ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 1

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الأوّل

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملِك الحقّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السَّماواتِ الْعُلى، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنتَ الله، لا رافع لما وضعت، ولا واضعَ لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ،

ص: 5


1- بحار الأنوار: 83 / 332 الباب 45.

وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ((1)).

اللّهم وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ _ اللّهمّ _ كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ _ وقولك الحقّ _ : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- مصباح المتهجّد: 785.

والعن اللّهم أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّد وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِرْ حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العلي، المنفِق الملي، أبو عبد الله الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأَولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى.

ص: 7


1- مصباح المتهجّد: 785.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبدسيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحَن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.

الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((1)).الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((2)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) _ وهو الصادق الأمين _ : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((3)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «... أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَالله لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما

ص: 9


1- كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
2- بحار الأنوار: 45 / 314.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((1)).ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((2))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((3)).

فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .. «وإذا قام _ قائمنا _ انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((4)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقال: «لمّا أُسريَ بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جل جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها،

ص: 10


1- بحار الأنوار: 45 / 147.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 الباب 18.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
4- بحار الأنوار: 52 / 376.

فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعت الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذرّيّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضت ولايتهم علىالملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين. يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي ولا أظللتُه تحت عرشي. يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال (عزوجل) : إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و (م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّيّ.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس _ يومئذٍ _ بهما أشدّ من فتنة العِجْل والسامريّ» ((1)).

ص: 11


1- كمال الدين: 1 / 252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مصرعهم، ولو كان في الدنيا _ يومئذٍ _ حيّاً لَكان (صلی الله علیه و آله و سلم) هو المعزّى بهم».

قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثمّ قل:

«اللّهم عذِّبِ الفَجَرة الّذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخب وأوضع معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.

اللّهم وعجّل فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم

ص: 12

من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهمسلطاناً نصيراً..

اللّهم إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأَت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك.

اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيت رسولك.

اللّهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفُتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين.

اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيّك في الأرض هائمة، اللّهمّ فأعِنِ الحقَّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

ص: 13


1- مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 الباب 24.

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیهم السلام) ، الّذين كشف لهم سيّدالشهداء (علیه السلام) «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة» ((1))، ووعَدهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده والبراءة من أعدائهم.. ((3)).

ص: 14


1- علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- تأويل الآيات الظاهرة: 272.
3- أُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428 _ زيارة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمدُ لله الأوّلِ قبل الأشياء، والباقي بعد فناء الأشياء، العليم الّذي لا ينسى مَن ذكره.

وصلّى اللهُ على أشرف بريّته وخير خلقه محمّدٍ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآله (علیهم السلام) ، واللعنُ الدائم الدائب أبداً على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخِرين.

أمّا بعد..

تناولنا قبل هذه الدراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، ثمّ (ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة)، فطُبعَت الدراستان في كتابَين مستقلَّين.

وقد وفّق اللهُ _ ببركة أهل البيت (علیهم السلام) وسيّد الشهداء (علیه السلام) _ فأتينا على دراسة ظروف دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة المكرّمة، وظروف إقامته _ فداه روحي _ فيها.

ونودّ هنا الإشارة _ باختصارٍ _ إلى بعض التنويهات الّتي ذكرناها في

ص: 15

كتاب (ظروف الخروج من المدينة)؛ لأهمّيّتها:

إنّ البحث أساساً يعتمد على نظرةٍ جديدة، أو ما يُعبَّر عنه في المفردات المعاصرة: (قراءة جديدة) لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي تحتاج إلى بيانٍ طويلٍ عريضٍ مفصَّل، يستدرج ذهنَ القارئ إلى النتائج، بَيْد أنّ ازدحام الأفكار وتشتّت البال وصعوبة الظروف وسعة المشروع الّتي لا تسعها طاقة الفرد الواحد كلّها عوامل تمنع من الإسراع في العمل.

وما أتمنّاه على القارئ الكريم أن يتفضّل علَيّ ويتكرّم، فيشملني بلطفه وصبره وتحمّله، ويقرأ البحث مع إغفال جميع السوابق الذهنيّة العالقة في أعماقه منذ أن نشأ وهو يقرأ عن قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ البحث فيه ظرافةٌ وتدقيقٌ أحياناً، وهو مُبتنٍ على الاستدلال التاريخيّ، مع التسليم بالعامل الغيبيّ والدوافع الغيبيّة، والتسليم بعصمة سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمامته، وأنّه الناطق عن الله المفترَض الطاعة، والتسليم بما تؤدّي إليه الاعتقادات الحقّة الضروريّة، والتسليم لنتائج الاعتقاد بالعامل الغيبيّ، غاية ما في الأمر أنّ البحث يُحاول أن يُثبت أنّ الدراسة التاريخيّة بالقراءة المتأنّية تؤدّي إلى نفس مؤدّى التفسير بالعامل الغيبيّ للقيام الحسيني.

وعليه، فإنّ أصل البحث وإثبات أصل الفكرة الّتي تتلخّص بكلمة:

«إنّ قيام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّه من أوّله إلى آخره كان دفاعاً محضاً مقابل هجوم العدوّ وعزمه وإقدامه على قتله، كما قُتل جدُّه وأُمّه

ص: 16

وأبوه وأخوه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ».

وهذا ما يتطلّب دراسةً كاملةً شاملة، وإثباتاتٍ قويّةً متوفّرةً في التاريخ بكثرةٍ حسب فحصنا، وسوف نتابعها _ إن شاء الله تعالى _ إن بقيَ في العُمر بقيّة.

فلْيتفضّل القارئ بانتزاع السوابق الذهنيّة والمسلَّمات غير الاعتقاديّة، إلى حين ينتهي من قراءة هذه الوُريقات.

ومن الضروريّ أن لا يستعجل القارئ الكريم بإصدار الحكم على ما يقرأ حتّى ينتهي من مجموع الكتب الّتي احتوت هذه الدراسات.

وقد التزمنا أن لا نذكر متناً إلّا أنّ يلحقه التوثيق وذكر المصادر، وربّما كرّرنا ذكر المصادر تحت كلّ فقرةٍ كلّما اقتضت الضرورة ذكرها والاستشهاد بها، واعتمدنا المصادر التاريخيّة القديمة، واعتمدنا _ غالباً _ في تخريجها وتوثيقها على موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) (تاريخ إمام حسين (علیه السلام) ) الموفّقة، مع مراجعة النصوص في المتون والكتب الأصليّة في الغالب.

فالرجاء أن يتفضّل القارئ بملاحظة ذلك، إذ أنّ توثيق البحث يساعد على تسهيل القبول والاقتناع به.

كلّ ما جاء في هذا البحث إنّما هو دراسةٌ وقراءةٌ للأحداث التاريخيّة، ومحاولةٌ لفهم قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأسراره وفق نصوص التاريخ، وقد أشرنا في مواضع _ منها مقدّمة ترجمة رسالة العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) في بيان

ص: 17

حكمة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ إلى النظريّات الّتي حاولَت تفسير قيام الإمام المظلوم (علیه السلام) ، فلا نعيد هنا، ولعلّنا نُوفَّق لتناولها بشكلٍ مفصَّل..

فالغرض لا يعدو كونه بحثاً لفهم وتفسير القيام المقدّس وفق نظرةٍ خاصّة، منتزَعة في الإساس من الأحاديث الشريفة والنصوص المقدّسة، بَيد أنّها تحاول هنا الوصول إلى نفس النتائج من خلال المتون التاريخيّة ليس إلّا، وبالتالي سيعرف المؤمن الحسينيّ مظلوميّة إمامه ومظلوميّة أهل البيت (علیهم السلام) ، ويعرف قدر دمعته وبكائه وتوجّعه لِما نزل بهم، ويُدرك شيئاً من شهقة سيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) الّتي لا تفتر في كلّ يومٍ ودمعتها الّتي لا ترقأ أبداً، والله من وراء القصد.

وربّما استخدمنا لفظ (القيام) في ثنايا البحث، ونقصد به (القيام بأمر الله)، فإنّ الإمام قائمٌ بأمر الله (عزوجل) في كلّ حالاته وحركاته وسكناته، وكلّ واحدٍ من الأئمّة (علیهم السلام) هو قائمٌ بأمر الله، وهم جميعاً القوّامون بأمره.

* * * * *

لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوةً خطوة، كمن يمشي في منطقةٍ ملغومةٍ مظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلِّ ما يُنسَب إليهم، فإذا وقعنا بين خيارين: خيار التزام قداسة التاريخ والمؤرّخ، وخيار التزام قداسة الأولياء والأصفياء، فإنّنا اخترنا الخيار الثاني؛ طلباً لرضى الله ورسوله والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

ص: 18

فإن وُفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومَنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلّا فنستغفر الله، ونسأله أن يُعطينا أجر مَن أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جوادٌ كريم، وهو نِعْم المولى ونِعْم النصير.

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّيّاتنا خدمة زَين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك مولانا الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يُرضيه ويُرضي النبيَّ الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مُهيّج أحزان يوم الطفوف (علیه السلام) وأُخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیها السلام) .

اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجِّلْ فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الإمام المظلوم غريب الغرباء (علیه السلام) ، آمين ربَّ العالمين.

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

قمّ المقدّسة

5 / ربيع الأوّل / 1439 ه-

ص: 19

ص: 20

تاريخ دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ومدّة إقامته

اشارة

إتّفق قول المؤرّخين _ إلّا من شذّ، وهو نادر! _ على أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) دخل مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان ((1))، كما اتّفقوا على خروجه من المدينة في الثامن والعشرين من شهر رجب الحرام، فتكون المدّة الّتي استغرقها الإمام (علیه السلام) لقطع المراحل العشر بين البلدين: خمسةً إلى ستّة أيّام، وفي ذلك دلالاتٌ وإشاراتٌ مهمّةٌ أتينا على تفصيلها في (ظروف حركة الإمام (علیه السلام) بين المدينة ومكّة).

ص: 21


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، 371، تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، روضة الواعظين للفتّال: 147، الإفادة للزيدي: 57، إعلام الورى للطبرسي: 223، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، 327، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139. البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، 158.

مدّة إقامته

إتّفقوا بلا خلافٍ أنّ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) أقام في مكّة شهر شعبانوشهر رمضان وشهر شوّال وشهر ذي القعدة ((1))، وأيّاماً مِن ذي الحجّة.

فتكون مدّة إقامته في مكّة _ بعد طرح ثلاث ليالٍ من شعبان وإضافة ثمانية أيّامٍ من ذي الحجّة _ أربعة أشهر كاملة وأيّاماً من ذي الحجّة.

وبحساب الأيّام تكون مدّة الإقامة زهاء مئةٍ وخمسٍ وعشرين يوماً إذا احتسبنا الشهور كاملة (ثلاثين يوماً).

فالمدّة طويلةٌ نسبيّاً في حساب حركة الإمام (علیه السلام) منذ أن خرج من المدينة حتّى استُشهد في كربلاء؛ إذ أنّ هذه المحطّة استغرقت أطول الفترات.

ففي المدينة لم تدُم الإقامة بعد أن هجموا على الإمام (علیه السلام) وهدّدوه وأحاطوا به وأحدق به الخطر الجدّي الحقيقي أكثر من ثلاثة أيّام،

ص: 22


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، 371، تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بُغية الطلب لابن ا لعديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139، اللهوف لابن طاووس: 31، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، 158، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132.

واستغرقت فترة الحركة بين المدينة ومكّة فترةً لا تزيد عن ستّة أيّام، واستغرقت الحركة بين مكّة وكربلاء أقلّ من الشهر الواحد، وأقام _ فداه العالمين _ في كربلاء ثمانية أيّامٍ على أقصى التقادير.

فتكون الإقامة في مكّة أكثر الفترات في تاريخ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى الشهادة، ومِن هنا ربّما حازت هذه الفترة الاهتمام البالغ، ودعَتْ إلى التدقيق فيها والتأمّل في مجريات الأحداث الّتي تخلّلتها.ومن خلال هذه الفترة يمكن استنطاق مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وتحرّكاته وتحرّكات مَن كان معه، فإنّها فترةٌ كافيةٌ تماماً _ سيّما بالنسبة إلى باقي المراحل من حركته _ لبيان أهداف الحركة وأسبابها وبواعثها وغاياتها.

وهذا ما نأمل أن نتابعه خلال هذه الدراسة، ومن الله التوفيق والتسديد.

ص: 23

ص: 24

الآية الّتي تلاها الإمام (علیه السلام) عند دخول مكّة واستخارته

اشارة

ذكر جماعةٌ من المؤرّخين أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا وافى مكّة ونظر إلى جبالها من بعيد، جعل يتلو هذه الآية: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ ((1)) ((2)).

وقال آخَرون أنّه (علیه السلام) تلاها لمّا دخل مكّة ((3))، وأنّه دخلها وهو يقرأ الآية ((4)).

ص: 25


1- سورة القصص: 22.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 37. مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، المنتخب للطريحي: 2 / 422.
3- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، 266، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، 385، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، روضة الواعظين للفتّال: 147، إعلام الورى للطبرسي: 223.

وقد أتينا على دلالات تلاوة هذه الآية المباركة في دراسة ظروف الخروج من المدينة، فلا نعيد!

دعاء الإمام (علیه السلام) واستخارته

ذكر الشيخ الطريحيّ دعاءً دعا به الإمام (علیه السلام) لمّا قَدِم مكّة، وربّما نقله عن كتاب (المقتل) المتداول لأبي مِخنَف، ففي (المنتخب) قال:

فلمّا قَدِم الحسينُ إلى مكّة، قال: «اللّهمّ خِرْ لي، وقرَّ عيني، واهدني سواءَ السبيل» ((1)).

وفي (المقتل) المتداول:

حتّى أتى مكّة، فلمّا أشرف عليها قال: «اللّهمّ خُذْ لي بحقّي، وقرَّ عيني، ربِّ اهدني سواء السبيل» ((2)).

وقد ذكرنا في بحث دلالات تلاوة الآية المذكورة أنّها تفيد معنى الاستخارة، فيكون هذا الدعاء بمعنى تلاوة الآية، على التفصيل المذكور في محلّه.

ص: 26


1- المنتخب للطريحي: 2 / 422.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 16.

تغيير والي مكّة

اشارة

التغييرات المذكورة في النصوص التاريخيّة تختلف، من حيث الوالي المعزول والوالي الجديد المنصوب عند دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة، وتتضمّن جملةً من المطالب، وسنحاول استعراض النصوص الواردة في المقام وما يتعلّق بذلك من خلال التوضيحات التالية:

التوضيح الأوّل: الوالي الّذي تمّ تغييره

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الواردة في الوالي الّذي تمّ تغييره إلى عدّة تغييرات:

التغيير الأوّل: عثمان بن محمّد

اشارة

ذكر ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة) ثلاث نصوصٍ متهافتة، أحدها يوافق المشهور، والآخرَين مرتبكَين:

النصّ الأوّل:

قال:

ص: 27

وذكروا أنّه لمّا بويع يزيد بن معاوية، خرج الحسينُ حتّى قدم مكّة، فأقام هو وابنُ الزبير.

قال: وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم، وعزل الوليد بن عُقبة ((1)).

هذا النصّ يوافق المشهور، كما سنرى.

النصّ الثاني:

قال:

وذكروا أنّ يزيد بن معاوية عزل خالد بن الحكم عن المدينة، وولّاها عثمان بن محمّد بن أبي سفيان الثقفي، وخرج الحسينُ بن عليّ وعبد الله بن الزبير إلى مكّة.

وأقبل عثمان بن محمّد من الشام والياً على المدينة ومكّة وعلى الموسم في رمضان ((2)).

وهذا النصّ مرتبك، إذ يعتبر _ بشهادة السياق _ أنّ والي المدينة عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) كان خالد بن الحكم، ثمّ عزله يزيد وولّى عثمان ابن محمّد بن أبي سفيان الثقفي، وحينما أقبل عثمان _ ذكر ابن قُتيبة _ أنّه كان والياً على المدينة ومكّة والموسم، وهذا كلّه يخالف المشهور المتّفَقعليه

ص: 28


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176.

بين المؤرّخين في جميع موارده.

النصّ الثالث:

قال:

وذكروا أنّ يزيد بن معاوية عزل عمرو بن سعيد، وأمّر الوليد بن عُقبة، وخرج الحسينُ بن عليٍّ إلى مكّة، فمالَ الناس إليه وكثروا عنده واختلفوا إليه، وكان عبد الله بن الزبير فيمن يأتيه ((1)).

وهذا النصّ _ كما يُلاحَظ _ كأنّه معكوسٌ تماماً عن النصّ الأوّل وعن المشهور بين المؤرّخين.

وكان بالإمكان معالجته بفرض عزل عمرو وتأمير الوليد بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة أو بعد شهادته، وهذا ما أفادته المصادر التاريخيّة، كما سنسمع بعد قليل.

بَيد أنّ شهادة السياق تأبى هذه المعالجة؛ لأنّه يروي خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد تأمير الوليد إلى مكّة، لا مِن مكّة، ثمّ يسترسل في الحديث عن سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة.

فإن كان مجالٌ للقول بالتصحيف والسهو والاشتباه، أو باختلاف الزمان كأن لا يكون عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أو دخوله مكّة،فذاك، وإلّا ربّما كان الأوفق طرح النصَّين الأخيرين وردّهما على ابن قُتيبة،

ص: 29


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 2 / 5.

والأخذ بالنصّ الأوّل ليدخل في جملة أقوال المؤرّخين.

فإذا اعتمدنا النصّ الأوّل فإنّه لا يشير إلى الوالي المعزول، وإنّما يحدّد لنا الوالي القادم، وهو عمرو بن سعيد.

التغيير الثاني: يحيى بن حكيم

قال ابن قُتيبة:

ثمّ إنّ يزيد عزل يحيى بن حكيم بن صفوان بن أُميّة عن مكّة، واستعمل عليها عمرو ابن سعيد بن العاص بن أُميّة ((1)).

وروى البلاذريّ فقال:

وقال الواقديّ: عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة، لأنّ مروان كتب يذكر ضعفه ووهنه وإدهانه، وولّى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وولَّى يحيى بن الحكم بن صفوان بن أُميّة بن خلف الجمحيّ مكّة.

وقال هشام ابن الكلبي: هو يحيى بن حكيم بن صفوان، ولّاه عمرو ابن سعيد مكّة وصار إلى المدينة ((2)).

وكان يحيى بن حكيم بن صفوان بن أُميّة ذا قدر، ولّاه عمرو بنسعيد مكّة، ورجع عمرو إلى المدينة ((3)).

ص: 30


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 7.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 10 / 250.

قال ابن قُتيبة: إنّ يزيد عزل يحيى بن حكيم عن مكّة واستعمل عمرو ابن سعيد، وقد ذكرنا _ قبل قليل _ الارتباك الواضح في عبارته، ويبدو أنّ ثمّة اشتباهٌ يمكن معالجته بالنصوص الأُخرى الّتي وردت في نفس هذا المضمون، إذ أنّ من عادة الولاة يومها إذا ضُمّت إلى ولايتهم ولايةٌ أُخرى نصبوا والياً مِن قِبَلهم على إحداهما وباشروا الحضور في الأُخرى، تماماً كما فعل ابن زياد يوم ضمّ يزيدُ الكوفة إلى ولايته في البصرة، فجعل أخاه على البصرة وانصرف إلى الكوفة.

فربّما كان ما ذكره البلاذريّ يعالج هذا الاختلاف، حيث أفاد أنّ يزيد أمّر عمرو بن سعيد على المدينة، وكان واليه على مكّة، فجعل عمرو يحيى على مكّة، وانصرف هو إلى المدينة، وجعل يتردّد بينهما.

التغيير الثالث: الحارث بن خالد

روى البلاذريّ فقال:

قال أبو مِخنَف وعوانة وغيرهما: ولّى يزيدُ بن معاوية وعمّال أبيه على الكوفة النعمانَ بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عُبيدَ الله ابن زياد، وعلى المدينة الوليدَ بن عُتبة ابن أبي سفيان، وعلىمكّة عمرو بن سعيد الأشدق.

وقال بعضهم: كان على مكّة الحارث بن خالد، وعلى المدينة الأشدق، والأوّل أثبت.

ص: 31

فلمّا ولّى كتب إلى الوليد مع عبد الله بن عمرو بن أُويس أحد بني عامر بن لؤيّ: أمّا بعد، فإنّ معاوية بن أبي سفيان ... ((1)).

نسب البلاذري القول أنّه كان على مكّة الحارث بن خالد إلى بعضهم، وكفانا مؤونة المعالجة بتثبيت القول المشهور القائل أنّ عمرو بن سعيد كان على مكّة.

التغيير الر ابع: عبد الرحمان بن نبيه

روى البلاذريّ فقال:

وحدّثنا أحمد بن إبراهيم وأبو خيثمة، قالا: حدّثنا وهب بن جرير، عن ابن جعدبة، عن صالح بن كيسان قال:

مات معاوية والوليدُ أميرٌ على مكّة والمدينة، وكان على مكّة من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه، فكتب اليه يزيد يأمره أن يأخذ بيعة حسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، فاستضعفه في ذلك، فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على المدينة ومكّة ((2)).أفادت هذه الرواية عند البلاذريّ أنّ والي مكّة كان الوليد، وكان الوليد قد أمّر عليها من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه.

ص: 32


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 299.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.

وهو خلاف المصادر الأُخرى أيضاً!

وكيف كان، فليس عبد الرحمان هذا كان والياً من قِبَل يزيد، وإنّما كان نائباً عن الوليد، فلا موضوعيّة له.

التغيير الخامس: الوليد بن عُتبة

قال الطبريّ:

ونزع يزيدُ بن معاوية في هذه السنة الوليدَ بن عُتبة عن مكّة، وولّاها عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك في شهر رمضان منها، فحجّ بالناس عمرو بن سعيد في هذه السنة.

وعن أبي معشر: وكان عاملُه على مكّة والمدينة في هذه السنة بعدما عزل الوليد بن عُتبة عمرو بن سعيد، وعلى الكوفة والبصرة وأعمالها عُبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة ((1)).

ابن عبد ربّه، الباعوني:

فقال: فقدم عمرو بن سعيد في رمضان أميراً على المدينةوالموسم، وعزل الوليد بن عُتبة ((2)).

ص: 33


1- تاريخ الطبري: 4 / 301.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

البلاذري:

عن صالح بن كيسان قال: مات معاوية والوليد أميرٌ على مكّة والمدينة ... ((1)).

ذكر الطبريّ في إحدى رواياته أنّ والي مكّة والمدينة كان الوليد بن عُتبة، فعزله يزيد وولّى عليهما عمرو بن سعيد.

التغيير السادس: مروان

قال الشيخ ابن شهرآشوب:

ووصل الخبر إلى يزيد، فعزل الوليد، وولّاها مروان ((2)).

ربّما تفرّد الشيخ ابن شهرآشوب بقوله أنّ التغيير إنّما حدث في المدينة بعزل الوليد بعد أن بلغ يزيد خبر تعامله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وتأمير مروان.

ومروان كان حاكماً في المدينة حتّى لو كان في الظلّ!

التغيير السابع: عمر بن سعد بن أبي وقّاص

قال الخوارزميّ في (المقتل) وهو يروي عن أحمد بن أعثم الكوفي أحداث دخول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة:

وكان أميرُ مكّة مِن قِبَل يزيد يومئذٍ عمر بن سعد بن أبي

ص: 34


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.

وقّاص ... ((1)).

لم نجد ما ذكره الخوارزميّ عن ابن أعثم في (الفتوح) المطبوع، ولا في مصوّرة النسخة المخطوطة الّتي عندنا، والحال أنّ الخوارزميّ يصرّح بنقله عن ابن أعثم.

ثمّ إنّ ولاية عمر بن سعد بن أبي وقّاص لمكّة لم يذكرها أحد، وأنّى له بولاية مكّة وقد قتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) طمعاً في مُلك الريّ كما زعم.

واحتمال التصحيف أو الاشتباه واردٌ جدّاً؛ للشبَه الشديد في الأسماء: (عمر بن سعد) و (عمرو بن سعيد)..

التغيير الثامن: عمرو بن سعيد

اشارة

وردت ثلاث طوائف من الأخبار في تولية عمرو بن سعيد مكّة أيّام خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أو عند وروده مكّة:

الطائفة الأُولى: تولية المدينة

قال ابن قُتيبة:

وذكروا أنّه لمّا بويع يزيدُ بن معاوية خرج الحسين حتّى قدم مكّة، فأقام هو وابن الزبير.

ص: 35


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 بداية الفصل العاشر.

قال: وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم ((1)).

الطبري:

وفي هذه السنة عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة عن المدينة، عزله في شهر رمضان، فأقرّ عليها عمرو بن سعيد الأشدق، وفيها قَدِم عمرو بن سعيد بن العاص المدينة في رمضان ((2)).

ابن الأثير، ابن عساكر:

في هذه السنة [سنة 60 ه] عُزل الوليد بن عُتبة عن المدينة، عزله يزيد، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق ((3))، فقدمها في رمضان، فدخل عليه أهل المدينة ((4)).

ابن الجوزي:

وفي هذه السنة عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة عن المدينة، عزله في رمضان، وأمّر عليها عمرو بن سعيد، فقدمها ((5)).

ذكر محمّد بن عمر أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قَدِم

ص: 36


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3.
2- تاريخ الطبري: 4 / 254.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 208.
4- الكامل لابن الأثير: 3 / 265.
5- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324.

المدينة في رمضان (سنة 60)، فدخل عليه أهل المدينة ... ((1)).ابن عساكر، ابن خيّاط:

وبعث يزيدُ عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليدَ بن عُتبة ((2)).

وبويع يزيدُ بن معاوية، فأمر عمرو بن سعيد بن العاص على المدينة، فحجّ عمرو بالناس سنة ستّين.. ((3)).

ابن عبد البرّ:

فلمّا كفّ الوليدُ بن عُتبة عن الحسين وابن الزبير في شأن البيعة ليزيد ... عزله، وولّى يزيدُ عمرو بن سعيد الأشدق ... ((4)).

سبط ابن الجوزي:

ولمّا بلغ يزيدَ ما صنع الوليد، عزله عن المدينة، وولّاها عمرو بن سعيد الأشدق ((5)).

الذهبي:

ص: 37


1- تاريخ الطبري: 4 / 254.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 46 / 37.
4- الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388.
5- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.

وبعث يزيدُ بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص أميراً على المدينة ((1)).

القلقشندي:

فكان مَن وَلِيَها منهم: الوليد بن عتبة، ثمّ عمرو بن سعيد الأشدق، ثمّ الوليد بن عُتبة ثانياً ... ((2)).الباعوني:

وقَدِم عمرو بن سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد بن عُتبة ((3)).

* * * * *

تذكر هذه الطائفة أنّ يزيد ولّى عمرو بن سعيد على المدينة من دون الإشارة إلى سابق ولايته، إن كانت في مكّة أو لم تكن، فيكون التغيير قد شمل المدينة من دون لحاظ التغيير في مكّة.

إلّا أن يُستفاد ممّا ورد في بعضها أنّه قَدِم على الموسم أنّه كان أمير مكّة أيضاً، فتدخل في الطائفة الثالثة، بَيد أنّ أمير الحاجّ لا يلزم أن يكون أمير مكّة، كما يظهر من النصوص.

ص: 38


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
2- صبح الأعشى للقلقشندي: 4 / 270.
3- جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

وهذه الطائفة تبقى قابلةً للانسجام مع الطائفتين الأُخريَين، لسكوتها عن سابقة سعيد.

الطائفة الثانية: تولية مكّة

ذكرت جملةٌ من المصادر أنّ يزيد القرود تسلّق على أعواد المنبر بعد أبيه وكان عمرو بن سعيد الأشدق أميراً على مكّة ((1)).

وفي روايةٍ للطبريّ أنّ ابن الزبير أتى مكّة وعليها عمرو بن سعيد ((2)).فهذه الطائفة تفيد أنّ عَمْراً كان والياً على مكّة مِن قبل أن يدخلها سيّدُ الشهداء (علیه السلام) ، وقد أقرّه يزيد على ما في يده.

وهي تنسجم مع الطائفة الأُولى، ومع الطائفة الثالثة كما سيأتي.

الطائفة الثالثة: تولية مكّة والمدينة

روى البلاذريّ والطبريّ وغيرهما أنّ عَمْراً كان على مكّة، فجمع له يزيد المدينة مع مكّة بعد أن عزل عنها الوليد ((3)).

ص: 39


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 299، تاريخ الطبري: 4 / 250، الكامل لابن الأثير: 4 / 14، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 156.
2- تاريخ الطبري: 4 / 254.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307، 311، تاريخ الطبري: 5 / 343، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 329، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158، مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي: 1 / 121، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي: 1 / 49.

وأضاف إليهما الطائف في (التذكرة الحمدونيّة) ((1)).

وقال ابن الأثير: كان العامل على مكّة والمدينة عمرو بن سعيد الأشدق ((2)). من دون الإشارة إلى عزل الوليد!

* * * * *

كيف كان، فإنّ الطوائف الثلاثة لا تتعارض وتنسجم لتفيد أنّ عمرو الأشدق كان هو الوالي على مكّة يوم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها!

التوضيح الثاني: وقت التغيير

إذا رجّحنا التغيير السابع، كما صرّحت به المتون التاريخيّة، يكون التغيير قد حصل في المدينة وليس في مكّة، إذ كان عمرو الأشدق علىمكّة قبل أن يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وهذا يعني أنّه لم يحدث أيُّ تغييرٍ على صعيد ولاية مكّة، وإنّما انضمّت المدينة إلى واليها أيضاً، كما فعل القرد المخمور بالبصرة والكوفة حيث ضمّهما إلى ولاية ابن زياد.

وأمّا توقيت ذلك، فقد أفاد الشيخ ابن شهرآشوب وابن عبد البرّ

ص: 40


1- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
2- الكامل لابن الأثير: 4 / 43.

وغيرهما:

إنّ العزل والتولية كانت بعد أن بلغ يزيد خبر ما جرى بين سيّد الشهداء (علیه السلام) والوليد، وكفّ الأخير عن الإمام (علیه السلام) ((1)).

وصرّح جماعةٌ سبقهم الطبريّ أنّ الأشدق قدم المدينة في شهر رمضان من تلك السنة (سنة 60) ... ((2)).

وحدّد ابن حمدون وقت دخوله بالضبط، فقال: إنّه دخلها «قُبَيل العُتمة، فصلّى العتمة بالناس، فقرأ: ﴿لَمْ يَكُنْ﴾ و﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾» ((3)).

وفي إحدى روايات الطبريّ: أنّه قدم المدينة في ذي القعدة سنة 60 ... ((4)).

ص: 41


1- أُنظر: الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 4 / 254، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي: 1 / 49.
3- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
4- تاريخ الطبري: 4 / 256.

وفي روايةٍ أُخرى له ذكر أنّ نزع الوليد ونصب الأشدق كان في شهر رمضان، من دون الإشارة إلى قدومه إلى المدينة ((1)).وذكر البلاذريّ أنّ عَمْراً صار إلى المدينة بعد أن ولّى يحيى على مكّة، من دون تحديد وقتٍ معيَّن ((2)).

وقد يُتحصَّل من مجموع الأخبار أنّ ورود عمرو الأشدق إلى المدينة كان في شهر رمضان، وأمّا رواية الطبريّ الّتي حدّدَته بذي القعدة فيمكن أن يكون قد رحل بعد شهر رمضان إلى مكّة وعاد إلى المدينة قبل أن يرجع إلى مكّة لحضور الموسم.

فإذا عرفنا أنّ الأشدق كان والياً على مكّة من قبل، وأنّ المدينة ضُمّت إليه فيما بعد، وأنّه دخل المدينة في شهر رمضان، فهذا يعني أنّه كان حاضراً في مكّة والياً عليها حين دخلها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لأنّ الإمام (علیه السلام) دخل مكّة في شهر شبعان.

التوضيح الثالث: علّة التغيير

اشارة

لقد وردت في نصوص المؤرّخين أسبابٌ وعللٌ منصوصةٌ صراحة، أو ملوَّحٌ بها، للتغيير الّذي قام به القرد المخمور في مكّة والمدينة، حيث جمع

ص: 42


1- تاريخ الطبري: 4 / 301.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.

البلدَين وأخضعهما لوالٍ واحد، وعزل الوليد عن المدينة.

ويمكن تقسيمها إلى ثلاث عللٍ أساسيّة:

العلّة الأُولى: الوشاية بالوليد

روى البلاذريّ فقال:

قال الواقديّ: عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة؛ لأنّ مروان كتب يذكر ضعفه ووهنه وإدهانه، وولّى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق ... ((1)).

روى البلاذريّ عن الواقديّ تعليلاً صريحاً يفيد أنّ مروان وشى بالوليد عند القرد المخمور، وذكره بالضعف والوهن والإدهان، ممّا دعا يزيد إلى عزله، وهذا السبب وإن كان يرجع بالتالي إلى العلّة الثانية الّتي سنذكرها، بَيد أنّ الخبر نفسه أوعز العزل إلى الوشاية، بغضّ النظر عن المادة الّتي وُشيَ بها الوليد عند يزيد.

العلّة الثانية: خوفه من ضعف الوليد

روى البلاذريّ مسنداً خبر كتاب يزيد الخمور إلى الوليد وتشديده على أخذ البيعة من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ قال:

فاستضعفه في ذلك فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على

ص: 43


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.

المدينة ومكّة ((1)).

فيزيد يرى في الوليد ضعفاً، وقد تخوّف منه ومن ضعفه هذا، كماصرّح به ابن خيّاط وابن عساكر والذهبيّ وغيرهم، فقالوا:

وبعث يزيد عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليد بن عُتبة؛ تخوّفاً لضعف الوليد ((2)).

وقد عدّ القرد المخمور موقف الوليد ضعفاً، بل تفريطاً، كما يُستفاد من كلام ابن كثير، فكان العزل نتيجة التفريط:

عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عُتبة عن إمرة المدينة؛ لتفريطه ((3)).

ويبدو من عبارة ابن عبد البرّ أنّه أوعز العزل إلى نمط شخصيّة الوليد وأخلاقيّاته الّتي دعَتْه إلى الكفّ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فالوليد _ كما يزعم ابن عبد البرّ _ يتّصف بصفاتٍ لا تخدم يزيد في تلك المرحلة الّتي لا همّ له فيها سوى قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .

قال ابن عبد البرّ:

ص: 44


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.

فلمّا كفّ الوليد بن عُتبة عن الحسين وابن الزبير في شأن البيعة ليزيد، وكان الوليد رحيماً! حليماً! سريّاً!، عزله وولّى يزيدُ عمرو ابن سعيد الأشدق ... ((1)).

وأجمل آخَرون، فقالوا: إنّ الخبر وصل إلى يزيد وبلغه موقف الوليد فعزله، من دون تصريح ((2))، بَيد أنّ المفاد واحد، إذ أنّ ما بلغ القردالمخمور هو كفّ الوليد عن سيّد الشهداء (علیه السلام) .

العلّة الثالثة: تجبّر عمرو وتكبّره وطغيانه

صرّح الطبريّ وابن الأثير والمقريزيّ أنّ عمرو بن سعيد كان عظيم الكبر ((3))، ووصفه ابن كثير فقال: وكان متآلهاً متكبّراً ((4)).

وكان يزيد يحتاج إلى مثل هؤلاء الأذناب والجِراء لتنفيذ جرائمه النكراء وتحقيق مآربه الخسيسة، ولا يكون لها إلّا مثل هذه الوحوش الكواسر والمسوخ المتجبّرة، الّتي ولدَتها مستنقعاتُ الأرحام المُنتنة بسيلانات

ص: 45


1- الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388.
2- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
3- تاريخ الطبري: 4 / 254، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.

الزناة، من أمثال الأشدق وابن مرجانة.

التوضيح الرابع: الهدف من إنفاذ الأشدق

لقد جمع القردُ المخمور المسعور البصرةَ والكوفة لابن الأَمَة الفاجرة، كما جمع المدينة ومكّة لعمرو بن سعيد؛ لمواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومعالجة الموقف الّذي كان يخطّط له.

وربّما شهد لذلك أنّه نصب عمرو بن سعيد على المدينة ومكّة خلال فترة وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ بعد أن استغنى عن خدماته الخاصّةالمتوقّعة في البطش بآل الله والقضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، عمد إلى عزله بعد شهادة الإمام (علیه السلام) وإرجاع الوليد إلى منصبه، كما أفاد خليفة بن خيّاط وابن عساكر والمقريزيّ والقلقشنديّ:

ولّاه معاوية مكّة، ثمّ استعمله يزيد بن معاوية على المدينة في رمضان سنة ستّين، فباشرها، وكان عظيمَ الكبر، حتّى عزله في سنة إحدى وستّين في ولايته ((1)).

وبويع يزيدُ بن معاوية، فأمّر عمرو بن سعيد بن العاصي على المدينة، فحجّ عمرو بالناس سنة ستّين، وقُتل الحسين بن عليّ لعشرٍ خلَون من المحرّم سنة إحدى وستّين، ثمّ نزع عمرو عن

ص: 46


1- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

المدينة في سنة ستّين ((1)).

وكان على مكّة والمدينة ابنُ عُتبة، فولّى مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ثمّ عزله سنة إحدى وستّين وأعاد الوليد بن عُتبة ((2)).

ويشهد لذلك أيضاً ما رواه البلاذريّ مسنداً، قال:

مات معاوية والوليدُ أميراً على مكّة والمدينة، وكان على مكّة من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه، فكتب اليه يزيد يأمره أن يأخذ بيعة حسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، فاستضعفه في ذلك فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على المدينة ومكّة،وأمّره أن يبعث إليه بابن الزبير في جامعةٍ ولا يؤخّره ... ((3)).

وقد صرّح العلّامة المجلسيّ نقلاً عن بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد الخمور إنّما أنفذ هذا الوغد الكاسر والطاغي المتجبّر والمغرور المتكبّر للقبض على الإمام سرّاً أو الإقدام على قتله غِيلة، ومثل هذا المجرم المنحطّ يمكنه أن يُقدِم على مثل هذه الجناية العظمى.

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) :

ولقد رأيتُ في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد

ص: 47


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 46 / 37، تاريخ خليفة بن خيّاط: 176.
2- مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي: 1 / 121.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.

ابن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلِّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غِيلة.

ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين (علیه السلام) على أيّ حال اتّفق ((1)).

أجل، هذا الأُمويّ المتجبّر المعادي لأمير المؤمنين (علیه السلام) والمبغض لأهل البيت (علیهم السلام) يمكنه أن يكون ليزيد المسعور كالجرو الّذي سلّطه على الكوفة والبصرة، وهما بوجهَيهما الكالحَين وبطشهما وتهوّرهما يمكن أن يخيفا الناس ويُقدِما على أيّ جريمة، ولو كانت قتل سيّد شباب أهلالجنّة (علیه السلام) !

التوضيح الخامس: دخوله المدينة ومدّة مكثه فيها

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ سعيداً دخل المدينة قادماً من مكّة في شهر رمضان وقت العتمة، فصلّى بالناس، وقرأ: ﴿لَمْ يكُن﴾ و﴿إِذَا زُلْزِلَت﴾ ((2)).

كانت الأحداث في مكّة تغلي يوم تركها الأشدق، وكان الحدَث الأعظم بدخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها، وكان الخطر الآخر الّذي تصوّره الأمويّون هو دخول ابن الزبير إليها، فكان المفروض أن يتواجد الأشدق في تلك الفترة

ص: 48


1- بحار الأنوار: 45 / 99، المنتخَب للطريحي: 304.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 178.

في مكّة، لا أن يخرج منها ويقيم في المدينة.

وستأتي بعد قليلٍ الإشارة إلى أنّ ذلك ربّما كان شاهداً على أنّ إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة كانت إقامةً عاديّة، لم يلحظ العدوُّ فيها ما يحتاج إلى وجود الوالي الطاغي فيها ليباشر مهامّه الخاصّة ويعالج ما يمكن أن يكون تمرّداً أو محاولةً للانقضاض على الحكم والتحريض على الحاكمين واستقطاب الأنصار والرجال، على الأقلّ في تلك الفترة بالخصوص.

التوضيح السادس: خطبته

في (التذكرة الحمدونيّة):

فلمّا أصبح خرج إلى الناس وعليه قميصٌ أحمر ورداءٌ أحمر وعمامةٌ حمراء، فرماه الناس بأبصارهم، فقال:

يا أهل المدينة، ما لكم ترمونا بأبصاركم، كأنّكم تريدون أن تغزوا بنا سيوفكم [أن تضربونا بسيوفكم]؟ أنسيتم ما فعلتم؟ أما لو أنّا ننقم منكم في الأُولى ما عدتم في الثانية.

أغرّكم أن قتلتم عثمان فوجدتم بعده ثائراً [ثائرنا] حليماً ومسنّاً مأموناً، قد فني غضبه وذهبت أذاته؟ فاغنموا أنفسكم، فقد وليناكم بالشابّ المقتبل البعيد الأمل، قد اعتدل جسمه، واشتدّ عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله ببأسه، فهو إن عضّ نهش، وإن وطئ فرس، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا.

ص: 49

فرعف وهو يتكلّم، فألقى إليه رجلٌ عمامةً فمسح بها، فقال رجلٌ من خثعم: دمٌ على منبرٍ في عمامة! وقال: فتنةٌ عمّت وعلا ذِكرها وربِّ الكعبة! فكانت الفتنة المشهورة ((1)).

* * * * *

لا نريد المكث عند هذه الخطبة وتحليلها، فإنّ خروجه بالأحمر،وتهديده بيزيد وبلُغة الأُمويّين المقيتة، وتذكيرهم بأحقادهم الدفينة، وثأرهم وانتقامهم لدم طاغيتهم الّذي بذريعته التافهة الخائبة أفسدوا الحرث والنسل وقتلوا الطيّبين، يكفي لحكاية تغطرسه وتجبّره وطغيانه، وسلوكه سلوك قومه في الإرعاب والإرهاب.

التوضيح السابع: متنٌ آخَر للخطبة

روى جماعةٌ أنّ يزيد بعث عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليد بن عُتبة تخوّفاً لضعف الوليد، فرقى عمرو المنبر حين دخل، وذكر ابن الزبير وما صنع، وقال: تعزّز أو تعوّذ بمكّة، ثمّ أقسم وكرّر قسَمه وأكّده أنّه سيغزوه لئن دخل الكعبة، وأكّد أنّه لَيحرقنّها عليه على رغم أنف مَن رغم، وفي بعض النصوص أنّه يحرق عليه مكّة ((2)).

ص: 50


1- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
2- أُنظر: تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190.

قال ابن خيّاط وابن عساكر والذهبيّ وغيرهم بألفاظٍ متقاربة، واللفظ للأخير:

وبعث يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص أميراً على المدينة، خوفاً من ضعف الوليد، فرقى المنبر وذكر ابنَ الزبير وتعوّذه بمكّة _ يعني أنّه عاذ ببيت الله وحرمه _، فواللهِ لَنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة لَنحرقنّها عليه على رغم أنف مَن رغم ((1)).ربّما قيل: إنّ هذا الكلام يناسب أن يكون بعد أن أقام الموسم ورجع إلى المدينة؛ لأنّه ذكر ابن الزبير، وكان هو في تلك الفترة يعدّ العدّة له.

بَيد أنّ مفاد عبارات المؤرّخين أنّه رقى المنبر بعد أن عزل يزيدُ الوليدَ وبعث عمرو.

وعلى فرض أنّه كانت بعد عودته من الموسم، فإنّها تكشف عن جرأته على الله وعلى حرماته، وهو يقسم بالله أنّه يحرق الكعبة!

التوضيح الثامن: رعف على المنبر

قالوا:

فلمّا استوى عمرو على المنبر رعف، فقال أعرابيّ: مَه، مَه! جاءنا

ص: 51


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.

والله بالدم.

فتلقّاه رجلٌ بعمامته، فقال الأعرابيّ: مَه، واللهِ عمّ الناسَ شرّ!

ثمّ قام فخطب، فناولوه عصاً لها شعبتان، فقال الأعرابيّ: مَه، شعب أمر الناس والله ((1)). أو فقال: تشعّب ((2)) الناس والله! ((3))

وفي (إمتاع) المقريزي:

ولمّا رعف وهو يخطب، قال أعرابيّ: جاء بالدم. وناوله إنسانٌ عمامةً فمسحه بها، فقال أعرابيّ: عمّ الناسَ الدم. ثمّ ناوله إنسانٌعصاً ذات شعبتين، فقال أعرابيّ: شعب بين الناس ((4)).

لقد خرج بزيٍّ أحمر، ورعف على المنبر، وناولوه عصاً بشعبتين..

ربّما كان ذلك بتخطيطٍ واستعدادٍ مسبَق، يريد به الإرعاب وبثّ التشاؤم في نفوس الناس، وإشعارهم بخطورة القادم، وجرأته على الدماء، فتشأموا مِن مقدمه، وهو كلّه شؤم، رعف أم لم يرعف، لبس الأحمر أم لم يلبس، حمل عصاً برأس واحدٍ أو بشعبتين! وما برح الشؤم يغطّي أجواء المدينة منذ أن رحل عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واجتمعوا في السقيفة، ومنذ أن

ص: 52


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
2- في (جواهر المطالب) للباعوني: (شعّب أمر).
3- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
4- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

هجموا على دار النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وهتكوا حرمته، ومنذ أن هاجر منها أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وما جرى بعد ذلك على أئمّة المسلمين وعلى المؤمنين جميعاً..

التوضيح التاسع: استعمال عمرو بن الزبير على الشرطة وما فعل بأنصار أخيه

قال ابن الأثير:

واستعمل على شرطته عمرو بن الزبير، لِما كان بينه وبين أخيه عبد الله من البغضاء، فأرسل إلى نفرٍ من أهل المدينة فضربهمضرباً شديداً، لهواهم في أخيه عبد الله، منهم: أخوه المنذر بن الزبير، وابنه محمّد بن المنذر، وعبد الرحمان بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمّد بن عمّار ابن ياسر، وغيرهم، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستّين ((1)).

قد مرّ معنا في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) و(ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة) أنّه حبس جماعةً ممّن لهم هوىً في ابن الزبير، وإنّما استعمل عمرو بن الزبير على شرطته وأرسله في محاربة أخيه إمعاناً في النكاية به، وكان ذلك بطلبٍ من عمرو بن الزبير نفسه.

ص: 53


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 265.

التوضيح العاشر: خروجه من المدينة

أفاد ابن عبد ربّه والباعونيّ من خلال السياق أنّ عمرو بن سعيد خرج إلى مكّة بعد الخطبة، فقالا بعد نقل قصّة رعفه على المنبر:

... فقال: تشعّب ((1)) الناس والله! ثمّ خرج إلى مكّة ((2)).

وأفاد ابن قُتيبة والباعونيّ أنّه خرج إلى مكّة فقدمها يوم التروية، «ثمّخرج عمرو إلى مكّة فقدمها يوم التروية» ((3))، وقد عرفنا أنّه دخل المدينة في شهر رمضان، فهو يفيد أنّه أقام هناك شهر رمضان وشوّال وذا القعدة، ثمّ خرج أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجّة بحيث وصل إلى مكّة في الثامن من ذي الحجّة يوم التروية!

وقد تظافرت النصوص على إقامة عمرو الموسم تلك السنة، وقد عاد إلى المدينة بعد الموسم.

يبقى الكلام أنّه: هل قضى الفترة ما بين شهر رمضان إلى أواخر ذي القعدة في المدينة، كما أفاد ابن قُتيبة والباعوني، والأحداث تغلي والأيّام تزدحم بالمستجدّات في مكّة، وكان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الزبير؟!

ص: 54


1- في (جواهر المطالب) للباعوني: (شعّب أمر).
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
3- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

التوضيح الحادي عشر: أمير الموسم في شهر رمضان والحجّ

أفادت المصادر أنّ عمرو بن سعيد ولّاه يزيد الخمور على مكّة والمدينة والموسم، وقد قَدِم مكّةَ في الموسم وأقامه وحجّ بالناس، وكان حاضراً في مكّة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها ((1))، كما سيأتي مفصّلاً إن شاء الله (تعالى).

ص: 55


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، الكامل لابن الأثير: 4 / 43، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 329، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

ص: 56

عمرو بن سعيد بن العاص

اشارة

لمّا كان لعمرو بن سعيد الأشدق دورٌ مؤثّرٌ في هذه الفترة، بحكم تسليطه على الحرمين من قِبَل يزيد الخمور والفجور، اقتضى أن نأتي على شيءٍ من ترجمته، وسنتناول ذلك من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: مَن هو؟

عمرو بن سعيد _ بفتح العين _ : هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأُمويّ ((1))، يُعرف بالأشدق، ليست له صحبة ((2))، بل ولم يولد إلّا في زمان عثمان ((3))، ولا كان من التابعين بإحسان، ووالده مختلَفٌ في صحبته.

ص: 57


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1177، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.
2- الإصابة لابن حجر: 6 / 557، عمدة القاري للعيني: 10 / 187، معرفة السنن والآثار للبيهقي: 7 / 486.
3- تهذيب التهذيب لابن حجر: 10 / 324.

وقال ابن الأثير: يُكنّى أبا أُميّة، وكان أمير المدينة، وغزا ابنَ الزبير، ثمّ قتله عبد الملك بن مروان بعد أن آمنه.ويقال: إنّه الّذي رأى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وروى عن عمر وعثمان، روى عنه بنوه وأُميّة وسعيد.

كان قتله سنة سبعين من الهجرة ((1)).

النقطة الثانية: سبب تلقيبه بالأشدق

قال العينيّ في (عمدة القاري):

عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، لطيم الشيطان، ليست له صحبة.

وعُرف بالأشدق؛ لأنّه صعد المنبر فبالغ في شتم عليّ، فأصابه لقوة.

ولّاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان أحبّ الناس إلى أهل الشام، وكانوا يسمعون له ويطيعونه، وكتب إليه يزيد أن يوجّه إلى عبد الله بن الزبير جيشاً، فوجّهه، واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن العوّام ((2)).

فهو من أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) الّذين يجاهرون بشتم سيّد الوصيّين

ص: 58


1- عمدة القاري للعيني: 2 / 141.
2- عمدة القاري للعيني: 10 / 187.

على المنابر، وقد أصابه الله بسبب ذلك حتّى مال شِدْقه، وأظهر فيه آيات عليّ بن أبي طالب ظاهرةً للعَيان، غير أنّ الطغيان والعتوّ والغروروالاستكبار على الله وأوليائه ينشأ في هؤلاء من مزيج نطفهم القذرة العفنة المتكوّنة من تكاثف سيلانات الزناة السكارى في كنيف أرحام الفواجر الرخيصات المتسكّعات على أبواب خيام الحانات، لذا أحبّه أهل الشام وأطاعوه، لولعه بعداء نور الأنوار ومعادن الأطهار، ولانتمائه إلى الشجرة الملعونة في القرآن الّتي تتدلّى منها القرود المجذومة الجرباء.

النقطة الثالثة: وصَفَه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بالجبّار

روى أحمد في (مسنده) عن أبي هريرة قال:

سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «لَيرعفنّ على منبري جبّارٌ من جبابرة بني أُميّة، يسيل رعافه».

قال: فحدّثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتّى سال رعافه ((1)) على درج المنبر ((2))، رعف على المنبر أوّل ما خطب ((3)).

ص: 59


1- مسند أحمد: 2 / 522، المناقب لابن شهرآشوب: 1 / 96، بحار الأنوار: 18 / 133.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 2 / 150 الرقم 460.
3- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

فالويل ثمّ الويل لمن وصفه نبيّ الرحمة بالجبّار، والويل لمن حكمهم ووُلّي عليهم، والويل لمن ولّاه وسلّطه على رقاب الناس، ومثل هذا الجبّار كان يريده يزيد القرود في مثل تلك الفترة، فهو المطلوب ليُقدِم على ارتكاب الجناية العظمى في تاريخ البشريّة.

النقطة الرابعة: أوّل مَن أخفت بالبسملة

قال البيهقيّ في (السنن):

... وكان يقول: أوّل مَن قرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ سرّاً بالمدينة عمرو بن سعيد بن العاص ((1)).

كذا أخبر عنه البيهقيّ، فإن كان هو الأوّل الّذي أخفت بالبسملة والتزم البدعة وروّج لها، فيكون من المؤسّسين ورؤوس المبتدعين. ألا لعنة الله على الظالمين.

النقطة الخامسة: موقفه حين سمع خبر شهادة الإمام (علیه السلام)

لمّا بلغ أهلَ المدينة مقتلُ الحسين (علیه السلام) ، كثر النوائح والصوارخ عليه، واشتدّت الواعية في دُور بني هاشم، فلمّا سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ

ص: 60


1- السنن الكبرى للبيهقي: 2 / 50.

ضحك! وقال: واعيةٌ بواعية عثمان ((1)).

لقد سمعناه في خطبته في المدينة يتوعّد ويذكر ثأره لدم عثمان، وهنا أيضاً عاد إليها، وكشف عن عفنه وأحقاده على أمير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) .ولو راجعنا النصوص التاريخيّة وقرأنا تصريحات الأُمويّين، نجدها تُزكم الأنوف وتقشعرّ لها الجلود والقلوب، وتُعلن بصراحةٍ ووقاحةٍ أنّ من أهمّ محفزّاتهم ودوافعهم لمحاربة أمير المؤمنين (علیه السلام) وقتل أولاده الطيّبين (علیهم السلام) وارتكاب الجناية العظمى بقتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كلّها كانت انتقاماً لدم عثمان وثأراً لشيوخهم ورؤوسهم الموبوءة المحشوّة كفراً وعناداً وطغياناً وشركاً ونفاقاً..

- واعيةٌ بواعية عثمان!

- ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..

وقد أبدى من الوقاحة والجسارة والجرأة على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما لا يأتي إلّا مِن أمثال هؤلاء الّذين دنّسوا التاريخ، ودخلوا الدنيا من النطف المجتمعة في الأرحام النتنة من ذوات الصنان والزناخة في حارات البغايا الرخيصات.

ص: 61


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 217، نهاية الإرب للنويري: 20 / 472، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 196.

كان الخبيث من الشامتين الّذين أظهروا الفرح والسرور والشماتة بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأبدوا كامن الأحقاد، وكان ممّن عجّل له ابن زياد بالبشارة بقتل ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فلمّا وصل إليه رسول ابن الأَمة الفاجرة ودخل عليه، قال:

قال عمرو بن سعيد: ما وراءك؟

فقلت: ما سرّ الأمير، قُتل الحسين بن عليّ.فقال: اخرُجْ فنادِ بقتله.

فناديت، فلم أسمع واللهِ واعيةً قطّ مثل واعية بني هاشم في دُورهم على الحسين بن عليّ (علیهما السلام) حين سمعوا النداء بقتله.

فدخلتُ على عمرو بن سعيد، فلمّا رآني تبسّم إليّ ضاحكاً، ثمّ أنشأ متمثّلاً بقول عمرو بن مَعدي كرب:

عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيج نسوتنا غداة

الأرنبِ

ثمّ قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان.

ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس قتلَ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، ودعا ليزيد ابن معاوية، ونزل ((1)).

ص: 62


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 84، تاريخ الطبري: 5 / 466، الإرشاد للمفيد: 2 / 127، بحار الأنوار: 45 / 121، العوالم للبحراني: 17 / 389، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 57، نفَس المهموم للقمّي: 415، الكامل لابن الأثير: 3 / 300، مثير الأحزان لابن نما: 51، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 68.

وروى ابن أبي الحديد:

كتب عُبيد الله بن زياد إلى عمرو بن سعيد يبشّره بقتل الحسين (علیه السلام) ، فقرأ كتابه على المنبر، وأنشد الرجز المذكور، وأومأ إلى القبر قائلاً: يومٌ بيوم بدر. فأنكر عليه قولَه قومٌ من الأنصار.

ذكر ذلك أبو عُبيدة في كتاب (المثالب) ((1)).

وهذا يفيد أنّ القزم الحقير والرجس النجس كان من رؤوس الأُمويّين الّذين يرون أنفسهم أصحاب ثارات، وقد جعل نفسه جهةً تقصد الانتقامبالذات، وكأنّه مفجوعٌ بنفسه ومطالب بذاته لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) بدم الأشياخ ودم عثمان، وما عسى أن يقول عنه الإنسان وقد تحدّث هو بنفسه عن نفسه وكشف نواياه وحقيقته بقوله وموقفه!

النقطة السادسة: كان أشدّ الناس في أمر مروان

قال البلاذريّ:

كان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة وقاتل معه الضحّاك بن قيس الفهريّ يوم مرج راهط ((2)).

ص: 63


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 71.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 443.

وقال ابن أبي الحديد:

كان على ميمنة مروان في موقعة مرج راهط ((1)).

كان مروان من أشدّ الناس في معاداة أهل البيت (علیهم السلام) ، وكان من أكثرهم شماتةً وحقداً على أمير المؤمنين وذرّيّته (علیهم السلام) ، وكان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة، وكان يقاتل على ميمنته انتصاراً له، وهكذا هي الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، وهكذا هم القرود النازية على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذين رجعوا بالناس القهقرى إلى دِين الجاهليّة، وهكذا هم قتَلَة أولاد الأنبياء والأوصياء وذراري الأوصياء.

النقطة السابعة: طمعه في المُلك وقتله

كان عمرو بن سعيد من جبابرة بني أُميّة، وكان متكبّراً مُعجَباً بنفسه، يطمع في المُلك، وقد ساند مروان ووقف معه، لاتّفاقٍ بينهما على أن يتشطّرا ضرعَيها، فيكون الأمر له بعد مروان، وتفيد النصوص أنّه كان يعمل على ذلك، ويستقطب الناس من أتباع القرود ويبني لنفسه قاعدةً من الأتباع، حتّى صار له موقعٌ عند الكثيرين، وصار ينافس أولاد مروان، وبايعه وجوه أهل الشام وناسها.

ص: 64


1- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 162.

قال البلاذريّ:

وامتنع عمرو بن سعيد من البيعة، ومات مروان وله ثلاثٌ وستّون سنة، ثمّ ملك عبد الملك بن مروان سنة ستٍّ وستّين.

فخرج عمرو بن سعيد بن العاص عليه، فصار أهل الشام فرقتين: فرقةً مع عبد الملك، وفرقةً مع عمرو بن سعيد، فدخلَت بنو أُميّة وأشراف أهل الشام بينهما، حتّى اصطلحا، على أن يكونا مشتركين في المُلك، وأن يكون مع كلّ عاملٍ لعبد الملك شريكٌ لعمرو بن سعيد، وعلى أنّ اسم الخلافة لعبد الملك، فإن مات عبد الملك فالخليفة من بعده عمرو بن سعيد، وكتبا فيما بينهما كتاباً، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام.

وكان روح بن زنباع من أخصّ الناس بعبد الملك بن مروان،فقال له وقد خلا به يوماً: يا أمير المؤمنين، هل من رأيك الوفاء لعمرو؟ قال: ويحك يا ابن زنباع! وهل اجتمع فحلان في هجمةٍ قطّ إلّا قتل أحدهما صاحبه؟

وكان عمرو بن سعيد رجلاً معجباً بنفسه، متهاوناً في أمره، مغترّاً بأعدائه.

قال أبو مِخنَف في روايته وغيره:

كان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة، وقاتل معه الضحّاك بن قيس الفهريّ يوم مرج راهط، فلمّا مات مروان وبويع عبد الملك بالخلافة بلغه أنّ مصعب بن الزبير بن

ص: 65

العوّام يريد الجزيرة متوجّهاً من العراق، فسار عبد الملك حتّى شارف الفرات، ومعه عمرو بن سعيد الأشدق، فقال له عمرو: إنّك تشخص إلى العراق، فقد كان أبوك أوعدني أن يولّيني الأمر بعده، وعلى ذلك قمتُ بشأنه وحاربتُ معه، فاجعلْ ليَ الأمر بعدك. فلم يُجبْه عبد الملك بشيءٍ ممّا يسرّه، فانصرف عن عبد الملك وقصد إلى دمشق حتّى دخلها، وقال: إنّ مروان كان ولّاني عهده، ولذلك قمت بنصره وصنعت ما أنتم عالمون به. فبايعه عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز _ وهو أبو خالد بن عبد الله البجليّ ثمّ القسريّ _، ثم بايعه وجوه أهل دمشق ومالوا إليه، لسخائه وجود كفّه، وألقى على سور دمشق المسوحوالخشب والكرابيس والفرش المحشوّة، وتهيّأ للحصار واستعدّ له، وبلغ عبد الملك خبره، فانكفأ راجعاً يغذّ السير ويجدّ فيه حتّى أتى دمشق، وقد أغلق عمرو أبوابها ... ((1))، إلى آخر ما قال.

وروى البلاذريّ أيضاً فقال:

وحدّثني هشام بن عمّار الدمشقي، أنبأنا صدقة بن خالد القرشيّ، عن خالد بن دهقان قال:

كان عمرو بن سعيد في عسكر عبد الملك، وقد فصل من دمشق وهو يريد العراق، فقال له: إنّ أباك وعدني أن يجعل لي الأمر بعده،

ص: 66


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 443.

فبايع لك ولعبد العزيز إنْ كان بعدك، فاجعل لي العهد بعدك. فقال له: يا لطيم الشيطان، أوَ أنت تصلح للخلافة؟! أنت ذو كبرٍ وجبنٍ وسرفٍ وعُجبٍ وإفكٍ ظاهر، لا ولا كرامة ولا نعمة عين!

فانخزل عنه، وأتى دمشق ودعا إلى نفسه، وكان سخيّاً، فبويع، وأغلق أبواب المدينة واستعدّ للحصار.

فرجع عبد الملك وترك وجهه ذلك، فحاصره، وجعل يرسل اليه ويعِدُه ويرفق به، ويحلف له لَيولّينّه عهده، فقبل ذلكوسكن إليه، وخرج إلى عبد الملك.

فيقال: إنّه دخل عليه وهو في قصرٍ كان في عسكره وأصحابُه مطيفون به، فقتله من يومه ((1)).

النقطة الثامنة: قتل عمرو بن سعيد بن العاص

قال الدينوريّ:

ثم إنّ عَمْراً دخل على عبد الملك يوماً، وقد استعدّ عبد الملك للغدر به، فأمر به فأُخذ، فأُضجع وذُبح ذبحاً، ولُفّ في بساط.

وأحسّ أصحاب عمرو بذلك وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمئة صرّةٍ قد هُيّئت، وجعل في كلّ صرّةٍ ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعدت إلى أعلى القصر، فأُلقيَت إلى أصحاب عمرو بن

ص: 67


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 445.

سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابُه الرأس ملقىً وأخذوا المال، وتفرّقوا.

فلمّا أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلاً فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير ((1)).وقيل: إنّ عبد الملك ذبحه بيده ((2)).

وقد شمت ابن الزبير بقتله، فقد رُوي أنّ عبد الله بن الزبير لمّا بلغه أنّ عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال: إنّ فم الذبان (الذئاب) ((3)) قتل لطيم الشيطان ((4)).

النقطة التاسعة: كلام صاحب (الغدير) فيه

قال العلّامة الأمينيّ (رحمة الله) بعد أن روى ما سبق في ترجمة عمرو الأشدق وصعوده المنبر وشماتته بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) :

ص: 68


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 286، وانظر أيضاً: الكشّاف للزمخشري: 2 / 568، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 450.
2- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال لليمني: 289.
3- تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي: 4 / 225.
4- المحرّر الوجيز لابن عطيّة الأندلسي: 2 / 346.

وكان أبو رافع عبداً لأبي أحيحة سعيد بن العاص بن أُميّة، فأعتق كلٌّ من بنيه نصيبه منه، إلّا خالد بن سعيد، فإنّه وهب نصيبه للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فلمّا ولي عمرو بن سعيد بن العاص المدينة أيّام معاوية، أرسل إلى البهيّ بن أبي رافع فقال له: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . فضربه مئة سوط، ثمّ تركه، ثمّ دعاه، فقال: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . فضربه مئة سوط، حتّى ضربه خمسمئة سوط، فلمّا خاف أن يموت قال له: أنا مولاك ((1)) (كامل المبرّد: 2 / 75، الإصابة: 4 / 68) ((2)).

النقطة العاشرة: هذا هو والي مكّة!

تبيّن أنّ والي مكّة والمدينة أيّام تواجد الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) في مكّة هو عمرو بن سعيد الأشدق، الخبيث المتجبّر المتكبّر المتغطرس اللاهث بوقاحةٍ وراء الدنيا، الطامع بالحكم والسلطان، العدوّ الحقود الحسود للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وذرّيّته (علیهم السلام) ، الشامت بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وبريحانته (علیه السلام) ، المتمادي في الغيّ والكفر والعتوّ بسبّ أمير المؤمنين (علیه السلام) على المنابر، الكَفّار

ص: 69


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 1 / 482، الإصابة لابن حجر: 2 / 372.
2- الغدير للأميني: 10 / 264.

العنيد والجبّار الشديد على النبيّ وآله، الّذي لا يعرف لله حرمة، ولا يتورّع عن إحراق الكعبة، ولا يمنعه من الإقدام على قتل سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) مانع، بل إنّ في منبته العفن وأصله النتن ومنشأه المشين ما يجعله يسعى في ذلك استجابةً لنوازعه ونزعاته وأحقاده وضغائنه، وما يعيشه من حقارة الولادة على فراشٍ تتنازعه شتّى الأعراق وتؤثّر فيه المؤثّرات الوراثية المتكثّرة بتكثّر الرجال الّذين شاركوا في إهراق نطفته القذرة المركّبة.

ص: 70

نزول الإمام (علیه السلام) دار العبّاس بن عبد المطّلب

اشارة

نزل الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة دارَ العبّاس بن عبد المطّلب عمّه ((1))، وكانت دار العبّاس قريبةً جدّاً من المسجد الحرام في المسعى ((2))..

وذكر الدينوريّ أنّه (علیه السلام) نزل في شِعْب عليّ (علیه السلام) ((3)).

ص: 71


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، التهذيب لابن بدران: 4 / 328، المختصر لابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341.
2- أُنظر: أخبار مكّة للأزرقي: 2 / 82، 119، 264، تاريخ مكّة المشرّفة لمحمّد بن أحمد الحنفي المكّي: 154 _ بتحقيق: علاء أيمن الأزهري.
3- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

فهو قد نزل في داره، ومكّة هي وطنه الأوّل، وإنْ كانت الدنيا قد أشرقت بنور ربّها بوجه سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة الّتي كانت مسقط رأسه، بَيد أنّ أهله وعشيرته وأعمامه كانوا في مكّة، فهو إنّما قصد بيت الله الحرام حيث يقطن أهلُه وذووه، وهي أصل منبته ومحتده، فهو سيّد قريش، وسيّد بني هاشم وبني عبد المطّلب، ويمكن للمرء أن يحتمي بهم في ساعةالعسرة، لو كانوا يلتزمون بالأخلاق والأعراف السائدة يومها، بغضّ النظر عن الدوافع الدينيّة والأوامر الإلهيّة والوصيّة النبويّة..

* * * * *

نزولٌ لا يحكي سوى دخول مكّة لمّا يدخل لها المعتمر والحاجّ، نزولٌ في دار عمّه أو شِعْب أبيه، نزل في داره، قريباً من بيت الله الحرام، على مرأىً ومسمعٍ من الناس والسلطة، في مكانٍ معروفٍ مشهود، يمتاز بحماية البيت لقربه منه، ويراه الرائح والغادي إلى بيت الله لأداء النسك والتهجّد، ويعرفه الأُمويّون، وهو محدَّدٌ عند السلطات، وموضعه يسهل ترصّده وجعله في متناول العيون والجلاوزة.

نزل الإمام (علیه السلام) بأهله وثِقْله وعياله ونسائه وأولاده ومَن معه من الأطفال والصبية والفتيان في مكّة، وسنسمع ما حدّثَنا به التاريخ، فنجده أقام في مكّة إقامة المستجير العائذ بالله وبيته وحرمه، لا يريد فيه سوى الأمن والاطمئنان والاستقرار، بعيداً عن حِراب القوم وسيوفهم ومخالبهم القذرة.

ص: 72

نزول الإمام بأعلى مكّة

اشارة

قد يُفهَم من خبر الخوارزميّ حيث روى عن ابن أعثم فقال:

قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي: ولمّا دخل الحسين مكّة، فرح به أهلُها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه غدوةً وعشيّة، وكانقد نزل بأعلى مكّة، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً، ونزل عبدُ الله بن الزبير داره بقيقعان، ثمّ تحوّل الحسينُ إلى دار العبّاس، حوّله إليها عبد الله بن عبّاس، وكان أميرُ مكّة مِن قِبَل يزيد يومئذٍ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص، فأقام الحسينُ مؤذّناً رافعاً صوته فيصلّي بالناس ... ((1)).

ثمّ يسترسل فيما بعد في سرد الأحداث باعتبار أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيمٌ بمكّة نفسها.

أفاد البعض _ فيما حُكي _ أنّ نصّ الخوارزميّ يُعطي أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقِم بمكّة، وإنّما نزل بأعلاها، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً، وبقيَ فيه هو وأهلُه ونساؤه وصبيته وعياله وفتيان بني هاشم والطالبيّين وأُسَرهم وأولادهم والركبُ بمن فيه على ضخامته كلّ تلك المدّة الطويلة، بشهادة أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) لم يقيما بمكّة بعد صلح الحديبيّة، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أَولى مَن استنّ بهما.

ص: 73


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

ويمكن أن يُلاحَظ على هذا القول عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: تفرّد الخوارزميّ

يُلاحَظ أنّ الخوارزميّ يصرّح بالرواية عن ابن أعثم، كما هو دأبه في كتابه (المقتل)، غير أنّ عبارة «بأعلى مكّة» لا توجد في كتاب (الفتوح)لابن أعثم ((1))، كما أنّ مصوّرة إحدى النسخ الخطّيّة للفتوح الموجودة لدينا لم تذكر ذلك!

أجل، قد يُقال: إنّ نسخة الخوارزميّ كانت تحتوي ما ذكره، وهو ليس ببعيد.

فإن قلنا أنّه كلام الخوارزميّ، يكون الخوارزميّ قد تفرّد بذلك، وإن قلنا بثبوته في نسخة الخوارزميّ من (الفتوح)، يكون ابن أعثم قد تفرّد في ذلك _ حسب الفحص _، وشأنه في ذلك شأن باقي متفرّداته، وما أكثرها.

الملاحظة الثانية: ارتباك النصّ

يُلاحَظ أنّ النصّ الّذي يرويه الخوارزميّ هنا فيه ارتباكٌ واضح، أو تصحيفٌ بيّن، وقد أتينا على بيان ذلك في ما سبق من الكلام فلا نعيد، ونكتفي بالإشارة إلى تصريحه أنّ والي مكّة كان يومها هو عمر بن سعد بن

ص: 74


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 23.

أبي وقّاص.

الملاحظة الثالثة: تصريح الخوارزميّ بالإقامة في مكّة

يُلاحَظ في نفس النصّ تصريحٌ من الخوارزميّ عن ابن أعثم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما نزل بأعلى مكّة عند دخوله، ثمّ تحوّل إلى مكّة بدعوة ابنعبّاس.

فيكون النزول بأعلى مكّة وضرب الفسطاط مرحلةً قبل النزول بمكّة نفسها، وكان الاستقرار في مكّة فيما بعد.

وهو نفسه حينما يسترسل في سرد الأحداث يرويها جميعاً في نفس مكّة، باعتبار أنّ الإمام قد استقرّ فيها وترك الفسطاط الّذي ضربه إبّان دخوله.

فلا يكون التفرّد إلّا في ضرب هذا الفسطاط إلى حين دخول الإمام مكّة، ويتّفق من بعد ذلك الخوارزميّ مع باقي المؤرّخين، وحينئذٍ لا يكون ثمّة مَن يخالف في نزول الإمام بمكّة من المؤرّخين، بما فيهم الخوارزميّ.

الملاحظة الرابعة: نزول المستجير بالبيت

يُلاحَظ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قَدِم مكّة مستجيراً عائذاً لائذاً بالله وببيته، خائفاً على أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وعياله، فالأَوفق به أن يكون قريباً من الكعبة، وكان بيت العبّاس لا يبعد عن الكعبة إلّا أمتاراً.

ص: 75

الملاحظة الخامسة: اختلاف الظروف

تختلف ظروف سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً عن ظروف جدّه وأبيه، وقداحتمل بعض الأعلام أنّ ترك المبيت في مكّة كان من خصائص أمير المؤمنين ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ((1))، والأحاديث في تحبيذ الإقامة واجتنابها متعارضة ((2))، وليس لدينا دليلٌ واضحٌ صريحٌ ناهضٌ أنّ الأئمّة المعصومين من أولاد الإمام الحسين (علیه السلام) لم يبيتوا في مكّة أبداً، وإثبات ذلك يحتاج إلى بحثٍ طويلٍ قد يُبعدنا عن أصل الموضوع.

ولا يخفى أنّ سلوك سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه سنّةٌ يُستنّ بها!

ثمّ إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّة بثقله وأهله، وهم عددٌ كبيرٌ من النساء والأطفال والفتية والصبيان، وبقي مدّةً طويلةً مضطرّاً، قد يشقّ عليهم الإقامة في فسطاطٍ ضخمٍ واحدٍ كلّ هذه المدّة.

الملاحظة السادسة: على فرض صحّة القول

على فرض صحّة هذا القول وأنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أقام بأعلى مكّة كلّ هذه المدّة، وبقي هناك دون أن يدعوه أحدٌ ولا يحتفل بإقامته في فسطاطٍ وهو قد نزل ضيفاً على أهل مكّة، وهو ابن نبيّهم

ص: 76


1- أُنظر: روضة المتّقين للمجلسيّ الأب: 4 / 42.
2- أُنظر: روضة المتّقين للمجلسيّ الأب: 4 / 42.

وسيّدهم وشريفهم، وقد أمر الله أهل مكّة أن يفتحوا أبوابهم للحجّاج، فهذا يعني عدم اكتراث أهل مكّة، شريفهم _ حسب الاصطلاح العرفيّ السائد يومذاك _ ودنيّهم، وعدم التفاتهم إلى سيّد الخلق أجمعين، وكأنّالنازل في فسطاطٍ ليس أهل بيت نبيّهم وأقدس مقدّسٍ أمرهم الله ورسوله بتقديسه.

وربّما أفاد أيضاً أنّ الإمام إنّما اجتنب بلداً أخرج جدّه وكره أبوه المبيت بين أظهرهم، فهو لا يأمنهم على نفسه وعياله.

وعلى هذا الفهم يُضاف هذا الخبر إلى باقي الأخبار الّتي تسوق الأحداث في تلك الأيّام لتشهد بغربة سيّد الشهداء أيّام إقامته في مكّة، وأنّ أهل مكّة لم يحبّوه ولم يدفعوا عنه ولم يمنعوه..

ص: 77

ص: 78

لقاء الناس بالإمام (علیه السلام)

لمّا نزل الإمام سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) مكّة، اجتمع الناسُ عليه ((1))، وفرح به أهلها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه ((2)) بكرةً وعشيّة ((3))، وكذا مَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ((4))، فكانوا يجتمعون عنده حلَقاً حلَقاً ((5))..

ص: 79


1- أُنظر: الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للديار بكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256.
2- أُنظر: إعلام الورى للطبرسي: 223، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.
4- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 343، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، روضة الواعظين للفتّال: 147، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79.
5- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

هكذا نقل المؤرّخون خبر استقبال الناس لسيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، ولقائهم به والاجتماع معه وعليه، والاحتفاء به، ولم نجد _ حسب فحصنا _ أيّة إضافةٍ تذكر أو تفصّل ما كان يجري في اللقاءات.

ولم تُسجّل في الاستقبال وفي الأيّام الأُولى أيّة خطبةٍ أو تقريرٍ أو دعوةٍ أو استنهاضٍ أو طلبٍ للبيعة أو التحريض على التحلّل من البيعة ليزيد الخمور أو اجتنابها والامتناع عنها.

ولو كان لَبان! ولو في إشارةٍ أو تصريحٍ من قريبٍ أو بعيد..ومن المعلوم أنّ الناس كانوا يتبرّكون بالنظر إلى وجه سيّد الشهداء (علیه السلام) المذكّر بوجه جدّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وربّما سأله بعضهم عن مسألةٍ شرعيّة، أو طلب منه قضاء حاجة، كما ورد في بعض المتفرّقات من الأخبار، من قبيل فعل ابن مطيع وغيره.

وربّما استُشعر شيءٌ من تعبير ابن كثير في قوله:

فعكف الناس على الحسين يَفِدُون إليه ويُقدِمون عليه ويجلسون حواليه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد ((1))..

بَيد أنّ هذا التعبير لا يُغني ولا يثبت شيئاً؛ لانفراد ابن كثيرٍ به من جهة، ولأنّه توصيفٌ منه وليس نقلاً لحادث، وإنّما يبدو واضحاً عليه أنّه محاولة ربطٍ بقصد الإيحاء إلى المتلقّي.

ص: 80


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

وقد نقل نصّه الشيخ باقر شريف القرشيّ (رحمة الله) بلفظٍ آخَر، فقال:

يقول ابن كثير: وعكف الناس بمكّة يَفِدون إليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه وينتفعون بما يسمعون منه ويضبطون ما يروون عنه ((1)).

وليس في هذا اللفظ التتمّة الموهمة في اللفظ السابق، إذ أنّ مدار اللقاءات والوفود والجلوس مقفلٌ على طلب العلم والتعلّم والاستماع والانتفاع وضبط الرواية والحديث.أمّا الصفة الغالبة على عبارات المؤرّخين _ عدا ابن كثير _ فهي تتحدّث عن مطلق اللقاء والاجتماع، وهو أعمّ ممّا ذكره ابن كثير، فالإمام الحسين (علیه السلام) عند الناس هو الحسين بن عليّ وابن فاطمة، ومعدن العلم وأُصول الدين ومنتهى الكرم..

وهو في وطنه مكّة البلد الحرام، وفي بيت الله الحرام، والمفروض أن يكون آمناً مطمئنّاً لا يزعجه شيء، وفي هذه الحالة قد حقّق ما من أجله دخل مكّة، فإن كان ثمّة غرضٌ آخَر من دخولها لَعمل عليه ولو بالكنايات والإشارات، ولرصدها الراوي وذكرها المؤرّخ.

وأمّا قول الخوارزميّ مصرّحاً بالنقل عن (الفتوح) لابن أعثم: «فأقام

ص: 81


1- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي (رحمة الله) (الموسوعة): 13 / 307.

الحسين مؤذناً رافعاً صوته فيصلّي بالناس» ((1))..

فهو بالإضافة إلى تفرّده، فإنّ عبارة ابن أعثم في (الفتوح) هي: «وأقام الحسين بمكّة قد لزم الصوم والصلاة»..

ومع ذلك، فإنّ إقامة الصلاة جماعةً ورفع الأذان لها كان رائجاً ذلك اليوم، وكانت الجماعات تكثُر في البيت الحرام، وكان ابن الزبير يصلّي بأصحابه، ومجرّد إقامة الصلاة جماعةً لا تُعدّ دعوةً للبيعة ومستلزماتها، ولا تُعتبَر تكريساً لموقفٍ له أبعادٌ ومغازٍ وأهدافٌ بعيدةٌ عن العمل بالاستحبابالشرعيّ.

* * * * *

كيف كان، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص لا يروي لنا كلاماً لسيّد الشهداء (علیه السلام) أو موقفاً يفيد انتصابه للخلافة الظاهرة، وتحريضه على السلطة، واستقطابه للأنصار، ودعوته لمحاربة القرد المسعور، عند دخوله مكّة ولا في أيّامه الأُولى، وما أفادته النصوص حصراً: أنّ الإمام (علیه السلام) دخل مكّة دخولاً عاديّاً كسائر مَن يدخلها من المسلمين، وأقام فيها تماماً كما يقيم فيها سائر المسلمين، مصلّياً متهجّداً عابداً متنسّكاً، يلتزم الصمت، ويدخل البيت الحرام للطواف والعبادة.

ص: 82


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.

ولا يمنع إن كان أحدٌ من المسلمين التقاه، واستعرض معه الوضع الراهن، وما يدور في تلك الأيّام من أحداثٍ تلت هلاك طاغية بني أُميّة واستخلاف نغله مِن بعده، فالإمام (علیه السلام) كان في السنام الأعلى والمقام الأسنى والشخص الأوّل بين وجوه القوم يومذاك بإجماع المسلمين، فمن الطبيعيّ أن تُطرَح هذه المسائل بين يديه وعليه، ويتوقّع الآخَرون من الإمام (علیه السلام) وينتظرون أن يسمعوا موقفه ويتعرّفوا على تقييمه للأوضاع حسب نظرتهم للإمام (علیه السلام) .

فإذا قال الإمام (علیه السلام) شيئاً، فهو يقول كسائر مَن كان يقول يومها، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما كثير، مع فارق المقارنة والقياس.ومع ذلك سنتابع أقوال المؤرّخين لنعرف:

- هل ابتدأ الإمام (علیه السلام) بقول شيء؟

- أو أعلن عن موقفٍ ابتداءً؟

- أو خطب في الناس وأعلن لهم عن موقف؟

- أو جمع الجموع وحرّضهم على أحد؟

- أو أنّ بعض مَن يسمّونهم الوجوه كالعبدين (ابن عبّاس وابن عمر) هم الّذين بادروا الإمام (علیه السلام) فقالوا، وسمعوا من الإمام (علیه السلام) ، ولم يسمعوا منه سوى التظلّم وما تعرّض له من هجوم وحوش الأعداء وإساءتهم له، وإخراجه من تربة جدّه وأُمّه وأخيه ومسقط رأسه،

ص: 83

وأنّه يريد الدفاع عن نفسه، ويأبى أن يعطي بيده إعطاء الذليل ويقرّ له إقرار العبيد أو يفرّ منهم فرار العبيد!

والظاهر من كلمات المؤرّخين أنّهم لا يحدّثون عن فترةٍ من فترات تواجد الإمام (علیه السلام) في مكّة دون فترة، وإنّما يُخبرون عن مجموع الفترة الّتي أقامها الإمام (علیه السلام) في مكّة.

ص: 84

لو طلب البيعة لأجيب!!

ذكر المؤرّخون:

إنّ وجود الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة ساء ابن الزبير، وكان أثقلَ خلق الله عليه، لأنّه علم علماً أكيداً وعرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً ولا يلقون إليه ولا يتهيّأ له ما يطلب منهم ما دام الحسين (علیه السلام) في البلد، وأنّ الحسين (علیه السلام) أطوع في الناس وأجلّ، وهو عندهم أعظم في نفوسهم وأعينهم ((1)).

هذه خلاصة أقوالهم بعد حذف المكرّر منها، وفيها جميعاً دلالةٌ واضحةٌ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لو كان قد طلب البيعة من الناس لَاختاره

ص: 85


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 315، تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، تجار الأُمم لمسكويه: 2 / 39، إعلام الورى للطبرسي: 223، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.

الناس على ابن الزبير، والمتون التاريخية تؤكّد أنّ ابن الزبير لم ينصب نفسه للبيعة تلك الأيّام، وربّما كان من أسباب امتناعه عن ذلك حينها هو ما فسّر المؤرّخ من وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) بمكّة، وهو يعلم أنّ الناس لايعدلون بسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أحداً.

ومؤدّى هذا التقرير: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لو كان قد دعا إلى البيعة لَاستجاب له الناس وقدّموه على ابن الزبير.

وفي تعبير الدينوريّ إفادةٌ أعمّ ممّا ذكره مشهور المؤرّخين، حيث يقول:

وتركوا عبدَ الله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يحتفلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير وعلم أنّ الناس لا يحفلون به والحسين مقيمٌ بالبلد ((1))..

فالقضيّة قضيّة احتفاءٍ واحتفالٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) واختلاف الناس إليه، وليس القصّة فيها بيعةٌ ولا خوف منازعةٍ في سلطان، لا قياس عند الناس بين ابن الزبير وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

ونحن لم نسمع في التاريخ _ حسب الفحص _ أنّ الإمام (علیه السلام) نصب نفسه للبيعة في مكّة، ودعا إليها وطلبها من أحد، ولم يروِ لنا أيضاً أنّ أحداً بايع الإمام (علیه السلام) في مكّة، ولم يجرِ أيُّ حديثٍ عن البيعة للإمام (علیه السلام) .

وكيف كان، فإنّ الوارد في هذا التقرير إنّما هو الإخبار عمّا في نفس ابن الزبير من حسدٍ ومن أوهام، وما يختلج في كوامنه من تحرّياتٍ للموقف

ص: 86


1- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

واعتمادٍ للحسابات، فإنّه يعلم أنْ لو وقع الخيار عند الناس بينه وبينريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لما عدل بسيّد الشهداء (علیه السلام) ولما اختاره أحدٌ ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً، سواءً على مستوى البيعة أو الاحتفاء..

وكما لم نسمع أنّ الإمام (علیه السلام) قد نصب نفسه للبيعة في مكّة، كذلك لم نسمع أنّ الناس قد انثالوا عليه يبايعون..

فالكلام مجرّد تحليلٍ مِن قِبل المؤرّخ، أو تقرير لحال ابن الزبير ووضعه وموقفه، وليس فيه إشارةٌ إلى موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) أو نصب نفسه للبيعة!

وسيأتي مزيد بيانٍ عند الحديث عن خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 87

ص: 88

كتاب الأشدق ليزيد

اشارة

ورد في (مقتل الحسين (علیه السلام) ) للخوارزمي:

أنّ (ابن سعدٍ) ((1)) هاب أن يميل الحجّاج مع الحسين (علیه السلام) ؛ لِما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، فانحدر إلى المدينة، وكتب بذلك إلى يزيد ((2)).

ويمكن التريّث هنا قليلاً من خلال عدّة تلميحات:

التلميح الأوّل: اسم الوالي

ورد في المطبوع من كتاب (مقتل الحسين (علیه السلام) ) للخوارزمي اسم الوالي الّذي كتب الكتاب ليزيد هكذا: «عمر بن سعد بن أبي وقّاص»، ويبدو أنّ ثمّة تصحيفٌ وقع، إذ أنّ المتّفَق عليه _ كما مرّ معنا _ أنّ الوالي كان:

ص: 89


1- إذ أنّه قال أنّ عمر بن سعد بن أبي وقّاص كان واليَ مكّة يوم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها. وفي (موسوعة تاريخ الإمام الحسين (علیه السلام) ): (ابن سعيد)، وفي هامشها: (في المطبوع: ابن سعد).
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

عمرو بن سعيد بن العاص.

التلميح الثاني: انفراد الخوارزميّ

يبدو لنا _ حسب الفحص _ أنّ الخوارزميّ قد تفرّد بنقل هذا الكتاب، ولم نقف عليه عند غيره، وبالرغم من أنّ الخوارزميّ ابتدأ كلامه في الفصل العاشر بقوله: «قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي»، ثمّ ذكر هذا الكتاب بعد زهاء خمسة سطور، غير أنّنا رجعنا إلى نسخ (الفتوح) المتوفّرة عندنا، فلم نجد خبراً عن هذا الكتاب، والله العالم.

التلميح الثالث: مخاوف السلطان

هذه هي مخاوف السلطان وأعداء الله دوماً وأبداً، وهذه هي طريقته في التهويل والتخويف والتلبيس، وتصوير ما يرهبهم ويهدّدهم بالشكل الّذي يرسم لهم صورة القَلِق الخائف على مستقبل السلطان، خوفاً على مستقبلهم وتزلّفاً لأربابهم، وطلباً للتمكّن من وسائل القضاء على العدوّ، وتشفّياً ممّن يكنّون له الحقد والضغينة والحسد..

كثر اختلاف الناس إليه من الآفاق.. وهذا الاختلاف بنفسه كان كافياً لزعزعة استقرار الجبناء، ومسوّغاً عندهم للاحتياط والخوف، وهذه جواسيسهم وعيونهم تملأ الآفاق وتمسح الأرض شرقاً وغرباً، سيّما في مكّة مجمع المسلمين من كلّ بقاع الأرض في أشهُر الحجّ.

ص: 90

التلميح الرابع: سبب المخاوف

هلّا كتب ابن سعيد لسائسه القرد المخمور شيئاً غير كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، وهو في موقف التخويف والتهويل والإنذار والتحذير؟ كأن يخبره عن جمع الرجال والتخطيط لأمرٍ ما، أو المجاهرة بالتحريض على السلطة، أو العمل السرّي للدعوة إلى البيعة!

لو كان شيئاً من هذا لَضمّنه كتابه، والحال أنّه حذّر من ظاهرةٍ واحدة، وهي كثرة اختلاف الناس إليه، وخشي من عواقب هذا الاختلاف والتجمهر على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وللناس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) مقاصد وحوائج، وهم يحتاجون إليه ويتوقون إلى رؤيته ويتبرّكون به ويستنصحونه ويتعلّمون منه ويأخذون منه معالم دينهم، وغيرها من المقاصد الّتي يعسر حصرها..

التلميح الخامس: الإخبار عن فعل الناس

ربّما كان هذا التلميح يتبع التلميح السابق، وقد أفردناه للأهميّة:

يُلاحَظ أنّه لم يُخبِر عن سلوكٍ متعلّقٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما أخبر عن سلوك الناس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو لم يجد في تحرّكات سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يمكن أن يُخبر به سيّدَه وسائسه، وإنّما وجد في تردّد الناس على الإمام (علیه السلام) واجتماعهم عنده، فهو لم يخبر عن فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) ،

ص: 91

إذ لم يجد له ما يمكن أن يخبر عنه.

ولا يقال:

إنّ اجتماع الناس حول سيّد الشهداء (علیه السلام) هو بنفسه تعبيرٌ عن حركةٍ ونشاطٍ للإمام (علیه السلام) .

لأنّ اجتماعهم عنده _ كما أفادت الأخبار من قبل _ كانت لأغراضٍ شتّى، منها: طلب البركة، وتعلّم الدين، وأخذ الحديث، وما شاكل.. ولو كان اجتماعهم عنده لغرضٍ خاصٍّ سعى من أجله سيّد الشهداء (علیه السلام) لسجّله وذكره في كتابه ووشى به، بل ربّما اقتضت الضرورة أن يضخّمه ويجعله تهديداً للسلطان، كأن يذكر للإمام (علیه السلام) خطباً أو مقالاتٍ أو نشاطاتٍ تحشيديّة أو تحريضيّة أو ما شابه ذلك.

التلميح السادس: الكتاب من المدينة

بغضّ النظر عن الغلط في اسم الوالي واعتباره (عمر بن سعد بن أبي وقّاص)، فإنّ الوالي كان في مكّة، فلماذا تقبّض عن الكتابة وأجّلها إلى أن خرج من مكّة ودخل المدينة، ثمّ كتب من هناك ليخبره عن مجريات الأحداث في مكّة؟!

التلميح السابع: خروج الوالي إلى المدينة!

لو كان وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة يُعَدّ تهديداً حقيقيّاً جدّيّاً على

ص: 92

السلطان، لما تركها وخرج إلى المدينة، والحال أنّ الشخصَين اللذَين كان يخشاهما السلطان، وهما ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن الزبير، قد خرجا منها ودخلا مكّة.

فيما أفادت المتون التاريخيّة _ كما تبيّن لنا سابقاً _ أنّ والي مكّة الّذي أراده يزيد متسلّطاً على البلدَين ليحقّق له أغراضه في القضاء على الإمام (علیه السلام) ، فيما ترك الوالي مكّة والإمام (علیه السلام) فيها وانحدر إلى المدينة، وبقيَ هناك إلى أيّام الموسم، فجاء إلى مكّة لإقامة الموسم، والحال أنّ مقتضيات الأحداث كانت تتطلّب أن يبقى الوالي قريباً من موضع التهديد والبؤرة الملتهبة في ولايته! ((1))

التلميح الثامن: إخبار يزيد بنزول الإمام (علیه السلام)

ربّما كانت عبارة السيّد بحر العلوم في (مقتل الحسين (علیه السلام) ) أوفق برسم المشهد وأدّق في التعبير، قال:

ص: 93


1- أضاف أخٌ عزيزٌ حبيب _ حفظه الله ورحم أباه _ هنا احتمالاً يفيد أنّ الوالي ربّما أوعز إلى جلاوزته اغتيال الإمام (علیه السلام) والجدّ في ذلك، واتّفق معهم على الخطّة، ثمّ غادر إلى المدينة، ليقع ما يقع ويحدث ما يحدث والوالي ليس في مكّة، فلا يُتّهَم بشيءٍ من ذلك ويتنصّل بحسب الظاهر من تحمّل مسؤوليّة دم سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وكتب والي مكّة يومئذٍ عمرو بن سعيد الأشدق إلى يزيد بن معاوية بنزول الحسين (علیه السلام) وأبنائه وأهل بيته (مكّة)، واجتماعالناس إليه والتفافهم حوله، وأنّ في ذلك الخطر على خلافته ((1)).

وهذا النصّ يفيد أنّ الأشدق أراد بكتابه إخبار سائسه بنزول سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة، وهو متصوّر، لأنّه والٍ على بلدٍ قد حدث في ولايته حدَثٌ عظيم، فيلزمه أن يخبر سيّده وينقل له الصورة الّتي يراها، ويعبّر له عن مخاوفه.

فيمكن والحال هذه حمل عبارة الخوارزميّ على هذا المعنى، والله العالم.

التلميح التاسع: الخلاصة

كيف كان، فإنّ مؤدّى هذا التقرير ومؤدّى مجريات الأحداث التاريخيّة الّتي رواها المؤرّخ هو تجمهر الناس واختلافهم إليه، لا أكثر، ولو كان ثمّة دعوةٌ إلى البيعة والاستنهاض وما شاكلها من النشاطات الرامية إلى ما هو أبعد من مجرّد اللقاء بسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) للتبرّك به والأخذ عنه، لَبانت آثاره من خلال تكاثر الرجال حول سيّد الشهداء (علیه السلام) والتفافهم حوله والتزامهم البيعة معه والوقوف في صفّه، بحيث تكون له مكّة مأمناً يحميه ويوفّر له الموقع الآمِن والعدد الكافي، والحال أنّه خرج منها لفقدان الناصر الّذي

ص: 94


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144.

يدفع عنه القتل ويحمي البيت الحرام من الهتك.

ومجرّد اجتماع الناس حول الإمام (علیه السلام) كان تهديداً أو تنغيصاً واضحاً لا يحتمله السلطان، وقد رأينا لذلك أمثلةً كثيرةً مع غير سيّد الشهداء (علیه السلام) من الأئمّة (علیهم السلام) ، حيث كانت التقارير تُرفَع إلى السلطان بإمكان احتفاء الناس، بل حتّى الشيعة فقط بالإمام (علیه السلام) ، ممّا يثير حفيظة الطاغوت.

وكذا سمعنا بمواقف معاوية وجِرائه مع السبط الأكبر (علیه السلام) ، ومحاولاتهم البائسة الخاسرة من أجل خدش ساحة القدس الحسنيّ، وما يخالونه تكبيتاً وتوبيخاً، خوفاً من التفاف الناس حوله وخفق النعل خلفه كما يزعمون، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) حُجّة الله في الأرض، وهو ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابن رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وابن فاطمة سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ، فكان في كلّ مرّةٍ يخزيهم ويعرّيهم ويفضحهم ويُلقمهم حجراً يكمّ أفواههم إلى أبد الآبدين.

فمجرّد التفاف الناس حول الإمام (علیه السلام) _ ولو طلباً للبركة والعلم والوجاهة بالتقرّب به إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) _ كان كافياً لإثارة الإحَن والحقد عليه والحسد والتحرّك ضدّه.

ص: 95

ص: 96

كتاب يزيد إلى أهل المدينة وردّ الإمام (علیه السلام)

اشارة

ورد في المتون التاريخيّة أنّ يزيد الخمور أرسل كتاباً إلى ابن عبّاس، وفي بعضها إلى أهل المدينة، وقال آخرون: إلى الأشدق، وأمره أن يقرأه على أهل الموسم، وسوف نستعرضها على التوالي.

فيكون مجموع ما أفادته النصوص أنّ يزيد القرود كأنّه كتب كتاباً واحداً في نسخٍ متعدّدة، أضاف على كلّ نسخةٍ منها ما يناسب المرسَل إليه.

وسنأتي على دراسته من خلال العناوين التالية:

ص: 97

ص: 98

العنوان الأوّل: وقت إرسال الكتاب

اشارة

يمكن تقسيم المصادر حسب ما ورد فيها من الإشارة إلى وقت إرسال الكتاب أو وصوله إلى وقتين:

الوقت الأوّل: إبّان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة

أفاد جماعةٌ _ ربّما كان أقدمهم ابن سعد في (ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات) ((1)) _ أنّ يزيد كتب إلى ابن عبّاس يخبره بخروج الحسين (علیه السلام) إلى مكّة، وذيّل كتابه بالأبيات الّتي سنقرأها بعد قليل، غير أنّهم ذكروه في تسلسل سرد الأحداث بعد كتاب الأشدق لسيّد الشهداء (علیه السلام) دون أن يذكروا في كتاب الأشدق الإشارة إلى شهادة مسلم (علیه السلام) ، وكذا بعد كتاب عبد الله بن جعفر (علیهما السلام) ضمن أحداثٍ قريبةٍ جدّاً من خروج سيّد

ص: 99


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

الشهداء (علیه السلام) .

وذكر ابن أعثم في (الفتوح) كتاب يزيد بعد أن ذكر كتاب الأشدق إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، ويذكر فيه أنّه بلغه عزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى العراق وشهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وأنصاره، ويحذّر الإمام (علیه السلام) من التوجّه إلى العراق، ويذكر جواب الإمام (علیه السلام) ، ثمّ يذكر الكتاب مورد البحث بقوله: «وإذا كتاب يزيد ...»، ثم يسرد أحداث انطلاق سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وذكر الخوارزميّ أنّ الكتاب أتى من يزيد إلى عمرو بن سعيد يأمره فيه أن يقرأه على أهل الموسم، ثمّ يقول: «وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم»، ويروي ما رواه ابن أعثم ((1)).

فأجواء سرد الأحداث يفيد أنّ كتاب يزيد وصل إلى أهل المدينة إبان عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج وأوائل انطلاقه نحو العراق، وعند ابن أعثم بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وستأتي مناقشته عن قريب.

الوقت الثاني: عند نزول الإمام (علیه السلام) في مكّة

أفاد الشجريّ أنّه كتب الكتاب حين لحق الإمام (علیه السلام) بمكّة ((2))، وصرّح

ص: 100


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 182.

سبط ابن الجوزيّ أنّه كتب يزيد إلى ابن عبّاس لمّا نزل الحسينُ (علیه السلام) مكّة ((1)).

والتعبير ب- (حين لحق) و(لمّا نزل) يفيد أنّه في أوائل قدوم الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، ويعضده ما ورد في نسخة ابن سعد من إخبار يزيد أنّ الإمام (علیه السلام) خرج إلى مكّة.

إلّا أن يقال: إنّ المقصود الإشارة إلى ظرف كتابة الكتاب، وهو كون الإمام (علیه السلام) في مكّة، بغضّ النظر عن بيان الوقت على وجه التحديد، فيمكن الجمع مع المصادر السابقة.

ص: 101


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.

ص: 102

العنوان الثاني: نُسَخ الكتاب

اشارة

يبدو من نصّ ابن أعثم والخوارزميّ أنّ يزيد الخمور والفجور أرسل الكتاب في نسختين:

إحداهما: وجّهها إلى والي مكّة عمرو بن سعيد، وكان المخاطَب الأصليّ فيها جماعة الحجيج، إذ أمره أن يقرأه على أهل الموسم.

والنسخة الأُخرى: وجّهها إلى أهل المدينة، كما هو صريح النصّ.

ولا يُستبعَد أنّ يكون قد بعث النسختين إلى واليه، لتكون واحدةً للموسم في مكّة والأُخرى لأهل المدينة، أي: ليقرأها الوالي أو مَن يخوّله على أهل المدينة، والمقصود الأصليّ في المدينة هو إسماع قريش المدينة وبني هاشم.

ويشهد لذلك ما سنسمعه بعد قليلٍ من ابن سعدٍ وغيره: «وكتب بهذه الأبيات إليه _ يعني ابن عبّاس _ وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش» ((1)).

ص: 103


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

فيكون مفاد مجموع النصوص أنّ أربعة نسخ من الكتاب:

- أُرسلَت واحدةٌ إلى أهل المدينة، بمن فيهم من قريش وبني هاشم.

- والأُخرى إلى أهل مكّة.

- وثالثة إلى ابن عبّاس.

- ورابعة إلى الأشدق، ليقرأها على أهل الموسم.

إلّا أن يُقال: إنّ نسخة أهل مكّة هي نفسها نسخة الأشدق.

النسخة الأُولى: نسخة إلى أهل المدينة وغيرهم

اشارة

قال ابن أعثم:

وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات:

يا أيّها الراكب الغادي لطيّتِهِ

على عذافرةٍ في سيره

قحمُ

أبلِغْ قريشاً على نأْي المزار

بها

بيني وبين الحسينِ

اللهُ والرَّحِمُ

وموقفٌ بفِناء البيت ينشده

عهد الإله وما توفى به

الذممُ

عنّيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكمُ

أُمٌّ لَعمري حصانٌ بَرّةٌ

كرمُ

هي الّتي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ

الرسولِ وخيرُ الناس قد علموا

ص: 104

وفضلُها لكمُ فضلٌ، وغيركمُ

من يومكم لهمُ في

فضلها قسمُ

إنّي لَأعلم حقّاً غير ما كذبٍ

والطرف

يصدق أحياناً ويقتصمُ

أنْ سوف

يدركْكُمُ ما تدّعون بها

قتلى تهاداكمُ العقبان

والرخمُ

يا قومنا لا

تشبّوا الحرب إذ سكنَتْ

تمسّكوا بجبال الخير

واعتصموا

قد غرّت

الحربُ مَن قد كان قبلكُمُ

من

القرون، وقد بادت بها الأُممُ

فأنصفوا

قومكم، لا تهلكوا بذخاً

فرُبّ ذي بذخٍ زلّت به

القدمُ

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ، فلمّا نظر فيه علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾، والسلام» ((1)).

وروى الخوارزميّ فقال:

ثمّ أتى كتابٌ من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد، يأمره فيهأن يقرأه على أهل الموسم، وفيه:

يا أيّها الراكب الغادي لطيّته

على عذافرةٍ في سيرها

قحمُ

أبلِغْ قريشاً على نأْي المزار

بها

بيني وبين الحسينِ

اللهُ والرحمُ

ص: 105


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 117.

وموقفٌ ببناء البيت ينشده

عهد الإله، وما توفى

به الذممُ

عنّيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكم

أُمٌّ لَعمري حصانٌ

عمّها الكرمُ

هي الّتي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ

الرسول، وكلّ الناس قد علموا

وفضلها لكمُ فضلٌ، وغيركمُ

من

قومكم لهمُ من فضلها قسمُ

إنّي أظنّ وخير القول أصدقه

والظنّ يصدق أحياناً

وينتظمُ

أنْ سوف

يتركْكُمُ ما تدّعون به

قتلى تهاداكم العقبانُ

والرخمُ

يا قومَنا

لا تشبّوا الحرب إذ سكنَتْ

واستمسكوا

بحبال الخير واعتصموا

قد عضّت

الحربُ مَن قد كان قبلكُمُ

من

القرون، وقد بادت بها الأُممُ

فأنصفوا

قومكم، لا تشمخوا بذخاً

فرُبّ ذي بذخٍ زلّت به

القدمُ وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم.

قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم!

قال: فوجّه أهلُ المدينة بهذه الأبيات إلى الحسين، ولم يُعلِموه أنّها من يزيد، فلمّا نظرها الحسين علم أنّها منه، وكتب إليهم في الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. فإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون» ((1)).

* * * * *

ص: 106


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

يمكن تناول ما ورد في هذا المتن الّذي ذكره ابن أعثم والخوارزميّ من خلال الوقفات التالية:

الوقفة الأُولى: المخاطَب

يفيد نصّ ابن أعثم أنّ يزيد أرسل الكتاب إلى أهل المدينة، وفي هذا التعبير من الغموض والشمول والعموميّة ما يجعل المخاطَب مجهولاً تماماً، هذا غير ما في نفس العبارة من ارتباك: «وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد من قريش وغيرهم من بنيهاشم»، فما هو المقصود بالضبط من قوله: «من قريش وغيرهم من بني هاشم»؟! فربّما كان شرحاً وتفسيراً للمقصود من أهل المدينة، وكأنّ المخاطَب بالكتاب هم قريش المدينة وبني هاشم، أو أنّ البريد هو من قريش وبني هاشم.

وكيف كان، فإنّ في العبارة ارتباكاً يلوح للناظر، سيّما إذا لاحظنا أنّ بني هاشم من قريش وليسوا «غيرهم»! وإن كان في ذكر الخاصّ بعد العام تأكيد.

والحال أنّ الّذين نظروا فيه هم أهل المدينة حسب النصّ: «فنظر أهلُ المدينة إلى هذه الأبيات..»، وأنّ الّذي وجّه الأبيات والكتاب هم أهل المدينة: «ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ»..

فمَن ذا الّذي استلم الكتاب مِن أهل المدينة؟

ص: 107

ومَن قرأه؟

ومَن قرّر إرساله؟

ومَن أرسله؟

ومَن كان الرسول؟

ولو كان المخاطَب هم قريش وبنو هاشم على وجه الخصوص، يبقى المخاطَب مجهولاً عامّاً لم يُحدَّد، فمَن الّذي استلم الكتاب منهم؟ ومَن الذي قرأه؟ ومَن الّذي أرسله إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

الوقفة الثانية: معنى النظر في الكتاب

كأنّ قوله: «فلمّا نظر فيه عَلِم أنّه كتاب يزيد بن معاوية» يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) تأمّل الكتاب الحاوي على الأبيات، وعلم من خلال قراءته أنّه من يزيد، ومقتضى أن يكون الكتاب مبعوثاً من يزيد أن يكون مختوماً بخاتمه، فلا يحتاج معرفة مرسله إلى النظر في الكتاب!

أجل، قد يُقال أنّ المقصود من (النظر) الرؤية، وهو خلاف ظاهر النصّ.

بَيد أنّ الخوارزميّ الّذي اعتاد نقل المتون التاريخيّة في (المقتل) من كتاب ابن أعثم نقل النصّ نفسه بعبارةٍ أوضح وأكثر تماسكاً، ومع ذلك تبقى فيه بعض الثغرات الّتي لم تعالجها صياغة الخوارزميّ أيضاً.

ص: 108

الوقفة الثالثة: ابتداء القرد بالهجوم

لا يبدو _ حسب النصوص المتوفّرة ومجريات الأحداث المرويّة في المتون التاريخيّة _ أنّ سيد الشهداء (علیه السلام) قد أعلن على رؤوس الأشهاد وتكلّم بوضوحٍ وصراحةٍ بين جموع أهل مكّة وأهل الموسم عن مواجهته للقرد الأُمويّ ووقوفه في صفّ المحارب الّذي يريد أن ينقضّ عليه وعلى حُكمه..

بل لم يتوفّر لدينا نصٌّ يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هاجم القرد، ومارسما يسمّى ب (الحرب الإعلاميّة) ضدّه شخصيّاً كقردٍ أُمويٍّ متميّعٍ خليعٍ على رؤوس الأشهاد وفي التجمّعات العامّة.

أجل، روى لنا المؤرّخ أنّه ذكر يزيد بمثالبه عند أشخاص معيَّنين في حديثٍ خاصٍّ جرى بينهم، كحديثه (علیه السلام) مع العبدَين ابنِ عبّاسٍ وابنِ عمر في بعض النقول.

فيما أقدم يزيد المخمور المسعور لإعلانه الحرب وتهديده بالإبادة، مُعلِناً ذلك على أهل الموسم وأهل المدينة وقريش وبني هاشم.. فهو كان يسعى جاهداً لترويض الناس، وتجييش الغوغاء على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لتحقيق غرضه المشؤوم ورسم المشهد في العقول الخاوية والأذهان الكليلة البالية، من خلال الإعذار لها وتجريم العدوّ قبل أن يُقدِم على أيّ خطوة، ليتسنّى له تنفيذ خطّته الّتي رُسمَت له من قبل، والّتي تهدف إلى إبادة آل

ص: 109

النبيّ (صلی الله علیه و آله) وكلّ مَعْلَمٍ من معالم الدين والإسلام والتوحيد ومعدنٍ من معادن الحقّ والهداية..

الوقفة الرابعة: مؤدّى الأبيات
اشارة

لا نريد تناول أبيات العُتلّ الزنيم بالدقّة والدخول في تفاصيل ما هذر به، ونكتفي بالإشارة السريعة إلى أهمّ ما تضمّنته، ونستغفر الله ونعتذر مسبقاً من ساحة القدس الإلهيّ خامسِ أصحاب الكساء (علیه السلام) ، ومن القارئ الكريم، إذأنّ الأبيات فيها من الجسارة وسوء الأدب الّذي ينمّ عن كوامن القرد المخمور، وإنّما اضطرّنا إلى الخوض فيها ضرورة البحث:

المؤدّى الأوّل: كتابٌ أبتر

يبدو من لفظ ابن أعثم أنّ كتاب يزيد كان يخلو من السلام والتحيّة والمقدّمة، وهو _ حسب النقل _ يبتدئ بالأبيات، حيث يُخبر عن وصول الكتاب وفيه هذه الأبيات، من دون الإشارة إلى المخاطَب أو البسملة والحمد والثناء والصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وما شاكل ممّا هو مرسومٌ في مقدّمات الكتب والرسائل، ولا يبدو أنّ الناقل قد اختصر وبادر إلى أصل الموضوع.

وهذا النمط من المكاتبة ينمّ عن مدى غطرسة المرسِل وتجبّره وتكبّره وطغيانه وعتوّه واستكباره، وقل ما شئت من الألفاظ والمعاني الّتي تعبّر عن

ص: 110

مثل هذه الأخلاقيّات المذمومة، ولن تبلغ!

المؤدّى الثاني: تظلّم يزيد!

يتظلّم يزيد الخمور عند قريش، ويشكو إليهم ريحانة النبيّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويتظاهر بمناشدة الإمام بالله والرحم، ويعاهد الله له، وبكلّ ما يمكن أن توفى به الذمم من قيَمٍ وملزمات..

والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو الّذي يتظلّم من فعل القرد المسعوروجِرائه وزبانيته، الّذين لاحقوا الإمام (علیه السلام) وأزعجوه وأخرجوه من وطنه إلى حيث لا مأوى ولا مأمن!

المؤدّى الثالث: حصر مورد المفاخرة

ثمّ سحّت نفسُه بصديد الجاهليّة وأوحالها الّتي نشأ وترعرع وكبر على قيمها ومفاهيمها، وزعم أنّ أهل البيت (علیهم السلام) عنّتوا قومهم تفاخراً بأُمّهم، تماماً كما يتفاخر شاعرٌ جاهليٌّ على خصومه أو ينازعهم، وكأن ليس الإمام الحسين (علیه السلام) هو سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد شباب أهل الجنّة والإمام المنصوب من الله المفترض الطاعة على الخلق الّذي دلّ عليه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكأن ليس الإمام (علیه السلام) بنفسه مفخراً للخلق أجمعين!

ولا شكّ أنّ الافتخار بفاطمة بنت النبيّ أُمّ الحسين حقّ، وقد اعترف به حتّى يزيد وغير يزيد من أسلافه وأتباعه.. بَيد أنّ المراوغة والتلوّن

ص: 111

والالتواء في كلام الوغد أنّه حصر سبب كلّ ما جرى على الإسلام والمسلمين وظلم آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في إلحاحهم بالفخر، بحيث عنّتوا قومهم وأجبروهم على ما فعلوا نتيجة العنت الّذي لحقهم من مفاخرة آل البيت (علیهم السلام) بأُمّهم (علیها السلام) .

كما أنّه حصر _ إيماءً _ حقّ سيّد الشهداء (علیه السلام) في رفع قامته والوقوف في وجه الطواغيت، وجميع حقوقه الأُخرى المسلوبة ومناصبه المغصوبةبفخره بأُمّه، أي: أنّ المسوغ الوحيد الّذي يدعو سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى اتّخاذ أيّ موقفٍ يريده إنّما هو باعتباره يشعر أنّه ابن (أُمٍّ) تختلف عن سائر الأُمّهات، وبها يسمو ويعلو ويرتفع ويقول ما يقول ويفعل ما يفعل..

أجل، أن يكون الإمام الحسين (علیه السلام) ابن بنت النبيّ فاطمة سيّدة نساء العالمين مفخراً، وأيّ مفخر، ولكنّه ليس هو السبب الوحيد، بل لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وتعاليم القرآن وحاجة الإسلام والمسلمين وشخص الإمام المعصوم خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وغيرها من الأسباب الأُخرى الّتي فرضت على الخلق أجمعين الطاعة والتسليم له.. لكنّ القرد المخمور حصر الأمر بافتخارهم بأُمّهم!

المؤدّى الرابع: منازعة مورد التفاخر

يزعم أنّ أهل البيت (علیهم السلام) عنّتوا قومهم فخراً بالزهراء (علیها السلام) ، ثمّ يُقرّ له إقرار مجادلٍ أنّ فضل الزهراء (علیها السلام) يعلمه الناس كلّهم، فلا داعي للتفاخر والتأكيد

ص: 112

على شيءٍ يُقرّ به الناس جميعاً.

ثمّ يحاول أن ينسب هذا الفخر لنفسه ولغيره، فيقول: إنّ غيركم من قومكم لهم من فضلها قسم. وقد كذب اللعين ودلّس، لكي لا تكون لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) خصوصيّةٌ وفخرٌ بالزهراء (علیها السلام) يميّزه عن غيره إلّاقليلاً.

المؤدّى الخامس: التهديد

ثمّ جعل يتوقّع ويرجم بالغيب، ويقول: إنّ الظنّ يصدق أحياناً. في إشارةٍ إلى أنّ ظنّه هذا صادق، وأنّ هذا الفخر سيؤدّي بهم إلى القتل، فتكون أبدانهم طعاماً للعقبان والرخم.

هذا التفاخر الّذي لا يراه ابن آكلة الأكباد إلّا سكرةً تُخمّر الفكر فتجعله لا يبصر العواقب، فيرسم لها العاقبة هو في صورةٍ مفزعةٍ مرعبةٍ تستغرق في التهديد المهول، لأنّها تنتهي بالمتفاخِر إلى أن تمزّق أشلاءه السيوفُ وتتناوشه الرماحُ والأسنّة، فيقع صريعاً تحوم عليه النسور ووحوش الطيور، لتنتهش أجسادهم..

إنّه تهديدٌ صريح، وتصويرٌ وقح، وتعبيرٌ لا يصدر إزاء معادن الطهر إلّا من أولاد البغايا النتنات..

وهو مصرٌّ ومستمرٌّ في تهديده من خلال الأبيات المتتابعة الّتي تصوّر عاقبة مَن حاربوا مِن قبل كما يزعم، وأنّ الحرب قد عضّت السابقين

ص: 113

وأبادت الأُمم، ويشهد لذلك قول الشعبيّ الّذي رواه الخوارزميّ كتعليقٍ على الكتاب: «قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم»!

ويختم أبياته بالدعوة لإنصاف القوم وتجنّب البذخ، فالبذخ قد يزلّ بهقدم الباذخ.

المؤدّى السادس: العزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والاعتذار منه

إنّ الأبيات تتضمّن _ بخبثٍ _ إنكار الوصاية والولاية، وحصر أسباب الخلاف في الروح الجاهليّة والتفاخر بالأصل والأُمّهات، وتتضمّن تهديداً صريحاً وقحاً، وتضليلاً للعقول وحرفاً للأذهان، واتّهاماً لسيّد الشهداء (علیه السلام) بالبذخ والبطر والأشر والفساد، وهذا هو بالضبط الّذي نفاه الإمام (علیه السلام) في وصيّته لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: «وإنّي لم أخرج أَشِراً ولا بطراً ولا مُفسداً ...».

وتريد أن توحي للناس أنّ يزيد الخليع الماجن قد أعذر وأنذر، وأنّ الحرب قد أقدم عليها سيّد الشهداء (علیه السلام) طلباً للحكم والدنيا، وأنّ ذلك سيتركه قتيلاً تتهاداه العقبان والرخم، وفي ذلك إعلانٌ صريحٌ لما ينويه الخبيث من الإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ يزيد الخمور كان عازماً على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أرسل هذا الكتاب إلى أهل المدينة يعتذر إليهم من قتل الإمام (علیه السلام) مقدّماً.

يؤكّد ذلك ما رواه الطبريّ، قال:

ص: 114

دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخّ، فوجده خائفاً يلتمس عذراً مِن قتْل مَن قَتَل، فقال له: أصلحالله الأمير، أُنشدك شعراً كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه مِن قتل الحسين بن عليّ (علیه السلام) . قال: أنشِدْني. فأنشده فقال: يا أيّها الراكب الغادي لطيّته ... إلى آخر الأبيات.

قال: فسرّى عن موسى بن عيسى بعضَ ما كان فيه ((1)).

الوقفة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

بعد أن نظر الإمام (علیه السلام) في الكتاب وعلم أنّه من يزيد، كتب جواباً. قال:

وكتب إليهم في الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. فإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون» ((2)).

وهنا إشاراتٌ سريعةٌ يمكن التلويح إليها:

الإشارة الأُولى: المخاطَب

يظهر من قوله: «وكتب إليهم في الجواب» أنّ المخاطَب هم أهل

ص: 115


1- تاريخ الطبري: 6 / 420، معجم الأُدباء لياقوت: 16 / 158.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

المدينة الّذين أرسلوا إليه الأبيات.

فيكون المكذِّب _ حينئذٍ _ هم أهل المدينة، والآية تنطبق عليهم، ويكون أهل المدينة كأنّهم قد تبنّوا ما في الأبيات، وإنّما اصطفّوا في صفّالقرود وصاروا يتكلّمون بلسانهم ويزقحون بزقحهم، ويخاطبون الإمام (علیه السلام) بنفس الخطاب الّذي ضمّنه يزيد الخمور في أبياته.

فهم قد عبّروا عن موقفهم تجاه سيّد الشهداء (علیه السلام) من خلال أبيات العتلّ يزيد، فكان الجواب موجَّهاً إليه وردّاً عليهم!

وهذا يعنّي أنّ إرسال الكتاب من قِبَل أهل المدينة لم يكن لا بأمر يزيد ولا عملٌ عفويٌّ غير مقصود، وإنّما يكون تعبيراً عن موقفٍ وتحذيراً للإمام (علیه السلام) تبنّاه أهلُ المدينة من خلال هذه الأبيات.

ويمكن أن يكون الجواب موجَّهاً إلى يزيد باعتباره ردّاً على الخطاب المتضمّن في الأبيات، وهي أبياته.

ولا يمنع أن يكون ردّاً للجميع.

وعلى كلّ تقدير، فإنّ مضمون الجواب واحدٌ بغضّ النظر عن المخاطَب.

الإشارة الثانية: مضمون الجواب

لقد أجاب الإمام (علیه السلام) بآيةٍ واحدةٍ فقط، وهي الآية 41 من سورة يونس، ولم يزدْ على ذلك شيء.

ص: 116

وخلاصة مؤدّى الآية الشريفة _ كما قال الفيض الكاشانيّ _ :

﴿وإِنْ كَذَّبُوكَ﴾: وإن يئست من إجابتهم، وأصرّوا على تكذيبك، ﴿فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُوَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾: لا تُؤاخَذون بعملي، ولا أُؤاخذ بعملكم، يعني: تبرّأْ منهم وخلِّهِم، فقد أعذرتَ إليهم ((1)).

وقال السيّد الطباطبائيّ صاحب (الميزان):

قوله (تعالى): ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ إلى آخر الآية، تلقينٌ للتبرّي على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحقّ ممّن انتهض لإحيائه، فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا، وإلّا فالتبرّي منهم لئلّا يحملوه على باطلهم.

وقوله: ﴿أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تفسيرٌ لقوله: ﴿ لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ ((2)).

الإشارة الثالثة: تطبيق الآية على المقام

تفيد الآية أنّ ثمّة تكليفٌ يتلخّص في ترك أهل الباطل والإعراض عنهم وعدم الاصطدام بهم، وليعمل كلٌّ على طريقته ويسير بسيرته، فلا يفرض

ص: 117


1- تفسير الصافي للكاشاني: 2 / 403.
2- الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي: 10 / 68.

الباطلُ نفسَه على الحقّ، ويتبرّأ الحقُّ من الباطل وفعله.

بمعنى: اتركوني وشأني، وأترككم وشأنكم، فلا أنتم تقبلون حقّي، ولاأنا أركع لباطلكم، وأنا أتبرأ من عملكم، وأنتم تبرّؤون من عملي، وأنا مسؤولٌ عمّا أعمل، وأنتم مسؤولون عمّا تعملون، وكلٌّ يتحمّل ما يترتّب على عمله..

سواءً أكان المخاطَب أهل المدينة الّذين أرسلوا الأبيات إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) أو يزيد الخمور الّذي كتبها، فإنّ موقف الإمام (علیه السلام) الّذي يرسمه الاستشهاد بهذه الآية كجوابٍ يعني أنّي سأبقى ملتزماً بالحقّ، فلا أُبايع، وأنتم افعلوا ما تشاؤون من الخذلان أو اقتحام الهلكة بقتلي، فإن كنتم تريدون سفك دمي والهجوم علَيّ فإنّي لا أُعطيكم بيدي ولا أُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..

فالأبيات _ كما هو واضحٌ _ تحمل التهديد الصريح بالقتل، وتحويل الرجال إلى طعامٍ تنتهشه مناقير الرخم والعقبان الحادّة، وتحذّر من الحرب، والإمام (علیه السلام) يجيب بما يشبه الصريح من خلال تطبيق الآية أنّه لا يقصد الحرب، وإنّما هو عازمٌ على أن يتمسّك بحقّه ويعتزل الباطلَ وأهلَه.

الإشارة الرابعة: تحديد مصداق المكذّب

الاستشهاد بالآية الكريمة يفيد أنّ المخاطَب بالكتاب مصداقٌ ينطبق عليه عنوان المكذّب بالدين وبالرسل والأنبياء والأوصياء، ولا يبعد أن

ص: 118

يكون لفظ الجمع الوارد في قوله (تعالى): ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يفيد أنّالمخاطَب هو يزيد وأهل المدينة الّذين أرسلوا الكتاب، وأنّهم جميعاً اشتركوا في التكذيب ومحاربة الحقّ وأهله.

الإشارة الخامسة: ازدراء المخاطَب

بملاحظة ما ذكرناه قبل قليلٍ في المؤدّى الأوّل، يكون ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بالمِثل على مَن كتب ومَن أرسل الكتاب، فقد بدأ يزيد الفجور والخمور كتابه بالأبيات من دون حتّى البسملة كما هو معهود، ولا الحمد والثناء ولا تحديد المخاطَب.

فجاء جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) على نفس النسق، إلّا فيما يخصّ الخلُق العظيم الّذي امتاز به الأئمّة الطاهرون (علیهم السلام) ، فهو قد ابتدأ الرسالة بالبسملة، لتكون بدايةً للرسالة وبدايةً لتلاوة الآية المباركة.

بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) ازدرى المخاطَب بكتابه، سواءً كان يزيد أو أهل المدينة أو هما معاً، فلم يبدأهم بتحيّة، ولا أيّ مقدّمةٍ من مقدّمات الكتب المعهودة.

بل يُلاحَظ أنّه ازدرى يزيد إلى حدٍّ لم يذكره أبداً ولا بالاسم، ولم يجعله بمستوىً يمكن أن يوجّه إليه الخطاب، فهو أقلّ وأحقر وأدون من أن يكون مخاطَباً أو ينهض لمقابلة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وكما خلا كتاب ابن هند من التحيّة والسلام، فقد ردّ عليه ابن سيّدة

ص: 119

نساء العالمين (علیها السلام) بالمِثل، فلم يسلّم عليه ولا على مَن كتب إليهم الكتاب.

ص: 120

النسخة الثانية: نسخة إلى ابن عبّاس

اشارة

روى ابن سعدٍ وتبعه ابنُ عساكر وابن بدران وابن منظور وابن العديم وابن كثير والمزّي نصَّ الكتاب الّذي بعث به القرد المخمور إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس عليه، فقالوا:

وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عبّاس، يُخبره بخروج الحسين إلى مكّة:

ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة، وعندك علمٌ منهم خبرةً وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع واشج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففْه عن السعي في الفرقة.

وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش ... ((1)).

ص: 121


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل..

وروى الخبر الشجريّ مسنداً عن مجاهد ((1)) بشيءٍ من التفصيل، فقال:

لمّا امتنع الحسين (علیه السلام) وابن الزبير من البيعة ليزيد بن معاوية ولحقا بمكّة، كتب يزيد بن معاوية (لعنهما الله تعالى) إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعبد الله بن الزبير لحقا بمكّة مرصدين للفتنة، معرّضي أنفسهم للهلكة.

فأمّا ابن الزبير: فهو صريع القنا وقتيل الله (عزوجل) .

وأمّا الحسين: فإنّي قد أحببتُ الإعذار إليكم أهل البيت فيما كان منه، وقد بلغني أنّ أقواماً من أهل الكوفة يكاتبونه، يمنّونه بالخلافة ويمنّيهم الإمارة، وقد علمتَ واشج ما بيني وبينكم من القرابة والإصارة والرحم، وقد قطع ذلك ابن عمّك حسينٌ وبَتّه،

ص: 122


1- وبه: قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسن بن عليّ التنوخيّ، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن أحمد الدرويّ الورّاق من أصل كتابه يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلةٍ خلت من شعبان سنة اثنتين وسبعين وثلاثمئة، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن القاسم بن نصر، قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثنا محمّد بن الحكم الشيبانيّ، عن أبي مِخنَف، عن الحارث ابن كعب الأزديّ، عن مجاهد قال: ...

وأنت كبير أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فألقِه، فاكففْه عن الفرقة ورَدِّ هذه الأُمّة في الفتنة، فإن أقبل وأناب إلى قولك فنحن مجرون عليه ما كان نجريه على أخيه، وإن أبى إلّا أن نزيده فزِدْه ما أراك الله، واضمن ذلك علينا ننفذ ضمانك، ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدةوما تطمئنّ إليه إن شاء الله (تعالى)، والسلام ((1)).

ورواه سبط ابن الجوزيّ عن الواقديّ، فقال:

ولمّا نزل الحسين مكّة، كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ الله ابن الزبير التويا ببيعتي، ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة معرّضين أنفسهما للهلكة.

فأمّا ابن الزبير: فإنّه صريح الفناء وقتيل السيف غداً.

وأمّا الحسين: فقد أحببتُ الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم، ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فألقِه فاردده عن السعي في الفرقة ورُدَّ هذه الأُمّة عن الفتنة، فإن قَبِل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري

ص: 123


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإن طلب الزيادة فاضمنْ له ما أراك الله، أُنفذُ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه.عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي، والسلام.

قال هشام بن محمّد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب: ...

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل ((1))..

* * * * *

يمكن أن نتناول ما في هذه النسخة من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: اتّحاد نُسَخ الكتاب!

قال ابن سعدٍ وغيره بعد أن روى نصّ كتاب ابن عبّاس:

وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش: ...

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل ((2))..

ص: 124


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وهو يفيد أنّ الأبيات كانت مشتركةً في نُسَخ الكتاب إلى ابن عبّاسٍ وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش، وإنّما أضاف في نسخة ابن عبّاس ما يخصّه من تكليفٍ ومهمّة!

الإيضاح الثاني: محاولة استبدال الرموز

كانت السقيفة بحاجةٍ إلى غطاءٍ شرعيٍّ يمكن أن يؤمّن لها البقاء فيدائرة النبيّ وآله، فجهدت على بناء وجودٍ له علاقةٌ نَسَبيّةٌ قريبةٌ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فجعلَت العبّاسَ عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من أهل البيت، وابنَه عبدَ الله من أهل البيت، ونفخت فيه وضخّمَتْه حتّى صار حَبْرَ الأُمّة، وترجمان القرآن، وصاحب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وغيرها من الألقاب الّتي سُرقَت من أمير المؤمنين (علیه السلام) ! وعلّقت على ابن عبّاس ليكون المنافس والبديل عن أهل البيت (علیهم السلام) ، ويمكن الرجوع إليه والاستناد عليه والأخذ عنه، فلا ينحصر الأمر في العَلَم الّذي نصبه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) للأُمّة!

والحال أنّ ابن عبّاس كان في حياة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) صبيّاً أو غلاماً غير يافع، فمِن أين أخذ؟ وكيف روى كلّ هذه الأعداد الهائلة من الحديث؟! وإن كان أخذها من أمير المؤمنين (علیه السلام) ونسبها إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرةً بحذف الواسطة أو بذكرها، فهو إذن عيالٌ على أهل البيت ((1)).

ص: 125


1- هذا البحث مفصَّلٌ وله شواهده وأدلّته المتينة، وليس هذا موضع ذِكرها.

ويُلاحَظ في سلوك رجال السقيفة الأصليّين وقرودها _ بما فيهم يزيد _ وأتباعها _ بما فيهم المؤرّخ الخؤون _ وابن عبّاسٍ نفسه، أنّهم يحاولون تقديم ابن عبّاسٍ كزعيمٍ وكبيرٍ لبني هاشم، وعلى ذلك شواهد كثيرةٌ جدّاً في التاريخ، منها هذه الرسالة الّتي يخاطب فيها يزيدُ ابنَ عبّاسٍ باعتباره: كبير أهل البيت، والمنظور إليه، وسيّد أهل البلد..

وليس الأمر كذلك، فابن عبّاسٍ لا يكبر الإمام الحسين (علیه السلام) من حيثالسنّ كثيراً، فهو إمّا مِن لدته، أو أكبر منه بسنتين أو ثلاث، لا أكثر.

ومن حيث الثِّقل الدينيّ والاجتماعيّ والنَّسَبيّ والعشائريّ، فلا يُقاس بابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسبطه وريحانته، وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ، وأخي الحسن المجتبى الأمين (علیه السلام) ، وأبي الأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

بَيد أنّ يزيد الخمور يصرّ في محاولةٍ بائسةٍ وقحةٍ أن يعرض ابن عبّاس باعتباره كبير أهل البيت الّذي يتظلّم عنده، ويشكو الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعليه أن يوظّف نفوذه ككبير قومٍ في التأثير على الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي يحتاج إلى مَن يرشده ويسدّده ويعلّمه من الكبار!!!

وأنت كبير أهل بيتك.. وأنت زعيم أهل بيتك.. وسيّد أهل بلدك.. والمنظور إليه.. فإنّي قد أحببتُ الإعذار إليكم أهلَ البيت فيما كان منه. يعني الإمام الحسين (علیه السلام) !!

ص: 126

مقابل هذه الألقاب الرنّانة الضخمة يشكو إليه سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) في صورةٍ لا يجرؤ المرء على بيانها، ويمكن للمتأمّل في متن كتابه هذا وغيره من المواضع أن يرى تفاصيلها.

الإيضاح الثالث: تصوير سلطة ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام)

حينما يخاطِب يزيدُ ابنَ عبّاسٍ باعتباره الزعيم والكبير والشيخ والمنظور إليه، ويوحي إليه أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أحد أفراد زعامته ومشيخته الّذين ينظر إليهم ابن عبّاس ويحكمهم، لأنّه كبيرهم، فمن الطبيعيّ أن يقول له: «فاكفُفْه»، وكأنّ لابن عبّاس السلطة على الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وهو قادرٌ على كفّه وردعه والتصرّف فيه؛ لأنّه يتحمّل مسؤوليّته باعتباره أحد أهل البيت الّذين يتزعّمهم ابن عبّاس، ولذا فهو يعتذر إليهم من سلوك أحد أفرادهم.

فالإمام الحسين (علیه السلام) _ كما يريد تصويره يزيد (لعنه الله) _ شخصٌ ثانويٌّ يتصرّف كفردٍ عاديٍّ من أهل البيت، وعلى كبيرهم وزعيمه أن يكفّه، فإن لم يكفّه فلا يعتب فيما بعد!!!

ولا نريد أن نفتح الكلام أكثر لما يصوّره القرد المخمور، ونستغفر الله!

وربّما كان هذا ممّا جرّأ ابنَ عبّاس، فجعله يتكلّم بوقاحةٍ مع إمام زمانه، فيحاول منعه عن المسير، ولو بشبك يده في شعر رأسه!!!

ص: 127

الإيضاح الرابع: يزيد يكلّف ابن عبّاس بالمهمّة

بايع عبدُ الله بن عبّاس يزيد وهو في مكّة ((1))، وأمر بمبايعته ((2)).. فدخل فيما دخل فيه الناس، وألزم نفسه الطاعة، فوظّفه يزيد القرود ليبثّ من خلاله ما أراد إلصاقه بسيّد الشهداء (علیه السلام) واتّهامه أنّه إنّما خرج ليطلب المُلك والخلافة ويواجه السلطة ونظام الحكم القائم، ليمهّد لقتله من خلال المسوّغات الّتي يسوّقها إلى الناس، باعتباره نازع القوم سلطانهم فاستحقّ القتل، والملكُ عقيم، وأمره أن يلقى الإمام (علیه السلام) ويكفّه حسب زعمه، ومنحه الصلاحيّات في مفاوضته وتقديم ما يحسبه القرد مُرغّباً يستهوي به إمام الحقّ _ والعياذ بالله _ فيميل إلى الباطل ويبايع.

فكتب يزيد إلى ابن عبّاسٍ يأمره أن يلقى سيّد الشهداء (علیه السلام) : «فالقِه»، ويكفّه عن السعي في الفرقة، وردّ هذه الأُمّة في الفتنة..

وهذا الكتاب الواصل من يزيد يُعَدّ مرسوماً خوّل من خلاله ابنَ عبّاس، وكلّفه بمهمّةٍ رسميّةٍ مِن قِبَل السلطان، تتوفّر على ما يحتاج إليه من صلاحيّاتٍ لكفّ الإمام (علیه السلام) ومنعه والتصدّي له بأيّ وسيلة.

ص: 128


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 3852، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173.

وأقلّ ما يُقال فيه: إنّه تخويلٌ رسميٌّ للقيام بالوساطة، كما يُعبَّر عنه في هذه الأيام.وإنْ أبى إلّا أن نزيده فزده ما أراك الله، واضمن ذلك علينا ننفذ ضمانك، ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة وما تطمئنّ إليه إن شاء الله (تعالى) ((1)).

وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله، أُنفذ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه. عجّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي ((2)).

وبهذا منح يزيد لابن عبّاس كافّة الصلاحيّات، وخوّله تخويلاً مفتوحاً لتقديم الوعود الّتي يراها مناسبة، وقد ضمن له ما سيضمنه هو للإمام (علیه السلام) ، وقدّم له الأيمان المغلّظة الّتي يطمئنّ لها ابن عبّاس.

وقد قبل ابن عبّاس هذه المهمّة ووعد بالمباشرة:

فاستجاب له ابن عبّاس، ووعده أن لا يدع النصيحة فيما يجمع الله به الأُلفة والكلمة ويُخمد به الفتنة!!! ويحقن به دماء الأُمّة

ص: 129


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

ويطفئ النائرة! ((1))

وقال: وسألقاه فيما أشرتَ إليه ((2)).

ومضى فيها بكلّ ما أُوتيَ من قوّة، وبذل فيها جهده، وكأنّه اقتنع أنّه كبير أهل البيت وزعيمهم، والمخوَّل للأمر والنهي فيهم، والقادر علىصدّهم ومنعهم عمّا لا يريد ولا يرى، حتّى صار يتكلّم مع الإمام (علیه السلام) كأنّه الندّ، بل كأنّه الكبير الّذي ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يطيعه، كما هو واضحٌ لمن راجع نصوص الحوارات الّتي دارت بينهما، وشاهد المواقف الّتي وقفها ابن عبّاسٍ مع الإمام (علیه السلام) ، وتصريحاته في تقييم موقف الإمام (علیه السلام) معه بعد أن عجز عن ثنيه عن الخروج من مكّة.

فربّما يُستفاد من هذا الكتاب أنّ اعتراضات ابن عبّاس ولقاءاته بالإمام (علیه السلام) إنّما كانت تنفيذاً للأوامر الصادرة إليه من يزيد، ولا يمنع أن

ص: 130


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304، الأمالي للشجري: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

تكون له شخصيّاً دوافع ذاتيّة أيضاً.

الإيضاح الخامس: هجوم العدوّ

لم يبدر من سيّد الشهداء (علیه السلام) لا في المدينة ولا في مكّة أيّ سلوكٍ أو تصريحٍ هجوميّ أو تعرّضٍ للسلطة ولا للأُمويّين كحكّام، وغاية ما فعله _ بشهادة جميع النصوص التاريخيّة _ أنّه امتنع عن البيعة امتناعاً أكيداً شديداً، غير قابل للمسامحة ولا المساومة، وحينما هُدّد بالقتل إذ امتنع خرج من المدينة، ثمّ من مكّة، وأقصى ما يُستفاد من أجوبته في جميع المراحل:

إنّه لا يعطي الدنيّة، وسيختار القتل الكريم على البيعة الذليلة الصاغرة..

هذا هو موقف الإمام (علیه السلام) إلى يوم وصول كتاب يزيد إلى ابن عبّاس!

فيما يعتبر القرد المسعور يزيد مجرّد ما يسمّيه هو (الالتواء بالبيعة)و(الخروج إلى مكّة) إرصاداً للفتنة، وتعرّضاً للهلكة، وتسبيباً للفرقة، وشقّاً للعصا، وموجباً للقتل المبرّر المعذور.

فهو لم يذكر أيّ نشاطٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يستدلّ به على ما ذهب إليه سوى أنّه التوى بالبيعة ليزيد القرود ولحق بمكّة، واستنتج أنّه يرصد بذلك للفتنة ويعرّض نفسه للهلكة..

فلا خُطَب، ولا تجييش، ولا تصريحات مهيّجة، ولا تجمّعات، ولا

ص: 131

تحريك مجتمعات، ولا أيّ دليلٍ آخَر يمكن أن يذكره القرد الهائج الطاغي سوى أنّه (التوى على بيعته ولحق بمكّة)، وما سيذكره بعد قليلٍ من المكاتبة بينه وبين بعض الرجال من شيعة الإمام الحسين (علیه السلام) من أهل العراق.

وبهذا أراد يزيد الخمور أن يبرّر هجومه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وتولّعه في الولوغ بدمه المقدّس الزاكي، إذ أنّه ابتدأ التهديد والهجوم، وراح يُلقي باللائمة على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فزعم أنّه ابتدأ بالتحرّك ضدّه، والحال أنّ مجريات الأحداث لم تسجّل على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيَّ موقفٍ زعمه اللئيم كذباً في تلك الأيام، بل لم يستدلّ بها هو نفسه في كتابه لابن عبّاس أو لغيره.

الإيضاح السادس: وضع الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في موقفٍ واحد

شنشنةٌ نفثتها السقيفة منذ أن جرّت الدواهي على الإسلام وعلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، حتّى صار يُقرَن بتلك النظائر!

وهكذا عمل القرد الهائج في ظِلال السقيفة، حتّى صار يقرن إمامَ الخلق بأمر الله وسيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام)

ص: 132

بابن الزبير!

فإنّ ابن عمّك حسيناً وعبد الله ابن الزبير لحقا ...

حسب رواية الشجريّ وسبط ابن الجوزيّ.

ثمّ يكتفي بتكليف ابن عبّاسٍ بمهمّة التعامل مع الإمام الحسين (علیه السلام) ومعالجة الموقف معه، إذ أنّه يعتبر نهاية ابن الزبير وخاتمته معلومة، وليس ثَمّة من يطالب له إذا قُتل، ولا يحتاج للاعتذار من قتله إلى أحد..

فإمّا ابن الزبير: فهو صريع القنا وقتيل الله.

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ:

فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف.

هذا هو التضليل والخداع، وقلب الموازين، وتزييف الحقّ وتمويه الباطل، إذ يوحّد يزيد اللئيم الصورة، ويحشر فيها خير الخلق وشرّ الخلق، والحقّ المطلق والباطل النزق، ويصوّرهما في صفٍّ واحد، ويُجري عليهماحكماً واحداً، بَيد أنّه يتريث مع سيّد الشهداء (علیه السلام) بمقدار ما يسعى به ابن عبّاس.

فهو يوحي من خلال هذا الدمج المشوّه إلى المتلقّي أنّ يزيد الخمور هو الحقّ، وهو الحاكم الإلهيّ، وأنّ ابن الزبير من العُصاة العتاة المردة الّذين يأمر الله بقتلهم، لشقّهم العصا وتفريقهم الأُمّة، ثمّ يُجري ذلك على سيّد الشهداء وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .

نستغفر الله ونستجير به وبآل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من هذا التصوير!

ص: 133

وربّما أفاد أنّ ابن الزبير يقدّم لهم الذرائع الكافية لقتله، من خلال تمرّده وإعلانه الخروج عليهم وسعيه المكشوف للاستئثار بالسلطة ومجاهرته في طلب الدنيا، أمّا سيّد الشهداء (علیه السلام) فليس ثَمّة ذريعةٌ في قيامه من هذه الذرائع.

الإيضاح السابع: النزاع على السلطة

يبدو من نصّ الكتاب أنّ القضيّة محصورةٌ عند يزيد القرود بالمُلك فقط، والمُلك عقيم، فلا يريد أن يرى له منازعاً في ذلك، فالقصّة كما يرويها يزيد المخمور أنّ جماعةً (منّوا الإمام بالخلافة، ووعدهم هو (علیه السلام) بالإمارة)، وقد قبل منهم هذا الوعد، وسعى إليهم، وبهذا نازع يزيد مُلكه، وغضّ النظر عن واشج القرابة والرحم والحرمة، وبالتوائه عن البيعة،والتحرّك لسلب الملك من يزيد القرود قطع الإمام _ حسب زعم يزيد فضّ الله فاه _ الرحم وبَتّه..

لا تسمع في كلامه سوى حديث المُلك والسلطان، والعلاقات القبليّة والعشائريّة، وكأنْ لا نبيّ بُعث، ولا قرآن نزل، ولا دين شُرّع، ولا خلافة ولا وصاية.

وكانت أُنشودته الّتي يتغنّى بها:

لعبت هاشمُ بالمُلك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

ص: 134

الإيضاح الثامن: الافتراء على الإمام (علیه السلام)
اشارة

تضمّن الكتاب جملةً من الافتراءات والأكاذيب الخطيرة جدّاً الّتي رمى بها القردُ القاذورة معدنَ الطهر ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بكلّ صراحةٍ ووقاحةٍ ودناءةٍ لتحقيق أغراضه المشؤومة، وسنتابعها من خلال الإشارة إلى ما تضمّنَته من مخازٍ وآفاتٍ ودنيّةٍ ورذائل وعارٍ وشنارٍ وصغار، على قائلها لعائن الله:

الدنيّة الأُولى:

تضمّن الكتاب جملةً من الافتراءات والأباطيل الّتي ينبغي أن تُعالَج كلُّ واحدةٍ تحت عنوان، لولا أنّها أكاذيب مستهلكة ممجوجة تافهة رخيصة، يعلم مَن يُطلقها قبل مَن يسمعها أنّها كذبٌ وافتراءٌ ومكرٌ وختلٌ وعتوٌّ وطغيانٌ على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السلام) .

إنّ القوم منذ يوم السقيفة وقبلها أسرعوا في قلب الموازين ونكس القيَم، ولبس الدين لبس الفرو مقلوباً، وتحريف القرآن ومعانيه، وتشتيت القلوب والأذهان، وتهديم بناء العقل البشريّ والبناء النفسيّ والروحيّ والعاطفيّ الّذي بناه سيّد الأكوان وأشرف الخلق النبيّ محمّد الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصيّه الناصح، وبناء عقلٍ حشوه الشرك وطلاؤه الإسلام، يرضى بالمتناقضات ويخنع للترّهات، فزيّفوا وحرّفوا وشكّكوا، ودخلوا قرية الدين

ص: 135

فدمّروها تدميراً، وهذا هو شأن الملوك والطواغيت إذا دخلوا قرية..

فنثروا هذا البيدر العفن من الأكاذيب والقيَم الزائفة الباطلة، ودار حمار طاحونتهم على نفس المنوال، فجعلوا عصيانهم عصا الطاحونة، وجعلوا القلوب الّتي تطحنها فتحوّلها إلى دقيقٍ مسمومٍ يعادي الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويبغض أهل بيته (علیهم السلام) ، وجعلوا أصنامهم هو الحبل الّذي ينبغي التمسّك به مقابل حبل الله الممدود بين الله وبين عباده (كتاب الله والعترة).

وقد جهد الأعداء على تصوير ذلك وتسويغه يوم سلبوا الإسلام عزّتهوبزّته، وأخّروا مَن قدّمه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقدّموا الذنابى، واغتصبوا حقّ أمير المؤمنين (علیه السلام) فعبدوا العِجْل بأمر السامريّ من دون الله..

فجعلوا أيّ مطالبةٍ بالحقّ المغصوب ولو بالكلمة شقّاً للعصا وتفريقاً للجماعة، وسمّوا العام الّذي خذل الناس فيه ريحانة النبيّ الإمام المجتبى (علیه السلام) وأفلتوا من التمسّك بالعروة الوثقى واستبدلوا غصن شجرة طوبى بعود الشجرة الملعونة في القرآن (معاوية): عام الجماعة!

والكلام في هذا يطول، وقد أتينا عليه في مواضع كثيرة من كتاب (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، وقد جاء في موضعٍ منه عند ذِكر المحاججة بينه وبين ابن الأَمة الفاجرة _ حينما دخل عليه القصر قبل شهادته، وافترى عليه الجرو الأُمويّ بهذه الافتراءات _ ردٌّ عنيفٌ من المولى الغريب (علیه السلام) ، ردٌّ أتى على بنيانه من القواعد وصعقه، وأبان الحقّ

ص: 136

وكشف الدجى بنيّر كلماته الّتي أثبت فيها أنّ ابن زيادٍ ومَن سلّطه على رقاب المسلمين هم الّذي شقّوا العصا وفرّقوا الكلمة وشتّتوا الجماعة ((1)).

الدنيّة الثانية:

إنّ مَن تسلّط على الناس بالحيلة والغلبة والقهر، ولم تكن الأُمّة مُجمعةٌعليه، فهو لم يصل إلى سدّة الحكم والسلطان بجعلٍ وتسديدٍ من الملِك المنّان، بل اختلسها اختلاساً، وغصبها غصباً من الولي الّذي جعله الله إماماً مفترض الطاعة وأَولى بالمؤمنين من أنفسهم، والإمام العدل الّذي جعل الله له الولاية على الخلق لم يُخلَع، ولن يُخلع بالغلبة والحيلة، ولم تسقط ولايته بإعراض جميع الخلق عنها، كيف وقد كان فيهم الكثير ممّن يعتقد بها ويدين الله بإمامته وحاكميّته وولايته!

فيزيد _ ومَن سبقه وحمله على رقاب الناس _ لا يمكن أن يكون إماماً مجعولاً من الله، وإنّما أخذها بالغلبة والقهر والحيلة والغدر، فلا هو منصوبٌ بالنصّ من الله (تعالى)، ولم يجتمع عليه مَن يسمّونهم بأهل الحلّ والعقد، ولا أفرزته شورى، ولا اجتمعت عليه الأُمّة.. فبأيّ معيارٍ استولى على الحكم؟ ومن أيّ شريعة استمدّ قوّة السلطان؟

فإذا كان الإمام وصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وخليفته الإمام الحسين والحسن

ص: 137


1- أُنظر: مسلم بن عقيل، وقائع السفارة (المجموعة الكاملة): 6 / 239 وما بعدها.

المجتبى (علیهما السلام) ومن قبلهما الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الوصيّين هم أئمّة الحقّ المنصوص عليهم من الله والمفروضة طاعتهم بنصّ رسول الله، فمخالفهم يُسمّى خارجيّاً مفارقاً للجماعة وشاقّاً للعصا!

الدنيّة الثالثة:

معاوية _ ومن سبقه _ ليس بخليفة، وبالأولويّة لم يكن ابنه يزيد خليفة،لأنّ معاوية لم يأخذ الحكم وفق شريعةٍ أقرّها الإسلام، ولا نصّ عليها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا ارتضاها ربّ العالمين، فكيف يخلّف عليها ابنه؟! أضف إلى ذلك أنّ وثيقة الصلح قد نصّت على عدم توريثه.

والإمام الحسين (علیه السلام) هو الخليفة بالحقّ، والوصيّ المنصوب عليه، فمَن تمسّك به وأطاعه فهو في طاعة الله، ومَن خالفه فقد هوى وغرق وشقّ العصا.

الخارجيّ هو معاوية ويزيد وابن زياد، ومَن تبعهم ولهث خلفهم ولحس قيأهم..

أمّا الإمام المعصوم، فهو الصراط المستقيم، ومَن كان في طاعة الحسين (علیه السلام) فهو في طاعة ربّ العالمين، فهو المحور وبهم الجماعة، ومن فارقها شبراً أو فتراً أو أقلّ من ذلك فقد شقّ العصا ودعا إلى الفرقة وشتّت الكلمة، ورجع إلى الجاهليّة القهقرى، وأكبّه الله منكوساً في جهنّم واللظى.

وهذه هي سنّة الله وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وليس كما يصوّره يزيد وأسياده،

ص: 138

والإمام الحقّ المنصوب من الله هو الجماعة، وبه ومعه تكون، وكلّ من خالف سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وقاتله وأعان عليه فهو خارجيٌّ خرج على إمام زمانه.

الدنيّة الرابعة:

يزيد وأسلافه هم أتون الفتنة، وكانون النار الخبيثة المشتعلة من عظام الأبرياء والمؤمنين والأتقياء، ولهيب العار الّذي يشرّد بالناس في عقائدهم وأفكارهم ودينهم وكتابه ونبيّهم وإمامهم، لقد كذبوا على الله ورسوله، وغيّروا وبدّلوا دين الله، ولا زالت صفحات التاريخ تأنّ من احتواء ما فعلوه، ولا زال المُراجع للتاريخ يصيبه الدوّار ويفغر فاه ويغلبه الغثيان من التردّد على سطور الكتب الّتي استعرضت فعالهم الّتي أرجعوا بها الناس إلى الجاهليّة الأُولى وعبادة الأوثان الّتي أنشأتها السقيفة..

لقد اعتبر يزيد المتوحّش اجتماع الأُمّة المنكوسة المنقلبة على أعقابها على سلطان أبيه وسلطانه جماعة، وجعل مَن يعترض عليه ويأبى التسليم والخضوع والخنوع لسلطانه دعوةً للأُمّة للرجوع إلى الفتنة والحروب والتشتّت، وحذّر من (ردّ الأُمّة إلى الفتنة) بعد أن استوسقت له ولأبيه الدنيا بعد أن قتلوا الإمام أمير المؤمنين وولده الإمام الحسن المجتبى الأمين (علیهما السلام) .

ص: 139

الدنيّة الخامسة:

بماذا استحلّ الخبيث النجس نسبة الإرصاد للفتنة وشقّ العصا والسعي في الفرقة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟بل حسب ما ورد في شعره نسب إليه البذخ والأشر والبطر، والّذي تزلّ به القدم، ويتّهمه بالتخطيط للحرب والشروع بها: «يا قومنا لا تشبّوا الحرب إذ سكنت»، ويدعوه للتمسّك بحبال السلم: «وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا»، باعتبار أنّ الحرب قد أبادت مَن قبلهم، وزعم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يجانب الإنصاف مع قومه، ويطلب ما يطلب فخراً بأُمّه لا غير.

على ماذا اعتمد، وإلى ماذا استند، فرمى سيّد الشهداء (علیه السلام) ومعدن الطُّهر بهذه الافتراءات الوقحة؟!

وغاية ما ذكره القرد المخمور المسعور أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد التوى ببيعته ولحق بمكّة!

تماماً كما هم أسلافه الّذين حملوه على رقاب الناس حينما رموا أباه أمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحّدين بهذه (الصفة البائسة) الثابتة عندهم يوم تقبّض عن بيعتهم.

الدنيّة السادسة:

إنّ يزيد القرود يريد أن يرسم لعصره وللتاريخ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو

ص: 140

الّذي خالف وخرج وشرع في الحرب والهجوم؛ ليبرّر فعلته ويسوّغ قتله.. ولو كان سيّد الشهداء (علیه السلام) باقياً في المدينة مغلِقاً عليه بابه، فإنّ الالتواء بالبيعة كافٍ لتوجيه جميع ما ذكره، ولهجم عليه داره كما هجموا على دارأبيه، ولَقتَلَه!

هو لا يريد إلّا أن يقتل سيّدَ الشهداء (علیه السلام) ، بَيد أنّه يريد أن يجعل قتله تحت عناوين رنّانةٍ تصلح أن تُقنع الأجلاف والزبد المتراكم تحت قدميه من أتباعه وأتباع السقيفة والمتخاذلين..

كلّ واحدةٍ من العناوين الّتي ذكرها _ وسيّد الشهداء (علیه السلام) منها براء _ هي كافيةٌ لتسويغ محاربته للإمام (علیه السلام) وقتله، من شقّ العصا، والسعي في الفرقة، وإعادة الناس في الفتنة، ويعني بها أنّ الناس قد خضعوا لأبيه وساروا على منهاج السقيفة ودين الأُمويّين بعد أن قتلوا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأخذوها عنوةً من الإمام الحسن المؤتمن (علیه السلام) ، وصفا لهم الملك، فلماذا يريد أن يُرجع الناس إلى حربٍ أتت على أهله من قبل؟ فهو يريد أن يقدّم الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره البادي بالحرب والمخطّط للهجوم على المُلك الّذي خضع له الناس، فيفرّقهم ويشتّتهم عن سلطان القرود..

وبهذا يبرّر فعلته في الإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في الشهر الحرام، باعتباره هو البادئ، والحال أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) يقول في حديث:

«إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتك فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا،

ص: 141

وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَلرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حرمةٌ في أمرنا ...» ((1)).

وفي كلامه الشريف إشارةٌ واضحةٌ إلى أنّ القوم هم الّذين بدؤوا وقاتلوا جدّه الحسين (علیه السلام) في الشهر الحرام وهجموا عليه، وليس هو الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي بدأهم وقاتلهم!

الإيضاح التاسع: مكاتبة أهل الكوفة

في هذا الكتاب _ كما هو في كتب يزيد الأُخرى الّتي أشار فيها إلى مكاتبة أهل الكوفة _ إقرارٌ صريحٌ من يزيد الخمور أنّ أهل الكوفة _ أو على حدّ لفظ ابن سعد: «أهل هذا المشرق» _ هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) ، وهم الذين بدؤوا بالكتابة له، وليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي دعاهم وحرّضهم واستنصرهم واستنهضهم فأجابوه!

وثَمّة فرقٌ كبيرٌ جدّاً بين الفرضين، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) _ حسب الفرض الثابت تاريخيّاً، وقد أقرّ به الخبيث هنا وفي مواضع أُخرى _ لا يكون قد قصدهم وبنى على استجابتهم وخطّط للقيام بهم ومعهم من قبل، وليس الإمام (علیه السلام) هو الّذي حرّضهم وأثارهم وجيّشهم ودعاهم إلى أمرٍ أراده، فبحث له عن أنصارٍ وأعوانٍ وسيوفٍ وجيوشٍ وعساكر وغير ذلك!

ص: 142


1- الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2.

وقد سمعنا سليمان بن صُرَد الخزاعيّ وهو يخطب على مَن اجتمع فيبيته فيقول:

وهذا الحسين بن عليّ قد خالفه، وصار إلى مكّة خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

فقال القوم: بل ننصره ونقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه، حتّى ينال حاجته ((1)).

فهو يصرّح لهم أنّ النصرة المطلوبة منهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هي الذبّ عن إمامهم، لأنّه خرج إلى مكة خائفاً من طواغيت بني أُميّة!

فالإمام (علیه السلام) لم يستنصر، ولم يستنهض، ولم يرصد الكوفة، وإنّما أهل الكوفة بلغهم الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) ، فرأوا أن يعلنوا نصرتهم له بالدفاع عنه ومنع طواغيت بني أُميّة عن قتله وسفك دمه.

الإيضاح العاشر: إقرار القرد المخمور بقلّة مَن كاتب ودعا

لقد تبيّن لنا في غير موضع، سيّما في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن

ص: 143


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیهما السلام) : 1 / 190، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 164.

عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، أنّ الكوفة كانت معسكراً موالياً للسقيفة ودينها ورموزها، وأنّ الأكثريّة الساحقة الّتي تغطّي كلّ الجغرافيا السكّانيّة كانوا من أتباع العجل والسامريّ، وأنّ الّذين كاتبوا وأعلنوا النصرة في الغالب كانوا من الزبد الطافح الضائع في رحلته على أمواج المصالح.

أمّا الشيعة في الكوفة، فبالرغم من كونهم أكثريّةً بالنسبة إلى باقي البلدان الّتي لم يكن فيها محبٌّ لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلّا نادراً، فإنّهم في الكوفة أقلّيّةٌ إذا قيسوا إلى سكّانها.

وقد تبيّن لنا في دراساتٍ سابقةٍ أنّ العدد المشهور المعروف (18 ألفاً) لم يشكّلوا يومها حتّى خُمس عدد السيوف المقاتلة في الكوفة، ولا يكونوا إلّا أقلّ بقليلٍ من عدد أتباع هاني إذا ركب بأحلافه من كِندة، إذ أنّه كان يركب في ثلاثين ألف دارع، والحال أنّ هاني زعيمٌ من زعماء مراد من مِذحج..

وأنّ الكوفة كانت بالأساس ثكنةً عسكريّةً مكتظّةً بالمقاتلين وعوائلهم وأُسَرهم، وهم مكتوبون في ديوان الدولة ويستلمون منها رواتبهم واستحقاقاتهم، ويتّبعون أوامرها وينتظم رجالها في قطعاتٍ وراياتٍ تتحكّم الدولة بهم في إرسالهم في المشاتي والمصايف والمغازي والحروب..

وأنّ هذه التشكيلة لم تُمسّ ولم تتضعضع، وإنّما بقي العسكر متماسكاً ثابتاً بكلّ قطعاته واختصاصاته من جيشٍ وشرطةٍ وحرسٍ وقوّات أمنٍ

ص: 144

داخليّ ((1))..

فلا يكون مَن كاتب وبايع إلّا أقلّيّة ليس أكثرهم من الشيعة، وقد تبيّن لنا موقفهم لحظة رفع المولى الغريب (علیه السلام) شعاره في الكوفة.

كيف كان، فإنّ هذه الحقيقة، بالإضافة إلى ما يدلّ عليها من نصوصٍ تاريخيّةٍ ومشاهد تتجلّى للمتأمّل بمجرد تصفّحه للتاريخ، بعيداً عن الضوضاء الّتي تحدثها حركة 18 ألف من الرجال في وضع متأزّم مكفهر..

فإنّ ما في هذا الكتاب من تعبير القرد المسعور يشير إلى ذلك بوضوح، مع ما يُلاحَظ في كتبه وكلامه دائماً من محاولة تهويل الأحداث بما يخدم مصالحه، ويحاول الإيحاء أنّ الإمام (علیه السلام) قد جيّش وحرّض وجمع وأعدّ واستعدّ وأثار عليه، ممّا اضطرّه للدفاع عن نفسه وحماية مُلكه وسلطانه.

فالمفروض به _ وهو يحاول أن يرسم صورةً لحركة الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره مهاجماً _ أن يزعم هنا أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو الّذي حرّك وحرّض ودعا وكاتب، والحال أنّه يصرّح أنّ أهل الكوفة هم الّذين كاتبوا ودعوا.

وينبغي حسب ما يريد تصويره أن يهوّل الموقف ويحشّد في المشهد خطراً ملحوظاً، كما صنع عمّالُه في كتبهم وتقاريرهم المرفوعة إليه من

ص: 145


1- أُنظر للتفصيل: (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة).

التهويل، وزعم أنّ الناس يجتمعون حول سيّد الشهداء (علیه السلام) وما شاكل.. فيزعم هنا يزيد أنّ بلداً من البلدان بحجم الكوفة _ باعتبارها موطن عسكره وثقله المقاتل _ قد تضعضع كلّه وانصاع ودعا الإمام (علیه السلام) ، لتكون له حجّةً ودليلاً على ما يريد أن يلصقه بالإمام (علیه السلام) من السعي لتقويض حكمه والانقضاض عليه واقتلاع الشجرة الملعونة وقطع امتداداتها لتبقى جذورها في قاع جهنّم.

قال في لفظ ابن سعد:

(ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق).

وفي لفظ غيره:

(أقواماً من أهل الكوفة).

(أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق).

«رجال»، «أقواماً».. كلاهما دالّان على التبعيض بوضوح.. «أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق» تبعيضٌ في تبعيض؛ فهم رجالٌ من شيعته، وليس كلّ شيعته، ومن شيعته من أهل العراق بالخصوص، فلا أهل العراق جميعاً كتبوا، ولا شيعته من أهل العراق جميعاً كتبوا!

الإيضاح الحادي عشر: يمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة
اشارة

لقد طفح التضليل والكذب والافتراء من بين سطور الكتاب، وهو حلقةٌمن حلقات الحرب الإعلاميّة الضخمة المجرمة الّتي مارسها يزيد

ص: 146

المجون ومَن سلّطه على رقاب المسلمين ضدّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لعرض الإمام (علیه السلام) في مشهد الطالب للسلطة والحكم والدنيا، وتصويره خارجيّاً، والعياذ بالله.

ويمكن الإشارة إلى ما في هذا الإيضاح من الاستطالة على الإمام (علیه السلام) المظلوم من خلال الاستطالات التالية:

الاستطالة الأُولى: الكذب الصريح

لقد عهدنا الكذب في كلام المضلّين من أمثال آل أبي سفيان ومَن سلّطهم على رقاب العالمين، وما أكثر الموارد الّتي تجد فيها الكذب المفترع والافتراء المفضوح الّذي مارسه يزيد الفسق والفجور وأزلامه وجِراؤه بحقّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته.

وقد مارسوا الكذب والافتراء وجهاً لوجهٍ معهم أحياناً، كما فعل ابن الأَمة الفاجرة مع المولى الغريب (علیه السلام) حينما دخل عليه في القصر، ولو أردنا أن نسرد لذلك الأمثلة لَطال بنا المقام، ويكفي أن نشرع من هنا بتعداد الموارد لنتبع قبل أن نمضي قدماً في متابعة الأحداث إلى شهادة أبي الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) .

وربّما كان هذا المورد الّذي نحن بصدد الحديث عنه من أوضح وأبرزالنماذج، إذ يزعم القرد المتميّع الخليع أنّ القوم كانوا يكاتبون الإمام الحسين (علیه السلام) فيمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة!!

ص: 147

وهذه كتب أهل الكوفة بنصوصها المأثورة وصلت بأيدينا، كما وصلت بأيدينا ردود سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها، فأين كان فيها ما يزعم هذا الوغد الحقير؟

الاستطالة الثانية: محاولات التضليل

لقد صرّح الإمام (علیه السلام) في أكثر من موضعٍ ومع أكثر من شخصٍ أنّه إنّما خرج من المدينة تجنّباً لملاحقة كلاب بني أُميّة المسعورة، وابتعاداً عن مخالب القرود البغيّة الباغية المغرورة الّتي أبت إلّا أن يُحمَل إليها رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ثمّ صرّح في أكثر من موضعٍ ومع أكثر من شخصٍ أنّه إنّما خرج واستعجل الخروج من مكّة لأنّه إنْ بقي سُفك دمه واغتاله القوم أو أُخذ أخذاً.

بالرغم من ذلك، فإنّ الوحوش الأُمويّة الكاسرة ما تفتر عن التضليل وتلوين خروج الإمام (علیه السلام) بلون الخارجيّ، لتتمكّن من استهدافه فيسوغ لها قتله بموافقة الرأي العام.

وما فتر اللعين يصبغه بصبغة الدنيا والصراع على حطامها، ممّا يحيّدالناس (العقلاء)، ويطمع فيه أهل الدنيا والإغراء، وينفر منه أهل الزهد والحياء.

لقد حاولوا جهدهم أن يحوّلوا مظلوميّة الإمام الحسين (علیه السلام) وملاحقته

ص: 148

وقتله إلى حقٍّ مسلَّمٍ لهم في محاربته، فهو الّذي يريد أن يسلب منهم سلطانهم، والملك عقيم، فهاجمهم فدافعوا عن أنفسهم فقتلوه، لأنّه حاربهم بأماني الخلافة، وحارب مَن معه بأماني الإمارة!

الاستطالة الثالثة: منّوه الخلافة!

ورد اللفظ عند ابن سعد _ وهو من أقدم المصادر _ :

ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة ((1)).

ثمّ ورد في مصادر متأخّرة عنه بلفظ:

يمنّونه بالخلافة ويمنّيهم الإمارة ((2)).

ويفيد نصّ ابن سعدٍ أنّ ثمّة رجالاً جاؤوا إلى الإمام (علیه السلام) من أهل هذا المشرق، وربّما قصد باسم الإشارة (الكوفة) بالخصوص، فهم مشرقه، وربّما استخدم كلمة «أهل هذا المشرق» للتهويل والتضخيم.

وزعم أنّ رجالاً أتوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يشر النصّ إلى الكتب

ص: 149


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأمالي للشجري: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

والرسائل الّتي وردت إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فمَن هم هؤلاء الرجال الّذين قصدهم من دون تحديد؟ والحال أنّ كلّ مَن جاء الإمام (علیه السلام) من أهل هذا المشرق كانوا رسلاً، ليس إلّا.

مَن ذا كان يمنّي الإمام (علیه السلام) بالخلافة؟ ولو اعتبر دعوات أهل الكوفة وكتبهم وُعُوداً منهم بالخلافة للإمام (علیه السلام) ، فمن أين زعم أنّ الإمام (علیه السلام) يمنّيهم بالإمارة؟

سبحانك اللّهمّ، إنّه إفكٌ عظيم! إنّه كذبٌ عظيمٌ يهتزّ له عرش الله، واتّهامٌ صريح وقح للإمام (علیه السلام) ، وافتراءٌ عليه، ليؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما كان (يطلب السلطان).. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الاستطالة الرابعة: شاهدٌ على كذب يزيد

لا يخفى أنّ ظاهر النصّ الوارد لرسم هذا الخبر يكاد يصرّح أنّ يزيد أرسل الكتاب بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، أو إبّان وصوله إلى مكّة.

فقد جاء في الكتاب _ حسب لفظ ابن سعد ومَن والاه _ : (يخبره بخروج الحسين إلى مكّة).

وفي خبر الشجريّ: (كتبه لمّا امتنع الحسين من البيعة ولحق بمكّة).

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ عن الواقدي: (لمّا نزل الحسين مكّة).

فمتى وصلت كتب أهل الكوفة ورسلهم إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسيّد

ص: 150

الشهداء (علیه السلام) في الطريق أو أنّه دخل مكّة توّاً؟

أضف إلى أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يردّ على رسائل الكوفيّين ورسلهم إلّا متأخّراً بعد أن اجتمعت عنده الكتب، فردّ عليهم جميعاً في الخامس عشر من شهر رمضان على يد سفيره المولى الغريب (علیه السلام) وآخر رسولين قدما عليه من أهل الكوفة، أي: بعد زهاء الشهر ونصف الشهر من دخوله إلى مكّة، ولم يصل المولى الغريب بكتاب الإمام سيّد الشهداء (علیهما السلام) إلّا في الخامس من شهر شوّال.

فكيف قرّر يزيد فريته على سيّد الشهداء (علیه السلام) في قصّة مكاتبته مع أهل الكوفة؟

وإن قصد القرد المخمور ما جرى من مكاتباتٍ بين الإمام (علیه السلام) وبعض أهل الكوفة أيّام مُلك أبيه معاوية بعد شهادة الإمام المجتبى (علیه السلام) ، فهو بعيد، ومع ذلك فقد كذب وأثم وافترى على الله وعلى الإمام (علیه السلام) ، لأنّ الإمام (علیه السلام) أمرهم يومها بالسكوت ولزوم الأرض، ولم يَعِد أحداً بالإمرة.

الاستطالة الخامسة: اغترار الإمام (علیه السلام) بوعود الناس!

أشار القرد الأهوج الأرعن من خلال كلامه إلى جسارةٍ وقحة، ومارس جلفيّةً جافية، حيث حاول عرض الإمام (علیه السلام) في صورة من غرّته أماني القوم بالخلافة، وراح يمنّيهم هو بالإمارة.ولا نشكّ أنّه كان يعلم أنّ الخلافة حقّ الإمام المنصوب من الله، وأنّ

ص: 151

رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وأنّ الإمام (علیه السلام) هو خليفة الله لا غيره، وأنّه لا يعنيه دعوة الناس له ما لم تكن طاعةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، تماماً كما فعل أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحّدين المنصوب يوم الغدير إماماً وخليفةً ووصيّاً على العالمين، يوم جاءه القوم يهرعون وانثالوا عليه من كلّ جانب، فردّهم؛ لأنّهم لم يبايعوا على طاعة الله، وإنّما بايعوا وفق سياقات السقيفة، ورأوا فيه تالياً لرجال السقيفة، ورابعاً بعد ثلاث، أفرز أحدهم السقيفة، والثاني التعيين، والثالث الشورى.

ولو بايع الناس يومها أمير المؤمنين (علیه السلام) امتثالاً لأمر الله وطاعةً لما أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الغدير، لما تأخّر الإمام (علیه السلام) لحظةً واحدة.

أيغترّ الإمام (علیه السلام) بأماني يعده بها الناس، والدنيا عنده أهون من عفطة عنز؟

وهل ينتظر الإمام (علیه السلام) أن يعده الناس بالخلافة؟

وهل يغترّ الإمام (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمامة وعلم الإمام _ بوعودٍ كاذبةٍ باهتةٍ من قومٍ يعرفهم، وقد عاش معهم محنة أبيه وأخيه، وعرف تاريخهم سابقه وحاضره؟

إنّه افتراء موجع أن يفترض في الإمام (علیه السلام) أنّه إنّما تحرّك اغتراراً بوعود قومٍ كاذبين، سعياً إلى سلطان الدنيا، حتّى يبادلهم الوعود بالوعود، والمصلحةبالمصلحة، والمنفعة بالمنفعة، وانتهاز الفرصة بتوفير الفرص الدنيوية!

ص: 152

الإيضاح الثاني عشر: قطع الرحم وبتّه

وصل الكتاب إلى ابن عبّاس إبّان وصول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وزعم الرجس العاقّ الشاقّ الغشوم الظلوم أنّ ثمّة رحماً واشجاً وإصارةً بينه وبين بني هاشم.

وقد علمت واشج ما بيني وبينكم من القرابة والإصارة والرحم.

وكأنّه يريد أن يقول: إنّه ملتزمٌ بهذه الرحم، مهتمٌّ بها، حريصٌ عليها، وأنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) هو الّذي يسعى في قطعه..

وقد قطع ذلك ابن عمّك حسين وبتّه.

قتلُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته وسبيهم ليس قطعاً للرحم، فيما يكون مجرّد خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة حمايةً لحرمة حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وصَوناً لدمه المقدّس قطعاً للرحم عند هذا المسخ المنكوس المتعوس!!!

ما الّذي فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى افترى هذا الوغد الكاسر هذه الفرية النتنة وزعم هذا الزعم الوقح؟ لم يفعل سوى أنّه تقبّض عن البيعة وأبى أن يناول القرود.

إنّ ما يريد أن يوصله ابن آكلة الأكباد إلى ابن عبّاس _ ومَن بلغ _ من خلال هذه الفرية أنّ قتله لسيّد الشهداء (علیه السلام) وسبيه لعيال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) إنّماكان سببه هو الإمام (علیه السلام) نفسه، لأنّه هو الّذي أبى أن يناول، فصار سبباً

ص: 153

لهجوم القرود عليه وسفك دمه المقدّس الزكيّ، فهو الّذي كان سبباً لقطع الرحم، وإنّما كان يزيد في موقف المدافع المضطرّ لحماية سلطانه ووجوده وكيانه، في محاولةٍ بائسةٍ منه لتدليس الموقف بالإشارة إلى أنّ الإمام (علیه السلام) كان هو البادئ..

بل ربّما أراد أن يوحي للمتلقّي أنّ إقدامه على ارتكاب الجناية العظمى وسفكه الدم المقدّس الّذي سكن الخلد إنّما كان يهدف إلى حماية الرحم وتوحيد الأُمّة ولمّ شملها وجمع كلمتها!

الإيضاح الثالث عشر: الأمان والمساومة بالدنيا
اشارة

يمكن متابعة ما يتضمّنه هذا الإيضاح من خطيئةٍ وتجنٍّ من خلال الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: تأخّر المقايضة

إنّ النصّ الذي ذكره ابن سعد _ وهو من أقدم المؤرّخين _ ومَن تلاه كابن كثيرٍ وغيره يخلو من عروض الترغيب وطرح المساومة بالمال وغيره، واحتوت التهديد والتهويل والإنذار بدقّ طبول الحرب وسفك الدماءوالقتل، وقد ختم كتابه بالأبيات الّتي مرّ ذكرها ((1)).

ص: 154


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وقد وردت عروض الترغيب والإغراء والتغرير في كتبٍ تُعَدّ متأخّرةً بالنسبة لابن سعد، ومع ذلك فإنّ نسخة الكتاب المتأخّرة أيضاً جاء الترغيب فيها في ذيل الكتاب الّذي صدّره الخبيث بالتهديد والوعيد والإعلان عن الجرأة على الله والاستعداد الكامل التامّ لسفك الدم الزاكي الحرام من أجل الملك والسلطان.

الأمر الثاني: المقايضة

لقد هدّد القرد المسعور من خلال ما عبّر عنه بتعريض الإمام (علیه السلام) نفسه للهلكة لمجرّد التوائه بالبيعة، وغيرها من التعابير الوقحة الهابطة الّتي ذيّل بها كتابه، كما في المصادر، وبالأبيات الّتي مرّ ذكرها، وهي مشحونةٌ بالتهديد والوعيد والجرأة والعتوّ والطغيان على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السلام) ..

ثمّ عقّب كتابه بعد التهديد والوعيد والافتراءات والأكاذيب، فأعطى الأمان للإمام (علیه السلام) مشترطاً أن يُقبِل ويَقبل ويُنيب!

فإن قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة

ص: 155

فاضمنْ له ما أراك الله، أُنفذُ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيّ الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه.

عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبلي، والسلام ((1)).

ويقصد بالإقبال أن يأتيه ويقبل به وينيب ويرجع إليه..

أفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات والأرض، أن يولي الإنسان وجهه صوب القرود، إنّما هو الإدبار بعينه والارتكاس والانقلاب والرجوع إلى الحضيض.

أيُقال مثل هذا الكلام لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ويُطلَب من وجه الله الإقبال على العتلّ الزنيم يزيد؟!

لو أراد الإمام (علیه السلام) الدنيا لسخّرها كيف يشاء، ولما احتاج إلى عطاء الأنذال واللئام، بَيد أنّ عبيد الدنيا يتكلّمون بما يحسنون، وينطلقون من قيعان الغرائز وأوحال الشهوات ومستنقعات اللذّات، ويتكالبون على المال لأنّه مادّة الشهوات..

معاملةٌ هابطةٌ سافلةٌ ذليلةٌ لئيمةٌ عفنة، تُزكم الأُنوف وتجفّف الأرواح وتميت الحياة، وتشي بنذالة المتقدّم بها.

ص: 156


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، الأمالي للشجري: 1 / 182، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

يا له من حقيرٍ دنيٍّ متهالكٍ تافهٍ خبيثٍ خسيسٍ رجسٍ دنس! يكتبهذا الهراء، وهو يعرف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويعرف جدّه وأباه وأخاه، وقد شاهد بعينه المخمورة إباء آل أبي طالب وسموّهم وشموخهم وكرمهم وسخاءهم وعطاءهم وجلالة قدرهم وسموقهم ونَداهم.. وما قدر ما يريد أن يجريه على الإمام (علیه السلام) والدنيا كلّها طوع إرادته وخاضعةٌ لأمره؟

وهو لا يريد من الإمام (علیه السلام) أكثر من أن يناول ويقبل البيعة ولا يأبى عليه، فهو يخيّر الإمام (علیه السلام) بين القتل والمال! أيكون ملِكٌ متجبّرٌ عنيدٌ بهذا المستوى الصفيق المتدنّي من الحمق، ويكون أهوجاً إلى هذا الحدّ؟

والأدهى والأمرّ من ذلك أن يقول له: إن أبى إلّا الزيادة!! لا يدري أيضحك المرء أم يبكي من هذا الكلام الّذي جاوز حدود السخف وتسافل عن هراء، إنّه أشبه ما يكون بخنخنة القرود وزقحها منه بكلام مخلوقٍ يمكن أن يُطلق عليه اسم الإنسان.

فله عندي الكرامة!!

أتكون الكرامة عند أولاد البغايا ومعاقري الخمرة في دِنانها؟!

أتكون الكرامة عند مَن كرامتهم لا تعدو كرامة القرود والكلاب وخيام الدعارة وحارات البغاء وحانات الخمور وملاهي القمار؟!

فله عندي.. عند يزيد! يا لله! يا للكرامة الّتي أُهينت واحتُقرت، وهبطوا بها إلى قاعٍ لا قاع بعده، حتّى صارت الكرامة للحسين (علیه السلام)

ص: 157

خامس أصحاب الكساء الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهمتطهيراً عند يزيد!!!

الحسين (علیه السلام) .. الإمام.. خامس أصحاب الكساء.. سيّد الشهداء.. زين السماوات والأرض.. شنف العرش.. سيّد شباب أهل الجنّة.. حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. معدن الكرم والكرامة وأصلها وفرعها وأُسّها..

الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) ..

تكون له الكرامة عند ابن صخرٍ وهندٍ وكلّ فاحشٍ بذيءٍ سافلٍ ساقطٍ سكّيرٍ مخمورٍ منبوذٍ حقيرٍ رجسٍ نجسٍ دنسٍ قبيح؟!!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

إنّها محاولةٌ بائسةٌ أُخرى لتحويل القضيّة إلى قضيّة مالٍ وسلطانٍ ومُلكٍ وراعٍ ورعيّةٍ ومساوماتٍ دنيويّة، من خلال منطق الإغراء وتأمين الغرائز والشهوات.. و«كلّ إناءٍ بالّذي فيه ينضحُ»..

الأمر الثالث: تقديم المواثيق

قدّم البغيّ يزيد المواثيقَ المؤكّدة والأَيمان المغلّظة الّتي يطمئنّ إليها ابن عبّاس، ويزعم أنّها ستكون بمستوىً تطمئن إليها نفس سيّد الشهداء (علیه السلام) القدسيّة..

ص: 158

- ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدةوما تطمئن إليه، إن شاء الله (تعالى) ((1)).

- وله علَيّ الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه ((2)).

تجاهل هذا الوغد ما فعله معاوية بالإمام أبي محمّدٍ الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وما أعطاه من عهودٍ ومواثيق، وأعطاها لأخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ جعلها جميعاً تحت قدميه، ونسي أو تناسى الكتاب الّذي أرسله سيّد الشهداء (علیه السلام) لأبيه معاوية حينما قتل الصحابيّ الجليل الشهيد المغدور عمرو بن الحَمِق الخزاعيّ!

وهل لبغيٍّ دعيٍّ سكيرٍ مخمورٍ مهارشٍ بالكلاب والقرود معاقرٍ للخمرة والقمار يمينٌ ومجالٌ للوثوق؟!

وقد حذّر أهل البيت (علیهم السلام) أن يُزوَّج المعاقر للخمرة أو يُشارك في تجارةٍ أو مال، فضلاً عن مثل هذه الأُمور العظيمة الّتي تتعلّق بالدماء الزاكية والأنفس القدسيّة!

وهل وفى أبوه أو أسلافه من مرتادي السقيفة المشؤومة وإفرازاتها كي

ص: 159


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

يفي هو؟!

ألم يصالح الإمام الحسن الأمين المجتبى (علیه السلام) ، ثمّ قتله الأدعياء وأبناءالأدعياء؟

ألم يغلق أمير المؤمنين (علیه السلام) بابه ويتاركهم، فهجموا عليه وهتكوا حرمة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وحرمة بيته، حتّى قتلوا ابنته وحبيبته وبضعته قتلةً فضيعةً اهتزّ لها عرش الله؟

أيّ مواثيقٍ وأيمانٍ لكَذوبٍ مارس الكذب في نفس هذا الكتاب؟!

أيّ مواثيقٍ وأيمانٍ مغلّظةٍ أو مخفّفةٍ لدعيٍّ انعقدت نطفته من حرامٍ في سلسلة أنساب اللئام، ونشأ في بيت دعارةٍ على موائد الخمرة تحت ظلال الأصنام، وترعرع في أحضان المومسات، وملأ كيانه عربدة القيان الثملات وغناء الجواري والغلمان، وازدحمت لحظات عمره بالموبقات واكتظّ سجلّه بالجرائم والآثام، وكان أكبر همّه في الدنيا أن يجالس (أبا قيس) قرينه ويراه سابقاً غيره من القرود، ويخاف من فراقها وفراق كلابه إذا فقد الحكم والسلطان؟!

الإيضاح الرابع عشر: إغراء ابن عبّاس

لقد وظّف القرد المهارش الأهوج أساليب الإغراء والنفخ والتضخيم والاستدراج مع ابن عبّاس، حيث وصفه بأوصافٍ ليست فيه جزماً،

ص: 160

وجعله كبير أهل البيت والمنظور إليه، وأشعره أنّه بمكانٍ من الوجاهة بحيث يمكنه أن يكفّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ويمنعه ويأمره وينهاه،وغيرها من الموارد الّتي ذكرناها قبل قليل.

ثمّ ذكر في ذيل الكتاب _ حسب رواية سبط ابن الجوزيّ _ ما يُثير الطمع ويسيل اللعاب المتكاثف من بريق الفضّة ولمعان الذهب ومادّة الشهوات وضامن بهارج الدنيا وزخارفها، فأكّد عليه أن يكتب له بكلّ حاجةٍ له إلى الوحش المتربّع على خزائن المال، فقال: «عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي» ((1)).

ص: 161


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

ص: 162

جواب ابن عبّاس
اشارة

روى ابن سعد فقال:

فكتب إليه عبدُ الله بن عبّاس: إنّي أرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له فيما يجمع الله به الأُلفة وتطفأ به النائرة ((1)).

وروى الشجريّ جواب الكتاب بتفصيل، كما فصّل في الكتاب نفسه:

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر حسيناً وابن الزبير ولحاقهما بمكّة.

فأمّا ابن الزبير: فرجلٌ منقطعٌ عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها علينا في صدره، ويوري وري الزناد، لا حلّل الله إسرارها، فأرى في أمره ما أنت راء.

ص: 163


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وأمّا حسين: فإنّي لقيتُه، فسألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة حرفت به وعجّلت عليه، وأنظره رأيه، ولن أدع أداء النصيحة إليه في كلّ ما يجمع الله به الكلمة ويطفئ به الفتنة ويحقن به دماء الأُمّة.

وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافرٍ حفيراً لنفسه، وكم من آملٍ لم يؤتَ أمله، وكم من راجٍ لطول العمر مبسوطٌ له في بُعد الأمل، فبينا هو كذلك إذ نزل القضاء، فقطع أمله ونقص عمره، وأخرجه من سلطان الدنيا الفانية إلى سلطان الله وعدله في الآخرة. وخُذْ مع ما أوصيك به من النصيحة لهذه الأُمّة بحظّك من الركوع والسجود آناء الليل وتارات النهار، ولا يشغلك عن ذكر الله (تعالى) شيءٌ من ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما أنت مشتغلٌ به مِن ذات [الله] ينفع ويبقى، وكلّ ما أنت مشتغلٌ به عن ذات الله يضرّ ويفنى، فاجعل همّك فيما يُرضي ربّك، يكفك همّك.

داج حسيناً، وارفقْ به، ولا تعجّل عليه، ولا تنظره رأيه، عسى الله (عزوجل) أن يُحدث أمراً يلمّ به شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتُق به

ص: 164

فتقاً، والسلام ((1)).

وروى سبط ابن الجوزيّ لفظ الجواب كتالي:

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة.

فأمّا ابن الزبير: فرجلٌ منقطعٌ عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لا فكّ الله أسيرها، فارأَ في أمره ما أنت راء.

وأمّا الحسين: فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرتَ إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأُمّة.

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يُؤتَ أمله، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السنّة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما اشتغلتَ به عن الله يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى،

ص: 165


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

والسلام ((1)).

* * * * *

إحتوى جواب ابن عبّاسٍ مضامين ومحتوياتٍ يمكن إجمالها من خلال الإشارات التالية:

المحتوى الأوّل: ما يراه ابنُ عبّاسٍ في نفسه

لقد أشار إليه يزيد في كتابه أنّه كبير أهل البيت والمنظور إليه، وكأنّه الآمر الناهي والشيخ المطاع والسيّد المحميّ والرأس في أهل البيت! فصدّق ابن عبّاسٍ ما نحله يزيد من ألقابٍ وصفاتٍ ومقامات، ويبدو أنّه كان يعتقد ذلك في نفسه دائماً، خصوصاً بعد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويبدو مِن تتبّع سلوكه وتعامله مع الإمامين الحسنين (علیهما السلام) أنّه كان يرى نفسه ندّاً لهما على الأقلّ، إنْ لم تفضحه تصرّفاته فتنمّ وتشي باعتقاده أنّه أكبر منهما وله عليهما درجة..

ولهذا استجاب بكلّ ترحيبٍ بالمهمّة الموكولة إليه مِن قِبَل القرد المسعور، من دون أيّ إشارةٍ في كتابه إلى فضل سيّد الشهداء (علیه السلام) عليه وعلى العالمين جميعاً، ولا الاعتراض عليه، ولا بيان أنّ الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 166


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

إمامُه والأكبرُ منه في أهل البيت مقاماً وجاهاً ومنزلة، وأنّه أفضل منه وأعظم، بل لم نجد في كتابه ما يفيد مدح الإمام (علیه السلام) بفضيلةٍ أو منقبةٍ أو حتّى قرابةٍ ورحمٍ برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومنزلةٍ عند الله، ولا بحديثٍ واحدٍ ممّا ذكره فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا إشارةٍ إلى وجوب مودّته وحبّه، والاستدلال له بحرمة أذاه والتعدّي عليه وإضمار البغض والعداوة له، وما إلى ذلك من أُمورٍ يمكن أن يذكرها ليزيد في مقامه وهو يسعى لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحفر له ويبيّت له الغوائل.

بل نسمعه في نصّ الشجريّ يسمّي الإمام بالاسم المجرد «حسين، حسيناً»، خلافاً للأدب المتعارف الّذي تسالم عليه المسلمون قديماً وحديثاً، وهو ما تعلّموه من سيّد الرسل وخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) .

المحتوى الثاني: تصريح الجواب بسبب الخروج من المدينة

مرّ معنا الحديث عن هذا المحتوى ضمن الكلام عن ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وغيره من المواضع، ونكتفي هنا بذكر النصّ للتذكير والتأكيد.

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه، قال:

ص: 167

إني أرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه ((1)).

وروى الشجريّ فقال:

وأمّا حسين: فإنّي لقيتُه، فسألته عن مَقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة حرفت به وعجّلت عليه، وأنظره رأيه ((2)).

وروى سبط ابن الجوزيّ:

وأمّا الحسين: فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مَقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرتَ إليه ((3)).

يا لله! هكذا هي بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) دائماً، فلماذا يؤخذ بقول أيّ أحدٍ ولا يُلتفَت إلى كلامه (صلوات الله عليه) وهو يحكي عن نفسه ويصوّر ما يجري عليه ويشرح أسباب خروجه من المدينة أو من مكّة؟!!

ص: 168


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأمالي للشجري: 1 / 182.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

بأيّ لغةٍ يتكلّم الإمام (علیه السلام) مع الناس ومع التاريخ كي يفهمونه؟!

أوَ ليس هو أمير الكلام وسيّد البيان وسلطان الفصاحة وملك البلاغة ومالكها؟ فما هي الضرورة الّتي تدعو القارئ للتاريخ أن يحمّل كلام الإمام (علیه السلام) ما لا يحتمل، أو يقوّله ما لا يقول، أو يفسّر بيانه بخلاف ما يبيّن؟

المحتوى الثالث: أداء النصيحة ومفادها
اشارة

إحتوى الكتاب موادّاً مهمّةً للنصيحة الّتي زعم ابن عبّاس أنّه لن يدَعها، يمكن أن نشير إليها ضمن الموادّ التالية:

المادّة الأُولى: النائرة، الفتنة، حقن الدماء..

المفردات الّتي وظّفها ابن عبّاسٍ في هذا المقطع من كلامه.. جمع الأُلفة! إطفاء النائرة! جمع الكلمة! إطفاء الفتنة! حقن دماء الأُمة! ((1))

فهو قد اعتقد بنشوب نار الأحقاد والعداوات (النائرة)، وأقرّ أن قد اختلفت الكلمة، ولقحت الفتنة، وهذا سيؤدّي إلى سفك دماء الأُمّة!

- مَن الّذي شبّ نار النائرة؟

ص: 169


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، الأمالي للشجري: 1 / 182.

- مَن الّذي أثار الأحقاد والعداوات الدفينة؟

- مَن الّذي فرّق الكلمة؟

- مَن الّذي ألقح الفتنة؟

- مَن الّذي تسبّب في تعريض الأُمّة للهلاك وسفك الدماء؟

هذا ما لم يذكره ابن عبّاس، ممّا يجعل الصورة مشوّشةً مغبّشةً موهومةً مظلمةً قاتمةً عاصفةً قاصفةً مدمّرةً مُهلكةً لمن يعتقد به أو يُقيم لكلامه وزناً!هو لم يجرؤ على تجريم القرد المتهوّر، ولم يُشِر في كلامه إلى ما يفيد تجاوز يزيد وتطاوله وعبوره حدود المنطق والعقل والدين في الجاهليّة والإسلام.

وإذا لاحظنا كون رسالته إلى يزيد إنّما كانت ردّاً على مزاعم يزيد وتهديداته، وجواباً على كتابه إلى ابن عبّاس الّذي يذكر فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يمكن أن يُستفاد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاسٍ قد ماشى يزيد وتماهى معه وسايره فيما يزعم، ويتّهم به سيّد الشهداء (علیه السلام) .

سيّما أنّ ابن عبّاسٍ يعامل يزيد معاملة الحاكم والوالي ووليّ الأمر، وقد بايعه منذ البداية، فلا يمكن أن يحمل معنى الفتنة واختلاف الكلمة وإشعال النائرة والتورّط بدماء الأُمّة إلّا على من (خرج) على السلطان الحاكم!

كيف يمكن لمثل ابن عبّاسٍ _ إنْ بمنطق العشائر أو بمنطق الدين _ أن

ص: 170

يعدّ موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) فتنة، نائرة، تفريق كلمة؟!! وغيرها من العناوين الّتي ركّز عليها يزيد والأُمويُون ورجال السقيفة منذ اليوم الأوّل مقابل أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..

ألم يروِ ابنُ عبّاسٍ نفسُه ما سمعه من سيّد الشهداء (علیه السلام) عن سبب خروجه من المدينة؟ فلماذا ينصح الإمام الحسين (علیه السلام) حينئذ؟ وقد صرّح ليزيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) خرج من المدينة تحت ضغوط وتهديدات عمّاله، وهو قد قدم مكّة مستجيراً ببيت الله لائذاً عائذاً بالله..فلماذا يتكلّم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويَعِد أن لا يدع النصيحة له حتّى يأد الفتنة؟!

أوَ ليس كان الأحرى به أن يقول ليزيد: إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّة مستأمناً، فدَعْه فيها آمِناً؟

كيف ما كان، فإنّ حديث ابن عبّاسٍ حمّالٌ ذو وجوه، والوجه الأوّل فيه بما يكاد يكون صريحاً واضحاً أنّه تحامل على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ووصفه بالأوصاف الّتي يصفه بها باغي الأُمويّين ونغل معاوية وعدوّ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) يزيد الخمور، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

المادّة الثانية: يأمر يزيد بما يأمر به الإمام (علیه السلام)
اشارة

وفق نقل الشجريّ، فإنّ ابن عبّاسٍ يقول:

وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله، فاتّقِ الله في السرّ

ص: 171

والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصِداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة ((1))..

إلى آخر وصيّته له..

لا ندري إنْ كان يريد أنّه يأمره بمثل ما يأمر به سيّد الشهداء (علیه السلام) ممّا مرّ من كلامه، أو ممّا يأتي فيما بعد، أي: الأمر بتقوى الله في السرّ والعلانية،إلى آخر الوصيّة..

وعلى كلا التقديرين، فإنّه قد ارتكب ما لا ينبغي له أن يرتكبه:

أوّلاً: جعل نفسه في موضع الآمِر للإمام (علیه السلام)

مَن هو ابن عبّاسٍ كي يجعل نفسه في مقام الآمر لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وإمام زمانه وإمام الأُمّة؟

وما هو المسوّغ له الّذي شجّعه على التطاول على سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ هل قربه من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ فسیّد الشهداء (علیه السلام) أقرب، وهو بضعةٌ منه وابنه وريحانته! أم معرفته بالدين؟ وسيّد الشهداء (علیه السلام) إمام المسلمين، ووصيّ رسول الله! أم سنّه؟ وهو إمّا أن يكون مِن لِدة الإمام (علیه السلام) ، أو على أقصى التقادير أكبر منه بسنتين أو ثلاثٍ أو خمسةٍ في غاية ما يمكن أن يفترض له من العمر!

ص: 172


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

إلّا أن يقال: إنّه بنى مقامه من تأمير القرد المخمور والتفويض الّذي منحه إيّاه من خلال هذا الكتاب، أو من المقام الّذي روّجت له السقيفة.

وسواءً كان له مسوّغٌ أو لم يكن، فإنّ في تعبيره من الغرور والمجازفة وإساءة الأدب الّذي تجاوز الحدّ!

ثانياً: جمعه الإمام (علیه السلام) ويزيد في مستوىً واحدٍ من الخطاب

ثمّ إنّه تطاول على الإمام (علیه السلام) من حيث جعله في صفٍّ واحدٍ مع يزيد في خطابه، وجمع الطهر كلّه في مستوىً وصعيدٍ مع العهر كلّه، بحيثخاطب يزيد وسيّد الشهداء (علیه السلام) في جملةٍ واحدة: «وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به».

فهو يخاطب يزيد الخمور والفجور بنفس العبارة الّتي يخاطب فيها سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ويجعل مؤدّيات أمره لكليهما واحد، ولو لم تكن المؤدّيات واحدةٌ فإنّ مخاطبتهما في عبارةٍ واحدةٍ والتسوية بينهما من دون الفصل في الخطاب بينهما يكفي في انفجار قلب المؤمن حزناً على مظلوميّة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

عجبٌ والله لا ينقضي!

أمّا إذا قلنا أنّ قوله: «وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله» يعني أنّه يوجّه الخطاب لسيّد الشهداء (علیه السلام) ولو فرضاً بقوله الّذي ذكره بعد ذلك مباشرة:

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا

ص: 173

مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافرٍ حفيراً لنفسه ...

إلى آخر وصيّته.

فهو كلامٌ له دلالاتٌ ونتائج لا يمكننا التصريح بها، وهي أوضح من أن نذكرها وننوّه إليها لكلّ مَن اعتقد عصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمامته، بل حتّى لو افترضه صالحاً من صلحاء المسلمين، والعياذ بالله..ونحن نقول: ليس هذا هو مراده إن شاء الله، رغماً عن ظاهر العبارة ومفاد السياق.

المادّة الثالثة: تبييت يزيد وإرصاده وحفره لسيّد الشهداء (علیه السلام)

ورد في الكتاب _ برواية الشجريّ _ قول ابن عبّاس:

ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافر حفيراً لنفسه، وكم من آملٍ لم يُؤتَ أمله، وكم من راجٍ لطول العمر مبسوطٍ له في بعد الأمل، فبينا هو كذلك إذ نزل القضاء، فقطع أمله ونقص عمره، وأخرجه من سلطان الدنيا الفانية إلى سلطان الله وعدله في الآخرة ((1)).

وروى سبط ابن الجوزيّ نفس المعنى بعبارةٍ مختصرة ((2))..

ص: 174


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245: ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يُؤت أمله.

ونحن لا نريد أن نبسط الحديث في نصائح ابن عبّاس لرجلٍ يعاقر الخمر ولا يصحو إلّا حين ينتشي بالسكر ويعبّ الكأس بعد الكأس غارقاً في الدنان..

بَيد أنّ فيها معنىً يشير إلى نكتةٍ مهمّةٍ جدّاً يمكن أن تُستفاد من جملة هذا المقطع من موعظته..

وخلاصة الكلام:إنّ ابن عبّاس يحذّر يزيد الحقد والعداوات من أن يبيت ليلةً وهو يريد بمسلمٍ غائلةً أو يرصده بمظلمةٍ أو يحفر له حفيراً..

ولا ننسى أنّ كلام ابن عبّاسٍ كلّه في سياق الردّ على كتاب يزيد في قضيّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو يقرّ من خلال هذه الموعظة الّتي حذّر فيها يزيد أنّ يزيد قد فعل أو عزم على فعل هذه الخصال القذرة، وقد بيّت لسيّد الشهداء (علیه السلام) غائلةً ورصده بمظلمةٍ وجعل يحفر له حفيراً.

وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ _ أو على الأقلّ إشارةٌ صريحة _ إلى المخطّط الّذي رسمه يزيد وأسلافه للقضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) وقتله، واستئصال شأفة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآله (علیهم السلام) ، وأنّ القرد المسعور هو البادئ في

ص: 175

ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) والعازم على إنشاب أظفاره في الهيكل المقدّس، والمبيِّت له والحافر له حفيرةً تشفي الأحقاد الأُمويّة وتستوفي ثارات الجاهليّة..

فابن عبّاس لا يشهد على سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه خارجٌ على يزيد، بعد أن أكّد له أنّه لم يكن ليخرج لأمرٍ يكرهه، ولم يقرّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يبيّت القيام على السلطان والخروج بالمعنى المصطلح، وإنّما أقرّ أنّ يزيد يريد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ويبيّت له، ويسعى من أجل تحقيق ما يبيّته.

بمعنى: أنّه يدعو يزيد ويعظه أن يكفّ عن ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) ؛ لأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يأتِ _ على الأقلّ إلى حين كتابة الكتاب _ بمايمكن أن يكون تهديداً ليزيد وحكمه وسلطانه.

وإن قلنا: إنّ النصيحة موجّهةٌ للطرفين _ والعياذ بالله _ كما قال ابن عبّاس من تماثل نصيحته لهما، فنستغفر الله ونتوب إليه، ولا نزيد.

المادّة الرابعة: النصيحة لأولاد البغايا

قال الشجريّ:

وخُذْ مع ما أُوصيك به من النصيحة لهذه الأُمّة بحظّك من الركوع والسجود آناء الليل وتارات النهار، ولا يشغلك عن ذكر الله (تعالى) شيءٌ من ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما أنت مشتغلٌ به من ذات [الله] ينفع ويبقى، وكلّ ما أنت مشتغلٌ به عن ذات الله يضرّ

ص: 176

ويفنى، فاجعلْ همّك فيما يُرضي ربّك، يكفك همّك ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

وخُذْ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السنّة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما اشتغلتَ به عن الله يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام ((2)).نحسب أنّ ترك التعليق على هذه الموعظة المؤثّرة خيرٌ من الانسياب معها، إذ أنّ ابن عبّاسٍ جعل يعظ ابن ميسون وحفيد هند المتولّد من سيلانات النطف القذرة الممزوجة بالخمرة في بيوت الدعارة وحانات السكارى، الّتي تكاثفت في وجوده العفِن أعيانُ النجاسات متراكمةً بعضها فوق بعض، حتّى شبّ قرداً يلاعب أمثاله من القرود، وكبر مولعاً بالدماء الزاكية يلغ فيها ثملاً طروباً فرحان جذلان، ويرى الدنيا رقعة شطرنج يلعب عليها كما يمارس القمار، وقد نصحه أبوه من قبل وأصحابه ليرعوي ويحفظ سلطانه ويتظاهر أمام الملأ بالنسك والصلاح، تماماً كما كان يفعل أبوه وغيره ممّن سبقوه من ملوك الإسلام، بما يضمن له راحة الانغماس في

ص: 177


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

مستنقعات غابة القرود الآسنة الّتي تشيع فيها الرذيلة والنزوات..

أمثل يزيد يوعظ بهذه الموعظة؟!

لكن قد يقال: إنّ أداء التكليف في النصيحة يدعو لإسدائها، باعتباره قد تربّع على تخت السلطان واستقرّ على عرش الملك.

بَيد أنّ هذا النصح إنْ كان مباحاً، فلماذا أُبيح لمثل ابن عبّاسٍ وحُرّم على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ولزم من إبدائه قتله؟

المادّة الخامسة: خاتمةٌ تفرّد بها الشجريّ

داجِ حسيناً، وارفقْ به، ولا تعجلْ عليه، ولا تنظره رأيه، عسى الله (عزوجل) أن يُحدث أمراً يلمّ به شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتُق به فتقاً، والسلام ((1)).

داجى الرجلَ: ساتَرَه بالعداوة وأَخْفاها عنه، فكأنّه أتاه في الظُّلمة، وداجاه أيضاً: عاشَرَه وجامَله.

ويُقال: داجَيْتُ فلاناً، إذا ماسَحْتَه على ما في قلبه وجامَلْتَه.

والمُداجاةُ: المُداراةُ، والمُداجاةُ: المُطاولة، وداجَيْتُه: أي داريته، وكأنّك ساترته العَداوة.

المُداجَاةُ _ أيضاً _ : المَنْعُ بين الشِّدَّةِ والإِرْخاء.

ص: 178


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

والدُّجْيَةُ _ بالضمّ _ : قُتْرةُ الصائد ((1)).

وباقي المفردات واضحة، إلّا قوله: «ولا تنظره رأيه»، فلا ندري ما يقصد بقوله: «تنظره»؟ هل هو من النظرة، أي: التأخير، أو النظرة بمعنى التناظر والمقابلة، فلابدّ أن يقول تناظره، أو النظرة بمعنى التقبيح، فقد ورد استعمال النظرة في المرأة القبيحة، أو أيّ معنىً آخر يمكن أن ينطبق على هذهاللفظة ممّا ورد في كتب اللغة عند تتبّع الاستعمال، فإنّنا لم نجد معنىً محصّلاً من هذا، ولعلّ أهل الاختصاص يعرفون ذلك.

على العموم، فإنّ مؤدّى هذه المادّة هو استمهال يزيد الخمور ودعوته للتحلّم وضبط النفس والتريّث والتربّص بالإمام الحسين (علیه السلام) ، عسى أن تتحقّق الأغراض دون إثارة الفتن، فيلمّ الله بأمرٍ هو يُحدثه شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتق به فتقاً.

فالأمر أشعث، والشعب منصدع، والرتق حاصل، وعسى الله أن يفعل أمراً يسدّ به هذه الخلال المتحقّقة، ويكون الفضل في ذلك ليزيد الخمور!

ص: 179


1- أُنظر: لسان العرب: دَجَو.

ص: 180

النسخة الثالثة: نسخة إلى عمرو بن سعيد

اشارة

روى الخوارزميّ فقال:

ثمّ أتى كتابٌ من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد، يأمره فيه أن يقرأه على أهل الموسم، وفيه: ... [وذكر الأبيات المذكورة]

ثمّ قال: وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم.

قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم ((1)).

ثمّ ذكر توجيه أهل المدينة الأبيات إلى الإمام (علیه السلام) وجواب الإمام (علیه السلام) ، مثل ما ذكره ابن أعثم.

* * * * *

لقد مرّ الحديث عن أكثر مفاصل هذا النصّ، والّذي يهمّنا هنا بعض الإضافات الّتي وردت فيه:

ص: 181


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.
الإضافة الأُولى: نسخة الأشدق

يبدو من النصّ أنّ هذه هي نسخةٌ أُخرى للكتاب أرسلها القرد المخمور إلى الأشدق، ويبدو أنّ نسخته مع ما أرسله إلى أهل المدينة من بني هاشم واحدة، وهو يتضمّن الأبيات فقط، أمّا الزيادات الواردة في نسخة ابن عبّاسٍ فهي خاصّةٌ به دون غيره.

الإضافة الثانية: المخاطَب في هذه النسخة

يبدو أنّ المخاطَب بالكتاب ليس هو الأشدق بنفسه، وإنّما هو وسيلةٌ باعتباره الوالي والممثّل للقرد المسعور، وهو مكلَّفٌ بقراءته على أهل الموسم، إذ أنّ الأبيات تتضمّن الاعتذار إلى أهل الموسم عن قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، تماماً كما فعل مع قريش وبني هاشم وأهل المدينة في النسخة الأُولى، وليس الأشدق ممّن يُعتذَر إليه في ذلك ليكون مخاطَباً.

أضف إلى ما في صريح عبارة الخوارزميّ من أمر الأشدق بقراءته على أهل الموسم.

وهو يحمل نفس الروح الخبيثة الّتي حملها الكتاب المرسل إلى أهل المدينة من الغطرسة والكبر والغرور على الله وعباده، إذ لا سلام ولا بداية ولا ختام ولا بسملة، وإنّما تهديدٌ ووعيدٌ وإصحارٌ عمّا في الكامن العفن، والإعلان عن العزم الجادّ على قتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

ص: 182

الإضافة الثالثة: قول الشعبيّ

روى الخوارزميّ قول الشعبيّ: «لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم» ((1)).

كلام الشعبيّ هذا يفيد أنّ يزيد القرود قد عبّر عن عزمه على قتل الإمام (علیه السلام) ومَن معه تعبيراً واضحاً، وأنّه عازمٌ عن علمٍ وإصرارٍ مسبقٍ على رسم المشهد الّذي يريد تحقيقه وينوي تنفيذه، حتّى لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم، وهو تعبيرٌ آخَر عن التحقّق والوقوع!

ص: 183


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

ص: 184

لقاء ابن عبّاس وابن عمر بالإمام (علیه السلام)

اشارة

لا نريد الدخول في الحديث عن الإخبارات الغيبيّة والأحاديث الشريفة والنصوص المقدّسة، لأنّنا بنينا البحث هنا على النصوص التاريخيّة وسياقات البحث التاريخيّ فقط.

بَيد أنّ النصّ التاريخيّ تضمّن مفاداً قد يفاد منه الإخبار الغيبيّ، فنحن سوف نتناوله هنا ضمن الفهم والمذاقات التاريخيّة، ونترك البحث فيه كنصٍّ فيه إخبارٌ غيبيّ إلى محلّه.

فقد روى لنا ابن أعثم وعنه الخوارزميّ لقاءً جمع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس وابن عمر، قالا _ في خبرٍ طويل _ بعد أن ذكر دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة:

وبمكّة يومئذٍ عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن عمر، وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة، فأقبلا حتّى دخلا على الحسين (علیه السلام) ، فابتدأ ابن عمر بالكلام وحذّر الإمام، فقال: يا أبا عبد الله، اتّقِ الله! رحمك الله

ص: 185

الّذي إليه معادك، فقد عرفتَ عداوة هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم، وقد وليَ الناسَ هذا الرجل يزيدُ بن معاوية، ولستُ آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء، فيقتلوك ويهلك فيك بشرٌ كثير، فإنّي سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «حسينٌ مقتول، فلئن خذلوه ولم ينصروه لَيخذلنّهم الله إلى يوم القيامة».

وأنا أُشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وتصبر كما صبرتَ لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين ((1)).

* * * * *

يمكن أن نستنطق النصّ المذكور من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: دخلا وقد عزما على الانصراف

يُفهَم من النصّ أنّ العبدين كانا في مكّة، وكانا قد عزما على الانصراف إلى المدينة، وكأنّهما قد قضيا عمرتهما، وهما ينويان العودة، فأقبلا قبل الخروج من مكّة حتّى دخلا على سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ويفيد تعبير المؤرّخ أنّهما دخلا على سيّد الشهداء (علیه السلام) عند عزمهما

ص: 186


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

على الرجوع إلى المدينة أنّهما لم يكونا قد اهتمّا بشأن سيّد الشهداء (علیه السلام) اهتماماً خاصّاً، فهما قد عزما على العودة رغم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة دخولاً تحت طائلة الملاحقة وفي ظروفٍ حرجةٍ وحسّاسةٍ للغاية.

ولا ندري إن كان دخولهما على سيّد الشهداء (علیه السلام) تبرّعيّاً من عند أنفسهما، أو كان تنفيذاً لأمر يزيد وتحقيقاً لما طلبه من ابن عبّاس في كتابه!

الإضاءة الثانية: محاولة الإبقاء على سيّد الشهداء في الحرم

يبدو من صياغة النصّ أنّهما قد أقبلا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) محذّرَين معترضَين، في محاولةٍ منهما لثني أبي عبد الله (علیه السلام) عن الخروج إلى العراق وحبسه في مكّة والمدينة.

هذا في ظاهر العبارة، وربّما أفاد التأمّل أنّهما إن أفلحا في إقناع الإمام (علیه السلام) على الإقامة في مكّة أو الرجوع إلى المدينة، فإنّ ذلك سيؤول عاقبةً إلى تنفيذ المخطّط المرسوم، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) _ لا شكّ _ لا يقاتل في الحرم، فإمّا أن يتمكّنون من تحشيد العسكر والهجوم عليه، تماماً كما فعلوا مع ابن الزبير، أو أنّهم سيغتالونه، كما أفادت النصوص وصرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهذا يعني أنّهما قد انساقا مع يزيد واستجابا لأمره ورغباته في الإبقاءعلى سيّد الشهداء (علیه السلام) في أحد الحرمين، سواءً قصدا ذلك أم لم يقصداه،

ص: 187

وقد أمر يزيدُ ابنَ عبّاس في كتابه إليه.

فكانت هذه المحاولة في نفس السياق والنسق، إذ أنّ الجميع يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيبقى مطوّق اليد محاصَراً في مكّة، يصبر عنهم ويحاول إبقاء سيفه في غِمده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لئلّا تُهتَك به حرمة البيت الحرام، ويمكنهم حينئذٍ توظيف هذا العامل إلى أقصى ما يمكن توظيفه والاستفادة منه في حربهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإضاءة الثالثة: بدايةٌ وقحة!

إبتدأ العبد ابن عمر كلامه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) بعبارةٍ تنمّ عن مدى وقاحته وسوء سريرته ومستوى انحطاطه الأخلاقيّ في عدم معرفته بالرجال ومنازلهم ومراتبهم ومقاماتهم..

تجرّأ في مفتتح الكلام، وابتدأ حديثه بقوله: «اتّقِ الله»!

مَن هو هذا العبد الّذي اتّخذ إلهه هواه، حتّى يأمر الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) بهذا الخطاب ويأمر بتقوى الله؟!

لا يقال: إنّ هذه الصيغة معتادةٌ في الحديث، وهي تعبيرٌ عن التحذير ودعوةٌ للتأمّل والتفكير والتريّث وما شاكل..

فإنّ وقوف مثل ابن عمر موقف المحذّر والداعي للتأمّل والتريّثوتقمّص شخصيّة الناصح المشير العاقل مقابل سيّد العقلاء وسيّد

ص: 188

الكائنات في عصره الإمام الحسين (علیه السلام) هو أيضاً ينمّ عن عدم معرفةٍ أو يكشف عن الغرور والتكبّر والتجبّر.

ليس لمثل هذا العبد الحقير إلّا الإذعان أو الاقتداء بسلفه، والفرار من الزحف والابتعاد عن ساحة المواجهة الّتي لا تليق بأمثاله، والاختفاء بعيداً عن بريق السيوف ووميض الرماح والأسنّة وشهب النبال والسهام.

مِن هوان الدنيا على الله أن يقف هذا القزم هذا الموقف من سيّد الخلق في عصره، ويفوه أمامه بمثل هذه الكلمة ويأمره بمثل هذا الأمر، وكأنّه يذكّر الإمام (علیه السلام) بالله وبالقيامة والمعاد والوقوف بين يدَي الله.. «اتّقِ الله، رحمك الله الّذي إليه معادك».

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. لك الله يا أبا عبد الله، وما أعظم خُلقك وأوسع صدرك وأكبر حلمك!

الإضاءة الرابعة: ترتيب المقدّمات في كلام ابن عمر

اشارة

لقد قرّر ابن عمر في هذا النصّ جملةً من المقدّمات، ورتّب عليها نتيجةً خطيرةً لها علاقة بسيّد الشهداء (علیه السلام) من جهةٍ وبالناس من جهةٍ أُخرى، مستدلّاً لذلك بما سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .ويمكن جمعها في المقدّمات التالية:

ص: 189

المقدّمة الأُولى:

قد قرّر ابن عمر أنّ بني أُميّة لا زالت على عداوتها للحسين (علیه السلام) وآل الحسين (علیهم السلام) ، فيزيد يتحرّك بدافع العداوة والبغضاء والأحقاد والإحَن والشقاء القديم الّذي تجذّر في الشجرة الملعونة.

وقد تبيّن من أسلاف يزيد _ والأشياء تُعرَف بنظائرها _ أنّهم سعوا في عداواتهم وأحقادهم حتّى ترجموها بالقتل والقتال مع الحقّ، فقد حارب أبو سفيان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولم يدخل الإسلام عمره إلّا ما تظاهر به حقناً لدمه، فدخل صاغراً طليقاً.

وقاتل معاوية الإمامَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، ولم تهدأ أحقاده حتّى قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وقاتل الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، حتّى قتله.

واليوم وصلت النوبة لتبرز هذه الأحقاد في يزيد، فهو يريد قتل الإمام (علیه السلام) لعداوته وحقده، ساعياً في نفس الطريق المظلم الّذي سلكه آباؤه ومَن سلّطهم من قبل.

كما قرّر أنّ بني أُميّة قد ظلموا أهل البيت (علیهم السلام) ، وأنّهم على هذا المنوال لا يفترون ولا يتراجعون، وهم ماضون في ظلمهم لأهلالبيت (علیهم السلام) ، فيزيد ظالمٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يبدو من سيّد الشهداء (علیه السلام) موقف، وهو ظالمٌ له كأسلافه، سواءً اتّخذ سيّد الشهداء (علیه السلام) موقفاً أو لم يتّخذه، فظلم

ص: 190

الأُمويّين _ وخصوصاً يزيد _ لأهل البيت ليس سببه ما يدّعونه من تحريض سيّد الشهداء (علیه السلام) ضدّه وسعيه للانقضاض على سلطانه.

كما أكّد ابن عمر أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عارفٌ بذلك عالمٌ به، يعرف الأُمويّين وعداوتهم وبغضهم وأحقادهم على أهل البيت (علیهم السلام) ، فالأمر ليس خافياً عليه.

فقد عرفتَ عداوة هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم..

هذا ما يخصّ يزيد والأُمويّين، وهو من الثوابت الّتي يعرفها الجميع، ويقرّ بها القريب والبعيد، وقد عرفها سيّد الشهداء (علیه السلام) كما عرفها ابن عمر!

المقدّمة الثانية:

قرّر أنّ الناس قد ولَّوا يزيد ورضوا به، بمعنى أنّ سلطنة القرد المخمور قد استقرّت ببيعة الناس له، وفراغهم من هذا الأمر المنجَز.

يبدو من كلام ابن عمر، وهو يخبر عن الجوّ العامّ ويتحدّث عن وضع الناس والمجتمع، ويؤكّد أنّ البيعة قد تمّت ليزيد، وقد دخلوا في طاعة القرود وانتهى الأمر، وقد وليهم يزيد، وتحكّم فيهم وتسلّط عليهم،فاجتمعت الأُمّة عليه، وإن كان ذلك بالباطل.

وهذا يعني أنّ إباء سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة في مدلول كلام ابن عمر يُعدّ خروجاً عن وحدة الأُمّة، وشقّاً لعصاها، وتفريقاً لكلمتها، وابتعاداً عن جماعتها!!

ص: 191

المقدّمة الثالثة:

قد قرّر أنّ الناس يميلون إلى الصفراء والبيضاء، ويحبّون الدنيا ويحوطونها، ولا يمنعهم أن يكونوا يداً للقرد البطّاش، فيقتلون سيّد الشهداء (علیه السلام) لمكان الاحتفاظ بدنياهم، فيخذلون سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويقدّمونه للسيوف والرماح والسهام نهباً.

* * * * *

وهذه المقدّمات الثلاث مسلَّمةٌ لا يناقش فيها أحد، وهي معلومةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد عبّر عنها هو بنفسه _ فداه العالمين _ في أكثر من موضع، كما هي معلومةٌ لكلّ المعاصرين، بل وغير المعاصرين ممّن يقرأ التاريخ ولو بعينٍ كليلة.

ومن هنا استخلص ابن عمر النتيجة:

النتيجة:

لمّا كان يزيد واحداً من بني أُميّة، بل هو وأبوه أخبثهم وأرجسهموأنجسهم، وكان قد وليَ الناس ودخل الناسُ في طاعته، والناس يميلون إلى البيضاء والصفراء والدنيا وعفنها..

ويزيد يريد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لشدّة عداوته ودوافعه الأُخرى، فإنّ الناس سيميلون معه ويكونوا يداً على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسينتج من ذلك خطران عظيمان:

ص: 192

الخطر الأوّل: فيقتلوك..

الخطر الثاني: ويهلك فيك بشرٌ كثير..

ولا ندري إنْ كان الخطر الأوّل يهمّ ابن عمر أو الخطر الثاني؟

الإضاءة الخامسة: هلاك البشر!

الظاهر أنّه لا يقصد من (هلاك البشر الكثير في الإمام الحسين (علیه السلام) ) أنّه سيُقتَل في الدفاع عنه بشرٌ كثير، إذ أنّه قرّر أنّ الناس سيميلون مع يزيد لمكان البيضاء والصفراء، وإنّما يعني الشقّ الثاني الّذي ذكره في حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذي رواه مستدلّاً له على كلامه.

فالحديث قد أخبر _ كما سنسمع _ خبرين: أحدهما: قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والآخَر: هلاك الناس بخذلانهم إلى يوم القيامة، لخذلانه وترك نصرته.

فهذا الّذي يعنيه ابن عمر من هلاك بشرٍ كثير، فكأنّه يقول لسيّدالشهداء (علیه السلام) : إنّ الناس سيخذلونك، ويتركوا نصرتك، وبهذا سيُخذَلون إلى يوم القيامة، وهذا يعني هلاكهم.

الإضاءة السادسة: حسينٌ مقتول!

بعد المقدّمة الّتي قدّمها ابن عمر، وأبان عداوة القوم وظلمهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ودأبهم وإصرارهم على التوغّل في عداوتهم وظلمهم، وأنّ

ص: 193

الناس قد بايعوا واستسلموا، وهم بطبعهم يميلون إلى الدنيا ويغترّون ببريق الصفراء والبيضاء، فما زال الناس أيدٍ للقردة، يبطشون بها وينفّذون مآربهم.. استدلّ لما يقوله بحديثٍ سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) :

«حسينٌ مقتول»!

كما قُتل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وقُتلت فاطمة وقُتل أمير المؤمنين وقُتل الحسن (علیهم السلام) ، فالحسين مقتولٌ أيضاً!

مقتول.. لأنّ بني أُميّة الأعداء الظالمين لا زالوا مصرّين على القضاء على آل البيت جميعاً.. لا زالت مراجل الحقد والضغينة والتِّرات والتشفّي بالانتقام للأشياخ تغلي في أعماقهم جيلاً بعد جيل، يوصي بها الغابرُ الحاضر..

مقتول.. لأنّ الناس لا زالوا يناولون القردة، ويتمسّكون بأعواد الشجرة الملعونة، ويتباعدون عن العروة الوثقى، وتتفلّت قبضاتهم عن أغصان شجرةطوبى..

مقتول.. لأنّ الناس لا زالوا يمليون إلى الصفراء والبيضاء، ولا زال الأعداء يستقوون بالناس ويتّخذونهم خولاً وأيدٍ يبطشون بهم بالحقّ ورجاله بطش الجبّارين..

حسينٌ مقتول.. لأنّ العدوّ عازمٌ على قتله، والناس عبيد الدنيا، وخول للسلطان..

ص: 194

حسينٌ مقتول.. لا لذنبٍ يرتكبه ولا لصوتٍ يرفعه، بل لأنّ العدوّ يريد قتله!

فالنبيّ (صلی الله علیه و آله) يُخبر عن أمرٍ مفروغٍ عنه بصيغة اسم المفعول: «مقتول»! ثمّ يُخبر عن موقف الناس، فيقول: «فلئن خذلوه ولم ينصروه»..

فالخذلان وترك النصرة مقابل القتل الواقع عليه، أي: تركوه ولم يدافعوا عنه، ولم ينصروه بمنع القتل عن الوقوع والتحقّق..

فالحديث كلّه يدور في مساحةٍ واحدة، وهو عزم العدوّ على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) حتماً، وأنّ الناس لهم أن يمنعوا هذا القتل بنصره، والنصر هنا يعني دفع القتل عنه، والخذلان يعني التخلّي عنه ودفعه للسيوف الحاقدة..

فالحسين مقتول، وعلى الناس أن يدفعوا عنه القتل، فلا يخذلوه ولا يتركوا نصرته!

ليس في الحديث شيءٌ سوى الإخبار عن تحقّق وقوع القتل على سيّدالشهداء (علیه السلام) ، أي: أنّه إخبارٌ عن عزم الأعداء على ذلك وإصرارهم عليه، وتمكين الناس لهم من تحقيق هذه الجريمة العظمى.

وقد فهم ابن عمر هذا المعنى من الحديث، فقدّم له تلك المقدّمات..

فليس في الأمر أكثر من الإخبار عن التعدّي على سيّد الشهداء (علیه السلام) والعزم على قتله، وخذلان الناس وتركهم نصرته والدفاع عنه.. فالحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. مهجومٌ عليه.. مطارَد.. مطلوبٌ للقتل!

ص: 195

الإضاءة السابعة: فهم ابن عمر لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام)

يبدو من كلام ابن عمر _ حسب هذا النصّ _ أنّه لم يفهم من سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه يريد شيئاً سوى أنّه يأبى البيعة، وأن يدفع عن نفسه وأهل بيته القتل الّذي عزم عليه العدوّ، ولذا قدّم له المقدّمات الّتي سمعناها قبل قليل، وعقّب على الحديث الّذي رواه قائلاً:

وأنا أُشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وتصبر كما صبرتَ لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبينالقوم الظالمين ((1)).

تخيّل ابنُ عمر أن لو صبر الإمام (علیه السلام) كما صبر أيّام معاوية، فلعلّ الأمر ينتهي لصالح الإمام (علیه السلام) ، فلا يُقتَل، ثمّ يحكم الله..

لقد شهد ابن عمر كما شهد العالمون جميعاً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) صبر أيّام معاوية، وهي الفترة الأطول من إمامته، فقد صبر زهاء عشر سنوات، طغى فيها الجبّار معاوية أيّما طغيان، ولم يكن يزيد ينزو على الأعواد لأكثر من أيّامٍ قليلةٍ فقط.

ص: 196


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

الإضاءة الثامنة: إشارة ابن عمر!

اشارة

أشار ابن عمر على الإمام (علیه السلام) تبرّعاً من دون أن يطلب منه الإمام (علیه السلام) مشورةً ورأياً، إن لم نقل أنّه كان ينفّذ المهمّة الموكولة إليه مِن قِبل القرد المسعور، أو سعيه هو أيضاً لتحقيق مآربه في آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في إقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) للبقاء في مكّة، حتّى يتسنّى لهم تنفيذ الاغتيال أو الأسر، فيقتلونه أو يأخذونه أخذاً كما قال الإمام (علیه السلام) .

وقد جمع رأيه في الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: الدخول في صلح ما دخل فيه الناس

أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وهذا يعني أن يناول القرد الخليع ويبايع له، فهو يدعو الإمام (علیه السلام) إلى نفس ما دعاه إليه يزيد القرود، وكان من دون ذلك دم سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي سكن في الخلد.

الأمر الثاني: الصبر كما صبر على معاوية

أن يصبر على يزيد كما صبر على معاوية من قبل، وقد نسي هذا الغبيّ أنّ يزيد لا يقبل من الإمام (علیه السلام) إلّا البيعة أو القتل، بل إنّه _ بقرينة سير الحوادث وشهادة سابق التاريخ _ لا يترك الإمام (علیه السلام) حتّى لو كان قد بايع، وسيقتله بأيّ ذريعة، ولو لم يتوفّر على ذريعةٍ لَاغتاله بالسمّ كما اغتال أبوه الإمامَ المجتبى (علیه السلام) .

ص: 197

ثمّ إنّ هذا الغبيّ نسي أنّ معاوية قد تارك الإمامَ (علیه السلام) فتاركه الإمامُ (علیه السلام) ، أمّا يزيد فإنّه قد عزم على قتل الإمام (علیه السلام) وعدم متاركته.

الأمر الثالث: تهديد الإمام (علیه السلام)

لقد حذر ابن عمر الإمام (علیه السلام) وأمره بتقوى الله! وقدّم له مقدّمةً تفيد أنّه مقتولٌ بحسابات الظاهر المنظور من عداوة الأُمويّين وميل الناس معهم وسلطنة يزيد، وأكّد ذلك بالإخبار الغيبيّ بما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فهو يريد أن يهدّد الإمام (علیه السلام) بالقتل ويقول له: إمّا أن تدخل في صلح ما دخلالناس فيه وتبايع، وأمّا أن تُقتَل لا محالة.

هذا هو محصّل كلام ابن عمر، وهو نفس كلام يزيد القرود، لا يختلف عنه بتاتاً إلّا في طريقة التعبير ومحاولة الإقناع بالنتيجة، فالمطلوب نفس المطلوب، والأُسلوب نفس الأُسلوب، والتخيير نفس التخيير، ومؤدّى الخطاب نفس مؤدّى الخطاب:

إمّا أن تبايع، أو تُقتَل!

الإضاءة التاسعة: ردّ الإمام (علیه السلام)

اشارة

ردّ عليه الإمام (علیه السلام) بجوابٍ يفيد أنّ ما فعله هو الامتناع عن البيعة ليزيد ليس إلّا، فقال:

«يا أبا عبد الرحمان، أنا أُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال رسول

ص: 198

الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه وفي أبيه ما قاله؟!».

وسيأتي بعد قليلٍ إقرار ابن عبّاسٍ بما قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد.

بَيد أنّ الملاحَظ في ردّ الإمام (علیه السلام) بعد الاستنكار الشديد على ابن عمر:

الملاحظة الأُولى: إنكار الدعوة للدخول في صلح يزيد

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يُنكر على ابن عمر سوى دعوته للدخول في صلح يزيد ومناولته والبيعة له.. ولم يدّعِ الإمام (علیه السلام) شيئاً آخَر بعد ذلك!فليس ثَمّة موضوعٌ تكلّم به ابن عمر سوى الدعوة للدخول في صلح يزيد ومبايعته، لذا كان جواب الإمام (علیه السلام) عن الموضوع نفسه.

بمعنى أنّ تحذير ابن عمر إنّما كان يركّز على ترك البيعة وعدم الاسترسال مع يزيد، وليس على فعلٍ يريد الإمام (علیه السلام) الإقدام عليه، إذ ليس ثمّة عملٌ معيَّنٌ وإقدامٌ خاصٌّ يلوح في الأُفق ويبدو في كلام الإمام (علیه السلام) أو حركاته ونشاطاته كي يحذّره منه ابن عمر.

ويؤكّد ذلك أنّ ردّ الإمام (علیه السلام) انحصر على دعوته، واستنكر عليه هذه الدعوة وقد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد ما قاله، ولم يبرّر له ما يريد الإقدام عليه، ولو كان ثمّة هجومٌ مبيَّتٌ لَبان في جواب الإمام (علیه السلام) ، ولَأشار إليه وكشف عن مسوّغاته ومبرّراته مثلاً أو استدلّ له.

ص: 199

الملاحظة الثانية: إذا كان الإمام مقتول، فلماذا يُدعى للبيعة الصاغرة؟

بناءً على ما ذكره ابن عمر في كلامه من تصويرٍ للظاهر المنظور واستدلالٍ بحديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكذلك ما سيذكره ابن عبّاس، فإنّ الإمام (علیه السلام) أراد الإشارة إلى أنّ يزيد عازمٌ على قتله كيف ما كان وبأيّ حجّةٍ ولأيّ سبب، سواءً أبايع أم لم يبايع، فكيف يدعوه ابن عمر لاختيار القتل مع الدنيّة؟!

الإضاءة العاشرة: عزم يزيد على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتقرير ابن عبّاس

اشارة

بعد أن استنكر الإمام (علیه السلام) على ابن عمر دعوته لبيعة يزيد والدخول في صلح ما دخل فيه الناس، واحتجّ عليه بقول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد، قرّر ابن عبّاس كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بما قاله النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فقال ابن عبّاس:

صدقتَ أبا عبد الله، قد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : «ما لي وليزيد؟ لا بارك اللهُ في يزيد! فإنّه يقتل وَلدي ووَلد ابنتي الحسين بن عليّ، فوَالّذي نفسي بيده لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم» ((1))..

ص: 200


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

يمكن أن نجد في كلام ابن عبّاسٍ عدّة إقراراتٍ وإفادات:

الإفادة الأُولى: تظافر الشهادات على يزيد

تظافرت في هذا اللقاء عدّة شهاداتٍ رُويت عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، شهد بها أطراف الحوار جميعاً:

شهادة ابن عمر أوّلاً، إذ روى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «حسينٌ مقتول، فلئن خذلوه ولم ينصروه لَيخذلنّهم الله إلى يوم القيامة»..

ثمّ جاءت شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصدق الخلق: «وقد قال رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه وفي أبيه ما قاله؟!»..

وصدّق ابنُ عبّاسٍ سيّدَ الشهداء (علیه السلام) وشهد بما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله في يزيد! فإنّه يقتل ولدي ...».

نجد هنا أنّ المتحاورين الثلاثة قد اتّفقوا على الرواية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ما يخصّ يزيد ويذمّه ويقضي عليه باللعنة والإبعاد والتفريغ من أيّ بركةٍ وفائدة.

الإفادة الثانية: عزم الرجس على قتل الطُّهر

يبدو واضحاً من هذا الحديث الّذي ذكره ابن عبّاس تأكيداً لموقف

ص: 201

سيّد الشهداء (علیه السلام) تقريراً منه أنّ يزيد عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام) ، وقد أخبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعزمه ودعا عليه، لأنّه سيفعل ذلك ويحقّقه، فيزيد مُقدِمٌ على فعلته، سواءً توفّرت له المسوّغات المنظورة أو لم تتوفّر، إذ أنّ المسوّغات الظاهريّة الّتي سيعلنها على رؤوس الملأ ممّا يسمّيه خروجاً على السلطة وشقّاً للعصا بالامتناع عن البيعة إنّما هي لتفسير موقفه أمام الملأ في حاضره ومستقبله، أمّا العامل الأصليّ _ والكلام هنا خارج دائرة العامل الغيبيّ _ إنّما هو الأحقاد الذاتيّة والضغائن والعداوة، ونجاسة المعدن ورجس المنبت، والانتقام لجيفهم وفطائسهم في بدرٍ وما تلاها، وغيرها منالدوافع..

فيزيد لا ينفكّ عن إصراره على الإقدام على الجريمة العظمى، لعداوته وبغضه للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وللوصيّ وللأوصياء من بعده (علیهم السلام) ، أو لامتثال الأوامر وتحقيق ما صبا إليه أبوه ومَن سلّطهم على رقاب الناس.

الإفادة الثالثة: موقف الناس

بعد أن ذكر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) موقف يزيد، وتأوّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونفث حزنه وألمه وقال: «ما لي وليزيد؟»، وأخبر أنّ يزيد عازمٌ بجدٍّ على قتل الحسين (علیه السلام) من دون جُرمٍ يجترمه، ذكر ما يتعلّق بموقف الناس، فقال:

«فوَالّذي نفسي بيده، لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه ...».

ص: 202

يُقتل بين ظهراني قوم.. فلا يمنعونه! لا يمنعون القتل عنه!

يزيد يقتل.. والناس لا يمنعون القتل!

الإفادة الرابعة: المطلوب من الناس

ليس المراد من الناس أكثر من أن يمنعوا القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) .

قتلٌ محقَّقٌ قصده العدوّ، فهو مطلوبٌ ومهدور الدم، ولم يُكلَّف الناسُ بأكثر من الوقوف دون وقوع هذه الجناية العظمى وصدّ العدوّ ودفع القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ..المطلوب ليس هو القيام مع الحسين (علیه السلام) إذا دعاهم لحرب العدوّ، وإنّما الوقوف مع الحسين (علیه السلام) إذا هجم عليه العدوّ ليقتله.. الوقوف معه لصدّ الهجوم عنه، إذ قال: «فلا يمنعونه»، يمنعوا القتل، أو يمنعوا الحسين (علیه السلام) ، فلا يكون المطلوب منهم أكثر من الدفاع عن الحسين ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

المطلوب ليس هو عدم خذلان سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بالاصطفاف معه حينما يدعوهم لمواجهة السلطة ويدعوهم لإسقاط حكم القرود، وإنّما المطلوب هو خذلان الظالم والدفاع عن الإمام الحسين (علیه السلام) حينما يهجم عليه السلطان ويقصد القضاء عليه وقتله، ودفع القتل عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

لا تجد في حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في جميع الشهادات المذكورة في هذا اللقاء ما يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيهجم وعلى الناس أن يقوموا معه، وإنّما

ص: 203

سيهجمون على الإمام (علیه السلام) ، وعلى الناس صدّ الهجوم عنه!

الإفادة الخامسة: أثر الخذلان

حينما يمتنع الناس عن الدفاع عن الإمام (علیه السلام) حتّى يُقتَل بين ظهرانيهم، فإنّ الله سيرميهم بداءٍ عضال، فيخالف بين قلوبهم وألسنتهم، وهو صورةٌ مجسّدة للنفاق والكذب، وهما أُمّ الرذائل وأصلها، ومَن تطبّع الكذبوالنفاق لا يمتنع عن أيّ رذيلةٍ ودنيّة، ويمضي أمره في سفال، والعياذ بالله.

الإضاءة الحادية عشر: بكاء الحسين (علیه السلام) وابن عبّاس!

بعد أن أكّد ابن عمر أنّ العدوّ عازمٌ على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ الناس موقفهم مع العدوّ لمكان ميلهم إلى الصفراء والبيضاء، وأنّ كلامه هذا صحيحٌ واستنتاجه صائب، بدليل إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عن عزم العدوّ وإشارته إلى موقف الناس وخذلانهم حتّى يُقتَل بين ظهرانيهم، وتأكيد سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لم يفعل سوى الامتناع عن البيعة، وليس له في مواجهة القرود قولٌ ولا فعل، وأكّد ابن عبّاسٍ ما قاله ابن عمر وقرّر ما قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) بالحديث الّذي سمعناه، فحينئذٍ بكى ابن عبّاسٍ وبكى معه سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ويبدو أنّ تفسير هذا البكاء يكاد ينحصر في التعبير عن المظلوميّة،

ص: 204

وغربة سيّد الشهداء (علیه السلام) في هذه الأُمّة ومحاصرته ومطاردته وبقائه وحيداً فريداً، وخذلان الأُمّة لابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن ابنته (علیهما السلام) ، وتسليمه إلى الطاغي ليقتله دونما رعاية لحقّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه.

ولو كان ثمّة أفكارٌ واهتماماتٌ أُخرى سوى المظلوميّة تجلّل الموقف وتغطّي الأجواء، لما كان للبكاء معنىً واضح! وممّا يؤكّد ذلك ما سنسمعهفي العنوان التالي.

الإضاءة الثانية عشر: إعلان سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مطاردته وعزمهم على قتله وإهدار دمه وإزعاجه بلا مسوّغ، وتظلّمه ومناشدته

بعد أن بكى ابن عبّاسٍ وبكى معه الإمام الحسين (علیه السلام) ، قال مخاطباً ابن عبّاس:

«أتعلم أنّي ابنُ بنت رسول الله؟».

فقال: اللّهمّ نعم، لا نعرف في الدنيا أحداً هو ابن بنت رسول الله غيرك، وأنّ نصرك لَفرضٌ على هذه الأُمّة، كفريضة الصيام والزكاة الّتي لا تُقبَل إحداهما دون الأُخرى! ((1))

ص: 205


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

كأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يقيم على ابن عبّاسٍ ومَن بلغ الحجّة، ويسأله إن كنتُ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكلّهم يعلم ويقرّ ولا مناص له من الاعتراف بذلك، فلِمَ يلاحقوني ويريدون قتلي من دون جرمٍ ولا قصاص؟

فهو يسأل ابن عبّاس ليقرّره ذلك، فيجيب ابن عبّاس مقرّاً معترفاً عنهوعن غيره، إذ يردّ على الإمام (علیه السلام) بضمير الجمع: «لا نعرف»، مؤكّداً أن ليس على وجه الأرض يومها ابن بنت نبيّ غير سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، وهذا لا ينفي أن يكون للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) غير سيّد الشهداء (علیه السلام) أبناء، لأنّهما يتحدّثان عن ذلك اليوم بالذات لا عمّا مضى من الأيّام، وهما يتحدّثان عن (الابن) على وجه الخصوص، وإلّا فالصديقة الصغرى وأُختها أُمّ كلثوم بنات رسول الله، والحكم جارٍ فيهما أيضاً.

ويقرّر ابن عبّاس أيضاً أنّ نصر سيّد الشهداء (علیه السلام) فرضٌ على الأُمّة، والنصر هنا معلومٌ تماماً، وهو الذبّ والدفاع عنه ومنع قتله، ويشهد له ما احتجّ به سيّد الشهداء حيث قال (علیه السلام) :

«يا ابن عبّاس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره وموضع قراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجرته، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ

ص: 206

ولا يأوي إلى وطن، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلفاؤه من بعده؟» ((1)).

اَلله أكبر! أتجد تصريحاً أكثر وضوحاً وتعبيراً من هذا التصريح؟سيّد الشهداء (علیه السلام) يفسّر خروجه من المدينة ويعلّله بكلماتٍ واضحاتٍ بيّناتٍ صريحات، لا تكاد تقبل التأويل ولا الالتفاف عليها، ولا إقحام ما ليس منها فيها!

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يخرج من المدينة طواعية، وإنّما أخرجوه وهو ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

أخرجوه من وطنه وداره..

أخرجوه من موضع قراره، فلم تعد المدينة له موضع قرار..

أخرجوه من مولده ومسقط رأسه..

أخرجوه من حرم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذي يعتقد به ويؤمن به (رسوله)، والظاهر أنّ الهاء في رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) يعود على سيّد الشهداء (علیه السلام) بقرينة السياق..

أخرجوه، وحرموه من مجاورة قبر جدّه ومسجده، وهو شرع لكلّ

ص: 207


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

المسلمين..

أخرجوه من موضع مهاجرة جدّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، الموضع الّذي بايع فيه المهاجرون رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) جدّه أن يدفعوا عنه وعن أهله كما يدافعون عن أهاليهم وذويهم..

تركوه خائفاً!

تركوه مرعوباً!تركوه لا يستقرّ في قرار!

لا تقلّه الأرض ولا تظلّه السماء! (فكأنّما الدنيا عليه محرّم)..

تركوه لا يأوي إلى وطن! (لا يدري أين يُريح بُدن ركابه)..

طاردوه هذه المطاردة، وحاربوه هذه الحرب القاسية، لا يريدون بذلك سوى شيءٍ واحد!

إنّهم جعلوا المطالبة بالبيعة ذريعةً ليس إلّا، لأنّهم يعلمون أنّه لن يُبايع، أمّا قصدهم الأساس هو ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) وحصره..

إنّهم يريدون قتله وسفك دمه!

هم يريدون قتله، وهو لم يشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يخرج عن ملّة الإسلام، ولم يغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه من بعده!

إنّه لم يفعل ما يستوجب القتل على جميع المباني والشرائع.. لا على

ص: 208

شريعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا على شريعة السقيفة..

لم يفعل ما يستوجب المطاردة وإهدار الدم والقتل..

هكذا تظلّم الإمام (علیه السلام) ، وصرّح بوضوحٍ عن سبب تركه المدينة ودخوله مكّة لائذاً عائذاً بالله وببيته..

إنّما ترك المدينة؛ لأنّهم أخرجوه واضطرّوه للخروج عن وطنه، لأنّهم يريدون قتله وسفك دمه.. لا لأنّه يريد الخروج منها ليواجههم ويحاربهموقد خطّط لإسقاط حكمهم والانقضاض على ملكهم، بل إنّما خرج لأنّهم أرادوا أن يستبيحوا حرمته وحرمة جدّه ومدينة جدّه الّتي جعلها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) حرماً آمناً ما بين لابتَيها..

ولو كان ثَمّة سببٌ آخَر لَأشار إليه أبو الشهداء (علیه السلام) ولَنوّه إليه، ولَما اقتصر في تحريضهما على الذبّ عنه شخصيّاً والدفاع عن دمه ومنع القتل عنه.

تصريحٌ واضحٌ جليٌّ من سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ القوم أرادوا قتله وسفك دمه، فخرج مضطرّاً لحفظ نفسه وحرمه، فهم أرادوا قتله فخرج، لا أنّه أراد قتلهم وقتالهم فخرج!

ولو كان ثمّة تخطيطٌ مسبَقٌ عند الإمام (علیه السلام) للانقضاض على السلطة وتقويض دعائم بني أُميّة الحاكمة، لَأشار إليها ولو من بعيد! إنّه لم يذكر علّةً لخروجه من المدينة سوى الدفاع عن نفسه النفيس _ فداه روحي _!

ص: 209

الإضاءة الثالثة عشر: إقرار ابن عبّاس بمظلوميّة الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن الحديث في هذه الإضاءة ضمن اللمعات التالية:

اللمعة الأُولى: الإقرار بالمظلوميّة والحكم على الناس

أجاب ابن عبّاسٍ مناشدة الإمام (علیه السلام) وتظلّمه دون اعتراضٍ عليه، فلم يقل له: أنت الّذي عزمتَ على الخروج من المدينة بحثاً عن أنصارٍ ومبايعين يلتفّون حولك ويقاتلون بين يديك لتقاتل المتسلّطين على الناس والغاصبين للحكم، وإنّ مَن يطلب مثل ما تطلب لا يخاف ولا يكلّ، وعليك أن تنظر إلى الناس، فإنّهم كما أخبرك ابن عمر عبيد الصفراء والبيضاء، وقد بايعوا يزيد وما لهم فيك مأرب.. وغيره من كلامٍ يشبه هذا.

وإنّما أقرّ بما جرى لسيّد الشهداء (علیه السلام) من خذلانٍ ومطاردةٍ وتنجيزٍ لإرادة قتله وسفك دمه، وحكم على الناس بقوله:

ما أقول فيهم ﴿إِلّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾ ((1))، ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾ ((2))_ الآية، فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى.

ص: 210


1- سورة التوبة: 54.
2- سورة النساء: 142 و143.

وأمّا أنت أبا عبد الله، فإنّك رأس الفخار، ابنُ رسول الله وابنُ وصيّه، وفرخُ الزهراء نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن رسول الله بأنّ الله غافلٌ عمّا يعمل الظالمون ...

فهم كفّارٌ بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، منافقون، لا يذكرون الله، ظالمون، تنزلعلى مثلهم البطشة الكبرى..

والإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) مظلوم، وهو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن وصيّه (علیه السلام) ، وفرخ الزهراء نظيرة البتول (علیهما السلام) الّتي عاداها قومها لأنّها ولدت عيسى (علیه السلام) ..

والحسين (علیه السلام) بعين الله، واللهُ لا يغفل عمّا يعمل الظالمون.. فلا يظنّ!! الحسين (علیه السلام) أنّ الله يغفل عن ظليمته..

وربّما كان قصده مِن «لا تظنّ» المواساة والتعزية والتسلية لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه بعين الله.

هذا، إنْ أحسنّا الظنّ بابن عبّاس، وإلّا ففي لحن كلامه سوء أدبٍ مع الإمام (علیه السلام) ، «فلا تظنّ..»، إذ لا ينبغي لمثل ابن عبّاس أن يعظ الإمام (علیه السلام) ويذكّره ويعلّمه أنّ الله لا يغفل عن الظالمين!

وما مدح به ابن عبّاس سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّها حقائق لا ينكرها أحد، وقد ذكرها ابن عبّاسٍ للمقارنة بينه وبين أعدائه الّذين يريدون قتله.

ص: 211

اللمعة الثانية: تأكيد ما ذكره الإمام (علیه السلام)

ثمّ أكّد ما ذكره الإمام (علیه السلام) من إرادة قتله وسفك دمه بشهادةٍ قدّمها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ، فقال:وأنا أشهد أنّ مَن رغب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك ((1))، فما له في الآخرة من خَلاق ((2)).

فهم الّذين رغبوا عن مجاورة الإمام (علیه السلام) ، وطمعوا في محاربته ومحاربة نبيّ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وبنيه، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة من خَلاق..

هم الّذين طمعوا في محاربة الإمام (علیه السلام) ، وليس الإمام (علیه السلام) هو مَن بادر إلى محاربة أحدٍ أو منافسة أحدٍ أو الدعوة إلى البيعة في مقابل بيعة أحد!

وقد أشهد سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) اللهَ على شهادة ابن عبّاس، فقال: «اللّهمّ اشهدْ ...».

المقابلة في كلام ابن عبّاسٍ بين مجاورة الإمام (علیه السلام) ومحاربته، فهي مِن جانب الإمام (علیه السلام) مجاورة، ومن جانب الأعداء طمعٌ في محاربته، ويبدو واضحاً ما في الطمع من إشعارٍ عميق.

ويبدو أنّهما معاً (المجاورة والطمع في المحاربة) إذا اجتمعا تجعلان

ص: 212


1- في المقتل: (مجاورة نبيّك).
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

الفرد ما له من خَلاق.

اللمعة الثالثة: اللّهمّ اشهدْ

بعد أن أنهى ابن عبّاسٍ كلامه، قال الإمام (علیه السلام) : «اللّهمّ اشهدْ ...» ((1)).

أوَ ليس يعني ذلك: اللّهمّ اشهد على ابن عبّاس؟ اللّهمّ اشهد أنّ ابنعبّاس يزعم أنّه يعرفني، وأنّي رأس الفخار، وأنّ مَن يرغب عن مجاورتي ويطمع في محاربتي كافرٌ منافقٌ يستحقّ أن تنزل عليه البطشة الكبرى!

اللّهمّ اشهد أنّ ابن عبّاسٍ يزعم أنّ مَن يرغب عن مجاورتي ويطمع في محاربتي ما له من خَلاق..

اللّهمّ اشهد أنّ ابن عبّاسٍ قال هذا كلّه، وهو يعلم ما يقول، وهو يعرف يزيد ويعرف ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ويعلم أنّ ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والوصيّ (علیه السلام) والطاهرة البتول (علیها السلام) في خطر، وأنّه مظلوم، وأنّ القوم لا يتركوه حتّى يقتلوه..

اللّهمّ اشهدْ.. لا يمكن التفكيك بينها وبين كلام ابن عبّاس، وأنّها شهادةٌ عليه فيما قال، وتسجيلٌ وتثبيتٌ لما قال، وأنّه هو ابن عبّاسٍ الّذي قال، والله لا يضلّ ولا ينسى..

يبدو أنّ ابن عبّاس فهمها، فقال: كأنّك تريدني إلى نفسك ...

ص: 213


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

اللمعة الرابعة: كأنّك تريدني إلى نفسك!

فقال ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك [تنعى إليّ نفسك، و] تريدني إلى نفسك وتريد منّي أن أنصرك! واللهِ الّذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي [خ ل: كتفي]، لَما كنتُ ممّن أُوفي من حقّك عُشر العشر! وها أنا بين يديك، مُرْنيبأمرك.

بعد كلّ الحُجج الّتي أقامها عليهما سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أدرك ابن عبّاس على نحو الاحتمال (كأنّك) أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مظلومٌ معتدىً عليه، وهو في خطر، وكأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يريده ليدفع عنه ويمنعه، وأنّه يريد منه أن ينصره! فأقسم بالله أن لو ضرب بين يديه حتّى ينخلع كتفه أو كفّه لما وفى من حقّه عُشر العشر، وأعلن أنّه بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) يأتمر بأمره..

فهل وقف يذبّ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ وهل كان صادقاً فيما قال بحيث يوافق قوله عمله؟! أو أنّه كأهل الكوفة وغيرهم ممّن أعلن النصرة أوّلاً، فلمّا جدّ الجدّ وكشّر العدوّ عن أنيابه وصرّت الحربُ أسنانها وقامت على ساقٍ انكفأ؟!

أكان ابن عبّاسٍ على استعدادٍ لبذل مهجته في الدفاع عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟

فلمَ لمْ يحضر كربلاء؟!

ص: 214

لم يحضر ابن عبّاس! ولا يبدو الاعتذار له أنّه كان كفيفاً اعتذاراً مقبولاً، فهو إنّما أعلن عن نصرته، لأنّه كان قادراً عليها ولو بما يناسبه.

لم يدفع أحدَ أولاده وإخوته وأولاد إخوته، أو أيَّ أحدٍ من رجال بني العبّاس وشبابهم وفتيتهم للحضور بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) !

إنّ القوم لا يردعهم رادعٌ عن ارتكاب الجناية العظمى، وقد عدَوا علىابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فذبحوه، بَيد أنّهم ربّما تريّثوا أو تذبذبوا وارتجّ موقف بعضهم إذا رأى ابن عبّاسٍ في صفّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو صديق عمر، وله عند رجالات السقيفة المنزلة والمكانة والوجاهة الوجيهة..

هلّا نصر إمامه بخطبةٍ أو كلمة، أو مكاتباتٍ مستمرّةٍ مع يزيد القرود، أو حثٍّ وتشجيعٍ للحجيج ليعرّفهم بمظلومية إمامهم وابن نبيّهم، وغيرها ممّا كان بالإمكان أن يكون لو أراد أن يكون؟

لقد أذن سيّد الشهداء (علیه السلام) لأهل بيته وأصحابه بصراحةٍ وبوضوحٍ في أكثر من موقف، بَيد أنّهم لم يخذلوه.. ولم يحضر أحدٌ من بني العبّاس كربلاء!!

لقد قال له سيّد الشهداء (علیه السلام) :

«فامضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك ...».

قالها له سيّد الشهداء (علیه السلام) مبادراً مستدركاً كلامه بعد أن أنهى كلامه

ص: 215

مع ابن عمر، كما سنسمع بعد قليل.

«وأنت يا ابن عبّاس، فامضِ إلى المدينة».. وهذا الاستدراك والمبادرة بعد أن قطع ابن عمر كلام ابن عبّاس وتدخّل، وتداول الكلام مع الإمام (علیه السلام) ، فردّه الإمام (علیه السلام) ، ثمّ التفت إلى ابن عبّاسٍ فقال له: «وأنت.. فامضِ..»، يُشعر بعدم جدّيّة ابن عبّاسٍ في ما عرض، وأنّه أعلن ذلكليستفيد من حياء الإمام (علیه السلام) وإبائه وترفّعه واستغنائه، وهو يعلم _ لمعرفته بالإمام (علیه السلام) _ أنّه سيأذن له ويصرفه، والإمام (علیه السلام) أعرف الخلق بالخلق، وقد أطلعه الله على نوايا العباد، والمواقف تكشف الرجال، وتقاسيم الوجه وتعابير العيون ومعاني الوجه قد تنطق بما لا ينطق به اللسان.

فإن كان الإمام (علیه السلام) قد أذن لابن عبّاسٍ في هذا الموقف، فلقد استنهضه في موقفٍ بعده حين كتب كتابه إلى بني هاشم:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 216


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 482 الباب 9 ح 5، كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 15، دلائل الإمامة للطبري: 188، نوادر المعجزات للطبري: 245، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 98 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

ولو كان ابن عبّاسٍ جادّاً فيما عرضه على الإمام (علیه السلام) من النصرة حتّى ينخلع كفّه أو كتفه، لَلزم ركاب الإمام (علیه السلام) وما فارقه، بل سارع إلى بيعة يزيد وهو في مكّة، كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى من البحث وذكرنا مصادره.

ولا يصلح الاعتذار له بكبر السن؛ وذلك لأنّه لا يكبر الإمام (علیه السلام) بحساب السنين إلّا بضع سنين بالاتّفاق، وقد قاتل بين يدَي الإمام (علیه السلام) مَن هو أكبر منه سنّاً بكثير، وأبلى بلاءً حسناً، وهو من بني هاشم!

ولا يفيد كلام الإمام (علیه السلام) أنّه قد كلّفه بمهمّةٍ تخلّفَ مِن أجلها فيالمدينة، إذ أنّه قال له: «امضِ إلى المدينة، ولا تُخفِ علَيّ أخبارك».. أخباره هو شخصيّاً كابن عمٍّ للإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يطلب منه أن يخبره بما يجري في المدينة، كأن يكون عيناً له أو ما شاكل.

إنّها الأخلاق الحسينيّة، والمداراة، والاهتمام بالرحم أيّاً كان!

على كلّ حال، فإنّ عبارة الإمام (علیه السلام) : «فامضِ إلى المدينة في حفظ الله» قد لا تفيد حتّى الإذن، وإنّما عرض ابنُ عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) نصرته عرضاً محرجاً بعد أن أقام الإمام (علیه السلام) عليه الحجج والبراهين، من خلال كلامه معه مباشرةً أو من خلال كلامه مع ابن عمر، وهو يسمع، فأُحرج الرجل واضطُرّ إلى عرض نصرته غير راغبٍ فيها، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) معدن الحياء وأصله، وهو لا يريد أن يقاتل معه أحدٌ محرَجاً، كما بان لنا

ص: 217

من خلال تعامله مع أصحابه وأهل بيته، فقال له: «وأنت يا ابن عبّاس، فامضِ إلى المدينة»..

فربّما أشعر ذلك أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يرفع الحرج عنه، فقال له: «امضِ إلى المدينة»، فاستقبلها ابن عبّاس، ومضى.. ولو كان صادقاً فيما زعم لَأقام حتّى يكلّ عن فري أوداج الأعداء، ويُقتَل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو على الأقلّ لَراجع الإمام (علیه السلام) ولو مرّةً واحدةً بعدها!

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاس لم يَعِد الإمام (علیه السلام) بالقتال بين يديه حتّى الموت، وإنّما قال له: «لو ضربتُ بين يديك بسيفي حتّى ينقطع وتنخلع يدايجميعاً، لَما كنتُ أبلغ من حقّك..»، فهو لم يفترض القتل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد افترض القتال افتراضاً مستخدماً (لو)! والحال أنّه قدّم له: «كأنّك تنعى إليّ نفسك»، فهو قد علم من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) ينعى نفسه وأنّه سيُقتَل، ولكنّه لم يَعِد الإمام (علیه السلام) أن يُقتَل دونه، وإنّما وعده أن يقاتل ما استطاع إلى القتال سبيلاً.

* * * * *

لكن يبقى هذا فرقٌ بين ابن عبّاسٍ وابن عمر؛ إذ أنّ ابن عبّاسٍ هاشميّ، وقد عاش في أجواءٍ قريبةٍ من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتعلّم من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) شيئاً من الأدب، والهاشميّ _ في الغالب _ بطبعه دمث الأخلاق، رقيق، ليّن العريكة، مجامل، عذب البيان، ذَلِق اللسان،

ص: 218

مرهف الحسّ، حاذق، ذكيّ، حاضر البديهة، بليغ التعبير.

لذا انبرى ابن عبّاسٍ ليعالج حرجه بعد أن لاحت الحجّة وتمّ البيان، ليعلن عن موقف، وإن لم يكن له بالحسبان، ولم يفكّر في الثبات عليه، وهو يعرف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه سوف لا يكرهه على شيءٍ هو يعلم أنّه غير جدّيّ فيه، فيجعله بما عنده من حذق وخبرة له أماناً ورخصةً وإذناً وعذراً وفسحة.

بيد أنّ ابن عمر _ الّذي نشأ على يدَي أبيه الّذي أجمع الناسُ على وصفه بالغلظة والفضاضة وصلابة الوجه _ لم يُبدِ هذا القدر من المجاملة،ولم يتحرّج من الموقف، وكأنّه من أهل القبور.. (وما أنت بمسمعٍ مَن في القبور).

الإضاءة الرابعة عشر: سماجة ابن عمر، مع اعترافه أنّ العدوّ عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام)

لقد سمع ابن عمر كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والمفروض فيه أن يعيَ الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ، والدوافعَ الّتي اضطرّته إلى ترك المدينة والتوجّه إلى مكّة البلد الحرام، وكان في ما عرضه سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يكفي لو لم يكن في العقل خفّةٌ وقدرةٌ على التعايش مع التناقضات والتسليم للتخريف والمماحكات..

ص: 219

لقد بكى ابن عبّاس، وبكى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يحدّثنا الراوي أنّ ابن عمر بكى هنا، رغم حضوره في نفس المكان واشتراكه في الموقف، وبعد كلّ ما جرى من حديثٍ يُفهِم الغبيّ فضلاً عن الفطن، ويُدركه مَن له أدنى مسكةٍ من عقل، عاد ابن عمر ليُقبِل على سيّد الشهداء (علیه السلام) ويقول:

مهلاً أبا عبد الله عمّا أزمعتَ ((1)) عليه، وارجعْ معنا ((2)) إلى المدينة، وادخلْ في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك وحرمجدّك، ولا تجعل لهؤلاء القوم الّذين لا خَلاق لهم على نفسك حجّةً وسبيلاً، وإنْ أحببتَ أن لا تبايع فإنّك متروكٌ حتّى ترى رأيك، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلاً، فيكفيك الله أمره ((3)).

* * * * *

لا يُدرى بماذا يُفسَّر كلام ابن عمر؟ كيف يعود إلى نفس الموقف ويعيد نفس الكلام؟!

أوَليس قد عرف أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع يزيد؟

أوَليس قد حكم على نفسه حينما سأله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأكّد

ص: 220


1- في (المقتل): (عزمت).
2- في (الفتوح): (من هنا).
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

بنفسه أن لا يجدر بمثل الحسين ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يكون على خطأ، ولا يصلح لمثل الحسين (علیه السلام) أن يسلّم على يزيد القرود والخمور بالخلافة؟!

أوَليس قد أبان له سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه خرج من المدينة مضطرّاً مهدَّداً مهدور الدم مباح الحرمة، لولا أن تداركها هو _ فداه روحي _ بخروجه؟!

أنسي الظليمة التي تظلّم بها سيّد الشهداء (علیه السلام) في نفس الموقف، أم تغابى عنها، أم أنّه غبيٌّ لا يسعه فهم الكلام؟

أم أنّه يريد أن يشكّك في كلام الإمام (علیه السلام) ؟أم أنّ الدنيا أعمته وأصمّته، وأفقده ميله إلى الصفراء والبيضاء صوابه؟!

أم أنّ مبادئ السقيفة تشرّبت في عروقه، وطرائق السلف عرّقت في كيانه ووجوده؟

أم أنّه أراد أن يتظاهر بزيّ المتنسّكين؟

أو حاول أن يُبدي نفسه في زمرة العقلاء والمدبّرين؟

أو أنّه كان يُفرغ عن لسان يزيد وطواغيته، ويسعى جاهداً لتحقيق أغراضه ليبلغ مآربه في قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟

أو هي جميعاً مجتمعة؟! ربّما!

ص: 221

لقد عاد من جديدٍ يهوّن الخطب، وكأن لم تعد الدنيا محرّمة على قرّة عين الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وبضعته، وكأن لم يتقاذفه الفضاء الأعظم نتيجة ملاحقة القوم لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكأن لم يزبد يزيد ويرعد ويتوثّب ويغلي بطبعه كقردٍ متوحّشٍ مسعورٍ ليلغ في الدماء الزاكية، فيطالب الولاة برأس الحسين (علیه السلام) !

ثمّ إن عاش يزيد طويلاً، فماذا سيصنع الإمام (علیه السلام) ؟ وهل كان ابن عمر مخوّلاً بهذا الكلام من قِبل يزيد؟ وهل كانت عنده عهودٌ ومواثيقٌ من الله أن سيقضي على يزيد عاجلاً ويريح سيّد الشهداء (علیه السلام) منه؟!

الإضاءة الخامسة عشر: ردّ سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

ردّ عليه سيّد الشهداء (علیه السلام) ردّاً أبلغه فيه تذمّره من كلامه، ثمّ جعل يناشده ويحتجّ عليه، حتّى حَجَّه وأقام عليه الحجّة كاملةً تامّة، فقال (علیه السلام) :

أُفٍّ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض! أسألك بالله يا أبا عبد الرحمان ((1))، أعندك أنّي على خطأٍ من أمري هذا؟ فإنْ كنتُ عندك على خطأٍ فردّني عنه، فإنّي أخضع ((2)) وأسمع وأُطيع.

فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن

ص: 222


1- في (الفتوح): (عبد الله).
2- في (المقتل): (أرجع).

بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك في طهارته وصفوته وموضعه من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة ((1))، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن لم تحبّ أن تبايع ((2)) فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((3)).

* * * * *

تضمّن هذا المقطع من النصّ عدّة مضامين:

المضمون الأوّل: لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام)

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث: «لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام) » ((4))، وهو إمام الخلق، ويجري فيه ما يجري في جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .. ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾!

وما أوسع صدر سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي رضّته الخيل؟! كيف تعامل مع الوغد الغبيّ، والمتسافل المتملّق، المتمسّك بذيل القرد المخمور، ووسعه

ص: 223


1- في (الفتوح): (على مثل يزيد بن معاوية لعنه الله باسم الخلافة).
2- في (المقتل): (وإن شئت أن لا تبايع).
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
4- أُنظر: مئة منقبة لابن شاذان: 136 المنقبة 68.

وتواضع له؟!

أوَ مثل سيّد الشهداء (علیه السلام) وسيّد شباب أهل الجنّة يقول له: «فإن كنتُ عندك على خطأٍ فردّني، فإنّي أخضع وأسمع وأُطيع»؟!!

أيّ حلمٍ هذا؟ وأيّ تواضع؟ وأيّ يقين؟ لا والله لا يمكن أن يكون إلّا في المظهر الحقّ لصفات الله وجماله وجلاله.

أمّا أن يُفهم من هذا الكلام أنّ الإمام (علیه السلام) قد جعل في رأيه مساحةً للخطأ والصواب خارجةً عن الاختيار، فهو فرضٌ مرفوضٌ عند القائل بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وسيأتي الكلام في ذلك عن قريب.

أجل، قد يكون _ على أقصى التقادير _ من باب المحاججة والتسليم، على وزان قوله (تعالى): ﴿إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ((1))،وحمل الأوّل للأوّل والثاني للثاني.

المضمون الثاني: أُفٍّ لهذا الكلام!

كانت دعوة ابن عمر تتلخّص في أن يتمهّل الإمام (علیه السلام) فيما عزم عليه، ويرجع الإمام (علیه السلام) إلى المدينة، ويدخل في صلح القوم، ولا يجعل للقوم عليه حجّةً وسبيلاً، ويترك الأمر حتّى يموت يزيد، وهو يأمل أن يعيش قليلاً.

ص: 224


1- سورة سبأ: 24.

فردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «أُفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات والأرض..».

أُفٍّ لهذا الكلام أبد الدهر.. أُفٍّ لهذا الكلام كلّه بجميع فقراته..

أُفٍّ لهذا الكلام؛ لأنّه يتضمّن الإفك على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والتعامي والتغافل والتغابي عن الحقائق والوقائع المنظورة لكلّ ذي عينين..

أُفٍّ لهذا الكلام؛ لأنّه ينمّ عن جهلٍ مطبق مطلَق بالإمام (علیه السلام) ..

أُفٍّ لقوله: «مهلاً عمّا أزمعتَ عليه»؛ لأنّه كذبٌ على الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّه لم يزمع إلّا على الدفاع عن نفسه، فكيف يدعوه للتمهّل في ذلك؟

أُفٍّ لقوله: «ارجع معنا إلى المدينة»؛ لأنّه صمّ أُذنه وطبع على قلبه، ولم يسمع الإمام (علیه السلام) وهو يتظلّم إليه ويشرح له ظروفه في المدينة وسبب خروجه منها، وملاحقة القوم له وإزعاجه، فخرج مضطرّاً لا راغباً في الخروج!

أُفٍّ لقوله: «ادخل في صلح القوم»؛ لأنّه يعرف سيّد الشهداء (علیه السلام) ،ويعرف القوم، ويعلم أنّ مثل الإمام (علیه السلام) لا يصلح له أن يدخل في صلحهم ويبايعهم ويناول القرود، ويعلم أنّ القوم لا يبغون الصلح، وإنّما يريدون قتل الإمام (علیه السلام) .

أُفٍّ لقوله: «لا تغب عن وطنك وحرم جدّك».. وهو يعلم ما تجرّعه الإمام (علیه السلام) من القوم قبل أن يخرج ويغيب عن وطنه وحرم جدّه، وهو يُوري بكلامه هذا الأحزانَ في قلوب مَن كان مع الإمام (علیه السلام) ، ويضاعف

ص: 225

وجْدَهم وألمهم الّذي خلّفه الفراق لتربة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ومسقط الرأس.

أُفٍّ لقوله: «لا تجعل لهؤلاء القوم الّذين لا خَلاق لهم على نفسك حُجّةً وسبيلاً».. إن كان يعترف ابن عمر أنّ هؤلاء القوم لا خلاق لهم، ويؤمن أنّ الإمام ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد المسلمين، فكيف يفوه بمثل هذا الهراء، إن كان يتلو كتاب الله العزيز وهو يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرينَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ سَبِيلاً﴾ ((1)

ثمّ بماذا يكون لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) الحجّة والسبيل، وهو لم يفعل شيئاً، ولم يُعلِن شيئاً، ولم يتّخذ موقفاً سوى إباء البيعة؟

أيكون الدفاع عن النفس جرماً يؤاخَذ به الرجل؟أُفٍّ له؛ لأنّه صمّ سمعه عن كلام الإمام (علیه السلام) ، وهو يُخبره عن موقفه في المدينة.

أيُّ حجّةٍ لهم عليه أو سبيلٍ كي يريدون قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه من بعده؟

أُفٍّ لقوله: «إن أحببت أن لا تبايع، فإنّك متروكٌ حتّى ترى رأيك»..

ص: 226


1- سورة النساء: 141.

فمَن هو ابن عمر هذا؟ أيقول ما يقول بتخويلٍ من يزيد؟ فقد كذب وكذب يزيد، إذ أنّ يزيد أبى إلّا أن يخيّر الإمام (علیه السلام) بين السلّة والذلّة، وبين المناولة والقتل، فكيف يزعم ابن عمر أنّه إن أحبّ أن لا يبايع، وأنّه متروكٌ حتّى يرى رأيه؟

ألم يخبرهم سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لن يبايع، فأبوا إلّا أن يبايع أو يُقتل؟ فكيف يزعم ابن عمر من عند نفسه ذلك، وقد سمع من الإمام (علیه السلام) ما أخبره به في نفس الموقف؟

أيكذّب هذا الصعلوك الواطي الإمامَ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويقول له: إنّك إن أقمت في المدينة ولم تبايع، فإنّهم سوف يتركونك؟

أم أنّه لا يفهم ولا يُدرك ولا يعقل، وقد أخبره الإمام (علیه السلام) بمجريات أحداث المدينة ومحاصرته هناك وتخييره؟ ألم يسمع كلام الإمام (علیه السلام) ؟ ألم يدرك كلام الإمام (علیه السلام) ؟ ألم يفهم كلام الإمام (علیه السلام) ؟بأيّ لغةٍ كلّمه سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ ألم يكلّمه باللغة العربيّة، وهو أميرها ومالكها، فلماذا لا يفهم ولا يُدرك؟

أُفٍّ لقوله: «فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلاً»؛ لأنّه يغالط ويراوغ مراوغة الثعلب الماكر الخبيث، لأنّه يريد أن يستمهل الإمام (علیه السلام) ، ويستبقيه في محلّه حتّى يتسنّى للقرد أن يفعل فعلته كما خطّط لها، فيقضي على الإمام (علیه السلام) غيلةً أو أسراً في المدينة بين ظهراني الأنصار

ص: 227

والمهاجرين وفي حرم الرسول الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فيزيد لا يترك الإمام (علیه السلام) قطعاً جزماً، كما أخبر ابن عمر نفسه، وأخبر ابن عبّاس، وشهدت بذلك سلوكيّاته وتحرّيّاته وكتبه وفعّاليّاته، وبذلك فإنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يعيش إلّا قليلاً إن رجع إلى المدينة، فكيف يتعامى ويتغابى ويريد أن يُقنع الإمام (علیه السلام) بهذه الوسائل الطائشة الّتي تنمّ عن رعونته؟

ثمّ إنّه لم يكن هو ممّن يعرف الآجال والمنايا، فمَن ذا الّذي يضمن أنّ يزيد سيعيش قليلاً؟ فإن طال به الأمد، فهل سيكفّ عن الإمام (علیه السلام) ولا ينشب فيه أظفاره ومخالبه؟

وإن كفاه الله أمره فأماته، فستنتهي القضيّة وتصفو الأجواء ويكون البلد سلاماً على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وبنو أمية لا زالوا يتسلّقون الواحد تلو الآخَر على أعواد المنبر، يرصدون لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويبيّتون القضاء عليهمواستئصالهم عن جديد الأرض؟

أُفٍّ لكلّ كلمةٍ من كلمات ابن عمر.. أُفٍّ لكلّ جملةٍ خرجت من فمه.. أُفٍّ لكلّ كلامه من أوّله إلى آخره..

أُفٍّ لأفكاره وطريقة عرضه وإقناعه.. أُفٍّ لإفكه وكذبه وغبائه وإعراضه عن استماع الحقّ وفهمه واتّباعه..

أُفٍّ لدعوته وبيانه ومغالطاته ومراوغته... أُفٍّ لكلامه.. أُفٍّ لا ينتهي

ص: 228

ولا ينقضي ما دامت السماوات والأرض.. أُفٍّ له أبداً لا أمد له..

المضمون الثالث: القسَم على ابن عمر

قال له الإمام (علیه السلام) : «أُفٍّ لهذا الكلام»، ولم يقل له: أُفٍّ لك.. إنّه الأدب والحلم الحسيني!

ثمّ ناشده الإمام (علیه السلام) ، وأقسم عليه بالله، وسأله وخاطبه باسمه: «أسألك بالله يا عبد الله».. وفي نسخة الخوارزميّ خاطبه بكنيته: «يا أبا عبد الرحمان!»، فالسؤال له بالذات دون غيره.

ثمّ سأله الإمام (علیه السلام) سؤالاً واحداً: «أنا عندك على خطأٍ من أمري هذا؟».

يُلاحَظ أنّه سأله إن كان على خطأٍ عنده، يعني إن كان ابن عمر شخصيّاً يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) على خطأ! فالإمام (علیه السلام) هو إمامٌ عالمٌ عارفٌ بما أقدم عليه من أمره، فهو على يقينٍ من أمره، إنّما يريد أن يقرّر ابن عمر ويحتجّعليه ويحكمه بما يعتقده هو بالذات.

ثمّ عاد الإمام (علیه السلام) ليؤكّد له نفس المضمون بعبارةٍ أُخرى في نفس الجملة: «فإن كنتُ عندك على خطأٍ فردّني».

وهذه العبارة تحمل روح العبارة الأُولى من الإشارة بوضوحٍ إلى اعتقاد ابن عمر شخصيّاً بخطأ الإمام (علیه السلام) .. «فإن كنتُ عندك»، ولم يفترض الإمام (علیه السلام) في موقفه خطأً كي يُقال: إنّ الإمام (علیه السلام) جعل في رأيه مسافةً لإمكان الخطأ والصواب!

ص: 229

المضمون الرابع: الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام)

حينما يقول الإمام (علیه السلام) لابن عمر: «على خطأٍ من أمري»، ينبغي أن نعرف هذا الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) إلى تلك اللحظة الّتي حصلت فيها المحاورة على الأقلّ.

ومن الواضح من خلال تتبّع النصّ وسير الأحداث أنّ غاية ما كان من أمر الإمام (علیه السلام) يومذاك إنّما هو الامتناع عن البيعة الّذي أعلنه الإمام (علیه السلام) عند والي المدينة، ولم نسمع في التاريخ أيّ نشاطٍ إلى تلك الساعة قد مارسه الإمام (علیه السلام) أو مَن كان معه من أهل بيته وأتباعه.

الامتناع عن البيعة فقط! هذا هو الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) ، لا غير، ويؤكّد ذلك أنّ حديث ابن عمر البائس إنّما كان يتركّز على الدخولفي البيعة والدخول في صلح يزيد وفي صلح ما دخل فيه الناس.. ولم يكن ثَمّة أمرٌ آخَر تعرّض له ابن عمر في كلامه أو سجّله التاريخ غير الإباء عن البيعة.

فسؤال الإمام (علیه السلام) من ابن عمر إنْ كان مخطأً في أمره على اعتقاد ابن عمر إنّما ينحصر في هذا الأمر الوحيد إلى تلك الساعة، كما سنسمع ذلك واضحاً من جواب ابن عمر حينما ردّ على هذا السؤال بالذات.

المضمون الخامس: فردّني..

يبدو أنّ قول الإمام (علیه السلام) : «فردّني، فإنّي أخضع وأسمع وأُطيع»، إن كان ابن

ص: 230

عمر يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) على خطأٍ في امتناعه عن البيعة، أشبه ما يكون بالتعليق على المستحيل، من قبيل: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ ((1))، إذ يستحيل أن يكون الإمام (علیه السلام) على خطأ، وهو المعصوم المسدَّد من الله، وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وقد فرض الله طاعته على العباد، بل على المخلوقات جميعاً.

فالإمام معصومٌ من جهة، ومفروض الطاعة على العباد من جهةٍ أُخرى، فلا يمكن أن يخطأ، ولا أن يخضع أو يطيع غيره من الخطّائين المذنبين فيأمرٍ لا يعرفونه ولا يمكنهم إدراك كنهه.

غير أنّ الإمام (علیه السلام) جرى معه مجرى التسليم الجدليّ ومداراة الجاهل، وعبّر له عن ثقته ويقينه بصحّة ما يفعله من الامتناع عن البيعة، وسايره ليقرّره بنفسه، ويفسح له المجال ليعترف بخطئه هو (أي: ابن عمر) بلسانه، ويشرح بنفسه مسوّغات الإمام (علیه السلام) في الامتناع، وأنّ الإمام (علیه السلام) على حقّ، وأنّ ابن عمر على خطأٍ فيما يقول.

المضمون السادس: من فوائد التقرير

لقد قرّر سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن عمر على صحّة موقفه، وأقسم عليه كي يستلّ منه هذا الاعتراف، فيكون حجّةً عليه، فلا يتقوّل فيما بعد على

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 63.

الإمام (علیه السلام) ، ولا يُقبَل منه إذا زعم أنّ الإمام (علیه السلام) كان على خطأ، وأنّه قد نصح الإمام (علیه السلام) ليصحّح له موقفه، ويكفّ عن بثّ الشبهات ورمي الإمام (علیه السلام) بالتهم والإفتراءات الّتي كان الإمام (علیه السلام) يلحّ في دفعها عند خروجه من المدينة.

فلا يقولنّ ابن عمر فيما بعد أنّه كان أشراً أو بطراً أو مفسداً أو ظالماً، كما فعلها الخبيث فيما بعد!

الإضاءة السادسة عشر: جواب ابن عمر

اشارة

قال ابن أعثم:فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تعالى) يجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) على مثل يزيد بن معاوية (لعنه الله) باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن لم تحبّ أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((1)).

وقال الخوارزميّ:

فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن

ص: 232


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 _ 44.

بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((1)).

* * * * *

تتضمّن هذه الإضاءة عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: الارتباك في تعبير ابن أعثم

يُلاحَظ شيءٌ من الارتباك في تعبير ابن أعثم، سيّما في المقطع الأوّل منه في قوله: «وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول _ وفي نسخة: آل الرسول _ على مثل يزيد بن معاوية (لعنه الله) باسم الخلافة»، إذ أنّ قوله: «باسم الخلافة» كأنّ الجار والمجرور لا متعلّق له.

أضف إلى أنّ لعن يزيد يبدو أنّه من ابن أعثم أو من الناسخ، ومن البعيد أن يكون اللعن صادراً من ابن عمر، لأسبابٍ لا تخفى على مَن يعرفه، ولخلوّ متن الخوارزميّ منه.

بَيد أنّ نصّ الخوارزميّ الّذي يروي عن ابن أعثم خالياً من هذه

ص: 233


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 _ 193.

الملاحظات، وربّما كانت نسخ ابن أعثم المتعدّدة قد تعرّضت للتشويه، وسلمت النسخة الّتي وصلت إلى الخوارزميّ ونقل عنها، وربّما يشهد لذلك صورة النسخة الخطّيّة الّتي حصلنا عليها، فإنّ فيها تشويهاً بالحبر في مواضع كثيرة لا تروق أتباع السقيفة.

لذا سنعتمد متن الخوارزميّ هنا، إذ أنّ المضمون والمحتوى والمراد واحد رغم ارتباك عبارة ابن أعثم، إلّا أنّها تفيد نفس ما في عبارة الخوارزميّ تماماً.

المطلب الثاني: استشهاد ابن عمر بالله

لقد ناشد الإمام (علیه السلام) مخاطبه ابن عمر بالله، وأقسم عليه أن يقول ما يعتقد، لذا بدأ ابن عمر جوابه بالاستشهاد بالله: «اللّهمّ، لا»، فهو يُشهد الله أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأ، وإنّما هو على صوابٍ من أمره، ثمّ أخذ في ذِكر الدليل على ما يعتقده من صحّة موقف الإمام (علیه السلام) .

فهو إذن يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأٍ من أمره! عجبٌ والله! ما سنسمعه منه بعد قليل..

المطلب الثالث: أدلّة ابن عمر على صحّة مواقف الإمام

اشارة

بعد أن شهد ابن عمر لله أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأ، وأنّه على صوابٍ من أمره، أخذ يذكر لما أعلنه من أدلّةٍ تجعله واثقاً من موقف الإمام (علیه السلام) ، فذكر عدّة أدلّة:

ص: 234

الدليل الأوّل: العصمة والتسديد الإلهيّ

كأنّه أراد أن يعبّر عن العصمة بطريقته من دون الإذعان بها للإمام (علیه السلام) مباشرة، فقال: «ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ»، فهو ينفي الخطأ عن الإمام (علیه السلام) هنا بسبب التسديد الإلهيّ الخاصّ لابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهو تعبيرٌ آخَر عن العصمة، غير أنّ العبارة فضفاضةٌ واسعةٌ يمكن التنصّل عن الإقرار بالعصمة الّتي أثبتها الله لأهلالبيت (علیهم السلام) ، وإرجاع قوله إلى ما يذهب إليه الجمهور إذا اضطرّته الضرورة إلى تأويل كلامه.

وعلى كلّ حال، فقد أقرّ ابن عمر للإمام (علیه السلام) أنّ الله يسدّده، ولم يكن الله (تعالى) ليجعل ابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) على خطأ.

الدليل الثاني: موانع المناولة

أتبع التسديد الإلهيّ بالكمالات الذاتيّة في الإمام (علیه السلام) ومقامه ومنزلته وموضعه من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وطهارته الّتي شهد بها القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ((1))، وهو ما أجمع عليه أهل القبلة، وليس ثمّة أحدٌ من أهل الأرض يُنكر أنّ سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) داخلٌ في (أهل البيت) المذكورين في الآية.

ص: 235


1- سورة الأحزاب: 33.

ومَن كان مثل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) في الطهارة والمكان والمنزلة والموضع الخاصّ من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، لا يسلّم على يزيد بالخلافة.

فيزيد معدن النجاسة والنتن والعفن والدرن والقذر والكدر والوسخ والرجس والنذالة والانحطاط، والإمام (علیه السلام) معدن الطهارة والقداسة والنظافة والنقاء والسموّ والعظمة والجلال والجمال، وليس لمثل الإمام (علیه السلام) أن يسلّم على يزيد بالخلافة.فالتسديد الإلهيّ والطُّهر الذاتيّ عند الإمام (علیه السلام) يمنعان عن بيعة الإمام (علیه السلام) ومناولته للقرد المخمور.

المطلب الرابع: مخاوف ابن عمر رغم إقراراته

اشارة

أقرّ إذن ابن عمر أنّ الإمام (علیه السلام) على حقٍّ وصوابٍ من أمره، ولا ينبغي أن يكون على خطأٍ أبداً، بَيد أنّه رغم إقراره هذا ورغم أنّه أشهد اللهَ على أنّ هذا هو ما يعتقده شخصيّاً، أبدى مخاوفه الّتي جعلها مسوّغةً لما يريد أن يعرضه على الإمام (علیه السلام) ، واختصرها في خوفين:

الخوف الأوّل: الخوف من ضرب وجه الإمام (علیه السلام) بالسيوف

إستدرك ابن عمر ب- (لكن)، بعد أن أكّد للإمام (علیه السلام) أنّه على صواب، ليُصحِر للإمام (علیه السلام) عن سبب ما يدعوه إليه من المناولة والبيعة رغم امتناعها عليه، فقال:

ولكن أخشى أن يُضرَب وجهُك هذا الحسن الجميل بالسيوف.

ص: 236

وصف وجه الإمام (علیه السلام) وحليته بالحسن الجميل، ثمّ أبدى خشيته أن يُضرَب هذا الحُسن والجمال بالسيوف، فهو كلامٌ حمّالٌ يفيد العطف والتحنّن والخشية، كما يحمل في طيّاته التهديد والتخويف والتهويل والتحذير من القتل المروّع، والتمثيل الّذي يجعل السيوف تعبث بجمال الوجه وحُسنه.

الخوف الثاني: أن يرى الإمامُ (علیه السلام) من الأُمّة ما لا يحبّ

عاد ابن عمر ليؤكّد ما جاء في الأحاديث الشريفة عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من خذلان هذه الأُمّة المنكوسة لسيّدها وابن سيّدها، فيرى الإمام (علیه السلام) منها ما لا يحبّه.

فهو يخشى على الإمام (علیه السلام) القتل، كما يخشى خذلان الأُمّة، وإتيانها المنكر الّذي لا يحبّه الإمام (علیه السلام) في مواقفها ضدّه وانقلابها عليه.

المطلب الخامس: عودة العبد إلى هرائه

نتيجة ما يخشاه ابن عمر يفيد أنّ القوم سيقدمون على قتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الأُمّة ستُريه ما لا يحبّ بمجرد إبائه عن البيعة لا أكثر، وعليه رجع إلى هرائه من جديد، فعرض على الإمام (علیه السلام) أن يرجع إلى المدينة، وأن لا يبايع إنْ شاء، ويكتفي بالقعود في منزله.

عجبٌ والله أمر هذا العبد! كيف يحمل التناقضات والتهافت في عقله، إن كان له عقل؟! وكيف يتعامل مع الأُمور؟ وكأنّه لا يسمع الإمام (علیه السلام)

ص: 237

يحدّثه، ولا يرى الأحداث الجارية على عينه، وكأنّه لا يسمع ولا يرى إقدامات القرد المسعور! ولا ندري بماذا يمكن التعليق على كلامه المعاند المملّ.

بَيد أنّ حِلم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وسع هذا العبد، وبقي يردّ عليهويجيبه..

المطلب السادس: الدعوة إلى مجانبة الصواب

تبيّن من دعوة ابن عمر _ بعد إقراره بصواب الإمام (علیه السلام) وأنّه لا يمكن أن يكون على خطأ _ أنّه يدعو الإمام (علیه السلام) إلى مجانبة الصواب الّذي هو عليه بالاتّفاق، وركوب الخطأ الّذي يدعوه إليه ابن عمر عن علم، وما ذلك إلّا لأغراضٍ تافهةٍ سخيفةٍ رخيصةٍ باردةٍ عقيمةٍ تتواءم مع ابن عمر، ولا يمكن أن تقترب من ساحة سيّد الكائنات (علیه السلام) وأشرفهم جميعاً بعد مَن استثناهم الله.

المطلب السابع: خلاصة كلام ابن عمر

يمكن تلخيص ما مرّ من كلام ابن عمر:

يبدو من كلام ابن عمر أنّه قد بدأ يُدرك أصل المشكلة، وعرف أنّ الأمر يدور بين البيعة الّتي ستضطرّ الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أن يسلّم على سليل البغاء يزيد القرود بالخلافة، وهذا ما لا يكون لمثل الإمام

ص: 238

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فليس في الأمر شيءٌ وراء الامتناع عن البيعة الّتي يخشى ابن عمر أن تؤدّي إلى قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وخذلان الناس له بحيث يرى منهم ما لا يحبّ.

يبدو أنّه أدرك أنّ غاية ما فعله الإمام سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه امتنع عنالبيعة، وهو لا يروم سوى أن يُترك لحاله، وأن لا يُكره عليها، وهو مع ذلك يعود ليدعو الإمام (علیه السلام) ليرجع إلى المدينة ولا يبايع ويقعد في منزله، والإمام (علیه السلام) يقول له: «أُفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات».

أغباءٌ هذا، أم تغابي، أم شيءٌ وراء ذلك؟! ففي تعبير ابن عمر لحن التهديد يشي بمكامنه: «ولكن أخشى أن يُضرَب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ».

هو يقبل أنّ الإمام (علیه السلام) لا يقصد في خروجه من المدينة سوى الخروج من بين براثن الأعداء ومخالب عُسلان الفلوات، والخلاص من البيعة الآثمة، وهو يعلم أنّ القوم إنّما اضطرّوا الإمام (علیه السلام) أن يخرج من المدينة، لأنّهم خيّروه بين القتل الأكيد أو البيعة، ولو كان القوم يتركونه لحاله ولا يُكرهونه على البيعة لَما خرج من بلده ومولده وتربة جدّه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) ..

ومع ذلك تحمّله الإمام (علیه السلام) وداراه، وأجابه جواباً يكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد، وأقنعه أنّ القوم لا يرومون سوى قتله على أيّة حالٍ وفي أيّ مكان، وهو مطلوبٌ للقتل أو الذلّة، وهيهات منه الذلّة والرضوخ

ص: 239

والاستسلام إلى طاعة اللئام.. كما سنسمع فيما يلي:

الإضاءة السابعة عشر: إصرار القوم على ملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله كيف ما كان

اشارة

لو ارتكب الإمام (علیه السلام) _ وحاشاه _ ما دعاه إليه العبد ابن عمر، فسيبقى القوم يلاحقون الإمام (علیه السلام) ولا يتركونه، ويستخرجونه أينما حلّ وارتحل أبداً، دون انقطاعٍ ولا مللٍ ما دام سيّد الشهداء (علیه السلام) حيّاً لم يُقتَل، فإن أصابوه فإنّهم سيقتلونه، لأنّهم يطالبونه بالبيعة وهو كاره، وهم يعلمون أنّه لن يبايعهم، فسيقتلونه من غير جُرمٍ ولا ذحل، تماماً كما فعلوا مع يحيى بن زكريّا المقتول من غير جرم، وتماماً كما كان بنو إسرائيل يفعلون مع أنبيائهم، إذ كانوا يتلذّذون بقتل الأنبياء (علیهم السلام) ، ويعاودون الكَرّة عليهم كلّ صباح، ويتبركون بذلك ولا يتأثّمون، فيمارسون أعمالهم ويطلبون دنياهم وكأنّهم لم يفعلوا شيئاً..

لو كان سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج ليواجه قرود الأُمويّين ويقاتلهم ويحاربهم ويألّب عليهم ويجمع الجموع لمقابلتهم، لَما تمثّل بيحيى (علیه السلام) وأنبياء بني إسرائيل، ولَما استدلّ لابن عمر بفعال القوم، وأنّهم لا يتركونه أبداً حتّى يبايع أو يُقتَل، فهو لا يتكلّم بلغة المهاجم، وإنّما يتكلّم بلغة المدافع الّذي لا يريد منهم سوى أن يتركوه ولا يُكرهونه على البيعة لهم.

ص: 240

فالقوم مثل بني إسرائيل في سلوكيّاتهم، وهو مثل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) في الاعتداء عليه لإرضاء البغايا وإشباع الغرائز والاستجابة للشهوات والاستحواذ على الدنيا واللذّات الرخيصة..

فإذا هم قتلوه فلا يستخفّنّهم المهل، فإنّ الله يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذو انتقام، تماماً كما فعل ببني إسرائيل.

ثمّ أقام الإمام (علیه السلام) الحجّة على ابن عمر بعد أن استطرد معه كثيراً في سرد الدليل تلو الدليل، ليبيّن له أنّ القوم يريدون قتله وسفك دمه، وما المطالبة بالبيعة إلّا ذريعةً مفضوحةً وحجّةً واهيةً ملفَّقةً أرادوا بها إغواء أتباعهم الجاهلين، إذ أنّهم يعلمون علم اليقين أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع أبداً، فخيّروه بين الإثنين!

فدعاه إلى نصرته، وليس المقصود من الدعوة إلى النصرة هنا أكثر من تمييز ابن عمر ليكون مع المتّقين، فيدفع عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) القتل بأيّ وسيلةٍ يقوى عليها، وبين أن يكون جرواً سارحاً في غابة القرود، لاحساً قيأهم وجامعاً لفضلاتهم بلحيته، ليتاجر بها ويعيش أيّاماً قلائل بين الوحوش آمناً متثاقلاً مخلّداً إلى الطين.

لا تدعنّ نصرتي بعد أن سمعت إصرار القوم على قتلي، وأنت تعرف مَن أنا _ كما زعمت _ من خلال كلامك وإقرارك أنّ مثلي لا يصلح له أن يسلّم بالخلافة على مثل يزيد.

ص: 241

فقال له الحسين:«هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبوني ((1)) أبداً حتّى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني.

ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يُؤتى برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجّة عليهم، فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا، بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة؟

ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟

فاتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدَعنّ نصرتي!» ((2)).

* * * * *

يمكن متابعة كلمات الإمام (علیه السلام) في ردّ ابن عمر من خلال المقاطع التالية:

ص: 242


1- في (الفتوح): «إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالوان [خ ل: يزالوا] حتّى أُبايع وأنا كاره».
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

المقطع الأوّل: الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ أبداً وعلى كلّ حال

فقال له الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركونيإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبوني ((1)) أبداً حتّى أُبايع، وأنا كاره، أو يقتلوني».

«هيهات» كلمة تبعيد، ومعناها البُعد ((2)).

لقد حصر الإمام (علیه السلام) أمر القوم في بيانٍ واضح، فهم لا يتركون الإمام (علیه السلام) أبداً، ويلاحقونه دائماً، حتّى يقتلوه على كلّ حال!

فغرض العدوّ وهدفه الأوّل والأخير هو أن يُصيب الإمام (علیه السلام) فيقتله، فهم إن أصابوا الإمام (علیه السلام) فقد نالوا ما أرادوا، وإن لم يصيبوه فإنّهم لن يتركوه كما يظنّ بعض الجهلة وذوي الأماني، فإنّ العدوّ سيبقى يطلب الإمام (علیه السلام) أبداً دائماً لا ينقطع ولا يفتر ولا يتراجع ولا يغفل، حتّى يظفر به ويخيّره بين البيعة (كارهاً) وبين القتل، ولمّا لم يكن الإمام (علیه السلام) يبايع كارهاً، ولا ينبغي له كما قال ابن عمر، فسيقتلونه لا محالة.

نحسب أنّ هذا المقطع من أوضح وأصرح وأبين وأجلى وأبدى وأبرز وأظهر وأعرب وأفصح، وقل ما شئت من تعابير يمكن أن تفيد الوضوح

ص: 243


1- في (الفتوح): «إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالوان [خ ل: يزالوا] حتّى أُبايع وأنا كاره».
2- أُنظر: لسان العرب: هوه.

والجلاء والانكشاف التامّ والصراحة لبيان معنىً من المعاني ومقصدٍ من المقاصد.

إنّه نصٌّ صريحٌ واضحٌ يصعب على التأويل، ويأبى الوجوهوالاحتمالات في بيان حال الإمام (علیه السلام) وما يبيّته له العدوّ ويقصده به ويعزم على تنفيذه ويسعى إلى تحقيقه..

فالإمام (علیه السلام) مطلوبٌ على كلّ حال، سواءً بايع أم لم يبايع، وسواءً ناول أم لم يناول، وسواءً اعتزل وابتعد وانزوى واختار التشرّد في الصحارى والفيافي والقفار وسفوح الجبال وكهوفها ومغاراتها، أو اختار التنقّل بين البلدان.. إنّ القوم لن يتركوه، وسيقتلونه، تماماً كما فعلوا مع أسلافه الطاهرين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ..

فمَن ذا الّذي سيكون _ والحال هذه _ في موضع الهجوم، ومَن سيكون في موقف الدفاع؟!

أوَليس العدوّ هو الّذي خطّط وعزم وأقدم على الهجوم، وجعل الإمام (علیه السلام) في موقف الدفاع وردّ عادية الوحوش الكاسرة؟

وهذا هو دأب المجرمين والظالمين والجبّارين في الأرض، كانوا كذلك من قبل، كما سنسمع في أمثلة الإمام (علیه السلام) لابن عمر، وسيبقون هكذا حتّى (يبعث الله قائماً يُفرّج عنهم الهمّ والكربات).

ص: 244

المقطع الثاني: الاستشهاد بيحيى (علیه السلام)

اشارة

«ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ مِن هوان هذه الدنيا على الله أن يُؤتى برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجّة عليهم، فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا،بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة؟».

* * * * *

في هذا المقطع عدّة إشارات:

الإشارة الأُولى: خلاصة قصّة يحيى (علیه السلام)

قال ابن شهرآشوب: كان حمل يحيى (علیه السلام) ستّة أشهر، وحمل الحسين (علیه السلام) ستّة أشهر، وذُبح يحيى (علیه السلام) كما ذُبح الحسين (علیه السلام) ، ولم تبكِ السماء والأرض إلّا عليهما ((1)).

ورُوي عن الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام) قال: «خرجنا مع الحسين (علیه السلام) ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا وذكر يحيى بن زكريّا (علیهما السلام) ، وقال يوماً: مِن هوان الدنيا على الله (عزوجل) أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل» ((2)).

ص: 245


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، دلائل الإمامة للطبري: 513، كمال الدين للصدوق: 461 الباب 43، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 273.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 2 / 132، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 429، تفسير مجمع البيان للطبرسي: 6 / 405، نور الثقلين للحويزي: 3 / 324، بحار الأنوار: 45 / 89، العوالم للبحراني: 17 / 315، نفَس المهموم للقمّي: 185، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 9.

وفي حديثٍ عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) :

«إنّ امرأة ملِك بني إسرائيل كبرت وأرادت أن تزوّج بنتها منه للملك، فاستشار الملك يحيى بن زكريّا، فنهاه عن ذلك، فعرفت المرأة ذلك، وزيّنت بنتها وبعثَتها إلى الملك، فذهبت ولعبت بين يديه، فقال لها الملك: ما حاجتكِ؟ قالت: رأس يحيى بن زكريّا. فقال الملك: يا بنيّة، حاجة غير هذه! قالت: ما أُريد غيره.وكان الملِك إذا كذب فيهم عُزل عن ملكه، فخُيّر بين ملكه وبين قتل يحيى، فقتله.

ثمّ بعث برأسه إليها في طشتٍ من ذهب، فأُمرت الأرض فأخذتها، وسلّط الله عليهم بخت نصّر، فجعل يرمي عليهم بالمجانيق ولا تعمل شيئاً، فخرجت عليه عجوزٌ من المدينة فقالت: أيّها الملك، إنّ هذه مدينة الأنبياء، لا تنفتح إلّا بما أدلّك عليه. قال: لكِ ما سألتِ. قالت: ارمها بالخبث والعذرة.

ففعل، فتقطّعت، فدخلها، فقال: علَيّ بالعجوز. فقال لها: ما حاجتكِ؟ قالت: في المدينة دمٌ يغلي، فاقتلْ عليه حتّى يسكن. فقتل عليه سبعين ألفاً حتّى سكن.

يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث المهديَّ الله، فيقتل على

ص: 246

دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفاً» ((1)).

وفي (البحار)، عن (قصص الأنبياء (علیهم السلام) )، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«إنّ ملِكاً كان على عهد يحيى بن زكريّا (علیهما السلام) ، لم يكفِه ما كان عليه من الطروقة حتّى تناول امرأةً بغياً، فكانت تأتيه حتّى أسنّت، فلمّا أسنّت هيّأت ابنتها، ثمّ قالت لها: إنّي أُريد أن آتي بكِ الملك، فإذا واقعكِ فيسألك: ما حاجتكِ؟ فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) . فلمّا واقعها سألها عن حاجتها، فقالت: قتل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) !فلمّا كان في الثالثة بعث إلى يحيى، فجاء به، فدعا بطست ذهبٍ فذبحه فيها، وصبّوه على الأرض فيرتفع الدم ويعلو، وأقبل الناس يطرحون عليه التراب فيعلو عليه الدم، حتّى صار تلّاً عظيماً، ومضى ذلك القرن.

فلمّا كان من أمر بخت نصّر ما كان رأى ذلك الدم، فسأل عنه، فلم يجد أحداً يعرفه، حتّى دُّل على شيخٍ كبير، فسأله، فقال: أخبرَني أبي عن جدّي أنّه كان من قصّة يحيى بن زكريا (علیه السلام) كذا وكذا، وقصّ عليه القصّة، والدم دمه، فقال بخت نصّر: لا جرم، لَأقتلنّ عليه حتّى يسكن. فقتل عليه سبعين ألفاً، فلمّا وفى عليه سكن الدم».

ص: 247


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تفسير القمّي: 1 / 88.

وفي خبرٍ آخر:

إنّ هذه البغيّ كانت زوجة ملِكٍ جبّارٍ قبل هذا الملِك، وتزوّجها هذا بعده، فلمّا أسنّت، وكان لها ابنةٌ من الملِك الأوّل، قالت لهذا الملك: تزوّجْ أنت بها. فقال: لَأسأل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) عن ذلك، فإن أذن فعلت. فسأله عنه، فقال: لا يجوز. فهيّأت بنتها وزيّنتها في حال سكره وعرضَتها عليه، فكان من حال قتل يحيى (علیه السلام) ما ذُكر، فكان ما كان ((1)).

وفي (مختصر) ابن منظور: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) :

«أقبلنا مع الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، فكان قلّما نزل منزلاً إلّا حدّثنا حديث يحيى بن زكريّا (علیه السلام) حيث قُتل.قال: كان ملِكٌ مات، فترك امرأته وابنته، فورث مُلكه أخوه، فأراد أن يتزوّج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوّجها، فإنّها بغي.

فسمعت المرأة، وعرفَت أنّه من قِبل يحيى، فقالت: لَيقتلنّ يحيى أو لَيخرجنّ من ملكه. فعمدت إلى بنتها فصنعتها، وقالت: اذهبي إلى عمّكِ عند الملأ، فإنّه يدعوكِ ويُجلسكِ في حِجْره، ويقول: سليني ما شئتِ، فإنّك لن تسأليني شيئاً إلّا أعطيتكِ، فقولي: لا أسأل شيئاً إلّا رأس يحيى بن زكريّا!

ص: 248


1- بحار الأنوار: 14 / 180 الباب 15 ح 20 و21، قصص الأنبياء للراوندي: 219، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين للجزائري: 400.

وكانت الملوك إذا تكلّم أحدهم بشيءٍ على رؤوس الملأ ثمّ لم يمضِ له نُزع من ملكه، ففعلت ذلك، فجعل يأتيه الموت من قتل يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه، فقتله، فساخت بأُمّها الأرض» ((1)).

وروى الطبرانيّ مسنداً عن عليّ بن الحسين (علیه السلام) ، قال: «قال لي الحسين ابن عليّ (علیه السلام) قبل قتله بيوم: إنّ بني إسرائيل كان لهم ملك ...»، وذكر الحديث ((2)).

قال العلّامة المازندرانيّ في (المعالي):

عن سعد بن عبد الله قال: قلتُ لصاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) : أخبِرْني يا ابن رسول الله عن تفسير ﴿كهيعص﴾.قال (علیه السلام) : «هذه الحروف من أخبار الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها على محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل وعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سُرّ ودُفع عنه غمومه وفُرّج همومه وانجلى كربُه، وعندما ذكر الحسين (علیه السلام) خنقَته العبرةُ ووقعت عليه الكدورة.

فقال ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرتُ أربعةً منهم تسلّيتُ بأسمائهم من

ص: 249


1- مختصر ابن منظور: 27 / 251.
2- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114 الرقم 2816، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.

همومي، وإذا ذكرتُ الحسين (علیه السلام) تدمع عيني ويكسر خاطري؟!

فأنبأه الله (تبارك وتعالى) عن قصّته ووقعته، فقال: ﴿كهيعص﴾، الكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك العترة، والياء: يزيد، وهو ظالم الحسين (علیه السلام) ، والعين: عطشه، والصاد: صبره ((1)).

يا قتيلاً صبره الممدوح من ربّ العباد

حيث قال الله فيه: كاف، ها، يا، عين، صاد

كربلاء الكاف، قد حلّ بها كلّ البلا

قُتلَت فيه بيوم الطفّ ساداتُ الملا

ويزيدٌ يائها المعهود، والعين تلا

عطش السبط وقد أضرم ناراً للفؤاد

فلمّا سمع زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع الناس من الدخولعليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يقول: إلهي، أتفجع خير جميع الخلق بولده؟ إلهي، أتُنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي، أتُلبس عليّاً ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحة محمّدٍ وعليّ؟

ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني بموته كما تفجع محمّداً حبيبك بولده ((2)) ...

ص: 250


1- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 2 / 461، بحار الأنوار: 44 / 223.
2- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 2 / 461، بحار الأنوار: 44 / 223.

فاستجاب الله دعاءه، وكان يوم استجابة دعائه اليوم الأوّل من المحرّم، وأمر الملائكة فنادت زكريّا وهو قائمٌ يصلّي في محرابه: ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ ((1)).

ذكر المؤرّخون: إنّ زكريّا لما بُشّر بيحيى، فمن غاية سروره وبهجته وانبساطه جعل يقول: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ ((2))، فقال الله (عزوجل) : ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ ((3))، فحملت حنانة زوجته بيحيى، فوُلد يحيى لستّة أشهر.

ولمّا وُلد رفعوه إلى السماء، وكان في السماء إلى أن تمّ مدّة الرضاع، ثمّ نزلوا به، ففي أيّ بيتٍ كان يضيء من نور وجهه، وكان طفلاً، وبلغ ما بلغ من النبوّة والحكم والكتاب، وقيل: له من العمر ثلاث سنين أوحى الله إليه: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾، وقال (تعالى): ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾، يعني: أحكام النبوّة الّتي تتعلّق بالعباد، ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَتَقِيّاً﴾ ((4)).

ص: 251


1- سورة آل عمران: 39.
2- سورة مريم: 8.
3- سورة مريم: 9.
4- سورة مريم: 12 و13.

ومِن شفقة الله (تعالى) عليه أنّه إذا قال: يا ربّ، فيقول الله: لبّيك يا يحيى، ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً﴾ ((1)).

ومن ألطاف الله (تعالى) عليه أن نجّاه من الخطرات في ثلاثة أحوال، وهي أشدّ الأحوال على الإنسان، وهي الساعة الّتي يولَد فيها، والساعة الّتي يموت، والساعة الّتي يُحشر إلى القيامة.

ولقد أشبه يحيى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، وكان الحسين (علیه السلام) شبيهاً بيحيى (علیه السلام) من جهاتٍ شتّى:

في مدّة الحمل، كان حمل يحيى ستّة أشهر، وحمل الحسين (علیه السلام) ستّة أشهر.

ثم إنّ يحيى بُشّر به زكريّا قبل ولادته، والحسين (علیه السلام) أيضاً بُشّر قبل ولادته النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، إلّا أنّ البشارة بيحيى أوجبَتْ فرحاً وسروراً، والبشارة بالحسين (علیه السلام) أوجبَت حزناً وكرباً، بحيث أنّ أُمّه فاطمة (علیها السلام) حملَتْه كُرهاً ووضعَته كُرهاً، فولدته باكيةً وتقول: ليتني لم ألده.

يحيى لم يُسمَّ به، يعني باسمه قبله، والحسين (علیه السلام) أيضاً لم يُسمَّ باسمهقبله أحد.

ص: 252


1- سورة مريم: 14 و15.

يحيى سمّاه الله بنفسه، فقال (تعالى): ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ ((1))، والحسين (علیه السلام) أيضاً سمّاه الله بنفسه، نزل جبرئيل وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السلام، ويقول: إنّي سمّيتُ هذا المولود حسيناً.

يحيى (علیه السلام) لم يرضع من ثدي أُمّه غالباً، وأُرضع من السماء، والحسين (علیه السلام) لم يرضع من فاطمة (علیها السلام) ، بل أُرضع من لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فيأتيه ويضع إبهامه أو لسانه في فيه، وكان يمصّ حتّى يرتوي ويتغذّى ليومين أو ثلاثاً، حتّى نبت لحمُه من لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعظمُه من عظم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

يحيى رفعوا به إلى السماء بعد الولادة، والحسين (علیه السلام) أيضاً عُرج به إلى السماء ليزوره الملائكة يوم السابع من ولادته ويوم شهادته.

يحيى (علیه السلام) كان يتكلّم في بطن أُمّه، والحسين (علیه السلام) كذلك، قيل: كان يقول: يا أُمّاه أنا العطشان، يا أُمّاه أنا العريان، يا أُمّاه أنا المسحوق.

يحيى (علیه السلام) لم يرَ فرحاً طول عمره، والحسين (علیه السلام) كذلك.

يحيى (علیه السلام) قُتل مظلوماً، والحسين (علیه السلام) قُتل مظلوماً.

قاتل يحيى ولد زنا، وقاتل الحسين كذلك.

يحيى (علیه السلام) بكت عليه ملائكة السماوات، والحسين (علیه السلام) بكت عليهالسماوات والأرضون وجميع الموجودات.

ص: 253


1- سورة مريم: 7.

يحيى (علیه السلام) بقي دمه يغلي، فكلّما وضعوا عليه التراب ازداد غلياناً حتّى صار تلّاً عظيماً، فما سكن حتّى سلّط الله على بني إسرائيل بخت نصّر وقتل سبعين ألفاً من بني إسرائيل، ولكنّ الحسين (علیه السلام) دمه يغلي حتّى يظهر ولدُه المهديّ (علیه السلام) ، وإن كان قد قُتل به سبعون ألفاً وسبعون ألفاً وسبعون ألفاً، ولكنّه ما سكن حتّى يطلب المهديّ (علیه السلام) بثاره، ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ ((1)).

ولله درّ القائل:

أنت الوليّ لمن بظلمٍ قُتلوا

وعلى العدى سلطانك المنصورُ

ولو انّك استأصلتَ كلَّ قبيلةٍ

قتلاً، فلا سَرَفٌ ولا تبذيرُ

يحيى (علیه السلام) لمّا قُتل وُضع رأسه في الطشت بين يدَي عدوّه ونطق بكلمة، وهي أن قال: اتّقِ الله أيّها الملِك، فإنّها لا تجوز لك أن تباشر ابنتك. يعني ربيبتك، والحسين (علیه السلام) لمّا قُتل سمعوا رأسه الشريف يقرأ القرآن على الرمح، ولقد وُضع في الطشت بين يدَي يزيد وقرأ الآية الشريفة، واللعين جعل يضرب ثناياه بقضيبٍ من خيزران، ولكن هل تُقاس مصيبة يحيىبالحسين (علیه السلام) ؟!

يحيى (علیه السلام) قُتل وحده، وما قُتل له أخٌ كقمر بني هاشم وابنٌ كعليّ

ص: 254


1- سورة الإسراء: 33.

الأكبر (علیهما السلام) ، وما ذُبح له في حِجْره رضيعٌ كعبد الله الرضيع (علیه السلام) .

يحيى (علیه السلام) ما قُتل عطشاناً، والحسين (علیه السلام) ينادي: يا قوم، اسقوني شربةً من الماء!

يحيى (علیه السلام) ما قُطع اصعبه وكفّه وما مُثّل به، والحسين (علیه السلام) قطع اصبعه بجدلُ بن سليم وقطع كفَّيه الجمّال.

يحيى (علیه السلام) ما رضّت الخيلُ صدره، والحسين (علیه السلام) نادى ابن سعد: يا قوم، مَن ينتدب للحسين (علیه السلام) ؟ ...

يحيى (علیه السلام) ما سُبيَت حرمٌ له، والحسين (علیه السلام) سُبيَت حرمه ونساؤه وأخواته وبناته، كزينب وأُمّ كلثوم وسكينة ورباب (علیهم السلام) من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام.

فإنْ تكن آلُ إسرائيل قد حملت

كريم يحيى على طشتٍ من الذهبِ

فآل سفيان يوم الطفّ قد حملوا

رأس ابن فاطمةٍ فوق القنا السلبِ

وهل حُمِلْن ليحيى في السِّبا حرمٌ

كزينبٍ ويتاماها على القُتُبِ؟!

ولأنّ مصيبة يحيى (علیه السلام) شبيهةٌ بمصيبة الحسين (علیه السلام) ، يذكر يحيى (علیه السلام) ومصيبته في طريقه حين خروجه من مكّة إلى كربلاء، أوّل ما ذكر حين أقبل إليه عبد الله بن عمر، تكلّم وأجابه بما أجابه ... ((1)).

ص: 255


1- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 183 وما بعدها.
الإشارة الثانية: الإمام (علیه السلام) يُكثِر من ذِكر يحيى (علیه السلام)

أكّدت الأحاديث الشريفة على أوجُه الشبَه بين يحيى (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) ، وكان الإمام الحسين (علیه السلام) نفسُه يُكثر من ذِكره، حتّى قال الإمام زين العابدين (علیه السلام) : «خرجنا مع الحسين (علیه السلام) ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا وذكر يحيى بن زكريا (علیهما السلام) ».

فيحيى (علیه السلام) حاضرٌ مع الإمام (علیه السلام) في جميع مراحل سفره إلى أرض المصرع، وقد ذكره هنا لابن عمر أيضاً، فيلزم أن يكون لهذا التشبيه والاستشهاد ودوام الذكر ليحيى (علیه السلام) معنىً خاصٌّ ودلالاتٌ يمكن استشفافها واستشعارها من كلام الإمام (علیه السلام) ، ولا شكّ أنّ هذا التشبيه والتمثّل يرتكز إلى أوجه شبَهٍ ظاهرةٍ أو قابلةٍ للاستظهار.

الإشارة الثالثة: قتل يحيى (علیه السلام) تشفّياً وانتقاماً

أفادت الأخبار الّتي ذكرناها أنّ المرأة البغيّ حرّضَت الملِكَ على قتل يحيى (علیه السلام) انتقاماً وتشفّياً، فأجاب السلطان طلبها ليضمن دنياه وشهواته، ويتمكّن من سرير المُلك، ويلبّي صرخات الحقد والضغينة والعداواتالدفينة، ولو لم يكن دافعٌ ذاتيٌّ عند الملك لَما أقدم على هذه الجناية العظيمة وذبح يحيى (علیه السلام) في طشت الذهب وحمل رأسه المقدّس.

الإشارة الرابعة: البغيّ الّذي أُهدي إليه رأس الإمام (علیه السلام)

كانت البغيّ الّتي أُهدي إليها رأس يحيى (علیه السلام) امرأة، وكانت هي

ص: 256

المحرّض الأوّل على قتل يحيى (علیه السلام) ، فهل كانت ثَمّة بغيٌّ حرّضت على قتل الإمام (علیه السلام) ، وكان قتل الإمام (علیه السلام) يرضيها ويحقّق لها ما تتمنّاه؟ سواءً كانت حاضرةً يوم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) أو لم تكن حاضرة، كأن تكون آكلة الأكباد، ومَن حاربت أباه أميرَ المؤمنين (علیه السلام) ، أو غيرهما ممّن شابههما، أو هنّ جميعاً.

ويشهد لذلك تمثّل القرد المخمور بأبيات ابن الزبعرى، وتمنّيه أن يشهده أشياخه، ليفرحوا بما صنع بآل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآل الوصيّ (علیهم السلام) ، وأنّه قد أخذ لهم ثاراتهم.

وسمعتُ من أحد المحقّقين أنّه وجد في كتابٍ لم يحضرني اسمه، أنّ أُخت معاوية (أُمّ الحكم) الّتي كان الإمام الباقر (علیه السلام) لا ينفتل عن صلاته حتّى يلعن ثمانيةً هي واحدةٌ منهم ((1))، كانت جالسةً في مجلس يزيد، وقد قدّم اللعين الرأس المقدّس لها.وربّما كان المقصود من (البغيّ) ما يشمل المذكّر والمؤنّث، فيكون الرأس قد أُهدي إلى يزيد البغيّ، وقد حُمل إليه.

وكيف كان، فإنّ رأس يحيى (علیه السلام) أُهدي إلى بغيّ، ورأس سيّد الشهداء (علیه السلام) حُمل وأُهدي إلى بغيّ، وقد عرفنا البغيّ الّذي حُمل إليه

ص: 257


1- أُنظر: الكافي للكليني: 3 / 342 ح 10.

الرأس المقدّس الأوّل، فربّما وفّق الله أصحاب التحقيق والنظر والمعرفة والاختصاص أن يحدّدوا لنا البغيّ الّذي أُهدي له رأس سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء، حبيب الله وحبيب رسوله وحبيب المؤمنين (علیه السلام) .

الإشارة الخامسة: براءة يحيى وقتله دون ذنب

لقد ذُبح يحيى (علیه السلام) ذبحاً، وفُصل رأسُه دون أيّ جرم، وهو (علیه السلام) لم يُقدِم على أيّ فعلٍ أو إقدامٍ يمكن أن يحرّك السلطان عليه، فلا استنهض ولا واجه ولا جيّش ولا دعا الناس إلى بيعته، ولا حرّك يداً ولا رجلاً، ولا نبس ببنت شفة، وغاية ما فعله _ على ما في بعض الأخبار الّتي سمعناها _ أنّه سُئل عن الحكم الشرعيّ فأجاب..

فهو لم يسعَ إلى تنفيذه، ولا فرضه على الملِك، واكتفى بإخباره بالحكم بعد أن سُئل، ليس إلّا!

وقد أُخذ يحيى (علیه السلام) أخذاً، وقُتل وذُبح ذبحاً، ولم يتركوا له حتّى مجال الدفاع عن نفسه.وكذا كان حال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً، فقد أحكموا عليه الحصار كالحلقة، وقتلوه صبراً هو ومَن كان معه، وسبوا عياله وأهله، مِن غير ذنبٍ ولا جرم، ومن دون أن يكون له أيّ إقدامٍ عليهم أو تحريضٍ أو تجييشٍ أو سعيٍ للإطاحة بهم وبدنياهم الّتي كانوا يعبدونها!

ص: 258

الإشارة السادسة: مبادرة العدوّ وإقدامه على قتل يحيى (علیه السلام)

ربّما كان فيما مضى قبل قليل كفاية للحديث عن هذه الإشارة، بَيد أنّها تحتاج إلى تأكيدٍ أكثر، لذا أفردناها هنا.

فمن راجع أخبار يحيى (علیه السلام) يجد بوضوحٍ أنّ العدوّ هو الّذي قصد وعزم وبيّت وسعى ونفّذ وبادر بجرأة، وأقدم على قتل يحيى (علیه السلام) وإهداء رأسه المقدّس، ولم يكن ليحيى (علیه السلام) أيّ مبادرةٍ سابقةٍ أو نشاطٍ يُبدي فيه إقدامه على محاربة السلطان، أو السعي من أجل ذلك أو الإعداد والاستعداد له، وإنّما بادر الملك إلى أخذه وقتله، ولم يكن معه مَن كان مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ليدفعوا عنه فقتلوه، وكذا كان سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً، فقد بادر الأشرار وأقدم ذراري المشركين وأولاد البغايا على قتله، فقتلوا مَن كان معه، ثمّ تكاثروا عليه وأحاطوا به فقتلوه صبراً.

الإشارة السابعة: الانتقام ليحيى (علیه السلام)

لقد بقي دم يحيى (علیه السلام) يغلي، لم يسكن حتّى بعث الله بخت نصّر فانتقم له، وقتل سبعين ألفاً، والحال أنّ الّذي باشر القتل هو واحد، ولم يكن فيحربٍ ولا قتالٍ ومواجهة، وإنّما قتل هذا العدد لرضاهم.

وقد خذل القوم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وتقاعسوا وتقاعدوا وأسلموه إلى السيوف والرماح والأسنّة، ولم يمنعوه، فدمه لن يسكن، وسيبقى يغلي حتّى يبعث الله المهديّ القائم (علیه السلام) ، فيقتل على دمه المنافقين الكفَرة الفسقة.

ص: 259

الإشارة الثامنة: هوان الدنيا على الله (عزوجل)

لو كان للدنيا قدرٌ وقيمةٌ عند الله مقدار جناح بعوضة، لَما سقى فيها كافراً جرعة ماء، وهي عند أولياء الله كذلك، وهذا المُلك الّذي من أجله يقتل أهلُ الدنيا الأنبياءَ والأوصياء والصالحين (علیهم السلام) عند أولياء الله أهون من عفطة عنز، وأنتن وأحقر من عراق خنزيرٍ بيد مجذوم، والدار الآخرة هي الحيَوان لو كانوا يعلمون، ولمثلها يتنافس المتنافسون ويعمل العاملون.

فلا غرو إن قتل فيها أولياءُ الشيطان أولياءَ الرحمان، وسيأتي اليوم الّذي يقضي الله فيه ما يريد، ويمنّ على الّذين استضُعفوا في الأرض ويجعلهم أئمّةً ويجعلهم الوارثين، ويومئذٍ يخسر المبطلون، ويعلم التالون غبّ ما فعله الأوّلون، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتّقين.

ولولا هوان الدنيا على الله لَما أمهل الملِكَ حتّى يذبح يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، ويهدي رأسه إلى بغيٍّ من البغايا..

يُهدى رأسه إلى بغيّ، إلى ساقطةٍ هابطة.. رأس وليّ الله يُهدى إلى زانيةٍ عفنةٍ نتنة.. يُهدى إلى نجسةٍ فاحشة.. يُهدى إلى وجودٍ وسخٍ لا قيمة له عندالبشر..

لم يكن رأسه المقدّس غايةً للملِك نفسه، ولا لإنسانٍ يمكن أن يكون محترماً في ميزانٍ من موازين البشر..

ص: 260

الدنيا هيّنةٌ لا قيمة لها ولا وزن، ومن أرجس أرجاسها البغاء، ورأس وليّ الله يُهدى إليها..

والرأس ينطق بالحجّة عليهم.. لقد بقيَت الكرامة والعزّة والحياة لوليّ الله وإن فصلوا رأسه.. وهم الأموات، لأنّهم لم يتّعظوا ولم يرعوُوا.

وهو ما سيفعلونه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أخبر الإمام (علیه السلام) هنا بتفاصيل ما سيقع عليه وعلى رأسه المقدّس، وأخبر أنّ رأسه سينطق بالحقّ عليهم..

وفي كلام الإمام (علیه السلام) هذا ردٌّ وجوابٌ على ما ذكره ابن عمر من الخوف على وجه سيّد الشهداء (علیه السلام) الجميل أن يُضرب بالسيوف وأن يقتله الناس لأولاد البغايا، فإنّ هذا هو شأن الدنيا، وقديماً فعلوها مع الأنبياء (علیهم السلام) والصالحين والأولياء.

ويبدو من صيغة التعبير في كلام الإمام أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد قرّر ابن عمر هنا أيضاً: «ألا تعلم أبا عبد الرحمان»، فهو إذن يعلم ويقرّ ويعترف تماماً كما أقرّ واعترف بما سبق من صوابيّة موقف الإمام (علیه السلام) وصحّة ما يفعله!

الإشارة التاسعة: ما يتعرّض له الأولياء لا يُنقص من قدرهم

نبّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ابنَ عمر إلى أمرٍ قد يكون حدّث الأخير نفسه به، أو أنّه سيُحدّث به فيما بعد هو أو غيره، بل قد قاله طاغوت عصره

ص: 261

وصرّح به، وزعم أنّ قتله لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كان بتمكينٍ من الله ونصره، وحاولوا توظيف ذلك من أجل الإضرار بمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإطفاء نوره، ويأبى الله إلّا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون!

فقال سيّد الشهداء (علیه السلام) تعقيباً على ما ذكره له من قصّة يحيى (علیه السلام) :

«فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة».

لم يضرّ ما فعله الطاغوت بيحيى (علیه السلام) وبرأسه المقدّس، وبقي يحيى (علیه السلام) سيّد شهداء عصره، وبقيَت له هذه الفضيلة إلى يوم القيامة، وهو تماماً كذلك مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّه سيّد الشهداء من الأوّلين والآخِرين إلّا مَن استثناهم الله (عزوجل) .

وكأنّ عقيلة بني هاشم زينب بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) كانت تشرح كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) هذا، وتُفرغ عن لسان أخيها حين قالت في خطبتها في مجلس الطاغية المخمور:

أظننتَ _ يا يزيد _ حين أخذتَ علينا أقطار الأرض وضيّقتعلينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إسارٍ نُساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هواناً وعليك منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لِعظم خطَرك وجلالةِ قدرك؟ فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأُمورَ لديك متّسقة،

ص: 262

وحين صفا لك مُلكنا وخلص لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيتَ قولَ الله (عزوجل) : ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ((1)) ((2)) ...

المقطع الثالث: الاستشهاد بقتل بني إسرائيل الأنبياء (علیهم السلام)

اشارة

«ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟».

ألا تعلم؟ تقريرٌ جديد، وتأكيدٌ جديد يُضاف إلى ما ذكره الإمام (علیه السلام) في المقطع السابق..ويمكن ملاحظة ما فيه من التنبيهات:

التنبيه الأوّل: قتل الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ

ليس هو يحيى (علیه السلام) وحده المقتول، بَيد أنّ ما ميّز يحيى (علیه السلام) أنّه ذُبح وأُهدي رأسه إلى بغيّ..

ص: 263


1- سورة آل عمران: 178.
2- أُنظر: بلاغات النساء لابن طيفور: 35، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 308.

وهؤلاء بنو إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ، كانوا يقتلونهم بغير ذنبٍ ولا جُرم، كانوا يقتلونهم دون أن تبدر منهم بادرةٌ سوى التذكير بالله واليوم الآخِر..

لم يكن الأنبياء (علیهم السلام) في بني إسرائيل يجيّشون الجيوش، ويقاتلون السلاطين ويثورون في وجوههم، ويجمعون لهم العساكر، ويهدّدون سلطانهم ودنياهم.. إنّما كانوا يدعونهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وربّما أفصحوا عن حكم الله وكفى، تماماً كما فعل يحيى (علیه السلام) حيث أبان حرمة ما عزم على فعله الملِك، ولم يفعل أكثر من ذلك..

كانوا يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) لأحقادٍ وأضغانٍ وعداوةٍ لله ولأنبيائه (علیهم السلام) ، يقتلونهم دفاعاً عن شهواتهم ولذّاتهم ونزعاتهم ونزواتهم، يقتلونهم لأنّهم معدن الطهر والدعاة إلى الهدى وإلى صراطٍ مستقيم.. وهذا القدر كافٍ عند معادن النجس والرجس والقذر ليعادونهم ويعدوا عليهم فيقتلونهم..

كذلك سيُقتَل سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً كما يُقتَل الأنبياء (علیهم السلام) من بني إسرائيل!

التنبيه الثاني: ممارسة الجريمة في أشرف الأوقات

كان بنو إسرائيل يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) في أشرف الأوقات: بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وهو أفضل أوقات العبادة والتوجّه إلى الله، وهو الوقت الّذي يستقبل الإنسان فيه يومه ويتفأل أو يتشاءم به لِما يأتي من

ص: 264

نهاره.. هو الوقت الشريف الّذي ترتاح وتأمن به جميع المخلوقات.

كذلك سيقتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) في الشهر الحرام، في محرّم الّذي كان يعظّمه العرب جميعاً في الجاهليّة والإسلام، في الزمن الحرام الّذي يأمن فيه الناس.. ويُهدَّد في الأرض الحرام، ويعزموا على اغتياله وقتله في بيت الله الّذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً!

التنبيه الثالث: اجتماعهم على الجريمة

كان بنو إسرائيل يتكاتفون ويتعاضدون على قتل الأنبياء (علیهم السلام) ، إمّا مباشرةً أو بالخذلان والرضى بقتلهم.. كانت الفعلة فعلة القوم أجمعين، لم تكن فعلة واحدٍ منهم.. تماماً كما سيفعل الناس مع ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حيث سيباشرون قتاله، ويُسرجوا ويُلجموا ويتنقّبوا ويتكاتفوا ويتظافروا ويتساندوا ويتساعدوا، فيزدلف إلى قتله مَن يزدلف، ويخذل مَن يخذل، ويرضى بقتله مَن يرضى!

التنبيه الرابع: عدم الاكتراث بالجريمة

كانوا يقتلون ويجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون، كأنّهم لم يفعلواشيئاً، لم تهتزّ فيهم شعرة، ولم يرتعش لهم جفن.. يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) ثمّ يولّون إلى دنياهم، يمارسون حياتهم الرتيبة، وكأنّ قتل الأنبياء (علیهم السلام) من ممارسات الحياة اليوميّة الّتي تستهويهم، لا يشعرون باقتراف ذنب، ولا يعدّونه عملاً قبيحاً، بل هو عملٌ تدفعهم نحوه الحوافز، يتلذّذون به

ص: 265

ويستذوقونه..

وربّما كان هذا المعنى وجهٌ من وجوه ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) وهم يصفون قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) : «ذُبح كما يُذبَح الكبش»، فإنّ مَن يذبح كبشاً أمام الملأ لا يستنكر عليه أحد، ولا يثير منظره المارّ، ولا يستجيش العواطف، ينظر إليه الناس ببرود، وربّما استحسنوا فعله ومدحوه وأثنوا عليه..

لقد قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) .. كلٌّ يتقرّب بدمه إلى الله.. قتلوه ببرود.. قتلوه ولم يتأثّموا.. قتلوه ثمّ عادوا إلى معيشتهم.. قتلوه وافتخروا بقتله.. قتلوه وكأنّهم لم يصنعوا شيئاً، بل زعموا أنّهم تعبّدوا الله في ذلك!

التنبيه الخامس: الانتقام من القتَلَة

إنْ لم يُعجّل الله على بني إسرائيل، فإنّه أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام.. والحسين (علیه السلام) حبيب الله وريحانة حبيبه وابن حبيبته.

كأنّ هذا المقطع من كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو يخاطب ابن عمر، أفرغت عنه أُخته الصدّيقة الصغرى (علیها السلام) وهي تخاطب أهل الكوفة:... فلا يستخفّنّكم المهل، فإنّه لا يُحفزه البدار، ولا يُخاف عليه فوت الثأر، كلّا، إنّ ربّك لَبالمرصاد ((1)).

ص: 266


1- أُنظر: الأمالي للطوسي: 93 المجلس 3، الأمالي للمفيد: 323 المجلس 38.

وقد انتقم الله من القوم الظالمين، وسيبعث الله ولده المنتقم، ويجعل له سلطاناً، فلا يُسرف في القتل.. أليس الصبح بقريب؟

المقطع الرابع: التعريض بابن عمر

اشارة

«فاتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي، واذكُرني في صلاتك».

في هذا المقطع من كلام الإمام (علیه السلام) عدّة تعريضات:

التعريض الأوّل: الدعوة إلى تقوى الله

كان ابن عمر على خطأٍ من رأيه، وأقرّ للإمام (علیه السلام) تحت طائلة القسَم أنّ الإمام (علیه السلام) على صواب، ولا ينبغي له أن يكون على خطأ، فمَن أحقُّ أن يتّقي الله؟

لقد دعا ابنُ عمر الإمامَ (علیه السلام) لارتكاب ما لا ينبغي له باعتراف ابن عمر نفسه، وأصرّ على الإمام (علیه السلام) أن يُطيعه ويدخل فيما دخل فيه الناس، وهو خطأٌ جزماً عند ابن عمر نفسه، وابتدأ كلامه مع الإمام (علیه السلام) بالأمر بتقوى الله!!

والآن يدعوه الإمام (علیه السلام) إلى تقوى الله بعد أن أقام عليه الحجّة البالغة،وأتمّ له الأدلّة والبيان، أوَليس هذه الدعوة إلى التقوى هي الدعوة الحقّ؟ وقد صدرت من سيّد الخلق والإمام المفترض الطاعة، وهو يدعوه إلى الجنّة، وابن عمر يدعو إلى النار.

ص: 267

التعريض الثاني: الدعوة إلى النصرة

«ولا تدَعَنّ نصرتي».. النصرة هنا واضحة.. لا يريد الإمام (علیه السلام) منه أكثر من أن يمنعه، أن يدفع عنه، أن يردّ عنه عادية القرود المسعورة، أن يقف في صفّ أولياء الله وأحبّائه.. لا يريد منه أكثر من ذلك.

فقد اتّضح من الحوار الّذي دار بينهما أنّ الإمام (علیه السلام) أحدقت به دائرةُ الخطر، وأنّ الجبّارين يطلبون رأسه، ويتلهّفون ليلغوا ويكرعوا دمه الزاكي، وهو يريد أن يدفع عن نفسه القتل.. لقد صرّح بذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) بوضوحٍ وجلاء، وأقرّه عليه ابن عمر.

ولو كان في ابن عمر بقيّة شرفٍ وعزّةٍ لَوعد الإمام (علیه السلام) بالنصر بالكلمة وتخذيل الناس عن أعدائه..

كان بإمكانه أن يعتذر عن القتال بين يديه دفاعاً عنه، إخلاداً إلى الأرض..

كان بإمكانه أن يُعلن موقفاً معادياً بلسانه بين يدَي الإمام (علیه السلام) فقط..

كان بإمكانه أن يوظّف نفوذه الّذي يزعمه عند أتباع أبيه، فيعلن لهم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مظلوم، وأنّ القوم يريدون قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ..كان بإمكانه أن يَعِد الإمامَ (علیه السلام) أنّه سيحدّث الناس بفضائله وبما سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في نصره والدفاع عنه، وأن يبيّن لهم أنّ هذا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ومَن يريد قتله ابن هند، ولا سواء..

ص: 268

بل كان بإمكانه أن يَعِد الإمامَ (علیه السلام) بالنصرة ولو بالدعاء.. حتّى هذا لم يفعله!

لقد أطبق الإمام (علیه السلام) الخناق على ابن عمر، أقام عليه الحجّة تامّة، فأنّى يُؤفَك؟!

التعريض الثالث: اذكرني في صلاتك

في النفس شيءٌ من هذه العبارة، والعبارةِ الّتي ستأتي بعد قليل، ولا طريق للتأكّد من زيادات النصّ وتفاصيله؛ لانفراد ابن أعثم به، ولكن سنعالجه على فرض صحّة الكلام كلّه بما فيه هذه العبارة.

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء في غنىً عن دعاء ابن عمر، وما قيمة صلاة ابن عمر بعد أن خذل إمام زمانه (علیه السلام) وأسلم وجهه الجميل للسيوف؟ فلا يبعد أن تكون دعوة الإمام (علیه السلام) لابن عمر أن يدعو له دبر كلّ صلاةٍ نوعَ تعريضٍ به، بمعنى أن لا تترك نصرتي ولو بهذا المستوى، وقد أكّد عليه ذلك، إذ أعادها عليه مرّتين في نفس الحديث، ممّا يفيد أنّ ابن عمر كان يبخل على الإمام (علیه السلام) حتّى بالدعاء له!

وربّما أكّد عليه أن يذكره دُبر كلّ صلاة، كي يبقى في كلّ حينٍ علىذكرى دائمة، ولا ينسى موقفه المتخاذل الجبان، وأنّه قد خذل ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وتقاعس عن نصرته ورضي بقتله، فهو في كلّ صلاةٍ يذكر حُجّة الإمام الحسين (علیه السلام) عليه، كي يذكر كلّ يومٍ وعند كلّ صلاةٍ أن لا قيمة

ص: 269

لصلاته الّتي تمسّك بها وخذل الإمام (علیه السلام) ، فما تنفعه صلاته.

فيكون هذا نوعٌ من التوبيخ والتعريض، لو كان يعقل هذا الغبيّ!

هذا، والإمام (علیه السلام) أعرف وأعلم بما قال إن كان قد قال!

الإضاءة الثامنة عشر: إتمام الحُجّة

اشارة

«فوَالّذي بعث جدّي محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) بشيراً ونذيراً، لو أنّ أباك عمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام من دوني قيامه بين يدَي جدّي.

يا ابن عمر، فإنْ كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم ما تؤول الأُمور».

يمكن تقسيم الكلام في هذه الإضاءة إلى عدّة أشطر:

الشطر الأوّل: لو أدرك عمر زماني لَنصرني!

اشارة

«فوَالّذي بعث جدّي محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) بشيراً ونذيراً، لو أنّ أباكعمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام مِن دوني قيامه بين يدي جدّي».

نجد في كلام الإمام (علیه السلام) عدّة تنويهات:

ص: 270

التنويه الأوّل: القسَم بجدّه البشير النذير

أقسم الإمام (علیه السلام) بالّذي بعث جدّه البشير النذير، فنوّه في كلامه لابن عمر بالنسبة القريبة بينه وبين النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، إذ كان بالإمكان أن يُقسم بالّذي بعث النبيّ محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهو القسَم المعهود عادة، بَيد أنّ قسم الإمام (علیه السلام) بهذه الصيغة جعل نفسه ضمن القسم، وأنّ المبعوث مِن قِبل الله هو جدّه!

وقد ذكر جدَّه المبعوث بصفتين خاصّتين، هما: التبشير والإنذار، فالمبشّر والمنذر إنّما هو جدّه، وهو قد ورث هاتان الصفتان من جدّه، وكان وهو يكلّم ابن عمر في نفس هذا المقام، فهو يدعوه إلى الجنّة والطاعة والعبوديّة لله، وينذره مغبّة موقفه الجبان المتخاذل البائس، ويعلّمه ويهديه إلى الصراط المستقيم.

التنويه الثاني: حجّةٌ جديدةٌ ودليلٌ آخَر
اشارة

حُجّةٌ جديدة.. ودليلٌ آخَر.. يحتجّ بها الإمام (علیه السلام) على ابن عمر، ويضعه في موقفٍ لا يمكنه أن يدفع عن نفسه، فبعد أن أقنعه الإمام (علیه السلام) أنّه على صواب، وأنّ ما أشار به ودعا الإمام (علیه السلام) إليه خطأٌ لا ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يأتي به، وجعله يعترف بلسانه ويقرّ بمنزلة الإمام (علیه السلام) من الله ورسولهوطهارته وعصمته وتسديده الربّانيّ، وقذارة عدوّه ونجاسة محتده ورجاسة أفعاله، عاد الإمام (علیه السلام) ليقيم الحجّة عليه من جهةٍ أُخرى لا يمكن

ص: 271

لابن عمر أن يتنكّر لها..

«لو أنّ أباك عمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام من دوني قيامه بين يدي جدّي».

ويمكن أن يُفهَم كلام الإمام (علیه السلام) على وجوه:

الوجه الأول: احتجاجٌ تنزّليّ

يمكن أن يُفهم كلام الإمام (علیه السلام) كنمط احتجاجٍ تنزّلي، فكأنّه يقول لابن عمر: إنّك تزعم في أبيك المزاعم، وتتّبعه وتستنّ بسنّته، وتفتخر وتتبجّح بما شرّعه وسنّه في السقيفة وقبلها وبعدها، وتعتقد أنّه نصر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) لما يراه هو من استشرافٍ للمستقبل، فلو كان أبوك حاضراً لَكان يرى ضمن ضوابطه وقوانينه وشريعته أنّي مظلومٌ مُعتَدىً علَيّ، ولَشمّر للدفاع عنّي.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ نصري والدفاع عنّي فرضٌ على كلّ الموازين الإلهيّة والأرضيّة، وعلى موازين الأعداء والأصدقاء، وعلى موازين الدين وموازين السقيفة..

الوجه الثاني: وفق دوافع أبيك ونوازعه

ربّما كان في قوله (علیه السلام) : «كنصرته» إشارةٌ خاصّة، فأنت يا ابن عمر تعرفدوافع أبيك ونوازعه ومحرّكاته الّتي دعَتْه لنصرة جدّي، وتعرف مقدار نصرته لجدّي ومستوى قيامه معه، والأهداف والغايات الّتي كان يتوخّاها من نصرته وقيامه، فإنّي أرضى منك ولو بهذا المستوى من النصرة والقيام، كما

ص: 272

رضي جدّي من أبيك..

ولْتكن دوافعك ونوازعك وأهدافك وغاياتك ما تكون، ولْيكن مستوى نصرتك بمستوى نصرة أبيك، ولو بالتظاهر بأن يكون موقفك إلى جنبي، ولو لم تدفع عنّي بسيف، ولم تطعن بين يدَيّ برمح، وتقوم بين يدَيّ ولو لم تنصب نفسك للأسنّة والسهام غرضاً، كما كان يفعل أبوك مع جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

الوجه الثالث: الاقتداء بسنّة أبيه

نفترض أنّ ابن عمر كان يخال أنّ أباه دافع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وقام بين يديه ورمى بنفسه في لهوات الموت حمايةً لحياة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وخاض غمرات الحروب، وسقى الأعداء كؤوس المنون، وواجه أكداس الحديد، وتسربل في كلّ وقعةٍ بالدماء، ليحمي النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. فهو إن كان يزعم ذلك لأبيه _ تنزّلاً وجدلاً، إذ لم يسجّل لنا التاريخ موقفاً من هذا القبيل لأبيه _، فلْيكن هو على سرّ أبيه ويقتدي به، وينصر ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كما نصر أبوه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه..فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول له: إنّك أقررتَ أنّي مكان جدّي وبموضعٍ منه، فلْتكن أنت مكان أبيك وبموضعٍ منه.

الشطر الثاني: الإعذار

«يا ابن عمر، فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل،

ص: 273

فأنت في أوسع العذر».

لاحظ انتقالات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في خطاباته مع ابن عمر، فهو يخاطبه بالكنية أحياناً، وبالاسم أحياناً، وهنا خاطبه بنسبته إلى أبيه، إذ أنّه احتجّ عليه به، فقال له: «يا ابن عمر!».

بعد كلّ ما مرّ من الاحتجاج والاستدلال والإفحام، لم تهتزّ في ابن عمر شعرة، ولم يرمش له جفن، ولم تبدُ عليه أيُّ علامةٍ من علامات الحياة والتأثّر والانفعال، وبقي سامداً.. هامداً.. جامداً.. ساكناً.. سمجاً.. قاسياً.. جلفاً.. متحجّراً.. غليظاً.. فظّاً.. عديم الإحساس.. خامد المشاعر..

كأنّه أصمّ لا يسمع، وأكمه لا يبصر.. طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره.. فبادره الإمام (علیه السلام) ، وهو رحمة الله الواسعة، والغنيّ بالله عن كلّ شيءٍ سواه، مع ذلك فقد قدّر الإمام (علیه السلام) له حرجه وعيّه وجبنه وضعفه وانغلاق الأمر عليه، فقال:

«فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر».إنّه من الّذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله أثّاقل إلى الأرض، ورضيَ بالحياة الدنيا من الآخرة.. إنّه ممّن يصعب عليه الإقلاع عن الحضيض، والإفلات من أسار الشهوات والرغبات والغرائز.. إنّه ممّن يثقل عليه الحقّ، ويخفّ للهوى والانحدار والتساقط والانحطاط.. ومثل هذا لا

ص: 274

يُنتفَع به، ولا يُحسب عليه، ولا جدوى فيه، ولا يُرتجى خيره.. فلْيذهب حيث شاء..

فهو في أوسع العذر.. إن كان الخروج مع الإمام (علیه السلام) يصعب عليه ويثقل، فهو في أوسع العذر..

غير أنّ العبارة كأنّها لا تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد عذره، إذ لم ينسب العذر له، ولم يقل: إنّك معذورٌ عندي، أو إنّي أعذرك، وإنّما قال له: أنت في أوسع العذر..

إنّك في عذرٍ واسعٍ تعذر به نفسك.. تنحت لنفسك المعاذير وتتذرّع بها، أمّا أنّها مقبولةٌ عند الإمام (علیه السلام) وممضاةٌ من قِبله، فلا يبدو أنّ في العبارة ما يفيد ذلك..

ثمّ استثنى الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع في الشطر الثالث.

الشطر الثالث: الدعاء والتباطؤ

«ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولا تعجلْ بالبيعة لهم حتّى تعلم ما تؤول الأُمور».جعله الإمام (علیه السلام) في سعةٍ من العذر.. بَيد أنّه أكّد له أن يدعو له دبر كلّ صلاة، وقد أشرنا إلى ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

ثمّ دعاه إلى أقلّ ما يمكن أن يفعله ويبقى في أمان، فيجمع بين حُبّه للدنيا والاحتفاظ ببقيّةٍ ممّا يمكن أن يُنجيه في الدارين.. أمره بالجلوس عن

ص: 275

القوم، فلا يستخفّه الظالمون، ولا يميل إلى الباطل ميلاً صريحاً واضحاً..

يجلس عنهم، ولا يُدخِل نفسَه في زمرتهم، ثمّ ليتربّص، فلا يستعجل البيعة حتّى ينظر ما تؤول إليه الأُمور..

يكفي لمثل ابن عمر أن يحيّد موقفه لفترةٍ من الزمن، وإنْ لم تكن طويلة، ليصبر أيّاماً قلائل.. يكفي أن يتقبّض ويتباطأ، ويتأنّى ويتراخى ويتقاعد حيناً قد لا يمتدّ كثيراً، ثمّ ليفعل ما يشاء..

فالأجواء كانت مشحونة، والمشهد كان مزدحماً بالأحداث، والأيّام حُبلى بالمفاجآت، وهو في سعةٍ من العذر عند مثل يزيد، وهو ابن عمر المأمون الجانب، المعتمَد عند القوم، فلا يضرّه أن يجمع يده ولا يناول لفترةٍ قصيرة..

بَيد أنّه لم يفعل.. لقد سارع إلى الببيعة!

الإضاءة التاسعة عشر: هدف الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة والبقاء فيها

اشارة

ثمّ أقبل على عبد الله بن عبّاس وقال له: «وأنت يا ابن عبّاس ابن عمّ أبي ...

فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهلَه يحبّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ

ص: 276

بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقي في النار: حسبي الله ونِعْم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً» ((1)).

فبكى ابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر ذلك الوقت بكاءً شديداً، وبكى الحسين (علیه السلام) معهما، ثم ودّعهما.

فصار ابن عبّاسٍ وابن عمر إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة، ولزم الصلاة والصيام ((2)) [في (المقتل) للخوارزمي: الصلاة في الصلاة] ((3)).

* * * * *

يمكن أن نلخّص الكلام في هذا التصريح بالنقاط التالية ((4)):

النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً

في هذا المقطع من الحوار بيانٌ واضحٌ وصريحٌ لا لبس فيه ولا تغبيش، ولا تعمية ولا تشويش، ينصّ فيه الإمام (علیه السلام) بكلّ وضوحٍ وجلاءٍ على سبب القدوم إلى مكّة، فهو يريد اتّخاذها وطناً يستقرّ فيه ويتوطّن، ويريد

ص: 277


1- أتينا قبل قليلٍ على تفصيل الكلام في هذا المقطع من كلام الإمام (علیه السلام) .
2- في (الفتوح): «الصلاة والصيام».
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
4- إقتباسٌ من كتاب (ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة).

أن يُقيم فيه أبداً.. أي: أنّه دخل مكّة كي لا يخرج منها، وإنّما يبقى فيها بقيّة العمر! وربّما كان هذا من أوضح معاني الاستيطان والإقامة الأبديّة.

فإذا لاحظنا تصريحه في نفس الحوار عن سبب خروجه من المدينة، وأنّه كان مطارَداً مطلوب الدم، فخرج _ حسب النصّ _ مرعوباً خائفاً لئلّا تُهتَك به حرمةُ المدينة، بالإضافة إلى الدلائل والمؤشّرات الأُخرى الدالّة على نفس المضمون.

ولاحظنا أيضاً أنّه كان مطالَباً بمناولة القرد المخمور المسعور، وأنّه لن يَقبَل بالدنيّة، ولن يُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

يتبيّن لنا أنّه إنّما قَدِم إلى مكّة ليستوطنها ويقيم بها أبداً، باعتبارها الحرم الآمن الّذي لا يفزع فيه مَن دخله.

أجل، إذا كان الحرم لا يوفّر له هذا الأمان، لجرأة الطاغي على حرمات الله، فالإمام (علیه السلام) يأبى أن تُهتَك به حرمةُ البيت الحرام، تماماً كما أبى أن تُهتَك به حرمة المدينة المنوّرة، وسيكون حينئذٍ موقفٌ آخَر، سنسمعه فيما يلي..إذن!

ما يفيده هذا النصّ الصريح أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قصد مكّة ليستوطن فيها ويقيم فيها أبداً، بعد أن أُزعج وأُخرج من مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ومولده اضطراراً.

ص: 278

وليس في الكلام _ سابقاً ولاحقاً _ ما يفيد _ ولو إشارةً _ أنّ له غرضاً آخَر غير ما ذكرنا من دخول مكّة، ويشهد له قوله: «مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ فيه أبداً».

ولو كان الإمام يريد شيئاً سوى الامتناع عن البيعة، وكان يخطّط لجمع الخيل والرجال لغرضٍ آخَر سوى الدفاع عن نفسه ودفع القتل عنه وعن أهل بيته، لَما رضي بمكّة مقاماً أبداً ما نصرته ولم تخذله!

والله العالم.

النقطة الثانية: شرط البقاء

اشارة

لقد اشترط الإمام (علیه السلام) للاستيطان في مكّة والإقامة بها أبداً شرطاً ذا شعبتين:

الشعبة الأُولى: الحبّ

الشعبة الأُولى الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ، قال: «ما رأيتُ أهله يحبّونني»، فهو علّق البقاء على ما سيراه منهم، والمناط هنا ما يُظهرونه له من الحبّوالنصرة، لا فيما يُضمرونه له في قلوبهم، ولا بما يعلمه هو بما منحه الله وخوّله من علم الإمامة، وما أطلعه الله على قلوب العباد ومنويّاتهم ومستقبلهم.

المطلوب: أحبّوني! أحبّوه شخصيّاً! أحبّوه هو بالذات..

وممّا لا يشكّ فيه أحدٌ يزعم أنّه يؤمن بالله والنبيّ (صلی الله علیه و آله) واليوم الآخِر أنّ

ص: 279

حبّ الحسين (علیه السلام) _ كما هو حبّ أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً _ واجبٌ مفروضٌ من الله على العباد، وهو تكليفٌ إلهيٌّ وفرضٌ دِينيٌّ نصّ عليه القرآن الكريم والنبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، وأكّدته الشريعة الربّانيّة بكلّ الوسائل..

ولسنا بصدد التدليل على ذلك وسرد النصوص المقدّسة المصرِّحة بذلك، فإنّ ذلك من بديهيّات الدين وضروريّات الإسلام، ولتفصيل الكلام فيها موضعٌ آخَر.

فبغضّ النظر عن هذا، فإنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو بذاته محبوب، يتوفّر على كلّ خصلةٍ ومحمدةٍ وخُلُقٍ عظيم، وهو (ربّ النوع) لكلّ ما جعله الإنسان طول التاريخ مِن مُثُلٍ وقيَمٍ كرّسها في الآلهة الّتي اصطنعها لنفسه كلّما عجز عن الوصول إلى الغاية في خصلةٍ من خصال الخير..

فهو الجمال، وهو الكمال، وهو الحبّ، وهو المودّة، وهو الرحمة، وهو العطاء والسخاء، وهو الغوث، وكلّ ما يمكن أن يحبّه الإنسان السويّ..وهو القائد، وهو الإمام، وهو الزعيم، وهو السيّد، وهو كلُّ أملٍ يرجوه الإنسان في دنياه وآخرته..

ولو أردنا استقصاء ما في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من خصالٍ تأسر القلوبَ وتأخذ بالعقول وتسخّر الألباب وتستجيش العواطف، لَطال بنا المقام..

فهو محبوبٌ فرضاً من الله، ومحبوبٌ بحسب فطرة الإنسان السويّ

ص: 280

وطبعه وقيَمه وأخلاقه ومُثُله وتطلّعاته..

مع ذلك، لم يطلب منهم ولم يكلّفهم أكثر من أن يحبّوه، بل أن يرى منهم ذلك! «ما رأيتُ أهله يحبّونني»!

رُوي عن الصادق (علیه السلام) ، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إنّ حبّ عليٍّ قُذف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قُذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((1)).

فمن أيّ أصناف المخلوقات كان أُولئك الّذين عاصروا الإمام (علیه السلام) أيّام تواجده في مكّة المكرّمة؟!!

إنّهم لم يُبدوا له الحبّ، عصياناً وعتوّاً على أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتمرّداً على القرآن والسنّة المطهّرة، ومجانبةً للفطرة السليمة والذوقالبشريّ والطبع الإنسانيّ، ومفارقةً لكلّ ما يمكن أن يجعلهم في صنف ذوي الإحساس والشعور والمعرفة وتتبّع الخير واستشعار الجمال وإدراك السموّ والأخلاق والرفعة..

إنّهم أعرضوا عن وجه الله ولم يُحبّوه، ولو أحبّوه لَما خرج عن مكّة! فلمّا خرج عن مكّة عرفنا أنّهم لم يعوا شرطه، ولم يلتفتوا إليه، ولم يُظهِروا له سوى وجوهاً ميّتةً منطفأةً كالحةً عبوسةً مكفهرّة، وقلوباً منكوسةً معكوسةً

ص: 281


1- المناقب لابن شهرآشوب: 9 / 47 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

متعوسةً منحوسة..

الشعبة الثانية: النصرة

النصرة.. كما أشرنا إلى المقصود منها مراراً عديدةً كلّما دعت مناسبة الحديث إلى بيانها، فإنّها هنا وفق مجريات الأحداث ومقتضيات الظروف وما تفرضه الأجواء الّتي خيّمت على المدينة يوم نزح عنها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، والأجواء الّتي ظلّلت مكّة يوم أقام فيها قبل الخروج منها حين كان الإمام (علیه السلام) مهدور الدم، مطلوب الرأس، محكوماً بالقتل، ومرصوداً متربَّصاً به للاغتيال أو الأسر، كما أفادت النصوص المشار إليها في أكثر من موضعٍ وغيرها، كلّ ذلك شاهدٌ على أنّ المقصود بالنصرة إنّما هو الذبّ والدفاع عن ابن بنت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودفع القتل عنه، ومنع عادية القرود المسعورة وكبحها وقصّ مخالبها وأظفارها، لئلّا تنشب بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فتقضي ديونها منه ومن أبيه وجدّه (علیهما السلام) ،وتنتقم وتثأر لفطائسها في بدر وأُحُد وغيرها من مشاهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .

هذا هو المطلوب في تلك الأيام.. دفع القتل عن ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وحفظ النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ولده.. والدلالات في المتون التاريخيّة صريحةٌ واضحةٌ بيّنةٌ في ذلك.

وعلى فرض عدم التسليم بها _ إن أمكن ذلك، وهو بعيد؛ لصراحة

ص: 282

المتون _، فإنّه القدر المتيقّن الّذي لا يشكّ فيه مَن يقرأ التاريخ متصفِّحاً فضلاً عمّا إذا كان متأمِّلاً..

وبهذا القدر المتيقّن أيضاً خانت الأُمّةُ بعهودها، وتنكّرت لبيعتها مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأخلفت وعودها، وتركت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولم تدفع عنه ولم تمنعه، بل لم تعِدْه النصرة ولو كذباً، ولم تُبرِز له أيَّ بادرةٍ تجعله يبقى في مكّة البلد الآمن، وهي قد تجمّعت للحجّ تطوف على أحجار الكعبة وتتنقّل في المشاعر المقدّسة..

لقد صرّح التاريخ وأبان الإمام (علیه السلام) نفسه _ فداه العالمين _ أنّه إن بقي في مكّة سيغتاله الطغاة، وأنّه إن بقي فإنّه مقتولٌ لا محالة، ولهذا عجّل الخروج من مكّة ولم ينتظر الموسم حتّى ينقضي، ولو كان فيهم عِرقٌ ينبض أو صبابةٌ من بقايا غَيرةٍ تجيش في أعماق النفوس لَمنعوه!

لقد تعجّل الإمام (علیه السلام) الخروج، وخرج بالفعل، وهذا يعني أنّهم لمينصروه أبداً، ولم يعدوه النصر والدفاع عنه.. بل يبدو لمن تأمّل في النصوص التاريخيّة أنّهم مارسوا طقوسهم وكأنّ شيئاً لم يكن!

«ما رأيتُ أهله يحبّونني وينصرونني»!!!

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط

بغضّ النظر عن علم الإمام والإمامة، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يعرف القوم، وقد عركهم وخبرهم كأبرز شخصيّةٍ وأهمّ رمزٍ عاصر محنة الإسلام

ص: 283

والحقّ منذ عهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) والسقيفة والشورى وفتنة عثمان والتحكيم، وما تلاها من أحداثٍ جرت على مرأىً ومسمع منه، وقد رأى الناس في المدينة ومكّة والكوفة وغيرها من الحواضر والبلدان الّتي كانت تُسمّى يومها: بلاد المسلمين..

فالإمام (علیه السلام) يعرفهم من خلال سلوكهم وسوابقهم المعروفة، وهو أعرف الخلق بالخلق، لذا افترض فيهم أن يخذلوه، فقال: «فإذا هم خذلوني»..

«هم خذلوني»..

مَن المقصود؟

- أهل مكّة؟

- المجاورون؟- الحُجّاج والمعتمرون؟

أو أنّ جميع هؤلاء كانوا مقصودين؟ فأيّ واحدٍ كان قد دخل مكّة يومذاك يمكن أنّ يحبّ الإمام الحسين (علیه السلام) وينصره ولا يخذله..

وقد صدق (علیه السلام) _ وهو الصادق المصدّق _ إذ أنّه جعل خذلانهم فرضاً مقابل فرض المحبّة والنصرة، فخذلوه بالفعل ولم ينصروه! سواءً كان قد استنهضهم واستنصرهم ودعاهم، أو لم يفعل ذلك..

فإن كان قد استنهضهم واستنصرهم فخذلوه، فتلك الطامّة الكبرى..

وإن كان لم يفعل ذلك، فهذا يعني أنّه لم يعدّ العدّة لأمرٍ ما، وإنّما كان لا

ص: 284

يبغي منهم أكثر من الدفاع عنه، وكان عليهم أن يدفعوا عنه كمسلمٍ من المسلمين قد دخل بيت الله مستأمناً مستجيراً لائذاً عائذاً بالله، فضلاً عن كونه سيّد شباب أهل الجنّة وابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته ووديعته في أُمّته، إذ أنّهم كفروا بأمر الله وكذّبوا رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يقبلوه إماماً مفترض الطاعة منصوباً من الله (عزّ سلطانه).

وبهذا نعرف مدى خذلان القوم لسيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، إذ كان بمستوىً بحيث لو هجموا عليه وأرادوا قتله واغتياله لَما ردّهم أحدٌ أبداً من أُولئك الغوغاء وأشباه المسلمين الّذين ملؤوا مكّة والمطاف والمشاعر يومها ضجيجاً وعجيجاً!

النقطة الرابعة: البديل

اشارة

هنا قدّم الإمام (علیه السلام) البديل في حال خذله القوم ولم يحبّوه، وجاء البديل ضمن موقفين مترابطين يتمّم أحدهما الآخَر:

الموقف الأوّل: الاستبدال

«استبدلتُ بهم غيرهم ...».

جاء في حديث الأربعمئة المعروف من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) : «عليكم

ص: 285

بالمحجّة العظمى فاسلكوها، لا تستبدل بكم غيركم» ((1)).

وورد في كثيرٍ من الأدعية الشريفة عن أهل البيت (علیهم السلام) توسّل العبد بالله أن يجعله ممّن ينتصر به لدينه ولا يستبدل به غيره..

وأن يستبدل الإمام (علیه السلام) قوماً بغيرهم يعني أنّ الله يستبدلهم.. يعني أنّهم ليسوا ممّن ينتصر الله بهم لدينه.. يعني أنّهم خذلوا الله وخذلوا رسوله (صلی الله علیه و آله) فخذلهم وأوكلهم إلى أنفسهم..

وقد افترض الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) فرضاً أن لو خذلوه ولم ينصروه، فإنّه سوف يستبدل بهم غيرهم.. بمعنى أنّه سيغادر بلدهم ويتركهم ويرحل إلى قومٍ آخَرين.. يخرج إلى حيث يجد مَن يدفع عنهوينصره ويمنع عنه عادية الطغاة.. يهاجر إلى حيث أمره الله وأعدّ له نصره، ليجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيزٌ حكيم.

كلمات الإمام (علیه السلام) تذكّرنا بقوّةٍ بما جرى في هجرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) من مكّة، وترسم لنا مشهداً متطابقاً مع تلك المرحلة من حياة الإسلام.

قال (عزوجل) : ﴿إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَليماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ * إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ

ص: 286


1- الخصال للصدوق: 2 / 633.

سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيم﴾ ((1)).

فاستبدالهم بقومٍ آخَرين سيكون فيه العزّة والنصرة له، والخزي والعار والذلّ والصغار لأعدائه وخاذليه.

الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام)

«واستعصمتُ بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً».ورد في الأحاديث الشريفة:

إنّ إبراهيم الخليل (علیه السلام) لمّا أُريد قذفه في النار فرُمي به في المنجنيق، فبعث الله جبرئيل فقال له: أدرِكْ عبدي. فجاء فلقيَه في الهواء، فقال له: كلِّفْني ما بدا لك، فقد بعثني الله لنصرتك. فقال إبراهيم: حسبيَ اللهُ ونِعْم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلّا إليه ((2)).

وفي لفظٍ آخَر:

قال: لا أقترح على ربّي، بل حسبيَ اللهُ ونِعْم الوكيل ((3)).. فكانت

ص: 287


1- سورة التوبة: 39 و40.
2- أُنظر: الاحتجاج للطبرسي: 1 / 24، تفسير الصافي للكاشاني: 1 / 504، بحار الأنوار: 9 / 260.
3- الدعوات للراوندي: 168.

النار عليه برداً وسلاماً.

وبهذا أعلن الإمام (علیه السلام) أنّه في غنىً عن العالمين، ولا يحتاج أحداً من أهل مكّة للدفاع عنه ولا لنصرته، فهو في حمى الله، وهو متوكّلٌ عليه، وهو نِعْم الوكيل، وهو لا يحتاج سوى ربّه، وبه قد استعصم..

فمن خذل.. فقد غرّته الدنيا، وباع حظّه بالأرذل الأدنى، وشرى آخرته بالثمن الأوكس، وتغطرس وتردّى في هواه، وأسخط نبيَّه، وأطاع من أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبين النار.

أمّا الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه، فلا يضرّه كيدهم شيئاً، ولا يحتاج نصرتهم، والله وليّه وناصره وحاميه.

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل (علیه السلام)

إنّ استعصام الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، أشار إلى المشهد الّذي تعرّض له جدّه، والنتيجة الّتي تحقّقت بعد أن قال كلمته وثبت عليها..

والمشهد باختصار هو:

اجتماع الملأ والطاغوت يومها للقضاء على إبراهيم (علیه السلام) وقتله، والقضاء عليه بقتله ورميه في النار، وكان إبراهيم الخليل (علیه السلام) نفسه مقصوداً مطلوباً للقتل مبيّتاً له، قد أعدّوا النار واستعدّوا، وجمعوا الناس وحشّدوا ليتفرّجوا وينظروا سطوة الطاغي وتنكيله بأعدائه.

ص: 288

وهو يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أيضاً كان مطلوباً، يقصد القومُ قتلَه وإراقة دمه، إنْ بالاغتيال أو الفتك به ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، تماماً كجدّه إبراهيم (علیه السلام) .

فإذا استعصم الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه ستكون النتيجة تماماً كنتيجة جدّه، إذ جعل الله عليه النار برداً وسلاماً، وأنجاه الله من القتل والإحراق وأخرجه سالماً.

وربّما أفاد هذا أنّ الإمام (علیه السلام) أشار بذلك إلى أنّه سيخرج من مكّة سالماً، وأنّهم رغم تجييشهم واستعدادهم وإقدامهم الوقح على إراقة دمه المقدّس في مكّة، فإنّ الله سيجعل له ذلك أمناً وأماناً، ولا يجسر أحدٌ علىفعل شيء، والله وكيله وحسبه.. فإنّ مكّة ستكون عليه برداً وسلاماً، تماماً كما كانت النار على جدّه إبراهيم (علیه السلام) برداً وسلاماً.

ولو أردنا حصر المشهد في جملة، نقول:

إنْ خذَلَ أهلُ مكّة ولم ينصروا الإمام (علیه السلام) وكانوا عليه إلباً مع الطاغوت كما كان القوم زمن أبيه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، فإنّ الإمام (علیه السلام) أخبر أنّه سيستبدل بهم غيرهم، فيُحرمون من هذا الشرف العظيم والخاتمة الحسنة، ويستعصم بكلمة جدّه، فيعلن غناه عنهم، وأنّ الله الّذي جعل النار على جدّه برداً وسلاماً سيجعل له مكّة أمناً وأماناً رغم أُنوفهم حتّى يخرج منها سالماً.

ص: 289

النقطة السادسة: وأنت يا ابن عبّاس!

اشارة

قال: ثمّ أقبل الحسين على عبد الله بن عبّاس فقال: «يا ابن عبّاس! إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتُك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك، فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله [وكلائه]، ولا يخفى علَيّ [خ ل: ولا تُخفِ علَيّ] شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمت بالكلمة الّتي قالها إبراهيم الخليل يوم أُلقي في النار: حسبيَ الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً».* * * * *

لقد مرّت الإشارة إلى بعض مفاصل هذه النقطة فيما سبق من الكلام، وإنّما ذكرناها هنا كي نستطيع استكمال مشهد حديث الإمام (علیه السلام) مع ابن عبّاس، وسنحاول التعرّض لها باختصارٍ شديدٍ ضمن الومضات التالية:

الومضة الأُولى: التفاتة الإمام (علیه السلام) إلى ابن عبّاس!

كان آخر ما تكلّم به الإمام (علیه السلام) مع ابن عمر أنّه قال له:

«فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن

ص: 290

القوم، ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم إلى ما تؤول الأُمور».

بعد هذا الكلام الواضح في إعذار ابن عمر بعد أن أقام عليه الحجّة البالغة التامّة، وتخاذل ابن عمر بوضوح، قال له الإمام (علیه السلام) : «أنت في أوسع العذر»، وقد أتينا على بيانها قبل قليل، واكتفى منه بالدعاء والقعود عن القوم إلى حين، وعدم استعجال البيعة لهم.

ثمّ بعد ذلك مباشرةً أقبل على ابن عبّاس فقال: «يا ابن عبّاس ...»، ممّا يُشعِر أنّ المشهد السابق بعدُ لم ينتهي، وأنّ الكلام متّصلٌ والحديث واحد، فقد عاد الإمام (علیه السلام) في نهاية الحوار إلى توجيه كلّ واحدٍ منهما، ومعالجة مواقفهما، وجعلهما في «أوسع العذر»، فهما في خانةٍ واحدةٍ وموقفٍ واحدٍولهما حكمٌ واحد، بَيد أنّ طريق الحديث مع الأفراد تختلف، كما أنّهما كانا يختلفان بمستوى التلقّي والتأثّر، فقد بكى ابن عبّاس مرّتين، وبكى ابن عمر مرّةً واحدة!

الومضة الثانية: حرج ابن عبّاس

يبدو أنّ إحراج ابن عبّاسٍ كان واضحاً بادياً، وسيّد الشهداء (علیه السلام) مع الغنى والجود والسماحة والحلم والكرم والمداراة، فإنّ المعهود الواضح في سلوك أهل البيت (صلوات الله عليهم جميعاً) أنّهم كانوا يقيمون للرحم وزناً، ويجعلون له مقاماً خاصّاً مهما كان الرحم، ولا يتنكّرون للرحم مهما نأت وبعُدَت، والأمثلة والأحاديث في ذلك كثيرةٌ لا تُحصى، ليس هذا

ص: 291

موضع ذِكرها.

ويبدو من اتّصال الحديث وانتقال سيّد الشهداء (علیه السلام) من مخاطبة ابن عمر والإقبال فوراً إلى ابن عبّاس أنّه يريد أن يجعل بينهما ما يميّز الخطاب معهما.

وقد عبّر ابنُ عبّاسٍ عن الحرج الّذي انتابه، وأعلن النصرة ولو بانتظار الإذن والإعذار، على خلاف ابن عمر.

ففرّق الإمام (علیه السلام) هنا في خطابه بينهما، وجعل مداراة ابن عبّاس أكثر، وكأنّه يريد أن يقول له: إنّك لستَ كابن عمر، فأنت ابن عمّ أبي، ولك رحم، ولك علاقةٌ سابقةٌ مع أبي.ويمكن أن تُفهَم هذه المقدّمة على نحوٍ آخَر، تستلهم من الجوّ العام الّذي ظلّل المحادثة وإقامة الحجج والبراهين عليهما، فتكون بمثابة نوعٍ من التقريع والعتاب، فكأنّه يقول له: إنّك ابن عمّ أبي، وكان لك كذا وكذا من المواقف مع أبي، بَيد أنّك الآن تقف منّي هذا الموقف، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا حاجة لي فيك.

الومضة الثالثة: المداراة والتودّد

بالرغم من أنّنا نتحفّظ قليلاً على ما ورد في تفاصيل كلام الإمام (علیه السلام) مع ابن عبّاس في هذه الفقرة، ومن أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يستشير ويشير هو عليه بالرشاد والصواب، فإنّ هذا ما يزعمه ابن عبّاس، وقد

ص: 292

وجدنا خلافه في التاريخ، ولَطالما أشار بالخطأ على أمير المؤمنين فخالف الإمامُ رأيه، فانزعج ابن عبّاس، وقد جئنا على بيان ذلك فيما سبق، بَيد أنّنا نفترض صحّة ذلك.

وعلى فرض صحّة هذه الزيادة، فإنّ فيها من المداراة والتودّد لابن عبّاس ما يلائم أخلاق سيّد الشهداء (علیه السلام) وحِلمه ومداراته، وكلامه مع الناس كلّ حسب ما يناسبه وكلّ على قدر عقله ومقامه.

وربّما كان الإمام (علیه السلام) يستشير ويستنصح ابن عبّاس، وليس في ذلك ضَير، وقد قال له الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ما مضمونه: إن استشاره فلْيشر عليه، ولكن عليه أن يطيع أمر إمامه، وليس الإمام (علیه السلام) ملزماً بالعمل بما يقولابن عبّاس ولا غيره.

الومضة الرابعة: تطييب خاطره

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) قد قرّر أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يستشير ابن عبّاس ويستنصحه، وكان ابن عبّاس يشير عليه بما فيه الرشاد ويشير عليه بالصواب، ولكنّه لم يذكر له أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعمل بما يشير عليه.. فهو صوابٌ ورشادٌ حسب رأي ابن عبّاس نفسه.

وربّما ذكر الإمام (علیه السلام) هذا الأمر بعد أن أقنع ابنَ عبّاسٍ وابنَ عمرٍ في هذا اللقاء أنّهما على خطأ، وأنّ رأيهما غير سديد، وأنّه لا ينوي العمل بما أشارا، بل عازمٌ على مخالفته، فأراد الإمام (علیه السلام) بأخلاقه الحسينيّة المميّزة عن

ص: 293

العالمين أن يطيّب خاطر ابن عبّاس الّذي هو ابن عمّ أبيه! وللرحم عند أهل البيت (علیهم السلام) مقام!

الومضة الخامسة: إنْ كنتَ تشير بالرشاد فإنّك أخطأتَ اليوم

ربّما شهد لما ذكرناه آنفاً في الومضة السابقة أنّ الإمام (علیه السلام) قال لابن عبّاس: «فامضِ إلى المدينة»، ثمّ قال: «فإنّي مستوطن ...».

أي: لك أن تستمرّ بما أنت عازمٌ عليه، وهو الرجوع إلى المدينة، ودَعْني في مكّة، فلا أعود معكما إلى المدينة، ولا تمتعض إن لم أعمل بمشورتك، فإنّك كنتَ تشير على أبي، وكانت إشاراتك سديدة، ولكنّ اليوم أخطأت الرشاد والسداد.* * * * *

ولا يخفى أنّ الحديث في الحوار كلّه كان يدور حول رجوع الإمام (علیه السلام) إلى المدينة، ولم يُذكَر فيه الخروج إلى الكوفة، وإنّما كانت محاولات العبدين تنصبّ على إقناع الإمام (علیه السلام) بالرجوع معهما إلى المدينة، وقد خالفهما الإمام (علیه السلام) ، وأصرّ على الإقامة في مكّة مستوطناً مقيماً أبداً ما رأى أهله يحبّونه وينصرونه.

الومضة السادسة: هل استبدل الله بابن عبّاس وابن عمر؟!

لقد كانت الظروف المحيطة بركب الإمام (علیه السلام) حرجة للغاية، وكان الإمام (علیه السلام) ملاحَقاً مطلوباً للقتل، وكان (علیه السلام) قد وضّح الموقف للعبدين

ص: 294

بتفاصيله وبعباراتٍ واضحةٍ مفهومةٍ لا تحتاج إلى تأويل وتحليل.

ثمّ قال لابن عبّاس: «فامضِ إلى المدينة ... فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ به ...».

ثمّ أخبره أنّهم إن خذلوه استبدل بهم غيرهم، واستعصم بالكلمة الّتي قالها إبراهيم (علیه السلام) ..

فهل يُشعِر ذلك أنّ الله قد استبدل بابن عبّاس وابن عمر، إذ أشاحوا وركبوا سفن الدنيا ليحفظوا بقيّة العمر، ويعيشوا حفنةً من السنين بعده، ولم ينصروه ولو بما يناسبهم ويلتئم مع طبعهم ومزاجهم؟!

الومضة السابعة: هل في كلام الإمام عذرٌ لابن عبّاس؟

ربّما كان الإمام (علیه السلام) يتكلّم مع ابن عمر ليُسمِع ابن عبّاس من دون أن يباشره بالكلام، على قاعدة: (إيّاكِ أعني واسمعي يا جارتي)، ليحفظ لابن عبّاس قرابته ووجاهته، وهذا هو السبب الّذي دعا ابن عبّاس ليقول: «كأنّك تريد منّي أن أنصرك!»، فهو قد فهم _ بفطنة الهاشميّ وذكائه _ أنّ الإمام (علیه السلام) يقصده.

وقد اتّضحَت الحجج وبانت الأُمور ولاحت المحجّة بأجلى صورة، وقد ختم الإمام (علیه السلام) كلامه مع ابن عبّاسٍ بقوله: «امضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك»، ولا يبدو في هذا القدر أنّ لابن عبّاس عذراً واضحاً يمكن أن يعتذر به، وربّما كان هذا هو السبب وراء ما تمحّله وتكلّفه

ص: 295

فيما بعد من الإعذار والدفاع عن نفسه بشتّى الذرائع، وسيأتي ذِكرها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

ولا يبدو في هذا المتن بالخصوص أنّ الإمام (علیه السلام) قد كلّف ابن عبّاسٍ بتكليفٍ خاصّ، ولم يجعله عيناً له على المدينة، إذ أنّه قال له: «لا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك».. (أخبارك)! أخباره الخاصّة به، باعتباره عبد الله بن عبّاس ابن عمّ أبيه، لا أكثر..

فلا يجد في هذا الكلام ما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد كلّفه بشيء، ولا أمَرَهبأمرٍ خاصٍّ يجعله يتخلّف في المدينة من أجل تنفيذ أمر الإمام (علیه السلام) ، فيما نجد يزيد قد كلّف ابن عبّاس وأمره أن يتابع أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) ويفاوضه ويمنعه عن الخروج، وقد منحه صلاحيّاتٍ واسعة.

النقطة السابعة: بكاؤهم جميعاً

علِمَ العبدان أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لا يبايع أبداً، وأنّ القوم لا يتركونه أبداً، وستكون العاقبة أنّهم يقتلونه ويقتلون مَن معه ومَن سينصره، فبكيا، وبكى معهما سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

إنّها واللهِ الظليمة العظمى!

هل بكى ابن عبّاسٍ وابن عمر لأنّهما رأيا الإمام (علیه السلام) مقتولاً، وقد تنجّزت الإخبارات الغيبيّة، وشهدت كلّ الظروف ومجريات الأحداث بذلك؟

ص: 296

هل بكيا على ظليمة سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الأبرار والأوفياء؟

هل بكيا لبكاء سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ فبكاؤه لا يُحتمَل، وكان بكاؤه شجيّاً محزناً يُبكي مَن سمعه ورآه!

هل بكيا متأثّرَين تأثّراً تكوينيّاً؟ لأنّ انكسار قلب الإمام (علیه السلام) _ وهو قلب العالَم _ يؤثّر في الموجودات، وإن كانت من الصمّ الصياخيد!

هل بكيا على حظّهما العاثر وخذلانهما للإمام (علیه السلام) على علم، فبكيا علىعاقبتهما؟

هل بكيا على فراق سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

الإضاءة العشرون: أقام الإمام بمكّة ولزم الصلاة

اشارة

قال ابن أعثم:

ثمّ ودّعهما، وصار ابنُ عمر وابنُ عبّاس إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة قد لزم الصوم والصلاة ((1)).

وقال الخوارزميّ:

ثمّ ودّعهما، فصار ابن عبّاس وابن عمر إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة، ولزم الصلاة في الصلاة ((2)).

ص: 297


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 44.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 193.

يمكن متابعة هذه الفقرة الأخيرة من نصّ ابن أعثم والخوارزميّ من خلال جملة إنارات:

الإنارة الأُولى: صار العبدان إلى المدينة!

ودّعهما الإمام (علیه السلام) ، وصار ابن عبّاسٍ وابن عمر إلى المدينة، كأنّهما لم يسمعا حُجج الإمام (علیه السلام) ، ولم يَعِيا ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر المُحدِق به، وكأنّهما غير معنيّين بحياة الإمام (علیه السلام) والدفاع عنه والذبّ عن آل رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) !

لا ندري بماذا يبرّر العبدان موقفهما وانصرافهما، وبماذا يسوّغان تركهما لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهما يعلمان ويجزمان كأنّهما يريان بأُمّ العين أنّه مقتولٌ مذبوح؟!

لا ندري كيف يسوّغ الآخَرون موقفهما ويدافعون عنهما ويبرّرون لهما، ويفهمون انصرافهما إلى المدينة وقد حازا رضى الله ورضى الإمام (علیه السلام) ؟!

الإنارة الثانية: أقام الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة

نجد في النصّ تأكيداً على إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة، التأكيد على الإقامة فقط، ولم يضيفا إلى الإقامة إلى هذا الحدّ من النصّ أيَّ نشاطٍ آخَر إلّا ما سنسمعه في الإنارة التالية!

أقام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة وفق ما رسمه هو للعبدين، مقيماً مستوطناً، لا يريد استبدال أهلها ولا تركها ومغادرتها ما دامت قد دفعَت

ص: 298

عنه وحفظَته وأظهرت له المحبّة..

لا يبدو ثَمّة غرضٌ آخَر سوى الإقامة والاحتماء بالبيت الحرام، مع احتمال منعه من قِبل المقيمين بها، إنْ مِن أهلها أو الحجّاج والمعتمرين والمجاورين.

الإنارة الثالثة: لزوم الصلاة

غاية ما ذكره المؤرّخ هنا وسجّله من نشاطٍ يمكن الإشارة إليهوالاهتمام به، هو: ما يفعله أيُّ مجاورٍ مقيمٍ في البيت الحرام..

لقد لزم الصلاة والصوم..

لزم الصلاة!

وأضاف الخوارزميّ: أنّه لزم الصلاة في الصلاة، والظاهر يعني بذلك أنّ الإمام لزم الجماعة مع القوم!! أي: أنّه كان يصلّي بصلاتهم، وهذا من غريب ما يرويه الخوارزميّ، إذ أنّ بعض النصوص تؤكّد أنّه كان يصلّي لوحده ولا يأتمّ بهم، وتمام الكلام في هذا سيأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

إنّ الإمام (علیه السلام) لزم الصلاة والصوم.. ولم يشيرا إلى أنّه بادر إلى مبادراتٍ تشحذ الهمم، وتجيّش النفوس، وتستنهض الرجال لمحاربة السلطة والالتحاق بمسيرة الانقضاض على أركان الحكم المتسلّط، ومحاولة الإمساك بزمام الأُمور في مكّة أو في غيرها من البلدان..

لزم الصلاة والصوم!

ص: 299

ص: 300

محتويات الكتاب

الديباجة... 5

المقدّمة........... 15

تاريخ دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ومدّة إقامته........... 21

مدّة إقامته... 22

الآية الّتي تلاها الإمام (علیه السلام) عند دخول مكّة واستخارته........ 25

دعاء الإمام (علیه السلام) واستخارته...... 26

تغيير والي مكّة.......... 27

التوضيح الأوّل: الوالي الّذي تمّ تغييره.... 27

التغيير الأوّل: عثمان بن محمّد....... 27

النصّ الأوّل:......... 27

النصّ الثاني:......... 28

النصّ الثالث:........ 29

التغيير الثاني: يحيى بن حكيم........ 30

التغيير الثالث: الحارث بن خالد..... 31

التغيير الر ابع: عبد الرحمان بن نبيه......... 32

التغيير الخامس: الوليد بن عُتبة...... 33

ص: 301

التغيير السادس: مروان......... 34

التغيير السابع: عمر بن سعد بن أبي وقّاص........ 34

التغيير الثامن: عمرو بن سعيد......... 35

الطائفة الأُولى: تولية المدينة... 35

الطائفة الثانية: تولية مكّة.......... 39

الطائفة الثالثة: تولية مكّة والمدينة..... 39

التوضيح الثاني: وقت التغيير... 40

التوضيح الثالث: علّة التغيير..... 42

العلّة الأُولى: الوشاية بالوليد.......... 43

العلّة الثانية: خوفه من ضعف الوليد......... 43

العلّة الثالثة: تجبّر عمرو وتكبّره وطغيانه........... 45

التوضيح الرابع: الهدف من إنفاذ الأشدق.......... 46

التوضيح الخامس: دخوله المدينة ومدّة مكثه فيها...... 48

التوضيح السادس: خطبته........ 49

التوضيح السابع: متنٌ آخَر للخطبة... 50

التوضيح الثامن: رعف على المنبر... 51

التوضيح التاسع: استعمال عمرو بن الزبير على الشرطة وما فعل بأنصار أخيه 53

التوضيح العاشر: خروجه من المدينة........ 54

التوضيح الحادي عشر: أمير الموسم في شهر رمضان والحجّ......... 55

عمرو بن سعيد بن العاص..... 57

النقطة الأُولى: مَن هو؟........... 57

النقطة الثانية: سبب تلقيبه بالأشدق........... 58

ص: 302

النقطة الثالثة: وصَفَه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بالجبّار.... 59

النقطة الرابعة: أوّل مَن أخفت بالبسملة..... 60

النقطة الخامسة: موقفه حين سمع خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ..... 60

النقطة السادسة: كان أشدّ الناس في أمر مروان.......... 63

النقطة السابعة: طمعه في المُلك وقتله...... 64

النقطة الثامنة: قتل عمرو بن سعيد بن العاص..... 67

النقطة التاسعة: كلام صاحب (الغدير) فيه.......... 68

النقطة العاشرة: هذا هو والي مكّة!... 69

نزول الإمام (علیه السلام) دار العبّاس بن عبد المطّلب... 71

نزول الإمام بأعلى مكّة........... 73

الملاحظة الأُولى: تفرّد الخوارزميّ......... 74

الملاحظة الثانية: ارتباك النصّ..... 74

الملاحظة الثالثة: تصريح الخوارزميّ بالإقامة في مكّة......... 75

الملاحظة الرابعة: نزول المستجير بالبيت.......... 75

الملاحظة الخامسة: اختلاف الظروف..... 76

الملاحظة السادسة: على فرض صحّة القول..... 76

لقاء الناس بالإمام (علیه السلام) ......... 79

لو طلب البيعة لأجيب!!....... 85

كتاب الأشدق ليزيد... 89

التلميح الأوّل: اسم الوالي...... 89

التلميح الثاني: انفراد الخوارزميّ.... 90

ص: 303

التلميح الثالث: مخاوف السلطان...... 90

التلميح الرابع: سبب المخاوف........ 91

التلميح الخامس: الإخبار عن فعل الناس........... 91

التلميح السادس: الكتاب من المدينة........ 92

التلميح السابع: خروج الوالي إلى المدينة!....... 92

التلميح الثامن: إخبار يزيد بنزول الإمام (علیه السلام) .... 93

التلميح التاسع: الخلاصة......... 94

كتاب يزيد إلى أهل المدينة وردّ الإمام (علیه السلام) .... 97

العنوان الأوّل: وقت إرسال الكتاب......... 99

الوقت الأوّل: إبّان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة......... 99

الوقت الثاني: عند نزول الإمام (علیه السلام) في مكّة... 100

العنوان الثاني: نُسَخ الكتاب......... 103

النسخة الأُولى: نسخة إلى أهل المدينة وغيرهم....... 104

الوقفة الأُولى: المخاطَب...... 107

الوقفة الثانية: معنى النظر في الكتاب...... 108

الوقفة الثالثة: ابتداء القرد بالهجوم......... 109

الوقفة الرابعة: مؤدّى الأبيات......... 110

المؤدّى الأوّل: كتابٌ أبتر........... 110

المؤدّى الثاني: تظلّم يزيد!.......... 111

المؤدّى الثالث: حصر مورد المفاخرة... 111

المؤدّى الرابع: منازعة مورد التفاخر..... 112

ص: 304

المؤدّى الخامس: التهديد........... 113

المؤدّى السادس: العزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والاعتذار منه........ 114

الوقفة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) .......... 115

الإشارة الأُولى: المخاطَب........... 115

الإشارة الثانية: مضمون الجواب........... 116

الإشارة الثالثة: تطبيق الآية على المقام........... 117

الإشارة الرابعة: تحديد مصداق المكذّب....... 118

الإشارة الخامسة: ازدراء المخاطَب....... 119

النسخة الثانية: نسخة إلى ابن عبّاس....... 121

الإيضاح الأوّل: اتّحاد نُسَخ الكتاب!......... 124

الإيضاح الثاني: محاولة استبدال الرموز.......... 125

الإيضاح الثالث: تصوير سلطة ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) ........... 127

الإيضاح الرابع: يزيد يكلّف ابن عبّاس بالمهمّة......... 128

الإيضاح الخامس: هجوم العدوّ..... 131

الإيضاح السادس: وضع الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في موقفٍ واحد 132

الإيضاح السابع: النزاع على السلطة........ 134

الإيضاح الثامن: الافتراء على الإمام (علیه السلام) ......... 135

الدنيّة الأُولى:........... 135

الدنيّة الثانية:.... 137

الدنيّة الثالثة:.... 138

الدنيّة الرابعة:... 139

الدنيّة الخامسة:......... 140

الدنيّة السادسة:......... 140

ص: 305

الإيضاح التاسع: مكاتبة أهل الكوفة........ 142

الإيضاح العاشر: إقرار القرد المخمور بقلّة مَن كاتب ودعا.......... 143

الإيضاح الحادي عشر: يمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة...... 146

الاستطالة الأُولى: الكذب الصريح........ 147

الاستطالة الثانية: محاولات التضليل...... 148

الاستطالة الثالثة: منّوه الخلافة!..... 149

الاستطالة الرابعة: شاهدٌ على كذب يزيد....... 150

الاستطالة الخامسة: اغترار الإمام (علیه السلام) بوعود الناس!.......... 151

الإيضاح الثاني عشر: قطع الرحم وبتّه..... 153

الإيضاح الثالث عشر: الأمان والمساومة بالدنيا........... 154

الأمر الأوّل: تأخّر المقايضة......... 154

الأمر الثاني: المقايضة........ 155

الأمر الثالث: تقديم المواثيق....... 158

الإيضاح الرابع عشر: إغراء ابن عبّاس..... 160

جواب ابن عبّاس..... 163

المحتوى الأوّل: ما يراه ابنُ عبّاسٍ في نفسه... 166

المحتوى الثاني: تصريح الجواب بسبب الخروج من المدينة.... 167

المحتوى الثالث: أداء النصيحة ومفادها.......... 169

المادّة الأُولى: النائرة، الفتنة، حقن الدماء....... 169

المادّة الثانية: يأمر يزيد بما يأمر به الإمام (علیه السلام) .......... 171

أوّلاً: جعل نفسه في موضع الآمِر للإمام (علیه السلام) ..... 172

ثانياً: جمعه الإمام (علیه السلام) ويزيد في مستوىً واحدٍ من الخطاب......... 173

المادّة الثالثة: تبييت يزيد وإرصاده وحفره لسيّد الشهداء (علیه السلام) .... 174

ص: 306

المادّة الرابعة: النصيحة لأولاد البغايا..... 176

المادّة الخامسة: خاتمةٌ تفرّد بها الشجريّ....... 178

النسخة الثالثة: نسخة إلى عمرو بن سعيد......... 181

الإضافة الأُولى: نسخة الأشدق....... 182

الإضافة الثانية: المخاطَب في هذه النسخة...... 182

الإضافة الثالثة: قول الشعبيّ........... 183

لقاء ابن عبّاس وابن عمر بالإمام (علیه السلام) ..... 185

الإضاءة الأُولى: دخلا وقد عزما على الانصراف........ 186

الإضاءة الثانية: محاولة الإبقاء على سيّد الشهداء في الحرم........ 187

الإضاءة الثالثة: بدايةٌ وقحة!........... 188

الإضاءة الرابعة: ترتيب المقدّمات في كلام ابن عمر......... 189

المقدّمة الأُولى:........ 190

المقدّمة الثانية:.......... 191

المقدّمة الثالثة:.......... 192

النتيجة:........... 192

الإضاءة الخامسة: هلاك البشر!...... 193

الإضاءة السادسة: حسينٌ مقتول!.... 193

الإضاءة السابعة: فهم ابن عمر لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) .... 196

الإضاءة الثامنة: إشارة ابن عمر!..... 197

الأمر الأوّل: الدخول في صلح ما دخل فيه الناس.... 197

الأمر الثاني: الصبر كما صبر على معاوية....... 197

الأمر الثالث: تهديد الإمام (علیه السلام) .... 198

ص: 307

الإضاءة التاسعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...... 198

الملاحظة الأُولى: إنكار الدعوة للدخول في صلح يزيد... 199

الملاحظة الثانية: إذا كان الإمام مقتول، فلماذا يُدعى للبيعة الصاغرة؟.......... 200

الإضاءة العاشرة: عزم يزيد على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتقرير ابن عبّاس 200

الإفادة الأُولى: تظافر الشهادات على يزيد..... 201

الإفادة الثانية: عزم الرجس على قتل الطُّهر..... 201

الإفادة الثالثة: موقف الناس......... 202

الإفادة الرابعة: المطلوب من الناس....... 203

الإفادة الخامسة: أثر الخذلان...... 204

الإضاءة الحادية عشر: بكاء الحسين (علیه السلام) وابن عبّاس!........ 204

الإضاءة الثانية عشر: إعلان سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مطاردته وعزمهم على قتله وإهدار دمه وإزعاجه بلا مسوّغ، وتظلّمه ومناشدته........ 205

الإضاءة الثالثة عشر: إقرار ابن عبّاس بمظلوميّة الإمام (علیه السلام) .......... 210

اللمعة الأُولى: الإقرار بالمظلوميّة والحكم على الناس....... 210

اللمعة الثانية: تأكيد ما ذكره الإمام (علیه السلام) .......... 212

اللمعة الثالثة: اللّهمّ اشهدْ.... 213

اللمعة الرابعة: كأنّك تريدني إلى نفسك!..... 214

الإضاءة الرابعة عشر: سماجة ابن عمر، مع اعترافه أنّ العدوّ عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام) 219

الإضاءة الخامسة عشر: ردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ..... 222

المضمون الأوّل: لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام) ........... 223

المضمون الثاني: أُفٍّ لهذا الكلام!........ 224

المضمون الثالث: القسَم على ابن عمر........... 229

ص: 308

المضمون الرابع: الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) .... 230

المضمون الخامس: فردّني.......... 230

المضمون السادس: من فوائد التقرير.... 231

الإضاءة السادسة عشر: جواب ابن عمر.... 232

المطلب الأوّل: الارتباك في تعبير ابن أعثم........... 233

المطلب الثاني: استشهاد ابن عمر بالله.... 234

المطلب الثالث: أدلّة ابن عمر على صحّة مواقف الإمام.... 234

الدليل الأوّل: العصمة والتسديد الإلهيّ... 235

الدليل الثاني: موانع المناولة........... 235

المطلب الرابع: مخاوف ابن عمر رغم إقراراته........ 236

الخوف الأوّل: الخوف من ضرب وجه الإمام (علیه السلام) بالسيوف........ 236

الخوف الثاني: أن يرى الإمامُ (علیه السلام) من الأُمّة ما لا يحبّ....... 237

المطلب الخامس: عودة العبد إلى هرائه........ 237

المطلب السادس: الدعوة إلى مجانبة الصواب........ 238

المطلب السابع: خلاصة كلام ابن عمر.......... 238

الإضاءة السابعة عشر: إصرار القوم على ملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله كيف ما كان........... 240

المقطع الأوّل: الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ أبداً وعلى كلّ حال..... 243

المقطع الثاني: الاستشهاد بيحيى (علیه السلام) ..... 245

الإشارة الأُولى: خلاصة قصّة يحيى (علیه السلام) ........... 245

الإشارة الثانية: الإمام (علیه السلام) يُكثِر من ذِكر يحيى (علیه السلام) .... 256

الإشارة الثالثة: قتل يحيى (علیه السلام) تشفّياً وانتقاماً...... 256

الإشارة الرابعة: البغيّ الّذي أُهدي إليه رأس الإمام (علیه السلام) ....... 256

الإشارة الخامسة: براءة يحيى وقتله دون ذنب... 258

ص: 309

الإشارة السادسة: مبادرة العدوّ وإقدامه على قتل يحيى (علیه السلام) .......... 259

الإشارة السابعة: الانتقام ليحيى (علیه السلام) ......... 259

الإشارة الثامنة: هوان الدنيا على الله (عزوجل) .......... 260

الإشارة التاسعة: ما يتعرّض له الأولياء لا يُنقص من قدرهم.......... 261

المقطع الثالث: الاستشهاد بقتل بني إسرائيل الأنبياء (علیهم السلام) ........ 263

التنبيه الأوّل: قتل الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ.......... 263

التنبيه الثاني: ممارسة الجريمة في أشرف الأوقات..... 264

التنبيه الثالث: اجتماعهم على الجريمة..... 265

التنبيه الرابع: عدم الاكتراث بالجريمة..... 265

التنبيه الخامس: الانتقام من القتَلَة... 266

المقطع الرابع: التعريض بابن عمر......... 267

التعريض الأوّل: الدعوة إلى تقوى الله..... 267

التعريض الثاني: الدعوة إلى النصرة......... 268

التعريض الثالث: اذكرني في صلاتك.... 269

الإضاءة الثامنة عشر: إتمام الحُجّة........... 270

الشطر الأوّل: لو أدرك عمر زماني لَنصرني!.......... 270

التنويه الأوّل: القسَم بجدّه البشير النذير... 271

التنويه الثاني: حجّةٌ جديدةٌ ودليلٌ آخَر... 271

الوجه الأول: احتجاجٌ تنزّليّ........ 272

الوجه الثاني: وفق دوافع أبيك ونوازعه........... 272

الوجه الثالث: الاقتداء بسنّة أبيه..... 273

الشطر الثاني: الإعذار......... 273

الشطر الثالث: الدعاء والتباطؤ...... 275

الإضاءة التاسعة عشر: هدف الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة والبقاء فيها 276

ص: 310

النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً... 277

النقطة الثانية: شرط البقاء.... 279

الشعبة الأُولى: الحبّ... 279

الشعبة الثانية: النصرة.... 282

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط... 283

النقطة الرابعة: البديل......... 285

الموقف الأوّل: الاستبدال..... 285

الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام) ........... 287

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل (علیه السلام) ... 288

النقطة السادسة: وأنت يا ابن عبّاس!...... 290

الومضة الأُولى: التفاتة الإمام (علیه السلام) إلى ابن عبّاس!....... 290

الومضة الثانية: حرج ابن عبّاس...... 291

الومضة الثالثة: المداراة والتودّد...... 292

الومضة الرابعة: تطييب خاطره........ 293

الومضة الخامسة: إنْ كنتَ تشير بالرشاد فإنّك أخطأتَ اليوم....... 294

الومضة السادسة: هل استبدل الله بابن عبّاس وابن عمر؟!..... 294

الومضة السابعة: هل في كلام الإمام عذرٌ لابن عبّاس؟........ 295

النقطة السابعة: بكاؤهم جميعاً..... 296

الإضاءة العشرون: أقام الإمام بمكّة ولزم الصلاة........ 297

الإنارة الأُولى: صار العبدان إلى المدينة!.......... 298

الإنارة الثانية: أقام الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة....... 298

الإنارة الثالثة: لزوم الصلاة.... 299

ص: 311

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.