منهج الرشاد فی معرفه المعاد المجلد 1

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی ، محمدنعیم بن محمدتقی ، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی ؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه ، 1419ق . = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-7 9000ریال :(ج .1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی ، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP222 ‫ ‮ /ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

فهرست الموضوعات

مقدّمة الاستاذ السّيّد جلال الدين الآشتياني 11

مقدّمة المصحّح 37

مقدّمة المؤلّف 55

في الاشارة إلى أنّ الانسان عبارة عن مجموع النفس و البدن 61

في الاشارة إلى معنى المعاد 63

في الاشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا في هذا الدين القويم و كذا في الأديان السابقة 67

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد 69

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد 71

في الاشارة إلى معنى المعاد الروحاني و الجسماني 74

في الاشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد 76

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد 79

في الإشارة إلى معاد البدن 79

في الاشارة إلى مبنى معاد النفس 89

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط 92

كلام مع صدر الأفاضل 95

المقام الأوّل في جواز عدم العالم و امتناعه 102

تفصيل و تحقيق 106

ص:5

في أبديّة الصادر من أجزاء العالم 109

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم 119

في أبديّة النشأة الاخرويّة 122

[الكلام في النشأة الدنيوية]126

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن 128

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن 133

من جملة الدلائل عليه 133

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها 134

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب 135

دليل آخر منه 137

فيما ذكره في الإشارات في ذلك 140

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه له 141

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات 146

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب 148

شك و تحقيق 151

في توجيه حجج أفلاطون 153

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه 156

نقل كلام عن المحقّق الطوسي لبيان الجواب 158

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا[الأمر الأوّل]163

دفع إيراد عن المحقّق الطوسى رحمه اللّه 166

الأمر الثاني 167

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه اللّه 170

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء 172

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس 177

كلام مع صاحب المحاكمات 179

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه اللّه 185

في توجيه كلامه في الإشارات 190

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن 198

في تحرير الجواب عن الشبهة 203

ص:6

شروع في تحرير الجواب 205

زيادة إيضاح للمقام 211

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام 219

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض 225

في بقاء النفوس 231

في بيان حال المادّيات من الموجودات 233

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة 238

ختام 247

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم و عدمه 249

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب 258

في الإشارة إلى الجواب عن شبهة المعدوم المطلق 262

حاصل الدليل الذي ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا و ذكره في التعليقات أيضا على بطلان إعادة المعدوم 267

في الإشارة إلى دفع ما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي 269

في الإشارة إلى قول المحقّق الطوسي 272

في الإشارة إلى دفع إيراد عن الشيخ و عن المحقّق الطوسي 273

كلام مع المحقّق الدواني 275

في الإشارة إلى دفع توهّم هنا 280

في تحرير ما ذكره الشيخ بعد دليله الثاني 281

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أخيرا 284

نقل كلام من المحقّق الدواني في هذا المقام و الإشارة إلى ما فيه 289

في الإشارة إلى توجيه الدليل الأوّل الذي ذكره المحقّق الطوسي على هذا المطلب 292

في ذكر حجج المجوّزين لإعادة المعدوم و ذكر ما فيها و نقدها و تزييفها 313

في تحرير كلام المحقّق الطوسي 323

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني 326

كلام مع الشارح القوشجي و المحشّين 328

في الإشارة إلى توجيه كلام القائل الأوّل بحيث يندفع عنه ايراد الشارح القوشجي 328

في تحرير ما ذكره صاحب المواقف 332

ص:7

في تحرير ما ذكره الشارح القوشجي في مقام الجواب عمّا أورده صاحب المواقف 335

في تحرير الجواب 338

في الكلام فيما ذكره الشارح القوشجي نفسه في الجواب عمّا ذكره صاحب المواقف 342

في الإشارة إلى اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عن الشارح القوشجي 346

كلام مع المحشّي الشيرازي 349

كلام مع المحقّق الدواني 353

مناقشة مع المحقّق 360

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشي الشيرازي عن المحقّق الدواني 361

مناقشة أخرى مع المحقّق 361

كلام معه أيضا 364

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي 364

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار 368

[بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآيات و الروايات]374

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة و كذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني على امتناع الإعادة 377

ص:8

مقدّمة الناشر

قضيّة الإيمان بالعودة إلى اللّه عزّ و جلّ-عبر سفر الموت-إحدى الركائز الأساسيّة التي يقوم عليها المعتقد التوحيديّ في الأديان الإلهيّة.و تشكّل هذه القضيّة ثاني قوسين تكتمل بتلاقيهما دائرة الحياة الإنسانيّة في الوجود،بعد أن كان أوّلهما الإيمان بصدور الإنسان من الغيب الإلهيّ،ليجتاز-في رحلة الحياة الدنيا-مراحل الكدح و النموّ و التكامل،ثمّ ليعود إلى لقاء اللّه من جديد..كما تعود القطرة مرّة اخرى إلى المحيط.و هذا الصدور من القدرة الإلهيّة ثمّ العودة إليها بعد الموت هو ما عرف في الثقافة الإسلاميّة باسم«المبدأ و المعاد»؛استلهاما من تعابير القرآن الكريم: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ- الأعراف 29»و «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ -الأنبياء 104»و «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ -يونس 4».

و لا ريب أنّ حياة الإنسان القادمة في أسفار الآخرة مرتبطة ارتباطا صميميّا بأعمال الإنسان و بمساعيه في الحياة الدنيا،و بما يحمل من معتقدات و أفكار،و بما يعتمل في داخله من دوافع و نيّات.هنالك تتجسّد الأعمال و الدوافع الداخليّة في عالم الانكشاف و الظهور «وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً،وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً -الكهف 49»، «ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ -البقرة 281»، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ -الزلزال 7-8».

و قد حفلت النصوص الإسلاميّة-قرآنيّة و حديثيّة-بذكر حقيقة المعاد و ما يرتبط به،بما لا تجد نظيرا له في أيّ من الأديان الاخرى.و شهدت الحياة العلميّة و الدينيّة للمسلمين،على تعاقب القرون،مباحث شتّى حول عقيدة المعاد..خلال كتب خاصّة ألّفت في الموضوع،و خلال فصول تضمّنتها المؤلّفات الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و الوعظيّة، ليتجلّى للمسلم هذا الأصل الدينيّ الأساس،و ليتأهّب للسفر الأخرويّ،حيث يصل الى الغاية التي هي لقاء اللّه.

ص:9

إنّ العامل الرئيس في خراب حياة الإنسان على الأرض،و في ضلاله عن طريق التكامل-الذي حمل رسالته الأنبياء و بلّغ به الأوصياء عليهم السلام-إنّما ينبعث من نسيان العودة إلى اللّه و الغفلة عنها،ناهيك عن التورّط في إنكار هذه العودة و التكذيب بها،كما يتوهّم أصحاب الطريقة المادّيّة في التفكير.

و قد كانت معالجة الكتّاب و المفكّرين المسلمين لقضيّة المعاد على أنماط متفاوتة؛ فمنها ما اعتمد النصّ أساسا في البحث،و منها ما نهج نهجا استدلاليّا عقليّا خالصا،و منها ما جمع بين الاستدلال العقليّ و الاستناد إلى النصوص القرآنيّة و الحديثيّة باعتبار الحقائق التي تجلّيها هذه النصوص محورا للاستدلال،و موضوعا للبحث العقليّ و الفلسفيّ.

و كتاب«منهج الرشاد في معرفة المعاد»هو ممّا ألّفه الآخوند الملاّ نعيما الطالقانيّ -من كبار علماء الإماميّة في القرن الحادي عشر-وفق هذا النهج الأخير القائم على البرهان العقليّ المنوّر بالنّص،و حدّد المؤلّف رحمه اللّه هدفه من الكتاب،فقال:«أن نقيم الدليل على أنّ المعاد ينبغي أن يكون واقعا على هذا الوجه الذي دلّ عليه الشرع،لا على وجه آخر»(1:382).و قد عني فيه ببحث مختلف القضايا المتّصلة بعقيدة المعاد، مناقشا-في ضمن ذلك-طائفة من أفكار الفلاسفة و المتكلّمين المسلمين و غير المسلمين،و كاشفا عن و هن ما ألقي في هذا السبيل من شكوك و شبهات.

و كان هذا الأثر موضع عناية الأستاذ السيّد جلال الدين الآشتيانيّ،فإنّه كتب له مقدّمة ضافية تحدّث فيها عن المؤلّف و عن بيئته العلميّة،و زيّن الكتاب بتعليقات(هي المميّزة بعلامة النجمة)،ثمّ أشار على مجمع البحوث الإسلاميّة في الآستانة الرضويّة المقدّسة بتحقيق الكتاب.و عملا من المجمع على نشر المعارف و العقائد الأصيلة تلقّى هذا الاقتراح بالتّرحيب،و طلب من آية اللّه رضا أستادي تولّي هذا العمل،فتحمّل أعباءه، و كتب مقدّمة عن مصادر حياة المؤلّف و ما يتّصل بمؤلّفاته..فله و للأستاذ الآشتيانيّ وافر الشكر و الامتنان،و نسأل اللّه تعالى لهما المزيد من الخير و التوفيق.

و إذ يقدّم مجمع البحوث الإسلاميّة الجزء الأوّل من هذا الكتاب،يسأل اللّه سبحانه التوفيق لإصدار الجزءين الآخرين،و اللّه المستعان في البدء و في الختام.

مجمع البحوث الإسلاميّة 1418 ه-1376 ش

ص:10

مقدّمة الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ

اشارة

نقلها الى العربية:علي هاشم الأسدي

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الآخوند الملاّ نعيما الطّالقانيّ أحد علماء الإماميّة المشهورين،و يعرف بالملاّ محمّد نعيم أيضا.

كان يواصل دراسته بأصفهان في أواخر العهد الصّفويّ و نقتني كتابين من كتبه:

أحدهما أصل الأصول و قد طبعته في سلسلة منتخبات فلسفي،و الآخر هو كتابه المفصّل منهج الرّشاد في معرفة المعاد الّذي ألّفه بعد عودته إلى أصفهان إذ كان قد نزح منها إثر فتنة الأفغان،فعاد إليها بعد أن أجلاهم عنها القائد الشّهير نادر شاه أفشار.و لم يتحدّث المؤلّف عن سيرته في الكتابين المذكورين،بيد أنّه عرّف نفسه بإيجاز في الكرّاس الملحق بأوّل كتاب أصل الأصول.و يستبين منه أنّ المترجم له كان ذا قريحة شعريّة،لأنّه كتب في آخر الصّفحات الثّلاث الملحقة بكتاب أصل الأصول-الّذي يشكّل أحد أجزاء كتابنا منتخبات فلسفي-و المطبوعة على حدة:

«لكاتبه و مالكه و مؤلّفه و واقفه ملاّ نعيما المعروف بالعرفيّ (1)الطّالقانيّ».

نزلت بصاحب التّرجمة مصائب محيّرة بعد غزو الأوباش أصفهان،فقد قضى الغزاة على جلّ أقربائه،فاضطرّ إلى الخروج من أصفهان ليلا بمساعدة بعض الأصدقاء و النّاصحين،و وصل إلى قمّ بعد أن تجشّم عناء كبيرا في سفره.

عرفه بعض العلماء الّذين كانوا قد ذهبوا إلى أصفهان سابقا لطلب العلم و غادروها

ص:11


1- -العرفي:اسم خاصّ اختاره الشاعر لنفسه و يذكره في آخر بيت من كلّ قصيدة،على عادة شعراء الفارسيّة.

لأسباب معيّنة فطلبوا منه أن يدرّس و يفيدوا من وجوده،فألّف رسالة أصل الأصول في قمّ (دار الإيمان).

*** توفّر المستشرق المعروف المرحوم البروفسور كربن على دراسة شيخ الإشراق و أفكاره و آثاره مدّة مديدة،عند ما كان مشغولا في مطالعة آثار محقّقي الشّرق و أفكارهم عدد سنين إبّان اقامته في تركيا.و كان يعمل في القسم المتعلّق بالمعهد الفرنسيّ التّركيّ مبعوثا من قبل حكومته ثمّ انتقل إلى ايران و واصل فيها عمله.و قد تعرّف عليّ سنة 1959 و 1960 م،و كان يرغب كثيرا أن أقوم بإعداد مختارات فلسفيّة منذ عصر الميرداماد حتّى عصرنا هذا.و كان يرى أنّ الموضوعات الّتي اختارها من كتب الفلاسفة في القرنين الأخيرين ينبغي أن تنقل دون إبداء وجهة نظر فيها،و هو يتولّى تدوين القسم الفرنسيّ.و كنت أدرك جيّدا أنّ نقل المباحث العلميّة العويصة بدون إبداء رأي فيها عمل ناقص.فلا بدّ من بيان التّفاوت بين المشارب و المذاهب.

كنت أنجز العمل الّذي اقترحه عليّ المستشرق المذكور مع انشغالي بإعداد الكتب العرفانيّة و الفلسفيّة للطّبع.و تهيّأ قرابة ستّة أجزاء كمختارات من آثار أكابر العلماء، مشفوعة ببيان ما أشكل و شرح ما أعضل.و استطعنا أن نتعرّف على كثير من العلماء عن هذا الطّريق،و قد كان بعض منهم-مثل الملاّ نعيما الطّالقانيّ-غير معروفين عند الكثيرين.

طبع من المختارات الفلسفيّة أربعة أجزاء،و انتقل زميلي الباحث المغفور له البروفسور كربن إلى رحمة اللّه تعالى.

و قد بلغ البروفسور كربن من الذكاء الحادّ،و القابليّة العمليّة و الذّوق العلميّ الوافر مبلغا أصبح فيه عالما ملمّا بالأسس الفلسفيّة،متمكّنا من المسائل العويصة أكثر من كونه مستشرقا بالمعنى المتداول.

***

كان الملاّ نعيما المشهور بالملاّ محمّد نعيم أيضا من العلماء الأجلاّء أولي المنزلة الرّفيعة لكنّه لم يتمتّع بشهرة كافية عند الجميع.مثله بذلك مثل كثير من العلماء الّذين كانوا

ص:12

رجالا كبارا إلاّ أنّهم مغمورون.و انّها لمأساة حقّا أن لا تولي الحوزات العلميّة الشّيعيّة اهتماما كافيا بالعرفان النّظريّ و العمليّ و الحكمة الإلهيّة،و لا تعتني بالعلوم القرآنيّة و تفسير القرآن الكريم،و لا توسّع نطاقها العلميّ؛إذ أصبحت حوزات أحاديّة العلم اقتصرت على الفقه و الأصول،و ركّزت على العلوم النّقليّة،و تركت تفسير القرآن و العلوم الّتي تنبثق منه و تحفظ أصالة الإسلام.و نلحظ في الجامعات أيضا أنّ العلوم الأصيلة،و العلوم القرآنيّة،و علم التّوحيد و العرفان الّذي تألّق من بطن القرآن،و العلم الإلهيّ،و الحكمة المتعالية الّتي تعدّ كلاما شيعيّا في مقابل كلام علماء العامّة،كلّ ذلك آخذ بالزّوال.و كان بعض الجهلة المغرورين يخالون أنّ معرفة الصّرف و النّحو و المعاني و البيان،و التّوغّل في اللغة العربيّة و آدابها يكفيان لفهم القرآن،و بعضهم كان يرى أنّ ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغة الفارسيّة مفتاح المعارف القرآنيّة.

و لا بدّ أن نعرف أيضا أنّ علم الكلام وحده لا يكفي لفهم القرآن،بل قد يكون مضرّا و مضلاّ.

إنّ علم الكلام على المذهب الأشعريّ مشحون بالأخطاء و الهفوات،و على أصول المعتزلة حامل لأخطاء فادحة،و كلاهما وقع في فخّ التّنزيه الصّرف الّذي يلزم نفي التّوحيد الألوهيّ و التّشبيه الصّرف الملازم لاستناد آثار المادّيّات الخاصّة إلى الحيّ المنزّه عن عوارض الجسمانيّات.و المذهب الحقّ هو الجمع بين التنزيه و التّشبيه.

في ضوء ما ذكرنا كان الكلام الأشعريّ و المعتزليّ دعامة للمعارف القرآنيّة و زاعما فهم ظواهر القرآن و الأحاديث المأثورة عن خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله،و حلّ المسائل العويصة،بيد أنّ الأصول و القواعد العلميّة لهاتين الفرقتين قد خرجت من نطاق العلم تماما خلال فترة قليلة نوعا ما.و نلحظ في كتب التّفسير أثرا للفرقتين المذكورتين لكنّه مضلّ.

إنّ ما ينبغي أن نذعن له هو أنّ علم التّفسير يستتبع عددا من العلوم،و أنّ التّفسير يجب أن يكون مناسبا لبيئة خاصّة.و إذا همّ امرؤ أن يفسّر القرآن و هو في الأربعين أو الخمسين من عمره و كان أذكى النّاس،فلا يفلح في عمله.إذ مع وجود الظّروف المساعدة على التّفسير،لا بدّ أن يتعلّم الإنسان التّفسير في شبابه عند أستاذ مفسّر،و يعمل ليل نهار،

ص:13

و يتوفّر على دراسة آثار الماضين.و يحتاج طالب علم التّفسير إلى بيئة تفسيريّة مناسبة، و كما أنّ الفقيه البارز يجب أن ينشأ في بيئة فقهيّة،فكذلك المفسّر المحقّق يجب أن يكون وليد بيئة تفسيريّة،و بعد تهيئة الظّروف لا بدّ من خمسين سنة في الأقلّ حتّى تعدّ البيئة التّفسيريّة المناسبة.

إنّ الإلمام بالأسس العرفانيّة،و التّمكّن من الحكمة المتعالية،و الاطّلاع على علم الكلام،و العثور على طريق الأنس بالقرآن،و تطهير النّفس من الرّذائل،و تحصيل الإقبال للأنس بالقرآن،كلّ ذلك وسيلة للعبور من ظواهر القرآن و الحديث،و العروج إلى البطون القرآنيّة و إدراك كلام الحقّ.قال الإمام جعفر الصّادق عليه و على آبائه السّلام:«لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه،و لكنّهم لا يبصرون.» (1)و ما قاله خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن.» (2)أراد به أنّ كلّ بطن يختصّ بأشخاص معيّنين،و أنّ بطنه الثّالث هو مشاهدة الحقيقة كأنّك تراه.و أشار مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أعلى درجاته فقال:«ما كنت أعبد ربّا لم أره.» (3)و شهود البطن السّابع للمحمّديّين خاصّة.و في عصرنا هذا ينبغي ألاّ نتطلع إلى بطون القرآن الكريم و نعرج من ظاهره إلى باطنه و ننظر من عالم التّفسير إلى عالم التّأويل.و القصد هو أنّ إدراك السّور القرآنيّة و فهم الظّواهر بنحو لا يجرّد من فهم كلام الحقّ تماما يجب أن يعدّ بالغ الأهميّة.

*** الملاّ نعيما هو نجل الشّيخ محمّد تقي الملائكة،و الشّيخ محمّد تقي ابن الشّيخ محمّد جعفر،و الشّيخ محمّد جعفر ابن الشّيخ محمّد كاظم الطّالقانيّ.و سلالة هؤلاء العلماء هي أكبر ممّا ذكر.

الملاّ محمّد الملائكة المشهور بالملاّ محمّد فرشته أخو الآخوند الملاّ نعيما.و كانت أسرة الملاّ نعيما من أعاظم رجال العلم و الأدب،و كما قيل في المشهور«كان رجال أسرته من علماء الدّين».و بين أحفاده المشهورين بلقب(نعيمائي)هذا اليوم كثير من

ص:14


1- -بحار الانوار 92:107. [1]
2- -تفسير الصافي 1:38. [2]
3- -اصول الكافي 1:98. [3]

العلماء،و معظمهم من أولي الذّوق.و من أسرته الأخ نعيمائي الّذي يسكن في طهران حاليّا و له خطّ جميل،كما أنّه ملمّ بعدد من الخطوط.و قد زرته في بيته مع عدد من الأصدقاء.علما أنّ خطّ الملاّ نعيما في غاية الجمال.

أثران من الآثار العلميّة للملاّ محمّد نعيم(الملاّ نعيما)

لم يكن الملاّ نعيما شخصيّة مغمورة قطّ،فقد كان من مشاهير العلماء و ضريحه بين نور و طالقان مطاف أولي الإقبال.

إنّ أحد آثاره العلميّة الّتي امتزج فيها الذّوق العلميّ بالذّوق العرفانيّ رسالة جامعة بعنوان أصل الأصول ألّفها الملاّ نعيما في قمّ(دار الإيمان)و هي أثر نفيس،و قد طبعته في الجزء الثّالث من المختارات الفلسفيّة.

مرّ بنا فيما سبق أنّ العالم المذكور فقد كثيرا من أقاربه في غارة الأفغان على مدينة اصفهان الكبرى(و سقوط اصفهان و موت مائة ألف من أهاليها جوعا و قتلا)فقام بعض الأخيار بإخراجه منها بمشقّة فتوجّه تلقاء قمّ مضطرّا و في قمّ طلب منه بعض العلماء أن يدرّس،فاستجاب لهم.و ما كتابه أصل الأصول إلاّ مجموعة دروس كتبها في مهجره.

هذا الكتاب في المعاد الجسمانيّ و الرّوحانيّ و عنوانه منهج الرّشاد في معرفة المعاد.

ألّفه الملاّ نعيما بعد مواجهة جيش الملك(نادر شاه افشار)صلفاء الأفغان و طغامهم.و أخيرا استطاع الجيش المذكور أن ينزل هزيمة ما حقة بجيش(أشرف قلجه اي)حتّى آثر الفرار على البقاء،و ترك اصفهان لمحة البرق.و تكبّد في الطّريق أيضا خسائر كثيرة تحدّثت عنها كتب التّاريخ.و كان بين الأفغان عالم دينيّ يعرف بالملاّ زعفر،و هو مرشدهم،اشتهر أنّه أقسى النّاس.و عند ما وصل إلى ضواحي كرمان ألقى نفسه في النّهر و غرق.

و كلّ من دخل اصفهان بعد فرار الأفغان،و كان قد رآها قبل حكومة محمود و أشرف فانّه وجدها يبابا و تنهّد تأوّها عليها.و قام الحاكم غير الكفوء و بعض المتظاهرين بالعلم من الوصوليّين،-في آخر لحظة كان ممكنا فيها أن يعيد القائد الإيرانيّ اللائق النّظم إلى البلاد-بإجبار الملك الجاهل على إعماء رجل كفوء و قتله.

ص:15

أخذت إيران بالضّعف بعد الشّاه طهماسب.و قام أحد أحفاد السّيّد الشّريف-و كان سنّيّا متعصّبا-بإغواء الشّاه اسماعيل الثّاني و جعله سنّيّا،لكنّ الشّاه أنكر تسنّنه خوفا من رؤساء قبيلة(استاجلو)و ألقى الشّريف في السّجن،و أثبت نذالته من خلال قتل أقاربه.

و عمد إلى أولي الذّوق و الفضل المحترمين من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل مؤسّس الامبراطوريّة الصّفويّة فقتلهم شرّ قتلة،و أنزل بذلك ضربة فادحة بالبلاد و الشّعب خلال عمره القصير.

كانت جميع مدن إيران و قصباتها بما فيها تبريز خاضعة للسّلطة العثمانيّة قبل حكومة عبّاس الأوّل الّذي كان لقب(الشّاه عبّاس الكبير)حقّه المطلق.و ذاق النّاس فيها مرارة التّسلّط الأجنبيّ عشرين سنة.و صارت مدينة تبريز خربة،و انجلى عنها كثير من أهلها.و تزوّج العثمانيّون عددا كبيرا من النّساء التّبريزيّات بالعنف و الإكراه.و كانت قلعة تبريز مكانا مأمونا لولاة الدّولة العثمانيّة سنين طويلة.و عند ما كان الجيش الملكيّ على عشرة فراسخ من تبريز،وضع التّبريزيّون قبّعاتهم الّتي كانت مألوفة عندهم في الماضي على رءوسهم و طفقوا يقتلون الأولاد المفروضين عليهم.و حينما دخل الجيش الإيرانيّ تبريز،بدأ الجيش العثمانيّ يتقهقر بعد مقاومة قليلة،و هذا ما تحدّثت عنه كتب التّاريخ.

و ضعف مركز الحكومة الصّفويّة بسبب تشتّت الآراء حتّى كاد يزول،و كانت الدّولة العثمانيّة تترصّد الفرصة لتزيد اعتداءاتها.و وقعت هرات في خراسان بأيدي الأوزبك سنة 997 ه بعد تسعة أشهر من الدّفاع المستميت.و أخفق أهالي آذربايجان في طرد عثمان لو من منطقتهم.و أصبحت الطّرق غير آمنة و ارتفعت أسعار البضائع الّتي يحتاجها النّاس بنحو لافت للنّظر حتّى أصبحت أغلى من الأمصار المجاورة.

و منيت الدّولة بضعف أطمع فيها الأعداء حتّى إنّهم كانوا يتأهّبون لمهاجمتها.

و كانت الظّروف تتطلّب يومئذ حاكما مقتدرا نابها كيّسا ذا دهاء،و من حسن حظّ بلادنا و الحكومة الصّفويّة أنّ ذلك الحاكم المطلوب كان موجودا،و هو عبّاس الأوّل الّذي أنقذ البلاد و لم يأل جهدا في إرساء دعائم التّشيّع و نشر مباديه.

و لم يدّخر الملك المذكور وسعا في تشييد المساجد و إنشاء الجسور القويّة و كلّ ما جعل اصفهان نجمة متألّقة،و كلّ ما أدّى إلى راحة التّجّار و الكسبة و رخائهم في مجال

ص:16

حمل البضائع التّجاريّة.و ما كان له دور في ازدهار التّجارة من بناء الجسور و الرّبط في مناطق ايران جميعها بخاصّة الوعرة منها.و لو قسنا الإمكانيّات الّتي كانت موجودة في أيّام حكومته بالإمكانيّات المتوفّرة في عصر اختراع الآلات و الوسائل المحيّرة،لسلّمنا أنه لم يشقّ له غبار.

كتب روجر سيوري مؤلّف كتاب ايران عصر صفوى[إيران العصر الصّفويّ](ص 82 من التّرجمة الفارسيّة الّتي أنجزها أحمد صبا):

«على الرّغم من الانتصارات العسكريّة و السّياسيّة للملك عبّاس الأوّل،بيد أنّها كانت تمثّل جانبا واحدا من حكمه المتلوّن.و كانت حكومته معلما على ذروة ازدهار الفنّ الّذي ظهر في العصر الصّفويّ.و تطوّر نسج السّجّاد في عهده فبلغ مستوى الفنون الدقيقة الجميلة بفضل دعمه و تشجيعه بعد أن كان صناعة ريفيّة.و لم تشهد المنسوجات الّتي كانت تعدّ في معامل الحياكة و النّسيج الكبرى مثيلا لها في سطوع لونها و في تصميمها.

و نافست الأواني الفخاريّة المصنوعة في العصر الصّفويّ منتوجات الصّين في الأسواق الأوربيّة.

و لا عهد للعالم الإسلاميّ بمثل هذا النّموذج الجامع لبناء المدن في العصر الصّفويّ منذ أن بنى المنصور العبّاسيّ بغداد في القرن الثّاني.و دلّت تركيبة المدينة وسعتها على منزلتها كعاصمة للإمبراطوريّة الفارسيّة.

تبلغ مساحة ساحة(نقش جهان)العظيمة الّتي أنشأها الشّاه عبّاس في مركز المدينة سبعة أضعاف ساحة(سان ماركو). (1)

كان بعض الأمراء الصّفويّين يتمتّعون بذوق مفعم و لعلّ معظمهم كانوا من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل أو من أحفاده.

ص:17


1- -ساحة في مدينة البندقيّة.كان عصر اثنين أو ثلاثة من سلاطين الصّفويّة عصر نضج المواهب.و كان الشّاه إسماعيل نفسه قائدا حربيّا و هو ابن اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة.هزم مرّة واحدة فحبس في جالديران.كتب جاهل مغرور أنّه نهض من أجل بثّ التّشيّع.و من المستبعد أن يحمل شعورا بحبّ الوطن.و كان الشّاه اسماعيل نفسه هو الّذي جدّ في إحياء الشّاهنامه بخطّ جميل جدّا.و اشتملت على منمنمات بريشة رسّامين كبار يترأسّهم رسّام عصره بهزاد رحمه اللّه. أصيبت ايران بعد الفتح الإسلاميّ لها بحالة تشبه حالة ملوك الطّوائف خلال تسعمائة سنة و كانت تتقاذفها الأيدي.و تعدّ اقامة امبراطوريّة عظيمة بسرعة خاطفة أمرا يسيرا لرجل مريض مني بداء فقدان الضّمير.

و كان الأمير الحرّ أبو الفتح ابراهيم ميرزا بن بهرام بن الشّاه اسماعيل الصّفويّ(المتوفّى سنة 930 المقتول سنة 984 ه)يتمتّع بقابليّة قليلة المثيل و يحظى بعناية الشّاه طهماسب،و قد زوّجه الشّاه بنته(گوهر سلطان خانم).و كان أديبا جليلا،و في العلوم الرّياضيّة أستاذا بارعا.و كان من تلاميذ المير صدر الدّين دشتكي في الحكمة و الفلسفة.

و درس على علماء قزوين علوما متعدّدة و أصبح من الأساتذة الّذين توجّهت إليهم أنظار العلماء.و لمّا كان كفوءا،فقد ولاّه الشّاه طهماسب على خراسان،و ضمّ إليها سبزوار لرغبة أهلها في ذلك.و ما كان يتّصف به من علم و فضيلة و دراية و كفاءة دفع اسماعيل الثّاني-بعد تقلّده الأمر-أن يستدعيه إلى قزوين و يقتله.و أوصى هذا الأمير زوجته أن يدفن في جوار الإمام الثّامن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام.

ألّف أبو الفتح ميرزا عددا من الرّسائل في علم الموسيقى و كان يتمتّع بكفاءة و دراية.

إنّ من خصائص الحكومة الاستبداديّة أن يتولّى الأمر فيها مجنون جاهل كإسماعيل الثّاني،فيقيل عالما كفوءا كأبي الفتح إبراهيم ميرزا و يقتله.و جاء في گلستان هنر، (1)و خلاصة التّواريخ، (2)و خلاصة الأشعار أنّ السّلطان ابراهيم حفيد الشّاه اسماعيل الصّفويّ كان من عباقرة الدّهر و نوادره،و قد جمع وحده ما كان عند أولي الذّوق و المعرفة من العلوم و الفنون.و كان يكتب بخطّ نستعليق في غاية الجودة.كما كان رسّاما ظريفا.

و تتلمذ على مولانا قاسم قانوني في تصنيف القول و العمل.و برع في النّجارة،و صناعة الآلات الموسيقيّة،و صناعة الاختام.و كان أستاذا في التّجليد،و التّذهيب،و رشّ الألوان و التّصوير،و الرّماية،و الصّياغة،و تربّى عليه عدد من الشّعراء و العلماء،و كان ذا قريحة شعريّة،و اتّخذ لنفسه لقب(جاهي).قتله الشّاه اسماعيل الثّاني سنة 984 ه.و تحتفظ مكتبة ملك الأهليّة بنسخة من ديوانه.

*** و من الأمراء الصّفويّين الآخرين:الشّريف جمال الدّين إبراهيم بن نور الدّين عبيد اللّه الصّفويّ.كان من كبار أولي المعرفة،و من فحول الفلاسفة و المتكلّمين في القرن العاشر الهجريّ.و كان من التّلامذة المهمّين للملاّ جلال الدّوانيّ في العلوم العقليّة.من آثاره:

ص:18


1- -ص 106،119.
2- -ص 633.

كتاب في المنطق و الحكمة الإلهيّة،و مقدّمة العلوم بخطّ المؤلّف،و هذا الكتاب موجود في مكتبة الملاّ محمّد صالح البرغاني بكربلاء.

أخو الشّريف جمال الدّين هو الشّريف عفيف الدّين،و كان من تلامذة الملاّ جلال الدّوانيّ أيضا.عاصر السّيّد السّند من سادات(دشتكي شيرازي)دافع عن أستاذه الدّوانيّ في مقابل صدر الدّين.

*** من الضّروريّ أن نذكر عددا من الموضوعات في هذا المجال:

1-كانت هناك مشاجرات علميّة بين الملاّ جلال و مير صدر دشتكي سنين طويلة، بيد أنّها لم تفض إلى إبداع دراسات و بحوث جديدة.

كما كان هناك خلاف علميّ متواصل بين نجل مير صدر الدّين،و غياث الدّين كأبيه حول أفكار الملاّ جلال الدّوانيّ و أنصار الفلسفة.و كان يدور حول الموضوعات الكلاميّة غالبا.إنّ التّعبير عن المتكلّمين بالفلاسفة عمل غير سديد.و كان الأساتذة و المدرّسون في عصر عضد الدّين الايجي و السّيّد الشّريف و تلامذته من المتكلّمين المحقّقين.و على هذا النّهج كانت آثار التّفتازانيّ شارح المقاصد،و الشّيخ النّسفيّ في خراسان.إنّ الرّجوع إلى آثار هؤلاء الأعاظم كالتّنقيب في بيدر للتّبن إذ قد يعثر فيه على قمح أحيانا.

و صفوة القول:إنّ أكثر موضوعاتهم-أطراف النّزاع-لا تقوم على قاعدة قويّة،بل هي بالمطالب الواهية أشبه؛لذا لم تدرّ هذه المنازعات نفعا على أحد.

كلّ من تلقّى المعرفة من أساتذة مدرسة شيراز،فانّه تلاعب بالألفاظ.

لم يولد فيلسوف عظيم بعد الخواجه نصير الدّين الطّوسيّ،و قطب الدّين الشّيرازيّ.

و لعلّنا نظفر بحكيمين أو ثلاثة من ذوي المستوى المتوسّط.و كان الأشاعرة فرسان الميدان يومئذ.أمّا العرفاء،و المتصوّفة،و أولو المعرفة،فقد كانوا موجودين في كلّ مكان.

و قد قدّم هؤلاء خدمات جليّ من أجل بثّ الإسلام دون أن يستخدموا العنف،و القتل، و النّهب،و الإرهاب،و قوّة السّيف.

و اعتمدت الحكومة الصّفويّة على أنصار آبائهم و أجدادهم.و قد ضحّى هؤلاء في نهضة اسماعيل الأوّل الّذي كان ابن اثنتي عشرة سنة حين ظهور الصّفويّين،و ابن أربع

ص:19

عشرة أو خمس عشرة سنة عند النّهضة.

و لحق الأنصار التركمان الّذين ينتمون إلى قبائل متعدّدة بمرشدهم و هم طافحون بالشّوق،كما لحق به الرّاقصون و الطّبّالون في مواكب ضمّت الخمسمائة،و الألف، و الألفين،و معظمهم كانوا رجال حرب.و استطاع هؤلاء أن يوحّدوا ايران خلال فترة يسيرة فأنقذوها من حالة ملوك الطّوائف الّتي دامت تسعمائة سنة،و عادت ايران إلى نصابها في مدّة قليلة نوعاما.

قال أحد الشّعراء:«بر آر سر كه طبيب آمد و دوا آورد».و تعريبه:

«ارفع رأسك فقد جاء الطبيب و أتى بالدّواء».

كانت بين الطّالقان(طالقانات)الشّاملة منطقة فسيحة من القرى و القصبات،و بين مدينة قزوين علاقات عميقة ممتدّة.و اشتهر بعض العلماء في قزوين أيّام الشّاه طهماسب الصّفويّ،و كان بين المدرّسين أو أصحاب المناصب الحكوميّة من كان من أهل الطّالقان.

كان سماحة الأستاذ سيّد الأساطين و قرّة عيون الموحّدين المغفور له السّيد أبو الحسن القزوينيّ الرّفيعيّ تغمّده اللّه برحمته الواسعة القزوينيّ الأمّ من أهالي الطّالقان، و جدّه الميرزا رفيعا القزوينيّ من أعاظم تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و في الحكمة المتعالية من تلاميذ الآخوند الملاّ اسماعيل بن محمّد سميع الأصفهانيّ المشهورين.والدته هي بنت الفقيه و الأصوليّ المشهور آقا سيّد عليّ القزوينيّ صاحب التّعليقات النّفيسة على كتاب قوانين الأصول للميرزا القمّيّ.و توجّه والده الميرزا رفيعا،و أخوه الميرزا شفيعا من الطّالقان إلى قزوين (1)من أجل الدّراسة.

ص:20


1- -ذهبت في أحد أيّام إقامتي المؤقّتة في قزوين مع صديقي العزيز المغفور له الشّيخ محمّد حسين الأويسي لزيارة الأموات في مقبرة المدينة العامّة،و من ثمّ زيارة قبر السّيّد حسين(أحد أبناء الائمّة).و تعرّفنا في هذين المكانين المقدّسين على رجال عظام استزدنا من أرواحهم همّة.تغمّد اللّه جميع الأموات برحمته الواسعة. و كان قبر أستاذ العلوم الكثيرة الملاّ الكاتبيّ القزوينيّ سقى اللّه تربته-و هو أحد أعوان الخواجه الطّوسيّ رضي اللّه عنه في مرصد مراغه-في خربة تقع في شارع رشت قريبا من مسجد سلطاني.و هذا الرّجل ألّف كتبا نفيسة في علوم عديدة.و كان ابن ماجة مؤلّف«السّنن»المتوفّى سنة 272 ه قزوينيّا.درس في قزوين،و سافر إلى بغداد،و مصر،و الحجاز.أفاد من علماء الحديث و أتمّ كتابه. توفّي صديقي العزيز سماحة آية اللّه الأستاذ الجامع للعلوم العقليّة و النّقليّة الشّيخ محمّد حسين الاويسي يوم 11 ما يس سنة 1991 م.أتمّ هذا الأستاذ المحقّق المرحلة الاولى من الفقه و الأصول و الحكمة المتعالية: شرح المنظومة و شيئا من الأسفار،ثمّ سافر إلى قمّ لمواصلة دراسته فحضر درس أستاذ الأساتذة آية اللّه العظمى البروجرديّ أعلا اللّه مقامه في الفقه،و درس الأستاذ العلاّمة الطّباطبائيّ قدّس سرّه في الأسفار.-

كان الطلاّب الطّالقانيّون يتوجّهون إلى الحوزة العلميّة في قزوين حين كانت عاصمة لإيران و قبل انتقال مركز الحكومة الصّفويّة إليها،و بعد انتقال المركز إلى مدينة اصفهان المباركة الّتي كانت تعدّ حقّا جنّة ثانية مدّة مديدة.و كانوا يواصلون دراستهم فيها ما كان ذلك يسيرا.و كان بعضهم يذهب إلى أصفهان للإفادة من أساتذتها المعروفين.و كان بين أهل الطّالقان عدد كبير من العلماء،و أولي القريحة،و الخطّاطين المشهورين.و عرف النّاس فيها بالجدّ و المثابرة و العزم الوطيد و القناعة و الرّأفة.

و كان صديقي العزيز الأستاذ القدير الفريد في عصرنا غلام حسين أميرخاني أستاذ خطّ النّستعليق،و الأستاذ البارع المغفور له درويش عبد المجيد الطّالقانيّ سقى اللّه تربته مخترع الخطّ الجميل الجذّاب من أهل الطّالقان،و يترجم ذلك ذوقهم و قريحتهم.

و كان السّيّد شرف الدّين محمود الطّالقانيّ نجل السّيّد علاء الدّين بن السّيّد جلال الدّين الطّالقانيّ من مدرّسي الفلسفة الكبار في قزوين.و كان قد تعلّم الحكمة و العرفان من ابن أبي جمهور الأحسائيّ.و كانت طهران يومئذ قليلة السّكّان و نسبة الّذين يعرفون القراءة و الكتابة فيها 10%،أمّا نسبتهم في مدينتنا(آشتيان)فهي 70%،و أمّا نسبتهم في الطّالقان فهي 60%.

و كان عدد من العرفاء و أولي القريحة الأدبيّة في فراهان الشّاملة مدنا متعدّدة الواقعة بين أراك( سلطان آباد)و همدان. (1)و بزّ أبناء آشتيان،و تفرش،و جرجان أيضا معاصريهم زمنا،ثمّ أفل نجمهم بعد قرنين.

***

ص:21


1- -كان المغفور له الميرزا بزرگ قائم مقام العديم المثيل في درايته و ذكائه و طيب نفسه و خبرته،و الفريد في سلامة روحه من أعاظم تلك المدينة.و كان نجله أبو القاسم أيضا من كبار عصره و عرف بذكائه و درايته التّامة،و لا نظير له في الإنشاء.و لم يبلغ ما بلغ أبوه في إدارة شئون الدّولة،و كان له في القسوة باع.و كان إعماء خسرو ميرزا و أخيه عملا في غاية القبح،و ما فعله إلاّ لكي لا يحلّ خسرو ميرزا محلّ محمّد شاه عاشق ميرزا آقاسي الّذي جعل أمور الدّولة إلى رجل غير كفوء و هو الآخوند الإيروانيّ عدد سنين،و أصيب هو بنقرس شديد،و كان يعتقد أنّ الحاج لا يرى مصلحة أن يشفيه،و إذا رأى مصلحة في ذلك فهو يشفيه.

كان الشّيخ محمّد تقي فرشته (1)ابن الشّيخ محمّد جعفر ابن الشّيخ محمّد كاظم الطّالقانيّ المتوفّى سنة 1186 ه.و هو تلميذ أبيه و الميرزا حسن اللاهيجيّ مؤلّف زواهر الحكم المشتمل على دورة من أصول عقائد الشّيعة،و قد طبع مع(منتخبات فلسفي)الّذي أعددته.

توفّي الشّيخ محمّد جعفر سنة 1161 ه.و كان من تلاميذ والده في الفلسفة و الكلام، و قرأ علم الحديث على الملاّ محمّد باقر.

كان الشّيخ محمّد كاظم القزوينيّ الطّالقانيّ المتوفّى سنة 1094 ه.من تلاميذ الشّيخ البهائيّ في الفقه،و من تلاميذ ميرداماد و فندرسكي.

درس الآخوند الملاّ نعيما الطّالقانيّ بن الشّيخ محمّد تقيّ عند أبيه و غيره من الأساتذة بقزوين.ثمّ غادرها إلى أصفهان دار العلم لإكمال دراسته و الحصول على الاجتهاد.

و درس الفقه و الأصول عند أفضل المجتهدين في عصره و هو محمّد بهاء الدّين المعروف بالفاضل الهنديّ نجل تاج الدّين حسن الأصفهانيّ.و تعلّم الحكمة المتعالية عند شيخنا الأقدم الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ،ثمّ أصبح في عداد المدرّسين العلماء تدريجا.

و لمّا كان الفاضل الهنديّ مدرّسا لكتاب الشّفاء،ثمّ لخصه بعد ثماني عشرة سنة تقريبا،فربما درس الملاّ نعيما إلهيّات الكتاب المذكور عند ذلك الأستاذ الفذّ.

يعدّ كتاب كشف اللثام في الفقه من الكتب النّادرة المثال في عصر الفقه الاستدلاليّ.

و قد أثنى عليه فحول الفقهاء.و كان صاحب كتاب جواهر الكلام-عظّم اللّه قدره-يوليه اهتماما خاصّا عند تصنيف كتابه المذكور،كما كان يرجع إليه.و عند ما بلغ مبحث الزّكاة توقّف عن العمل،و لمّا سئل عن سبب ذلك،قال:كشف اللثام من مصادر كتاب جواهر الكلام لذا أوصيت أن يؤتى ببقيّة أجزائه من أصفهان.

توفّي الفاضل الهنديّ يوم سقوط أصفهان و دفن في مقبرة«تخت بولاد ».وزرت قبره في سفرتي السّابقة إلى أصفهان و استمددت منه ما يزيد همّتي.و كان الفقيد أصفهانيّا، عرف بالفاضل الهنديّ بسبب مرافقته لأبيه في سفرته القصيرة إلى الهند.

و همّ الفاضل الهنديّ في أيّام شبابه بإعداد تفسير جامع للقرآن الكريم.و نقل بعض

ص:22


1- -انظر:مجلّة الحوزة العلميّة بقمّ،العدد 58،ص 174.

الأعلام أنّه بلغ قرابة 35 أو 36 جزءا.

مرّ بنا أنّ عددا من المفسّرين أفلحوا في إعداد تفاسيرهم إذ نشئوا في بيئة تفسيريّة و كان لهم باع في التّفسير،و في حقل العبادة و الطّاعة عبروا من مقام الظّاهر إلى الباطن في الأقلّ،و ألسنتهم تنطق بهذه العبارة الملكوتيّة للآيات:«كأنّي أنظر إلى عرش الرّحمن بارزا» (1)من هذا المنطلق،المفسّر غافل بالنسبة إلى أهل التّأويل.

و نقل الخاصّة و العامّة عن خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

«انّ القرآن انزل على سبعة أحرف،لكلّ آية منها ظهر و بطن،و لكلّ حرف حدّ و مطلع.» (2)

و ذكر الشّيخ الكبير صدر الدّين القونويّ و جمع كثير من محقّقي العامّة ما نصّه:

قال عليّ عليه السّلام:«لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب.» (3)

المراد من التّفسير هنا الحقيقة الجامعة بين التّفسير و التّأويل.و التّأويل رجوع الشيء إلى أصله،و اتّصال المرتبة النّازلة من القرآن الكريم بالمرتبة العالية منه.لذا فانّ حظّ من كان في مرتبة البطون القرآنيّ شهود الكلام الغيبيّ،و الآيات القرآنيّة عنده من محكمات الكتاب الحقّ.

القرآن نازل من المقام الرّبوبيّ،و يستظهره الحفّاظ أو يكتبونه على الورق،و هو رفيع الدّرجات،و إن كان نزوله من مقام الغيب مختلف.و إنّ حظّ خاتم الأنبياء منه هو الحقيقة الواردة على مقامه: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» . (4)و لا حاجز بينه و بين الحقّ تعالى، فلا جرم أنّه كما قال:«نزلت نزلة يسيرة».و نزل القرآن الكريم على قلبه المبارك صلّى اللّه عليه و آله مع الاتّصاف بمقام الجمع الثّاني لكافّة الحقائق القرآنيّة،و لكلّ مرتبة أحكام.

*** قلنا:كانت بين الطّالقان و قزوين علاقة عريقة ممتدّة.و بعد أن أصبحت أصفهان مركزا للإمبراطوريّة الشّيعيّة بهمّة الشّاه عبّاس الأوّل،كان كثير من طلاّب العلم يذهبون إليها لمواصلة دراساتهم العليا بعد إكمال المرحلة التّمهيديّة في مناطقهم،و لم تضارع النّجف

ص:23


1- -يستشفّ هذا المضمون من حديث حارثة.انظر:الكافى 2:54. [1]
2- -تفسير الصافي 1:52. [2]
3- -بحار الانوار 92:93. [3]
4- -النجم:9. [4]

الأشرف يومئذ اصفهان بسبب حرارة جوّها،و افتقارها إلى الماء العذب الصّافي،و عدم جامعيّتها في العلوم المتداولة.و عند ما سيطر الأوباش على أصفهان،اختفى كثير من طلاّب العلم،و توجّه بعضهم إلى العتبات المقدّسة.و على الرّغم من أنّ اصفهان لم تستعد مجدها الغابر،لكن نبغ فيها رجال كبار كانت لهم صفة الأستاذيّة.و كان طلاّب العلم يرونها مكانا مناسبا لكسب أنواع العلوم.و كان طلاّب الطّالقان يدرسون في حوزتها،كما كان فيها مدرّسون مشهورون من أهل الطّالقان.

كان مير سيّد حسن الطّالقاني أستاذ الحزين اللاّهيجيّ فقيها أصوليّا حكيما عارفا شاعرا مشهورا و من أحفاد الشّيخ الأجلّ العارف المشهور الشّيخ زاهد الجيلانيّ.و كان المذكور يدرس العلوم النّقليّة في العتبات المقدّسة،و درس العرفان النّظريّ عند العارف المحققيّ و بلغ فيه درجة رفيعة.كما بلغ الشّيخ محمد علي المعروف بالحزين اللاهيجيّ مكانة سامية عنده.و كان هذا الشّيخ يرى أنّ مير سيّد حسن الطّالقانيّ لا مثيل له في العرفان النّظريّ.

و قام الشّاه سلطان حسين باخراج جميع أحفاد الشّيخ زاهد الجيلانيّ الّذين كانوا يحظون باحترام الصّفويّين من اصفهان بارشاد مربّيه الملاّباشي،و بحجّة واهية تتلخّص في أنّ العرفان شجرة الزّقّوم،أخرجهم بنحو مهين و خرب المكان الّذي كان يقيم فيه الملاّ محسن الفيض العزاء.و ممّن نفي عن مدينته العالم الكبير في زمانه الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ الّذي عانى من البرد الشّديد و الثّلج الكثير في الطّريق بين نجف آباد و اصفهان،و فقد ابنه الصّغير بسبب ذلك.

و نفي أيضا المغفور له الحزين اللاّهيجيّ.و كان هذا الرّجل أفضل أحفاد الشّيخ زاهد في عصره.و ترك اصفهان خائفا مترقّبا و لسان حاله يقول: «رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ» .

و كان يتنقّل من مكان إلى آخر حائرا،و كان الوضع في اصفهان سيّئا بسبب أخبارها المرعبة و كانت شمس الصّفويّين آخذة بالأفول تدريجا،و يعود قرب هذا الأفول إلى عصر الشّاه سليمان.و فقد هذا الملك قدرته على اتّخاذ القرار منذ أواسط حكومته بسبب عجزه الشّديد.مع هذا،ما دام وزيره الأعظم المغفور له الشّيخ علي خان زنگنه المعبّر عنه باعتماد الدّولة على أريكة السّلطة و كان حيّا،فانّه كان ينجز الأعمال بنحو من الأنحاء.و

ص:24

كان يقلّل حوالات الشّاه المدمّرة لإيران إلى أدنى حدّ،و يبدي خوفه و ذعره من خلوّ خزينة الدّولة.

و يعدّ الشّيخ علي خان زنگنه(أمير كبير)الحكومة الصّفويّة في عصره.و كان المغفور له الميرزا محمّد خان زنگنه رجلا كفوءا ذا دراية،خدم بلاده في الحكومة القاجاريّة بتبريز آمرا عسكريّا.و كان كيّسا عارفا بالآداب.و كان الميرزا تقي خان أمير كبير-قدّس سرّه- يعمل تحت إشرافه برهة من الزّمن،و تعلّم منه طريق السّلوك و علم الأدب إلى حدّ ما.

و كان الميرزا محمّد خان من أحفاد الشّيخ علي خان.

كان الميرزا بزرگ قائمقام أحد السّياسيّين الكبار في العصر القاجاريّ.و كان من دهاة عصره و عظماء زمانه.بعد موته،عرف الأجانب الّذين كانوا يتعاملون مع الحكومة الإيرانيّة و عبّاس ميرزا نائب السّلطنة أنّهم صنعوا من عبّاس ميرزا غولا كبيرا في نظرهم بسبب فهم الميرزا بزرگ و نبوغه و علمه،فبانت لهم نقاط ضعفه.

و كان نجل الميرزا بزرگ شخصيّة عظيمة،و أديبا و شاعرا كبيرا،بيد أنّه كان قاسيا، مصابا بغرور متأصّل في نفسه،و لم يكن كأبيه في أداء الأعمال و إنجازها،لكنّه إذا قيس بمن جاء بعده فإنّه يبزّهم.و كان نائب السّلطنة عبّاس ميرزا متفوّقا أيضا على أقاربه تفوّقا بيّنا.و إنّ أحد الأعمال القبيحة الّتي قام بها القائمقام إعماء خسرو ميرزا و أخيه ظانّا أنّه يقدّم خدمة لمحمّد شاه.

*** اتّخذ عدد من طلاّب العلم و المعرفة القادمين من الطّالقان قزوين سكنا لهم بعد ما قدموا إليها من أجل الدّراسة،فتلقّبوا بها على كرور الأيّام و السّنين.

كان سماحة الأستاذ سيّد أماجد الحكماء و الفقهاء المغفور له السّيّد أبو الحسن القزوينيّ أعلى اللّه مقامه يقول:جاء جدّنا الأعلى من الطّالقان إلى قزوين للدّراسة و توطّنها.و نحن ذكرنا أنّ والدة الميرزا أبي الحسن القزوينيّ هي بنت العالم الجليل السّيّد علي القزوينيّ صاحب التّعليقات و الحواشي على قوانين الأصول للميرزا القمّيّ.و كتب السّيّد عليّ شرحا مفصّلا على معالم الأصول،و هو في كمال الإتقان،و قد تعرّض فيه إلى حواشي الشّيخ الأجلّ محمّد تقي على المعالم،و عنوانه:هداية المسترشدين.و كان السّيّد

ص:25

عليّ من أعاظم تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و السّيّد حسين كوه كمري.

و كان المغفور له الميرزا رفيعا القزوينيّ من أجلّة تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و في العلوم العقليّة من تلاميذ الملاّ اسماعيل بن محمّد سميع الأصفهانيّ.و كان معاصرا للأستاذ الشّهير الحكيم المتألّه السّبزواريّ رضوان اللّه عليه.و ذهب والده و أخوه الملاّ شفيعا من الطّالقان إلى قزوين لطلب العلم،و توطّناها.كما أنّ جدّ السّادة(شهيدي قزويني)و(الملاّ صالح)و أخاه الآخر،كانوا من أهل برغان قريبا من كرج أو بين قزوين و كرج،و درسوا في قزوين،و تقدّم أولاده في العلم.

*** الطّالقان منطقة من المناطق التّابعة لطهران،و تقع في الشّمال الغربيّ منها.و هي منطقة جبليّة،و قسم مهمّ منها في وادي شاهرود و أغلب قراها محاذية للرّوافد المتفرّعة من نهر المدينة المذكورة.و يبلغ عدد قراها ثماني و سبعين قرية.و عدد سكّانها،على ما جاء في الجزء الخامس من معجم معين(قسم الأعلام)الّذي أعدّه الأستاذ الجليل فضيلة الدكتور معين رحمه اللّه،أربعة و عشرون ألفا و ثلاثمائة نسمة.

و لعلّ عددهم قد زاد في هذه البرهة الّتي أكتب فيها مقدّمتي(1417 ه).و ربما تبعت الطّالقان غيرها من المدن الصّغيرة و القرى في هجرة أهاليها إلى المدن الكبيرة.

القرى و القصبات بمنزلة الرّئة للبلاد.و ما دام النّفط،و الغاز،و المعادن موجودة و تباع، فالمصيبة أقلّ،و لكن إذا نفدت هذه الثّروات فانّ البلدان النّفطيّة تتحوّل إلى بلدان مستجدية،فلا بدّلها من التّفكير بمصيرها.

الطّالقان التّابعة لقزوين هي غير الطّالقان التّابعة لخراسان،الّتي كان منها العالم المحدّث أبو محمّد بن محمود بن خدّاش(المتوفّى 244 ه)الّذي كان يسكن بغداد.

و استمع الحديث من جماعة،و هو نفسه كان ناقلا للحديث،و مات في التّسعين من عمره.

و كان أبو عبد اللّه السيّديّ من أهل الطّالقان التّابعة لقزوين،و من أئمّة علم الحديث، و أكابر الصّوفيّة في عصره.توفّي سنة 320 ه.

و كان منها أيضا العالم المحدّث أبو الحسن عبّاد بن عبّاس بن عبّاد(المتوفّى سنة 334

ص:26

أو 336 ه)و قد سمع الحديث من جماعة و هو والد العالم المعروف الصّاحب بن عبّاد.

و اخترع الأستاذ الكبير و فنّان الأعصار و الدّهور الميرزا عبد المجيد الطّالقانيّ المعروف بدرويش عبد المجيد خطّ النّستعليق،و كان ذا ذوق رفيع و قدرة خلاّقة،و لم يبلغ أحد من أولي الفنّ ما بلغه هذا الشّخص.و ربّى تلاميذ فنّانين كان لهم صيتهم الذّائع.

و حظي باحترام الجميع،و دعاه حكّام السّلالة الزّنديّة إلى شيراز ليلحق بهم،فأصابته الحمّى في اصفهان و لم يستطع أن يستجيب لطلبهم.و كتب في آخر رسالة بعثها إليهم يخبرهم أنّ الحمّى الشّديدة قد أنهكت بنيته،و أنّ الأطبّاء أبدوا عجزهم عن معالجته.

*** بعد أن انتقلت العاصمة إلى أصفهان في العصر الصّفويّ،وجدها(سلطاني بزرگ) أفضل مكان يجدر أن يكون عاصمة لأسباب متنوّعة،فظفر بأحسن موضع لحكومته بهمّته العالية.و تتمتّع المدينة بمناخ يندر مثله،و بيئة تبعث على النّشاط،و كانت فيها مدارس متعدّدة.و الأهمّ من ذلك كلّه أنّ لها سوابق خاصّة من حيث عراقتها،و لذا كانت محطّا لأنظار الشّعراء،و قاعدة لإقبالهم على تلك الجنّة الثّانية الّتي كان نهر(زنده رود)أو (زاينده رود)رصيد حياتها:

كأنّ حنين الزنرود خلالها حنين أسود للمجاعة تزأر

ترى ماءها مثل اللّجين و أرضها كجنّة عدن روضها يتعطّر

و عند ما انتقلت العاصمة إلى طهران،ظلّت اصفهان محافظة على مركزها العلميّ مدّة مديدة،و كانت لقزوين حوزة علميّة مهمّة نوعا ما،بيد أنّ الطلاّب كانوا يقصدون اصفهان لنيل الدّرجات العالية من العلم.و لكن تبدّلت طهران إلى حوزة علميّة مهمّة،و رغب فيها أساتذة كبار،و تقاطر عليها طلاّب العلم من الطالقان،و قزوين و زنجان،و أمصار أخرى منها آذربايجان،و مدن القفقاز الشّيعيّة المهمّة-مع أنّ حوزتها كانت حديثة-لدراسة الحكمة و العرفان و الفقه و العلوم الرّياضيّة،و زادتها دار الفنون[جامعة طهران]أهمّيّة.

و كانت حوزة طهران أقرب حوزة إلى طلاّب الطّالقان.و كان طلاّب العلوم النّقليّة و العقليّة في الماضي يذهبون إلى قزوين الّتي كانت مركزا مهمّا ردحا من الزّمن.أمّا في الفترة الّتي كان فيها السّيّد الدّاماد المعروف بالميرمحمّد باقر-أكبر فيلسوف إسلاميّ بعد

ص:27

عصر الخواجه نصير الدّين الطّوسيّ،و كان معلما بارزا في علوم الفقه و الأصول و الرّجال و الحكمة الإلهيّة-فإنّ وجوده في أصفهان اقتاد إليها طلاّب العلم.و توجّه إليها طلاّب من الهند و القطيف و الأحساء،و غيرها من المناطق الشّيعيّة لحضور درس العالم المذكور.و كان الملاّ صدرا(صدر الدّين الشّيرازيّ)و ميرفندرسكي،و جماعة من الأكابر من طلاّبه.

علما أنّ ميرفندرسكي كان معاصرا للملاّ صدرا،و لم يدرس صدر المتألّهين الحكمة و الفلسفة إلاّ عند المير محمّد باقر الدّاماد.و كان ميرفندرسكي فيلسوفا مشّاء تابعا لابن سينا.و أفاد من درس العلاّمة چلبي بيك في قزوين،و من حوزة درس الملاّ ميرزا جان الشّيرازيّ المشهور بفاضل باغنوي في فارس. (1).

البحث في معنى المعاد

إنّ أحد المباحث المعضلة في القرآن الكريم و الأحاديث و الرّوايات المأثورة عن أهل بيت الوحي و الرّسالة عليهم السّلام هو بحث المعاد.و ينبغي ألاّ يرجع الّذين لا حظّ لهم من العلم الإلهيّ (2)إلى القرآن الكريم في هذه المسألة.

يعتقد جمهور المتكلّمين بالمعاد الجسمانيّ.و ينبغي الاهتمام التّامّ بهذا البحث الخطير و هو أنّ الحنابلة لا يقولون ببقاء الرّوح،و يرون أنّ النّفس الإنسانيّة النّاطقة مادّيّة صرفة، و يذهبون إلى أنّ القيامة هي هذا العالم المادّيّ المتصرّم المتقضّي،و ينكرون بصراحة

ص:28


1- -نسبة إلى(باغ نو)القريبة من شيراز.و هو العالم المعروف بالملاّ ميرزا جان.كان من أساتذة العلوم العقليّة في شيراز.درس عنده العلاّمة چلبي بيك في شيراز.ذكر أصحاب السّير و التراجم أنّ ميرفندرسكي درس في البداية عند العلاّمة چلبي بيك تبريزيّ،ثمّ نال درجة عالية عند(إشراق)و هو الميرداماد نفسه.
2- -طلب سيّد العارفين بسرّ الأنبياء و إمام العالم أمير المؤمنين عليه السّلام من أصحابه أن يحاجوا الخوارج بالأحاديث الصّحيحة لا بالقرآن الكريم،لأنّ القرآن«حمّال ذو وجوه». ابتعد البعض عن المباحث العميقة للمعاد المذكور في القرآن.و من المباحث المحيّرة و العويصة مبحث هبوط الإنسان.قال تعالى: «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» .(البقرة36/) [1]الخطاب هنا للجميع،و في بعض الحالات لآدم و حوّاء. وردت في كتاب العقل و الجهل من كتاب أصول الكافي روايات مأثورة عن حملة الوحي لا يتيسّر إدراكها لشدّة غموضها.جاء في كتاب العقل:أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له:أقبل فأقبل،و قال له:أدبر فأدبر... الصّعود و النّزول في العقل(الصّادر الأوّل)و في الإنسان،لأنّ طبيعة الانسان بعد الهبوط لها صعود أيضا بالوجود التّبعيّ «إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» .(البقرة156/). [2]

عودة الأرواح إلى الأجسام و ما ماثل ذلك من مباحث،و لا يهتمّون بالآيات القرآنيّة و الأحاديث النّبويّة.و لم يفهموا أنّ الهويّة الإنسانيّة و الحقيقة البشريّة لا تنعدم،و أنّ الإنسان يلتحق بملكوت الوجود بعد الموت.

إنّ أجهل النّاس و أضلّهم عن صراط الحقّ هم الّذين لا يعتقدون بجهة التّجرّد و البقاء في الإنسان،و لا بتحقّق وجود البرزخ بعد الموت،و لا بعالم المثال و عالم العقل.

هذا الضّرب من الأقوال ينسب إلى كافّة علماء العامّة و بعض الخاصّة من المحدّثين الّذين لا يمتلكون اطّلاعا كافيا حول الكلام التّحقيقيّ و العلم الإلهيّ.

تنبيه

تنقسم المسائل المرتبطة بالمعاد إلى قسمين:

في قسم من هذه المسائل،يستطيع العقل المنوّر بنور الإيمان-في المباحث المتعلّقة بمعرفة النّفس و كيفية ظهور الإنسان في هذه النّشأة من الوجود،و في الإلهيّات المتكفّلة بكثير من الحقائق-أن يبلغ نقطة معيّنة عن طريق الحضور في مجلس الأساتذة الكبار، و عبر تجريد الذّهن،و الدّراسات الدّقيقة في مرحلة الدّراسة.

إنّ فترة الشّباب و ربيع الحياة فترة تكون فيها القوى الدّماغيّة للإنسان،و بالنتيجة نفسه،على استعداد تامّ لاستيعاب المسائل العلميّة،و تستطيع أن تدرك كثيرا من المباحث العالية،و أخيرا فإنّ طريق الفهم مفتوح،و المحجّة واضحة.

القسم الآخر من المسائل و المباحث المرتبطة بمعرفة النّفس في مستوى يعجز العقل البشريّ عن إدراكها و إن كانت له قوّة إدراك قليلة المثيل،و هو أعجميّ في هذا المجال.

و أخيرا فانّه في هذه المسائل العويصة،يتعثّر في الأوّليّات المرتبطة بالآخرة.بعامّة،إنّ إدراك مباحث ما وراء الطّبيعة صعب المنال،بيد أنّه سهل المنال في المباحث المتعلّقة بالآخرة.

لم يتجاوز ما كتبه الرّئيس ابن سينا (1)عظّم اللّه قدره في المعاد عدّة صفحات،فكيف بالآخرين؟أمّا في الشّئون العامّة و سائر المباحث فقد وفّى الكلام حقّه.و لا يدرك ما بعد

ص:29


1- -ما زال الرّئيس ابن سينا حيّا بعد ألف سنة و مطالبه الحيّة الخاصّة ليست قليلة في آثاره.

الدّنيا من عوامل و نشئات إلاّ من زكّى نفسه فيها،و من بلغ المقامات الرّفيعة بعكوفه على العبادة وفقا لتعاليم أهل البيت عليهم السّلام،و من فتحت لهم أبواب الغيب تدريجا.

ما لم يصل السّالك إلى العلم الحاصل من الأعمال فانّ انغماره أو رجوعه إلى الكثرة محتمل.و في مجال الآية الكريمة المباركة «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ» وردت إشارات لطيفة من أصحاب الولاية الكليّة إلى العلم الحاصل من العمل،و هي موجودة أيضا في الآيات القرآنيّة مثل قوله تعالى: «وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ» .و نقلت في هذا الموضوع أحاديث كثيرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و سائر الائمّة ورثة علومهما و مقاماتهما و أحوالهما لا يتيسّر إدراك مضامينها عن طريق العقل النّظريّ.

قال بعض العارفين:

«إنّ شجرة طوبى أصل لجميع شجرات الجنّات كآدم ظهر من البنين؛فإنّ اللّه لمّا غرسها بيده و نفخ فيها من روحه،زيّنها بثمرة الحليّ و الحلل الّذين فيها زينة للابسها؛فنحن أرضها كما جعل ما على الأرض زينة لها...»

نقل العامّة و الخاصّة ما نصّه:

«إنّ طوبى شجرة أصلها في دار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،و ليس مؤمن إلاّ و في داره غصن منها؛و ذلك قول اللّه تعالى: «طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ.» (1)

كان مولى الموالي أمير المؤمنين عليه و على أولاده السّلام ذا ولاية كلّيّة،و حقيقة هذه الولاية سارية في جميع الأشياء بظهورات مختلفة باعتبار الاستعدادات.و لظهورها في مجال متعدّد خاصّيّة المجلى: «وَ لا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً.» (2)و في الحديث الصّحيح:

«ويل لمن كان شفعاؤه خصماءه.»و لا بدّ من الإذعان«انّ لرسول اللّه شفاعة مقبولة»و هذا حديث تلقّته جميع الفرق صاحبة الرّأي بالقبول،و أوّله بعضهم.

حقيقة طوبى و أس أساسها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.لذا عبّر عنه بعض العارفين بقولهم:«أقرب النّاس إلى رسول اللّه عليهما السّلام و سرّ الأنبياء و إمام العالم».و المراد من المأثور«طوبى شجرة في الجنّة»الجنّة نفسها.من هنا نقل في الحديث المتّفق عليه بين

ص:30


1- -الرعد:29. [1]
2- -الإسراء:82. [2]

الفريقين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ،يدور معه حيثما دار.و لهذا الحديث معان متعدّدة،و معناه الحقيقيّ و حقيقته يدلاّن على أنّ حظّ أمير المؤمنين عليه السّلام من المقامات مقام«أو أدنى»،و تلك الحقيقة(عليّ عليه السّلام) صاحبة جنّة الأسماء و الذّات.و جنّة الأفعال وحدها قاصرة عن قبول الإحاطة العلويّة و صاحب جنّة الصّفات و الذّات في نهاية القرب من ربّ الأرباب:«يدور مع الحقّ حيثما دار و يدور الحقّ معه حيثما دار».

إنّ قرب أولي السّلوك من طلاّب التّوحيد-الّذين ذاقوا طعم العلم الحاصل من العمل- إلى الحقّ هو إمّا من قبيل قرب النّوافل،و صاحب هذا المقام يعلم أنّ النّافلة غير ملزمة، بيد أنّ نيل مقام القرب التّامّ لا يحصل بلا عبور من قرب النوافل.و من خواصّ قرب النّوافل هي أنّ الحقّ تعالى قال:العبد يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى كنت سمعه و بصره...و إمّا كبعض أرباب السّلوك أصحاب قرب الفضائل.و في هذا القرب تكون إرادة العبد مندكّة في إرادة الحقّ.و قد فرض الحقّ تعالى عليهم الأعمال و العبادات الّتي يلتزم العبد بأدائها، على خلاف القرب الحاصل من النّوافل الّتي يسوق الحقّ الملتزمين بها إلى مقام القرب، بيد أنّ الأثر المترتّب على الفرائض لا يترتّب عليها.

وهم و دفع

القائلون بالتّناسخ ينكرون المعاد،و يعتقدون أنّ النّفس في انتقال دائم من جسم إلى آخر،من هنا فهم ينكرون الحشر و النّشر أي:المعاد.

نقل عن الأئمّة عليهم السّلام أنّهم قالوا:من قال بالتّناسخ فهو كافر.

من مفاسد التّناسخ إنكار المعاد.و من الأمور المسلّم بها أنّ عودة الرّوح إلى البدن في القيامة معاد،و أنّ عودتها و تعلّقها بالبدن في الدّنيا تناسخ.و هذا البحث لا يرتبط بإحياء الأموات،بل هو أمر آخر.

إنّ مسألة الرّجعة ليست من سنخ إحياء الأموات في النّشأة الدّنيويّة،و ظهور أصحاب الولاية الكلّيّة من المحمّديّين في عالم الدّنيا من غوامض المسائل و المباحث في هذا الباب.و لا يتيسّر إدراك معنى الرّجعة و كيفيّة تحقّقها لكلّ أحد.

ص:31

إنّ من الآيات العظيمة المحيّرة المربّية للعارف و العاميّ هي الموت في نشأة عالم المادّة بأمر الحقّ،و الإحياء فيه أيضا.و هذا الضّرب من الموت و الحياة هو غير الموت في هذا العالم و الحياة في عالم الآخرة: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.» (1)و لو مات أحد في هذه الدّنيا وحيي بأمر اللّه تعالى،فانّ موتا آخر سيدركه أيضا.

الضّرب الآخر من الموت المقارن للحياة يرتبط بمن تقوم قيامتهم في هذا العالم و لا تأثير لنفخة إسرافيل في مقام السّفر إلى الآخرة مطلقا.و الموت الّذي سيدرك سكّان الملك و الملكوت في آخر المطاف يعني أنّهم سيجاورون الحقّ لمحة البرق بسبب العبادات و تعلّق مشيئة الحقّ بهم-إذ بلغوا مقام البقاء بعد الفناء و الفناء عن الفناءين و الصّحو الآخر-و إذا كتفت نفوسهم بذاتها و استغنت عن معلّم بشريّ،فمعلّمها شديد القوى،؛و حظيت«بجذبة من جذبات الحقّ يوازي عمل الثّقلين».و الّذين لا يتحقّقون بقرب الفرائض،فإنّ سيرهم محبّي.

جاء في آية كريمة مباركة أنّ الّذين لم تقم قيامتهم في هذه الدّنيا فإنّ أثر صعقة الفناء و حكم الفناء باق إلى أن ينبّههم الحقّ بقدرته الباهرة تبعا لاستعداداتهم كي يجزوا بأعمالهم.و إنّ الّذين تجري عليهم أحكام الصّعق ينقسمون إلى أقسام:بعضهم لا يقع عليه العذاب بسبب أعمالهم الصّالحة،و إن كانت الأكثريّة الساحقة غير مشمولة بحكم قرب النّوافل و الفرائض،بيد أنّ أولي السّعادة يفوزون.و على الرّغم من أنّ منشأ تلك الأعمال المتجسّدة في صور المعاصي يشملهم في بداية ظهور غضب الحقّ،و لكنّ النّاجين أكثر من الهالكين في النّار،و الموحّدون لا يخلدون في نار غضب الحقّ،إلاّ أنّ المكث و التّفنّن في العذاب النّاتج من حالات و ملكات معيّنة في حدّ أنّ اللّه تعالى نفسه عالم بحقيقته و مدّته و بالعذاب النّاتج من غضبه-وقودها النّاس،أي:العاصون،و الحجارة،أي:القلوب الّتي هي أقسى من الحجر.

و ينقطع العذاب عن البعض لأسباب مجهولة غامضة على الجميع،ثمّ يعود بعد مدّة لمسوّغات اقتضت،و ينقطع مرّة أخرى بعد مضيّ فترة.و يمنى العصاة بعد قطع العذاب

ص:32


1- -الزّمر:68. [1]

بعذاب أشدّ،و هو الخوف من رجوع عذاب أبلغ إيلاما لا يمكن وصفه.

«وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ». علاقة الحقّ تعالى بنظام الوجود لا يخصّ«جهة دون جهة.»

لمّا كان الحقّ تعالى لا يتناهى،و كان وجودا صرفا و بسيط الحقيقة،فهو مرتبط بالخلق من جهات مختلفة.و جاء التّعبير عن معيّة الحقّ للموجودات بالمعيّة القيّوميّة، و كما قال أعلم الخلائق و أقرب الموجودات إلى رسول اللّه و سرّ الأنبياء و الأولياء:فهو تعالى دان في علوّه و عال في دنوّه،و قيل-و نعم ما قيل-:نسبة خلق الأوّل إليه كنسبة خلق الآخر.

لذا تصرّف الحقّ في الأشياء هو من جهات عديدة«و لكلّ وجهة هو مولّيها».

و الموجودات متفاوتة من حيث الطّلب،و لكن قد يتصوّر أنّ جميع الأشياء و الممكنات تطلب الحقّ من وجه واحد.

تنقل أمور عجيبة و غريبة و محيّرة حول الأنبياء و الأولياء صلوات اللّه عليهم.و التّفنّن في شرائعهم أظهر و أبرز عند العارفين أولي الوجد و الإقبال.

كلّما تجلّى من الأسماء الكلّيّة و فروعها الخاصّة على المظهر الإنسانيّ أكثر،كانت عجائب الخلقة فيه أظهر.قال تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.» (1)

لا يستساغ كثيرا أن نتطرّق إلى التّأويل الصّرف القائل:«انّ أبرهة النّفس الحبشيّة لمّا قصد تخريب كعبة القلب الّذي هو بيت اللّه حقيقة و الاستيلاء عليها...».

عند ما مرّ عزير على قرية خاوية،أملى عليه ذوقه و شوقه إلى سرّ القدر و طلبه شهود الإحياء،فقال مستبعدا: «أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟»

استبعاد الأنبياء قدرة اللّه المطلقة ليس له صورة حقيقيّة:فالحقّ تعالى أماته مائة عام

ص:33


1- -البقرة:259. [1]

ثمّ بعثه،و وقع ما وقع من ناحية القدرة الإلهيّة المطلقة إظهارا عينيّا و استجابة لطلب عزير مشاهدة إحياء الأموات عينا.

إنّ ما ذكر حول عزير يماثل-من جهة-طلب إبراهيم عليه السّلام إذ خاطب الحقّ قائلا: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.»

إنّ القصد من هذين المثالين إحياء الموتى لا الرّجوع إلى الحقّ في الآخرة.

صرّح بعض الباحثين أنّ سؤال إبراهيم عليه السّلام المبدأ الفيّاض و طلب عزير عليه السّلام ليسا على سبيل الاستبعاد،و إن توهّم أهل الظّاهر ذلك«فالمتحقّق بمقام النّبوّة و الولاية لا يستبعد من اللّه القادر الموجد المحيي المميت أن يعيد الأموات و يوجدها مرّة أخرى،بل المؤمن بالأنبياء و الكامل في إيمانه لا يستبعد ذلك،فإنّه يقدح في إيمانه.»

لا وجه لتوجيه الإماتة و الإحياء عند عزير و إبراهيم صلوات اللّه عليهما على التّمثّل البرزخيّ و الإنشاء في عالم المثال الكلاميّ.و قام بعض أرباب التّأويل بإدخال آيات الإعجاز الصّريحة في باب التّأويل بنحو يدفع الإنسان الجاهل بالمبادئ العامّة للتّفسير و التّأويل إلى الإنكار تماما.و قصّة أصحاب الفيل مشهورة و قد وقعت في زمن قريب جدّا من زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

من اللافت للنّظر أنّ إحياء الأموات و إماتة الأحياء لا ينحصران في طريق واحد،و لو كانت السّنّة الإلهيّة جارية-بنحو عامّ-على أنّ الموجودات الّتي يشملها الحشر و النّشر مختلفة:فحشر الإنسان استقلاليّ،و الحيوانات تحشر تبعا للإنسان.

كان القدماء يظنّون أنّ الأرض في وسط عالم الأجسام،و عروض الفناء محال عليها.

لا شكّ أنّ للأرض و سائر الكرات عمرا خاصّا و سيحين الوقت الّذي تخلو فيه الأرض من أهلها،و تفنى.و الآيات المباركة النّازلة في أمر القيامة كقوله تعالى: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ،و قوله سبحانه: «وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» ،و قوله جلّ شأنه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ، صريحة في المعاد مع فناء النّشأة الدّنيويّة.

قال بعض المحقّقين:«الدّنيا باقية ما دام فيها هذا الكامل».المراد من الكامل خاتم الأولياء الّذي هو من أشراط السّاعة،و به يرتبط قيام القيامة.و المراد من خاتم الأولياء

ص:34

المهديّ الموعود،و محمّد من أسمائه،إذ قال خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

اسمه اسمي و كنيته كنيتي و له المقام المحمود.

القصد من المقام المحمود مقام قرب قوسين أو أدنى.و من بلغ هذا المقام فهو أقرب النّاس إلى اللّه و سرّ الأنبياء و الأولياء.

چو او با خواجه دارد نسبت تام از او با ظاهر آمد رحمت عام

(1)النّسبة التّامّة هي النّسبة المعنويّة و الظّاهريّة.

و المهديّ عليه السّلام منسوب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسبة البنوّة كما نقل العامّة و الخاصّة. (2)

ظهور كلّ او باشد به خاتم بدو يابد تمامى هر دو عالم

(3)المراد من الخاتم خاتم الأولياء.و الدّليل على صحّة هذا الكلام عجز البيت المتقدّم:

به يبلغ العالمان(الدّنيا و الآخرة)كمالهما.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يرضى عنه ساكن السّماء و ساكن الأرض.لا يدع السّماء من قطرها شيئا إلاّ صبّته مدرارا.

و تظهر الأرض بركاتها به حتّى«يتمنّى الأحياء إحياء الأموات.»

شود او مقتداى هر دو عالم خليفه گردد از اولاد آدم (4)

حول ظهور خاتم الولاية المحمّديّة المطلقة،انظر:شرح گلشن راز،ص 309 فما بعدها.

فقد جاء فيه كثير من الإشكالات و الموضوعات السّامقة في أطوار ولاية الإمام المهديّ عليه السّلام و أصل الولاية،بدأ بها الكتاب و انتهى بمطالب تخصّ أنصار الولاية.

ص:35


1- -لمّا كانت له مع اللّه نسبة تامّة،فقد ظهرت منه الرّحمة العامّة.
2- -المراد هو الباحثون منهم،لا المتفقّهون من بعض المذاهب،إذ منهم من يقول:لم يولد بعد،و منهم من يقول: هو تابع لعيسى عليه السّلام.و بعض الجهلة المغرورين ينكرونه و يزعمون أنّه من صنع اليهود.و من الثّابت أنّ القائلين بهذا قليلون.و يستبين لنا في أدنى مراجعة أنّ العرفاء الباحثين الكبار ذهبوا إلى أنّ المهديّ عليه السّلام هو آخر وليّ ذي مقام رفيع،و هو صاحب الولاية المطلقة و وارث الأنبياء و الأولياء جميعهم،و إنّ ظهوره عليه السّلام من الخفاء هو بأمر الحقّ.و المتصرّف في الباطن و الظّاهر من أشراط السّاعة و مقدّمة لظهور الدّولة الحقّة على الإطلاق.و قد ناقشت ما يخصّ الإمام المهديّ الموعود بالتّفصيل في مقدّمتي على فصوص الحكم، و في التّعليقات على الفصّ الشّيثيّ.
3- -تجلّى ظهوره تعالى في خاتم أوليائه،و به يبلغ العالمان(الدّنيا و الآخرة)كمالهما.
4- -سيصبح(الإمام عليه السّلام)مقتدى العالمين و خليفة النّاس.

*** يطيب لي أنّ أعبّر عن سروري لطبع كتاب منهج الرّشاد في معرفة المعاد(الكتاب النّفيس الّذي ألّفه الآخوند الملاّ نعيما الطّالقاني أحد تلاميذ الحوزة المباركة للمغفور له الفقيه الباحث النّادر المثال في مراحل الفقه السّيّد محمّد الأصفهانيّ المشهور بالفاضل الهنديّ،و من تلاميذ الملاّ محمّد صادق الاردستانيّ في الإلهيّات)بجهود صديقي العزيز فضيلة حجّة الإسلام و المسلمين علي أكبر إلهي الخراسانيّ رئيس مجمع البحوث الإسلاميّة في مشهد المقدّسة،و معاونه صديقي الفاضل الكريم محمّد رضا مرواريد.

إنّ طبع كتاب منهج الرّشاد بأجزائه الثّلاثة يستلزم مصاريف باهظة،مع أنّه كتاب مفيد، و قليل المثيل في مستواه.و لا يتولّى طبع هذا النّوع من الكتب إلاّ من كان من طلاّب العلم و المعرفة،و أدرك أهمّيّة الكتاب-بخاصّة مثل هذا الكتاب الّذي يدور حول المعاد بقسميه:الجسمانيّ،و الرّوحانيّ-و عرف نفاسته و علم أنّ المؤلّف قد أدّى ما عليه بعد المعاناة و الاضطلاع بتصنيف كتاب عميق و دقيق،و أثر ثمين في أهمّ مباحث الكتاب و السّنّة.

إنّ الأشخاص الّذين يبادرون إلى طبع كتاب متقن و دقيق هم ممّن يعيرون اهتماما بمحتوى الكتاب و يعلمون أنّ الباحثين يرغبون في هذا النّوع من الكتب.

از محقّق تا مقلّد فرقهاست آن يكى كوهست و آن ديگر صدا

(1)يحسن بي في ختام هذه المقدّمة أن أشكر جميع الإخوة الّذين ساهموا في طبع هذا الكتاب و نشره بنحو من الأنحاء،و أرجو لكافّة الباحثين الأفاضل في مجمع البحوث الإسلاميّة مزيدا من الخير و التوفيق.

السّيّد جلال الدين الآشتيانيّ مشهد المقدّسة جمادى الآخرة 1417 ه

ص:36


1- -شتّان بين المحقّق و المقلّد،فذلك جبل و هذا صداه.

مقدّمة المصحّح

نقلها الى العربية:علي هاشم الأسدي بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين أرى من المناسب أن أكتب تمهيدا لهذا الكتاب بغية التّعرّف على مؤلّفه أكثر فأكثر،مع أنّ الحكيم المتألّه سماحة الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتياني دامت إفاداته قد صدّره بمقالة مفصّلة كمقدّمة له.و يشمل تمهيدي عددا من الموضوعات الآتية:

الموضوع الأوّل:أنا مع الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته في حديثه عن المرحوم الملاّ نعيما و أسرته إذ قال:«كان رجال أسرته من علماء الدّين».و ينبغي مراجعة المصادر الآتية للاطّلاع على ترجمة هذه الأسرة:

*مقدّمته الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته.

*مقدّمة أيضا على أصل الأصول للملاّ نعيما في تسع عشرة صفحة،طبعة سنة 1979 م.

*مقدّمة على أصل الأصول المطبوع في الجزء الثّالث من«مختارات من آثار الحكماء الإلهيّين في ايران»في أربع صفحات.

*مقدّمة الإخوة محمّد رضا عطائي قوچاني،و محمّد رضا هادي نيكى،و محمّد حسن نصيري(نصير الإسلام)على منهج الرّشاد في عشرين صفحة.

*أعلام الشّيعة للعلاّمة الطّهرانيّ،أعلام القرن الحادي عشر و الثّاني عشر،ذيل عنوان الطّالقاني،و البرغاني،و أحيانا القزوينيّ.

*أعيان الشّيعة للسّيّد محسن الأمين،ج 47،ص 101،طبعة قديمة و ج 10،ص 81 طبعة جديدة.

*أمل الآمل للشّيخ الحرّ العامليّ،ج 2،ذيل عنوان الطّالقانيّ.

ص:37

*رياض العلماء للأفندي الأصفهانيّ،ج 5،ذيل عنوان الطّالقانيّ.

*الذّريعة للعلاّمة الطّهرانيّ،ج 6،11،15،16،17،26(كتب الملاّ نعيما).

*مينو در يا باب الجنّة قزوين للسّيّد محمد علي گلريز،الطّبعة الثّانية(فصل الأسر).

*دائرة المعارف تشيّع،الجزء الأوّل،ذيل«آل طالقاني»،«آل حكيمي»،«آل برغاني».

*فهرس مخطوطات مكتبة مجلس الشّورى الإسلامي،ج 5،ج 19.(أصل الأصول و منهج الرّشاد).

*فهرس مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشيّ(قم)،ج 6،ج 17.(حدوث العالم و العروة الوثقى).

*فهرس مخطوطات مكتبة مدرسة مروي،طهران(منهج الرّشاد،حدوث العالم،تنقيح المرام).

*مجلّة الحوزة،العدد 58،مقاله«مدرسه فلسفى قزوين».

*مجله آيينه پژوهش(مرآة التّحقيق)العدد 15،مقالة بعنوان«ملاّ نعيما و منهج الرّشاد».

*مجله پيام حوزه(رسالة الحوزة)العدد 14،مقالة بعنوان«ملاّ نعيماى طالقانى و خاندان او».

*مقدّمه كتاب موسوعة البرغاني في فقه الشّيعة،للأخ عبد الحسين الصّالحيّ.

*المآثر و الآثار،اعتماد السّلطنة.

*تلاميذ العلاّمة المجلسيّ،للسّيّد الحسينيّ الأشكوريّ،ذيل الطّالقانيّ.

* زندگى نامه علاّمه مجلسى(سيرة العلاّمة المجلسيّ)المرحوم مهدوي،ذيل«شاگردان علاّمه مجلسى»(تلاميذ العلاّمة المجلسيّ).

الموضوع الثّاني:الجدّ الثّاني للملاّ نعيما هو المرحوم الملاّ محمّد كاظم الطّالقانيّ.

ذكره الشّيخ الحرّ العامليّ رحمه اللّه في أمل الآمل 2:295 بقوله:

«مولانا محمّد كاظم الطّالقانيّ أصلا القزوينيّ مسكنا من الأفاضل المعاصرين.كان مدرّسا في مدرسة النّوّاب في قزوين.مات في المحرّم سنة 1094».

و نقل هذا الكلام نفسه في رياض العلماء 5:153،و أعلام الشّيعة في القرن الحادي عشر:463.

و جاء في مقدّمة كتاب موسوعة البرغانيّ نقلا عن العلاّمة الطّهرانيّ أنّ الشّيخ الحرّ العامليّ لا يطلق كلمة(مولانا)إلاّ على أشخاص مثل الملاّ محمّد تقيّ المجلسيّ،و الملاّ

ص:38

محمّد صالح المازندرانيّ،و هما أكبر منه سنّا و أعظم شأنا و شهرة.يضاف إلى ذلك أنّه لم يصفه بعبارة«من الفضلاء»بل قال:«من الأفاضل».

الجدّ الأوّل للملاّ نعيما هو المرحوم الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ الملقّب ب«فرشته».

وصفه العلاّمة المجلسيّ رضوان اللّه تعالى عليه في إجازته له فقال:«المولى الأولى، الفاضل الكامل،الصّالح الفالح،المتّقي الذكيّ الألمعيّ مولانا محمّد جعفر الطّالقانيّ خلف المولى المبرور المغفور مولانا محمّد كاظم الطّالقانيّ».تاريخ هذه الإجازة 1095 ه،و تاريخ وفاته 1133 ه.له مقبرة في طالقان يزورها الوافدون. (1)

قال فضيلة عبد الحسين الصّالحيّ:كتاب اشتراط الحسّ في الشّهادة من آثاره الفذّة في كيفيّة شهادة الصّمّ البكم و هو يدلّ على تعمّقه في المسائل العقلانيّة.و قد جمع فيه بين الفقه و المسائل الفلسفيّة.و من آثاره الأخرى«حواشى بر كتب فلسفى و رسائل حكمى». (2)

كانت في قزوين مدرسة باسم مدرسة الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ عرفت فيما بعد بمدرسة حسن خان.

والد المترجم له هو الملاّ محمّد تقي الطّالقانيّ رحمه اللّه أحد تلاميذ الميرزا حسن بن الملاّ عبد الرّزّاق اللاهيجيّ. (3)جاء في مقدّمة موسوعة البرغانيّ:«هو من أكابر علماء الإماميّة و مراجع التّقليد.و من مؤلّفاته غاية المرام في شرح شرائع الإسلام.»ورد في أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:117 أنّه توفّي سنة 1161.

أخو الملاّ نعيما هو الملاّ محمّد المشهور بالملائكة المتوفّى سنة 1200 ه.و هو والد الملاّ محمّد تقي البرغانيّ المعروف بالشّهيد الثّالث،و الملاّ علي البرغانيّ،و الملاّ محمّد صالح البرغانيّ مؤلّف الكتاب العظيم غنيمة المعاد في شرح الإرشاد المطبوع قسم منه في أجزاء تحت عنوان موسوعة البرغانيّ.

و من مؤلّفاته تحفة الأبرار في تفسير القرآن.و هو أوّل من عرف من هذه الأسرة

ص:39


1- -أعلام الشّيعة في القرن الحادي عشر:463؛و القرن الثّاني عشر:137؛موسوعة البرغاني:14؛تلاميذ المجلسيّ:89؛ [1] زندگى نامه علاّمه مجلسى 2:24.
2- -مجلّة حوزه،العدد 58،ص 184.
3- -نفسه.

بالبرغانيّ،و مدفنه في برغان أيضا. (1)

الأخ الآخر للملاّ نعيما هو الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ والد الملاّ آغا القزوينيّ المشهور بالحكميّ.و هو والد الشّيخ أحمد الحكميّ.و كان الشّيخ أحمد المتوفّى سنة 1340 تقريبا من زعماء علماء قزوين و قادة الحركة الدّستوريّة(المشروطة)،ينتسب إليه الملاّ آغا المتوفّى سنة 1285 و قسم من أسرة الحكميّ في قزوين. (2)

قال فيه اعتماد السّلطنة:

الآخوند الملاّ آغا الحكميّ القزوينيّ من فحول فلاسفة الإسلام،و كان«صدر الدّين» عصره.و كان طلاّب العلوم العقلانيّة يفدون على عتبته من أقصى نقاط ايران و يقبّلونها.و تربّى على يديه المرحوم آغا رضا قلي القزوينيّ الّذي طار صيته في البلاد. (3)

نجل الملاّ نعيما هو الملاّ محمّد تقي الطّالقانيّ رحمه اللّه سمىّ جدّه.جاء في موسوعة البرغانيّ:

«هو حكيم،فيلسوف،زعيم و رئيس،من أكابر علماء عصره،و له رسالة في صلاة المسافر و رسالة في الرّضاع و غيرها».

الملاّ يوسف حفيد الملاّ نعيما،المتوفّى زهاء سنة 1261،ابن الملاّ محمّد تقيّ،من حكماء القرن الثّالث عشر،و كان مدرّسا للحكمة في المدرسة الصّالحيّة بقزوين،و هو أوّل من عرف من هذه الأسرة بالحكميّ،و أصبح لقبه عنوانا لأسرته.من آثاره حواش على أسفار الملاّ صدرا. (4)

قال فيه اعتماد السّلطنة:كان أوّل أستاذ لكتب الحكمة المتعالية في دار السّلطنة (قزوين)،و ربّى فيها أفاضل طلبة العلوم العقلانيّة،و كان فذّا في زهده و عبادته. (5)

حفيد الملاّ نعيما،نجل الملاّ يوسف هو الشّيخ أحمد الحكميّ،و كان من علماء قزوين أيضا. (6)

ذكر الأستاذ الآشتيانيّ أنّ بين أحفاد الملاّ نعيما المعروفين بلقب(نعيمائى)كثيرا من

ص:40


1- -أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:705؛موسوعة البرغانيّ:14.
2- -دائرة المعارف تشيع 1:163.
3- -المآثر و الآثار:182.
4- -دائرة المعارف تشيّع 1:163.
5- -المآثر و الآثار:163.
6- -دائرة المعارف تشيّع 1:163.

العلماء،و معظمهم من الأدباء و الشّعراء.

هذه نبذة موجزة عن حياة آباء المرحوم الملاّ نعيما و إخوته و أولاده و أحفاده،و جميعهم كانوا من العلماء و الحكماء،و يعرفون بألقاب الطّالقانيّ،و البرغانيّ،و الحكميّ، و النّعيمائيّ.

الموضوع الثّالث:أمّا سيرة الملاّ نعيما نفسه فنأسف أنّنا لا نمتلك معلومات وثائقيّة دقيقة حول تاريخ ولادته و وفاته،و أساتذته و تلاميذه،و مدفنه.

و يمكن أن نخمّن أنّه ولد قبل سنة 1000 ه.اعتمادا على نسخة من(حاشية دواني على شرح المطالع)و(حاشية مير سيّد شريف)عليه بخطّ الملاّ نعيما،و كانت في مكتبة مجد الدّين نصيري بطهران، (1)و تاريخ كتابها 1115.

فرغ الملاّ نعيما من تأليف كتاب العروة الوثقى سنة 1158 ه. (2)إذن،كان على قيد الحياة حتّى هذا التّاريخ.أمّا تاريخ وفاته،فلعلّه كان في سنة 1180 ه تقريبا كما جاء في مقدّمة موسوعة البرغاني،و مقالة الأخ صالحي في مجلّة الحوزة.و هذا التّاريخ يتناسب مع تاريخ وفاة أبيه سنة 1161 ه مع أنّ البعض ذكر أنّ أباه مات سنة 1186 ه،و ذكر آخرون أنّه مات سنة 1189 ه، (3)فيكون قد عمّر قرابة مائة و عشرين سنة في الأقلّ.

أمّا أساتذة الملاّ نعيما،فقد ذكر سماحة الأستاذ الآشتيانيّ و سماحة الأخ صالحي أنّه حضر درس أبيه بقزوين،ثمّ أفاد في اصفهان من الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ المتوفّى سنة 1134 ه،و الفاضل الهنديّ المتوفّى سنة 1137 ه عدد سنين.

هاجر إلى قم بعد هجوم الأفغان على أصفهان،و فيها ألّف كتابه أصل الأصول سنة 1135 ه،ثمّ رحل إلى قزوين و الطّالقان،و كتب فيهما رسالة حدوث العالم.

ذكره صاحب كتاب أعيان الشّيعة(اعتمادا على نسخة كان قد رآها و سنذكرها لاحقا) بقوله:محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المشهور بالعرفيّ الطّالقانيّ.و قال الملاّ نعيما نفسه في بداية كتاب أصل الأصول:

ص:41


1- -الذّريعة 6:133. [1]
2- -فهرست مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشيّ،17:330.
3- -مجلّة حوزة،العدد 58،ص 188؛دائرة المعارف تشيّع:194.

لكاتبه و مالكه و مؤلّفه و واقفه الملاّ نعيما المعروف بالعرفيّ الطّالقانيّ. (1)

و لعلّ المستنبط من هاتين العبارتين أنّه كان ذا قريحة شعريّة،و(العرفيّ)لقب اختاره لنفسه،بيد أنّا لم نجد له شعرا حتّى الآن.

و نقرأ للأستاذ الآشتيانيّ حول مدفنه:لم يكن الملاّ نعيما شخصيّة مغمورة قطّ،فقد كان من مشاهير العلماء،و ضريحه بين نور و طالقان مطاف أولي الإقبال.

الموضوع الرّابع:إنّ ما اطّلعنا عليه و تتبّعناه من مؤلّفات المرحوم الملاّ نعيما في الفهارس و غيرها-مضافا إلى منهج الرّشاد-هو كما يأتي:

1-رسالة أصل الأصول.تاريخ التّأليف 1135 ه.ثلاث نسخ منها في الجزء الخامس من فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ،و نسخة في فهرس مخطوطات مدرسة مروي بطهران.و جاء في الجزء السّادس و العشرين من الذّريعة نسختان منها.و رأى العلاّمة الطّهرانيّ عند المرحوم الشّيخ أسد اللّه دهاقاني(المعروف باسماعيليان مؤلّف فهارس شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،طبعة قم)نسخة أخرى منها كانت قد كتبت من النّسخة الأصليّة سنة 1136 ه.

صدرت رسالة أصل الأصول قبل سنين بتصحيح الأستاذ الآشتيانيّ و مقدّمته و تعليقاته،و ذلك في صورتين.و جاء في فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ، ج 19،ص 360 و أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر،ص 790 رسالة ناقصة بعنوان(رسالة في الوجود)للملاّ نعيما.و إذا طابقنا بدايتها مع بداية رسالة أصل الأصول تبيّن لنا أنّ هذه الرّسالة النّاقصة نسخة أخرى من أصل الأصول.من هنا عرفت ثماني نسخ من هذه الرّسالة لحدّ الآن.

2-فصل الخطاب في تحقيق الصّواب.رسالة في القضاء و القدر.تحتفظ مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ بنسخة منها.انظر:الذّريعة 16:230.

3-حدوث العالم.تمّ تأليف هذه الرسالة في قزوين و الطّالقان سنة 1136 ه.و هي تحتوي على مقدّمة و ثلاثة فصول و خاتمة. (2)نسخة من هذه الرّسالة في مكتبة آية اللّه

ص:42


1- -مقدّمة الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته.
2- -أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:790.

المرعشيّ في 300 صفحة، (1)و نسخة أخرى منها في مكتبة مدرسة مروي بطهران. (2)

4-تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام.يشمل جزء منه باب الحيض إلى التّيمّم في 300 صفحة من القطع الرّحليّ بخطّ المؤلّف.و هذا الجزء موجود في مكتبة مدرسة مروي بطهران.تاريخ التّأليف:1147 ه. (3)

5-العروة الوثقى في إمامة أئمّة الهدى.تحتفظ مكتبة آية اللّه المرعشيّ بنسخة من هذا الكتاب. (4)يتألّف هذا الكتاب من مقدّمة و خمسة أبواب في 500 صفحة.تاريخ التّأليف:

1158 ه.

6-رسالة في جريان التّشكيك في العرضيّات و الذّاتيات.ذكرت هذه الرّسالة في آخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (5)

7-الحواشي على شرح الإشارات.ذكر هذا الكتاب أيضا في أواخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (6)

8-الحاشية على الحاشية للدّواني على حاشية المير السّيّد الشّريف على شرح المطالع.

رأى صاحب أعيان الشّيعة نسخة من هذا الكتاب في كرمانشاه،تاريخ التّأليف:

1123 ه (7)

9-رسالة في العلم.كانت هذه الرّسالة ملحقة بنسخة من أصل الأصول في مكتبة مدرسة آية اللّه البروجرديّ في النّجف الأشرف.و احتمل صاحب الذّريعة أنّها من تأليف الملاّ نعيما أيضا. (8)

10-كان الملاّ نعيما قد وعد في رسالة أصل الأصول أن يؤلّف رسالة حول مسألة صدور الكثير عن الواحد. (9)

الموضوع الخامس:يعدّ كتاب منهج الرّشاد في معرفة المعاد من أهمّ الكتب المؤلّفة في المعاد و إثبات الجسمانيّ منه.قال الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ دامت إفاداته فيه:

ص:43


1- -فهرس مكتبة آية اللّه المرعشي 6:27.
2- -فهرس مخطوطات مكتبة مروي:330.
3- -فهرس مروي:94.
4- -فهرس مكتبة آية اللّه المرعشي 17:330.
5- -منتخباتى از آثار حكماى ايران 3:389.[مختارات من آثار حكماء ايران].
6- -نفسه 3:385.
7- -أعيان الشّيعة 10:81،طبعة جديدة. [1]
8- -الذّريعة 15:316. [2]
9- -نفسه 17:9؛ [3]فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ 5:46؛أصل الأصول:90،طبعة 1357.

«هذا الكتاب فريد في بابه.و كنت أبحث عن كتاب في المعاد عدد سنين على أن يكون مؤلّفه مفسّرا،فقيها،حكيما،عارفا حتّى عثرت على نسخة منه في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ.و كلّفت ثلاثة من طلاّب مرحلة الماجستير أن يجعلوها رسالتهم لنيل الماجستير،و الحقّ أنّهم لم يدّخروا وسعا في سبيل ذلك. (1)[تصحيح الكتاب و طبعه].

و سيمثّل هذا العمل خدمة كبيرة.و ثوابه الأخرويّ يفوق ثواب كتاب في الفقه و الأصول أضعافا مضاعفة.[و أثبت]المؤلّف فيه المعاد الجسمانيّ كما سئل عن كيفيّته في الآية الكريمة المباركة:ربّ أرني كيف تحيي الموتى،و عالج ما يرتبط به من مشكلات،و دحض ما أثير عليه من شبهات من خلال الإحاطة بكلمات أعلام الفنّ،بخاصّة صدر المتألّهين، و الإلمام بالرّوايات و التّفسير و شيء أعلى من التّفسير الظّاهريّ،مع حفظ القواعد العقليّة و أفكار المحقّقين.»

توجد من هذا الكتاب نسختان:الأصل بخطّ المؤلّف في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ،و الثّانية استنسخت على النّسخة الأصليّة و هي في مكتبة مدرسة مروي بطهران.

الأصليّة ذات 244 ورقة.و يشمل الكتاب مقدّمة و خمسة أبواب و خاتمة،و سيطبع في ثلاثة أجزاء إن شاء اللّه تعالى.

يشمل الجزء الأوّل مقدّمة الكتاب،و الورقة(1-84).و هو الآن بين أيديكم.

و يمكنكم أن تتعرّفوا على محتواه من خلال نظرة مجملة على دليل موضوعاته.و من الضّروريّ أن نذكّر بأنّ موضوعات الجزء الثّاني و الثّالث من الكتاب تفصيل لموضوعات الجزء الأوّل منه و تبيين لها.

الأبواب الخمسة و خاتمة الكتاب،الّتي تشغل الجزء الثّاني و الثّالث هي كالآتي:

«الباب الأوّل في إثبات النّفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا عرض و أنّها غير البدن و أجزائه و اعضائه و آلاته و قواه و أعراضه.»

هذا الباب الشّامل الورقة(85-110)من النّسخة الأصل يضمّ لفظ كتاب الشّفاء

ص:44


1- -في الوقت الّذي كان سماحة الأستاذ راضيا عن عمل هؤلاء الثّلاثة الأفاضل(عطائي،هادي نيكى، نصيري)،اختارني لتصحيح الكتاب و إعداده للطّبع بنحو أدقّ.

لابن سينا و شرحه و تفصيله.و جاء في آخره:

«إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشّيخ في الشّفاء في هذا الفصل،و ما ذكرناه في تحريره،يظهر لك ما عقدنا الباب لأجله،و هو إثبات النّفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و انّها ليست بجسم و لا مزاج و لا عرض،و أنّها غير البدن و أعضائه و أجزائه و حواسّه و قواه و أعراضه.»

«الباب الثّاني في بيان حقيقتها و ماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها،و في أنّها واحدة بالذّات المختلفة بالاعتبار،و من حيث الأفعال و لها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.»

يشمل هذا الباب الورقة(111-153)من النّسخة الأصل،و هو يدور حول تجرّد النّفس.

شرحت في بداية هذا الباب أربعة أحاديث حول الرّوح في خمس أوراق نقلا عن كتاب الكافي للكلينيّ و الاحتجاج للطّبرسيّ.

و دار الكلام في أواخر الباب أيضا حول حديث من كتاب الكافي و دعاء من الصّحيفة السّجّاديّة،و ظنّ البعض أنّه يدلّ على عدم تجرّد النّفس،و يقع هذا الكلام في أربع صفحات.

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور، و الإشارة إلى نبذ من الحكمة فيه فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

يشغل هذا الباب(الورقة 154 إلى الورقة 169)من النّسخة الأصل.

الباب الرّابع(الورقة 170 إلى الورقة 213)و فيه مطالب:

المطلب الأوّل في حدوث النّفس بحدوث البدن.

المطلب الثّاني في إبطال التّناسخ و نحوه.

المطلب الثّالث في بيان أحوال النّفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها.

نلحظ في هذا المطلب بحثا مفصّلا حول اللذّة و الألم،و السّعادة و الشّقاء، و البدن المثاليّ و رأي ابن سينا في هذه الموضوعات،و كذلك حول البرزخ و تجسّم الأعمال و غيرهما استهداء بالآيات القرآنيّة الكريمة و الأحاديث المأثورة عن

ص:45

المعصومين عليهم السّلام.

الباب الخامس في إثبات المعاد الجسمانيّ.الورقة(214-224)و يشمل الموضوعات الآتية:

إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة الّتي هي دار الجزاء.

يجب أن يعود الرّوح في القيامة إلى بدن عنصري لها به تعلّق تدبير و تصرّف.

يمكن أن يكون ذلك البدن هو البدن الأوّل بعينه.

يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة،أي:تعلّق الرّوح بالبدن الأوّل.

هذه المطالب كما نطق بها الشّرع كذلك هي ممّا يحكم به العقل و يقوم الدّليل العقليّ عليها.

الخاتمة:تشمل الورقة(225 إلى 244)من النّسخة الأصل،و تضمّ ثلاثة مطالب هي:

المطلب الأوّل في دفع شبهة المنكرين للمعاد الجسمانيّ(سبع شبهات).

المطلب الثّاني في بيان جملة من الأحوال و الأمور الّتي نطق الشّرع بوقوعها يوم القيامة و هي:

النّفخ في الصّور،و الصّراط،و الأعراف و السّور،و الكتاب و الحساب و الميزان، و العقبات،و الحوض،و الشّفاعة،و الجنّة و النّار بما فيهما.

المطلب الثّالث في بيان أصناف النّاس و أحوالهم في الجملة في القيامة و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار.

و فيه بحث إمكان الخلود،و السّبب الموجب له،و المصلحة فيه.

يستند معظم البحوث في المطلب الثّاني و الثّالث من الخاتمة إلى الآيات و الرّوايات لأنّ مصدر هذه المسائل ليس عقليّا فحسب.

في الختام أتقدّم بالشّكر الجزيل للحكيم الرّبّانيّ سماحة السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ و طلاّبه الثّلاثة الأفاضل(عطائي،و نصيري،و هادي نيكى)الّذين امتثلوا أمره فاستنسخوا من النّسخة الأصل،ثمّ طبعوا نسختهم بالآلة الطّابعة و أعدّوها للطّبع.كما أتقدّم بالشّكر الوافر لسماحة حجة الاسلام و المسلمين إلهي الخراسانيّ مدير مجمع البحوث الإسلاميّة في مدينة مشهد المقدّسة و مساعدة الأخ الفاضل محمّد رضا مرواريد

ص:46

على تهيئتهما مقدّمات نشر الكتاب.كما أشكر الأخ الكريم محمّد رضا نجفيّ على جهوده المحمودة في المقابلة النّهائيّة للنّسخ.و أرجو من القرّاء الأفاضل أن يغضّوا الطّرف عمّا يغضّ الطّرف عنه،و ينبّهونا على الإشكالات الّتي لا يمكن التّغاضي عنها لعلّنا نتداركها في الجزء الثّاني و الثّالث إن شاء اللّه،و اللّه وليّ التّوفيق.

قم-رضا أستادي 22 ذي القعدة 1417 ه

ص:47

ص:48

خطبة الكتاب

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين الحمد للّه الذي خلق فسوّى،و قدّر فهدى،و أمات و أحيى،و عليه النشأة الأخرى،و إليه المنتهى،ليجزي الذين أساءوا بما عملوا،و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى،عدلا منه تبارك و تعالى،و الصلاة على خير الورى،أشرف من بعث بالبعث و الجزاء،و أكرم من أتى بالنشور و الرجعى،محمّد المصطفى و آله الذين بهداهم يهتدى،و بطريقتهم يقتدى،صلاة كثيرة دائمة بدوام الأرض و السماء.

أمّا بعد،فيقول العبد الضعيف النحيف المذنب الجاني،محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المدعوّ بعرفي الطالقاني،عفي عنه و عن والديه،و ختم اللّه لهم بالحسنى،و جعل آخرتهم خيرا من الأولى:

ذاكرني بعض إخوان الصفا و خلاّن الوفاء،أنّ التصديق بالمعاد مطلقا لا يخفى أنّه ضروريّ في هذه الملّة البيضاء و الملل السابقة التي أتى بها الأنبياء عليهم التحيّة و الثناء، و أصل من أصول الدين القويم و المذهب المستقيم،لم ينكره أحد من أصحاب العقول و أرباب الألباب و النهى،إلاّ شرذمة قليلة من ملاحدة الحكماء،و أنّ الجسمانيّ منه هو جزء من الإيمان،و ضروريّ في الأديان،و دلّ عليه الكتاب الكريم و السنّة السمحاء،إذ عليه أدلّة واضحة لا يعتريها شوب شبهة و لا ريبة و لا خفاء،و قد أطبق عليه الملّيّون من الحكماء و المتشرّعون من العلماء،و قد أقاموا الدليل العقليّ على الروحانيّ منه،إلاّ أنّهم عن آخرهم اعتقدوا الجسمانيّ منه على الوجه الذي أتى به الأنبياء،مثل اعتقادهم للأحكام الفرعيّة،معترفين بأنّه لا يمكن إقامة الدليل العقليّ عليه،قائلين بأنّه ليس للعقل استقلال و لا مدخل في إثباته بوجه ما،و كفاك شاهدا على هذا قول شيخ الرئيس ابن سينا

ص:49

في الشفاء:

«يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع،و لا طريق إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و هو الذي للبدن عند البعث،و خيرات البدن و شروره معلومة،لا تحتاج إلى أن تعلّم،و قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيّدنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن،و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني،و قد صدّقته النبوّة،و هو السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس،و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما الآن،لما نوضح من العلل.و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك،و إن اعطوها،و لا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي مقاربة الحقّ الأوّل،و هي على ما سنصفه عن قريب.-انتهى كلامه.» (1)

و يقرب منه كلمات المتقدّمين و المتأخّرين من الحكماء و المتشرّعين من العلماء، كما يعلم بالاستقصاء.

و امّا بعض المتأخّرين منهم كصدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي فهو و إن تصدّى في بعض مصنّفاته الذي سمّاه الشواهد الربوبيّة لإقامة الدليل العقليّ عليه،و بذل مجهوده فيه،لكنّه لم يأت بشيء مبين،يفي بتمام المدّعى كما لا يخفى على من راجع كلامه و تأمّل فيه و استقصى. (2)

و سألني (3)أنّه لا يخفى أنّهم عدّوه من أصول الدين لا من فروع الدين،فحينئذ نقول:

لو كان الفرق بين اصول الدين و فروعه كما ذكره كثير من العلماء أنّ الأوّل ما يستقلّ في إثباته العقل،و إن نطق به الشرع أيضا،مثل توحيد اللّه تعالى و إثبات صفاته العليا و عدله، و أصل النبوّة و الإمامة،و المعاد الروحانيّ و غيرها،و إن كان إثبات نبوّة نبيّ خاصّ،و إمامة إمام مخصوص موقوفا على النص أو العصمة،أو إظهار المعجزة و نحوها،و أنّ الثاني ممّا لا يستقلّ بإثباته العقل،كالصلاة و الصيام و الزكاة و الحجّ و الجهاد و أمثالها،فعلى هذا ينبغي أن يكون يمكن إقامة الدليل العقليّ على إثبات أصل الجسمانيّ منه أيضا،و إن كان

ص:50


1- -كتاب الشفا،الالهيات،فصل في المعاد:545،طبع مكتبة [1]بيدار؛ص 423،طبع القاهرة.
2- -الشواهد الربوبيّة:266،طبع مشهد.
3- -عطف على:ذاكرني.

إثبات خصوصيّاته موقوفا على الشرع،و هم قد اعترفوا بالعجز عن إقامة الدليل على إثباته مطلقا،و إلاّ فالفرق ما ذا؟و حينئذ فيلزم عليهم ارتكاب أحد الأمرين:إمّا القول بإدراجه في فروع الدّين،و هو خلاف ما قرّره العلماء،أو القول بأنّه يكفي في إدراج مطلق المعاد في اصول الدين استقلال العقل في أحد فرديه-أي الروحانيّ منه-و إن لم يستقلّ العقل في إثبات فرده الاخرى،-أي الجسمانيّ منه-و فيه ما ترى،فإنّ الظاهر أنّ إدراجه في اصول الدين،إدراج لكلا فرديه فيها دون أحدهما.

و بالجملة فسواء عدّ من اصول الدين،كما هو الأحرى و الأولى،أو لم يعدّ منها،فهل يمكن إقامة الدليل عليه بحيث لا يعتريه شبهة و لا مراء أم لا؟

فرأيت التصدّي للجواب عن هذا السؤال،و الاستكشاف عن جليّة الحال،و النظر في أنّه هل يمكن إقامة الدليل عليه أحرى،مع كوني ناقص الذهن،قاصر الفهم،قليل القسط من الفطانة و الذكاء،و يبعد عن مثلي إدراك ما اعترف بالعجز عنه فحول الفضلاء،و قد اشتهر بينهم أنّ الجهالة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء،لكنيّ قد امتثلت بقول القائل:

«كم ترك الأوّل للآخر»،فراجعت نفسي،و فكّرت فيه،و بذلت جهدي،و استعنت بربيّ جلّ و علا،و استمسكت بذيل هداية أئمة الهدى،الذين هم العروة الوثقى،في مراقبات تترى،فآنست نارا من شاطئ الهدى،فخلعت نعل علائقى و أتيت بقدم الشوق،وادي الجدّ و الطلب،لعلّي آتي منها بقبس،أو أجد على النّار هدى.و قلت:ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و احلل عقدة من لساني و اجعل لى وزيرا من عقلي يفقهوا قولي إنّك كنت بنا بصيرا،فنوديت من شاطئ الواد الأيمن أن:يا طالب الحقّ أقبل و لا تخف،إنّك قد اوتيت سؤلك ببركة الاعتصام بحبل سادة الورى،و كنت من الآمنين لا تخاف دركا و لا تخشى،إنّي أنا ربّك الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى،فاعبدني و استمع لما يوحى، إنّ السّاعة آتية أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى،منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة اخرى،فاقتبست بتوفيق ربّي جلّ و علا،قبسة من تلك النار،بها أضاء لي وجه المقصود،فلاح لي كالبيضاء نورا و ضياء،فجاء بحمد اللّه دليلا واضحا لائحا كما يروق النواظر و يضيئ ألباب أرباب الفهم و الذكاء،إلاّ أنّه يعوّقني من تحريره و تهذيبه عوائق شتّى،و موانع لا تحصى،أعظمها أنّي قد وقعت في زمن،قد سنحت فيه بعض

ص:51

أمارات قيام الساعة و الطامّة الكبرى،إذ قد ظهرت فيه الداهية الدهياء،و فشت فيه المحن التي هي عامّة البلوى،تعمّ عامّة البرايا،يشيب فيها الصغير،و يهرم فيها الكبير،و يكدح فيها كلّ مؤمن حتّى يلقى ربّه و يفنى،قد جرّد الدهر على أهاليه سيف العدوان،و أباد من كان،و تطرّق الفساد إلى أوضاع العالم،و انسدّ طرق معاش بني آدم،قد اغبرّ عيشهم الأخضر،و اسودّ يومهم الأبيض،و ابيضّ فودهم الأسود،يتمنّون الموت الأحمر،و أشرف شمس العلم على الغروب،و خمل أهل الكمال في زوايا الغروب،يتّقي أهل الديانة من إظهار دينهم،و يدين بالتقيّة كلّ الورى،عجّل اللّه تعالى ظهور دولة صاحبنا و مولانا،حتّى ينكشف به تلك البليّة العظمى.

و مع هذا فكيف في مثل هذا الزمان لمثلي من القاصرين الخاملين،مع توزّع البال و تشتّت الحال صرف الوقت في إظهار الحقّ في هذه المطلب الأسنى،و تحرير الدليل على هذا المقصد الأقصى،و العمدة الوثقى،فقعدت عنه برهة و في العين قذى و في الحلق شجى،لكن لمّا كرّر ذلك البعض من الأصدقاء السؤال و ألحّ و أعاد الابتهال،و رأيت أنّ الإقدام على جواب سؤاله و الصبر عليه أحجى،إذ ربّما تصير الفتنة أشدّ و أقوى،لا أتمكن من إظهاره أصلا،و الحال أنّ الأيّام تمضي و لا تعود،و العمر يذهب و لا يئوب،و تكون الحسرة أدوم،و النّدامة أبقى،و قد قال تعالى:

«وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» . (1)

«لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» . (2)

«وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، اَلَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى» . (3)

«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» . (4)

شرعت مع قلّة البضاعة و فوات الفرصة و كثرة المشاغل و توزّع البال و تشتّت الحال في تحريره و تهذيبه و تنقيحه بما تيسّر و أمكن،امتثالا لقول القائل:«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (5)،و ابتغاء لوجه ربّي الأعلى،و خطابي فيه لمن استمسك في العلم بأوثق الأسباب،و جانب الاعتساف و نظر فيه بعين الإنصاف،فإن رأى فيه خطأ أو عثرة و زللا،

ص:52


1- -الضحى:11. [1]
2- -آل عمران:92. [2]
3- -الليل:17-18. [3]
4- -الأعلى:9-10. [4]
5- -من الأمثال المشهورة.

عذرني و استغفر اللّه لي،فإنّه مقيل العثرات و غافر الخطيئات،و إن وجده مقبولا لدى الطباع الذكيّة،أنصفني و أعانني بصالح الدعاء في محو السيّئات و تضعيف الحسنات، و السلام على من اتّبع الهدى،و سمّيته بمنهج الرّشاد في معرفة المعاد،و رتّبته على مقدّمة و خاتمة و خمسة أبواب.ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.

ص:53

ص:54

المقدّمة

اشارة

أمّا المقدّمة ففي ذكر نبذ ممّا يتوقّف عليه بيان المراد،كشرح معنى المعاد،و تقسيمه إلى الروحاني و الجسماني،و نقل اختلاف الناس في ذلك،و سبب اختلافهم فيه،و تحرير ما دلّ الشرع على ثبوته و ينبغي إثباته بالدليل العقلي،و في بعض مطالب اخر يناسب تحقيقها قبل الخوض في المقصود.

فنقول:ذكر الفاضل الكامل العارف محمّد بن عليّ بن أبي جمهور الأحساوي في كتابه المسمّى بالمجلي مرآة المنجي كلاما بهذه العبارة:

«المحقّقون من الأوّلين و الآخرين على القول بإثبات المعاد،و إنّما يختلفون في معناه، و قد نقل عن جماعة من الحكماء الطبيعيّين إنكاره،و كذا جالينوس أنكره لاعتقاده أنّ النفس هي المزاج،و أنّه يفنى،و الفاني لا يعاد،خصوصا أنّه عرض،و الأعراض بعد العدم لا يتصوّر عودها،فإذا بطل المزاج بفناء البدن،لا يعود.

نعم،القائلون بالمعاد اختلفوا في معناه،فقال بعضهم:إنّه الجسماني فقط،و هو مذهب جماعة من المتكلّمين بناء على أنّ النّفس جسم،و آخرون قالوا:إنّه روحاني فقط و هو مذهب جماعة من الحكماء الإلهيّين،و طائفة قالوا:إنّه جسماني و روحاني و هذا على وجهين:أحدهما أن يكون الروح مجرّدا عن المادّة،فيعاد الجسم،و يتعلّق به الروح، أو يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل،و هو مذهب قليل من أهل الإسلام،ذهب إليه الغزالي، و الفارابي،و كلّ من قال بتجرّد النفس من أهل التصوّف،و الثاني أن يكون الروح جسمانيا أو روحانيا،و يعاد الجسم الأوّل،و يردّ فيه الروح و هو مذهب كثير من أهل الإسلام و النصارى.

ص:55

فعلم من هذا الاختلاف أنّ تحقّق الإعادة مبنيّ على تحقّق النفس،و أنّها أيّ شيء هي، فإنّ هذه الاختلافات إنّما نشأت من الاختلافات فيها كما عرفت،فإنّ الطبيعيّين لمّا اعتقدوا أنّ النفس جسم،و أحالوا إعادة المعدوم،أحالوا المعاد مطلقا.و جالينوس لمّا قال إنّها المزاج نفاه بالكلّيّة.و المتكلّمون لمّا قالوا إنّها جوهر جسماني،قالوا إنّه إنّما يكون بإعادة النفس على حالتها بناء على أنّها إمّا الهيكل المحسوس المشاهد،أو أنّها أجزاء أصليّة،كما في مذاهبهم.و أمّا الغزالي و أتباعه فلمّا قالوا بتجرّد النفس قالوا إنّها تبقى بعد فراق البدن،فعودها ردّها إلى البدن مرّة اخرى.إمّا الأوّل بعينه،أو إلى آخر يماثله.و باقي المسلمين،لمّا كان مذهبهم في النفس على أنحاء متعدّدة،فالّذي قال منهم إنّها جوهر جسماني،أو إنّها جوهر روحاني،قائل بأنّه لا بدّ من إعادة الجسم الأوّل و يردّ فيه الروح جمعا بين الشريعة و الحكمة،و يدّعون أنّ هذا منطوق الآيات القرآنية.و الإلهيّون لمّا اعتقدوا تجرّد النّفس و بقاءها بعد فناء البدن،ذهبوا إلى المعاد الروحاني،و مرادهم به قطع علاقة النّفس مع البدن.

فبالجملة وقع الاتّفاق على وقوع المعاد،و أنّه حقّ و إن اختلفوا في كيفيّة وقوعه و الدليل المطلق على ثبوت المعاد الجسماني إنّه ممكن في نفسه،و الصّادق أخبر عنه، فوجب القول به،أمّا الأوّل،فلأنّ الإمكان إنّما هو بالنظر إلى القابل و الفاعل،و هما حاصلان،أمّا بالنّظر إلى الفاعل فلما مرّ من الأصلين السابقين:

أحدهما كونه قادرا على كلّ مقدور،و الثاني كونه عالما بأعيان أجزاء الأشخاص لتعلّق علمه بالجزئيات.

و أمّا الثاني،فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم السّلام غير موسى عليه السّلام،فإنّه لم يذكر،و ما نزل في التوراة فيه شيء،و قد وجد في كتب من جاء بعده كحزقيل و شعياء.و أمّا الإنجيل،فالذي ذكر فيه أنّ الأخيار يصيرون كالملائكة،فيكون لهم الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، و يمكن حمله على الروحانيّة،أو الجسمانيّة أو عليهما،و دلالته على الأوّل أظهر،لتحقّق الروحانيّة للملائكة دون الجسمانيّة.

و أمّا القرآن المجيد فقد جاءت ذكره فيه في كثير من المواضع،مثل قوله تعالى:

ص:56

«مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (1)

«أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (2)

«أَ إِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً» . (3)

«وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» . (4)

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» . (5)

«يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً» . (6)

«إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» . (7)

إلى غير ذلك ممّا جاء في هذا المعنى و هو الكثير.و القول بأنّ المراد بها المجازات الدالّة على الحقائق و هو الروحاني،ضعيف،لأنّها صريحة في الجسماني فحملها على المجازات،تكذيب للأنبياء عليهم السّلام.

فإذا عرفت ذلك،فقد ظهر لك ممّا أوردناه من مذاهب القوم،توقّف المعاد على مقدّمتين:

إحداهما:معرفة النفس و أنّها ما هي،حتّى يتحقّق كيفيّة الإعادة.و الثانية:أنّ المعدوم هل يعاد أم لا؟

فأمّا المقدّمة الاولى فقد وقع فيها التشاجر العظيم و الاختلاف الكثير،و خبط أهل الكلام فيها،و تعدّدت آراؤهم تعدّدا كثيرا حتّى قيل إنّها بلغت إلى قريب من أربعين مذهبا، و ليس على واحد منها دليل قطعي،و أشهر مذاهبهم القول بأنّها أجزاء أصليّة في البدن من أوّل العمر إلى آخره،و جمهور الفلاسفة و جماعة متصوّفة الإسلام و جماعة من أهل الكلام قالوا بتجرّدها و انّها جوهر غير جسماني متعلّق بهذا البدن تعلّق التدبير،لا تعلّق الحلول، و لهم على ذلك دلائل هي بالصواب أنسب،و بالحق أشبه-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (8)

ثمّ قال بعد إثبات تجرّد النفس و تحقّق حقيقتها بهذه العبارة:

«فبالجملة المعاد الجسماني و غيره يتحقّق على مذاهبهم و يصحّ إثباته،إلاّ أنّه يختلف

ص:57


1- -يس:78. [1]
2- -القيامة:3-4. [2]
3- -النازعات:11. [3]
4- -فصّلت:21. [4]
5- -النساء:56. [5]
6- -ق:44.
7- -العاديات:9. [6]
8- -المجلي:491-492،الطبع الحجري.

كيفيّاته باختلاف مذاهبهم في النفس.

و القائلون بالتجرّد،هم في الإعادة فريقان:فريق قصروه عليها و جعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة و فراغها عن الاشتغال بتدبير البدن عبارة عن المعاد، و هو مذهب جماعة كثيرة من أهل الحكمة سيأتي الكلام معهم.و فريق قالوا:لا بدّ عند القيامة الكبرى من عود الأبدان الجسمانيّة كما كانت،فتردّ العلاقة النفسانيّة على حالها على حسب ما كانت عليه في الحالة الاولى قبل قطع العلاقة،جميعا بين الحكمة و الظواهر النقليّة،و هو مذهب جماعة الإسلاميّين من الحكماء و أهل التصوّف و الكلام.-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (1)

و قال صدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي رحمه اللّه في الشواهد الربوبيّة:

«الإشراق الرابع في الإشارة إلى مذاهب الناس في المعاد.إنّ من الأوهام العامية اعتقاد جماعة من الملاحدة و الدهرية،و طائفة من الطبيعيّين و الأطباء ممّن لا اعتداد بهم في الفلسفة،و لا اعتماد عليهم في العقليّات،و لا نصيب لهم في الشريعة،ذهبوا إلى نفي المعاد و استحالة حشر النفوس و الأجساد،زعما منهم أنّ الإنسان إذا مات فات و ليس له معاد كسائر الحيوان و النبات،و هؤلاء أرذل الناس رأيا و أدونهم منزلة.

و المنقول من جالينوس هو التوقّف في أمر المعاد لتردّده في أمر النّفس هل هو صورة المزاج فتفنى أم صورة مجرّدة فتبقى؟

ثمّ من المتشبّثين منهم بأذيال العلماء،من ضمّ إلى إنكاره له أنّ المعدوم لا يعاد،فيمتنع حشر الموتى.

و المتكلّمون منعوا هذا،تارة بتجويز إعادة المعدوم،و اخرى بمنع فناء الإنسان بالحقيقة،لأنّ حقيقة إنسانيّته بأجزائه الأصليّة،و هي باقية إمّا متجزّية أو غير متجزّية،ثمّ حملوا الآيات و النصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته.فهؤلاء التزموا أحد أمرين مستبعدين من العقل و النقل، و السكوت خير من الكلام ممّن لا يعلم.

و اتّفق المحقّقون من الفلاسفة و المحقّون من أهل الشريعة على ثبوت المعاد،و وقع

ص:58


1- -المجلي:495.

الاختلاف في كيفيّته،فذهب جمهور المتكلّمين و عامّة الفقهاء إلى أنّه جسماني فقط، بناء على أنّ الروح جرم لطيف سار في البدن،و جمهور الفلاسفة على أنّه روحاني فقط، و ذهب كثير من الحكماء المتألّهين و مشايخ العرفاء في هذه الملّة إلى القول بالمعادين جميعا.أمّا بيانه بالدليل العقلي فلم أر في كلام أحد إلى الآن،و قد مرّ البرهان العرشي على أنّ المعاد بعينه هو هذا الشخص الإنساني روحا و جسدا بحيث لو يراه أحد عند المحشر يقول:هذا فلان الذي كان في الدنيا،فمن أنكر هذا فقد أنكر ركنا عظيما من الإيمان، فيكون كافرا عقلا و شرعا،و لزمه إنكار كثير من النصوص.-انتهى كلامه.» (1)

و قال أيضا:

«الإشراق التاسع في سبب اختلاف الناس في كيفيّة المعاد:اعلم أنّ اختلاف أصحاب الملل و الديانات في هذا الأمر و كيفيّته،إنّما هو لأجل غموض هذه المسألة العويصة و دقّتها،و كثير من الحكماء كالشيخ الرئيس و من في طبقته،أحكموا علم المبادئ، و تبلّدت أذهانهم في كيفيّة المعاد،حتّى رضيت انفسهم بالتقليد في هذه المسألة المهمّة، لغموضها حتّى أنّ الكتب السماويّة المحكمة متشابهة آياتها في بيان هذا المعنى،مختلفة بحسب الجليل من النظر،متوافقة بحسب النظر الدقيق.

ففي التوراة:إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشرة آلاف سنة،ثمّ يصيرون ملائكة، و إنّ أهل النار يمكثون في الجحيم كذا أو أزيد،ثم يصيرون شياطين. (2)

و في الإنجيل:إنّ الناس يحشرون ملائكة،لا يطعمون و لا يشربون و لا ينامون و لا يتوالدون. (3)

و في بعض آيات القرآن:إنّ النّاس يحشرون على صفة التجرّد و الفردانيّة كقوله تعالى:

«كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (4)

و كقوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (5)

و في بعضها على صفة التجسّم كقوله تعالى: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» . (6)

ص:59


1- -الشواهد الربوبيّة:279-280. [1]
2- -الشواهد الربوبيّة:279 [2] نقلا عن التوراة.
3- -الشواهد الربوبيّة:279 [3] نقلا عن الإنجيل.
4- -مريم:95. [4]
5- -الأعراف:29. [5]
6- -القمر:48. [6]

و كذلك سؤال إبراهيم الخليل عن اللّه تعالى: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» . (1)

و استشكال عزير: «أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها» . (2)

و حكاية أصحاب الكهف تبيينا لهذا الأمر كما قال تعالى: «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ» . (3)

فبعض هذه النصوص يدلّ على أنّ المعاد للأبدان،و بعضها يدلّ على أنّه للأرواح، و التحقيق أنّ الأبدان الأخرويّة مسلوب عنها كثير من لوازم هذه الأبدان،فإنّ بدن الآخرة كظلّ لازم للروح،أو كعكس يرى في مرآة،كما أنّ الروح في هذا البدن كضوء واقع على جدار،أو كصورة منقوشة في قرطاس.و قد كان شبه هذه الأخبار المنقولة عن الكتب السماويّة واردة في الأحاديث النبويّة-على الصادع بها و آله الصلاة و التحية-كما هو المشهور عن أهل الحديث و الرواية.-انتهى.» (4)

ثمّ نقل كلام بعض أساطين الحكمة في ذلك.

ص:60


1- -البقرة:260. [1]
2- -البقرة:259. [2]
3- -الكهف:21. [3]
4- -الشواهد الربوبيّة:279-280. [4]

في الإشارة إلى أنّ الإنسان

عبارة عن مجموع النفس و البدن

و أقول و باللّه التوفيق:لا يخفى عليك أنّ الإنسان لمّا كان مزاجه على أقرب تعديل، و خلقه في أحسن تقويم،و اجتمع فيه ما يصدر عن شركائه في أجناسه القريبة و البعيدة كالحيوان و النبات و المعدن،من حفظ التركيب مدّة معيّنة معتدّا بها،و الخواصّ الطبيعيّة و الأفعال النباتيّة و الخصائص الحيوانيّة،و امتاز من بينها أجمع،بحمله من شرائف الأفعال و نفائس الآثار و كرائم الأعمال و لطائف الإدراكات التي تخصّه كالعقل و الفهم و الفطنة و الفكر و التدبير و التقدير و غير ذلك من الامور المحكمة.و لذا اختصّ من بين شركائه بالتكليف و ما يلزمه و يتبعه،فله بالضرورة مبدأ لذلك هو أشرف المبادئ و أفضلها،به يتقوّم قوام إنسانيّته و به يتحقّق كونه حيوانا ناطقا و يصدق ذلك عليه،و لذلك يسمّى نفسا كأنّه تمام حقيقة الإنسانيّة،فإنّ اسم النفس يطلق غالبا على تمام حقيقة الشيء و ذاته، كما هو المنقول عن أهل اللغة و الشائع في إطلاقات أهل العرف و قد يسمّى روحا أيضا.

و بالجملة من المعلوم أنّه كما أنّ للإنسان بدنا و هيكلا محسوسا مخصوصا مشاهدا بالحسّ و العيان،مركّبا تركيبا تامّا معدنيّا و نباتيّا و حيوانيّا،يدلّ عليه البرهان.كما سنشير إليه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى،كذلك فيه،أو معه هذا الأمر المختصّ الذي هو ما به التمايز بينه و بين شركائه و هذا أيضا معلوم بالوجدان،و يدلّ عليه العقل و النقل أيضا.

و التميّز بين الأشياء و إن كان عند التحقيق بالوجودات الخاصّة،لكن تلك الموجودات إمّا عارضة لماهيّات كما هو رأي فريق من الحكماء،أو معروضة لها كما هو رأي آخرين منهم،فلتلك الماهيّات أيضا مدخل في التشخّص و التميّز كما لتلك الوجودات،فذلك الأمر

ص:61

الخاصّ بالإنسان الذي هو معروض ذلك الوجود الخاصّ أو عارضه،هو أيضا منشأ التمايز بينه و بين غيره لا يمكن إنكار وجوده فيه أو معه.

و الإنسان عبارة عن مجموع ذلك البدن المخصوص و هذا الأمر المميّز الخاصّ، و إليهما اشير في مواضع عديدة من الكتاب الكريم،كقوله تعالى:

«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ،فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . (1)

و قوله تعالى: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ» . (2)

و قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» . (3)

و الحاصل:أنّ ذلك الأمر الخاصّ،جليّ الإنيّة عند ذوي الفطرة السليمة،و إن كان خفيّ الماهيّة،و لذا اختلف فيه على أقوال شتّى كما نقله الشيخ الرئيس في الشفاء عن القدماء، فذهب بعضهم إلى أنّه جوهر مجرّد،و بعضهم إلى أنّه مادّي،جسم أو جسماني،و سيأتي فيما بعد نقل ذلك تحقيق الحقّ فيه إن شاء اللّه تعالى.

ص:62


1- -المؤمنون:12-14. [1]
2- -السجدة:7-9. [2]
3- -التين:4. [3]

في الإشارة إلى معنى المعاد

و لا يخفى عليك أيضا،أنّ لفظ«المعاد»قد جاء مصدرا ميميّا بمعنى العود،و إن كان جاء اسم زمان و مكان أيضا،و أنّ العود و الإعادة و أشباههما من الألفاظ قد وردت في الكتاب الكريم و الشّرع القويم،مثل قوله تعالى:

«كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (1)

«اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» . (2)

«إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» . (3)

«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (4)

«مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» . (5)

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ». (6)

«وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» . (7)

«وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . (8)

«كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ» . (9)

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و إنّ معانى هذه الألفاظ و إن كانت ممّا يفهمها كلّ فاهم من ذوي فطرة سليمة

ص:63


1- -الأعراف:29. [1]
2- -يونس:34. [2]
3- -يونس:4. [3]
4- -الإسراء:51. [4]
5- -طه:55. [5]
6- -العنكبوت:19. [6]
7- -نوح:17-18. [7]
8- -الروم:27. [8]
9- -الأنبياء:104. [9]

و لا يحتاج إلى شرحها،لكنّا نقول للتنبيه على ذلك:

إنّ المتبادر من مفهومات هذه الألفاظ و معانيها عند الإطلاق،هو أن يكون قد وجد أوّلا ما فرض أنّه متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال عنه ذلك الوجود و تلك الحالة[و الصفة]ثانيا في وقت من الأوقات،سواء كان بزوال نفسه أو زوال أمر متعلّق به،ثمّ وجد في وقت آخر بعده على ذلك الوجود و على تلك الحالة و الصفة،فإنّه حينئذ يصدق على ذلك الأثر الحاصل ثالثا أنّه العود،و على تأثير الفاعل ذلك فيه أنّه الإعادة،و بهذا المعنى اطلقت تلك الألفاظ في تلك الآيات الكريمة،إذ هو معناها المتبادر،و لا سيّما أنّها اطلقت في تلك الآيات في مقابلة البدء و الإبداء،و هو قرينة عليه،إذ البدء و الإبداء معناهما الإيجاد أوّلا،سواء كان إبداعا من غير تقدّم مدّة و مادّة،أو إحداثا و تكوينا مع تقدّمهما،فحيث كان معناهما ذلك و كان متعلّق الإبداء و الإعادة واحدا،كان معنى العود و الإعادة في مقابلتهما إيجاد ذلك الموجود أوّلا في وقت آخر، بعد أن تخلّل زمان زوال و فناء بينهما،فتدبّر.

فيكون معنى تلك الآيات-و اللّه أعلم-أنّ اللّه تعالى أوجد الخلق كالإنسان مثلا على وجود خاصّ و حال مخصوصة،ثمّ يميتهم و يزيل عنهم ذلك ثانيا،ثمّ يوجدهم ثالثا على ذلك الوجود و تلك الحال.

و قد يطلق العود و الإعادة على وجود شيء أو إيجاده في وقت متأخّر بعد أن كان ينبغي وجوده أو إيجاده في وقت متقدّم عليه و لم يقع ذلك،إمّا بانتفائه رأسا،أو بانتفاء جزء من أجزائه،أو شرط من شروطه،كما يطلق على فعل الصلاة غير المؤدّاة في وقتها كما أمر بها الشارع،في وقت ثان،أنّه إعادتها،و لا شكّ أنّ هذا المعنى سواء كان حقيقيّا أو مجازيّا غير مراد في الآيات الكريمة.

كما أنّ إرادة إنشاء خلق آخر في النشأة الاخرويّة،مغاير للخلق الأوّل بحسب الذات و إن كان مماثلا له في بعض الصّفات أو كلّها،خلاف الظاهر من لفظ الإعادة،و كذا من تلك الآيات،فتدبّر تعرف.

و حيث عرفت المعنى المراد من العود و الإعادة و المعاد الّتي وردت في الكتاب الكريم،ظهر لك أنّه ينبغي أن يحمل عليه ما ورد فيه بألفاظ اخر،مثل الرجوع و الرجع

ص:64

و البعث و النسل و الإحياء و الإحضار و الحشر و النشر و الخروج و الإخراج و الردّ و البروز و العرض و الإتيان و المصير و الجمع و القيام و أمثال ذلك.

قال تعالى: «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (1)

«وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» . (2)

«ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» . (3)

«مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» . (4)

«كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى» . (5)

«وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» . (6)

«وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» . (7)

«وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» . (8)

«ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ» . (9)

«وَ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» . (10)

«ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ» . (11)

«اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . (12)

«وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» . (13)

«وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (14)

«وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» . (15)

«وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . (16)

«كَذلِكَ النُّشُورُ» . (17)

ص:65


1- -البقرة:28. [1]
2- -الأنعام:36. [2]
3- -ق:3.
4- -يس:52. [3]
5- -الأعراف:57. [4]
6- -التوبة:105. [5]
7- -الأنعام:22. [6]
8- -الكهف:47-48. [7]
9- -يونس:23. [8]
10- -يونس:30. [9]
11- -هود:103. [10]
12- -الشورى:15. [11]
13- -الشورى:29. [12]
14- -ابراهيم:48. [13]
15- -الإسراء:97. [14]
16- -المؤمنون:79. [15]
17- -فاطر:9. [16]

«فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» . (1)

«يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» . (2)

«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» . (3)

«إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ» . (4)

«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً» . (5)

«يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . (6)

«وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (7)

«مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» . (8)

«مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» . (9)

«ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» . (10)

«فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» . (11)

«وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (12)

«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» . (13)

إلى غير ذلك من الآيات.

و إن كان لكلّ واحد من تلك الألفاظ معنى يخصّه يعرفه من له دربة في معاني الألفاظ.

ص:66


1- -يس:51. [1]
2- -ق:42.
3- -القمر:7 و [2]المعارج:43. [3]
4- -ق:43.
5- -المجادلة:6 و 18. [4]
6- -المطفّفين:6. [5]
7- -مريم:95. [6]
8- -طه:55. [7]
9- -المؤمنون:100. [8]
10- -القصص:61. [9]
11- -يس:53. [10]
12- -فصّلت:21. [11]
13- -الحاقّة:18. [12]

في الإشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا

في هذا الدين القويم و كذا في الأديان السابقة

و لا يخفى أيضا عليك،أنّ الاعتقاد بالمعاد ركن من أركان الإسلام،و ضروريّ في هذا الدين القويم،و كذا في الأديان السابقة و الملل الماضية،كما ادّعاه العلماء من أهل الإسلام،و قد نطق الشرع القويم و الكتاب الكريم بكونه ضروريّا في هذا الدين،بل كونه جزءا من أديان اولي العزم من الرسل و غيرهم.

أمّا كونه ضروريّا في الدين المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله،فالقرآن مملوّ منه كالآيات المذكورة و غيرها ممّا لا تحصى.و أمّا في الأديان السابقة،فلقوله تعالى في سورة نوح حكاية عنه(على نبيّنا و عليه السّلام)،انّه قال لقومه:

«وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» . (1)

و في سورة العنكبوت حكاية عن إبراهيم(على نبيّنا و عليه السّلام)،إنّه قال لقومه:

«وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (2)

و في سورة الشعراء حكاية عنه أيضا:

«وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» . (3)

و في سورة طه خطابا لموسى(على نبيّنا و عليه السّلام):

«إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» . (4)

و في سورة القصص حكاية عن قوم قارون،إنّهم قالوا له:

ص:67


1- -نوح:17-18. [1]
2- -العنكبوت:17. [2]
3- -الشعراء:81-82. [3]
4- -طه:15. [4]

«وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» . (1)

و في سورة المؤمن حكاية عن مؤمن آل فرعون،إنّه قال لقوم فرعون:

«يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» . (2)

و في سورة مريم حكاية عن عيسى(على نبيّنا و عليه السّلام):

«وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» . (3)

و في سورة يس حكاية عن رسول عيسى إلى قومه:

«وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ، «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» . (4)

و في سورة الأنفال: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ - الآية-.» (5)

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره العارف الأحساوي بقوله:و أمّا الثاني فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم السّلام غير موسى عليه السّلام فانّه لم يذكر،و ما نزل في التّوراة فيه شيء،فيه شيء مع أنّ ما ذكره معارض بما نقله صدر الأفاضل عن التوراة بقوله:ففي التوراة:إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشر آلاف سنة ثمّ يصيرون ملائكة. (6)

ص:68


1- -القصص:77. [1]
2- -المؤمن:39. [2]
3- -مريم:33. [3]
4- -يس:22 و 26-27. [4]
5- -التوبة:111. [5]
6- -الشواهد الربوبيّة:279. [6]

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد

و لا يخفى أيضا عليك أنّ الآيات القرآنيّة الواردة في هذا المطلب،

بعضها ظاهرة في وقوع الموت و الفناء و الإماتة و الإبداء و الإعادة و الإحياء و نحو ذلك،و طروؤه على الإنسان الذي عرفت أنّه عبارة عن مجموع البدن المحسوس و ذلك الأمر المخصوص أعني النفس و الروح،و هي كثيرة كقوله تعالى:

«وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» . (1)

و كالآيات المتقدّمة و غيرها حيث إنّها تضمّنت الخطاب بذلك للمكلّفين و حكاية أحوالهم،و لا يخفى أنّ المكلّف هو الإنسان بنفسه و بدنه،و إن احتمل كونه بنفسه وحدها أيضا.

و بعضها ظاهرة في وقوع ذلك على بدنه،كقوله تعالى:

«مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» .

«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». (2)

«حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (3)

إلى غير ذلك من الآيات.

ص:69


1- -مريم:66-67. [1]
2- -يس:65،78-79. [2]
3- -فصّلت:20-21. [3]

و بعضها ظاهرة في وقوع ذلك على نفسه،و هي أيضا كقوله تعالى:

«فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ -إلى قوله-: تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . (1)

«يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» . (2)

«عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ» . (3)

«وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» . (4)

«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» . (5)

«لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» . (6)

«لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» . (7)

«وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ» . (8)

«اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . (9)

إلى غير ذلك من الآيات التي ظاهرها النفس بمعنى ذلك الأمر المخصوص،و إن احتمل في بعضها إرادة النفس بمعنى الشخص الإنساني-أي مجموع البدن و النفس-.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّ الآيات دالّة على طروء كلّ من الإماتة و الإحياء على كلّ من النفس و الجسد،و سيأتي بيان كيفيّة وقوع الأمرين و تواردهما عليهما فيما بعد إن شاء اللّه.

ص:70


1- -الواقعة:83-87. [1]
2- -الفجر:27-30. [2]
3- -الانفطار:5. [3]
4- -الزمر:70. [4]
5- -آل عمران:185. [5]
6- -إبراهيم:51. [6]
7- -طه:15. [7]
8- -التوبة:55. [8]
9- -الزمر:42. [9]

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد

و لا يخفى عليك أيضا أنّ الآيات القرآنيّة التي تضمّنت لحكاية أحوال المنكرين للمعاد و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد المكلّفين و معاد الإنسان،أي معاد النفس و البدن جميعا كقوله تعالى:

«وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . (1)

«وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» . (2)

«وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» . (3)

«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (4)

«وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ، بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» . (5)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ -الآية». (6)

«أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» . (7)

«وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ

ص:71


1- -النحل:38. [1]
2- -مريم:66. [2]
3- -هود:7. [3]
4- -الإسراء:51. [4]
5- -النمل:65-66. [5]
6- -سبأ:3. [6]
7- -فصّلت:54. [7]

مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ» . (1)

«إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . (2)

«يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ» . (3)

«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» . (4)

«وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً» . (5)

إلى غير ذلك من الآيات.

و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد البدن خاصّة،كقوله تعالى:

«وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (6)

«أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (7)

و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد الإنسان،لكن لأجل إنكارهم معاد البدن،كقوله تعالى:

«وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (8)

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (9)

«وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» . (10)

«أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» . (11)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ» . (12)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (13)

«أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» . (14)

ص:72


1- -الجاثية:24. [1]
2- -المؤمنون:37. [2]
3- -الذاريات:12-13. [3]
4- -الممتحنة:13. [4]
5- -الجنّ:7. [5]
6- -يس:78. [6]
7- -القيامة:3-4. [7]
8- -الرعد:5. [8]
9- -السجدة:10. [9]
10- -الإسراء:49. [10]
11- -المؤمنون:35-36. [11]
12- -النمل:67. [12]
13- -سبأ:7. [13]
14- -ق:3.

«وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا ما يدلّ صريحا على إنكارهم معاد خصوص النفس فلم نظفر به في الكتاب الكريم،و لعلّ وجهه-و اللّه أعلم-مع الإشارة إلى أنّ إنكارهم معاد الإنسان كما دلّت عليه آيات كثيرة يدلّ على إنكارهم معاد النفس أيضا،فإنّ الإنسان كما عرفت عبارة عن مجموع البدن و النفس،و لا إنكار لأحد في وجود النفس مع البدن أو فيه،فإنكار معاد الإنسان متضمّن لإنكار معاد البدن و النفس جميعا،و إنّ إنكار معاد البدن وحده كاف في الإنكار للمعاد الضروري في الدين القويم.

الإشارة (2)إلى أنّهم اعتقدوا أنّ النفس جسم في البدن أو معه،كما هو مذهب بعض الحكماء،من أنّها جرم لطيف سار في البدن أو جسمانيّ عرض فيه كالمزاج على ما هو المنقول من مذهب بعض المنكرين له من الحكماء الطبيعيّين،و قد عرفت بيان ذلك ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي و صدر الأفاضل.و بالجملة فالنفس أيضا تنعدم بانعدام البدن،فلا يمكن إعادة شيء منهما،فلذا قالوا تارة بامتناع إعادة البدن بعد خرابه و صيرورته عظاما و رفاتا،و تارة بامتناع إعادة الإنسان لأجل امتناع إعادة البدن بعد خرابه في زعمهم،و تارة بامتناع إعادة الإنسان مطلقا كما نطقت بذلك الآيات المتقدّمة، فإنّ منشأ هذه العقائد واحد.فتنبّه لهذه الدقيقة.

ص:73


1- -الواقعة:47. [1]
2- -خبر لعلّ.

في الإشارة إلى معنى معاد الروحاني و الجسماني

و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّ الشرع كما نطق بثبوت المعادين جميعا و حكم بكفر منكريهما جميعا،كذلك يدلّ على كفر منكر واحد منهما فقط أيضا،لأنّ في ذلك أيضا إنكارا لما نطق به الشرع.

و اعلم أيضا أنّا حيث نطلق لفظ المعاد الروحاني،نريد به عود الروح إلى البدن الأوّل مرّة اخرى بعد مفارقتها عنه،سواء قيل بأنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي،جسم أو عرض، (1)و حيث نطلق المعاد الجسماني نريد به عود البدن الأوّل مرّة اخرى بعد ما كان بطل و فني.و كذلك نقول يجب أن يصدّق بهذين المعادين جميعا،و أنّ من أنكرهما أو أنكر واحدا منهما فهو منكر للمعاد الضروريّ في الدين.

فعلى هذا فمن قال بأنّ المعاد جسماني فقط،و صدّق بالمعادين جميعا،و أراد أنّ المعاد الذي تسمّونه روحانيّا حقّ،إلاّ أنّه جسماني أيضا كمعاد البدن،بناء على أنّ الروح جسم في اعتقاده،فهو ليس بمنكر للمعاد،إلاّ أنه اصطلح فسمّى المعاد الروحاني بالجسماني أيضا.و كذلك من قال بأنّه روحاني،و أراد به عود الروح إلى البدن الأوّل (2)بعد عوده أيضا فهو ليس بمنكر له أيضا.نعم إن أراد به عود الروح فقط،سواء قال إنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي،من غير أن يقول بعود البدن فهو منكر له كما أنّ من قال بعود البدن فقط من غير أن يقول بعود الروح منكر له.

ص:74


1- -قوله:«سواء قيل بأن الروح»و فيه ما لا يخفى،لأنّ الروح إذا كان ماديا ينعدم من رأس.و أيضا:الروح إذا كان عرضا لا يطلق عليه الروح،لأنّ جهة الباقي من الإنسان مجرّد عن المادة و المادة القابلة للكون و الفساد لن يلج الملكوت و هي فاقدة للوجود الأخرى(ج 5).
2- -عود الروح إلى البدن الأول تناسخ صريح و ليس له في الآخرة من نصيب.

و بالجملة فكلامنا في المعاد الروحاني و الجسماني بهذين المعنيين اللذين ذكرناهما، و قد عرفت أنّ الشرع ناطق بهما جميعا.و حيث تحقّقت ما بيّناه،و تبيّنت أنّ الآيات القرآنيّة،كما أنّها ناطقة بإعادة الإنسان و بإعادة خصوص البدن و خصوص النفس،كذلك هي ناطقة بأنّ المنكرين للمعاد،منكرون لذلك أجمع،فحريّ بنا أن نكشف أوّلا جليّة الحال عن أنّ مبنى زعم المنكرين له على ما ذا؟ثمّ نتبعه بشرح مبنى القول بالمعاد.

ص:75

في الإشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد

فنقول:لا يخفى على من تأمّل في الآيات الواردة في حكاية حالهم،كالآيات المتقدّمة و غيرها،أنّهم إنّما أنكروه لشبهة واهية داحضة،خيّلها إليهم الشيطان و أملى لهم.

هي أنّهم لمّا رأوا أنّ الأبدان تفنى و تهلك و تصير عظاما و ترابا و رفاتا و ممزّقا كلّ ممزّق،كما هو معلوم بالمشاهدة و العيان.

و رأوا أيضا أنّ النفس إمّا جسم أو جسماني في البدن كما هو مذهبهم،و تصير هي أيضا مثل البدن في الاضمحلال و الفناء.

و رأوا أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته،و الاتّصال لازم لماهيّته و حقيقته،و أنّه إذا طرأ عليه الانفصال،و لا سيّما مثل هذا الانفصال و التمزّق،و تبدّلت صورته الجسميّة،بل النوعيّة و الشخصيّة أيضا،إلى صورة اخرى كالترابيّة و الرفاتيّة فلا سترة في أنّه ينعدم ذلك الاتّصال.و تلك الصورة،فينعدم لازم ذلك الجوهر المتّصل،و انعدام اللازم مستلزم لانعدام ملزومه،-أي ذلك الجوهر المتّصل-إمّا بالمرّة،كما هو الظاهر عندهم،أو بصورته المقوّمة له مطلقا إن لم يسلّم انعدامه بالمرّة،لأجل بقاء مادّته-أي الهيولى أو الأجزاء الأصليّة-إن كانت تبقى.

و كذلك رأوا أنّ النفس تنعدم مثل البدن بانعدامه،أمّا إذا كانت جسما-أي جرما لطيفا ساريا في البدن-فبتقريب السابق،لأنّها تابعة للبدن في الوجود و العدم،و أمّا إذا كانت جسمانيّة و عرضا حالاّ فيه،فبالطريق الأولى،لأنّه حينئذ يكون البدن بصورته الخاصّة موضوعا لها،و بانعدام الموضوع ينعدم العرض بالمرّة.

و رأوا أيضا أنّ المعدوم يمتنع أن يعاد،أمّا المعدوم بالمرّة فبالبرهان الذي سيجيء بيانه،

ص:76

و أمّا المعدوم بصورته الخاصّة فبذلك البرهان أيضا،و لأنّه لو فرضنا إمكان إعادته و اعيد، لم يكن المعاد ذلك الشخص بعينه بجميع مشخّصاته،بل يكون خلقا جديدا-أي مخلوقا جديدا-و إن كان مماثلا للأوّل في بعض الصفات،كما حكى اللّه تعالى عنهم في الآيات المتقدّمة لو أرادوا به هذا المعنى أو ما يتناوله،و الخلق الجديد بمعنى الإعادة،و سيجيء أيضا بيان هذا.

فمن هذه الشبهة ذهبت أوهامهم إلى امتناع البعث و إنكار المعاد،و إن كانوا قائلين بوجود الفاعل القادر المختار أيضا،لأنّ متعلّق القدرة ينبغي أن يكون شيئا ممكنا مقدورا بالذات،و الممتنع بالذات لا يصدق عليه اسم الشيء،فلا يكون متعلّق القدرة،و هذا لا يستلزم نقصا في قدرة القادر المختار،و لا في فاعليّة الفاعل،بل النقص إنّما هو في جانب القابل،و هذا ممّا لا ضير فيه.

و قوله تعالى حكاية عنهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (1)يمكن أن يراد به هذا المعنى،و إن كان يمكن أن يراد به نفي الفاعل المختار القادر على ذلك،و إسناد الموت و الحياة في النشأة الدنيويّة إلى الدهر أو إلى البخت و الاتّفاق من غير أن يكون نشأة اخرويّة أو معاد فيها،كما هو مذهب الدهريّة و الملاحدة منهم،و يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عنهم:

«إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . (2)

و كذلك قوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (3)محتمل للوجهين المذكورين،و على الأوّل فيكون المراد بقوله: «بَلى قادِرِينَ» إثبات أنّ جمع العظام ممّا هو متعلّق القدرة،و ليس فيه إعادة المعدوم بالمرّة، و لا هو بممتنع بالذات على ما سيأتي بيانه،و على الثاني فيكون المراد به مضافا إلى ما ذكر إثبات أصل القدرة،و إثبات الفاعل المختار القادر عليه،فتدبّر.

و بالجملة فهذه الشبهة بالوجهين المحكيّة عن المنكرين للمعاد في الآيات المتقدّمة أعظم شبههم في ذلك،و لهم شبه اخرى عليه،سيأتي بيانها مع إبطالها في مواضعها.

ص:77


1- -يس:78. [1]
2- -المؤمنون:37. [2]
3- -القيامة:3-4. [3]

و شبهتهم هذه و غيرها باطلة،مخالفة للعقل و النقل،كما سيجيء بيان ذلك،كلّها نشأت عنهم من غير علم،فلذا نفى اللّه تعالى عنهم في ذلك العلم،و أسند إليهم فيه الظنّ و الزعم و الشك و عدم العلم و عدم الشعور و الحسبان و نحو ذلك،ممّا يدلّ على عدم علمهم فيه، و تعجّب من قولهم هذا.

و أمّا ما اسند إليهم في قوله تعالى:

«وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ» . (1)

فلعلّه لكمال عنادهم و عتوّهم،أو أنّهم حسبوه يقينا فاقسموا باللّه عليه،كما أنّ تسمية ذلك حجّة في قوله تعالى:

«ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . (2)

لأجل أنّهم حسبوه حجّة،و إن لم يكن حجّة في الواقع،أو لأجل التهكّم بهم.و كيفما كان فحجّتهم داحضة عند ربّهم و عليهم غضب،و قولهم هذا كفر باللّه و رسوله و اليوم الآخر.

ص:78


1- -النحل:38. [1]
2- -الجاثية:25. [2]

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد

و إذا عرفت ذلك فاعلم:أنّ القائلين بالمعاد حيث كان السبب العمدة في قولهم به تصديق الشرع القويم،يجب عليهم تصديقهم به كما أتى به الشارع العليم الحكيم، و حيث ورد الشرع بمعاد البدن و النفس جميعا،كما ورد بموتهما جميعا على ما دلّت عليه الآيات المتقدّمة فيجب عليهم تصديق ذلك جميعا و إن كانت مذاهبهم مختلفة في كيفيّته، فلنفصّل ذلك في كلّ من معاد البدن و النفس و كذا في موتهما.

أمّا موت البدن فلا شبهة لأحد فيه على ما يشاهد بالحسّ و العيان و سيظهر أيضا بيان كيفيّته.

في الإشارة إلى مبنى معاد البدن

و أمّا معاده،فالذين قالوا بنفي الجزء الصوري في الأجسام و حصر أجزائه في الجواهر الفردة أي أنّ مبادئ الأجسام جواهر فردة،و أجزاؤه لا تتجزّى،و الجسم عبارة عن تلك الأجزاء المتلاصقة المؤتلفة،من غير أن يكون للاتّصال مدخل في حقيقته و تقوّمه،كما هو مذهب المتكلّمين منهم،فمعاد البدن عندهم عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء المتفرّقة بالموت بتأليف مجدّد و إلصاق ثان،كما أنّ موته عبارة عن ذلك التفرّق و انعدام التأليف الأوّل،فلا يلزم عليهم انعدام البدن و لا أجزائه بالموت،و لا أن يكون إعادته إعادة المعدوم.نعم يلزم عليهم القول بانعدام ذلك التأليف الخاصّ الأوّل،ثمّ حصول مثل ذلك التأليف في الحشر.

فعلى هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ باعتبار أجزائه،و مثله باعتبار التأليف،فهو

ص:79

عين الأوّل باعتبار،و غيره-أي مثله-باعتبار آخر.

و لعلّ هؤلاء الجماعة قالوا بهذا المذهب مع بطلانه،لأجل تصحيح المعاد الجسماني، و هربا عن لزوم الإشكال الوارد في زعمهم على تقدير كون الاتّصال جزءا صوريّا للأجسام،و هذا الذي ذكرنا ظاهر على المتدبّر.

و قد قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه:«و المعدوم لا يعاد بعينه»:

«اختلفوا في جواز إعادة المعدوم بعينه-أي بجميع عوارضه المشخّصة-فذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازها،و ذهب الحكماء و بعض الكرّامية و أبو الحسين البصري و محمود الخوارزمي من المعتزلة إلى امتناعها،و اختاره المصنّف.و هؤلاء و إن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم،لأنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد،بل بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،و يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى، و يؤيّده قصّه إبراهيم عليه السّلام.-انتهى.» (1)

و قال المحقّق الدواني في الحاشية على قوله:«لا يقولون بانعدام الأجساد»:

«و هذا بناء على نفي الجزء الصوري للأجسام و حصر أجزائه في الجواهر الفردة،كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر،و كذا على مذهب المصنّف حيث قال بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة و أنها تبقى بعينها حال الانفصال.و لو أثبت الجزء الصوري في الأجسام، قيل يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء الماديّة هي بعينها،و لا يقدح فيه تبدّل الجزء الصوري بعد أن كان أقرب الصور إلى الصور الزائلة.

فإن قيل:فيكون تناسخا،قيل:الممتنع عندنا هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة،لا إلى بدن متألّف من عين مادّة هذا البدن و صورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة،فإن سمّي ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه،فإنّ النزاع إنّما هو في المعنى لا في الألفاظ.-انتهى.» (2)

و قال المحشّي الشيرازي في الحاشية على قوله:«هذا بناء على نفي الجزء الصوري

ص:80


1- -شرح التجريد للقوشجي:71،الطبع الحجري،تبريز،1307 ق.
2- -راجع هامش ص 71 من شرح القوشجي.

في الأجسام»:

«أقول:فيه نظر ظاهر،اذ لا يقول عاقل إنّه إذا احرق زيد و صار رمادا،و القي في أرض الملح فصار ملحا،فحينئذ يبقى شخص زيد بعينه،ضرورة أنّ ما به زيد زيد لم يبق حينئذ، بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع.فعلى هذا يلزم على من قال بامتناع إعادة المعدوم، و كان قائلا بالمعاد الجسماني أن يقول مثل ما يقول مثبتوا الجزء الصوري من أنّ الأجزاء المادّية باقية بعينها،و يتبدّل ما يكون الشخص به شخصا إلى ما يماثله،و به يؤوّل الآيات و الأحاديث الواردة في المعاد،كما هو طريقتهم في تأويل الظواهر،إذا دلّ القاطع على خلافه.

فإن قيل:فيلزم إيصال الثواب و العقاب إلى من يماثل من يستحقّهما.

قلت:المستحقّ للثواب و العقاب هو النفس المجرّدة،و هي باقية بعد خراب البدن عند المحقّقين،و منهم المصنّف،و المدرك للذّة و الألم و إن كان جسمانيّا إنّما هو النفس،و البدن آلة لها في الأفعال التي يستحقّ بها النفس الثواب و العقاب.و كذا لبعض اللذّات و الآلام، و لا محذور في أن كان استحقاق النفس لهما عند تعلّقها بآلة و إيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى.-انتهى.» (1)

و أقول:لا يخفى عليك أنّ ما ذكره المحقّق الدواني لا غبار عليه،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى تحقيق معنى التناسخ المحال،و أنّ عود النفس إلى بدن متألّف من مادّة البدن الأوّل و من صورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة،ليس من التناسخ المحال، فانتظر.

و أمّا ما ذكره المحشّي الشيرازي،فلا يخفى أنّه مجرّد استبعاد،نظير استبعاد المنكرين للمعاد،و مع ذلك فهذا الاستبعاد إنّما هو على تقدير القول بالجزء الصوري خاصّة.

و يندفع أيضا بما ذكره المحقّق الدواني بقوله:قيل يكفي في المعاد الجسماني-إلى آخر ما قال-و سنحقّق ذلك فيما بعد إن شاء اللّه العزيز.

و أمّا ذكره بقوله:«ضرورة أن ما به زيد زيد لم يبق حينئذ بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع»ففيه:أنّ زيدا لو كان عبارة عن بدنه فقط،لربما كان لما ادّعاه وجه،و ليس كذلك،

ص:81


1- -الحاشية على حاشية الدواني على شرح القوشجي،مخطوط.

بل هو عبارة عن مجموع البدن الخاصّ و النفس المخصوصة،كما أشرنا إليه فيما تقدّم، و سنزيده بيانا فيما بعد.

و لم يظهر ممّا ذكره عدم بقاء نفسه أيضا،كيف و هو نفسه قد اعترف بأنّ المستحقّ للثواب و العقاب النفس،و هي باقية بعد خراب البدن،بل قد ادّعى جمع من الحكماء أن هويّة زيد و هذيّته إنما هي بنفسه،فإنّ أعضاءه و بدنه أبدا في التحوّل و الذوبان و التبدّل و السيلان بحرارته الغريزية المستولية عليها من نار الطبيعة،و زيد هو هو نفسا و بدنا من أوّل العمر إلى منتهاه، لانحفاظ هويّة بدنه بنفسه الّتي هي صورته التمامية،فهذيّة البدن من حيث هو بدن لهذه النفس بهذه النفس،و إن تبدّل تركيبه.

على أنّ الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى أنّ هويّة زيد بنفسه،و كذا بهوية الأجزاء الأصلية الباقية من بدنه.

و أمّا ما ارتكبه أخيرا من«كون المخاطب بالتكاليف و المستحقّ للثواب و العقاب هو النفس وحدها،و كون البدن آلة لها في ذلك و أن لا محذور في أن كان استحقاق النفس لها عند تعلّقها بآلة،و إيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى،و إن كانت مغايرة للاولى».

ففيه،أنّ هذا مخالف لما دلّ عليه الشرع و نطقت به الآيات المتقدّمة،فإنّك قد عرفت أنّها تدلّ على معاد النفس و البدن،الذي كان في النشأة الدنيويّة جميعا.أي على معاد الإنسان الذي هو عبارة عن مجموعهما،و كذلك الظاهر من التكاليف الواردة أنّ المخاطب بها هو الإنسان لا نفسه فقط،و إن كان للنفس مدخل عظيم في ذلك.و الحال قد بيّنا لك أنّ التصديق بالمعاد يجب أن يكون على النهج الذي دلّ عليه الشرع،فتبصّر.

و إذا عرفت ما ذكرنا و علمت كيفيّة معاد البدن على تقدير القول بالجواهر الفردة،و نفي الجزء الصوري للجسم،فاعلم أنّ القائلين بالمعاد لو كان مذهبهم في الجسم ما ذهب إليه ذيمقراطيس من القدماء،من أنّ مبادئ الأجسام أجسام صغار صلبة متجزّية و هما غير متجزّية في الخارج،و أنّ اتّصال الجسم عبارة عن اجتماع تلك الأجسام الصلبة، و انفصاله عن افتراقها،من غير أن يكون هناك جزء صوري للجسم،فحالهم أيضا في القول بموت البدن و معاده كحال لفرقة الاولى سواء.

و هذا المذهب أيضا و إن كان باطلا كالأوّل،لكنّه على تقدير القول به أيضا لا يلزم

ص:82

إعادة المعدوم بالمرّة بعينه،فإنّه على هذا المذهب أيضا لا يلزم انعدام البدن و لا أجزائه، إنّما المعدوم هو التأليف الخاصّ،و الموت عبارة عن تفرّق تلك الأجسام التي هي أجزاء للجسم،و العود عبارة عن اجتماعها بتأليف ثان مجدّد،مثل الأوّل.و على هذا أيضا فالبدن المعاد عين المبتدأ باعتبار و غيره باعتبار آخر أي في التأليف.

و أمّا الذين قالوا بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة،و أنّها تبقى بعينها حال الانفصال كما هو مذهب الإشراقيّين و من تبعهم فيه،كالمحقّق الطوسي رحمه اللّه و غيره، و حاصل مذهبهم أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته،ليس بذي مفاصل و أجزاء بالفعل، كما هو عند الحسّ يقبل الانقسام الوهمي و الانفكاكي إلى ما لا يتناهى،و أنّ ذلك الجوهر المتّصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر،و هو الجسم المطلق،فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج أصلا،قابل لطريان الاتّصال و الانفصال عليه مع بقائه في الحالين في ذاته،فهو من حيث جوهره و ذاته يسمّى جسما،و من حيث قبوله للصور النوعيّة التي لأنواع الجسم يسمّى هيولى،فكذلك لا يلزم عليهم إعادة المعدوم بالمرّة كما دلّ عليه كلام المحقّق الدواني الذي نقلناه،و هذا أيضا ظاهر يظهر بالتأمّل في مذهبهم، لأنّ ملخّصه كما ذكره بعض الفضلاء أنّهم يقولون إنّ الاتّصال و إن كان لازما لجوهر الجسم،لكنّه لازم له في جميع الجهات في حاقّ ذاته و صرف وجوده،و هو وحده تمام حقيقة الجسم،و لا يلزم من طريان الانفصال عليه انعدامه رأسا،و ذلك لأنّ الاتّصال اللازم من انتفاء الجزء و مثله إنّما هو بمعنى توسّع الذات و الانبساط في الجهات،و هو مشتمل بمحض مفهومه على حدود مشتركة بين أجزائه كالنصف و الثلث و غير ذلك،و الانفصال في كلّ حدّ إنّما يقابل الاتّصال في ذلك الحدّ بعينه دون سائر الحدود،فإذا انفصل في حدّ النصف مثلا فإنّما يبطل اتّصاله فيه فقط،و هو باعتبار سائر الحدود باق متّصلا كما كان.

نعم لو كان الاتّصال معنى وحدانيّا غير ذي حدود،أو كان الانفصال يعرضه في جميع حدوده الممكنة فيه لأدّى إلى انعدامه بالكلّية،و إذ ليس فليس.

و المحصّل أنّ الاتّصال الذي هو تمام حقيقة الجسم،هو الاتّصال في الجملة،فما دام يبقى ذلك الاتّصال في الجملة لم ينعدم الجسم بالكلّية.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار،-أي

ص:83

باعتبار حقيقة الاتّصال في الجملة و بعض مراتب الاتّصال الباقي-و غيره،أي مثله باعتبار آخر،-أي باعتبار بعض مراتب الاتّصال الفاني الذي أعيد مثله حين الإعادة- فتدبّر،و اللّه تعالى أعلم.

و أمّا الذين قالوا بوجود الجزء الصوري في الجسم،كالمشّائين و أتباعهم،و حاصل مذهبهم:أنّ الجوهر جوهر متّصل الذات في الذات،لكنّه من حيث هو جسم مطلقا مركّب من جوهرين:أحدهما هذا الجوهر المتّصل بالذات،و الثاني جوهر آخر محلّ للأوّل،و هو حالّ فيه،و ليس في حدّ ذاته متّصلا و لا منفصلا و لا واحدا و لا كثيرا،بل هو في هذه كلّها تابع للأوّل،و يسمّون الأوّل الصورة الجسميّة،و الثاني الهيولى،و له من حيث هو نوع ماء أو هواء أو نار أو غيرها جزء يسمّونه الصورة النوعيّة.

فعلى مذهب هؤلاء و إن كان يلزم أن يكون بطريان الانفصال ينعدم الاتّصال،و ينعدم الجسم أيضا لانعدام جزئه الصوري الذي هو الاتّصال الخاصّ المنعدم بطريان الانفصال عليه في أيّة مرتبة منه،لكنّه لا يلزم أيضا انعدام الجسم بالكلّية لبقاء جزئه الآخر المحلّ للجزء الصوري،-أي الهيولى-و إن طرأ عليه صورة اخرى غير الأولى،فإنّهم لأجل ذلك أثبتوا الهيولى،حيث إنّ مذهبهم أنّ الانفصال مقابل الاتّصال.و الاتّصال لازم لماهيّة الجسم،و إلاّ لزم الجزء أو مثله،فإذا طرأ عليه الانفصال بطل الاتّصال،فانعدم ملزومه الذي هو هذا الجوهر المتّصل،فلو كان هو تمام حقيقة الجسم لزم انعدامه بالكلّية و أن يكون تفريق الجسم إلى جسمين إعداما له بالمرّة و إحداث جسمين آخرين من كتم العدم،و هو باطل بالضرورة،فيجب أن يكون للجسم جزء آخر يكون الاتّصال و الانفصال مفارقين عنه غير لازمين له في ذاته،حتّى يكون باقيا في الحالين،و هو المسمّى بالهيولى.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار أحد جزأيه-أي الهيولى-و غيره أي مثله باعتبار جزئه الآخر-أي الصورة الجسميّة و النوعيّة بل الشخصيّة-فإنّ لهم أن يقولوا إنّه حين الإعادة تفاض على تلك الهيولى البدنيّة أقرب الصور الجسميّة و النوعيّة بل الشخصيّة إلى الصورة الاولى.

و كأنّ المحقّق الدواني فيما نقلنا عنه آنفا حيث قال:بناء على هذا المذهب،قيل:

يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء المادّية هي بعينها-إلى آخره-أراد ببقاء الأجزاء

ص:84

المادّية بقاء هيولى البدن،كما هو مذهب هؤلاء في مطلق الجسم،و إن كان طرأ على هيولاه صورة اخرى غير صورة البدن الأوّل حين الفناء،و أقرب الصور إلى الصورة البدنيّة الاولى حين الإعادة،و يحتمل أن يكون أراد به مع ما ذكر بقاء الأجزاء الأصليّة من البدن التي يظهر من بعض أحاديث الأئمّة الأطهار(عليهم سلام اللّه الملك الجبّار)أنّ منها تكوّن البدن،و هي مبدأ نشئه،و هي ممّا تبقى بعد خرابه،كما روى الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه اللّه في الفقيه عن عمّار الساباطي.

أنّه قال:سئل أبو عبد اللّه(صلوات اللّه عليه)عن الميّت هل يبلى جسده؟قال:نعم حتّى لا يبقى لحم و لا عظم،إلاّ طينته التي خلق منها فإنّها لا تبلى في القبر،تبقى مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة. (1)

و المراد من هذه الطينة الباقية-و اللّه و أولو العلم أعلم-إمّا نفس النطفة المنويّة التي منها بدن الإنسان كما يشهد به ما رواه هو رحمه اللّه فيه أيضا.

أنّه سئل الصادق(صلوات اللّه عليه)لأيّ علّة يغسّل الميّت؟قال:تخرج منه النطفة التي خلق منها تخرج من عينيه أو من فيه... (2)

و إمّا تلك النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب التي هي مبدأ نشأ بدن الإنسان أوّلا،و كذا هي مبدأ تكوّنه ثانيا في الحشر،كما هو الأظهر،و قد ورد في الأحاديث المرويّة عن أهل العصمة(سلام اللّه عليهم أجمعين) (3)،أنّ كلّ طينة خلق منها الإنسان يدفن فيها،و أنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم بعث اللّه تعالى ملكا ليأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه،فيأخذه و يخلطه بتلك النطفة،فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب،و إذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان،فيموت و يدفن فيه.

و هذه النطفة مستديرة في القبر،و تبقى إلى أن يخلق الإنسان في الحشر مرّة اخرى منها كما خلق أوّل مرّة،و يشهد به قوله تعالى: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.» (4)فتبصّر.

ص:85


1- -من لا يحضره الفقيه 1:191،طبع مكتبة الصدوق بطهران.
2- -من لا يحضره الفقيه 1:138.
3- -راجع الكافي 3:202،باب التربة التي يدفن فيها الميّت،و [1]راجع أيضا شروح الكافي.
4- -طه:55. [2]

و المراد باستدارة تلك الطينة-و اللّه أعلم-إمّا الاستدارة الحسّية أي تكون مستديرة في الحجم و الشكل و الهيئة و لو كانت جزءا صغيرا،سواء كانت جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة،لكن بحيث تكون صلبة في الغاية لا تزول عنها تلك الصورة الجسميّة و النوعيّة،و لا تفنى و لا تستحيل و لا تصير ترابا و لا رفاتا و لا جزء بدن حيوان أصلا.و إمّا الاستدارة المعنويّة أي الدائر وجودها مع وجود البدن و خرابه،و مع كلّ حالة تطرأ على البدن،حتّى أن لو فرضنا صيرورة بدن الإنسان ترابا،و فرضنا أن صنع منه إناء تبقى تلك الطينة،إمّا خارجة عن ذلك التراب المصنوع إناء،و إمّا داخلة فيه غير طارئة عليها الصورة الإنائيّة،سواء كانت متجزّية أو غير متجزّية،و إن كان يخفى ذلك على الحسّ.

و الحاصل أنّه بعد خراب البدن تبقى في القبر النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب المعبّر عنها بالطينة،التي هي أصل أجزاء بدن الإنسان،و مبدأ تكوّنه و نشئه بمادّتها بل بصورتها أيضا،كما أخبر به الصادقون،بل ربما يدلّ بعض الأخبار على أنّه يبقى أيضا روحه الحيواني الذي يقولون إنّه جسم لطيف رقيق،و كذا التراب الذي خلق منه الإنسان،كما سيأتي بيانه فيما بعد في فصل تعديد المذاهب في النفس.

فعلى هذا فلا يلزم أن يكون بدن الإنسان معدوما بالمرّة،بل المعدوم منه على تقدير التسليم إنّما هو الأجزاء الفضلية غير الأصلية بصورتها لا بمادّتها و كذا الاتّصال الواقع بينها،و أمّا ما هو الأصل في تكوّنه،سواء كان جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة فهو باق بمادّته بل بصورته أيضا. (1)

و على هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ في الأجزاء الأصليّة،و كذا بحسب الروح الحيواني مطلقا أي مادّة و صورة،و كذا عينه باعتبار الأجزاء الفضلية،بحسب المادّة، و مثله بحسب الصورة.

و حيث عرفت ما ذكرنا حصل لك الجواب عن شبهة المنكرين للمعاد الجسماني الذاهبين إلى انعدام بدن الإنسان بالكليّة،و ظهر لك اندفاع تلك الشبهة على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم،سواء كان مذهب الحكماء المشّائين منهم،أو الإشراقيّين،أو مذهب المتكلّمين.و تلخّص لك توجيه المعاد الجسماني أي معاد البدن

ص:86


1- -ما ذكره المؤلّف عبارة عن تسليمه بالإرادة الجزافية كما عليها أرباب الكلام.

على تقدير تلك الأقوال المشهورة في الجسم،و إن كان القولان الأوّلان المتقدّمان باطلين،و الصحيح من هذه الأقوال و المذاهب أحد المذهبين الأخيرين،أي مذهب الإشراقيّين و المشّائين،و كان مذهب الإشراقيّين أقرب إلى الصواب،و تحقيق الحقّ في ذلك لا يناسب الباب.

ثمّ إنّه قد بقي هنا مذهب آخر،هو أيضا مبنيّ على إثبات الجزء الصوري و الجزء المادّي للجسم ينبغي توجيه معاد البدن على تقديره أيضا،و هو القول بأنّ الجسم موجود بتجدّد الأمثال،ففي كلّ آن يفنى و يحدث مثله،لكن يشتبه على الحسّ فيظن أنّه موجود بوجود واحد مستمرّ.

و هذا المذهب و إن كان باطلا لابتنائه على جواز الحركة في الجوهر و التبدّل في ذات الشيء الموجود،و هو باطل كما حقّق في محلّه،لكنّه على تقديره أيضا لا يلزم انعدام البدن بالمرّة،لأنّه عليه و إن كان تنعدم صورة الجسم و تتجدّد آنا فآنا،لكنّه لا ينعدم جزؤه الآخر،أي هيولاه،بل هي باقية،و انعدام صورته ليس بقادح أصلا على هذا المذهب،إذ الجسم حين الوجود الأوّل المبتدأ أيضا كذلك ينعدم صورته آنا فآنا،و تبقى مادّته، فلا ضير في أن يكون حين الإعادة كذلك.

و على هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن المبتدأ بحسب المادّة أي الهيولى و غيره أي مثله باعتبار الصور المتجدّدة كما هو حين الوجود المبتدأ المستمرّ كذلك.

ثمّ إنّ هذه العينيّة باعتبار،و الغيريّة-أي المماثلة-باعتبار آخر اللتين ذكرنا أنّهما لازمتان على تقدير القول بكلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم،كما أنّهما لا يأبى عنهما العقل،بل يدلّ عليهما كما عرفت،كذلك هما ممّا لا يخالف النقل،حيث إنّ ما ورد من الأخبار و الآيات-كالآيات المتقدّمة الدالّة على أنّ البدن الخاصّ الموجود في النشأة الدنيويّة يعاد بعينه في النشأة الاخرويّة-لعلّه إشارة إلى العينيّة باعتبار آي التي قد فصّلناها على كلّ مذهب من تلك المذاهب،و أنّ ما يدلّ منها على المماثلة كقوله تعالى:

«أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» . (1)

ص:87


1- -يس:81. [1]

و قوله تعالى: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» . (1)

لعلّه إشارة إلى المماثلة باعتبار كما فصّلناها أيضا.

و لعلّ ما ورد من أنّ ما في النشأة الاخرويّة خلق جديد،هو إشارة إلى تلك المماثلة أيضا،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه العزيز تحقيق القول في أنّ المماثلة باعتبار مع العينيّة باعتبار آخر هو الأصل و العمدة فيما نحن بصدد بيانه،من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع و اقتضاه العقل،و هو أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص المكلّف الموجود في الدنيا نفسا و بدنا،حيث إنّ النفس عين النفس الاولى ذاتا و صفتا،و كذا الروح الحيواني،و كذا مادّة البدن و الأجزاء الأصليّة منه،و إن كانت الأجزاء الفضليّة منه و بعض صفاته و حالاته مغايرة و لا ضير فيه.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أسنده الفاضل الأحساوي (2)إلى طائفة من القائلين بالمعاد،من أنّ الروح يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل محلّ إشكال،إن أرادوا به المغايرة بحسب الذات.

و كذا ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعاد إلى بدن آخر يماثل الأوّل محلّ اشكال،إن كان المراد المماثلة في الصفات و المغايرة بحسب الذات.كما أنّ ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعود إلى البدن الأوّل بعينه،مشكل أيضا إن كان المراد العينيّة من كلّ الوجوه،فتدبّر.

و قد تمّ بما ذكرنا الكلام في معاد البدن و مبنى القول به،على كلّ مذهب من تلك المذاهب المعروفة التي قيلت في الجسم،و بقي الكلام في معاد النفس و مبنى القول به على كلّ مذهب قيل فيها فنقول:

ص:88


1- -الواقعة:60. [1]
2- -المجلي:492-500.

في الإشارة إلى مبنى معاد النفس

أمّا الذين قالوا بالمعاد،و مع ذلك قالوا بأنّ النفس جسم عنصري بسيط نار أو هواء أو أرض أو ماء،كما أسند الشيخ في الشفاء القول بذلك إلى بعض القدماء من الحكماء،أو حرارة غريزية أو برودة غريزية كما أسند فيه القول بهما إلى بعضهم إن عنوا بهما الجسم الحارّ أو الجسم البارد،لا المعنى الذي هو عرض،أو جسم عنصري مركّب من العناصر الأربعة،و من الغلبة و المحبّة،كما أسند القول به إلى انباذقلس (1)منهم،أو دم لطيف كما أسند القول به إلى بعضهم (2)،أو جسم بخاري هو بخار الدم،أو جوهر روحاني سار في البدن كما أسند صدر الأفاضل (3)القول به إلى جمهور المتكلّمين و عامّة الفقهاء،و أسنده الفاضل الأحساوي (4)إلى بعض المسلمين، (5)فالذي يلزم على هؤلاء الطوائف مع اختلاف مذاهبهم في النفس،و يرد عليهم في القول بمعاد النفس لو قالوا بفنائها و اضمحلالها، ما يلزم على القائلين بمعاد البدن على تقدير كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم سواء،فإنّ المفروض أنّ النفس جسم أيضا كالبدن،فكلّ ما يلزم هناك يلزم هنا.

و الحاصل أنّه يلزم عليهم أن يقولوا بإعادة النفس التي هي جسم إلى البدن الذي هو جسم أيضا و كلّ من النفس و البدن عين المبتدأ باعتبار و مثله باعتبار آخر،و المعاد على كلّ تقدير جسماني مطلقا و لو اصطلح أحد فسمّى معاد النفس روحانيّا حينئذ فلا

ص:89


1- -في الشفاء [1]المطبوع بالقاهرة:انباذقلس .
2- -راجع الشفاء،الطبيعيّات،الفنّ السادس:14،طبع القاهرة.
3- -راجع الأسفار.
4- -راجع المجلي.
5- -الحاصل أنّ القائل بعدم تجرّد النّفس و فنائها بعد الموت،ينكر المعاد الّذي هو مذهب أهل البيت و لكن لا يمكن تكفيره و إن كان متوغلا في الجهل التام.

مشاحّة،و كذلك الشخص المعاد نفسا و بدنا هو عين المبتدأ باعتبار و مثله باعتبار كما عرفت بيان ذلك كلّه فيما تقدّم.

فإن قلت:قولك لو قالوا بفناء النفس و اضمحلالها،يشعر بأنّ لهم أن لا يسلّموا ذلك،مع أنّ الشرع قد دلّ على موت النفس بموت البدن،كما ذكرت من الآيات الدالّة عليه،فكيف ذلك؟

قلت:هو كذلك،فإنّ موت البدن و تلاشي أجزائه،لمّا كان أمرا محسوسا،لا يمكن إنكاره.و أمّا اضمحلال جوهر النفس و ذاتها بموت البدن فلا دليل عليه،و ما ورد في الشرع من موت النفس،فهو غير منحصر في اضمحلال ذاتها،بل هو كما يمكن أن يكون كذلك، يمكن أن يكون بقطع علاقتها الخاصّة التي كانت لها بالنسبة إلى البدن،كما هو على مذهب المحقّقين القائلين بأنّها جوهر مجرّد روحاني باق بعد خراب البدن،ينقطع علاقتها عنه حين الموت،ثمّ يعاد علاقتها به مرّة اخرى حين البعث،كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الأجزاء الأصليّة من البدن الباقية من أوّل العمر إلى منتهاه،و كذا بعد خراب البدن كما عدّه الفاضل الأحساوي أشهر مذاهب المتكلّمين في النفس،فالذي يلزم عليهم في معاد البدن ما يلزم في إعادة الجسم،و أمّا في إعادة النفس فلا يلزم عليهم ذلك أصلا،فإنّ المفروض على هذا المذهب عدم فنائها مطلقا،بل إنّ تلك الأجزاء الأصليّة باقية بمادّتها و صورتها،و معنى المعاد عندهم أن يتكوّن من تلك الأجزاء الأصليّة الباقية،البدن بأجزائه الفضليّة مرّة اخرى،كما خلق منها أوّل مرّة.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الهيكل المحسوس المشاهد،كما أسند القول به الفاضل الأحساوي إلى المتكلّمين أيضا،فهؤلاء الطائفة حيث إنّه لا يظهر منهم القول بوجود نفس سوى البدن،فإنّ الهيكل المحسوس هو نفس البدن،يلزم عليهم في القول بمعادها،ما يلزم على تقدير القول بمعاد البدن سواء.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس عرض جسماني كالمزاج الواقع بين أجزاء البدن،على ما أسندوا القول به إلى جالينوس،أو التأليف و النسبة بين العناصر كما أسند الشيخ في الشفاء القول به إلى بعض القدماء،أو الحرارة الغريزية أو البرودة الطبيعية كما أسند القول بهما إلى

ص:90

بعضهم أيضا،لو عنوا بهما معنى هو عرض،فاللازم عليهم في القول بمعاد النفس إن قالوا به إعادة المعدوم بالمرّة بعينه،لأنّ العرض كما هو المحقّق عند أهل المعقول ينعدم بالكلّية بانعدام موضوعه،فلو قالوا بإعادته،فإمّا أن يقولوا بتجويز إعادة المعدوم بالمرّة،و هو باطل كما سيجيء بيانه.و إمّا أن يقولوا بامتناعها،و يصحّحوا أمر معادها بأنّ بقاء أجزاء البدن بمادّتها،أو بقاء أجزائه الأصلية بمادّتها و صورتها لو قالوا بها و بأنّها غير النفس بل هي أجزاء البدن،كاف في كون المعاد في النشأة الاخرويّة عين المبتدأ،و إن كانت النفس المعادة غير النفس الاولى المبتدأة بالذات،و مماثلة لها من وجه،حيث إنّه يجوز أن يفاض على ذلك البدن المعاد مثل ذلك المزاج الأوّل مثلا،و هذا أيضا باطل،لكونه خلاف ما يدلّ عليه العقل؛فإنّ الشخص المعاد ينبغي أن يكون هو الشخص المبتدأ نفسا و بدنا جميعا، لكونه عبارة عنها أجمع،لا بدنا وحده،و كذا هو خلاف ما يدلّ عليه الشرع كالآيات،لأنّها تدلّ على إعادة النفس الاولى أيضا كما تدلّ على إعادة البدن الأوّل المبتدأ،فتبصّر.

إلاّ أنّا لم نظفر فيما نقل من القول بالمعاد،القول بكون النفس عرضا من أحد،و إنّما ذلك القول لبعض من قدماء الحكماء الطبيعيّين المنكرين للمعاد،كما عرفت ممّا نقلناه سابقا.

و بالجملة فالمعاد على كلّ تقدير من التقديرات المذكورة،جسماني فقط.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس جوهر مجرّد باق بعد خراب البدن-كما هو الحقّ و سيأتي تحقيق القول[فيه]-فهؤلاء لو قالوا بمعاد البدن أيضا كما نطق به الشرع الشريف،فالذي يلزم عليهم أن يقولوا إنّ موت النفس عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن،و إنّ معادها عبارة عن عودها و تعلّقها مرّة اخرى بذلك البدن الأوّل المعاد الذي عرفت أنّه عين الأوّل باعتبار،و مثله باعتبار آخر،و يكون المعاد على هذا التقدير روحانيّا و جسمانيّا جميعا.

أمّا الروحاني فباعتبار عود النفس إلى البدن مرّة اخرى و هو جسم.و سيجيء بيان أنّ الشخص المعاد على هذا التقدير هو بعينه الشخص المبتدأ و أنّ لا إشكال فيه أصلا،فانتظر.

و لو قالوا بمعاد النفس فقط و لم يقولوا بمعاد البدن كما نسب ذلك إلى الحكماء الإلهيّين فالذي يلزم عليهم أن يقولوا بالمعاد الروحاني خاصّة دون الجسماني،و يرد عليهم إشكالان.

ص:91

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط

الأوّل لزوم إنكار المعاد الجسماني،حيث لم يقولوا به،و هو خلاف ما نطق به الشرع، بل هو أيضا كفر،و كإنكار المعاد مطلقا.

و الثاني أنّه لا معنى حينئذ لإطلاق لفظ المعاد على عود النفس خاصّة،لأنّ معنى المعاد على ما بيّناه سابقا هو أن يكون ما فرض متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ يزول عنه ذلك الوجود و تلك الحالة و الصفة ثانيا ثمّ يعود إليه ثالثا،و هذا المعنى لا يتحقّق هاهنا،لأنّ المفروض أنّ النفس كانت موجودة حين تعلّقها بالبدن على حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال تعلّقها عنه،لكنّها كانت بعد خراب البدن و زوال تعلّقها عنه على ذلك النحو من الوجود و الحال و الصفة الذي كان حين التعلّق بالبدن و أنّها في الحشر أيضا تكون على ذلك النهج الذي كان قبل،فتدرك اللذّات و الآلام على حسب ما تقتضيه ذاتها،و هذا ليس من معنى المعاد في شيء،لأنّه لم يفت عنها شيء كان حاصلا لها أوّلا و يعود ذلك الشيء في الحشر.نعم أنّهم لو قالوا بمعاد البدن أيضا سواء كان عين البدن الأوّل أو غيره مطلقا،لربّما أمكن تصحيح إطلاق اللفظ،بأن يقال:إنّها كانت أوّلا متعلّقة ببدن،ثمّ زال عنها ذلك التعلّق بعد خراب البدن،ثمّ اعيد حين البعث،له تعلّق آخر بذلك البدن أو ببدن آخر،و الحال أنّهم لم يقولوا بذلك أصلا.هذا مع أنّ في صورة فرض تعلّقها ببدن آخر يكون إطلاق اللفظ بنوع من التجوّز،بخلاف صورة فرض تعلّقها بذلك البدن الأوّل،لأنّه حينئذ يكون إطلاق اللفظ على الحقيقة،و هذا من أحد الشواهد على أنّ المراد بالمعاد في الشرع هو عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه،و سيجيء إقامة الدليل عليه.

ص:92

و بالجملة فالنظر في معنى لفظ المعاد الذي ورد به الشرع و اعتقدوا به ينفي هذا المذهب،مع قطع النظر عن أنّ فيه إنكار المعاد الجسماني الذي عرفت أنّه ضروري في الأديان.

فإن قلت:لعلّ وجه تفسير المعاد على مذهبهم كما نقله الفاضل الأحساوي عن جماعة كثيرة من أهل الحكمة،هو أنّهم جعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة و فراغها عن الاشتغال بتدبير البدن،عبارة عن المعاد.

قلت:على هذا و إن سلّمنا أنّه يصحّ إطلاق لفظ المعاد،لكنّه مبنيّ على قدم النفس أو حدوثها و وجودها قبل البدن،و سنحقّق القول بأنّها حادثة بحدوث البدن،فانتظر.

على أنّا لا نسلّم صحّة إطلاق اللفظ حينئذ،لأنّ الظاهر من معنى هذا اللفظ الوارد في الشرع،أنّه عود أمر بعد ما زال بالموت،و ما فرض معادا على هذا التقدير هو لم يزل بالموت،بل بالاشتغال بتدبير البدن،و هو حياة ليس بموت.اللّهم إلاّ أن يدّعوا أنّه موت و هو كما ترى.

فإن قلت:لعلّ تفسير المعاد على هذا المذهب كما ذكره بعضهم أنّ المراد به عود الإنسان بنفسه بعد موته إلى الحياة لإيصال جزاء ما كسبت يداه.

قلت:العود إلى الحياة أيضا إنّما يصحّ إطلاقه إذا كانت الحياة زائلة عنها ثمّ عادت، و المقدّر خلافه،لأنّها كانت حيّة باقية حين ما تعلّق بالبدن و بعده إلى الحشر كما هو المفروض.

فإن قلت:لعلّ هؤلاء القائلين بالمعاد الروحاني خاصّة،كما يشعر به كلام الشيخ في الشفاء على ما نقلناه سابقا،إنّما قالوا به خاصّة و لم يتعرّضوا لإثبات الجسماني منه،لأجل داع إليه لا ينافي القول بالجسماني منه أيضا،و هو أنّ المعاد و إن كان على قسمين:

روحاني،و جسماني كما نطق به الشرع،لكن لمّا كان الجسماني منه مقبولا من الشرع و لا سبيل إلى اثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و قد بسطت الشريعة الحقّة حال السعادة و الشقاوة اللتين بحسب البدن و كان الجسماني مفروغا عنه في الشرع القويم،فلذا لم يتعرّضوا لإثباته.و أمّا الروحاني فلمّا كان مدركا بالعقل و بالقياس البرهاني و قد صدّقته الشريعة المقدّسة أيضا و كانت السعادة و الشقاوة اللتان بحسب الأنفس ممّا

ص:93

يمكن إثباتهما بالعقل وحده،و أعظم من السعادة و الشقاوة بحسب البدن كما سيأتي بيانه، و كان الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك،و إن اعطوها،و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحق الأوّل،فلذا قصّروا النظر على المعاد الروحاني و تركوا إثبات الجسماني،و هذا لا يدلّ على إنكارهم له.

قلت:ما ذكرته لا يصحّ أن يكون منشأ لترك إثبات الجسماني منه،فإنّهم لو صدّقوا بالشرع لكان ينبغي لهم أن يقولوا به و لو كان على سبيل الإجمال و إن كان على طريق الحوالة على الشرع،كما قال به الشيخ و هم لم يفعلوا هذا،كما يدلّ عليه ظواهر كلماتهم المنقولة عنهم.و هذا أيضا مخالف للشرع من جهة أنّهم لم يقولوا بما نطق به الشرع،مع كونه ضروريا في الدين،و مع أنّ أكثر السعادة و الشقاوة الواردتين في الشرع جسمانيّة، كالفوز بالجنّات و الحور و القصور و نظائرها و مقابلاتها و أنّ الروحانيّة منها نادرة.

على أنّا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى سنقيم الدليل العقلي على إثبات أصل الجسماني منه، و أنّه ممّا يستقلّ به العقل على ما هو المقصود الأصلي من وضع الرسالة،و هذا الذي ذكرناه و فصّلناه يشبه أن يكون وجه اختلافات الناس في المعاد،حيث إنّ بعضهم أنكره و بعضهم أثبته مع اختلافهم فيه في كونه جسمانيّا فقط،أو روحانيّا فقط،أو روحانيّا و جسمانيّا جميعا،على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المذكورة.

و بالجملة فوجه اختلافهم في ذلك اختلاف مذاهبهم في حقيقة النفس و البدن كما يشعر به كلام الفاضل الأحساوي أيضا.

ص:94

كلام مع صدر الأفاضل

و أمّا ما يشعر به كلام صدر الأفاضل،من أن ظاهر بعض النصوص أيضا صار منشأ لذلك الاختلاف،حيث إنّ بعضها كقوله تعالى:

«وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (1)

أو قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (2)،

يدلّ على أنّ المعاد للأرواح،و أنّ الحشر على صفة التجرّد.و بعضها كقوله تعالى:

«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» . (3)

و كذلك سؤال إبراهيم عليه السّلام و استشكال عزير و حكاية أصحاب الكهف (4)يدلّ على أنّه للأبدان،و أنّ الحشر على صفة التجسّم،ففيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلا فلأنّك قد عرفت ممّا فصّلناه أنّ الآيات القرآنية تدلّ على أنّ المعاد للأبدان و الأرواح جميعا،فتذكّر.

و أمّا ثانيا فلأنّ ما ادّعى أنّه يدلّ على صفة التجرّد،دلالته على ذلك غير واضحة،لأنّ معنى الإتيان فردا كما فسّره المفسّرون،الإتيان منفردا من غير مال و ولد،لا على صفة التجرّد،و كذلك قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (5)،كما فسّروه أيضا التشبيه في أصل البدء و الإعادة.أو أنّ المراد أنّ المعاد عين المبتدأ إلى غير ذلك من المعاني التي لا مناسبة لها بالتجرّد و بكون المعاد للروح خاصّة.

و أمّا ثالثا فلأنّ قوله: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ» -الآية-و إن كان يدلّ على إعادة الأجسام،لكن

ص:95


1- -مريم:95. [1]
2- -الأعراف:29. [2]
3- -القمر:48. [3]
4- -راجع سورتي البقرة و الكهف.
5- -الأعراف:29. [4]

لمّا كان المقصود فيه ذكر حال المكلّفين دلّ على إعادة الأرواح أيضا،و سيأتي بيان أنّ الحكايات الثلاثة أيضا تدلّ على أنّ المعاد للأرواح و الأجسام جميعا،فانتظر.

و حيث تحقّقت ما فصّلناه بطوله،فاعلم أنّ ما نقلناه سابقا عن الشارح القوشجي حيث أسند إلى أكثر المتكلّمين القول بجواز إعادة المعدوم بعينه،و إلى بعضهم و جميع الحكماء القول بامتناعها،ثمّ أسند إلى القائلين بامتناعها أنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد،بل بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،و يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى.و يؤيّده قصّة إبراهيم عليه السّلام يمكن أن يكون الوجه فيما أسنده إليهم من عدم القول بانعدام الأجساد -أي بالكلّية-مبنيّا على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم كما عرفت وجهه.و أمّا القول بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،فوجهه على مذهب المتكلّمين حيث قالوا بأنّ مبادئ الجسم أجزاء لا تتجزّى ظاهر.و كذلك على مذهب الحكماء،أمّا على مذهب الإشراقيّين منهم،فيمكن أن يراد به تفرّق قطعات البدن التي تبقى فيها الاتّصالات،سواء كانت تلك القطعات أجزاء أصليّة من البدن،أو أصليّة و فرعيّة منه،و أمّا على مذهب المشّائين منهم فيمكن أن يراد به تفرّق الأجزاء المادّية،مع أنّه يمكن أن يراد به على هذا المذهب،بل على المذاهب الاخر أيضا تفرّق الأجزاء الأصليّة التي هي باقية بمادّتها و صورتها كما عرفت.

و على كلّ تقدير فإعادة البدن عبارة عن جمع تلك الأجزاء المتفرّقة مرّة اخرى كما كانت أوّلا.و لا يخفى أنّه ممّا لا يأباه العقل عند من يقول بالقادر المختار،و لا يأباه الشرع أيضا،بل يدلّ عليه،لقوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (1)

و أمّا ما أسند إلى أكثر المتكلّمين،من تجويز إعادة المعدوم،فلعلّ القائلين به ذهبوا إلى أنّ الشخص المعاد يوم القيامة يجب أن يكون هو بعينه الشخص المبتدأ في الدنيا،مع جميع عوارضه و مشخّصاته،و ذهبوا أيضا إلى أنّه ينعدم بالمرّة أو في الجملة،فلذا جوّزوا إعادة المعدوم بالكليّة،أو بالجملة بعينه،و لا يخفى عليك أنّ ذلك كلّه باطل،أمّا إعادة المعدوم فسيأتي إبطالها،و أمّا القول بانعدام الجسد بالمرّة،فقد تبيّن بطلانه على كلّ

ص:96


1- -القيامة:3-4. [1]

مذهب قيل في الجسم،كما تبيّن بطلان القول بانعدام النفس بالمرّة،خصوصا على القول بأنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ.

و أمّا لزوم كون الشخص المعاد هو بعينه الشخص المبتدأ بجميع عوارضه،فلأنّه مع كونه ممتنعا،لما عرفت أنّه ينعدم عنه بعض خصوصيّاته و حالاته البدنيّة البتّة،و الحال أنّ إعادة المعدوم بعينه ممتنعة على ما سيأتي دليله،لا دليل عليه،بل الدليل يدلّ على خلافه، و على أنّ بقاء نفسه بعينها التي هي الأصل في تشخّص الشخص مع بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،كاف فيما هو منطوق الشرع من المعاد،حيث إنّ بقاء هذين الأمرين،هو مناط كون الشخص المعاد،هو الشخص المبتدأ بعينه،و أنّه لا يقدح في ذلك المغايرة في بعض الصفات و من بعض الجهات،مع المماثلة فيهما على ما سيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا ما أسنده إلى القائلين بتفرّق الأجزاء و خروجها عن الانتفاع أنّهم يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى.و يؤيّده قصّة إبراهيم عليه السّلام،فالظاهر أنّ مرادهم من التأويل المذكور أن موت البدن فيما إذا كان متفرّق الأجزاء،عبارة عن تفرّق الأجزاء،و إعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى كما كانت أوّلا في الابتداء،على ما ذكرنا،و أنّ موت الشخص المكلّف عبارة عن ذلك التفرّق الحاصل في بدنه،مع قطع تعلّق نفسه عن بدنه، و أنّ إعادته عبارة عن ذلك الجمع،مع إعادة تعلّقها به مرّة اخرى،و هذا التأويل كما يمكن في المكلّف بما ذكرنا،كذلك يمكن في غير المكلّف أيضا لو قلنا بإعادته كما سيأتي تحقيق القول فيه.فلا اختصاص له بالمكلّف كما يدلّ عليه كلام آخر من الشارح المذكور و عسى أن ننقله فيما بعد.

و بالجملة فهذا التأويل و لا سيّما في المكلّف،ممّا لا مانع فيه من جهة العقل و النقل بل ربما يدّعى أنه حيث كان ظاهرا من الكتاب الكريم،كقوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» -الآية- (1)فليس بتأويل،بل هو المصير إلى ظاهر الشرع،إذ التأويل إنّما يطلق في الأكثر على ما هو خلاف الظاهر،و لو من وجه،و هذا ليس كذلك،و كذلك التأييد الذي ادّعاه ظاهر.و يؤيّده أيضا قصّة الذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها

ص:97


1- -القيامة:3. [1]

-الآية. (1)

فإن قلت:سلّمنا أنّ في القصّتين تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن عبارة عن تفرّق أجزائه،و إعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى،حيث إنّ أربعة من الطير أي الطاوس، و الديك،و الغراب،و الحمامة التي أخذها ابراهيم عليه السّلام و جزّأهنّ و فرّق أجزاءهنّ الأصليّة و الفضليّة على كلّ جبل،ثمّ دعاهنّ بإذن اللّه تعالى،فاجتمعت أجزاؤهنّ كما كانت أوّلا و عدن أحياء.فأتينه سعيا.و حيث إنّ حمار عزير(على نبيّنا و عليه السّلام)قد تفرّقت أجزاؤه و نخرت عظامه،ثمّ اجتمعت تلك الأجزاء و افيضت عليه الصورة اللحمية بإذن اللّه فعاد حيّا،كما قال تعالى:

«وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» (2).

إلاّ أنّه ليس في القصّتين تأييد لتمام ما هو المقصود هنا،و هو أنّ المعاد أي معاد الشخص إنّما يكون بجمع أجزائه البدنيّة المتفرّقة و إعادة نفس ذلك الروح المتعلّق به أوّلا إليه ثانيا،فإنّ نفوس الحيوانات كما هو المشهور بينهم،ليست مجرّدة باقية حتّى تعاد تلك النفس مرّة اخرى إلى البدن.

و إن قيل بإيجاد نفس اخرى مثل الاولى للبدن مرّة اخرى،

قلنا فليس فيه تأييد للمقصود.

و كذلك لو قيل بأنّ في قصّة عزير عليه السّلام تأييدا للمقصود من حيث إنّ الآية تدلّ على إماتته أيضا و إحيائه مرّة اخرى،و الحال أنّ النفس الإنسانيّة و لا سيّما نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجرّدة باقية.

قلنا:هذا و إن كان فيه تأييد للمقصود من هذه الجهة،لكن ليس فيه تأييد له من الجهة الاخرى،أي تفرّق اجزاء بدنه ثمّ جمعها ثانيا،حيث إنّ الظاهر في الآية الكريمة و كذا المنقول من القصّة إن كان بدنه عليه السّلام باقيا بمادّته و صورته،لم يتفرّق أجزاؤه أصلا و اعيد إليه روحه الشريفة مرّة اخرى بعد مائة عام كما في قصّة أصحاب كهف حيث إنّ اللّه تعالى أماتهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا و لبثوا في كهفهم تلك المدّة بحيث لم يتغيّر أبدانهم،

ص:98


1- -البقرة:259. [1]
2- -البقرة:259. [2]

و لم يتفرّق أجزاؤهم و تحسبهم أيقاظا و هم رقود، (1)فأحياهم اللّه تعالى بعد المدّة بإعادة أرواحهم الشريفة إلى أبدانهم الباقية.

قلت:لا شكّ أنّ في قصّة إبراهيم،و في قصّة عزير عليهما السّلام تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن يمكن أن يكون بتفرّق أجزائه،و أنّ إعادته بجمعها مرّة اخرى.و أمّا التأييد لتمام المقصود فيمكن أن يكون لأجل أنّ نفوس تلك الطيور و نفس ذلك الحمار لعلّها كانت باقية بعد تفرّق أجزاء أبدانهنّ،إذ لا دليل على فناء ذوات نفوس الحيوانات بالمرّة أو بوجه بفناء أبدانهنّ و بتفرّق أجزائها،سواء قيل بأنّها أجسام عنصريّة أو روحانيّة،أو قيل بتجرّدها في الجملة،و إن كان أدون من تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة كما سيأتي تحقيق القول في ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و على تقدير تسليم أنّ نفوسهنّ تنعدم بانعدام أجسادهنّ كما احتملناه سابقا من جانب المنكرين للمعاد،حيث إنّ ظاهرهم أنّ النفوس مطلقا تنعدم بانعدام الأجساد، سواء قيل بكونها أجساما أو أعراضا حالّة في الأجسام.نقول:لعلّ تأييد القصّتين لما ذكرنا إنّما هو من جهة إماتة البدن و إحيائه خاصّة،حيث إنّ المنكرين للمعاد كما نطقت بعقائدهم الفاسدة الأخبار و الآيات،إنّما استبعدوا المعاد و ظنّوا خلافه لاستبعادهم معاد البدن بعد أن صار عظاما و رفاتا و ترابا.و أمّا معاد الروح و النفس فلا يظهر ممّا حكي عنهم في الآيات و الأخبار استبعادهم له بتلك المرتبة من الاستبعاد،بل ادّعى جمهور الحكماء أنّ العقل مستقلّ في إثباته،فلذا رفع اللّه في تينك القصّتين استبعادهم له و أشار إلى أنّه كما أنّ الإماتة و الإحياء في شأن تلك الطيور و ذلك الحمار،كان بتفريق أجزاء الأبدان ثمّ جمعها مرّة اخرى،كذلك يكون في شأن غيرهنّ كما في أبدان الإنسان،و إن صارت عظاما و رفاتا و ترابا،بل احرقت فصارت رمادا و ذريت في الرياح العاصفة شمالا و جنوبا و قبولا و دبورا،فإنّ ذلك الجمع و التفريق ممكن فيها أيضا،حيث إنّ تلك الأجزاء المتفرّقة من الجسد سواء كانت بحيث تبقى فيها صورها مطلقا كما في شأن تلك الطيور حيث كانت الصورة العظميّة و اللحميّة و الريشيّة باقية فيها،أو تبقى في الجملة كما في شأن

ص:99


1- -و هم رقود:و اعلم تعلّق النفس بالبدن باقية في حال الرقود و لا معنى للإعادة و الإعادة إنّما هي بعد الموت و زوال التعلّق كما لا يخفى.و البرهان يدلّ على تجرّد النفوس الحيوانيّة تجرّدا برزخيا.

ذلك الحمار حيث كانت الصورة العظميّة باقية فيها،أو لا تبقى فيها تلك الصور،بل كانت رميما و رفاتا و ترابا و مزّقت كلّ ممزّق،كما في أكثر الموتى الذين أخبر اللّه عن بعثهم، فنسبة قدرة القادر المختار العليم الحكيم على السواء إلى جمع الجميع و إفاضة الصور الأصليّة و الفرعيّة عليها بحيث تصير عين الأوّل باعتبار الأصل،و ان كانت مثلها من جهة بعض الاعتبارات غير المنافية للعينيّة ذاتا،و كذا إعادة النفس الاولى الباقية إليها كما في شأن الإنسان الذي كلامنا فيه،و يدلّ العقل و النقل على أنّ روحه جوهر مجرّد باق، و بحيث يكون الشخص المعاد عين المبتدأ بعينه،فإنّ الكلّ ممكن بالذات غير مستحيل عقلا و لا شرعا،و هو مقدور للقادر المختار الذي لا يعجز عن شيء،و لا يعزب عنه شيء كما إذا كان البدن غير متفرّق الأجزاء باقيا بمادّته و صورته،كما في قصّة عزير عليه السّلام و قصّة أصحاب كهف.فلذلك حكى سبحانه عن عزير عليه السّلام:انّه لما أماته اللّه تعالى مائة عام ثمّ بعثه و أحياه فأمره بالنظر إلى طعامه و شرابه لم يتسنّه،و كانا باقيين على حالهما و صورتهما الأصليّة بمادّتيهما،بحيث لم يتغيّرا أصلا بمضيّ السنين،و كذا أمره بالنظر إلى حماره و بقاء عظامه و إفاضة اللّه تعالى الصورة اللحميّة عليها و جعله حيّا مثل الأوّل.

و تبيّن له ذلك «قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1)و انّه كما يقدر على إعادة الروح إلى الجسد الباقي،كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة و جعلها حيّة.و كذلك قال في شأن أصحاب الكهف حيث بعثهم بعد ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا بإعادة أرواحهم إلى أجسادهم الباقية. «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها» (2)و أنّه كما يقدر على إعادة الأرواح إلى الأجساد الباقية غير المتغيّرة،كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة من البدن و إعادة الروح إليها مرّة اخرى،و أنّ المعاد جسمانيّ و روحانيّ لا أحدهما وحده.و لعلّ اختلاف مراتب المعاد الذي أخبر عنه جلّ و علا في الكتاب الكريم كهذه القصص،و قصّة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثمّ أحياهم، (3)و الآيات التي دلّت على وقوع المعاد و إن صارت الأجساد عظاما و ترابا و رفاتا و مزقت كلّ ممزّق إشارة إلى إمكان الجميع،و كون الكلّ مقدورا للّه تعالى،

ص:100


1- -البقرة:259. [1]
2- -الكهف:21. [2]
3- -إشارة إلى آية 243 من سورة البقرة. [3]

و أنّه في الجميع روحانيّ و جسمانيّ معا،و اللّه تعالى يعلم.

و حيث عرفت ما بيّناه عرفت أنّ ما نقله صدر الأفاضل من المتكلّمين،أنّهم حملوا الآيات و النصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته و منعوا فناء الإنسان بالحقيقة،لأنّ حقيقة الإنسانية بأجزائه الأصليّة،و هي باقية،إمّا متجزّية أو غير متجزّية،ثمّ أورد عليهم بأنّه مستبعد من العقل و النقل،ليس ذلك الاستبعاد واردا عليهم،لو أرادوا بتلك الأجزاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،كما عرفت أنّ الأحاديث المرويّة عن الصادقين عليهم السّلام تدلّ عليه،و أرادوا بجمع المتفرّقات جمع تلك الأجزاء و إعادة النفس الباقية إليها مرّة اخرى،فإنّه لا يبعد من العقل و النقل بوجه أصلا.

نعم لو أرادوا بتلك الأجزاء الأصلية الباقية أنّها عبارة عن النفس الباقية،كما نقل عن كثير منهم،سواء قالوا بانعدام البدن بالكلّية أو لم يقولوا به،لورد عليهم ذلك الاستبعاد عقلا و نقلا،إذ العقل كما يأتي بيانه يدلّ على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر مجرّد لا أجزاء أصلية،و كذلك النقل و إن دلّ على بقاء الأجزاء الأصليّة من الموتى كما عرفت،لكن دلالته على أنّها هي النفس الإنسانيّة الناطقة غير ظاهرة بل مستبعدة.فإنّ الظاهر من النقل أيضا كما سيظهر وجهه أنّ النفس الإنسانيّة الناطقة جوهر مجرّد باق غير الأجزاء الأصليّة،كما أنّ ما نقله عنهم من أنّهم تارة جوّزوا إعادة المعدوم،يرد عليهم ذلك الاستبعاد كما بيّنا وجهه سابقا و سيأتي زيادة بيان له،فانتظر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فحريّ بنا أن نتكلّم في أن شيئا من النفس و الجسد، بل شيئا من أجزاء العالم،هل يجوز أن ينعدم بالكلّية أم لا؟و على تقدير جواز الانعدام، فهل يجوز أن يعاد المعدوم بعينه أم لا؟إذ هو أيضا ممّا يبتني عليه الخلاف في المعاد، و تحقيق القول فيه ممّا يتوقّف عليه إثبات ما نحن بصدده،من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع فلنبيّن ذلك في مقامين:

المقام الأوّل في الأمر الأوّل،أي جواز الانعدام و عدمه،و الثاني في الثاني،أي جواز إعادة المعدوم و عدمها.

ص:101

المقام الأوّل في جواز عدم العالم و امتناعه

اشارة

أمّا المقام الأوّل.

فنقول:قال الفاضل الأحساوي:المقدّمة الثانية،فالكلام فيها على نوعين:الأوّل في جواز عدم العالم أو امتناعه،و مذهب الإسلاميّين جوازه،و منعه طائفة من الفلاسفة، لا باعتبار ذاته،لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته،نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره بناء على تلازم المعلول مع علّته التامّة،و أنّ عدم المعلول إنّما يكون لعدم علّته،و علّته واجب الوجود،و هو لا يصحّ عدمه.

و طائفة منعوه بناء على وجوب وجوده لذاته،و هذا مذهب مخالف لمقتضى العقول، و مناف لجميع الشرائع،فإنّ العقل الصريح حاكم بإمكانه،و أنّه ليس بقديم لذاته،و لذلك جميع الملل و الشرائع مخبرة بذلك فلا يلتفت إلى ما قالوه.

و نسبوا إلى الكرّامية القول بأبديّة العالم بعد القول بحدوثه،فإن أرادوا بأبديّته،أبديّته بفاعل مختار يوجب له البقاء،و يفيض عليه الوجود لا إلى نهاية،فذلك لا يحيله العقل، و لا ينافي أحكام الشريعة،فإنّه قد ورد فيها أنّ أهل القيامة أبديّون كما صرّحت به الآيات القرآنيّة.

و إن أرادوا أبديّته بذاته فذلك محال عقلا و سمعا،لأنّ الأبديّة الذاتية لا يتحقّق مع الحدوث الذاتي،لما بين التأبيد الذاتي و الإمكان الذاتي المستلزم للحدوث الذاتي من المنافاة الذاتيّة.نعم يصحّ أبديّته استنادا إلى علّته الممدّة له باعتبار ارتباطها به على ما مرّ.

و الذي عليه عامّة أهل الإسلام جواز عدمه بالنظر إلى ذاته،لكن يختلفون في أنّ هذا

ص:102

الجائز هل يقع أم لا؟

و مبنى خلافهم على أنّ المعدوم هل يعاد أم لا،و هي المسألة الثانية في أنّ المعدوم هل يصحّ عوده أم لا؟فمن قال منهم بجواز إعادته،قال إنّ العالم يعدم قبل القيامة ثمّ يعاد مرّة ثانية كما كان أوّلا،و من منع من إعادته،منع عدمه و قال إنّ الإعادة معناها جمع الأجزاء بعد تفرّقها و تلاشيها و تأليفها على مثل الحالة الاولى،فالمعدوم هو التأليف و هو لا يعاد بعينه،و إنّما يعاد تأليف آخر مثله،فهو في الحقيقة تأليف مبتدأ،لكن لما كان مماثلا للأوّل قيل بإعادة الأجسام باعتبار حصوله على الهيئة الاولى.

هذا رأي القائلين بأنّ المعدوم ليس شيئا.و أمّا الذين قالوا إنّ المعدوم شيء في العدم، قالوا إذا عدم الوجود بقيت الشيئيّة (1)المخصوصة،فعند العود يفيض عليها الوجود مرّة ثانية كما أفاضها عليه أوّلا.

أقول:و إلى هذا أشار بعض أهل الحكمة،بقوله:«إنّ الموجود المطلق لا يعدم أصلا،و إنّ المعدوم المطلق لا يوجد أصلا،و الإعدام و الإيجاد بالنسبة إلى الممكنات عبارة عن تفريق أجزاء صورة إلى صورة اخرى،و تبديل أوضاعه إلى أوضاع اخر.و من هذا قيل:إنّ الممكنات غير متناهية،و إنّ مظاهرها لا نهاية لها.-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (2)

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد:«و الإمكان يعطي جواز العدم.و السّمع دلّ عليه.و نتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام.» (3)

و قال القوشجي في شرحه:«اختلفوا في أنّ العالم هل يصحّ أن يعدم و يفنى أم لا؟ فذهبت الفلاسفة إلى امتناعه ذهابا إلى أنّه قديم و ما ثبت قدمه امتنع عدمه.و الكرّامية و الجاحظ إلى أنّ العالم محدث و مع ذلك ممتنع الفناء.و ذهبت الأشاعرة و أبو على إلى أنّ جواز فناء العالم يعلم بالعقل.و ذهب أبو هاشم إلى أنّه إنّما يعرف بالسمع.و المصنّف اختار أنّ جواز عدمه يعلم بالعقل،و وقوع عدمه بالسمع.

أمّا الأوّل،فلأنّه ممكن،و الممكن يجوز له العدم كما يجوز له الوجود،اذ لو امتنع عليه العدم لزم الانقلاب من الإمكان[الذاتي]إلى الوجوب[الذاتي]،و إلى هذا المعنى أشار

ص:103


1- -النسبة(خ ل).
2- -المجلي:496-497.
3- -شرح التجريد للقوشجي:493 و فيه متن التجريد أيضا.

بقوله:و الإمكان يعطي جواز العدم.

أقول:فيه نظر،لأنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه أعني العدم (1)الطارئ بعد وجوده، و لا يلزم من ذلك انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي،و إنّما كان يلزم،لو امتنع عليه العدم مطلقا طارئا كان أو مبتدأ،و قد مرّ بيان ذلك مستقصى في مبحث أنّ المعدوم لا يعاد.

و أمّا الثاني،فلأنّ الدلالة السمعيّة تدلّ على وقوع العدم،مثل قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» . (2)

و مثل قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» . (3)

و قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» . (4)و الآخريّة (5)في حقّه إنّما يتحقّق أن لو بقي بعد فناء ما سواه.

و قوله تعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» . (6)

إلى غير ذلك من النصوص القطعيّة.

و إلى هذا أشار بقوله:و السمع دلّ عليه أي على العدم.

فقوله:و نتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام إشارة إلى جواب دخل مقدّر تقديره:أنّ القول بوقوع العدم ينافي القول بالمعاد،لأنّ إعادة المعدوم ممتنعة،فإذا وقع العدم امتنع الإعادة،فلم يتحقّق المعاد.

و تقرير الجواب:أن يقال:لا إشكال في غير المكلّفين،فإنّه يجوز أن ينعدم بالكلّية و لا يعاد،و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين،فإنّه يتأوّل[العدم]بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع الأجزاء و تأليفها بعد التفرّق.و الذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام فإنّه لمّا طلب إراءة إحياء الموتى حيث قال: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» .قال اللّه تعالى في جوابه: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً» . (7)فإنّه يظهر منه أنّه أراد بإحياء الموتى تأليف الأجزاء المتفرّقة

ص:104


1- -عدمه(ظ).
2- -الرحمن:26-27. [1]
3- -القصص:88. [2]
4- -الحديد:3. [3]
5- -في المصدر:الآخر.
6- -الأنبياء:104. [4]
7- -البقرة:260. [5]

بالموت.»-انتهى كلامه-. (1)

و أقول:إنّ تحقيق المقام يستدعي تمهيد مقدّمة هي:أنّه قد تقرّر في موضعه أنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي و بين الوجود و العدم،و أنّ عروضه إنّما هو عند عدم اعتبار الوجود و العدم بالنظر إلى الماهيّة و علّتها،و أنّه عند اعتبارهما أي الوجود و العدم بالنظر إلى الماهيّة و علّتها يثبت ما بالغير أي الوجوب و الامتناع بالغير.

و الحاصل أنّ الإمكان إنّما يعرض للماهيّة من حيث هي لا مأخوذة مع وجودها و لا مأخوذة مع عدمها،و كذا غير مأخوذة مع وجود علّتها و عدمها،فإنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي و بين الوجود و العدم،أمّا إذا اخذت الماهيّة مع الوجود،فإنّ نسبتها حينئذ تكون إلى الوجود بالوجوب لا بالإمكان،و يسمّى ذلك وجوبا لاحقا،و إذا اخذت مع العدم يكون نسبتها إلى الوجود بالامتناع،لا بالامكان،و يسمّى ذلك امتناعا لاحقا، و كلاها يسمّيان ضرورة بشرط المحمول،و إذا اخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة،و يسمّى ذلك وجوبا سابقا،و إذا اخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة،ما دامت العلّة معدومة،و يسمّى ذلك امتناعا سابقا،فكلّ موجود محفوف بوجوبين سابق و لاحق ،و كلاهما وجوب بالغير و كلّ معدوم محفوف بامتناعين سابق و لاحق و كلاهما امتناع بالغير،و لا منافاة بين الإمكان الذاتي و الوجوب و الامتناع بالغير.

إذا تمهّد هذا فنقول:إنّ العالم لمّا كان بجميع أجزائه ممكنا،و الممكن ما كان وجوده و عدمه بالنظر إلى ذاته متساويين من غير أن يكون ذاته بذاته مقتضيا لأحدهما لا على سبيل التساوي من غير مرجّح أصلا و هو ظاهر،و لا على سبيل الأولويّة الذاتيّة،على ما تقرّر في موضعه بطلانها،و إنّما المقتضي لأحدهما له هو السبب الخارج عند العلّة له، المرجّح لأحدهما،فذاته بذاته مع قطع النظر عن كلّ ما سواه-حيث كان كلّ من الموجود و العدم بالنظر إليه من حيث هو متساويين-،كما لا يأبى عن فيضان الوجود عليه بعلّته الموجدة له-سواء كان وجوده وجودا مستمرّا أبديّا أو غير أبديّ-كذلك لا يأبى عن طريان العدم عليه بزوال علّته أو جزء علّته أو شرط وجوده أو نحو ذلك،فإنّه بعد وجوده بعلّته لو امتنع عدمه لذاته و اقتضى ذاته بذاته أبديّته،لصار واجب الوجود بالذات مع

ص:105


1- -شرح القوشجي:493-494.

فرضه ممكنا بالذات و هو خلاف الفرض.و أيضا يلزم انقلاب ذاته من الإمكان الذاتي إلى الوجوب،أي وجوب الوجود أو إلى الامتناع،أي امتناع العدم،و كلاهما باطلان.

و بالجملة الأبديّة الذاتيّة تنافي الإمكان الذاتي،و ما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه،راجع إلى الامتناع الغيري،لا الذاتي،كما سنبيّنه.

و كذلك ما ادّعاه الشارح القوشجي:من أنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه-إلى آخره.

و مقصوده أنّ عدمه المطلق لعلّه كان ممكنا،و أمّا عدمه بعد وجوده فلعلّه كان ممتنعا، و امتناع هذا العدم الخاصّ،لا يستلزم امتناع العدم العامّ،أي عدم المطلق.

و لا يلزم الانقلاب من الإمكان إلى الامتناع أيضا لكون ذلك المعنى العامّ باقيا بعد، ثابتا له بحسب الذات،فذلك أيضا راجع إلى الامتناع الغيري لا الذاتي،لأنّه يرجع إلى أنّ خصوصيّة ذلك العدم الخاصّ ممتنعة،و المانع من إمكانه هو نفس ذلك الخاصّ الذي هو غير ذات الممكن،لا العدم العامّ و لا ذات الممكن.و عسى أن نأتي على تحقيق هذا المقام في موضع يليق به إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه صحّة ما أسنده الفاضل الأحساوي إلى عامّة المسلمين من القول بجواز عدم العالم بالنظر إلى ذاته،سواء كان مرادهم بالعدم السابق على وجوده، أو عدمه الطارئ عليه.

و كذا يظهر وجه فساد ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم بناء على وجوب وجوده لذاته،و إن كان هذا المذهب من الفساد بمرتبة لا يحتاج إلى بيان فساده،لكونه مخالفا لمقتضى العقول و منافيا لجميع الشرائع كما ذكره رحمه اللّه.

و كذا يظهر أنّ ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم لا باعتبار ذاته،لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته،نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره،له وجه صحّة في الجملة،إلاّ أنّ في هذا المقام تفصيلا و تحقيقا.

تفصيل و تحقيق

لأنّ الكلام فيه إمّا في جميع أجزاء العالم،و في كلّ جزء جزء منه،بحيث لا يشذّ جزء، أو في بعض أجزائه على الإجمال،أو في بعض أجزائه على الخصوص،و على التقادير

ص:106

الثلاثة،إمّا المقصود بيان إمكان هذا الوجوب بالغير و إن لم يكن متحقّقا بالفعل،أو بيان وقوعه بالفعل،و على التقدير الأخير،إمّا المقصود أنّ هذا الواقع هل يمكن أن يرتفع، أو يمتنع زواله،و الحاصل أنّ العالم بجميع أجزائه أي كلّ جزء من أجزائه بحيث لا يشذّ عنها جزء لمّا كان ممكنا متساويا وجوده و عدمه بالنظر إلى ذاته،و يترجّح وجوده أو عدمه بعلّته الخارجة عن ذاته،و كان يمكن أن يفرض تحقّق علّته التامّة المستجمعة لجميع شرائط وجوده مع ارتفاع جميع موانعه،بحيث تكون مستلزمة لوجوده، و لا يتخلّف هو عنها،فكما يمكن أن يتحقّق أصل ذلك الوجوب بالغير بالنسبة إلى كلّ واحد من أجزاء العالم،و كذا بالنسبة إلى المجموع من حيث هو مجموع،كذلك يمكن أن يتحقّق أبديّة ذلك الوجوب الغيري بالنسبة إليهما إذا فرضت العلّة التامّة المستلزمة لذلك المعلول،-أي المجموع أو كلّ جزء-أبديّة دائمة،إذ لا مانع من ذلك لا من جهة ذات الممكن،و لا من جهة فرض تحقّق العلّة التامّة له كذلك.

فعلى هذا فكلّ جزء من أجزاء العالم سواء في إمكان حصول الوجوب الغيري له و أبديّته،و كذا المجموع إذ ليس هو سوى جميع الأجزاء،و الهيئة التركيبيّة اعتباريّة هنا، ليس أمرا موجودا خارجيا آخر،و على تقدير تسليم كونها كذلك فهي أيضا من أجزاء العالم كما هو المفروض،و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بحسب الجليل من النظر و الفحص الأوّلي.

و أمّا ما يقتضيه الدقيق من النظر و الفحص الثانوي،فهو أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ على أبديّته،سواء دلّ مع ذلك على امتناع زواله مطلقا، أو لم يدلّ عليه،بل على وقوع أبديّته بالفعل من غير الدلالة على امتناع الفناء و استحالته، لكان ينبغي أن يحكم عليه مع إمكان الأبديّة بوقوع الأبديّة بالفعل،مع استحالة الفناء و الزوال،أو بدونها،كما أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ قطعيّ على عدم إمكان أبديّته،و على وجوب زواله و فنائه،ينبغي أن يحكم عليه به،و هذا مثل أنّا لو قلنا بأنّ الحركة و الزمان من أجزاء العالم،و حقيقتهما التقضّي و الانصرام،بحيث كلّما تجدّد جزء انقضى جزء و انعدم،لكان ينبغي لنا أن نحكم بعدم إمكان أبديّة تلك الأجزاء المعيّنة و القطعات المتصرّمة المخصوصة،و إن كنّا نحكم بأبديّة نوعهما لو قلنا بها.

ص:107

و مثل أنّا لو جوّزنا وجود قديم زماني أو دهري من جملة أجزاء العالم،سواء كان جوهرا مجرّدا أو جسما،كما ذهب إليه الفلاسفة،لكان ينبغي لنا أن نحكم بوقوع أبديّته وقوعا يمتنع زواله،حيث إنّ زواله يستلزم محالا،و هو انعدام الواجب لذاته،كما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

و بيانه:أنّ الممكن القديم،لو جاز وجوده لكان علّته ذات الواجب لذاته بذاته،من غير أمر آخر له دخل في العليّة،إذ لو كان هناك أمر آخر له مدخل في العليّة سواء كان شرطا أو جزءا فإمّا أنّ يكون ذلك الأمر الآخر حادثا و هو محال،إذ الحادث لا يكون له دخل في علّية وجود القديم،أو يكون قديما،فننقل الكلام إلى ذلك الأمر القديم و علّته،فينتهي إلى أن يكون علّته التامّة ذات الواجب تعالى بذاته.و حيث إنّ زوال المعلول إنّما يكون بزوال علّته التامّة أو جزء علّته أو شرطها،فلو فرض زوال ذلك الموجود القديم كان مستلزما لزوال الواجب لذاته،الذي هو علّته التامّة بذاته،و هو محال.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ص:108

في أبديّة الصادر الأوّل من أجزاء العالم

و مثل أنّا إذا قلنا بوجود صادر أوّل،كما قال به الفلاسفة،و كذا الإسلاميّون،سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا،و سواء قيل بكونه قديما أو حادثا،لكان ينبغي لنا أن نحكم عليه بما حكمنا على القديم.أمّا إذا قيل بقدمه،فظاهر كما مرّ وجهه.و أمّا إذا قيل بحدوثه الزماني كما هو رأي المتكلّمين،أو بحدوثه الدهري كما هو رأي بعض أعاظم العلماء (1)و ذهبنا نحن إليه و حقّقناه في رسالتنا الموضوعة لبيان حدوث العالم (2)،و قلنا مع ذلك بتجرّده عن المادّة في ذاته،فللدليل الذي سيأتي ذكره فيما بعد على امتناع طريان الفساد على المجرّدات.و أيضا سواء قلنا بتجرّده أم لم نقل به،نقول إنّ الصادر الأوّل حيث فرض كونه صادرا أوّلا يكون مستندا إلى ذات الواجب تعالى بلا واسطه شيء آخر،فعلّته ذاته تعالى بذاته،فلو جاز انعدامه-و الحال أنّ انعدام المعلول إنّما يكون بانعدام علّته التّامة- كان مستلزما لزواله تعالى،و هو محال.

فإن قلت:إذا فرض الصادر الأوّل حادثا زمانيّا أو دهريّا،لكان ينبغي أن يقال كما حقّقته أنت في تلك الرسالة أيضا،بأنّ علّة تخصيص وجود ذلك الصادر الأوّل بذلك الجزء من الزمان الموهوم أو الدهر،-و الحال أنّ كلّ أجزائهما في الأزل متساوية في إمكان وجوده فيه،و الفاعل الموجد له تامّ الفاعليّة و القدرة و الاختيار،و الوجود خير محض، لا مانع منه-لعلّها اقتضاء العناية الأزلية و العلم بالأصلح وجود ذلك الصادر الأوّل في ذلك الجزء الذي وجد فيه.فعلى هذا فجاز أن يكون العلم بالأصلح اقتضى وجوده فيما

ص:109


1- -كالسيّد الداماد رحمه اللّه.
2- -توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

وجد فيه،و كذا بقاء وجوده في قطعة من الزمان أو الدهر،و أنّه حيث انقضت تلك القطعة و تصرّمت،اقتضى انعدامه،لكون وجوده بعد ذلك منافيا للأصلح.و هذا ممّا ليس فيه توهّم انعدام الواجب لذاته،فإنّ العلم بالأصلح جاز أن يكون مقتضياته مختلفة باختلاف الأزمنة و منافيا بعضها لبعض،و بعبارة اخرى أنّ العلّة التامّة لوجود الممكن لمّا كانت مركّبة من الوجود و العدم،-أي من وجود علّته الفاعلة له،و وجود جميع شرائط وجوده، و من عدم الموانع منه-فجاز أن يكون ذلك المانع من وجوده الذي فرض ارتفاعه أوّلا قد حدث بعد انقضاء قدر من زمان وجوده بحدوث علّته،و يكون مانعا من وجوده،فحينئذ يمكن أن يكون انعدام الصادر الأوّل بانعدام علّته التامّة-أي بحدوث المانع الذي وجوده مستلزم لارتفاع عدمه-و هذا الإيراد على هذا التقرير يمكن أن يورد في القديم أيضا، و لا يلزم منه في الصورتين انعدام الواجب تعالى بوجه،فما الجواب؟

قلت:من المستبين عند العقل السليم،أنّ العلم بالأصلح لا يمكن أن يكون جزافيّا،بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع و في نفس الأمر.فعلى هذا نقول:إذا اقتضى العلم بالأصلح وجود الصادر الأوّل في وقته الذي وجد فيه،ينبغي أن يكون وجوده فيه أصلح في الواقع من عدمه،و كذا من وجود ما سواه مطلقا فيه،و كذا من وجوده في غير ذلك الوقت مطلقا،و حيث فرض كونه صادرا أوّلا يلزمه أن يكون ذلك لخصوصيّة فيه، و ما هي إلاّ لكون وجوده أشرف و أكمل من وجود غيره من الممكنات التي يمكن أن توجد بعده مطلقا،فإنّ علّة الشرف و الكمال هي الدنوّ من الحقّ المتعال،و أنّ كلّ ما كان متقدّما في الوجود فهو أوفر اختصاصا به تعالى،و لا سيّما إذا قلنا بترتيب وجود الممكنات،و قلنا بتقدّم صادر الأوّل على غيره بالعلّيّة أو بالطبع أو نحو ذلك،و بكونه واسطة في إفاضة الفيض كما حقّق في موضعه.

و بالجملة ينبغي أن يكون وجوده اكمل من وجود غيره مطلقا،و يكون وجود غيره أنقص منه مطلقا،حتّى وجود ضدّه الذي هو مانع عن وجوده،و رفعه من جملة رفع الموانع عنه،و لسنا نعني بذلك أكمليّة وجود هذا في ذلك الوقت الذي فرض وجوده فيه من وجود ما سواه مطلقا فيه،بل نعني به أنّ وجوده في كلّ جزء فرض من أجزاء الأزل و الأبد،أكمل من وجود ما سواه من الممكنات فيه مطلقا،فإنّ كونه صادرا أوّلا يقتضي

ص:110

كونه كذلك.

ثمّ إنّه لو اقتضى العلم بالأصلح انعدام ذلك الصادر الأوّل في وقت بعد وقت وجوده و بقائه،-و الحال أنّ تعلّق الجعل بالعدم بما هو عدم مما لا معنى له-لم يكن ذلك إلاّ لاقتضائه حينئذ وجود ما وجوده أصلح في الواقع و أشرف و أكمل من وجود الصادر الأوّل مطلقا بعد ما كان وجود ذلك الموجود الحادث أنقص منه مطلقا،و ما يكون وجوده منافيا لوجوده،مستتبعا لرفعه بالعرض حتّى يرتفع بوجوده وجوده،فلم يكن وجود الصادر الأوّل أصلح و أشرف و أكمل من وجود غيره مطلقا؛هذا خلف.

لا يقال:إنّ ما ادّعيت من أنّ الصادر الأوّل أشرف و أكمل من كلّ ما سواه من الممكنات، ينافي ما ورد من النصوص الدالّة على أنّ نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله أشرف الممكنات و أكملها،مع أنّه ليس بالصادر الأوّل،بل هو خاتم الأنبياء عليهم السّلام.و إن اوّلت ذلك بأنّ المراد أنّ روحه الشريفة و نفسه المقدّسة أشرف من الكلّ و أكمل،و هي الصادرة عن البارئ تعالى على ما دلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله:«أوّل ما خلق اللّه نوري»، (1)و إن كان بدنه الشريف صادرا عنه تعالى أخيرا،و ادّعيت أنّه يدلّ عليه أيضا حديث:«خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». (2)

و كذا حديث:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»، (3)فهذا ينافي ما سيجيء بيانه من أنّ النفس الإنسانيّة حادثة بحدوث البدن.

لأنّا نقول:لا منافاة،لأنّه يمكن التأويل بأنّ روح القدس الذي ورد في الأحاديث أنّه أيّده صلّى اللّه عليه و آله... (4)لأنّه أشرف من الكلّ و أشرفيّته أيضا يرجع إلى أشرفيّته صلّى اللّه عليه و آله لكونه مؤيّدا خادما له،و هذا أيضا في مرتبة البدوي و أمّا في مرتبة العودي،فهو صلّى اللّه عليه و آله أشرف من روح القدس أيضا لاكتسابه معارف و كمالات،ليست هي لروح القدس،سواء سمّي روح القدس بالروح أو بالعقل أو بالنور المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله... (5).

و أيضا لو لم يكن ذلك الأمر الحادث الآخر ضدّا للصادر الأوّل،لم يكن وجوده منافيا لوجوده،فينبغي أن يكون ضدّا له،حتّى يكون وجوده مستلزما لانعدامه،و هذا لا يتصوّر هنا،لكون المفروض أنّ الصادر الأوّل موجود أصيل عيني،لا موجود بالعرض،

ص:111


1- -البحار 15:24،الطبع الحديث. [1]
2- -البحار 58:131-150. [2]
3- -البحار 16:402،الطبع الحديث. [3]
4- -هنا كلمات لا تقرأ.
5- -هنا قد امّحى من النسخة سطران أو أقلّ.

و لا اعتباري،سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا،و بالجملة المفروض كونه جوهرا عينيّا.و من المقرّر عندهم أن لا ضدّ للجواهر مطلقا إذ من المستبين أنّ الشيئين المتنافيين اللذين يكون وجود أحدهما سببا لارتفاع الآخر،ما لم يكن بينهما تضادّ يكون منشأ لذلك-سواء كان ذلك هو غاية الخلاف بينهما كما في الضدّين الحقيقيّين،أم لا كما في الضدّين المشهوريّين-لم يكن وجود أحدهما منشأ لرفع الآخر،و هذا لا يتصوّر إلاّ فيما إذا كان هناك موضوع أو محلّ يمكن توارد ذينك الأمرين الضدّين و تعاقبهما على ذلك الموضوع أو المحلّ،و لا يمكن اجتماعهما فيه،و يكون وجود أحدهما فيه مزاحما لوجود الآخر فيه و منافيا له،فإنّ ما لا موضوع له أو محلّ،لا يتصوّر فيه ذلك،كما أنّ ما له موضوع أو محلّ و كان موضوعاهما و محلاّهما متغايرين لا يتصوّر فيه ذلك،و لذلك قالوا بأنّه لا تضادّ بين الجواهر،و لا بينهما و بين غيرها،بل انّه إنّما يتحقّق بين الأعراض التي يمكن أن يكون لهما موضوع واحد،كما هو المتّفق عليه بينهم،و جوّز بعضهم تحقّقه أيضا بين الصور الحالّة في محلّ واحد.

و حيث تحقّقت أن لا ضدّ للجواهر،ظهر لك أنّه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل و الإيجاد بالعدم-أي فناء الجواهر و كونه أمرا ثبوتيّا أيضا مع أنّه غير معقول-لا يمكن أن يكون الفناء ضدّا للصادر الأوّل أو القديم،بل للجواهر مطلقا،لأنّ الفناء على ذلك التقدير لا يخلو عن أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير،و على الأوّل يكون الفناء جوهرا لا موضوع له و لا محلّ،و المفروض أنّ الجوهر الآخر الذي فرض كون الفناء فناء له هو أيضا كذلك فلا تضادّ بينهما.و على التقدير الثاني و إن كان الفناء ذا موضوع أو محلّ،لكنّ الجوهر الآخر ليس كذلك،فلا تضادّ أيضا،إذا المتضادّان ينبغي أن يكون كلّ منهما ذا موضوع أو محلّ يمكن أن يتواردا عليه و لا يجتمعا فيه،مع أنّه يلزم على تقدير إثبات الفناء محذور آخر،و هو أنّه على تقدير عدم الفناء ثمّ وجوده ثانيا إمّا أن يكون عدم لذاته، فيلزم انقلاب ماهيّته من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتيّين،و هذا محال.

و أمّا أن يكون لغيره أي بوجود ضدّه،فيلزم التسلسل و هذا أيضا محال.

و حيث أحطت خبرا بما حقّقناه ظهر لك الجواب عن السؤال على التقرير الأوّل و هو ظاهر،و منه يظهر الجواب عن السؤال على التقرير الثاني أيضا،فإنّ ذلك المانع المفروض

ص:112

كونه مانعا من وجود الصادر الأوّل لا يكون إلاّ ضدّا له و منافيا لوجوده،و قد عرفت أنّه لا يتصوّر هنا.و كذا يظهر منه الجواب عن السؤال إذا اورد في القديم،إذ القديم مع قدمه يكون صادرا أوّلا أيضا،و المفروض كونه أيضا موجودا أصيلا عينيّا جوهرا مجرّدا أو ماديّا لا ضدّ له،فتدبّر.

فإن قلت:إنّ ما ذكرت من أنّ المانع منحصر في الضدّ غير مسلّم،فإنّ المتقابلين اللّذين كلّ منهما مستلزم لرفع الآخر قد يكونان ضدّين و قد يكونان سلبا و ايجابا و قد يكونان عدما و ملكة،فجاز أن يكون فيما نحن فيه أحد من المتقابلين الأخيرين،و فيه المطلوب أيضا.

قلت:إنّ الصادر الأوّل و القديم لمّا فرض كونهما موجودين عينيّين فهما لا يكونان عدما البتّة،فبقي أن يكون ما فرض كونه مانعا عن وجودهما عدما،و قد مرّت الإشارة إلى أنّ العدم بما هو عدم لا يمكن أن يكون متعلّقا للجعل و الإيجاد أوّلا و بالذات حتّى عدم الملكة الذي يقال إنّه وجوديّ باعتبار،فإنّ العمى مثلا إنّما يكون أوّلا و بالذات بحدوث صورة و هيئة و شكل في العين يتبع ذلك عدم البصر،و حينئذ فلا يمكن أن يقتضي العلم بالأصلح إيجاد ما هو عدم لهما بالذات مطلقا سواء ذلك العدم عدم الملكة أو سلبا بحتا صرفا،بل ينبغي أن يكون بإيجاد أمر وجودي يكون هو مستتبعا لعدمهما و مستلزما له، و ما هو إلاّ ضدّهما،و قد عرفت أن لا ضدّ للجواهر.و على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل أوّلا و بالذات بالعدم،فهذا العدم إن فرض كونه عدم ملكة،فينبغي أن يفرض الصادر الأوّل أو القديم ملكة،و من المقرّر عندهم أنّ عدم الملكة و إن كان عدما باعتبار،لكنّه وجودي باعتبار،و معناه عدم شيء من شأن نوعه أو جنسه تلك الملكة،فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ قام به استعداد تلك الملكة و وجودها بحيث يمكن أن يتوارد عليه استعداد عدمها،و كذا نفس ذلك العدم،فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ يتواردان عليه،و لا يمكن اجتماعهما فيه،و الحال أنّ الصادر الأوّل أو القديم حيث فرضا جوهرا مجرّدا أو جسما ليس لهما موضوع و لا محلّ،فتبصّر.

و إن فرض كون ذلك العدم سلبا محضا و نفيا صرفا فهو من حيث هو سلب و نفي و إن لم يقتض موضوعا،و لا وجوده،حيث إنّ السلب يصدق بانتفاء الموضوع أيضا،لكنّه هنا

ص:113

حيث كان سلبا لشيء و هو وجوده الصادر الأوّل أو القديم،و اقتضى مسلوبا و مسلوبا عنه اقتضى أن يكون متعلّقا به،فنقول إنّه حينئذ إمّا أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير،و ذلك الغير إمّا أن يكون ذلك الشيء المسلوب و المسلوب عنه أو أن يكون غيرهما.

و على التقدير الأوّل يلزم أن يكون السلب أمرا عينيّا و موجودا في الخارج أصيلا إذ القائم بالذات لا يكون إلاّ كذلك و هو محال،إذ السلب على تقدير تسليم إمكان كونه مجعولا بالذات و فرض وجوده لا يمكن أن يكون موجودا خارجيّا عينيّا أصيلا،لمنافاة هذا الفرض لفرض كونه سلبا.

و أيضا فهو على هذا التقدير لا يكون سلبا لما فرض سلبه،إذ سلب شيء ينبغي أن يكون متعلّقا به و قائما به،نحوا من التعلّق و القيام،و المفروض خلافه.

و لو فرض مع قيامه بالذات قيامه أيضا في وجوده بذلك الشيء،حتّى يكون مع قيامه بالذات قائما بالغير أيضا لزم اجتماع المتنافيين،لأنّ القيام بالغير في الوجود و القيام بالذات فيه متنافيان تنافيا بالذات.

و على التقدير الثاني-أي أن يكون السلب قائما بالغير و ذلك الغير هو ذلك المسلوب أو المسلوب عنه-يلزم أن يكون ذلك الغير من جهة كونه موضوعا أو محلاّ للسلب موجودا حتّى يصحّ قيامه به،إذ وجود القائم بالشيء تابع لوجود ذلك الشيء،و من جهة كونه سلبا له أو عنه معدوما،و هذا أيضا اجتماع المتنافيين،إذ يلزم أن يكون شيء واحد موجودا و معدوما معا و هو محال.اختلاف الجهة هنا،لا يمكن أن يكون منشأ لاجتماع الوجود و العدم،إذ هما متباينان بالذات لا يجتمعان في شيء أصلا.

و على التقدير الثالث-أعني أن يكون السلب قائما بغير ما فرض تعلّق السلب به-فمع أنّه يلزم اجتماع الوجود و العدم في ذلك الغير الذي فرض كون السلب قائما به بتقريب ما ذكر و هو محال،يلزم أنّه حيث لا تعلّق له و لا قيام بما فرض سلبه و رفعه بوجه بل بأمر آخر كما هو المفروض،لا يكون منشأ لرفع ما فرض رفعه إذ لا تعلّق له به أصلا؛هذا خلف.

و بما ذكرنا ظهر أنّ الفناء سواء فرض أمرا ثبوتيّا،أو عدم ملكة،أو سلبا محضا،لا يمكن أن يكون ضدّا للجواهر،و كذا لا يمكن أن ينتفي به جوهر ما من الجواهر،فضلا عن ما نحن بصدده،أي الصادر الأوّل أو القديم،فيظهر منه بطلان ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين،

ص:114

من أنّ اللّه تعالى يخلق الفناء،فيفني به الأجسام لكونه ضدّا و منافيا لها،سواء قيل بأنّه يخلق لكلّ جوهر فناء على حدة كما ذهب إليه أبو علي منهم،أو أنّ فناء واحدا يكفي لإفناء الكلّ كما ذهب إليه أبو هاشم منهم،و سواء كانوا اعتبروا الفناء ضدّا اصطلاحيّا للجواهر،كما هو ظاهر المنقول عنهم،أو أمرا منافيا للجواهر مطلقا بحيث يشمل عدم الملكة أو السلب أيضا،فتبصّر.

فإن قلت:إنّا لا ندّعي بقولنا:«إنّه يمكن أن يكون العلم بالأصلح،اقتضى انعدام شيء بعد وجوده،كالصادر الأوّل أو القديم»أنّه يمكن أن يوجد عدم ذلك و فناؤه بعده كما هو مبنى ما ذكرت،و أقمت الدليل على عدم إمكانه،بل ندّعي أنّه يمكن أن يقتضي العناية الأزليّة و العلم بالأصلح قطع الفيض و الوجود عن ذلك الشيء.

و الحاصل أنّ الممكن لمّا كان في وجوده و بقائه محتاجا إلى المؤثّر كما هو المحقّق في موضعه،سواء كان البقاء عبارة عن أمر آخر سوى أصل الوجود الأوّل،أي عن استمراره، أو عبارة عن الوجود الأوّل بحيث يبقى زمانين أو أكثر،و كان وجوده و بقاؤه جميعا مفاضين بإفاضة الجاعل له الموجد إيّاه،فجاز أن يقتضي العلم بالأصلح إبقاءه في حين، ثمّ يقتضي قطع الإفاضة و الجعل عنه و ينعدم،و هذا و إن كان فيه انعدام ذلك الشيء،لكن ليس بجعل عدمه و فنائه،بل بعدم جعل وجوده و عدم إفاضة بقائه،و في هذا ليس شيء من المفاسد التي ذكرتها في الجواب عنه.

قلت:قد ذكرنا أنّ العلم بالأصلح لا يكون جزافيّا،بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع و في نفس الأمر،و أن يكون قطع الإفاضة أصلح في نفس الأمر حين فرض القطع،كما كانت إفاضة الوجود و البقاء أصلح في الواقع حين فرضهما.فهذا القطع و هذا الذي فرض كونه أصلح في ثاني الحال كلاهما حادثان لم يكونا قبل.و من المقرّر أنّ الحادث إنّما يكون بسبب حادث بسببه حدث قطع الإفاضة و حصول الأصلح الثاني،و ما هو الاّ أحد أسباب زوال المعلول،و من المقرّر أنّ زوال المعلول إمّا بزوال علّته التامّة أو بزوال جزئها أو شرطها.و بعبارة اخرى إمّا بزوال علّته الفاعليّة،أو بزوال صورته، أو مادّته إن كان له صورة و مادة،أو بزوال شرط وجوده إن كان له شرط،أو بزوال غايته إن كانت له غاية و كان صادرا عن الفاعل المختار،كما يقولون إنّ ذات البارئ تعالى و إن كان

ص:115

فاعلا تامّ الفاعليّة فيّاضا على الإطلاق لا يفعل ما يفعله لعوض و لا لغرض دعاه إلى الفاعليّة،لكنّه لمّا كان فاعلا مختارا عليما حكيما،يترتّب على فعله مصالح و منافع،لها ارتباط بنظام الكلّ،هي غايات لفعله و إن لم تكن علّة غائيّة له و غرضا،أو بزوال الجميع، و من المستبين عدم إمكان تحقّق شيء من هذه الامور فيما نحن فيه،أي الصادر الأوّل أو القديم،لأنّ الفاعل هو اللّه تعالى و هو واجب الوجود لذاته،و المفروض أن ليس لهما شرط وجود سوى ذات الواجب لذاته العليم الحكيم كما يقولونه في الحوادث اليوميّة من الدورات الفلكيّة و الأوضاع الكوكبية و نحو ذلك و كذلك الصادر الأوّل أو القديم لو فرض كونهما مجرّدين عن المادّة،ليس لهما مادّة و هو ظاهر و لا صورة إذ صورة المجرّد ذاته بذاته،فبقي أن يكون زوالهما لزوال غايتهما،سواء فرضا مجرّدين أو ماديّين أو لزوال صورتهما أو مادّتهما لو فرضا جسمين ماديّين،و هذان أيضا ممتنعان،أمّا زوال الغاية فلأنّ غاية وجودها كما حقّق في موضعه هي التشبّه بمبدإ الكلّ جلّ شأنه أو معرفته تعالى، أو كون الوجود خيرا محضا أو نحو ذلك.و شيء من هذه لا يمكن أن ينعدم،أمّا كون الوجود خيرا محضا فظاهر،لأنّ خيريّته بالذات،و لا يمكن أن يختلف(كذا)ذاته و لا أن ينقلب إلى غيره مع كون الفاعل له خيرا بالذّات فيّاضا على الإطلاق،و كذا التشبّه بالمبدإ و معرفته لا يمكن أن ينفكّا عن ذات ما هو ذو شعور و معرفة قابل لتحصيل التشبّه و المعرفة بالغا ما بلغ كالصادر الأوّل الذي قد عرفت أنّه ينبغي أن يكون أشرف الموجودات و أكملها، أو القديم الذي هو على تقدير فرض وجوده ينبغي أن يكون كذلك.

و بالجملة ينبغي أن يكون حصول المعرفة و التشبّه فيهما أتمّ و أكمل منهما في كلّ ما سواهما من الممكنات،و الحال أنّ مراتب التشبّه و المعرفة غير متناهية،فإنّ كلّ مرتبة منهما إذا حصلت يمكن أن يحصل بعدها مرتبة اخرى أعلى منها،حيث لا يقفان إلى حدّ و مرتبة،و المفروض أن لا مانع من ذلك لا من جهة المتشبّه و لا من جهة المتشبّه به و لا من جهة العارف و لا من جهة المعروف،بل انّه كلّما ازداد التشبّه و المعرفة يكون الداعي إلى تحصيلهما أقوى،حيث إنّه يكون العارف و المتشبّه أكمل،و بهجته و سعادته أتمّ و أوفر، فما دام ذات العارف و المتشبّه موجودا لا يمكن أن ينفكّ عنه التشبّه و المعرفة،فكيف يمكن زوالهما حتّى ينعدما بزوالهما،و ينقطع إفاضة الوجود عنهما،مع أنّ إفاضة التشبّه

ص:116

و المعرفة خير بالذات كإفاضة الوجود،و مع أنّ الفاعل جلّ شأنه و تعالى خير بالذات فيّاض على الإطلاق.نعم زوال المعلول بزوال غايته إنّما يتصوّر فيما أمكن زوال تلك الغاية،كما في الحوادث الزمانيّة أو الدهريّة غير الصادر الأوّل و لا سيّما المادّية منها،مثل أنّا لو قلنا-كما هو رأي بعض الحكماء الإلهيّين-بأنّ غاية وجود بدن الإنسان الذي كلامنا في المعاد فيه،و غاية تعلّق النفس به،هي أن تستكمل به النفس،فيما يحصل به سعادتها أو شقاوتها،ثمّ تنال سعادتها أو شقاوتها،و انّها إذا استكملت به و لم تحتج إلى البدن في استكمالها تزول تلك الغاية و تنتفي،و بزوالها يعرض للبدن الفناء و الموت،إمّا بأن ينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض أو بأن ينقطع عنه علاقة النفس التي هي منشأ حياته بل حياته.

و بالجملة فموته و انعدامه لزوال غاية وجوده،أي لترتّب الغاية المقصودة منه عليه و حصولها بالفعل،و انّه لو بقي بعد ذلك لا يكون لوجوده تلك الغاية المقصودة المترتّبة عليه.و هذا في الموت الطبيعي،و أمّا في غير الطبيعي منه كالقتل،فالقاسر يجعل البدن بحيث لا يمكن أن يصير آلة لاستكمال النفس به،فينقطع عنه تلك الغاية قسرا،و ينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض،و كذا علاقة النفس به لانقطاع غايته.و أمّا زوال الصورة، أو المادّة على تقدير تجويز كون الصادر الأوّل أو القديم مركّبا منهما،فامتناعه يعلم من البيان الذي ذكرنا سابقا،حيث إنّ زوالهما فيما نحن فيه لا يمكن إلاّ بحدوث ضدّهما الذي هو أصلح في الواقع منهما.و كما أنّه لا ضدّ كذلك و لا مطلقا لذات الصادر الأوّل أو القديم إذا فرضا جوهرين مجردين،كذلك لا ضدّ مطلقا لمادّتهما مطلقا،و إن فرضناها لهما حيث إنّ المادّة لا محلّ لها و لا موضوع،و كذلك لا ضدّ لصورتهما و إن جوّزنا إمكان الضدّ للصورة لكونها ذات محلّ،إذ الضدّ لصورتهما ينبغي أن يكون أصلح في الواقع من صورتهما، و الحال أنّهما ينبغي أن يكونا بمادّتهما و صورتهما إن كانتا لهما أكمل الموجودات الممكنة حتّى من الضدّ الذي يمكن فرضه لصورتهما؛هذا خلف.

نعم زوال الشيء لحدوث ضدّه يمكن فرضه في الأجسام العنصرية الكائنة الفاسدة كما في بدن الإنسان أيضا لو قلنا-كما هو رأي الطبيعيّين منهم-أنّ سبب الموت هو استيلاء الحرارة على رطوبات البدن فتفنيها،لكونها ضدّا لها ثمّ تفنى هي بفنائها،و لهذا قالوا إنّ ما هو سبب الحياة هو سبب الموت أو قلنا بأنّ سببه أنّ البدن بورود واردات غريبة

ص:117

عليه ينحرف مزاجه عن الاعتدال الذي كان حاصلا له،فيتفرّق اتّصاله لتداعي أجزائه إلى التفرّق بالذات لو لا الجامع المانع عنه فينعدم اتّصاله بطروء ضدّه أي التفرّق و يعرض له الموت،و هذان أيضا في الموت الطبيعي ظاهر،و كذلك في غير الطبيعي منه،لأنّهما يمكن أن يحصلا بفعل القاسر أيضا و اللّه أعلم.

ص:118

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم

و حيث تحقّقت ما فصّلناه،تبيّنت أنّ الصادر الأوّل من أجزاء العالم أو القديم إن جوّزنا وجوده و إن كانا من حيث ذاتهما و من جهة كونهما ممكنين بالذات يجوز طريان الفناء و العدم عليهما،لكنّهما باقيان أبديّان،يمتنع عليهما الفناء من حيث وجوب وجودهما بغيرهما.فيظهر منه أنّ العالم بجملته أيضا و إن كان يمكن طريان الفناء عليه من جهة ذاته، لكنّه يمتنع ذلك عليه بالنظر إلى وجوب وجوده بغيره،لأنّه لو جاز عليه ذلك،أي على مجموع أجزائه من حيث المجموع،بالنظر إلى غيره،لجاز طريان الفناء و العدم على الصادر الأوّل و القديم أيضا،لأنّهما من جملة أجزاء العالم أيضا،فيظهر منه أنّ فردا ما من أجزاء العالم أبديّ الوجود يمتنع عليه العدم امتناعا غيريّا و هو المطلوب.و أيضا نقول لا يخفى أنّ العالم بجملته معلول للواجب تعالى شأنه،سواء قلنا بأنّ كلّه معلول له بلا واسطة و إن كان لبعضه شرط،أو بأنّ بعضه معلول له بواسطة أو شرط،و بعضه بلا واسطة و لا شرط،فحينئذ لو جاز طريان الفناء على مجموع العالم بجملته لجاز طريانه على ذلك البعض من المعلول الذي بلا واسطة و لا شرط من جملة اجزائه،و قد عرفت أنّه ممتنع بالنظر إلى العلم بالأصلح،و كون ذلك الصادر الأوّل بلا واسطة أصلح من غيره مطلقا،و أنّه لا يمكن له ضدّ.و على تقدير تسليم أنّه يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح طريانه عليه لجهة لا نعرفها و تسليم أنّه يمكن له ضدّ،فهذا الضدّ الحادث أيضا من أجزاء العام البتّة،فيلزم أن يكون هو أبديّ الوجود مثل الصادر الأوّل و فيه المطلوب أيضا.و لو سلّمنا طريان الفناء على ذلك الضدّ أيضا فلا يمكن أن يكون ذلك إلاّ لحدوث ضدّه و هكذا فيلزم التسلسل المحال،و مع ذلك ففيه المطلوب.إذ على هذا التقدير يكون تلك الأضداد المتسلسلة

ص:119

غير المتناهية أبديّة الوجود بنوعها،فتدبّر.

لا يقال:يمكن أن يكون العلم بالأصلح اقتضى فناء الصادر الأوّل،بل فناء العالم بجملته في وقت من الأوقات كوقت قيام الساعة بقطع فيض الوجود عنها،و أن يكون الحكمة في ذلك إظهاره جلّ شأنه عظمته و جبروته و تفرّده بالعزّ و البقاء و قهر خلقه بالموت و الفناء كما دلّ عليه الآيات و الأخبار،كقوله تعالى:

«لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (1)

لأنّا نقول:إن هذا الإظهار أيضا يقتضي أن يكون هناك من يظهر عليه ذلك،و هو أيضا من أجزاء العالم كما أنّ قوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» يقتضي أن يكون هناك مملوك و يوم، و هما أيضا من أجزاء العالم فهذا أيضا يدلّ على أنّه لا ينعدم العالم بجملته،بل يبقى منه شيء في ذلك الوقت أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى:

«وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ» (2)

حيث استثنى من شاء اللّه من ذلك و قد ذكر المفسّرون أنّ المراد بمن شاء اللّه في الآية الملائكة الأربعة أو الشهداء،و حينئذ نقول إن كان الصادر الأوّل داخلا في من شاء اللّه ففيه المطلوب،و كذا إن لم يكن داخلا فيهم لأنّ دلالة الآية على بقاء بعض من الخلق و أبديّته ظاهرة و هو المطلوب أيضا،و إن لم يكن ذلك البعض هو الصادر الأوّل.

و بالجملة فهذا الإظهار لا يتوقّف على طروء الفناء على الخلق أجمعين،و يمكن أن يكون بطروئه على غير المستثنى و لعلّ الصادر الأوّل من المستثنى،كيف و قد عرفت أنّه أشرف الممكنات،كما لا يتوقّف على طروء الفناء و العدم بالمرّة على غير المستثنى أيضا، بل يمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى ذوي الأنفس بطروء الموت أي بتلاشي أجزاء أبدانهم، و قطع علاقة نفوسهم عن أبدانهم،و بالنسبة إلى الأجسام غير ذوات الأنفس بتبدّل الصور و تغيّر الهيئات و الصفات و الحالات و نحو ذلك،كما قال اللّه تعالى:

«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» . (3)

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» . (4)

ص:120


1- -غافر:16. [1]
2- -الزمر:68. [2]
3- -الأنبياء:104. [3]
4- -إبراهيم:48. [4]

«وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات و سيأتي فيما بعد إن شاء اللّه تعالى تأويل ما دلّ على فناء الكلّ،كقوله تعالى:

«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» . (2)

و نحوه،فانتظر،و اللّه تعالى يعلم.

ص:121


1- -الكهف:47. [1]
2- -القصص:88. [2]

في أبديّة النشأة الاخرويّة

و هذا الذي ذكرنا كلّه إنّما هو الكلام في العالم بجملة أجزائه و في بعض أجزائه في الجملة.و أمّا الكلام في بعض أجزائه على الخصوص،ففيه تفصيل أيضا،لأنّ ذلك البعض، إمّا من النشأة الاخروية أو من النشأة الدنيويّة،أمّا النشأة الاخرويّة فبقاؤها و خلودها بما فيها إمّا بأعيانها و أشخاصها كأكثرها،و إمّا بأنواعها كبعضها،مثل مأكولها و مشروبها و نحوهما ممّا دلّ عليه الدليل السمعيّ القطعيّ،و يعضده الدليل العقليّ،و بالجملة لا يظهر خلاف فيه بين المسلمين،بل ادّعى كثير من العلماء وقوع الإجماع عليه.

أمّا الأوّل،فلدلالة آيات كثيرة و أخبار متظافرة ناصّة عليه غير قابلة للتأويل،أمّا الآيات،فكقوله تعالى:

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (1)

«الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (2)

«أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها» . (3)

«سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» . (4)

«خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» . (5)

«أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (6)

«خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» . (7)

ص:122


1- -البقرة:82. [1]
2- -المؤمنون:11. [2]
3- -الرعد:35. [3]
4- -الزمر:73. [4]
5- -المجادلة:22. [5]
6- -البقرة:39،81،217،257،275. [6]
7- -البقرة:162. [7]

«وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ» . (1)

«قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» . (2)

«فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . (3)

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» . (4)

«كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» . (5)

إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا الأخبار الواردة في ذلك فكثيرة أيضا،كما يعلم بالتتبّع،و منها ما روي بطريق الرمز،إنّ الموت يقام بين الجنّة و النار في صورة كبش أملح و يذبح بشفرة يحيى عليه السّلام بأمر جبرئيل عليه السّلام. (6)

و في معناه ما روي إنّ اللّه تعالى يظهر الموت يوم القيامة في صورة كبش أملح و يأتي بيحيى عليه السّلام و بيده الشفرة فيضجعه و يذبحه و ينادي مناد يا أهل الجنّة خلود بلا موت و يا أهل النار خلود بلا موت. (7)

و لعلّ تأويله كما يستفاد من كلام بعض العرفاء،أنّ الموت أي هلاك الخلق بواحد من طرفي التضادّ يقام بين الجنّة و النار لكي يظهر بتنزّله عن مرتبته إلى مرتبة ما بين طرفي التضادّ و لينكشف حاله على أهل الجنّة و النار فيصوّر على صورة كبش أملح معدّ للذبح و القتل و يمثّل بتلك الصورة فيذبح بشفرة يحيى عليه السّلام الذي ذبح هو أيضا بالشفرة،و هو صورة الحياة و يقتل بأمر جبرئيل الذي هو مبدأ الحياة و الأرواح و محيي الأشباح بإذن اللّه تعالى،ليظهر حقيقة البقاء و الأبديّة بموت الموت و حياة الحياة.

و الحاصل-و اللّه أعلم-أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها أبديّة و يفعل ذلك ليظهر على الخلق أنّهم خالدون فيها،و أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها بأجمعها أبديّة باقيّة أبدا لا انقطاع لها و لا فناء و لذلك سمّيت دار القرار.

و أمّا الثاني أي معاضدة الدليل العقلي لذلك فمن وجهين:

ص:123


1- -الأنبياء:99. [1]
2- -الزمر:72. [2]
3- -الجاثية:35. [3]
4- -النساء:56. [4]
5- -الإسراء:97. [5]
6- -راجع تفسير القمّي:411،الطبع الحجري. [6]
7- -راجع الأسفار 9:312. [7]

الأوّل من جهة الغاية،و بيانه أنّ الغاية المقصودة من النشأة الاخرويّة بما فيها،كما دلّ عليه العقل و النقل أي ثواب أهل النعيم و عقاب أهل الجحيم،سوى ما دلّ دليل خارج على انقطاعه،كعقاب صاحب الكبيرة من المؤمنين أبديّة دائمة بحكم العقل،لأنّ دوام الثواب على الطاعة،و كذا دوام العقاب على المعصية،يبعث المكلّف على فعل الطاعة و يزجره عن المعصية،فيكون لطفا و اللطف واجب على اللّه تعالى كما تقرّر في موضعه،و لأنّ المدح و الذمّ دائمان،إذ لا وقت إلاّ و يحسن فيه مدح المطيع و ذمّ العاصي،و هما معلولا الطاعة و المعصية،فيجب دوام الثواب و العقاب،لأنّ دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر،إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها العلماء في كتبهم.و حيث كانت الغاية المقصودة من النشأة الأخرويّة بما فيها المترتّبة عليها دائمة أبديّة يحكم العقل بوجوب أبديّة ذات الغاية أيضا إمّا بشخصها أو نوعها،إذ لا انفكاك بين الغاية و ذات الغاية،مع أنّ الفاعل تامّ الفاعليّة،فيّاض على الإطلاق و لم يعلم أيضا أنّ هناك شرطا لوجودها،يطرأ عليه الفناء حتّى يكون بانعدامه ينعدم المشروط،بل المعلوم هنا خلافه.و اللّه تعالى أعلم.

الوجه الثاني:من جهة ذوات الموجودات الاخرويّة و صورها و موادّها.و بيانه أنّه لا يخفى أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها مخالفة بالحقيقة للنشأة الدنيويّة بما فيها،مخالفة تامّة بسببها صارت عالما آخر غيرها،و أنّ النشأة الدنيويّة بما فيها ما سوى ما دلّ الدليل على بقائه،كالصادر الأوّل أو القديم لو جوّزنا وجوده فانية كلّها،هالكة جميعها،يطرأ عليها الفناء و الزوال و لو من وجه كما سيأتي بيانه،فينبغي أن يكون النشأة الاخرويّة التي هي مخالفة لها بالحقيقة و الذات،غير قابلة للفناء و الهلاك باقية أبدا فيتحدّس من ذلك كما شهدت به الأخبار المرويّة أيضا،أنّ الموجودات الاخرويّة بسائطها و مركّباتها بصورها و موادّها-إن كانت لها-ليست من جنس الموجودات الدنيويّة التي يتطرّق إليها الكون و الفساد،و الاستحالة و الانقلاب و التغيّرات،و يطرأ عليه الزوال و الفناء أي أنّ موادّها أصفى و ألطف جوهرا من موادّ هذه النشأة،و أبعد من الكثافة التي هي منشأ التغيّر و قبول الصور المتواردة المتخالفة،كما في موادّ الأجسام العنصريّة،بل هي صافية جدّا بحيث لا يشوبها كدرة و لا كثافة مطلقا،بل لا نسبة لها إلى موادّ هذه النشأة،و كذلك صورها أتمّ وجودا و أوفر قسطا من الفيض الأعلى و أحفظ من صور هذه النشأة بل لا نسبة لها إليها،

ص:124

فلذلك لا يتطرّق إليها الفساد مع أنّ الحقّ المفيض لها فيّاض على الإطلاق لا ينقطع فيضه عمّا هو مستعدّ له.ألا ترى أنّ موادّ أجسام هذه النشأة كلّما كانت أقرب إلى الكثافة كانت أقرب إلى قبول التغيّر و الفساد،و أشدّ استعدادا لقبول الصور المتبدّلة المتبدّدة الكائنة الفاسدة،كما في العنصريّات.و كلّما كانت أقرب إلى الصفاء و اللطافة كانت أبعد من الفساد و أكثر استعدادا للصور الكاملة التامّة[الآبية] (1)عن التغيّر و الزوال،كما في الفلكيّات و موجودات عالم البرزخ و المثال،و كذلك صورها كلّما كانت أتمّ و أوفر حظّا من الوجود و أكمل آثارا،كانت أحفظ و أبعد من الفساد و من طروء (2)الضدّ عليها،كما في هذه أيضا، و كلّما كانت أقلّ قسطا من الوجود و أنقص آثارا كانت أقرب إليه،كما في الحوادث الكائنة الفاسدة أيضا،و هذا هو القول في الجسمانيات من موجودات النشأة الاخرويّة،على أنّ كثيرا منها ممّا ليست لها مادّة بل هي روحانيات مجرّدة عن الموادّ كالسعادات الروحانيّة العقليّة،و كذا الشقاوة الروحانيّة،فإنّها إدراكات روحانيّة،مدركاتها مجرّدات عن الموادّ، كذا المدرك لها.و المجرّدات لا يطرأ عليها الفساد،حيث إنّ الفساد تابع لوجود مادّة تقبله كما هو المقرّر عندهم و المفروض هنا عدم المادّة و أنّ صورها ذواتها و لا ضدّ لها.ألا ترى أنّ المعاني الكلّية حيث كانت مجرّدة عنها،كانت دائمة أبدا غير هالكة مطلقا،و كذا الأعيان المجرّدة كالعقول لو قلنا بها كذلك أيضا،إذ لا مادّة لها و صورها ذواتها و لا ضدّ لها و سيأتي تمام تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و كذلك كثير منها مخلوقة بلا مادّة و حادثة من غير مدّة،بل بمحض التصوّر و مجرّد التخيّل،كما شهدت به الآيات و الأخبار،قال تعالى:

«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ» . (3)

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» . (4)

و هذا-و اللّه أعلم-إمّا مبنيّ على ما ذكره بعض الحكماء من أنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة و جعل لها اقتدارا على إبداع الصور الغائبة عن الحواسّ بلا مشاركة الموادّ،و أن ليس ذلك بممتنع كما في إنشاء الإبداعيات عندهم،فعلى هذا

ص:125


1- -هنا كلمة لا تقرأ.
2- -يس:57.
3- -الظاهر من طروّ.
4- -الزمر:34. [1]

لا يكون لهذا القسم من الموجودات مادّة أصلا حتّى تكون قابلة للتغيّر و الفساد.و إمّا مبنيّ على أنّ اللّه تعالى لكرامته على المؤمنين يخلق ما يشتهونه فيحضره لديهم،فعلى هذا و إن سلّمنا كون مادّة له،لكنّا نقول إنّ تلك المادّة لكونها من جنس الموجودات الاخرويّة لعلّها لطيفة في الغاية روحانيّة جدّا،بعيدة عن الكثافة التي هي منشأ لسنوح التغيّر و الزوال،و أنّ الموجود الذي تلك المادّة مادّته يمكن أن يكون باقيا بشخصه أيضا كما في الحور و القصور و نظائرهما.و على تقدير تسليم كونها قابلة لطروء الزوال في الجملة فذلك الموجود باق بنوعه كما في الاكل و نحوه.

و بالجملة فموجودات النشأة الاخرى مباينة بالحقيقة لموجودات النشأة الدنيا،و كذا زمانها و مكانها بل لا نسبة لها إليها فلذا لا يمتنع فيهما وجود غير المتناهي مطلقا،لعدم التزاحم و التضايف و المباينة و المسامّة و التداخل و أمثالها فيها.و سيأتي زيادة توضيح لهذا إن شاء اللّه تعالى.

و هذا هو الكلام في جملة النشأة الاخرويّة بما فيها.

الكلام في النشأة الدنيوية

و أمّا الكلام في النشأة الدنيوية بأبعاضها و أجزائها المخصوصة.فحريّ بنا أن نتكلّم أوّلا فيما نحن بصدد بيان حاله من البدن و النفس و فنائها أو بقائها،ثمّ نتكلّم في باقي أجزاء هذه النشأة على الخصوص.

فنقول:أمّا البدن،فلا سترة في أنّ المشاهدة و العيان و العقل و النقل،دلّت على موته و هلاكه،و قد أشرنا فيما سبق إلى سبب طروء الموت على البدن على رأي الطبيعيّين، و الإلهيّين من الحكماء،و إلى كيفيّة وقوعه عليه على كلّ مذهب من المذاهب التي قيلت في الجسم،و إلى أنّه على جميع المذاهب،لا يستلزم انعدامه بالكلّية و هلاكه بالمرّة، و مع ذلك فلا بأس بإعادة البيان.

فنقول:إنّه قد عرفت أنّه على مذهب القائلين بالجواهر الفردة،أو بالأجسام الصغار الصلبة،إنّما ينعدم بالموت التأليف الخاص الحاصل بين تلك الأجزاء أو بين تلك الأجسام فقط،و لا يستلزم ذلك انعدام أصل تلك الأجزاء و الأجسام المتفرّقة،إذ لا ضدّ لها

ص:126

و لا مادّة خصوصا على القول بقدمها،كما ينسب ذلك إلى ذيمقراطيس و شيعته القائلين بالأجسام الصلبة،و كذلك على مذهب المشّائين القائلين بتركّب الجسم من الهيولى و الصورة،و إن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو أحد جزئي الجسم لكنّه يبقى الجزء الآخر أعني الهيولى إذ لا مادّة لها و لا ضدّ و خصوصا على القول بقدمها كما هو مذهبهم.

و كذلك على مذهب الإشراقيّين القائلين بأنّ حقيقة الجسم هو الاتّصال،و ذلك الأمر المتّصل من دون إثبات مادّة سواه و إن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو حقيقة الجسم لكنّه لا ينعدم بالمرّة،فانّ انعدامه كذلك إنّما يمكن أن يكون إذا طرأ الانفصال على كل حدّ من حدود الاتّصال الذي في الجسم و هو ممتنع إذ طروؤه كذلك يستلزم خروج جميع الانقسامات الممكنة في الجسم إلى الفعل و هو محال.على أنّه يمكن القول ببقاء الأجزاء الأصليّة التي كانت للبدن كما نطق به الشرع على كلّ مذهب من تلك المذاهب،و لا شكّ أنّ بقاءها ممّا هو منشأ للحكم بعدم انعدام البدن بالمرّة و هذا ظاهر.

و أمّا النفس،فلا يخفى أنّ الشرع ناطق بأنّها ذائقة الموت،فينبغي أن يشار إلى أنّه كيف هو.فنقول:إنّه على مذهب من يقول إنّها من الأعراض الحالّة في البدن،ينبغي القول بانعدامها بالكلّية فإنّ العرض ينعدم بالمرّة بانعدام موضوعه و لو في الجملة.و على مذهب من يقول بأنّها جسم،ينبغي القول بانعدامها مثل انعدام الجسم أي البدن،كما مرّ.

و أمّا على مذهب من يقول إنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ-و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى-فينبغي القول بأنّ موتها عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن من غير أن يستلزم انعدام ذاتها و حقيقتها،و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّ بقاءها بعد خراب البدن،ممّا دلّ عليه الشرع،و يؤيّده العقل بل الإجماع أيضا.قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه:«و لا تفنى بفنائه»:اتّفق القائلون بمغايرة النفس للبدن على أنّها لا تفنى بفنائه،و دليل المتكلّمين على ذلك النصوص من الكتاب و السنّة و إجماع الامّة،و هي من الكثرة و الظهور بحيث لا تفتقر إلى الذكر،و أمّا الفلاسفة فقالوا:يمتنع فناء النفس-إلى آخر ما نقله عنهم من الدليل العقلي عليه-. (1)

ص:127


1- -شرح القوشجي:270.

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

فلنشر إلى نبذ من الدليل الشرعي و العقلي على ذلك:

فنقول:أمّا دلالة الكتاب عليه فلقوله تعالى:

«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» . (1)

إذ لا سترة في أنّ تلك الحياة و المرزوقيّة و الفرح و الاستبشار،إنّما هي بحسب نفوسهم الباقية،لا بحسب أبدانهم الداثرة الهالكة،و حيث لم يقيّد ذلك بوقت دون وقت فيعلم منه أنّه حاصل لهم في جميع الأوقات بعد القتل في سبيل اللّه،فيلزم منه بقاء نفوسهم بعد خراب أبدانهم أبدا و هو المطلوب.

و قوله تعالى في حال مؤمن آل يس: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» . (2)

على ما قال المفسّرون،إنّ قومه قتلوه فأدخله اللّه الجنّة و هو حيّ فيها يرزق.

و أمّا دلالة السنّة،فلما رواه الشيخ الصدوق ابن بابويه(عليه الرحمة)في الفقيه عن الصادق عليه السّلام،انّه قال:إذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن و غيره ينظر إلى كلّ شيء يصنع به فإذا كفّن و وضع على السرير و حمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه،و دخلت فيه فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة،أو من النار فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة:عجّلوني،عجّلوني،و إن كان من أهل النار:ردّوني،

ص:128


1- -آل عمران:169. [1]
2- -يس:26-27. [2]

ردّوني،و هو يعلم كل شيء يصنع به،و يسمع الكلام. (1)

و لما رواه عنه عليه السّلام إنّه قال:إنّ الأرواح في صفة الأجساد،و في شجرة من الجنّة تتساءل و تتعارف فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول دعوها فقد افلتت من هول عظيم، ثم يسألونها ما فعل فلان و ما فعل فلان؟فإن قالت لهم:تركته حيّا ارتجوه،و إن قالت لهم:

قد هلك،قالوا هوى هوى. (2)

و عن محمّد بن مسلم قال:قلت لأبي عبد اللّه(صلوات اللّه عليه):الموتى نزورهم؟ فقال:نعم.قلت:فيعلمون بنا إذا آتيناهم؟فقال:اي و اللّه،إنّهم ليعلمون بكم،و يفرحون بكم،و يستأنسون إليكم.قال:قلت:فأيّ شيء نقول إذا آتيناهم؟فقال:قل:اللّهم جاف الأرض عن جنوبهم-الحديث-. (3)

و عن إسحاق بن عمّار أنّه سأل أبا الحسن الأوّل(صلوات اللّه عليه)عن المؤمن يزور أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟فقال:على قدر فضائلهم،منهم من يزور كلّ يوم،و منهم من يزور في كلّ يومين،و منهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام-الحديث-. (4)

و لما رواه الشيخ الطوسي(عليه الرحمة)في التهذيب،عن مروان بن مسلم عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال:قلت له:إنّ أخي ببغداد و أخاف أن يموت فيها.قال:ما تبالي حيث ما مات،إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض و غربها إلاّ حشر اللّه روحه إلى وادي السلام،قال:قلت:جعلت فداك و أين وادي السلام؟قال:ظهر الكوفة،أما إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (5)

و عن يونس بن ظبيان قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا.فقال:ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟قلت:يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر،يا يونس إذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب (6)كقالبه في الدنيا،

ص:129


1- -من لا يحضره الفقيه:1:193.
2- -من لا يحضره الفقيه:1:193،و في بعض النسخ:«اقبلت»مكان«أفلتت».
3- -من لا يحضره الفقيه 1:181.
4- -من لا يحضره الفقيه 1:181.
5- -تهذيب الأحكام 1:466،طبع نجف.
6- -«في قالب»و المراد من القالب في المقام،البدن المثالي الذي تحت تصرّف الروح المجرّد العقلاني و من بلغ روحه في عالم الجبروت يقع شعاع الروح على قالبه المثالي.

فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (1)

و عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عن أرواح المؤمنين،فقال:في الجنّة على صور أبدانهم،لو رأيتهم لقلت فلان. (2)

و قد قال شارح الفقيه في شرحه له:«و در حديث حسن كالصحيح از حضرت صادق عليه السّلام منقول است كه پرسيدند از آن حضرت از ارواح مؤمنان،پس حضرت فرمودند كه در حجره هاى بهشتند و از طعام و شراب بهشت مى خورند،و مى گويند كه پروردگارا روز قيامت را بزودى واقع ساز،و وعده اى كه به ما فرموده اى آور،و آخر ما را ملحق ساز به أوّل ما».

و قال أيضا:«و در حديث كالصحيح منقول است از حبه عرني كه در خدمت حضرت امير المؤمنين عليه السّلام به ظهر كوفه رفتم كه صحراى نجف است و مسمّى به وادى السلام است.حضرت در آنجا ايستادند،و گويا با جمعى صحبت مى داشتند.من آن قدر ايستادم كه تنگ آمدم،نشستم.مدّتى ديگر برخاستم،ديگر آن مقدار ايستادم كه مانده شدم.ديگر مدّتى نشستم تا به تنگ آمدم،برخاستم و رداى خود را بر خود گرفتم و عرض كردم كه يا امير المؤمنين!بسيار تعب كشيديد از ايستادن،ساعتى بنشينيد و استراحت فرماييد.بعد از آن،رداى خود را انداختم كه شايد بر آن نشيند.پس حضرت فرمودند كه با مؤمنان صحبت مى داشتم و ايشان را انس مى دادم.گفتم:يا امير المؤمنين! چنين است كه صحبت با مؤمنان مى داشتيد؟حضرت فرمودند:كه اگر حجاب برخاسته شود از نظر تو،ايشان را خواهى ديد كه حلقه حلقه زده اند با يكديگر صحبت مى دارند.

گفتم:اجسامند يا ارواح؟حضرت فرمود كه ارواحند،و هر مؤمنى كه در هرجا بميرد خطاب به روح او مى رسد كه برو به وادى السلام و آن بقعه اى است از جنّت عدن».

و قال أيضا:«و در حديث صحيح از ضريس كناسى منقول است كه سؤال كردم از حضرت امام محمّد باقر(صلوات اللّه عليه)كه مردم مى گويند كه آب فرات از بهشت بيرون مى آيد چگونه چنين باشد و حال اين كه از جانب مغرب مى آيد و آبها از چشمه ها و رودخانه ها داخل او مى شود؟پس حضرت فرمودند كه حقّ سبحانه و تعالى بستانى

ص:130


1- -تهذيب الأحكام 1:466.
2- -تهذيب الأحكام 1:466.

آفريده است در مغرب،و اين آب از آنجا مى آيد و ارواح مؤمنان به آنجا مى روند هر شام و از ميوه هاى آن مى خورند و تنعّم مى كنند،و با يكديگر ملاقات مى كنند و يكديگر را آشنايى مى دهند تا صبح.و چون صبح مى شود در ميان آسمان و زمين طيّارند و سيّارند و با يكديگر ملاقات مى كنند و يكديگر را مى شناسند.و حقّ تعالى در مشرق آتشى آفريده است كه مسكن ارواح كفّار است.و خوردن ايشان از زقوم است كه خوراك اهل جهنّم است و آشاميدن ايشان از آب جوشان آنجاست در شبها و چون صبح طالع مى شود مى روند به برهوت كه وادى است در يمن كه از آتشهاى دنيا گرمتر است و در آنجا با هم ملاقات مى نمايند و آشنايى مى دهند و چون شب مى شود باز به آتش مى روند و حال ايشان چنين است تا روز قيامت.پس گفتم كه حال آن جماعتى كه اقرار رسول خدا دارند و امام زمان خود را نمى شناسند و عداوت با اهل بيت ندارند از مستضعفين،حال ايشان چون است؟حضرت فرمودند كه ايشان در قبرهاى خود خواهند بود و عقاب نخواهند داشت و اما مستضعفانى كه كارهاى خوب كرده اند نسيمى از بهشت دنيا به ايشان مى رسد تا روز قيامت و بعد از آن كار ايشان با خداست،اگر مى خواهد به استحقاق ايشان را به جهنم مى فرستد و اگر مى خواهد به تفضّل،ايشان را به بهشت مى برد.

و همچنين است حال جمعى كه عقل صحيحى نداشته باشند و حال اولاد آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند و به حدّ بلوغ نرسيده باشند،امّا آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند و مستضعف نباشند،از قبرهاى ايشان راهى به جهنم است كه از زبانۀ آتش آن و دود و جوشش حميم آن به ايشان رسد تا قيامت و بعد از آن ايشان را به جهنم برند و در آتش سوزند،و ايشان را گويند كه چرا متابعت امام زمان خود نكرديد كه حق سبحانه و تعالى از جهت شما مقرّر كرده بود؟و اطفال مؤمنين،پس ايشان ملحق به پدران خود خواهند شد به حسب ظاهر آيات و أحاديث متواتره و خواهد آمد در كتاب نكاح.-انتهى موضع الحاجة من كلامه.» (1)

و بالجملة أنّ الأخبار الدالّة على بقاء النفس الإنسانيّة،بعد خراب البدن متظافرة

ص:131


1- -لوامع صاحبقراني [1]للمجلسي الأوّل(ره)1:360-361.

متواترة،ناصّة عليه،غير قابلة للتأويل،و الاستقصاء يوجب الإطناب،و فيما نقلناه كفاية للطلاب و غنية لاولي الألباب و دلالة على بقاء نفوس المؤمنين و الكفّار و الفسّاق و المستضعفين و الأطفال جميعا.و يدخل في المستضعفين البله و المجانين،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى شرح هذه الأخبار التي نقلناها و غيرها،و كذا بيان ما لعلّه يحتاج إلى البيان في هذا المقام،فانتظر.

ص:132

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

اشارة

و أمّا الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن فقد ذكره الحكماء في كتبهم من وجوه عديدة كلّها مبنيّة على كون النفس الإنسانيّة جوهرا مغايرا للبدن، و أجزائه بسيطا مجرّدا عن المادّة في ذاته،كما هو المقرّر عندهم،و هو الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء اللّه العزيز.

و بعضها مع ابتنائه على ذلك،مبنيّ أيضا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء أيضا و إن كانت غير تامّة عند التحقيق،هي أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة إلاّ أنّا لا نبالي بذكر نبذ من تلك الدلائل و توضيحها و تلخيصها،و دفع ما عسى أن يورد عليها و إن كان موجبا للإسهاب و الإطناب.

من جملة الدلائل عليه

فنقول:ربّما يمكن الاحتجاج على هذا المطلب،بأنّ فساد كلّ فاسد إمّا بورود ضدّه عليه،و هذا غير متصوّر هنا،لأنّك قد عرفت فيما سبق أن لا ضدّ للجوهر المجرّد عن المادّة،و إمّا بزوال أحد من أسبابه الأربعة الفاعل و الغاية و المادّة و الصورة،و هذا أيضا غير متصوّر هنا،إذ فاعل النفس هو الأوّل تعالى شأنه و غايتها هو التشبّه به تعالى أو معرفته و ذلك لا يتصوّر فيه الزوال و الفناء كما عرفته أيضا،و ليس لها مادّة و لا صورة كما هو المفروض.أمّا نفي المادّة فظاهر،و أمّا نفي الصورة فلأنّ صورة المجرّد ذاته بذاته، و ليس أيضا فيها شرط لوجودها تنتفي هي بانتفائه.و حيث كان كذلك فهي باقية أبدا لا يطرأ عليها الفساد و الفناء أصلا و هو المطلوب.

ص:133

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها

و قد نقل بعضهم عن أفلاطون،أنّه اعتمد في بقاء النفس الإنسانيّة على ثلاث حجج:

أحدها:أنّ النفس تعطى كلّ ما توجد فيه حياة.

و الثانيّة:أنّ كلّ فاسد فإنّما يفسد من قبل رداءة فيه.

و الثالثة:أنّ النفس متحرّكة من ذاتها.

و شارحوا كلامه،قد تبيّنوا الحجّة الاولى،بأنّ النفس تعطى الحياة أبدا كلّ ما توجد فيه، و كلّ ما كان كذلك فالحياة جوهرية له أي ذاتيّة له،فلا يمكن أن يقبل ضدّ الحياة أي الموت،فالنفس لا تقبل الموت.

و الحجّة الثانية بأنّ الرداءة مقترنة بالفساد و الفساد مقترن بالعدم،و العدم مقترن بالهيولى،فالرداءة مقترنة بالهيولى،و حيث لا هيولى فلا عدم فلا فساد،و حيث لا فساد فلا رداءة،فالهيولى معدن الرداءة و ينبوع الشرّ و أصله الذي منه يتفرّع،و مقابل هذه الرداءة الجودة،فإنّها مقترنة بالبقاء،و البقاء مقترن بالوجود و الوجود هو أوّل صورة أبدعها البارئ عزّ و جلّ.و حيث كانت النفس غير هيولانية فلا فساد يطرأ عليها.

و الحجّة الثالثة:بأنّ النفس متحرّكة من ذاتها دائما حركة جولان و رويّة هي حياتها، تارة نحو العقل فتستنير به و تستفيد منه،و تارة نحو الهيولى فتنيرها و تفيدها حركة خارجة عن الحركات الستّ الجسمانيّة،غير داخلة تحت الزمان،بل فوق الزمان و فوق الحركات الطبيعية و فوق الطبيعية.و كلّ ما كانت حركته من ذاته حركة كذلك فهو باق،لأنّ حركته مع كونه خارجة عن الزمان و التكوّن و أشبه بالدهر و السرمد غير زائلة و ما كان غير زائل،فهو ثابت.

هذا ما ذكروه في شرح تلك الحجج الثلاث،و سنذكر زيادة شرح لها إن شاء اللّه تعالى.

ص:134

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب

اشارة

ثمّ إنّ الشيخ في الشفاء بعد ما برهن على أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية،و بيّن حدوثها و كيفيّة انتفاعها بالحواسّ،برهن على أنّها لا تفسد و لا تموت (1)بموت البدن،بأنّ كلّ شيء يفسد بفساد شيء آخر،فهو متعلّق به نوعا من التعلّق،إذ بفساد المباين من كلّ وجه للشيء لا يفسد الشيء،و هذا التعلّق لا يخلو عن أن يكون تعلّق المكافئ في الوجود، أو تعلّق المتأخّر في الوجود،أو تعلّق المتقدّم في الوجود،و الأقسام ثلاثة،لا رابع لها.

و على الأوّل أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المكافئ في الوجود أعني أن لا يكون بينها علّيّة و لا معلوليّة،بل كانا معلولي علّة ثالثة متكافئين في الوجود و متضايفين،فحينئذ إن كان ذلك التكافؤ و التضايف ذاتيّا لهما لا عارضا كما في المتضائفين الحقيقيّين،كان كلّ واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه،و حقيقتهما نفس تلك الإضافة،فلا يكون النفس و لا البدن جوهرين،لكنّهما جوهران؛هذا خلف.و إن كان ذلك أمرا عرضيّا لا ذاتيّا كما في المتضائفين المشهوريين،كان فساد أحدهما موجبا لبطلان العارض الآخر من الإضافة،لا لبطلان ذات الآخر من حيث هذا التعلّق،فلا يلزم من فساد البدن بطلان ذات النفس بل بطلان عارضها من الإضافة.

و على الثاني أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن،تعلّق المتأخّر عنه في الوجود أي أن يكون البدن علّة النفس في الوجود و الحال أن العلل أربع،و لا يحتمل كونه علّة غائية لها، فإمّا أن يكون البدن علّة فاعليّة للنفس،معطية للوجود لها،و هذا محال.إذ يستحيل أن تفيد الأعراض و الصور القائمة بالموادّ وجود ذات قائمة مجرّدة عن المادّة في ذاتها،و إمّا

ص:135


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد:202،طبع القاهرة.

أن يكون البدن علّة قابلية لها على سبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم،و هذا أيضا محال لأنّا قد بيّنا و برهنّا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه،فلا يكون البدن إذن متصوّرا بصورة النفس لا بحسب البساطة و لا بحسب التركيب،بأن يكون أجزاء من أجزاء البدن،تتركّب و تتمزّج تركّبا و مزاجا، فينطبع فيها النفس.و إمّا أن يكون البدن علّة صورية أو كماليّة للنفس.و هذا أيضا محال،بل الاولى أن يكون الأمر بالعكس إن كان هناك تفرض العلّة الصوريّة أو الكماليّة،فإذن ليس تعلّق النفس بالبدن،تعلّق معلول بعلّة ذاتية.و إن كان المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس فإنّه إذا حدث مادّة بدن تصلح أن تكون آلة للنفس و مملكة له،أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية،فإنّ إحداثها بلا سبب يخصّص إحداث واحد دون واحد محال،و مع ذلك فإنّه يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما قد بيّناه،و لأنّه لا بدّ لكلّ كائن بعد ما لم يكن من أن يتقدّمه مادّة يكون فيها تهيّؤ قبوله و تهيّؤ نسبته إليه كما تبيّن في العلوم الاخرى و لأنّه لو كان يجوز أيضا أن يكون نفس جزئية تحدث،و لم يحدث لها آلة بها تستكمل و تعقل، لكانت معطّلة في الطبيعة و إذا كان ذلك ممتنعا،فلا قدرة عليه،و لكن إذا حدث التهيّؤ للنسبة و الاستعداد للآلة،يلزم حينئذ أن يحدث من العلل المفارقة شيء،هو النفس.و ليس ذلك للنفس فقط،بل كلّ ما يحدث بعد ما لم يكن من الصورة،فإنّما يرجّح وجوده عن لا وجوده استعداد المادّة له و صيرورتها خاصّة به،و حيث ظهر أنّ حدوث النفس إنّما هو بحدوث البدن،من غير أن يكون البدن علّة ذاتية لها فنقول:ليس إذا وجب حدوث شيء عند حدوث شيء،وجب أن يبطل مع بطلانه،بل إنّما يكون ذلك إذا كان ذات الشيء قائما بذلك الشيء،و فيه،و قد يحدث امور عن امور و تبطل تلك الامور و تبقى تلك الامور إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها،و خصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شيء آخر غير الذي إنّما يتهيّأ إفادة وجوده مع وجوده،و مفيد وجود النفس هو غير جسم و لا هو قوّة جسم،بل هو لا محالة ذات قائمة مبرّاة عن الموادّ و عن المقادير.و إذا كان وجود النفس من ذلك الشيء البريء عن المادّة القائمة بذاتها و كان يحصل من البدن وقت استحقاقها للوجود فقط، فليس للنفس تعلّق بالبدن في الوجود و لا البدن علّة لها إلاّ بالعرض،و لا التعلّق بينهما على نحو يوجب أن يكون البدن متقدّما بالعلّية عليها حتى تفسد النفس بفساد علّته أي البدن.

ص:136

و على الثالث:أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المتقدّم في الوجود،أعني أن يكون النفس علّة للبدن،فإمّا أن يكون التقدّم مع ذلك زمانيّا فيستحيل أن يتعلّق وجود البدن بها و قد تقدّمته في الزمان،و إمّا أن يكون التقدّم بالذات لا بالزمان،و هذا النحو من التقدّم هو أن يكون الذات المتقدّمة في الوجود كما توجد،يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخّر في الوجود،و حينئذ إذا فرض عدم المتأخّر لا يوجد أيضا هذا المتقدّم في الوجود،لكن لا لأجل أنّ عدم المتأخّر أوجب عدم المتقدّم،فإنّ عدم المعلول لا دخل له في عدم العلّة،بل لأجل أنّ عدم المتأخّر أمارة أنّه قد عرض للمتقدّم عدم في نفسه، فعرض العدم للمتأخّر بسبب عروضه على المتقدّم حيث إنّ عدم المعلول إنّما يكون بسبب عدم علّته لكن في نفسها لا باعتبار عدم معلولها،فعدم العلّة بسبب فساد في نفسها و عدم المعلول بتبعية عدم علّتها،و إذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض أوّلا في جوهر النفس فيفسد معه البدن،و أن لا يكون البدن البتّة يفسد بسبب يخصّه،لكن فساد البدن يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب،فمحال أن يكون النفس تتعلّق بالبدن تعلّق المتقدّم بالذات،ثمّ يفسد البدن البتّة بسبب في نفسه،فليس إذن بينهما هذا التعلّق.و إذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلّق كلّها و بقي أن لا تعلّق للنفس في الوجود بالبدن،بل تعلّقها في الوجود بالمبادئ الاخر التي لا تستحيل و لا تبطل.

دليل آخر منه

و أيضا نقول:لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس،و ذلك لأنّ كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب ما يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد،و قبل الفساد فيه فعل أن يبقى،و تهيّؤه للفساد ليس لفعل أن يبقى،فان معنى القوّة لمعنى الفعل،و إضافة هذه القوّة مغايرة لإضافة هذا الفعل لأن اضافة ذلك إلى الفساد و إضافة هذا إلى البقاء،فإذن لأمرين مختلفين ما يوجد في الشيء هذان المعنيان.فنقول:إنّ الأشياء المركّبة و الأشياء البسيطة التي هي قائمة في المركّبة،يجوز أن يجتمع فيها فعل أن تبقى و قوّة أن تفسد،و في الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن يجتمع في شيء أحديّ الذات هذان المعنيان،

ص:137

و ذلك لأنّ كلّ شيء يبقى و له قوّة أن يفسد،فله أيضا قوّة أن يبقى لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري،و إذا لم يكن واجبا كان ممكنا،و الإمكان الذي يتناول الطرفين هو طبيعة القوّة فإذن يكون له في جوهره قوّة أن يبقى،و قد بان أن فعل أن يبقى منه لا محالة،ليس هو قوّة أن يبقى منه و هذا بيّن،فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشيء الذي له قوّة أن يبقى، فتلك القوّة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشيء الذي يعرض لذاته أن يبقى بالفعل لا أنّه حقيقة ذاته فيلزم من هذا أن يكون ذاته مركّبة من شيء إذا كان كان به ذاته موجودا بالفعل و هو الصورة في كلّ شيء و عن شيء حصل له هذا الفعل و في طباعه قوّته و مادّته،فحينئذ نقول:لو كانت النفس بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادّة و صورة،فلا يكون فيها هذان المعنيان،فلا يكون فيها قوّة الفساد فلا تقبل الفساد،و إن كانت مركّبة فلنترك المركّب و لننظر في الجوهر الذي هو مادّته،و لنصرف القول إلى مادّته و لنتكلّم فيها،و نقول:إنّ المادّة إمّا أن تنقسم هكذا دائما و ثبت الكلام دائما و هذا محال.و إمّا أن لا يبطل ذلك الشيء الذي هو في ذلك الجوهر البسيط،الذي هو في السنخ و الأصل و كلامنا في ذلك الشيء الذي هو السنخ و الأصل و هو الذي نسمّيه النفس،و ليس كلامنا في شيء مجتمع منه و من شيء آخر فتبيّن أن كلّ شيء هو بسيط غير مركّب،أو هو أصل مركّب و سنخه فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى و قوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته،فإن كانت فيه قوّة أن يعدم،فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى،و إذا كان فيه فعل أن يبقى و أن يوجد فليس فيه قوّة أن يعدم،فبيّن إذن أنّ جوهر النفس ليس فيها قوّة أن تفسد،و أمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع،و قوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد،بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين فليس إذن في هذا الفاسد المركّب لا قوّة أن يبقى و لا قوّة أن يفسد فلم تجتمعا فيه،و أمّا المادّة فإمّا أن تكون باقية لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء كما يظنّ و إمّا أن تكون بقوّة بها تبقى و ليس لها قوّة أن تفسد شيء آخر يحدث فيها.

و أمّا البسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها، و البرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء و البطلان،إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة و صورة و يكون في مادته قوّة أن يبقى فيه تلك الصور و قوّة أن

ص:138

تفسد هي منه معا كما علمت،فقد بان إذن أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد البتّة.

انتهى ما رمنا نقله من كلامه في الشفاء،و مثله كلامه في الإشارات.

ص:139

فيما ذكره في الإشارات في ذلك

حيث أبطل فساد النفس بفساد البدن و كذا فسادها في نفسها بناء على مغايرتها للبدن و أجزائه و على تجرّدها عن المادّة و بساطتها،قال:«و لمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقلية غير منطبعة في جسم تقوم به،بل انّما هي ذات آلة بالجسم، فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها،و حافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية».ثم بيّن أنّ النفس الناطقة تعقل بذاتها من غير آلة.ثم قال:«تكملة لهذه الإشارات،فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل مناله أن يعقل بذاته و لأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوة الثبات،فإن أخذت لا على أنّها أصل،بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة،عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها و حدوثها هي في موضوعاتها فلم يجتمع فيها تركيب،و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها.-انتهى.» (1)

ص:140


1- -شرح الإشارات 3:265-285. [1]

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه له

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرح كلامه الأوّل بهذه العبارة:لمّا كانت النفس الناطقة واقعة في آخر مراتب العود،اشتغل بالبحث عن حالها بعد تجرّدها عن البدن،فاستدلّ بتجرّدها في ذاتها و كمالاتها الذاتية عن المادّة و ما يتبعها،و بأنّها غير متعلّقة الوجود بشيء غير مباديها الدائمة الوجود على ما تبيّن في النمط الثالث و غيره،على بقائها بعد الموت كذلك.

و أشار بلفظ«لمّا»إلى ما ثبت في النمط الثالث من عدم انطباع النفس في الجسم، و بقوله«التي هي موضوع ما للصور العقلية» (1)إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي استدلّ على امتناع انطباعها في الجسم،و بقوله«بل انّما هي ذات آلة بالجسم»إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها و كمالاتها المذكورة إليه،ثمّ جعل قوله«فاستحالة الجسم عن كونه آلة لها لا تضرّ جوهرها»تاليا لما وضعه بعد لفظة لمّا،و أتمّ مقصوده بقوله«بل يكون باقيا هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية»و ذلك لوجوب بقاء المعلول مع علّته التامّة.

فهذا برهان لمّي هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادي.

و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس،لأنّ النفس كما كانت حافظة لهما بالذات فالجسم حافظ أيضا و لكن بالعرض،و ذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة،إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه،و لذلك أسند استحالة البدن عن كونه

ص:141


1- -المعقولة(خ ل).

آلة للنفس إلى الجسم،و عدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق منه الفساد حفظ ما لذلك الشيء لكنّه بالعرض.-انتهى. (1)

و قال أيضا في شرح كلامه الثاني في قوله:«فاعلم من هذا»-إلى آخره-بهذه العبارة:

«لمّا فرغ من إقامة الحجّة على كون النفس عاقلة بذاتها،عاد إلى إكمال الكلام في بقائها على كمالاتها الذاتية بعد مفارقة البدن،و لذلك و سم الفصل بالتكملة للفصول المتقدّمة و جعل قوله:«فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته»نتيجة للحجج المذكورة.

و في قوله:«و لأنّه أصل فلن يكون مركبا-إلى آخره-»بهذه العبارة:

هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس،و يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن تزول عنه تلك الأعراض و الصور،و هو باق في الحالتين،فهو أصل بالقياس إليها.

و اذا تقرّر هذا،فنقول:كلّ موجود يبقى زمانا و يكون من شأنه أن يفسد كان قبل الفساد باقيا بالفعل،و فاسدا بالقوّة و فعل البقاء غير قوّة الفساد و إلاّ لكان كلّ باق ممكن الفساد، و كلّ ممكن الفساد باقيا فإذن هما لأمرين مختلفين و الأصل لا يكون مشتملا على مختلفين إذ هو بسيط،فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة (2)الثبات و إن لم يكن أصلا أي لم يكن بسيطا غير حالّ،كان إمّا مركّبا و إمّا حالاّ و الثاني باطل لما مرّ،و المركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة إمّا بعضها كالمادّة من الجسم،و إمّا كلّها،و على التقديرين فالبسيط الغير الحالّ أعني الأصل موجود في المركّب و هو غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات.

و في قوله:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها هي»بهذه العبارة:

هذا جواب عن سؤال.و هو أن يقال كثير من الأعراض و الصور،تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها،فهلاّ كانت النفس كذلك.

فأجاب بأنّ قوّة فساد أمثالها إنّما تكون في موضوعاتها الحاملة لوجوداتها،و ذلك لا ينافي بساطتها في ذواتها،أمّا ما لا يكون له حامل وجود،فاجتماع الأمرين فيه ينافي

ص:142


1- -شرح الإشارات 3:265-266.
2- -لوجود(خ ل).

بساطته.

و في قوله:«و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه قابلة للفساد-إلى آخره-»بهذه العبارة:

أي إذا ثبت أنّ النفس،إمّا أصل و إمّا ذات أصل،لم تكن هي و ما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه و لا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد،فانّ البقاء و قوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط و الأوّل حاصل،فالثاني ليس بحاصل،فإذن النفس لا يمكن أن تفسد.

و إنّما قال:بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها،لأنّ أصل الوجود و بقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها.

و اعترض الفاضل الشارح فقال:لو كان للنفس هيولى و صورة مخالفتان لهيولى الأجسام و صورها،و كان الباقي منها هيولاها وحدها،لما كان الباقي من النفس هو النفس بل جزءا منها.و حينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

و الجواب:أنّ هيولى النفس تكون إمّا ذات وضع أو غير ذات وضع،و الأوّل محال،لأنّ ذات الوضع لا تكون جزءا لما لا وضع له.

و الثاني لا يخلو،إمّا أن يكون مع كونها غير ذات وضع،ذات قوام بانفرادها أولم تكن، فإن كانت عاقلة بذاتها على ما مرّ،لكانت هي النفس و قد فرضناها جزءا منها،هذا خلف.

و إن لم تكن ذات قوام بانفرادها،فإمّا أن يكون للبدن تأثير في إقامتها أولم يكن.فإن كان، كانت النفس غير مستغنية في وجودها عن البدن،فلم تكن ذات فعل بانفرادها على ما مرّ، و قد فرغنا عن إبطال هذا القسم.

و إن لم يكن للبدن تأثير في إقامتها،كانت باقية بما يقيمها،و إن لم يكن البدن موجودا، و هو المطلوب.

ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها و الكمالات التابعة لتلك الصورة،لا يجوز أن تفسد و تتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن،لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك،كما تقرّر في الاصول الحكميّة.

ثم قال:و النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركّبة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد كانا مادّة و صورة،فالنفس عندهم مركّبة من مادّة و صورة،و ذلك يؤكّد ما ذكرنا.

ص:143

و الجواب:إنّ هذه مغالطة باشتراك الاسم،فانّ المادة و الصورة تقعان على ما ذكره و على جزأي الجسم بالتشابه،و إلاّ فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة و صورة.

ثم قال:الفساد و الحدوث متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما،و إلى محلّ لذلك الإمكان أوفي استغنائهما عن ذلك،فإن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث،فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد،و إن افتقر الإمكان إلى محلّ هو البدن،فليكن البدن أيضا محلاّ لإمكان الفساد،و بالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس،و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط.

و الجواب:أنّ كون الشيء محلاّ لإمكان وجود ما هو مباين القوام له أو لإمكان فساده غير معقول.فإنّ معنى كون الجسم محلاّ لإمكان وجود السواد هو تهيّؤه لوجود السواد فيه، حتى يكون حال وجود السواد مقترنا به،و كذلك في إمكان الفساد،و لذلك امتنع كون الشيء محلاّ لإمكان فساد ذاته،فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها،و لا لإمكان فسادها أيضا بل انّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا.

و لم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،أعني النفس فحدث بحسب استعداده و تهيّؤه ذلك مبدأ الصور المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط و زال بذلك الحدوث ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان البدن معه محلاّ لإمكان حدوث النفس أعني الهيئة المخصوصة فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة المقارنة به و زوال ذلك الارتباط عنه فقط،و امتنع أن يكون محلاّ لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه،فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس من حيث هي صورة أو مبدأ صورة لا من حيث هي موجودة مجرّدة و ليس بشرط في وجودها.

و الشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه،كالبيت فانّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه.

فان قيل:لم أوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة، و لم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة فساد مبدأ ذلك،و ما الفرق بين الأمرين؟

ص:144

قلنا:لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما،فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها،و ما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل،بل يكفي فساد شرط ما و لو كان عدميا. (1)-انتهى كلامه رحمه اللّه. (2)

ص:145


1- -و اعلم أنّ النفس الناطقة إذا كانت مجرّدة عن المادة كما عليه أتباع المشّاء ليست لها حالة منتظرة،لأنّ الفرض إنّ النفس مجرّدة عن المادة بحسب جوهر ذاتها و المجرّد بهذا المعنى مستكفية بذاتها و علّتها، و لهذا قال صدر أكابر الحكماء إنّ النفس في ابتداء ظهورها فيها استعداد التجرّد.و ما قيل إنّ النفس بحسب جوهر الذات غير حادثة و إضافتها إلى البدن حادثة.و فيه ما لا يخفى؛فالمصير إلى ما حقّقه صدر المحققين رضي اللّه عنه.
2- -شرح الإشارات 3:285-292.

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات

و هذا الاعتراض الذي أورده الفاضل الشارح أخيرا على كلام الشيخ،قد ذكره صاحب المحاكمات في ذيل أوّل كلام الشيخ بهذه العبارة:

«يريد أن يستدلّ على بقاء النفس بعد الموت،و تقريره أنّه قد ثبت أنّ النفس الناطقة التي هي محلّ الصور العقليّة غير حالّة في الجسم و لا تعلّق لها بالبدن في ذاتها و جوهرها، بل تعلّقها به ليكون هو آلة لها في اكتساب الكمالات،فإذا فسد البدن فقد فسد ما لا حاجة للنفس إليه في وجودها،مع أنّ العلّة المؤثّرة في وجود النفس باقية،فيجب بقاؤها بعد فساد البدن.

و فيه نظر،لأنّ الجوهر العقلي الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها،لزم قدمها لقدمه، و إن كان علّة فاعليّة و توقّف وجودها على حدوث البدن،فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه،فالنفس و إن كانت مجرّدة إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن،فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها، فاذا انتفى انعدمت.

و الحاصل أنّ البدن ما كان موجودا و كذا النفس ما كانت موجودة،ثمّ وجد البدن و النفس،ثمّ ينعدم البدن.

فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس،أو لا،فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا،فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن،و إن كان له دخل في وجودها، فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها حتّى إذا انعدم انعدمت.

و اعلم:أنّ ما ذكرناه في تقرير الاستدلال هنا هو ما ذكره الإمام.و زاد الشارح في الاستدلال تجرّد النفس عن المادّة في كمالاتها الذاتيّة أي الكمالات العارضة لذاتها

ص:146

كالصور المعقولة،و ذلك مع كونه غير منطبق على المتن مستدرك في الاستدلال فإنّ المطلوب ليس إلاّ بقاؤها بعد الموت،و تجرّدها في ذاتها كاف في ذلك.

و كذلك قوله:أشار بقوله«التي هي موضوع ما للصور العقليّة-إلى كمالاتها الذاتيّة الباقية معها»فإنّ الحكم المذكور ليس إلاّ عدم انطباعها في الجسم،فذكر ذلك الوصف ليس إلاّ إيماء إلى سبب الحكم.

و كذا قوله:«على وجه لا يلزم احتياجها في وجودها و كمالاتها الذاتيّة المذكورة إلى الجسم»،فإنّ عدم الاحتياج في الكمالات غير مفهوم من كونها ذات آلة في الجسم (1)و هو ظاهر.-انتهى كلامه. (2)

و أنت تعلم أنّه يستفاد من كلام الإمام و كلام صاحب المحاكمات:أنّ هذا الاعتراض يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين على عدم فناء النفس،سواء كان المقصود عدم فنائها بفناء البدن كما ذكره أوّلا،أو عدم فنائها مطلقا كما ذكره أخيرا.

ص:147


1- -بالجسم(خ ل).
2- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:264.

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب

اشارة

و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّه قد ذكر صدر الأفاضل في بعض رسائله: (1)انّ المحقّق الطوسي(نوّر اللّه تعالى عقله الشريف)،كتب إلى بعض معاصريه من الأفاضل و هو العلاّمة النحرير شمس الدين الخسروشاهي شاهي،رسالة و سأله فيها عن ثلاث مسائل،طلب منه الكشف عن وجوه إعضالها،فلم يأت ذلك البعض العلاّمة بجواب.

و من جملة تلك المسائل الثلاث،هذه المسألة بهذه العبارة:ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود، حكموا بوجود النفس الإنسانيّة و امتنعوا عن تجويز فنائها،فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن فهلاّ جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا،و إن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم كيلا يجوز عدمها بعد الوجود،فهلا جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود،فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل،و كيف ساغ لهم أن جعلوا جسما مادّيا حاملا لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه،فإن جعلوها من حيث كونها مبدأ لصورة نوعية لذلك الجسم ذات حامل لإمكان الوجود،فهلاّ جعلوها من تلك الحيثية ذات حامل لإمكان العدم،و بالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين؟-انتهى.

ثم أجاب صدر الأفاضل نفسه عن هذا السؤال بهذه العبارة:أمّا الجواب عن المسألة الثالثة فنقول:

إنّ البدن الإنساني استدعى باستعداده الخاصّ من واهب الصور على القوابل،صورة

ص:148


1- -طبعت هذه الرسالة في هامش المبدأ و المعاد:372-391؛فراجع.

مدبّرة متصرّفة فيه تصرّفا يحفظ بها شخصه و نوعه،فوجب صدورها عن الواجب الفيّاض،لكن وجود صورة تكون مصدرا للتدابير البشرية و الأفاعيل الإنسية الحافظ لهذا النوع لا يمكن إلاّ بقوّة روحانيّة ذات إدراك و عقل و تمييز،فلا محالة يفيض من المبدأ الفيّاض صورة متصرّفة ذات حقيقة مفارقة أو ذات مبدأ مفارق،و كما أنّ الشيء الواحد يجوز أن يكون جوهرا من جهة،عرضا من جهة اخرى،كماهيّة الجوهر الموجودة في الذهن،لما تحقق أنّ صورتها العقلية جوهر بحسب الماهيّة،عرض بحسب الوجود العلمي بل كيف،و كذا يجوز أن يكون شيء واحد مجعولا من جهة،غير مجعول من جهة اخرى كالوجود و الماهيّة،فكذلك يجوز أن يكون شيء واحد كالنفس الإنسانيّة مجرّدا من حيث كونه ذاتا عقليّة،و مادّيا من حيث كونه متصرّفا في البدن.فإذن كانت النفس مجرّدة من حيث الذات،مادّية من حيث الفعل،مسبوقة باستعداد البدن،حادثة بحدوثه،زائلة بزواله.و أمّا من حيث حقيقتها و مبدأ حقيقتها فغير مسبوقة باستعداد البدن إلاّ بالعرض، و لا فاسدة بفساده،و لا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلاّ بالعرض،فتدبّر.

هذا ما سنح لنا في سالف الزمان على طريقة أهل النظر،و أمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال و دفع الإعضال،فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات و نشئات ذاتيّة بعضها من عالم الأمر و التدبير: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» ، (1)و بعضها من عالم الخلق و التصوير: «وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا» ، (2)فالحدوث و التجدّد،انّما يطرءان لبعض شأنها،فنقول لما كانت للنفس ترقّيات و تحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية و إلى ما بعدها،فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر،يصير وجوده وجودا عقليّا إلهيّا لا يحتاج حينئذ إلى البدن و أحواله و استعداده،فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما و بقاء إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال و مصيرها إلى العقل الفعّال،فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء،و مثالها كمثال الطفل و حاجته إلى الرحم أوّلا و الاستغناء عنه أخيرا،و كمثال الصيد و الحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا و الاستغناء في بقائه عنها أخيرا،ففساد الرحم و الشبكة لا ينافي بقاء المولود و الصيد و لا يضرّه.

ص:149


1- -الإسراء:85. [1]
2- -الأعراف:11. [2]

ثمّ اعلم أنّ العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض،و ليست علّيتها كعلّية العلل الموجبة حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول.و ما ذكروه من قولهم كلّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم،و لا أن يعدم بعد الوجود،لا يستلزم القول بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد الوجود،إذ ربما يكون وجوده السابق كافيا في رجحان وجوده اللاحق على عدمه،فلا يحتاج في وجوده البقائي إلى حامل و قابل لإمكانه.

و من نظر و أمعن في مراتب الأكوان الخلقيّة الإنسانيّة قبل حدوث النفس،وجد أنّ مادة النطفة أي حامل إمكان الصورة الجمادية النطفية،بعد أن تصوّرت بصورتها و استكملت بها،زال عنها ذلك الإمكان و لم يزل عنها تلك الصورة،بل صارت أقوى و أكمل ممّا كانت أوّلا،حيث صارت صورة نباتية بحسب إمكانها الاستعدادي النباتي.

و صورة النبات،لا تقصر عن فعل الجماد أيضا،و كذا الحال في صيرورتها صورة حيوانيّة، لما حقّق في موضعه أن هذه الاستكمالات المترادفة و الانقلابات ليس إلاّ ضربا من الاشتداد الجوهري،لا بأن تفسد صورة و تحدث صورة اخرى مباينة للاولى،كيف و الحكماء أثبتوا للطبائع حركة حبيّة إلى غايات ذاتية البتّة،و لكلّ ناقص شوقا غريزيّا إلى كماله.

و كلّ ناقص إذا وصل إلى كماله اتحد به و صار وجوده وجودا آخر،و هذه الحركة الحبيّة في هذا النوع الإنساني إلى جانب القدس معاين مشهود لصاحب البصيرة،فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالاتها و توجّهاتها إلى مقام العقل و اتحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا،اطلقت عن المادة و الحدثان و تجرّدت عن القوّة و الإمكان، و صارت باقية ببقاء اللّه سبحانه من غير تغيير و فقدان.

و بالجملة تحقيق هذا المبحث و تنقيحه،إنّما يتيسّر لمن علم كيفيّة اتحاد النفس بالعقل الفعّال و مصيرها إلى العقل الفعّال،و كل ميسّر لما خلق له.-انتهى كلامه رحمه اللّه. (1)

و قال أيضا في الشواهد الربوبية:الإشراق السادس في حدوث النفس الإنسانيّة،اعلم أنّ نفس الإنسان جسمانيّة الحدوث،روحانيّة البقاء،إذا استكملت خرجت من القوّة إلى

ص:150


1- -راجع هامش المبدأ و المعاد:378-382. [1]

الفعل.

و البرهان عليه أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب،لما مرّ من أنّ جهة القوّة و الاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له،و ما هو إلاّ الهيولى الجرمانية فيلزم من فرض تجرّد النفس عن المادّة اقترانها بها؛هذا خلف،و ستعلم بطلان التناسخ،فإذن يكون حادثة.

و هذا البرهان غير مبنيّ على أنّ النفوس الإنسانيّة متّحدة بالنوع،فيكون أولى ممّا قيل:

إنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان،لم تكن متكثّرة و لا واحدة.

أمّا الأوّل:فلأنّ الامتياز فيما له حدّ نوعي إمّا بالموادّ أو لعوارضها أو بالفاعل أو بالغاية، و العلل منحصرة في هذه،و النفوس صورتها ذاتها لاتّحادها في النوع،و فاعلها أمر واحد، و غايتها الاتّصال به و التشبّه له،فيكون تكثّرها إمّا بالمادة أو بما في حكمها كالأبدان و قد فرضت مفارقة؛هذا خلف.

و أمّا الثاني:فلأنّ قبول الكثرة بعد الوحدة من خواصّ المقادير و عوارضها،و النفس ليست كذلك.

شك و تحقيق

و لك أن تقول:هذا ممّا يلزمك في النفوس،بعد مفارقتها عن الأبدان،فما الفارق؟

فنقول:المميّز فيها عند القوم هي الهيئات المكتسبة في الأبدان،و عندنا بأنحاء الوجودات،لأنّ تشخّص كلّ وجود بنفس ذاته المتقوّم بجاعله،و قد علمت أنّ النفوس و الصور التي هي مبادئ الفصول للأجسام ليست إلاّ أنحاء من وجود الموادّ و ما هي كالموادّ،و لها امور سابقة،هي مخصّصات المادّة و معدّات وجود عقيبها (1)،و لها امور لا حقة هي عوارضها اللازمة لذواتها المتعيّنة بأنفسها.فقد علم أنّ المادّة المشتركة أو الماهيّة النوعية،تفتقر في تخصّصها و تميّزها بوجود دون وجود إلى لواحق و مميّزات سابقة، فكذا في تخصّصها بتلك السابقة إلى سابقة اخرى.و أمّا إذا وجد فرد من ماهيّته فانعدام المعدّ المخصّص،لا يقدح في بقائه إذا لم يكن له ضدّ.

ص:151


1- -في المصدر:و معدّات وجود ما يلحقها.

فالجواهر النطقيّة بعد وجودها و تجرّدها عن الموادّ هي كسائر المفارقات الصوريّة، لا ضدّ لها،إذ لا قابل لها،فتبقى ببقاء مبدئها و معيدها (1)،و لو لم يكن فيها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها،لكفى فضلا عن الصفات و الملكات و الأنوار الفائضة عليها من المبادئ.-انتهى ما قصدنا نقله من كلامه رحمه اللّه. (2)

و أقول:و باللّه التوفيق،إنّ الدليل الأوّل الذي ذكرناه على هذا المطلب دليل واضح،إلاّ أنّ إتمامه يتوقّف على دفع ما أورده الإمام فيها من الشبهة و ذكرها صاحب المحاكمات أيضا،فإنّ الظاهر أنّ تلك الشبهة ترد عليه أيضا ظاهرا و تندفع بما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص:152


1- -في المصدر:و معادها.و الظاهر:مبدعها و معيدها.
2- -الشواهد الربوبية:221-223. [1]

في توجيه حجج أفلاطون

اشارة

و أمّا الحجج الثلاث التي ذكرنا أنّ أفلاطون اعتمد عليها في هذا المطلب،فهي حجج واضحة بعد التأمّل عند من كان له قلب أو القى السمع و هو شهيد،سواء بني الاحتجاج بها على مذهب أفلاطون و شيعته من قدم النفس، (1)أو على مذهب من قال بحدوثها قبل البدن كما هو رأي بعض الملّيّين.

حيث إنّ المنقول عن أفلاطون و شيعته قدم النفس،إمّا بناء على الدليل الذي دلّ عندهم على قدم العالم،و كان ذلك جاريا بزعمهم في النفس أيضا كما هو الاحتمال.

و إمّا بناء على الدليل الذي قام عندهم على قدم خصوص النفس كما نقله صاحب المحاكمات عنهم حيث قال:

و اعلم أنّ أفلاطون و أتباعه،إنّما ذهبوا إلى قدم النفس لأجل أنّهم ما فرّقوا بين إمكان الحدوث و إمكان العدم في استدعاء المادة.و علموا أنّ النفس غير مادّية فقطعوا بأنّها قديمة،لأنّها لو كانت محدثة،كانت لها مادّة فامتنع حدوثها كما لم يمكن عدمها لذلك، و لأنّ النفس لمّا كانت عاقلة لذاتها،لا يجوز أن يكون إمكان وجودها في مادّة و إلاّ لتوقّف وجود النفس على المادّة،فلا تعقل بذاتها،و إذا لم يمكن إمكان وجودها في مادّة لم يمكن أن يكون فسادها في مادّة،و إلاّ لكان وجودها يتوقّف على عدم الاستعدادات العدميّة.-انتهى.

و كذا إذا بني الاحتجاج بها على مذهب من قال بحدوثها بحدوث البدن كما هو رأي الأكثرين منهم،و سيجيء تحقيقه،إلاّ أنّه على هذا التقدير،يرد على تلك الحجج تلك

ص:153


1- -قوله:«من قدم النفس...»و اعلم أنّ القول بقدم النفس و حدوث إضافته إلى البدن مما اختاره أرباب العرفان و لذا قالوا إنّ ما هو أبديّ أزليّ أيضا.و يرد على هذا المشرب إشكالات لا يمكن دفعها.

الشبهة أيضا،و تندفع بما سيأتي بيانه.

أمّا بيان تلك الحجج الثلاث على القول بقدم النفس فظاهر،حيث إنّهم قالوا بأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه كما بيّنا الوجه فيه فيما سبق،و على هذا و إن كان لا احتياج في إثبات بقاء النفس إلى تلك الحجج،إلاّ أنّ أفلاطون كأنّه اعتمد فيه عليها،إشارة إلى برهان آخر أو تأكيدا للبرهان المبنيّ على قدمها،و لعلّه رام أنّ النفس الناطقة شيء لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد،لا من جهه علّته المفيضة التامّة و لا من جهة ذاته بذاته.

أمّا من الجهة الاولى فلأنّها قديمة،و القديم لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد،لأنّ طروءه عليه يستلزم طروءه على الواجب بالذات تعالى شأنه كما مرّ تقريره،و هو محال.

أمّا من الجهة الثانية فلوجوه:

أحدها-و هو الحجّة الثانية المنقولة عنه-:أنّ النفس لا رداءة فيها،أي لا قوّة فساد فيها، إذ تلك القوّة تابعة للمادّة كما تقرّر في موضعه،و إذ ليس فيها قوّة فساد،بل هي فعلية محضة،و صورة مطلقة،فلا يمكن أن يطرأ عليها الفساد بوجه،إذ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لفساد نفسه.

و على هذا فيؤول هذا البرهان إلى البرهان الأخير،الذي ذكره الشيخ في الشفاء، و لخّصه في الإشارات على عدم إمكان فساد ذات النفس مطلقا،و سيأتي زيادة توضيح له.

أو أنّه لا رداءة في النفس أي لا يتطرّق إليها العدم و الفناء،إذ لا ضدّ لها فإنّ الضدّ إنّما يتصوّر فيما كان له موضوع أو مادّة و المفروض أن ليس لها في ذاتها ذلك و ما لا ضدّ له لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد مع كون علّته التامة باقية بذاتها.

و ثانيها-و هو الحجّة الاولى له-:أنّ النفس تعطى حياة ما هي متعلّقة به كالبدن،و مفيد الحياة لا يمكن أن يكون فاقدا لها،بل ينبغي أن يكون واجدا لها من ذاته،فينبغي أن تكون الحياة ذاتية للنفس حتّى كأنّها حياة.

و لذلك أطلق بعض الحكماء أنّ النفس حياة للبدن،و الذاتي للشيء لا يمكن أن يزول عنه،فلا يمكن أن يطرأ على النفس التي هي منشأ الحياة بل الحياة نفسها،ما هو ضدّها أعني الموت.

نعم لو كان شيء ما من الأشياء بحيث يكون الحياة عارضة له كالجسم،أمكن أن تزول

ص:154

عنه الحياة بطروء ضدّها،و حينئذ فما ورد في الشرع،و كذا في كلام الحكماء من موت النفس،إشارة الى قطع تعلّقها عن البدن.و زوال الحياة عن البدن بزوال ما هو منشأ الحياة عنه،و على هذا فإطلاق الموت على موت البدن بمعنى و على موت النفس بمعنى آخر.

و هذا كالوجود عند أفلاطون و شيعته،حيث ذهبوا إلى أنّه متأصّل في الوجود،و الماهيّة عارضة له،و ربط الوجود بالماهيّة إنّما هو عبارة عن عروض الماهيّة له،لا أنّ الوجود أمر انتزاعي عارض للماهيّة كما هو رأي آخرين.

فإنّه على مذهب أفلاطون و أتباعه لا معنى لانعدام الوجود في نفسه،لأنّه غير معقول، بل المعدوم هو الماهيّة بزوال الوجود فيها و اتّصاله بأصله،و كذا يطلق العدم على عدم الماهيّة بمعنى،و على عدم الوجود بمعنى آخر.

و ثالثها-و هو الحجّة الثالثة له-:أنّ النفس دائما متحرّكة من ذاتها حركة رويّة و جولان، إمّا إلى المبادئ العالية فتستكمل و تستفيد و تستنير،و إمّا إلى البدن فتفيد و تكمل و تنير.

فشأنها في ذاتها إمّا إفادة الكمال أو استفادته حتّى كأنّها حركة نحو الكمال،و لذلك أطلق عليها أفلاطون في بعض كلماته أنّها حركة،و على هذا فيكون تلك الحركة الكمالية ذاتية له،و إذا كان كذلك فذاتها لا تقبل النقص،فلا تقبل الفساد،إذ هو فوق النقص.

و إذا عرفت ما ذكرنا،عرفت أنّ الحجّة الاولى و الثالثة و كذا الثانية على التقرير الأخير ترجع كلّها إلى معنى واحد،و هو أنّ النفس الناطقة لا ضدّ لها فلا تقبل الفساد،لكن التقرير مختلف،فإنّ الحجّة الاولى مبنيّة على أنّها حياة،و الثانية على أنّها ليس لها رداءة،و الثالثة على أنّها كمال.

و أيضا الاولى مبنيّة على النظر في النفس من جهة كونها متعلّقة بالبدن و منشأ حياة له، و الثالثة على النظر فيها في نفسها من غير نسبتها إلى البدن بخصوصه.

و هذا الذي ذكرنا،هو تقرير تلك الحجج الثلاث على رأي أفلاطون و شيعته القائلين بقدم النفس،و إن كان القول به غير صحيح في نفسه،حيث إنّ الشبهة التي دعت الفلاسفة إلى القول بقدم العالم،شبهة داحضة،قد قرّرنا بطلانها بما لا مزيد عليه في الرسالة التي ألّفناها في بيان حدوث العالم.

و كذلك ما أسنده صاحب المحاكمات،إلى القائل بقدم النفس من عدم الفرق بين إمكان الحدوث و إمكان العدم في استدعاء المادّة إلى آخر ما نقله،سيجيء إبطاله في بيان

ص:155

دفع شبهة الإمام،مع أنّه يرد على هؤلاء القائلين،و كذا على القائلين بحدوث النفس قبل البدن مفاسد،سنشير إليها في مبحث إثبات حدوث النفس بحدوث البدن إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ذكرنا يظهر تقرير تلك الحجج الثلاث على مذهب من قال بحدوث النفس قبل البدن،و عدم ورود شيء عليها،و إن كان هذا المذهب أيضا غير صحيح كما سيأتي بيانه.

و كذا يظهر تقريرها على مذهب من قال بحدوث النفس بحدوث البدن،لكنّه ممّا يرد عليه اعتراض الإمام ظاهرا حتّى نأتي على بيان اندفاعه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا من الدليل على عدم فساد النفس بحدوث البدن، حيث بنى الكلام على ثلاثة احتمالات و أبطل كلّها،ظاهر متّضح،إلاّ أنّه يرد على ما ذكره في الاحتمال الثالث من أنّ فساد البدن،لو كان بفساد النفس،لكان يجب أن تفسد النفس أوّلا ثم يتبعه فساد البدن،و هذا باطل،لأنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب.

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه

سؤال ينبغي التعرّض له و لجوابه.بيان السؤال:أنّه لو كانت النفس علّة ذاتيّة للبدن كما هو المفروض في ذلك الاحتمال،فلم لا يجوز أن يكون فساد البدن بسبب فساد النفس؟ حيث إنّ زوال المعلول يكون بزوال علّته،لا بدّ لنفي ذلك من دليل.

فإن قيل:الدليل عليه كما يشعر به كلام الشيخ،أنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه كتغيّر المزاج و التركيب،لا بسبب آخر أيضا كفساد النفس.و الحاصل أنّ زوال المعلول و إن أمكن أن يكون بزوال علّته لكنّه لا ينحصر فيه بل يمكن أن يكون بوجه آخر أيضا و الحال فيما نحن فيه كذلك،لأنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر المزاج و التركيب،لا بسبب فساد النفس.

قلنا:هذا الحصر غير مسلّم،و على تقدير تسليمه فتغيّر المزاج و التركيب لعلّه كان سببا قريبا لفساد البدن،و كان السبب لهذا التغيّر هو فساد النفس،و كان هو سببا بعيدا لفساد البدن،فإنّ الحافظ للمزاج و التركيب هو النفس،و التغيّر فيهما هو زوال ذلك الحفظ، و هو إنّما يكون بزوال علّته الحافظة أي النفس.

ص:156

يدلّ على ما ذكرنا كلام الشيخ في الكتابين،حيث قال في الشفاء في فصل جوهرية النفس بهذه العبارة:

«فالنفس التي لكلّ حيوان،هي جامعة اسطقسات بدنه و مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي،فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها.» (1)

و قال في النمط الثالث من الإشارات في بيان أنّ نفس الإنسان غير الجسمية و المزاج بهذه العبارة:

«و لأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك،إنّما يجبرها على الالتيام و الامتزاج قوّة غير ما يتبع التيامها من المزاج،و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده أي المزاج.و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك،فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر لك أن تسمّيه النفس و هذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك-انتهى.» (2)و ما نقلناه عنه في الكتابين نصّ فيما ذكرنا.

فإن قيل:لا يمكن أن يكون تغيّر المزاج و التركيب مسبّبا عن فساد النفس،لأنّه لا سترة في أنّ تغيّرهما لكونه استحالة و حركة في الكيف زمانيّ تدريجىّ،و حينئذ نقول:لو كان ذلك التغيّر مسبّبا عن فساد النفس،لكان يجب أن يكون فساد النفس أيضا تدريجيّا، لوجوب المناسبة بين العلّة و معلولها،و التدريج يستدعي حركة في زمان واقعة على مادّة تقبل الحركة التدريجيّة كما حقّق في موضعه و المفروض كون النفس مجرّدة غير ذات مادّة في ذاتها،و إن فرض تلك المادّة،هي مادّة البدن كما في الحركات النفسانية،حيث إن النفس و إن كانت مجرّدة عنها في ذاتها،لكنّها محتاجة إليها في فعلها،كان هذا الفرض منافيا لما هو المفروض منها حيث إنّ المفروض في ذلك الاحتمال الثالث،هو فساد البدن بفساد النفس لا العكس،حتّى يمكن أن يكون فساد النفس تدريجيّا تابعا لفساد البدن أي لفساد مزاجه و تركيبه الذي هو تدريجيّ.

قلنا:سلّمنا ذلك لكنّا نقول:فما وجه الجمع بين كلامي الشيخ أي الكلام الذي ذكره في

ص:157


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 2:301-302. [2]

الاحتمال الثالث و ما نقلناه عنه في الكتابين؟

و أيضا فما معنى قوله فيما نقلناه عنه في الكتابين،إنّ حافظ المزاج و التركيب هو النفس؟

و ما ذكره في الاحتمال الثاني من تلك الاحتمالات الثلاثة أنّ المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس كما حقّقه،و هذا بيان السؤال.

نقل كلام عن المحقّق الطوسي للتمهيد لبيان الجواب

و أمّا بيان الجواب فيستدعي تمهيد مقدّمة:هي أنّه قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في ذيل ما نقلنا عن الشيخ في الإشارات آنفا:و قد يرد على هذا الموضع سؤال مشهور،و هو أن يقال:إنّكم قلتم:إنّ المركّبات إنّما تستعدّ لقبول صورها من مبدئها بحسب أمزجتها المختلفة،و يجب من ذلك تقدّم الأمزجة على تلك الصور،و الآن تقولون:إنّ النفس التي هي صورة الحيوان جامعة لاسطقساته،و الجامع للاسطقسات يجب أن يكون متقدّما على المزاج و هذا تناقض. (1)

و أجاب الفاضل الشارح عن ذلك أنّ الجامع لأجزاء النطفة نفس الوالدين،ثمّ إنّه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الامّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس،ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له و جامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء. (2)

و قال (3)في رسالته المشتملة على أجوبة مسائل المسعودي:

و اعلم أنّ الجامع لتلك العناصر غير الحافظ لذلك الاجتماع،و لمّا كتب بهمنيار إلى الشيخ و طالبه بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها فقال الشيخ:

كيف ابرهن على ما ليس،فإنّ الجامع لأجزاء بدن الجنين هو نفس الوالدين و الحافظ لذلك الاجتماع أوّلا القوّة المصوّرة لذلك البدن،ثمّ نفسه الناطقة.ثمّ قال:و تلك القوّة ليست قوّة واحدة باقية في جميع الأحوال،بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادّة الجنين.

و بالجملة فإذن تلك المادّة تبقى في تصرّف المصوّرة،إلى أن يحصل تمام الاستعداد

ص:158


1- -شرح الإشارات 2:303. [1]
2- -شرح الإشارات 2:303. [2]
3- -أي قال الشيخ الاعظم رض.

لقبول النفس الناطقة،فحينئذ يوجد النفس.-فهذا ما قال هذا الفاضل فيه.

أقول:و قال الشيخ في الفصل الثالث من المقالة من علم النفس في الشفاء:فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه و مؤلّفها و مركّبها على نحو يحصل معه أن يكون بدنا لها،و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي. (1)

فقول الشيخ في الشفاء و الإشارات،يخالف ما ذهب إليه الفاضل الشارح هاهنا و ما نقله عن الشيخ في رسالته.

و أيضا إن كانت نفس الامّ مدبّرة للمزاج فكيف فوّضت التدبير بعد مدّة إلى الناطقة، و إنّما يجري أمثال هذا بين فاعلين غير طبيعيّين يفعلان بإرادات متجدّدة،و إن كانت القوّة المصوّرة مدبّرة،و المصوّرة من القوى الخادمة للنفس التي تكون بمنزلة آلات لها،فكيف حدثت المصوّرة قبل حدوث النفس التي هي مخدومتها،و كيف فعلت بذاتها،فإنّ الآلة ليس من شأنها أن تفعل من غير مستعمل إيّاها،و ما يقتضيه القواعد الحكميّة التي أفادها الشيخ و غيره،هو أنّ النفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة،ثمّ تجعلها أخلاطا،و تفرز منها بالقوّة المولدة مادة المنيّ،و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادة لصيرورتها إنسانا،فتصير بتلك القوّة منيّا،و تلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المنيّ،كالصور المعدنيّة،ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية،فتجذب الغذاء و تضيفها إلى تلك المادّة فتنميها و يتكامل المادّة بتربيتها إيّاها فتصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها لهذه الأفاعيل،و هكذا إلى أن تصير مستعدّة لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانية أيضا فيصدر عنها تلك الأفعال أيضا،فيتمّ البدن و يتكامل إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع جميع ما تقدّم النطق،و تبقى مدبّرة في البدن إلى أن يحلّ الأجل.

و قد شبّهوا تلك القوى في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجرّدة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة تجاوره ثمّ تشتدّ،فإنّ الفحم بتلك الحرارة يستعدّ لأن يتجمّر،و بالتجمّر يستعدّ لأن يشتعل نارا شبيهة بالنار المجاورة،فمبدأ الحرارة الحادثة في الفحم،كتلك الصورة الحافظة،و اشتدادها كمبدإ الأفعال النباتية،و تجمّرها كمبدإ

ص:159


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.

الأفعال الحيوانية،و اشتعالها نارا كالناطقة،و ظاهر أنّ كل ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المقدّم و زيادة،فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقصان إلى حدّ ما من الكمال،و اسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة،فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود.

و تبيّن من ذلك أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين،هو نفس الأبوين و هو غير حافظها.و الجامع للأجزاء المضافة إليها إلى أن يتمّ البدن و إلى آخر العمر،و الحافظ للمزاج هو نفس المولود،و قول الشيخ:«إنّهما واحد»بهذا الاعتبار،و قوله«إنّ الجامع غير الحافظ»بالاعتبار الأوّل.

و بالجملة فالغرض هاهنا على التقديرين أعني أن يكون الجامع و الحافظ شيئين أو شيئا واحدا حاصل لأنّ المزاج محتاج إلى شيء آخر هو النفس،سواء كانت نفس ذلك البدن أو نفسا اخرى.-انتهى كلامه رحمه اللّه.

و قال صدر الأفاضل في الشواهد الربوبيّة:اعلم أنّ الحكماء جعلوا المولّدة و المصوّرة و غيرهما قوى للنفس الإنسانيّة،و النفس حادثة بعد حدوث المزاج و تمام صور الاعضاء، و استشكل هذا بعض الناس بأنّ القول باستناد صور الأعضاء إلى المصوّرة قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة و فعلها بنفسها من غير مستعمل إيّاها و هو ممتنع. (1)

فأجيب عنه تارة بعدم تسليم حدوث النفس-لجواز قدمها،كما ذهب إليه بعض الفلاسفة-و تارة بحدوثها قبل البدن،كما هو رأي بعض الملّيّين،و تارة بعدم جعل المصوّرة من قوى النفس المولود الحيواني،بل من قوى النفس النباتية المغايرة لها بالذات كما هو رأي البعض،و تارة بتصييرها من قوى نفس الامّ.

و شيء من هذه الوجوه لا يسمن و لا يغني،و هكذا اضطرب كلامهم في أنّ الجامع لأجزاء البدن هل هو الحافظ لها أم لا؟و في أنّه نفس المولود أم لا؟فذهب الإمام الرازي إلى أنّ الجامع نفس الأبوين ثمّ يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأمّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس،ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له و جامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء.

و نقل عن الشيخ الرئيس لمّا طالبه بهمنيار بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها؟أنّه قال:«كيف ابرهن على ما ليس».

ص:160


1- -الشواهد الربوبية:184 و [1]فيه:اعلم أنّ الحكماء حيث جعلوا....

و بناء هذه الأقوال كلّها على عدم العثور و الاطّلاع على كيفيّة الحركات الجوهريّة، و كيفيّة تجدّد الصورة على المادّة و تلازمهما.و قد مرّت الإشارة إلى أنّ المادّة باستعدادها علّة مصحّحة لتشخّص الصورة،و الصورة بجوهرها العقليّ علّة موجبة لمادّة غير الاولى، بل لبقائها.و هكذا تسلسلت الموادّ بالصور و الصور بالموادّ،فالجامع في كلّ حين غير الحافظ،لأنّ الأوّل معدّ و محرّك بحسب تحرّكه،و الثاني موجب ممسك حسب ثباته و بقائه،و هكذا في كلّ صورة طبيعية أو نفسانيّة،إذ لها جهتان جهة حدوث و تجدّد بواسطة تعلّقه بالمادّة التي شأنها الانصرام،و جهة بقاء و دوام لأجل تعلّقه بالواجب القيّوم، فالمقوّم من الصورة للمادّة غير المتجدّد فيها بوجه،و عينه بوجه،كما نبّهناك عليه مرارا.

ثمّ إنّ العلامة الطوسي بعد أن زيّف قول الشارح القديم للإشارات بأنّ تصرّف نفس المولود في المادّة التي تصرّفت فيها نفس الوالدين،و تفويض التدبير من قوّة أو نفس بعد مدّة إلى اخرى مستحيل.لأنّ تفويض أحد الفاعلين مادّة صنعه إلى فاعل آخر ينوب عنه في تتميم فعله،إنّما جاز في الأفاعيل غير الطبيعية بين فاعلين يفعلان بإرادة دون الطبيعية.

أجاب عن أصل الإشكال بأنّ ما يقتضيه القوانين الحكميّة أنّ نفس الأبوين تفرز من موادّ الغذاء بقوّتها المولّدة مادّة مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة و تصييرها انسانا بالقوّة،و هي صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة،ثمّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية،و هكذا إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانيّة،فيتمّ البدن و يتكامل إلى أن يستعدّ لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع ما تقدّم النطق و تبقى مدبّرة إلى أن يحلّ الأجل. (1)

و قال:فبيّن أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين هو نفس الأبوين،و هو غير حافظها،و الجامع للأجزاء المنضافة إلى أن يتمّ البدن و إلى آخر العمر و الحافظ للمزاج هو نفس المولود.

فقول الشيخ:«إنّهما واحد»بهذا الاعتبار،و قوله:«انّ الجامع غير الحافظ»بالاعتبار الأوّل.

ص:161


1- -شرح الإشارات 2:304-305.

هذا تلخيص ما ذكره و فيه امور صحيحة،إلاّ أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة،من الحفظ و التغذية و التصوير و الإنماء و الإحساس و النطق،أ هي كلّها صادرة من كلمة فاعلة،لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث،أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال،فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة،و هذا يخالف قواعدهم،و إن كان الثاني يلزم عليه،ما يلزم به الشارح القديم،من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى الآخر،و إن كان هناك فساد صورة سابقة و تكوّن صورة لا حقة،فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد،و الفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد و الاضمحلال،فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين فيها.

و أمّا ما ذكره الأطباء من أنّ الحرارة الغريزية توجب الحياة و الموت جميعا فوجه ذلك أنّ فعل تلك الحرارة ليس بالذات إلاّ تقليل الرطوبات.و هذا التقليل نافع في حفظ الحياة ما دامت الرطوبات زائدة في بدن الحيّ،ضارّ ما دامت ناقصة،ففعلها شيء واحد دائما و كلّ واحد من النفع و الضرّ،فعلها بالعرض،و أمّا فعل المصوّرة في مادّتها فليس إلاّ التكميل و الحفظ.و كلّ من له قدم راسخ في الحكمة يعرف أنّ الأفاعيل الطبيعيّة نحو شيء مناف لها مضادّة،بل الأشياء كلّها طالبة للخير الأقصى،كما يشهد به الكشف الأتمّ، فالتحقيق في هذا المقام يتوقّف على ما لوّحنا إليه سابقا من حال اشتداد الطبيعيّة و سلوكها الجوهريّ الاتّصاليّ،حسب ما يقتضيه البراهين المشرقية.-انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول لا يخفى عليك أنّ التحقيق الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه،تحقيق أنيق، ينبغي أن يكون عليه المعوّل في جواب ذلك السؤال المشهور الذي أورده،إلاّ أنّ هاهنا امورا ينبغي التنبيه عليها.

ص:162

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا:

الأمر الأوّل

اشارة

منها أنّه قال:في قول الشيخ«و لأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى آخره» بهذه العبارة:

و هذا استدلال بوجود المزاج نفسه و بقائه على وجود النفس،و هو أنّ المزاج كما مرّ إنّما يحدث بين اسطقسات متضادّة متنازعة إلى الانفكاك لاختلاف ميولها و إلى امكنتها، فهو محتاج أوّلا إلى شيء يجمعها بالقسر حتّى تمتزج و تلتئم بعد الاجتماع،ثمّ تتفاعل، فيحدث بعد ذلك المزاج،و إلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا،و إلاّ تفرّقت بحسب طبائعها فانعدم المزاج،فالمزاج المستمرّ الوجود محتاج إلى جامع و حافظ،أحدهما سبب وجوده و الثاني سبب بقائه،و هما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج،و هذا هو المراد من قوله:«و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده»أي و كيف و علّة الالتيام و حافظه تكون ما قبل الالتيام المستمرّ الوجود،فكيف لا يكونان قبل المزاج الباقي الذي هو بعد الالتيام،و هذا الالتيام يتداعى إلى الانفكاك عند لحوق الجامع أو الحافظ وهن بالأمراض المنهكة أو عدم بالموت لارتفاع المعلول عند ارتفاع العلّة.و هذا استدلال مؤكّد للذي قبله باعتبار المشاهدة،فإذن هناك شيء هو الجامع و الحافظ للمزاج و هو الشيء الذي صار المركّب به إنسانا.-انتهى. (1)

فيستفاد ممّا ذكره أنّ ذلك الجامع كما أنّه جامع بالقسر لذوات تلك الاسطقسات، كذلك هو جامع كذلك للمزاج الذي هو يحدث بعد اجتماعها و تفاعلها،و كذلك ذلك

ص:163


1- -شرح الإشارات 2:301-302.

الحافظ كما أنّه حافظ لتلك الاسطقسات مجتمعة أي لاجتماعها كذلك هو حافظ للمزاج.

فيظهر من ذلك توجيه اختلاف إطلاقات كلام الشيخ في الشفاء و الإشارات حيث إنّه في الإشارات.

قال:أوّلا إنّ تلك القوّة إنّما تجبر الأضداد المتنازعة على الالتيام و الامتزاج فأشار به إلى أنّها جامعة لتلك الاسطقسات على الالتيام.

ثمّ قال:«و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام»فأشار به إلى أنّها علّة الالتيام أي علّة جمع الأجزاء على الالتيام،و كذا هي حافظة للالتيام،أي حافظة لتلك الأضداد مجتمعة.

ثمّ قال:«فكيف لا يكون قبل ما بعده»،إشارة إلى أنّها جامعة و حافظة للمزاج أيضا حيث إنّه يحدث بعد الالتيام و المفروض أنّها علّة للالتيام و حافظة له.

ثم قال:«و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم-إلى آخره-»،إشارة إلى أنّها جامعة و حافظة للالتيام،أي جامعة للأجزاء على الالتيام و حافظة لذلك أي حافظة للالتيام.

ثمّ قال:فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر تصريحا بأنّ تلك القوّة حافظة للمزاج أيضا.

و حيث إنّ الشيخ في الشفاء في الكلام الذي نقلنا عنه قال:«فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها»،إشارة إلى أنّها جامعة للاسطقسات و جابرة لها على الالتيام و الاجتماع،بل إشارة إلى أنّها جامعة للمزاج أيضا فإنّ جمع الاسطقسات و تأليفها و تركيبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها،لا يتصوّر إلاّ بجمع المزاج أيضا أي بجمع الأجزاء التي وقع بينها المزاج،فإنّ ذلك النحو الصالح هو المزاج اللائق.

ثمّ قال:«و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي»،إشارة إلى أنّها حافظة للالتيام و للأجزاء مجتمعة،و كذا هي حافظة للمزاج،فإنّ حفظ البدن على النظام الذي ينبغي يشمل هذين جميعا،فتدبّر.

و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يستفاد من كلام المحقّق الطوسي هذا حيث قال:«إنّ

ص:164

المزاج محتاج أوّلا إلى شيء يجمع الاسطقسات بالقسر حتّى تجتمع و تلتئم بعد الاجتماع ثمّ تتفاعل فيحدث بعد ذلك المزاج،و إلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا»انّ فعل النفس أوّلا،إنّما هو جمع الاسطقسات و الالتيام بينها،و أنّه يتبع ذلك حدوث المزاج.و كذا فعلها بالذات حفظ الالتيام بين الاسطقسات و حفظها على الاجتماع،و يتبعه حفظ المزاج و بقاؤه،فجمع الاسطقسات و حفظها مجتمعة فعل النفس فعلا أوّليّا و حدوث المزاج و حفظه فعلها أيضا فعلا ثانويّا.و بذلك يصحّ إطلاق أنّها جامعة للمزاج،إذ هي جامعة لما يقع فيه المزاج و كذلك يستفاد ممّا تقدّم،و من قوله:«فالمزاج المستمرّ محتاج إلى جامع و حافظ أحدهما سبب وجوده و الثاني سبب بقائه،و هما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج»أنّ ذلك الشيء الجامع من حيث جمع الأجزاء و قسرها على الالتيام،و حفظها على الاجتماع مدّة يحصل فيها الامتزاج و الالتيام و التفاعل بينها سبب لحدوث أصل المزاج و وجوده،و من حيث حفظها على الالتيام بعد ذلك سبب لبقاء المزاج و حفظه،و أن ليس ذلك السبب هو المزاج لتقدّمه على الالتيام المتقدّم على المزاج،و المتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء و علّة له،فلا يكون نفسه،فيستفاد منه أنّ ذلك الجامع من جهة أصل الجمع،و الجمع مدّة يحصل فيها المزاج سبب لوجوده و أنّ الحافظ من جهة حفظ الالتيام بعد ذلك،سبب لبقائه لا أنّ الأوّل علّة معدّة للثاني علّة معدّة لا تجتمع مع معلولها في الوجود و يجب تغايرهما كما زعمه صدر الأفاضل،و حيث كان الأوّل سببا للوجود و الثاني سببا للبقاء،فجاز اجتماعهما في الوجود بل اتّحادهما كما في مراتب كون ذلك السبب نفسا نباتيّة أو حيوانيّة أو ناطقة و إن جاز اختلافهما و تغايرهما كما في مرتبة كونه صورة منويّة كالصورة المعدنيّة في حفظ المزاج،فإنّ حافظ المزاج و سبب بقائه حينئذ هو تلك الصورة و جامعه و سبب وجوده هو نفس الأبوين كما حقّقه رحمه اللّه.و حيث يستفاد منه أنّ حدوث المزاج و بقاءه أمران متغايران فيمكن أن يدفع بذلك ما يمكن أن يورد على المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

ص:165

دفع إيراد عن المحقّق الطوسي رحمه اللّه

من أنّ ما أورده هو نفسه على الإمام من الإلزام بتفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى آخر،وارد عليه أيضا في تفويض نفس الأبوين حفظ المزاج إلى الصورة المنويّة التي هي من قوى النفس المولود.

و بيان الدفع أنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو أصل الجمع و حفظ الأجزاء إلى أن يحصل المزاج،و فعل الصورة المنويّة إبقاء المزاج و حفظه بعد ذلك،و الفعلان متغايران،فلم يفوّض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى الصورة المنويّة،بل انقطع فعلها و حدث فعل آخر من فاعل آخر حدث.و هذا بخلاف ما قاله الإمام حيث إنّه قال:إنّ تدبير المزاج من حيث الوجود و البقاء جميعا كان في عهدة نفس الامّ،ثمّ فوّضته إلى الناطقة،ففوّضت فعلها الخاصّ بها إليها،فتبصّر.

الأمر الثاني

اشارة

و من تلك الامور التي ينبغي التنبيه عليها،أنّ أوّل كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في تحقيقه،و إن كان يوهم أنّ النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الناطقة نفوس متغايرة و ذوات مختلفة بالماهيّة متفاضلة في الكمال،كما هو رأي بعضهم،لكنّ التمثيل الذي ذكره لتلك القوى و النفوس في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها،و كذا قوله أخيرا:«فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقص إلى حدّ ما من الكمال،و اسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة،فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود»يدلّ على أنّ هذه النفوس،بل الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا التي هي كالصورة المعدنيّة كلّها بحسب الذات،و الحقيقة شيء واحد يتزايد كمالاته بحسب استعدادات يكتسبها في مراتبه.و هو في تلك المراتب باق بحسب الذات من غير فساد أمر من ذاته و لا تكوّن أمر في ذاته و له قوى متعدّدة مختلفة بسببها يصير أفعال تلك الذات الواحدة متغايرة مختلفة، كما هو رأي جمهور الحكماء،و هو الحقّ-كما سيأتي تحقيقه-و كأنّه لأجل ملاحظة وحدتها بالذات و تعدّدها بحسب الأفعال و الآثار قال:إنّها كشيء واحد و لم يقل إنّها شيء واحد.

ص:166

و يؤيّده أنّ القول بوحدتها بالذات و تغايرها بحسب القوى و الأفعال،هو الموافق لكلام الشيخ في الكتابين،حيث إنّه في الإشارات (1)في هذا المقام الذي ذكر المحقّق الطوسي فيه هذا التحقيق قال:«فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر،لك أن تسمّيه النفس،و هذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك.»ثمّ قال:«فهذا الجوهر فيك واحد،بل هو أنت على التحقيق،و له فروع من قوى منبثّة في أعضائك».

و كذلك قد حقّق في الشفاء في فصل عدّ المذاهب في النفس و أفعالها و أنّها واحدة أم كثيرة،القول في وحدتها بحسب الذات و اختلافها بحسب القوى و الآلات و الأفعال بما لا مزيد عليه. (2)و سنذكر تلخيصه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى في موضع يليق به.

و بالجملة فهذا القول هو الحقّ الحقيق بالتصديق و لا ينافيه ما ورد في أخبار الصادقين عليهم السّلام من أنّ اللّه تعالى جعل في الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام خمسة أرواح، روح القدس،و روح الإيمان،و روح الحياة،و روح القوّة،و روح الشهوة،و في المؤمنين الأربعة الأخيرة،و في الكافرين الثلاثة الأخيرة، (3)لأنّه يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى تعدّد مراتب كمالات الأرواح،و تعدّد قواها،لا تعدّدها بحسب الذات.

و كذا لا ينافيه ما ورد:من أنّ ولوج روح الحياة،و كذا روح العقل،إنّما يكون إذا مضى على الجنين في الرحم مدّة بعد فيضان الروح النباتي عليه، (4)إذ ذلك أيضا يمكن أن يكون محمولا على أنّ النفس بعد تلك المدّة تزيد كمالاتها،و تكون بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال النباتيّة الفعل الحيواني،و بعد ذلك بحيث يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الفعل الإنساني.

و على هذا أيضا يمكن أن يحمل قوله تعالى: «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ» . (5)

و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ

ص:167


1- -شرح الإشارات 2:302-306. [1]
2- -الشفاء،الطبيعيات،الفصل السابع في عدّ المذاهب...:221،طبع القاهرة.
3- -راجع الوافي 3:627،باب ما خصّوا عليهم السّلام به من الأرواح. [2]
4- -راجع تفسير نور الثقلين 3:532،ذيل آية 12 من سورة«المؤمنون».
5- -السجدة:7 و 9. [3]

مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» ، (1)لو كان قوله تعالى «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ» إشارة إلى إفاضة النفس الإنسانيّة عليه،فتدبّر.

و إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ ما أورده صدر الأفاضل بقوله:«إلاّ أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة،من الحفظ و التغذية و التصوير و الإنماء و الإحساس و النطق،أ هي كلّها صادرة من كلمة فاعلة لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث؟ أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال؟»غير وارد،حيث إنّ كلام المحقّق الطوسي؛دلّ على الأوّل كما هو ظاهر كلامه،و لكونه الحقّ،و لكونه موافقا لكلام الشيخ و هو بصدد شرح كلامه.

و أمّا ما أورده بقوله:«فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة،فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة و هذا يخالف قواعدهم»،فغير وارد أيضا.

أمّا أوّلا فلأنّه يمكن أن يكون مراد المحقّق الطوسي كما يشعر به بعض كلماته وحدة ما يقع عليه اسم النفس،أي النباتيّة و الحيوانيّة و الناطقة بالذات،لا الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا.فعلى هذا فلا يرد حدوث الناطقة مع حدوث النطفة حتّى يلزم التعطيل المذكور.

و أمّا ثانيا فلأنّه على تقدير أن يكون مراده وحدة تلك الصورة الحافظة أيضا مع تلك النفوس بالذات،كما هو الأظهر،يمكن أن يقال إنّ ذلك التعطيل إنّما يلزم لو لم يكن هناك مانع من توجّه الناطقة إلى فعلها الخاصّ بها،و هذا ممنوع،إذ ربما كان توجّهها إلى تكميل مادّة بدنها بحيث تصلح أن تكون آلة لاستكمالها،أو انغمارها في الرطوبة على ما قيل، أو نحو ذلك مانعا عن فعلها الخاصّ بها،و هذا ليس فيه التعطيل المحال،كما أنّها في مرتبة النباتيّة و الحيوانيّة أيضا كذلك،بل إنّها في بعض مراتب كونها ناطقة كمرتبة العقل الهيولاني أيضا كذلك،و لا تعطيل،إذ المانع من فعلها الخاصّ هناك موجود من نحو ما ذكرنا،و لم يقل أحد بأنّ الناطقة في مراتب قواها النظريّة مثلا،كالهيولانية و بالملكة و بالمستفاد و بالفعل نفوس متعدّدة بالذات أو أنّها في مرتبة الهيولانيّة،نفس مغايرة بالذات

ص:168


1- -المؤمنون:12-14. [1]

للنفس التي فيما بعد تلك المرتبة،بل الاتّفاق واقع على أنّها في تلك المراتب أجمع،ذات واحدة تختلف كمالاتها.

ثمّ إنّه لو كان هذا الإيراد الذي أورده صدر الأفاضل على تقدير وحدة النفس بالذات واردا لكان يرد على نفسه أيضا،إذ هو أيضا ذهب إليها حيث قال في تلك الرسالة بهذه العبارة:

«الإشراق الثامن في أنّ لكلّ إنسان نفسا واحدة.

من الناس من زعم أنّ فينا نفسا إنسانيّة،و اخرى حيوانيّة،و اخرى نباتيّة،و الجمهور على أنّ النفس فينا واحدة،هي الناطقة فقط و لها مشاعر و قوى،فانّ لك أن تقول أحسست فغضبت و أدركت فحرّكت،فمبدأ الكلّ أنت،و أنت نفس شاعرة فكلّ القوى من لوازم هذه.» (1)

ثمّ ذكر وجوها اخرى على هذه الوحدة كما يظهر على من راجع كلامه.

و أمّا قوله:«و إن كان الثاني يلزم عليه ما يلزم به الشارح المتقدّم من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى آخر»،فهو وارد على هذا التقدير أي على تقدير تعدّد النفوس بالذات،حيث إنّه يلزم حينئذ تفويض الصورة المنويّة التي هي فاعل طبيعي تدبيرها إلى النفس النباتية،التي هي فاعل طبيعي،و كذا تفويض النفس النباتية تدبيرها إلى النفس الحيوانية،و تفويض الفاعل الطبيعي تدبيره إلى آخر،سواء كان فاعلا طبيعيّا أيضا كما في الأوّل،أو فاعلا غير طبيعي كما في الثاني،ممتنع،على اصولهم،لأنّ الطبيعة لا تكون طالبة لأمر و تاركة له،و كأنّه رحمه اللّه أشعر في كلامه ذلك،بأنّ هذا التفويض إنّما يلزم على تقدير تعدّد النفوس بالذات لا على تقدير وحدتها بالذات،و تعدّدها باعتبار القوى و الكمالات،إذ هي على هذا التقدير فاعل واحد،هو النفس الناطقة المجرّدة التي هي فاعل إراديّ،و ليس هناك تفويض،بل زيادة كمالها بزيادة استعداداتها،و بأنّ المحقّق الطوسي حيث أورد هذا الإلزام على الإمام الرازي ينبغي أن يكون نظره إلى تعدّدها بالذات،فإنّه لو كان نظره إلى وحدتها بالذات لم يرد إلزامه على الإمام حيث إنّ تفويض نفس الامّ التي هي واحدة بالذات-و هي نفسها الناطقة التي هي فاعلة بالإرادة-تدبيرها

ص:169


1- -الشواهد الربوبية:227. [1]

إلى النفس الناطقة للمولود التي هي أيضا واحدة بالذات و فاعلة بالإرادة،ليس من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى الآخر،فهذا الإلزام قرينة على أنّ نظر المحقّق الطوسي إلى تعدّد النفوس بالذات.

و ما ذكره من قوله:«فجميع هذه القوى كشيء واحد»قرينة على أنّ نظره إلى وحدتها بالذات،و بذلك يحصل الإبهام و الإجمال في كلامه:«و لم يتبيّن منه أنّ هذه الأفاعيل أ هي صادرة من كلمة واحدة فاعلة؟أو من كلمات متعدّدة فعّالة؟»

و بالجملة لو كان نظره إلى وحدتها بالذات،لم يرد إلزامه على الإمام الرازي و لم يعلم بعد أنّ مذهب الإمام هو التعدّد بالذات،حتّى يكون الإلزام عليه إلزاميا،و إن كان نظره إلى تعدّدها بالذات ورد عليه أيضا ما ألزمه على الإمام.

و هذا غاية توجيه كلام صدر الأفاضل في إيراده على المحقّق الطوسي.

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه اللّه

و يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الظاهر كما ذكرنا أنّ نظر المحقّق الطوسى رحمه اللّه إلى الوحدة بالذات،و أنّه على تقدير هذه الوحدة أيضا يرد إلزامه على الإمام،فإنّ ذات نفس الامّ و كذا ذات نفس المولود و إن كانتا فاعلين بالإرادة في بعض أفاعيلهما-أي الأفاعيل الحيوانيّة و الإنسانيّة-لكن فعلاهما هذان،أي جمع أجزاء النطفة و حفظها أوّلا الذي أسنده الإمام إلى نفس الامّ،و حفظها ثانيا الذي أسنده إلى نفس المولود الحادثة فعلان طبيعيّان غير إراديّين كما لا يخفى.و الفاعل من حيث فعله الطبيعي سواء كان ذاته بذاته طبيعيّا أيضا،أو إراديّا،لا يمكن أن يفوّض تدبيره الطبيعي إلى فاعل آخر طبيعي أو غير طبيعي و خصوصا إذا كان فعله أيضا غير طبيعى كما هنا،حيث إنّ الدليل الذي ادّعوه على هذا الامتناع جار هنا أيضا.و الحاصل أنّ الفعل الطبيعي من حيث هو فعل طبيعي لا يمكن أن يفوّض تدبيره من فاعل إلى آخر.و لا مانع من أن يكون فاعل واحد من جهة ذاته بذاته أو من بعض الاعتبارات فاعلا بالإرادة،و من جهة بعض الاعتبارات الاخر فاعلا طبيعيّا، فإنّه لا مانع من أن يكون النفس المجرّدة الإنسانيّة من جهة تعلّقها بمجموع البدن كالصورة المعدنيّة،و فاعلة بالطبع،و من جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالكبد نوعا من التعلّق

ص:170

كالنفس النباتيّة،و فاعلة بالطبع أيضا،و من جهة تعلّقها ببعض آخر منها كالقلب نوعا من التعلّق كالنفس الحيوانيّة،و فاعلة بالإرادة،و من جهة ذاتها بذاتها نفسا مجرّدة فاعلة بالإرادة أيضا،كما أنّها من جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالدماغ نوعا من التعلّق مدركة للجزئيات،و من جهة ذاتها بذاتها مدركة للكلّيات،فإنّ أمر النفس عجب عجاب و اللّه أعلم بالصواب.

و من هذا تبيّن أنّ نظر المحقّق الطوسي رحمه اللّه إلى الوحدة بالذات و أنّ إلزامه على الإمام الرازي وارد.

و أمّا قول صدر الأفاضل:«و إن كان هناك فساد صورة سابقة و تكوّن صورة لا حقة، فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد.و الفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد و الاضمحلال».

فهو إن كان ناظرا إلى تقدير وحدة تلك النفوس بالذات و اختلافها في الآثار كما هو المستفاد من كلام المحقّق الطوسي و الشيخ و غيرهما،فلا يخفى أنّه غير وارد،فإنّ هؤلاء لا يقولون بذلك،بل إنّهم يقولون بتكامل استعداد تلك النفس الواحدة و تزايد كمالاتها بحسب مراتبها من غير فساد نفس و تكوّن نفس اخرى.و عليه ينبغي أن يحمل قول المحقّق الطوسي:«و ظاهر أنّ كلّ ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المتقدّم و زيادة.»

و كذلك لو كان ذلك ناظرا إلى تقدير تعدّدها بالذات،فإنّهم و إن قالوا بتكوّن نفس لا حقة لكنّهم لم يقولوا بفساد النفس السابقة،بل إنّ ظاهر كلامهم أنّهم قالوا باجتماع تلك النفس اللاحقة مع السابقة في الوجود و ترتّب الآثار حيث قالوا بأنّ فينا نفوسا متعدّدة، كما نقل صدر الأفاضل نفسه عنهم في كلامه المنقول عنه آنفا.

و أمّا قوله:«فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين».

فهو إن كان من تتمّة السابق،و كان مراده أنّ القوّة الواحدة لا تفعل فعلين متناقضين، أي التوجّه إلى الكمال و الفساد،فجوابه قد ظهر ممّا ذكرنا،و إن كان إيرادا آخر على تقدير وحدة النفس بالذات،و كان مراده أنّ النفس الواحدة لا تفعل الفعل النباتي و الحيواني و النطقي،فهو أيضا غير وارد،إذ هذه الأفعال غير متناقضة،بل يجتمع بعضها مع بعض في الوجود،و تعدّدها لا ينافي وحدة فاعلها بالذات،إذ فاعلها مع وحدتها بالذات مختلفة

ص:171

متعدّدة من جهة الاعتبارات و بحسب الآثار و الكمال.

فظهر من ذلك أنّ الإيرادات التي ذكرها صدر الأفاضل في هذا المقام لا وجه لها،كما أنّ ما اختاره في جواب ذلك السؤال المشهور،و قال إنّه هو التحقيق،ممّا لا وجه له،إذ هو مبنيّ على تجويز الحركة في الجوهر،و قد تبيّن بطلانها في موضعه،حيث إنّ المتحرّك في كلّ مقولة يجب أن يبقى ذاته بشخصه حين الحركة،و إذا فرضت الحركة في الجوهر كانت الحركة في الصور الجوهرية بحيث لا تبقى واحدة منها في أزيد من آن،فيكون المتحرّك نفس الهيولى و الهيولى لا وجود شخصيا لها إلاّ بالصورة.و بما ذكرنا ظهر لك تزييف ما ذكره صدر الأفاضل هنا.

و قد ظهر أيضا بما ذكره المحقّق الطوسي تزييف ما ذكره الإمام الرازي،فظهر أنّ ما حقّقه المحقّق الطوسي رحمه اللّه ممّا ينبغي أن يكون المعوّل عليه في جواب ذلك السؤال المشهور.

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء

و حيث عرفت ما أوردنا من الكلام في البين للتمهيد عن جواب السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء فلنرجع إلى بيان الجواب عنه،فنقول:إنّك إذا أحطت بما تلوناه عليك،تبيّنت معنى ما ذكر الشيخ من كون النفس حافظة للمزاج و التركيب و علّة لهما،فإنّ معناه كما تلخّص لك ممّا تقدم أنّ المزاج البدني لمّا كان واقعا بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك،و هى اسطقسات البدن التي تطلب كلّ منها احيازها الطبيعيّة لو خلّيت و طباعها، فلا بدّ من أن يكون هناك قاسر يقسرها على الاجتماع و الالتيام و ليس ذلك القاسر هو المزاج،لأنّ المزاج إنّما يحدث بعد الاجتماع،فلا يمكن أن يكون قبله،فلا يكون علّة له،بل العلّة القاسرة لتلك الأضداد على الاجتماع إنّما هي أمر آخر،إن شئت سمّيته قوّة، و إن شئت سمّيته صورة،و إن شئت سمّيته نفسا،و هذا القاسر كما أنّه علّة لجمع تلك الأجزاء و التيامها،كذلك هو علّة لما يحدث بعد الالتيام،و يتبعه أي المزاج،فهو علّة أوّلا للالتيام،و ثانيا لحدوث المزاج من المبدأ الفيّاض و لبقائه و انحفاظه،فهو كما أنّه جامع للأجزاء كذلك هو علّة حافظة للمزاج.

ص:172

و بالجملة،فهذا القاسر الجامع الحافظ،هو نفس المولود التي هي واحدة بالذات، مختلفة باعتبار القوى و الآثار و الأفعال و الكمالات.و يصدر عنها في كلّ حالة من حالاتها الجمع و الحفظ معا،ما سوى مرتبة كون تلك القوّة بحيث لا تسمّى نفسا،بل صورة منويّة،فإنّ فعلها في تلك المرتبة،إنّما هو حفظ مزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة لا الجمع، حيث إنّ الجامع للأجزاء الغذائية التي يتبع جمعها المزاج المنويّ،إنّما هو نفس الأبوين لا نفس المولود.و ليس في ذلك تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين من حيث فعلهما الطبيعي تدبيره إلى الآخر،كما أشرنا إليه،أي من جهة أنّ الجمع و الحفظ و إن كان كلاهما فعلين طبيعيّين،و المفروض أنّ نفس الأبوين فوّضت الحفظ إلى نفس المولود.إلاّ أنّه ليس فيه تفويض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى نفس المولود،حيث إنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو الجمع،و هي لم تفوّضه إلى نفس المولود بل الصادر من نفس المولود في تلك المرتبة إنّما هو الحفظ خاصّة دون الجمع،فتبصّر.

ثمّ إنّه عند حدوث المزاج المنويّ تستعدّ تلك الأجزاء التي هي مادّة إنسان لحدوث نفس من المبدأ الفيّاض متعلّقة بها،لا قائمة بها،و بعبارة اخرى إنّه عند ذلك يستعدّ البدن لكون القوّة المتعلّقة به يتزايد كمالها بحيث تسمّى نفسا و هذه القوّة و هذه النفس و هي التي قلنا إنّها واحدة بالذات،مختلفة باعتبار القوى و الكمالات يصدر عنها الجمع و الحفظ معا، و بذلك يظهر معنى قول الشيخ:«إنّ المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس،»و عسى أن نأتي على زيادة إيضاح لهذا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا وجه الجمع بين ما ذكره في الشفاء في ذلك الاحتمال الثالث،من أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب.

و ما نقلناه عنه في الكتابين،من أنّ النفس جامعة لاسطقسات البدن و حافظة للبدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه، و أنّ الالتيام الواقع في أجزاء البدن إذا لحق جامعه و حافظه-أي علّته التي هي النفس- وهن او عدم يتداعى إلى الانفكاك.

فبيانه أنّ هذا الجمع و الحفظ سواء كان متعلّقهما الأجزاء البدنيّة أو المزاج البدني حيث كانا فعلين حاصلين في مادّة يستدعيان فاعلا و قابلا و فاعلهما النفس،كما دلّ عليه كلام

ص:173

الشيخ،و قابلهما البدن بأجزائه و كيفيته،و بعبارة اخرى علّتهما بالذات هي النفس و علّتهما بالعرض هي البدن،كما يدلّ عليه كلام المحقّق الطوسي في ذيل قول الشيخ في الإشارات:«و استحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لما تضرّ جوهرها»حيث قال:«و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس،لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا و لكن بالعرض،و ذلك لأن فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه،و لذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم،و عدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق فيه الفساد حفظ ما لذلك الشيء،لكنّه حفظ بالعرض.-انتهى.»

ثمّ إنّه حيث كان هذا الجمع و هذا الحفظ أمرين حادثين بعد ما لم يكونا،و كان وجود معلول ما يقتضي وجود جميع علله بشرائطها،و كان زواله لا يقتضي زوال جميع ذلك،بل يكفي زوال أمر ما من أجزاء عللها و شروطها أو طروء ضدّه عليه،كان وجود هذا الجمع و الحفظ لوجود فاعلهما و قابلهما معا مع جميع الشرائط التي هي شروط فيها بخلاف زوالهما،فإنّه يكفي فيه زوال قابلها و علّتها بالعرض كالبدن من غير أن يقتضي ذلك زوال ذات علّتهما الفاعلة و علّتهما بالذات كالنفس.

لست أعني بقولي هذا زوال البدن بالذات و فساده عن أصله،حتّى ينافي ما ذكره الشيخ في ذلك الاحتمال الثالث أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب،أي بسبب زوال الجمع و الحفظ حيث إنّ فساد البدن إنّما يكون بفساد المزاج لا بالعكس.

بل أعني به زوال البدن،من حيث كونه قابلا للجمع و الحفظ و صالحا لوقوع الالتيام و المزاج بين أجزائه،بأن يتطرّق أوّلا إلى البدن وهن و ضعف بسبب استيلاء المغيّرات الخارجيّة و الداخليّة،فيخرج بذلك عن الصلاحية لوقوع المزاج الخاصّ بين أجزائه،ثمّ يتطرّق بذلك وهن و فساد إلى ذلك المزاج الحاصل بينها،فيفسد ذلك المزاج و يتداعى أجزاء البدن إلى الانفكاك،على مقتضى طباعها،فيلحق ذلك فساد البدن و يتبعه زوال علاقة النفس عنه،و نحن نعلم بالضرورة أنّ زوال الجمع و الحفظ أي تغيّر المزاج و التركيب

ص:174

إنّما يكون بهذا السبب،و أنّ ذلك يتبعه فساد البدن،كما نعلم بالضرورة أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر مزاجه و تركيبه.

و يؤيّد ما ذكرناه قول الشيخ في الشفاء في فصل جوهرية النفس:«و إذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى و أحدث فيه صورة جماديّة،كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة للنفس،و لتلك الصورة و المادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة،بل إمّا أن يبطل نوعها و جوهرها الذي به كان موضوعا للنفس،أو يخلف النفس عنها صورة تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها فلا يكون ذلك الجسم الطبيعي كما كان،بل يكون صورة و أعراض اخرى و يكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائها و فارق مع تغيّر الكلّ في الجوهر فلا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس و الآن هي موضوعة لغيره.» (1)

و كذا قوله في الإشارات:«و استحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا لعلاقة معها بالموت،لا تضرّ جوهرها» (2)حيث أسند تلك الاستحالة إلى الجسم أوّلا.

و كذا قول المحقّق الطوسي:«و ذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة،إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه» (3).و المحصّل أنّ زوال المزاج و التركيب إنّما يكون بطروء عوارض على البدن الحاصل على المزاج الخاصّ و التركيب الخاصّ لا غير، فيخرج البدن عن القابليّة لذلك المزاج الخاصّ،فيفسد المزاج بزوال علّته القابلة له من حيث إنّها قابلة له،أي فيفسد المزاج و يتبعه زوال البدن و فساده من حيث المزاج و التركيب،و كذا من جهة الصورة الشخصيّة و النوعيّة بل الجسميّة أيضا بطروء الضدّ عليها،و لا يستلزم ذلك زوال ذات العلّة الفاعليّة للمزاج و التركيب أو علّتهما بالذات،أعني النفس الجامعة و الحافظة للمزاج،حيث إنّ انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله،مع أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ تغيّر المزاج و التركيب لكونه تدريجيّا مستلزما لحركة في زمان على مادّة تقبل التدريج،لا يمكن أن يكون مستتبعا لانعدام ذات النفس لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها.نعم هو يمكن أن يكون مستتبعا لزوال النفس من حيث كونها

ص:175


1- -الشفاء، [1]الطبيعيّات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:22،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 3:265. [2]
3- -شرح الإشارات 3:266.

جامعة و حافظة بالذات أي لزوال صفة جمعها و حفظها،و كذا لقطع علاقتها عن البدن، حيث إنّه إذا لم تكن هناك مادة قابلة للجمع و الحفظ لا يتصوّر الجمع و الحفظ،و إن كان ذات الجامع و الحافظ بذاته موجودا،لا نقص في ذاته و لا في علّيته بذاته و إذا زال ذلك المزاج الخاصّ الموافق للنفس الذي هو منشأ علاقتها بالبدن زالت علاقتها عنه من غير أن يكون ذلك مستلزما لانعدام ذات النفس-و سيجيء زيادة بيان له إن شاء اللّه تعالى.

و على هذا فيمكن أن يحمل كلام الشيخ في الشفاء:«و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها» (1)على أنّها حافظة له على ذلك النظام،ما دام يمكن الحفظ و يمكن أن يكون ذلك المزاج قابلا له صالحا له و لم يطرأ عليه الضدّ و لم يستول عليه المغيّرات،و ما دامت النفس موجودة مع البدن متعلّقة به جامعة حافظة،و أمّا إذا لم يكن كذلك،خرج البدن عن الصلاحيّة لقبول حفظ المزاج،و فسد المزاج،و فسد البدن أيضا،و زال الحفظ و انقطعت علاقتها عنه.

و كذا كلامه في الإشارات:«و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك» (2)،على أنّه إذا لحق الجامع الحافظ وهن من حيث الجمع و الحفظ بسبب الأمراض المنهكة البدنيّة أو عدم من هذه الحيثيّة أيضا بسبب الموت البدني،تداعى الالتيام إلى الانفكاك فزال جمعه و حفظه فزال تعلّقها عن البدن ففارقته من غير أن يكون مستلزما لانعدام الجامع الحافظ بذاته،و على هذا فيحصل الجمع بين كلامي الشيخ اللذين نحن بصدد الجمع بينهما من غير إشكال.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو على مساق ظاهر ما نقلنا عن الشيخ آنفا في فراق النفس عن البدن و مذاق الحكماء الطبيعيّين في الموت،و أمّا على مذاق بعض الحكماء الإلهيّين فيه فيمكن أن يقال:إنّ البدن بذلك المزاج الخاصّ و التركيب الخاصّ اللذين هما منشأ تعلّق النفس به لمّا كان آلة لاستكمالها حيث كانت تحتاج إليه في استكمالها،كانت جامعة حافظة للبدن على مزاجه،و كانت العلاقة شديدة باقية،و حيث خرج كمالها المقدّر لها به

ص:176


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 2:301. [2]

من القوّة إلى الفعل مرتبة فمرتبة و كان الاحتياج أقلّ فأقلّ،و لا سيّما إذا استولت المغيّرات على البدن ضعف الجمع و الحفظ مرتبة فمرتبة،إلى أن انتهى الأمر إلى مرتبة يزول فيها الاحتياج بالمرّة،و ينعدم العلاقة و يزول الحفظ،فيتداعى الالتيام المحفوظ،و كذا الاجزاء الملتئمة إلى الانفكاك فينعدم المزاج و يفسد البدن بفساده،و على هذا أيضا فيحصل الجمع بين كلاميه أيضا و كأنّه ألصق بكلامه الذي نقلنا عنه في حفظ النفس للمزاج و اللّه تعالى أعلم.

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس

ثمّ اعلم أنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء في الدليل على أنّه لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس،حيث ذكر أن كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد،و قبل الفساد فيه فعل أن يبقى،و قوّة الفساد و فعليّة البقاء متغايرتان،فإذن هما لأمرين مختلفين.ثمّ ذكر أنّ كلّ شيء يبقى و له قوّة الفساد،فله أيضا قوّة أن يبقى،لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري،و اذا لم يكن واجبا كان ممكنا،و الإمكان الذي يتناول الطرفين،هو طبيعة القوّة،فإذن يكون في جوهره قوّة أن يبقى،و أنّ فعليّة البقاء و قوّة البقاء أيضا متغايرتان،و هما لأمرين مختلفين.فيلزم أن يكون ذاته مركّبة من أمرين بأحدهما فعليّة بقائها و هو الصورة،و بالآخر قوّة بقائها واضح كما ذكره،و إنّما لم يكتف بالمقدّمة الاولى في بيان الدليل و لم يقل إنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء متغايرتان فإذن هما لأمرين مختلفين،فيلزم التركيب،و بعبارة اخرى أنّ موضوع قوّة الفساد غير موضوع فعليّة البقاء و أنّه لا يمكن عروضهما لشيء واحد لأنّ محلّ قوّة الفساد،هو بعينه موصوف بالفساد و لا شيء من محل البقاء بالفعل هو بعينه موصوفا بالفساد.لأنّ الباقي لو قبل الفساد و القابل يجتمع مع المقبول للزم اجتماع الباقي مع الفساد و هو محال.

و الحاصل أنّ الباقي لا يبقى مع الفساد و الموصوف بالفساد يبقى مع الفساد،فلا يكون الباقي موصوفا بالفساد،فلا يثبت له قوّة الفساد،لأنّه إذا قرّر الدليل هكذا،ورد عليه النظر كما أورده صاحب المحاكمات بأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد، لاجتمع معه،فإنّ معنى قبول الشيء العدم أو الفساد ليس أنّ ذلك الشيء يتحقّق و يحلّ فيه الفساد،بل معناه

ص:177

أنّه ينعدم في الخارج،و إذا حصل في العقل و تصوّر العقل العدم الخارجي،كان العدم الخارجي قائما به في العقل،و أمّا في الخارج فليس هناك شيء و قبول عدم.و إن كان يمكن دفع هذا النظر بأنّ الشيء لا يمكن أن يقبل فساد نفسه لأنّ القابل للشيء يجب أن يكون قابلا لما هو متعلّق القوام به،و فساد نفسه مباين له،فلا يمكن أن يقبله.نعم يمكن أن يكون شيء قابلا لفساد غيره عنه.و سيأتي تحقيق ذلك كلّه إن شاء اللّه تعالى.

و إذا تمسّك في الدليل بتينك المقدّمتين جميعا،أي أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء لأمرين مختلفين و أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء تستلزمان قوّة البقاء أيضا،و أنّ قوّة البقاء و فعليّته لأمرين مختلفين،فيلزم التركيب،و أن لا يكون موضوعاهما أمرا واحدا كما تمسّك الشيخ بهما،

تمّ البيان من غير ورود هذا الإيراد عليه،حتّى يحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا، و بالجملة فكلامه في الشفاء في ذلك لا غبار عليه.

و أمّا كلامه في الإشارات في ذلك حيث قال:«و لأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد،و مقارنة لقوّة الثبات» (1)،فكأنّه مجمل في ذلك،حيث لم يتعرّض لذكر فعليّة الثبات و مغايرة قوّة الثبات لها،و قد عرفت أنّ إتمام الدليل يتوقّف عليه،إلاّ أنّه يمكن حمله على ما في الشفاء بأن يقال:معناه:فلن يكون مركّبا من ذلك،لأنّ قوّة الفساد مع فعليّة الثبات تستلزمان قوّة الثبات،و أنّ قوّة الثبات و فعليّته متغايرتان،و تستلزمان محلّين متغايرين مختلفين و التركيب.

و أمّا المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه للإشارات فكأنّه نظر إلى ظاهر كلام الشيخ فقرّر دليله،و تمسّك فيه بالمقدّمة الاولى فقط،أي أنّ قوّة الفساد غير فعليّة البقاء،حيث قال:

«كلّ موجود يبقى زمانا و يكون من شأنه أن يفسد،كان قبل الفساد باقيا بالفعل و فاسدا بالقوّة،و فعل البقاء غير قوّة الفساد،و إلاّ لكان كلّ باق ممكن الفساد،و كلّ ممكن الفساد باقيا،فإذن هما لأمرين مختلفين،و الأصل لا يمكن أن يكون مشتملا على مختلفين-إلى آخره-». (2)

ص:178


1- -شرح الإشارات 3:285. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285-286.

و قال أيضا أخيرا:«و هو أي الأصل غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات». (1)

و لم يتعرّض للمقدّمة الثانية التي لها مدخل في إتمام الدليل،أي أنّ ذلك مستلزم لقوّة الثبات،و هي متغايرة مع فعليّة الثبات و تستلزمان محلّين مختلفين.

و يرد عليه أوّلا أنّه شرح غير مطابق لكلام الشيخ،فإنّ الشيخ لم يذكر فعليّة الثبات،بل ذكر قوّة الثبات،حيث قال:«فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات» (2)

و أيضا فإنّ المحقّق الطوسي و إن تعرّض لذكر قوّة الثبات في قوله:«فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات،-حيث إنّ الموجود في بعض النسخ لقوّة الثبات و إن كان الموجود في البعض الآخر لوجود الثبات كما في أوّل كلامه و آخره-إلاّ أنّه أيضا لا يكون إشارة إلى المقدّمة الثانية،حيث إنّ المقدّمة الثانية هي المغايرة بين قوّة الثبات و فعليّته،لا بين قوّة الفساد و قوّة الثبات،و إن كان مطابقا لظاهر كلام الشيخ.

و أمّا ثانيا فلأنّه على هذا التقرير الذي ذكره لشرح كلام الشيخ يرد عليه النظر المذكور آنفا،و يحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا أو نحوه،و قد أورده صاحب المحاكمات عليه.

قال في قول المحقّق الطوسي:«فإذن هما لأمرين مختلفين»بهذه العبارة:«و هاهنا شيئان:الأوّل،أنّ قوّة الفساد مغايرة للبقاء بالفعل،لأنّها لو كانت عين البقاء بالفعل،لكان كلّ باق فاسدا بالقوّة و بالعكس و ليس كذلك.الثاني،أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء لأمرين مختلفين أي موضوع قوّة الفساد غير موضوع البقاء حتّى لا يمكن عروضهما لشيء واحد». (3)و لم يذكر عليه دليلا.

كلام مع صاحب المحاكمات

و ربما يستدلّ عليه بأنّ محل قوّة الفساد هو بعينه موصوف بالفساد.-إلى آخر ما نقلنا في قولنا:و بعبارة اخرى-ثمّ قال:و فيه نظر،لأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد-إلى آخر ما نقلنا من النظر.

ص:179


1- -شرح الإشارات 3:287. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285. [2]
3- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:286.

و بالجملة فما ذكره هذان العلمان في ذيل كلام الشيخ في الإشارات كأنّه مبنيّ على غفلة عن كلامه في الشفاء،و أنّ توجيه كلامه في الإشارات ينبغي أن يكون مطابقا لما ذكره في الشفاء،لا بما ذكره المحقّق الطوسي و أورد عليه صاحب المحاكمات النظر كما نقلناه و هما(رحمهما اللّه)أعلم.

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي رحمه اللّه كما نقلنا كلامه،قرّر دليل الشيخ في الإشارات على هذا المطلب هكذا:هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس و يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه الأعراض و الصور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو باق في الحالتين فهو أصل بالقياس إليها.

ثمّ بيّن مغايرة فعل البقاء لقوّة الفساد كما نقلنا عنه.

ثمّ ادّعى أنّهما لأمرين مختلفين.

ثمّ قال فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات. (1)و إن لم يكن أصلا-أي لم يكن بسيطا غير حالّ-كان إمّا مركّبا و إما حالاّ، و الثاني باطل لما مرّ و المركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة،إمّا بعضها كالمادّة من الجسم و إمّا كلّها،و على التقديرين فالبسيط الغير الحالّ موجود في المركّب،و هو غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات.

ثمّ قال في قول الشيخ:«و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»هكذا:أي إذا ثبت أنّ لنفس إمّا أصل و إمّا ذات أصل،لم تكن هي و ما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه،و لا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد،فإنّ البقاء و قوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط و الأوّل حاصل،فالثاني ليس بحاصل،فإذن النفس لا يمكن أن تفسد و إنّما قال بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها لأنّ أصل الوجود و بقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها-انتهى. (2)

ثمّ أورد صاحب المحاكمات على هذا الدليل بناء على هذا التقرير،و قال في قول المحقّق الطوسي:«و النفس إن كان أصلا-إلى آخره-:لا يخلو إمّا أن يكون النفس بسيطا غير حالّ فلا يمكن قبوله الفساد لاستدعاء قبول الفساد التركيب،و إمّا أن تكون حالاّ

ص:180


1- -لوجود الثبات(خ ل).
2- -شرح الإشارات 3:285-289.

أو مركّبا،لا سبيل إلى الأوّل لما ثبت أنّ النفس غير منطبعة في شيء.

لا يقال:الثابت بالدلائل السابقة أنّها ليست قوّة حالّة في الجسم،و هذا لا يستلزم أنّها لا تكون حالّة في شيء أصلا،لم لا يجوز أن تكون حالّة في مفارق؟

لأنّا نقول:قيام النفس بالذات من الضروريات لا يمكن منعه،و لو كان مركّبا فإمّا من بسائط كلّها غير حالّة،أو يكون شيء فيها حالاّ كالصورة و الآخر محلاّ كالهيولى.و أيّا ما كان يوجد بسيط غير حالّ،و البسيط الغير الحالّ ليس بقابل للفساد،فلا تكون النفس قابلة للفساد.و الاعتراض أنّا لا نسلّم أنّه إذا وجد بسيط يلزم أن لا تكون النفس قابلة للفساد،و إنّما يلزم كذلك لو كان البسيط الغير الحالّ هو النفس و ليس كذلك،بل المفروض أنّه جزء النفس.و غاية ما في الباب أنّ جزء النفس لا يقبل الفساد،و لا يلزم منه أن لا تقبل الفساد لجواز انعدام الجزء الآخر.

لا يقال:نحن نقول من الابتداء النفس لا بدّ أن تكون بسيطا غير حالّ،و إلاّ لكان حالاّ أو مركّبا و هما باطلان،أمّا الأوّل فظاهر،و أمّا الثاني فلأنّه يلزم وجود بسيط غير حالّ من أجزائه،فيكون قائما بذاته مجرّدا عن جسم و جسمانيّ،عاقلا لذاته و لغيره،متعلّقا بالبدن،فهو النفس و قد كان جزء النفس؛هذا خلف.

لأنّا نقول:لا نسلّم أنّه يلزم من كونه بسيطا غير حالّ،أن يكون قائما بذاته،لم لا يجوز أنّ يكون كالهيولى لا يقوم إلاّ بما يحلّ فيه،و حينئذ لا يلزم أن يكون نفسا.-انتهى كلامه رحمه اللّه. (1)

و قد سبقه الإمام الرازي بناء على ما فهمه من كلام الشيخ في الإيراد على هذا الدليل، و اعترض عليه اعتراضات،كما نقله المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

الأوّل:أنّه لو كان للنفس هيولى و صورة مخالفتان لهيولى الأجسام و صورها،و كان الباقي منها هيولاها وحدها،لما كان الباقي من النفس هو النفس،بل جزءا منها،و حينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

الثاني:أنّ النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركبّة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد،كانا مادّة و صورة،فالنفس عندهم مركبّة من مادّة و صورة.و ذلك

ص:181


1- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الاشارات 3:286.

يؤكّد ما ذكرناه.

و قال صاحب المحاكمات في تقرير اعتراضه الأوّل هكذا:إنّ عدم قبول النفس الفساد على تقدير أنّها أصل ظاهر،و أمّا على تقدير أنّها ذات أصل أي مركّبة من بسائط، لا يكون كلّها حالاّ حتّى يتحقّق منها بسيط غير حالّ غير ظاهر،بل اللازم عدم قبول جزء النفس الفساد،و مدار اعتراض الإمام على هذا الاحتمال،أعني أن يكون النفس مركّبة و احتمال تركيبها من حالّ و محلّ،فإنّها على تقدير تركيبها من جواهر غير حالّة،يكون كلّ منها قائما بذاته عاقلا لذاته،فيكون كلّ منها نفسا فيلزم أن يكون النفس الواحدة نفوسا متعدّدة،و أنّه محال،فلهذا فرض الإمام تركيبها من حالّ و محلّ و أنّهما مخالفان لهيولى الأجسام و صورته،لأنّهما جزءا النفس مجرّدان،و أنّ الباقي المحلّ لا الحالّ، فحينئذ لا يلزم من بقاء المحلّ بقاء النفس كما لا يلزم من بقاء الهيولى بقاء الجسم.

و أمّا قوله:«و حينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة باقية»،فقد تمّ الاعتراض دونه، و لا دخل له في الاعتراض،إلاّ أنّه زيادة زادها لتأكيد بطلان كلام القوم في هذا الباب، فإنّهم لمّا أثبتوا بقاء النفس،قالوا إنّها تبقى بعد موت البدن عاقلة لمعقولاتها،موصوفة بالأخلاق التي اكتسبتها حال تعلّقها بالبدن،و مع قيام ذلك الاحتمال لا يمكن القطع بشيء من هذه،لجواز أن يكون اتّصاف النفس بهذه الكمالات مشروطا بوجود الجزء الحالّ،فإن انتفى انتفت.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:إنّ هذه الإيرادات،لو كانت واردة على دليل الشيخ في الإشارات،ربّما يتراءى ورودها على دليله على هذا المطلب في الشفاء أيضا،إذ مآلهما واحد،و الاختلاف إنّما هو في العبارة،و أنّ ما ذكره في الشفاء بقوله:«و كلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ و الأصل و هو الذي نسمّيه النفس،و ليس كلامنا في شيء مجتمع منه و من شيء آخر» لا يجدي نفعا في دفع تلك الإيرادات كلّها أو بعضها،إذ مجرّد التسمية و ادّعاء أنّ كلامنا في هذا دون ذاك،مع فرض التركيب من جزءين،ليس بنافع في ذلك.و ظنّي هذه الإيرادات كلّها إنّما نشأت عن الغفلة عن كلام الشيخ في الكتابين مثل ما تقدّم،حيث إنّه عند إمعان النظر فيما ذكره في الكتابين من الدليل على هذا المطلب،و ما بني عليه الدليل،يمكن

ص:182


1- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:288. [1]

توجيه بحيث لا يرد عليه تلك الأنظار و الإيرادات.

أمّا كلامه في الشفاء،فلأنّه ذكر في فصل«أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد»بعد ما بيّن في فصل سابق عليه،أنّ الأنفس غير مادّية،ثمّ بيّن في فصل بعده كيفيّة انتفاع النفس بالحواسّ في إدراكاتها الجزئية،و أنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات كما يظهر ذلك على من راجع كلامه (1)و نظر فيه،و أنّه حيث أثبت في الفصل المتقدّم،أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية،أثبت أنّها غير مركّبة من مادّة و صورة كالجسم أي تركيبا من جزءين،أحدهما حالّ في الآخر يسمّى صورة،و الآخر محلّ له يسمّى مادّة أو هيولى،بحيث يكون تشخّص الحالّ بالمحلّ و تقوّم المحلّ بالحالّ كما ذكروه.فنفى بذلك كون النفس جسما ذا مقدار مركّبا من هذين الجزءين،أي جزءين كان كلّ منهما ذا وضع،بل مركّبا مطلقا من حالّ و محلّ و إن كان المحلّ و الحالّ كلاهما مفارقين عن المادّة غير ذي وضع و كذا المركّب منهما حيث إنّ التركيب من جزءين إذا لم يكن أحدهما حالاّ في الآخر،و لا الآخر محلاّ له، و لم يكن احتياج لأحدهما إلى الآخر في الوجود و التشخّص،لا يكون تركيبا حقيقيّا، و لا منشأ لكون الجزءين مع التركيب مركّبا و إن كان،كان التركيب من مادّة و صورة كالجسم،فلزم أن يكون النفس جسما و مادّية،و المفروض خلافه.

و بالجملة أنّه أثبت بذلك كون النفس غير مركّبة من مادّة و صورة،أو من شيء كالمادّة و شيء كالصورة،فما ذكره الإمام فيما نقلنا عنه:«انّ النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركبة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد،كانا مادّة و صورة، فالنفس عندهم مركّبة من مادّة و صورة»شبهة في هذا المقام،و جوابها ما ذكره المحقّق الطوسي:أنّ ما ذكره مغالطة باشتراك الاسم،فإنّ المادّة و الصورة تقعان على ما ذكره، و على جزئي الجسم بالتشابه،و إلاّ فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة و صورة.

و الحاصل أنّ ما ادّعوه من انتزاع الجنس و الفصل من المادّة و الصورة الخارجيّتين على تقدير تسليمه إنّما هو في الأجسام،و أمّا في غيرها فلا يسلّم،كيف و أنّ الأعراض أيضا ربما يكون لها جنس و فصل،و لا يكونان منتزعين من المادّة و الصورة الخارجيّتين إذ ليست هي أجساما،فكيف الجواهر المجرّدة عن المادّة،و كذلك أثبت حيث أثبت إنّ

ص:183


1- -الشفاء،الطبيعيات،الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد:202،طبع القاهرة.

النفس غير مادّية أنّها ليست عرضا أو صورة حالّين في مادّة أو جسم ذي مادّة،فلزم ممّا ذكره،أن ليست النفس مركّبة في ذاتها،و لا بسيطة قائمة في مادّة،و كذلك أنّه حيث أثبت في الفصل التالي أنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات من دون توسط آلة في ذلك،أنّ قيامها إنّما هو بالذات كتعقّلها لمعقولاتها،إذ العاقل بالذات لا يكون إلاّ قائما بالذات من غير دخل أمر آخر في قيامها و وجودها،إذ لو كان لأمر ما مدخل فيه،لما كان كذلك،و المفروض خلافه، و حيث أثبت ذلك،لزم منه أنّ النفس غير مركّبة من جزءين حالّ و محلّ،إذ المركّب تركيبا كذلك يكون تقوّمه بجزئيه،فلا يكون قائما بالذات،و كذلك لزم منه أنّها غير حالّة في شيء أيّا كان ذلك الشيء جسما أو غيره،مجرّدا أم مادّيا إذ الحالّ كذلك لا يكون عاقلا بالذات، و لا قائما بذاته،فلزم منه أيضا أنّها ليست عرضا و لا صورة لشيء ما جسم أو جسمانيّ أو مجرّد،و كذلك لزم منه أنّها ليست بمحلّ لشيء يكون قيامها بذلك الشيء،إذا لمحلّ القائم بما حلّ فيه لا يكون قائما بذاته كما هو المفروض،فلزم منه أنّها ليست هيولى و لا مادّة لصورة ما،يكون تقوّمها بتلك الصورة،كالصورة الجسميّة أو النوعيّة بالنسبة إلى الهيولى.

و أنّ الصورة العقلية الحالّة في النفس ليست ممّا به تقوّمها أو عقلها لذاتها،إذ لو كان الأمر كذلك،لما كان للنفس قيام بالذات و لا عقل بالذات مع قطع النظر عن حلول تلك الصورة العقليّة فيها،و المفروض خلافه،حيث إنّها في مبدأ الفطرة أيضا لها قيام بالذات و تعقّل بالذات و أنّها قد تزول تلك الصورة العقليّة عنها،و هي باقية على حالها من القيام بالذات و التعقّل بالذات.

و بالجملة فقيام النفس بالذات من الضروريات،كما اعترف به صاحب المحاكمات أيضا،و يلزم منه عدم قيامها في وجودها و في تعقّلها بالمحلّ،و لا بالحالّ،و العجب منه أنّه اعترف بذلك،و ادّعى أنّه يمكن أن يكون النفس كالهيولى لا تقوم إلاّ بما يحلّ فيها،و هل هذا إلاّ تناقض؟

فلزم ممّا ذكره الشيخ أنّ النفس مع بساطتها في ذاتها أصل في الوجود و القيام و التعقّل، من غير دخل أمر آخر في ذلك،و الحاصل أنّه لزم ممّا بيّنه في الفصلين المتقدّمين،كون النفس شيئا بسيطا لا تركيب فيه من حالّ و محلّ أصلا،و لا هي ممّا هو قائم بالمركّب، و تعلّق له بالمادّة،و لا قيام لها في وجودها و تعقّلها إلاّ بذاتها لا بأمر آخر،هو جزؤها

ص:184

مطلقا،أو محلّ لها أو حالّ فيها،و أنّه لا يقدح في ذلك كونها محلاّ للصور العقليّة،سواء عددناها من جملة الصور أو من جملة الأعراض،لأنّها ليست ممّا بها قيام النفس بالذات أو تعقّلها بذاتها،لأنّها قد تزول،و مع ذلك يبقى محلّها و هو النفس موجودة بذاتها،عاقلة لذاتها،فلزم من ذلك بساطتها بساطة حقيقيّة،تنافي كونها مركّبة بوجه،و كذا كونها قائمة في المركّب،و كذا لزم منه أصالتها في الوجود و التعقّل أصالة مطلقة و إن كانت البساطة أعمّ مطلقا من الأصالة في الوجود و التعقّل،لأنّ كلّ أصل يلزمه أن يكون بسيطا من غير عكس كلّي،إذ قد يكون الشيء بسيطا و لا يكون أصلا في ذلك،كبعض الأعراض البسيطة و كالهيولى،فلذلك أثبت الشيخ بساطة النفس أوّلا ثمّ أثبت أصالتها فيهما ثانيا حتّى يخرج من ذلك البسائط التي ليست أصلا.

ثمّ إنّه حيث أثبت ما ذكرنا أطلق على النفس،أنّها بسيطة و أنها أصل و سنخ بمعنى أنّها أصل و سنخ في الوجود و القيام بالذات و التعقّل لذاتها لا مدخل لشيء غيرها سوى الفاعل المفيض إيّاها في ذلك،سواء كان ذلك الشيء جزؤها مطلقا،أو حالاّ فيها أو محلاّ لها، و أنّها كما أنّ لها أصالة في ذلك،بالنظر إلى ذاتها كذلك لها أصالة حين فرض التركيب مع غيرها،إذا أخذت على أنّها مركّبة مع شيء آخر، لوحظ ذلك الشيء معها في ذلك التركيب،فإنّ أخذ ذلك الشيء معها حين التركيب،لا يقدح في بساطتها و أصالتها بالمعنى المذكور،بل لا يكون ذلك التركيب،إلاّ مجرّد اجتماع،فإنّ ذات ما هو بسيط حقيقي بحسب ذاته لا ينقلب،إذا اخذ مركّبا و مجتمعا مع غيره إلى كونه مركّبا حقيقيّا،و كذلك ذات ما هو أصل في الوجود و القيام و التعقّل لذاته،إذا اخذ مركّبا كذلك لا ينقلب إلى كونه جزءا للمركّب حالاّ أو محلاّ،و بالجملة إلى كونه غير أصل في ذلك،بحيث يحتاج كلّ من جزئيه إلى الآخر،فلا يكون ذلك التركيب المأخوذ إلاّ اعتباريّا و مجرّد اجتماع،و لا يقدح ذلك في بساطتها الحقيقيّة الذاتيّة،و لا في أصالتها المطلقة.

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه اللّه

و حينئذ فما ذكره المحقّق الطوسي من«أنّ الشيخ يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو

ص:185

باق في الحالتين،فهو أصل بالقياس إليها»راجع إلى ما ذكرنا من معنى الأصل من بعض الجهات،إلاّ أنّه ربما يوهم أنّ ذلك مجرّد اصطلاح،اصطلح عليه الشيخ و ليس كذلك،بل إنّ ذلك معنى الأصل لغة و عرفا،أي ما هو الأصل في الوجود و القيام و التعقّل،و إلاّ أنّه لو كان قوله:«من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور-إلى آخره-»نعتا لقوله:«كلّ بسيط» كما يشعر به قوله:«فهو أصل بالقياس إليها»يلزم منه أنّ الأصل ما هو البسيط الغير الحالّ في شيء،و من شأن ذلك البسيط أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو باق في الحالتين،فيلزم منه أن يكون المحلّ المتقوّم بالحالّ أيضا أصلا في الوجود و القيام و التعقّل،و قد عرفت أنّه ليس كذلك.و لو كان قوله:«من شأنه- إلى آخره-»نعتا للشيء يلزم منه أنّ البسيط لو كان حالاّ في شيء كذلك كان أصلا أيضا، فيلزم منه أن يكون الأعراض و الصور البسيطة الحالّة في الهيولى الباقية في الحالتين أصلا في الوجود و التعقّل،و هذا أظهر فسادا من الأوّل،و إلاّ أنّه عدّه أصلا بالنسبة إلى الأعراض و الصور،و أنّه يوهم عدّ الهيولى الاولى أيضا أصلا،و الظاهر من كلام الشيخ أنّه عدّه أصلا لأصالته في الوجود و القيام و التعقّل،و أنّ المحلّ مطلقا خارج عن كونه أصلا بهذا المعنى، لكنّه رحمه اللّه أعلم.

و إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:إنّ الشيخ بعد ما ذكر أنّ قوّة الفساد يستلزم التركيب من مادّة و صورة،إمّا في ذات ذلك الأمر المفروض فاسدا أو فيما يقوم هو به،سرد الدليل على عدم فساد النفس هكذا:إن كانت النفس بسيطة مطلقة بحيث لا تركيب في ذاتها أصلا و لا قيام لها في المركّب كما هو الثابت بما تقدّم لم تنقسم هي و لا ما تقوم هي به إلى مادّة و صورة،فلم تكن قابلة للفساد و إن اخذت مركّبة فذلك التركيب،إمّا بأخذها مركّبة في ذاتها فذلك غير ممكن،لمنافاته لبساطتها الذاتيّة و أصالتها المطلقة،و إمّا بأخذها مجتمعة مع غيرها و ذلك إمّا بأخذها كالصورة في ذلك المجتمع،و هذا أيضا غير ممكن،لمنافاته لأصالتها المطلقة،و لعدم قيامها بالمادّة،فبقي أخذها كالمادّة لذلك المجتمع،مع أنّ لها مناسبة للمادّة من وجه،حيث إنّ المادّة أيضا شيء بسيط غير قابلة للفساد،و كذا هي أصل في المركّبات،و إن لم تكن أصلا بالمعنى المذكور المقصود هنا.و حينئذ فلنترك ذلك المركّب المجتمع،لعدم كونه نفسا،لأنّ كلامنا في النفس،و هي جزء من هذا المجتمع،

ص:186

لا عينه،و لنترك أيضا الجزء الآخر من هذا المجتمع الذي هو بمنزلة الصورة،لعدم كونها نفسا أيضا،و لننظر في الجزء الذي هو بمنزلة المادّة أي النفس التي هي الأصل و السنخ في هذا المركّب المجتمع،و لنتكلّم فيها و نقول:

إنّ تلك المادّة التي هي الأصل و السنخ إمّا أن تؤخذ مركّبة هكذا إلى غير النهاية،فننقل الكلام فيها إلى غير النهاية و هذا محال.و إمّا أن ينقطع الأخذ على سبيل التركيب،فينتهي الكلام إلى ما هو الأصل و السنخ منه،و ان لا يبطل ذلك الأصل،حيث إنّه ليس فيه تركيب و لا قيام بالمركّب و لا قوّة فساد،فأخذ النفس مع غيرها على سبيل التركيب لا يقدح في مطلوبنا،إذ كلامنا في النفس لا في غيرها،و هي الأصل و السنخ من جملة أجزاء هذا المركّب و لا في هذا المركّب المجتمع من النفس و غيرها،إذ هو ليس نفس النفس حتّى يلزم كون ذلك الأصل جزءا من النفس لا عينها.

فتبيّن من ذلك أنّ كلّ شيء بسيط غير مركّب و لا قائم بالمركّب كما في الفرض الأوّل، أو كلّ شيء هو أصل مركّب و سنخه كما في الفرض الثاني،فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى و قوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته،إذ ذلك الاجتماع إنّما هو سبب التركيب الحقيقي في ذاته،أو فيما يقوم ذاته به و المفروض خلافه هنا،و لا يلزم منه كون النفس مادّة،إذ المادّة و إن كانت بسيطة غير قابلة للفساد،و كانت أصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور إذ قيامها إنّما هو بما يحلّ فيها.

ثمّ إنّه ربما أشعر كلامه في التركيب حيث قال:«و لنترك المركّب و لننظر في الجوهر الذي هو مادّته-إلى آخره-إنّ هذا التركيب إنّما هو بأخذ النفس التي اعتبرها مادّة،و هي الأصل مع غيرها الذي يكون غير أصل،و يكون كالصورة،و لم يتعرّض لأخذها مع أصل آخر،و كأنّ وجهه أنّ أخذها كذلك غير ممكن إذا لجزء الآخر الذي هو الأصل أيضا لا يمكن أن يكون صورة لما عرفت.

و أيضا يستلزم أن يكون نفس واحدة أكثر من واحدة،و مع ذلك فيستلزم ما هو المقصود و هو عدم فساد ما هو الأصل فيه،غايته أن يكون ذلك الأصل أكثر من واحد، و غير النفس التي نحن بصدد التكلّم فيها أيضا،و هذا الذي ذكرنا و إن كان حمل كلام الشيخ عليه لا يخلو عن تكلّف،إلاّ أنّه غاية توجيهه بناء على اصوله،و به يندفع جميع الأنظار

ص:187

التي نقلناها عن الإمام الرازي و صاحب المحاكمات كما يعرف بالتدبّر،فتدبّر تعرف.

ثمّ إنّ الشيخ في قوله:«و أمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب»-إلى آخر ما نقلنا عنه-تصدّى لبيان أنّ الأجسام و صورها و موادّها و الأعراض الحالّة فيها،أيّ منها يمكن أن يفسد و أيّ منها لا يمكن أن يفسد،و أنّ السبب في إمكانه و عدم إمكانه ما ذا؟و أنّ أمر النفس ليس كأمر شيء منها.

فقال:و أما الكائنات التي تفسد،كالاجسام العنصريّة،فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع،و قوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد حتّى يلزم قبوله للفساد من هذه الجهة،و الحال أنّ جهة الوحدة مشابهة للبساطة التي تنافي ذلك،بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين أي بقاء صورها فيها و فسادها عنها،و بسبب تلك المادّة التي يلزمها أن يكون محلاّ لحالّ آخر يلزم أن يكون هناك كثرة ملتئمة من محلّ و مادّة،هي قابلة لكلا الضدّين،و من صورة حالّة بسببها تكون فعليّة ذلك المركّب و إن كان العمدة في قبول الفساد هو المادّة،إذ هي قابلة لفساد الصورة عنها في المركّب و بسبب فساد الصورة يلزم فساد المركّب أيضا.فليس في الفاسد المركّب من جهة وحدته لا قوّة أن يبقى و لا قوّة أن يفسد،بل كان منشأ قبول الفساد فيه جهة تلك الكثرة،و ذلك التركيب من صورة و مادّة في تلك المادّة قوّة فساد الصورة التي من شأنها أن تفسد عنها و إن كانت المادّة هي الأصل في قبول الفساد،أي فساد الصورة و يتبعه فساد المركّب، فأشعر بما ذكره أنّ النفس حيث لم تكن مركّبة من مادّة فيها قوّة الفساد و لا قائمة بالمركّب، كذلك لا تكون قابلة للفساد أصلا.

ثم قال:«و أمّا المادّة أي مادّة الجسم مطلقا سواء كانت مادّة لجسم كائن فاسد، أو لجسم ثابت على الدوام،ففيها احتمالان:أحدهما-و هو المرجوح-أنّها تبقى بنفس ذاتها لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء،و الآخر-و هو الراجح-إنّما تبقى بقوّة بها تبقى،لكن ليس لها قوّة أن تفسد شيئا آخر غير قوّة البقاء،لأنّ المراد بقولنا:أنّ في المادّة قوّة الفساد،أنّ فيها قوّة فساد غيرها كالصورة،كما أنّ فيها قوّة حدوث الصورة لا قوّة فساد نفسها،فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لفساد نفسه،ففيها قوّة بقاء نفسها خاصّة،و على التقديرين يلزم أن تكون المادّة باقية لبساطتها و عدم تركّبها من مادّة و صورة،و إنّ ذلك و إن كان

ص:188

يؤكّد ما ذكرنا من أنّ البساطة منشأ لعدم الفساد،لكن ليس أمر النفس كأمر المادّة،إذا النفس مع بساطتها أصل و سنخ،و هي ليست كذلك،إذ وجودها و قيامها إنّما هو بما يحلّ فيها لا بذاتها كما في النفس.

ثمّ قال:و البسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها، يعني أنّ الأعراض و الصور البسيطة الحالّة في المادّة و إن كان يتوهّم فيها أن لا تكون فيها قبول فساد من جهة بساطتها و عدم تركّبها بحسب الذات من مادّة و صورة،إلاّ أنّ تلك البساطة المستلزمة لعدم قبول الفساد،هي ما تكون منافية للتركيب في الذات،و للقيام بالمركّب جميعا و تلك الأعراض و الصور البسيطة ليست كذلك،إذ هي محتاجة إلى الموضوع أو المادّة في الوجود أو التشخّص قائمة بالمادّة أو بالمركّب من المادّة و حينئذ فقوّة فسادها في جوهر مادّتها لا في جواهر أنفسها،و لذلك تقبل الفساد،و كذا قوّة فسادها ليست من جهة بساطتها في ذواتها،بل من جهة قيامها بالمادّة أو بالمركّب من المادّة.

و بالجملة فليس أمر النفس كأمر تلك الأعراض و الصور،إذ النفس مع بساطتها في ذاتها غير قائمة بالمادّة و لا بالمركّب من المادّة و هي أصل في القيام و الوجود،و تلك الأعراض و الصور ليست كذلك.

ثمّ قال:و البرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء و البطلان، إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة و صورة،و يكون في مادّته أن يبقى فيه تلك الصور، و قوّة أن تفسد هي منه معا تكملة لما ذكره فيما تقدّم،و بيانا كلّيا لوجه إمكان فساد ما يمكن أن يفسد و ما لا يمكن أن يفسد،فبيّن أنّ كلّ ما هو مركّب من مادّة و صورة أو قائم بالمركّب منهما،و بالجملة له مادّة في ذاته أو في قيامه و في مادّته قوّة أن تبقى فيها صورته و قوّة أن تفسد،أمكن أن تفسد صورته فيفسد المركّب أيضا،و ما ليس كذلك فليس كذلك،فأشعر بأنّ غير الكائنات الفاسدات من الأجسام كالفلكيّات منها عندهم،إنّما لا تفسد لأجل أن ليس في مادّتها قوّة الفساد،و كذلك صورها ليست من شأنها أن تزول عنها،و لا ينافي ذلك كونها مركّبة و غير أصل،لأنّا قلنا إنّ البساطة و الأصالة تكونان منشأين لعدم قبول الفساد،و لا يلزم منه أن يكون كلّ ما هو منشأ لذلك هذين السببين،بل يمكن أن يكون ذلك بسبب آخر غيرهما كما في الأفلاك.و هذا غاية توجيه كلام الشيخ

ص:189

في الشفاء،و به تمّ دليله على أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد،و اندفع عنه الأنظار الموردة عليه،كما أشرنا إليه و اللّه أعلم بالصواب.

في توجيه كلامه في الإشارات

و أمّا توجيه كلامه في الإشارات،فلأنّه ذكر أوّلا في بيان الدليل على أن الأنفس الإنسانيّة لا تفسد بفساد البدن،قوله:«و لمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقليّة،غير منطبعة في الجسم،بل إنّما هي ذات آلة بالجسم-إلى آخره-». (1)

و أشار بلفظة«لمّا»إلى ما أثبته في النمط الثالث و غيره،فأشار بقوله:«هي موضوع ما للصور العقليّة»إلى أنّها مجرّدة في ذاتها و كمالاتها الذاتيّة عن المادّة،لأنّ موضوع الصور العقليّة التي هي مجرّدة عن المادّة لا يكون إلا مجرّدا عنها أيضا كما هو المستبين عندهم،و سيأتى بيانه،فحيث أشار إلى تجرّدها في ذاتها و كمالاتها الذاتيّة عن المادّة، أشار إلى أنّها غير مركّبة من المادّة و الصورة كالجسم،و غير قائمة بالمادّة و الجسم كالصور و الأعراض،كما أنّه أشار بقوله:«غير منطبعة في الجسم»إلى الأخير،و أشار أيضا بقوله:

«بل إنّما هي ذات آلة بالجسم»إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها و كمالاتها العقليّة الذاتيّة إليه،بل إنّ احتياجها إليه إنّما هو في أفعالها و إدراكاتها الجزئيّة،و أمّا في أفعالها و إدراكاتها الكلّية فلا،بل هي عاقلة بذاتها لمعقولاتها من غير توسّط آلة في ذلك.فأشار بما ذكره إلى بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة و إلى أصالتها المطلقة في الوجود و القيام و التعقّل كما عرفت وجه ذلك.

ثمّ إنّه بعد بيان أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن،قال:«إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات،لأنّها تعقل بذاتها كما علمت،لا بآلتها،و لو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال إلاّ و يعرض للقوّة كلال». (2)

إلى آخر ما ذكره من الأدلّة على ذلك،فبيّن أنّها تعقل بذاتها من غير آلة.

ثمّ قال:«لو كانت القوى العقليّة منطبعة في جسم من قلب أو دماغ،لكانت دائمة التعقّل

ص:190


1- -شرح الإشارات 3:264. [1]
2- -شرح الإشارات 3:276. [2]

له أو كانت لا تعقله البتّة» (1)إلى آخر ما ذكره من الدليل عليه،فبيّن أيضا أنّها عاقلة لذاتها و كذا هي غير منطبعة في الجسم.

ثم قال تكملة لهذه الإشارات:«فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته.»

«فأشار بما ذكره إلى كونها عاقلة»بذاتها،و إلى أصالتها في الوجود و القيام و التعقّل،و إلى بساطتها الحقيقة الذاتيّة اللازمة لأصالتها أيضا،فأشار بذلك إلى نفي كونها مركّبة من هيولى و صورة،بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين حالّ و محلّ مطلقا و إن كانا مفارقين، بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين مطلقا و إن لم يكونا حالاّ و محلاّ،و كذلك أشار إلى نفي كونها صورتا أو عرضا،بل نفي كونها قائمة بالمحلّ مطلقا و إن كان المحلّ جوهرا مفارقا غير ذي وضع،و كذا أشار إلى نفي كونها مادّة أو كالمادّة من شيء لكون جميع ذلك غير أصل في الوجود و القيام و التعقّل بخلاف النفس.و أيضا ما سوى المادّة من هذه إمّا مركّب أو قائم بالمركّب بخلاف النفس.

ثمّ قال:في بيان الدليل على عدم إمكان فساد النفس بسبب من الأسباب،و لأنّه أصل و ذكره على سبيل الاستبانة ممّا تقدم،و على أنّ هذه القضية مقدّمة ظاهرة لا ينبغي لعاقل إنكارها يعني أنّها أصل في الوجود و القيام و التعقّل،و إنّما اكتفى في الدليل بأصالتها في ذلك و لم يتعرّض لبساطتها،لأنّ أصالتها كذلك تستلزم بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة المطلقة التي هي العمدة في عدم إمكان قبول الفساد من غير عكس،كما أشرنا إليه،مع أنّه لا يرد على تقدير أصالتها كونها مادّة في المركّب كما عرفته أيضا.

ثمّ فرّع على أصالتها المستلزمة لبساطتها في ذاتها أنّها لا تقبل الفساد.و قال:فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات (2)كما بيّنا وجه ذلك مطابقا لما في الشفاء،ثمّ قال:فإن اخذت لا على أنّها أصل بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه.و أشار بقوله:«فإن اخذت لا على أنّها أصل»أي اخذت لا على أنّها أصل بهذا المعنى المتقدّم و لا على أنّها بسيطة بالمعنى المذكور،إلى أنّ أخذها كذلك،لا يقدح في أصالتها الذاتيّة و لا في بساطتها المطلقة،بل إنّما هو بمحض اعتبار اجتماعها مع غيرها في ذلك التركيب كما عرفت،و أشار بقوله:«بل

ص:191


1- -شرح الإشارات 3:276. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285-286. [2]

كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة»إلى أنّ النفس على هذا الأخذ لا تكون مركّبة بحسب ذاتها،إذ ذاك غير محتمل،بل تكون كالمركّب أي المأخوذ مجتمعا مع غيرها،بحيث لا يكون ذلك المجتمع مركّبا حقيقيّا،بل بمحض الاعتبار و ملاحظة الاجتماع،و إلى أنّ هذين الجزءين من هذا المجتمع،لا يحتمل كونهما هيولى و صورة،بل كالهيولى و كالصورة،حيث إنّ أحد الجزءين الذي هو النفس يمكن أن تعتبر في هذا الاجتماع الذي هو كالتركيب كالهيولى لمناسبتها للنفس في البساطة و عدم قبول الفساد و في الأصالة في المركّب من بعض الوجوه،و إن لم تكن أصلا بالمعنى المتقدّم المقصود هنا،و إن لم يمكن اعتبارها صورة أو كالصورة،إذ لا مناسبة لها بالنفس من وجه،بل المأخوذ كالصورة ينبغي أن يكون هو الجزء الآخر من المأخوذ كالمركّب أي المجتمع كما عرفت بيانه فيما تقدّم.

و أشار بقوله:«عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه»،أي من جزئي هذا المجتمع من النفس و من غيرها إلى أنّه إذا اخذت النفس كذلك تركنا المجتمع لعدم كونه نفسا،إذ هو مجتمع من النفس و من غيرها،و كلامنا في النفس،و تركنا أيضا الجزء الآخر منه الذي هو بمنزلة الصورة،و ليس بأصل مطلقا و عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه،أي نحو النفس التي هي الأصل و اعتبرناها كالهيولى و المادّة من هذا المجتمع.

فنقول:إنّ الجوهر الذي هو بمنزلة المادّة و هو الأصل و السنخ،إمّا أن يؤخذ مركّبا هكذا إلى غير النهاية،فننقل الكلام فيه هكذا إلى غير النهاية و هو محال،و إمّا أن لا يبطل الجوهر الذي هو الأصل و السنخ أي النفس،و لا يكون فيه قوّة فساد لبساطته في الذات،و لأصالته في القيام و الذات و هو المطلوب،و حينئذ لا يلزم أن يكون النفس مادّة أو كالمادّة بحسب ذاتها،لأنّ المادّة و مثلها إنّما قيامها بما يحلّ فيهما،و النفس ليست كذلك،بل إنّ قيامها إنّما هو بذاتها.

ثمّ قال:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها،فقوّة فسادها و حدوثها هي في موضوعاتها،فلم يجتمع فيها تركيب» (1)بيانا لوجه إمكان فساد الأعراض و دفعا للنقض بالأعراض البسيطة،كما ذكره،بل بالصور البسيطة أيضا كما ألحقها بها المحقّق

ص:192


1- -شرح الإشارات 3:287. [1]

الطوسي رحمه اللّه في شرحه لبيان النقض،و ذكر أن كثيرا من الأعراض و الصور البسيطة تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها،فهلاّ كانت النفس كذلك.

و بيان الدفع أنّ البساطة الموجبة لعدم إمكان الفساد إنّما هي البساطة المطلقة،بحيث لا يكون هناك تركيب من مادّة قابلة للفساد أصلا،لا في ذات ذلك البسيط و لا فيما يقوم هو به كما في النفس،و أمّا تلك الأعراض و الصور فليست كذلك،لأنّها قائمة بالمركّب من مادّة أو بالمادّة،و تلك المادّة قابلة للفساد أي لفساد تلك الأعراض و الصور عنها،فلا بساطة مطلقة هناك،فلهذا كانت ممكنة الفساد،و لا يلزم من ذلك أن يكون هناك تركيب في ذوات تلك الأعراض و الصور البسيطة،حتّى ينافي بساطتها الذاتية.

ثمّ قال:«و إذا كان كذلك لم تكن أمثال هذه قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»، (1)أي إذا كان الجوهر العاقل منّا كذلك أو إذا كان الأمر كذلك أي أنّ النفس أصل و سنخ في الوجود و القيام بالذات و التعقّل بالذات و بسيطة في ذاتها غير قائمة بالمركّب من المادّة و لا بالمادّة التي هي قابلة للفساد و أنّها إذا اخذت مركّبة مع غيرها لم يؤثّر ذلك في صيرورتها مركّبة في ذاتها و لا في كونها قائمة بالمركّب من المادّة و لا بالمادّة،بل كانت أصالتها و بساطتها المطلقتان باقيّتين لم تزولا،لم تكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها و لم يلزم أيضا كونها مادّة،لأنّ المادّة أيضا و إن كانت بسيطة غير ممكنة الفساد و أصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور بخلاف النفس كما مرّ بيان ذلك كلّه.و إنّما قال:«بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»،إشارة إلى أنّ النفس كما أنّها ليس لها سبب لفسادها كذلك لها سبب لبقائها و هو وجوبها و ثباتها بعللها الباقية التي لا يطرأ عليها الفساد البتّة،فيلزم أن تكون هي أيضا باقية البتّة غير فاسدة أصلا،لأنّ سبب بقائها موجود و المانع عنه-أي سبب فسادها-منتف،فبأىّ طريق يطرأ عليها الفساد.و هذا نظير قول الشيخ فيما تقدّم من الدليل على عدم إمكان فساد النفس بفساد البدن،حيث قال:فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لا تضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد (2)الوجود من الجواهر الباقية.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما ذكرناه و بينّاه،ظهر لك توجيه كلام الشيخ بناء

ص:193


1- -شرح الإشارات 3:288. [1]
2- -مبدأ(خ ل).

على اصوله على وجه يتمّ به مطلوبه و يندفع عنه الإيراد،و كذا انتفاء الاحتمالات التي هي صارت منشأ لإيراد صاحب المحاكمات،و الإمام الرازي عليه ما أوردا عليه كما لا يخفى.نعم ما ذكره الإمام الرازي من الاعتراض الثالث لم يتّضح بعد بيان اندفاعه، و سنتكلّم عليه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّه ربما يتراءى من الإمام في اعتراضه الثاني أنّه حمل قول الشيخ في الدليل:«و إن اخذت لا على أنّها أصل،بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه»على أنّه إن اخذت لا على أنّها أصل اخذت مركّبة في ذاتها من جزءين كالهيولى و الصورة،مثل الجسم.إلاّ أنّ هذين الجزءين حيث كانا جزئي شيء مفارق عن المادّة،أي النفس يكونان مخالفين لهيولى الأجسام و صورها،و عمدنا بالكلام نحو هيولاها،فإنّها حيث كانت أصلا،-أي بسيطة في ذاتها غير قائمة بمادّة-ليس فيها قوّة فساد نفسها،فهي باقية غير قابلة لطريان الفساد عليها،و هذا أعني عدم فساد هيولاها كاف فيما نحن بصدده من بيان أنّ النفس غير فاسدة،حيث إنّ جزءها الأصل أعني شيئا كالمادّة لها غير فاسد.

و حيث هو حمل كلام الشيخ على ذلك أورد عليه الاعتراض،و قال:إنّه على هذا لما كان الباقي من النفس هو النفس،بل جزءا منها،و هو خلاف المقصود،و حينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة الباقية ببقائها باقية،لأنّها تابعة لجزئها الآخر الذي هو صورتها، و المفروض فسادها،لأنّها متعلّقة بمادّتها،و يمكن أن يكون قوّة فسادها في مادّتها كما في سائر الكائنات الفاسدات و إن لم يكن في تلك المادّة قوّة فساد نفسها،و على هذا فلا تكون النفس باقية و لا كمالاتها الذاتيّة.

و لا يخفى عليك أنّه بما قرّرنا كلام الشيخ في الاستدلال كان هذا الاحتمال الذي فهمه منه منتفيا،بل كان بعيدا عنه بمراحل،كيف و لو حمل كلام الشيخ على ذلك لكان استدلالا واهيا لا يرتكبه من له أدنى مسكة فكيف مثل الشيخ؟!و هل هذا إلاّ مثل أن يقال:إنّ الجسم العنصري الكائن الفاسد غير فاسد،لأنّه مركّب من هيولى و صورة،و صورته المتعلّقة بمادّته و إن كانت قابلة للفساد حيث إنّ في هيولاها قوّة فسادها لكن هيولاه غير قابلة للفساد من جهة أنّها بسيطة غير قائمة بالمادّة و ليس فيها قوّة فساد نفسها،و هذا ممّا

ص:194

لا يرتكبه عاقل.

فعلم من ذلك أنّ هذا الاعتراض من الإمام مثل اعتراضه الثاني،بل مثل إيرادات صاحب المحاكمات إنّما نشأ من الغفلة عن التدبّر في كلام الشيخ و عن سوء الفهم منه.

ثمّ إنّ الجواب الذي أجاب به المحقّق الطوسي عن هذا الاعتراض،جواب صواب، و كأنّه أيضا مبنيّ على بساطة النفس بساطة ذاتيّة مطلقة،و على أصالتها في القيام أصالة مطلقة،كما بنينا توجيه كلام الشيخ على ذلك.

و ما ذكره أوّلا من بيان أنّ النفس لا يمكن أن يكون لها هيولى مطلقا و إن كانت مخالفة لهيولى الأجسام،حيث احتمل في ذلك احتمالات و أبطل كلّها،فأثبت بذلك عدم ثبوت هيولى أو كالهيولى لها،غنيّ عن البيان.

و أمّا ما ذكره أخيرا بقوله:«ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها و الكمالات التابعة لتلك الصورة لا يجوز أن تفسد و تتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن،لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك كما تقرّر في الاصول الحكميّة،فهو كأنّه يحتاج إلى بيان،به يندفع الإيراد عنه،و هو أنّه ادّعى أنّه قد تقرّر في الاصول الحكمية مثل ما نقلنا عن الشيخ في الشفاء في وجه تغيّر الكائنات الفاسدات من الأجسام،أنّه إذا كان هناك صورة قائمة بمادّة هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين،أي لقبول صورة حادثة فيها و كذا لقبول فساد تلك الصورة عنها فحينئذ يمكن أن تفسد تلك الصورة عنها،و به يتحقّق فساد ذات تلك الصورة القائمة فسادها بمادّتها حيث فسدت ذاتها في ذاتها و فسدت عن مادّتها،و كذا يتحقّق به فساد ذلك المركّب من تلك الصورة و تلك المادّة،حيث فسد جزؤه،و فساد الجزء مستلزم لفساد الكلّ،أو أنّه إن كان هناك جسم مركّب من مادّة و صورة و كان ذلك الجسم موضوعا لعرض ما قابلا لذلك العرض و لضدّه أمكن أن يفسد ذلك العرض عنه بطروء ضدّه عليه، و إن لم يستلزم ذلك فساد ذلك الموضوع نفسه،لعدم كون ذلك العرض جزءا منه و لا مقوّما له.و كان ما ذكرنا هو معنى قوله:لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك،أي إنّ التغيّر أي فساد الصورة أو فساد العرض لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم مركّب من مادّة و صورة متحرّك،أي متغيّر في صورته عن مادّته مستلزم تغيّره تغيّرا في ذات تلك الصورة نفسها،و كذا في ذلك الجسم المركّب في جزئه،أو متغيّر في ذلك العرض بحيث استلزم

ص:195

تغيّره تغيّرا في ذلك العرض دون موضوعه أي ذلك الجسم.

ثمّ ادّعى أنّا قد أقمنا الدليل على أنّه لا يمكن أن يكون للنفس هيولى و لا ما هو كالهيولى،فحيث انتفت عنه الهيولى و كالهيولى،انتفى احتمال أن يكون لها صورة أو كالصورة أيضا،إذ ذلك لا يكون إلاّ بملاحظة كون هيولى أو كالهيولى لها.و قد عرفت أنّ ذلك منتف عنها،فإذا لم يكن لها مادّة مطلقا و لا صورة مطلقا فكيف يتطرّق إليها و إلى كمالاتها الذاتيّة فساد،و بعبارة اخرى:إذا لم يكن لصورتها مادّة حاملة لها قابلة لفسادها عنها فكيف يتطرّق إلى صورتها فساد يلحقه فساد كمالاتها الذاتية التابعة لصورتها، و هو المطلوب.

و إذا عرفت ذلك،عرفت أنّ تسليم المحقّق الطوسي كون صورة للنفس،مماشاة مع الإمام في كون شيء هنا يطلق عليه الصورة أو كالصورة،لا أنّه مبنيّ على الواقع أو بحسب اعتقاده،حتّى يرد عليه أنّه مخالف لما بيّنه أوّلا من عدم كون هيولى أو كالهيولى لها،فإنّ الصورة إنّما تكون إذا كان هناك مادّة و تركّب منها و من صورة،و المفروض خلافه،و عليه ما ذكره صاحب المحاكمات بقوله:«و لقائل أن يقول:لم لا يجوز أن يقوم قوّة فساد الصورة المقيمة بمحلّها،و لا نسلّم احتياج قوّة الفساد بمادّة جسميّة بل هو أوّل المسألة؟»

ثمّ قال:«لا يقال:المفارق يمتنع أن يفارق المفارق.لأنّا نقول:إذا جاز أن يحدث في المفارق فلم لا يجوز أن ينعدم».هذا كلامه و بيان عدم الورود ظاهر،و كان هذا الإيراد أيضا مبنيّ على الغفلة عن كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

و حيث عرفت ما ذكرنا... (1)أيضا و أنّه مبنيّ على بساطة النفس و أصالتها في القيام،كما ذكرنا،أمّا بساطتها،فلأنّه نفى عنها التركيب مطلقا،و أمّا أصالتها،فحيث ادّعى كونها عاقلة بذاتها و مستغنية في وجودها عن البدن،و كلّ ذلك ظاهر على من تدبّر في كلامه،إلاّ أنّه كان ينبغي له أن يوجّه كلام الشيخ أوّلا بحيث لا يتطرّق إليه الاحتمالات التي هي منشأ للإيراد عليه كما فعلنا و هو رحمه اللّه لم يفعله،لكنّه رحمه اللّه أعلم.

و إنّما تعرّضنا نحن لتصحيح ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليلين،مع كون بعض ما ذكره فيهما مبنيّا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء غير تامّة عندنا،و هي أنّ كلّ حادث

ص:196


1- -هنا في الأصل كلمة لا تقرأ.

مسبوق بمادّة،لأجل أنّه ربما كان مؤيّدا للدلائل الاخر على بقاء النفس بعد خراب البدن، التي ليست مبنيّة على هذا الأصل كما عرفتها.و كذا لأجل تحقيق ما ذكره الشيخ و تصحيحه بناء على ذلك الأصل بقدر الإمكان،حيث كان مزلقة للأقدام.

ص:197

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن

اشارة

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و اندفع الإيرادات الموردة على كلام الشيخ في الكتابين في الدليلين،-أي الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن و الدليل على عدم فسادها مطلقا-و بقي اعتراض الثالث الذي ذكره الإمام هنا-أي على الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ على عدم فساد النفس مطلقا-فلنتكلّم في تحرير ذلك الاعتراض،و في بيان دفعه،حيث إنّ ذلك الاعتراض اعتراض قويّ أوردوه على كلا الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين و قد أشرنا فيما سبق أنّه يرد ظاهرا على بعض من الدلائل الاخر غيرهما أيضا و قد عرفت أنّ صاحب المحاكمات-كما نقلنا كلامه-أورده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ في الإشارات،أي الدليل على بقاء النفس و عدم إمكان فسادها بفساد البدن،و أنّ الإمام الرازي-كما نقلنا كلامه-أورده على دليله الثاني،ذكره فيه،أي الدليل على بقائها و عدم إمكان فسادها مطلقا،و تعلم أيضا أنّه لو كان واردا على دليلي الشيخ في الإشارات،لكان واردا على دليليه في الشفاء أيضا،إذ مآل ما في الكتابين واحد و الاختلاف إنّما هو في العبارة،و قد عرفت أيضا ممّا نقله صدر الأفاضل من كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في رسالته إلى بعض معاصريه،أنّه أورد هذا الاعتراض في هذا المقام مطلقا،بحيث يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين في الكتابين،و سأل الجواب عنه،إلاّ أنّ الإمام الرازي في اعتراضه حيث قال:إنّ الحدوث و الفساد متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما و إلى محلّ لذلك الإمكان،أو في استغنائهما عن ذلك،و أنّه إن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث،فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد،و إن افتقر إمكان الحدوث إلى محلّ،هو البدن،فليكن البدن أيضا

ص:198

محلاّ لإمكان الفساد،و بالجملة يجوز أن يكون البدن،شرطا لوجود النفس،و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط،إن أراد بالشرط الأمر الذي له مدخل في الجملة في حدوث النفس،و إن كان على سبيل العلّية القابليّة،فيكون هو قد رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجه واحد،و هو احتمال أن يكون البدن علّة قابليّة و محلاّ لإمكان حدوث النفس و فسادها،و حينئذ يكون قوله:و بالجملة-إلى آخره-من تتمة السابق،أمّا لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي الذي هو أمر وجودي خارج عن حقيقة المشروط،و يتوقّف وجود مشروطه عليه و ينتفي بانتفائه،فكأنّه رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجهين:

الوجه الأوّل من جهة تجويز كون البدن محلاّ لإمكان فساد النفس أي علّة قابليّة له و كأنّه إيراد على قول الشيخ في الدليل الثاني:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها و حدوثها في موضوعاتها فلم يجتمع هناك تركيب».

و تحريره:أنّه كما جاز أن يكون قوّة حدوث الأعراض البسيطة و قوّة فسادها في موضوعاتها فتحدث هي فيها و تفسد هي عنها من غير لزوم تركيب في ذواتها،فلم لا يجوز أن يكون قوّة حدوث النفس التي هي بسيطة في ذاتها،و كذا قوّة فسادها في البدن الذي هي متعلّقة به،فإنّ البدن و إن لم يكن موضوعا لها لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها،لكنّه ممّا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوثها و فسادها أي علّة قابليّة لذلك، كالموضوع بالنسبة إلى الأعراض.

و بيان ذلك أنّه لا يخفى أنّ المذهب الحقّ كما تقرّر في موضعه،و كذا مذهب الشيخ كما يظهر لمن نظر في كلامه في الكتابين،هو القول بحدوث النفس بحدوث البدن،و لا سترة في أنّ فسادها لو فرض يكون حادثا أيضا،فحدوثها و فسادها كلاهما حادثان بعد ما لم يكونا،فحينئذ نقول:إمّا أن يكون كلّ حادث مطلق سواء كان مجرّدا أو مادّيا،محتاجا إلى إمكان يسبقه و إلى محلّ لذلك الإمكان،كما هو المقرّر عند الحكماء،و إمّا أن لا يكون كذلك.

و على الأوّل فحدوث النفس و فسادها متساويان في احتياجهما إلى ذلك الإمكان، و إلى ذلك المحلّ الحامل له،فكما جاز أن يكون محلّ إمكان حدوثها هو البدن،حيث إنّها

ص:199

حدثت بحدوثه و لذلك جعل الشيخ و غيره البدن علّة بالعرض للنفس،فكذلك يجوز أن يكون محلّ إمكان فسادها أيضا،هو البدن،فتفسد هي بفساده.و القول بأنّه محلّ لإمكان حدوثها دون فسادها ممّا لا وجه له،لأنّه إن كان مبنيّا على أنّها لا تفسد البتّة و إن كان هناك حامل لإمكان الفساد فهو أوّل المسألة،و إن كان مبنيّا على أنّ إمكان الفساد مطلقا لا يستدعي محلاّ له،فهو مخالف لما هو المقرّر عندهم،من أنّ كلّ حادث يستدعي ذلك، مع أنّه يستلزم المطلوب،و هو ثبوت الفساد لها من غير أن يكون هناك حامل لإمكانه،و إن كان مبنيّا على أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة لا يستدعي إمكان فسادها محلاّ لذلك، فهو جار في إمكان حدوثها أيضا،و قد ثبت عندهم أنّه يستدعي محلاّ،و هو البدن،مع أنّه يستلزم المطلوب و هو ثبوت الفساد لها.و إن كان مبنيّا على أنّ محلّ إمكان فسادها هو شيء غير البدن،فهو مع كونه مخالفا لما تقرّر عندهم من أنّ محلّ إمكان الفساد يجب أن يكون هو بعينه محلّ إمكان الحدوث،يستلزم المطلوب،و هو ثبوت محلّ لإمكان فسادها،و إن كان غير البدن.

و بالجملة كلّ ما يمكن أن يقال في ذلك فهو باطل.

و على الثاني أي أن لا يحتاج الحادث مطلقا أو حدوث النفس و فسادها إلى محلّ كذلك فهما متساويان في ذلك،فكما يجوز أن تحدث النفس من غير احتياج إلى محلّ، كذلك يجوز أن تفسد أيضا مع الاستغناء عن محلّ كذلك،و هو المطلوب.

و بهذا الطريق الذي سلك الإمام في اعتراضه أوّلا كما حرّرناه سلك المحقّق الطوسي في رسالته إلى بعض معاصريه في بيان الاعتراض على هذا المقام كما نقلنا كلامه،و في احتمال كون البدن محلاّ لإمكان فساد النفس،إلاّ أنّه فصّل تفصيلا أتمّ،به يكون الاعتراض أقوى،حيث قال:«ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود،و حكموا بوجود النفس الإنسانيّة و امتنعوا عن تجويز فنائها،فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن،فهلاّ جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا،و إن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم، كيلا يجوز عدمها بعد الوجود،فهلاّ جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود، فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل.و كيف ساغ لهم أن يجعلوا جسما مادّيا حاملا

ص:200

لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه،فإن جعلوها من حيث كونها مبدءا لصورة نوعية لذلك الجسم،ذات حامل لإمكان الوجود،فهلاّ جعلوها من تلك الحيثيّة بعينها ذات حامل لإمكان العدم.و بالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين.-انتهى كلامه.

الوجه الثاني-و هو يظهر من الإمام في آخر كلامه في ذلك الاعتراض لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي،حيث قال:و بالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس، و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط-،انّه يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس.و كأنّه على هذا إيراد على قول الشيخ،و إذا كان كذلك،لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها.

و تحريره أنّ تلك العلل التي بها وجود النفس و ثباتها لا تخلو عن أن تكون علّة تامّة لها أو غير تامّة،و على الأوّل فإمّا ان تكون قديمة كما هو مذهبهم،فيلزم حينئذ قدم النفس أيضا و هو باطل،لكونها حادثة بحدوث البدن،كما هو مذهب الشيخ أيضا،و إمّا أن تكون حادثة قبل البدن،فهو مع أنّه ليس مذهبا لهم،يلزم على تقديره حدوث النفس قبل البدن، و هو أيضا خلاف المفروض و إمّا أن تكون حادثة حين حدوث البدن،فهو أيضا مع كونه خلاف مذهبهم،يستلزم أن تكون تلك العلل كافية في وجود النفس فلم يكن للبدن مدخل أصلا في وجودها،و لو بالعرض،و هو أيضا خلاف ما ذهبوا إليه،و على الثاني أي أن تكون تلك العلل علّة غير تامّة،فتماميّتها تحتاج إلى شرط أو إلى جزء أخير لتلك العلّة فسواء فرض قدمها أو حدوثها قبل البدن أو معه،جاز أن يكون البدن شرطا في تماميّة تلك العلّة و في حدوث النفس،بل أنّ الظاهر أنّ حدوث البدن شرط لحدوثها أي لحدوث النفس،و إلاّ لما كانت حادثة بحدوثه،و إذا كان البدن شرطا لحدوثها يلزم فساد النفس بفساده،لأنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه و هو المطلوب،و هذا الوجه من الاعتراض كأنّه مبنيّ على التنزّل و تسليم أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة،لا يكون لها محلّ لإمكان حدوثها و فسادها،و حاصله أنّا سلّمنا أنّها لأجل تجرّدها في ذاتها عن المادّة و كونها غير متعلّقة القوام بها لا يمكن أن يكون البدن و لا شيء آخر من مادّة أو موضوع محلاّ لإمكان حدوثها أو فسادها،لكن لا مانع من أن يكون البدن شرطا لحدوثها[و] وجودها حيث إنّ المفروض أنّها حادثة بحدوثه،و إذا جاز أن يكون شرطا لها و الحال أنّ

ص:201

المشروط ينعدم بانعدام الشرط،جاز أن تفسد النفس بفساد البدن.

و بهذه الطريق سلك صاحب المحاكمات في إيراده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ،و هو إيراد على قول الشيخ هناك:«فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد (1)الوجود من الجواهر الباقية.»إلاّ أنّه فصّل تفصيلا آخر في الاعتراض،يحتاج إلى توضيح.

قال:و فيه نظر،لأنّ الجوهر العقليّ الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها،لزم قدمها لقدمه أي لقدمه عندهم،و إن كان علّة فاعليّة و توقّف وجودها على حدوث البدن،أي كما هو المذهب الحقّ و مذهب الشيخ من أنّ النفس حادثة بحدوث البدن،و الحال أنّ ليس ذلك إلاّ لتوقّف وجودها على حدوث البدن،فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه،أي و الحال أنّ البقاء ليس إلاّ الوجود الأوّل المستمرّ.و على تقدير أن يكون البقاء معنا آخر غير الوجود الأوّل فلا يخفى أنّه أيضا نحو من الوجود،و إذا جاز توقّف وجودها على حدوثه،فلم لا يجوز توقّف بقائها على بقائه،بحيث ينتفي الأوّل بانتفاء الثاني،فالنفس إن كانت مجرّدة إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن،فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها فإذا انتفى انعدمت، أي فالنفس و إن كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها لا تستدعي محلاّ لإمكان حدوثها إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن و حادثة بحدوثه،فجاز أن يكون حدوث البدن،ثمّ تعلق النفس به شرطا لبقائها كما كان ذلك شرطا لحدوثها،فإذا انتفى ذلك الشرط الذي هو شرط لحدوثها و لبقائها انعدمت النفس،و فسدت،حيث إنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه.

و الحاصل أنّ البدن ما كان موجودا و كذا النفس ما كانت موجودة ثمّ وجد البدن و النفس أي كما هو المذهب الحقّ من أنّ النفس حادثة بحدوثه،ثمّ ينعدم البدن فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس،أي بطريق الشرطيّة أو نحوها أولا،فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن،أي لم يوجد قبله وجودا قديما كما هو مقتضى قدم علّتها الموجدة عندهم أو وجودا حادثا قبله،لو فرضنا علّتها حادثة قبله،و إن كان له دخل في وجودها فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها، أي و الحال أنّ مدخليّة شيء فى وجود شيء،يستلزم مدخليّته في بقائه أيضا حتّى إذا

ص:202


1- -مبدأ(خ ل).

انعدم،-أي البدن-انعدمت-أي النفس-و فيه المطلوب.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو تحرير وجوه تلك الشبهة الموردة على كلام الشيخ في الإشارات،و يعلم منه كيفيّة تحريرها و إيرادها على كلامه في الشفاء.و تلخيص الكلّ،أنّ القول ببقاء النفس بعد خراب البدن،ينافي القول بحدوثها بحدوثه كما ذكرنا.

في تحرير الجواب عن الشبهة

و أمّا بيان الجواب عن تلك الشبهة فيستدعي تمهيد مقدّمة،هي أن قد استبان لك ممّا حقّقه الشيخ في الشفاء على ما نقلنا كلامه سابقا أنّ تغيّر الكائنات الفاسدات،إنّما يتحقّق إذا كان هناك تركّب من مادّة و صورة يكون بتلك الصورة كون ذلك المركّب بالفعل،و بتلك المادّة كونه بالقوّة،و كونه قابلا للضدّين المتواردين عليه،و بالجملة أن يكون هناك محلّ قابل لكلا الضدّين اللذين هما متعلّق القوام به،كالمادّة بالنسبة إلى صورة و ضدّها و كالموضوع بالنسبة إلى عرض و ضدّه و أن يكون في ذلك المحلّ قوة قبول صورة أو عرض فيحدث ذلك المقبول في ذلك المحلّ القابل،و أن يكون فيه قوّة قبول فساده عنه، فيفسد هو عنه إلاّ أنّ ذلك الكائن الفاسد إن كان صورة هي جزء من المركّب منها و من المادّة،و بها قوام مادّتها كما في الجسم،كان كون تلك الصورة سببا لكون المركّب و كذا فسادها سببا لفساده،لفساد المركّب بفساد جزئه،و إن لم يكن صورة كذلك،بل عرضا بالنسبة إلى موضوعه،لم يكن كونه سببا لكونه،و لا فساده سببا لفساده،فيظهر لك أنّه يشترط في الكون و الفساد أن يكون هناك امور:

منها أن يكون هناك محلّ قابل لكون الكائن فيه و لفساده عنه،مادّة كان ذلك المحلّ او موضوعا،إذ لو لم يكن هناك محلّ كذلك فلا قبول فلا كون و لا فساد.

و منها أن يكون ذلك المحلّ واحدا بالذات و كذا بالاعتبار باقيا في الحالين أي أن يكون ذلك المحلّ بعينه من جهة كونه قابلا لكون أمر فيه محلاّ لفساده عنه،و كان باقيا بعينه في الحالين،إذ لو لم يكن واحدا بالذات و كذا بتلك الجهة،لكان يجوز أن يكون محلّ قابل لكون أمر فيه و محلّ آخر مغاير للأوّل بالذات أو بالاعتبار،أي لا من جهة كونه محلاّ لكون ذلك الكائن فيه محلاّ لفساد ذلك الكائن عنه،و هذا ممتنع،إذ المفروض أنّ هناك

ص:203

كون شيء و فساد ذلك الشيء بعينه،و هذا إنّما يكون إذا كان المحلّ واحدا بعينه من جهة واحدة،بتلك الجهة يكون المحلّ قابلا لكلا الضدّين حتى يكون الحالّ الكائن الفاسد واحدا،حيث إنّ تشخّص ذلك الشيء الكائن الفاسد إنّما يكون بمحلّه من مادّته أو موضوعه،و إذا تغاير المحلاّن ذاتا أو من بعض الجهات التي بها يختلف كون المحلّ قابلا للضدّين،فلا يكون الفاسد هو بعينه ذلك الكائن،بل أمر آخر حالّ في محلّ آخر غير محلّ الأوّل ذاتا أو من تلك الجهة؛هذا خلف و كذلك لو لم يكن ذلك المحلّ باقيا بعينه في الحالين،لجاز أن يكون محلاّ قابلا لكون أمر فيه و كان باقيا في تلك الحال و قابلا أيضا لفساد ذلك الأمر بعينه عنه،و لم يكن في تلك الحال باقيا بل فاسدا،و هذا أيضا ممتنع،لأنّ المفروض أنّ ذلك المحلّ قابل لفساده عنه،و فساد شيء عن شيء فرع بقاء الشيء الثاني بعينه،حتّى يتصوّر فساد الشيء الأوّل عنه.

نعم يمكن أن يكون محلّ واحد مع صورة أو هيئة مخصوصة مستعدّا لكون شيء فيه بإعداد تلك الصورة أو الهيئة،بأن تكون تلك الصورة أو الهيئة علّة معدة له،و لجعله مستعدّا لذلك الشيء فيكون ذلك المحلّ بذلك الاستعداد محلاّ قابلا لكون ذلك الشيء،فيحدث هو فيه،و ينعدم تلك الصورة أو الهيئة التي هي العلّة المعدّة،فيحدث فيه صورة اخرى غير الاولى،و يكون ذلك المحلّ باقيا بعينه فيستعدّ بإعداد صورة اخرى فيه أو هيئة غير الاولى،لفساد ذلك الشيء عنه،فيفسد ذلك الشيء عنه و يفسد عنه تلك العلّة المعدّة أيضا و يكون ذلك المحلّ باقيا بعينه حينئذ أيضا.إذ لا دخل لتلك العلّة المعدّة لاختلاف المحلّ،لا ذاتا و لا من الجهة التي بها يكون المحلّ قابلا للضدّين،أمّا عدم الاختلاف ذاتا فظاهر،و أمّا عدم الاختلاف بتلك الجهة،فلأنّ العلّة المعدّة و إن كان لها دخل في استعداد المحلّ أي لزيادة استعداده و تماميّة قابليّته لكن ليس لها دخل في أصل الاستعداد و أصل القبول،بل ذلك مستند إلى ذات المحلّ بذاته،فتدبّر.

و منها أن يكون الأمر الكائن الفاسد مع كونه غير ذلك المحلّ متعلّق القوام بذلك المحلّ،إذ لو كان مباين القوام عنه لم يجز أن يكون كونه فيه،كيف و لو جاز ذلك،لجاز أن يحصل كون شيء من الأشياء المباينة للحجر مثلا كالنفس مثلا في الحجر،و لجاز أن يكون كون من هو في المشرق مثلا في من هو في المغرب،و إذا لم يجز كون شيء مباين في

ص:204

شيء مباين له لم يجز فساده عنه،إذ جواز فساده عنه فرع جواز كونه فيه،و حيث امتنع الأوّل امتنع الثاني.

و من هذه الجهة أيضا لم يجز أن يكون شيء من الأشياء محلاّ لكون نفسه فيه و لا محلاّ لفساده عنه.أمّا الأوّل فلكون الكائن على هذا التقدير عين ذلك المحلّ،و الحال أنّه يجب أن يكون غيره،و أمّا الثاني،فلكون فساد نفسه مبائنا له و الشيء لا يجوز أن يكون محلاّ لما هو مباين القوام عنه،و جميع ما ذكرناه ظاهر عند التأمّل الصادق.و إذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول:

شروع في تحرير الجواب

لا يخفى عليك أنّ النفس الإنسانية بالنسبة إلى بدنها ذات جهتين،أي أنّها من حيث ذاتها و حقيقتها جوهر مفارق مجرّد عن المادّة مباين القوام بالذات للبدن،و من جهة تصرّفها في البدن و حفظها لمزاجه و كونها مبدءا قريبا لصورة نوعية للبدن و نحو ذلك،لها علاقة بالبدن و مقارنة له و نوع مناسبة و ارتباط معه.

و لا يخفى أيضا أنّ البدن و لا شيئا من أجزائه و مراتبه،لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها من الجهة الاولى،و لا ممّا له مدخل في وجودها بوجه من وجوه العلّيّة،لأنّها من تلك الجهة مباينة الذات و القوام للبدن و أجزائه و مراتبه،و الحال أنّ الكائن الفاسد يجب أن يكون متعلّق القوام بمحلّه،و كذا يجب أن يكون المعلول ممّا لا يبائن علّته.فبقي أن يكون البدن حاملا لإمكان حدوثها و فسادها من الجهة الثانية أي محلاّ لإمكان تعلّق النفس به و فساد ذلك التعلّق عنه.و هذا أيضا ممّا لا يجوز،لأنّ كلّ مرتبة تفرض من مراتب البدن مع مزاج خاصّ بها أو صورة نوعية خاصّة بها أو شخصيّة،إذا اعتبرت تلك المرتبة بمادّتها و صورتها و مزاجها جميعا كمرتبة النطفة أو العلقة أو المضغة أو العظام و اللحم،مع موادّها و صورها و أمزجتها،لا يمكن أن تكون حاملة لإمكان حدوث النفس،و لا لإمكان فسادها و بيان ذلك أنّ محل إمكان الحدوث و الفساد كما مرّ بيانه يجب أن يكون باقيا بعينه في الحالين،أي في حال الحدوث و الفساد،و كذا في حالات بقاء ذلك الحادث.و هذه المراتب البدنيّة إذا اعتبرت بموادّها و صورها محلاّ

ص:205

لإمكان فسادها ليست كذلك،فإنها كما هو المعلوم بالبديهة متغيّرة غير باقية بعينها، و بذلك المزاج الخاص و التركيب الخاص و الصورة المخصوصة التي هي بتلك الجهات جميعا لا بمادّتها وحدها،يمكن أن تعتبر بدنا للنفس.

و ليس الأمر كما ظنّه صدر الأفاضل فيما نقلنا عنه في جواب هذا السؤال:«إنّ كلّ مرتبة سابقة من تلك المراتب باقية مع المرتّبة اللاحقة،و إنّ هذه المراتب،استكمالات مترادفة و ليست إلاّ ضربا من الاشتداد،لا بأن تحدث صورة فتفسد،ثمّ تحدث صورة اخرى مباينة للاولى»،لكون ما ادّعاه من عدم الكون و الفساد مخالفا للبديهة.

و أيضا فإنّ عدم المباينة و إن كان مسلّما،لكن عدم المغايرة و عدم الاختلاف غير مسلّم،بل الاختلاف و المغايرة ممّا لا يمكن إنكاره،و فيه المطلوب.

و يدلّ عليه قوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» (1).

و على هذا فيكون ما هو المفروض محلاّ لذلك في كلّ مرتبة لا حقة،غير ما هو في المرتبة السابقة،إمّا بالذات أو بتلك الجهة السابقة،و قد ثبت عندهم أنّ النفس في اولى تلك المراتب أي المرتبة المنويّة،تكون فائضة عن المبدأ الفيّاض،متعلّقة بتلك المرتبة البدنية،باقية بعدها بعينها إلى آخر تلك المراتب،و إلى ما بعدها إلى أوان حلول الأجل و انقطاع علاقتها عن البدن،و أنّها في جميع تلك المراتب متعلّقة بالبدن باقية بعينها، واحدة بالذات،مختلفة بحسب الأفعال و باعتبار مراتب الكمالات،لا أنّها تفسد و تحدث اخرى،و لا أنّها تبقى و تحدث اخرى مجتمعة معها،كما مرّت الإشارة إليه و سيأتي تحقيقه.و حينئذ فالنفس و كذا تعلّقها بالبدن باقيان في تلك المراتب،و تلك المراتب متغيّرة غير باقية بعينها،فكيف يمكن أن تكون تلك المراتب مع تغيّرها حاملة لإمكان تعلّق النفس بها،مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان كائن باقيا في الحالين.و لو سلّم بقاء تلك المراتب بموادّها و صورها حتّى يمكن أن يفرض كونها حاملة لإمكان تعلّقها و بقاء التعلّق،فكيف يمكن أن يكون مرتبة من المراتب البدنيّة مع موادّها و صورها حاملة لإمكان فساد النفس عنها،مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان الفساد هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث،و باقيا في حالة الفساد،كما مرّ وجهه،و الحال أنّا نجزم أنّ تلك المرتبة

ص:206


1- -الزمر:6. [1]

المفروض كونها حاملة لإمكان فسادها،تفسد بصورتها و هيئتها و مزاجها البتّة،ثمّ يتبعه زوال علاقة النفس عن البدن،فكيف تكون تلك المرتبة حاملة لإمكان فسادها و زوال علاقتها عنها،فإنّ فساد شيء عن شيء يستلزم بقاء الشيء الثاني حين زوال الشيء الأوّل.و المفروض هنا خلافه.

نعم لو فرضنا أن يكون مرتبة من مراتب البدنيّة بمادّتها و بصورة خاصّة،أو هيئة خاصّة حاملة لإمكان حدوث النفس و تعلّقها بها،كالمرتبة الأخلاطيّة بحيث يكون المحلّ القابل المستعدّ لذلك الحدوث و التعلّق،هو نفس تلك المادّة،و يكون تلك الصورة أو الهيئة الأخلاطيّة علّة معدّة لها،فيحدث حينئذ النفس متعلّقة بها و ينعدم تلك الصورة أو الهيئة لكونها علّة معدّة يجب أو يجوز زوالها فيحدث فيها صورة اخرى أو هيئة غير الاولى و فرضنا أنّ تلك المادّة باقية بعينها إمّا مع تلك الصورة أو الهيئة الثانية أو مع الصور أو الهيئات المتواردة المتعاقبة المعتورة عليها كما هو المعلوم فيما نحن فيه،و فرضنا بقاء تعلّق النفس بتلك المادّة في جميع تلك المراتب المتجدّدة المتغيّرة،حتى إذا انتهى إلى المرتبة الأخيرة تكون تلك المادّة الباقية مع هيئة أو صورة اخرى غير الاولى مستعدّة بإعداد تلك الهيئة أو الصورة أن تكون حاملة لإمكان فساد النفس و فساد تعلّقها عنها، فيحدث الفساد و يزول أيضا تلك الهيئة أو الصورة التي هي العلّة المعدّة لذلك،مع كون تلك المادّة باقيّة في حالتي الكون و الفساد.

لجاز أن يكون البدن بمادّته علّة قابليّة مستعدّة لحدوث النفس متعلّقة به،و لفسادها و فساد التعلّق عنه،و أن يكون بصورة خاصّة علّة معدّة لحدوث ذلك،و بصورة اخرى علّة معدّة لفساده،و كأنّ ذلك هو منظور من قال:إنّه يجوز أن يكون البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس و لإمكان فسادها،إلاّ أنّ هذا لا يضرّنا،فإنّه على هذا أيضا لا يمكن أن يكون البدن محلاّ لوجود ذات النفس و لا لفسادها،بل لحدوث تعلّقها به و لفساد ذلك التعلّق عنه،أي أن يكون محلاّ لاستعداد تعلّقها به و تصرّفها فيه في جميع مراتبه،و حيث توقّف تعلّق النفس به-حيث فرض كونها حادثة بحدوثه على ما يقتضيه الدليل كما سيأتي،لا قديمة و لا حادثة قبل البدن-على وجود النفس في نفسها،كان هذا الاستعداد منسوبا أوّلا و بالذات إلى تعلّقها به أي وجودها متعلّقة به،و ثانيا و بالعرض إلى وجودها

ص:207

في نفسها،فهذا الاستعداد كاف لفيضان الوجود عليها متعلّقة بالبدن،و لا حاجة في ذلك إلى استعداد منسوب أوّلا و بالذات إلى وجودها في نفسها ليمتنع قيامه بالبدن لكونها مباينة الذات و القوام للبدن.

و من هذه الجهة أيضا جاز أن يكون البدن محلاّ لاستعداد عدم النفس عنه،أي لفساد علاقتها عنه،و انقطاع تصرّفها عنه،لكن لمّا لم يتوقّف زوال علاقتها عنه على عدمها في نفسها،لم يكن هذا الاستعداد منسوبا إلى عدمها في نفسها،لا بالذات،و لا بالعرض،فلا يكفي هذا الاستعداد لعدمها في نفسها أصلا،بل لا بدّ من استعداد آخر،و قد تبيّن امتناع قيامه بالبدن.و بالجملة قيام إمكان حدوث علاقة النفس بالبدن،يكفي لإمكان حدوث النفس في نفسها،و يستلزم الحدوث الأوّل الحدوث الثاني.و أمّا قيام إمكان فساد علاقتها عن البدن بالبدن،فلا يكفى لإمكان فسادها في نفسها،و لا يستلزم أيضا فساد علاقتها عنه،فسادها في نفسه.

و بهذا التقرير ظهر أنّ البدن لا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان فساد النفس في نفسها، و ظهر أيضا معنى ما تقرّر عندهم أنّ البدن علّة بالعرض للنفس،لأنّ مادّته و إن فرض كونها علّة قابليّة لها،لكن هذه العلّية القابلية منسوبة أوّلا و بالذات إلى قابليّته لتعلّقها به،و ثانيا و بالعرض إلى وجودها في نفسها،و صورته الخاصّة المعدّة لتلك المادّة لذلك علّة معدّة لوجود النفس،و العلة المعدّة مطلقا علّة بالعرض،فكيف إذا نسبت إلى تعلّق النفس بالبدن أوّلا و إلى وجودها في نفسها ثانيا.

و حيث عرفت حال احتمال كون البدن حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها أي علّة قابليّة لذلك،فحريّ بنا أن نتكلّم في أن البدن،هل يمكن أن يكون شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس و وجودها في ذاتها،أو من حيث تعلّقها به،حتّى يمكن أن تفسد،من حيث وجودها في نفسها،أو من حيث التعلّق به،بفساد شرطه أي البدن،أم لا يمكن؟

فنقول:إن الشرط عندهم عبارة عن أمر لوجوده مدخل في وجود مشروطه،و يتوقّف وجود مشروطه عليه،حيث قالوا إنّ مدخليّة شيء في وجود آخر إمّا أن يكون بحسب وجوده فقط كالفاعل و الشرط و المادّة و الصورة،فيجب أن يكون موجودا،و إمّا بحسب

ص:208

عدمه فقط كالمانع،فيجب أن يكون معدوما،و إمّا بحسب وجوده و عدمه معا كالمعدّ،إذ لا بدّ من عدمه الطارئ على وجوده،فيجب أن يوجد أوّلا ثمّ يعدم،فيستفاد من ذلك و من غيره ممّا ذكروه من معنى الشرط أنّه يعتبر في مفهوم الشرط،أن يكون أمرا وجوديّا يتوقّف وجود مشروطه عليه،و يجتمعان معا في الوجود،و يلزم ذلك أن يكون بانتفائه ينتفي المشروط،و أن يكون أمرا خارجا عن حقيقة المشروط،إذ لو كان نفس المشروط أو داخلا فيه،كان توقّف المشروط عليه توقّفا للشيء على نفسه،أو على ما هو داخل في حقيقته،و هو ممتنع،إذ الموقوف و الموقوف عليه يجب أن يكونا متغايرين،و أن لا يكون هو مباين الذات للمشروط،إذ المباين لا يمكن أن يكون ممّا يتوقف عليه وجود مباينه، و كلّ ذلك ظاهر.

و إذا تقرّر هذا،فنقول:لا يخفى عليك أنّ النفس من حيث كونها جوهرا مفارقا مجرّدا عن المادّة،لا يمكن أن يكون البدن شرطا لوجودها مطلقا إذ هما من هذه الجهة متباينان بحسب الذات،و المتباين لا يمكن أن يكون شرطا لوجود ما هو مباين له ذاتا،فلننظر في أنّها من جهة مقارنتها للبدن و ارتباطها به و تصرّفها فيه،هل يمكن أن يكون البدن شرطا لها أي شرطا لتعلّقها به أم لا؟

فنقول:إنّ البدن على هذا يكون شرطا لتعلّق النفس به،و يكون المشروط هو التعلّق، و ظاهر أنّ التعلق المذكور أمر إضافيّ يستدعي الطرفين،أي المتعلّق الذي هو النفس، و المتعلّق به الذي هو البدن في وجوده الخارجي و الذهني جميعا،و كما أنّه في الخارج يتوقّف تصوّره على تصوّرهما،فطرفاه داخلان في حقيقته،فإذا كان البدن الذي هو داخل في حقيقته،شرطا له،يلزم أن لا يكون الشرط و المشروط متغايرين؛هذا خلف.فكيف يمكن أن يكون البدن شرطا له.

و الحاصل أنّ وجود التعلّق المذكور و إن كان فرعا على وجود البدن،إلاّ أنّا لا نسلّم كون البدن شرطا له،حيث يلزم منه كون شيء شرطا لما هو داخل في حقيقته،و الشرط ينبغي أن يكون خارجا عن حقيقة مشروطه،و كذا عمّا يدخل في حقيقته.و على تقدير تسليم إمكان ذلك بناء على أنّ المشروط،هو نفس التعلّق المذكور الذي هو غير البدن و أنّ طرفيه خارجان عن حقيقته،نقول:لا يخفى أنّ المادّة البدنيّة من حيث هي هي من

ص:209

غير اعتبار انضمام صورة إليها لا يمكن أن يكون شرطا لتعلّق النفس بها،إذ الشرط كما عرفت يجب أن يكون أمرا وجوديّا أي أمرا موجودا في حدّ ذاته يتوقّف عليه وجود مشروطه،و المادّة البدنيّة كالهيولى الاولى ليست كذلك،إذ وجودها إنّما هو بصورتها، فبقي أن يكون الشرط هو مادّة البدن مع صورة خاصّة و مزاج خاصّ و تركيب خاصّ،أي مجموع المادّة و الصورة،بحيث أن يكون مناسبا لمشروطه و يتوقّف وجوده عليه.

و لا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون شيء من المراتب البدنيّة شرطا له،أمّا ما قبل المرتبة النطفية،كمرتبة الأجزاء الغذائيّة و الأجزاء الخلطيّة،فظاهر،لأنّه ليس في تلك المرتبة حدوث نفس و لا تعلّقها بالبدن أصلا،بل إنّما ذلك في المرتبة المنويّة كما هو المقرّر عندهم.مع أنّ تلك المرتبة متغيّرة جدّا و الشرط يجب أن يكون مجتمعا مع وجود مشروطه،بحيث ينتفي وجود مشروطه بانتفائه و الحال أنّ المشروط أي تعلّق النفس بالبدن باق مع انتفاء تلك المرتبة،سواء فرضنا حدوث النفس في المرتبة التي قبل المرتبة المنويّة أو في المرتبة المنويّة أو فيما بعدها.

و كذلك لا يمكن أن يكون شيء من المراتب التي بعد المرتبة المنويّة،كمرتبة العلقة و المضغة و العظم و اللحم شرطا لذلك،لأنّ المقرّر عندهم،أنّ تعلّق النفس بالبدن،إنّما هو عند المرتبة النطفيّة،و هي مع ذلك باقية بعينها في تلك المرتبة و فيما بعدها من المراتب، إلى أوان حلول الأجل،و واحدة بالذات مختلفة باعتبار الكمالات.

و من المعلوم أيضا أنّ تلك المراتب متغيّرة زائلة بصورها و هيآتها،و كلّ مرتبة سابقة منها تنعدم بعد حصول المرتبة اللاحقة إلى أن يكمل البدن.و قد مرّ أيضا أنّ الشرط يجب أن يجامع مشروطه في الوجود،فكيف يمكن أن يكون ما سوى المرتبة الأخيرة من المراتب لتغيّرها شرطا لذلك،أي لتعلّق النفس بالبدن الذي هو باق بعينه في جميع تلك المراتب،فبقي أن يكون المرتبة الأخيرة التي هي مرتبة كمال البدن شرطا له،و هو أيضا لا يمكن أن يكون شرطا،لأنّ حدوث النفس و كذا تعلّقها بالبدن،إنّما هما قبل تلك المرتبة البتّة،و الشرط لا يمكن أن يكون متأخّرا في الوجود عن وجود مشروطه.

نعم لو أمكن أن يكون الشرط لشيء ما أمرا كلّيا منحصرا في أفراد محصورة و يكون الشرط بالحقيقة لذلك الشيء هو ذلك الأمر الكلّي أي أفراده من حيث كونها أفرادا له،

ص:210

لا من حيث خصوصيّاتها،و يكون كلّ فرد منها شرطا له على سبيل البدليّة،ينعدم فرد واحد و يخلفه فرد آخر في ذلك.

لأمكن أن يقال فيما نحن فيه:أنّ الشرط لتعلّق النفس بالبدن و لبقاء ذلك التعلّق،هو الأمر الكلّي الذي أفراده تلك المراتب البدنيّة إلى كمال البدن،و كلّ مرتبة منها شرط له، لا لخصوصيّاتها،بل لكونها ممّا تحقّق في ضمنها ذلك الأمر الكلّي الذي هو الشرط بالحقيقة،فيحصل فرد منها و يصير شرطا لذلك،ثمّ ينعدم،و لكن لا ينعدم المشروط،بل يبقى لأجل حصول فرد آخر منها و نيابته عن الأوّل في ذلك،إلى أن يتمّ البدن و يتكامل، فيكون حينئذ المرتبة الأخيرة شرطا لذلك إلى أوان حلول الأجل،حتّى إذا انعدمت هي بفساد البدن،انعدم الشرط بالكلّية،فينعدم المشروط الذي هو التعلّق المذكور.

و على هذا و إن أمكن تصحيح كون البدن شرطا لتعلّق النفس به،و أمكن أيضا تصحيح كون البدن علّة بالعرض للنفس،حيث إنّ تلك العلّية أي الشرطية منسوبة أوّلا و بالذات إلى التعلّق المذكور،و ثانيا و بالعرض إلى وجود ذات النفس في ذاتها،حيث فرضناها حادثة بحدوث البدن،متعلّقة به،و تعلّقها به فرع وجودها في نفسها،إلا أنّ ذلك أيضا ممّا لا يضرّنا،لأنّ وجود هذا الشرط،و إن استلزم وجود النفس و حدوثها،لكن انتفاؤه لا يستلزم انتفاء ذات النفس في ذاتها،بل انتفاء تعلّقها بالبدن كما مرّ بيانه في السابق، فيمكن أن يكون التعلّق وحده منتفيا لأجل انتفاء التعلّق به خاصّة،أي البدن،و لا يكون المتعلّق أي ذات النفس منتفيا،بل باقيا بذاته لبقاء علّته المقيمة إيّاه،فتبصّر.

و حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما فصّلناه،ظهر لك الجواب عن الاعتراض المذكور الذي أورده الإمام،سواء قرّر على وجهين،أي وجه احتمال كون البدن علّة قابلية لفساد النفس،و وجه احتمال كونه شرطا لوجودها كما هو ظاهر كلام الإمام،أو قرّر على الوجه الأوّل فقط كما هو الاحتمال،إلاّ أنّك إن اشتهيت زيادة إيضاح لهذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

زيادة إيضاح للمقام

فنقول:إنّ الحكمة الإلهيّة المتعالية،لمّا اقتضت وجود الإنسان الذي من شأنه أن يكون

ص:211

عارفا باللّه تعالى و اسمائه الحسنى و صفاته العليا و أفعاله و صنائعه الكلّية و الجزئية،عابدا له تعالى عاملا بما أمره و نهاه من الكلّيات و الجزئيات.

و بالجملة أن يكون من شأنه الإدراكات الجزئيّة و الأفعال التي هي من خصائص المادّيات و المتعلّقات بالمادّة،مضافا إلى الإدراكات الكلّية و الأفعال التي هي من خصائص المجرّدات عنها،و كان لا يتمّ وجود من شأنه هكذا إلاّ بوجود شيئين:

أحدهما شيء مجرّد عن المادّة في ذاته،متعلّق بالمادّة في أفعاله الجزئية،و هو الذي نسمّيه بالنفس،ليكون هو بذاته ممّا يصدر عنه إدراك الكلّيات و المجرّدات عن المادّة، و يكون أيضا سبب تعلّقه بالمادّة نوع تعلّق ممّا يصدر عند الأفعال التي هي من خصائص المادّيات.

و الآخر شيء متعلّق القوام بالمادّة من جسم يصلح أن يكون آلة للأوّل في أفعاله المختصّة بالمادّيات،و يكون هو محتاجا إلى الأوّل بحيث يكون الأوّل متعلّقا به تعلّق التدبير و التصرّف،كما أنّ الأوّل محتاج إلى الثاني بحسب أفعاله الجزئيّة.و بالجملة أن يكون بين الأوّل و الثاني ارتباط تامّ و احتياج كامل،و هذا الشيء الثاني هو الذي نسمّيه بالبدن.و كان أيضا هذا الشيء الذي نسمّيه بالبدن،حيث كان آلة لشيء مجرّد مفارق ينبغي أن يكون له نوع شرافة و كمال،منشؤه نوع وحدة بسببها كان قريبا من المبدأ الفيّاض الواحد بالذات الكامل من جميع الجهات المفيض عليه صورة كاملة،و أن يكون جسما مناسبا للمجرّد في الشرافة و الكمال،و يكون له نوع من الوحدة،ليصلح أن يكون آلة للمجرّد،و مرتبطا به ارتباطا تامّا،فلا يمكن أن يكون ممّا ليس فيه تلك الوحدة المناسبة،كالبسائط من العنصريّات التي فيها الكيفيّات المتضادّة بالفعل،و كبعض المركّبات الاسطقسية البعيدة من الوحدة و الاعتدال،بل يجب أن يكون مركّبا معتدلا نوع اعتدال،و واحدا نوع وحدة،بهما تفيض (1)عليه من المبدأ الفيّاض صورة وحدانيّة كاملة، بها يصلح أن يكون آلة للأوّل الذي هو أيضا كامل بالذات و بحسب الافعال،أي الصورة الإنسانيّة التي هي أكمل الصور و أتمّها و أقربها إلى الوحدة الحقيقية و كان أيضا وجود هذا البدن ممّا لا يمكن أن يكون دفعة،لتوقّف حصوله على حصول مزاج خاصّ يستدعي

ص:212


1- -تفاض(خ ل).

حركة في زمان لا محالة،بل يجب أن يكون حصوله في زمان،و أن يكون مع ذلك ممّا يتوقّف حصوله على وجه الكمال على استعدادات متواردة،يكون هو بحسب كلّ استعداد قابلا لفيضان صورة،حتّى تكمل صورته،و تفيض عليه الصورة الإنسانية بكمالها،إذ الصورة الإنسانيّة مستجمعة للصورة الجماديّة المعدنيّة،و الصورة النباتيّة و الصورة الحيوانية،فيتوقّف حصولها على وجه الكمال على حصول تلك الصور أوّلا حتّى تكمل،كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . (1)أي ثمّ أنشأناه خلقا آخر بحيث كملت صورته الإنسانيّة و نفسه،بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال المعدنيّة و النباتيّة و الحيوانيّة الأفعال المختصّة بالإنسان.

فبالجملة حصول الصورة الإنسانيّة بكمالها يتوقّف على حصول تلك الصور،سواء قلنا بأنّ تلك الصور التي تحصل في ضمن الصورة الإنسانيّة غير الصورة الإنسانيّة، يتوقّف حصولها على وجه الكمال عليها،أو هي مراتبها المتفاوتة الغير الكاملة منها.

و كان أيضا قد اقتضت الحكمة الإلهيّة و المصلحة المتعالية الربّانيّة بقاء هذا النوع أي الإنسان بالتوالد و التناسل.

و بالجملة لمّا اقتضت العناية الرّبانيّة ما فصّلنا،و اقتضت كما دلّ عليه كلام المحقّق الطوسي الذي نقلناه سابقا في مسألة حفظ المزاج،أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة،ثمّ تجعلها أخلاطا،و تفرز منها بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ،و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة لصيرورتها إنسانا.فتصير بتلك القوّة منيّا، و تكون تلك القوّة صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة.

أي اقتضت أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة غالب أجزائها الطين،كما سمّاها اللّه تعالى في كتابه العزيز تارة طينا،و تارة سلالة من طين،ثمّ تجعل تلك الأجزاء مستعدّة لصور الأخلاط فتفاض صورة الأخلاط عليها،بأن يكون العلّة المعدّة هناك لذلك الصورة الغذائيّة وحدها،أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين،

ص:213


1- -المؤمنون:12-14. [1]

و بالجملة ما لا يجتمع وجوده مع وجود الصورة الخلطيّة،ثمّ تفرز نفس الأبوين من تلك الأخلاط بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ و تجعلها مستعدّة لمرتبة اخرى،بأن يكون العلّة المعدّة هناك،إمّا الصورة الخلطيّة وحدها،أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين،و كأنّه نسب ذلك الإعداد إلى نفس الأبوين،لأجل أنّ لها مدخلا في ذلك،أي و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة و نفس من شأنها أي من شأن الصورة التي تلك النفس و القوّة مبدأ قريب لها،أي الصورة المنويّة،إعداد تلك المادّة لصيرورتها بدن إنسان بالاستعدادات المتدرّجة، فتصير تلك المادّة الخلطيّة بتلك القوّة و النفس الفائضة عليها منيّا،فتكون تلك القوّة و النفس مبدءا قريبا لفيضان صورة منويّة عليها،و تكون أيضا صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة.و الحاصل أنّه يكون عند حصول الصورة الخلطيّة تلك الصورة وحدها، أو هي مع حركة ما من نفس الأبوين،علّة معدّة لشيئين،و تكون المادّة الخلطيّة،مستعدّة لاستحقاق أمرين:

الأوّل فيضان نفس المولود حينئذ التي تكون هي مبدءا قريبا لفيضان الصورة المنويّة عليها،و حافظة لمزاج المنيّ كما سبق،من أنّ نفس المولود حينئذ حافظة لمزاج المنيّ، و تقرّر أيضا أنّها مبدأ قريب لصورة بدنه،و ظاهر أنّ الصورة المنويّة أيضا من مراتب صور بدنه،إلاّ أنّهم لا يطلقون على النفس في تلك المرتبة اسم النفس،بل اسم القوّة أو الصورة، و يطلقون اسم النفس عليها فيما بعد تلك المراتب،كما سبق ذكره فيما نقلنا عن المحقّق الطوسي في باب حفظ المزاج.

و بالجملة أنّ الصورة الخلطيّة تكون علّة معدّة لفيضان نفس المولود و حدوثها حينئذ متعلّقة بتلك المادّة و شأنها ما ذكر فتحدث تلك النفس حينئذ و تنعدم تلك الصورة الخلطيّة حين حدوثها.

الثاني الصورة المنويّة التي هي من الصور البدنيّة و مبدؤها القريب هو تلك النفس، فتنعدم الصورة الخلطيّة بحدوثها أيضا،حيث إنّ العلّة المعدّة،إمّا ما يجب انعدامها عند حدوث معلولها كما هو التحقيق،و إمّا ما لا يجب بقاؤها مع وجود معلولها بل يجوز عدمها.

و على التقديرين فيجوز عدمها،كما فيما نحن فيه بالنسبة إلى نفس المولود،و كذا بالنسبة إلى الصورة المنويّة،إلاّ أنّ المادّة البدنيّة باقية بعينها،و كذا النفس متعلّقة بها،و مبدءا قريبا

ص:214

لتلك الصورة المنويّة،و حافظة لمزاج المنيّ.

ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك في حالاتها، فحيث استقرّ بحركة ما من نفس الأبوين في قرار الرحم و صادف هناك مادّة طمثيّة صالحة لتكوّن بدن إنسان منها،و خالطها و امتزجها بحيث كان هو فيها بالنسبة إلى صورة اخرى إنسانيّة بعدها كالإنفحة في اللبن بالنسبة إلى الجبن مثلا،تكون صورته المنويّة الكائنة بتلك الحالة علّة معدّة لفيضان صورة اخرى.أي الصورة العلقيّة على تلك المادّة المنويّة الممتزجة مع المادة الطمثية المستعدّة بذلك الإعداد للصورة العلقيّة،فتنعدم الاولى عند حصول الصورة الثانية،لكن المادّة باقية بعينها،و كذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها مبدءا قريبا لتلك الصورة و حافظة لمزاج العلقة،و هكذا إلى أن يتكامل المادّة و تصير بإعداد الصورة العلقيّة مستعدّة لقبول صورة اخرى أكمل من الأولى،أي الصورة المضغيّة،فتكون الصورة العلقيّة علّة معدّة لفيضان الصورة المضغيّة على تلك المادّة،فتحدث هي و تنعدم الصورة العلقيّة،لكونها علّة معدّة لها و المادّة باقية حينئذ بعينها،و كذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها و مبدءا قريبا لتلك الصورة المضغيّة و حافظة لمزاج المضغة.و هكذا إلى أن يتكامل المادّة و تصير بإعداد الصورة المضغيّة مستعدّة لقبول صورة أكمل منها،أي الصورة العظميّة و اللحميّة على تركيب مخصوص و هيئة مخصوصة،هي الصورة الإنسانيّة،فتحدث تلك الصورة و تنعدم الصورة المضغيّة لكونها علّة معدّة،و المادّة باقيّة بعينها.

و كما أنّ المادّة باقية بعينها في جميع المراتب في ضمن الصور المتواردة،كذلك النفس باقية في جميع تلك المراتب البدنيّة بعينها و بشخصها من غير تغيّر في ذاتها،نعم يتزايد كمالاتها بحسب تزايد كمالات البدن،و تزايد استعداداته.

و بالجملة بحسب تزايد كمالات آلتها و قبولها للصور الكاملة واحدة بعد واحدة،فهي تكون في جميع المراتب البدنيّة مبدءا قريبا لتلك الصور الفائضة،و حافظة لمزاج ما فاضت الصورة عليه،كالمنيّ و العلقة و المضغة و العظم و اللحم،فبرهة تكون منشأ لإفاضة الصورة و حفظ المزاج فقط كالصورة المعدنيّة،و برهة تكون مع ذلك منشأ للأفعال النباتيّة أيضا،فتجذب الغذاء و تضيفه إلى تلك المادّة فتنميها و يتكامل المادّة بتربيتها

ص:215

إيّاها،و برهة تكون مع ما تقدّم منشأ للأفعال الحيوانيّة أيضا.و برهة تكون مع ذلك كلّه منشأ للأفعال الإنسانيّة و الإدراكات الكلّية أيضا.

ففي جميع تلك المراتب تكون تلك النفس متعلّقة بذلك البدن نوع تعلّق،منشؤه كون البدن محتاجا إلى النفس بحسب ذاته و تماميّة حقيقته و صورته،حيث إنّ النفس مبدأ قريب للصور المتواردة عليه،و حافظة لمزاجه في جميع المراتب،و كذا كون النفس محتاجة إلى البدن في أفعالها المخصوصة بالمتعلقات بالمادّة،و هذه العلاقة الحاصلة بينهما مستحكمة إلى أوان حلول الأجل،كما أنّ تزايد كمالات النفس بتزايد استعدادات البدن مرتبة فمرتبة ثابت إلى أوانه.

و حيث تمّ وجود بدن كذلك مع نفس كذلك،تمّ حينئذ وجود إنسان هو مقصود العناية الأزليّة،و ملحوظ الحكمة المتعالية،فما دام يكون منشأ العلاقة بينهما باقيا بسبب كون النفس بحيث يصدر عنها حفظ المزاج و المبدئية للصورة الإنسانيّة،و لم يكن هناك مانع من ذلك،و كان البدن قابلا و مستحقّا لذلك،يكون تلك العلاقة بينهما باقية،و إذا كان الأمر بخلاف ذلك و استعدّت تلك المادّة البدنيّة مع صورة مخصوصة أو هيئة مخصوصة أو مزاج مخصوص لفساد علاقة النفس عنها،فيحدث الفساد و يزول تلك الصورة أو الهيئة أو المزاج،لكونها علّة معدّة لفساد العلاقة،و يتبع ذلك فساد ذات البدن بزوال صورته و هيئته و مزاجه،لكن لا يتبعه فساد ذات النفس بل فساد علاقتها عن البدن.

و التفصيل:أنّه إذا كان الأمر بخلاف ذلك مثل أن طرأ من جهة البدن،أو من جهة القاسر الخارج ضدّ على ذلك المزاج الواقع بين الكيفيّات المتضادّة المتداعية بموضوعاتها إلى الانفكاك لو خليّت و طباعها،كانت المادّة البدنيّة بذلك المزاج مستعدّة لفساد علاقة النفس عنها،و حدث بطروئه عليه فساد في ذلك المزاج الذي هو العلّة المعدّة لذلك،و يتبعه أن لا تكون حينئذ تلك النفس حافظة لذلك المزاج،لحصول المانع من الحفظ،فزالت من حيث كونها حافظة له لا من حيث ذاتها،و أن لا تكون أيضا مبدءا قريبا للصورة النوعيّة الفائضة على البدن،لعدم كونه بزوال المزاج و التركيب الخاصّين قابلا لفيضان صورة إنسانيّة عليه،و لا قابلا لبقائها فيه.

و بالجملة بذلك تفسد العلاقة بينهما و تزول لزوال منشئها،أي العلّية في حفظ المزاج

ص:216

و المبدئية للصورة النوعيّة الإنسانيّة،حيث زالت علّيّتها لانعدام معلولها،أي ذلك المزاج الخاصّ و التركيب المخصوص،و تلك الصورة،إلاّ أن فساد العلاقة لا يستلزم فساد ذات المتعلّق كما تقدّم وجهه.

و المحصّل أنّه ما دام يكون البدن بذلك المزاج الخاصّ و التركيب المخصوص،بحيث يصلح أن يكون آلة للنفس في أفعالها،أو يكون قابلا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه و قابلا لحفظ النفس مزاجه،تكون العلاقة بينهما باقية.

و إذا كان الأمر بخلاف ذلك،بأن لم تحتج إليه في أفعالها،-إمّا بأن تستكمل هي في سعادتها أو شقاوتها،و بالجملة فيما هو كمالها،و لم يبق بعد احتياج لها إليه في ذلك،و إمّا بأن طرأ هناك من قاسر أو غيره مانع من استكمالها بسببه،و إمّا بأن لم يكن البدن صالحا لكونه آلة لها في ذلك و لم يكن صالحا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه أو لحفظ مزاجه، بسبب طروء فسادها من داخل أو خارج على مزاجه و تركيبه اللذين بهما هو صالح للآلية لها،و بسبب انتفائهما ينتفي مبدئيّة النفس لصورته،و حفظها لمزاجه-زالت العلاقة بينهما.

و على التقادير،فزوال العلاقة،لا يستلزم فساد ذات المتعلّق أي النفس كما مرّ وجهه،بل لا يمكن الاستلزام هنا،حيث إنّ استلزام زوال العلاقة لزوال المتعلّق،أي النفس،إنّما يمكن إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به الفاسد،أي البدن،و إذ ليس فليس.

و بما قرّرنا لك بطوله،تلخّص لك أنّ ما قالوه،من أنّ النفس تحدث بحدوث البدن، معناه أنّ البدن بهيئة مخصوصة و صورة مخصوصة علّة مهيّئة معدّة لحدوث النفس متعلّقة به،فتحدث النفس متعلّقة به،و يكون المستعدّ لذلك هو المادّة البدنيّة الباقية،و المعدّ له هو الصورة المخصوصة الزائلة بحدوث النفس.فظهر معنى قولهم:إنّ البدن علّة بالعرض للنفس،فإنّ العلّة المعدّة علّة بالعرض مطلقا لو نسبت عليّتها إلى حدوث النفس أوّلا و بالذات،فكيف إذا نسبت تلك العليّة إلى تعلّقها بالبدن أوّلا و بالذات و إلى حدوثها ثانيا و بالعرض،كما فيما نحن فيه.و هذا إذا نسبت العليّة إلى الصورة المخصوصة الفائضة على البدن،التي كانت علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بالبدن.و كذلك إذا نسبت العليّة إلى المادّة البدنيّة،حيث إنّ تلك المادّة علّة قابليّة أوّلا و بالذات لتعلّق النفس بها،و ثانيا و بالعرض لوجود النفس.

ص:217

و تلخّص لك أيضا معنى ما قالوه،من أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن،حيث إنّ ذلك الفساد لا يتصوّر بالنسبة إلى المادّة البدنيّة الباقية بعينها،بل يتصوّر بالنسبة إلى صورها و أنّ أولى المراتب البدنيّة،أي الصورة الأخلاطيّة،علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بها، كما أنّها علّة معدّة لحدوث المرتبة الاخرى بعدها،أي الصورة المنويّة و هكذا كلّ صورة سابقة علّة معدّة للاحقة منها،و النفس باقية بعينها في تلك المراتب الاخرى،و لا يقدح انعدام العلّة المعدّة مطلقا حين وجود معلولها سواء فرضت علّة معدّة لوجود النفس أو لعلاقتها بالبدن،كما فيما نحن فيه،إذ العلّة المعدّة ما يجوز بل يجب انعدامها حين وجود معلولها،و يتوقّف وجود معلولها على عدمها الطارئ على وجودها،فلا تفسد النفس حينئذ بفساد تلك المرتبة من البدن،بل يجب وجود النفس حينئذ،و حيث إنّ النفس فيما بعد تلك المرتبة الاولى من المراتب الاخرى إلى تمام البدن،و إلى حلول الأجل باقية بعينها،و بينها و بين البدن علاقة منشؤها نوع علّية و احتياج بينهما كما ذكرنا،و تلك العلاقة و إن كانت تزول و تفسد بفساد البدن كما ذكرنا وجهه،لكن زوالها لا يستلزم زوال ذات النفس المتعلّقة بالبدن كما بيّنا وجهه،بل لا يمكن الاستلزام هنا،إذ زوال العلاقة بين شيئين بزوال المتعلّق به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المتعلّق كالنفس هنا،إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به و إذ ليس فليس.

فيظهر أنّه بفساد البدن لا تفسد ذات النفس،بل تكون باقية بعد خراب البدن أيضا بعلّتها الموجدة لها المبقية إيّاها الباقية التي لا يطرأ عليها الزوال و الفساد.

و ظهر الجواب مفصّلا عن ذلك الاعتراض المورد هنا بحيث انحسمت مادّته،إلاّ أنّه بما ذكرنا من الجواب إنّما يظهر أنّه يمكن بقاء النفس بعد فساد البدن،و لا يجوز أن يكون خراب البدن سببا لفساد النفس.

و أمّا أنّه لا يمكن فساد النفس مطلقا من جهة ذاتها،فيدلّ عليه الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ في الكتابين.فلذا ذكره بعد الدليل الأوّل ليتمّ بالدليلين ما هو المقصود من عدم إمكان طريان الفساد على النفس،لا من جهة فساد البدن و لا من جهة ذاتها.

و أمّا عدم إمكان طريان الفساد عليها من غير جهة البدن و ذاتها مثل جهة أمر آخر يكون فساده مستلزما لفسادها،فكأنّه مبنيّ على الظهور،إذ ليس يتصوّر هنا أمر كذلك،

ص:218

فلذا لم يتعرّض الشيخ له،و أورد الدليلين،و أورد الثاني عقيب الأوّل،حيث إنّه بمجموعهما مع ملاحظة ظهور أن ليس هنا أمر آخر يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس، يتمّ المقصود،و هو وجوب بقاء النفس بعد خراب البدن.

و المحصّل أن طرق تطرّق الفساد إلى النفس منسدّة كلّها.

أمّا من جهة الفاعل،فلأنّ المفروض بقاؤه.

و أمّا من جهة ذاتها،فلعدم قبولها الفساد كما مرّ.

و أمّا من جهة البدن،فلعدم كون فساده منشأ لفسادها.

و أمّا من جهة غير ذلك فلكون المفروض انتفاؤه فحيث انسدّت طرق تطرّق الفساد إليها،و كانت علّتها الموجدة المبقية لها باقيّة،وجب بقاؤها.

ثمّ إنّه بما ذكرنا كما يحصل الجواب عن اعتراض الإمام بالوجهين،إذا اورد على دليلي الشيخ،كذلك يحصل به الجواب عنه إذا اورد على ما ذكرنا أوّلا من الدليل على بقاء النفس،و كذا إذا اورد على ما نقلنا عن أفلاطون من الدليل إن أمكن الإيراد.

و حيث أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه عزيز المرام دقيق المنال عند اولي الأفهام، فلنرجع إلى تحقيق القول فيما ذكروه،من الجواب عن اعتراض الإمام،و توجيهه بقدر الإمكان،فلنتكلّم أوّلا في الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه و قد نقلناه سابقا.

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام

فنقول:قوله رحمه اللّه:«و الجواب أنّ كون الشيء محلاّ لإمكان ما هو مباين القوام له،أو لإمكان فساده غير معقول،فإنّ معنى كون الجسم محلاّ لإمكان وجود السواد،هو تهيّؤه لوجود السواد فيه،حتّى يكون حال وجود السواد مقترنا به،و كذلك في إمكان الفساد، و لذلك امتنع أن يكون الشيء محلاّ لإمكان فساد ذاته،فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها،و لا لإمكان فسادها أيضا»واضح،و ملخّصه أنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث ما هو مباين القوام عنه،و لا محلاّ لإمكان فساده عنه،فلا يكون البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس فيه،من جهة كونها مباينة القوام عنه،و لا لإمكان فسادها عنه من هذه الجهة.و قد مضى أيضا ما يتّضح به شرحه.

ص:219

و قوله:«بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس،محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا،و لم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،أعني النفس فحدث بحسب استعداده و تهيّئه ذلك مبدأ الصورة المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط،و زال بذلك الحدوث ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس،أعني الهيئة المخصوصة».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن،و إن لم يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث النفس و وجودها،و لا لإمكان فسادها عنه،من حيث إنّ النفس مباينة الذات و القوام عنه،إلاّ أنّ البدن يمكن أن يكون محلاّ لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط،و بينهما علاقة خاصّة،أي محلاّ لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط،و بينهما علاقة خاصّة،أي محلاّ لإمكان حدوث النفس و وجودها،و لا لإمكان فسادها عنه،من حيث إنّ النفس مباينة الذات و القوام عنه،إلاّ أنّ البدن يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث تعلّقها به، و لإمكان فساد تعلّقها عنه،لكن حدوث التعلّق هنا مستلزم لحدوث ذات النفس و وجودها،بخلاف فساد التعلّق،فإنّه غير مستلزم لفساد ذات النفس.

فبيّن أوّلا كيفيّة كون البدن محلاّ لإمكان تعلّق النفس به،حيث يكون محلاّ أوّلا و بالذات لإمكان حدوث ما هو متعلّق القوام به،أي الصورة النوعية الإنسانيّة،و ثانيا و بالعرض لإمكان تعلّق النفس التي هي المبدأ القريب لتلك الصورة،فقال:بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة-إلى آخره-و حاصله:أنّه إنّما كان البدن أي مادّة الأجزاء الأخلاطيّة مع هيئتها المخصوصة و صورتها الأخلاطية الموجودة قبل حدوث النفس محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة متعلّقة القوام به،تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا،و لم يكن وجود تلك الصورة فيه ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،بل الحافظ لمزاج البدن أيضا أعني النفس،فكانت المادّة البدنيّة الأخلاطية بإعداد تلك الهيئة التي هي العلّة المعدّة لها مستعدّة أوّلا و بالذات لحدوث صورة إنسانيّة فيها،و ثانيا و بالعرض لحدوث نفس تكون هي علّة قريبة لتلك الصورة الإنسانية،فحصل بحسب استعداد البدن و تهيّئه تلك الصورة الإنسانيّة فيه.و كذا النفس التي هي المبدأ القريب لها،و زالت أيضا تلك الهيئة

ص:220

المخصوصة لكونها علّة معدّة لذلك،و العلّة المعدّة يجوز،بل يجب زوالها عند حدوث معلولها.

و أيضا من المعلوم أنّ الصورة الأخلاطية تزول عند حصول الصورة الإنسانيّة،أي الصورة المنويّة التي هي أوّل مراتبها،و حصل الارتباط بين النفس و البدن ذلك الارتباط، فكان ذلك الاستعداد منسوبا أوّلا و بالذات إلى حدوث تلك الصورة،و ثانيا و بالعرض إلى حدوث النفس،و زال بذلك الحدوث،أي حدوث الصورة و النفس ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان علّة ماهيّة معدّة له،أي الصورة الأخلاطيّة التي علّة معدّة لاستعداد البدن لإمكان حدوث النفس،بل لحدوثها و حدوث تلك الصورة الإنسانيّة جميعا.

و أيضا ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الذاتي،الذي تبقى مع حدوث الحادث،بل الإمكان الاستعدادي الذي هو عبارة عن كون الشيء بالقوّة القريبة إلى الفعل،و هذه القوّة لا تجتمع مع فعليّة ذلك الشيء الحادث،بل تزول فيزول بسببها ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن.

و قوله:«فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة المقارنة به،و زوال ذلك الارتباط عنه، و امتنع أن يكون محلاّ لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن و إن كان لأجل كونه محلاّ بالذات لإمكان حدوث تلك الصورة النوعيّة فيه محلاّ بالعرض لإمكان حدوث نفس هي مبدأ قريب لتلك الصورة متعلّقة بالبدن،لكنّه لأجل كونه محلاّ بالذات لإمكان فساد تلك الصورة عنه،لا يمكن أن يكون محلاّ مطلقا و لو بالعرض لإمكان فساد ذات ذلك المبدأ القريب،أي النفس،بل إنّما يمكن أن يكون محلاّ لزوال ارتباط النفس به ذلك الارتباط عنه،و زوال ذلك الارتباط بزوال البدن،لا يستلزم زوال ذات النفس المرتبط بالبدن كما مرّ وجهه،بل لا يمكن ذلك، حيث إنّ زوال الارتباط بزوال المرتبط به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المرتبط كالنفس هنا،إذا كان المرتبط متعلّق القوام بالمرتبط به،و إذ ليس فليس.

فليس البدن حاملا لإمكان فساد النفس مطلقا،و لا فساده مستلزما لفسادها.و هذا هو حاصل مقصوده،حيث قال:«فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة-إلى آخره-»،أي

ص:221

فحيث كان البدن أوّلا محلاّ لإمكان حدوث الصورة النوعيّة أوّلا و بالذات،و لإمكان حدوث النفس متعلّقة به نوع تعلّق و ارتباط،كما ذكر ثانيا و بالعرض،و حدثت الصورة و النفس و زال ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن بزوال ما هو العلّة المعدّة لذلك،أعني تلك الهيئة المخصوصة،و لأنّ فعليّة الممكن الحادث تستلزم زوال إمكانه أعني كونه بالقوّة.

فبقي أن تكون تلك المادّة البدنيّة الباقية بعينها مع هيئة مخصوصة اخرى،غير الهيئة الاولى المعدّة لاستعداد الحدوث مستعدّة لإمكان الفساد،أي فساد ما حدث أوّلا بحيث كانت العلّة القابلة لذلك هي تلك المادّة البدنيّة الباقية و تلك الهيئة الاخرى الحاصلة هنا علّة معدّة لها،فتزول تلك العلّة المعدّة حين فعليّة الفساد،و المادّة باقية مع فساد ذلك الفاسد عنها.و هذا الاستعداد لإمكان الفساد إنّما يمكن أن يكون استعدادا لفساد ما هو متعلّق القوام بتلك المادّة أعني الصورة الإنسانيّة،و امتنع أن يكون استعدادا لفساد ما هو مباين القوام عنه،أي النفس،بل إنّما يكون استعدادا لفساد الارتباط الذي بينه و بينها، حيث كانت أوّلا مبدءا قريبا لتلك الصورة النوعيّة،و قد زالت عنها حينئذ هذه المبدئية لزوال ما هي مبدأ له.

و بما وجّهنا كلامه اندفع عنه الإيراد بأنّ الحامل لإمكان الفساد،يجب أن يكون هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث،كما هو المقرّر عندهم،و دلّ عليه كلام الشيخ في الشفاء كما نقلناه،و هنا ليس الأمر كذلك،إذ المفروض أنّ حامل إمكان الحدوث هو البدن مع هيئة مخصوصة،و المفروض أنّ تلك الهيئة قد زالت،فيكون البدن مع هيئة اخرى غير الاولى حاملا لإمكان الفساد،و لا شكّ أنّ البدن الحامل للإمكان بهذا الاعتبار غير البدن بالاعتبار الأوّل.

و بيان الاندفاع أنّ الحامل للإمكانين في الحالتين،هو المادّة البدنيّة الباقية بعينها في الحالتين.و أمّا الهيئتان فهما علّتان معدّتان،ليستا بحاملتين،و لا من أجزاء الحامل،حتّى يكون الحامل متعدّدا أو غير باق،فتدبّر.

ثم إنّه بما حرّرنا كلامه رحمه اللّه،ظهر الجواب عن اعتراض الإمام،و أنّه هو الجواب الذي فصّلناه سابقا إلاّ أنّه رحمه اللّه زاد بيانا له.

فقال:بعد ذلك فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس،من حيث

ص:222

صورة أو مبدأ صورة،لا من حيث هي موجودة مجرّدة،و ليس بشرط في وجودها، و الشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه،كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه،و ربّما يتوّهم منه أنّه حمل اعتراض الإمام على وجهين:

الأوّل من جهة احتمال كون البدن علّة قابليّة للنفس،و حاملة لإمكان حدوثها و فسادها.

و الثاني من جهة احتمال كون البدن شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس،فتنتفي هي بانتفائه،كما هو شأن الشرط و المشروط به.

و انّه حيث أجاب عن الاعتراض بالوجه الأوّل كما بيّناه،شرع في بيان الجواب عنه على الوجه الثاني،بأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا في حدوث النفس، و أن لا تفسد بفساد البدن،كما في البنّاء و البيت.

و هذا التوهّم باطل،لأنّ الشرط بالمعنى الخاصّ المصطلح كما سبق بيانه،هو ما يتوقّف وجود مشروطه على وجوده،و ينتفي مشروطه بانتفائه،فكيف يصحّ ادّعاء خلاف ذلك.

و أيضا كيف يصحّ التمثيل المذكور،فإنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت،حيث إنّ التحقيق أنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت،و لا علّة لقوامه،بل إنّ البنّاء علّة لوجود حركة خاصّة صادرة منه،و تلك الحركة علّة معدّة لوجود البيت،فلذا يبقى البيت بعد انعدام تلك الحركة بل بعد انعدام ذات البنّاء أيضا،و إن اجتمع وجوده مع وجوده أيضا، لكن لا يجتمع وجوده مع وجود تلك الحركة.

و هذا الذي ذكرناه موافق لما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفاء في فصل في الفرق بين العلل الحقيقية و العلل بالعرض،كما يظهر على من راجع إليه. (1)

فعلى هذا فالظاهر منه أنّه حمل اعتراض الإمام على الوجه الأوّل خاصّة،و حمل الشرط في كلامه على ماله مدخل في وجود النفس في الجملة،و إن كان على سبيل القابليّة لها أو على سبيل كونه علّة معدّة لها،فأطلق اسم الشرط على البدن متابعة للإمام في ذلك،فقال:إنّ هذا الاشتراط و المدخليّة.

ص:223


1- -راجع الشفاء،الإلهيات:257-261.

إن كان من جهة مادّة البدن و كون البدن بمادّته حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها،فقد عرفت حاله،حيث بيّن فيما سبق أنّ البدن بمادّته القابلة،و إن كان يمكن كونه حاملا لإمكان حدوث النفس بالعرض،لكنّه لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان فسادها مطلقا.

و إن كان من جهة الهيئة المخصوصة البدنيّة،فهذا أيضا لا يضرّنا،لأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا،أي علّة معدّة لحدوث النفس من جهة ارتباطها بالبدن، أي من حيث كونها صورة بدنيّة،كما في المرتبة المنويّة،حيث إنّه لا يطلق على النفس في تلك المرتبة اسم النفس،بل اسم القوّة و الصورة كالصورة المعدنيّة،و إن كانت النفس حينئذ مغايرة للصورة النوعيّة المنويّة لكونها متعلّقة القوام بتلك المادّة،بخلاف النفس، أو من حيث كونها مبدءا قريبا للصور النوعيّة كما في المراتب الاخر المتأخّرة عن تلك المرتبة الاولى،لا من جهة كون النفس مباينة القوام عن البدن،و من حيث هي موجودة مجرّدة،فإنّ النفس من هذه الحيثيّة ليس البدن ممّا له مدخل في وجودها حتّى على سبيل كونه علّة معدّة لها أيضا،لكونه مباين القوام عنها،و الشيء كالنفس إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط و علّة معدّة لحدوثه،كالبدن بتلك الهيئة المخصوصة،إذ المفروض كون ذلك الشرط علّة معدّة لحدوثه و شأن العلّة المعدّة أن يجوز بل يجب انعدامها مع وجود معلولها كما هو المقرّر عندهم،فلا يضرّنا انتفاء الشرط هنا حتّى لو كان الشرط أي البدن مع تلك الهيئة المخصوصة شرطا و علّة معدّة لحدوث النفس و وجودها من حيث هي ذات موجودة مجرّدة مباينة القوام للبدن،فكيف إذا كان شرطا لحدوث تعلّقها بالبدن و ارتباطها به كما ذكرنا،و هذا كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي هو شرط في حدوثه،حيث إنّ البنّاء بحركته الخاصّة منه،أي من حيث كونه بنّاء و من حيث وصف البنّائيّة لا من حيث ذاته شرطا و علّة معدّة لوجود البيت،و يبقى البيت بعد موت البنّاء،أي بعد زوال وصف البنّائيّة عنه،أو بعد انعدام ذاته الذي كان منشأ لانعدام ذلك الوصف عنه.

و على هذا التوجيه فيكون هذا الكلام منه زيادة بيان للجواب،و تأكيدا لما سبق منه و يكون هو رحمه اللّه غير متعرّض للجواب عن الاعتراض على احتمال كون البدن شرطا

ص:224

مصطلحا لحدوث النفس.

و الجواب عنه ما ذكرناه سابقا.

ثمّ إنّه رحمه اللّه قد زاد في البيان فقال:فإن قيل:لم استوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة،و لم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة،فساد مبدأ ذلك،و ما الفرق بين الأمرين؟

قلنا:لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها،و ما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل،بل يكفيه شرط ما و لو كان عدميّا،و شرحه واضح.و كأنّ غرضه رحمه اللّه من ذلك أنّه كما لا يمكن أن يكون البدن علّة حاملة لإمكان فساد النفس،كذلك لا يمكن أن يكون فساد الصورة الإنسانيّة التي هي معلولة للنفس منشأ لفساد النفس التي هي علّتها،حيث إنّ وجود المعلول و إن كان يتوقّف على وجود جميع علله بشرائطها،لكن انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله،بل يكفي فيه انعدام شرط ما و لو كان عدميّا.

فبذلك يمكن انعدام تلك الصورة مع بقاء مبدئها القريب،أي النفس.مع أنّ وجود النفس و بقاءها مستندان إلى العلل التي هي باقية.فبذلك تمّ الجواب عن الاعتراض، و اتّضح كمال الاتّضاح،و ظهر أنّ فساد البدن لا يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس،مع أنّه اتّضح بدليل آخر كما سبق ذكره،أنّه لا يمكن أن يطرأ عليها الفساد من جهة ذاتها أو من جهة اخرى،فثبت المقصود،و هو امتناع طريان الفساد على النفس الإنسانيّة مطلقا،و هذا الذي ذكرناه هو غاية توجيه كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه و اللّه تعالى أعلم.

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فلنتكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الأجوبة عن الاعتراض كما نقلنا كلامه سابقا،فنقول:إنّه ممّا يلوح عليه آثار الإجمال و الإهمال، و على تقدير كونه متضمّنا لتحقيق الحال و دفع الإعضال فهو ممّا يعسر علينا دركه،حيث إنّ ما ذكره في جوابه الأوّل الذي قال:«إنّه مما سنح له في سالف الأزمان على طريقة أهل النظر»،لا يدلّ إلاّ على أنّ النفس الإنسانيّة،مجرّدة من حيث كونها ذاتا عقليّة و مادّية من

ص:225

حيث كونها متصرّفة في البدن،و أنّها مجرّدة من حيث الذات،مادّية من حيث الفعل،و أنّها من حيث الفعل مسبوقة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله،و أمّا من حيث حقيقتها أو مبدأ حقيقتها،فغير مسبوقة باستعداد البدن إلاّ بالعرض،و لا فاسدة بفساده، و لا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلاّ بالعرض،و هذا ممّا لا كلام فيه.

لكنّه لا يتبيّن منه أنّها من جهة مسبوقيّتها باستعداد البدن بالعرض،كيف استلزم استعداد البدن لها بالعرض،وجود ذاتها،و لم يستلزم ذلك الاستعداد فساد ذاتها.و ما الفرق بين الأمرين؟مع أنّه اعترف أنّها من جهة المسبوقيّة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله.اللّهم إلاّ أن يوجّه ذلك بما يؤول إلى جواب المحقّق الطوسي،و إلى ما فصّلناه من الجواب.

ثمّ إنّ ما ذكره ثانيا بقوله:«و أمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال،فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات و نشئات ذاتية بعضها من عالم الأمر و التدبير: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (1)و بعضها من عالم الخلق و التصوير: «وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا» ، (2)فالحدوث و التجدّد،إنّما يطرءان لبعض شأنها».

فهو أيضا ممّا لا كلام فيه،لا في كونها ذات نشئات،و لا في أنّ الحدوث و التجدّد يطرءان عليها من جهة كونها من عالم الخلق و التصوير و من جهة تعلّقها بالبدن تعلّق التصرّف و التدبير.

إلا أنّ قوله:«فنقول:لمّا كانت للنفس ترقّيات و تحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية و إلى ما بعدها،فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر،يصير وجودها وجودا عقليّا إلهيا لا تحتاج إلى البدن و أحواله و استعداده،فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما و بقاء،إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال،و مصيرها إلى العقل الفعّال،فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء».

إن أراد به أنّ النفس في أوّل حدوثها مادّية بحسب الذات،و تصير عند استكمالها مجرّدة،فهو مع كونه خلاف ما تقرّر عندهم،يستلزم انقلاب ذاتها من المادّية إلى التجرّد و هذا باطل.

ص:226


1- -الإسراء:85. [1]
2- -الأعراف:11. [2]

و إن أراد أنّها في جميع الحالات مجرّدة بحسب الذات،مادّية بحسب الفعل و التصرف في المادّي،إلاّ أنّ كمالاتها الذاتيّة التي هي منشأ الحكم بتجرّدها عند حدوثها،و في بعض مراتبها أقلّ منها عند استكمالها،و هي عند الاستكمال أكثر،حتّى أنّها بذلك يصير وجودها وجودا عقليّا،و يظهر عند العقل أنّها مجرّدة،فهو مسلّم،لكن ما ذكره:«من أنّها عند الاستكمال لا تحتاج إلى البدن و أحواله و استعداده»،إن أراد أنّها حينئذ يزول تعلّقها عن البدن و احتياجها إلى أحواله و استعداده،و قد كانت قبل ذلك متعلّقة به محتاجة إليه، و إلى استعداده و أحواله حتّى يحصل له الاستكمال،و الحاصل أنّها عند الاستكمال،غير متعلّقة بالبدن أصلا،حتّى يستلزم فساد البدن لفسادها،بل باقية بذاتها،فزوال استعداد البدن لا يضرّها دواما و بقاء.

فيرد عليه أنّه كيف صار استعداد البدن ايّاها منشأ لاستكمالها الذي هو منشأ لقطع تعلّقها عن البدن،و لم يصر زوال ذلك الاستعداد منشأ لفساد ذاتها و لو بالعرض،مع أنّه كان قبل ذلك استعداد البدن منشأ لحدوثها و لوجود ذاتها و لو بالعرض،و لم يكن ذاتها قبل ذلك مادّية بحسب الذات و بعد الاستكمال مجرّدة بحسب الذات،حتّى يمكن أن يكون استعداد البدن قبل ذلك منشأ لوجود ذاتها لأجل كونها مادّية،و لا يمكن أن يكون هو حين الاستكمال منشأ لفساد ذاتها لكونها مجرّدة حينئذ.

اللّهمّ إلاّ أن يكون أراد أنّها حين حدوثها،و إن كانت مجرّدة بالذات،لكنّها محتاجة إلى البدن في أفعالها،فلذلك استلزم استعداده إيّاها لحدوث ذاتها لأجل المناسبة التي بينهما، و أمّا هي بعد الاستكمال،فكما كانت مباينة الذات للبدن،كذلك تصير مباينة له بحسب الأفعال أيضا،فلا مناسبة و لا ارتباط بينهما بوجه،حتى يصير زوال استعداده منشأ لفساد ذاتها،و على هذا،و إن امكن أن يكون لما ذكره وجه،إلاّ أنّه يرد عليه أنّه على هذا التوجيه يرجع إلى الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي،و فصّلنا بيانه،فليس جوابا آخر كما هو ظاهر كلامه.

و أيضا نقول:إنّه يكفي لعدم استلزام زوال استعداد البدن لزوال النفس من حيث الذات،كونها مباينة للبدن بحسب الذات كما بيّناه،فاعتبار كونها مباينة له بحسب الفعل أيضا-مع أنّه غير واضح-ممّا لا احتياج إليه في إثبات المطلوب،و إن كانت المباينة

ص:227

بذلك أتمّ و عدم الاستلزام أظهر.

كيف و لو قيل بأنّ المباينة بحسب الفعل التي منشؤها الاستكمال المذكور،لها مدخل في عدم ذلك الاستلزام،و في بقاء النفس،لكان الدليل على بقاء النفس مخصوصا بالنفس التي حصل لها الاستكمال،و لا يجري في النفوس التي لم يحصل لها الاستكمال،و الحال أنّ ظاهر كلام من أقام الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن،هو العموم بحيث يشمل النفوس الغير الكاملة أيضا كنفوس الصبيان و البله و المجانين و أمثالها.

اللّهمّ إلاّ أن يكون قد أشار بذلك إلى أنّ هذا الدليل على بقاء النفس إنّما يجري في بقاء نفوس المستكملين في كمالاتها دون غيرهم كما سيأتي أنّ بقاء نفوس غير المستكملين محلّ خلاف بين الحكماء،إلاّ أنّ هذه الإشارة أيضا فيها شيء،لأنّه في الشواهد الربوبيّة قال ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا،كما يظهر على من راجع كلامه،و الحال أنّ عمدة الدليل عندهم على بقاء النفس الإنسانيّة،هو هذا الدليل الذي هو على توجيه مخصوص بالمستكملين،و كفاك شاهدا على قوله ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا ما نقلنا عنه سابقا في جواب ذلك الاعتراض،حيث قال:فالجواهر النطقية بعد وجودها و تجرّدها عن الموادّ،هي كسائر المفارقات الصوريّة لا ضدّ لها،إذ لا قابل لها فتبقى ببقاء مبدئها و معيدها،و لو لم يكن فيها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها لكفى،فضلا عن الصفات و الملكات و الأنوار الفائضة عليها من المبادئ،و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق القول في ذلك في موضع يليق به.

و إن أراد أنّها حين الاستكمال أيضا يبقى تعلّقها بالبدن و لو كان تعلّقا ضعيفا،ثمّ يزول بعد ذلك بسبب ما هو منشأ لزوال التعلّق،فيرد عليه أنّه على هذا يبقى تعلّقها به عند الاستكمال أيضا.فكيف لم يصر فساد البدن بعد ذلك منشأ لفساد ذاتها،و لو بالعرض،كما كان في ابتداء التعلّق منشأ لحدوث ذاتها و لو بالعرض.

و قوله:و مثالها كالطفل و حاجته إلى الرحم أوّلا و الاستغناء عنه أخيرا،و كمثال الصيد و الحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا و الاستغناء في بقائه عنها أخيرا،ففساد الرحم و الشبكة لا ينافي بقاء المولود و الصيد و لا يضرّه.

هذا المثال إن كان مثالا لما كان بصدده في السابق من أنّ استعداد البدن في الابتداء كان

ص:228

منشأ لحدوث النفس،و أنّ زواله في الانتهاء لا يضرّ بقائها،فهو غير منطبق على الممثّل، حيث إنّ البدن علّة قابليّة مستعدّة،و الرّحم و الشبكة ليستا بعلّتين قابليّتين،بل هما بالشرط بالمعنى المصطلح أشبه.

و إن كان مثالا لأنّ البدن يمكن أن يكون شرطا لوجود النفس أو لتعلّقها بالبدن في الابتداء،و أنّ زوال الشرط بعد ذلك لا يضرّ بقاءها،فهو-مع كونه خلاف ما كان بصدد بيانه أوّلا حيث إنّ كلامه في كون البدن علّة قابليّة لحدوث النفس،لا في كونه شرطا له بالمعنى المصطلح-يرد عليه:أنّا لا نسلّم أنّ الشرط في وجود الطفل و اصطياد الصيد،هو خصوص الرّحم و الشبكة من حيث خصوصيّتها،بل الشرط هناك أمر كلّي ينحصر في أفراد،و الرّحم و الشبكة من جملة أفراده،فلذا لا ينعدم المشروط بانعدام شرط على الخصوص.نعم لو انعدم ذلك الأمر الكلّي من حيث جميع أفراده،انعدم المشروط.

و الحاصل أنّ الشرط أوّلا في وجود الطفل هو الرّحم،ثمّ ينعدم هو و يخلفه شرط آخر، و هو حصول حالة خاصّة و مكان خاصّ و هواء خاصّ و نحو ذلك،به يبقى الطفل،و هكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته فينعدم وجود الطفل.

و كذلك الشرط أوّلا في اصطياد الصيد هو الشبكة،ثمّ يخلفها و ينوب عنها أمر آخر من آلة اخرى كانس الصيد بالصيّاد و الإنسان و عدم توحّشه عنه،و هكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته،فينعدم المشروط،و حينئذ نقول:لو كان الشرط في حدوث النفس هو البدن مع هيئة مخصوصة من حيث الخصوصية،للزم انعدام المشروط بانعدامه،حيث إنّ معنى الشرط هو ذلك.

و كذلك لو فرضنا أنّ الشرط هناك أمر كلّي حيث يلزم من انعدام الشرط بكلّيته انعدام المشروط.

اللّهمّ إلاّ أن يصار إلى أنّ البدن شرط أوّلا و بالذات لتعلّقها به،لا لوجودها إلاّ بالعرض، و حدوث التعلّق و إن كان يستلزم حدوث المتعلّق إلاّ أنّ فساد التعلّق لا يستلزم فساد المتعلّق،كما مرّ بيانه لكنّه رحمه اللّه لم يبيّن ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكره ثالثا بقوله:«ثمّ اعلم أن العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض،و ليست علّيتها كعلية العلل الموجبة،حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول-إلى آخره-»،لو امكن

ص:229

توجيهه بما قرّرنا الجواب عن الاعتراض كما سبق ذكره،لأمكن أن يكون له وجه،لكنّه لا يكون وجها آخر من الجواب كما هو ظاهر كلامه.

و أمّا لو حمل على ما هو ظاهر كلامه،فهو طريق آخر غير ذلك،و فيه شيء،حيث إنّه مع ابتنائه على الحركة في الجوهر،و على أنّ صور المراتب البدنيّة باقية بعينها كلّ سابقة في مرتبة لاحقتها،و فيهما ما لا يخفى.

مبناه على ما ذكره أخيرا بقوله:فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالها و توجّهاتها إلى مقام العقل،و اتّحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا،اطلقت عن المادة و الحدثان،و تجرّدت عن القوّة و الإمكان،و صارت باقية ببقاء اللّه سبحانه من غير تغيير و فقدان،و يوافقه في ذلك ما نقلنا عنه في الشواهد الربوبيّة.

و هذا هو ما ذكره سابقا في قوله:فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر- إلى آخره-و قد عرفت ما فيه.

و بالجملة ما ذكره رحمه اللّه ممّا يعسر علينا دركه و فهمه،و عسى أن يفهمه غيرنا و هو رحمه اللّه أعلم.

و حيث بيّنا كيفيّة فناء بدن الإنسان،و أقمنا الدليل النقلي و العقلي على بقاء نفسه الناطقة،و انتهى الكلام إلى هذا المقام،و خرجنا بالإطناب عمّا هو المرام،فلنعد إلى ما كنّا بصدده من بيان حال الأجزاء المخصوصة من هذه النشأة الدنيويّة في إمكان البقاء و عدمه

ص:230

في بقاء النفوس

فنقول:إنّك إذا تأمّلت فيما ذكرنا من الدليل العقلي على بقاء النفس الناطقة الإنسانيّة أمكنك أن تجريه في بقاء نفس الجنّ أيضا إذا قيل:بأنّ نفوسهم أيضا كنفوس الإنسان مجرّدة عن الموادّ بحسب ذواتها،متعلّقة بأبدانهم نحوا من التعلّق،مرتبطة بها نوعا من الارتباط و التدبير و التصرّف،و إن كانت أبدانهم مخالفة لأبدان الإنسان،فيظهر لك أنّه بفساد أبدانهم لو فرضنا فسادها،لا تفسد نفوسهم،بل تبقى بعد خرابها أيضا.

و هذا مع قطع النظر عن أنّ الشرع دلّ على بقاء بعض أنواعهم،أو أصنافهم كالشيطان، حيث دلّ على أنّه من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.

و كذلك أمكنك أن تجريه في بقاء العقول المجرّدة عن المادّة في ذواتها و أفعالها جميعا،لو قيل بها،و إن لم نقل بقدمها،بل بحدوثها،بل إنّ جريان ذلك الدليل في العقول أتمّ و أظهر،إذ ليس لها أبدان،و لا احتياج أصلا إلى المادّة،حتّى بحسب الفعل أيضا،كي يمكن أن يقال بفسادها بفساد أبدانها،و يجاب بذلك الجواب.

و كذلك أمكنك أن تجريه في الملائكة،سواء قيل بأنّهم عقول مجرّدة عن المادّة مطلقا، كما هو مذهب بعضهم،أو قيل كما يدلّ عليه ظاهر الشرع،بأنّهم كالإنسان عبارة عن مجموع نفس و بدن،إلاّ أنّ أبدانهم ليست كأبدان الإنسان،بل هي أجسام لطيفة و جواهر نورانية في غاية اللطافة و النورانية،كالأجسام السماوية أو ألطف منها و أنور.و كذلك نفوسهم المتعلّقة بتلك الأجسام في غاية التجرّد و التعقّل و العلم و الإدراك.

فيظهر لك أنّه لو فرض انقطاع علاقة نفوسهم عن أبدانهم،بسبب زوال أبدانهم أو بسبب آخر،لكان تبقى نفوسهم بعد ذلك ببقاء موجدهم و مبدعهم الباقي.

ص:231

و كذلك أمكنك أن تجريه في الأفلاك و ما فيها،لو قيل بأنّ لها نفوسا كليّة غير منطبعة فيها،بل مجرّدة متعلّقة بأجرامها نوع تعلّق،فيظهر لك أنّه بفساد أجرامها لو فرض فسادها، لا تفسد نفوسها الكلّية المجرّدة.

و بالجملة انّك إذا تأمّلت فيما تلوناه عليك سابقا،تبيّن لك أنّ كلّ ما هو مجرّد عن المادّة في ذاته من الموجودات،سواء كان متعلّقا بها في أفعاله،كالنفس المجرّدة،أو لم يكن متعلّقا بها فيها كالعقل،إن جوّزنا وجوده،فهو من حيث تجرّده عن المادّة في ذاته ممّا لا يطرأ عليه الفساد و الزوال من جهة ذاته بذاته،سواء كانت تلك النفس نفسا ناطقة إنسانيّة،أو جنّية أو ملكيّة أو فلكيّة،و إنّما الفساد الذي يتصوّر بالنسبة إلى النفس،إنّما هو فساد تعلّقها عن بدنها و عن الجسم الذي هو آلة لها في أفعالها،و بذلك يمكن أن يتأوّل قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» (1)على تقدير أن يراد بكلّ نفس هذا المعنى من النفس.و أن يتأوّل نظائر هذا،ممّا ورد في الكتاب و السنّة،و أنّه لا يتصوّر هذا،أي فساد التعلّق أيضا بالنسبة إلى العقل أصلا،حيث إنّ المفروض على تقدير جواز وجوده كونه غير متعلّق بالمادّة أصلا.

و بذلك استبان لك حال المجرّدات من الموجودات،من جملة الأجزاء المخصوصة من العالم في كونها باقية بعد وجودها،بقاء مستندا إلى علّة من خارج،و إن كانت هي في ذواتها ممكنة الوجود و العدم.

ص:232


1- -الأنبياء:35؛ [1]آل عمران:185. [2]

في بيان حال المادّيات من الموجودات

و بقي بعد،بيان حال الموجودات المادّية من جملة أجزاء العالم،سواء كانت أجساما أو صورا أو أعراضا،و سواء كانت من جملة الكائنات الفاسدات،أم غيرها،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول:إنّ الكائنات الفاسدات منها سواء كانت اجساما أو صورا أو أعراضا،لا يخفى أنّ طريان الفساد و الزوال عليها من جهة ذواتها ممكن،بل واقع،كما يدلّ عليه المشاهدة و العيان.

و بالجملة لا ينكره أحد،و وجهه أنّ موادّها لكونها قابلة لكلا الضدّين،يمكن أن تستعدّ لكون صورة أو هيئة فيها فتتكوّن هي فيها ثمّ تستعدّ لفساد تلك الصورة أو تلك الهيئة، و لطروء ضدّها عليها فتفسد هي،و قد يفسد بذلك الجسم أيضا لفساد جزئه أي صورته، و أمّا تلك المواد،فلعدم كونها قابلة لفساد نفسها فلا يطرأ عليها الفساد،بل هي باقية في الحالين،فلذلك لا ينعدم ذلك الجسم بالمرّة،و قد مرّ بيان ذلك كلّه فيما سبق.

و أمّا غير الكائنات الفاسدات منها كالأفلاك و ما فيها من النجوم و الكواكب و الكرات، فهي و إن كانت ممّا زعمت الفلاسفة بقاءها و أبديّتها و عدم إمكان طروء الفساد عليها، و لكنّها عند العقل ممّا لا مانع من طروء ذلك عليها،لا من جهة ذواتها،و لا من جهة غيرها، فإنّها حيث كانت ممكنة بالذات،يتساوى وجودها و عدمها بالنظر إلى ذواتها،كما لا مانع من وجودها لا مانع عند العقل من امكان فنائها،و انعدام صورها عن موادّها،بل من انعدام موادّها أيضا و انعدامها بالمرّة.

و كذلك هي حيث كانت مركّبة من مادّة و صورة،كالكائنات الفاسدات،لا مانع عند

ص:233

العقل من كون موادّها قابلة لكلا الضدّين،فتكون قابلة لكون صورة فيها،فتتكوّن هي فيها،و كذا لفسادها عنها فتفسد عنها،و كذلك لا مانع عند العقل أن يقتضي العلم بالأصلح أن يخلق ضدّ صورها،فيطرأ عليها ضدّها،فتنعدم صورها و تفسد.

و ما ذكره الفلاسفة من الوجوه الدالّة عندهم على عدم إمكان طروء الفساد عليها كلّها وجوه ضعيفة،مبنيّة على اصول غير ثابتة،لا يكاد يتمّ التمسك بها في ذلك.مثل ما ذكروه من أنّها قديمة،و ما ثبت قدمه امتنع عدمه،كما مضى دليله.فإنّ ذلك مبنيّ على قدم العالم، أو على قدم خصوص الأفلاك و ما فيها،و قد ثبت بطلان ذلك،بل الحقّ أنّ العالم بجميع أجزائه حتّى الأفلاك و ما فيها حادثة حدوثا دهريّا كما بيّناه في رسالة موضوعة لذلك، فليرجع إليها. (1)

و مثل ما ذكروه من أنّ الكائن الفاسد،يجب أن يكون فيه مبدأ ميل مستقيم،و الأفلاك و ما فيها لوجود مبدأ ميل مستدير فيها،لا يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم،للتنافي بين الميلين،و إذا لم يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم،فلا يمكن أن يطرأ عليها ما هو لازم ذلك من التغيّر و الفساد.

و لذلك فرّعوا على عدم إمكان الحركة المستقيمة فيها،و كذا على أنّ الحركة المستقيمة لو جاز عليها لجاز أن تكون إلى فوق و سفل أيضا،و قد ثبت عندهم أنّ المحدّد لذلك، هو الفلك،فيلزم أن يقع الحركة المستقيمة إلى جهة محدّدها.أي الفلك الذي فرض فساده، فيلزم وقوع الحركة إلى جهة من غير محدّد لتلك الجهة،عدم إمكان قبولها لطروء الخرق و الالتيام و التخلخل و التكاثف،و أمثال ذلك ممّا لا يمكن حصوله إلاّ بالحركة.

و مثل ما ذكروه من عدم إمكان ضدّ لصور الأفلاك،فكيف يطرأ عليها الفساد الذي هو يكون بطروء أضدادها عليها.و أنّ موادّها مخالفة بالنوع لموادّ الكائنات الفاسدات، فلا تقبل فساد صورها عنها و نحو ذلك ممّا ذكروه في كتبهم،فإنّ ذلك كلّها وجوه ضعيفة فاسدة،كما هو مبيّن في كتب أهل الشرع من العلماء.و نحن أيضا في تعليقاتنا على الشفاء قد بيّنا فساد تلك الوجوه بما لا مزيد عليه،فليطالع ثمّة.

غاية الأمر أنّ موادّها و صورها لكونها مخالفة من بعض الجهات لموادّ العنصريّات

ص:234


1- -توجد نسخة هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران و مكتبة آية اللّه المرعشي بقم.

و صورها،يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح بقاءها بعينها،أي بقاء صورها في موادّها في هذه النشأة الدنيوية،ثمّ يقتضي عند قيام الساعة زوالها و انعدامها،أي فساد صورها عنها بخلق أضداد تلك الصور،فتطرأ عليها فتقبل موادّها تلك الأضداد و فساد الصور الاولى.

و لا مانع من ذلك عند العقل،بل إنّ النصوص السمعيّة القطعيّة،دالّة على وقوع الفساد و طروئه عليها،كما دلّت على طروئه على غيرها من الأجسام العنصريّة،كليّاتها و أجزائها و جزئيّاتها،و تلك النصوص في الكتاب و السنّة من الكثرة بحيث لا تكاد تحصى،مثل قوله تعالى:

«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» . (1)

«وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ» . (2)

«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ، وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» . (3)

«وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» . (4)

«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» . (5)

«وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» . (6)

«وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» . (7)

«إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» . (8)

«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» . (9)

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (10)

«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» . (11)

«يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» . (12)

ص:235


1- -الأنبياء:104. [1]
2- -الزمر:67. [2]
3- -الحاقّة:13-17. [3]
4- -النبأ:19-20. [4]
5- -المعارج:8-9. [5]
6- -المرسلات:9-10. [6]
7- -التكوير:11. [7]
8- -الانشقاق:1. [8]
9- -الانفطار:1. [9]
10- -ابراهيم:48. [10]
11- -الرحمن:37. [11]
12- -الطور:9-10. [12]

«السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً» . (1)

«اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ» . (2)

«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَ خَسَفَ الْقَمَرُ، وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ» . (3)

«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» . (4)

«إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» . (5)«وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» . (6)

«وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا،لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (7)

«فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» . (8)

«وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً» . (9)

«وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» . (10)

«وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» . (11)

«يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً» . (12)

«وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ» . (13)

«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» . (14)

«وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» . (15)

«وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» . (16)

و هذه الآيات الكريمة و أمثالها،ممّا ورد في السنّة الشريفة في ذلك،كما تدلّ دلالة قطعيّة على وقوع الفساد على الأفلاك و ما فيها من النجوم و الكواكب،و على غيرها من

ص:236


1- -المزمّل:18. [1]
2- -القمر:1. [2]
3- -القيامة:7-9. [3]
4- -المرسلات:8. [4]
5- -التكوير:1-2. [5]
6- -الانفطار:2. [6]
7- -الكهف:98. [7]
8- -الكهف:98. [8]
9- -طه:105-106. [9]
10- -النمل:88. [10]
11- -الزمر:67. [11]
12- -المزّمّل:14. [12]
13- -الانشقاق:3. [13]
14- -الزلزلة:1-2. [14]
15- -التكوير:6. [15]
16- -الانفطار:3. [16]

الأرض و الجبال و البحار،كذلك تدلّ على عدم كونها قديمة،إذ لو كانت قديمة،لما جاز عليها وقوع الفساد،حيث إنّ ما ثبت قدمه،امتنع عدمه،إلاّ أنّها لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة،و فسادها بالكلّية،بل إنّما تدلّ على فسادها على تلك الأنهاج المذكورة و على الأنحاء التي هي مضامين تلك الآيات الكريمة،كما يظهر على من تدبّر فيها.

و لا يخفى أنّ تلك الأنهاج و الأنحاء ليست بانعدامها بالمرّة،بل إنّما هي فساد صورها و زوال هيآتها و عدم بقائها على النهج الذي كانت تلك الأشياء عليه أوّلا من الوجود و التشخّص و الصورة و الكيفيّة،و لعلّ سرّ ذلك-و اللّه أعلم-اقتضاء العلم بالأصلح عند قيام الساعة فسادها،بأن يخلق أضداد تلك الصور،فتطرأ عليها،و حيث كانت موادّها قابلة لكلا الضدّين،قبلت أضدادها ففسدت عنها تلك الصور الأوّل،لكنّها باقية في الحالين حيث لا دليل على فسادها في ذاتها.

و بالجملة فهذه الآيات و نحوها،لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة حتّى بموادّها،و لا دليل آخر أيضا عليه،بل إنّما تدلّ على انعدامها بصورها و هيآتها و وجوداتها الخاصّة،و يمكن بقاء موادّها،و لا ضير فيه،لو قلنا بحدوث تلك الموادّ و بقائها بعد وجودها لأجل عدم كونها قابلة للفساد،كما في النفس الإنسانيّة،و من هذه الجهة ليس في ذلك انعدام تلك الأشياء بالمرّة،فلذا يجوز إعادتها لو فرضنا إعادتها،مع أنّا لو قلنا بوجود نفس مجرّدة متعلّقة بالأفلاك و ما فيها كما هو مذهبهم،و قلنا ببقاء تلك النفوس بعد خراب الأفلاك و فساد صورها و هيآتها كما أشرنا إليه سابقا،لكان عدم انعدام الأفلاك و ما فيها بالمرّة أظهر،إذ النفوس المتعلّقة بها باقية و كذا موادّها.و اللّه أعلم.

ص:237

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات

اشارة

على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة

ثمّ إنّه قد وردت في القرآن الكريم آيات اخر في هذا المقام:

منها قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» . (1)

و هذه مفادها لو كان المراد بالنفس،النفس بالمعنى المصطلح،أنّ كلّ نفس تذوق الموت بخراب بدنها و زوال الجسم الذي هي متعلّقة به نوعا من التعلّق،و تنقطع علاقتها عنه،فيشمل هذا كلّ ذي نفس مجرّدة من الإنس و الجنّ و الملك و الفلك،و لو كان المراد بالنفس أعمّ من النفس المجرّدة و المنطبعة كالصور و القوى الحالّة في الأجسام،كان مفاد الآية أنّ كلّ نفس مجرّدة أو منطبعة تذوق الموت،أمّا النفس المجرّدة فكما ذكر،و أمّا المنطبعة فبفسادها في ذاتها،و زوالها عن مادّتها،لقبول تلك المادّة فسادها عنها من غير فساد ذات المادّة بذاتها.

و منه يعلم الحال لو اريد بالنفس ذات الشيء،أي الشيء مطلقا مجرّدا كان أم مادّيا، فلكيّا كان أم عنصريّا و حينئذ لو لم نقل بالعقول المجرّدة،لكان عموم كلّ شيء في الآية باقيا بحاله،و لو قلنا بها ينبغي تخصيص ذلك العموم بما سوى العقول و نحوها،إذ الدليل العقلي كما مضى ذكره،قائم على بقاء الموجودات المجرّدة عن المادّة في ذاتها،و كذا المفروض أن لا مادّة هنا يتعلّق بها العقل،حتّى يمكن أن يقال إنّ موته عبارة عن قطع تعلّقه عن تلك المادّة كما ينبغي تخصيصه بغير الصادر الأوّل أيضا.

و كذا بغير موجودات النشأة الاخرويّة،حيث إنّا قد أقمنا فيما مضى الدليل على بقائها

ص:238


1- -آل عمران:185؛ [1]الأنبياء:35. [2]

أيضا،و اللّه تعالى أعلم.

و منها قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» . (1)

و هذه بمنطوقها حيث قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» :تدلّ على فناء كلّ من على الأرض من ذوي العقول،أو فناء كلّ ما على الأرض من ذوي العقول و غيرهم،و ينبغي أن يكون معنى الفناء في شأنهم كما فصّل سابقا.

و بمفهومها حيث قال: «وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» تدلّ على فناء كلّ شيء سوى وجهه تعالى،و ذاته المقدّسة تعالى شأنه،سواء كان من في الأرض أو من في السماء أو نفس الأرض و السماء و أجزائهما و جزئيّاتهما،حيث إنّ بقاء وجه الربّ تعالى أي ذاته وحده كما هو مفهوم الآية،إنّما يكون إذا انعدم ما سواه مطلقا فيرجع مفاده إلى فناء كلّ شيء سواه تعالى.و ينبغي أن يكون معنى الفناء حينئذ كما ذكر أيضا سابقا في فناء كلّ شيء،مع أنّه يمكن تأويل هذه الآية بما سيأتي من تأويل قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» ، (2)فانتظر.

و منها قوله تعالى: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» . (3)و قوله تعالى: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» . (4)

و هاتان الآيتان تشتركان في الدلالة على عروض تلك الحالة التي هي مضمونهما من الفزع أو الصعق على كلّ من في السّماوات و من في الأرض من ذوي العقول حتّى الملائكة أو على كلّ ما فيهما من ذوي العقول و غيرهم،إلاّ أنّ الاولى منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة هي الفزع،و الفزع معناه نوع اضطراب و تغيّر حالة و الثانية منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة، هي الصعق و هو الموت،فإنّ حملت الاولى على الثانية،فيكون المراد بتلك الحالة الموت، أو الثانية على الاولى فيكون المراد بها الاضطراب و التغيّر،و ان لم تحمل إحداهما على الاخرى،فيكون المراد طروء تينك الحالتين جميعا عليهم،و لا بعد في أن تطرأ الحالة الاولى أي الفزع أوّلا ثمّ تطرأ الحالة الثانية أي الموت ثانيا.

ص:239


1- -الرحمن:26-27. [1]
2- -القصص:88. [2]
3- -النمل:87. [3]
4- -الزمر:68. [4]

و كذا تشترك الآيتان في الدلالة على عروض التغيّر و الفساد و الموت على من في السموات و الأرض،إلاّ من شاء اللّه،و قد فسّره المفسّرون تارة بالملائكة الأربعة أي جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل،و تارة بالشهداء.

و بالجملة فالمراد بمن شاء اللّه إمّا جماعة من الملائكة المقرّبين أو جمع من النبيّين و الصدّيقين.فيصير المعنى أنّ تلك الحالة عند النفخة،لا تعرض لهؤلاء الملائكة و للشهداء،فيكون مفاد الآيتين عروض الموت و الفناء لكلّ أهل العقل أو لكلّ موجود في السماء و الأرض،غير من شاء اللّه،و ينبغي أن يفسّر الموت و الفناء بالنسبة إلى كلّ أحد و كلّ شيء بما يناسب حاله كما ذكر سابقا.

و منها قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (1)

و هذه الآية لو اريد بها العموم الحقيقي بحيث يشمل كلّ شيء ممّا سواه تعالى حتّى ما دلّ الدليل على بقائه أيضا كالصادر الأوّل،و النشأة الاخرويّة بما فيها و النفوس المجرّدة الإنسانيّة و غيرها،فينبغي أن تتأوّل الآية بما أوّلها بعضهم من أنّه لعلّ المراد بالهلاك ضعف الوجود و ليسيّة الماهيّات الممكنة في أنفسها،يعني أنّ كلّ شيء بحسب وجوده الفائض عليه ضعيف ناقص ليس وجوده تامّا كاملا،حيث إنّه لو فرض انقطاع فيض الوجود عنه و لو آنا مّا،لا نعدم و فني إلاّ وجهه أي إلاّ من جهة إفاضته تعالى الوجود عليه،فإنّه بهذه الجهة يكون موجودا باقيا،و بعبارة اخرى أنّ كلّ موجود من الموجودات و كلّ ماهيّة من الماهيّات الممكنة من حيث إنّه ممكن في ذاته،فهو قابل لطريان العدم عليه،كما أنّه قابل لطريان الوجود عليه،فهو بالنظر إلى ذاته و ماهيّته ممكن هالك،ليس له وجود،بل إنّما وجود من جهة ارتباطه بجاعله و مفيض الوجود عليه.

و الحاصل أنّه على تقدير إرادة العموم الحقيقي من كلّ شيء،ينبغي إرادة أنّ المراد بالهلاك،الهلاك في مرتبة الذات،لا الهلاك بالفعل الطارئ بعد الوجود.

و أمّا لو اريد بكلّ شيء العموم في الجملة،بحيث يعمّ كلّ شيء عدا ما استثني،لأمكن إرادة الهلاك بالفعل منه،و يكون المعنى أنّ كلّ شيء سوى ما دلّ الدليل على بقائه،يعرض له الهلاك و الموت بالمعنى الذي يناسب حاله،كما ذكر سابقا حتّى الملائكة أيضا،أمّا

ص:240


1- -القصص:88. [1]

غير الملائكة الأربعة و الشهداء كما دلّت الآيتان السابقتان عليه،فهو إن كان من غير الملائكة من الجنّ و الإنس و غيرهم فعروض الهلاك على بعضهم الذين لم يكونوا باقين عند النفخة الاولى،يكون قبل النفخة الاولى بموتهم قبلها،و على بعضهم الباقين عندها، يكون عندها،كما يكون عروض ذلك على غيرهم من السماء و الأرض و الجبال و البحار و أمثالها،ممّا كانت باقية عند النفخة الاولى عندها أيضا،كما دلّت عليه الآيات السابقة، و إن كان من الملائكة غير من شاء اللّه فعروضه عليهم أيضا يكون عندها أيضا كما دلّت عليه الآيتان السابقتان.و أمّا من شاء اللّه فإن لم نقل بعروض الهلاك عليهم أصلا كما هو مفاد الآيتين،فينبغي تخصيص «كُلُّ شَيْءٍ» في قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ» بغيرهم أيضا و لا محذور فيه.و إن قلنا بهلاكهم كما يدلّ عليه عموم «كُلُّ شَيْءٍ» في الآية،فينبغي أن يقال بأنّه يجوز أن يطرأ عليهم الموت أيضا بعد موت الملائكة غيرهم،و إن كانت البعدية آنا مّا،و كذلك الهلاك آنا مّا.

و على التقادير فينبغي أن يراد بهلاك الملائكة انقطاع علاقة نفوسهم الشريفة عن أبدانهم اللطيفة،لا انعدامهم بالمرّة.و هذا الذي ذكرنا،هو وجه التأويل في قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» و يظهر منه أنّه لا دليل فيه على انعدام النشأة الاخرويّة،و لو آنا مّا كما تمسّك به من قال به و إنّ ما ذكره بعضهم من حمل «كُلُّ شَيْءٍ» على العموم الحقيقي، و حمل الهلاك على الهلاك بالفعل،و حمل الآية على أن كلّ شيء يعرض له الموت و الفناء قبل قيام الساعة و لو آنا مّا فيعاد بعده،ليس بواضح.و بالجملة الهلاك و الفناء و أمثالهما من الألفاظ ليست بصريحة في الانعدام بالمرّة،بل يمكن حملها على الهلاك و الفناء الذي يناسب حال ذلك الفاني و الهالك كما ذكرنا سابقا،فتأمّل.

و منها قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» ، (1)

و بيان كيفيّة دلالة هذه الآية يحتاج إلى تفسير معنى الأوّل و الآخر في شأنه تعالى أوّلا حتّى يستبين ذلك،حيث إنّ الأوليّة و الآخريّة اللتين أطلقنا على ذاته تعالى،سواء اريد بهما الأوّليّة و الآخريّة الحقيقيّتين كما في الآية أو أعمّ منهما و من الإضافيّتين،معناهما التقدّم و التأخّر.

ص:241


1- -الحديد:3. [1]

و المشهور عندهم أنّ التقدّم و التأخّر على أنحاء خمسة:بالعلّية و بالطبع و بالزمان و بالرتبة و بالشرف،كما هو مذهب الحكماء،أو ستّة كما هو رأي المتكلّمين:تلك الخمسة و بالذات،كما بين أجزاء الزمان عندهم.

فينبغي أن ينظر أنّ أيّا من معاني التقدّم و التأخّر يصحّ إرادته في الآية الكريمة،و على تقدير الصحّة فهل هما بمعنى واحد في الأوّلية و الآخريّة أو بمعنيين مختلفين،و أنّه كيف يصحّ إطلاق الأوّل و الآخر على ذات واحدة،و أنّ هذا الإطلاق هل هو باعتبار واحد أم باعتبارين،و أنّ هذه الأوّليّة و الآخريّة هل هما بالنسبة إلى ذاته تعالى بمعنى أنّه تعالى متقدّم على ذاته و متأخّر عن ذاته،أو بالنسبة إلى غيره بمعنى أنّه متقدّم على غيره و متأخّر عن غيره.

فنقول:لا يخفى عليك أنّ التقدّم بالعلّية و إن صحّ إطلاقها على ذاته تعالى بالنسبة إلى غيره،بمعنى أنّه تعالى علّة موجدة لما سواه،لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى عليه،فإنّ المتأخّر بالعلّية معناه كونه معلولا،و الحال أنّه تعالى شأنه ليس بمعلول لا لذاته و لا لغيره.

و كذلك التقدّم بالطبع،لو اريد به تقدّم العلّة الناقصة ما سوى العلّة الفاعليّة،فلا يصحّ إطلاقه عليه تعالى أصلا و إن اريد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل تقدّم العلّة الفاعليّة أيضا، فهو على تقدير صحّة إطلاقه عليه تعالى بالنسبة إلى غيره،لا يصحّ إطلاق المتأخّر بالطبع عليه تعالى، لاستلزام كونه معلولا بالطبع،و هو سبحانه و تعالى منزّه عن ذلك.

و أيضا قد تقرّر عندهم أنّه لا يجوز في السبق بالعلّية و بالطبع أن يصير السابق متأخّرا و هو هو بعينه،و لذلك قيل:إنّهما سبقان حقيقيّان،و أولى بمفهوم السبق من غيرهما، كالسبق بالشرف و بالرتبة و بالزمان،حيث يجوز فيها ذلك.

و الحال أنّه في الآية الكريمة اطلقت الأوّلية و الآخريّة كلتاهما على ذاته تعالى و لا يخفى أنّ ذاته تعالى لا تغيّر فيه أصلا و هو هو بعينه في الحالين،فلا يكون معناهما التقدّم و التأخّر بالعلّية أو بالطبع.

و لا يخفى أيضا أنّ التقدّم و التأخّر بالرتبة لا يصحّ إرادتهما في الآية،إذا المعتبر فيهما أن يكون هناك ترتّب بين السابق و المسبوق،إمّا ترتّب حسّي كما بين الإمام و المأموم،

ص:242

أو ترتّب عقلي كما بين الأجناس و الأنواع الإضافية المترتّبة على سبيل التصاعد أو التنازل،و لا سترة في أنّ هذا الترتّب منفيّ هنا،سواء فرض ترتّب بين ذاته تعالى و بين ذاته،أو بين ذاته تعالى و بين غيره،فلا يصحّ إرادتهما في الآية.

نعم لو صحّت إرادتهما فيها،لا مانع من إطلاق الأوّليّة و الآخريّة كلتيهما على ذاته تعالى،حيث يجوز فيهما أن يصير السابق متأخّرا و هو هو بعينه.

و لا يخفى أيضا أنّ التقدّم بالشرف و إن كان يجوز إطلاقه عليه تعالى،لكن بالنسبة إلى غيره،بمعنى أنّه تعالى أشرف من غيره،لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى،سواء اعتبر بالنسبة إلى ذاته تعالى إلى غيره،و سواء كان ذلك باعتبار واحد أم باعتبارين،و إن جاز في هذا القسم أيضا اجتماع الوصفين على ذات واحدة باعتبارين.

و لا يخفى أيضا عدم صحّة إرادة التقدّم و التأخّر بالذات اللذين أثبتهما المتكلّمون بين أجزاء الزمان،كسبق الأمس على الغد،سواء اعتبر ذلك بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره،و سواء كان باعتبارين أو باعتبار واحد.

فبقي أن يكون المراد بالأوّليّة و الآخريّة في الآية التقدّم و التأخّر بالزمان،و معنى ذلك هو أن يكون السابق قبل المسبوق قبليّة لا يجامع معها البعد.و هذا أيضا لا يصحّ إرادته في الآية،أمّا إذا اعتبر التقدّم على ذاته أو التأخّر عن ذاته سواء فرض وجوده تعالى وجودا زمانيّا،أم لم يفرض،لأنّ السابق هنا يجامع المسبوق،و أيضا تقدّم الشيء على نفسه غير معقول،و لا جهة أيضا هنا بها يصحّ اعتبار تقدّمه على نفسه و تأخّره عن نفسه بجهة اخرى حتّى يكون التقدّم و التأخّر باعتبارين.

و أما إذا اعتبر ذلك التقدّم على غيره و ذلك التأخّر عن غيره،فلأنّ المعتبر في التقدّم و التأخّر الزمانيّين أن يجوز كون المتقدّم و المتأخّر زمانيّا،و ما وجوده زماني،إمّا ما يكون وجوده تدريجيّا كالزمان مثل الحركة،و هذا لا يجوز على وجوده تعالى لكونه ثابتا أبد الدهر لا تدريجيّا موجودا شيئا فشيئا و لا متجدّدا متصرّفا.و إمّا ما يكون وجوده ثابتا غير تدريجيّ سواء كان حدوثه تدريجيّا أو دفعيّا،و مع ذلك ما يكون وجوده محفوفا بالزمان، واقعا تحته،و يكون قبله زمان و بعده زمان إن انقطع زمان وجوده كبعض الأجسام.و هذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى،لأنّه ليس قبله زمان و لا ما هو منشأ لانتزاع الزمان عنه،

ص:243

بل ليس له قبل أصلا،و كذا ليس له بعد و لا بعده زمان.

و إمّا ما كان الزمان منتزعا عنه و يكون هو واقعا في حدّ من الزمان،و إن كان حدّا أوّلا منه و يبقى بعد ذلك،و هذا كالفلك على رأيهم،و هذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى لأنّه حيث كان ثابتا أبد الدهر لا يجوز أن ينتزع منه الزمان الذي هو متغيّر متقضّ شيئا فشيئا، و ليس أيضا في مرتبة ذاته تعالى شيء يمكن أن ينتزع منه الزمان،و يكون أوّل وجوده واقعا في الحدّ الأوّل منه،تعالى اللّه عن ذلك كلّه علوّا كبيرا.

و بالجملة التقدّم و التأخّر الزمانيان إنّما يصحّ إطلاقهما على ما هو وجوده زماني، داخل تحت الزمان،و متغيّر بتغيّره،محفوف به أو واقع في حدّ منه،و أمّا ما هو وجوده غير متغيّر،بل ثابت أبد الدهر،متعال عن الزمان،كوجوده تعالى فلا يصحّ عليه إطلاق المتقدّم و المتأخّر بهذا المعنى.

و ممّا ذكرناه و فصّلناه ظهر أنّه لا يصحّ إرادة الأوّليّة و الآخريّة في الآية بأحد المعاني الخمسة أو الستّة،سواء كان الإطلاق بمعنى واحد أو بمعنيين،و سواء كان باعتبار واحد أو باعتبارين،و سواء كان بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره،فكأنّ ما ذكرنا يرد إشكالا على معنى الآية الكريمة في إطلاق الأوّل و الآخر على ذاته تعالى.

و أمّا الجواب عن هذا الإشكال،فهو أنّ التقدّم و التأخّر الزمانيّين،كما يطلقان على ما كان وجوده زمانيّا،و هذا بهذا المعنى منفيّ عن وجوده تعالى،حيث إنّه ليس زمانيّا،كذلك يمكن أن يطلقا على ما ليس وجوده زمانيّا،لكن بمعنى آخر،و هو أن يكون هناك زمان موجود أو زمان مقدّر،بحيث لو فرض هناك فارض أمكن حكمه فيه بأنّ ذلك الشيء موجود،و ليس شيء غيره موجودا،لا بأن يكون ذلك الزمان الموجود أو المقدّر ظرفا لوجود الشيء حتى يكون زمانيّا،بل ظرفا للحكم به.و حينئذ لو كان ذلك الشيء بحيث يفرض وجود غيره بعد وجوده،و كذا بعد زمان صحّة هذا الحكم،كان متقدّما على غيره بالزمان بهذا المعنى،و لو كان بحيث يفرض وجود غيره قبل زمان صحّة هذا الحكم كان متأخّرا عن غيره بهذا المعنى أيضا،و لا شك أنّ إطلاق التقدّم و التأخّر بهذا المعنى يصحّ في شأنه تعالى،إذ لا سترة في أنّ وجوده تعالى بحيث لا يمكن أن يكون في مرتبته شيء غيره،و لا في أنّ وجوده كان ثابتا دائما باقيا في الأزل في الواقع،و لم يكن معه شيء،لا في

ص:244

الواقع و لا في مرتبة منه،ثمّ شاء و أوجد الأشياء بحيث كان قبل إيجاده الأشياء زمان مقدّر أو دهر غير متناه كما هو معنى القول بالحدوث الدهري على ما بيّناه في الرسالة الموضوعة لذلك،و بحيث لم يكن ذلك الدهر الغير المتناهي ظرفا لوجوده تعالى حتّى يلزم كون وجوده تعالى زمانيّا أو دهريّا،بل ظرفا لصحّة الحكم بأنّه تعالى موجود،و ليس شيء غيره موجودا،و لا أن يكون وجوده حدّا أوّلا لذلك الدهر،و يكون وجود غيره حدّا آخر منه، حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين.

ثمّ إنّه تعالى شاء-بعد إيجاد الأشياء و بقائها زمانا-فناءها،فتفنى هي كما دلّت عليه الآيات و الأخبار،بحيث إنّ الأشياء تفنى بعد وجودها،و يفرض هناك زمان موجود أو مقدّر،يصحّ الحكم فيه بأنّه تعالى موجود و ليس غيره موجودا.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّه بالاعتبار الأوّل يصحّ إطلاق الأوّل عليه تعالى،حيث كان أوّلا بحسب الزمان بهذا المعنى،و كذا بالعلّية بالنسبة إلى غيره،و بالاعتبار الآخر يصحّ إطلاق الآخر عليه بالنسبة إلى غيره،لكن بالزمان بهذا المعنى فقط،فيظهر منه أنّ إطلاق الأوّل عليه تعالى يمكن أن يكون بمعنيين،و أمّا اطلاق الآخر عليه،فإنّما هو بمعنى واحد،هو بالزمان بهذا المعنى،و أنّ إطلاقهما جميعا إنّما هو بالنسبة إلى غيره تعالى لا بالنسبة إلى ذاته،و كذلك إطلاقهما عليه تعالى باعتبارين،لا باعتبار واحد،و بذلك انحلّ الإشكال و ظهر تفسير معنى الأوّل و الآخر في حقّه تعالى.

و إن أبيت إطلاق التقدّم و التأخّر الزمانيّين بهذا المعنى عليه تعالى فلا مشاحّة في أن يطلق عليه تعالى التقدّم و التأخّر بمعنى آخر غير تلك المعاني الخمسة أو الستّة كالتقدّم و التأخّر بالوجود مثلا بذلك المعنى الذي ذكرنا،فإنّ الحصر في الخمسة أو الستّة،ليس حصرا عقليّا حتّى لا يمكن إثبات قسم سابع معها،بل استقرائي و كأنّه لذلك أثبت بعضهم كصدر الأفاضل قسمين آخرين أيضا مع تلك الأقسام المشهورة،هما التقدّم بالحقّ و التقدّم بالحقيقة.و مثّل للأوّل بأنّ الحقّ في تجلّيه في أسمائه و مراتب شئونه التي هي أنحاء وجودات الأشياء يتقدّم و يتأخّر بذاته،لا بشيء آخر،فلا يتقدّم متقدّم و لا يتأخّر متأخّر إلاّ بحقّ لازم.و للثاني بأنّ الجاعل و المجعول إذا كان لكلّ منهما شيئيّة و وجود، فتقدّم الشيئيّة على الشيئيّة من جهة اتّصافهما بالوجود،تقدّم بالذات،سواء كان بالعلّية

ص:245

أو بالطبع،و تقدّم نفس الوجود على الوجود تقدّم بالحقيقة.

و حيث عرفت ما ذكرنا من تفسير الأوّل و الآخر في شأنه تعالى،فاعلم أنّه موافق لما ورد من بعض كلمات المعصومين عليهم السّلام كقولهم في الأدعية المأثورة عنهم:«يا كائنا قبل كلّ شيء،يا كائنا بعد كلّ شيء،يا حيّ قبل كلّ حيّ،و يا حيّ بعد كلّ حيّ،يا حيّ حين لا حيّ،يا حيّ يبقى و يفنى كلّ حيّ،يا ذا الذي كان قبل كلّ شيء،ثمّ خلق كلّ شيء، ثم يبقى و يفنى كلّ شيء».

و كذا هو مطابق للتفسير الذي ذكره العلماء.قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في تفسير قوله تعالى في سورة الحديد هو الأوّل:القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات أو تقدير الأوقات.و الآخر الذي يبقى بعد فناء كلّ شيء.-انتهى. (1)

و قال بعض أجلّة العلماء رحمه اللّه ما مضمونه:إنّ معنى الأوّل في حقّه تعالى أنّه قبل كلّ شيء،و ليس قبله أو في مرتبة وجوده شيء و معنى الآخر في حقّه تعالى أنّه ليس بعده شيء،و كلاهما من الصفات السلبيّة.-انتهى.

و حيث عرفت تفسير الأوّل و الآخر في حقّه تعالى،و عرفت أنّ معنى الآخر في حقّه سبحانه أنّه هو الذي يبقى و يفنى غيره،عرفت أنّ معنى هذه الآية الكريمة آئل من بعض الوجوه إلى معنى الآية السابقة،و هي قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» إلاّ أنّه يمكن في تلك الآية السابقة التأويل بكلا الوجهين اللذين ذكرناهما،و أمّا في هذه الآية فلا يستقيم التأويل إلاّ بالوجه الأخير،لأنّ المتبادر من فناء غيره فناؤه بالفعل،كما دلّت عليه الآيات و الأخبار أيضا،لا الفناء في مرتبة ذاته.

و حيث كان المراد،هو الفناء بالفعل الشامل بإطلاقه لفناء كلّ شيء غيره تعالى-كما هو الظاهر-فينبغي أن يخصّص هذا العموم أيضا بما سوى ما دلّ الدليل على بقائه،و قلنا إنّه مستثنى من العموم.و اللّه تعالى يعلم حقيقة الحال.

و منها قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (2)

و هذا لا يدلّ على فناء المخاطبين بالمرّة،بناء على أنّهم في حال البدء كما لم يكونوا

ص:246


1- -تفسير التبيان 9:518؛ [1]تفسير مجمع البيان 9:230.
2- -الأعراف:29. [2]

شيئا فبدءوا و خلقوا عن لا شيء،كذلك هذا التشبيه،يقتضي أن يكونوا في حال العود أيضا معدومين بالمرّة،فيعادوا عن لا شيء،لأنّه لا نصّ في الآية أنّ التشبيه في هذا المعنى،بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل،أي كما أنّ البدء قد وقع،يكون العود واقعا أيضا و إن لم يكونوا في حال العود معدومين بالمرّة،و أن يكون التشبيه في الآية نظير التشبيه في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» . (1)و سيأتي أنّ إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ممتنع.

ثمّ إنّك حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه لك،يظهر لك تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة في خطبة له عليه السّلام في التوحيد و هو قوله عليه السّلام:«و انّه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده،لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها،كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت،و لا مكان و لا حين و لا زمان،عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات،فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الامور». (2)فتدبّر تعرف.

و بالجملة تلك السمعيات المذكورة و غيرها،لا دلالة قطعيّة فيها على فناء كلّ ما سواه تعالى فناء بالفعل،و يمكن تخصيص عموماتها بما عدا ما استثني،كما أنّها لا دلالة قطعيّة فيها على أنّ ما يفنى من جملة الموجودات يفنى بالمرّة و ينعدم بالكلّية،بل يمكن تأويلها بما ذكرنا في ذيل بيان حال كلّ و اللّه تعالى يعلم.

ختام

قد استبان لك ممّا ذكرنا بطوله في هذا الباب،أنّ العالم بجميع أجزائه و إن كان بالنظر إلى ذاته و إمكانه جائز الفناء و العدم،إلاّ أنّه لا يدلّ دليل عقلي أو سمعي على طريان الفناء بالفعل عليه بجميع أجزائه،بحيث لا يشذّ عنها فرد،و إنّما الدليل يدلّ على طروء الفناء بالفعل على بعض أجزائه كما فصّلنا،و كذا لا دليل على أنّ كلّ ما يفنى بالفعل من جملة أجزائه يفنى بالمرّة و ينعدم بالكلّية،بل الدليل كما عرفت بيانه،إنّما يدلّ على أنّ بعضا من

ص:247


1- -الأنعام:94. [1]
2- -نهج البلاغة 2:148،طبع مطبعة [2]الاستقامة بالقاهرة.

ذلك ينعدم بالمرّة كالصور و الأعراض القائمة بالموادّ،و بعضا منه و إن كان ينعدم لكن لا بالكلّية.

و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المرجع و المآب،و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الباب، أي في المقام الأوّل من المقامين اللذين كنّا بصدد بيانهما،فلنرجع إلى التكلّم في المقام الثاني.

ص:248

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم و عدمه

اشارة

فنقول:المقام الثاني في أنّ المعدوم هل يجوز أن يعاد بعينه،أي بجميع عوارضه المشخّصة أم لا؟ذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازه،و ذهب الحكماء و بعض المتكلّمين إلى امتناعه،و لكلّ من الفريقين حجج،فلنذكر أوّلا حججهم على ما ذهبوا إليه،ثمّ نتبعه بتحقيق ما هو الحقّ،إن أمكن،فنقول:إنّ الشيخ في الفصل الخامس من إلهيّات الشفاء حقّق أوّلا:أنّ الموجود و الشيء و الضروري و الواحد ترتسم معانيها في النفس ارتساما أوّليّا،ليس ذلك الارتسام ممّا يحتاج إلى أن يجلب بأشياء أعرف منها،و تكون هي مبادئ تصوريّة،كما يقال:إنّ الشيء هو الذي يصحّ عنه الخبر،حيث إنّ ذلك لو كان تعريفا حقيقيّا لكان دوريّا،فإنّ قولنا يصحّ أخفى من الشيء و الخبر أيضا أخفى من الشيء،و إنّما يعرف الصحّة،و يعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كلّ واحد منهما إنّه شيء أو أمر أو نحو ذلك.

نعم ربما كان في هذا التعريف و أمثاله تنبيه على ما في النفس،و أمّا بالحقيقة فليس تعريفا فإنّك إذا قلت إنّ الشيء هو ما يصحّ الخبر عنه،يكون كأنّك قلت إنّ الشيء هو الشيء الذي يصحّ عنه الخبر،فتكون قد أخذت الشيء في حدّ الشيء.

و بالجملة أنّه قد حقّق أن الشيء و الموجود و نحوهما،أعرف الأشياء عند العقل،ثمّ حقّق أنّ معنى الموجود و معنى الشيء متصوّران في الأنفس،و هما معيّنان فالموجود و المثبت و المحصّل،أسماء مترادفة على معنى واحد،و لا نشكّ أنّ معناها قد حصّل في النفس،و الشيء و ما يقوم مقامه،قد يدلّ به على معنى آخر في اللغات كلّها،فإنّ لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو.فللمثلّث حقيقة أنّه مثلّث،و للبياض حقيقة أنّه بياض،و ذلك هو الذي ربما سمّيناه الوجود الخاصّ،و لم يرد به معنى الوجود الإثباتي،فإنّ لفظ الوجود يدلّ به

ص:249

أيضا على معان كثيرة،منها الحقيقة التي يشيّء عليها الشيء،فكأنّه ما عليه يكون الوجود الخاصّ للشيء.

ثمّ قال:إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصّة،هي ماهيّته،و معلوم أنّ حقيقة كلّ شيء الخاصّة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات،و ذلك لأنّك إذا قلت حقيقة كذا موجودة،إمّا في الأعيان أو في النفس أو مطلقا،يعمّها جميعا،كان لهذا معنى محصّل مفهوم،و لو قلت إنّ حقيقة كذا،أو أنّ حقيقة كذا حقيقة،لكان حشوا من الكلام غير مفيد، و لو قلت إنّ حقيقة كذا شيء،لكان أيضا قولا غير مفيد ما يجهل،و أقلّ إفادة منه،أن يقال:

إنّ الحقيقة شيء،إلاّ أن يعنى بالشيء الموجود،كأنّك قلت إنّ حقيقة كذا حقيقة موجودة.

و أمّا إذا قلت حقيقة«ألف»شيء،و حقيقة«ب»شيء آخر،فإنّما يصحّ هذا و أفاد، لأنّك تضمر في نفسك أنّه شيء آخر مخصوص،و مخالف لذلك الشيء الآخر،كما قلت:

إنّ حقيقة«ألف»حقيقة،و حقيقة«ب»حقيقة اخرى،و لو لا هذا الإضمار،و هذا الاقتران جميعا لم يفد.

فالشيء يراد به هذا المعنى و لا يفارق لزوم معنى الوجود إيّاه البتّة بل معنى الموجود يلزمه دائما،لأنّه يكون إمّا موجودا في الأعيان،أو موجودا في الوهم و العقل،فإن لم يكن كذا لم يكن شيئا.

و انّ ما يقال إنّ الشيء هو الذي يخبر عنه،حقّ،ثمّ الذي يقال مع هذا إنّ الشيء قد يكون معدوما على الإطلاق،أمر يجب أن ينظر فيه.فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان،جائز أن يكون كذلك،فيجوز أن يكون الشيء ثابتا في الذهن معدوما في الأشياء (1)الخارجة،و إن عنى غير ذلك كان باطلا،و لم يكن عنه خبر البتّة،و لا كان معلوما إلاّ على أنّه متصوّر في النفس فقط،فأمّا أن يكون متصوّرا في النفس صورة تشير إلى شيء خارج،فكلاّ،أمّا الخبر فلأنّ الخبر يكون دائما عن شيء متحقّق في الذهن، و المعدوم المطلق لا يخبر عنه بأن يجاب.و اذا اخبر عنه بالسلب أيضا فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن،لأنّ قولنا هو يتضمّن إشارة،و الإشارة إلى المعدوم الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن محال.فكيف يوجب على المعدوم شيء.

ص:250


1- -الأعيان(خ ل).

و معنى قولنا إنّ المعدوم كذا،معناه أنّ وصف كذا حاصل للمعدوم،و لا فرق بين الحاصل و الموجود،فيكون كأنّا قلنا:إنّ هذا الوصف موجود للمعدوم،بل نقول:إنّه لا يخلو ما يوصف به المعدوم و يحمل عليه إمّا أن يكون موجودا و حاصلا للمعدوم أولا يكون موجودا و حاصلا له،فإن كان موجودا حاصلا للمعدوم،فلا يخلو إمّا أن يكون هو في نفسه موجودا أو معدوما،فإن كان موجودا فيكون للمعدوم صفة موجودة،و إذا كانت الصفة موجودة فالموصوف بها موجود لا محالة،فالمعدوم موجود،و هذا محال و إن كانت الصفة معدومة،فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء،فإنّ ما لا يكون موجودا في نفسه يستحيل أن يكون موجودا للشيء.نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه و لا يكون موجودا لشيء آخر.فأمّا إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم،فهو نفي الصفة عن المعدوم،فإنّه إن لم يكن هو النفي للصفة عن المعدوم،فإذا نفينا الصفة عن المعدوم،كان مقابل هذا،فكان وجود الصفة له و هذا كلّه باطل.و إنّما نقول:إنّ لنا علما بالمعدوم،فلأنّ المعنى إذا تحصل في النفس فقط،و لم يشر فيه إلى خارج،كان المعلوم نفس ما في النفس فقط،و التصديق الواقع بين المتصوّر من جزئيه،هو أنّه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج،و في هذا الوقت فلا نسبة له،فلا معلوم غيره، و عند القوم الذين يرون هذا الرأي،أنّ في جملة ما يخبر عنه و يعلم أمورا لا شيئيّة لها في العدم،و من شاء أن يقف على ذلك فليرجع إلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا يستحقّ فضل الاشتغال بها،و إنّما وقع أولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأنّ الإخبار إنّما يكون عن معان لها وجود في النفس،و إن كانت معدومة في الأعيان،و يكون معنى الإخبار عنها، أنّ لها نسبة ما إلى الأعيان،مثلا إذا قلت:«إنّ القيامة تكون»فهمت«القيامة»،و فهمت «تكون»و حملت«تكون»التي في النفس على«القيامة»التي في النفس،بأنّ هذا المعنى إنّما يصحّ في معنى آخر معقول أيضا،و هو معقول في وقت مستقبل أن يوصف بمعنى ثالث معقول،و هو معقول الوجود،و على هذا القياس الأمر في الماضي.فبيّن أنّ المخبر عنه لا بدّ من أن يكون موجودا وجودا ما في النفس و الإخبار بالحقيقة هو عن الموجود في النفس،و بالعرض عن الموجود في الخارج.و قد فهمت الآن أنّ الشيء بما ذا يخالف المفهوم للموجود و الحاصل،و أنّهما مع ذلك متلازمان.و على أنّه قد بلغني أنّ قوما يقولون:

ص:251

إنّ الحاصل يكون حاصلا و ليس بموجود،و قد يكون صفة الشيء و ليس شيئا لا موجودا و لا معدوما،و أنّ«الذي»و«ما»يدلّ على غير ما يدلّ عليه الشيء،فهؤلاء ليسوا من جملة المخيرين.

ثمّ إنّه قد حقّق تعسّر تعريف الواجب و الممكن و الممتنع بالتعريف الحقيقي،بل إنّما يمكن ذلك بوجه العلامة و أنّ جميع ما قيل فيه قد يكاد يقتضي دورا و بيّن ذلك.

ثمّ قال:و من تفهيمنا هذه الأشياء يتّضح لك بطلان قول من يقول:إنّ المعدوم يعاد، لأنّه أوّل شيء يخبر عنه و ذلك لأنّ المعدوم إذا اعيد يجب أن يكون بينه و بين ما هو مثله لو وجد بدله،فرق،فإن كان مثله إنّما ليس هو لأنّه ليس الذي كان و عدم،و في حال العدم كان هذا غير ذلك،فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفا، و على أنّ المعدوم إذا اعيد احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ التي بها كان هو ما هو و من خواصّه وقته فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان،فإن كان المعدوم يجوز إعادته و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه،و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود و قد عدم،أو موافقة موجود لعرض من الأعراض على ما عرفت من مذهبهم،جاز أن يعود الوقت و الأحوال فلا يكون وقت و وقت فلا يكون عود.

على أنّ العقل يدفع هذا دفعا لا يحتاج فيه إلى بيان و كلّ ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.-انتهى كلامه.

و نقل المحقّق الدواني عن الشيخ في التعليقات:«انّه قال في بيان هذا المطلب إذا وجد الشيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد علم أنّ الموجود واحد،و أمّا إذا عدم فليكن الموجود السابق«ألف»و ليكن المعاد الذي حدث «ب»و ليكن المحدث الجديد«ج»و ليكن«ب»ك«ج»في الحدوث و الموضوع و الزمان و غير ذلك،و لا يخالفه إلاّ بالعدد فلا يتميّز«ب»عن«ج»في استحقاق أن يكون«ألف» منسوبا إليه دون«ج»فإنّ نسبة«ألف»إلى أمرين متشابهين من كلّ وجه إلاّ في النسبة التي ننظر هل يمكن أن يختلفا فيه أو لا يمكن،لكنّهما إذن لم يختلفا فليس أن يجعل لأحدهما أولى من أن يجعل للآخر.

فإن قيل:إنّما هو أولى ل«ب»دون«ج»لأنّه كان ل«ب»دون«ج»فهو نفس هذه

ص:252

النسبة و أخذ المطلوب في بيان نفسه،بل يقول الخصم إنّما كان ل«ج».

بلى إذا صحّ مذهب من يقول إنّ الشيء يوجد فيفقد من حيث هو موجود و يبقى من حيث ذاته بعينه ذاتا لم يفقد من حيث هو ذات.ثمّ اعيد إليه الوجود أمكن أن يقال بالإعادة إلى أن يبطل من وجوه اخرى،و إذا لم يسلّم ذلك و لم يجعل للمعدوم في حال العدم ذات ثابتة،لم يكن أحد الحادثين مستحقّا لأن يكون قد كان له«ألف»و هو الموجود السابق دون الحادث الآخر،بل إمّا أن يكون كلّ واحد منهما معادا أولا يكون و لا واحد منهما معادا و إذا كان المحمولان الاثنان،يوجبان كون الموضوع لهما مع كلّ واحد منهما غير نفسه مع الآخر،فإن استمرّ موجودا واحدا و ذاتا ثابتة واحدة كان باعتبار الموضوع الواحد القائم موجودا و ذاتا شيئا واحدا و بحسب اعتبار المحمولين شيئين اثنين فإذا فقد استمراره في نفسه ذاتا واحدة،بقي له الاثنينيّة الصرفة لا غير.-انتهى كلامه.» (1)

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد:«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه، فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود،و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ،و صدق المتقابلان عليه دفعة و يلزم التسلسل في الزمان،و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة.-انتهى. (2)»

و قال الفاضل الأحساوي رحمه اللّه في المجلي:«قال:النوع الثاني في تحقيق المذهب في جواز إعادة المعدوم.فنقول:ذهب طائفة كثيرة من المتكلّمين كالأشعري و من تبعه إلى جواز إعادة المعدوم محتجّين بأنّه لو استحال عوده للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي و هو باطل،إذ لا شكّ في أنّه ممكن الوجود حالتي الوجود و العدم، فلا يصحّ اتّصافه بالامتناع الذاتي للتنافي بين حقيقتي الإمكان و الامتناع الذاتيّين.

و تحرير محل النزاع أنّ مراد المانعين بعود المعدوم إن كان الامتناع الغيري،فينبغي أن يرتفع النزاع،لأنّ دعوى القائلين بالجواز تحقّق الإمكان الذاتي،و إن كان الامتناع الذاتي فهو الظاهر من عباراتهم،لأنّ إطلاق الامتناع و إطلاق الوجوب مشعر بالذات إذ المطلق ينصرف إلى الكامل،و لأنّ المحال لازم على تقدير العود،و ما هو ممكن لذاته لا يستلزم المحال.

ص:253


1- -راجع هامش شرح التجريد:72. [1]
2- -شرح التجريد:71-75.

فإذا قيل:كيف يقال للذي وجد في وقت ما ممتنع ذاتا،قالوا إنّ وجوده الثاني ممتنع، فأجازوا الأوّل و أحالوا الثاني.

و اعترضوا على حجّة القائلين بجوازه بأنّ قبول الوجود ثانيا أخصّ من مطلق الوجود، و قابليّة الأعمّ لا توجب قابليّة الأخصّ كما أنّ الإنسان قابل للحيوانية و ليس بقابل للفرسية،فجاز أن يكون قابلا لمطلق الوجود دون الوجود الثاني.

و أقول:و بيان ذلك،أنّ الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم، و الممتنع هو هذا المقيّد،و الوجود الأوّل خال عن هذا القيد،لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود.

و تحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق،لما بينهما من المغايرة الذاتيّة،فإمكان الأوّل لا يستلزم إمكان الثاني لما قلناه من المغايرة،فصحّ اتّصاف أحدهما بالامتناع و الآخر بالإمكان.

قال:اجيب بأنّه إذا ثبت أنّه قابل للوجود من حيث هو يلزم أن يكون قابلا له في جميع الأوقات،فحينئذ لو فرضناه أنّه لم يكن موجودا أوّلا كانت هذه القابليّة ثابتة دائما، فوجوده الأوّل إن أفاده زيادة استعداد لقبول وجوده الثاني،أو لم يفده،فإن أفاده فقد صار العود أهون،و إن لم يفده فلا ينقص عمّا هو عليه في الذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات لامتناع الانقلاب.

أقول:لقائل أن يقول إنّ قبوله الوجود الأوّل ما زاده استعداد القبول الثاني،بل كان مانعا من قبول الوجود الثاني،لأنّ قبول المطلق يكون هو المانع من قبول المقيّد الذي لا يصحّ اجتماعه معه بناء على امتناع اجتماع المثلين.

قال:بل الحقّ أنّ حصول الوجود الأوّل يفيده زيادة استعداد لاكتسابه معنى يفيد زيادة استعداد لقبول الوجود ثانيا لأنّ القبول إذا حصل للقابل مرّة يصير القابل أقبل له و اتّصافه به أسهل،فإذا اتّصف ثالثا صار أشدّ قبول،حتى يصير ملكة و هذا ضروري.

أقول:لمانع أن يمنع الضرورة هنا،فإنّ القابل لا يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول إلاّ إذا كانت الهويّة القابلة متحقّقة الثبوت بعد عدم المقبول الأوّل،أمّا إذا انتفت الهويّة بانتفاء المقبول فلا يتحقّق زيادة الاستعداد،بل و لا يبقى هناك استعداد أصلا خصوصا إذا قيل:إنّ

ص:254

الاستعداد أمر وجودي يفتقر إلى محلّ يقوم به فمع انتقاء الهويّة لا يبقى شيء أصلا فلا استعداد البتّة،خصوصا على مذهب الأشعري القائل بأنّ الموجود نفس الماهيّة،فإنّ بانتفائه ينتفي الماهيّة بالكلّية،لأنّه نفسها فلا يبقى للاستعداد محلّ إذ لا مستعدّ.

نعم هذا الكلام لو صحّ فإنّما يتمّ على رأي المعتزلي القائل بمغايرة الوجود للماهيّة خارجا فإنّ محلّ الاستعداد حينئذ يكون باقيا عند زوال الوجود الأوّل،لكون الماهيّة شيئا في العدم مع أنّ لقائل أن يقول إنّ قبولها للثاني منع من قبولها للأوّل،و المانع للشيء لا يكون معدّا له،فتدبّر.

قال:و لعلّ المراد من قوله تعالى: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هذا القدر،و للّه المثل الأعلى فإنّ خلق السموات و الأرض ابتداءً أعلى و أقوى من الحشر،فهو مثال له و دليل عليه لمن تدبّر.

و لهذا قال عليّ عليه السّلام:«عجبت لمن أنكر النشأة الآخرة و هو يرى النشأة الاولى» و الآية الكريمة دالّة على ذلك في قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» ، (1)

و من ذهب إلى امتناع العود،احتجّ عليه بوجوه:

الأوّل:أنّا المعدوم لا يبقى له هويّة ليصحّ الحكم عليه بالعود،و الصغرى بديهيّة،و أمّا الكبرى،فلأنّ الحكم إنّما يكون على الهويّة و حيث لا هويّة لا حكم.

الثاني أنّه لو اعيد لوجب أن يعاد جميع الخواصّ التي هو بها،و إلاّ لما كان المعاد هو،بل غيره،لأنّ الشخص إنّما يكون هو بخواصّه،و من خواصّه وقته الذي وجد فيه،و إذا اعيد مع وقته فقد اعيد هو في وقته،فيكون مبتدأ من حيث إنّه معاد فلا يكون معادا،فإنّ المعاد هو الذي وجد في وقت ثان،و قد وجد في وقته الأوّل،فكيف يكون معادا.

الثالث:أنّه لو أمكن عوده لأمكن عود مثله معه،لأنّ حكم الأمثال واحد،و ذلك محال، فإنّه لو اعيد مع مثله لما امتاز أحدهما عن الآخر لتساويهما مع جميع الوجوه،و إلاّ لما كانا مثلين،فلا امتياز بين اثنين؛هذا خلف.

و اعترض على الأوّل:بأنّ قولكم«لا يصحّ الحكم عليه»حكم عليه،و هو تناقض، و متى صحّ الحكم عليه لا يصحّ الحكم عليه بامتناع العود،لأنّ الامتناع إن كان لما هو هو،

ص:255


1- -يس:79. [1]

كان وجوده محالا مطلقا فلا يصحّ عليه الدخول في الوجود؛هذا خلف،و إن كان لغيره كان هو من حيث هو قابلا للعود و هو المطلوب.

أقول:قوله:«قولكم لا يصحّ الحكم عليه حكم عليه»فيه نظر،لأنّه عند التحقيق مغالطة ظاهرة،لأنّ قولنا لا يصحّ الحكم عليه،ليس هو من الإيجاب المعدول حتّى يتحقّق احتياجه إلى الموضوع المحصّل،بل هو من السلب البسيط الذي لا يفتقر إلى ثبوت موضوع،لأنّ الشيء إذا عدم و انتفت هويّته صحّ سلب كلّ شيء عنه بخلاف الحكم عليه بالعود،فإنّه حكم إيجابي محصّل يحتاج فيه إلى موضوع محصّل ثبت له المحمول في ذاته و بينهما فرق كما حقّق في المنطق و حينئذ نقول:قولكم:«المعدوم يعاد»،موجبة محصّلة يحتاج في ثبوت محمولها لموضوعها إلى ثبوت الموضوع و تحقّقه في ذاته و المعدوم لا هويّة له حتّى يصحّ ثبوت حكم العود له بخلاف قولنا:المعدوم لا يعاد،فإنّه سالبة بسيطة فلا يحتاج في جواز الحمل هنا إلى ثبوت الموضوع و تحقّقه في نفسه حتّى يصح سلب العود عنه،بل يصحّ ذلك السلب عنه لكون هويّته غير متحقّقة فلا يتحقّق شيء من صفاتها،فإن الماهيّة إذا انتفت صحّ سلب جميع لوازمها على سبيل المناسبة،و ذلك ممّا بيّن عند أهله.

قال:و فيه نظر،لأنّ الحكم بامتناع العود لا يستلزم الحكم عليه بامتناع الوجود الأوّل، لأنّ امتناع الوجود لا يستلزم امتناع الوجود الأوّل،لعدم التلازم.

و التحقيق أنّ الحكم بالإعادة ليس على المعدوم المطلق ليمتنع،و انّما هو حكم على المعدوم الذهني بأنّه يعاد في الخارج كما كان قبل وجوده الأوّل فإنّه إن صدق عليه أنّه يصحّ الحكم عليه بالوجود فكذا يصحّ هنا.و العجب عن غفلتهم عن هذا المعنى مع ظهوره.

و على الثاني:بعدم تسليم كون الوقت من الخواصّ التي يكون الشخص بها هو،فإنّ الزمان لا دخل له في التشخّص.

و فيه نظر،إذ لمانع أن يمنع من ذلك،فإنّ الوقت من جملة المشخّصات،بل الأحسن أن يقال لا نسلّم أنّ المعاد الذي وجد في وقت ثان،بل الذي وجد ثانيا سواء وجد في وقت آخر أو في وقته الأوّل،بل نقول إنّه يجوز أن يكون هو و وقته معادين.

ص:256

و على الثالث:أنّ المثل هو المساوي في الماهيّة،و لا يجب المساواة في جميع الصفات، فلا يلزم أنّه لو اعيد مثله لما بقي الامتياز،فإنّ الامتياز متحقّق بين زيد و عمرو مع تحقّق المماثلة بينهما،و التماثل من جميع الوجوه ممتنع.

قال:قال بعض من منع أنّ هذه الوجوه تنبيهيّة لا استدلاليّة فلا يرد عليها ما ذكروه،فإنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم من الأحكام الضرورية،فإنّ من عدمت هويّته بالكليّة لا يصحّ اتّصافه بشيء من الصفات الضروريّة،و العود صفة ضروريّة ثبوتيّة لا حقة له،فلا يصحّ ثبوتها لمن لا هويّة له قطعا.

و اعترض عليه بأنّ تجويز نقيضه يمنع من كونه ضروريّا،فإنّ الشيء مع جواز النقيض لا يصحّ أن يكون ضروريّا.

و حقّق آخرون هذه الدعوى،فقالوا:إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه،فلعلّ أحدا لا يخالفه،فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص،كالقدر المعيّن و الوقت المعيّن و الوضع المعيّن و أمثال هذه،و قد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر،فيرتفع النزاع من البين،و صحّ دعواهم تجويز العود مع بعض العوارض،و دعوى منعه،لأنّ المراد بجميع العوارض.

أقول:هذا صلح بين الفريقين،و دفع للتنازع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم و جوازه،فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض و المشخّصات معه، و معلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع،و القائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة،و ان اختلفت العوارض،فيرتفع النزاع من البين،و هو ظاهر.فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة،و كذلك من جوّزه بجميع أحواله و عوارضه،إذ العقل الصريح يمنعه، لاستحالة إعادة الأعراض و الصفات و العوارض اللاحقة الاعتبارية،بل و الصفات الحقيقية.فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته،لأنّه نزاع لا محصول له.-انتهى كلامه. (1)

ص:257


1- -المجلي:497-500.

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب

و أقول و باللّه التوفيق:إنّ تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء بحيث يتّضح منه المدّعى أن يقال:من المستبين عند العقل السليم أنّ الشيء و الموجود و المحصّل و المثبت و أمثال ذلك أسماء مترادفة على معنى واحد،و كلّها بديهيّة التصوّر،غنيّة عن التحديد و التعريف، و أنّ معنى الموجود لا يفارق الشيء،بل يلزمه دائما،لأنّ الشيء يكون إمّا موجودا في الأعيان أو موجودا في الأذهان،فإنّه إن لم يكن كذا،لم يكن شيئا،و أنّ الشيء هو الذي يمكن أن يخبر عنه،و أنّه لا يكون معدوما مطلقا.نعم قد يكون معدوما في الأعيان و موجودا في الأذهان.و أنّ الخبر دائما-كما هو مذهب الشيخ و المنقول عن الفارابي- يكون بالحقيقة،سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا،عن شيء متحقّق في الذهن و عن الموجود في الخارج بالعرض،يعني أنّ الإخبار مطلقا يكون دائما بالذات عن الموجود في النفس،من حيث ماهيّته الموجودة في ضمن الوجود الذهني،لا من حيث تقيّده بوجوده الذهني خاصّة،حتى يرد أنّه من هذه الحيثية علم،لا معلوم،سواء كان الموجود في النفس من تلك الحيثيّة المذكورة مشارا به إلى خارج،حيث كان هناك خارج و واقع مع قطع النظر عن الوجود في الذهن،و كان حينئذ الإخبار عن الموجود في الخارج بالعرض،سواء قلنا بأنّ الموجود في النفس نفس ماهيّة الشيء الخارجي معرّى عن الوجود الخارجي،كما هو مذهب القائلين بوجود الأشياء في أنفسها في الذهن و منهم الشيخ في مبحث العلم من الشفاء،أو قلنا بأنّ الموجود فيها هو شبحه و مثاله،كما هو مذهب القائلين بوجودها بأشباحها و صورها في الذهن،أو لم يكن مشارا به إلى خارج حيث لم يكن هناك خارج و واقع،بل كان وجوده في الذهن بمحض الفرض و اختراع النفس.

ص:258

و إنّما قلنا إنّ المعلوم بالذات و المخبر عنه بالحقيقة،هو ما في الذهن من تلك الحيثيّة المذكورة،و أنّ الأمر الخارجي معلوم و مخبر عنه بالعرض،حيث كان هناك أمر خارجي، لأنّ النفس لا تدرك إلاّ ما حصل فيها أوّلا و بالذات،و ما ذلك إلاّ ما في الذهن دون الأمر الخارجي.

و أيضا لو كان المخبر عنه بالذات،هو الأمر الخارجي لكان يجب في كلّ خبر أن يكون هناك أمر خارجي هو المخبر عنه،و ليس كذلك،إذ قد لا يكون ما في الذهن مشارا به إلى خارج كما قد عرفت،و مع هذا يكون الإدراك و الإخبار بحاله على نحو الإدراك و الإخبار عن الأمر الخارجي.

و من هذه الجملة قد انكشف أنّ الحكم و الإخبار سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا يستدعي وجود المخبر عنه و المحكوم عليه في الذهن.كيف و قولنا في الحكم السلبي:«هو ليس كذا»يتضمّن إشارة،و الإشارة إلى المعدوم المطلق لا معنى له بوجه من الوجوه،إلاّ أنّ بين الحكم الإيجابي و الحكم السلبي فرقا من وجه آخر،و هو أنّ الحكم الإيجابي-حيث كان الغرض منه الإيجاب المحض،و إن عبّر عنه بالحكم السلبي،و كان المحمول أمرا ثبوتيّا واقعيّا ثابتا للموضوع في الواقع لا سلبيّا و إن عبّر عنها بالأمر السلبي-يستدعي وجود المخبر عنه و الموصوف في ظرف الثبوت و الاتّصاف وجودا واقعيّا مع قطع النظر عن ذلك الفرض في الذهن،وجودا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه.و هذا الوجود الواقعي قد يكون وجودا خارجيّا حيث كان الخارج ظرفا لثبوت المحمول أو مبدأه في نفسه في الخارج،سواء كان ذاتيّا للموضوع كقولنا:زيد إنسان،أو عرضيّا له في قولنا:الجسم أبيض،أو أمرا عدميّا باعتبار و له ثبوت في الخارج باعتبار آخر،كما في قولنا:زيد أعمى، فانّ العمى أي عدم البصر و إن كان أمرا عدميّا باعتبار،لكنّه حيث كان عدم ملكة من محلّ قابل،و لم يكن هو محض العدم،بل كان لذلك الشكل و تلك الهيئة الحاصلان في البدن مدخل في انتزاعه،كان له نحو ثبوت في الخارج بوجود موضوعه فيه،و لذلك كان ثبوته له منشأ لثبوته في الخارج،أو كان المحمول أمرا انتزاعيّا منتزعا من موجود خارجي،أي ينتزعه العقل من الموجود الخارجي من حيث وجوده الخارجي كما في قولنا:السماء فوقنا.و قد يكون وجودا واقعيّا في نفس الأمر أعمّ من الوجود الخارجي و الذهني الواقعى

ص:259

مع قطع النظر عن الفرض الذهني،حيث كان المحمول أو مبدؤه منتزعا من كلا الوجودين كما في قولنا:الأربعة زوج،و قد يكون وجودا ذهنيّا واقعيّا مع قطع النظر عن الفرض الذهني كما في قولنا:الإنسان نوع و الحيوان جنس،فإنّ النوعيّة و الجنسيّة إنّما تنتزعان من الطبيعة الكلّية للإنسان و الحيوان من حيث وجودهما في النفس،لكن لا بمحض وجودهما الذهني الفرضيّ الاختراعي،بل بوجودهما في النفس وجودا واقعيّا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه و لو قطع النظر عن فرض الذهن وجودهما فيه.

و على التقادير فوجود الموضوع في الواقع،أي مشارا به إلى واقع كما فصّلنا في الخبر الإيجابي ممّا لا خفاء فيه،أعمّ من أن يكون ثبوت المحمول له حين الحكم كما في الأمثلة المذكورة أو بعده كما في قولنا:القيامة تكون،و المعدوم الممكن يجوز أن يوجد و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و أمثال ذلك،أو قبله كما في قولنا:وقائع الامم الماضية قد كانت.

و من هذه الجملة يظهر أنّ الحكم الإيجابي الذي الغرض فيه الإيجاب كما يقتضي وجود الموضوع في الواقع كما فصّلناه كذلك يقتضي وجود المحمول أيضا فيه،حتّى العدميّات،إلاّ أنّ وجود الذاتيّات بالذات و العرضيّات بالعرض.

و ما ذكرنا كلّه ظاهر في الصوادق من الأحكام الإيجابيّة،و أما في الكواذب منها كالاختراعيات المحضة منها فلا يقتضي وجود الموضوع في الواقع،و لا وجود المحمول فيه،بل إنّما يكون وجودها بمحض الفرض كما في قولنا:للأغوال أنياب،و العنقاء طائر طويل العنق يسكن الجبال،و أمثال ذلك.

و هذا كلّه بخلاف الحكم السلبي مطلقا سواء كان صادقا أو كاذبا حيث كان المقصود فيه السلب،فإنّه لا يقتضي سوى وجود الموضوع في الذهن،أي من جهة فرض الذهن له و اختراعه إيّاه،و أمّا الوجود الواقعي فلا،بل قد يكون و قد لا يكون.

فظهر من ذلك معنى قول القوم:إنّ الإيجاب يقتضي وجود الموضوع بخلاف السلب.

و ظهر أيضا أنّ المعدوم المطلق لا يخبر عنه مطلقا،لا خبرا إيجابيّا و لا خبرا سلبيّا،أمّا الإيجاب فلكونه يقتضي وجود الموضوع في الذهن و في الواقع جميعا،و المفروض كونه معدوما مطلقا غير موجود في شيء من الذهن و الواقع أصلا؛هذا خلف،و أمّا السلب، فلكونه أيضا يقتضي وجوده في الذهن،و إن كان بمحض الفرض،و المفروض خلافه،

ص:260

لكونه معدوما مطلقا بالفرض،إلاّ أنّ هذه القضية التي حكمنا فيها بأنّ المعدوم المطلق لا يخبر عنه،سواء عبّرنا عن الحكم بالحكم الإيجابي أو الحكم السلبي،و عبّرنا عن المحمول فيها بالأمر السلبي كما ذكرنا أو نحو ذلك،من نحو قولنا:المعدوم المطلق ليس يجوز،أو ليس يصحّ الإخبار عنه،أو الحكم عليه،أو بالأمر الإيجابي أو بالأمر العدولي كما في قولنا:المعدوم المطلق غير مخبر عنه،أو ممّا لا يخبر عنه،أو ممّا يمتنع الإخبار عنه، أو نحو ذلك،قد قصدنا فيه سلب الإخبار عنه،إذ هو الغرض،لا إثبات امتناع الإخبار، أو عدم الإخبار،و إن عبّرنا به،و حيث كان المقصود ذلك فلا يقتضي هذا السلب وجود الموضوع في الواقع،بل إنّما يقتضي وجوده في الذهن فقط،كما هو مقتضى الحكم السلبي،و حيث فرضناه معدوما مطلقا،فالموجود في الذهن منه سواء قلنا بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،أو بأشباحها و أمثالها و صورها فيه،ليس هو ماهيّة المعدوم المطلق،إذ لا ماهيّة و لا وجود واقعيّا له،و كذا ليس هو صورة و شبحا و مثالا له يطابقه من بعض الوجوه و إن كان يخالفه من بعض الوجوه الاخر،كما في الصورة الذهنية للأشياء الواقعيّة،حيث لا واقعيّة للمعدوم المطلق أصلا،بل إنّما هو الصورة التي اخترعها النفس و فرضتها المعدوم المطلق لكنّه ليس ماهيّته و لا شبحه بوجه من الوجوه.

و حيث كان الأمر كذلك فلا تناقض في هذه القضية من جهة أنّا حكمنا بكون المعدوم المطلق ممّا لا يصحّ الإخبار عنه أصلا لا إيجابيّا و لا سلبيّا.و مع هذا قد حكمنا بالإخبار السلبي عنه لأنّ الحكم الأوّل إنّما هو على حقيقة المعدوم المطلق و ماهيّته أو شبحه، و الحكم الثاني على أمر آخر سوى ذلك فرضناه معدوما مطلقا و اخترعناه في الذهن، فالموضوع في الحكمين مختلف،و حيث كان مختلفا فلا تناقض،إذ من شروطه وحدة الموضوع.

ص:261

في الإشارة إلى الجواب عن شبهة المعدوم المطلق

و بهذا يظهر الجواب عن الشبهة المشهورة بين القوم،على قولهم:المعدوم المطلق أو المجهول المطلق لا يخبر عنه.فتدبّر فيه.فإنّه الجواب الحقّ عن ذلك و لا تصغ إلى غيره ممّا ذكره فيه أقوام،فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة الإلباس و الإبهام.

و كذلك ظهر ممّا ذكرنا أنّ المعدوم الواقعي أيضا و إن كان له وجود في الذهن بمحض الفرض،ممّا لا يخبر عنه خبرا إيجابيّا أصلا كالمعدوم المطلق،لأنّ معنى قولنا:«إنّ المعدوم كذا»كما حقّقه الشيخ،أنّ وصف كذا حاصل للمعدوم،و إذ لا فرق بين الحاصل و الموجود،فيكون كأنّا قلنا إنّ هذا الوصف موجود وجودا واقعيّا للمعدوم،و إذا كان للوصف وجود واقعي و ثبوت في نفس الأمر للمعدوم،فيجب أن يكون للمعدوم أيضا وجود و ثبوت كذلك؛و المفروض خلافه،إذ المفروض أنّه إمّا معدوم مطلقا أو معدوم في الواقع،و إن كان له وجود فرضيّ اختراعي.بل نقول كما حقّقه أيضا أنّه لا يخلو إمّا أن يكون ما يوصف به المعدوم و يحمل عليه موجودا و حاصلا للمعدوم،أو لا يكون موجودا و حاصلا له.

فإن كان موجودا و حاصلا للمعدوم،فلا يخلو إمّا أن يكون في نفسه موجودا في الواقع أو معدوما فيه،فإن كان موجودا في الواقع فيكون للمعدوم مطلقا أو في الواقع،صفة موجودة وجودا واقعيّا،و إذا كانت الصفة موجودة وجودا واقعيّا فالموصوف بها أيضا موجود كذلك،لحكم العقل بأنّ الصفة الموجودة في الواقع،لا يمكن ثبوتها للمعدوم مطلقا أو للمعدوم في الواقع،و إذا كان الموصوف موجودا فيلزم أن يكون المعدوم مطلقا أو في الواقع موجودا في الواقع،و هذا محال.

ص:262

و إن كانت الصفة المثبتة معدومة في نفسها مطلقا أو في الواقع،فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء،فإنّ ما لا يكون موجودا في نفسه يستحيل أن يكون موجودا للشيء،إذ العقل السليم يحكم بأنّ الوصف الذي يكون موجودا لشيء حتّى العدميات الانتزاعية يجب أن يكون موجودا في الواقع نحو وجود،حتّى يمكن أن يثبت لشيء، و ليس المراد بقولنا:إنّه يجب أن يكون الوصف موجودا في نفسه حتّى يمكن أن يثبت للموصوف،أنّه يجب أن يكون موجودا في الخارج،أو في الواقع بوجود مباين لوجود الموصوف أوّلا حتّى يمكن أن يثبت ثانيا للموصوف و يتحدّ معه نوعا من الاتّحاد لكي يرد أن ذلك لو صحّ فإنّما يصحّ في بعض المحمولات العرضيّة،و في بعض العوارض،كما في قولنا:الجسم أبيض،و لا يعمّ الجميع،إذ كثير من المحمولات إنّما وجودها بوجود الموضوع،إمّا بالذات كما في الذاتيّات أو بالعرض كما في العرضيّات،و ليس لها وجود مباين لوجود الموضوع أوّلا،بل المراد أنّ الوصف المثبت يجب أن يكون له وجود و ثبوت في نفسه،أي في الواقع و في نفس الأمر،مع قطع النظر عن الفرض الذهني،حتّى يمكن أن يثبت للموصوف،و إن كان له وجود بوجود الموضوع في ظرف الاتّصاف مثل وجوده.

و بالجملة فهذا الحكم حكم.يحكم به العقل الصريح،و لا يرد عليه النقض بثبوت الوجود للموجود،فإنّه مندفع بما هو المحقّق في محلّه و لا يسع المقام ذكره،و قد حقّقناه في رسالة أصل الاصول بما لا مزيد عليه،فليرجع إليها.

نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه و لا يكون موجودا لشيء آخر،

و أمّا إن لم تكن تلك الصفة موجودة للمعدوم،فهو نفي الصفة عن المعدوم،و يكون حكما سلبيّا لا إيجابيّا.فإنّه إن لم يكن نفيا للصفة عن المعدوم كان مقابل هذا،فكان وجود الصفة له،إذ لا واسطة بين النفي و الإثبات،و قد تبيّن أنّ وجود الصفة له باطل.نعم نفي الصفة عنه ممكن كما مرّ بيانه.

و قد استبان من ذلك أنّ الحكم الإيجابي كما يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،كذلك يقتضي ثبوت المحمول في الواقع و أنّ المعدوم المطلق كما لا يكون مخبرا عنه مطلقا، كذلك لا يكون مخبرا به مطلقا،و أنّ المعدوم في الواقع،-و إن كان موجودا في الذهن-كما لا يكون مخبرا عنه خبرا إيجابيّا،كذلك لا يكون مخبرا به خبرا إيجابيّا،و كلّ ذلك ظاهر

ص:263

بأدنى تأمّل فيما تلوناه عليك.

و حيث ذكرنا أنّ المراد بالإيجاب و ما هو الغرض الأصلي منه الإيجاب في الواقع،و إن عبّر عنه بالسلب،كذلك المراد بالسلب و ما هو الغرض الأصلي منه السلب في الواقع،و إن عبّر عنه بالإيجاب المحض أو بالعدول،ظهر منه،

أنّ قولنا:المعدوم المطلق لا يخبر عنه،خبر سلبي كما عرفت.و كذلك قولنا:اجتماع النقيضين محال،و شريك البارئ ممتنع.إلى غير ذلك من الأخبار الكذائية كلّها أخبار سلبيّة،إذ الغرض الأصلي فيها سلب الوجود و الشيئيّة و نفي الجواز و الإمكان،و إن عبّرت بالمحمولات الإيجابية صورة أو بالعدوليّة،فكلّها لا يقتضي سوى وجود الموضوع في الذهن،وجودا فرضيّا اختراعيّا.

و أنّ قولنا:المعدوم يعاد أو يمكن أن يعاد أو يصحّ أن يعاد،أو نحوه،خبر إيجابي،إذ المقصود الأصلي منه الإيجاب و الإثبات،و إن عبّر فيه عن المحمول بأمر سلبي، كقولنا:المعدوم لا يمتنع عوده،و أنّه لو كان هذا الخبر و نحوه صادقا،اقتضى من جهة كونه إيجابا ثبوت الموضوع في الواقع،كثبوت المحمول فيه،فتثبّت و لا تتخبّط،و اللّه أعلم بالصواب.

ثمّ إنّك إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك اتّضح لك بطلان قول من يقول:إنّ المعدوم يعاد،أو يصحّ أن يعاد،أو يمكن أن يعاد و نحو ذلك،لأنّه خبر إيجابي،بل أوّل شيء يخبر عنه أي أوّل خبر إيجابي اخبر فيه عن المعدوم.أمّا أنّه خبر إيجابي،فظاهر،لأنّه لا سترة في أنّ المحمول فيه أمر ثبوتي،المقصود إثباته للمعدوم.و أمّا أنّه أوّل خبر كذلك،لأنّ الإخبار فيه،إنّما هو بالإعادة.أي بثبوت الوجود الثانوي للمعدوم،و كما أنّ الوجود نفسه أوّل بالنسبة إلى سائر الصفات و الأحوال المثبتة للشيء،كذلك الإخبار به أوّل بالنسبة إلى الإخبار بسائر الصفات و الأحوال.و حينئذ نقول:إنّ المخبر عنه في هذا الخبر الإيجابي إمّا ما هو معدوم مطلق،فذلك باطل،لأنّ المعدوم المطلق كما مرّ بيانه لا يخبر عنه مطلقا حتّى الخبر السلبي،فكيف يمكن أن يخبر عنه بالإيجاب كما فيما نحن فيه.و إمّا هو معدوم في الخارج أو الواقع،موجود في الذهن فيكون مفاد الخبر أنّ المعدوم في الخارج أو الواقع يعاد أو يمكن أن يعاد في الواقع عودا واقعيّا،و حينئذ نقول مطابقا لما في التعليقات:إنّ

ص:264

المعدوم،إذا اعيد أو فرض إعادته،فلا يخفى أنّه يمكن حينئذ فرض أن يوجد حينئذ موجود آخر أيضا و ليس هو بمعاد،بل موجود مبتدأ يكون هو مثلا للمعدوم المعاد لو وجد بدله أو معه،أي أن يكون مماثلا له في الحدوث و الموضوع و الزمان و غير ذلك من الأحوال و الصفات،و لا يخالفه إلاّ بالعدد أي بالشخص و إلاّ في النسبة التي ينبغي أن ينظر أنّهما هل يمكن أن يختلفا فيها أم لا-كما سيأتي بيانها-إذ لا يخفى أنّ فرض وجود المثل بهذا المعنى غير ممتنع و كذا المفروض.

و حينئذ نقول:إمّا أن يكون كلّ واحد من المثل المبتدأ و ما فرض كونه معادا،منسوبا إلى الموجود السابق الذي فرض انعدامه ثمّ عوده،بأن يكونا عينه أو لا يكون شيء منهما منسوبا إليه كذلك،أو يكون واحد منهما كالمعاد منسوبا إليه دون الآخر أي المثل المبتدأ.

و على الأوّل فيكون كلّ منهما معادا و عين السابق و هذا باطل.لأنّ المفروض أنّ واحدا منهما معاد دون الآخر.

و أيضا يلزم أن يكون شيئان اثنان عين شيء واحد و هو باطل.و أن لا يكون بين الاثنين فرق أصلا مع فرض الاثنينيّة،و هو أيضا باطل.

و على الثاني فيكون كلّ منهما موجودا مبتدأ و لا يكون شيء منهما معادا؛هذا خلف.

و على الثالث فنسأل و نقول:لم صار ما هو المفروض معادا منسوبا إلى الموجود السابق بالعينيّة و لم يصر المثل المفروض منسوبا إليه بالعينيّة مع تشابههما من كلّ وجه إلاّ في العود،و ما وجه الفرق بينهما في ذلك؟فان اجيب بأنّهما كانا كذلك لأنّهما كانا كذلك،فهو مصادرة على المطلوب،و أخذ المطلوب في بيان نفسه.

و إن اجيب بأنّ المعاد حين الإعادة صار عين الموجود السابق،لأنّه كان قبل الإعادة و في حال العدم عين الموجود السابق الذي عدم،و كذا هو كان غير المثل الذي وجد حينئذ،فينعقد هنا خبران إيجابيّان:أحدهما أنّ المعاد حين العدم كان غير المثل المستأنف،و لا يخفى أنّ الحكم في كلّ من الخبرين حكم واقعي حكم فيه بأمر واقعي أي العينيّة الواقعيّة في الأوّل،و المغايرة الواقعيّة في الثاني على المعدوم و حال العدم،فإنّه قد حكم فيهما حكما ثبوتيّا واقعيّا كما هو المفروض بأنّ المعدوم في الواقع حال كونه معدوما

ص:265

عين الذي وجد أوّلا ثم عدم و فرض إعادته،و كذا هو في تلك الحال مغاير للمثل المبتدأ في الواقع،و بالجملة أنّ المعدوم في حال العدم موصوف في الواقع بتلك العينيّة و تلك المغايرة الواقعيّتين،فقد صار المعدوم في الواقع موجودا في الواقع على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف،إذ لا يخفى أنّ المحمول في هاتين القضيّتين أمر ثبوتي واقعي كان الفرض إثباته للمعدوم الموضوع،و ثبوت الشيء للشيء في الواقع،فرع ثبوت المثبت له في ظرف الثبوت و ظرف الاتّصاف أي في الواقع،فإمّا أن يلتزم صيرورة المعدوم الواقعي في حال العدم موجودا واقعيّا حينئذ حتّى يمكن إثبات العينيّة الواقعيّة و المغايرة الواقعيّة له في الواقع،فهذا باطل بالضرورة.و إمّا أن يلتزم أن ثبوت المعدوم بمهيّته الذهنيّة في نفس الأمر في علم البارئ تعالى شأنه أو في المبادئ العالية كاف في ذلك،و هذا أيضا باطل،لأنّ ثبوت المعدوم بمهيّته،الذهنية في نفس الأمر،ليس ثبوتيّا خارجيّا أو واقعيّا،يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه،حتّى يمكن أن يثبت له الأمر الواقعي في الواقع،و إلاّ لكان قولا بثبوت المعدومات في الواقع و هو باطل،كما تقرّر في محلّه.

و كذلك وجوده في علم البارئ تعالى شأنه أو المبادئ العالية ليس إلاّ ثبوتا ذهنيّا لا واقعيّا،إذ لا نعني بالوجود الذهني إلاّ ما لا يكون منشأ لترتّب الآثار الخارجية أو الواقعيّة المطلوبة منه عليه،و هو كذلك،كثيرا من المعدومات الممكنة لها وجود و ثبوت في علم البارئ أو المبادئ العالية،و مع هذا لا يترتّب عليها أثر خارجي أو واقعي مطلوب منها أصلا.

و الحاصل أنّ ذلك وجود ذهني للمعدوم،سواء قيل بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن أو بأشباحها فيه،حيث لا يترتّب عليها أثر خارجي أو واقعي مطلوب منه،فإنّ الوجود الذهني ما يكون كذلك سواء كان بمحض اختراع ذهن ذاهن أو لا و بالجملة هو ما لا يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه،و أمّا الوجود الواقعي أو الخارجي،فهو ما يترتّب عليه أثر واقعي،سواء كان ذلك في الخارج أو في الذهن،لكن لا من حيث هو موجود ذهني كما عرفت بيانه فيما تقدّم.

ص:266

حاصل الدليل الذي ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا

و ذكره في التعليقات أيضا على بطلان إعادة المعدوم

و حاصل هذا الدليل أنّه على تقدير فرض إعادة المعدوم،لا يخفى أنّه يمكن فرض محدث جديد يكون هو مثلا للمعاد بالمعنى الذي ذكرنا،و على تقديره فإمّا أن يلزم كون كلّ منهما معادا،و هو خلاف الفرض،أو أن لا يكون شيء منهما معادا،و هو أيضا خلاف الفرض،أو أن يصير المعدوم مع فرض عدمه موجودا،و هذا أيضا باطل.و على كلّ التقديرات فيلزم عدم امتياز المعاد عن المستأنف الجديد المفروض في اختصاصه بصفة العود دون المستأنف.و هو أيضا خلاف الفرض.

و لا يخفى أنّ هذه المحالات لم تلزم من فرض المثل لكونه ممكنا في الواقع،فبقي أن يكون منشؤها فرض إعادة المعدوم بعينه و هو المطلوب.

ثمّ إنّ ما قرّرناه في توجيه كلام الشيخ في الشفاء هو المحمل الصحيح له فينبغي أن يحمل هو عليه.و كذا يدلّ عليه كلامه في التعليقات عند النظر الدقيق،كما أنّه يدلّ عليه كلامه في الشفاء عند النظر الأدقّ،و إن كانت بعض المقدّمات مطويّة في كلّ من الكلامين، فتدبّر تعرف.

ثمّ إنّ هذا المحال الذي ذكرنا أنّه يلزم على تقدير فرض المعدوم معادا،كما قرّرنا، لا يخفى أنّه لا يلزم على تقدير فرض المعدومات الممكنة موجودات ابتدائية و إن فرضناها أمثالا،أي مماثلة في الحدوث و الموضوع و الزمان و غيرها من الأحوال و الصفات،و متخالفة بالعدد،فإنّ التمايز بينها إنّما هو بعد الوجود الخارجي الواقعي،و أمّا هي في حال العدم فلا تمايز واقعيّا بينها،و لا تغاير حتّى يمكن أن يحكم بأنّ أحدها مثلا مغاير للآخر في الواقع و يلزم ذلك المحال.

نعم التمايز الذهني و التغاير الفرضي بينها في حال العدم مسلّم،لكنّه على تقديره لا يلزم كون المعدوم في الواقع مع فرض عدمه موجودا في الواقع،و لهذا إنّما قلنا حيث قلنا بلزوم ذلك المحال في ذينك الخبرين الضمنيّين الواقعيّين،أي قولنا:المعدوم في حال العدم عين الموجود السابق،و قولنا:إنّ المعدوم في حال العدم مغاير للموجود المبتدأ المماثل له في الواقع،لا في قولنا:المعدوم يعاد أو يصحّ أن يعاد،مع أنّ المحمول فيه أيضا

ص:267

أمر واقعي ثبوتي،و الغرض إثباته للموضوع في الواقع،و هو يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و المفروض انتفاؤه فيه لكونه معدوما في الواقع،لأنّ هذا الخبر يمكن أن يؤخذ على طريق قولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و قولنا:من سيوجد يجوز أن يتعلّم، و قولنا:إنّ القيامة تكون،حيث إنّ المحمول في الجميع و إن كان أمرا ثبوتيّا واقعيّا و كان الغرض إثباته للموضوع في الواقع،لكنّ الحكم الذهني به و إن كان في حال العدم إلاّ أن ذلك الثبوت ليس في حال العدم،بل بعد الحكم،و في حال الوجود،أي أنّ الموضوع المعدوم إذا فرض وجوده و حصل له الوجود ثبت له ذلك المحمول في الواقع،سواء كان المحمول نفس الوجود،كما في قولنا:القيامة تكون،و المعدوم الممكن يجوز أن يوجد، أو غيره بالذات،كما في قولنا:من سيوجد يجوز أن يتعلّم،أو بالاعتبار كما في قولنا:

المعدوم يعاد،و حينئذ يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و أمّا في حال العدم فلا ثبوت واقعيّا للمحمول للموضوع.نعم الحكم الذهني به،كان واقعا في حال العدم،و ذلك ظاهر في النظائر المذكورة،و كذا في قولنا:المعدوم يعاد و نحوه،فإنّ هذا الحكم الذهني و إن كان في حال العدم و قبل الإعادة،إلاّ أنّ ثبوت الإعادة له إنّما هو حين الإعادة و حين الوجود ثانيا،ففي حال العدم لم يكن أمر واقعى ثابتا له في الواقع،حتّى يلزم صيرورة المعدوم مع عدمه موجودا،بل إنّما ذلك الثبوت في حال وجوده،و المفروض ثبوت الموضوع ثبوتا واقعيّا في تلك الحال،فلا إشكال.

و الحاصل أنّ هذا الحكم،ليس حكما على معدوم المطلق حتّى يمتنع،بل هو كما ذكره الفاضل الأحساوي في التحقيق الذي ادّعى أنّهم غفلوا عنه،حكم على المعدوم الخارجي الموجود في الذهن،بأنّه يعاد،أو يصحّ أن يعاد في الخارج في المستقبل في حال وجوده، نظير قولنا:المعدوم الممكن يمكن أن سيوجد،و لا إشكال فيه بوجه.

و على هذا فيندفع ما قالوه:من أنّ الإعادة صفة ثبوتيّة واقعيّة،قد حكم في تلك القضيّة بثبوتها للمعدوم ثبوتا واقعيّا و هو يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و المفروض خلافه.

و وجه الاندفاع ظاهر،فتدبّر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ إيراد ذلك المحال على قولنا:المعدوم يعاد و نحوه،ممّا لا وجه له، بل إنّما ينبغي أن يورد على ذينك الخبرين الضمنيّين...،أي قولنا:إنّ المعدوم المعاد في

ص:268

حال العدم هو عين الذي وجد أوّلا ثمّ عدم،أو مغاير للمثل المبتدأ في الواقع،كما وجّهنا به كلام الشيخ،و به ينبغي أن يوجّه كلام من قال:إنّ المعدوم لا يصحّ عليه الحكم بالعود،أو إنّ المعدوم لا يبقى له هويّة ليصحّ الحكم عليه بالعود،كما نقله الفاضل الأحساوي رحمه اللّه في الاحتجاج الأوّل،أو أنّه لا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود كما قاله المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد،لا أن يحمل على ظاهره،و هو أنّ الحكم بالعود لكونه صفة ثبوتيّة لا يمكن أن يكون على المعدوم.

في الإشارة إلى دفع ما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي

و بعبارة اخرى كما ذكره الشارح القوشجي في شرح قول المحقّق الطوسي:«لو صحّ إعادة المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة العود،لكن المعدوم ليس له هويّة ثابتة،فيمتنع الإشارة العقليّة إليه،و ما لا يمكن أن يشار إليه لا يصحّ الحكم عليه.»و إن كان إذا حمل على ظاهره أيضا لا يرد عليه كثير ممّا أورده الشارح القوشجي من الإيراد بالوجوه الثلاثة عليه،حيث قال:«و الجواب عنه من وجوه:

الأوّل بالمعارضة،و هي أن يقال لو امتنع إعادة المعدوم،لصحّ الحكم عليه بامتناع العود،لكن المعدوم ليس له هويّة ثابتة و يساق الكلام إلى آخره.

لا يقال:الحكم بصحّة العود لكونه إيجابا يستدعي وجود الموضوع،فلا يصحّ الحكم على المعدوم بصحّة العود،بخلاف الحكم بامتناع العود،فإنّه يجوز اعتباره سلبا،بأن يقال:يمتنع عوده في معنى لا يصحّ عوده،و السالبة لا تقتضي وجود موضوعها،فيصحّ الحكم السلبي على المعدوم.

لأنّا نقول:يجوز مثل هذا الاعتبار في الحكم بصحّة العود،بأن يقال:معنى يصحّ عوده:

لا يمتنع عوده،فليعتبر حتّى يصحّ،على أنّ السلب يشارك الإيجاب في اقتضاء الإشارة العقليّة إلى المحكوم عليه،فلو امتنع الحكم الإيجابي على المعدوم لامتناع الإشارة العقليّة إليه على ما ذكرت،لامتنع الحكم السلبي عليه أيضا و تمّت المعارضة،و إلاّ لم يتمّ دليلك.

الثاني النقض،و هو أن يقال:ما ذكرتموه من الدليل على عدم صحّه الحكم على

ص:269

المعدوم بصحّة العود لو تمّ،لدلّ على أنّه لا يصحّ أصلا حكم من العقل على ما ليس بموجود في الخارج،مع أنّا نحكم على ما ليس بموجود في الخارج أحكاما صادقة و لا شبهة فيها كقولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و اجتماع النقيضين محال،و شريك البارئ ممتنع،إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى،بل قولكم:المعدوم لا يصحّ الحكم عليه،حكم على ما ليس؛بموجود في الخارج بعدم صحّة الحكم عليه.

الثالث المنع،و هو أن يقال:لا نسلّم أنّه لو صحّ إعادة المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة العود،فإنّ امتناع حكم العقل على المعدوم بصحّة العود بكونه لا هويّة له يتصوّرها ليحكم عليها،لا يستلزم امتناع العود،لجواز وقوعه بتأثير الفاعل من غير أن يتصوّره متصوّرا أو يحكم عليه بشيء من الأحكام.و لو سلّم فقوله:لكنّ المعدوم ليس له هويّة ثابتة،إن أراد أنّه ليست له هويّة ثابتة في الجملة أو في الذهن فهو ممنوع،و إن أراد أنّه ليس له هويّة ثابتة في الخارج فذلك أيضا ممنوع عند المعتزلة القائلين بثبوت المعدوم في الخارج، فلا يقوم حجّة عليهم،و أمّا عندنا فمسلّم،لكن نمنع قوله:فيمتنع الإشارة العقليّة إليه،لأنّ الإشارة العقليّة لا تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،بل يكفيها الهويّة الذهنيّة،و لو سلّم أنّها تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،فنقول:إمّا أن يريد أنّه ليس له في زمان من الأزمنة هويّة خارجيّة على معنى دوام السلب،فذلك أيضا ممنوع،لأنّ المعدوم في زمان كونه موجودا له هويّة خارجيّة،و إمّا أن يريد أنّه ليس له هويّة خارجيّة في زمان كونه معدوما لا دائما فذلك مسلّم،لكن حينئذ نمنع قوله:فيمتنع الإشارة العقليّة،إلاّ أن يريد أنّه يمتنع الإشارة العقليّة إليه في زمان كونه معدوما،و ذلك غير مفيد،لجواز أن يكون الحكم عليه بصحّة العود في زمان كونه موجودا،كحكمنا على زيد في زمان وجوده بأنّه يجوز أن يعدم ثمّ يعاد.-انتهى كلامه.» (1)

و بيان عدم ورود الإيرادين الأوّلين ظاهر ممّا حقّقناه فيما تقدم فلا نعيده.نعم النقض بقولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و أمثال ذلك،وارد كما ذكرنا.

و قد أورده المحقّق الدواني أيضا في الحاشية عليه،عليه،حيث قال في قوله:لو صحّ

ص:270


1- -شرح التجريد:72.

إعادة المعدوم لصحّ الحكم بصحّة العود هكذا:

«لقائل أن يقول:لو تمّ هذا لزم أن لا يوجد المعدوم أصلا،فيلزم انتفاء الحوادث،بأن يقال:لو صحّ إيجاد المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة الإيجاد-إلى آخر ما ذكر-و هذا النقص أظهر ممّا ذكره الشارح-انتهى.» (1)

و قد عرفت أن وروده إنّما هو على التقرير الذي ذكره الشارح المذكور،دون التقرير الذي وجّهنا به كلام الشيخ،و يجري في كلام المحقّق الطوسي أيضا.

و أمّا عدم ورود إيراده الثالث،فلأنّه من المستبين عند العقل السليم،أنّه إذا جاز عود المعدوم و وقع ذلك أيضا بتأثير الفاعل في الواقع كما هو المفروض،لصحّ عند العقل الحكم عليه بصحّة العود حكما واقعيّا،و وجب أن يتصوّره متصوّر و يحكم عليه بذلك،و إذا لم يصحّ ذلك فيعلم منه أنّه كان ممتنعا،فتسليم صحّة العود،و عدم تسليم الحكم بذلك عليه كأنّه سفسطة.

ثمّ نقول:إنّ المراد أنّ المعدوم ليس له هويّة ثابتة في الخارج،أو في الواقع،و القول بثبوت المعدوم في الخارج كما هو عند المعتزلة قول باطل كما حقّق في محلّه،و الإشارة العقليّة مطلقا و إن كانت لا تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،بل على الهويّة الذهنيّة كما في الأحكام السلبيّة،لكنّ الإشارة العقليّة في الأحكام الإيجابيّة الواقعيّة الخارجيّة الصادقة كما هو المفروض عند القائل بإعادة المعدوم في قوله:المعدوم يعاد،تتوقّف على الهويّة الخارجيّة لاقتضاء هذه الأحكام وجود الموضوع في الواقع و في الخارج حين ثبوت المحمول الواقعي له كما مرّ بيانه.

و لا يخفى أن ليس للمعدوم في الخارج تلك الهويّة الخارجيّة في زمان كونه معدوما و حين إثبات العود له.

و أمّا ثبوت تلك الهويّة له في زمان كونه موجودا،فإن اريد به زمان وجوده الابتدائي كما هو ظاهر كلامه،فذلك غير كاف في ذلك،لأنّ المفروض انعدام تلك الهويّة الخارجيّة الحاصلة في زمان وجوده الابتدائي،فكيف يكون ثبوت الموضوع الذي اقتضاه قولنا:

«المعدوم يعاد»منوطا بذلك الوجود الذي عدم و لم يبق حين الحكم و لا حين ثبوت

ص:271


1- -راجع هامش شرح التجريد:72.

المحمول،أي العود له،و إن اريد به زمان وجوده العودي،كما ذكرنا سابقا من أنّه يجوز أن يبنى هذا الحكم على أنّه إذا وجد المعدوم ثانيا و ثبت له الوجود،ثبت له العود في الواقع.

و حينئذ يكون ذلك المحمول،أي العود ثابتا له في الواقع،و يكون قد اقتضى وجود الموضوع في الواقع،و إن كان الحكم الذهني به في زمان عدمه،كما في قولنا:المعدوم الممكن سيوجد،و القيامة تكون،فذلك مسلّم.

و لا يخفى أنّه أيضا يرد إيرادا على التقرير الذي ذكره الشارح المذكور،دون التقرير الذي ذكرنا،فتأمّل.

في الإشارة إلى قول المحقّق الطوسي

ثمّ إنّ هاهنا دقيقة اخرى،ينبغي التنبيه عليها.و هي أنّ قول المحقّق الطوسي رحمه اللّه:

«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه،فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود» (1)و إن كان الظاهر من قوله:فلا يصحّ الحكم،عدم الصحّة بمعنى الامتناع،و كذا الظاهر من الحكم عليه بصحّة العود،الحكم في القضيّة التي كان محمولها مفهوم صحّة العود،و موضوعها المعدوم،حتّى يكون معنى الكلام:أنّه يمتنع الحكم عليه بأنّه يصحّ عوده كما فهمه الشارح القوشجي،لكن لا يخفى أنّ المحقّق الطوسي لم يجعل هذا القول دليلا على قوله:

«و المعدوم لا يعاد»سواء أراد به أنّه لا يمكن أن يعاد أولا يصحّ أنّ يعاد كما هو الظاهر، أو أراد أنّه لا يعاد بالفعل،كما هو الاحتمال،بل جعل الدليل عليه قوله:«لامتناع الإشارة إليه»و جعل ذلك القول نتيجة له و متفرّعا عليه.

و لا يخفى أيضا أنّ قوله:«لامتناع الإشارة إليه»بظاهره مجمل أو مطلق،يشمل امتناع الإشارة العقليّة إلى هويّة المعدوم مطلقا،سواء كانت هويّة ذهنيّة أو خارجيّة،و كذا خصوص الهويّة الخارجيّة،و كذا يشمل امتناع الإشارة إليه في حال وجوده السابق أو اللاحق،أي حين الإعادة أو في حال العدم قبل الإعادة و بعد الوجود السابق،إلاّ أنّ الفحص و التدقيق يقتضي أن يكون مراده رحمه اللّه بامتناع الإشارة إليه،امتناع الإشارة إلى هويّته الخارجيّة الواقعيّة في حال العدم،و يكون حاصل دليله:أنّ المعدوم لا يعاد،بل

ص:272


1- -شرح التجريد:72.

لا يصحّ إعادته،لأنّ ذلك يقتضي أن يكون له هويّة خارجيّة مشارا بها إلى خارج في حال العدم في الحكم بأنّه هو عين الموجود السابق أو غير المثل المستأنف كما بيّنا،و الحال أنّه ليس له تلك الهويّة الخارجيّة،و حيث كان الحال كذلك فلا يصحّ الحكم عليه بأنّه يصحّ إعادته،و معناه حينئذ أنّه لا يكون ذلك الحكم الذي ادّعاه القائلون بجواز الإعادة حقّا و صادقا و مطابقا للواقع،بل باطلا،لا أنّه يمتنع ذلك الحكم إذ المفروض أنّهم حكموه، فعلى هذا فلا إيراد على المحقّق الطوسي رحمه اللّه اصلا،فتبصّر.

في الإشارة إلى دفع إيراد عن الشيخ و عن المحقّق الطوسي

ثمّ إنّه بما قرّرنا في توجيه كلام الشيخ،و ذكرنا من معنى المثل المبتدأ يندفع عنه إيراد آخر أورده الشارح المذكور على هذا المقام،بناء على ما قرّره كلام المحقّق الطوسي، حيث قال هكذا:

«وجه آخر و هو أنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز أن يوجد مثله بدلا عند مبتدأ في وقت إعادته،فإذا جاز أن يوجد فرد من أفراد ماهيّة نوعيّة،لا يكون نوعها منحصرا في شخص مكتنف بعوارض مشخّصة بعد العدم.و جاز أن يوجد ابتداءً فلم يبق فرق بين المبتدأ و المعاد،فإنّ الفارق بينهما لا يكون الماهيّة و لا عوارضها،لعدم الاختلاف فيهما،و يمكن أن يحمل قوله:«و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ»على هذا الوجه.

و الجواب أنّه إن أراد بمثله ما يشاركه في ماهيّته و تشخّصه معا كما يظهر من قوله:«فإنّ الفارق بينهما لا يكون الماهيّة و لا عوارضها المشخّصة لعدم الاختلاف فيهما»،فوجود المثل بهذا المعنى محال،إذ يلزم منه أن يتشخّص شخصان بتشخّص واحد،فيكون الشخص الواحد مشتركا بينهما،فلا يكون تشخّصا لأنّ مقتضى التشخّص التوحّد المانع من الشركة مطلقا.و لو سلّم فلم لا يجوز الامتياز بعوارض غير مشخّصة،فإنّ المعاد ما قد وجد،ثمّ عدم،و المثل المبتدأ ما لا يكون كذلك.

لا يقال:فعلى هذا إذا وجد فرد مكتنف بعوارض مشخّصة فبم يعلم أنّه الذي وجد أوّلا ثمّ عدم و ليس موجودا مبتدأ.

لأنّا نقول:لا استحالة في عدم التميّز بينهما عند العقل،إذ ربما يلتبس على العقل ما هو

ص:273

متميّز في نفس الأمر،على أنّه كلام على السند الأخص.

و إن أراد بالمثل ما يشاركه في الماهيّة فقط،فلزوم عدم الفرق ممنوع،لجواز الامتياز بالعوارض المشخّصة.-انتهى كلامه.»

و بيان الاندفاع:أنّا لا نريد بالمثل المبتدأ ما يشارك المعاد في الماهيّة و التشخّص معا، فإنّ ذلك محال،حيث إنّه لا يجوز أن يتشخّص شخصان بتشخّص واحد،لأنّ ذلك يرفع الاثنينيّة الواقعيّة بين الاثنين و هو ممتنع،بل نريد بالمثل ما يشارك المعاد في الماهيّة و في الموضوع و الحدوث و الزمان و غير ذلك من الصفات و الأحوال،و يخالفه بالعدد،أي بالشخص،كما دلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،و لا يخفى أنّ فرض وجود المثل بهذا المعنى غير ممتنع.

ثمّ إنّا نسوق الكلام إلى آخره و نقول:إنّه إذا جاز إعادة المعدوم بعينه فلا سترة في إمكان فرض وجود المثل بهذا المعنى الذي ذكرناه حينئذ،فإمّا أن يلزم عدم الامتياز بين المعاد و المثل المبتدأ أصلا مع فرض كونهما متمايزين بالعدد و بالشخص،و إمّا أن يلزم أن لا يكون شيء منهما معادا مع فرض كون أحدهما معادا،و إمّا أن يلزم صيرورة المعدوم الواقعي مع فرض عدمه موجودا واقعيّا،كما فصّلنا ذلك،و ذكرنا أنّ كلاّ من تلك المحالات يلزم على تقدير.

و لا يخفى أنّ لزوم تلك المحالات ليس منشأه فرض وجود المثل بهذا المعنى،لكونه ممكنا في الواقع لا مانع منه،فبقي أن يكون منشؤه فرض إعادة المعدوم،و هو المطلوب، و حينئذ فلا إيراد على هذا الدليل أصلا و لا يحتاج أيضا في دفع إيراد الشارح المذكور إلى ما ذكره المحقّق الدواني في الحاشية،حيث قال في قوله:«و الجواب أنّه إن اراد-إلى آخره-:أنت خبير بأنّ هذا إنّما يرد على تقرير المتأخّرين كما ذكره الشارح،و أمّا على ما نقل عن الشيخ في التعليقات فلا،لأنّه لا يتوقّف على أخذ إمكان هذا المثل،إذ محصّله أنّا نفرض المثل المذكور،و نقول (1)لا امتياز بينهما أصلا،إذ لو كان بينهما امتياز لكان لكون أحدهما هو بعينه الذي كان ثابتا حال العدم،بخلاف الآخر،لكن هذا محال فما فرضناه معادا يكون بعينه هو المستأنف المفروض،لامتناع الامتياز فلا يكون معادا.-انتهى

ص:274


1- -أقول(خ ل).

كلامه.»

كلام مع المحقّق الدواني

مع انّه يرد على ما ذكره هذا المحقّق أنّه إذا سلّم عدم إمكان المثل،ففرض وجوده لا يفيد شيئا،إذ ربما كان منشأ لزوم هذا المحال هو فرض وجود المثل،لا فرض إعادة المعدوم،فهذا منه رحمه اللّه غريب.مثل حمله كلام الشيخ في التعليقات على ما ذكره،حيث إنّه لم يدع فيه عدم الامتياز بين المعاد و المستأنف،إلاّ لكون أحدهما هو بعينه الذي كان ثابتا حال العدم بخلاف الآخر،و كيف يدّعي ذلك و الحال أنّه فرضهما متخالفين بالعدد أي بالشخص.و كيف يكون الامتياز بين الشيئين المتخالفين بالعدد منحصرا في ذلك الامتياز الذي ذكره.اللّهم إلاّ أن يراد بعدم الامتياز بينهما إلاّ من هذا الوجه،عدمه من جهة كون أحدهما معادا و الآخر مثلا مستأنفا لا مطلقا.

و أنت تعرف بعد التأمّل الصادق أنّ كلامه في التعليقات موافق لكلامه في الشفاء في ذلك،و ينبغي أن يقرّر على ما قرّرناه،و سنزيده توضيحا فانتظر.

على أنّ في قول الشارح المذكور:«و لو سلّم فلم لا يجوز الامتياز بعوارض غير مشخّصة»كلاما قد ذكره المحقّق الدواني في الحاشية عليه،و هو أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر فلا يتحقّق بالعوارض غير المشخّصة أيضا يعني أنّ عروض عارض لأحدهما دون الآخر،يحتاج إلى تشخّصه و امتيازه،و المفروض خلافه.و قد قال أيضا في قوله:«على أنّه كلام على السند الأخص» بهذه العبارة:«يعني أنّه يتوجّه على قوله فإنّ المعاد ما قد وجد ثمّ عدم،و المثل المبتدأ ما لا يكون كذلك،و لو ذكر بدله عارض آخر غير مشخّص،لم يتوجّه ذلك،و قد علمت أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر، فلا يتصوّر الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا.

نعم يكون ذلك الشخص مع بعض العوارض غيرا لنفسه مع عارض آخر غير مشخّص، فلا يصدق الحكم بأنّه مبتدأ لا معاد،أو معاد لا مبتدأ أصلا،فلا يتصوّر العلم بالامتياز أصلا،

ص:275

فتأمّل.-انتهى كلامه.» (1)

و أيضا في قول الشارح المذكور:«لا استحالة في عدم التميّز بينهما عند العقل،إذ ربما يلتبس على العقل ما هو متميّز في نفس الأمر»كلام لا يخفى،فتأمّل.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بما حقّقناه و فصّلناه،ظهر لك أنّ الحجّة الثالثة التي نقلها الفاضل الأحساوي عن القائلين بامتناع الإعادة،ليست هي حجّة اخرى،بل هي مع الحجّة الاولى التي نقلها عنهم حجّة واحدة تقريرها ما ذكرنا،و أنّه لا يرد عليها شيء ممّا أورده على تينك الحجّتين بناء على ما فهمه،فتدبّر.

نعم الحجّة الثانية التي نقلها عنهم حجّة اخرى لهم على ذلك،و سيأتي تقريرها على وجه لا يرد عليه أيضا ما أورده،فانتظر.

و هذا الذي ذكرناه كلّه إنّما ذكرناه في مقام تحرير الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ في الشفاء على بطلان قول من يقول إنّ المعدوم يعاد.

و أمّا الكلام في تحرير الدليل الثاني الذي ذكره بقوله:«و على أنّ المعدوم إذا اعيد احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ التي بها كان هو ما هو،و من خواصّه وقته،فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان.»فهو أن يقال:

لا يخفى أنّ المعدوم إذا اعيد بعينه كما هو المفروض،احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ و المشخّصات التي بها كان المعدوم هو ما هو،أي متشخّصا و إلاّ لم يكن معادا بعينه،أي بشخصه كما هو المفروض.

و لا يخفى أيضا أنّا سواء قلنا إنّ العوارض المشخّصة هي المشخّصة بالحقيقة كما هو مذهب فريق منهم،أو إنّ المشخّص بالحقيقة هو نحو من الوجود الخاصّ،و أنّ تلك العوارض لوازم له و أمارات عليه كما هو مذهب الفارابي و هو الحقّ،يكون الوقت من جملة تلك المشخّصات بدليل أنّا إذا صنعنا مثلا من طين مخصوص كوزا مخصوصا على مقدار مخصوص،و هيئة و شكل مخصوصين،بقالب خاصّ،ثمّ كسرناه و هدمناه،فصنعنا من ذلك الطين المخصوص بعينه من غير أن ينقص منه جزء أرضي أو مائي،أو يزيد عليه بذلك القالب الخاصّ كوزا آخر على ذلك المقدار و الشكل و الهيئة،و بالجملة بحيث يكون

ص:276


1- -راجع هامش شرح التجريد:79. [1]

الثاني مماثلا للأوّل في الماهيّة و في جميع الصفات و الأحوال،مغايرا له بحسب الزمان فقط،نعلم بالضرورة أنّ الثاني ليس هو الأوّل بعينه،بل غيره بحسب التشخّص،و إن كان مماثلا له فيه.

و الحاصل أنّا نعلم بديهة أنّ الأوّل شخص خاصّ،و الثاني شخص آخر مغاير له بحسب التشخّص في الواقع و الخارج،لا بحسب الذهن و الاعتبار فقط،كما زعمه بعض، و إن كان مماثلا له،و إذا ليس هنا أمر يفرض كونه منشأ لاختلاف الشخص إلاّ الوقت،فيعلم منه أنّ الوقت له مدخل في التشخّص،و هو المطلوب.

و أيضا إذا كان هناك مثلا لوح خاصّ معيّن تلوّن في وقت خاصّ بلون خاصّ مشخّص،ثمّ ازيل ذلك اللون عنه،ثمّ لوّن في وقت آخر بعد ذلك بذلك اللون بعينه ذلك اللوح المخصوص مثل الأوّل،نعلم بالبديهة أنّ اللون الثاني غير الأوّل بحسب التشخّص في الواقع،و إن كان مماثلا له في الماهيّة و الموضوع و سائر الصفات،فيعلم من ذلك أيضا أنّ للوقت دخلا في التشخّص،و أنّه من جملة المشخّصات،كما أنّ الموضوع أيضا من جملة المشخّصات،كما إذا كان هناك لو حان خاصّان قد تلوّنا في وقت واحد بلون خاصّ، حيث نعلم بالضرورة أن أحد اللونين غير الآخر بالشخص،و ما ذلك إلاّ لاختلاف الموضوع.و بالجملة الحكم بكون الزمان من جملة المشخّصات أو لازما لما هو مشخّص مما يحكم به الوجدان الصحيح،و عليه منبّهات كثيرة تعلم بالتتبّع.

إلاّ أنّا نعني بكون الزمان مشخّصا كما ذكره بعض أهل التحقيق،مثل المحقّق الدواني و غيره،أنّ لزمان وجود الشيء بوحدته الاتّصالية مدخلا في تشخّصه،فاذا انقطع اتّصاله من حيث هو زمان الوجود بتخلّل العدم،لم يبق الشخص،و لا نعني بهذا أيضا أنّ الزمان المتّصل الممتدّ من آن حدوثه إلى آخر زمان البقاء،له مدخل في تشخّصه،حتى يرد أنّ هذا الأمر الممتدّ لم يوجد في شيء من آنات زمان وجوده،مع أنّ زيدا مثلا كان مشخّصا في كلّ آن يفرض منها،بل نعني به أنّ القدر المشترك بين تلك الأزمنة و بين الآنات المفروضة فيها،له مدخل في تشخّصه بشرط الاتّصال و عدم الانقطاع بالعدم.أو أنّا نعني بكون الزمان مشخّصا أنّ لآن الحدوث مدخل في تشخّصه،و لما بعده من الزمان مدخلا في حفظ ذلك التشخّص بشرط اتّصاله من حيث هو زمان الوجود.

ص:277

و كيفما كان فلا نعني بذلك-كما فهمه بعضهم كالشارح القوشجي و غيره-أنّ لأجزاء زمان الوجود من حيث التقضي و الانصرام و التجدّد مدخلا أيضا في التشخّص،حتّى يلزم تغيّر الشخص بتغيّر الزمان و تبدّله بتبدّله،و أن يكون زيد الموجود في هذا الزمان غير زيد الموجود في الزمان السابق أو اللاحق،و يناقض بأنّا قاطعون بخلافه،حيث إنّا نعلم بالضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة،هو بعينه الذي كان بالأمس،حتّى أنّ من زعم خلاف ذلك ينسب إلى السفسطة.و ما يحكى من مناقضة الشيخ مع تلميذه بهمنيار،حيث إنّه طالب الشيخ بالدليل على بقاء الذات في الإنسان حتّى يستدلّ به على التجرّد، فأجاب عنه بالرجوع إلى الوجدان الصحيح،ثمّ أورد بهمنيار على مسألة اخرى سمعها من الشيخ كلاما،فقال الشيخ في جوابه:كيف تجعلني المسموع منه مع تجويزك تبدّل الذات، فهو إن كان مبنيّا على تجويز بهمنيار تبدّل الذات بتبدّل الزمان فلعلّه محمول على ما ذكرنا،فتدبّر.

و حيث ظهر أنّ الوقت من جملة المشخّصات،و أنّ المعدوم إذا اعيد بعينه،يجب أن يكون وقته الأوّل معادا أيضا.فنقول:إنّ وقته إمّا أن يعاد بحيث لا يكون هناك وقت غيره، و يكون المعدوم معادا فيه،فهذا باطل،لأنّه حينئذ لا يكون معادا أصلا بل مبتدأ فقط،لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان غير الوقت الأوّل،و هذا قد وجد في الوقت الأوّل بعينه فقط.

و القول بأنّ المعاد لا يلزم أن يكون موجودا في وقت ثان البتّة،بل هو الذي يوجد ثانيا، سواء وجد في وقته الأوّل أو في وقت ثان آخر،كما فهمه بعض من جوّز إعادة المعدوم، ممّا لا معنى محصّل له،لأنّ الثانويّة في قوله:«هو الذي يوجد ثانيا»لا يخفى أن ليس المراد بها الثانويّة بالعلّيّة أو بالطبع أو بالشرف أو بالرتبة،و هذا كلّه ظاهر،و لا الثانويّة بالذات كما فيما بين أجزاء الزمان،لأنّ التقدّم و التأخّر بين وجود وجود ليس من هذا القبيل،و هذا ظاهر أيضا،بل المراد الثانويّة بحسب الزمان.و إذا كان كذلك فيكون معنى الوجود ثانيا الوجود في زمان ثان.فإذا وجد في زمانه الأوّل فلا يكون موجودا في زمان ثان.فلا يكون معادا أصلا بل مبتدأ فقط؛هذا خلف.

و أيضا إذا فرض كونه معادا أيضا،فلا يكون ذلك إلاّ بفرض الوقت ثانيا أيضا،حتّى

ص:278

يمكن أن يفرض كون الموجود فيه معادا،فيصدق على الوقت الأوّل أنّه أوّل من حيث كونه ثانيا،و أنّه ثان من حيث كونه أوّلا.و كذا يصدق على الموجود فيه أنّه مبتدأ من حيث كونه معادا.و معاد من حيث كونه مبتدأ،خصوصا إذا كان المعاد معادا مع جميع خواصّه و حيثيّاته و عوارضه كما هو المفروض،فيصدق المتقابلان على ذات واحدة في حال واحدة من حيثيّة واحدة،إذ لا جهة مختلفة هنا بها يختلف الحال.

و أيضا يلزم رفع التفرقة و الامتياز بين المبتدأ و المعاد،و كذا بين الوقت الأوّل و الثاني عند العقل.مع أنّ الامتياز بينهما ضروريّ عنده.و أمّا أن يعاد ذلك الوقت الأوّل،بحيث يكون هناك وقت ثان أيضا،و يكون أحدهما ظرفا للآخر،و يكون كلاهما أي الوقتان معا ظرفين لوجود المعدوم المعاد،فحينئذ يلزم أن يكون هو معادا من جهة وجوده في الوقت الثاني،و مبتدأ من جهة وجوده في الوقت الأوّل،و يصدق عليه حين الإعادة هذان الوصفان المتقابلان معا أعني أن يكون مبتدأ حين كونه معادا و معادا حين كونه مبتدأ.

و هذا إن لم يسلّم امتناعه من جهة أنّ صدق الوصفين المتقابلين ليس من حيثيّة واحدة حتّى يكون تناقضا ممتنعا،بل من حيثيّتين مختلفين حيث إنّ صدق المبتدأ عليه من جهة كونه موجودا في الوقت الأوّل،و صدق المعاد عليه من جهة كونه موجودا في الوقت الثاني،فلا سترة في أنّه حينئذ يكون الامتياز بين المبتدأ و المعاد-مع كونه ضروريّا عند العقل-مرتفعا،حيث صدق على ذات واحدة في حال واحدة كونه مبتدأ و معادا معا، خصوصا إذا كان معادا مع جميع عوارضه و خواصّه كما هو المفروض.

و أيضا يلزم أن لا يكون معادا فقط كما هو المفروض،بل يكون مبتدأ و معادا جميعا؛ هذا خلف.

و أيضا إذا فرض إعادة الوقت الأوّل في الوقت الثاني و كون أحدها ظرفا للآخر،لزم أن يكون للزمان زمان،و هذا باطل بالضرورة،لأنّ التقدّم و التأخّر المفروضين بين زمان و زمان إنّما هما بالذات،و ليس كالتقدّم و التأخّر بين الزمانيّات،لأنّ زمانا ما إذا كان متقدّما على زمان آخر لكونه واقعا في زمان متقدّم أو كان متأخّرا عن زمان آخر لكونه واقعا في زمان متأخّر كما في الصورة المفروضة لا بالذات لكان تأخّر ذلك الزمان المفروض كونه ظرفا للمتأخّر منه،أو تقدّمه عبارة عن وقوعه في زمان متأخّر كذلك

ص:279

أو متقدّم و هكذا و يلزم التسلسل في الزمان،و هذا باطل.

أمّا عند القائلين بوجود حقيقة للزمان في الواقع كما هو عند القائلين بامتناع إعادة المعدوم فظاهر،لأنّه على تقديره يلزم التسلسل في الحقائق الواقعيّة في نفس الأمر، و هذا باطل بالضرورة و بالبرهان.

و أمّا عند القائلين بكونه اعتباريّا كما هو عند القائلين بجواز إعادة المعدوم بعينه فكذلك،لأنّ مرادهم به إن كان كونه اعتباريّا محضا،لا حقيقة له في نفس الأمر أصلا، فذلك باطل الضرورة،و إن كان كونه اعتباريّا واقعيّا منتزعا من موجود في الواقع،فذلك ممنوع،و يكون التسلسل فيه أيضا باطلا كما في الأوّل.

و بما قرّرنا يندفع ما يتوهّم هنا من أنّه لا يلزم كون المعدوم مبتدأ،لكونه واقعا في الزمان الأوّل،و إنّما يلزم ذلك لو كان الوقت الأوّل أوّلا و ليس كذلك،بل إنّما هو اعيد بعينه و وقع ثانيا،فيكون الموجود فيه معادا فقط كما هو المفروض لا مبتدأ أيضا.

في الإشارة إلى دفع توهّم هنا

و بيان الاندفاع أنّ المراد بوقوعه ثانيا ليس هنا إلاّ فرض وقوعه في زمان ثان،و هو باطل،كما عرفت بيانه.

و محصّل هذا الدليل على ما قرّرناه:إنّ المعدوم إذا اعيد،فإمّا أن لا يعاد وقته الأوّل، فهذا باطل،لأنّه على تقديره يلزم أن لا يكون معادا بعينه،لأنّ الوقت أيضا من جملة المشخّصات كما عرفت.و إمّا أن يعاد وقته الأوّل أيضا،و هو إنّما يتصوّر على وجهين كما عرفت،و على كلّ تقدير فيلزم أن لا يكون هناك إعادة معدوم مع سائر المفاسد اللازمة كما عرفت.و على تقدير أن يكون هناك إعادة معدوم،فلا يلزم أن يكون المعدوم معادا بعينه أيضا كما هو المفروض،لأنّه كما أنّ التفرقة بين الوقت الأوّل و الثاني ضروريّة،و أحدهما ليس هو الآخر بعينه،كذلك التفرقة بين المبتدأ الواقع في الوقت الأوّل و المعاد الواقع في الوقت الثاني ضروريّة،و أحدهما ليس هو الآخر بعينه.

و أيضا هذان الوصفان متقابلان،فالموصوف بأحدهما لا يكون بعينه هو الموصوف بالآخر،فلا يكون المعاد هو المبتدأ بعينه،فلا يكون هنا إعادة المعدوم بعينه،ففرض إعادة

ص:280

المعدوم بعينه يستلزم أن لا يكون هنا إعادة بعينه.و كذلك الوقت مع كونه مشخّصا سواء اعيد أم لا،لم يكن هناك إعادة معدوم بعينه.

لا يقال:سلّمنا أنّ هذين الوصفين متغايران،و أنّ هذين الوقتين متغايران،لكن لا نسلّم أنّ الواقع في أحدهما ليس هو الواقع في الآخر بعينه،و أنّ الموصوف بأحدهما مغاير للموصوف بالآخر بعينه.و هذا كما أنّ زيدا إذا كان في زمان موصوفا بعدم الكتابة،ثمّ صار في زمان آخر موصوفا بالكتابة،فيصدق عليه أنّه موجود في الوقتين و موصوف بالكتابة و بعدمها،مع أنّ الوجود في الوقتين المتغايرين،و صدق ذينك الوصفين عليه،لا يستلزم أن يكون من حيث وجوده في أحد الزمانين و اتّصافه بأحد الوصفين المتغايرين،مغايرا لنفسه من حيث وجوده في الزمان الآخر و اتّصافه بالوصف الآخر.

لأنّا نقول:هذا مسلّم فيما إذا كان التشخّص،أي نحو من الوجود الخاصّ أو ما هو لازم له باقيا في الحالين كما في المثال المذكور،و أمّا إذا لم يكن باقيا كما في صورة إعادة المعدوم بعينه فلا يتميّز عند العقل أنّ الواقع في أحد الوقتين،و الموصوف بأحد الوصفين المتقابلين،أ هو الموجود في الوقت الآخر و الموصوف بالوصف الآخر بعينه أم لا؟بل ربّما يغلب على العقل أنّه غيره،فتدبّر.

و الحاصل أنّ فرض إعادة المعدوم بعينه ممّا يستلزم محالا على كلّ تقدير،و ما كان كذلك فهو محال بالضرورة.و اللّه أعلم بالصواب.

في تحرير ما ذكره الشيخ بعد دليله الثاني

ثمّ إنّ قول الشيخ:«فإن كان المعدوم يجوز إعادته و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه،و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود و قد عدم أو موافقه موجود (1)لعرض من الأعراض على ما عرفت من مذهبهم،جاز أن يعود الوقت و الأحوال فلا يكون وقت و وقت،فلا يكون عود».

إن كان مبناه على فرض إعادة الوقت،على أنّه من المشخّصات كالسابق على أن يكون المراد بقوله:«و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه»إعادة جملة المعدومات

ص:281


1- -وجود(خ ل).

التي لها مدخل في تشخّص المعدوم،كان هذا الكلام منه من تتمّة السابق،أي الدليل الثاني و زيادة بيان له،فلذا قال في السابق في بيان لزوم المحال:«فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد»،و قال هاهنا:«فلا يكون وقت و وقت فلا يكون عود»حيث رتّب عليه لزوم عدم كون عود أي ذلك المحال السابق،و علّله بأنّه لا يكون وقت و وقت،و هو محال آخر على ما سيجيء بيانه.

و إن كان مبناه على فرض إعادة الوقت مطلقا،سواء اعتبر كونه من المشخّصات أم لا بناء على أن يكون المراد بقوله:«و إعادة جملة المعدومات»إعادة جملة المعدومات مطلقا سواء اعتبر كونها من جملة المشخّصات للمعدوم أم لا،فهذا الكلام منه يحتمل وجهين:أحدهما كونه من تتمّة السابق أيضا كما عرفت.و الثاني كونه دليلا آخر ثالثا على المطلوب.أمّا كونه تتمّة للسابق،فعلى سبيل التنزّل،يعني أنّه قال أوّلا إنّ الوقت من جملة المشخّصات و أنّه لو اعيد المعدوم،لوجب أن يعاد وقته الأوّل أيضا و أورد عليه محالا، و هو أنّه يكون المعدوم غير معاد مع فرض إعادته،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان.

و قال ثانيا إنّا لو تنزّلنا عن ذلك و سلّمنا عدم كون الوقت من المشخّصات،للزم ذلك المحال أيضا،لأنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز إعادة الوقت أيضا،لأنّه أيضا من جملة المعدومات، بل جاز إعادة كلّ حال و صفة معدومتين كانتا مع المعدوم،فإنّ المفروض جواز إعادة المعدوم،أيّ معدوم كان،و لا دليل هنا يخصّص الحكم ببعض المعدومات دون بعض، فالوقت اذا اعيد سواء فرض كونه مشخّصا أو غير مشخّص،لزم أن لا يكون هنا وقت و وقت،و لزم أيضا أن لا يكون عود.

و منه يعلم بيانه على تقدير كونه دليلا آخر.و الحاصل أنّه إذا جاز إعادة المعدوم،لجاز أن يعاد وقته الأوّل أيضا نفسه،سواء كان الواقع هناك هو ذلك الوقت فقط من دون وجود وقت آخر ثان،هو يكون ظرفا له أو مظروفا له أو يكون الواقع هناك وقت آخر كذلك،و على كلّ تقدير فيلزم أن لا يكون وقت و وقت،إذ يكون حينئذ الوقت الأوّل ثانيا،و الثاني أوّلا، فلا يكون امتياز و تقدّم و تأخّر بين أجزاء الزمان بالذات،و القول به سفسطة،و مع ذلك فلا يكون حينئذ إعادة معدوم كما هو المفروض.

أمّا على تقدير فرض كون الوقت من جملة المشخّصات سواء كان الموجود هناك

ص:282

هو الوقت الأوّل فقط،أو كان الموجود معه وقت آخر ثان أيضا،يكون أحدهما ظرفا للآخر فظاهر كما مرّ بيانه سابقا.

و أمّا على تقدير فرض عدم كون الوقت من المشخّصات،فكذلك أيضا لأنّ الوقت الأوّل و إن لم يكن من جملة المشخّصات لكن وجود المعدوم المعاد فيه يستلزم كونه مبتدأ فقط،إن لم يكن هناك وقت سواه،و مبتدأ و معادا جميعا إن كان.

و على كلّ تقدير فليس هنا إعادة المعدوم فقط،بل إمّا ابتداء وجود فقط،أو ابتداء وجود مع إعادة معدوم.و أيضا لا يكون هنا إعادة معدوم بعينه كما مرّ بيانه،فتذكّر.

و أيضا على تقدير فرض وقتين هناك سواء فرض كون الوقت من المشخّصات أم لا، يلزم التسلسل في الزمان كما مرّ بيانه أيضا.و بالجملة يلزم على تقدير هذا الفرض أي فرض إعادة الوقت مطلقا،سواء كان مشخّصا أم لا،ما يلزم على تقدير فرض إعادته على تقدير كونه مشخّصا كما فصّلناه،إلاّ بعضا ممّا يختصّ بتقدير كونه مشخّصا،فتدبّر تعرف.

و لا يخفى عليك بما بيّناه أنّه يلزم على كل تقدير محالات عديدة،و إن كان الشيخ قد اكتفى بذكر بعضها لحصول الغرض به.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود أو موافقة وجود لعرض من الأعراض»-على ما عرفت من مذهبهم-إشارة إلى ما حقّقه في الطبيعيّات من الشفاء في فصل تحقيق ماهيّة الزمان فليطالع ثمّة.

و بالجملة أشار به إلى كون الزمان أمرا واقعيّا في نفس الأمر كسائر الامور الواقعيّة لا أمرا اعتباريّا محضا،و أنّ فرض إعادته على تقدير القول بإعادة المعدوم،ليس بممتنع، كما في نظائره من الواقعيّات المعدومة.

و كذلك التسلسل فيه محال كما في غيره من الامور الواقعيّة.

و بما حرّرنا الدليل و قرّرناه،يندفع عنه اعتراض أورده الشارح القوشجي في شرح التجريد هنا.

قال:إنّه استدلال بمقدّمتين لا تجتمعان في الصدق،لأنّ الوقت إن كان من المشخّصات لم يصحّ القول بأنّ المبتدأ في زمان سابق و المعدوم في زمان لاحق ،لامتناع التغاير بين المبتدأ و المعاد بحسب العوارض المشخّصة،و إن لم يكن مشخّصا،لم يصحّ

ص:283

القول بأنّه يلزم إعادته،لأن اللازم إنّما هو إعادة العوارض المشخّصة لا إعادة جميع العوارض.-انتهى. (1)

و بيان الاندفاع ظاهر باختيار كلّ من الشقّين.

أمّا باختيار الشقّ الثاني فبأن يقال:إنّا لم نقل بإعادة الوقت حينئذ،لأنّه من جملة المشخّصات،بل لأنّه من جملة المعدومات،و كونه ممّا كان له حقيقة عند وجوده، و المفروض إعادة المعدوم مطلقا،إذ لا دليل على تخصيص الحكم ببعض المعدومات دون بعض،و على تقدير إعادته يلزم المحال كما ذكرنا.

و أمّا باختيار الشقّ الأوّل فبأن يقال:لا يخفى أنّ التغاير بين المبتدأ و المعاد بكون الأوّل واقعا في وقت أوّل و الثاني واقعا في وقت ثان،ممّا لا يمكن إنكاره،سواء كان ذلك تغايرا بحسب العوارض المشخّصة أم لا،فإذا فرض إعادة المعدوم بعينه و فرض معه إعادة الوقت أيضا،لأنّه من جملة مشخّصاته،لزم من ذلك محال مبنيّ على ذلك التغاير، فأمّا أن يلزم هو من فرض إعادة الوقت،فذلك باطل،لأنّه على تقدير فرض جواز إعادة المعدوم لا امتناع في فرض إعادة الوقت معه أيضا،و لا سيّما إذا كان من مشخّصاته.فبقي أن يكون منشأ لزوم ذلك المحال فرض إعادة المعدوم،فهو باطل و هو المطلوب.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«على أنّ العقل يدفع هذا دفعا و لا يحتاج فيه إلى بيان و كلّ ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم،دليل آخر على المطلوب ثالث أو رابع قد ادّعى فيه بداهة الحكم بامتناع إعادة المعدوم بعينه.»

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أخيرا

و هذه البداهة قد ادّعاها غير الشيخ أيضا،كما نقله الفاضل الأحساوي عن بعضهم بعد ذكر الأدلّة الثلاثة على امتناع العود و الإيراد عليها حيث قال:

قال بعض من منع أنّ هذه الوجوه تنبيهيّة لا استدلاليّة،فلا يرد عليها ما ذكره،فإنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم من الأحكام الضروريّة،فإنّ من انعدمت هويّته بالكلّية، لا يصحّ اتّصافه بشيء من الصفات الضروريّة،و العود صفة ضروريّة ثبوتيّة لا حقة له.

ص:284


1- -شرح التجريد:73.

فلا يصحّ ثبوتها لمن لا هويّة له قطعا. (1)و كما قد ادّعى تلك البداهة بعض من الفضلاء أيضا، و نبّه على ذلك بأنّه نظير الطفرة في المكان،و كما أنّ تعلّق الجسم بمكان ثمّ تعلّقه بمكان ثالث من غير أن يتعلّق بمكان ثان بين المكانين محال بالبديهة،حيث يلزم منه وجوده في مكان أوّل،ثم انعدامه في المكان الثاني،ثم وجوده في مكان ثالث،و هذا محال بالبديهة،كذلك تعلّق شيء موجود بزمان أي وجوده فيه ثمّ انعدامه في زمان آخر بعده،ثمّ تعلّقه بزمان ثالث أي وجوده فيه،محال بالبديهة.و لا يخفى عليك وقع النظير و التنبيه.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه لا يرد على الحكم بالبداهة الاعتراض الذي نقله الفاضل الأحساوي عن بعضهم،حيث قال:و اعترض عليه بأنّ تجويز نقيضه يمنع من كونه ضروريّا،فإنّ الشيء مع جواز النقيض لا يصحّ أن يكون ضروريا.

و حاصل الاعتراض أنّ الحكم البديهي كيف يكون مختلفا فيه بين العقلاء كما فيما نحن فيه.

و بيان عدم الورود أنّ الحكم البديهي،قد يكون خفيّا لعدم تصوّر الأطراف أو لخفائه، و لذلك ربّما أمكن أن يكون مختلفا فيه بين العقلاء،و أمّا بعد تصوّر أطرافه فيكون بداهة ذلك الحكم ظاهرة لا سترة فيها،خصوصا بعد ذكر المنبّه عليه.

و لا يخفى أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل و لا أظنّك أن تكون في مرية من هذا إن خلّيت و نفسك.و اللّه أعلم بالصواب و إليه المرجع و المآب.

و هذا الذي ذكرناه كلّه إنّما هو تحرير ما في الشفاء،و بما حرّرنا كلامه في الدليل الأوّل يعلم تحرير ما ذكره في التعليقات في هذا المطلب،فإنّه عند النظر الدقيق،لا مخالفة بينهما في أصل المدّعى إلاّ في بعض الخصوصيّات،و لذا لا نبالي بإعادة تحريره.

فنقول:إنّ تحريره أن يقال:إذا وجد شيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد،علم أنّ الموجود واحد،و أمّا إذا عدم فلا.لأنّه لو كان الموجود ثانيا عين السابق و جاز إعادة المعدوم بعينه،فلا يخفى أنّه يمكن أن يفرض حينئذ محدث جديد يكون مماثلا للمعاد في الموضوع و الحدوث و الزمان و غير ذلك و لا يخالفه إلاّ بالعدد و إلاّ في النسبة التي ينبغي أن تنظر أنّهما هل يمكن أن يختلفا فيها أم لا؟فليكن

ص:285


1- -المجلي:499.

الموجود السابق«ألف»و ليكن المعاد«ب»و ليكن المحدث الجديد المماثل له«ج».

فنقول:إمّا أن يكون كلّ من«ب»و«ج»منسوبا إلى«ألف»بأن يكونا عينه،و إمّا أن لا يكون شيء منهما منسوبا إليه كذلك،و إمّا أن يكون أحدهما و هو«ب»منسوبا إليه دون الآخر و هو«ج».

و على الأوّل يكون كلّ من«ب»و«ج»منسوبا إلى«ألف»و عينه،فيكون الشيئان الاثنان المتخالفان بالعدد عين شيء واحد بالذات أي«ألف»،فهو محال بالضرورة.

و أيضا يكون كلّ منهما معادا ليس شيء منهما مثلا مستأنفا؛هذا خلف.

و على الثاني فلا يكون شيء منهما معادا كما هو المفروض،بل يكون كلّ منهما مثلا مستأنفا و موجودا ابتدائيّا؛هذا خلف.

و على الثالث فنسأل و نقول لم صار«ب»مثلا منسوبا إلى«ألف»بالعينيّة و لم يصر «ج»منسوبا إليه كذلك،و لم صار«الف»أولى ل«ب»دون«ج»؛فإن اجيب بأنّهما كذلك، لأنّهما كذلك،فهو نفس هذه النسبة و أخذ المطلوب في بيان نفسه،بل للخصم أن يقول بالعكس و أنّ«ألف»كان ل«ج»و أنّ«ج»منسوب إلى«ألف»دون«ب».و إن اجيب أنّ «ألف»أولى ل«ب»،لأنّه كان«ب»قبل هذه الحالة،أي في حال العدم منسوبا إلى«ألف» بالعينيّة و كون«ألف»أولى له،و لا كذلك«ج»،فيحصل هنا خبر إيجابيّ ثبوتيّ،بل خبران إيجابيّان ثبوتيّان و هو أنّ«ب»في حال العدم كان«ألف»و أنّه في تلك الحال كان«ألف» أولى له،و قد حكم فيهما بثبوت أمر واقعي للموضوع في الواقع و اتّصافه به،فيقتضي وجوده في ظرف الثبوت و ظرف الاتّصاف،أي في الواقع،و قد فرض عدمه في الواقع،فأمّا أن يصار إلى القول بصيرورة المعدوم الواقعيّ في حال العدم و على وصف العدم موجودا في الواقع حينئذ و هو محال بالضرورة.و أمّا أن يصار إلى القول بأنّ ذلك المعدوم في حال عدمه،له وجود في نفس الأمر في علم البارئ تعالى شأنه أو في المبادئ العالية،و ذلك أيضا وجود واقعيّ له،فذلك أيضا باطل،لأنّك قد عرفت فيما تقدّم أن الوجود العلميّ وجود ذهني له،لا واقعيّ،لأنّ الوجود الواقعي لا نعني به إلاّ ما يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه و ليس كذلك.

بلى إذا صحّ مذهب من يقول إنّ الشيء يوجد فيفقد من حيث هو موجود،و يبقى من

ص:286

حيث ذاته بعينه ذاتا لم يفقد من حيث هو ذات،ثمّ يعاد إليه الوجود،كالمعتزلة القائلة بثبوت المعدوم و بإعادة المعدوم،أمكن أن يقال بالإعادة و بصحّة ذلك الخبر الإيجابي أو ذينك الخبرين الإيجابيّين في حال عدم وجود الموضوع حتّى يبطل ذلك المذهب من وجوه اخرى كما تبيّن في محلّه.

و إذا لم يسلّم ذلك و لم يجعل للمعدوم في حال العدم ذات ثابتة كما هو عند غيرهم، و هو الحقّ،لم يكن أحد الحادثين بخصوصه ك«ب»مثلا مستحقا لأن يكون قد كان له «ألف»و هو الموجود السابق دون الحادث الآخر ك«ج»،بل إمّا أن يكون كلّ منهما معادا إذا كان كلّ منهما منسوبا إلى«ألف»بالعينيّة و هو خلاف الفرض،و مع هذا يلزم صيرورة الاثنين المتخالفين بالعدد واحدا،و أن لا يكون بينهما امتياز أصلا مع فرض الامتياز بالشخص،أو لا يكون و لا واحد منهما معادا،إذا لم يكن شيء منهما منسوبا إلى«ألف» بالعينيّة،و هذا أيضا خلاف الفرض.و إذا كان المحمولان الاثنان يوجبان كون الموضوع لهما مع كلّ واحد منهما غير نفسه مع الآخر بالاعتبار،فإن استمرّ الموضوع موجودا واحدا و ذاتا ثابتة واحدة،كان باعتبار الموضوع الواحد القائم موجودا و ذاتا شيئا واحدا و بحسب اعتبار المحمولين شيئين اثنين،كما إذا فرضنا أنّه وجد شيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد،و فرضنا صدق المحمولين عليه أي «ألف»و«ب».أو الوجود السابق و الوجود اللاحق،فإذا افقد استمراره في نفسه ذاتا واحدة كما في صورة انعدامه،و فرض صدق ذينك المحمولين عليه،بقي له الاثنينيّة الصرفة الذاتيّة الواقعيّة لا الاعتباريّة فقط.

و بالجملة إذا فرضنا انعدام الموجود السابق و فقدان ذاته،و فرضنا صدق«ألف»عليه حين الوجود السابق،و صدق«ب»عليه حين الوجود اللاحق،لا يعلم حينئذ أنّه ذات واحدة صدق عليه المحمولان،و كان هو مع صدق أحد المحمولين مغايرا لنفسه بالاعتبار مع صدق الآخر عليه،بل المعلوم هنا هو الاثنينيّة الصرفة و أنّ«ألف»و«ب»متغايران بالذات و شيئان اثنان في الواقع.

و بالجملة أنّه يلزم على كلّ تقدير مع لزوم المحال المختصّ به،أن لا يكون بين المعاد و المثل المستأنف المفروض امتياز في اختصاص المعاد بصفة الإعادة دون المثل،و هذا

ص:287

خلاف الفرض،فمن أين يمكن أن يقال بإعادة المعدوم بعينه و هو المطلوب.

و بما ذكرنا تمّ تحرير كلامه في التعليقات،و منه يعلم أنّ كلامه في الكتابين متوافقان في أصل المقصود،لا تخالف بينهما.

إلاّ في بعض الخصوصيات في التقرير و العبارة.

و إلاّ أنّ كلامه في التعليقات في كونه بحيث يمكن أن ينفهم منه انفهاما ظاهرا أنّ اللازم على تقدير فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل له ثلاثة محالات،يلزم كلّ منها عن تقدير كما فصّلناه مخالف لكلامه في الشفاء،فإنّ انفهامه منه،ليس بتلك المثابة،حيث إنّه في التعليقات،أشار إلى جميعها،فإنّ مفاد كلامه فيها أنّه على فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل له مستأنف،ليس أحد الحادثين كالمعاد مستحقا لأن يكون له الموجود السابق دون المثل المستأنف،و أنّ المعاد ليس مختصّا بصفة الإعادة،دون المثل المفروض،بل إمّا أن يكون كلّ منهما معادا أو لا يكون شيء منهما معادا،و أنّه في الشفاء أشار إلى أنّ اللازم هو واحد من تلك المحالات.حيث قال:و من تفهيمنا هذه الأشياء يتّضح لك بطلان قول من يقول إنّ المعدوم يعاد،لأنّه أوّل شيء يخبر عنه،و ذلك لأنّ المعدوم إذا اعيد يجب أن يكون بينه و بين ما هو مثله لو وجد فرق،فإن كان مثله إنّما ليس هو،لأنّه ليس الذي كان و عدم و في حال العدم كان هذا غير ذلك،فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف.

و إلاّ أنّ ما في الشفاء ظاهره أنّ ذلك المحال اللازم هو صيرورة المعدوم موجودا و ينفهم منه عدم صحّة ذلك الحكم الإيجابي الضمني اللازم على تقدير فرض الإعادة.أي قولنا:إنّ المعاد حال العدم هو الموجود السابق و أنّه غير المحدث الجديد المفروض مثلا له،و أنّ ما في التعليقات ظاهره عدم صحّة نسبة المعاد بالعينيّة إلى الموجود السابق دون المثل المستأنف،و عدم أولوية استحقاق المعاد لأن يكون قد كان له الموجود السابق دون المثل المفروض.

و هذان الأمران اللذان يستفادان من هذين الكلامين و إن كان أحدهما غير الآخر بحسب المعنى الظاهري،إلاّ أنّ مآلهما واحد عند التحقيق.

و يلزم منهما محال آخر أيضا،هو بالمآل راجع إليهما،و هو عدم امتياز المعاد عن

ص:288

المثل المستأنف المفروض في اختصاصه بصفة الإعادة كما هو المفروض؛هذا خلف.

و ينبغي أن يحمل أحد الأمرين على الآخر،بل أن يحمل كلّ من الكلامين على أنّه يلزم من الفرض المذكور كلّ من ذينك الأمرين اللذين مآلهما واحد،و يلزم منهما المحال الآخر الذي هو راجع إليهما أيضا.

و كذا ينبغي أن يحمل ما في الشفاء في الدليل الأوّل على تمام ما في التعليقات في هذا المطلوب،و بالعكس تطبيقا بين الكلامين،و تصحيحا لهما بقدر الإمكان،و اللّه المستعان.

نقل كلام من المحقّق الدواني في هذا المقام و الإشارة إلى ما فيه

ثمّ إنّ المحقّق الدواني في الحاشية على شرح التجريد في مقام توجيه كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في الدليل الأوّل على هذا المطلب،و أن ليس غرضه منه ما فهمه الشارح القوشجي منه،و أورد عليه الاعتراض بالوجوه الثلاثة بعد أن نقل كلام الشيخ في التعليقات،قال بهذه العبارة:

و ليس فيه استدلال على امتناع العود بامتناع الحكم على المعدوم كما ذكره المتأخّرون،و كيف يتصوّر من عاقل مثل هذا الاستدلال،بل محصّله أنّ العدم عبارة عن فقدان الذات،و بطلانه،فلا يكون موضوع الوجودين و العدم شيئا واحدا،لعدم انحفاظ وحدة الذات حال العدم.فامتياز المعاد عن المستأنف المفروض،و اختصاصه بصفة الإعادة إن كان لكونه ثابتا من حيث الذات في حال العدم،فهو باطل،لأنّ المعدوم لا هويّة له،و إن كان لكونه معروض الوجود أوّلا فهو عين النسبة التي وقع النظر في إمكانها،و ذلك غير متصوّر مع فقدان الاستمرار،لأنّه يوجب الاثنينيّة الصرفة.و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف،و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير كلفة،فإنّ ظاهر قوله:«فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصدق الحكم عليه بها فيندفع عنه تلك الإيرادات المبنيّة على ما قرّره.

نعم يبقى أن يقال:المعدوم في الخارج يجوز أن يبقى في نفس الأمر بحسب الذهن، فينحفظ وحدته بحسب ذلك الوجود،و يندفع بأنّ الموجود في الذهن في الحقيقة هو الهويّة المكتنفة بالمشخّصات الذهنيّة،و اتّحادها مع الموجود الخارجي بمعنى أنّها بعد

ص:289

التجريد عينه،فليست إيّاه مطلقا بالفعل،فتأمّل.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:قوله:«و ليس فيه استدلال-إلى آخره.»

قد عرفت ممّا قرّرنا كلام التعليقات أنّه يستفاد منه ذلك الاستدلال أيضا لكن لا في قولنا:«المعدوم يعاد»كما فهمه الشارح القوشجي و اعترض عليه،بل في ذلك الخبر الضمني المتضمّن له القول بصحّة الإعادة،أي قولنا:«المعدوم حال العدم عين الموجود السابق أو غير المثل المستأنف»و إن كان دلالة كلام الشفاء عليه أظهر.

و بالجملة لا غبار على هذا الاستدلال بهذا الوجه،لو استدلّ به أحد و يتصوّر ذلك من العقلاء.

و قوله:«بل محصّله أنّ العدم عبارة-إلى آخره-»هذا إشارة إلى بعض ما يستفاد من كلام التعليقات من لزوم المحالات لا إلى كلّه،فإنّك قد عرفت أنّه يدلّ على أنّه على تقدير فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل مستأنف معه يرد محالات عديدة و هذا أحدها.

و كأنّه في قوله:«بل محصّله»اكتفى به،لكونه لازما على كلّ تقدير من التقديرات كما بينّاه سابقا.

و قوله:«فامتياز المعاد عن المستأنف المفروض و اختصاصه بصفة الإعادة».

هذا منه،يدلّ على أنّ مراده فيما نقلنا عنه في كلام الشارح سابقا من قوله:«إذ محصّله أنّا نفرض المثل المذكور و نقول لا امتياز بينهما أصلا،إذ لو كان بينهما امتياز-إلى آخره-» عدم الامتياز بينهما في كون المعاد مختصّا بصفة الإعادة دون المثل لا عدم الامتياز بينهما مطلقا كما هو ظاهرة،حتّى يرد أنّ ذلك مع فرض كونهما متخالفين بالعدد خلاف الفرض كما أوردنا،و إن كان الإيراد الآخر الذي أوردنا عليه هنالك من أنّ الاعتراف بعدم إمكان المثل مع فرض وجوده كما فعله لا يجدي شيئا وارادا عليه،فتذكّر.

و قوله:«إن كان لكونه ثابتا من حيث الذات-إلى قوله-لأنّه يوجب الاثنينيّة الصرفة»، هذا حاصل ما فهمه من كلام الشيخ،و قد ذكرنا أيضا تقريره بعبارة اخرى هي ألصق بكلامه،فتذكّر.

و قوله:«و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف رحمه اللّه و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير

ص:290


1- -راجع هامش شرح التجريد:72 و [1]فيه:«بالعقل»مكان«بالفعل».

كلفة»،فإنّ ظاهر قوله فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود أنّه لا يصدق الحكم عليه بها لما كان ظاهر قول المحقّق الطوسي«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصحّ الحكم عليه بها في القضيّة التي وقع محمولها هذا المفهوم أي صحّة العود،و موضوعها المعدوم،أي قولنا:المعدوم يصحّ عوده أو يجوز عوده أو يعاد، و كان ظاهر عدم صحّة هذا الحكم امتناعه،و كان هذا دالاّ على ما فهمه الشارح القوشجي منه،و أورد عليه الاعتراض بالوجوه الثلاثة،مع أنّه كان هذا الادّعاء غير مطابق للواقع، حيث إنّه لو امتنع هذا الحكم لما حكم به القائلون بجواز الإعادة و الحال أنّهم قد حكموا بذلك،فلذا قال:إنّ معنى قوله:«فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصدق الحكم عليه بها أي لا يكون ذلك الحكم حقّا مطابقا للواقع،بل باطلا و أشعر بذلك أنّ ذلك نتيجة للدليل،و متفرّع عليه،لا أنّه دليل على المطلوب،كما فهمه الشارح القوشجي و أورد عليه.

و أنّ حاصل الدليل الذي ذكره المحقّق الطوسي على امتناع إعادة المعدوم،هو أن يقال:إنّ المعدوم لا يعاد،أي لا يصحّ عوده،لأنّه لو جاز عوده لجاز فرض وجود مثل له مستأنف، كما ذكر،و حينئذ نقول:فامتياز المعاد عن المثل المفروض في اختصاصه بصفة الإعادة مع تماثلهما إنّما يكون بأن يجوز الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة في حال العدم لحصول الامتياز المذكور حتّى يصحّ أن يقال:إنّه منسوب إلى الموجود السابق دون المثل المستأنف،و ليس كذلك،لامتناع الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة،فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود.

و معناه أنّه لا يكون ذلك الحكم الذي حكمه مجوّزو الإعادة صادقا و حقّا مطابقا للواقع بل باطلا غير مطابق له،لا أنّه يكون ذلك الحكم ممتنعا إذ لا امتناع في أصل ذلك الحكم.كيف و قد حكم به كثير من العقلاء أي المجوّزون للإعادة.و هذا على ما فهمه المحقّق الدواني من كلام الشيخ في التعليقات.

و أمّا على ما فهمناه منه و من كلامه في الشفاء،فنقول:لو جاز عود المعدوم لجاز فرض وجود مثل له.

فإمّا أن لا يكون شيء منهما منسوبا إلى الموجود السابق بالعينيّة فهذا يقتضي أن لا يكون شيئا منهما معادا؛هذا خلف.

ص:291

و إمّا أن يكون كلّ منهما منسوبا إليه كذلك،فهذا يقتضي أن يكون كلّ منهما معادا،و هو أيضا خلاف الفرض.

و إمّا أن يكون أحدهما و هو المعاد،منسوبا إليه كذلك دون المثل المفروض،فهذا يقتضي أن يكون للمعاد في حال العدم نسبة إلى الموجود السابق بالعينيّة،بل إلى المثل أيضا بالغيريّة فيقتضي أن يحكم هناك بحكمين واقعيّين ثبوتيّين يقتضيان وجود الموضوع في الخارج و الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة،و ليس الأمر كذلك،لامتناع الإشارة العقليّة إلى هويّة المعدوم في حال العدم و مع وصف العدم.و على هذا أيضا فلا يكون الحكم عليه لصحّة العود حقّا مطابقا للواقع بل باطلا.

في الإشارة إلى توجيه الدليل الأوّل

الذي ذكره المحقّق الطوسي على هذا المطلب

و على التوجيهين فحمل كلام المحقّق الطوسي على ما ينفهم من كلام الشيخ في الكتابين ممكن بلا سترة،و قد أشرنا إليه فيما سبق أيضا إلاّ أنّه يحتاج إلى أدنى عناية و ليس ذلك تكلّفا.و لو سلّمنا كونه تكلّفا،فلا يخفى أنّه تكلّف سهل،يرتكب مثله، و لا سيّما في مقام التوجيه كثيرا،و لذلك قال المحقّق الدواني:«و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف،و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير كلفة-إلى آخره-.»و قوله:«نعم يبقى أن يقال-إلى آخره-»هذا الإيراد إنّما يرد على ما قرّره كلام الشيخ في التعليقات به،و مبناه على وجود الأشياء بأعيانها في الذهن كما هو التحقيق عندهم.و أمّا على ما قرّرناه و ذكرنا أنّه محتمل فيه،و هو ظاهر كلامه في الشفاء،فلا يرد إيراد،إذ لا سترة في أنّ ذلك الخبر الضمني اللازم على تقدير الفرض المذكور يقتضي وجود الموضوع في الخارج،مع كون المفروض عدمه في الخارج،و في أنّ وجوده في الذهن في نفس الأمر سواء قيل بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،أو قيل بوجودها بأشباحها فيه،ليس وجودا خارجيّا أو واقعيّا له كما يقتضيه ذلك الخبر،كما بيّناه فيما سبق.

و بالجملة فعلى ما قرّرناه لا يرد إيراد،و لو أورد أيضا يكون اندفاعه ظاهرا بأدنى تأمّل.

و أمّا على ما قرّره هو،فمع ورود الإيراد الذي أورده عليه لا يخلو ما ذكره في وجه اندفاعه

ص:292

عن نظر و تأمّل.و لذلك أمر بالتأمّل و ذلك النظر مثل النظر الذي أورده فيه المحشي م ن الشيرازي،حيث قال في قوله:«و يندفع بأنّ الموجود في الذهن-إلى آخره-»فيه نظر ظاهر،فإنّ كون الموجود في الذهن شخصا ذهنيّا محفوفا بعوارض،يكون بعد التجريد عين الشخص الخارجي،لا ينفي كونه عين الشخص الخارجي محفوظا في الذهن و موجودا فيه محفوفا بتلك العوارض.بل الحقّ في الجواب أن يقال:إنّ الحكم بأنّ«ب» مثلا في الخارج هو ما كان«ألف»فى الخارج يستدعي حفظ الذات و استمراره في الخارج،و لا ينفع كونها في الذهن محفوظة،نعم الحفظ في الذهن إنّما ينفع العلم بأنّ«ب» كان«ألف»و أمّا أنّ«ب»كان«ألف»في الخارج فلا بدّ فيه من أن لا يكون الذات مفقودة في الخارج،فليتأمّل.-انتهى.

و إن كان الجواب الحقّ الذي ذكره هو أيضا محلّ تأمّل.فلذا أمر بالتأمّل و كأنّ وجه التأمّل،أنّ لقائل أن يقول:لعلّه كان العلم بأنّ«ب»كان«ألف»كافيا في المقصود،أي في امتياز المعاد عن المثل المستأنف المفروض،لا بدّ لنفي ذلك من دليل.و حيث كان هذا الجواب أيضا محلّ تأمّل كجواب المحقّق الدواني،ظهر أن التقرير الأتمّ و الأحسن ما ذكرناه،فتبصّر.

ثمّ إنّه حيث اتّضح بما ذكرنا تقرير كلام المحقّق الطوسي في التجريد في دليله الأوّل، و اتّضح أيضا بما ذكرنا تقرير ما ذكره في دليله الثالث بقوله:«و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ و صدق المتقابلان عليه دفعة و يلزم التسلسل في الزمان»،فلنتكلّم في تقرير دليله الثاني الذي ذكره بقوله:«و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه». (1)

فنقول:إنّ الظاهر أنّ مقصوده أنّه لو اعيد المعدوم بعينه،أي لو جاز كون شيء واحد موجودا بوجود أوّلا ثمّ زوال ذلك الوجود عنه في زمان آخر ثمّ وجوده بذلك الوجود في زمان ثالث،فإمّا أن يكون الموجود بالوجود أخيرا غير الموجود بالوجود أوّلا،غيريّة بالذات و بالشخص،و كذا الوجودان،فحينئذ لا يكون إعادة معدوم أصلا فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه كما هو المفروض،لكون الموجودين بالوجودين،و كذا الوجودين متغايرين بالذات و بالشخص.و إمّا أن يكون عينه عينيّة بالذات و بالشخص

ص:293


1- -شرح التجريد:72. [1]

فحينئذ يلزم أن يكون العدم متخلّلا بين الشيء و نفسه أي بين الموجود الأوّل و نفسه، و كذا بين الوجود أوّلا و نفسه،و هذا محال،لأنّ تخلّل شيء إنّما يتصوّر بين شيئين لا بين شيء واحد.

مضافا إلى أنّه لا يتصوّر تخلّل نقيض شيء كالعدم بين شيء و نفسه كالوجود.

و أيضا يلزم منه أن يكون شيء واحد أي العدم سابقا على شيء واحد،أي ذلك الموجود أو وجوده،و كذا مسبوقا أيضا بذلك الشيء سابقيّة و مسبوقيّة بالزمان.

و يلزم أيضا منه سبق ذلك الشيء على نفسه بالزمان.إذ السابق على السابق على شيء سابق عليه،و كذا المسبوق بالمسبوق به مسبوق به،و كلّ ذلك ممتنع،و لزومه على تقدير الفرض المذكور ظاهر بأدنى تأمّل.

و قد ذكر الشارح القوشجى في هذا الدليل كلاما بهذه العبارة:«و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه إذ المفروض أنّ المعاد هو المبتدأ بعينه،و تخلّل شيء إنّما يتصوّر بين شيئين.

و الجواب أنّه لا معنى لتخلّل العدم هنا سوى أنّه كان موجودا في زمان،ثم زال عنه ذلك الوجود في زمان آخر،ثمّ اتّصف به في زمان ثالث،و من هذا تبيّن أنّ التخلّل بحسب الحقيقة إنّما هو لزمان العدم بين زماني وجوده بعينه.

و أيضا لم لا يجوز التميّز بين الحالين بعوارض غير مشخّصة مع بقاء العوارض المشخّصة بحالها في الحالين،فلا يلزم تخلّل العدم بين الشيء الواحد من جميع الوجوه.

و أيضا لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع بقاء شخص من الأشخاص زمانا،و إلاّ لزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه،لوجود ذلك الشخص في طرفي زمان البقاء.-انتهى كلامه.» (1)

و أقول:لا يخفى على المتأمّل أنّ ما أورده عليه غير وارد أصلا.

أمّا ما أورده أوّلا فلأنّ ما ذكره من معنى تخلّل العدم لا يجديه نفعا أصلا،لأنّه لا خفاء في أنّ زمان العدم الذي فرض وقوع العدم فيه إذا كان متخلّلا بين زماني وجوده بعينه اللذين فرض وقوع الوجودين أي الوجود الواحد بعينه فيها لصدق حينئذ تخلّل العدم

ص:294


1- -شرح التجريد:72-73.

نفسه بين الوجود الواحد بعينه نفسه و كذا بين الموجود الواحد بعينه نفسه الذي فرض كونه هو الموجود بذلك الوجود الواحد بعينه نفسه و يلزم منه المحال كما ذكرنا،فتغيير العبارة لا يفيد شيئا بل هو تهافت.

و أمّا ما أورده ثانيا فلأنّا نقول:إنّ تلك العوارض غير المشخّصة إمّا أن تفيد أن يكون الموجود أخيرا غير الموجود أوّلا غيريّة بالذات و بالشخص أو لا تفيد،و على الأوّل فلا يكون هناك إعادة معدوم أصلا فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه.و على الثاني فيكون الثاني عين الأوّل بعينه و بالذات و بالشخص و يلزم منه المحال.مع أنّ فرض حصول التميّز و المغايرة بعوارض غير مشخّصة مع بقاء العوارض المشخّصة بتمامها ممّا لا يمكن،إذ معنى العوارض المشخّصة أن يكون التميّز و التغاير بها،لا بغيرها من العوارض ففرض حصولهما بغيرها خلاف الفرض.

و أيضا إذا كانت العوارض المشخّصة باقية بحالها،يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر أيضا،لأنّ عروض عارض لأحدهما دون الآخر يحتاج إلى تشخّصه و امتيازه و المفروض عدمه.فعلى هذا فلا يتحقّق الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا.و قد أشرنا إلى ذلك فيما سبق أيضا.

و أمّا ما أورده ثالثا،فلأنّك قد عرفت أنّه في صورة تخلّل زمان العدم بين زماني وجوده بعينه كما عبّر به عن معنى التخلّل ليس تخلّل زمان العدم بمجرّد كونه زمانا مطلقا،أعمّ من أن يكون ذلك الزمان زمان العدم،أو الوجود أو زمان الشيء المتخلّل أو زمان الشيء المتخلّل فيه بين زماني وجود ذلك الشيء من حيث هما أيضا زمان مطلقا منشأ للزوم المحال،إنّما المنشأ له،هو تخلّل زمان العدم من جهة كون الواقع فيه هو العدم،أي تخلّل العدم الواقع فيه بين زماني وجوده بعينه أي بين ذينك الزمانين من حيث كون الواقع فيهما هو الشيء و نفسه أي بين ذينك الزمانين من حيث كون الواقع فيهما هو الشيء و نفسه أي الموجود بالوجود أوّلا و الموجود به أخيرا،و كذا الوجودان.

و الحاصل أنّ المنشأ لذلك هو التخلّل غير الشيء و خصوصا نقيضه بين ذلك الشيء و نفسه.و لا يخفى أنّه في صورة فرض زوال الوجود أوّلا و انقطاع استمرار حقيقة الموجود بذلك الوجود،يتحقّق هذا التخلّل و يكون منشأ للمحال كما ذكرنا،و أمّا في صورة بقاء

ص:295

الوجود و استمرار حقيقة الموجود،فالمتخلّل بين زماني وجود ذلك الشيء و إن كان يكون هناك زمان،لكن لا زمان غيره و نقيضه،بل زمان وجوده بعينه.

و بالجملة أنّ الزمان المتخلّل،و كذا الزمانان المتخلّل فيهما و إن كانت متغايرة بالذات، لكن الواقع في تلك الأزمنة،هو نفس ذلك الشيء بعينه و وجوده بعينه من غير أن يكون هو بحسب وجوده في تلك الازمنة غيرا لنفسه بالذات و بالشخص.و أمّا كونه بحسب حصوله في أحد تلك الأزمنة مغايرا لنفسه بحسب حصوله في الزمان الآخر،فهو مغايرة بالاعتبار لا بالذات.

و الحاصل أنّ ذلك عبارة عن بقاء الشيء بعينه بالذات في تلك الأزمنة،و لا يلزم منه محال من تلك المحالات.

فإن قلت:على هذا أيضا يلزم المحال،حيث إنّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء باعتبار حصوله في الزمان أوّل سابقا على نفسه باعتبار حصوله في الزمان الثاني.و كذا يلزم منه أن يكون هو باعتبار حصوله في الزمان الوسط مسبوقا بنفسه باعتبار حصوله في الزمان الأوّل،و سابقا على نفسه باعتبار حصوله في الزمان الثالث.

قلت:لا ضير فيه،فإنّ ذلك كلّه إنّما هو من حيث الاعتبار لا من حيث الذات.

فإن قلت:أيّ شيء أردت بذلك؟فإن أردت به أنّ السابقيّة و المسبوقيّة الزمانيّتين،إنّما تعرضان للزمان المفروض بالذات و لذلك الشيء الواقع فيه باعتبار ذلك الزمان و بواسطته كما في مطلق الزمان و مطلق الزمانيّات الواقعة في الزمان حيث إنّ التقدّم و التأخّر الزمانيّين،إنّما يعرضان للزمان بالذات و للزمانيّات باعتباره و بواسطته،فهذا مسلّم،لكنّه لا يدفع لزوم المحال المذكور هنا،و لا يكون منشأ للفرق بين الصورتين،أي أن يكون سبق شيء على نفسه و كذا سابقيّته على شيء و مسبوقيّته به في صورة تخلّل زمان العدم بين زماني وجوده بعينه محالا،و جائزا في صورة تخلّل زمان وجوده نفسه بين زماني وجوده بعينه،مع أنّ كلاّ منهما سابقيّة و مسبوقيّة،باعتبار الزمان،بل ينبغي أن يكون كلّ من الصورتين سواء في الامتناع أو الجواز.

و إن أردت به معنى آخر فلا بدّ له من بيان.

قلنا:أردنا به مع ذلك أمرا آخر أيضا يحكم به بديهة العقل،و هو أنّه في صورة تخلّل

ص:296

زمان العدم حيث فرض زوال الوجود و انقطاع استمرار الذات،و فرض عود الوجود و الذات ينفرض هناك اثنينيّة،إذ العود لا يكون إلاّ أن يكون هناك اثنينيّة،فإنّ معناه عود الموجود الأوّل أو الوجود الأوّل بعد انعدامه و حصوله مرّة اخرى أو في زمان آخر و حيث ينفرض اثنينيّته فينفرض هناك ذات و ذات،و حيث كان المفروض مع ذلك كون الذات الثاني عين الذات الأوّل بعينه،و كون كلّ منها واقعا في زمان واحد الزمانين سابقا على الآخر بالذات،فيلزم أن يكون العدم المتخلّل بينهما و كذا زمانه سابقا على شيء و مسبوقا بذلك الشيء بعينه،و أن يكون ذلك الشيء سابقا على نفسه كما ذكرنا سابقيّة و مسبوقيّة من حيث الذات،و إن كانتا تعرضان للذات بواسطة عروضهما للزمان،و للزمان بالذات، و أمّا في صورة تخلّل زمان الوجود بين زماني وجوده بعينه،فحيث كان استمرار الذات و استمرار الوجود باقيين بحالهما فلا ينفرض هناك اثنينيّة من حيث الذات،فلا يكون هناك ذات و ذات،فلو كانت هناك سابقيّة و مسبوقيّة لم تكونا من حيث الذات،بل من حيث الاعتبار،بمعنى أنّ الذات باعتبار ما سابق و بالاعتبار الآخر مسبوق،بل بمعنى أنّ تلك السابقيّة و المسبوقيّة إنّما تعرضان في الحقيقة لذينك الاعتبارين أنفسهما،لا للذات من حيث هي،و إن كان عروضهما للاعتبارين أيضا بواسطة الزمان.

فالمحصّل أنّه يلزم حينئذ أن يكون أحد اعتباري تلك الذات و إحدى حيثيّاته سابقا على الاعتبار الآخر و الحيثيّة الاخرى،و كذا أن يكون أحد اعتباراته و إحدى حيثيّاته سابقا على بعض اعتباراته و حيثيّاته،و مسبوقا ببعض آخر من اعتباراته و حيثيّاته، فلا سابقيّة و لا مسبوقيّة تعرضان للذات،من حيث هي.

ثمّ إنّه حيث كانت تلك الاعتبارات و الحيثيّات متغايرة،ليس واحد منها عين الآخر، فلا يلزم من سابقيّتها و مسبوقيّتها سبق شيء على نفسه،و لا أن يكون شيء واحد سابقا على شيء و مسبوقا به بعينه،فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا في تحرير هذا الدليل الذي ذكره المحقّق الطوسي و في دفع اعتراضات الشارح القوشجي عنه،ظهر لك تماميّة الدليل و عدم ورود شيء عليه.

و قد ذكر المحقّق الدواني أيضا في الحاشية عليه كلاما في مقام الجواب عن تلك الاعتراضات،لا بأس بنقله مع بيانه،عسى أن يكون ذلك موجبا لزيادة إيضاح المقام.

ص:297

قال:في قول الشارح القوشجي:«و الجواب أنّه لا معنى لتخلّل العدم-إلى آخره-» (1)بهذه العبارة:

معنى تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أن يكون عدمه مسبوقا و سابقا لشيء واحد بعينه بالسبق الزماني،فإنّه إذا جاز الإعادة يكون«ألف»سابقا على عدمه و هو بعينه مسبوق بذلك العدم،و هو محال، لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه بالزمان،و هو محال بالبديهة، بحذاء الدور،فإنّه محال لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه بالذات.

و من هاهنا تبيّن ما في قوله:«إنّ التخلّل بحسب الحقيقة إنّما هو لزمان العدم بين زماني وجوده بعينه»فإن تخلّل زمان العدم بين زماني وجود شيء واحد بعينه يستلزم تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،بأن يكون ذلك الشيء سابقا على ذلك العدم و هو بعينه مسبوق به.

فإن قيل:لا نسلّم لزومه،بل يلزم تخلّل العدم بين وجودي شيء واحد بعينه.

فالجواب أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات بديهة،فإنّا نعلم قطعا أنّ الشيء الواحد لا يكون له وجودان خارجيّان،فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار،إذ نسبة الوجود إلى الماهيّة،ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار الوجود.

ثمّ على تقدير جواز ذلك لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة.

قال الشيخ في التعليقات:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا و يكون الوقت أيضا معادا، فيكون الحدوث أيضا معادا فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان،بل واحد بعينه معاد،ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة،و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل.

ثمّ قول من يريد أن يهرب عن هذا منهم (2)و يقول الوجود صفة،و الصفة لا توصف و لا تعقل،و ليست بشيء و لا موجودة،و أنّ الوقت أو بعض الأشياء لا يحتمل الإعادة و بعضها يحتمل،حتّى لا يلزمه أن فرض الإعادة للمعدوم قد يجعل المعاد غير معاد،

ص:298


1- -شرح التجريد:73.
2- -ينهم(خ ل).النهم المبالغة في الجدّ في طلب الشيء.

و يجوز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان أصلا،قول ملفّق يفضحه البحث المحصّل.

هذا لفظه و لمّا كان الشيخ يدّعي بداهة المدّعى،لم يبال بذكر بعض المقدمات التنبيهيّة في صورة المنع.-انتهى.» (1)

و قال أيضا في قول الشارح المذكور:«و أيضا لو تمّ هذا الدليل-إلى آخره-»:لا يخفى أنّ الذات مستمرّة في زمان البقاء،فلا يلزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه،بل تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل،و بينه باعتبار وقوعه في الزمان الثاني،لأنّ السابق بالسبق الزماني،و اللاحق بذلك اللحوق،إنّما هو الزمان بالذات و الشيء مع حصوله في الزمانين بالواسطة لا نفس الذات من حيث هي،لأنّها مستمرّة،فتدبّر.-انتهى كلامه. (2)

و أقول:ما ذكره في الحاشية الاولى أوّلا غنيّ عن البيان،و هو بعض ما ذكرنا في تحرير الدليل.

و قوله:فإن قيل لا نسلّم لزومه-إلى آخره.

مراد القائل أنّه لا يلزم من ذلك تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،بل إنّما يلزم منه تخلّله بين وجودي شيء واحد بعينه.و لا نسلّم اتّحاد الوجودين،بل إنّهما مختلفان و حيث كانا مختلفين فيلزم منه تخلّل العدم بين شيئين و لا محذور فيه.

و هذا الإيراد و إن كان يمكن الجواب أيضا عنه بأن يقال:إنّه لو كان كذلك لمّا كان الموجود بالوجود ثانيا عين الموجود بالوجود أوّلا فلا يكون حينئذ إعادة معدوم أصلا، فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه كما هو المفروض؛هذا خلف.لكنّه لم يلتفت إليه ظاهرا بل تعرّض لإثبات المقدّمة الممنوعة،بحيث يمكن أن يفهم هذا الجواب أيضا عنه.

و قال:فالجواب أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات بديهة،فإنّا نعلم قطعا أنّ الشيء الواحد لا يكون له وجودان خارجيان،فأثبت المقدّمة بكونها من البديهيّات المعلومة.

و قال أيضا فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء،هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار،و هذا إمّا من تتمّة السابق،بأن يكون فيه أيضا إثبات تلك المقدّمة بطريق

ص:299


1- -راجع هامش شرح التجريد:73.
2- -راجع هامش شرح التجريد:73. [1]

البداهة،أو يكون فيه تنبيه على السابق الذي ادّعى البداهة فيه،و إمّا بيان آخر يكون فيه إثبات تلك المقدّمة بطريق البرهان.

و على كلّ تقدير فهو مبنيّ على ما هو المستبين أو المحقّق عندهم من أنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار العقلي،و أراد بالوجود الخاصّ منشأ الموجوديّة و مناط صدق الوجود بالمعنى العامّ الانتزاعي على الذات و مصداق حمل الموجود بهذا المعنى عليها.و كأنّه أشار بذلك إلى ما تقدّم منه،في بعض حواشيه على الشرح المذكور حيث حقّق فيه أنّ الوجود بالمعنى العامّ الانتزاعي المشترك فيه بين الأشياء من المعقولات الثانية.و هو ليس عينا لشيء منها حقيقة.نعم مصداق حمله و هو المراد بالوجود الخاصّ على الواجب ذاته بذاته و مصداق حمله على غيره،ذاته من حيث هو محمول الغير. (1)

فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن،إلاّ أنّ الأمر الذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاته من حيثيّة مكتسبة من الفاعل،و في الواجب ذاته بذاته،فإنّه في ذاته بحيث إذا لاحظه العقل انتزع منه الوجود المطلق بخلاف غيره.-انتهى ملخّصا.

و لا يخفى أنّ هذا الكلام منه يدلّ على ما ذكره هنا كما أنّ ما نقلناه عن الشيخ في الشفاء سابقا يدلّ عليه،حيث قال:فإنّ لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو،فللمثلّث حقيقة أنّه مثلّث و للبياض حقيقة أنّه بياض،و ذلك هو الذي ربما سمّيناه الوجود الخاصّ و لم نرد به الوجود الإثباتي.

و قال أيضا:إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصّة هي ماهيّته و معلوم أنّ حقيقة كلّ شيء الخاصّة به،غير الوجود الذي يرادف الإثبات-إلى آخر ما ذكره-كما نقلنا عنه هنالك.

و ينبغي أن يحمل كلام الشيخ على ما دلّ عليه كلام المحقّق المذكور،يعني أنّه أراد بالحقيقة في الحكم بأنّه عين الوجود الخاصّ الحقيقة من حيث كونها منشأ لانتزاع صفة الوجود الإثباتي عنه،لا الحقيقة من حيث هي،فإنّها من حيث هي،بل من حيث كونها أيضا معروضة للوجود الإثباتي و موصوفة بها،غير الحقيقة بمعنى الوجود الخاصّ

ص:300


1- -في المصدر:مجعول الغير.

بالاعتبار،كما ذكره المحقّق المذكور.

و بالجملة فيظهر من الكلامين المنقولين:كلام الشيخ و كلام المحقّق المذكور،كون الوجود الخاصّ بهذا المعنى عين الموجود في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار العقلي،و أنّ الوجود الإثباتي أي أمر الانتزاعي العقلي غيره مطلقا،و أنّ باختلاف الوجود الخاصّ الذي هو الأصل في موجوديّة الموجود،و منشأ انتزاع صفة الوجود عنه،يختلف الذات،و أنّه لا يكون لذات واحدة بالشخص وجودان خاصّان،إذ لا يكون لشيء واحد بالشخص حقيقتان مختلفتان و هذا ظاهر،بل لا يكون لشيء واحد بالشخص وجودان انتزاعيان أيضا،فإنّ الحصّة من الوجود الانتزاعي العامّ المنتزعة من الوجود الخاصّ هي في الوحدة و عدمها تابعة لذلك الوجود الخاصّ تبعيّة المنتزع للمنتزع منه،إن واحدا فواحدا و إن كثيرا فكثيرا،و على تقدير فرض تعدّد تلك الحصّة و اختلافها و تبدّلها أيضا مع فرض وحدة الذات بوحدة الوجود الخاصّ،فلا يقدح ذلك في وحدة الذات و عدم تغيّرها، فإنّ المفروض أنّ ما هو الأصل في منشئيّة وحدة الذات و عدم تغيّرها أعني الوجود الخاصّ واحد غير متبدّل و لا متغيّر،فلا يضرّ اختلاف العارض الذي لا دخل له في تلك المنشئيّة أعني الوجود الانتزاعي،فافهم.

و قوله:«إذ نسبة الوجود إلى الماهيّة ليست نسبة العوارض التي بجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار الوجود»،

تعليل لما ذكره سابقا من قوله:«إنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات»أو قوله:

«فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء،هو عينه في الخارج»أو تنبيه على السابق من القولين.

و على تقدير أن يكون هذا التعليل أو التنبيه بالنسبة إلى القول الأوّل من القولين، فيكونان بوجه آخر غير ما ذكره أوّلا.

و على كلّ تقدير فمعناه:إذ نسبة الوجود أي الوجود الخاصّ الذي هو الأصل في موجودية الماهيّة و الذات،إلى الماهيّة و الذات،ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ قد عرفت أنّه عين الماهيّة و الذات في الخارج، لا عارض لها،فلا يكون نسبته إليها نسبة العوارض إليها مطلقا،فضلا عن أن تكون نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات.و حيث كان كذلك

ص:301

فاختلاف الوجود الخاصّ و تبدّله يكون منشأ لتبدّل الذات مثل أنّ تبدّل الذات نفسها يكون منشأ لتبدّلها في نفسها فلا يكون وحدة الذات منحفظة،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار ذلك الوجود،فإذا لم يتبدّل،تكون وحدة الذات منحفظة و إذا تبدّل لم تكن منحفظة.

و يمكن أيضا أن يكون كلامه في الوجود مطلقا خاصّا كان أم انتزاعيّا و يكون وجه ما ادّعاه في الوجود الخاصّ ما ذكرناه و في الوجود الانتزاعي بأن يقال:إنّ نسبة الوجود الانتزاعي إلى الماهيّة و إن كانت نسبة العوارض،لكنّها ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ قد عرفت أنّه في ذلك تابع للوجود الخاص.

و قوله:ثمّ على تقدير جواز ذلك،لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة.

قال الشيخ في التعليقات:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا-إلى آخره.

إن قلت:لا يخفى عليك أنّ الظاهر منه على تقدير جواز ذلك و عدم الفرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة،كما دلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،أنّه بصدد إثبات لزوم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أيضا،كما كان فيما تقدّم بصدده،و الحال أنّ ما نقله من كلام الشيخ شاهدا على غرضه غير دالّ على لزوم التخلّل المذكور،بل على لزوم محال آخر حينئذ و على أن لا يكون هناك عود مع فرض العود فكيف توجيه الكلام؟

قلت:يمكن توجيهه على وجوه:

أحدها:أن يكون غرضه أنّه على هذا التقدير،و إن لم يلزم التخلّل المذكور،لكنّه يلزم منه محال آخر،و هو ما أشار إليه الشيخ كما سيأتي بيانه،فيكون مفاده حصر المحال اللازم حينئذ مطلقا في المحال الآخر.و هذا الوجه و إن كان ظاهرا من كلامه،و كذا من ظاهر كلام الشيخ المنقول شاهدا،لكنّه لا يلائم سياق كلامه السابق.و كذا هو غير مطابق للواقع، إذ على هذا التقدير أيضا يمكن إلزام تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أيضا كما سيأتي بيانه، و سيأتي توجيه كلام الشيخ بما يحتمل غير الحصر أيضا،فانتظر.

و ثانيها:أن يكون غرضه أنّه على هذا التقدير لا فرق بين الماهيّة و الوجود و الوقت و الحدوث في جواز الإعادة،و يلزم منه المحالان جميعا،لكن كلّ منهما على تقدير،أي أنّه إن نظر إلى أنّ المفروض معادا متّحد مع الأوّل من جميع الوجوه،لزم منه أن لا يكون هناك عود مع فرض العود.و إن نظر مع ذلك إلى انقطاع استمرار حقيقة الأوّل و تخلّل العدم

ص:302

في البين،يلزم منه تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و أنّه على هذا التقدير و لزوم الاتّحاد بين المفروض معادا و بين الأوّل من جميع الوجوه إن أمكن فرض اثنينيّة حينئذ بها يصحّ فرض التخلّل يلزم منه تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و إن لم يمكن فرض اثنينيّة كذلك، يلزم منه المحال الآخر أي أن لا يكون هناك عود مع فرضه،و كلاهما محالان فأحد المحالين لازم إلاّ أن كلاّ منهما على تقدير،ففرض العود محال.

و ثالثها:أن يكون غرضه أنّه يلزم على هذا التقدير مع جواز إعادة الوجود و الوقت و الحدوث واحد من ذينك المحالين المذكورين جزما،لكن بشرط أن يؤخذ لزوم أحدهما مقدّمة في لزوم الآخر،و دليلا عليه،بأن يقال:يلزم على هذا التقدير أيضا تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،لأنّ المفروض اتّحاد الثاني مع الأوّل من جميع الوجوه،و كذا انقطاع وحدة الأوّل و زوال استمرار حقيقته،فينفرض هناك اثنينيّة،بها يصحّ فرض التخلّل في البين،إذ لو لم ينفرض الاثنينيّة مطلقا لكان ليس هناك عود أصلا؛هذا خلف.

فيجب أن ينفرض الاثنينيّة كذلك،و مع انفراضها كذلك،يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه البتّة إذ المفروض أنّ الثاني عين الأوّل مع فرض الاثنينيّة و تخلّل العدم في البين.

أو أن يقال إنّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون هناك عود مع فرضه،لأنّه على هذا التقدير مع جواز عود الوجود و الوقت و الحدوث يكون الثاني عين الأوّل من جميع الوجوه، فلا يكون هناك عود إذ العود يقتضي اثنينيّة،بها يصحّ إطلاق العود،و فرض الاثنينيّة هنا ممتنع إذ مع انفراضها حينئذ يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه و هو محال.

و الحاصل أنّ القائل بجواز إعادة المعدوم إن هرب من أحد المحالين،دخل في المحال الآخر.

و بالجملة فهذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المحقّق الدواني،و سيأتي توجيه كلام الشيخ،فانتظر.

و حيث عرفت ما ذكرنا،فلنقدّم شرح معنى التقدير المذكور،ثم نفصّل بيان لزوم المحالين.فنقول:معنى التقدير المذكور أنّه على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود الخاصّ و اختلافه مع انحفاظ وحدة الذات بناء على تسليم كونه من العوارض و كذا كونه من العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات لا عين حقيقة الذات كما

ص:303

هو التحقيق،أو بناء على أنّه و إن كان عين حقيقة الشيء و يتبدّل الوحدة الخارجيّة للذات،لكنّه لا تتبدّل بتبدّله وحدتها الذهنيّة،أو على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود مطلقا،خاصّا كان أم انتزاعيّا مع انحفاظ وحدة الذات،أمّا في الوجود الخاصّ،فبناء على ما ذكر،و أمّا في الوجود الانتزاعى،فلكونه عارضا،و يجوز تبدّله مع انحفاظ وحدة الذات من جهة كونه من العوارض،دون كونه تابعا للوجود الخاصّ في ذلك.

و بالجملة على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود الخاصّ أو الوجود مطلقا مع انحفاظ وحدة الذات حتّى لا يلزم حينئذ تخلّل العدم بين الشيء الواحد بعينه و بين نفسه،بل بين وجوديه المتغايرين المتبدّلين،مع أنّ فرض انحفاظ وحدة الذات مطلقا،حينئذ أي مع فرض انعدام ذلك الشيء في البين غير ممكن.و ينبغي أن يكون مبناه على تسليم أن يراد بوحدة الذات المنحفظة إمّا الوحدة الخارجيّة الحاصلة مع الوجودين لا مطلقا و لو في حال العدم.و إن كان الوجودان متبدّلين و لم يكن لهما دخل في تلك الوحدة المذكورة،و إمّا تلك الوحدة المذكورة مع الوحدة الذهنيّة الباقية حين انعدام الشيء أيضا.و إمّا الوحدة الذهنيّة الباقية المنحفظة مطلقا سواء فرضت هي مع الوجودين المتبدّلين أو مع انعدام الشيء،و هذا الذي ذكرنا هو معنى التقدير المذكور.و أمّا بيان لزوم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه على هذا التقدير،فبأن يقال إنّه على تقدير تسليم ذلك كلّه حتّى لا يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه لكون وحدته باقية منحفظة و عدم اثنينيّة فيه لكي يتصوّر التخلّل المذكور،بل تخلّل العدم بين وجودي شيء واحد بعينه الذين هما متبدّلان متغايران و تخلّله بينهما لا امتناع فيه.

فنقول:على هذا أيضا يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،لأنّه لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة،كما يدلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،فإنّ الماهيّة المعدومة إذا جاز إعادتها و لا يخفى أن ليس ذلك لخصوصيّة فيها،بل لكونها معدومة،فيجوز إعادة كلّ معدوم كان معها أو مطلقا،و من جملته الوجود أوّلا و الحدوث و الوقت و أمثالها، و لا دليل على تخصيص ذلك الجواز ببعض المعدومات دون بعضها،فحينئذ يجوز إعادة الوجود الأوّل أيضا،و حيث فرض انقطاع ذلك الوجود في البين ثمّ عوده ثانيا و عدم انحفاظ وحدته الخارجيّة و زوال استمرارها لكون المفروض انقطاعها فينفرض هناك

ص:304

اثنينيّة و وجود فوجود،و به يصحّ فرض التخلّل أي تخلّل العدم حينئذ و انفراض هذه الاثنينيّة و صحّة فرض التخلّل المذكور معها،إمّا بناء على أنّه لو لم تنفرض تلك الاثنينيّة، لكان ليس هناك عود أصلا على ما هو المفروض،لأنّه على تقدير عود الوجود و الوقت و الحدوث،يكون الثاني عين الأوّل و متّحدا معه من جميع الوجوه،فلا يكون عود،و حيث فرض عود،فيجب أن ينفرض هناك اثنينيّة بها يصحّ العود،و حيث فرضت اثنينيّة صحّ فرض التخلّل المذكور،و إمّا بناء على أنّه على تقدير فرض الاثنينيّة كذلك و إمكان حصولها يصحّ التخلّل المذكور،و لا يخفى أنّه كذلك.

و على التقديرين نقول:لمّا كان المفروض حينئذ أنّ الوجود الثاني عين الأوّل بعينه، فيلزم منه تخلّل العدم بين الوجود الأوّل و الثاني بعينه،و هو أيضا تخلّل العدم بين الشيء، أي الوجود و نفسه.بل يلزم ذلك بين الحدوث الأوّل و نفسه و بين الوقت الأوّل و نفسه بعين ما قرّرنا.بل يلزم ذلك بين الماهيّة بوجودها أوّلا و بينها بوجودها ثانيا،فإنّه و إن كان ليس للوجود مدخل في انحفاظ وحدة الذات،كما هو مبنى هذا التقدير،لكنّه لا يخفى أنّ للماهيّة وحدة خارجيّة حاصلة مع الوجود أوّلا و إن لم يكن ذلك الوجود منشأ لها،و أنّ تلك الوحدة الخارجيّة تنقطع مع انقطاع الوجود.

ثمّ إنّه مع فرض عود ذلك الوجود بعينه ثانيا يكون المفروض عود تلك الماهيّة بعينها مع عود ذلك الوجود بعينه،و كذا عود تلك الوحدة الخارجيّة بعينها،فينفرض هناك أيضا ماهيّة و ماهيّة و كذا وحدة و وحدة.و بالجملة اثنينيّة بها يصحّ فرض التخلّل المذكور،و بناء فرض هذه الاثنينيّة و التخلّل أيضا على ما ذكرنا آنفا،و لمّا كان المفروض أنّ الماهيّة ثانيا عينها أوّلا و كذا الوحدة ثانيا عينها أوّلا فيلزم منه تخلّل العدم بين تلك الماهيّة و نفسها،و كذا بين الوحدة الاولى الخارجيّة و نفسها.

فإن قلت:لا نسلّم صحّة فرض التخلّل المذكور إذ هي مبنيّة على أن يكون هناك اثنينيّة و أن لا تكون هناك وحدة منحفظة أصلا و هذا ممنوع.إذ الوحدة الذهنيّة باقية مستمرّة منحفظة في جميع الأحوال حتّى حال عدم الماهيّة و انقطاع الوجود،و تلك الوحدة الذهنيّة المستمرّة التي يمكن فرضها في جميع تلك المذكورات التي فرضت إعادتها كالماهيّة و الوجود و الوحدة و الحدوث و الوقت و أمثالها كافية في كونها واحدة بأشخاصها في

ص:305

الذهن،لا يصحّ فيها فرض اثنينيّة،و لا فرض تخلّل شيء في أثنائها،فإنّ تخلّل العدم إنّما هو بين الوحدة الخارجيّة المنقطعة،لا بين هذه الوحدة الذهنيّة،لكونها مستمرّة غير منقطعة.

قلت:من الظاهر أنّ هذا لا يجدي نفعا،إذ على هذا التقدير،لا يصحّ فرض إعادة المعدوم أيضا،فإنّه كما أنّ التخلّل إنّما يصحّ فرضه إذا فرضت هناك اثنينيّة،كذلك العود إنما يصحّ فرضه إذا كان كذلك،و إذا كانت الوحدة الذهنيّة كافية في وحدة الذات،و لم يكن هناك اثنينيّة أصلا،فكما لا يصحّ فرض التخلّل المذكور،كذلك لا يصحّ فرض العود أيضا؛ هذا خلف.بل ليس الفرض إلاّ أنّ هذا التخلّل يلزم على تقدير فرض عود المعدوم كما ذكر و هو كذلك.

و أيضا على تقدير كون انحفاظ الوحدة الذهنيّة منشأ لانحفاظ شيء،أي وحدة مطلقة في الجملة،فلا يخفى أنّها من حيث كونها ذهنيّة،لا تكون منشأ لانحفاظ الوحدة الخارجيّة من حيث كونها خارجيّة كما أنّ انحفاظ الوجود الذهنيّ من حيث هو وجود ذهني، لا يكون منشأ لانحفاظ الوجود الخارجي من حيث هو خارجيّ،بل يجوز أن ينحفظ الذهنيّ و ينقطع الخارجي.و حيث جاز الانقطاع فلا بقاء للوحدة الخارجيّة و لا انحفاظ لها،و حيث كان كذلك فينفرض هناك اثنينيّة و تخلّل شيء،و مبناه أيضا على ما ذكرنا سابقا.و حيث كان مع ذلك الأمر الثاني الخارجيّ عين الأوّل الخارجي فينفرض تخلّل العدم بين الشيء و نفسه في الخارج في جميع تلك المذكورات التي فرضنا انعدامها في الخارج ثمّ عودها بأعيانها في الخارج،يعني أنّه يلزم منه تخلّل العدم في الخارج بين تلك الأشياء بحسب كونها امورا خارجيّة و بين أنفسها من حيث كونها كذلك أيضا،و إن لم يلزم ذلك من حيث وجوداتها الذهنيّة و انحفاظ وحدتها (1)في النفس،و ذلك كاف في لزوم المحال المذكور،بل ليس كلامنا في هذا المقام إلاّ في لزوم المحال المذكور بحسب ما هي امور خارجيّة فقط،فتبصّر.

و أمّا بيان لزوم المحال الآخر على تقدير عود الوجود و الحدوث و الوقت فيظهر ممّا ذكره الشيخ في التعليقات،حيث قال:

ص:306


1- -في المصدر:وحداتها.

و لم لا يكون الوجود نفسه معادا و يكون الوقت أيضا معادا،فيكون الحدوث أيضا معادا،فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان،بل واحد بعينه معاد.ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل.

و قوله:«و لم لا يكون الوجود نفسه معادا»يعني إذا جاز إعادة المعدوم و الحال أنّه ليس هناك دليل على تخصيص هذا الحكم ببعض المعدومات دون بعض،فكما جاز إعادة الماهيّة المعدومة كذلك يجوز إعادة الوجود الأوّل مطلقا بعينه خاصّا كان أم انتزاعيا،إذ المفروض انعدامه أيضا و كذلك المفروض جواز إعادة المعدوم أيّ معدوم كان،و إنّما عبّر جواز إعادة الوجود المعدوم بصورة المنع،و بعبارة تشعر بالمنع-و هو قوله:لم لا يكون- مع أنّ الظاهر أنّ غرضه إثبات ذلك الجواز و ادّعاء ظهوره إمّا بناء على ما هو الشائع في المحاورات من أنّهم قد يعبّرون في أمثال هذه المقامات التي يدّعون ظهورها بأمثال هذه العبارات،و يسألون عنها بلم لا يكون و نحوه،و هو مع كون الغرض منه الإثبات يكون بصورة المنع،و إمّا بناء على أنّ ذلك المنع و مقابلة ادّعاء من ادّعى تخصيص جواز إعادة المعدوم ببعض المعدومات كالماهيّة دون بعض كالوجود و نحوه،كما نقله عنهم في عبارته الآتية و أبطله.

و قوله:«و يكون الوقت أيضا معادا»أي مطلقا سواء قلنا بأنّه من جملة المشخّصات أم لا.أمّا على تقدير كونه مشخّصا فظاهر،و أمّا على تقدير العدم،فلأنّه أيضا من جملة المعدومات،و لا دليل يدلّ على تخصيص جواز الإعادة ببعض المعدومات دون بعض كما ذكرنا.

و فيه إشارة إلى أنّه على تقدير جواز إعادة المعدوم،يلزم جواز إعادة الوقت الأوّل أيضا،و يلزم منه المحالات التي فصّلناها فيما سبق في شرح كلامه في الشفاء.و إلى أنّ كلامه في الشفاء في جواز إعادة الوقت،يحتمل جواز ذلك و إن لم يكن مشخّصا أيضا كما ذكرنا هنالك،فتذكّر.

و قوله:«فيكون الحدوث أيضا معادا»لأنّه أيضا من جملة المعدومات كما أنّه يجوز أن يكون الماهيّة المعدومة معادة و كذا وحدتها الخارجيّة.

و قوله:«فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان و لا ماهيّتان

ص:307

و لا وحدتان اثنتان أيضا»فإنّ الاثنينيّة تقتضي أن يكون هناك تعدّد و لو في الجملة و ليس كذلك،لأنّه فرض كون جميع ذلك واحدا بالعدد من حيث كون المفروض أنّ الماهيّة مع جميع صفاتها و خواصّها و لوازمها و عوارضها و ما يمكن أن يعتبر معها في حال وجودها الأوّل واحدة وحدة شخصيّة خارجيّة في حال وجودها الثاني.

و قوله:«بل واحد بعينه معاد»أي يكون هناك واحد بعينه فرض كونه معادا إلاّ أنّه معاد حقيقة حتّى يرد أنّ فرض الوحدة ينافي كونه معادا كما ذكره من قوله:«ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة»أي كيف يصحّ فرض العود و الحال أنّه لا اثنينيّة هناك بوجه ما،مع أنّ العود إنّما يصحّ إذا كان هناك اثنينيّة حتّى يصحّ أن يقال إنّه أعيد مرّة اخرى أو في زمان آخر.و فيه دلالة على أنّه في صورة فرض إعادة المعدوم بعينه و فرض إعادة كلّ معدوم معه بعينه كما هو لازم على ذلك الفرض،يلزم أن لا يكون هناك عود مطلقا،فضلا عن أن يكون بعينه،فمن فرض العود يلزم عدم العود،هذا خلف،بل هو من أشنع المحال.

و قوله:«و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل»أي و كيف يكون هناك اثنينيّة بها يصحّ فرض العود،مع أنّه يجوز أن يكون ما هو معاد بالفرض هو الأوّل من جميع الوجوه و الجهات و الاعتبارات،و كأنّ الشيخ يضمّ إلى ما ذكره مقدّمة اخرى،و هي أنّه مع ذلك لو صحّ فرض الاثنينيّة كذلك حتّى يصحّ بها فرض العود،يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه كما مرّ بيانه،و هو محال،فيكون كلامه هذا مبنيّا على الوجه الأخير الذي احتملناه في كلام المحقّق الدواني،إلاّ أنّ الشيخ اكتفى بذكر لزوم أحد المحالين،أعني لزوم أن لا يكون هناك عود،و أخذ لزوم المحال الآخر،أي لزوم التخلّل،مقدّمة فيه و دليلا عليه،فإنّه لو رام بيان لزوم المحال الآخر،فله أن يعكس الأمر و يقول:يلزم على هذا التقدير تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،فإنّه لو لم يتصوّر التخلّل المذكور،لم يكن هناك عود كما هو المفروض؛هذا خلف.و يحتمل أن يكون كلام الشيخ مبنيّا على الوجه الثاني الذي احتملناه في كلام المحقّق الدواني.

و حاصله أنّه حينئذ إمّا أن يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه إذا نظر إلى انقطاع الوجود و زوال استمرار حقيقة الذات مع كون الثاني متّحدا مع الأوّل من جميع الوجوه، أو إذا صحّ فرض اثنينيّة بها يصحّ التخلّل المذكور.

ص:308

و إمّا يلزم أن لا يكون هناك عود مع فرضه إذا نظرنا إلى كون الثاني متّحدا مع الأوّل من جميع الجهات و الوجوه و الاعتبارات،أو إذا لم يصحّ الفرض المذكور.

فأحد المحالين لازم و كلّ منهما على تقدير،إلاّ أنّه اكتفى ببيان المحال الثاني في كلامه و أحال بيان الأوّل على المقايسة.

و الحاصل أنّ فرض إعادة المعدوم كما ذكر محال على كلّ تقدير،سواء فرضت اثنينيّة أم لم تفرض.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«ثم قول من يريد أن يهرب عن هذا منهم-إلى آخر ما ذكره-»، تأكيد لما ذكره أوّلا و إبطال لقول من يدّعي أن فرض الإعادة إنّما يصحّ بالنسبة إلى بعض المعدومات دون بعض.و قوله:«منهم»،أي من جملة المجوّزين للإعادة،و في بعض النسخ«ينهم»بصيغة المضارع الغائب المعلوم من النهم،بمعنى المبالغة في الجدّ في طلب الشيء.

و قوله:«و يقول الوجود صفة و الصفة لا توصف و لا تعقل،و ليست بشيء و لا موجودة» الغرض منه نفي جواز إعادة الوجود،لأنّ الوجود صفة و عرض انتزاعي مطلقا حتّى الوجود الخاصّ،و أنّ الصفة لا توصف بشيء و لا يحكم عليها بجواز الإعادة مثلا و لا تعقل مطلقا حتّى يحكم عليها بشيء أو في أمثال هذه الأحكام الواقعيّة حتّى يمكن أن يكون محكوما عليها بالإعادة،بل و ليست بشيء و لا موجودة أصلا حتّى يصحّ إعادتها،فإنّ الإعادة إنّما يمكن فرضها بالنسبة إلى المعدومات التي كان لها وجود بوجه ما،و قد عدمت،و الوجود ليس كذلك.

و قوله:«و انّ الوقت أو بعض الأشياء كالوقت و الوجود و الحدوث لا يحتمل الإعادة، و بعضها كالماهيّة المعدومة و بعض أحوالها الآخر يحتمل الإعادة»و معنى الادّعاء ظاهر، و إن لم يكن عليه دليل،و هو أيضا لم ينقل عنهم دليلا عليه.

و قوله:«حتّى لا يلزم أنّ فرض الإعادة للمعدوم قد يجعل المعاد غير معاد».يعني إنّما ادّعى هذا المدّعي الهارب عن لزوم المحال ما ادّعى هربا عن لزوم أن فرض الإعادة للمعدوم،قد يجعل المعاد غير معاد و هو خلاف الفرض،كما لزم ذلك عن فرض إعادة الوجود و الوقت و الحدوث،و إنّما ذكر كلمة«قد»التي للتقليل ظاهرا إشعارا بأنّ فرض

ص:309

الإعادة لا يجعل المعاد غير معاد مطلقا و لو في صورة فرض إعادة الماهيّة وحدها من غير فرض إعادة الوجود و الوقت و الحدوث،بل يجعله كذلك في بعض الفروض،و هو فرض عود تلك المذكورات أيضا.

و قوله:«و يجوز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان أصلا».

كلمة«يجوز»إمّا بصيغة المضارع المجرّد و بالنصب عطفا على قوله:«يلزمه»،أي حتّى لا يلزمه ذلك،و لا يجوز أن يكون ما هو معاد بالفرض ليس له حالتان حتّى لا يصحّ فرض الإعادة،بل يجوز أن يكون له حالتان و تفرض هناك اثنينيّة بها يصحّ فرض الإعادة.

و إمّا بصيغة المضارع المزيد فيه من باب التفعيل المبنيّ للفاعل و بالرفع،عطفا على قوله:«قد يجعل»أي حتّى لا يلزمه أن فرض الإعادة قد يجعل المعاد غير معاد،و يجوّز أي يكون منشأ لتجويز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان،و لا يصحّ فيه فرض الإعادة، فتدبّر.

و قوله:«قول ملفّق»هو خبر عن قوله:«ثمّ قول من يريد أن يهرب-إلى آخره-»أي أنّ ذلك القول قول ملفّق غير بيّن بنفسه،و لا مبيّن،بل هو مجرّد ادّعاء يفضحه البحث المحصّل،حيث إنّ القول بأنّ الوجود صفة مطلقا باطل،بل قسم منه عين الماهيّة في الخارج كما تبيّن،كالقول بأنّ الصفة مطلقا لا توصف و لا تعقل،فإنّ ذلك أيضا باطل كما لا يخفى،فإنّ كثيرا من الصفات توصف و تعقل.أي تعقل و توصف بشيء و على شيء،بل إنّ كلّ الصفات حتّى الصفات العدميّة كذلك،و كالقول بأنّ الصفة ليست بشيء و لا موجودة،فإنّ هذا أيضا باطل،و كيف لا تكون الصفة كذلك و الحال أنّها صفة للموجودات،و موصوفة بالصفات الثبوتيّة،مع أنّه بالوجود يكون الشيء موجودا، و كالقول بأنّ بعض الأشياء يحتمل الإعادة و بعضها لا يحتملها،فإنّ ذلك أيضا مجرّد ادّعاء لا دليل عليه،بل الدليل يدلّ على خلافه،حيث إنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز إعادة كلّ معدوم.

و بالجملة فبطلان ما ادّعاه هذا المدّعي بيّن ينفسه لا يحتاج إلى بيان و برهان،و إنّما ذكرنا ما ذكرنا تنبيها على بطلانه.

ص:310

ثمّ إنّ قول المحقّق الدواني:«و لما كان الشيخ يدّعي بداهة المدّعى لم يبال بذكر المقدمات التنبيهيّة في صورة المنع»كأنّه أراد ببعض المقدّمات قول الشيخ:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا-إلى آخره-،حيث أورده بصورة المنع و قد عرفت توجيهه سابقا.

و أمّا أنّ الشيخ يدعّي بداهة المدّعى،فكأنّه فهمه من بعض كلماته في التعليقات،و قد عرفت سابقا كلامه في الشفاء صريح في ادّعاء البداهة في ذلك.

و على هذا فيكون المقدّمة مقدّمة تنبيهيّة،كما ادّعاه المحقّق المذكور.

و قد تمّ بما حقّقه في هذه الحاشية على ما ذكرنا بيانه،جواب الاعتراض الأوّل الذي أورده الشارح القوشجي على دليل المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

ثمّ إنّ ما ذكره في الحاشية الثانية التي نقلناها عنه بقوله:«لا يخفى أنّ الذات-إلى آخره -»،جواب عن الاعتراض الثالث الذي أورده الشارح المذكور على المحقّق الطوسي.

و قوله فيها فلا يلزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه كأنّه بظاهره موهم لأنّ تخلّل الزمان بمجرّده مطلقا سواء كان زمان الوجود أو زمان العدم مستلزم للمحال،و أنّه لا يلزم هناك تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه.

و هذا غير مستقيم فإنّك قد عرفت فيما حقّقناه سابقا أنّ تخلّل الزمان إنّما يستلزم المحال باعتبار ما هو كائن فيه.و قد اعترف المحشيّ نفسه بذلك في الحاشية السابقة، حيث قال:فإنّ تخلّل زمان العدم بين زماني وجود شيء واحد بعينه يستلزم تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،و قد عرفت أيضا فيما حقّقناه أنّ الواقع في الزمان المتخلّل لو كان هو العدم،لكان مستلزما للمحال.و لا كذلك لو كان هو الوجود.

و قوله:«بل تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل-إلى آخره-»فيه أنّه لو كان محمولا على ظاهره لكان ذلك مشتركا بين صورتي تخلّل زمان العدم و زمان الوجود،حيث إنّه في صورة تخلّل زمان العدم أيضا بين زماني وجوده بعينه يكون تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل و بينه باعتبار وقوعه في الزمان الثاني،لأنّ السابق بالسبق الزماني و اللاحق بذلك اللحوق،إنّما هو الزمان بالذات،و الشيء مع حصوله في الزمانين بالواسطة كما أنّ سابقيّة العدم أو مسبوقيّته أيضا مع حصوله في زمان البين بواسطة زمان البين.و لا كلام في أنّ عروض التقدّم و التأخّر للزمان إنّما هو بالذات،

ص:311

و لغيره من الزمانيّات إنّما هو بواسطته.إنّما الكلام في أنّ ذلك هل يجدي نفعا في الفرق بين تخلّل زمان العدم و زمان الوجود،و هذا غير ظاهر منه.

نعم قوله أخيرا:«لا نفس الذات من حيث هي لأنّها مستمرّة»ربما كان إشارة إلى التحقيق الذي ذكرناه في الفرق و في جواب الاعتراض و هو أعلم.

و بالجملة فما ذكره في هذه الحاشية كأنّ فيه إبهاما و به يعسر دركه علينا.و القول المحصّل المفصّل في جواب الاعتراض و حسم مادّة الشبهة هو ما ذكرنا سابقا،فتذكّر.

ثمّ إنّه بقي في كلامه الجواب عن الإيراد الثاني الذي ذكره الشارح القوشجي و هو لم يلتفت إليه،و كأنّه مبنيّ على ظهوره عنده،و قد نقلنا عنه سابقا في موضع آخر من كلامه أنّ التحقيق عنده أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدها عارضا للآخر فلا يتحقّق الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا و كيفما كان فالتحقيق في جواب ذلك الإيراد هو ما حقّقناه أيضا،فتذكّر.

و هذا آخر ما قصدنا إيراده في تحرير حجج المنكرين لإعادة المعدوم.و إذ قد فرغنا بتوفيق اللّه و تأييده عن تحريرها على الوجه الأتمّ الأولى الذي هو كأنّه من خواص هذه الرسالة،فلنتكلّم في تحرير حجج المجوّزين للإعادة و نقدها و تزييفها.

ص:312

في ذكر حجج المجوّزين لإعادة المعدوم و ذكر ما فيها و نقدها و تزييفها

اعلم أنّ من جملة حججهم على ذلك،بل من أشهرها و أقواها عندهم،ما أشار إليه المحقّق الطوسي؛مع جوابه بقوله:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»و ذكره أيضا الفاضل الأحساوي في المجلي كما نقلنا كلامه في ذلك.

و تحرير كلام المحقّق الطوسي كما سيظهر تلخيصه فيما بعد،و إن لم يكن يحتاج إلى زيادة بسط في الكلام،إلاّ أن شارحه و العلمين المحشّين حيث تصدّوا فيه لذكر القيل و القال و الجواب و السؤال،فلا بأس أن ننقل كلماتهم في ذلك و نتبعه بالنقد و التزييف و بتحقيق الحقّ إنّ امكن،عسى أن يكون موجبا لزيادة اتّضاح المرام و للإحاطة بأطراف الكلام في هذا المقام.

فنقول:قال الشارح القوشجي في شرحه:«استدلّ القائلون بجواز إعادة المعدوم بأنّه لو امتنع عود المعدوم،هو عبارة عن وجوده ثانيا،فهذا الامتناع ليس لماهيّة المعدوم،و لا للوازمها،و إلاّ لم يوجد ابتداءً بل كان من قبيل الممتنعات،لأنّ مقتضى ذات الشيء أو لازمه لا يتخلّف و لا يختلف بحسب الأزمنة.فهو لأمر ينفكّ عنها فيزول الامتناع عند انفكاكه فكان العود جائزا».

و أجاب المصنّف بقوله:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»يعني أنّ الموصوف بامتناع العود هو الماهيّة الموصوفة بطريان العدم،و هذا الوصف أعني كونها قد طرأ عليها (1)العدم،أمر لازم للماهيّة الموصوفة بطريان العدم،لكونها مأخوذة مع هذا الوصف،و امتناع العود لها سبب هذا اللازم،و هو لا يقتضي امتناع وجوده ابتداءً،لعدم تحقّق سبب

ص:313


1- -طرأ عليه(خ ل).

الامتناع،أعني هذا اللازم هناك.

قيل:لا نسلّم أنّ الماهيّة الموصوفة بهذا الوصف،ممتنعة الوجود و ذلك لأنّه كما لا يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم واجبة الوجود و ممتنعة العدم،كذلك لا تكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم.

أقول:و فيه نظر،لأنّ جواب المصنّف في التحقيق منع و سند،إذ حاصله أنّا لا نسلّم أنّه لو كان امتناع العود لماهيّة المعدوم أو لأمر لا ينفكّ عنها امتنع وجوده ابتداءً.

قوله:لأنّ مقتضى ذات الشيء أو لازمه لا يتخلّف و لا يختلف بحسب الأزمنة.

قلنا:مسلّم،لكن لم لا يجوز أن يكون سبب الامتناع وصفا لماهيّة المعدوم الموصوفة بطريان العدم لازما لها،أعني كونها قد طرأ عليها العدم و يتخلّف (1)الامتناع عن الوجود ابتداءً لانتفاء المتقضي أعني طريان العدم.

فكلام هذا القائل إن كان منعا للسند كما يفهم من قوله«لا نسلّم»فهو غير مفيد،و إن كان إبطالا له فما ذكره لا يفيد الإبطال،لأنّه قياس فقهي غير معقول في العقليات،و لو سلّم فإبطال للسند الأخصّ إذ قد يسند المنع بأنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ من الوجود المطلق.

و لا يلزم من إمكان الأعمّ إمكان الأخصّ،و لا من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ،فيجوز أن يمتنع وجوده بعد عدمه لذاته،فلا يمتنع وجوده مطلقا.

قال صاحب المواقف:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته،بل بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيّته و هو الزمان.فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا،لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة، يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها.و لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة،معلّلا بأنّ الوجود في الزمان الثاني أخصّ من الوجود مطلقا و مغاير للوجود في الزمان الأوّل بحسب الإضافة،فلا يلزم من امتناع الوجود الثاني امتناع ما هو أعمّ منه،أو امتناع ذلك المغاير،لجاز الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الواجب الذاتي معلّلا بأنّ الوجود في زمان أخصّ من الموجود المطلق

ص:314


1- -و تخلّف(ظ).

أو مغاير للوجود في زمان آخر.فجاز أن يكون ذلك الأخصّ ممتنعا و المطلق أو المغاير واجبا.و في تجويز هذا الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر،و إغناء للحوادث عن المحدث،و سدّ لباب إثبات الصانع،لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة، فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:إنّ هذا الكلام عن آخره حقّ و صواب،لكن لا أثر له في دفع هذا الجواب.

و تحقيق المقام يقتضي زيادة بسط في الكلام،فنقول:الوجوب عبارة عن اقتضاء الذات للوجود مطلقا،و الامتناع عن اقتضاء الذات العدم مطلقا،و الإمكان عن لا اقتضائهما مطلقين،و قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين هذه المفهومات الثلاثة،بأن يكون شيء واجبا في زمان ثمّ يصير ممكنا،أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة،لكن الوجود قد يقيّد بقيد سلبيّ أو إضافيّ فلا يقتضي ذات الواجب الوجود المقيّد بهذا القيد،بل يمتنع اتّصافه به، كما إذا قيّدنا الوجود بكونه مسبوقا بالعدم،فإنّ هذا الوجود يمتنع اتّصاف ذات الواجب به فضلا عن اقتضائه له،و بذلك لا يخرج ذات الواجب عن كونه واجبا،و لا ينقلب عن وجوبه الذاتي إلى الامتناع الذاتي،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا باق بحاله،لم يدخله تغيّر و لا تبدّل و لا انقلاب،و كذلك العدم قد يقيّد بكونه مسبوقا بالوجود،فلا يقتضي ذات الممتنع هذا العدم المقيّد،بل لا يمكن اتّصافه به،و لا يلزم من ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي بناء على أنّ اقتضاءه للعدم مطلقا باق بحاله.

و على هذا القياس إذا قيّد الوجود بكونه ناشئا عن ذات الموصوف به لم يمكن اتّصاف ذات الممكن به و لم يصر الممكن بذلك ممتنعا إذ نسبته إلى الوجود المطلق باق بحاله لم يتغيّر بعد.

و أيضا فإنّهم قالوا:أزليّة الإمكان غير إمكان الازليّة و غير مستلزمة له،و ذلك لأنّا إذا قلنا إمكانه أزليّ أي ثابت أزلا كان الأزل ظرفا للإمكان،فيلزم أن يكون ذلك الشيء

ص:315


1- -شرح التجريد:74-76.

متّصفا بالإمكان اتّصافا مستمرّا غير مسبوق بعدم الاتّصاف،و هذا هو الذي يقتضيه لزوم الإمكان لماهيّة الممكن.و إذا قلنا أزليّته ممكنة كان الأزل ظرفا لوجوده،على معنى أنّ وجوده المستمرّ الذي لا يكون مسبوقا بالعدم ممكن.و من المعلوم أنّ الأوّل لا يستلزم الثاني،لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرّا و لا يكون وجوده على وجه الاستمرار ممكنا أصلا،بل ممتنعا و لا يلزم من هذا أن يكون ذلك الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات،لأنّ الممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه.

و هذا كلام حقّ لا شبهة فيه مشهور في ما بين القوم.

و ما قيل من أنّ إمكانه إذا كان مستمرّا أزلا لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل،فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرّا في جميع تلك الأجزاء.فاذا نظر إلى ذاته من حيث هو،لم يمنع من اتّصافه بالوجوب في شيء منها،بل جاز اتّصافه به في كلّ منها،لا بدلا فقط بل و معا أيضا.و جواز اتّصافه به في كلّ منها معا هو إمكان اتّصافه بالوجود المستمرّ في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزليّة الإمكان مستلزمة لإمكان الأزليّة.

أقول:مدفوع بأنّ قوله:«لا بدلا فقط بل و معا أيضا»ممنوع.و إذا تمهّد هذا فنقول:

مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة المعدوم بهذا الوجود المقيّد، و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي كما في أخواته و نظائره على ما تقدّم.

فنقول:هذا القائل«و لو جوزّنا كون الشيء الواحد-إلى آخره-»لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا،و كذا قوله:«الوجود أمر واحد-إلى قوله- و لو جوزّنا»،لأنّ حاصله أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ أيضا لذاته ذلك الأمر بعينه،و بالعكس لأنّها متّحدان ذاتا و حقيقة.و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج،و هو لم يقل بخلاف ذلك،و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الموجودين المبتدأ و المعاد متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،فيجوز أن يقتضي ماهيّة المعدوم لذاته عدم الاتّصاف بأحدهما يعني الوجود المعاد،و لا يقتضي

ص:316

عدم الاتّصاف بالآخر،و لا ينافي هذا أن لا يجوز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته أمرا، و لا يقتضيه الوجود الآخر.

و أقول:يمكن أن يتمّم هذا الدليل بأن يقال:الحكم بامتناع عود المعدوم إذا لخّص و جرّد أطرافه يعود إمّا إلى قولنا:إنّ ذاتا ما من الذوات الممكنة الوجود يمتنع وجودها المسبوق بالعدم المسبوق بالوجود.و إمّا إلى قولنا:إنّ ذاتا ما قد اتّصفت بالعدم المسبوق بالوجود يمتنع وجودها.

فعلى الأوّل نقول:لا شبهة أنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير ممتنع، فلو امتنع اتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني المسبوقيّة بالعدم و المسبوقيّة بالوجود لكان هذا الامتناع ناشئا إمّا من أحد هذين القيدين أو كليهما لكنّه[نعلم أنّ] المسبوقيّة بالعدم لا تكون منشأ لهذا الامتناع،و إلاّ لم يتّصف ماهيّة بالحدوث.و كذا المسبوقيّة بالوجود،و إلاّ لم يتّصف ماهيّة بالبقاء.و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع،فاتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني اتّصافها بالعود غير ممتنع.

و على الثاني،نقول:ذات الممكن من حيث هي لا يمتنع اتّصافها بالوجود،و ذاته الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود لو امتنع اتّصافها بالوجود،لكان ذلك الامتناع ناشئا من أحد هذين الوصفين أعني اتّصافها بالعدم و مسبوقيّته بالوجود أو من كليهما،و اتّصافها بالعدم لا يصلح ذلك و إلاّ لم تخرج ماهيّة من العدم إلى الوجود.و كذلك المسبوقيّة بالوجود،لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل،بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل فقد صار قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون،و إن لم يفدها زيادة الاستعداد،فمعلوم بالضرورة أنّها لا تنقص عمّا هي عليه (1)بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات،و معلوم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.فذات الممكن الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود، لا يمتنع اتّصافها بالوجود و ذلك هو المطلوب.

وجه آخر اقناعي و هو أنّ الأصل فيما لا دليل على وجوبه و امتناعه،هو الإمكان على ما قالته الحكماء أنّ كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه

ص:317


1- -عمّا هي عليها(خ ل).

قائم البرهان.-انتهى كلامه.

و قال المحقّق الدواني في الحاشية عليه بهذه العبارة:قوله:«لازما لها»أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها لا مطلقا.

قوله:«إذ يسند المنع بأنّ ماهيّة المعدوم»،لا يخفى أنّ هذا ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف.

قوله:فقول هذا القائل و لو جوزّنا كون الشيء-إلى آخره-.

وقف الشارح عند ظاهر لفظ هذا القائل،و لم يأت بما يحسم مادّة الشبهة،إذ لا خفاء في أنّ مقصود هذا القائل أنّه لو جاز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما في التقرير الأوّل لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.

و أيضا لو جاز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما قيل في التوجيه الثاني لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده.فإنّ العلّة المذكورة في الوجهين جارية فيه إلاّ أنّه تسامح في قوله:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة-إلى قوله-و لو جوّزنا»و كان حقّ العبارة أن يقول:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها.

و قوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-،معناه أنّه لو جوّز كون الشيء ممكنا وجوده الابتدائي، ممتنعا وجوده الثاني بناء على اختلاف الوجودين،لجاز مثل ذلك في الحادث،بأن يكون ممتنعا وجوده في زمان عدمه،واجبا وجوده في زمان وجوده،لاختلاف الوجودين، و الحاصل أنّ الاختلاف سواء اعتبر في الموضوع أو في المحمول و حكم باختلافهما في الإمكان و الامتناع،يجري في الحادث إلاّ أنّ ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير.و الذي يحسم مادّة الشبهة أن يقال:لا يمكن كون الحادث مقتضيا وجوده في زمان و عدمه في زمان آخر لا بأن يعتبر الاختلاف في جانب الموضوع و لا بأن يعتبر في جانب المحمول.

أمّا الأوّل فلأنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان محتاج في ذاته إلى غيره،

ص:318

فلا يكون واجب الوجود.

و أمّا الثاني فلأنّه لو كان مقتضيا بذاته للوجود في وقت معيّن،لم ينفكّ عنه،فكان موجودا في ذلك الوقت دائما؛هذا خلف.

قوله:«و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعها في هذا الامتناع»ممنوع،بل هو أوّل المسألة،و كيف يسمع دعوى الضرورة في مثل هذا المقام مع مخالفة الجماهير من الأعلام.و أنت خبير بأنّه يمكن إجراء نظير ما ذكره في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة،بأن يقال:اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافه بالوجود المقيّد بالدوام لكان الامتناع ناشئا من هذا القيد،لكنّه ليس منشأ الامتناع،و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام.

قوله:«إن أفادها زيادة استعداد-إلى قوله-:و إن لم يفدها زيادة استعداد»من البيّن أنّ الشيء إذا حصل بالفعل برئ المادّة من جميع مراتب استعداده و ما ليس في المادّة استعداده أصلا لا يمكن حدوثه،فكيف يصير قابليّته للوجود ثانيا أقرب،و كيف علم بالضرورة أنّه لا ينقص أصلا عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات.

على أنّ كون ما هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات باطل،كما حقّقه الشارح آنفا،ثم كيف علم بالضرورة أن لا أثر لاجتماع الوصفين في هذا الامتناع.

قوله:«وجه آخر إقناعي»الأصل هنا إن كان بمعنى الكثير الراجح فيكون أكثر ما لم يقم دليل على استحالته و وجوبه ممكنا غير ظاهر،و إن كان بمعنى ما لا يصار إليه إلاّ بدليل فهو باطل.لأنّ الوجوب و الإمكان و الامتناع ليس شيء منها أصلا بهذا المعنى،بل كلّ منها يقتضي ماهيّة موضوعه،فما لم يقم دليل على أنّ الشيء من أيّ قسم،لم يعلم حاله.

و ما قال الحكماء معناه أنّ ما لا دليل على وجوبه و لا على امتناعه،لا ينبغي أن ينكر،بل يترك في بقعة الإمكان العقلي الذي مرجعه الاحتمال،لا أنّه يعتقد إمكانه...على هذا تقييده بما لم يذدك عنه قائم البرهان.و كيف يتوهّم ذلك،و قد كرّر الشيخ في كتبه أن من تعوّد أن يصدّق من غير دليل فقد انسلخ من الفطرة الإنسانيّة.

وجه آخر،في امتناع إعادة المعدوم و هو أن إعادته بعينه تستلزم إعادة جميع أسبابه من الحوادث المتسلسلة من غير بداية و هو باطل.

ص:319

و يمكن أن يمنع لزوم إعادة جميع الأسباب لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط، أو بها منضمّة إلى تلك الأسباب السابقة المتسلسلة.-انتهى كلامه.

و قال م ن الشيرازي في الحاشية على الحاشية بهذه العبارة:

قوله:«هذا ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف».

وجه تطبيق عبارة المتن عليه أنّ معنى كلام المصنّف أن حكمنا بامتناع عود المعدوم من جهة أنّه يمتنع وجوده ثانيا.و الحاصل أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم إنّما هو لخصوصيّة المحمول الذي هو لازم الماهيّة من حيث هي الناشئة منها،لما تقرّر أن لوازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما في تقرير هذا السند.

و لمّا كان اللازم في هذا التوجيه بالمعنى المشهور،لا بالمعنى الذي بيّنه فيما تقدّم،قدّم تلك الحاشية على ما بعدها على ما في أكثر النسخ مع تأخّرها عنه رتبة،حتّى لا يتوهّم أنّ بناء هذا التوجيه أيضا على أن يحمل اللازم على هذا المعنى الغير المتعارف،و للإشارة إلى أنّ حمل اللازم على هذا المعنى الغير المتعارف تكلّف قال:من غير تكلّف.

قوله:أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها.الظاهر من عبارة الشارح أنّه جعل الملزوم هو الماهيّة بشرط وصف الطريان.و من المعلوم أنّ الطريان ممتنع الانفكاك عن الماهيّة المأخوذة بشرط وصف الطريان مطلقا و لا حاجة إلى جعل اللزوم بالمعنى الغير المشهور.

نعم يرد عليه حينئذ أنّ مجرّد كون وصف الطريان ممتنع الانفكاك عن الماهيّة بشرط الوصف لا يكفى في امتناع إعادة المعدوم،فالسند لا يستلزم المنع،و لا يصلح للسنديّة.

و لعلّه رحمه اللّه للتخلّص عن هذا الإيراد لم يحمل كلامه على أن يكون الملزوم هو الماهيّة بشرط الوصف بل جعل الملزوم هو الماهيّة لا بشرط،و جعل الطريان لازما لها بعد حدوثها، و قوله:الموصوفة حمله على أنّه بيان لوقت اللزوم و امتناع الانفكاك،لا أنّه قيد للملزوم.

قول الشارح:«أقول:مدفوع بأنّ قوله لا بدلا فقط»،الأظهر في الجواب أن يقال:أزليّة الإمكان تقتضي أن يكون الوجود المطلق جائزا للممكن في جميع أوقات الأزل على أن يكون الأوقات ظرفا للجواز و الإمكان،و ذلك لا يستلزم كون الوجود في جميع تلك الأوقات ممكنا،على أن يكون الأوقات ظرفا للوجود.

و قوله:«وقف الشارح»اعلم أنّ صاحب المواقف أبطل السند المذكور في الشرح ثانيا

ص:320

بوجهين:

أحدهما من قوله:«الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا».

و الثاني من قوله:«و لو جوّزنا-إلى آخر ما قال».و لمّا كان إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع نبّه رحمه اللّه على أنّ ما ذكره من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني بطل به الوجه الأوّل من السند،إلاّ أنّ عبارته أشبه بإبطال الثاني.

و الأظهر أن يقول ما ذكره لإبطال السند الثاني يمكن إجراؤه في إبطال الأوّل،لأنّ ما ذكره صريح في إبطال الثاني،و لم يتعرّض رحمه اللّه لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في إبطال السند الأوّل.و لا يخفى عليك جريانه بأن يقال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد.

ثمّ لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها في التحقيق الذي مهّده،تتوجّه على قوله:لجاز الانقلاب الذاتي،بناء على أنّ هذا ليس انقلابا ذاتيّا أصلا،طوي في توجيه كلامه لدفعها حديث الانقلاب الذاتي و اكتفى بلزوم غناء الحوادث عن المحدث.

و حينئذ يندفع ما أورده الشارح بقوله:«فقول هذا القائل و لو جوّزنا-إلى قوله-و لا يلزمه أيضا»لأنّ المراد من كون شيء واحد ممكنا في زمان ممتنعا في زمان آخر ليس باعتبار الوجود المطلق في كليهما،بل إمّا باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما أو باعتبار الوجود المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني،و حينئذ يظهر أنّ المانع جوّز هذا.

فإن قيل في توجيه الانقلاب الذاتي أنّ صاحب المواقف،تسامح فأطلق الانقلاب الذاتي على مثل هذه الصورة تجوّزا.

قلت:في كونه خلاف البديهة حينئذ نظر و تأمّل،فلأجل ذلك لم يتوجّه رحمه اللّه لتوجيهه، بل رأى إسقاطه أولى.

و قوله:«إلاّ أنّه تسامح-إلى آخره-»دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند بتغيير العبارة.و لا يخفى أنّه حينئذ ينبغي تطبيق التعليل على الدعوى إمّا بتغيير الدعوى أو تعميم الدليل عند قوله:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة»لأنّ هذا الدليل بظاهره لا ينطبق إلاّ على الوجوب الذاتي،و لا يتناول الإمكان و الامتناع كما يظهر بأدنى تأمّل.

ص:321

و يمكن أن يقال الوجوب و الإمكان و الامتناع إذا اخذت صفة للوجود و كانت من مقتضيات الوجود فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة الوجود،ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر.

قوله:فلا يكون واجب الوجود أي بالذات لاحتياجه إلى اقتران الزمان مثلا.لا يقال:

يلزم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود،و هذا كاف في لزوم المحذور،لأنّ الذات مع هذا الوصف إنّما هي علّة لنفس الوجوب،و أمّا أصل الوجود فلا بدّ من استناده إلى علّة موجودة،لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود و ذلك كما أنّ العدم الطارئ مستند إلى عدم علّته.نعم وجوبه الذي في قوّة امتناع وجوده ثانيا مستند إلى الذات مع القيد،فتأمّل.

قوله:«بل هو أوّل المسألة»اقتفى أثر الشارح في جعل القيدين قيدا للوجود،و الظاهر أنّ القيد الثاني قيد للأوّل،إذ هو صريح الإعادة و يلائم العبارة الثانية.و بما قرّرنا ظهر اندفاع ما ذكره الشارح من لزوم كون الممكن غير متّصف بالبقاء،فتأمّل.

قوله:«و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام»أي الدوام المطلق المتناول لدوام الوجود و دوام العدم المتحقّق في ضمن دوام العدم،و هذا على مذهب من لم يقل بالصفات الموجودة الزائدة على ذاته تعالى.و أمّا من قال بها فالممكن المتّصف بالدوام أي دوام الوجود متحقّق لا محالة.

قوله:«فكيف يصير قابليّة الوجود ثانيا أقرب».

لا يقال:إنّما برئ المادّة من جميع مراتب استعدادات الوجود الأوّل دون الثاني.لأنّا نقول:الكلام في العبارة الاولى و التقييد و التخصيص إنّما يعتبر هاهنا في جانب الموضوع، و ترك المحمول الذي هو الوجود على صرافة الإطلاق.

قوله:«كما حقّقه الشارح آنفا»،هذا بناء على جعله في جميع الأوقات ظرفا للوجود، كما هو الظاهر حتّى ينفع الشارح،و إن جعل ظرفا للقابليّة فلا ينفع الشارح،إذ القابليّة في جميع الأوقات إنّما هو للوجود في الجملة.

قوله:«لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط»،هذا السند ليس بشيء لما تقرّر عندهم أنّ العلّة التامّة للحادث،لا بدّ أن تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة،و إلاّ يلزم التخلّف عن العلّة التامّة؛هذا خلف.-انتهى كلامه.

ص:322

في تحرير كلام المحقّق الطوسي

و أقول و باللّه التوفيق:لا يخفى عليك بعد إمعان النظر أنّ مفاد كلام المحقّق الطوسي حيث قال:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»، (1)أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم يمكن أن يكون لأجل أمر لازم للماهيّة أي لأجل طريان العدم عليه أي على وجوده الابتدائي.و بعبارة اخرى لأجل كون وجوده الابتدائي متخلّلا بين عدمين،عدم سابق و عدم طار لاحق،و بعبارة اخرى لأجل كون عوده أي وجوده ثانيا بالفرض بعد عدم طار،و بالجملة لأجل طريان العدم الذي هو لازم للماهيّة أي لا يمكن أن ينفكّ عن الماهيّة و يتخلّف عنها حتّى يجوز بسبب انفكاكه عنها العود أي وجوده ثانيا كالوجود ابتداءً فلا يلزم من امتناع وجوده ثانيا بسبب تحقّق هذا الأمر اللازم فيه المانع منه امتناع وجوده الابتدائي كما ادّعاه المستدلّ لعدم تحقّق هذا اللازم فيه.و أشار بذلك إلى أنّه حيث كان الحكم بامتناع العود لأجل ذلك الأمر اللازم،يكون المحكوم به نفسه أي امتناع العود أيضا لأجله و حيث كان ذلك الأمر لازما للماهيّة من حيث هي و الحال أنّ لازم الماهيّة يكون مستندا إلى ذات الماهيّة الملزومة فيكون العود ممتنعا بالذات كما هو المقصود إلاّ أنّه بقي بعد تفسير الملزوم و بيان اللزوم هنا،و هذا يمكن على أحد وجهين مآلهما واحد في الحقيقة.

أحدهما و هو الذي أشار إليه الشارح في التقرير الأوّل للسند المذكور،و ينبغي حمل كلامه عليه لا على ما يوهمه ظاهره أن يراد بالماهيّة الملزومة ماهيّة المعدوم،و يقال إنّ طريان العدم لازم لماهيّة المعدوم،لا لماهيّة مطلق المعدوم حتّى المعدوم الذي لم يوجد

ص:323


1- -شرح التجويد:75.

أصلا بل لماهيّة هذا المعدوم المفروض الذي فرض وجوده و فرض طريان العدم على وجوده،و طرأ عليه في الواقع فإنّه لا خفاء في أنّ الماهيّة الكذائيّة ماهيّة لزمها طريان العدم، إذ هو لو لم يكن لازما لها،لجاز انفكاكه عنها و لو جاز انفكاكه عنها،لم تكن الماهيّة تلك الماهيّة المأخوذة المفروضة التي طرأ عليها العدم البتّة في الواقع،بل تكون غيرها لا بحسب الفرض فقط،بل بحسب الواقع و نفس الأمر أيضا؛هذا خلف.

ثمّ إنّ طريان العدم و إن كان مأخوذا مع تلك الماهيّة على أنّه وصف لازم لها لكنّا لم نأخذه على أنّه قيد لها حتّى يصير الملزوم هو الماهيّة بشرط وصف الطريان،و يكون المعنى أنّ طريان العدم ممتنع الانفكاك عن تلك الماهيّة المأخوذة بشرط هذا الوصف،أي بشرط أخذه على أنّه ممتنع الانفكاك عنها،فإنّه على هذا يكون اللزوم ضروريّا غير قابل للنزاع.

و أيضا لا يكون اللازم لازما للماهيّة من حيث هي،كما هو معنى ظاهر اللفظ،بل لازما للماهيّة المأخوذة مع القيد،و لا سيّما أنّ القيد هو نفس اللازم،و مع ذلك فالسند على هذا لا يستلزم المنع،و لا يصلح للسنديّة،لأنّه حينئذ يكون معنى كلام المانع أنّ الحكم بامتناع العود يمكن أن يكون لأجل طريان العدم الذي هو لازم لماهيّة المعدوم التي اعتبر لزومه لها و اخذ هو معها.

و يرد عليه أنّ هذا إنّما يستلزم المنع على هذا التقدير لا مطلقا كما هو المقصود.

نعم لو كان لازما لها مطلقا،لكان يستلزم المنع مطلقا و إذ ليس فليس.

و بعبارة اخرى أنّ هذا اللزوم إنّما لزم من أخذك الماهيّة كذلك،فإنّك لو أخذتها مطلقة غير معتبر كونها بشرط هذا اللازم لربما كان غير لازم لها،فلا يلزم أن يكون الحكم بامتناع العود لأجل طريان العدم مطلقا كما هو المقصود،بل إنّما يكون ذلك على هذا التقدير خاصّة.

فإن قلت:إنّا إنّما أخذنا الماهيّة كذلك،لكونها في الواقع كذلك و كون اللازم،لازما لها في الواقع كما مرّ بيانه.

قلنا:فحينئذ فأيّ (1)فائدة في أخذها كذلك،و اعتبار لزوم اللازم له على تقدير هذا

ص:324


1- -فأيّة(خ ل).

الأخذ،مع أنّه يمكنك أخذها مطلقة و ادّعاء لزوم اللازم لها مطلقا،فتدبّر.بل إنّما أخذنا هذا الوصف أي وصف طريان العدم على أنّه بيان وقت اللزوم حتّى يصير الملزوم هو الماهيّة من حيث هي،لكن لا مطلقا بل الماهيّة الحادثة المفروضة التي طرأ عليها العدم.

و يكون معنى لزومه لها أنّه لازم لها حين حدوثها و حين كونها متّصفة به،إذ لا سترة في أنّها بعد حدوثها قد طرأ عليها العدم و امتنع انفكاكه عنها،إذ لو فرض انفكاكه عنها لم يكن تلك الماهيّة تلك الماهيّة لا بحسب الفرض و لا بحسب الواقع،و حيث كان ممتنع الانفكاك عنها مطلقا مع كونه وصفا عارضا لها خارجا عن ماهيّتها كان لازما لها مطلقا من غير اعتبار كونه مع الشرط كما على الأوّل،و إن كان اللزوم بعد حدوثها،و بذلك كان السند مستلزما للمنع و صالحا للسنديّة مطلقا.

و إلى ما ذكرنا مفصّلا أشار المحقّق الدواني مجملا بقوله في تفسير قول الشارح لازما لها:أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها،لا مطلقا،و أراد بقوله:«بعد حدوثها»ما ذكرنا و بقوله:«لا مطلقا»أي لا مطلقا و إن كان قبل حدوثها،فإنّه قبل ذلك لم يطرأ عليها العدم أو أنّ امتناع انفكاكه عنها إنّما هو بالقياس إلى تلك الماهيّة المعدومة التي فرضت لا بالقياس إلى كلّ ماهيّة معدومة حتّى الماهيّة التي لم توجد أصلا.

و كذلك أشار به إلى توجيه قول الشارح في التقرير الأوّل للسند في بيان معنى اللزوم و تفسيره و أنّه يمكن أن يحمل على هذا الاحتمال الصحيح دون الاحتمال الأوّل الذي يوهمه ظاهر كلامه على ما بيّن المحشّي الشيرازي كلّ ذلك،إلاّ أنّه ادّعى أنّ تفسير الملزوم و بيان اللزوم بالوجه الذي ذكره المحقّق الدواني هنا يجعل اللزوم بالمعنى الغير المشهور،و كأنّ وجهه أنّ للقوم في تفسير لازم الماهيّة عبارتين:

إحداهما أنّه ما يلزم الماهيّة في كلا وجوديه أي الذهني و الخارجي جميعا.

و الثانية أنّه ما يلزم الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن كلّ ما سواها.

و لا يخفى أنّ التفسير الأوّل و إن لم يمكن إجراؤه في المعدوم الخارجي،لعدم وجود خارجي له،لكن التفسير الثاني يمكن إجراؤه فيه،فإنّ للمعدوم أيضا يمكن فرض ماهيّة من حيث هي،و إذا اجري فيه فينبغي أن يكون معناه حينئذ كما هو المشهور أنّه لازم للماهيّة من حيث هي،مع قطع النظر عن كلّ ما سواها،و غير مختصّ لزومه إيّاها بوقت دون

ص:325

وقت و حال دون اخرى،و إذا اعتبر اللزوم بالقياس إلى حالة خاصّة و وقت مخصوص كما فيما نحن فيه حيث اعتبر طريان العدم لازما لماهيّة المعدوم بعد حدوثها كما فعله المحقّق الدواني،فيكون اللزوم بوجه غير مشهور مخالف له إلاّ أنّه ربما يمكن أن يدفع هذا.

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني

بأنّ لكلّ ماهيّة حكما و حالا،فإن كانت الماهيّة بحيث يكون وجودها أو فرضها غير مختصّ بحال دون اخرى كماهيّة الأربعة الملزومة للزوجيّة مثلا فينبغي أن يعتبر لزومها لها لزومها لماهيّتها (1)من حيث هي،غير مختصّ بحالة دون اخرى إذ المفروض أنّ تلك الماهيّة من حيث هي كذلك في الواقع و أنّ ذلك اللازم لازم لها من حيث هي.

و أمّا لو كانت الماهيّة بحسب وجودها أو فرضها مختصّة بوقت خاصّ أو حالة مخصوصة كماهيّة المعدوم المفروض فيكون لازمها أيضا كذلك،و يكون لزومه لها أيضا في تلك الحالة و إن كان ذلك اللازم لازما لها من حيث هي،إذ المفروض أن ليس لتلك الماهيّة في غير تلك الحالة و في غير ذلك الوقت تحقّق و لا اعتبار تحقّق أصلا.فجعل طريان العدم لازما لماهيّة المعدوم المفروض من حيث هي بعد حدوثها كما فعله المحقّق الدواني لا مخالفة فيه للمشهور بوجه،فتأمّل.

الوجه الثاني لتفسير الملزوم و بيان اللزوم هو الوجه الذي أشار إليه الشارح في التقرير الثاني للسند.و ادّعى المحقّق الدواني أنّه ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف،إلاّ أنّه لم يبيّن وجه تطبيق العبارة عليه.و بيّنه المحشيّ الشيرازي بقوله:وجه تطبيق العبارة عليه،أنّ معنى كلام المصنف أن حكمنا بامتناع عود المعدوم من جهة أنّه يمتنع وجوده ثانيا.

و الحاصل أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم،إنّما هو لخصوصيّة المحمول الذي هو لازم الماهيّة من حيث هي،الناشئة منها،لما تقرّر أن لوازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما في تقرير هذا السند،إلى آخر ما ذكره في تلك الحاشية.

و كأنّ غرضه أنّ معنى كلامه أن حكمنا على المعدوم بامتناع العود من جهة خصوصيّة هذا المحمول المحكوم به،أي من جهة العود الذي هو لازم لماهيّة المعدوم من حيث هي،

ص:326


1- -لزومه لها لزومه لماهيّتها(خ ل).

و اقتضاء ماهيّة المعدوم ثبوت هذا اللازم له،و كون لازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما هو المقرّر عندهم،و أشار إليه الشارح في تقرير هذا السند بقوله:إنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و قوله:فيجوز أن يمتنع وجوده بعد عدمه لذاته.

و بالجملة يجوز أن يكون حكمنا بامتناع العود لخصوصيّة هذا المحكوم به اللازم له الناشئ منه كما أنّ امتناع العود نفسه يجوز أن يكون لخصوصيّة في العود،و هي كونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم.

و الحاصل أنّ الحكم بامتناع المعدوم يجوز أن يكون لأجل امتناع العود الذي هو لازم لماهيّة المعدوم من حيث هي ناش منها،كما أنّ امتناع العود نفسه يجوز أن يكون لأجل ما يعتبر في العود من كونه وجودا بعد عدم طار.

و هذه الضميمة،و إن لم يذكرها المحشّي الشيرازي صريحا و لا هي مدلول كلامه،لكن لا يخفى أنّها مما لا بدّ منه في تطبيق عبارة المتن على ما ذكره الشارح في تقرير هذا السند و كذا في تصحيحها.

أمّا في التطبيق فلأنّ الشارح قد ذكرها أيضا بقوله:و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ-إلى آخره.

و أمّا في التصحيح فلأنّه على تقدير عدم ذكر تلك الضميمة لو سلّمنا أن تعليل الحكم بامتناع العود بامتناع العود كما هو ظاهر كلام المتن على هذا الوجه لا يكون من قبيل تعليل الشيء بنفسه بناء على أنّه في مقام ظهور المقصود،يمكن أن يذكر مثل تلك العبارة،بأن يقال مثلا إنّ الحكم بزوجيّة الأربعة لأجل زوجيّة الأربعة،فلا يخفى أنّه على هذا التقدير لا يتبيّن وجه الفرق بين الوجود المبتدأ و الوجود المعاد الذي كان المستدلّ في مقام نفيه،و المانع في مقام إبدائه،فلم يكن كلام المانع في مقابلة استدلال المستدلّ، بخلاف ما لو ضمّت تلك الضميمة،فإنّه على هذا يكون وجه الفرق ظاهرا.

و بالجملة فعلى هذا التوجيه الذي ذكره المحشّي يكون الملزوم ماهيّة المعدوم من حيث هي و اللازم لها امتناع العود،و هو و إن كان مبنيّا على حمل اللازم على المعنى المتعارف من غير تكلّف فيه،لكنّه لا يخفى أنّ فيه تكلّفا ما في توجيه العبارة،بل ربما يجعل لفظ الأمر في قول المصنّف غير ملائم،بل مستدركا لأنّ المتبادر من قوله:«و الحكم

ص:327

بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»،أن ذلك الأمر غير ذلك المحكوم به،لا نفسه،كما يلزم على هذا التقدير،و لو اريد بالأمر طريان العدم فهو و إن كان غير ذلك المحكوم به لكنّه ممّا لم يفرض لازما لماهيّة المعدوم على هذا التقدير،بل هو على تقدير مدخليّة فرضه في إتمام المدّعى كما ذكرنا قد فرض أمرا معتبرا في مفهوم العود،فتدبّر.

و حيث أحطت خبرا بما فصّلناه عرفت أنّ مآل الوجهين المذكورين في الحقيقة إلى أمر واحد،و هو أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم،بل امتناع عوده،يجوز أن يكون لأجل طريان العدم،سواء اعتبر وصف الطريان في جانب الموضوع أو في جانب المحمول.و أنّ هذا السند في الحقيقة سند واحد مساو للمنع،إذ بإثباته يثبت المنع،و بإبطاله يبطل، كما لا يخفى.

كلام مع الشارح القوشجي و المحشّين

فما تضمّنه كلام الشارح،بل يظهر من كلام المحشّين أيضا أنّ كلاّ من التقريرين المذكورين في سند المنع،سند أخصّ من المنع،فهو إن كان المراد به الأخصّية في الواقع و في الحقيقة،فليس ذلك بمسلّم،إذ باعتبار وصف الطريان في جانب الموضوع كما في التقرير الأوّل أو في جانب المحمول كما في التقرير الثاني لا يتفاوت الحال و لا يتغاير السندان في الواقع،حتّى يكون كلّ واحد منهما بخصوصه أخصّ من المنع،و إن كان المراد به الأخصّية بحسب التقرير و التعبير فهو مسلّم لكن لا ينافي ما ذكرنا.

و إذا تحقّقت ما ذكرنا،فنقول:

في الإشارة إلى توجيه كلام القائل الأوّل

بحيث يندفع عنه إيراد الشارح القوشجي

لعلّ مبنى كلام القائل الأوّل الذي نقل عنه الشارح بقوله:«قيل لا نسلّم أنّ الماهيّة الموصوفة بهذا الوصف ممتنعة الوجود-إلى آخره-»على أنّه بصدد إبطال سند المنع، لا بصدد منع السند،و إن كان قوله«لا نسلّم»موهما له،حيث إنّ منع السند لا يفيد،و كذا على أنّه إبطال له بحيث لا يكون قياسا فقهيّا كما زعمه الشارح،بل يكون مقتضى الدليل،

ص:328

و بيانه أنّ امتناع عود المعدوم إذا كان لأجل طريان العدم على ماهيّة المعدوم كما ذكره الشارح في التقرير الأوّل،فلا يخفى أنّ معناه:أنّه لأجل طريان العدم على وجود ما فرض موجودا ثمّ معدوما.و لا يخفى أيضا أن ليس وجه كون طريان العدم على الوجود الابتدائي منشأ لامتناع الوجود ثانيا،إلاّ أنّ طريان أحد النقيضين على النقيض الآخر يمكن أن يكون منشأ لذلك،يعني أنّ طريان النقيض الطارئ يجوز أن يكون سببا لامتناع النقيض الآخر المطروء عليه،و إذا كان كذلك فحيث يجوز أن يكون طريان العدم على الوجود سببا لامتناع الوجود ثانيا و كونه ممتنعا،أي لذاته،كما هو المقصود كذلك يجوز أن يكون طريان الوجود على العدم سببا لامتناع العدم ثانيا لذاته،إذ لا فرق بين الصورتين في أنّ في كلّ منهما طريان أحد النقيضين على النقيض الآخر.

و لا وجه أيضا لأن يكون طريان أحد ذينك النقيضين بخصوصه منشأ لذلك دون النقيض الآخر.و حينئذ فيجوز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم ممتنعة العدم ثانيا و واجبة الوجود لذاتها،كما جاز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم،و هذا باطل بالضرورة.

و حيث كان كذلك فكما لا تكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم واجبة الوجود و ممتنعة العدم،بل جائزة العدم،كذلك لا تكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود واجبة العدم و ممتنعة الوجود،بل جائزة الوجود و فيه المقصود.

و من ذلك يظهر أنّ ما أورده الشارح على كلام هذا القائل ليس بوارد،و أن تغيير السند و اعتبار وصف الطريان في جانب المحمول كما فعله لا ينفعه أصلا،إذ قد عرفت أنّ السند في الحقيقة أمر واحد مساو للمنع لا يتغيّر في الحقيقة بتغيير العبارة.

و حيث بطل السند مع اعتبار وصف الطريان في جانب الموضوع،بطل أيضا مع اعتباره في جانب المحمول،فبطل بالكلّية،و بطلانه حيث كان مساويا للمنع،بطل المنع أيضا رأسا.

على أنّه على تقدير تسليم كون كلّ من السندين أخصّ من المنع أيضا كما زعمه،نقول إنّ كلام هذا القائل و إن كان بحسب الظاهر ناظرا إلى التقرير الأوّل للسند،حيث قرّر كلام المصنّف هكذا،لكنّه عند التأمّل يمكن أن يورد على التقرير الثاني للسند أيضا بعينه،فإنّ

ص:329

لذلك القائل أن يقول حينئذ،إنّ ماهيّة الموجود من حيث هي يجوز أن يقتضي امتناع العدم ثانيا اي امتناع عود العدم،فإنّ العدم ثانيا لكونه عدما حاصلا بعد طريان الوجود السابق أخصّ من مطلق العدم،و لا يلزم من إمكان الأعمّ إمكان الأخصّ و لا من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ فيجوز أن يمتنع عدمه بعد وجوده لذاته و لا يمتنع عدمه مطلقا.

فإن قلت:إنّ فرض الأخصّ و الأعمّ في الوجود غير ممتنع،و أمّا فرضهما في العدم فممتنع،إذ لا تمايز في الأعدام و لا خصوص و لا عموم فيها.

قلت:لا امتناع في ذلك فإنّه كما أنّ الوجود يمكن أن يكون عاما كالوجود المطلق الانتزاعي،و خاصّا كالوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود الانتزاعي،أو كحصّة الوجود الانتزاعي الخاصّة المنتزعة من الوجود الخاصّ،أو الخاصّة باعتبار التقييد بقيد سلبي أو إضافي،كذلك العدم و إن لم يكن فيه تمايز و لا خصوص و لا عموم بحسب ذاته من حيث هي،يمكن أن يفرض فيه العموم و الخصوص بإضافته إلى الوجود العامّ أو الخاصّ و ذلك بيّن و مبيّن أيضا في موضعه.

على أنّا نقول:إنّ الوجود الأخصّ الذي فرضه الشارح و ادّعى امتناعه في هذا التقرير للسند لا معنى له إلاّ الوجود ثانيا بعد العدم،و كذا الوجود الأعمّ أو المطلق الذي فرضه فيه و فرض إمكانه،لا معنى له إلاّ الوجود الخاصّ السابق على هذا العدم اللاحق المسبوق بالعدم السابق،و أطلق الشارح عليه الوجود العامّ و الوجود المطلق بمعنى الوجود في الجملة.إذ لا وجود هنا عامّا أو مطلقا بأيّ معنى اخذ غيره.

و الحاصل أنّ المراد من ذلك هو الوجود المغاير و حينئذ فيمكن لنا أن نقول:إنّ العدم الخاصّ الذي فرضنا نحن خصوصه و امتناعه،هو العدم اللاحق المسبوق بالوجود السابق، و أنّ العدم المطلق أو الأعمّ الذي نحن فرضناه و فرضنا إمكانه هو العدم السابق على الوجود السابق المغاير للعدم اللاحق سواء بسواء.

و حيث عرفت ذلك عرفت أنّ إيراد هذا القائل يرد على هذا التقرير للسند أيضا،على تقدير كون كلّ من السندين سند آخر أخصّ من المنع أيضا كما زعمه الشارح،و أنّه به يبطل هذا السند الأخير،و به يبطل المنع بالكلّية،إذ مجموع السندين مساو للمنع إذ لا سند هنا غيرهما يستلزم المنع.و بإبطال السند المساوي سواء اعتبرته سندا واحدا مساويا له

ص:330

أو سندين كلّ منهما أخصّ،و مجموعها مساو له يبطل المنع.و هذا الذي ذكرنا هو توجيه كلام هذا القائل،و به يتمّ إيراده على ما يفهم ظاهرا من كلام المصنّف،و يظهر أنّه لا يندفع عنه بما أورده الشارح عليه،فتبصّر.

إلاّ أنّ إيراده ليس ممّا لا يمكن دفعه عن المصنّف،بل يمكن ذلك،لكن بوجه آخر غير ما ذكره الشارح.

و بيانه يستدعي تمهيد مقدّمة و هي أن يقال:من المستبين ممّا تبيّن في محلّه و كذا ممّا ذكره الشارح في التمهيد الذي حقّقه أن الوجود لو اريد به الوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العامّ الانتزاعي،فكلّ وجود خاصّ بهذا المعنى حقيقة خاصّة مغايرة للوجود الآخر الخاصّ،مخالف له بحسب الحقيقة و مع ذلك فيمكن أن يكون بعضها مخالفا أيضا لبعض آخر بحسب التقييد بقيود سلبيّة أو إضافيّة،هي تكون منشأ لإمكان بعضها و لامتناع آخر،و أنّه لو اريد به الوجود العامّ الانتزاعي،فهو و إن كان معنى واحدا عامّا مشتركا بين الموجودات اشتراكا معنويّا إلاّ أنّ حصصه أيضا متخالفة و متغايرة بحسب إضافتها إلى الوجودات الخاصّة،و كذا بحسب التقييد بقيود سلبيّة أو إضافيّة.

و بذلك يمكن أن يحصل الاختلاف بينها في الحكم إمكانا و امتناعا و وجوبا.و كذلك العدم و إن كان مفهوما واحدا،لا تمايز بين الأعدام بحسب مفهوماتها،إلاّ أنّه قد يمكن التمايز بينها بحسب إضافتها إلى الوجودات الخاصّة المتمايزة،أو إلى حصص الوجود العامّ المتمايزة،و كذا بحسب التقييد سلبيّة أو إضافيّة و بذلك يحصل التغاير و التخالف بين الأعدام و يمكن الاختلاف بينها في الحكم امتناعا و إمكانا و وجوبا.

و إذا تمهّد هذا فنقول:إنّ للمصنّف أن يقول حينئذ إنّا لا نسلّم ما ادّعاه هذا القائل من أنّه لو كان امتناع عود المعدوم أي وجوده ثانيا لأجل طريان العدم على وجوده أوّلا،و الحال أنّه ليس إلاّ لأجل طريان النقيض على النقيض،و كون النقيض المطروء عليه ممتنعا،يلزم أن يكون عود العدم بعد ما طرأ عليه الوجود ممتنعا أيضا لأجل ذلك.لكنّا نقول:إنّ معنى ذلك امتناع عود ذلك العدم الخاصّ المطروء عليه أي العدم السابق على الوجود،كما أنّ المراد في الأوّل،امتناع عود ذلك الوجود الخاصّ المطروء عليه بعينه،ضرورة أنّه لو فرض الوجود بعد العدم الطارئ،كان هو وجودا خاصّا آخر غير الأوّل مقيّد بكونه

ص:331

مسبوقا بالعدم السابق فقط.و الثاني مقيّد بكونه مسبوقا بالعدم الطارئ،و إن كان مسبوقا بالعدم السابق أيضا بالواسطة.

و كذلك لو فرض عدم بعد الوجود الطارئ على العدم،كان العدم الثاني عدما خاصّا غير الأوّل لكون الأوّل مقيّدا بكونه عدما سابقا على الوجود مطلقا و الثاني مقيّدا بكونه عدما لاحقا،طارئا على الوجود و أحدهما غير الآخر.

و حينئذ نقول:سلّمنا امتناع ذلك العدم الخاصّ،لكنّه لا يلزم منه عدم جواز انعدام الماهيّة أو انعدام وجودها بعدم خاصّ آخر غير الأوّل،حتّى يلزم أن يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم ممتنعة العدم مطلقا و واجبة الوجود لذاتها،بل يجوز انعدامها ثانيا بعدم آخر،حيث لا مانع منه عند العقل.

و أمّا ما قلناه من أنّه يجوز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم،فهو لأجل أنّ الماهيّة لو فرض وجودها ثانيا فهو إمّا بالوجود الخاصّ الأوّل فذلك ممتنع،لامتناع عوده بعينه كما تبيّن،و إمّا بوجود خاصّ غير الأوّل فذلك أيضا ممتنع لما تقرّر في موضعه من أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الماهيّة و الذات على ما بيّنا وجهه فيما تقدّم،فلا يكون ما فرض معادا بعينه بل يكون الموجود الثاني غير الموجود الأوّل؛هذا خلف.و هذا بخلاف العدم،فإنّ اختلاف العدم لا يستلزم اختلاف الذات،فتدبّر.و بما حقّقناه تنحسم مادّة الشبهة و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

في تحرير ما ذكره صاحب المواقف

و أمّا صاحب المواقف على ما نقل الشارح كلامه،فظاهره أنّه بصدد إبطال سند المنع على التقرير الثاني له،و أنّ مبنى كلامه على أنّه فهم من قول المانع بأنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ من الوجود المطلق-إلى آخره.

أنّ غرضه أنّ منشأ امتناع الوجود ثانيا و إمكان الوجود ابتداءً،إنّما هو اختلاف الوجودين بحسب الزمان فقط،بأن كان الوجود الأخصّ في زمان و هو زمان طريان العدم و الوجود الأعمّ أو المطلق في زمان آخر قبل طريان العدم،أو ادّعى أنّ الوجودين و إن قيّدا

ص:332

بقيد غير الزمان أيضا كقيد طريان العدم في الوجود ثانيا و قيد عدم طريانه في الوجود ابتداءً لا يكون بينهما اختلاف إلاّ بحسب الزمان فقط،لا بحسب الحقيقة،و لا بحسب غير الزمان.

ثم قال:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته بل بحسب إضافته إلى أمر خارج عن ماهيّته و هو الزمان فقط،فإذن يتلازم الوجودان المبتدأ و المعاد-أي الواقع في زمان الابتداء و الواقع في زمان الإعادة-إمكانا و وجوبا و امتناعا،لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين المبتدأ و المعاد،يجب اشتراكها في هذه الامور أي في الإمكان و الوجوب و الامتناع المستندة إلى ذواتها أي إلى ذوات تلك الأشياء.

فلو كان الوجود المعاد ممتنعا يجب أن يكون الوجود المبتدأ أيضا ممتنعا،و لو كان الوجود المبتدأ ممكنا يجب أن يكون الوجود المعاد أيضا ممكنا مثله،و كذلك لو كان أحدهما واجبا يجب أن يكون الآخر واجبا مثله،فإنّ المفروض استناد هذه الامور إلى ذوات تلك الأشياء،و ما بالذات لا يختلف و لا يتخلّف،فلا يمكن أن يكون الوجود المعاد ممتنعا مع إمكان الوجود المبتدأ.

و كيف يجوز ذلك،و الحال أنّا لو جوّزنا كون الشيء الواحد كالوجود ممكنا في زمان كزمان الابتداء،ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة،معلّلا بالتعليل الذي ذكره المانع في التقرير الثاني للسند،و يرجع حاصله إلى أنّ الوجود في الزمان الثاني أخصّ من الوجود مطلقا و مغاير للوجود في الزمان الأوّل بحسب الإضافة إلى الزمان،فلا يلزم من امتناع الوجود الثاني امتناع ما هو أعمّ منه،أو امتناع ذلك المغاير،و جوّزنا هذا الانقلاب الذي هو من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي،للزم علينا أن نجوّز نظير هذا الانقلاب من الانقلابات الاخر الذاتية كالانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معلّلا بنظير التعليل المذكور أي بأنّ الشيء الوجود في زمان أخصّ من الوجود في زمان آخر أو مغاير له،فجاز أن يكون ذلك الأخصّ ممتنعا و المطلق أو المغاير واجبا،فأنّ المفروض أن لا اختلاف بينهما إلاّ بحسب الزمان،مع وحدتهما بحسب الحقيقة.

و في تجويز هذا الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي،مخالفة لبديهة

ص:333

العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر.و إغناء للحوادث عن المحدث.و سدّ لباب إثبات الصانع،لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة، فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها.

فحاصل كلامه إبطال سند المنع من وجهين:أوّلها بطريق البرهان،و الثاني بطريق النقض الإجمالى و الإلزام.

و هذا الذي ذكرناه،هو تحرير كلام صاحب المواقف،إلاّ أنّ قوله:«الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته-إلى آخره-».

كأنّ مراده منه الوجود العامّ الانتزاعي الذي قالوا:إنّه أمر واحد بحسب الحقيقة، مشترك معنوى بين الموجودات،و إلاّ فالوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العامّ و حصصه ليس واحدا بحسب الحقيقة،بل مختلف بحسب اختلاف الماهيّات و الذوات.

و أنّ إيراده للفظ المغاير في المواضع الأربعة،سواء كان بلفظ الواو العاطفة أو بلفظ(أو) العاطفة على اختلاف النسختين،كان فيه إشارة إلى أنّ المراد من الوجود الخاصّ أو الاخصّ،و كذا من الوجود المطلق أو الأعمّ،ليس إلاّ الوجود المغاير أي المغاير بحسب الإضافة إلى الزمان،إذ ليس هنا خصوص و لا عموم،و لا إطلاق بحسب معنى من المعاني إلاّ معنى المغايرة.و أنّه ينبغي أن يحمل إطلاق هذه الألفاظ في كلام المانع في تقرير السند الثاني على هذا المعنى أيضا حتّى يكون له وجه كما أشرنا نحن أيضا فيما سبق إليه.

و إلاّ أنّ قوله:«لجواز أن يكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة و واجبة لذواتها حال كونها موجودة،فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها»كأنّ فيه إيماء إلى أنّه حينئذ يلزم تجويز انقلاب آخر غير ذلك أيضا،و هو تجويز أن تكون الحوادث ممكنة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة،فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها، و إنّما لم يدّعه أيضا لعدم كونه في مقام استقصاء جميع الانقلابات الممتنعة،فاكتفى بالأوّل مع كونه في ظهور المفسدة بحيث لا يخفى على أحد.

ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت تحرير كلام صاحب المواقف،لا يخفى عليك أنّ إيراده على السند الثاني حيث أورده بحيث كان مقابلا له في الظاهر لو كان واردا عليه،لربّما أمكن

ص:334

إيراده على السند الأوّل أيضا لكن بتغيير في العبارة،كأن يضمّ إلى ادّعاء وحدة الوجود بحسب الذات ادّعاء وحدة الذات أي ذات المعدوم أيضا أي وحدته في حالتي الابتداء و العود،و يدّعي مع ادّعاء تلازم الوجودين أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا،أنّ تلك الذات الواحدة أيضا يجب أن يكون ما تقتضيه هي بذاتها من جملة تلك الامور واحدا في حالتي الابتداء و العود.

أو أن يقول:إنّ الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا تختلف إعادة و ابتداءً،فلا تختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد كما ذكره المحشّي الشيرازي.و أن يبدّل قوله:

لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها، بقوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها كما ذكره المحقّق الدواني.

أو أن يضمّ القول الثاني إلى القول الأوّل،و يذكرهما جميعا و أن يسقط قيد الخصوص أو الأخصّية في أحد الوجودين،و قيد الإطلاق أو الأعميّة في الآخر،بل يكتفي بقيد المغايرة،و أن يريد بالشيء الواحد في قوله:«لو جوّز كون الشيء الواحد ممكنا في زمان -إلى آخره-»الذات الواحدة كما أنّه ينبغي أن يراد به في الإيراد على السند الثاني الوجود الواحد.

و بالجملة أن يغيّر العبارة على نحو تكون عبارة إبطال السند في مقابلة السند الأوّل، و يكون ورود الإيراد عليه ظاهرا إمّا بما ذكرنا أو بنهج آخر.

و هذا إذا اريد مقابلته للتقرير الأوّل،و أمّا إذا اريد مقابلته للتقريرين جميعا،فينبغي أن يدّعي هناك تعميم و ضمّ بعض العبارات إلى بعض،حيث يكون مقابلا لكلا التقريرين،كما لا يخفى على المتأمّل.

في تحرير ما ذكره الشارح القوشجي في مقام الجواب

عمّا أورده صاحب المواقف

ثمّ إنّ الشارح قد تصدّى للجواب عمّا ذكره صاحب المواقف،فمهّد أوّلا لذلك مقدّمة و تحقيقا،ثمّ ذكر الجواب عنه.

ص:335

و بيان ما ذكره في التمهيد أنّ الوجوب عبارة عن اقتضاء الذات للوجود مطلقا أي غير مقيّد بقيد ينافيه،و الامتناع عن اقتضاء الذات العدم مطلقا أي غير مقيّد أيضا بقيد ينافيه، و الإمكان عن لا اقتضائهما مطلقين أي غير مقيّدين أيضا بقيد ينافيهما.و قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين تلك المفهومات الثلاثة،أي الوجوب الذاتي و الإمكان الذاتي و الامتناع الذاتي،بأن يكون شيء واحد كالوجود أو العدم واجبا في زمان،ثمّ يصير ممكنا أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،أو أن يكون شيء واحد كالذات الواحدة من جملة الذوات واجب الوجود لذاته في زمان ثمّ يصير ممكن الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة.

لكنّ الوجود و كذا العدم قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي يجعل ذلك القيد المقيّد به أمرا آخر مغايرا لما لم يقيّد به.و كذلك الذات بحسب اعتبارها متّصفة بالوجود أو العدم و مقتضية لأحدهما أو غير مقتضية لواحد منهما،قد تقيّد بقيد سلبي أو إضافي و بسبب ذلك القيد يختلف الحال لا اختلافا بحسب الزمان،بل بحسب ذلك القيد،و إن كان القيد و كذا المقيّد به مقارنا للزمان.

و بالجملة لا مدخل للزمان في اختلاف الوجود أو العدم بحسب الإمكان أو الامتناع أو الوجوب،أو في اختلاف الذات في الاتّصاف بالوجود أو العدم بحسب هذه الامور،و إن كان بحسب الإضافة إلى الزمان أيضا يختلف حال الوجود و العدم في الجملة غير الاختلاف في تلك الامور.بل إنّما المدخل في ذلك لذلك القيد نفسه و مدخليّة الزمان فيه إنّما هي لأجل اقتران القيد و المقيّد به معه.

و تفصيل ذلك أنّ الوجود قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي،فلا يقتضي ذات الواجب الوجود لذاته المقيّد بذلك القيد،بل يمنع اتّصافه به،كما إذا قيّدنا الوجود بكونه مسبوقا بالعدم،أو قيّدنا الواجب بكون وجوده مسبوقا بالعدم،فإنّ هذا الوجود يمتنع اتّصاف ذات الواجب لذاته به،لكونه منافيا للوجوب الذاتي فضلا عن اقتضائه له.و بذلك لا يخرج ذات الواجب لذاته عن كونه واجبا بالذات و لا ينقلب وجوبه إلى الامتناع،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه باق بحاله لم يدخله تغيّر و لا تبدّل و لا انقلاب.و كذلك

ص:336

العدم قد يقيّد بكونه مسبوقا بالوجود،أو الممتنع قد يقيّد عدمه بكونه مسبوقا بالوجود، فلا يقتضي ذات الممتنع لذاته هذا العدم المقيّد بهذا القيد.بل لا يمكن اتّصافه به لكونه منافيا للامتناع الذاتي،و لا يلزم من ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي،بناء على أنّ اقتضاءه للعدم مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه باق بحاله.و كذلك إذا قيّد الوجود بكونه ناشئا عن ذات الموصوف به،أو قيّد الممكن بكون وجوده ناشئا عن ذاته، لم يمكن اتّصاف ذات الممكن لذاته به،لكونه منافيا للإمكان الذاتي الذي معناه عدم اقتضاء الوجود و العدم لذاته،و لم يصر الممكن لذاته بذلك ممتنعا لذاته،إذ نسبته إلى الوجود المطلق و العدم المطلق أي غير مقيّد بالقيد المنافي باق بحاله، (1)لم يتغيّر بعد، و كذلك الوجود إذا قيّد بالوجود القديم الأزلي المستمرّ في جميع أجزاء الأزل و في جميع أوقاته المفروضة أو قيّد الممكن بكون وجوده وجودا كذلك،لم يمكن اتّصاف ذات الممكن به لكونه منافيا للإمكان الذاتي و لو بعد النظر في الدليل،حيث إنّهم أقاموا الدليل على حدوث العالم بجملته حدوثا زمانيّا أو دهريا،و لم يصر الممكن لذاته بذلك ممتنعا لذاته،إذ نسبته إلى الوجود المطلق غير مقيّد بقيد ينافيه أي الوجود في الجملة و في بعض أجزاء الأزل باق بحاله (2)لم يتغيّر بعد.و الممتنع بذاته هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه و هذا الممكن ليس كذلك.و لأجل كون هذين الوجودين أي الوجود الازلي و الوجود في الجملة مختلفين عندهم في جواز اتّصاف ذات الممكن بالثاني دون الأوّل، قالوا:إنّ أزليّة الإمكان غير إمكان الأزليّة و غير مستلزمة له كما بيّنه الشارح،و نقل عن بعضهم إيرادا عليه و دفعه،و إن كان الأظهر في دفع ذلك الإيراد ما ذكره المحشّي الشيرازي بقوله:

أزليّة الإمكان تقتضي أن يكون الوجود المطلق أي في الجملة جائزا للممكن في جميع أوقات الأزل،على أن يكون الأوقات ظرفا للجواز و الإمكان،و ذلك لا يستلزم كون الوجود في جميع تلك الأوقات ممكنا.على أن يكون الأوقات ظرفا للوجود.

و إنّما كان أظهر في الدفع،لأنّه لا يسلّم قول ذلك البعض بدلا أيضا كما سلّمه الشارح، فتفطّن.و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان ما ذكره الشارح في التمهيد،و منه يظهر الجواب عن

ص:337


1- -باقية بحالها(خ ل).
2- -باقية بحالها(خ ل).

كلام صاحب المواقف.

في تحرير الجواب

لكن لا يخفى عليك أنّ الأظهر في الجواب عنه بالنظر إلى ذلك التمهيد على ما بيّناه و بحيث ينحسم به مادّة الشبهة،سواء اوردت على التقرير الأوّل للسند أو على التقرير الثاني له،أن يقال إنّه كما جاز في تلك الصور المفروضة المتقدّمة اختلاف الوجود و العدم إمكانا و وجوبا و امتناعا أو اختلاف الذات بحسب اتّصافها بأحدهما من هذه الجهات من غير لزوم انقلاب محال.كذلك يجوز أن يكون إذا قيّد الوجود بكونه مسبوقا بعدم طار على الوجود أو قيّد الممكن بكون وجوده مسبوقا بعدم طار على وجوده الابتدائي، لا يمكن اتّصاف ذات الممكن به،لكونه منافيا لإمكانه الذاتي و لو بعد النظر في الدليل.

كما مرّ من الأدلّة على امتناع عود المعدوم بعينه،و لا يصير الممكن بذلك ممتنع الوجود لذاته،إذ نسبته إلى الوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه كهذا القيد باق بحاله و لم يتغيّر بعد.

و بالجملة فكما جاز أن يكون الوجود المسبوق بالعدم مطلقا سابقا كان أم لاحقا ممّا لا يمكن اتّصاف ذات الواجب لذاته به لكونه منافيا و لم يكن ذلك من الانقلاب المحال في شيء،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه كهذا القيد باق بحاله،كذلك يجوز أن يكون الوجود المسبوق بالعدم اللاحق المسبوق بالوجود المسبوق بالعدم السابق أعني العود ممّا لا يمكن اتّصاف ذات الممكن لذاته به لكونه منافيا له أيضا و لو بعد التأمّل و أن لا يكون ذلك من الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي،لأنّ نسبته إلى الوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه،كالوجود المسبوق بالعدم السابق خاصّة باق بحاله (1)و ذلك القيد الذي صار التقييد به منشأ لامتناع اتّصاف ذات الممكن بالمقيّد به و إن كان لازما لماهيّة الممكن المعدوم الكذائي أو معتبرا في مفهوم العود و داخلا في حقيقته،و لذلك صار العود ممتنعا لذاته.و كذا صار المعدوم الممكن ممتنع الاتّصاف به لذاته و خالف به الوجود المعاد الوجود المبتدأ و اختلفا في الامتناع و الإمكان حيث امتنع المعاد و أمكن المبتدأ،إلاّ أنّه إذا قلنا إنّ كلاّ من الوجود المعاد و الوجود الابتدائي وجود خاصّ مغاير

ص:338


1- -باقية بحالها(خ ل).

للآخر في الحقيقة كما هو التحقيق في الوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العام، فلا اشكال حينئذ في اختلاف حال الوجودين إمكانا و امتناعا،و كذا في اختلاف اتّصاف الممكن بهما بحسبهما.

و أمّا إذا أردنا بهما الوجود الانتزاعي،و قلنا بوحدة حقيقته و اختلافه بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن حقيقته.

فنقول:ليس منشأ الاختلاف بين الوجودين،هو أصل حقيقتهما الواحدة،و لا أصل ذات الممكن المفروض وحدتها في حالتي فرض الاتّصاف بالوجودين،و لا ذلك ممّا ادّعاه المانع،و لا ممّا يلزم من كلامه حتّى يرد ما ذكره صاحب المواقف من أنّ الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً بحسب حقيقته و ذاته،و أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين يجب اشتراكها في الإمكان و الوجوب و الامتناع المستندة إلى ذوات تلك الأشياء،أو أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة ايّاها.بل أنّ منشأ الاختلاف في ذلك هو الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيّة الوجود،و لكن ليس ذلك الأمر هو الزمان كما ادّعاه صاحب المواقف،فإنّ الزمان بمجرّده لا دخل لاختلافه في اختلاف حال الوجود،و لا في اختلاف حال الممكن في اتّصافه به أصلا.و ليس ذلك أيضا ممّا ادّعاه المانع أو ممّا يلزم من كلامه،حتّى يرد عليه ما أورده هو من أنّه لو جوّزنا هذا الانقلاب أي كون الشيء الواحد أي الوجود الواحد أو الذات الواحدة ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة معلّلا بالتعليل المذكور،لجاز نظير هذا الانقلاب أيضا كالانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معلّلا به-إلى آخر ما ذكره-بل إنّ ذلك الأمر الخارج إنّما هو ذلك القيد المنافي للوجود الممكن الذي يكون المقيّد به ممّا يمتنع اتّصاف ذات الممكن به و إن كان مقارنا للزمان.

و بالجملة هذا القيد مناف له داخل في مفهوم العود و لازم لماهيّة ذلك المعدوم به صار العود ممتنعا بالذات.و كذا اتّصاف المعدوم به،و كذا هذا القيد،و كذا المقيّد به،و إن كان مقارنا للزمان لكن لا دخل للاقتران به في هذا الامتناع أصلا،كيف و لو كان الامتناع المذكور مستندا إلى الاقتران بالزمان لم يكن الامتناع ذاتيّا كما هو المفروض،لكونه

ص:339

مستندا إلى أمر خارج عن حقيقة العود و عن حقيقة المعدوم المفروض،و غير لازم لماهيّتهما بل كان امتناعا غيريّا؛هذا خلف.

و لا يخفى أنّ في صورة ما ادّعاه من لزوم الانقلاب من الامتناع إلى الوجوب ليس سوى قيد الوقوع في الزمان قيد مناف يوجب ذلك،إذ ليس في زمان كون الممكن معدوما بالعدم السابق سوى الاقتران بالزمان قيد معتبر مع وجوده أو مع ذات الممكن من جهة الاتّصاف ينافي الإمكان و يوجب الامتناع الذاتي،حتّى يلزم أن يكون الممكن في ذلك الزمان ممتنعا لذاته،و كذا ليس في زمان كونه موجودا بالوجود الابتدائي المسبوق بالعدم السابق خاصّة سوى الاقتران بالزمان قيد ينافي الإمكان و يوجب الوجوب الذاتي،حتّى يلزم كونه فيه واجبا لذاته،و قد عرفت أنّ الاقتران بالزمان بمجرّده لا يكون منشأ لذلك.

و لا يمكن أيضا أن يقال:إنّ المراد أنّ الممكن بشرط العدم يمتنع وجوده.و كذا هو بشرط الوجود يجب وجوده،لأنّ هذا يكون خلاف الفرض،لأنّ المفروض هو الامتناع و الوجوب في زمان الوصف لا بشرطه،و أيضا يكونان حينئذ غيريّين حيث إنّ هذا الشرط خارج عن حقيقة ما فرض ممتنعا أو واجبا و غير لازم لماهيّتهما لا ذاتيّين كما هو المفروض أيضا.

نعم في كلّ صورة يعتبر فيها القيد المنافي يلزم الاختلاف،و ليس هو مع ذلك من الانقلاب المحال في شيء كما عرفت بيانه.

فإن قلت:إذا كان ذلك القيد المنافي لازما للماهيّة أو معتبرا في مفهوم شيء كقيد طريان العدم الذي ذكرت أنّه لازم لماهيّة الممكن المعدوم و معتبر في مفهوم العود أي الوجود ثانيا، لا يخفى أنّه حينئذ يكون الاختلاف مستندا إلى ذلك القيد الذي هو لازم للماهيّة أو معتبر في المفهوم،و حيث كان لازم الماهيّة مستندا إلى الماهيّة من حيث هي كما هو المقرّر بينهم، فيكون الاختلاف مستندا إلى ماهيّة الملزوم أي الممكن المعدوم،و المفروض أنّ حقيقة الممكن حقيقة واحدة،و كذلك حيث كان القيد معتبرا في مفهوم العود و ما هو إلاّ الوجود ثانيا الذي هو واحد بحسب الحقيقة فيكون الاختلاف أيضا مستندا إلى حقيقة الوجود التي هي واحدة.

ص:340

و على التقديرين فيعود المحذور المذكور جذعا. (1)

قلت:لا عود للمحذور أصلا فإنّا لا نعني بكون هذا القيد معتبرا في مفهوم العود أنّه معتبر في مفهوم الوجود الذي حقيقته واحدة،كالوجود العامّ المشترك فيه المتّحد بالحقيقة من حيث هو حقيقة واحدة،بل نعني به أنّه معتبر في مفهوم العود الذي هو وجود خاصّ،سواء أردنا بالوجود الخاصّ هو الأمر الذي ينتزع منه الوجود الانتزاعي و قلنا بتغاير الوجودات الخاصّة في الحقيقة كما هو الحقّ،أو أردنا به تلك الحصّة المنتزعة من ذلك الوجود الخاصّ و قلنا بتغاير الحصص أيضا بتغاير الاعتبارات و الإضافات إلى أمر خارج،و كذا بتغاير المفروضات لها التي هي ممّا ينتزع منها تلك الحصص.

و على التقديرين فلا عود للمحذور،إذ لا يلزم من اعتبار القيد في وجود خاصّ كالعود اعتباره أيضا في وجود خاص آخر كالوجود الابتدائي،و لا اعتباره في مفهوم الوجود العامّ الواحد بالحقيقة حتّى يلزم أن يكون ما يقتضيه العود يقتضيه الوجود الابتدائي، أو يقتضيه الوجود العامّ أو يختلف مقتضاه.

و كذلك لا نعني بكون ذلك القيد لازما لماهيّة الممكن المعدوم أنّه لازم لماهيّة الممكن مطلقا،و لو كان ممكنا موجودا أو أنّه لازم لماهيّة الممكن المعدوم مطلقا و لو كان معدوما بالعدم السابق فقط،بل أنّه لازم لماهيّة هذا الممكن المعدوم بالعدم الطارئ على وجوده السابق المسبوق بالعدم السابق،و هذه الماهيّة باعتبار اتّصافها بهذا العدم الطارئ تكون مغايرة للماهيّات الممكنات الاخر معدومات أو موجودات،فلا يلزم أن يكون القيد اللازم لها من هذه الجهة لازما لها من الجهة الاخرى،أو لازما لغيرها من الماهيّات الممكنة،حتّى يعود المحذور.

و الحاصل أنّ إمكان اتّصاف المعدوم الممكن بالوجود الابتدائي،و عدم إمكان اتّصافه بالعود،و اختلاف حاله في ذلك،و كذا اختلاف حال الوجودين امتناعا و إمكانا،يمكن أن يكون لأجل اختلاف الوجودين بسبب ذلك القيد المعتبر في مفهوم العود،و كذا لأجل اختلاف حال الماهيّة أي ماهيّة المعدوم في الحالين بسبب ذلك القيد اللازم لها من حيث هي،و أنّ مجموع الاختلافين أي الاختلاف في الصفة و الموصوف،يمكن أن يكون منشأ

ص:341


1- -أي جديدا.

لاختلاف الحكم،فإنّه لا شبهة في أنّ أحد الاختلافين يمكن أن يكون كافيا في ذلك حيث يمكن أن يكون الذات الواحدة حيث كانت هناك صفات متغايرة و مختلفة،إمّا بالذات أو بالاعتبار،مقتضية لصفة منها دون صفة اخرى مغايرة للاولى،و كذا يمكن أن يكون الصفة الواحدة،حيث كانت الذات الموصوفة بها باعتبار تقيّدها بقيد مغايرة لنفسها باعتبار تقيّدها بقيد آخر ممّا تقتضيها تلك الذات باعتبار و لا تقتضيها باعتبار آخر، فكيف إذا كان هناك اختلاف في الموصوف و الصفة جميعا كما فيما نحن فيه،فتبصّر.

و بما ذكرنا يظهر الجواب الحقّ التفصيلي عمّا ذكره صاحب المواقف،و به ينحسم مادّة الشبهة،سواء أوردت على التقرير الأوّل للسند أو على الثاني.

في الكلام فيما ذكره الشارح القوشجي نفسه في الجواب

عمّا ذكره صاحب المواقف

و أمّا ما ذكره الشارح نفسه بعد التمهيد المذكور،فكأنّه لا يخلو عن إبهام بسببه صار منشأ لإيراد المحقّق الدواني عليه،و تطبيقه على ما ذكرنا أو توجيهه بنحو آخر يندفع به عنه الإيراد و ينحسم به مادّة الشبهة على التقريرين يحتاج إلى نوع عناية.

و بيان ذلك أنّ قوله:و إذا تمهّد هذا فنقول مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة المعدوم بهذا الوجود المقيّد،و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي كما في إخوته و نظائره على ما تقدّم.

أشار بذلك إلى الجواب عن النقض و الإلزام،و لعلّه أراد به أنّ مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود خاصّ مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،و هذا القيد داخل في مفهومه معتبر فيه،و به صار هذا الوجود وجودا خاصّا مخالفا لما لم يقيّد به من الوجود في الحكم لا بمجرّد الإضافة إلى الزمان كما ادّعاه صاحب المواقف،كما أنّ هذا القيد لازم لماهيّة الممكن المعدوم أي لماهيّة هذا الممكن المعدوم المفروض الذي طرأ عليها العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة هذا الممكن المعدوم

ص:342

بهذا الوجود المقيّد أي العود الذي سبب اختلافه مع غيره في الحكم إنّما هو هذا القيد فقط و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق أي بما لم يقيّد بهذا القيد من الوجود كالوجود الابتدائي من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي على ما ادّعاه صاحب المواقف،كما لم يلزم الانقلاب في إخوته و نظائره على ما تقدّم من الأمثلة.

و أنّ قوله:فقول هذا القائل:و لو جوّزنا كون الشيء-إلى آخره-،لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا.لعلّه أراد به أنّ قول هذا القائل أي صاحب المواقف:و لو جوّزنا كون الشيء الواحد أي الوجود الواحد ممكنا في زمان الابتداء، ممتنعا في زمان الإعادة،أو كون الماهيّة الواحدة ممكنة الاتّصاف بالوجود في زمان الابتداء،ممتنعة الاتّصاف به في زمان الإعادة-إلى آخر ما ذكره-،لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لم يقل بوحدة الوجود في الحالين،بل إنّه كما ظهر من التقرير الثاني لسند المنع قال:بأنّ الوجود في زمان الإعادة وجود خاصّ و تقيّد بقيد كان ذلك القيد سببا لاختلافه في الحكم و كونه مغايرا لما لم يقيّد به و به صار ممتنعا،و ليس سبب ذلك هو الإضافة إلى الزمان حتّى يلزم ما ذكره القائل،و كذلك لم يقل بوحدة الماهيّة في الحالين من جميع الجهات حتّى يلزم ما ادّعاه القائل،بل إنّه كما ظهر من التقرير الأوّل للسند،عنى بها ماهيّة الممكن المعدوم بالعدم الطارئ التي هي باعتبار الاتّصاف بهذا الوصف اللازم لها مغايرة لنفسها باعتبار عدم الاتّصاف به كما أنّها مغايرة لغيرها من الماهيّات الممكنات.و بذلك تمّ الجواب عن الإلزام.

ثمّ إنّ قوله:و كذا قوله الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا لأنّ حاصله-إلى آخر ما ذكره-،إشارة إلى الجواب عمّا ذكره القائل أوّلا بطريق البرهان،و لعلّه أراد به أنّ قول القائل هذا القول أيضا لا تعلّق له بكلام المانع،لأنّ حاصل هذا القول الذي ذكره القائل،أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا،يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ لذاته ذلك الأمر و بالعكس،لأنّهما متّحدان ذاتا و حقيقة و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج هو الزمان عنده،فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين،يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها أو أنّ مع وحده حقيقة الوجودين في الحالين و كون اختلافهما بحسب الأمر الخارج إذا كانت

ص:343

الذات الموصوفة بهما في الحالين واحدة أيضا،كماهيّة المعدوم و الحال أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة ايّاها كذلك،فلا يجوز أن يختلف اقتضاؤها إيّاها.

و المانع لم يقل بخلاف ذلك و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الوجودين المبتدأ و المعاد و إن كانا متّحدين بحسب الحقيقة لكنّهما متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،و ليس هو الزمان كما ادّعاه،بل ذلك القيد الذي اعتبر في الوجود المعاد و لم يعتبر في الوجود المبتدأ و كذلك الذات و إن كانت واحدة في الحالين لكنّها بحسب اتّصافها بالمقيّد بذلك القيد مغايرة لنفسها بحسب عدم اتّصافها به.فيجوز حينئذ أن يختلف اقتضاء الماهيّة و الوجود جميعا أي يجوز أن يقتضي ماهيّة المعدوم،أي هذا المعدوم المفروض عدم الاتّصاف بأحدهما يعني الوجود المعاد و لا يقتضي عدم الاتّصاف بالآخر أو يقتضي الاتّصاف بالآخر يعنى الوجود المبتدأ لكونهما مختلفين متغايرين و لو بالاعتبار و كذا لكون الذات مختلفة و متغايرة لنفسها و لو بالاعتبار.

و كذلك يجوز أن يقتضي أحد الوجودين جواز اتّصاف ماهيّة المعدوم به أو لا يقتضي عدم جواز اتّصافها به،و يقتضي الآخر عدم جواز اتّصافها به،لكون الذات مختلفة و لو بالاعتبار و كذا لكون الوجودين متغايرين و مختلفين و لو بهذا الاعتبار فقط إن لم نقل بكونهما متغايرين في الحقيقة،و كون كلّ واحد منهما وجودا خاصّا مغايرا للآخر بحسب الذات أيضا.

و الحاصل أنّ منشأ الاختلاف في الحكم فيما نحن فيه إنّما هو اختلاف في الصفة أي في الوجود و اختلاف في الموصوف أي الذات الموصوفة بهما جميعا،و أنّ مجموع الاختلافين اللذين أحدهما كاف في اختلاف الحكم كما أشرنا إليه،سبب لذلك،و أنّ اختلاف الاقتضاء ممكن حينئذ سواء اسند إلى الذات أو إلى الوصف،ثمّ إنّه حيث كان اختلاف الحال مستندا إلى ذلك القيد الذي هو معتبر في الوجود المعاد و لازم لماهيّة ذلك المعدوم،لا إلى حقيقة الوجود المتّحدة،و لا إلى ماهيّة الممكن المعدوم مطلقا.فلا ينافي هذا أن لا يجوز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته و بحسب حقيقته المتّحدة من غير قيد معتبر معه أمرا إن كان فرض اقتضاء ذاتي مستند إلى حقيقته الواحدة و لا يقتضيه الوجود

ص:344

الآخر لذاته،أو يقتضي عدمه،و أن لا يجوز أن يقتضي الذات الواحدة من جهة ذاتها بذاتها مع قطع النظر عن قيد و الاتّصاف بوصف أمرا مرّة لو كان لها اقتضاء كذلك و أن لا تقتضيه مرّة اخرى أو تقتضي عدمه.

و هذا الذي ذكرنا هو توجيه كلام الشارح بحيث تنحسم به مادّة الشبهة،و ينكشف به الإبهام،و منه يظهر اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عليه في الحاشية عليه.

ص:345

في الإشارة إلى اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عن الشارح القوشجي

حيث قال:وقف الشارح عند ظاهر لفظ هذا القائل و لم يأت بما ينحسم مادّة الشبهة -إلى آخر ما ذكره-و اقتفى أثره المحشّي الشيرازي،حيث نسج الكلام على منواله و بنى على أساسه.

و بيان الاندفاع:أنّه لا خفاء فيما ذكره من أنّ مقصود هذا القائل-أي صاحب المواقف-أنّه لو جاز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما قيل في التقرير الأوّل للسند،لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.

و أيضا لو جاز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما قيل في التوجيه الثاني للسند،لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان الوجود.

فإنّ العلّة المذكورة في الوجهين للسند جارية فيما ادّعاه أيضا.

إلاّ أنّ مقصود الشارح كما بينّا مراده أنّ العلّة المذكورة ليست جارية فيه،إنّما تكون جارية فيه لو كان مقصود المانع في التقرير الأوّل للسند جواز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم بمجرّد كونه في ذلك الزمان و إضافته إليه ممتنعا و قبله بمجرّد كونه واقعا في الزمان القبل و إضافته إليه ممكنا من غير اعتبار قيد آخر هنا.و كذا لو كان مقصوده في التقرير الثاني للسند جواز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل من حيث كونه وجودا أوّلا واقعا في الزمان الأوّل،و ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني من جهة كونه وجودا ثانيا واقعا في الزمان الثاني من غير اعتبار قيد آخر معتبر معه،فإنّه على هذا التقدير

ص:346

يجري العلّة المذكورة في الوجهين فيما ذكره أيضا،و يرد ما أورده عليه،و ليس ذلك مقصود المانع،بل إنّما مقصوده في التقرير الأوّل للسند جواز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا باعتبار قيد معتبر معه،هو لازم ماهيّته أي طريان العدم الذي هو منشأ الاختلاف حال ذلك الشيء في الاتّصاف بالوجود،و منشأ امتناعه،أي امتناع وجوده مرّة اخرى،و لا مدخل في ذلك للزمان أصلا و إن كان مقارنا معه،و أن يكون قبل ذلك ممكنا، أي أن يكون مع عدم اعتبار ذلك القيد معه كما هو قبل طريان العدم ممكن الوجود.

و كذلك مقصود المانع في التقرير الثاني جواز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،لا من جهة كونه وجودا واقعا في الزمان الأوّل،بل من جهة كونه وجودا مطلقا بمعنى عدم تقيّده بقيد مناف،كقيد طريان العدم.و كذا جواز كون الشيء ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني،لا من جهة كونه وجودا ثانيا واقعا في الزمان الثاني،بل من جهة تقيّده بقيد معتبر في مفهومه،و هو طريان العدم،و إن كان مقارنا للزمان.

و لا يخفى أنّ العلّة المذكورة بهذا المعنى الذي ذكرناه ليست جارية فيما ذكره القائل في الحادث،و أجراها المحقّق الدواني فيه،إذ الحادث في زمان عدمه لم يقيّد بقيد لازم لماهيّته أو داخل في ماهيّته،يمكن أن يكون ذلك القيد منشأ لامتناعه،و كذا هو في زمان وجوده لم يقيّد بقيد كذلك يمكن أن يكون سببا لوجوبه،و كذلك الوجود في زمان عدمه لم يقيّد بقيد معتبر في مفهومه أو لازم له،يوجب كون الحادث ممتنع الاتّصاف به،و كذا هو في زمان وجوده لم يقيّد بقيد كذلك يكون منشأ لوجوب اتّصاف الحادث به.

نعم في هذه الصور قد قيّد الحادث أو وجوده بقيد الوقوع في الزمان المختلفين،و قد عرفت مرارا أنّ اختلاف الزمان بمجرّده لا يصير منشأ لاختلاف حال الشيء و لا لاختلاف حال الوجود إمكانا وجوبا و امتناعا.

و هذا الذي ذكرنا في توجيه كلام الشارح،و إن كان غير مصرّح به في كلامه في الجواب الذي ذكره،لكنّه ظاهر منه بقرينة ما سبق منه فى التمهيد الذي ذكره.فانّه ينادي به عند التأمّل الصادق فيما ذكره من أنّ الوجود و كذا العدم قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي، فلا يقتضي الشيء،إيّاه،بل يمتنع اتّصافه به،كما فصّله من الأمثلة،فإنّ كلامه ظاهر في أنّ سبب ذلك الامتناع ليس إلاّ ذلك القيد،لا اختلاف الزمان.كيف و هو قد ذكر في صدر

ص:347

التمهيد أنّه قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين هذه المفهومات الثلاثة،بأن يكون شيء واجبا في زمان،ثم يصير ممكنا أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة،حيث نفى كون الزمان بمجرّده سببا لاختلاف الحال في ذلك و كأنّ المحقّق الدواني في إيراده على الشارح نظر إلى ظاهر كلامه في الجواب،حيث لم يصرّح بكون منشأ الاختلاف هو القيد،بل أجمل بحيث كونه هو الزمان،و لم ينظر إلى ما ذكره في التمهيد.

و من هذا يظهر أنّ المحقّق الدواني وقف على ظاهر لفظ الشارح في الجواب و ذهل عمّا ذكره في التمهيد له و لم يأت بشيء و يظهر انعكاس التشنيع،فتدبّر.

ثم إنّ قول المحقّق الدواني:إلاّ أنّه تسامح في قوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة -إلى قوله-:و لو جوّزنا،و كان حقّ العبارة أن يقول:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة،إيّاها.

ذكر المحشّي الشيرازي أنّه دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند بتغيير العبارة و عنى بالإيراد الثاني للشارح،قوله:و كذا قوله:الوجود أمر واحد-إلى قوله -و لو جوّزنا لأنّ حاصله أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا-إلى آخره-و هو و إن لم يبيّن صريحا أنّ مفاد هذا الإيراد ما ذا؟و أنّ مبنى دفعه على ما ذا؟لكنّه يفهم من بعض أقواله بعد ذلك كما سنشير إليه في شرح كلامه أنّ مفاد إيراد الشارح أنّ ما ذكره القائل، ليس في مقابلة كلام المانع،و لا يضرّه،لأنّ حاصل ما ذكره القائل أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا،يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ أيضا لذاته لذلك الأمر بعينه،لأنّهما متّحدان ذاتا و حقيقة،و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج،و هذا لا يضرّ المانع،لأنّه لم يقل بخلافه،و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الوجودين المبتدأ و المعاد متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،فيجوز أن يقتضي ماهيّته المعدوم لذاته عدم الاتّصاف بأحدهما،يعنى الوجود المعاد،و لا يقتضي عدم الاتّصاف بالآخر يعني المبتدأ.

و المحصّل أنّ المانع جوّز اختلاف اقتضاء ماهيّة المعدوم بالنسبة إلى الوجودين، و لم يجوز اختلاف اقتضاء الوجودين،و لا ينافي ما ذكره المانع أن لا يجوّز اختلاف اقتضاء الوجودين أي أن لا يجوّز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته أمرا و لا يقتضيه الوجود

ص:348

الآخر،فليس كلام القائل في مقابلة كلام المانع،و لا يضرّه أيضا.

و كذلك يفهم منه أنّ مبنى دفع هذا الإيراد على أنّه إنّما يرد هذا على ظاهر كلام القائل، حيث قال:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور»و أراد بالأشياء هنا الوجودين المبتدأ و المعاد.و أمّا إذا غيّرت هذه العبارة إلى قولنا:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها كما ذكره المحقّق الدواني فلا ورود له بل يكون حينئذ كلام القائل مقابلا لكلام المانع و يضرّه،و هذا ظاهر و على هذا فيكون قول المحقّق الدواني،و قوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-،معناه أنّه لو جوّز كون الشيء ممكنا-إلى آخره-تفسيرا لكلام القائل بناء على هذا التعليل المغيّر.

كلام مع المحشّي الشيرازي

و لا يخفى عليك بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا في توجيه كلام الشارح،أنّ مقصود الشارح من هذا الإيراد ليس ما فهمه المحشّي و أن تغيير العبارة لا يضرّ بحال المانع.فإنّ للشارح أن يقول:إنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،إنّما يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها إذا كان اقتضاؤها إيّاها من جهة كون تلك الأشياء متوافقة في الماهيّة و واحدة من جميع الجهات،و أمّا إذا كانت تلك الأشياء مختلفة بحسب الإضافة إلى أمر خارج أي ذلك القيد المنافي كما بيّناه فلا يجب الاشتراك في ذلك.و كذلك له أن يقول:إنّ وحدة الذات من جميع الجهات غير مسلّمة هنا،بل هي باعتبار ذلك القيد أيضا مختلفة مغايرة لنفسها باعتبار كما بينّاه أيضا.

ثمّ نقول من رأس في بيان مقصود الشارح:إنّ مقصوده أنّه إذا كان الوجودان المتّحدان بالحقيقة مختلفين بحسب أمر خارج كما هو المفروض فلا ينفع في مطلوب القائل أخذ اتّحاد الذات و أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،لأنّه مع وحدة الذات أيضا إذا كان المحمولان كالوجودين مختلفين و لو بحسب أمر خارج كالقيد المذكور،يجوز اختلاف اقتضائها لذينك المحمولين،و يمكن اتّصافها بأحدهما دون الآخر،بل يجوز اختلاف اقتضاء ذينك المحمولين أيضا بحسب اتّصاف الذات الواحدة بهما إمكانا و امتناعا،بل بحسب أنفسهما أيضا امتناعا و إمكانا و إن كان

ص:349

يرجع الحكم بامتناع أنفسهما أو إمكانهما إلى الحكم بامتناع اتّصاف تلك الذات بهما أو إمكان اتّصافها بهما.

و معنى ذلك القول أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها من حيث كون تلك الأشياء متوافقة في الماهيّة و عدم كونها مختلفة بوجه، لا من حيث كونها مختلفة أيضا و لو بحسب أمر خارج.على أنّ وحدة الذات من جميع الجهات فيما نحن بصدده غير مسلّمة،فانّك قد عرفت ممّا ذكر لك من التقريرين (1)لسند المنع أنّه كما أنّ الوجود المعاد باعتبار تقيّده بطريان العدم و كونه معتبرا في مفهومه مخالف للوجود المبتدأ باعتبار عدم تقيّده به،كذلك ذات المعدوم المفروض باعتبار ذلك القيد اللازم له مغاير لنفسه باعتبار عدم تقيّده به و عدم لزومه له.فكما أنّ الوجودان مختلفان، كذلك الذات مختلفة و لو بالاعتبار،و كما أنّ الذات الواحدة من جميع الوجوه يجوز اختلاف اقتضائها بالنسبة إلى صفتين مختلفين و لو بالاعتبار،كذلك الذات الواحدة بالذات المختلفة بالاعتبار يجوز اختلاف اقتضائها لصفة واحدة غير مختلفة و لو بالاعتبار.

و الحاصل أنّ منشأ الاختلاف في الحكم يجوز أن يكون اختلافا في المحمول،و كذا اختلافا في الموضوع،و أحدهما كاف فيه،فكيف بالمجموع،و أنّه يجوز اختلاف الاقتضاء حينئذ سواء اسند إلى الموضوع أو إلى المحمول.

فيظهر ممّا ذكرنا ورود إيراد الشارح على القائل،و عدم اندفاعه عنه بتغيير التعليل.

و هذا الذي ذكرنا هو مع قطع النظر عمّا أورده عليه المحشّي الشيرازي على تقدير تغيير التعليل المذكور كما سيأتي بيانه.

ثمّ إنّ قول المحقّق الدواني:«و الحاصل أنّ الاختلاف سواء اعتبر في الموضوع أو في المحمول و حكم باختلافهما في الإمكان و الامتناع،يجري في الحادث،إلاّ أن ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير.»معناه أنّ الاختلاف سواء في الموضوع أي الذات أو الشيء أو المعدوم كما هو مبنى التقرير الأوّل لسند المنع أو في المحمول،أي الوجود كما هو على التقرير الثاني له و حكم باختلاف و حكم باختلاف الموضوع

ص:350


1- -في التقريرين(خ ل).

المختلف باعتبار هذا الاختلاف و المحمول المختلف به في الإمكان و الامتناع كما ادّعاه المانع يجري نظير ذلك في الحادث أيضا كما ادّعاه القائل،و بيّنه المحقّق المذكور في صدر الحاشية أي أن يكون هناك اختلاف في الموضوع أو المحمول بالامتناع و الوجوب فسواء قرّر سند المنع بالتقرير الأوّل أو بالتقرير الثاني يرد عليه إيراد القائل،إلاّ أنّ ظاهر عبارة القائل أشبه بابتناء إيراده على الوجه الثاني أي على التقرير الثاني لسند المنع كما هو ظاهر كلامه.

و بالجملة فما ذكره المحقّق الدواني هنا،هو حاصل كلامه فيما تقدّم و قد عرفت ما فيه.

ثمّ إنّ قوله:«و الذي يحسم مادّة الشبهة أن يقال-إلى آخره-».حاصله أنّ ما ادّعاه القائل و أبطل به سند المنع الذي ذكره المانع سواء قرّر بالتقرير الثاني أو بالأوّل من أنّه يلزم على تقدير تجويز كون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما هو على التقرير الأوّل للسند تجويز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.و على تقدير تجويز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما هو على التقرير الثاني له تجويز أن يكون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده،و هذا محال كما ذكره و بيّن وجهه،إنّما يلزم إذا كان ما ادّعاه بحيث يمكن فرضه بوجه،و ليس كذلك،إذ لا يخفى أنّ مراده من وجوب الوجود أو وجوب الاتّصاف بالوجود في هذا الفرض ليس هو الوجوب بالغير لأنّه خلاف صريح كلامه.

و لأنّه لو كان هو مراده لم يرد إلزاما على المانع،لأنّ المانع لم يدّع إلاّ الإمكان الذاتي في أحد الحالتين و الامتناع الذاتي في الآخر لا الغيري.

و لأنّه لا امتناع في أن يكون الحادث في زمان عدمه أو اتّصافه بالوجود في زمان عدمه ممتنعا بالغير أي لأجل عدم علّته مثلا،و أن يكون هو في زمان وجوده أو اتّصافه بالوجود في زمان وجوده واجبا بالغير،أي لأجل حصول علّته التامّة مثلا،بل مراده إنّما هو الوجوب الذاتي.

و منه يظهر أنّ مراده من الامتناع أيضا هو الامتناع الذاتي لا الغيري.

ثمّ إنّ الوجوب الذاتي لا يمكن فرضه فيما فرضه،أمّا على التقرير الأوّل للسند

ص:351

و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في الموضوع،فلأنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان و من حيث كونه في زمان وجوده محتاج في ذاته إلى غيره،و هو الزمان أو اقترانه به،فلا يكون واجب الوجود لذاته،لأنّ واجب الوجود لذاته ما لا يحتاج في وجوب وجوده إلى غيره مطلقا و يكون هو واجبا لذاته،مع قطع النظر عن كلّ ما سواه و هذا ليس كذلك،فيكون فرض كونه واجب الوجود لذاته في زمان وجوده كما هو على هذا التقدير ممتنعا.

و أمّا على التقرير الثاني للسند و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في المحمول أي الوجود،فلأنّه لو كان الحادث مقتضيا بذاته للوجود في وقت معيّن أي وقت وجوده لم ينفكّ هذا الاقتضاء عنه،فكان موجودا في ذلك الوقت دائما،أي يجب أن يكون ذلك الوقت موجودا دائما،و أن يكون هو في ذلك الوقت موجودا دائما؛هذا خلف.لكون المفروض وجود وقت آخر أيضا و عدمه في ذلك الوقت الآخر.فيكون فرض كونه واجب الاتّصاف لذاته بالوجود في وقت وجوده ممتنعا أيضا.

نعم لو أمكن فرض الوجوب الذاتي على التقديرين لربّما أمكن إلزام ما ادّعاه القائل على المانع على التقريرين و إذ ليس فليس.

و هذا محصول كلام المحقّق المذكور.و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره من الوجه على امتناع فرض الوجوب الذاتي على التقديرين،لو تمّ يجري في امتناع فرض الامتناع الذاتي أيضا في الحادث في زمان عدمه أو في اتّصافه بالوجود في زمان عدمه كما فرضه القائل و ألزمه على المانع،أمّا على التقدير الأوّل و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في الموضوع،فلأنّ الحادث بوصف اقتران الزمان أي زمان عدمه،و إن لم يتصوّر هنا احتياج لكون الموضوع هو الحادث الممتنع بالذات،لكونه ليس بشيء حتّى يتصوّر احتياجه إلى غيره في امتناعه.لكنّه يكون امتناعه بالنظر إلى غيره و هو اقتران الزمان أو الزمان، فلا يكون امتناعه بالذات،لأنّ الممتنع بالذات ما يكون امتناعه ذاتيّا و لو قطع النظر عن كلّ ما سواه و هذا ليس كذلك.

و أمّا على التقدير الثاني و اعتبار الاختلاف في المحمول أي الوجود فبعين ما ذكره في امتناع فرض الوجوب الذاتي على هذا التقدير سواء بسواء،لأنّه لو كان مقتضيا لذاته

ص:352

للعدم في وقت معيّن-أي وقت عدمه-لم ينفكّ عنه ذلك فكان معدوما في ذلك الوقت دائما؛هذا خلف.يعني أنّه يلزم على هذا التقدير أن يكون ممتنع الوجود في وقت عدمه دائما؛هذا خلف.بل يلزم مع فرضه واجب الوجود في وقت وجوده أن يكون واجب الوجود في وقت وجوده دائما،و كذا ممتنع الوجود في وقت عدمه دائما،أي أن يكون الوقتان موجودين دائما،و يكون هو ممتنع الوجود دائما في وقت عدمه الذي يجب وجود ذلك الوقت دائما،و واجب الوجود دائما في وقت وجوده التي يجب وجود ذلك الوقت دائما.و هذا من أشنع المحال.

بل يجري أيضا فيما ادّعاه المانع من امتناع المعدوم بعد طريان العدم،أو امتناع اتّصافه بالوجود بعد طريان العدم،حيث عرفت أنّ مراده من الامتناع هو الامتناع الذاتي لا الغيري،و عرفت أنّ القائل بنى كلامه على أن هذا الامتناع إنّما هو لأجل الاقتران بالوقت أي اقتران الموضوع أو المحمول به،و ألزم عليه ما ادّعاه،و عرفت أنّ المحقّق الدواني سلّم ذلك منه و بيان الجريان ظاهر بعين ما ذكرنا في امتناع فرض الامتناع الذاتي في الحادث في زمان عدمه أو في اتّصافه بالوجود في زمان عدمه.

كلام مع المحقّق الدواني

و حيث تحقّقت ما ذكرنا،ظهر لك أنّه يرد على المحقّق الدواني الإيراد من وجهين:

الأوّل أنّه لم لم يتعرّض لإبطال فرض الامتناع الذاتي في الحادث في زمان عدمه،مع أنّ دليله على إبطال فرض الوجوب الذاتي فيه في زمان وجوده لو تمّ يجري فيه أيضا كما ذكرنا،و به تنحسم مادّة الشبهة بالكلّية،حيث إنّ القائل المذكور ادّعى أنّه يلزم على ما ادّعاه المانع أمران:

أحدهما الوجوب الذاتي في الحادث في زمان وجوده.

و الآخر الامتناع الذاتي فيه في زمان عدمه.

و حسم مادّة هذه الشبهة إنّما يحصل بإبطال كلا الفرضين جميعا لا بإبطال أحدهما خاصّة كما فعله.

الوجه الثاني أنّه لا يخفى أنّ ذلك القائل في مقام إبطال سند المنع الذي ذكره المانع

ص:353

سواء قرّر بالتقرير الأوّل أو الثاني،حيث أورد الشبهة عليه بحيث تجري على التقريرين و أبطل بها سند منعه على ما فهمه من كلام المانع من أنّه ادّعى أنّ المعدوم بعد طريان العدم أو اتّصافه بالوجود بعد طريان العدم،ممتنع امتناعا ذاتيّا و أنّه ليس هذا الامتناع إلاّ لأجل الاقتران بالزمان.

و لا يخفى أنّ المحقّق المذكور أيضا سلّم ذلك من القائل كما دلّ عليه كلامه في مقام إيراده على الشارح بأنّ كلامه لا يحسم مادّة الشبهة،فحيث كان هو بصدد حسم مادّة تلك الشبهة عن المانع،كان في مقام معاضدة المانع،فينبغي أن يكون حسمها بحيث يكون مع إبطال ما ذكره القائل ممّا لا يضرّ المانع بوجه.و هذا ليس كذلك فإنّه يهدم بنيان ما ذكره المانع أيضا،لأنّه إذا لم يمكن فرض الامتناع الذاتي فيما هو مقترن بالزمان،فكيف يدّعي المانع الامتناع الذاتي فيما ادّعاه.و هو أيضا نظير ما ادّعاه القائل في الفرض المذكور،فهما في البطلان أو الصحّة سواء.و ما الوجه في الفرق بينهما بتجويز أحدهما و إبطال الآخر،بل ليس إيراد القائل إلاّ مبنيّا على أنّه إذا صحّ فرض الامتناع الذاتي في المعدوم بعد طريان العدم،و الحال أنّه ليس ذلك إلاّ لأجل الاقتران بالزمان،لصحّ الإلزام الذي ذكره،و أنّه إذا لم يصحّ ذلك فكما يبطل به الإلزام المذكور يبطل به ما ادّعاه المانع أيضا،لكنّه أورد الإلزام على أحد التقديرين،و سكن عن التقدير الآخر.و لا يخفى عليك أنّ إيرادنا بالوجه الأوّل، و إن امكن دفعه عن المحقّق الدواني،بأنّه لعلّه كان في مقام حسم الشبهة بصدد الاكتفاء و الاختصار،فأبطل فرض الوجوب الذاتي في الحادث بحيث يمكن أن يعلم منه بطلان فرض الامتناع الذاتي فيه أيضا بالمقايسة،فلا ضير فيه أو أنّ غرضه كما فهمه المحشّي الشيرازي منه،و سيأتي بيانه أنّ المحذور اللازم،إنّما هو الوجوب الذاتي في الحوادث و غنائها عن المحدث لا الانقلاب.فلذا تعرّض لإبطال الوجوب الذاتي و لم يتعرّض لإبطال فرض الامتناع الذاتي إلاّ أنّ الإيراد بالوجه الثاني ممّا لا يمكن دفعه عنه،بل هو وارد عليه،و يعلم منه أن حسم مادّة الشبهة عن المانع لا يمكن بالوجه الذي ذكره أصلا، بل ينبغي أن يصار إلى ما ذكرناه سابقا،و وجّهنا به كلام الشارح،من أنّ غرض المانع و إن كان امتناع عود المعدوم امتناعا ذاتيّا،لكنّه ليس للزمان مدخل في ذلك بوجه،بل إنّما المدخل في ذلك لذلك القيد أي لقيد طريان العدم الذي هو لازم لماهيّة المعدوم و داخل في

ص:354

مفهوم العود،كما بيّنا وجهه،و يظهر منه أن حسم مادّة الشبهة إنّما يحصل به،لا بما ذكره ذلك المحقّق،و يظهر انعكاس التشنيع،فتدبّر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فلا بأس للتعرّض لبيان ما ذكره المحشّي الشيرازي متعلّقا بما نقلنا عن المحقّق المذكور هنا و نسجه على منواله و كذا لبيان ما فيه.

فنقول:قوله في الحاشية:اعلم أنّ صاحب المواقف أبطل السند المذكور في الشرح ثانيا بوجهين:أحدهما من قوله:الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا-إلى آخره-.

و الثاني من قوله:و لو جوّزنا-إلى آخر ما قال-أي أنّه في مقام إبطال السند المذكور في الشرح ثانيا،أي السند بالتقرير الثاني الذي اعتبر فيه الاختلاف في جانب المحمول،أي الوجود لا في مقام منعه،حيث إنّ منعه لا يفيد و أنّه أبطله من وجهين.

الوجه الأوّل بطريق البرهان و الثاني بطريق النقض الإجمالى و الإلزام.

و قوله:و لمّا كان إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع،نبّه رحمه اللّه على أنّ ما ذكره من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني،بطل به الوجه الأوّل من السند،إلاّ أنّ عبارته أشبه بإبطال الثاني،فيه دلالة على أنّ السند الثاني أخصّ من المنع،و كأنّ مراده بالأخصّيّة، الأخصّيّة بحسب التقرير،و إلاّ فقد عرفت أنّ السند في الحقيقة أمر واحد مساو للمنع و دلالته أيضا على أنّ إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع،بل ينبغي أن يبطل كلا السندين على التقريرين اللذين كلّ واحد منهما بخصوصه أخصّ من المنع و مجموعهما مساو له.فلذا نبّه المحقّق رحمه اللّه في كلامه في مقام توجيه كلام القائل و الإيراد على الشارح، على أنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني الذي ذكره بطريق الإلزام لإبطال السند الثاني أي بالتقرير الثاني يبطل به الوجه الأوّل من السند أيضا أي بالتقرير الأوّل الذي مبناه على اعتبار الاختلاف في الموضوع،فيبطل به السندان جميعا،فيبطل المنع رأسا إلاّ أنّ عبارة القائل أشبه بإبطال السند الثاني.

و قوله:و الأظهر أن يقول ما ذكره لإبطال السند الثاني يمكن إجراؤه في إبطال الأوّل، لأنّ ما ذكره صريح في إبطال الثاني،مناقشة مع المحقّق المذكور في قوله:إلاّ أنّ ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير و فيما فهمه منه أنّه نبّه عليه لأنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني للإبطال صريح في إبطال السند الثاني،و لا يظهر منه أنّ نظره إلى إبطال السند

ص:355

الأوّل أيضا حتّى يبطل هو أيضا به فعلى هذا فالأظهر أن يقول المحقّق أنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني يمكن اجراؤه في إبطال السند الأوّل أيضا و لا يخفى عليك أنّ هذه المناقشة سهلة.

و قوله:و لم يتعرّض رحمه اللّه لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في السند الأوّل، و لا يخفى عليك جريانه بأن يقال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد.أي أنّ المحقّق لم يتعرّض لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند الذي ذكره بطريق البرهان بقوله:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته،لا يختلف إعادة و ابتداءً في ابطال السند الأوّل الذي ذكره الشارح بالتقرير الأوّل في ذيل قول المصنّف أوّلا،و لا يخفى عليك جريانه فيه بأن يقال-إلى آخره.

و لا يخفى عليك أيضا أنّ المحقّق أشار إليه في قوله:و كأنّ حقّ العبارة أن يقول لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،فتأمّل.

و قوله:ثمّ لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها في التحقيق الذي مهّده تتوجّه على قوله:لجاز الانقلاب الذاتي بناء على أنّ هذا ليس انقلابا ذاتيّا اصطلاحا، طوي في توجيه كلامه لدفعها حديث الانقلاب الذاتي و اكتفى بلزوم غناء الحوادث عن المحدث.

كأنّه فهم هذا الاكتفاء من قول المحقّق في تقرير الشبهة على السند الأوّل:لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا،و في زمان وجوده واجبا،و من قوله في تقريرها على الثاني،لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده،حيث لم يتعرّض للزوم الانقلاب،بل إنّما تعرّض للزوم الوجوب الذي هو مستلزم للزوم غناء الحوادث عن المحدث،و كذا فهمه من أنّه في مقام حسم مادّة الشبهة إنّما تعرّض لإبطال فرض الوجوب الذاتي،لا لإبطال فرض الامتناع الذاتي أيضا،حيث يعلم منه أنّ المحذور اللازم إنّما هو غناء الحوادث عن المحدث،دون الانقلاب أيضا فلذا أبطله و لم يتعرّض لإبطال الانقلاب.

و الحاصل أنّه لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها بقوله:مقصود المانع

ص:356

أنّ العود ليس وجودا مطلقا-إلى آخره-،و أشار إليها في التحقيق الذي مهّده تتوجّه على قول القائل؛لجاز الانقلاب الذاتي بناء على أنّه ليس انقلابا ذاتيّا اصطلاحا،و لم يكن وجه لدفع تلك المناقشة،طوى المحقّق في توجيه كلام القائل في تقرير الشبهة لدفع تلك المناقشة عنه حديث الانقلاب الذاتي الذي ذكره أيضا،و اكتفى من بين المحذورين اللذين ادّعى القائلون لزومهما بأحدهما و هو لزوم غناء الحوادث عن المحدث، و لم يتعرّض للزوم المحذور الآخر،و هو الانقلاب الذاتي.

و قوله:و حينئذ يندفع ما أورده الشارح بقوله:فقول هذا القائل:و لو جوّزنا-إلى قوله- و لا يلزمه أيضا،لأنّ المراد من كون شيء واحد ممكنا في زمان و ممتنعا في زمان آخر، ليس باعتبار الوجود المطلق في كليهما،بل إمّا باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما أو باعتبار الوجود المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني.و حينئذ يظهر أنّ المانع جوّز هذا أي حين اكتفينا في توجيه كلام القائل بلزوم غناء الحوادث عن المحدث،يندفع عنه ما أورده عليه الشارح بأنّ قوله:و لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا-إلى آخره-لا تعلّق له بكلام المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا.

و بيان الاندفاع أنّ مراد القائل بقوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-.ليس تجويز كون شيء واحد ممكنا في زمان،ممتنعا في آخر باعتبار الوجود المطلق في كليهما،حتّى يكون مدّعيا للزوم الانقلاب الذاتي و يرد عليه ما أورده الشارح،بل باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما،أو باعتبار الوجود الخاصّ في الثاني و المطلق في الأوّل كما ذكره الشارح أيضا في بيان مقصود المانع بقوله:إنّ العود ليس وجودا مطلقا-إلى آخره-و حينئذ يكون مفاد كلام القائل:إنّه لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ،ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة باعتبار الوجود الخاصّ، معلّلا بأنّ الأوّل مطلق أو خاصّ،و أنّ الثاني خاصّ،لجاز أن يكون شيء واحد ممتنعا في زمان،كزمان عدمه باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ،واجبا في زمان آخر،كزمان وجوده باعتبار الوجود الخاصّ،معلّلا بالتعليل المذكور،و حينئذ و إن لم يلزم الانقلاب الذاتي لكون الوجودين متغايرين،أمّا على تقدير إرادة المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني فظاهر،و أمّا على تقدير إرادة الخاصّ في كليهما،فلأنّ المراد بالخاصّ في كلّ منهما

ص:357

ما هو غير الآخر،لكنّه يلزم البتّة غناء الحوادث عن المحدث،و هو كاف في المحذور.

و لا يخفى أنّه يكون هذا الإلزام حينئذ متعلّقا بكلام المانع واردا عليه،و يظهر من المانع أنّه قال بهذا التجويز،لا كما ادّعاه الشارح من عدم التعلّق و عدم القول و عدم اللزوم.و بهذا التوجيه كما يندفع إيراد الشارح عن كلام القائل،كذلك يندفع عمّا ذكره المحقّق في توجيه كلام القائل،حيث إنّه أيضا و إن كان موهما للزوم الانقلاب و لإرادة الوجود المطلق في كلتا الحالتين،لكنّ المراد ما ذكر،فتدبّر.

و أنت خبير بأنّ هذا التوجيه لا يحسم مادّة ما أورده الشارح على القائل،فإنّك حيث عرفت ما بيّناه من مقصود الشارح،لا يخفى عليك أنّ للشارح أن يقول على تقدير تسليم أنّ القائل أراد بقوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-هذا المعنى مع كونه خلاف ظاهر كلامه-كما سيأتي بيانه-أنّ المانع و إن قال بامتناع الوجود في زمان الإعادة و كونه وجودا خاصّا، لكنّه لم يقل بذلك بمجرّد اعتباره خاصّا مطلقا،بل قال بأنّ امتناعه،و كذا كونه خاصّا إنّما هو لأجل قيد مناف معتبر فيه،و لازم لماهيّة المعدوم أي طريان العدم الذي صار منشأ للامتناع المذكور،و ليس هو في الوجود الابتدائي،سواء اعتبرته وجودا مطلقا أي غير مقيّد بقيد كذلك كما فعله الشارح،أو اعتبرته وجودا خاصّا آخر،فلذلك كان ممكنا،و كما أنّه ليس قيد مناف معتبرا مع الوجود الابتدائي،كذلك ليس معتبرا فيما ذكره القائل من الإلزام،حيث إنّه ليس مع الحادث في زمان عدمه قيد مناف يوجب امتناعه أو امتناع اتّصافه بالوجود،و كذا ليس معه في زمان وجوده قيد يوجب وجوبه أو وجوب اتّصافه بالوجود،سوى الاقتران بالزمان،و هو بمجرّده لا يكون منشأ لذلك،كما عرفت بيان ذلك كلّه فيما تقدّم.

فيظهر منه أنّه على تقدير إمكان حمل كلام القائل على هذا التوجيه أيضا لا يظهر وجه لورود الإلزام الذي أورده على المانع،كما أنّه على تقدير حمله على اعتبار الوجود المطلق في كلتا الحالتين،كما هو ظاهر كلامه لا يرد إلزامه أيضا عليه،فإنّ المانع لم يقل باعتبار الوجود المطلق فيهما،بل قال باعتبار الوجود المقيّد الخاصّ في الثاني-كما بيّن الشارح مقصوده-و اعتبار المطلق أو خاصّ آخر في الأوّل.

فيظهر منه أنّ إيراد الشارح على القائل وارد على كلّ تقدير و غير مندفع عنه بوجه

ص:358

أصلا.

على أنّ هذا التوجيه مخالف لظاهر كلام القائل،لأنّه يجعل ما ادّعاه القائل من لزوم الانقلاب الذاتي كما هو صريح كلامه لغوا،بل باطلا،لأنّ هذا الانقلاب إنّما يتصوّر إذا اريد الوجود المطلق في كليهما،أو اريد وجود خاصّ بعينه،من جهة واحدة في كليهما، و إذ ليس فليس.

سلّمنا كونه مستدركا لا دخل له في المحذور،كما فهمه المحشّي المذكور،إلاّ أنّه يجعل ما ادّعاه القائل في الشقّ الأوّل من الإلزام،و هو كون الحادث في زمان عدمه ممتنعا مستدركا أيضا لا طائل تحته،إذ لو كان المحذور اللازم،هو غناء الحوادث عن المحدث وحده لكفى أن يقول يلزم حينئذ كون الحادث في زمان وجوده واجبا بالذات من غير تعرّض لبيان حاله في زمان عدمه.

سلّمنا أنّه تعرّض له مقابلة لكلام المانع،حيث إنّه تعرّض لبيان حال الممكن أو لوجوده في زماني الابتداء و الإعادة إلاّ أنّه حينئذ لا يلزم ادّعاء لزوم كون الحادث في زمان عدمه ممتنعا،بل يكفي أن يقال:إنّه يلزم كون الحادث في زمان عدمه ممكنا و في زمان وجوده واجبا،إذ على هذا أيضا يلزم غناء الحوادث عن المحدث،كما هو المقصود.

بل أنّ هذا التوجيه يجعل ما ادّعاه المحقّق في توجيه كلام القائل على التقريرين من لزوم كون الحادث في زمان عدمه أو اتّصافه بالوجود في زمان عدمه ممتنعا مستدركا أيضا بعين ما ذكرنا،فتدبّر.

و قوله:فإن قيل في توجيه الانقلاب الذاتي-إلى قوله-بل رأى إسقاطه أولى.

لمّا كان هذا التوجيه يجعل حديث الانقلاب الذاتي الذي ادّعى القائل أي صاحب المواقف لزومه مستدركا أراد توجيه الانقلاب بمعنى لا يكون مستدركا.

فقال:أوّلا إنّ القائل لعلّه أراد بالانقلاب الذاتي مثل هذه الصورة أي أن يكون شيء واحد في زمان عدمه ممتنعا باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ ثمّ يصير في زمان وجوده واجبا باعتبار وجود خاصّ آخر.و هذا و إن لم يكن انقلابا ذاتيّا اصطلاحا،لكنّه اطلق عليه لفظه تجوّزا.

ثمّ أجاب عنه بأنّ هذا المعنى لا يلائم ما ذكره القائل بقوله:و في تجويز هذا الانقلاب

ص:359

مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر،فإنّ المخالفة لبديهة العقل إنّما هي مسلّمة في الانقلاب الذاتي اصطلاحا،لا في مثل هذه الصورة،بل هي فيها منظور فيها فلأجل ذلك لم يتوجّه المحقّق لتوجيه الانقلاب،بل رأى إسقاطه أولى.

و قوله:و قوله إلاّ أنّه تسامح-إلى آخره-دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند،بتغيير العبارة قد تقدّم بيانه مع ما فيه،فتذكّر.

و قوله:و لا يخفى أنّه حينئذ ينبغي لتطبيق التعليل على الدعوى،إمّا تغيير الدعوى أو تعميم الدليل عند قوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،لأنّ هذا الدليل بظاهره لا ينطبق إلاّ على الوجوب الذاتي،و لا يتناول الإمكان و الامتناع كما يظهر بأدنى تأمّل.

مناقشة مع المحقّق

و حاصلها أنّه عند تغيير العبارة بقولنا:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،يكون التعليل مختصّا بالوجوب الذاتي لأنّ اقتضاء الذات لتلك الأشياء المتوافقة التي اريد بها الوجودان أي الوجود المبتدأ و المعاد إنّما يتصوّر في الوجوب،حيث إنّ ذات الواجب يقتضي بذاته الوجود لا في الامتناع و الإمكان.

أمّا الإمكان،فظاهر لأنّ ذات الممكن بذاته لا يقتضي شيئا من الوجود و العدم،بل مقتضى ذاته عدم اقتضاء شيء منهما،و كونهما بالنظر إليه على السواء.و أمّا الامتناع،فلأنّ ذات الممتنع على تقدير أن يكون له اقتضاء،يكون مقتضيا للعدم،لا للوجود كما هو المفروض.و حيث كان هذا التعليل مختصّا بالوجوب الذاتي فينبغى لتصحيح التعليل، إمّا تغيير الدعوى في كلام القائل أي حذف قوله:«إمكانا و امتناعا»،و الاكتفاء بقوله:

«وجوبا»في قوله:«فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا»، حتّى ينطبق التعليل على الدعوى،أو تعميم الدليل عند قوله:«لأنّ الاشياء المتوافقة في الماهيّة»،بحيث يشمل الإمكان و الامتناع أيضا،حتّى ينطبق عليه أيضا.

و لا يخفى أنّ كلاّ من تغيير الدعوى أو تعميم الدليل غير مستقيم هنا.أمّا الأوّل،فلأنّ

ص:360

هذا القائل قد ذكر الإمكان و الامتناع أيضا،و حذفهما غير مستقيم.و أمّا الثاني فلأنّ التعليل المغيّر،ليس يشملهما بل لا يتناول إلاّ الوجوب الذاتي،و لا عبارة هنا غير ذلك، بحيث تشملهما،و بها يندفع الإيراد الثاني للشارح.

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني

و أنت خبير باندفاع هذه المناقشة عن المحقّق،بأن يقال:يمكن أن يكون المراد باقتضاء الذات الواحدة إيّاها اقتضاءها للاتّصاف بها امتناعا أو إمكانا أو وجوبا أو اقتضاءها لوجوب الاتّصاف بها أو لامتناع الاتّصاف بها أو لإمكان الاتّصاف بها.فكما يصحّ في الوجوب أن يقال:إنّ ذات الواجب يقتضي وجوب الاتّصاف بالوجود،كذلك يصحّ في الامتناع أن يقال:إنّ ذات الممتنع يقتضي امتناع الاتّصاف به،و في الإمكان أن يقال:إنّ ذات الممكن يقتضي إمكان الاتّصاف به،و هذا كما أنّ المحشّي المذكور نفسه في كلامه السابق حيث ذكر جريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في إبطال السند الأوّل،قال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً،فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد،فأسند اقتضاء امكان الاتّصاف بالوجود إلى الماهيّة الممكنة.

و الحاصل أنّه يمكن إسناد الاقتضاء إلى الممتنع و الممكن أيضا،و لو كان على سبيل التجوّز،و حينئذ فيكون الدليل عامّا كالدعوى لا يحتاج فيه إلى تغيير آخر،و كذا لا يحتاج إلى تغيير الدعوى في تطبيق الدليل على المدّعى،فافهم.

و قوله:و يمكن أن يقال:الوجوب و الإمكان إذا اخذت صفة للوجود،كانت من مقتضيات الوجود،فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة الوجود،ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر.

مناقشة اخرى مع المحقّق

حاصلها أنّ مقصود المحقّق من تغيير العبارة إنّما هو دفع الإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند،و دفعه لا يحتاج إلى هذا التغيير في العبارة،حتّى يرد عليه

ص:361

المناقشة المتقدّمة،بل إنّه لو ابقيت عبارة القائل بحالها لا ندفع عنه إيراد الشارح عليه من غير ورود مناقشة عليه.

و بيان الاندفاع أنّ هذه الموادّ الثلاث أي الوجوب و الإمكان و الامتناع إذا اخذت صفة للوجود كما هو ظاهر كلام المانع و القائل،كانت تلك الموادّ من مقتضيات الوجود،لكونها صفات له،لا من مقتضيات الماهيّة،لعدم كونها صفات لها،بل صفات لوجودها،فعلى هذا يصحّ إسناد الاقتضاء لها إلى الوجود،و لو أسند الاقتضاء إلى الماهيّة أيضا يكون المراد به نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف،يعني أنّ اقتضاء الماهيّة لها بمعنى اقتضاء وجوداتها لها،فحينئذ يكون ما قاله القائل من أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها صحيحا.و مع صحّته يكون مقابلا لكلام المانع و مضرّا له،فإنّ المانع و إن أسند الاقتضاء إلى الماهيّة كما زعمه الشارح،إلاّ أنّ معنى قوله هذا ينبغي أن يكون راجعا إلى إسناد الاقتضاء إلى الوجود لما ذكر،فكما أنّه لا يجوز اختلاف اقتضاء الوجود إمكانا و وجوبا و امتناعا كما سلّمه الشارح من القائل،كذلك لا يجوز اختلاف اقتضاء الماهيّة في ذلك سواء بسواء و إن ادّعى الشارح جوازه فحينئذ فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة للوجود،و هذه الموادّ كذلك،لا أنّها صفات للماهيّة،ضرورة أنّ المانع أيضا في كلا التقريرين للسند،لم يقل بكونها صفات للماهيّة،بل قال بكونها صفات للوجود،و هذا هو بيان مقصود المحشّي المذكور،إلاّ أنّ قوله:ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر،الأنسب أن يقول بدله:ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير ممتنعا في وقت ممكنا في وقت آخر،لكنّ المقصود واضح،و هو أنّ المانع لم يقل بصيرورة الماهيّة بذاتها ممتنعة أو واجبة أو ممكنة، بل قال بأنّ وجودها يصير ممكنا أو ممتنعا أو واجبا،و إلاّ أنّ فيما ذكره نظرا لأنّه مبنيّ على أن يكون مقصود الشارح من الإيراد ما فهمه،و قد بيّنا فيما تقدّم مقصود الشارح،بحيث لا يرد عليه كلام القائل،سواء غيّر التعليل أم لم يغيّر،و إلاّ أنّ فيما ادّعاه من كون الموادّ الثلاث من مقتضيات الوجود مطلقا مناقشة،فإنّه ربما يمكن أن يقال:إنّ المقتضي في الحقيقة هو الماهيّة لا الوجود،و أنّه إذا نسب الاقتضاء إلى الوجود فهو بالحقيقة منسوب إلى الماهيّة نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف،لكن هذه المناقشة كأنّها لا تقدح فيما هو

ص:362

غرض المحشّي هنا،فتدبّر.

ثمّ إنّ قول المحشّي المذكور في الحاشية التالية المعنونة بقوله:قوله فلا يكون واجب الوجود أي بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا-إلى آخر ما ذكره في تلك الحاشية-فبيانه أنّ ما ذكره المحقّق في حسم مادّة الشبهة:«أنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان،محتاج في ذاته إلى غيره،فلا يكون واجب الوجود»،معناه أنّه لا يكون واجب الوجود بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا.

و قوله فيها:لا يقال:يلزم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود و هذا كاف في لزوم المحذور»إيراد على المحقّق،بأنّه حينئذ و إن كان فرض الوجوب الذاتي الذي هو ظاهر كلام صاحب المواقف ممتنعا لما ذكره،لكنّه يلزم محال آخر،و هو لزوم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود.

و بعبارة اخرى لزوم الوجوب الغيري من غير أن يكون هنا أمر يكون منشأ لهذا الوجوب الغيري،و لا يخفى أنّ فرضه حينئذ غير ممتنع،و أنّ لزومه ظاهر،و لعلّه كان هو مقصود صاحب المواقف في الإلزام على المانع حيث ادّعى لزوم غناء الحوادث عن المحدث.

و قوله:«لأنّ الذات مع هذا الوصف إنّما هي علّة لنفس الوجوب،و أمّا اصل الوجود فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة،لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود،و ذلك كما أنّ العدم الطارئ مستند إلى عدم علّته.نعم وجوبه الذي في قوّة امتناع وجوده ثانيا مستند إلى الذات مع القيد،فتأمّل»جواب عنه بأنّه لو كان ذلك هو مراد صاحب المواقف فهو لا يرد إلزاما على المانع،لأنّ للمانع أن يقول:يجوز أن يكون الذات أي ذات الحادث مع هذا الوصف،أي وصف اقتران الزمان أي زمان الوجود علّة لنفس الوجوب،أي هذا الوجوب الغيري اللاحق،و أمّا أصل الوجود،فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود،فلا يلزم عدم الحاجة إلى مؤثّر موجود،و لا أن يكون هناك الوجوب الغيري،من غير أن يكون شيء منشأ له حتّى يرد إلزاما على المانع.

و هذا كما أنّ المانع قال في امتناع إعادة المعدوم بجواز أن يكون العدم الطارئ الذي جعله مانعا عن عود الوجود مستندا إلى عدم علّته أي إلى عدم علّة وجود ذلك المعدوم

ص:363

المفروض،و بجواز أن يكون وجوب ذلك العدم الطارئ الذي في قوّة امتناع وجود ذلك المعدوم ثانيا مستندا إلى ذات المعدوم مع قيد طريان العدم.

كلام معه أيضا

و لا يخفى أنّ ما ذكره أنّما هو مبنيّ على ما فهمه صاحب المواقف من كلام المانع، و تبعه فيه المحقّق الدواني،و أمّا على ما وجّهنا به كلام المانع كما فهمه الشارح منه و بيّناه أيضا فلا ورود لما ذكره صاحب المواقف على المانع بوجه،و لا يحتاج في دفعه إلى هذه التكلّفات و التعسّفات.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث أحطت خبرا بما ذكرناه،و ظهر لك اندفاع ما أورده القائل الأوّل،و كذا صاحب المواقف عن كلام المانع،و ظهر أيضا اندفاع ما أورده المحقّق الدواني و تبعه فيه المحشّي الشيرازي عمّا ذكره الشارح في جواب إيراد صاحب المواقف،فحريّ بنا أن ننظر في أنّ ما أورده الشارح نفسه على المانع بقوله:و أقول:يمكن تتميم هذا الدليل بأن يقال:الحكم بامتناع عود المعدوم-إلى آخر ما ذكره-هل له وجه أم لا؟

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي

فنقول:إنّه أراد بذلك تتميم الدليل الذي نقله عن القائلين بجواز إعادة المعدوم بإبطال ما ذكره المحقّق الطوسي في جوابهم بطريق المنع،و أسنده بأنّه يمكن أن يكون امتناع إعادة المعدوم لأمر لازم للماهيّة،أي طريان العدم أي أراد الشارح إبطال كلا سندي منع المانع اللذين يحتمل هذا المنع في كلامه أن يكونا سندين له.و الحال أنّ مجموع السندين سند مساو للمنع و بإبطالهما يبطل المنع بالكلّية،فيبطل الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي.فقال:إنّ الحكم بامتناع عود المعدوم كما ذكره المصنّف في الجواب،إذا لخّص و جرّد أطرافه يعود،إمّا إلى قولنا:«إنّ ذاتا ما من الذوات الممكنة الوجود يمتنع وجودها المسبوق بالعدم المسبوق بالوجود»،بأن يكون التقييد في جانب المحمول كما هو مفاد التقرير الثاني لسند المنع.و إمّا إلى قولنا:«إنّ ذاتا قد اتّصف بالعدم المسبوق بالوجود يمتنع وجودها»،بأن يكون التقييد في جانب الموضوع كما هو مفاد التقرير الأوّل للسند.و على

ص:364

التقريرين فالموصوف بالامتناع إمّا الوجود أي الوجود المنسوب إلى تلك الماهيّة أو اتّصافها بالوجود حيث إنّ المآل واحد،و لذلك هو اعتبر في التلخيصين،كون الموصوف به،هو الوجود و في إبطالهما كونه هو اتّصاف الماهيّة بالوجود.

ثمّ قال إنّ كلا التلخيصين باطلان،لأنّ القيد المعتبر هنا في جانب المحمول أو الموضوع إنّما هو في الحقيقة قيدان اثنان:أحدهما المسبوقيّة بالعدم و الثاني المسبوقيّة بالوجود.و لا شبهة في أنّه لا مدخل لواحد منهما و لا لمجموعهما في هذا الامتناع،أي امتناع الوجود أو امتناع اتّصاف الماهيّة بالوجود.

و بيان ذلك أمّا في التلخيص الأوّل،فلأنّه لا شبهة في أنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير المقيّد بالقيد غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أي بالعود لكان هذا الامتناع ناشئا إمّا من المسبوقيّة بالعدم،فهذا باطل أيضا،لأنّه على هذا يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالحدوث حيث إنّ الحدوث وجود مسبوق بالعدم و إمّا من المسبوقية بالوجود فهذا باطل أيضا لأنّه على هذا يلزم أنّ لا يتّصف ماهيّة بالبقاء و لو كان البقاء بقاء في الجملة حيث إنّ البقاء وجود مسبوق بالوجود.و إمّا من مجموع القيدين فهذا باطل أيضا،لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و حيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ اتّصاف الذات الممكنة بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني اتّصافها بالعود غير ممتنع و هو المطلوب.

و أمّا في التلخيص الثاني،فلأنّه لا شبهة في أنّ ذات الممكن من حيث هي أي غير مقيّدة بقيد أو وصف لا يمتنع اتّصافها بالوجود،فلو امتنع اتّصاف ذاته المقيّدة بالقيدين و الموصوفة بهذين الوصفين بالوجود أي بالعود،لكان هذا الامتناع ناشئا،إمّا من المسبوقيّة بالعدم و اتّصافها به،فهذا باطل،و إلاّ لم تخرج ماهيّة من العدم إلى الوجود،حيث إنّ الذات متّصفة بالعدم حينئذ،و إمّا من المسبوقيّة بالوجود،فهذا باطل أيضا،لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل،فقد صار قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون،و إن لم يفدها زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنّها لا تنقص عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات،لكونها ممكنة بالذات،و معنى الإمكان ذلك،

ص:365

و إمّا من مجموع الوصفين،فهذا أيضا باطل،لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و حيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ ذات الممكن الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود لا يمتنع اتّصافها بالوجود أي بالعود و هو المطلوب.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل كلامه فيما رامه من تتميم الدليل.

و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالعدم منشأ للامتناع المذكور في كلا التلخيصين دليل واحد،و إن كان مختلفا بحسب العبارة،حيث إنّ لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث كما ذكره في الأوّل و لزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود معناهما واحد.

و أمّا ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور،فهو في التلخيص الثاني أمر آخر غير ما ذكره في التلخيص الأوّل،حيث إنّه في الأوّل لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء،و في الثاني هو الدليل الأخير المبنيّ على شقّي الترديد،بل هو الجواب الذي ذكره القائلون بجواز عود المعدوم عمّا أورده عليهم القائلون بامتناعه، حيث إنّك قد عرفت ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي فيما سلف أنّه نقل عن القائلين بجوازه دليلا عليه،مفاده:أنّه لو استحال عود المعدوم للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي-إلى آخر ما نقله عنهم-و مآله هو الدليل الذي نقله الشارح عنهم،و جعل كلام المصنّف إشارة إلى الجواب عنه.ثمّ نقل عن القائلين بامتناعه إيرادا عليه و جوابا عنه،مفاده أنّ العود أي الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم، و الممتنع هو هذا المقيّد و الوجود الأوّل خال عن هذا القيد،لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود،و تحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق،لما بينهما من المغايرة الذاتيّة-إلى آخر ما نقله عنهم-ثمّ نقل عن القائلين بجوازه جوابا عن هذا الإيراد،و هو ما ذكره الشارح أخيرا دليلا على أنّه لا يمكن أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور.

و حينئذ نقول:لا سترة في أنّ ما ذكره الشارح أوّلا لإبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود إذا اعتبرت قيدا للمحمول منشأ لهذا الامتناع،أي لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء،لو تمّ لجرى في إبطال ذلك لو اعتبرت قيدا للموضوع أيضا كما في التلخيص الثاني،و أنّ ما ذكره

ص:366

أخيرا لإبطال ذلك،أي الدليل المبنيّ على الترديد،لو تمّ لجرى في الأوّل أيضا،فيرد عليه سؤال وجه الفرق بين الدليل في الصورتين.

و يمكن أن يقال:إنّه لعلّه إنّما خالف بينهما في الدليل إمّا تفنّنا في الدليل،و إشارة إلى أنّ كلاّ من الدليلين يجري في كلّ من الصورتين.و إمّا لأجل أنّه رأى أنّ الدليل الأوّل إنّما يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بلا واسطة،أي لا يتخلّل بينهما عدم،كما في صورة البقاء،و لا يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بالواسطة و تخلّل بينهما عدم،كما فيما نحن بصدده،أي العود،فحيث إنّه تفطّن لذلك،ذكر فيه في إبطال التلخيص الثاني ما يجري في صورة تخلّل العدم أيضا،و هو الدليل الذي ذكره بقوله:لأنّ الوجود الأوّل-إلى آخره-و أشار بذلك إلى أنّه يجري في إبطال التلخيص الأوّل أيضا،فأشار به إلى أنّ المسبوقيّة بالوجود مطلقا لا يمكن أن تكون منشأ لهذا الامتناع.أمّا المسبوقيّة به بلا واسطة سواء كانت قيدا للموضوع أو المحمول، فلأنّه يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالبقاء.و أمّا المسبوقيّة بواسطة،أي مع تخلّل العدم،سواء كانت أيضا قيدا للموضوع أو المحمول،فللدليل الذي ذكره أخيرا.

بل ربما يمكن أن يقال:إنّه أشار أيضا به إلى أنّ القيد الذي اعتبرناه قيدا للمحمول في التلخيص الأوّل،و قيدا للموضوع في التلخيص الثاني،لو اعتبر قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع كما اعتبرناه،فظاهر أنّه لا يمكن أن يكون منشأ للامتناع المذكور،لما ذكرنا من الوجه في ابطال كون كلّ من المسبوقيّة بالعدم و المسبوقيّة بالوجود أو مجموعهما منشأ له.و كذا لو اعتبر قيدا واحدا أي أن يكون المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع، و المسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم كما هو المحتمل،فإنّه لا يكون أيضا منشأ له،لما ذكرنا من الدليل الأخير،فسواء اعتبر ذلك القيد قيدين اثنين أم قيدا واحدا،فهو لا يكون منشأ لهذا الامتناع.

و لا يخفى عليك أنّ الإشارة الثانية،و إن كانت ممّا يمكن فهمها من كلامه بتكلّف و عناية،إلاّ أنّ الإشارة الأخيرة ممّا يأبى عنها كلامه،فإنّ صريح كلامه في إبطال التلخيصين أنّه جعل القيد قيدين اثنين لا واحدا،و مع ذلك فلا يخفى أنّ في كلامه أنظارا و أبحاثا.

ص:367

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار

منها ما أشار إليه المحشّي الشيرازي،و بيانه أنّ ما ادّعى الشارح من كون القيد هنا قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع خلاف ما ادّعاه المانع،فإنّ للمانع أن يقول:إنّا لم نجعله قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع،بل جعلناه قيدا واحدا لما قيّد به كما هو ظاهر العبارة في كلا تقريري سند المنع في كلامنا.و كذا هو ظاهر عبارة القائلين بامتناع العود كما نقله الفاضل الأحساوي عنهم.و كذا هو صريح معنى الإعادة التي ادّعينا امتناعها أي جعلنا المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع و المسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم.و على تقدير عدم ظهور العبارة في ذلك و عدم صراحة الإعادة في ذلك أيضا،فلا يخفى أنّه يمكن أن يقال بوحدة القيد هنا على النحو المذكور في مقام المنع،كما هو منصب المانع، فيندفع ما ذكره الشارح في إبطال كون كلّ من القيدين منشأ للامتناع في إبطال التلخيص الأوّل،و في إبطال كون المسبوقيّة بالعدم منشأ له في ابطال التلخيص الثاني،أمّا لزوم كون الممكن غير متّصف بالبقاء،فلأنّ البقاء ليس مسبوقا بالعدم المسبوق بالوجود الذي كلامنا فيه،بل إنّما هو مسبوق بالوجود خاصّة بلا واسطة.و أمّا لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث، و كذا لزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود،فلأنّ الحدوث أو الخروج من العدم ليسا مسبوقين بالعدم المسبوق بالوجود،بل إنّما هما مسبوقان بالعدم السابق على الوجود وحده.

و منه يظهر أنّ اكتفاء المحشّي الشيرازي باندفاع الأوّل غير جيّد،فإنّه يندفع بذلك الثاني أيضا،بل جميع ما ذكره الشارح في تتميم الدليل،حيث إنّ كلّه مبنيّ على جعل القيد،قيدين اثنين و قد عرفت بطلانه.

نعم لا يندفع بذلك ما ذكره من الدليل أخيرا،لو اجرى على تقدير وحدة القيد،و سيأتي بيان وجه اندفاعه أيضا.

و منها ما أشار إليه المحقّق الدواني،و كأنّه على سبيل التنزّل.و بيانه أنّه على تقدير تسليم كون القيد هنا قيدين اثنين لا قيدا واحدا،فما ذكره الشارح في إبطال كلّ من التلخيصين من قوله:و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و معلوم بالضرورة أيضا أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع ممنوع،بل هو أوّل المسألة،و كيف

ص:368

تسمع دعوى الضرورة في مثل هذا المقام مع مخالفة الجماهير من الأعلام.

و حيث ذكرنا أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام من المحقّق الدواني على سبيل التنزّل، فلا يرد عليه ما ذكره المحشّي الشيرازي:من أنّه اقتفى أثر الشارح في جعل القيدين قيدا للوجود-إلى آخره-فتبصّر.

و أيضا يرد على الشارح على تقدير جعل القيد قيدين اثنين كما فعله،ما أشار إليه ذلك المحقّق أيضا و هو أنّه يمكن إجراء نظير ما ذكره في تتميم الدليل في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة،الذي نفاه الشارح فيما تقدّم منه في التمهيد.فما ذكره في التتميم مخالف لما ذكره في التمهيد،بل هو ينتقض به.و بيان الإجزاء أنّه يمكن أن يقال:إنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق،غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافه بالوجود المقيّد بالدوام،لكان هذا الامتناع ناشئا من هذا القيد أي قيد الدوام الذي جعل قيدا آخر للممكن،لكنّه ليس منشأ للامتناع و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام.و معناه كما ذكره المحشّي الشيرازي:و إلا لم يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتناول لدوام الوجود و دوام العدم المتحقّق في ضمن دوام العدم،و هذا باطل،لأنّ اتّصاف ممكن ما بدوام العدم ممّا لا يمكن إنكاره،بل هو ممّا لم يخالف فيه أحد،و إن كان اتّصافه بدوام الوجود مختلفا فيه بين القائلين بقدم العالم و القائلين بحدوثه،متحقّقا عند القائلين بقدمه.هذا مع قطع النظر عن أنّ من قال بالصفات الموجودة الزائدة على ذاته تعالى قال بتحقّق اتّصاف الممكن بدوام الوجود.

فإن قلت:للشارح أن يقول في دفع هذا الإجراء و النقض عنه:إنّا حيث قلنا بامتناع اتّصاف ذات الممكن بالوجود المقيّد بالدوام،و جعلنا الامتناع ناشئا من هذا القيد فاللازم علينا أن لا يتّصف ممكن بدوام الوجود،و هو حقّ،نلتزمه،فإن فرض اتّصافه بدوام الوجود إنّما يصحّ عند من قال بقدم العالم أو بالصفات الزائدة،و كلّ من المذهبين باطل، كما تقرّر في مقرّه،و ليس يلزم علينا أن لا يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتحقّق في ضمن دوام العدم حتّى يكون باطلا.

قلت:فعلى هذا فيجعل الشارح القيد قيدا واحدا،أي يجعل الوجود قيدا و وصفا للممكن،و يجعل الدوام قيدا للقيد الأوّل أي الوجود،فليكن الحال فيما ذكره في التتميم

ص:369

كذلك،فلم جعله فيه قيدين اثنين،مع كونه خلاف ظاهر كلام المانع،بل خلاف صريح كلامه.

فحاصل اعتراض المحقّق على الشارح أنّه إن اعتبر القيد قيدين اثنين،كما ذكره في التتميم،فيرد عليه أنّه يمكن إجراء نظير ذلك في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة، و إن اعتبره قيدا واحدا حتّى يندفع عنه هذا الإجراء،فليكن الحال فيما ذكره في التتميم كذلك،و به يندفع ما ذكره:فالفرق بجعل القيد قيدين اثنين و جعله قيدا واحدا هنا تحكّم.

و منه يظهر أنّ المحقّق الدواني تفطّن لإمكان جعل القيد قيدا واحدا،و أنّه به يندفع ما ذكره الشارح في التتميم،و أن ما أورده عليه على تقدير جعل القيد قيدين اثنين إنّما على سبيل التنزّل و التسليم كما ذكرنا،و إن كان أيضا بعض إيراده على مذهب بعض، فتدبّر.

و منها ما أورده المحقّق الدواني على قوله:لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد -إلى آخره-،و حاصله امتناع فرض المقدّم في الشرطيّة الاولى،و لذلك امتنع لزوم التالى.و منع حقّية التالي في الشرطيّة الثانيّة.بيان الأوّل،أنّه من البيّن أن الشيء كالوجود الأوّل إذا حصل بالفعل كما هو المفروض،برئت المادّة القابلة له كالماهيّة من جميع مراتب استعداده،فلا يبقى استعدادها له بوجه أصلا فضلا عن أن يكون الوجود الأوّل مفيدا لزيادة استعدادها له،إذ الاستعداد و الفعليّة متنافيان،و ما ليس في المادة استعداده أصلا لا يمكن حدوثه مطلقا،فضلا عن أن يكون قابليّتها للوجود أقرب و إعادتها على الفاعل أهون.و بالجملة فمع عدم بقاء استعداد له بوجه كيف يكون قابليّتها للوجود أقرب.و هذا هو بيان إيراده في الشرطيّة الاولى.و قد اعترض عليه المحشّي الشيرازي و أجاب عنه.

و حاصل الاعتراض أنّ للشارح أن يقول:إنّما برئت المادّة من جميع مراتب استعداد الوجود المبتدأ الأوّل الحاصل بالفعل،دون الوجود الثاني المعاد،فإنّه يجوز أن يبقى استعدادها له.و هذا معنى قوله:فقد صارت قابليّتها للوجود ثانيا أقرب-إلى آخره-.

ص:370

و حاصل الجواب أنّ الشارح لا يمكنه القول بذلك،لأنّ كلامه في هذا الدليل إنّما هو في العبارة الاولى في تقرير السند التي هي العبارة الثانية في التلخيص،و لا يخفى أنّ في تلك العبارة قد اعتبر التقييد و التخصيص في جانب الموضوع،و ترك المحمول الذي هو الوجود على صرافة الإطلاق.و حيث كان الوجود مطلقا فلا يكون المأخوذ هنا وجود أوّل و ثان،حتّى يمكن أن يقال إنّ المادّة و إن برئت من استعداد الوجود الأوّل،لكن استعدادها للوجود الثاني باق،بل المعتبر هنا الوجود المطلق على إطلاقه،و حيث كان المفروض براءة المادّة عن استعداده مطلقا،فكيف يكون استعدادها له مرّة اخرى باقيا.

و أنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يحسم مادّة الشبهة،فإنّ الشارح لو أجرى هذا الدليل في العبارة الاولى في التلخيص التي هي العبارة الثانية في تقرير السند،حيث إنّ ظاهره إمكان ذلك الإجراء،لورد عليه هذا الاعتراض و لم يصحّ هذا الجواب،فإنّه من البيّن أنّ التقييد و التخصيص فيها قد اعتبر في جانب المحمول أي الوجود و ترك الموضوع على صرافة الإطلاق.اللّهم إلاّ أن يقال:لعلّ الشارح لا يجري ذلك ثمّة و الجواب الحاسم لمادّة الشبهة أن يقال:إنّ الوجود الثاني إن كان هو الوجود الأوّل بعينه فقد فرض براءة المادّة من جميع مراتب استعداده،فكيف يكون استعداده باقيا و إن كان غيره فعلى تقدير بقاء استعدادها له و حصوله ثانيا بذلك الاستعداد،لم يكن هو الوجود الأوّل بعينه و لا الذات، هي الذات الاولى.إذ قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات،فلم يكن هنا عود معدوم كما هو المفروض؛هذا خلف.

و أيضا على تقدير الإغماض عن ذلك،فما ذكره الشارح من«إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني،و كون قابليّة المادّة للوجود الثاني أقرب،و إعادتها على الفاعل أهون»ممنوع،إذ اللازم ممّا ذكر إمكان بقاء أصل الاستعداد له، لا زيادته.

فإن قلت:لعلّ من يقول بجواز عود المعدوم بعينه،يقول:بجواز عود جميع مراتب استعداده بعد براءة المادّة عنها أيضا،و حينئذ يمكن أن يكون الوجود الثاني هو الأوّل بعينه،و أن يعود و يحصل بعود جميع مراتب استعداده،و أن يكون الوجود الأوّل أفاد

ص:371

المادّة القابلة زيادة استعداد لقبول الوجود،على ما هو شأن سائر القوابل،بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل.حيث إنّ المقبول إذا حصل للقابل مرّة،يصير القابل أقبل له،و اتّصافه به أسهل،فإذا اتّصف مرّة اخرى،صار أشدّ قبولا له،حتّى يصير ملكة،و هذا ظاهر،و أن يصير قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون.

قلت:فعلى هذا يجوز أن يعود جميع الصفات و الخواصّ و الحالات الحاصلة مع الوجود الأوّل ثانيا،حتّى الزمان،و إن لم نقل بكونه مشخّصا فيعود حينئذ جميع المفاسد التي ذكرت سابقا على تقدير عود الزمان؛فتذكّر.

و أيضا القابل إنّما يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول،إذا كانت الهويّة القابلة باقية بعد عدم المقبول الأوّل.و أمّا إذا انتفت الهويّة بعد المقبول الأوّل،حيث إنّ المفروض هنا انتفاء الهويّة أي ذات الممكن في الخارج بعد ما وجد أوّلا أو انتفت بانتفاء المقبول،حيث إنّك قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات،و أنّه بانتفائه ينتفي الذات.فلا يتحقّق حينئذ هنا أصل استعداد فضلا عن زيادة استعداد،فإنّ الاستعداد لكونه أمرا وجوديّا يفتقر إلى محلّ يقوم به،و إذ ليس فليس.نعم ربما يمكن تصحيح ما ذكره على مذهب المعتزلة القائلة بثبوت المعدومات و هذا المذهب مع كونه باطلا في نفسه كما تقرّر في موضعه لم يذهب هو إليه.

و أمّا بيان الثاني-أي بيان منع التالي في الشرطيّة الثانية-،أنّه على تقدير عدم إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني كيف علم بالضرورة أنّ الماهيّة لا تنقص حينئذ أصلا عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات.و هل النزاع إلاّ فيه،حيث إنّ المانع لم يدّع إلاّ أنّ طريان العدم يجوز أن يكون مانعا عن قبول الماهيّة للوجود ثانيا يعني أنّه يمكن أن يمتنع اتّصافها بالوجود المسبوق بالعدم و إن لم يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق غير المقيّد بهذا القيد،أو أنّه يمكن أن يمتنع اتّصاف الماهيّة الموصوفة بطريان العدم عليها بالوجود مطلقا،و إن لم يمتنع اتّصاف الماهيّة غير الموصوفة بهذا الوصف به.

و الحاصل أنّ ذلك محلّ النزاع،فكيف يدّعي الضرورة فيه؟!

و أيضا إن أراد بقابليّة الوجود في جميع الأوقات معنى يكون فيه جميع الأوقات ظرفا

ص:372

للوجود،فهذا و إن كان ينفعه هنا لكنّه باطل في نفسه،كما أبطله هو نفسه في التمهيد،و إن أراد به معنى يكون فيه ذلك ظرفا للقابليّة،فهو على هذا يكون ظرفا للوجود في الجملة كما تبيّن فيما سبق،و هذا و إن لم يكن باطلا،لكنّه ممّا لا ينفعه هنا أصلا إذ قابليّة الماهيّة في جميع الأوقات للوجود في الجملة لا تستلزم كونها قابلة بعد طريان العدم عليها للوجود.

و هذا التفصيل هو مقصود المحشّي الشيرازي في توجيه كلام المحقّق.

ثمّ إنّه بما ذكر يتلخّص أنّ الوجود الأوّل بعد طريان العدم عليه كما أنّه لم يفد زيادة استعداد للثاني،يمكن أن يكون مانعا أيضا عن الثاني،فتدبّر.

ص:373

بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم

على الجواز بالآيات و الروايات]

ثمّ إنّه بما ذكرناه هنا مع ما أسلفناه فيما تقدّم يظهر ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآية و الحديث،كقوله تعالى:

«وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (1)

و قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (2)

و قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (3)

و أمثال ذلك من الآيات

و كقول عليّ عليه السّلام:«عجبت لمن أنكر النشأة الاخرى و هو يرى النشأة الاولى». (4)

و أمثاله من الأخبار،كما وقع لبعض القائلين بالجواز.

أمّا الاحتجاج بالآية الاولى،فلأنّ الاحتجاج بها عليه،إنّما هو مبنيّ على أن يكون معنى الأهونيّة في الآية،هو ما ادّعاه الشارح المذكور تبعا للقائلين بجواز إعادة المعدوم، و قد عرفت عدم صحّة هذا المعنى،و مع ذلك فالآية غير صريحة و لا ظاهرة في الأهونيّة بهذا المعنى حتّى يجب تصحيحها،بل يمكن حملها على معنى آخر لا يكون مؤيّدا للقول بجواز الإعادة،و لا يكون منافيا أيضا للقول بامتناعها،و هو حملها-و اللّه أعلم-على أنّه إذا جاز بدء الخلق و إنشاؤه ابتداءً من غير مادّة و عن لا شيء و إخراجه عن كتم العدم،

ص:374


1- -الروم:27. [1]
2- -يس:79. [2]
3- -الأعراف:29. [3]
4- -نهج البلاغة، [4]الكلمة 126 من قصار كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام.

فإعادته بعد فنائه و هلاكه،أى جمع الأجزاء المتفرّقة من الأجسام مطلقا بعد تفرّقها مع بقاء موادّها،بل بقاء أجزائها الأصليّة،كما دلّ الدليل على بقائها،و كذا إعادة النفوس و الأرواح التي هي باقية غير فانية فيما له نفس مجرّد كما دلّ الدليل على بقائها أيضا إلى تلك الاجسام ذوات النفوس بعد قطع علاقتها عنها تكون أهون عليه،حيث إنّ الجمع بعد التفرّق،و كذا إعادة ما هو باق إلى ما كان متعلّقا به و زال تعلّقه عنه أهون من الإنشاء ابتداءً و من الإخراج من كتم العدم،لا الأهونيّة بحسب الحقيقة حتّى يرد أنّ قدرة القادر على الإطلاق-تعالى شأنه-لا يختلف نسبتها إلى مقدور دون مقدور،بل هي بالنسبة إلى جميع الممكنات على السواء،بل أهونيّة بحسب ما يراه القادرون غيره تعالى في مقدوراتهم و أفعالهم.

و الحاصل أنّ الأهونيّة ينبغي أن تكون محمولة على التمثيل و المجاز،و كأنّ قوله تعالى: «وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى» (1)يمكن أن يكون إشارة إليه،و إن كان قد فسّره بعض المفسّرين بأنّ له الوصف الأعلى.

و أمّا الاحتجاج بالآية الثانية،فلأنّ قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» (2)لا دلالة فيه على أنّ الإحياء مثل الإنشاء في الكيفيّة و أنّه كما كان الإنشاء إخراجا من كتم العدم،كذلك الإحياء،حتّى يكون دليلا على إعادة المعدوم،سواء قيل بكون الإنشاء مفيدا زيادة استعداد للإحياء في تلك المادّة القابلة أم لم يقل،بل إنّما تدلّ الآية على أنّ الذي أنشأها أوّل مرّة يحييها بعد ذلك،و إن كانت الكيفيّة مختلفة على ما ذكرنا.و لعلّ قوله تعالى في صدر الآية: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» إشارة إلى الاختلاف في الكيفيّة، لأنّ العظام إذا كانت رميما لا تنعدم بالمرّة،بل من وجه.

و أمّا الاحتجاج بالآية الثالثة فبمثل ما تقدّم،لأنّ قوله: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (3)لا دلالة فيه على أنّ التشبيه في ذلك مع استواء الكيفيّة،بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل، و إن كانت الكيفيّة مختلفة أيضا كما ذكرنا.

و أمّا الاحتجاج بالحديث فبمثل ما تقدّم أيضا لأنّه يمكن أن يكون معناه:عجبت لمن

ص:375


1- -الروم:27. [1]
2- -يس:79. [2]
3- -الأعراف:29. [3]

أنكر النشأة الاخرى و أنكر العود،و الحال أنّه يرى النشأة الاولى،أي أنّه حيث رأى النّشأة الاولى،و علم أنّه تعالى أوجد الأشياء عن لا شيء،فلم لم يعلم أنّه يقدر أن يوجد النشأة الاخرى مع كونه أهون بالنظر إلى ما يراه القادرون،أي أن يجمع متفرّقات الأجسام الباقية موادّها و أجزاؤها الأصليّة و أن يعيد النفوس الباقية أيضا فيما له نفوس مجرّدة إلى تلك المجتمعات من الأجسام،بعد قطع تعلّقها عنها،و اللّه تعالى و أولو العلم أعلم.

ص:376

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي

على جواز الإعادة و كذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني

على امتناع الإعادة

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ الوجه الإقناعيّ الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة ضعيف أيضا،يرد عليه ما أورده المحقّق الدواني عليه،كما لا يخفى على المتأمّل.

مثل أنّ الوجه الآخر الذي ذكره ذلك المحقّق نفسه على امتناع الإعادة ضعيف أيضا.

و بيانه أنّ ذلك الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بأنّ وجود الحادث يتوقّف على أسباب غير متناهية،و هي الحوادث المتسلسلة،من غير بداية كالحكماء القائلين بقدم العالم،و كذا بامتناع عود المعدوم،و أمّا على مذهب من لم يقل بالتوقّف المذكور كالمتكلّمين القائلين بحدوث العالم،سواء كانوا قائلين بجواز العود كالأكثرين منهم، أو بامتناعه كبعض المعتزلة منهم،فلا يصحّ ذلك لأنّ للقائلين بجوازه أن يقولوا:إنّا لم نقل بتوقّف الوجود الابتدائي على أسباب غير متناهية متسلسلة،حتّى يلزم علينا على تقدير العود توقّفه على تلك الأسباب المتسلسلة غير المتناهيّة،حتّى يكون باطلا.

و أيضا على تقدير أن يكون هناك قائل بجواز العود يقول بالتوقّف على تلك الأسباب المتسلسلة،فله أن يقول:إذا جاز العود أي عود المعدوم،فجاز أيضا عود أسبابه و إن كانت غير متناهية متسلسلة.و لا نسلّم بطلانه،لأنّه كما جاز وجود تلك الأسباب ابتداءً،جاز وجودها حين العود أيضا فما وجه الفرق؟فإن كان وجه الفرق هو مجرّد جواز وجودها الابتدائي و عدم جواز وجودها الثانوي،فهو أوّل المسألة،و إن كان وجهه أنّها حين الوجود

ص:377

الابتدائي كانت حاصلة في أزمنة غير متناهية،و لا امتناع فيه لكون العالم قديما،و لا مانع من وجود أزمنة غير متناهية فيما مضى يتحقّق فيها أسباب غير متناهية متسلسلة،و أمّا هي حين العود لو عادت فتتوقّف على عود تلك الأزمنة غير المتناهية أيضا حتّى يتحقّق هي فيها،و هو محال،لأنّا نعلم بالضرورة أن ليس تعود في حال العود تلك الأزمنة غير المتناهية،و أن ليس هنا أزمنة غير متناهية،بل ليس إلاّ زمان واحد عرفي أو أزمنة متناهية،فذلك الوجه يرجع إلى أنّ عود الزمان محال،فعلى هذا فلا يكون هذا الوجه وجها آخر مغايرا لما تقدّم إلاّ في أنّ ما تقدّم كان مبنيّا على امتناع عود الزمان مطلقا،و هذا مبنيّ على أنّه يمتنع عود الزمان غير المتناهي،فتدبّر.

و أمّا ما ذكره ذلك المحقّق في منع لزوم إعادة جميع الأسباب،بقوله:لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط،فهو إن كان مبنيّا على هذا المذهب القائل بتوقّف وجود الحادث على أسباب غير متناهيّة،كما هو ظاهر سياق كلامه،فيرد عليه أنّه على هذا المذهب،كيف يمكن أن يقال بتوقّف وجود الحادث على أسباب متناهية،مع كونه مخالفا لهذا المذهب،و كأنّ هذا الإيراد هو منظور المحشّي الشيرازي،حيث قال:إنّ السند ليس بشيء،لما تقرّر عندهم أنّ العلّة التامّة للحادث لا بدّ أن تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة و إلاّ يلزم التخلّف عن العلّة التامّة؛هذا خلف.و إن كان مبنيّا على أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بالتوقّف على امور غير متناهيّة،و أمّا على مذهب من لا يقول به فلا يصحّ،لأنّ له أن يقول:يجوز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط،و لا امتناع فيه،فله وجه.و يرجع إلى ما ذكرنا،إلاّ أنّ سياق كلامه كأنّه يأبى عنه.

و أمّا ما ذكره بقوله:«أو بها منضمة إلى تلك الأسباب السابقة المتسلسلة»،فيرد عليه أنّ تلك الأسباب السابقة المتسلسلة حتّى السبب الأخير القريب لوجود الحادث لمّا فرضت معدومة بأجمعها،لم يكن لها دخل في وجود ذلك ثانيا،إذ ليست هي موجودة حينه،إلاّ أن يقال بجواز عودها،و هو باطل كما ذكره،فبقي أن يكون السبب في وجودها ثانيا هو تلك الأسباب المتناهية فقط،و قد عرفت حاله،فيظهر منه أنّ انضمام الثانية إلى الاولى لا يجدي نفعا،فتدبّر.

و حيث تحقّقت ضعف حجج القائلين بجواز إعادة المعدوم،فاعلم أنّ ما نقلناه عن

ص:378

الفاضل الأحساوي،حيث ذكر أنّه حقّق آخرون هذه الدعوى،فقالوا:إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه،فلعلّ أحدا لا يخالفه،فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص كالقدر المعيّن و الوقت المعيّن و الوضع المعيّن و أمثال هذه.و قد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر،فيرتفع النزاع من البين،و صحّ دعواهم تجويز العود،مع بعض العوارض و دعوى منعه لأنّ المراد بجميع العوارض.

ثمّ ذكر أنّ هذا صلح بين الفريقين،و رفع للنزاع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم و جوازه،فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض و المشخّصات معه، و من المعلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع،و القائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة و إن اختلفت العوارض،فيرتفع النزاع من البين و هو ظاهر،فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة،و كذلك من جوّزه بجميع أحواله و عوارضه،إذ العقل الصريح يمنعه، لاستحالة إعادة الأعراض و الصفات و العوارض اللاحقة الاعتباريّة،بل و الصفات الحقيقيّة،فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته،لأنّه نزاع لا محصول له.

كأنّ فيه نظرا و تأمّلا،لأنّ هذا الصلح المبنيّ على هذا التحقيق الذي ملخّصه أنّ مراد القائلين بامتناع العود،امتناع عود المعدوم مع جميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة،و أنّ مراد القائلين بجوازه،جواز عوده مع بعض العوارض،أي العوارض المشخّصة،إنّما يصحّ إذا تراضى الخصمان به،و كان كلامهم ممّا لا يأبى عن الحمل عليه، و كان على تقدير الحمل لا يرد عليه محذور،و الظاهر أنّه ليس كذلك فإنّه لا سترة في أنّ مراد القائلين بامتناعه،امتناع عود المعدوم بعينه كما هو المصرّح به فيما نقلنا من كلام المحقّق الطوسي و غيره.سواء كان كلامهم في امتناع عود المعدوم بالمرّة بعينه أو في امتناع عود المعدوم من وجه من ذلك الوجه الذي عدم بعينه.

و لا سترة أيضا في أنّ معنى امتناع عود المعدوم بعينه،امتناع عوده بشخصه و بجميع عوارضه المشخّصة فقط،لا بجميع عوارضه مطلقا و لو كانت غير مشخّصة،التي قد تتبدّل و تتغيّر مع بقاء الشخص بحاله بعينه كالكمّ و الوضع و أمثالهما،و أمّا أخذهم العوارض

ص:379

غير المشخّصة أيضا فهو إنّما كان في الدليل على مدّعاهم،لا في أصل الدعوى،كما أشرنا إليه في كلام الشيخ في الشفاء و التعليقات:من أنّ غرضهم أنّه لو جاز إعادة المعدوم بعينه و مع مشخّصاته،لجاز عوده مع جميع حالاته و صفاته و أعراضه و لو كانت غير مشخّصة أيضا،إذ لا فرق في ذلك بين العوارض المشخّصة و غير المشخّصة،و أنّه حينئذ يلزم المحال كما مرّ بيانه.

و كيف يمكن لهم أخذ العوارض غير المشخّصة في الدعوى،و الحال أنّه على تقدير أخذهم ذلك،و كون مرادهم أنّه لا يجوز عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة و غير المشخّصة،إن كان مرادهم كما هو مبنى هذا التحقيق،أنّ العود بجميع العوارض مطلقا محال،و أمّا عوده بجميع عوارضه المشخّصة فقط فليس بمحال،لورد عليهم أنفسهم ما أوردوه على تقدير جواز عوده بجميع المشخّصات من المحالات المتقدّمة ذكرها،و هل هذا إلاّ تناقض؟

ثمّ إنّه حيث ظهر أن مدّعى القائلين بامتناع العود،امتناع عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة،فيكون مدّعى القائلين بجوازه كما ذكره في التحقيق المذكور أي جواز عوده بجميع عوارضه المشخّصة،مقابلا لمدّعى القائلين بالامتناع،و يكون النزاع بين الفريقين معنويّا لا لفظيّا لا طائل تحته كما ذكره.

و حيث دلّ دليل القائلين بالامتناع على بطلان ذلك،يكون ما ادّعاه المجوّزون باطلا.

و الحاصل أنّه إن كان مراد المجوّزين ما ذكره،لورد عليهم المحال،كما أنّه لو كان مرادهم أعمّ من ذلك أي جواز عود المعدوم بجميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة ورد عليهم أشنع المحال.و على كلا التقديرين،فيكون نزاعهم مع الأوّلين في ذلك معنويّا لا لفظيّا،فتدبّر.

و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا المقام الذي كان المقصود فيه إقامة الدليل على امتناع عود المعدوم،و إبطال ما ذكره المجوّزون له دليلا على التجويز.

و حيث فرغنا بعون اللّه و حسن تأييده من تحقيق الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه، و كأنّه من خواصّ هذه الرسالة و تمّ ما رمنا إيراده في المقدّمة،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده و هو الغرض الأصلي من وضع الرسالة.

ص:380

النتيجة

فنقول و باللّه التوفيق إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه في مقدّمة الرسالة بطولها التي اقتضى تحقيق المرام تطويلها،تلخّص لك أنّ المعاد الجسماني الذي نطق به الشرع الشريف،في الإنسان الذي كلامنا في معاده-و قد عرفت أنّه عبارة عن مجموع النفس و البدن،و أنّ بدنه و إن كان ممّا يطرأ عليه الفناء و الموت بمعنى تفرّق أجزائه و انعدام صورته،لكنّه لا يفنى و لا ينعدم بالمرّة،بل يبقى مادّته و أجزاؤه الأصلية،و أنّ نفسه و إن كانت ممّا يطرأ عليها الموت أيضا بمعنى قطع تعلّقها عن البدن،لكنّه ممّا لا يطرأ على ذاتها الفناء أصلا،بل هي باقية بذاتها بعد قطع تعلّقها عنه،كما كانت باقية حين تعلّقها به-يمكن أن يكون-و اللّه تعالى أعلم-بإعادة تعلّق النفس الباقية بعد قطع تعلّقها عن البدن أوّلا بالبدن ثانيا،أي بالبدن الذي ينشأ و يخلق بقدرة اللّه تعالى من تلك المادّة و الأجزاء الأصليّة الباقية مرّة اخرى.

و تلخّص لك أيضا أنّ المعاد روحاني و جسماني جميعا.

أمّا الرّوحاني فبالنسبة إلى روحه و نفسه بمعنى عود تعلّقها بالبدن أي تعلّقها به مرّة اخرى تعلّقا آخر غير التعلّق الأوّل،حيث إنّ التعلّق لمّا كان يستدعي أمرين متعلّقا و متعلّقا به،يكون تعيّنه بتعيّن الأمرين،و حيث كان المتعلّق به هنا أي البدن مغايرا للأوّل و لو بالاعتبار،فيكون التعلّق الثاني غير التعلّق الأوّل.

و أمّا الجسماني فبالنسبة إلى جسمه و بدنه بمعنى خلقه مرّة اخرى من مادّته و أجزائه الأصليّة،لا روحاني فقط كما ادّعاه بعض الحكماء.

و تلخّص لك أيضا أن ليس فيما ذكرنا من معنى المعاد إعادة معدوم بعينه،لا بالنسبة

ص:381

إلى النفس و لا بالنسبة إلى البدن و لا بالنسبة إلى التعلّق بينهما،حتّى يكون ممتنعا،و كذا ليس فيه خلق شخص آخر،مغاير للأوّل ذاتا،حتّى يلزم أن يكون محلّ الثواب و العقاب، غير ما هو محلّ فعل الطاعة و المعصية،و يكون ظلما ممتنعا على اللّه تعالى،بل إنّ الشخص المعاد يوم القيامة،هو بعينه الشخص الموجود في الدنيا نفسا من جهة ذاتها الباقية،و كذا بدنا من جهة المادّة و أجزائه الأصليّة الباقية،و إن كان مغايرا له باعتبار الأجزاء الفضليّة الفرعيّة و الصورة.

و حيث تلخّص لك في مقدّمة الرسالة ما ذكرنا فحريّ بنا الآن أن نزيدك بيانا لهذا،و إن ما ذكرناه من معنى المعاد لا مخالفة فيه للعقل و النقل بوجه،و أن نقيم الدليل العقلي على أنّ المعاد ينبغي أن يكون واقعا على هذا الوجه الذي دلّ عليه الشرع،لا على وجه آخر.

ثمّ إنّه حيث توقّف بيان ما ذكرناه في المقدّمة من أن ليس المعاد روحانيّا فقط كما زعمه بعض الحكماء على بيان حدوث النفس بحدوث البدن،على ما بيّناه هنالك، و توقّف ما ذكرناه فيها من بقاء النفس بعد قطع تعلّقها عن البدن على بيان تجرّدها عن المادّة في ذاتها كما بيّناه أيضا هنالك،و توقّف بيان ما نريد بيانه هنا على بيان كيفيّة تعلّقها بالبدن و احتياجها إليه في أفعالها و كيفيّة انتفاعها بقواها و حواسّها كما ستعرفه.

و بالجملة حيث توقّف تنقيح ما رمنا تنقيحه على القدر الضروري هنا من بيان صفاتها و حالاتها و خواصّها و أفعالها و إدراكاتها،بل على القدر الضروري هنا من معرفة إنيّة النفس و ماهيّتها و حقيقتها في الجملة أيضا فلنقدّم ذكر ذلك،ثمّ نتبعه بذكر ما هو المقصود، و لنبيّن هذه المطالب في أبواب.

ص:382

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.