّاس إلى الحسين و أخرج السهم من جبهته و حمل عليهم العدوّ فاقتطعه عن أخيه، و استشهد على الفرات و قبره اليوم هناك.

ص: 353

و عاد الحسين عليه السّلام إلى خيمة النساء فضربه اللعين مالك الكنديّ بالسيف على رأسه فكان يقاتل جيش الكفر قتالا ضاريا و ليس معه إلّا ثلاثة رجال من أهل بيته، فيا للعجب من قتال ثلاثة رجال سبعين ألفا من الأوباش، و دخل الحسين خيمته و ضمّد جراحه و عاد إلى القتال و معه ثلاثة مقاتلين إلى أن استشهدوا بين يديه و بقي الإمام وحيدا فريدا كأنّه الأسد الغضبان، فوقع فيهم قتلا و أرسلهم إلى جهنّم.

و رواة الواقعة ثلاثة هم: حميد بن مسلم الكنديّ من جيش اللعناء، و زينب أخت الحسين عليهما السّلام، و عليّ زين العابدين عليه السّلام، و كان حميد بن مسلم من الأخيار و لكنّه أخرج لحرب الحسين قسرا (1) و حضر واقعة الطفّ من أوّلها إلى آخرها.

قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: رأيت الحسين يحمل على العدوّ تارة على الميمنة و أخرى على الميسرة فينكشفون بين يديه و قد بلغوا عشرة آلاف، و أحيانا عشرين ألفا، و ما كان باستطاعتهم الثبات له في مراكزهم، فلمّا رأوا ما حلّ بهم نادى مناديهم: يا أسود العرب، أيّها الأبطال، إنّه رجل واحد جريح يفعل بكم هذا الفعل و تنهزمون أمامه، ألا تستحون، احملوا عليه بأجمعكم بالنبل و الحجارة، فهجموا عليه هجمة رجل واحد.

قال حميد لعنه اللّه: وصلت إلى جسد الحسين ثلاثمائة و ستّون رمية بسهم، و ضربة بسيف، و طعنة برمح، فكانت دمائها الطاهرة تسيل فلم يبق في جسمه الشريف دم فضعف ضعفا شديدا و أغمي عليه، فاتّكأ ساعة على رمحه، فدار

ص: 354


1- أحسب المؤلّف خدعه هذا الكلب بما يرويه من المآسي و ما يظهره من الجزع على أهل البيت و لذا سمّى خروجه لحربهم إكراها، و أنا لا أعرف للإكراه معنّى و هو باستطاعته أن يلحق بالحسين كما فعل الحرّ عليه السّلام أو يهرب على أقلّ تقدير، و لكن هذه من غرائب المؤلّف و لا زلت تطّلع على الغرائب و العجائب منه و لا تنتهي حتّي ينتهي الكتاب.

العسكر به، فضربه زرعة بن شريك لعنه اللّه على يده اليمنى، و طعنه سنان بن أنس لعنه اللّه بالرمح فوقع لجنبه عليه السّلام، فنزل خولّى بن يزيد لعنه اللّه ليذبحه فارتجفت يده، فنزل الشمر لعنه اللّه و ذبحه من الوريد إلى الوريد، و دفعه إلى خولّى لعنه اللّه، و قال:

احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: ما رأيت كالحسين في شجاعته لأنّه قتل أهله و أقربائه و أصحابه فلم يوهي قواه و لا نقصت شجاعته، و أظهر من القوّة و الرجولة ما لم يستطع معها ألف رجل أن يسلبه و سلاحه، و لمّا سلبوه اقتسموا درعه و درقته و غيرهما، و هجم الجيش على مخيّم النساء (1) و نهبوا كلّ ما وقعت عليه أيديهم و وصل عمر بن سعد لعنه اللّه إلى باب الخيمة فصاح النساء في وجهه، فأوكل بهم الفرسان و الرجّالة و قال: ردّوا عليهنّ ما أخذتموه منهنّ، فما سمع كلامه و لم يردّ عليهنّ أحد ممّا أخذ شيئا.

و لمّا وصل الجيش إلى زين العابدين عليه السّلام أرادوا قتله. قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: فمنعتهم من ذلك، و قال عمر بن سعد: ينبغي أن يقوم أحد هؤلاء بأمر النساء و لا تقتلوا ذلك الصبيّ ليكون بينا و بين النساء، فاجتمعن النساء في خيمة الإمام زين العابدين، و نهبوا كلّ ما لهم من المتاع، و ركب إسحاق بن حويه (حيات) و أخنس بن مرثد و معه عشرة من الفرسان و داسوا صدر الحسين و رضّوا عظامه ..

ص: 355


1- لا و اللّه ما وقعت عيني و لا سمعت أذني بأحطّ نفسا و لا أردأ همّة و لا أنذل طباعا من هؤلاء الذين أجلّ الكلاب عنهم فلا أسمّيهم كلابا احتراما للكلاب، لقد ارتكبوا شنائع ما من داع لارتكابها إلّا داع واحد هو خسّة نفوسهم، أترى لو أنّهم لم يهجموا على الخيام و لم يسلبوا النساء أكان أميرهم يلومهم على ذلك بعد أن فعلوا ما أراده منهم و أقرّوا عينيه لعنه اللّه و لعنهم بقتلهم سيّد شباب الجنّة و سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!

الفصل الخامس الجلي في أحوال رؤوسهم

قطع الشمر لعنه اللّه الرأس الشريف من القفا و أعطاه خولّى بن يزيد، و لمّا رآه عمر بن سعد خاف و امتقع لونه و وضع من كان حاضرا يديه على وجهه إلّا جماعة منهم قالوا: و ما الفائدة لقد نفذ القضاء.

و لمّا أصبح الصباح أعطى الرأس إلى خولّى و حميد و أرسلهما إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه في الكوفة، و أعطى باقي الرؤوس من الأصحاب و أهل البيت عليهم السّلام و كان عددها اثنتين و سبعين رأسا إلى شمر بن ذي الجوشن و قيس بن الأشعث و عمرو بن الحجّاج لعنهم اللّه، و بقي عمر بن سعد في كربلاء اليوم كلّه و اليوم الثاني إلى الزوال، و أوكل بالإمام زين العابدين و جماعة النساء من رجاله من يوثق بهم، و كان عدد النساء عشرين امرأه، و كان عمر الإمام يومئذ اثنتين و عشرين سنة، و عمر الإمام محمّد الباقر أربع سنين، و كلاهما كان حاضرا حادثة الطفّ، و حفظ اللّه الإمامين قبل ظهور إمامتهما، فلمّا ظهرت بعد الشهادة وجب حفظهما على الأمّة.

و لمّا غادر ابن سعد كربلاء نهض جماعة من بني أسد كانوا نزولا هناك و أقبلوا إلى كربلاء، و لمّا شاهدوا الحسين و أصحابه على تلك الحالة عمدوا إلى دفن الأجساد فدفنوا الإمام الحسين وحده و وضعوا عليّا الأكبر عند رجليه، و دفنوا العبّاس عليه السّلام على شاطئ الفرات و دفنوا بقيّة الشهداء في قبر واحد، و دفن الحرّ ذووه في الموضع الذي وقع فيه، و لا تعرف قبور الشهداء على التعيين لمن و لمن لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ الحائر محيط بهم تحت قبر الحسين عليه السّلام إلّا أنّ عليّا الأصغر أقرب منهم إلى الحسين عليه السّلام، و كان بنو أسد يفتخرون على قبائل العرب بأنّهم صلّوا على الحسين و دفنوه.

ص: 356

و قيل: لمّا فتح النبيّ خيبر هرب جماعة من اليهود إلى العراق و أقاموا بالقرب من أرض كربلاء و بنوا لهم منازل هناك و كان رئيسهم يدعى «إبراهيم» و «روئيل»، و كان عند مرور الجند من كربلاء إلى الكوفة ينامون على سطوح منازلهم، فوقعت عيونهم على كربلاء فرأوا النور يتصاعد من جسد الإمام و الشهداء إلى عنان السماء، فاجتمعوا في اليوم الثاني و قالوا: إنّ لهؤلاء الشهداء لشأنا عظيما عند اللّه، ألا ترون النور كيف ينزل عليهم طوال الليل، هلمّوا لدفنهم، فذهبوا إلى كربلاء و دفنوهم.

و في اليوم الثاني من شهادة الإمام عليه السّلام وصلت الرؤوس إلى الكوفة و جلس ابن زياد في قصر الإمارة و أذن للناس إذنا عامّا و وضع الرأس الشريف بين يديه، و لمّا وقعت عينيه على الرأس استبشر وضحك، فأخرج قضيبا كان معه و راح يضرب ثناياه، و كان زيد بن أرقم في المجلس (1) و هو من كبار مشايخ الصحابة (2) فقال:

ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فو اللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه ما لا أحصيه يترشّفهما، فقال اللعين: أبكى اللّه عينيك، أتبكي لفتح اللّه و رسوله، لولا أنّك شيخ خرقت و ذهب عقلك لضربت عنقك، فقام زيد و ذهب إلى منزله، عند ذلك أمر عدوّ اللّه بإدخال أهل البيت و العيال عليه، فدخلت زينب أخت الحسين من فاطمة عليها السّلام و جلست في زاوية من زوايا القصر و دار بها أخواتها و جواريها، فقال عدوّ اللّه لعنه اللّه: من هذه التي انحازت ناحية و معها نسائها؟

ص: 357


1- أسألكم معاشر العقلاء: ما الذي يصنع هذا الصحابي في مجلس الطاغية الوغد الدعي و هو على علم بما يجري في كربلاء من صراع دام بين الحسين و بينه، أليس لتأييده و ليجعل من وجود هذا الكائن عنده ذريعة للفتك بأهل البيت، فما يجدي قوله: ارفع قضيبك إلى آخره، اللهمّ العن كلّ من آذى أهل بيت نبيّك بالقول أو الفعل أو أعان عليهم.
2- تعسا لهؤلاء الصحابة كبارا و صغارا.

و أعاد القول مرّات، فقالت إحدى الجواري: هذه زينب أخت الحسين من فاطمة عليها السّلام، فقال عبيد اللّه لعنه اللّه: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم، فقالت زينب عليها السّلام: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و طهّرنا من الرجس تطهيرا، و إنّما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا.

ثمّ قال اللعين: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟! فقالت زينب عليها السّلام: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فيحاجّون و يختصمون عنده (فانظر لمن الفلج، ثكلتك أمّك يابن مرجانة).

فغضب، و كان عمرو بن حريث حاضرا، فقال: إنّها امرأة و المرأة لا تؤخذ بشي ء من منطقها، فقال ابن زياد لعنه اللّه: قد شفى اللّه نفسي من طاغيتك و العصاة من أهل بيتك، فاستعبرت عليها السّلام و قالت: لعمري لقد قتلت كهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أهلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

(فقال ابن زياد لعنه اللّه: إنّها لسجّاعة، و لقد كان أبوها شاعرا) فقالت عليها السّلام: ما للمرأة و السجاعة، إنّ لي عن السجاعة لشغلا، و لكن صدري نفث بما قلت (1).

و أقبلوا بعليّ بن الحسين إلى ابن زياد، فقال: من أنت؟ قال: عليّ بن الحسين، قال: أليس قد قتل اللّه عليّا بن الحسين؟ فقال: كان لي أخ يسمّى عليّ قتله الناس، فقال اللعين: بل قتله اللّه، فقال الإمام: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (2)، فقال اللعين: بك جرأة لجوابي و فيك بقيّة للردّ عليّ، اذهبوا فاضربوا عنقه، فتعلّقت به زينب و قالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا، و قالت: و اللّه لا أفارقه فإن قتلته

ص: 358


1- ترجم المؤلّف السجاعة قوله: «اين زن و اين همه دليرى) فالظاهر أنّه هو الذي صحّفها إلى شجاعة و ليس الناسخ.
2- الزمر: 42.

فاقتلني معه، و بقي ابن زياد ساعة يحدق في المشهد ثمّ قال: عجبا للرحم، و اللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لما به.

و أمر في اليوم الثاني أن يحمل رأس الحسين عليه السّلام على رأس رمح و يطاف به في شوارع الكوفة و أزقّتها، فاجتمع من الناس لمشاهدة الرأس ما يزيد على المأة ألف.

روي عن زيد بن أرقم أنّه قال: رأيت رأس الحسين على سنان الرمح و كنت في سارة لي جالسا، فرأيت الرأس مقبلين به من بعيد، و لمّا دنى منّي رأيت شفتيه يتحرّكان و سمعته يقرأ هذه الآية: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (1) فقفّ شعري فصحت: و رأسك يا بن رسول اللّه أعجب.

ثمّ إنّ عبد اللّه بن زياد لعنهما اللّه أعطى الرأس إلى زجر بن قيس و معه رؤوس الشهداء من الأصحاب و أهل البيت و قال: احملها إلى يزيد بن معاوية، ثمّ سيّر الإمام زين العابدين و أهل البيت إلى الشام و جعل عليهم شمرا بن ذي الجوشن و مخفر بن ثعلبة و وضع الغلّ في عنق الإمام زين العابدين و غلّوا يديه إلى عنقه فكان الإمام لا يفتئ في الطريق يتلو كتاب اللّه و يحمد اللّه و يثني عليه و يستغفره و لم يكلّم واحدا من الأعداء قطّ إلّا أهل بيته.

و قيل: إنّ يزيد لمّا وقعت عينه على أولئك اللعناء قال: قد كنت أقنع و أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما أنّي لو كنت صاحبه لعفوت عنه.

و حملوا أهل البيت و الإمام السجّاد على رواحل منهم لأنّ القوم انتهبوا ثقلهم فلم يتركوا عندهم شيئا، و لمّا وصلوا إلى يزيد رفع مخفر صوته مناديا: هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فقال الإمام عليه السّلام: ما ولدت أمّ مخفر أشرّ و ألأم، و كان اللعناء يخشون من قبائل العرب أن تهيج عليهم و الرأس معهم

ص: 359


1- الكهف: 9.

فيستلبونه منهم، فلم يسلكوا الطريق الأعظم و إنّما تنكّبوا الطراق حذار من ذلك، فوصلوا إلى قبيلة و طلبوا منهم علفا لدوابّهم و قالوا: معنا رؤوس الخوارج نحملها إلى الأمير، و هكذا ساروا بهذه الحجّة حتّى بلغوا بعلبك، فأمر القاسم بن الربيع عامل البلد بتزيينه و حملوا الرأس إلى البلد مع آلاف الدفوف و الطبول و المزامير و الشبابات، و لمّا علموا بأنّ الرأس رأس الحسين خرج ما يقرب من نصف البلد و أحرقوا الأعلام و معالم الزينة و الفرح، و قامت الفتنة أيّاما على ساق في البلد، و هرب الذين معهم الرأس من البلد سرّا.

و وصلوا إلى أوّل بلد من بلاد الشام و كان الوالي عليه الملعون نصر بن عتبة، فأظهر الفرح و الاستبشار و زيّن البلد و قضى الليل كلّه بالرقص و الغناء، فخرجت سحابة سوداء أرعدت و أبرقت و أحرقت معالم الزينة كلّها، فقال عمر بن سعد و شمر لعنهما اللّه: هؤلاء قوم أهل نحس و شؤم فخرجوا منهم إلى ميّافارقين فاختصم كبار البلد بينهم كلّ واحد يريد دخول الرأس من بابه لأنّه عاقد الزينة فرحا به، فوقع بينهم قتال، و قتل الآلاف من الطرفين، فبقي كلاب الكوفة هناك عشرة أيّام، و من هناك انتقلوا إلى نصيبين.

قال منصور بن الياس: رفعوا أكثر من ألف علم استقبالا لرأس الحسين، و كان رأس الحسين معه فأراد أن يدخل البلد فتقهقر حصانه فأقبلوا بعدّة أفراس له فلم تتقدّم، فبينما هم كذلك إذ وقع رأس الحسين من أعلى الرمح و كان إبراهيم الموصليّ في القوم (1) فاحتاط للرأس لأنّه عرفه رأس الحسين فلام الناس و قتله الشاميّون فأخرجوا الرأس خارج حدود البلد و راحوا ينثرون المال على الناس بحيث يعسر

ص: 360


1- لست أدري عن إبراهيم الموصليّ هذا شيئا، فإن كان هو المغنّي أيّام الهادي و المهدي و الرشيد فإنّها طامّة كبرى أن يروي المؤلّف رواية تخالف العقل و النقل.

شرح ذلك فارتفع في اليوم الثالث تراب و غبار حتّى اسودّت الآفاق فساء بهم ظنّ الناس و قالوا: إن بقيتم هاهنا قتلناكم فخرجوا منهم إلى مدينة «شبديز» فتعاهد الناس فيما بينهم أن لا يعطوهم مؤنة لهم و لا لدوابّهم، و إن اضطرّتهم الحال إلى القتال قاتلوهم.

و لمّا علم الكوفيّون بواقع الحال هربوا ليلا فتعقّبهم أهل البلد يلعنونهم و يسبّونهم حتّى بلغوا حافّة الفرات فساروا على الشاطئ و قطعوا قرية قرية حتّى دنوا من دمشق أربعة فراسخ فكان الناس يقدمون لهم النثار و الهدايا و ظلّوا على باب المدينة ثلاثة أيّام حتّى يزيّنوا البلد، فزيّنوه بكلّ ما عندهم من حلي و رياش و زينة إلى درجة لم يشابهها بهذه الزينة قبل اليوم، و خرج ما يقرب من خمسمائة ألف ما بين رجل و امرأة و الدفوف بأيديهم و أخرج أمراء القوم الطبول و الكوسات و الأبواق و الدفوف و راحوا بالآلاف يرقّصون نساءا و رجالا على أصوات الدفوف و الطبول و الربابات و كان النساء قد اختضبن و اكتحلن و لبسوا الحلي و الحلل، و ذلك يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأوّل (1).

و لمّا أشرقت الشمس أدخلوا الرؤوس إلى البلد و لم يصلوا إلى بيت يزيد إلّا وقت الزوال لكثرة الناس، و كان يزيد لعنه اللّه قد اعتلى عرشه و هو «تخت مرصع» و زين القصر و المجلس بأنواع الزينات و وضع كراسيّ الذهب و الفضّه عن اليمين و عن الشمال، و خرج الحجّاب و أدخلوا اللعناء الذين رافقوا الرؤوس فسألهم يزيد لعنه اللّه فقالوا: أنقذنا دولة الأمير من تدمير آل أبي تراب، و قصّوا عليه تمام

ص: 361


1- و الآن لنا أن نسأل المؤلّف إن كانوا في هذا الوقت ما يزالون في الطريق فمتى رجعوا إلى كربلاء و حضروا أربعين الحسين في العشرين من صفر لست أدري و ليت المؤلّف أشار إلى اختلاف هذا القول مع أقوال المؤرّخين.

الحكاية، و وضعوا بين يديه رؤوس أولاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و ما كان بمقدور أحد من الناس أن يسلّم على أهل البيت هذه المدّة التي هي عبارة عن ستّ و ستّين يوما و هم بأيدي الكافرين، إلى أن انبرى للإمام زين العابدين شيخ و قال له: الحمد للّه الذي قتلكم، فقال له الإمام زين العابدين: هل قرأت القرآن يا شيخ؟ فقال: نعم قرأته. قال: قرأت قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1) قال: نحن القربى، وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (2) نحن القربى، ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (3) نزلت فينا، فاستحيا الشيخ و سكت و قال: اللهمّ إنّي أبرأ إليك من أعداء آل محمّد و من قتل أهل بيت محمّد. قال: ما زلت أقرأ القرآن إلى اليوم و لا أفهمه.

و أقبل الحجّاب ليأخذوا الرؤوس و قد وضعوا رأس الحسين عليه السّلام في طشت من الذهب، فوضعوه بين يدي يزيد و عرضوا باقي الرؤوس رأسا رأسا و هو يسأل:

رأس من هذا؟ فيخبره الملاعين عنه و يعرّفونه به، و كان جماعة من المؤمنين في الحضور يبكون سرّا، فعرف يزيد اللعين الأمر، فقال:

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون الموت على النوائح و غطّى الطشت الذي فيه الرأس و كان بيد يزيد الكافر لعنه اللّه قضيب فرفع الغطاء عن الطشت و أخذ يضرب ثنايا الحسين و يردّد أبياتا تدلّ على كفره:

ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل

لو رآه فاستهلّوا فرحاثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

ص: 362


1- الشورى: 23.
2- الإسراء: 26.
3- الأحزاب: 33.

قد قتلنا اليوم من أشياخهم فعدلناه ببدر فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل ثمّ أنشد من بعده:

نفلّق هاما من رجال أعزّةعلينا و هم كانوا أعقّ و أظلما

حسين أراد الملك و الملك دونه أسنّة أقوام تلجّ له دما ...

و لمّا رأيت الودّ ليس بنافع و إن كان يوما ذا كواكب مظلما (1)

صبرنا و كان الصبر منّا سجيّةبأسيافنا يفرين هاما و معصما (2) و كان أخو مروان بن الحكم يحيى بن الحكم من المؤمنين قال:

لهام بجنب الطفّ أدنى قرابةمن ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

أميّة أمست نسلها عدد الحصى و بنت رسول اللّه ليست بذي نسل فضربه يزيد اللعين بيده على صدره و قال: اسكت. قيل: خرج يحيى من هناك و لم يره أحد بعد ذلك (3).

ثمّ حوّل وجهه إلى الإمام زين العابدين و قال له: يا بن الحسين، أبوك قطع رحمي و جهل حقّي و نازعني سلطاني، فصنع اللّه تعالى ما رأيت، فأجابه الإمام عليه السّلام: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (4).

ص: 363


1- البيت ليس له وزن و لا ألفاظ و لا معنى و صعب عليّ إصلاحه في المصادر التي أملكها و أنقله في الهامش و أترك الحكم للقارئ: كذلك يصلى بحرّ نار غشمشم يعيش بداء أو يكاد صنيعما
2- كلّ المقاتل و كتب التاريخ ذكرت البيت الأوّل فقط.
3- بل رآه كثيرون و حكايته مع الحسن المثنّى في وفادته على عبد الملك بن مروان و ما قال له و ما أجابه به يحيى بن الحكم مشهورة.
4- الحديد: 22.

و التفت يزيد إلى خالد ولده و قال: أردد عليه و كان الكافر غاية في الجهل، و أمر يزيد بعرض العائلة عليه، فلمّا رأى ما عليهنّ من الثياب الممزّقة المهلهلة تألّم (كذا) و قال: قبّح اللّه ابن مرجانة لو كانت بينكم و بينه قرابة و رحم ما فعل هذا.

قالت فاطمة بنت الحسين: و كان إلى جانب يزيد شاميّ أحمر، فأقبل على يزيد و قال: هب لي هذه الجارية، و كان يقصدني. قالت فاطمة: فخفت و تعلّقت بعمّتي زينب، فقالت: لا تخافي فليس له ذلك و لا لأميره فنحن أهل بيت قد رفع اللّه عنّا ذلك و من يستطيع أن يسترقّ أهل البيت فاطمأنّي جأشا.

ثمّ قالت زينب عليها السّلام: كذبت و اللّه يا شاميّ و لؤمت، ما ذاك لك و لا له، فغضب يزيد و قال: (بلى لو شئت لفعلت. قالت: إلّا أن تخرج من ديننا و تدين بغير ملّتنا) فغضب يزيد و قال: إيّاي تستقبلين جهرا بهذا، إنّما خرج من الدين أبوك و أخوك.

فقالت زينب عليه السّلام: بدين اللّه و دين أبي و أخي اهتديت أنت و جدّك و أبوك إن كنت مسلما. فقال يزيد لعنه اللّه: كذبت يا عدوّة اللّه، فقالت زينب: أنت أمير تشتم ظالما و تقهر بسلطانك، فكأنّه استحيا و سكت، و عاد الشاميّ يقول: هبني هذه الجارية، فحذفه بمحفّة كانت بيده و قال: أغرب (وهب اللّه لك حتفا قاضيا).

و كان في ذلك اليوم سفير ملك الروم المسمّى بعبد الشمس حاضرا، فقال: يا أمير، لي ستّون عاما أمتهن التجارة من القسطنطينيّة فجئت إلى المدينة و معي عشرة أبراد يمنيّه و عشر سرر مسكيّة و حملة ثقيلة من العنبر، و قدمت بها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان في بيت أمّ سلمة، فاستأذن لي أنس بن مالك فدخلت على النبيّ و قدّمت له الهدايا فقبلها منّي، و أسلمت، فسماّني عبد الوهّاب، و لكن كتمت إسلامي خوفا من ملك الروم و كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل الحسنان فقبّلهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أجلسهما في حجره و اليوم يحملون لك رأس الحسين و قد أبنته عن جسده و تضرب ثناياه بقضيبك و هي مقبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و في ديارنا بحر فيه جزيرة في

ص: 364

تلك الجزيرة صومعة و في تلك الصومعة أثر حافر الحمار الذي يقال بأن عيسى ركبه ذات يوم، و نحن صغناه من الذهب و وضعناه في صندوق فكان سلاطين الروم و أمرائها و عامّة الناس يحجّون في كلّ عام إلى ذلك الموضع و يطوفون حول تلك الصومعة و يكسون تلك الحوافر حريرا جديدا و يعمدون إلى الكسوة القديمة يتقاسمونها قطعة قطعة، و يعدّونها من أفضل التحف، و أنتم تقتلون أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟!

فقال يزيد: لقد نغّص علينا عيشنا ثمّ أمر بضرب عنق عبد الوهّاب، فنطق عبد الوهّاب بالشهادتين و أقرّ بنبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إمامة الحسين عليه السّلام و لعن يزيد و آبائه و أجداده ثمّ قتلوه.

و جاء زهير العراقيّ و قال: يا أمير، هبني هذه الجارية- و أشار إلى أمّ كلثوم- و مدّ يده على ملفعة السيّدة، فقالت أمّ كلثوم بالعربيّة: قطعت يدك أبعد عنّا، فتعجّب زهير من كلامها العربيّ و سأل: من أيّ القبيل هم؟! و كان يظنّ أنّهم من أسرى الروم، فقال الإمام زين العابدين: هذه بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا ابن ابن ابنته، و هؤلاء الحرم بنات فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فخرج زهير من بينهم و قطع يده اليمنى و عاد يمسك يده القطيعة باليد الأخرى و هي تقطر دما، و قال: يا بنة رسول للّه، اعف عنّي فقد استجاب اللّه دعاك و اعتذر إليهم و خرج من هناك و لم يقع بعدها أحد على عين منه أو أثر.

قال سهل بن سعد الساعديّ: حججت في ذلك العام و زرت بيت المقدس في الشام فلمّا دخلت دمشق رأيت بلدا كثير الفرح و المرح، و رأيت جماعة في المسجد يبكون في الخفاء و يعزّي بعضهم البعض، فسألتهم: من أنتم؟! قالوا: نحن من موالي أهل البيت و اليوم يؤتى برأس الحسين إلى البلد.

قال سهل: فذهبت خارج البلد فرأيت من كثر الناس و صهيل الخيل و صوت

ص: 365

الأبواق و الطبول و الكوسات و الدفوف كأنّ القيامة قد قامت، فلمّا وصلت السواد الأعظم رأيتهم قد أقبلوا بالرؤوس على أسنّة الرماح فرأيت رأس العبّاس يتقدّم الرؤوس و ورائه ركب الحرم، و رأيت رأس الحسين و عليه البهاء و العظمة و يشرق النور منه بلحية مدوّرة قد خالطها الشيب و قد خضّبت بالوسمة، أدعج العينين، أزجّ الحاجبين، واضح اللحيين، أقنى الأنف، مبتسما إلى السماء، شاخصا ببصره نحو الأفق، و الريح تلعب بلحيته يميناص و شمالا كأنّه عليّ عليه السّلام.

قال عمر بن المنذر الهمدانيّ: و رأيت أمّ كلثوم تخالها فاطمة الزهراء و عليها إزار خلق و على وجهها نقاب، فدنوت منهم و حيّيت الإمام زين العابدين و حيّيتهم، فقالوا لي: أيّها المؤمن، إن قدرت على شي ء تدفعه إلى حامل الرأس ليقدّمه فافعل فقد خزينا من شدّة النظر إلينا، فأعطيت ذلك اللعين مأة درهم ليقدّم رأس الحسين عليه السّلام و يبعّده عن العائلة.

و ساروا هكذا حتّى وصلوا إلى يزيد لعنه اللّه و كان يهوديّ حاضرا هناك، فقال:

رأس من هذا؟ فقال: رأس رجل من العراق عربيّ خرج عليّ، فأمرت عبيد اللّه بن زياد بقتله، فقال: ابن من؟ قال: ابن عليّ من فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا من لا دين له و لا يقين، بيني و بين داود النبيّ سبعون ظهرا و اليهود تأخذ تراب قدميّ تسجد عليه و لو كان لموسى خلف لعبدناه و أنتم قتلتم أبناء نبيّكم محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و تدّعون أنّكم أتباعه و أمّته. فقال يزيد: لو لا أنّ النبيّ قال: من آذى ذمّيّا فقد آذاني لأمرت بضرب عنقك، فقال اليهوديّ: ما أعظم صلفك، أيخاصمك النبيّ من أجل يهوديّ ذمّيّ أفلا يخاصمك من أجل ولده! فأمر يزيد بضرب عنق اليهوديّ، فتشهّد اليهوديّ الشهادتين و أقرّ بنبوّة المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و إمامة عليّ و الحسنين عليهم السّلام و رفع رأس الحسين و قبّله إلى أن قبضوا على يده و أخرجوه خارج البيت و قتلوه فذهب شهيدا، و قال يزيد: إنّه أسلم كي لا أقتله.

ص: 366

و قيل: إنّ يزيد أمر زين العابدين بمصارعة ولده و بالغ بالإلحاح عليه، فقال الإمام ليزيد: أو غير هذا؟ قال يزيد: كيف؟ قال: تعطيني سكّينا و تعطيه سكّينا لكي يعرف من الأقوى؟ فقال يزيد: هيهات لن تلد الحيّة إلّا حيّة (1)، ثمّ قال يزيد لزين العابدين: يابن الحسين، ما هو فضلكم على سائر قريش؟ فقال الإمام زين العابدين عليه السّلام: نحن أهل بيت النبوّة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة و معدن التأويل و التنزيل من الدين، و قال اللّه تعالى: سلام على آل طه و ياسين، يا ويلك! لا يقاس صخر بن حرب بأبي طالب، و لا معاوية بعليّ بن أبي طالب، و لا أنت يا بن هند بالحسين، و لا ابنك بعليّ بن الحسين.

و بقي الإمام زمانا عند يزيد في الشام و في كلّ يوم يزداد ميل الناس إليه، و إلى عترة النبيّ و أهل بيته، و تأتي نساء الشام تعزّي نساء أهل البيت حتّى أوشك ملك يزيد أن يتزلزل، فاستدعى الإمام و قال له: هل لك من حاجة؟ فقال الإمام:

حاجتي أن تريني وجه أبي حتّى أردّه إلبى جسده، قال: لقد فعلت، و كان قد صلبه أربعين يوما على منارة الجامع في دمشق و صلب الرؤوس الباقية على المساجد و الأبواب و أحيانا على باب قصر يزيد. ثمّ قال: و ادفع لي قاتل أبي لأقتصّ منه، فكان كلّ من أحضروه يتنصّل من قتل الحسين، إلى أن وصلت النوبة إلى أحدهم، فقال: إنّما قتل الحسين من فتح بيت المال على مصراعيه و أغدق العطاء على الجند يعني بذلك يزيد هو الذي قتله، فاستحيا ذلك اللعين و سكت.

و روى الرواة أنّ يزيد أمر في اليوم الذي أحضروا عنده رأس الحسين عليه السّلام بصنع فقّاع (بضمّ الأوّل و تشديد القاف- المؤلّف) و هو مسكر يصنع من الشعير و يسمّى بالهنديّ «لوزه» و سقى جيشه منه، و كان محرّما في الإسلام، فأباحه اللعين و صار

ص: 367


1- لم تكن الحكاية مع الإمام زين العابدين بل مع أحد ولد الحسن أو عقيل و ابنه خالد.

شرب الفقّاع في ذلك اليوم سنّة سنّها هذا اللعين.

قال الإمام الرضا عليه السّلام: من رأى الفقّاع فليلعن يزيد و من تابعه و يصلّي على الحسين و أصحابه (1).

إنّ المؤرّخين تناهوا في ضبط وقائع عاشوراء للحسين و أصحابه عليهم السّلام حتّى بلغت المجلّدات و اجتازت قدرة كتاب كهذا الكتاب أن يستوعبها، و لكن وجدت من الضروريّ أن لا يخلو هذا الكتاب من ذكر الحسين و أصحابه عليهم السّلام لا سيّما المراثي و المدائح التي نظمها الإنس و الجنّ فيهم لكي لا يوجب السأم.

قيل: إنّ الإمام زين العابدين استأذن يزيد في خطبة أهل الشام يوم الجمعة، فلمّا كان يوم الجمعة أحضر يزيد لعنه اللّه خبيثا لعينا من أهل الشام و كان فصيحا بليغا و قال: اصعد على المنبر و قل ما عرض لك و جرى على لسانك من ثلب عليّ و الحسين و الثناء على الشيخين (لعنهما اللّه)، فصعد ذلك الرجل المنبر و قال كلّ ما وسعه، فقال الإمام: ائذن لي حتّى أخطب الناس، فندم اللعين و قال: كلّا لا آذن لك، فألحّ الناس على يزيد إلحاحا شديدا، فما قبل شفاعتهم، فقال ابنه معاوية:

أبتاه و ما يصنع هذا مع صغر سنّه، دعه حتّى نرى ما يقول، فقال: أنتم لا تعرفون أهل هذا البيت، إنّهم توارثوا العلم و الفصاحة، إنّي أخشى أن تثور الفتنة وراء هذه الخطبة، و تحيق بنا و لكنّه استكان للأمر و رضي أن يخطب.

فرقى الإمام المنبر و قال:

الحمد للّه الذي لا بداية له، و الدائم الذي لا نفاد له، و الأوّل الذي لا أوّل

ص: 368


1- عن الرضا عليه السّلام قال: من نظر إلى الفقّاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين عليه السّلام و ليلعن يزيد و آل زياد يمحو اللّه عزّ و جلّ بذلك ذنوبه و لو كانت كعدد النجوم. (بحار الأنوار 44: 299، العوالم: 415، مستدرك سفينة البحار 5: 401 و غيرها).

لأوّليّته، و الآخر الذي لا مؤخّر لآخريّته، و الباقي بعد فناء الخلق قدر الليالي و الأيّام، و قسم فيما بينهم الأقسام، فتبارك اللّه الملك العلّام.

و قال في كلامه: إنّ اللّه أعطانا الحلم و العلم و الشجاعة و السخاء و المحبّة في قلوب المؤمنين، و منّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و منّا وصيّه و منّا سيّد الشهداء و جعفر الطيّار في الجنّة و سبطا هذه الأمّة و المهديّ الذي يقتل الدجّال. أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرّفه بحسبي و نسبي، أنا ابن مكّه و منى، أنا ابن زمزم و الصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى، أنا ابن خير من ائتزر و ارتدى، أنا ابن من طاف و سعى، أنا ابن خير من حجّ و أتى، أنا ابن من أسري به إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن الحسين القتيل بكربلا، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن سدرة المنتهى، أنا ابن شجرة طوبى، أنا ابن المزمّل بالدماء، أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء، أنا ابن من لاح عليه الطيور في الهواء.

فلمّا بلغ إلى هذا الموضع من خطبته ارتفعت الضجّة من المجلس و بكى الناس بكاءا عاليا فضيّع يزيد نفسه و زعق بالمؤذّن: أذّن ويحك، فقام المؤذّن و صاح: اللّه أكبر، فقال الإمام عليه السّلام: نعم اللّه أكبر و أعلى و أجلّ و أكرم ممّا أخاف و أحذر.

فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فقال الإمام: نعم أشهد مع كلّ شاهد، و أحتمل على كلّ جاحد، ألّا إله غيره و لا ربّ سواه.

فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، قام الإمام و نزع عمامته من رأسه و قال للمؤذّن: أقسمت عليك بمحمّد هذا إلّا ما سكتّ ساعة، و استقبل يزيد لعنه اللّه بوجهه و قال: يا يزيد، هذا الرسول العزيز الكريم جدّي أم جدّك؟ فإن قلت جدّي فالناس تعلم بأنّك كاذب فيما تدّعي، و إن قلت جدّك فلماذا قتلت أبي

ص: 369

مظلوما من غير ذنب و نهبت ثقله و أسرت عياله، قال هذا و أهوى إلى جيبه فشقّة (1) و أخذ يبكي و قال: أقسم باللّه لو كان أحد في الدنيا جدّه رسول اللّه فهو أنا، فلماذا قتل هذا الرجل أبي بظلم و ساقنا كما تساق أسرى الروم؟! ثمّ قال: ويلك يا يزيد، تفعل هذا الفعل و تقول أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، و تستقبل القبلة! ويل لك يوم القيامة يوم يكون جدّي و أبي خصميك. و هنا صاح يزيد بالمؤذّن: أقم للصلاة، فتهامس الناس فيما بينهم فصلّى بعضهم و ترك الصلاة آخرون، و تفرّقوا من المسجد.

و أرسلت زينب عليها السّلام إلى يزيد ليأذن لهم في إقامة العزاء على الحسين عليه السّلام، فأذن لها يزيد و قال: خذوهم إلى دار الحجارة ليبكوا هناك، فأقاموا العزاء سبعة أيّام، فكان النساء يجتمعن عليهنّ في كلّ يوم و اجتزن حدود الحصر و الإحصاء، و حمي غضب الناس على يزيد فأرادوا الهجوم عليه و قتله في بيته، فجائه مروان و قال:

لا أرى بقاء أولاد الحسين و عياله و أهل بيته عندك إلّا مضرّا بمصلحة ملكك فاعمل على ترحيلهم من الشام إلى المدينة، اللّه اللّه في ملكك لئلّا يندثر بسبب هؤلاء العيال.

فاستدعى يزيد الإمام زين العابدين عليه السّلام و أجلسه إلى جانبه و تفدّاه و تذلّل له و أظهر الحزن على أبيه ليستميله و قال: لعن اللّه ابن مرجانة لو كنت صاحب أبيك لم أترك الأمر يصل بنا إلى هذا الحدّ، و إنّي ألبّي رغباتك كافّة فاطلب منّي ما تشاء و سلني حاجاتك أقضها لك كلّها، و لكن نفذ القدر بما جرى، فإذا وصلت إلى المدينة فكاتبني بحاجاتك و خلع عليه و أكرم النساء و زاد في إعزازهنّ. و قيل: إنّ

ص: 370


1- هذا لا يجوز تصوّره و لا تحلّ روايته لأنّه كذب محض على الإمام السجّاد، و الإمام لا يفعل هذا في مجلس يزيد لأسباب منها أنّه خرق لحجاب شخصيّته و هتك لحرمة ثورة أبيه.

أهل البيت ردّوا كلّ ما تقدّم به يزيد إليهم.

و روي أنّ أمّ كلثوم أخت الحسين توفّيت في دمشق الشام فاستدعى يزيد عمر ابن خالد القرشيّ و قيل النعمان بن بشير الأنصاريّ و كان عمر رجلا مؤمنا، و كان يكتم إيمانه و اعتقاده، و أمّره على ثلاثمائة رجل و قال له: أوصل هؤلاء الصبية و العيال إلى المدينة و سر فيهم ليلا لا نهارا كيلا تراهم، فإذا نزلت في منزل فكن بمبعدة عنهم، فقبل عمر بن خالد شروط يزيد و أوصلهم إلى المدينة سالمين (1).

و لمّا بلغوا المدينة استقبلهم الرجال و النساء بالبكاء و العويل و أقاموا العزاء على الحسين زمانا و نظموا المراثي فيه فكانت قد بلغت مجلّدين، منها قول الشافعي:

تأوّب همّي و الفؤاد كئيب و أرق عيني و الرقاد غريب

و ممّا نفى نومي و شيب لمتي تصاريف أيّام لهنّ خطوب

فواكبدي من حزن آل محمّدو من زفرات ما لهنّ طبيب

فمن مبلغ عنّي الحسين رسالةو إن كرهتها أنفس و قلوب

قتيل بلا جرم كأنّ ثيابه صبيغ بماء الأرجوان خضيب

فللسيف إعوال و للرمح رانّةو للخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمّدو كان لها صمّ الجبال تذوب

و غابت نجوم و اقشعرّت كواكب و هتك أشعار و شقّ جيوب

هم شفعائي يوم حشري و موقفي و بغضهم للشافعيّ ذنوب

نصلّي على المختار من آل هاشم و نؤذي بنيه إنّ ذا لعجيب

ص: 371


1- لم يذكر مرورهم في كربلاء و الظاهر أنّه لا يقول به و إلّا لما فاته ذكره.

الفصل السادس

استشهد مع الحسين عليه السّلام ثمانية عشر واحدا من أهل بيته؛ ستّة لأمير المؤمنين عليه السّلام و هم: العبّاس و عبد اللّه و محمّد و أبو بكر و جعفر و عثمان. أبو بكر و جعفر و عثمان لأمّ ولد، و العبّاس و عبد اللّه أمّهما ليلى بنت مسعود الثقفيّ و أبوها من شجعان العرب و صناديدهم، و لمّا ولدت ليلى لأمير المؤمنين عددا من الأولاد سمّيت أمّ البنين (1).

و عليّ الأوسط و عبد اللّه الرضيع ولدا الحسين، و أبو بكر و عبد اللّه و القاسم أولاد الحسن، و من هؤلاء الثلاثة القاسم و عبد اللّه لم يبلغا الحلم، و محمّد و عون ولدا عبد اللّه بن الطيّار بن أبي طالب من زينب أخت الحسين عليهما السّلام، و جعفر و عبد الرحمن ولدا عقيل، و عبد اللّه و أبو عبد اللّه ولدا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، و محمّد بن سعيد بن عقيل بن أبي طالب، و هؤلاء كلّهم دفنوا عند رجلي الحسين عليه السّلام إلّا العبّاس السقّا الذي دفن على شاطئ المسنّاة حيث استشهد.

الفصل السابع في خاتمة الكتاب الجلي

اعلم أنّ من كان له رسوخ في الدين أو ثبات في الاعتقاد أو حظّ من العقل أو

ص: 372


1- فأين سيّدتنا فاطمة بنت حرام الكلبيّة عليها السّلام التي استشهد أولادها الأربعة مع أخيهم الحسين في كربلاء و هي أمّ العبّاس عليها و على أولادها الصلاة و السلام، و لم أر إجماعا يخرقه مؤلّف كهذا الإجماع الذي خرقه هذا المؤلّف. فأمّ البنين لا يكاد يجهلها أو يشكّ بوجودها أحد من الناس فما بال هذا الرجل!

تصديق بالقيامة أو الجنّة و الجحيم أو رجاء بالثواب أو خوف من العقاب أو معرفة بالتوحيد و العدل أو أدنى إرادة في أهل بيت العصمة و الطهارة أو نصيب من الإسلام أو مطالعة للسير و التواريخ أو تعمّق في معرفة الكتب أو أدنى توفيقا من اللّه تعالى أو امتزجت دنيّة ذاته بالإنصاف يعلم أنّ يزيد يستحقّ اللعنة و هو بري ء من الإسلام كما أنّ الإسلام بري ء منه، و هو خالد في العذاب الأبديّ و العقاب السرمديّ و هو مأواه، و عند الشيعة لعنه مستحبّ بل هو من الواجبات و الفرائض كالصلاة و الصيام المكتوبتين، و لكنّ هذا متعذّر من أهل السنّة و صعب عليهم لأنّ يزيد عندهم خليفة شرعيّ فهو وليّ معاوية و معاوية خليفة عمر و عثمان و نائب منابهما و متولّي أمرهما و مختارهما، و قد تمكّن و تسلّط من قبلهما على خلق اللّه.

يقال: إنّ ملكا من ملوك مازندران سأل علويّا: أين استشهد الحسين و أصحابه و أهل بيته؟ فقال العلويّ: في كربلاء، فقال الملك: أيّها العلوي، إنّ الحسين قتل يوم السقيفة يوم بايعوا أبا بكر.

فقد روى المؤلّف و المخالف عن ابن جرير الطبري في أحد تصانيفه: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لثلمة في الإسلام مخالفة عليّ بن أبي طالب.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم الشيوخ الثلاثة على العترة و تجرّأهم على العترة و غصبهم لحقوقهم على النهج المذكور هو الذي جرّأ الفسّاق و الكفّار عليهم و وجد المنافقين الأفق مفتوحا لنفاقهم و بقيت الشهب عالقة بين الناس على قطب الضلالة و قال ضعفاء الإسلام: لو لم يكن هذا مرخّصا فيه لم يفعله أصحاب الصدر الأوّل من المهاجرين و الأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه يوم عريشه و هم يصغون إلى نزول القرآن و يفقهون تأويله من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هؤلاء لم يحصنوا بقوّة علميّة و خلفيّة فقهيّة يدفعون بها الشبهة عن أنفسهم و لم يكن لهم من معرفه القرآن حظّ و لا من التصديق به ثمرة و إلّا لعلموا أنّ من آذى

ص: 373

أولاد الأوبياء و ظلمهم فقد وقع الظلم على الأنبياء و الأولياء مثل قابيل الذي قتل هابيل أخاه من قبل الأب و الأمّ حسدا منه، و أولاد يعقوب حين رموا يوسف في غيابة الجبّ و باعوه كرّة أخرى بدراهم معدودة، و مثل ذلك كنعان بن نوح و سائر بني إسرائيل الذين ظلم بعضهم البعض الآخر، و امرأتا نوح و لوط اللتان كفرتا.

و الضرورة قاضية بأنّ هذا الغدر و الظلم ليس على أساس من الإنسانيّة أو القرابة الأخوّة: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1) فتبيّن أنّ هذا الظلم و القتل من أولاد المشركين الذين قضوا أعمارهم في طاعة اللات و العزّى و صار الشرك بالنسبة إليهم نظير العادة و الجبلّة، أمكن و أولى و أحرى لا سيّما و أنّ إسلامهم كان رهبة من سيف أمير المؤمنين أو رغبة في الخلافة و الإمامة، كما و أنّهم وصلوا في الدنيا إلى غاياتهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا (2) و المؤرّخون و جماعة ممّن خالطهم يعرفون هذا جيّدا منهم و لكن فئة منهم نشأوا في رتب الضلالة و ثبتوا على ذلك كما نشأوا على حبّ التقليد من اتّباع طريقه الآباء و الأجداد إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (3) مع الانسياق وراء السواد الأعظم من الناس و هذا أيضا علامة من الضلالة كما قال تعالى: وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (4)، و قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (5)، أو أنّ اللّه تعالى خذلهم لأنّهم لم يعشوا إلى نور العقل: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (6)، و قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ

ص: 374


1- النساء: 54.
2- الأحقاف: 20.
3- الزخرف: 22.
4- المائدة: 100.
5- الزخرف: 78.
6- العنكبوت: 69.

آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (1)، و هؤلاء يعلمون و يقرؤون و يسمعون و لكن لم يحالفهم التوفيق في الاعتقاد: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (2).

و طائفة موفّقة مطمئنّة قلوبهم بذكر اللّه و صارت صدورهم مرآة تنعكس فيها الأشعّة الربّانيّة و الأنوار الإلهيّة أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ (3) حيث غاصوا بأفكارهم في عمق المأساة ممّا جرى على آل الرسول من غصب الحقوق الدينيّة و الدنياويّة و استخرجوا بأيدي الأدلّة العقليّة الأعلاق النفيسة الغالية و الجواهر الثمينة من أصداف الشرع.

و عمدت أوّلا إلى وضع هذا الكتاب بألفاظ مشكلة و عويصة لا يفهمها إلّا العالمون، و لمّا نظرت في هذا الهدف وجدت الإفادة منه نزرة قليلة و الاستفادة ضئيلة.

ثانيا: رايت من الأصلح أن أجتنب هذه الخطّة فأجري تعديلا جذريّا للكتاب فأستبدل الواضحات بالعويصات و المبيّنات بالمعضلات لتعمّ الفائدة دنيا العجم كلّها و يشيع الكتاب و يشتهر في أكناف العالم و أطرافه.

و أنفقت اثني عشر عاما من عمري على جمعه بتأويل الدلائل و استخراج البراهين على شبهات الخصوم، و لم تقتصر هذه المدّة عليه وحده بل حالفني الحظّ في أثناء تأليفه في هذا الزمن الطويل نسبيّا أن أكتب كتبا غيره سرت في تأليفها إلى جانب تأليفه، منها نقض معالم فخر الدين الرازي و قد أكملت منه إلى هذا اليوم مجلّدا واحدا بالعربيّة مع السعي المضني و الجهد التام، و قد نقضته كلمة فكلمة،

ص: 375


1- الكهف: 13.
2- البقرة: 6.
3- الزمر: 22.

رحمكم اللّه و إيّانا و جميع المؤمنين و المؤمنات.

قد تمّت هذه النسخة المسماّة ب «كامل البهائي في السقيفة» في سنة خمسة و سبعين و ستّ مائة (675) و الحمد للّه ربّ العالمين.

و فرغ من ترجمته إلى العربيّة محمّد شعاع فاخر في ليل التاسع من شهر شعبان من عام 1426 هجريّة بعد صلاة المغرب و العشاء، و الحمد للّه أوّلا و آخرا و الصلاة على حبيبه المصطفى و آله و لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين على أعدائهم من الأوّلين و الآخرين الذين جهلوا حقّهم و لم يستضيئوا بنورهم فضلّوا و أضلّوا.

المترجم: محمّد شعاع فاخر

ص: 376

فهرس المحتويات

الباب الثاني عشر: في فدك 3

الفصل الأوّل في ردّ عمر بن عبد العزيز فدكا إلى محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام 8

الفصل الثاني في أمور وضعها الخلفاء خلافا لأمير المؤمنين و بني هاشم 23

الفصل الثالث: في أنّ عليّا لم يقدر على تبديل ما غيّروا عن أصله لخوفه من أصحابه و ترك

محاربتهم 24

الفصل الرابع 36

الفصل الخامس 37

الفصل السادس: في مثالب بني تيم 39

الفصل السابع 43

الفصل الثامن 44

الفصل التاسع 53

الباب الثالث عشر: في حالات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما يتبعه 56

الباب الرابع عشر: في الغار و صاحبه 60

الباب الخامس عشر: في اختيار الإمام 73

الباب السادس عشر: في صفات الإمام 82

الباب السابع عشر: في إمامة أبي بكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 96

الباب الثامن عشر: فوائد تليق بهذا الكتاب 102

ص: 377

الباب التاسع عشر: في غلوّهم في حبّ الصحابة 114

الباب العشرون: في أسمائهم و صفاتهم 121

الباب الواحد و العشرون: في بعض فوائد كتاب الفتوح لأبي محمّد أعثم الكوفي 129

الفصل الأوّل 140

الفصل الثاني 143

الفصل الثالث 144

الباب الثاني و العشرون: في موت الخلفاء و كيفيّة قتلهم عليهم ما يستحقّون 146

الفصل الأوّل: في قتل عمر بن الخطّاب 148

الفصل الثاني 155

الفصل الثالث: في خلافة عثمان 158

الباب الثالث و العشرون: في ذكر طرد عثمان (لعنه اللّه) أبا ذر الغفاريّ رحمة اللّه عليه 159

فصل: في قتل عثمان بن عفّان 161

الفصل الثاني: في ذكر بعض أحوال أمير المؤمنين عليه السّلام 164

الفصل الثالث: في قتل (شهادة) عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام 166

الباب الرابع و العشرون: في تعيين تاريخ أعمار الخلفاء الأربعة 173

الفصل الأوّل 173

الفصل الثاني 175

الفصل الثالث 176

الفصل الرابع 176

الفصل الخامس 176

الفصل السادس 178

الفصل السابع 180

الفصل الثامن: في أنّهما دفنا في موضع غصب 182

ص: 378

الفصل التاسع: في إسلام عليّ عليه السّلام 185

الفصل العاشر 189

الفصل الحادي عشر: في بيان جانب من الوقائع و المظالم التي أنزلوها في آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله 196

الباب الخامس و العشرون: في ذكر عائشة و طلحة و الزبير على طريق الإيجاز 201

الفصل الأوّل: في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة 215

الفصل الثاني 221

الفصل الثالث: في بعض قصّة معاوية و يزيد 229

الفصل الرابع: في أنّ بني أميّة لم يكونوا من قريش 236

الفصل الخامس 238

الفصل السادس: في فوائد و نكات وردت في كتاب مثالب بني أميّة من كلام الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان و هو من علماء أهل السنّة، فنكتب ما هو من خلاصة كتابه و نوادره 240

الباب السادس و العشرون: في عداد الأشرار من بني أميّة 258

الفصل الأوّل 260

الباب السابع و العشرون: في أحوال معاوية بن مسافر الذي اشتهر بين الناس بمعاوية بن أبي سفيان بن حرب 263

الفصل الأوّل: في ولادته 263

الفصل الثاني: في ذكر الفرق الذين يختلفون فيه 265

الفصل الثالث: في الآيات التي تدلّ على أنّ معاوية واجب اللعن 266

الفصل الرابع: في الأخبار التي تدلّ على أنّ معاوية ملعون 271

الفصل الخامس: في ذكر الأصحاب الذين لم يشهدوا حرب صفّين 277

ص: 379

الفصل السادس: في إقرار أهل البغي ببغيهم 291

الفصل السابع: في البدع التي أحدثها معاوية 295

الفصل الثامن 310

الفصل التاسع: في أنّ معاوية أوّل من زوّر الكتب في الإسلام 312

الفصل العاشر: في إظهار إسلام معاوية 319

الفصل الحادي عشر 324

الفصل الثاني عشر: في خطبة ضرطة معاوية 325

الفصل الثالث عشر: جلي في اشتقاق اسمه 326

الفصل الرابع عشر: الجلي في وفات معاوية 327

الفصل الخامس عشر: في سمّ معاوية الحسن عليه السّلام 328

الفصل السادس عشر: قتل معاوية عائشة 335

الفصل السابع عشر: في يزيد اللعين و قتله للحسين عليه السّلام و أصحابه 336

الفصل الثامن عشر: الجلي في أهل الكوفة و دعوتهم للحسين عليه السّلام 338

الباب الثامن و العشرون: في خروج الحسين عليه السّلام من مكّة 343

الفصل الأوّل: في نزول الحسين عليه السّلام بكربلاء 345

الفصل الثاني: في صفة الحرب 349

الفصل الثالث: في توبة الحرّ بن يزيد الرياحي رحمة اللّه عليه 352

الفصل الرابع: الجلي في مبدأ القتال إلى آخره 352

الفصل الخامس: الجلي في أحوال رؤوسهم 356

الفصل السادس 372

الفصل السابع: في خاتمة الكتاب الجلي 372

ص: 380

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.