منهج الرشاد فی معرفه المعاد المجلد 3

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی ، محمدنعیم بن محمدتقی ، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی ؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه ، 1419ق . = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-7 9000ریال :(ج .1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی ، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP222 ‫ ‮ /ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

الباب الرابع: و فيه مطالب

اشارة

ص:5

ص:6

المطلب الأوّل

اشارة

في حدوث النفس

بحدوث البدن،و في عدم جواز التناسخ و نحوه عليها،

و في بيان حالها بعد خراب البدن،فهاهنا مطالب

في حدوث النفس بحدوث البدن

اعلم أنّهم اختلفوا في ذلك،فقال بعضهم بقدمها،و قد أسند هذا القول إلى أفلاطون و من قبله،و هو الموافق لما ذهب إليه الفلاسفة القائلون بقدم العالم.

و قال بعضهم بحدوثها.و قد أسند هذا القول إلى أرسطو و أتباعه،و هو الموافق لما ذهب إليه المليون القائلون بحدوث العالم،إلاّ أنّهم افترقوا فرقتين؛ففرقة قالت بحدوثها قبل حدوث البدن،و قد ذهب إليه جمع من الملّيّين،و فرقة قالت بحدوثها بحدوثه،و قد ذهب إليه كثير من الملّيّين،و هو الموافق لما ذهب إليه الشيخ الرئيس و أتباعه،فهاهنا مذاهب ثلاثة متناقضة،و حيث كانت متناقضة فبإثبات المذهب الأخير يبطل المذهبان الأوّلان،مع أنّ المذهب الأوّل يبطله ما يبطل قدم العالم من دلائل حدوثه،و قد أفردنا في ذلك رسالة على حدة (1).فلنتكلّم فيما ذكروه دليلا على المذهب الأخير،و نتبعه بشرحه إن احتيج إليه مع الإشارة إلى نقض المذهبين الآخرين.

ص:7


1- -نسختها موجودة في مكتبة آية اللّه المرعشيّ(ره)بقمّ.

فنقول:قال الشيخ في الشفاء:«إنّ النفس الإنسانيّة لم تكن مفارقة (1)للأبدان ثمّ حصلت في البدن،لأن الأنفس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،و إذا فرض أنّ لها وجودا ما ليس حادثا مع حدوث الأبدان،بل هو وجود مفرد،لم يجز أن تكون النفس في ذلك (2)متكثّرة،و ذلك لأنّ تكثّر (3)الأشياء إمّا أن يكون من جهة الماهيّة و الصورة،و إمّا أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر و المادّة المتكثّرة ممّا (4)يتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة،و الأزمنة التي تختصّ بكلّ واحد منها في حدوثه،و العلل القاسمة إيّاها،و ليست مغايرة بالماهيّة و الصورة،لأنّ صورتها واحدة،فإذن إنّما تتغاير من جهة قابل الماهيّة،المنسوب إليه الماهيّة بالاختصاص،و هذا هو البدن.

و أمّا إذا أمكن أن تكون النفس موجودة و لا بدن،فليس يمكن أن يغاير نفس نفسا بالعدد.و هذا مطلق في كلّ شيء فإنّ الأشياء التي ذواتها معان فقط و قد تكثّر نوعيّاتها بأشخاصها،فإنّما تكثّرها بالحوامل و القوابل و المنفعلات عنها أو ما بنسبة ما (5)إليها،و إلى أزمنتها فقط،و إذا كانت مجرّدة أصلا لم تتفرّق ممّا قلنا (6)فمحال أن تكون،و لا بينها مغايرة و تكثّر،فقد بطل أن تكون (7)النفس قبل دخولها الأبدان متكثّرة الذات بالعدد.

و أقول:لا يجوز أن تكون واحدة الذّات بالعدد،لأنّه إذا حصل بدنان،حصل في البدنين نفسان،فإمّا أن تكونا قسمي النفس الواحدة (8)،فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم و حجم منقسما بالقوّة،و هذا ظاهر البطلان بالأصول المتقرّرة (9)في الطبيعيّات

ص:8


1- -في المصدر:لم يكن قائمة مفارقة.
2- -في المصدر:في ذلك الوجود.
3- -في المصدر:لأنّ كثرة.
4- -في المصدر:بما.
5- -في المصدر:أو بنسبة ما.
6- -في المصدر:بما قلنا.
7- -في المصدر:أن تكون بينها مغايرة و كثرة،فقد يكون أن يكون.
8- -في المصدر:فإمّا أن تكونا قسمي تلك النفس الواحدة.
9- -في المصدر:بالأصول المقرّرة.

و غيرها،و إمّا ان تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين،و هذا لا يحتاج أيضا إلى كثير تكلّف في إبطاله.

و نقول بعبارة أخرى:إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها ليست لازمة لها بما هي نفس،و إلاّ لاشتركت فيها جميعا،و الأعراض اللاحقة بها تلحق عن ابتداء لا محالة زمانيّ،لأنّها تتبع سببا عرض لبعضها دون بعض، فيكون تشخّص الأنفس أيضا أمرا حادثا،فلا تكون قديمة لم تزل،و يكون حدوثها مع بدن.

فقد صحّ إذن أنّ الأنفس تحدث كما تحدث مادّة بدنيّة صالحة لاستعمالها إيّاها، و يكون البدن الحادث مملكتها و آلتها،و يكون في جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن،استحقّ حدوثها من المبادئ الأول،هيئة نزاع طبيعيّ إلى الاشتغال به و استعماله، و الاهتمام بأحواله و الانجذاب إليه،تخصّها و تصرفها عن كلّ الأجسام غيره،فلا بدّ أنّها إذا وجدت متشخّصة،فإنّ مبدأ تشخّصها يلحق بها من الهيئات ما تتعيّن به شخصا.و تلك الهيئة تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن،و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر،و إن خفي علينا تلك الحالة و تلك المناسبة،و قد تكون مبادي الاستكمال متوقّفة لها بوساطة، و يكون هو بدنها.

و لقائل أن يقول.

إنّ هذه الشبهة تلزمكم في النفوس إذا فارقت الأبدان،فإنّها إمّا أن تفسد و لا تقولون به،و إمّا أن تتّحد و هو عين ما شنّعتم به،و إمّا أن تبقى متكثّرة و هي عندكم مفارقة للموادّ، فكيف تكون متكثّرة؟

فنقول:أمّا بعد مفارقة الأنفس للأبدان،فإنّ الأنفس قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت،و باختلاف أزمنة حدوثها،و اختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة،فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّيّ شخصا مشارا إليه لا يمكن أن يوجده شخصا،أو يزيد له معنى على نوعيّته،به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه و تلزمه،علمناها أو لم نعلم.و نحن نعلم أنّ النّفس ليست واحدة

ص:9

في الأبدان كلّها،و لو كانت واحدة و كثيرة بالإضافة،لكانت عالمة فيها أو جاهلة،و لما خفي على زيد ما في نفس عمرو؛لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة.

و أمّا الأمور الموجودة له في ذاته فلا يختلف فيها حتّى إذا كان أبا لأولاد كثيرين و هو شابّ،لم يكن شابّا إلاّ بحسب الكلّ،إذا الشباب له في نفسه،فيدخل في كلّ إضافة، و كذلك العلم و الجهل و الظنّ و ما أشبه ذلك إنّما يكون في ذات النفس في كلّ إضافة (1)، فإذن ليست النّفس واحدة،فهي كثيرة بالعدد،و نوعها واحد،و هي حادثة كما بيّنّاه، فلا شكّ أنّها بأمر تشخّصت،و أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة،فقد علم به بطلان القول بذلك،بل ذلك الأمر هيئة من الهيئات،و قوّة من القوى، و عرض من الأعراض الروحانيّة،أو جملة منها تشخّصها باجتماعها و إن جهلناها،و بعد أن تشخّصت مفردة،فلا يجوز أن تكون هي و النفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة،فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة مواضع،لكنّا نتيقّن أنّه يجوز أن تكون النّفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما،أن يحدث لها هيئة بعده في الأفعال النطقيّة و الانفعالات النطقيّة تكون على جملة متميّزة عن الهيئة المناظرة لها في أخرى،تميّز المزاجين في البدنين،و أن تكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا على حدّ ما تتميّز به عن نفس أخرى،و أنّها يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة،و ذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها،و يجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة هيئة خاصّة أيضا،و تلك الهيئة تتعلّق بالهيئة الخلقيّة،أو تكون هي هي،أو تكون أيضا خصوصيّات أخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها و بعده،كما يلزم من أمثالها أشخاص الأنواع الجسمانيّة،لتتمايز بها (2)ما بقيت و تكون الأنفس كذلك تتميّز بمخصّصاتها فيها،كانت الأبدان أو لم تكن أبدان،عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف،أو عرفنا بعضها.انتهى كلامه (3).

ص:10


1- -في المصدر:في ذات النفس،و يدخل مع النفس في كلّ إضافة.
2- -في المصدر:الأنواع الجسمانيّة فتمايز بها.
3- -الشفاء، [1]الطبيعيّات353/-352،ط طهران.

و أقول:و تحرير ما ذكره من الدليل على هذا المطلب أنّ النّفس الإنسانيّة لا يجوز أن تكون موجودة قبل الأبدان،لأنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان،فإمّا أن تكون متكثّرة بالعدد،أو واحدة بالعدد،و كلّ منهما باطل.

أمّا الأوّل،فلأنّها إذا كانت موجودة قبل الأبدان وجودا مفردا،و كانت متكثّرة بالعدد، فتكثّرها لا يكون إلاّ بأن تكون ممتازة بعضها عن بعض،فامتيازها إمّا أن يكون بصورها و ماهيّاتها،أو بفاعلها،أو بغايتها،أو من جهة النسبة إلى موادّها المنطبعة هي فيها المتكثّرة ممّا تتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة،و الأزمنة التي تختصّ بكلّ واحدة منها في حدوثه،و العلل القاسمة إيّاها،أو بما في حكم تلك الموادّ من القوابل و المنفعلات عنها كالأبدان،و العلل منحصرة في هذه،و لا يجوز أن يكون امتيازها بصورها و ماهيّاتها و ذواتها،لأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،و ما له حدّ نوعيّ فصورتها و ذاتها واحدة لا اختلاف فيها و لا تكثّر من حيث الماهيّة و الذات،و كذلك لا يجوز أن يكون امتيازها بفاعلها أو بغايتها،لأنّ فاعلها واحد و هو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه.و كذا غايتها،و هي التشبّه بالفاعل و الاتّصال به و القرب إليه.فبقي أن يكون امتيازها بموادّها المنطبعة هي فيه،أو بما هو في حكمها كالأبدان،و هذا أيضا باطل،لأنّ النفوس الإنسانيّة قد فرضت مفارقة عن الموادّ،أمّا عن المنطبعة فيها،فلأنّ المفروض تجرّدها عن المادّة في ذاتها،كما ظهر من الدلائل الدالّة على تجرّدها،و أمّا عمّا في حكمها،فلأنّ المفروض وجودها قبل الأبدان وجودا مفردا،هذا خلف.

و من هذا يظهر أنّ المجرّدات عن المادّة إذا كانت متكثّرة بالعدد،فإنّما يكون تكثّرها بأن يكون كلّ منها نوعا على حدة منحصرة في فرد،لا أن تكون تلك الأفراد المتكثّرة أفرادا من نوع واحد،و لذلك قالوا به في العقول التي أثبتوها.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل مرامه،و إنّما لم يشر إلى إبطال كون امتياز تلك النفوس بفاعلها أو بغايتها إحالة على الظّهور،كما إنّه لم يذكر دليلا على كون النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،إحالة عليه أيضا.

و ربما ينبّه على ذلك،بأنّه كما أنّ الحكم بأنّ بعض الأشياء-كالإنسان و الفرس

ص:11

و الحمار مثلا-مختلفة بالنّوع و الذّات،و إنّما اشتراكها في معنى جنسيّ كالحيوانيّة،و أنّ بعضها-كزيد و عمرو و بكر مثلا متّفقة في النوع و الذات،و اشتراكها في معنى نوعيّ هو الإنسانيّة،و اختلافها بحسب العوارض الشخصيّة الخارجة عن الذّات،و أنّ بعضها كالرّوميّ و الزنجيّ و التّركيّ مثلا-متّفقة في النوع،و هو الإنسان أيضا،و اختلافها في معنى عرضيّ كلّيّ صنفيّ خارج عن الذّات ليس عليه دليل،إلاّ أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك،حيث يجد الاختلاف في الأشياء الأوليّة شديدا جدّا،فيحكم بأنّ اختلافها ذاتيّ، بخلاف الأخيرين،فإنّ الاختلاف فيهما ليس بتلك المثابة،بل أقلّ من الأوّل بكثير، فيحكم باتّفاقها في الذّات،و اختلافها بحسب العوارض،أمّا بالعوارض الشّخصية،كما في الثّانية،أو الكليّة كما في الثّالثة.

كذلك الحدس الصّائب يحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النّوع و المعنى، و اختلافها إنّما هو بحسب العوارض الشخصيّة،مثل الذّكاء و البلادة و السّخاوة و البخل و الشّجاعة و الجبن و أمثال ذلك،بل الحكم بأنّ أفراد الإنسان متّفقة في المعنى و النّوع و مختلفة بحسب العوارض الشخصيّة يستلزم الحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة أيضا كذلك، فإنّ الأفراد الإنسانيّة ليست إلاّ عبارة عن مجموع النّفوس و الأبدان.و هذا الذي ذكرنا ظاهر عند من له حدس صائب.

و حيث عرفت ما ذكرنا علمت أنّ ما ذكره بعض المحقّقين-كالمحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في التّجريد (1)-من أنّ دخول النّفس الإنسانيّة تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها-أي وحدتها نوعا-يمكن حمله على ما ذكرنا،يعني أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك.

و الحاصل أنّا نجد دخول النّفوس الإنسانيّة تحت حدّ واحد نوعيّ مثل قولهم:النّفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة من جهة ما تدرك الأمور الكليّة و تفعل الأفعال الفكريّة،و كذا نجد دخول أفراد الإنسان تحت حدّ واحد نوعيّ،مثل قولهم:

الإنسان حيوان ناطق،أي أن يكون الحدّ الأوّل مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ

ص:12


1- -في الفصل الرابع من المقصد الثاني في الجواهر المجرّدة،حيث قال:و دخولها تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها.شرح التجريد للقوشجيّ227/،ط تبريز.

فرد من أفراد النّفوس الإنسانيّة،و عن أيّة طائفة تفرض،و عن مجموع تلك النّفوس،و كذا أن يكون الحدّ الثاني مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ فرد من أفراد الإنسان،و عن كلّ طائفة،و عن المجموع؛و ذلك أمارة أنّ ذينك الحدّين حدّان نوعيّان،و أنّ الأفراد الداخلة تحتهما متّفقة بحسب النّوع،مختلفة بحسب العوارض.و على هذا فمنع كون الحدّ هنا حدّا نوعيّا و احتمال كونه حدّا جنسيّا-كما ذكره بعضهم-كأنّه مكابرة ينبغي أن لا يرتكبه ذو حدس صائب.

ثمّ إنّه من جملة المنبّهات على هذا المطلب،بل من أعظمها،أنّه لو كانت النّفوس الإنسانيّة مختلفة في النّوع و الحقيقة،لجاز أن يصدر عن بعضها من الأفعال ما لا يمكن أن يصدر عن بعض آخر مخالف له في الحقيقة،بحيث يعدّ عنده خارقا للعادة.و حينئذ يلزم إفحام الأنبياء عليه السلام فيما يدّعونه من النّبوّة،و يظهرونه من المعجزة،لأنّ للرعيّة أن يقولوا إنّ نفوس الأنبياء عليه السلام يمكن أن تكون مخالفة بالحقيقة لنفوسنا،و يجوز أن يصدر عن نفوسهم عليه السلام ما يعجز عنه نفوسنا.

و حينئذ فلا يظهر أنّ ما يصدر عنهم عليه السلام معجزات صادرات من عند اللّه تعالى دلائل على صدقهم في نبوّتهم،فيلزم إفحامهم عليه السلام،و إنّما يكون ما يظهرونه عليه السلام معجزة لو كانت نفوسهم عليه السلام متّفقة بحسب الحقيقة لنفوس الرعيّة،إذ حينئذ يظهر كون ما يجري على أيديهم عليه السلام معجزات خوارق للعادة،حيث إنّ النفوس كلّها إذا كانت متّفقة بحسب الحقيقة و الذّات،و صدر عن بعضها ما يعجز عنه الآخر كان ذلك معجزة؛و هذا أيضا ظاهر عند أولي الألباب.

و بالجملة،هذا المذهب الذي ذهب إليه الشيخ من كون أفراد النّفوس الإنسانيّة متّفقة في المعنى و النّوع هو المذهب الذي دلّ عليه الدليل،و اختاره المحقّقون،و هو المنسوب إلى جمع كثير من الحكماء كأرسطو و أتباعه،حيث إنّ المنقول عنهم أيضا أنّ النّفوس البشريّة متّحدة بالنوع،و إنّما تختلف بالصّفات و الملكات و اختلاف الأمزجة و الأدوات.

و قد ذهب بعضهم-كالإمام الرازيّ-إلى أنّها مختلفة بالماهيّة،بمعنى أنّها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كلّ نوع أفراد متّحدة بالماهيّة.

ص:13

و قيل:يشبه أن يكون قوله عليه السّلام:«الناس معادن كمعادن الذهب و الفضّة» (1)،و قوله عليه السّلام:

«الأرواح جنود مجنّدة،فما تعارف منها ائتلف،و ما تناكر منها اختلف» 1إشارة إلى هذا.

و أنت بعد التّدبّر فيما ذكرنا يظهر لك بطلان هذا المذهب،و أنّ الخبرين و أمثالهما يمكن حملها على اختلاف بالصّفات و الملكات و نحوها؛فتدبّر.

و أما القول بكون كلّ فرد من أفراد النفوس الإنسانيّة مخالفا بالماهيّة لسائر النّفوس حتّى لا يشترك اثنان منها في الحقيقة،فالظاهر أنّه لم يقل به أحد.و اللّه أعلم بالصّواب.

و أمّا الثاني،فلأنّه لو كانت النّفس الإنسانيّة قبل التعلّق بالأبدان واحدة الذّات بالعدد، فبعد حصول الأبدان.

أمّا أن تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين مثلا فهذا ظاهر البطلان،لأنّه يلزم حينئذ أن يكون نفس زيد بعينها نفس عمرو،و نفس من اتّصف بالجبن و البخل بعينها نفس من اتّصف بالإسراف و التهوّر،و نفس من اتّصف بالعلم بعينها نفس من اتّصف بالجهل، فيلزم اجتماع الضّدّين،و أن لا يخفى على زيد ما في نفس عمرو مثلا.

و أمّا أن تحصل في كلّ من البدنين نفس واحدة بالعدد،أي أن تحصل في البدنين نفسان،و تتكثّر النّفوس بحسب تكثّر الأبدان.

فهذا إمّا أن يكون ببطلان الواحدة الأولى و زوالها و حدوث النفوس المتكثّرة بحسب تكثّر الأبدان،فهذا باطل.

أمّا أوّلا فلأنّه يستلزم زوال النّفس الأولى التي هي المجرّدة عن المادّة بالفرض،و قد تقرّر عندهم أنّ المجرّد لا يجوز زواله كما عرفت ممّا ذكرنا سابقا في مبحث بقاء النّفس بعد خراب البدن.و أيضا يستلزم زوال القديم على تقدير أن تكون النّفس الواحدة الأولى قديمة،كما هو مذهب بعض القائلين بوجود النّفس قبل البدن،و هو ممتنع.

و أمّا ثانيا،فلأنّه يستلزم حدوث النفس بحدوث البدن،و هو خلاف الفرض على هذا التّقدير،بل هو المطلوب.

ص:14


1- -من لا يحضره الفقيه،380/4،ط طهران،(من الألفاظ الموجزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).

و أمّا أن يكون بتكثّر تلك النّفس الواحدة و تجزّيها و انقسامها إلى تلك النفوس المتعدّدة،فهذا أيضا باطل،لأنّ ذلك إنّما هو من خواصّ ما له عظم و حجم و مقدار و مادّة يحلّ هو فيها،تقبل تلك المادة الانقسام إلى الأقسام،كما تقرّر في الأصول المتقرّرة في الطبيعيات و غيرها،فما ليس كذلك كالنّفس،حيث لا يكون له مقدار و عظم و حجم و مادّة تنطبع هي فيها يمتنع فيها ذلك،و لذلك قالوا:إنّ العقول حيث لا يكون لها مادّة منطبعة هي فيها لا يمكن تجزّيها و انقسامها،و كذلك النّفوس المنطبعة الفلكيّة و الكواكبيّة،لأنّها و إن كانت لها مادّة منطبعة هي فيها؛إلاّ أن تلك الموادّ لمّا لم تكن قابلة للانقسام و التجزّي، امتنع التكثّر فيها،بل كان نوعها منحصرا في فرد.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل تحرير كلامه في الدّليل على هذا المطلب،مع زوائد و مزايا.

و قوله:«و نقول بعبارة أخرى:إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة»الخ.

هذا بظاهره و إن كان دليلا آخر بعبارة أخرى على إبطال كون النّفس موجودة قبل البدن و واحدة،لكنّه في التحقيق دليل آخر بعبارة اخرى على إبطال كونها موجودة قبل البدن مطلقا واحدة كانت أم متكثّرة،و حاصله أنّا نعلم بالضرورة أنّ تشخّص النّفوس البشريّة و حصولها نفسا واحدة متشخّصة من جملة نوعها،إنّما هو بأحوال تلحقها،و أنّ تلك الأحوال ليست لازمة لذات النّفس بما هي نفس و معنى واحد نوعيّ،و إلاّ لاشتركت فيها جميعا و كان لجميعها تشخّص واحد،فلم تكن متكثّرة اصلا؛هذا خلف.بل إنّما هي تلحقها من جهة البدن من الهيئات و المناسبات التي لها بالنسبة إلى البدن،و تكون تلك الهيئة و المناسبة ممّا يتعيّن به النفس شخصا واحدا و مقتضية لاختصاصها بذلك البدن، و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر،و إن خفي علينا تلك المناسبة و الحالة و الهيئة،سواء قلنا بأنّ المشخّص في الحقيقة و مبدأ التشخّص بالذات هو تلك الهيئة،أو قلنا بأنّه نحو من الوجود الخاصّ،و أنّ تلك الهيئة و الحالة أمارة و علامة لازمة له،على اختلافهم في المشخّص الحقيقيّ.فيظهر من هذا أنّ تشخّص النفوس إنّما يحدث البدن،و ليس لها تشخّص قبل الأبدان،فإذا فرضنا وجود النّفس قبل البدن،سواء فرضناها واحدة أم

ص:15

متكثّرة،لم تكن لها تشخّص أصلا فلم تكن موجودة أيضا،إذ كلّ موجود بالعدد يجب أن يكون متشخّصا،هذا خلف.فيظهر من هذا أنّ تشخّصها إنّما يحدث بحدوث الأبدان و كذلك وجودها و حدوثها بحدوثها و كذلك تكثّرها بتكثّرها،و أنّ الأبدان و إن لم تكن بالنسبة إلى النّفوس مادّة منطبعة هي فيها،لكنّها بالنسبة إليها في حكم الموادّ في ذلك.

ثمّ إنّ قوله:«و لقائل أن يقول:إنّ هذه الشبهة»الخ،هذه شبهة على هذا المقام، و حاصلها أنّ النفس إذا فارقت الأبدان،فإمّا أن تفسد و أنتم لا تقولون به.و أيضا يلزم فساد المجرّد،و هو ممتنع عندكم.و إمّا أن تبقى متّحدة و هو عين ما شنّعتم به،بل أشنع، لأنّه يلزم-مع ما يلزم على تقدير الاتّحاد-من أن تكون نفس زيد بعينها نفس عمرو، و من اجتماع الضدّين-أنّ هذا الاتحاد بعد تكثّرها كما هو المفروض إمّا أن يكون بأن تفسد النفوس المتكثّرة و تحدث نفس أخرى واحدة،فيلزم أيضا فساد النفس،و كذا حدوثها بدون حدوث البدن،و أنتم لا تقولون بذلك.و إمّا أن يكون بأن تركّبت تلك المتكثّرة و امتزجت بعضها مع بعض،فحصل منها نفس واحدة،ففيه-مع لزوم فساد تلك النفوس أيضا-أنّ التركب و الامتزاج لا يكون إلاّ لما له مادّة مستعدّة قابلة له،و هي منفيّة عنها عندكم.و إمّا أن تبقى متكثّرة كما كانت مع الأبدان،و فيه أنّ النّفس عندكم مفارقة للأبدان فكيف تكون متكثّرة،يعني أنّ هذا البقاء متكثّرة إمّا أن يكون تكثّرها بتكثّر تلك الموادّ المتكثّرة التي هي منطبعة فيها فهذا باطل،لأنّ النفس ليست كذلك،لكونها مجرّدة عن المادّة عندكم،و إمّا أن يكون بتكثّر الأبدان التي هي في حكم الموادّ بالنسبة إليها فهذا أيضا باطل،لكون المفروض فساد الأبدان و فناؤها.و هذا هو تقرير الشبهة.

و أمّا ما ذكره في حلّها،فحاصله اختيار أنّ النّفس بعد مفارقة الأبدان تبقى متكثّرة كما كانت،لكن هذا البقاء متكثّرة إنّما يكون بتلك الحالة و الهيئة و المناسبة التي قلنا إنّها مشخّصة للنفوس مقتضية لاختصاص كلّ نفس ببدن،و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر و إن لم نعلم ماهيّة تلك الهيئة،فإنّ تلك الهيئة كما تلزم النّفوس مع حدوثها،كذلك تلزمها بعد حدوثها،و لو بعد مفارقتها عن الأبدان فهي بعد فساد الأبدان،أيضا مشخّصة للنفوس مميّزة لبعضها عن بعض،و هي بذلك التشخّص موجودة باقية متكثّرة.

ص:16

و أمّا تحرير كلامه في ذلك،فهو أنّ بعد مفارقة الأنفس للأبدان،فإنّ الأنفس مع حدوث الأبدان و قبل المفارقة قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت،أي باختلاف ما هو كالموادّ لها،و هي الأبدان التي كانت لها باختلاف أزمنة حدوثها،و اختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة،فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّي شخصا مشار إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له،أي إلاّ أن يزيد له معنى على نوعيّته به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه و تلزمه، سواء علمنا حقيقة تلك المعاني المشخّصة أو لم نعلمها،و سواء حكمنا بأنّها هي المشخّصة في الحقيقة أم هي أمارة المشخّص و علامته.و نحن نعلم أيضا أنّ النفس ليست واحدة في الأبدان كلّها،أي ليست متشخّصة بتشخّص واحد بالعدد في الأبدان كلّها،إذ لو كانت واحدة بالعدد و بالذات في الأبدان كلّها و كثيرة بالاعتبار و بالإضافة إلى الأبدان،لكانت عالمة في الأبدان كلّها أو جاهلة فيها كلّها،و امتنع أن تكون في بعضها عالمة و في بعضها جاهلة؛و لما خفي على زيد ما في نفس عمرو،لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين،و إن جاز أن يختلف بحسب الإضافة إليها فيما هو حاصل له بحسب الإضافة،لكنّ الأمور الموجودة لذلك الواحد في ذاته لا يجوز أن يختلف هو فيها.و هذا كما أنّ زيدا مثلا إذا كان أبا لأولاد كثيرين و هو شابّ،لم يكن حصول الشّباب له إلاّ بحسب الكلّ،إذ الشّباب له في نفسه موجود له في ذاته فيدخل في كلّ إضافة،و لا يجوز أن يختلف هو فيها-أي في تلك الإضافات-و كذلك العلم و الجهل و الظّن و ما أشبه ذلك،إنّما هي أمور موجودة لذات النّفس في نفسها،فيجب أن تدخل في كلّ إضافة و لا تختلف هي فيها،و يلزم ما ذكرنا من أنّها لو كانت واحدة بالذّات كثيرة بحسب الإضافة إلى الأبدان،لزم أن تكون عالمة فيها كلّها أو جاهلة فيها،و لما خفي على نفس زيد ما في نفس عمرو،فإذن ثبت أنّ النفس ليست واحدة بالعدد،بل هي كثيرة بالعدد.و قد ثبت أيضا أنّ نوعها واحد و هي حادثة.

و حينئذ نقول:لا شكّ أنّها بأمر ما تشخّصت تشخّصا متكثّرا،لأنّ المعنى النوعي يحتاج في تشخّصه إلى مشخّص،و لا شكّ أيضا أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة،فقد علم بطلان القول بذلك،حيث ثبت تجرّدها عن المادّة.و لا شكّ

ص:17

أيضا أنّ ذلك الأمر ليس أمرا لازما لذات النفس التي هي معنى نوعيّ،إذ لو كان كذلك لاشتركت النّفوس فيه،و لكان كلّها شخصا واحدا،و لم تكن متكثّرة.فبقي أن يكون ذلك الأمر هيئة من الهيئات و قوّة من القوى و عرضا من الأعراض الروحانيّة غير الجسمانيّة أو جملة منها يكون تشخّصها باجتماعها و إن جهلناها،و بعد أن تشخّصت النفس مفردة، فلا يجوز أن تكون هي و النفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة،فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة،لأنّه حينئذ،إمّا أن يبقى تشخّص كلّ من النّفسين بحاله فيلزم أن يكون الاثنان مع اثنينيّتهما واحدا بالعدد،و هذا محال بالضرورة،و إمّا أن لا يبقى تشخّص لهما،فحينئذ إمّا أن يبطل النفسان و تحدث أخرى واحدة بالعدد،ففيه بطلان النّفس مع كونها مجرّدة،و هو محال كما مرّ.و أيضا ففيه حدوث نفس من كتم العدم لا صيرورة النفسين واحدة بالعدد؛ هذا خلف.و إمّا أن يمتزج النّفسان و تتركّبا و تصيرا واحدة بالعدد،فهذا فرع وجود المادّة على ما عرفت،و هو منتف هنا.

و بالجملة فبعد ما تشخّصت النفس مفردة يستحيل كونها و النّفس الأخرى المتشخّصة واحدة بالعدد،بل يجب أن تكونا اثنتين.و أن يكون كلّ واحدة منهما متشخّصة بتشخّص منفرد،باقيتين على ذينك التشخّصين الاثنين.لكنّا نتيقّن أنّه يجوز [أن تكون]النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما كما عرفت الدّليل عليه،أن يحدث هيئة بعد حدوث المزاج،و يكون حدوث تلك الهيئة في الأفعال النطقية و الانفعالات النّطقية، التي تكون للنفس بذاتها،و تكون تلك الهيئة على جملة من تلك الأفعال و الانفعالات متميّزة عن الهيئة الأخرى المناظرة لها الحاصلة في نفس أخرى،مثل تميّز المزاجين في البدنين اللذين يتعلّق بهما النّفسان،و أن يكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا.و بالجملة الهيئة الحاصلة للنّفس من جهة تأثرها عمّا فوقها من المبادي كالعقل بالفعل أيضا على حدّ ما يتميّز به نفس عن نفس أخرى،فإنّها حين كونها في مرتبة العقل بالفعل يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة الشخصيّة و ذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها و به تتميّز عن أخرى و نتيقّن أيضا أنّه يجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة، أي من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن و قواه،هيئة خاصّة أيضا و تلك الهيئة تتعلّق

ص:18

بالهيئة الخلقيّة،أو تكون هي هي،أي نفس الهيئة الخلقيّة،و كذلك يجوز أن يكون أيضا هناك خصوصيّات أخرى سوى تلك الهيئات،تخفى تلك الخصوصيات علينا و تلزم النفوس مع حدوثها،و يكون تميّزها بها كما تلزم أمثال تلك الخصوصيات أشخاص الأنواع الجسمانيّة لتتمايز بها ما بقيت.

و حينئذ فيجوز أن يكون الأنفس التي هي أشخاص لنوع مجرّد كذلك تتميّز هي بمخصّصاتها و مميّزاتها التي فيها،سواء كانت الأبدان أم لم تكن،و سواء عرفنا حقيقة تلك الأحوال التي هي المخصّصات أو لم نعرف،أو عرفنا بعضها.

و الحاصل أنّه يجوز حين حدوث النّفس مع مزاج ما،أن يحدث لها هيئة من جهة تأثّرها عمّا فوقها من المبادي العالية أو من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن و قواه أو خصوصيّات أخرى تخفى علينا،تكون تلك الهيئات و الخصوصيّات مخصّصات و مميّزات لها تلزمها حين الحدوث و بعده،فتبقى بها النّفس موجودة متكثّرة بعد خراب البدن أيضا كما هي في حال حدوثه،و لو لم يكن لها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها الجزئيّة لكفى مميّزا،فضلا عن الصّفات و الملكات و الهيئات و الأنوار الفائضة عليها من المبادي العالية.و حينئذ فلا تلزم أن تفسد النّفوس بعد خراب الأبدان و لا أن تتّحد،مع أنّ الاتحاد ممتنع كما عرفت،و كذا الفساد،حيث عرفت أنّ الفساد ممتنع على المجرّد،و قد عرفت أيضا أنّ الدليل يدلّ على تجرّد النفس مطلقا،فكلّ هذه النفوس بعد وجودها و حدوثها بحدوث أبدانها تبقى بعد خراب أبدانها أيضا ببقاء مبدئها و معيدها.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

الإشارة إلى أنّ مذهب الشيخ في الشفاء بقاء النفوس مطلقا

حتّى نفوس غير المستكملة بعد خراب البدن

و هذا الذي ذكرناه هو تحرير كلامه و توضيح مرامه،و منه يظهر أنّ مذهبه في «الشفاء»بقاء النفوس مطلقا بعد خراب البدن،حتّى نفوس غير المستكملين من البله

ص:19

و الصّبيان و المجانين و أمثالهم،و القرينة عليه أنّه جعل شعورها بذاتها أيضا مميّزا،و الحال أنّه عامّ يعمّ المستكملين و غيرهم.و أيضا جعل من المميّزات لها الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها النظريّة،و هي أيضا عامّة تعمّ الهيئة الحاصلة من جهة العقل الهيولانيّ الذي يعمّهم أيضا،و كذا الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها العمليّة،و هي أيضا عامّة كما لا يخفى مع أنّ الأدلّة التي أقامها على تجرّد النفس-كما نقلنا بعضها و ذكرنا توجيهها- تجري في نفوس غير المستكملين أيضا و تعمّ المستكملين و غيرهم.و هذا الذي يظهر من كلامه هنا هو الحقّ الحقيق بالقبول،و يدلّ عليه العقل كما عرفت،بل النقل أيضا،كما نقلنا فيما سلف أخبارا عن الصادقين عليه السّلام دالّة على ذلك فتذكّر.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما آخر،و هو أنّه قد نقل عن بعض أعاظم المتأخّرين أنّه قال في بيان كيفيّة زيارة القبور و إجابة الدعوات:«إنّ للنّفس الإنسانيّة نوعين من التعلّق بالبدن:

أحدهما من حيث المادّة،و الثاني من حيث الصورة،و إنّ الموت و إن كان سببا لزوال تعلّق الثاني،لكنّه لا يكون سببا لزوال الأوّل،و من هنا يظهر سرّ زيارة القبور و إجابة الدعوات» (1)انتهى.

و قد ذكر صدر الأفاضل رحمه اللّه في الشواهد الربوبيّة كلاما بهذه العبارة:«الإشراق الثامن في الأمر الباقي من أجزاء الإنسان مع نفسه و الإشارة إلى عذاب القبر.اعلم أنّ الروح إذا فارق البدن العنصريّ،يبقى معه أمر ضعيف الوجود من هذا البدن قد عبّر عنه في الحديث بعجب الذّنب.و قد اختلفوا في معناه،قيل:هو العقل الهيولانيّ.و قيل:بل الهيولى الأولى.

و قيل:الأجزاء الأصليّة.و قال أبو حامد الغزاليّ:إنّما هو النفس و عليها تنشأ النشأة الآخرة.و قال أبو يزيد الوقواقيّ:هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغيّر ينشأ عليه النشأة الثانية.و عند الشيخ الغزاليّ هي أعيان الجواهر الثابتة.و لكلّ وجه،لكنّ البرهان منّا دلّ على بقاء القوّة الخياليّة التي هي آخر هذه النشأة الأولى و أوّل النشأة الثانية.

فالنفس إذا فارقت البدن و حملت المتخيّلة المدركة للصور الجسمانيّة فلها أن تدرك

ص:20


1- -و القائل هو السيّد الداماد رحمه اللّه.

الأمور الجسمانيّة و تتخيّل ذاتها بصورتها الجسمانيّة التي كانت تحسّ بها في وقت الحياة كما في المنام كانت تتصوّر بدنها الشخص و تحسّ به مع تعطّل هذه الحواس و ركودها، فإنّ للنفس في ذاتها سمعا و بصرا و ذوقا و شمّا و لمسا تدرك بها المحسوسات غائبة عن هذا العالم إدراكا جزئيّا و تتصرّف فيها،و هي أصل هذه الحواسّ الدنياويّة و مباديها،إلاّ أنّ هذه في مواضع مختلفة لأنّها هيولانيّة يحملها هذا البدن و هي في موضع واحد لأنّ النفس حاملها و حامل ما يتصوّرها فإذا مات الإنسان و فارقته نفسه مع جميع ما يلزمها من قواها الخاصّة بها و معها القوّة المصوّرة،يتصوّر ذاته مفارقة عن الدنيا،و يتوهّم نفسه عين الإنسان المصوّر الذي مات على صورته،و يجد بدنه مصوّرا،و يدرك الآلام الواصلة إليه على سبيل العقوبات الحسّيّة على ما وردت به الشّرائع،فهذا عذاب القبر.و إن كانت سعيدة تتصوّر ذاتها على صور ملائمة و تصادف الأمور الموعودة،فهذا ثواب القبر.كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» (1)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و أقول:إنّ الذي ذكره بعض الأعاظم (2)هو الحقّ الحقيق بالتحقيق،و عليه يمكن تنزيل الحديث الذي نقله صدر الأفاضل،و يوافقه ما نقله هو في معنى الحديث،من أنّ ذلك الأمر الضعيف الهيولى الاولى و الأجزاء الأصليّة.و عليه فيحصل وجه آخر لدفع الشبهة التي ذكرها الشيخ و أجاب عنها،لأنّه إذا كان حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن كما هو المفروض،و كان بعد خراب البدن يبقى تعلّقها به من حيث المادّة،فلا مانع من أن تبقى النفوس بعد خراب أبدانها متكثّرة بتكثّرها،متمايزة بتمايزها،كما هو في حال الحياة التي كان فيها تعلّقها بالبدن من حيث المادّة و الصورة جميعا.

و أمّا الوجوه الاخر التي نقلها صدر الأفاضل عن القوم في معنى الحديث،فلا يكاد

ص:21


1- -الشواهد الربوبيّة، [1]مع تعليقات الأستاذ الحكيم الآشتيانيّ275/-276 [2] الإشراق السابع في الأمور الباقية من أجزاء الإنسان،و ليست فيها جملة«و الإشارة إلى عذاب القبر»،و فيها:«عند الشيخ المغربي»عوضا عن:«عند الشيخ الغزالي»،و بعد المنام كانت يتصوّر بدنها الشخصىّ يتوهّم نفسه عين الإنسان المقبور،يجد بدنه مقبورا...
2- -المراد ببعض الأعاظم هو السيّد الداماد.

يظهر لها وجه كما لا يخفى على المتأمّل،مثل الوجه الذي ذكره هو نفسه في معناه،فإنّه و إن أقام في بعض كلماته برهانا بزعمه على بقاء القوّة الخياليّة بعد خراب البدن،لكنّه لم يأت بشيء مبيّن كما يظهر على من راجع كلماته.

و ما ذكره هنا من أنّ للنفس في ذاتها سمعا و بصرا إلى آخر ما ذكره،إن كان المراد به أنّ لها بعد خراب البدن سمعا و بصرا و نحو ذلك من القوى في ضمن البدن المثاليّ،كما دلّ عليه النقل و ذهب إليه كثير من الحكماء و المتكلّمين،فله وجه؛إلاّ أنّ كلامه يأبى عن الحمل عليه.و إن كان مراده به غير هذا كما هو ظاهر كلامه،فهو شيء تفرّد به و ليس يظهر وجهه،بل لا يمكن فهمه ككثير من تحقيقاته في المسائل الحكميّة،و عسى أن يكون غيرنا يفهمه.و اللّه الموفّق.

و قد بقي في المقام شبهة أخرى،و هي أنّ ما يستفاد من كلام الشيخ،أنّه بعد خراب البدن يكفي شعور النفس بذاتها الجزئيّة مميّزة لها،ربّما يتراءى كونه جاريا في نفوس غير الإنسان من الحيوانات،فإنّ الظاهر أنّ لها أيضا شعورا بذواتها الجزئيّة و هويّاتها الخاصّة،فينبغي أن تكون نفوسها أيضا بعد خراب أبدانها باقية متميّزة بتميّز الأبدان متكثّرة بتكثّرها،و هو خلاف ما عليه الأكثر.

و أمّا الجواب عن هذه الشبهة،فهو أنّ مبنى كلام الشيخ أنّ الشعور بالذات يكفي مميّزا إذا كانت تلك الذات مجرّدة عن المادّة كما في النفوس الإنسانيّة،حيث إنّ الأصل في سبب كونها باقية غير فانية هو تجرّدها عن المادّة كما عرفت بيانه،و أمّا الشعور بالذات و سائر الهيئات و الحالات و الخصوصيّات التي ذكرها،إنّما هو لأجل تمايزها بتمايز الأبدان بعد أن كانت ممتنعة الزوال.

و أمّا نفوس غير الإنسان حيث لم يثبت تجرّدها عن المادّة فلا يكفي كون الشعور بالذات مميّزا لها،إذ ذاك الشعور إنّما يكفي مميّزا لها إذا كان هناك تجرّد عن المادّة به يمتنع الزوال عليها،و إذ ليس فليس.و كأنّ من قال بحشر الحيوانات الذي مبناه على بقاء نفوسها بعد خراب أبدانها،ادّعى تجرّدها أيضا عن المادّة،لزعمه أنّ بعض الدلائل التي أقيمت على تجرّد النفس الإنسانيّة،مثل قولهم:إنّها مغايرة للبدن و أعضائه و أجزائه فإنّ

ص:22

البدن و أعضاءه دائم الذوبان و السيلان و ذات الإنسان منذ أول الصّبا إلى آخر العمر باقية فهي غيرها،بل هي مجرّدة عن المادّة،و أمثال ذلك من الدلائل التي أقاموها على ذلك، جارية في نفوس الحيوانات أيضا،فأثبت بزعمه بذلك تجرّدها أيضا ثمّ جعل شعورها بذاتها مميّزة لها بعد خراب البدن.و قد عرفت فيما سبق أنّ التعويل في تجرّد النفس الإنسانيّة إنّما هو على الدلائل التي تجري فيها،و لا تجري في غيرها من نفوس سائر الحيوانات،فتذكّر.و سيجيء ذكر الخلاف في حشر الحيوانات،و تحقيق الحقّ فيه، فانتظر.

و هذا الذي ذكرناه كلّه،إنّما هو الكلام في البرهان الذي أقامه الشيخ على هذا المطلب،أعني حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن،إلاّ أنّ القوم ذكروا براهين اخر أيضا عليه،لا بأس بنقل نبذ منها و تحريرها:

منها أنّه لا سترة في أنّ النّفس الإنسانيّة التي هي مجرّدة عن المادّة لو كانت موجودة قبل البدن،ثمّ حدث لها التعلّق به كان تعلّقها به لحوق عارض غريب به،و قد تقرّر عندهم أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب،لما حقّق أنّ لحوق عارض غريب لشيء لا يكون إلاّ من جهة قوّته و استعداده له،و أنّ جهة القوّة و الاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له،و ما هو إلاّ الهيولى الجرمانيّة،فيلزم من فرض تجرّد النفس الإنسانيّة عن المادّة اقترانها بها،هذا خلف.فإذن تكون حادثة بحدوث البدن،و هو المطلوب.

لا يقال:لعلّ النّفس الإنسانيّة كانت موجودة قبل هذا البدن الإنسانيّ،و كانت في ضمن أبدان جسمانيّة عنصريّة أو مطلقا حادثة بحدوثها،و كلّما فارقت بدنا من تلك الأبدان الجسمانيّة حدث بدن آخر فتعلّقت به،إلى أن انتهت النوبة إلى هذا البدن العنصريّ الإنسانيّ.

لأنّا نقول:هذا باطل،لأنّه تناسخ،و سيأتي بطلانه.

لا يقال:لعلّها كانت موجودة قبل البدن الإنسانيّ العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ نورانيّ،ثمّ حصلت في ضمن البدن العنصريّ،إمّا مع ذلك البدن المثاليّ النورانيّ،حيث إنّ

ص:23

اجتماع هذين البدنين اللذين أحدهما مثاليّ نورانيّ و الآخر جسمانيّ لا امتناع فيه.و إمّا مفارقة عن البدن المثاليّ.و على هذين الوجهين،يمكن حمل قول بعض من قال بحدوث النفس قبل البدن،و كذا حمل ما روي عن الصادقين عليه السّلام:من أنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام (1)،و لا تناسخ فيه،فإنّ الدليل الذي يبطل التناسخ كما سيأتي ذكره،إنّما يجري في تحوّل النفوس في الأبدان الجسمانيّة العنصريّة أو غير العنصريّة و تنقّلها منها، لا في تنقّلها في الأبدان المثاليّة أيضا.مع أنّ القول بحصولها بعد خراب أبدانها في الأبدان المثاليّة ممّا دلّ عليه النقل و ذهب إليه كثير من الفلاسفة و الملّيّين.

لأنّا نقول:هذا الاحتمال باطل أيضا،فإنّه قد تقرّر عندهم أنّ النفس الإنسانيّة مجرّدة في ذاتها عن المادّة و مفتقرة في أفعالها إليها،و أنّ البدن خلق لها و تعلّقت هي به لأجل استكمالها به،و لا سترة في أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ متعلّقة ببدن مثاليّ،لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ،إذ لو كان استكمال لها به و في ضمنه ثمّ تعلّقت بالبدن العنصريّ؛لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ أيضا،و هو أنّه يلزم أن يكون قد حصلت لها فعليّة ما في ضمن البدن المثاليّ،ثمّ رجعت إلى القوّة و الاستعداد؛ حيث إنّ النفس في أوّل حصولها في ضمن البدن العنصريّ إنّما هي بالقوّة المحضة و درجتها درجة النبات،ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة حتّى تتجاوز درجة النبات و الحيوان،و صيرورة الشيء بالقوّة المحضة بعد ما كان بالفعل ضروريّ البطلان.

و أيضا لو كان للنفس استكمال في ضمن البدن المثاليّ قبل التعلّق بالبدن العنصريّ، لكان لها استكمال في ضمنه بعد خراب العنصريّ أيضا،و لم يقل به أحد.و إذا لم يكن له استكمال في ضمن البدن المثاليّ كان وجودها في ضمنه قبل حدوث البدن العنصريّ وجودا معطّلا،و قد تقرّر عندهم أنّه لا تعطّل في الوجود.

و بعبارة أخرى،أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ في ضمن البدن المثاليّ،

ص:24


1- -بحار الأنوار 357/47؛41/40؛90/41. [1]

فإمّا أن تكون مستكملة به،لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ و هو صيرورة ما بالفعل ما بالقوّة.و إمّا أن لا تكون مستكملة به لزم تعطّلها في الوجود،و القول بأنّها و إن لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ،إلاّ أنّه يمكن أن يكون لها في ضمنه ابتهاج بالكمالات و تألّم بالجهالات،كما في ما بعد خراب البدن العنصريّ،باطل،فإنّ ذلك الابتهاج و التألّم إنّما يمكن إذا كان حصل لها كمال في ضمنه،و إذ ليس فليس،و هذا بخلاف صورة ما بعد خراب البدن؛فتدبّر.

تأويل حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام

فبالجملة،القول بذلك مع كونه مخالفا للعقل ليس عليه دليل مطلقا لا عقليّ و لا نقليّ ظاهر فيه،فإنّ حديث«خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»يمكن حمله على أنّه خلقت الأرواح التي هي جواهر نورانيّة و هي مدبّرات للأبدان الإنسانيّة بل للإنسان بنفسه و بدنه،و يدلّ على وجودها الشرع و قال بها الحكماء أيضا،و تسمّى تلك الأرواح في لسان الشرع ب«الملائكة الموكّلين بالإنسان»،و في لسان الحكماء المتألّهين ب«ربّ النوع»،قبل الأجساد و قبل الأبدان العنصريّة الإنسانيّة بألفي عام،سواء حمل ألفا عام على الزّمان الكثير المتمادي،أو على هذا العدد المعيّن؛و سواء حمل هذا العدد بالنسبة إلى كلّ روح مع كلّ بدن أو بالنسبة إلى مجموع تلك الأرواح مع مجموع الأبدان.و حينئذ فلا دليل قطعيّا أو ظاهرا في الحديث على مطلوب هذا القائل،و هو خلق النفوس الإنسانيّة المتعلّقة بأبدانهم العنصريّة قبل أبدانهم بألفي عام،حتّى يمكن أن يقال:إنّها قبل الأبدان العنصريّة كانت في ضمن أبدان مثاليّة.

و أمّا القول بحصولها بعد خراب أبدانها العنصريّة في ضمن الأبدان المثاليّة فإنّما دعى إليه ما ورد من النقل الصحيح الصريح،فإنّه لو لم يكن هناك ذلك النقل لم نكن قائلين به، و كأنّ سرّ ما ورد من النصّ في ذلك-و اللّه أعلم-أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت في أفعالها مفتقرة إلى البدن،حاصلة في ضمنه،متعلّقة به،و مستكملة به،و كانت أكثرها بل جلّها قد

ص:25

استكملت في الجملة في ضمن البدن العنصريّ ثمّ فارقته.و كانت باقية بعد خراب البدن، اقتضت العناية المتعالية الإلهيّة حصولها بعد خراب البدن في ضمن بدن مثاليّ مشارك لبدنها العنصريّ من بعض الجهات كالشكل و الهيئة،و إن لم يكن مشابها له في الكلّ،حتّى تكون في ضمن بدن أيضا بدنا هو و إن كان ممّا لم يحصل استكمالها في ضمنه إلاّ أنّها في ضمنه تفعل أفعالا في الجملة كالأفعال الحيوانيّة،لا كلّ أفعالها حتّى الأفعال النباتيّة و تدرك إدراكات مخصوصة،مثل ما يختصّ بقواها المدركة الحيوانيّة،مثل السمع و البصر و الذوق و الشمّ و اللمس و التخيّل و التوهّم و نحو ذلك،مضافا إلى ما تدركه بذاتها من المعقولات التي لا تحتاج في إدراكها إلى البدن،و حتّى تدرك في ضمن ذلك البدن المثاليّ جزاء ما كسبت من السعادة أو الشقاوة جزاء في الجملة.

و بالجملة،فتبتهج بالكمالات و تتألّم بالجهالات إلى أن يشاء اللّه تعالى انقضاء المدّة التي هي في عالم البرزخ،و تقوم القيامة الكبرى و تتعلّق تلك النفس بعناية اللّه تعالى ببدنها الأوّل العنصريّ،فتستوفي في ضمنه جزاء ما كسبت جزاء أوفى.

في تفسير قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ))

و كذلك الدلالة في قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَ ادْخُلِي جَنَّتِي)) (1)على ذلك كما ادّعاه بعضهم،حيث قال:إنّه يدلّ على حدوث النفس و الروح قبل الجسد،فإنّ رجوعها إلى ربّها معناه الرجوع إلى حالتها التي كانت لها قبل وجود الجسد من انقطاع تعلّقها بما سوى ربّها تعالى شأنه؛لأنّ مبنى هذا الاستدلال على أنّه يقال لها هذا القول عند الموت،و أنّ معنى الرجوع إلى ربّها ما ذكره ذلك البعض،و لا دليل ظاهرا على شيء منهما.

بل أنّ جمعا من المفسّرين،كصاحب الكشّاف و الشيخ الطبرسيّ ذكروا في تفسير الآية أنّه:«إنّما يقال ذلك لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنّة،على معنى:

ص:26


1- -الفجر(89):27-30. [1]

ارجعي إلى موعد ربّك راضية بما أوتيت مرضيّة عند اللّه،فادخلي في جملة عبادي الصالحين و ادخلي جنّتي معهم.و قيل:النفس الرّوح،و المعنى:فادخلي في أجساد عبادي.و قرأ ابن عبّاس:فادخلي في عبدي.و قرأ ابن مسعود:في جسد عبدي.و قيل أيضا:إنّ المعنى ارجعي إلى صاحبك فادخلي في جسد عبدي» (1)انتهى.

و من تلك البراهين على هذا المطلب أنّ النفس الإنسانيّة لو كانت موجودة قبل البدن،لكانت إمّا مجرّدة في ذاتها و في فعلها عن المادّة،فكانت عقلا محضا على رأيهم، لا احتياج لها إلى المادّة اصلا حتّى في فعلها،فيمتنع عليها طروء حالة تلجؤها إلى مفارقة عالم القدس و التعلّق بهذا البدن العنصريّ و الابتلاء بهذه الآفات البدنيّة؛أو كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها محتاجة إليها في فعلها،فكانت نفسانيّة الجوهر؛فيلزم أن تكون معطّلة قبل البدن إذ لا مادّة قبل ذلك،و التعطّل محال.و قد عرفت أنّه يستحيل التناسخ و التنقّل في ضمن أبدان عنصريّة و سيأتي أيضا زيادة بيان لذلك.و كذلك قد عرفت أنّه يستحيل حصولها قبل البدن العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ.و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المرجع و المآب.

ص:27


1- -تفسير الكشّاف،254/4،ط طهران.و [1]راجع مجمع البيان،489/9.

المطلب الثاني

اشارة

في امتناع ما قيل من تناسخ النفوس و نحو ذلك من الأقوال

اعلم أنّ صدر الأفاضل بعد أن نقل عن الحكماء أنّهم اتّفقوا على أنّ النفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل،فلا شبهة في بقائها بعد البدن،و أنّهم اختلفوا في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل،فذهب بعضهم إلى أنّها تهلك بهلاك البدن، و بعضهم إلى أنّها تبقى بعد فنائه.قال:

«إنّ بناء هذا الاختلاف على انحصار نشئات الإنسان في النشآت الحسّيّة و النشأة العقليّة.و جمهور الحكماء لمّا لم يتفطّنوا بنشأة أخرويّة غير النشأة العقليّة،اضطرّوا إلى هذه الأقوال:

فتارة قالوا بعدم بعض النفوس و اضمحلالها، و تارة بتناسخ الأرواح السافلة و المتوسّطة،أمّا السافلة فإلى الأكوان العنصريّة من إنسان آخر أو حيوان آخر أو نبات أو جماد،و ذلك هو المسخ و النسخ و الفسخ و الرسخ.

و أمّا المتوسّطة فإلى عالم الأفلاك.

و تارة بصيرورة بعض الأجرام العالية موضوعا لتخيّلات نفوس الصلحاء و الزهّاد، من غير أن تصير متصرّفة فيه،و بعض الأجرام الدخانيّة للنفوس الشقيّة» (1)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ثمّ قال بعد ذلك:الإشراق التاسع في أنّ النفوس لا تتناسخ.

ص:28


1- -الشواهد الربوبيّة225/،و [1]فيه:إنّ بناء هذا الكلام و نظائره على انحصار نشئات.

التناسخ عندنا يتصوّر على ثلاثة أنحاء:

أحدها-انتقال نفس من بدن إلى بدن مباين له،منفصل عنه في هذه النشأة،بأن يموت حيوان و ينتقل نفسه إلى حيوان آخر أو غير الحيوان،سواء كان من الأخسّ إلى الأشرف أو بالعكس،و هذا مستحيل بالبرهان لما سنذكره.

و ثانيها-انتقال النفس من هذا البدن إلى بدن آخر،و هو مناسب لصفاتها و أخلاقها المكتسبة في الدنيا،فتظهر في الآخرة بصورة ما غلبت عليها صفاتها،كما سينكشف لك عند إثبات المعاد الجسمانيّ،و هذا أمر محقّق عند أئمّة الكشف و الشهود،ثابت منقول من أهل الشرائع و الملل،و لهذا قيل:«ما من مذهب و إلاّ و للتناسخ فيه قدم راسخ»و عليه يحمل ما ورد في القرآن من آيات كثيرة في هذا الباب.و ظنّي أنّ ما نقل عن أساطين الحكمة كأفلاطون و من سبقه من الحكماء الذين كانوا مقتبسين أنوار الحكمة من مشكاة نبوّة الأنبياء سلام اللّه عليهم أجمعين،من إصرارهم على مذهب التناسخ هو بهذا المعنى، لما شاهدوا ببصائرهم بواطن النفوس و الصور التي يحشرون عليها على حسب نيّاتهم وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)) (1)و شاهدوا أيضا كيف تحصل في الدنيا للنفوس ملكات نفسانيّة لتكرّر أعمال جسمانيّة تناسبها،حتّى تصدر عنها الأعمال من جهة تلك الملكات بسهولة،صرّحوا القول بالتناسخ،و معناه حشر النفوس على صور صفاتهم الغالبة و أعمالهم،كقوله تعالى: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ)) (2)أي على صور الحيوانات المنتكسة الرءوس،و قوله: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (3)و قوله: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)) (4)و قوله: وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)) (5)و قوله: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)) (6)و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص:29


1- -الكهف(18):49. [1]
2- -الإسراء(17):97. [2]
3- -التكوير(81):5. [3]
4- -النور(24):24. [4]
5- -فصّلت(41):21. [5]
6- -يس(41):65. [6]

«يحشر النّاس على نيّاتهم» (1).«يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة و الخنازير» (2).«كما يعيشون يموتون و كما ينامون يبعثون» (3).فهذا هو مسخ البواطن من غير أن يظهر صورته في الظاهر فترى الصور أناسيّ،و في الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان أو كلب أو خنزير أو أسد أو غير ذلك من حيوان مناسب لما يكون الباطن عليه.

و ثالثها-ما يمسخ الباطن و ينقلب الظاهر من صورته التي كانت إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن لغلبة القوّة النفسانيّة،حتّى صارت تغيّر المزاج و الهيئة على شكل ما هو من صفته من حيوان آخر،و هذا أيضا جائز بل واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم،و ضعفت قوّة عقولهم.و مسخ البواطن قد كثر في هذا الزمان كما ظهر المسخ في الصورة الظاهرة حسب ما قرأنا في بني إسرائيل،كما قال سبحانه: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (4)و قوله:

كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)) (5).

و أما مسخ صورة الباطن دون الظاهر،فكقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صفة قوم من أمّته:

«إخوان العلانية أعداء السريرة،ألسنتهم أحلى من العسل و قلوبهم امرّ من الصبر،يلبسون للناس جلود الضأن من اللين و قلوبهم قلوب الذئاب» (6)،فهذا مسخ البواطن أن يكون قلبه قلب ذئب و صورته صورة إنسان و اللّه العاصم من هذه القواصم» (7)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قال الشيخ في«الإشارات»بعد بيان أحوال النفوس الكاملة،و المستعدّة للكمال

ص:30


1- -بحار الأنوار 290/70. [1]
2- -بحار الأنوار 89/7. [2]
3- -المجلى506/ الطبعة الحجريّة؛و انظر بحار الأنوار 197/18. [3]
4- -المائدة(5):60. [4]
5- -البقرة(2):65؛ [5]الأعراف(7):166. [6]
6- -بحار الأنوار 173/74. [7]
7- -الشواهد الربوبيّة،ص 231 و [8]فيه:انّ التناسخ عندنا...و ثانيها...إلى بدن أخرويّ مناسب...عليها صفاتها...عند إثباتنا...و ظنّي أن ما قال...أنوار الحكمة من الأنبياء سلام اللّه...على صور صفاتهم الغالبة كقوله...فترى الصور أناس و في الباطن غير تلك...لما يكون الباطن عليه...حسبما قرأنا في بني إسرائيل...

و الجاهلة في المعاد بهذه العبارة:

تنبيه.و أمّا البله،فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم،و لعلّهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم،و لا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه،و لعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين.امّا التناسخ في أجسام من جنس ما كانت فيه فمستحيل،و إلاّ لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه و قارنتها النفس المستنسخة فكان لحيوان واحد نفسان.ثمّ ليس يجب أن يتّصل كلّ فناء بكون،و لا أن يكون عدد الكائنات من الأجسام عدد ما يفارقها من النفوس،و لا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه متمانعة.ثمّ ابسط هذا و استغن بما تجده في مواضع اخر لنا» (1)انتهى كلامه.

و قال المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في شرح قوله:«و أمّا البله..إلى قوله للعارفين»هكذا:

«لمّا فرغ عن بيان أحوال النفوس الكاملة و المستعدّة للكمال و الجاهلة في المعاد.

أراد أن يبيّن حال النفوس الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،و هي نفوس البله في هذا الفصل.و اعلم أنّ من القدماء من زعم أنّها تفنى،لأنّ النفس إنّما تبقى بالصور المرتسمة فيها،فالخالية عنها معطّلة،و لا معطّل في الوجود،و لكنّ الدلائل الدالّة على بقاء النفوس الناطقة تقتضى نقض هذا المذهب.ثمّ القائلون ببقائها قالوا:إنّها تبقى غير متأذّية لخلوّها عن أسباب التأذّي و الخلاص فوق الشقاء،فإذن هي في سعة من رحمة اللّه تعالى.

و يوافق هذا المذهب ما ورد في الخبر،و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أكثر أهل الجنّة البله»ثمّ إنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك،و كانت ممّا لا يدرك إلاّ بآلات جسمانيّة،فذهب بعضهم إلى أنّها تتعلّق بأجسام اخر،و لا يخلو إمّا أن لا تصير مبادي صورة لها و هذا ما ذكره الشيخ و مال إليه،أو تصير فتكون نفوسا لها،و هذا هو القول بالتناسخ الذي سيبطله الشيخ.

أمّا مذهب الأوّل فقد أشار إليه الشيخ في كتاب«المبدأ و المعاد»و ذكر أنّ بعض أهل

ص:31


1- -شرح الإشارات،356/3-355 ط طهران. [1]

العلم ممّا لا يجازف فيما يقول-و أظنّه يريد الفارابي-قال قولا ممكنا،و هو أنّ هؤلاء إذا فارقوا البدن-و هم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات و ليس لهم تعلّق بما هو أعلى من الأبدان فيشغلهم التعلّق بها عن الأشياء البدنيّة-أمكن أنّ تعلّقهم لشوقهم إلى البدن ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلّق بها الأنفس،لأنّها طالبة بالطبع،و هذه ماهيّات،و هذه الأبدان ليست بأبدان إنسانيّة أو حيوانيّة،لأنّها لا يتعلّق بها إلاّ ما يكون نفسا لها،فيجوز أن تكون أجراما سماويّة لا أن تصير هذه الأنفس أنفسا لتلك الأجرام،أو مدبّرة لها،فإنّ هذا لا يمكن.بل قد تستعمل تلك الأجرام لإمكان التخيّل،ثمّ تتخيّل الصور التي كانت معتقدة عنده و في وهمه،فإن كان اعتقاده في نفسه و أفعاله الخير شاهدت الخيرات الأخرويّة على حسب ما تخيّلتها،و إلاّ فشاهدت العقاب كذلك.

قال:و يجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء و الأدخنة.و لا يكون مقارنا لمزاج الجوهر المسمّى روحا الذي لا يشكّ الطبيعيّون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن.فهذا ما ذكره في الكتاب المذكور.و لو لا مخافة التطويل لأوردته بعبارته.و الشيخ جوّز بعد ذلك أن يفضي التعلّق المذكور إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين.ولي في أكثر هذه المواضع نظر» (1)انتهى.

و قال أيضا في شرح قوله:«أمّا التناسخ»إلخ بهذه العبارة:«و هذا هو المذهب الثاني، و قد أورد على إبطاله حجّتين:

إحداهما-أن يقال:لمّا ثبت أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب إفاضة وجود النفس من العلل المفارقة،ثبت أنّ كلّ مزاج بدنيّ يحدث فإنّما يحدث معه نفس لذلك البدن،فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان كان للبدن المستنسخ نفسان:إحداهما المستنسخة و الثانية الحادثة معه،فكان حينئذ للحيوان الواحد نفسان،و هذا محال،لأنّ النفس هي التي تدبّر البدن و تتصرّف فيه،و كلّ حيوان يشعر بشيء واحد يدبّر بدنه و تصرّف فيه،فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها و لا هي بذاتها و لا تتصرّف في البدن؛فلا يكون لها علاقة مع

ص:32


1- -شرح الإشارات 356/3-355.

ذلك البدن،فلا تكون نفسا له،هذا خلف.

و الحجّة الثانيّة-أن يقال:النفس المستنسخة،إمّا أن تتّصل بالبدن الثاني حال فساد البدن الأوّل،أو تتّصل به قبله،أو بعده بزمان،فإن اتّصلت به في تلك الحالة،فإمّا أن يكون البدن الثاني قد حدث في تلك الحالة،أو يكون قد حدث قبله.

فإن كان قد حدث في تلك الحالة،فإمّا أن يكون عدد النفوس المفارقة و عدد الأبدان الحادثة في جميع الأوقات متساوية،أو يكون عدد النفوس أكثر،أو يكون أقلّ.و على التقدير الأول يجب أن يتّصل كلّ فناء بدن بكون بدن آخر،و وجب أيضا أن تكون عدد الكائنات من الأبدان عدد الفاسدات منها،و هما محالان فضلا عن أن يكونا واجبين.

و على التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة في استحقاق الاتّصال به أو مختلفة.و الأوّل يقتضي إمّا اتصال الكلّ به فيكون لبدن واحد نفوس كثيرة،و قد مرّ بطلانه.و إمّا أن تتدافع و تتمانع،فيبقى الكلّ غير متّصل ببدن بعد فساد البدن الأوّل و قد فرضناها متّصلة،هذا خلف.

و الثاني يقتضي اتّصال البعض و بقاء البعض غير متّصلة و يعود الخلف.و على التقدير الثالث لا يخلو إمّا أن تتّصل نفس واحدة بأبدان أكثر من واحد،حتّى يكون حيوان واحد هو بعينه غيره و هذا محال؛أو يبقى بعض الأبدان المستعدّة للنفس بلا نفس،و هو أيضا محال،أو يتّصل بعض النفوس ببعض الأبدان دون بعض من غير أولويّة،و الثاني حدوث النفس لبعض الأبدان المستحقّة دون بعض من غير أولويّة(كذا).

و إن اتّصلت النفس المفارقة ببدن قد حدث قبل حالة المفارقة،فذلك البدن لا يخلو إمّا أن يكون ذا نفس أخرى أو لا يكون،و يلزم على الأوّل اتّصال نفسين ببدن واحد، و على الثاني وجود بدن مستعدّ للنفس معطّل عنها.

و أمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة بزمان،فجواز كونه معطّلا في زمان يقتضي جواز ذلك في جميع الأزمنة،و لا يحتاج إلى القول بالتناسخ.و أيضا لا يخلو إمّا أن يكون اتّصالها ببدن موقوفا على حدوث مزاج مستعدّ،أو لم يكن.و يلزم على الأوّل حدوث نفس أخرى مع حدوث ذلك المزاج،و يعود المحالات المذكورة،و على الثاني

ص:33

يتخصّص اتّصاله بزمان دون زمان مع تساوي الأزمنة بالنسبة إليه،و هو محال.

و هاهنا قد تمّت الحجّة الثانيّة.و الشيخ أشار إلى هذه الأقسام بقوله:«ثمّ ابسط هذا» يعني البرهان الثاني،و إلى الأصول المقتضية لفساد المحالات اللازمة المذكورة بقوله:

«و استغن بما تجده في مواضع أخر لنا» (1)انتهى كلامه رحمه اللّه.

ثمّ إنّ الشيخ في«الشفاء»«في فصل في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد و لا تتناسخ»، بعد ما بيّن عدم طروء الفساد عليها كما نقلنا كلامه في ذلك في الأبواب السالفة.قال في بيان عدم جواز التناسخ عليها بهذه العبارة:«فقد أوضحنا أنّ النفس إنّما حدثت و تكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان،على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس عليها من العلل المفارقة،و ظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق و البخت،حتّى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق هذا المزاج نفسا حادثة مدبّرة،و لكن قد كان و حدث النفس و اتّفق أن وجد بدن فعلّقت،فإنّ مثل هذا لا يكون علّة ذاتيّة البتة للتكثّر،بل أن تكون عرضيّة.

و قد عرفنا أنّ العلل الذاتيّة هي التي يجب أن تكون أوّلا ثمّ ربّما تليه العرضيّة،فإن كان كذلك و كلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له،و ليس بدن يستحقّه و بدن لا يستحقّه،إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها تتقوّم،و ليس يجوز أن يكون بدن إنسانيّ يستحقّ نفسا يكمل به،و بدن آخر و هو في حكم مزاجه بالنوع و لا يستحقّ ذلك،بل إن اتّفق كان،و إن لم يتّفق لم يكن،فإنّ هذا حينئذ لا يكون من نوعه؛ فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان فكلّ بدن فإنّه بذاته يستحقّ نفسا تحدث له و تتعلّق به، فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا،ثمّ العلاقة التي بين النفس و البدن ليس هو على سبيل الانطباع فيه كما بيّناه مرارا،بل العلاقة التي بينهما علاقة الاشتغال من النفس بالبدن حتّى يشعر النفس بذلك البدن و ينفعل البدن عن تلك النفس،و كلّ حيوان فإنّه يستشعر نفسه نفسا واحدة حتّى المصرّفة و المدبّرة للبدن الذي له،فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر

ص:34


1- -شرح الإشارات 356/3-359.

الحيوان بها و لا هو بنفسه و لا تشتغل بالبدن فليست له علاقة مع البدن،لأنّ العلاقة لم تكن إلاّ بهذا النحو،فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه،و بهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعد أنّ فيه كلاما طويلا (1)انتهى كلامه.

أقول:و باللّه التوفيق،يستفاد ممّا نقلنا من كلام الشيخ في«الإشارات»على ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في شرحه:«أنّ من قال بالتناسخ و نحوه إنّما قال به في النفوس الساذجة الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،و هذا بإطلاقه يشمل نفوس البله و الصبيان و المجانين و أمثالهم من أصحاب النفوس الساذجة،و كأنّه حمل كلام الشيخ على ذلك، لأنّ الشيخ و إن عنون الباب بالبله،إلاّ أنّه أراد بالبله أصحاب النفوس الساذجة مطلقا، بقرينة أنّه قال قبل هذا الكلام المنقول عنه:«و اعلم أنّ رذيلة النقصان إنّما يتأذّى بها النفس الشيّقة إلى الكمال،و ذلك الشوق تابع لتنبّه يفيده الاكتساب،و البله بخسته من هذا العذاب و إنّما هو للجاحدين و المهملين و المعرضين عما ألمع به إليهم من الحقّ،فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء»حيث جعل البله مقابلا لهؤلاء،فيشمل النفوس الساذجة مطلقا.

فلذا قال المحقّق الطوسيّ في شرحه ثمة هكذا:«و أمّا أصحاب النفوس الساذجة فهم الّذين وسمهم الشيخ بالبله،و الأبله في اللغة هو الذي غلب عليه سلامة الصدر و قلّة الاهتمام،و يقال عيش أبله:أي قليل الغموم،و هؤلاء لا يتعذّبون لأنّهم غير عارفين بكمالاتهم غير مشتاقين إليها» (2)انتهى.

و بالجملة،فيستفاد من كلام المحقّق الطوسيّ في شرح كلام الشيخ أنّ القدماء من الحكماء اختلفوا في النفوس الساذجة بعد مفارقتها عن الأبدان،فبعضهم قال:بأنّها تفنى، و بعضهم بأنّها تبقى،و إنّ القائلين ببقائها اختلفوا،فبعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر،بأن لا تصير مبادي صورة لها و لا تكون نفسا لها،و تلك الأجسام إمّا أجرام سماويّة كما لبعض تلك النفوس،و إمّا أجرام متولّدة من الهواء و الأدخنة كما لبعض آخر منها،

ص:35


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات356/،الفصل الرابع(أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد و لا تتناسخ)،و فيه:...النفس لها من...وجد معه بدن فتعلّق بها بل عسى أن يكون عرضيه...إذ أشخاص الأنواع...الانطباع فيه كما...بينهما هي علاقة...
2- -شرح الإشارات 353/3-352.

و بعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر بأن تكون نفسا لها و تصير مبادي صورة لها، أي أنّها تتناسخ.و الحاصل أنّ هذه المذاهب كلّها إنّما هي في النفوس الساذجة الشاملة بإطلاقها لنفوس البله و الصبيان و المجانين و نحوهم.

و أمّا ما نقلنا من كلام صدر الأفاضل،فصدره و إن كان موافقا نوع موافقة لكلام المحقّق الطوسيّ حيث ذكر أنّ خلاف القدماء من الحكماء إنّما هو في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل إذا حملنا النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل على النفوس الساذجة،إلاّ أنّ عجزه كأنّه مخالف له حيث ذكر أنّ القول بالنسخ و نحوه من الفسخ و الرسخ و المسخ إنّما هو في الأرواح السافلة،و أنّ القول بالانتقال إلى عالم الأفلاك أو الأجرام الدخانيّة إنّما هو في الأرواح المتوسطة،و أنّ تلك الأرواح إن كانت من نفوس الصلحاء و الزهّاد تتعلّق بالأجرام السماويّة من غير أن تتصرّف فيها،و إن كانت من نفوس الأشقياء تتعلّق بالأجرام الدخانيّة من غير أن تتصرّف فيها أيضا فإنّ المخالفة بيّنة،لأنّه و إن أمكن حمل الأرواح السافلة على النفوس الساذجة،إلاّ أنّ حمل الأرواح المتوسطة على ذلك بعيد جدّا،و مع هذا فالفرق بين الصلحاء و الزهّاد من أصحاب النفوس المتوسطة و بين الأشقياء منهم غير بيّن من كلام المحقّق الطوسيّ،إلاّ أنّ ما ذكره صدر الأفاضل كأنّه موافق لما ذكره الفاضل الأحساويّ في«المجلى»من بعض الوجوه كما يعلم من مراجعة كلامه (1).

فإن قلت:لعلّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه مذهب لبعض الحكماء و ما ذكره صدر الأفاضل مذهب لبعض آخر،يشهد بذلك ما ذكره صدر الأفاضل نفسه بعد بيان بطلان التناسخ في بيان أحوال النفوس الناقصة و المتوسّطة و سعادتها و شقاوتها المظنونتين على رأي الحكماء،قال:«أمّا الناقصة الساذجة عن العلوم كلّها حتّى الأوّليات،فقد مرّ اختلاف الحكماء فيها.و المنقول من إمام المشّائين على رواية اسكندر أنّها فاسدة،و على رواية ثامسطيوس أنّها باقية،فإذا ماتت و لم ترسخ فيها رذيلة نفسانيّة تعذّبها و لا فضيلة عقليّة

ص:36


1- -المجلى504/ الطبعة الحجريّة.

تلذّها.و لا أمكن تعطّلها من الفعل و الانفعال و عناية اللّه واسعة و جانب الرحمة أرجح،فلا محالة لها سعادة وهميّة من جنس ما تتصوّره،و في هذه الحالة لا عرية عن اللّذّة بالإطلاق،و لذلك قيل نفوس الأطفال بين الجنّة و النار،و أمّا النفوس العامّيّة التي تصوّرت المعقولات الأوّليّة و لم تكتسب شوقا إلى الحقائق النظريّة حتّى تتأذّى بفقدها تأذّيا نفسانيّا.سواء كانت تقيّة النفس عن معاصي الأفعال الشهويّة و الغضبيّة أو فاجرة عاصية، فالحكماء عن آخرهم لم يكتفوا بالقول عن معاد هذه النفوس و من في درجتها،إذ ليست لها درجة الارتقاء إلى عالم المفارقات،و لا يصحّ القول برجوعها إلى أبدان الحيوانات و لا بفنائها لما علم.

فطائفة اضطرّوا إلى القول بأنّ نفوس البله و الصلحاء و الزهّاد تتعلّق في الهواء بجرم مركّب من بخار و دخان يكون موضوعا لتخيّلاتهم ليحصل لهم سعادة وهميّة،و كذلك لبعض الأشقياء فيه شقاوة وهميّة،و طائفة زيّفوا هذا القول في الجرم الدخانيّ،و صوّبوه في الجرم السماويّ،و الشيخ الرئيس نقل هذا الرأي من بعض العلماء و وصفه بأنّه ممّن لا يجازف في الكلام،و الظاهر أنّه أبو نصر الفارابيّ،و استحسنه قائلا:يشبه أن يكون ما قاله حقّا.و كذا صاحب(التلويحات)صوّبه و استحسنه في غير الأشقياء،قال:«و أمّا الأشقياء فليست لهم قوّة الارتقاء إلى عالم أسماء ذوات نفوس نوريّة و أجرام شريفة (1)،قال:

و القساوة تخرجهم إلى التخيّل الجرميّ،و ليس بممتنع أن يكون تحت فلك القمر و فوق كرة النار جرم كريّ غير منخرق هو نوع بنفسه،و يكون برزخا بين العالمين الأثيريّ و العنصريّ موضوعا لتخيّلاتهم،فيتخيّلون من أعمالهم السيّئة مثلا من نيران و حيّات تلسع و عقارب تلدغ و زقّوم يشرب،قال:بهذا يدفع ما بقي من شبهة أهل التناسخ» (2)، انتهى كلامه.

قلت:و على هذا أيضا تبقى المخالفة في الجملة بين ما ذكره المحقّق الطوسيّ و ما

ص:37


1- -شرح حكمة الإشراق452/-454.
2- -الشواهد الربوبيّة و [1]فيه:...فإذا كانت باقية و لم تترسّخ فيها رذيلة...لا عريّة عن اللّذة بالإطلاق و لا نائلة لها بالإطلاق و لذلك قيل:...لم يكشفوا بالقول عن معاد...قال...و القوّة يحوجهم إلى التخيّل...

ذكره صدر الأفاضل في نقل المذاهب كما لا يخفى على المتأمّل،و كيف ما كان،فتحقيق ذلك ممّا لا يهمّنا،بل الغرض المهمّ إبطال تلك المذاهب في النفوس مطلقا؛فنتكلم فيه، فنقول:

إشارة إلى بطلان القول بفناء النفس بعد خراب البدن

أمّا القول بفناء النفوس الإنسانيّة و انعدامها بعد خراب أبدانها،فقد ظهر بطلانه فيما سبق،حيث أقمنا الحجّة على بقائها بعده،و أمّا القول بتعلّقها بعد خراب أبدانها بأجسام أخر من غير أن تكون هي أنفسا لها و مبادي صورة لها كما نقله الشيخ عن الفارابيّ و مال إليه،سواء كانت تلك الأجسام أجراما سماويّة أو جرما دخانيّا،و سواء قيل به في نفوس السعداء و الأشقياء جميعا،كما هو ظاهر الفارابيّ و الشيخ،و سواء قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السّعداء،و بجرم دخانيّ في الأشقياء،أو قيل بالتعلّق بجرم دخانيّ فقط في السعداء و الأشقياء جميعا،أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ فقط فيها جميعا كما يستفاد هذه المذاهب ممّا نقلنا من كلمات صدر الأفاضل،أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السعداء و بجرم إبداعيّ غير منخرق تحت فلك القمر و فوق كرة النار يكون نوعه منحصرا في شخص في الأشقياء كما نقله عن صاحب التلويحات.

و بالجملة،القول بتعلّق تلك النفوس بتلك الأجسام و الأجرام من غير أن تكون هي متصرّفة فيها مدبّرة لها إلاّ أنّها تكون موضوعة لتخيّلاتها،فبيان بطلان تلك الأقوال على الإجمال أنّه من الأصول المقرّرة عند الحكماء أنّ النفس الإنسانيّة و إن كانت في ذاتها غير مفتقرة إلى البدن،لكنّها في أفعالها محتاجة إليه مستكملة به،و أنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك،و إنّ إدراكاتها الجزئيّة لا تكون إلاّ بآلات جسمانيّة بدنيّة كما اعترف به الفارابيّ نفسه،حيث قال:و هم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات.

و حينئذ نقول:إنّها إذا فارقت الأبدان فكيف يختلف حالها و تصير هي-على كونها بدنيّة-غير بدنيّة و غير مفتقرة إلى بدن يكون إدراكاتها الجزئيّة في ضمنه و بالآلات

ص:38

البدنيّة،و الحال أنّ النفوس التي الكلام فيها ليست نفوسا كاملة مستكملة حتّى يمكن القول بأنّها حينئذ لا تحتاج إلى البدن،بل إنّها تشتغل بكمالاتها الذاتية إمّا مبتهجة بلذّاتها العقليّة،أو متألّمة بآلامها العقليّة.كيف و لو كانت مستكملة كذلك غير مفتقرة إلى البدن، فكما لا تحتاج إلى البدن كذلك لا تحتاج إلى التعلّق بجرم سماويّ أو غيره يكون ذلك الجرم موضوعا لتخيّلاتها و لا تكون هي متصرّفة فيه متعلّقة به تعلّق النفس بالبدن.

و أيضا نقول كما قال صدر الأفاضل أيضا:إنّ كون كلّ جرم سماويّ أو عنصريّ دخانيّ أو جرم غير منخرق موضوعا لتصرّفات الأنفس و تخيّلاتها لا يستقيم إلاّ بأن يكون لها به علاقة طبيعيّة أو لبدنها معه علاقة وضعيّة،فإنّ المسلوب عن العلاقتين كما فيما نحن فيه،كيف تستعمله النفس أو تنسب إليه،فأيّة نسبة حدثت بين النفس التي هي جوهر روحانيّ أوجبت اختصاصه بذلك الجرم و انجذابه من عالمه إليه دون غيره من الأجرام،بل إلى حيّزه دون سائر الأحياز من نوع ذلك الجرم.و أيضا كون جرم سماويّ موضوعا لتصوّرات تلك النفوس إنّما يتصوّر إذا كان بينهما علاقة طبيعيّة ذاتيّة،و من أين يتصوّر العلاقة الطبيعيّة لجوهر نفسانيّ مع جرم تامّ الصورة الكماليّة غير عنصريّ الذات؟ و لا الممكن التصرّف فيه بالتصوير و التمثيل إلاّ لصورته الإبداعيّة الحاصلة له بالفيض الأوّليّ،و أنّه أيّة مادّة جسمانيّة تصير آلة لتخيّل قوّة نفسانيّة،فلا بدّ و أن تتّحد بها ضربا من الاتّحاد و تستكمل بها نوعا من الاستكمال،فتخرجها عن حدّ قوة إلى فعل بالانفعالات و الحركات المناسبة.و الحال أنّ الفلك على رأيهم لا يتحرّك إلاّ حركة واحدة متشابهة وضعيّة مطابقة لحركات النفسانيّة الحاصلة من جهة مدبّر نفسانيّ و معشوق عقليّ يتشبّه به فيها.

و لا يمكن أيضا أن يكون ذلك من قبيل المرايا التي لها نسب وضعيّة إلى ما يتصرّف فيها النفوس بالطبع كما تتخيّل صورة في المرآة التي لها نسبة وضعيّة إلى عينك التي هي بالحقيقة مرآة نفسك التي تتصرف فيها،إذ ليس الجرم الفلكيّ و ما يجري مجراه بالقياس إلى نفسك المدبّرة كإحدى هاتين المرآتين؛كيف و السماويّات عندهم ليست مطيعة إلاّ لمباديها الأولى،و هي ملائكة السماء المحرّكة لها بأمر اللّه تعالى.و لا قابلة للتأثيرات

ص:39

الغريبة لامتناع صورها عن ذلك و لعدم تطرّق القواسر إليها.

و كذلك ليست لهذه النفوس المفارقة عن أبدانها أبدان أخرى كما هو المفروض ليتصوّر بين تلك الأبدان و بين الأجرام العالية علاقة وضعيّة،بسببها تصير هي لها كالمرآة الخارجيّة لتشاهد ما فيها من الصور و الأشباح الخياليّة.ثمّ على تقدير تجويز كونها مرائي،كيف يكون المثل التي هي تخيّلات الأفلاك عين تخيّلات هذه النفوس خصوصا الأشقياء منهم المعذّبون بها كما اعترفوا بأنّ الصور المؤلمة هي التي قد حصلت من هيآتهم الرديّة و عقائدهم الباطلة،و الحال أنّ الحاصل في الأجرام الفلكيّة لصفاء قوابلها و شرف مباديها،ليس إلاّ صورا نقيّة مطابقة للواقع،فلا يستقيم ما قالوه،خصوصا كون جرم فلكيّ ممّا يتعذّب به الأشقياء.و كما لم يجز ذلك في الجرم الفلكيّ فكذلك لا يجوز في جرم إبداعيّ غير منخرق منحصر نوعه في شخصه،لأنّه مع كونه غير معلوم الوجود،إن كان على ما تصوّروه،فلا بدّ و أن يكون له طبيعة خامسة ممتنعة الحركة المستقيمة كالأفلاك، فيكون حكمه حكمها،سواء سمّي باسم الفلك أم لا،و إن كان في حكم العناصر فيكون حكمه حكم الجرم الدّخانيّ،و يكون المحال اللازم على تقديره مشتركا،و هو أنّ ذلك الجرم الدّخانيّ أو ذلك الجرم الإبداعيّ سواء قيل بكونه موضوعا لتصوّرات نفوس الأشقياء فقط،أو لتصوّرات نفوس الأشقياء و السعداء جميعا،إن كان واحدا بالعدد كما هو ظاهر كلامهم في الأوّل،و صريح كلامهم في الثاني.كيف يكون موضوعا لتخيّلات النفوس التي لا تتناهى إلى حدّ،و لتصوّراتها الإدراكية الغير المتناهية؟إذ لا أقلّ من أن يكون فيه بإزاء كلّ تعلق و تصوّر قوّة و استعداد غير ما بإزاء غيره،فيحصل في جرم واحد بالعدد استعدادات غير متناهية مجتمعة،و هذا معلوم الفساد.و إن كان متكثّرا بالعدد،أعني أن يكون بإزاء كلّ نفس من تلك النفوس جرم دخانيّ أو إبداعيّ منفرد،فهذا مع كونه خلاف ما ذهبوا إليه معلوم البطلان أيضا بالضرورة.

و أيضا فما ذكره الشيخ،من أنّه يجوز أن يفضي بهؤلاء التعلّق المذكور آخر الأمر إلى الاستعداد أو للاتّصال المعدّ للعارفين،منظور فيه،لأنّ ذلك موقوف على أن يكون للنفس بعد المفارقة عن البدن اكتساب للعلوم الحقّة و تحصيل للمعارف حتّى تلحق بالعارفين

ص:40

و تستسعد بالسعادة المعدّة لهم،و أنّى للنفوس البله ذلك؟!كيف و هو نفسه قد اعترف فيما سننقله من كلامه في«الشفاء»بأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و قد فرض أنّها فارقت الأبدان.فتدبّر.

و بالجملة،فهذه المذاهب المنقولة ممّا ليس عليها دليل عقليّ و لا نقليّ أخبر به مخبر صادق من أهل العصمة سلام اللّه تعالى عليهم أجمعين،بل كلّها تخمين و جزاف ينبغي أن يتجنّبها من يتجنّب الاعتساف و يبتغي الإنصاف،و ليس المخلص في هذه الأحكام إلاّ بالتشبّث بأذيال المخبرين الصادقين المؤيّدين من عند اللّه تعالى.و كأنّ فيما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه بعد نقل مذهب الفارابيّ في ذلك بقوله:«ولي في أكثر هذه المواضع نظر»إشارة إلى ما ذكرنا من الأنظار و نظائرها.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في معاني التناسخ

و حيث عرفت ذلك و بقي إبطال القول بالتناسخ و نحوه،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول أوّلا:إنّ التناسخ كما ذكره صدر الأفاضل و نقلنا كلامه يتصوّر على معاني و وجوه:

و المعنى الأوّل الذي ذكره و قال باستحالته،هو محلّ النزاع هنا،و نحن بصدد إبطاله كما سيأتي بيانه،و هو انتقال نفس في هذه النشأة الدنيويّة من بدن إلى آخر عنصريّ مباين للأوّل منفصل عنه،بأن تصير تلك النفس نفسا لذلك البدن الثاني مدبّرة له متصرّفة فيه كما للبدن الأوّل،بأن يموت حيوان و ينتقل نفسه إلى بدن حيوان آخر من بدن إنسانيّ، و هو الذي يسمّونه نسخا،أو بدن حيوان غير إنسانيّ من البهائم و السباع و نحوهما،و هو الذي يسمّونه مسخا،أو بنبات،و هو الذي يسمّونه فسخا،أو إلى جماد،و هو الذي يسمّونه رسخا.

و المعنى الثاني الذي ذكره و جوّزه محصّله:أن يكون في هذه النشأة نفس في بدن

ص:41

اكتسبت في ضمنه أخلاقا رذيلة و هيآت رديّة و صفات ذميمة،ثمّ تظهر في النشأة الأخرويّة بصورة ما غلبت عليها صفاته و تنتقل فيها إلى البدن المناسب لأخلاقها و هيآتها لبدن البهائم و السّباع و نحوهما.

و بالجملة،أن تكون بواطن النفوس في هذه النشأة ممسوخة من غير أن تظهر صورها في الظاهر،بل إنّما كان تظهر هي في الآخرة و تحشر النفوس على صور صفاتها،فترى الصور في هذه النشأة أناسيّ و في الباطن غير ذلك،و هذا المعنى لا مانع منه،و يشهد به التنزيل و الأخبار عن الصادقين عليه السّلام،و به يمكن أن يؤوّل كلام بعض أساطين الحكمة كما حمله صدر الأفاضل عليه،و إن كان في شهادة بعض الشواهد التي ذكرها شاهدة على ذلك نظر،كما يظهر على المتأمّل.كما أنّ في قوله:«فترى الصور أناسيّ و من الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان...الخ» (1).نظر أيضا،إذ يستفاد منه أنّ هذا المعنى يكون للنفوس التي اكتسبت الأخلاق الفاضلة أيضا،و أنّه يمكن أن يكون لبعض تلك النفوس صورة إنسان في الظاهر و في هذه النشأة،و صورة ملك في الباطن تظهر في النشأة الأخرويّة،و أنّه أيضا تناسخ بهذا المعنى.و فيه ما لا يخفى.

و المعنى الثالث الذي ذكره و جوّزه،و قال أنّه واقع هو كذلك،و محصّله:أن يكون في هذه النشأة نفس اكتسبت الرذائل و رسخت فيها و تمكّنت منها حتّى مسخ باطنها و انقلب بصورة حيوان غلبت عليه تلك الرّذائل و الصفات،ثمّ غلبت قوّتها النفسانيّة حتّى صارت قد غيّرت مزاج بدنها و هيئته إلى شكل ما هو بصفتها من حيوان آخر فمسخ ظاهرها أيضا، أي انقلب ظاهره من صورته التي كانت إلى صورة ما انقلب إليه باطنها من غير أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر،و أن يكون كلّ ذلك بإذن اللّه تعالى بحسب ما يستحقّه تلك النفوس بسوء عملها.

و هذا المعنى أيضا لا مانع منه،بل هو واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم و ضعفت قوّة عقولهم كما أخبر به التنزيل في بني إسرائيل؛قال تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (2)،

ص:42


1- -الشواهد الربوبيّة233/. [1]
2- -المائدة(5):60. [2]

و قال كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)) (1)و قد أخبر به أيضا الصادقون المعصومون عليه السّلام،روي مرفوعا عن عليّ عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن المسوخ،فقال:هي ثلاثة عشر:الفيل،و الدّب، و الخنزير،و القرد،و الجرّيّ،و الضّبّ،و الخفّاش،و العقرب،و الدعموس،و العنكبوت، و الأرنب،و سهيل،و الزهرة.فلمّا سئل عن سبب مسخهم،قال:

أمّا الفيل فكان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا و لا يابسا.

و الدبّ كان رجلا مؤنّثا يدعو الرجال إليه.

و كان الخنزير رجلا نصرانيّا.

و القرد من الذين اعتدوا في السبت.

و الجرّيّ كان رجلا ديّوثا.

و الضبّ كان سرّاقا.

و الخفّاش كان يسرق الثمار.

و العقرب كان رجلا لذّاعا لا يسلم من لسانه أحد.

و الدعموس كان نمّاما يفرّق بين الأحبّة.

و الأرنب كانت امرأة لا تطهر من الحيض و لا من غيره.

و سهيل كان رجلا عشّارا.

و الزهرة امرأة نصرانيّة (2).

و قد روي عن دانيال عليه السّلام،أنّ بخت النصر مسخ في شبح صورة من السباع (3).

و كذلك روي عن داود و سليمان و غيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليه السّلام أمثال ذلك (4).

إلاّ أنّ الحديث المرويّ عن عليّ عليه السّلام في المسوخ كأنّه مرموز يصعب دركه و فهم معناه على أذهاننا القاصرة.أمّا في خصوص سهيل و الزهرة،فلأنّ الظاهر كما يدلّ عليه سائر

ص:43


1- -البقرة(2):65، [1]الأعراف(7):166. [2]
2- -المجلى:507.
3- -نفس المصدر.
4- -نفس المصدر.

الشواهد على المسخ أنّ المسخ إنّما هو انتقال نفس من بدن أشرف إلى بدن أخسّ لا بالعكس كما في الصورتين،و خصوصا الانتقال من بدن عنصريّ قابل للكون و الفساد إلى بدن فلكيّ كوكبيّ نورانيّ غير قابل لهما على رأي الحكماء.

غايته أن يكون الانتقال من بدن إلى بدن مساو له في الشرف و الخسّة مسخا أيضا، و ليس الأمر هنا كذلك،و أمّا في غير سهيل و الزهرة من الحيوانات فلأنّه لا يخلو عن أحد احتمالين:

الأوّل:أن يحمل الحديث على أنّ حدوث تلك الحيوانات بأنواعها و أشخاصها كان على النهج المذكور،كأن كان حدوث نوع الفيل مثلا بأن كان أوّلا في الوجود رجل لوطيّ جبّار فمسخ إلى صورة الفيل،فحدث الفيل بنوعه و شخصه.ثمّ استمرّ وجود نوعه في ضمن أشخاصه بالتوالد،أو انعدم ذلك الفيل فخلق اللّه تعالى على صورته بعد ذلك فيلا آخر و بقي بنوعه و أشخاصه،كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المرويّة من أنّ المسوخ بعد مسخه كان يبقى أيّاما قلائل ثمّ انعدم،فخلق اللّه تعالى على صورته و هيئته و شكله حيوانا آخر من نوعه.

فهذا الاحتمال على التقديرين و إن كان ظاهر لفظ الحديث إلاّ أنّه خلاف الظاهر من معنى المسخ،كما لا يخفى.و أيضا ينبغي على هذا أن يحمل ما ذكر في معنى التناسخ بهذا المعنى الثالث من أنّه انقلاب الباطن إلى صورة حيوان غلبت عليه صفاته،ثمّ انقلاب الظاهر من صورته إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن،أعمّ من أن يكون هناك في الوجود حيوان كذلك انقلب المستنسخ إلى صورته،أو لم يكن هناك في الوجود حيوان كذلك إلاّ أن تقتضي صفات تلك النفس انقلابها إلى صورة حيوان كذلك،فمسخت و انقلبت إلى صورة حيوان كذلك فحدث نوع ذلك الحيوان،و هذا التعميم خلاف ظاهر هذا المعنى من التناسخ،بل الظاهر خصوص الشقّ الأوّل من هذين الشقّين،أي أن يكون هناك في الوجود حيوان آخر ثمّ حصل الانقلاب الباطنيّ فالظاهريّ.

الاحتمال الثاني:أن يحمل على أنّه و إن كان هناك في الوجود أنواع تلك الحيوانات و أشخاصها مستمرّة تلك الأنواع بوجود أشخاصها،إلاّ أنّه كان أيضا هناك مثلا رجل

ص:44

لوطيّ جبّار،فمسخ إلى صورة الفيل،فحدث ذلك الفيل أيضا،سواء كان انعدم بعد أيّام قلائل فخلق على صورته فيل آخر فبقي ذلك أيضا مشاركا في الوجود للأفراد الأخر من الفيل،كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المأثورة في ذلك المذكورة آنفا،أو لم ينعدم في ذلك بل بقي هو أيضا مشاركا لها في الوجود،و كان هو مثل سائر أفراد الفيل، حيث تبقى إلى زمان انقضاء أجلها و تحدث منها بالتوالد أفراد أخر.

فهذا الاحتمال و إن كان ظاهر معنى المسخ و التناسخ بهذا المعنى الثالث،إلاّ أنّه خلاف ظاهر لفظ الحديث،فتدبّر.

و بالجملة،ففهم معنى هذا الحديث الشريف ممّا يعسر علينا و إن كان دلالته على ما هو مطلوبنا هنا من وقوع المسخ في الوجود في الجملة ظاهر،و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول صدر الأفاضل:«و أمّا مسخ صورة الباطن دون الظاهر،فكقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صفة قوم من أمّته«إخوان العلانيّة...الخ»،كأنّه إشارة إلى أنّ هنا معنى رابعا للتناسخ واقعا في الوجود.

و أقول:إنّه كما يشهد عليه هذا الحديث الشريف النبويّ الذي ذكره،كذلك يشهد عليه بعض الأخبار المرويّة عن الصادقين عليه السّلام روى الراونديّ رحمه اللّه في كتابه الموسوم ب«الخرائج و الجرائح»بإسناده عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام،قال:قلت:ما فضلنا على من خالفنا،فو اللّه إنّي لأرى الرجل منهم أرخى بالا و أكثر مالا و أنعم عيشا و أحسن حالا و أطمع في الجنّة؟قال:فسكت عنّي حتّى إذا كنّا بالأبطح من مكّة رأينا الناس يضجون إلى اللّه،فقال:يا أبا محمّد هل تسمع ما أسمع،قلت:أسمع ضجيج الناس إلى اللّه تعالى.فقال:ما أكثر الضجيج و العجيج و أقلّ الحجيج!و الذي بعث بالنبوّة محمّدا و عجّل بروحه إلى الجنّة،ما يتقبّل اللّه إلاّ منك و من أصحابك خاصّة.قال:ثمّ مسح عليه السّلام يده على وجهي فنظرت فإذا أكثر الناس خنازير و حمير و قردة إلاّ رجل بعد رجل (1).

و روي عن أبي بصير أيضا،قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام:أنا مولاك و شيعتك ضعيف

ص:45


1- -الخرائج 821/2،طبع قم.

ضرير اضمن لي الجنّة.فقال:أ و لا أعطينّك علامة الأئمّة؟قلت:و ما عليك أن تجمعها لي! قال:و تحبّ ذلك؟قلت:و كيف لا أحبّ؟فما زاد أن مسح على بصري فأبصرت جميع ما في السقيفة التي كان فيها جالسا.ثمّ قال:يا أبا محمد مدّ بصرك فانظر ما ترى بعينك؟قال:

فو اللّه ما أبصرت إلاّ كلبا أو خنزيرا أو قردا،فقلت:ما هذا الخلق الممسوخ؟قال:هذا الذي ترى هذا السواد الأعظم،لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى من خالفهم إلاّ في هذه الصور،ثمّ قال يا أبا محمد!إن أحببت تركتك على حالك هكذا،و إن أحببت ضمنت لك الجنّة و رددتك إلى حالك الأوّل،قلت:لا حاجة لي إلى النظر إلى هذا الخلق المنكوس، ردّني فما للجنّة عوض،فمسح على عيني فرجعت كما كنت (1).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على هذا المعنى من النسخ.

و أمّا الفرق بينه و بين المعنى الثالث الذي ذكره صدر الأفاضل فظاهر،لأنّ المفروض في هذا المعنى مسخ الباطن وحده دون الظاهر،بخلاف المعنى الثالث فإنّ المفروض فيه مسخ الباطن و الظاهر جميعا.

و كذلك الفرق بينه و بين المعنى الثاني الذي ذكره ظاهر،على تقدير حمل هذا المعنى على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر أصلا،لا في هذه النشأة و لا في النشأة الأخرويّة،و حينئذ يكون معنى رابعا.و أمّا على تقدير حمله على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر في هذه النشأة،و أمّا في النشأة الأخرويّة فينقلب الظاهر أيضا إلى صورة الباطن.فعلى هذا يكون هذا المعنى عين المعنى الثاني،و لا فرق بينهما أصلا فلا يكون معنى رابعا،و اللّه تعالى يعلم.

و حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما جرى ذكره بالتقريب في البين،فحريّ بنا أن نرجع إلى ما كنّا بصدده من إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه،الذي هو المعنى الأوّل من تلك المعاني.

ص:46


1- -الخرائج 882/2.

في إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه

فنقول:إنّهم أقاموا على إبطاله وجوها من الحجج

منها:ما نقلناه عن الشيخ في«الإشارات»من الحجّتين اللتين ذكر الشيخ أولاهما في «الشفاء»على ما نقلنا كلامه فيه.و بيان الأولى منها كما يدلّ عليه كلامه في الكتابين واضح،و أمّا بيان الثانيّة منهما فقد اختلف فيه الشارحون للإشارات و ذكروا فيه وجوها من التقرير.

منها-ما ذكره المحقّق الطوسيّ على ما نقلنا كلامه،و لعلّنا نذكر فيما بعد تلك التقريرات الأخر أيضا.و كيفما كان،فلا يخفى أنّ هاتين الحجّتين جميعا مبنيّتان على مقدّمة بإتمامها تتمّ الحجّتان،و تلك المقدّمة هي التي أشار إليها الشيخ في«الإشارات» إشارة إجماليّة بقوله:«و إلاّ لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه» (1).

و ذكرها في«الشفاء»بوجه مفصّل و بيان أبسط،بقوله:«فقد أوضحنا أنّ الأنفس إنّما حدثت و تكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة،و ظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق و البخت»إلى قوله:«فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان» (2).

فلذا قدّم بيان تلك المقدّمة على بيان المطلوب تمهيدا و إشعارا بأنّه لا تتمّ تلك الحجّة إلاّ بإتمام تلك المقدّمة.

و حاصل تلك المقدّمة:أنّ حدوث النفس عن العلّة القديمة يتوقّف على حصول استعداد في القابل لها،أعني البدن،و عند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس و فيضانها على ذلك القابل،لما تقرّر عندهم أنّ وجود المعلول لازم عند تمام العلّة.

و بعبارة أخرى أنّ العلّة الفاعليّة لفيضان النفس على البدن سواء فرضناها العلّة القديمة -كما دلّ عليه كلام الشيخ-أو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه كما هو الحقّ،تامّ الفاعليّة لا

ص:47


1- -شرح الإشارات 356/3. [1]
2- -الشفاء، [2]الطبيعيات356/.

نقص في فاعليّته،و العلّة القابلة له هو البدن باستعداده الخاصّ و قابليّته الخاصّة،و عند تمام الاستعداد يتمّ قابليّته،و المفروض حصول كلّ شرط يتوقّف عليه فيضان النفس على البدن،و كذا ارتفاع كلّ مانع من ذلك.فإذا كانت الحال كذلك،أي كانت العلّة الفاعليّة تامّة الفاعليّة،و العلّة القابليّة تامّة الاستعداد،و حصلت جميع الشروط له و ارتفعت جميع الموانع عنه،تحقّقت العلّة التامّة له.و من المقرّر الثابت أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب وجود المعلول و يمتنع تخلّفه عنها.

فظهر بما ذكرنا إتمام تلك المقدّمة،و ظهر أيضا وجه ما ذكره الشيخ من أنّه عند تهيّؤ الأبدان يجب فيضان وجود النفس لها،و أنّ ذلك ليس على سبيل الاتّفاق،و أنّ كلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له،و أن ليس بدن يستحقّه و بدن لا يستحقّه،إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها يتقوّم،فإنّه لو كان بدن إنسانيّ مثلا يستحقّ نفسا يكمل هو بها،و بدن آخر و هو في حكم مزاجه بالنوع و لا يستحقّ ذلك، بل إن اتّفق كان،و إن لم يتّفق لم يكن ذلك البدن الآخر من نوعه،هذا خلف.

و لا يخفى عليك أنّه بعد ثبوت هذه المقدّمة،لا سترة في تماميّة تينك المقدّمتين.و قد أورد جمع من المتأخّرين،منهم الشارح القوشجيّ في«شرح التجريد»على الحجّة الأولى،بل على هذه المقدّمة؛قال:«و اعترض عليه بأنّه مع ابتنائه على كون المبدأ موجبا لا مختارا مبنيّ على حدوث النفس،و قد مرّ أنّه لا يتمّ بيانه إلاّ بإبطال التناسخ الموقوف على حدوث النفس،فيلزم الدور.و أيضا،انحصار شرط حدوث النفس في حدوث استعداد البدن ممنوع،لجواز أن يكون مشروطا أيضا بأن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق النفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد،فلا يحدث حينئذ نفس أخرى لانتفاء شرط الحدوث.انتهى. (1)

و أقول:إنّ هذا الاعتراض مركّب من ثلاثة اعتراضات.

بيان أوّلها أنّ ما ذكره من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه

ص:48


1- -شرح التجريد للقوشجيّ329/،ط تبريز.

إنّما يتمّ إذا كان المبدأ الفاعليّ لذلك فاعلا موجبا،لا يمكن تخلّف فعله عنه،و أمّا إذا كان فاعلا بالاختيار-كما فيما نحن فيه-فلا يتمّ،إذ ربّما كان ذلك الفاعل بالاختيار مع كونه تامّ الفاعليّة لا يريد الفعل و لا يشاؤه و لا يختاره،فلا يفعله.

و جوابه:أنّ ما ذكرنا من أنّ مبنى تلك المقدّمة،و هو أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول،لا فرق فيه بين كون العلّة الفاعليّة فاعلا بالاختيار أو بالايجاب،إذ الدليل الذي ذكروه على امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة على تقدير تماميّته-كما هو الحقّ-يجري في الفاعل الموجب و المختار جميعا.

و بالجملة:فذلك الدليل يدلّ على أنّه عند حصول العلّة التامّة،يجب أن يريد الفاعل المختار ذلك الفعل و يختاره و يفعله البتّة،و أنّ العلّة التامّة يجب أن يكون علّة موجبة له.

و بعبارة أخرى أنّا حيث فرضنا تماميّة العلّيّة في ذلك،فقد فرضنا أنّ العلّة الفاعليّة له إذا كان مختارا قد أراد ذلك الفعل و شاءه أيضا لعلمه بالأصلح في ذلك أو لعنايته الأزليّة، فمع فرض إرادته لذلك و مشيّته له كيف لا يريده و لا يشاؤه؟حيث إنّ فرض عدم الإرادة حينئذ،إمّا أن يكون لحدوث مصلحة في تركه لم يكن ذلك الفاعل يعلم تلك المصلحة قبل ذلك و حين إرادته له فيلزم النقص،و المبدأ الفيّاض تعالى شأنه منزّه عنه و إمّا أن يكون لا لحدوث مصلحة في تركه،بل كانت المصلحة في فعله حينئذ كما كانت قبل، فيلزم ترجيح المرجوح،أي ترجيح ما لا مصلحة فيه في الواقع على ما فيه مصلحة في الواقع،و هذا باطل بالضرورة.و إمّا أن يكون لأنّ إرادته جزافيّة لا تكون على وفق المصلحة أصلا،فتارة يريد الفعل و تارة لا يريد تركه،فهذا أيضا محال بالضرورة.

و أمّا بيان ثاني تلك الاعتراضات،فهو أنّ دليل إبطال التناسخ مبنيّ على حدوث النفس،و بيانه متوقّف على بيانه.و كذا دليل حدوث النفس مبنيّ على إبطال التناسخ و متوقّف عليه،فيلزم الدور.

أمّا ابتناء دليل إبطال التناسخ على حدوث النفس كما هو مبنى الحجّتين اللتين أقامهما الشيخ عليه،فظاهر،و كذلك ابتناء دليل حدوث النفس على إبطال التناسخ،حيث إنّ الدليلين اللذين نقلا أخيرا عن القوم على ذلك لا يخفى ابتناؤهما عليه،بل هو مصرّح

ص:49

به فيهما كما ذكر.و كذا الدليل الأوّل الذي نقل عن الشيخ في«الشفاء»،إذ هو أيضا لو لم يكن مبنيّا عليه لم يتمّ،فإنّه لو جاز التناسخ،جاز أن يكون وجود النفس و تكثّرها و تشخّصها بالأبدان التي قبل هذه الأبدان الإنسانيّة التي كلامنا فيها،ثمّ تناسخت و تنقّلت إلى هذه الأبدان،سواء كانت تلك الأبدان الأوّلة-قديمة أو حادثة-قبل هذه الأبدان،فلا تكون النفس حادثة بحدوث هذا البدن كما هو المطلوب.

و بالجملة،فهذا البيان في كلّ من المطلبين دوريّ،و هو مستحيل.

و الجواب عن هذا الاعتراض:إنّ دليل حدوث النفس بحدوث البدن و إن كان متوقّفا على إبطال التناسخ،إلاّ أن إبطال التناسخ ليس متوقّفا عليه،بل إنّما هو متوقّف على حدوث تعلّق نفس بالبدن،و هذا المعنى لا يستلزم أن يكون ذات تلك النفس موجودة و حادثة بحدوث البدن،حتّى يكون البيان دوريّا،بل يمكن أن يكون ذات تلك النفس موجودة قبل حدوث هذا التعلّق،ثمّ حدث تعلّقها بالبدن المفروض.مع أنّا سنقيم الحجّة إن شاء اللّه تعالى على ذلك،بحيث لا تكون متوقّفة على حدوث النفس و لا على حدوث تعلّقها أصلا،فانتظر.

و أمّا ثالث تلك الاعتراضات،فيمكن تقريره على وجهين:

الأوّل:و هو الظاهر من كلام المعترض،أنّ ما ذكرتموه من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه،و بنيتموه على أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول،إنّما يتمّ إذا كان هناك علّة تامة مستجمعة لجميع شرائطها،و لا نسلّم ذلك فيما نحن فيه،إذ يجوز أن يكون من جملة الشرائط أن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق نفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد،و حين صادف نفسا موجودة مستنسخة فلا يحدث نفس أخرى لانتفاء شرط حدوثها.

و الثاني:أن يقال:إنّ ما ذكرتموه و بنيتموه على امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة إنّما يتمّ إذا كانت هناك علّة تامة مستجمعة لارتفاع جميع الموانع،و لا نسلّم ذلك فيما نحن فيه،إذ من الجائز أن تكون مصادفة لنفس موجودة مستنسخة مانعة عن حدوث نفس أخرى،فلا تحدث لحصول مانع عنها.

ص:50

و أمّا الجواب عن هذا الاعتراض على التقديرين،فهو أن يقال:إنّ مبنى هذا الاعتراض،إمّا على أنّ ذلك البدن المستعدّ لحصول نفس له كان مستعدّا لفيضان النفس الحادثة الأخرى و النفس المستنسخة جميعا،إلاّ أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة و صادفها فلم تحدث النفس الأخرى.

فيردّ عليه أوّلا أنّه كيف يمكن أن يكون البدن الواحد بالعدد و بالشخص الذي هو علّة قابليّة لحدوث النفس قابلا لتعلّق نفسين متعدّدتين متكثّرتين بالعدد مختلفتين،و من المقرّر عندهم وجوب الموافاة بين المعلول و علّته،سواء كانت علّة قابليّة أو فاعليّة، و وجوب مساواتها و مناسبة بينهما و خصوصيّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر،بها يختصّ أحدهما بالآخر،و أنّه لو كان الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير،لكان الواحد بما هو واحد كثيرا،و الكثير بما هو كثير واحدا و هذا،باطل بالضرورة.و منه يظهر وجه آخر لبطلان التناسخ،إذ على تقدير جواز تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن يلزم هذا المحال أيضا.

فتدبّر.

و أمّا ثانيا،فلأنّ سبق تعلّق النفس المستنسخة،إمّا أن يكون بدون أولويّة و رجحان أو مع أولويّة،و على الأوّل فإمّا أن تكون أولويّة في تعلّق النفس الأخرى،فيلزم ترجّح المرجوح في الواقع،و هو باطل،و إمّا أن لا تكون أولويّة فيه أيضا،بل كان تعلّق النفسين على السواء،فيلزم الترجيح من غير مرجّح،و هذا أيضا باطل.

و على الثالث،فيبقى السؤال عن تلك الأولويّة و أنّها ما ذا؟و من المعلوم خلافها فيما نحن فيه.

و أمّا أن يكون مبنى هذا الاعتراض على أنّ ذلك البدن المستعدّ لفيضان نفس عليه كان مستعدّا لنفس واحدة بالعدد،إلاّ أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة فلم تحدث نفس أخرى.

فيرد عليه أنّه إذا كان مستعدّا لفيضان نفس واحدة،فكيف لم يتعلّق به تلك النفس الأخرى المفروض كونه مستعدّا لها و تعلّقت به النفس المستنسخة و سبقت،و الحال أنّ استعداده لها غير معلوم،و كذلك أولويّة تعلّقها به غير معلومة،بل الأولويّة في خلافه،

ص:51

حيث يلزم على تقديره جواز تعلّق نفس واحدة بالعدد بأكثر من بدن واحد،و كون الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير بما هو كثير،و قد عرفت بطلانه.

و أمّا أن يكون مبناه على أنّ ذلك البدن لم يكن له استعداد بالقياس إلى نفس ما،إلاّ أنّه صادف نفسا مستنسخة بحسب الاتّفاق فلم تحدث النفس الأخرى،فهذا مع كونه خلاف ظاهر كلام المعترض أظهر بطلانا ممّا سبق،كما لا يخفى.

و الحاصل أنّ كلام هذا المعترض يحتمل احتمالات كلّها باطلة.فبقي أن يكون ما ذكروا من أنّه عند حصول كمال استعداد البدن لفيضان نفس عليه يجب فيضانها عليه، و أنّه إذا تعلّقت به النفس المستنسخة أيضا يكون لبدن واحد نفسان حقّا،و حينئذ يتمّ الحجّتان كما ذكروه.و حيث عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير الحجّتين.

فنقول:أمّا تقرير الحجّة الأولى،كما يدلّ عليه كلام الشيخ في«الشفاء»مفصّلا و في «الإشارات»مجملا،و يدلّ على تفصيله كلام المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه له،فظاهر لا احتياج إلى بيانها.

و أمّا الحجّة الثانية في«الإشارات»،فحيث كان كلام الشيخ في ذلك لا يخلو عن اجمال ما اختلف شارحوه في تقريرها،و قد عرفت ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ كيفيّة تقريره لها،و قد قال صاحب«المحاكمات»،في قول المحقّق الطوسيّ:«و الحجّة الثانيّة أن يقال:النفس المستنسخة...الخ» (1)هكذا قرّر الإمام هذه الحجّة (2)لو صحّ عليها التناسخ،فأمّا أن تتعلّق ببدن آخر كما فارقت،أو تبقى خالية عن التعلّق زمانا ثمّ تتعلّق ببدن آخر.

و الأوّل (3)يلزمه محالان:أحدهما أنّه مهما فسد يجب أن يحدث بدن آخر.و الآخر أنّه إذا فارقت نفوس كثيرة يجب أن توجد أبدان على عدد النفوس،و الاّ لتعلّق ببدن واحد أكثر من نفس واحدة،و القسم الثاني باطل،لأنّها حينئذ تكون معطّلة و لا معطّل في

ص:52


1- -شرح الإشارات 357/3. [1]
2- -في المصدر:بأنّ النفس لو صح...
3- -في المصدر:و على الأوّل يلزم...

الطبيعة.

و هذا التقرير فيه زيادة و نقصان،أمّا الزيادة فهي فرض خلوّ النفس عن التعلّق بالبدن،فلا أثر منها في الكتاب و لا حاجة إليه،لأنّ إثبات التناسخ مبنيّ على امتناع التعطيل،و أمّا النقصان،فلأنّ قوله:«و لا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه» (1)يقتضي أن يكون قسما من الأقسام المفروضة في الدليل، و ليس في هذا التقرير منه أثر،فلهذا زاد الشارح في الأقسام في تقرير الحجّة:«و إنّما ترك بيان استحالة قسم الثاني،و هو أن يكون اتصال النفس بالبدن الثاني قبل فساد الأوّل لظهوره ممّا يذكر في الأقسام الأخر.فمن البيّن أنّه يلزم منه تعلّق نفس واحدة ببدنين و هو محال» (2)انتهى.

و قال في قوله:«و يعود المحالات المذكورة»بهذه العبارة:«إشارة إلى ما لزم من اجتماع النفوس على بدن واحد في الأقسام الثلاثة.لكن يرد عليه وجوه من الاعتراض:

أحدها على قوله:«و على التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة،فإنّ اجتماع النفوس على بدن واحد إن لم يستلزم اتّصالها به،لم يتمّ الخلف، لأنّه لم يفرضها حينئذ متّصلة،و إن استلزمه فالترديد إلى التشابه في الاستحقاق و الاختلاف،ثمّ إلى اتّصالها و تدافعها مستقبح غاية الاستقباح».

و ثانيها على قوله:«أو يحدث للبعض الآخر نفوس أخر،و يلزم منه محالان فإنّ عدم الأولويّة ممنوع،لجواز أن لا يستعدّ بعض الأبدان إلاّ لبعض النفوس،و إلاّ لم يجز أن يتعلّق نفس ببدن أصلا لعدم الأولويّة.

و ثالثها على قوله:«و أمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة،فإنّه زيادة لا حاجة إليها كما في تقرير الإمام».

و التقرير المنطبق على المتن كمال الانطباق أن يقال:لو تعلّقت النفوس بالأبدان على سبيل التناسخ،فإمّا أن يجوز أن يستحقّ نفوس متعدّدة بدنا واحدا أو لا يجوز،بل يستحقّ

ص:53


1- -شرح الإشارات 357/3، [1]كما مرّ و اما النقصان...
2- -شرح الإشارات 357/3-358.

كلّ نفس بدنا على حدّة،فإن استحقّ كلّ نفس بدنا،يلزم أن يكون بإزاء فساد كلّ بدن كون بدن آخر،و أن يكون عدد الأبدان الكائنة بعدد النفوس المفارقة،و ليس كذلك لأنّه ربّما يموت ألوف ألوف في يوم واحد لقتل أو وباء أو غير ذلك،و يعلم بالضرورة أنّه لم يحدث من الأبدان ألوف ألوف،و إن جاز أن يستحقّ نفوس بدنا واحدا،فإمّا أن تتّصل به فيلزم أن يكون لبدن واحد نفوس و هو محال،أو تتدافع فلا يتعلّق به فلا تتناسخ و قد فرضناه،هذا خلف»انتهى كلامه (1).

و أقول:لا يخفى على المتأمّل المنصف أنّ التقرير المنطبق على كلام الشيخ هو ما ذكره صاحب«المحاكمات»دون تقريري الإمام و المحقّق الطوسيّ،و أنّ إيراده عليهما ظاهر الورود.و أنّ المطلوب-و هو إبطال التناسخ-يتمّ على كلّ من التقريرات الثلاثة،و أنّ ما أورده عليهما لا يقدح في تماميّة الحجّة على ذلك،فلذا لم نتعرّض للتكلّم في دفع ما أورده عليهما،و إن كان يمكن دفعه بعناية يطول الكلام ببيانها.

نعم،ربّما أورد بعض المتأخّرين على ما تضمّنه كلام الشيخ من أنّه على القول بالتناسخ على بعض التقديرات،يلزم أن يتّصل كلّ فناء بكون،و أن يكون عدد الكائنات من الأبدان عدد ما يفارقها من النفوس،و إنّه ليس كذلك،و قد أخذه شارحوه كلّهم في تقريرهم للحجّة،بأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان التعلّق ببدن آخر لازما البتة و على الفور،و أمّا إذا كان جائزا-و لو بعد حين-فلا،لجواز أن لا ينتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو ينتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة،و ما ذكر من التعطّل مع أنّه لا حجّة على بطلانه،فليس بلازم، لأنّ الابتهاج بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل.

و هذا الإيراد مندفع،يظهر اندفاعه ممّا أشير إليه سابقا.و بيانه أنّ القائلين بالتناسخ -كما ذكره المحقّق الطوسيّ و صاحب«المحاكمات»فيما نقلناه عنهما و كذا غيرهما.

-إنّما قالوا به لأجل امتناع التعطّل،فكيف يقولون بجوازه؟مع أنّ القول بجواز التعطّل في الوجود بديهيّ البطلان،يحكم ببطلانه كلّ ذي فطرة سليمة،و ما ذكره من أنّ الابتهاج

ص:54


1- -شرح الإشارات 358/3.

بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل،هو و إن كان كذلك،إلاّ أنّه إنّما يكون في النفوس الكاملة أو المتوسّطة،لا في النفوس الساذجة أو الناقصة التي كلامنا فيها،و القائلون بالتناسخ إنّما قالوا به فيها.

و على تقدير تسليم كون ذلك الشغل فيها أيضا فنقول:إنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة يجب أن يكون شغلها بشيء في ضمن بدن ما،حيث إنّ شغلها و إدراكاتها الجزئيّة لا يكون إلاّ بآلات جسمانيّة،فكيف تكون مجرّدة عن البدن رأسا في أفعالها بعد مفارقتها عنه؟و كيف تكون تارة محتاجة إلى البدن في أفعالها،و تارة مجرّدة عنه؟و هل هذا إلاّ تهافت؟

برهان آخر على بطلان التناسخ

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّه من جملة البراهين الواضحة على هذا المطلب-أي بطلان التناسخ-ما أشار إليه بعض الأفاضل،و نحن نذكر تفصيله:

و هو أن يقال:لا شكّ في أنّ النفس المستنسخة التي الكلام في جواز تناسخها قد حصلت لها في ضمن البدن الأوّل فعليّة ما في كمالاتها،فهي بعد تعلّقها بالبدن الثاني إمّا أن يبقى لها تلك الفعليّة في الجملة،أو أن تزول عنها رأسا و تصير هي بالقوّة المحضة.

و الأوّل خلاف الواقع و خلاف المشاهد المحسوس،حيث إنّا نعلم يقينا أنّ النفس في أوّل كونها ليس لها تلك الفعليّة في كمالاتها أصلا،بل إنّها في أوّل حدوثها درجتها درجة الطبيعة ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة،حتّى تتجاوز درجة النبات و الحيوان،و تحصل لها الدرجة الإنسانيّة.

و أيضا على هذا يلزم أن تكون هي تتذكّر شيئا من أحوال البدن الأوّل و أحوال ذاتها في ضمنه،لأنّ محلّ العلم و التذكّر هو جوهر النفس الباقي بعينه كما كان،و هذا أيضا خلاف الواقع و المشاهد.

و القول بأنّ التذكّر إنّما يلزم أن لو لم يكن التعلّق بذلك البدن الأوّل شرطا،

ص:55

و الاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا،و طول العهد منسيا،لا يخفى أنّه من قبيل الخرافات و الأباطيل،يشهد بذلك أنّه لو كان ما ذكره هذا القائل حقّا،لكانت النفس في النشأة البرزخيّة و النشأة الأخرويّة لا تتذكّر شيئا من ذلك،و قد ورد التنزيل و أخبار المخبرين الصادقين عليهم السّلام بخلافه.

و الثاني:أي زوال تلك الفعليّة عنها و صيرورتها بالقوّة بالنسبة إليها محال أيضا،إذ يلزم أن تكون تلك النفس قد حصلت لها فعليّة ما أوّلا ثمّ ترجع إلى القوّة المحضة و الاستعداد الصرف،أي أن تكون نفس تجاوزت درجة النبات و الحيوان فرجعت قهقرى إلى المرتبة المنويّة و إلى مرتبة الجنين،حيث إنّها في أوّل كونها و تعلّقها بالبدن بالقياس إلى كمالاتها بالقوّة المحضة،و انقلاب ما بالفعل-من حيث هو بالفعل-إلى ما بالقوّة المحضة من حيث هو بالقوّة محال بالضرورة.و أمّا التمنّي الذي حكى اللّه سبحانه عن الأشقياء بقوله: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)) (1)فهو تمنّي أمر مستحيل.مثل التمنّي الذي حكاه تعالى عنهم بقوله: نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ)) . (2)

و بعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه لا يبقى للنفس المستنسخة تلك الفعليّة،بل تصير بالقوّة،و صيرورة الفعليّة قوّة محال بالضرورة.و هذا البرهان على ما قرّرناه لا يخفى على المستبصر المسترشد أنّه برهان واضح تامّ على هذا المطلوب غير مبنيّ على حدوث النفس.و كذا هو كما أنّه جار في إبطال التناسخ جار أيضا في إبطال المسخ و الرسخ و الفسخ جميعا.بل ربّما يدّعي أنّ جريانه في ذلك أظهر منه فيه باعتبار حيث إنّ بقاء تلك الفعليّة للنفس المستنسخة المنتقلة إلى الجماد مثلا،بل إلى النبات و الحيوان أيضا ظاهر البطلان غاية الظهور،لا يدّعي خلافه من له أدنى مسكة.

و القول بأنّه ربّما كانت تلك الفعليّة باقية لها في هذه الصور،و أنّ النفس المستنسخة إلى الجماد أو إلى النبات أو إلى الحيوان ربّما كانت تتذكّر شيئا من أحوالها السابقة،إلاّ أنّا لا نعلم ذلك و لا نفهمه منها،قول في غاية السقوط،بل هو هذيان محض،و كيف تكون

ص:56


1- -النبأ(78):40. [1]
2- -الأعراف(7):53. [2]

هذه متذكّرة شيئا منها و لا تكون النفس المستنسخة المنتقلة إلى الإنسان الذي هو أكمل منها أو أشرف متذكّرة لشيء منها أصلا؟

بل ربّما يقال:إنّ النفس الإنسانيّة المستنسخة المنتقلة إلى الجماد أو النبات أو الحيوان كما أنّها لا تبقى لها تلك الفعليّة،لا تكون لها قوّة و استعداد أيضا للإنسانيّة و لو بعيدا،إلاّ أنّه حينئذ لا يكون المحال اللازم على تقدير جواز ذلك صيرورة الفعليّة قوّة،إذ لا قوّة أيضا على هذا،بل يكون ذلك المحال انتفاء الفعليّة رأسا من دون انقلاب إلى القوّة أيضا،و انتفاء الفعليّة رأسا مع كون محلّ تلك الفعليّة-و هو جوهر تلك النفس المستنسخة -باقيا بعينه،و مع عدم طروء شيء ينافي تلك الفعليّة من طروء ضدّ و نحو ذلك،محال قطعا.

و بعبارة أخرى:صيرورة النفس المستنسخة الباقية بعينها نفسا ساذجة محضة بعد أن كانت لها فعليّة ما محال قطعا.

لا يقال:ما ذكرت من عدم طروء المنافي للفعليّة هنا ممنوع،إذ ربّما كان المنافي لها هو أحد من الأمور التي جعلها بعضهم منافيا للتذكّر،كما ذكرت آنفا.

لأنّا نقول:قد عرفت أنّ القول به من الخرافات.

دليل آخر

ثمّ إنّه من جملة الدلائل على بطلان التناسخ بالمعنى المتنازع فيه ما ادّعاه بعض علمائنا-كما سننقل كلامه في مبحث انتقال الأرواح بعد مفارقتها عن الأبدان إلى الأبدان المثاليّة-أنّه انعقد إجماع المسلمين قاطبة على بطلانه،بل صار بطلانه ضروريّا من الدين.و هذا الادّعاء لو ثبت لكان هذا الدليل من أعظم الدلائل على بطلانه.و اللّه أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه بما ذكرنا تمّ الدليل على بطلان التناسخ و أخواته،فلنرجع إلى صوب المقصد الآخر فنقول:

ص:57

المطلب الثالث

اشارة

في بيان أحوال النفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها

اعلم أنّ هذا المطلب مركّب من مطلبين:

أحدهما:بقاؤها بعد خراب بدنها،و هذا قد مرّ مستقصى فيما سلف،حيث أقمنا الدليل العقليّ و النقليّ عليه،فتذكّر.

و الثاني:كيفيّة حالها بعده،و هذا أيضا و إن سبقت منّا إشارة ما إليه ثمّة في ضمن نقل الأخبار الواردة في بقائها بعده،إلاّ أنّا نزيدك هنا بيانا،و نقدّم لذلك مقدّمة تتضمّن لذكر ما قالته الحكماء في معنى اللّذة و الألم و السعادة و الشقاوة،و كذا لذكر ما قالوه في بيان كيفيّة حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن.

فنقول:قال الشيخ في«الشفاء»في فصل«في المعاد»:«و بالحريّ أن نحقّق هاهنا أحوال الأنفس الإنسانيّة إذا فارقت أبدانها،و أنّها إلى أيّة حال ستصير؟فنقول:يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و هو الآن (1)للبدن عند البعث،و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم،و قد بسطت الشريعة الحقّة التي آتانا سيّدنا و نبيّنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن.

و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهانيّ،و قد صدّقته النبوّة،و هو السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس،و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما

ص:58


1- -في المصدر:خبر النبيّ و هو الذي.

الآن لما سنوضّح من العلل.و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و إن أعطوها، و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل.و على ما سنصفه عن قريب،فلنعرف حال هذه السعادة،و الشقاوة المضادّة لها،فإنّ البدنيّة مفروغ عنها في الشرع.

فنقول:يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا يخصّها،و أذى و شرّا يخصّها.

مثاله:أنّ لذّة الشهوة و خيرها أن يتأدّى إليها كيفيّة محسوسة ملائمة من[الحواسّ] الخمسة،و لذّة الغضب الظفر،و لذّة الوهم الرجاء،و لذّة الحفظ تذكّر الأمور الموافقة الماضية،و أذى كلّ واحد منها ما يضادّه،و يشترك كلّها نوعا من الشركة في أنّ الشعور بموافقتها و ملائمتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها،و موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،فهذا أصل.

و أيضا فإنّ هذه اللذّة (1)و إن اشتركت في هذه المعاني،فإنّ مراتبها بالحقيقة مختلفة، فالذي كماله أتمّ و أفضل،و الذي كماله أكثر،و الذي كماله أدوم،و الذي كماله أوصل إليه و حصل له،و الذي هو في نفسه أكمل فعلا و أفضل،و الذي هو في نفسه أشدّ إدراكا،فاللذّة التي له أبلغ و أوفى لا محالة،و هذا أصل.

و أيضا:فإنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنّه كائن و لذيذ و لا يتصوّر كيفيّته و لا يشعر بالتذاذه،ما لم يحصل و ما لم يشعر به لم يشتق إليه لا ينزع نحوه (2)مثل العنّين،فإنّه متحقّق أن للجماع لذّة،و لكن لا يشتهيه و لا يحنّ نحوه الاشتهاء و الحنين اللذين يكونان مخصوصين به،بل بشهوة أخرى،كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل بها إدراك و إن كان موذيا في الجملة فإنّه لا يتخيّله،و كذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،و لهذا يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه و فرجه،و أنّ المبادي الأولى المقرّبة عند ربّ العالمين عادمة اللذّة

ص:59


1- -في المصدر:و إنّ هذه القوى.
2- -في المصدر:و لم ينزع نحوه.

و الغبطة،و أنّ ربّ العالمين ليس له في سلطانه و خاصيّته البهاء الذي له،و قوّته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة و الشرف و الطيب كلّه أن نسمّيه لذّة،ثمّ للحمار و البهائم حالة طيّبة و لذيذة،كلاّ،بل أيّ نسبة تكون لما للعالية إلى هذه الخسيسة؟و لكنّا نتخيّل هذا أو نشاهده و لم نعرف ذلك بالاستشعار،بل بالقياس،فحالنا عنده كحال الأصمّ الذي لم يسمع قطّ في عدم تخيّل اللذّة اللحنيّة و هو متيقّن بطيبها،و هذا أصل.

و أيضا فإنّ الكمال و الأمر الملائم قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة،و هناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه و تؤثر ضدّه عليه،مثل كراهيّة بعض المرضى للطعم الحلو،و شهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات،و ربّما لم يكن كراهية و لكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذّة فلا يشعر بها و لا يستلذّها،و هذا أصل.

و أيضا:فإنّه قد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّ ما هو كمال لها و لا تحسّ به و لا تنفر عنه،حتّى إذا زال العائق و رجعت إلى غريزتها تأدّت به،مثل الممرور فربّما لم يحسّ لمرارة فمه،إلى أن يصلح مزاجه و يستنقى أعضاؤه،فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له، و كذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة،بل كارها له،و هو أوفق شيء له و يبقى عليه مدّة طويلة،فإذا زال العائق عاد إلى واجبته في طبعه،فاشتدّ جوعه و شهوته للغذاء، حتّى لا يصبر عنه و يهلك عند فقدانه،و قد يحصل سبب الألم العظيم،مثل إحراق النار و تبريد الزمهرير،إلاّ أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

فإذا تقرّر هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه.

فنقول:إنّ النفس الناطقة كمالها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكلّ و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ مبتدئا من مبدأ الكلّ و سالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة،ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان،ثمّ الأجسام المعلومة بهيئاتها و قواها (1)،ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه

ص:60


1- -في المصدر:بهيئاتها و قوامها.

فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه،مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال الحقّ،و متّحدا به و منتقلة بمثاله و هيئته،و منخرطة في سلكه،و صائرة من جوهره،و إذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى توجد في المرتبة بحيث يصحّ (1)معها أن يقال إنّه أفضل و أتمّ منها،بل لا نسبة إليها بوجه من الوجوه فضيلة و تماما و كثرة و سائر ما يتمّ بدوام (2)إلذاذ المدركات كما ذكرناه.

و أمّا الدوام،فكيف يقاس الدوام الأبديّ بدوام المتغيّر الفاسد.و أمّا شدّة الوصول، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال،إذ العاقل و المعقول شيء واحد أو قريب من الواحد.و أمّا أنّ المدرك في نفسه أكمل،فأمر لا يخفى.و أمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل و تذكّر منك لما سلف بيانه،فإنّ النفس النطقيّة أكثر عدد مدركات و أشدّ تقصّيا للمدرك و أشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض،و لها الخوض في بطن المدرك و ظاهره،بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك،و كيف يقاس هذه اللذّة باللذّة الحسّيّة و الوهميّة و الغضبيّة؟و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول،و لذلك لا نطلبها و لا نحنّ إليها.اللهمّ إلاّ أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة و الغضب و أخواتهما من أعناقنا و طالعنا شيئا من تلك اللذّة،فحينئذ ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا (3)و خصوصا عند انحلال المشكلات و استيضاح المطلوبات اليقينيّة (4)و نسبة التذاذنا ذلك نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطفّفها،بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود.

و أنت تعلم إذا تأمّلت عويصا يهمّك و عرضت عليك شهوة و خيّرت بين الظفرين

ص:61


1- -في المصدر:بحيث يقبح معها...
2- -في المصدر:و سائر ما يتم به إلذاذ...
3- -في المصدر:خيالا طفيفا و خصوصا...
4- -في المصدر:النفسيّة...

استخففت بالشهوة،إن كنت كريم النفس،و الأنفس العاميّة أيضا فإنّها تترك الشهوات المعترضة و تؤثر الغرامات و الآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة (1)، و هذه كلّها أحوال عقليّة بعضها أضداد بعضها،يؤثر على ما يؤثر في أضدادها على المؤثّرات الطبيعيّة،و يصبر لها على المكروهات الطبيعيّة،فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء،فكيف في النبيهة (2)العالية،إلاّ أن الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير و الشرّ و لا يحسّ بما يلحق الأمور النبيهة، لما قيل من المعاذير.و أمّا إذا انفصلنا عن البدن و كانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله،و هي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالعقل أنّه موجود،إلاّ أنّ اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها و معشوقها،كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل،و كما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو و اشتهاءه،و تميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفاء ما يعرض من اللذّة التي أوجبنا وجودها و دلّلنا على عظم منزلتها،فيكون ذلك هو الشقاوة و العقوبة التي لا يعد لها تفريق النار للاتّصال و تبديل الزمهرير للمزاج،فيكون مثلنا مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف،أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير،فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به،فلم يتأذّ،ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

و أمّا إذا كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه،كان مثلها (3)الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ،و عرض لحالته أن لا يشتهي،و كان لا يشعر به،فزال عنه الخدر فطالع اللذّة العظيمة دفعة،و يكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّيّة و الحيوانيّة بوجه،بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي للجواهر الحيّة المحضة،و هي أجلّ من كلّ لذة و أشرف.فهذه هي السعادة،و تلك هي الشقاوة.و تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين،بل

ص:62


1- -في المصدر:استقباح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة....
2- -في المصدر:..في الأمور البهيّة العالية...
3- -في المصدر:..مثل الخدر.

للذين اكتسبوا القوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها،و ذلك عند ما تبرهن لهم أنّ من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ بكسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل،فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأوّل،و لا أيضا في سائر القوى،بل شعور أكثر القوى بكمالاتها إنّما يحدث بعد أسباب،و أمّا النفوس و القوى الساذجة الصرفة،فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق،لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا و ينطبع في جوهر النفس إذا تبرهن للقوة النفسانيّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها،بالحدود الوسطى على ما علمت.

و أمّا قبل ذلك فلا يكون،لأنّ هذا الشوق يتبع رأيا،إذ كلّ شوق يتبع رأيا،و ليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا بل رأيا مكتسبا؛فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي لزم النفس ضرورة هذا الشوق،فإذا فارقت و لم يحصل معها ما يبلغ به بعد الانفصال التمام،وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ،لأنّ أوائل الملكة العلميّة،إنّما كانت تكتسب بالبدن لا غير و قد فارقت،و هؤلاء إمّا مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ،و إمّا معاندون جاحدون متعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة،و الجاحدون أسوأ حالا لما اكتسبوا من هيئات مضادّة للكمال.و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه نصّا إلاّ بالتقريب،و أظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّرا حقيقيّا،و تصدّق بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان،و تعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكلّيّة دون الجزئيّة التي لا تتناهى و يتقرّر عندها هيئة الكلّ و نسب أجزائه بعضها إلى بعض،و النظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه،و تتصوّر العناية و كيفيّتها،و تتحقّق الذات المتقدّمة للكلّ أيّ وجود يخصّها ذاتها،و أيّة وحدة يخصّها ذاتها كيف يعرف حتّى يلحقها تكثّر و تغيّر بوجه من الوجوه،و كيف ترتيب نسبة الموجودات إليها.

ثمّ إذا (1)ازداد الناظر استبصارا ازداد للسعادة استعدادا،و كأنّه ليس يتبرأ الإنسان عن

ص:63


1- -في المصدر:...ثمّ كلّما ازداد.

هذا العالم و علائقه إلاّ أن يكون أشدّ العلاقة مع ذلك العالم،فصار له شوق إلى ما هناك و عشق لما هناك،فصدّه عن الالتفات إلى ما خلفه جملة.

و نقول أيضا:إنّ هذه السعادة الحقيقية لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس، و نقدّم لذلك مقدّمة،و كأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول:إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدّم رويّة،و قد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين،لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط،بل أن تحصل ملكة التوسط،و ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة و للقوى الحيوانيّة معا،أمّا للقوّة الحيوانيّة فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان،و أمّا للقوّة الناطقة فبأن يحصل فيها هيئة الاستعلاء و الانفعال،كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط موجودة للقوّة الناطقة و للقوّة الحيوانيّة و لكن بعكس هذه النسبة، و معلوم أنّ الإفراط و التفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة،و إذا قويت القوى الحيوانيّة و حصل له ملكة استعلائيّة،حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة،و أثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن تجعلها قويّة العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه.

و أمّا ملكة التوسّط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانقياديّة و تبقية النفس على جبلّتها مع إفادة هيئة الاستعلاء و التنزّه،و ذلك غير مضادّ لجوهرها و لا مائل لها إلى جهة البدن بل عن جهته،فإنّ التوسط يسلب عنه الطرفين (1)دائما.ثمّ جوهر النفس إنّما كان البدن هو الذي يغمره و يلهيه و يغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال له.و عن الشعور بلذّة الكمال إن حصل له،و الشعور بألم الكمال إن قصر عنه،لا بأنّ النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه و لكن للعلاقة التي كانت بينها و هي الشوق الجبليّ إلى تدبيره و الاشتغال بآثاره،فربّما يورده عليها من عوارضه و بما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن،فإذا فارقت و فيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال به كانت قريبة الشبه من حالها و هي فيه،فبما تنقص من ذلك تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها،و ربّما

ص:64


1- -في المصدر:الطرفان.

يبقى منه معها تكون محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها و يحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها.ثمّ إنّ تلك الهيئة البدنيّة مضادّة لجوهرها موذية لها، و إنّما كان يلهيها عنها أيضا البدن و تمام انغماسها فيه،فإذا فارقت النفس البدن أحسّت بتلك المضادّة العظيمة و تأذّت بها أذى عظيما،لكنّ هذا الأذى و هذا الألم ليس لأمر لازم بل لأمر عظيم (1)غريب،و الأمر العارض الغريب لا يدوم و لا يبقى،و يزول و يبطل مع زوال (2)الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها،فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة،بل تزول و تنمحي قليلا قليلا حتّى تزكو النفس و تبلغ السعادة التي تخصّها.

و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق،فإنّها إذا فارقت البدن و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة صارت إلى سعة من رحمة اللّه و نوع من الراحة.و إن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة و ليس فيها هيئة غير ذلك و لا معنى يضادّه و لا ما ينافيه،فتكون-لا محالة-ممنوّة بشوقها إلى مقتضاها فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن و مقتضيات البدن، من غير أن يحصل المشتاق إليه،لأنّ آلة ذلك قد بطلت و خلق التعلّق بالبدن قد بقي.

و يشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا،و هو:أنّ هذه الأنفس إن كانت زكيّة و فارقت البدن و قد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم على سبيل ما يمكن أن يخاطب به العامّة،و تصوّر من ذلك في أنفسهم،فإنّهم إذا فارقوا الأبدان و لم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة،و لا شوق كمال ليشقوا تلك الشقاوة،بل جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل،منجذبة إلى الأجسام؛و لا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها.قالوا:فإنّها تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة،و تكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل شيء من الأجرام السماويّة،فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر و البعث و الخيرات الأخرويّة،و تكون الأنفس الرديّة أيضا تشاهد العقاب بحسب ذلك

ص:65


1- -في المصدر:بل لأمر عارض قريب.
2- -في المصدر:مع ترك الأفعال...

المصوّر لهم في الدنيا و تقاسيه،فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة،بل تزداد عليها تأثيرا و صفاء كما يشاهد في المنام،فربّما كان المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس؛على أن الأخرويّ (1)أشدّ استقرارا من الموجودة في المنام بحسب قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل.و ليست الصورة التي ترى في المنام،بل و التي تحسّ في اليقظة كما علمت،إلاّ المرتسمة في النفس،إلاّ أنّ أحدهما يبتدئ من باطن و ينحدر إليه، و الثاني يبتدئ من خارج و يرتفع إليه.فإذا ارتسم في النفس (2)فعل فعلها هناك الإدراك المشاهد و إنّما يلذّذ و يؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج، و كلّما ارتسم في النفس فعل فعله و إن لم يكن له سبب من خارج،فإنّ السبب الذاتيّ هو هذا المرتسم،و الخارج سبب بالعرض أو سبب السبب،فهذه هي السعادة و الشقاوة الخسيستان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة،و أمّا الأنفس المقدّسة،فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال و تتّصل لكمالها بالذات و تنغمس في اللذّة الحقيقيّة و تتبرّأ عن النظر إلى ما خلفها و الى المملكة التي كانت لها كلّ التبرّؤ،إذ لو كان قد بقي (3)فيها من ذلك أثر اعتقاديّ أو خلق تأذّت به و تخلّفت لأجله عن درجة العلّيين إلى أن ينفسخ و يزول (4).

انتهى كلامه.

و أقول:و مثله كلامه في«الإشارات»في كثير من تلك المطالب التي بيّنها،و لعلّنا نذكر فيما بعد بعض كلامه فيه.فلنتكلّم أوّلا في شرح ما نقلنا عنه في هذا الفصل،ثمّ نتكلّم في المقصد.

فنقول:إنّ ما ذكره أوّلا بقوله:«يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع الخ»غرضه ظاهرا أنّ المعاد على قسمين:

قسم هو مقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق

ص:66


1- -في المصدر:الأخرى.
2- -في المصدر:في النفس ثمّ هناك الإدراك.
3- -في المصدر:و لو كان بقي...
4- -الشفاء، [1]الإلهيّات،فصل المعاد. [2]

النبيّ عليه السّلام و هو المعاد للبدن،أي إعادة هذا البدن العنصريّ عند البعث و إعادة الروح إليه مرّة أخرى،و حيث كان هذا القسم من المعاد لا استقلال للعقل في إثباته،و كانت خيرات البدن و شروره اللتان كان الغرض من إثبات هذا القسم من المعاد إثباتهما معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم بالقياس البرهانيّ،و كان مع ذلك قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا سيّدنا و نبيّنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة اللّتين بحسب البدن و حال تلك الخيرات و الشرور البدنيّة،فلذا لم نتعرّض لإثبات هذا القسم من المعاد.

و قسم هو مدرك بالعقل و القياس البرهانيّ،و للعقل سبيل إلى إثباته،و قد صدقته النبوّة،أي إخبار النبيّ عليه السّلام أيضا،و هو المعاد الروحانيّ،و السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس البرهانيّ اللّتان هما حاصلتان للأنفس بحسب ذواتها و حقائقها.و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما و إدراكهما الآن،أي حين كوننا متعلّقين بالبدن العنصريّ الدنيويّ،منغمسين فيه كما سنوضّح في الأصول الآتية من العلل على عدم تصوّر ذلك، و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك السعادة البدنيّة لخسّتها بالنسبة إلى السعادة الروحانيّة العقليّة،و لا يتوجّهون إليها و إن أعطوها،و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة العقليّة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل تعالى شأنه على ما سنصفه عن قريب.و حيث كان الحال كذلك،فلا بدّ من إثبات هذا القسم من المعاد بالقياس البرهانيّ فلنعرف أوّلا حال هذه السعادة و الشقاوة المضادّة لها،أي العقليّتين،ثمّ نتعرّض لإثباتهما للأنفس،فإنّ السعادة و الشقاوة البدنيّتين مفروغ عنهما في الشرع الشريف،فلا علينا أنّ نتكلّم فيها، و هذا بيان مراده.

كلام مع كثير من الحكماء

و أقول:و فيه نظر قد أومأنا إليه في صدر الرسالة،و هو أنّه إن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ ممّا لا يستقلّ في إثباته العقل أصلا،فهو ليس كذلك،لأنّا سنقيم فيما بعد

ص:67

إن شاء اللّه تعالى الدليل على إثبات أصله،و نبيّن أنّ للعقل استقلالا في أنّه يجب أن يعود النفس الإنسانيّة بعينها إلى بدنها الأوّل الباقي بعينه من حيث الأجزاء الأصليّة لأجل وقوع الثواب و العقاب البدنيّين الحسّيّين.

و إن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ و إن كان ممّا يستقلّ العقل في إثبات أصله،لكن لا استقلال له في إثبات ما ورد في الشرع من خصوصيّات الثواب و العقاب الحسّيّين الأخرويّين،و كذا في خصوصيّات ما ورد فيه من الأمور الحسّيّة الواقعة في الآخرة،و في أنّه يجب أن يقع الثواب و العقاب البدنيّان على تلك الأنحاء و الأنهاج و الكيفيّات المخصوصة الواردة فيه،بل إنّ إثبات ذلك موكول على الشرع كما هي مبيّنة فيه،أي أنّ بيان تفاصيل تلك إنّما هو في الشرع،و إن كان العلم بها من حيث الخصوصيّة و الوجه الجزئيّ موقوفا على العيان و المشاهدة،فهذا الاحتمال و إن كان له وجه في الجملة،لكنّه خلاف ظاهر كلامهم،بل هو بعيد عنه بمراحل.

ثمّ إنّ الحكماء الإلهيّين الذين أهملوا إثبات المعاد الجسمانيّ و قصروا النظر على إثبات الروحانيّ منه فقط،لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة؛

إن كان المراد أنّه حيث كانت السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة،و كانت البدنيّة مفروغا عنها في الشرع الشريف،فلذلك أهمل الحكماء الإلهيّون إثبات الجسمانيّ،و حاصله التصديق بالجسمانيّ من المعاد و الروحانيّ منه جميعا،إلاّ أنّ الجسمانيّ منه لما كان مبيّنا في الشرع،و كانت السعادة العقليّة أعظم،فلذا تعرّضوا لإثبات الروحانيّ،و أهملوا إثبات الجسمانيّ،و أحالوا إثباته على الشرع كما فعله الشيخ،فله وجه في الجملة إلاّ أنّه خلاف ظواهر كلماتهم،لأنّ حوالة إثبات الجسمانيّ منه على الشرع غير ظاهرة من كلماتهم المنقولة عنهم في ذلك،كما نقلنا جملة منها في صدر الرسالة،حتّى ممّا حكاه الشيخ هنا عنهم.

و إن كان المراد أنّهم تعرضوا لإثبات الروحانيّ و أهملوا إثبات الجسمانيّ مطلقا،و لو على سبيل الحوالة على الشرع،لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة كما هو ظاهر كلامهم،و منه ما حكاه الشيخ عنهم،ففيه مخالفة للشرع،لا من أجل إنكارهم للجسمانيّ،

ص:68

بل لأجل إهمالهم له،مع كونه ممّا نطق به الشرع و ضروريّا في الدين كما بيّناه في صدر الرسالة.

و قد عرفت أيضا ثمّة أن في مفهوم لفظ«المعاد»الذي قالوا به دلالة على ثبوت الجسمانيّ،فتذكر.

و أيضا أنّا سلّمنا أنّ السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة-كما يظهر ذلك ممّا سيذكره الشيخ-إلاّ أنّ تلك الأعظميّة لا تكون منشأ لإهمال البدنيّة مطلقا،كيف و أكثر ما نطق به الشرع فيه دلالة على البدنيّة خاصّة،و ما نطق به في العقليّة هو أقلّ قليل منه كما يظهر على من تتّبع الآيات و الأخبار.و القول بأنّ الخطاب فيما يدلّ على البدنيّة،إنّما هو للعامّة خاصّة دون الخاصّة من العقلاء خلاف الظاهر جدّا.كما أنّ القول بأنّ السعادة البدنيّة حيث كانت خسيسة جدّا و ليست لذّة في الحقيقة،بل إنّما هي رفع آلام،فلذا ينبغي أن لا يلتفت إليها،بل ينبغي أن يلتفت إلى ما هو لذّة حقيقة و هي اللذّة العقليّة لا يكاد يصحّ،لأنّ كون البدنيّة رفع آلام إنّما يسلّم في اللذّات الحسّيّة الدنيويّة،و لا يسلّم في اللذّات الحسّيّة الأخرويّة،و قياس الأخرويّة على الدنيويّة غير معقول.

في حال السعادة و الشقاوة العقليّين

فهذه جملة من النظر الذي يرد على كلام الشيخ هنا فيما قال هو به،و فيما حكاه عن الحكماء الإلهيّين،فتبصّر.

ثمّ أنّه تعرّض لتعرّف حال السعادة و الشقاوة العقليّتين،و قرّر أوّلا لذلك أصولا خمسة.

و الذي ذكره في الأصل الأوّل من تلك الأصول بقوله:«يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا...الخ»فيه تنبيه على أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا يخصّها،و أذى و شرّا و ألما يخصّها،و إنّما أورد في المثال اللذّات و الآلام التي للقوّة الحيوانيّة تنبيها على ظهورها،حيث أنّه لا ينكر أحد وجودها،حتّى إنّه قصر بعض الأوهام العامّيّة اللذّات

ص:69

و الآلام على اللذّات و الآلام الحسّيّة الحيوانيّة،كما يشعر به كلامه الآتي،و يدلّ عليه كلامه في«الإشارات»كما سننقله.

و كذلك فيه تنبيه على أنّ لكلّ هذه القوى النفسانيّة،و كذا كلّ اللذّات و الآلام تشترك نوعا من الشركة في أنّ شعور تلك القوّة بموافقة تلك الأمور و ملائمتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها،و أنّ موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،و كذلك الحال في الألم،فإنّه بضدّ ذلك.و إنّما قال:«فإنّ الشعور بموافقتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها»،تنبيها على أنّه إذا لم يكن هناك شعور بموافقتها و ملائمتها لم يكن هناك لذّة و لا خير بالنسبة إلى تلك القوّة،و أنّه إذا كان لها شعور بها كانت هناك لذّة،و يعبّر عنها بالخير أيضا.

و إنّما قال:«و موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل»،تنبيها على أنّ الشعور بموافقة الموافق الذي هو اللذيذ و الكمال للملتذّ إنّما يكون لذة إذا كان لها شعور بحصول ذلك اللذيذ و الكمال و وصوله إليه،و على أنّ ذلك الكمال أيضا يختلف،فقد يكون كمالا في الواقع أو مقيسا إلى غير ذلك الملتذّ،فحينئذ لا يكون الشعور بحصوله له لذّة و لا خيرا له،و قد يكون كمالا بالقياس إليه بأن يعتقد كونه كمالا له،سواء كان كمالا له في الواقع أو لم يكن،فحينئذ يكون الشعور بحصوله له لذّة،و على أنّ الكمال الذي يكون الشعور بحصوله له لذّة ينبغي أن يكون كمالا بالفعل لا بالقوّة.و منه يتلخّص التنبيه على ماهيّة اللذّة،حيث تلخّص أنّ اللذّة-و يعبّر عنها بالخير أيضا-هو الشعور بموافقة الموافق الذي هو حصول الكمال الذي هو كمال بالقياس إليه،و هو كمال بالفعل.و كذلك يتلخّص منه التنبيه على ماهيّة الألم،فإنّه بخلاف ذلك.و هذا الذي يظهر منه التنبيه على ماهيّة اللذّة و الألم قريب ممّا ذكره في«الإشارات»في التنبيه على ماهيّتهما.

قال:«تنبيه أنّ اللذّة هي إدراك و نيل لوصول ما هو عند المدرك كمال و خير من حيث

ص:70

هو كذلك،و الألم هو إدراك و نيل لوصول ما هو عند المدرك آفة و شرّ». (1)

و قد قال المحقّق الطوسيّ في شرحه:«أمّا الإدراك فقد مرّ شرح اسمه،و أمّا النيل فهو الإصابة و الوجدان.و إنّما لم يقتصر على الإدراك،لأنّ إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه،و نيله لا يكون إلاّ بحصول ذاته،و اللذّة لا تتمّ بحصول ما يساوى اللذيذ، بل إنّما تتمّ بحصول ذاته.و إنّما لم يقتصر على النيل لأنّه لا يدلّ على الإدراك إلاّ بالمجاز.

و إنّما أوردهما معا لفقدان لفظ يدلّ على المعنى المقصود بالمطابقة،فقدّم الأعمّ الدالّ بالحقيقة و أردفه بالمخصّص الدالّ بالمجاز.

و إنّما قال«لوصول ما هو عند المدرك»و لم يقل«لما هو عند المدرك»لأنّ اللذّة ليست هي إدراك اللذيذ،فقط بل هي إدراك حصول اللذيذ عند الملتذّ و وصوله إليه.

و إنّما قال:«ما هو عند المدرك كمال و خير»لأنّ الشيء قد يكون كمالا و خيرا بالقياس إلى شيء و هو لا يعتقد كماليّته و خيريّته فلا يلتذّ به،و قد لا يكون كذلك و هو يعتقده فيلتذّ به،فالمعتبر كماليّته و خيريّته عند المدرك لا في نفس الأمر،و الكمال و الخير هنا-أعني المقيسين إلى الغير-هما حصول شيء لما من شأنه أن يكون ذلك الشيء له، أي حصول شيء يناسب شيئا و يصلح له،أو يليق به بالقياس إلى ذلك الشيء.

و الفرق بينهما أنّ ذلك الحصول يقتضي لا محالة براءة من القوة لذلك الشيء،فهو بذلك الاعتبار فقط كمال،و باعتبار كونه مؤثّرا خير؛و الشيخ إنّما ذكرهما لتعلّق معنى اللذّة بهما،و أخّر ذكر الخير لأنّه يفيد تخصيصا ما بذلك المعنى.و إنّما قال:«من حيث هو كذلك»لأنّ الشيء قد يكون كمالا و خيرا من جهة دون جهة،و الالتذاذ به يختص بالجهة التي هو معها كمال و خير.

فهذه ماهيّة اللذّة،و يقابلها ماهيّة الألم كما ذكره.و هما أقرب إلى التحصيل من قولهم:

«اللذّة إدراك الملائم،و الألم إدراك المنافي».و لذلك عدل الشيخ منه إلى ما ذكره في هذا الموضع (2)،انتهى كلامه.

ص:71


1- -شرح الإشارات 337/3. [1]
2- -شرح الإشارات 337/3-339. [2]

و أنت بعد ما أحطت بما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه،يظهر لك بيان تقارب ما ذكره الشيخ في الكتابين في المعنى المحصّل لماهيّة اللذّة و الألم،و إن كان بين ما في الكتابين تغاير ما في بعض العبارات،و من جملته أنّه أطلق في«الشفاء»لفظ الخير على اللذّة،و في«الإشارات»على الكمال،و الأمر فيه سهل.

و أما ما ذكره في الأصل الثاني،فهو تنبيه على أنّ مراتب اللذّات،و كذا مراتب الآلام مختلفة متفاوتة باعتبار تفاوت الكمالات التي حصولها لذّة و فقدانها ألم،فبعضها أفضل و أتمّ،و بعضها أكثر،و بعضها أدوم،و بعضها أوصل،و بعضها أكمل،و بعضها أشدّ،إلى غير ذلك من وجوه التفاوت و الاختلاف التي كلّها بيّنة لا سترة فيها.

و ما ذكره في الأصل الثالث هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل،من التقييد بالشعور بالموافقة و التقييد بحصول الكمال،و تنبيه على فائدة القيدين في تعريف اللذّة،و يعلم منه فائدتهما في تعريف الألم بالمقايسة و تنبيه على أنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال بحيث يعلم أنّه كائن و لذيذ،لكن لا يتصوّر كيفيّته و لا يشعر بالتذاذه ما لم يحصل،و ما لم يشعر به لم يشتق إليه و لم ينزع نحوه،كما في العنّين بالنسبة إلى لذّة الجماع،و الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،فإنّه و إن كان يتيقّن أنّ في هذه الأمور لذّة،إلاّ أنّ هؤلاء لا يلتذّون بها لأجل عدم شعورهم بها و عدم حصولها لهم.

و منه يعلم أنّ الوجه في أنّا لا نلتذّ بالصحّة و السلامة مع كونهما كمالا حاصلا لنا،أنّ الشعور بحصول الكمال الذي هو المعتبر في حصول اللذّة غير حاصل هناك،حيث استمرار المحسوسات يذهل النفس عن إحساسها.و بالجملة،فسواء انتفى الشعور و الحصول جميعا-كما في الصور الأوّلة-أو انتفى الشعور فقط كما في الصورة الأخيرة ينتفي اللذّة،فلذا قيّد في مفهوم اللذّة قيد الحصول و الشعور.

و منه يعلم وجه التقييد بضدّ ذلك في مفهوم الألم أيضا،فإنّ صاحب الحميّة مثلا إذا لم يقاس وصب(أي المرض)الأسقام و لم يعرضه آفاتها،ربّما يتألّم عن تناول المتناولات الرديّة و لم يحترز عنه لعدم شعوره بها مع العلم بكونها مؤلمة.و من ذلك يظهر

ص:72

أنّه يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه و فرجه،و أنّ المبادي الأولى و الملائكة المقرّبين عادمو اللذّة.

و بالجملة،يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ اللذّات مقصورة على اللذّات الحسّيّة الخسيسة،و أن ليس في الوجود لذّة عقليّة،و أنّ الملأ الأعلى ليس لهم لذّة،فإنّ من يتوهّم ذلك فحاله كحال العنّين و الأكمه و الأصمّ،بل كحال الحمار،حيث أنّه إنّما يجد تلك اللذّة الخسيسة في بطنه و فرجه فقط و لا يشعر بلذّة أخرى أعلى منها عقليّة،و لم يحصل له ذلك الكمال،مع أنّه لا نسبة للّذّة العقليّة إلى هذه اللذّة الخسيسة،فإنّ اللّذات-كما ذكره في الأصل الثاني-متفاوتة،و اللذّة العقليّة أعلى من الحسّيّة من كلّ وجه كما سيأتي بيانه.

و هذا المطلوب الذي بيّنه الشيخ هنا بعبارة و جيزة،قد بيّنه في«الإشارات»بكلام أبسط،قال:«و هم و تنبيه،إنّه قد سبق إلى الأوهام العامّيّة أنّ اللذّات القويّة المستعلية هي الحسّيّة و أنّ ما عداها لذّات ضعيفة،و كلّها خيالات غير حقيقيّة،و قد يمكن أن ينبّه من جملتهم من له تميّز ما،فيقال له:أ ليس ألذّ ما تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات و المطعومات و أمور تجرى مجراها،و أنتم تعلمون أنّ المتمكّن من غلبة ما-و لو في أمر خسيس كالشطرنج و النرد-قد يعرض له مطعوم و منكوح لطالب العفّة و الرئاسة مع صحّة جسمه في الغلبة الوهميّة،و قد يعرض مطعوم و منكوح لطالب العفّة و الرئاسة مع صحّة جسمه في صحّة(حشمة ن د)حسّيّة فيقبض اليد منهما مراعاة للحشمة،فتكون مراعاة الحشمة آثر و ألذّ لا محالة هناك من المنكوح و المطعوم،و إذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانيّ متنافس فيه،و آثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به.

و كذلك فإنّ كبير النفس يستصغر الجوع و العطش عند المحافظة على ماء الوجه، و يستحقر هول الموت و مفاجآت العطب (1)عند مناجزة المبادرين،و ربّما اقتحم (2)الواحد

ص:73


1- -العطب:الهلاك.
2- -اقتحم:دخل بلا رويّة.

منهم على عدد دهم (1)ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقّعه من لذّة الحمد و لو بعد الموت،كأنّ ذلك يصل إليه و هو ميّت.فقد بان أنّ اللذّات الباطنة مستعلية على اللذّات الجسميّة، و ليس ذلك في العاقل فقط،بل و في العجم من الحيوانات،فإنّ من كلاب الصيد ما يقبض على الجوع ثمّ يمسكه على صاحبه و ربّما حمله إليه،و المرضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها،و ربّما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها،فإذا كانت اللذّات الباطنة أعظم من الظاهرة و إن لم تكن عقليّة،فما قولك في العقليّة. (2)

«تذنيب:فلا ينبغي لنا أن نسمع إلى قول من يقول:إنّا لو حصلنا على جملة لا نأكل و لا نشرب و لا ننكح،فأيّة سعادة تكون لنا؟و الذي يقول هذا،فيجب أن يبصّر و يقال له:يا مسكين،لعلّ الحال التي للملائكة و ما فوقها ألذّ و أبهج و أنعم من حال الأنعام،بل كيف يمكن أن يكون لأحدهما إلى الآخر نسبة يعتدّ بها». (3)انتهى كلامه.

و بالجملة،فيعلم ممّا ذكره في الكتابين أنّ اللذّات العقليّة أعظم من اللذّات الحسّيّة، و هو المطلوب.

و ما ذكره في الأصل الرابع هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا، من التقييد بحصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،و تنبيه على فائدة هذا القيد في تعريف اللذّة،بل تفريع عليه و على ما ذكره فيه من التقييد بالشعور أيضا في تعريف اللذّة.

و بالجملة فهو تنبيه على أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة الكمال و الأمر الملائم لها،إلاّ أنّها لا تستلذّه لحصول مانع أو شاغل هناك للنفس،فتكرهه و تؤثر ضدّه عليه،مثل كراهيّة

ص:74


1- -الدهم:العدد الكثير.
2- -شرح الإشارات 334/3-335،و [1]فيه:إنّه قد سبق إلى...من له تمييز فيقال...و النرد و نحوهما...في صحبة فيقبض اليد...مناجزة الأقران المبارزين...الواحد على عدد...على اللذّات الحسّيّة...ما تقتنص على الجوع...و الواضعة من الحيوانات...
3- -شرح الإشارات 336/3-337. [2]

بعض المرضى للطعم الحلو و شهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات،و ربّما لم تكرهه و لا تستلذّه أيضا،كالخائف يجد الغلبة و اللذّة فلا يستلذّها.

و ما ذكره في الأصل الخامس هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا من التقييد بالشعور،و تنبيه على فائدة ذلك القيد في تعريف الألم،بل تنبيه على فائدة ذلك القيد و قيد حصول ضدّ الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال جميعا في تعريف الألم، حيث ظهر فيه أنّ المعتبر في الألم هو الشعور بحصول ضدّ ما هو الكمال بالقياس إليه، و هذا ظاهر في المثال الذي ذكره أوّلا و ثالثا،و يظهر منه في مثاله الثاني أنّ ذلك تنبيه على فائدة ذلك القيد أو ذينك القيدين في تعريف اللذّة و الألم جميعا.و كيفما كان،فهو تنبيه على أنّه قد يكون القوّة الدرّاكة ممنوّة لضدّ ما هو كمال لها،لكن لا تحسّ به و لا تتنفّر عنه و لا تتألّم منه لحصول عائق عن ذلك،حتّى إذا زال العائق و رجعت إلى غريزتها تأذّت به و تألّمت،مثل الممرور فإنّه ربّما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه و يستنقي أعضاءه،فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له.و كذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة بل كارها له،و هو أوفق شيء له و يبقى عليه مدّة طويلة فلا يلتذّ بالغذاء،فإذا زال العائق عاد إلى واجبة في طبعه و اشتدّ جوعه و شهوته للغذاء،فيتألّم من فقدان الغذاء حتّى لا يصبر عنه و يهلك عند فقدانه،و قد يحصل سبب الألم العظيم،مثل إحراق النار و تبريد الزمهرير،إلاّ أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به و لا يتألّم حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

و الحاصل أنّه بتلك القيود التي اعتبرت في ماهيّة اللذّة و الألم،لا يرد نقض لا على تعريف اللذّة و لا على تعريف الألم.و قد زاد في«الإشارات»في البيان،و زاد قيدا آخر به يندفع النقوض عن تعريف اللذّة و الألم.

قال:«تنبيه،إذا أردنا أن نستظهر في البيان مع غناء ما سلف عنه إذا لطف لفهمه،زدنا فقلنا:إنّ اللذّة هي إدراك كذا من حيث هو كذا و لا شاغل و لا مضادّ للمدرك،فإنّه إذا لم يكن سالما فارغا أمكن أن لا يشعر بالشرط،أمّا غير السالم فمثل عليل المعدة إذا زال مانعه عادت لذّته و شهوته و تأذّى بتأخّر ما هو الآن يكرهه.

ص:75

تنبيه:و كذلك قد يحضر السبب المؤلم و يكون القوة الدرّاكة ساقطة،كما في قرب الموت من المرضى،أو معوّقة كما في الخدر فلا يتألّم،فإذا انبعثت القوّة أو زال العائق عظم الألم» (1).انتهى.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو الكلام في بيان الأصول الخمسة التي أصّلها.

في بيان اللذّة العقليّة للنفس و أنّها أعلى من الحسّيّة و كذلك الألم

ثمّ أنّ الشيخ بعد ما قرّر تلك الأصول قال:«فإذا تقرّرت هذه الأصول،فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه،فنقول:إنّ النفس الناطقة كما لها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا إلى آخر ما ذكره»و مقصوده من ذلك أنّه حيث تقرّرت هذه الأصول و تقرّر أنّ مراتب اللذّة متفاوتة بعضها أعلى من بعض،و أنّ في الوجود لذّة عقليّة هي أعلى من اللذّة الحسّيّة،فيجب أن نبيّن أنّ اللذّة العقليّة للنفس الناطقة الإنسانيّة ما ذا؟و أنّها بأيّة جهة و أيّ سبب أعلى من الحسّيّة؟حتّى يعلم منه بالمقايسة وجود ألم عقليّ لها أيضا و أنّه أشدّ من الحسّيّ.

بيان الأوّل أنّ معنى اللذّة هو الشعور بحصول الكمال الذي هو بالقياس إلى المدرك كمال بالفعل،فشعور النفس الإنسانيّة أيضا بحصول الكمال الخاصّ لها يكون لذّة لها، و كمالها الخاصّ بها من حيث هي ذات مجردة أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكمال و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ مبتديا مبدئا من الكلّ و سالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة،ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان، ثمّ الأجسام المعلمة بهيئاتها و قواها،ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه، فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه،فتصير مع كونه عالما صغيرا منطويا فيها العالم الأكبر،مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الكمال الحقّ،و متّحدا به و منتقلة بمثاله و هيئته و منخرطة في سلكه و صائرة من جوهره.

ص:76


1- -شرح الإشارات 343/3،و [1]فيه:فلا يتألّم به،فإذا انتعشت بالقوّة...

و بعبارة أخرى كما ذكره في«الإشارات»أنّ الكمال الخاص بالجوهر العاقل من الإنسان أن يتمثّل فيه جلية الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصّه،ثمّ يمثل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه،مجرّدا عن الشوب مبتدئا فيه بعد الحقّ الأوّل بالجواهر العقليّة العالية،ثمّ الروحانيّة السماويّة و الأجرام السماويّة،ثمّ ما بعد بذلك تمثّلا لا يمايز الذات،و حيث كان كمالها الخاصّ بها ما ذكر،يكون شعورها به هو لذّتها العقليّة، و الشعور بضدّه ألمها العقليّ.

و بيان الثاني أنّه لا سترة في أنّه إذا قيس هذا الكمال الخاصّ بها بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى الحسّيّة،كتكيّف العضو الذائق و الشامّ و اللامس مثلا بالكيفيّة الملائمة المحسوسة الذي هو كمال القوة الشهوانيّة،و كتكيّف النفس الحيوانيّة بكيفيّة غلبة أو كيفية شعور بأذى يحصل في المغضوب عليه الذي هو كمال القوة الغضبيّة،و كتكيّفها بكيفيّة ما ترجوه أو ما تذكره الذي (1)الأوّل منهما كمال القوة الواهمة،و الثاني كمال القوة الحافظة،إلى غير ذلك من الكمالات بالقياس إلى سائر القوى الحسّيّة الجسمانيّة،كان هذا الكمال الخاصّ بالنسبة إلى تلك الكمالات بحيث يصحّ أن يقال أنّه أفضل و أتمّ منها من جميع الوجوه،و أقوى كيفيّة و أكثر كمّيّة من جميع الجهات و الاعتبارات،بل لا نسبة له إليها بوجه من الوجوه فضيلة و تماما و كثرة،و سائر ما يتمّ بدوام إلذاذ المدركات كما ذكرناه في الأصل الثاني.

و أمّا الدوام فكيف يقاس الدوام الأبديّ الحاصل في الكمال العقليّ بدوام المتغيّر الفاسد الحاصل في الكمالات الأخر.و أمّا شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح كما في كمال القوى الحسّيّة-حيث أنّ الحسّ لا يدرك إلاّ كيفيّات تقوم بسطوح الأجسام التي تحضره-بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله كما في الكمال العقليّ-حيث أنّ العقل يصل إلى كنه المعقول فيعقل حقيقته المكتنفة بعوارضها كما هي، و ليرى في جوهر معقوله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال،إذ العاقل و المعقول شيء واحد

ص:77


1- -«اللّذين»خ ل.

أو قريب من الواحد.

و أمّا أنّ المدرك في نفسه في الإدراك العقليّ أكمل فأمر لا يخفى.و أمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل و تذكّر منك لما سلف بيانه،فإنّ النفس الناطقة أكثر عدادا للمدركات،حيث أنّ عدد تفاصيل المعقولات لا يكاد يتناهى،و ذلك لأنّ أجناس الوجودات و أنواعها غير متناهية،و كذلك المناسبات الواقعة بينهما و المدركات بالحواس محصورة في أجناس قليلة،و إن تكثّرت فإنّما تكثّرت بالأشدّ و الأضعف،كالحلاوتين المختلفتين،و كذلك هي أشدّ تقصّيا للمدرك و أشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض،و لها الخوض في بطن المدرك و ظاهره.فإذا كانت حال الكمالات العقليّة هذه،و حال الكمالات الحسّيّة بخلافه،و كانت اللذّة التابعة لهما بتينك الحالتين أيضا،حيث أنّ نسبة اللذّة إلى اللذّة نسبة الكمال إلى الكمال،و الإدراك إلى الإدراك،كانت اللذّة العقليّة أقوى كيفيّة و أكثر كمّيّة من جميع الجهات من الحسّيّة.بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك،و كيف يقاس هذه اللذّة العقليّة باللذّة الحسّيّة و الوهميّة و الغضبيّة مثلا،و كيف يقاس الألم العقليّ بالألم الحسّيّ أيضا؟و بذلك تمّ بيان ما رامه هنا.

و قوله:«و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة...

إلى آخر ما قاله»تنبيه على حلّ إشكال يرد على هذا الموضع.

بيان الإشكال أنّ كلّ قوّة تشتاق إلى كمالها الخاصّ بها و تتألّم بحصول ضدّه لها، كالباصرة مثلا فإنّها تشتاق إلى النور و تلتذّ بالشعور بحصوله لها،و تنفر عن الظلمة و تتألّم منها،فإن كانت المعقولات كمالات للنفس الإنسانيّة،فما بالها لا تشتاق إلى حصولها و لا تتألّم لحصول الجهل بها المضاد لها؟

و بيان الحلّ أنّ سبب ذلك هو انتفاء شرط اللذّة هنا و كذا شرط الألم،من الشروط المتقدّمة في الأصول المتقرّرة.أمّا شرط اللذّة فمن جهة أنّه قد تقرّر فيها أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة كمال و أمر ملائم،و هناك مانع أو شاغل للنفس،فلا تلتذّ به،بل ربّما تكرهه، و هذا فيما نحن فيه متحقّق،حيث أنّ اشتغال النفس بالمحسوسات حال كونها في ضمن البدن يمنعها إلى الالتفات إلى المعقولات،و انغمارها في الرذائل البدنيّة يشغلها عن

ص:78

الاقبال إلى المعقولات و الشعور بها،و لأجل ذلك لا تلتذّ بتلك المعقولات و إن كانت حاصلة لها،فإنّها ما لم تقبل إليها لم تجد ذوقا منها،فلم يحصل لها شوق إليها فلم تلتذّ بالشعور بحصولها لها.

و أمّا شرط الألم،فمن جهة أنّه قد تقرّر في تلك الأصول أيضا أنّه قد يحصل للقوّة الدرّاكة سبب الأذى و الألم،لكنّها لا تتأذّى منه لحصول عائق منه،و هذا أيضا حاصل هنا، فإنّ أضداد الكمالات العقليّة و هي الجهالات بها لما كانت مستمرّة الوجود غير متجدّدة، و كانت النفس الإنسانيّة مشتغلة بغيرها غير شاعرة بها،كما أنّها غير شاعرة بتلك الكمالات أيضا،فلم تكن مدركة لتلك الأضداد،فلم تكن تتألّم منها.و هذا بيان محصّل مرامه.

و أمّا تحرير كلامه،فهو أن يقال:و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل الحسّيّة البدنيّة لا نحسّ بتلك اللذّة العقليّة إذا حصل عندنا شيء من أسباب تلك اللذّة لأجل فقدان شرطها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول الخمسة،و لذلك لا نطلب تلك اللذّة و لا نحنّ إليها و لا نشتاق إليها.اللّهمّ إلاّ أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة و الغضب و أخواتهما عن أعناقنا،و نفضنا تلك الرذائل عن جواهر نفسنا،و شعرنا بتلك الكمالات و لذّاتها نوعا من الشعور،و طالعنا شيئا من تلك اللذّة،فحينئذ حيث كان الخلع غير تامّ و النفض غير كامل،لم ندرك تلك اللذّة إدراكا كاملا أيضا،بل ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا،و خصوصا عند انحلال المشكلات العقليّة و استيضاح المطلوبات اليقينيّة،و نسبة التذاذنا ذلك إلى الالتذاذ بإدراك حقائق تلك المعقولات و الوصول إلى كنهها نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق الروائح المذاقات اللذيذة الطيّبة أنفسها،إلى الالتذاذ بتطفّفها و تخيّلها،بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود غير متناه.

و يشهد بما ذكرنا أنّك إذا تأمّلت أمرا عويصا عقليّا يهمّك،و عرضت عليك شهوة بدنيّة جسمانيّة،و خيّرت بين الظفرين،أيّ الظفر بذلك الأمر العويص و الظفر بتلك الشهوة، استخففت بالشهوة و آثرت الظفر بالأمر العويص على الظفر بها إن كنت كريم النفس عالي الهمّة.فمن هذا يعلم أنّ لك في ضمن هذا البدن أيضا لذّة عقليّة و أنت تدركها و تؤثرها

ص:79

على اللذّة الحسّيّة.بل الأنفس العامّيّة الغير الكريمة أيضا تكون لها تلك الحالة،فإنّها أيضا قد تترك الشهوات المعترضة لها التي هي لذّات حسّيّة و تؤثر الغرامات و الآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغير،التي كلّها آلام عقليّة.

و بالجملة،فالأحوال العقليّة تؤثّر على أضدادها الجسمانيّة و يصبر لها على المكروهات الطبيعيّة،فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء،فكيف في الأشياء النبيهة العالية،إلاّ أنّ الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير و الشرّ،و لا تحسّ بما يلحق الأمور النبيهة،لما قيل من المعاذير.و هذا شرح كلامه هنا.

و قد أشار في«الإشارات»إلى أنّه قد يوجد حظّ وافر من اللذّة الحقيقيّة العقليّة للنفس و هي في ضمن البدن.

قال:و ليس هذا الالتذاذ مفقودا من كلّ وجه و النفس في البدن،بل المنغمسون في تأمّل الجبروت،المعروضون عن الشواغل يصيبون و هم في الأبدان من هذا اللذّة حظّا وافرا قد يتمكّن منهم فيشغلهم عن كلّ شيء».

ثمّ قال:«و النفوس السليمة التي هي على الفطرة و لم يفظّظها مباشرة الأمور الأرضيّة الخاصّة،إذا سمعت ذكرا روحانيّا يشير إلى أحوال المفارقات غشيها غاش شائق لا تعرف سببه،و أصابها وجد مبرّح مع لذّة مفرجة(مفرّحة خ)يفضي بها ذلك إلى حيرة و دهش،و ذلك للمناسبة و قد جرّب هذا تجريبا شديدا». (1)انتهى كلامه.

في بيان السعادة و الشقاوة العقليّين من جهة القوّة

النظرية للنفس بعد مفارقتها عن البدن

و قوله:«و أمّا إذا انفصلنا عن البدن،و كانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله...إلى آخر ما ذكره».

ص:80


1- -شرح الإشارات 354/3. [1]

بيان:لأنّ الأنفس الإنسانيّة و إن كانت حين كونها منغمرة في البدن،غير مدركة للذّاتها العقليّة و آلامها العقليّة حقّ الإدراك،إلاّ أنّها بعد انفصالها عن البدن و مفارقتها عنه، تكون مدركة حقّ الإدراك لتلك اللذّات،ملتذّة بها،متألّمة بتلك الآلام.

و بيان ذلك في الألم أنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن،و كانت تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله و هي بالطبع نازعة إليه،مشتاقة إليه،إذ عقلت بالفعل أنّ ذلك الكمال موجود لها،إلاّ أنّ اشتغالها بالبدن-كما قلنا-قد أنساها ذاتها و معشوقها،كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل،و كما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو و اشتهاءه،و تميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة كما تقرّر في الأصول المتقدمة،عرض لها حينئذ من الألم بفقدان ذلك الكمال كفاء ما يعرض من اللذّة العقليّة التي أوجبنا وجودها لها إن كانت لها،و دلّلنا على عظم منزلتها،فيكون ذلك الألم هو الشقاوة العقليّة و العقوبة التي لا يعد لها شقاوة حسّيّة كتفريق النار للاتّصال و تبديل الزمهرير للمزاج،بل أيّة نسبة للنار الروحانيّة التي هي «نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» إلى النار الجسمانيّة؟فيكون مثلنا حينئذ في عدم إدراكنا لذلك الألم الروحانيّ حين كوننا في البدن،مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف من الأصول،أو الذي قد عمل فيه نار أو زمهرير،فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به،فلم يتأذّ،ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

و أمّا بيان ذلك في اللذّة،فلأنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن،و كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال،يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه،أي أن تكون بحصول ذلك الكمال لها كاملة بحسب ذاتها كمالا مناسبا لها و من شأنها أن تبلغه،بلغته بعد مفارقة البدن و أدركته و التذّت به لذّة عظيمة أعظم من كلّ لذّة حسّيّة.و مثلها في أنّها لا تدرك تلك اللذّة في البدن و تدركها بعد المفارقة عنه،مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ و عرض لحالته أن لا يشتهيه،و كان لا يشعر به،فزال عنه الخدر،فطالع اللذّة العظيمة دفعة.

و لا سترة في أنّ تلك اللذّة العقليّة الحاصلة للنفس بعد مفارقتها عن البدن،لذّة لا من

ص:81

جنس اللذّة الحسّيّة و الحيوانيّة بوجه،بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي هي للجواهر الحيّة المحضة و الملائكة المقرّبين،و هي أجلّ من كلّ لذّة و أشرف.فهذه هي السعادة الحقيقيّة العقليّة،و تلك هي الشقاوة الحقيقيّة العقليّة.

و قوله:«و تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين الخ»غرضه منه أنّ تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين،بل لبعضهم،و أنّها فيمن تكون له مختلفة المراتب أيضا.

و بيانه أنّ تلك الشقاوة التي ذكر أنّها تكون بفقدان النفس لكمالها الخاصّ بها الذي هو معشوق لها،ليست لكلّ واحد من الناقصين غير الكاملين،بل للناقصين الذين اكتسبوا في ضمن البدن،للقوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها،ثمّ حرموا من ذلك الكمال،و ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق هو عند ما تبرهن لهم و تحقّق عندهم أن من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ،أي كلّ الموجودات بكسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل، فإنّ ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق ليس في النفس من حيث هي نفس بالطبع الأوّل، و إلاّ لكانت كلّ نفس مكتسبة لذلك متشوّقة إليه،و هو خلاف الواقع،حيث إنّ بعض النفوس الناقصة نفوس ساذجة صرفة،لم تكتسب تشوّقا أصلا.كما أنّ كسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل ليس فيها بالطبع الأوّل أيضا،و هو ظاهر؛و لا أيضا ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق في سائر قوى النفس بالطبع الأوّل،حتّى يكون كونه فيها بالطبع سببا لتشوّق النفس إلى كمالها الخاصّ بها من دون اكتساب لذلك،لأنّ تشوّق تلك القوى إلى كمالاتها و شعورها بها إنّما يكون أيضا بعد حصول أسباب ذلك التشوّق و الشعور لا بالطبع،مع أنّ تشوّقها إلى كمالاتها كيف يكون سببا لتشوّق النفس إلى كمالها، و الحال أنّ كمالاتها مخالفة لكمال النفس و ليس بينهما رباط ليكون التشوّق إلى أحدهما سببا لحصول التشوّق بالآخر.

فظهر من هذا أنّ الاكتساب للتشوّق أو التشوّق إنّما يكون للنفس التي كانت في ضمن البدن في مرتبة العقل بالملكة بالنسبة إلى كمالها المعشوق لها،و إن كانت بالنسبة إلى غير ذلك الكمال في المراتب الأخر.و أمّا النفوس و القوى الناقصة الساذجة الصرفة التي

ص:82

في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى حصول الكمال الخاصّ المعشوق لها،كنفوس البله و المجانين و الأطفال التي لم تدرك أنّ لها كمالات و لذّات،فكأنّها هيولى محضة موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق،لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا و ينطبع في جوهر النفس، إذا تبرهن للقوّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت.

و بالجملة،إذا تحقّق عندها أنّ هاهنا أمورا كذلك،و عرفت إنّيّتها و كذا ماهيّاتها من وجه في الجملة،و إن لم تعرفها من الوجه الآخر الذي تكون معرفتها منه بالاكتساب،و أمّا قبل ذلك التبرهن و كون النفس في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى ذلك الكمال الخاص و إن كانت بالنسبة إلى غير ذلك في المراتب التي بعد العقل الهيولانيّ فلا يكون لها هذا التشوّق،لأنّ هذا التشوق يتبع رأيا،إذ كلّ شوق يتبع رأيا،فما لم يحصل الرأي لم يحصل الشوق،و ليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا،بل رأيا مكتسبا كما عرفت،فليس لهذه النفس الساذجة الصرفة شوق إلى كمالها الخاص،فليس لها ألم و تأذّي بسبب فقدانها إيّاه،و لا شقاوة من هذه الجهة.و مثلها حينئذ مثل العنّين بالقياس إلى لذّة الجماع،و الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،فإنّهم لا يتأذّون بفقدان هذه اللذّات لعدم شوقهم إليها،بل النسبة أبعد بكثير،بل لا نسبة أصلا.

و أمّا هؤلاء المكتسبون للرأي المستتبع للشوق إلى الكمال الخاصّ للنفس،فهم إذا اكتسبوا هذا الرأي،لزم النفس ضرورة هذا الشوق،فإذا فارقت عن البدن و لم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال عن البدن الكمال و التمام الذي من شأنها أن تبلغه لو استكملت، حرمت من الوصول إلى ذلك الكمال المعشوق لها،و لم تنل ما رجت منه،فخابت و خسرت و وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ الذي تختلف مراتبه بحسب اختلاف مراتب الشوق إلى ذلك الكمال و حرمانها منه،و كذا بحسب اختلاف مراتب الكمالات المعدّة لكلّ نفس،فكلّما كان الشوق أعظم و الكمال المعدّ أكمل و الحرمان أبلغ،كان الألم أشدّ و الحسرة أدوم و أعظم،و إنّما كان هذا الشقاء أبديّا لا يزول لأنّه لا يجبر و لا يزول سببه،فإنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل،لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و إن فرضنا أنّ لها في ضمن البدن إدراكا

ص:83

مخصوصا بها من دون مشاركة البدن و معاونته لها في ذلك،و قد فرض أنّها فارقت البدن، فلم يكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا حتّى يمكن لها الاستكمال مرّة أخرى،و زوال ما هو سبب لهذا الشقاء،و يتيسّر لها انقطاعه مع ظهور أنّ حصول العلم بتلك المعلومات التي فقدت النفس العلم بها،ليس ضروريّا حتّى يحصل لها العلم بها مرّة أخرى و يزول عنها الشقاء،فإنّه لو كان ضروريّا بعد الموت،لكان ضروريّا حين كونها في البدن أيضا،فكان حاصلا،و المفروض خلافه.

في أصناف الناقصين بحسب القوّة النظريّة

ثمّ إنّ هؤلاء الناقصين الذين تكون لهم هذه الشقاوة الأبديّة،بحسب الجليل من النظر صنفان:

صنف هم مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ،أي في كسب الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة،و هذا بإطلاقه شامل للمعرضين و المهملين جميعا.

أمّا المعرضون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم للتشوّق إلى ذلك الكمال.و معرفتهم باكتسابهم النظريّ القاصر أنّ لهم كمالا خاصّا بهم،لم يشتغلوا باكتسابه،فلم يكتسبوه و لا اكتسبوا ما يضادّ ذلك الكمال أيضا،إلاّ أنّهم اشتغلوا بما يصرفهم عن اكتساب الكمال،ممّا ليس بمضادّ له كبعض الأمور الدنيويّة،فصاروا معرضين عنه مقصّرين فيه.

و أمّا المهملون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم لذلك التشوق لم يشتغلوا لا بكسب الكمال و لا بكسب ما يضادّه و تكاسلوا في اقتناء الكمال،فصاروا مقصّرين فيه،سواء تكاسلوا في اقتناء غير الكمال أيضا مطلقا،أم لم يتكاسلوا فيه بل اشتغلوا في الجملة بما ليس بمضادّ له و لا بصارف عنه من الأمور الدنيويّة.

و صنف هم المعاندون الجاحدون المتعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة،و هذا أيضا بإطلاقه يشمل ما إذا كانت تلك الآراء الفاسدة سفسطيّة أو مشاغبيّة أو جدليّة،سواء

ص:84

كانت ناشئة عن رأي ذلك الجاحد نفسه،أو كانت مبنيّة على التقليد لغيره.و ما إذا كان الجحود لمحض العناد،أو طلبا للرئاسة و الشهرة و نحو ذلك،و ما إذا كان الجاحد مع اكتسابه للشوق إلى كماله منذ أوّل فطرته و اعترافه بإنّيّته،بحيث يكون له اعتراف بهميّته أيضا في الجملة باطنا،لكنّه كان جاحدا لماهيّة ذلك الكمال ظاهرا رأسا لا تفصيلا و لا إجمالا،كما قال تعالى في شأن بعض الجاحدين: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)) (1).أو لم يكن اعتراف بمهيّة أصلا،كما في صورة الجهل المركب.

و بالجملة،فالمستفاد من كلامه أنّ كلّ هؤلاء الناقصين من الأصناف المذكورة يتعذّبون دائما بنقصانهم لاشتياقهم إلى الكمال الفائت عنهم،و أنّه إنّما حصل ذلك الشوق لهم باكتساب نظريّ قاصر عن الوصول إلى المشتاق إليه،و هو فطانتهم البتراء،و إنّما حصل القصور لهم من حيث قوّتهم النظريّة،و من حيث طروء حالة عليها جعلت قوّتهم النظريّة قاصرة،و تلك الحالة أوّلا هي في المعرضين هيئة وجوديّة صارفة عن اكتساب الكمال،و إن لم تكن مضادّة له،و في الجاحدين هيئة وجوديّة مضادّة له،و أمّا في المهملين فلا هذه و لا تلك،بل هي التكاسل،سواء اعتبرته أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا.

ثمّ أنّه تستتبع تلك الحالات حالات أخر هي في المعرضين و المهملين حالة الجهل البسيط بالمعلومات الحقّة،و هي حالة عدميّة تقابل العلم تقابل العدم و الملكة،و في الجاحدين اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه اعتقادا جازما،سواء كان مستند إلى شبهة أو تقليد أو عناد أو نحو ذلك،و هذا هو حالة وجوديّة تقابل العلم تقابل التضادّ،أي الحالة التي تسمّى جهلا مركّبا،لأنّها جهل بما في الواقع مع الجهل بأنّه جاهل،سواء كان الجهل باطنا و ظاهرا جميعا كما في بعض الجاحدين،أو ظاهرا فقط كما في بعضهم،كما أشرنا إلى ذلك.

ثمّ إنّ أسوأ هؤلاء الأصناف الثلاثة حالا هم الجاحدون،لما اكتسبوا من هيآت مضادّة للكمال،سواء كانت تلك الهيئات هيئات أوّليّة أو ثانويّة،ثمّ المعرضون،ثمّ

ص:85


1- -النمل(27):14. [1]

المهملون.و كلّ هؤلاء الأصناف أيضا مختلفون في التعذّب بحسب اختلاف مراتب الجحود و الإعراض و الإهمال.

و حيث كان المفروض في الكلّ التعذّب دائما،يجب أن تكون تلك الحالة الطارئة على القوّة النظريّة التي هي سبب لقصورها و نقصانها و لتألّمها و تعذّبها حالة مستحكمة مستمرّة راسخة،صارت هي صورة لجوهر النفس باقية ببقائها،إلاّ لم يكن التعذّب دائما، بل يمكن أن يكون ذلك الشقاء الذي بسببها منقطعا منجبرا بزوال تلك الحالة شيئا فشيئا، و يشهد بما ذكرناه ما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)في شرح كلام الشيخ في«الإشارات».

قال الشيخ:«ثمّ اعلم أنّ ما كان من رذيلة النفس من جنس نقصان الاستعداد للكمال الذي يرجى بعد المفارقة فهو غير مجبور،و ما كان بسبب غواش غريبة فيزول و لا يدوم بها التعذّب». (1)

و قال المحقّق الطوسيّ في شرحه هكذا:«يريد بيان مراتب الأشقياء؛و نقدّم لذلك مقدّمة،و هي أن نقول:فوات كمالات النفس يكون لا محالة لعدم استعدادها،و عدم الاستعداد يكون إمّا لأمر عدميّ،كنقصان غريزة العقل،أو وجوديّ،كوجود الأمور المضادّة للكمالات فيها،و هي إمّا راسخة،أو غير راسخة،فهذه أقسام ثلاثة تشترك في كونها رذائل و هي أسباب النقصان،و كلّ واحد منها إمّا بحسب القوّة النظريّة،و إمّا بحسب القوّة العمليّة فتصير ستّة.فالذي يكون بسبب نقصان الغريزة بحسب القوّتين معا فهو غير مجبور بعد الموت،و لا يكون بسببها تعذّب،و هو الذي ذكره الشيخ.و الذي يكون بحسب القوّة النظريّة و يكون راسخا فهو أيضا غير مجبور،لكن يدوم بها التعذيب (2)،لأنّه الجهل المركّب المضادّ لليقين،الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنه.و الشيخ لم يتعرّض لذكر هذا القسم صريحا في هذا الفصل،لكنّه أيضا بوجه تحت النقصان،الذي حكم الشيخ عليه بأنه غير مجبور،و الثلاثة الباقية،أعني النظريّة غير الراسخة،كاعتقادات العوامّ و المقلّدة،و العمليّة الراسخة و غير الراسخة،كالأخلاق و الملكات الرديّة المستحكمة

ص:86


1- -شرح الإشارات 350/3. [1]
2- -في المصدر:...يدوم به التعذّب.

و غير المستحكمة،و هي التي تكون بسبب غواش غريبة،و جميعها يزول بعد الموت،إمّا لعدم رسوخها،و إمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال و الأمزجة،فتزول بزوالها لكنّها تختلف في شدّة الرداءة و ضعفها و في سرعة الزوال و بطئه،و يختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ و الكيف بحسب الاختلافين». (1)انتهى كلامه(ره).

و الشاهد و إن كان في بعض ما ذكره،كالنظريّة غير الراسخة،إلاّ أنّا نقلنا كلامه بتمامه لاشتماله على فوائد أخر و شواهد أخرى فيما نحن بصدد بيانه،فتبصر.

و حيث عرفت أنّ ما ذكره الشيخ هاهنا إنّما هو قصور من حيث القوّة النظريّة بسبب طروء حالة عليها مع كون الغريزة تامّة سليمة في كسب الكمال،و أنّ المستفاد منه الفرق بين الحالة الراسخة و غير الراسخة كما يظهر ذلك ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ أيضا، ظهر لك أنّه لو كان القصور من حيث القوّة النظريّة،لكن من جهة نقصان الغريزة من كسب الكمال بعد أن كانت الغريزة منذ أوّل الفطرة سليمة تامّة في الجملة،بحيث اكتسبت الشوق إلى الكمال المعشوق لها في الجملة،لكن لم تكتسبه لنقصانها،فذلك النقصان أيضا إن استتبع هيئة راسخة كانت صورة للنفس باقية ببقائها مضادة لها منافية لحقيقتها،يكون التعذّب بها أيضا دائما كما في صورة الجهل المركّب المضادّ لليقين الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنها،و إن لم يكن كذلك فيمكن انقطاع ذلك التعذّب و انجباره،بل ربّما لم يكن به تعذّب أيضا.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات، حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه الخ».

لمّا بيّن سابقا كيفيّة السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة النظريّة،و أنّ السعادة العقليّة تحصل بالشعور بحصول الكمال الخاصّ للنفس الإنسانيّة،و الشقاوة تحصل بالشعور بضدّه،أراد أن يبيّن أنّ ذلك الكمال ما ذا؟و أن أيّة مرتبة من الكمال العلميّ يكون

ص:87


1- -شرح الإشارات 351/3-352.

حصولها للنفس منشأ للسعادة العقليّة،و حصول ضدّها لها منشأ للشقاوة العقليّة؟فقال:

«و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات»أي من التصوّر بالمعنى الأعمّ الشامل للتصديق بالمعقولات،التي إدراكها كمال خاصّ بالنفس الإنسانيّة،حتّى يجاوز الإنسان بسبب ذلك الكمال الحدّ الذي في مثل ذلك الحدّ تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه و الترقّي منه إلى حدّ آخر فوقه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه و أصرّح به،و أعيّنه تعيينا لخفائه و لإشكاله،إلاّ نصّا بالتقريب،و أظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادئ المفارقة التي هي مباد فاعليّة،لوجودها و لوجود غيرها من الأشياء التي تلك المبادي مباد لها،تصوّرا حقيقيّا بالكنه إن أمكن،و إلاّ فبوجه يمتاز به عمّا عداه،و تصدّق أيضا بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان،و أن تعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكليّة،دون الحركات الجزئيّة التي لا تتناهى،و بذلك يعسر معرفتها،و أن يتقرّر عندها هيئة الكلّ و نسب أجزائه بعضها إلى بعض،و النظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه،و أن تتصوّر العناية الأزليّة التي نظام الكلّ على طبقها،و تتصوّر كيفيّة تلك العناية،و أن تتحقّق أنّ الذات المتقدّمة للكلّ، أي ذات المبدأ الأوّل تعالى شأنه،أيّ وجود يخصّ ذاته،و أيّة وحدة تخصّ ذاته؟و كيف ينبغي أن تعرف تلك الذات المقدّسة عن التغيّر،حتّى يلحقها تكثّر و تغيّر بوجه من الوجوه في أسمائه و صفاته و أفعاله؟و كيفيّة صدور الكثرة من تلك الذات المقدّسة الواحدة بالذات،و كيف ترتيب نسبة الموجودات إليها؟

و بالجملة،أن يتحقّق عند النفس الإنسانيّة وجود المبدأ الأوّل تعالى شأنه و صفاته و أفعاله،على ما هو الواقع و يقتضيه البرهان.

و لا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ في تحديد ذلك الكمال مع كونه تحديدا بالتقريب كما ذكره،فيه إشكال أيضا يعرف بالتأمّل الصادق.

و الأظهر أن يقال في تحديده مطابقا لما دلّ عليه العقل و نطق به الشرع،إنّه هو الإيمان باللّه تعالى و أسمائه و صفاته و أفعاله،و بملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و بجميع ما جاء الرّسل به من عند اللّه تعالى،أي الإيمان و التصديق بذلك،بحيث يعدّ

ص:88

المصدّق به مؤمنا.

و كيفما كان،فبعد حصول أصل ذلك الكمال على ما حدّه الشيخ أو حدّدناه،إذا ازداد الناظر استبصارا فيه ازداد للسعادة استعدادا،كما أنّه كلّما ازداد عمى (1)عن ذلك الكمال، ازداد بعدا من السعادة و قربا من الشقاوة،و كأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالم الأدنى الحسّيّ و علائقه حتّى يحصل له تلك السعادة،إلاّ أن يكون شديد العلاقة مع ذلك العالم الأعلى العقليّ،كما فيما بعد مفارقة النفس عن البدن،و كذا في ضمن البدن لبعض النفوس الكاملة،فصار له بسبب تلك الشدّة من العلاقة شوق إلى ما هناك،أي في العالم العقليّ، و عشق لما هناك،فصدّه ذلك عن الالتفات إلى ما خلفه،أي ممّا في العالم الحسّيّ جملة، فحصلت له السعادة حينئذ.رزقنا اللّه تعالى إيّاه و سائر المؤمنين،إنّه جواد كريم.

حال السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة العمليّة

و قوله«و نقول أيضا:إنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس،و نقدّم لذلك مقدّمة كأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول:إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة ما الخ».

لمّا بيّن سابقا حال السعادة و الشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة للنفس،أي حال السعادة بحسب الهيئة العمليّة،و حال الشقاوة بحسب الجهالات،أراد أن يبيّن هنا حالها بحسب القوّة العمليّة لها،أي حال السعادة بحسب الملكات و الأخلاق الحسنة، و حال الشقاوة بحسب الملكات الرديّة،فذكر أوّلا:أنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس،يعني أنّ السعادة العقليّة كما أنّها تكون بإصلاح الجزء العلميّ من النفس،و بكمال قوّتها النظريّة،أي حصول العلوم الواقعيّة الحقيقيّة لها،و أنّ الشقاوة العقليّة بخلافها كما ذكر،كذلك تكون السعادة العقليّة بإصلاح الجزء العمليّ منها و بكمال قوّتها العمليّة،و حصول الأخلاق الحسنة لها أيضا،و الشقاوة العقلية بخلافها.و أنّه

ص:89


1- -«عميا»خ ل.

بحصول هاتين السعادتين العقليّتين جميعا تحصل السعادة الحقيقيّة التامّة الكاملة،فإنّها السعادة التي بحصول كلا قسمي كمال النفس جميعا،و أنّه بحصول واحدة منهما فقط،و إن كان تحصل السعادة لكنّها تكون غير حقيقيّة و غير تامّة،فإنّها بحصول أحد قسمي كمالها دون الآخر،و لا شكّ أنّ ما هو بحصول الجميع أتمّ و أكمل ممّا هو بحصول البعض.فحينئذ فالسعادة الحقيقيّة إنّما هي للكاملين في العلم و العمل،و المستكملين في القوّة النظريّة و العمليّة جميعا،دون الكاملين في أحدهما فقط،فإنّهم ناقصون أيضا باعتبار.

و منه يعلم حال الشقاوة الحقيقيّة،أي أنّها تكون للناقصين في العلم و العمل جميعا، دون الناقصين في أحدهما خاصّة.

ثمّ قدّم مقدّمة تتضمّن معنى إصلاح الجزء العمليّ و إفساده.

و بيانها:أنّ الخلق ملكة تصدر بها من النفس أفعال ما بالسهولة من غير تقدّم رويّة، و قد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين،كالتوسّط بين البخل و الإسراف،الذي هو الكرم،لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط،بل مع حصول تلك الملكة للنفس،و لا يخفى أن ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة و للقوى الحيوانيّة جميعا،أمّا للقوّة الحيوانيّة،فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان و الانقهار و الانفعال من القوّة الناطقة بعد أن قويت القوّة الناطقة و حصلت فيها ملكة التوسّط،و أثّرت هي في القوّة الحيوانيّة و قهرته،فصارت القوّة الحيوانيّة منقهرة عندها مذعنة لها منفعلة منها.

و أمّا للقوّة الناطقة،فبأن تقوى هي و تحصل فيها هيئة الاستعلاء على القوّة الحيوانيّة و هيئة الانفعال و الإذعان من المبادئ العالية.و هذا كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط موجدة للقوّة الناطقة و للقوى الحيوانيّة جميعا،و لكن بعكس هذه النسبة،إذ من المعلوم أنّه كما أنّ ملكة التوسط التي يتبعها الخيرات،و هي أمارة قوّة القوّة الناطقة،و مقتضى النفس الإنسانيّة التي في جبلّتها الخيرات،و كذا هي أمارة استعلائها على القوى الحيوانيّة التي في جبلّتها الشرور،تحدث هي أوّلا في الناطقة ثمّ في الحيوانيّة بانقهارها منها،كذلك ملكة الإفراط و التفريط التي يتبعها الشرور،و هي أمارة قوّة القوى الحيوانيّة التي في

ص:90

جبلّتها الشرور،و كذا هي أمارة استعلائها على القوّة الناطقة و انقهارها منها تحدث أولا في القوى الحيوانيّة،ثمّ في الناطقة بإذعانها منها و انقهارها دونها.

و بالجملة،أنّه من المعلوم أنّ الإفراط و التفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة.و أنّه إذا قويت القوى الحيوانيّة و حصلت لها ملكة استعلائية على القوّة الناطقة،ضعفت الناطقة و انقهرت دونها،فحدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة و أثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة،من شأن تلك الهيئة أن تجعل النفس الناطقة قويّة العلاقة مع البدن،شديدة الانصراف إليه؛و ذلك مضادّ لجوهر النفس الناطقة مؤلم مؤذ لها،لأنّ حقيقتها تستدعي أن تكون لها هيئة استعلائية قهريّة على البدن و قواه الحيوانيّة كالقوى الشهوانيّة و الغضبيّة مثلا،فإذا انقهرت منها و انقادت و خدمت إيّاها في تحصيل مآربها الدنيّة الدنيويّة،كان ذلك مضادّا لجوهرها مؤلما لها و موجبا لحسرتها و شقاوتها.

و أمّا ملكة التوسّط،فالمراد منها هيئة راسخة شأنها تنزيه النفس الناطقة عن الهيئات الانقياديّة الانقهاريّة من القوى الحيوانيّة،و كذا شأنها بتقيّة النفس الناطقة على جبلّتها الأصليّة،مع إفادة هيئة الاستعلاء على القوى الحيوانيّة،و ذلك غير مضادّ لجوهر النفس، و لا مائل إلى جهة البدن،بل عن جهته،فإنّ التوسّط يسلب عنه الطرفين المتضادّين دائما، بل هو مقتضى جوهرها و حقيقتها كما مرّ.

ثمّ إنّه حيث قرّر هذه المقدّمة،شرع في بيان كيفيّة حصول السعادة باعتبار صلاح الجزء العمليّ من النفس و حصول الشقاوة باعتبار فساده،فقال:«ثمّ جوهر النفس الذي ملكة التوسّط من مقتضياتها و ملائمة لها و كمال لها من جهة القوّة العمليّة،إنّما كان البدن هو الذي يغمره و يلهيه و يغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال،و عن الشعور بلذّة الكمال-إن حصل له-و الشعور بألم الكمال إن قصر عنه،و ليس تلك الغفلة بسبب أنّ النفس منطبعة في البدن،أو منغمسة فيه حتّى ينافي ذلك تجرّدها في ذاتها عن المادّة و توابعها،و لكن للعلاقة التي كانت بينهما،و هي الشوق الجبلّي الذي أودعه اللّه تعالى في حقيقتها،و الميل الذاتيّ إلى تدبير البدن و الاشتغال بآثاره و بما يورده من عوارضه و بما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن،و سواء كانت ملكة التوسّط أو ملكة الإفراط

ص:91

و التفريط،حيث إنّ تلك الملكات كلّها إنّما تحصل بتكرّر أفعال مبدؤها البدن،فإذا فارقت النفس البدن و فيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال بالبدن،أي ملكة الإفراط و التفريط، حيث إنّها هي الحاصلة بسبب اتّصال النفس بالبدن المائلة لها إلى جهة،فإنّ ملكة التوسّط و إن كان مبدؤها البدن أيضا،إلاّ أنّها ليست حاصلة لها بسبب الاتّصال به،و لا مائلة لها إلى جهة،بل عن جهته كما ذكر.

و بالجملة،إذا فارقت النفس البدن و فيها تلك الملكة المائلة لها إلى جهة البدن،أي ملكة الإفراط و التفريط،سواء كانت تلك الملكة الحاصلة ملكة إفراط و تفريط في كلّ الأفعال،أو في بعضها دون بعض،كانت النفس من جهة تلك الملكة الحاصلة في كلّ الأفعال أو بعضها-التي هي من آثار الاتّصال بالبدن فيها-قريبة الشبه أو قريبة النسبة من حال النفس و هي في البدن،حيث إنّ الآثار البدنيّة كلّها أو بعضها تكون باقية فيها حينئذ كما كانت قبل المفارقة،و حيث إنّ تلك الآثار كما كانت شاغلة لها عن الشوق إلى الكمال و عن الشعور بلذّة الكمال قبل المفارقة تكون شاغلة أيضا لها عنه حينئذ،إلاّ أنّ تلك الملكة حيث كانت في معرض الزوال حيث إنّ مبدأها و هو البدن قد هلك و تلاشى و حصل للنفس المفارقة عنه و سببها،و هو استعلاء القوى الحيوانيّة على النفس قد بطل، حيث إنّه بتلاشي البدن بطل استعلاؤها و قوّتها،بل انعدمت أنفسها أيضا،لكنّ تلك الملكة حينئذ لم تزل بعد بالكلّيّة،حيث إنّها رسخت في النفس و انطبعت فيها كانطباع الرّين في المرآة الصافية في ذاتها المتدرّنة بالدرن (1)الغريب عن حقيقتها،و لا يكفي في زوالها بالكلّيّة بطلان مبدئها و انعدام سببها،بل ينبغي أن يكون هناك مع ذلك تصفية ما و تصقيل لقابلها و هو النفس،حتّى تنمحي تلك الملكة عنها بالكليّة.

و بالجملة،حيث كانت تلك الملكة باقية في الجملة،و كانت في معرض الزوال فهي تزول شيئا فشيئا بقدر استعداد قابلها للصفاء و حصول الصفاء له،فبأيّ قدر ينقص من تلك الملكة الملهية للنفس عن الشوق إلى كمالها عن النفس تزول غفلتها عن حركة

ص:92


1- -الرّين:الطبع و الدنس:و الدرن:محرّكة:الوسخ.

الشوق الذي لها إلى كمال المعشوق لها،علميّا كان-و هو العلم بحقائق الموجودات كما هي-أم عمليّا-و هو ملكة التوسّط-فتشعر بها.و بأيّ قدر يبقى من تلك الملكة مع النفس تكون محجوبة النسبة و الشبه عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها،لأنّ ذلك الاتّصال بمحلّ سعادتها-أي سعادتها العلميّة و العمليّة-موقوف على أن لا يبقى فيها من الآثار البدنيّة الشاغلة لها عنه شيء،و المفروض أنّه قد بقي.أو المعنى أنّه بسبب النقصان من تلك الملكة تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها،و بسبب بقائها في الجملة تكون محجوبة النسبة عن ذلك الاتّصال،و الحاصل أنّه حينئذ يحصل للنفس شعور و شوق إلى كمالها المعشوق لها مع كونها محجوبة عنه،فيحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها،حيث إنّ الحركة إلى معشوق ما مع حصول مانع عن نيله أذى و ألم،و إن كان يختلف حاله بحسب اختلاف مراتب تلك الحركات الشوقيّة و مراتب تلك الموانع.

ثمّ إنّ نفس تلك الهيئة البدنيّة المنطبعة في النفس،حيث إنّها هيئة غريبة عن جوهر النفس بمنزلة الرّين و الدرن لها،مضادّة بنفسها لجوهر النفس أيضا،موذية لها دائما،كان يلهيها عنها و عن مضادّتها و إيلامها أيضا البدن و تمام انغماسها فيه،فإذا فارقت عنه و ارتفع الشاغل،أحسّت بتلك المضادّة العظيمة و تأذّت بها أذى عظيما،فيحصل لها حينئذ الأذى و الألم من وجهين:أحدهما،من جهة تلك الحركات المتشوّقة،و الآخر من جهة تلك الهيئة نفسها،فيتضاعف الأذى و الألم.لكنّ هذا الأذى و الألم،ليس لأمر لازم للنفس الناطقة كما في صورة نقصانها من جهة قوّتها النظريّة،بل لأمر عظيم غريب عن حقيقتها، و الأمر العارض الغريب لا يدوم و لا يبقى،بل يزول و يبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة الغريبة البدنيّة بتكرّرها،أي الأفعال التي كان مبدؤها قوّة القوى الحيوانيّة و استعلاءها على النفس الناطقة،و كان تكرّر تلك الافعال منشئا لثبوت تلك الهيئة و انطباعها في النفس،و قد زالت تلك الأفعال بمفارقة النفس عن البدن،و كذا زال مبدؤها و منشؤها،و أفضى زوالها إلى زوال تلك الهيئة المسبّبة عنها،مع كون النفس بجوهرها و حقيقتها تقتضي زوال تلك الهيئة عنها لكونها غريبة عنها مضادّة لها.

و بالجملة،فالمبدأ الفاعليّ لتلك الهيئة قد زال،و القابل لها أي النفس مستعدّة لزوالها

ص:93

عنها استعدادا تامّا،فكلّما تأمّلت منها قرب استعدادها لزوالها عنها،فلهذا تزول و تنمحي شيئا فشيئا بحسب مراتب استعدادها لزوالها عنها،فيلزم إذن أن يكون العقوبة التي بحسب حصول الهيئة الغريبة غير خالدة،بل قد تزول و تنمحي قليلا قليلا بحسب انمحاء تلك الهيئة شيئا فشيئا.حتّى تزكو النفس عن تلك الهيئة و تصفو بمصفاة العقوبة و تنجلي بمصقل الألم و الأذى،و تبلغ حينئذ السعادة التي تخصّها من السعادة العلميّة إن كانت لها، و كذا السعادة العمليّة الحاصلة لها بالنسبة إلى هيئة و ملكة أخرى من ملكات التوسّط إن كانت أيضا لها.و هذا حال تلك الهيئة البدنيّة الغريبة إذا كانت ملكة راسخة.

و منه يعلم حالها،إذا لم تكن راسخة أيضا،فإنّها تزول بالطريق الأولى.

و بالجملة،فتلك الهيئات الردّية البدنيّة،سواء كانت مستحكمة أو غير مستحكمة، و كلّها إنّما تكون بسبب غواش غريبة،فجميعها يمكن أن تزول بعد الموت،إمّا لعدم رسوخها،و إمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال و الأمزجة،فتزول بزوالها.و إن كانت تختلف في شدة الرداءة و ضعفها،و في سرعة الزوال و بطئه،و في كونها بالنسبة إلى كلّ الأعمال و الأفعال أو بعضها،و يختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ و الكيف بحسب ذلك الاختلاف.

و بما ذكر يظهر سرّ ما ورد في الأخبار من أنّ المؤمن الفاسق لا يخلد في النار.و وجه ما اتّفق عليه أهل الحقّ من أنّ عذاب صاحب الكبيرة منقطع.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكر إنّما هو بيان حال فساد الجزء العمليّ و الشقاوة بحسبه،إذا كان ذلك بحسب طروء حالة رديّة غريبة على النفس،بعد أن كانت في قوّتها القريبة تحصيل ملكة التوسّط،و لم تحصّلها،بل فرّطت و قصّرت في تحصيلها و حصّلت ملكة الإفراط و التفريط.

و منه يعلم بيان حاله،إذا كان من جهة نقصان الغريزة أيضا بحسب الجزء العمليّ،أي إذا كان عدم تحصيل ملكة التوسّط،لا لأجل أنّها فرّطت فيها و قصّرت،بل لأجل أنّه كانت غريزتها بحسب الجزء العمليّ ناقصة عن تحصيلها،بعد أن كانت من شأنها إمكان تحصيلها في الجملة و لو بعيدا،و أنّها بسبب ذلك النقصان في الغريزة،كما لم تحصّل ملكة

ص:94

التوسّط،لم تحصّل ملكة الإفراط و التفريط أيضا،و لم تطرأ على تلك النفس تلك الحالة الغريبة الرديّة،سواء كانت راسخة أو غير راسخة،فإنّ هذه النفس أيضا بسبب عدم تحصيلها ملكة التوسّط في كلّ أفعالها أو بعضها،سواء حصلت لها هيئة راسخة أو غير راسخة غير هيئة الإفراط و التفريط،أو لم تحصل،لا تكون عقوبتها خالدة،بل إنّ بعض تلك النفوس ممّا لا تتعذّب بذلك أصلا،كما في النفوس الساذجة بالقياس إلى الهيئة العلميّة؛و بعضها و إن كانت تتعذّب بذلك،إلاّ أنّ عذابها أدون من عذاب من حصّلت ملكة الإفراط و التفريط من وجه،حيث إنّها و إن كانت تتعذّب بفقدان ملكة التوسّط إذا كان لها شوق إليها،لكنّها لا تتعذّب من جهة نفس تلك الهيئة الغريبة الموذية المؤلمة الحاصلة فيها،أي هيئة الإفراط و التفريط،حيث إنّها لم تكن فيها.

ثمّ إنّ الذي ذكرنا كلّه،إنّما هو بيان كيفيّة الشقاوة بحسب فساد الجزء العمليّ من النفس،و منه يعلم بيان حال السعادة بحسب صلاحه،و أنّ السعادة بحسبه تكون خالدة دائمة.

أمّا بيان حصول أصل السعادة بحسبه،أي بحسب حصول ملكة التوسّط لها،فظاهر بتقريب ما سبق،لأنّ ملكة التوسّط،حيث كانت كمالا للنفس الإنسانيّة من جهة قوّتها العمليّة،و كانت هيئة مناسبة موافقة لجوهرها غير مضادّة لحقيقتها،كان إدراكها و الشعور بها لذّة و سعادة،و إنّما كانت النفس لا تشعر بها و لا تستلذّها قبل المفارقة عن البدن،لأنّ البدن هو الذي كان يغمرها و يلهيها و يغفلها عن الشوق الذي يخصّها عن طلب كمالها، و حيث فارقت البدن زالت تلك الغفلة و حصل لها الشعور بها على أكمل وجه،فحصلت لها بسببها السعادة العظيمة من جهة الشعور بها و استلذاذها،بل من جهة الشعور بكمالها العمليّ أيضا إن كان لها،لأنّه كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط،التي هي هيئة مضادّة للنفس، كانت شاغلة لها عن إدراكها لكمالها العلميّ،و كانت هي بسبب ذلك محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها،كذلك ملكة التوسّط التي هي هيئة موافقة للنفس،و هي بخلاف هيئة الإفراط و التفريط لا تكون شاغلة و حاجبة لها عن ذلك،بل هي معينة و مشوّقة إلى إدراك كمالها العلميّ أيضا،فتكون لها السعادة من وجهين:أحدهما من جهة

ص:95

الشعور بأصل تلك الملكة التوسطيّة التي هي كمال عمليّ لها،و الآخرة من جهة إعانتها للشعور بكمالها العلميّ،فيتضاعف لذّتها و سعادتها،و إن كانت تختلف بحسب اختلاف مراتب تلك الملكة في الكيف و الكمّ.

في بيان خلود السعادة من جهة صلاح الجزء العمليّ

و أمّا بيان خلود تلك السعادة و دوامها فلأنّ ملكة التوسّط أيضا،و إن كانت هيئة عارضة للنفس منطبعة فيها بسبب تكرّر الأفعال البدنيّة التي تزول،و مقتضى ذلك أن تزول تلك الهيئة المسبّبة عنها أيضا بزوال مبدئها و سببها،إلاّ أنّ تلك الهيئة لمّا كانت هيئة مناسبة بجوهر النفس و من مقتضى حقيقتها،و كانت هيئة غير غريبة عنها؛لم يكن فيها استعداد ما لزوالها عنها أصلا،بل كان فيها استعداد تامّ لاستثباتها فيها و بقائها،فتكون باقية خالدة بفيضان الوجود عليها من المبدأ الفيّاض.

و بالجملة فمبدؤها،و إن كان زائلا إلاّ أنّ القابل لها-و هو النفس الإنسانيّة-ليس فيه استعداد لزوالها عنه،بل استعداده إنّما هو لاستثباتها فيه،و حيث كان مستعدّا لبقائها فيه، تكون باقية بإفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض،بعد أن كان حدوثها من تكرّر الأفعال البدنيّة،و من إفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض أيضا،و حيث كانت تلك الملكة خالدة كانت السعادة بحسبها أيضا خالدة،و خلود هذه السعادة كما هو مقتضى الدليل العقليّ،كذلك هو مطابق لما نطق به الشرع،فتبصّر.

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ،و هو:أنّه لقائل أن يقول:ما الفرق بين الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ من النفس و قوّتها العمليّة و بين تلك الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العلميّ و قوتها النظريّة؟حيث حكمتم بزوال الأولى عن النفس شيئا فشيئا و بانقطاع الشقاوة التي من أجلها،كما دلّ عليه كلام الشيخ هنا صريحا،و حكمتم ببقاء الثانيّة فيها و عدم زوالها عنها و عدم انقطاع الشقاوة التي من أجلها،كما أشعر به كلام الشيخ ثمّة،و أشرتم إلى وجهه هنالك مع كون الهيئتين سواء في كونهما هيئتين غريبتين

ص:96

عن جوهر النفس،مضادّتين لحقيقتها،و في كونهما هيئتين راسختين،و في كون مبدئهما الأفعال البدنيّة التي تزول بعد مفارقة النفس عن البدن،فإنّ الهيئة الثانية أيضا إنّما تحصل إمّا بالإهمال أو بالإعراض أو بالجحود،و كلّ منها إنّما يحصل بغلبة القوى الحيوانيّة على النفس الناطقة،و انقهار الناطقة عند الحيوانيّة كما في الهيئة الأولى.

و يمكن الجواب عن هذا الشكّ،بأنه:لعلّ الفرق بينهما بما أشرنا إليه سابقا،من أنّ الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء النظريّ،التي هي سبب قريب للتألّم و التعذّب، إنّما هي هيئة الجهل البسيط أو الجهل المركّب بالقياس إلى حقائق الأشياء التي كان للنفس الناطقة شوق إلى العلم بها و لم تكتسبه،إمّا لإعراضه أو لإهماله أو لجحوده،و تلك الهيئة لا يمكن زوالها عن النفس بعد الموت،لأنّ زوالها إنّما يكون بحصول العلم النظريّ للنفس بالنسبة إلى حقائق تلك الأشياء التي حصل لها الجهل بها،و بانقلاب الجهل علما، و قد عرفت أنّه لا يمكن ذلك،لأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و المفروض أنّ النفس فارقت البدن،فلم يمكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا و الاستكمال مرّة أخرى،مع أنّ المفروض أن ليس حصول هذا العلم ضروريّا حتّى يحصل للنفس و يزول عنها الشقاء، و إلاّ لكان ضروريّا حين كون النفس في البدن أيضا،و المفروض خلافه.و إذا لم يكن زوال تلك الهيئة الجهليّة التي هي سبب قريب لتألّم النفس بها عن النفس،فلم يمكن زوال الشقاوة التي بحسبها عنها،فتكون خالدة.و أيضا إنّ تلك الهيئة الجهليّة،و إن كان مبدؤها الإهمال و الإعراض و الجحود،إلاّ أنّ تلك الأفعال ليست أفعالا بدنيّة يمكن زوالها ببطلان البدن،بل هي أفعال نفسانيّة صدرت عن النفس بذاتها،و إن كان مبدؤها نوع غلبة للقوى البدنيّة الحيوانيّة على القوّة العقلية الإنسانيّة،و ما تصدر عن النفس بذاتها يكون أثره باقيا فيها،فلا يكون حينئذ مبدأ تلك الهيئة الجهليّة المؤلمة الموذية أفعالا بدنيّة زائلة بزوال البدن،حتّى يمكن زوال تلك الهيئة عن النفس.

و يعلم ممّا ذكرنا أنّ تلك الهيئة لا يمكن زوالها لا من جهة القابل لها،و لا من جهة المبدأ القريب لها،فتكون باقية في النفس من جهتين.و أمّا المبدأ البعيد لها فهو و إن كان

ص:97

يمكن زواله،إلاّ أنّه يمكن أن يخلف و ينوب عنه مبدأ آخر،و هذا بخلاف الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ كما عرفت بيان حالها.

فإن قلت:إنّ ما أشعر به كلام الشيخ ثمّة،و دلّ عليه ما نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ صريحا من الحكم بزوال اعتقادات العوامّ و المقلّدة عن النفس،و عدم خلود الشقاء بسببها للنفس،كيف يجتمع مع ما نطق به الشرع و أجمع عليه أهل الحقّ من خلود الكافرين و المشركين و نظرائهم في النار،و الحال أنّ أكثرهم عوامّ و مقلّدة،كانوا يقلّدون آباءهم و رؤساءهم في الكفر و الشرك و الجحود.

قلت:لعلّ من نطق الشرع الشريف بخلودهم في النار من العوامّ و المقلّدة منهم محمول على من حصل له اعتقاد راسخ في الكفر و الشرك و الجحود،و إن كان مبدأ حصول ذلك الاعتقاد تقليدا أو أمرا آخر من الأمور الخسيسة و الأعراض الدنيويّة،بخلاف من دلّ كلام الشيخ و المحقّق الطوسيّ(ره)على عدم خلودهم،فإنّه محمول على من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ.

فإن قلت:إنّ من هؤلاء من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ و اتّبع ظنّه،بل هوى نفسه أيضا،و قد نطق الشرع بخلودهم في النار،كما قال تعالى في شأن بعض المشركين: إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)) . (1)

قلت:لعلّ المراد بهؤلاء أيضا من حصل له ذلك الاعتقاد الراسخ أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى «إِنْ يَتَّبِعُونَ...» و إن كان مبدأ ذلك الاعتقاد نوع ظنّ أو هوى نفسانيّ أو تقليد الآباء،و أنّهم بذلك الاتّباع المبنيّ على حصول الاعتقاد الراسخ لهم في الشرك،خصوصا مع قيام الحجّة و وضوح الدليل على خلافه،كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)) (2)مخلّدون في النار.

و بالجملة فما تضمّنه كلام الشيخ و المحقّق الطوسيّ من الحكم بزوال اعتقادات

ص:98


1- -النجم(53):23. [1]
2- -نفس الآية.

العوامّ و المقلّدة،يمكن أن يحمل على زوال اعتقاداتهم التي ليست راسخة،سواء كانت اعتقادات غير راسخة بل حالّة،أو لم تكن اعتقادا أيضا،بل ظنّا أو هوى نفس،أو نحو ذلك،و سمّيت اعتقادا مجازا.و تلك الاعتقادات و الحالات مثل الحالات الطارئة على نفوس المستضعفين منهم،الذين لا اعتقاد لهم في الكفر و الشرك و لا في الإيمان،و هم عوامّ و مقلّدة،فإنّ تلك الحالات لعدم كونها هيئة راسخة في نفوسهم،يمكن أن تزول عنها و ينقطع الشقاء بسببها خاصّة،و مع ذلك فليس لهم السعادة أيضا،بل إنّهم لو كانوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم النفسانيّة و لم يكتسبوها،فهم معذّبون بترك الإيمان و بفقدهم كمالاتهم تعذيبا دائميّا كما دلّ عليه كلام الشيخ،و إن لم يكونوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم،كالنفوس الساذجة فلا شقاء لهم من هذه الجهة أيضا،و إن لم تكن لهم سعادة أيضا بالشعور بكمالاتهم.و اللّه تعالى أعلم بحقائق الحال.

في بيان حال النفوس البله

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق،فإنّها إذا فارقت البدن..

إلى آخر ما ذكره في الفصل»بيان لكيفيّة حال النفوس الساذجة الصرفة،بعد مفارقتها عن الأبدان،كما سيأتي تحريره.

و تقييد النفوس البله،بقوله:«التي لم تكتسب الشوق»يدلّ على أنّه أراد بالنفوس البله النفوس الساذجة مطلقا،أعمّ من البله و المجانين و الصبيان.كما أنّ قوله سابقا«و أمّا النفوس و القوى الساذجة الصرفة فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق» يدلّ على هذا التعميم أيضا.

و بالجملة،فكلامه هنا قرينة على أنّه أراد في كلامه في«الإشارات»بالبله هذا المعنى الأعم أيضا،كما أشرنا إليه فيما سلف من مبحث التناسخ.

ثمّ إنّ في كلامه مع الدلالة على هذا التعميم،دلالة على تخصيص النفوس«البله بالنفوس الخالية عن الكمالات العلميّة خاصّة،و عمّا يضادّها لا عن الكمالات العمليّة

ص:99

أيضا و عمّا يضادّها.

و بيان ذلك،أنّه حيث قيّد النفوس البله بالّتي لم تكتسب الشوق،و أراد بالشوق الشوق إلى الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة،و قد فسّره فيما سبق بأنّه أن تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ،أي الكمال من جهة القوّة النظريّة،يستفاد منه أنّ النفوس البله،هي التي تكون خالية عن الكمال العلميّ و عمّا يضادّه،و أنّها لو اكتسبت كمالا عمليّا أو ما يضادّه،أي ما هو بحسب القوّة العمليّة،فلا ينافي ذلك كونها نفوسا ساذجة خالية عن الكمال العلميّ و عمّا يضادّه،و لأجل ذلك قسّم النفوس البله إلى قسمين:قسم هو كان غير مكتسب للهيئات الرديّة،و قسم كان مكتسبا للهيئات البدنيّة الرديّة،التي أراد بها هيئة الإفراط و التفريط،كما يدلّ عليه كلامه آنفا.و حينئذ فلا يرد عليه أنّ النفوس البله إذا كان معناها النفوس الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،فكيف تكون مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة التي هي مضادّة للكمال العمليّ؟

إلاّ أنّه يرد عليه أنّ هاهنا قسما آخر ينبغي أن يذكره و يبيّن حاله،و هو لم يتعرّض له، و هو أن تكون قد اكتسبت الهيئة الفاضلة الملائمة الموافقة البدنيّة،أي هيئة التوسّط مع كون هؤلاء أحسن حالا من الذين لم يكتسبوا الهيئات الرديّة أصلا،و قد تعرّض لبيان حالهم.

و يمكن دفع هذا الايراد عنه أيضا بأنّ هذا القسم لعلّه داخل تحت قوله:«و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة»فإنّ عدم الاكتساب للهيئات الرديّة أعمّ من أن يكون هناك اكتساب للهيئات الفاضلة أم لا.

ثمّ إنّ هذا التخصيص كما أنّه هو مفاد كلام الشيخ،كذلك هو مفاد كلام ذلك البعض من العلماء الذي نقل كلامه هنا،حيث إنّه أيضا في قوله:«إنّ النفوس البله إذا فارقوا الأبدان،و لم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة،و لا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الخ»أراد هذا المعنى الذي يفهم من كلام الشيخ،و هو أنّ النفوس البله هم الذين ليس كمال من جهة القوّة النظريّة و لا شوق إليه، فيفهم منه أيضا أنّ النفوس البله هي النفوس الخالية عن الكمال العلميّ و ما يضادّه.

ص:100

و أمّا ما ذكره من تقسيم تلك النفوس إلى النفوس الزكيّة-و فسّرها بما رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم الخ-و إلى النفوس الرديّة-و أراد بها ما يقابل النفوس الزكيّة،أي التي لم يكن فيها ذلك النحو من الاعتقاد أو أعمّ منه،و من التي رسخت فيها هيئة رديّة بدنيّة كملكة الإفراط و التفريط-فليس بمناف لإرادته البله بالمعنى المذكور،أي الخالية عن الكمال العلميّ و ما يضادّه خاصّة،لأنّ ذلك النحو من الاعتقاد الذي ذكره ليس كمالا علميّا للنفس حتّى ينافي الخلوّ من الكمال العلميّ،لأنّ الكمال العلميّ كما تضمّنه كلام الشيخ سابقا إنّما هو الاعتقاد الجازم بالمعقولات من حيث إنّها معقولات،بحيث تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ،و لا كذلك ذلك النحو من الاعتقاد،فإنّه كما يدلّ عليه كلام ذلك البعض اعتقاد في العاقبة من جهة الأمور الجزئيّة التي من شأنها أن تكون محسوسة.

و أيضا هو و إن كان اعتقادا في الجملة،لكنّه ليس اعتقادا في مرتبة الاعتقاد بالمعقولات الصرفة،بل هو اعتقاد شبيه بالتخيّل أو التوهّم.

و كذلك الأنفس الرديّة التي ذكرها و ذكر بيان حالها،ليس المراد بها ما ارتسم فيه الجهل بالكمالات العلميّة بسيطا أو مركّبا حتّى ينافي كونها خالية عن ضدّ الكمال العلميّ، بل المراد بها إمّا ما ارتسم فيه ضدّ ذلك النحو من الاعتقاد-كما هو الظاهر من كلامه-أو هو مع كيفيّة رديّة بدنيّة،و على التقديرين،فالمرتسم فيها ليس ضدّا للكمال العلميّ.

و كذلك ليس بين كلامي الشيخ و ذلك البعض منافاة في تقسيم النفوس البله إلى الأقسام،و بيان حال تلك الاقسام،فإنّ الشيخ قد بيّن أحوال تلك النفوس البله بحسب خلوّها عن الهيئات الرديّة البدنيّة،و بحسب اشتمالها عليها،بل بحسب اشتمالها على الهيئات الفاضلة أيضا،و لم يتعرّض لبيان حالها بحسب اشتمالها على الاعتقادات الشبيهة بالتخيّل أو التوهّم في العاقبة من الأمور الجزئيّة المحسوسة،و إنّ ذلك البعض قد تعرّض للثاني دون الأوّل،و لا ضير في كلّ ذلك،بل إنّ الشيخ ربّما لم يتعرّض للثاني إحالة على ظهوره ممّا نقله من ذلك البعض،بل إنّه ربّما يدّعي أنّ ما ذكره ذلك البعض من الأحوال راجع إلى الاشتمال على الهيئات البدنيّة الفاضلة و على الهيئات الردية البدنيّة

ص:101

أيضا،فإنّ رسوخ ذلك النحو من الاعتقاد الذي عرفت أنّه ليس بكمال علميّ للنفس،و كذا رسوخ خلافه،يرجع إلى رسوخ حالة بدنيّة رديّة أو فاضلة.

و منه يظهر وجه آخر لعدم تعرّض الشيخ صريحا لذكر قسم ما اكتسبت النفس الحالة البدنيّة الفاضلة،فإنّه لعلّه لم يتعرّض له لظهوره ممّا نقله عن ذلك البعض.

و حيث تحقّقت ما ذكرنا،فلنرجع إلى تحرير ما ذكره الشيخ من أحوال النفوس البله.

فنقول:معناه:و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق التي كمالها الخاصّ بها،أي الكمال الحقيقيّ العلميّ،فإنّها إذا فارقت البدن،و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة،سواء اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة بدنيّة أم لا،صارت إلى سعة من رحمة اللّه و نوع من الراحة.

أمّا إذا لم تكتسب هيئة رديّة و لا فاضلة مطلقا فلخلوّها عن أسباب التأذّي و الخلاص عنها فوق الشقاء،فإذن هي في سعة من رحمة اللّه تعالى و نوع من الراحة.و أمّا إذا اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة،فظاهر.

و على التقديرين و لا سيّما التقدير الأخير،يمكن أن يحمل ما ورد في الحديث من «أنّ أكثر أهل الجنّة البله» (1)و إن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة،و ليس فيها هيئة غير ذلك من هيئة فاضلة و لا معنى يضادّها و لا أمر ينافيها،فتكون تلك النفوس لا محالة ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئات الرديّة لعدم حصول شيء فيها غير ذلك،فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن و مقتضياته،من غير أن يحصل المشتاق إليه،لأنّ آلة ذلك قد بطلت و خلق التعلّق قد بقي يعني أنّها حيث كانت ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئة الرديّة البدنيّة،و الحال أنّ ذلك المقتضى إنّما كان يحصل بالبدن و بالآلات البدنيّة،فتتعذّب عذابا شديدا بسبب اشتياقها إلى ذلك المقتضى،مع كون الاشتياق حاصلا لها باقيا فيها، و كون المشتاق إليه،أي ذلك المقتضى غير حاصل لها،بل فائتا عنها.أمّا كون الاشتياق باقيا،فلأنّ خلق التعلّق بالبدن،و هو تلك الهيئة الرديّة البدنيّة باق فيها.و أمّا كون ذلك

ص:102


1- -بحار الأنوار 128/5؛9/67. [1]

المقتضى فائتا عنها،فلأنّ آلة ذلك-و هي البدن-قد بطلت.

و بالجملة،فسبب تعذّبها و تألّمها هو اشتياقها إلى شيء فائت عنها،و هذا هو مفاد كلامه.

و أمّا أنّه هل ينقطع هذا العذاب عنها أم لا ينقطع،فليس في كلامه هذا تعرّض لذلك، و مقتضى ما ذكره آنفا من أنّ الهيئة الرديّة البدنيّة و الأمر العارض الغريب لا تدوم و لا تبقى،بل تزول و تبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها،هو انقطاع هذا العذاب،حيث إنّ سببه أيضا إنّما هو الهيئات الرديّة و الأمر العارض الغريب.

ثمّ إنّه مال بعد ذلك إلى مذهب بعض العلماء في النفوس البله و بيان حالها بعد المفارقة،و كأنّه يريد بذلك البعض الفارابيّ،كما مرّ بيانه فيما سلف.

و قال:«و يشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا،و هو أنّ تلك النفوس البله إذا فارقت البدن،و كانت زكيّة بأن رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة و في أمور الآخرة التي تكون لأمثالهم،على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامّة،أي المخاطبة بالأمور الجزئيّة المحسوسة من الأمور الحقّة في الآخرة،دون الأمور المعقولة التي ليس من شأنهم إدراكها و لا ينبغي مخاطبتهم بها و اعتقدوا تلك الأمور الجزئيّة المحسوسة نحوا من الاعتقاد،و إن كان شبيها بالتخيّل و التوهّم و تصوّر ذلك في أنفسهم،فإنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان و الحال أن ليس لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة الحاصلة بإدراك،و لا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الحاصلة بفقد ذلك الكمال،حيث إنّ المفروض أنّه لم يكن لهم شوق إلى كمالهم الخاصّ بهم حتّى يكتسبوه أم لم يكتسبوه،بل كانت جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل،منجذبة إلى الأجسام لكون نفوسهم خسيسة،غير مكتسبة للشوق إلى الكمال،و الحال أنّ موضوع تخيّلهم بتلك الأمور الجزئيّة الأخرويّة التي يدركون الثواب على اعتقادهم بها و تخيّلهم لها،و هو البدن،و إن كان قد بطل،إلاّ أنّه لا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها،كالتخيّل و التصوّر،و أن تكون تلك المواد تنوب عن أبدانهم في ذلك،لكن بحيث لا يكون تعلّق نفوسهم بتلك المواد تعلّق التدبير و التصرّف،كتعلّقهم بأبدانهم،بل

ص:103

مجرّد التعلّق لأجل حصول التخيّل،من غير أن تكون هي متصرّفة فيها،فهذه النفوس إذا فارقت الأبدان تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة،و يكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل لذلك شيئا من الأجرام السماويّة،فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا و اعتقدته نحوا من الاعتقاد،من أحوال القبر و البعث و الخيرات الأخرويّة،أي تشاهد جميع الأمور الجزئيّة الحسّيّة الأخرويّة و الثواب عليها،و تتصوّرها و تتخيّلها بالقوّة المتخيّلة التي آلتها ذلك الجرم السماويّ،و كذلك تكون الأنفس الرديّة التي لم يرسخ فيها ذلك النحو من الاعتقاد في العاقبة تشاهد أيضا العقاب بحسب ذلك المصوّر لهم في الدنيا و تقاسيه.

و بهذا تمّ بيان حال النفوس البله كما ذكره الشيخ نفسه،و نقله عن ذلك البعض الذي أراد به الفارابيّ و قد عرفت فيما سلف من مبحث إبطال التناسخ ما فيه من النظر،فتذكّر.

و أمّا قوله:«فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة الخ»بيان،لأنّ تلك الصور الخياليّة كيف تكون سببا للثواب و العقاب،و وجهه أنّ تلك الصور الخياليّة التي قلنا إنّ مشاهدتها سبب للثواب و العقاب،ليست تضعف في الإلذاذ و الإيلام عن الصور الحسّيّة، بل تزداد عليها في ذلك تأثيرا و صفاء،و قد تقدّم في الأصول المتقدّمة ما يدلّ على أنّ زيادة التأثير و الصفاء توجب زيادة الإدراك للملذّ أو المؤلم،فيزيد اللذّة أو الألم،و هذا كما يشاهد في المنام،فربّما كان المحلوم به من الصور الخياليّة الدنيويّة أعظم شأنا في بابه،أي في الإلذاذ و الإيلام من المحسوس،على أنّ الصور الخياليّة الأخرويّة كما فيما نحن فيه أشدّ استقرارا من الموجودة المحلوم بها في المنام بحسب قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل،فتكون الصور الخياليّة الأخرويّة في الإلذاذ و الإيلام أقوى من الصور الحسّيّة بمرتبتين،بل بمراتب.

و قوله:«و ليست الصورة التي ترى في المنام الخ»بيان،لأنّه لا يلزم أن تكون الصور الخياليّة التي إدراكها سبب للذّة أو الألم منتزعة من ملذّ موجود في الخارج،أو مؤلم موجود في الخارج،بل إنّ نفس تلك الصورة الخياليّة إذا حصل ارتسامها في النفس،سواء كانت منتزعة من أمر في الخارج أو بمحض اختراع القوة الخياليّة تكون سببا لذلك.و بيانه

ص:104

أنّه ليست الصورة التي ترى فى المنام من الصور الخياليّة،بل و لا التي تحسّ في اليقظة منها-كما علمت في باب ذلك-إلاّ المرتسمة في النفس و في قواها،إلاّ أنّ إحداهما،و هي التي ترى في المنام تبتدئ من باطن و تنحدر إلى النفس.و الثانيّة و هي التي تحسّ في اليقظة،تبتدئ من خارج و ترتفع إليها،و على التقديرين،فإذا ارتسمت تلك الصورة في النفس بتوسّط ارتسامها في قواها فعلت فعلها هناك،أي الادراك المشاهد.و إنّما يلذّ و يؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج،و كلّما ارتسم في النفس فعل فعله و إن لم يكن له سبب من خارج،فإنّ السبب الذاتيّ لذلك هو هذا المرتسم، و الخارج سبب بالعرض أو سبب السبب،فربّما كان و ربّما لم يكن.

فهذه التي ذكرناها من الثواب و العقاب بحسب مشاهدة الصور الخياليّة في النفوس البله هي السعادة و الشقاوة الحسّيّتان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة المتوجّهة إلى الأسفل،و أمّا الأنفس المقدّسة عن تلك الخسّة المتوجّهة نحو الجهة التي هي فوقها،فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال،و تتّصل بكمالها بالذّات و تنغمس في اللذّة الحقيقيّة العقليّة و تتبرّأ عن النظر إلى ما خالفها من الأمور الخسيسة الحسيّة،و إلى المملكة البدنيّة التي كانت لها كلّ التبرّؤ،أي تبرّءا كاملا،إذ لو كان قد بقى في تلك النفوس المقدّسة من النظر إلى ما خلفها أثر اعتقاديّ من جهة القوّة النظريّة،أو خلقيّ من جهة القوّة العمليّة،تأذّت بذلك الأثر،لكونه منافيا لحقيقتها المقدّسة عن ذلك،و تخلّفت لأجله عن درجة العليّين إلى أن ينفسخ شيئا فشيئا عنها و يزول،و ترقّت إلى درجة العليّين.

و هذا شرح كلامه هنا فيما نقله عن ذلك البعض عن العلماء،سواء كان كلّه هو قول ذلك البعض أو بعضه،و هو ما ذكره أوّلا.

و بالجملة،فليس فيه أيضا تعرّض لأنّ السعادة و الشقاوة الحسّيّتين بالقياس إلى النفوس البله،هل تنقطعان أم لا؟و قد ذكرنا آنفا أنّ مقتضى ما ذكره سابقا من زوال الهيئة الرديّة انقطاع شقاوتها.و قد ذكر في«الإشارات»كما نقلنا كلامه سابقا ما يشعر بزوال سعادتها الحسّيّة أيضا و تدرّجها إلى درجة العارفين آخر الأمر.

قال:«و أمّا البله فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم،و لعلّهم لا

ص:105

يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم،و لا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه،و لعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتّصال المعدّ الذي للعارفين».انتهى.

و قد ذكرنا هنالك ما فيه من النظر،فتذكّر.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ من الكلام في هذا الفصل و شرحناه،و تبيّن لك مؤدّاه و تلخّص مغزاه،فاعلم أنّ لنا فيه مضافا إلى النظرين اللذين أوردنا أحدهما على أوّل كلامه في هذا الفصل،و الآخر على آخر كلامه فيه،نظرا آخر، و هو أن يقال:

هب أنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة و العمليّة حاصلتان للأنفس التي اكتسبت الشوق إلى كمالها الخاصّ بها كما فصّله الشيخ.

و هب أنّ ذلك أيضا ممّا نطق به الشرع و صدّقته أخبار النبوّة كما ادّعاه،مثل ما ورد في شأن السعداء من قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) . (1)

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هناك:«ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر». (2)

و قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) . (3)

و قوله تعالى: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ)) . (4)

و قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)) . (5)

و قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)) (6).

ص:106


1- -السجدة(32):17. [1]
2- -بحار الأنوار 191/8. [2]
3- -التوبة(9):72. [3]
4- -المائدة(5):119. [4]
5- -الفجر(89):27-28. [5]
6- -يونس(10):10. [6]

و قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ)) (1).

و قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)) . (2)

و قوله تعالى: وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ)) (3).

و قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)) . (4)

و أمثال ذلك الآيات و الاخبار

أو حملناها على السعادة العقليّة،أو على أعمّ منها و من السعادة الحسّيّة.

و مثل ما ورد في شأن الاشقياء من قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)) . (5)

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ،لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)) . (6)

و قوله تعالى: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)) . (7)

و قوله تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)) . (8)

و قوله تعالى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)) . (9)

و قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)) . (10)

ص:107


1- -العنكبوت(29):5. [1]
2- -فصّلت(41):31-32. [2]
3- -الأنبياء(21):102. [3]
4- -القيامة(75):22-23. [4]
5- -الأنعام(6):31. [5]
6- -الأعراف(7):179. [6]
7- -النحل(16):106. [7]
8- -طه(20):124. [8]
9- -النحل(16):27. [9]
10- -القلم(68):43. [10]

و قوله تعالى: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)) . (1)

و قوله تعالى: نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ* اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)) . (2)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار،لو حملناها على الشقاوة العقليّة أو على أعمّ منها و من الحسّيّة.

و هب أن السعادة و الشقاوة العقليّتين حيث كانتا ممّا يستقلّ في إثباتها العقل بالقياس البرهانيّ،و كنّا مع ذلك ممّا لا نتصوّر هما حقّ التصوّر لكوننا منغمسين في البدن و رذائله،لم يفصلهما الشرع تفصيله للسعادة و الشقاوة الحسّيّتين،بل وقعت في الشرع إشارات و إيماءات إليهما يفهمها من يفهمها،إلاّ أنّ فيما ذكره الشيخ إهمالا لما هو المقصود الأهمّ هنا،و هو أنّه لم يتبيّن من كلامه أنّ النفس بعد مفارقتها عن البدن في إدراكها للسعادة و إصابتها للشقاوة العقليّة،هل هي مجرّدة عن المادّة في فعلها كما هو مجرّدة عنها في ذاتها؟أو هي متعلّقة بمادّة تتصرّف فيها تصرّف التدبير،كتصرّفها في البدن؟أو لا تتصرّف فيها ذلك التصرّف،بل إنّما هي متعلّقة بها نوع تعلّق،لتكون تلك المادّة موضوعة لإدراكاتها؟مع أنّه على فرض التجرّد كيف تكون مجرّدة عن المادّة في أفعالها و إدراكاتها؟و الحال أنّها كانت بدنيّة لا إدراك لها أصلا إلاّ في ضمن البدن،و كيف تكون ذات واحدة تارة بدنيّة كما في النشأة الدنيويّة و تارة غير بدنيّة أصلا،بل مجرّدة عن البدن و عمّا يشابهه مطلقا كما في ما بعد الموت إلى وقت البعث،و تارة بدنيّة أيضا كما في حال البعث،حيث إنّ الشيخ سلّم ذلك،و قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع؟و لو قال بأنّ النفس إنّما كانت في النشأة الدنيويّة بدنيّة لأجل استكمالها في ضمنه،فإذا حصل الاستكمال فلا احتياج لها إليه في أفعالها و إدراكاتها،فيمكن أن تكون مجرّدة عن ذلك مطلقا.

قلنا:ذلك على تقدير تسليمه،إنّما يسلّم في النفوس الفاضلة التي حصلت كمالاتها العلميّة و العمليّة بالفعل،و أمّا في النفوس التي هي بخلاف ذلك و لم تحصّل كمالاتها،بل حصلت ما ينافي كمالاتها،فلا.

ص:108


1- -القيامة(75):24-25. [1]
2- -الهمزة(104):6-7. [2]

و أيضا يرد النقض بتلك النفوس حين البعث،فإنّها بدنيّة هنالك لا محالة كما نطق به الشرع و اعترف به الشيخ،فلو كان الاستكمال مغنيا لها عن البدن لكانت النفوس المحصّلة لكمالاتها غير بدنيّة هنالك أيضا،هذا خلف.

و إنّه على فرض التعلق بالمادّة بعد المفارقة،فلا شكّ أنّ تلك المادّة ليست هي البدن الأوّل الذي كانت متعلّقة به،لكون المفروض مفارقتها عنه و اضمحلاله و بطلانه،فهي مادّة أخرى غير ذلك البدن الأوّل،فلا يخلو حينئذ إمّا أن تكون متعلّقة بتلك المادّة الأخرى تعلّق التدبير و التصرّف،فهذا تناسخ،فقد ظهر بطلانه؛و إمّا أن تكون متعلّقة بها لا تعلّق التدبير و التصرّف،بل نوع تعلّق لأن تكون موضوعة لإدراكاتها كما ذهبوا إليه في النفوس الساذجة،من التعلّق بجرم سماويّ أو جرم دخانيّ،أو نحو ذلك،على ما عرفت من المذاهب المنقولة في ذلك،فهذا أيضا باطل،قد أشرنا إلى بطلانه فيما سبق.

و بالجملة،ففيما ذكره إهمال لما هو الغرض المهمّ هنا.

فإن قلت:لا إهمال،فإنّ الشيخ لعلّه لم يتعرّض لبيان ذلك صريحا،إشعارا بأنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين لمّا كانتا حاصلتين للنفس بذاتها،و كان إدراكها غير مفتقر إلى آلة بدنيّة،فلا توقّف لبيان حال تلك السعادة و تلك الشقاوة على بيان كون النفس كائنة حينئذ في ضمن بدن،مع أنّه حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،فقد أشعر بذلك البيان كما نطق به الشرع.

قلت:هب أنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين تحصلان للنفس بذاتها،و أنّ إدراكهما لا يحتاج إلى آلة بدنيّة،إلاّ أنّا نقول:إنّ الإهمال الذي ادّعيناه من جهة أنّه لم يبيّن أنّ النفس في تلك الحالة التي يدرك فيها السعادة و الشقاوة العقليّتين،هل هي في ضمن بدن أم لا؟ و أنّ ذلك البدن ما ذا؟مع أنّ السعداء الذين تحصل لهم بعد المفارقة السعادة العقليّة تحصل لهم السعادة الحسّيّة أيضا،على ما دلّ الدليل النقليّ و العقليّ عليه،و أنّ السعادة الحسّيّة الأخرويّة ليست من جنس السعادة الحسّيّة الدنيويّة في الخسّة حتّى يهمل بيانها،بل أعظم منها بمراتب،بل إنّ أكثر ما دلّ عليه الشرع من السعادة هو السعادة الحسّيّة كما يظهر على من تتبّع.و كذلك الأشقياء،كما دلّ الدليل العقليّ و النقليّ على حصول الشقاوة

ص:109

العقليّة لهم كذلك،دلاّ على حصول الشقاوة الحسّيّة لهم أيضا،كما هو مدلول أكثر الآيات و الأخبار،و ليس تلك الشقاوة من جنس الشقاوة الدنيويّة،بل أشدّ منها بكثير،و الحال أنّ إدراك النفس للسعادة و الشقاوة الحسّيّتين يحتاج إلى آلة بدنيّة البتّة،و لذلك قال الشيخ في النفوس الساذجة بتعلّقها بجرم سماويّ ليكون ذلك موضوعا لتخيّلاتهم و إدراكهم لتلك السعادة و الشقاوة الحسّيّتين،فلم أهمل بيان ذلك و هو محتاج إلى البيان البتّة؟

ثمّ إنّ ما ذكرت:أنّ الشيخ حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،فقد أشعر بذاك البيان كما نطق به الشرع،محلّ نظر،لأنّه إنّما قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،و ظاهر ذلك أنّه قبل تعلّق النفس ببدن حين البعث كما نطق به الشرع لا من حين المفارقة إلى حين البعث أيضا،أي في عالم البرزخ،فإنّه لا إشعار لذلك القبول ببيان حال النفس في عالم البرزخ،كما نطق به الشرع.و على تقدير التسليم فما نطق به الشرع في ذلك العالم إنّما هو التعلّق ببدن مثاليّ روحانيّ،كما سنبيّن ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى،لا التعلّق بغير ذلك من الأبدان و لا التجرّد عن الأبدان مطلقا.

و الشيخ لو كان قائلا بذلك البدن المثاليّ،لكان قائلا به في النفوس الساذجة التي هي على رأيه لا بدّ لها من جسم تتعلّق به في إدراكاتها،و لم يقل بالبدن المثاليّ فيها،مع أنّ القول به فيها لا مانع منه،كما سيتّضح ذلك من بعد،و أنّ ما قال به فيها واضح البطلان،كما عرفت.

و حينئذ فهو مع إهماله لبيان ما هو الغرض المهمّ هنا،يظهر منه أنّه غير قائل بما نطق به الشرع في بيان حال النفوس مطلقا في عالم البرزخ من حيث التعلّق ببدن مثاليّ،و يلزم منه مخالفته للشرع مع ادّعائه أنّه مصدّق به،كما يلزم مخالفة الشرع على الذين قالوا بالمعاد الروحانيّ و لم يقولوا بالجسمانيّ مطلقا،من جهة بيان حال النفوس في عالم البرزخ و حين البعث جميعا،و إن كانت مخالفته للشرع أقلّ من مخالفتهم له،و كأنّ منشأ ذلك قلّة الاعتناء و المبالاة بالشرع الشريف،أو الغفلة عنه مع ظهوره.نعوذ باللّه تعالى من ذلك.و إن احتمل أن يكون لذلك وجه آخر لم نعلم.

و قد يحكى عن بعض علمائنا ما مضمونه أنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام،فسأله

ص:110

عن حال ابن سينا فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنّ ابن سينا أراد أن يترقّى إلى الرفيع الأعلى بدون قائد إرشادي و هدايتي،فضربته بيدي فأسقطته إلى الأسفل الأدنى،فتردّى و هوى.

في بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،أي في

عالم البرزخ كما نطق به الشرع

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و تمّ ما رمنا ذكره على سبيل المقدّمة،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده من بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،كما قال تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) . (1)

فنقول:روى حجّة الإسلام و رئيس المحدّثين أبو جعفر محمد بن عليّ بن بابويه القمّيّ قدّس اللّه تعالى روحه في كتاب«من لا يحضره الفقيه»عن الصادق عليه و على آبائه الطاهرين و أولاده المعصومين أكمل الصلوات و أفضل التسليمات و التحيّات:«إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة من الجنّة تتساءل و تتعارف،فإذا قدمت الروح على الأرواح،تقول:دعوها فقد أفلتت من هول عظيم،ثمّ يسألونها ما فعل فلان؟فإن قالت لهم تركته حيّا ارتجوه،و إن قالت لهم:قد هلك،قالوا:هوى هوى». (2)

و روى شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ نوّر اللّه تعالى ضريحه في كتاب«تهذيب الأحكام»بإسناده عن مروان بن مسلم عنه عليه السّلام،قال:قلت له:إنّ أخي ببغداد،و أخاف أن يموت بها،قال:ما تبالي حيثما مات،أمّا إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض و غربها،إلاّ حشر اللّه تعالى روحه إلى وادي السلام.قال:قلت:جعلت فداك، و أين وادي السلام؟قال:ظهر الكوفة،أمّا إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (3)

و عن يونس بن ظبيان،قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا،فقال:ما يقول الناس

ص:111


1- -المؤمنون(23):100. [1]
2- -من لا يحضره الفقيه 193/1،و فيه:ما فعل فلان؟و ما فعل فلان؟
3- -تهذيب الأحكام 466/1(في أحكام الأموات)و فيه:...أن يموت فيها...لا يبقى أحد...و لا في غربها...

في أرواح المؤمنين؟قلت:يقولون:تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش!فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك،أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر.يا يونس،المؤمن إذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون،فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (1)

و عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أرواح المؤمنين،فقال:في الجنّة على صور أبدانهم،لو رأيتهم لقلت فلان. (2)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي رواها علماؤنا،و قد نقلنا جملة منها في صدر الرسالة.

و قد قال بعض العلماء المتبحّرين من المتأخّرين (3)في شرحه على التهذيب:إنّ هذه الأخبار تدلّ على انتقال الأرواح إلى الأجساد المثالية،و به يستقيم كثير من الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن،و قد وردت به أخبار كثيرة،و لا مانع عن القول به،و ليس هذا من التناسخ في شيء،مع أنّ التناسخ لم يتمّ دليل عقليّ على امتناعه،و لو تمّت لا يجري أكثرها فيما نحن فيه،و العمدة في نفيه إجماع المسلمين و ضرورة الدين،و معلوم أنّ هذا غير داخل فيما انعقد الإجماع و الضرورة على نفيه،كيف و قد قال به كثير من المسلمين،كشيخنا المفيد قدّس اللّه روحه و غيره من علمائنا المتكلّمين المحدّثين،بل لا يبعد القول بتعلّق الأرواح بالأجساد المثاليّة عند النوم أيضا، كما يشهد به ما يرى في المنام،و قد وقع في الأخبار تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشهد فيها.

قال الشيخ البهائيّ قدّس اللّه روحه:«قد يتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصريّة بأشباح أخر-كما دلّت عليه الأحاديث-قول بالتناسخ،و هذا توهّم

ص:112


1- -تهذيب الأحكام 466/1.
2- -تهذيب الأحكام 466/1 و فيه:...لو رأيته لقلت:...
3- -هو المحدّث الجليل المولى محمّد باقر المجلسيّ(ره)منه.

سخيف،لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها بأجسام أخر في هذا العالم،أمّا عنصريّة كما يزعم بعضهم و يقسّمه إلى النسخ و المسخ و الفسخ و الرسخ،أو فلكيّة ابتداء،أو بعد تردّدها في الأبدان العنصريّة،على اختلاف آرائهم الواهية المفصّلة في محلّها.و أمّا القول بتعلّقها في عالم آخر بأبدان مثاليّة مدّة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى،فتعود إلى أبدانها الأوّليّة بإذن مبدعها،إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة،أو بإيجادها من كتم العدم،فليس من التناسخ في شيء،و إن سمّيته تناسخا فلا مشاحّة في التسمية إذا اختلف المسمّى.و ليس إنكارنا على التناسخيّة حكمنا بتكفيرهم بمجرّد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى آخر،فإنّ المعاد الجسمانيّ كذلك عند كثير من أهل الإسلام،بل بقولهم بقدم النفوس و تردّدها في أجسام هذا العالم،و إنكارهم المعاد الجسمانيّ في النشأة الأخرويّة».

ثمّ قال قدّس سرّه:«ما ورد في بعض أحاديث أصحابنا رضي اللّه عنهم،من أنّ الأشباح التي تتعلّق بها النفوس ما دامت في عالم البرزخ ليست بأجسامهم،و أنّهم يجلسون حلقا حلقا على صور أجسادهم العنصريّة يتحدّثون و يتنعّمون بالأكل و الشرب، و أنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض و السماء،يتعارفون في الجوّ و يتلاقون،و أمثال ذلك،كما يدلّ على نفي الجسميّة و إثبات بعض لوازمها،يعطي أنّ تلك الأشباح ليست في كثافة المادّيّات و لا في لطافة المجرّدات،بل هي ذوات جهتين و واسطة بين العالمين، و هذا يؤيّد ما قاله طائفة من أساطين الحكمة من أنّ في الوجود عالما مقداريّا غير العالم الحسّيّ،هي واسطة بين عالم المجردات و عالم الماديّات،ليس في تلك اللطافة و لا في هذه الكثافة،فيه ما للأجسام و الأعراض من الحركات و السكنات و الأصوات و الطّعوم و الروائح و غيرها مثل قائمة بذواتها لا في مادّة،و هو عالم عظيم الفسحة،و سكّانه على طبقات متفاوتة في اللطافة و الكثافة،و قبح الصورة و حسنها،و لأبدانهم المثاليّة جميع الحواسّ الظاهرة و الباطنة،فيتنعّمون و يتألّمون باللذّات و الآلام النفسانيّة و الجسمانيّة.

و قد نسب العلاّمة في«شرح حكمة الإشراق»،القول بوجود هذا العالم إلى الأنبياء و الأولياء و المتألّهين من الحكماء،و هو و إن لم يقم على وجوده شيء من البراهين العقليّة،

ص:113

لكنّه قد تأيّد بالظواهر النقليّة،و عرفه المتألّهون بمجاهداتهم الذوقيّة.انتهى». (1)انتهى كلامه.

أقول و باللّه التوفيق:اعلم أنّ القول بانتقال الأرواح بعد الموت إلى الأبدان المثاليّة، و كذا القول بوجود العالم المثاليّ المتوسّط بين العالم الحسّيّ و العقليّ هو قول كثير من العلماء الإسلاميّين المحدّثين و كثير من المتكلّمين،و لا سيّما الصوفيّة منهم،و كثير من أساطين الحكمة،و لا سيّما الإشراقيّين منهم،كما يظهر على من تصفّح كتب العلماء، مضافا إلى ما ذكره شارح«حكمة الاشراق»أنّه قول الأنبياء و الأولياء و المتألّهين من الحكماء.و كذلك بالقول بذلك يستقيم توجيه كثير من الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن،كما ذكره ذلك البعض من المتبحّرين أيضا،و يظهر ذلك على من تدبّر في تلك الآيات و الأخبار الواردة فيها.

مثل ما رواه الشيخ الصدوق في«الفقيه»عن الصادق عليه السّلام:«اذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن و غيره ينظر إلى كل شيء يصنع به،فإذا كفّن و وضع على السرير و حمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه و دخلت فيه،فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة أو النار،فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة:عجّلوني،و إن كان من أهل النار:ردّوني،و هو يعلم كلّ شيء يصنع به و يسمع الكلام». (2)

و مثل ما رواه فيه عن إسحاق بن عمّار:«أنّه سأل أبا الحسن الأوّل صلوات اللّه عليه عن المؤمن يزور أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟فقال:على قدر فضائلهم،منهم من يزور كلّ يوم،و منهم من يزور في كلّ يومين،و منهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام.قال:ثمّ رأيت في مجرى كلامه أنّه يقول:أدناهم جمعة،فقال له:في أيّ ساعة؟قال:عند زوال الشمس أو قبيل ذلك،فيبعث اللّه معه ملكا يريه ما يسرّه،و يستر عنه ما يكرهه،فيرى سرورا

ص:114


1- -الأربعين للشيخ البهائيّ191/ و 192 و فيه:...لوازمها على ما هو منقول في الكافي و غيره عن أمير المؤمنين و الأئمّة من أولادهم عليه السّلام...
2- -من لا يحضره الفقيه 193/1،و فيه:...الجنّة أو من النار...عجّلوني عجّلوني...ردّوني ردّوني...

و يرجع إلى قرّة عين». (1)

و مثل ما رواه حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«إنّ الكافر يزور أهله،فيرى ما يكرهه،و يستر عنه ما يحبّ». (2)

و قد ذكر شارح الفقيه:أنّه روى في الموثّق عن أبي بصير،عن الصادق عليه السّلام إنّ كلّ مؤمن و كافر مات يجيء عند الزوال لزيارة أهله،فإن رأوا عملا صالحا من أهلهم شكروا اللّه عزّ و جلّ،و إن رأوا عملا سيّئا تألّموا و تحسّروا حسرة عظيمة. (3)

و روي أيضا عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام،في خبر كالصحيح«أنّه سئل عنه هل يجيء الميت لزيارة أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟قال:في كلّ أسبوع و شهر و سنة بمقدار منزلتهم،قال:في أيّ صورة؟قال:في صورة طائر لطيف يجلس على جدار بيته،و ينظر إلى أحوال أهله،فإن كانت حالهم حسنة يسرّ،و إن كانت سيّئة يغتمّ و يحزن» (4).

و روي أيضا في حديث قويّ عن عبد الرحيم،عنه عليه السّلام:«أنّه سأله عن أنّ المؤمن هل يزور أهله؟قال عليه السّلام:نعم يرخصه اللّه تعالى،و يرسل معه ملكين،و هو على صورة طائر، و يجلس على حائط بيته و ينظر إلى أهله و يسمع كلامهم». (5)

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في حال الميت بعد مفارقة روحه عن جسده؛بل إنّه يستقيم بالقول بذلك توجيه القول بتجسيم الأعمال كما سيأتي بيانه،و كذا يستقيم توجيه ما ورد من ظهور الملكين منكر و نكير على المؤمنين بصورة حسنة و على غيرهم بصورة مهيبة،و كذا ظهور جبرئيل عليه السّلام في صورة دحية الكلبيّ و أمثال ذلك،سواء قيل بكون الملائكة أجساما نورانيّة لطيفة،كما هو ظاهر الشرع،أو ذواتا مجرّدة كما ذهب إليه بعض الحكماء،و سيجيء زيادة بيان لذلك فيما بعد،إن شاء اللّه تعالى.

ص:115


1- -من لا يحضره الفقيه 181/1.
2- -نفس المصدر.
3- -شرح الفقيه الفارسي 346/1 الطبعة الحجريّة.
4- -شرح الفقيه 346/1.
5- -نفس المصدر.

و قد وردت بما يدلّ على هذا القول أخبار كثيرة غير ما ذكرنا هنا أيضا،كما نقلنا في صدر الرسالة جملة من الأخبار في ذلك،و كلّها متقاربة المضامين تدلّ على انتقال الأرواح إلى القالب المثاليّ،فتذكّر.

ثمّ إنّ عمدة المستند في ذلك عند المتمسّكين بالأخبار،هي تلك الأخبار الواردة في ذلك،كما أنّ عمدة المستند فيه عند الحكماء الإشراقيّين و الصوفيّة من المتكلّمين هي ما عرفوه بمجاهداتهم الذوقيّة.

من جملة الشواهد على وجود العالم المثاليّ ما يشاهد في النوم

و قد جعل بعض من القائلين بوجود هذا العالم المثاليّ و انتقال الروح إلى بدن مثالي بعد المفارقة عن البدن العنصريّ،من جملة الشواهد على ذلك ما يشاهده النائم في نومه من الصور،كما ورد في الأخبار من تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشاهد فيها،و أنّ النوم أخو الموت.

و كان وجه هذه الشهادة،أنّ الصورة التي يراه الانسان في منامه من صورة ذاته،أو صورة غيره من الإنسان أو غيره إمّا أن تكون هي الصورة المحسوسة بحسّ البصر الظاهريّ المنتزعة من المحسوس العينيّ الموجود في الخارج،فهذا باطل،لأنّ البصر الظاهريّ معطّل في حالة النوم باتّفاق العلماء من الحكماء و غيرهم،بل إنّ تعطّله معلوم بالضرورة،فكيف يفعل فعلا؟و أيضا فعلم بالضرورة أنّ تلك الصور ليست صورا محسوسة منتزعة من أعيان خارجيّة،و إلاّ لترتّب الآثار الخارجيّة المترتّبة عليها،و ليس كذلك.

و إمّا أن تكون هي صورا موجودة في الخيال أو في القوة المتخيّلة،فهذا و إن كان ممّا قال به جمع من الحكماء،و لا سيّما الطبيعيّين منهم،لكنّه ممّا لا يكاد يتمّ،لأنّه مبنيّ على تعطّل الحواس الظاهرة و عدم تعطّل الحواس الباطنة في المنام،و هذا غير معلوم،بل إنّ ما ذكروه في سبب تعطّل الحواس الظاهرة في المنام يجري في تعطّل الحواس الباطنة أيضا،

ص:116

حيث إنّ سبب التعطّل سواء كان هو نوعا من قطع العلاقة مع البدن الذي يحصل للنفس حالة النوم،حيث إنّها في تلك الحالة يصير علاقتها مع البدن قليلة و منقطعة في الجملة، أو كان استيلاء رطوبة على أعصاب الدماغ التي هي مبادئ الحواسّ كما قالوا،أو أمر آخر غير ذلك،فهذا السبب كما أنّه يجري في تعطّل الحواسّ الظاهرة يجري في تعطّل الباطنة منها أيضا.و لا دليل على اختصاصه بالظاهرة منها،بل الظاهر جريانه في الباطنة و كونه سببا لتعطّلها أيضا.و أيضا إنّ الصور الخياليّة يجب أن تكون منتزعة من محسوس خارجيّ،تبقى تلك الصورة في خزانة الخيال،و نحن قد نرى في المنام صورة لم نر ذا صورتها قطّ،و إنّ القوة المتخيّلة و إن كانت قد تخترع صورا،لا تكون ذوات صورها موجودة،و لم تجيء تلك الصور إليها من جهة الحواسّ الظاهر و الخيال،إلاّ أنّ أكثر ما تخترعه هي الصورة الكاذبة التي لا حقيقة لها،و إن كان يمكن نادرا أن تخترع بمحض تعمّلها صورة توافق ما في الخارج من بعض الوجوه،و أندر منه الموافقة من كلّ الوجوه، و الحال إنّا كثيرا ما نرى في المنام رؤيا صادقة،بل نرى صورة لم نر ذا صورتها قطّ،ثمّ يتّفق أن نرى بعد ذلك ذا صورتها أيضا موافقا لما رأيناه في المنام من كلّ الوجوه، و مستبعد جدّا أن تكون تلك الصورة من مخترعات المتخيّلة،اتّفقت موافقتها من كلّ الوجوه،و على هذا فمن قال بأنّها خيال منفصل،إن أراد أنّها صورة مشابهة للصورة الخياليّة منفصلة عن المادّة الجسمانيّة فله وجه،و إن أراد أنّها نفس الصورة الخياليّة المنفصلة عن المواد،فعليه البيان،بل فيه نظر لا يخفى.

و أمّا أن تكون الصورة المشاهدة في المنام صورة مرتسمة في جسم فلكيّ أو عنصريّ أو في النفوس المنطبعة الفلكيّة مثلا يشاهدها النفس فيه بسبب ارتباطها به نوعا من الارتباط مشاهدة عقليّة كأنّها مشاهدة حسّيّة،فذلك أيضا ممّا لا يكاد يتمّ،لأنّه حينئذ كان ينبغي أن تشاهدها النفس في ذلك المحلّ المنطبع هي فيه مشاهدة الحالّ في محلّه،و الحال في الصور المرئيّة في المنام بخلاف ذلك،حيث إنّا نراها موجودة بوجود منفرد غير متعلّق بشيء آخر من جرم فلكيّ أو جسم عنصريّ أو نفس منطبعة فلكيّة.

و حيث بطلت تلك الاحتمالات فبقي أن تكون الصورة المرئيّة في المنام موجودة

ص:117

في عالم آخر هو عالم المثال،كما تبيّن حاله.

و أمّا وجه كون الصورة المرئيّة فيه تارة موافقة لما في الخارج،كما في الرؤيا الصادقة،و تارة غير موافقة كما في الرؤيا الكاذبة،فكأنّه لأجل أنّ النفس إذا كانت صافية من شوب كدورات الطبيعة،فبصرها الذي لها في بدنها المثاليّ صحيحة،فهي ترى بتلك العين الصحيحة الأشياء على ما هي عليها،و إن لم تكن صافية عن ذلك،فعينها التي لها في ذلك البدن عليلة،و هي ترى بتلك العين العليلة الأشياء على خلاف ما هي عليه كما في العين الظاهريّة للأحول مثلا.

و هذا الذي ذكرنا هو إشارة إجماليّة إلى الرؤيا الصادقة و الكاذبة،و لتفصيلها مقام آخر يطول بذكره الباب.و بما ذكرنا يتمّ الشهادة،و به يظهر سرّ ما ورد من تشبيه حالة البرزخ بحالة الرؤيا و أنّ النوم أخو الموت،و إن كان بين الحالتين فرق ما،حيث إنّ مفارقة النفس عن البدن في الموت مفارقة تامّة و في النوم مفارقة في الجملة،و بهذا الاعتبار أيضا يكون هذا الشاهد شاهدا على المطلوب،فتبصّر.

ثمّ إنّه ربّما عدّ بعض القائلين بهذا القول من الشواهد عليه ما يحكى من أنّ السفلة و الأوباش إذا قتلوا إنسانا و أحرقوه في أتّون الحمّام،فكثيرا ما يشاهد في سطح الماء الذي في خزينة ذلك الحمّام شبح مثل صورة إنسان،و يرى ذلك فيه ما دام ذلك الماء ساكنا غير متحرّك،و ذلك قد جرّب كثيرا،و لذلك كان ديدن الحمّاميّ و صاحب ذلك الحمّام أن يحتاط في ذلك و يلاحظ لكي يعلم أنّه في تلك الليلة هل أحرق في أتّون الحمّام إنسان أم لا؟و ما ذلك الشبح إلاّ قالبا مثاليّا لذلك الشخص المحترق تعلّق نفسه به بعد مفارقتها عن قالبها العنصريّ.و نحن أيضا قد سمعنا ذلك في عصرنا و هو-على تقدير الوقوع-لا يخفى أنّه ممّا يمكن أن يكون شاهدا على المطلوب.

ثمّ إنّه ممّا يؤيّد هذا المطلوب،و يكون شاهدا عليه ما نقل أنّه روى بعض الأعاظم من العلماء كالسيّد الداماد طاب ثراه في«الجذوات»:«أنّ مظهر العجائب و مظهر الغرائب سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب عليه و على أولاده المعصومين أجمعين سلام اللّه تعالى إلى يوم الدين كان ليلة من ليالي شهر اللّه الأعظم شهر رمضان ضيفا لعدّة من الصحابة،و أفطر

ص:118

في بيوتهم المتعدّدة،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنّ عليّا أفطر في بيته». (1)

فإنّ توجيه هذا الحديث،إنّما يمكن على القول بعالم المثال،و بوجود البدن المثاليّ، حيث إنّ حضور عليّ عليه السّلام ببدنه العنصريّ في بيوت عدّة من الصحابة مع كونه في بيته بذلك البدن ممتنع بالذات،فإنّ جسم واحد بالشخص لا يمكن أن يكون في زمان واحد و في آن واحد إلاّ في مكان واحد لا أزيد،و ادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان من معجزته و كرامته عليه السّلام لا يكاد يصحّ،فإنّ المعجزة و الكرامة إنّما تمكن في شيء يكون ممكنا ذاتيّا،و يكون ممتنعا عاديّا،لا في الممتنع بالذات.كما أنّ ادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان لأجل أنّ اللّه تعالى خلق ملائكة بصورة عليّ عليه السّلام،و أنّ أولئك الملائكة أفطروا في بيوت الصحابة و ظنّ الصحابة أنّهم عليّ عليه السّلام،و الحال أنّه عليه السّلام نفسه أفطر في بيته غير مستقيم،لأنّ المفروض في الحديث إفطار عليّ عليه السّلام في بيوت الصحابة،لا إفطار الملائكة.

نعم،يصحّ توجيه ذلك على القول بالبدن المثاليّ،فإنّه لا مانع من أن يكون لروحه الشريف المقدّس أبدان مثاليّة،و يكون قد ظهر في ضمن كلّ بدن مثاليّ في بيت واحد من الصحابة،و ظهر ببدنه العنصريّ في بيته،و على هذا فيكون في الحديث الشريف شهادة على المطلوب.

و فيه-مع الشهادة على ثبوت أصل عالم المثال و وجود البدن المثاليّ-شهادة على أمرين آخرين أيضا:

الأوّل إمكان تعلّق الروح في عالم اليقظة أيضا ببدن مثاليّ،و أنّه لا يلزم أن يكون ذلك بعد المفارقة التامّة كما في حالة الموت،أو المفارقة في الجملة كما في حالة النوم.

و الثاني:جواز تعلّق روح واحد،و خصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بأكثر من بدن واحد مثاليّ.

و لا امتناع أيضا في كلّ منهما.

بل يشهد على الأوّل منهما أنّه روي عن الصادقين عليه السّلام أنّهم قالوا في تفسير قولهم:

ص:119


1- -الجذوات48/ الطبعة الحجريّة.

«يا من أظهر الجميل و ستر القبيح»:إنّ للمؤمن مثالا في العرش،و إنّه إذا فعل فعلا جميلا، فعله ذلك المثال أيضا في حضور الملائكة فيظهره اللّه تعالى عليهم،و إذا فعل فعلا قبيحا لم يقم بذلك القبيح ذلك المثال فيستره اللّه تعالى عنهم. (1)

فإنّ الظاهر،أنّ ذلك المثال هو القالب المثاليّ الذي تعلّق به روح المؤمن لا أمر آخر، و لا ملك من الملائكة كان بصورة ذلك المؤمن،و حيث كان ذلك قالبا مثاليّا،كان فيه شهادة على جواز تعلّق الروح في حالة اليقظة و في حال التعلّق التامّ بالبدن العنصريّ بذلك البدن المثاليّ،و لا امتناع في ذلك،حيث إنّ البدن المثاليّ ليس كالبدن العنصريّ حتّى لا يجوز تعلّق الروح الواحد في زمان واحد بأكثر من بدن واحد،بل هو كالظلّ و الشبح للبدن الأصليّ العنصريّ،و موجود بالعرض بوجود البدن الأصليّ،و تعلّق الروح به و بالبدن الأصليّ تعلّق واحد،إلاّ أنّه بالبدن الأصليّ بالذات،و بالمثاليّ بالعرض،فعلى هذا فلا امتناع في أن يتعلّق النفس الواحدة مع تعلّقها بالبدن الأصليّ بالبدن المثاليّ الواحد أو الأكثر من الواحد.و هذا بخلاف تعلّقها ببدنين عنصريّين أو أكثر،حيث إنّ أحدهما منفصل الذات و مباين الحقيقة عن الآخر،فإنّه لا يجوز تعلّق النفس الواحدة في زمان واحد بشيئين مبايني الذات تعلّق التدبير و التصرّف.

و كذلك يشهد على الثاني من الأمرين ما ذكره بعضهم من أنّ البدن المثاليّ كالشبح الذي يرى في المرآة،بل إنّ ما يرى في المرآة فهو كوّة مفتوحة إلى عالم المثال،و كما جاز انطباع صورة واحدة في مرايا متعدّدة متكثّرة في زمان واحد،فلم لا يجوز تعلّق روح واحد و خصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بقوالب مثاليّة متعدّدة في زمان واحد؟

و بما ذكرنا يمكن توجيه ظواهر ما دلّ على ظهور ملك الموت في زمان واحد في أمكنة متكثّرة لقبض الأرواح،و إن كان يمكن أن يكون له وجه آخر لم نعلمه.و اللّه و رسوله و أولو العلم أعلم به.

و كذا توجيه ما قيل أنّ إلياس عليه السّلام هو إدريس النبيّ عليه السّلام،و هو عليه السّلام مع كونه في السماء

ص:120


1- -راجع بحار الأنوار 354/54 و [1]مفتاح الفلاح ذيل دعاء«يا من أظهر الجميل»،و شرح الأسماء للسبزواريّ91/.

يظهر بصورة إلياس في الأرض،و اللّه تعالى يعلم.

و قد حكى بعض الصوفية أنّ بعض مشايخهم و هو قضيب البان الموصليّ (1)كان يرى في زمان واحد في مجالس متعدّدة مشتغلا في كلّ مجلس بأمر غير ما في الآخر.و هذه الحكاية على تقدير صحّتها يمكن توجيهها بما ذكرنا.

ثمّ إنّك حيث عرفت بيان الشواهد على هذا المطلوب،و توجيه الأخبار الواردة في كيفيّة حال الروح بعد المفارقة عن البدن،و كذا توجيه غير ذلك من الأخبار على القول بوجود عالم المثال.

فاعلم أنّ العمدة في مستند هذا القول هو الأخبار الدالّة عليه،فلنتكلّم في دلالتها حتّى يتّضح لك ثبوت هذا العالم،و كذا كيفيّة حالاته و أوصافه.

فنقول:إنّ دلالة تلك الأخبار التي نقلناها دلائل على ثبوت العالم المثاليّ و وجود البدن المثاليّ،و إن كانت ظاهرة غنيّة عن البيان لدى التأمّل الصادق،إلاّ أنّا لا نبالي بالتنبيه عليه.فنقول:إنّ ما تضمّنه بعض تلك الأخبار من أنّ الأرواح في صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم و نحو ذلك،ليس المراد به أنّ ذوات تلك الأرواح بأعيانها أجسام كثيفة أو لطيفة على صفة الأجساد و هيئتها و شكلها،لأنّه مع عدم كونه مذهبا لأحد من المليّين و الفلاسفة،ينفيه ما مرّ من الدليل على تجرّد الروح و على كونها مغايرة للبدن بتمامه و أجزائه،بل المراد كما هو صريح بعض الأخبار الأخر من تلك الأخبار أنّ تلك الأرواح ذوات أخر وراء الأجساد يصيّرها اللّه في قوالب و أجساد مثل قوالبها و أجسادها في الدنيا،بحيث يكون لها نوع تعلّق بتلك الأجساد،و هذا بظاهره و إن كان أعمّ من أن يكون ذلك التعلّق تعلّق التدبير و التصرّف،أو التعلّق بوجه آخر من الحلول أو الدخول أو الانضمام أو نحو ذلك إلاّ أنّ تشبيه تلك القوالب بالقوالب الدنيويّة يدلّ على أنّ ذلك التعلّق ليس سوى تعلّق التدبير و التصرّف،فإنّ هذا كان لها مع القوالب الدنيويّة لا غير.مع أنّ القول بتجرّدها-كما هو الحقّ و عرفت الدليل عليه-ينفي ما سوى تعلّق التدبير

ص:121


1- -راجع الأعلام للزركليّ 44/4 و 199/5.

و التصرّف.

و حينئذ نقول:إنّ ذلك القالب الذي يصيّر اللّه تعالى الروح فيه بعد المفارقة ظاهر أنّه ليس عين القالب العنصريّ الذي كان للروح حين التعلّق به في النشأة الدنيويّة،لأنّه باطل بالاتّفاق و لم يقل به أحد،حيث إنّ المفروض بطلان ذلك القالب و مفارقة الروح عنه و إعادته بعينه،أي بأجزائه الأصليّة،و إن كانت ممكنة كما دلّ الدليل عليه،إلاّ أنّ تلك الإعادة إنّما تكون عند قيام الساعة لا في النشأة البرزخيّة المتوسّطة بين النشأة الدنيويّة و الأخرويّة.

و أيضا التشبيه بالقالب الدنيويّ كما تضمّنته تلك الأخبار ينفي كونه عين ذلك القالب الدنيويّ،بل يدلّ على أنّه قالب آخر مثل قالبها في الدنيا.

و ظاهر أيضا أنّه ليس ذلك القالب الآخر قالبا عنصريّا جماديّا أو نباتيّا أو حيوانيّا أو إنسانيّا شبيها بقالبها في الدنيا،لأنّ كلّ ذلك متضمّن للتناسخ الذي عرفت الدليل على بطلانه كما مرّ.

و منه يظهر أنّه ليس قالبا جسمانيا فلكيّا أيضا،لأنّ مفسدة التناسخ لازمة على تقديره أيضا كما يقتضيه التدبّر في دليل بطلانه.مع أنّ الجرم الفلكيّ كما تقرّر عندهم غير قابل لصيرورته قالبا لروح ما و لتشكّله أشكالا مختلفة على هيئات القوالب البدنيّة العنصريّة.

و ظاهر أيضا أنّ ذلك القالب ليس شيئا من جرم فلكيّ،أو جرم إبداعيّ غير منخرق، أو جسم عنصريّ يكون للروح الإنسانيّ تعلّق به وراء تعلّق التدبير و التصرّف،بل بأن يكون ذلك موضوعا لتصوّرات الروح و تخيّلاتها،فإنّ ذلك مع كونه باطلا-كما مرّ الدليل عليه-ينفيه ظاهر تلك الأخبار الدالّة على التشبيه بالقالب الدنيويّ،و على أنّ التعلّق به تعلّق التدبير و التصرّف لا غير.

و ظاهر أيضا أن ليس ذلك القالب شيئا مجرّدا عن المادّة في ذاته مطلقا و أمرا عقليّا، لأنّ المفروض كونه قالبا للروح كقالبها في الدنيا و ذا هيئة و شكل مثله،و الشيء المجرّد و الأمر العقليّ لا يمكن أن يكون كذلك؛فحيث ظهر أنّ ذلك القالب ليس أمرا مجرّدا عقليّا

ص:122

و لا قالبا جسمانيّا عنصريّا أو فلكيّا،ظهر أنّه من عالم آخر غير العالم الحسّيّ و العقليّ متوسّط بين العالمين،يسمّيه القائلون به عالم المثال و عالم البرزخ،و سيجيء شرح معنى توسّطه بينهما.

ثمّ نقول:إنّ ما تضمّنه تلك الأخبار،من أنّ الأرواح في صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم،و أنّ الروح يصيّر في قالب كقالبه في الدنيا،حيث يدلّ على أنّ القالب المثاليّ البرزخيّ مثل القالب الدنيويّ في الصفة و الصورة،لا ينافيه ما تضمّنه بعض الأخبار التي قدّمنا ذكرها آنفا،من أنّ الميّت يجيء لزيارة أهله بصورة طائر لطيف، و يجلس على جدار أهله و ينظر إلى أحوالهم،فإنّه يمكن أن يكون المراد به-و اللّه أعلم- أنّ القالب الذي أعدّه اللّه تعالى للأرواح و صيّرها فيه في الأصل،إنّما هو قالب كقالبه في الدنيا في الصورة و الصفة،إلاّ أنّ ذلك القالب لمّا كان قالبا مثاليّا متوسّطا بين العالمين قابلا للتشكّل بالأشكال المختلفة،و من جملتها شكل الطائر و صورته،فربّما يجيء بحسب مصلحة من المصالح و بحسب مرتبته و منزلته في صورة طائر لطيف.

و منه يظهر أن لا منافاة بين ذلك الخبر،و خبر يونس بن ظبيان (1)،عن الصادق عليه السّلام المتضمّن لقوله عليه السّلام:«سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر»،لأنّ القائلين بجعله في حوصلة طائر أخضر،لعلّهم قالوا بذلك زعما منهم أنّ الأصل فيما أعدّه اللّه تعالى للأرواح هو حواصل الطيور الخضر،لا القوالب التي هي أمثال قوالبهم في الدنيا،فردّه عليه السّلام لذلك،و لأنّ فيه توهّم التناسخ المحال،و هذا لا ينافي جواز تشكّلهم بعد تعلّقهم بقوالبهم المثاليّة التي هي مثل قوالبهم في الدنيا بصورة طائر أخضر مثلا.

و كذلك لا ينافيه ما تضمّنه بعض الأخبار التي قدّمنا ذكرها في صدر الرسالة:أنّ الأرواح في حجرات،فإنّه يمكن أن يكون المراد به-و اللّه اعلم-أنّهم مع تعلّقهم بتلك القوالب المثاليّة يكونون في حجرات،أي مثاليّة برزخيّة.

ص:123


1- -تهذيب الأحكام 466/1(في أحكام الأموات).

ثمّ إنّ الأخبار الواردة في ذلك كما تدلّ على وجود الأبدان المثاليّة لأرواح المؤمنين، كالأخبار التي نقلناها هاهنا،كذلك تدلّ على وجودها لأرواح الكافرين المستضعفين و الأطفال،سواء كانوا أطفال المؤمنين أو أطفال الكفّار،كما يظهر ذلك على من تصفّح الأخبار،و قد نقلنا جملة منها في صدر الرسالة،فتذكّر.

و بالجملة،فمدلول الأخبار وجود البدن المثالي لكلّ روح انسانيّ من الأرواح بعد مفارقته عن البدن.

ثمّ إنّ ما دلّ من تلك الأخبار على أنّ أرواح المؤمنين في شجرة من الجنّة،أو في الجنّة،لعلّ المراد به-و اللّه أعلم-الجنّة المثاليّة و الشجرة المثاليّة،لا أصل الجنّة الموعودة و شجرتها،كما سنوضّح ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

كما أنّ ما دلّ منها على أنّ أرواح المؤمنين في بستان في المغرب في شاطئ الفرات يأكلون من ثماره،و أرواح الكفّار في نار في المشرق أحرّ من نار الدنيا،و هم فيها يأكلون من زقّومها و يشربون من حميمها،لعلّ المراد بتلك الثمار في ذلك البستان الثمار المثاليّة، و البستان المثاليّ،و بتلك النار النار المثاليّة و كذا الزقّوم و الحميم.

و لا منافاة بين ما دلّ على أنّ أرواح المؤمنين في الجنّة أو في شجرة من الجنّة،و ما دلّ على أنّ أرواحهم في وادي السلام،أي ظهر الكوفة يعني النجف الأشرف،الذي هو وادي السلامة،و ورد في بعض الأخبار أنّه بقعة من جنّة عدن،و ما دلّ على أنّهم في بستان في جانب المغرب على شاطئ الفرات،لأنّه يمكن أن يكون كلّ تلك الأمكنة مساكن لهم، فيكونون تارة في هذا و تارة في ذاك،و تارة في ذلك،حيث لا مانع منه،و خصوصا في الأبدان المثاليّة.

مع أنّه يمكن حمل بعض تلك الأماكن على بعض بحيث يؤول إلى أمر واحد،فتدبّر.

كما أنّه لا منافاة بين ما دلّ على أنّ أرواح الكفّار في نار في المشرق،و بين ما دلّ على أنّهم في وادي برهوت،و هو واد في اليمن،لما ذكرنا من الوجه أيضا،و اللّه سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ تلك الأخبار الواردة الدالّة على وجود أصل

ص:124

تلك القوالب المثاليّة،مع دلالتها على ذلك،تدلّ أيضا على أحوالها و صفاتها و كيفيّاتها، و أنّها ممّا ينتفي عنها بعض لوازم الجسميّة،و يثبت لها بعض لوازمها الأخر،و أنّ اللوازم المثبتة ما ذا؟و المنفيّة ما هي؟و يستفاد منها معنى كون العالم المثاليّ متوسّطا بين العالمين ليس في كثافة الماديّات و لا في لطافة المجرّدات.

و بيان ذلك أنّ ما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ الأرواح في النشأة البرزخيّة على صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم،و أنّهم في قوالب مثل قوالبهم الدنيويّة،يدلّ على أنّ القالب المثاليّ ثابت له الشكل و الهيئة و الصورة و الوضع و أمثال ذلك ممّا هو كان ثابتا للبدن العنصريّ مشابها له،و كلّها من لوازم الجسميّة،و هذا ظاهر.

بل إنّه ربّما يشعر ذلك من جهة إشعاره بأنّ لكلّ روح قالبا مثاليّا مناسبا له في الصفات كما في النشأة الدنيويّة،بأنّ تلك القوالب المثاليّة بعضها نورانيّة كما للسعداء، و بعضها ظلمانيّة كما للأشقياء،و هذا موافق لما ذكره القائلون بوجود هذا العالم من الحكماء أيضا حيث قالوا:بأنّ الأشباح الموجودة في هذا العالم ذوات أوضاع مقداريّة، منها ظلمانيّة يتعذّب بها الأشقياء،و هي صور زرق مكروهة يتألّم النفوس بمشاهدتها، و منها مستنيرة يتنعّم بها السعداء،و هي صور حسنة بهيّة بيض كأمثال اللؤلؤ المكنون،و ما ذكروه يعمّ الأشباح الموجودة في ذلك العالم مطلقا،سواء كانت أشباحا هي قوالب الأرواح،أو أشباحا أخر هي صور الأعمال قرينة للأرواح.و قد دلّ عليه ما نقله الشيخ البهائيّ(ره)عنهم أيضا كما نقلناه سابقا،و لا امتناع في أن يكون لها مقدار و وضع و شكل مع عدم ثبوت جسميّة لها،و لذلك يتمثّلون في ذلك بالصور المرئيّة في المرآة،و يقولون أنّها كوّة مفتوحة إلى عالم المثال.

و كذلك ما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ الأرواح في ضمن تلك القوالب المثاليّة البرزخيّة يجلسون حلقا حلقا على صور أبدانهم العنصريّة الدنيويّة و يتحدّثون و يتنعّمون بالأكل و الشرب،و أنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض و السماء يتعارفون في الجوّ و يتلاقون،و أنّهم ربّما يجيئون لزيارة أهلهم و يذهبون و ينظرون إلى أحوال أهلهم،فربّما يفرحون و يسرّون،و ربّما يكرهون و يغتمّون،و أنّهم إن رأوا عملا صالحا منهم شكروا،و إن

ص:125

رأوا عملا سيّئا اغتمّوا و تألّموا،و نحو ذلك من الحالات الواردة في شأنهم في ذلك العالم، يدلّ على أمور:

منها أنّ لتلك الأبدان المثاليّة حواسّا ظاهرة و باطنة،و كذا للنفس فيه آلات مثاليّة، كما كانت لها في النشأة الدنيويّة آلات بدنيّة جسمانيّة،و بالجملة قوى مدركة حيوانيّة و آلات مثاليّة،تدرك تلك الأرواح في ضمن تلك القوالب بتوسّط تلك القوى و بتلك الآلات المثالية إدراكات جزئيّة ملائمة أو غير ملائمة،فتلتذّ لذّة بدنيّة،أو تتألّم ألما بدنيّا، كما كانت تدرك في النشأة الدنيويّة بتوسّط القوى و الآلات البدنيّة،مضافا إلى ما هو ثابت لتلك الأرواح بالقياس إلى ذواتها المجرّدة الباقية من القوة العقليّة التي بها تدرك المعقولات،فتلتذّ لذّة عقليّة أو تتألّم ألما عقليّا.و هذا نظير ما قاله الحكماء من أنّ للنفوس المنطبعة الفلكيّة إدراكات جزئيّة مضافا إلى الإدراكات الكلّيّة للنفوس المجرّدة المتعلّقة بها،مع كون أجسام الأفلاك و أجرامها لطيفة غير كثيفة،فاللطافة لا تمنع أن تكون لها قوى مدركة جزئيّة،و آلات لذلك لطيفة.

و منها:أنّ في ذلك العالم أصواتا و طعوما و روائح و نحوها من مدركات الحواس،و إن كانت هي مثلا قائمة بذواتها لا أعراضا،أو كانت أعراضا قائمة بمثل قائمة بذواتها لا كالأعراض الموجودة في العالم الحسّيّ القائمة بالأجسام،و كذلك فيه مأكولات و مشروبات هي غذاء الأرواح في ذلك العالم.

و منها:أنّ للأرواح في ضمن تلك القوالب حركات و سكنات في الأين،بل في الكيف أيضا،و إن كانت الأينيّة منها في ذلك العالم ليست مثل الأينيّة منها في العالم الحسّيّ.

و بذلك،و كذا بما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ لهم فيه أكلا و شربا و شوقا إليهما،و تنعّما بهما،و كذا كراهة و سرورا،يظهر أنّ لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب قوى محرّكة حيوانيّة فاعلة للحركة،و كذا باعثة عليها من الشوقيّة الشهوانيّة،بل الغضبيّة أيضا.حيث إنّ النفس التي لها القوة المحرّكة الشوقيّة لا تخلو عن قوّة غضبيّة أيضا.

و إنّ ما ورد من سرورهم و كراهتهم كما يدلّ على ثبوت القوّة الشوقيّة لهم،كذلك يدلّ على ثبوت القوّة الغضبيّة لهم،حيث إنّ تلك الكراهة أعمّ من الكراهة النفسانيّة و من

ص:126

الكراهة البدنيّة التي هي الغضب.

و بذلك يظهر أنّ لتلك الأرواح في ذلك العالم جميع القوى الحيوانيّة،مدركة كانت أم محرّكة،فاعلة للحركة أم باعثة عليها،مضافا إلى ما كان ثابتا لها بالقياس إلى ذواتها الباقية من القوى العقليّة النظريّة و العمليّة و العلوم و الملكات.

و هذا بيان جملة من لوازم الجسميّة التي يستفاد من تلك الأخبار ثبوتها لتلك القوالب المثاليّة و لذلك العالم.و يستفاد منه أيضا أنّ اللوازم الأخر الجسمانيّة منتفية عنها و عن ذلك العالم،و ذلك على وجوه:

الأوّل:أنّه لو كانت كلّ اللوازم الجسمانيّة ثابتة لها لكانت هي قوالب جسمانيّة عنصريّة أو فلكيّة،و هذا خلاف المفروض.

و الثاني:أنّه حيث تضمّنت تلك الأخبار لثبوت ما بيّنّا ثبوتها لها مع السكوت عن ثبوت اللوازم الأخر الجسمانيّة،فتدلّ بفحاويها على انتفائها عنها،إذ لو كانت هي أيضا ثابتة لها،لكان ينبغي أن يكون في تلك الأخبار دلالة عليها أو إشعار بها،و إذ ليس فليس.

لا يقال:إنّ ما تضمّنته تلك الأخبار،من أنّ لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب أكلا و شربا ربّما يشعر،بل يدلّ على أنّ لها قوى نباتيّة أيضا،إذ الأكل و الشرب لا يكونان إلاّ بها.

لأنّا نقول:إنّ القوى النباتيّة لا تكون إلاّ لجسم له تغذية و تنمية و توليد،و لا يظهر من تلك الأخبار أنّ هذه الأفعال الثلاثة ثابتة لتلك القوالب حتّى يثبت لها القوى النباتيّة.بل الظاهر منها أنّ فيها دلالة على خلاف ذلك،كما سنشير إليه.

و حينئذ نقول:إنّ ما دلّ على الأكل و الشرب لا يدلّ على أكثر من أنّ لها قوّة شوقيّة و شهوانيّة من القوى الحيوانيّة،و قد ذكرنا أنّ القوّة الحيوانيّة ثابتة لها،بل ربّما يدّعى أنّ فيه إشعارا،بأنّ لذّة الأكل و الشرب التي في ذلك العالم لذّة حقيقيّة،ليست مثل اللّذة التي في العالم الدنيويّ حيث إنّها في النشأة الدنيويّة إنّما هي رفع ألم الجوع و العطش اللذين هما مع التحلّل البدنيّ،ليكون المأكول و المشروب بدلين عمّا يتحلّل من البدن،و أمّا هي في ذلك العالم فليست كذلك،حيث إنّ التحلّل البدنيّ لا يكون فيه حتّى يقارنه ألم جوع أو

ص:127

عطش و يحتاج إلى بدل ما يتحلّل،بل هي لذّة حقيقيّة.و أمّا أنّ التحلّل البدنيّ لا يكون فيه فسنشير إليه.

الثالث:أنّ تلك الأخبار حيث تدلّ بفحاويها على أنّ تلك القوالب المثاليّة لطيفة في الغاية،روحانيّة جدّا،باقية دائمة كائنة على صفة الأجساد الدنيويّة دائما لا تتطرّق إليها شائبة تغيّر أو تبدّل أو زوال أو نحوها،و بالجملة الحالات التي هي من جهة المادّة الجسمانيّة،فتدلّ على أنّ كلّ اللوازم الجسمانيّة التي هي من جهة المادّة منتفية عن تلك القوالب و عن ذلك العالم،فيظهر منه أنّه ينتفي عنها ما في العالم الحسّيّ من صفات البسائط العنصريّة و الاسطقسّات كالحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و الثقل و الخفّة و أمثال ذلك.و كذا صفات المركّبات منها من المعدنيّات و غيرها.و كذا صفات النبات و أفعالها،من الجذب و الإمساك و الهضم و الدفع و التصوير و التشكيل و التخليق و الإنماء و التوليد و التحلّل و نحو ذلك.

و بذلك يظهر أن ليس لها قوى نباتيّة،و أنّ الأكل و الشرب الواردين في الأخبار ليسا ليكونا بدلين عمّا يتحلّل.و أنّ لذّتهما في ذلك العالم لذّة حقيقيّة ليست مثل ما في النشأة الحسّيّة.و كذا ينتفي عنها الصفات التي للأفلاك من جهة موادّها التي هي متغيّرة في حدّ ذاتها،مع أنّ بعض ما تضمّنته تلك الأخبار من الحالات التي لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب كالأكل و الشرب و الحركة الأينيّة و نحوها،ينفي أيضا كونها أجراما فلكيّة،إذ ليس لها ذلك.

و ما فصّلناه جملة من أحوال هذا العالم استفدناها من تلك الأخبار بحسب فهمنا القاصر.

و به يظهر وجه تسمية هذا العالم بعالم المثال من جهة كونه مماثلا للعالم المحسوس الجسمانيّ المادّيّ في كثير من الصفات و اللوازم،و إن كان مغايرا له في بعض آخر.

و كذا يظهر وجه كون هذا العالم عالما متوسّطا بين العالم الحسّيّ و العقليّ من جهة أنّه ليس في كثافة المادّيّات و لا في لطافة المجرّدات،و أنّه ينتفي عنه بعض لوازم الجسميّة و يثبت لها بعض آخر منها.و هذا مطابق أيضا لما قال به الحكماء القائلون بهذا العالم كما

ص:128

يظهر على من تصفّح كلامهم في ذلك،إلاّ أنّهم زادوا على ذلك،و قالوا:إنّ المحسوسات بالحواسّ من الأجسام و الأعراض ثابتة في هذا العالم،قائمة بذاتها.

و إنّ كلّ ما في عالمنا هذا من الأفلاك و الكواكب و العناصر و المركّبات و الأرض و البرّ و البحر و الإنسان و الحيوان و الجماد و المعادن و النبات و الحركات و سائر الأعراض إلى غير ذلك من الموجودات،موجود في العالم المثاليّ إلاّ أنّها إليه ألطف و أحسن و أشرف و أفضل ممّا في عالمنا،لقربها من المبدأ الأوّل.

و إنّ العالم المثاليّ عالم عظيم الفسحة لا ضيق فيه،لأنّ الضيق إنّما يكون في الأمكنة و الأبعاد الهيولانيّة.و الصور هناك قائمة بنفسها لا تحتاج إلى مادّة،فلا تحتاج إلى مكان، لأنّ المكان إنّما يحتاج إليه ذو المادّة فلا يزاحم على مادّة و لا مكان و لا محل،بل إنّ ما في العالم العقليّ من المجرّدات و المفارقات و العقول،لها أشباح و مظاهر مثالية أيضا موجودة في العالم المثاليّ،يظهر تلك المجرّدات في عالمنا هذا بحسب ما يقتضيه المصلحة و الحال في ضمن تلك المظاهر و الأشباح اللطيفة في الغاية القابلة للتشكّل بأشكال مختلفة على أشكال و صور مختلفة،فقد تشاهد أحيانا و تغيب و تحضر بصورة أخرى كالبرق الخاطف،فيتوهّم الرائي أنّها انقلبت و ليس كذلك.

و إنّ العالم المثاليّ له طبقات كثيرة لا يحصيها إلاّ الباري تعالى،و كلّ طبقة منه فيها أشخاص غير متناهية،و هذه الطبقات منها نورانيّة ملذّة،هي طبقات الجنان بعضها أشرف و أفضل و أنور،و بعضها دون ذلك،و منها طبقات مظلمة موحشة مؤلمة هي طبقات الجحيم متفاوتة أيضا في شدّة الظلمة و الوحشة،فالطبقة الفاضلة متاخمة لعالم العقل،فهي في أفقه،و الطبقة السافلة متاخمة لعالم الحسّيّ،فهي في أفقه،و باقي الطبقات التي لا تحصى كثرتها محصورة بين هاتين الطبقتين،و كلّ طبقة منها يسكنها قوم من الملائكة و الجنّ و الشياطين لا يتناهى عددهم.

و إنّ هذا العالم المثاليّ لا تتناهى عجائبه،و لا يمكن إدراك غرائبه في العالم الدنيويّ الظلمانيّ،بل لا يحيط بحقائقه إلاّ اللّه تعالى و مقرّبو حضرته.

و إنّ هذا العالم عالم مقداريّ،غير العالم الحسّيّ و غير العالم العقليّ و النفسيّ،فيه

ص:129

مدن لا تحصى،من جملة ذلك ما سمّاه الشارع جابرصا و جابلقا،و هما مدينتان من مدائنه،لكلّ واحدة منها ألف باب لا يحصى ما فيها من الخلائق،و أعظم تلك المدائن هورقليا التي هي مدينة مثاليّة فلكيّة،فيها مثل الأفلاك و ما فيها،إلى غير ذلك من الأقوال التي قالوا بها و نسبوا القول بها إلى أساطين الحكمة،كأفلاطون و من قبله كسقراط و فيثاغورس و انباذقلس و غيرهم،بل إلى الأنبياء عليه السّلام أيضا،و ادّعوا أنّ أرباب الكشف منهم وصلوا إلى هذا العالم و أحواله،و شاهدوه بكثرة الرياضات و خلع نواسيت الأبدان.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في وجه تسمية العالم المثاليّ و البرزخيّ بالعالم المتوسّط

بين العالمين،و كذا في وجه تسمية النشأة الدنيويّة

بالعالم الحسّيّ و النشأة الأخرويّة بالعالم العقليّ

فإن قلت:قد ظهر ممّا قد قرّرت وجه كون العالم المثاليّ متوسّطا بين العالم الحسّيّ و العالم العقليّ،فما وجه ما يقال إنّ ما بعد الموت إلى قيام القيامة عالم البرزخ؟قلت:معنى البرزخ الحاجز بين الشيئين و المتوسّط بينهما،و هذا العالم لا يخفى أنّه بحسب الوجود في الخارج و الزمان متوسّط بين النشأة الدنيويّة و الأخرويّة،حاجز بينهما،و كذا بحسب المرتبة متوسّط بين العالم الحسيّ و العالم العقليّ،حيث إنّ موجودات هذا العالم من جنس موجودات العالم المثاليّ،و قد عرفت أنّه متوسّط بينهما.

فإن قلت:ما معنى ما يقال:إنّ النشأة الدنيويّة عالم حسّيّ و النشأة الأخرويّة عالم عقليّ؟كما هو مذكور في كلام كثير منهم،مع أنّ في كلّ من النشأتين محسوسا و معقولا تدرك النفس محسوساتها بالحواس و معقولاتها بذاتها و بالقوّة العقليّة،أمّا النشأة الدنيويّة فظاهر وجودهما فيها،و أمّا النشأة الأخرويّة فحيث نقول بالمعاد الجسمانيّ و بوجود الأجسام فيها،و كذا بوجود المعقولات فيها،و بإدراك النفس للقسمين جميعا حيث نقول باللذّات الحسّيّة و العقليّة فيها.

ص:130

قلت:يمكن أن يكون معنى ذلك أنّ النشأة الدنيويّة عالم مشاهد محسوس،و النشأة الأخرويّة عالم معقول،حيث إنّ وجود النشأة الدنيويّة يدرك بالمشاهدة و العيان،و أنّ النشأة الأخروية يدرك بأخبار الأنبياء عليه السّلام،و بالدلائل العقليّة،و هذا كما أنّهم قالوا:إنّ النشأة الدنيويّة عالم الشهادة،و النشأة الأخرويّة عالم الغيب،إلاّ أنّ هذا الوجه إنّما يستقيم بالقياس إلى من في هذه النشأة الدنيويّة فقط.

و كذلك يمكن إطلاق العالم العقليّ و عالم المعقول بهذا المعنى على النشأة البرزخيّة أيضا،حيث إنّ وجودها أيضا ليس بمشاهد،بل هو معلوم لنا بأخبار الأنبياء عليه السّلام و بالدلائل العقليّة.

و كذلك يمكن أن يكون معنى ذلك،أنّه و إن كان في كلتا النشأتين محسوسا و معقولا يدركهما النفس،إلاّ أنّ السلطنة و الغلبة في النشأة الدنيويّة إنّما هي للحسّ،و العقل مغلوب له،حيث إنّ انغماس النفس في الغواشي البدنيّة،شغلها و ألهاها عن إدراك المعقولات كما هو حقّه،إلاّ أن تكون النفس قد خلعت ربقة الغواشي البدنيّة عن عنقها،و أمّا في النشأة الأخرويّة فالسلطان إنّما هو العقل،حيث إنّه ليس بمنغمر في تلك الغواشي،و إنّ الحواسّ الظاهرة و الباطنة و الآلات البدنيّة العنصريّة و إن كانت موجودة لها في الآخرة-حيث نقول بمعاد البدن العنصريّ الأوّليّ-إلاّ أنّها لا تلهيها و لا تشغلها عن أفعالها الذاتيّة العقليّة أصلا،كما كانت تلهيها و تغفلها عن ذلك في النشأة الدنيويّة.

و الحاصل أنّ النشأة الأخرويّة عكس النشأة الدنيويّة،و كما كانت السلطنة في الدنيويّة للحسّ،و لذلك سمّيت بالعالم الحسّيّ،كذلك تكون السلطنة في الأخرويّة للعقل، و بذلك يسمّى عالما عقليّا.

و لا يخفى أنّ هذا الوجه يستقيم بالقياس إلى من في النشأتين جميعا.

و أنّه به يمكن أن يستفاد وجه آخر،لكون ما بعد الموت إلى قيام الساعة عالما برزخيّا متوسّطا بهذا المعنى بين العالمين،أي الحسّيّ و العقليّ،حيث إنّ ذلك العالم لما كان عالما مثاليّا،و كان محسوساتها بصور مثاليّة تدركها النفس بالحواسّ و الآلات البدنيّة المثاليّة،و كذلك كان هناك معقولات تدركها النفس بقوّتها العقليّة،و لم تكن هناك مزاحمة

ص:131

بين الحسّ و العقل،بل كان يفعل كلّ منهما فعله كما هو حقّه.مع أنّه ليس هناك شيء من شأنه أن يشغل العقل عن فعله،حيث إنّ الشاغل إنّما هو الآلات البدنيّة العنصريّة،لا الآلات المثاليّة،فبذلك يسمّى عالما متوسّطا بين العالمين.

و بالجملة،ففي النشأة الأخرويّة السلطان للعقل،حيث إنّه مع وجود ما من شأنه أن يكون معارضا له و مزاحما إيّاه،و هو القوى البدنيّة العنصريّة،يظهر أفعاله على الوجه الأتمّ،و في النشأة الدنيويّة السلطان للحسّ،حيث إنّه يلهي العقل عن فعله.و أمّا في النشأة البرزخيّة فلا سلطان لأحدهما على الآخر،و الحسّ يفعل فعله كما هو حقّه، و كذلك العقل يفعل فعله كما هو حقّه،من دون أن يكون هناك شيئا من شأنه أن يغلبه،و هو القوى الحسّيّة البدنيّة العنصريّة،إذ ليست هي هناك،و القوى الحسّيّة المثاليّة ليست من شأنها أن تغلبه و تعارضه،فهي بهذا الاعتبار عالم متوسّط بين العالمين.

و كذلك يمكن أن يكون وجه ذلك أنّ كثيرا من مستلذّات الآخرة لمّا كانت توجد بلا مادّة و مدّة،بل بمحض التصوّر و الاشتهاء،و بإذن اللّه تعالى كما دلّ عليه كثير من الآيات و الأخبار،كانت مشابهة للأمور العقليّة و المجرّدات عن المادّة،حيث إنّها أيضا توجد بلا مادّة و مدّة،بخلاف الموجودات الدنيويّة،حيث إنّها توجد مع مادّة و مدّة،فلذلك سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ،و الدنيا بالعالم الحسّيّ،و يطابقه ما قالوه من أنّ الدنيا عالم الخلق، و الآخرة عالم الأمر.

أو أنّ مستلذّات عالم الآخرة من المحسوسات،و إن كانت لها مادّة جسمانيّة أيضا، إلاّ أنّها لمّا كانت لطيفة في الغاية،صافية جدا،و كانت النفس لقوّتها في إدراكها و شدّة تجريدها،تصل إلى غورها و تسري في جواهرها،حتّى كأنّها هي بلا فصل،كما في إدراك العقل للمعقولات،و ليس إدراكها لها هنالك بملاقاة السطوح كما في النشأة الدنيويّة، سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ،حيث إنّ إدراك النفس لمحسوساتها أيضا شبيه بإدراك العقل للمعقولات،و سمّيت الدنيا بالعالم الحسّيّ حيث إنّ إدراكها لمحسوساتها ليس على جهة إدراكها لمعقولاتها و لا مشابها له.

أو أنّ موجودات عالم الآخرة من المستلذّات و إن كانت جسمانيّة أيضا،لطيفة في

ص:132

الغاية فوق اللطافة التي هي للأجسام الكائنة في الدنيا عنصريّاتها و فلكيّاتها،قريبة من اللطافة التي للعقليّات،كأنّها في أفق العالم العقليّ.

أو أنّ موجودات عالم الآخرة بأسرها لمّا كانت باقية غير داثرة،و إن كانت جسمانيّة أيضا كبقاء الأمور العقليّة و المجرّدات عن المادّة،و لم يكن للجسمانيّات منها مادّة قابلة للتغيّر و الزوال و الكون و الفساد،و كمادة الجسمانيّات في الدنيا،حيث إنّها قابلة للفناء، كان عالم الآخرة عالما عقليّا،حيث إنّ العقليّات منها غير قابلة للفناء و كذا الجسمانيّات، بخلاف عالم الدنيا،حيث إنّ الجسمانيّات منها قابلة لذلك.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في أن القول بالأجساد المثاليّة في النشأة البرزخيّة ممّا لا مانع منه من

جهة النقل و العقل،بل إنّه ممّا يؤيّده العقل

ثمّ إنّك إذا تحقّقت ما بيّناه و فصّلناه،و تبيّنت أنّ الشرع الشريف القويم يدلّ على انتقال الأرواح بعد الموت إلى الأجساد المثاليّة التي عرفت صفاتها و حالاتها،فاعلم أنّ القول به ممّا لا مانع عنه مطلقا،لا من جهة الشرع و لا من جهة العقل،بل إنّ العقل ربّما يؤيّده.

أمّا بيان التأييد،فحيث ظهر ممّا أسلفنا لك أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة في أفعالها،محتاجة إلى الآلات البدنيّة في إدراكاتها الجزئيّة،التي لا ينفكّ عنها في حال من الأحوال،فتحتاج البتّة بعد المفارقة أيضا إلى بدن ما تتعلّق هي به و تتصرّف فيه تصرّف التدبير،و تجعله آلة لأفعالها و إدراكاتها،و ظاهر أنّ ذلك البدن ليس هو البدن الأوّل العنصريّ،لكون المفروض مفارقتها عنه و لم يعد بعد،و لا بدنا آخر جسمانيّا عنصريّا أو فلكيّا،لما ظهر من بطلانه،و لا أمرا عقليّا لبطلانه أيضا كما سبق،فلا بدّ أن يكون بدنا آخر من جنس عالم آخر متوسّط بين التجسّم الماديّ و التجرّد العقليّ،أي البدن البرزخيّ المثاليّ،و فيه المطلوب.

ص:133

و كما أنّ الأخبار الواردة في ذلك دالّة على وجود البدن المثاليّ لكلّ روح من الأرواح على ما عرفت بيانه،كذلك هذا الدليل أيضا يدلّ عليه،حيث إنّ احتياج النفس الإنسانيّة إلى بدن غير مختصّ بنفس دون نفس،بل يعمّ الكلّ،أي نفوس الكاملين و غير الكاملين و السعداء و الأشقياء و المتوسّطين و البله و الصبيان و المجانين،إذ نفوس الكلّ باقية بعد خراب أبدانهم،كما عرفت الدليل عليه فيما سلف.

و قد دلّ الدليل المذكور على أنّ النفس الباقية بعد فناء بدنها العنصريّ تحتاج إلى بدن مثاليّ،و فيه المطلوب.

و أمّا بيان عدم المانع عنه،فلأن ذلك المانع،إمّا من جهة الشرع،و ظاهر انتفاؤه،و إمّا من جهة العقل،و ليس يتصوّر هنا مانع عنه من جهة إلاّ توهم لزوم التناسخ المستحيل، و هو منتف هنا.و بيان الانتفاء أنّك قد عرفت فيما قرّرنا دلائل إبطال التناسخ أنّ العمدة و الأصل في بطلانه أحد أمور ثلاثة:

أحدها:أنّ النفس المستنسخة إذا قلنا بجواز تعلّقها ببدن آخر،يكون ذلك البدن لاستعداده لحدوث تعلّق نفس به مناسبة له مستعدّا لحدوث نفس له غير النفس المستنسخة،فإذا جاز تعلّق تلك النفس الأخرى به،مع فرض جواز تعلّق المستنسخة أيضا به،لزم جواز أن يتعلّق به نفسان،و هذا محال كما مرّ بيانه.

و الثاني:أنّه إذا جاز التناسخ و تعلّق النفس المستنسخة ببدن آخر غير الأوّل،لزم أن ينقلب فعليّتها التي حصلت لها في ضمن البدن الأوّل إلى القوّة التي كانت لها أوّلا في ضمن البدن الآخر،و انقلاب الفعليّة إلى القوّة و الاستعداد المحض محال.

و الثالث:أنّه يلزم منه جواز تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن واحد تعلّق التدبير و التصرّف.

و لا يخفى أنّ هذه المحالات لا تلزم على تقدير القول بالانتقال إلى البدن المثاليّ أصلا،لأنّ البدن المثاليّ حيث إنّه ليس من جنس البدن الجسمانيّ،و ليس له مادّة جسمانيّة،فليس له قوّة و لا استعداد لشيء لأنّ ذلك من توابع المادّة الجسمانيّة،و إذا لم يكن له قوّة و استعداد كما للجسمانيّات،فلا يلزم أن يكون مستعدّا لحدوث نفس أخرى،

ص:134

حتّى إذا تعلّقت به النفس المستنسخة لزم أن يجوز أن يتعلّق به نفسان.

و لا أن يكون إذا تعلّق به نفس لزم أن تكون تلك النفس في ضمنه بالقوّة،حتّى يلزم انقلاب الفعليّة إلى القوّة،بل يمكن أن يكون النفس باقية في ضمنه أيضا على فعليّتها الأوّلية الحاصلة لها في ضمن البدن العنصريّ كائنة كما كانت.

و كذلك حيث كان البدن المثاليّ ظلاّ و شبحا للبدن العنصريّ و موجودا بالعرض بوجوده،لا يلزم منه تعلّق النفس الواحدة تعلّق التدبير و التصرّف ببدنين متغايرين بالذات منفصلين بالحقيقة موجودين كلّ منهما بوجود منفرد،فلا يلزم منه محال،لأنّ المحال إنّما هو تعلّقها ببدنين منفصلين موجودين كلّ منهما بوجود على حدة بالذات.

فإن قلت:كيف يجتمع القول بعدم مادّة لذلك البدن المثاليّ مع القول بحدوثه؟كما هو ظاهر بعض تلك الأخبار المذكورة،مع أنّ المقرّر عند الحكماء أنّ كلّ حادث فمسبوق بمادّة.

قلت:إنّ القول بمسبوقيّة كلّ حادث بمادّة،و إن كان ممّا قالته الحكماء،إلاّ أنّه ليس عليه دليل قطعيّ،بل إنّ الدليل على حدوث العالم بجملته-كما هو إجماعيّ أهل الملل و الأديان،على ما قرّرناه في رسالة«حدوث العالم»-ينفي ذلك القول،فإنّ هذا القول يستلزم القول بقدم العالم،و لا أقلّ من قدم المادّة زمانا،و مقتضى حدوث العالم بجملته حدوثا زمانيّا أو دهريّا كما قرّرناه هناك حدوث المادّة أيضا كذلك،لأنّها من أجزاء العالم.

بل نقول:

إنّه يمكن حدوث الحادث بمحض العلم بالأصلح و العناية الأزليّة المقتضية لحدوثه، و المرجّحة لتخصّصه بزمان دون زمان،سواء كان ذلك الحادث مجرّدا عن المادّة أو مادّيّا أو متوسّطا بينهما،و حدوث البدن المثاليّ على تقدير القول به لعلّه من هذا القبيل،حيث يجوز أن يكون اقتضى العلم بالأصلح حدوثه و تعلّق النفس به،كيلا تكون معطّلة من جهة إدراكاتها البدنيّة.و أمّا تخصّص كلّ نفس ببدن مثاليّ،فلعلّه كان وجهه مناسبة ما بين تلك النفس و ذلك البدن المثاليّ المناسب لها من حيث صفاتها و حالاتها الموافق للبدن الأوّل العنصريّ في بعض الصفات و الهيئات و الحالات،و إن لم نكن نعلم تلك المناسبة على

ص:135

التحقيق.

و هذا على تقدير تسليم كون البدن المثاليّ مغايرا بالذات و بالوجود للبدن العنصريّ، و أمّا على تقدير كونه ظلاّ و شبحا للبدن العنصريّ كما هو التحقيق،و موجودا بوجوده بالعرض،سواء قلنا بحدوثه بحدوث البدن العنصريّ،مقارنا له كما دلّت عليه كثير من الشواهد المتقدّمة،و بوجوده بالعرض بوجود البدن العنصريّ،أو قلنا بحدوثه بعد خراب البدن،و كون وجوده بالعرض بوجود الأجزاء الأصليّة من البدن الأصليّ و ظلاّ و شبحا لها، فلا يرد السؤال قطعا،لأنّ اللازم على هذا التقدير حدوث البدن المثاليّ بحدوث البدن العنصريّ المسبوق بالمادة أو بعده بتبعيّته،و كذا وجوده بالعرض بوجود البدن الأصليّ أو الأجزاء الأصليّة منه بالذات،و لا محذور فيه.

و هذا كما يقولون:إنّ لوازم الماهيّات غير مجعولة بجعل على حدة،بل إنّ هناك جعلا واحدا يتعلّق بالذات بالماهيّة و بالعرض بلازمها،و إنّهما موجودان بوجود واحد حاصل للماهيّة بالذات و للازمها بالعرض.

و بوجه آخر،أنّ ذلك الذي ذكرت،إنّما هو على تقدير القول بحدوث المثاليّ بعد مفارقة النفس عن البدن العنصريّ،و ذلك ليس بثابت،بل إنّ بعض الشواهد التي ذكرناها شاهدة على وجود البدن المثاليّ ربّما تشهد بأنّ البدن المثاليّ كان حاصلا للنفس حين تعلّقها بالبدن العنصريّ أيضا.

و يمكن حمل الأخبار الأخر عليه أيضا كما أشرنا إليه.

و على هذا،فلا يرد ما ذكرت أصلا،بل إنّه على تقديره يكون عدم ورود مفسدة التناسخ أظهر،لأنّ ذلك البدن المثاليّ حيث كان موجودا للنفس قبل المفارقة أيضا،كان بدنا أصليا لها كالبدن العنصريّ،إلاّ أنّه كان أوّلا معه مقارنا له بهيئته،و ثانيا منفردا عنه مقارنا للأجزاء الأصليّة منه،و البدن الأصليّ للنفس لا يكون فيه استعداد لنفس أخرى غيرها،حتّى يلزم جواز اجتماع نفسين في بدن واحد،و كذلك لا تصير النفس المتعلّقة به بالقوّة من جهة كمالاتها،حتّى يلزم انقلاب ما بالفعل إلى ما بالقوة،بل تكون بالفعل في كمالاتها كما كانت أوّلا،و كذلك لا يلزم تعلّق نفس واحدة ببدنين منفصلين متغايرين

ص:136

بالذات و الوجود،لما عرفت.و هذا هو المعتمد أيضا في دفع مفاسد القول بالتناسخ،على تقدير انتقال النفس يوم القيامة إلى البدن الجسمانيّ العنصريّ الذي هو عين البدن الأوّل العنصريّ بحسب الأجزاء الأصليّة و كثير من الصفات و الحالات و إن كان مغايرا له بحسب الأجزاء الفضليّة و بعض الصفات على ما سنحقّقه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و بالجملة،فينبغي أن يكون التعويل في دفع لزوم مفاسد التناسخ،على القول بانتقال الأرواح إلى الأجساد المثاليّة على ما ذكرنا،لو قلنا بامتناع التناسخ عقلا،كما قرّرنا الدليل العقليّ على امتناعه سابقا،سواء قلنا بامتناعه سمعا أيضا أم لم نقل،و إن كان يمكن دفع لزوم مفاسده عن هذا القول،على تقدير القول بامتناع التناسخ سمعا أيضا،بما تضمّنه كلام ذلك البعض من المتبحّرين،ككلام الشيخ البهائيّ الذي نقله هو عنه كما نقلنا كلاميهما.

كلام مع الشيخ البهائيّ و العلاّمة المجلسيّ

و حاصل الدفع أنّ العمدة في بطلان التناسخ هو إجماع المسلمين و ضرورة الدين، و هذا الإجماع و هذه الضرورة إنّما تحققا في بطلان التناسخ بالمعنى الذي قال به التناسخيّة،و هو انتقال الروح من بدن عنصريّ إلى بدن آخر جسمانيّ عنصري أو فلكيّ، لا إلى بدن مثاليّ أيضا،فإنّه لو انعقد الإجماع أو تحقّقت الضرورة في نفي هذا أيضا لما قال به كثير به من المسلمين كشيخنا المفيد(ره)و غيره من علمائنا المتكلّمين المحدّثين.

و لا يخفى أنّ هذا الوجه أيضا وجه جيد،لو ثبت ذلك الادّعاء،إلاّ أنّ في كلاميهما نظرا من جهة أخرى،و هو أنّ ما تضمّناه من أنّ التناسخ لم يتمّ دليل عقليّ على امتناعه منظور فيه،كيف و قد عرفت فيما سبق قيام الدليل العقليّ عليه،و على تقديره!فيبقى السؤال عن أنّ المحال العقليّ الذي يلزم على تقدير انتقال الروح إلى البدن الجسمانيّ غير البدن الأوّل كما يراه التناسخيّة،هل يلزم على تقدير انتقال الروح إلى البدن المثاليّ أم لا؟ و على تقدير عدم اللزوم فوجهه ما ذا؟بل ربّما يقال إنّ المحذور ليس هو لزوم إطلاق

ص:137

التناسخ،حتّى يجاب بأنّ الشرع جوّز هذا النحو من التناسخ و منع غيره،بل الإشكال إنّما هو لزوم المحذور اللازم للتناسخ،كما ذكروه في بيان استحالته من استيجاب كون بدن واحد ذا نفسين،و كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين متغايرين بالذات،أو انقلاب الفعليّة قوّة،و هذا لازم في الظاهر على تقدير الانتقال إلى البدن المثاليّ أيضا كما في صورة الانتقال إلى البدن الجسمانيّ،فينبغي دفع لزوم هذا اللازم فيما نحن فيه.

و أيضا فما تضمّنه كلامه الشيخ البهائيّ(ره)من عود الأرواح عند قيام القيامة الكبرى إلى أبدانها الأوّليّة بإذن مبدعها،إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة،أو بإيجادها من كتم العدم يشعر بتجويزه إعادة المعدوم،و قد عرفت امتناعها عقلا.

و أيضا،فما تضمّنه كلامه من أنّه ليس إنكارنا على التناسخيّة حكمنا بتكفيرهم بمجرّد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى بدن آخر،فإنّ المعاد الجسمانيّ كذلك عند كثير من أهل الإسلام،بل بقولهم بقدم النفوس و تردّدها في أجسام هذا العالم و إنكارهم المعاد الجسمانيّ في النشأة الأخرويّة محلّ تأمّل،لأنّ بطلان التناسخ إذا انعقد إجماع المسلمين عليه،و كان ضروريّا في الدين،ينبغي الحكم بكفرهم بمجرّد ذلك مطلقا.سواء قالوا بقدم النفس أم قالوا به،و إن كان القول بقدم النفس و إنكار المعاد الجسمانيّ منشئا للحكم بكفرهم أيضا لو كانوا قائلين بذلك و منكرين لذاك،و ليس يظهر أنّ ما انعقد الإجماع على بطلانه-و بطلانه ضروريّ في الدين-هو القول بالتناسخ بالمعنى المتنازع فيه،الذي كان مع القول بقدم النفوس و مع الإنكار للمعاد الجسمانيّ،بل الظاهر إنّه القول بهذا التناسخ مطلقا.

كما أنّه ليس يظهر من الشرع أنّ المعاد الجسمانيّ هو عود الروح إلى بدن آخر غير الأوّل مطلقا،كما أسند هو القول به إلى كثير من أهل الإسلام،بل الظاهر من الشرع و كذا من كلمات أكثر أهل الإسلام كما هو التحقيق،و سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيانه،هو عود الروح الباقي بذاته إلى البدن الأوّل بعينه من جهة أجزائه الأصليّة الباقية،و إن كان مغايرا للبدن الأوّل من جهة الأجزاء الفضليّة،و أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص بعينه نفسا و بدنا،و اللّه أعلم بالصواب.

ص:138

في ثبوت السعادة و الشقاوة في عالم البرزخ

ثمّ إنّه حيث انجرّ الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده من المرام،فنقول:

إنّ الشرع كما نطق بوجود قالب مثاليّ لكلّ روح من الأرواح،و عرفت أنّه ممّا يؤيّده العقل أيضا،كذلك دلّ على أنّ للأرواح في ذلك العالم المثاليّ-أي في عالم البرزخ-سعادة و شقاوة بدنيّتين،و لذّة و ألما حسّيّين،و قد وردت بذلك أخبار لا تحصى،كما لا يخفى على من تتبّعها،و يؤيّده العقل أيضا،حيث إنّ البدن المثاليّ إذا كان له قوى و حواسّ بدنيّة، كما دلّت تلك الأخبار عليه،وجب أن يكون من شأن الروح المتعلّقة به إدراك المحسوسات فتلتذّ به أو تتألّم على وفق حالها و مرتبتها،و إلاّ فيكون وجود تلك القوى و الحواسّ معطّلا.

و بالجملة،فيجب أن يكون لها في ضمنه لذّة حسّيّة أو ألم حسّيّ،مضافا إلى السعادة و الشقاوة العقليّتين اللتين هما لها بالقياس إلى ذاتها،و قد دلّ الدليل العقليّ على وجودهما لها بحسب حالها،و لم ينكره الشرع أيضا،كما عرفت بيان ذلك فيما تقدّم.

و كذلك قد دلّ على أنّ اللذّة الحسّيّة و الألم الحسّيّ في عالم البرزخ أعظم شأنا و أشدّ تأثيرا منهما في العالم الدنيويّ،كما وردت به أخبار كثيرة أيضا.

و قد ورد أيضا تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشاهد فيها،و هذا أيضا مطابق للعقل،حيث إنّا نجد من أنفسنا أنّ المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس الدنيويّ،و كأنّ وجهه قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل و نحو ذلك ممّا له مدخل في كون اللّذة أعظم و الألم أشدّ.

في تجسّم الأعمال

و كذلك قد ورد الشرع بما يدلّ على تجسيم الأعمال،و ذلك أيضا أكثر من أن يحصى:

ص:139

قال تعالى: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (1).

سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . (2)

بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) . (3)

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) . (4)

و في الحديث:«الذين يشربون في آنية الفضّة إنّما يخرج من بطونهم نار جهنّم» (5).

و فيه أيضا:«الجنّة قيعان غراسها سبحان اللّه و بحمده». (6)

و فيه أيضا:«إنّما هي أعمالهم ردّت إليهم». (7)

و فيه أيضا:«إذا دخل وقت كلّ فريضة نادى ملك من السماء:أيّها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم». (8)

و فيه أيضا:«ما من عبد منع من زكاته شيئا،إلاّ كان ذلك الذي منعه ثعبانا من نار يكون طوقا في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ الناس من الحساب». (9)

و فيه أيضا:«إنّ العبد إذا كان في آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له ماله و ولده و عمله،فيلتفت إلى ماله فيقول:و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا،فما ذا عندك؟فيقول:خذ منّي كفنك،فيلتفت إلى ولده فيقول:و اللّه إنّي كنت لكم محبّا،و إنّي كنت عليكم لمحاميا،فما ذا عندكم؟فيقولون:نؤدّيك إلى حفرتك و نواريك فيها،فيلتفت إلى عمله فيقول:و اللّه إنّك كنت عليّ ثقيلا و إنّي كنت فيك زاهدا.فما ذا عندك؟فيقول:أنا

ص:140


1- -الكهف(18):49. [1]
2- -آل عمران(3):180. [2]
3- -البقرة(2):81. [3]
4- -النساء(4):10. [4]
5- -عوالي اللئالي 211/2؛ [5]المستدرك 598/2. [6]
6- -علم اليقين 884/2 طبع قم. [7]
7- -نفس المصدر.
8- -من لا يحضره الفقيه 208/1.
9- -الكافي 502/3. [8]

قرينك في قبرك و يوم حشرك حتّى أعرض أنا و أنت على ربّك». (1)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الواردة في ذلك،كما يعلم بالتتبّع (2).

و لا يخفى أنّها كما هي دالّة على تجسيم الأعمال في النشأة الأخرويّة،تدلّ على تجسيمها في عالم البرزخ أيضا،حيث إنّ بعضا منها ظاهرة الاختصاص بعالم الآخرة، و بعضا منها مطلق في ذلك يشمل العالمين جميعا،و بعضها منها ظاهر في أنّ ذلك في كلا العالمين جميعا،كالحديث الأخير.

و حينئذ فحريّ بنا أن نتكلّم في معنى تلك الآيات و الأخبار،و في أنّ معنى ذلك التجسيم ما ذا؟

فنقول:إنّ ذلك يحتمل وجهين:

أحدهما و هو الذي يظهر من كلام بعض العلماء القول به،و إن كان خلاف ظاهر تلك الآيات و الأخبار الواردة،أنّه ليس المراد أنّ نفس ذلك العمل يتصوّر بتلك الصورة و يتجسّم ذلك الجسم،بل المراد أنّه يخلق اللّه تعالى على وفق مصلحته الكاملة و مقتضى ذلك العمل صورة أخرى مناسبة لذلك العمل موافقة له،حيث إنّ لكلّ عمل خير أو شرّ، و كذا لكلّ صفة حاصلة للنفس فاضلة أو رديّة،و كذا لكلّ معنى من المعاني الحاصلة لها صورة تناسبه.و هذا كما أنّ صورة القردة و أمثالها مناسبة لمعنى الفجور و أمثاله،و صورة الفأرة و أمثالها مناسبة لمعنى الحرص و أمثاله،و صورة الكلب و أمثاله من السباع مناسبة لمعنى التهوّر و أمثاله،و صورة الماء و اللبن و أمثالهما مناسبة لمعنى العلم و أمثاله،إلى غير ذلك.و لذلك يشاهد في المنام من غلبت عليه تلك الصفات بتلك الصور كما هو المجرّب.

و حينئذ فلا امتناع في أن يخلق اللّه تعالى جزاء لكلّ عمل خير أو شرّ صورة تناسبه و يجعلها قرينة لصاحب ذلك العمل مصاحبة له،كصورة الحيّات و العقارب و الزقّوم و الحميم و الجحيم و أمثالها من الصور المؤلمة الموذية للأعمال الرديّة القبيحة و الصفات

ص:141


1- -من لا يحضر الفقيه 137/1.
2- - نيك و بد هرچه كنى بهر تو خوانى سازند كار بد جمله ز تو آيد و شيطان بدنام جز تو بر خوان بد و نيك تو مهمانى نيست بر تو جز نفس بدانديش تو شيطانى نيست

الذميمة،و صورة الحور و القصور و الولدان و الجنّات و نعيمها و أمثالها من الصور البهيّة الملذّة الحسنة للأعمال الحسنة و الصفات و الملكات الفاضلة الجيّدة،فتكون النفس بالصور الأولى متألّمة ذات شقاوة،و بالصور الثانيّة ملتذّة ذات سعادة و بهجة و سرور.

و تكون أيضا تلك الصور في كلّ عالم مناسبة لذلك العالم،بأن تكون الصور البرزخيّة مناسبة لعالم البرزخ،و يكون جسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة مثاليّة،و تكون الصور الأخرويّة مناسبة لعالم الآخرة،و جسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة أخرى غير ما في العالم الحسّيّ و العالم البرزخيّ.

و بالجملة،فلا امتناع في ذلك،سواء كان المراد أنّه يخلق اللّه تعالى في عالم البرزخ تلك الصورة المناسبة البرزخيّة فيجعلها مصاحبة لصاحب تلك العمل،ثمّ يخلق تعالى بعد ذلك في عالم الآخرة صورة أخرى أخرويّة مناسبة أيضا،فيجعلها مصاحبة له إلى أن يشاء اللّه تعالى.

أو كان المراد أنّه يخلق تعالى بعد صدور ذلك العمل من عامله و بعد حصول تلك الصفة لمن اتّصف بها صورة برزخيّة،و كذا صورة أخرويّة مناسبتين لذلك العمل و لتلك الصفة،و يجعلها مصاحبتين له في هذه النشأة الدنيويّة أيضا.إلاّ أنّه لمّا كان محجوب البصيرة في هذه النشأة عن إدراكهما و مشاهدتهما،لا يدركهما و لا يشاهدهما،فلا يلتذّ بهما و لا يتألّم.

ثمّ إنّه حيث يكون في النشأة البرزخيّة حديد البصيرة في الجملة،و ينكشف عنه غطاء هذه النشأة،يدرك الصور البرزخيّة فقط بالحواس البرزخيّة،فتلتذّ أو تتألّم.ثمّ إنّه بعد ذلك في عالم الآخرة حيث يكون بصيرته أحدّ و ينكشف عنه الغطاء بالمرّة،كما قال تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ») (1)،يدرك فيه الصور الأخرويّة فيلتذّ و يتألّم بحسب حاله و مرتبته،إلى أن يشاء اللّه تعالى.

أو كان المراد أنّه خلق اللّه تعالى-قبل ذلك العمل و قبل تلك الصفة-تلك الصور

ص:142


1- -ق(50):22.

المناسبة،ثمّ إنّه تعالى يظهر الصور البرزخيّة في عالم البرزخ،و الصور الأخرويّة في عالم الآخرة على صاحب ذلك العمل و تلك الصفة،بحيث يشاهدها و يدركها و يعلم أنّها كانت جزاء عمله.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و الوجه الثّاني:أن يراد أنّ نفس تلك الأعمال و عين تلك الصّفات و الملكات تتجسّم و تتصوّر صورة جسمانيّة مثاليّة برزخيّة في عالم البرزخ،و صورة أخرويّة في عالم الآخرة،و أنّ أعمال الخير يتولّد منها الجنان و الحور و الولدان و القصور و الدور و أنواع المسرّات الحسّيّة و اللذّات البدنيّة،و أن أعمال الشرّ يتولّد منها النيران و الأغلال و الحميم و الزقّوم و أنواع الآلام الحسّيّة و الغموم البدنيّة،فتكون تلك الأجسام و الصور المتولّدة مصاحبة للنّفوس الّتي اكتسبتها،و قرينة للأرواح التي حصلت هي لها،موجبة لسعادتها أو شقاوتها،لا أن يكون هناك صورة أخرى مناسبة لتلك الصفات و الأعمال كما في الوجه الأوّل،بل إنّ تلك الأعمال و الصفات تتجسّم و تتصوّر صورة برزخية و أخرويّة بعد صدورها عن فاعلها،و في النشأة الدنيويّة أيضا،لكنّها لا تظهر على فاعلها و الموصوف بها في هذا العالم الحسّيّ،لكونه محجوب البصيرة عن إدراكها لانغماسه في الحجب البدنيّة،و انغماره في الأحوال الطبيعيّة،و إنّما تظهر المثاليّة من تلك الصور عليه في عالم البرزخ،و الأخرويّة منها في عالم الآخرة.

و هذا الوجه هو ظاهر تلك الآيات و الأخبار الدالّة على التجسّم،فإنّ الأصل هو الحقيقة و عدم المصير إلى المجاز،و هو الذي ذهب إليه كثير من العلماء.

و توجيه هذا الوجه،كما يظهر من كثير من القائلين به من أهل التحقيق أنّ أحكام النشئات الثلاث الحسّيّة و المثاليّة و العقليّة مختلفة،فيجوز أن تظهر الأعمال و الصفات في النشأة الدنيويّة بصورة العمل و الصّفة،و في عالم البرزخ بصورة الأجسام المثاليّة،و في عالم الآخرة بصورة الأجسام الأخرويّة،كما جاز أن يكون الحقيقة الكلّيّة تظهر في الصور المختلفة،و تتداول عليها أحكامها باعتبار ظهورها في تلك الصور المتلبّسة بها، بحيث يكون تلك الصور مظاهر لتلك الحقيقة في مواطن تظهر لتلك الحقيقة،في كلّ موطن من تلك المواطن أحكام خاصّة و أفعال خاصة،و أحوال خاصة،بواسطة ظهورها

ص:143

في تلك المواطن بواسطة تلك الصور على حسب اختلافها في تنزّلاتها من العالم العقليّ إلى النّفسيّ إلى غير ذلك من مواطنها المتعدّدة،باعتبار مراتب المعاينة الحاصلة عند النفس.

مثل أنّ الحقيقة الإنسانيّة مثلا تظهر في العالم الحسّيّ على النفس،و على البصر بالصور المعيّنة المكتنفة بالعوارض المادّيّة بشرط حضور المادة،و ملازمة وضع معيّن من محاذاة و قرب و عدم حجاب إلى غير ذلك،و هي بعينها تظهر في العالم النفسيّ في الخيال بصورة خياليّة تشابهها من غير تلك الشرائط،و هي في الحالتين تقبل التكثير بحسب الأشخاص،كصورة زيد و عمرو و بكر.

ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العالم العقليّ في العقل بصورة عقليّة بحيث لا تقبل ذلك التّكثير،و يصير الأفراد المتكثّرة في الصّورة المبصرة و المتخيّلة متّحدة في الصّورة العقليّة،ثمّ إنّ الصورة العقليّة متفاوتة في قبول التكثّر،فإنّ صورة الأنواع من حيث خصوص نوعيّتها متكثّرة،و هي من حيث صورة جنسها واحدة،و هكذا إلى جنس الأجناس،فيتّحد في صورته جميع الأنواع،لكن يمتاز عن جنس آخر يقابله.و إذا اعتبرت من المفهومات ما يشمل جميع الحقائق و الاعتبارات اتّحد الكلّ في صورته، كالشيء و الممكن العامّ مثلا.و مثل أنّ المختلفين في الصورة في موطن قد يتّحدان فيها في موطن آخر،و قد يتعاكسان.أعني أنّه يظهر أحدهما في موطن بصورة خاصّة و الآخر بصورة أخرى في موطن،و يظهر أنّ في موطن على عكس ذلك كالفرح و البكاء الظاهرين في اليقظة بصورة و في الرؤيا على العكس.

و مثل أنّه يمكن أن يكون لصورة خاصّة واحدة آثار مختلفة في مواطن مختلفة،كما أنّ صورة الجسم الرطب مثلا-كالماء-متى فعلت في جسم قابل للرطوبة قبلها فصار رطبا مثله،و متى فعلت في مادّة أخرى كالقوّة الحسّيّة أو الخياليّة،و انفعلت عن الرطوبة لم تقبل مثالها و لم تصر رطبا مثله،بل قبلت مثالها،فلها أثر في النشأة الأخرى غير أثرها في النشأة الأولى.و كذا إذا حصلت تلك الرطوبة في العقل كان ذلك ظهورا آخر وراء الأوّلين، و كانت الصورة صورة أخرى هي الصورة العقليّة الكلّيّة.

ص:144

و مثل أنّه يمكن أن يكون حقيقة واحدة باعتبار وجود واحد،أي وجودها في النفس من حيث وجودها فيها عرضا،و باعتبار وجود آخر،أي وجودها في الخارج جوهرا، كذلك يجوز أن يكون المعصية و الطاعة اللتان هما حقيقتان كليّتان تظهران في العالم الحسيّ بالصور العمليّة التي هي أعراض قائمة بالجواهر،و في عالم البرزخ بملابسها البرزخيّة المعنويّة و صورها المثاليّة التي هي جواهر،و في عالم الآخرة بملابسها الأخرويّة التي هي كالصور المعنويّة أيضا،بل كالملابس العقليّة،و هي جواهر أيضا فتصيران جنّة و نارا مثاليّتين أو عقليّتين.

و بالجملة،فتجسيم الأعمال و الصفات كما هو ظاهر الآيات و الأخبار الدّالّة عليه، ممّا لا مانع عنه عند العقل و لا امتناع فيه،و فيما ذكرنا غنية للطالب المستبصر المسترشد، في أن يؤمن بجميع ما نطق به الشّرع و وعده الشّارع أو أوعده،فإنّه لو تأمّل في ذلك،و كذا في أنّ ما يشاهد من الصفات النفسانيّة كيف تصير منشئا للآثار و الأفعال الظاهرة،كفاه ذلك ذريعة إلى الاطمينان بكيفيّة استتباع بعض الأعمال و الصفات للآثار المخصوصة في النشأة البرزخيّة و في عالم الآخرة،ألا ترى أنّ شدّة الغضب-مثلا-في شخص يوجب ثوران دمه و احمرار وجهه و تسخّن بدنه و احتراق موادّه،و الحال أنّ الغضب صفة نفسانيّة موجودة في عالم باطنه،و هذه الآثار من صفات الأجسام المادّيّة،و قد صارت نتائج منها في هذا العالم،فلا عجب من أن يلزمها في النشأة البرزخيّة آثار أخرى أحرّ من الأولى، و في النشأة الأخرويّة نار أحرّ من الأولى و الثانيّة جميعا و هي نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ* اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)) (1).و أحرقت صاحبها،كما يلزمها في العالم الدنيويّ عند ظهورها ضربان العروق و الأوداج و اضطراب الأعضاء،و ربّما يؤدي إلى الأمراض الشديدة،و ربّما يموت صاحبها غيظا. (2)

و إذا عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ الشرع كما نطق بتجسيم الأعمال و الصفات و الملكات،كذلك قد نطق بوقوع ثواب و عقاب جسمانيّين واردين على بدن المحسن

ص:145


1- -الهمزة(104):6-7. [1]
2- -راجع الشواهد الربوبية329/-330. [2]

و المسيء من خارج،و الآيات و الأخبار الواردة في ذلك الدّالّة عليه بظواهرها أكثر من أن تحصى،و هي في الدلالة عليه بحيث لا تقبل التّأويل في الظاهر،كما لا يخفى على من نظر فيها.و كثير منها و إن كانت ظاهرة في وقوع ذلك في الآخرة،إلاّ أنّ بعضها لاطلاقه يدلّ على وقوعه في النّشأة البرزخيّة أيضا،بل إنّ بعضها ظاهرة في ذلك:

قال تعالى: اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)) (1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران».

و هذه كما تدلّ على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين محسوسين في عالم البرزخ و في القبر إلى قيام السّاعة،كذلك فيها دلالة على أنّ البرزخيّ منها من جنس عالم المثال، و أنّها أضعف تأثيرا ممّا في عالم الآخرة،فلذا عبّر في الآية عنها بالعرض على النار،يعني أنّه ليس دخولا في النار،و في الحديث بكون القبر روضة من رياض الجنّة،أو حفرة من حفر النيران،يعني أنّه ليس نفس الجنّة و لا نفس النار،بل إنّه ممّا يشابههما و من أشباحهما.

و كذا فيها دلالة على أنّ الأخرويّ منها من جنس عالم الآخرة،و من العالم العقليّ كما مرّ تفسيره،و على أنّها أشدّ تأثيرا ممّا في البرزخيّة،و لذا قال تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)) (2)و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران»دلالة على أنّ الدخول في أصل الجنّة و أصل النّار يكون بعد زمان القبر؛ و اللّه تعالى يعلم.

و بالجملة،فدلالة تلك الآيات و الأخبار على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين بعد الموت من خارج في عالم البرزخ و في عالم الآخرة واضحة،و قد قال به أهل الشرع أيضا،و حيث إنّ الشرع قد نطق به يجب التّصديق به،و لا امتناع في وقوع الثواب و العقاب الجسمانيّين من جهتين:

إحداهما من داخل كما دلّ عليه ما دلّ على تجسيم الأعمال،و الأخرى من خارج،

ص:146


1- -غافر(40):46. [1]
2- -نفس الآية.

كما دلّت عليه هذه الآيات و الأخبار،و لا منافاة بينهما أيضا كما لا يخفى.

إلاّ أنّ هاهنا شبهة يختلف تقريرها على مذهب الحكماء و المتكلّمين،و كذا يختلف جوابها على الوجهين،و كذا على المذهبين،بل على مذهبي الأشاعرة و المعتزلة من المتكلّمين،فحريّ بنا أن نتكلّم في ذلك.

في الجبر و الاختيار

فنقول:إنّ تقرير تلك الشّبهة إمّا على مذهب الحكماء،فبأن يقال:إن كانت الأفعال الإنسانيّة صادرة عنه على سبيل الوجوب،لتمثّلها مع سائر الجزئيّات في العالم العقليّ، و لوجوب حدوث ما يحدث منها في هذا العالم مطابقا لما تمثّل هناك كما هو رأي الحكماء،فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

لا يقال:وجوب صدور الفعل عن العبد،مع القول بأنّه قادر مختار،على ما يقوله الحكماء أيضا لا يجتمعان،لأنّه حينئذ يمتنع الترك،فيمتنع ملزوم الترك،و هو مشيّة الترك في تحديد القدرة،إن شاء ترك فلا قدرة أصلا.

لانّا نقول:الملازمة التي ادّعيت في تحديد القدرة إن شاء ترك،إنّما تثبت بين الممتنعين،مع أنّ الامتناع ليس بالذات،بل إنّ مشيّة الترك ممكنة بالنّسبة إلى العبد، و استمرار عدم الممكن لا ينافي إمكانه.

فمحصّل الشبهة أنّ الأفعال الصادرة من العبد إن وجب أن تكون مطابقة للعالم العقليّ -و هذا هو القدر كما يقوله الحكماء-فلم يعاقب العبد على ذلك؟

و هذا أحد وجهي تقرير الشبهة على مذهبهم.

و بوجه آخر:أنّ اللّه خير محض بالذات،و العقوبة شرّ محض،فكيف صدرت من اللّه تعالى؟

و إمّا على مذهب المتكلّمين،فبأن يقال-كما قالت المرجئة منهم-:إنّه يجب أن لا يكون عقاب أصلا،لأنّه لا فائدة فيه،لأنّها إن كانت عائدة إلى اللّه تعالى فذلك محال،أو

ص:147

إلى العبد فذلك أيضا باطل،لأنّ الضرر المحض لا فائدة فيه،و ما لا فائدة فيه يكون قبيحا لكونه خاليا عن وجوه المصلحة.

و أمّا الجواب عن هذه الشّبهة،فهو على تقدير القول بتجسيم الأعمال واضح على كلّ مذهب من المذاهب،لأنّه لا عقاب حينئذ من خارج،حتّى يسأل عن وجهه كما هو مدار الشبهة.بل العقاب الجسمانيّ الوارد على بدن المسيء إنّما يرد عليه من داخل ذاته،و هو لازم أعماله السيّئة،بل إنّ نفس تلك الأعمال تصوّرت بصورة العقاب.

و الحاصل أنّ العقاب الجسمانيّ للنفس على خطيئتها هو كالمرض للبدن،فهو لازم من لوازم ما ساق إليه الأحوال الماضية التي لم يكن بدّ من وقوعها،و لا من وقوع ما يتبعها.و كما أنّ الإنسان لمّا احتاج إلى تناول الغذاء و يبقي عند كلّ هضم لطخة من فضلات الهضوم يجتمع في بدنه منها مادّة كثيرة مستعدّة لتصوّرها بصور الأمراض، خصوصا إذا قصّر في الاحتياط،و في تناول الغذاء المناسب له،و أدّت شهوته البهيميّة إلى تناول الغذاء الغير المناسب،حتّى إذا أثّرت فيها الحرارة الغريبة،اشتعلت تلك المادّة و تصوّرت بصورة العلّة و المرض و حدثت الحمّى،و إذا انصبّت إلى عضو ورم ذلك العضو، إلى غير ذلك من الحالات الرديّة الموذية.

و بالجملة،إذا ساقت إليه قوّته البهيميّة أو صابا و أسقاما مؤلمة،كذلك حال العقاب الجسمانيّ الوارد عليه من داخل،فإنّه إذا فعل أفعالا رديّة،ينتقش في نفسه بحسب كلّ فعل ملكة رديّة،و يجتمع على مرّ الأيّام ملكات متعدّدة متصوّرة بصورة المؤلمات و المؤذيات الجسمانيّة،مصاحبة معها غير مفارقة عنها،إلاّ أنّها ما دامت متعلّقة بالبدن كأنّها ذاهلة عنها،حتّى إذا فارقت البدن أدركتها و شاهدتها و شعرت بها و تأذّت منها و تألّمت لها ألما جسمانيّا.

لا يقال:إذا كان العقاب الجسمانيّ من لوازم الأعمال أو نفسها،يجب أن يكون دائما بدوام صورة ذلك العمل و الهيئة المنتقشة في النفس،الباقية ببقائها،فما وجه انقطاعه بالنسبة إلى بعضهم كما نطق به الشّرع؟

لأنّا نقول:قد عرفت فيما سبق أنّ بعضا من تلك الهيئات المنتقشة في النفس يمكن

ص:148

زوالها عنها لعروض أسباب زوالها،فلا امتناع في زوال تلك الهيئة عنها و انقطاع العقاب بحسبها.و على تقدير بقاء ذات تلك الهيئة أيضا،فلا امتناع في بطلان تلك الصورة المؤلمة التي تصوّرت تلك الهيئة بصورتها،بحسب أسباب تعرض هناك من توبة أو شفاعة أو نحو ذلك،و إن لم يكن نعلمها.و على تقدير بقاء تلك الصورة المؤلمة أيضا فلا امتناع في بطلان إيلامها و إيذائها،فإنّ ما ذكرنا أنّ العقاب الجسمانيّ لازم للأعمال،لم نعن به أنّه لازم لماهيّة تلك الأعمال و الهيئات،حتّى لا يمكن انفكاكه عنها،بل عنينا به أنّه لازم للوجود الخارجيّ لها،و لا امتناع عقلا في أن يبقى ماهيّتها و ذاتها و ينفكّ عنها لازم وجوده الخارجيّ بسبب من الأسباب العارضة.بل ربّما يدّعى أنّ الشرع دلّ عليه كما في قصّة إبراهيم على نبيّنا و عليه السلام،و جعل النار عليه بردا و سلاما مع بقاء ذات تلك النار على ما هي عليه من مادّتها و صورتها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تلك الشّبهة-على تقدير تجسيم الأعمال-لا ورود لها أصلا،لا على مذهب الحكماء و لا على مذهب غيرهم.

نعم،تلك الشبهة إنّما ترد ظاهرا على تقدير وقوع العقاب من خارج،و على هذا التقدير أيضا،فإن أوّل بما يؤوّل إلى تجسيم الأعمال،سقطت تلك الشّبهة أيضا.

و ذلك التأويل بأن يقال:يمكن أن يكون ذلك العقاب الخارجيّ أيضا لازما لتلك الأعمال مسبّبة عنها و صورة لها،لا بأن يكون قد تصوّر العمل نفسه بصورة ذلك العمل كما ذكرنا في الوجه الثاني من وجهي تجسيم الأعمال،بل بأن يكون أوجد اللّه تعالى لحكمته القديمة و عنايته الأزليّة و عمله بالوجه الأصلح و بما يقتضيه نظام العالم بجملته،لكلّ عمل صورة مناسبة لها خارجة عن ذاتها مسبّبة عنها،كما ذكرنا في الوجه الأوّل من وجهي تجسيم الأعمال.

و حينئذ،فلو قلنا بوجود الجنّة و النار الآن و خلقها قبل صدور الأعمال من العباد كما هو مذهب جمهور المسلمين،و هو ظاهر الشرع المتين و الحقّ المبين،ينبغي القول بخلق تلك الصور المناسبة لتلك الأعمال قبلها.

و ربّما يدّعى أنّه ممّا يؤيّده بعض الآيات و الأخبار،كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)) 1حيث إنّ ظاهره الإحاطة في الزمان الحال.

ص:149

و ربّما يدّعى أنّه ممّا يؤيّده بعض الآيات و الأخبار،كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)) (1)حيث إنّ ظاهره الإحاطة في الزمان الحال.

و بالجملة،ينبغي القول بخلقها قبلها لحكمة و مصلحة لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب،و من جملتها ترغيب المكلّفين بالأعمال الحسنة التي يناسبها تلك الصور الملذّة و تزهيدهم عن الأعمال السّيّئة التي يناسبها تلك الصّور المؤلمة،فإنّه لا يخفى أنّهم إذا علموا بأنّ تلك الصور خلقت قبل صدور الأعمال عنهم و أعدّت لهم جزاء لأعمالهم الحسنة أو السّيئة، يكون التكليف أتمّ و الترغيب و التزهيد أبلغ و أكمل،و لا كذلك إذا لم تخلق قبل و وعدوا أو أوعدوا على خلقها و إعدادها لهم بعد صدور العمل عنهم.

و لو قيل بعدم خلق الجنّة و النار الآن،و إنّهما تخلقان يوم الجزاء-كما هو مذهب أكثر المعتزلة،و إن كان مخالفا لظاهر الشرع-فالأمر أظهر من وجه،فإنّه يكون الجنّة و النار اللتان هما صورتا الأعمال الحسنة و السيّئة مخلوقتين بعد الأعمال،و لا امتناع فيه أيضا، و يكون في التكليف و في الوعد و الوعيد بخلقها بعد ذلك حكمة و مصلحة لا تخفى.

و أمّا إذا لم يؤوّل ذلك بما ذكرنا أو نحوه بل أبقي على ظاهره،أي وقوع العقاب الجسمانيّ من خارج من غير أن يكون ذلك صورة العمل،فيمكن دفع تلك الشبهة أيضا بما نذكره،فنقول:

أمّا جوابها على مذهب الحكماء و على التقدير الأوّل،فبأن يقال:إنّ مبنى تلك الشبهة على ذلك التقرير،أنّ معنى القضاء أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد،و أنّ معنى القدر مطابقة الموجودات فيما لا يزال للصور الموجودة في العالم العقليّ،و أنّ كلّ ما يوجد في عالم الحدوث يجب أن يكون على وفق علمه تعالى،و الاّ لزم جهله تعالى به،و هذا مسلّم.إلاّ أنّا نقول:إنّ ذلك الوجوب ليس وجوبا سابقا،بمعنى أن يكون القلم الأزليّ و المطابقة للعالم العقليّ علّة و سببا موجبا لصدور الفعل عن العبد حتّى يسأل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب،لأنّ العلم تابع للمعلوم فكيف يكون علّة لوجوده؟و معنى التبعيّة أصالة موازنة في التطابق كما حقّق في

ص:


1- -التوبة(9):49. [1]

موضعه،بل إنّ ذلك وجوب لاحق ،بمعنى أنّه تعالى لما علم في الأزل أنّه يصدر فيما لا يزال عن العبد بإرادته و اختياره الفعل-كما هو مذهب الحكماء أيضا-فلذا تعلّق العلم الأزليّ به،و حيث تعلّق العلم الأزليّ به،وجب أن يكون هو مطابقا له،و الاّ لزم جهله تعالى.

و بالجملة،فهذا الوجوب وجوب لاحق باختيار العبد و إرادته،و الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار،بل يؤكّده.

فحينئذ إن سئل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب و الاضطرار؟سقط السؤال البتة،لأنّه ليس على سبيل الوجوب و الاضطرار،و إن سئل عن أنّه لم يعاقب على شيء صدر عنه بالاختيار أو على سبيل الوجوب بالاختيار؟كان الجواب أنّه لمّا ارتكب بإرادته و اختياره الأفعال المنهيّة عاقبة اللّه تعالى على عصيانه.

و بتقرير آخر أنّه لما كان فعل العبد صادرا عنه بإرادته و اختياره-كما هو مذهبهم- و كان قدرته و اختياره مسبّبين عن أسباب،و من أسباب إرادته فعل الخير التخويف و العقاب،و هما من الأسباب المقدّرة لنظام العالم،كما أنّ فعل الخير مقدّر قدّره تعالى تكليفا و تخويفا و أوفي به فإن سئل عن أنّه لمّا كان فعل العبد مقدّرا،فلم التخويف أو لم العقاب؟كان الجواب عنه،بأنّهما من أسباب فعل الخير الصادر عن العبد.

و بعبارة أخرى لمّا كانت النّفس الإنسانيّة في علم الباري تعالى قابلة للكمالات، و كانت العناية الأزليّة و الحكمة المتعالية اقتضت إفاضته تلك الكمالات عليها،لكن بحسب استعدادات تحصل هي لها من أفاعيلها الإراديّة،و كانت فيها قوى تمنعها عن تلك الأفاعيل و تميلها إلى أفاعيل بالإرادة تضادّها قدّر تعالى تكليفا و تخويفا يكون من أسباب إرادته الأفاعيل الجميلة،و لما كان الوفاء بذلك التخويف أيضا من أسباب ذلك مؤكّدا له،و الوفاء بالتخويف هو العقوبة،لا جرم صارت العقوبة سببا من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة،و تلك العقوبة كما أنّها من أسباب إرادة الأفاعيل الجميلة،كذلك هي واقعة على العبد بفعله بالاختيار للأفعال القبيحة لا محذور أصلا.

لا يقال:سلّمنا أنّ التخويف من أسباب إرادة الأفعال الجميلة،لكنّا لا نسلّم أنّ الوفاء

ص:151

به-و هو العقوبة-سبب لها،إذ لا مانع من أن يحصل التخويف و يكون سببا لإرادة الأفاعيل الجميلة،و لا يقع الوفاء به أي العقوبة،إذ ليس في ذلك خلف لوعد حتّى يكون قبيحا،بل هو إسقاط وعيد و عفو،بل إحسان فيحسن.

لأنّا نقول:إنّ التخويف الذي لا وفاء به أصلا لا يكون سببا لإرادة فعل الخير،و إنّما يكون سببا لها إذا كان مع الوفاء به و لو في الجملة.و لا أقلّ من أن يكون الوفاء مؤكّدا للتخويف،و هو أيضا مطلوب الشارع الحكيم.

و بالجملة،فالوفاء به حسن،و هو من حقّه تعالى بالنسبة إلى من ارتكب الأفعال القبيحة بإرادته و اختياره،و إن كان يمكن إسقاطه بالنّسبة إلى بعضهم بالتّوبة أو الشّفاعة أو نحو ذلك ممّا لا يعلمه غيره تعالى.

و حيث عرفت ما بيّناه،عرفت أنّ محصّل الجواب عن الشّبهة على ذلك التّقرير،أنّ قول الشّابه:فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

إن كان محطّ السّؤال أنّ ما صدر عن العبد على سبيل الوجوب كيف يقع العقاب عليه؟كان الجواب عنه أنّ صدوره عنه ليس بالوجوب،بل بالاختيار كما عرفت.

و إن كان محطّ السّؤال أنّ الغرض من ذلك العقاب ما ذا؟كان الجواب عنه أنّ فعل اللّه تعالى لا يعلّل بالأغراض عند الحكماء،إذ هو تعالى عندهم-كما هو الحقّ أيضا-فيّاض مطلق و جواد على الإطلاق و هو تامّ الفاعلية،غير مستكمل بشيء أصلا و لا يكون لفعله تعالى علّة غائيّة و لا غرض يكون ذلك داعيا له إلى فاعليّته،و يكون هو تعالى بدونه غير فاعل له ناقصا في فعله،و إن كان يتبع فعله تعالى حكم و مصالح متقنة محكمة ليست هي باعثة له على الفاعلية.

و إن كان محطّ السؤال أنّ الحكمة و المصلحة في العقاب ما ذا؟كان الجواب عنه أنّ الحكمة في ذلك كونه من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة كما عرفت.

و أمّا الجواب عن الشبهة،على التقدير الثاني للحكماء و على مذهبهم،فبأن يقال:لا نسلّم أنّ العقوبة شرّ محض مطلقا،فإنّها على تقدير تسليم كونها شرّا،فإنّما يسلّم ذلك بالقياس إلى الشخص المعذّب فقط،لا بالقياس إلى غيره أيضا،بل هو خير بالقياس إلى

ص:152

الأكثرين،حيث إنّ فيها مصالح عامّة،و من جملتها تحذيرهم عن ارتكاب المعاصي و المنهيات،و حيث كانت فيها مصالح عامّة فلا يلتفت لفتّ الجزئيّ لأجل الكلّيّ كما في قطع العضو لصلاح البدن.

على أنّا لا نسلّم كون العقوبة شرّا محضا بالنسبة إلى الشخص المعذّب أيضا،بل يمكن أن تكون بالقياس إليه أيضا خيرا،كما قال بعض العرفاء:«إنّ النّار قد تتّخذ لبعض الأمراض،و هو الداء الذي لا ينفى إلاّ بالكيّ من النار،فقد جعل اللّه تعالى النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ من النار في حقّ المبتلى به،و أيّ داء أشدّ من الكبائر؟فقد جعل اللّه لهم النار يوم القيامة دواء كالكيّ بالنار،فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما أعظم من النار،و هو غضب اللّه تعالى،و لهذا يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة، كما جعل في الحدود الدنياويّة وقاية من عذاب الآخرة». (1)انتهى كلامه.

و أقول:و لعلّ معنى قوله:«و لهذا يخرجون»أنّه يخرج بعض أصحاب الكبائر، كالمؤمن الفاسق،و إلاّ فالكافر مخلّد في النار كما هو المذهب الحقّ.

و أمّا الجواب عن الشّبهة على تقرير المتكلّمين و على مذهب المعتزلة و من يحذو حذوهم في القول بالحسن و القبح العقليّين،و بأنّ فعل العبد صادر عنه بإرادته و اختياره، فبأن يقال:إنّ اللّه تعالى كلّف العباد و وعدهم على الطاعة،و أوعدهم على المعصية،لأنّ صلاح حالهم في التكليف،ثمّ إنّه يجب عليه تعالى ذلك لأنّ التكليف و الوعد و الايعاد لطف من اللّه تعالى يقرّبهم إلى الطاعة و يبعدهم عن المعصية،و اللطف واجب.ثمّ إنّه يجب عليه تعالى الإثابة على الطاعات،إذ الإخلال به قبيح و ظلم،و أمّا العقاب فحسن أيضا لارتكابهم المعاصي.فإذا قيل لم يعذّبون؟قيل:لأنّهم ارتكبوا المعاصي.و إذا قيل:لم ارتكبوا المعاصي؟قيل:لإرادتهم ذلك،و كونهم مختارين فيه.و إذا قيل:أ ليس يجب صدور المعصية عنهم حتّى يطابق علم اللّه تعالى؟قيل:إنّ اللّه تعالى كما علم وجود المعصية علم أنّ المعصية تصدر عنهم باختيارهم و إرادتهم،فعلم اللّه تعالى لا ينافي

ص:153


1- -و القائل هو الشيخ العارف محي الدين بن العربي،في الفتوحات المكيّة. [1]

اختيارهم،إذ العلم الأزليّ ليس علّة لوجود المعلوم،بل هو تابع له كما عرفت.

و أمّا الجواب عن الشبهة على رأي الأشاعرة،فبأن يقال:إنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ جميع الحوادث بل جميع الموجودات الممكنة من اللّه تعالى و هو سبب الكلّ.فإن قيل:فلم العقاب؟قالوا:إن كان المراد الغرض من العقاب فلا غرض،و إن كان المراد السّبب،فهو اللّه تعالى و لا يسأل عمّا يفعل.

و هذا الذي ذكرناه في تقرير هذه الشبهة و جوابها إنّما هو نبذ ممّا ذكروه في هذا المقام،و تفصيل المقام يقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه،و حيث كان هذا الذي ذكرناه كلاما وقع في البين بالتقريب،فلنرجع إلى ما كنّا نحن بصدده.

الثواب و العقاب في البرزخ

فنقول:إنّك بعد ما أحطت خبرا بما فصّلناه و بيّناه،تلخّص لك أنّ حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن العنصريّ أنّها تكون في ضمن بدن مثاليّ،و تكون لها في ضمنه سعادة و شقاوة حسّيّتان كما دلّ عليه الشرع الشريف و فصّل ذلك فيه،و يؤيّده العقل أيضا،مضافا إلى السعادة و الشقاوة العقليّتين اللتين هما لها بالقياس إلى ذاتها كما دلّ عليه العقل و لم ينكره الشرع.و أنّ كلّ ما يرد عليها من اللذّات و الآلام الحسّيّتين بعد المفارقة عن البدن إلى قيام الساعة هو من جنس عالم المثال،حتّى أنّ ظهور الملكين الكريمين اللذين يسألانها في القبر تارة بصورة حسنة،و تارة بصورة مهيبة منكرة،يمكن أن يكون بظهورهما كذلك في ضمن القالب المثاليّ،سواء قيل بكون الملائكة ذواتا مجرّدة عقليّة كما هو رأي كثير من الحكماء،أو بكونهم أجساما نورانيّة ذوات نفوس مجرّدة شريفة كما هو ظاهر الشرع الشّريف،فإنّه على التقديرين،لا امتناع عقلا و لا شرعا في أن يكون لهم مظاهر جسمانيّة مثاليّة يظهرون فيها بصور مختلفة.و اللّه تعالى يعلم.

نعم،قد دلّ الشّرع على أنّ بعض الأحوال الواردة على النفس من الأمور الحسّيّة، كضغطة القبر بل السؤال و الجواب،تكون للنفس في ضمن البدن الأوّل العنصريّ،كما دلّت

ص:154

عليه أخبار كثيرة،و يدلّ عليه بعض الآيات أيضا،كقوله تعالى حكاية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)) (1)و قد قال كثير من المفسّرين:إن إحدى الحياتين ليست إلاّ في القبر، و كذا إحدى الموتتين.

و بالجملة،فلا امتناع فيه أيضا،إذ لا امتناع في أن يعيد اللّه تعالى بحكمته المتعالية تعلّق النفس بالبدن الأوّل نوعا من التعلّق يسمّى إحياء،ثمّ يقع عليها الضغطة و المساءلة في ضمن ذلك البدن الأوّل،ثمّ ينتفي ذلك التعلّق المعاد،بحيث يسمّى إماتة،سواء كان البدن الأوّل باقيا بعينه،و كان في القبر أي في داخل الارض،و كانت الضغطة و المسائلة في القبر،أو كان البدن الأوّل في خارج الأرض،سواء كان في سطحها أو في الهواء كما في المصلوب،إذ لا امتناع في الإحياء بقدر المساءلة و لا في الضغطة،فإنّ ربّ الهواء هو ربّ الأرض،و لا امتناع في أن يوحي اللّه تعالى إلى الهواء فيضغطه،كما ورد في الحديث.

و سواء لم يكن البدن الأوّل باقيا بهيئته و صورته بل تفرّقت أجزاؤه،كأن أكله السّباع و الطيور و تشتّت أجزاؤه في بطونها و حواصلها،أو أن أحرق فصار رمادا،أو ذرّي في الرياح العاصفة شمالا و جنوبا و قبولا و دبورا،فإنّه لا امتناع في إعادة الروح إلى تلك الأجزاء المتفرّقة،أو إلى الأجزاء الأصليّة من البدن بعد جمعها و تأليفها و إن لم نشاهد ذلك،و في إحيائه مرّة أخرى للمساءلة و الضغطة فيقع،المساءلة و كذا الضغطة فيما كان جمع الأجزاء هنالك،ثمّ ينتفي ذلك التعلّق بحيث يسمّى إماتة،سواء تفرّقت الأجزاء بعد ذلك كما كانت أوّلا أو لم تتفرّق،و إن لم نكن نشاهد شيئا من ذلك و لا نعلمه.

و القول بأنّ المصلوب مثلا لو أحيي لكنّا نشاهد حياته و ليس كذلك،مجرّد استبعاد، فإنّ عدم مشاهدة الحياة ليس دليلا على عدمها كما في صاحب السّكتة،حيث إنّا لا نشاهد حياته مع أنّه حيّ.

كالقول بأن إحياء من تفرّقت أجزاؤه في بطون السّباع و حواصل الطيور،بل أحرق و ذرّي في الرياح خلاف ما يقتضيه ضرورة العقل،بأنّه أيضا مجرّد استبعاد،حيث إنّه

ص:155


1- -غافر(40):11. [1]

مبنيّ على اشتراط البنية الأولى بهيئتها الأولى التركيبيّة بعينها في الحياة،و هو ممنوع.

غاية ذلك أن يكون خلاف العادة،و خوارق العادات غير ممتنعة في مقدورات اللّه تعالى.

و كذلك القول بأنّ ما ذكر يخالف بعض السمعيّات،كقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى)) (1)،و أنّهم لو أحيوا في القبر أو بعد الموت الأوّل قبل القيامة لذاقوا الموت مرّتين.ضعيف،لأنّ الآية كما ذكره المفسّرون إنّما وردت في شأن أهل الجنّة، و ضمير«فيها»للجنّة.و المعنى-و اللّه أعلم-أنّ أهل الجنّة لا يذوقون في الجنّة الموت،فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت،فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المساءلة و الضغطة و قبل دخول الجنّة،و أمّا قوله تعالى: إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى)) (2)،فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنّة على سبيل التعليق بالمحال،كأنّه قيل:لو أمكن ذوقهم الموت في الجنّة لذاقوا الموتة الأولى،و هو غير ممكن.فذوقهم الموت في الجنّة غير ممكن،أو المراد أنّهم لا يذوقون الموت في الجنّة إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا نظير الاستثناء المنقطع.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و ذكرنا نبذا من أحوال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ،أي أحوالها بعد المفارقة عن البدن إلى قيام السّاعة،فلنتكلّم في أحوالها في العالم الأخرويّ عند قيام الساعة و بعده،فنقول:

ص:156


1- -الدخان(44):56. [1]
2- -نفس الآية.

الباب الخامس: في إثبات المعاد الجسمانيّ الّذي نطق به الشرع

اشارة

ص:157

ص:158

و هو ركن من أركان الإسلام،و ضروريّ في الدين المحمّديّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كذا في سائر الملل و الأديان،بحيث يكون منكره كافرا كما هو معلوم لكلّ من تديّن بالإسلام،كما أشرنا في صدر الرسالة إلى ذلك،و في إقامة الدليل العقليّ عليه،كما نطق به الشّرع.

و حيث كان ما نطق به الشرع منحلاّ إلى أمرين:

أحدهما:إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة التي هي دار الجزاء.

الثاني:أنّ ذلك المعاد جسمانيّ،و معناه عود الروح مرّة أخرى إلى البدن الأوّل للثواب و العقاب.فلنتكلّم في بيان الأمرين جميعا.

الأمر الأوّل

أنّ للإنسان معادا في دار الآخرة

فنقول:أمّا الأمر الأوّل،فهو كما أنّه ممّا نطق به الشرع و أخبر به الصادقون عليه السّلام و يجب التصديق به،و أنّه ممّا لا امتناع فيه عند العقل أيضا،حيث إنّه أمر ممكن،أخبر به الصادقون،فيجب التصديق،كذلك يؤيّده العقل و يدلّ عليه،و لذلك صدّق به الحكماء الذين مدارهم في الأحكام على الدليل العقليّ،إلاّ أنّ بعضا منهم قصروا المعاد على الروحانيّ كما مرّ.

و ذلك الدليل المؤيّد العقليّ كأن يقال:إنّا نعلم بالضرورة أنّ اللّه تعالى وعد المكلّف بالثواب على الطاعة،و توعّد بالعقاب على المعصية بعد الموت،و لا يتصوّر الثواب

ص:159

و العقاب بعد الموت إلاّ بعد العود،فيجب العود إيفاء للوعد و الوعيد،و عملا بمقتضى العدل،و إن كان يجوز العفو عن مقتضى الوعيد بالنّسبة إلى بعض المكلّفين لأسباب حاصلة هناك.و بعبارة أخرى،أنّا نعلم أنّ اللّه تعالى كلّف العباد بالأوامر و النّواهي،فيجب أن يوصل إليهم الثواب بالطاعة و العقاب على المعصية،فيجب البعث بمقتضى الحكمة، و إلاّ لكان ظالما،تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و القول بأنّ إيجاب هذه التكاليف وقع شكرا للنعم التي أنعم اللّه تعالى بها،فلا يستحقّ المكلّف ثوابا كما قال به بعض المتكلّمين في غاية السقوط،إذ إيجاب المشقّة في شكر المنعم قبيح عقلا،مع أنّه لا يستقيم في العقاب أصلا.

و لا يخفى أنّ هذا الدليل الذي ذكرنا،كما أنّه يستقيم على قاعدة المتكلّمين القائلين بالحسن و القبح العقليّين و إنّ العدل يجب على اللّه تعالى،كذلك يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالعناية الأزليّة و بوجوب اشتمال أفعاله تعالى على حكم و مصالح تتبعها،و بوجوب صدور الخير عنه تعالى،و أمثال ذلك ممّا قالوا به.

نعم،لا يستقيم ذلك على مذهب الأشاعرة الّذين خلعوا ربقة العقل عن أعناقهم،و لا ضير فيه،مع أنّهم أيضا ليسوا ممّن أنكروا المعاد،بل صدّقوا به و قبلوه من جهة الشرع خاصّة.

ص:160

الأمر الثاني

أي كون المعاد جسمانيّا

و أمّا الأمر الثاني:أي كون المعاد جسمانيّا،فهو منحلّ إلى أمور:

أحدها:أنّه يجب أن يعود الروح في القيامة إلى بدن عنصريّ لها به تعلّق تدبير و تصرّف.

و الثاني:أنّه يمكن أن يكون ذلك البدن العنصريّ هو البدن الأوّل بعينه،و أنّه لا مانع منه شرعا و لا عقلا،و أنّه حينئذ يكون الشخص المعاد هو الشخص المبتدأ بعينه نفسا و بدنا.

و الثالث:أنّه يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة،أي أن يكون تعلّق الروح بذلك البدن الأوّل بعينه،حتّى تكون هي في ضمنه موردة للثّواب و العقاب الحسّيّين،لا ببدن آخر غيره.

و المقصود أنّه كما أنّ هذا المطلب الأسنى المنحلّ إلى هذه الأمور الثلاثة ممّا نطق به الشرع،و وجب التّصديق به من جهة الشرع،كذلك هو ممّا يحكم به العقل و يقوم الدليل العقليّ عليه.و غرضنا من وضع الرسالة بيان هذا المطلب،فلذلك قدّمنا ما قدّمناه في مقدّمة الرسالة و أبوابها و فصولها تمهيدا لذلك،فإنّ ما ذكرناه في المقدّمة و تلك الفصول و الأبواب في التحقيق مقدّمات و أصول لهذا المطلب،و هو نتيجة لها و فرع عليها.

و الغرض الأصليّ من ذكرها و الإطناب فيها هو بيان هذا المطلب،و إن كان لها فوائد أخر أيضا،حيث إنّها في أنفسها أيضا فوائد علميّة لطيفة،و مطالب عظيمة شريفة.

و الحاصل أنّ المستبصر المسترشد،إذا تذكّر ما قدّمناه في المقدّمة و الأبواب،يكفيه

ص:161

دليلا واضحا و برهانا لائحا على هذا المطلب الأقصى بأجزائها الثّلاثة،و يتّضح ذلك عنده كلّ الاتّضاح.و إن شئت انكشاف جليّة الحال،فاستمع لما نتلو عليك من المقال،فنقول:

بيان الأمر الأوّل من تلك الأمور الثلاثة

أمّا بيان الأمر الأوّل من هذه الأمور الثلاثة،فيتّضح بعد الإحاطة بما قدّمناه في الأبواب المتقدّمة،أنّ النّفس الإنسانيّة بدنيّة تحتاج في أفعالها و إدراكاتها إلى بدن تتصرّف هي فيه،و يكون هو آلة لأفعالها و إدراكاتها،و أنّه لا يجوز أن تتعلّق بجسم فلكيّ أو عنصريّ أو نوع آخر،يكون ذلك الجسم موضوعا لإدراكاتها من غير أن تكون هي متصرّفة فيه مدبّرة له،فإنّه بعد الإحاطة بذلك مع الإحاطة بأنّ ذلك البدن المتعلّقة هي به تعلّق التدبير و التصرّف لا يمكن أن يكون جوهرا مجرّدا عن المادّة،لامتناع كونه بدنا لجوهر نفسانيّ،و لا أن يكون بدنا مثاليّا،لأنّه إنّما يكون في عالم البرزخ خاصّة،كما قال به جميع العقلاء و حكم به عقولهم،و إن كان النصّ الوارد مؤيّدا لحكم عقلهم،و عالم الآخرة غير عالم البرزخ باتّفاق الكلّ،و لا أن يكون جسما فلكيّا أو جوهرا،إبداعيّا غير منخرق لإبائهما عن كونهما بدنا لنفس إنسانيّة،حيث إنّ ذلك موقوف على قبول طبيعتهما للتجزّي و الانفصال و التغيّرات العارضة،و قبول التصرّفات و التدبيرات التي للنفس بالقياس إلى البدن العنصريّ،و ظاهر أن ليس ذلك للطبيعة الفلكيّة،و لا لذلك الجرم الإبداعي الغير المنخرق مع بقاء صورتهما،و إن كان تبدّل صورتهما و بطلانها أمرا ممكنا، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)) . (1)

و بالجملة،فبعد الإحاطة بما ذكرنا،يتّضح لك أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى بدن عنصريّ كما نطق به الشّرع،هذا مع أنّ ما سنبيّنه في بيان الأمر الثالث من الأمور الثلاثة،من أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى البدن الأوّل بعينه يثبت هذا المطلب مع شيء زائد و التعويل عليه،و إنّما ذكرنا ما ذكرنا هنا لزيادة

ص:162


1- -الأنبياء(21):104. [1]

الإيضاح و الاطمينان.

بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة

اشارة

و أمّا بيان الأمر الثاني،من هذه الأمور الثلاثة،فيستدعي تمهيد مقدّمات:

منها:ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة،أنّ الشخص الإنسانيّ الذي نطق الشرع الشريف بمعاده و بعثه،عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،و تحقيقه أنّه عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،بمعنى أنّه عبارة عن البدن المخصوص الذي تعلّق به نفس مخصوصة،هي كالصورة الكماليّة له،أو عبارة عن النّفس المخصوصة التي تعلّقت ببدن مخصوص هو آلة لكمالاتها و أفعالها و إدراكاتها،و أنّ هويته و هذيّته إنّما هي بالتشخّص الحاصل لذلك المجموع،أي للنفس و الأجزاء الأصليّة من بدنه على ما مرّ تفسيرها في المقدّمة،سواء كان المشخّص نحوا من الوجود الخاصّ الذي تتبعه العوارض التي تسمّى عوارض مشخّصة أو تلك العوارض نفسها،على اختلاف المذهبين،و أنّه لا مدخل للأجزاء الفضليّة من بدنه،و لا لهيئته التركيبيّة الخارجيّة،و لا لتأليفه المخصوص في هذيّة البدن الخاص، و لا في هذيّة الشخص الإنسانيّ،فلذا كان تبدّلها و تغيّرها غير قادح في تشخّص البدن و تشخّص الشخص.و يشهد عليه أنّا نعلم بالضرورة أنّ زيدا الشاب هو بعينه زيد الطفل، و زيدا الشيخ هو بعينه زيد الشاب و الطفل،مع أنّا نعلم وقوع استحالات و تغيّرات في بدنه.

و بالجملة أنّا نعلم بالضرورة أنّ هويّة زيد و هذيّته باقية من أوّل عمره إلى انتهاه،مع تبدّل خصوصيّات بدنه،و لذلك كان في الشّريعة المقدّسة أنّ من جنى جناية استحقّ بها قتلا أو عقوبة،و كان هو حين ما جنى تلك الجناية تامّ الخلقة،ثمّ صار ناقصا في الخلقة أو كان مهزولا ثمّ سمن،أو بالعكس،و لم يرفع إلى الإمام عليه السّلام إلاّ حين الحالة الثّانية،فهو يجري عليه حدّ اللّه تعالى،و ليس ذلك ظلما عليه أصلا.

لا يقال:لعلّ بقاء الشخص بعينه في الحالات كلّها من أوّل العمر إلى منتهاه مستند إلى بقاء نفسه الباقية بشخصها في الحالات كلّها خاصّة كما ادّعاه بعض الحكماء،من غير أن

ص:163

يكون لبقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه و تشخّصها مدخل في ذلك.

لأنّا نقول:هذا مبنيّ على أن يكون الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط،و يكون البدن آلة لها لا دخل له في كون الشخص الإنسانيّ شخصا و هذا باطل،لأنّا نعلم يقينا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن و المركّب منهما،و بعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه عبارة عن النفس الخاصّة المختصّة ببدن مخصوص،أو عبارة عن بدن مخصوص مختصّ بنفس خاصّة.

و بالجملة فليس الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط كما يراه بعض الحكماء، و لا عبارة عن الهيكل المخصوص البدنيّ فقط كما يراه جمع من العوام،أو لست سمعت القوم أنّهم يقولون في تحديد الإنسان إنّه حيوان ناطق،أو لست تحقّقت فيما نقلنا في الفصل (1)الأوّل الذي عقدناه في تحديد النفس عن الشيخ في«الشفاء»،أنّ النفس جزء من قوام الإنسان صورة له أو كالصورة،و أنّ الحيوان الذي هو جنس له،كيف يكون جنسا له باعتبار،و مادّة باعتبار آخر،و نوعا باعتبار آخر،و أنّ الناطق الذي هو فصل له كيف يكون فصلا له باعتبار،و صورة و نفسا له باعتبار آخر،و نوعا باعتبار،و أنّه كيف يكون البدن المخصوص كالمادّة و النفس المخصوصة كالصورة،و أنّه كيف يكون الشخص الإنسانيّ كالمركّب من المادّة و الصورة،أي المركّب من البدن و النفس.

و قد علمت في موضعه أنّه كما أنّ تشخّص المادّة بالصورة باعتبار،كذلك تشخّص الصورة بالمادّة باعتبار آخر،و تشخّص الشخص الذي هو عبارة عن المجموع المركّب منهما بتشخّص المجموع،إلى غير ذلك من الأمور التي يستبين من كلام القوم،و كذا من كلام الشيخ هنالك.و هي دالّة على أنّ الشخص الإنساني عبارة عن مجموع النفس و البدن الذي ذلك المجموع معروض لتشخّص خاصّ،لا أحدهما فقط.و حيث كان كذلك كان لبقاء هذيّة البدن أيضا مدخل في بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ،و ما هو إلاّ لبقاء هذيّة الأجزاء الأصليّة من بدنه،حيث إنّ هذيّة الأجزاء الفضليّة و التأليف و الهيئة التركيبيّة منه

ص:164


1- -في الباب الأوّل.

متبدّلة،مع بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ بعينها،و فيه المطلوب.

لا يقال:سلّمنا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن.

إلاّ أنّا نقول:لم لا يجوز أن يكون هو عبارة عن نفس خاصّة و عن بدن ما؟لا بأن يكون هناك بدن مطلق على سبيل العموم جزء من المجموع،حتّى يرد أنّ المطلق بإطلاقه كيف يكون جزء من المشخّص،و كيف يكون له دخل في تشخّص الجزء الآخر المشخّص أعني النفس،بل بأن يكون هناك أبدان مشخّصة خاصّة كلّ واحد منها على سبيل البدليّة جزء للشخص الإنسانيّ و له مدخل في تشخّص النفس.

لأنّا نقول:هذا بعينه هو القول بالتناسخ لو كانت تلك الأبدان الخاصّة أبدانا عنصريّة كما هو المفروض،و قد عرفت بطلانه،فظهر لك أنّ البدن الذي هو جزء للشخص الإنسانيّ يجب أن يكون بدنا خاصّا بخصوصه الذي خصوصيّته إنّما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه لا غير.و فيه المطلوب.

فإن قلت:إنّ خصوصيّة البدن كما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه،كذلك هي بخصوصيّة التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة البدنيّة جميعا،فإنّه لو لم يكن كذلك،و كان المدخل فيه للأجزاء الأصليّة فقط كيفما كانت،لزم أنّه لو كان هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة من غير تأليف أصلا،و لا هيئة تركيبيّة مطلقا،كان ذلك البدن الخاصّ حاصلا هناك،و البديهة تشهد بخلافه.

قلت:إنّا ندّعي أنّ الأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث خصوصيّتها الخاصّة لها مدخل في خصوصيّة البدن،و كذا في خصوصيّة النفس و خصوصيّة الشخص الإنسانيّ، و أمّا التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة،بل الأجزاء الفضليّة أيضا ممّا لا مدخل له في شيء من ذلك أصلا،بدليل أنّا نشاهد تغيّره و تبدّله مع بقاء تشخّص الشخص الإنسانيّ بحاله، و قد عرفت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن،نعم لكليّات ذلك- أعني لفرد ما من الهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة و لفرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ،بل لفرد ما من الأجزاء الفضليّة أيضا-مدخل على سبيل البدليّة لنوعية البدن خاصّة،أي لكون البدن بدنا إنسانيّا مثلا،و لصدق اسم البدن عليه،و أنّه لو لا ذلك لانتفى البدن،لا

ص:165

لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته،بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته.

و الحاصل أنّه لو كانت هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة المخصوصة،و كان معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ و الهيئة التّركيبيّة و الأجزاء الفضليّة،أي فرد كان بشرط أن تكون الأفراد متماثلة و متشابهة،كانت هناك نوعيّة البدن الحاصلة بفرد ما من ذلك،و كذا خصوصيّة البدن الحاصلة بخصوصيّة تلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة،و كذا خصوصيّة النّفس الإنسانيّة التي لتلك الأجزاء الأصليّة مدخل فيها،و كذا خصوصيّة الشّخص الإنسانيّ الّذي هو عبارة عن النفس الخاصّة و البدن المخصوص باقية بحالها لم تتغيّر و لم تتبدّل.و هذا ظاهر.

و أمّا إذا لم تكن هناك تلك الأجزاء الأصليّة أصلا بل أجزاء أخر،سواء كان معها تأليف ما و هيئة تركيبيّة ما و أجزاء فضليّة ما أو لم يكن معها شيء من ذلك أصلا،لم يكن هناك ذلك الشخص الإنسانيّ و لا تلك النفس الخاصّة و لا ذلك البدن المخصوص.و هذا أيضا ظاهر بالبيان المتقدّم.و أمّا إذا كانت هناك تلك الأجزاء الأصليّة الخاصّة و لم يكن معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ،و الهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة و الأجزاء الفضلية أصلا و قطعا،كان هناك ينتفي البدن المخصوص،لا لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته،بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته،و بانتفائه كذلك ينتفي الشخص أيضا، لأنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة و البدن المخصوص،بعد أن كانت له صورة بدنيّة إنسانيّة نوعيّة،و هنا ليس كذلك،إلاّ أنّه لا ينتفي هنا خصوصيّة النفس،لأنّ خصوصيّتها إنّما هي منوطة بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة التي المفروض بقاؤها.و الدليل على ذلك أنّا نعلم يقينا بقاء النفس بتشخّصها و خصوصيّتها بعد خراب بدنها و بعد قطع تعلّقها عنه و بعد بطلان التأليف رأسا و انعدام الهيئة التركيبيّة أصلا،و ما ذلك البقاء إلاّ لبقاء الأجزاء الأصليّة التي بيّنّا سابقا بقاءها و أنّ لها مدخلا في تشخّص النفس.

و حيث عرفت ذلك،اتّضح لك غاية الاتضاح انّه إذا كان هذيّة زيد الذي هو عبارة عن مجموع البدن المخصوص و النفس الخاصّة باقية من أوّل عمره إلى منتهاه،و كان ذلك مستندا إلى بقاء تشخّص نفسه و بدنه جميعا،فليس للأجزاء الفضليّة الخاصّة من بدنه و لا

ص:166

للتأليف الخاصّ و لا للهيئة التركيبيّة الخاصّة مدخل من حيث الخصوصيّة في تشخّصه البدني،و إلاّ لزال تشخّصه البدنيّ بوقوع استحالات و تغيّرات كثيرة فيه،و زال بسببه تشخّص الشخص الإنسانيّ أيضا لزوال المجموع بزوال الجزء.فبقي أن يكون المدخل في بقاء تشخّص بدنه للأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث الخصوصية و في تشخّص الشخص الإنسانيّ لذلك و لبقاء تشخّص نفسه جميعا،و هو المطلوب.

و كأنّه يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)) (1).

و قد روى الشّيخ الطّبرسيّ(ره)في كتاب«الاحتجاج»عن حفص بن غياث:«قال:

شهدت المسجد الحرام و ابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (2).ما ذلك(ذنب خ)الغير؟قال:ويحك هي هي،و هي غيرها.قال:فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا.قال:نعم،أ رأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسّرها،ثمّ ردّ في ملبنها،فهي هي و هي غيرها (3).

و في هذا الحديث دلالة صريحة على ما نحن بصدد بيانه،فافهم.

ثمّ إنّه من جملة المقدّمات لهذا المطلب الذي نحن بصدد بيانه هنا،ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة،أنّ النفس الإنسانيّة لتجرّدها عن المادّة في ذاتها باقية بعد خراب البدن غير فانية،حيث أقمنا هناك الدلائل العقليّة و النقليّة عليه،و أقمنا البرهان العقليّ في الباب الثاني على تجرّدها،و ما أسلفنا لك في المقدّمة أيضا أنّ البدن الإنسانيّ على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم و قالت به الحكماء و المتكلّمون،لا ينعدم بالموت بالمرّة، حتّى لا يمكن إعادته لكونه إعادة للمعدوم،كما مرّ الدليل العقليّ على إبطالها،بل الموت عبارة عن قطع تعلّق النفس عن البدن الأوّل بهيئته،و عن تفرّق أجزاء البدن.و قد أسلفنا لك هنالك أيضا أنّ الحقّ كما دلّ عليه الدليل السّمعيّ و لا يأباه العقل،بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ببقاء النفس.

ص:167


1- -النساء(4):56. [1]
2- -نفس الآية.
3- -راجع الاحتجاج للطبرسيّ 104/2. [2]

و منها ما أسلفنا لك في المقدّمة أنّ المعاد الجسمانيّ الذي هو ضروريّ في الدين القويم معناه عود تعلّق النّفس ببدنها الأصليّ مرّة أخرى بعد جمع أجزاء البدن،و لا سيّما الأجزاء الأصليّة منه،و عود تأليف البدن كرّة بعد أولى بهيئته الأولى كما يدلّ عليه الآيات و الأخبار.

أمّا الآيات،فكقوله تعالى:

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)) . (1)

و قوله تعالى حكاية: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)) (2).

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)) (3).

و قوله تعالى: قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (4).

و قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) (5).

و أمّا الأخبار:فكما نقلنا سابقا في الباب الثاني من الشيخ الطبرسيّ(ره)في كتاب «الاحتجاج»،في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام عن مسائل و أجابه عنها:قال الزنديق:و أنّى له البعث و البدن قد بلى،و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكله سباعها و عضو بأخرى تمزّقه هوامها و عضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط؟ قال عليه السّلام:إنّ الذي أنشأه من غير شيء و صوّره من غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه.قال:أوضح لي ذلك.قال:إنّ الرّوح مقيمة في مكانها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة،و البدن يصير ترابا منه خلق و ما يقذف به

ص:168


1- -القيامة(75):3-4. [1]
2- -يس(36):78-79. [2]
3- -الشورى(42):29. [3]
4- -الجاثية(45):26. [4]
5- -النساء(4):87؛ [5]الأنعام(6):12. [6]

السّباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظة،عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها،و إنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التّراب،فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربى الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،الزبد من اللّبن إذا مخض،فيجمع تراب كلّ قالب فينتقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح،فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها،و تلج الرّوح فيها،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا (1)،الحديث.

و أقول:إنّ في هذا الحديث الشريف مع الدّلالة على أنّ المعاد الجسمانيّ يكون بجمع أجزاء البدن على مثل الهيئة الأولى و إعادة تأليفها مرّة أخرى كالأوّل،و إعادة تعلّق الروح بها كرّة بعد أولى-كما ذكرنا الحديث دليلا عليه-دلالة على أنّ الروح بعد مفارقتها عن البدن لا تفنى،بل تبقى في مكانها الذي قدّره اللّه تعالى لها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة.و كان ذلك في عالم المثال على ما دلّت عليه الأخبار الأخر كما نقلناها و ذكرنا شرحها سابقا.و كذا دلالة على أنّ البدن لا ينعدم بالموت،حتّى لا يمكن إعادته،بل إنّما ينعدم تأليفه الذي لا دخل له في تشخّص البدن و تشخص الشخص،و لا يلزم أيضا إعادته بعينه حتّى يلزم إعادة المعدوم،بل المعاد تأليف آخر مثل الأوّل.

و بالجملة يدلّ على أنّه ينعدم تأليفه و هيئته الأولى و الأجزاء الفضليّة منه،و تبقى أجزاؤه الأصليّة التي هي مع تأليف ما و هيئة ما و أجزاء فضليّة ما مناط الحكم بأنّها هو ذلك البدن الأوّل.

و قد عرفت في الباب الثاني-حيث نقلنا هذا الحديث الشّريف مع سابقه-أنّ ظاهره، و إن كان تجسّم الروح حيث تضمّن أنّها جسم رقيق،و أنّ جميع ما ذكره عليه السّلام في هذا الحديث،إنّما هو بيان حال الرّوح التي هي جسم رقيق،إلاّ أنّه يمكن تأويله بالروح

ص:169


1- -الاحتجاج 98/2. [1]

الحيوانيّة التي هي أيضا جسم رقيق،و هي ما به الارتباط بين الروح الإنسانيّة التي بيّنّا أنّها جوهر مجرّد عن المادّة و بين البدن،و هي أيضا من الأجزاء الأصليّة البدنيّة كما ذكرنا سابقا،و كذا تأويله بأنّه ببقاء ذلك الجسم الرّقيق يبقى ذلك الجوهر المجرّد أيضا الذي دلّ الدليل العقليّ و النقليّ على بقائه،و أنّه بولوج ذلك الجسم الرّقيق في البدن مرّة أخرى، يعود تعلّق ذلك الجوهر المجرّد به و بالبدن كما كان أوّلا،و به يحصل المعاد الجسمانيّ.

و بالجملة،فمضمون هذا الحديث من هذه الجهة،ليس منافيا لما نحن بصدده،بل يؤيّده.

و قد عرفت أيضا هنالك،أنّ في هذا الحديث الشريف من جهة تضمّنه لقوله عليه السّلام:«كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة الخ».

و قوله عليه السّلام:«فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور الخ»تفسير كثير من الآيات القرآنيّة،مثل قوله تعالى:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)) (1).

و قوله تعالى: وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)) (2).

و قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (3).

إلى غير ذلك من الآيات،فتذكّر.

و بعد تمهيد تلك المقدّمات،نقول:إنّك إذا علمت أنّ النفس الإنسانيّة بدنيّة محتاجة إلى بدن عنصريّ.

ص:170


1- -سبأ(34):3. [1]
2- -فاطر(35):9. [2]
3- -الأعراف(7):57. [3]

و علمت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،و أنّ تشخّصه و هذيّته بتشخّص المجموع،أي تشخّص نفسه و الأجزاء الأصليّة من بدنه.

و علمت أنّ موته عبارة عن قطع تعلّق نفسه عن بدنه.

و علمت أنّه بعد قطع التعلّق،يكون نفسه التي هي الأصل في تشخّصه و في كونه هو هو-و لذا سمّيت بالنفس،فإنّ معنى النّفس هو العين،كان ذلك الشخص هو بعينه ذلك الأمر المسمّى بالنفس فقط-باقية بعينها و بشخصها،و يكون الأجزاء الأصليّة من بدنه التي لها أيضا مدخل في تشخّص الشخص و هذيّته باقية أيضا بعينها من غير تبدّل و تغيّر فيها.

و علمت أنّ المعاد الجسمانيّ عبارة عن جمع الأجزاء المتفرقة من بدنه،و لا سيّما الأجزاء الأصليّة كهيئتها الأولى البدنيّة،و إعادة التأليف مرّة أخرى،و إعادة تعلّق النفس بها كرّة بعد أولى كما كان أوّلا،و أن لا مانع من ذلك عقلا و لا شرعا.

لا يبقى لك شكّ في أنّه يمكن تحقّق المعاد الجسمانيّ بهذا النحو،أي عود تعلّق الروح الباقية بعينها بذلك البدن الأوّل العنصريّ الباقي بالأجزاء الأصليّة،حيث إنّ نسبة قدرة القادر المختار إلى كلّ أمر ممكن في ذاته على السواء.و كما أنّ تفريق أجزاء البدن و قطع تعلّق النفس عنه أمر ممكن،كذلك جمع تلك الأجزاء المتفرّقة الباقية و إعادة التأليف لها مرّة أخرى،و إعادة تعلّق تلك النفس الباقية إلى ذلك البدن كرّة بعد أولى أمر ممكن في ذاته،و كما أنّه لا مانع من الأوّل لا مانع من الثاني،و ليس فيه إعادة معدوم حتّى تمنع،كما سبق بيانه غير مرّة،و لا فيه شبهة تناسخ لما مضى و سيجيء.

و بالجملة،فحيث لم يكن فيه مانع عقلا و لا شرعا و قد أخبر به الشرع،وجب التصديق به.

و كذلك لا يبقى لك شكّ في أنّ الشخص المعاد يوم القيامة هو بعينه الشخص المبتدأ في دار الدنيا،كما نطق به الشرع أيضا،إذ لا اختلاف بينهما أصلا فيما هو مناط التشخّص و منشأ الهذيّة،و إن كان الاختلاف بينهما واقعا فيما ليس له مدخل في ذلك،كالأجزاء الفضليّة و التأليف المجدّد الواقع ثانيا و الهيئة التركيبيّة الثانويّة.

ص:171

فإن قلت:أ لست قلت فيما تقدّم في فصل امتناع إعادة المعدوم في مسألة أنّ الزمان من المشخّصات:إنّا لو فرضنا أن صنعنا من طين مخصوص كوزا مخصوصا على مقدار و هيئة و شكل خاصّ،ثمّ كسرناه و صنعنا من تلك المادة كوزا آخر على تلك الأوصاف، نعلم بالضرورة أنّ الكائن في الزمان الثاني غير الأوّل،و لازم ذلك أن يكون البدن المعاد الثاني كما فرضته غير البدن المبتدأ،و لازم ذلك أن يكون البدن الذي فرضته جزء للشخص الإنسانيّ منتفيا حين الإعادة،و لازم ذلك أن يكون ذلك الشخص منتفيا أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء.

قلت:إنّ ما ذكرنا ثمّة مبنيّ على تغاير الكوزين بحسب التأليف و الهيئة و الصورة الخاصّة،و هو مسلّم،و ما ذكرنا هنا مبنيّ على أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن، مع فرد ما من التأليف و الهيئة لا التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة،و لا شكّ أنّه بهذا الاعتبار لا ينعدم أصلا،إذ هو لا ينفكّ في الزمانين عن فرد ما من ذلك.و انعدام تشخّصه بحسب فرد خاص من ذلك لا يقدح فيما ذكرنا،إذ هو غير معتبر فيما هو جزء من الشخص.

شبهة الآكل و المأكول مع جوابها:

و حيث عرفت ما فصّلنا،ظهر لك أنّه بما ذكرنا يحصل الجواب عن شبهة مشهورة للمنكرين للمعاد الجسمانيّ.

تقرير الشّبهة:أنّ المعاد الجسمانيّ غير ممكن،لأنّه لو أكل مثلا إنسان إنسانا حتّى صارت أجزاء بدن المأكول جزء من بدن الآكل فهذا الجزء إمّا أن لا يعاد أصلا و هو المطلوب،أو يعاد في كلّ واحد منهما و هو محال،لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه في آن واحد في شخصين متباينين،أو يعاد في أحدهما وحده فلا يكون الآخر معادا بعينه، و هذا مع إفضائه إلى الترجيح بلا مرجّح يثبت مقصودنا،و هو أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها كما زعمتم.

و تقرير الجواب:أنّ المعاد هو الأجزاء الأصليّة،و هي الباقية من أوّل العمر إلى آخره

ص:172

لا جميع الأجزاء على الإطلاق،و هذا الجزء فضل في الإنسان الآكل،فلا يجب إعادته فيه،ثمّ إن كان من الأجزاء الأصليّة للمأكول أعيد فيه و إلاّ فلا،و كان فيما نقلنا آنفا من حديث الزنديق إشارة إلى هذه الشبهة و إلى الجواب عنها،بأتمّ تقرير،فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا،عرفت تصحيح الوجه في المعاد الجسمانيّ كما نطق به الشّرع،و أنّ ذلك أمر ممكن في ذاته لا مانع فيه،و عرفت قيام الدليل العقليّ على أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص الأوّل المبتدأ بعينه نفسا و بدنا.و أنّه ينبغي أن يحمل الآيات و الأخبار الدالّة على المعاد الجسمانيّ،و أنّ المعاد يوم القيامة هو الشخص الأوّل بعينه، على ما ذكر.و أنّ ما يدلّ منها على أنّ المعاد هو مثل الشخص الأوّل أو أنّ ما في القيامة هو خلق جديد،

كقوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)) (1).

و قوله تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)) (2).

و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) (3).

و قوله تعالى: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) (4).

ينبغي حمله على أنّه مثل الأوّل في بعض الصفات و الأحوال التي لا دخل لها في تشخّص الشخص كالأجزاء الفضليّة،و التأليف الثاني،إلاّ أنّه عينه فيما هو مناط التشخّص كالنفس الباقية و الأجزاء الأصليّة الباقية.و كذا هو خلق جديد بحسب الأجزاء الفرعيّة الفضليّة و بحسب التأليف الثاني الواقع في الزمان الثاني.و قد تكلّمنا في ذلك في مقدّمة الرسالة أيضا،فتذكّر.

ص:173


1- -يس(36):81. [1]
2- -الواقعة(56):60. [2]
3- -سبأ(34):7. [3]
4- -السجدة(32):10. [4]

و بالجملة،فما ذكرناه مع قيام الدليل العقليّ عليه لا مانع منه شرعا و لا عقلا،و ما يتراءى من المانع العقليّ هنا،و هو أنّه يلزم أن يكون انتقال النفس بعد مفارقتها عن البدن الأوّل إلى البدن الثاني الذي ذكر أنّه غير الأوّل باعتبار و مثله باعتبار آخر تناسخا،فهذا المانع أيضا منتف،إذ قد عرفت فيما أسلفنا لك في مبحث إبطال التناسخ،أنّ العمدة في المحال اللازم على تقديره إنّما هو استيجاب كون بدن واحد ذا نفسين،و كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين متغايرين،و لزوم انقلاب الفعليّة قوّة محضة،و كلّ ذلك مبنيّ على أن يكون البدن الذي ينتقل إليه النّفس المستنسخة غير البدن الأوّل ذاتا حتّى يكون فيه استعداد لنفس أخرى أيضا،و يكون النّفس في ضمنه بالقوّة من جهة كمالاتها بعد كونها بالفعل،أو يلزم منه كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين موجودين بوجودين،و هذا غير لازم على تقدير كون البدن الثاني عين الأوّل ذاتا و إن كان غيره من جهة بعض الأحوال الغير المشخّصة،إذ ما هو عين البدن الأوّل ذاتا لا نسلّم أنّه يكون فيه استعداد لحدوث نفس أخرى غير الأولى،و لا نسلّم أيضا أنّه تكون النفس الأولى المتعلّقة بالقوّة من جهة كمالاتها،بل إنّها تكون بالفعل فيه كما كانت أوّلا،و لا يكون أيضا مغايرا بالذات للبدن الأوّل.و كذا لا يلزم انتفاء المرجح لتعلّقها به،لأنّ التعلّق السابق به،أي بأجزائه الأصليّة منه لم ينعدم،بل هو باق،كما أشرنا إليه سابقا و سنشير إليه،و حيث كان باقيا فلا يكون هنا تعلّق جديد حتّى يحتاج إلى المرجّح.و لو سلّم كونه تعلّقا جديدا،فالتعلّق السابق يكفي كونه مرجّحا لذلك.

و بالجملة،فالمحال اللازم على تقدير التّناسخ لا يلزم على تقدير المعاد الجسمانيّ كما قرّرناه،و إن سمّاه أحد بالتناسخ فلا مشاحّة للأسماء كما سمّاه الشرع بالبعث و الحشر و النشور و أمثال ذلك من الأسماء.

هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة.و لا يخفى عليك أنّه كما يتمّ في النّفوس الكاملة،يتمّ في النفوس الناقصة أيضا كنفوس البله و الصّبيان و المجانين،حيث إنّ المقدمات التي مبنى بيان هذا الأمر عليها مشتركة،أمّا ما سوى مقدّمة بقاء النفس و تجرّدها فظاهر اشتراكها،و أمّا هي فكذلك أيضا،لأنّك قد عرفت فيما

ص:174

سلف بيان بقاء نفوس هؤلاء الناقصين أيضا بعد خراب أبدانهم،و عرفت بيان تجرّدها أيضا،فتذكّر.

بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة

اشارة

و أمّا بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة،أي وجوب كون المعاد الجسمانيّ على النّحو الذي ذكرنا،أي بأن يعود تعلّق النّفس إلى ذلك البدن الأوّل بعينه كما ذكرنا،حتّى تكون في ضمنه موردة للثّواب و العقاب الحسّيّين،مضافا إلى ما يكون لها في ذاتها من الثّواب و العقاب العقليّين،لا إلى بدن آخر غيره بالذّات،فهو أيضا يستدعي تمهيد مقدّمات:

منها-ما قدّمناه في المقدّمة و الفصول و الأبواب المتقدّمة و ذكرناها تمهيدا لبيان الأمر الأوّل و الثاني.

و منها-ما أشرنا إليه في المقدّمة و حقّقناه في الباب الثّاني أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد لها قوى متعددة و مراتب مختلفة،باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة و تارة حيوانيّة و تارة نباتيّة من غير تعدّد و اختلاف في ذاتها بل في حالاتها و مراتبها خاصّة.

و منها-ما أسلفنا لك في الباب الثاني أيضا أنّ الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة المختلفة الصّادرة عن النفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة بالعدد إنّما تصدر عنها بتوسّط قواها البدنيّة المختلفة المتعدّدة،كالأفاعيل الكلّيّة،فإنّها أيضا تصدر عنها بتوسّط قواها العقليّة و معنى ذلك أنّ الأفاعيل الجزئيّة تصدر أوّلا و بالذّات عن تلك القوى و بتوسّطها تصدر عن النّفس.

و الحاصل أنّ للقوى و المشاعر و الحواس أيضا حظّا و نصيبا في أفعالها و إدراك مدركاتها كما للنفس،إلاّ أنّ الأوّل أوّلا و بالذات،و الثاني ثانيا و بالتوسّط.

و بالجملة،ليس صدور الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة عن تلك الذات الواحدة بدون مدخليّة شيء من القوى و الحواسّ فيه،و كذا ليس ذلك لصدورها عنها بالذات لكن

ص:175

باختلاف الآلات،بأن تكون تلك القوى و الحواسّ فيه آلة لها في أفعالها من غير أن يكون لها حظّ فيه كما حقّقناه في ذلك الباب.

و منها ما أسلفنا لك في الباب الرابع،في مبحث حدوث النّفس بحدوث البدن،أنّ الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى و النّوع،إنّما يكون تكثّرها و تمايزها بالأبدان الخاصّة،و كذا يكون تشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة.

و منها ما أسلفنا لك في ذلك الباب من إبطال التناسخ و نحوه.

و بعد تمهيد تلك المقدّمات،نقول:إنّك بعد ما أحطت بتلك المقدّمات حقّ الإحاطة و تدبّرت فيها حقّ التدبير،كأنّك يتّضح لك هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه حقّ الاتّضاح،و لا أظنّك في مرية من هذا،بل يتلخّص لك فيه براهين عقليّة دالّة عليه،كلّ واحد منها كاف في إثبات هذا المرام،و لمجموعها تأثير عظيم في إنارة المقام و إزاحة الشّكوك و الأوهام.

و من جملة تلك البراهين أن يقال:إذا كان الشخص الإنسانيّ عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن مخصوص بخصوصه-كما عرفت بيانه-وجب أن يكون تعلّق تلك النفس في القيامة بذلك البدن المخصوص بعينه،حتّى يكون ذلك الشخص المعاد هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ في الدّنيا،و يكون مصدر الطاعة و المعصية،و مورد الثواب و العقاب واحدا،فإنّه لو لم يكن و جاز تعلّق تلك النفس في القيامة ببدن آخر غير البدن الأوّل ذاتا، لم يكن ذلك الشخص هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ بل غيره،و يكون ورود الثّواب و العقاب عليه ظلما منه تعالى،تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و منها أن يقال:إذا كانت النفس الإنسانيّة بدنيّة و لم يكن البدن الذي لها حين المعاد بدنا مثاليّا،و لا بدنا فلكيّا،و لا بدنا من جرم إبداعيّ كما عرفت،بل يجب أن يكون بدنا عنصريّا،فذلك البدن العنصريّ إن كان عين البدن الأوّل كما عرفت معناه فهو المطلوب، و إن كان غيره بالذات،فيلزم التناسخ المحال.

لسنا نقول:إنّه يلزم إطلاق التناسخ عليه،حتّى يجاب بأنّ الشرع جوّز هذا النوع من التناسخ،بل نقول:إنّه حينئذ يلزم المحال اللازم على تقدير التناسخ،كما مرّ بيانه في

ص:176

مبحث إبطاله.

لا يقال:لا نسلّم لزوم ذلك المحال حينئذ،فإنّ لزومه مبنيّ على أن يكون المادّة البدنيّة التي هي مادّة البدن الذي هو غير البدن الأوّل،مستعدّة لفيضان نفس أخرى غير الأولى،حتّى يلزم إمكان اجتماع نفسين فيه،أو أن تكون النفس المستنسخة في ضمن ذلك البدن المغاير بالقوّة من جهة كمالاتها بعد أن تكون بالفعل و يلزم المحال اللازم على تقديره،و هذا غير مسلّم في المواد الأخرويّة،فإنّه إنّما هو من لوازم المواد الدنيويّة، و الموادّ الأخرويّة ليست مثلها،بل هي مخالفة في كثير من الصفات و الأحوال للمواد الدنيويّة،حتّى كأنّها مباينة لها بالذات كما مرّت الإشارة إليه،و لعلّ هذا منها.

لأنّا نقول:سلّمنا أنّ المواد الأخرويّة ليست من جنس المواد الدّنيويّة،بل هي مخالفة لها في كثير من الصفات و الأحوال،إلاّ أنّا نقول:إنّ تلك المادّة البدنيّة الأخرويّة الحاصل منها بدن آخر غير الأوّل،إن لم تكن مستعدّة لفيضان نفس عليها أصلا و لا قابلة لها قطعا، فكيف يمكن تعلّق النفس الأولى بها؟و إن كانت مستعدّة لفيضان نفس عليها،و كانت فيها قوّة قبول لها،فنسرد الكلام حينئذ و نقول في إبطاله كما نقلنا في إبطال التّناسخ في المواد البدنيّة الدنيويّة،حذو النّعل بالنّعل و القذّة بالقذّة.

و منها أن يقول:إذا كانت النفس الإنسانيّة واحدة بالذات و العدد،و كانت لها قوى و مراتب متعدّدة،باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة،و تارة حيوانيّة،و تارة نباتيّة،كما عرفت.و لا سترة في أنّ القوّة الإنسانيّة و إن كانت غير بدنيّة،إلاّ أنّ الحيوانيّة و النباتيّة بدنيّتان،أي حصولهما لها إنّما هو في ضمن بدن خاصّ بخصوصه لما عرفت أنّ ما هو جزء للشّخص الإنسانيّ و له مدخل في شخص نفسه الخاصّة و تميّزها و حصول المراتب و القوى لها إنّما هو البدن الخاصّ بخصوصه،فإذا كانت تلك النفس يوم القيامة متعلّقة ببدن آخر غير الأوّل،فإمّا أن لا تكون تلك القوى و المراتب البدنيّة حاصلة لتلك النفس أصلا فهذا محال،لأنّه يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى بل غيرها.

و إمّا أن تكون تلك القوى و المراتب حاصلة لها حين البعث،فهذا أيضا محال،لأنّ تلك القوى و المراتب إنّما هما قوى و مراتب خاصّة متخصّصة ببدن مخصوص و هيكل

ص:177

معيّن مشخّص،ليستا مراتب و قوى مطلقة حاصلة في ضمن بدن ما أو بدن مطلق.و على هذا أيضا يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى،بل غيرها،لعدم حصول تلك المراتب و القوى الخاصّة التي لها مدخل في تميّز تلك النفس و تحصّلها و تقوّمها و تخصّصها و تشخّصها لها حينئذ.و على التّقديرين فيلزم أن يكون وقوع الثّواب و العقاب على تلك النفس المتعلّقة ببدن غير الأوّل ظلما.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و منها،أن يقال:إذا كانت النفس الإنسانيّة تفعل الأفاعيل المختلفة الجزئيّة بتوسّط القوى و المشاعر و الحواسّ المختلفة البدنيّة التي تميّزها و تعيّنها بمواد خاصّة بدنيّة و آلات مخصوصة هي أجزاء البدن المخصوص المعيّن و لها دخل في تشخّص النفس الإنسانيّة أيضا،و كانت لتلك القوى أيضا حظّ و نصيب في تلك الأفعال كما للنفس بتوسّطها كما عرفت،و لا شكّ أنّ في الآخرة سعادة و شقاوة حسّيّتين كالعقليّتين،و لا شكّ أيضا أنّ الحكمة المتعالية تقتضي أن تكون لتلك الحواسّ و القوى حظّ في الثّواب و العقاب الحسّيّين اللذين هما بإزاء تلك الأفعال الجزئيّة التي لتلك القوى حظّ فيها،كما أنّ الحكمة تقتضي أن يكون للنفس بتوسّط تلك القوى حظّ في إدراك الثواب و العقاب الحسّيّين،فإذا أعيدت تلك النفس في القيامة في ضمن بدن آخر غير الأوّل،لم تكن تلك القوى و الحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير عين الأولى لكونها متعيّنة و متخصّصة بمواد بدنيّة و آلات بدنيّة هي أجزاء البدن الأوّل المخصوص بخصوصه، و المفروض عدمها،بل هي حواسّ و قوى أخرى،فحينئذ يلزم مضافا إلى لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة بعينها النفس المبتداة-حيث عرفت أنّ تميّزها و تخصّصها و تعيّنها إنّما هو بتلك القوى البدنيّة الأولى التي هي منتفية عنها في ضمن البدن الثّاني-أن يكون ورود الثواب و العقاب عليها حينئذ منافيا للحكمة،بل ظلما كما ذكرنا.و أن يكون إدراك اللذّات و الآلام الحسّيّة بتلك القوى و الحواسّ الأخر منافيا للحكمة أيضا،إذ ما كان فاعلا لتلك الأفعال التي هي منشأ للثّواب و العقاب،أي القوى و الحواسّ الأولى لم يقع عليه الثواب و العقاب،و ما لم يفعلها أي الحواسّ و القوى الأخرى وقع عليه الثواب و العقاب.

ص:178

و كذا يلزم أن يكون إدراك النفس للثواب و العقاب الحسّيّين بتوسّط تلك القوى الأخرى منافيا للحكمة أيضا،إذ الواسطة في إدراك النفس لها غير الواسطة في فعل الأفعال التي هي منشأ للثواب و العقاب.

و التفصيل أن يقال:إذا أعيدت النفس في الآخرة في ضمن البدن الآخر المغاير للأوّل فهذا محال من وجوه:

لأنّه مع لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة عين النفس الأولى المبتداة كما عرفت، يلزم منه محالات اخر أيضا،لأنّه حينئذ إمّا أن لا تكون للنفس في البدن الثّاني المغاير قوى و مشاعر حسّيّة أصلا فهذا محال،لأنّه مناف للحكمة،إذ التّعلق بالبدن العنصريّ -كما هو المفروض-إنّما هو لأجل أن تكون لها قوى حسّيّة بدنيّة.

و إمّا أن تكون لها قوى حسيّة،فحينئذ،إمّا أن لا تكون للنفس إدراك للذّات و الآلام الحسّيّتين أصلا،فهذا محال،لأنّه خلاف ما نطق به الشرع و خلاف ما دلّ عليه العقل من أنّ القوى الحسّيّة في الآخرة إنّما تكون لأجل إدراك اللذّات و الآلام الحسّيّتين،كما أنّها في الدنيا إنّما تكون لأجل الأفعال الجزئيّة الحسّيّة.

و إمّا أن تكون للنفس إدراك للذّات و الآلام الحسّيّتين،و حينئذ فإمّا أن يكون المدرك لهما ذات النفس بذاتها من غير مدخليّة شيء فيه أصلا،فهذا محال،لأنّه قد تقرّر عندهم كما عرفت سابقا أنّ النفس لا تدرك الجزئيّات بذاتها.و أيضا يلزم أن يكون وجود تلك القوى و الحواس معطّلا محضا،و قد تقرّر عندهم أنّه لا معطّل في الوجود.

و إمّا أن يكون إدراك النفس لتلك اللذّات و الآلام الحسّيّتين بمدخليّة تلك القوى و الحواس،على أن تكون تلك القوى مجرّد آلة من غير أن يكون لها حظّ في الإدراك،فهذا محال،إذ قد أثبتنا في الأبواب السّابقة-كما أشرنا إليه آنفا-أنّ تلك الحواسّ و القوى واسطة في ذلك،و لها حظّ و نصيب فيه كما للنفس،إلاّ أنّ ما للنفس بتوسّط تلك القوى و ما لتلك القوى بالذات لا بالواسطة.

و إمّا أن يكون إدراك النفس لهما بتوسّط تلك القوى كما هو الحقّ،فحينئذ نقول:إنّ تلك القوى و الحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير لمّا كانت غير الأولى

ص:179

الحاصلة لها في ضمن البدن الأوّل،لأنّ تخصّص كلّ قوة من تلك القوى و تميّزها و تعيّنها إنّما هو بمادة بدنيّة مشخّصة متخصّصة و بآلة بدنيّة متعيّنة،و المفروض أنّ البدن الثاني غير البدن الأوّل ذاتا،فتكون القوى الثانيّة أيضا مغايرة للقوى الأولى ذاتا،كان إدراك القوى الثّانية للذّات و الآلام الحسّيّتين الذي هو بالنسبة إليها ثواب و عقاب،و عدم إدراك القوى الأولى لذلك منافيا للحكمة بل ظلما،لأنّ ما فعلت الأفعال التي هي منشأ للثواب و العقاب لم يرد عليها ثواب و لا عقاب،و ما لم تفعل ورد عليها ذلك.

و أيضا يلزم أن يكون إدراك النفس بتوسّط القوى الثانيّة للثواب و العقاب الحسّيّين منافيا للحكمة أيضا،كما عرفت.

فبقي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه،حتّى لا يلزم تلك المحالات،و هو المطلوب.

و لذلك قال بعض أهل التحقيق (1):«إنّ الحكمة تقتضي بعث الإنسان لجميع قواه و جوارحه،و إنّ لكلّ قوّة من قوى النفس كمالا يخصّها و لذّة و ألما يناسبها،و بحسب كلّ ما كسبته يلزم لها في الطبيعة الجزاء كما قرّرته الحكماء من إثبات الغايات الطبيعيّة لجميع المبادئ و القوى عالية كانت أم سافلة وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)) و إنّ من تحقّق هذا تحقّق لزوم عود الكلّ و لم يشتبه عليه ذلك،و هذا مقتضى الحكمة و الوفاء بالوعد و الوعيد و لزوم الجزاء على ما يراه الحكماء من لزوم المكافاة في الطبيعة و المجازاة،لامتناع ساكن في الخليفة،معطّل في الطبيعة»انتهى كلامه.

و منها،أن يقال:إذا كانت الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى،إنّما يكون تكثّرها و تمايزها بالأبدان الخاصّة،و تشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة،فلو كانت في القيامة تعاد في ضمن بدن مغاير للأوّل ذاتا لم يكن تلك النفس تلك النفس الأولى المبتداة الفاعلة للخيرات و الشّرور،فلم يكن ورود الثواب و العقاب عليها من مقتضى الحكمة،بل منافيا لها و ظلما.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ص:180


1- -هو صدر المتألّهين في الشواهد الربوبيّة277/-278. [1]

و ممّا قرّرنا في ضمن تلك البراهين،ظهر لك فساد ما قيل من أنّ المدرك للثواب و العقاب حقيقة إنّما هو النفس التي هي باقية بحالها و البدن آلة لها من غير أن يكون له دخل فيه أصلا،فلا مانع من أن تعود في النشأة الأخرويّة في ضمن بدن آخر غير الأوّل، فتبصّر.

ثمّ إنّه من جملة الشواهد على هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه،أنّ النظر في لفظ «المعاد»الذي نطق به الشرع و صدّق به العقلاء يقتضي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه،لأنّك قد عرفت فيما ذكرنا في المقدمة أنّ المعنى الحقيقيّ لهذه اللفظة هو أن يكون قد وجد أوّلا شيء فرض هو متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال عنه ذلك الوجود و تلك الصفة و الحالة،ثمّ وجد بعد ذلك على ذلك الوجود الأوّل و الحالة و الصفة المخصوصتين الأوليين.

و قد عرفت فيما تلوناه عليك أنّ النفس باقية بذاتها و كذلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة، و إنّما الزّائل هو تعلّق النفس بذلك البدن الأوّل بهيئته،فينبغي أن يكون متعلّق الإعادة هو التعلّق ثانيا بذلك البدن الأوّل بعينه كما عرفت معناه،لا التعلّق ببدن مطلق أو بدن ما غير الأوّل ذاتا،لأنّه لم يزل عنها حتّى يعاد.

و هذا أيضا من المؤيّدات للمطلوب،و إن لم يكن دليلا عقليّا عليه.و بما ذكرناه من البراهين و قرّرناه من الدلائل تمّ بيان الأمر الثالث أيضا من تلك الأمور الثلاثة.

و لا يخفى عليك أنّ هذا البيان أيضا غير خاصّ ببعض النفوس الإنسانيّة دون بعض، بل يجري في جميع النفوس الإنسانيّة كاملة كانت أم ناقصة أم متوسّطة،فإنّ المقدّمات التي بناء هذا البيان عليها مشتركة في الكلّ لا اختصاص لها ببعض دون بعض،كما يظهر بالتأمّل فيها.

و لا يخفى أيضا أنّه بما ذكرنا،كما يتمّ بيان جوب عود النفوس إلى البدن الأوّل بعينه، كذلك يتمّ به بيان وجوب وقوع الثّواب و العقاب الحسّيّين للنفس في ضمنه،أي لذلك الشخص بعينه،مضافا إلى وقوع الثّواب و العقاب العقليّين اللذين هما لتلك النفس في ذاتها،لأنّه إذا وجب عود النفس إلى البدن الأوّل و الحال أنّه يكون لها في ضمنه آلات

ص:181

بدنيّة و قوى حسّيّة البتّة،و أنّ تلك الآلات و القوى لا تكون معطّلة البتة،بل هي لأجل إدراك الثواب و العقاب الحسّيّين،وجب أن يكون لها في ضمنه ذلك البتّة.

و بالجملة،فيثبت بما بيّنّاه ما هو المقصود،أي وجوب عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه البتّة،و كذا وجوب وقوع الثواب و العقاب الحسّيّين البتة كالعقليّتين،و إن كان بيان تفاصيل الثّواب و العقاب الحسّيّين و وقوعهما على كيفيّات مخصوصة موكولا إلى الشرع الشريف،إذ هو مبيّن فيه مفصّلا،و لا استقلال للعقل في ذلك.

شكّ مع جوابه

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ ينبغي التعرّض له و لجوابه.

بيان الشكّ:أنّه لقائل أن يقول:إنّ ما ذكرته من البراهين على هذا المطلوب لو كان صحيحا لأشكل عليك الأمر في حال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ،إذ عندك أنّ النفس في ذلك العالم هي بعينها تلك النفس الأولى،و أنها تكون فيه موردة للثواب و العقاب الحسّيّين،كما أنّها تكون موردة للثواب و العقاب العقليّين،و الحال أنّها في ذلك العالم غير متعلّقة أصلا بالبدن الأوّل الذي قلت أنّه جزء للشخص و له مدخل في تشخّص الشخص و تشخّص النفس،و اذ ليست هي متعلّقة فيه به بل متعلّقة ببدن مثاليّ هو غير البدن العنصريّ الأوّل،فلا تكون لها فيه ذلك التشخّص،و لا تلك القوى و المراتب البدنيّة، و لا الحواس و المشاعر البدنيّة،و لا الهيئات البدنيّة التي ادّعيت أن لها دخلا في تشخّص النفس و تميّزها.

فحينئذ يردّ عليك جميع ما أوردته من الإشكالات على تقدير القول بعود النفس في القيامة في ضمن بدن عنصريّ مغاير للبدن الأوّل سواء بسواء،و يجب عليك التفصّي من هذه الإشكالات،إمّا المصير إلى أنّ البدن العنصريّ الخاصّ الأوّل ليس له دخل في تشخّص النفس و تميّزها أصلا،و لا هو جزء للشخص الإنسانيّ،و أنّ المستحقّ لوصول الثواب و العقاب إليه هو النفس وحدها،و البدن لا مدخل له في ذلك،بل هو كالآلة كما قاله

ص:182

بعضهم،و هذا خلاف ما قرّرته و بنيت عليه إثبات المعاد الجسمانيّ،و أمّا المصير إلى أنّ محلّ الثواب و العقاب يجوز أن يكون غير محلّ الطّاعة و المعصية،و هذا أيضا-مع كونه خلاف ما ذكرته-باطل قطعا لكونه ظلما.و بالجملة،فما تقول في جواب هذا الشكّ؟و ما وجه التفصّي عنه؟

و أمّا بيان الجواب عن هذا الشكّ،فبأن يقال:إنّا نختار أنّ النفس في عالم البرزخ هي بعينها تلك النفس في النشأة الدنيويّة.و نقول:إنّ ما ذكرت من أنّه ينقطع فيه تعلّقها عن البدن الأوّل أصلا،إن اردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث مادّته و صورته البدنيّة جميعا، فذلك غير مسلّم،لأنّك قد عرفت فيما تلونا عليك في باب حدوث النفس بحدوث البدن، و كذا في باب مائيّة النفس،أنّ للنفس نوعين من التعلّق بالبدن:أحدهما من حيث الصورة البدنيّة،و الآخر من حيث المادّة،و أنّه بالموت و إن كان يزول تعلّقها به من الجهة الأولى، لكنّه لا يزول تعلّقها به من الجهة الثانيّة،و أنّه بذلك يظهر سرّ زيارة القبور و إجابة الدعوات في المقابر.

و إن أردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث الصورة البدنيّة فقط و بقاء تعلّقها به من حيث المادّة،و لا سيّما من حيث الأجزاء الأصليّة فذلك مسلّم،إلاّ أنّه لا يلزم منه زوال تشخّص النفس و تميّزها،لجواز أن يكون تشخّصها باقيا من جهة بقاء تلك الأجزاء الأصليّة و بقاء تعلّقها بها كما قرّرنا ذلك لك فيما تقدم،و أن يكون لها من حيث تعلّقها بتلك الأجزاء الأصليّة جميع المراتب و القوى و المشاعر و الحواسّ التي قلنا إنّ لها مدخلا في تمايز النفوس و خصوصيّاتها،من حيث إنّ تلك الأجزاء الأصليّة بعضها أجزاء للدماغ،و بعضها للأعضاء الرئيسة الأخر،مثل القلب و الكبد،و بعضها لجميع الأجزاء، فيجوز أن يكون لها من حيث التعلّق بكلّ جزء من تلك الأجزاء نوع مرتبة و نوع قوّة منوطة بذلك مرتبطة به،و أن يكون بذلك لم يزل تشخّص النفس،و لا بطل شيء من تلك المراتب و لا فات عنها شيء من تلك القوى،بل كانت هذه باقية على ما كانت أوّلا من حيث تعلّقها بالبدن صورة و مادّة،إلاّ أنّ النفس لمّا كانت بدنيّة تحتاج في أفعالها الجزئيّة و إدراكاتها الحسّيّة إلى بدن،و كان قد بطل بدنها الأوّل من حيث الصورة،و زال تعلّقها عنه

ص:183

من هذه الجهة،اقتضت الحكمة المتعالية الإلهيّة تعلّقها حينئذ ببدن مثاليّ يماثل البدن الأوّل في جميع الصفات و الحالات و القوى و المشاعر إلاّ ما شذّ منها،و يكون ذلك البدن المثاليّ ينوب مناب البدن الأوّل العنصريّ في كونه آلة و واسطة في صدور تلك الأفعال الجزئيّة و الإدراكات الحسّيّة عنها،و لا يكون في تعلّقها به لزوم محال كالتناسخ و نحوه، على ما عرفت بيانه سابقا،سواء قلنا بحدوث البدن المثاليّ بعد خراب البدن العنصريّ الأوّل كما هو الاحتمال فيحدث تعلّقها به حينئذ،أو قلنا بكونه موجودا معه في النشأة الدنيويّة أيضا،و هو الأظهر كما دلّ عليه بعض الشواهد المتقدّمة،فيظهر تعلّقها به و يغلب و يكثر.و بالجملة أن تصير متعلّقة به،و يكون لها في ضمنه تلك الأفعال و الآثار و الإدراكات،كما في ضمن البدن العنصريّ،فإنّك قد عرفت فيما تلوناه عليك سابقا أنّ للبدن المثاليّ جميع الحواس و المشاعر و القوى الحيوانيّة،و أنّ للنفس في ضمنه جميع تلك القوى مضافا إلى القوّة العقليّة التي هي لها بذاتها.

نعم،القوة النباتية و إن لم تكن لها في ضمنه،إلاّ أنّ ذلك لعدم قبول المادّة المثاليّة لتلك القوّة،حيث إنّ التّنمية و التّغذية و التّوليد التي هي من لوازم القوّة النباتيّة،إنّما هي من خواصّ المادّة الجسمانيّة العنصريّة لا غير،فكان النقص من جهة القابل لا الفاعل.

و بالجملة،لا يلزم من تعلّقها ببدن مثاليّ مع التّعلّق بتلك الأجزاء الأصليّة زوال تشخّص النّفس و لا بطلان قواها و مراتبها،فلا إشكال.

فإن قلت:كيف يكون الشيء الواحد في زمان واحد متعلّقا بأمرين مختلفين؟

قلت:لا محذور في ذلك فيما نحن فيه،فإنّك قد ظهر لك فيما مرّ أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة التي هي ذات مجرّدة عن المادّة في ذاتها بأمر من الأمور و بمادّة من المواد، ليس على سبيل الانطباع في المادّة،حتّى لا يمكن تعلّقها بأكثر من مادّة،بل على سبيل التصرّف و التدبير،و تعلّقها كذلك يجوز بأكثر من واحد،و مع ذلك فالبدن المثاليّ ظلّ و شبح للبدن العنصريّ موجود بالعرض لوجوده،بل لوجود أجزائه الأصليّة،فهو ليس بمنفصل الذات و مباين القوام عن البدن العنصريّ،حتّى لا يجوز تعلّقها به مع التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة.و يرد عليه ما يرد على تقدير تعلّقها ببدنين مختلفين،

ص:184

فحينئذ يجوز تعلّقها بمادّة بدنيّة عنصريّة،و ببدن مثاليّ واحد أو اكثر في زمان واحد،كما دلّ عليه الشرع،و لا امتناع فيه عقلا أيضا.

فإن قلت:على ما ذكرت،و إن لم يلزم بطلان تشخّص النفس و لا فوات شيء من قواها و مراتبها البدنيّة،إلاّ أنّه يلزم منه انعدام ذلك الشخص الإنسانيّ الذي ذكرت أنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة و البدن المخصوص،فإنّه لا سترة أنّه بانعدام التأليف البدنيّ و الهيئة البدنيّة و زوال صورة البدن رأسا ينعدم البدن و لا يبقى البدن بدنا من حيث هو بدن كما اعترفت سابقا،و إن كان يبقى أجزاؤه الأصليّة أو مادّته.و قد اعترفت أيضا أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن الخاصّ من حيث صورته و مادّته جميعا،فحيث كان ذلك منعدما كان الشخص الإنساني الذي هو جزؤه منعدما أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء،و لا يجدي في بقائه بقاء الجزء الآخر أعني النفس،فإذا كان الشخص الإنسانيّ منعدما،فكيف يكون نفسه وحدها موردة للثواب و العقاب الحسّيّين في عالم البرزخ؟مع أنّ الحكمة-كما اعترفت به أيضا-تقتضي أن يكون مورد الثواب و العقاب هو ذلك الشخص الإنسانيّ بعينه بكلا جزئيه لا أحد جزئيه وحده،و هل هذا إلاّ القول بكون مورد الثواب و العقاب هو النفس وحدها و كون البدن آلة لها،كما قال به بعضهم،و هل هذا إلاّ نقض بنيان ما أصّلته لإثبات المعاد الجسمانيّ؟

قلت:سلّمنا أنّ ذلك الشخص الإنسانيّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ ينعدم حينئذ بانعدام بدنه بهيئته،لكنّا لا نسلّم انعدام الشخص الإنسانيّ رأسا حينئذ،لأنّك قد عرفت ممّا قدّمناه لك،أن البدن المثاليّ ظلّ و شبح للبدن العنصريّ و موجود بالعرض لوجود العنصريّ،بل لوجود أجزائه الأصليّة،أي أنّه بوجود البدن العنصريّ و أجزائه الأصليّة بالذات،و المثاليّ يوجد بالعرض،كوجود لوازم الماهيّات تبعا للماهيّات.و أنّ تعلق النفس بالبدن العنصريّ و بالمثاليّ تعلّق واحد،إلاّ أنّ تعلّقها بالعنصريّ بالذات و بالمثاليّ بالعرض.و أنّه كما يجوز أن يبقى تعلّق النفس بالأجزاء الأصليّة من البدن العنصريّ تعلّقا بالذات،يجوز أن يبقى تعلّقها بالبدن المثاليّ الذي لا يفسد،و هو ظلّها و شبحها و موجود بتبعيّتها تعلّقا بالعرض.

ص:185

فحينئذ نقول:إنّ الشخص الإنسانيّ و إن كان في الظاهر عبارة عن النفس الخاصّة و البدن الخاصّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ،لكنّه في الباطن و عند النّظر الدّقيق عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن عنصريّ يتبعه بدن مثاليّ هو ظلّ و شبح له و موجود بوجوده،فحينئذ إن اعتبرت النفس الإنسانيّة مع البدن الخاصّ العنصريّ وحده، يلاحظ هناك شخص إنسانيّ لحميّ عظميّ.و إن اعتبرتها مع البدن المثاليّ وحده يلاحظ هنا شخص آخر مثاليّ إلاّ أنّ الشخصين لا تغاير بينهما بالحقيقة،و لا انفصال بينهما بالذات،إذ النّفس المتعلّقة بالبدنين واحدة بالشخص،و كذا تعلّقها بهما تعلّق واحد، و البدن المثاليّ ظلّ و شبح للعنصريّ،و تعلّق النفس به غير منفرد عن التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة،بل في ضمنه و بتبعيّته،فأين الاختلاف بالحقيقة؟

بل إنّما هو بمجرّد الاعتبار،فإنّ أحد البدنين ظلّ و شبح،و الآخر ذو ظلّ و ذو شبح.

فعلى هذا فالشّخصان واحد بالحقيقة،و الشخص الإنسانيّ في الظاهر إنسان لحميّ عظميّ رباطيّ يتطرّق إليه باعتبار بدنه فناء و زوال،و في الباطن إنسان مثاليّ،لا يتطرّق إليه ذلك.

و كأنّ هذا معنى قول بعض أساطين الحكمة:«إنّ في باطن كلّ إنسان و في أهابه حيوانا إنسانيّا بجميع أعضائه و حواسّه و قواه،و هو موجود الآن،و لا يموت بموت البدن العنصريّ اللحميّ». (1)

و بالجملة،فكلّ من الشخصين عين الآخر باعتبار،و إن كان غيره باعتبار آخر،و كما أنّه في حال بقاء الهيئة التركيبيّة البدنيّة،و تعلّق النفس بالبدن العنصريّ بهيئته بالذات و بالمثاليّ بالعرض،يجوز أن يغلب تعلّقها بالبدن المثاليّ و ينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ بأفعال و خواصّ و إدراكات كما في المنام بالنسبة إلى الكلّ و في التيقّظ أيضا بالنسبة إلى بعض النفوس الفاضلة الكاملة،حيث عرفت فيما حقّقناه لك في مبحث تحقيق عالم المثال،أنّ ما يراه الشخص الإنسانيّ من الرؤيا في المنام إنّما هو من جنس عالم المثال،و ليس من مخترعات الخيال و المتخيّلة،و إنّ مدرك ذلك إنّما هو النّفس

ص:186


1- -القائل هو صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبيّة288/. [1]

الإنسانيّة بتوسّط آلاته و قواه المثاليّة لا بالذّات من غير توسّط آلة و قوّة،حيث إنّ النّفس لا تدرك الجزئيّات المحسوسة المادّيّة بذاتها من غير توسّط القوى و الآلات.

و بالجملة،أنّ المدرك لتلك الرؤيا التي هي أمور مثاليّة هو النفس بتوسّط القوى و الآلات المثاليّة،و في ضمن البدن المثاليّ أي الشخص الإنسانيّ المثاليّ.و مع ذلك يحكم العقل حكما صريحا غير مشوب بريبة،أنّ المدرك لذلك هو بعينه الشخص الإنسانيّ الذي هو عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن عنصريّ لا شخص آخر غيره،كما أنّه في حال اليقظة أيضا إذا انفرد البدن المثاليّ و الشخص المثاليّ بأفعال و خواصّ،يكون الحال كذلك و يعلم ذلك بالمقايسة.كذلك يجوز أن يكون في حال خراب الهيئة التركيبيّة البدنيّة،و بقاء الأجزاء الأصليّة من البدن،و غلبة تعلّق النفس بالبدن المثاليّ الذي هو موجود بالعرض بوجود الأجزاء الأصليّة و باق ببقائه-كما في عالم البرزخ-ينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ،أي النّفس في ضمن البدن المثاليّ و بتوسّط القوى و الآلات المثالية بإدراك واردات عليه من المدركات الجزئيّة الحسّيّة الملذّة أو المؤلمة كما نطق به الشرع،و أن يكون هذا الشخص بعينه هو الشخص الإنسانيّ الذي صدر عنه الخيرات أو الشرور في النشأة الدنيويّة بلا مغايرة بينهما ذاتا و حقيقة،بل إنّه يحكم به العقل أيضا كما في الصورة الأولى.و كأنّ الحكمة المتعالية الإلهيّة اقتضت أن يكون الشخص الإنسانيّ الذي قلنا إنّه عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن مخصوص عنصريّ،يتبعه بدن مثاليّ موجود بوجوده تعلّقا واحدا،و صدر عنه في النشأة الدنيويّة التي هي دار التكليف خيرات أو شرور مجزيّا بأعماله و أفعاله إمّا مثابا أو معاقبا بعد قطع تعلّق نفسه عن بدنه العنصريّ بهيئته و خراب بدنه ذلك،بأن يكون في النشأة البرزخيّة المتوسّطة مجزيّا في الأكثر في ضمن البدن المثاليّ بالثواب أو العقاب الحسّيّين المثاليّين،مضافا إلى ما يكون لنفسه من السّعادة و الشّقاوة العقليّتين،و كذا مضافا إلى ما يكون لذلك الشخص من الثواب أو العقاب الحسّيّين في ضمن البدن العنصريّ أيضا إذا لم يبطل تركيبه،أو بطل أيضا و ذلك كما في الضغطة و المساءلة،حيث إنّه قد دلّ الشّرع كما ذكرناه سابقا على أنّه في الحالتين بعد تعلّق النفس بإذن اللّه تعالى بذلك البدن العنصريّ بهيئته مرّة أخرى تعلّقا

ص:187

ما بقدر زمان الضغطة و المساءلة بعد قطع تعلّقها عنه،سواء كان ذلك البدن العنصريّ قد بقي بهيئته و لم يزل بعد هيئة التركيبيّة،أو زالت و تفرّقت أجزاؤه ثمّ أعيدت بإذن اللّه تعالى بتلك الهيئة في ذلك.

و بالجملة،يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة المتعالية المقدّسة،جزاء الشخص الإنسانيّ المثاليّ في عالم البرزخ بأنواع المثوبات أو العقوبات المثاليّة البرزخيّة كما ورد به الشرع،ثمّ إنّه إذا حان بمشيّة اللّه تعالى وقت المعاد و يوم نفخ الصور،أي (1)أن يجزيه اللّه تعالى في ضمن بدنه العنصريّ،يثيبه أو يعاقبه بالثواب أو العقاب الحسيّين الماديّين الجسمانيّين الأخرويّين اللذين لا يكونان للشخص الإنسانيّ إلاّ في ضمن البدن العنصريّ الجسمانيّ المادّيّ الأخرويّ،يكون هناك المعاد على النهج الذي قرّرناه و أقمنا الدليل العقليّ عليه،كما نطق به الشرع أيضا،و يكون لذلك الشخص ثواب و عقاب حسّيّان ماديّان مضافا إلى الثواب و العقاب العقليّين،سواء قلنا بأنّه مع عود البدن الأصليّ العنصريّ في النشأة الأخرويّة و عود تعلّق النّفس به بهيئته،يكون معه البدن المثاليّ أيضا، حيث إنّه ظلّ و شبح للبدن العنصريّ،و الظلّ لا ينفكّ عن ذي الظلّ،و لا دليل أيضا على فنائه،أو قلنا بأنّ البدن المثاليّ لا يكون هناك،بل ينعدم لأسباب لا نعلمها.

و الحاصل،أنّه يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة الإلهيّة ما فصّلنا،و أن يكون الشخص الإنسانيّ في الحالات كلّها و في النشئات الثلاث بأجمعها-أي النشأة الدنيويّة و البرزخيّة و الأخرويّة-واحدا بالحقيقة و الذات نفسا و بدنا،و إن كان يعرض له في تلك النشئات أمور و حالات لا دخل لها في تشخّصه،و لا ينافي تبدّلها و تغيّرها لتميّزه و تخصّصه الذاتيّين،و إن كان لها مدخل في تغايره الاعتباريّ،و كأنّه يشير إلى هذه الجملة قوله تعالى:

وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ* فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ

ص:188


1- -الظاهر زيادة كلمة«أي».

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ)) (1).

و إذا عرفت ذلك و تحقّقته حقّ التحقّق،علمت أنّه لا إشكال هنا،لا لزوم نقض بنيان ما أصّلناه لإثبات المعاد الجسمانيّ،و لا لزوم محال آخر،و لا أظنّك في مرية من ذلك إن كنت مستبصرا طالبا بطريق السّداد و منهج الرشاد،و هذا الذي ذكرناه في هذا المطلب بطوله،إنّما هو بيان إثبات أصل المعاد الجسمانيّ لوقوع الثواب أو العقاب الحسّيّين، و إقامة الدّليل العقليّ عليه كما نطق به الشّرع.

و أمّا بيان تفاصيل الثّواب و العقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين في عالم الآخرة و في عالم البرزخ،و بيان وقوعهما على كيفيّات مخصوصة،و كذا بيان تفاصيل الأمور الحسّيّة الواقعة في النشأتين،فموكول إلى الشرع الشريف إذ ذاك مبيّن فيه مفصّلا.

و ليكن هذا آخر كلامنا في هذا المطلب الأسنى الذي نحن بصدده في هذا الباب،بل هو غرضنا الأصليّ من وضع هذا الكتاب،و علمت أنّه اعترفت جماهير العلماء بالعجز عن إقامة الدليل العقليّ عليه،معلّلين بأنّه لا استقلال للعقل فيه.و كذلك هذا البيان الذي ذكرناه و بيّناه بهذا التفصيل،و لا سيّما في بيان الأمر الثالث،إنّما هو بقدر فهمنا القاصر، و المظنون أنّه لم يسبقنا أحد فيه،و إن وافقنا كثير من العلماء في كثير ممّا ذكرناه في بيان الأمور الأوّلة،فإن أصبنا في ذلك فلنحمد اللّه عزّ و جلّ على توفيقنا له،و إن أخطأنا فيه فلنسأل اللّه تعالى العفو عن خطيئاتنا،إنّه وليّ ذلك.

دقيقة

و هاهنا دقيقة سبقت منا إشارة ما إليها و هي أنّ ما اعترف به جمهور العلماء بالعجز عنه،و بعدم استقلال العقل فيه،إن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدّليل العقليّ على أصل المعاد الجسمانيّ و أصل وقوع الثّواب أو العقاب الحسّيّين كما نطق به الشرع،فقد عرفت أنّه ليس كذلك،و إن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدليل العقليّ على وقوع الثواب

ص:189


1- -المؤمنون(23):100-104. [1]

و العقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين على كيفيّات مخصوصة نطق بها الشّرع،فله وجه.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال،و إليه المعاد و المآل.

تذنيب في حشر غير الإنسان

قد ورد في الشرع آيات و أخبار في حشر غير الإنسان؛أمّا في شأن الجنّ و الشّياطين فكقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)) (1)

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)) (2)

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ)) (3)الآية.

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) (4).

و قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)) (5)

و أمّا في شأن بعض الحيوانات غير الإنسان

فكقوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (6)

و أمّا في شأن كلّها

كقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) (7)

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)) (8).

ص:190


1- -الأنعام(6):22؛ [1]يونس(10):28. [2]
2- -الأنعام(6):128. [3]
3- -الأعراف(7):179. [4]
4- -الصافّات(37):158. [5]
5- -مريم(19):68. [6]
6- -التكوير(81):5. [7]
7- -الأنعام(6):38. [8]
8- -الشورى(42):29. [9]

و أمّا في شأن ما جعله المشركون شركاء للّه تعالى، اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)) (1).

و قوله تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)) . (2)

و قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ)) (3).

و أمّا في شأن جميع من في السموات و من في الأرض،حتّى الملائكة

فكقوله تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ* وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) (4).

و أمّا في شأن الخلق أجمع

فكقوله تعالى: اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (5).

و قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (6)

و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)) (7).

و قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

ص:191


1- -الصافّات(37):22-24. [1]
2- -سبأ(34):40 و 41. [2]
3- -الأنبياء(21):98 و 99. [3]
4- -الزمر(39):68-70. [4]
5- -الروم(30):11. [5]
6- -الروم(30):27. [6]
7- -العنكبوت(29):19. [7]

إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (1)

و قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (2)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول:أمّا ما ورد في حشر الشّياطين و الجنّ،لو حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء من أهل الإسلام،فيمكن بيان حشرهم كما بيّنّاه في حشر الإنسان سواء بسواء،إذ قلنا إنّ لهم أيضا نفوسا مجرّدة و أبدانا عنصريّة،و إن كانت ناريّة كما هو ظاهر الشّرع، و إنّهم أيضا إذا طرأ عليهم الموت تبقى نفوسهم المجرّدة و كذا الأجزاء الأصليّة من أبدانهم الناريّة،و إنّهم حين المعاد يعود تعلّق نفوسهم مرّة أخرى بأبدانهم بعد جمع أجزائها و إعادة تأليفها كهيئته الأولى كرّة بعد أولى،و يكون الحكمة في حشرهم إيصال جزاء أعمالهم إليهم كما في الإنسان.

و أمّا ما ورد في حشر الحيوانات غير الانسان،فهو كأنّه مختلف فيه بين العلماء، حيث لا يظهر منهم إطباقهم عليه،بل قد صرّح بعضهم-كصدر الأفاضل في شواهد الربوبيّة-«بأنّه قد وقع الاختلاف في حشر نفوس الحيوانات في القيامة،و بأنّ الروايات مختلفة في ذلك» (3).

و كذلك ما رأينا من كلام المفسّرين في تفسير الآيات الواردة في ذلك يدلّ على اختلافهم فيه،و إن كان الأكثرون منهم قد حملوها على ظاهرها.

قال الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في«الجوامع»في تفسير قوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (4)،هكذا:«و اذا الوحوش جمعت حتّى يقتصّ بعضها من بعض،و يوصل إليها ما استحقّته من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا.و عن ابن عباس حشرها موتها.

ص:192


1- -العنكبوت(29):20. [1]
2- -القصص(28):88. [2]
3- -الشواهد الربوبية332/. [3]
4- -التكوير(81):5. [4]

و قال في تفسير قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (1)الآية،في قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (2):يعني الأمم كلّها فيعوّضها و ينتصف لبعضها من بعض،و فيه دلالة على عظم قدرته و لطف تدبيره في الخلائق المختلفة الأجناس،و حفظه لما لها و عليها،و أنّ المكلّفين لم يختصّوا بذلك دون من سواهم.

و قال في تفسير قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (3)،في قوله تعالى:«و ما بثّ فيهما من دابّة»:و ما بثّ،يجوز أن يكون مجرورا و مرفوعا عطفا على المضاف أو المضاف إليه،و قال:فيهما أي و الحال أنّ الدّواب في الأرض لا في السماء،لأنّ الشيء يجوز أن ينسب إلى جميع المذكور و إن كان ملتبسا ببعضه،كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ) (4)و إنّما يخرج من الملح.و يجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران،فيوصفون بالدّبيب كما يوصف له الإنسان،و لا يبعد أن يكون في السموات من يمشي فيها كما يمشي الأناسيّ في الأرض».هذا كلامه (5).

و هو لم يتعرّض فيه لتفسير قوله تعالى وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ؛و يفهم منه أنّه حمل الجمع على معناه الظاهر المتبادر،أي الحشر،إلاّ أنّه كما يفهم منه في تفسير قوله «فيهما»بالتّفاسير الثّلاثة قد أرجع ضمير الجمع في قوله«جمعهم»،إلى دوابّ الأرض وحدها على التّفسير الأوّل،و إلى دوابّ الأرض و السماء جميعا على التّفسيرين الأخيرين،و أنّه على كلّ تقدير،فالجمع محمول على معنى الحشر.

و مثله كلام صاحب«الكشّاف».قال في تفسير الآية الأولى هكذا:«حشرت، جمعت من كلّ ناحية»،قال قتادة:يحشر كلّ شيء حتّى الذباب للقصاص.و قيل إذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته كالطّاوس

ص:193


1- -الأنعام(6):38. [1]
2- -نفس الآية.
3- -الشورى(42):29. [2]
4- -الرحمن(55):22. [3]
5- -جوامع الجامع531/-125-430.

و نحوه.و عن ابن عبّاس:حشرها موتها.يقال إذا أجحفت السّنة بالناس و أموالهم:

حشرتهم السّنة.و في تفسير الآية الثانيّة هكذا،ثمّ إلى ربّهم يحشرون يعني الأمم كلّها من الدوابّ و الطير،فيعوّضها و ينصف بعضها،كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء.

ثمّ قال:فإن قلت:فما الغرض من ذلك؟قلت:الدلالة على عظم قدرته و لطف علمه وسعة سلطانه و تدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس،المتكاثرة الأصناف،و هو حافظ لما لها و عليها،مهيمن على أحوالها،لا يشغله شأن عن شأن،و إنّ المكلّفين ليسوا المخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» (1)و في تفسير الآية الثالثة مثل ما نقلناه عن الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه فيه.

و قال البيضاويّ فيما رأيناه من تفسيره،في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) في الآية الثانيّة:«يعني الأمم كلّها،فينصف بعضها عن بعض،كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء.و عن ابن عبّاس:حشرها موتها». (2)

و قال محيي السنّة صاحب معالم التنزيل فيما رأيناه من تفسيره،في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) :في هذه الآية أيضا هكذا:قال ابن عبّاس و الضحّاك، حشرها موتها.قال أبو هريرة:يحشر اللّه الخلق كلّهم يوم القيامة،البهائم و الدوابّ و الطير و كلّ شيء،فيأخذ للجمّاء من القرناء،ثمّ يقول كوني ترابا،فحينئذ يتمنّى الكافر و يقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا.ثمّ روى عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال:لتؤدّون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى للشاة الجلحاء-أي الجمّاء-من القرناء،انتهى».

و قد ذكر صدر الأفاضل في«شواهد الربوبيّة»كلاما يفهم منه تفسير قوله تعالى:

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) بأنّ المعنى حشر بعض النفوس النّاقصة الإنسانيّة على صور الوحوش التي غلبت صفات تلك الوحوش على تلك النفوس،بأن يحشروا على تلك الصور،أو حشر تلك النّفوس في الآخرة بحيث تكون قرناءهم في الآخرة تلك الصور الوحوشيّة،حيث قال:إنّ حشر كلّ أحد إلى غاية سعيه و عمله و ما يحبّه،حتّى أنّه لو أحبّ

ص:194


1- -تفسير الكشّاف 222/4. [1]
2- -تفسير البيضاويّ 187/1،ط بيروت. [2]

أحدكم حجرا لحشر معه،فإنّ تكرّر الأفاعيل يوجب حدوث الملكات،فلكلّ ملكة تغلب على الإنسان في الدنيا متصوّر في الآخرة بصورة تناسبها، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) . (1)و لا شكّ أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانيّة،و تصوّراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سبعيّة تغلب على نفوسهم،فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات في القيامة،كقوله: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (2).و في الحديث:يحشر بعض الناس على صورة تحسّ(تحسن)عندها القردة و الخنازير».انتهى (3)

و يوافقه في التفسير بالمعنى الأوّل كلام المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة منسوبة إليه.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:لو حمل تلك الآيات الواردة في ذلك على أنّ المراد بحشر تلك الحيوانات موتها-كما هو المنقول عن ابن عبّاس و الضحّاك-أو على ما يفهم من كلام صدر الأفاضل.

و بالجملة،لو حملت على غير معناها الظاهر،فهو كلام آخر،و إن حملت على ظاهرها كما حملها عليه الأكثرون،فحينئذ إن كانت الحكمة في حشرها و بعثها أمرا لا نعلمه أصلا،أو حكمة و مصلحة عائدة إلى بني آدم كلّهم أو بعضهم،من نوع سرور و إعجاب أو اعتبار أو نحو ذلك،فهذا أيضا كلام آخر.

و إن كانت الحكمة في ذلك هي المجازاة كما ذكره المفسّرون،فهذا لا يخلو عن إشكال بحسب فهمنا القاصر،إذ المجازاة-كما دلّ عليه العقل و النقل-إنّما تكون لمن كان مكلّفا بالتّكاليف،و تلك الحيوانات ليس فيها ما هو مناط التكليف،و إلاّ لوقع عليهم تكليف في النشأة الدنيويّة،و ليس كذلك.اللّهمّ إلاّ أن يلتزم أنّها و إن كان ليس فيها ما هو مناط التكليف بكلّ التكاليف الشرعيّة و العقليّة،لكنّ فيها ما هو مناط بعض التكاليف، مثل التّكليف بعدم إيصال الأذى إلى غيرها من الإنسان و الحيوانات،بأن تكون لها نفس

ص:195


1- -الإسراء(17):84. [1]
2- -التكوير(81):5. [2]
3- -الشواهد الربوبيّة288/. [3]

مجرّدة أيضا نوع تجرّد مدركة لذلك،و إن كان تجرّدها أدون من تجرّد النفس الإنسانيّة بمراتب كثيرة كما عرفت فيما سبق أنّ بعضا من الدلائل التي أقامها القوم على التجرّد مشترك بين الإنسان و سائر الحيوانات،و أنّه يظهر من بعضهم القول باختلاف مراتب التجرّد،و أن أدناها موجود لتلك النّفوس الحيوانيّة،أو بأن لا تكون لها نفس مجرّدة أصلا، لكن كانت الرّوح الحيوانيّة التي تكون لكلّ حيوان مدركة لذلك.و على التّقديرين فإذا عصت تلك الحيوانات و آذت غيرها في النّشأة الدّنيويّة،اقتضت الحكمة الإلهيّة أن تقع عليها مجازاة في النّشأة الأخرويّة،فيؤخذ مثلا للجمّاء من القرناء.

و كيفما كان،فإن قلنا بأن لها نفسا مجرّدة باقية بعد خراب أبدانها،و كذا لأبدانها أجزاء أصليّة باقية،فالكلام في معادها و حشرها كالكلام في معاد الإنسان و حشره سواء بسواء.

و كذلك لو لم نقل بكون النفس المجرّدة الباقية لها،و قلنا بكون الرّوح الحيوانيّة لها التي قلنا إنّها جسم لطيف رقيق يبقى بعد خراب البدن مع البدن مع بقاء الأجزاء الأصليّة من أبدانها، فالأمر ظاهر أيضا،إذ لا امتناع في أن يعود تعلّق تلك الرّوح الحيوانيّة مرّة أخرى بذلك البدن بعد جمع أجزائه على مثل هيئته الأولى،و يعود ذلك الشخص الحيوانيّ كما كان، و يكون عين الأوّل كما قلنا في الإنسان.

و على التقديرين،فإن قلنا ببقاء تلك الحيوانات بعد عودها في دار الآخرة،كما هو ظاهر إطلاق كلام بعض المفسّرين فلا كلام.و إن قلنا بفنائها كلّها بعد ذلك كما هو ظاهر ما نقله محيي السنّة عن أبي هريرة،فلا إشكال،إذ لا امتناع في أن ينقطع بمشيّة اللّه تعالى تعلّق نفوسها المجرّدة نوع تجرّد أو أرواحها الحيوانيّة عن أبدانها مرّة أخرى و تتلاشى أبدانها و تصير ترابا فتفنى بذلك تلك الأشخاص الحيوانيّة.و كذا لا امتناع في أن يكون الوجه في فنائها بعد ذلك انتفاء الحكمة في عودها.

و الحاصل أنّه لمّا كانت الحكمة في عودها وقوع المجازاة عليها من جهة إيذاء بعضها لبعض مثلا،و هي تكون في زمان ما،فإذا وقعت المجازاة،و الحال أنّه ليس لتلك الحيوانات أفعال حسنة أو سيّئة تبقى هي بعد ذلك لأجل وقوع المجازاة عليها من هذه الجهة،و وقوع الثّواب أو العقاب بسبب ذلك،و قلنا إنّه ليس هنا مصلحة أخرى لبقائها،

ص:196

كانت الحكمة المتعالية مقتضية لفنائها لعدم حكمة في بقائها،و بذلك يمكن تأويل ما هو المنقول عن ابن عبّاس و الضّحاك من أن حشرها موتها،إذا حمل الحشر على معناه الظاهر أيضا،أي أنّ حشرها يكون فى زمان ما يكون المجازاة فيه ثمّ تنعدم هى و تموت بلا فصل، كان زمان حشرها هو زمان موتها.و إن قلنا بفناء بعضها و بقاء بعض آخر ممّا فيه سرور أو إعجاب لبني آدم،كما نقله صاحب الكشّاف عن بعضهم،فلا إشكال أيضا،إذ حينئذ يكون السبب في البقاء و الفناء و الوجه فيهما كما ذكرنا،حيث إنّ بقاء تعلّق نفوس بعضها أو أرواحها الحيوانيّة بأبدانها،و كذا انقطاع تعلّق بعضها عنها أمر ممكن،و كذلك اقتضاء الحكمة المتعالية لبقاء ما فيه بعد ذلك حكمة لبني آدم من سرور و إعجاب،و لفناء ما لا حكمة فيه بعد ذلك أمر ظاهر.و اللّه أعلم بالصّواب،و إليه المرجع و المآب.

و أمّا ما ورد في حشر شركاء اللّه تعالى،فهو إذا حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء و المفسّرون و أريد بالشّركاء الجنّ و الشياطين،فالكلام في حشرهم كما تقدّم.و إن أريد بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها،فمعنى حشرها-و اللّه أعلم-إعادة الصور التركيبيّة مرّة أخرى إليها،أي إلى موادّها الجسمانيّة،و لا سيّما أجزائها الأصليّة إذا تفرّقت، أي جمع أجزائها الماديّة،ثمّ إعادة صورة تركيبيّة إليها مثل الأولى،فإنّه حينئذ يكون تلك الأجسام عين الأولى بحسب المادّة و إن كانت غيرها بحسب الصورة،و لا امتناع فيه،كما لا امتناع في إنطاقها،حتّى تجيب عمّا سئلت هي عنه،و هو من جملة المصالح في حشرها،حيث إنّ فيه إلزاما على الذين يعبدونها.

و بالجملة،فإنّ ذلك أمر ممكن في ذاته،و نسبة القادر المطلق إلى كلّ ممكن كذلك على السّواء.

و أمّا ما ورد في شأن الملائكة،فهو أيضا إذا حملناه على ظاهره،كما حمله عليه العلماء،و قلنا بطروء الموت عليهم،فوجه ذلك فيهم أيضا ظاهر،إذا قلنا بأنّ لهم نفوسا مجرّدة شريفة و أبدانا هي أجسام لطيفة نورانيّة،كما هو ظاهر الشّرع،حيث إنّه كما أنّ حياتهم يكون بتعلّق تلك النفوس و الأرواح المقدّسة بتلك الأبدان النورانيّة تعلّق التدبير و التصرّف،كذلك يكون موتهم عبارة عن قطع تعلّقها عنها،سواء قلنا بفناء تلك الأبدان

ص:197

حينئذ-أي بتفرّق أجزائها و تشتّتها-أم قلنا ببقائها على حالها كما كانت من غير تغيّر فيها مادّة و صورة،و كما أنّه لا امتناع في ذلك،كذلك لا امتناع في حشرهم أي إعادتهم مرّة أخرى بإعادة تعلّق تلك النفوس الشريفة بتلك الأبدان النورانيّة كرّة بعد أولى،و أن يكون في حشرهم حكم و مصالح لا يعلمها إلاّ خالقهم و مدبّرهم تعالى شأنه.

و من جملتها-كما دلّ عليه الأخبار-حكمة و مصلحة عائدة إلى الإنسان،بل إلى عباد اللّه المكرمين أجمعين،كما كان في خلقهم أوّلا تلك الحكمة و المصلحة العائدة إليهم.

و لا بعد أيضا في أن يكون في إعادتهم حصول زيادة بهجة و سعادة عقليّتين لهم كما كانتا في النشأة الدنيويّة و كانوا مستغرقين فيهما.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في حشر الخلق أجمعين.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال، و إليه المرجع و المآل.

و إذ قد فرغنا بعون اللّه تعالى و حسن تأييده عن ذكر ما رمنا ذكره في مقدّمة الرسالة و أبوابها الخمسة،فلنشرع في بيان ما نروم بيانه في خاتمتها،فنقول:

ص:198

الخاتمة

اشارة

ففيها مطالب

ص:199

ص:200

المطلب الأوّل

في الإشارة إلى دفع شبهات المنكرين للمعاد الجسمانيّ

اعلم أنّ لهم شبها دعتهم إلى إنكاره.

منها-أنّه يلزم منه إعادة المعدوم،و هي ممتنعة.

و هذه الشّبهة قد مرّت الإشارة إليها في المقدّمة و إلى جوابها فيها،و كذا في هذا الباب الخامس،إذ قد عرفت أن ليس في المعاد الجسمانيّ-على ما قررناه-إعادة معدوم بعينه من جهة ما هو معدوم بعينه حتّى تكون ممتنعة،و لا يحتاج في الجواب عنها إلى تجويز إعادة المعدوم كما جوّزها المتكلّمون،حتّى يكون مخالفا لما اقتضاه العقل.

و منها-أنّه يلزم منه مفسدة التناسخ.

و هذه الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها فيما تقدّم،و خصوصا في هذا الباب الخامس مع الجواب عنها،إذ قد عرفت أنّه ليس يلزم منه على الوجه الذي قرّرناه مفسدة التناسخ المحال،فتذكّر.

و منها-أنّ الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم،و الغرض إن كان عائدا إليه كان نقصا له،فيجب تنزيهه عنه،و إن كان عائدا إلى العبد،فهو إن كان إيلامه فهو غير لائق بالحكيم الجواد،و إن كان إيصال لذّة،فاللّذّات-سيّما الحسّيّات-إنّما هي دفع آلام،كما بيّنه الحكماء و الأطبّاء في كتبهم،فيلزم أن يؤلمه أوّلا حتّى يوصل إليه لذّة حسّيّة،فهل يليق هذا بالحكيم؟مثل من يقطع عضو أحد،ثمّ يضع عليه المراهم ليلتذّ به.

و هذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الرابع مع الجواب عنها مفصّلا، فتذكّر.

ص:201

و منها-أنّه إذا صار مثلا إنسان معيّن غذاء بتمامه لإنسان آخر،و المحشور لا يكون إلاّ واحد منهما.ثمّ إن كان الآكل كافرا و المأكول مؤمنا،يلزم إمّا تعذيب المطيع و تنعيم العاصي و هو ظلم،أو كون الآكل معذّبا و المأكول منعّما مع كونهما جسما واحدا،و هذا ممتنع.

و هذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الخامس مع الجواب عنها،إذ قد عرفت أنّ المعاد من البدن هو الأجزاء الأصليّة منه دون الأجزاء الفضليّة،و لا امتناع في أن تعود الأجزاء الأصليّة من بدن المأكول التي لا نسلّم جواز كونها غذاء لبدن الآكل منفردة،كالأجزاء الأصليّة من بدن الآكل،فيعذّب الكافر و ينعّم المؤمن كما هو مقتضى الحكمة المتعالية المقدّسة.

و منها أنّ جرم الأرض مقدار ممسوح بالفراسخ و الأميال،و عدد النفوس غير متناه، فلا معنى لحصول الأبدان الغير المتناهية جميعا فيها.

و الجواب عن هذه الشّبهة أنّها مجرّد استبعاد،و رفعه بأنّ مادّة الأرض و هيولاها يمكن لها قبول مقادير مختلفة،كما يمكن لها قبول مقادير و انقسامات غير متناهية،و لو متعاقبة،و كما أنّ زمان الآخرة ليس من جنس أزمنة الدنيا،كما قال تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)) (1)،و قال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) (2)كذلك مكان الآخرة ليس من جنس أمكنة الدنيا،و ليست هذه الأرض محشورة على هذه الصفة،و إنّما المحشورة منها صورة تسع الكلّ من الخلائق من الأوّلين و الآخرين.فاتل قوله تعالى:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ)) (3)،

و قوله: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ)) (4)،

ص:202


1- -الحجّ(22):47. [1]
2- -المعارج(70):4. [2]
3- -إبراهيم(14):48. [3]
4- -الانشقاق(84):3. [4]

و قوله: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)) (1).

و قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً)) (2)،

و قوله: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)) (3).

و بالجملة،فلا امتناع في أن تبدّل هذه الأرض غيرها،فتمدّ مدّ الأديم،و تبسط فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا كما يدلّ عليه كلام المفسّرين،و سيأتي بيانه،ثمّ تجمع فيها جميع الخلائق من أوّل الدنيا إلى آخرها،كما أنّها اليوم مبسوطة على قدر يسع الخلائق كلّها.

و منها،أنّه يلزم تولّد البدن الإنسانيّ عند البعث من غير توالد،و هو ممتنع.

و الجواب عنها،أنّها مجرّد استبعاد أيضا،فإنّ التولّد من غير توالد ممكن،كما في آدم على نبيّنا و عليه السلام.

و منها،أنّ المعلوم من الكتاب و السّنّة أنّ الجنّة و النار موجودتان الآن بالفعل،و إن كان أهل الحجاب لغفلتهم عن أمور الآخرة يتعجّبون عن ذلك.

و أنّهما لو كانتا موجودتين،فأين مكانهما من العالم؟و في أيّ جهة تكونان؟

أ هما في فوق محدّد الجهات؟فيلزم أن يكون في اللامكان مكان،و في اللاجهة جهة.

أو في داخل طبقات هذه الأجرام الفلكيّة،فيلزم التداخل المستحيل،أو الانخراق المستحيل.

أو في مكانها،فيلزم انعدام الأفلاك حتّى تكونا في مكانها،و هو خلاف ما نشاهده.

أو فيما بين سماء و سماء،و هو مستحيل،لكون السماوات عندهم متّصلة بعضها ببعض ليست بينها فرجة،لا خلاء و لا ملاء.

و مع استحالة هذين الاحتمالين،فهما ينافيان قوله تعالى:

ص:203


1- -الكهف(18):47. [1]
2- -طه(20):105-107. [2]
3- -الواقعة(56):49-50. [3]

وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ)) (1)،حيث إنّ المفسّرين قالوا في تفسيره:إنّ المعنى:و جنّة عرضها كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،و ذكر العرض دون الطول،لأنّ كلّ ما له عرض و طول،فإن عرضه في الأكثر أقلّ من طوله،فإذا كان العرض مثلا السموات و الأرض،فطولها لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى،فإذا كان مقدار الجنّة ذلك المقدار، فلا يمكن أن يكون مكانها داخل طبقات السموات و لا في ما بينها.

و ما روي عن بعض المفسّرين كالحسن،من أنّ اللّه تعالى يفني الجنّة ثمّ يعيدها على ما وصفه،فلذلك صحّ و صفها بأنّ عرضها كعرض السماء و الأرض مبني على طروء فناء على الجنّة،و هو مخالف للإجماع،و كذا للنقل و العقل كما سبق بيانه في مقدّمة الرسالة.

كما أنّ القول بأنّه يمكن أن يوجد اللّه تعالى عند قيام الساعة الجنّة و يجعلها بذلك المقدار،و في مكان السموات و الأرض بعد فنائهما،أي بعد طيّ السموات و تسيير الجبال و دكّ الأرض و زلزالها (2)،مبنيّ على أن لا يكون الجنّة و النار موجودتين الآن و تكونان مخلوقتين في القيامة،و هذا أيضا مخالف للمذهب الحقّ الذي ذهب إليه جمهور المسلمين،إلاّ جمعا من المعتزلة،و دلّ عليه الكتاب و السنّة.

و بالجملة،فإذا كانتا موجودتين الآن،و كان عرض الجنّة ما ذكر من المقدار،أي كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،فلا يمكن أن يكون مكان الجنّة وحدها داخل طبقات السموات،و لا فيما بين سماء و سماء،مع أنّ النار أيضا تستدعي مكانا آخر، و المفروض حينئذ عدمه.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال:إنّ اتّصال السموات بعضها ببعض و إن قال به الحكماء، لكن لا دليل قطعيّا عليه،فيمكن أن يكون بينها فرج و أفضية،و تكون الجنّة و النار فيها.

و بيان الاندفاع ظاهر.

و كذلك يظهر بهذا البيان أنّه لا يمكن أن يكون مكان الجنّة و النار داخل طبقات

ص:204


1- -الحديد(57):21. [1]
2- -إشارة إلى سورة الكهف(18):47؛سورة الأنبياء(21):104؛سورة التكوير(81):3؛سورة الفجر(89):21 و سورة الزلزلة(99):1.

العناصر و لا فيما بينها.

فإن قلت:إنّ هذه الشبهة ليس لها مدخل في إنكار المعاد الجسمانيّ،فإنّه لو لم تكن الجنّة و النار موجودتين أيضا الآن،لم يكن ذلك منافيا لوقوع المعاد الجسمانيّ على ما قرّرناه،بل هذه شبهة على حيالها واردة على وجود الجنّة و النار الآن على المقدار المخصوص،و هل هذا إلاّ كسائر الشّبهات التي أوردها عليه القائل بعدم وجودهما الآن ككثير من المعتزلة؟مثل ما قالوه من أنّهما لو كانتا موجودتين الآن،لكان وجودهما قبل يوم الجزاء عبثا،و هو لا يليق بالحكيم تعالى شأنه.

و الجواب عنه:أنّه يجوز أن يكون الفائدة فيه في النشأة الدنيويّة ترغيب المكلّفين بالطاعات،و تزهيدهم عن المعاصي أتمّ ترغيب و تزهيد كما بيّناه في آخر الباب الرابع.

و في عالم البرزخ سرور أهل الجنّة بملاحظتها و اغتمام أهل النار بمشاهدتها.على أنّ الفائدة لا يلزم أن تكون معلومة لنا،إذ يجوز أن يكون في خلقها قبل يوم الجزاء مصلحة و حكمة عظيمة،و إن لم نكن نعلمها،حيث إنّ الشرع نطق بوجودهما الآن،و نحن نعلم أنّ فاعلها الحكيم تعالى شأنه لا يفعل العبث.

و مثل ما قالوه إنّ الجنّة و النار لو كانتا موجودتين الآن،و الحال أنّ الإجماع واقع على بقائهما و عدم طروء الفناء عليهما،كان ذلك مخالفا لما دلّ على طروء الفناء على كلّ المخلوقات،مثل قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)) (1).و حيث كان ذلك مخالفا له، فيجب أن لا تكونا موجودتين الآن حتّى لا يلزم طروء فناء عليهما.

و الجواب عنه،ما مرّ في مقدّمة الرسالة في تفسير هذه الآية الشريفة.

و حاصله أنّه يمكن أن يكون معنى هلاك كلّ شيء-على تقدير إرادة العموم-ضعف وجود الماهيّات الممكنة و ليسيّتها بالنظر إلى ذواتها،و على تقدير أن يكون المراد بهلاكها طروء العدم عليها بالفعل في الواقع،فيمكن أن يكون الآية مخصّصة بما عدا الجنّة و النار، بل بما عدا المستثنيات التي دلّ الدليل على بقائها،كما مرّ بيانه في ذلك الموضع من

ص:205


1- -القصص(28):88. [1]

المقدّمة.

و الحاصل أنّ إيراد هذه الشبهة على المعاد الجسمانيّ لا وقع له،فبم أوردوها عليه؟

قلت:الحال كذلك،إلاّ أنّ من أوردها عليه كأنّه نظر إلى أنّ المعاد الجسمانيّ بظاهره لو كان حقّا،لكان حقّا كما نطق به الشرع،و قد نطق أيضا بوجود الجنّة و النار الآن،و أنّهما تكونان جزاء للمكلّفين في القيامة،و حيث كان وجودهما الآن ممّا يأباه العقل كما ذكر، و كان يجب تأويله،كذلك يجب تأويل ما دلّ على المعاد الجسمانيّ بالحمل على خلاف ظاهره.و بهذا يمكن أن يرجع ما ذكر من الشبهتين المذكورتين على وجود الجنّة و النار إلى الشبهة على المعاد الجسمانيّ أيضا،فتدبّر.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تقرير الشبهة التي أوردها المنكر للمعاد الجسمانيّ عليه.

و أمّا الجواب عنها،فبأن يقال:لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة محدّب الفلك الثامن الذي يسمّى عند الحكماء بفلك البروج،و في لسان الشرع بالكرسيّ،و مقعّر الفلك التاسع الذي يسمّى عند الحكماء بالفلك الأطلس و محدّد الجهات،و في لسان الشرع بالعرش الأعظم،أي فيما بين الفلكين كما قيل:إنّ أرض الجنّة الكرسيّ،و سقفها عرش الرحمن.

و يمكن حمل قوله تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)) (1)،عليه أيضا،كما قال بعض المفسّرين كالشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في تفسيره:«إنّ سدرة المنتهى هي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة،ثمرها كقلال هجر، و ورقها كآذان الفيول،يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما،و المنتهى موضع الانتهاء لم يجاوزها أحد،و إليها ينتهي علم الملائكة و غيرهم،و لا يعلم أحد ما وراءها.و قيل:ينتهي إليها أرواح الشهداء.و قيل:هي شجرة طوبى كأنّها في منتهى الجنّة،عندها جنّة المأوى، و هي جنّة الخلد يصير إليها المتّقون.و قيل:يأوي إليها أرواح الشهداء» (2)،انتهى.

و وجه الحمل ظاهر،إذا حمل قوله:«عن يمين العرش»على يمين مقعّر العرش،

ص:206


1- -النجم(53):13-15. [1]
2- -راجع مجمع البيان 175/9.

و قوله:«فوق السماء السابعة»على السماء الثامنة و تحت العرش كما هو الظاهر،و أنّه إذا كانت جنّة المأوى عند سدرة المنتهى التي مكانها ذلك،يكون مكان جنّة المأوى أيضا ذلك.

و أمّا احتمال أن يكون المراد ب«فوق السماء السابعة»محدّبها فبعيد غاية البعد،لأنّه يلزم حينئذ إمّا أن لا يكون بين السابعة و العرش فلك ثامن،أي الكرسيّ،و هو خلاف ما قال به أهل الشرع و الحكماء،و إمّا أن يكون سدرة المنتهى في داخل ثخن الثامنة، متداخلة لها إن قيل بالثامنة،و هو خلاف الظاهر جدا،إن لم نقل بامتناع تداخل السدرة في الثامنة،و لو قلنا به لكان الأمر أظهر.

و بالجملة،فلا امتناع في أن يكون مكان الجنّة بحيث يكون أرضها محدّب الفلك الثامن،أي الكرسيّ،و سقفها مقعّر الفلك التاسع،الذي هو العرش بلسان الشرع،و يؤيّده كونه مناسبا لمعناه اللّغوي أيضا.و أن يكون بينهما فضاء يسع الجنّة بما فيها،و يكون عرض ذلك الفضاء كعرض السّماء و الأرض،أي كعرض السّماوات السّبع و الأرضين السّبع كما قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ)) .و كان وجه ذلك التّفسير أنّ لفظ السّماء في الآية،و إن وقع محلّى بلام الجنس و مفاده العموم،إلاّ أنّ الشّائع في لسان الشّرع إطلاق السماء على السّماوات السّبع التي هي تحت الفلك الثّامن،كما ورد من إطلاق السموات السبع.و أمّا إطلاق السّماء على الفلك الثّامن و التّاسع، فهو و إن كان يمكن بحسب اللغة أو بحسب العرف،كما ورد في لسان الحكماء،إلاّ أنّه في الشرع لم يطلق عليها اسم السماء بل اسم الكرسيّ و العرش،و إن كان ورد فيه للعرش و الكرسيّ معنى آخر أيضا.و حيث كان كذلك فإذا أطلق السّماء يكون المراد منه ما سوى الفلك الثامن و التاسع من الأفلاك السّبعة.

و الحاصل،أنّه لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة ذلك الفضاء الكائن بين الثامن و التاسع،و أن يكون عرض ذلك الفضاء،أي عرض الجنّة الواقعة فيه كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،و ما ادّعاه الحكماء من لزوم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض بحيث لا يكون بينها فرجة و فضاء،و لا في ذلك الفضاء شيء آخر غير مسلّم،إذ لا دليل قطعيّا

ص:207

عليه،بل إنّ الروايات الدالّة على وجود الحجب في السموات تدلّ على عدم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض و كون الحجب بينها،إنّما المسلّم امتناع فرجة و فضاء بين السموات يكونان خلاء حيث إنّ الخلاء ممتنع،و كذا امتناع فضاء يكون فيه جسم يكون كونه فيه خلاف مقتضى طبعه مع بقائه على طبعه كالعنصريّات التي أحيازها الطبيعيّة ما تحت فلك القمر.

و لا نسلّم أنّ كون الجنّة بما فيها هناك خلاف مقتضى طباعها الذاتيّ،بل جاز أن يكون ذلك مقتضى طباعها،حيث إنّ الجنّة الجسمانيّة بما فيها و إن كانت مادّيّة من جنس الأجسام،إلاّ أنّها من جنس الأجسام الأخرويّة،و قد عرفت غير مرّة أنّ الأجسام الأخرويّة مخالفة في كثير من الصفات و اللوازم للأجسام الدنيويّة،عنصريّاتها و فلكيّاتها، كأنّها مخالفة بالحقيقة لها،و إلاّ أنّ لها نوع مشابهة للأجسام الفلكيّة في اللطافة و الصفاء و نحو ذلك،و إن كانت هي أشرف و أعلى منها في ذلك بكثير،فجاز أن تكون أحياز تكون الأجسام الأخرويّة أحيازا للأجرام الفلكيّة،أي ذلك الفضاء الذي فرضناه من غير لزوم محال،كما جاز أن يكون في أحيازها حجاب أو فلك أو فلكيّ غير الأفلاك التسعة،و إن لم نكن نعلمه.

و ما يتوهّم من أنّه على تقدير كون الجنّة بما فيها-كالأشجار و الأنهار و القصور و نحو ذلك-في محدّب الفلك الثامن يلزم خرق ذلك المحدّب،و الحال أنّ الخرق ممتنع على الأفلاك.

فهو مندفع،إذ يمكن كون الجنّة بما فيها فيه بحيث لا يستلزم خرقا.و على تقدير تسليمه أيضا نقول:إنّ الدليل الذي ذكره الحكماء على امتناع الخرق و الالتيام على الأفلاك،فهو على تقدير تماميّته إنّما يتمّ في محدّد الجهات الذي هو الفلك التاسع بزعمهم،لا في سائر الأفلاك،أي الأفلاك الثّمانية الباقية،بل إنّما هو فيها مجرّد استحسان، فجاز أن يطرأ الخرق على الفلك الثامن من غير لزوم محال.

و من هذا البيان يظهر أنّه يجوز أن يكون مكان الجنّة بما فيها بين الحجب التي في السماوات أيضا،أي بين الحجب التي هي فوق السماء السابعة و تحت العرش.

ص:208

و حيث عرفت ذلك،فنقول:و كذلك يمكن أن يكون مكان النار في فضاء يكون بين سماء و سماء من جملة السموات السبع التي تحت السماء الثامنة،أو بين الحجب التي فيها،إذ لا امتناع في أن يكون بينها فضاء يكون ذلك مكان النار،و كذا لا امتناع في أن يكون كونها فيها مقتضى طباعها،حيث إنّ النّار الجسمانيّة و إن كانت مادّيّة جسمانيّة،إلاّ أنّها من جنس أجسام الآخرة التي هي كأنّها مخالفة بالحقيقة للأجسام الدنيويّة و للنّار التي في عالم العناصر،و كأنّها للطافتها و مشابهتها للأجرام الفلكيّة في بعض الصّفات و الأحوال قريبة منها،فجاز أن يكون مكانها في ذلك الفضاء من غير لزوم محال.بل جاز أن يكون مكانها تحت مقعّر فلك القمر،أي بينه و بين محدّب كرة الأثير،إذ لا مانع من ذلك أيضا.

و لا ينافي ما جوّزناه من مكان الجنّة و النار ما ذكره الشيخ الطّبرسيّ رحمه اللّه،في«مجمع البيان»في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ)) (1).حيث قال:

«قيل فيه قولان:

أحدهما،أنّ المعنى تبدّل صورة الأرض و هيئتها،عن ابن عباس،فقد روى عنه أنّه قال:تبدّل آكامها و آجامها و جبالها و أشجارها و الأرض على حالتها،و تبقى أرضا بيضاء كالفضّة،لم يسفك عليها دم،و لم يعمل عليها خطيئة،و يبدّل السموات،فيذهب شمسها و قمرها و نجومها،و كان ينشد:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم و لا الدار بالدّار التي كنت أعرف

و يعضده ما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أنّه قال:يبدّل اللّه الأرض غير الأرض و السموات،فيبسطها و يمدها مدّ الأديم العكاظيّ لا ترى فيها عوجا و لا أمتا،ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرة،فإذا هم في هذه المبدّلة في مثل مواضعهم من الأولى،ما كان في بطنها كان في بطنها،و ما كان على ظهرها كان على ظهرها.

و الآخر أنّ المعنى يبدّل الأرض و ينشأ أرض غيرها و السموات كذلك تبدّل بغيرها

ص:209


1- -إبراهيم(14):48. [1]

و تفنى هذه.هذه عن الجبائيّ و جماعة من المفسّرين.

و في تفسير أهل البيت عليه السّلام،بالإسناد عن زرارة و محمّد بن مسلم و حمران بن أعين، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام،قالا:يبدّل اللّه الأرض خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب،قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ)) (1)و هو قول سعيد بن جبير و محمّد بن كعب.

و روى سهل بن سعد الساعديّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال:يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء غفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد.

و روي عن ابن مسعود،أنّه قال:يبدّل الأرض كلّها نارا يوم القيامة و الجنّة،و من ورائها يرى كواعبها و أكوابها،و يلجم الناس العرق،و لم يبلغوا الحساب بعد.

و قال كعب:تصير السماوات جنانا،و تصير مكان البحر النار،و يبدّل الأرض غيرها.

و روي عن أبي أيّوب الأنصاريّ،قال:أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حبر من اليهود،فقال:أ رأيت إذ يقول اللّه في كتابه «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟ فقال:أضياف اللّه،فلن يعجزهم ما لديه.

و قيل:تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة،و لقوم بأرض النار.

و قال الحسن:يحشرون على الأرض الساهرة،و هي أرض غير هذه،و هي أرض الآخرة،و فيها تكون جهنّم.

و تقدير الكلام:و تبدّل السماوات غير السماوات،إلاّ أنّه حذف لدلالة الظاهر عليه» (2)انتهى كلامه رحمه اللّه.

و وجه عدم المنافاة أنّ ما تضمّن من تلك التفاسير لصيرورة الأرض كلّها نارا،أو لصيرورة مكان البحر النار،أو لتبدّل الأرض لقوم بأرض النار،أو لكون جهنّم في الأرض، يمكن أن يكون ذلك بتحريك النار و جعلها في الأرض،كما قال تعالى: وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ

ص:210


1- -الأنبياء(21):8. [1]
2- -مجمع البيان 324/6-325.

بِجَهَنَّمَ...)) (1)الآية.

و قال المفسّرون في تفسيره:إنّه يجيء بها سبعون ألف ملك،يقودونها بسبعين ألف زمام،فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع.و كذا يمكن أن يكون ذلك بمدّ النّار و بسطها حتّى تحصل في الأرض أيضا،إذ لا امتناع فيه.و على التقديرين فلا امتناع في أن يكون الجنّة فوق النار،بحيث تكون هي للطافتها و رفع الحجاب حينئذ يرى ما فيها من الأكواب و الكواعب،كما دلّ عليه بعض تلك التفاسير.

و أيضا ما يدلّ منها على كون الجنّة في الأرض،يمكن أن يكون بتحريكها أو بسطها كما قلنا في النار،فلا منافاة أيضا.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و بما فصّلناه يظهر الجواب عن تلك الشّبهة،و هو مبنيّ عل تسليم استحالة تداخل الأجسام الأخرويّة في الأجسام الدّنيويّة،و على تسليم استحالة وجود عالمين جسمانيّين،و إمّا على تقدير تجويزها،فيمكن جوابان آخران أيضا عن تلك الشبهة.

بيان الأوّل:أنّ التّداخل المستحيل الذي يحكم العقل باستحالته إنّما هو تداخل جسمين كانا من أجسام الدنيا،و دخول أحدهما في حيّز الآخر من غير زيادة في الحجم، و أمّا إذا لم يكونا كذلك،فلا نسلّم امتناع تداخلهما.و هذا كما أنّ الأجسام المثاليّة التي دلّ على وجودها الدليل كما عرفت،و قال به الحكماء الإشراقيّون أيضا،حتّى قالوا:ب«أنّ كلّ ما هو من أجزاء هذا العالم المحسوس المشاهد،فله مثال في عالم المثال»لا شكّ أنّها أجسام ذوات مقادير و أوضاع و أشكال و أحياز و نحوها،و إن لم تكن ذوات مواد جسمانيّة فلكيّة أو عنصريّة،و لا شكّ أيضا أنّها موجودة في هذا العالم المحسوس لا في عالم آخر،على القول بعدم إمكان وجود عالم آخر جسمانيّ كما قالوا به،و لا شكّ أيضا أنّ وجودها إنّما هو في داخل أجرام هذا العالم و أجسامها،و في ثخنها لا في الخلل و الفرج و الأفضية بينها على القول باتّصال أجرام هذا العالم و أجسامها و كراتها بعضها ببعض،كما قالوا به أيضا،فأين مكان عالم المثال و الأجسام المثاليّة؟فلم يبق إلاّ أن يكون وجودها

ص:211


1- -الفجر(89):23. [1]

في داخل أثخان موجودات هذا العالم و أجسامه و أجرامه،متداخلة فيها من غير استحالة في ذلك.

و إذا جاز تداخل عالم المثال في العالم المحسوس المشاهد،جاز أيضا تداخل الأجرام و الأجسام الأخرويّة التي هي أيضا من عالم آخر غير عالم الظاهر المشاهد المحسوس في العالم المحسوس من غير لزوم محال.فجاز أن يكون مكان الجنّة و النار بما فيهما داخل أثخان وجودات هذا العالم المحسوس و أجسامه و أجرامه،أمّا الجنّة ففيما فوق السّماء السّابعة،و أمّا النار ففيما تحتها،كما قلنا.

و كان ما ذكرنا هو مراد من قال من الحكماء الإسلاميّين إنّه ليس للجنّة و النار مكان في ظواهر هذا العالم،لأنّه محسوس و كلّ محسوس بهذه الحواس فهو من الدنيا،و الجنّة و النار من عالم الآخرة.نعم مكانهما في داخل حجب السموات و الأرض و لها مظاهر في هذا العالم،و عليها يحمل الأخبار الواردة في تعيين بعض الأمكنة لهما،و الروايات في ذلك مختلفة» (1)،انتهى.

و لا يخفى عليك أنّ ما قدّمنا ذكره من التّفاسير في الآية الكريمة الدالّة على حصول الجنّة و النار في مكان الأرض لا ينافي هذا الوجه من الجواب أيضا،إذ لا امتناع في أن يكون الجنّة و النّار في داخل أجرام هذا العالم و باطنها حتّى في سطح الأرض و البحر أيضا،و تكونان يوم القيامة عند ارتفاع الحجاب تظهران على الخلق.و اللّه تعالى يعلم.

و أمّا بيان الثّاني فبأن يقال:إنّ عمدة ما قالوا في بيان استحالة وجود عالمين أمران:

أحدهما أنّه لو وجد عالم آخر،لكان كرة مثل هذا العالم،و لا يمكن وجود كرتين متماثلتين،إلاّ بتحقّق فرجة بينهما،و تلك الفرجة يلزم أن تكون خلاء،إذ المفروض عدم شيء آخر يملأ تلك الفرجة و الخلاء محال.

الثاني:أنّه لو وجد عالم آخر لكان فيه أيضا العناصر الأربعة،فإن لم تطلب أمكنة عناصر هذا العالم لزم اختلاف متّفقات الطبائع في مقتضياتها،و إن طلبت لزم أن تكون هي

ص:212


1- -القائل هو الحكيم المتألّه صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبية300/، [1]حيث قال:فاعلم أنّه ليس...و النقول و المرويّات في ذلك كثيرة مختلفة...

في الأمكنة الأخرى بالقسر دائما،و كلاهما مندفعان.

أمّا الأوّل:فلأنّه بعد تسليم الكرويّة و لزوم كون فرجة هناك،يمكن أن تكون تلك الفرجة،لا خلاء و لا ملاء كما يقولون فيما فوق محدّد الجهات.

و أمّا الثاني:فلأنّه على تقدير تسليم لزوم كون عناصر و أفلاك في ذلك العالم الآخر مثل العالم الأوّل،يمكن أن يكون فيه مركز و محيط أيضا،كما في العالم الأوّل،و يقتضي بعض موجوداته الميل إلى مركزه،و بعضها الميل إلى محيطه،مثل موجودات العالم الأوّل، من غير لزوم محذور.

على أنّا لا نسلّم لزوم كون عناصر و أفلاك هناك كما في هذا العالم،إذ يمكن أن يكون فيه أجسام أخر مخالفة في الصفات و اللوازم،بل في الحقيقة كموجودات العالم الأخرويّ، و إن كانت أجساما أيضا.فعلى هذا يمكن أن يكون الجنّة و النار موجودتين الآن بالفعل في ذلك العالم الآخر،و لا تكونان محسوستين لنا في هذا العالم.

و هذان الجوابان أيضا،و إن كانا ممّا يمكن التمسّك بهما في دفع تلك الشبهة،إلاّ أنّ الثاني منهما كأنّه يخالف ظاهر ما يدلّ على أنّ الجنّة و النار في هذا العالم،فلا تعويل عليه.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّه من تلك الشبه التي تمسّك بها المنكرون للمعاد الجسمانيّ،أنّه لو كان حقّا، و كان كما نطق به الشرع،و الحال أنّ الشرع كما نطق بالمعاد الجسمانيّ،كذلك نطق بتأبيد الثّواب و العقاب الجسمانيّين بالنّسبة إلى بعض،و الحال أنّ ذلك التّأبيد لا يمكن أن يكون إلاّ بحصول تحريكات غير متناهية للقوى الجسمانيّة،لزم منه عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة،و هو باطل كما بيّنه الحكماء في موضعه.

و أيضا يلزم منه دوام الحياة مع دوام الاحتراق،و هذا أيضا باطل.

و الجواب عنها،أنّا لا نسلّم أنّه يلزم من ذلك عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة،بل إنّما يلزم منه عدم تناهي انفعالاتها،حيث إنّ إدراك اللّذّة و الألم الحسّيّين انفعال لا فعل.

و ما ذكره الحكماء من الدّليل على عدم التناهي فهو على تقدير تماميّته،إنّما ينهض دليلا على بطلان عدم تناهي أفعال الجسمانيّات المادّيّات،لا على بطلان عدم تناهي

ص:213

انفعالاتها أيضا،بل هو جائز عندهم،كما في انفعالات النفوس الفلكيّة المنطبعة و هيولى الأجسام العنصريّة.

فإن قلت:إنّ عدم تناهي الانفعالات يستلزم عدم تناهي الأفعال أيضا.

قلت:لا يلزم أن يكون تلك الأفعال الغير المتناهية مستندة إلى تلك القوى الجسمانيّة المادّيّة،بل يمكن أن تكون مستندة إلى ذوات مجرّدة لا استحالة في عدم تناهي أفعالها عندهم.

و على تقدير تسليم امتناع عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة أيضا،بناء على جريان دليل بطلان عدم التناهي فيه أيضا،كبرهان التطبيق و التضايف و نحوهما،نقول:إنّ زمان الآخرة ليس كزمان الدنيا،كما أنّ مكانها ليس كمكانها،فجاز في الآخرة عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة،بل أفعالها أيضا،لعدم التضايف و التطبيق و المسامتة و أمثالها فيها،كالتداخل و المباينة و التزاحم،ممّا هي من لوازم موجودات النشأة الدنيويّة.

و بالجملة،فقياس العالم الأخرويّ على العالم الدنيويّ،قياس الغائب على الشاهد، و هو باطل عند العقلاء.

و أمّا ما ذكره الشابه من دوام الحياة مع دوام الاحتراق،فهو أيضا ليس بممتنع،لأنّ امتناعه مبنيّ إمّا على لزوم عدم تناهي القوى الجسمانيّة،فقد عرفت حاله.

و إمّا مبنيّ على أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن،فكيف تبقى الحياة؟و كيف يمكن عذاب ذلك الشخص بعينه؟فهو غير مسلّم،لأنّا لا نسلّم أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن بالمرّة،أو ذلك الشخص بالمرّة،بل إنّ نفسه باقية كما كانت،و كذا الأجزاء الأصليّة من بدنه،و كذا الحياة القائمة بهما،و إنّما الاحتراق في أجزائه الفضليّة،كما قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (1)،و لا استحالة فيه.و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المعاد و المآب.

ص:214


1- -النساء(4):56. [1]

المطلب الثاني

اشارة

في بيان جملة من الأحوال و الأمور التي نطق الشرع

بوقوعها يوم القيامة و يجب التصديق بها لكونها أمورا ممكنة

بالذات أخبر به المخبر الصادق

نفخ الصور

فمنها-النفخ في الصور،قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً* وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)) (1).

و قال: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)) (2).

و قال: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)) (3).

و قال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)) (4).

و قال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ)) (5).

ص:215


1- -الكهف(18):99. [1]
2- -طه(20):102. [2]
3- -النمل(27):87. [3]
4- -الزمر(39):68. [4]
5- -ق(50):20-21.

و قال: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)) (1).

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

و يظهر من المفسّرين أنّهم اختلفوا في معناه.

قال في مجمع البيان:«و اختلف في الصّور،فقيل:هو قرن ينفخ فيه،عن ابن عبّاس و ابن عمر.و قيل:هو جمع صورة،و إنّ اللّه تعالى يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الأمّهات،ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ و هم في أرحام أمّهاتهم،عن الحسن و أبي عبيدة.و قيل:إنّه ينفخ إسرافيل في الصّور ثلاث نفخات:فالنفخة الأولى الفزع،و الثانيّة نفخة الصّعق التي يصعق من في السموات و الأرض بها فيموتون،و الثالثة نفخة القيام لربّ العالمين،فيحشر الناس بها من قبورهم (2)،انتهى.

و أقول:إنّ ما نقله عن ابن عبّاس و ابن عمر مبناه على كون الصور اسما مفردا بمعنى القرن كما جاء في اللغة بمعناه،و على كون النفخ فيه بمعنى إحداث صوت عظيم فيه، و صيحة هائلة هما بفعل إسرافيل عليه السّلام المأمور بذلك من عند اللّه تعالى،كما هو مدلول كثير من الأخبار.

كما أنّ ما نقله عن الحسن و أبي عبيدة مبناه على كون الصور جمع صورة،فإنّ جمعها كما يجيء بصيغة الصّور بضم الصاد و فتح الواو،كذلك يجيء بإسكان الواو،و على كون النفخ فيه بمعنى إعادة الروح إلى الصورة البدنيّة مرة أخرى،أي حشرها و بعثها.إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو المشهور المعروف بين العلماء من معنى نفخ الصور،و يؤيّده دلالة ظاهر أخبار كثيرة بل صريحها عليه،كما يعلم بالتتبّع.و كذلك يؤيّده ظاهر آيات كثيرة واردة في ذلك،مثل قوله تعالى:

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا

ص:216


1- -النبأ(78):18. [1]
2- -مجمع البيان 496/6.

مُحْضَرُونَ)) (1).

و قوله تعالى: وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ* يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)) (2).

و قوله تعالى: وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ)) (3).

و كذلك قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ)) (4)،حيث قال جمع من المفسّرون في تفسيره:إنّ معنى الآية،فإذا نفخ في الصور و لا سترة في أنّ الناقور يناسب الصور بمعنى القرن،لا الصّور جمع الصّورة.

و كذلك يؤيّده أنّ مضمون الآيات و الأخبار،أنّ النفخ في الصور يكون مرّتين:مرّة للإماتة،و مرة للإحياء إن لم نقل بكونه ثلاث مرات كما نقل عن بعضهم.و لا يخفى أنّه بالمعنى الأوّل يستقيم في كلتا المرّتين كما سيأتي بيانه،و هو بالمعنى الثاني لا يستقيم إلاّ في المرة الثانية التي للإحياء.

نعم لو كان مراد القائل بالمعنى الثاني نفخ الأرواح في الصور بتوسّط فعل إسرافيل عليه السّلام و بندائه بإذن اللّه تعالى للأرواح بعودها إلى الصور،و للأبدان باجتماع أجزائها و عودها كما كانت،لكان لذلك وجه،لكن في خصوص النفخة الثانية التي هي للأحياء.

ثمّ إنّ ما نقله عن القائل الثالث،من وقوع النّفخ في الصور ثلاث مرات،كأنّه خلاف ظاهر الآيات و الأخبار،بل ظاهرها وقوعه مرّتين:مرّة للإماتة و مرّة للإحياء.

و كذلك الظاهر أنّ قوله تعالى: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ)) (5).

و قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ)) (6)،

ص:217


1- -يس(36):51-53. [1]
2- -ق(50):41-42.
3- -ص(38):15.
4- -المدّثّر(74):8-9. [2]
5- -النمل(27):87. [3]
6- -الزمر(39):68. [4]

معناهما واحد،و أنّ معنى الفزع و الصعق واحد،هو الإماتة لا أن يكون الفزع بمعنى آخر غير الصعق،حتّى يمكن التمسّك به في القول بوقوعه ثلاث مرات،إن كان متمسّك القائل به ذلك.

و كيفما كان،فنفخ اسرافيل عليه السّلام و نداؤه للخلائق بتلك الآلة مرّة للإماتة،و مرّة للإحياء بإذن اللّه تعالى كما هو ظاهر النفخ في الصور لأجل ذلك،لا امتناع فيه عقلا،بل هو أمر ممكن في ذاته،و حيث أخبر الشرع به،وجب التصديق به.

و بالجملة،لا امتناع في أن ينادي إسرافيل عليه السّلام بإذن اللّه تعالى للخلائق مرّة بالموت، أي أن ينادي بتلك الآلة تارة،لأرواحهم،بقطع التعلّق عن الأبدان،حتّى يموتوا بانقيادهم لذلك النداء و الأمر،أو من هول تلك الصيحة كما قال المفسّرون في قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)) (1)إنّه حين نزل العذاب على أهل انطاكية قوم عيسى عليه السّلام أخذ جبرئيل عليه السّلام بعضادتي باب المدينة و صاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم.

و مرّة بالحياة،أي أن ينادي للأجزاء الأصليّة من أبدانهم بالاجتماع و عودها مرّة أخرى كهيئتها الأولى،و ينادي للأرواح بعودها إلى تلك الأبدان،حتّى تحصل لهم الحياة، كما ورد في الأخبار أنّ إسرافيل ينفخ في الصور و ينادي:أيّتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة و اللحوم المتمزّقة،إنّ اللّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء.

و هذا الذي ذكرنا هو ظاهر معنى النفخ في الصّور مرّتين:مرة للإماتة،و مرّة للإحياء.

و اللّه تعالى و أولو العلم أعلم.

و لصدر الأفاضل رحمه اللّه هنا كلام لا بأس بنقله،قال:«الإشراق الحادي عشر،في معنى النفخ؛قال سبحانه: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ)) (2)و لما سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الصّور ما هو؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قرن من نور لنفخة إسرافيل،فوصف بالسّعة و الضيق،و اختلف في أنّ أعلاه ضيّق و أسفله واسع أو بالعكس،و لكلّ وجه.و الصّور بسكون الواو و قرئ بانفتاحها:جمع الصورة،و النفخة نفختان:نفخة تطفئ النار،و نفخة تشعلها.قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ

ص:218


1- -يس(36):29. [1]
2- -الكهف(18):99؛ [2]يس(36):51؛ [3]الزمر(39):68؛ [4]ق(50):20.

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)) (1).

فإذا تهيّأت هذه الصور كانت فتيلة استعدادها كالحشيش المحترق،و هو الاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنار التي كمنت فيه لقبول الاشتعال،و الصور البرزخيّة كالسراج مشتعلة بالأرواح التي فيها،فينفخ إسرافيل نفخة واحدة فتمرّ على تلك الصور فتطفؤها،و تمرّ النفخة التي تليها-و هي الأخرى-على الصور المستعدّة للاشتعال-و هي النشأة الأخرى-فتشتعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون،فتقوم تلك الصور أحياء ناطقة بما ينطقها اللّه،فمن ناطق بالحمد للّه،و من ناطق يقول: «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ،و من ناطق ب«الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا و إليه النشور»و كلّ ينطق بحسب عمله و حاله و ما كان عليه،و ينسى حاله في البرزخ،و يتخيّل أنّ ذلك منام كما يتخيّله المستيقظ،و قد كان عند موته و انتقاله إلى البرزخ كالمستيقظ هناك،و أنّ الحياة الدنيا كانت له كالمنام،و في الآخرة يعتقد في أمر الدنيا و البرزخ أنّه منام في منام (2)،انتهى كلامه.

و لا يخفى عليك أنّه يظهر من كلامه تفسير الصّور أوّلا بالقرن،و من قوله:و الصور بسكون الواو قرئ بانفتاحها جمع الصورة،تفسيره بمعنى جمع الصورة،و أنّه جمع بين المعنيين،و ذكر لكون النفخ في الصور سببا للإماتة و الإحياء وجها عقليّا مرموزا هو أعلم به.

الصراط

اشارة

و من تلك الأحوال و الأمور:الصراط،و هو ممّا أخبر به الشرع،و وردت به أخبار

ص:219


1- -الزمر(39):68. [1]
2- -الشواهد الربوبيّة296/-297 و [2]فيه:قرن من نور التقمه إسرافيل...و قرئ بانفتاحها أيضا...و الصور البرزخيّة كالسّرج...ما كان عليه و نسي حاله في البرزخ.

كثيرة صريحة،و في الآيات القرآنيّة أيضا دلالة عليه.

قال الشيخ الصدوق ابن بابويه عليه الرحمة في«اعتقاداته»:«اعتقادنا في الصراط أنّه حق،و أنّه جسر جهنّم،و أن عليه يمرّ جميع الخلق،قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا)) (1)و الصراط في وجه اسم حجج اللّه،فمن عرفهم في الدنيا و أطاعهم أعطاه اللّه جوازا على الصراط الذي هو جسر جهنّم يوم القيامة.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،لعليّ عليه السّلام:يا عليّ،إذا كان يوم القيامة أقعد أنا و أنت و جبرئيل على الصراط، فلا يجوز على الصراط إلاّ من كانت معه براءة بولايتك» (2)،انتهى.

و قال الشارح القوشجيّ في شرح التجريد:و أمّا الصراط فقد ورد في الحديث الصحيح أنّه جسر ممدود على متن جهنّم،يرده الأوّلون و الآخرون،أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف،و يشبه أن يكون المرور عليه هو المراد من ورود كلّ أحد النار،على ما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها)) (3)و أنكره القاضي عبد الجبّار و كثير من المعتزلة زعما منهم أنّه لا يمكن الخطور (4)عليه،و لو أمكن ففيه تعذيب و لا عذاب على المؤمنين و الصّلحاء يوم القيامة.قالوا:بل المراد طريق الجنّة المشار إليه بقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ)) (5)و طريق النار المشار إليه بقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)) (6).

و قيل:المراد الأدلّة الواضحة.و قيل:العبادات كالصلاة و الزكاة و غيرهما.و قيل:

الأعمال الرديّة التي يسأل عنها و يؤاخذ بها،كأنّه يمرّ عليها،و يطول المرور لكثرتها و يقصر لقلّتها.

و الجواب،أنّ إمكان العبور ظاهر،كالمشي على الماء و الطيران في الهواء،غايته أنّه مخالفة العادة،ثمّ اللّه تعالى يسهّل الطريق على المارّين،كما جاء في الحديث أنّ منهم من

ص:220


1- -مريم(19):71. [1]
2- -الاعتقادات87/،الطبعة الحجريّة. [2]
3- -مريم(19):71. [3]
4- -الخطور أي العبور.
5- -محمّد(47):5. [4]
6- -الصافّات(37):23. [5]

يمرّ كالبرق الخاطف،و منهم من يمرّ كالرّيح الهابّة،و منهم هو كالجراد،و منهم من يجرّ رجلاه و يتعلّق يداه،و منهم من يخرّ على وجهه» (1)انتهى.

و قال الغزاليّ في رسالته المسمّاة ب«المضنون على غير أهلها»:و أمّا الصراط فهو عبارة عمّا لا مناسبة بين دقّته و دقّة الشعر،و حدّته و حدّة السّيف،فهو في الدّقة كالخطّ الهندسيّ،و الصّراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقيّ بين الأخلاق المتضادّة،و لذا أمرنا اللّه بالدّعاء له في سورة الفاتحة،حيث قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (2)،و قال في حقّ المصطفى عليه السّلام: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (3).مثال ذلك السّخاوة بين التّبذير و الإسراف و البخل،و الشّجاعة بين التّهور و الجبن،و التّواضع بين التّكبر و الدّناءة،و العفّة بين الشّهوة و الجمود،فلهذه الأخلاق طرف إفراط و تفريط،و هما مذمومان،و الوسط ليس من الإفراط و لا من التّفريط،فهو في غاية البعد من كلّ طرف،فلذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«خير الأمور أوسطها»و مثال ذلك الوسط الخطّ الهندسيّ بين الظلّ و الشّمس.

و التّحقيق في ذلك أنّ كمال الآدميّ في المشابهة بالملائكة و هم منفكّون عن هذه الأوصاف المتضادّة و ليس في إمكان الانفكاك عنها بالكلّيّة،فكلّفه اللّه تعالى ما يشبه الانفكاك و هو الوسط،فإنّ الفاتر لا حارّ و لا بارد،و العوديّ لا أبيض و لا أسود،فالبخل و التّبذير من صفات الإنسان،و المقتصد السخيّ كأنّه لا يبخل و لا يبذّر،فالصّراط المستقيم هو الوسط الحقّ بين الطّرفين الذي لا ميل له إلى أحد الجانبين،و هو أدقّ من الشعر،و الذي يطلب غاية البعد من الطرفين،فيكون على الوسط،و لو فرضنا حلقة حديدة محاطة بالنار وقعت فيها نملة،فهي تهرب بطبعها عن الحرارة،و لا تهرب إلاّ إلى المركز،لأنّه الوسط الذي هو غاية البعد من المحيط المحرق،و تلك النقطة لا عرض لها،فإنّ الصراط المستقيم لا عرض له،و هو أدقّ من الشعر،و لذلك خرج من القوّة البشريّة الوقوف عليه،فلا جرم، يرد أمثالنا النار بقدر ميله عنه،كما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً

ص:221


1- -راجع شرح التجريد للقوشجيّ424/-425.
2- -الفاتحة(1):6. [1]
3- -القلم(68):4. [2]

مَقْضِيًّا)) (1).و قال: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)) (2)، فإن العدل بين المرأتين في المحبّة و الوقوف على درجة متوسطة لا ميل فيه صراط الآخرة من غير ميل.و جاء في الحديث:«يمر المؤمن على الصراط كالبرق الخاطف» (3)انتهى كلامه،و مثله كلام بعضهم.

الصراط الدنيويّ

و أقول:لا يخفى عليك بعد التدبّر فيما ورد في الشرع من الآيات و الأحاديث أنّ الصراط صراطان:دنيويّ و أخرويّ.

أمّا الدنيويّ،أي الصراط المستقيم الذي ورد به الشرع،فقد قال كثير من أهل الشرع إنّه هو التوحيد،لأنّه الصراط الذي كان عليه جميع الأنبياء و الأولياء،و بعثوا كلّهم لأجل دعوة الخلق إليه،و كذا لأجل منع العباد عن الميل إلى أحد طرفيه،أي إلى يمينه أو شماله، أي الشرك الجليّ و الخفيّ،كما ورد في الخبر أنّ اليمين و الشمال مضلّتان (4).و قالوا:إنّه يشهد بذلك آيات و أخبار،كما قال تعالى:

وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)) (5).

و قال: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (6).

ص:222


1- -مريم(19):71. [1]
2- -النساء(4):129. [2]
3- -بحار الأنوار 51/94. [3]
4- -عوالي اللئالى 110/4،و [4]فيه:مضلّة.
5- -الشورى(42):52-53. [5]
6- -الأنعام(6):161. [6]

و قال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (1).

و قال: وَ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)) (2).

و قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ)) (3).

حيث إنّ الظاهر أنّ صراط الذين أنعمت عليهم،صراط الأنبياء و الأولياء عليه السّلام و تابعيهم من أهل التوحيد،كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا)) (4).

و قال: وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (5).

و قال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)) (6)،و حينئذ يكون طريق المغضوب عليهم طريق المنحرفين عن التوحيد الذي الانحراف عنه ضلال و موجب لغضب اللّه تعالى و الدخول في النار، كالمشركين و الكفّار و كاليهود و النّصارى،كما ورد في التفسير أيضا،و قد قال تعالى في شأن الكفار:

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)) (7).

و في شأن الظالمين: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ)) (8).

ص:223


1- -الزخرف(43):43. [1]
2- -مريم(19):36. [2]
3- -الفاتحة(1):6-7. [3]
4- -مريم(19):58. [4]
5- -الأنعام(6):87. [5]
6- -النساء(4):69. [6]
7- -المؤمنون(23):74. [7]
8- -هود(11):113. [8]

و في شأن اليهود: مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (1).

و في شأن النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً)) (2).

و قد ورد في الخبر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطّ خطّا،و خطّ حواليه خطوطا،ثمّ أشار إلى الخط الأوسط فقال:«و انّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه»،ثمّ أشار إلى الخطوط حوله فقال:

وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (3).

و قال بعضهم:إنّ الصراط المستقيم هو الإسلام،و هو المرويّ عن ابن عبّاس و جابر و مقاتل.

و روى الحارث بن الأعور عن عليّ عليه السّلام،أنّه قال:الصراط المستقيم هو القرآن؛و هو المنقول عن ابن مسعود أيضا.

و قال محمّد بن الحنفيّة:إنّه هو الدين القويم (4).

قال أبو بريدة الأسلميّ:هو طريق محمّد و آل محمّد عليهم السّلام.

و على ذلك ينبغي أن يحمل ما نقلناه عن ابن بابويه آنفا،من أنّ الصراط في وجه، اسم الحجج عليه السّلام،يعني أنّ الصراط المستقيم هو طريقهم و معرفتهم و الانقياد لهم و الاهتداء بهداهم.

و قال شهر بن حوشب:إنّ الذين أنعمت عليهم هم صحابة رسول اللّه و أهل بيته، و يستفاد منه أنّ الصراط المستقيم طريقهم.

و قال بعضهم:إنّه إشارة إلى قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)) (5).حيث ورد في الخبر هكذا:النبيّين، محمّد،و الصدّيقين علي بن أبي طالب؛و الشهداء حمزة و جعفر؛و الصالحين الأئمة

ص:224


1- -المائدة(5):60. [1]
2- -المائدة(5):77. [2]
3- -الأنعام(6):153. [3]
4- -انظر:الصراط المستقيم للبيّاضيّ 284/1. [4]
5- -النساء(4):69. [5]

الهداة،و حسن أولئك رفيقا،مهديّ هذه الأمة عليه السّلام.

و قال عبد اللّه بن عبّاس:هم قوم موسى و عيسى عليه السّلام،قبل أن حرّفوا التوراة و الإنجيل،و يستفاد منه أنّ الصّراط المستقيم طريقهم.

و قال بعض العارفين:إنّ الصراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقيّ بين الأخلاق الحميدة و الذّميمة،كالسّخاوة بين البخل و التّبذير،و الشّجاعة بين الجبن و التهوّر،إذ هذه الأخلاق الحميدة لها طرفا إفراط و تفريط،و هما مذمومان،حيث إنّ اليمين و الشّمال مضلّتان،و بين الإفراط و التّفريط هو غاية البعد من الطّرف كالنّقطة من الدّائرة،و عبّر الشّرع عن ذلك بالصّراط المستقيم،و أمر اللّه تعالى نبيّه عليه السّلام بالاستقامة عليه،كما قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)) (1)،و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«شيّبتني سورة هود» (2)،و هو إشارة إلى هذه الآية في تلك السّورة،و إشارة إلى صعوبة تحصيل هذه الدّرجة الّتي هي الاستقامة على هذا الصراط المستقيم.

و هذا الذي ذكرنا،إنّما هو ذكر جملة من الأقوال في معنى الصّراط المستقيم،و هذه الأقوال،و إن كانت ترى بظاهرها مختلفة،إلاّ أنّه لا اختلاف في الحقيقة،لكون مرجعها إلى أمر واحد،أي الدّين القويم الذي هو الإسلام.

الصّراط الأخرويّ

كما دلّ عليه الأخبار الصّريحة التي هي غير قابلة للتّأويل،و دلّ عليه الآيات القرآنيّة أيضا،مثل قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها)) (3)،بناء على ما فسّره كثير من المفسّرين،من أنّ المراد بورود جميع المكلّفين النّار،إشراف الكلّ عليها حين مرورهم على الصّراط الممدود على متن جهنّم،و إن كان لبعضهم دخول فيها أيضا.

ص:225


1- -هود(11):112. [1]
2- -تفسير الصافي،طبع الإسلامية 815/1 [2]ذيل الآية 113 من سورة هود،و [3]فيه:فاستقم كما أمرت...عن ابن عبّاس:ما نزلت آية كان أشقّ على رسول اللّه عليهما السّلام من هذه الآية،لهذا قال شيّبتني هود و الواقعة و أخواتها.
3- -مريم(19):71. [4]

و بالجملة،قال به العلماء من أهل الإسلام،و قالوا إنّه يجب الإيمان به لكونه ممّا نطق الشرع بوجوده،و كاد وجوده أن يكون ضروريّا في الدين القويم،فهو جسر ممدود على متن جهنّم أدقّ من الشعر،و أحدّ من السّيف،أي جسم كذلك،و هو مع كونه ممّا نطق به الشرع لا امتناع فيه عقلا،و ما ذكره منكروه في امتناعه،كما نقله الشارح القوشجيّ من القاضي عبد الجبّار و كثير من المعتزلة في ذلك،مندفع بما أجابه هو عنه كما مضى ذكره.

و الحاصل أنّ ما تمسّك به منكره من عدم إمكان العبور عليه،و أنّ فيه تعذيبا للمارّين و لا عذاب على المؤمنين مندفع.

أمّا الأوّل:فلأنّ ذلك الجسر الممدود،حيث كان جسما من أجسام الآخرة التي هي مخالفة بالحقيقة لأجسام الدّنيا،و كانت أبدان المكلّفين المعادين و أقدامهم أيضا من جنس تلك الأجسام الأخرويّة،فلا امتناع في أن يمرّوا بتلك الأقدام الأخرويّة على ذلك الجسر الممدود الأخرويّ،و قياس ذلك على الأجسام الدّنيويّة من جهة عدم إمكان المرور بالأقدام الدّنيويّة على الجسم الكذائيّ الدّنيويّ قياس الغائب على الشّاهد،و لا وجه له.

على أنّ ذلك في الدّنيا أيضا ليس بممتنع بالذّات،بل هو ممتنع عاديّ،و جاز في حكمة اللّه تعالى خرق العادة في كثير من الأمور لحكمة و مصلحة اقتضته،و كما جاز ذلك في الدّنيا،كذلك جاز في الآخرة أيضا على تقدير تسليم كون ذلك فيها ممتنعا عاديّا أيضا.

و أمّا الثاني،فلأنّه إذا كان مرور المؤمنين و الصّلحاء على ذلك الجسر كالبرق الخاطف،أو كالرّيح الهابّة،كما ورد في الخبر،فمن أين يكون لهم فيه عذاب؟

نعم،العذاب إنّما يكون لغير المؤمنين الذين يكون مرورهم عليه بصعوبة و مشقّة،كما دلّ الخبر عليه أيضا،و لا ضير فيه،بل ربّما يمكن أن يكون من جملة الحكمة في وجود ذلك الجسر،و تكليف هؤلاء بالمرور عليه تعذيبهم،كالحكمة في وجود جهنّم و إدخالهم فيها.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:إنّ من أوّل الصراط الأخرويّ بالصّراط المستقيم

ص:226

الدّنيويّ،كالغزاليّ و أشباهه،و كذا من قال بأن المراد الأدلّة الواضحة أو العبادات،حيث إنّ ذلك أيضا يؤول إلى التّأويل بالصراط الدّنيويّ؛

إن كان مرادهم بذلك أنّه لا يكون في الآخرة ذلك الجسر الممدود على متن جهنّم أصلا و لا تكليف المكلّفين بالمرور عليه قطعا،بل إنّ الأخبار الواردة فيه كناية عن أنّ من استقام في الدّنيا على الصّراط المستقيم يكون بعيدا في الآخرة عن النّار و قريبا من الجنّة على تفاوت مراتب استقامته،و أنّ من نكب في الدّنيا عن الصّراط المستقيم و انحرف عنه يكون حاله بالعكس على تفاوت مراتب انحرافه،فهذا خلاف ما نطق به الشّرع،بل هو إنكار ما هو ضروريّ أو كالضروريّ فيه.

و إن كان مرادهم بذلك أنّ الصراط الأخرويّ هو مظهر الصراط الدنيويّ،يعني أنّ حقيقة الصّراط الدّنيويّ التي هي في الدّنيا بصورة الدّين القويم،تظهر في الآخرة بصورة ذلك الجسر الممدود،فله وجه.

و توجيهه أن يقال:إنّك قد عرفت فيما تلونا عليك سابقا في باب تجسيم الأعمال، أنّه يجوز أن يظهر حقيقة كلّيّة تارة بصورة كصورة العرض القائم في موضوع،و تارة بصورة أخرى كصورة الجوهر المستغني عن الموضوع،و أنّه يجوز أن يكون حقيقة العقائد و الأعمال و الأفعال هي في النّشأة الدّنيويّة بصورة المعاني و الأعراض تظهر فيما بعد الموت بصورة الأعيان و الجواهر و الأجسام صورة بهيّة أو مؤلمة جزاء لذلك،أمّا في النشأة البرزخيّة فبصورة الأعيان المثاليّة،و أمّا في النّشأة الأخرويّة فبصورة الأعيان و الأجسام الأخرويّة،و أنّه لا امتناع في ذلك،حتّى أنّه يجوز أن يكون أصل الجنّة و النّار بما فيهما مظاهر للعقائد و الأعمال الحسنة أو السّيئة.

و على هذا فجاز أن يكون الصراط المستقيم الذي هو عبارة عن الإسلام و الدّين القويم،و عبارة عن مجموع العقائد و الأفعال و الأعمال و الأمور الخاصّة الحقّة تظهر في النّشأة الأخرويّة بصورة ذلك الجسر الممدود على متن جهنّم الذي هو أدقّ من الشّعر و أحدّ من السيف،و يكون وجه المناسبة بين الظاهر و المظهر،بأنّه حيث كان هو في النّشأة الدّنيويّة طريقا وسطا كالخطّ المستقيم الهندسيّ الذي لا عرض له،كما أشار إليه

ص:227

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كان الانحراف عنه أدنى انحراف،و الميل عنه إلى يمينه و شماله اللّتين هما كالخطوط حول ذلك الخط المستقيم التي أشار إليها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الحديث فقال:«و لا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله»وقوعا في الضّلالة،كما يدلّ عليه التفرّق عن السّبيل في الآية،و ما ورد أنّ اليمين و الشمال مضلّتان،و دخولا في الشّرك و الكفر،كما قال تعالى: وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)) (1)،كان بهذا الاعتبار أدقّ من الشعر،و كأنّه ممدود على متن الضلالة و الشّرك و الكفر.و حيث كان في النّشأة الدّنيويّة بهذه الحالة و الصّفة،كان مظهره في النّشأة الأخرويّة،أي ذلك الجسر بهذه الصّفة أيضا،أي ممدودا على متن جهنّم التي هي مظهر الضّلالة و الشّرك،و أدقّ من الشّعر، بحيث يكون الانحراف عنه أدنى انحراف وقوعا في جهنّم.

و كذلك أنّه حيث كان في النّشأة الدّنيويّة مع دقّته و مدّه على متن الشّرك و الضّلال أحدّ من السّيف،حيث إنّ الإكباب و السّقوط عليه موجب للهلاك،كالهلاك بالسّيف الذي يوقع عليه،كما قال تعالى: أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (2)،كان مظهره في الآخرة أيضا كذلك،حيث إنّ من لم يستقم عليه و خرّ على وجهه يكون ذلك سببا لهلاكه،لسقوطه على ما هو أحدّ من السّيف،كما ورد أنّ من وقف عليه شقّه بنصفين،و كذلك أنّه حيث كان سلوكه و الاستقامة عليه في الدّنيا سببا لدخول الجنّة،كان الدّخول في الجنّة في الآخرة بحيث لا يحصل إلاّ بالمرور على ذلك المظهر،أي الجسر حتّى يدخل الجنّة،فهو كما كان في الدّنيا طريقا إلى الجنّة كان في الآخرة أيضا كذلك،لا يحصل الدّخول فيها إلاّ بالمرور عليه،و كان من جملة الحكم المتعالية في وجود ذلك الجسر،و في تكليف العباد بالمرور عليه أن يظهر أنّ أيّا منهم كان في الدّنيا مستقيما على الصّراط المستقيم ليثاب باستقامته الدّخول في الجنّة على تفاوت مراتب الاستقامة،و أنّ أيّا منهم كان في الدّنيا منحرفا عنها أو مكبّا على وجهه،ليعاقب بالدّخول في النّار على تفاوت مراتب الانحراف و الإكباب.

ص:228


1- -المؤمنون(23):74. [1]
2- -الملك(67):22. [2]

و بما ذكرنا يظهر لك أنّه لا امتناع في أن يكون الصّراط الأخرويّ مظهرا للصّراط المستقيم الدّنيويّ كما ذكرنا.و كذلك يظهر سرّ الحديث الذي رواه ابن بابويه،من أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام:يا عليّ إذا كان يوم القيامة» (1)الحديث.

حيث إنّ معرفة عليّ عليه السّلام و ولايته و انقياده و الاقتداء بطريقته هو الصّراط المستقيم، فيكون من استقام عليه و لم ينحرف عنه و لم يمل إلى ولاية غيره من أئمّة الضلالة،يعطى له براءة و جواز يمرّ به على ذلك الجسر الممدود،و من كان بالعكس كان بالعكس،كما قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ)) (2).

وفّقنا اللّه تعالى و سائر المؤمنين للاستقامة على صراط عليّ و الاهتداء بهداه،فإنّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الأعراف و السّور

و منها الأعراف و السّور،قال تعالى: وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ* وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)) (3)،و قال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)) (4).

و قال الطّبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع،في تفسير الآية الأولى:«و بين الجنّة و النار،أو بين أهليهما حجاب،أي ستر و نحوه،فضرب بينهم بسور.و على الأعراف،أي و على أعراف الحجاب،و هو السّور المضروب بين الجنّة و النّار،و هي أعاليه جمع عرف مستعار من عرف الفرس و الدّيك،رجال.الصادق عليه السّلام الأعراف:كثبان بين الجنّة و النّار يوقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه،كما يقف صاحب الجيش مع الضّعفاء

ص:229


1- -مرّ الحديث بأسره نقلا عن الاعتقادات للشيخ الصدوق(ره)،فراجع.
2- -هود(11):113. [1]
3- -الأعراف(7):46-47. [2]
4- -الحديد(57):13. [3]

من جنده،و قد سيق المحسنون إلى الجنّة،فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه:

انظروا إلى إخوانكم المحسنين و قد سيقوا إلى الجنّة،فيسلّم عليهم المذنبون،و ذلك قوله:

«سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ» أن يدخلهم اللّه إيّاها بشفاعة النبيّ و الإمام، و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار،فيقولون: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا.. إلى آخره.و قيل إنّهم قوم قد استوت حسناتهم و سيّئاتهم،فجعلوا هنالك حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء و يدخلهم الجنّة،يعرفون كلاّ من زمر السّعداء و الأشقياء بسيماهم:بعلامتهم التي أعلمهم اللّه بها.

و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار،و رأوا ما هم فيه من العذاب،استعاذوا باللّه و قالوا:«ربّنا لا تجعلنا معهم» (1)،انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قال أيضا في تفسير الآية التّالية لهذه الآية،أعني قوله تعالى «وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ» الآية:«أنّه روى الأصبغ ابن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام،أنّه قال:نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار،فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة،و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» (2)انتهى.

و قال في تفسير الآية الثّانية:فضرب بين المؤمنين و المنافقين بسور،أي حائط حائل بين شقّ الجنّة و شقّ النّار،لذلك السّور باب لأهل الجنّة يدخلون فيه،باطنه:باطن السّور أو الباب و هو الشقّ الذي يلي الجنّة فيه الرحمة أي الجنّة،و ظاهره ما ظهر لأهل النار من قبله من عنده،و من جهة العذاب هو النار» (3).انتهى موضع الحاجة أيضا.

و قريب ممّا ذكره كلام الزمخشريّ (4)و البيضاويّ في تفسير السّور و الأعراف و الرجال الذين على الأعراف،و لا تغاير إلاّ في بعض أمور لا يختلف به أصل المقصود،و هو وجود السّور و الأعراف و الرّجال على الأعراف،و الظّاهر أنّه لا خلاف بين العلماء من أهل الإسلام في وجود ذلك،كما هو منطوق الآية أيضا،فيجب الإيمان به لذلك.و اختلافهم

ص:230


1- -جوامع الجامع 438/1-439. [1]
2- -جوامع الجامع 440/1. [2]
3- -جوامع الجامع 481/1.
4- -تفسير البيضاويّ 11/3. [3]

في تفسير الرّجال مع كونه ممّا لا يقدح في أصل المقصود يمكن الجمع بأنّه يجوز أن يكون على الأعراف كلتا الطّائفتين جميعا،أمّا الأنبياء و الخلفاء فبأن يكونوا-مع كون منازلهم في الجنّة،و في أعلى علّيّين منها-على الأعراف مع المذنبين من أهل زمانهم في يوم الحساب،و الوقوف أو بعد ذلك أيضا في بعض الأحيان للحكمة التي تضمّنتها الآية.و أمّا الذين استوت حسناتهم و سيّئاتهم،فبأن يكون منازلهم على الأعراف أو فيها،و يمكثوا فيها إلى أن يشاء اللّه تعالى.و هذا الجمع هو الذي يدلّ عليه كلام ابن بابويه في «اعتقاداته».

قال:«اعتقادنا في الأعراف،أنّه سور بين الجنّة و النار،عليه رجال يعرفون كلاّ بسيماهم،و الرّجال هم النبيّ و الأوصياء عليه السّلام،لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم و أنكروه،و عند الأعراف المرجون لأمر اللّه،إمّا يعذبّهم أو يتوب عليهم» (1)انتهى.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

الكتاب و الحساب و الميزان و السؤال

اشارة

و منها الكتاب و الحساب و الميزان:قال تعالى في الكتاب: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (2)،

و قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً)) (3).

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)) (4).

ص:231


1- -الاعتقادات للصدوق87/. [1]
2- -الإسراء(17):13-14. [2]
3- -الإسراء(17):71 و 72. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) . (1)

و قال: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (2)،

و قال: وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)) (3)،

و قال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (4).

و قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ* قُطُوفُها دانِيَةٌ* كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ* وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ)) الآية (5).

و قال: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً* وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَ يَصْلى سَعِيراً)) (6).

و قال: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ* إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ)) (7).

و قال: كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) (8)،

ص:232


1- -الزمر(39):69 و 70. [1]
2- -الجاثية(45):28 و 29. [2]
3- -القمر(54):53. [3]
4- -المجادلة(58):6. [4]
5- -الحاقّة(69):18-25. [5]
6- -الانشقاق(84):7-12. [6]
7- -الانفطار(82):10-14. [7]
8- -المطفّفين(83):7-10. [8]

و قال: كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) (1).

و قال تعالى في الحساب: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)) (2).

و قال: وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ)) (3)،

و قال: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)) (4)،

و قال: إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ)) (5)،

و قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) (6)

و قال: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)) (7)

و قال: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)) (8)،

و قال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)) . (9)

و قال تعالى في الميزان: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)) (10).

و قال: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ

ص:233


1- -المطفّفين(83):18-21. [1]
2- -البقرة(2):284. [2]
3- -الرعد(13):18. [3]
4- -غافر(40):17. [4]
5- -الشعراء(26):113. [5]
6- -لقمان(31):16. [6]
7- -الحاقّة(69):20. [7]
8- -الانشقاق(84):8. [8]
9- -الغاشية(88):25-26. [9]
10- -الأعراف(7):8-9. [10]

خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ)) (1)،

و قال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ* فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ)) (2)،

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) (3)

و قال: اَللّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ)) (4)

و قال: فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)) (5)

و قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)) (6)،

و قال: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)) . (7)

الكتاب

فظاهر الشّرع كما هو ظاهر تلك الآيات المذكورة،و كذا ظاهر الأخبار،و هو قول المفسّرين و غيرهم من العلماء،إنّه عبارة عن صحيفة أعمال الخير أو الشرّ التي كتبتها الملائكة الحفظة للأعمال الكرام الكاتبون بأمر اللّه تعالى و حفظوها،و إنّه يخرج لكلّ

ص:234


1- -الأنبياء(21):47. [1]
2- -المؤمنون(23):101-103. [2]
3- -الزمر(39):69-70. [3]
4- -الشورى(42):17. [4]
5- -القارعة(101):6-8. [5]
6- -الزلزلة(99):7-8. [6]
7- -الكهف(18):105. [7]

إنسان يوم القيامة كتابه و صحيفة عمله «كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» ،و يكلّف هو بقراءة ما فيه، و بما فعله من خير أو شرّ،فيقرأه و يعلم ما فعله و يعترف به،و يكون هو حسيبا على نفسه، و إنّه يكون ذلك الكتاب للأبرار منهم و السّعداء في علّيّين.

و معناه كما ذكره المفسّرون:أنّ ما كتب من أعمالهم يكون في علّيّين،أي في ديوان الخير الذي دوّن فيه كلّ ما عمله المقرّبون و الأبرار و المتّقون من الجنّ و الإنس،حيث إنّ علّيّين اسم ذلك الدّيوان و علمه،و فيه معنى العلوّ،سمّي بذلك إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدّرجات في الجنّة،و إمّا لأنّه مرفوع في السّماء السّابعة تحت العرش حيث يسكن الكروبيّون،و يشهد به قوله تعالى: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) (1).

و قيل:علّيّون اسم الجنة.و قيل:سدرة المنتهى.و يحتمل أن يكون معنى كونه في علّيّين كونه من جنس الأوراق و الألواح العالية و الصحف المكرّمة المرفوعة المطهّرة بأيدي سفرة كرام بررة.

و كذلك يؤتى ذلك الكتاب للسّعداء و الأبرار بيمينهم،حيث إنّ إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا و الخلاص،كما أنّ إعطاءه باليسار و وراء الظّهر علامة السّخط و الهلاك.

أو لأنّ كتابهم لمّا كان من كتب الخيرات و الحسنات التي يكنّى عنها باليمين،فلذا يعطونه باليمين.أو لأنّهم حيث كانوا من أصحاب اليمين يؤتون كتابهم بها.

أو لأنّ كتابهم لمّا كان من كتب الخيرات و كان الملك الذي يكتب الخيرات و الحسنات عند الترقوة اليمنى من الإنسان،كما أنّ الملك الذي يكتب السيّئات عند التّرقوة اليسرى منه كما ورد به الأخبار،فلذلك يعطى كتابهم بيمينهم.

و كذلك يكون ذلك الكتاب للفجّار في سجّين،و معناه كما ذكره المفسّرون أيضا:أنّ السجّين فيه معنى السّجن أي الحبس و الضّيق،و معنى كونه فيه كونه في جبّ من جهنّم أو في ديوان الشّر الذي دوّن فيه أعمال الكفرة و الفسقة من الجنّ و الإنس،أو لأنّه مطروح،

ص:235


1- -المطفّفين(83):21. [1]

كما روي أنّه تحت الأرض السّابعة في موضع وحش يشهده الشّياطين كما يشهد ديوان الخير الملائكة.

و يحتمل أيضا أن يكون معناه أنّه من جنس الأوراق السّفلية و الصّحائف الدنيّة القابلة للاحتراق.

و كذلك يؤتى ذلك الكتاب لبعض هؤلاء الفسقة و الفجّار بشماله،و وجه المناسبة ظاهر،حيث إنّهم في مقابلة السّعداء و الأبرار،و كلّ حكمة تقتضي إعطاء كتاب السّعداء بيمينهم،فمقابل تلك الحكمة يقتضي إعطاء كتاب هؤلاء المقابلين لهم بشمالهم،و لبعضهم وراء الظّهر،حيث إنّهم أوتوا الكتاب،أي القرآن فنبذوه وراء ظهورهم،و اشتروا به ثمنا قليلا،فيعطون كتاب أعمالهم أيضا وراء ظهرهم.

و قد ذكر بعض المفسّرين:أنّه يكون يمينه مغلولة إلى عنقه،و شماله خلف ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.و على هذا المعنى فيؤتى كتابه بشماله أيضا مع زيادة خزي و هوان،و يكون الوجه في إعطاء كتابهم إيّاهم من وراء ظهرهم هو الوجه في إعطائه إيّاهم بشمالهم.و اللّه تعالى يعلم.

و بالجملة،فالظّاهر أنّ الكتاب عبارة عن تلك الصّحيفة التي كتبها الكرام الكاتبون من أعمال المكلّفين،و كلّ صغير و كبير مستطر فيه و لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها،و يكون للمؤمنين و السّعداء من جنس،و للفسقة و الفجّار من جنس آخر كما ذكر،و أنّ لكلّ مكلّف كتابا كتب فيه أعماله،و هذا مع كونه ممّا قد نطق به الشّرع لا مانع منه عقلا،فيجب الإيمان به.كما أنّ الشّرع قد نطق بتطاير الكتب أيضا يوم القيامة على ما دلّ عليه أخبار صريحة في ذلك،و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)) (1).على ما ذكره كثير من العلماء،بناء على أن يكون المراد بطائر الإنسان كتاب عمله الذي يطير،و بإلزامه في عنقه تعليقه عليه.و لا مانع منه أيضا عقلا فيجب الإيمان به.

و إن كان جمع من مفسّري الخاصّة و العامّة فسّروا الطّائر بالعمل و ما قدّر للعبد من الخير

ص:236


1- -الإسراء(17):13. [1]

و الشّر،كأنّه طير إليه من عشّ الغيب و وكر القدر لمّا كانوا يتيمّنون و يتشاءمون بسنوح الطائر و بروجه،استعير لما هو سبب الخير و الشّر من قدر اللّه و عمل العبد.و قالوا:إنّ لزومه في عنق الإنسان أنّه لازم له لزوم الطّوق في عنقه،و أنّه سبب لزينه أو شينه كالقلادة و الغلّ.

ثمّ إنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للكتاب،و إن كان هو الظّاهر من الشرع و ذهب إليه العلماء،إلاّ أنّ بعضا منهم قد أوّله أيضا على وجه آخر.

قال البيضاويّ في قوله تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً)) (1):«إنّ الكتاب صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله،فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النّفس أحوالا،و لذلك يعيد تكرّرها لها ملكات» (2)،انتهى.

و قال صدر الأفاضل في«الشواهد»:«الإشراق التاسع في نشر الكتب و الصحائف.

كلّ ما يدركه الإنسان بحواسّه يرتفع منها أثر إلى الروح و يجتمع في صحيفة ذاته و خزانة مدركاته،و هو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار،فيكشف له بالموت ما يغيب عنه في حال الحياة ممّا كان مسطورا في كتاب لا يجلّيها إلاّ لوقتها،و قد مرّ أنّ رسوخ الهيئات و تأكّد الصّفات،و هو المسمّى عند أهل الحكمة بالملكة،و عند أهل النّبوة و الكشف بالملك و الشيطان يوجب خلود الثّواب و العقاب...

فكلّ من فعل مثقال ذرّة من خير أو شرّ يرى أثره مكتوبا في صحيفة ذاته أو صحيفة أعلى منها،و هو نشر الصّحائف و بسط الكتب،فإذا حان أن يقع بصره على وجه ذاته عند كشف غطاء و رفع شواغل ما يورده هذه الحواسّ المعبّر عنه بقوله تعالى: وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)) (3)فيلتفت إلى صحيفة باطنه و صحيفة قلبه،فمن كان في غفلة عن ذاته و حساب سرّه يقول عند ذلك: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)) (4)،و منشأ ذلك كما مرّ مرارا،أنّ الدّار الآخرة هي دار الحياة

ص:237


1- -الإسراء(17):13. [1]
2- -تفسير البيضاويّ 198/3،و [2]في لفظه:هي صحيفة عمله...فإنّ الأعمال...لذلك يفيد تكريرها...
3- -التكوير(81):10. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]

و الإدراك لقوله تعالى: وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)) (1)،و موادّ أشخاصها هي التّأمّلات الفكريّة و التّصوّرات الوهميّة،فيتجسّم الأخلاق و النّيّات في الآخرة يوم تبلى السّرائر، كما يتروّح الأعمال و الأفعال في الأولى،و الفعل هاهنا مقدّم على الملكة،و هناك بالعكس،قال سبحانه في قصّة ابن نوح عليه السّلام إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)) (2)ففي الخبر:«خلق الكافر من ذمّ(ذنب)المؤمن».

و في كلام فيثاغورس:اعلم أنّك ستعارض لك في أقوالك و أفعالك و أفكارك، و سيظهر لك من كلّ حركة فكريّة أو قوليّة أو فعليّة صور روحانيّة أو جسمانية،فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهويّة،صارت مادّة لشيطان يؤذيك في حياتك و يحجبك عن ملاحظة النّور بعد وفاتك،و إن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك،و تهتدي بنوره في أخراك إلى جوار اللّه و كرامته.

فإذا انقطع الإنسان عن الدّنيا و تجرّد عن مشاعر البدن،و كشف عنه الغطاء يكون الغيب له شهادة،و السّر علانية،و الخبر عيانا،فيكون حديد البصر قارئا لكتاب نفسه، بقوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) (3)و قوله: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (4)،فمن كان من أهل السّعادة و أصحاب اليمين،و كان معلوماته أمورا مقدّسة،فقد أوتي كتابه بيمينه من جهة علّيّين،إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين و ما أدراك ما علّيّون،كتاب مرقوم،يشهده المقرّبون.

و من كان من الأشقياء المردودين،و كان معلوماته مقصورة على الجزئيّات،فقد أوتي كتابه من جهة سجّين،إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين،لكونه من المجرمين المنكوسين،

ص:238


1- -العنكبوت(29):64. [1]
2- -هود(11):46. [2]
3- -ق(50):22.
4- -الإسراء(17):13-14. [3]

لقوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (1)،في الحساب و الميزان (2)، انتهى كلامه.

قال المحقّق الطّوسي رحمه اللّه فيما ينسب إليه من رسالة«المبدأ و المعاد»بهذه العبارة:

«فصل هشتم در اشارت به صحائف اعمال و كرام الكاتبين و نزول ملائكه و شياطين بر نيكان و بدان».

قول و فعل ما دام كه در دو كون اصوات و حركات باشند از بقا و ثبات بى نصيب بود، و چون به كون كتابت و تصوير آيند،باقى و ثابت شوند و هركه قولى بگويد،يا فعلى بكند اثرى از او باقى ماند،و به اين سبب تكرار اقتضاى اكتساب ملكه كند،كه با وجود آن ملكه معاودت به آن قول يا آن فعل آسان بود،و اگرنه چنين بودى هيچ كس علم و صناعت نتوانستى آموخت و تأديب كودكان و تكميل ناقصان را فائده نبودى.آن اثرها كه از اقوال و افعال باشد محل آن كتابتها و تصويرها را كتاب افعال و صحيفه اعمال خوانند،چه اقوال و اعمال چون مشخص شوند كتابت باشد،چنان كه بيان كنيم،و كاتبان و مصوّران مكتوبات و مصوّرات كرام الكاتبين باشند.قومى كه بر يمين باشند حسنات اهل يمين نويسند،و قومى كه بر شمال باشند سيّئات اهل شمال نويسند: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)) (3).در خبر است كه هركه حسنه كند از آن حسنه فرشته در وجود آيد،و او را مثاب دارد،و هركه سيّئه كند از آن سيّئه شيطانى در وجود آيد،كه او را معذّب دارد،و خود در قرآن مى گويد: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ)) (4).

ص:239


1- -السجدة(32):12. [1]
2- -راجع:الشواهد الربوبيّة293/-295. [2]
3- -ق(50):17.
4- -فصّلت(41):30-31. [3]

و به مقابل آن: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ)) (1).

و همچنين وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) (2).

همين است كه به عبارت اهل بينش،ملك و شيطان هر دو يكى است.

و اگرنه بقا و ثبات آن ملكات بودى،خلود ثواب و عقاب را بر اعمال كه در زمان اندك كرده باشند وجهى نبودى،و لكن«إنّما يخلد أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار بالنّيّات»،پس هركه مثقال ذره نيكى يا بدى كند،نيكى و بدى در كتابى مكتوب و مصوّر شود،و مؤبّد و مخلّد بماند.و چون پيش چشم دارند،كه وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)) (3)،كسانى كه از آن غافل بوده باشند،گويند: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)) (4).

و همچنين در اخبار بسيار آمده است،كه از گفتن تسبيحى يا فعل حسنه مثلا حورى بيافرينند كه در بهشت جاودانى از آن تمتع يابند.و در ديگر جانب همچنين از سيئات گناهكاران اشخاصى بيافرينند كه سبب محنت و عقوبت قومى باشند.چنان كه در قصّۀ پسر نوح عليه السّلام آمده است: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)) (5)،و در بنى اسرائيل: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)) (6).و در خبر است كه:«خلق الكافر من ذنب المؤمن».و امثال آن بسيار است.

و اين جمله به حكم آن باشد كه وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)) (7)، پس هرچه در نظر اهل دنيا در آيد از وراء حجاب آن را غير حيوان بيند؛چون حجاب

ص:240


1- -الشعراء(26):221-222. [1]
2- -الزخرف(43):36. [2]
3- -التكوير(81):10. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]
5- -هود(11):46. [5]
6- -الدخان(44):30-31. [6]
7- -العنكبوت(29):64. [7]

غطاء از پيش برگيرد،كه فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) (1)،و اين آنگاه بود كه از اين حيات كه به حقيقت مرگ است بميرد،و به حيات آن جهان كه مرگ اين جهان است زنده شود،كه: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)) (2).آن را چنان بيند كه باشد،و اين است اجابت دعاء«اللهمّ أرنا الأشياء كما هي»پس هركسى را بعد از كشف غطاء و حدّت بصر كتاب خود ببايد خواندن و حساب خود كردن، وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (3).اگر سابق الخيرات باشد، يا از اهل يمين به حكم«كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون»كتابش از پيش يا از جانب راستش بدو دهند فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ)) (4).و اگر از جمله منكوسين باشد، وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (5).يا از اهل شمال،كتابش از وراء ظهرش يا از جانب چپش به او دهند، وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ)) (6). «وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ» (7)،انتهى كلامه زيد اكرامه.

و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره البيضاويّ،في معنى الكتاب،و كذا ذهب إليه صدر الأفاضل و فصّله،إن كان القول به على سبيل الاحتمال،أي بأن جعل الأصل في معناه ما ذكرناه كما هو ظاهر الشّرع،و مع هذا قيل بهذا الاحتمال أيضا فلا مانع منه،و إن حصر المعنى فيه،فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر الشرع.

و لا يخفى عليك أيضا أنّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في معناه،و إن كان متضمّنا للتأويل،إلاّ أنّه ليس فيه خروج عن ظاهر الشرع،بل هو تحقيق أنيق جامع لظاهر الشرع

ص:241


1- -ق(50):22.
2- -الأنعام(6):122. [1]
3- -الإسراء(17):13-14. [2]
4- -الحاقّة(69):19؛ [3]الانشقاق(84):7. [4]
5- -السجدة(32):12. [5]
6- -الانشقاق(84):10. [6]
7- -المبدأ و المعاد23/-25،ط تهران.

و باطنه.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده،فنقول:

الميزان

فقد اختلف في معناه.

قال الزمخشريّ في قوله تعالى: «وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» (1):يعني وزن الأعمال و التمييز بين راجحها و خفيفها،و رفعه بالابتداء،و خبره يومئذ،و الحقّ صفته.أو الوزن يوم يسأل اللّه الأمم و رسلهم الوزن الحقّ أي العدل.و قرئ بالقسط.

و اختلف في كيفيّة الوزن،فقيل:توزن صحائف الأعمال بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق،تأكيدا للحجّة و إظهارا للنّصفة و قطعا للمعذرة،كما يسألهم عن أعمالهم،فيعترفون بألسنتهم و تشهد عليهم أيديهم و أرجلهم و جلودهم،و تشهد بها عليهم الأنبياء و الملائكة و الأشهاد،كما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب.

و قيل هي عبارة عن القضاء السّويّ و الحكم العادل.فمن ثقلت موازينه،جمع ميزان أو موزون فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن و قدر و هي الحسنات،أو ما وزن به حسناتهم.

و عن الحسن:«و حقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل،و حقّ لميزان توضع فيه السيّئات أن يخفّ» (2)،انتهى.

و مثله كلام الطبرسيّ رحمه اللّه في«الجوامع»في تفسير هذه الآية.

و قال البيضاويّ في تفسيرها:«و الوزن أي القضاء أو وزن الأعمال،و هو مقابلتها بالجزاء،و الجمهور على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة،و قطعا للمعذرة،كما يسألهم عن أعمالهم فيعترف بها ألسنتهم،

ص:242


1- -تفسير الكشّاف 67/2-68. [1]
2- -نفس المصدر.

و تشهد بها جوارحهم.و يؤيّده ما روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسع و تسعون سجلاّ كلّ سجلّ مدّ البصر،فيخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة،فيوضع السّجلاّت في كفّة و البطاقة في كفّة،فطاشت السّجلاّت و ثقلت البطاقة (1).

و قيل:توزن الأشخاص،لما روي أنّه عليه السّلام قال:إنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة.

«يَوْمَئِذٍ» خبر المبتدأ الذي هو الوزن،و الحقّ صفته أو خبر محذوف،و معناه العدل السويّ.

«فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» حسناته،أو ما يوزن به حسناته.و جمعه باعتبار اختلاف الموزونات و تعدّد الوزن،فهو جمع موزون أو ميزان» (2)،انتهى.

و قال الشّارح القوشجيّ في شرح التجريد:«و ذهب كثير من المفسّرين إلى أنّ الميزان له كفّتان و لسان و شاهين عملا بالحقيقة لا مكانها،و قد ورد في الحديث تفسيره بذلك، و أنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن وزنها،فكيف إذا زالت و تلاشت،بل المراد به العدل الثّابت في كلّ شيء،و لذا ذكر بلفظ الجمع،و إلاّ فالميزان المشهور واحد.

و قيل:هو الإدراك فميزان الألوان البصر،و الأصوات السمع،و الطّعوم الذوق،و كذا سائر الخواصّ،و ميزان المعقولات العقل.

و أجيب بأنّه يوزن صحائف الأعمال.و قيل:بل يجعل الحسنات أجساما نورانيّة، و السّيئات أجساما ظلمانيّة.و أمّا لفظة الجمع فللاستعظام.

و قيل:لكلّ مكلّف ميزان،و إنّما الميزان الكبير واحد،إظهارا لجلالة الأمر فيه،و عظم المقام (3)،انتهى.

و قال بعض المحقّقين موافقا للغزاليّ في تحقيق ميزان أعمال العباد:«إن لكلّ معنى

ص:243


1- -البطاقة:الرقعة الصغيرة.
2- -تفسير البيضاويّ 3/3. [1]
3- -شرح التجريد للقوشجى425/.

من المعاني حقيقة و روحا و له صورة و قالب،و قد يتعدّد الصور و القوالب لحقيقة واحدة، و إنّما وضعت الألفاظ للحقائق و الأرواح،و لوجودها في القوالب يستعمل الألفاظ فيها على الحقيقة،مثل القلم فإنّه وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك،بل و لا أن يكون جسما،و لا كون النّقش محسوسا أو معقولا،و لا كون اللوح من قرطاس أو خشب،بل مجرّد كونه منقوشا فيه،و هذا حقيقة اللوح.

فكذلك الميزان موضوع لما يعرف به مقادير الأشياء،و هذا معنى واحد هو حقيقته و روحه،و له قوالب مختلفة و صور شتّى بعضها محسوس و بعضها معقول،مثل ما يوزن به الأجرام و الأثقال كذي الكفّتين،و ما يوزن به المواقيت و الارتفاعات كالاصطرلاب،و ما يوزن به الدوائر و القسّي كالفرجار،و ما يوزن به الأعمدة كالشاقول،و ما يوزن به الخطوط كالمسطر،و ما يوزن به الشعر كالعروض،و ما يوزن به سائر العلوم كالمنطق،و ما يوزن به الكلّ كالعقل المستقيم.

و على هذا التحقيق يحتمل أن يقال:إنّ الميزان في الشرع للخواصّ من الناس المنطق،و القوانين النظريّة التي يعرف بها الحقّ و الباطل في الاعتقادات و الأصول، و للخواصّ و العوامّ جميعا في الأعمال و الأفعال الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،إذ صحّة الفعل و فساده يتحقّق بالموافقة لأفعالهم و أقوالهم و عدمها،انتهى.

و قال بعضهم:«إنّه قد ورد في الأحاديث أنّ الموازين القسط هم الأنبياء و الأوصياء، و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الميزان،فميزان كلّ أمّة هو نبيّ تلك الأمّة و وصيّ نبيّها»،انتهى.

و قال ابن بابويه في«اعتقاداته»:«اعتقادنا في الحساب و الميزان أنّهما حقّ،منه ما يتولاّه اللّه عزّ و جلّ و منه ما يتولاّه حججه،فحساب الأنبياء و الأئمّة عليه السّلام يتولاّه اللّه عزّ و جلّ،و يتولّى كلّ نبيّ حساب أوصيائه،و يتولّى الأوصياء حساب الأمم،و اللّه تبارك و تعالى هو الشهيد على الأنبياء و الرّسل،و هم الشهداء على الأوصياء،و الأئمّة شهداء على الناس،و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:

ص:244

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ)) (1)،

و قوله عزّ و جلّ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)) (2)،

و قال اللّه عزّ و جلّ: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ)) (3).و الشاهد أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)) (4).

و سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ. وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)) (5).

قال:الموازين الأنبياء و الأوصياء.

و من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب.

السؤال

فهو واقع على جميع الخلق،لقول اللّه عزّ و جلّ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) (6)،يعني عن الدّين.

و أمّا الذنب فلا يسأل إلاّ من يحاسب.قال اللّه عزّ و جلّ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ)) (7)،يعني من شيعة النبيّ و الأئمّة عليه السّلام دون غيرهم،كما ورد في التفسير.

و كلّ محاسب معذّب،و لو بطول الوقوف،و لا ينجو من النار و لا يدخل الجنّة أحد إلاّ بعمله و الاّ برحمة اللّه تعالى،و اللّه تعالى يخاطب عباده من الأوّلين و الآخرين بمحلّ حسابهم مخاطبة واحدة يسمع منها كلّ واحد قضيّة دون غيرها،و يظن أنّه مخاطب دون

ص:245


1- -الحجّ(22):78. [1]
2- -النساء(4):41. [2]
3- -هود(11):17. [3]
4- -الغاشية(88):25-26. [4]
5- -الأنبياء(21):47. [5]
6- -الأعراف(7):6. [6]
7- -الرحمن(55):39. [7]

غيره،لا يشغله عزّ و جلّ مخاطبة عن مخاطبة،يفرغ من حساب الأوّلين و الآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا،و يخرج اللّه عزّ و جلّ لكلّ إنسان كتابا يلقاه منشورا ينطق عليه بجميع أعماله.لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها،فيجعله اللّه محاسب نفسه و الحاكم عليها،بأن يقال له: اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) و يختم اللّه تبارك و تعالى على أفواههم و تشهد أيديهم و أرجلهم و جميع جوارحهم بما كانوا يكسبون،و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟قالوا أنطقنا اللّه الذي أنطق كلّ شيء و هو خلقكم أوّل مرّة و إليه ترجعون،و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم،و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون)) (1)،انتهى.

و أقول:و أنت تعلم بعد التأمّل في كلام العلماء من أهل الإسلام،ممّا نقلنا أو لم ننقل، أن لا خلاف بينهم،بل لا شكّ في أنّ في يوم القيامة معيارا صحيحا سديدا قويما يعرف به صحّة العمل و فساده،و صواب الاعتقاد و خطاؤه،قد عبّر عنه بلسان الشّرع بالميزان كما نطقت به الآيات القرآنيّة،و دلّت عليه الأحاديث الصحيحة المعتبرة،إلاّ أنّهم اختلفوا في حقيقة ذلك الميزان و المعيار ما هي؟

فمن قال بأنّ المراد منه الميزان الحسّيّ الجسمانيّ الذي له لسان و كفّتان،فكأنّه قال به نظرا إلى دلالة بعض الأخبار عليه،كخبر السجلاّت الذي نقله البيضاويّ و غيره من الأخبار،و الى أنّ المتبادر من لفظة الميزان و المعنى الحقيقيّ له هو هذا،فيجب الحمل عليه إذا لم يكن قرينة على خلافه.

و لا إشكال عليه أيضا من جهة أنّ الأعمال و الاعتقادات معاني و أعراض،فكيف يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها؟لأنّها من حيث كونها معاني و أعراضا و إن كان لا يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ الجسمانيّ،إلاّ أنّها كما دلّ عليه الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال في القيامة تكون أجساما،إمّا أجساما نورانيّة،كما للمحسنين،و إمّا ظلمانيّة كما للمسيئين،و إذا كانت أجساما فيمكن وزنها بذلك الميزان.

ص:246


1- -راجع الاعتقادات للصدوق88/-89. [1]

فإن قلت:إنّ الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال تدلّ على تجسيم أعمال المحسنين بصورة الحور و القصور و الولدان و نحو ذلك،و أعمال المسيئين بصورة الحيّات و العقارب و النيران و نحو ذلك،فما معنى وزنها؟

قلت:لا امتناع في وزنها حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها.مع أنّه يمكن أن تكون تلك الأعمال مع تجسّمها بتلك الصّور المذكورة متجسّمة حين الوزن بصور جسمانيّة أخرى مؤلمة أو ملذّة،و يقع الوزن على تلك الأجسام الأخرى،و تكون الأجسام الأولى و الأخرى كلّها مظاهر لتلك الأعمال.

فإنّك قد عرفت فيما مضى أنّه يمكن أن يكون لحقيقة واحدة مظاهر متعدّدة،على أنّه يمكن أن يكون الموزون بذلك الميزان الحسّيّ صحائف الأعمال لا نفس الأعمال،أي أن يكون تلك الصّحائف الجسمانيّة من حيث كونها مشتملة على الأعمال المكتوبة فيها، و كون ثقلها و خفّتها دليلا على ثقل الأعمال و خفّتها موزونة.

و أمّا القول بأنّه توزن الأشخاص،فهو و إن كان يدفع هذا الإشكال أيضا،إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الأخبار،بل مستبعد جدّا،فإنّ ثقل الأشخاص من حيث كونها أشخاصا و خفّتها،كيف يكون دليلا على ثقل الأعمال و خفّتها اللّذين هما مناط الرجحان و عدمه، و سبب الحكم على المكلّفين بالإساءة أو الإحسان.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد بوزن الأشخاص وزن أعمالهم أو وزن صحائف أعمالهم، فيرجع إلى السّابق.و كذا الحديث الذي نقله البيضاويّ (1):«من أنّه روي عنه عليه السّلام،أنّه قال:

«ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة»،غير صريح و لا ظاهر في وزن الأشخاص،فإنّه يمكن أن يكون معنى الحديث-و اللّه أعلم-أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا قدر له عند اللّه تعالى بقدر جناح بعوضة،لكونه ممّن لا عمل خير له،و يؤيّده ما ذكره الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في«مجمع البيان»في تفسير قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)) (2).بهذه العبارة:

ص:247


1- -تفسير البيضاويّ 3/3. [1]
2- -الكهف(18):105. [2]

«فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا»أي لا قيمة لهم عندنا و لا كرامة،و لا نعتدّ بهم،بل نستخفّ بهم و نعاقبهم.يقول العرب:ما لفلان عندنا وزن،أي قدر و منزلة،و وصف الجاهل بأن لا وزن له لخفّته بسرعة طيشه في قلة تنبّه.

و روي في الصّحيح أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (1)،انتهى.

و لا يخفى أنّ ذكره رحمه اللّه هذا الحديث في تفسير الآية كما فسّرها يؤيّد ما ذكرنا في معنى الحديث،بل يدلّ عليه،و إن ذكر بعضهم في الآية تفسيرا آخر،و هو أنّه لا يقام للكافرين يوم القيامة ميزان،لكون أعمالهم حابطة،موافقا لما ورد في الأخبار:«إنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين،و لا تنشر لهم الدّواوين،و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا،و إنّما نصب الموازين و نشر الدواوين لأهل الإسلام»رواه الكلينيّ رحمه اللّه في«روضة الكافي»عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام (2).

ثمّ إنّه حيث كان الميزان ميزانا حسّيّا جسمانيّا،كان ثقل الموازين-جمع ميزان أو موزون-و خفّتها ثقلا و خفّة حسّيّين أيضا،و كان الثّقل دليلا على الرجحان،و الخفّة دليلا على خلافه،كما أنّه في النشأة الدنيويّة كذلك.

و قد قال بعض أهل التحقيق،كالمحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة«المبدأ و المعاد»:«إنّ في ذلك إشارة إلى دقيقة هي أنّ أثر كلّ فعل يقتضي اطمينان الفاعل كالخيرات و الأفعال الحسنة،فنسبته إلى الثقل أولى،و هذا كما أنّ المثقلات تحفظ السفن عن الاضطراب و الحركات المختلفة،و أثر كلّ فعل يقتضي تحيّر نفس الفاعل و تتبّع الأهواء المختلفة كالسّيّئات و الشّرور فنسبته إلى الخفّة أولى،حيث إنّ الجسم الخفيف يتحرّك بأدنى تغيّر يحدث في الهواء و يكون حركاته خالية عن الانتظام،و كذلك اطمينان النفس يستلزم الرضا،فلذا قال تعالى: فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)) (3).و اختلاف

ص:248


1- -مجمع البيان 497/6 و في لفظه:...و يوصف الجاهل...بسرعة بطشه و قلّة تثبّته...
2- -الكافي [1](الأصول و الروضة)412/11-413،طبع الإسلامية. [2]
3- -القارعة(101):6-7. [3]

حركات النفس و اضطرابها يستلزم متابعة الهواء،و هي مؤدّية إلى الهاوية،فلذا قال تعالى:

وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)) (1).

و أيضا إن إبليس خلق من النار،و آدم خلق من الطين،كما قال تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) (2)و النار خفيفة،و الطين ثقيل،فلذا يقتضي أفعال إبليس الخفّة، و أفعال آدم الثقل،كما قال تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)) (3)انتهى بمضمونه. (4)

و أقول:و هذا التحقيق و إن كان متضمّنا للتأويل،لكنّه تحقيق أنيق جامع بين ظاهر الشّرع و باطنه.

و حيث عرفت ذلك.فاعلم أنّ القول بالميزان بهذا المعنى الحسّيّ الجسمانيّ،كأنّه لا ينافيه ما ورد في الأخبار الصحيحة أنّ الموازين هم الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الميزان،إذ القائل بهذا القول لو رام القول بما تضمّنه تلك الأخبار أيضا، و أراد الجمع بين الأخبار،أمكنه أن يقول:لعلّ المتولّي لوزن الأعمال بذلك الميزان الحسّيّ هم الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،كما أنّهم هم المتولّون لحساب الأمم،فلذلك أطلق عليهم عليه السّلام،لفظ الميزان،و يكون الإطلاق على نوع من المجاز.

و على تقدير أن يكون المراد بتلك الأخبار أنّهم عليه السّلام هم الميزان نفسه،و أنّ ذواتهم المقدّسة و نفوسهم الشريفة هي المعيار لصحّة العمل و فساده،كما هو الظاهر من تلك الأخبار،بناء على أن يكون إطلاق الميزان عليهم عليه السّلام بنوع تجوّز كما هو الاحتمال،أو على سبيل الحقيقة بناء على التحقيق الذي نقلناه من الغزاليّ و غيره،و بناء على أن يكون معنى كونهم الميزان كما هو الاحتمال،أنّهم يحكمون بعقولهم المقدّسة المستقيمة في النشأة الأخرويّة على بعض الأعمال و الاعتقادات بالحسن و الرّجحان،و كذا بالثقل الذي هو دليل الرجحان،و على بعضها بخلاف ذلك.

ص:249


1- -القارعة(101):8-9. [1]
2- -الأعراف(7):12؛ [2]ص(38):76.
3- -الإسراء(17):84. [3]
4- -المبدأ و المعاد28/.

أو أنّه يوم القيامة يعرض أفعال العباد و عقائدهم على أفعالهم عليه السّلام و عقائدهم، و تقاس هي عليها،فما وافق أفعالهم و عقائدهم يحكم عليه بالرجحان و الثقل،و ما خالفه يحكم عليه بخلافه كما هو الأظهر،و بناء على أن يكون معنى الثقل و الخفّة معنى عقليّا.

فعلى هذا التقدير لا منافاة أيضا،إذ القائل بالميزان الحسّيّ لو رام الجمع أيضا،أمكنه أن يقول:لا امتناع في أن يكون يوم القيامة نوعان من الميزان و المعيار،يوزن بكلّ منهما الأعمال و يتميّز بهما صحّة الفعل و فساده:أحدهما الميزان الحسّيّ،و الآخر الأنبياء و الأوصياء الذين يرجع كونهم ميزانا إلى الميزان العقليّ،و لعلّ الحكمة في ذلك-و اللّه أعلم-ظهور حسن أفعال العباد و قبحها أتمّ ظهور،حيث إنّ تلك الأفعال توزن بميزان حسّيّ و عقليّ جميعا،فيظهر ثقل ما ظهر ثقله بالميزان الحسّيّ بالميزان العقليّ أيضا، و كذلك الخفّة.

و بالجملة،يكون إلزام الحجّة عليهم أوكد و أتمّ.

و هذا كما أن من يقول بأنّ المراد بالموازين القسط هم الأنبياء و الأوصياء نظرا إلى دلالة تلك الأخبار عليه،لو رام القول بالميزان الحسّيّ أيضا و الجمع بين الأخبار،أمكنه ذلك بأحد من الوجهين المذكورين.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك أنّ من قال بأنّ الموازين عبارة عن القضاء السويّ و الحكم العادل،إن أراد به القضاء السويّ و الحكم العادل الذي يكون بالميزان الحسّيّ،فلا مانع منه.

و كذا لو أراد به الحكم العادل الذي يحكم به الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،أو يحكم به اللّه تعالى أو الملائكة المقرّبون بإذن اللّه تعالى،أو الحكم العدل الذي يكون هو بموافقة أفعال العباد لأفعال الحجج عليه السّلام و مخالفتها لها،فلا مانع منه أيضا.و كيفما كان فلا يكون في هذا القول مخالفة لشيء من الأخبار،بل على تقديره أيضا يمكن الجمع كما يعلم بالتأمّل فيما ذكرنا.

و أمّا من قال بأنّ المراد بالوزن وزن الأعمال،و هو مقابلتها بالجزاء،فهو بظاهره و إن كان يتراءى كونه معنى آخر غير ما ذكر،إلاّ أنّه بعد التأمّل يرجع إلى السابق أيضا،لأنّ

ص:250

وزن الأعمال و مقابلتها بالجزاء إنّما يكون بميزان البتّة،و هو إمّا الميزان الحسّيّ أو العقليّ.

و قد ذكر بعضهم أنّ المراد بالميزان تقابل الحسنات من أهل الطّاعة بسيّئاتهم،ليظهر الرجحان أو التساوي،و هذا مع رجوعه إلى السّابق باعتبار يتضمّن معنى آخر،هو الموازنة التي قال بها بعض المتكلّمين،و أبطلها بعض العلماء منّا.و لنا في تحقيق القول بها و في إبطال الإحباط و التكفير كلام مبسوط ذكرناه في«تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام» (1)،من أراد الاطّلاع عليه فليرجع إليه.

و كيفما كان،فالميزان بأيّ معنى من تلك المعاني المتقدّمة،أمر ممكن في ذاته قد أنبأ عنه الشرع،فيجب الإيمان به.

الحساب

فمعناه جمع تفاريق المقادير و الأعداد و تفريق مبلغها لكي يظهر كيفيّة الحال،و هو في القيامة عبارة عن حصر آثار الحسنات و السيّئات و جمعها حتّى يجزى أهل الحسنات جزاء حسناتهم،و أهل السيّئات جزاء سيّئاتهم،و كما أنّ ذلك أمر ممكن في ذاته،كذلك يمكن في جنب قدرة اللّه تعالى البالغة أن يكشف في لحظة واحدة و ساعة واحدة للخلائق حاصل حسناتهم و سيّئاتهم،و لا يشغله حساب أحد عن حساب الآخر،و يفرغ في تلك اللحظة و السّاعة عن حساب الأوّلين و الآخرين و هو أسرع الحاسبين.

و أمّا بيان كيفيّة وقوع الحساب و بيان المتولّي له،و بيان من يقع عليه الحساب،و ما يحاسب به،و يسأل عنه،فقد عرفته على سبيل الإجمال ممّا نقلنا عن الشيخ ابن بابويه رحمه اللّه من المقال،فتذكّر.

إلاّ أنّ قوله أوّلا بوقوع الحساب على كلّ أحد،حتّى الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،و قوله أخيرا:إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب،يتراءى أنّه كونهما متنافيين ظاهرا.

و لعلّ وجه رفع التنافي كما يظهر من كلامه،أنّ معنى وقوع الحساب على الكلّ أنّ

ص:251


1- -نسخة منه موجودة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

الكلّ يحاسبون و يسألون عن الدين،و معنى أنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب، أنّهم يدخلون الجنّة بغير حساب و سؤال عن الذنب لا عن الدين أيضا،و حينئذ فلا منافاة:

على أنّه ذكر بعض المفسّرين،كالشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع في تفسير قوله تعالى:

مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)) (1)هكذا:و قوله:«بغير حساب»في مقابلة«إلاّ مثلها»معناه أنّ جزاء السّيئة له حساب و تقدير لا يزيد على المستحقّ،و أمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير و حساب،بل هو زائد على المستحقّ ما شئت من الزيادة و الكثرة» (2)، انتهى.

و لعلّ مراد ابن بابويه رحمه اللّه أيضا من قوله:«إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب» هذا المعنى،و حينئذ فلا إشكال و لا منافاة أصلا.

و قد تضمّن ما نقلناه عنه أنّ في القيامة،و لا سيّما حين وقوع الحساب،يكون إنطاق الجوارح أيضا كما دلّ عليه الآيات التي ذكرها و غيرها ممّا ورد في الشّرع من ذلك،و لا يخفى أنّه أيضا أمر ممكن في ذاته قد نطق به الشرع،فيجب الإيمان به.و هذا أيضا من جملة الأمور و الأحوال الكائنة في القيامة التي نروم بيانها هذا.

و قد ذكر المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة«المبدأ و المعاد»في بيان الحساب كلاما لا بأس بنقله.

قال:«فصل نهم در اشارت به حساب طبقات اهل حساب.در روز حساب مردمان سه طائفه اند:طائفه اى «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» و ايشان سه صنفند:

اوّل:سابقان و اهل اعراف،كه از حساب منزه اند.در خبر است كه چون درويشان را به حسابگاه برند،و فرشتگان از ايشان حساب طلبند،گويند چه به ما داده ايد،تا حساب بازدهيم.خطاب حضرت عزت مى رسد كه نيك مى گويند،شما را با حساب ايشان كار نيست.و خود خطاب با پيغمبر است در حق جماعتى ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ

ص:252


1- -غافر(40):40. [1]
2- -جوامع الجامع419/.

مِنْ شَيْءٍ،وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) (1).

و صنف دوم:جماعتى از اهل يمين،كه بر سيّئات اقدام ننموده باشند.

و صنف سوم:جماعتى كه ديوان ايشان از سيّئات خالى باشد.(سوم:جماعتى كه يبدل اللّه سيّئاتهم حسنات خ).

اما اهل حساب نيز سه صنفند:

اوّل:جماعتى كه ديوان اعمال ايشان از حسنات خالى باشد.

دوم:كسانى كه حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)) (2)در شأن ايشان است.

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)) (3).

سوم:اهل حساب كه خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً)) (4)و ايشان دو صنف باشند:

صنفى كه حساب خود هميشه كنند،«و حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، پسنديده اند،لا جرم به قيامت يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)) (5).

و صنفى كه از حساب و كتاب غافلند،لا جرم به مناقشۀ حساب مبتلا شوند.«و من نوقش في الحساب فقد عذّب».

و حساب عبارت از حصر و جمع آثار حسنات و سيئاتى است كه تقديم يافته باشند،تا به حكم عدل جزاى هريك بستانند،و هميشه موقنان مشاهد موقف حساب باشند(لا يؤخّر حساب المؤمن إلى يوم القيامة) (6)،انتهى كلامه رحمه اللّه.

ص:253


1- -الأنعام(6):52. [1]
2- -هود(11):16. [2]
3- -الفرقان(25):23. [3]
4- -التوبة(9):102. [4]
5- -الانشقاق(84):8. [5]
6- -المبدأ و المعاد26/-27.

العقبات

ثمّ إنّ من جملة تلك الأحوال و الأمور الكائنة يوم القيامة،بل فيما بعد الموت «العقبات»،و قد دلّ عليه الشّرع.روى الشيخ ابن بابويه،في«الفقيه»عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال:إنّ بين الدنيا و الآخرة ألف عقبة،أهونها و أيسرها الموت. (1)

و ذكر صدر الأفاضل في الشّواهد«أنّه روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أنّه سئل عن قوله تعالى:

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)) (2)فقال:إنّه جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا.

و قال أيضا:يكلّف أن يصعد عقبة في النّار،كلّما وضع يده عليها ذابت،و إذا وضع رجله ذابت،فإذا رجعها عاقت(عادت خ)و يهوي فيه إلى أسفل سافلين» (3)،انتهى.

و قد ذكر العلماء في الحديث الأوّل وجوها:

فقال بعضهم:إنّ تلك العقبات عبارة عن الآلام و الغموم و الحسرات الكثيرة الحاصلة للإنسان بفعل أعمال الشرّ أو ترك أعمال الخير،سواء خصّصنا الشّرّ بالمحرّمات و الخير بالواجبات،و سواء عمّمنا الشرّ بحيث يشمل المكروهات،و الخير بحيث يشمل المستحبّات أيضا،حيث إنّه يلحقه بعد كشف الغطاء عنه بترك كلّ واجب بل مستحبّ، و كذا بفعل كلّ حرام،بل مكروه أيضا،ألم و حسرة و ندامة،فإنّ الألم الحاصل له لأجل كلّ واحد منها هو عقبة على حيالها.

و قال بعضهم:إنّها عبارة عن الآلام و الحسرات التي تحصل للنّفس الإنسانيّة بسبب قطع تعلّقها عن البدن و أجزائه و عن الأهل و المال و العشائر و الإخوان و الأحبّاء و الأصدقاء و نحو ذلك من موجودات النّشأة الدّنيويّة التي كان لها تعلّق بها،فإنّ الألم الحاصل لها بسبب قطع التّعلّق عن كلّ واحد واحد،هو عقبة واحدة من تلك العقبات.

ص:254


1- -من لا يحضره الفقيه 134/1.
2- -المدّثر(74):17. [1]
3- -الشواهد الربوبيّة301/-302 و [2]فيه:...كلّما وضع يده عليها ذابت،فإذا رجعها عادت،و إذا وضع رجله ذابت،فإذا رفعها عادت،و يهوي...

و على هذين المعنيين،فيكون المراد بالعقبات في الحديث العقوبات،سواء حمل قوله عليه السّلام:«ألف عقبة»على هذا العدد المعيّن أو على كثرة،إلاّ أنّ في المعنى الثّاني شيئا، و هو أنّ قطع تعلّق النّفس عن تلك المذكورات هو الموت،فلا يبقى حينئذ عقبة أخرى غير الموت يكون هو أيسر العقبات و أهونها كما دلّ عليه الحديث.

و قال ابن بابويه رحمه اللّه في اعتقاداته بهذه العبارة:«باب في العقبات التي على طريق المحشر:اعتقادنا في ذلك أنّ هذه العقبات اسم كلّ عقبة منها اسم فرض و أمر و نهي،فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها اسم فرض و كان قد قصّر في ذلك الفرض،حبس عندها و طولب بحقّ اللّه فيها،فإن خرج فيه بعمل صالح قدّمه،أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أخرى،فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة و يحبس عند كلّ عقبه،فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها،فإن سلم في جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبدا، و سعد سعادة لا شقاوة معها،و سكن جوار اللّه مع أنبيائه و حججه و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين من عباده.و إن حبس على عقبة فطولب بحق قصّر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه،و لا أدركته من اللّه رحمة،زلّت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنّم،نعوذ باللّه منها.

و هذه العقبات كلّها على الصراط؛اسم عقبة منها الولاية،يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليه السّلام،فمن أتى بها نجا،و من لم يأت بها هوى،و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)) (1)،و اسم عقبة منها المرصاد، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)) (2)،و هو قول اللّه عزّ و جلّ«لا يجوزني ظلم ظالم».و اسم عقبة منها الرّحم،و اسم عقبة منها الأمانة،و اسم عقبة منها الصلاة،و باسم كلّ فرض أو أمر و نهي عقبة،يحبس عندها العبد فيسأل» (3)،انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول:و على ما ذكره رحمه اللّه،فالعقبات محمولة على ظاهرها،سواء حملت على الكثرة أو على العدد المعيّن.و توجيهه على القول بتجسيم الأعمال و الأوامر و النّواهي ظاهرة،

ص:255


1- -الصافّات(37):24. [1]
2- -الفجر(89):14. [2]
3- -الاعتقادات للصدوق87/ و 88. [3]

فإنّه إذا جاز أن يكون الصّراط المستقيم الذي هو الدّين القويم،و عبارة عن مجموع ما أتى الشّارع به من الأوامر و النواهي و الأعمال و الأفعال و العقائد ممثّلا في الآخرة بصورة الجسر الممدود على متن جهنّم،كما تحقّقت القول فيه سابقا،كذلك يجوز أن يكون كلّ جزء من أجزاء الصراط المستقيم ممثّلا في القيامة بصورة عقبة من تلك العقبات،فيكلّف العبد بالمرور عليها و العبور منها،و يكون مرور من أتى بحقّ ذلك الجزء منه حقّ الإتيان بسهولة،و مرور من قصّر فيه بصعوبة.

إلاّ أنّ فيما ذكره رحمه اللّه شيئا أيضا،و هو أنّه يدلّ على أنّ كلّ تلك العقبات الواردة في الشّرع إنّما هي على الصّراط،و قد عرفت،أنّ الحديث الأوّل يدلّ على أنّها تكون فيما بين الدّنيا و الآخرة،حتّى في عالم البرزخ أيضا،و كذلك ما نقله صدر الأفاضل من الحديث النبويّ يدلّ على كونها في جهنّم أيضا.و اللّه تعالى يعلم.

الحوض

و من تلك الأمور الحوض،و هو أيضا ممّا ورد الشّرع به و يجب التّصديق له.

قال ابن بابويه رحمه اللّه في اعتقاداته:«اعتقادنا في الحوض أنّه حقّ،و أنّ عرضه ما بين أبلّة و صنعاء،و هو حوض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و أنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السّماء،و أنّ الوليّ (الساقي خ)عليه يوم القيامة أمير المؤمنين عليه السّلام،يسقي منه أولياءه،و يذود عنه أعداءه،من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ليختلجنّ قوم من أصحابي دوني و أنا على الحوض،فيؤخذ بهم ذات الشّمال،فأنادي:يا ربّ أصحابي أصحابي،فيقال لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1)،انتهى.

ص:256


1- -الاعتقادات85/. [1]

الشفاعة

و منها الشفاعة،قال ابن بابويه رحمه اللّه:إنّها لمن ارتضى اللّه دينه من أهل الكبائر و الصّغائر،فأمّا التائبون من الذّنوب فغير محتاجين إلى الشّفاعة،و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا شفيع أنجح من التّوبة.

و الشّفاعة للأنبياء و الأوصياء و المؤمنين و الملائكة،و في المؤمنين من يشفع في مثل ربيعة و مضر،و أقلّ المؤمنين شفاعة من يشفع لثلاثين إنسانا.و الشّفاعة لا تكون لأهل الشّرك،و لا لأهل الكفر و الجحود،بل يكون للمذنبين من أهل التوحيد (1)،انتهى.

و بالجملة،ثبوت أصل الشفاعة مع كونه ممّا دلّ عليه الشّرع الشّريف،لقوله تعالى:

عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)) (2)،حيث فسّر بالشفاعة.و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (3)إجماعيّ بين المسلمين لا خلاف فيه لأحد،فيجب الإيمان به.و أمّا السّمعيات الدالّة على نفي الشفاعة،كقوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)) (4)و قوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ)) (5)و غير ذلك،فهي متأوّلة بالكفّار.

و هل الشفاعة لزيادة المنافع أو لإسقاط المضارّ؟

فيه خلاف بين المتكلّمين،و الحقّ عند المحقّقين ثبوتها فيهما جميعا،إذ يقال:شفع فلان لفلان،إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضارّ.

و على التّقديرين،فيبطل الشفاعة منّا في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أمّا على التقدير الثاني فظاهر، إذ لا مضارّ له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يمكن إسقاطها،و أمّا على الثاني،فلأنّ طلب زيادة المنافع في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان يتصوّر،إلاّ أنّ الشفيع ينبغي أن يكون أعلى مرتبة من المشفوع،و هنا ليس كذلك.

ص:257


1- -الاعتقادات85/ و 86. [1]
2- -الإسراء(17):79. [2]
3- -من لا يحضره الفقيه 574/3،و في لفظه:إنّما شفاعتي.
4- -البقرة(2):270. [3]
5- -المدّثر(74):48. [4]

الجنّة و النّار

و منها الجنّة و النار بما فيهما كما فصّل في الشرع الشريف و بيّن في الدين القويم، و يجب الإيمان بهما جميعا،إذ جميع ذلك أمر ممكن في ذاته،و قد نطق به الشرع المتين المبين.

ص:258

المطلب الثّالث

اشارة

في بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في الجملة في القيامة

و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار

قال اللّه تعالى: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)) (1)الآيات.

و قال: فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ* وَ أَمّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَ أَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)) (2).

و قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)) (3)الآيات.

و ذكر صاحب الكشّاف في تفسير الآية الاولى:أنّ معنى قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)) :و كنتم أصنافا ثلاثة،يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج.و أنّ أصحاب الميمنة الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم،و أصحاب المشأمة الذين يؤتونها بشمائلهم،أو أصحاب المنزلة السنيّة و أصحاب المنزلة الدنيّة،من قولك:فلان منّي باليمين و فلان منّي بالشّمال،إذا و صفتهما بالرّفعة عندك و الضّعة.و ذلك لتيمّنهم بالميامن و تشؤّمهم بالشّمائل،و لتفؤّلهم بالسّانح و تطيّرهم من البارح.و لذلك اشتقّوا لليمين الاسم

ص:259


1- -الواقعة(56):7-11. [1]
2- -الواقعة(56):88-94. [2]
3- -فاطر(35):32. [3]

من اليمن،و سمّوا الشّمال شوميّ.

و قيل:أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة أصحاب اليمن و الشوم،لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم،و الأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم.

و قيل:يؤخذ بأهل الجنّة ذات اليمين،و بأهل النّار ذات الشمال.

و إنّ السّابقين المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم اللّه إليه،و شقّوا الغبار في طلب مرضاة اللّه تعالى.

و قيل:الناس ثلاثة:فرجل ابتكر الخير في حداثة سنّه،ثمّ دوام عليه حتّى خرج من الدنيا،فهذا السابق المقرّب.و رجل ابتكر عمره بالذنب و طول الغفلة،ثمّ تراجع بتوبة،فهذا صاحب اليمين.و رجل ابتكر الشرّ في حداثة سنّه،ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدّنيا، فهذا صاحب الشّمال (1)،انتهى.

و ذكر في تفسير الآية الثانية:أنّ المراد من المقرّبين:السابقون من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السّورة (2).

و يشعر كلامه هذا أنّ المراد من أصحاب اليمين أصحاب الميمنة،و بالمكذّبين الضالّين،أصحاب المشأمة.

و ذكر في تفسير الآية الثالثة ما يدلّ على أنّ المراد ب«الّذين»اصطفينا من عبادنا»أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصحابة و التابعين و تابعيهم و من بعدهم إلى يوم القيمة،و أنّ الضمير في «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» راجع إلى «الَّذِينَ» ،أي فمنهم ظالم لنفسه بجرم،و هو المرجى لأمر اللّه،و مقتصد،و هو الذي خلط عملا صالحا و آخر سيّئا،و سابق من السابقين (3)،انتهى.

و كلام الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع في تفسير الأولى و الثانية موافق لما ذكره صاحب الكشّاف،إلاّ أنّه لم يذكر معنى السّابقين،و لم يذكر أيضا ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله:«و قيل النّاس ثلاثة»الخ.

ص:260


1- -راجع تفسير الكشّاف 52/4. [1]
2- -نفس المصدر.
3- -راجع تفسير الكشّاف 308/3. [2]

و أمّا كلامه في تفسير الآية الثالثة فهكذا:«و عن ابن عبّاس و الحسن أنّ الضّمير،أي الضّمير في قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» للعباد،و اختاره المرتضى قدّس سرّه،قال:علّل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من عباده،بأنّ فيهم من هو ظالم لنفسه،و من هو مقتصد،و من هو سابق بالخيرات.

و قيل:إنّ الضمير للذين اصطفاهم و روي عن الصّادق عليه السّلام،أنّه قال:الظّالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام،و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام،و السابق بالخيرات هو الإمام، و كلّهم مغفور لهم (1)،انتهى.

و قد روى الشيخ الكلينيّ في كتاب«الإيمان و الكفر»من كتاب«الكافي»في باب «الكبائر»عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام حديثا تضمّن أنّ الناس على ثلاث طبقات:أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة و السابقون،و أنّ السابقين فهم الأنبياء مرسلين و غير مرسلين،و أنّ أصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا،و أنّ أصحاب المشأمة هم اليهود و النصارى.

و روى أيضا في ذلك الكتاب في باب«أصناف الناس»عن حمزة بن الطيّار،أنّه قال:

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:الناس على ستّة أصناف.قال،قلت:أ تأذن لي أن أكتبها؟قال نعم، قلت:ما أكتب؟قال:اكتب:أهل الوعيد من أهل الجنّة و أهل النّار.و اكتب:و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا.قال،قلت:من هؤلاء؟قال:وحشيّ (2)منهم.

قال و اكتب:و آخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم،قال:اكتب:إلاّ المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان،فاولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم.

قال:و اكتب:أصحاب الأعراف.قال،قلت:و ما أصحاب الأعراف؟قال:قوم استوت

ص:261


1- -أنظر الكافي 281/2-284؛ [1]الجوامع ذيل الآية.
2- -قاتل حمزة بن عبد المطّلب.

حسناتهم و سيّئاتهم،فإن أدخلهم اللّه النار فبذنوبهم،و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته. (1)

و عن حمزة بن الطيّار أيضا،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:الناس على ستّ فرق و يؤولون كلّهم إلى ثلاث فرق:الإيمان،و الكفر و الضّلال،و هم أهل الوعيد الذين وعدهم اللّه الجنّة و النار:المؤمنون،و الكافرون،و المستضعفون،و المرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم، و إمّا يتوب عليهم.و المعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا،و أهل الأعراف. (2)

و قد روى أيضا في ذلك الكتاب في باب«الضلال»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام، حديثا يتضمّن أنّه قال:فقلت:فقد قال اللّه عزّ و جلّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) (3)لا و اللّه لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن و لا كافر.قال:فقال أبو جعفر عليه السّلام:

قول اللّه أصدق من قولك يا زرارة،أ رأيت قول اللّه عزّ و جلّ: خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) (4)فلما قال عسى؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين.قال، فقال:فما تقول في قوله عزّ و جلّ «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً إلى الإيمان»؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين.

ثمّ أقبل عليّ،فقال:ما تقول في أصحاب الأعراف؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون،و إن دخلوا النار فهم كافرون.فقال:و اللّه ما هم بمؤمنين و لا كافرين،لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون،و لو كانوا كافرين لدخلوا النّار كما دخلها الكافرون،لكنّهم قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال،و إنّهم لكما قال اللّه عزّ و جلّ.فقلت:أ من أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟فقال:اتركهم حيث تركهم اللّه.قلت:أ فترجئهم؟قال:نعم كما أرجأهم اللّه،إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته، و إن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم و لم يظلمهم.فقلت:هل يدخل الجنّة كافر؟قال:لا.

قلت:فهل يدخل النار إلاّ كافر؟قال:فقال:لا،إلاّ أن يشاء اللّه.يا زرارة إنّني أقول ما شاء

ص:262


1- -الكافي 381/2 و [1]فيه:فإن أدخلهم النار.
2- -الكافي 381/2-382. [2]
3- -التغابن(64):2. [3]
4- -التوبة(9):102. [4]

اللّه،و أنت لا تقول ما شاء اللّه،أما إنّك إن كبرت رجعت و تحلّلت عندك عقدك (1).

و روى أيضا في باب«المستضعف»عن زرارة،قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف،فقال:هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر،و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان،لا يستطيع أن يؤمن و لا يستطيع أن يكفر،فهم الصبيان و من كان من الرجال و النّساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.

و عنه،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف،فقال:هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر،و لا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان،لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر،قال:

و الصبيان و من كان من الرجال و النساء على مثل عقول الصّبيان. (2)

و عن عمر بن أبان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المستضعفين،فقال:هم أهل الولاية.فقلت:أيّ ولاية؟فقال:أما إنّها ليست بالولاية في الدّين،و لكنّها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة،و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفّار،و منهم المرجون لأمر اللّه. (3)

و عن أبي بصير،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف.

و عن عليّ بن سويد،عن أبي الحسن موسى عليه السّلام،قال:سألته عن الضعفاء،فكتب إليّ:

الضعيف من لم ترفع إليه حجّة،و لم يعرف الاختلاف،فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. (4)

و روى فيه أيضا في باب«المرجون لأمر اللّه»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،في قول

ص:263


1- -انظر:الكافي 402/2-403. [1]
2- -الكافي 404/2، [2]أمّا حديث أبي جعفر عليه السّلام،هكذا:عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا قال:لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان،و لا يكفرون الصبيان و أشباه عقول الصبيان من الرجال و النساء.
3- -الكافي 405/2 و 406. [3]
4- -نفس المصدر. [4]

اللّه عزّ و جلّ: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ)) (1)قال:قوم كانوا مشركين،فقتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين،ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا اللّه و تركوا الشرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة،و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار،فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم (2).

و روى أيضا فيه في باب«أصحاب الأعراف»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام مثل الحديث السابق في بيان حال أصحاب الأعراف.

و روى عن رجل قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:«الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا» فاولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون و يكرهونها، فأولئك عسى اللّه أن يتوب عليهم (3)،انتهى.

و قال الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه اللّه في«الفقيه»في باب«حال من يموت من أطفال المؤمنين»:«روى أبو زكريّا عن أبي بصير،قال:قال:ابو عبد اللّه عليه السّلام إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض:ألا إنّ فلان بن فلان قد مات، فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين،دفع إليه يغذوه،و إلاّ دفع إلى فاطمة عليها السّلام تغذوه حتّى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته فتدفعه إليه. (4)

و في رواية حسن بن محبوب،عن عليّ بن رئاب عن الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:إنّ اللّه تبارك و تعالى يدفع إلى إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجر في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر (5)،في قصر من درّ،فإذا كان يوم القيامة ألبسوا و طيّبوا و أهدوا إلى آبائهم،فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم،و هو قول اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) (6).

ص:264


1- -التوبة(9):106. [1]
2- -الكافي 407/2. [2]
3- -الكافي 408/2. [3]
4- -من لا يحضره الفقيه 490/3.
5- -الأخلاف جمع خلف:الثدي.
6- -الطور(52):22؛ [4]من لا يحضره الفقيه 490/3،و في لفظه:كفّل ابراهيم...

و في رواية أبي بكر الحضرميّ،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) قال،قصرت الأبناء عن أعمال الآباء،فألحق الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم». (1)

و سأل جميل بن درّاج أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أطفال الأنبياء عليه السّلام،فقال:ليسوا كأطفال النّاس.

و سأله عن ابراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو بقي كان صدّيقا نبيّا؟قال:لو بقي كان على منهاج أبيه عليه السّلام (2).

و قال فيه في باب«حال من يموت من أطفال المشركين و الكفّار»:روى وهب بن وهب،عن جعفر بن محمّد،عن أبيه عليهما السّلام،قال،قال عليّ عليه السّلام:أولاد المشركين مع آبائهم في النّار،و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنّة (3).

و روى جعفر بن بشير عن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث،قال:كفّار،و اللّه أعلم بما كانوا عاملين،يدخلون مداخل آبائهم.

و قال عليّ عليه السّلام:يؤجّج لهم نار،فيقال لهم:ادخلوها،فإن دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما،و إن أبوا قال اللّه عزّ و جلّ لهم:هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني،فيأمر اللّه عزّ و جلّ بهم إلى النار. (4)

و في رواية حريز عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«إذا كان يوم القيمة احتجّ اللّه عزّ و جلّ على سبعة:على الطفل،و الذي مات بين النبيّين،و الشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو لا يعقل،و الأبله،و المجنون الذي لا يعقل،و الأصمّ،و الأبكم،كلّ واحد منهم يحتجّ على اللّه عزّ و جلّ.قال:فيبعث اللّه عزّ و جلّ إليهم رسولا فيؤجّج لهم نارا،

ص:265


1- -من لا يحضره الفقيه 490/3،و في لفظه:و اتبعتهم ذريتهم...ذريّتهم فألحق اللّه.
2- -من لا يحضره الفقيه 490/3.
3- -من لا يحضره الفقيه 491/3.
4- -من لا يحضره الفقيه 492/3؛(غلام لم يدرك الحنث:لم يجر عليه القلم).

فيقول:إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها،فمن وثب فيها كانت عليه بردا و سلاما،و من عصى سيق إلى النّار (1)،انتهى.

و أقول:و أنت بعد تدبّرك فيما نقلنا من الآيات و الأخبار يظهر لك بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في القيامة.

أمّا بيان الأحوال فظاهر،حيث إنّ تلك الآيات و الأخبار المنقولة على حالة كلّ صنف من تلك الأصناف المذكورة،و إنّ مآلهم و مرجعهم يوم القيمة إلى ما ذا؟و إن كانت حالاتهم و لا سيّما حالات أهل الوعد و الوعيد،من أهل الجنّة و النّار و درجاتهم و دركاتهم مختلفة و متفاوتة بحسب تفاوت مراتبهم،كما دلّ عليه آيات و أخبار غير ما نقلنا.

و أمّا بيان الأصناف،فلأنّ ما نقلنا من حديثي حمزة بن الطيّار يدلّ على أنّ جميع الناس على ستّة أصناف:صنفان منها أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النار،و الأصناف الأربعة الباقية هم الباقية من الناس كما فصّله عليه السّلام في ذينك الحديثين.و الحديث الثاني منهما يدلّ على أنّ تلك الأصناف الستّة بأجمعهم تؤول باعتبار إلى ثلاثة أصناف:أهل الإيمان و أهل الكفر،اللذين هما من أصحاب الجنّة و النار،و أهل الضلال الذين ينقسمون إلى تلك الأصناف الأربعة الباقية.و كأنّ مبناه-و اللّه أعلم-على أنّ بين الإيمان و الكفر منزلة و مرتبة كما هو رأي بعض المتكلّمين.و دلّ عليه حديثا زرارة و حديث عمر بن أبان.

و تلك المرتبة المتوسّطة تسمّى بالضلال،حيث إنّ أهل هذه المرتبة لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان،فليسوا بالمؤمنين و لا بالكافرين،بل هم من أهل الضّلال،إذ لم يهتدوا سبيلا إلى الإيمان،و عدم الاهتداء إليه ضلال.و هذا كأنّه مبنيّ على أنّ معنى الإيمان هو التّصديق بالقلب،و الإقرار باللّسان جميعا كما عرّفه به بعض المحقّقين،و قال:إنّه لا يكفي التصديق بالقلب وحده لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)) (2)حيث سمّاهم اللّه تعالى جاحدين أي كافرين،مع إثبات التّصديق القلبيّ لهم.و كذا لا يكفي الإقرار باللّسان وحده،لقوله تعالى قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ

ص:266


1- -من لا يحضره الفقيه 492/3.
2- -النمل(27):14. [1]

تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)) (1)و لقوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) (2)حيث إنّه تعالى في هاتين الآيتين أثبت لهم الإقرار باللّسان،و نفى عنهم الإيمان،فإنّه على هذا التقدير-أي أن يكون معنى الإيمان هو مجموع التصديق بالقلب و الإقرار باللّسان-يظهر كون أهل تلك المنزلة غير مؤمنين،و كذا هو مبنيّ على أن يكون معنى الكفر المقابل للإيمان أمرا وجوديّا مضادّا للإيمان هو التكذيب.

فإنّه على هذا التقدير يظهر كون أهل تلك المنزلة غير كفّار أيضا.لا أن يكون معناه أمرا عدميّا هو عدم الإيمان عمّا من شأنه ذلك كما عرّفه به بعض المتكلّمين،فإنّه على هذا التّقدير يصدق على كثير من الأصناف الأربعة الذين هم أهل تلك المنزلة اسم الكافر، و الحال أنّه نفي عنهم في تلك الأحاديث المذكورة اسم الكافر.

و بالجملة،فهذه الأصناف الثلاثة التي تؤول إليها تلك الأصناف الستّة كما ذكر في ذلك الحديث،ليست هي تلك الأصناف الثلاثة المذكورة في تلك الآيات الثلاثة المتقدّمة،بل المذكور في تلك الآيات إنّما هو بيان صنفين من تلك الأصناف الستّة أو الثلاثة،و ذانك الصنفان إنّما هما أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النّار.و قد قسّما إلى الأزواج الثلاثة و الأصناف الثلاثة أيضا،أي أنّه قسّم صنف المؤمنين إلى صنفين،أمّا في الآية الأولى فقد قسّما إلى السابقين و أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة.

و أمّا في الآية الثانية فإلى المقرّبين و أصحاب اليمين و المكذّبين الضالّين،و أمّا في الآية الثالثة فإلى السابق بالخيرات و الظالم لنفسه،و المقتصد،بناء على أن يكون الضمير في قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» راجعا إلى قوله: «عِبادِنا» ،أو إلى قوله: «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا» ،و أريد بهم مطلق أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا الحديث المرويّ عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية،فهو إن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى أحد المذكورين،لكن مع بيان معنى تلك الأصناف الثلاثة من جملة ذريّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته،فهذا يرجع إلى السابق أيضا،حيث إنّ فيه أيضا تقسيما لمطلق

ص:267


1- -الحجرات(49):14. [1]
2- -البقرة(2):8. [2]

المؤمنين و الكافرين إلى تلك الأصناف الثلاثة مع بيان معنى تلك الأصناف في آل محمّد بحيث يشمل المعصومين منهم و غير المعصومين.

و إن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا» و إرادة خصوص آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم،فهو يكون تقسيما لخصوصهم إلى تلك الأصناف الثلاثة و بيان معناها فيهم،لا تقسيما لمطلق المؤمنين و الكافرين.

و بالجملة،فالمستفاد من تلك الآيات الثلاث،أي الآيتين الأوليين مطلقا و الآية الثالثة على التقديرين الأوّلين،أنّ المراد بالسابقين الذين وصفوا بالمقرّبين في الآية الأولى هم المقرّبون في الآية الثانية،و السابق بالخيرات في الآية الثالثة.

و كذا المراد بأصحاب الميمنة في الآية الأولى على كلّ معنى من المعاني التي ذكرها المفسّرون لهم أصحاب اليمين في الآية الثانية،و المقتصد بالخيرات في الآية الثالثة.

و كذا المراد بأصحاب المشأمة في الآية الأولى-بأيّ معنى أريد بهم-المكذّبون الضالّون في الآية الثانية،و الظالم لنفسه في الآية الثالثة.

و كذلك المستفاد من حديث أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام،من أنّ السابقين هم الأنبياء مرسلين و غير مرسلين،و أنّ اصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا،و أنّ أصحاب المشأمة هم اليهود و النصارى،أنّه تفسير لما ذكر في الآيات الثلاث،حيث يظهر منه أنّ السابقين المقرّبين الذين هم السابقون في الخيرات هم الذين يكونون متبوعين في الخيرات و السّبق إليها،و أنّهم هم الأنبياء مرسلين أو غير مرسلين،بل الأوصياء أيضا في كلّ أمّة فإنّهم أيضا متبوعون بالقياس إلى سائر الأمّة،و أنّ أصحاب الميمنة و أصحاب اليمين و المقتصدين هم المؤمنون حقّا الذين كانوا تابعين للأنبياء و الأوصياء عليه السّلام فيما جاءوا به مطيعين لهم،و أنّ أصحاب المشأمة و المكذّبين لمتبوعيهم و الضالّين عن الصراط السّويّ غير المطيعين لهم فيما أمروا به و نهوا عنه،هم اليهود و النصارى،حيث إنّهم كانوا كذلك،و كأنّ ذكر خصوص اليهود و النصارى على سبيل المثال،و المراد مطلق المكذّبين الضالّين،سواء كانوا هم اليهود و النصارى أم غيرهم،و سواء كانوا من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أم من أمّة موسى و عيسى على نبيّنا و عليهما السلام،أو من الأمم السابقة.

ص:268

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك بيان تقسيم أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النار إلى تلك الأزواج الثلاثة و الأصناف الثلاثة،و بيان المراد من تلك الأصناف.

و ظهر لك أنّ ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله:«و قيل الناس ثلاثة،فرجل ابتكر الخير»الخ،يمكن حمله على ما ذكر،حيث إنّه يمكن أن يحمل الرّجل الذي ابتكر الخير في حداثة سنّه ثمّ داوم عليه حتّى خرج من الدّنيا على من كان معصوما من الذنوب،و لا خفاء في أنّه هو النّبيّ أو وصيّه السابق إلى الخيرات و إلى ما دعاه اللّه تعالى المقرّب عنده تعالى،و كذا يمكن أن يحمل الرجل الذي ابتكر عمره بالذّنب و طول الغفلة،ثمّ تراجع بتوبة على الذي آمن بنبيّه و بوصيّ نبيّه،إلاّ أنّه عمل عملا غير صالح لغفلته و لما دعاه إليه هواه،ثمّ أدركته التوبة و خرج بذلك عن الضّلال ككثير من أمم الأنبياء عليه السّلام.و أن يحمل الرجل الذي ابتكر الشرّ في حداثة سنّه ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدنيا على الذي كان مكذّبا لنبيّه و وصيّ نبيّه،ضالاّ عن طريق الهدى حتّى خرج من الدنيا.

و كذلك يمكن أن يحمل على ما ذكر ما يظهر من كلام بعضهم في وجه تقسيم أهل الجنّة و النّار إلى تلك الأزواج الثلاثة،حيث قال:إنّ الإنسان إمّا كامل في علمه و عمله جميعا فهو السّابق المقرّب،و إمّا كامل في أحدهما ناقص في الآخر فهو من أصحاب اليمين،و إمّا ناقص في كليهما جميعا فهو من أصحاب الشمال.إلاّ أنّه ينبغي حمل كمال العلم أو العمل لأصحاب اليمين على ما كان أدون من كمال العلم أو العمل للمقرّبين.و هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان تقسيم أهل الجنّة و النّار إلى الأقسام الثلاثة.

و أمّا بيان تقسيم غيرهم إلى الأقسام الأربعة الباقية،فيظهر ممّا ذكرنا من الأحاديث الدالّة عليه مع تعريف كلّ صنف منها،فلا نطيل الكلام بشرحه.

ثمّ إنّه لبعض الفضلاء المعاصرين (1)كلام في ذكر أصناف الأمم و تفصيل عواقب أحوالهم،لا بأس بنقله.

قال:اعلم أنّ النّاس أوّلا قسمان:

ص:269


1- -هو الميرزا حسن القمّيّ رحمه اللّه منه.هو ابن الفياض اللاهيجيّ و صاحب شمع اليقين و المدفون بقم المقدّسة.

أحدهما من له صحّة ما من العقل و التمييز،حيث يميّز تمييزا ما بين الحسن و القبيح، و يعلم الخير من الشرّ،و يفرّق بين المدح و الذمّ،و يدرك الثواب و العقاب،فهؤلاء أصحاب التكاليف العقليّة و الشرعيّة و ما يترتّب عليها من المدائح و المذامّ و المثوبات و العقوبات، و إن اختلفت درجاتهم في العواقب حسب اختلافهم في المراتب.

و ثانيهما من لا يفرّق بين الخير و الشرّ،و لا يعرف البرّ من الهرّ،كالأطفال و المجانين و البله،فهم مثل سائر أنواع الحيوان إن فعلوا خيرا فباتّفاق أو تأديب،و إن انتهوا من شرّ فببخت أو ترهيب،ليس لهم همّة إلاّ ما استدعته قواهم الحيوانيّة،و لا وجهة إلاّ ما اقتضته طبائعهم الجسمانيّة من المآكل و المشارب و الملاهي و الملاعب،فقد سقط التكليف عن هؤلاء القوم،و لا ينبغي لهم مدح و لا لوم و هم يسمّون بالمستضعفين.

فأمّا المكلّفون،فينقسمون أوّلا أزواجا ثلاثة:السّابقون،و أصحاب اليمين،و أصحاب الشمال،لأنّهم إن آمنوا باللّه وحده لا شريك له و بأنبيائه و خلفائه عليه السّلام،و مع هذا هم من أهل العقول الشريفة و الأفهام المنيفة،و قد حصّلوا طرفا من العلوم الحقّة و تحصّلوا لطائفة من المعارف اليقينيّة،كلّ على قدر ما في إمكانه و يليق بشأنه،و مع هذا قد تجمّلوا بمكارم الأخلاق الجميلة،و تحلّوا بحليّ الأفعال النّبيلة،و تزيّنوا بزيّ التّقوى من المعاصي و الخصال الرّذيلة،بحيث قد خلصوا من آثار الطبيعة بالكليّة،فأولئك المقرّبون السّابقون إلى أعلى درجات الجنّة،المكرّمون من اللّه تعالى بالرّوح و الرّضوان.

و إن آمنوا و أحسنوا و تجمّلوا بالأعمال الصّالحة الفاضلة،و تخلّقوا بمحاسن الأخلاق العادلة المتوسّطة بين الأطراف،اللائقة بجمال الأشراف،إلاّ أنّهم لم يبلغوا في العقل و العمل درجات الأوّلين،فأولئك أصحاب اليمين.

و إن كفروا و أنكروا و جحدوا و ألحدوا و أشربوا في قلوبهم حبّ الدنيا و اتخذوا إلههم متابعة الهوى،و ركبوا في مهوى الجهالة،و تاهوا في بيداء الضّلالة،و أخلدوا في مصارع الدّناءة و السّفال،فأولئك أصحاب الشّمال.

فهؤلاء أصول الأزواج.ثمّ يمتزج هذه بعضها مع بعض،فيحصل أزواج أخرى.و ذلك أنّ الذين آمنوا و أصلحوا قد يكون منهم عدول في العلم و العمل عن حدود الأوساط،إمّا

ص:270

بتفريط أو إفراط،فإن كان ذلك على وجه مكابرة لأمر اللّه تعالى و جحود للحقّ فهؤلاء يلحقون بالكافرين،لامتناع اجتماع الإذعان بالشّيء و الجحود له.و إن لم يكن على وجه المكابرة و الجحود،بل إنّما هو من غلبة نفسه الأمّارة بالسوء و سلطان الشيطان الرجيم، فإن غلبت حسناتهم سيّئاتهم،بأن تكون أكثر منها و أفضل فتستولي عليها و تضمحلّ هي فيها محتها و أبطلتها،لأنّ الحسنات يذهبن السيّئات،أو بأنّ تركوا السيّئات بعد ذلك و ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم و لم يصرّوا على ما فعلوا،فأولئك يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات،لأنّ التوبة و الإنابة تنفّر منها و فرار و تباعد،و قد تقدّم-فيما تقدّم-أنّ البعد من أحد المتقابلين،لا يكون إلاّ بالقرب من الآخر،فمن هجر من الشّيطان و العصيان و النيران، فقد تقرّب إلى الرحمن و الرضوان و الجنان،فهذان الفريقان يلحقان بالمؤمنين المخلصين.

أو بأن اعترفوا بذنوبهم و استحيوا من اللّه تعالى لتقصيرهم،و إن لم يكونوا تابوا بعد، فهؤلاء أيضا قريب من السّابقين،عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم،لأنّ الاعتراف بالذّنب و الحياء لا يكون إلاّ عن ندامة و أسف،فلا يبعد أن يقوم مقام التوبة.

و إن غلبت سيّئاتهم حسناتهم بأحد الوجوه الثلاثة،فهؤلاء مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم،إن كان إيمانهم في غاية الضّعف،بحيث تتأثّر نفوسهم من كلّ سيّئة و تهوى إليها و تلصق بها،كالثّوب الخشن الذي يسرع إليه الدّرن،و ينفذ فيه الوسخ فيتقذّر سريعا.

أو كان إيمانهم قويّا إلاّ أنّهم أصرّوا على السيّئات فرسخت بهم و اشتدّ لصوقها بهم، كمرآة صقيلة وقعت في طين مدّة طويلة،فصدأت جدّا،فهذان-لا محالة-محتاجان إلى تطهير شديد و مبالغة في التّغسيل و التصقيل بقدر الرسوخ،و شدّة اللصوق،و إمّا يتوب عليهم إن لم يكن الضعف و لا الرّسوخ بتلك المرتبة،فيطهر بأدنى عناية في الغسل و المسح.

و بالجملة،فهؤلاء ينجون آخرا لا محالة،و إن تعذّبوا مدّة فيلحقون بالّذين غلبت حسناتهم،لأنّ أصل الإيمان حسنة تغلب كلّ سيّئة،لأنّ الاعتقاد يتعلّق بجوهر الرّوح و القلب،و الأخلاق و الأفعال أشياء تلحق من خارج.

و يلحق بالمرجئين قوم من أهل العقول وحّدوا اللّه و خلعوا عبادة من يعبد من دونه،

ص:271

لكنّهم في النبوّة أو في شيء من سائر الأصول على شكّ،لا ينكرونه فيكونوا كافرين، و لا يذعنوا له فيكونوا مؤمنين.إمّا بسبب شبهة عرضتهم،كأكثر عوامّ المخالفين و ضعفائهم.و إمّا لأنّ الدّعوة لم تبلغهم كقوم في أقاصي البلاد،أو بلغتهم لكنّهم ليسوا من أولي الألباب المستقلّة في الهدى،و لا يستطيعون الخروج إلى من يميّز لهم الحقّ من الرّدي،كأكثر نسائهم و قصرائهم.

فهؤلاء إن كانوا بحيث لو أزيل عنهم الشّبهة و وصلوا إلى الحقّ آمنوا به،فهم ممّن يدركهم النجاة و يكونون مع المؤمنين،و إن كانوا حينئذ جحدوا الحقّ و أنكروه،فممّن تخلّد في السجن،و هؤلاء من حيث إبهام مآلهم يلحقون بالمؤمنين،و من حيث ضعف أحوالهم بالمستضعفين.

و يقرب من حال هؤلاء حال كثير من أهل الكفر و الضّلال أيضا،الذين و إن كانوا بالفعل منكرين،إلاّ أنّ ذلك ليس بعناد لهم و جحود في قلوبهم،بل إنّما هو لاقتدائهم بقومهم و آبائهم و التباس الحقّ عليهم،و ضعفهم أو ضعف عقولهم من الاجتهاد في بلوغه، فأمرهم أيضا موقوف حتّى يميّز اللّه الخبيث من الطيّب.

و إن تساوت حسناتهم و سيّئاتهم فهم أصحاب الأعراف،و هو السّور الذي بين الجنّة و النار،باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب،فأوّلا يترجّح لهم أحد الطرفين فلا محالة يترجّحون في الحدّ المشترك بينهما حتّى إن حصل لأحدهما رجحان من عفو و شفاعة أو سخط أو براءة يلحقون بأهله.

و أمّا غير المكلّفين المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان فهؤلاء أيضا إن كانوا بحيث لو قوّوا و بلغوا التكليف آمنوا و أطاعوا،فلهم في عالم البرزخ المتوسّط بين هذه النشأة الدنيا الخسيسة و النشأة العليا العقليّة ترقّيات في العقل و الفهم كترقّي الصبيان في ذلك بحسب ترقّيهم في أبدانهم و نموّ أجسامهم يوما فيوما،و إن لم يبلغوا بعد حدّ عقول الرجال و اكتساب العلوم،حتّى إذا كانت القيامة،و امتاز الأخيار من الأشرار،التحقوا في الجنّة بعشيرتهم و آبائهم من الأبرار،و إن لم يكونوا يؤمنون بعد ذلك أيضا،فيلحقون لا محالة بأشباههم و إن لم يشاركوهم في عذابهم.

ص:272

و ورد في الأخبار عن أهل البيت الأخيار صلوات اللّه عليهم اختلاف في أحوال هؤلاء،ليس هنا مقام ذكرها،و لعلّها تؤول إلى هذا»انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ هذا الفاضل،و إن بذل مجهوده في تفصيل أصناف الأمم و حصرها و بيان حال كلّ قسم و صنف،إلاّ أنّ في بعض ما ذكره تأمّلا و نظرا،كما يظهر ذلك على من تأمّل و نظر في الأخبار الواردة في هذا المطلب.و اللّه أعلم بحقيقة الحال،و إليه المرجع و المآل.

في بيان خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه قد ورد في الشرع آيات كثيرة و أخبار عديدة دالّة على خلود أهل الجنّة في الجنّة،و أنّ الجنّة و لذّاتها و خيراتها دائمة بأهلها،و كذا على خلود أهل النار في النّار،و أنّ الجحيم و آلامها و شرورها دائمة بأهلها.و لا خلاف أيضا بين المسلمين في الأوّل،و إن وقع الخلاف بينهم في الثّاني.

قال المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في التجريد:«و الكافر مخلّد،و عذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاق الثواب بإيمانه و لقبحه عند العقلاء،و السمعيّات متأوّلة،و دوام العقاب مختصّ بالكافر». (1)

و قال الشارح القوشجيّ في شرحه:«اتّفق المسلمون على أنّ عذاب الكفّار المعاندين دائم لا ينقطع،و الكافر المبالغ في الاجتهاد الذي لم يصل إلى المطلوب،ذهب الجاحظ و العنبريّ أنّه معذور،لقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) (2)و لأنّ تعذيبه مع بذله الجهد و الطّاقة من غير تقصير قبيح عقلا.

و ذهب الباقون إلى أنّه غير معذور،و ادّعوا الإجماع عليه قبل ظهور المخالفين.قالوا:

كفّار عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين قتلوا و حكم بخلودهم في النار،لم يكونوا عن آخرين

ص:273


1- -شرح التجريد للقوشجيّ420/-421 و في لفظه:...و عقاب صاحب...
2- -الحجّ(22):78. [1]

معاندين،بل منهم من اعتقد الكفر مع بذل المجهود،و منهم من بقي على الشكّ بعد إفراغ الوسع،و ختم اللّه على قلوبهم و لم يشرح صدورهم للإسلام،فلم يهتدوا إلى حقيقته.

و لم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق الذي ذكره الجاحظ و العنبريّ.و قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) خطاب إلى أهل الدين لا إلى الخارجين من الدين.

و كذلك أطفال المشركين[عند الأكثرين]لدخولهم في العمومات.و لما روي من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:هم في النّار،حين سألته خديجة رضي اللّه عنها عن حالهم.

و قالت المعتزلة و بعض الأشاعرة:لا يعذبون،بل هم خدم أهل الجنّة.روي في الحديث:و إنّ تعذيب من لا جرم له ظلم.

و أمّا عذاب صاحب الكبيرة هل هو منقطع أم لا؟فذهب أهل السنّة و الإماميّة من الشيعة و طائفة من المعتزلة إلى أنّه ينقطع،و اختاره المصنّف.و احتجّ عليه:«بأنّ صاحب الكبيرة يستحقّ الثواب بإيمانه،لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)) (1)و لا شك أنّ الإيمان أعظم أعمال الخير.فإن استحقّ العقاب بالمعصية،فإمّا أن يقدّم الثواب على العقاب،و هو باطل بالاتّفاق،أو بالعكس و هو المطلوب.و بأنّه لو لم ينقطع عذابه يلزم أنّه إذا عبد اللّه مكلّف مدّة عمره ثمّ عمل كبيرة في آخر عمره لا ينقطع عذابه و هو قبيح عقلا.

و السمعيّات التي تمسّك بها المعتزلة في عدم انقطاع عذاب صاحب الكبيرة مثل قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)) (2)، وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)) (3)وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها)) (4)متأوّلة،إمّا بتخصيص العمومات بالكفّار،أو بحمل الخلود على المكث الطويل.

و أمّا قولهم إنّ الثواب و العقاب ينبغي أن يكونا دائمين لما تقدّم،فإن أريد بدوام

ص:274


1- -الزلزلة(99):7. [1]
2- -الجنّ(72):23. [2]
3- -النساء(4):93. [3]
4- -النساء(4):14. [4]

العقاب دوام عقاب الكفّار،فمسلّم،و إلاّ فممنوع» (1)انتهى كلامه.

في ذكر وجوه من التوهّم على عدم إمكان الخلود

و لسنا نحن في هذا المقام بصدد تحقيق هذا الخلاف،بل بصدد تحقيق أنّ الخلود في شأن من حكم بخلوده في الجنّة أو في النّار،هل هو ممكن أم لا؟و على تقدير الإمكان فالسّبب الموجب له ما هو؟و الحكمة و المصلحة فيه ما هي؟إذ قد يتوهّم أنّ الخلود أمر غير ممكن بالذّات،لأنّه يستدعي زمانا غير متناه،و وجود الزمان الغير المتناهي غير ممكن،حيث إنّ البرهان الذي يبطل وجود غير المتناهي مطلقا-كبرهان التطبيق-يبطل وجود الزمان الغير المتناهي أيضا.

و بيان ذلك أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ الحكماء و إن قالوا بأنّ برهان التطبيق إنّما يجري في امتناع لا تناهي الأمور الموجودة معا المترتبة في الوجود لامكان التطبيق فيها،و لا يجري في غير ذلك،فلذا قالوا بجواز لا تناهي الأمور التي توجد معا لكن لا ترتيب بينها كالنفوس الناطقة،و كذا بجواز لا تناهي الأمور المتعاقبة المترتّبة في الوجود الغير المجتمعة في الوجود كالحركات الفلكيّة و الأزمنة المنتزعة منها،بناء على عدم إمكان جريان برهان التطبيق في هذين القسمين بزعمهم،و لذا قالوا بلا تناهي النفوس الناطقة، و كذا بقدم العالم زمانا.إلاّ أنّ المتكلّمين مجمعون على استحالة لا تناهي الأمور المجتمعة في الوجود المترتّبة فيه،و كذا على استحالة لا تناهي القسمين أيضا،بناء على إمكان التطبيق فيهما أيضا و لو على سبيل الإجمال و الوجه العقليّ الكلّيّ.فلذا قالوا بامتناع القدم الزمانيّ.

فعلى مذهبهم-و هو الحقّ كما تقرّر في-موضعه فكما يبطل وجود الزمان الغير المتناهي في جانب الأزل،كذلك يبطل وجوده في جانب الأبد،فمن أين يمكن الخلود الموقوف على وجود الزمان الغير المتناهي في طرف الأبد؟

ص:275


1- -شرح التجريد للقوشجيّ420/-421.

و كذلك قد يتوهم أنّ الخلود في النار لا سبب له،و دوام العقاب و العذاب و استزادتهما إلى ما لا نهاية له لا حكمة فيه و لا مصلحة،فإنّ العذاب و العقاب لا يكون إلاّ قسريّا، و القسر لا يدوم على طبيعة،فإنّ لكلّ موجود غاية لا بدّ أن يصل إليها وقتا ما،مع أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء،كما قال جلّ و علا: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)) (1)و مع أنّ الباري جلّ ثناؤه كما أنّه لا ينفعه الطاعة و لا يضرّه المعصية،كذلك لا يضرّه الثّواب و لا ينفعه العقاب،و مع أنّ العقاب الدائميّ لا منفعة فيه لأحد و لا خير،بل هو شرّ محض، و هو لا يمكن أن يصدر عن الخير المحض و الجواد المطلق و الفيّاض على الإطلاق.و هذا التوهّم عند كثير ممّن يدّعون الكشف قد صار قويّا بحيث كان منشئا لعدولهم عن ظاهر الشّرع المبين،النّاطق بخلود أهل النّار في النّار و دوام عذابهم و عقابهم.فقال بعضهم:إنّ الكفّار و إن كانوا خالدين في النّار،إلاّ أنّ عذابهم و عقابهم منقطع،كما ينقل عن بعض المكاشفين (2)منهم أنّه قال:«يدخل أهل الدارين فيهما:السعداء بفضل اللّه و أهل النار بعدل اللّه و ينزلون فيهما بالأعمال،و يخلّدون فيهما بالنّيّات،فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدّة العمر في الشّرك في الدنيا،فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها،بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة تألّموا لعدم موافقة الطّبع الذي جبلوا عليه،فهم يلتذّون بما هم فيه من نار و زمهرير و ما فيها من لذع الحيّات و العقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال و النّور و لثم الحسان من الحور،لأنّ طباعهم يقتضي ذلك.ألا ترى الجعل على طبيعته يتضرّر بريح الورد و يلتذّ بالمنتن،و المحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك، فاللذّات تابعة للملائم و الآلام لفوته.

و ينقل عن بعضهم أنّه جعل ذلك العذاب مأخوذا من العذب،أي العذاب من الطّعام و الشّراب الذي معناه لغة كلّ مستساغ.

و قال بعضهم بخروج أهل النّار عن النّار و انقطاع عذابهم جميعا،كما ينقل عن

ص:276


1- -الأعراف(7):156. [1]
2- -هو ابن العربيّ في الفتوحات،و [2]فصوص الحكم.

صاحب الفتوحات المكّيّة (1)أنّه نقل عن بعض أهل الكشف،أنّه قال:إنّهم يخرجون إلى الجنّة حتّى لا يبقى في النّار أحد من الناس البتّة،و تبقى أبوابها تصطفق،و ينبت في قعرها الجرجير،و يخلق اللّه لها أهلا يملئوها.

و قال بعضهم ما يحتمل القولين:أي القول الأوّل أو الثاني.كما ينقل عن القيصريّ انّه قال في شرحه للفصوص:«و اعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد اللّه،و ليس لهم وجود و صفة و فعل إلاّ باللّه و حوله و قوّته،و كلّهم محتاجون إلى رحمته و هو الرحمن الرحيم،و من شأن من هو موصوف بهذه الصّفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبدا،و ليس ذلك المقدار من العذاب أيضا،إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم، كما يذاب الذهب و الفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره و ينفض غباره،فهو يتضمّن لعين اللطف كما قيل:

و تعذيبكم عذب و سخطكم رضى و قطعكم وصل و جوركم عدل (2)

،انتهى.

ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا،ظهر لك أنّ هاهنا توهّمين ينبغي رفعهما حتّى يتّضح المقصود.

في رفع تلك الوجوه من التوهّم

فنقول:أمّا بيان رفع التوهّم الأوّل منهما،فهو أنّك قد سمعت غير مرّة فيما تلونا عليك سابقا،أنّه كما أنّ مكان الآخرة ليس من جنس مكان الدنيا،كذلك زمانها ليس من جنس زمان الدنيا،كما قال اللّه تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)) (3)،و قال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) (4)،فلا امتناع في أن يكون غير متناه،إذ ليس يعلم أنّه يمكن فيه التّطبيق و التضايف و المسامتة و التزاحم و نحو ذلك،حتّى يمكن إجراء براهين

ص:277


1- -و هو الشيخ محي الدين بن العربيّ في الفتوحات المكيّة 178/2-179،ط بولاق. [1]
2- -شرح القيصريّ على فصوص الحكم246/،ط طهران.
3- -الحجّ(22):47. [2]
4- -السجدة(32):5. [3]

إبطال عدم التناهي فيه كما في زمان الدنيا،سواء قلنا بجريانها في الأمور المترتّبة المتعاقبة غير المجتمعة أيضا-كما هو عند المتكلّمين-أو لم نقل به فيها كما هو عند الحكماء.و حيث أخبر المخبر الصادق بالخلود،و هو ممكن عند العقل كما ذكرنا وجب التّصديق به.

و أمّا بيان رفع التوهّم الثاني،فهو و إن سبقت منّا إشارة إليه في الفصول و الأبواب المتقدّمة،إلاّ أنّا لا نبالي بإعادة الكلام فيه لزيادة التوضيح.فنقول:

اعلم أوّلا أنّ سبب خلود أهل الجنّة في الجنّة و دوام ثوابهم فيها،إنّما هو دوام ما هو سبب لذلك،أي دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الاعتقادات الحقّة و المعارف الإلهيّة و العلوم الربّانيّة و الإيمان باللّه و ملائكته و رسله و كتبه و باليوم الآخر.و بالجملة:كلّ ما هو كمال للنفس الناطقة بحسب قوّتها النظريّة و كان راسخا فيها،و كذا دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الملكات العادلة و الأخلاق الفاضلة و الهيئات الجميلة،و بالجملة:كلّ ما هو كمال لها بحسب قوّتها العمليّة و كان ملكة راسخة فيها.

و بيان ذلك أنّ تلك العلوم و الاعتقادات لمّا كانت كمالات للنّفس بذاتها و من مقتضى ذاتها و جوهرها،و كانت راسخة فيها،لم تنفكّ عنها،و كانت باقية ببقاء النّفس التي المفروض بقاؤها أبدا.و كذلك تلك الملكات و إن كانت بدنيّة و حاصلة للنّفس من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة،إلاّ أنّها أيضا هيئة مناسبة لجوهر النّفس ملائمة لها غير غريبة عن ذاتها.فإذا كانت ملائمة لها و كانت مع ذلك راسخة فيها،و لم يكن هناك مضادّ لها و لا سبب يزيلها عن جوهر النّفس كما هو المفروض،كانت هي أيضا دائمة بدوام النّفس لازمة لها باقية معها.

و اذا كانت تلك الاعتقادات و الملكات الخالدة موجبة لحصول الثّواب كما دلّ عليه الآيات و الأخبار،فحينئذ نقول:لو كان الثّواب عبارة عن تلك العلوم و الاعتقادات الحقّة و عن تلك الهيئات و الملكات الفاضلة التي تصوّرت بصورة الثواب و تجسّمت بها،كما هو على القول بتجسيم الأعمال و الاعتقادات،و هو ظاهر كثير من الآيات و الأخبار كما تقدّم

ص:278

ذكرها،فلا شكّ أنّه يكون دائما بدوام تلك العلوم و الملكات لأنّها لازمة لها (1)و صورة لها غير منفكّة عنها،و يكون وجه الحكمة في دوامه أيضا ظاهرا لا سترة به.

و لو كان الثواب عبارة عن أمر مبتدئ من خارج وارد على المحسن روحه و بدنه كما هو ظاهر كثير من الآيات و الأخبار الأخر،فكذلك أيضا،لأنّه حيث كان الثواب في مقابلة تلك الاعتقادات و الملكات التي هي دائمة بدوام النفس باقية ببقائها،وجب في الحكمة المتعالية الإلهيّة أن يكون هو أيضا دائما كدوام ما هو بإزائه؛لأنّ السبب إذا كان دائميّا وجب أن يكون مسبّبه أيضا دائميّا مثله،و لأنّه لو لم يكن كذلك لزم الظلم،تعالى اللّه عن ذلك.و أيضا أنّ ذلك إيفاء بوعده،و خلف الوعد عليه تعالى قبيح عقلا و شرعا.

و يدلّ على ما ذكرنا آيات كثيرة،كقوله تعالى:

إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (2).

و كقوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (3).

و كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ* دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)) (4).

و كقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)) (5).

ص:279


1- -لأنّه لازم،خ ل.
2- -التوبة(9):111. [1]
3- -النساء(4):100. [2]
4- -يونس(10):9-10. [3]
5- -يونس(10):26. [4]

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

و الحاصل،أنّه لمّا كان إيمان المؤمنين الرّاسخ في قلوبهم دائميّا و كذا ملكاتهم الفاضلة دائميّة،وجب أن يكون الثّواب الذي هو بإزاء ذلك دائميّا مثله،و أنّهم حيث كان في نيّاتهم الراسخة في قلوبهم،أنّهم لو أبقوا دائما لبقوا على الإيمان و العمل الصالح دائما، كان مقتضى الحكمة المتعالية إيصال الثواب إليهم دائما.

و حيث علمت ذلك،فاعلم أنّ السبب في خلود أهل النار في النار و دوام عذابهم فيها إنّما هو دوام سبب ذلك أيضا،حيث إنّ ما اكتسبوه في الدّنيا بسوء اختيارهم من جهة قوّتهم النظريّة من الآراء الفاسدة و العقائد الباطلة الراسخة في نفوسهم،المستحكمة في قلوبهم،كالشرك و الكفر باللّه و باليوم الآخر و برسله و ملائكته و كتبه،سواء كانت تلك الاعتقادات الراسخة بمحض العناد و الجحود مع يقينهم بخلافها كما هو في حقّ بعضهم،أو مستندة إلى تقليد آبائهم و أسلافهم و علمائهم كما في حقّ بعض آخرين منهم،أو مستندة إلى ظنّ أو شبهة كما في بعض منهم.و كذا من جهة قوّتهم العمليّة من الملكات الرذيلة و الهيئات الرديّة و الأخلاق القبيحة الذميمة،مع تفاوت مراتبها فيهم أيضا،كما أنّها سبب لدخولهم في النار و حصول العقاب لهم على ما دلّت عليه الآيات و الأخبار،كذلك هي لخلودها و دوامها سبب لخلودهم في النّار و دوام عذابهم و عقابهم،كما دلّت عليه الآيات و الأخبار أيضا،لأنّ دوام السبب يستلزم دوام المسبّب.

أمّا دوام تلك العقائد و الآراء الباطلة،فبيانه أنّها لمّا كانت حاصلة للنفس بذاتها و من داخل جوهرها،كأنّها صورة لها و كانت راسخة فيها،فهي لا تكون زائلة عنها بل تكون باقية ببقائها.

و أمّا دوام تلك الملكات و الهيئات الرّذيلة،فبيانه أنّها و إن كانت حاصلة للنفس من خارج،أي من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة،و من شأنها أن تكون زائلة بزوال مبدئها القريب و هو البدن و أفاعيله،و كذا بمرور الدّهور إذا لم يكن يصل إليها مدد من جهة،إلاّ أنّها لمّا كانت ملائمة لتلك العقائد التي رسخت في نفوسهم و تدرّنت هي بها مرتبطة بها كمال الارتباط،فلا تكون نفوسهم الخسيسة هذه مستعدّة لزوالها عنها،بل مستعدة

ص:280

لاستثباتها فيها و قيامها بها و بقائها معها ما دامت تلك النفوس باقية،فلذا تكون دائمة خالدة كدوام عقائدهم و آرائهم الباطلة.

نعم،لو كانت النّفس مستعدّة لزوالها عنها كنفوس الفسّاق من المؤمنين الذين رسخت في نفوسهم الآراء الحقّة و العقائد الدّينيّة،و مع ذلك اكتسبوا الأخلاق الذميمة و فعلوا الأفعال القبيحة،حيث إنّها غريبة عن جواهر نفوسهم لعدم مناسبة تلك الملكات بتلك العقائد و عدم ارتباط بينهما،لربّما أمكن زوالها عنها.بمرّ الدهور،و كذا بالتّصفية بمصقل العذاب و العقاب،فلذا ورد في الشرع الشّريف ما يدلّ على عدم خلود الفسّاق من المؤمنين الموحّدين في النار و العذاب،و على خروجهم منها و دخولهم في الجنّة،و حكم به معظم المسلمين؛لأنّه إذا زالت تلك الهيئة التي هي سبب للعذاب،و مع ذلك كانت عقائدهم الحقّة التي هي راسخة في نفوسهم-و هي سبب للدخول في الجنّة-باقية، فلا يبقى شكّ في أنّهم يكونون بعد الدخول في النّار خارجين عنها إلى الجنّة،لكن على تفاوت مراتبهم و أحوالهم في ذلك،بخلاف ما إذا لم تزل تلك الهيئة عن النفس،كما في نفوس الكفّار الذين ليس في نفوسهم استعداد لزوالها عنها،و ليس هناك سبب يزيلها عنها، فإنّهم خالدون في النار و في عذابها من جهتين:إحداهما من جهة العقائد الباطلة المستحكمة في نفوسهم،و الأخرى من جهة تلك الملكات و الهيئات الراسخة في قلوبهم، و إن كان يختلف أحوالهم في العذاب باختلاف مراتبهم في تلك العقائد و الملكات و الهيئات و الأفعال.

و بالجملة،فحيث كان في نيّاتهم الراسخة في قلوبهم أنّهم لو بقوا إلى غير النهاية لبقوا على الشرك و الكفر و العمل غير الصالح إلى غير النهاية،كانوا خالدين في النار،و كان عذابهم فيها إلى غير النهاية.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السبب في الخلود.

و أمّا بيان الحكمة فيه،فهو أنّا لو قلنا بأنّ العذاب هو صورة تلك العقائد و الهيئات التي تصوّرت بتلك الصور كما هو على القول بتجسيم الأعمال و العقائد،فالحكمة في أصل العذاب و كذا في خلوده ظاهرة،حيث إنّ العذاب هو لازم لها غير منفكّ عنها،بل هو نفس

ص:281

ما اكتسبوه من العقائد و الهيئات و رسخت في نفوسهم باقية ببقائها.

و أمّا لو قلنا بورود العذاب عليهم من خارج،كما هو على القول الآخر،فكذلك أيضا، لأنّ السبب إذا كان دائما و لم يكن مسبّبه كذلك لخرج السبب عن السببيّة،و هو خلاف مقتضى الحكمة المتعالية.

و أيضا،لا يخفى أنّ اللّه تعالى بعنايته الأزليّة و حكمته الكاملة التّامّة و بقضائه الأزليّ قدّر تكليفا فأمر العباد بالطاعة و نهاهم عن المعصية،لكونها لطفا واجبا،و كذا وعد بالثواب على الطاعة و أوعد بالعقاب على المعصية،لكونهما أيضا لطفا واجبا لأنّ فيهما ترغيبا للعباد في الطاعة و تزهيدا لهم عن المعصية.

و كما أنّ الوفاء بالوعد لطف واجب و الإخلال به قبيح،كذلك الوفاء بالوعيد حسن،إذ هو حقّه تعالى بالنسبة إلى العاصين،و فيه إظهار عدله تعالى،و خلاف مقتضى العدل خلاف مقتضى الحكمة المتعالية.

نعم،إنّه حيث كان حقّه تعالى على العاصين،جاز إسقاطه و العفو عنه،لكن بالنسبة إلى من كان مستحقا للعفو و التفضّل،كالمؤمنين الذين يستحقّون بإيمانهم إسقاط العقاب عنهم و التفضّل عليهم،و يستوجبون لذلك بالتوبة أو الشفاعة أو نحو ذلك،لكون العفو حسنا حينئذ.

و أمّا بالنسبة إلى من لا يستحق ذلك و لم يستوجبه،فالعفو منه و إسقاطه ليس بحسن بل هو خلاف مقتضى العدل،إذ لو عفا اللّه تعالى عن الكافرين الذين هم غير مستوجبين للعفو و التفضّل،و أسقط العقاب عنهم،إمّا بعدم إدخالهم في النّار أصلا،أو بإدخالهم فيها مدّة،ثمّ إخراجهم منها بعد ذلك و إدخالهم في الجنّة،لجاز أن يتمنّوا في الآخرة و يقولوا:يا ليتنا كنّا في الدنيا نزيد في المعصية و في العتوّ و الفساد و الطغيان و العناد،إذ كان فيه مع قضاء و طرنا في اللذّات و الشهوات التي في المعاصي حصول ثواب في الآخرة،و لجاز أن يتمنّى المؤمنون أيضا و يقولوا:يا ليتنا كنّا كافرين في الدّنيا،إذ كان جزاؤهم هذا الجزاء الذي للكافرين،فلم كنّا نتعب أنفسنا بترك الشهوات و اللذّات التي في المعاصي؟!

و أيضا يمكن أن يكون الحكمة في خلود الكفّار في النار و في عدم انقطاع عذابهم

ص:282

فيها أنّ في ذلك إكمال رحمه اللّه تعالى على المؤمنين و إتمام خلودهم في الراحة،إذ النعمة إنّما يعرف قدرها و ينال كنهها،إذا كان هناك ما يقابلها من العذاب و النقمة،و كلّ راحة إنّما تكون راحة كاملة إذا كانت هناك زحمة يعرف مقدارها بالمقايسة إليها،و لذا يكون من أبواب الجنّة باب مفتوح إلى النار ليلاحظ أهل الجنّة ما يكون فيه أهل النار، فيشكروا على ما يكونون عليه من الراحة و الثواب،كما قال تعالى: وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)) (1).

و أيضا يمكن أن يكون الحكمة في ذلك،إخلاد سرور المؤمنين و إدامة فرحهم،حيث إنّ المؤمنين الذين هم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم،كما أنّهم يسرّون و يفرحون براحة أنفسهم و نعمة غيرهم من المؤمنين،كذلك يفرحون بعذاب الكافرين الذين هم أعداؤهم و أعداء اللّه تعالى،إذ الإيمان حقّ الإيمان يقتضي ذلك،و لذا كان التولّي بأحبّاء اللّه و التبرّي عن أعدائه كلاهما واجبين.

و بالجملة،إنّ في ذلك سرورهم مع توبيخ منهم على الكفّار،كما قال تعالى حكاية:

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ)) (2)،و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قالُوا إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ)) (3)و لا يخفى أنّ إكمال رحمة المؤمنين و إخلاد سرورهم من جملة الحكمة المتعالية،و أيّة حكمة أعظم منها و أعلى؟

و حيث عرفت ذلك،فاعلم:أنّ جميع ما ذكر في هذا التوهّم الثاني،و جعل منشأ للذهاب إلى انقطاع عذاب الكفّار في النار،مندفعة.

أمّا ما ذكر من أنّ القسر لا يدوم الخ،فبيان اندفاعه أنّه إذا كان العقاب هو لازم الأعمال و العقائد فلا قسر أصلا،حتّى يمكن أن يقال إنّه يدوم أو لا يدوم؛و إذا كان العقاب

ص:283


1- -الأعراف(7):47. [1]
2- -الأعراف(7):44. [2]
3- -الأعراف(7):50. [3]

أمرا واردا من خارج،فهو و إن كان قسرا،إلاّ أنّا لا نسلّم تلك الكلّيّة،بل القسر يمكن أن يدوم إذا كان سببه دائما كما في ما نحن فيه.

نعم،إذا كان سببه منقطعا يكون هو أيضا منقطعا،و ليس الحال هنا كذلك.

و أمّا ما ذكر من أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء فهو كذلك،حيث إنّ كلّ موجود من الموجودات،ناطقها و صامتها و مكلّفها و غير مكلّفها تعمّها نعمة الإيجاد،و ما يتبعها من إعطاء كلّ شيء خلقه و ما يحتاج هو إليه و يليق بحاله و شأنه،و هذا لا ينافي أن يكون عذابه المخصوص كعذاب الآخرة مخصوصا بجمع كالكفّار،و أن يكون رحمته المخصوصة كرحمة الآخرة مخصوصة بجمع كالمؤمنين،كما قال تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)) (1).

و أمّا ما ذكر،من أنّ الباري جلّ شأنه كما أنّه لا ينفعه الطاعة و لا يضرّه المعصية،كذلك لا يضرّه الثّواب و لا ينفعه العقاب،فهو أيضا كذلك،إلاّ أنّ العقاب و العذاب،و خلودهما هو مقتضى الحكمة المتعالية،كما عرفت.

و أمّا ما ذكر من:«أنّ العقاب الدّائميّ لا منفعة فيه لأحد و لا خير،بل هو شرّ محض، و يمتنع صدوره عن الخير بالذات».فهو ممنوع.

لأنّا لا نسلّم كونه شرّا بل هو خير،حتّى بالنسبة إلى المعذّبين أيضا.

كما قيل (2):إنّه جعل اللّه تعالى النار وقاية لما هو أعظم منها و أشدّ في حق المبتلى به و هو غضب اللّه تعالى،و أنّه كما أنّ النار في النّشأة الدنيويّة تتّخذ وقاية لبعض الأمراض الذي لا ينفى إلاّ بالكيّ،كذلك قد تتّخذ في النّشأة الأخرويّة وقاية لغضب اللّه تعالى الذي يترتّب على الكفر و الشرك و أمثالهما.

و بالجملة،فيمكن أن يكون العذاب الأخرويّ صلاحا لحال العاصين و خيرا لهم أيضا.

ص:284


1- -الأعراف(7):156. [1]
2- -القائل هو ابن العربيّ في الفتوحات المكّيّة.

و على تقدير تسليم كونه شرّا،فإنّما هو شرّ بالقياس إلى الشّخص المعذّب خاصّة لا مطلقا،إذ قد عرفت أنّ فيه مصلحة لحال المؤمنين و إكمال نعمتهم و إتمام سرورهم،فهو خير.و قد تقرّر في الأصول الحكميّة أنّ وقوع الشرّ القليل لأجل الخير الكثير سائغ في الحكمة المتعالية.

فإن قلت:ليس الأمر هنا كذلك،بل بالعكس،حيث إنّ المؤمنين قليلون،و الكافرين و المشركين و العاصين أكثرون،بل لا نسبة لهم إليهم أصلا.

قلت:على تقدير التّسليم،أنّ المؤمن الواحد يوازي عند اللّه تعالى مائة ألف كافر بل أكثر،فالمؤمنون و إن كانوا أقلّون عددا،إلاّ أنّهم أكثرون قدرا،الأعظمون منزلة بكثير، بحيث لا نسبة لهم إليهم في ذلك أصلا.

و على هذا،فيكون وقوع الشرّ بالنسبة إلى ألف ألف كافر،لأجل وقوع خير بالنسبة إلى مؤمن واحد مثلا شرّا قليلا لأجل خير كثير،فكيف إذا كان المؤمن أكثر من واحد.

و أمّا ما نقل من قول القائل الأوّل ممّن يدّعي الكشف حيث قال:«إنّ الكفّار و إن كانوا خالدين في النّار،إلاّ أنّ عذابهم ينقطع بعد مدّة و ينقلب ثوابا و راحة».

فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر الآيات و الأخبار النّاطقة بأنّ النّار دار الخزي و الهوان و الانتقام،القائمة في ذلك في كلّ أزمنة الكون فيها،لا اختصاص له بوقت دون وقت،كما لا اختصاص بقوم من العاصين من الكافرين و أمثالهم دون قوم منهم،و الدّالة على أنّ الكافرين لا يخفّف عنهم العذاب وقتا ما.

كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ)) (1)،

لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى)) (2)،

لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها)) (3)،

ص:285


1- -البقرة(2):162. [1]
2- -طه(20):74. [2]
3- -فاطر(35):36. [3]

وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)) (1)،

كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)) (2)،

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (3)،

وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)) (4)،

لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلاّ حَمِيماً وَ غَسّاقاً)) (5)،

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)) (6)،

إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)) (7)،

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)) (8)،

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

نعم،إنّ الشّيخ ابن بابويه من علمائنا في«اعتقاداته»بعد أن قال:«إنّ النّار دار الهوان و دار الانتقام من أهل الكفر و العصيان،و لا يخلّد فيها إلاّ أهل الشّرك و الكفر،فأمّا المذنبون من أهل التّوحيد فإنّهم يخرجون منها بالرّحمة التي تدركهم و الشفاعة التي تنالهم»قال:«و روي أنّه لا يصيب أحدا من أهل التّوحيد ألم في النّار إذا دخلوها،و إنّما يصيبهم الآلام عند الخروج منها،فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم،و ما اللّه بظلاّم للعبيد» (9).

ص:286


1- -إبراهيم(14):17. [1]
2- -الإسراء(17):97. [2]
3- -النساء(4):56. [3]
4- -الزخرف(43):77. [4]
5- -النبأ(78):24-25. [5]
6- -آل عمران(3):192. [6]
7- -النحل(16):27. [7]
8- -يونس(10):27. [8]
9- -الاعتقادات للصدوق90/. [9]

و هذا الذي رواه فيهم،على تقدير صحّة الرّواية يمكن أن يكون-و اللّه أعلم- مخصوصا بهم،فليس يجوز قياس حال غيرهم بحالهم.

و أمّا ما نقل من قول القائل الثاني فمخالفته لظاهر الشّرع المبين أظهر و أكثر،كما لا يخفى.

و بالجملة،فهذان القولان و نظائرهما عدول عن ظاهر الشرع و الحقّ المبين،صادر عن جزاف و تخمين،لا ينبغي للمستبصر أن يلتفت إليه،بل حريّ به الاستقامة على الصراط السويّ. وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (1)، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ)) . (2)

و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرّسالة،و الحمد للّه على التوفيق للإتمام،و الصّلاة على محمّد و آله الأماجد الكرام.و قد اتّفق جفاف القلم من تأليفها و ترتيب ما أودع فيها و ترصيفها بيمين مؤلّفها:العبد المذنب الجاني:محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المدعوّ بعرفي الطالقانيّ-أصلح اللّه شأنهما،و صانهما عمّا شأنهما و عفا عنهما و عن جميع المؤمنين- ضحوة يوم السّبت الثالث و العشرين من شهر ربيع المولود من سنة مائة و إحدى و خمسين بعد ألف من هجرة خير البريّة،على هاجرها و آله ألف ألف صلاة و سلام و تحيّة.

ص:287


1- -البقرة(2):213. [1]
2- -آل عمران(3):8. [2]

ص:288

الفهرس

الباب الرابع و فيه مطالب المطلب الأوّل:في حدوث النفس بحدوث البدن،و في عدم جواز التناسخ و نحوه عليها، و في بيان حالها بعد خراب البدن 7

في حدوث النفس بحدوث البدن 7

الإشارة إلى أنّ مذهب الشيخ في الشفاء بقاء النفوس مطلقا حتّى نفوس غير المستكملة بعد خراب البدن 19

تأويل حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام 25

في تفسير قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ)) 26

المطلب الثاني:في امتناع ما قيل من تناسخ النفوس و نحو ذلك من الأقوال 28

إشارة إلى بطلان القول بفناء النفس بعد خراب البدن 38

في معاني التناسخ 41

في إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه 47

برهان آخر على بطلان التناسخ 55

دليل آخر 57

المطلب الثالث:في بيان أحوال النفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها 58

كلام مع كثير من الحكماء 67

ص:289

في حال السعادة و الشقاوة العقليّين 69

في بيان اللذّة العقليّة للنفس و أنّها أعلى من الحسّيّة و كذلك الألم 76

في بيان السعادة و الشقاوة العقليّين من جهة القوّة النظرية للنفس بعد مفارقتها عن البدن 80

في أصناف الناقصين بحسب القوّة النظريّة 84

حال السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة العمليّة 89

في بيان خلود السعادة من جهة صلاح الجزء العمليّ 96

في بيان حال النفوس البله 99

في بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،أي في عالم البرزخ كما نطق به الشرع 111

من جملة الشواهد على وجود العالم المثاليّ ما يشاهد في النوم 116

في وجه تسمية العالم المثاليّ و البرزخيّ بالعالم المتوسّط بين العالمين،و كذا في وجه تسمية النشأة الدنيويّة بالعالم الحسّيّ و النشأة الأخرويّة بالعالم العقليّ 130

في أن القول بالأجساد المثاليّة في النشأة البرزخيّة ممّا لا مانع منه من جهة النقل و العقل، بل إنّه ممّا يؤيّده العقل 133

كلام مع الشيخ البهائيّ و العلاّمة المجلسيّ 137

في ثبوت السعادة و الشقاوة في عالم البرزخ 139

في تجسّم الأعمال 139

[في الجبر و الاختيار]147

[الثواب و العقاب في البرزخ]154

الباب الخامس،في إثبات المعاد الجسمانيّ الّذي نطق به الشرع بيان الأمر الأوّل:أنّ للإنسان معادا في دار الآخرة 159

ص:290

بيان الأمر الثاني:أي كون المعاد جسمانيّا 161

بيان الأمر الأوّل من تلك الأمور الثلاثة 162

بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة 163

شبهة الآكل و المأكول مع جوابها:172

بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة 175

شكّ مع جوابه 182

دقيقة 189

تذنيب في حشر غير الإنسان 190

الخاتمة و فيها مطالب 199

المطلب الأوّل:في الإشارة إلى دفع شبهات المنكرين للمعاد الجسمانيّ 201

المطلب الثاني:في بيان جملة من الأحوال و الأمور التي نطق الشرع بوقوعها يوم القيامة و يجب التصديق بها لكونها أمورا ممكنة بالذات أخبر به المخبر الصادق 215

نفخ الصور 215

الصراط 219

الصراط الدنيويّ 222

الصّراط الأخرويّ 225

الأعراف و السّور 229

الكتاب و الحساب و الميزان و السؤال 231

الكتاب 234

الميزان 242

السؤال 245

ص:291

الحساب 251

العقبات 254

الحوض 256

الشفاعة 257

الجنّة و النّار 258

المطلب الثّالث:في بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في الجملة في القيامة و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار 259

في بيان خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار 273

في ذكر وجوه من التوهّم على عدم إمكان الخلود 275

في رفع تلك الوجوه من التوهّم 277

ص:292

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.