سرشناسه : حسن، عباس
عنوان و نام پدیدآور : النحو الوافی مع ربطه بالا سالیب الرفیعه و الحیاه اللغویه المتجدده/ تالیف عباس حسن.
مشخصات نشر : تهران : ناصرخسرو، 1422ق.= 1380.
مشخصات ظاهری : 4 ج.
مندرجات : ج. 1. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 2. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 3. القسم الموجز للطلبه الدداسات النحویه و الصرفیه بالجامعات و المفصل للاساتذه و المتخصصین مشتمل علی ضوابط و الاحکام التی قررتها الجامع اللغویه و موتمراتها الرسمیه .-- ج. 4. القسم الموجز للطلبه الدراسات النحویه بالجامعات و المفصل للاسائذه و المتخصصین
موضوع : زبان عربی -- نحو
رده بندی کنگره : PJ6151/ح 45ن 31380
رده بندی دیویی : 492/75
شماره کتابشناسی ملی : م 68-685
توضیح : «النحو الوافی»، تألیف عباس حسن، از جمله آثار معاصر در موضوع علم نحو است که به شیوه ای آموزشی، در چهار مجلد به زبان عربی تألیف شده است.کتاب، مشتمل بر یک مقدمه و چهار جزء است. ابواب کتاب، بنا بر ترتیبی که ابن مالک در «الفیه» انتخاب کرده و بسیاری از نحویون پس از او اختیار کرده اند، مرتب شده است.
نویسنده در تألیف کتاب، به شیوه آموزشی معینی ملتزم نبوده و به تناسب از شیوه های استنباطی، القائی و محاوره ای استفاده کرده است.همچنین در پاورقی پس از بیان قاعده و شرح آن، ابیاتی از الفیه را که مرتبت با بحث بوده نقل کرده و به طور خلاصه توضیح داده است.
در مواردی که بین یک مبحث از صفحات پیشین یا پسین رابطه ای با مسئله مورد بحث بوده، به صفحه آن بحث اشاره شده است.
ص: 1
ص: 2
(وتسمی : لفظیّة ، أو : مجازیة (1) - ولها ملحقات (2) -.)
فالأولی : ما کان فیها الاتصال بین الطرفین قویّا ؛ ولیست علی نیة الانفصال (3) ؛ لأصالتها ، ولأنّ المضاف - فی الغالب - خال من ضمیر مستتر یفصل بینهما.
والأکثر أن یکون المضاف فی الإضافة المحضة واحدا مما یأتی :
1 - اسم من الأسماء الجامدة الباقیة علی جمودها (4) ، کالمصادر (5) ، وأسماء
ص: 3
المصادر (1) ، وکثیر من الظروف ، والجوامد الأخری ، نحو : لا یتم حسن الکلام إلا بحسن العمل - لو استعان الناس کعون النمل ما وجد بینهم شقیّ ، ولا محروم - عند الشدائد تعرف الإخوان - لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه -
ومن الأمثلة للجوامد المضافة ، الباقیة علی جمودها ، الکلمات : أرض - بعض - جسم - فؤاد - فی قول الشاعر :
أیها الراکب المیمّم (2)
أرضی
اقر (3) من بعضی
السّلام لبعضی
إنّ جسمی - کما علمت - بأرض
وفؤادی ومالکیه بأرض
ب - المشتقات الشبیهة بالجوامد ؛ (وهی المشتقات التی لا تعمل مطلقا (4) ، ولا تدل علی زمن معین) کصیغ أسماء الزمان ، والمکان ، والآلة ؛ مثل الکلمات : مسکن ، مزرعة ، محراث ، منجل ، مذراة ، مغرب ... فی نحو : (الفلاح کالنحلة الدءوب النافعة ؛ یغادر مسکنه قبل الشروق ، قاصدا مزرعته ؛ یعمل فیها ویکدّ ؛ فلا تراه إلا قابضا علی محراثه ، أو منحنیا علی فأسه ، أو حاصدا بمنجله ، أو مذریا بمذراته ، أو متعهدا زروعه. و ... ویظل علی هذا الحال حتی المغرب ؛ فیرجع من حیث أتی ، دون أن یعرّج علی ملعب ، أو ملهی ، أو مقهی یسهر فیه ، ثم یقضی اللیل هادئا نائما حتی یوافیه الصباح الجدید).
ویدخل فی هذا النوع : المشتقات التی صارت أعلاما ؛ وفقدت خواص الاشتقاق ، بسبب استعمالها الجدید فی التسمیة (5) ؛ مثل الأعلام : محمود - حامد - حسن ...
ص: 4
ح - المشتقات التی لا دلیل معها علی نوع الزمن الذی تحقّق فیه معناها (1) ؛ نحو : قائد الطیارة مأمون القیادة ؛ فإن کلمة : «قائد» اسم فاعل مضاف ، ولیس فی الجملة دلیل علی نوع زمن القیادة ؛ أهو الماضی ، أم الحال ، أم الاستقبال؟ وکذلک کلمة : «مأمون» التی هی اسم مفعول ... (وتسمی هذه المشتقات الخالیة من الدلالة الزمنیة : ب «المشتقات المطلقة الزمن (2)»).
د - المشتقات الدالة علی زمن ماض (3) فقط ؛ نحو : عابر الصحراء أمس کان مملوء النفس أمنا واطمئنانا.
ه - أفعل التفضیل - علی الرأی المشهور (4) - وهو من المشتقات التی لها بعض (5) عمل - مثل : أعجبت بشوقیّ ؛ أشهر الشعراء فی عصره ، وقولهم : أکمل المؤمنین إیمانا أحسنهم أخلاقا.
و - إضافة الوصف إلی الظرف مع وجود القرینة الدّالة علی المضیّ أو علی الدوام ؛ مثل : أزال ساطع الصباح البهیج حالک اللیل البهیم ، وکقوله تعالی عن نفسه : (مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ.)
* * *
ص: 5
والثانیة : ما یغلب أن یکون فیها المضاف وصفا (1) ، عاملا ، دالّا علی الحال ، أو الاستقبال ، أو الدوام. (ویسمی هذا الوصف : ب «المشبه للفعل المضارع فی العمل والدلالة الزمنیة») ، وینحصر فی اسم الفاعل ، واسم المفعول ، بشرط أن یکونا عاملین ، دالّین علی الحال ، أو الاستقبال. وفی الصفة المشبّهة - فی الرأی الراجح بین آراء أخری قویة (2) - ولا تکون إلا للدوام غالبا ؛ نحو : (استجب لطالب الحقّ الیوم ، قبل أن ینتزعه بعامل القوة غدا) - (إذا شاهدت غلاما مشرّد النظرات ، موزّع الفکر ، مسلوب الهدوء ، فاعلم أنه بائس یستحق العطف ، أو جان یستحق الزرایة) - (عظیم القوم من یهوی عظیمات الأمور).
ویلحق بالإضافة غیر المحضة بعض إضافات أخری سیجیء الکلام عنها فی موضعه المناسب (3) عند تناول ما سبق بالإیضاح.
ولا بد فی جمیع حالات الإضافة المحضة وغیر المحضة من أن یکون المضاف اسما (4) وکذا المضاف إلیه. وقد یقع المضاف إلیه - أحیانا - جملة ؛ فیکون فی حکم المفرد - کما سنعرف - (5) :
* * *
الأول : أن یکون «المضاف إلیه» مجرورا دائما (1) ، لا فرق بین أن یکون مجرورا فی اللفظ ؛ (نحو قول الشاعر :
علی قدر أهل العزم تأتی العزائم
وتأتی علی قدر الکرام المکارم
ونحو : من وثق بأعوان السوء لقی منهم شرّ المصائب ...) ، ومجرور المحل (2) ؛ نحو : من التمس تقویم ما لا یستقیم کان عابثا ، وإخفاقه محققا. ونحو : نعم العربیّ ؛ یسرع للنجدة حین یدعوه الداعی ... و ... فکلمة : «ما» مضاف إلیه مبنیة علی السکون فی محل جر. والضمیر «الهاء» - فی إخفاقه - مضاف إلیه مبنی علی الضم فی محل جر. والجملة المضارعیة : «یدعو» مضاف إلیه فی محل جرّ.
وإذا کان المضاف إلیه هو : «یاء المتکلم» (3) فإنه یستوجب أحکاما أخری غیر الکسر ، ستجیء فی باب خاص به (4).
أما المضاف فلابد أن یکون اسما - کما سبق - ویعرب علی حسب حالة الجملة ؛ فیکون مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو غیر ذلک ... والکثیر أن یکون معربا. ومنه ما یکون مبنیّا ، ولا یمنعه البناء من أن یکون مضافا ؛ مثل : حین - حیث - إذ - إذا - لدن ... و ... (5) وغیرها مما سیمر بعضه فی هذا الباب ...
والمضاف هو عامل الجر فی المضاف إلیه (6) - تبعا للرأی المشهور - ...
ص: 7
الثانی : وجوب حذف نون المثنی ، ونون جمع المذکر السالم ، وملحقاتهما - إن وقع أحدها مضافا مختوما بتلک النون. فمثال حذفها من آخر المثنی المضاف قول الشاعر :
العین تعرف من عینی محدّثها
إن کان من حزبها أو من أعادیها
ومثال حذفها من آخر الملحق بالمثنی (1) قول الشاعر :
بدت الحقیقة غیر خاف أمرها
واثنا (2) علیّ یشهدان
بما بدا
ومثال حذفها من جمع المذکر : الجنود حارسو الوطن ، باذلو أرواحهم
ص: 8
فی حمایته. ومثال حذفها من الملحق (1) به قولهم : أحبّ الناس للمرء أهلوه ؛ فلا یقض سنی حیاته فی معاداتهم ، أو مقاطعتهم. وقول بعضهم یصف شهرا من شهور الضیف : لقد اشتدت وقدته ، وتأجّج سعیره ، وأحرقتنا ثلاثوه. وکان الأصل (2) قبل الإضافة : عینین - اثنان - حارسون - باذلون - أهلون - سنین - ثلاثون.
فإن کانت النون الأخیرة لیست للتثنیة ولا لجمع المذکر السالم ، ولا لملحقاتهما لم یجز حذفها من المضاف ؛ کالنون التی فی آخر المفرد ، مثل : سلطان - حنان - ، وکالتی فی آخر جمع التکسیر ، مثل : بساتین - ریاحین ؛ تقول : سلطان الضمیر أقوی من سلطان القانون - حنان الآباء والأمهات لا یسمو إلیه حنان أحد - کان العرب القدامی مفتونین ببساتین الشام وریاحینها ، یکثرون القول فی وصفها ، والتغنی بمباهجها.
ص: 9
1 - هناک حالة یجوز فیها حذف النّون وعدم حذفها من آخر المثنی وجمع المذکر السالم ، مع عدم إضافة کل منهما. وتتحقق هذه الحالة فی الإضافة غیر المحضة حین یکون المضاف وصفا عاملا بعده معموله. والغالب (1) فی هذا الوصف أن یکون صلة «أل» ؛ نحو : اشتهر المتقنان العمل - اشتهر المتقنون العمل ... فعند إثبات النون فی الوصف - کما فی المثال - یتحتم إعراب کلمة : «العمل» مفعولا به للوصف. وعند حذفها - مثل : اشتهر المتقنا العمل ، اشتهر المتقنو العمل - یجوز فی کلمة : «العمل» أمران ؛
أحدهما : الجرّ علی اعتبارها مضافا إلیه ، والوصف قبلها هو المضاف ، حذفت من آخره نون التثنیة ، أو الجمع ؛ بسبب إضافته.
والثانی : النصب علی اعتبارها مفعولا به للوصف ، حذفت النون من آخره للتخفیف ، لا للإضافة ؛ إذ الوصف فی هذه الصورة لیس مضافا ، وإنما حذفت من آخره «النون» - بالرغم من عدم إضافته - ؛ متابعة لبعض القبائل التی تجیز حذفها من آخر المثنی ، وجمع المذکر السالم ، بشرط أن یکون کل منهما وصفا عاملا - یغلب (2) أن یکون صلة «أل» وبعده مفعوله غیر مجرور ؛ کما شرحنا.
ص: 10
لکن من الخیر إهمال هذه الصورة الیوم ، وعدم محاکاتها - وإن کانت محاکاتها جائزة - لما قد تحدثه من لبس وإبهام ینافیان الغرض الصحیح من اللغة ، وما یجب أن توصف به. وإنما عرضناها ، کما نعرض نظائر لها فی بعض الأحیان ؛ للسبب الذی نردده کثیرا ، وهو : الاستعانة بها علی فهم الوارد منها. فی النصوص القدیمة ، دون الموافقة علی محاکاتها.
* * *
ص: 11
الثالث : وجوب حذف التنوین إن وجد فی آخر المضاف قبل إضافته ؛ کقولهم : بناء الظلم إلی خراب عاجل ، وکلّ بنیان عدل فغیر منهدم. فقد حذف التنوین من الکلمات المعربة : (بناء - کل - بنیان - غیر ...) ، بسبب الإضافة. ولو زالت الإضافة لعاد التنوین.
الرابع : وجوب حذف «أل» من صدر المضاف ، بشرط أن تکون زائدة (1) فی أوله للتعریف ، أو لغیره ، وأن تکون الإضافة محضة ، نحو : بلادنا تاج الفخار للشرق ، وهی درّة عقده. والأصل : البلاد - التاج - الدرة - العقد. فحذفت «أل» من أول کل مضاف.
فإن کانت «أل» غیر زائدة ؛ (نحو : ألف ، وألباب) (2) لم تحذف.
أما إن کانت الإضافة غیر محضة فیجب حذف «أل» أیضا - إلا فی الحالات الأربع التالیة (3).
ا - أن توجد فی المتضایفین معا (أی : فی المضاف والمضاف إلیه ، معا) ؛ نحو : الوالدان هما الرحیما القلب - العلماء هم المؤسسو الحضارة.
ب - أن توجد فی المضاف دون المضاف إلیه ، ویکون المضاف إلیه مضافا إلی اسم مبدوء بها ؛ نحو : أعاون المؤسسی نهضة البلاد ، وأعتقد أنهم الرائدو خیر الوطن.
ح - أن توجد فی المضاف دون المضاف إلیه ویکون المضاف إلیه مضافا
ص: 12
إلی ضمیر یعود علی لفظ مشتمل علیها ، نحو : المجد أنتم المدرکو قیمته ، والفضل أنتم الباذلو غایته.
د - أن توجد فی المضاف دون المضاف إلیه بشرط أن یکون المضاف مثنی أو جمع مذکر سالما ؛ نحو : أنتما الصانعا معروف - أنتم الصانعو معروف. ومنه قول الشاعر :
وما لکلام الناس فیما یریبنی
أصول ، ولا للقائلیه أصول
وفی غیر هذه الحالات الأربع الخاصة بالإضافة غیر المحضة یجب حذف «أل» کما قلنا. ففی کلمات مثل : العزیز - الشاهد - السارق - الأفضل ... و ... وأشباهها نقول فیها عند إضافتها : عزیز قومه مطاع فیهم - شاهد زور أکبر ضررا من سارق مال - أفضل مواهب المرء عقله ... و ...
ص: 13
ا - الکوفیون یجیزون فی الإضافة المحضة دخول «أل» علی المضاف ، بشرط أن یکون اسم عدد ، وأن یکون المضاف إلیه هو المعدود ، وفی أوله «أل» أیضا ؛ فلابد من وجودها فیهما معا ، نحو : قرأت الثلاثة الکتب فی السبعة الأیام. وحجتهم فی هذه الإجازة السماع عن العرب ، وورود عدّة أمثلة صحیحة تکفی عندهم للقیاس علیها. والبصریون لا یجیزون هذا ، مستندین فی المنع إلی أن العدد مع المعدود هو ضرب من المقادیر ، والمقادیر لا یجوز فیها ما سبق ؛ فکما لا یصح أن یقال : اشتریت الرطل الفضة ، - بالإضافة - لا یصح کذلک أن یقال : الثلاثة الکتب ، بالإضافة ؛ حملا للنّظیر علی نظیره ، وقیاسا للشیء علی ما هو من بابه. فعلّة المنع عندهم : «التنظیر».
والحق أن حجة الکوفیین هی الأقوی ؛ لاعتمادها علی السماع الثابت ، وهو الأصل والأساس الذی له الأولویة والتفضیل ؛ فلا مانع من الأخذ به لمن شاء غیر أن المذهب البصری أکثر شهرة ، وأوسع شیوعا ؛ فمن الخیر الاکتفاء بمحاکاته ؛ لتتماثل أسالیب البیان اللغوی ، وتتوحد ، حیث یحسن التماثل والتوحد (1).
ب - فی مثل : «جاء المکرمک». - من کل وصف عامل مبدوء : «بأل» ومفعوله ضمیر بعده (2) - یعرب هذا الضمیر (وهو هنا : الکاف)
ص: 14
مفعولا به فی محل نصب ، ولا تصح الإضافة ؛ لوجود : «أل» فی صدر المضاف ؛ إذ هذه الصورة لیست من الصور السالفة (1) التی تباح فیها الإضافة مع وجود : «أل» فی المضاف.
ویتعین فی الضمیر (الکاف) الجر المحلیّ بالإضافة إن کان الوصف مجردا من : «أل» فی مثل : «جاء مکرمک» ، لفقد التنوین ؛ إذ لم نقل : جاء مکرم إیّاک. أما إن کان مفعول الوصف ظاهرا بعده فإن آثار الإضافة ستظهر علیه جلیّة ؛ وتتبین بجرّه ، مع حذف التنوین من الوصف المضاف ، وإلا فلا إضافة ، فینصب المفعول به بعد الوصف ...
ومثل الضمیر (الکاف) فی وجوب النصب : الضمیر «الهاء» فی : «أوضعه» من قولهم المأثور : «لا عهد لی بألأم قفا منه ، ولا أوضعه». بفتح العین - کما وردت سماعا - ف «الهاء» هنا مثل «الکاف» فی المثال السابق. إلا أن «الکاف» مفعول به ، و «الهاء» مشبه بالمفعول به هنا ، لأن اسم التفضیل لا ینصب مفعولا به. ولیست کلمة «أوضع» مضافة ، و «الهاء» مضافة إلیها ؛ لأنها لو کانت مضافة لوجب جرها بالکسرة لا بالفتحة التی سمعت بها. علی أنه لا مانع من جرّها فی استعمالنا الآن علی الإضافة (2).
وفی مثل : «مررت برجل أبیض الوجه لا أحمره» ، یجوز جر : «أحمر» بالفتحة ؛ علی اعتباره معطوفا علی کلمة «أبیض» ، و «الهاء» بعده فی محل نصب ؛ علی «التشبیه بالمفعول به» للصفة المشبهة : (وهی أحمر) ویجوز جر : «أحمر» بالکسرة : علی اعتباره معطوفا علی أبیض أیضا ، مضافا ، و «الهاء» مضاف إلیه ، مبنیة علی الضم فی محل جر (3).
* * *
ص: 15
الخامس : وجوب اشتمال الإضافة المحضة علی حرف جر أصلی (1) ، مناسب ، اشتمالا أساسه التخیل والافتراض ، لا الحقیقة والواقع ؛ فیلاحظ وجوده ، مع أنه غیر موجود إلا فی التخیل ، أو : فی النیة (2) - کما یقولون -.
والغرض من هذا التخیل : الاستعانة بحرف الجر علی توصیل معنی ما قبله إلی ما بعده ؛ کالشأن فی حرف الجر الأصلی (3) ، وأیضا الاستعانة علی کشف الصلة المعنویة بین المتضایفین ، (وهما : المضاف والمضاف إلیه) ، وإبانة ما بینهما من ارتباط محکم ، وملابسة (أی : مناسبة) قویة لا تتکشف ولا تبین إلا من معنی حرف الجر المشار إلیه (4). بشرط أن یکون هذا الحرف خفیّا متخیّلا ، مکانه بین المضاف والمضاف إلیه ، وأن یکون أحد ثلاثة أحرف أصلیة ؛ هی : «من» - «فی» - «اللام» (5).
ص: 16
وإنما انحصر الاختیار فی هذه الثلاثة لأنها - دون غیرها - أقدر علی تحقیق الغایة المعنویة ؛ فالحرف : «من» یدل علی أن المضاف بعض المضاف إلیه ... ، والحرف : «فی» یدل علی أن المضاف إلیه یحوی المضاف کما یحوی الظرف المظروف ... والحرف : «اللام» یدل علی ملکیة المضاف إلیه للمضاف ، أو اختصاصه به بنوع من الاختصاص ... فمثال : «من» قول أعرابیة لابنها الخارج إلی القتال ، وقد رأته متزینا :
حرام علی من یروم انتصارا
ثیاب الحریر ، وحلی الذهب
أی : ثیاب من الحریر ، وحلی من الذهب. ومثال «فی» قول الشاعر :
ولقد ظفرت بما أردت من الغنی
بکفاح صبح ، واجتهاد مساء
أی : بکفاح فی صبح ، واجتهاد فی مساء. ومثال «اللام» قول الشاعر فی وصف الصحف :
لسان البلاد ، ونبض العباد
وکهف الحقوق ، وحرب الجنف (1)
أی : للبلاد - للعباد - للحقوق - للجنف.
ومن الواجب التنبه لما قلناه من أن الحرف الجارّ - فی الأمثلة السالفة وأشباهها - لا وجود له فی الحقیقة الواقعة ، ولا فی التقدیر الذی یقوم مقامها ، وإنما وجوده مقصور علی التخیل ، ومجرد النیة. ولهذا لم یعمل الجر فی المضاف إلیه ، - فی الرأی المشهور - ولم یحتاجا معا إلی عامل یتعلقان به ؛ إذ التعلق لا یکون إلا للجار والمجرور الحقیقیین الأصلیین. وبالرغم من أن هذا الحرف خیالی محض فإن التصریح به جائز فی أکثر الإضافات المحضة (2) ...
لکن أیصلح کل حرف من تلک الأحرف الثلاثة لکل إضافة محضة ؛ بحیث یصح أن یحل هذا الحرف محل ذاک ، والعکس ، بغیر ضابط ولا اشتراط شیء ، أم أن الأمر فی الاختیار مقید بشرط خاص ، وخاضع لضابط معین؟.
وبعبارة أخری : أیباح استعمال کل واحد من الأحرف الثلاثة فی کل إضافة
ص: 17
محضة ، أم أن لکل إضافة محضة حرفا واحدا یناسبها ، ولا یصلح لها سواه؟.
نعم لکل واحدة منها حرف یناسبها ، ولا یجوز اختیار غیره ، وإلا فسد المعنی المراد. ولهذا قالوا إذا صلح لواحدة أکثر من حرف جر وجب أن یختلف المعنی باختلاف الأحرف الجارة الصالحة ؛ لأن لکل حرف من الثلاثة معنی خاصّا به ، لا یؤدیه غیره ، فلا یمکن أن تتفق المعانی فی إضافة واحدة مع اختلاف هذه الأحرف.
وفیما یلی بیان الضابط الذی یراعی عند اختیار أحد الأحرف الثلاثة : (وقد جری الاصطلاح النحوی عند اختیار حرف منها أن یذکر اسم الحرف ؛ فیقال : الإضافة علی معنی «من» (1) - أو : الإضافة علی معنی : «فی» - أو الإضافة علی معنی : «اللام»).
* * *
ا - تکون الإضافة علی معنی : «من» ، إن کان المضاف إلیه جنسا عامّا یشمل المضاف ، ویصح إطلاق اسمه علی المضاف. وإن شئت فقل : أن یکون المضاف بعض المضاف إلیه ، مع صلاحیة المضاف لأن یکون مبتدأ خبره المضاف إلیه (2) ، من غیر فساد للمعنی ، مثل : ثیاب حریر ، حلی ذهب ... فالحریر : مضاف إلیه ، وهو جنس عامّ ، یشمل أشیاء کثیرة ؛ منها الثیاب ، وغیرها. والذهب جنس عام یشمل أشیاء متعددة ، منها الحلی وغیره ، فالمضاف فی الحالتین - ونظائرهما - بعض مما یشمله المضاف إلیه ، ولو سمی باسم المضاف إلیه لکانت التسمیة صحیحة ، ولو وقع المضاف مبتدأ خبره المضاف إلیه ما فسد المعنی ، فیصح ؛ الثیاب حریر - الحلی ذهب ...
ص: 18
من الإضافة التی علی معنی : «من» إضافة الأعداد إلی المعدودات ؛ نحو : اشتریت أربعة کتب. ویدخل فی هذا النوع إضافة العدد إلی عدد آخر ؛ نحو : عندی من الکتب ثلاثمائة (1).
ومنها : إضافة المقادیر إلی الأشیاء المقدّرة ؛ نحو : بعت فدان قطن.
وإذا کانت الإضافة علی معنی : «من» جاز فی المضاف إلیه أوجه إعرابیة أخری ، فیجوز أن یعرب بدلا ، أو عطف بیان ، وتزول بوجودهما الإضافة وتکون حرکة آخره تابعة لحرکة المتبوع الذی کان مضافا فی الأصل. کما یجوز أیضا - إن کان نکرة - نصبه علی الحال أو التمییز بعد الاستغناء عن الإضافة ؛ ففی مثل : هذه ساعة فضة ، یصح إعراب : «فضة» مضافا إلیه مجرورا ، والمضاف هو کلمة : «ساعة» - خبر مرفوع ، مجرد من التنوین. ویصح فی کلمة : «فضة» إعرابها بدلا ، أو عطف بیان ، فتکون مرفوعة ، تبعا لکلمة «ساعة» المرفوعة ، والتی یجب أن یرجع إلیها التنوین فی هذه الصورة بعد زوال الإضافة. ویصح أیضا إعراب کلمة : «فضة» حالا أو تمییزا ؛ فیجب نصبها کما یجب تنوین کلمة : «ساعة» فی هذه الصورة أیضا ، بعد زوال الإضافة.
ولکل صورة إعرابیة من الصور الصحیحة السالفة معنی یختلف عن الآخر ؛ لأن المعنی الذی یؤدیه البدل أو عطف البیان یغایر ما یؤدیه الحال أو التمییز ، وکذا ما یؤدیه هذان ...
* * *
ص: 19
ب - تکون الإضافة علی معنی : «فی» إن کان المضاف إلیه ظرف زمان أو مکان واقعا فیه المضاف (1) : نحو : یحرص کثیر من الناس علی رحلة الشتاء إلی المشاتی ، ورحلة الصیف إلی السواحل البحریة. أی : رحلة فی الشتاء ، ورحلة فی الصیف. ونحو : قول شوقی فی وصف الظبی :
«عروس البید ، الفاتن کالغید ... إذا شرع فی السماء روقیه (2) ، خلته دمیة محراب ، أو شجیرة علیها تراب». یرید : عروس فی البید - دمیة فی محراب ...
ح - تکون الإضافة علی معنی «اللام» إن کان معناها هو الذی یحقق القصد ، دون معنی : «من» أو «فی» ؛ کالإضافة التی یراد منها بیان الملک ، أو الاختصاص ، فی مثل : یضع العربی یده فی ید أخیه ، ویعاهده علی النصر والتأیید والفداء. أی : ید له فی ید لأخیه. وقول شوقی یخاطب أبا الهول (3) :
أبا الهول ، أنت ندیم الزّمان
نجنی الأوان (4) ، سمیر العصر
أی : ندیم للزمان - نجیّ للأوان - سمیر للعصر ، فالإضافة فی هذه الصور وأشباهها علی معنی : «اللام» ولا تصلح أن تکون علی معنی «من» أو : «فی».
والغالب فی اللام الملحوظة أن تکون لبیان الملک أو الاختصاص (6). فإن صلح فی مکانها ملاحظة حرف آخر وجب أن یقوم المعنی علی ملاحظة الحرف الذی یحقق القصد ؛ لأن لکل حرف - کما أشرنا (7) - معنی یؤدیه ؛ فالحرف الذی یؤدی المعنی الذی یریده المتکلم یکون هو الحرف المطلوب.
ص: 20
1- قد تکون الإضافة علی معنی : «اللام» ولکن لا یصح التصریح (1) بهذا الحرف ، مثل : یوم السبت - یوم الأحد ... و ... ومثل : علم الحساب - علم الهندسة ... و ... وفی هذه الحالة یکتفی من اللام بتحقیق الغرض من مجیئها ؛ وهو : إفادة الاختصاص.
وهناک صور أخری لا یصح التصریح فیها باللام إلا إذا تغیر لفظ المضاف وحل محله لفظ آخر یرادفه أو یقاربه ؛ ومن هذه الصور : ذو مال - عند علیّ - مع الوالد - کل رجل ... فتصیر بعد التغییر الذی لا یفسد المعنی : صاحب مال - مکان علیّ - مصاحب الوالد - أفراد الرجل.
2- الأصل أن تکون النسبة الإضافیة قویة ، أی : أن تکون الصلة المعنویة بین المضاف والمضاف إلیه وثیقة ، والربط بینهما محکما بحیث یظهر ویتحقق جلیّا معنی الحرف : «من» أو : «فی» أو : «اللام» علی حسب القصد. وهذه الإضافة تسمی : «الإضافة قویة الملابسة» (أی : قویة المناسبة).
وقد تقوم دواع بلاغیة تقتضی أن تکون الصلة بین المضاف والمضاف إلیه ضعیفة ، لکنها واضحة مفهومة ، ویعبرون عنها بأنها «الإضافة لأدنی ملابسة» (2) ومن أمثلتها : «قمر القاهرة ساحر ، وشمس حلوان (3) رائعة». فقد أضیف القمر إلی القاهرة ، ونسب إلیها ؛ إضافة علی معنی «اللام». فأین ما تفیده الإضافة التی علی معنی «اللام» من الملک أو الاختصاص؟ ... إن صلة القمر بمدینة القاهرة ضعیفة لا تستحق تلک الإضافة ، ولا هذه النسبة ؛ إذ یشارکها فیها آلاف من البلاد الأخری ؛ فلا داعی لاستئثارها بالقمر. غیر أن
ص: 21
هناک داعیا بلاغیّا اقتضی هذه النسبة وتخصیص القمر بالقاهرة ؛ هو : إفادة أنه یمنحها ما لا یمنح سواها ، ویضفی علیها جمالا قلّ أن تفوز به مدینة أخری. فکأنه خاص بها ، مقصور علیها. ومثل هذا یقال فی المثال الثانی وأشباهه (1) ...
* * *
ص: 22
السادس : استفادة المضاف من المضاف إلیه تعریفا أو تخصیصا ؛ بشرط أن تکون الإضافة محضة ؛ فیستفید الأول من الثانی ، ویبقی الثانی علی حاله (1) لم یفقد شیئا بسبب الاستفادة منه.
وإیضاح هذا : أنه - فی الإضافة المحضة - إذا کان المضاف نکرة : وأضیف إلی معرفة - فإنه یکتسب منها التعریف مع بقائها معرفة ؛ کقولهم : کلام المرء عنوان لعقله ، وعقله ثمرة لتجاربه. فالکلمات : (کلام - عقل - تجارب) - هی فی أصلها نکرات ، لا تدل کلمة منها علی معیّن ، ثم صارت معرفة بعد إضافتها إلی المعرفة ، واکتسبت منها التعیین الذی یزیل عن کل واحدة منها إبهامها وشیوعها. ومثل کلمة : «ید» المضافة للمعرفة فی قول الشاعر :
الغنی فی ید اللئیم قبیح
قدر قبح الکریم فی الإملاق
فإن کان المضاف معرفة باقیة علی التعریف لم یصح - فی الأغلب - إضافته إلی المعرفة (2) ؛ لأنه لا یستفید منها شیئا ، ولهذا السبب لا یصح - أیضا - إضافة المعرفة الباقیة علی تعریفها إلی النکرة.
أما إذا کان المضاف نکرة وأضیف إلی نکرة فإنه یکتسب منها - مع بقائها علی حالها - «تخصیصا» یجعله من ناحیة التعیین والتحدید فی درجة بین المعرفة والنکرة ؛ فلا یرقی فی تعیین مدلوله إلی درجة المعرفة الخالصة الخالیة من الإبهام والشیوع ، ولا ینزل فی الإبهام والشیوع إلی درجة النکرة المحضة الخالیة من کل تعیین وتحدید. ومن أمثلته قولهم : (فلان رجل مرءوة ، وکعبة أمل ، وغایة فضل) ... فالکلمات : (رجل - کعبة - غایة) ... نکرات محضة قبل إضافتها. فلما أضیفت إلی النکرة قلّت أفراد کل مضاف بعد الإضافة؛
ص: 23
فکلمة : «رجل» تدل علی أفراد لا حصر لها ؛ منها رجل مرءوة ، رجل علم ، رجل حرب ... إلی غیر هذا من رجال لا عداد لهم ، فإذا قلنا : «رجل مروءة» انحصر الأمر فی نوع معین من أفراد الرجل ، ولم یبق مجال لدخول أفراد أخری ؛ کرجل علم ، أو حرب ، أو زراعة ، أو ... وکذا کلمة : «کعبة» و «غایة» وأشباهها ؛ فکل کلمة من هذه الکلمات قد اکتسبت نوعا من «التخصیص» أفادها بعض التّجدید الذی خفف من درجة إبهامها وشیوعها ، وإن کانت لم تستفد التعریف الکامل ، ولم تبلغ فی التعیین درجة المعرفة الأصلیة ...
واستفادة المضاف من المضاف إلیه التعریف (1) أو التخصیص علی الوجه المشروح - هی الأثر المعنوی الثانی الذی ینضم إلی الأثر المعنوی الناشئ من الحکم الخامس (2) ، فیحدث من انضمامهما معا إدراک السبب الحقیقی فی تسمیة هذا النوع من الإضافة المحضة : «بالإضافة المعنویة» کما أشرنا من قبل (3).
وهناک ألفاظ مسموعة ملازمة للتنکیر فی الأغلب ؛ لا تفیدها الإضافة المحضة تعریفا ، ولا تخصیصا - فی أکثر الاستعمالات - ؛ ولذا تسمی : «بالألفاظ المتوغلة (4) فی الإبهام» ؛ ومنها : (غیر - حسب - مثل -
ص: 24
ص: 25
ناهیک (1)) ... فإنها نکرات (فی أغلب حالاتها) وإن أضیفت لمعرفة ؛ نحو : غیرک - حسبک - مثلک ...
ومنها : المعطوف علی مجرور «ربّ» ، والمعطوف علی التمییز المجرور بعد «کم» ، نحو : ربّ ضیف وأخیه هنا - کم رجل وکتبه رأیت -. وسبب ذلک أن المجرور بعد «ربّ» و «کم» ، لا یکون إلا نکرة ؛ فما عطف علیها فهو نکرة کذلک ؛ لأنه فی حکم «المعطوف علیه» من ناحیة أن عامل الجر فیه هو العامل فی المعطوف علیه ؛ فکلا «المعطوف والمعطوف علیه» لابد أن یکون نکرة ، أو فی حکم النکرة لیصلح معمولا للعامل المشترک.
وقیل إن المعطوف فی الحالتین السالفتین یکتسب التعریف من المضاف إلیه المعرفة ، ولا داعی للتمسک بتنکیره بسبب العامل : «ربّ» أو «کمّ ؛» لما تقرر (2) من أن التابع قد یغتفر فیه ما لا یغتفر فی المتبوع. وسبق (3) أنّ الأخذ بهذا الرأی أولی.
ومنها : کلمة : «وحد» و «جهد» ، و «طاقة» ، فی مثل قولهم : (یحترق الحاسد وحده ، ویتمنی جهده أن تزول نعمة المحسود ، ویجتهد طاقته أن یلحق به النقائص والعیوب). وهی - فی أکثر استعمالاتها - أحوال مؤولة. والحال فی أصله لا یکون إلا نکرة ، وتأویل تلک الکلمات : «منفردا» - «جاهدا» - «مطیقا» (4).
وإلی هنا انته الکلام علی «الإضافة المحضة» ، من ناحیة ما یکتسبه المضاف
ص: 26
من التعریف أو التخصیص ، وننتقل إلی «غیر المحضة» للکلام علیها من هذه الناحیة (1) :
ص: 27
إذا کانت الإضافة «محضة» والمضاف إلیه جملة ، فإن هذه الجملة فی حکم المفرد المضاف إلیه ؛ لأنها تؤول بمصدر لفعلها ، مضاف إلی فاعله إن کانت الجملة فعلیة ، وبمصدر خبرها مع إضافته إلی مبتدئه إن کانت اسمیة. ولا یحتاج هذا المصدر المؤول إلی أداة سبک ، فالأولی : مثل : أزورک حین یوافق الوالد. وتأویلها : أزورک حین موافقة الوالد. والثانیة : أزورک حین الوالد موافق ، وتأویلها : أزورک حین موافقة الوالد.
ویترتب علی ما سبق أن المصدر الناشئ من التأویل یکون معرفة إن أضیف لمعرفة ، ونکرة متخصصة إن أضیف لنکرة (1). نعم إن الجمل نکرات فی حکمها (2) ولکن لا ینظر لهذا هنا. ووقوع الجملة صفة للنکرة المحضة فی کل الأحوال لا یقدح فی هذا ؛ لأنها تکون صفة باعتبار ظاهرها ، وقطع النظر عن تأویلها بمصدر مضاف لمعرفة أو نکرة.
* * *
ص: 28
عرفنا (1) أن الإضافة غیر المحضة : هی التی یغلب أن یکون المضاف فیها (وصفا (2) عاملا) ، (وزمنه للحال ، أو : الاستقبال ، أو : الدوام). ومتی اجتمع الأمران - الوصفیة العاملة ، والزمنیة المعیّنة - کان المضاف مشتقّا یشبه مضارعه فی نوع الحروف الأصلیة التی تتکون منها صیغتهما ، وفی المعنی ، والعمل ، وکذلک فی نوع الزمن - غالبا - وهذا کله یتحقق فی المضاف إذا کان اسم فاعل یعمل عمل فعله ، أو اسم مفعول کذلک ، فکلاهما وصف عامل ، زمنه للحال أو للاستقبال علی حسب المناسبات. کما یتحقق فی الصفة المشبهة (3) الأصیلة أیضا ؛ لأنها تعمل عمل فعلها اللازم ، وتفید فی أکثر حالاتها الدوام والاستمرار ، وهذان یقتضیان أن تشتمل دلالتها علی الأزمنة الثلاثة : (الماضی ، والحال ، والمستقبل) ، إذ لا یتحقق معنی الدوام والاستمرار بغیر عناصره الأساسیة الثلاثة.
فلا یمکن أن تکون للماضی وحده - وإلا کانت إضافتها محضة - ولا للمستقبل وحده. وکذلک لا یمکن أن تخلو من الدلالة علی زمن الحال ؛ فلابدّ أن تشتمل الدلالة علی الثلاثة ؛ المضی والحال والاستقبال ، إلا أن دلالتها علی الحال أقوی تحققا ووجودا من دلالتها علی غیره ، وبسبب هذا کانت إضافتها غیر محضة فی رأی کثیر من النحاة (4) ...
أما باقی المشتقات غیر ما ذکرناه هنا بقیوده ؛ من اسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة - فإضافته محضة ، لانطباق شروطها علیه ، دون شروط الأخری. فمثال اسم الفاعل : یشکو راکب الباخرة الیوم بطئها بالنسبة للطائرة. وغدا یشکو راکب الطائرة بطئها بالنسبة «للصاروخ» ؛ فکلمة : «راکب» فی الجملتین مضافة. وهی فی الأولی اسم فاعل للزمن الحالی ، وفی الثانیة اسم
ص: 29
فاعل للزمن المستقبل. وکقولهم : من تراه جاحد النعمة الساعة تراه فاقدها غدا. ویدخل فی اسم الفاعل صیغ (1) المبالغة العاملة أیضا ؛ کقولهم : فی هذا الشهر یتفرغ فلان للعبادة ؛ فتراه صوّام الفم نهارا عن الطعام ، حذر اللسان من اللغو ، حبیس النفس عن الهوی. ومثال اسم المفعول : مجهول القدر الیوم قد یصیر معروف المکانة غدا .. ومثال الصفة المشبهة قولهم : ...
- عزیز النفس من یأبی الدنایا -
فإن فقد المضاف أحد الشرطین کانت الإضافة محضة ؛ کأن یفقد الوصفیة لکونه اسما جامدا ، غیر مؤول بالمشتق ؛ کالمصدر فی نحو : بذل الوّد والنصیحة لمن لا یستحقهما کبذر الحبّ فی الصخر الأصمّ. أو یفقد العمل دون الوصفیة بسبب أنه من المشتقات التی لا تعمل مطلقا ؛ (کأسماء الزمان. والمکان والآلة). أو یکون فی أصله من المشتقات العاملة ، ولکنه فقد شرطا من شروط العمل ؛ فلا یعمل ؛ کاسم الفاعل ، واسم المفعول إذا کانا للماضی (2) الخالص دون دلالة علی الحال أو الاستقبال ؛ نحو : باذل الخیر أمس یسعد الیوم بما قدّم وماضی أعماله عنوان صفحته التی کان بها مسرورا أو محزونا.
* * *
لا تأثیر لها فی المعنی - فی أغلب الحالات - لأنها لیست علی نیة حرف من حروف الجر الثلاثة التی یفید کل منها الفائدة التی أوضحناها فیما سلف ، (3) ولأنها لا تکسب المضاف تعریفا ولا تخصیصا ، والتعریف والتخصیص
ص: 30
أثران معنویان لا صلة للإضافة غیر المحضة بجلبهما للمضاف ، وعلی هذا لا نصیب لها من التأثیر المعنوی الذی «للمحضة».
والدلیل علی أنها لا تفید «المضاف» تعریفا - دخول «ربّ» علیه مع إضافته للمعرفة (1). مثل : (ربّ مخرج الزکاة ، مسرور بإخراجها - قد أبطل ثوابها بالمنّ والأذی). فلو أن المضاف - وهو : مخرج - اکتسب التعریف من المضاف إلیه ما دخلت علیه «ربّ» ؛ لأنها لا تدخل إلا علی النکرات (2).
وشیء آخر ؛ هو أن هذا المضاف إلی المعرفة یصح أن یقع نعتا للنکرة ، فکیف یقع نعتا للنکرة إذا صحّ أنه یکتسب من المضاف إلیه التعریف ویصیر معرفة ، والمعرفة لا تکون نعتا للنکرة (3)؟ ومن الأمثلة لوقوعه نعتا للنکرة : أتخیر للصداقة زمیلا مخلص المودة ، مأمون العثرات. باذل الجهد فی الإخاء (4).
کما أن الدلیل علی أنها لا تفید المضاف تخصیصا هو أن الأصل قبل
ص: 31
الإضافة فی مثل : (أتخیر زمیلا مخلص المودة ، باذل الجهد ، ...) هو : مخلصا المودة - ... باذلا الجهد ... بنصب کلمتی «المودة» و «الجهد» مفعولین للوصف ، والمفعول به یخصص الوصف ؛ فتخصیص الوصف ثابت ومتحقق قبل أن یصیر مضافا ویصیر معموله مضافا إلیه مجرورا.
ا - وإنما فائدتها : «التخفیف اللفظی» ؛ بحذف نون المثنی ، وجمع المذکر السالم وملحقاتهما من آخر المضاف إذا کان وصفا عاملا. وکذلک حذف التنوین من آخره ؛ فکل من النون والتنوین یحدث ثقلا علی اللسان عند النطق بالوصف مع معموله من غیر إضافتهما. فإذا جاءت الإضافة زال الثقل ، وخف النطق. یتضح هذا الثقل فی مثل : (أنتما خطیبان الحفل غدا ، وساحران الألباب فیه. ولا أشک أن سامعین الخطاب ، وعارفین الفضل - سیعجبون بکم أشد الإعجاب) وفی مثل : (تخیرت زمیلا ، مخلصا المودة ، باذلا الجهد ...».
ویختفی الثقل حین نضیف الوصف إلی معموله ، ونحذف النون والتنوین من آخر الوصف المضاف ؛ فتقول : (أنتما خطیبا الحفل غدا ، وساحرا الألباب فیه ، ولا أشک أن سامعی الخطاب ، وعارفی الفضل - سیعجبون بکم أشد الإعجاب). کما نقول : (تخیرت زمیلا مخلص المودة ، باذل الجهد ...)
ب - وقد تکون فائدتها الفرار من القبح الذی یلازم بعض الصور الإعرابیة الجائزة مع قلتها وضعفها. فمن الجائز الضعیف فی أسالیب الصفة المشبهة أن نقول : الصدیق سمح الطبع ، عفّ اللسان ، مخلص المودة ، بإعراب کلمة : «الطبع» المرفوعة فاعلا للصفة المشبهة قبلها. وکلمة : «اللسان» فاعلا مرفوعا للصفة المشبهة قبلها. وکذلک کلمة : «المودّة» وأشباهها. ففی هذا الإعراب الجائز نوع من القبح جعله ضعیفا ؛ هو : خلو أسلوب الصفة المشبهة من ضمیر یعود علی الاسم الذی یقع علیه معناها ومدلولها (1). ومن الجائز نصب تلک الکلمات الثلاث المرفوعة ، وإعرابها : «شبیهة بالمفعول به» ولیست مفعولا به ؛
ص: 32
لأن الصفة المشبهة تصاغ من الفعل اللازم ؛ فهی کفعلها لا تنصب المفعول به. فإذا وقع بعدها معمولها وکان نکرة منصوبا أعرب «تمییزا» ، أو : «شبیها بالمفعول به» ، وإن کان معرفة أعرب شبیها بالمفعول به ؛ کالکلمات الثلاث السالفة ؛ فإنها لا تصلح تمییزا ؛ لعدم تنکیرها. فضبطها بالنصب - مع جوازه - یؤدی إلی ما یسمی : «الشبیه بالمفعول به». وهذا النوع قد یختلط أمره علی کثیر ؛ فیقع فی وهمهم أنه مفعول به ، مع أنه لیس بالمفعول به الصریح.
وإذا کان الرفع والنصب قبیحین فی تلک الکلمات - ونظائرها - فإن الجر بالإضافة خال من ذلک القبح ، وفیه ابتعاد عما یستکره (1) کقول الشاعر :
وإذا جمیل الوجه لم
بأت الجمیل فما جماله؟
ولما کانت فائدة هذه الإضافة مقصورة علی التخفیف بحذف التنوین ونونی المثنی وجمع المذکر السالم ، من آخر المضاف ، وعلی التحسین المترتب علی إزالة القبح ، وهما أمران لفظیان - سمیت : «إضافة لفظیة» ؛ لوقوع أثرها المباشر علی الألفاظ دون المعانی ؛ إذ أنها - فی الأغلب - لا تؤثر فی المعانی ؛ کما سبق (فلا تفید المضاف تعریفا ، ولا تخصیصا ، ولا تتضمن معنی حرف من حروف الجر الثلاثة المعروفة ...) وقد یسمونها - لهذا - : «الإضافة المجازیة» (2) ؛ لأنها لغیر الغرض الحقیقی من الإضافة ، وهو الغرض المعنوی الذی أوضحناه.
أما تسمیتها : «بغیر المحضة» فلأن المضاف فیها لا بد أن یکون فی
ص: 33
الأغلب (1) وصفا عاملا - کما سبق - وأکثر الأوصاف العاملة یرفع ضمیرا مستترا عند الإضافة. وهذا الضمیر المستتر - برغم استتاره - یفصل بین الوصف المضاف ، ومعموله المضاف إلیه ، ویجعل الإضافة غیر خالصة الاتصال ، وغیر متمکنة من أداء مهمتها بسبب الفاصل ؛ إذ الأصل الغالب فی الإضافة الأصیلة ألا یقع بین طرفیها فاصل یضعف قوة الارتباط والاتصال بینهما.
وشیء آخر ؛ هو أنه یمکن العدول عن الإضافة اللفظیة ، بالرجوع إلی الأصل الذی کان قبلها من غیر أن یتأثر المعنی - فی الأکثر - ؛ وذلک بجعل المضاف إلیه معمولا مرفوعا ، أو منصوبا ، علی حسب حاجة الوصف بعد إزالة تلک الإضافة ؛ ولهذا یصفونها بأنها علی : «نیة الانفصال» ، یریدون : أنها فی النیة والتقدیر لیست موجودة ، ولیست ملحوظة ؛ لأن الذی یلحظ ویعتبر موجودا تتجه إلیه النفس هو الأصل الأصیل ؛ ففی مثل : (الصدیق خالص النصح) - بالإضافة - یکون التقدیر الملحوظ فی النفس هو : (الصدیق خالص النصح) ، والمعنیان متّحدان. ولکن الأسلوب الثانی الخالی من الإضافة هو الأصل الذی ینوی ویلاحظ ؛ بسبب اعتبار الوصف شبیها بالفعل فی بعض نواحیه التی منها العمل. والفعل یرفع دائما ، وقد یرفع وینصب ، وهو فی کل حالاته لا یعمل الجرّ ، فالأنسب فیما یشبهه أن یکون کذلک ، والمخالفة - لداع أقوی - هی مخالفة للأصل ، والداعی لها أمر طارئ له اعتباره ، ولکنه لا ینسینا الأصل الأول المکین ، ومن ثمّ کان هو الملحوظ مع وجود الإضافة غیر المحضة ، وکانت معه علی نیة الانفصال (2).
مما تقدم یتّضح - مرة أخری - السبب فی تسمیة النوع الأول : «بالإضافة المحضة» ، أو : «المعنویة» ، أو : «الحقیقیة» (3) وما یترتب علی هذا من آثار مختلفة ، منها : عدم زیادة «أل» فی أول المضاف ، فی حین یجوز - أحیانا -
ص: 34
زیادتها فی المضاف إذا کانت الإضافة غیر محضة ؛ کما شرحنا (1).
ص: 35
ص: 36
ا - فی هذا الجزء أبواب خاصة بالمشتقات ، لکل منها باب مستقل شامل ، وسنکتفی هنا بلمحة موجزة تناسب ما نحن فیه ، ولا تغنی عن الرجوع إلی تلک الأبواب.
اسم الفاعل : اسم مشتق ، یدل علی أمرین معا : (معنی مجرد ، وصاحب هذا المعنی). ولا بد فی اسم الفاعل أن یشتمل علی حروف مضارعه الأصلیة ، وأن یماثله فی ترتیبها ، وترتیب حرکاتها ، وسکناتها ؛ مثل : قاعد ویقعد - ذاهب ویذهب - منصت وأنصت - متعلم ویتعلم ... وهو یفید حدوث معناه ، ولا یفید الدوام أو الثبوت ، إلا إذا تخلی عن دلالته الخاصة ، وانتقل إلی اختصاص آخر ؛ هو : اختصاص «الصفة المشبهة». وهی : اسم مشتق ؛ یدل علی أمرین معا : (معنی مجرد ، ولکنه ثابت دائم ، أو کالدائم ، وصاحب هذا المعنی). فدلالتها علی الزمن شاملة أنواعه الثلاثة ، بسبب ذلک الدوام (1) ، ولا بد أن تشتمل علی الحروف الأصلیة لمضارعها ، ولکنها - فی الغالب - لا تماثله فی ترتیب الحرکات والسکنات إلا إذا کانت فی الأصل اسم فاعل أرید به الدوام (2). فمثال الصفة المشبهة الأصیلة : فرح ویفرح - حسن ویحسن - بلیغ ویبلغ ... ومثال الصفة المشبهة التی کانت فی أصلها اسم فاعل یفید الحدوث ، ثم أرید بها الدوام والثبوت بعد ذلک ، کلمة : باسم - مشرق - محارب ؛ فی مثل : فلان باسم الثغر - مشرق الوجه - محارب الطغیان.
وإذا کانت الصفة المشبهة دالة علی ثبوت معناها ودوامه ، - غالبا - ، فإن زمنها بمقتضی هذه الدلالة لا بد أن یشمل - کما سبق (3) - الماضی ، والحال ، والمستقبل. فکیف تکون إضافتها «غیر محضة» ، مع أننا اشترطنا فی «غیر المحضة» : أن یکون الزمن فیها الحال ، أو الاستقبال؟.
الحق : أن إضافتها قد تکون محضة فی بعض الصور ، وغیر محضة فی
ص: 37
أخری (1) ؛ فقد قالوا : إن الاستمرار (أو : الدوام) یحتوی علی الأزمنة الثلاثة دائما. لکن قد توجد قرینة تقوی جانب الزمن الماضی علی غیره - وللقرینة المقام والاعتبار الأول دائما - فتضاف الصفة وتعمل الجر مع تلک القرینة ؛ إذ تتغلب الإضافة ؛ وتکتسب الصفة التعریف من المضاف إلیه ؛ ککلمة : «مالک» فی قوله تعالی : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ ، مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ ...) فکلمة : «مالک» وصف مشتق ؛ زمنه یشمل الماضی ، والحال ، والمستقبل ؛ لأن الله متصف بصفة التملک فی جمیع الأزمان. وقد وجدت قرینة تدل علی تغلیب الزمن الماضی ؛ فصارت الإضافة بسببها محضة (2) ؛ وهذه القرینة هی : أن کلمة : «مالک» نعت للفظ الجلالة : (الله) وهو أعرف المعارف ، فلا یمکن أن یکون نعته نکرة ؛ فلابد أن تکون کلمة : «مالک» ، معرفة. فمن أین جاءها التعریف؟ لا سبیل لاکتسابها التعریف إلا من المضاف إلیه ، وقد اکتسبه أیضا من الإضافة إلی ما بعده. وکل هذا یقتضی أن تکون إضافة الصفة هنا محضة.
ولو أعربنا کلمة : «مالک» بدلا ، أو : عطف بیان ؛ لکان فی هذا الإعراب - مع جوازه - عدول عن الظاهر الشائع ؛ وهو : إعراب المشتق نعتا ، لا بدلا ، ولا عطف بیان ، إذ یغلب علی الأول الاشتقاق ، وعلی الأخیرین الجمود - کما تقدم (3) - هذا إلی أن إضافة الوصف إلی الظرف الدال بالقرینة علی المضی أو علی الدوام محضة (4) ، عند جمهور النحاة.
أما إذا تغلب جانب الحال أو الاستقبال ، بأن قامت قرینة تؤید أحدهما - فالإضافة غیر محضة ؛ فلا یتعرف بها الوصف ، ولا یتخصص. ویجوز إزالتها ، وإعمال الوصف فی معموله عملا آخر غیر الجر ؛ کقراءة من قرأ قوله تعالی :
ص: 38
«فالق الإصباح ، وجاعل اللیل سکنا (1)» ؛ فجعل اللیل سکنا أمر لا یقتصر علی زمان دون آخر ؛ فقد وقع فی الماضی ، وهو یقع الآن ، وسیقع بعد ذلک. غیر أن الکلام فیه ما یقوی جانب الحال والمستقبل علی الماضی ، ویجعل الإضافة غیر محضة ؛ هو أنّ المحضة تقتضی - غالبا - أن یکون المضاف اسما جامدا ، أو فی حکم الجامد ، فلا یعمل ؛ وهذا یؤدی إلی اعتبار کلة : «جاعل» فی حکم الجامد ؛ فلا تنصب مفعولا به ، ولا مفعولین ، وإلی إعراب کلمة : «سکنا» المنصوبة ، مفعولا به لعامل محذوف ، تقدیره «یجعل» ، أو ما یماثله ، وکأن الأصل : جاعل اللیل یجعله سکنا. وفی کل هذا عدول عن النسق الظاهر ، والإعراب الواضح الذی یدخل الوصف «جاعل» هو وفعله فی سلک الألفاظ العاملة التی تنصب مفعولین. وقد أضیف الوصف إلی أحدهما ، ونصب الثانی مباشرة ، فلا حاجة إلی تأول وتقدیر یبعدان عن هذا السنن الواضح.
وشیء آخر ؛ هو : أن زمن الوصف فی الآیة دائم مستمر ؛ یشمل الماضی والحال ، والمستقبل. ولکن هذا الدوام الزمنی لیس متصل الأجزاء بغیر انقطاع ، وإنما یتخلله انقطاع یزول ، ثم یعود مرة ، فأخری ؛ فحین یجعل الله اللیل سکنا یکون اللیل موجودا ، وحین لا یجعله سکنا یختفی. ثم یجعله مرة أخری ؛ ثم یزیله ، ثم یعیده ؛ وهکذا ، دوالیک ؛ ... فالاستمرار موجود حقّا ؛ ولکنه علی ما وصفنا ؛ من توالی الإیجاد والإزالة بغیر توقف ، ومن تجدد الظهور والاختفاء بغیر انقطاع (2) أما الدوام المتصل علی حالة واحدة ، - هی : جعل اللیل سکنا فی جمیع لحظات الزمان وأوقاته - فلا وجود له.
ولما کان الانقطاع والتجدد هما من خصائص الفعل المضارع ، وزمن المضارع هو الحال أو الاستقبال - کان الوصف (المشتق) الذی یشارکه فیهما شبیها به من الناحیة المعنویة ، ومحمولا علیه فی ناحیة أخری ، هی
ص: 39
الدلالة الزمنیة أیضا. أی : أنه شبیه به فی الدلالة علی التجدد والحدوث ، وفی الدلالة الزمنیة المعیّنة. وإذا کانت دلالة الوصف الزمنیة علی هذه الشاکلة فإن إضافته غیر محضة (1).
ب - إذا کان الوصف المضاف مطلق الزمن ؛ أی : لا دلیل معه یبین نوعا من أنواع الزمن الثلاثة - کانت إضافته محضة ؛ نحو : «صاحب السلطان کراکب السفینة» (2) ... ؛ فلا قرینة فی المثال تدل علی ربط المعنی المقصود بزمن معین ؛ ماض ، أو حال ، أو مستقبل ، أو ما یشمل الثلاثة ... (وقد سبقت الإشارة لهذا) (3).
ح - أشرنا (4) إلی أن إضافة الوصف إلی الظرف نوع من الإضافة المحضة وأوضحنا شرط ذلک ؛ کالمثال السابق : «مالک یوم الدین» أی : مالک الأمر والنهی فی یوم الدین. بخلاف : «جاعل اللیل سکنا» لأن اللیل مفعول به ، فی الأصل قبل الإضافة ، ولیس ظرفا ، وإلا فسد المعنی (5).
د - من الإضافة غیر المحضة ما یأتی من الأنواع الملحقة بها (6) ؛ وهی :
1- إضافة الاسم إلی اسم آخر کان قبل الإضافة نعتا للمضاف ؛
ص: 40
(وهذا ما یعبرون عنه بأنه إضافة الاسم المنعوت إلی نعته). کقولهم : «صلاة الأولی» تذهب الخمول - کان الخلفاء السابقون یقصدون «مسجد الجامع» لیذیعوا علی الناس ما یریدون إذاعته - إنی أحرص علی «دیانة القیّمة» ، لأسعد.
والأصل : الصلاة الأولی ، أو : صلاة الساعة الأولی - المسجد الجامع أو : مسجد الوقت الجامع - الدیانة القیمة ، أو : دیانة الملة القیمة (1).
2- إضافة الاسم إلی اسم آخر کان قبل الإضافة منعوتا للمضاف. فصار بعدها هو : المضاف إلیه. (أی : إضافة النعت إلی منعوته) کقوله تعالی : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْیَقِینِ.) وقوله تعالی : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْیَقِینِ) والأصل فی الآیتین : الیقین الحقّ ، فتقدمت الصفة علی الموصوف ، وصارت مضافا ، وصار الموصوف مضافا إلیه مجرورا. ومثله ما جاء فی خطبة قائد بین جنوده : «إن العدو لن یعبأ بکم إلا إذا أحس منکم صادق الجهاد ، وعظیم البلاء ، وملأتم قلبه فزعا ، وضربتموه کما تضرب عوادی الوحوش ، وطردتموه کما تطرد غرائب الإبل ، وترکتم جنوده بین صریع وأسیر ...» أی : الجهاد الصادق - البلاء العظیم - الوحوش العوادی - الإبل الغرائب - ...
3- إضافة المسمی إلی الاسم (2) ؛ نحو : شهر (3) رجب معظّم فی
ص: 41
الجاهلیة والإسلام - شجر التفاح کثیر فی الشام. وهذه هی إضافة : «البیان أو : «الإضافة البیانیة» التی یقصد منها إیضاح الأول وبیانه بالثانی (1) وهی کثیرة فی استعمالنا ؛ کإضافة الأیام والعلوم إلی أسمائها ؛ مثل : یوم الخمیس - یوم الجمعة - علم الحساب - علم الهندسة ... ولها أمثلة أخری وردت فی المطولات ، منها قولهم : لقیته ذات مرة ، أو ذات لیلة - مررت به ذات یوم - داره ذات الیمین ، أو ؛ ذات الشمال - مشینا ذا صباح(2) ...
ومن المفید المهم أن ننقل هنا ما دوّنه ابن یعیش شارح المفصل (3) خاصّا بهذا. قال ما نصه (مع حذف بعض الأمثلة ، اکتفاء ببعض) :
«اعلم أنهم قد أضافوا المسمی إلی الاسم مبالغة فی البیان ؛ لأن الجمع بینهما آکد (أقوی) من إفراد أحدهما بالذکر. وفی ذلک دلیل من جهة النحو علی أن الاسم عندهم غیر المسمی. إذ لو کان إیاه لما جاز إضافته إلیه ، وکان من إضافة الشیء إلی نفسه. فالاسم هو اللفظ المعلّق علی الحقیقة ؛ عینا کانت تلک الحقیقة ، أو معنی ؛ تمییزا لها باللقب ممّا یشارکها فی النوع ،
ص: 42
والمسمی تلک الحقیقة ؛ وهی ذات ذلک اللقب ، أی : صاحبته (1). فمن ذلک قولهم : «لقیته ذات مرة» والمراد : الزمن المسمی بهذا الاسم الذی هو : مرة. ومثله : (ذات لیلة - ومررت به ذات یوم - وداره ذات الشمال - وسرنا ذا صباح) کل هذا معناه وتقدیره : داره شمالا ، وسرنا صباحا .. ، بالطریق التی ذکرناها. إلا أن فی قولنا : ذا صباح ، وذات مرة - تفخیما للأمر. «ومن ذلک قول الشاعر :
عزمت علی إقامة ذی صباح
لأمر ما یسوّد من یسود
المراد : علی إقامة صاحب هذا الاسم ، وصاحبه هو : صباح ؛ فکأنه قال : علی إقامة : صباح ...
«ومثله قول الکمیت :
إلیکم ذوی آل النبیّ تطلعت
نوازع من قلبی ظماء وألبب (2)
فالمراد : یا آل النبی ، أی : یا أصحاب هذا الاسم الذی هو آل النبی ، ولو قال : «آل النبیّ» لم یکن فیه ما فی قوله : «یا ذوی آل النبیّ» من المدح والتعظیم. فائدة هذا الأسلوب ظاهرة ؛ لأنه لما قال یا ذوی آل النبی - جعلهم أصحاب هذا الاسم ؛ وهو آل النبی. ومن کان صاحب هذا الاسم کان ممدوحا معظما لا محالة ... (مثله قول الأعشی :
فکذّبوها بما قالت : فصبّحهم
ذو آل حسّان یزجی الموت والشّرعا (3)
أی : صبحهم الجیش الذی یقال له : آل حسان.
«ومثله قول الآخر :
ص: 43
إذا ما کنت مثل ذوی عدیّ
ودینار ، فقام علیّ ناعی
أی : مثل کل واحد من الرجلین المسمیین «عدیّا» و «دینارا» ... «وحکی عن العرب : هذا ذو زید ، ومعناه : هذا صاحب هذا الاسم ، وقد کثر ذلک عندهم. وربما لطف (1) هذا المعنی علی قوم ؛ فحملوه علی زیادة. «ذی» ، و «ذات». والصواب ما ذکرناه) اه.
وهذا کلام جلیل فی إیضاح تلک الأسالیب التی أضیف فیها المسمی إلی الاسم ؛ لتحقیق غرض بلاغیّ هامّ ، کالإیضاح مع التوکید ...
ومن أمثلتها الواردة أیضا قولهم : «اذهب بذی تسلم - اذهبا بذی تسلمان - اذهبوا بذی تسلمون ...». أی : اذهب بسلامتک التی تلازمک ولا تفارقک اذهبا بسلامتکما - اذهبوا بسلامتکم» (2) ...
(3) إضافة الموصوف إلی اسم قائم مقام الصفة ؛ کقول الشاعر :
علا زیدنا یوم النّقا رأس زیدکم
بأبیض ، ماضی الشّفرتین یمانی ... (4)
أی : علا زید صاحبنا رأس زید صاحبکم ؛ فحذف الصفتین ، وجعل الموصوف خلفا عنهما فی الإضافة. ویری بعض النحاة أن البیت ونحوه هو من إضافة الشیء إلی ملابسه (4) بعد تنکیر العلم ، وإضافته إضافة محضة من غیر حاجة لتأویل بما ذکر (5). والرأیان صحیحان.
ص: 44
5- إضافة المؤکّد إلی المؤکّد ، وأکثر ما یکون ذلک فی أسماء الزمان المبهمة (أی : التی لا تحدّد ببدء وانتهاء معروفین ؛ مثل کلمة : حین - وقت ... - زمن - أیام ... ونحوها مما سبق الکلام علیه فی الجزء الثانی ، باب : «الظروف») ، نحو : إذا اشتدت وقدة الصیف أسرع الناس إلی سواحل البحار ؛ لیقیموا بها ما وسعهم الأمر ، وحینئذ ینعمون بجو معتدل ، وهواء رطب منعش ... أی : حین إذ یقیمون ... ینعمون ؛ فحذفت الجملة المضارعیة الأولی ، وهی المضاف إلیه ، وعوّض عنها التنوین. فالمؤکّد هو : «الحین» وهو زمن مبهم. والمؤکّد هو : «إذ» الظرفیة المضافة إلی الجملة المضارعیة المحذوفة (1). والمراد من لفظ : «الحین» المبهم هو المراد من لفظ : «إذ» المخصصة بالجملة التی أضیفت إلیها ، فالظرف الزمنی الثانی مؤکد للأول ؛ لاتفاق معناهما ، والمراد منهما ، مع مجیئه بعده (2) ...
ویری بعض النحاة - بحق - أن مثل هذا یعدّ من إضافة العامّ إلی الخاصّ ، لا المؤکّد إلی المؤکّد ، لتخصیص الظرف الثانی - کما قلنا - بالجملة التی أعربت مضافا إلیه ، وهی الجملة المضارعیة التی حذفت وقام مقامها التنوین عوضا عنها ...
ومن النادر أن تکون إضافة المؤکّد إلی المؤکّد فی غیر أسماء الزمان المبهمة ؛ کقول الشاعر :
فقلت انجوا عنها نجا الجلد ، إنّه
سیرضیکما منها سنام وغاربه (3)
ص: 45
یرید : اسلخا عن الناقة نجا الجلد - والنجا ، بالقصر - هو : الجلد.
6- إضافة الاسم الملغی (1) إلی الاسم المعتبر (2) ؛ کقوله تعالی : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. فِیها أَنْهارٌ ...) ، ومثل : مررت بکم فألقیت اسم السّلام علیکم. والأصل : الجنة التی وعد المتقون ... - ألقیت السّلام علیک (3) ...
7- إضافة الاسم المعتبر إلی الاسم الملغی کقول الشاعر :
أقام ببغداد العراق وشوقه
لأهل دمشق الشام شوق مبرّح (4)
8- ومن الإضافة غیر المحضة قولهم : «لا أبا لفلان» ؛ لوجود الفاصل بین المتضایفین. وقد سبق (5) - فی مناسبة أخری - الکلام علی هذا الأسلوب من ناحیة الإضافة ، ومن ناحیة إعرابه ومعناه.
9- ومن الإضافة غیر المحضة إضافة صدر المرکب المزجی إلی عجزه - مسایرة لبعض اللغات الجائزة فیه - نحو : قامت الطائرة من «أفغان ستان» فوصلت إلی «بور سعید» فی بضع ساعات.
ص: 46
وإنما کانت الإضافة هنا لفظیة لأن کلّا من الجزأین یکمل الآخر کما یکمل الحرف الواحد فی الکلمة الواحدة نظائره فیها ، کالخاء ، أو الشین ، أو الباء ... فی کلمة : «خشب» - مثلا -.
وفائدة هذه الإضافة التخفیف الناشئ من الترکیب ، مع التنبیه إلی شدة الامتزاج (1).
10- ومن الإضافة غیر المحضة : «الکنیة» علی الوجه الذی سبق تفصیله وإیضاحه فی الجزء الأول (2) ...
* * *
إلی هنا انتهت تلک الإضافات الملحقة «بغیر المحضة». ونعود إلی ما أشرنا إلیه (3) من الجدل الدائر حولها. ویترکز فیما یأتی :
أمحضة هی أم غیر محضة؟ أهی نوع ثالث مستقل بنفسه ، ولکن إضافته «شبیهة بالمحضة» ؛ ویجب أن یسمی بهذا الاسم؟.
ثم لهذا النوع - عندهم - اعتباران ؛ أحدهما الاتصال ؛ لأن المضاف غیر مفصول من المضاف إلیه بالضمیر الذی یلاحظ وینوی فی الإضافة غیر المحضة ، کما سلف بیانه. والآخر : الانفصال ، لأن المعنی لا یصح إلا بتأول
ص: 47
وتکلّف یخرجان الإضافة عن ظاهرها (1). فأیهما الصحیح؟. وبعد کل ما سبق أقیاسیة هی أم سماعیة؟.
لکل رأی أدلته التی یقویها أصحابه بتأویل الأسلوب تأویلا یبعده عن ظاهره ، وبتخریجه إلی حیث یریدون من إثبات رأیهم ودعمه ...
والأمر لا یحتاج إلی هذا العناء الجدلیّ الذی له أسبابه التاریخیة النحویة التی لا تعنینا الیوم ؛ فحسبنا أن نترک فضول التأویل والتخریج ، ونعوّل علی ظاهر الأسلوب الإضافی تعویلا لا یعارض المراد منه - فنجد تلک الإضافات المتعددة قد انحصرت فی قسمین :
أولهما : یکون فیه المضاف والمضاف إلیه بمعنی واحد ، مع اختلاف لفظهما. أی : أن اللفظین مختلفان ، ولکن مدلولهما متحد ، کإضافة المسمّی إلی الاسم (فی مثل : شهر رمضان - شجر البرتقال - علم الهندسة ...) ، ومثل هذه الإضافة لا تفید المضاف تعریفا ولا تخصیصا ، لأن المضاف من حیث المعنی هو نفس المضاف إلیه ، أو بمنزلته ؛ والشیء لا یتعرف ولا یتخصص بنفسه ، أو بما هو بمنزلة نفسه ؛ فلا یمکن أن تکون الإضافة فی هذا القسم «محضة» ؛ إذ «المحضة» لابد أن تفید المضاف تعریفا أو تخصیصا إذا کان غیر متوغل فی الإبهام ، وأن تتضمن معنی حرف من أحرف الجر الثلاثة المعروفة (2) ، و «الإفادة والتضمین» ، یقتضیان أن یکون معنی المضاف غیر معنی المضاف إلیه.
ثانیهما : یکون فیه أحد الاسمین المتضایفین أصلیّا والآخر زائدا (یمکن الاستغناء عنه من غیر أن یتأثر المعنی المراد بحذفه) نحو : مررت بکم فألقیت اسم السّلام علیکم ... فکلمة : «اسم» زائدة ؛ لا فائدة منها مستجدة ، وإذا کانت کذلک فکیف تعتبر إضافتها محضة؟.
إن الإضافة المحضة تؤثر فی الأسلوب تأثیرا معنویّا ؛ لا غنی عنه - کما قلنا - فحیث یمکن الاستغناء عن أحد طرفی الإضافة لا تکون الإضافة محضة.
ص: 48
أما قیاسیة تلک الإضافات الملحقة بغیر المحضة ، أو عدم قیاسیتها ، فکثرة النحاة تقصرها علی المسموع ، ولا تبیح فیها القیاس. إلا الکوفیین فیبیحون القیاس علی المسموع ، بشرط اختلاف لفظی المضاف والمضاف إلیه ، بحجة أن الوارد من تلک الإضافات کثیر کثرة تکفی للقیاس علیه ، وأن الحاجة قد تدعو لاستخدام القیاس ؛ للانتفاع بفائدة تلک الإضافات المتعددة الأنواع ، فإنها لا تخلو من فائدة معنویة - کالإیضاح مع التوکید - ، برغم أن هذه الفائدة المعنویة تختلف - نوعا ومقدارا - عن الفائدة المعنویة التی للإضافة المحضة (1) ...
ورأی الکوفیین سدید مفید. وفی الأخذ به هنا تیسیر محمود تتطلبه حیاة الناس کما طلبته قدیما. لکن من المستحسن - وبخاصة القسم الثانی - أن نأخذ به فی أضیق الحدود ؛ حین تشتد إلیه الحاجة ، وتقوم قرینة علی بیان المراد منه ، بحیث لا یشوبه لبس أو غموض.
وقد صرح بعض کبار النحاة باستحسان الرأی الکوفی ، ففی شرح شواهد العینی للبیت المرقوم (448) وهو الذی سبق هنا فی الإضافة الخامسة (ص 45) وصدره (فقلت : انجوا عنها نجا الجلد إنه ...) ما نصه :
(الشاهد فی : «نجا الجلد» حیث أضاف المؤکّد إلی المؤکّد ؛ لأن «النجا» - بالقصر - هو الجلد. والأحسن ما قاله الفراء : إن العرب تضیف الشیء إلی نفسه عند اختلاف اللفظین کقوله تعالی ... (حَقُّ الْیَقِینِ)(2) ...) اه وقال الأشمونی عند الکلام علی بیت ابن مالک (3) :
ولا یضاف اسم لما به اتّحد
معنی ، وأوّل موهما إذا ورد
ما نصّه : «لا یضاف اسم لما اتحد به معنی ؛ کالمرادف مع مرادفه ؛
ص: 49
والموصوف مع صفته ؛ لأن المضاف یتخصص أو یتعرف بالمضاف إلیه ؛ فلابد أن یکون غیره فی المعنی ؛ فلا یقال ، قمح برّ ، ولا رجل فاضل ، ولا فاضل رجل. وإذا جاء من کلام العرب ما یوهم جواز ذلک وجب تأویله ؛ فمما أوهم إضافة الشیء إلی مرادفه قولهم : «جاءنی سعید کرز». وتأویله : أن یراد بالأول المسمی ، وبالثانی الاسم ؛ أی : جاءنی مسمی هذا الاسم (1). ومما أوهم
ص: 50
إضافة الموصوف إلی صفته قولهم : «حبة الحمقاء» ، و «صلاة الأولی» ، و «مسجد الجامع» ، وتأویله أن یقدر موصوف ، أی : حبة البقلة الحمقاء ، وصلاة الساعة الأولی ، ومسجد المکان الجامع (1). ومما أوهم إضافة الصفة إلی الموصوف قولهم : جرد قطیفة (2)» وسحق عمامة (3) ، وتأویله : أن یقدر موصوف أیضا ، وإضافة الصفة إلی جنسها ؛ أی : شیء جرد من جنس القطیفة ، وشیء سحق من جنس العمامة.» اه کلام الأشمونی.
ثم قال ما نصه :
«أجاز الفراء إضافة الشیء إلی ما بمعناه لاختلاف اللفظین. ووافقه ابن الطّراوة ، وغیره ، ونقله فی «النهایة» عن الکوفیین ، وجعلوا من ذلک ما ورد فی الآیات القرآنیة من نحو : «ولدار الآخرة» - «حقّ الیقین» - «حبل الورید» - «جنات وحبّ الحصید» وظاهر التسهیل وشرحه موافقته (4)) اه. الأشمونی. ویقول الرضی فی شرح الکافیة (5) - بعد أن شرح مذهب الکوفیین وغیرهم وعرض أمثلة مما سبق - ما نصه : «والإنصاف أن مثله کثیر لا یمکن دفعه» (6).
ص: 51
وقد أطلنا الکلام فی أمر الإضافات السالفة لنفصل فی أمرها بحکم قاطع - وهو إباحتها - فیحسم النزاع ، ویوقف الجدل الذی امتد حتی وصل إلینا عنیفا ، واستخدمه الیوم - بغیر حق - بعض الباحثین فی إصدار أحکام بالفساد والخطأ علی بعض الإضافات الشائعة ، مثل : «استرحنا من عناء التعب» ، - و «نعمنا برغد الرخاء».
* * *
ص: 52
السابع : عدم الفصل بین المضاف والمضاف إلیه باسم ظاهر ، أو بضمیر بارز (1) ، أو بغیرهما ، لأن المتضایفین بمنزلة الکلمة الواحدة ذات الجزأین ، لا یصح أن یتوسط بینهما فاصل. غیر أن هناک مواضع یجوز فیها الفصل فی السعة (2) - فإباحتها فی الشعر ، وملحقاته ، أقوی -. ومواضع أخری یجوز فیها الفصل للضرورة (3).
ا - فأمّا مواضع الفصل فی السّعة فمنها :
1- أن یکون المضاف مصدرا والمضاف إلیه هو فاعله فی الأصل قبل الإضافة ، والفاصل بینهما إما مفعول به للمصدر (4) ؛ کقول الشاعر :
حملت إلیه من ثنائی حدیقة
سقاها الحجا سقی الریاض السحائب
والأصل : سقی السحائب الریاض. وقول الآخر :
عتوا إذ أجبناهم إلی السّلم رأفة
فسقناهم سوق - البغاث - الأجادل (5)
یرید : سوق الأجادل البغاث ، فوقع الفصل فی المثالین بین المصدر وفاعله بمفعوله المنصوب.
وإما ظرف للمصدر ؛ کقولهم : ترک یوما نفسک وهواها ، سعی لها فی
ص: 53
رداها. فقد فصل الظرف : (یوما) بین المصدر وفاعله ، وهما : ترک نفسک ... (1)
2- أن یکون المضاف اسم فاعل للحال أو الاستقبال ، والمضاف إلیه هو مفعوله ، والفاصل بینهما ؛ إما : مفعوله الثانی ، وإما الظرف ، وإما الجار والمجرور المتعلقان بهذا المضاف ، فمثال الفصل بالمفعول الثانی قول الشاعر :
ما زال یوقن من یؤمّک بالغنی
وسواک مانع - فضله - المحتاج
أی : مانع المحتاج فضله. والأصل قبل الإضافة مانع المحتاج فضله ؛ فاسم الفاعل هنا ناصب مفعولین ، ثم أضیف إلی أولهما ، وبقی الثانی منصوبا ، ولکنه تقدم وفصل بین المتضایفین. ومثال الظرف قول الشاعر :
وداع إلی الهیجا ولیس کفاءها
کجالب - یوما - حتفه بسلاحه
والأصل : کجالب حتفه یوما ... ، ومثال الجار والمجرور المتعلقین به قوله علیه السّلام : هل أنتم تارکو - لی - صاحبی. والأصل : تارکو صاحبی لی.
3- الفصل بالقسم ، أو : بإمّا ، أو : بالجملة الشرطیة ؛ سواء أکان المضاف شبه فعل (2) أم غیره ؛ فمثال القسم : شرّ - والله - البلاد بلاد لا عدل فیها ولا أمن. ومثال «إما» قول الشاعر :
ومنّة (5)
وإمّا دم ، والقتل بالحرّ أجدر
أی : هما خطّتا إسار ... وقد حذفت نون المثنی المضاف وفصلت بینه وبین المضاف إلیه کلمة : «إما». ومثال الشرط ما نقل من نحو : هذا غلام - إن شاء الله - أخیک». والأصل : هذا غلام أخیک إن شاء الله.
4- الفصل ب «ما» الزائدة حین یکون المضاف منادی ، وحرف النداء هو : «یا» ؛ کقول الشاعر :
ص: 54
یا شاة - ما - قنص لمن حلّت له
حرمت علیّ ولیتها لم تحرم
5- الفصل بالتوکید اللفظیّ بشرط أن یکون المضاف منادی قد تکرر لفظه للتوکید اللفظی ، من غیر أن یضاف اللفظ الذی جاء للتوکید ، نحو : (یا صلاح - صلاح - الدین الأیوبیّ ، ما أطیب سیرتک) ؛ علی اعتبار أن کلمة : «صلاح» ، الأولی منادی ، منصوب ، مضاف ، وکلمة : «الدین» مضاف إلیه ، وکلمة : «صلاح» الثانیة هی التوکید اللفظی للأولی ، وقد فصلت بین المتضایفین (1).
* * *
ب - وأما مواضع الفصل المباح فی الضرورة فمنها :
(ا) وقوع المضاف اسما - مشبها الفعل فی العمل ، رافعا بعده فاعله الذی یفصل بینه وبین المضاف إلیه ؛ کقول الشاعر :
نری أسهما للموت تصمی (2)
ولا تنمی (3)
ولا نرعوی (4) عن نقض - أهواؤنا
العزم
فقد فصل بین المضاف والمضاف إلیه بکلمة : «أهواؤنا» وهی فاعل المصدر المضاف. والأصل : عن نقض العزم أهواؤنا. أی : عن أن تنقض أهواؤنا العزم.
2- أن یکون الفاصل بین المضاف والمضاف إلیه أجنبیّا من المضاف ، (أی : أن یکون الفاصل معمولا لعامل آخر غیر هذا المضاف) ؛ کالفصل بالفاعل الأجنبی فی قول الشاعر :
ص: 55
أنجب (1) أیّام - والداه
به -
إذ نجلاه (2) ؛ فنعم ما
نجلا
والأصل : أنجب والداه به أیام إذ (3) نجلاه ... فقد فصل الفاعل (4) وهو (والداه) بین المضاف : - أیام - وبین المضاف إلیه وهو : «إذ نجلاه» ، والفاصل هنا لیس معمولا للمضاف.
3- الفصل بالمفعول الأجنبی ؛ کالذی فی قول الشاعر یصف فتاة :
تسقی امتیاحا (5) ندی - المسواک
- ریقتها
کما تضمّن ماء المزنة الرّصف (6)
یرید : أنها تسقی المسواک ندی ریقتها. فقد توسط المفعول به الأجنبی ، (وهو : المسواک) بین المضاف والمضاف إلیه ، وفصل بینهما ، مع أنه معمول للفعل : «تسقی» ولیس معمولا للمضاف.
4- الفصل بالظرف الأجنبی (7) ؛ کالذی فی قول الشاعر یصف رسوم الدار بأنها :
کما خطّ (8) الکتاب بکفّ
- یوما
ص: 56
والأصل : کما خط الکتاب یوما بکفّ یهودیّ ؛ فوقع الظرف الأجنبی فاصلا بین المضاف وهو : «کف» ، والمضاف إلیه ، وهو : «یهودی».
5- الفصل بالجار مع مجروره الأجنبیین ، کما فی قول الشاعرة (1) :
هما أخوا - فی الحرب - من لا أخاله
إذا خاف یوما نبوة ، ودعاهما
ترید : هما أخوا من لا أخاله فی الحرب. وقول الآخر (2) :
کأن أصوات - من إیغالهنّ (3) ،
بنا -
أواخر المیس (4) أصوات
الفراریج (5)
یرید : کأن أصوات أواخر المیس ...
6- الفصل بنعت المضاف ؛ مثل :
ولئن حلفت علی یدیک لأحلفن
بیمین أصدق من یمینک - مقسم
أی : بیمین مقسم ، أصدق من یمینک.
7- الفصل بالنداء ، کالذی فی قول الشاعر :
بجیر منقذ لک من
تعجیل تهلکة (8) ، والخلد فی
سقرا (9)
أی : وفاق بجیر یا کعب ...
* * *
ص: 57
تلک أشهر مواضع : «الفصل» - بنوعیه - بین المضاف والمضاف إلیه کما رآها کثرة النحاة.
لکن فریقا من نحاة البصرة لا یبیحون الفصل فی السّعة ، ویقصرونه علی الضرورات. والأخذ برأیهم أفضل ؛ حرصا علی وضوح المعانی ، وجریا علی مراعاة النسق الأصیل فی ترکیب الأسالیب. فمما لا شک فیه أن الفصل بین المتضایفین لا یخلو من إسدال ستار مّا علی المعنی لا یرتفع ولا یزول إلا بعد عناء فکریّ یقصر أو یطول ، وأن الأسلوب المشتمل علی : «الفصل» غریب علی اللسان والآذان ، ولا سیما الیوم.
سواء أخذنا بهذا الرأی الأفضل أم بذاک - وکلاهما جائز - فلا مناص لمن یبیح الفصل أن یبیحه حین تقوم القرینة علیه ، ویتضح المعنی معه ، فی غیر إبهام ولا غموض (1).
ص: 58
من مواضع الفصل للضرورة : الفصل بین المتضایفین بالفعل الزائد (أی : الذی یمکن حذفه مع فاعله (1) بغیر أن یفسد المعنی) ومنه قول العربی یسأل عن أهله :
بأیّ - تراهم - الأرضین حلّوا؟
أبالدّ بران ، أم عسفوا الکفارا
یرید : بأی الأرضین؟ فجملة : «تراهم» (2) زائدة ، فاصلة بین المتضایفین. ثم یسأل : أحلوا المکان الذی یسمی : الدبران - بفتح الباء - أم قصدوا المکان الآخر المسمی : الکفار؟.
وأیضا الفصل بالمفعول لأجله ؛ کقول الشاعر :
أشمّ کأنّه رجل عبوس
معاود - جرأة - وقت الهوادی
والأصل : معاود وقت الهوادی ؛ جرأة. أی : یعاود الحرب وقت ظهور أعناق الخیل ، لجرأته فی الحرب (3).
وکذلک الفصل بلام الجر الزائدة بین المضاف المنادی والمضاف إلیه (4) کقول الشاعر:
* یا بؤس للحرب ضرّارا لأقوام*
* * *
ص: 59
الثامن : استفادة المضاف من المضاف إلیه وجوب التصدیر (1) ، وانتقال هذا الوجوب من الثانی للأول. فإذا کان المضاف إلیه لفظا من الألفاظ التی یجب تصدیرها فی جملتها - کألفاظ الاستفهام ... و ... - فإنه یفقد التصدیر حین یصیر مضافا إلیه ، وینتقل وجوب التصدیر إلی المضاف الذی لیس من ألفاظ الصدارة الحتمیة ؛ ولهذا وجب تقدیم المبتدأ فی مثل : کتاب من معک؟ والخبر فی مثل : صباح أیّ یوم السفر؟ والمفعول به فی مثل : دعوة أیّهم تجیب؟ والجار والمجرور فی مثل : من بلاد أیّ الأنصار أقبلت؟ وهکذا ... وأصل الکلام : معک کتاب من؟ - السّفر صباح أیّ یوم؟ - تجیب دعوة أیهم؟ - أقبلت من بلاد أیّ الأنصار؟. ففی الأمثلة السابقة تقدم وجوبا کل من المبتدأ ، والخبر ، والمفعول به ، والجار مع مجروره ... و ... مع أن کل واحد من هذه الألفاظ لیس من الألفاظ الواجبة التصدیر لذاتها ؛ ولکنه استفاد حق التصدیر الواجب من المضاف إلیه ، وسلبه هذا الحق ، إذ المضاف إلیه هنا أداة استفهام ، وأدوات الاستفهام واجبة التصدیر بنفسها قبل أن تصیر : «مضافا إلیه» فحین صارت مضافا إلیه فقدت هذا التصدیر الواجب ، وانتقل منها إلی المضاف.
التاسع : وجوب تقدیم المضاف ، علی المضاف إلیه ، وکذلک علی معمولات المضاف إلیه ، إن وجدت. فلا یجوز أن یتقدم المضاف إلیه ، ولا شیء من معمولاته (سواء أکانت هذه المعمولات مفردة ، أم جملة ، أم شبه جملة) ، إلا حالة واحدة یجوز فیها تقدیم المعمول ؛ هی : أن یکون المضاف کلمة : «غیر» التی یقصد بها النفی (2) ؛ ففی نحو : (أنا مرشد الغرباء ...) لا یصح : (أنا الغرباء مرشد ...) وفی نحو : «أنا مثل کاتب سطورا» ، لا یصح أن یقال : (أنا - سطورا - مثل کاتب) أما فی نحو : (أنا غیر منکر فضلا -) فیجوز : (أنا - فضلا - غیر منکر) ؛ لأنه یجوز : (أنا فضلا لا أنکر).
ومنه قول الشاعر :
ص: 60
إنّ امرأ خصّنی عمدا مودّته
علی التنائی لعندی غیر مکفور
والأصل : لغیر مکفور عندی ؛ فقدّم : «عندی» وهو معمول المضاف إلیه ، علی المضاف وهو : «مکفور» ، لتحقّق الشرط ؛ فکأنه قال : لعندی لا یکفر. فإن لم یقصد بکلمة : «غیر» النفی لم یتقدم علیها معمول المضاف إلیه. کما فی مثل : «فاز المتسابقون غیر راکب فرسا» فلا یصح : فاز المتسابقون فرسا غیر راکب ؛ لعدم قصد النفی بکلمة : «غیر» ، لأنه لا یصلح وضع حرف النفی والمضارع موضعها مع مجرورها ؛ فلا یقال : فاز المتسابقون لا یرکب فرسا ، لعدم الرابط المناسب فی الجملة الحالیة.
ومما تقدم نفهم المراد من قول النحاة : «إن المضاف إلیه لا یعمل شیئا فی المضاف ، ولا فیما قبل المضاف ، إلا فی صورة واحدة ».
العاشر : وجوب استفادة المضاف الذی لیس مصدرا ، من المضاف إلیه المصدریة ، فی بعض الصور ؛ (کأن یکون المضاف فی أصله اسم استفهام ، أو صفة لمصدر محذوف) (1) ، مثل قوله تعالی : (وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ (2) یَنْقَلِبُونَ)، والأصل : وسیعلم الذین ظلموا ینقلبون أیّ منقلب؟ أو : سیعلم الذین ظلموا ینقلبون منقلبا أیّ منقلب. فکلمة : «أی» مفعول مطلق (3) فهو - هنا - نائب عن المصدر ، وقد اکتسب المصدریة من المضاف إلیه.
الحادی عشر : وجوب استفادة المضاف من المضاف إلیه الظرفیة بشرط أن یکون المضاف هو لفظ : «کل» ، أو : «بعض» أو ما یدل علی الکلیة أو الجزئیة ؛ وأن یکون المضاف إلیه ظرفا فی أصله (4) ؛ کقولهم : قد تخفی خدیعة
ص: 61
اللئیم بعض الأحیان ، ولکنها لا تخفی کلّ الأحیان (1).
* * *
إلی هنا انتهت الأحکام الحتمیة المطّردة. وبقیت الأحکام الأربعة الأخری التی أشرنا إلیها من قبل (2) ، وهی التی یجوز مراعاتها وعدم مراعاتها ؛ وتدخل تحت العنوان الآتی مباشرة (3).
ص: 62
الثانی عشر : جواز استفادة المضاف المذکر من المضاف إلیه التأنیث وذلک بشرطین:
أولهما : أن یکون المضاف جزءا من المضاف إلیه ، أو مثل جزئه (1) ، أو کلّا له.
وثانیهما : أن یکون المضاف صالحا للحذف ، وإقامة المضاف إلیه مقامه من غیر أن یتغیر المعنی. فمتی تحقق الشرطان کان اکتساب المضاف التأنیث قیاسیّا ، مع قلّته وضعف درجته البلاغیة بالنسبة لعدم التأنیث ، ولکنها «قلة نسبیة» (2) لا تمنع القیاس ، فمثال المضاف الذی هو جزء من المضاف إلیه : أسرعت بعض السحائب حین ساقتها بعض الریاح. فقد لحقت تاء التأنیث آخر الفعلین : «أسرع» و «ساق» ؛ لتدل علی تأنیث فاعلهما ؛ وهو کلمة ؛ «بعض» مع أن کلمة : «بعض» مذکّرة فی ذاتها ، لکنها اکتسبت التأنیث من المضاف إلیه بعدها ؛ وهو کلمة : «السحائب» و «الریاح» فصحّ تأنیث الفعل مراعاة لتأنیث فاعله المضاف المستوفی الشرطین ؛ لأنّ الفاعل المضاف هنا بعض من المضاف إلیه ، ومن الممکن حذف المضاف ، والاستغناء عنه بالمضاف إلیه من غیر أن یفسد المعنی ؛ فیقال : أسرعت السحائب حین ساقتها الریاح. ومثل هذا قول الشاعر :
وتشرق بالقول الذی قد أذعته
کما شرقت صدر القناة من الدم
ص: 63
فقد أنث الفعل الماضی : «شرق» لتأنیث فاعله المضاف المستوفی الشرطین - وهو : «صدر» - تأنیثا مکتسبا من المضاف إلیه الذی هو کلّ للمضاف.
ومثال المضاف الذی یشبه جزء المضاف إلیه قول الشاعر :
وما حبّ الدیار شغفن (1)
قلبی
ولکن حبّ من سکن الدیارا
فکلمة : «حب» - الأولی - مبتدأ مذکر ، خبره الجملة الفعلیة : «شغفن» والرابط بین المبتدأ وخبره : ضمیر النسوة : «النون» وصح أن یکون العائد علی المبتدأ المذکر ضمیرا مؤنثا لأن المبتدأ المذکر مضاف ، وکلمة : «الدیار» مضاف إلیه مؤنثة ؛ فاکتسب منها التأنیث. والمضاف هنا وهو کلمة : «حبّ» لیس جزءا من المضاف إلیه ، ولکنه یشبهه فی أن له اتصالا عرضیّا ، وارتباطا سببیّا به ؛ فالصلة بین الحب ودیار الأهل والأصدقاء معروفة ، والشرط الثانی متحقق هنا ؛ فمن الممکن حذف المضاف ، والاکتفاء بالمضاف إلیه من غیر فساد للمعنی ؛ فیقال : الدیار شغفن قلبی.
ومثال المضاف الذی هو «کلّ» للمضاف إلیه قول الشاعر یصف نباتا ناضرا :
جادت علیه کلّ عین ثرّة (2)
فترکن کلّ حدیقة کالدّرهم
فقد لحقت تاء التأنیث آخر الفعل : «جاد» للدلالة علی تأنیث فاعله ؛ وهو : «کل» ، مع ان هذا الفاعل مذکر فی ذاته. ولکنه مضاف ، اکتسب تأنیثه من المضاف إلیه. أی : من : کلمة «عین» المؤنثة. فصح لذلک تأنیث فعله. وقد تحقق الشرطان ، لأن المضاف کلّ عامّ یشمل المضاف إلیه ، ولا یفسد المعنی بحذف المضاف هنا وإقامة المضاف إلیه ؛ فیقال : جادت علیه عین ثرّة (3) ومثل هذا قوله تعالی : (یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً) ...
ص: 64
فقد أنّث المضارع : (تجد) لتأنیث فاعله المضاف - المستوفی الشرطین - تأنیثا مکتسبا من المضاف إلیه ؛ لا تأنیثا ذاتیا (1).
فإن فقد المضاف أحد الشرطین لم یکتسب التأنیث من المضاف إلیه ، فمثال ما فقد الشرط الأول : قولهم : «أعجبنی یوم العروبة» ، فلا یصح : أعجبتنی یوم العروبة ، لأن المضاف لیس کلا ، ولا بعضا ، ولا کالبعض ، مع أنه صالح للحذف ، فیقال : أعجبتنی العروبة (2). ومثال ما فقد الشرط الثانی : سرّنی ربّان الباخرة ، فلا یصح سرّتنی ربّان الباخرة ، إذ لا یمکن حذف المضاف وإقامة
ص: 65
المضاف إلیه مکانه مع المحافظة علی المعنی الأول (1) ...
الثالث عشر : استفادة المضاف المؤنث من المضاف إلیه التذکیر بالشرطین المذکورین فی الحکم الثانی عشر. ولکن هذه الاستفادة قلیلة فی النصوص المأثورة قلة لا تبیح القیاس علیها ؛ فمثال المضاف المؤنث الذی هو جزء من المضاف إلیه المذکر قولهم : مضعة اللسان جالب للبلاء ؛ ودافع للنقم ، ومثال المضاف الذی یشبه جزء المضاف إلیه المذکر قول الشاعر :
رؤیة الفکر ما یئول له الأم
ر معین علی اجتناب التّوانی
وقول الآخر :
إنارة العقل مکسوف بطوع هوی
وعقل عاصی الهوی یزداد تنویرا
ومثال المضاف الذی هو «کلّ» للمضاف إلیه : عامة الإقلیم منصرف إلی الإصلاح والتعمیر ، فکلمة : «عامّة» مبتدأ مؤنث ، لکنه اکتسب التذکیر من المضاف إلیه ، فجاء الخبر (وهو : منصرف) مذکرا لذلک (2) ...
الرابع عشر : جواز استفادة المضاف المعرب من المضاف إلیه البناء ، وذلک فی ثلاثة مواضع :
أولها : أن یکون المضاف اسما معربا متوغلا فی الإبهام (3) غیر زمان ؛ (ککلمة : غیر - شبه - مثل ...) والمضاف إلیه مبنیّا ، کالضمیر -
ص: 66
واسم الإشارة ، و ... و ... (1) فیجوز فی المضاف إبقاؤه علی إعرابه کما کان ، أو بناؤه علی الفتح ؛ نحو : أجیب داعی المروءة ، ولو دعانی غیره ما أجبت. فکلمة «غیر» فاعل ؛ إما معرب مرفوع مباشرة ، وإما مبنی علی الفتح - لإضافته إلی المبنی وهو الضمیر - فی محل رفع ، فالأمران جائزان - (عند غیر ابن مالک فإنه لا یبیح بناء المضاف بسبب إضافته لمبنی ، کما سبق فی باب : «الظرف»). ونحو ؛ مثلک لا ینام علی ضم یراد به. فکلمة : «مثل» مبتدأ ، إما معرب مرفوع مباشرة ، وإما مبنی علی الفتح فی محل رفع ؛ فالأمران جائزان ، (عند غیر ابن مالک) ، ومثل هذا قول الشاعر :
وما لام نفسی مثلها لی لائم
ولا سدّ فقری مثل ما ملکت یدی
فکلمة : «مثل» فی الشطرین فاعل ، وهی إما معربة مرفوعة بالضمة مباشرة ، وإما مبنیة علی الفتح فی محل رفع. وسبب بنائها علی الفتح إضافتها للمبنی ، وهو الضمیر «ها» فی الشطر الأول ، واسم الموصول «ما» فی الشطر الثانی.
ثانیها : أن یکون المضاف زمانا مبهما (2) معربا فی أصله ، والمضاف إلیه مفردا (3) مبنیّا ؛ مثل : «إذ» ؛ کقوله تعالی : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّیْنا صالِحاً وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَمِنْ خِزْیِ یَوْمِئِذٍ ...) وقوله تعالی عن هول یوم القیامة : (یَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ یَفْتَدِی مِنْ عَذابِ یَوْمِئِذٍ بِبَنِیهِ ...) فکلمة : «یوم» فی الآیتین ؛ یجوز فیها الأمران ؛ الجر مباشرة مع الإعراب ، أو البناء علی الفتح فی محل جرّ. وهی فی الحالتین اسم زمان مبهم مضاف (4) وبعدها المضاف إلیه : «إذ». وإنما کان «الیوم» هنا مبهما لأن المراد منه
ص: 67
مجرد الزمن من غیر تعیین «یوم خاص» ، ولا تحدیده بعدد معدود من الساعات.
ثالثها : أن یکون المضاف زمانا مبهما معربا فی أصله ، والمضاف إلیه جملة فعلیة فعلها مبنی ؛ بناء أصلیّا (1) ، أو عارضا (2) ؛ فمثال الأصلی قول الشاعر :
علی حین عاتبت المشیب علی الصّبا
وقلت : ألمّا أصح (3)
والشیب وازع؟
ومثال العارض قول الشاعر :
لأجتذبن منهنّ قلبی تحلما
علی حین یستصبین کلّ حلیم
فیجوز فی کلمة : «حین» فی البیتین إما الإعراب والجر المباشر «بعلی» وإما البناء علی الفتح فی محل جر. والبناء أحسن.
فإن کان المضاف المعرب زمانا مبهما والمضاف إلیه جملة اسمیة ، أو جملة مضارعیة ، مضارعها معرب - جاز فی المضاف الأمران أیضا : ؛ (الإعراب أو البناء علی الفتح). ولکن الإعراب أفضل (4). فمثال الجملة الاسمیة قول الشاعر :
ألم تعلمی - یا عمرک الله (5) -
أننی
کریم علی حین الکرام قلیل
وقول الآخر :
تذکّر ما تذکّر ، من سلیمی
علی حین التواصل غیر دان
ومثال الجملة المضارعیة التی مضارعها معرب قوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ) فیجوز فی کلمة «حین» الإعراب والبناء لوقوع المضاف إلیه جملة اسمیة ، وکذلک یجوز فی کلمة : «یوم» الأمران : لوقوع المضاف
ص: 68
إلیه جملة مضارعیة مضارعها معرب. والإعراب فی الحالین أعلی - کما سبق ، وکما سیجیء فی مکان آخر من هذا الباب (1).
الخامس عشر : جواز حذف تاء التأنیث من آخر المضاف ، بشرط أمن اللبس عند حذفها ، وعدم خفاء المعنی. ومن هذا قوله تعالی : (... وَأَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ ، وَإِقامَ الصَّلاةِ ، وَإِیتاءَ الزَّکاةِ ...) وقول الشاعر :
البین إذرحلوا
وأخلفوک «عد» الأمر الذی وعدوا
والأصل : إقامة الصلاة - وعدة (4) الأمر ؛ فحذفت تاء التأنیث ، من المضاف ؛ تخفیفا فی النطق ، ولم یترتب علیه لبس ولا خفاء فی المعنی. أما إذا ترتب علی الحذف شیء من هذا فإنه یمتنع ؛ فلا یجوز الحذف فی مثل : ثمرة - خمسة ، ونحوهما.
والأفضل الأخذ بالرأی السدید الذی یمنع القیاس علی هذا الحذف ، منعا باتّا ، ویحصره فی دائرة السماع وحدها.
* * *
ص: 69
ما تقدم هو أشهر أحکام الإضافة ، جمعنا شتیته (1) فی مکان واحد ، لیسهل الرجوع إلیه ، والانتفاع به (2).
فإن أردنا ترکیزه ففی خمسة عشر حکما - منها أحد عشر حتمیة ، وأربعة جائزة - وهی کما یلی مرتبة ترتیبها فی الشرح السالف :
1- وجوب جر المضاف إلیه فی جمیع أحواله.
2- وجوب حذف نون المثنی وجمع المذکر السالم إن وقع أحدهما مضافا. ویسری هذا الحکم علی ملحقاتهما.
3- وجوب حذف التنوین من آخر المضاف.
4- وجوب حذف «أل» الزائدة من صدر المضاف ، إلا فی بعض حالات معدودة.
5- وجوب اشتمال الإضافة المحضة علی حرف جر أصلی متخیّل.
6- وجوب استفادة المضاف من المضاف إلیه تعریفا أو تخصیصا ، بشرط أن تکون الإضافة محضة.
7- وجوب الاتصال وعدم الفصل بین المتضایفین إلا فی حالات معینة ...
8- وجوب استفادة المضاف من المضاف إلیه التصدیر الحتمی
9- وجوب تقدیم المضاف علی المضاف إلیه ؛ وعلی معمولاته ، إلا فی حالة واحدة.
10- وجوب استفادة المضاف الذی لیس مصدرا من المضاف إلیه المصدریة
11- وجوب استفادة المضاف من المضاف إلیه الظرفیة بشرطین.
* * *
12- جواز استفادة المضاف المذکر من المضاف إلیه التأنیث ، بشرطین.
13- جواز استفادة المضاف المؤنث من المضاف إلیه التذکیر بالشرطین
14- جواز استفادة المضاف المعرب من المضاف إلیه البناء.
15- جواز حذف تاء التأنیث من آخر المضاف بشرط أمن اللبس.
ص: 70
الاسم نوعان : نوع یمتنع أن یکون مضافا ، ومنه أغلب المبنیات ، کالمضمرات ، وأسماء الإشارة ، وأسماء الموصول. وأسماء الشرط. وأسماء الاستفهام ، ... ویستثنی من الثلاثة الأخیرة : «أیّ» الموصولة ، والشرطیة ، والاستفهامیة ؛ فإنها تقع مضافا - کما سیجیء فی حکمها (1) - :
ونوع آخر لا تمتنع إضافته ؛ فیضاف جوازا ، أو وجوبا. ومن المضاف جوازا أکثر الأسماء المضافة إلی المفرد (2) الظاهر ، أو إلی الضمیر ؛ کالتی فی قولهم : من خیر ضروب الشجاعة کلمة حقّ تقال فی مجلس حاکم جائر ، هواه متسلط ، وسیفه طائش ... و ...
أما الذی یضاف وجوبا فأقسام أربعة ؛ ملخصها : (ما تجب إضافته لمفرد (3) مع جواز قطعه عن الإضافة لفظا (4) دون معنی ؛ سواء أکان المفرد اسما ظاهرا أم ضمیرا). (وما تجب إضافته للمفرد أیضا ، ولکن مع امتناع قطعه عن الإضافة اللفظیة). (وما تجب إضافته للجملة - الاسمیة أو : الفعلیة - وبعضه قد یصح قطعه فی اللفظ عن الإضافة) -. (وما تجب إضافته للفعلیة وحدها مع جواز قطعه عن الإضافة) ... - وفیما یلی التفصیل:
فأولها : ما یضاف وجوبا إلی الاسم المفرد الظاهر أو إلی الضمیر ، مع جواز قطع المضاف عن الإضافة لفظا - فقط - دون معنی (5) (وذلک
ص: 71
بحذف المضاف إلیه ، والاستغناء عنه بالتنوین الذی یجیء عوضا عنه ، ودالّا علیه ، مع إرادة ذلک المحذوف وتقدیره ، لحاجة المعنی إلیه فیکون المضاف فی هذه الحالة مضافا فی المعنی دون اللفظ ، ویبقی له حکمه فی التعریف أو التنکیر کما کان) (1). مثل الکلمات : (کلّ (2) - بعض -
ص: 72
أیّ (1)). ومثل ؛ (غیر - مع - الجهات الست) ، ونحوها. لکن لکلمة : «غیر» وأشباهها أحکام خاصة تختلف عما سبق ، وسیجیء ذکرها (2).
نقول مع الإضافة : کلّ امرئ بما کسب رهین. ومثل :
قد کنت أشفق من دمعی علی بصری
فالیوم کلّ عزیز بعدکم هانا
بعض العتاب دواء ، وبعضه بلاء - أیّ نبیل تصاحبه یخلص لک - الأعمال قیم الرجال ؛ فأیّها تمارسه ینبیء عنک ... و ...
ویجوز فی الکلمات المضافة السابقة - وأشباهها - القطع عن الإضافة ؛ نحو : (قل کلّ یعمل علی شاکلته) - (حنانیک!! بعض الشرّ أهون من بعض) (أیّا تعمل تلق الجزاء) .... و ... والأصل : (کل إنسان ...) (من بعضه) ... (أیّ عمل تعمل ...) فحذف المضاف إلیه مع إرادته ، وجیء بالتنوین عوضا عنه.
ویشترط فی قطع کلمة : «کلّ» عن الإضافة ألا تکون توکیدا ، ولا نعتا فإن کانت کذلک وجب إضافتها لفظا ، وعدم قطعها ؛ نحو : فاز المخلصون کلّهم - أنت الأمین کلّ (3) الأمین (4).
(وهناک شروط وأحکام خاصة لإضافة «أی» ، وکذا : «غیر ، ومع ، والجهات الست» - کما قلنا - سیجیء إیضاحها ، وبسط الکلام علیها فی الموضع المناسب من هذا الباب (5)).
وثانیها : ما یضاف وجوبا للمفرد أیضا - دون الجملة - ولکن لا یجوز
ص: 73
قطعه عن الإضافة لفظا ؛ فیجب أن یظل مضافا فی اللفظ ، وله أربع صور :
ا - أن یضاف إلی اسم ظاهر مفرد (1) ، مع امتناع القطع ؛ مثل الکلمات : (أولو (2) - أولات (3)). - (ذو (4) - ذات (5) ... ، وفروع هذین ؛ وهی : ذوا - ذوو - ذواتا - ذوات) ... نحو : الآباء أولو فضل - الأمهات أولات نعمة - ذو النصیحة أخ بارّ - العروبة رابطة ذات قوة ... و ... و ...
ب - أن یضاف إلی ضمیر المخاطب - فی الغالب - دون غیره من الضمائر ، مع امتناع القطع ، کالمصادر المثناة فی لفظها ، دون معناها : وهی المصادر التی یراد منها التکرار الذی یزید علی اثنین (6). مثل : لبّیک (7) ، وسعدیک
ص: 74
وحنانیک ، ودوالیک ، وهذاذیک ... و ... نحو : (لبّیک أیها الداعی للخیر ؛ بمعنی : أقیم علی إجابتک إقامة بعد إقامة) - (سعدیک أبها المستعین ؛ بمعنی : أسعد إسعادا (1) لک بعد إسعاد. والأکثر فی استعمال ؛ : «سعدیک» أن تکون بعد «لبّیک») - (حنانیک أیها الحزین بمعنی : أتحنن تحننا علیک بعد تحنن) ، ومثل :
حنانیک (2) مسئولا ،
ولبّیک داعیا
وحسبی موهوبا ، وحسبک واهبا
ومثل :
نأکل الأرض ثم تأکلنا الأر
ض ، دوالیک ، أفرعا وأصولا
بمعنی تداولا بعد تداول ؛ أی : توالیا بعد توال ، - (وهذا ذیک أیها الصارخ ، بمعنی : أسرع إسراعا بعد إسراع) ... و ... (3)
ولما کانت هذه الألفاظ مثناة فی ظاهرها دون معناها - إذ المراد منها الکثرة والتکرار الذی یزید علی اثنین ، کما قلنا - اعتبروها ملحقة بالمثنی فی إعرابه ، مراعاة لمظهرها وأصلها ، ولیست مثنی حقیقیّا من ناحیة معناها. ویعربونها مفعولا مطلقا (4) لفعل من لفظها ، إلا : «هذاذیک» فإنه من معناه وهو : أسرع ؛ إذ لا فعل له من لفظه (5) ...
ومن الشاذ الذی لا یقاس علیه إضافة إحدی الکلمات السالفة - وأشباهها -
ص: 75
إلی ضمیر غیر ضمیر المخاطب ، أو إلی اسم ظاهر ، کالقلیل الوارد فی «لبیک» ، فقد سمع فیها : «لبّیه لمن یدعونی» بالإضافة لضمیر الغائب. کما سمع فیها الإضافة إلی اسم ظاهر فی قول أعرابی استعان بآخر اسمه : «مسور» فی دفع غرامة مالیة فادحة ، فأعانه ، فأراد الأعرابی المستعین أن یجزیه خیرا علی صنیعه ؛ فوعد بتلبیة یدی مسور إذا دعاه لأمر هامّ :
دعوت - لما نابنی - مسورا
فلبّی (1). فلبّی یدی
مسور (2)
فالمضاف هنا هو کلمة : «لبّی» ، والمضاف إلیه اسم ظاهر ، هو کلمة : «یدی ...» المثنّاة. (وأصلها : «یدین» ، حذفت النون للإضافة.
وخص «الیدین» بالذّکر لأنهما اللتان قدّمتا المال والمعونة للمستعین ، وبهما یکون إنجاز الأمور).
وقول الآخر :
لبّی نداک لقد نادی فأسمعنی
یفدیک - من رجل - صحبی وأفدیکا
ح - أن یضاف إلی الضمیر مطلقا : (سواء أکان للمتکلم أم لغیره ، وللمفرد أم لغیره. وللمذکر أم لغیره ...) مع امتناع القطع أیضا ؛ مثل کلمة «وحد» (3) وکلمة : «کلّ» المستعملة فی التوکید ؛ کدعاء بعضهم : (ربّاه.
ص: 76
علیک وحدک أعتمد ، ومن اعتمد علیک فلن یکون وحده فی معرکة الحیاة الطاحنة ؛ فلا تترکنی وحدی یا خیر ناصر ومجیب) ... ومثل قوله تعالی : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ کُلَّهُ لِلَّهِ) ، وقوله تعالی : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ...) ، وقوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ...)(1) و ...
د - أن یضاف إلی اسم ظاهر ، أو ضمیر ، مع امتناع القطع فیهما أیضا ؛ کالکلمات : کلا - کلتا - عند - لدی - سوی - قصاری الشیء - حمادی الشیء ؛ (ومعنی کل من هذین : غایته) ... نحو :
قول الشاعر :
کلا أخی وخلیلی واجدی عضدا (2)
فی النائبات ، وإلمام (3)
الملمّات (4)
وقول الآخر :
کلانا غنیّ عن أخیه حیاته
ونحن - إذا متنا - أشدّ تغانیا
ونحو : (کلتا الجنّتین آتت أکلها ... - کلتاهما ناضرة یانعة ...) - (عند الشدائد تعرف الإخوان. وعنده مفاتح الغیب لا یعلمها إلا هو) - (لدی الأمین تصان الودائع ، ولدیه تحفظ الأسرار) - (قصاری جهد المنافق
ص: 77
کسب مؤقت ، وخسارة دائمة. وقصاراک ألّا تنخدع بظاهره) - (حمادی المنافق کسب سریع ، وبلاء مقیم. وإن شئت فقل : حماداه ربح عاجل ، وضیاع آجل) - (لا أبتغی سوی مرضاة الله ؛ فکل شیء سواها تافه رخیص).
مما تقدم یتضح أن کل حالات القسم الثانی الأربعة ، لا یجوز فیها قطع المضاف عن الإضافة مطلقا.
(هذا ، وسیجیء (1) إیضاح الکلام علی إضافة : «کلا ، وکلتا» وما یتصل بموضوعهما. ثم علی کلمات أخری ملازمة للإضافة).
* * *
وثالثها : ما یضاف وجوبا إلی جملة (2) اسمیة ، أو فعلیة ، ومنه «حیث» و «إذ» (3).
ا - فأما : «حیث» فأشهر استعمالاتها أن تکون ظرف مکان (4) ... یضاف للجملة (5) الاسمیة ، أو الفعلیة ، - والفعلیة أکثر - سواء أکانت مثبتة أم منفیة ؛
ص: 78
ومن الأمثلة قوله تعالی لأهل الجنة : (فَکُلُوا مِنْها - حَیْثُ شِئْتُمْ - رَغَداً): وقول الشاعر:
وقد یهلک الإنسان من باب أمنه
وینجو بإذن الله من حیث یحذر (1)
وقول بعض الأدباء : «هنا تطیب الحیاة ، حیث الشمل ملتئم ، وفیض الود غامر ، وحیث الجمع مؤتلف ، وإخوان الصفاء کثیر».
وهی فی کل أحوالها مبنیة علی الضم ؛ لما تقرّر من أن الاسم الذی یضاف للجملة وجوبا یبنی وجوبا کذلک (2) ، ولا یجوز قطعها عن الإضافة لفظا.
ویبیح فریق من النحاة إضافتها للمفرد مع بقائها مبنیة علی الضم ؛ نحو : أنا مقیم حیث الهدوء ، وحیث الاطمئنان. وحجته أن الأمثلة المسموعة الدالة علی إضافتها للمفرد أمثلة فصیحة ، وأنها علی قلتها کافیة للقیاس علیها لأنها قلة نسبیة ، ولیست قلة ذاتیة ، (3) ولا داعی عنده لتأویل تلک الأمثلة (4) ، أو الحکم
ص: 79
علیها بالشذوذ ، ویؤیده أن بعض النحاة - بناء علی هذا المسموع - یجیز فتح همزة «أنّ» بعدها ، فتکون «حیث» فی هذه الحالة مضافة ، داخلة علی المفرد ؛ وهو : «المصدر المنسبک من «أنّ» مع معمولیها». کما یجیز کسر همزة «إنّ» ؛ فتکون داخلة علی جملة ؛ هی : «المضاف إلیه».
وهذا رأی سدید ، فیه تسمح وتیسیر ؛ إذ یجری الیوم علی مقتضاه کثرة المثقفین ، وإن کان الأولی والأفضل محاکاة الأسلوب الأفصح والأقوی.
* * *
ب - وأما : «إد» (1) فهی فی أکثر أحوالها ظرف للزمان الماضی المبهم (2) ، ومعناها : زمن ، أو : وقت ، أو : حین ؛ وتضاف للجملة بنوعیها (3) وجوبا کقول المادح :
فرحنا إذ قدمت قدوم سعد
وإذ رؤیاک (4) فی الأیام
عید
فقد أضیفت فی أول البیت لجملة فعلیة ماضویة ، وأضیفت فی آخره لجملة اسمیة. وإذا أضیفت لجملة فعلیة وجب أن یکون الفعل ماضیا لفظا ومعنی معا ؛ کالمثال السابق ، أو معنی فقط (بأن یکون الفعل مضارعا فی لفظه دون زمنه ؛ فیصح أن یوضع مکانه ماضیه الحقیقی الزمن فلا یتغیر المعنی (5)) ؛
ص: 80
کالذی فی قوله تعالی : (وَإِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَإِسْماعِیلُ) ، لأن الزمن الذی رفعت فیه القواعد کان سابقا علی نزول الآیة بما اشتملت علیه من مضارع وغیره. فلو وضع الماضی الحقیقی الزمن هنا مکان المضارع ما تغیر المعنی (1) ...
وسبب هذا الوجوب أن «إذ» - فی الأغلب - ظرف للزمن الماضی المبهم ؛ فیجب أن یماثلها المضاف إلیه فی نوع الزمن : کی لا یقع بینهما تعارض ، وأن یماثلها عاملها أیضا ؛ ولهذا قالوا : (إن الجملة المضارعیة لا تقع «مضافا إلیه» بعدها ، إلا حین یکون المضارع ماضی المعنی ، فیکون فی ظاهره مضارعا وفی معناه ماضیا (2) ؛ ... کالآیة ، وأن عاملها لا بد أن یکون دالا علی الماضی ؛ إذ لا یعمل فیما یدل علی الماضی إلا مثله).
هذا إن أضیفت لجملة فعلیة ، أما إن أضیفت لجملة اسمیة فیجب - وقیل : لا یجب ، وإنما یستحسن - أن یکون معنی هذه الجملة الاسمیة قد تحقق قبل النطق بها ، أو أنه سیتحقق فی المستقبل علی وجه لا شک فیه (3). ومن المستقبح - وقیل : من الممنوع - أن یکون خبر المبتدأ فی هذه الجملة الاسمیة -
ص: 81
جملة ما ضویة ؛ کالتی فی قولنا : حضرت إذا الجو اعتدل - کما سنعرف - (1).
ویجوز قطعها عن الإضافة لفظا لا معنی ؛ فیحذف المضاف إلیه (وهو ؛ الجملة ، ویجیء التنوین عوضا عن هذه الجملة المحذوفة ، کقوله تعالی : (وَیَوْمَئِذٍ یَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ...)(2) والأصل قبل الحذف : ویوم إذ یغلبون (3) یفرح المؤمنون بنصر الله (4) ...
وقطع «إذ» عن الإضافة لفظا إنما یقع - فی الغالب - حین تقع «مضافا إلیه» والمضاف اسم زمان ؛ نحو : یومئذ ... - حینئذ ... - ساعتئذ ... ومن النادر الذی لا یقاس علیه غیر هذا ؛ کما فی قول الشاعر :
نهیتک عن طلابک أمّ عمرو
بعافیة وأنت إذ (5) ... صحیح
والأشهر فی «الذال» عند التنوین تحریکها بالکسر للتخلص من التقاء الساکنین.
ص: 82
ولما کانت «إذ» واجبة الإضافة للجملة ، کانت واجبة البناء ؛ تبعا لذلک (1) ، لما تقدم (2) من أن کل اسم واجب الإضافة للجملة ؛ یجب بناؤه ؛ سواء أکان المضاف إلیه (وهو : الجملة) مذکورا ، أم محذوفا قد عوض عنه التنوین (3). ولا شأن لهذا التنوین بالإعراب أو البناء : فقد یوجد فی آخر الأسماء المعربة وفی آخر المبنیة ، لأن أمره مقصور علی التعویض ؛ کما عرفنا (4).
* * *
ص: 83
1 - إذا أضیفت أسماء الزمان إلی جملة وجب أن تکون هذه الجملة غیر شرطیة (1) ، وأن تکون مستوفیة بقیة الشروط التی سلفت (2).
ب - قلنا (3) إن الجملة الواقعة : «مضافا إلیه» هی فی حکم «المضاف إلیه» المفرد ؛ (أی : الذی لیس جملة) وأنها فی تأویله من غیر وجود أداة سابکة ، وذکرنا شروطها. ومن الممکن الوصول إلی هذا المضاف إلیه الحکمی أو المؤول بغیر حرف مصدری سابک ، إما بالإتیان بمصدر الفعل فی الجملة الفعلیة مضافا إلی فاعله ، وإما بمصدر الخبر مضافا إلی المبتدأ فی الجملة الاسمیة ، ففی مثل : (وقفت حین أقبل الوالد - أسارع وقت یدعو الداعی للخیر - أتکلم زمن الکلام مطلوب ، وأستمع زمن الاستماع محمود) ... - یکون التقدیر : (وقفت حین إقبال الوالد - أسارع وقت دعاء الداعی - أتکلم زمن طلب الکلام ، وأستمع زمن حمد الاستماع). وقد تقدم (4) أن الذی یضاف للجملة وجوبا - لا جوازا - یبنی وجوبا أیضا.
وإذا کان الشأن فی الجملة الواقعة «مضافا إلیه» ما عرفنا ، فهل تفید المضاف تعریفا أو تخصیصا؟.
الأحسن الأخذ بالرأی القائل (5) إن الحکم فی هذا متوقف علی حالة المصدر الناشئ من التأویل (أی : علی حالة المضاف إلیه الحکمی ، أو : المؤول) فإن أضیف هذا المصدر إلی (فاعل أو مبتدأ) معرف اکتسب من المضاف إلیه التعریف ، وانتقل منه للمضاف ، وإن أضیف إلی واحد منهما منکر ، اکتسب منه التخصیص وانتقل منه أیضا للمضاف ؛ فشأنه شأن کل مصدر مضاف إلی المعرفة أو النکرة ..
ص: 84
بقی سؤال هام : لم الالتجاء إلی «المضاف إلیه» الجملة ، دون الالتجاء المباشر إلی «المضاف إلیه» المفرد الذی تؤوّل به ، ومعلوم أن الجملة إذا وقعت «مضافا إلیه» صارت فی حکم المفرد وتأویله - کما تقدم؟ -.
السبب : أن الجملة حین تقع «مضافا إلیه» - مباشرة - تفید ما یفیده المفرد الذی تکون فی حکمه ، تقدیرا ، ویحل محلها بعد أن تؤول به ، ولکنها تزید فائدة أخری لا یؤدیها هذا المفرد ؛ هی : أنها تدل علی مضیّ الزمن إن کانت ماضویة ، وعلی حالیّته أو استقباله وتجدده أو عدم تجدده إن کانت مضارعیة ، وتدلّ علی مجرد الثبوت وما یتصل به إن کانت اسمیة ، فالمضاف إلیه - وهو هنا المفرد الناشئ عن الجملة بعد تأویلها - مصدر یفید مجرد الحدث ؛ (أی : المعنی الخالی من الدلالة علی الزمن وما یلابسه ، ومن الدلالة علی الثبوت وما یلازمه) ، بخلاف المضاف إلیه إذا کان جملة فعلیة ؛ فإنها تدل علی الحدث مزیدا علیه الزمن بملابساته ، وإذا کان جملة اسمیة ؛ فإنها تدل علی المعنی مع إفادة الثبوت ... و ...
ح - عند إضافة «إذ» لجملة اسمیة ، الخبر فیها جملة فعلیة ، یجب - وقیل : لا یجب ، وإنما یستحسن - ألا یکون الفعل ماضیا ؛ وعلی هذا یمتنع عندهم - أو یقبح - : جئت إذ الغائب جاء ، کما سبقت الإشارة (1) ؛ وحجتهم : أن «إذ» للزمان الماضی فی أغلب استعمالاتها ، والفعل الماضی مناسب لها فی الزمان ، فلا یسوغ الفصل بینهما وهما فی جملة واحدة. أما إذا کان الفعل بعدها مضارعا (ولا بد أن یکون بمعنی الماضی ، ولو تأویلا - کما سلف (2) -) ففصله عنها وعدم فصله سواء ؛ کلاهما حسن ، نحو : سعدنا بنزهة الأمس بین الجداول والبساتین ؛ إذ المیاه تنعشنا بتدفقها وجریانها ، والأزاهر بطیبها وأریجها. وإذ تداعبنا النسمات بلمساتها الندیة المترفقة ...
د - «إذ» ظرف ملازم للبناء ، فی محل نصب علی الظرفیة ، ولا یخرج عن النصب المحلّی علی الظرفیة إلا حین یقع «مضافا إلیه» والمضاف لفظ دال
ص: 85
علی الزمان (1) ، کحینئذ ، ویومئذ ... ففی هذه الحالة لا یکون ظرفا (2) ، ولا یکون فی محل نصب ؛ وإنما یکون مبنیّا فی محل جرّ ؛ مضافا إلیه. فأمره مقصور إما علی البناء فی محل نصب علی الظرفیة ، وإما علی البناء فی محل جر بالإضافة ، ولا محل له - عند کثرة النحاة - إلا أحد هذین ؛ فلا یکون مفعولا به ، ولا بدلا ، ولا غیرهما. وأما قوله تعالی : (وَاذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ ...) وقوله تعالی : (وَاذْکُرْ فِی الْکِتابِ مَرْیَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَکاناً شَرْقِیًّا) فإن «إذ» ظرف لمفعول به ، محذوف ، ولیست مفعولا به فی الآیة الأولی ولا بدلا فی الآیة الثانیة. فالتقدیر : واذکروا نعمة الله علیکم إذ أنتم قلیل ... - واذکر قصّة مریم إذ انتبذت ... (أی : ابتعدت واعتزلت الناس ...) لأن المعنی علی ظرفیة المفعول به المحذوف ، لا علی مجرد المفعولیة الأخری ؛ أو : البدلیة ... فالمراد : اذکروا النعمة التی نالتکم فی زمن معین ، هو زمن قلّتکم - واذکروا قصة مریم فی زمن انتباذها ، ولیس المراد هنا اذکروا مجرد زمن القلة ، أو : مجرد زمن الانتباذ ؛ لأن تذکر الزمن المجرد لا یفید فی تحقیق الغرض المعنویّ المراد هنا (3).
ص: 86
وقد تجیء : «إذ» لإفادة التعلیل ؛ کقوله تعالی : (وَلَنْ یَنْفَعَکُمُ الْیَوْمَ - إِذْ ظَلَمْتُمْ - أَنَّکُمْ فِی الْعَذابِ مُشْتَرِکُونَ) ، أی : لأجل ظلمکم ، وبسببه. ولا تصلح هنا للظرفیة ، لأن الظلم لا یکون یوم القیامة ، وإنما کان فی الدنیا. وتعتبر فی هذا الحالة : إمّا حرفا زائدا للتعلیل - وهو الأیسر - ، وإما ظرف زمان ، والتعلیل مستفاد من قوة الکلام ، لا من اللفظ (1).
وقد تجیء لإفادة المفاجأة (2) ، بعد : «بینما (3)» ، أو : «بینا (4)» ، نحو قول الشاعر :
استقدر (5) الله خیرا ،
وارضینّ به
فبینما العسر إذ دارت میاسیر
وبینما المرء فی الأحیاء مغتبط
إذ صارفی الرّمس ، تعفوه الأعاصیر
ونحو : بینا نحن جلوس إذ أقبل غریب فأکرمناه ..
والأحسن فی هذا - وأشباهه - اعتبارها حرفا معناه المفاجأة ، أو : حرفا زائدا لتأکید معنی الجملة کلها ؛ لا ظرف زمان ولا مکان.
ه - سبق (6) أن : «إذ» تکون فی أغلب استعمالاتها - ظرفا للزمان الماضی المبهم (7) ، ومعناها : وقت ، أو : زمن ، أو : حین ... أو ... وأنها فی هذه
ص: 87
الحالة تضاف وجوبا للجملة بنوعیها ، ولا بد فی هذه الجملة أن. یکون معناها ماضیا (1) ولو تأویلا ، أی : أنه قد تحقق فعلا ، أو بمنزلة المتحقق ..... ویتساوی فی هذا الجملة الاسمیة والفعلیة ..
ونذکر هنا أن فی اللغة کثیرا من الأسماء التی قد تشابه «إذ» فی دلالتها السابقة ؛ (وهی : الدلالة علی الزمن الماضی المبهم بصوره التی شرحناها) وقد تخالفها ، ومن هذه الأسماء التی قد تشابه حینا وقد تخالف حینا آخر : وقت - زمن - عصر - لحظة - برهة - حین ... وکذلک : یوم ، وساعة ، بشرط ألّا یراد بواحد منهما مدة زمنیة محدودة بساعات محصورة ودقائق معدودة ؛ وإنما یراد بکل واحد منهما ومما سبق ، مدة زمنیة محضة ، لا تتقید بعدد مضبوط من الساعات والدقائق ونحوها مما یفید الحصر والتحدید.
وحکم هذه الأسماء - ونظائرها - أنها حین تکون بمعنی : «إذ» یجوز (2) أن تضاف إلی ما تضاف إلیه «إذ» من الجملة بنوعیها ، کما یجوز أن تضاف للمفرد ، أو لا تضاف مطلقا. ولکنها إن أضیفت إلی الجملة یجب أن یتحقق فی هذه الجملة بنوعیها کل ما یجب تحققه حین یکون المضاف هو «إذ» وذلک بأن یکون معنی الجملة قد وقع فعلا أو سیقع حتما (3) ... و ... و - کما شرحنا - وأن تکون الجملة مستوفیة الشروط التی تجعلها صالحة للوقوع مضافا إلیه (4).
ومما تقدم نعلم أن بعض أسماء الزمان قد یشبه «إذ» فی الدلالة المعنویة وفی الإضافة ، وآثارها ، مع مراعاة الفروق الأربعة الآتیة :
1- أن «إذ» لا تکون إلا فی محل نصب علی الظرفیة ، أو فی محل جر علی الإضافة (تبعا لرأی الکثرة ، وقد أبدینا ما فیه) (5). أما «شبیهاتها» فتصلح للأمرین السالفین ، ولغیرهما مما یقتضیه الأسلوب ، فتقع مبتدأ ، وخبرا وفاعلا ومفعولا به ... و ... وهذا شأن کل اسم من أسماء الزمان المختلفة ، لیس ظرفا.
ص: 88
2- أن إضافة : «إذ» الظرفیة للجملة واجبة محتومة ، لفظا ومعنی معا ، أو معنی فقط - کما سبق (1) - ... أما إضافة «شبیهاتها» فجائزة للجملة ، وللمفرد ، ویجوز عدم إضافتها مطلقا ...
3- أن إضافة «إذ» للجملة الفعلیة ، توجب أن تکون هذه الجملة الفعلیة إمّا ماضویة لفظا ومعنی ، أو معنی فقط (بأن تکون الجملة الفعلیة فعلها مضارع فی الظاهر ، ولکن معناه ماض ، ومن الممکن أن یحل الماضی محله ، کالآیة السالفة ، وهی «وإذ یرفع إبراهیم القواعد من البیت وإسماعیل») - وإما ماضویة تأویلا ، بأن یکون معنی المضارع مضمون التحقق فی المستقبل.
وأما إضافتها للجملة الاسمیة فلا تصح إلا حین یکون مدلولها قد وقع فی الزمن الماضی وتحقق ؛ فإن کان سیقع فی المستقبل وجب أن یکون وقوعه محققا قاطعا ؛ لیکون بمنزلة ما وقع فی الماضی من ناحیة التحقق والیقین ؛ وبهذا تکون «إذ» الأصیلة فی الظرفیة هی للماضی حقیقة أو تأویلا ، کما أشرنا (2).
أما «شبیهاتها» فقد تکون للزمن الماضی وقد تکون لغیره. وقد تضاف للجملة جوازا ، لا وجوبا. فإذا کانت «الشبیهات» للزمن الماضی وأضیفت لجملة فعلیة أو اسمیة کان حکم الجملة هنا کحکمها هناک من الناحیة الزمنیة ، أی : أن شأن الجملة (وهی : المضاف إلیه) واحد مع «إذ» ومع الشبیهات بها الدالة علی الزمن الماضی ؛ فإذا کانت الجملة فعلیة وجب أن تکون ماضویة ، ولو تأویلا وإن کانت اسمیة وجب أن یکون مدلولها قد وقع فعلا ، أو تأویلا بأنه سیقع علی وجه محتوم : کشأنها مع «إذ».
4- بناء «إذ» واجب فی جمیع أحوالها بسبب إضافتها إلی الجملة (3) ... أما شبیهاتها فیجوز فیها - عند إضافتها للجملة - البناء علی الفتح (4) ، أو
ص: 89
الإعراب علی حسب ما یقتضیه الأسلوب. غیر أن البناء علی الفتح أحسن عند إضافتها إلی جملة فعلیة ، فعلها مبنی أصالة ، کالماضی ، أو مبنی عرضا ؛ کالمضارع المبنی لاتصاله بإحدی النونین ، والإعراب أحسن عند ما یکون المضاف إلیه جملة مضارعیة مضارعها معرب ، أو جملة اسمیة (1) ...
ویلاحظ أن جواز البناء والإعراب لیس مقصورا فی الشبیهات علی الحالة التی تکون فیها دالة علی الزمن الماضی ، وإنما هو عامّ ینطبق علیها فی حالتی دلالتها علی الماضی أو غیره. إلا أنها فی حالة الدلالة علی الماضی الحقیقی ، أو التأویلی - وقد شرحناهما (2) - تکون بمعنی : «إذ» وفی حالة الدلالة علی المستقبل تکون بمعنی : «إذا» الخاصة به. ومن الأمثلة :
ا - انقضی حین عجیب علی الإنسانیة ؛ حین ساد الجهل ، وشاع الظلم ، وانتشرت الأوهام. وقد اختفی الیوم کثیر من تلک البلایا ، «وسیقبل حین آخر ؛ یکون الناس فیه أقرب إلی السعادة ، وأدنی إلی الاطمئنان ، حین تخضع الأمم والأفراد لدواعی المساواة ، وأحکام العدالة ، حین لا قویّ مسیطر ، ولا ضعیف مستذلّ. ومثل قول الشاعر :
ألم تعلمی - یا عمرک (3)
الله - أننی
کریم علی حین الکرام قلیل
وقول الآخر :
ولست أبالی حین أقتل مسلما
علی أیّ حال کان فی الله مصرعی
ب - مضی وقت وجاء آخر ؛ وقت أکرم الناس فلانا لماله ، ووقت أکرم الناس فلانا لأعماله - سیقبل الوقت المأمول بعجائبه ؛ وقت یصل الناس إلی کشف الفضاء المجهول ، وغزو الکواکب ، وقت لا أرض ممهدة وحدها ، ولا أجرام سماویة محتفظة بأسرارها
ح - أین نحن من الأمس ؛ زمن کان العلم أملا بعیدا ، وغایة لا تدرک؟ وما شأنه فی حاضرنا ، زمن یناله من یریده ، ویدرکه من یرغب فیه ، زمن الأسباب میسرة ، والوسائل مبذولة ... و ... و ... وهکذا
ص: 90
فإن فقدت هذه الأسماء دلالتها علی الماضی - ولو تأویلا - أو إبهامها ، لم تکن محتومة الشبه «بإذ» ، فی الإضافة التی أوضحناها ونوعها ، ولم تجر مجراها وجوبا. فعند فقدها الدلالة علی المضیّ تضاف - جوازا - إلی الجملة الفعلیة فقط ، وتکون بمعنی : «إذا» - کما تقدم - ؛ نحو : أجیئک حین یجیء الصدیق الغائب ، وأزورک زمن یزورنا. ویجری علیها فی هذه الحالة من ناحیة إعرابها وبنائها ما کان یجری علیها من قبل مما شرحناه. ولا یصح - عند الأکثرین أن تضاف فی هذه الحالة إلی الجملة الاسمیة ؛ لأنها تکون بمعنی. «إذا» الدالة علی المستقبل الخالص ، والتی لا تضاف للاسمیة (1) -.
وعند فقدها الإبهام یصح أن تضاف للمفرد ، او لا تضاف إلیه ، علی حسب المعنی ؛ ولا یصح أن تضاف لجملة ، مثل شهر - حول - سنة - عام ... و .... وغیرها من المعدودات المحددة ، نحو : شهر رمضان مبارک ، وحولنا الحالی طیب.
وهذه المناسبة تذکرنا بالمسائل الثلاث التی سبقت قریبا (2) ، والتی یجوز أن یستفید فیها المضاف المعرب من المضاف إلیه البناء (بالشروط والتفصیلات الخاصة بکل مسألة) ، وهی إضافة اسم الزمان المبهم ، المعرب فی أصله ... إلی جملة
ص: 91
فعلیة ، وإضافته إلی مفرد مبنی ، مثل : حینئذ ویومئذ ، وإضافة الاسم المعرب المتوغل فی الإبهام والذی لا یدل علی زمان - إلی مفرد مبنی ، کإضافة : غیر - مثل - شبه ... و ... ، إلی الضمائر أو غیرها من المبنیات (1).
ص: 92
ورابعها - ما یضاف وجوبا إلی الجملة الفعلیة دون غیرها. ومنه : إذا» (1) الشرطیة الدالة علی الزمان المستقبل ، نحو قول الشاعر :
وإذا تباع کریمة أو تشتری
فسواک بائعها وأنت المشتری
ووقوع الماضی فی جملة شرطها أو جزائها لا یخرجها عن الدلالة علی الزمن المستقبل ؛ (لأنها تجعل زمن الماضی للمستقبل ، شأنها فی هذا شأن جمیع أدوات الشرط غیر الامتناعی) ، نحو : إذا غدر المرء بصاحبه کان بسواه أغدر. وقولهم : إذا عثر الکریم أخذ بیده الکرام ... و ... (2)
ومنه : «لمّا (3)» الظرفیة ، کقوله تعالی : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّیْنا صالِحاً وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) ، وقول الشاعر :
عتبت علی عمرو ، فلما فقدته
وجرّبت أقواما بکیت علی عمرو
ومنه ألفاظ أخری منثورة فی المراجع اللغویة والأدبیة (4)».
ص: 93
1 - أشرنا (1) إلی أسماء الزمان التی تشبه «إذ» فی الدلالة علی الزمان ، الماضی ، المبهم ، ومنها : حین - وقت - زمن - لحظة - ... ، ونعید ما قلناه هناک من أنها تضاف جوازا إلی ما تضاف إلیه : «إذ» ؛ من الجمل الاسمیة ، والفعلیة ، بشرط دلالة هذه الجمل علی المضی والإبهام معا ، بالتفصیل والإیضاح السالفین. فإن فقدت المضیّ المقصود لم تکن بمعنی «إذ» وإنما تصیر بمعنی «إذا» الدالة علی الزمن المستقبل الخالص ، فعند إضافتها تضاف - مثلها - إلی الجمل الفعلیة ، دون الاسمیة (2). نحو : أسافر غدا حین تبدأ العطلة ، وسأرکب الطائرة زمن أجدها مهیأة ...
وتحتفظ هذه الأسماء الزمانیة لنفسها بجواز البناء والإعراب عند إضافتها للجملة ؛ سواء أکانت بمعنی : «إذ» أم بمعنی «إذا» ؛ فهی جائزة البناء والإعراب فی حالتی دلالتها علی المضی ، أو علی الاستقبال ، إلا أن البناء أحسن حین یکون المضاف إلیه جملة فعلیة فعلها مبنی. والإعراب أحسن حین یکون فعلها معربا ، وحین بکون المضاف إلیه جملة اسمیة - کما سبق تفصیله هناک -. أما إذا فقدت الإبهام فیجوز إضافتها للمفرد ، أو عدم إضافتها إلیه علی حسب المعنی ، ولا یصح إضافتها لجملة (3) ...
ب - قد أضیف إلی الجملة الفعلیة جوازا ألفاظ مسموعة غیر زمانیة ، ولکنها تشبه الزمانیة فی أنها بمنزلة الزمن والوقت لارتباطها به. ومنها کلمة : «آیة» ؛ بمعنی : «علامة». والوقت علامة لمعرفة الحوادث وترتیبها ، کما أن العلامة تتصل بالوقت ، فصحّ إضافة : «آیة» إلی الجملة الفعلیة کما یضاف الوقت إلیها : لأنهما فی النتیجة ینتهیان إلی شیء واحد (4) ... قال قائلهم :
ص: 94
ألا من مبلغ عنی تمیما
بآیة ما یحبون (1) الطعاما
بآیة یقدمون (2) الخیل شعثا
کأنّ علی سنابکها مداما
وکلمة : «آیة» المسموعة بهذا القصد لا تضاف جوازا إلا للجملة الفعلیة ، بشرط أن یکون فعلها متصرفا ، سواء أکان مقرونا «بما» النافیة (3) ، أو المصدریة ، أم غیر مقرون. إلا أن أن بعض النحاة یوجب تقدیر «ما» المصدریة الظرفیة عند عدم وجودها ، أو تقدیر کلمة : «وقت» قبل الجملة الفعلیة ؛ لتکون الإضافة من نوع إضافة أسماء الزمان التی شرحناها. وهذا خلاف شکلی ؛ لا أثر له.
لکن کلمة : «آیة» لا یسری علیها ما یسری علی أسماء الزمان السالفة من جواز الإعراب والبناء عند إضافتها للجملة ، وإنما یبقی لها حکمها الذی کانت تستحقه قبل إضافتها. وعلی هذا تکون کلمة : «آیة» فی البیت الثانی معربة مضافة إلی الجملة المضارعیة ، والمراد : أبلغهم کذا ، بعلامة إقدامهم الخیل شعثا متغیرة من التعب ... وهی معربة مضافة فی البیت الأول إلی المصدر المؤول من «ما» المصدریة (4) والجملة المضارعیة. والمراد ؛ إذا رأیت تمیما فبلغهم عنی الرسالة. فکأن قائلا قال : بأی علامة تعرف تمیم؟ فأجاب : بعلامة ما یحبون الطعام.
ومن تلک الألفاظ السماعیة کلمة : «ذی» فی قولهم : (اذهب بذی تسلم (5) واذهبا بذی تسلمان ، واذهبوا بذی تسلمون) ، والمسموع فی کلمة : «ذی» الجر «بالباء» فی هذا الأسلوب. والمعنی : اذهب بأمر هو سلامتک التی تلازمک ،
ص: 95
ولا تفارقک ؛ فکأن القائل یرید : اذهب ومعک أمر ؛ وهذا الأمر هو ؛ سلامتک الملازمة لک. ولما کانت الإضافة للجملة الفعلیة هی فی تقدیر الإضافة للمفرد (وذلک بالإتیان بمصدر الفعل مضافا إلی فاعله ؛ - کما سبق (1) -) کان التأویل : اذهب بأمر سلامتک ، أی : اذهب ومعک أمر هو سلامتک المصاحبة لک - اذهبا بأمر سلامتکما - اذهبوا بأمر سلامتکم ...
ویری بعض اللغویین أن «ذی» فی الأسالیب المسموعة السابقة معناها : «الذی» فالمراد : اذهب بالذی تسلم به ، أی : بسلامتک ؛ مصحوبا بها ، أو أنّ معناها : الوقت.
والمعانی الثلاثة متقاربة ، وفیها تکون الإضافة من نوع إضافة «المسمی إلی الاسم» سماعا (2). فالمسمی هو : «ذی» ، بمعنی : الأمر ، وهذا الأمر المعین وذاته ... اسمه : «السلامة» (3) ، أو : بمعنی «الذی» أو الوقت. والمراد منهما : السلامة أیضا (4).
* * *
ص: 96
وفیما یلی حصر مرکز (1) لکل ما تقدم من أقسام المضاف ، وأنواع المضاف إلیه.
ص: 97
: (کلا ، وکلتا (1) - أیّ - لدن ، وعند - غیر ، ونظائرها - ...).
«کلا» : اسم مفرد فی اللفظ ، مثنی فی المعنی ؛ لأنه یدل بصیغته علی اثنین مذکرین ؛ نحو : کلا طرفی الأمور ذمیم ، ونحو :
إنّ المعلم والطبیب کلاهما
لا ینصحان ؛ إذا هما لم یکرما
و «کلتا» : اسم مفرد فی اللفظ ، مثنی فی المعنی ؛ لأنه یدل بصیغته علی اثنتین مؤنثتین ؛ نحو : کلتا الخصلتین رذیلة ؛ الضّعة والکبر. ونحو : الثروة والشهرة ، کلتاهما من أسباب الجاه.
ولأن «کلا وکلتا» مفردین لفظا ، مثنیین معنی (2) ، جاز فی خبرهما ، - وفی کل ما یحتاج إلی المطابقة بینه وبینهما - مراعاة لفظهما ، وهو الأفصح ، ومراعاة معناهما وهو فصیح ؛ کقولهم : (کلا الرجلین عظیم ؛ من دعا للخیر ، ومن استجاب له) - (کلا القائدین بطلان ؛ هذا یقود جیوشه فی غمرات الحروب وهذا یقود أعوانه فی میادین الإصلاح) - (کلتا الزعیمتین وهبت نفسها لأعمال البر ، ولم تدّخر وسعا) - (کلتا المدینتین وقفتا فی وجه العدو المغیر حتی ارتد خاسرا ...).
و «کلا» و «کلتا» من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظا ومعنی معا ، ولا بد فی المضاف إلیه بعدهما أن یجمع ثلاثة شروط.
ص: 98
الأول : أن یکون دالا علی اثنین أو اثنتین ؛ سواء أکان اسما ظاهرا ، أم ضمیرا (1) بارزا ، کقوله تعالی : (کِلْتَا الْجَنَّتَیْنِ آتَتْ أُکُلَها ...) وقوله تعالی : (وَقَضی رَبُّکَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِیَّاهُ ، وَبِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً ، إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ کِلاهُما ، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...) وإنما کانت دلالته علی التثنیة شرطا لأن الغرض من «کلا» و «کلتا» هو تقویة التثنیة فی هذا المضاف إلیه ، وتأکیدها ، فإذا لم یکن مثل وقع التعارض بین المضاف والمضاف إلیه.
الثانی : أن یکون کلمة واحدة. (وهذه الکلمة الواحدة هی التی تقوم بالدلالة علی المثنی ؛ من غیر سرد أفراده متعددة ، ولا ذکرها متفرقة) فلا یجوز قرأت کلتا المجلة والرسالة ، ولا عاونت کلا الأخ والصدیق. وقد وردت أمثلة قلیلة مسموعة لم یتحقق فها هذا الشرط ، فلم توافق کثرة النحاة علی القیاس علیها ، منها :
کلا أخی وخلیلی واجدی عضدا.
فی النائبات ، وإلمام الملمّات
والثالث : أن یکون معرفة کالأمثلة السالفة ، فلا یجوز أن یکون نکرة عامة ؛ کالتی فی مثل : حضر کلا رجلین ، وانصرفت کلتا امرأتین ؛ فإن کانت النکرة مختصة فالأحسن الأخذ برأی من یجیز وقوعها مضافا إلیه بعد «کلا وکلتا» ؛ فیصح المثالان السابقان - وأشباههما - بعد التخصیص - ؛ فیقال : حضر کلا رجلین عالمین ، وانصرفت کلتا امرأتین أدیبتین (2)
ص: 99
1 - اشترطنا هنا (1) أن یکون «المضاف إلیه» دالّا علی اثنین ، أو اثنتین ، سواء أکان اسما ظاهرا أم ضمیرا بارزا. هذه الدلالة قد تکون بلفظه الصریح فی التثنیة ، الحقیقیّ فیها (لا المجازیّ) نحو قوله تعالی : (کِلْتَا الْجَنَّتَیْنِ آتَتْ أُکُلَها) ، وقوله : (إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ کِلاهُما.) فالمضاف إلیه وهو کلمة : «الجنتین» ، وکلمة : «هما» - من الألفاظ الصریحة فی التثنیة ، التی تؤدی معناها علی وجه الحقیقة لا المجاز. وقد تکون الدلالة بلفظه الحقیقی ، ولکنه مشترک اشتراکا معنویّا بین المثنی والجمع ، کالضمیر :
«نا» فإنه صالح من جهة المعنی للأمرین ؛ کقول الشاعر :
کلانا غنیّ عن أخیه حیاته
ونحن إذا متنا أشد تغانیا
وقول الآخر :
کونوا کمن واسی أخاه بنفسه
نعیش جمیعا ، أو نموت کلانا
وقد تکون بلفظه الذی دخله التوسع والمجاز ؛ فصار یدل علی اثنین دلالة أساسها التوسع والمجاز ، لا الحقیقة اللغویة ، کقول الشاعر :
إنّ للخیر وللشرّ مدی (2)
فکلمة : «ذا» تدلّ فی حقیقتها اللغویة علی المفرد المذکر ، ولکنها تدل هنا بمعناها علی المثنی ؛ لأنها إشارة إلی ما ذکر ؛ وهو : الخیر والشر ؛ فالمراد : ««کلا» ما ذکر من الخیر والشر .... وهذه الدلالة مجازیة (5) ؛ لأن دلالة «ذا» علی غیر الواحد مجازیة ؛ کالتثنیة ؛ فی هذا البیت ، وکالجمع فی قول لبید :
ص: 100
ولقد سئمت من الحیاة وطولها
وسؤال هذا الناس کیف لبید؟
ب - لا تضاف «کلا وکلتا» لشیء من الضمائر إلا لواحد من ثلاثة ؛ هی : «نا» ، و «الکاف» المتصلة بالمیم والألف ، و «الهاء» المتصلة بالمیم والألف. (أی : کلانا - کلاکما - کلاهما - کلتانا - کلتاکما - کلتاهما).
ح - حکم «کلا» و «کلتا» من الناحیة الإعرابیة موضح فی مکانه المناسب من الجزء الأول (1) عند الکلام علی المثنی ، وملحقاته. ومضمونه : أن لهما حالتین ؛ إحداهما : إعرابهما إعراب المثنی ، والأخری إعرابهما إعراب الاسم المقصور :
1- فیعربان إعراب المثنی بشرط إضافتهما إلی ضمیر دالّ علی التثنیة ؛ سواء أکانتا للتوکید أم لغیره. فمتی أضیفت إحداهما للضمیر الدال علی التثنیة وجب إعرابهما إعراب المثنی. فمن أمثلة استعمالهما للتوکید : (أعجبنی النابغان کلاهما - أکرمت النابغین کلیهما - أثنیت علی النابغین کلیهما) - (فازت الطبیبتان کلتاهما - مدحت الطبیبتین کلتیهما - أصغیت إلی الطبیبتین کلتیهما). ومن أمثلة استعمالهما فی غیر التوکید مع إعرابهما کالمثنی : جاء کلاهما أو کلتاهما - رأیت کلیهما ، أو : کلتیهما ، استمعت إلی کلیهما ، أو : کلتیهما.
ولا بد عند استعمالهما للتوکید أن یکون الضمیر المضاف إلیه مطابقا للاسم المؤکّد قبلهما (2) (أی : أنه لا بد من وجود الضمیر المضاف إلیه ، ومن وجود المؤکّد قبلهما ، وتطابق المؤکّد والمؤکّد فی التثنیة ، والإعراب ، والتذکیر ، والتأنیث) ؛ کقولهم فی الدّعاء ؛ «لازمتک الحسنیان (3) کلتاهما ، ... وأمنت البلیتین (4) کلتیهما» ... وقولهم فی الدعاء للمسافر : صاحبک الأحمدان (5)
ص: 101
کلاهما - وسلمت من الأرذلین کلیهما (1).
ومما تجب ملاحظته أن استعمالهما فی التوکید یوجب إضافتهما إلی الضمیر المطابق للمؤکّد السابق ، لکن لا یلزم من إضافتهما للضمیر المطابق أن یکونا للتوکید ؛ فقد یتعیّنان للتوکید کما فی الأمثلة السابقة ، وقد یتعین إعرابهما شیئا آخر غیر التوکید ؛ کما فی قولنا : الوالدان کلاهما نافع ، والأختان کلتاهما مثقفة ؛ فیتعین إعرابهما فی هذین المثالین - وأشباههما - مبتدأ ، ولا یصح التوکید ، کی لا یترتب علیه إهمال المطابقة بین المبتدأ والخبر ، بقولنا : (الوالدان نافع - الأختان مثقفة) ؛ فیقع الخبر مفردا مع أن مبتدأه مثنی ، وهذا غیر جائز فی مثل ما نحن فیه.
وقد یجوز إعرابهما توکیدا أو غیر توکید فی مثل : الوالدان کلاهما نافعان - الأختان کلتاهما مثقفتان ؛ فیصح إعرابهما توکیدا ؛ لإضافتهما للضمیر المطابق للمؤکّد السابق ، والاسم الظاهر بعدهما خبر للمبتدأ ، مطابق له. کما یصح إعراب «کلا وکلتا» فی المثالین مبتدأ ثانیا ، مضافا للضمیر ، والاسم الظاهر بعدهما هو الخبر لهما. والجملة الاسمیة منهما ومن خبرهما خبر المبتدأ الأول. فالإعرابان جائزان ، وتفضیل أحدهما متوقف علی وجود قرینة ترجحه علی الآخر.
فالأحوال ثلاثة عند إضافتهما للضمیر مع وجود لفظ سابق یصلح أن یکون مؤکّدا یرجع إلیه الضمیر عند إضافتهما ویطابقه ؛ هی : وجوب إعرابهما توکیدا فقط ؛ وامتناع إعرابهما توکیدا ، وجواز الأمرین.
2- فإن لم یضافا للضمیر مطلقا (بان أضیفا إلی اسم ظاهر) - لم یکونا للتوکید ، ولم یصح إعرابهما کالمثنی ، بل یجب إعرابهما إعراب المقصور (وهو الإعراب بحرکات مقدرة علی الألف الثابتة ، الملازمة لآخرهما فی جمیع الحالات) ؛ نحو : کلا القطبین ثلجیّ مقفر - إن کلا القطبین ثلجیّ مقفر - ذاع عن کلا القطبین أنه ثلجی مقفر - کلتا المنطقتین القطبیتین غیر مأهولة - إن کلتا المنطقتین غیر مأهولة - سمعت عن کلتا المنطقتین» ...
ص: 102
کل ما سبق هو الأشهر الذی یحسن الاقتصار علیه. وهناک آراء أخری فی إعرابهما ؛ فبعض العرب یعربهما إعراب المثنّی فی کل الحالات من غیر تفرقة بین توکید وغیره. وبعضهم یعربهما إعراب المقصور فی کل الحالات من غیر تفرقة کذلک ... و ...
* * *
ص: 103
أیّ - أنواعها الملازمة للإضافة خمسة (1) ؛ کل نوع منها مبهم ؛ (لأنه صالح لکل شیء من الأمور الحسیّة والمعنویة. ولا تعیین له إلا بالمضاف إلیه) ؛
وهی : «أیّ» الاستفهامیة ؛ مثل : أیّ عمل تختاره؟ - أی الرجال المهذب؟ - أیّ الناس تصفو مشاربه؟.
و «أیّ» الشرطیة ؛ مثل : أیّ نفع یلتمسه المرء بضرر غیره ینقلب وبالا علیه.
و «أیّ» الموصولة ، مثل : یعجبنی السباقون ، وسأصافح أیّهم هو أسبق (بمعنی : الذی هو أسبق).
و «أیّ» التی للنعت (2) ؛ مثل إنّ الصادق عظیم أیّ عظیم.
و «أیّ» التی للحال ، مثل : قبلت کلام الناصح الأمین : أیّ ناصح أمین. ومن الخمسة السابقة نوعان ملازمان للإضافة ؛ لفظا ومعنی معا ؛ هما : النعتیة والحالیة (3) ، أما الثلاثة الأخری فملازمة للإضافة إمّا لفظا ومعنی معا کأمثلتها السابقة ، وإمّا : معنی (4) فقط ؛ مثل (الأعمال کثیرة ؛ فأیّ تختاره؟) - (من ألوان النفع ما یؤذی ؛ فأیّ یلتمسه المرء بضرر غیره ینقلب وبالا علیه) - (یعجبنی السباقون ، وسأصافح أیّا هو أسبق) ... و ... وفبما یلی بیان أوفی :
* * *
1 - «أیّ» الاستفهامیة (5) : وهی معربة ، واجبة الإضافة لفظا ومعنی ،
ص: 104
أو معنی فقط. وتضاف إلی ما یأتی لیزیل إبهامها :
1- النکرة مطلقا (أی : لمتعدد أو غیر متعدد) ؛ فتشمل النکرة الدالة علی الإفراد ، والدالّة علی التثنیة ، أو علی الجمع ، بنوعیهما ؛ نحو : أیّ رجل فاز بالسبق؟ أی رجلین فازا بالسبق؟ أیّ رجال فازوا بالسبق؟ أی فتاة فازت؟ ... أیّ فتاتین؟ ... أیّ فتیات؟ ... ومن المفرد قول الشاعر :
أتجزع مما یحدث الدهر للفتی؟
وأیّ کریم لم تصبه القوارع؟
وقد اجتمعت إضافتها للنکرة المفردة والنکرة المجموعة فی قول الشاعر یتحنن لبعض لیالیه الخالیة :
آها لها من لیال!! هل تعود کما
کانت؟ وأیّ لیال عاد ماضیها
لم أنسها مذ نأت عنی ببهجتها
وأیّ أنس من الأیام ینسیها؟
فهی فی الأسالیب السابقة - ونظائرها - اسم استفهام یسأل به عن المضاف إلیه النکرة کله (1). وهی فی الوقت نفسه مطابقة لمعناه تمام المطابقة. ولهذا کانت بمعنی : «کلّ» الذی یقصد به المضاف إلیه جمیعه ، علی حسب المراد من العموم فی المفرد ، أو : المثنی ، أو : الجمع. فالمراد من «أیّ» هنا هو المراد من المضاف إلیه النکرة کاملا ، ومدلولهما واحد (2). والمعنی فی الأمثلة السّابقة : أیّ واحد من الرجال فاز؟ أیّ اثنین منهم فازا؟ أیّ جماعة منهم فازوا .. و ... وهکذا (3).
2- المعرفة (4) بشرط أن تکون دالّة علی متعدد ، ولا فرق فی التعدد بین أن یکون حقیقیّا ، أو : تقدیریّا ، أو : بالعطف بالواو.
ا - فالمتعدد الحقیقی ما یدل بلفظه الصریح المذکور فی الجملة ، علی تثنیة ،
ص: 105
أو : جمع ؛ نحو : أیّ الفریقین أحق بالإعجاب؟ ... و ... أیکم أحسن عملا؟ أی الرجال المهذب؟.
ب - والمتعدد التقدیری : هو ما یدل بلفظه علی مفرد له أجزاء متعددة (1) ، بعضها هو المقصود بالاستفهام عنه عند الإضافة ؛ فیکون «المضاف إلیه» مفردا فی ظاهره ؛ ولکنه متعدد فی التقدیر ؛ بسبب تلک الأجزاء التی یتکون منها ؛ ویقوم المعنی علی أساس ملاحظتها وتقدیر وجودها ، برغم أنها غیر موجودة فی الکلام ؛ فکأنّ : «أیّ» لیست مضافة إلی معرفة مفردة ، وإنما هی مضافة - تقدیرا - إلی معرفة متعدّدة. وإن شئت فقل : إنّها لیست مضافة إلی المعرفة المفردة مباشرة ، وإنما هی مضافة إلی کلمة محذوفة ، هی کلمة: «أجزاء» ، أو ما یشابهها ؛ مثل : أیّ الشجرة أنفع؟ أی الوجه أجمل؟ أیّ التّمثال أدقّ؟ ترید : أیّ أجزاء الشجرة أنفع؟ أی أجزاء الوجه أجمل؟ أیّ أجزاء التمثال أدق؟ فکلمة : «أیّ» فی الأمثلة السّابقة - ونظائرها - مضافة إلی معرفة مفردة ، لها أجزاء هی الملحوظة عند الإضافة ، وعند السؤال بکلمة : «أیّ» التی معناها والمراد منها هو معنی المضاف إلیه ؛ لما سبق من أنّها مبهمة ، والذی یزیل إبهامها هو المضاف إلیه ، فلابد أن یتساویا معنی ؛ إذ لا یصح أن یختلف الموضّح والموضّح فی المعنی أو فی مقداره.
ولما کان المراد من المضاف إلیه - فی الاستفهام - هو جزؤه (2) لا کلّه ، وجب أن یکون المراد منها هو ذلک الجزء أیضا. ولهذا یقال عنها إنها بمعنی : «بعض» من کلّ ، (یریدون : بعض المضاف إلیه ...) ویجیبون عنها بالأجزاء أیضا ؛ فیجاب عما سبق بأنه : (جذعها ، أو : ثمرها ...) - أو : (العین ، أو : الأنف ...) - أو : (الرأس ، أو : الظهر ...) فکأن المضاف إلیه متعدد ، أو أن «أیّ» مضافة ، والمضاف إلیه کلمة محذوفة ملحوظة فی النیّة ، تدل علی متعدد ، والتقدیر : أیّ أجزاء کذا. والأمران سیّان.
ص: 106
ح - والتعدد بالعطف یتحقق هنا بأن یعطف علی المعرفة المفردة معرفة مفردة أخری بحرف العطف «الواو» دون غیره من حروف العطف - فینشأ من العطف التعدد المطلوب (أی : الذی یجعل المضاف إلیه فی حکم المتعدد) ، مثل : أیّ زراعة الفاکهة وزراعة القطن أربح؟ ترید : أیّهما.؟ بمعنی : أیّ واحدة من زراعة الفاکهة والقطن أربح؟ ومثل قول الشاعر :
ألا تسألون الناس ؛ أییّ وأیّکم
غداة التقینا - کان خیرا وأکرما؟
فإنه یرید : أینا (1) ... و ...
و «أیّ» فی جمیع هذه الصور التی تضاف فیها لمعرفة ، هی اسم استفهام ، یسأل به عن المضاف إلیه المراد منه بعضه - کما تقدم - ، ومعناها فی الوقت نفسه ینصبّ علی بعضه هذا ، أی : جزئه ، لا علی کله ؛ فلیس یراد منها معناه کاملا.
* * *
ص: 107
«أیّ الاستفهامیة» لفظها مفرد مذکر دائما ، أما معناها فیختلف بحسب ما تضاف إلیه (1).
ا - فإن أضیفت إلی منکر کانت بمعنی المضاف إلیه کاملا ، ولذا تعتبر بمعنی : «کلّ» - کما سبق (2) - وفی هذه الحالة یجوز فی خبر : «أیّ» وفی الضمیر العائد إلیها ، وفی کل ما یحتاج للمطابقة معها : إما مراعاة لفظها فی الإفراد والتذکیر فی کل الحالات ، وإما مراعاة معناها الذی یوافق المضاف إلیه فی إفراده ، وتثنیته ، وجمعه ، وتذکیره ، وتأنیثه ، وهذا هو الأکثر والأفصح ؛ نحو : أیّ زمیل أقبل؟ أیّ زمیلین أقبل ، أو : أقبلا؟ - أیّ زملاء أقبل ، أو : أقبلوا؟ - أی زمیلة أقبل أو أقبلت؟ ... - أی زمیلتین أقبل ، أو أقبلتا ...؟ أی زمیلات أقبل ، أو : أقبلن ، أو : ... وهکذا ...
ب - وإن أضیفت إلی معرّف کان المراد منها بعضه ، ولذا تعتبر بمنزلة کلمة : «بعض» ، أو تعتبر کأنها مضافة لکلمة محذوفة ، تقدیرها : «أجزاء» ، مثلا. کما شرحنا (3) ، فیجب - فی الأفصح الأغلب - مراعاة لفظ : «أی» فی إفراده وتذکیره عند الإخبار عنها ، وعود الضمیر إلیها ، وکل ما یحتاج للمطابقة. ولا عبرة بتثنیة المضاف إلیه أو جمعه أو تأنیثه (4).
* * *
ص: 108
ب - أیّ الشرطیة : اسم شرط جازم ، معرب ، یجزم فعل الشرط والجواب معا ؛ کقولهم : (أیّ صاحب یصحبک لغایة یرجوها ، یهجرک بعد إدراکها). وهو یفید تعلیق الجواب علی الشرط ؛ فإذا وقع الشرط ؛ فإذا وقع الشرط وتحقق ، وقع الجواب - غالبا - وتحقق تبعا لذلک ، وإلا فلا یقع (1) ...
وهذا الاسم فی دلالته عام مبهم ؛ فهو صالح لأن یراد منه کل أمر من الأمور الحسیّة والمعنویة. ولکن هذا التّعمیم والإبهام یزول بالمضاف إلیه ؛ فإنه یحدد المراد ویعیّنه ؛ (کالشأن فی جمیع أنواع «أیّ» المضافة).
ومن الواجب إضافة «أیّ» لفظا ومعنی معا ، کالمثال السابق ، أو معنی فقط ؛ نحو : (أیّ ... یصحبک لغایة یهجرک بعد إدراکها).
1- ویجوز إضافتها لنکرة مطلقا (دالّة علی إفراد ، أو : علی تثنیة ، أو : جمع) ؛ نحو : أیّ ضعیف یستعن بی أعاونه - أی ضعیفین یستعینا بی أعاونهما - أیّ ضعاف یستعینوا بی أعاونهم - أیّ ضعیفة تستعن بی أعاونها - أیّ ضعیفتین تستعینا بی أعاونهما - أیّ ضعیفات یستعنّ بی أعاونهن ... و ...
وإذا أضیفت «أیّ» إلی النکرة کان معناها ، ومدلولها المراد هو : المضاف إلیه جمیعه ، وهو النکرة کاملة ، ولهذا تکون «أیّ» بمنزلة کلمة : «کلّ» ، مثل قول الشاعر:
أیّ حین تلمّ بی تلق ما شئ
ت من الخیر ؛ فاتخذنی خلیلا
2- وکذلک یجوز إضافتها إلی معرفة بشرط أن تکون هذه المعرفة دالة علی متعدد حقیقی ، أو : «تقدیری» ، أو «بالعطف بالواو» ، ، (والمراد به : عطف معرفة مفردة (2) علی الأولی بالواو خاصة ...) ، وقد شرحنا أنواع التعدد الثلاثة ، ومعنی کل (3). فمن أمثلة المتعدد الحقیقی : أی الرجال یکثر مزحه تضع هیبته. ومن أمثلة التعدد التقدیری : أیّ الوجه یعجبک یعجبنی ؛ بمعنی :
ص: 109
أی أجزاء الوجه. ومن أمثلة العطف - ولا یکون ، إلا بالواو خاصة - ، أیی وأیک یتکلم یحسن اختیار کلامه ؛ بمعنی : أینا ... ، ونحو : أیّ الزراعة وأی الصناعة یخلص له صاحبه یدرک أبعد الغایات ، بمعنی : أیهما ...
وإذا أضیفت إلی معرفة کان معناها والمراد منها هو بعض المضاف إلیه لا کلّه ، ولذا تکون «أیّ» ، بمعنی : بعض.
«فأیّ» الشرطیة کالاستفهامیة فی وجوب الإضافة لفظا ومعنی معا ، أو معنی فقط ، وفی إضافتها إلی النکرة مطلقا وإلی المعرفة بشرط التعدد ، وفی أنها فی الحالة الأولی تکون بمعنی : «کل» ، وفی الثانیة بمعنی : «بعض».
والشرطیة - کالاستفهامیة - لفظها مفرد مذکر دائما. ومعناها یختلف بحسب ما تضاف إلیه ؛ فإن أضیفت لنکرة جاز فی خبرها ، وفی الضمیر العائد إلیها ، وفی کل ما یحتاج إلی المطابقة معها - مراعاة لفظها ، أو : مراعاة المضاف إلیه (وهو الأحسن) علی الوجه الذی وفیناه من قبل فی «أیّ الاستفهامیة» (1) وإن أضیفت لمعرفة وجب (فی الرأی الأحسن) مراعاة لفظها دون المضاف إلیه.
هذا ، ومراعاة اللفظ أو المعنی مقصور علی الاستفهامیة والشرطیة. کما أسلفنا.
* * *
ح - «أیّ» الموصولة : اسم مبهم ، بمعنی : «الذی» ؛ نحو : أصاحب من الإخوان أیّهم هو أکرم خلقا ؛ بمعنی : الذی هو أکرم خلقا فیهم ، وهی معربة فی کل حالاتها ، إلا فی حالة واحدة (2). ولا بد من إضافتها لفظا ومعنی معا - کالمثال السابق - أو معنی فقط ؛ نحو : أحمد من الرجال أیّا هو أشدّ عزما. وأصدق قیلا. والأصل : أیّهم هو أشدّ ... ویزیل إبهامها المضاف إلیه والصلة معا ، وأحدهما لا یکفی. ولا تضاف إلی النکرة - فی
ص: 110
الرأی المعوّل علیه (1) - وإنما تضاف إلی المعرفة ، بشرط أن تدل المعرفة علی متعدد حقیقی ، أو تقدیریّ ، أو بالعطف بالواو - علی الوجه المشروح فیما سلف (2) - ؛ فمثال التّعدد الحقیقی ؛ یعجبنی أیکم هو حریص علی رفعة وطنه - ومثال التعدد التقدیری : أصلح أیّ التمثال هو معیب ، بمعنی : أیّ أجزاء التمثال ... ومثال التعدد بالعطف بالواو : اقتن أیّ القلم وأیّ الثوب هو أبدع. ولا بدّ فی المطابقة من مراعاة لفظها.
* * *
د - «أیّ» التی تقع نعتا للنکرة : اسم معرب ، مبهم ، یزیل «المضاف إلیه» إبهامه. والغرض منها : الدلالة علی بلوغ المنعوت الغایة الکبری ؛ مدحا أو ذمّا ؛ نحو : أعجبت برجلین من أعظم رجالات التاریخ ؛ هما العادلان : عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزیز ، وأولهما صحابی جلیل أیّ صحابیّ ، والآخر خلیفة أمویّ أیّ خلیفة ، وکقول الشاعر :
دعوت امرأ أیّ امرئ فأجابنی
وکنت وإیاه ملاذا وموئلا
ونحو قولهم : أودی الظلم بکثیر من الدول ، وقضی علی أهلها ما انغمسوا فیه من ترف ، وما انتشر بینهم من فساد. فلقد کان ظلما أیّ ظلم ، وترفا أیّ ترف ، وفسادا أیّ فساد.
وتختص «أیّ» النعتیة بأحکام ثلاثة مجتمعة هی : وجوب إضافتها لفظا ومعنی معا ، وأن یکون المضاف إلیه نکرة - فی الأغلب - ؛ مفردة أو غیر مفردة ، وأن تکون هذه النکرة مماثلة للمنعوت فی التنکیر (3) ، وفی اللفظ والمعنی
ص: 111
معا ، أو فی المعنی فقط ، نحو : استمعت إلی شاعرة أیّ شاعرة ، وإلی فتاة أیّ شابّة. ونحو : مررت بشابّ أیّ فتی ، وطبیب أیّ نطاسیّ. ولا یجوز استمعت إلی شاعرة أیّ مهندسة ، ولا إلی فتاة أیّ عالمة ، ولا إلی رجل أیّ طبیب ...
* * *
ص: 112
ا - سبق القول (1) أن کلمة : «أیّ» هذه ، إن أضیفت إلی نکرة ، وکانت النکرة اسما مشتقّا - کان المقصود من المدح أو الذم أمرا واحدا ، هو المعنی المجرد المفهوم من الاسم المشتق. (أی الأمر المعنوی الذی یدل علیه هذا المشتق ، بغیر نظر إلی ذات أو غیرها) ، فإذا قلنا : رأینا فارسا أیّ فارس ... فالمقصود هو المدح بالفروسیة وحدها ، المفهومة من المشتق : «فارس». وإذا قلنا : احترسنا من خائن أیّ خائن ، فالمعنی المراد من الذم هو مجرد الوصف بالخیانة المفهومة من المشتق : خائن.
أما إذا أضیفت «أیّ» إلی نکرة غیر مشتقة فإن المدح أو الذم یشمل جمیع الأوصاف التی یصح أن توصف بها هذه النکرة ؛ فمن یقول لآخر : «إنی مسرور بک ؛ فقد رأیتک رجلا أیّ رجل ...» فکأنما یقول : رأیتک رجلا جمع کل الصفات الطیبة التی یمدح بها الرجل. ومن یقول عن امرأة بغیضة : «إنها امرأة أیّ امرأة ...» فإنما یقصد أنها جمعت کل الصفات الردیئة التی تذم بها المرأة.
والأغلب فی هذه النکرة (التی هی الموصوف (2)) أن تکون مذکورة فی الکلام ، ومن الشاذ الذی لا یقاس علیه - فی رأی کثیر من النحاة - ورود السماع بها محذوفة فی قول الشاعر :
إذا حارب الحجاج أیّ منافق
علاه بسیف کلما هزّ یقطع
ویقول السیوطی : «إن هذا فی غایة الندور» (3) فلا یصح - عندهم -
ص: 113
محاکاته. ثم یزیدون التعلیل بما نصه (1) : (فارقت «أیّ» سائر الصفات فی أنه لا یجوز حذف موصوفها وإقامتها مقامه ؛ لا تقول : مررت بأی رجل ؛ لأن المقصود بالوصف بأیّ هو المبالغة وتقویة المدح أو الذم. والحذف یناقض هذا) اه.
فمن المحتم عندهم إضافتها لفظا ومعنی ، وأن یکون الموصوف بها مذکورا. لکنا رأینا موصوفها محذوفا سماعا فی البیت السالف ، ورأیناه محذوفا کذلک فی کلام لعلی بن أبی طالب ، نصّه (2) -.
(«اصحب الناس بأیّ خلق شئت یصحبوک بمثله.») اه. یرید : بخلق أیّ خلق. وهی لا تصلح هنا أن تکون موصولة. لأن الموصولة لا تضاف عند الجمهور إلی نکرة. کما لا تصلح نوعا آخر. فورود موصوفها محذوفا فی الشعر وفی نثر الإمام علیّ أفصح البلغاء ، یبیح استعمالها مع حذفه ولو کان هذا الاستعمال قلیلا بالنسبة للرأی الآخر. وفوق هذا کله نجد الضوابط النحویة العامة لا تمنع حذفه ؛ فمن الجائز - طبقا لتلک الضوابط - اعتبار «أیّ» فی مثل الأسالیب السالفة صفة لموصوف محذوف ، ولا ضعف فی هذا مطلقا ، ولا شیء یمنع من الأخذ به ؛ قیاسا علی ما جاء فی «أیّ» من قوله تعالی فی سورة الانفطار : (یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ الَّذِی خَلَقَکَ فَسَوَّاکَ فَعَدَلَکَ فِی أَیِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَکَّبَکَ ...) ، فقد قال المفسرون فی إعرابها أقوالا مختلفة ، ومنها ما جاء فی تفسیر الألوسی لتلک الآیة ، ونصّه :
(«فی أی صورة ما شاء رکبک» - أی : رکبک ، ووضعک فی أی صورة اقتضتها مشیئته تعالی وحکمته جلّ وعلا من الصور المختلفة ؛ فی الطول ، والقصر ، ومراتب الحسن ، ونحوها. فالجار والمجرور متعلق : «برکّبک». و «أیّ» للصفة ، مثلها فی قوله :
أرأیت أیّ سوالف وخدود
برزت لنا بین اللّوی وزرود
ولما أرید التعمیم لم یذکروا موصوفها. وجملة : «ما شاء» صفة لها ، والعائد
ص: 114
محذوف ... و «ما» مزیدة ... وجاز ... وجاز ...
وقیل : «أیّ» موصولة صلتها : «ما شاء» کأنه قیل : «رکبک فی الصورة التی شاءها». وفیه : أنه صرح أبو علیّ فی التذکرة بأن «أیّا» الموصولة لا تضاف إلی نکرة ، وقال ابن مالک فی باب الإضافة ، من الألفیة :
... واخصصن بالمعرفه
موصولة. وبالعکس الصفه
ثم ... ثم ... إلی أن قال الألوسی :
«ویجوز أن یکون الجار متعلقا «بعدلک» وحینئذ یتعین فی «أیّ» الصفة ؛ کأنه قیل : فعدلک فی صورة أیّ صورة ، أی : فی صورة عجیبة ، ثم حذف الموصوف ؛ زیادة للتفخیم. و «أیّ» هذه منقولة من الاستفهامیة ، لکنها لانسلاخ معناها عنها بالکلیة عمل فیها ما قبلها. ویکون «ما شاء رکبک» کلاما مستأنفا ، و «ما» موصولة ، أو موصوفة ، مبتدأ ، أو مفعولا مطلقا «لرکبک». أی : ما شاء من الترکیب رکبک فیه ، أو : ترکیبا شاء رکّبک)» اه. کلام الألوسی.
وحسبنا أن ینطبق علی کلامنا ما ینطبق علی القرآن الکریم أفصح کلام عربیّ ، وأن نجد بین النحاة من یقول إن حذف الموصوف «بأیّ الوصفیة» سائغ (1) ...
ب - اشترطت کثرة النحاة فی «أیّ» النعتیّة تنکیر المضاف إلیه والمنعوت. ولکنّ آخرین لم یشترطوه فیهما ؛ کما فی بعض المطولات ، ومنها : «شرح
ص: 115
التصریح» ، فقد جاء فی الجزء الثانی منه فی : باب - الإضافة عند الکلام علی «أیّ» النعتیة - ما نصه : (قال المصنف فی الحواشی : لا أجد مانعا أن یقال مررت بالرجل أیّ الرجل ، وبالغلام أیّ الغلام ، کما جاز أطعمنا شاة کلّ شاة ، وهم القوم کلّ القوم ، فأضیفت - کلّ - إلی النکرة والمعرفة) اه.
یرید أن کلمة : «کلّ» هنا للدلالة علی الغایة الکبری فی المنعوت ، وقد أضیفت للنکرة والمعرفة ؛ فهی فی تأدیة المعنی مثل : «أیّ» ؛ فحق «أیّ» أن تکون مثلها فی الإضافة للنکرة والمعرفة (1). وهو رأی حسن فیه تیسیر. ولکن الأول أحسن وأعلی ؛ لأنه المسایر للمسموع الأفصح. فلیست إجازته قائمة علی مجرد حمله علی نوع آخر جائز ، کالذی اعتمد علیه الرأی الآخر ، ولم یؤیده بأمثلة مسموعة.
ومن أمثلة وقوعها نعتا : أن یکون المنعوت مصدرا مبیّنا قد حذف ونابت عنه صفته (2) نحو : - تعلمت أیّ تعلّم (3). والأصل : تعلمت : تعلّما أی تعلّم.
* * *
ص: 116
ه - «أیّ» التی تقع حالا : اسم معرب ، مبهم ، یدل علی ما تدلّ علیه الحال من بیان هیئة صاحبها المعرفة فی الغالب.
ویزول الإبهام عن «أیّ» بالمضاف إلیه - کباقی أنواع «أیّ» المضافة - ویشترط فی هذا «المضاف إلیه» أن یکون نکرة مذکورة فی الکلام - فلا یجوز فی «أیّ» الحالیة قطعها عن الإضافة - ؛ نحو : لله أبو بکر أیّ خلیفة ، وخالد بن الولید أیّ قائد (1).
* * *
وفیما یلی تلخیص ما سبق (2) من أنواع : «أیّ» المضافة ، وحکم إضافة کلّ ، والغرض منه ، وبیان المضاف إلیه :
ص: 117
نوع «أیّ»
حکم أضافتها
الغرض من «أی»
بیان المضاف إلیه
الاستفهامیة
واجبة الإضافة لفظا ومعنی معاً ، أو : معنی فقط ؛
لیزیل المضاف إلیه فی الحالتین إبهامها
السؤال عن المضاف إلیه ، مع تضمنها معناه کاملا أو
مجزاأ ، علی حسب حاله من التنکیر أو التعریف ، - ءطبقا للتفصیل الذی عرضناه -
النکرة مطلقا ، والمعرفة بشرط تعددها. وتکون أیّ مع
النکرة بمعنی :
«کل» ومع المعرفة بمعنی : «بعض». وللمعنی المراد أثره المختلف فی المطابقة
الشرطیة
کالسابقة.
تعلیق جوابها علی شرطها. مع أدائها معنی المضاف
إلیه ضمناً
کالسابقة
الموصولة
کالسابقة. ولکن إبهام الموصولة لا یزول إلا بالمضاف
إلیه وبالصلة معاً وأحدهما لا یکفی.
بمعنی «الذی» الدالة. علی واحد معیّن.
المعرفة - فی الرأی المعتمد - بشرط تعددها.
ویجب عند المطابقة مراعاة لفظها.
النعتیة
واجبة الإضافة لفظا ومعنی معاً ؛
لیزیل المضاف إلیه فی الحالتین إبهامها.
وصف منعوتها النکرة - وهذا هو الأکثر - بالغایة
الکبری ، مدحاً أو ذماً.
النکرة ، بشرط مماثلتها المنعوت فی لفظه ، ومعناه ،
(وتنکیره - فی الأکثر - وهناک رأی آخر ..
الحالیّة.
کالنعتیة.
بیان هیئة صاحب الحال المعرفة
النکرة.
«ملاحظة» : من هذا الجدول ومما سبقه من شرح ، یتبین أنّ : لکلمة «أیّ» المضافة ثلاث حالات - فی أشهر اللغات ، وأفصحها - هی الإضافة للنکرة والمعرفة ؛ وذلک فی الشرطیّة والاستفهامیة ، والإضافة للمعرفة فقط - تبعا للرأی الأقوی - ؛ وذلک فی الموصولة ، والإضافة للنکرة فقط ؛ وذلک فی التی تقع
ص: 118
نعتا (1) ، أو حالا.
* * *
لدن (2) ، وعند (3) - ظرفان مبهمان ، ملازمان فی أکثر حالاتهما للإضافة لفظا ومعنی معا.
وفائدتهما : الدلالة علی مبدأ الغایة (4) الزمانیة أو المکانیّة ؛ نحو :
ص: 119
مشیت من لدن الجبل إلی النهر ، وقضیت فی المشی من لدن صباحنا إلی
ص: 120
الضّحا. ویصح فی المثالین وضع الظرف : «عند» مکان «لدن». ولکن استعمال «عند» فی بدء الغایة الزمنیة قلیل ، وهو - مع قلته - قیاسی ؛ کالحدیث الشریف : الصبر عند الصدمة الأولی. وقولنا : السفر عند الساعة الثامنة.
و «لدن» ، و «عند» یختلفان - بعد هذا - فی أمور ، أشهرها ستة : الأول : أن «لدن» ظرف یکاد یلازم الدلالة علی بدء الغایات. وقد یستعمل أحیانا للدلالة علی مجرد الحضور. أما «عند» فیستعمل کثیرا فی الدلالة علی بدء الغایات ، وفی الدلالة علی الحضور المجرد ، مثل : جلست عندک. فإنّ تحقّق معنی الجلوس لا یقتضی ابتداء مکانیّا معینا ، أی : لا یستلزم تعیین نقطة البدء المکانی ؛ إذ لو کان له ابتداء مکانیّ لوجب أن یکون له انتهاء مکانی أیضا ؛ لعدم وجود ابتداء بغیر انتهاء. فأین مکان انتهاء الجلوس فی المثال السابق وأشباهه؟ لا وجود له. وعلی هذا لا ابتداء له أیضا. فمن القلیل أن یقال : جلست من لدنک. وتشدّد بعض النحاة فمنعه ، ولیس بممنوع ؛ ولکنه قلیل جائز.
الثانی : أن «لدن» مبنی علی السکون فی أکثر لغات العرب. أما «عند» فمعرب عندهم.
الثالث : أن «لدن» قد یتجرد للظرفیة المباشرة (1) ، ولکن الأغلب أن یخرج منها إلی «شبه الظرفیة» ؛ بالجر «بمن» (فیکون ، مبنیّا علی السکون فی محل جر «بمن») (2). أمّا «عند» فینصب کثیرا علی الظرفیة المباشرة ، أو یجر «بمن». والغالب أنه لا یدل علی بدء الغایات إلا إذا کان مسبوقا بهذا الحرف الجار ، فإن لم یکن مسبوقا به کان - فی الغالب - للدلالة علی مجرد الحضور ، لا لبدء الغایة. وجرّه «بمن» علی کثرته قلیل بالنسبة لجر «لدن» به.
الرابع : أن «لدن» یضاف (3) للمفرد - کالأمثلة السالفة - ویضاف
ص: 121
للجملة بنوعیها أیضا. وإذا أضیف للجملة کان مقصورا علی بدایة الغایة الزمانیة دون المکانیة ؛ إذ الأرجح أن الظروف المکانیة لا یضاف منها شیء للجملة إلا : «حیث» - کما سبق (1) -. فمن أمثلة إضافته للجملة الفعلیة قول الشاعر :
صریع غوان راقهنّ ورقنه
لدن (2) شبّ ، حتّی
شاب سود الذوائب
ومثال الاسمیة : وتذکر نعماه لدن أنت یافع ...
وعلی هذا یکون المضاف إلیه بعد «لدن» مجرورا لفظا إن کان اسما معربا ، ومجرورا محلا إن کان اسما مبنیّا أو جملة.
أما «عند» فلا یضاف للجملة ، فالمضاف إلیه بعده مجرور لفظا إن کان اسما معربا ، ومحلا إن کان مبنیّا.
الخامس : أن «لدن» قد یستعمل مفردا (3) مع ظرفیته ؛ بشرط أن یقع بعده کلمة ؛ «غدوة» - من غیر فاصل بینهما - منصوبة ، أو مرفوعة نحو : مکثت هنا لدن غدوة حتی الغروب. فالنصب علی اعتبارها خبرا لکان المحذوفة مع اسمها ، والتقدیر : لدن کان الوقت غدوة ... والرفع علی أنها فاعل لکان التامة المحذوفة التی معناها : ظهر «ووجد» ؛ والتقدیر : لدن کانت غدوة ، أی : ظهرت غدوة ووجدت. وعلی هذین الإعرابین یکون الظرف «لدن» مضافا للجملة تقدیرا. ولیس مفردا. أما علی إعراب : «غدوة» المنصوبة تمییزا ، سماعیّا ، صاحبه «لدن» المفرد ، أو منصوبة علی «التشبیه بالمفعول به» (4) فلا یکون «لدن» مضافا علی الصحیح. والأخذ
ص: 122
بالإعرابین الأولین ، أفضل ، لبعدهما عن التکلف ، والتعقید ، والضعف.
ویصح فی کلمة : «غدوة» الجر علی اعتبار «لدن» مضافا أیضا و «غدوة» هی المضاف إلیه المجرور.
أما «عند» فلا ینقطع عن الإضافة إلا إذا ترک الظرفیة وصار اسما محضا ؛ کأن یقول شخص : «عندی مال». فیقول له آخر : «وهل لک عند»؟ فکلمة «عند» هنا مبتدأ مرفوع. ومثل : «الکتاب عندی». فیقال : «هل یصونه عندک»؟ فکلمة : «عند» فاعل مرفوع. وهی فی المثالین - وأشباههما - اسم خالص الاسمیة ، لا علاقة له بالظرفیة.
السادس : أن «لدن» لا یکون إلا فضلة ؛ لأنه ظرف غیر متصرف (فهو مقصور علی النّصب علی الظرفیة ، أو الخروج منها إلی الجر بمن) بخلاف «عنا» فإنه قد یکون عمدة فی مثل : «السفر من عند البیت». فالجار والمجرور هما - أو متعلقهما - الخبر. ولما کان الخبر عمدة ، وکلمة : «عند» جزء منه وقد اشترکت فی تکوینه ، صارت مشترکة - تبعا لذلک - فی وصفه بأنه عمدة. ولا یصح أن یقال : «السفر من لدن البیت» ، لأن هذا یخرج «لدن» من نوع الفضلة إلی العمدة (1).
* * *
ص: 123
یقول بعض النحاة : لو عطف علی : «غدوة» المنصوبة - (نحو : أختار السباحة لدن غدوة وعشیة) - أو جاء لها تابع آخر ، جاز نصب التابع مطلقا (1) ، مراعاة للفظ المتبوع الآن ؛ وجاز جره مراعاة لأصل المتبوع ؛ إذ الأصل فی کلمة : «غدوة» أن تکون «مضافا» إلیه مجرورا. فلا مانع عندهم من جرّ التابع علی «توهّم» أنّ المتبوع مجرور ، ولم یوافق علی هذا الرأی آخرون بحجة جدلیة.
والحق أن الالتجاء إلی الإعراب «التوهمی» کالالتجاء إلی الإعراب «للمجاورة» کلاهما التجاء إلی ما لا یصح الاستناد إلیه. (وقد کررنا هذا فی مواضع مختلفة ، ومنها رقم 6 من هامش ص 7 السابقة (2) ، وص 609 ج 1 م 49) وبخاصة إذا عرفنا أن أصحابه لا یؤیدونه بالأمثلة الواردة التی تکفی للإقناع بقیاسیته.
* * *
ص: 124
مع (1) - لهذه الکلمة أحوال ثلاثة ؛ تضاف فی اثنتین ، وتفرد فی واحدة ، الأولی : الظرفیة ؛ بأن تکون ظرف مکان یدل علی اجتماع اثنین واصطحابهما ، أو ظرف زمان یدل علی ذلک ، أو ظرفا محتملا للأمرین ، عند عدم القرینة التی تعینه لأحدهما (2) فقط. فمثال دلالته علی المکان وحده قولهم : (التواضع مع التّکلّف زهر مصطنع ؛ لا فی العیون نضر ، ولا فی الأنوف عطر) وقولهم : (لا راحة لراض مع ساخط ، ولا لکریم مع دنیء). ومثال دلالته علی الزمان وحده : یغادر الطیر عشه مع الصباح الباکر ، ویعود إلیه مع إقبال اللیل(3) ...
ولیس من من اللازم عند استعماله فی الزمان أن یکون الاجتماع والتلاقی متصلین فعلا ؛ وإنما یکفی أن یکونا متقاربین غایة التقارب ، حتی کأنهما متصلان من
ص: 125
شدة التقارب الزمنیّ ، مع أنهما غیر متقاربین فی الواقع ؛ کقولهم فی وصف حرکات الحصان السریع : (إنها کرّ مع فرّ ، وإقبال مع إدبار (1) ...) فاجتماع الکر والفر فی زمان واحد محال ، وکذلک اجتماع الإقبال والإدبار ؛ فالمراد من الاجتماع الزمنیّ فی مثل هذا هو : شدة التقارب. وکقولهم للحزین الضائق : «لا تحزن ؛ فإن مع العسر یسرا ، وإن مع الیوم أخاه الغد ، یقبل بالخیر والإسعاد». فالعسر والیسر لا یجتمعان فی زمان واحد لإنسان. وکذلک الیوم والغد ... و ... وإذا المراد من الاصطحاب الزمنیّ والاجتماع قد یکون حقیقیّا ، وقد یکون بمعنی التقارب الشدید.
ومثال صلاحه للأمرین قولهم : (احتفینا بالعلماء الأجانب مع علمائنا ، وکرّمناهم مع النابغین من رجالاتنا).
وکلمة : «مع» بدلالتها السالفة ، ظرف غیر متصرف ، ملازم - فی الأغلب - للإضافة لفظا ومعنی ؛ وللإعراب ؛ فهو منصوب علی الظرفیة بالفتحة. وقلیل منهم یبنیه علی السکون فی کل حالاته ، إلا إذا وقع بعده حرف ساکن فیبنیه علی الکسر ؛ للتخلص من التقاء الساکنین ، أو علی الفتح للخفة (2) فیقول مع البناء علی السکون : (لا أمن مع ظلم الوالی ، ولا عمران مع طغیانه). ویقول عند التقاء الساکنین :
قد یدرک المتأنی بعض حاجته
وقد یکون مع المستعجل الزّلل
ببناء کلمة : «مع» علی الفتح أو الکسر.
الثانیة : أن تکون ظرفا بمعنی : «عند» (3) ، ومرادفة لها ، فی إفادة معنی الحضور المجرد ، فتکون ظرفا لا دلالة فیه علی اجتماع ومصاحبة ، وتکون معربة ، مضافة ، واجبة الجر «بمن» الابتدائیة ؛ نحو : (الکفیل علی الیتیم یرعاه ،
ص: 126
ویصون ماله. وإذا أراد البذل والعطاء فلینفق من معه ، لا من مع الیتیم).
الثالثة : أن تکون اسما لا ظرفیة معه ، ومعناها : «جمیع» أی : «کلّ» وتدل علی مجرد اصطحاب اثنین - أو أکثر - واجتماعهما فی وقت واحد ، أو وقت متعدد ، وفی هذه الحالة تکون معربة ، منصوبة ، منونة علی أنها حال ، أو : خبر ، وهی فی الصورتین مؤولة بالمشتق ، ومفردة : (أی : لاحظّ لها من الإضافة مطلقا (1)) وکذلک لاحظّ لها من الدلالة علی اتحاد فی الزمان أو المکان بعد أن تجردت للاسمیة المحضة ، إلا بقرینة (2) ؛ فمثالها حالا للمثنی : أقبل الزعیمان معا ؛ وقول الشاعر :
فلما تفرقنا کأنی ومالکا
- لطول اجتماع (3) - لم نبت لیلة معا
ومثالها حالا لجماعة الذکور :
وأفنی رجالی فبادوا معا
فأصبح قلبی بهم مستفزّ (4)
ومثالها حالا لجماعة الإناث : إذا حنّت (5) الأولی سجعن (6) لها معا (7) ...
ص: 127
ومثالها خبرا : المجاهدان ، أو : المجاهدون معا ، أی : موجودان معا (1) .. أو : موجودون معا. والمراد : مجتمعان ، ومجتمعون ... ونحو قول القائل :
أفیقوا بنی حرب ، وأهواؤنا معا
وأرحامنا موصولة لم تقضّب
أی : وأهواؤنا مجتمعة ، وأرحامنا لم تنقطع.
وقوله : أوفّی صحابی حین حاجاتنا معا ... (2)
ص: 128
ا - قد تکون «مع» بمعنی : «جمیع ، أی : «کلّ» - کما عرفنا - فهل یتساویان فی المعنی تماما؟.
قال اللغویون : إن الأساس فی کلمة : «مع» هو أن تدل علی اتحاد الوقت بین الشیئین ، أو الأشیاء ، ما لم تقم قرینة علی عدم الاتحاد ؛ کالقرینة التی فی قول امرئ القیس یصف حصانه :
«مکرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ، معا» ... ، لاستحالة الکرّ والفرّ ، والإقبال والإدبار فی وقت واحد (1). أما کلمة «جمیع» فقد تقوم معها القرینة التی توجب الاتحاد الزمنی ، أو تمنعه ، أو تجیزه. ففی مثل : (تتحرک کواکب المجموعة الشمسیة جمیعا) ... یکون التحرک واقعا لا محالة فی وقت واحد ؛ بخلاف : تزور الشمس والقمر جمیعا غرفتی ظهرا ، فإن اتحاد الوقت محال. أما فی مثل : زرنی عمی وخالی جمیعا ؛ فیجوز الاتحاد وعدمه. فالفرق بین أکلنا معا وأکلنا جمیعا ... ، أن : «معا» یفید الاجتماع فی حال الفعل وزمنه. وأن «جمیعا» هو بمعنی : «کلنا» سواء اجتمعنا فی زمن الفعل أم لا.
ب - لا طائل فیما یدور بین النحاة من جدل حول الأصل الأول لکلمة : «مع» الباقیة علی ظرفیتها ؛ أهی ثنائیة الوضع منذ جرت علی ألسنة العرب الأوائل؟ أم ثلاثیة الوضع ، قد حذف حرفها الأخیر «الثالث» ، وأن أصلها : معی ، فلما نقصت بحذف حرفها الأخیر (الیاء) سمیت منقوصة (2) لذلک؟ أم أن بعض أنواعها ثنائی ، وبعضا ثلاثی؟.
آراء متعددة خیرها الرأی القائل : إن الباقیة علی ظرفیتها ثنائیة الأصل ، معربة ، منونة ، ویحذف التنوین عند الإضافة ، فإذا لم تضف - أحیانا - وکانت منونة منصوبة فهی ظرف باق علی ظرفیته - فی بعض الآراء - ، متعلق
ص: 129
بمحذوف ، إما حال ، وإمّا خبر علی حسب السیاق ... ، ولن یترتب علی الاقتصار علی هذا الرأی وإهمال غیره إساءة تلحق الأسلوب فی معناه ، أو فی ضبط کلماته ، بل یترتب علیه راحة من تعلیلات شاقة مصنوعة ، لا تقوم علی أساس قویّ ، أو دلیل یسایر العقل والواقع. فوق ما فیه من تیسیر وراحة (1).
هذا ، إن بقیت علی ظرفیتها - تبعا لذلک الرأی. أما إن خرجت عنها ، وتجردت للاسمیة المحضة وظلت منونة منصوبة - کما هو المسموع فیها - فقد تعرب حالا ، أو خبرا علی حسب مقتضی السیاق ، فإن کانت «حالا» فهی معربة. إما بالفتحة الظاهرة فی آخرها ، علی اعتبارها اسما ثنائیّا لیس محذوف الآخر ، وإما بفتحة مقدرة علی الألف المحذوفة لالتقائها ساکنة مع التنوین ، علی اعتبارها اسما ثلاثیّا آخره یاء ، وأصله «معی» : فهی مثل : فتی ؛ أصلها : «فتی». تقلب الیاء ألفا وتحذف هذه الألف فی النطق لا فی الکتابة عند تنوین الکلمة ؛ تقول : هذا فتی - رأیت فتی - أصغیت إلی فتی.
هذا إن کانت «حالا». أما إن کانت خبرا فلا بدّ من اعتبارها ثلاثیة الأصل مرفوعة بضمة مقدرة علی الألف المحذوفة لفظا ، لا خطّا (2) ولا یمکن إعرابها خبرا وفی آخرها الفتحة والتنوین إلا علی تقدیرها ثلاثیة الحروف. أما من یعربونها خبرا مع ثنائیتها فیحتمون بقاءها علی الظرفیة ، وتعلیقها بمحذوف هو الخبر ، ویمنعون خروجها عن الظرفیة إلی الاسمیة ..
* * *
ص: 130
غیر - اسم محض (1) ، یدل علی مخالفة ما قبله لما بعده فی ذاته ، وحقیقة تکوینه ، أو فی وصف من الأوصاف العرضیة التی تطرأ علی الذات. فمثال الأول : (الحیوان غیر النبات ،) أی : ذات الحیوان وحقیقته الأصلیة مخالفة لذات النبات ولحقیقته الأصلیة. ومثال الثانی ؛ (خرج الفائز بوجه غیر الذی دخل به ، ونظر للأمر بعین غیر التی کان ینظر بها.) فلیس المراد أن ذات الوجه وحقیقته قد تغیرت ، ولا أن ذات العین وحقیقتها استحالت فصارت شیئا مغایرا للأولی مغایرة تامة ، وإنما المراد أن الوجه طرأ علی ظاهره أمر عرضیّ ؛ کالسرور ، والانشراح والإشراق ... و ... وأن العین طرأ علیها صفة جدیدة عرضیة ؛ کالثبات ، والصفاء ، وعدم الحرکة الزائغة المضطربة ...
و «غیر» فی أکثر أحوالها (2) - ملازمة للإضافة ؛ إمّا لفظا ومعنی معا ؛ کالأمثلة السابقة ، وکقول القائل : (غیری علی السّلوان قادر ...) وإما معنی فقط ؛ ولهذه الحالة صورتان :
الأولی : أن یحذف المضاف إلیه بشرط أن یکون معلوما ، ملحوظا لفظه فی النیة والتقدیر ، کأنه مذکور ، وأن تکون کلمة : «غیر» مسبوقة بإحدی أداتی النفی : «لیس» أو : «لا» (3) دون غیرهما من ألفاظ النفی ؛ نحو : (شبح الفقر غاد ورائح علی ثلاثة لیس غیر ؛ مسرف ، ومقامر ، وعاطل ،) أی : لیس غیر الثلاثة. ونحو : (الصبر صبران لا غیر ؛ صبر تجلّد یکون من القویّ المرهوب ،
ص: 131
وصبر تبلّد یکون من العاجز المغلوب) ؛ أی : لا غیر الصبرین.
الثانیة : أن یحذف المضاف إلیه المعلوم ، مع ملاحظة معناه دون لفظه. وفیما یلی إیضاح وتفصیل للصورتین :
لکلمة : «غیر» من ناحیة الإعراب والبناء أربع (1) حالات ؛ تعرب فی ثلاث منها ، وتبنی فی واحدة.
1- فتعرب عند إضافتها لفظا ومعنی معا ، کما فی الصورة الأولی ، وأمثلتها. وتضبط فی حالة إعرابها بالرفع ، أو بالنصب ، أو بالجر علی حسب حالة الجملة ، ولا یدخلها التنوین.
2- وتعرب کذلک إذا حذف المضاف إلیه لدلیل یدل علیه ، ونوی لفظه (2) للحاجة إلیه ، أی : لوحظ نصّ لفظه حرفا حرفا ، دون غیره من الألفاظ ؛ فکأنه مذکور (3) ، مع أنه غیر مذکور فی الکلام. ولا یجوز حذفه فی هذه الحالة إلا بعد تحقق الشرطین السالفین ؛ (وهما : ملاحظته فی التقدیر ، ووقوع کلمة : «غیر» بعد : «لیس» أو بعد : «لا» النافیتین ، کما سبق إیضاح هذا والتمثیل له). وملاحظته هنا لا بدّ أن تتجه إلی لفظه نصّا ؛ فیکون هذا اللفظ نفسه ، وبحروفه معلوما ، وهو الذی تتجه إلیه النیة والتقدیر.
وتضبط «غیر» هنا بالرفع أو النصب أو الجر علی حسب جملتها. ولا یدخلها التنوین ؛ لأنها کالمضافة لفظا لا یطرأ علیها تغیر مطلقا بعد حذفه ، وإنما تظل علی حالتها الأولی قبل حذفه.
ص: 132
3- وتعرب أیضا علی حسب حاجة الجملة إذا قطعت عن الإضافة نهائیّا ؛ (بأن حذف المضاف إلیه ، ولم ینو لفظه ولا معناه (1) ؛ فکأنه غیر موجود من الأصل ، وهذا حین یستغنی عنه المعنی المطلوب ، ولا یتجه الغرض إلی ذکره ؛ (لأنه معلوم ، أو لسبب بلاغیّ آخر) ، نحو : من زرع الإساءة حصد الشقاء لیس غیرا. أی : لیس الحصد مغایرا (2). وفی هذه الحالة تکون معربة ، منونة ، نکرة.
ص: 133
4- أما الحالة الواحدة التی تبنی فیها وجوبا فحین تکون مضافة ، والمضاف إلیه محذوف قد لحظ ونوی معناه (1) دون لفظه ، وفی هذه الحالة تبنی علی الضم ، نحو : (شرّ الأصدقاء المعتدی لیس غیر) ؛ أی : لیس غیر المعتدی ، أو لیس غیر الآثم ، أو : لیس غیر الجانی (2) ...
ومما سبق ندرک الفرق بین المحذوف الذی ینوی لفظه ، والمحذوف الذی ینوی معناه ؛ فالأول : لابد فیه من ملاحظة لفظ المحذوف ، ونصه الحرفیّ. والثانی : لابد فیه من ملاحظة معناه فقط ؛ بتخیر کلمة أخری تؤدی معناه ، وتخالف لفظه. فالغرض من أنها بمعناه : أن تتمم مثله المعنی الجزئی الذی کان یتممه مع المضاف الموجود ؛ وأن یحقق النسبة الجزئیة (3) التی کان یحققها من غیر اختلاف بینهما فی الأداء المعنوی. أما اللفظ فیجب أن یکون مختلفا.
هذا ، ومن الممکن إدماج الحالات الأربع السابقة فی حالتین :
الأولی : البناء إذا حذف المضاف إلیه ونوی معناه. دون لفظه.
والأخری : الإعراب فیما عداها.
* * *
ص: 134
ا - یترتب علی التفرقة بین ملاحظة المحذوف بلفظه السابق نصّا ، أو عدم ملاحظة ذلک - آثار متعددة ؛ منها : أن ملاحظة لفظه السابق تقتضی التمسک بمعناه. إذ لو وضع فی مکانه لفظ آخر لجاز أن یکون اللفظ الآخر مخالفا له فی المعنی - ولو قلیلا - ؛ فیفسد الغرض لمقصود من الأداء.
ومنها : أن المحذوف قد یکون معرفة أو نکرة ؛ فینتقل أثر هذا إلی المضاف قطعا ما دام لفظ المضاف إلیه معینا ملحوظا ؛ والإضافة محضة. فلو لم یلحظ لجاز أن یحل محله ما یخالفه فی التعریف والتنکیر ؛ فیتأثر المعنی بنتیجة هذه المخالفة.
ومنها : أن المضاف إلیه المحذوف قد یکون مبنیّا ؛ فیجوز - عند ملاحظة لفظه نصّا أن ینتقل منه البناء إلی المضاف المبهم ، - ونحوه -. وقد أشرنا (1) قریبا إلی وجوب إهمال الرأی الذی یمنع انتقال البناء إلی المضاف من المضاف إلیه المبنی المحذوف ؛ بزعم أنه ضعیف ؛ بسبب حذفه ؛ فلا ینتقل منه البناء للمضاف ... وهو زعم مردود.
ب - أوضحنا المراد من «المضاف إلیه» المحذوف الذی نوی لفظه نصّا ؛ والذی نوی معناه دون لفظه. وما قلناه هو ما ارتضاه «الصبان» و «الخضری» - وغیرهما - ، وانتهینا إلی استخلاصه من الجدل الکثیر الذی یغشیه. والحق أن النفس غیر مطمئنة لما ارتضیاه ، بل إن «الخضری» - وغیره - لا یزال قلق النفس ؛ فقد فرغ من الکلام عن «المضاف إلیه» الذی ذکر ولم یحذف ... وعن «المضاف إلیه» الذی حذف ولم ینو لفظه ولا معناه ، ... ثم انتقل إلی الکلام عن المضاف إلیه» الذی حذف لفظه ، وهذا المحذوف قد ینوی لفظه نصّا ، وقد ینوی معناه فقط ، فما حکم المضاف - من ناحیة إعرابه وبنائه - مع هذا «المضاف إلیه» المحذوف ... ، الذی ینوی لفظه نصّا ، أو ینوی معناه فقط؟ أیکون من هذا المضاف نوع معرب فقط ، ونوع
ص: 135
مبنی فقط ، أم الإعراب والبناء جائزان عند حذف المضاف إلیه ونیة لفظه نصّا ، أو معناه دون لفظه؟ یجیب بما نصه :
(الاقتصار علی حالة واحدة یجوز فیها الإعراب والبناء هو - وإن کان خالیا من التکلف - مخالف لإجماعهم «فیما نعلم» علی تعدد الحالتین ، وأن حالة البناء لا یجوز فیها الإعراب وبالعکس) (1). اه.
وهذه حجة بادیة الوهن ، إن صح أن تسمی هذه حجة. لعدم اعتمادها علی الدلیل الحاسم ، وهو المسموع الکثیر من کلام العرب. ولا شک أن الرأی الذی یجیز إعراب المضاف وبناءه عند حذف المضاف إلیه مطلقا (أی : سواء نوی لفظه ، أم نوی معناه) رأی سدید ، فوق أنه خال من التکلف والتعقید ، وقاض علی القسم الغامض الملتوی ؛ قسم المضاف إلیه الذی حذف ونوی معناه فقط ، وبذا تکون الأقسام ثلاثة ، لا أربعة ، وهذا أحسن ، ولا سیما إذا عرفنا أن بعض أئمة النحاة قد صرح بأن المعنی لا یختلف فی حالتی بناء المضاف ، وإعرابه ، ووصف الرضیّ هذا التصریح بأنه : «هو الحق (2)».
ح - تطبیقا علی ما سلف فی : «ا» وما قبلها من أحوال : «غیر» - یجوز فی مثل : قرأت من الکتب سبعة لیس غیر - اتباع ما یأتی فی ضبط کلمة : «غیر» ، وفی إعرابها :
2- أن نقول : «لیس غیر» علی اعتبارها اسم : «لیس» مرفوعة بالضمة من غیر تنوین ، لأنها مضافة معربة ، والمضاف إلیه محذوف ، قد نوی لفظه نصّا ، والخبر محذوف ؛ فالتقدیر : لیس غیر السبعة مقروءا.
(3) أن نقول : «لیس غیر» ، علی اعتبارها خبر : «لیس» منصوبا
ص: 136
مضافا والاسم محذوف ، وکذلک المضاف إلیه مع نیّة اللفظ ، فیکون التقدیر : لیس المقروء غیر السبعة.
3- أن نقول : «لیس غیرا» ، بالتنوین ، علی اعتبارها : نکرة معربة ، خبر : «لیس». فالاسم محذوف ، وکذلک المضاف إلیه مع عدم ملاحظة لفظه ولا معناه. والتقدیر : لیس المقروء غیرا».
4- «لیس غیر» بالتنوین أیضا علی اعتبارها اسمها معربا ، والخبر محذوف ، والمضاف إلیه محذوف کذلک ، لم ینو لفظه ولا معناه. والتقدیر : لیس غیر مقروءا.
5- «لیس غیر» بلا تنوین باعتبارها اسم : «لیس» ، مبنی علی الضم فی محل رفع ، والمضاف إلیه محذوف ، قد نوی معناه فقط. والخبر محذوف أیضا. والتقدیر : لیس غیر المذکور مقروءا.
6- «لیس غیر» ، باعتبارها اسم «لیس» ، مبنی علی الفتح فی محل رفع ، بشرط أن یکون المضاف إلیه محذوفا مع ملاحظة لفظه نصا ، ومبنیّا (لینتقل منه البناء إلی کلمة : «غیر» - کما عرفنا -) والخبر محذوف أیضا. والتقدیر : لیس غیرها مقروءا.
7- «لیس غیر» ، باعتبارها خبر «لیس» مبنیة علی الفتح فی محل نصب ، والمضاف إلیه محذوف ، مبنی حتما ، قد لوحظ لفظه السالف نصّا ، والاسم محذوف ، والتقدیر : لیس المقروء غیرها ...
وفی الجدول الآتی ترکیز - بشکل آخر - للصور السالفة.
ص: 137
الصورة
حکم : «غیر»
لیس غیر ...
اسم «لیس» معربا ، مرفوعا بالضمة من غیر تنوین ،
والمضاف إلیه محذوف نوی لفظه فقط. والخبر محذوف.
لیس غیر ...
اسم «لیس» مبنیّا علی الضم فی محل رفع ، والمضاف
إلیه محذوف نوی معناه فقط. والخبر محذوف.
لیس غیر ...
اسم «لیس» معربا ، مرفوعا ، مع التنوین ، والمضاف
إلیه محذوف ، ولم ینو لفظه ولا معناه. والخبر محذوف
لیس غیر ...
خبر «لیس» ، مضافا معربا ، منصوبا بغیر تنوین ،
والمضاف إلیه محذوف قد نوی لفظه. والاسم محذوف.
لیس غیر ...
خبر «لیس» مبنیا علی الفتح فی محل نصب ، والمضاف
إلیه محذوف مبنی حتما ، وقد نوی لفظه المبنیّ. والاسم محذوف.
لیس غیر ...
اسم «لیس» مبنیّا علی الفتح فی محل رفع ، والمضاف
إلیه محذوف مبنی ، وقد نوی لفظه المبنیّ. والخبر محذوف.
لیس غیرا ...
خبر «لیس» معربا منصوبا منونا ، والمضاف إلیه محذوف
، ولم ینو لفظه ولا معناه. والاسم محذوف.
د - إذا حلّت : «لا» النافیة للجنس محل : «لیس» جاز فی «غیر» البناء علی الضم فی محل نصب علی اعتبارها مضافة ، اسم «لا» والمضاف إلیه محذوف قد نوی معناه ، والخبر محذوف أیضا. ویجوز بناؤها علی الفتح فی محل نصب علی اعتبارها اسم : «لا» والمضاف إلیه محذوف ، ولم ینو لفظه ولا معناه ؛ فکأنها غیر مضافة ، ففتحتها فی هذه الحالة (1) کفتحة اسم : «لا» فی قولنا : لا مطر. والخبر محذوف فیهما.
ویجوز نصبها مباشرة إن کانت مضافة لغیر مبنی والمضاف إلیه مذکور ،
ص: 138
أو محذوف نوی لفظه نصّا. وهی فی الحالتین معربة منصوبة. ونکتفی بالحالات السالفة ...
ه - إذا کانت «لا» لنفی الوحدة (وهی التی تعمل عمل «لیس» بشروط خاصة سبق الکلام علیها فی بابها) (1) جاز فی «غیر» البناء علی الضم فی محل رفع علی اعتبارها اسم «لا». والمضاف إلیه محذوف قد نوی معناه ، والخبر محذوف وجاز أن تکون معربة مرفوعة بغیر تنوین باعتبارها اسم «لا» إن کان المضاف إلیه مذکورا ، أو محذوفا قد نوی لفظه. ویجوز تنوینها إذا حذف المضاف إلیه ولم ینو لفظه ولا معناه.
وفی الصور السّالفة ما یغنی عما لم نذکره ، أو یصلح أن یکون مرشدا إلیه. «ملاحظة» : الصور السالفة کلها فی : «ح» - ص 136 - والآتیة بعدها فی : «د ، ه» إنما تتحقق علی أساس التقسیم الشائع الرباعیّ. أما علی أساس التقسیم الثلاثی - وهو الأحسن - حیث یصیر المحذوف الذی نوی قسما واحدا فإن الإعراب والبناء یصلحان له.
و - إذا کانت «لا» للنفی المطلق (2) أفادت هنا مع النفی العطف ، فکلمة : «غیر» بعدها منفیة ومعطوفة تسری علیها جمیع الأحکام التی تسری علی المعطوف ؛ ففی مثل : «أنفقت عشرة لا غیر» : یجوز اعتبار «غیر» معربة منصوبة بغیر تنوین ؛ لأنها معطوفة علی عشرة ، ومضافة. والمضاف إلیه محذوف قد نوی لفظه ؛ ویجوز اعتبارها معطوفة مبنیة علی الفتح فی محل نصب لأنها مضافة والمضاف إلیه محذوف مبنی ، أو غیر مبنی لکن نوی معناه. ویجوز إعرابها ونصبها منونة والمضاف إلیه محذوف لم ینو لفظه ولا معناه.
وفی نحو : زارنی ثلاثة لا غیر» ، یجوز فی کلمة «غیر» أن تکون معربة مرفوعة بغیر تنوین ، علی اعتبارها معطوفة مضافة. والمضاف إلیه محذوف نوی لفظه. ویجوز أن تکون مبنیة علی الضم فی محل رفع علی اعتبارها معطوفة مضافة ، والمضاف إلیه محذوف نوی معناه.
ص: 139
ویجوز أن تکون معربة مرفوعة منونة علی اعتبارها معطوفة مضافة ، والمضاف إلیه محذوف لم ینو لفظه ولا معناه.
ویجوز أن تکون مبنیة علی الفتح فی محل رفع مضافة ، والمضاف محذوف مبنی.
ز - إذا کانت : «غیر» لیست مسبوقة بکلمة : «لیس» ، أو : «لا» النافیتین ؛ فأشهر وجوه استعمالها أن تکون للنعت ، أو الاستثناء ؛ علی التفصیل المبین فی ج 2 ص 318 م 82.
ح - إذا کانت کلمة : «غیر» مسبوقة «بلیس» أو «لا» النافیتین علی الوجه السابق ؛ فإنها تصیر من الأسماء الدالة علی «الغایة» وتدخل فی عدادها ، فتشبه الظروف الخاصة «بالغایة» (1) والتی سنوضحها فیما یلی.
* * *
ص: 140
یراد بهذه النظائر : الأسماء الملازمة - فی أکثر حالاتها - للإضافة ، وتنطبق علیها أحکام الإعراب والبناء التی تنطبق علی کلمة : «غیر» وقد شرحناها.
وهذه الأسماء نوعان ، نوع خالص الاسمیة ؛ فلا یفید معها ظرفیة زمانیة ولا مکانیة ، شأنه فی هذا شأن : «غیر» فإنها متجردة للاسمیة المحضة ، وهذا النوع قلیل ، مثل کلمة : «حسب».
ونوع آخر یفید مع الاسمیة ظرفیة زمانیة أو مکانیة ویدل علی ما یسمی : «الغایة» (1) ، ومنه الظروف التی تسمی : «ظروف الغایات» (2) مثل : قبل -
ص: 141
بعد - دون - الجهات الست (وهی : فوق - تحت - یمین - شمال - أمام - خلف ...) وما بمعنی هذه الجهات ؛ مما هو وارد مسموع (1) ، (مثل : قدّام - وراء - أسفل - عل ؛ بمعنی : فوق).
فهذه الأسماء بنوعیها (2) - المحض وغیر المحض - یجوز فی کل منها فی أغلب استعمالاته ، ما یجوز فی کلمة : «غیر» من الإعراب فی حالات ثلاث ، والبناء فی واحدة (3) ، أخری. وإن شئت فقل : من البناء فی حالة واحدة ، والإعراب فیما عداها. فهی شبیهة بکلمة : «غیر» فی تلک الحالات ، کما أن کلمة : «غیر» شبیهة بها فی الغایة (4) -.
ومن هذه الظروف التی سردناها : المتصرف (أی : الذی یکون ظرفا وغیر ظرف ؛ کمبتدأ ، وخبر ، وفاعل ... و ...). ومنها غیر المتصرف (5) (الذی لا یترک النصب علی الظرفیة إلا إلی الجر «بمن») (6).
ص: 142
والظرف بنوعیه - المتصرف وغیر المتصرف - حین یکون ظرفا معربا ، یکون منصوبا علی الظرفیة ، أو مجرورا «بمن» إن وجدت قبله ، وحین یکون مبنیّا علی الضم یکون فی محل نصب ، أو فی محل جرّ «بمن» إن وجدت قبله (1).
خذ مثلا الظرف : «قبل» ، فمعناه الدلالة علی سبق شیء علی آخر ، وتقدمه علیه فی الزمان ، أو المکان الحسی ، أو المعنوی ؛ فهو من الظروف الزمانیة أو المکانیة الملازمة - فی أغلب استعمالاتها - للإضافة ؛ نحو قوله تعالی : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) ، ونحو : قدّر لرجلک قبل الخطو موضعها ، ونحو : بیتی قبل النّهر بخطوات. ونحو : الخلق الکریم قبل المال ... وتنطبق علیه تلک الأحوال الخاصة بالإعراب والبناء ، وهی التی تقدمت فی «غیر».
1- فیکون معربا منصوبا علی الظرفیة أو مجرورا «بمن» إذا أضیف فی الصورتین وذکر المضاف إلیه ؛ کالأمثلة السابقة.
2- وکذلک یکون منصوبا علی الظرفیة أو مجرورا «بمن» إن حذف المضاف إلیه ، ونوی لفظه نصّا لحاجة تدعو إلیه ؛ نحو : أهدی إلیّ کتاب أدب ، وکتاب تاریخ ؛ فبدأت القراءة بکتاب الأدب قبل ، .. ، أو : من قبل ... ، أی : قبل کتاب التاریخ ... أو من قبل .. ، کتاب التاریخ. وفی هاتین الصورتین لا ینون المضاف ، ولا یتغیر منه شیء ، لأنه لا یزال مضافا کما کان ، والمضاف إلیه محذوف بمنزلة الموجود.
3- ویکون معربا منصوبا علی الظرفیة أو مجرورا بمن ، ومنونا فی الصورتین - ، إذا حذف المضاف إلیه ، ولم ینو لفظه ولا معناه ؛ لحکمة بلاغیة یریدها المتکلم ؛ فهو بمنزلة الذی لم یوجد من الأصل ؛ نحو : (داویت الملل بنزهة بحریة فی لیلة قمریة فاتنة ؛ وکنت قبلا هامد الجسم ، کلیل
ص: 143
الذهن ...) وفی هذه الحالة یکون معنی : «قبل» هو معنی المشتق ؛ فیفید سبقا مطلقا ، وتقدما عاما غیر مقید بشیء ، ولا منسوبا لآخر ؛ ذلک أن من یقول : حضرت قبل مجیء القطار یرید : کان حضوری سابقا علی مجیء القطار ، متقدما بالنسبة لهذا المجیء المعیّن ؛ فسبق الحضور هنا لیس سبقا مطلقا عامّا یشمل کل الأحوال ، ولکنه سبق مقید مقصور علی حالة واحدة ؛ هی حالة مجیء القطار ؛ فالحضور سابق بالنسبة لهذه الحالة وحدها دون غیرها. أما حین یقول : حضرت «قبلا» فإن الظرف یفید السبق المطلق ، والتقدم العام ؛ فکأنّه یقول : «حضرت متقدما» ؛ أو : «سابقا» ، وهذا یشمل السبق والتقدم علی مجیء القطار ، وعلی مجیء المسافرین ، وعلی مجیء الوقت المناسب ، وعلی کل مجیء آخر من غیر تقید بحالة خاصة معینة کالحالة الأولی التی توجب التّقید بالمضاف إلیه (1). (ومثل هذا یقال فی باقی الأسماء
ص: 144
والظروف التی تناظر : «غیر») (1).
4- أما الحالة التی یبنی فیها علی الضم فحین یضاف ، ویحذف المضاف إلیه وینوی معناه ، لحاجة تدعو إلیه ؛ فیکون الظرف مبنیّا علی الضم فی محل نصب علی الظرفیة ، أو محل جرّ إن سبقته «من» (2) ...
* * *
للأسماء المحضة (التی لا تدل علی ظرفیة ؛ مثل : «حسب» وشبیهاتها من الأسماء الخالصة من الظرفیة ، الملازمة للإضافة - فی الأغلب - ...) أحکام خاصة سیجیء بیانها. وما عدا تلک الأسماء فجمیع الأحکام التی تنطبق علی الظرف : «قبل» ، تنطبق أیضا - کما قلنا - علی باقی الظروف التی یقول عنها النحاة حینا إنها نظائر : «قبل» ، وحینا إنها نظائر : «غیر» وقد سردناها (3) ، ولا خلاف بین أکثرها - فی شیء من تلک الأحکام الإعرابیة ، والأحوال الأربعة التی شرحناها : وإنما تختلف فی معانیها فلکل واحد منها معنی یؤدیه ، ودلالة معینة یحققها علی الوجه الذی سنوضحه.
فأما «غیر» و «قبل» فقد عرفنا معناهما.
* * *
وأما : «بعد» فظرف معناه - الغالب - الدلالة علی تأخر شیء عن آخر فی زمانه أو مکانه (4) ؛ ... سواء أکان التأخر حسیّا أم معنویّا ؛ فهو من
ص: 145
ظروف الزمان أو المکان الملازمة فی أغلب أحوالها - للإضافة ، ومن أمثلته قوله تعالی : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ یُحْیِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.) وقوله تعالی : (سَیَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ یُسْراً) وتطبق علیه الحالات الأربع السالفة (1) ...
وأما «فوق» فمعناه : الدلالة علی أن شیئا أعلی من الآخر حسّا أو معنی : فهو ظرف مکان ملازم للإضافة فی أکثر الحالات ، ومن أمثلته قوله : تعالی : (أَفَلَمْ یَنْظُرُوا إِلَی السَّماءِ فَوْقَهُمْ کَیْفَ بَنَیْناها وَزَیَّنَّاها ...) ، وقوله تعالی : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ ...) ، وقوله تعالی : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَهُوَ الْحَکِیمُ الْخَبِیرُ)(2) ...» ، وتنطبق علیه الحالات الأربع السالفة ...
* * *
ص: 146
وأما : «دون» فظرف مکان ملازم للإضافة فی أکثر حالاته. ومعناه الغالب الدلالة علی المکان الأقرب إلی مکان المضاف إلیه ؛ نحو : جلست دون الضیف : أی : فی أقرب مکان إلیه. وقد یستعمل فی المکان المعنوی المفضول (1) نحو : الحسن دون الأحسن ، واللاحق دون السابق ... وقد یستعمل فی عدم مجاوزة الشئ السابق علیه فی الکلام ، وعدم ترکه إلی غیره ؛ نحو : قدمت للقریب کامل العون دون تقصیر ، وأولیته صادق الرعایة دون إهمال ... وینطبق علیه ما سبق علی نظائره.
* * *
وأما الجهات الست فمعناها معروف ، هی والألفاظ الأخری التی تشارکها فی المعنی والدلالة ، وفی ملازمة الإضافة فی أکثر حالاتها ، وفی الأحکام. إلا أنّ : «عل» (2) یحتاج لمزید بیان.
* * *
عل : ظرف مکان یفید الدلالة علی العلو ، أی : الدلالة علی أن شیئا أعلی من آخر. فهو یوافق الظّرف «فوق» فی معناه ؛ وهو : «العلو» کما یوافقه فی البناء علی الضمّ حینا ، وفی الإعراب حینا آخر ، ولکن بالتفصیل التالی : الذی یوضح أوجه التخالف بینهما.
ا - یبنی «عل» علی الضم إذا کان معرفة ، (أی : دالا علی علوّ خاص معین) ، وحذف المضاف إلیه ، ونوی معناه ؛ فلابد للبناء علی الضم من اجتماع الشرطین ؛ نحو : تمتعت بالأزهار من أسفل داری ومن عل. (أی : ومن فوق). فکلمة : «عل» مبنیة علی الضم فی محل جرّ ، لأنها معرفة ، بسبب دلالتها علی شیء محدد ، جاء تحدیده وتخصیصه من قرینة کلامیة ؛ هی : أسفل الدار ، ولأن المضاف إلیه محذوف قد نوی معناه : والأصل : من عل الدار
ص: 147
المعینة ، ولا یشترط التعیین فی بناء «فوق» علی الضم.
ویعرب : «عل» وینون إذا کان نکرة ؛ (أی : إذا کان دالا علی علو مجهول ، غیر معین ، ولیس مضافا لفظا ولا معنی ...) ، نحو ، سقط الطائر من عل ، وقول امرئ القیس یصف حصانه :
مکر مفرّ مقبل مدبر معا
کجلمود صخر حطّه السیل من عل (1)
فکلمة : عل ، معربة منونة مجرورة «بمن». ومعناها فی المثالین - وأشباههما - شیء عال مرتفع بالنسبة لآخر ، ولا تخصیص ولا تعیین فی هذا الشیء المرتفع ؛ فقد یکون المراد : من فوق جبل ، أو من فوق بیت. أو شجرة ...
ب - أن «عل» لا یستعمل فی حالتی بنائه وإعرابه إلا مجرورا «بمن» دائما ؛ کالأمثلة السالفة ، وأنه لا یستعمل مضافا (2) لفظا فی أفصح الأسالیب شیوعا. ولیس الشأن کذلک فی «فوق» فإنه یستعمل کثیرا مضافا وغیر مضاف ، مجرورا «بمن» وغیر مجرور بها.
* * *
ص: 148
وأما : «حسب» فاسم لا یدل علی ظرفیة زمانیة ولا مکانیة (1). وأصحّ استعمالاته استعمالان :
أولهما : أن یکون مضافا لفظا ومعنی ؛ نحو : أعرف کتابا حسب القارئ. وفی هذا الاستعمال یکون لفظه جامدا مؤولا بالمشتق ، بمعنی : «کاف» (اسم فاعل من الفعل : کفی). فالمراد من المثال السابق : أعرف کتابا کافی القارئ ، أی : یکفیه ویغنیه عن غیره. وفی هذه الصورة یکون معربا ، مفردا نکرة ، ولا یفارق التنکیر ، ولو أضیف إلی معرفة کالمثال السابق ، وکقول الشاعر :
وما أبغی سوی وطنی بدیلا
فحسبی ذاک من وطن شریف
لأنه بمنزلة اسم الفاعل العامل : «کاف» وسم الفاعل العامل (2) لا یکتسب التعریف بالإضافة لمعرفة. کما أوضحنا من قبل (3).
ولما کان لفظ : «حسب» جامدا ، ولکنه هنا مؤول بالمشتق من ناحیة المعنی - جاز عند استعماله مراعاة لفظه ، ومراعاة معناه.
فأمّا مراعاة لفظه فتجیز معاملته معاملة الأسماء الجامدة ؛ فیقع فی کثیر من مواقعها الإعرابیة المختلفة. والصحیح الفصیح أن یقتصر من تلک المواقع الإعرابیة علی المبتدأ ، أو : الخبر ، أو : اسم الناسخ ، أو : الجر بحرف الجر الزائد : «الباء». ومن أمثلته مبتدأ البیت السالف ، وکذلک قوله تعالی فی المنافق الذی یضمر الکفر ویظهر الإیمان : (وَإِذا قِیلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ؛ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) ، ومن أمثلته خبرا قوله تعالی : «ومن یتق الله فهو حسبه» (4) ... ومن أمثلته اسما للناسخ قوله تعالی : (وَإِنْ یُرِیدُوا أَنْ یَخْدَعُوکَ فَإِنَّ حَسْبَکَ اللهُ) ومن أمثلته مجرورا بحرف جرّ زائد :
ص: 149
بحسبک (1) العلم ؛ فإنه قوة من لا قوة له. ولا یحسن وقوع «حسب» فی موقع إعرابی غیر ما سبق ، حتی لقد منعه بعض النحاة منعا باتّا ، مجاراة للکثیر المسموع.
وأما مراعاة معناه فتجیز معاملته معاملة اسم الفاعل العامل النکرة الذی بمعناه (وهو : کاف (2)) ، مع الاقتصار من مواقعه الإعرابیة علی وقوعه نعتا لنکرة ، أو حالا من معرفة ، نحو : استمعت إلی خطیب حسبک من خطیب ؛ وإلی «شوقیّ» حسبک من شاعر.
وموجز القول : أنّ : «حسب» إذا أضیف لفظا ومعنی جاز وقوعه مبتدأ ، وخبرا ، واسما للناسخ ، ومجرورا بالباء الزئدة ، وصفة للنکرة ، وحالا من المعرفة ...
ثانیهما : أن یکون : «حسب» مضافا معنی لا لفظا (وذلک بأن یحذف المضاف إلیه وینوی معناه فقط). وفی هذا الاستعمال یکون لفظه جامدا مؤولا بالمشتق ، ومفردا منکّرا مبنیّا علی الضم ، ویتضمن النفی فیصیر المراد منه : «لیس غیر» أو : «لا غیر» ، ویقع صفة لنکرة ، أو : حالا من معرفة أو : مبتدأ بشرط اقترانه بالفاء ، أو : خبرا. ولیس له - فی الفصیح - موقع آخر ؛ نحو : إن لکل إقلیم حاضرة حسب ، بمعنی : لا غیر (3). وهی صفة «لحاضرة». مبنیة علی الضم فی محل نصب. ونحو : اتسعت الحدیقة حسب (4) أی : لا غیر. وهی حال مبنیة علی الضم فی محل نصب ... ونحو : قرأت ثلاثة کتب ، فحسب. أی : لیس غیر. ویقولون فی هذه «الفاء» إنها زائدة :
ص: 150
لتزیین اللفظ (1) و «حسب» مبتدأ مبنی علی الضم فی محل رفع ، حذف خبره. والأصل : فحسب الثلاثة مقروء ؛ بمعنی : لا غیر الثلاثة مقروء. ویجوز العکس بشرط حذف الفاء فیکون المبتدأ هو المحذوف ، والتقدیر : المقروء حسب ... ، أی : المقروء حسبی مثلا.
وبسبب الاستعمال الأول دخل : «حسب» فی عداد الأسماء الملازمة للإضافة فی أغلب استعمالاتها. وبسبب الاستعمال الثانی - وهو : البناء - دخل فی عداد النظائر التی تشبه «غیر» و «قبل» ، لأنه قطع عن الإضافة لفظا لا معنی.
* * *
وأما : «أوّل» - فله استعمالات أشهرها ثلاثة :
1- أن یکون اسما لا ظرفیة فیه ، معناه : إمّا مبدأ الشیء الذی یقابل آخره ، نحو : أوّل الغیث قطر ثم ینهمر ، أی : بدایته التی هی ضد نهایته. ومن هذا قول الشاعر :
عرف الناس أنّ حاتم طیّ
أوّل فی الندی ، وأنت الثانی
وإما معنی کلمة : «قدیم» الذی یقابل معنی حدیث ؛ نحو : بیت المقامر خلو (2) ؛ لیس فیه أول ولا آخر. أی : لیس فیه قدیم ولا حدیث. وإما متضمنا معنی کلمة : «سابق» ، أی : «متقدم» الدالة علی الوصف ، نحو : تنقلت فی البلاد عاما أولا (3) ، أی : عاما سابقا أو متقدما من غیر
ص: 151
تعیین ولا تخصیص للعام السابق. وفی هذه الصورة یکون مؤولا بالمشتق ، وهو اسم الفاعل هنا.
ولفظ «أول» فی کل ما سبق معرب منصرف.
2- أن یکون اسما جامدا لا ظرفیة فیه ، ولکنه مؤول بالمشتق (1) ، یتضمن معنی کلمة : «أسبق» الدالة علی التفضیل. وهو فی هذا الاستعمال معرب ، تطبّق علیه أحکام «أفعل التفضیل» ؛ کمنع الصرف للوصفیة ووزن الفعل. وکدخول «من» جارة للمفضّل علیه ، وکعدم تأنیثه بالتاء «... و ... وغیر هذا مما یجیء فی باب «التفضیل» (2) ؛ نحو : أنت فی الإحسان أول من هذین الزمیلین ، أی : أسبق منهما.
3- أن یکون ظرفا للزمان بمعنی : «قبل» الزمانیة ؛ کقولک لمن یدعی أنه رأی النجم قبل غیره : أنا رأیت النجم أول الراصدین ، ثم رأوه بعدی. أی : قبلهم. وفی هذا الاستعمال یجری علی لفظ «أول» الأحکام الأربعة السابقة التی تجری علی «غیر» و «قبل» ونظائرهما.
ا - فیعرب : «أول» إذا کان مضافا لفظا ومعنی ؛ نحو أسرعت للصارخ أول المستمعین ، ثم توالوا بعدی.
ب - ویعرب أیضا إذا کان مضافا ، وحذف المضاف إلیه ، ونوی لفظه نصّا ، نحو : أسرعت للصارخ أول ...
ح - ویعرب أیضا إذا حذف المضاف ولم ینو لفظه ولا معناه ؛ نحو : أسرعت للصارخ أولا. (ویکون المراد هنا : المعنی الاشتقاقی المجرد ، علی الوجه الذی أوسعنا الکلام فیه (3). أی : سابقا ، متقدما).
ص: 152
- تتصدی المراجع اللغویة والنحویة لبعض الأسالیب المشتملة علی لفظ «أول» وتوضح معناه ، وموقعه الإعرابی فی کل أسلوب. ومع تنوع تلک الصور ، وکثرة الآراء والاضطراب فیها ، نستصفی منها ما یأتی ، لیکون معینا علی فهم غیره فی ضوء القواعد النحویة العامة ، والأصول اللغویة المختلفة ، ومن الجائز توجیه الصور الآتیة توجیهات معنویة وإعرابیة أخری.
1- «ودعت الغائب منذ عام أول» ، یجوز فی کلمة : «عام» أن تکون خبرا مرفوعا عن «منذ» - وکلمة : «أول» صفة لها ، فکأن الکلام : ودعت الغائب منذ عام أول من عامنا الحاضر ، أی : منذ عام سابق علی عامنا الحالیّ.
2- ودعت الغائب منذ عام أول ... فکلمة : «أول» ظرف زمان بمعنی : «قبل». والمراد : ودعت الغائب منذ عام قبل العام الحالیّ ، فحذف المضاف إلیه ، ونوی لفظه ، فبقی المضاف ؛ وهو کلمة : «أول» علی حاله من الضبط الذی کان علیه قبل الحذف. (تطبیقا لما مر من أحکام «قبل ، وبعد» ونظائرهما ...) ، فهو ظرف زمان منصوب علی الظرفیة مباشرة.
3- ابدأ یومک بالصلاة أول. فکلمة : «أول» ظرف زمان بمعنی : «قبل» مبنیة علی الضم فی محل نصب علی الظرفیة. والأصل : ابدأ یومک بالصلاة أول الأعمال ، أی : قبل الأعمال الأخری ، فحذف المضاف إلیه ، ونوی معناه ، فبنی علی الضم وجوبا ؛ تطبیقا لأحکام «قبل وبعد» المشار إلیها ... فإن ظهر المحذوف وجب النصب علی الظرفیة الزمانیة ، نحو : ابدأ یومک بالصلاة أول الأعمال ، أی : قبل الأعمال ... کما سبق ...
4- ما رأیت الأخ مذ أمس (1). أی : مذ ابتداء الیوم الذی قبل یومنا الحاضر ، فإن لم أره یوما آخر قبل الأمس قلت : ما رأیت الأخ مذ أول من أمس. فکلمة : «أول» خبر المبتدأ «مذ» والمعنی : ما رأیت الأخ مذ الأول من أمس ،
ص: 154
أی : مذ الیوم الأسبق من أمس ، وهو الیوم المعین المعروف ، الذی یسبق أمس مباشرة.
فإن لم أره یومین قبل الأمس قلت : لم أره مذ أول من أول من أمس. (ولا یصح أن أزید علی الیومین قبل الأمس). فکلمة : «أول» الأولی خبر ومعناها : الأسبق أیضا. وکلمة : «أوّل» الثانیة مجرورة بالفتحة ، ممنوعة من الصرف ؛ ومعناها : أسبق. والمراد : لم أره منذ یوم أسبق من یوم آخر أسبق من أمس (1).
ونعود فنشیر مرة أخری إلی جواز أوجه معنویة وإعرابیة غیر ما عرضناه.
* * *
ب - أشرنا من قبل (فی ج 2 م 79 ص 267 - باب الظرف) إلی ما تسجله المراجع النحویة من الکلام علی أصل لفظ «أوّل» وأن أصله : «أوءل» بهمزة بعد الواو ، بدلیل جمعه علی «أوائل». فقلبت الهمزة الثانیة واوا ، وأدغمت هذه الواو فی الأولی. وقبل : أصله : «ووأل» ، قلبت الهمزة واوا ، وأدغمت فی الواو قبلها. وقلبت الواو الأولی همزة ، ولم یجمع علی «ووائل» فرارا من ثقل اجتماع الواوین فی أول اللفظ.
ولا شک أن هذه کلها فروض خیالیة ، لا یعرفها العرب. ولکن النحاة ابتکروها للوصول إلی أغراض نافعة ؛ کمعرفة أصول الکلمة وزوائدها ، وتطبیق أحکام الإعلال والإبدال علیها ، والاهتداء إلی الکشف عن معناها فی المراجع اللغویة ... و ... وهذا حسن.
* * *
ح - وهل یستلزم ذکر الأول وجود ثان؟ الصحیح أنه لا یستلزم. إلا إن وجدت قرینة تدل علی وجود ثان بعد الأول (2) ...
* * *
ص: 155
د - «ملاحظة» : رأی بعض النحاة (1) تقسیم الاسم من ناحیة إضافته وعدم إضافته ، تقسیما موجزا ، ولکنه شامل ، وملخصه :
1- ما تجب إضافته للمفرد الظاهر أو المضمر إضافة لفظیة ، ویصح قطعه عن الإضافة لفظا ، وهو : غیر ، ومع ، والجهات ، ونحوها ؛ کلفظة «کلّ» التی لیست للتوکید ولا للنعت.
2- ما تجب إضافته للمفرد الظاهر أو المضمر إضافة لفظیة ، ولا یصح قطعه ؛ مثل : کلا ، وکلتا ، عند.
3- ما تجب إضافته للمفرد الظاهر ولا یصح قطعه ؛ وهو : أولو - أولات - ذو ، ذات وفروعهما ؛ کذوا ، وذوات ... - «کلّ» التی تعرب نعتا.
4- ما تجب إضافته لفظا للضمیر مطلقا - مخاطبا أو غیر مخاطب - مثل : وحد ، وکلّ ، التی للتوکید.
5- ما یجب إضافته لضمیر المخاطب ؛ مثل : لبیک ، وأخواتها ... ولا یجوز القطع.
6- ما تجب إضافته للجملة مطلقا (أی : اسمیة أو فعلیة) ولا یقطع عنها ، وهو : حیث. فإنها لا تضاف فی الأعم الأغلب إلا للجملة ، ولا یصح قطعها عن الإضافة.
7- ما تجب إضافته للجملة مطلقا مع صحة جواز قطعه عن الإضافة لفظا ؛ وهو «إذ».
8- ما تجب إضافته لفظا للجملة الفعلیة - دون غیرها - وهو : «إذا» وأیضا «لمّا» الحینیة عند من یقول باسمیتها.
9- ما تمتنع إضافته ، کالضمائر ، وأسماء الإشارة ، وکذلک غیر «أیّ» من أسماء الشرط ، والاستفهام ، والموصول.
10- ما یجوز إضافته وعدم إضافته ، وهو بقیة الأسماء الأخری التی لا تدخل تحت قسم مما سلف ، وهی الأکثر.
ص: 156
1 - یجوز حذف المضاف حذفا قیاسیّا ، بثلاثة شروط :
أولها : وجود قرینة تدل علی لفظه نصّا ، أو لفظ آخر بمعناه ، بحیث لا یؤدی حذفه إلی لبس أو تغییر فی المعنی ؛ نحو : حدثتنی التجارب أن من یبغی بسلاح الباطل یقتل بسلاح الحق. والأصل : حدثنی أهل التجارب ... والقرینة الدالة علی المضاف المحذوف قرینة عقلیة ، هی أن التجارب لا تتحدث ، وإنما الذی یتحدث : أصحابها والمتصلون بها ... فلابد لصحة المعنی الحقیقی - لا المجازیّ - من تقدیر مضاف محذوف ، وهو مع حذفه ملحوظ. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَجاءَ رَبُّکَ ...)، وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ ...)، وقوله :(لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...)، والأصل : وجاء رسول ربّک - واسأل أهل القریة - ولکن البرّ برّ من آمن بالله(1) - ...
فإن أوقع حذفه فی لبس أو تغییر فی المعنی لم یجز. کقول شوقی : «ذکروا للبخل مائة علة ، لا أعرف منها غیر الجبلّة ...» فلا یجوز حذف المضاف ؛ وهو کلمة : «مائة» ، أو کلمة : «غیر» ؛ لأن حذف الأولی یوقع فی لبس وغموض ؛ إذ لا دلیل علی المحذوف بنصه أو بمعناه. فلا ندری أهو کلمة : مائة ، أم ألف ، ... ، أم غیر ذلک؟ وحذف الثانیة یفسد المعنی فسادا کاملا ، لأنه یؤدی إلی نقیض المطلوب ، فمثل هذا الحذف لا یجوز قیاسا ، ویجب الاقتصار فیه علی المسموع من العرب الأوائل وحدهم. ومنه
ص: 157
حذف کلمة «ابن» فی قول الشاعر :
لا تلمنی - عتیق - حسبی الّذی بی
إنّ بی - یا عتیق - ما قد کفانی
یرید : یابن أبی عتیق (1).
ثانیها : أن یقوم المضاف إلیه مقام المضاف المحذوف ، ویحل محله فی الإعراب - وهذا هو الغالب (2) - فیکون فاعلا مکانه فی مثل قوله تعالی : (وَجاءَ رَبُّکَ.) والأصل کما قلنا : وجاء رسول ربک ؛ فحذف الفاعل المضاف ، وحلّ فی مکانه المضاف إلیه ، وصار فاعلا مرفوعا.
وقد یکون مفعولا به ، کقوله تعالی : (وَأُشْرِبُوا فِی قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، والأصل : حبّ العجل ، فحذف المضاف المفعول به ، وحل محله المضاف إلیه ، وصار مفعولا به منصوبا ، وقد یکون مفعولا مطلقا ؛ نحو قول الشاعر :
ألم تغتمض عیناک لیلة أرمدا (3)
وبتّ کما بات السّلیم (4)
مسهّدا
والأصل : ألم تغتمض عیناک اغتماض لیلة أرمد ، فحذف المضاف وهو المفعول المطلق ، وحل محله المضاف إلیه ؛ وهو کلمة : «لیلة» ؛ فصارت مفعولا مطلقا (5) بدله.
وقد یکون مبتدأ ، نحو قوله تعالی : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ...) أی : زمن الحج ، أو موسم الحج ...
وقد یکون خبرا للمبتدأ ؛ کقولهم : شرّ المنایا میّت بین أهله ، أی : منیة میت بین أهله (6).
ص: 158
وقولهم فی وصف الدنیا : «هی إقبال وإدبار». والأصل : هی ذات إقبال ... ، أو خبرا للناسخ ، کقوله تعالی فی الآیة السالفة : (وَلکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...).
وقد یکون ظرفا ؛ نحو : وصلت إلی عملی طلوع الشمس. أی : وقت طلوع الشمس. أو مفعولا لأجله ؛ نحو : أطعت الوالد إرضاءه ، أی : قصد إرضائه. أو : مفعولا معه ، نحو : رجعت للبیت واللیل ، أی : ومجیء اللیل. أو حالا ، نحو : تفرق الأعداء أیادی سبأ ، والأصل : مثل أیادی (1) سبأ ... أو : صفة ؛ نحو : سخرت من قوم أیادی سببأ. أی : مثل أیادی ... أو مجرورا ؛ کقوله تعالی : (وَمَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللهِ فِی شَیْءٍ) أی : من مرضاة الله ... وقول الشاعر (2) :
وکیف تواصل من أصبحت
أی : کخلالة أبی مرحب ... ، فحذف المضاف فی کل هذا - وأشباهه - وحل المضاف إلیه محله فی اسمه الإعرابی ، وحرکته الإعرابیة ...
ومن الجائز أن یحذف المضاف ، ویبقی المضاف إلیه علی حاله من الجر من غیر أن یقوم مقام المحذوف فی موقعه الإعرابی وحرکته. ولکن هذا قلیل بالنسبة للأول (5). ویشترط لصحته ، والقیاس علیه شرطان :
ص: 159
أحدهما : أن یکون المضاف المحذوف معطوفا علی کلمة مضافة مذکورة ، تماثله (لفظا ومعنی ، أو معنی فقط) ، أو تقابله (1) ، لتکون دلیلا علیه بعد حذفه ،
والآخر : أن یکون حرف العطف متصلا بالمضاف إلیه ، - الذی حذف قبله المضاف - أو منفصلا منه «بلا» النافیة ؛ إن اقتضاها المعنی ؛ نحو : کل فتی محاسب علی عمله ، وفتاة علی عملها. والأصل : وکل فتاة. فحذفت کلمة : «کل» الثانیة : وهی المضاف ؛ بعد أن تحقق شرطا (2) الحذف (وهما : الاتصال ، وعطفها علی نظیرتها فی اللفظ والمعنی) ؛ وهی : «کل» الأولی (3).
ونحو قول الشاعر :
أکلّ امرئ تحسبین امرأ؟
باللیل نارا؟
أی : وکلّ نار ... ومثال الفصل بینهما «بلا» النافیة قول الشاعر :
ولم أر مثل الخیر یترکه الفتی
ولا الشّر یأتیه امرؤ وهو طائع
ص: 160
أی : ولا مثل الشرّ. وقولهم : ما کلّ سوداء فحمة ، ولا بیضاء شحمة. أی : ولا کل بیضاء شحمة (1) ، ویری بعض النحاة عدم اشتراط الاتصال ، وهو رأی فیه تیسیر وتوسعة ، لا مانع من الأخذ به ، برغم أنه لیس الأفصح الأعلی.
ومثال المحذوف المعطوف علی مذکور لا یماثله وإنما یقابله ، قراءة من قرأ قوله تعالی : (تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا ، وَاللهُ یُرِیدُ الْآخِرَةَ)(2).
ثالثها : أن یکون المضاف إلیه من الأشیاء التی تصلح لأن تحل محل المضاف المحذوف فی إعرابه ؛ کالأمثلة السالفة ، فلا یصح حذف المضاف إذا کان المضاف إلیه جملة ؛ (لأنها لا تصلح فاعلا ، ولا مفعولا ، ولا مبتدأ ...
و ... و ...) کالتی فی قوله تعالی : (فَسُبْحانَ اللهِ حِینَ تُمْسُونَ وَحِینَ تُصْبِحُونَ ...)، فالمضاف إلیه هو الجملة الفعلیة. والمضاف هو : کلمة «حین» ولا یجوز الحذف (3).
فإذا لم یتحقق شرط أو أکثر ، من الشروط الثلاثة لم یصح الحذف القیاسیّ (4).
* * *
ص: 161
ا - إذا حذف المضاف ، بعد تحقق الشروط الثلاثة المطلوبة جاز - وهو الأکثر - عدم الالتفات علیه عند عودة الضمائر ، ونحوها مما یقتضی المطابقة ؛ (کالتعریف والتنکیر ، والإفراد ، وغیره ...) فکأنه لم یوجد ، ویجری الکلام علی هذا الاعتبار. وجاز مراعاته کأنه موجود مع حذفه. وقد اجتمع الأمران فی قوله تعالی : (وَکَمْ مِنْ قَرْیَةٍ أَهْلَکْناها فَجاءَها بَأْسُنا (1) بَیاتاً (2) ، أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (3). والأصل : وکم من أهل قریة ... فرجع الضمیر : «ها» : مؤنثا إلی القریة. ورجع الضمیر : «هم» مذکرا لاعتبار المحذوف وملاحظته. ولا تناقض بین الاثنین لاختلاف الوقت.
ومن ملاحظة المحذوف قول حسّان فی مدح الغسّانیین :
یسقون من ورد البریص (4)
علیهمو
ص: 162
یرید : ماء بردی. والضمیر فی : «یصفّق» مذکر ، إذ لوحظ فی مرجعه المحذوف أنه مذکر.
ومن ملاحظة المحذوف المؤنث وعود الضمیر علیه مؤنثا دون اعتبار للمذکور قول الشاعر :
مرّت بنا فی نسوة حفصة
والمسک من أردانها (1)
نافحه
أی : رائحة المسک فائحة من أکمامها (2) ...
2- قد یحذف مضافان أو أکثر فیقوم الأخیر مقام الأول. فمثال حذف مضافین قوله تعالی : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَکُمْ أَنَّکُمْ تُکَذِّبُونَ ...) الأصل : وتجعلون بدل شکر رزقکم تکذیبکم ؛ فحذف کلمتی : «بدل - وشکر» ، وکلاهما مضاف ، وأقام المضاف إلیه الأخیر وهو ؛ «رزق» - مقام الأول ؛ وهو : «بدل».
ومثال حذف ثلاثة قوله تعالی عن الرسول الکریم وأن جبریل اقترب منه : (ثُمَّ دَنا (3) فَتَدَلَّی (4) ؛ فَکانَ قابَ (5) قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی) (6) ،
ص: 163
والأصل : فکان الرسول قدر مسافة قرب قاب قوسین. فکلمة : «الرسول» المحذوفة اسم کان ، والضمیر حلّ محلها ، وصار هو الاسم. وحذفت المضافات الثلاثة : (قدر - مسافة - قرب -) وحلّ المضاف إلیه الأخیر ، (وهو کلمة : قاب) ، محل المضاف إلیه الأول ، (وهو : قدر) وصار خبرا مکانه.
* * *
ص: 164
ب - یجوز حذف المضاف إلیه ، ولهذا صور ثلاث (1) :
الأولی : أن یحذف المضاف إلیه ، وینوی معناه ؛ فیبنی المضاف علی الضم (ولا یصح أن یکون معربا ، ومنونا). وهذه الصورة تتحقق حین یکون المضاف کلمة : «غیر» أو ظرفا من الظروف الدالة علی الغایة مثل : قبل - بعد ، ... أو اسما آخر یشبهها ؛ مثل : حسب ... وسواها مما سردناه وشرحناه قریبا (2) ؛ نحو : استشار المریض الطبیب لیس غیر ، ولم یستمع لأحد قبل. والأصل - مثلا - : لیس أحد غیر الطبیب ، ولم یستمع لأحد قبل الطبیب. فلما حذف المضاف إلیه ونوی معناه بنیت «غیر» ، و «قبل» علی الضم ...
الثانیة : أن یحذف المضاف إلیه ولا ینوی لفظه ولا معناه ، فیرجع المضاف إلی حالته الإعرابیة قبل الإضافة ، ویردّ إلیه ما حذف للإضافة ؛ کالتنوین ... و ... فکأنّ الکلام فی أصله خال من الإضافة ؛ نحو قوله تعالی : (وَکُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنی)، أی : وکلّ فریق. وقوله تعالی : (أَیًّا ما تَدْعُوا (3) فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی) ، ونحو : تشعبت فروع التخصص فبعض زراعی ، وبعض طبیّ. وبعض هندسیّ ... أی : فبعض الفروع ...
ویتحقق هذا فی الأسماء بنوعیها : التامة (4) وغیر التامة (ولا سیما ما کان منها دالّا علی الإحاطة والشمول ، أو البعضیة ؛ کما فی الأمثلة).
الثالثة : أن یحذف المضاف إلیه وینوی ثبوت لفظه ؛ فیبقی المضاف علی حاله التی کان علیها قبل الحذف ؛ فلا یتغیر إعرابه ، ولا یرد إلیه ما حذف
ص: 165
للإضافة - کالتنوین ... وإنما تظل أحکام الإضافة ساریة بعد الحذف کما کانت قبله.
ویشترط فی المضاف المذکور إن کان اسما تامّا (1) أن یعطف علیه اسم عامل فی لفظ مشابه للمضاف إلیه المحذوف فی صیغته ومعناه ؛ لیدل علی المحذوف نصّا ؛ فیکون فی قوة المذکور ، نحو : أنفقت ربع ونصف المال ، أی : أنفقت ربع المال ونصف المال. فحذف المضاف إلیه الأول بعد تحقق الشرط المطلوب ، وهو وجود اسم معطوف : (نصف) وهذا المعطوف عامل فی لفظ آخر (نعنی به : المال) وهو مشابه للمحذوف فی صیغته ومعناه ؛ فاستغنینا بالمذکور عن المحذوف ؛ أی : أن المضاف إلیه الثانی دل علی الأول المحذوف (2) ، ومثل قول الشاعر :
سقی الأرضین الغیث سهل وحزنها (3)
الآمال بالزرع والضّرع (6)
أی : سهلها وحزنها. وقول الفرزدق :
یا من رأی عارضا یسرّ به
بین ذراعی وجبهة الأسد
ص: 166
أی : بین ذراعی الأسد ، وجبهة الأسد. ولا فرق فی المعطوف العامل بین أن یکون مضافا یعمل الجر فی المضاف إلیه - کالمثالین السالفین ، - وأن یکون عاملا آخر غیر مضاف ؛ نحو ، قول الشاعر
علّقت آمالی فعمّت النعم
بمثل أو أنفع من وبل (1)
الدّیم (2)
أی : بمثل ، أو : بأنفع (3) ...
وقد یحذف المضاف إلیه (4) ویبقی المضاف علی حاله إذا کان هذا المضاف معطوفا علی مضاف إلی مثل المحذوف ، - وهذه الصورة عکس السابقة - ومنها الحدیث الذی رواه البخاریّ عن أحد الصحابة ونصه : غزونا مع رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم) سبع غزوات وثمانی ، بفتح الیاء بغیر تنوین. والأحسن الاقتصار فی هذ النوع علی المسموع.
* * *
ح - إذا وقع بعد المرکب الإضافی (کعبد العزیز - وشمس الدین - وسیف الله ... وأنواع العلم الکنیة ...) نعت (5) ، فهو للمضاف ؛ لأن المضاف
ص: 167
هو المقصود الأساسیّ بالحکم ، أما المضاف إلیه فهو قید له - کما تقدم (1) - ویستثنی من هذا الحکم حالتان :
الأولی : أن یقوم دلیل علی أن المقصود بالنعت هو المضاف إلیه ؛ نحو : أسرع إلی معاونة الصارخ الملهوف ، ولا تتوان فی بذل الجهود الصادقة لإنقاذه.
الثانیة : أن یکون المضاف هو لفظة : «کلّ» (2) ، فالأحسن فی هذه الحالة مراعاة المضاف إلیه ؛ لأنه المقصود الأساسیّ. أما المضاف : «کلّ» فجیء به لإفادة الشمول والتعمیم ؛ نحو : کل فتاة مهذبة هی دعامة لرقیّ وطنها ، وإسعاد أهلها ... ومراعاة المضاف : «کلّ» ضعیفة هنا.
وتطبیقا علی ما سلف یعرض النحاة (3) لإعرب بعض النعوت ؛ فیجیزون فی کلمة : «الأعلی» من قوله تعالی : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی) أن تکون نعتا لکلمة : «اسم» ، أو لکلمة : «رب» لأن الغرض هو تنزیه المسمی (أی : المولی جل شأنه). ولا مانع أن یکون الغرض تنزیه اسمه عن الأوصاف والتأویلات التی لا تلیق بهذا الاسم المعظّم ، وعن إطلاقه علی غیره سبحانه ...
وأما نحو : جاءنی رسول علیّ الظریف ... فالنعت للمضاف ، ولا یکون للمضاف إلیه. إلا بدلیل ؛ لأن المضاف إلیه جاء لغرض التخصیص. ولم یجیء لذاته. بخلاف النعت فی مثل : و «کلّ فتی یتّقی فائز» ... فإن النعت للمضاف إلیه ؛ لأن المضاف جاء لإفادة التعمیم ، لا للحکم علیه. وغیر هذا ضعیف ، ما لم تقم قرینة توجّه إلیه بغیر لبس ولا خفاء - کما أسلفنا -. «ملاحظة» - إذا کان العلم کنیة - والکنیة لا تکون إلا مرکبا إضافیّا - وجاء تابع له من نعت ، أو غیره ، وجب مراعاة ما یأتی فی «ا» من ص 444.
ص: 168
تقتضی الإضافة أحکاما عامة عرفناها فی بابها (2). وفی مقدمة تلک الأحکام : إعراب المضاف علی حسب حاجة الجملة التی یکون فیها ، وجرّ المضاف إلیه دائما ... و ...
لکن الإضافة لیاء المتکلم تستلزم أحکاما أخری فی ضبط یاء المتکلم ؛ وضبط الحرف الذی قبلها من آخر المضاف (3). وفیما یلی البیان : أولا (4) - : یجب کسر آخر المضاف ، وبناء یاء المتکلم علی السکون أو الفتح فی محل جرّ ، فی أربع حالات :
1- أن یکون المضاف اسما مفردا صحیح (5) الآخر ؛ ککلمة : «نفس» ، و «وطن» و «روح» ، و «مال» فی نحو : وقفت نفسی علی خدمة وطنی ، وسأبذل روحی ومالی فی حمایته ، وقول الشاعر :
أأکذب عامدا من أجل مال؟
فلیس بنافعی - ما عشت - مالی (6)
وإعراب المضاف فی هذا النوع کالذی یلیه ؛ وسیأتی البیان.
ص: 169
2- أن یکون المضاف اسما مفردا معتلا شبیها بالصحیح (1) ککلمة «صفو» و «بغی» فی مثل : لا یؤلمنی ویکدّر صفوی کبغیی علی الناس ، ولا سیما الضعفاء.
ونقول فی إعراب المضاف فی هذا النوع وما قبله فی حالة الرفع : إنه مرفوع بضمة مقدرة (2) ، منع ظهورها الکسرة العارضة لمناسبة الیاء ، نحو : علمی وحده أنفع لی من مالی وحده - صفوی یکدره بغیی ..
ونقول فی حالة النصب : إنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الکسرة العارضة لمناسبة الیاء ؛ نحو : إنّ أخی الحقّ من یزید صفوی! ویمنع بغنی.
أما فی حالة الجرّ - نحو : (أتعلم من تجاربی مالا أتعلمه من کتبی - الصوت العذب یخفف من شجوی ..) فقد نقول : إنه مجرور بکسرة مقدرة علی آخره منع ظهورها الکسرة العارضة لمناسبة الیاء ، أو نقول : إنه مجرور بالکسرة الظاهرة
ص: 170
مباشرة ، ولا داعی لتقدیر کسرة مع وجود أخری ظاهرة. وهذا أنسب (1) ، لبعده من التکلف والتعقید. والأخذ به أولی فی هذه الصورة وأشباهها ؛ لأنه یغنینا عن التقدیر قدر الاستطاعة.
3- أن یکون المضاف جمع تکسیر صحیح الآخر ؛ مثل کلمة : «رفاق» فی نحو : تخیرت رفاقی ممن طابت سریرتهم ، وحسنت سیرتهم. وإعرابه - رفعا ، ونصبا ، وجرّا - کسابقه.
4- أن یکون المضاف جمع مؤنث سالما ؛ نحو : تسابقت زمیلاتی فی میادین العمل النافع - أکبرت زمیلاتی - أعرف لزمیلاتی حقهن فی الإکبار ... وحکمه : الرفع بضمة مقدرة منع من ظهورها الکسرة العارضة. والنصب والجر بالکسرة الظاهرة ؛ طبقا للرأی الأسهل ، أو بالکسرة المقدرة التی منع من ظهورها الکسرة العارضة ، طبقا للرأی الآخر.
ص: 171
1 - إذا کانت الإضافة محضة جاز فی الحالات السابقة واحد من أمور أربعة أخری :
إما حذف یاء المتکلم ، مع بقاء الکسرة التی قبلها لتدل علیها ، وإما قلب الکسرة التی قبل الیاء فتحة ، وقلب یاء المتکلم ألفا ؛ ففی نحو : «نفسی ووطنی» من المثال السابق (1) نقول : وقفت نفس علی خدمة وطن ، (2) أو : وقفت نفسا علی خدمة وطنا ..
وإما حذف هذه الألف مع بقاء الفتحة التی قبلها دلیلا علیها ؛ نحو وقفت نفس علی خدمة وطن.
وإما حذفها ومجیء تاء التأنیث (3) عوضا عنها : بشرط أن یکون المضاف منادی ، ولفظه : «أب» ، أو : «أم» - نحو : یا أبت ، یا أمّت (4) ... ولا یجوز الجمع بین التاء والیاء.
وکل ما تقدم بشرط أن یکون أمر الیاء المنقلبة ألفا أو المحذوفة - واضحا ، فلا یحدث لبس أو فساد للمعنی بسببه. وبالرغم من جواز هذه الأمور الأربعة وصحتها عند تحقق هذا الشرط فالأفضل - الیوم - التخفف منها ومن محاکاتها ؛ لأنها - مع صحتها وجوازها - لا تخلو من غموض وخفاء یتنافیان مع الغرض الصحیح من اللغة ، واستخدامها أداة بیان وإیضاح. وحسبنا فهم ما ورد بها من الکلام القدیم ؛ ولهذا نعرضها.
ص: 172
فإن کانت الإضافة غیر محضة مثل : «مصاحب» ؛ فی نحو : الوالد مصاحبی غدا فی الرحلة ، - لم یجز شیء من هذه الأمور الأربعة. ووجب إثبات یاء المتکلم مع بنائها علی السکون - وهو الأکثر - أو علی الفتح ، وکسر ما قبلها فی الحالتین ؛ لأن الکسرة هی التی تناسبها.
* * *
ب - النحاة یعتبرون الإضافة لیاء المتکلم المذکورة فی الجملة نصّا ، نوعا من «الإضافة الظاهرة». ویسمون الإضافة إلی یاء المتکلم المنقلبة ألفا ؛ أو المحذوفة بعوض أو بغیر عوض - «الإضافة المقدرة» (1).
* * *
ح - یدخل فی حکم الصحیح عند إضافته لیاء المتکلم الأسماء الخمسة الآتیة : (أب - أخ - حم - فم - هن) ، ودخولها قائم علی الرأی الشائع الذی یحسن الاقتصار علیه عند إضافتها ، وهو یقضی بعدم إرجاع الحرف الأخیر المحذوف من تلک الأسماء ، وباعتباره عند إضافتها کأن لم یکن ؛ فهی أسماء معربة بحرکات مقدرة علی ما قبل یاء المتکلم منع من ظهورها کسرة المناسبة. فبالرغم من أن أصلها : (أبو - أخو - حمو - هنو - فوه ... - بالرغم من ذلک الأصل نقول - فی الرأی الشائع - عند إضافتها : أبی - أخی - حمی - هنی - فی ... بزیادة یاء المتکلم ، مبنیة علی السکون ، مع کسر ما قبلها.
أما «ذو» التی تعرب إعراب الأسماء الخمسة السابقة فلا یصح إضافتها لیاء المتکلم - کما سبق فی بابها ، ج 1 ص 70 م 8 -
وهناک رأی آخر ؛ لا یحسن الأخذ به ، وإنما نذکره - کالمعتاد فی أمثاله - لنفهم به ما ورد مما ینطبق علیه فی الکلام المأثور ، دون محاکاة ، وهو رأی مستنبط من بضعة أمثلة قلیلة مسموعة عن بعض قبائل. ومقتضاه : وجوب إرجاع الحرف المحذوف من تلک الأسماء الخمسة عند إضافتها ، وتسکینه ، واعتبار الاسم المضاف بعد إرجاع المحذوف وتسکینه ، نوعا من المعتل الآخر یجب معه بناء یاء المتکلم علی
ص: 173
الفتح ، وقلب حرف العلة الذی قبلها یاء ساکنة تدغم فی یاء المتکلم المبنیة علی الفتح (1) وعلی هذا تکون الأسماء السالفة المضافة معربة بحرکات مقدرة ، منع من ظهورها السکون الذی فوق الیاء الأولی ، وهو السکون الآتی للإدغام ، ولا یصح أن تکون فی حالة الرفع مرفوعة بالواو - کالشأن فی الأسماء الخمسة ، لأن شرط إعراب الأسماء الخمسة بالحروف ألا تکون مضافة لیاء المتکلم. والذین یقولون إن المحذوف من کلمة : «فم» یاء ، لاواو ، یرجعون هذه الیاء ویدغمونها فی یاء المتکلم (2) ، ، ولا یختلف الإعراب هنا عن سابقه.
(وستجیء إشارة لبعض ما سبق فی باب المنادی المضاف لیاء المتکلم - ج 4 ص 43 م 131).
* * *
د - بمناسبة ما سبق من الکلام علی إضافة الاسم المعتل الآخر بالواو المحذوفة ... لم أر فیما بین یدی من المراجع حکما للاسم المعرب المعتل الآخر بالواو الثابتة عند إضافته لیاء المتکلم (3). ولعل السبب أن هذا النوع من الأسماء المعتلة لا یعرفه العرب الأقدمون ؛ إذ لم برد منه إلا بضع کلمات معربة ؛ تکاد لا تزید علی ثلاثة ، لهذا لم یدخله النحاة فی اعتبارهم عند تقسیم الاسم المعتل الآخر وأحکامه ؛ فقسموه إلی المعتل بالألف ، وإلی المعتل بالیاء ، وترکوا الاسم المعتل الآخر بالواو (4).
لکنا الیوم لا نستطیع إهماله ؛ لشیوعه بیننا ، وکثرة التسمیة به ، فمن أسماء الناس المتداولة : حمیدو - زندو - زوغو - رومیو - غالیلیو - کاسترو - ...
ص: 174
ومن أسماء البلاد المشهورة : أدکو - أدفو - وهما بلدان مصریان - أرکنو (اسم واحة مصریة) - کزمو - طوکیو - برنیو - کنغو - إکوادورو ... ولا شک أن الحاجة. قد تدعو إلی إضافة اسم من هذه الأسماء وأشباهها - إلی یاء المتکلم ، فما الحکم الذی یختار للتطبیق هنا؟
قد یکون بإضافة یاء المتکلم إلی آخر الاسم مباشرة مع إبقاء الواو ساکنة ، مراعاة لأصلها ، ودلالة علیه ؛ (لأن تحریکها بالکسر یبعد الذهن عن إدراک هذا الأصل ، ویوقع فی اللبس) ؛ فنقول حمیدوی - زندوی ... و .. ولکن فی هذا الرأی - مع توضیحه المراد - مخالفة لقاعدة الإعلال التالیة هنا.
وقد یکون بقلب الواو یاء ساکنة ، وإدغامها فی یاء المتکلم المبنیة علی الفتح فتنشأ یاء مشددة مفتوحة (تتکون من الیاء الأولی الساکنة ، والثانیة المبنیة علی الفتح) مع کسر ما قبل الیاء المشددة. ولن یقع لبس بین هذه الیاء ویاء النسب ، لأن الأولی لازمة التشدید مع الفتح دائما ، أما یاء النسب ، فلازمة التشدید أیضا ، ولکنها ترفع أو تنصب أو تجر علی حسب الجملة ...
ولعل الأخذ بهذا أولی ؛ لما فیه من مراعاة الأصول العربیة الوثیقة ، والقواعد العامة فی «الإعلال» ، وتطبیقها علی الکلمات الدخیلة التی تقضی الضرورة باستعمالها. ومن تلک الأصول : (أنه إذا اجتمعت الواو والیاء وسبقت إحداهما بالسکون قلبت الواو یاء ، وأدغمت الیاء فی الیاء ، وکسر ما قبلهما ، إلا لمانع - کما سنعرف قریبا (1)). علی أن الأخذ بهذا الرأی أو بسابقه - أو بغیرهما - یحتاج إلی إقرار وشیوع بین المتخصصین فی شئون اللغة.
ه - من الألفاظ المستعملة : «ابنم» المبدوء بهمزة الوصل ، والمختوم بالمیم الزائدة ؛ فیجوز عند إضافته لیاء المتکلم إبقاء المیم الزائدة ، وحذفها ، مع إسکان الیاء ، وکسر ما قبلها فی الحالتین ؛ فتقول : ابنمی ، أو : ابنی.
و - عند الوقوف علی یاء المتکلم یجوز زیادة هاء السکت (2) بعدها مع بناء الیاء علی الفتح ؛ کقوله تعالی : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِیَ کِتابَهُ بِشِمالِهِ فَیَقُولُ یا لَیْتَنِی
ص: 175
لَمْ أُوتَ کِتابِیَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِیَهْ ، یا لَیْتَها کانَتِ الْقاضِیَةَ ، ما أَغْنی عَنِّی مالِیَهْ ، هَلَکَ عَنِّی سُلْطانِیَهْ)، ومنه قول عائشة فی وصف أبیها : «أبیه ، وما أبیه ...».
ص: 176
ثانیا (1) : یجب تسکین آخر المضاف ، وبناء المضاف إلیه (وهو : یاء المتکلم) علی الفتح - فقط - فی محل جر فی الأحوال الأربعة الآتیة (2) :
1- أن یکون المضاف اسما مقصورا (3) ؛ مثل کلمة : «هدی» فی نحو : هدای خیر الوسائل للسعادة. ومن العرب من یقلب ألف المقصور یاء ، ویدغمها فی یاء المتکلم ؛ فیقول : هدیّ خیر الوسائل للسعادة. ولکن هذا الرأی - مع جواز محاکاته - لا یحسن الیوم الأخذ به ؛ منعا لفوضی التعبیر (4) ...
2- أن یکون المضاف اسما منقوصا (5) ؛ مثل کلمة : «هاد» ؛ فی نحو : العقل هادیّ إلی الرشاد ... (والمنقوص : اسم معرب ، آخره یاء لازمة ، مکسور ما قبلها ، غیر مشددة ؛ مثل : الهادی - الداعی - الوالی ... (6)) فهذه الیاء عند الإضافة وحذف «أل» تسکن ، وتدغم فی یاء المتکلم التی یجب بناؤها علی الفتح فی محل جرّ : فیحدث من إدغامهما یاء مشددة).
3- أن یکون المضاف مثنی - أو شبهه ؛ کاثنین - مرفوعا أو غیر
ص: 177
مرفوع (1) مثل کلمة : «یدان» فی نحو : لا أتطلع إلا لما کسبت یدای. ولا أعتمد فی رزقی إلا علی یدیّ. وکقول الشاعر :
أیا أخویّ الملزمیّ ملامة
أعیذکما بالله من مثل ما بیا
(ویلاحظ أن یاء المثنی - وشبهه - فی حالة نصبه وجره تدغم فی الیاء الواقعة مضافا إلیه ، فتظل الأولی ساکنة ؛ وتبنی الثانیة علی الفتح فی محل جر. ومن إدغامهما تنشأ الیاء المشددة - کالتی فی البیت السالف - أما فی حالة رفع المثنی - وشبهه - فتبقی ألفه علی حالها ، وبعدها یاء المتکلم - وهی المضاف إلیه - مبنیة علی الفتح فی محل جر ، ولا بد من حذف نون المثنی المضاف مهما اختلفت استعمالاته.
4- أن یکون المضاف جمع مذکر سالما - أو شبهه ؛ کعشرین - مرفوعا أو غیر مرفوع ؛ مثل کلمتی : «مشارکون» و «معاونین» فی خطبة قائد فی جنوده وقد انتصر. «أنتم الیوم مشارکیّ فی لذة الانتصار وفخره ، کما کنتم معاونیّ فی صد العدو ، والفتک به ، فمرحی بمشارکیّ ، ومرحبابهم).
والأصل : أنتم مشارکون لی ؛ ثم حذفت النون - وجوبا للإضافة ، وکذا اللام (2). فصارت : مشارکوی ، ثم قلبت الواو یاء (3) ، ساکنة وأدغمت هذه الیاء الساکنة فی الیاء المفتوحة (المضاف إلیه) وکسر ما قبلها ؛ لأن الکسرة هی التی تناسب الیاء ، فصارت مشارکیّ ...
ص: 178
أما «معاونیّ» ، المنصوبة فی المثال ، فأصلها : «معاونین لی» ؛ حذفت النون واللام للإضافة ، ثم أدغمت هذه الیاء الساکنة فی الیاء المفتوحة ، التی هی المضاف إلیه : فصارت معاونیّ ... ومثل هذا یقال فی «مشارکیّ» المجرورة ، حیث الحذف والإدغام کذلک.
ومما سبق نعلم أیضا أن «الیاء» المشددة التی تنشأ من إضافة جمع المذکر السالم - وشبهه - یجب کسر ما قبلها إن کان مضموما قبل الإضافة لیاء المتکلم .. وإن شئت فقل : یجب کسر ما قبلها إن کان جمع المذکر السّالم - وشبهه - مرفوعا بالواو ، وقبل هذه الواو ضمة.
فإن لم یکن قبل الیاء المشددة ضمة ، بل قبلها کسرة بقی اللفظ علی حاله ، کما فی کلمتی : «معاونیّ ، ومشارکیّ» السّالفتین. وإن کان فتحة ، بقی علی فتحه ؛ أیضا ؛ منعا للإلباس (1) ؛ مثل الکلمات : (المرتضون - المرتجون - المصطفون - المنتقون ... تقول (2) عند إضافتها : هؤلاء مرتضیّ - کان مرتجیّ من خیارکم - وإن السباقین فی الحلبة مصطفیّ ومنتقیّ (3).
ص: 179
ص: 180
أبنیة المصادر (1)
أولها : «المصدر الأصلی» ، وهو ما یدل علی معنی مجرد ، ولیس مبدوءا «بمیم» زائدة ، ولا مختوما بیاء مشدّدة زائدة ، بعدها تاء تأنیث مربوطة ؛ ومن
ص: 181
أمثلته : علم - فهم - تقدّم - استضاءة - إبانة. ومثل : بلاء - نضال -
ص: 182
فضل - صلاح ... فی قول شوقی یخاطب رجال الصحف الوطنیة :
ص: 183
حمدنا بلاءکمو فی النضال
وأمس حمدنا بلاء السّلف
ومن نسی الفضل للسابقین
فما عرف الفضل فیما عرف
ألیس إلیهم صلاح البناء
إذا ما الأساس سما بالغرف؟
ص: 184
... ومئات أخری. وهذا النوع - وحده - هو المقصود من کلمة : «مصدر» حین تذکر مطلقة بغیر قید یبین نوعا معینا. أما غیره فلابد أن یذکر معه ما یبین نوعه.
ص: 185
ویدخل فی نوع المصدر الأصلی المصدر الدال علی «المرة (1) والهیئة» فوق دلالته علی المعنی المجرد ، ولکنه لا یذکر إلا مقیدا بذکر المرة أو الهیئة (2).
ثانیها : المصدر المیمی (3) ، وهو : (ما یدل علی معنی مجرد ، وفی أوله «میم» زائدة ، ولیس فی آخره یاء مشددة زائدة بعدها تاء تأنیث مربوطة (4)) ، ومن أمثلته : مطلب - مضیعة - مجلبة - معدل .. (بمعنی : طلب - ضیاع - جلب - عدول) فی قول بعض الحکماء : «ینبغی للعاقل إذا عجز عن إدراک مطلبه ألّا یسرف فی الهمّ ؛ فإن الإسراف فیه مضیعة للحزم ؛ مجلبة للیأس ، معدل عن السّداد. وإذا ضاع الحزم ، وأقبل الیأس ، واختفی السداد - فرّت فرص النجاح ، وساءت الحیاة».
وهو قیاسیّ ، ویلازم الإفراد ، والراجح أنه لا یعدّ من المشتقات (5). وسیجیء تفصیل الکلام علی طریقة صیاغته ، وفائدته ، وبقیة أحکامه الأخری (6) :
ثالثها : المصدر الصناعی ؛ - وهو قیاسی - ویطلق علی : کل لفظ (جامد أو مشتق ، اسم أو غیر اسم) زید فی آخره حرفان ، هما : یاء مشددة ، بعدها تاء تأنیث مربوطة ؛ لیصیر بعد زیادة الحرفین اسما دالّا علی معنی مجرد لم یکن یدل علیه قبل الزیادة. وهذا المعنی المجرد الجدید هو مجموعة الصفات الخاصة بذلک اللفظ ، مثل کلمة : إنسان ، فإنها اسم ، معناه الأصلی : «الحیوان الناطق»
ص: 186
فإذا زید فی آخره الیاء المشددة ، وبعدها تاء التأنیث المربوطة (1) ، صارت الکلمة : «إنسانیة» وتغیرت دلالتها تغیرا کبیرا ؛ إذ یراد منها فی وضعها الجدید معنی مجرد ، یشمل مجموعة الصفات المختلفة التی یختص بها الإنسان ؛ کالشفقة ، والحلم ، والرحمة ، والمعاونة ، والعمل النافع .. و .. ولا یراد الاقتصار علی معناها الأول وحده ، ومثلها : الاشتراک والاشتراکیة - الأسد والأسدیة - الوطن والوطنیة - التقدّم والتقدّمیة - الحزب والحزبیة - الوحش والوحشیة - الرّجع والرجعیة - و ... وهکذا
ولیس لهذا النوع من المصدر القیاسیّ صیغ أخری ، ولا دلالة غیر التی شرحناها. ولا أحکام نحویة تخالف الأحکام العامة التی لکل اسم من سائر الأسماء ، إلا أنه اسم جامد ، مؤول بالمشتق ، یصح أن یتعلق به شبه الجملة ، - کما سبق (2) - ویصح أن یکون نعتا ، وحالا ... و ... (3) بخلاف النوعین السابقین ، فهما اسمان جامدان ، ولکل منهما أحکام خاصة به ، وأوزان وطرق لصیاغته (4) علی حسب البیان التالی :
ص: 187
ص: 188
ص: 189
ص: 190
ص: 191
ص: 192
ا - أوزان المصدر الأصلی ؛ (وهو المصدر الحقیقی الذی یراد عند الإطلاق ؛ أی : عند عدم التقیید ببیان نوع معین من أنواعه (1) :
المصدر الأصلی إما أن یکون لفعل ماض ثلاثی ، أو غیر ثلاثی ؛ علما بأن الفعل - ماضیا وغیر ماض - لا تتجاوز صیغته ستة أحرف. وأن الثلاثی لابد أن یکون مفتوح الأول (2). أما ثانیة فقد یکون مفتوحا ، أو مضموما ، أو مکسورا ؛ فأوزانه ثلاثة (3) فقط ؛ هی : فعل - فعل - فعل.
والأساس الأول فی معرفة مصادر الثلاثی ، وإدراک صیغها المختلفة إنما هو الاطلاع علی النصوص اللغویة الفصیحة ، وکثرة قراءتها ، حتی یستطیع القارئ بالدّربة والمرانة أن یهتدی إلی المصدر السماعیّ الصحیح الذی یرید الاهتداء إلیه. أما الأوزان والصیغ القیاسیة الآتیة فضوابط أغلبیة صحیحة تفید کثیرا فی الوصول إلی المصدر القیاسیّ ؛ فیکتفی به من شاء ، ولکن الاطلاع والقراءة أقوی إفادة ، وأهدی سبیلا. وفیما یلی أوزان المصادر القیاسیة للفعل الثلاثی المتعدی واللازم :
1- إن کان الماضی ثلاثیّا متعدیا غیر دال علی صناعة ؛ فمصدره
ص: 193
القیاسی : «فعل» ، نحو : أخذ أخذا - فتح فتحا - حمد حمدا سمع سمعا (1) ....
فإن دل علی صناعة فمصدره الغالب : «فعالة» ، نحو : صاغ الخبیر المعادن صیاغة دقیقة - حاک العامل الثوب حیاکة متقنة ، ثم خاطه الصانع خیاطة جمیلة (2).
ویلاحظ أن الثلاثی المتعدی لا یکون إلا مفتوح العین أو مکسورها. أما مضمومها فلا یکون إلّا لازما ، نحو : حسن - ظرف - شرف ...
* * *
2- وإن کان الماضی ثلاثیّا ، لازما ، مکسور العین ، غیر دال علی لون ، أو علی معالجة (3) ، أو علی معنی ثابت ، فمصدره القیاسی : «فعل» نحو : تعب تعبا - جزع جزعا - وجع وجعا - أسف أسفا.
فإن دل علی لون ، فالغالب فی مصدره : «فعلة» ؛ نحو : سمر الفتی سمرة - خضر الزرع خضرة.
ص: 194
وإن دلّ علی معالجة فمصدره : «فعول» ؛ نحو : قدم قدوما - صعد صعودا - لصق لصوقا -.
وإن دل علی معنی ثابت فقیاسه : «فعولة» ؛ نحو : یبس یبوسة (1) ...
* * *
3- وإن کان الماضی الثلاثی لازما ، مفتوح العین ، صحیحها ، غیر دال علی إباء وامتناع ، ولا علی اهتزاز وتنقل وحرکة متقلبة ، ولا علی مرض ، ولا سیر ، أو صوت ، ولا علی حرفة أو ولایة - فإن مصدره القیاسی : «فعول» نحو : قعد قعودا - سجد سجودا - رکع رکوعا - خضع خضوعا .... فإن کان معتل العین فالغالب فی مصدره أن یکون علی : «فعل» ، مثل : نام نوما - صام صوما. أو علی «فعال» ، نحو : صام صیاما قام قیاما ... و ... فإن دل علی إباء وامتناع فمصدره : «فعال» نحو : أبی إباء - نفر نفارا - شرد شرادا - جمح جماحا -.
وإن دل علی تنقل وحرکة متقلبة فیها اهتزاز فمصدره : «فعلان» ؛ نحو : طاف طوفانا - جال جولانا (2) - غلی غلیانا.
وإن دلّ علی مرض فمصدره : «فعال» ، نحو : سعل سعالا - رعف (3) الأنف رعافا.
وإن دلّ علی نوع من السّیر فمصدره : «فعیل» ، نحو : رحل رحیلا - ذمل (4) ذمیلا.
ص: 195
وإن دل علی نوع من الصوت فمصدره : «فعیل» و «فعال» ؛ نحو. صرخ الطفل صریخا وصراخا ، ونعب (1) الغراب نعیبا ونعابا. وقد اشتهر «فعیل» مصدرا لبعض الأفعال أکثر من «فعال» ؛ مثل صهلت الخیل صهیلا - أزّت (2) القدور أزیزا.
(ویؤخذ مما سبق أن وزن : «فعال» یکون مصدرا لما یدل علی مرض أو صوت ، وأن وزن «فعیل» یکون مصدرا لما دل علی سیر أو صوت أیضا). وإن کان دالّا علی حرفة أو ولایة فمصدره : «فعالة» : نحو : تجر تجارة - سفر سفارة - أمر إمارة - نقب نقابة (3).
* * *
4- إن کان الماضی ثلاثیّا ، لازما ، مضموم العین (4) فمصدره : إما : «فعالة» ، وإما : «فعولة». فیکون «فعالة» إذا جاءت الصفة المشبهة منه علی وزن «فعیل» : نحو : ملح فهو ملیح - ظرف فهو ظریف - شجع فهو شجیع ... فالمصدر : ملاحة - ظرافة - شجاعة. ویکون : «فعولة» إذا جاءت الصفة المشبهة منه علی : «فعل» ، نحو : سهل فهو سهل - عذب فهو عذب - صعب فهو صعب ... فالمصدر : سهولة - عذوبة (5) - صعوبة ... وهذا الضابط فی الحالتین أغلبیّ منقوض بأمثلة أخری ، مثل : ضخم فهو ضخم ، مع أن المصدر الشائع هو ضخامة. وملح الطعام - أی : صار ملحا - ، ومصدره : الملوحة. مع أن الصفة المشبهة منه لیست علی فعل ولا فعیل (6) ....
تلک هی الأوزان القیاسیّة للفعل الثلاثی بنوعیه ؛ المتعدی واللازم ؛ وهی أوزان أغلبیة. وقد یرد فی الکلام المأثور ما یخالفها ، فیجب قبوله علی اعتباره مسموعا یصح استعماله - بنصّه - مصدرا لفعله الخاص به ، دون استخدام
ص: 196
صیغته ووزنها فی أفعال أخری ، أو القیاس علیها فی فعل غیر فعله. وهذا لوزن السماعیّ لا یمنع استعمال الصیغة القیاسیة ؛ کما أوضحنا أول الباب (1) ومن أمثلة السماعیّ : سخط سخطا ، ذهب ذهابا - شکر شکرا - عظم عظمة ... وغیر هذا کثیر ؛ جعل النحاة یقررون ما سبق من أن أوزان المصادر القیاسیة للماضی الثلاثی ؛ أوزان جاریة علی الأغلب ، ولا تفید الحصر ؛ لوجود کثیر سماعیّ غیرها (2) ؛ حتی قیل إنها لا تکاد تنضبط (3) ، واقتصر بعض النحاة علی سرد تسع وتسعین صیغة تخالف کل واحدة منها القیاس
ص: 197
الخاص بمصدر فعلها» ... (1) أما المصادر القیاسیة لغیر الثلاثی فمضبوطة محصورة - غالبا - وقل أن تخرج علی الضوابط والحدود الموضوعة لها. کما سنری.
«ملاحظة» : وردت ألفاظ سماعیة ، کل واحد منها یؤدی معنی المصدر ولکن بصیغة اسم المفعول من الثلاثی ، فهی فی حقیقة أمرها مصادر سماعیة من جهة المعنی ، جاءت ألفاظها علی وزن : «مفعول» ؛ منها : معقول - مجلود (فی قولهم : فلان لا معقول له ولا مجلود له ؛ أی : لا عقل له ولا جلد ..) مفتون (2) - میسور (3) - معسور (4). وکل ما سبق مقصور علی السماع. ویری سیبویه : أن تلک الألفاظ - ونظائرها - لیست مصادر فی المعنی ، وأن کل واحد منها هو اسم مفعول فی صیغته وفی معناه ؛ فیجب عنده تأویل الکلام الذی یحویه تأویلا یسایر اسم المفعول فی المبنی والمعنی ، دون التفات إلی المصدر (5).
* * *
1- إن کان رباعیّا علی وزن : «فعّل» (6) مضاعف العین ، صحیح اللام (أی : صحیح الآخر) غیر مهموزها - ، فمصدره القیاسیّ : «تفعیل» مثل : قوّم تقویما ، وقصّر تقصیرا ؛ فی قولهم : من قوّم نفسه بنفسه أدرک بالتقویم ما یبتغی ، ومن قصّر فی إصلاح عیبه قعد به تقصیره عن بلوغ الغایة.
وقد یکون علی وزن : «فعّال» کقوله تعالی : (وَکَذَّبُوا بِآیاتِنا کِذَّاباً) ،
ص: 198
وقد یکون علی «فعال» بتخفیف العین ؛ کقراءة من قرأ : «وکذّبوا بآیاتنا کذابا»
فإن کان معتل اللام فمصدره «التفعیل» أیضا ، ویجب حذف یاء «التفعیل» والاستغناء عنها بزیادة تاء التأنیث فی آخر المصدر - وزیادتها فی هذه الصورة لازمة - فیصیر : «تفعلة» ؛ نحو : رضّی ترضیة ، وزکّی تزکیة ، وورّی توریة ؛ مثل : (رضّی الأخ البارّ أخاه ترضیة کریمة ، وزکّاه تزکیة صادقة ، وحین رأی منه بادرة إساءة ، ورّی (1) توریة تمنعه من التمادی).
وأصل الأفعال : من غیر التضعیف : رضی - زکا - وری - فهی معتلة اللام ومصادرها مع التضعیف من غیر حذف وتعویض هی : ترضیّا - تزکیّا - توریّا .. حذفت الیاء الأولی التی هی «یاء التفعیل» وعوّض عنها - وجوبا - تاء التأنیث فی آخر المصدر ؛ فصار : ترضیة - تزکیة - توریة ... کما عرفنا. ومن الشاذ عدم الحذف. أو عدم التعویض.
وإن کان مهموز اللام (2) فمصدره «التفعیل» ، أو : التفعلة» - وهذه هی الأکثر - نحو : برّأ تبریئا وتبرئة ، وجزّأ تجزیئا وتجزئة ، وهنّأ تهنیئا وتهنئة ، وخطّأ تخطیئا وتخطئة (3).
«ملاحظة» : مذهب البصریین أن «التّفعال» - بفتح التاء وإسکان الفاء - مثل (4) : ، تذکار ، بمعنی : التذکّر ، هو مصدر : «فعل» (المفتوح
ص: 199
الأول والثانی بغیر تشدید الثانی) - وجیء بالمصدر علی ذلک الوزن للتکثیر. وقال الفراء وجماعة من الکوفیین : إنه مصدر : «فعّل» - مفتوح العین المشددة - ورجحه ابن مالک وغیره ؛ لکون هذا المصدر للتکثیر ، و «فعّل» المضعف العین للتکثیر أیضا ، ولکونه نظیر «التفعیل» فی الحرکات ، والسکنات ، والزوائد ؛ ومواقعها (1) ...
وأسماعیّ هو أم قیاسی؟ قولان ، أظهرهما أنه قیاسیّ (2). أما «التّفعال» بکسر التاء ، کالتّبیان والتّلقاء فلیس بمصدر ، بل بمنزلة اسم المصدر (3).
وإن کان الماضی رباعیّا علی وزن : «أفعل» صحیح العین فمصدره علی : «إفعال» نحو : أجمل الخطیب القول إجمالا محمودا ، وأحسن الإلقاء إحسانا بارعا. فإن کان معتل العین نقلت فی المصدر حرکة عینه إلی فاء الکلمة ، وحذفت العین ، وعوض عنها - غالبا - تاء التأنیث فی آخره ، نحو : أقام إقامة - أبان إبانة - أعان إعانة .... والأصل : إقوام - إبیان - إعوان. فعین المصدر حرف علة متحرک بالفتح وقبله حرف صحیح ساکن ؛ فنقلت حرکة حرف العلة - العین - إلی الساکن الصحیح قبله ؛ (تطبیقا للأسالیب العربیة وضوابطها). وحذف حرف العلة الأول للتخلص من التقاء الساکنین ؛ فصار
ص: 200
اللفظ إقام - إبان - إعان ، ثم زیدت تاء التأنیث فی آخره ؛ عوضا عن المحذوف ؛ فصار المصدر : إقامة - إبانة - إعانة ... ومن الجائز ألّا تزاد هذه التاء. ولکن الغالب زیادتها ، کما سبق.
وإن کان رباعیّا مجردا علی وزن «فعلل» فمصدره الغالب : «فعللة». وقد یکون علی «فعلال» (1) مع قلّته ، نحو : دحرجت الکرة دحرجة ود حراجا - سرهفت (2) الصبیّ ، سرهفة وسرهافا - بهرج (3) المنافق حدیثه بهرجة ، وبهراجا (4).
ومثله الماضی الرباعی الذی علی وزان : «فوعل» و «فیعل» فإن مصدرهما القیاسی الغالب : «فعللة» - وهذه أکثر - ، و «فعلال» ؛ نحو : حوقل (5) حوقلة وحیقالا - وبیطر (6) بیطرة وبیطارا.
وإن کان رباعیّا علی وزن : «فاعل» غیر معتل الفاء بالیاء - فمصدره «فعال» و «مفاعلة» ، نحو : خاصمت الباغی مخاصمة ، أو : خصاما. صارعت الطاغیة مصارعة ، أو : صراعا ... فارقت أهل السوء مفارقة ، أو : فراقا ... و «المفاعلة» أکثر وأعم اطّرادا(7) ..
فإن کان رباعیّا معتل الفاء بالیاء فمصدره «المفاعلة» ، نحو : یامنت میامنة ، ویاسرت میاسرة ، (أی : ذهبت جهة الیمین ، وجهة الیسار).
* * *
ص: 201
2- وإن کان خماسیّا ، علی وزن : «تفعّل» فمصدره «تفعّل» نحو : تعلّم الراغب تعلّما - ثم تخرّج تخرّجا - وتدرّب تدرّبا ....
وإن کان خماسیّا مبدوءا بهمزة وصل علی وزن : «انفعل» فمصدره «انفعال» (والوصول إلیه یکون بکسر ثالث الفعل ، وزیادة «ألف» قبل الحرف الأخیر) نحو : انشرح صدری انشراحا عظیما حین رأیت عدوّنا ینهزم انهزاما ساحقا.
وإن کان خماسیّا مبدوءا بهمزة وصل ، علی وزن : «افتعل» فمصدره : افتعال ؛ (والوصول إلیه یکون بکسر الثالث من الفعل ، وزیادة «ألف» قبل حرفه الأخیر) نحو : إذا اقتصد الفقیر بلغ باقتصاده الغنی - من اعتمد علی نفسه کان خلیقا أن یدرک باعتماده ما یرید.
وإن کان خماسیّا علی وزن «تفعلل» فإن مصدره یکون علی وزن : «تفعلل» ، بضم الحرف الرابع ؛ نحو : تدحرج الحجر تدحرجا.
* * *
3- وإن کان سداسیّا مبدوءا بهمزة وصل ، علی وزن : «استفعل» ولیس معتل العین - فمصدره : «استفعال» (والوصول إلیه یکون بکسر الحرف الثالث من الفعل ، وزیادة «ألف» قبل حرفه الأخیر) ؛ نحو : استحسان ، واستقباح - وأشباههما - مثل : إنی أستحسن قراءة الأدب الرفیع استحسانا لا یعادله إلا سماع الأغانی العالیة الشجیّة ، وأستقبح تافه الکتب استقباحا لا یعادله إلا الأغانی الماجنة الخلیعة ...
فإن کان علی وزن «استفعل» مع اعتلال عینه ، نقلت فی المصدر حرکة عینه إلی الساکن الصحیح قبلها ، وحذفت العین ، وجاءت تاء التأنیث فی آخره عوضا عنها ، وهو عوض لازم ، نحو : استعاد المریض قوته استعادة ، والأصل : استعوادا ، جری فیها ما أسلفنا.
ص: 202
ضم الحرف الرابع فی الفعل الخماسی المبدوء بتاء زائدة للوصول إلی مصدره ، لیس مقصورا علی «تفعلل» وإنما یجری علیه وعلی ما یماثله ، من کل فعل مبدوء بتاء زائدة ، وعدد حروفه ، وحرکاتها ، وسکناتها - یماثل «تفعلل» من غیر تقید بنوع الحرکات والسکنات ؛ فلیس من اللازم أن یکونا علی وزن صرفیّ واحد ؛ إنما اللازم أن یقابل المتحرک متحرکا ، والساکن ساکنا ، وهذا الضابط یشمل عشرة أوزان غالبة :
1- تفعّل ؛ مثل : تجمّل تجمّلا.
2- تفاعل ؛ مثل : تغافل تغافلا.
3- تفعلل ؛ مثل : تلملم تلملما.
4- تفیعل ؛ مثل : تبیطر تبیطرا.
5- تمفعل ؛ مثل : تمسکن تمسکنا.
6- تفوعل ؛ مثل : تجورب تجوربا.
7- تفعنل ؛ مثل : تقلنس تقلنسا
8- تفعول ؛ مثل : ترهوک ترهوکا (1).
9- تفعلت ؛ مثل : تعفرت تعفرتا.
10- تفعلی ؛ مثل : تسلقی تسلقیا (2). لکن تقلب الضمة هنا قبل الیاء کسرة.
* * *
ص: 203
تلک هی أشهر المصادر القیاسیة للفعل الماضی الرباعی ، والخماسی ، والسداسی (1). وهی علی ضبطها واطرادها لم تسلم من مصادر مسموعة تخالفها ؛ نحو :
ص: 204
حوقل الطائع حیقالا (1) - تنزّی (2) سریر الطفل تنزیّا - تملّق المنافق تملّاقا .... و ... والقیاس : حوقلة - تنزیة - تملقا (3) ...
ص: 205
ص: 206
ص: 208
ص: 209
ص: 210
یعمل المصدر عمل الفعل (1) فی حالتین :
الأولی : أن یحذف الفعل ، وینوب عنه مصدره فی تأدیة معناه ، وفی التعدّی واللزوم ، وکثیر من أنواع العمل ، نحو قول الشاعر :
یا قابل التوب. غفرانا مآثم ، قد
أسلفتها ، أنا منها خائف وجل
وقول الآخر :
شکرا لربک یوم الحرب نعمته
فقد حماک بعز النصر والظّفر
ونحو : تعظیما والدیک ، وتکریما أهلک ، وإشفاقا علی ضعیفهم المحتاج. والأصل : اغفر مآثم (2) ... - اشکر لربک - عظم والدیک - کرم أهلک ، وأشفق علی ضعیفهم. فحذف فعل الأمر وجوبا ، وناب عنه مصدره ، فعمل عمله فی رفع الفاعل المستتر هنا ، وفی نصب المفعول به ، إن کان الفعل المحذوف ینصب مفعولا به ؛ کالفعلین : عظّم ، وکرّم ، وفی أکثر الأعمال الأخری التی یعملها الفعل ؛ کالعمل فی النعت ، وکتعلق الجار والمجرور به فی المثال الأخیر ، وکغیرهما من باقی المعمولات ؛ فکل هذا یعمله المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا. (وقد سبق (3) تفصیل الکلام علی هذا الموضع ، وبیان الحذف الجائز فیه والواجب ، والقیاسیّ وغیر القیاسی ، وکیفیة إعراب هذا المصدر وباقی معمولاته ، وکل ما یتصل به من هذه النواحی المختلفة ..)
ص: 211
الثانیة :
أن یکون المصدر صالحا - فی الغالب (1) - للاستغناء عنه ، بأن یحل محله فعل من معناه ، مسبوق «بأن» المصدریة (2) ، أو : «ما» المصدریة ، فیسبق الفعل «بأن» المصدریة حین یکون الزمن ماضیا ، أو مستقبلا. ویسبق «بما» المصدریة حین یکون ماضیا ، أو حالا ، أو مستقبلا ، ولکنها أوضح وأقوی فی الزمن الحالی ، حیث لا تصلح له «أن» ، (لأنها لا تصلح إلا للماضی والمستقبل (3) ؛ بخلاف «ما» فإنها صالحة للثلاثة). فمن أمثلة الماضی : ساءنا بالأمس مدح المتکلم نفسه. التقدیر : ساءنا بالأمس أن مدح المتکلم نفسه ، أو : ما مدح ... ومن أمثلة المستقبل : سنسرّ غدا باجتیاز الاختراع مرحلة الاختبار. وقولهم :
تأنّ ، ولا تعجل بلومک صاحبا
لعلّ له عذرا وأنت تلوم (4)
والتقدیر : (... بأن یجتاز الاختراع مرحلة الاختبار ، أو : بما یجتاز ... - بأن تلوم صاحبا أو : بما تلوم صاحبا ....) ومثل : لا شیء أنقص للأحرار من إفشائهم الأسرار ، أی : من أن یفشوا الأسرار ، أو : مما یفشون ، ومن أمثلة الزمن الحالی : ینعشنا الآن إشاعة الشمس الدفء. والتقدیر : ینعشنا الآن ما تشیع الشمس الدفء.
ومن هنا یتبین أن المصدر یصلح للعمل فی الأزمنة الثلاثة بالطریقة المفصّلة السالفة ؛ دون غیرها. والذی یعینه لنوع خاص منها هو : القرینة.
* * *
ص: 212
ا - قلنا : إن الحالة الثانیة هی التی یصلح فیها المصدر للاستغناء عنه «بأن والفعل» الذی بمعناه ، أو : «ما والفعل» ... هذا الاستغناء أمر غالبیّ - فقط - کما نصوا علی ذلک. وذکروا أمثلة لغیر الغالب ؛ منها قول بعض العرب : «سمع أذنی أخاک یقول ذلک» فکلمة : «سمع» مصدر ، مبتدأ مضاف إلی فاعله : «أذن» - وکلمة «أخا» مفعول للمصدر ... والجملة المضارعیة من الفعل : «یقول» وفاعله فی محل نصب «حال» سدّت مسدّ الخبر (1) وأغنت عنه. ومثل قولنا : (کان استقبالک الضیوف حسنا - إن إکرامک الوفود حمید لا إعراض عن أحد) .. فهذه المصادر - وأشباهها - عاملة فی بعض کلام العرب ، مع أنه یمتنع تأویلها بالفعل الذی قبله الحرف المصدری «أن» ، أو «ما» ، لالتزام أغلب العرب عدم وقوع الفعل المسبوق بأحد الحرفین فی هذه المواضع ؛ فلم یعرف عنهم وقوعه مبتدأ خبره حال سدت مسد الخبر ، مثل : أن تسمع أذنی أخاک یقول ذلک ، ولم یعرف عنهم أیضا وقوع «أن» المصدریة - بنوعیها المخففة من الثقیلة ، والناصبة للمضارع - مع صلتها بعد «کان» و «إنّ» إلا مفصولة بالخبر ، کقوله تعالی : (إِنَّ لَکَ أَلَّا تَجُوعَ فِیها وَلا تَعْری) ، ولا وقوع الحرف المصدریّ وصلته بعد «لا» ، غیر المکررة. أی : أنه لا یتحقق فی هذه المواضع الاستغناء عن المصدر بالفعل المسبوق «بأن ، أو ما» المصدریتین (2) ..
ولیس من اللازم کذلک أن یتحقق هذا لعمل المصدر فی شبه الجملة بنوعیه ، فقد یعمل فیهما من غیر إحلال ما ذکر محله. أما عمله القیاسیّ فی غیر شبه الجملة فیستلزم صحة الإحلال بالتفصیل السّالف.
ب - من المصادر التی لا تعمل مطلقا المصدر المؤکّد لعامله المذکور
ص: 213
فی الجملة ؛ مثل : (خرج الإنسان من نطاق الکرة الأرضیة خروجا) ؛ لأن إعماله یقتضی - مراعاة للغالب - أن یصلح فی مکانه إحلال الفعل مع «أن» المصدریة ، أو «ما» المصدریة ؛ فیکون التقدیر ؛ خرج الإنسان أن خرج ، أی : خروجه ، فیصیر المصدر المنسبک مضافا إلی ضمیر کان فی الأصل فاعلا له. وهذه الإضافة تخرجه من المصدر المؤکد : - وهو مصدر مبهم - ، إلی مصدر مضاف لفاعله ، والمصدر المضاف نوعیّ ، لا توکیدیّ ؛ کما عرفنا فی باب : «المفعول المطلق» ...
ولکن هناک نوعا من المصدر یؤکّد عامله المحذوف وجوبا ، ویعمل عمله -. وقد سبق إیضاح هذا النوع ، وسرد فروعه وأحکامه (1) -.
کذلک المصدر العددیّ ؛ فإنه لا یعمل - فی الغالب الراجح - ؛ لأن مجیء «أن» أو «ما» وصلتهما یزیل العدد حتما (2) ، ویضیعه ؛ لیحلّا محله ، فلا یوجد فی الترکیب الجدید ما یدل علی العدد.
أما المصدر النوعیّ فیعمل فی بعض حالات قلیلة - ولکنها قیاسیة - منها : أن یکون مضافا لفاعله (3) ولو کان هذا المصدر مفعولا مطلقا - نحو : زرعت حقلی زراعة الفلّاح حقله ... أی : مثل زراعة الفلاح حقله ، فقد عمل فی فاعله المضاف إلیه ، وعمل النصب فی مفعوله. وقد تکلمنا ، بمناسبة أخری (4) - علی أقسام المصدر ما یعمل منها ، وما لا یعمل.
ص: 214
ح - شروط أخری :
الشرط السابق لإعمال المصدر هو شرط «وجودیّ» ، أو «إیجابیّ» کما نقول الیوم ، (أی : لابد من تحققه ووجوده) وهناک شروط أخری یسمیها النحاة شروطا عدمیة (أو : سلبیة ، بمعنی : أنه لا بد من عدم وجودها) ، وأهمها :
1- ألا یکون مصغرا ؛ فلا یجوز : فتیحک الباب بعنف أمر لا یسوغ. ترید : فتحک الباب (1).
2- ألا یکون ضمیرا ، فلا یجوز : حبی الأوطان عظیم ، وهو بلادا أجنبیة أقلّ. ترید : وحبی بلادا أجنبیة أقل ؛ فناب الضمیر عن المصدر المحذوف. وهذا غیر جائز إلا عند الکوفیین ، ورأیهم - هنا - ضعیف ؛ لأن الضمیر النائب عن المصدر المحذوف لا ینوب عنه فی العمل - ، طبقا للرأی الأصح ، الأغلب الذی یؤیده الوارد الکثیر -.
3- ألا یکون مختوما بالتاء الدالة علی الوحدة (2) ؛ فلا یصح : ابتهجت بضربتک العدوّ الغادر ، لأن ضربة ، مصدر مختوم بالتاء الزائدة الدالة علی المرة الواحدة (3). فإن کانت التاء من صیغة الکلمة ولیست للوحدة ، نحو : «رحمة» و «رهبة» - جاز أن یعمل ؛ نحو : رحمتک الضعفاء دلیل نبلک ...
4- ألا یتأخر عن معموله الذی لیس شبه جملة ؛ فلا یصح : أعجبتنی
ص: 215
- المریض - مساعدتک). والأصل : أعجبتنی مساعدتک المریض.
أما المعمول شبه الجملة فالأحسن الأخذ بالرأی الذی یبیح تقدیمه ؛ لوروده فی القرآن الکریم (1) ، فی قوله تعالی : (فَلَمَّا بَلَغَ - مَعَهُ - السَّعْیَ ...) وقوله تعالی : (لا یَبْغُونَ - عَنْها - حِوَلاً)، وقوله تعالی : (وَلا تَأْخُذْکُمْ بِهِما - رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللهِ)، وقولهم : «اللهم اجعل - لنا من أمرنا - فرجا» وقول الشاعر :
وبعض الحلم عند الجه
ل للذّلة إذعان
والأصل : السعی معه - حولا عنها - رأفة بهما - فرجا لنا من أمرنا - إذعان للذلة ... و ... ولا داعی للتکلف والتأویل للمنع ، من غیر داع ، وبخاصة فی القرآن.
5- ألّا یکون مفصولا من معموله - المفعول ، وغیر المفعول - بفاصل أجنبیّ (2) ، ولا بتابع (3) ، ولو کان هذا التابع نعتا أو غیره من التوابع الأربعة ، فلابدّ أن تقع بعده - مباشرة - کل معمولاته من غیر فاصل أجنبی بینها ؛ لأن الفصل بالأجنبی ممنوع مطلقا ... فلا یجوز : إنی أقوی علی تأدیة فی الصباح أعمالا مختلفة ؛ أی : علی تأدیة أعمالا مختلفة فی الصباح. کما (4) لا یجوز : إنی أبادر إلی تلبیة صارخا المستغیث. أی : إلی تلبیة المستغیث صارخا .... و .... و ...
ص: 216
6- ألا یکون مثنی أو جمعا (فیجب أن یکون مفردا) ومن الشاذ إعمال غیر المفرد ؛ کقول الشاعر :
قد جرّبوه فما زادت تجاربهم
أبا قدامة إلا المجد والفنعا (1)
فکلمة : «أبا» (من أبا قدامة) مفعول به للمصدر المجموع جمع تکسیر ، وهو : «تجارب» (2). وأجاز بعض النحاة إعمال الجمع. ورأیه حسن ، لورود السماع به فی بضعة أمثلة ، ولما فیه من تیسیر یفید ولا یضر.
7- ألّا یکون محذوفا والمعمول غیر شبه جملة ؛ فإن کان شبه جملة جاز إعمال المصدر المحذوف ؛ ولهذا أجازوا أن یکون الجار والمجرور فی : (بسم الله الرحمن الرحیم). متعلقا بمصدر محذوف ، والتقدیر : ابتدائی باسم الله.
* * *
ص: 217
أقسام المصدر العامل المقدّر بالحرف المصدریّ وصلته :
ثلاثة أقسام قیاسیة :
(1) مضاف ، وهو أکثرها عملا ، وأعلاها فصاحة ؛ نحو قوله تعالی : (فَإِذا قَضَیْتُمْ مَناسِکَکُمْ فَاذْکُرُوا اللهَ کَذِکْرِکُمْ آباءَکُمْ ، أَوْ أَشَدَّ ذِکْراً)، المصدر الأول : «ذکر» مضاف للضمیر : «الکاف» ، ومعها المیم (1).
وإذ أضیف المصدر فقد یضاف لفاعله وینصب المفعول به (2) إن وجد ؛ فیکون الفاعل مجرورا فی اللفظ ، مرفوعا فی المحل ، کقولهم ؛ (مصاحبة المرء العقلاء ألزم ، ومجانبة المرء السفهاء أسلم.) فقد أضیف کل من المصدرین : «مصاحبة» ، و «مجانبة» لفاعله : «المرء» وجرّه لفظا فقط ؛ لأنه مرفوع محلا ، ونصب المفعول بعد ذلک ؛ وهو : «العقلاء» و «السفهاء» ، ومثل قول الشاعر :
وأقتل داء رؤیة العین ظالما
یسیء ، ویتلی فی المحافل حمده
فالمصدر - وهو ؛ رؤیة - أضیف لفاعله - «العین» المجرور لفظا ، المرفوع محلّا ، ونصب المفعول به (ظالما). ومثل :
یا من یعزّ علینا أن نفارقهم
وجداننا کلّ شیء بعدکم عدم
فالمصدر : «وجدان» أضیف لفاعله : «نا» - علی الوجه السالف - ونصب المفعول به : «کل».
فإذا جاء تابع للفاعل - کالنعت ، أو : التوکید ، أو : العطف ، أو : البدل - جاز فی التابع الجرّ ؛ مراعاة للفظ الفاعل المتبوع ، وجاز الرفع مراعاة لمحل هذا الفاعل ؛ ففی المثال الأول : نقول : مصاحبة المرء العاقل العقلاء ألزم ، ومجانبة المرء المهذّب السفهاء أسلم ، بجر کلمتی : «العاقل»
ص: 218
والمهذّب ؛ أو برفعهما ، علی الاعتبارین السالفین (1).
وقد یضاف المصدر للظرف (2) ؛ فیجره ، ویرفع الفاعل وینصب المفعول به إن وجد ؛ نحو : إهمال الیوم المریض الدواء معوّق للشفاء.
وقد یضاف المصدر لمفعوله ؛ فیصیر المفعول به مجرورا فی اللفظ منصوبا فی المحل (2) ، ویجیء الفاعل بعدهما مرفوعا إن وجد ؛ کقولهم : (صیانة (3) الحواسّ الشابّ ، ودیعة تنفعه فی شیخوخته (4)). والأصل : صیانة الشابّ الحواسّ - ؛ فأضیف المصدر : «صیانة» إلی مفعوله : «الحواس» فصار المفعول به مجرورا لفظا ، منصوبا محلا. وتلاهما الفاعل مرفوعا (5). فإذا جاء للمفعول به تابع - من التوابع الأربعة - جاز فی التابع الجرّ مراعاة للفظ المفعول به ، أو النصب مراعاة لمحله. فنقول فی المثال السالف : صیانة الحواسّ الخمس الشابّ ، دین علیها ..... بجر کلمة : «الخمس» أو نصبها ... «ملاحظة» : إنما یضاف المصدر لفاعله وینصب المفعول به ، أو : العکس ، حین یقتضی المقام ذکرهما ، وإلّا فقد یحذف أحدهما ، أو :
ص: 219
یحذفان معا. فمن إضافة المصدر لفاعله مع حذف المفعول به الذی لا یتعلق الغرض بذکره ؛ قوله تعالی : (وَما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ ...) والأصل : استغفار إبراهیم ربّه لأبیه. کما یجوز العکس بحذف الفاعل مع ذکر المفعول به : کقوله تعالی : (لا یَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَیْرِ) ، أی : من دعائه الخیر.
2- منوّن ، ویلی السابق فی کثرته وفصاحته ، نحو قوله تعالی : (... أَوْ إِطْعامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَةٍ (1) ، یَتِیماً ...) ، فکلمة : «یتیما» ، مفعول به للمصدر : «إطعام» ومنه قول الشاعر :
بضرب بالسیوف رءوس قوم
أزلنا هامهنّ (2) عن المقیل (3)
فکلمة : رءوس» ، مفعول به للمصدر : «ضرب».
3- مبدوء «بأل» وهو - مع قیاسیته کسابقیه - أقل منهما استعمالا وبلاغة. ومن أمثلته قول الشاعر یذم :
ضعیف النّکایة (4) أعداءه
یخال الفرار یراخی الأجل (5)
فکلمة : «أعداء» مفعول به للمصدر : «النکایة».
* * *
إعمال اسم المصدر (6) :
اسم المصدر نوعان : ؛ علم ، وغیر علم ، فالأول لا یعمل (7) ؛ ومن أمثلته : «برّة» علم جنس علی : «البرّ» ، و «فجار» علم جنس علی : «الفجرة» بمعنی : «الفجور» ، بشرط أن یکون فعلهما : «أفجر» و «أبرّ» فی
ص: 220
مثل : أفجر فلان فلانا ، وأبره ؛ بمعنی : صیّره ذا فجور ، وبرّ ، فإن کان فعلهما «فجر» و «برّ» فهما مصدران مباشرة (1).
أما غیر العلم فیعمل بالشرط الذی یعمل به المصدر الذی لیس نائبا عن فعله ؛ (وهو : إحلال الحرف المصدری «أن» أو : «ما» وصلتهما محله (2)).
وإعمال اسم المصدر - مع قیاسیته - قلیل. والأفضل العدول عنه إلی المصدر قدر الاستطاعة ، ومن أمثلة إعماله قول الشاعر :
بعشرتک الکرام تعدّ منهم
فلا ترین لغیرهمو ألوفا
وقول الآخر :
إذا صحّ عون الخالق المرء لم یجد
عسیرا من الآمال إلا میسّرا
فکلمة : «الکرام» مفعول به لاسم المصدر : «عشرة» ، وفعله هنا : «عاشر». وکلمة : «المرء» مفعول به لاسم المصدر : «عون» وفعله هنا : عاون ... (3).
ص: 221
ص: 222
ا - بعض النحاة یجعل لاسم المصدر قسما ثالثا یسمیه : «المبدوء بمیم زائدة لغیر المفاعلة». ومن أمثلته : المحمدة ، أی : الحمد ، والمضرب ، أی : الضرب ، ومصاب ، (بمعنی : إصابة) فی قول الشاعر :
أظلوم (1) إن مصابکم
رجلا
أهدی السّلام ، تحیة - ظلم
لکن یری المحققون أن المبدوء بالمیم کالأمثلة السابقة - ونظائرها - هو نوع من المصدر یسمی : «المصدر المیمیّ» (وله أحکام خاصة ستجیء فی بابه) (2) ولیس باسم مصدر. وهذا الرأی هو الشائع الیوم ، والأخذ به واجب ، وإعماله عمل فعله کثیر بالطریقة التی سنشرحها هناک (3) ...
أما المبدوء بمیم زائدة للمفاعلة فمصدر أصیل نحو : قاومت الباطل مقاومة عنیفة ، وناصرت أهل الحق مناصرة لا توانی فیها ولا قصور.
ب - اسم المصدر العامل ثلاثة أقسام ، کالمصدر العامل :
1- مضاف ، وهو الأکثر ؛ نحو : ناصرت الوطن نصر الحرّ وطنه - وهدّمت الباطل هدم الخیمة صاحبها.
وإضافته - کما رأینا - قد تکون لفاعله مع نصب المفعول به ، وقد تکون للمفعول به مع رفع الفاعل. ویجوز فی تابع المضاف إلیه الجر مراعاة للفظه ، کما
ص: 223
یجوز مراعاة محله فی الرفع والنصب علی الوجه الذی سبق فی المصدر (1).
2- منوّن ؛ نحو : طربت لنصر حرّ وطنه انتصارا باهرا.
3- ومحلّی بأل ؛ مثل : عاونت الصدیق کالعون الأهل ..
ح - من أحکام اسم المصدر العلم أنه لا یضاف ، ولا تدخل علیه «أل» التی للتعریف ، ولا یقع موقع الفعل ، ولا یوصف ، ولا یقصد به الشیوع ... (2)
ص: 224
عرفنا (1) أن المصدر الأصلی لا یدل بذاته إلا علی : «المعنی المجرد» فلا علاقة له - فی الغالب - بزمان ، ولا مکان ، ولا تأنیث ، ولا تذکیر ، ولا علمیة ولا عدد ، ولا هیئة ، ولا شیء آخر غیر ذلک المعنی المجرد.
لکن من الممکن تناوله ببعض التغییر الیسیر والزیادة اللّفظیة القلیلة ، فلا یقتصر - بعدهما - علی المعنی المجرد ، وإنما یدل علیه وعلی شیء آخر معه هو : «المرّة الواحدة» ، أو : الهیئة» (2) ، بمعنی : أن المصدر الأصلیّ یدل بعد هذا التغییر ، والزیادة اللفظیة - إمّا علی المعنی المجرد مزیدا علیه الدلالة العددیة التی تبین الوحدة ، (أی : أنه واحد ، لا اثنان ، ولا أکثر ..). وإمّا علی المعنی المجرد مزیدا علیه وصفه بصفة من الصفات ؛ کالحسن ، أو : القبح ؛ أو : الطول ، أو : القصر ... أو غیر ذلک مما یتصل بهیئته ، وشکله ، وأوصافه ، لا بعدد مراته (3).
فالمصدر الأصلی فی دلالته الأساسیة الأولی خال من التقیید ، بخلافه إذا دل علی المرة أو الهیئة فإنه یکون فی «المرّة» مقیدا - مع الحدث - بالدلالة علی أن هذا الحدث مرة واحدة ، وفی «الهیئة» یکون مع الحدث مقیدا بوصف خاص (4).
ص: 225
وإذا دل المصدر الأصلی - بعد التغییر - علی المعنی المجرد مزیدا علیه الدلالة علی الوحدة - وهی «المرّة» - أو علی «الهیئة» فإنه یظل محتفظا باسمه کما کان. ولکنه یشتهر باسم : المصدر الدال علی «المرة» ، أو علی «الهیئة» فهو فی الحالتین مصدر أصلی (1) له اسمه ، وکل أحکام المصدر الأصلی (2). إلا أنّ الدال علی «المرّة» لا یعمل - کما سبق (3) -.
ا - فإذا أردنا الدلالة علی «المرّة» الواحدة من المصدر الأصلی لفعل ثلاثی فوق دلالته علی المعنی المجرد : (أتینا بمصدره المشهور ، مهما کانت صیغته ، ومهما کان وزنه) - (وجعلناه علی وزن : «فعل» ، ولو بحذف أحرفه الزائدة إن اقتضی الأمر هذا) - (وزدنا فی آخره تاء التأنیث) : فیصیر الوزن : «فعلة» ، وهی صیغة المصدر المطلوب الدال علی «المرّة» فوق دلالته علی المعنی المجرد ؛ ولا تتحقق هذا الصیغة إلا بتحقق الأمور الثلاثة السالفة. فللوصول إلی الصیغة الدالة علی «المرّة» من المصادر : أخذ - قعود - فرح - جولان وأشباهها ... ، یجب : (تجرید کل مصدر أصلیّ من حروفه الزائدة ، إن وجدت) ، ثم (تحویل صیغته بعد ذلک إلی : «فعل» ، ثم (زیادة تاء التأنیث فی آخرها) ؛ فتصیر : أخذة - قعدة - فرحة - جولة ؛ وهذه المصادر الأصلیة تدل هنا علی
ص: 226
المعنی المجرد ، وعلی المرّة معا ؛ نحو : أخذت من المال أخذة - قعدت علی الأریکة قعدة - تجددت لنا فرحة بالنصر ، قمت بجولة حول المدینة. والمعنی : أخذة واحدة - قعدة واحدة - فرحة واحدة - جولة واحدة (1) -.
فإن کانت صیغة المصدر الأصلی موضوعة فی أصلها علی وزن : «فعلة» : نحو : نظرة - هفوة - رأفة - صیحة ... لم تدلّ بنفسها فی هذه الصورة علی المرّة ، ووجب زیادة لفظ آخر معها لیدل علی «المرة» أو قیام قرینة أخری تدل علیها. والغالب فی اللفظ الآخر أن یکون نعتا. فنقول مثلا : ربما تنفع النظرة الواحدة فی ردع المسیء - قد تعقب الهفوة الواحدة عواقب خطیرة - إن رأفة واحدة بضعیف قد تضمه إلی أعوانک المخلصین - أهلک الله بعض الغابرین بصیحة لم تتکرر (2) ...
ولا بد فی صیاغة «فعلة» الدالة علی «المرّة» من تحقق شرطین : أن تکون لشیء حسّیّ ، صادر من الجوارح الظاهرة والأعضاء الجسمیة ، وأن یکون ذلک الشیء المحسوس غیر ثابت ؛ فلا تصح صیاغة «فعلة» للدلالة علی أمر معنوی عقلیّ محض ، کالذکاء ، أو : العلم ، أو : الجهل ، أو : النبوغ ... ولا تصح صیاغتها من الأوصاف الثابتة ، کالظّرف ، والحسن. والملاحة ، والقبح ، والطول ، والقصر ...
وإن کان الفعل الماضی غیر ثلاثی فالوسیلة للدلالة علی المرة من مصدره الأصلی هی : زیادة تاء التأنیث فی آخر هذا المصدر مباشرة ، دون زیادة ، أو حذف ، أو تغییر آخر. مثل : «إنعام» مصدر الفعل الرباعی : «أنعم»
ص: 227
و «تبیّن» مصدر الفعل الخماسی : «تبیّن» ، و «استفهام» مصدر الفعل السداسی : «استفهم» فإن صیغها الدالة علی «المرة» هی : «إنعامة» - تبیّنة (1) - استفهامة ... نحو ، إن إنعامة الله تملأ النفس انشراحا - تبیّنة الحق جلبت الخیر ، ودفعت البلاء - استفهامة وهدایة (2) ، خیر من صمت وضلالة.
فإن کان مصدر الفعل غیر الثلاثی مشتملا فی أصله علی تاء التأنیث فإنه لا یصلح للدلالة المباشرة علی المرة ، ویجب زیادة لفظ آخر معه ، أو قیام قرینة تدل علیها. نحو : «استعانة» تقول : استعانة واحدة بأریحیّ قد تمنع خطرا داهما. والغالب فی اللفظ الآخر أن یکون نعتا ؛ کالمثال السالف.
* * *
ب - وإذ أردنا أن ندل علی «الهیئة» بمصدر الثلاثی - فوق دلالته علی المعنی المجرد - صغناه بالطریقة السالفة علی وزن : «فعلة» ، (بأن نجئ بمصدر الفعل الثلاثی ، دون غیره من الأفعال التی لیست ثلاثیة ونحذف ما فیه من الحروف الزائدة إن وجدت ،) ثم (نزید فی آخره تاء التأنیث) ، ثم (نجعله علی صورة : «فعلة») فهذه أمور ثلاثة لا بد من تحققها ؛ فنقول فی مصادر الثلاثی السالفة : إخذة - قعدة - فرحة - جیلة (3) ... ؛ نحو : إخذة القطّ فریسته مزعجة - قعدة الوقور جمیلة - فرحة العاقل یزینها الاعتدال - جیلة (4) الرّحالة شاهدة برغبته فی کشف المجهول. والمعنی : هیئة أخذ القط ، وطریقته فی الأخذ ... - هیئة قعود الوقور ، وطریقته ، وشکل قعوده ... - هیئة فرح العاقل وصورته فی أثناء فرحه ... - هیئة جولان الرحّالة ، وشکل جولانه ، ومنظره ...
فإن کانت صیغة المصدر الأصلی موضوعة فی أصلها علی وزن : «فعلة» الخاص «بالهیئة» ؛ نحو : عزّة - نشدة (5) - رخوة (6) ... وجب
ص: 228
التصرف بإیجاد ما یضمن الدلالة علی «الهیئة» ؛ کزیادة بعض الألفاظ للدلالة علیها ؛ أو إقامة قرینة ، - أیّ قرینة - ترشد إلیها ، وإلی ما یراد منها من حسن ، أو قبح ، أو : زیادة ، أو نقص ... أو غیر هذا من الأوصاف التی یراد وصف المصدر بها ، مثل : العزة الجاهلیة تحمل صاحبها علی الطغیان - نشدة المآرب بالحکمة کفیلة بإدراکها.
ویلاحظ أن الدلالة علی «الهیئة» بالصیغة المباشرة السالفة ، إنما تقتصر علی مصدر الفعل الثلاثی ؛ مع زیادة التاء فی آخر هذا المصدر إن لم تکن موجودة ؛ فمنهما تتکون الصیغة الدالة بنفسها علی المعنی المجرد وعلی «الهیئة» معا. أما الأفعال التی لیست ثلاثیة فلا تصاغ - قیاسا - من مصادرها الأصلیة صیغة تدل علی «الهیئة» ، وإنما یزاد علی المصدر الأصلی قرینة ، أو لفظ یدل علی الوصف المراد ، من غیر التزام قرینة معینة ، أو لفظ معین. فعند إرادة الدلالة علی الهیئة من المصادر : تکلّم - استماع - اندفاع - وأشباهها ... نقول : التکلم الکثیر مدعاة للملل - الاستماع الحسن أمارة العقل الراجح - الاندفاع الطائش مقدمة البلاء العاجل.
ومجمل القول : إذا کان المصدر الأصلی موضوعا فی أصله علی وزن : «فعلة» کعزّة - وأردنا أن یدل علی «المرة» وجب تحویله إلی صیغة «فعلة» فنقول : ثارت فی رأس الجاهلیّ عزّة أبعدته عما یحسن بالعاقل. وکذلک إن کان موضوعا فی أصله علی وزن - : «فعلة» ؛ کرحمة ، وأردنا أن یدل علی «الهیئة» فإننا نحوله إلی صیغة : «فعلة» ؛ فنقول : رحمة ، مثل : (رحمة تداوی ، ورحمة تجرح (1)).
* * *
وخلاصة ما سبق :
1- أن الفعل الثلاثی یصاغ - بشرطین - مصدره الأصلی الشائع علی وزن : «فعلة» للدلالة علی أمرین معا ؛ هما : المعنی المجرد ، و «المرّة».
ص: 229
ویتوصل إلیهما من مصدر غیر الثلاثی بزیادة تاء التأنیث علی هذا المصدر.
2- ویصاغ مصدر الثلاثی علی وزن «فعلة» للدلالة علی أمرین معا ؛ هما : المعنی المجرد ، والهیئة. ولا یصاغ المصدر للهیئة مباشرة من غیر الثلاثی.
3- مصدر المرة والهیئة هو مصدر أصلیّ یحتفظ باسمه ، وبخصائصه (1) التی عرفناها ، وبعمله. إلا أن المصدر الدال علی المرة لا یعمل (2).
4- إذا کانت صیغة المصدر الأصلیّ موضوعة فی أصلها علی صورة المصدر الذی نرید أن یدل علی المرة أو علی الهیئة ، وجب إدخال تغییر أو زیادة علیها أو المجیء بقرینة تدل علی المراد ، وترشد إلی المرة أو الهیئة ، طبقا للتفصیل الذی سبق ... (3)
ص: 230
وتسمی هذه الصیغة : المصدر المیمی (1)». وتعرب - فی الأغلب (2) - علی حسب حاجة الجملة.
1- وللوصول إلیها من الفعل الثلاثی غیر المضعف (3) نأتی بمصدره القیاسی المشهور - مهما کانت صیغته - وندخل علیه من التغییر اللفظی ما یجعله علی وزن «مفعل» - بفتح المیم والعین - وهذه هی الصیغة القیاسیة للمصدر المیمیّ فی جمیع حالات (4) الفعل الماضی الثلاثی غیر المضعف. ما عدا حالة واحدة (5) ؛ وهی التی یکون فیها الفعل الماضی الثلاثی صحیح الآخر ، معتل الفاء (6) بالواو التی تحذف (7) فی مضارعه ؛ (لوقوعها بین الفتحة والکسرة ؛ مثل : وصل - وصف - وعد - وثب - وجد - ... فإنها أفعال واویة الفاء ، ومضارعها مکسور العین ، محذوف الواو ، وهو : یصل - یصف - یعد یثب - یجد ...) - وفی هذه الحالة الواحدة تکون علی وزن : «مفعل» بکسر العین .... (8).
ص: 232
فمن أمثلة «مفعل» - بفتح المیم والعین - : ملعب ، بمعنی ؛ لعب - مسقط ؛ بمعنی : سقوط - مصعد ؛ بمعنی : صعود - مأکل ؛ بمعنی : أکل - مغنم ، بمعنی : غنم - مأثم ، بمعنی : إثم - مخبثة ، بمعنی : خبث - منطق ، بمعنی : نطق - مقدم : بمعنی قدوم - معاب (1) ؛ بمعنی : عیب. وأفعالها الماضیة : لعب - سقط - صعد - أکل - غنم - أثم - خبث - قدم - عاب. یقال : : فلان ریاضی یحسن ملعب الکرة - سقط البرد ، وکان مسقطه عنیفا - صعدت إلی قمة الجبل مسترشدا فی مصعدی بخبیر - أهلک فلانا مأکله الحرام ... ومثل قولهم : لیس فی الشر مغنم ، ولا لوم علی امرئ إلا فی مأثم ، والکفر مخبثة لنفس المنعم. وقول الشاعر :
لا یملأ الهول صدری قبل مقدمه
ولا أضیق به ذرعا (2)
إذا وقعا.
وقول الآخر :
أنا الرجل الذی قد عبتموه
وما فیه لعیّاب معاب (3)
ومن أمثلة : «مفعل» - بکسر العین - موصل ؛ بمعنی : وصول - موصف ، بمعنی ؛ وصف - موعد ، بمعنی : وعد ... و ... و ...
فیقال : کان موصلی للصدیق تنفیذا للموعد الذی بیننا ، وکان موصفه لمکان التلاقی واضحا ؛ فلم أخطئه ... أی : کان وصولی للصدیق تنفیذا للوعد الذی بیننا ، وکان وصفه(4) ...
فإن کان الثلاثی مضعف العین جاز فی مصدره المیمی أن یکون مفتوح العین
ص: 233
أو مکسورها (1) کالمفرّ - بفتح الفاء وکسرها - فی قولهم : لا ینفع الجانی المفرّ من قصاص الدنیا ، فقصاص الآخرة أشد ...
أما ما ورد من الألفاظ المسموعة خارجا فی صیاغته علی الضابط الموضّح فی الحالتین السابقتین ؛ مخالفا له - فحکمه : جواز استعماله بالصیغة الواردة ، أو إخضاعه للضابط ، وتطبیق القاعدة علیه ؛ فیصاغ صیاغة جدیدة علی حسب مقتضاها ...
2- وإن کان الماضی غیر ثلاثی فمصدره المیمیّ یصاغ علی صورة مضارعه ، مع إبدال أول المضارع میما مضمومة ، وفتح الحرف الذی قبل آخره إن لم یکن مفتوحا (2) ... ففی مثل الأفعال : عرّف ، تعاون - استفهم .... یکون المضارع : یعرّف - یتعاون - یستفهم. وتکون صیغة المصدر المیمی : معرّف - متعاون - مستفهم .... یقال : (کان معرّفک للنظریة العلمیة واضحا ، والمتعاون بیننا فی فهمها خیر وسیلة لتحقیق الغرض ، والإجابة علی کل مستفهم أنارت غوامض البحث). ترید : (کان تعریفک - والتعاون بیننا - ... والإجابة عن کل استفهام.) ومثل قول الشاعر :
ألا إنما النعمی تجازی بمثلها
إذا کان مسداها إلی ماجد حرّ
أی : إسداؤها.
* * *
وملخص ما سبق من حیث : الصیاغة القیاسیة ، والحکم ، والدلالة :
1- أن المصدر المیمی للماضی الثلاثی غیر المضعّف یصاغ دائما علی وزن «مفعل» - بفتح المیم والعین - إلا إن کان الماضی صحیح الآخر معتل
ص: 234
الأول بالواو التی تحذف عند کسر عین مضارعه ، فیجیء مصدره المیمی علی «مفعل» بکسر العین (1).
أما المصدر المیمی للثلاثی المضعف فیجوز فیه فتح العین وکسرها.
2- وأن المصدر المیمی لغیر الثلاثی یصاغ علی صورة مضارعه ، مع إبدال الحرف الأول میما مضمومة ، مع فتح الحرف الذی قبل آخره (2).
3- وأن المصدر المیمیّ یلازم الإفراد (3) والتذکیر ، ولا تلحقه تاء التأنیث إلا سماعا فی رأی کثیر من النحاة. ویخالفهم - بحق - آخرون (4).
والراجح أنه لا یعد من المشتقات ، ولکن یصح أن یتعلق به شبه الجملة - کما سبق (5) -.
4- أنه یعرب علی حسب حاجة الجملة إلیه إلا ما کان منه مسموعا بالنصب (6).
ص: 235
5- ومن حیث العمل فإنه یعمل عمل مصدره (1).
6- أما من حیث الدلالة فیدل علی المعنی المجرد - کالمصدر الأصلی - ویمتاز المیمی بقوة دلالته وتأکیدها. ولا یدل علی بیان السبب إلا سماعا.
* * *
«ملاحظة» : جاء فی بعض المراجع اللغویة ما نصه (2) :
(إن کان الماضی الثلاثی معتل العین بالیاء فالمصدر المیمی مفتوح العین ، واسم الزمان والمکان مکسور کالصحیح ؛ نحو : مال ممالا ، وهذا ممیله .. هذا هو الأکثر. وقد یوضع کل واحد موضع الآخر ؛ نحو المعاش والمعیش ، والمسار والمسیر. قال ابن السّکّیت : لو فتحا جمیعا فی اسم الزمان والمکان ، وفی المصدر المیمی ، أو کسرا معا فیهما - أی : فی الاسم والمصدر - لجاز ؛ لقول العرب : المعاش والمعیش ؛ یریدون بکل واحد : المصدر واسم الزمان والمکان ، وکذا المعاب والمعیب ، قال الشاعر :
أنا الرجل الذی قد عبتموه
وما فیه لعیّاب معاب ... (3)
ص: 236
وقول الآخر :
أزمان قومی والجماعة کالذی
منع الرّحالة أن تمیل ممیلا
أی : أن تمیل میلا. والرّحالة : الرحل ، والسرج أیضا. وقال ابن القوطیة أیضا : من العلماء من یجیز الفتح والکسر فیهما ؛ مصادر کنّ أو أسماء زمان ومکان ؛ نحو : الممال والممیل ، والمبات والمبیت.)» ا ه.
ص: 237
(اسم مشتق ، یدل علی معنی مجرد ، حادث (1) ، وعلی فاعله). فلابد أن یشتمل علی أمرین معا ؛ هما : المعنی المجرد الحادث ، وفاعله ، مثل کلمة : «زاهد» ، وکلمة : عادل» فی قول القائل : (جئنی بالنّمر الزاهد ، أجئک
ص: 238
بالمستبد العادل.) فکلمة : «زاهد» تدل علی أمرین معا ؛ هما : الزهد مطلقا ، والذات التی فعلته أو ینسب إلیها ، وکذا کلمة : «عادل» تدل علی أمرین معا ؛ هما العدل مطلقا والذات ، التی فعلته أو ینسب إلیها ، ومثلهما کلمتی : «واش» وسائل» فی قول المعرّی :
أعندی وقد مارست کل خفیة
یصدق واش (1) ، أو یخیّب
سائل
ودلالة اسم الفاعل علی المعنی المجرد الحادث ، أغلبیة ؛ لأنه قد یدل (2).
- قلیلا - عن المعنی الدائم ، أو شبه الدائم ، نحو : دائم - خالد - مستمر - مستدیم ... و ... (3)
ودلالته علی ذلک المعنی المجرد مطلقة (أی : لا تفید النص علی أن المعنی قلیل أو کثیر ..) فصیغته الأساسیة محتملة لکل واحد منهما (4) ، إلا إن وجدت قرینة تعین أحدهما دون الآخر.
ص: 239
(1) :
ا - یصاغ من مصدر الماضی الثلاثی ، المتصرف ، علی وزن : «فاعل» ؛ بأن نأتی بهذا المصدر - مهما کان وزنه - وندخل علیه من التغییر ما یجعله علی وزن : «فاعل». ولا فرق فی الماضی بین المتعدی واللازم ، ولا بین مفتوح العین ، ومکسورها ، ومضمومها (2) ؛ نحو : (فتح ، یفتح ، فتحا ؛ فهو : : فاتح - قعد - یقعد ، قعودا ؛ فهو : قاعد) - (حسب ، یحسب ، حسبانا ؛ فهو : حاسب - نعم ینعم ، نعما ؛ فهو : ناعم) - (کرم ، یکرم ، کرما ؛ فهو کارم - حسن ، یحسن ، حسنا ؛ فهو : حاسن) ؛ بشرط أن یکون الکرم والحسن أمرین طارئین ، لا دائمین (3)
ص: 240
وکذلک بقیة المعانی السابقة ، حین یکون المراد النصّ علی حدوث المعنی.
ویجب أن یتحقق فی صیغة : «فاعل» المذکورة أمران ؛ أن یکون ماضیها الثلاثی متصرفا ، وأن یکون معنی مصدره غیر دائم. لأن الماضی الجامد (مثل : نعم ، وعسی ، ولیس ...) لا یکون له مصدر ، ولا اسم فاعل ، ولا شیء من المشتقات الأخری. ولأن المصدر الدال علی معنی دائم ، أو شبه دائم - لا یشتق منه ما یدل نصّا علی الحدوث ، وعدم الدوام ، وهو : اسم الفاعل. إنما یشتق من ذلک المصدر شیء آخر یدل علی الدوام أو شبهه ؛ «کالصفة المشبهة» (1) ، ولها صیغ متعددة بتعدد الاعتبارات المختلفة ، وأحکام خاصة بها ، سنعرفها فی بابها (2).
ص: 241
1 - قلنا : إن صیغة «فاعل» المراد بها : «اسم الفاعل» لا تشتق إلا من مصدر فعل ماض ، ثلاثی ، متصرف. ویتساوی فی هذا کل أنواع الماضی (الثلاثی المتصرف ، المتعدی واللازم ، مفتوح العین ، ومضمومها ، ومکسورها) .. فلا مکان للتوهم بأن بعض أنواع الماضی الثلاثی المتصرف اللازم لا یصاغ من مصدره اسم الفاعل علی صیغة «فاعل» للدلالة علی الحدوث نصّا. إذ من أین یجیء التوهم بعد أن قطع الأئمة بالحکم العام السابق ، وبقیاسیة : کرم الرجل ؛ فهو : کارم - بخل فهو : باخل - شرف فهو : شارف ، (أی : صار صاحب شرف) - وحسن فهو : حاسن - وغنی فهو : غان ... و ... وأمثال هذا مما فعله ثلاثی متصرف ، لازم ، یدل علی معنی طارئ غیر ثابت ، ولا شبیه بالثابت. أما إن کان المعنی لیس طارئا حادثا وإنما هو دائم أو شبه دائم - فیجب التصرف ؛ إمّا بتغییر صیغة «فاعل» الدالة علی الحدوث إلی أخری دالة علی الثبوت أو شبهه ؛ کأن نقول : کریم - بخیل - شریف - حسن - غنیّ - (کما سیجیء فی باب الصفة المشبهة) وإما بإیجاد قرینة - لفظیة أو معنویة - تدل علی أن صیغة : «فاعل» لا یراد منها الحدوث ؛ وإنما یراد منها الثبوت ، ومن القرائن اللفظیة : إضافة اسم الفاعل من الثلاثی اللازم إلی فاعله (1) ، نحو : لی صدیق ، راجح العقل ، رابط الجأش ، حاضر البدیهة ... والأصل : راجح عقله ،
ص: 242
رابط (1) جأشه ، حاضرة «بدیهته. ومنها : أن تکون صیغته اللفظیة صریحة الدلالة علی الدوام أو شبهه (2).
ومثال القرینة المعنویة قوله تعالی : (مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ) ، وقول المؤمن : رباه ، آمنت بک ، خالق الأکوان ، لا شریک لک ، وخفتک قاهر الطغاة لا یعجزک شیء ... وقول شوقی :
ص: 243
قف «بروما» (1) وشاهد الأمر
، واشهد
أن للملک مالکا ، سبحانه
فهذه الأوصاف المتصلة بالله ، من الملک (2) والخلق ، والقهر - لیست طارئة ، ولا عارضة ، ولا مؤقتة بزمن محدود تنقضی بانقضائه ؛ لأن هذا لا یناسب المولی جل شأنه. ومن ثم کانت تلک الصیغ فی معناها ودلالتها : «صفات مشبهة» ولیست «اسم فاعل» ، إلا فی الصورة اللفظیة ، والأحکام النحویة الخاصة به برغم أنهما علی صیغة : «فاعل» ؛ فهذا الوزن وحده لیس کافیا فی الدلالة علی الحدوث أو علی الثبوت والدوام ؛ فلابد معه من القرینة التی تعیّن أحدهما ، وتزیل عنه اللّبس والاحتمال ؛ کی یمکن القطع بعد ذلک بأنه فی دلالته المعنویة - لا الشکلیة - اسم فاعل ، أو صفة مشبهة.
* * *
ص: 244
ب - ویصاغ اسم الفاعل من مصدر الماضی غیر الثلاثی بالإتیان بمضارعه ، وقلب أول هذا المضارع میما مضمومة ، مع کسر الحرف الذی قبل آخره ، إن لم یکن مکسورا من الأصل. فإذا أردنا الوصول إلی اسم الفاعل من الفعل : «قاوم» أتینا بمضارعه ، وهو : «یقاوم» ، وأجرینا علیه ما سبق ؛ فیکون اسم الفاعل هو : «مقاوم» ، وفی مثل : یتبیّن - وهو مضارع للماضی : «تبیّن» - نقول : متبیّن ... نحو : الفریسة مقاومة المفترس ، والغلب متبیّن للقویّ. وفی مثل : أذلّ وأعزّ ؛ ومضارعهما یذلّ ویعرّ ... نقول : «مذل» و «معز» کقول عائشة - رضی الله عنها - فی رثاء أبیها : «نضّر الله وجهک یا أبت ؛ فقد کنت للدنیا مذلّا بإدبارک عنها ، وللآخرة معزّا بإقبالک علیها» ....
ح - مجیء الصیغة من مصدر الفعل غیر الثلاثی بالطریقة السالفة لا یکفی - من غیر قرینة - للقطع بأنها صیغة «اسم فاعل» ؛ فقد یوهمنا مظهرها أنها کذلک ، مع أنها فی حقیقتها «صفة مشبهة» ، بسبب دلالتها علی معنی ثابت. ومن هذا : الصیغة المضافة إلی فاعلها (1) فی مثل : (النجم مستدیر الشکل ، متوقّد الجرم ؛ مستضئ الوجه. والکوکب مستدیر الشکل ، منطفئ الجسم ، مظلم السطح). والأصل : مستدیر شکله ، متوقد جرمه ، مستضیء وجهه ، منطفئ جسمه ، مظلم سطحه. وأفعالها هی : (استدار - توقّد - استضاء - انطفأ - أظلم ... و ...) فقد قامت فی الأمثلة السابقة قرینة لفظیّة ، (هی إضافة الصیغة إلی فاعلها علی الوجه المشروح) وقرینة معنویة ، (هی الیقین الشائع بدوام تلک الأوصاف) وتدل کل منهما وحدها علی أن الصیغة لیست اسم فاعل ؛ بالرغم من صورتها الظاهرة. وإذا لا بد من قرینة تقوم بجانب الصیغة هنا - کما قامت فی صیغة «فاعل» المشتق من مصدر الثلاثی - ؛ لتبعد الوهم ، وتحدد النوع ؛ أهو اسم فاعل نصّا ، أم صفة مشبهة قطعا.
د - لابد من زیادة تاء التأنیث فی آخر «اسم الفاعل» للدلالة علی
ص: 245
تأنیثه ، سواء أکان فعله ثلاثیّا أم غیر ثلاثی ؛ إلا فی المواضع التی یحسن ویکثر ألا تزاد فیها (1) ، ومنها : اسم الفاعل الخاص بالمؤنت ؛ کالمرأة مثلا - أی : الخاصّ بأمر مقصور علیها ، یناسب طبیعتها وتکوینها الجسمی ؛ - فلا یحتاج لعلامة تدل علی التأنیث ، وتمنع اللبس ؛ مثل : الحامل ، والمرضع ، فی نحو : «ولدت الحامل ، وصارت مرضعا» (2).
ه - کسر الحرف الذی قبل الآخر فی اسم الفاعل من مصدر الفعل غیر الثلاثی - قد یکون کسرا ظاهرا کما فی مثل : (متوقّد - منطفئ - مظلم ...) وقد یکون مقدرا کما فی مثل : (مستضیء ، - مستدیر - مختار ؛.) فأصلها : مستضوی ، مستدور - مختیر ... و ... فقلبت الواو فی الکلمتین الأولیین یاء بعد نقل کسرتها إلی الساکن الصحیح قبلها ؛ تطبیقا لقواعد صرفیة فی «الإعلال». وکذلک قلبت الیاء فی «مختیر» ألفا : لوقوعها متحرکة بعد فتحة ...
* * *
ا - فإن کان مجردا منها رفع فاعله بغیر شرط إن کان الفاعل ضمیرا مستترا (1) أو ضمیرا بارزا (2) ، وعمل کذلک فی باقی المعمولات التی لیست فاعلا ظاهرا ، ولا مفعولا به.
أما الفاعل الظاهر فلا یرفعه إلا إذا کان اسم الفاعل مستوفیا للشروط الآتیة (3) ، وفی مقدمتها اعتماده علی أحد الأشیاء المذکورة هناک. نحو : أقادم صدیقنا الآن؟
وأما نصبه المفعول به فلا یجوز إلا بعد استیفائه تلک الشروط ، ومنها الاعتماد أیضا ، وأن یکون : بمعنی الحال أو الاستقبال ، أو الاستمرار المتجدد (4) الذی یشمل الأزمنة الثلاثة ، مثل : (من یکن الیوم مهملا عمله یجد نفسه غدا فاقدا رزقه). ومثل : (ما أعجب الصانع الماهر ، مدیرا مصنعه فی حزم ، مدبّرا أمره فی یقظة).
ویقولون فی سبب إعماله : إنه جریانه - غالبا - علی مضارعه الذی بمعناه (5) ، وإن هذه الشروط تقرّبه من الفعل ، وتبعده من الاسمیة المحضة ...
ص: 247
ولهذا یمکن أن یحل محله المضارع الذی بمعناه.
فإن لم یکن اسم الفاعل المجرد من «أل» الموصولة مستوفیا الشروط الآتیة - ومنها الاعتماد - لم یرفع فاعلا ظاهرا ولم ینصب مفعولا به. وإن لم یکن بمعنی الحال ، أو الاستقبال ، أو الاستمرار المتجدد ؛ بأن کان بمعنی الماضی المحض ، لم ینصب المفعول به إلا بشرطین :
أولهما : تحقق الشروط الآتیة ، ولا سیما الاعتماد.
وثانیهما : صحة وقوع مضارعه موقعه من غیر فساد المعنی. نحو : (کانت الأمطار أمس غاسلة الأشجار ، منقیة میاهها الهواء) ، إذ یصح : کانت الأمطار أمس تغسل الأشجار وتنقی میاهها الهواء. ولا یصح : هذا حاصد قمحا أمس ؛ إذ لا یقال : هذا یحصد قمحا أمس.
وأما عمله فی شبه الجملة بنوعیه وفی باقی المعمولات الأخری التی لیست بفاعل ظاهر ، ولا بمفعول به منصوب - فلا یشترط فیها شیء ، لأن الشروط مطلوبة لإعماله فی الفاعل الظاهر ، والمفعول به المنصوب ، - کما أسلفنا - وهذا أمر یجب التنبه له.
وإنما أهمل اسم الفاعل الذی بمعنی الماضی ، فلم ینصب المفعول به مباشرة من غیر اشتراط شیء - کما نصب فعله المتعدی - لأنه لا یجری علی لفظ الفعل الماضی الذی بمعناه ، فهو یشبهه معنی ، لا لفظا ؛ ولهذا لا یجوز أن ینصب المفعول به مباشرة عند عدم تحقق الشروط ؛ فیجب فی هذه الصورة الإضافة ، بأن یکون اسم الفاعل مضافا ، ومعموله مضافا إلیه مجرورا (1) ، ولا یصح تسمیة هذا المعمول مفعولا به ، ولا إعرابه کذلک .. والإضافة فی
ص: 248
هذه الصّورة إضافة محضة ، لا یجوز فیها وجود «أل» فی اسم الفاعل ما دام بمعنی الماضی فقط - کما تقدم فی باب الإضافة (1) -
وفیما یلی تلک الشروط التی أشرنا إلیها :
1- أن یسبقه شیء یعتمد علیه ؛ کالاستفهام المذکور نصّا ، مثل قول الشاعر :
أمنجز أنتمو وعدا وثقت به
أم اقتفیتم جمیعا نهج عرقوب؟
أو الاستفهام المقدر فی مثل : غافر أخوک الإساءة أم محاسب علیها؟ فإن الأصل : أغافر أخوک ...؟ بدلیل وجود «أم» المعادلة (2) ...
أو النداء فی مثل : یا بانیا (3) مستقبلک بیمینک ستدرک غایتک. أو النفی (4) فی مثل : ما مخلف عهده شریف ، وقول الشاعر :
سلیم دواعی الصدر (5) ،
لا باسطا أذی
ولا مانعا خیرا ، ولا قائلا هجرا (6)
أو : أن یقع نعتا لمنعوت مذکور ؛ فی مثل : الحسد نار قاتلة صاحبها. أو لمنعوت محذوف لقرینة ؛ مثل : کم معذّب نفسه فی طلب الحریة لبلاده یری العذاب من أجلها نعیما ، وکم مبدّد ثروته فی سبیلها یری التبدید ذخرا. أو یقع حالا فی مثل : سحقا وبعدا للمال جالبا الذلّ والشقاء لصاحبه. أو یقع خبرا لمبتدأ ، أو لناسخ ، أو مفعولا لناسخ ؛ مثل : هذا منفق مالا فی وجوه البر - اشتهر العربیّ بأنه حام عشیرته ، أحسب الحرّ موطّنا نفسه علی احتمال المشتقات فی سبیل حریته ، وکنت أزعم المشقة موهنة عزیمته ؛ فإذا هی
ص: 249
أکبر حافز - أعلمت الجنود القائد مضاعفا الثناء علیهم ...
2- ألّا یکون مصغّرا ، فلا یصح : یقف حویرس زرعا ؛ أی : یقف حارس زرعا.
3- ألا یکون له نعت یفصل بینه وبین مفعوله ؛ فلا یصح : یقبل راکب مسرع سیارة. فإن تأخر النعت عن مفعول اسم الفاعل جاز ؛ نحو ؛ یقبل راکب سیارة مسرع. ویجوز الفصل بالنعت إن کان معمول اسم الفاعل شبه جملة ، لا مفعولا به ؛ نحو : (لا تستشر إلا قادرا - ناصحا - علی حلّ المشکلات ، ولا ترکن إلی صداقة ساع - طامع - وراء مآربه). والأصل : قادرا علی حل المشکلات ، ناصحا - ساع وراء مآربه ، طامع.
4- ألّا یفصل بینه وبین مفعوله فاصل أجنبی (وهو الذی لیس معمولا لاسم الفاعل ، وإنما یکون معمولا لغیره) ؛ فلا یجوز ؛ هذا مکرّم - واجبها - مؤدیة. والأصل : هذا مکرّم مؤدیة واجبها ؛ ففصلت کلمة : «واجب» بین اسم الفاعل ومفعوله ، مع أنها لیست معمولا لاسم الفاعل : «مکرّم» ؛ وهذا لا یصح.
وهناک حالة یصح فیها الفصل بالأجنبی ؛ هی : أن یکون الفاصل الأجنبی شبه جملة ، أو أن یکون معمول اسم الفاعل شبه جملة ، لا مفعولا به ؛ نحو : الرحیم مساعد - عن النهوض - عاجزا. ونحو : إن هذا الشاهد ناطق - نافع - بالحقّ - والأصل : الرحیم مساعد عاجزا عن النهوض - إن هذا الشاهد ناطق بالحق نافع (1).
* * *
ص: 250
ص: 251
ا - یختلف الاعتماد هنا عنه فی باب : المبتدأ والخبر ؛ فهو هناک مقصور علی النفی والاستفهام دون غیرهما - کما أشرنا (1) - ؛ فوجود أحدهما شرط «أغلبیّ» لکی یرفع الوصف فاعلا یغنی عن الخبر. وقد یمکن الاستغناء عن هذا الشرط هناک. فیرفع الوصف فاعله الذی یستغنی به عن الخبر بدون اعتماد علی نفی أو استفهام ، کما أوضحنا الحکم وتفصیله فی موضعه المناسب من باب : المبتدأ والخبر (2).
ب - إذا وقع الوصف (ومنه اسم الفاعل ..) مبتدأ مستغنیا بمرفوعه عن الخبر فإنه یحتاج إلی شروط أغلبیة (3) أخری ؛ أهمها : ألّا یکون معرّفا ، ولا مثنی ، ولا مجموعا ؛ لأن الوصف - فیما یقولون - بمنزلة الفعل ، والفعل لا یعرّف ، ولا یثنی ، ولا یجمع. وتفصیل هذا فی مکانه من الباب المشار إلیه ... (4).
ح - إذا رفع اسم الفاعل ضمیرا مستترا وجب أن یکون مرجع هذا الضمیر غائبا (5) ؛ لأن اسم الفاعل لا یعود ضمیره إلا علی الغائب ؛ ففی مثل : أنا ظان محمدا قائما - یکون التقدیر : أنا رجل ظان ... ؛ فالضمیر فی : «ظان» تقدیره : «هو» ، یعود علی ذلک المحذوف ، ولا یصح تقدیره : أنا (6) ... فقد قال النحاة إن الضمیر قد یختلف مع مرجعه فی مثل : أنا عالم فائدة التعاون ، وأنا مؤمن بحمید آثاره ، فالضمیر فی کلمتی : «عالم ومؤمن» مستتر یتحتم أن یکون تقدیره : «هو» کما عرفنا. لکن ما مرجعه؟
یجیبون : إن أصل الجملة : أنا رجل عالم فائدة التعاون ، وأنا رجل مؤمن بحمید آثاره. فالضمیر للغائب ، تقدیره ؛ «هو» عائد هنا علی محذوف حتما ،
ص: 252
ولا یصح عودته علی الضمیر : «أنا» المتقدم ، کما لا یصح أن یکون الضمیر المستتر تقدیره : «أنا» ، بدلا من : «هو» لأن اسم الفاعل لا یعود ضمیره إلا علی الغائب ، وهذا یقتضی أن یکون الضمیر المستتر للغائب أیضا.
والظاهر أن هذا الحکم لیس مقصورا علی اسم الفاعل ، بل یسری علی غیره من المشتقات المتحملة ضمیرا مستترا ؛ فیجب إرجاعه للغائب کذلک.
* * *
ص: 253
ب - وإن کان اسم الفاعل مقترنا «بأل» الموصولة (1) فإنه یعمل مطلقا بغیر تقید بزمن معین (2) ، ولا بشرط من الشروط السالفة التی منها : الاعتماد ، وعدم التصغیر ... و ... نحو : ما أعجب رائدنا هذا ، فهو النّاظم أمس قصیدة رائعة ، وهو الناطق - الآن - الحکمة والبیان ، وهو المواجه خصمه - غدا - بالحجة والبرهان (3) ... وکقول المتنبی :
القاتل السیف فی جسم القتیل به
وللسیوف - کما للناس - آجال
* * *
1- إذا کان اسم الفاعل مستوفیا شروط إعماله لنصب المفعول به جاز نصب هذا المفعول مباشرة - بشرط أن یکون اسما ظاهرا - وجاز جرّه باعتباره «مضافا إلیه» واسم الفاعل هو «المضاف» ؛ ففی نحو : ما أنت الیوم مصاحب الغادر - یصح نصب کلمة : «الغادر» باعتبارها مفعولا به لاسم الفاعل ، ویجوز جرها باعتبارها مضافا إلیه. فإذا جاء تابع للمفعول به المنصوب مباشرة وجب فی هذا التابع النصب ، مراعاة للفظ المتبوع المنصوب ، ولا یصحّ إلا النصب. أما عند جر المتبوع بالإضافة فیجوز فی تابعه الأمران ، إما مراعاة الأصل السابق وهو النصب ، لأن المضاف إلیه کان مفعولا به فی أصله - وإما مراعاة الأمر الواقع الآن ، وهو : الجر. ففی مثل : ما أنت مصاحب الغادر
ص: 254
والمنافق - یتعین نصب المعطوف ، وهو کلمة : «المنافق» تبعا للمعطوف علیه المنصوب ؛ وهو کلمة : «الغادر». وفی مثل : ما أنت مصاحب الغادر والمنافق ، بجرّ المعطوف علیه - یجوز فی المعطوف النصب ، ویذکر فی إعرابه : أنه منصوب ، تبعا لأصل المعطوف علیه ، کما یجوز فیه الجرّ تبعا لحالة المعطوف اللفظیة.
ویجوز فی مفعول اسم الفاعل أن تدخل علیه لام التقویة (1) ، فتحره ؛ نحو : أنت متقن «العمل ، أو للعمل ... ، ونحو قوله تعالی : (فَعَّالٌ (2) لِما یُرِیدُ)، والأصل : فعّال (3) ما یرید.
فإن کان لاسم الفاعل المستوفی الشروط مفعولان أو ثلاثة ، وأضیف إلی واحد منها - وجب ترک الباقی مفعولا به منصوبا کما کان. نحو : أنا ظانّ الجوّ معتدلا - أأنت مخبر الصّدیق الزیارة قریبة؟ وفعلهما : «ظنّ» الناصب لمفعولین ، و «أخبر» الناصب لثلاثة ؛ فاسم الفاعل المستوفی لشروط نصب المفعول به مماثل لفعله فی نصب المفعول به ، أو : المفعولین ، أو : الثلاثة وعند إضافته لمفعول به منها یظل الباقی علی حاله منصوبا (4).
وقد یضاف اسم الفاعل للخبر ؛ لشبهه بالمفعول به ؛ مثل : أنا کائن
ص: 255
أخیک. فإن کان مفعول اسم الفاعل ضمیرا متصلا ، وجب جره بالإضافة (1) نحو ؛ والدک مکرمک ، ولا یجوز إعرابه مفعولا به إلا فی رأی مرجوح.
(2) عرفنا (2) أنه : لا یجوز إضافة اسم الفاعل إلی مرفوعه مع احتفاظه باسمه وبقائه اسم فاعل. لکن إن دل علی الثبوت وقامت قرینة تدل علی هذا من غیر أن تتغیر صیغته وصورته اللفظیة الظاهرة ، صار صفة مشبهة یجری علیه کل أحکامها - ومنها : أن یکون لازما لا ینصب مفعولا به أصیلا ، وأن تجوز إضافته إلی فاعله (3) ، وهذا أحد الأحکام التی یختلف فیها اسم الفاعل العامل ، والمصدر العامل (4).
ص: 256
3- جمیع ما تقدم من الأحکام ، والشروط ، والتفصیلات الخاصة باسم الفاعل المفرد تسری باطراد علیه إذا صار مثنی (1) لمذکر أو مؤنث ، أو جمعا لمذکر أو مؤنث سالمین ، أو جمع تکسیر. فلا فرق بین مفرده ومثناه وجمعه فی شیء مما سبق (2) خاصّا بإعماله ، أو عدم إعماله ، مقترنا «بأل» أو غیر مقترن بها.
* * *
: (تکوینها ، والغرض منها)
4- یجوز تحویل صیغة : «فاعل» - وهی صیغة : «اسم الفاعل» الأصلیّ من مصدر الفعل الثلاثی المتصرف - إلی صیغة أخری تفید من الکثرة والمبالغة الصریحة فی معنی فعلها الثلاثی الأصلی ما لا تفیده إفادة صریحة صیغة : «فاعل (3)» السالفة ، مثال هذا أن نتحدث عن شخص یزرع الفاکهة ، فنقول : فلان زارع فاکهة. فإذا أردنا أن نبین فی صراحة لاحتمال معها ، کثرة زراعته الفاکهة ، ونبالغ فی وصفه بهذا المعنی - نقول : فلان زرّاع فاکهة - مثلا -. فکلمة : «زرّاع» تفید من کثرة زراعته ، ومن المبالغة فی مزاولة الزراعة ما لا تفیده کلمة : «زارع» مع أن الکلمتین من فعل ثلاثی واحد ؛ هو : «زرع» وکلتاهما تدلّ علی أمرین ؛ معنی مجرد ؛ هو : «الزرع» وذات فعلته. ولکنهما تختلفان بعد ذلک فی درجة الدلالة علی المعنی المجرد ، (أی : فی
ص: 257
مقدار قلّته ، وکثرته ، وضعفه ، وقوته) ؛ فصیغة : «فاعل» التی هی وزن «اسم الفاعل» من الثلاثی ، لا تدل وحدها علی شیء من ذلک إلا من طریق الاحتمال ، ولا تدل دلالة صریحة خالیة من هذا الاحتمال ، علی قوة ، ولا ضعف ، ولا کثرة ، ولا قلّة فی المعنی المجرد ؛ فکلمة «زارع» لا تدل بلفظها - بغیر قرینة أخری - علی أکثر من ذات متصفة بأنها تفعل الزراعة. ولیس فی صیغة الکلمة دلیل صریح علی أن تلک الذات تفعل الزراعة قلیلا أو کثیرا ... و ... ، بخلاف صیغة «فعّال» - مثلا - فإنها تدل بنصها وصیغتها الصریحة علی الکثرة والمبالغة فی ذلک الفعل ، أی : فی المعنی المجرد. ولهذا تسمی : «صیغة مبالغة» ومن ثمّ کان الذی یستخدم صیغة «فاعل» یرمی إلی بیان أمرین : «المعنی المجرد مطلقا ، وصاحبه» ، دون اهتمام ببیان درجة المعنی ؛ قوة وضعفا ، وکثرة وقلة. بخلاف الذی یستخدم «صیغة المبالغة». فإنه یقصد إلی الأمرین مزیدا علیهما بیان الدرجة (1) ، کثرة وقوة.
وما قیل فی : «زارع فاکهة وزرّاع فاکهة» ... یقال فی : ناظم شعرا ، ونظّام شعرا - صانع خیرا ، وصنّاع خیرا - قائل الصدق ، وقوّال الصدق ... و ... ، وهکذا یمکن تحویل صیغة «فاعل» الدالة علی اسم الفاعل من الثلاثی المتصرف إلی صیغة : «فعّال» أو غیرها من الصّیغ المعروفة باسم : «صیغ المبالغة»
وأشهر أوزانها خمسة قیاسیّة ؛ هی :
«فعّال (2)» ؛ نحو : ما أعظم الصدیق إذا کان غیر قوّال سوءا ، ولا فعّال إساءة ، وقول الشاعر :
وإنی لقوّال لذی البثّ (3)
مرحبا
وأهلا إذا ما جاء من غیر مرصد (4)
و «مفعال» (5) ؛ نحو : الطائر محذار صائده ، مخواف أعداءه.
ص: 258
و «فعول» ؛ نحو : البارّ وصول أهله. وقول الشاعر یخاطب سیدا کریما :
ضروب بنصل السیف سوق سمانها (1)
إذا عدموا زادا فإنک عاقر
وقول الآخر یفتخر :
إذا مات منّا سیّد قام سیّد
قئول (2) بما قال
الکرام فعول (3)
ومثل :
ذرینی ؛ فإن البخل - یا أم مالک -
لصالح أخلاق الرجال سروق
و «فعیل» ؛ نحو : أقدر (4) من یکون سمیعا خیرا ، نصیرا عدلا (5) وقول الشاعر :
فتاتان : أمّا منهما فشبیهة
هلالا ، وأخری منهما تشبه البدرا
و «فعل» ؛ نحو : یسوءنا أن نری جاهلا مزقا أوراقه ، رامیا بها فی الطریق. وقول الشاعر :
حذر أمورا لا تضیر ، وآمن
ما لیس ینجیه من الأقدار
هذه هی الصیغ الخمس القیاسیة. وهناک بعض صیغ قلیلة مقصورة علی السماع عند أکثر القدماء ؛ أشهرها من الفعل الماضی الثلاثی : «فعّیل (6) ،.
ص: 259
و «مفعل» ؛ نحو : إنه شرّیب أهوال ، ومسعر (1) حروب. وفعلهما الثلاثی ؛ شرب ، وسعر. ومن غیر الثلاثی : درّاک - سأر - معوان (2) - مهوان - نذیر - سمیع - زهوق. وأفعالها الشائعة : أدرک - أسأر (بمعنی : ترک فی الکأس بقیة) أعان - أهان - أنذر - أسمع - أزهق.
* * *
أحکامها : لصیغ المبالغة القیاسیة أحکام ، أهمّها :
ا - أنها لا تصاغ إلا من مصدر فعل ثلاثی ، متصرف ، متعد ، ما عدا صیغة : «فعّال» فإنها تصاغ من مصدر الفعل الثلاثی اللازم (3) والمتعدی ؛ کقوله تعالی : (وَلا تُطِعْ کُلَّ حَلَّافٍ (4) مَهِینٍ (5) ، هَمَّازٍ (6) ، مَشَّاءٍ (7) بِنَمِیمٍ (8) ، مَنَّاعٍ (9) لِلْخَیْرِ ، مُعْتَدٍ أَثِیمٍ ...) وقولهم : فلان بسّام الثغر ، ضحّاک السّن ، وقول الشاعر :
ص: 260
وإنی لصبّار علی ما ینوبنی
وحسبک أن الله أثنی علی الصبر
ولست بنظّار إلی جانب الغنی
إذا کانت العلیاء فی جانب الفقر
ب - وأنها لا تجری علی حرکات مضارعها وسکناته ، بالرغم من اشتمالها علی حروفه الأصلیة ، ولهذا کانت محمولة فی عملها علی اسم الفاعل لا علی فعله ...
ح - وأنها - فی غیر الأمرین السالفین - خاضعة لجمیع الأحکام التی یخضع لها اسم الفاعل بنوعیه المجرد من : «أل» ، والمقرون بها ، فلا اختلاف بینهما إلا فی الأمرین المتقدمین ، وکذلک فی شکل الصیغة ، وفی أن صیغة المبالغة بنصها الصریح أکثر مبالغة ، وأقوی دلالة فی معنی الفعل (1) من صیغة اسم الفاعل المطلقة ، وما عدا هذا فلا اختلاف بینهما فی سریان الأحکام والشروط وسائر التفصیلات التی سبق الکلام علیها فی اسم الفاعل (2) ...
ص: 261
ملاحظة : ورد فی المسموع الذی لا یقاس علیه بعض صیغ المبالغة خالیا من معنی : «المبالغة» ، مقتصرا فی دلالته المعنویة علی المعنی المجرد الذی لا مبالغة فیه ؛ فهو یدل علی ما یدل علیه اسم فاعله الخالی من تلک المبالغة المعنویة : مثل کلمة : «ظلوم» فی قول الشاعر :
وکل جمال للزوال مآله
وکل ظلوم سوف یبلی بظالم
فإنها لیست للمبالغة ؛ إذ المقام هنا یقتضی أن یکون المراد من لفظ : «ظلوم» هو : «ظالم» ؛ ولیس کثیر الظلم ؛ لأن کلّا من الاثنین سیلقی ظالما. من غیر أن یتوقف هذا اللقاء إلا علی مجرد وقوع الظلم من أحدهما ، دون نظر لقلة الظلم أو کثرته (1).
ص: 262
ا - إذا کان اسم الفاعل - ومثله صیغ المبالغة - مقرونا «بأل» لم یجز تقدیم شیء من معمولاته علیه ، إلا شبه الجملة. لأن «أل» الداخلة علیه موصولة ، واسم الفاعل مع فاعله بمنزلة الصلة لها ؛ والصلة لا تتقدم هی ولا شیء منها ولا من معمولاتها علی الموصول. إلا شبه الجملة (1) ؛ لأنه محل التساهل ؛ فیصح أن یقال : أنا لک المرافق ، ومعک الدائب ، أی : أنا المرافق لک - الدائب معک ...
أما إن کان مجردا منها فیجوز تقدیم المعمول : مفعولا کان أو غیر مفعول (2) إلا فی بعض حالات ، فمثال التقدیم الجائز : الحدیقة - عطرا - فوّاحة. والأصل : الحدیقة فواحة عطرا.
ومن الحالات التی لا یجوز فیها التقدیم أن یکون اسم الفاعل مجرورا بالإضافة ، أو بحرف جر أصلیّ ، نحو : یروقنی رسم مصوّر طیورا - ألا تغضب من معذّب الحیوان؟ فلا یجوز : یروقنی - طیورا - رسم مصور. ألا تغضب - الحیوان - من معذّب ، بخلاف المجرور بحرف جر زائد. فیجوز أن یتقدم علیه معموله ؛ نحو : ما العزیز - الهوان - بقابل. والأصل : ما العزیز بقابل الهوان.
وأجاز قوم تقدیم المعمول إن کان اسم الفاعل : «مضافا إلیه» ، و «المضاف» کلمة : غیر» أو : «حقّ» ، أو : «جدّ» ، أو : مثل ، أو : أوّل ، نحو : (المنافق - الوعد - غیر منجز). (هذا - الأعداء - حقّ قاهر ، أو : جدّ قاهر) ، والأصل : المنافق غیر منجز الوعد. هذا حقّ قاهر الأعداء ، أو : جدّ قاهر الأعداء. (شاعرنا درّا مثل ناظم) ، (العرب ضیفا أول ناصر). وهذا الرأی حسن ؛ لما فیه من تیسیر وأحسن منه براعة استخدامه فی أنسب الأسالیب له ، وألیق المواقف.
ص: 263
ویجوز أیضا تقدیم معموله علی مبتدأ یکون اسم الفاعل خبرا له ، نحو : الضیوف أنت مصافح. والأصل : أنت مصافح الضیوف.
ب - یجوز إعمال اسم الفاعل - أحیانا - وهو محذوف ؛ مثل : أعلیّا أنت مساعده؟ فقد اشتغل اسم الفاعل المذکور بضمیر الاسم السابق ، واستغنی بنصبه عن نصب الاسم السابق : فلم یبق إلا أن یکون الناصب للاسم السابق عاملا آخر ، محذوفا ، یفسره المذکور علی الوجه المعروف فی باب : «الاشتغال» (1) والتقدیر : أمساعد علیّا أنت مساعده؟. ومثله أیضا : أعلیّا أنت مساعد أخاه ، والتقدیر : أمساعد علیّا أنت مساعد أخاه. ومثله فی کل ما سبق صیغ المبالغة.
ح - عرفنا أن اسم الفاعل یدل - غالبا - هو وصیغ المبالغة ، علی الحدوث وعدم الدوام ، وعرفنا طریقة صوغه ...
لکن قد یراد منه النصّ علی الثبوت والدوام مع قیام قرینة تدل علی هذا ، فیصیر صفة مشبهة (2) ؛ ویسمی باسمها - بالرغم من بقائه علی صورته الأصلیة (3) ؛ ویجری علیه أحکام الصفة المشبهة ؛ فیجوز فی السببیّ (4) بعده إن کان معرفة :
ص: 264
الرفع والنصب والجر ، نحو : هذا عابد طائع ، مرتفع الجبهة ، طاهر القلب ، ناصع صفحة ؛ فیجوز فی السببیّ هنا ، (وهو : الجبهة - القلب - صفحة) الرفع علی أنه فاعل للصفة المشبهة. والجرّ علی اعتباره مضافا إلیه ، والنصب علی أنه شبیه بالمفعول به ولیس مفعولا به(1) ...
فإن کان السببی نکرة - جاز نصبه علی أنه تمییز ، أو علی أنه شبیه بالمفعول به. ومقتضی ما سبق أن السببیّ المعرفة والنکرة یجوز فیه دائما الرفع علی الفاعلیة ، والجر علی الإضافة (2) ؛ کما یجوز فیه النصب أیضا ؛ ولکن المنصوب فی حالة التعریف یعرب شبیها بالمفعول به ، وفی حالة التنکیر یعرب شبیها بالمفعول به ، أو : تمییزا.
د - لا یجوز إضافة اسم الفاعل إلی مرفوعه (سواء أکان فعله ثلاثیّا أم غیر ثلاثی ، لازما أم متعدیا). إلا إذا أرید منه الثبوت والدوام ، وقامت القرینة علی هذا ؛ فیصیر صفة مشبهة ، تجری علیه کل أحکامها ، ومنها : أن یحکم علیه باللزوم فلا ینصب المفعول به الأصیل ولو کان فعله متعدیا ، وهذا علی حسب البیان المشروح فیما سبق (3) وفیما یلی :
ص: 265
اسم الفاعل المضاف لفاعله بقصد النص علی الثبوت والدوام بقرینة ، فیترک الحدوث ، وینتقل إلی معنی الصفة المشبهة - ثلاثة أنواع (وکذا صیغة المبالغة ، وهذه لا تصاغ إلا من الثلاثی).
أولها : نوع مأخوذ من الفعل اللازم - الثلاثی وغیر الثلاثی - مثل : عال وشامخ .. فی نحو : هذا عالی القامة ، شامخ الأنف (وفعلهما : علا - شمخ). ومثل «تائب» فی قول الشاعر :
تبارکت ؛ إنی من عذابک خائف
وإنی إلیکم تائب النفس باخع (1)
(والفعل : تاب) وقول الآخر یمدح :
ضحوک السّنّ إن نطقوا بخیر
وعند الشرّ مطراق عبوس ... (2)
ولا یکاد یوجد خلاف فی جواز انتقال هذا النوع من حالة الحدوث إلی معنی الصفة المشبهة.
ثانیها : نوع مأخوذ من فعل متعد لمفعول به واحد. والراجح فی هذا النوع جواز انتقاله إلی معنی الصفة المشبهة ، بشرط أن یکون اللبس مأمونا ؛ (وهو : التباس الإضافة للفاعل بالإضافة للمفعول به). فإذا لم یؤمن اللبس لم تجز الإضافة ؛ کقولهم : فلان راحم الأبناء ، نافع الأعوان ، یریدون : أن أبناءه راحمون وأعوانه نافعون. فإذا کان المقام مقام مدح الأبناء والأعوان - جاز ؛ لدلالة المقام علی أن الإضافة للفاعل ؛ کصدورها ممن یردّ علی قول القائل : (لیس أبناء فلان بمفطورین علی الرحمة ، ولا أعوانه بمطبوعین علی النفع ،) أو من یردّ علی قول القائل : (أبناء فلان قساة ، وأعوانه ضارّون ، بسجیّتهم ...) ففی هذا المثال وأشباهه مما یحذف فیه المفعول به ویؤمن فیه اللبس لقرینة لفظیة ، أو : معنویة ، یجوز فی السببی - ککلمة : «الأبناء» وکلمة : «الأعوان» - إما الرفع ؛ علی أنه فاعل للصفة المشبهة (وهی : راحم - نافع) ، وإما النصب
ص: 266
علی أنه شبیه بالمفعول به ، ولا یصلح تمییزا إن کان معرفة ، کما فی المثال. وإما الجر ، علی أنه مضاف إلیه. وهذه الأوجه الإعرابیة الثلاثة هی التی تجری علی معمول الصفة المشبهة الأصلیة (1) ، کالتی فی مثل : (فلان جمیل الوجه ، حسن الهیئة ، حلو الحدیث) ومن أمثلة هذا النوع :
ما الراحم القلب ظلّاما وإن ظلما
ولا الکریم بمنّاع وإن حرما
وفی هذا النوع من الإضافة إلی المرفوع یکثر حذف المفعول به ، الذی کان معمولا لاسم الفاعل قبل إضافته لفاعله ، وقبل أن یصیر بهذه الإضافة صفة مشبهة. ویصح ذکر هذا المفعول به فی الرأی الراجح - مع إعرابه «شبیها بالمفعول به» ، لا مفعولا به أصیلا ، مثل : «(فلان راحم الأبناء الناس ، ونافع الأعوان أفرادا کثیرة). فکلمتا : «الناس» و «أفرادا» شبیهتان بالمفعول به. ولا داعی لمنع هذا الشبیه المنصوب من ذکره وظهوره فی الجملة ، بزعم أن منصوب الصفة المشبهة - إذا کان شبیها بالمفعول به - لا یزید علی واحد کما قرره النحاة. وقرارهم حقّ ؛ فمنصوبها الشبیه بالمفعول به لا یزید علی واحد. والذی فی المثال السابق - ونظائره - لم یزد علی واحد. ولکنّ المانعین یتوهمون أن الواحد یشمل «المضاف إلیه» بعد الصفة المشبهة ؛ لأن هذا «المضاف إلیه» یجوز نصبه علی التشبیه بالمفعول به قبل إضافته (2) ، فاعتبروه بمنزلة «الشبیه بالمفعول به». برغم أنه : «مضاف إلیه» مجرور ، وبنوا علی هذا عدم صحة المنصوب
ص: 267
الآخر معه ؛ لئلا یزید منصوب الصفة المشبهة علی واحد إذا کان شبیها بالمفعول به.
قال «الصبان» فی هذا الموضع (1) : لا داعی للأخذ بالوهم السابق ، ولا بما یترتب علیه ، فالصحیح عنده فی هذه الصورة وأشباهها جواز الإضافة إلی المرفوع مع ذکر المنصوب الواحد بعده ، والذی یعرب «شبیها بالمفعول به»
وفی رأیه تیسیر ، واستبعاد لشرط أن یکون الفعل محذوف المفعول به - کما اشترطه بعضهم -.
ثالثها : نوع مأخوذ من فعل متعد لمفعولین ، أو ثلاثة : نحو : (أنا ظانّ رفیقا قادما ، ومخبّر الأصدقاء السرور شاملا بقدومه). ولا یکاد یوجد کبیر خلاف فی منع انتقال هذا النوع إلی معنی الصفة المشبهة من طریق إضافته لفاعله ؛ لأن الوصف ینصب مفعولین أو أکثر کفعله ، ومنصوب الصفة المشبهة لا یزید علی واحد علی الوجه الذی أوضحناه فی النوع السالف ... هذا ، ولأکثر النحاة فلسفة خیالیة فیما تقدم ؛ فهم یقولون (2) : إن إضافة اسم الفاعل إلی مرفوعه تتم علی الصورة السابقة فی ثلاث مراحل مرتبة (3) :
أولها : تحویل الإسناد عن المرفوع إلی ضمیر الموصوف.
وثانیها : نصب المرفوع بعد ذلک علی التشبیه بالمفعول به.
وثالثها : جره علی الإضافة.
ففی مثل : الطبیب رائف القلب ، یکون الأصل : الطبیب رائف قلبه ؛ - برفع کلمة : «قلب» - ثم یتحول الإسناد عن المرفوع السببی ، وینتقل إلی الضمیر المضاف إلیه ؛ وهو : «الهاء» ویستتر هذا الضّمیر فی الوصف : «رائف» ، ویعوّض منه «أل» فی رأی الکوفیین (4) ، وینصب المرفوع الذی تحول عنه الإسناد ؛ لأنه صار بعد تحویل الإسناد عنه أشبه بالفضلة ؛
ص: 268
بسبب استغناء الوصف عنه بضمیر الموصوف ؛ فینصب مثلها ، ویصیر : «الطبیب رائف القلب». ثم یجر بالإضافة ؛ فرارا من القبح البادی فی إجراء الوصف اللازم أو ما یشبهه مجری المتعدی. (والمراد بما یشبهه (1) : الوصف المتعدی لمفعول واحد ، ومفعوله محذوف). فیصیر : «الطبیب رائف القلب».
ویقولون فی تعلیل هذه المراحل الثلاث (2) المتخیلة : إنه لا یصح إضافة الوصف لمرفوعه مباشرة : ؛ لأنه عینه فی المعنی ؛ فیلزم إضافة الشیء إلی نفسه (3) ، ولا یصح حذفه لعدم الاستغناء عنه ، فلم یبق طریق إلی إضافته لمرفوعه إلا ذلک الطریق الذی وضحنا مراحله. ویستدلون علی الإضافة بکثیر من الأمثلة المأثورة تؤید (4) رأیهم.
وکل هذا کلام افتراضی ؛ لا تعرفه طوائف العرب ؛ أصحاب اللغة ، ومرجعها الأول الصحیح. فإغفاله خیر. ولن یترتب علیه ضرر.
ه - لا تجیء «صیغ المبالغة» إلا من مصدر فعل قابل للزیادة ، فلا یقال : موّات ولا قتّال ، فی شخص مات أو قتل ، إذ لا تفاوت فی الموت والقتل.
و - سیجیء (5) أنه کثر فی الأسالیب الفصیحة المسموعة استعمال صیغة : «فعّال» للدلالة علی «النسب» - بدلا من یائه - وکثر هذا فی الحرف ؛ فقالوا : حدّاد لمن حرفته «الحدادة» ، ونجّار لمن حرفته «النجارة» .. وکذا : لبّان ، وبقال ، وعطّار. ونحوها من کل منسوب إلی صناعة. والأحسن الأخذ بالرأی القائل بقیاس هذا فی النسب إلی الحرف ، لأن الکثرة الواردة منه تکفی للقیاس علیه.
ص: 269
وجعلوا من استعمالها فی النسب قوله تعالی : (وَما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ) أی : بمنسوب إلی الظلم ، وحجتهم أن صیغة «فعّال» هنا لو کانت للمبالغة ولیست للنسب لکان النفی منصبّا علی المبالغة وحدها ؛ فیکون المعنی : وما ربک بکثیر الظلم ؛ فالمنفی هو الکثرة وحدها دون الظلم الذی لیس کثیرا. وهذا معنی فاسد ؛ لأن الله لا یظلم مطلقا ، لا کثیرا ولا قلیلا.
ص: 270
تعریفه :
اسم مشتق (1) ، یدل علی معنی مجرد ، غیر دائم (2) ، وعلی الذی وقع علیه هذا المعنی. فلابد أن یدل علی الأمرین معا (3) ، (وهما : المعنی المجرد ، وصاحبه الذی وقع علیه). مثل کلمة : «محفوظ» ، و : «مصروع» فی قولهم : العادل محفوظ برعایة ربه ، والباغی مصروع بجنایة بغیة. «فمحفرظ» تدل علی الأمرین ؛ المعنی المجرد ، (أی : الحفظ) والذات التی وقع علیها الحفظ وکذلک «مصروع» تدل علی الأمرین أیضا ؛ المعنی المجرد ؛ (أی : الصّرع) ، والذات التی وقع علیها. ومثل هذا یقال فی کلمة : «منسوب» من قول الشاعر :
لا تلم المرء علی فعله
وأنت منسوب إلی مثله (4)
...
وهکذا ...
ودلالته علی الأمرین السالفین مقصورة علی الحدوث - أی علی : الحال - فهی لا تمتد إلی الماضی ، ولا إلی المستقبل ، ولا تفید الدوام إلا بقرینة فی کل صورة. (5) :
- یصاغ قیاسا علی وزن : «مفعول» من مصدر الماضی الثلاثی
ص: 271
المتصرف (1) ؛ مثل : «محفوظ» من «حفظ» و «مصروع» من «صرع» و «منسوب» من «نسب» ، و «معلوم» من «علم» ، و «مجهول» من جهل و «معروف» ، من عرف. ومثل «محمود» ، من حمد فی قول الشاعر :
لعلّ عتبک محمود عواقبه
وربما صحّت الأجسام بالعلل
ب - ویصاغ قیاسا من مصدر الماضی غیر الثلاثی بالإتیان بمضارعه وقلب أوله میما مضمومة مع فتح ما قبل الآخر.
فللوصول إلی اسم المفعول من : «سارع» نجیء بمضارعه : «یسارع» ، ثم ندخل علیه التّغییر السالف ، فیکون اسم المفعول : «مسارع» ، نحو : الخیر مسارع إلیک. واسم المفعول من : «هدّم» هو : مهدّم ؛ نحو : صرح البغی مهدّم ، واسم المفعول من : «أوجع» هو : موجع ؛ کما فی قول الشاعر (2) الکهل الوفیّ :
خلقت ألوفا ؛ لو رجعت إلی الصّبا
لفارقت شیبی موجع القلب ، باکیا
وهکذا : استخرج - یستخرج - مستخرج ، نحو : المستخرج من النّفط فی بلادنا یکفی حاجاتنا. ومثل : «منزّهة ، ومکرّمة» فی قول أبی تمام فی وصف قصائده :
منزّهة عن السّرق المورّی (3)
مکرّمة عن المعنی المعاد
* * *
ص: 272
ا - فتح الحرف الذی قبل الآخر قد یکون ظاهرا کالأمثلة السالفة ، وقد یکون مقدرا ؛ مثل : مستعان - منقاد .. أصلهما : مستعون - منقود .. قلبت الواو ألفا بعد فتح ما قبلها بنقل حرکتها إلیه ؛ تطبیقا لقاعدة صرفیة (1).
ب - إذا کان اسم المفعول مؤنثا وجب زیادة تاء التأنیث فی آخره ؛ کما فی آخر : (منزّهة ، ومکرّمة) من بیت أبی تمام السابق.
ح - قد وردت صیغ سماعیة تؤدی ما یؤدیه اسم المفعول المصوغ من مصدر الثلاثی ولیست علی وزنه ؛ فهی نائبة عن صیغة «مفعول» فی الدلالة علی الذات والمعنی. ومن تلک الصیغ : «فعیل» ، بمعنی : مفعول ؛ نحو : کحیل : بمعنی : مکحول. و «فعل» ، کذبح ؛ بمعنی مذبوح. و «فعل» کقنص ، بمعنی : مقنوص. و «فعلة» ؛ کغرفة ، ومضغة ، وأکلة ، بمعنی : مغروفة ، وممضوغة ومأکولة ... وهذه الصیغ وأمثالها غیر مقیسة. لکن هل تعمل عمل اسم المفعول کما تؤدی معناه؟ الأحسن الأخذ بالرأی القائل : إنها تعمل عمله - بشروطه - فترفع نائب فاعل حتما ، وقد تنصب مفعولا به - أو أکثر - إن کان فعلها المبنی للمجهول کذلک ؛ فحکمها حکم المبنی للمجهول. وفی هذا الرأی توسعة لمن شاء اتباعه (2).
غیر أن حکما سیجیء (3) لا یسری علیها ؛ هو أن اسم المفعول یجوز أن یضاف لمرفوعه بشرط أن تکون صیغته أصلیة (4) ، فإن کانت نائبة عن
ص: 273
الأصلیة - کفعیل ؛ بمعنی : مفعول ، وغیرها مما سبق - فلا تضاف لمرفوعها.
د - سبقت الإشارة (1) إلی أنه وردت صیغ مسموعة علی وزن : «مفعول» ، ولکن معناها هو معنی المصدر ؛ فهی فی حقیقة أمرها مصادر سماعیة علی وزن المفعول ، منها : معقول - مجلود - مفتون - میسور - معسور. أی : عقل - جلد - فتنة ؛ بمعنی : خبرة - یسر (سهل) - عسر (ضد : سهل) ومن کلامهم «فلان لا معقول له ولا مجلود». وقد سبق شرح هذا وشرح بقیة الکلمات الأخری فی ص 198 وأوضحنا رأی سیبویه هناک.
ص: 274
یجری علی اسم المفعول کل ما یجری علی اسم الفاعل من الاقتران «بأل» وعدم الاقتران بها ، ومن الشروط اللازمة لعمله ... و ...
فإن کان مقرونا «بأل» عمل مطلقا ، (بغیر اشتراط شیء). وإن لم یکن مقترنا بها وجب تحقق کل الشروط التی سبقت لإعمال اسم الفاعل (1) ؛ وفی مقدمتها : الاعتماد ، وعدم التصغیر ، وأن یکون بمعنی الحال ، أو الاستقبال أو الاستمرار التجددی ... و ... فإذا استوفی شروط الإعمال کلها عمل ما یعمله مضارعه المبنی للمجهول ؛ فیحتاج - وجوبا - لنائب فاعل مثله : ویکتفی بنائب فاعله إن کان مضارعه مکتفیا بنائب الفاعل (2). نحو : یساعد القویّ زمیله - یساعد الزمیل - هل القویّ مساعد زمیله؟ ولما سبق یمکن أن یحلّ محلّ اسم المفعول مضارع بمعناه مبنی للمجهول.
وإذا کان مضارعه ناصبا مفعولین ثم حذف فاعله فإن أحد المفعولین ینوب عنه ، ویصیر مرفوعا مثله ، ویبقی المفعول الآخر علی حاله منصوبا ، وکذلک اسم المفعول ؛ نحو : یظنّ الرجل العوم نافعا - یظنّ العوم نافعا - هل المظنون العوم نافعا؟ ...
وإن کان فعله متعدیا لثلاثة ثم حذف فاعله وناب أحد المفعولات عنه صار مرفوعا مثله. ووجب نصب ما عداه ؛ وکذلک الشأن فی اسم المفعول ؛ نحو : تخبّر المراصد الطیارین الجوّ هادئا - یخبّر الطیارون الجوّ هادئا - هل المخبّر الطیارون الجوّ هادئا؟.
ویجوز - بقلّة فی الأحوال السابقة کلها أن یضاف اسم المفعول إلی نائب فاعله الظاهر ؛ بشرط أن تکون صیغة اسم المفعول أصلیة (3) فیصیر نائب الفاعل مضافا إلیه ، مجرور اللفظ ، ولکنه مرفوع المحل ؛ مراعاة
ص: 275
لأصله (1) ؛ نحو : إن القویّ مساعد الزمیل ، هل یشیع مظنون العوم نافعا؟ أمخبّر الطیارین الجوّ هادئا؟. فإن لم تکن صیغته أصلیة امتنع أن یضاف لمرفوعه. وإذا جاء تابع لهذا المضاف إلیه جاز جره مراعاة للفظ المضاف إلیه ، أو رفعه ؛ مراعاة لأصله ؛ نحو : إن القوی مساعد الزمیل والزمیلة - هل یشیع مظنون العوم البارع نافعا؟ - أمخبّر الطیارین المسافرین - أو المسافرون - الجو هادئا؟ بجر التابع أو رفعه فی کل ذلک وأشباهه.
ما سبق حین یکون مضارعه متعدیا. فإن کان لازما قد حذف فاعله وناب عنه شیء آخر غیر المفعول به ؛ کالظرف ، أو الجار مع مجروره أو المصدر ... فإن اسم المفعول یکون لازما أیضا ، ویحتاج لنائب فاعل من هذه الأشیاء الصالحة للنیابة عند عدم وجود المفعول به ، نحو : (اعتکف المریض فی الغرفة ، یعتکف فی الغرفة ، هل الغرفة معتکف فیها؟) - (اتسع المجال أمام المخلص - یتّسع أمام المخلص - هل المتّسع أمام المخلص) (2).
هذا ، واسم المفعول حین یضاف بقلة إلی مرفوعه - نحو : الغرفة مفتوحة النوافذ ، وقول المتنبی - وقد سبق - :
خلقت ألوفا ، لو رجعت إلی الصّبا
لفارقت شیبی موجع القلب ، باکیا
والأصل : مفتوحة نوافذها - موجع قلبی) - یظل مع إضافته لمرفوعه دالا
ص: 276
علی الحدوث ، کما کان قبل الإضافة إلیه (1). إلا إن قامت قرینة تدل علی أن المراد منه الثبوت والملازمة الدائمة ، فیصیر صفة مشبهة ؛ لما أوضحناه (2) من أن الأصل فی اسم المفعول أن یدل علی معنی حادث غیر دائم الملازمة لصاحبه (فهو - عند عدم القرینة - یدل علی مجرد الحدوث الذی لا یشمل الماضی ولا المستقبل ولا یفید الاستمرار.) فإن قصد به النّص علی الثبوت والدوام - وقامت قرینة تدل علی هذا - صار صفة مشبهة (3) ؛ فیسمی باسمها ، ویخضع لأحکامها ؛ بالرغم من بقائه علی صورته الأصلیة ؛ إذ لا یصح تغییر صورته بسبب انتقال معناه من الحدوث إلی الدوام والاستمرار.
والکثیر الغالب فی اسم المفعول عدم إضافته إلی مرفوعه إلا إذا أرید تحویله إلی الصفة المشبهة ، لیدل مثلها علی معنی ثابت دائم ، لا حادث ؛ وبشرط وجود القرینة التی تدل علی ثبوته ودوامه. وإذا صار صفة مشبهة جاز فی السببی (4) الواقع بعده الرفع ، علی اعتباره «فاعلا» ولا یصح اعتباره نائب فاعل للصفة المشبهة (5) التی جاءت علی صورة اسم المفعول. ویجوز فیه النصب علی اعتباره «شبیها بالمفعول به» إن کان معرفة ، و «تمییزا» أو : «شبیها بالمفعول به» إن کان نکرة ، ویجوز فیه الجر علی اعتباره مضافا إلیه ، ففی مثل : أنت مرموق المکانة دائما ، مسموع الکلمة ؛ محصّن خلقا ، مکمّل علما - یجوز فی الکلمات : (المکانة - الکلمة - خلقا - علما) الرفع علی اعتبارها فاعلا
ص: 277
للصفة المشبهة ، ویجوز فیها الجرّ ؛ لاعتبارها مضافا إلیه ، ویجوز فیها النصب ؛ إما علی التشبیه بالمفعول به إن کانت معرفة ، وإما علی التمییز أو علی التشبیه بالمفعول به إن کانت نکرة. ولا مناص من قیام قرینة تدل علی أن المراد من الصیغة هو الصفة المشبهة ، ولیس اسم المفعول.
أما إذا أضیف اسم المفعول لمرفوعه بغیر إرادة تحویله إلی الصفة المشبهة وبغیر القرینة الدالة علی إفادة الدوام - وهذه الإضافة قلیلة جائزة ، کما سبق - فإنه یظل محتفظا باسمه وبکل الأحکام الخاصة به ، وقد عرفناها.
ولا بد فی اسم المفعول الذی یصیر صفة مشبهة من أن یظل علی صیغته الأصیلة التی أوضحناها ، لا الصیغة التی تنوب علیها ، وأن یکون فعله - فی أصله - متعدیا لمفعول واحد ؛ لیکون هذا المفعول الواحد هو السببی الذی یصح فی إعرابه الأوجه الثلاثة السالفة ؛ کالمثال السابق ؛ وکقولهم : لا ینقضی یوم لا أراک فیه إلا علمت أنه مبتور القدر ، منحوس الحظ (1).
فإن کان فعله لازما لم یصلح أن یصاغ منه اسم المفعول الصالح للانتقال إلی الصفة المشبهة. وکذلک إن کان فعله متعدیا لأکثر من واحد ؛ فإنه - فی الرأی الشائع - لا یصلح (2) ؛ سواء أذکر مع السببیّ مفعول آخر أم لم یذکر.
ومن الأمثلة لاسم المفعول المراد منه الصفة المشبهة (3) ما ورد عنهم فی رفع السببی علی الفاعلیة ، وهو :
بثوب ، ودینار ، وشاة ، ودرهم
فهل أنت مرفوع بما هاهنا راس (4)؟
ص: 278
فکلمة : «رأس» فاعل للصفة المشبهة التی هی کلمة : مرفوع. وفی نصبه علی التشبیه بالمفعول به :
لو صنت طرفک لم ترع بصفاتها
لمّا بدت مجلوّة وجناتها (1)
وفی جرّه :
تمنّی لقائی الجون (2)
مغرور نفسه
فلما رآنی ارتاع ثمّت (3)
عرّدا (4)
وهکذا ... و ... (5).
* * *
ص: 279
یضاف اسم المفعول إلی مرفوعه بالشروط والتفصیلات التی سلفت (1) ولکن بالطریقة التی ارتضوها ، وقد شرحناها (2) وافیة فی إضافة اسم الفاعل لمرفوعه ؛ أی : بعد تحویل الإسناد عن السببی إلی ضمیر الموصوف ، ثم نصب السببی علی التشبیه بالمفعول به ، ثم جره علی الإضافة بعد ذلک ، کمثال الناظم ، وهو : محمود المقاصد الورع. فأصله : الورع محمودة مقاصده. فکلمة : «مقاصده» مرفوعة علی النیابة «لمحمودة» ثم صار : الورع محمود «المقاصد» بالنصب ؛ ثم صار : ... محمود المقاصد ، بالجر.
والسبب عندهم : ما تقدم (3) من أن الوصف هو عین مرفوعه فی المعنی ؛ فلو أضیف إلیه من غیر تحویل للزم إضافة الشیء إلی نفسه من غیر مسوغ - وهی - فی الأغلب - غیر صحیحة. ولا یصح حذفه ؛ لعدم الاستغناء عنه. فلا طریق إلی إضافته إلا بتحویل الإسناد عنه إلی ضمیر یعود إلی الموصوف ثم ینصب السببی لصیرورته فضلة حینئذ ، بسبب استغناء الوصف بالضمیر ، ثم یجر السببی ، فرارا من قبح إجراء وصف المتعدی لواحد مجری وصف المتعدی لاثنین (4) ...
وقد قلنا (5) إن هذه الأمور الثلاثة بترتیبها السابق فلسفة خیالیة یرددها کثیر من النحاة ؛ (کصاحب التصریح ، وعنه أخذ الصبان). ولا شیء منها یعرفه العربی الأصیل ، فلیس فی إهمالها إساءة.
* * *
ص: 280
تعریفها :
نسوق الأمثلة التّالیة لکشف دلالتها ، وإیضاح ما فی معناها من دقّة : سئل أحد الأدباء القدامی أن یصف : «أبا نواس» ؛ فکان مما قال : «عرفته جمیل الصورة ، أبیض اللون ، حسن العینین والمضحک ، حلو الابتسامة ، مسنون الوجه (2) ، ملتف الأعضاء ، بین الطویل والقصیر ، جید البیان ، عذب الألفاظ ... و ...».
فی هذا الوصف کثیر مما یسمی : «صفة مشبّهة» ؛ مثل : جمیل - أبیض - حسن - حلو ... و ... فما الذی تدل علیه کل کلمة من هذه الکلمات ، ونظائرها؟
لنأخذ مثلا کلمة : «جمیل» فإنها اسم مشتق ، یدل علی أربعة أمور مجتمعة :
أولها - المعنی المجرد الذی یسمّی : «الوصف» ، أو : «الصفة». وهو هنا : الجمال.
ثانیها - الشخص ، أو غیره من الأشیاء التی لا یقوم المعنی المجرد إلا بها ، ولا یتحقق وجوده إلا فیها. وإن شئت فقل : هو الموصوف الذی یتصف بهذا الوصف ، (الصفة) ... ، ولا یمکن أن یوجد الوصف مستقلا بنفسه بغیر موصوفه.
والمراد به فی المثال : الشخص الذی ننسب له الجمال ، ونصفه به.
ص: 281
ثالثها - ثبوت هذا المعنی المجرد (الوصف ، أو : الصفة) لصاحبه فی کل الأزمنة ثبوتا عامّا ؛ أی : الاعتراف بتحقّقه ووقوعه شاملا الأزمنة الثلاثة المختلفة ؛ فلا یختص ببعض منهادون آخر ، بمعنی أنه لا یقتصر علی الماضی وحده ، ولا علی الحال وحده ، ولا علی المستقبل کذلک ، ولا یقتصر علی زمنین دون انضمام الثالث إلیهما ؛ فلابد أن یشمل الأزمنة الثلاثة ؛ بأن یصاحب موصوفه فیها. فوصف شخص بالجمال ، علی الوجه الوارد فی العبارة السابقة ، معناه الاعتراف بالجمال له ، وأن هذا الجمال ثابت متحقق فی ماضیه ، وفی حاضره ، وفی مستقبله ، غیر مقتصر علی بعض منها (ولهذا نتیجة حتمیة تجیء فی الأمر الرابع التالی :).
رابعها - ملازمة ذلک الثبوت المعنوی العام ، للموصوف ودوامه ؛ لأنه - کما أوضحناه - یقتضی أن یکون المعنی المجرد ، الثابت وقوعه وتحققه ، لیس أمرا حادثا الآن ، ولا طارئا ینقضی بعد زمن قصیر. وإنما هو أمر دائم ملازم صاحبه (الموصوف) طول حیاته ، أو أطول مدة فیها حتی یکاد یکون بمنزلة الدائم (1) ، إذ لیس بمعقول أن یصحبه فی ماضیه وحاضره ومستقبله من غیر أن یکون ملازما له ، أو کالملازم (2) ؛ فالجمال - مثلا - لا یفارق صاحبه ، وإن فارقه (3) فزمن المفارقة أقصر من زمن الملازمة الطویلة التی هی بالدوام أشبه. ومن ثمّ کان هذا الأمر الرابع نتیجة للثالث (4).
ص: 282
فکلمة : «جمیل» ، فی الکلام السالف - وأشباهه - تدلّ علی :
1- معنی مجرد (أی : علی وصف ، أو : صفة) ؛ هو : الجمال
2- وعلی صاحبه الموصوف به.
3- وعلی ثبوت ذلک المعنی له وتحققه ثبوتا زمنیّا عامّا. (یشمل الماضی والحاضر ، والمستقبل).
4- وعلی دوام الملازمة ، أو ما یشبه الدوام (1).
والناطق بتلک الکلمة إنما یرید الأمور الأربعة مجتمعة ، إن کان خبیرا باللغة ، وبدلالة الألفاظ فیها.
ومثل هذا یقال فی کلمة : «أبیض» ؛ فهی اسم مشتق یدل علی ما یأتی :
1- معنی مجرد (أی : وصف ، أو : صفة) ، هو : البیاض.
2- الشیء الذی لا یقوم ولا یتحقق المعنی المجرد إلا بوجوده فیه (أی : الموصوف الذی یراد وصفه بصفة : «البیاض») وهو هنا الشخص الذی نرید أن ننسب له تلک الصفة ؛ ونصفه بها.
3- أن ذلک المعنی المجرد (الوصف ، أو : الصفة) ، ثابت له متحقّق فی کل
الأزمنة ثبوتا عامّا ؛ فلیس خاصّا بزمن من الثلاثة دون غیره ، أو بزمنین فالبیاض ، یصاحب المتصف به فی ماضیه ، وحاضره ، ومستقبله.
4- أن هذا الثبوت العام یلازم صاحبه ، ولا یکاد یفارقه ، لأن مصاحبته إیاه فی الأزمنة الثلاثة تقتضی أن یکون ملازما له أو فی حکم الملازم ، برغم أنه قد یفارقه حینا.
فالناطق بکلمة : «أبیض» فی الترکیب السابق - ونظائره - إنما یرید بها الدلالة علی تلک الأمور الأربعة مجتمعة ، إن کان یفهم أسرار العربیة ، ویجید اختیار الألفاظ التی توضح تلک الأسرار.
وما یقال فی کلمتی : «جمیل» ، و «أبیض» - یقال فی : «حسن» و «حلو» ، ... و ... وأمثالهما ...
من کل ما تقدم یتبین المراد من قول النحاة فی تعریف الصفة المشبهة
ص: 283
الأصیلة إنها : (اسم مشتق ؛ یدل علی ثبوت صفة لصاحبها (1) ثبوتا عامّا) (2)
، وطریقة صوغ کل نوع :
الصفة المشبهة ثلاثة أنواع قیاسیة (3) ؛
أولها وأکثرها : «الأصیل» ، وهو المشتق الذی یصاغ أول أمره من مصدر الفعل الثلاثیّ ، اللازم ، المتصرف ؛ لیدل علی ثبوت صفة لصاحبها ثبوتا عامّا - وقد شرحناه بالأمثلة - ولهذا النوع أوزان وصیغ کثیرة خاصة به ، وسنذکر أشهر القیاسیّ منها ...
ثانیها : الملحق بالأصیل من غیر تأویل ، - ویلی الأول فی الکثرة - وهو : «المشتق الذی یکون علی الوزن الخاص باسم الفاعل أو باسم المفعول (4) ، من غیر أن یدل دلالتهما علی المعنی الحادث وصاحبه ، وإنما یدل - بقرینة - علی أن المعنی ثابت لصاحبه ثبوتا عامّا». وقد عرفنا طریقة صیاغته فی الباب الخاص بکل منهما (5).
وحکم هذا النوع أنه قیاسیّ ، وأنه بمنزلة الصفة المشبهة ؛ فله اسمها ، ودلالتها ، وأحکامها المختلفة ، دون أوزانها ؛ لأنه یظل علی صیغته الخاصة باسم الفاعل أو اسم المفعول ، ویلازم وزنه السابق ، علی الوجه الذی شرحناه فی باب کل منهما (6).
ثالثها وأقلها : الجامد المؤول بالمشتق ، وهو : «الاسم الجامد الذی یدل دلالة الصفة المشبهة مع قبوله التأول بالمشتق (7)».
وحکمه : أنه قیاسی یظل علی لفظه الجامد القابل للتأویل ، ویؤدی معناها ، ویعمل عملها دون أن تتغیر صیغته.
ص: 284
وبالرغم من قیاسیته یحسن الإقلال منه قدر الاستطاعة ، وقد یزاد علی آخره یاء مشددة للنّسب ، فتقرّبه. من المشتقات ؛ نحو : تناولنا شرابا عسلا طعمه ، أو : تناولنا شرابا عسلیّا طعمه. ویجوز فی معموله (وهو هنا کلمة : طعم) ما یجوز فی معمول الصفة المشبهة من الرفع ، أو : النصب ، أو : الجر ، علی التفصیل المذکور فی إعمالها - وسیأتی (1) - ، فنقول : تناولنا شرابا عسلا طعمه ؛ بالرفع - عسلا طعما ، بالنصب - عسل الطعم ، بالجر بالإضافة. مع جواز زیادة الیاء المشددة فی کل حالة ، وعلیها تقع علامات الإعراب.
ومن أمثلته قول الشاعر یهجو :
فراشة الحلم ، فرعون العذاب ، وإن
تطلب نداه فکلب دونه کلب
والمراد بفراشة ..... طائش ، وبفرعون .... ألیم ، أو : شدید.
والمعانی الثلاثة علی التأویل بالمشتق ، وقول الآخر :
فلولا الله والمهر المفدّی
لأبت وأنت غربال الإهاب
والمراد : مثقّب الجلد. وهذا علی التأویل بالمشتق أیضا.
* * *
والآن نعود إلی صیاغة النوع الأول الأصیل ، وأوزانه :
لما کانت الصفة المشبهة الأصلیة لا تصاغ قیاسا إلا من مصدر الفعل الماضی الثلاثی ، اللازم ، المتصرف .... تحتّم أن یکون فعلها کسائر الأفعال الثلاثیة. إما مکسور العین (أی : علی وزن : «فعل») ، وهو أکثر أفعالها المتصرفة التی یقع الاشتقاق من مصدرها ، وإما مضموم العین ، (أی : علی وزن «فعل») ویلی الأول فی کثرة الصیاغة من مصدره ، وإما مفتوح العین ، (أی : علی وزن : «فعل») ، وهو أقل أفعالها ، بل أندرها. وأوزانها القیاسیة من هذه الأنواع الثلاثة کثیرة نعرض أشهرها ، وضوابطه فیما یلی :
1- فإن کان الماضی الثلاثی اللازم علی وزن «فعل» - بکسر العین - وکان دالا علی فرح ، أو حزن ، أو أمر من الأمور التی تطرأ وتزول سریعا ،
ص: 285
ولکنها تتجدد (1) ، وتتردد علی صاحبها کثیرا ، لأنه اعتادها - فالصفة المشبهة علی وزن : «فعل» للمذکر ، و «فعلة» للمؤنث - ویلاحظ أن هذین الوزنین لیسا مقصورین علی الصفة المشبهة من مصدر الفعل «فعل» فقد یکونان من مصدر «فعل» أیضا ، کما سنعرف - نحو : فرح فهو فرح - طرب فهو طرب - بطر فهو بطر - حذر فهو حذر - تعب فهو تعب. ومن هذا قولهم : الحذر آمن ، والضّجر مکروب ، والبطر مهدد بزوال النعم.
وقول الشاعر :
فإنه
نصب الفؤاد ، بحزنه مهموم
وإن کان دالّا علی خلو ، أو امتلاء ، ونحو هذا مما یطرأ ویتکرر ولکنه یزول ببطء - فالصفة المشبهة علی وزن : «فعلان» ، ومؤنثها - فی الغالب - علی وزن : «فعلی» - نحو : عطش فهو عطشان - ظمیء فهو ظمآن - صدی فهو صدیان - شبع فهو شبعان - روی فهو ریّان - یقظ فهو یقظان - عرق فهو عرقان - ومن هذا قولهم فی الهجاء : فلان شبعان البطن ، صدیان الروح ، نائم العقل ، یقظان الهوی ...
ص: 286
فإن کان دالا علی أمر خلقی یبقی ویدوم ، (مثل : لون ، أو عیب ، أو حلیة ، وکل هذا خلقیّ یبقی ویثبت) فالصفة فی الغالب - علی وزن : «أفعل» للمذکر ، و «فعلاء» للمؤنث ؛ نحو : حمر فهو أحمر - خضر فهو أخضر - عرج فهو أعرج - عور فهو أعور - حور (1) فهو أحور - کحل فهو أکحل ... ومنه قولهم : اشتهرت الخیول العربیة برشاقة الجسم ، وضمور البطن ، وأنها دعجاء (2) المقلة ، کحلاء العین ، وطفاء الأهداب (3) ...
فالصفات المشبهة التی ماضیها مکسور العین - تدور معانیها الغالبة حول ثلاثة أشیاء ، أمور تطرأ وتزول سریعا ولکنها تتردد کثیرا ، أو أمور تطرأ وتتکرر ، وتزول ببطء. أو : أمور تثبت وتبقی - فی الغالب -.
2- إن کان الثلاثی اللازم علی وزن : «فعل» - بضم العین - فالصفة المشبهة کثیرة الأوزان ؛ فقد تکون علی وزن : «فعیل» ؛ مثل : شرف فهو شریف - نبل فهو نبیل - قبح فهو قبیح.
أو : علی وزن : «فعل» ؛ مثل : ضخم فهو ضخم - شهم فهو شهم - صعب ؛ فهو صعب.
أو علی وزن : «فعل» ، مثل : حسن فهو حسن - بطل (4) فهو - بطل -.
أو علی وزن : «فعال» ؛ مثل : جبن فهو جبان - رزنت المرأة فهی رزان (5) - حصنت فهی حصان ، أی : عفیفة.
أو علی وزن : «فعال» ؛ مثل شجع فهو شجاع - فرت الماء (بمعنی : عذب) ، فهو فرات.
ص: 287
أو علی وزن : «فعل» : مثل : صلب فهو صلب - أو علی وزن : «فعل» ؛ نحو ملح الماء فهو ملح.
أو علی وزن : فعل ، مثل : نجس الصدید فهو نجس.
أو علی وزن : «فاعل» ؛ مثل : طهر فهو طاهر.
ولیست الأوزان السابقة مقصورة علی الصفة المشبهة المصوغة من مصدر : «فعل» بضم العین ، بل بعضها مقصور علیها ؛ وهو : «فعل» کحسن ، و «فعال» : کجبان ، و «فعال» : کشجاع ... وبعضها غیر مقصور ولا مختص ؛ لأنه مشترک بین فعل - بضم العین - وفعل ، بکسرها. ومن هذا :
«فعیل» ، مثل : بخل الوضیع فهو بخیل. کرم الماجد فهو کریم -.
ومنه : «فعل» ، مثل : سبط فهو سبط (1) ، ضخم فهو ضخم ، ومنه : «فعل» مثل ؛ صفر جیب المسرف ؛ فهو صفر ، - ملح ماء البحر فهو ملح.
ومنه : «فعل» ؛ مثل : حرّ القویّ فهو حرّ ، (والأصل : حرر) - صلب الحدید ، فهو صلب.
ومنه : «فعل» ، کفرح المنتصر فهو فرح - نجس الطعام الحرام فهو نجس.
ومنه : «فاعل» ، مثل : صحب الضوء الشمس فهو صاحب - طهر ثوب المصلی فهو طاهر.
3- وإن کان الثلاثی اللازم علی وزن «فعل» بفتح العین وهو أندر أفعالها - کما أسلفنا - فالصفة المشبهة علی وزن فیعل ؛ نحو : مات یموت فهو میت (2).
ص: 288
تلک أشهر الصیغ والأوزان القیاسیة للصفة المشبهة (1).
وهناک صیغ أخری سماعیة ، متناثرة فی الکلام العربی الفصیح ومراجعه ؛
ص: 289
فإذا عرف المتکلم صیغة مسموعة مخالفة للصیغة القیاسیة جاز له استعمال ما یشاء منهما ، ولکن الأفضل الاقتصار علی المسموعة ، ولا سیما الصیغة المشهورة.
ص: 290
أما إذا لم توجد صیغة مسموعة ، أو وجدت ولکنه لا یعرفها (1) فلیس أمامه إلا استخدام الصیغة القیاسیة (2).
* * *
ص: 291
وبهذه المناسبة نشیر إلی حکم سبق (1) فنردده لأهمیته ؛ وهو : أن الصفة المشبهة قد یراد منها النص علی الحدوث ، - لحکمة بلاغیة ، مع قیام قرینة تدل علی هذا المراد - فتصیر اسم فاعل ؛ لها اسمه ، ومعناه ، وحکمه ، وتنتقل إلی صیغته الخاصة به ، (وهی صیغة «فاعل» من مصدر الثلاثی) ، فلابد أن تترک اسمها ، وصیغتها ، ومعناها ، وحکمها ، وتصیر إلیه فی کل شأن من شئونه بغیر إبقاء علی حالها السابق. فإذا أردنا النص علی وصف رجل بالفصاحة ، وبیان أنها صفة ثابتة ملازمة له ، ردّا علی من قال إنها طارئة علیه ، مؤقتة - أتبنا بالصفة المشبهة ، (دون اسم الفاعل الحادث) ؛ لأنها المختصة بهذه الدلالة ، وتخیّرنا من صیغها وأوزانها الصیغة الملائمة للمراد. فقلنا : «فصیح» وأجرینا علی هذه الصیغة اسم «الصفة المشبهة وکل أحکامها ، بشرط إرادة النص ، ووجود القرینة الدالة علیه.
لکن إذا أردنا الدلالة علی الحدوث نصّا ، وأن الفصاحة طارئة غیر ملازمة - أتینا باسم الفاعل الحادث ، دون الصفة المشبهة ؛ لأنه المختص بهذه الدلالة نصّا. وجئنا بصیغته الخاصة من مصدر الثلاثی ، وهی صیغة «فاعل» ، فقلنا : «فاصح» غدا ، مثلا ، وأجرینا علیها اسمه ، وکل أحکامه وحده - کما أسلفنا (2) -. وربّما تترک الصفة المشبهة دلالتها علی الدوام ، وتدل علی المضی وحده - وهذا نادر (3) -. أو تدل علی الحال وحده ، أو المستقبل کذلک ، من غیر أن تترک صیغتها ، وإنما تظل علیها مع تغیّر الدلالة ، وکل هذا حین توجد قرینة تدل علی
ص: 292
أن المراد هو الاقتصار علی : المضی ، أو علی الحال ، أو علی الاستقبال ، ولیس المراد الدوام (1) ؛ بالرغم من بقاء الصیغة علی صورتها ؛ نحو : (هذا المتسابق سریع العدو فی الساعة الماضیة ، بطیء الحرکة الآن ، وسیبدو بعد قلیل فسیح الخطو ، بعید القفز ، عظیم الأمل فی الفوز). ولکن بقاءها علی صیغتها مع تغیر دلالتها بسبب اقتصارها علی زمن معین خاص ، - ولا سیما الماضی - رأی ضعیف (2) ؛. لا یحسن اتباعه ولا القیاس علیه ؛ بالرغم من وجود القرینة الدالة علی تغیر الدلالة. أما إذا لم توجد القرینة فیجب تغییر الصیغة بتحویلها إلی صیغة : «فاعل» (3).
واسم الفاعل من الثلاثی إذا أرید به - الدلالة علی الثبوت - بشرط وجود قرینة - ، فإنه یصیر صفة مشبهة یحمل اسمها دون اسمه ، ویدل دلالتها ، ویخضع لأحکامها وحدها. وتتغیر صیاغته ؛ فتصیر من الثلاثی علی وزن من أوزانها القیاسیة ، وقد یظل محتفظا بصیغته التی کان علیها قبل الانتقال (4) ، إلی الدلالة الجدیدة ، بشرط وجود القرینة ؛ کما فی مثل : أهذا الطبیب رحیب الصدر؟ فیجاب : نعم ، راحب (5) الصدر. وقد بسطنا القول فی کل هذا فی موضعه من البابین.
* * *
ص: 293
الصفة المشبهة الأصیلة (1) مشتقة من مصدر الفعل الثلاثی اللازم ؛ فحقها أن تکون کفعلها ؛ ترفع فاعلا حتما ، ولا تنصب مفعولا به. لکنها خالفت هذا الأصل ، وشابهت اسم الفاعل المتعدی لواحد ؛ (فإنه - کفعله المتعدی - یرفع فاعلا حتما ؛ وقد ینصب مفعولا به) ، وصارت مثله ترفع فاعلها حتما ، وقد تنصب معمولا (2) لا یصلح إلا مفعولا به ، ولکن هذا المعمول حین تنصبه لا یسمی مفعولا به ، وإنما یسمی : «الشبیه بالمفعول به» (3) ؛ إذ کیف یعتبر مفعولا به وفعلها لازم ، لا ینصب المفعول به؟ لهذا یقولون فی إعرابه حین یکون منصوبا ، إنه : «منصوب علی التشبیه (4) بالمفعول به».
ولا تنصب هذا الشبیه إلا بشرط : «اعتمادها» (5) ؛ سواء أکانت مقرونة ؛ «بأل» أم غیر مقرونة. مثل الکلمات : القول - الطبع - القلب ... فی قولهم : (إنما یفوز برضا الناس الحلو القول ، الکریم الطبع ، الشجاع القلب.) .. ولا یشترط هذا الشرط لعملها فی معمول آخر (غیر الشبیه بالمفعول به) : کالحال ، والتمییز ، وشبه الجملة ...
ص: 294
لأن کلمة «معمول» لیست مقصورة الدلالة علی هذا الشبیه ، ولا علی النوع المنصوب منه. بل إن معمولها الشبیه البارز - ویسمی أیضا ، السببیّ (1)» - یجوز فیه ثلاثة أوجه (2) ؛ أن یکون مرفوعا علی اعتباره فاعلا لها ، ویجوز أن یکون منصوبا علی التشبیه بالمفعول به إن کان هذا المعمول (أی : السببیّ) نکرة ، أو معرفة : کالأمثلة السابقة ، أو منصوبا علی التمییز بشرط أن یکون نکرة (3) ؛ (نحو ... الحلو قولا - الکریم طبعا - الشجاع قلبا). ویجوز أن یکون مجرورا بالإضافة : (نحو : ... الحلو القول - الکریم الطبع - الشجاع القلب) ، أی : أن هذا المعمول السببیّ یجوز فیه - دائما - ثلاثة أوجه إعرابیة ؛ (إمّا الرفع علی الفاعلیة (4)) ، (وإما النصب علی التشبیه بالمفعول به ، إن کان المعمول - أی : السببی - معرفة أو نکرة ، ویصح فی المعمول النکرة دون المعرفة ، نصبه تمییزا) (وإما الجر علی الإضافة) ولا فرق فی هذه الأوجه الثلاثة بین أن تکون الصفة المشبهة مقرونة «بأل» أو مجردة منها ،) کما تقدم ، ولا بین أن یکون هذا المعمول مقرونا بها أو مجردا منها. إلا أن المعمول المقرون بها لا یعرب تمییزا - کما عرفنا -
وفی جمیع حالاتها لا یشترط لإعمالها : «الاعتماد» ، إلا فی الحالة الواحدة التی سبقت ، وهی التی تنصب فیها «الشبیه بالمفعول به» (5).
ص: 295
وینشأ من هذا التفریع صور متعددة أکثرها صحیح ، وأقلها غیر صحیح. ومن المشقة والإرهاق أن نتصدی لحصر صورهما ، ونحدد عددهما علی الوجه الذی فعله بعض الخیالیین ؛ فأوصلهما إلی مئات ، بل ألوف (1) ، وانته به التحدید إلی ما لا خیر فیه.
وإذا کان التحدید علی الوجه السالف خیالیّا مرهقا ، فإن الحرص علی سلامة الأداء ، وصحة التعبیر - یقتضینا أن نعرف الصور الممنوعة ؛ کی نتجنبها ، ونصون أنفسنا من الخطأ. وقد وضع لها النحاة ضابطا نافعا ، یسهل فهمه واستیعابه ، فقالوا (2) :
یمتنع جر المعمول فی کل صورة جمعت ما یأتی کاملا ؛ حیث لا یصح إضافة الصفة المشبهة إلی معمولها :
1- إفراد الصّفة المشبهة (بأن تکون غیر مثناة ، وغیر جمع مذکر سالم).
2- اقترانها «بأل».
3- تجرد معمولها من «أل» ، ومن الإضافة إلی ما فیه أل ، ومن الإضافة إلی المختوم بضمیر یعود علی ما فیه «أل».
4- تجرد الموصوف من «أل».
فیمتنع الجر فی : غرّد محمود الرخیم (3) صوته ، ولا یمتنع فی : غرد الطائر الرخیم صوته. فإذا کانت الصفة «بأل» ، وکذلک معمولها صح الجر بالإضافة مثل : لا تجادل إلا السمح الخلق ، العف القول ، الأمین الزّلل.
ویجوز الجر بالإضافة أیضا إذا کانت الصفة مقرونة «بأل» والمعمول مجردا ، لکنه مضاف إلی المقترن بها : مثل : هذا الحکیم إعداد الخطط ، الحسن تدبیر الأمور. کما یجوز الجر إن کانت الصفة مقرونة بأل ومعمولها مجرد من : «أل» ، ولکنه مضاف لمضاف إلی ضمیر یعود علی المقرون بها ،
ص: 296
مثل : راقنی الطاووس البدیع لون ریشه ؛ فإن الضمیر الذی فی آخر کلمة : «ریش» عائد علی الطاووس وفیه «أل». وهکذا ..
هذا هو الضابط العامّ الذی یرشدنا إلی المعمول الذی یمتنع جره بالإضافة ، ویوضح الصور الکثیرة التی لا یجوز فیها إضافة الصفة المشبهة إلی معمولها. وأقرب هذه الصور للخاطر : الأربعة الآتیة (1) ، وهی حالات جرّ ممنوع حین یکون فیها الموصوف مجردا من : «أل».
1- أن تکون الصفة مقرونة «بأل» والمعمول مجرد منها ، مضاف إلی ضمیر الموصوف الخالی منها ؛ نحو : إبراهیم النبیل خلقه.
2- أن تکون الصفة مقرونة «بأل» والمعمول مجرد منها ، مضاف إلی مضاف لضمیر الموصوف الخالی منها ؛ نحو : إبراهیم النبیل خلق والده.
3- أن تکون الصفة مقرونة «بأل» والمعمول مجرد منها ، مضاف إلی الخالی من «أل» والإضافة ؛ نحو : هذا النبیل خلق والد.
4- أن تکون الصفة مقرونة «بأل» والمعمول مجرد منها ، خال من «أل» والإضافة ؛ نحو : هذا النبیل خلق.
* * *
ص: 297
ا - سلک بعض النحاة مسلکا حسنا آخر ، لبیان أکثر الصور الصحیحة والممنوعة التی تتردد علی الخواطر ؛ فقال :
الصفة المشبهة إما أن تکون مقرونة «بأل» ، وإما أن تکون مجردة منها. فإذا کانت مقرونة «بأل» فلمعمولها ستة أحوال یمتنع الجر فی بعضها :
(1) أن یکون مقرونا «بأل» أیضا مثل : أحبّ الکتاب العظیم الفائدة.
(2) أن یکون مجردا من «أل» ولکنه مضاف للمقرون بها : مثل : أحب الکتاب العظیم فائدة البحوث.
(3) أن یکون مجردا من «أل» ولکنه مضاف لضمیر یعود علی الموصوف مثل : أحب الکتاب العظیم فائدته.
(4) أن یکون مجردا من «أل» ولکنه مضاف لمضاف للمقرون بضمیر یعود علی الموصوف ؛ مثل : أحب الکتاب العظیم فائدة بحوثه.
(5) أن یکون مجردا من «أل» ولکنه مضاف إلی الخالی من «أل» والإضافة ؛ مثل : أحب الکتاب العظیم فائدة بحوث.
(6) أن یکون مجردا من «أل» ومن الإضافة معا ؛ نحو : أحب الکتاب العظیم فائدة.
وهذه الحالات الستّ قد یکون المعمول فی کل واحدة منها مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، فمجموع الصور ثمانی عشرة صورة. وبعضها یمتنع فیه جر المعمول.
هذه أحوال المعمول وصوره حین تکون الصفة مقرونة «بأل». فإن کانت مجردة منها فله ست حالات هی الحالات السالفة نفسها مع تجرید الصفة من «أل» وبعد هذا التجرید یکون المعمول فی کل حالة مرفوعا أو منصوبا ، أو مجرورا ، فله ثمانی عشرة صورة أیضا ، بعضها یمتنع جره کذلک. فمجموع صوره
ص: 298
فی حالتی اقتران الصفة «بأل» وعدم اقترانها هو : ست وثلاثون صورة بعضها یمتنع جره.
وأظهر الممنوع منها هو الأربعة التی سبق إیضاحها قبل هذه الزیادة مباشرة (1). (وهناک غیرها ممنوع ولکن لا حاجة للإثقال بسرده ، لقلة وروده علی الأذهان ، وندرته فی الأسالیب الناصعة).
ب - ما لیس ممنوعا من الصور یجوز استعماله. ولکنه - مع جواز استعماله - متفاوت فی درجته ، حسنا وقبحا ، وقوة وضعفا :
1- فمن القبیح أن ترفع الصفة المقرونة «بأل» أو المجردة منها ، فاعلا نکرة ؛ نحو : صلاح الحسن وجه ، أو الحسن وجه أب ... أو : صلاح حسن وجه ، و ...
ومن القبیح أیضا أن تکون الصفة مقترنة بأل ، أو مجردة ، ومرفوعها مقرونا «بأل» ، أو مجردا منها. ولهذا صور أربع.
2- ومن الضعیف : أن تکون الصفة المشبهة نکرة ومعمولها معرفة منصوبة أو مجرورة ، إلا إذا کان المعمول «بأل» ، أو مضافا لما فیه «أل».
ومن الضعیف أیضا : أن تکون الصفة «بأل» مضافة إلی معمولها الخالی منها. ولکنه مضاف لضمیر یعود علی المقرون بها.
وما عدا حالتی القبح والضعف. - مما لیس ممنوعا - حسن قوی.
* * *
ص: 299
المتعدی لواحد (1)
یجدر بنا الآن - وقد عرفنا أحوال کل منهما ، وقیاسیّته ، وفرغنا من شرح أحکامهما - أن نعرض لموازنة نافعة بینهما.
1 - إنها تشبهه فی أمور ، ومن أجل هذه الأمور مجتمعة (2) سمیت : «الصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدی لواحد». وأهم هذه الأمور المشترکة بینهما :
1- الاشتقاق. فإن لم تکن مشتقة - کما فی بعض أنواعها (3) القلیلة - فلیست بصفة أصیلة مشبهة باسم الفاعل ، وإنما هی صفة مشبهة علی وجه من التأویل ، نحو : عرفت رجلا أسدا أبوه ، أو نمرا خادمه ، أو ثعلبا حارسه ... ونحو : هذه قمر وجهها ، حریر شعرها ، (ویجوز فی کل هذا النوع زیادة یاء النسب فی آخره) والمعنی التأویلی شجاع أبوه - غادر خادمه - ماکر حارسه - مضیء أو جمیل وجهها ، ناعم شعرها ... و ....
وهذا النوع المؤول (4) قیاسیّ - علی قلته - ولکن یحسن التخفف منه قدر الاستطاعة.
2- الدلالة علی المعنی وصاحبه.
3- عملها النصب فی «الشبیه بالمفعول به» بشرط اعتمادها. ولکن هذا الاعتماد عامّ فی المقرونة «بأل» والمجردة منها. (وقد سبق بیان هذا عند الکلام
ص: 300
علی إعمالها ، کما سبق (1) تفصیل الاعتماد وما یتصل به فی موضعه المناسب من باب اسم الفاعل (2) ، ومنه یعلم أن الاعتماد ضروری لعمل اسم الفاعل النصب إذا کان غیر مقترن «بأل» ... أما هی فالاعتماد ضروری لها فی الحالتین (3) ، إذا أرید أن تنصب الشبیه ...).
ومما تجب ملاحظته أن الاعتماد شرط فی نصب الصفة المشبهة لما یسمی : «الشبیه بالمفعول به» ، أما غیره فتعمل عملها فیه بدون شرط ؛ کالرفع فی فاعلها ، والجر فیما أضیف إلیها ، والنصب فی کل المنصوبات الأخری ؛ ومنها : الحال ، والتمییز ، والمفعول لأجله ، والظرف ، والمفعول المطلق (4) ، وکل معمول مرفوع ، أو مجرور ، أو منصوب. إلا المنصوب علی «التشبیه بالمفعول به» فلابد فیه من الاعتماد.
4- قبول التثنیة. والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث ، مثل : (جمیل ، جمیلة - (جمیلان ، جمیلتان) - (جمیلون ، جمیلات) ، ومثل : (حسن ، حسنة) - (حسنان ، حسنتان) - (حسنون - حسنات) ، وهکذا ... و ...
فإن لم تصلح للتثنیة ، والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث - فلیست صالحة لأن تکون صفة مشبهة ؛ مثل کلمتی : «قنعان (5)» ، و «دلاص (6)» فکلتاهما تستعمل بلفظ واحد للمفرد وفروعه ، وللمذکر والمؤنث ، تقول : (رجل ... ، أو رجلان ... ، أو رجال ... ، أو امرأة ... ، أو امرأتان ، أو نسوة) - قنعان ، فی کل حالة مما سبق. (وهذه درع ... أو هاتان درعان
ص: 301
.... أو هؤلاء دروع ...) - دلاص ، فی کل حالة أیضا. ومثل کلمة : «مرضع» فی نحو : ما أعظم حنان ، مرضع الأولاد. فإن هذه الکلمة لا تلحقها علامة التأنیث - غالبا - (1) ، لأنها خاصة بالمؤنث ، ولا تستعمل بهذا المعنی فی المذکر.
* * *
ص: 302
بمناسبة الإشارة إلی تأنیث «الصفة المشبهة» وتذکیرها نعرض للحالات التی یجب أن تطابق فیها الموصوف وحده ، أو السببی وحده ، والحالات التی یجوز فیها مطابقة هذا ، أو ذاک. ویشترط أن تکون الحالات السالفة وأحکامها مقصورة علی تأنیث الصّفة المشبهة وتذکیرها حین ترفع السببی للمنعوت :
1- إذا رفعت الصفة المشبهة سببیّا للمنعوت ، وکانت صالحة (1) فی لفظها ومعناها للمذکر والمؤنث جاز أن تطابق هذا أو ذاک ، سواء أکانا مذکرین معا. أم مؤنثین معا ، أم مختلفین تذکیرا وتأنیثا ، فمثال المذکرین معا. هذا عالم عظیم نفعه. ومثال المؤنثین معا : هذه عالمة عظیمة والدتها. ومثال المنعوت المذکر والسببی المؤنث : هذا عالم عظیمة تلمیذاته ، أو عظیم تلمیذاته. ومثال المنعوت المؤنث والسببی المذکر : هذه عالمة عظیم اختراعها ، أو عظیمة اختراعها.
وسبب الإباحة فی هذه الحالة أن الکلمة صالحة (2) للأمرین - مع زیادة تاء التأنیث فی المؤنث - وانتفاء القبح اللفظی والمعنوی (3) منها. بخلاف الصور الآتیة ، فإن فیها قبحا ؛ ولذا تمتنع المطابقة.
2- إذا کان لفظها - دون معناها - مختصّا بأحدهما وجب - فی الأغلب - أن یکون المنعوت مثلها فی التذکیر ، أو فی التأنیث ، ولا یصح - فی الرأی الأغلب - أن تقع نعتا لما یخالف لفظها فی التذکیر ، أو التأنیث ؛ مثل کلمة :
ص: 303
عجزاء (1) ... و ... ، نحو ، تلک فتاة عجزاء أختها. فلا یصح : ذلک فتی عجزاء أخته.
3- وکذلک إن کان معناها - دون لفظها - مختصّا بأحدهما ، فلا یصح - فی الأغلب - أن تقع نعتا لما یخالف معناها فی التذکیر أو التأنیث ، مثل : کلمتی : خصیّ ، ومرضع (2) ... و ... فی قول بعض المؤرخین : یصف بیت أحد الممالیک ... وشاهدت مملوکا خصیّا خادمه ، وأمیرة مرضعا جاریتها ... و ... فلا یصح : مملوکة خصیّا خادمها ، ولا أمیرا مرضعا جاریته.
4- وکذلک إن کان لفظها ومعناها مختصین بأحدهما ؛ کأکمر (وهو خاص بالذکور) ، ورتقاء (وهو خاص بالنساء) ؛ نحو : انصرف رجل أکمر ولیده - وعجبت أمّ رتقاء ولیدتها. فلا یصح - فی الأغلب - انصرفت امرأة أکمر ابنها - ولا : عجب والد رتقاء بنته ..
ومن النحاة من یجعل الحالات الثلاث الأخیرة کالحالة الأولی ، فیجیز أن تقع الصفة بعد موصوف یخالفها لفظا فقط ، أو معنی فقط ، أو لفظا ومعنی معا ، فلا فرق عنده فی جمیع الأحوال الأربعة السابقة من حیث التذکیر والتأنیث ، فیجیز أن تکون الصفة مطابقة فیهما للموصوف أو للسببی. وهذا الرأی - علی قلة أنصاره - سائغ لما فیه من التیسیر ، ومنع التشعیب ، مع موافقته لبعض النصوص العربیة الفصیحة. ولکن الرأی الأول أکثر شیوعا فی النصوص العالیة المأثورة التی تمتاز بسمو عبارتها ، وقوة بلاغتها ، وبعدها من القبح اللفظیّ.
کل ما سبق مقصور علی الحالات التی ترفع فیها الصفة المشبهة سببی المنعوت. لکن هناک بعض حالات خاصة تحتاج إلی إیضاح (3) ؛ ففی مثل : «مررت
ص: 304
یفتاة حسن الوجه» یکون السببی (وهو : الوجه) واجب الرفع ، لا یجوز فیه الجر بالإضافة ؛ لأن الجر بالإضافة یقتضی إزالة الإسناد عنه (بالطریقة التی سبق شرحها فی ص 268 ، ... والتی ستأتی فی «ب» ص 310) ، وتحویله إلی ضمیر الموصوف وهو الضمیر المستتر فی الصفة ، ومتی تحملت الصفة المشبهة هذا الضمیر المستتر وجب - فی المثال السالف وأشباهه - تأنیثها بالتاء ؛ مراعاة للمنعوت ؛ فعدم التأنیث فی المثال السابق وأشباهه دلیل علی أن المعمول لیس «مضافا إلیه» مجرورا ؛ وإنما هو فاعل واجب الرفع.
وقد یتعین عدم الرفع ؛ کما فی : «امرأة حسنة الوجه» ؛ لأن «الوجه» لو کان فاعلا لوجب تذکیر الوصف للسبب السالف. وقد یجوز الأمران - الرفع والجر - کما فی : «مررت برجل حسن الوجه».
فالصفة المشبهة إذا تحملت ضمیرا مستترا للموصوف وجب مطابقتها فی التأنیث والتذکیر لذلک الموصوف ، ووجب أن یکون معمولها غیر فاعل (1) ...
* * *
ص: 305
ب - وتخالفه فی أمور وأحکام هامة ؛ توضّح حقیقة کل منهما ، تمیزه من الآخر. منها :
1- اشتقاقها من الفعل اللازم حقیقة ، أو من المتعدی الذی هو فی حکم اللازم وفی منزلته - فمثال الأول : حسن ، وجمیل ؛ فی نحو : «الغزال حسن الصورة ، جمیل العینین» ، وفعلهما : حسن وجمل ل (بضم عینهما) وهما فعلان لازمان. وکذلک سمح ، وجامد ، فی قول الشاعر :
السمح فی الناس محبوب خلائقه
والجامد (1) الکفّ ما
ینفکّ ممقوتا
وفعلهما : «سمح ، وجمد» وهما لازمان.
ومثال الثانی : «هذا فارع (2) القامة ، عالی الرأس ؛ إذا أرید بکل من : «فارع» و «عال» الثبوت والدوام (3) ، لا التجدد والحدوث. وفعلهما : «فرع» وعلا ؛ وکلاهما متعد. ولکن مجیء الصفة المشبهة من مصدره - عند إرادة الثبوت نصّا - جعله بمنزلة اللازم ، إذ أنها لا تصاغ أصالة إلا منه ، ولا تصاغ من المتعدی إلا علی هذا الاعتبار الذی یجعله بمنزلة اللازم (4). أما اسم الفاعل فیصاغ من اللازم والمتعدی بغیر تقید بأحدهما.
2- تعدد صیغها القیاسیة وکثرة الأوزان المسموعة ؛ بخلاف اسم الفاعل فإن له صیغة قیاسیة واحدة إذا کان فعله ثلاثیّا ؛ هی صیغة : «فاعل». وأخری علی وزن مضارعه مع إبدال أوله میما مضمومة وکسر الحرف الذی قبل الآخر - کما عرفنا - إن کان فعله غیر ثلاثی. والصیغتان محدودتان مضبوطتان.
ص: 306
3- دلالتها علی معنی دائم الملازمة لصاحبه ، أو کالدائم ؛ فلا یقتصر علی ماض وحده ، أو حال وحده ، أو مستقبل کذلک ، أو علی اثنین دون الثالث ، فلا بد أن یشمل معناها الأزمنة الثلاثة مجتمعة مع دوامه أو ما یشبه الدوام - ، کما شرحنا -. وهذا یعبر عنه بعض النحاة بأنه : «دلالتها علی معنی فی الزمن الماضی المتصل بالحاضر (1) الممتد ، مع الدوام» ، لأن اتصال الماضی بالحاضر ، کدوام هذا الحاضر ، وامتداده - یستلزم اتصال الأزمنة الثلاثة حتما. فغایة العبارتین واحدة. وعلی هذا لا یصح أن یقال فی الرأی الأقوی الذی یجب الاقتصار علیه : الوجه حسن أمس - أو الآن - أو غدا. أما علی الرأی الضعیف الذی سبق أن أشرنا بإهماله (2) ، فیجوز (بشرط وجود قرینة) اء؟؟؟ الصفة المشبهة علی صیغتها مع تغیر دلالتها إلی الماضی ، أو الحال ، أو المستقبل. وأما علی الرأی القوی فنقول فی هذه الصور وأمثالها مما یقتصر فیه لمعنی علی نوع من الزمن دون اکتمال الأنواع کلها : الوجه حاسن أمس - و : الوجه حاسن الآن - أو : الوجه حاسن غدا : وذلک بتحویل صیغة الصفة المشبهة إلی صیغة اسم الفاعل ، وإخضاعها لأحکامه کلها. وهذا الرأی وحده أحقّ بالأخذ. وقد سبق أن أوضحنا (3) أن من یرید الدلالة علی ثبوت الوصف ودوامه نصّا فعلیه أن یجیء بالصفة المشبهة ، ومن یرید الدلالة نصّا علی حدوثه وتقییده بزمن معین دون باقی الأزمنة فعلیه أن یجیء باسم الفاعل. وأنه لابد مع الإرادة من قرینة تبین نوع الدلالة ؛ أهی الثبوت والدوام ، أم الحدوث.
ولا فرق فی دلالتها علی دوام الملازمة بین أن یکون الدوام مستمرّا لا یتخلله انقطاع ؛ (کطویل القامة - حلو العینین) ، وأن یتخلله انقطاع أحیانا ، (نحو : سریع الحرکة ، بطیء الغضب ،) فیمن طبعه هذا ، فإن الانقطاع الطارئ - - ولو تکرر - لا یخرج الصفة عن أنها فی حکم الملازمة لصاحبها ، إذ أنها من عاداته الغالبة علیه (4).
ص: 307
4- مجاراتها لمضارعها فی حرکاته وسکناته حینا ، وعدم مجاراته أحیانا إن کان فعلها فی الحالتین ثلاثیّا. (والمراد بالمجاراة أمران : أن یتساوی عدد الحروف المتحرکة والساکنة فی کل منهما ، وأن یکون ترتیب المتحرک والساکن فیهما متماثلا ، فإن کان الثانی ، أو الثالث أو : الرابع - أو غیره - فی أحدهما متحرکا کان فی الآخر کذلک. أو کان ساکنا فهو ساکن فی الآخر. ولیس من اللازم أن یتفق نوع الحرکة فی کل منهما ؛ فقد یکون الأول مفتوحا فی أحدهما ، مضموما فی الآخر - مثلا -)
فمن أمثلة المجاراة بینهما قولهم فی الذم : فلان ساکن الریح (1) ، أشأم الطالع ، والمضارع من الثلاثی هو : یسکن - یشؤم. ومن الأمثلة المخالفة - رخیص - ثمین - نجیب - هجین - لطیف ، وغیرها مما فی قول شوقی :
«الوطن کالبنیان ؛ فقیر إلی الرأس العاقل ، والساعد العامل ، وإلی العتب الوضیعة ، والسقوف الرفیعة. وکالروض محتاج إلی رخیص الشجر وثمینه ، ونجیب النبات وهجینه ؛ إذ کان ائتلافها فی اختلاف ریاحینه ؛ فکل ما کان منها لطیفا موقعه ، غیر ناب موضعه - فهو من نوابغ الزهر قریب ، وإن لم یکن فی البدیع ولا الغریب ...». وأفعالها المضارعة التی لا تجاریها (وهی من الثلاثی) : یرخص - یثمن - ینجب - یهجن - یلطف ....
أما الصفة المشبهة من مصدر غیر الثلاثی (2) فلابد من مجاراتها لمضارعها ؛ إذ هی فی الأصل اسم فاعل أو اسم مفعول من غیر الثلاثی وهما من غیر الثلاثی یجاریان المضارع حتما ، ثم أرید من کلّ منهما الثبوت ؛ فصار صفة مشبهة علی هذا الاعتبار - کما عرفنا - لأن الصفة المشبهة لا تصاغ أصالة إلا من ثلاثی ؛ فوجب أن تکون من غیر الثلاثی مجاریة لمضارعها. ومن الأمثلة : فلان مستقیم الخطّة - معتدل النهج - مسدّد الرأی. ومضارعها : - یستقیم - یعتدل - یسدد ... و ...
ص: 308
أما اسم الفاعل فلابد أن یجاری مضارعه دائما (1) - نحو : ذاهب ، ویذهب - فاهم ویفهم - سامع ویسمع. ونحو : مکافح ویکافح - مرتفع ویرتفع - متمهل ویتمهل.
5- امتناع تقدیم معمولها علیها إن کان «شبیها بالمفعول به» (2) ، أما غیره فیصح ؛ کشبه الجملة ، والمنصوبات الأخری التی ینصبها الفعل القاصر والمتعدی والتی یجوز تقدیمها ؛ کالمفعول لأجله ، والحال ، و ... و ... فلا یصح الغزال العین جمیل ؛ بنصب کلمة : «العین» علی التشبیه بالمفعول به للصفة المشبهة بعدها.
أما اسم الفاعل فیجوز تقدیم معموله علیه فی حالات کثیرة إذا کان (3) غیر مقرون «بأل» مثل : العواصف شجرا مقتلعة ، والسحب الکثیفة نور الشمس حاجبة. والأصل : مقتلعة شجرا - حاجبة نور الشمس.
وکذلک یجوز فی الصفة المشبهة تقدیم معمولها علیها إن کان شبه جملة أو فضلة ینصبها العامل المتعدی واللازم ولا یمنع من تقدیمها مانع آخر کما قلنا. ومن أمثلة هذا قوله تعالی : (... وَإِنْ یَمْسَسْکَ بِخَیْرٍ فَهُوَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ) فشبه الجملة : «علی کل شیء» متعلق بالصفة المشبهة : «قدیر» وکذلک ما ورد فی وصفهم عمر رضی الله عنه : «کان بالضعفاء رحیم القلب ، لیّن الجانب ، وعلی الطغاة شدید البأس ، قاسی الفؤاد. وأمام الشدائد - ثقة بالله - ثبت الجنان ، قویّ الإیمان ...» ، والأصل : کان رحیم القلب بالضعفاء - شدید البأس علی الطغاة - ثبت الجنان أمام الشدائد ، ثقة بالله.
6- وجوب سببیة معمولها المجرور ، أو المنصوب علی التشبیه بالمفعول به. فلابدّ أن یکون معمولها سببیّا فی الحالتین ، وکذلک إذا کان معمولها
ص: 309
مرفوعا ، والصفة جاریة علی موصوف. والمراد بالسببی (1) : الاسم الظاهر المتصل بضمیر یعود علی صاحبها (2) ، اتصالا لفظیّا أو معنویّا. فمثال اللفظیّ : لنا صاحب سمح خلیقته ، حلو شمائله ، کریم طبعه ، تهفو القلوب إلیه کأنما بینه وبینها نسب ، وقول الشاعر :
لقد کنت جلدا قبل أن توقد النوی
علی کبدی نارا بطیئا خمودها
فکل کلمة من الکلمات : خلیقة ، شمائل ، طبع ، خمود - ... معمول للصفة المشبهة التی قبله ، وهو معمول سببیّ ، لأنه اسم ظاهر ، متصل بضمیر یعود - مباشرة - علی المتصف بمعنی تلک الصفة.
ومثال المعنوی قول الفرزدق فی مدح زین العابدین بن الحسین :
سهل الخلیقة - لا تخشی بوادره
تزینه الخصلتان : الحلم ، والکرم
لا یخلف الوعد ، میمون بغرته
رحب الفناء ، أریب حین یعتزم
والأصل : سهل الخلیقة منه - رحب الفناء منه ، أی : من زین العابدین فی المثالین. فالضمیر محذوف مع حرف الجر ، وهو مع حذفه ملحوظ کأنه موجود (3).
أو أنه لا حذف فی الکلام. وأن «أل» الداخلة علی السببی تغنی عن الضمیر (4).
أما اسم الفاعل فیعمل فی السببی والأجنبی ، مثل : مکرّم - مکرّمة - منکرة - عاطفة ... فی قولهم : (تکریم العظیم تأیید له ، ونصر للفضیلة ، وتکریم الحقیر إغراء له ، ومشارکة فی جرائمه ؛ فشتان بین مکرّم عظیما
ص: 310
یستحق التکریم ومکرّم صغیرا هو أولی بالزرایة والتحقیر. وما الجماعة الناهضة إلا المکرّمة عظماءها ، المنکرة أراذلها ، العاطفة أقویاؤها علی ضعفائها).
7- استحسان إضافتها إلی فاعلها المعنوی (1) وجرّه بالإضافة (2) ؛ سواء أکانت الصفة المشبهة من الصفات التی تلازم صاحبها ولا تفارقه ، مثل : البدویّ طویل القامة ، عریض الجبهة ، أسمر اللون - أم کانت من الصفات التی تلازمه طویلا وقد تفارقه نحو : العربیّ قویّ السمع ، حدید (3) البصر خفیف الحرکة ... والأصل : البدوی طویلة قامته ، عریضة جبهته ، أسمر لونه ، قویّ سمعه ، حدید بصره ... و ...
أما اسم الفاعل فإضافته إلی مرفوعه ممنوعة فی أکثر أحواله التی یدل فیها علی الحدوث ، لا علی الدوام. وقد سبق تفصیل هذا (4) حیث أوضحنا أن اسم الفاعل الدال علی الحدوث ، وفعله لازم أو متعد لأکثر من مفعول ، لا یجوز إضافته لفاعله إلا إذا أرید منه الدلالة علی الثبوت ، کدلالة الصفة المشبهة ، وأن الذی فعله متعد لمفعول واحد - قد یجوز إضافته لفاعله عند أمن اللبس ... للدلالة علی الثبوت ... و ... إلی آخر ما سردناه هناک ، وأن اسم الفاعل إذا ترک الدلالة علی الحدوث إلی الدلالة علی الثبوت والدوام لا یبقی له اسمه ، ولا أحکامه ، وإنما ینتقل إلی الصفة المشبهة ؛ فیسمی باسمها ، ویخضع لأحکامها دون أن تتغیر صیغته.
* * *
ص: 311
ا - بقیت. أمور وأحکام أخری تنفرد بها الصفة المشبهة (1) ، ولا یشارکها فیها اسم الفاعل ، منها :
ص: 312
1- عدم تعرفها بالإضافة (فی الرأی الراجح بین آراء قویة أیضا أشرنا إلیها من قبل (1)) أما هو فیتعرف بها إذا کان بمعنی الماضی فقط ، أو أرید به الاستمرار فیلحظ فی هذا الاستمرار جانب المضی وحده.
2- «أل» الداخلة علیها قد تعتبر للتعریف وموصولة معا - فی رأی - وأداة تعریف فقط فی رأی أقوی.
أما الداخلة علیه فمعرّفة واسم موصول معا (کما سبق فی بابه. وفی ج 1 ص 278 م 27).
ص: 313
3- مخالفتها فعلها اللازم أصالة ، فتنصب معمولها علی التشبیه بالمفعول به دون فعلها ؛ فإنه قاصر لا ینصب المفعول به (1) ، ولا شبهه. أما اسم الفاعل فلا یخالف فعله فی التعدی واللزوم.
4- إعراب معمولها المنصوب مشبّها بالمفعول به - ولیس مفعولا به - سواء أکان المعمول معرفة أم نکرة ، وتمییزا فقط إن کان نکرة (2) ...
أما معموله فمفعول به مباشرة ، ما دام منصوبا قد وقع علیه فعل الفاعل.
5- تأنیثها یکون أحیانا بألف التأنیث ؛ نحو : هذه بیضاء الصفحة.
أما هو فلا تدخله ألف التأنیث.
6- عدم مراعاة محل معمولها المجرور بإضافته إلیها ، المتبوع بعطف ؛ أو بغیره من التوابع. بخلاف اسم الفاعل.
7- عدم إعمالها محذوفة ؛ فلا یصح هذا حسن القول والفعل ، بنصب «الفعل» ، علی تقدیر : وحسن الفعل ، أما هو فیجوز : أنت ضارب اللص والخائن ، بنصب الخائن. کما یجوز فی باب : «الاشتغال» أن یقال : أضعیفا أنت مساعده ، أی : أمساعدا ضعیفا ...؟) بتقدیر اسم فاعل محذوف بعد الهمزة ، ولا یصح : أوجها هذه المرأة جمیلته(3).
8- عدم الفصل بینها وبین معمولها المرفوع أو المنصوب (4) بظرف أو جار ومجرور - فی الرأی الأرجح - إلا عند الضرورة ، بخلافه.
9- وجوب تغییر صیغتها إلی صیغة اسم الفاعل إن ترکت الدلالة علی الثبوت - بقرینة - إلی الدلالة علی الحدوث. أما هو فقد یبقی علی صیغته إن ترک الدلالة علی الحدوث - بقرینة - إلی الدلالة علی الثبوت.
10- جواز إتباع معموله بالنعت أو غیره من باقی التوابع. أما معمولها فلا یتبع بنعت ، أی : لا یصح نعته.
ص: 314
ب - یذکر النحاة تعلیلا جدلیّا (1) لاستحسان إضافة الصفة المشبهة لفاعلها دون إضافة اسم الفاعل لفاعله ، ونلخصه هنا (بالرغم من أنه جدل منقوض بجدل مثله ، ومعارض بأمثلة کثیرة ، أوردها المعترضون ، وضمنوها بطون المطولات ، وأن التعلیل الحق هو استعمال العرب لیس غیر) :
إن إضافة اسم الفاعل إلی فاعله ممنوعة - علی وجه یکاد یقع علیه الاتفاق - إذا بقی علی دلالة الحدوث نصّا ، وکان فعله لازما ، أو متعدیا لأکثر من مفعول به ؛ لأن إضافته فی هاتین الصورتین توقع فی اللّبس. فتوهم أنه أضیف لیجاری الصفة المشبهة - حیث تضاف لفاعلها کثیرا - وأنه ترک دلالته علی الحدوث والتجدد لیصیر دالا علی الثبوت والدوام مثلها ؛ فأضیف إضافتها لیؤدی دلالتها.
أما إن کان فعله متعدیا لواحد ؛ فقد یمتنع إضافته إذا أوقعت فی لبس. کما فی مثل : البارّ مکرم أبوه فلو قلنا : البارّ مکرم الأب - لجاز أن یقع فی الوهم أن الإضافة هی للمفعول ، لا للفاعل ، وأن الأصل : البارّ مکرم أباه ، بل إن إضافته قلیلة حین یکون فعله متعدیا لواحد ، ومعناه من المعانی التی لا تقع علی الذوات ، (أی : علی الأجسام) ؛ حیث اللبس مأمون ، والإبهام غیر واقع. مثل : محمد کاتب أبوه ، فلا یصح : محمد کاتب الأب - إلا علی قلة کما سبق - مع أنه لا لبس ولا إبهام فی الإضافة ؛ إذ الکتابة لا تقع علی الذوات.
أما السبب فی عدم صحة هذا - إلا علی قلة - فلأن الصفة الدالة علی الثبوت لا تضاف إلی فاعلها إلا بعد تحویل إسنادها عنه إلی ضمیر موصوفها ، واستتار الضمیر فیها (کما أشرنا فی ص 268) ، إذ لو لم یتحول الإسناد بالطریقة السالفة للزم إضافة الشیء إلی نفسه ، لأن الصفة هی نفس مرفوعها فی المعنی ، وهو أمر غیر جائز ، إلا فی مواضع (2) لیس منها الموضع الحالیّ. ویؤید هذا - عندهم - تأنیث الصفة المشبهة بالتاء فی مثل : مررت بالفتاة
ص: 315
الحسنة الوجه (1) ؛ فلو لم تکن الصفة مسندة إلی ضمیر الفتاة لوجب تذکیرها کما تذکر مع فاعلها المرفوع ؛ لهذا کان من المستحسن - وقیل : من الواجب - فی مثل : أقبلت الفتاة الجمیل وجهها - أن تضاف الصفة إلی فاعلها ؛ فیقال : أقبلت الفتاة الجمیلة الوجه ، لأن فی الإضافة تخفیفا وتقلیلا من عدة أمور تتشابه فی أن کل اثنین منها بمنزلة شیء واحد ، ففی المثال السابق قبل الإضافة (وهو : مررت بالفتاة الحسن وجهها) - الجار والمجرور بمنزلة الشیء الواحد ، وکذلک الصفة مع الموصوف ، والفعل مع فاعله ، والمضاف مع المضاف إلیه. وکل هذه الأمور المتشابهة المجتمعة تقتضی التخفیف ولم یمکنهم أن یزیلوا منها شیئا إلا الضمیر حیث تصرفوا فی شأنه ؛ فنقلوه ، وجعلوه فاعلا بالصفة ، فاستتر فیها : لأن الصفة فی هذه الصورة تعد بمنزلة الجاریة علی من هی له (2) ، حیث رفعت ضمیره ، ومن ثمّ استحسنت الإضافة فی المثال السالف ، وفی نحو : أقبلت الفتاة الجمیلة وجهها ، فیصیر : أقبلت الفتاة الجمیلة الوجه ، ولم تستحسن ، أو لم تصح فی : محمد کاتب الأب (وأصله قبل الإضافة. محمد کاتب أبوه). لقلة الأشیاء المتشابهة التی تقتضی التخفیف.
وسبب آخر - عندهم - هو : أن الإسناد فی مثل ؛ الفتاة الجمیلة الوجه - بإضافة الصفة إلی فاعلها - قد تغیر ؛ فصار الجمال مسندا إلی الضمیر العائد إلی الفتاة کلها بعد أن کان الإسناد متجها إلی وجهها فقط ، وهو جزء منها ، أی : أن الإسناد فی ظاهره هو للکل ، ولکن المراد منه الجزء علی سبیل المجاز ؛ لأن من جمل وحسن بعضه ساغ أن یسند الجمال والحسن إلی کله ، مجازا ؛ لحکمة بلاغیة ؛ قد تکون المبالغة أو نحوها ... وهذا لا یستساغ فی مثل : محمد کاتب الأب (والأصل : محمد کاتب أبوه) : لأن من کتب أبوه لا یحسن أن نسند الکتابة إلیه إلا بمجاز بعید غیر مقبول ، سری من المضاف ؛ وهو «الأب» إلی المضاف إلیه ؛ وهو : «الهاء». فهو
ص: 316
من الإسناد إلی المضاف إلیه ، مع إرادة المضاف. وشتان بین الإسنادین والمجازین ؛ فالإسناد فی الأول واقع بین الکل والجزء الذی هو بعضه ، فیصح إطلاق کل منهما وإرادة الآخر ، بخلاف الثانی فهو بین الأبوة والنبوة.
هکذا یقولون (1) ، وهو تعلیل جدلی محض کما قلنا. وفیه مخالفة لما أجازوه من قبل ، من إضافة الشیء إلی نفسه أحیانا ... (2)
ص: 317
تعریفهما :
اسمان یصاغان من المصدر الأصلی (2) للفعل بقصد الدلالة علی أمرین معا ؛ هما : المعنی المجرد الذی یدل علیه ذلک المصدر ، مزیدا علیه الدلالة علی زمان وقوعه ، أو مکان وقوعه.
أو یقال : اسم الزمان ما یدل - بکلمة واحدة - علی المعنی المجرد وزمانه (3) ، واسم المکان ما یدل - بکلمة واحدة - علی المعنی المجرد ومکانه (4).
ومن المیسور الوصول إلی هذه الدلالة بتعبیرات أخری خالیة من الاسمین السالفین. ولکنها تعبیرات لن تبلغ فی الإیجاز مبلغ اسم الزمان واسم المکان ، فمزیة کل منهما أنه یؤدی بکلمة واحدة ما لا یؤدیه غیره إلا بکلمات متعددة.
ا - طریقة صیاغتهما ، والوصول إلیهما من الماضی الثلاثی ، غیر معتل العین بالیاء (5) ، تتحقق بالإتیان بمصدره القیاسی - مهما کانت صیغته - ثم
ص: 318
جعلها علی وزن : «مفعل» (1) - بفتح المیم والعین - فی جمیع الحالات ، ما عدا حالتین ، تکون الصیغة فیهما علی وزن «مفعل» (2) - بکسر العین - :
الأولی : الماضی الثلاثی صحیح الأحرف الثلاثة ، مکسور العین فی المضارع ؛ مثل : جلس یجلس - رجع یرجع - قصد یقصد - حسب یحسب ... و ...
الثانیة : الماضی معتل الفاء بالواو (3) ، صحیح اللام (4) ، بشرط أن یکون مضارعه مکسور العین (5) ، تحذف فیه الواو لوقوعها بین الفتحة والکسرة ، مثل : وأل یئل (6) - وثق یثق - وجم یجم (7) - وخز یخز (8) - وعد یعد -
فمن أمثلة «مفعل» - بفتح العین - للزمان : مطلع الفجر خیر وقت للقراءة والاطلاع النافع - لکثیر من الطیور هجرة سنویة ؛ فرارا من البرد. فإذا أقبل المشتی ، وحلّ المهجر ، رحلت إلی بلد أکثر دفئا ، وأنسب
ص: 319
جوّا. والمراد : زمن طلوع الفجر - زمن الشّتو (بمعنی : الشتاء) ، زمن الهجر ؛ (بمعنی الهجرة). وأفعالها الثلاثیة هی : طلع - شتا - هجر.
ومن أمثلة «مفعل» - بکسر العین - للزمان : کلمتا مغرس ، وموعد فی قولهم : لغرس الشجر مواسم معینة ؛ فإذا حان المغرس ، وحلّ موعده ، أسرع الزرّاع إلی غرس ما یریدون.
ومن أمثلة «مفعل» - بفتح العین - للمکان : (مدخل - مطعم - مطبخ - مکتب - ملعب - مشرب - منأی - مسرح - مأوی ...) فی قول القائل : «زرت بیتا لأحد الرفاق ؛ فراقنی جماله ؛ وتمام نظافته ، وبراعة تنسیقه ، ووفاؤه بمطالب الحیاة السعیدة ؛ فهذا مدخل للأضیاف ، یسلمهم إلی غرفة استقبال أنیقة. وهذا مطعم واسع ، حسن الترتیب ، یحمل إلیه شهیّ الطعام من مطبخ آیة فی النظافة. وفی جانب هادئ غرفة واسعة جعلها رب البیت مکتبا له ، تطل علی حدیقة عامرة بعیون الأزاهیر. وفی أحد الأطراف ملعب فسیح ، مهدت طرقه ، وفرشت أرضه بالکلأ الناعم الأخضر. وفی رکن منه مشرب للدافیء والبارد. وفی منأی عنه مسرح ومأوی للطیور الألیفة ، وبعض الحیوانات المستأنسة ...»
والمراد ؛ مکان الدخول - مکان الطعام - مکان الطبخ - مکان الکتابة - - مکان اللعب - مکان الشرب - مکان النّأی ، أی : البعد - مکان السّرح أی : الرعی - مکان الإیواء ...
ومن أمثلة «مفعل» - بکسر العین - للمکان ؛ مجلس - مرجع - مقصد - موثق - موئل - مورث ؛ کقولهم ، فی وصف أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب : کان واضح الجلال ، عظیم الهیبة. مجلسه مجلس علم ووقار ؛ لا تسمع فیه لغوا ، ولا تأثیما ، والإمام فیه مرجع الفتوی ، ومقصد المستفهم ، وموثق الشاکّ ، وموئل اللائذ ...
أی : مکان الجلوس - مکان الرجوع - مکان القصد - مکان الوثوق - مکان الوأل ، (أی : الالتجاء).
ص: 320
أما صیاغتهما والوصول إلیهما من الماضی الثلاثی المعتل العین بالیاء فقد سبق بیانها(1).
ب - فإن کان الماضی غیر ثلاثی فطریقة صوغهما تتحقق بالإتیان بمضارعه ؛ ثم قلب أوله میما مضمومة ، وفتح الحرف الذی قبل الآخر ، فتنشأ صیغة صالحة لأن تکون اسم زمان واسم مکان (2) ، ویکون توجیهها لأحدهما خاضعا للقرائن اللفظیة أو غیر اللفظیة ، فالقرینة وحدها هی التی تتحکم فی هذه الصیغة ؛ فتجعلها لأحدهما دون الآخر.
فمن الأمثلة : ممسی ومصبح - (أمسی ، یمسی ، ممسی - أصبح ، یصبح ، مصبحا) ، نحو : الحمد لله ممسانا ومصبحنا ، ونحو قول التاجر : متجری مصبحی وممسای. والمراد : الحمد لله فی وقت إمسائنا وإصباحنا - متجری مکان إصباحی وإمسائی.
ونحو : الفلک دوّار فی حرکة دائبة ، فلیس له منقطع یتوقف عنده إذا حان ، ولا متوقّف یستریح ساعته إذا حلّت. والمراد ؛ : لیس له زمان انقطاع ، ولا زمان توقّف.
ومن الأمثلة : کوخ تملؤه السکینة والطمأنینة والوثام ، خیر مستقرّا وأعظم مقاما من قصر فخم یسوده القلق ، والفزع ، ودواعی الشقاق. والمراد : خیر مکان للاستقرار ، وأعظم مکان للإقامة.
ولکنهما لا یعملان شیئا من عمل فعلهما ؛ فلا یرفعان الفاعل - أو نائبه ، ولا ینصبان المفعول به ، ولا غیره.
ویصح - عند الحاجة - زیادة تاء التأنیث فی آخر صیغة «مفعل» - بفتح العین ، وکسرها - بشرط أن تکون الصیغة للمکان ، مرادا تأنیث معناه ؛ وسیجیء البیان الخاص بهذا (1).
ص: 322
ا - یقول فریق من النحاة : إن فی اللغة أسماء للزمان أو للمکان علی وزن «مفعل» - بکسر العین - سماعا عن العرب. وکان القیاس الفتح ؛ ومنها : المشرق - المغرب - المطلع - المسجد - المرفق (1) - المنسک (2) - المفرق (3) - المجزر (4) - المسقط (5) - المنبت - المسکن - المحشر - الموضع - مجمع الناس - المخزن - المرکز - المرسن (6) - المنفذ (7) المعدن - المأوی ، إذا کان خاصّا بالإبل تأوی إلیه
والملاحظ أن النحاة کثیر من مراجعهم حین یسردون الکلمات السالفة یصفونها بأنها وردت عن العرب بالکسر ، وأن قیاسها الفتح ، ویکتفون بهذا ، دون أن یعرضوا ببیان شاف لأمرین هامین.
أولهما : ما تنصّ علیه المراجع اللغویة من ورود السماع الصحیح بالکسر وبالفتح فی أغلب تلک الکلمات (دون الاقتصار علی أحد الضبطین) (8) مثل : مسجد - موضع - منبت - مطلع - مسقط - مظنة ، مشرق ، مغرب ، مسکن مجمع الناس - مغرب - مرفق - منسک (9) - محشر ... فورود السماع بالفتح أیضا أدخل تلک الکلمات فی مجال الضابط العام ، وجعله منطبقا علیها. وإذا لا معنی لإبرازها ووصفها بأنها : «وردت مکسورة ، وکان قیاسها الفتح». فقد ثبت أنها وردت بالفتح أیضا ؛ فاجتمع فی الفتح السماع وانطباق الضابط
ص: 323
العام علیه ، (أی : اجتمع فیه السماع والقیاس) کما أن ورود السماع بالکسر یجیز فیها استخدام الکسر أیضا ؛ مراعاة للمسموع ، دون أن یوجب الاقتصار علیه. بل إن ورود السماع بالکسر وحده لا یوجب الاقتصار علیه وإهمال القیاس (1). فکیف وقد اجتمع لها السماع والقیاس معا؟
ثانیهما : أن کثیرا من أفعال تلک الألفاظ یصح فی مضارعه کسر العین طبقا للوارد عن العرب ؛ کمضارع الأفعال الصحیحة : (رفق - فرق - جزر - حشر ...) فلیست عین المضارع فیها مقصورة فی اللغة علی الفتح أو علی الضم ؛ بل یجوز فیها الکسر أیضا ، طبقا للوارد. وإذا جاز فیها الکسر کانت صیغة الزمان والمکان بکسر العین قیاسیة مطرّدة ؛ وتکون کنظائرها الکثیرة المکسورة التی تخضع للضابط العام ، وتنطبق علیها القاعدة الخاصة بطریقة الصوغ المطرد ، ولا یکون ثمة معنی لإبرازها من بین نظائرها ، وتخصیصها بأنها : «وردت مسموعة بالکسر ، وکان قیاسها الفتح». ذلک أن الفتح والکسر سماعیان وقیاسیان معا فیها ..
وخلاصة ما تقدم أن تلک الکلمات التی تمالأ فریق من النحاة علی أنها مسموعة بالکسر ، وأن قیاسها الفتح ، لیست مخالفة للقیاس الأصیل ، ولا خارجة عن نطاق القاعدة العامة المتعلقة بالصیاغة المطردة ، إما لأنها مسموعة بالفتح أیضا کورودها مسموعة بالکسر ، وإما لأن عین مضارعها مسموعة بالکسر وغیر الکسر ، ومتی ورد فیها الکسر صح مجیء الصیغة مکسورة العین ، وفاقا للقاعدة العامة ، والقیاس المطرد ... (2)
ص: 324
ب - وردت صیغ - کثیرة لاسم المکان ، قلیلة لاسم الزمان ، - من مصدر الثلاثی علی وفاق القاعدة ، ولکنها مختومة بتاء التأنیث للدلالة علی تأنیث المعنی المراد من الکلمة. (إذ یقصد منها : البقعة ، بمعنی المکان). فمما ورد فی الکلام العربی الفصیح : المزلة (بکسر الزای) لموضع الزّلل - المظنة بفتح الظاء (1)) لمکان الظن - المشرقة (بفتح الراء) لموضع شروق الشمس والقعود فیها - موقعة الطائر (بفتح القاف) ، للمکان الذی یقع فیه - المشربة للغرفة - المدبغة - المزرعة - المزلقة - المنامة ... وکثیر مثل هذا یزید علی المائة ولکنه یکاد یقتصر علی المکان. فهل یجوز القیاس علی هذا الوارد من المکان ، مرادا منه : «البقعة» ، بزیادة تاء التأنیث علی صیغة «مفعل» التی هی بفتح العین أو التی بکسرها ، لتصیر «مفعلة» - بفتح العین أو کسرها (2) - مع بقاء الدلالة علی ما کانت علیه؟
اختلف قدماء النحاة فی الرأی ؛ فقلیلهم یجیز القیاس ، وأکثرهم یمیل - بغیر داع قویّ - إلی المنع ؛ لتوهمه أن هذا الکثیر - المسموع المختوم بالتّاء فی صیغة اسم المکان - قلیل لا یکفی للقیاس علیه.
والحق أن الرأی الذی یبیح القیاس علیه سدید موفّق ، إذ کیف یوصف الوارد من تلک الأمثلة المکانیة بالقلة مع أنه یبلغ العشرات (3)؟ نعم إنها قلة ، ولکنها : «نسبیة» ، (أی : بالنسبة للصیغ الواردة من غیر تاء التأنیث) ، والقلة النسبیة» علی هذا الوجه تبیح القیاس العام ، وتجیز المحاکاة من غیر تقیید (4) ، وإن کانت لا تبلغ فی درجة القوة والفصاحة مبلغ الأولی (5) ، فاختلاف الدرجة فی القوة والفصاحة لا یمنع من صحة القیاس والمحاکاة ، ولا داعی للتضییق الذی لا یدفع عن اللغة أذی ؛ ولا یجلب لها نفعا. فالأنسب إباحة القیاس فی صیغة «مفعلة»
ص: 325
- بفتح العین أو کسرها - تبعا للقواعد السابقة الخاصة بصیاغتها ، مع الاقتصار فی القیاس علی اسم المکان ، لأن أمثلته الواردة هی التی بلغت فی الکثرة حدّا یبیح القیاس علیها ، دون اسم الزمان ، حتی لقد علل النحاة واللغویون التأنیث بأنه إرادة البقعة لا المکان (1) - وهی غیر «مفعلة» الآتیة هنا فی «ح».
وأهم مما سبق وأقوی فی إباحة القیاس أن النحاة یقررون أن إلحاق تاء التأنیث بالمشتقات قیاسیّ لتأنیث معناها ، وأن هذا الإلحاق قیاسی مطرّد فی جمیع أنواعها ، إلا بعض صیغ معینة ، لیس منها صیغة اسم الزمان والمکان - کما سیجیء فی باب التأنیث ، ح 4 م 169 ص 440.
هذا ، وقد أباح مؤتمر المجمع اللغوی القاهری (فی دورته الثالثة والثلاثین التی بدأت فی آخر ینایر سنة 1967 زیادة التاء للتأنیث فی «مفعلة» (صیغة اسم المکان) مطلقا ، (أی : سواء کثر فی المکان الشیء أو لم یکثر) وعرض علیه من المسموع الصحیح الوارد لها نحو : ستة وعشرین ومائة (126) کلمة ختمت فیها صیغة المکان بتاء التأنیث (2) ...
ح - قد یصاغ من الاسم الجامد الثلاثی (3) الحسی (4) صیغة علی وزن :
ص: 326
«مفعلة» - بفتح المیم والعین دائما - بقصد الدلالة علی مکان یکثر فیه ذلک الشیء (1) الحسیّ المجسم ، (أی : الذی لیس معنویّا) (2). فإذا وجد مکان یکثر فیه :. «ورق» - مثلا - صغنا «مفعلة» من : «ورق» فقلنا : «مورقة» ؛ للدلالة علی مکان یکثر فیه ذلک الشیء الحسیّ المسمی : «بالورق». وإذا وجد مکان یکثر فیه : «عنب» ، صغنا من کلمة : «عنب» «معنبة» ، للدلالة علی مکان یکثر فیه ذلک الشیء المجسم المسمی : «بالعنب». وإذا وجد مکان یکثر فیه : «البلح» ، صغنا من کلمة : «بلح» ؛ «مبلحة» للدلالة علی المکان الذی یکثر به البلح. وهکذا تصاغ «مفعلة» - من الاسم الثلاثی الجامد للدلالة علی أمرین معا ، هما : المکان وما یکثر فیه من شیء حسیّ معیّن ، (کما سبقت الإشارة لهذا (3)).
فالمراد : هو وصف بقعة ، أو قطعة من الأرض بکثرة ما فیها من شیء خاص مجسّم. ومن الأمثلة أیضا : مأسدة ، لأرض یکثر فیها الأسد - مذأبة ؛ لأرض یکثر فیها الذئب - مذهبة ؛ لأرض یکثر فیها الذهب - مقمحة ؛ لأرض یکثر فیها القمح - مرملة ؛ لأرض یکثر فیها الرمل. إلی غیر ذلک من الأسماء الثلاثیة الجامدة الحسّیّة. ویسمی الاشتقاق بالطریقة السالفة : الاشتقاق من أسماء الأعیان (4) الثلاثیة». أما غیر الثلاثیة فلا یصاغ منها «مفعلة» لهذا القصد. إلا إن کان الاسم مشتملا علی بعض الحروف الزائدة التی یمکن حذفها ، وتجریده منها ، وإبقاؤه علی ثلاثة أحرف أصلیة تشتق منها تلک الصیغة بغیر لبس ؛ مثل : «مبطخة» لأرض یکثر فیها : «البطیخ» و «مغزلة» لأرض یکثر فیها الغزال ، و «محصنة» لأرض یکثر فیها الحصان. فالأمر فی هذه الصیغة مقصور علی الثلاثی ؛ إمّا أصالة ، وإما
ص: 327
تحویلا ؛ بأن یتجرد المزید من أحرف زیادته ویصیر ثلاثیّا ؛ اتباعا للمأثور الغالب عن العرب.
أما المجرد من غیر الثلاثی فیسلک معه مسالک أخری فی التعبیر عن هذه الدلالة علی حسب اختیار المتکلم وقدرته البلاغیة ، دون استخدام لتلک الصیغة ، إذ لا یکاد یوجد خلاف فی منع صیاغة : «مفعلة» من المجرد الذی تزید حروفه الأصلیة علی ثلاثة (1).
بقی أن نشیر إلی مسألتین هامّتین :
الأولی : أقیاسیة تلک الصیغة أم مقصورة علی السماع؟ لقد ارتضی المجمع اللغوی القاهری قیاسیتها ، ونص قراره (2) :
" (جاءت أمثلة من تلک الصیغة عن العرب : ولنا أن نتکلم بما جاء عنهم. وهل لنا أن نقیس علیه ؛ فنقول مثلا : «مغزلة» للأرض التی یکثر فیها الغزال ، وقد جرد لفظ : «الغزال» من زیادته ، ومخسّة للأرض التی یکثر فیها : الخسّ ، و «متبرة» للأرض التی یکثر فیها : التبر - إذا کان العرب لم یقولوا هذا؟
ص: 328
«فی المسألة رأیان مبنیان علی الاختلاف فی التقدیر :
«أحدهما : أن هذا البناء - مع کثرته - من قبیل المسموع. ومعنی هذا أن الکثرة لم تصل إلی حد أن یقاس علیها.
«والآخر : أن الکثرة وصلت إلی حدّ أن یقاس علیها. وله من کلام بعض (1) الأئمة الکبار ما یعضده.
«وقد أخذ المجمع بالرأی الثانی ؛ لأنه قویّ ، والحاجة داعیة إلی القیاس علی ما قال العرب)» ا ه (2).
ص: 329
الثانیة : أن هذه الصیغة تختلف فی مدلولها وفی المراد منها عن صیغتی :
ص: 330
«مفعل» ، و «مفعلة» الخاصتین «باسم المکان» فهاتان الصیغتان مشتقتان من المصدر ، وتدلان علی المکان وعلی المعنی المجرد الذی یحدث به. أما تلک فتصاغ من الثلاثی المحسوس للدلالة علی المکان وعلی شیء حسی معین یکثر به ، لا علی شیء معنوی ، فالفرق کبیر بین الدلالتین. والفرق أکبر وأوسع فی الأصل الذی یشتقان منه ، وفی طریقة الصیاغة ، ووزن الصیغة ، کما یتبین هذا جلیّا فی الشرح الخاص بکل.
* * *
د - ملخص ما سبق من أوزان المصدر المیمی (1) واسمی الزمان والمکان إذا کانت أفعالها الماضیة ثلاثیة ، وماضی المصدر المیمی غیر مضعف - هو : 1- إذا کان الماضی الثلاثی معتل اللام ، (مثل : دعا - سعی ...) فالصیغة للمشتقات الثلاث هی وزن : «مفعل» - بفتح ، فسکون ، ففتح - تقول : مدعی - مسعی ...
2- إذا کان الماضی الثلاثی صحیح الأحرف ومضارعه مضموم العین أو مفتوحها : (مثل : نظر ینظر - فتح یفتح ...) فالصیغة للثلاثة علی وزن : «مفعل» أیضا ، کالسابقة.
3- إذا کان الماضی الثلاثی صحیح الأحرف ، ومضارعه مکسور العین ؛ (مثل : جلس یجلس - عرف یعرف ...) فالمیمی علی وزن : «مفعل» أیضا ، واسما الزمان والمکان علی وزن : «مفعل» بکسر العین.
ص: 331
1- إذا کان الماضی الثلاثی معتل الفاء بالواو ، صحیح اللام ، ومضارعه مکسور العین تحذف فیه الواو ؛ (مثل : وعد یعد ..) فالصیغة للثلاثة هی : «مفعل» بکسر العین.
ویتبین مما سبق أن صیغة الثلاثة لا تختلف إلا فی صورة واحدة هی التی یکون فیها الماضی الثلاثی صحیح الأحرف مکسور العین فی المضارع ، فیصاغ المصدر المیمی علی وزن «مفعل» - بفتح العین - ویصاغ اسما الزمان والمکان علی وزن «مفعل». بکسر العین. ویجوز فی المصدر المیمی أیضا أن یکون علی وزن : «مفعل» - بفتح العین أو کسرها - إن کان ماضیه مضعفا (1).
کل ما سبق حین یکون الماضی ثلاثیّا فإن کان غیر ثلاثی فیصاغ الثلاثة - وکذا اسم المفعول - علی وزن المضارع مع إبدال أوله میما مضمومة وفتح الحرف الذی قبل آخره ، وتکون القرائن هی الممیزة بین الأنواع الثلاثة والدالة علی النوع المناسب للسیاق دون غیره من الثلاثة الأخری.
ص: 332
تعریفه :
اسم یصاغ - قیاسا - من المصدر الأصلی (1) للفعل الثلاثی المتصرف - لازما. أو متعدیا - بقصد الدلالة علی الأداة التی تستخدم فی إیجاد معنی ذلک المصدر.
وتحقیق مدلوله.
ولیس الوصول إلی تلک الدلالة المعنویة مقصورا علی صیغة اسم الآلة القیاسیّ ، فمن الممکن الوصول إلی تلک الدلالة بأسالیب مختلفة. لیس فی واحد منها الصیغة القیاسیة التی تخص «اسم الآلة» ولکن هذا الوصول یتطلب ألفاظا ، وکلمات متعددة لا یتطلبها صوغ اسم الآلة القیاسیّ ؛ فإنه یقوم بهذه الدلالة المعنویة بکلمة واحدة ، فمزیته أنه یؤدی باللفظة المنفردة ما لا یؤدیه غیره إلا بالکلمات المتعددة.
صیاغته القیاسیة لا تکون إلا من مصدر الفعل الثلاثی المتصرف - مطلقا (2) - یصاغ من غیره.
وأوزان اسم الآلة ثلاثة قیاسیّة ؛ هی : مفعل - مفعال - مفعلة. وطریقة صوغها أن نجیء بذلک المصدر مهما کان وزنه - وندخل علیه من التغییر ما یجعله علی وزن إحدی الصیغ الثلاث (3). مثال ذلک :
1- نشر النّجار الخشب نشرا. فآلة النشر هی : منشر. أو : منشار ، أو : منشرة.
ص: 333
2- برد الصانع الحدید بردا ، فآلة البرد هی : مبرد ، أو : مبراد ، أو : مبردة.
3- ثقبت سداد القارورة ثقبا - فآلة الثقب هی : مثقب ، أو : مثقاب ، أو مثقبة.
4- سخن الماء سخانة وسخونة - فالآلة التی تتحقق بها السخونة.
هی : مسخن ، أو : مسخان ، أو : مسخنة.
5- سلکت الطریق سلوکا ، أی : ذهبت فیه ونفذت منه. فالآلة التی یتحقق بها الذهاب والنفاذ ، هی : مسلک ، أو : مسلاک ، أو : مسلکة.
6- سمحت للمحتاج ببعض الغلة سموحا ، وسماحا ، وسماحة ، فالآلة التی یتحقق بها السّماح وتستخدم فی الإعطاء والتناول ، هی : مسمح أو : مسماح ، أو : مسمحة ... و ... وهکذا.
اسم الآلة لا یعمل عمل فعله ؛ فلا یرفع فاعلا أو نائب فاعل ، ولا ینصب مفعولا به ، ولا غیره ؛ فهو واسم المکان واسم الزمان المشتقات الثلاث التی لا تعمل عمل فعلها (1).
ویلاحظ أن صیغة «مفعال» مشترکة بین «اسم الآلة» ، و «صیغة المبالغة» ؛ فهی من الأوزان الصالحة لهذه ولتلک - کما سبق (2) - والتفرقة بینهما فی الدلالة تکون بإحدی القرائن اللفظیة أو المعنویة ؛ کالشأن فی کل صیغة مشترکة ، أو لفظ یصلح لمعنیین أو أکثر ؛ فالقرینة وحدها هی التی تتحکم فی التوجیه هنا أو هناک ، ففی مثل : (تخیرت للخشب الجزل منشارا قویّا یمزقه) - تکون صیغة «مفعال» اسم آلة : بخلافها فی مثل : (ما أعجب فلانا فی التحدث عن
ص: 334
نفسه ، ونشر أخباره ، وانتهاز الفرص للإعلان عن شئونه!! إنه جدیر بأن یسمی : منشارا) - فإنها صیغة مبالغة فی النشر. ومثل : کلمة : «مذیاع» ؛ فقد یراد منها الآلة الصمّاء التی تستخدم فی نقل الأخبار المذاعة. وقد یراد منها الشخص المتکلم فی تلک الآلة (1). فمثال الحالة الأولی تدل علیها القرینة : توقف المذیاع لخلل فی أسلاکه. ومثال الثانیة التی تدل علیها القرینة أیضا : ما أفصح المذیاع ، وما أعذب صوته ، لم یتلجلج ، ولم یتردد ، ولم یشوه کلامه بلحن أو خطأ ، مع أنه کان یرتجل بغیر إعداد.
ص: 335
ا - وردت ألفاظ مسموعة شذت صیغتها عن القیاس ؛ منها : «المنخل» ؛ للأداة التی ینخل بها الدقیق. «والمدقّ» ؛ للأداة التی تدق بها الأشیاء الصّلبة «والمدهن» ؛ للأداة التی تستخدم فی الدهان. «والمکحلة» ؛ للأداة التی تستخدم فی الکحل ، أو للوعاء الذی یوضع فیه. و «المسعط» ؛ للأداة التی یسعط بها العلیل ، أو الصبی ، أی : یوضع بها الدواء فی أنفه (وکل ما سبق بضم أوله وثالثه إلا «المدق» فبضم أوله وثانیه) ، «وإراث» للأداة التی توقد النار ...
ولما کانت تلک الأوزان - وأشباهها - خارجة عن الصیغ القیاسیة ، جاز استعمالها کما وردت مسموعة عن العرب ، وجاز - کما سیتبین بعد (1) - اشتقاق صیغة قیاسیة من مصدر أفعالها الثلاثیة المتصرفة تؤدی معناها ومهمتها ، بحیث تجیء الصیغة الجدیدة علی وزن «مفعل» أو : «مفعلة» ، أو : مفعال» وهی الأوزان الثلاثة القیاسیة لاسم الآلة.
ب - فی محاضر جلسات المجمع اللغوی القاهریّ ، فی دور انعقاده الأول (ص 371) ، بحث واف علی اسم الآلة ، ونصوص متعددة من المراجع المطولة الأصیلة التی تصدت لبیان أحکامه. ومن ذلک البحث وما تبعه من بحوث فرعیة ، وما أناره من جدل عنیف ، ومناقشات مستفیضیة مسجلة هناک - یتبین أن بین العلماء خلافا شدیدا یکاد یترکز فی ثلاث مسائل :
أولها : أیکون اشتقاق اسم الآلة من مصدر الثلاثی المتصرف ، المتعدی واللازم ، أم من مصدر المتعدی فقط ، کما یمیل إلیه أکثر السابقین؟ وهل یشتق من أسماء الأعیان؟
ثانیها : أیجوز اشتقاق من مصدر الأفعال غیر الثلاثیة ، أم أمره مقصور علی الثلاثیة وحدها؟
ثالثها : أیجوز القیاس مع وجود صیغة مسموعة تخالفه ، أم یجب الاقتصار علیها؟
ص: 336
وخیر إجابة عن تلک الأسئلة - وهی إجابة مستمدة فی أکثرها من البحوث والمناقشات التی دارت بالمجمع ، ثم من مراجع واعتبارات أخری - هی :
1- جواز الاشتقاق من مصدر الفعل الثلاثی المتصرف اللازم والمتعدی ، دون مصدر الأفعال غیر الثلاثیة ، ودون أسماء الأعیان. فیجب الاقتصار فی هذین علی المسموع وحده.
2- ویجوز القیاس بصوغ اسم الآلة من مصدر الفعل الثلاثی المتصرف مع ورود صیغة مسموعة تخالفه. لکن الأحسن الاقتصار علی هذه الصیغة المسموعة ، وبخاصة إذا کانت شائعة.
* * *
«ملاحظة» : جاء فی مجلة المجمع اللغوی ، القرار الآتی نصه (1) :
" (یضاف إلی الصیغ الثلاث المشهورة فی اسم الآلة ، (وهی. مفعل - مفعلة - مفعال ، وکذا : «فعّالة» التی أفر مجلس المجمع قیاسیتها من قبل) ... صیغ أخری ؛ هی:
ا - فعال ؛ مثل : إراث (لما تؤرّث به النار ، أی : توقد).
ب - فاعلة ؛ مثل : ساقیة.
ج - فاعول ؛ مثل : ساطور.
وبهذا تصبح الصیغ القیاسیة لاسم الآلة سبع) " ا ه.
وفی الصیغ الأربع الجدیدة التی اشتمل علیها هذا القرار ما یقتضی التأمل والتلبث. فصبغة : «فعّالة» المقترحة ؛ (اعتمادا علی کثرتها فی الاستعمال القدیم والحدیث ؛ ومن الحدیث : ثلّاجة - خرّامة - خرّاطة - کسّارة : لآلة الثلج ، والخرم ، والخرط ، والکسر ، إنما تصاغ علی أصل عربی فصیح ؛ هو صیغة : «فعّال» المؤنثة المشتقة للدلالة علی المبالغة ، أو علی النّسب لأمر من
ص: 337
الأمور - طبقا لما سیجیء فی باب : «النسب (1)» - ثم تستعمل بعد ذلک مجازا (لغرض بلاغی) فی الدلالة علی الآلیة أو السببیة. وهذا الاستعمال المجازی مباح فصیح فی کل عصر ، بشرط توافر رکنی المجاز (وهما : العلاقة ، والقرینة) ومن المعروف بلاغة أن المجاز إذا اشتهر صار حقیقة عرفیة فصیحة ؛ ینسی معها «العلاقة والقرینة» ، طبقا لما قرره البلاغیون ، فلا حاجة - إذا - لقرار بزیادة تلک الصیغة علی صیغ اسم الآلة ، هذا إلی أنها لا تکون نصّا فی دلالتها علی الآلیة - أحیانا - وبذا تختلف عن الصیغ المسموعة.
أما الصیغ الثلاث الجدیدة التی زیدت أیضا (ا - ب - ج) فأمر قیاسیتها غیر واضح ؛ فهل المراد أن یصاغ علی وزنها أسماء آلات من کل ما یصاغ منه اسم الآلة؟
إن کان هذا هو المراد - وهو ما یقتضیه حکم القیاس - کان غریبا ؛ لأن الاستعمال العربی القدیم لتلک الکلمات کان متجها فی بعضها إما للمجاز علی الوجه الذی شرحناه ؛ کاستعمالهم کلمة : «الساقیة» ، وإما للأداة الخاصة فی بعض کلمات أخری معینة دون غیرها کما فی کلمة «إراث» و «ساطور» ، ونحوهما من عشرات الکلمات المتباینة التی استعملوا - بقلة - کل واحدة منها أداة دون أن تخضع تلک الکلمات کلها لکثرة استعمالهم أو لصیغة واحدة تجمعها ، أو وزن واحد تندرج تحته ؛ فالحکم بالقیاس علی تلک الصّیغ الثلاث واستعمالها من غیر طریق المجاز مخالف للمراد من القیاس اللغوی ، ومؤدّ للاضطراب. هذا إلی أنه یمکن الاستغناء عن الصور الجدیدة کلها باختیار صیغة من الصیغ القدیمة تستعمل أداة موصلة للمعنی المراد من کل صیغة من هذه الصیغ المستحدثة.
ص: 338
معناه : إذا رأینا فی أحد الکواکب أشباحا تحاول الاتصال بنا ، أو : شاهدنا بئرا تغیض (1) فجأة ، أو : مطرا ینهمر فی یوم صحو (2) ، أو : سیارة جدیدة تتوقف عن المسیر بغیر سبب معروف - کان هذا أمرا باعثا للدّهش ، وانفعال (3) النفس به ؛ واستعظامها إیاه ؛ لخفاء سرّه علیها ، وعدم وجود نظیر له ، أو قلة نظائره. وقد یعبر عنه الناس بأنه ؛ أمر عجیب ، أو : غریب ، أو : مثیر ... ، أو نحو هذا من العبارات التی یریدون منها ما یسمیه اللغویون : «التعجب» ، ویعرفونه بأنه : «شعور داخلی (4) تنفعل به النفس حین تستعظم أمرا نادرا ، أو لا مثیل له ؛ مجهول الحقیقة (5) ، أو خفیّ السبب» (6). ولا یتحقق التعجب إلا باجتماع هذه الأشیاء کلها.
أحدهما : مطلق ؛ لا تحدید له ولا ضابط ؛ وإنما یترک لمقدره المتکلم ، ومنزلته البلاغیة ، ویفهم بالقرینة.
والآخر : «اصطلاحیّ» ، أو : «قیاسیّ» مضبوط بضوابط وقواعد محددة. ولا تکاد تختلف فی استعماله أقدار المتکلمین.
ومن أمثلة الأول : «لله درّ (1) فلان» ، فی قول القائل :
لله درّک!! أیّ جنّة (2)
خائف
ومتاع دنیا. أنت للحدثان (3)
ومنها : «یا لک ، أو یا له ، أو : یالی» ... کقول الشاعر :
فیالک بحرا لم أجد فیه مشربا
وإن کان غیری واجدا فیه مسبحا
ومنها : «شدّ (4)» فی نحو : شدّ ما یفخر اللئیم بأصوله إن کانت له أصول ، ویتمدح بفعاله إن کان له فعل محمود.
ومنها کلمة : «عجب» ، مصدرا ، ومشتقاته ، مثل : عجب ، و : «عجیب» فی نحو : قولهم : عجبت لمن یشتری الممالیک بماله ، ولا یشتری الأحرار بکریم فعاله. وقول الشاعر :
أقاطن (5) قوم سلمی أم
نووا ظعنا (6)؟
إن یظعنوا فعجیب عیش من قطنا
ومنها : الاستفهام المقصود منه التعجب ؛ کقوله تعالی : (کَیْفَ تَکْفُرُونَ بِاللهِ وَکُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْیاکُمْ؟)؛ وکقول شوقی یخاطب تمثال أبی الهول (7) :
إلام رکوبک متن الرمال
لطیّ الأصیل ، وجوب السّحر؟
ص: 340
ومنها : «سبحان الله» التی تصاحبها قرینة تدل علی أن المقصود منها التعجب ؛ کقول رجل سئل عن اسمه : (سبحان الله! تجهلنی ، والخیل واللیل والبیداء تعرفنی ...)
إلی غیر ذلک من کل لفظ یدل علی التعجب (1) وتفهم منه هذه الدلالة بقرینة ، من غیر أن یکون من النوع «الاصطلاحیّ». (القیاسیّ)
أما النوع «الاصطلاحی ، أو القیاسی ، فصیغتان (2). «ما أفعله» و «أفعل به». وهذان وزنان یستعملان عند إرادة التعجب من شیء تنفعل به النفس علی الوجه الذی شرحناه ؛ فعند التعجب من الجمال الباهر - مثلا - ، أو الضخامة البالغة ، أو : القصر المتناهی ... أو غیره ... نأتی بأحد أسلوبین قیاسیین.
أولهما (3) : فعل ماض ، ثلاثی (4) ، یشتمل علی المعنی الذی یراد التعجب منه ، ثم نجعل هذا الماضی علی وزان : «أفعل». وقبله : «ما» الاسمیة التی هی مبتدأ ، وعلامة التعجب ؛ ولذا تسمی : «ما التعجبیة» - وتقدیمها علی هذا الماضی واجب - ، وفاعله ضمیر مستتر وجوبا ، تقدیره : «هو» یعود علی : «ما» ، وبعده اسم منصوب هو فی ظاهره وفی إعرابه مفعول به (5). ولکنه فی المعنی فاعل (6) ؛ إذ کان فی الجملة - وفی الحقیقة - قبل التعجب فاعلا ؛ نحو ؛ ما أجمل الوردة الناضرة! - ما أضخم هرم الجیزة! ما أقصر
ص: 341
سکان المناطق القطبیة! فکلمة : «ما» فی هذه الأمثلة وأشباهها - مبتدأ (1) ، والجملة الفعلیة بعدها خبرها ، ثم المفعول به الذی هو فاعل فی المعنی : فالأصل جملت الوردة - ضخم الهرم - قصر سکان المناطق القطبیة -
وعند إرادة التعجب من کبر قارة آسیا ، وسعتها ، وغزارة سکانها ، وعلو جبالها ... و ... نقول ما أکبرها!! وما أوسع رقعتها!! وما أغزر سکانها!! وما أعلی جبالها!! ... والإعراب کما سبق تماما ، وکذلک المفعول به
و «ما» التعجبیة فی هذه التراکیب - ونظائرها - هی نوع من «النکرة التامة» (2) ، وتتضمن - بذاتها (3) - معنیین معا ، أو : أنها ترمز إلیهما معا ؛ هما : (توجیه الذهن إلی أن ما بعدها عجیب ، وأن الذی أوجده أمر عظیم) ویصفها النحاة بأنها «نکرة تامة». والماضی بعدها جامد لا محالة (4) ، مع أنه فی أصله ثلاثی متصرف ، ولکنه یفقد التصرف باستعماله فی التعجب رباعیّا علی وزن «أفعل» کما یفقد - فی الأرجح - الدلالة علی الزمن إن لم توجد قرینة تدل علی الزمن (5).
ص: 342
ا - لسنا بحاجة إلی الأخذ برأی من یقول : إن «ما» التعجبیة اسم موصول ، مبتدأ ، والجملة بعدها صلتها ، والخبر محذوف. ولا برأی آخر یقول : إنها نکرة ناقصة (تحتاج إلی نعت بعدها) والجملة بعدها نعت لها ، والخبر محذوف ، ولا استفهامیة ... ولا ... ولا ... ، فکل هذه الآراء تحمل فی طیاتها کثیرا من التعسف ، وتقوم علی الحذف والتأویل من غیر داع ، ومن غیر أن تمتاز بمزیة تصرفنا عن الإعراب الأول الذی یتضمن کل مزایاها ، ویخلو من عیوبها. فعلینا التمسک به وحده ، وأن نختصر فی الإعراب ، فنقول : «ما» تعجبیة ، قاصدین مع هذا الاختصار أنها نکرة تامة مبتدأ - من غیر حاجة للتصریح بما اصطلحنا علیه ...
ب - ورد عن العرب قولهم : (ما أمیلح فلانا وما أحیسنه ،) بتصغیر الفعلین الماضیین : «أملح وأحسن» عند استخدامهما فی التعجّب ، مع أن الأفعال لا تصغّر ... فهل یصح تصغیر غیرهما من الأفعال الماضیة المستخدمة فی التعجب ، والتی علی وزن «أفعل» ؛ قیاسا علی هذین الفعلین الماضیین؟ الرأی الشائع عدم الجواز ، ولکن سیبویه وبعض البصریین وفریق من غیرهم یبیحه. وفی الأخذ بهذا الرأی - أحیانا - تیسیر وتوسعة لا ضرر منهما (1) ...
ص: 343
ثانیهما (1) : فعل ثلاثی لازم مشتمل علی المعنی الذی یراد التعجب منه ، ونجعل هذا الفعل علی وزن : «أفعل» ، وبعده باء الجر ، تجرّ اسما ظاهرا ، أو : ضمیرا متصلا بها ، وکلاهما هو الذی یختصّ بمعنی الفعل. ففی الأمثلة السابقة یقال : أجمل بالوردة النّاضرة! أضخم بهرم الجیزة! أقصر بسکان المناطق القطبیة!. أکبر بقارة آسیا! وأوسع برقعتها! وأغزر بسکانها! وأعل بجبالها! أو : أکبر بقارة آسیا! وأوسع بها! وأغزر بسکانها! وأکثر بهم!
أما إعراب : «أجمل بالوردة الناضرة» ففیه وفی نظائره إعرابان :
ا - أن نقول «أجمل» ، فعل ماض علی صورة الأمر ، (أی علی شکله الظاهر فقط (2) ، دون الحقیقة المعنویة) .. «بالوردة» الباء ، حرف جر زائد (3). «الوردة» فاعل مجرور بالباء لفظا ، ولکنه فی محل رفع علی الفاعلیة. «الناضرة» نعت ، إمّا مجرور بالکسرة تبعا للفظ الفاعل المنعوت ، وإما مرفوع بالضمة تبعا لمحل المنعوت ، ویکون المراد هو : جملت الوردة ، أی : صارت ذات جمال عجیب ، وضخم الهرم ، أی : صار ذا ضخامة عجیبة. وقصر سکان المناطق القطبیة. أیضا ... ؛ وهکذا باقی صیغ «أفعل» التی جاءت فی ظاهرها علی صورة الأمر ، وهی فی الحقیقة فعل ماض ؛ یراد منه فی ظاهره وفی حقیقته التعجب. ومثل النعت هنا غیره من التوابع ؛ فکل منها یجوز فیه الجر والرفع.
هذا إعراب الفاعل المجرور بالباء حین یکون اسما ظاهرا معربا ، أما حین یکون اسما مبنیّا ؛ کالضمیر البارز ، أو غیره من المبنیات (ومن الأمثلة
ص: 344
الآیة الکریمة : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ... وبعض الأمثلة التی سلفت) فإنه یکون مبنیّا ویذکر فی إعرابه : «أنّه مجرور بکسرة مقدرة علی آخره ، منع من ظهورها علامة البناء الأصلی فی محل رفع» (1) فهو - کسابقه - فی أنه مجرور اللفظ ، مرفوع المحلّ ، وفی أنه یجوز فی تابعه الأمران : الرفع والجرّ.
ب - أو نقول : «أجمل» فعل أمر حقیقی ، وفاعله ضمیر مستتر تقدیره : أنت ، یعود علی مصدر الفعل المذکور (وهو : الجمال) و «بالوردة» الباء حرف جر أصلیّ ، وهی ومجرورها أصلیان متعلقان (2) بالفعل. والمراد الملحوظ : یا جمال أجمل بالوردة ؛ أی : لازمها ، ولا تفارقها. فالخطاب الملحوظ موجّه لمصدر الفعل المذکور ، بقصد طلب استمراره ، ودوام بقائه معه (3). ومثل هذا یقال فی الأمثلة الأخری ، والفاعل مفرد مذکر للمخاطب دائما لأنه ضمیر مستتر للمصدر المخاطب فی کل الأحوال.
والإعرابان صحیحان (4). والمعنی علیهما صحیح أیضا ؛ فلا خلاف بینهما
ص: 345
فی تأدیة الغرض. إلا أن الإعراب الثانی أیسر ، وأوضح ، وهو إلی عقول ناشئة المتعلمین أقرب. ویزداد یسرا ووضوحا حین یکون الفاعل المجرور بالباء اسما مبنیّا کالضمیر ، وغیره من المبنیات التی تحتاج فی إعرابها إلی تطویل.
ویلاحظ أن صیغة : «أفعل» هذه جامدة - کأختها الأولی - مع أن فعلهما الأصلی ثلاثی متصرف ، ولکنه یفقد التصرف بسبب استعماله فی التعجب - کما أوضحنا(1) -.
ص: 346
ا - همزة الماضی : «أفعل» فی التعجب هی لتعدیة الصیغة التی یکون فعلها الثلاثی إمّا لازما فی الأصل ، وإمّا متعدیا ، ولکنه یفقد التعدیة عند أخذ الصیغة منه ؛ فتحل محلها تعدیة جدیدة تغایرها. فمثال الأول : ما أظرف الأدیب!! فإن الفعل : «ظرف» لازم أصالة ؛ فصار متعدیا. ومثال الثانی : ما أنفع الحذر!! فإن الفعل : «نفع» متعد فی أصله. وتزول عند أخذ الصیغة منه ، فتنصب مفعولا به جدیدا کان فی الأصل فاعلا ، إذ الأصل : نفع الحذر. فکلمة «الحذر» فاعل یصیر مفعولا به بعد التعجب (1).
أما همزة «أفعل» ، فللصیرورة علی اعتباره ماضیا علی صورة الأمر ...
ویجب تصحیح العین فی الصیغتین إن کانت فی غیر التعجب تستحق الإعلال بالنقل ؛ مثل : ما أطول النخلة ، وأطول بها (2). ومن هذا قولهم : «ما أحوج الجبان إلی أن یری ویسمع عجائب الشجعان» وکذلک یجب فکّ «أفعل» المضعف ، نحو : أشدد بحمرة الورد. وقول الشاعر :
أعزز علیّ بأن تکون علیلا
أو أن یکون لک السّقام نزیلا
ب - یشیع فی هذا الباب ذکر : «المتعجّب منه» (وهو المعمول المنصوب أو المجرور بالباء) والتعبیر الأنسب : هو : «المعمول المتعجّب من شیء یتصل به» لأن التعجب فی مثل : ما أنفع العلم!! ، إنما هو من نفع العلم ، لا من العلم ذاته. ولا بأس بالتعبیر الشائع علی اختصاره المقبول ؛ لأن المراد منه مفهوم.
ح - هناک صیغ أخری للتعجب (3) ، وأشهرها : «فعل» (4) - بضم
ص: 347
العین - وهو فعل لازم ؛ نحو : کبرت کلمة تخرج من فم الجاحد ، وخبث لفظا یجری علی لسانه.
ومنها : «أفعل» بغیر «ما» التعجبیة ، وأصله فعل ثلاثی زید فی أوله همزة التصییر ؛ نحو : أحسنت قولا ، وأبرعت عملا. أی : ما أحسن قولک ، وما أبرع عملک ... وفعلها الثلاثی حسن وبرع.
والمشهور أن الصیغة الأولی قیاسیة ، والثانیة سماعیة ذکرناها لندرک أمثلتها المسموعة.
* * *
ص: 348
الذی یبنی منه الصیغتان القیاسیتان بناء مباشرا :
یشترط فیه ثمانیة شروط :
1- أن یکون ماضیا (1).
2- ثلاثیّا ؛ فلا یصاغان من فعل زادت حروفه علی ثلاثة ؛ مثل : دحرج - تعاون - استفهم .. - إلا إن کان الرباعیّ قبل التعجب علی وزن : «أفعل» فیجوز - فی الرأی الأنسب (2) - صیاغتهما منه بشرط أمن اللبس ؛ کالأفعال (أعطی - أقفر - أظلم - أولی ...) فیقال : ما أعطی التقیّ - ما أقفر الصحراء - ما أظلم عقول الجهلاء - ما أولی الناصح بردع نفسه.
ومن الشاذ قولهم : ما أخصر کلام الحکماء ، فبنوه من «اختصر» الخماسیّ المبنی للمجهول أیضا (3).
3- متصرفا فی الأصل تصرفا کاملا ، قبل أن یدخل فی الجملة التعجبیة. (أما بعد دخوله فیها فیصیر جامدا (4)). فلا یصاغان من : لیس - عسی - نعم - بئس ... ونحوها من الأفعال الجامدة تماما ، ولا من نحو : «کاد» التی هی من أفعال المقاربة ؛ لأن «کاد» هذه ناقصة التصرف لیس لها إلا المضارع - فی الأغلب -.
4- أن یکون معناه قابلا للتفاضل والزیادة ؛ لیتحقق معنی «التعجب» ؛ فلا یصاغان مما لا تفاوت فیه ، نحو : فنی - مات - غرق - عمی ؛ إذ لا تفاوت فی الفناء ، ولا فی الموت ، ولا الغرق ، ولا العمی ، وحیث یمتنع التفاوت والزیادة فی معنی الفعل یمتنع الداعی للعجب ، إذ یکون المعنی مألوفا.
ص: 349
5- ألا یکون عند الصیاغة مبنیّا للمجهول بناء یطرأ ویزول ، کالأفعال : عرف - علم - فهم ... وغیرها مما یبنی للمجهول حینا ، وللمعلوم حینا آخر ، دون أن یلازم البناء للمجهول فی کل الأحوال
أما الأفعال المسموعة التی یقال إنها تلازم البناء للمجهول. (مثل : زهی - هزل ...) (1) فالأنسب الأخذ بالرأی الذی یجیز الصیاغة منها بشرط أمن اللّبس (2) ؛ فیقال : ما أزهی الطاووس! وما أهزل المریض! ...
6- أن یکون تامّا ، (أی : لیس ناسخا) ؛ فلا یصاغان - فی الرأی الأقوی - من «کان ، وکاد» ، وأخواتهما ...
7- أن یکون مثبتا ، فلا یصاغان من فعل منفی ؛ سواء أکان النفی ملازما له ، أم غیر ملازم ؛ مثل : ما عاج الدواء ، بمعنی : ما نفع ، ومثل ما حضر الغائب ، فالفعل الأول ، وهو : «عاج» الذی مضارعه : «یعیج» - ملازم للنفی فی أغلب أحواله ، لا یفارقه إلا نادرا ، والفعل : «حضر» فی هذا الترکیب وأشباهه مسبوق بالنفی ، ویستعمل بغیر النفی کثیرا ، وکذلک أفعال أخری متعددة.
ص: 350
8- ألا تکون الصفة المشبهة (1) منه علی وزن : «أفعل» الذی مؤنثه : «فعلاء» ، نحو (عرج ، فهو : أعرج ، وهی : عرجاء) - (خضر ، فهو : أخضر ، والحدیقة خضراء). (حمر الجلد ؛ فهو : أحمر ، والوردة حمراء) - (حور فهو : أحور ، وهی : حوراء) ... وهکذا من کل صفة مشبهة تدل علی لون ، أو : عیب ، أو : حلیة ، أو ؛ شیء فطریّ (2) ...
* * *
ص: 351
زاد بعض النحاة شرطا آخر خالف به الأکثرین ؛ هو : ألا یستغنی عن الصیاغة منه بصیغة أخری مسموعة ؛ فلا یصح : ما أقیله!! فی التعجب من قیلولته (1) لأنهم استغنوا عنها بقولهم : ما أکثر قائلته. ولا یصح ما أسکره ، ولا ما أقعده ، ولا ما أجلسه ، لأنهم استغنوا عنها بقولهم : ما أشد سکره - ما أکثر قعوده - ما أحسن جلوسه.
والحق أن هذا شرط غیر مقبول (2) ؛ إذ یقتضینا أن نرهق أنفسنا بالبحث المضنی فی جمیع المظان لمعرفة ما استغنوا به عن الصیغة القیاسیة ؛ وهذا تکلیف لا یطاق ، ولا یمکن تحقیقه ، وفیه تعویق للتعبیر ، وتعطیل للقاعدة ، وتحویل للقیاس عن معناه السدید.
* * *
ص: 352
إذا کان الفعل غیر مستوف للشروط الثمانیة :
(1) إن کان الفعل جامدا ؛ مثل : نعم ، وبئس ... ، أو غیر قابل للتفاوت ؛ مثل : مات - فنی ... و ... ، فلا یصاغ منه صیغة تعجب.
(2) إن کان الفعل زائدا علی ثلاثة (مثل : انتصر وتغلّب) أو : کان الوصف منه علی «أفعل فعلاء» (مثل : حور وخضر) لم تجیء منه الصیغة مباشرة. وإنما تجیء من فعل آخر مستوف للشروط ؛ صالح لما نریده ؛ (نحو : قوی - ضعف - حسن - قبح - عظم - حقر ...) فنقول : (ما أقوی - ما أضعف - ما أحسن - ما أقبح - ما أعظم - ما أحقر - ما أشد - ما أکبر - ما أصغر) ... ونحو ذلک مما یناسب ؛ أو نقول : (أقو - أضعف - أحسن - أقبح - أعظم - أحقر ...)
ثم نجیء بعد هذه الصیغة بمصدر الفعل الذی لم یستوف الشروط بسبب زیادته علی ثلاثة أحرف ، أو بسبب أن الوصف منه علی : «أفعل فعلاء» ونضعه بعد صیاغة الفعل الجدید المناسب ، المستوفی. وننصب هذا المصدر بعد «ما أفعل» ونجرّه بالباء بعد «أفعل» ؛ نحو : ما أقوی انتصار الحقّ! وما أضعف تغلب الباطل! - أقو بانتصار الحق! ، وأضعف بتغلّب الباطل! ... ونحو : ما أجمل حور العیون! ، أجمل بحور العیون! - ما أنضر خضرة الزرع! ، أنضر بخضرة الزرع!. والأفعال غیر المستوفیة هی : (انتصر - تغلّب - حور - خضر). أما الأفعال التی تخیرناها للصیاغة مکانها فهی : (قوی ، ضعف ، جمل ، نضر ...)
(3) إن کان الفعل منفیّا أخذنا الصیغة من الفعل المناسب الذی نختاره بالطریقة السالفة ، ووضعنا بعدها مضارع الفعل المنفی مسبوقا «بأن» المصدریة ، والنفی ؛ ففی نحو : ما فاز الرأی الضعیف ، نقول : ما أجمل ألّا یفوز الرأی للضعیف (1)!. وفی نحو : ما حضر خطیب الحفل ، نقول مثلا : ما أقبح ألّا
ص: 353
یحضر خطیب الحفل. والمصدر المؤول من «أن والفعل» فی هذه الأمثلة وأشباهها فی موضع نصب مفعول به.
وإنما أتینا «بأن والفعل» لنستطیع المحافظة علی بقاء الفعل الأصلی منفیّا ، إذ لو أخذنا منه صیغة التعجب مباشرة لزال نفیه ، ولم یظهر الشأن فی التعجب أهو منفی أم غیر منفی؟
ویجوز أن نقول فی الصور السابقة : أجمل بألّا یفوز الرأی الضعیف! - أقبح بألا یحضر خطیب الحفل! ؛ فیکون المصدر المؤول مجرورا بالباء. فالمصدر المؤول من : «أن والفعل» المفی وفاعله إما أن یکون فی محل نصب بعد : «ما أفعل» وإما أن یکون فی محل جر بالباء بعد : «أفعل».
ویجوز فی الفعل المنفی أن نجیء بمصدره الصریح - بدلا من المصدر المؤول - مسبوقا بکلمة : «عدم» الصریحة فی معنی النفی (أو بما یشبهها) ومجرورا بالإضافة إلیها ؛ ففی مثل : ما صرخ المتکلم وما همس ، نقول : ما أحسن عدم صراخ المتکلم ، وما أجمل عدم همسه - أحسن بعدم صراخ المتکلم! ، وأجمل بعدم همسه!.
4- إن کان الفعل مبنیّا للمجهول بناء عارضا یطرأ ویزول أخذنا الصیغة من الفعل الذی نختاره بالطریقة التی شرحناها ، ووضعنا بعدها الفعل المبنی للمجهول ، مسبوقا «بما المصدریة» (1) ، ففی نحو : عرف الحقّ ، وهدی إلیه الضالّ : نقول : ما أحسن ما عرف الحق! وما أنفع ما هدی إلیه الضّالّ - أو : أحسن بما عرف الحق! - وأنفع بما هدی إلیه الضالّ! ، فالمصدر المؤول من «ما» وصلتها مفعول به بعد الصیغة الأولی ، ومجرور بالباء بعد الصیغة الثانیة.
ص: 354
وإنما أتینا «بما» المصدریة محافظة علی بقاء الفعل مبنیّا للمجهول ، ولولاها لزال بناؤه للمجهول فلا یتبین أسلوب التعجب أللمجهول هو أم للمعلوم؟ أما الفعل الملازم للبناء للمجهول سماعا عند من یقول بهذه الملازمة (1) فقد سبق (2) أن الأنسب الأخذ بالرأی الذی یجیز الصیاغة من مصدره مباشرة.
5- وإن کان الفعل ناسخا ، (أی : غیر تام) فإن کان له مصدر وجب أن نضع مصدره بعد صیغة التعجب التی نأخذها من الفعل الآخر الذی نختاره علی الوجه المشروح فیما سلف ، ففی مثل : کان العربیّ رحّالا بطبعه ، نقول : ما أکثر کون العربیّ رحّالا بطبعه! - أو : أکثر بکون العربیّ رحّالا بطبعه! ... وإن لم یکن له مصدر أخذنا الصیغة من الفعل الآخر الذی نختاره ، ووضعنا بعدها الفعل الأصلی الذی لیس له مصدر ، وقبله «ما» المصدریة فینشأ منها ومن الفعل والفاعل بعدها مصدر مؤول هو مفعول به منصوب بعد: «ما أفعل» ومجرور ب «الباء» بعد : «أفعل». ففی مثل : کاد الکذب یهلک صاحبه ، نقول : ما أسرع ما کاد الکذب یهلک صاحبه ... وهکذا ...
هذه هی الطرائق الموصلة للتّعجب إذا کان الفعل غیر مستوف للشروط. أما إذا کان مستوفیا للشروط کلها فإن الصیغتین القیاسیتین (3) تؤخذان منه مباشرة. ولا مانع من التعجب منه بالطریق غیر المباشر أیضا ؛ وذلک بالإتیان بفعل آخر مناسب. (نحو : حسن - قبح - قوی - وغیرها من الأفعال الثلاثیة التی تناسب المراد) ، ثم نأخذ منه الصیغة التعجبیة ، ونجعل بعدها مصدر الفعل المستوفی للشروط ، إمّا منصوبا بعد «ما أفعل» وإمّا مجرورا بالباء بعد «أفعل» ، ففی مثل : برع الذکی ، وسبق أنداده ، نقول : ما أعظم براعة الذکی! ، وما أوضح سبقه أنداده! أو أعظم ببراعة الذکیّ! وأوضح بسبقه أنداده ... فلیس من اللازم - والفعل مستوف للشروط - أن نأخذ
ص: 355
منه صیغة التعجب مباشرة ، وإنما یجوز أن نأخذها منه أو من طریق فعل مختار آخر کما أوضحنا (1) ....
ص: 356
(1) وجوب اعتبار فعلیه جامدین بعد صیاغتهما للتعجب (1). (مع أنهما فی أصلهما الثلاثی قبل التعجب مشتقان حتما) ولهذا لا یجوز أن یتقدم علیهما «المتعجّب منه» (2) ، فلا یصح : العلم ما أنفع!! والجهالة ما أضرّ!! بتقدیم المعمولین : «العلم والجهالة». کما لا یصح بالعلم أنفع!! وبالجهالة أضرر!!
ولا یصح أن تلحقهما علامة تذکیر ، أو تأنیث ، أو إفراد ، أو تثنیة ، أو جمع ؛ فلابدّ من بقائهما علی صیغتهما فی کل الأحوال من غیر زیادة.
ولا نقص ، ولا تغییر فی ضبط الحروف. ولکن إذا اتصل بآخرهما ضمیر بارز یعود علی المتعجّب منه وجب أن یکون هذا الضمیر مطابقا لمرجعه ، نحو : الزارع ما أنفعه! ، والزارعة ما أنفعها! والجندیان ما أشجعهما! والوالدات ما أشفقهنّ! و .. و ..
(2) وجوب إفراد فاعلهما المستتر (3) ، وتذکیره ، فلا یکون لغیر المفرد المذکر. وإذا کان ضمیرا مستترا فهو واجب الاستتار.
(3) امتناع الفصل بین فعل التعجب ومعموله إلا بشبه الجملة ، أو
ص: 357
بالنداء ؛ - أو «کان» الزائدة بالإیضاح الآتی بعد (1). فلا یجوز : (ما أضیع - حقّا - المودة عند من لا وفاء له ، وما أبعد - یقینا - المجاملة ممن لا حیاء عنده). ویجوز : (ما أضیع - فی بلدنا - المودة عند من ولا فاء له! وما أبعد - بیننا - المجاملة ممن لا حیاء له!). کما یجوز : السماحة تدفع إلی أداء الحقوق. والشح یصدّ عنها ؛ فأکرم - یا أخی - بها! وأقبح یا زمیلی به!) ...
ومن أمثلتهم فی الفصل بالجار والمجرور قولهم : (ما أهون علی النائم القریر سهر المسهّد المکروب ... (2)) وقول الشاعر :
بنی تغلب ، أعزز علیّ بأن أری
دیارکمو أمست ولیس بها أهل
وبالظرف قول الشاعر :
أقیم بدار الحزم ما دام حزمها
وأحر - إذا حالت - بأن أتحوّلا
ویشترط فی شبه الجملة الذی یجوز الفصل به أن یکون متعلقا بفعل التعجب (3) - کالأمثلة السالفة - ، فلو کان متعلقا بمعمول فعل التعجب أو بغیر فعل التعجب لم یصح الفصل به - ففی مثل : (ما أحسن الحلیم عند دواعی الغضب! ، وما أشجع الصابر علی الکفاح!) - لا یجوز : (ما أحسن عند دواعی الغضب الحلیم ، ولا : ما أشجع علی الکفاح الصابر.) لأن الظرف متعلق بکلمة : «الحلیم» ، والجار والمجرور متعلقان بکلمة : «الصابر».
وقد یجب الفصل بالجار ومجروره المتعلقین بفعل التعجب ، إذا کان معمول فعل التعجب مشتملا علی ضمیر یعود علی المجرور ، نحو : ما ألیق بالطبیب أن یترفق! ، وما أحقّ بالمریض أن یصبر! ، ... فالمصدر المؤول من «أن والفعل» هو معمول لفعل التعجب ، ومشتمل علی ضمیر یعود علی المجرور ... (4) ومنه قول الشاعر :
ص: 358
خلیلیّ ما أحری بذی اللّبّ أن یری
صبورا. ولکن لا سبیل إلی الصبر
4- عدم جواز العطف - مطلقا - علی فاعل «أفعل» فی التعجب وکذلک لا یجوز إتباعه ، فالتوابع کلها ممنوعة إذا کان هو المتبوع وحده. أما إن کان المتبوع هو الجملة التعجبیة کلها (فعلها وفاعلها) فلا یمتنع ؛ فیصح عطف جملة جدیدة علی الجملة التعجبیة ؛ کقول الشاعر :
أولئک قومی بارک الله فیهمو
علی کل حال ما أعفّ وأکرما ...
فقد عطفت الجملة الثانیة (المکونة من الفعل الماضی : «أکرم» وفاعله) علی الجملة التعجبیة التی تسبقها (والتی تتکون من الماضی «أعفّ» وفاعله). وکما یجوز الإتباع بالعطف بجملة یجوز الإتباع بالتوکید اللفظی بجملة تؤکد الجملة التعجبیة کلها توکیدا لفظیّا. ویجوز الإبدال منها کذلک (بدل جملة من جملة). أما الإتباع بالنعت فلا یصح ؛ لأن المتبوع (وهو : المنعوت) لا یکون جملة.
5- وجوب أن یکون المعمول (أی : المتعجّب منه) معرفة ، أو نکرة مختصة ، فمثال المعرفة ما تقدم من الأمثلة الکثیرة ، وقول الشاعر :
ما أصعب الفعل لمن رامه!
وأسهل القول علی من أراد!
ومثال النکرة المختصة بوصف أو إضافة أو غیرهما مما یفید الاختصاص : ما أسعد رجلا عرف طریق الهدی فسار فیه! وما أشقی إنسانا تبین الرشد من الغیّ ، فانصرف عن الرشد ، واتّبع الضلال!
ص: 359
ولو لا هذا الشرط لکان التعجب لغوا ؛ إذ لا فائدة من قولنا : ما أسعد رجلا ... ما أشقی إنسانا ... ویتساوی فی هذا الحکم معمول «أفعل وأفعل».
6- جواز حذف المعمول المتعجّب (1) منه فی إحدی حالتین ؛ (سواء أکان منصوبا بأفعل ، أم مجرورا بالباء بعد أفعل».
أولاهما : أن یکون ضمیرا یدل علیه دلیل بعد الحذف ؛ کقول الشاعر :
جزی الله عنی - والجزاء بفضله -
ربیعة ، خیرا. ما أعفّ! وأکرما!
أی : ما أعفّها وأکرمها. وقول الآخر :
أری أمّ عمرو دمعها قد تحدّرا
بکاء علی عمرو. وما کان أصبرا!
أی : أصبرها.
ثانیتهما : أن تکون صیغة التعجب هی : «أفعل» وقد حذف معمولها المجرور وحذف معه حرف الجر ، وقبلها صیغة للتعجب علی وزن : «أفعل» أیضا ، ولهذه الصیغة الأولی معمول مذکور ، مماثل للمعمول المحذوف مع حرف الجرّ ... وقد عطفت الصیغة الثانیة مع فاعلها علی الأولی مع فاعلها ؛ عطف جملة علی جملة (2) ؛ کقوله تعالی : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)(3) ، أی : وأبصر بهم. ونحو : أحسن بصاحب المروءة وأکرم! ؛ أی : وأکرم بصاحب المروءة ، وقول الشاعر :
أعزز بنا! ، وأکف! إن دعینا
یوما إلی نصرة من یلینا (4)
...
ص: 360
7- تجرد فعل التعجب - فی الأغلب (1) - من الدلالة علی زمن ؛ لأن الجملة التعجبیة کلّها إنشائیة محضة ، الغرض منها إنشاء التعجب ، فترکت الدلالة الزمنیة ، وانسلخت منها ، واقتصرت علی تحقیق الغرض الذی أنشئت من أجله ، وهو «الإنشاء غیر الطلبی» ، المقصود منه إعلان التعجب ، کما أسلفنا (2).
8- جواز الفصل بین «ما» التعجبیة وفعل التعجب «بکان» الزائدة (3) کقول الشاعر یحنّ إلی أهله ورفاقه :
ما کان أجمل عهدهم وفعالهم!
من لی بعهد فی الهناء تصرّما؟
وقول الآخر :
ما کان أحوج ذا الجمال إلی
عیب یوقّیه من العین
وقد تقع «کان» التامة المسبوقة بما المصدریة بعد صیغة التعجب ؛ نحو : ما أحسن ما کان الإنصاف (4).
ص: 361
9- جواز حذف الباء الداخلة علی معمول «أفعل» بشرط أن یکون ما تجره مصدرا مؤولا من : «أن المصدریة». و «الفعل» ، أو : «أنّ» مع معمولیها (1) ، نحو : أحبب أن تکون المقدّم! ، وقول الشاعر :
أهون علیّ إذا امتلأت من الکری
أنی أبیت بلیلة الملسوع
والأصل : بأن تکون ... وبأنی ...
* * *
ص: 362
ا - عرفنا (1) أن صیغة : «أفعل» تحتاج إلی معمول بعدها منصوب ، یعرب مفعولا به ، وأن صیغة : «أفعل» تحتاج إلی معمول بعدها مجرور بالباء ، وأنهما یحتاجان - أحیانا - إلی شبه جملة بعدهما ، وقد یفصل شبه الجملة بینهما وبین معمولهما ... و ...
وقد تحتاج صیغة التعجب إلی معمولات أخری غیر التی سبقت ؛ کالحال والتمییز ، والاستثناء ...
وقد تحتاج إلی معمول مجرور بحرف جر معیّن (2) ، مجاراة لفعلها الأصلی قبل التعجب ؛ ویصیر الجار والمجرور متعلقین بها. (أی : بصیغة فعل التعجب) (3). لکن ما هو هذا الحرف المعیّن من حروف الجرّ؟ (4).
إن کان فعل التعجب دالا علی حب ، أو کره ، أو ما بمعناهما ؛ - کالود ، والبغض - فحرف الجر المناسب : هو : «إلی» بشرط أن یکون ما بعد «إلی» فاعلا فی المعنی لا فی اللفظ ، وما قبلها مفعولا فی المعنی لا فی اللفظ ؛ نحو : ما أحبّ العلم إلی النابغین!! ، وما أبغض النقص إلی القادرین!!. ففعل التعجب : «أحبّ» قد نصب مفعوله. واحتاج إلی جار ومجرور تبعا لأصله ، فجیء بهما. وحرف الجر هو : «إلی» لأن فعل التعجب دال علی «الحب» ، وما بعد «إلی» مجرور بها. لکنه فاعل معنوی ، لا نحویّ ، لأنّ النابغین -
ص: 363
والقادرین هم الفاعلون لحب العلم ؛ وبغض النقص. وما قبل إلی : (العلم - النقص) هو المفعول المعنوی - لا النحویّ ؛ لأنه الذی وقع علیه الحب - والبغض.
ولهذا ضابط سبق بیانه (1) ؛ هو : أن یحذف فعل التعجب ومعه «ما التعجبیة» إن وجدت ، ویوضع مکانهما فعل آخر من مادته ومعناه ، یکون فاعله النحوی هو الاسم المجرور بإلی ، ومفعوله هو الاسم الواقع بینها وبین فعل التعجب. فإن استقام المعنی علی هذا صح مجیء «إلی» ، وإلّا وجب تغییرها. ففی المثال السابق نقول : أحب ، أو : یحب النابغون العلم ، ویکره القادرون النقص. وقد استقام المعنی فدلت استقامته علی صحة مجیء «إلی».
فإن کان ما بعدها لیس فاعلا فی المعنی ، وإنما هو مفعول معنوی وما قبلها هو الفاعل المعنوی وجب الإتیان «بلام الجر» ، بدلا من : «إلی» ؛ نحو : ما أحبّ الوالدة لمولودها! ، فالوالدة هی الفاعل المعنوی - لا النحویّ - الذی فعل الحب أو قام به الحب. والمولود هو المفعول المعنوی - لا النحویّ - الذی وقع علیه الحبّ ؛ لصحة قولنا : أحبت ، أو تحب الوالدة مولودها ... فمعنی : «إلی» ، و «اللام» ، فی مثل هذا الموضع هو : «التبیین» ، أی : بیان الفاعل المعنوی والمفعول المعنوی ، وتمییز کل منهما من الآخر.
ب - إن کان أصل فعل التعجب فعلا متعدیا بنفسه لواحد فإنه یصیر لازما یتعدی بحرف جر خاص هو : «اللام» کذلک ، مثل : ما أضرب الناس للجاسوس!!
وإن کان أصل فعل التعجب فعلا لازما یتعدی إلی معموله بحرف جر معین وجب أن یجاری أصله فی التعدی بهذا الحرف إلی معموله ؛ نحو : ما أغضب الناس علی الخائن. وقول شوقی :
ما أجمل الهجرة بالأحرار
إن ضنّت الأوطان بالقرار
لأنه یقال : غضب الله علی الکافر ... - جمل المرء بخلقه ...
ص: 364
ج - قد یصاغ فعل التعجب من فعل ینصب بنفسه مفعولین (1) مثل «کسا» ، و «ظن» فی نحو : کسا الغنیّ فقیرا ثیابا - ظنّ البخیل الجود تبذیرا.
ولفعل التعجب الذی یصاغ من المتعدی لمفعولین أربع حالات (2).
الأولی : أن یکتفی بفاعل المتعدی فینصبه مفعولا به ؛ نحو : ما أکسی الغنیّ!! ، ما أظنّ البخیل!! فکلمتا : «الغنی والبخیل» کانتا فی الأصل قبل التعجب فاعلا ؛ فصارتا بعده مفعولا به لفعل التعجب الذی اکتفی بهذا المفعول به ، واقتصر علیه.
الثانیة : أن یزید علی الفاعل السابق الذی صار مفعولا به - أحد المفعولین الأصلیین مجرورا باللام ؛ فنقول : ما أکسی الغنیّ للفقیر!! - ما أظنّ البخیل للجود!! فکلمتا : «البخیل» ، و «الجود» کانتا قبل التعجب مفعولین للفعل المتعدی لاثنین ، ثم صارتا بعد التعجب مجرورین باللام ، ومتعلقین مع مجرورهما بفعل التعجب.
الثالثة : أن یزید علی الحالة السابقة المفعول الأصلی الثانی ؛ فنقول ما أکسی الغنیّ للفقیر ثیابا! - ما أظنّ البخیل للجود تبذیرا!.
الرابعة : حذف لام الجر السابقة ونصب الثلاثة مباشرة بشرط أمن اللبس ، نحو : ما أکسی الغنیّ الفقیر الثیاب!! وما أظنّ البخیل الجود تبذیرا. فإن خیف اللبس أدخلت لام الجر علی المفعولین الأصلیین ؛ نحو : ما أظن الرجل لأخیک ، لأبیک ، والأصل : ظنّ الرجل أخاک أباک ...
لکن ««أفعل» فی التعجب لا ینصب إلا مفعولا به واحدا ، وفی الأمثلة السابقة استوفی حقه بنصبه المفعول به الذی کان فی الأصل فاعلا. فما الذی
ص: 365
نصب المفعول الثانی ، إن وجد ، وکذلک الثالث؟
إن البصریین یقدرون فعلا - - أو ما یشبهه - ینصب المفعول الثانی إن وجد ، وکذلک الثالث ؛ ویسترشدون فی تقدیره بفعل التعجب المذکور قبله ؛ فیقولون فی تأویلهم : (ما أکسی الغنیّ یکسو الفقیر!! - أو : ما أکسی الغنیّ یکسو الفقیر ثیابا!!) - (ما أظنّ الغنیّ! .. یظن الجود ... - أو ما أظنّ الغنیّ یظن الجود تبذیرا!!) ...
والکوفیون لا یقدرون محذوفا ولا یتأولون ، ویقولون : حقّا أنّ «أفعل» فی التعجب لا ینصب إلا مفعولا به واحدا ، لکنه فی هذه الصور وأمثالها ینصب أکثر من مفعول به واحد.
ولا أثر للخلاف فی المعنی ، ولکن فی رأی الکوفیین یسر وقبول - لبعده من التکلف ، والحذف ، والتقدیر.
* * *
ص: 366
... (ومنها : «نعم» ، و «بئس» (1) ، وما جری مجراهما).
فی اللغة ألفاظ وأسالیب کثیرة ؛ تدل علی المدح ، أو الذم. بعضها یؤدی هذه الدلالة صریحة ؛ لأنه وضع لها من أول الأمر نصّا ، وبعضها لا یؤدیها إلا بقرینة (2). فمن الأول الذی یؤدیها صریحة قولک : (أمدح - أثنی - أستحسن ... - أذم ، أهجو ، أستقبح) ... وأشباهها ، وما یشارکها فی الاشتقاق ، نحو : أمدح فی الرجل تجلّده ، وحسن بلائه ، وأذم فیه یأسه ، وفتور عزیمته - أثنی علیک بما أحسنت ، وأهجو من قبض یده عن الإحسان ...
ومنها : الجمیل - العظیم - الفاضل - الماجد - البخیل - الحقود - الخائن ... وغیرها من ألفاظ المدح والذم الصریحین.
ومن الثانی الذی یحتاج لقرینة : وفرة لا تکاد تعدّ ؛ فی مقدمتها : أسالیب النفی ، والاستفهام ، والتعجب (3) ، والتفضیل ، ونحوها ؛ فإنها أسالیب قد تضم - أحیانا - إلی معناها الخاص دلالتها علی المدح أو الذم ، بقرینة ؛ کقولک فی إنسان یتحدث الناس بفضائله ومزایاه ، أو : بنقائصه وعیوبه : «ما هذا بشرا». ترید فی حالة المدح : أنه ملک ، مثلا ، وفی حالة الذم : أنه شیطان. ومثل قول شوقی :
هل الملک إلا الجیش شأنا ومظهرا؟
ولا الجیش إلا ربّه حین ینسب؟
ص: 367
وقوله :
إلام (1) الخلف بینکم؟
إلاما؟
وهذی الضّجة الکبری علاما (2)؟
وفیم یکید بعضکمو لبعض؟
وتبدون العداوة والخصاما؟
وقول المتنی : * ما أبعد العیب والنقصان من شرفی!! *
وقوله فی ذم قائد الجیش الرومی :
فأخبث به طالبا قهرهم!!
وأخیب به تارکا ما طلب!
وقول أعرابی سئل عن حاکمین : أمّا هذا فأحرص الناس علی الموت فی سبیل الله ، وأما ذاک فأحرص الناس علی الحیاة فی سبیل الشیطان ...
ومن النوع الأول الصریح : «نعم» ، و «بئس» وما جری مجراهما من الألفاظ التی تدلّ نصّا علی المدح العام (3) أو : الذمّ العامّ (4) ، وتمتاز «نعم وبئس» من باقی نوعهما الصریح بأحوال وأحکام خاصة بهما ، دون نظائرهما من النوع الصریح ، وأشهر هذه الأحوال والأحکام ما یأتی :
1- دلالة «نعم» علی المدح العامّ ، و «بئس» علی الذم العام ... (5)
ص: 368
واعتبار کل لفظ منهما فی هذه الحالة وحدها فعلا ماضیا ، لازما (1) جامدا ، لابد له من فاعل. ومع أن کلّا منهما یعرب فعلا ماضیا فإنه متجرد من دلالته الزمنیة ، ومنسلخ عنها بعد أن تکوّنت منه ومن فاعله جملة «إنشائیة غیر طلبیة» ؛ یقصد منها إنشاء المدح العام ، أو الذم العام ، من غیر إرادة زمن ماض أو غیر ماض ... فکلاهما انتقل إلی نوع خاص من «الإنشاء المحض غیر الطلبی» لا دلالة فیه علی زمن (2) مطلقا ، نحو : نعم أجر المخلصین - بئس مصیر المتجبرین.
ولجمودهما فی هذه الحالة وحدها لا یکون لهما مضارع ، ولا أمر ، ولا شیء من المشتقات ... وتلحقهما تاء التأنیث - جوازا - إذا کان فاعلهما اسما ظاهرا مؤنثا (3) ، ویصح حذفها بکثرة ، ولو کان الفاعل مؤنثا حقیقیّا ؛ نحو : نعم .. أو : نعمت فتاة العمل والنشاط ، وبئس ... ، أو : بئست فتاة البطالة والخمول. أما فی غیر هذه الحالة الخاصة بالمدح والذم فهما فعلان ماضیان ، متصرفان ، دالّان علی زمن مضی : نحو : نعم العیش ینعم ، فهو ناعم ؛ أی : لان واتسع. وبئس المریض یبأس ؛ فهو : بائس ...
2- قصر فاعلهما علی أنواع معینة ، أشهرها ما یأتی :
ا - المعرف «بأل» الجنسیة (4) ، أو : «العهدیة» (5) ، نحو : نعم الوالد
ص: 369
الشفیق ، وبئس الولد العاقّ. وقول الشاعر :
حیاة علی الضیم بئس الحیاة
ونعم الممات إذا لم نعز (1)
ب - المضاف إلی المعرف «بأل» السابقة ، نحو : نعم رجل الحرب خالد ، وبئس رجل الجبن والکذب مسیلمة ...
ح - المضاف إلی المضاف إلی المعرّف بها ؛ نحو : نعم قارئ کتب الأدب ، وبئس مهمل أمر اللغة.
د - الضمیر المستتر وجوبا بشرط أن یکون ملتزما الإفراد والتذکیر (2). وعائدا علی تمییز بعده (3) ، یفسر ما فی هذا الضمیر من الغموض والإبهام ؛ نحو : نعم قوما العرب ، وبئس قوما أعداؤهم. ففی کل من : «نعم» و «بئس» ضمیر مستتر وجوبا (4) تقدیره : «هو» مرادا منه الممدوح ، أو المذموم ، ویعود علی التمییز (قوما) أی : نعم القوم قوما ... - وبئس القوم قوما ...
ولا بد من مطابقة هذا التمییز لمعناهما ، (أی : لابد من مطابقته لما یسمی : «المخصوص» بالمدح أو الذم ، بحیث یتطابقان تذکیرا ، وتأنیثا ، وإفرادا ، وغیر إفراد) ، نحو : نعم رجلین : القائد والجندیّ - نعم رجالا : الحلیم ، والصبور ، والمتواضع - نعم ، أو : نعمت ، فتاة : المجاهدة - نعم ، أو : نعمت ، فتاتین : المجاهدتان - نعم ، أو : نعمت فتیات المجاهدات.
ص: 370
ولا بد أن یکون التمییز صالحا لقبول «أل» المعرّفة (1) ، فلا یصلح أن یکون من الکلمات المتوغلة - غالبا - فی الإبهام ؛ ککلمة : غیر ، ومثل : وشبه (2) ...
ویجوز - فی الرأی الراجح - أن یجتمع فی أسلوب المدح أو الذم الفاعل الظاهر والتمییز (3) ؛ نحو : نعم الشجاع رجلا یقول الحقّ غیر هیّاب ، وقول الشاعر :
ص: 371
نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت
ردّ التحیة نطقا أو بإیماء (1)
...
ه - کلمة : «ما» (2) أو : «من» (3) ، نحو : (نعم ما یقول الحکیم المجرّب ، وبئس ما یقول الغرّ الأحمق) ، ونحو : (نعم من تصحبه عزیزا.
وبئس من ترافقه منافقا) ... وقیل : إن «ما» تمییز ، والفاعل ضمیر مستتر تفسره «ما» وکذلک : «من».
ص: 372
و - «الذی» (اسم موصول) ؛ نحو : نعم الذی یصون لسانه عما لا یحسن ، وبئس الذی یغتاب الناس.
ز - النکرة المضافة لنکرة ، أو غیر المضافة ؛ کقول الشاعر :
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
وصاحب الرکب عثمان بن عفّانا
ومثل : نعم قائد أنت ...
والنوعان الأخیران (وهما : الذی. والنکرة) ، أقل الأنواع استعمالا ، وسموّا بلاغیّا ، مع جوازهما.
3- عدم نصبهما المفعول به ؛ لأن کلّا منهما فی هذا الاستعمال فعل ماض - جامد - لازم - کما تقدم (1) - ... ولکن یصح زیادة «کاف الخطاب» الحرفیة فی آخرهما ، نحو : نعمک الرجل عثمان ، وبئسک الرجل زیاد. وهذه الکاف حرف محض لمجرد الخطاب ؛ فلا یعرب شیئا ، ولکنه یتصرف علی حسب نوع المخاطب (2). وزیادته - مع جوازها - قلیلة فی الأسالیب البلیغة (3).
ص: 373
ا - إذا کانت : «أل» جنسیة فی مثل : (نعم الوالد علیّ) - ونظائره طبقا لما أوضحناه (1) ، فقد یراد منها الدلالة علی الجنس حقیقة ؛ فکأنک تمدح کل والد. ویدخل فی هذا التعمیم علیّ ، ثم تذکره بعد ذلک خاصة ؛ فکأنک مدحته مرتین ؛ إحداهما مع غیره ، والأخری وحده.
وقد یکون المراد الجنس مجازا ؛ فکأنک جعلت الممدوح بمنزلة الجنس کله للمبالغة فی المدح.
أمّا إذا کانت «أل» للعهد (2) ، فقد تکون لشیء معهود فی الذهن لم یذکر خلال الکلام ؛ فتکون للعهد الذهنی. فإن ورد فی الکلام فهی للعهد الذّکریّ. کالذی فی قولهم :
خیر أیام الفتی یوم نفع
فاتبع الحقّ ، فنعم المتّبع
و «أل» الجنسیة أقوی وأبلغ فی تأدیة الغرض ، والعهدیة أوضح وأظهر.
ب - إذا وقعت کلمة : «ما» (3) بعد : «نعم وبئس» جاز فیها إعرابات کثیرة ؛ وأشهرها ما یأتی :
1- إعرابها حین یلیها اسم منفرد (مثل : الزراعة نعم ما الحرفة) - إما نکرة تامة فاعلا ، وإما نکرة تامة : تمییزا ، وفاعل «نعم» ، و «بئس» فی هذه الصورة ضمیر مستتر یعود علی هذا التمییز ، وتعرب الکلمة المنفردة التی بعدها (وهی : الاسم المنفرد) خبرا لمبتدأ محذوف ، أو مبتدأ والجملة قبلها خبر عنها - کما سنعرف فی إعراب المخصوص -.
2- إعرابها حین یلیها جملة فعلیة ، (مثل : نعم ما یقول العقلاء ، وبئس ما یقول السفهاء ...) ، إما نکرة ناقصة ، تمییزا ، والفاعل ضمیر مستتر یعود علیها. والجملة بعدها صفة لها. وإمّا معرفة ناقصة ، فاعلا ، والجملة بعدها صلتها.
ص: 374
3- إعرابها حین تنفرد فلا یلیها شیء ؛ (نحو : الریاضة نعما ، والإسراف فیها بئسما) إمّا أن تکون نکرة تامة فاعلا ، وإمّا تمییزا ، والفاعل ضمیر مستتر یعود علیها.
ففی کل الأحوال السابقة یجوز أن یکون الفاعل ضمیرا مستترا یعود علی «ما».
لا فرق بین أن تکون نکرة تامة ، وناقصة ، ومعرفة تامة. کما یجوز أن تکون «ما» باعتباراتها المختلفة فاعلا.
فإذا اعتبرناها نکرة ناقصة فالجملة بعدها صفتها ، وإذا اعتبرناها معرفة ناقصة فالجملة بعدها صلتها ، وإذا وقع بعدها کلمة منفردة ، أو لم یقع بعدها شیء ، فهی تامة ، تعرب فاعلا ، أو تعرب تمییزا والفاعل ضمیر.
ولما کان کل نوع من أنواع «ما» مختلفا فی دلالته اللغویة عن النوع الآخر ، کان تعدد هذه الأوجه الإعرابیة جائزا حین لا توجد قرینة توجد المعنی إلی أحدها دون الآخر ؛ فإذا وجدت القرینة وجب الاقتصار علی ما تقتضیه ، فلیس الأمر علی إطلاقه - کما قد یتوهم بعض المتسرعین - ؛ ففی مثل : (لا أجد ما أتصدق به إلا الیسیر ؛ فیجیب السامع : نعم ما تجود به). تکون «ما» هنا نکرة موصوفة ؛ فکأنه یقول : نعم شیئا أیّ شیء تجود به ، وفی مثل ؛ أعطیتک الکتاب الذی طلبته ؛ فتقول : نعم ما أعطیتنی ، فکلمة «ما» موصولة ، وهکذا ... وإلا کانت الألفاظ ودلالتها فوضی. والقرائن والأسرار اللغویة لا قیمة لها ، ومثل هذا یقال فی «أل» السابقة ، - من ناحیة أنها للعهد أو الجنس ... - وفی غیرها من کل ما یجوز فیه أمران ، أو أکثر وتقوم بجانبه قرینة توجه إلی واحد دون غیره.
* * *
ص: 375
4- امتناع توکید فاعلهما المفرد الظاهر توکیدا معنویّا ، فلا یصح نعم الرجل کلهم (1) محمد ، ولا بئس الرجل أنفسهم علیّ. کما لا یصح : نعم الرجل کله محمد ، ولا بئس الرجل نفسه علی (2) ... فإن کان فاعلهما مثنی أو جمعا جاز ، نحو : نعم الصدیقان کلاهما ، محمد وعلی - نعم الأصدقاء کلهم محمد وعلی وحامد ... ومثلهما المثنی والجمع للمؤنث ...
أما التوکید اللفظی فلا یمتنع ، وکذلک : (البدل ، والعطف (3)). وأما النعت فیجوز إذا أرید به الإیضاح والکشف ، لا التخصیص (4) ، کقول الشاعر :
لعمری - وما عمری علیّ بهیّن
لبئس الفتی المدعوّ باللیّل حاتم
ص: 376
وقال الآخر :
نعم الفتی المرّیّ (1)
أنت ، إذا همو
حضروا لدی الحجرات (2)
نار الموقد
فإن کان الفاعل ضمیرا مستترا فلا یجوز أن یکون له تابع من نعت ، أو عطف ، أو توکید ، أو بدل.
5- حاجتهما - فی الغالب - إلی اسم مرفوع بعدهما هو المقصود بالمدح أو الذم ، ویسمی : «المخصوص بالمدح والذم». وعلامته : أن یصلح وقوعه مبتدأ ، خبره الجملة الفعلیة التی قبله مع استقامة المعنی ، نحو : (نعم المغرد البلبل - بئس الناعب الغراب) ؛ فالبلبل هو : المخصوص بالمدح ، والغراب هو : المخصوص بالذم ، وکلاهما یصلح أن یکون مبتدأ ، والجملة الفعلیة قبله خبره ؛ فنقول : البلبل نعم المغرد - الغراب بئس النّاعب.
ویشترط فی هذا المخصوص أن یکون معرفة ، أو نکرة مختصة بوصف ، أو إضافة ، أو غیرهما من وسائل التخصیص (3) ... وأن یکون أخص من الفاعل (4) ، لا مساویا له ، ولا أعم منه (5) ؛ وأن یکون مطابقا له فی المعنی ، (فیکون مثله فی مدلوله تذکیرا ، وتأنیثا ، وإفرادا ، وتثنیة ، وجمعا) ... وأن یکون متأخرا عن الفاعل ؛ فلا یتوسط بینه وبین فعله (6) ، - ویجوز تقدمه علی الفعل والفاعل معا - کما یجب تأخره عن التمییز إذا کان الفاعل ضمیرا مستترا له تمییز ؛
ص: 377
نحو : نعم رجلا المخترع.
أما إذا کان الفاعل اسما ظاهرا فیجوز تقدیم «المخصوص» علی التمییز وتأخیره ، فنقول : نعم العالم رجلا إبراهیم ، أو : نعم العالم إبراهیم رجلا.
وإذا کان المخصوص مؤنثا جاز تذکیر الفعل وتأنیثه ، وإن کان الفاعل مذکرا ؛ نحو : نعم الجزاء الهدیة ، ونعم الشریک الزوجة ، أو نعمت ، فیهما. والتذکیر فی هذه الحالة أحسن لیطابق الفاعل (1).
* * *
یجوز حذف : «المخصوص» ، إن تقدم علی جملته لفظ یدل علیه بعد حذفه ، ویغنی عن ذکره متأخرا ، ویمنع اللبس والخفاء فی المعنی ؛ ویسمّی هذا اللفظ ؛ ب «المشعر بالمخصوص» ؛ سواء أکان صالحا لأن یکون هو «المخصوص» أم غیر صالح (2) ؛ ویعرب علی حسب الحالة ؛ مثل : سمعت شعرا عذبا لم أتعرّف صاحبه ، ثم تبینت أنه الحتریّ ؛ فنعم الشاعر. أی : فنعم الشاعر البحتریّ. وقوله تعالی فی نبیّه أیوب : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ ...) ، أی : نعم العبد الصابر ، ویصح : نعم العبد أیوب. وعلی التقدیر الأول یکون «المشعر» - وهو کلمة : «صابرا» - من النوع الذی لا یصلح أن یکون «مخصوصا» : لأنه نکرة غیر مختصة ، بخلافه علی «التقدیر الثانی».
* * *
مثلا : نعم المغرد هو البلبل ، وبئس الناعب هو الغراب. أی : الممدوح البلبل ، والمذموم الغراب. فالمراد من الضمیر هنا : «الممدوح» أو : «المذموم».
وهناک إعراب ثالث ؛ هو : أن یکون مبتدأ وخبره محذوف ؛ تقدیره : «الممدوح» أو : «المذموم».
تلک هی الأوجه الثلاثة المشهورة ، ویلاحظ أن کلّا منها قائم علی الحذف والتقدیر ، أو التقدیم والتأخیر ، مع الرکاکة والضعف ، مع أن هناک رأیا قدیما آخر ، أولی بالاعتبار ؛ لخلوه من تلک العیوب وغیرها ؛ هو : إعراب المخصوص «بدلا» (1) من الفاعل ؛ فیکون : «البلبل» بدلا من : «المغرد» ، ویکون : «الغراب» بدلا من : «الناعب» ... هکذا ...
وحبذا الأخذ بهذا الرأی السهل الواضح فی تقدیرنا.
یجوز فی هذا المخصوص أن تعمل فیه النواسخ ؛ نحو ؛ نعم مداویا کان الطبیب ؛ فهو اسم «کان» والجملة قبلها خبرها (2) ...
ص: 379
ومن النوع الأول الصریح (1) : الفعل : «حبّ» یکون للمدح العام مع الإشعار بالحبّ ، ویکثر أن یکون فاعله کلمة : «ذا» التی هی اسم إشارة (2) نحو ؛ حبذا الموسیقیّ إسحاق ، وقول الشاعر :
یا حبذا النیل علی ضوء القمر
وحبذا المساء فیه والسّحر
فإن جاء بعده الفاعل «ذا» ، وقبله : «لا» النافیة کان للذم العام ، نحو : لا حبذا البخیل مادر (3).
وإنما کان معنی الفعل : «حبّ» هو : المدح مع الإشعار بالحب والقرب من القلب ، لأنه فعل مشتق من مادة : «الحبّ» وفاعله اسم إشارة للقریب. وهو ینفرد بهذه المزیة دون «نعم».
ومما یدل علی الذم العامّ الصریح أیضا الفعل : «ساء» تقول : ساء البخیل مادر. کما تقول : بئس للبخیل مادر وقول الشاعر :
أألوم من بخلت یداه وأغتدی
للبخل تربا (4)؟ ساء ذاک
صنیعا!
فمعناهما واحد ، هو : الذم العام (5) ، وکذلک أحکامهما
ومما تقدم نعلم أنّ «حبذا» جملة فعلیة - علی الرأی الأرجح - الفعل : فیها : «حبّ» ، وهو هنا ماض جامد (6) ، وفاعله هو کلمة : «ذا» اسم الإشارة ، مبنیة
ص: 380
علی السکون فی محل رفع. «الموسیقیّ» هو المخصوص بالمدح ، ویعرب مبتدأ خبره الجملة التی قبله ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أو غیر هذا مما فصّلناه (1) فی إعراب «مخصوص : نعم وبئس» إلا البدل فلا یصح هنا.
ومن أحکام هذا المخصوص أیضا أنه لا یصح تقدمه علی الفاعل وحده ، دون الفعل ، ولا علی الفعل والفاعل معا ، فلا یصح : حبّ علیّ ذا ، ولا علیّ حبّذا ، لأن تقدمه غیر مسموع فی الکثیر الفصیح من کلام العرب ؛ فصارت : «حبذا» معه ثابتة الموضع والصورة کالمثل ؛ والأمثال لا تتغیّر مطلقا. هذا إلی أن تقدمه قد یوهم (فی مثل الصورة الثانیة التی یکون فیها المخصوص مفردا مذکرا) - أن الفاعل ضمیر مستتر ، وأن «ذا» مفعول لا فاعل. وفی هذا إفساد للمعنی. لکن یصح أن یتقدم علی التمییز أو یتأخر عنه ؛ نحو : حبذا رجلا العصامیّ ، أو : حبذا العصامیّ رجلا. ویصح الفصل بالنداء بینه وبین «حبذا» کما یصح حذفه إن دلّت علیه قرینة لفظیة أو حالیة. (2) کقول الشاعر :
ألا - حبّذا. لو لا الحیاء ، وربما
منحت الهوی ما لیس بالمتقارب
ص: 381
والأصل مثلا : ألا حبذا أخبار الحبّ ، أو النساء ... لو لا الحیاء ، ولا یصح أن تعمل فیه النواسخ ، بخلاف مخصوص «نعم» - کما سبق (1). -
ومثل الإعراب السابق یقال فی : لا حبذا البخیل مادر ، مع إعراب «لا» حرف نفی ، فلیس ثمّة خلاف بین الصّیغتین فی شیء إلا فی وجود «لا» النافیة قبل : «حبذا» مباشرة (أی بغیر فاصل مطلقا) (2) ... وبسببها تصیر الجملة لإنشاء الذم لا المدح. ولا یصح أن یحل حرف نفی آخر محل : «لا» فی هذا الموضع. ومن الأمثلة الجامعة للصورتین قول الشاعر :
ألا حبذا عاذری فی الهوی
ولا حبذا الجاهل العاذل
وقول الآخر :
ألا حبّذا أهل الملا ، غیر أنه
إذا ذکرت میّ فلا حبّذا هیا
وإذا کان فاعل ؛ «حبّ» - فی حالتی النفی وعدمه - هو کلمة : «ذا» وجب أمران ؛ فتح الحاء فی «حب (3)» ... وأن یبقی الفاعل : «ذا» علی صورة واحدة لا تتغیر فی الحالتین ؛ هی صورة الإفراد والتذکیر مهما کان أمر المخصوص من الإفراد ، أو : التثنیة ، أو : الجمع ، أو : التذکیر ، أو : التأنیث ... نحو : حبذا الطبیبة فاطمة - حبذا الطبیبتان الفاطمتان - حبذا الطبیبات الفاطمات - حبذا الطبیب محمد - حبذا الطبیبان المحمدان - حبّذا الطبیبون - أو الأطباء - المحمّدون ، فلا یصح إخراج «ذا» عن الإفراد
ص: 382
والتذکیر ؛ لأنها دخلت فی أسلوب یشبه المثل ، والأمثال لا تتغیر مطلقا ، ولا تخالف الصورة الأولی التی وردت بها عن العرب (1) ...
فإن کان فاعل : «حبّ» اسما آخر غیر کلمة : «ذا» فإنه لا یلتزم صورة واحدة ، وإنما یسایر المعنی ، فیکون مفردا أو غیر مفرد ، مذکرا ، أو غیر مذکر ، کل هذا علی حسب ما یقتضیه المعنی. وعندئذ یجوز رفعه أو جره بباء زائدة فی محل رفع ، کما یجوز فی «حاء» الفعل : «حبّ» أن تضبط بالفتحة أو الضمة ، مثل : حبّ المضیء القمر - حبّ المضیئان القمران - حبّت المضیئات الأقمار ... وهکذا (2) ... ؛ (لأنه یجری علی «حبّ» من ناحیة ضبط فائها وعینها ما یجری علی مثلهما من الفعل الذی یحول إلی «فعل» وسیجیء الکلام علیه (3)).
ص: 383
التی تجری مجری : «نعم» وبئس»
الأصل العامّ : أن یقتصر کل فعل تحتویه الجملة المفیدة علی تأدیة معنی واحد مناسب ؛ یکتفی به ، ولا ینضم إلیه معنی آخر. وینطبق هذا الأصل العام علی أکثر الأفعال الثلاثیة ، حیث یقتصر کل فعل منها علی تأدیة معناه الخاص الواحد من غیر دلالة معه علی مدح ، أو : ذمّ. أو : تعجب ... کالأفعال : فرح - قعد - فهم ... و ... ومئات غیرها - فإن کل فعل منها یؤدی معناه المعیّن ؛ (وهو : الفرح ، القعود ، الفهم ...) تأدیة مجردة من الإشعار بمدح ، أو ذم ، أو تعجب ؛ فلا صلة لها بشیء من هذه المعانی الثلاثة.
لکن من الممکن أن یدخل شیء من التغییر علی صیغة کل فعل من الأفعال السابقة - ونظائرها - لیصیر علی وزن معیّن ، فیؤدی معناه الأصلی الخاص مع زیادة فی الدلالة ؛ تتضمن المدح بهذا المعنی اللغویّ الخاص ، أو الذم به ، کما تتضمن - فی الوقت نفسه - الإشعار بالتعجب فی الحالتین. فالزیادة الطارئة علی المعنی اللغویّ الأصلی للفعل بعد تغییر صیغته - تتضمن الأمرین معا. وإن شئت فقل : إن الفعل الثلاثی فی صیغته الجدیدة ، الناشئة من التغییر یؤدی ثلاثة أمور مجتمعة ؛ هی : معناه اللغویّ الخاص ، مزیدا علیه المدح بهذا المعنی الخاصّ ، أو الذمّ به علی حسب دلالته الأصلیة ، وأیضا إفادة التعجب فی حالتی المدح والذم (2).
والمدح والذم هنا خاصّان ؛ لأنهما یقتصران علی المعنی اللغویّ للفعل ، وهذا المعنی معیّن محدود ، ولهذا یکون المدح به أو الذم خاصّا ، مع إفادة التعجب
ص: 384
فی کل حالة ، فلا إهمال للمعنی الخاصّ الأساسی للفعل ، ولا تعمیم فیه ولا شمول ، ولا خلوّ من التعجب ، فالأسلوب هنا باشتماله علی الأمور الثلاثة السالفة مختلف عنه مع «نعم وبئس» ؛ لأن معناهما : المدح والذمّ العامّین الشاملین ، الخالیین من إفادة التعجب (1).
وإنما یقوم الفعل الثلاثی (2) بتأدیة معناه الخاص مع تلک الزیادة فی الدلالة إذا تحقق فی صوغه أمران :
أولهما : أن یکون مستوفیا کل الشروط التی یجب اجتماعها فی الفعل الذی یصلح أن تصاغ منه - مباشرة - صیغتا التعجب (3) ، وفی مقدمتها : أن یکون ثلاثیّا.
ثانیهما : أن یکون علی وزن : «فعل» - بضم العین - ؛ سواء أکان مصوغا علی هذا الوزن من أول الأمر نقلا عن العرب ؛ مثل : شرف ، وکرم ، وحسن ... و ... ، أم لم یکن ؛ کفهم (4) ، وجهل ، وبرع ... ؛ فیصیر : فهم - جهل (5) - برع ...
(ومعلوم أن الفعل الثلاثی لا یخرج - فی الأغلب (6) - عن ثلاثة أوزان ؛ تنشأ من تحریک عینه بالفتح ؛ (نحو : ذهب) ، أو بالکسر ؛ (نحو : علم) أو بالضم ؛ (نحو : ظرف). أمّا أوله فمفتوح فی أغلب الحالات (7) والأوزان التی
ص: 385
یکون فیها مبنیّا للمعلوم. والثلاثی مضموم العین لا یکون إلا لازما ؛ ولهذا یصیر الفعل المتعدی لازما إذا تحول من صیغته الأصلیة إلی صیغة : فعل).
وصوغه علی وزن : «فعل» - (بقصد تأدیته لمعناه اللغویّ المعین ؛ مع المدح الخاص به ، أو الذم الخاص ، ومع الإشعار بالتعجب (1) فیهما) - یقتضی الأحکام والتفصیلات الآتیة :
ا - اعتبار الفعل بعد تلک الصیاغة لازما ؛ مجردا من الدلالة الزمنیة ، وجامدا کامل الجمود (فلا مضارع له ؛ ولا أمر ، ولا غیرهما من بقیة المشتقات).
ب - صحة تحویل الفعل الثلاثی الصحیح (2) ، غیر المضعف (3) ، تحویلا مباشرا - إلی صیغة : «فعل» بضم العین ؛ فیفید بعد التحویل معناه اللغویّ مقرونا بالمدح أو الذم الخاضین بمعناه ، مع التعجب فی کل حالة ؛ تبعا لمعناه اللغویّ الأصلی قبل التحویل ؛ ففی مثل : (فهم المتعلم - عدل الحاکم ، نقول : فهم المتعلم - عدل الحاکم ؛ فیفید الترکیب الجدید معنی الفعل فی اللغة ، مزیدا علیه مدح المتعلم بالفهم فقط ، ومدح الحاکم بالعدل فقط ، مع التعجب فی الحالتین). وفی مثل : (جهل (4) المهمل - حسد الأحمق ... نقول جهل المهمل ؛ حسد الأحمق ؛ فیفید الأسلوب معنی الفعل ، مزیدا علیه ذم المهمل بسبب جهله فقط ، وذم الأحمق بسبب حسده فقط. مع التعجب فی الصورتین) ... ولا فرق فی هذا التحویل وآثاره بین الثلاثی مفتوح العین ، أو مکسورها ، أو : مضمومها.
ویجوز فی الفعل بعد تحویله إمّا إبقاؤه علی صورته الجدیدة ، وإمّا تسکین
ص: 386
عینه المضمومة ، کما یجوز تسکین عینه بعد نقل حرکتها (وهی الضمة) ، إلی أوّله ؛ فنقول فی الصورتین الأخیرتین : (فهم المتعلم - عدل الحاکم - جهل المهمل - حسد الأحمق) ... أو : (فهم ... - عدل ... - جهل ... - حسد (1) ...).
وإذا تمّ تحویل الفعل علی الوجه السالف صار بمنزلة : «نعم ، وبئس» فی الجمود ، وفی أصل دلالتهما وهی مجرد المدح أو الذم - مع مراعاة الفوارق بینهما (2) - ، ویجری علیه من الأحکام النحویة المختلفة ما یجری علیهما ؛ فیحتاج إلی فاعل من نوع فاعلهما الذی سبق بیانه ، وقد یحتاج إلی تمییز ، وإلی «مخصوص» کما یحتاجان. ویسری علی فاعله وتمییزه ومخصوصه کل الأحکام التی تسری حین یکون الفعل : «نعم أو بئس». فإذا قلت فی المدح : فهم المتعلم حامد ، وفی الذم : خبث الماکر سعید ، فکأنک قلت : نعم الفاهم حامد ، وبئس الماکر سعید - مع ملاحظة الفرق المعنوی الذی أوضحناه -.
وهکذا یطبّق علی الفعل الصحیح الثلاثی غیر المضعف (3) ، بعد تحویله إلی : «فعل» جمیع ما یطبّق علی : «نعم وبئس» ، ویخضع النوعان لأحکام واحدة ما عدا بعض الفروق المعنویة السالفة وبعض فوارق فی فاعله (4) ستأتی.
* * *
ص: 387
ا - تبین مما تقدم (1) أن الفعل الذی یتم تحویله إلی «فعل» علی الوجه المشروح إنما یدل - فوق معناه اللغوی الأصیل - علی مدح خاص أو ذم خاص ، وأنه لا بد من إشرابه معنی «التعجب» فی الحالتین. وبالتخصیص فیهما والتعجب یخالف «نعم وبئس» ، لأن معناهما المدح العام والذم العام ولا یتضمنان تعجبا. ب - وینفرد «فاعل» الفعل الذی تم تحویله بأمور لا تکون فی فاعل : «نعم وبئس».
منها : صحة وقوعه اسما ظاهرا خالیا من «أل» ومما یشترط فی فاعل نعم ، ... (2) نحو : قوله تعالی : (وَحَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً) ، ومثل عدل عمر. ومنها : کثرة جره بالباء الزائدة إن کان اسما ظاهرا ، فیجر لفظا ویرفع محلا ، نحو : حمد بالجار معاشرة ، وسعد بالرفیق مزاملة. أی : حمد الجار معاشرة ، وسعد الرفیق مزاملة.
ومنها : صحة رجوعه - إن کان ضمیرا - إلی شیء سابق علیه ؛ فیطابقه حتما ، أو إلی التمییز المتأخر عنه فلا یطابقه. تقول : الأمین وثق رجلا ؛ ففی الفعل : «وثق» ضمیر یجوز عودته علی : «الأمین» المتقدم ، أو : علی التمییز : «رجلا» المتأخر عنه ، ولهذا الرجوع إلی أحدهما أثره فی المطابقة بین الفاعل الضمیر ومرجعه ؛ إذ عند رجوعه للسابق تجب مطابقته فنقول : الأمینان وثقا رجلین - الأمناء وثقوا رجالا - الأمینة وثقت فتاة - الأمینتان وثقتا فتاتین - الأمینات وثقن فتیات. أما عند عودته إلی التمییز المتأخر فلا تصحّ المطابقة ؛ بل یلتزم الإفراد والتذکیر ؛ شأنه فی هذا شأن فاعل «نعم وبئس» إذا کان ضمیرا مستترا ، فنقول فی کل الصور السّالفة : «وثق» ، بغیر إدخال تغییر علیه یدلّ علی تأنیث ، أو تثنیة ، أو جمع.
وفیما سبق یقول : «ابن عقیل والأشمونی» وحاشیتاهما ، عند شرحهما لکلمة : «مسجلا» فی آخر بیت ابن مالک الذی نصه : - کما سبق فی ص 382 -.
ص: 388
(واجعل کبئس ساء. واجعل «فعلا»
من ذی ثلاثة کنعم مسجلا)
إن معناها هو : مطلقا عن التقیید بحکم دون آخر ... ثم قال الخضری ما نصه (1) :
«(لکنّ «فعل» یخالف «نعم وبئس» فی ستة أمور :
اثنان فی معناه : إشرابه التعجب ، وکونه للمدح الخاص - أو للذم الخاص (2) - «واثنان فی فاعله الظاهر ؛ جواز خلوه من «أل» نحو : وحسن أولئک رفیقا ، وکثرة جره بالباء الزائدة ، تشبیها بأسمع بهم ؛ کقولهم :
حبّ بالزّور (3) الذی لا یری
منه إلا صفحة أو لمام (4)
«واثنان فی فاعله المضمر ؛ جواز عوده ومطابقته لما قبله ؛ ففی : «محمد کرم رجلا» یحتمل عود الضمیر إلی : «رجلا» کما فی نعم ، ... وإلی «محمد» کما فی فعل التعجب ، لتضمنه معناه. وتقول : المحمدون کرم رجالا - ... علی الأول (5) وکرموا رجالا علی الثانی (6) فقول المصنف : «کنعم مسجلا» لیس علی سبیل الوجوب فی کل الأحکام. والکلام فی غیر «ساء». أما «ساء» فیلازم أحکام «بئس» ...)» ا ه کلام الخضری.
ح - بمناسبة ما تقدم یقول الصرفیون إن أبواب الفعل الثلاثی المستعملة أصالة - بحسب حرکة العین فی الماضی والمضارع - ستة ، الخامس منها هو باب : «فعل یفعل» بضم العین فیهما معا ؛ کحسن یحسن ، وشرف یشرف أو کرم یکرم ... و ... ویردفون کلامهم بتقریر أمرین (7) :
أولهما : أن هذا الباب «الخامس» مقصور فی أصله علی الأوصاف الفطریة والسجایا الخلقیة الدائمة ، أو التی تلازم صاحبها زمنا طویلا.
ثانیهما : صحة تحویل کل فعل ثلاثی من الأبواب الأخری إلی هذا الباب لیدل الفعل بعد هذا التحویل علی أن معناه صار کالغریزة والسجیة فی صاحبه.
* * *
ص: 389
ج - فک الإدغام إن کان الفعل : «مضعفا» ، مثل : فرّ - لجّ ... ویرد إلی أصله قبل الإدغام ، فیصیر : فرر (1) - لجج (2) ، ثم یحول إلی : «فعل» : فیصیر : فرر - لجج ... ثم یعود إلی الإدغام ، فیصیر کما کان (3) : «فرّ» - لجّ ، تقول فی الذم - مثلا - فرّ الرجل جبانا - لجّ القطّ مواء ، أو : فرّ بالرجل جبانا - لجّ بالقط مواء.
ویجوز حذف الفتحة من أول الفعل لتحل مکانها الضمة التی فی عین الفعل عند تحویله إلی : «فعل» ، وتسکن عین الفعل (4) ؛ فتصیر الجملة : فرّ الرجل جبانا ، لجّ القطّ مواء - أو : فرّ بالرجل جبانا ، لجّ بالقط مواء.
ومن المضعف الذی تجری علیه هذه القواعد - الفعل ؛ «حبّ» (5) عند تحویله إلی : «فعل» بقصد المدح ، بشرط ألا یکون فاعله کلمة : «ذا» فی مثل : «حبّذا» لأنّ «حبّ» فی هذه الصورة المرکبة مع «ذا» یجب فتح الحاء فیها ، وبقاء «ذا» علی حالها من الإفراد والتذکیر فی کل الأسالیب ، مهما کان حال الممدوح من ناحیة إفراده ، وعدم إفراده ، وتذکیره أو تأنیثه ، کما یجب فی هذه الصورة أیضا وصل الفعل : «حب» بفاعله : «ذا» کتابة ، وترکیبهما معا ترکیبا خطیّا کما سبق (6).
أما إن کان الفاعل اسما ظاهرا غیر کلمة «ذا» فإن الفعل «حبّ» یخضع لما أشرنا إلیه ؛ من فتح الحاء أو ضمها ، کما یجری علی فاعله الأحکام الخاصة بالمحوّل ، والتی أوضحناها. تقول حبّ الجندی رجلا ، أو : حبّ بالجندی رجلا. ومنه قول الشاعر :
ص: 390
إن کان الفعل المراد تحویله معتل «الفاء» مثل : وثق - وفد ... فحکمه حکم الصحیح. وإن کان معتل العین بالألف ، مثل صام - هام - نام - بقی علی حاله ، وقدّر فیه التحویل تقدیرا عقلیّا محضا عند وجود قرینة تدل علی قصد المدح أو الذم ؛ لیکون لهذا التقدیر أثره الواقعی فی الفاعل ، وفی المخصوص ... ، وإن شئت فقل : إن حکمه هو حکم الصحیح أیضا مع نیة التحویل الذی ترشد إلیه القرینة. ویدخل فی هذا النوع الفعل : «ساء» فیصح أن یلاحظ فیه التحویل عند قیام قرینة ؛ فیستعمل استعمال الأفعال التی تحولت ، ویصح ألا یلاحظ فیه ذلک ؛ لأنه موضوع فی أصله للذم العامّ الصریح (1) مثل :
«بئس» ؛ فتجری علیه أحکام «بئس» من نواحیها المختلفة.
وإن کان الفعل معتل اللام - فقط - بالواو ، أو بالألف التی أصلها الواو : مثل : سرو (2) - غزا ... ظهرت الواو فی الکلام مفتوحة وقبلها الضمة ، ولو لم تکن الواو موجودة من الأصل - ویجوز تسکین ما قبل الواو مباشرة (3) ؛ فنقول : سرو - غزو ، أو : سرو - غزو.
وإن کان الفعل معتل اللام بالیاء ؛ نحو : خشی ، ورمی (4) ، قلبت الیاء واوا قبلها ضمة ، ویجوز تسکین ما قبلها (5) ؛ فتصیر : خشو ، أو خشو ، رمو ، أو رمی.
وإن کان الفعل معتل العین واللام معا ، وحرف العلة فیهما هو «الواو» ؛ مثل : قوی (من القوة ، أصله : قوو) ، فإن الواو الأولی تتحرک بالکسرة ؛ لتقلب بعدها الواو الثانیة یاء ؛ فتصیر ؛ «قوی» فکأن الفعل بقی علی حاله.
وإن کان معتل العین واللام معا بالواو فالیاء ، نحو : شوی : قلبت الیاء
ص: 392
عند التحویل واوا ، لوقوعها متطرفة بعد ضمة ، ثم أدغمت الواو فی الواو ، فتصیر : «شوّ». ویجوز عدم القلب واوا فتبقی الیاء مع تسکین ما قبلها فتقول : شوی. وکذلک نقول فی قوی : قوی ، ولا یجوز القلب والإدغام فی هذه الحالة لأن السکون لیس أصلیّا.
وإن کان معتل العین واللام معا بالیاء ؛ نحو : حیّ ، وعیّ ... لم یصح تحویله (1) ...
هذا ملخص ما جاء فی المطولات المتداولة خاصّا بتحویل الفعل المعتل مع تعدد الآراء ، وشدة الخلاف فیه. ولا أعرف أن النحاة نقلوا لأکثر هذه الصور أمثلة مسموعة تؤید کلامهم. فهل هی صور خیالیّة تدریبیة.؟
لا یحسن الیوم استعمال شیء منها ؛ سواء أکانت خیالیة محضة أم لها مسموع یؤیدها ؛ لأنها ثقیلة ، مجافیة للأسلوب الأدبی الرفیع ، والذوق البلاغی السائغ. وفی المیادین اللغویة الأخری ما یغنی عنها تماما - کما أشرنا من قبل (2) -.
* * *
ص: 393
أفعل التفضیل (1).
یتضح معناه من الأمثلة الآتیة :
الشمس أکبر من الأرض.
أهرام (2) الجیزة أقدم من مدینة القاهرة.
المحیطات أوسع من الیابسة.
الطائرات أسرع (3) وسائل الانتقال.
المنافق أخطر من العدوّ الظاهر.
فی هذه الأمثلة کلمات مشتقة علی وزن : «أفعل» ؛ (هی : أکبر - أقدم - أوسع - أسرع - أخطر ...) فما المعنی الذی تؤدیه کل واحدة فی جملتها؟.
إن کلمة : «أکبر» - فی المثال الأول - تدل علی أمرین معا ؛ هما : اشتراک الشمس والأرض فی معنی معین ؛ هو : «الکبر» ، وأن الشمس تزید علی الأرض فی هذا المعنی.
وکلمة : «أقدم» - فی المثال الثانی - تدل علی أمرین معا ؛ هما : اشتراک الأهرام والقاهرة فی معنی معین ؛ هو : «القدم» وأن الأهرام تزید علیها فی هذا المعنی.
وکلمة : «أوسع» - فی المثال الثالث - تدل علی اشتراک المحیطات والیابسة فی معنی معین ؛ هو : السّعة ، والمحیطات تزید علیها فیه ...
ومثل هذا یقال فی الباقی ... وفی نظائره.
فکل کلمة من هذه الکلمات المشتقة - ونظائرها - تسمی : «أفعل
ص: 394
التفضیل (1)» وتعریفه : (أنه اسم ، مشتق ، علی وزن : «أفعل» یدل - فی الأغلب (2) - علی أن شیئین اشترکا فی معنی ، وزاد أحدهما علی الآخر فیه). فالدعائم أو الأرکان التی یقوم علیها التفضیل الاصطلاحی - فی أغلب حالاته - ثلاثة :
1- صیغة : «أفعل» ، وهی اسم ، مشتق.
2- شیئان یشترکان فی معنی خاص.
3- زیادة أحدهما علی الآخر فی هذا المعنی الخاص.
والذی زاد یسمی : «المفضّل» ، والآخر یسمی : «المفضّل علیه» ، أو : «المفضول». ولا فرق فی المعنی والزیادة فیه بین أن یکون أمرا حمیدا ، أو ذمیما (3).
ویدل أفعل التفضیل - فی أغلب صوره - علی الاستمرار والدوام (4) ، ما لم توجد قرینة تعارض هذا ، فشأنه فی الدوام والاستمرار شأن الصفة المشبهة علی الوجه المشروح فی بابها (5).
* * *
یصاغ «أفعل التفضیل» من مصدر الفعل الذی یراد التفضیل فی معناه ، بشرط أن یکون هذا الفعل مستوفیا کل شروط «التعجب» التی عرفناها (6) فی
ص: 395
بابه ... (بأن یکون فعلا ثلاثیّا (1) ، متصرفا ، تامّا ، مبنیّا للمعلوم (2) ... و ... و ... و ...). فالشروط التی یجب توافرها لصیاغة «أفعل التفضیل» هی - نفسها - الشروط التی لا بد من توافرها لصوغ «فعلی التعجب» ؛ مثل الأفعال : سمع - عدل - فهم - بعد - بقی - خبث ... و ... ومن الأخیرین جاء : «أبقی - وأخبث» فی قول الشاعر :
الخیر أبقی (3) ، وإن طال
الزمان به
والشرّ أخبث ما أوعیت من زاد
فإن کان الفعل غیر مستکمل الشروط ، وکان السبب هو جموده أو عدم قبول معناه للمفاضلة (کالفعل : مات - فنی - عدم ...) لم یجز التفضیل منه مطلقا ؛ (بطریق مباشر ، أو غیر مباشر) ؛ لأنه بجموده لا مصدر له (4) ، ولأنه بعدم قبوله المفاضلة یفقد الأساس الذی یقوم علیه التفضیل فی أغلب حالاته.
أما إن کان السبب فقد شرط آخر غیر الشرطین السابقین فإن (5) صیاغة «أفعل» تمتنع من مصدره مباشرة (6) ، وتصاغ - کالتعجب - من مصدر
ص: 396
فعل آخر مناسب للمعنی ، مستوف للشروط ، ویوضع بعد صیغة «أفعل» مصدر الفعل الأول - الذی لم یکن مستوفیا للشروط ، - منصوبا علی التمییز. فمثلا الفعل : تعاون ، لا .. یصاغ من مصدره «أفعل» التفضیل مباشرة ؛ لأنه فعل خماسی ؛ فنصوغه بطریقة غیر مباشرة» بأن نأخذه من مصدر فعل آخر مناسب (مثل : کبر - کثر - نفع ...) ونجعل بعده مصدر الفعل
ص: 397
الأول (وهو التعاون) تمییزا منصوبا ؛ فنقول : فلان أکبر تعاونا من أخیه ، أو : أکثر تعاونا ، أو : أنفع تعاونا ، أو : أقل. أو : أضعف ، ... أو ما شاکل هذا مما یسایر المعنی.
والفعل : «خضر» لا یصاغ من مصدره مباشرة «أفعل» للتفضیل ؛ لأنه یدل علی لون ظاهر ؛ فنصوغه - بالطریقة السالفة ، «غیر المباشرة» - من مصدر فعل آخر مناسب ، ونجعل بعد «أفعل» مصدر الفعل الأول ، وهو : «الخضرة» منصوبا علی التمییز. فنقول : ورق اللیمون أشد خضرة من ورق القصب ... (1)
ص: 398
والفعل : عرج ، لا یصاغ - مباشرة - من مصدره «أفعل» ، لأنه فعل یدل علی عیب ظاهر ، وإنما نصوغ «أفعل» بالطریقة السالفة «غیر المباشرة» ؛ فنقول : هذا الفتی أوضح عرجا من غیره.
وبهذه المناسبة نذکر أن الأفعال الدالة علی الألوان والعیوب لا یصاغ من مصدرها «أفعل التفضیل» مباشرة إذا کانت الألوان والعیوب حسیة ظاهرة. أما إن کانت معنویة داخلیة فیصح أن یصاغ منها مباشرة ؛ مثل : فلان أبله من فلان ، أو : أحمق من فلان ، أو : أرعن منه ، أو : أهوج منه ، أو : أخرق منه ، أو : أعجم منه ، أو : أبیض سریرة منه ، أو : أسود ضمیرا منه و ... و ... (1)
یتبین من کل ما تقدم أننا نتوصل بالطریقة «غیر المباشرة» ، إلی التفضیل إذا فقد الفعل المتصرف القابل للمفاضلة ، بعض الشروط الأخری. - ولا مانع من استخدام هذه الطریقة أیضا مع الفعل المستوفی - وهی نفسها التی أوصلتنا إلی التعجب مما لم یستوف فعله بعض الشروط. وقد سبق شرحها فی بابه - فنستعین بها هنا علی الوجه السالف لتوصلنا إلی التفضیل کذلک.
ص: 399
ومما تجب ملاحظته : أن صیغة «أفعل التفضیل» ، ومعناها ، وأحکامها ، تختلف اختلافا کثیرا عن صیغتی «التعجب» ومعناهما ، وأحکامهما فی أمور عرضنا لها هنا وهناک. ومنها : أن المصدر هنا ینصب علی اعتباره ، تمییزا ، وینصب هناک علی اعتباره مفعولا به(1) ...
ومتی تمت صیغة ؛ «أفعل» علی الوجه السالف صارت اسما جامدا ؛ ویترتب علی جموده أمران :
أولهما : ألّا توجد له صیغة أخری تدل علی التفضیل الاصطلاحیّ ؛ فلیس له بعد هذه الصیاغة - ماض ، ولا مضارع ، ولا مصدر ، ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول ... ولا شیء آخر من المشتقات أو غیر المشتقات ؛ لأن التفضیل الاصطلاحی مقصور علی صیغة : «أفعل» وحدها ، وهی جامدة ؛ کما أوضحنا ، ولا یتقدم علیها شیء من معمولاتها - طبقا لما یلی (2) -
ص: 400
ثانیهما : ألا یتقدم علیه - فی حالة الاختیار - شیء من معمولاته ، إلا حالة واحدة (1) سیجیء الکلام علیها فی القسم الأول الآتی.
* * *
هو ثلاثة أقسام :
1- مجرد من «أل» والإضافة. 2- مقترن «بأل».
3- مضاف.
فأما القسم الأول المجرد من «أل والإضافة» فمثل : «أفضل» ، و «أنفع» فی قول بعضهم لظریف : لا أدری! أجدّک أفضل من مزحک ، أم مزحک أنفع من جدک. ومثل : «أحسن» فی قول الشاعر :
وإنی رأیت الضّرّ أحسن منظرا
من مرأی صغیر به کبر
.... (2)
وحکم هذا القسم أمران :
1- وجوب إفراده وتذکیره فی جمیع حالاته.
2- ووجوب دخول «من» جارة للمفضّل علیه (أی : للمفضول).
ا - فأما الأمر الأول (وهو : وجوب إفراده وتذکیره) ، فیقتضی أن تکون صیغته واحدة فی کل استعمالاته ولو کان مسندا لمؤنث ، أو لمثنی ، أو لجمع ، فلابد أن تلازم هذه الحالة دائما ؛ نحو : الجمل أصبر من غیره علی العطش - الجملان أصبر من غیرهما - ... الجمال أصبر من غیرها ...
ص: 401
- الناقة أصبر من غیرها ... - الناقتان أصبر من غیرهما ... - النّوق أصبر من غیرهن ...
ب - وأما الأمر الثانی وهو : دخول : «من» (1) جارة للمفضّل علیه (أی : للمفضول) فأمر واجب أیضا ، بشرط أن یکون قصد التفضیل باقیا. ولهذا کان وجودها دلیلا علی إرادة التفضیل ، وعدم انسلاخ «أفعل» عنه. وهی مختصة بهذا القسم وحده ، وبدخولها علی المفضول دون غیره ، ولا وجود لها فی القسمین الآخرین. - کما سیجیء عند الکلام علیهما - ولا یجرّ المفضول غیرها من حروف الجر. ومن الأمثلة - غیر ما سبق - قول المتنبی :
وما لیل بأطول من نهار
یظلّ بلحظ حسّادی مشوبا
وما موت بأبغض من حیاة
أری لهمو معی فیها نصیبا
ودخول «من» جارة للمفضل علیه یستلزم أحکاما لهما ؛ منها :
ا - جواز حذفهما معا ، بشرط وجود دلیل یدل علیهما ؛ کقوله تعالی : (وَالْآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقی) ، أی : والآخرة خیر من الدنیا ، وأبقی منها. وقد اجتمع الحذف والإثبات فی قوله تعالی : (أَنَا أَکْثَرُ مِنْکَ مالاً ، وَأَعَزُّ نَفَراً)، أی : أعز نفرا منک. وقول الشاعر :
ومن یصبر یجد غبّ صبره
ألذّ وأحلی من جنی النحل فی الفم
أی : ألذّ من جنی النحل ...
وإذا حذفا من اللفظ کانا ملحوظین فی النیة والتقدیر ؛ وصارا بمنزلة المذکورین (2).
ص: 402
وأکثر مواضع حذفهما حین یکون «أفعل» خبر مبتدأ ، أو خبر ناسخ ، أو مفعولا ثانیا لفعل ناسخ (مثل ظن وأخواتها ...) أو مفعولا ثالثا لفعل ینصب ثلاثة (کالفعل : وأری ...) ؛ نحو : قرع الحجة بالحجة أنفع ... وهو بالعالم ألیق ... - ربّما کان ازدراء السفیه أنجع فی إصلاحه ... -
فلو طالعت أحداث اللیالی
وجدت الفقر أقربها انتیابا (1)
وأنّ البرّ خیر فی حیاة
وأبقی بعد صاحبه ثوابا
- أعلمت الجازع احتمال المشقة أجدر بأصحاب العزائم والهمم ...
ویقل حذفهما إذا کان «أفعل» حالا. نحو : توالت النغمات أنعش للقلب وأندی للفؤاد ، وأذهب للأسی ... ومثل قول الشاعر :
دنوت - وقد خلناک کالبدر - أجملا
فظلّ فؤادی فی هواک مضلّلا
یرید : دنوت أجمل من البدر ، وقد خلناک کالبدر ، فکلمة «أجمل» حال من الفاعل : «التاء». وهذا النوع من الحذف - علی قلته - قیاسیّ تجوز محاکاته. وکذلک یقل حذفهما إن کان «أفعل» نعتا لمنعوت محذوف مع عامله لقرینة ، نحو : اتجه ... أوسع مساحة ، وأکثر خصبا ، وأرحب للغریب صدرا. والأصل : اتجه ، واقصد بلدا أوسع مساحة ... و ... و ... والأحسن عدم جواز القیاس علی هذا النوع ؛ لکثرة الحذف فیه ، وتوقع اللبس فی فهمه ...
2- ومن الأحکام : وجوب تقدیمهما أحیانا علی عاملهما وحده ، وهو : «أفعل» دون تقدیمهما علی الجملة کلها. وإنما یجب التقدیم علی عاملهما إذا کان المجرور اسم استفهام ؛ کهذا السؤال : فلان ممّن أفضل؟ والأصل : فلان أفضل ممّن؟ أو کان المجرور مضافا إلی اسم استفهام ، نحو : فلان من ابن من أفضل؟.
ص: 403
والأصل فلان أفضل من ابن من؟ ولا یجوز التقدیم فی غیر حالتی الاستفهام السالفتین (1) إلا للضرورة الشعریة کقول القائل :
وإنّ عناء أن تناظر جاهلا
فیحسب - جهلا - أنه منک أعلم
وقول الآخر :
إذا سایرت أسماء یوما ظعینة (2)
فأسماء - من تلک الظعینة أملح
والأصل : (أعلم منک) - وأیضا (فأسماء أملح من تلک الظعینة). فقد تقدم الحرف «من» مع مجروره ، مع أن الکلام خبری ، ولیس إنشائیّا استفهامیّا (3) ...
3 - ومنها : امتناع الفصل بینهما وبین «أفعل» إلا بمعموله ، أو : «لو» وما یتبعها ، أو : النداء - فمثال الفصل بالمعمول قوله تعالی : (النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، وقول الشاعر :
وظلم ذوی القربی أشدّ مضاضة
علی المرء من وقع الحسام المهند
وقول الآخر :
لولا العقول لکان أدنی (4)
ضیغم
أدنی (5) إلی شرف من
الإنسان (6)
ص: 404
ومثال الفصل بکلمة : «لو» وما یتبعها قول الشاعر :
ولفوک أطیب - لو بذلت لنا -
من ماء موهبة (1) علی خمر
ومثال النداء : أنت علی أداء المهامّ الجسام أقدر - یا صدیقی - من صفوة الأخلاء.
وقول الشاعر :
لم ألق أخبث - یا فرزدق - منکمو
لیلا ، وأخبث بالنهار نهارا
فلا یجوز الفصل بینهما بأجنبی (وهو الذی لیس معمولا لأفعل) ولا بشیء غیر ما سبق ؛ ولهذا حکموا بالخطأ أو الشذوذ علی مثل : ممن أنت أفضل ؛ لأن الجار والمجرور : (ممّن) متعلقان «بأفضل» (2) ، و «أنت» مبتدأ خبره : «أفضل» وقد فصل المبتدأ بین «أفضل» والجار مع مجروره ، مع أن المبتدأ أجنبی من أفضل ، (أی : لیس معمولا له).
«ملاحظة» : قد یصاغ «أفعل التفضیل» من مصدر فعل یتعدی بحرف الجرّ «من» ؛ کالفعل : قرب ، بعد .. فعند التفضیل یجیء هذا الحرف مع مجروره ، إمّا متقدمین علی «من» الجارة للمفضول ومتوسطین بینها وبین «أفعل» ؛ نحو : المجرّب أقرب من الصواب من الناشیء ، وإمّا متأخرین عنهما ؛ نحو : المجرب أقرب من الناشیء من الصواب(3) ...
* * *
ص: 405
ا - عرفنا (1) أن : «أفعل التفضیل» یدل - فی الأغلب - علی اشتراک شیئین فی معنی خاص ، وزیادة أحدهما علی الآخر فیه ... ، و ... فما ضابط الاشتراک؟!.
لیس للاشتراک ضابط معین یحدد أنواعه ، وإنما یکفی أن یتم علی وجه من الوجوه یکون به واضحا ومفهوما للمتخاطبین ، ولو کان اشتراکا ضدّیّا ، أو تقدیریّا ، کقول إنسان فی عدوّین له : هذا أحبّ إلی من ذلک. وفی نوعین من الشر : هذا أحسن من هذا. یرید فی المثال الأول : هذا أقل بغضا عندی ، ویرید فی المثال الثانی : هذا أقل شرّا من الآخر ؛ فلیس فی نفس المتکلم قدر مشترک من الحب والحسن. لهذا ، أو لذاک. وإنما القدر المشترک هو الکره والقبح اللذان یضادان الحب والحسن. فالاشتراک إنما هو فی أمر مضادّ فی معناه لمعنی : «أفعل» المذکور فی الجملة ، مع تفاوت النصیب بینهما ، ووجود الزیادة فی أحدهما وحده ؛ فأحدهما عدوّ خفیف العداوة أو القبح ، والآخر : شدیدهما ، فالزیادة موجودة ولکنها فی أحد الأمرین المشترکین فی معنی مضاد لمعنی : أفعل.
ومن غیر الغالب ألا یکون بینهما اشتراک مطلقا إلا علی نوع جائز من التأول توضحه القرائن ؛ کقولهم : - الثلج أشد بیاضا من المسک - الصیف أحرّ من الشتاء - السکر أحلی من الملح - العسل أحلی من الخل. یریدون : أن بیاض الثلج أشد فی ذاته من سواد المسک فی ذاته - والصیف فی حرارته أشد من الشتاء فی برده - والسکّر فی حلاوته أقوی من الملح فی ملوحته - والعسل فی حلاوته أشد من الخل فی حموضته ، وهکذا ... ؛ فلیس بین کل اثنین مما سبق اشتراک فی المعنی إلا فی مطلق الزیادة المجردة ، ودرجتها الذاتیة المقصورة علی صاحبها ... ؛ فالصلة بین کل اثنین مقصورة علی هذه الزیادة المجردة ، وبینهما بعد ذلک تباین تام یختلف عن التضاد السّابق الذی یقوم بجانبه
ص: 406
نوع من الاشتراک فی أمر یتصف به الاثنان ، وإن کان هذا الأمر مخالفا معنی «أفعل».
ب - من الأسالیب الصحیحة : فلان أعقل من أن یکذب - وأمثال هذا - فهل معناه تفضیل فلان فی العقل علی الکذب؟ وهذا معنی فاسد ؛.
خیر ما یقال فی هذا وأمثاله : أن «أفعل التفضیل» یفید هنا أمرین معا ؛ هما إفادة البعد عما بعده ، وأن سبب هذه الإفادة هو المعنی اللغوی الأساسیّ المفهوم من مادة «أفعل» المعروض فی الجملة الأصلیة ، فالمراد : فلان أبعد الناس من الکذب ؛ بسبب عقله. وفی مثل : فلان أجلّ من الریاء ، وأعظم من الخیانة .. یکون المقصود : فلان أبعد الناس من الریاء ؛ بسبب جلاله ، وأبعد من الخیانة بسبب عظمته ... ومثل هذا یقال فی بیت الشاعر :
الحق أکبر من أن تستبدّ به
ید ، وإن طال فی ظلم تمادیها
فالغرض إعلان البعد عن تلک الأشیاء مع بیان سبب البعد. وأفعل التفضیل فی تلک الأسالیب ونظائرها یفید ابتعاد الفاضل من المفضول ، ولا تکون «من» تفضیلیة جارة للمفضول ، وإنما هی مع مجرورها متعلقان «بأفعل» الذی هو بمعنی : متباعد ؛ لأنها حرف الجر الذی یتعدی به الفعل «بعد» وباقی المشتقات التی من مادته ؛ ومنها هنا : «أفعل» لتضمنه معنی «أبعد» بمعنی : «بعد» فهی متعلقة به من غیر أن یدل علی تفضیل ؛ کنظیرتها فی قولنا : أنا بعید من الظالمین ، بمعنی : متباعد.
وقیل إنه مستعمل فی بعض مدلوله دون بعض ؛ فهو یدل علی زیادة البعد ، دون أن یکون هناک مفضول حقیقی ، ولا «من» الداخلة علیه ...
ومضمون الرأیین واحد (1) ...
ح - یجب تصحیح عین أفعل التفضیل إذا کانت قبل التفضیل مستحقة للإعلال ، ونحو : الأدیب أقوم لسانا ، وأبین قولا من غیره ، فیجب أن تسلم الواو والیاء.
ص: 407
د - إذا کان أفعل التفضیل المجرد (1) واجب الإفراد والتذکیر فما بال العرب تقول : مرّ بنا سرب من الظباء ، بعده أسراب أخر ؛ فیأتون بکلمة : «أخر» مجموعة ومؤنثة ؛ (إذ هی جمع ، مفرده : «أخری» ، «وأخری» مؤنث لکلمة «آخر» الذی أصله «أأخر» علی وزن : «أفعل» المذکر الدالّ علی التفضیل ؛ فهو من القسم المجرد). فلم کانت «أخر» مجموعة ومؤنثة فی المثال السالف - وأشباهه - مع أن القاعدة تقتضی الإفراد والتذکیر ، وأن یقال : أسراب «آخر» (التی أصلها : «أأخر» کما أسلفنا) (2).
أجاب النحاة : إن کلمة : «أخر» لیست مما نحن فیه ؛ لأسباب ثلاثة مجتمعة :
أولها : أنها فی استعمالاتها الصحیحة المختلفة - ومنها المثال السالف وأشباهه - لا تدل علی التفضیل ؛ (أی : لا تدل علی المشارکة والزیادة) وإنما تدل علی المغایرة المحضة ، والمخالفة المجردة من کل معنی زائد علیها ، فالکلام الذی تکون فیه یقتضی معنی المغایرة وحدها ، لا معنی المفاضلة ، أو نحوها. وهذا شأنها فی الاستعمالات الواردة ، فمعنی سرب آخر وأسراب أخر هو : سرب مغایر ، وأسراب مغایرات ، بدون تفضیل فیهما.
وثانیها : أنها - فی کلام العرب - لا یقع بعدها : «من» الجارة للمفضول ، لا لفظا ولا تقدیرا.
وثالثها : أنها - فی کلامهم الفصیح تطابق وهی نکرة (3)
ص: 408
فلهذه الأمور الثلاثة لا تکون من القسم الأول الذی یدور فیه الکلام ؛ بل إنها لیست للتفضیل مطلقا (1) - کما تقدم - ؛ وإنما هی کلمة معدولة ، (أی : محوّلة) عن کلمة : «آخر» التی أصلها «أأخر» جاءت لتؤدی معنی لیس فیه تفضیل ، ذلک أن العرب حین أرادوا استخدام کلمة : «آخر» فی معناها الأصلی - وهو المغایرة المحضة الخالیة من معنی التفضیل - عدلوا بها عن وزنها الأول ؛ بأن أدخلوا علیها شیئا من التغییر ، وحولوها إلی هذا الوزن الجدید ؛ وهو : «أخر» ، لتؤدی معنی خالیا من التفضیل لا یمکن أن تؤدیه إذا بقیت علی الصیغة الأولی. ویقول السیوطی (2) ، قولا أشبه بهذا ؛ نصه :
(کان مقتضی جعل «أخر» من باب «أفعل التفضیل» أن یلازمه فی التنکیر لفظ الإفراد والتذکیر ، وألا یؤنث ، ولا یثنی ، ولا یجمع ، إلا معرفا ، کما کان أفعل التفضیل ؛ فمنع هذا المقتضی ، وکان بذلک معدولا عما هو به أولی ؛ فلذلک منع من الصرف) (3) ...
فالذی دعا النحاة لهذا التحلیل والتعلیل هو ما رأوه من جمعها وتأنیثها مع انطباق أوصاف القسم الأول علیها - فی الظاهر - فلجئوا إلی مسألة العدول والتحویل لیتغلبوا علی هذه العقبة ویجعلوا قاعدة : «أفعل التفضیل المجرد» مطردة.
قد یکون کلامهم سائغا من الوجهة الجدلیة المحضة ، لکنه من الوجهة الحقیقیة مردود ، ذلک أن العرب لا تعرف شیئا مما قالوه ، ولم یدر بخلدها قلیل أو کثیر منه حین نطقوا بالتعبیر السابق وأشباهه. فإبعادا لهذا التکلف ومسایرة للأمر الواقع ، یحسن الأخذ ببعض مما قاله النحاة - بحق - وهو : أنها لیست للتفضیل فلا تنطبق علیها أحکامه ، أو أنها خالفت القاعدة ؛ فهی من الشاذ
ص: 409
الذی یحفظ ، ولا یقاس علیه. ولا عبرة بما عرضوه من أسباب أخری ؛ فهی أسباب ضعیفة لا تثبت علی التمحیص ، ومن السهل دفعها ؛ وقد دفعها بعض النحاة فعلا بما یرهق سرده من غیر نفع عملیّ ، فخیر لنا أن نقر الواقع ، من غیر تکلف ولا جدل زائف.
ه - ونزولا علی قاعدة الإفراد والتذکیر السالفة عاب بعض النحاة علی أبی نواس ذکر کلمتی : «صغری» و «کبری» مؤنثتین للتفضیل ، مع أنهما مجردتان فی قوله (1) :
کأنّ صغری وکبری من فقاقعها
حصباء درّ علی أرض من الذهب
والقیاس : أصغر وأکبر .. لأنهما صیغتان للتفضیل ، مجردتان ، والقاعدة تقضی بالتزام التذکیر والإفراد فی هذه الحالة ..
ومما قیل فی دفع هذا العیب : إن الشاعر لم یقصد التفصیل مطلقا ، ولا الحدیث عن شیء أصغر من شیء آخر ، أو أکبر منه ؛ وإنما قصد صغری أو کبری من حیث هی : لا باعتبار موازنتها بغیرها ؛ کمن یشاهد طفلة تحاول الرکوب فیساعدها ویقول : ساعدتها لأنها : «صغری» ، أی صغیرة ، وکمن یشاهد سیدة عجوزا ؛ فیعاونها علی النزول من السیارة ، ویقول : عاونتها لأنها کبری ؛ أی : کبیرة السنّ ؛ فلیس فی کلامه هذا ، ولا فی المقام ما یدل علی تفضیل أو موازنة بین اثنین یزید أحدهما علی الآخر فی هذا المعنی.
وإذا کان الأمر علی ما وصفنا فلیس التأنیث لحنا ، لأن «أفعل» إذا کان مجردا غیر مقصود منه التفضیل («فالأکثر فیه عدم المطابقة ؛ حملا علی أغلب أحواله ، وقد یطابق ، لعدم مجیء «من» لفظا ومعنی. واعتمادا علی هذا السبب فی المطابقة یخرّج بیت أبی نواس السالف ، ومثله قول العلماء العروضیین : «فاصلة صغری وکبری» ، خلافا لمن جعله لحنا (2)»).
ص: 410
وهذا دفع حق ، وهو خیر من القول بأن فی الکلام حذفا وزیادة یؤدیان إلی إخراج الکلمتین من هذا القسم ، وإدخالهما فی قسم آخر من أقسام «أفعل» التفضیل ؛ کقسم المضاف (1) إلی المعرفة ؛ بحیث یؤدی إلی الحکم بصحتهما ، وأن الأصل : «کأنّ» صغری فقاقعها وکبری من فقاقعها» .. فکلمة : «من» زائدة (مع أنها - فی الغالب - لا تزاد إلا بعد نفی بشرط أن یکون مجرورها نکرة) ، و «فقاقعها» الأولی محذوفة لدلالة الثانیة علیها ، ففی الکلام حذف من جهة ، وزیادة من جهة أخری ... وما أشد حاجتنا إلی إهمال مثل هذا مما لا داعی له.
وأعجب منه قولهم فی الدفاع عن الشاعر : «إن أفعل التفضیل المجرد یصح تأویله بما لا تفضیل فیه ؛ فیطابق حینئذ کما فی المضاف إلی المعرفة» ، وقد جاء هذا الکلام فی التسهیل». (2) ولا أدری : أیغیب عن أحد وجه ضرره وأثره السیئ فی اللغة؟ إذ کیف تؤدی اللغة مهامها - وما أجلّها - إذا کان من الجائز دون قید ولا شرط. تأویل اللفظ الذی یشوبه خطأ لغوی تأویلا یصلح عیبه من غیر داع معنویّ لذلک؟.
* * *
ص: 411
أن یکون أفعل التفضیل مقرونا «بأل». وهذا یوجب أمرین :
أحدهما : أن یکون مطابقا لصاحبه فی التذکیر ، وللتأنیث ، والإفراد ، وفروعه ؛ نحو : قوله تعالی : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی) - الید العلیا خیر من الید السفلی (1). الشقیقان هما الأفضلان - الشقیقتان هما الفضلیان (2) - الأشقاء هم الأفضلون ، أو الأفاضل (3) - الشقیقات هن الفضلیات ...
والآخر : عدم مجیء «من» الجارة «للمفضّل علیه» ؛ لأن «المفضّل علیه» لا یذکر فی هذا القسم (4). أما الجارة لغیره فتجیء ؛ کالتی فی قول الشاعر :
فهم الأقربون من کل خیر
وهم الأبعدون من کل ذمّ
فالجار والمجرور - فی الشطرین - لا شأن له بالتفضیل : لأنّ : «من» المذکورة هی التی تدخل علی المجرور للتعدیة (5) ، إذ : «الأقرب» و «الأبعد» یحتاجان إلی معمول مجرور «بمن» کفعلهما : «قرب وبعد» فلیست : «من» بعدهما هی التی تدخل علی المفضول ، وتجره ؛ إنما هی ومجرورها نوع آخر.
* * *
ص: 412
قال صاحب التصریح (1) : إن «أفعل التفضیل» المقترن بأل یطابق موصوفه لزوما ... ومع ذلک لا بد من ملاحظة السماع ، وأردف هذا بالنص الآتی :
(«قال أبو سعید علی بن سعید فی : کفایة المستوفی ، ما ملخصه : ولا یستغنی فی الجمع (2) والتأنیث عن السّماع ؛ فإن الأشرف والأظرف لم یقل فیهما : الأشارف والشّرفی ، والأظارف ، والظّرفی ، کما قیل ذلک فی الأفضل والأطول. وکذلک الأکرم والأمجد ، قیل فیهما : الأکارم والأماجد ، ولم یسمع فیهما : الکرمی والمجدی».) ا ه.
هذا ما قاله وما نقله صاحب «التصریح» وقد یکون من السداد إهماله ، وترک الأخذ به ؛ لما فیه من تضییق وتعسیر بغیر حق ؛ إذ یفرض علی المتکلم أن یبحث جهد طاقته عن الصیغة المسموعة ؛ فإن اهتدی إلیها بعد العناء استعملها ، وإن لم یجدها لم یستعمل القیاس مع شدة حاجته إلی استخدامه للوصول إلیها.
علی أن بذل الطاقة واحتمال العناء لا یوصلان أحیانا إلی الصیغة المسموعة ، لا لعدم وجودها ، ولکن لتعذر الاهتداء إلی مکانها ، برغم العناء المرهق المبذول فی سبیلها. وهل أدل علی هذا من أن صاحب الرأی السالف یقرر عدم ورود السماع بکلمات معینة منها : «الکرمی» ، مؤنث : «أکرم» ، وأن غیره یقرر عدم ورود کلمات أخری ، منها : «الرّذلی ، والجملی» ، (مؤنث : الأرذل والأجمل) علی حین یسجل أبو علی القالی فی الجزء الأول من کتابه : «الأمالی» (3) ما نصّه : («قال بعض بنی عقیل وبنی کلاب : هو الأکرم ، والأفضل ، والأحسن ، والأرذل ، والأنذل ، والأسفل ، والألأم. وهی : الکرمی والفضلی ، والحسنی ،
ص: 413
والرّذلی ، واللؤمی ، وهنّ الرّذل ، والنّذل واللّؤم ..)» ا ه؟. فقد سجل أنها مسموعة هی ونظائر لها. ومن تلک النظائر الأخری المسموعة : العظمی - الصغری - الکبری - الوثقی - الفضلی - القصوی - الأولی - الجلّی - الدنیا - الوسطی - الأخری - العلیا - السفلی - الکوسی (کثیرة الکیاسة) الطولی (أنثی الأطول) - الضیّقی (شدیدة الضیق) ... و ... ولکل صیغة مما سبق مقابل علی وزن «أفعل» لمذکرها. ولو حصرنا ما نقله صاحب الأمالی ، وما نقله غیره فی مواطن مختلفة ، وما رأیناه بأنفسنا فی المراجع اللغویة ... لکان من هذه الکلمات المبعثرة مجموعة کثیرة العدد ، تبیح القیاس علیها ؛ لکثرتها التی تتجاوز المائة. ولا حاجة بنا إلی تأویلها ، أو التمحل لإبعادها عن «التفضیل» وعن نوعه الذی نحن فیه ؛ فإن تأویل النحاة - کما بسطوه هنا - یقوم علی الجدل المحض الذی لا یعضده الحق.
وشیء آخر : أنه لو صح الأخذ برای المانعین وحدهم ما کان للقیاس حکمة ولا فائدة ؛ لأن القیاس مستمد من الکثیر المسموع ، وقد تحقق هذا الکثیر هنا. فکیف نمنع القیاس فی بعض الصور التی ینطبق علیها؟ وکیف نحرّم تطبیقه والانتفاع به ، زاعمین واهمین أن صیغة الکلمة ذاتها - بحروفها وتکوینها المادیّ - غیر مسموعة؟ فلم الاستنباط ، ووضع القواعد والضوابط العامة؟. وکیف یتحقق القیاس؟ ... (1)
لهذا کان مجمع اللغة العربیة» سدید الرأی حین قرر قیاسیة جمع «الأفعل» الذی للتفضیل المقرون بأل علی «الأفاعل» ، کما قرر صیاغة مؤنثه علی «الفعلی» قیاسا کذلک (2) ...
ص: 414
طالما رددنا - فی هذا الکتاب - أن الحرص علی سلامة اللغة أمر محمود ، بل مفروض ، ولکن بشرط ألا یکون بوسائل تعوق الانتفاع بها ، وتزهد فیها ، من غیر فائدة ترجی ، ولا ضرر یدفع.
نعم قد یقع جرس هذه الصیغ الجدیدة القیاسیة غریبا أول الأمر علی الأسماع ؛ کتلک الصیغ التی نقلها صاحب الأمالی عن بنی عقیل ، وبنی کلاب ولکن لا یصح أن تحول غرابة الجرس بین الکلمة والانتفاع الضروریّ بها ، فما أکثر الکلمات اللغویة الغریبة فی جرسها علی الأسماع ، وقد تکون غریبة عند قوم مقبولة عند آخرین. علی أن تداول الکلمة الغریبة کفیل بصقلها وإزالة غرابتها ، ولکن یطول الزمن علی تداولها ، فما أسرع دورانها وشهرتها ، بسبب الحاجة إلی استخدامها ، وتردید الألسنة لها ...
ص: 415
أن یکون مضافا (1) ، ویشترط فی هذا القسم شرطان عامّان لا بد منهما فی «أفعل التفضیل» المضاف مطلقا (أی : سواء أکانت إضافته للمعرفة أم للنکرة).
أحدهما : ألّا یقع بعد أفعل التفضیل «من» الجارة للمفضول ، فلابد أن یخلو الکلام منها ومن مجرورها ؛ فلا یصح : محمود أفضل الطیارین من حامد. أما الجارة لغیره فتوجد : نحو : أبی أقرب الناس منی.
ثانیهما : أن یکون المضاف بعضا (2) من المضاف إلیه ، بشرط إرادة التفضیل وبقاء معناه (3) ووجوده ؛ فلا یصح : الطیار أفضل امرأة.
فمتی تحقق الشرطان العامّان ، وکانت إضافته لنکرة ، وجب حکمان :
أولهما : إفراده وتذکیره - کالمجرد (4) -.
والآخر : مطابقة المضاف إلیه لصاحب (5) أفعل التفضیل ، (أی : للموصوف (6) الذی یتجه إلیه معنی : «أفعل» ویتصف به). فی التذکیر. والتأنیث ، وفی الإفراد وفروعه ، وفی جنسه أیضا ..
ص: 416
ومن أمثلته قول المتنبی :
وأحسن وجه فی الوری وجه محسن
وأیمن کفّ فیهمو کفّ منعم
وتقول : هذان الوجهان أحسن وجهین .. وهاتان الکفان أیمن کفّین - وجوه الشرفاء أحسن وجوه ، وأکفّهم أیمن أکفّ (1).
فالأمور التی یجب اجتماعها کاملة عند إضافته للنکرة (2) - أربعة ؛ هی :
1- امتناع «من» الجارة للمفضول.
2- کون المضاف بعض المضاف إلیه عند إرادة التفضیل.
3- إفراد «أفعل» وتذکیره.
4- مطابقة المضاف إلیه لصاحب «أفعل» فی الجنس ، وفی الإفراد والتذکیر وفروعهما.
ص: 417
وإن کانت إضافته لمعرفة وجب تحقیق الشرطین العامین المشار إلیهما آنفا. وتجوز فیه بعد ذلک من ناحیة التذکیر والإفراد وفروعهما - المطابقة وعدمها ، بشرط أن یکون الغرض من «أفعل التفضیل» باقیا - وقد شرحنا هذا الغرض - ولکن ترک المطابقة فی التثنیة والجمع هو الأکثر ، إذ الأفصح أن یکون مفردا مذکرا فی جمیع استعمالاته. فمثال المطابقة : عمر أعدل الأمراء - العمران (1) أعدلا الأمراء - الخلفاء الراشدون أعدلو الأمراء - فاطمة فضلی الزمیلات - الفاطمتان فضلیا الزمیلات - الفاطمات فضلیات الزمیلات ...
ومثال عدم المطابقة : عمر أعدل الأمراء - العمران أعدل الأمراء - الخلفاء الراشدون أعدل الأمراء ... فاطمة فضلی الزمیلات - الفاطمتان فضلی الزمیلات - الفاطمات فضلی الزمیلات ...
أما إن کان الغرض الأصلی هو عدم المفاضلة مطلقا (2) أو : کان الغرض هو بیان المفاضلة المجردة (3) فتجب المطابقة للموصوف فی الصورتین (4) فی الإفراد والتذکیر وفروعهما ، مع جواز أن یکون أفعل التفضیل المضاف بعضا من المضاف إلیه ، أو غیر بعض. فمثال مالا یراد منه المفاضلة مطلقا قول أحد الرحالین یصف الأقزام فی المناطق الشمالیة :
(" ... رأیت أهلها صغار الأجسام ، قصارا ، لا یکاد أحدهم یزید علی خمسة أشبار ، ولیس لهم حکومة ، ولکن عندهم قاض واحد یرجعون إلیه ، ویحترمون رأیه. وقد قابلته مرة فقال لی المترجم : هذا أفضل القضاة عندنا ، وأوسع الرجال خبرة قضائیة فی بلدنا ، وأرجحهم عقلا ...) ". فالمراد : فاضل - واسع - راجح ...
ص: 418
ولا یراد التفضیل : إذ لا وجود لقاض آخر یکون هو المفضول ...
وفی غیر المفرد نقول : هذان أفضلا القضاة - هؤلاء أفضلو القضاة. أو : أفاضلهم ... هذه فضلی القاضیات - هاتان فضلیا القاضیات - هؤلاء فضلیات القاضیات - ... بالمطابقة فی کل ذلک. ومثلها عند إرادة المفاضلة المطلقة ؛ نحو : الحق أحقّ الأقوال بالاتباع. والدین أولی الأصول بالتمسک به. فلیس المراد فی هذا المثال وأشباهه المفاضلة بین الأقوال بعضها وبعض ، أو بینها وبین الأفعال ، ولا بین الحق والباطل ، وأن کلا منهما جدیر بالاتباع ، ولکن الحق أجدر ، ولا بین أصول الدین والکفر وفروعهما ، وأن کلا منها یستحق التمسّک به ولکن الدین أولی ... لیس هذا هو المراد ، وإلا فسد الغرض ، وإنما المراد أن الحق فی ذاته ، والدین فی ذاته ، من غیر نظر لشیء آخر غیرهما - هما الأحقّان والأولیان.
ومثل هذا یقال : الوالد أحسن الناس منزلة - الوالدان أحسنا الناس منزلة - الوالدون أحاسن الناس منزلة ، أو : أحسنو الناس منزلة - الوالدة حسنی النساء منزلة - الوالدتان حسنیا النساء منزلة - الوالدات حسنیات النساء منزلة (1) ...
ص: 419
لا یضاف «أفعل» الدال علی التفضیل إلا إذا کان بعضا من المضاف إلیه المفضول (کما سبق) (1). وهذه «البعضیة» تتحقق بإحدی صورتین :
1- أن یکون «أفعل» جزءا (2) والمضاف إلیه کلّا ، نحو : الرأس أنفع الجسم - والمخ أعظم الرأس ...
2- أن یکون «أفعل» فردا من بین أفراد کثیرة یشملها المضاف إلیه. ولابد فی هذه الصورة أن یکون المضاف إلیه جنسا یندرج تحته أفراد متعددة ، منها المضاف ؛ نحو : الهرم المدرج أقدم الأهرام (3) - أبو الهول أجمل التماثیل. یکاد النیل یکون أکبر الأنهار العالمیة - أضرّ التّرکات ما کان مالا لا علم معه ، ولا خلق.
وأحبّ أوطان البلاد إلی الفتی
أرض ینال بها کریم المطلب
فکل من : (الأهرام - التماثیل - الأنهار - التّرکات - أوطان البلاد ..) جنس یشمل أفرادا کثیرة.
ولیس من اللازم لتحقیق «البعضیة» أن یکون المضاف إلیه معرفة ؛ فقد یکون نکرة ، نحو : الهرم المدرّج أقدم هرم - أبو الهول أجمل تمثال - القلب أعظم عضو. وإذا کان المضاف إلیه مفردا نکرة - کهذه الأمثلة - کان معناه معنی الجمع ، ومنزلته منزلة الجنس متعدد الأفراد ، فیتحقق الشرط الأساسی السالف الذی یقتضی أن یکون «أفعل» بعضا من المضاف إلیه ، أی : أنه بمنزلة قولک : الهرم المدرج أقدم الأهرام هرما هرما - أبو الهول أجمل التماثیل واحدا واحدا - القلب أعظم الأعضاء عضوا عضوا. فالمراد بالمضاف إلیه المفرد النکرة إنما هو جنسها ؛ ولهذا قطعوا بأن المراد من : فلان أفضل رجل هو أنه أفضل الناس إذا عدوّا رجلا رجلا. أی : أفضل من کل رجل (4) ...
ص: 421
ویقول الصبان عند الکلام علی إضافة «أفعل» للنکرة ما نصه :
(زید أفضل رجل ، أصله : زید أفضل من کل رجل ؛ فحذف : «من کل» اختصارا ، وأضیف : «أفعل» إلی : «رجل». وجاز کونه مفردا مع کون «أفعل» بعض ما یضاف إلیه - فالأصل أن یکون جمعا - لفهم المعنی ، وعدم التباس المراد. ووجب تنکیره ؛ لأن القاعدة أن کل مفرد وقع موقع الجمع لا یکون إلا نکرة ؛ فإن جئت بأل رجعت إلی الجمع ، وإن جمعت أدخلت «أل») ... ا ه.
ثم انتقل إلی مسألة هامة ؛ هی العطف علی «أفعل» فقال ما نصه» :
«إن عطفت علی المضاف إلی النکرة مضافا آخر إلی ضمیرها قلت : هذا أفضل رجل وأعقله ، وهذه أکرم امرأة وأعقله ، بتذکیر الضمیر وإفراده فی المفرد وضده ، والمذکر وضده ؛ علی التوهم ؛ کأنک قلته من أول الکلام (1). فإن أضفت «أفعل» إلی معرفة ثنیت ، وجمعت ، وأنثت ؛ وهو القیاس. وأجاز سیبویه الإفراد تمسکا بقوله :
ومیّة أحسن الثّقلین جیدا
وسالفة وأحسنه قذالا (2)
أی : أحسن من ذکر (3) ... وظاهره وجوب تذکیر الضمیر وإفراده فی نحو : هذه أکرم امرأة وأعقله ، وهذان أکرم رجلین وأعقله .. وهکذا ..) ا ه.
ثم قال بعد هذا مباشرة : «والوجه عندی جواز المطابقة إن لم تکن واجبة ، أو أولی» ا ه. قال یاسین فی حاشیته علی التصریح تعلیقا علی رأی سیبویه : «وحاصله : أن إفراد الضمیر مع عوده علی غیر مفرد إنما هو علی تأویله باسم الموصول. وعلیه یتخرج ما یقع فی عبارات المصنفین» ا ه.
ورأی الصبان أقرب إلی السّداد ؛ لموافقته القواعد العامة الخاصة بالمطابقة ،
ص: 422
وبعده عن اللبس ، ولأن الآراء الأخری لم تدعمها النصوص المتعددة التی تکفی لتأییدها فیما اطلعنا علیه من مراجع.
ویتصل بتلک المسألة الهامة أمر آخر هو حکم أفعل التفضیل المعطوف فی الصورة السالفة - من ناحیة ضبطه ، والأوجه الإعرابیة الجائزة فیه ، وقد سبق بیان بعض الصور(1).
ومما یجب التنبه له أن هذه البعضیة لا تکون حتمیة إلا إذا کان «أفعل» باقیا علی دلالة التفضیل الخاص - کما قدمنا (2) - وعندئذ یکون المضاف إلیه هو : «المفضول» ویتعین أن یکون «أفعل». بعضا منه. أما إذا لم تکن الدلالة علی التفضیل باقیة ، أو کانت عامة یقصد منها الزیادة علی المضاف إلیه وعلی غیره فإن المضاف إلیه لا یکون مفضولا ، ولا یشترط فی المضاف حینئذ أن یکون بعضا منه ؛ فقد یکون بعضا أو لا یکون ؛ ومثال ما لیس بعضا : «یوسف أفضل إخوته». ترید : أنه فاضل فیهم ، ولا ترید التفضیل ، ولا أنه یزید علیهم فی الفضل (3). قال شارح المفصل ما نصه (4) :
(" ... قد علم أن «أفعل» إنما یضاف إلی ما هو بعضه ، فلیعلم أنه لا یجوز أن تقول : «یوسف أحسن إخوته» ، وذلک أنک إذا أضفت الإخوة إلی ضمیره خرج من جملتهم ، وإذا کان خارجا منهم صار غیرهم ، وإذا صار غیرهم لم یجز أن نقول : «یوسف أحسن إخوته» کما لا یجوز أن تقول : «الیاقوت أفضل الزجاج» ؛ لأنه لیس من الزجاج. فحینئذ یلزم من المسألة أحد أمرین کل واحد منهما ممتنع ؛ أحدهما : ما ذکرناه من إضافة «أفعل» إلی غیره ، إذ إخوة زید غیر زید. والثانی : إضافة الشیء إلی نفسه ؛ وذلک أنا إذا قلنا إن زیدا من جملة الإخوة - نظرا إلی مقتضی إضافة «أفعل» - ثم أضفت الإخوة إلی ضمیر زید ، وهو من جملتهم - کنت قد أضفته إلی نفسه ؛ بإضافتک إیاه ؛ إلی ضمیره
ص: 423
وذلک فاسد (1) ، فأما علی النوع الثانی (2) وهو أن یکون «أفعل» فیه للذات بمعنی : «فاعل» فإنه یجوز أن تقول : «یوسف أحسن إخوته» ولا یمتنع فیه کامتناعه من القسم الأول ؛ إذ المراد أنه فاضل فیهم ؛ لأنه لا یلزم فی هذا النوع أن یکون «أفعل» بعض ما أضیف إلیه. وعلیه جاء قولهم لنصیب الشاعر : «أنت أشعر أهل جلدتک» لأن أهل جلدته غیره ، وإذا کانوا غیره لم تسغ إضافة «أفعل» - إلیهم ؛ لما ذکرته ، ویجوز علی الوجه الثانی ؛ لأنه بمعنی الشاعر فیهم ، أو : شاعرهم ..) " ا ه.
* * *
ص: 424
وفیما یلی بیان الأقسام السالفة ، وملخص أحکامها :
القسم
حکم : «أفعل»
وما یتصل به.
الأول: المحرج من «أل» والإضافة
1- إفراده وتذکیره
2- وجوب دخول «من» جارة للمفضول.
3- جواز حذف «من» مع مجرورها ، بشرط وجود دلیل یدل
علیهما بعد الحذف.
4- وجوب تقدیمها فی صورتین.
5- عدم الفصل بینهما وبین «أفعل» إلا ببعض أشیاء
معدودة ، هی : (معمول «أفعل») ، أو : («لو») مع ما دخلت علیه ، أو : (النداء).
الثانی :
المقترن «بأل»
1- وجوب مطابقته.
2- عدم مجی ء «من» والمفضول معا. ولا مانع من مجیء
«من» التی للتعدیة.
الثالث :
المضاف
1- عدم إدخال «من» علی المفضول.
2- أن یکون المضضاف بعض المضاف إلیه إن کانت
المفاضلة باقیة علی حقیقتها.
3- وجوب إفراد «أفراد «أفعل» وتذکیره إن کان
مضافاً لنکرة ، وأن تکون هذه النکرة من جنس (1) موصوفة - (أی
: من جنس صاحب أفعل التفضیل) -. فی الإفراد والتذکیر ، وفروعهما. فإن کانت
إضافته لمعرفة من دلالته علی التفضیل کان الحکم کما یأتی :
1- وجوب المطابقة تحقق الشرطین السالفین (1 و2).
2- جواز المطابقة وعدمها فی التذکیر والإفراد ، وفروعهما.
لکن الأفصح التزام الإفراد والتذکیر فی کل حالاته.
3- وجوب المطابقة فی الإفراد والتذکیر وفروعهما إن
کانت المفاضلة مجردة (2). او لم تقصد
المفاضلة مطلقاً. وجواز تطابق المضاف إلیه والموصوف فی الجنس وعدم تطابقهما.
ص: 425
من هذا الملخص وما سبقه یتبین ما یأتی فیما یختص «بأفعل».
(1) وجوب إفراده وتذکیره إن کان مجردا ، أو مضافا لنکرة.
(2) جواز مطابقته وعدمها فی الإفراد وفروعه والتذکیر والتأنیث إن کان مضافا لمعرفة ، والمفاضلة باقیة. لکن التزام الإفراد والتذکیر أفصح. وتجب البعضیة فی هذه الصورة.
(3) وجوب مطابقته فی باقی الأحوال. أی : حین یقترن «بأل» ، أو یضاف لمعرفة والمفاضلة الحقیقیة الخاصة غیر قائمة. وفی هذه الإضافة الخالیة من المفاضلة یجوز أن یکون بعضا من المضاف إلیه ، وغیر بعض.
* * *
ص: 426
«أفعل» التفضیل أحد المشتقات التی یصح أن یتعلق بها شبه الجملة ، والتی یصح أن تعمل ؛ فیکون معمولها مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا.
فمثال تعلق شبه الجملة به ما قاله أحد الوصافین فی الإمام علیّ : «سمعته قبیل المعرکة یخطب فی جنوده ، فکان أفصح فی القول لسانا ، وأعلی فی الکلام بیانا ، ورأیته یخوض الوغی ؛ فکان أجرأ عند الإقدام قلبا ، وأقوی لدی شدّاتها عزما» ... ؛ فالجار والمجرور : (فی القول) ، متعلقان بأفصح. والجار والمجرور : (فی الکلام) ، متعلقان بأعلی. والظرف : «عند» متعلق : «بأجرأ». والظرف : «لدی» متعلق : «بأقوی».
أما عمله الرفع أو النصب أو الجرّ ، ففیه البیان التالی :
1- یرفع الضمیر المستتر باتفاق ، نحو : العظیم أنبل نفسا ، وأشرف قصدا ، وأکثر تعلقا بجلائل الأمور ، ففی کل من «أنبل» و «أشرف» ، و «أکثر» ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : «هو» ، یعود علی : العظیم.
2- ویرفع الضمیر البارز أحیانا - وهذا قیاسی - نحو : مررت بزمیل أفضل منه أنت ، بجر کلمة : «أفضل» (1) ، علی اعتبارها نعتا لزمیل ، و «منه» : جار ومجرور متعلق بأفضل. و «أنت» : فاعل (2) أفعل التفضیل.
3- وقد یرفع الاسم الظاهر - قیاسا - إذا صح أن یحل محل «أفعل» التفضیل فعل بمعناه من غیر فساد فی المعنی أو فی ترکیب الأسلوب. فإن لم یصح کان رفعه الظاهر نادرا لا یحسن القیاس علیه.
ص: 427
وقد وضعوا للحالة الأولی ضابطا مطّردا ، هو : أن یکون «أفعل التفضیل» - فی الأغلب - نعتا والمنعوت اسم جنس ، قبله نفی أو شبهه (1). وأن یکون الاسم الظاهر المرفوع بأفعل التفضیل أجنبیا (2) منه ، ومفضّلا علی نفسه ومفضولا أیضا - باعتبارین مختلفین - نحو : ما رأیت رجلا أکمل فی وجهه الإشراق منه (3) فی وجه العابد الصادق. فکلمة : «أکمل» أفعل تفضیل ، نعت. والمنعوت قبلها اسم جنس منفیّ فی جملته ، وهو : «رجل» - و «الإشراق» فاعل لأفعل التفضیل ، وهذا الفاعل مفضّل ومفضول معا ؛ فهو مفضّل باعتباره فی وجه العابد ، ومفضول باعتباره فی وجه غیر وجه العابد. وهذا معنی قولهم : مفضل علی نفسه ومفضول باعتبارین. وقد تحقق الضابط فی المثال السالف ؛ ومن ثمّ رفع أفعل التفضیل الاسم الظاهر. ومن الأمثلة : ما شاهدت عیونا أجمل فیها الحور منه فی عیون الظباء ... فأفعل التفضیل هو : «أجمل» ، ومنعوته : «عیونا» اسم جنس منفی فی جملته ، وفاعله الظاهر هو : «الحور» ، ولهذا الفاعل اعتباران ، فهو مفضّل إن کان فی عیون الظباء ، ومفضول إن کان فی عیون غیرها. فقد تحقق فی هذه الصورة الضابط الخاص کما تحقق فی سالفتها.
وفی الصورتین یمکن أن یحل محل «أفعل» فعل بمعناه من غیر أن یترتب علی هذا فساد ، نحو : ما رأیت رجلا یکمل فی وجهه الإشراق ... وما شاهدت عیونا یجمل فیها الحور ...
فإن لم یصلح أن یحل هذا الفعل محله لم یرفع اسما ظاهرا ، إلا نادرا لا یقاس علیه ، - کما سبق - وإنما یرفع ضمیرا مستترا وجوبا ؛ نحو : المشی أنفع من السباحة ، ففی «أنفع» ضمیر مستتر وجوبا یعود علی المشی ، ولا یجوز فی الرأی الراجح أن یرفع اسما ظاهرا ؛ لأنه لا یصح أن یحل محله فعل بمعناه ؛ کما لا یصح أن یقال - فی الرأی الراجح أیضا - استمعت إلی فتی أعلم منه أبوه برفع کلمة «أبوه» علی أنها فاعل لأفعل التفضیل (4) : «أعلم» إلا علی لغة ضعیفة مرجوحة.
ص: 428
ومن الأمثلة التی یرفع فیها الظاهر وینطبق علیها الضابط : (ما سمعت ببلاد أکثر فیها الثّراء المدفون منه فی البلاد العربیة). ومنها مثالهم المردّد منذ عهود بعیدة حتی سمّوا مسألة الرفع باسمه ، وهو : (ما رأیت رجلا أحسن فی عینه الکحل منه فی عین فلان) ... ویرمزون لکل ما سبق بقولهم : (إن أفعل التفضیل لا یرفع الظاهر إلا فی مسألة : «الکحل»). یریدون المثال السالف المشتمل علی کلمة : «الکحل» وغیره مما یشابهه من الأمثلة التی ینطبق علیها الضابط العام کما ینطبق علی مثال الکحل (1) ...
ص: 429
ا - من أمثلة النهی : لا تخالف شریفا أحبّ إلیه الخیر منه إلیک. ومن الاستفهام الذی بمعنی النفی : هل امرأة أحق بها الحمد منه بالأمّ؟.
ب - من کل الأمثلة السالفة یتبین أیضا أن الاسم الظاهر الذی هو فاعل لأفعل التفضیل یقع بین ضمیرین ؛ أولهما : یعود للمنعوت. وثانیهما : یعود للفاعل الظاهر.
ویجوز حذف أولهما فقط ، أو ثانیهما فقط ، أو : هما معا. فیجوز حذف الأول العائد علی الموصوف - إن دل دلیل علی حذفه (1) ؛ مثل ما رأیت رجلا أکمل - ... الإشراق منه فی وجه العابد - ما شاهدت عیونا أجمل ... الحور منه فی عیون الظباء. والتقدیر : أکمل فی وجهه الإشراق ... - وعیونا أجمل فیها الحور ... والمحذوف هنا ملحوظ کأنه مذکور (2).
ومن الأمثلة الدقیقة الواردة عن القدماء : ما رأیت قوما أشبه بعض ببعض منه فی قومک. التقدیر : ما رأیت قوما أبین فیهم شبه بعض ببعض منه فی قومک.
ویجوز حذف الضمیر الثانی العائد علی فاعل اسم التفضیل بشرط أن تدخل «من» الجارة علی واحد مما یأتی :
1- إما علی اسم ظاهر مماثل للفاعل فی لفظه ومعناه ، فنقول : ما رأیت رجلا أکمل فی وجهه الإشراق من إشراق وجه العابد - ما شاهدت عیونا أجمل فیها الحور من حور عیون الظباء. والأصل ؛ ما رأیت رجلا أکمل فی وجهه الإشراق منه فی وجه العابد وما شاهدت عیونا أجمل فیها الحور منه فی عیون الظباء.
2- وإما علی المحلّ - أی : المکان - الذی یقوم به الفاعل ؛ ویحل فیه ، کالوجه فی المثال السابق ؛ فإنه المحل الذی یقوم به الإشراق ، ویحل فیه. وکالعیون ؛ فإنها محل الحور ومکانه ... و ... تقول ما رأیت رجلا أکمل فی وجهه الإشراق
ص: 430
من وجه العابد - ما شاهدت عیونا أجمل فیها الحور من عیون الظباء ... و ... ففی هذه الصورة حذف مضاف واحد ؛ إذ الأصل : من إشراق وجه العابد - ومن حور عیون الظباء.
3- وإما : علی صاحب ذلک المحل الذی یقوم به الفاعل ، ویحل فیه. (أی : علی شیء کلی له أجزاء متعددة ، منها المحل الذی یحل فیه الفاعل) کالوجه فی المثال الأول ، والظباء فی المثال الثانی ... و ... تقول ما رأیت رجلا أکمل فی وجهه الإشراق من العابد - ما شاهدت عیونا أجمل فیها الحور من الظباء. وفی هذه الصورة حذف مضافان ؛ إذ الأصل ؛ من إشراق وجه العابد ... - ومن حور عیون الظباء.
ویجوز حذف الضمیرین معا إذا حذف من الجملة کل ما یجیء بعد الفاعل الظاهر ؛ فلا یذکر بعده شیء منها. وهذا بشرط أن یتقدم المفضّل نفسه علی «أفعل» التفضیل ؛ فیستغنی «أفعل» بفاعله عما یکون بعده ؛ نحو : ما شیء کالغزال أحسن به الحور (1). أو یتقدم محل المفضل علی «أفعل» ؛ نحو : ما شیء کعین الغزال أحسن بها الحور.
وربما دخلت «من» فی اللفظ علی المفضّل (لا المفضول) ، نحو : ما أحد أحسن به الصبر من المتعلم.
وحبذا التخفف من استعمال هذه الأسالیب الأخیرة ، بل ترکها قدر الاستطاعة.
* * *
ص: 431
ینصب أفعل التفضیل المفعول لأجله ، والظرف ، والحال (1) ، ... وبقیة المنصوبات ؛ فتکون معمولة له ، إلا المفعول به ، والمفعول المطلق ، والمفعول معه. أما التمییز الذی هو فاعل فی المعنی فیصح أن یکون منصوبا بأفعل التفضیل نحو : المتعلم أکثر إفادة وأعظم نفعا. فإن لم یکن فاعلا فی المعنی وکان «أفعل» التفضیل مضافا صح أن ینصبه ، نحو : المتنبی أوفر الشعراء حکمة (وقد سبق ضابط کلّ (2)).
* * *
یعمل الجر فی المفضول إذا کان مضافا إلیه ، نکرة کان أم معرفة. نحو : الجندی أسرع رجل للدفاع عن وطنه - القائد أقدر الجنود علی إدارة رحی الحرب ...
* * *
ا - إذا کان أفعل التفضیل (3) من مصدر فعل متعد بنفسه ، دال علی الحبّ أو البغض أو ما بمعناهما. کانت تعدیته باللام بشرط أن یکون مجرورها مفعولا به فی المعنی (4) ، وما قبل : «أفعل» هو الفاعل المعنوی ؛ نحو : الشرقیّ أحبّ للدین من الغربی ، وأبغض للخروج علی أحکامه. إذ التقدیر : یحب الشرقیّ الدین ، ویبغض الخروج علی أحکامه.
وتجیء «إلی» بدل اللام إن کان المجرور هو الفاعل المعنوی وما قبل «أفعل»
ص: 432
هو المفعول المعنوی ؛ نحو : المال أحب إلی الشحیح من متع الحیاة. والتقدیر : یحب الشحیح المال أکثر من متع الحیاة (1) ...
ب - وإن کان فعله متعدیا بنفسه ، دالّا علی : «علم» کانت تعدیته بالباء ؛ نحو : صدیقی أعلم بی ، وأنا أعرف به وأدری بأحواله. فإن کان دالا علی معنی آخر کانت تعدیته باللام ، نحو : الحر أطلب للثأر وأدفع للإهانة ، إلا إن کان الفعل یتعدی بحرف جر معیّن فإن «أفعل» یتعدی به کذلک ، نحو : کان أبو بکر أزهد الناس فی الدنیا ، وأبعدهم من التعلق بها : وأشفقهم علی الرعیة ، وأنحاهم عن الظلم ، وأذلهم لنفسه فی طاعة ربه. وقول الشاعر :
أجدر الناس بحبّ صادق
باذل المعروف من غیر ثمن
ومثل البیت الذی سبق لمناسبة أخری (2) وهو :
لولا العقول لکان أدنی (3)
ضیغم
أدنی (4) إلی شرف من
الإنسان
وإن کان فعله متعدیا لاثنین عدّی لأحدهما باللام ونصب الآخر مفعولا به ؛ لعامل محذوف یفسره المذکور ؛ (لأن «أفعل» التفضیل لا ینصب المفعول به کما سبق). نحو : فلان أکسی للفقراء الثیاب. التقدیر : أکسی للفقراء بکسوهم الثیاب (5).
ص: 433
ص: 435
ص: 436
أشرق النور فی العوالم لمّا
بشّرتها بأحمد الأنباء
الیتیم ، الأمّیّ ، والبشر المو
حی إلیه العلوم والأسماء
أشرف المرسلین ، آیته النط
ق مبینا ، وقومه الفصحاء
ونحو : فتح مصر عمرو بن العاص ، الصائب رأیه ، المحکم تدبیره ....
فالکلمات التی تحتها خط (فیما سبق) نعوت توضح منعوتها المعرفة.
2- التخصیص (1) إن کان المتبوع نکرة ؛ کقول الشاعر :
بنیّ ، إن البرّ شیء هیّن
وجه طلیق ، وکلام لیّن
ونحو : کم من کلمة خفیف وزنها ، أودت بجماعة وفیر عددها!!.
ص: 438
3- مجرد المدح (1) ؛ کقولهم : من أراد من الملوک والولاة ، أن یسعد أمته ، ویقوی دولته - فلیسلک مسالک الخلیفة العادل عمر بن الخطاب.
ونحو : رضی الله عن هذا الخلیفة الشامل عدله ، الرحیم قلبه ...
4- مجرد الذم (2) ؛ کقولهم : من أراد من الولاة أن یملأ النفوس حنقا ، والقلوب بغضا - فلینهج نهج والی الأمویین الحجّاج بن یوسف ، الطاغیة.
ونحو : کان الحجاج الوالی القاسی قلبه ، الطائش سیفه ، الجامح هواه ...
5- الترحّم (3) ؛ نحو : ما ذنب البائس الجریح قلبه یقسو علیه الزّنیم (4) ، والطائر المهیض (5) جناحه یعذبه الشرّیر؟ ...
6- التوکید ؛ نحو : کان خالد بن الولید یضرب خصمه الضّربة (6) الواحدة (7) فتقضی علیه.
ونحو : أعجبت بخالد الواحدة (8) ضربته ، الفریدة (9) طعنته (10) ...
ص: 439
7- وقد یتمم النعت الفائدة الأساسیة بالاشتراک مع الخبر. مع أن الأصل فی الخبر (1) أن یتمم هذه الفائدة وحده. لکنه فی بعض الأحیان لا یتممها إلا بمساعدة لفظ آخر کالنعت ؛ کقوله تعالی یخاطب المعارضین : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ...) ، أی : ظالمون. وقوله تعالی : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ...)(2) وقول الشاعر :
ونحن أناس لا توسّط عندنا
لنا الصدر دون العالمین أو القبر
وقول الآخر :
ونحن أناس نحبّ الحدیث
ونکره ما یوجب المأثما
إذ لا تتحقق الفائدة بأن یقال : أنتم قوم - نحن أناس ... ؛ لأن هذا معلوم
ص: 440
بداهة من القرائن العامّة المحیطة بالمتکلم (1) ...
* * *
، وحکم کل قسم :
1- ینقسم النعت باعتبار معناه إلی : نعت حقیقی ، وإلی نعت سببیّ (2).
ا - فالحقیقیّ هو : ما یدل علی معنی فی نفس منعوته
الأصلی (3) ، أو فیما هو بمنزلته وحکمه المعنوی.
وعلامته : أن یشتمل علی ضمیر مستتر - أصالة ، أو تحویلا - یعود علی ذلک المنعوت.
ولبیان هذا نسوق الأمثلة التالیة :
یقول بعض الشعراء فی وصف نوع من حکم الملوک إنه :
نکد خالد ، وبؤس مقیم
وشقاء یجدّ منه شقاء
فکلمة : «خالد» نعت حقیقی ، منعوته الأصلی هو : «نکد». وهذا النعت یؤدی معناه فی نفس منعوته الأصلی مباشرة ، ویشتمل علی ضمیر مستتر یعود إلیه. وکلمة : «مقیم» نعت حقیقی ، ومنعوته الأصلی هو : بؤس» وهذا النعت یؤدی معناه فی نفس منعوته الأصلی مباشرة ، ویشتمل علی ضمیر مستتر یعود إلیه ...
ص: 441
وتقول : استمعت إلی خطیب فصیح اللسان ، عذب البیان ، قویّ الحجة. أو : استمعت إلی خطیب فصیح لسانا ، عذب بیانا ، قویّ حجة.
فکلمة : «فصیح» نعت حقیقی ، والمنعوت هو : خطیب ، ولیس منعوتا أصلیّا ؛ ولکنه بمنزلة الأصلی وفی حکمه ، لأن الجملة کانت فی أساسها الأول : استمعت إلی خطیب فصیح لسانه (1) ... فالفصیح هو اللسان لا الخطیب. لکن جری علی الجملة تغییر اقتضی أن یترک الضمیر البارز مکانه ، وینتقل إلی النعت ، ویستتر فیه ، ویصیر مسندا إلیه (2) ، فاعلا ، ویعرب الاسم الظاهر بعد النعت مضافا إلیه مجرورا ، ویصحّ أن یعرب تمییزا منصوبا ، إن کان نکرة. أو منصوبا علی التشبیه بالمفعول به إن کان نکرة أو معرفة. وصارت کلمة : «فصیح» - وهی النعت - مشتملة علی ضمیر مستتر محوّل (3) ، إلیها من مکان آخر ، وبسبب انتقال هذا الضمیر إلی مکانه الجدید صار النعت یدل علی معنی فی المنعوت بعد أن کان یدل علی معنی فی شیء آخر له صلة بالمنعوت. فالمنعوت فی الحالة الجدیدة صار منعوتا بعد تحویل وإسناد جدیدین ، حین تمّا اتجه المعنی إلیه ، مع أنه لیس المقصود فی الحقیقة بالنعت. لکن الصلة بین هذا النعت والاسم الظاهر بعده قویة ، ومن أجلها کان النعت بمنزلة الاسم الظاهر ، وفی حکمه المعنوی. ومثل هذا یقال : فی عذب البیان ، وقوی الحجة ...
* * *
ص: 442
الأغلب مطابقته للمنعوت (1) وجوبا فی : التذکیر والتأنیث ، وفی التعریف والتنکیر ، وفی الإفراد وفروعه ، وفی حرکات الإعراب الثلاث. نحو : هذا خطیب فصیح - هذان خطیبان فصیحان - هؤلاء خطباء فصحاء - هذه خطیبة فصیحة - هاتان خطیبتان فصیحتان ... هؤلاء خطیبات فصیحات ... وکذا الباقی.
وبناء علی هذا الأغلب لا بد أن یطابق النعت الحقیقی منعوته فی أربعة (2) أمور تجتمع فیه من العشرة السالفة (3) ، وأن یکون رافعا ضمیر الموصوف ، أصالة أو تحویلا. بالطریقة التی شرحناها.
* * *
ص: 443
ا - قد یکون المنعوت کنیة. وقد أوضحنا - فیما تقدم (1) - أن ترکیبها إضافی ولکنها معدودة من قسم العلم الذی معناه إفرادیّ ؛ فکل واحد من جزأیها لا یدل بمفرده علی معنی یتصل بالعلمیة. فإذا وقع بعدها تابع - کالنعت فی قولنا : جاء أبو علیّ الشجاع - فإن النعت وهو هنا کلمة : «الشجاع» یعتبر فی المعنی نعتا للاثنین معا ؛ (أی : للمضاف والمضاف إلیه). ولا یصح أن یکون نعتا لأحدهما دون الثانی ، وإلا فسد المعنی. لکنه یتبع فی الإعراب المضاف وحده ؛ فلفظه تابع فی حرکة إعرابه للمضاف ، وأما معناه فواقع علی المضاف والمضاف إلیه (2) معا. وهذا الحکم یسری علی النعت بنوعیه ؛ الحقیقی والسببی - وستجیء له إشارة فی السببی ، فی رقم 2 من هامش ص 452.
وکذلک یسری علی العطف ؛ (طبقا لما سیجیء فی بابه ، رقم 9 من ص 661).
وعلی التوکید (کما فی ب ص 507).
وعلی البدل (کما فی رقم 3 من هامش ص 666) ..
ب - هناک منعوتات معارف تقتضی أن یکون نعتها معرفة أیضا ، ولکن من نوع معین من المعارف لا یصلح لها غیره ، مثل کلمة : «أیّ ، وأیّة» عند ندائهما ؛ فإنهما یتعرفان بالنداء ، ولا یوصفان إلا باسم معرف «بأل» أو باسم موصول ، أو باسم إشارة مجرد من کاف الخطاب ؛ نحو : یأیها الوفیّ ما أنبلک - یأیتها التی أحسنت ... - یأیهذا الوفیّ ... ومثل اسم الإشارة ، فإنه لا یوصف مطلقا - منادی وغیر منادی - إلا بمعرفة ، مبدوءة «بأل» ؛ نحو : یا هذا الناقد تلطف.
- وسیجیء تفصیل الحکم فی باب النداء ج 4 ص 36 و37 م 131 (3) ... -.
ص: 444
ح - یستثنی من المطابقة الحتمیة أمور :
منها : بعض ألفاظ مسموعة (1) لا مطابقة فیها فی الجمع ؛ فالنعت جمع ، والمنعوت مفرد ؛ منها قولهم : هذا ثوب أخلاق - وبرمة أعشار - ونطفة أمشاج (2) ... و ...
ومنها : الألفاظ التی تلزم - فی الأغلب - صیغة واحدة فی التذکیر والتأنیث ،
ص: 445
کصیغة : «فعول» بمعنی : «فاعل» ؛ مثل صبور ؛ بمعنی : صابر : فهذه الصیغة - فی الأغلب - لا تلحقها علامة تأنیث ، وإنما تلازم التذکیر ؛ إفرادا ، وتثنیة ، وجمعا - بالشروط والتفصیلات الآتیة فی باب «التأنیث (1)» - تقول : هذا رجل صبور - هذه فتاة صبور - هذان رجلان صبوران - هاتان فتاتان صبوران ، هؤلاء رجال صبر - وفتیات صبر.
ومن تلک الألفاظ : المصادر التی تقع نعتا ، ویغلب علیها الإفراد والتذکیر ؛ طبقا للبیان الخاص بها ، وسیجیء (2) ...
ومنها : أن یکون المنعوت جمع مذکر غیر عاقل (3) ؛ فیجوز فی نعته
ص: 446
الحقیقی أن یکون مفردا مؤنثا ، وجمع مؤنث سالما ، وجمع تکسیر للمؤنث ، کما یجوز أن یکون جمع تکسیر للمذکر ، إن لاحظنا فی المنعوت مفرده المذکر
ص: 447
غیر العاقل ، نحو : اقتنیت الکتب الغالیة ، أو : اقتنیت الکتب الغالیات ، أو الغوالی. ومثل : اقتنیت الکتب الأحاسن ، جمع الأحسن (1) ...
ومنها : أن یکون المنعوت «اسم جنس جمعیّا» یفرق بینه وبین واحده بالتاء المربوطة الدالة علی الوحدة ؛ مثل : تفّاح وتفاحة ؛ فیجوز فی صفته - کما سبق عند تفصیل الکلام علیه (2) - إما الإفراد مع التذکیر علی اعتبار
ص: 448
اللفظ ؛ لأنه جنس ، أو الإفراد مع التأنیث علی تأویل معنی الجماعة ؛ نحو قوله تعالی : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ...)، وقوله تعالی : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِیَةٍ) وإما جمع الصفة جمع تکسیر ، أو جمع مؤنث سالما ؛ نحو قوله تعالی : (السَّحابَ الثِّقالَ ..) وقوله تعالی : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِیدٌ ...)
ومثل النعت فیما تقدم : الخبر ، والإشارة إلیه ، والضمیر العائد علیه ...
هذا ، ولا یصح أن یفرق بین مذکره ومؤنثه بالتاء المربوطة للتأنیث ؛ فلا یقال - فی الغالب - للمفردة المؤنثة : حمامة - بطة - شاة ... ولا یقال للمفرد المذکر : حمام - بط - شاء ... منعا للالتباس فی کل ذلک ، وإنما یلزم مفرده صورة واحدة فی التأنیث والتذکیر یجیء بعدها النعت الدال علی النوع ؛ فیقال : حمامة أنثی وحمامة ذکر ... و ...
ومنها : أن یکون المنعوت معرفا بأل «الجنسیة» (1) ؛ فیجوز نعته بالنکرة المختصة (2) ؛ (لتقارب درجتهما) أو بما یقوم مقامها ؛ وهو الجملة (3) .. ومن الأمثلة قولهم : ما ینبغی للرجل مثلک أن یفعل کذا ؛ ... لأن کلمة : «مثل» لا تتعرف إلا بالطریقة الموضحة فیما سلف (4). وکقوله تعالی : (وَآیَةٌ لَهُمُ اللَّیْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)، فجملة : نسلخ المکونة من المضارع وفاعله - تصلح صفة (5) والموصوف هو : «اللیل» المعرف «بأل» الجنسیة. ومثل جملة «یسبّ (6)» فی قول الشاعر :
ولقد أمرّ علی اللّئیم یسبنی
فأعفّ ، ثم أقول لا یعنینی
ومنها : النعت إذا کان اسم عدد ، وکان منعوته فی الأصل (7) معدودا محذوفا
ص: 449
أو مذکورا ؛ فالمحذوف نحو : اشتریت عدة کتب ، قرأت منها فی هذا الأسبوع ثلاثا أو ثلاثة ؛ فیجوز فی النعت أن تلحقه تاء تأنیث وأن یتجرد منها ؛ أی : کتبا ثلاثا ، أو ثلاثة (1) ، ومثال المذکور : قرأت کتبا ثلاثا أو ثلاثة.
ومنها : النعت إذا کان منعوته تمییزا منصوبا مفردا لأحد الأعداد المرکبة ، أو : العقود ، أو : المعطوفة ؛ فیجوز فی النعت الإفراد ، مراعاة للفظ المنعوت (التمییز) کما یجوز فیه الجمع ؛ مراعاة لمعنی المنعوت فإنه یتضمن اسم العدد ؛ تقول : هنا خمسة عشر رجلا عالما ، أو علماء ، وعشرون طالبا ذکیّا ، أو أذکیاء ، وثلاثة وعشرون کاتبا ، أو کتبة (2).
ومنها : أفعل التفضیل إذا کان مجردا من «أل» والإضافة ، أو کان مضافا لنکرة ؛ فإنه فی هاتین الصورتین یلتزم الإفراد والتذکیر - بالإیضاح الذی سبق فی بابه (3) - : تقول : استمعت لخطیب أفصح من غیره - لخطیبین أفصح من غیرهما - لخطباء أفصح من غیرهم - لخطیبة أفصح من غیرها. لخطیبتین أفصح من غیرهما - لخطیبات أفصح من غیرهن ؛ کما تقول : استمعت لخطیب أفصح خطیب - لخطیبة أفصح خطیبة .... وکذلک باقی الصور من غیر تغییر فی کلمة «أفصح» التی هی نعت واجب الإفراد والتذکیر مهما کان المنعوت ، - بشرط مراعاة الإیضاح المشار إلیه (4) ...
ومنها : أن یکون المنعوت منادی نکرة مقصودة ؛ فیجوز فی نعته أن یکون معرفة أو نکرة ؛ بالتفصیل الذی سبق فی مکانه (5).
د - قد یکون النعت مجرورا لمجاورته لفظا مجرورا ، لا لمتابعة المنعوت. ویذکرون لهذا مثالا کثر تردیده حتی ابتذل ، وهو : (هذا جحر ضبّ
ص: 450
خرب). یعربون کلمة : «خرب» صفة «لجحر» ، لا لضب ؛ کی لا یفسد المعنی ، ویجرّون النعت تبعا للفظ : «ضبّ» الذی یجاوره. وقد أوّلوه تأویلات أشهرها : أن الأصل : هذا جحر ضبّ خرب جحره ، ثم طرأ حذف وغیر حذف ... ، ویطیلون الکلام والجدل.
والحق أن هذا النوع الغریب من الضبط بسبب «المجاورة» والنوع الآخر الذی سببه : «التوهم» جدیران بالإهمال ، وعدم القیاس علیهما ، بل عدم الالتفات إلیهما مطلقا - کما قال بعض المحققین ممن سجّلنا رأیهم -. وقد أشرنا إلی هذا مواضع مختلفة من أجزاء الکتاب (1).
ه - تقدم أن المطابقة الواجبة بین «النعت الحقیقی» ومنعوته تشمل الإفراد وفروعه التی هی : «التثنیة والجمع». والمراد هنا : التثنیة والجمع الاصطلاحیّان عند النحاة ؛ بأن یکون المثنی مختوما «بالألف والنون» ؛ أو : بالیاء والنون ، ویسمی «المثنی غیر المفرّق». وأن یکون جمع المذکر السّالم - مثلا - مختوما «بالواو والنون» ، أو الیاء والنون ، ویسمی «جمع المذکر غیر المفرق» أیضا أما المثنی المفرّق ، مثل : محمد ومحمد - العاقل والعاقل ، وجمع المذکر المفرق ؛ مثل : محمد ومحمد ومحمد ، العاقل والعاقل والعاقل - فلهما حکم آخر ؛ یجیء الکلام علیه عند تعدد النعت (2) ...
ویدخل فی حکم المفرد کل اسم دالّ علی مفرد حقیقة ، ولفظه علی صورة المثنی ، أو الجمع ، مثل الأعلام : حمدان - محمدین - خلدون - سعادات - مکارم ... فیجب فی النعت أن یطابقه فی الإفراد. أی : أنه إذا سمی بالمثنی أو بالجمع فالمسمی مفرد فی معناه ، ویجب أن یکون نعته الحقیقی مفردا مثله.
ص: 451
هو الذی یدل علی معنی فی شیء بعده ، له صلة وارتباط بالمنعوت ؛ نحو : هذا بیت متسع أرجاؤه ، نظیفة غرفه ، بدیعة فرشه.
وعلامته : أن یذکر بعده اسم ظاهر - غالبا (1) - مرفوع به ، مشتمل علی ضمیر یعود علی المنعوت مباشرة ، ویربط بینه وبین هذا الاسم الظاهر الذی ینصبّ علیه معنی النعت. کما فی الأمثلة السالفة ... (متّسع .. - نظیفة .. - بدیعة .. -).
وحکمه : أنه یطابق المنعوت فی أمرین معا :
1- حرکة الإعراب ، - وما ینوب عنها -.
2- التعریف والتنکیر.
ویطابق سببیّه فی أمر واحد ؛ هو : التذکیر ؛ والتأنیث. وحکم النعت فی هذا التذکیر والتأنیث حکم الفعل الذی یصح أن یحل محله ویکون بمعناه ؛ فإذا أمکن أن یوضع مکان النعت فعل بمعناه مسند للسببی ، وصحّ فی هذا الفعل التأنیث والتذکیر ، أو وجب أحدهما - کان حکم النعت کذلک (2).
أما من جهة إفراد النعت السببیّ ، وتثنیته ، وجمعه :
ا - فیجب إفراده إن کان السببی غیر جمع ، بأن کان مفردا ، أو مثنی ؛ إذ لا تتصل بالنعت السببی علامة تثنیة ؛ فحکمه فی هذا أیضا کحکم الفعل الذی یصلح لأن یحل محله.
ففی مثل : (یعجبنی الحقل الناضر زرعه) ؛ ... یجب فی کلمة «الناضر»
ص: 452
الرفع ؛ تبعا للمنعوت (1) وهو : (الحقل) ؛ کما یجب فیها التعریف تبعا له أیضا. ولو کان المثال : (یعجبنی حقل ...) ؛ لوجب أن یقال فی النعت : ناضر زرعه ؛ بالرفع ، وبالتنکیر ؛ تبعا للمنعوت.
وفی مثل : (هذا رجل عاقلة أخته ، وهذه فتاة محسنة أختها) - یجب (2) الإفراد والتأنیث فیهما ؛ مراعاة للسببی (3) ؛ بالرغم من أن کلمة : «عاقلة» هی نعت لرجل ؛ المذکر. إذ لو حل مکان النعت فعل لوجب تأنیثه (4) ؛ فنقول : هذا رجل عقلت أخته - هذه فتاة أحسنت أختها.
ویجب التذکیر والإفراد فی مثل : هذا رجل محسن أخوه - وهذه فتاة محسن أخوها ، بالرغم من أن کلمة : «محسن» الثانیة. هی نعت ، للفتاة - لأنه لو حل الفعل محل النعت لوجب تذکیره ، فنقول : هذا رجل أحسن أخوه - هذه فتاة أحسن أخوها.
أمّا فی مثل : هذا حقل ناضر زروعه ... ، فیصح ناضر ، أو ناضرة ؛ لأنه لو حل مکان النعت فعل لقلنا : هذا حقل نضرت زروعه ، أو نضر زروعه ؛ بوجود علامة التأنیث أو بعدمها.
ونقول عند إفراد السببی وتثنیته : هذا زمیل مجاهد أبوه - هذان زمیلان مجاهد أبواهما - هذه زمیلة مجاهد أبوها - هاتان زمیلتان مجاهد أبواهما ... فلا یتصل بالنعت علامة تثنیة ؛ إذ الفعل الصالح لأن یحل محله لا یصح أن یتصل به - فی الأغلب - علامة تثنیة.
وهکذا یکون إحلال الفعل محل النعت السببی ، وإسناده للسببی - مرشدا إلی الطریقة التی تراعی فی النعت من جهة تذکیره ، وتأنیثه ، وإفراده ؛ تبعا للسببی المذکر أو المؤنث ، المفرد أو المثنی.
ب - فإن کان السببی مجموعا جمع تکسیر جاز فی النعت أمران ؛ إما إفراده ، وإمّا مطابقته للسببی ، نحو : هؤلاء زملاء کرام آباؤهم ، أو : هؤلاء
ص: 453
زملاء کریم آباؤهم. فإن کان مجموعا جمع مذکر سالما ، أو : جمع مؤنث سالما فالأفصح إفراد النعت وعدم جمعه (1) ، نحو : هؤلاء زملاء کریم والدوهم - هؤلاء زمیلات کریمة والداتهن ...
أما تعریف النعت أو تنکیره ، وحرکة إعرابه وما ینوب عنها - فیتبع فی هذا کله المنعوت من غیر تردد ، - کما أسلفنا -.
* * *
وملخص ما سبق :
ا - انقسام النعت باعتبار معناه إلی قسمین : حقیقی وسببی.
ب - النعت الحقیقی هو : ما یدل علی معنی فی نفس متبوعه الأصلی ، أو فیما هو فی حکمه. وإن شئت فقل : هو ما أسند إلی ضمیر مستتر أصالة أو تحویلا ، یعود إلی المنعوت.
وحکمه : أن یتبع المنعوت فی أربعة أشیاء :
1- حرکات الإعراب ، - وما ینوب عنها -.
2- الإفراد وفروعه.
3- التعریف والتنکیر.
4- التذکیر والتأنیث ...
ح - النعت السببی : ما رفع اسما ظاهرا - فی الغالب - یقع علیه معنی النعت ، وبه ضمیر یعود علی المنعوت مباشرة.
وحکمه : أن یتبع المنعوت فی أمرین محتومین ؛ هما :
حرکات الإعراب - وما ینوب عنها - ، والتعریف والتنکیر ...
أما التذکیر والتأنیث فیتبع فیهما السببی ؛ وجوبا فی بعض حالات ، وجوازا فی غیرها(2).
وأما التثنیة فلا یثنی.
وأما الجمع فیجوز جمعه وإفراده فی کل الحالات تبعا للسببی ، ومطابقة له.
ص: 454
إلا أن الإفراد أفصح وأقوی (1) حین یکون السببی جمع مؤنث سالما ، أو جمع مذکر سالما.
د - فحکم النعت بنوعیه من جهة المطابقة وعدمها هو : المطابقة الحتمیة فی أمرین :
أحدهما : حرکات الإعراب - وما ینوب عنها - ، والآخر : التعریف والتنکیر. أما التذکیر والتأنیث فحکمه فیهما حکم الفعل الذی یصلح أن یحل محله. وأما الإفراد وفروعه ، فالحقیقی یطابق فیها جمیعا. والسببی یطابق - حتما - فی الإفراد ، ولا یصح أن یطابق فی التثنیة. ویجوز فی جمع التکسیر المطابقة وعدمها ، وأما فی غیره فالأحسن الإفراد (2) ....
ص: 455
ینقسم النعت باعتبار معناه أیضا إلی ما یأتی :
1- نعت تأسیسی ، (أو : مؤسّس) وهو الذی یدل علی معنی جدید لا یفهم من الجملة بغیر وجوده ، نحو ؛ راقنی الخطیب الشاعر. فکلمة : «الشاعر» نعت أفاد معنی جدیدا لا یستفاد إلا من ذکرها.
2- نعت تأکید : (أو : مؤکّد) ؛ وهو الذی یدل علی معنی یفهم من الجملة بدون وجوده ، نحو : تخیرت من الأطباء النّطاسیّ البارع. فالبارع نعت مفهوم المعنی من کلمة : «النطاسیّ» التی بمعناه ، ومن الجملة قبله أیضا ؛ لأن التخیر ، لا یکون - فی الأغلب - إلا للبارع.
3- نعت التوطئة ، أو التمهید ؛ بأن یکون النعت جامدا ، وغیر مقصود لذاته ، والمقصود هو ما بعده ، وإنما ذکر السابق لیکون توطئة وتمهیدا لنعت مشتق بعده یتجه القصد له ، نحو : استعنت بأخ أخ مخلص. فکلمة : «أخ» الثانیة نعت غیر مقصود لذاته ، وإنما المقصود هو المشتق الذی یلیه ، ولذا یسمی النعت الجامد هذا بالنعت الموطّئ (1) - کما سلف هنا. وسبقت له الإشارة
ص: 456
فی ح 1 باب : «لا» وستجیء فی رقم 6 من ص 445.
* * *
ص: 457
2- تقسیم النعت باعتبار لفظه :
ینقسم النعت باعتبار لفظه إلی مفرد ، وجملة ، وشبه جملة.
ا - الأشیاء القیاسیة التی تصلح أن تکون نعتا مفردا (1) هی :
الأسماء المشتقة (2) العاملة ، أو ما فی معناها (3). (والمقصود بالعاملة : اسم الفاعل - صیغ المبالغة - الصفة المشبهة - اسم المفعول (4) - أفعل التفضیل. أما غیر العاملة - کاسم الزمان ، واسم المکان ، واسم الآلة - فلا تقع نعتا).
والمقصود بما فی معناها : کل الأسماء الجامدة التی تشبه المشتق فی دلالتها علی معناه ، والتی تسمی : الأسماء المشتقة تأویلا. فإنّها تقع نعتا أیضا. وأشهرها :
1- أسماء الإشارة غیر المکانیة ؛ مثل : «هذا» وفروعه ، وهی معارف فلا تقع نعتا إلا للمعرفة ؛ نحو : استمعت إلی الناصح هذا. أی : إلی الناصح المشار إلیه ؛ فهی تؤدی المعنی الذی یؤدیه المشتق (5).
أما أسماء الإشارة المکانیة (مثل : هنا - ثمّ) ... فظروف مکان ، لا تقع بنفسها نعتا ؛ لأن مهمتها تختلف عن مهمة النعت : ولکنها تتعلق بمحذوف یکون هو النعت : مثل : أسرع العطاش إلی ماء هنا ، أی : موجود هنا - أو نحو هذا التقدیر - ومن التیسیر المقبول أن یقال للاختصار : «الظرف نعت» ...
کما سبق إیضاح هذا فی مواضع مختلفة (6) ...
2- ذو ، المضافة (7) ، بمعنی : صاحب کذا - فهی تؤدی ما یؤدیه المشتق
ص: 458
من المعنی. «وتکون نعتا للنکرة» (1) ؛ نحو : أنست بصحبة عالم ذی خلق کریم ، ومثل «ذو» فروعها : (ذوا ... - ذوی ... - ذوو ... - ذوی ... - ذات - ذاتا - ذوات ...).
3- الموصولات الاسمیة المبدوءة بهمزة وصل ؛ مثل : الذی - التی - اللائی ... و ... ، بخلاف : «أیّ» الموصولة (2).
أما «من» ، و «ما» ففی النعت بهما خلاف ، والصحیح جوازه - کما سیجیء (3) - ولما کانت الموصولات معرفة وجب أن یکون منعوتها معرفة. ومن الأمثلة : الضعیف الذی یحترس من عدوه ، أقرب إلی السلامة من القویّ الذی ینخدع ، أو یستهین. والتأویل : الضعیف المحترس من عدوه ، أقرب إلی السلامة من القوی المنخدع ... فمعناها معنی المشتق ...
4- الاسم الجامد الدالّ علی النسب قصدا (4). وأشهر صوره أن یکون فی آخره یاء النسب ، أو : أن یکون علی صیغة : «فعّال ، أو غیرها من الصیغ (5) الدالة علی الانتساب قصدا کما تدل یاء النسب ، فهو یؤدی المعنی الذی یؤدیه لفظ : «المنسوب لکذا» ، نحو : ألمح فی وجه الرجل العربیّ کثیرا من أمارات الصراحة ، والشجاعة ، والکفاح. أی : المنسوب إلی العرب. ومثل : اشتهر الرجل الیونانی بالنشاط والهجرة إلی حیث یتسع الرزق أمامه ، وفی بلادنا
ص: 459
جماعة منهم تمارس الحرف والصناعات المختلفة. فتجد بینهم التاجر ، والبقّال ، واللّبان ، والنجار ، والحداد ... و ... أی : المنسوب للتجارة ، والبقل ، واللبن ، والنّجر (النّجارة) ، والحدید ... وإنما ینسب إلیها لأنه یلازم العمل فیها والتفرغ لها (1) ...
وهذا النوع من الأسماء الجامدة یصلح نعتا للنکرة وللمعرفة ؛ ولا بد أن یطابقهما تنکیرا ، وتعریفا. تقول : ألمح فی وجه الرجل العربیّ النبل ... أو : ألمح فی وجه رجل عربی النبل -.
5- المصغر : لأنه یتضمن وصفا فی المعنی ؛ فهو فی هذا کالنسب ، ومن ثمّ یلحقان بالمشتق ، نحو : هذا طفل رجیل ، فی المدح ، وهذا رجل طفیل ، فی الذم.
6- الاسم الجامد المنعوت بالمشتق : نحو : اقتدیت برجل رجل شریف وهذا النوع من النعت هو المسمی «بالنعت الموطّیء» - ، وقد سبق إیضاحه (2) - ومنه قولهم الوارد عنهم : ألا ماء ماء باردا ...
7- المصدر : بشرط أن یکون منکرا (3) ، صریحا (4) ، غیر میمیّ ، وغیر دال علی الطلب (5) ، وأن یکون فعله ثلاثیّا ، وأن یلتزم صیغته الأصلیة من ناحیة
ص: 460
الإفراد والتذکیر وفروعهما ؛ (والأغلب أن تکون صیغته ملازمة الإفراد والتذکیر ، فإن کانت کذلک فی أصلها لم یجز تثنیتها ، ولا جمعها ، ولا تأنیثها ، ولا إخراجها عن وزنها الأول) (1) ... تقول : رأیت فی المحکمة قاضیا عدلا ، وشهودا صدقا ، ونظاما رضا ، وجموعا زورا (2) بین المتقاضین ... ترید : قاضیا عادلا - وشهودا صادقین ، ونظاما مرضیّا ، وجموعا زائرة بین المتقاضین ...
فالمعنی علی تأویل المصدر باسم مشتق کالسابق ، ویصح أن یکون علی تقدیر مضاف محذوف هو النعت ، ثم حذف وحلّ المصدر محله ، وأعرب نعتا مکانه. والأصل : قاضیا صاحب عدل - شهودا أصحاب صدق - نظاما داعی رضا - جموعا أصحاب زور ، (أی : أصحاب زیارة) ، والداعی للنعت بالمصدر مباشرة وترک المشتق ، أو المضاف المحذوف علی الوجه السالف - أن النعت بالمصدر أبلغ وأقوی ؛ لما فیه من جعل المنعوت هو النعت. أی : هو نفس المعنی ؛ مبالغة.
وقد اختلف رأی النحاة فی وقوع المصدر نعتا ؛ أقیاسیّ هو أم مقصور علی السماع؟ وأکثرهم یمیل إلی قصره علی السماع ، مع اعترافهم بکثرته فی الکلام العربی الفصیح (3) ، وأنه أبلغ فی أداء الغرض من المشتق (4). وهذا الاعتراف
ص: 461
بالکثرة (1) یناقض أنه مقصور علی السماع. فالأحسن الأخذ بالرأی الصائب الذی یجعله قیاسیّا (2) - بشروطه - ولا خوف من اللبس المعنوی أو خفاء المراد ؛ لأن القرائن والسیاق یزیلان هذا کله ، ویبقی للنعت بالمصدر مزیته السالفة التی انفرد بها دون المشتق.
(8) اسم المصدر إذا کان علی وزن من أوزان مصدر الثلاثی ؛ ککلمة «فطر» اسم مصدر للفعل : «أفطر» ، وهی بمعنی : مفطر ، أو صاحب إفطار : تقول : هذا رجل فطر ، ورجلان فطر ، ورجال فطر ...
9- العدد ، نحو : قرأت کتبا سبعة ، وکتبت صحفا خمسة (3).
10- بعض ألفاظ أخری جامدة مؤولة بالمشتق ، معناها بلوغ الغایة فی
ص: 462
الکمال أو النقص ، کلفظة : «کلّ» (1) مثل : عرفت العالم کلّ العالم. و ...
11- الجامد الذی یدل دلالة الصفة المشبهة مع قبوله التأویل بالمشتق. (2) ومن أمثلته : فلان رجل فراشة الحلم ، فرعون العذاب ، غربال الإهاب.
فکلمة : فراشة ، وفرعون ، وغربال ... تعرب نعتا بالمشتق ، لأنها بمعنی : أحمق ، وقاس ، وحقیر.
* * *
ص: 463
ا - سبق (1) أن المصدر یقع نعتا بشرط أن یکون منکرا ... و ... و ...
لکن ورد فی الأسالیب المسموعة وقوع المصدر نعتا مع أنه مبدوء بأل المعرّفة ، أو مضاف لمعرفة. ومن الأول کلمة : «الحق» (2) فی مثل قول الشاعر :
إن أخاک الحقّ من یسعی معک
ومن یضرّ نفسه لینفعک
ومن الثانی قولهم : مررت برجل حسبک (3) من رجل ، أو شرعک من رجل ، (وهما مصدران بمعنی : کافیک ...) أو : همّک من رجل ، (بمعنی : مهمک) ، أو : نحوک من رجل (بمعنی : مماثلک ومشابهک) فهذه المصادر کان حقها أن تتعرف بأل ، وأن تکتسب التعریف من المضاف إلیه ، ولکنها لم تتعرف (4) ؛ بسبب أنها بمعنی المشتق الذی لا یستفید التعریف - وقد سبق التفصیل فی أول باب الإضافة (5) -.
ومن الأمثلة لهذا المشتق الذی لا یکتسب التعریف قوله تعالی : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)، فقد وصف «عارض» ، بکلمة : «ممطر» المضافة إلی الضمیر ؛ فلم تکتسب منه التعریف ؛ إذ لو اکتسبت منه التعریف لم یصح وقوعها نعتا للنکرة : (عارض) وکقول الشاعر :
یا ربّ غابطنا لو کان یطلبکم
لاقی مباعدة منکم وحرمانا
فقد دخلت «رب» علی اسم الفاعل المضاف إلی الضمیر ، ودخولها علیه دلیل علی أنه لم یکتسب التعریف من المضاف إلیه ؛ لأن «رب» لا تدخل - فی الأغلب -
ص: 464
إلا علی النکرات ، ومثل قول امرئ القیس فی وصف حصانه :
وقد أغتدی والطیر فی وکناتها
بمنجرد ، قید الأوابد ، هیکل
«فقید» مضاف لمعرفة ، ولم یکتسب منها التعریف ؛ بدلیل وصف النکرة (منجرد)به (1) ...
ب - کذلک ورد فی الأسالیب المسموعة بعض أمثلة وقع النعت فیها من أنواع غیر التی سلفت ، کأن یکون مصدرا لغیر الثلاثی ؛ نحو : الحازم لا یعالج الأمر علاجا ارتجالا ، أو دالّا علی المقدار ، نحو : اشتریت من الفاکهة الخمس الأقق ، أو دالّا علی جنس الشیء المصنوع ، نحو : لبست الثوب الحریر ، أو دالّا علی بعض الأعیان التی یمکن تأویلها ، نحو : حصدت الحقل القمح ، أی : المزروع قمحا ، والأحسن الأخذ بالرأی السدید الذی یمنع القیاس علی هذه الأشیاء ؛ ضبطا للأمور ؛ ومنعا للخلط بینها وبین غیرها مما لیس نعتا.
ج - 1- من الأسماء ما یصلح أن یکون : «نعتا» فی بعض الأسالیب ؛ لاستیفائه شروط النعت ، و «منعوتا» فی أخری ؛ لاستیفائه شروط المنعوت کذلک ، فحکمه مختلف علی حسب الدواعی الإعرابیة : کأسماء الإشارة ؛ نحو : احتفیت بالمصلح هذا ، أو : بهذا المصلح. غیر أنّ اسم الإشارة ... - المنادی أو غیر المنادی - لا یصح وصفه باسم إشارة(2).
واسم الإشارة معرفة ؛ فلا یکون نعتا إلا للمعرفة ؛ وإذا وقع منعوتا وجب أن یکون نعته مقرونا بأل ، (والأحسن أن یکون هذا المقرون مشتقّا ؛ فإن کان جامدا فالأفضل اعتباره بدلا (3) أو عطف بیان). ووجب أیضا أن یطابق منعوته فی الإفراد والتذکیر وفروعهما مع عدم تفریق النعوت (4) ، وألّا یفصل منه
ص: 465
مطلقا (1) ، وألا یقطع (2) منه فی إعرابه (3).
ومن هذه الأسماء الصالحة للأمرین أسماء الموصولات ... حتی («من» و «ما») فی الرأی الصحیح (4) ، نحو : وقف من خطب الفصیح ، واستمع الحاضرون إلی ما قیل الرائع. أو : وقف الفصیح من خطب ، واستمع الحاضرون إلی الرائع ما قیل).
2- ومن الأسماء ما لا یصلح أن یکون نعتا ، ولا منعوتا ؛ کالضمیر ، والمصدر الدال علی الطلب (5) ؛ (نحو : سعیا فی الخیر ، بمعنی : اسع فی الخیر) ، وکثیر من الأسماء المتوغلة فی الإبهام (6) ، کأسماء الشرط ، وأسماء الاستفهام ، و «کم» الخبریة ، و «ما» التعجبیة ، وکلمة : الآن الظرفیة ، وکثیر من الظروف المبهمة ، مثل : قبل ، وبعد ... ، ویستثنی من الأسماء المتوغلة فی الإبهام بعض ألفاظ تقع نعتا ؛ منها : غیر ، وسوی ... و «من» و «ما» النکرتان التّامتان.
3- ومنها : ما یصلح أن یکون منعوتا ، ولا یصلح أن یکون نعتا ، کالعلم ، مثل : إبراهیم ، علیّ ، فاطمة ... وکالأجناس الباقیة علی دلالتها الأصلیة ، کرجل (7) ، ونمر ، وفیل.
ص: 466
4- ومنها ما یصلح أن یکون نعتا ، ولا یصلح أن یکون منعوتا ؛ وهی ألفاظ مضافة ، معناها الدلالة علی بلوغ الغایة فی معنی المضاف إلیه. ومن أشهرها : «کلّ» (1) ؛ نحو : أنت الأمین کلّ الأمین ، وذاک هو الخائن کلّ الخائن ، بمعنی : المتناهی فی الأمانة ، أو الخیانة ، ومثل قول الشاعر :
لیس الفتی کلّ الفتی
إلا الفتی فی أدبه
وقول الآخر :
إن ابتداء العرف (2)
مجد سابق
والمجد کلّ المجد فی استتمامه
والفصیح الذی یحسن الاقتصار علیه أن یکون المضاف إلیه اسما ظاهرا ، نکرة أو معرفة ، علی حسب المنعوت ، وأن یکون هذا الاسم الظاهر مماثلا للمنعوت فی لفظه ومعناه معا - وهذا هو الأغلب - أو مماثلا لشیء له صلة معنویة قویة به ، فمثال الأول قول الشاعر :
کم قد ذکرتک لو أجزی بذکرکمو
یا أشبه الناس کلّ الناس بالقمر
فکلمة : «کل» نعت للناس. ومثال الثانی قول الآخر :
وإن کان ذنبی کل ذنب فإنه
محا الذنب کلّ المحو من جاء تائبا
فکلمة «کلّ» الثانیة نعت لذنب.
وإذا وقعت کلمة : «کل» نعتا صارت من الجامد المؤول بالمشتق ، وصار معناها : «الکامل» فی کذا ، وهو معنی یختلف عن معناها الآتی فی التوکید (3) -.
ص: 467
ومنها : جدّ ، وحقّ ؛ نحو : سمعنا من الخطباء کلاما بلیغا جدّ بلیغ ، وأصغینا لهم إصغاء حقّ إصغاء (1).
ومنها : «أیّ» (2) بشرط أن یکون المنعوت بها نکرة ، وکذلک المضاف إلیه ، نحو : الذی بنی الهرم الأکبر عظیم أیّ عظیم. وقد سبق (3) بیان رأی آخر حاسم لا یشترط هذا ، وأوضحنا هناک بإسهاب ما یشترط لوقوعها نعتا ، وما تؤدیه حینئذ من المعنی الدقیق ، ورأی النحاة فی عدم حذف منعوتها ، أو فی صحة حذفه.
ومما یصلح نعتا ولا یصلح منعوتا الاسم المعرف «بأل العهدیة» (4) لأنه یشبه الضمیر ، ویقع موقعه ؛ نحو : أکرمت عالما تقیّا فنفعنی العالم. التقدیر : فنفعنی ... ، والفاعل ضمیر مستتر ، فکلمة «العالم» الثانیة حلّت محل الضمیر الفاعل المستتر (5) ...
* * *
ص: 468
«ملاحظة» : الأتباع - بفتح الهمزة - (1) :
نری فی بعض الأسالیب الواردة عن العرب کلمة زائدة ، لا تنفرد بنفسها فی جملة ، دون أن تسبقها - مباشرة - فی هذه الجملة کلمة أخری مسموعة (2) تماثلها فی وزنها ، وفی أکثر حروفها الهجائیة (أی : أنه لیس لهذه الکلمة المتأخرة الزائدة ، المسموعة فی الأسلوب الوارد استقلال بنفسها فی جملة ما ، ولا استغناء عن کلمة سابقة توافقها فی وزنها وفی أکثر حروفها). وأیضا لیس لهذه الکلمة الزائدة المسموعة (3) معنی تجلبه ، ولا حکم إعرابیّ خاصّ بها (4) توصف معه بأنها مبتدأ ، أو فاعل ، أو نعت ، أو مفعول ، أو غیر ذلک ... ، أو أنها معربة أو مبنیة ؛ فهی - لکل ما تقدم - خارجة عن نطاق الاستقلال بنفسها ، وصوغها ، خالیة من معنی لغویّ تؤدیه ، وبعیدة من الاتّصاف بالإعراب أو البناء ، أو التأثر بالعوامل. وإنما تزاد لمجرد التملیح ، أو السخریة ، أو المدح ، أو محض التّصویت والتنغیم. وتسمّی هذه الکلمة الزائدة الواردة فی الأسلوب السّماعیّ هی ونظائرها : «الأتباع» - بفتح الهمزة - جمع : «تبع» - بمعنی التابع (5) - ویراد به : کل لفظ مسموع ، لا یستقل بنفسه فی جملة ، وإنما یجیء بعد کلمة تسبقه مباشرة (بغیر فاصل) فیسایرها فی وزنها ، وفی ضبط آخرها ، ویماثلها فی أکثر حروفها ، دون أن یکون له معنی خاص ینفرد به فی هذه الجملة ، ولا نصیب فی الإعراب أو البناء ؛ مثل «بسن» فی قولهم : «محمد
ص: 469
حسن بسن». ومثل : «نیطان ، ونفریت» فی قولهم : اللصّ شیطان نیطان ، أو : اللصّ عفریت نفریت ... وعند إعراب هذا اللفظ الزائد نقول : إنه تابع للکلمة التی قبله مباشرة ، أی : من أتباعها فی الوزن ، وضبط الآخر ، والمشارکة فی معظم الحروف الهجائیة ، دون أن یکون لهذه التبعیة العارضة بوصفها السالف علاقة بالتوابع الأصیلة الأربعة المعروفة (وهی : النعت - التوکید - العطف بنوعیه - البدل) کما سبقت الإشارة (1) ؛ إذ لا یجری شیء من أوصاف هذه التوابع الأربعة الأصیلة وأحکامها علی التابع العارض المذکور فیما سبق ؛ حیث یقتصر حکمه علی أمر واحد ، هو : أنه مثل الکلمة التی قبله مباشرة فی وزنها ، وأکثر حروفها ، وضبط آخرها ، دون بقیة أحکامها النحویة ، أو غیر النحویة (2) ...
* * *
ص: 470
ص: 471
ب (1) -
الجملة التی تصلح نعتا (2) لابد أن تجمع الشروط الأربعة الآتیة :
1- أن یکون منعوتها نکرة محضة ، مثل کلمتی «فارس وشجاع» فی قولهم : «أقبل فارس یبتسم ، وانتصر شجاع لا یخاف ، ویتحقق هذا بخلوها من «أل الجنسیة» ، ومن کل شیء آخر یخصّص ویقلّل الشیوع ؛ کالإضافة ، والنعت ، وسائر القیود التی تفید التخصیص (3).
والنکرة غیر المحضة : هی التی لم تتخلص مما سبق ؛ بأن یکون المنعوت إمّا : مشتملا علی «أل الجنسیة» التی تجعل لفظه معرفة ، ومعناه نکرة ، کقول الشاعر :
ولقد أمرّ علی اللئیم یسبنی
فأعفّ ، ثمّ أقول : لا یعنینی
فجملة : «یسب» ، یصح إعرابها نعتا فی محل جر ؛ مراعاة للناحیة المعنویة ، والمنعوت هو کلمة : «اللئیم» ، ویصح أن یکون حالا فی محل نصب ؛ مراعاة ؛ لوجود «أل الجنسیة» (4).
وإما : مقیدا بقید یفید التخصیص ؛ نحو : استمعت لمحاضرة نفیسة ألقاها عالم کبیر زار بلادنا. فالنکرة هنا : (محاضرة - عالم) غیر محضة ؛ لأنها مقیدة بالنعت بعدها (وهو : نفیسة - کبیر) ولذلک یصح إعراب الجملة الفعلیة : (ألقی -) (زار -) نعتا بعد کل واحدة منهما (5) ...
ومما یلاحظ أن المنعوت إذا کان نکرة غیر محضة ، فإن الجملة بعده - وکذا
ص: 472
شبهها (1) - لا تتعین نعتا. وإنما یجوز أن تکون نعتا ، وأن تکون حالا والمنعوت یصیر صاحب الحال ، (وقد سبق (2) بیان هذا بإسهاب ...).
2- أن یکون المنعوت مذکورا ؛ نحو : إن رجلا یصاحب الأشرار لا بد أن یحترق بأذاهم ، وقول الشاعر :
إن فی أضلاعنا أفئدة
تعشق المجد ، وتأبی أن تضاما
ویجوز حذف المنعوت بشرط أن یکون مرفوعا ، وبعض اسم متقدم علیه مجرور بالحرف : «من» ، أو : «فی» ، والنعت جملة أو شبهها ؛ مثل : (نحن - الشرقیین - أصحاب مجد تلید ؛ منّا (3) سبق إلی کشف نظریات العلوم الکونیة ، ومنا استخدمها فی الاختراع والابتکار ، ومنا اهتدی قبل غیره إلی مجاهل کوکبه ، ومنا هدی البشریة إلی أقوم السبل لإسعادها ؛ فلیس فینا إلا کشف ، أو : اخترع ، أو : اهتدی ، أو : هدی ...) ترید : منّا فریق سبق ، - منا فریق استخدم ، - منا فریق اهتدی - منا فریق هدی ، - لیس فینا إلا فریق کشف ... (وسیجیء الکلام مفصلا علی مواضع حذفه ، قریبا) (4).
3- أن تکون الجملة النعتیة خبریة ؛ کبعض ما سبق ، وکالتی فی قول الشاعر :
ولا خیر فی قوم تذلّ کرامهم
ویعظم فیهم نذلهم ، ویسود
فلا تصلح الإنشائیة (بنوعیها الطلبی وغیر الطلبی) ، فلا یصح : رأیت مسکینا عاونه ، وشاهدت محتاجا هل تساعده؟ أو : لا تهنه ... ، ولا یصح هذا کتاب بعتکه ؛ ترید : إنشاء البیع الآن (وقت النطق) ، والموافقة علیه ، لا أنک تخبر بأن البیع حصل قبل النطق (5).
ص: 473
4- اشتمال الجملة الخبریة علی ضمیر یربطها بالمنعوت (1) ، ویطابقه فی الإفراد والتذکیر وفروعهما (2) ، ویجعل الکلام والمعنی متماسکین متصلین : ولذا یسمّی : «الرابط» ، والأغلب أن یکون مذکورا - سواء أکان بارزا ؛ أم مستترا (3) - فالمذکور البارز کالأمثلة السالفة ؛ وقوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً تُرْجَعُونَ فِیهِ إِلَی اللهِ)، ومثل : نصیحة یتبعها عاقل قد تجلب خیرا غامرا ، وتدفع بلاء قاتلا. وقول الشاعر :
کلّ بیت أنت ساکنه
غیر محتاج إلی السّرج (4)
والمستتر کقول الشاعر :
وکلّ امرئ یولی الجمیل محبّب
وکل مکان ینت العز طیّب
وقول الآخر :
وإذا أراد الله نشر فضیلة
طویت (5) أتاح لها
لسان حسود
وقد یکون محذوفا (6) إذا کان معروفا بقرینة من السیاق ، أو غیره ، ولا لس فی حذفه ، کقول القائل :
وما أدری أغیّرهم تناء
وطول الدّهر ، أم مال أصابوا
ص: 474
التقدیر : أصابوه. ومثل : «وما شیء حمیت بمستباح» (1). أی : حمیته. وقول الآخر :
قال لی : کیف أنت؟ قلت : علیل
(سهر دائم) (ولیل طویل)
أی : أنا علیل ؛ سهره دائم ، ولیله طویل (2) ...
ص: 475
وقد یغنی عنه وجوده فی جملة معطوفة (1) بالفاء ، أو : بالواو ، أو : ثم - علی الجملة النعتیة الخالیة منه ؛ نحو : مررت برجل تقصف الرعود ، فیرتجف ؛ أو : ویرتجف - أو : ثم یرتجف. التقدیر : «هو» فی کل ذلک.
* * *
(2) :
وشبه الجملة (الظرف ، والجار مع مجروره) ، یصلح أن یکون نعتا بشرطین :
أولهما : أن یکون تامّا ، أی : مفیدا. وإفادته (3) تکون بالإضافة ، أو بتقییده بعدد ، أو غیره من القیود التی تجعله یحقق غرضا معنویّا جدیدا ؛ فلا یصح أقبل رجل عنک - ولا أقبل رجل عوض ...
ثانیها : أن یکون المنعوت نکرة محضة (4) ، مثل : أقبل رجل فی سیارة - أقبل رجل فوق الجبل. وقول الشاعر :
وإذا امرؤ أهدی (5) إلیک صنیعة
من جاهه (6) فکأنها من
ماله
فإن کانت النکرة غیر محضة ؛ (بسبب اختصاصها بإضافة ، أو غیرها مما یخصصها) ؛ فشبه الجملة یصلح نعتا وحالا (7). نحو : هذا رجل وقور فی سیّارة - أو : هذا رجل وقور أمامک ... ، فهو کالجملة فی هذا الحکم (8).
ص: 476
(ا) یجوز - عند عدم المانع - اعتبار شبه الجملة بنوعیه (الظرف ، والجار مع مجروره) صفة بعد المعرفة المحضة ؛ علی تقدیر متعلّقه معرفة. وقد نص «الصبان» علی هذا فی - ج 1 أول باب : «النکرة والمعرفة» حیث قال : " (أسلفنا عن الدمامینی جواز کون الظرف - ویراد به هنا شبه الجملة بنوعیه - بعد المعرفة المحضة صفة ، بتقدیر متعلّقه معرفة) " ا ه.
أی : أن التعلّق المعرفة سیکون هو الصفة لمطابقته الموصوف فی التعریف. هذا ولا مانع أن یکون شبه الجملة نفسه - بنوعیه - هو الصفة إذا استغنینا عن ذکر المتعلّق اختصارا وتیسیرا أو تسهیلا ، (طبقا لما سبق (1)) بالإیضاح والشرط المسجلین هناک.
وإذا کان شبه الجملة - بنوعیه - بعد المعرفة المحضة صالحا لأن یعرب صفة علی الوجه السالف ، وهو صالح أیضا لأن یکون حالا بعدها ؛ کصلاحه للحالیة والوصفیة بعد النکرة غیر المحضة ، - أمکن وضع قاعدة عامة أساسیة هی : «شبه الجملة - بنوعیه - یصلح دائما أن یکون حالا أو صفة بعد المعرفة المحضة وغیر المحضة (2) ، وکذلک بعد النکرة ، بشرط أن تکون غیر محضة (3)» ؛ أو یقال :
«إذا وقع شبه الجملة بعد معرفة أو نکرة ، فإنه یصلح أن یکون حالا أو صفة إلا فی صورة واحدة ، هی : أن تکون النکرة محضة فیتعین أن یکون صفة ، لیس غیر».
وجدیر بالملاحظة أن جواز الأمرین فیما سبق مشروط بعدم وجود قرینة توجب أحدهما دون الآخر أو توجب غیرهما ، حرصا علی سلامة المعنی ، فإن وجدت القرینة وجب الخضوع لما تقتضیه ، کالشأن معها فی سائر المسائل الأخری.
ص: 477
(ب) من أدوات الاستثناء ما یکون فعلا فقط ؛ وهو : «لیس ، ولا یکون» ومنها ما یصلح (1) أن یکون فعلا تارة ، وحرف جر تارة أخری ؛ وهو «خلا ، وعدا ، وحاشا». والنوع الأول - وهو الذی یکون فعلا فقط - یصح وقوع جملته الفعلیة نعتا ؛ بالتفصیل الذی سبق بیانه (فی ج م 83 ص 333 باب : الاستثناء) أما النوع الثانی الذی یصلح للفعلیة والحرفیة فلا یکون نعتا.
(ح) یحذف الرابط فی الجملة النعتیة بشرط أمن اللّبس - کما سبق - والمحذوف قد یکون مرفوعا مثل : بسم الله الرحمن الرحیم ، أی : هو الرحمن هو الرحیم ... (2) أو منصوبا کالأمثلة السالفة (3). وقد یکون مجرورا «بفی» إذا کان المنعوت بالجملة اسم زمان ؛ کقوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً) ، أی لا تجزی فیه ... فلا یصح الحذف فی مثل : زرت حدیقة رغبت فیها ؛ إذ المنعوت لیس اسم زمان ؛ فلا یتضح المحذوف ؛ أهو : رغبت فی هوائها - أم فی ریاحینها - أم فی فواکهها ، أم فی جداولها؟ ولا یتضح أهو : رغبت فیها. أم رغبت عنها؟.
وقد یکون مجرورا «بمن» بشرط أن یکون فی أسلوب تتعین فیه ؛ سواء أکان الضمیر عائدا علی ظرف زمان أم علی غیره ؛ نحو : مرّ صیف قضیت شهرا علی السواحل ، وشهرا فی الریف. أی : قضیت شهرا منه علی السواحل ، وشهرا منه فی الریف ... ومثل : اشتریت فاکهة ، نوع بعشرین ، ونوع بثلاثین ، أی : نوع بعشرین منها ، ونوع بثلاثین منها ..
فإن لم یکن الحرف «من» متعیّنا فی الاسلوب لم یجز حذفه ؛ لئلا یحدث لبس ؛ نحو : نفعنی شهر صمت منه ، فلو حذف الجار والمجرور لورد علی الذهن احتمالات متعددة ؛ منها : صمته ، وهو معنی غیر المقصود.
(د) یری بعض النحاة أن : «أل» قد تغنی عن الضمیر الرابط إذا دخلت
ص: 478
علی الجملة الاسمیة الواقعة نعتا ؛ نحو : رأیت کتابا ؛ الورق ناعم مصقول ، والطباعة جیدة نظیفة (1) ؛ والغلاف متین جذاب ، فکأنک قلت : رأیت کتابا ورقه ناعم مصقول ، وطباعته ... وغلافه ... وهذا رأی حسن ، مستمد من أمثلة کثیرة مسموعة تبیح القیاس علیها بشرط أمن اللبس.
(ه) لا تربط الجملة الواقعة نعتا إلا بالضمیر أو بما یقوم مقامه فی الربط ، ویغنی عنه ، وهو «أل» کما مرّ فی : «د» ولا تصلح الواو التی تسبق - أحیانا - الجملة الواقعة نعتا أن تکون للربط ، فإنها واو زائدة تلتصق بهذه الجملة ؛ لتقوی دلالتها علی النعت ، وتزید التصاقها بالمنعوت دون أن تصلح وحدها للربط ، ویسمونها لذلک : «واو اللصوق» ، ومن أمثلتها ، فی القرآن الکریم قوله تعالی : (وَما أَهْلَکْنا مِنْ قَرْیَةٍ إِلَّا وَلَها کِتابٌ مَعْلُومٌ) ، والأصل : «إلا لها کتاب معلوم» زیدت الواو للغرض السالف ، ولا تفید شیئا أکثر منه (2). وکذلک قوله تعالی : (وَعَسی أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ.) فقد زیدت الواو قبل الجملة الاسمیة الواقعة نعتا. ومن الأمثلة قول عروة بن الورد :
فیا للناس کیف غلبت نفسی
علی شیء ویکرهه ضمیری
فالواو زائدة قبل الجملة المضارعیة النّعتیة. وهی فی کل صورها التی تتعین فیها للإلصاق لا تصلح وحدها أن تکون رابطا - کما أسلفنا -.
وقد اختلف النحاة : أزیادتها قیاسیة (3) أم سماعیة؟ والأرجح عندهم - برغم مجیئها فی القرآن - أنها سماعیة ، وهذا عجیب منهم ؛ لأن معناه أن بعض التراکیب القرآنیة لا یصح محاکاته ، ولا صوغ أسالیبنا علی نهجه ، مع اعترافهم جمیعا بأن القرآن أسمی لغة بیانیة ، وأعلی کلام بلیغ. نعم قد یکون الأنسب الیوم الوقوف بزیادة هذه الواو عند حدّ السماع ؛ تجنبا لإساءة فهمها ، والخلط بینها وبین الأنواع الأخری ، ولا ضرر ولا تضییق فی الأخذ بهذا الرأی . ولکن الأنسب لا یحرّم غیره مما هو صحیح مباح.
ص: 479
وقد یکون الأنسب فی عصر لیس بالأنسب فی آخر ؛ وکلاهما صحیح مباح.
(و) الجملة لا تقع نعتا إلا للنکرة. فما حکم الجملة نفسها من حیث التعریف والتنکیر؟.
أجابوا : «یجری علی الألسنة کثیرا أنها نکرة. ولکنها تؤول بالنکرة ، قال الرضیّ ؛ لأن التعریف والتنکیر من خواص الأسماء. والجملة من حیث هی جملة لیست اسما ، وإن کانت تؤول به ، فنحو : جاء رجل قام أبوه ، أو أبوه قائم ... - فی تأویل : جاء رجل قائم أبوه. ونحو : جاء رجل أبوه محمد ، فی تأویل : کائن ذات أبیه ذات محمد (1).
ویقول شارح المفصل (2) ما ملخصه : (إن وقوع الجملة نعتا للنکرة دلیل علی أن الجملة نفسها نکرة ، إذ لا یصح أن توصف النکرة بالمعرفة (3) ...) ا ه.
سواء أکانت نکرة أم مؤولة بالنکرة وفی حکمها ، فالخلاف شکلی لا أثر له. والمهم المتفق علیه أنها لا تکون نعتا إلا للنکرة.
(ز) یقول الکوفیون : إذا وقع بعد الجملة الواقعة نعتا لنکرة ، جملة أخری مضارعیة ، مترتبة علی الجملة النعتیة کترتب جواب الشرط علی الجملة الشرطیة - إذا وقع هذا صح فی المضارع الجزم جوابا للنعت مع جملته ؛ حملا له علی المضارع المجزوم فی الجملة الواقعة جوابا للشرط. ففی مثل : کل رجل یعمل الخیر یرتفع شأنه ... یجیزون جزم المضارع : «یرتفع (4)».
لکن رأیهم فی هذا الجزم ضعیف ؛ إذ لا تؤیده الشواهد القویة الکثیرة ، التی تسوّغ القیاس علیه. فالأحسن إهماله والاقتصار فیه علی المسموع ... (5).
ص: 480
ا - تعدّد النعت فی الحالات التی یکون فیها عامله واحدا :
1- إذا تعدد النعت ، والمنعوت غیر متعدد - لأنه واحد - وجب تفریق النعوت (1) ، مسبوقة بواو العطف (2) أو غیر مسبوقة ، إلا الأول ، فلا یسبق بها. نحو : لا شیء یقبح فی العین کرؤیة عالم مختال ، مغرور ، أو : عالم زریّ وضیع ، ویصح : کرؤیة عالم مختال ومغرور ، أو : عالم زریّ ووضیع (3) ...
وتمتنع واو العطف إذا کان المعنی المراد لا یتحقق بنعت واحد ، ولا یستفاد إلا من انضمام نعت إلی آخر فینشأ من مجموعهما المعنی المقصود ؛ نحو : الفصول أربعة : أطیبها الربیع البارد الحارّ ، أی : المعتدل فی درجة حرارته وبرودته ، ولا یجوز البارد والحارّ ؛ لأن المعنی المراد - وهو : الاعتدال - لا یؤخذ إلا من اشتراک الاثنین فی تأدیته ، وانضمام کل منهما إلی الآخر ؛ فکلاهما جزء یتمم نظیره ،
ص: 481
ویلازمه فی تکوین المعنی الکامل المقصود منهما معا. والکلمتان هنا بمنزلة کلمة واحدة ذات شطرین ؛ لا یصح أن یفصل بین شطریها حرف عطف أو غیره. ومثل : شرب المریض الدواء الحلو المرّ ، أی : المتوسط فی حلاوته ومرارته. ومثل : اشتریت صوفا ناعما خشنا ، ومثل : هذا زجاج صلب هشّ ...
2- وإذا تعدد النعت والمنعوت متعدد بغیر تفریق ، وبغیر أن یکون اسم إشارة ، فإن کانت النعوت متحدة فی لفظها ومعناها معا وجب عدم تفریقها ، وأن تکون مثناة أو جمعا علی حسب منعوتها. نحو : ما أعجب الهرمین القدیمین!. ولا یصح : ما أعجب الهرمین القدیم والقدیم. ونحو : ما أجمل الزهرات الیانعات ، ولا یصح : الیانعة ، والیانعة ، والیانعة ...
فإن کانت النعوت مختلفة فی لفظها ومعناها معا أو فی أحدهما وجب التفریق بالواو العاطفة ؛ فمثال الاختلاف فی اللفظ والمعنی قول الشاعر :
بکیت ، وما بکا رجل حزین
علی ربعین ؛ مسلوب (1) ،
وبال
وقول أحد المؤرخین ... ولما انتهت الموقعة بهزیمة الأعداء بحثنا عن قادة جیشهم ، فعرفنا القادة ؛ القتیل ، والجریح ، والأسیر ، والمذهول من هول ما رأی وسمع ...
ومثال الاختلاف فی اللفظ دون المعنی : أبصرت سیارتین : ذاهبة ومنطلقة - قاومت طوائف ؛ باغیة ، ومعتدیة ، وظالمة.
ومثال المختلفة فی المعنی دون اللفظ : نصحت رجلین هاویا وهاویا (2).
ص: 482
فإحدی الکلمتین فعلها : «هوی» بمعنی : «أحبّ» والأخری فعلها : «هوی» بمعنی سقط علی الأرض. ولا بد من قرینة تدل علی هذا الاختلاف المعنوی. ومثل : عرفت رجالا ؛ کاسیة ، وکاسیة ، وکاسیة ، بمعنی : کاسیة غیرها ، وبمعنی : مکسوة ، وبمعنی : غنیة.
وإذا کان المنعوت المتعدد اسم إشارة لم یجز فی نعته المتعدد التفریق لأن نعت أسماء الإشارة لا یکون مختلفا عنها فی المطابقة اللفظیة ؛ فلا یصح مررت بهذین الطویل والقصیر علی اعتبارهما نعتین (1).
3- إذا تعدد النعت والمنعوت متعدد متفرق فإن کانت النعوت متحدة فی ألفاظها ومعانیها وجب عدم تفریقها ؛ مثل : سافر محمود ، وعلی ، وحامد المهندسون. وإن کانت مختلفة وجب أحد أمرین.
إمّا تقدیم المنعوتات المتفرقة کلها متوالیة ، یلیها النعوت کلها متوالیة متفرقا أیضا ومرتبة ؛ بحیث یکون النعت الأول للمنعوت الأخیر ؛ والنعت الثانی للمنعوت الذی قبل الأخیر ، وهکذا ، حتی ینته الترتیب بأن یکون النعت الأخیر للمنعوت الأول (فملخص هذه الطریقة : أن یکون کل نعت مقصورا علی أقرب منعوت إلیه).
وإما : وضع کل نعت عقب منعوته مباشرة.
فعلی الطریقة الأولی نقول : ما أعظم الثمار التی نجنیها من الکتب ، والصحف ، والمجلات ، والإذاعة ، والمؤلفین ... البارعین ، المختارة ، الرفیعة ، الصادقة ، النافعة ، ... فکلمة «البارعین» نعت للمؤلفین ، وکلمة «المختارة» : نعت للإذاعة و «الرفیعة» : نعت للمجلات ، و «الصادقة» : نعت للصحف ، و «النافعة» : نعت للکتب.
ص: 483
وعلی الطریقة الثانیة نقول : ما أعظم الثمار التی نجنیها من الکتب النافعة. والصحف الصادقة ، والمجلات الرفیعة ، والإذاعة المختارة ، والمؤلفین البارعین. وللمتکلم أن یختار من الطریقتین ما یراه أنسب للمقام بشرط أمن اللبس ، بحیث یتعین کل نعت لمنعوته ، دون اشتباه.
* * *
ص: 484
مما یتصل بهذه الحالة : نعت معمولین عاملهما واحد ... والحکم - کما سطروه - هو : أنه إذا اتحد عمله ونسبته المعنویة إلیهما فی المعنی جاز الإتباع والقطع بشرطه (1) ؛ کقام محمود وعلیّ العاقلان ، أو العاقلین. وإن اختلف العمل والنسبة ؛ - کأکرم محمود علیّا العاقلین - وجب القطع. وکذا إن اختلفت النسبة المعنویة دون العمل ؛ کأعطیت الولد أباه العاقلان (2).
وإن اختلف العمل دون النسبة ؛ - نحو : مخاصمة الأخ أخاه النبیلان مؤلمة - وجب القطع علی الرأی الأغلب.
فملخص الرأی أنه یجب القطع فی جمیع الصور إلا واحدة یجوز فیها القطع وعدمه ؛ هی : التی یتحد فیها عمل العامل ، ونسبته المعنویة إلیها.
ومن أمثلة القطع الجائز ما ورد فی کلام فصحاء العرب (3) ، ومنه قول حاتم الطائی :
إن کنت کارهة معیشتنا
هاتا (4) فحلی فی بنی
بدر
الضاربون لدی أعنتهم
والطاعنون وخیلهم تجری
وقول الخرنق القیسیة :
لا یبعدن (5) قومی الذین
همو
سمّ العداة ، وآفة الجزر
النازلین بکل معترک
والطیبین معاقد الأزر
ص: 485
ب - تعدد النعت ، والمنعوت ، والعامل ، وما یترتب علی هذا من الإتباع (1) والقطع:
ص: 486
1- إذا تعدد النعت بغیر تفریق ، وتعدد المنعوت ، والعامل ، وکانت المنعوتات المتعددة ، متفرقة ، متحدة فی تعریفها وتنکیرها (1) والعوامل المتعددة متحدة فی معناها ، وعملها ، - جاز فی النعوت الإتباع والقطع ؛ نحو حضر الصدیق ، وحضر الضیف الطبیبان. أو : الطبیبین. ونحو : نظرت القمر وأبصرت المرّیخ المستدیرین ، أو المستدیران. ولا فرق فی هذه العوامل بین المتحدة فی ألفاظها والمختلفة - کما فی المثالین - لأن المهم أن یتفقا معنی وعملا.
ویجب القطع إن اختلفت العوامل معنی ، أو عملا ، أو هما معا. فمثال الاختلاف المعنوی فقط : أقبل الضیف ، وانصرف الزائر السائحین ، ونحو : جمدت عین الحزین وجمدت عین القاسی المشاهدتین الماسأة. (إذا کانت «جمدت» الأولی بمعنی : جفت دموعها بسبب البکاء الکثیر. والثانیة بمعنی : لم تبک ؛ من القسوة).
ومثال اختلافهما فی العمل فقط : مررت بالضیف ولاقیت الزائر الغریبان.
ص: 487
ومثال اختلافهما فی المعنی والعمل ؛ قابلت الرسول وسلمت علی الزمیل الظریفان(1).
* * *
أحکام خاصة بالقطع فی هذا الباب :
لا یصح القطع مطلقا ، إلا بعد تحقق شرط أساسی ؛ هو : أن یکون المنعوت متعینا بدون النعت ؛ سواء أکان النعت واحدا أم أکثر. وعلی هذا الأساس تقوم الأحکام الآتیة :
1- لا یجوز القطع (2) إذا کان النعت وحیدا (3). والمنعوت نکرة محضة ؛ لشدة حاجتها إلیه ، لتتخصص به. نحو : کرّمت جنودا أبطالا.
2- إذا تعدّد النعت لواحد ، وکان المنعوت نکرة محضة وجب إتباع النعت الأول لها ؛ لتستفید به تخصیصا هی فی شدة الحاجة إلیه ، ولا یجوز قطعه. أما ما عداه فیجوز فیه الإتباع والقطع ؛ نحو : أقبل رجل شجاع ، أمین تقیّ ؛ فیجب رفع کلمة : «شجاع» إتباعا للمنعوت : (رجل) لأنه نکرة محضة. ویجوز فی کلمتی : «أمین» و «تقیّ» الرفع إتباعا للمنعوت ، أو : النصب علی القطع باعتبار کل منصوب منهما مفعولا به لفعل محذوف.
والإتباع هنا واجب فی النعت الأول وحده ؛ لیقع به التخصیص - کما قلنا - ویجوز فی الباقی الأمران ، سواء أکان المنعوت قد تعین مسماه أم لم یتعین ؛ لأن المقصود من نعت النکرة هو تخصیصها ، - لا تعیینها - وقد تحقق التخصیص بإتباع النعت الأول لها.
ص: 488
3- إذا تعددّت النعوت لواحد معرف فإن تعین مسماه بدونها کلها جاز إتباعها جمیعا ، وقطعها جمیعا ، وإتباع بعضها وقطع بعض آخر (1) ، بشرط تقدیم النعت التابع علی النعت المقطوع ؛ نحو : عرفت الإمام أبا حنیفة ، المجتهد ؛ الذکیّ ، العبقریّ ... فیصح فی النعوت الثلاثة النصب علی الإتباع ، والرفع علی القطع ، ویجوز النصب علی الإتباع فی بعض منها ، والرفع علی القطع فی غیره ، وفی هذه الحالة الأخیرة یجب تقدیم النعت التابع علی المقطوع.
وإن لم یتعین مسماه إلا بالنعوت کلها مجتمعة وجب إتباعها ، وامتنع القطع ؛ نحو : غاب المصریّ حافظ ، الضابط ، الشاعر ، النّاثر ، بالرفع ؛ تبعا للمنعوت : «حافظ» إذا کان هناک ثلاثة (2) غیره کل منهم اسمه : «حافظ» ، وأحدهم ضابط فقط ، والآخر شاعر فقط ، والثالث ناثر فقط ، فلا یتعین الأول تعیینا یمیزه من هؤلاء الثلاثة إلا بالنعوت المتعددة مجتمعة ، وإتباعها له.
وإن تعیّن ببعضها دون بعض وجب إتباع الذی یتعین به ، وجاز فی غیره الإتباع والقطع ، مع وجوب تقدیم التابع علی المقطوع (3) ...
ص: 489
4- إذا لم یتعدد النعت وکان المنعوت معرفا معلوما بدونه جاز فی النعت الإتباع والقطع ، نحو : أنت الشریک الودیع ، برفع کلمة : «الودیع» ؛ إتباعا ، أو نصبها علی القطع. - والمنعوت هنا متعین ؛ بسبب الخطاب -
ولا یجوز القطع إن کان النعت للتوکید (1) ، أو : کان من الألفاظ التی أکثرت العرب من استعمالها نعتا بعد کلمات معینة (2) ، ... أو کان نعتا لاسم إشارة ؛ نحو : أهلک الله بعض الأمم بالرجفة الواحدة - جاء القوم الجمّاء الغفیر (3) - امتدحت هذا الوفیّ.
ومن الأمثلة لهذه الثلاثة أیضا : «وقال الله لا تتّخذوا إلهین اثنین» (4) - یسرنی رؤیة الشّعری العبور (5) - ما أکبر تقدیرنا لهذا النابغ.
5- قلنا (6) إن النعت المقطوع لا بد أن یخالف فی حرکته حرکة المنعوت السابق ؛ فإن کان المنعوت مرفوعا وأردنا قطع النعت لداع بلاغی قطعناه إلی النصب
ص: 490
مفعولا به لفعل محذوف ، تقدیره : أمدح أو أذم ، أو ... علی حسب السیاق ، وإن کان المنعوت منصوبا وأردنا قطع النعت قطعناه إلی الرفع علی اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف ، تقدیره - مثلا - : هو. ولا یجوز القطع إلی الجر مطلقا فیهما. وإذا. کان المنعوت مجرورا واقتضی المقام القطع قطعناه إلی الرفع أو النصب علی الإعرابین سابقین. ولا بد فی جمیع حالات القطع أن یکون المنعوت متعیّنا. - کما قلنا -.
وإذا تعددت النعوت ، وکان المنعوت المتعیّن مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا - جاز فیها عند قطعها أن یکون بعضها منقطعا إلی الرفع ، وبعض آخر إلی النصب ، إذ لیس من اللازم أن تنقطع النعوت کلها إلی الرفع فقط ، أو إلی النصب فقط ؛ وإنما اللازم ألا تنقطع إلی الجر ، وألا یتفق نوع حرکتها مع نوع حرکة المنعوت (1) السابق ، نحو : ما أسفت لشیء قدر أسفی للزمیل المتعلم ، المتکاسل ، الخامل ، المستهین ... فیجوز فی هذه النعوت قطعها إما إلی الرفع فقط ، وإما إلی النصب فقط. وإما توزیعها بین هذا وذاک.
وإذا کان النعت المقطوع مرفوعا لأنه خبر مبتدأ ، أو منصوبا لأنه مفعول به لفعل محذوف - فإن هذا المحذوف واجب الحذف لا یصح ذکره بشرط أن یکون النعت فی أصله لإفادة المدح ، أو : الذم ، أو : الترحم ، فإن کان فی أصله لغرض آخر جاز حذف العامل وذکره (2). وقد سردنا أول الباب (3) الأغراض المختلفة التی یؤدیها النعت.
6- مما تجب ملاحظته أن جملة النعت المقطوع (وهی : الجملة المکونة من المبتدأ المحذوف وخبره الذی کان فی أصله نعتا ، أو من الفعل المحذوف وفاعله) - جملة مستقلة مستأنفة. وقد تسبقها «الواو» أحیانا ، وهذه «الواو» زائدة للاعتراض قبل النعت المقطوع ؛ سواء أکان مقطوعا إلی الرفع ، أم إلی النصب.
ص: 491
ویری بعض النحاة أن هذه الجملة المشتملة علی النعت المقطوع لیست مستقلة ولا مستأنفة ، وإنما هی «حال» إذا وقعت بعد معرفة محضة ، و «نعت» إذا وقعت بعد نکرة محضة ، وتصلح للأمرین إذا وقعت بعد نکرة مختصة ، فشأنها کغیرها من الجمل التی تعرب «حالا» بعد المعارف المحضة ، و «نعتا» بعد النکرات المحضة ، وتصلح للأمرین بعد النکرة المختصة. والرأی الأول (1) أقوم وأحسن.
7- سبب القطع بلاغیّ محض - کما قلنا (2) - هو التشویق ، وتوجیه الأذهان بدفع قویّ إلی النعت المقطوع ؛ لأهمیة فیه تستدعی مزیدا من الانتباه إلیه ، وتعلق الفکر به ، وأنّه حقیق بالتنویه وإبراز مکانته. وجعلوا الأمارة علی هذا کله إضمار العامل ، وتکوین جملة جدیدة ، الغرض منها : إنشاء المدح أو الذم أو الترحم ، .. أو ... فهی جملة إنشائیة من نوع الجمل الإنشائیة غیر الطلبیة (3).
وإذا کان سبب القطع بلاغیّا - ولا بدّ من قیام هذا السبب - فمن البلاغة أیضا ألا نلجأ إلی استخدام القطع مع من یجهله ؛ فیحکم بالخطأ علی الضبط الحادث بسببه.
* * *
ا - قد یحذف النعت - أحیانا حذفا قیاسیّا - إن کان معلوما بقرینة تدل علیه بعد حذفه ؛ کقوله تعالی : (أَمَّا السَّفِینَةُ فَکانَتْ لِمَساکِینَ یَعْمَلُونَ فِی الْبَحْرِ ؛ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِیبَها ، وَکانَ وَراءَهُمْ مَلِکٌ یَأْخُذُ کُلَّ سَفِینَةٍ غَصْباً)، والأصل : «کل سفینة صالحة» ؛ بقرینة قوله : (أن أعیبها ؛ فهی تدل علی أنها قبل هذا خالیة من العیب ، أی : صالحة للانتفاع بها ، وبقرینة أخری ؛ هی : أن الملک الغاصب لا یغتصب ما لا نفع فیه.
ص: 492
ومثل قول شاعر أخذ نصیبه من غنائم الحرب فلم یرض به :
وقد کنت فی الحرب ذا تدرا (1)
فلم أعط شیئا ولم أمنع
والتقدیر : فلم أعط شیئا نافعا ؛ بدلیل قوله : ولم أمنع ، وبدلیل الأمر التاریخیّ المعروف ، وهو أنه أخذ - فعلا - نصیبا ، ولکنه لم یقنع به.
ومثل قول الشاعر یصف فتاة بالجمال :
وربّ أسیلة (2) الخدّین بکر
مهفهفة (3) ، لها فرع ،
وجید
المراد : لها فرع فاحم (4) ، وجید طویل ، والقرینة : أن مدح الفتاة بالجمال لا یکون بأمر عامّ یشارکها فی مثله آلاف من نظیراتها ، فلیس من المدح وصفها بمجرد فرع لها ، وجید ، فهذان أمران ملازمان کل فتاة ، وإنما یکون المدح بأوصاف وبمزایا خاصة تتحقق فی کل منهما ؛ کشدة سواد الشعر ، أو نعومته ، أو طوله ... أو ... وکطول الجید باعتدال ، أو استدارته ، وعدم غلظه کذلک (5) ...
* * *
(6) :
یجب حذف المنعوت فی کل موضع اشتهر فیه النعت اشتهارا یغنی عن المنعوت غناء تامّا ؛ بحیث لا یتجه الذهن إلیه ؛ نحو : جاء الفارس. والأصل : جاء الرجل الفارس ؛ أی : راکب الفرس. ومثل : جاء الصاحب ، أی : الرجل الصاحب. فلا یجوز فیهما وفی أشباههما أن یقال : جاء الرجل الفارس ، ولا جاء الرجل الصاحب. والنعت فی الحالة السالفة لا یسمّی نعتا ، وإنما یحل محل المحذوف فی إعرابه فاعلا ، أو مفعولا ، أو غیرهما ... مما کان علیه المحذوف قبل حذفه.
ص: 493
ویجوز حذفه أیضا - کما أوضحنا (1) - إن کان مصدرا مبیّنا نابت عنه صفته ؛ نحو : جلست أحسن الجلوس ، وأصغیت أیّ (2) إصغاء ؛ بمعنی : جلست جلوسا أحسن الجلوس ، وأصغیت إصغاء أیّ إصغاء ، والأکثر أن تضاف هذه الصفة لمصدر کالمصدر المنعوت المحذوف.
ویجوز بکثرة حذف المنعوت - (سواء أکان النعت مفردا ، أم جملة ، أم شبه جملة) - بشرط أن یصلح النعت لأن یحل محل المنعوت المحذوف ؛ فیعرب إعرابه. فلا یصح حذف المنعوت إن کان فاعلا ، أو مفعولا ، أو مجرورا ، أو مبتدأ. - وکان النعت جملة أو شبهها ؛ لأن الجملة وشبهها لا تقع شیئا مما سبق ، فلو حذف المنعوت وهو أحد الأشیاء السالفة لم یوجد فی الکلام ما یصلح أن یحل محله فی إعرابه ، ولهذا لا یصح حذفه إذا کان الأمر علی ما وصفنا (3).
أمّا إن کان المنعوت واحدا مما سبق والنعت مفردا ، فیجوز حذف المنعوت ، لوجود ما یصلح أن یحل محله فی إعرابه ، وهو : المفرد. ویشترط لحذفه أیضا أن یکون معلوما. ومن وسائل العلم به اختصاص معنی النعت به وقصره علیه ، مثل : أعجبت براکب صاهلا ، أی : براکب فرسا صاهلا ؛ لأن الصهیل مختص - فی اللغة - بالخیل. وبسبب هذا الاختصاص الصریح یکون الحذف واجبا عند بعض النحاة - لا جائزا ، ورأیهم سدید.
ومن وسائل العلم به أیضا أن یتقدم علی النعت ما یدل علی المنعوت المحذوف
ص: 494
الذی یحقق المعنی المراد ؛ نحو : ألا ماء ، ألا باردا (1)؟.
أو : وجود عامل نحوی یحتاج إلی المنعوت المحذوف لیکون معموله الذی یمّ به المعنی الأنسب ، حیث لا یستطیع العمل المباشر فی النعت ، ولا یجد النعت عاملا آخر ؛ کقوله تعالی : (فَلْیَضْحَکُوا قَلِیلاً ، وَلْیَبْکُوا کَثِیراً ؛ جَزاءً بِما کانُوا یَکْسِبُونَ)، والتقدیر : فلیضحکوا ضحکا قلیلا ، ولیبکوا بکاء کثیرا ... فالفعلان فی جملتی : (یضحکوا - یبکوا) محتاجان لمعمولین یتممان هذا المعنی الأنسب ، ولا یستطیع فعل منهما أن یؤثر فی النعت الذی بعده مباشرة إلا من طریق منعوت محذوف یستقیم به المعنی. ولا یجد کل من النعتین (قلیلا - وکثیرا) عاملا له إلا الفعل اللازم قبله ، ولکن اتصاله به مباشرة غیر سائغ لغویّا ؛ فلم یکن بد من تقدیر المنعوت المحذوف علی الوجه السالف ...
وأیضا : یحذف جوازا إن کان النعت جملة أو شبهها وکان المنعوت مرفوعا وبعضا من اسم متقدم علیه ، وهذا الاسم المتقدم مجرور «بمن» أو «فی» نحو : الأحرار الوطنیون لا ینکر فضلهم أحد ؛ فمنهم أنفق ماله فی سبیل وطنه ، ومنهم أفنی عمره مناضلا فی الحفاظ علی حریته ، ومنهم قضی نحبه دفاعا عنه. والأصل ؛ فمنهم فریق أنفق ... ومنهم فریق أفنی عمره ... ومنهم فریق قضی نحبه ... ومثل قولهم : لما مات عمر بن عبد العزیز لم یکن فی الناس إلا بکی أو صرخ ، أو صرع حزنا ، أو انعقد لسانه ، أو زاغ بصره ... والتقدیر : لم یک فی الناس إلا إنسان بکی ، أو إنسان صرخ ، أو إنسان صرع ، أو إنسان انعقد لسانه ، أو إنسان زاغ بصره ...
فالمنعوت فی الأمثلة السابقة کلها محذوف ، وهو مرفوع ، وبعض من کل مجرور بالحرف «من» أو : «فی» ؛ ذلک لأن الضمیر : «هم» المجرور بمن
ص: 495
فی الأمثلة الأولی «کلّ» والمنعوت (فریق) بعض منه ، والناس المجرور «بفی» فی الأمثلة الأخیرة «کل» والمنعوت المحذوف «إنسان» ، بعض منه (1) ...
* * *
قد یحذفان معا - وهذا قلیل (2) - إذا قامت القرینة الدالة علیهما ؛ کقوله تعالی : فی الأشقی الذی یدخل النار : (ثُمَّ لا یَمُوتُ فِیها وَلا یَحْیی)، أی : لا یحیا حیاة نافعة (3). وکقولک للمتعلم الذی لا ینتفع بعلمه : هذا غیر متعلم ، أی : غیر متعلم تعلما مثمرا ...
* * *
إن کانت النعوت المتعددة مفردة جاز تقدیم بعضها علی بعض من غیر ترتیب محتوم ، فالأمر فیها للمتکلم ؛ یقدم ما یشاء ویؤخر ، علی حسب ما یری من أهمیة. وکذلک إن کانت جملا ، أو أشباه جمل ؛ نحو : (راقنی الورد النّاضر ، العطر ، البهّ - أقبل رجل (وجهه متهلل) (ثغره باسم). - أبصرت رجلا فی سیارة ، علی أریکة -.
أما إذا اختلفت أنواعها فالأغلب تقدیم المفرد علی شبه الجملة ، وشبه الجملة علی الجملة ؛ نحو : هذا عصفور حزین ، علی شجرة ، یشکو ما أصابه ... وقوله تعالی : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ ...) ،
ص: 496
وقد تتقدّم الجملة أیضا علی غیرها کقوله تعالی : (وَهذا کِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَکٌ ...)(1) وهذا النوع من التقدم فصیح یجوز القیاس علیه ؛ لوروده فی أبلغ الکلام - وهو القرآن - ولکن الأول أکثر.
* * *
عطف النعوت المختلفة المعانی بعضها علی بعض :
یجوز عطف النعوت بعضها علی بعض مع ملاحظة ما یأتی :
1- أن تکون النعوت المتعددة مختلفة المعانی ولیست جملا (2) ؛ فلا یصح العطف فی مثل : هذا رجل غنیّ ثریّ ؛ لأن الثریّ بمعنی الغنیّ ، ولو عطف علیه لعطف الشیء علی آخر بمعناه ، والعطف یقتضی المغایرة المعنویة ، غالبا (3). ولا فرق فی منع العطف فی النعوت المتفقة المعانی بین أن تکون کلها تابعة فی إعرابها للمنعوت ، وأن تکون مقطوعة ، وأن یکون بعضها تابعا وبعضها مقطوعا.
أما إذا کانت النعوت المتعددة جملا (4) فالأفضل عطفها ؛ ولا یشترط اتفاقها فی المعنی أو اختلافها ؛ نحو : أحترم رجلا یترفع عن الصغائر ، ویتوقی مواطن السوء ، ویجنّب نفسه الهوان.
2- ألّا یکون حرف العطف هو : «أم» ، أو : «حتی» ؛ إذ لا تعطف النعوت بواحد منهما (5).
3- وإذا کانت النعوت مختلفة المعانی والمنعوت مثنی أو جمعا ، وجب - فی الأکثر - العطف بحرف الواو دون غیره - کما سبق (6) - نحو : تحدث الفائزان ؛
ص: 497
العالم والمخترع - احترمت المتعلمات ، الناثرة ، والشاعرة ، والخطیبة ، والماهرة فی عملها ، والمتفننة فی نظامها. فإن کان المنعوت واحدا لم تجب «الواو» وصح أن یجیء الحرف المناسب أو لا یجیء.
وحرف العطف الذی یستخدم هنا یؤدّی - مع العطف - معنی من المعانی التی اختص بتأدیتها علی الوجه المشروح فی باب : «العطف» من أن الواو تفید کذا ، والفاء کذا ، وثم ... و ...
وعند ما یتم عطف النعوت تصیر «معطوفات» ، یجری علیها اسم «المعطوف» وأحکامه الآتیة فی بابه ، وتتخلی عن اسم : «النعت» وأحکامه الخاصة به (1).
* * *
لا یجوز تقدم النعت علی المنعوت مع بقاء إعرابه نعتا کما کان قبل التقدم (2). فإذا تقدم زال عن کل منهما اسمه ؛ فإن کانا معرفتین ، وکان النعت صالحا لمباشرة العامل وجب عند تقدمه إعرابه علی حسب حاجة الجملة ، ویصیر - فی الغالب - : «مبدلا منه» ، ویعرب المنعوت بدلا. ففی مثل : (استعنت بمحمد الماهر فی تذلیل العقبات ؛ فأعاننی ، وشارکه فی هذا علیّ الصدیق) - نجد کلمتی : «الماهر» و «الصدیق» نعتین ، وهما متأخرتان ، فإذا تقدمتا وقلنا : بالماهر محمد ، والصدیق علیّ - صارتا بدلین ، وصار المنعوتان السابقان مبدلا منهما.
فإذا کانا نکرتین فالغالب - إن لم یوجد مانع آخر - نصب النعت علی الحال عند تقدمه ، ویزول عنه اسم النعت ؛ کما یزول عن المنعوت اسمه ، ویصیر
ص: 498
اسمه الجدید : «صاحب الحال» ؛ ففی مثل : (أینع زهر رائع. وفاح عطر جمیل ...) نقول : أینع رائعا زهر ، وفاح جمیلا عطر (1) ...
ص: 499
ا - قد یقتضی المعنی أن یقع قبل النعت المفرد : «لا» النافیة ، أو : «إمّا». وعندئذ یجب تکرار هذین الحرفین ، مع اقترانهما بالواو العاطفة التی تعطف ما بعدهما علی النعت الذی قبلهما ؛ نحو : زاملت أخا لا غادرا ، ولا خائنا ... - تخیّر مصیفا ؛ إما ساحلیّا ، وإما جبلیّا (1) ...
ب - یجوز نعت النعت عند سیبویه ، ویمنعه آخرون. والحق أن النعت قد یحتاج إلی نعت أحیانا ؛ مثل : هذا ورق أبیض ناصع ، (أی : شدید البیاض) ، فالورق یشتمل مدلوله علی جسم ولون مطلق ، والنصاعة إنما هی تحدید للونه ... ونحو : هذا وجه مشرق أیّ إشراق!! ناضرة وجنتاه کاملة النّضرة.
بل إن من النعت ما لا یسمی نعتا إلا إذا کان موصوفا ؛ وهذا هو : النعت «الموطّیء» - وقد سبق الکلام علیه (2) - ومن أمثلته الواردة : ألا ماء ماء باردا.
ح - إذا وقع النعت بعد المرکب الإضافی (نحو : أقبل رسول الصدیق العالم - هذا نجم الدین المضیء ...) ، فأین المنعوت؟ أهو المضاف إلیه ، أم المضاف؟.
سبقت الإجابة مفصلة فی مکانها الأنسب ، (وهو «ج» ص 167 من باب : «الإضافة»).
د - سبق الکلام (3) علی أحکام جلیلة خاصة بالتوابع ، ومنها : حکم الفصل بین التوابع ومتبوعاتها ، کالفصل بین النعت والمنعوت.
* * *
ص: 500
التوکید قسمان : معنوی ، ولفظی (2).
القسم الأول ؛ المعنوی (3) :
إذا سمعنا من یقول : «وصل أحد العلماء إلی القمر» ، خطر بالبال عدة احتمالات ؛ منها : أنه وصل إلی قرب القمر ، دون الوصول إلی جرمه وذاته الحقیقیة ، أو : أنه وصل إلی مداره ، أو إلی أسراره العلمیة والفلکیة ... ونتوهم أن المتکلم أراد أن یقول : - مثلا - وصل أحد العلماء إلی قرب القمر ، أو إلی مدار القمر. أو إلی أسرار القمر ... فحذف المضاف سهوا ، أو خطأ ، أو لأن حذفه هنا یؤدی إلی المبالغة أو المجاز (4) ، وکلاهما أبلغ وأقوی فی تأدیة المعنی من الحقیقة. هذا بعض ما یخطر بالبال عند سماع تلک العبارة ...
فلو أنه قال : وصل أحد العلماء إلی القمر نفسه ، لزالت - فی الأغلب (5) - تلک الاحتمالات وغیرها ، ولم یبق مجال لتوهم المبالغة ، أو المجاز بالحذف ، أو السّهو
ص: 501
أو غیره ؛ ولترکّز الفهم فی معنی حقیقی واحد : هو الوصول إلی جرم القمر ذاته ، بسبب کلمة : «نفس» التی منعت أن یکون هناک لفظ محذوف کالمضاف - مثلا - تنشأ عن ملاحظته وتخیله احتمالات مختلفة.
کذلک إذا سمعنا من یقول : «حفظت دیوان المتنبّی» فقد یخطر علی البال سریعا أنه حفظ أکثره ، أو أحسنه ، أو حکمه ... وأنه لم یقصد الشمول الحقیقی حین قال : «حفظت دیوان المتنبیّ» ؛ وإنما قصد : حفظت أکثر دیوان المتنبیّ ، أو أحسن دیوان المتنبیّ ، أو أحکم دیوان المتنبیّ ... فحذف المضاف سهوا ، أو : خطأ ، أو لما فی حذفه هنا من مبالغة ، أو مجاز ، وکل منهما فی تأدیة المعنی أبلغ وأقدر. فلو أنه قال : «حفظت دیوان المتنبیّ کلّه» ما ترک - فی الأغلب - حول الشمول الکامل مجالا لشیء من تلک الاحتمالات ، ولا لتخیّل شیء محذوف ؛ کالمضاف ، ولا لمبالغة ، أو مجاز ، أو نسیان ، ونحوه ؛ بل یتّجه الفهم إلی معنی واحد ؛ هو : حفظ الدیوان کاملا غیر منقوص. وقد نشأ هذا الترکیز والاقتصار فی الفهم علی المعنی الواحد من کلمة : «کلّ».
فکلمة : «نفس» فی المثال الأول وما شابهه ، وکلمة : «کلّ» فی الثانی وما شابهه ، - تسمی : «توکیدا معنویّا» ؛ فهو :
«تابع (1) یزیل عن متبوعه ما لا یراد من احتمالات معنویة تتجه إلی ذاته (2)
ص: 502
مباشرة ، أو إلی إفادته العموم والشمول المناسبین لمدلوله» (1) ...
وإن شئت فقل : تابع یدلّ علی أن معنی متبوعه حقیقی ؛ لا دخل للمبالغة فیه ، ولا للمجاز ، ولا للسّهو ، أو النسیان ، ونحوهما ...
فالغرض من التوکید المعنویّ هو إبعاد ذلک الاحتمال وإزالته ؛ إما عن ذات المتبوع ، وإما عن إفادته التعمیم الشامل المناسب (2) لمدلوله ، فإن لم یوجد الاحتمال لم یکن من البلاغة التوکید.
* * *
ألفاظه الأصلیة سبعة ، وقد تلحق بها - أحیانا - ألفاظ فرعیة أخری سنعرفها (3). والسبعة الأصلیة ثلاثة أنواع :
نوع یراد منه إزالة الاحتمال عن الذات فی صمیمها (4) ، وإبعاد الشک المعنوی عنها. وأشهر ألفاظه الأصلیة : نفس (5) ، وعین (6). ومن الأمثلة قول أحد الرّحالین : (... رأیت الساحر الهندیّ نفسه - وهو المعروف بالأعیبه وحیله - یقبض علی الجمرة عینها بأصابعه العاریة ، ویظل کذلک دقائق کثیرة ...) ، فکلمة : «نفس» أزالت - فی الأغلب - الشک والمجاز عن ذات الساحر ، فلم
ص: 503
تترک مجالا لتوهم أن المقصود شیء آخر غیرها ؛ کخادمه ، أو صبیه ، أو : أداته. أو شبیهه ... وإنما المقصود هو ذاته ، دون مبالغة ، أو مجاز ، ودون إرادة شیء سواها. وکذلک کلمة : «عین» فإنها أفادت النص علی الذات ، وأبعدت عنها - فی الأغلب - کل احتمال یقوم علی تلک المبالغة ، أو المجاز ، أو إرادة معنی لا یتصل بصمیمها مباشرة. وهذا معنی قولهم : إن التوکید بالنفس أو بالعین یقصر المعنی الحقیقی علی الذات وحدها ، ویرکزه فیها ، ویزیل - فی الأغلب - کل احتمال عنها آخر.
وإذا وقعت کلمة : «عین ، أو نفس» ، تابعة علی هذا الوجه ، سمیت فی اصطلاح النحاة «توکیدا». أو : تأکیدا : أو «مؤکّدة» - بکسر الکاف - والأول هو الأشهر ، وسمی متبوعها : مؤکّدا - بفتح الکاف - وهذا هو الشأن فی جمیع ألفاظ التوکید.
إذا کانتا للتوکید وجب أن یسبقهما المؤکّد ، وأن تکونا مثله فی الضبط الإعرابی ، وأن تضاف کل واحدة منهما إلی ضمیر مذکور - حتما - یطابق هذا المؤکّد فی التذکیر والإفراد وفروعهما ؛ لیربط بین التابع والمتبوع. تقول : صافحت الوالی نفسه - صافحت الوالیین أنفسهما - صافحت الولاة أنفسهم - صافحت الوالیة عینها - صافحت الوالیتین أعینهما - صافحت الوالیات أعینهن. وهذا الضمیر لا یجوز حذفه ولا تقدیره (1) ...
فإن لم یتقدم المتبوع ، أو لم یوجد الضمیر المضاف إلیه ، المطابق - لم یصح إعرابهما توکیدا ، بل یجب إعرابهما شیئا آخر علی حسب الجملة ، (مبتدأ ، أو خبرا ، أو بدلا ، أو عطف بیان ، أو مفعولا به ، أو غیره (2) ..). ومن أمثلة المفعول به :
من عاتب الجهال أتعب نفسه
ومن لام من لا یعرف اللوم أفسدا
ص: 504
ومما یلاحظ أن المطابقة ، حین یکون المؤکّد بهما جمعا تقتضی أن یجمعا جمع تکسیر للقلة علی وزن : «أفعل» ، فقط ، ومنع أکثر النحاة الجموع الأخری التی للقلة والکثرة ، فلا یصح : جاء الولاة نفوسهم ، ولا عیونهم ...... وبناء علی هذا الرأی لا بد أن تکون صیغتهما علی وزن «أفعل» مع إضافتهما لضمیر الجمع (1).
أما إذا کان المؤکّد مثنی فالأفصح جمعهما علی وزن القلة السابق وهو : «أفعل» فیقال أنفسهما - أعینهما. لکن یصح إفرادهما وتثنیتهما ؛ فیقال : نفسهما - عینهما - أو : نفساهما - عیناهما (2). ومهما کان وزن الصیغة فی التثنیة فلابد من إضافتهما إلی ضمیر المثنی ؛ لیطابق المؤکّد (3) ...
ص: 505
هذا ، ویصح التوکید بالنفس والعین معا ، ولکن بغیر حرف عطف (1) ، ویجری علیهما مجتمعین من حکم الإضافة للضمیر المطابق ، وتقدم المتبوع ، ومسایرته فی الضبط الإعرابی ، وباقی أحکام التابع - ما یجری علی إحداهما منفردة ؛ نحو : قابلت الوالی نفسه عینه - قبض الساحر علی الجمرة نفسها عینها. ویجب - فی الرأی الأقوی - عند اجتماعهما تقدیم النفس علی العین (2) ...
* * *
ص: 506
ا - تنفرد کلمتا : «نفس» ، و «عین» دون بقیة ألفاظ التوکید المعنوی (1) ، بجواز جرهما بالباء الزائدة ؛ تقول : (ذهب الوالی نفسه ، أو بنفسه ، لمحاربة الخوارج) - (أبصرت الوالی نفسه ، أو بنفسه ، یحارب الخوارج) - (نظرت إلی الوالی نفسه ، أو بنفسه ، وهو فی المیدان) ... فکلمة ؛ «نفس» توکید مجرور بالباء الزائدة فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب حالة المتبوع. ویصح فی الأمثلة السالفة - وضع کلمة : «عین» مکان : «نفس» فلا یتغیر الحکم ، وتعرب مع حرف الجر مثلها ؛ توکیدا مجرورا فی لفظه ، ولکنه فی المحل تابع للمؤکّد (أی : للمتبوع) (2).
ب - إذا کان المتبوع (المؤکّد) کنیة لوحظ فی معنی التوکید وإعرابه ما سبقت الإشارة إلیه (فی : «ا» من ص 444) سواء أکان بلفظ : «نفس ، أو عین أو غیرهما ، مما یصلح من ألفاظ التوکید المعنوی.
* * *
ص: 507
نوع یراد به إزالة الاحتمال والمجاز عن التثنیة ، وإثبات أنها هی - وحدها - المقصودة حقیقة. وله لفظان : «کلا» للمثنی المذکر ، و «کلتا» للمثنی المؤنث ، نحو : أفاد الخبیران کلاهما ، ونفعت الخبیرتان کلتاهما. فلو لم تذکر «کلا» و «کلتا» لکان من المحتمل اعتبار التثنیة غیر حقیقیة ، وأن المقصود بالخبیرین أحدهما ، وبالخبیرتین إحداهما ... فمجیء «کلا» بعد المثنی المذکر ، و «کلتا» بعد المثنی المؤنث - یکاد یقطع فی أصالة التثنیة بفهم لا شک فیه ولا احتمال ، ویدل - فی الأغلب - علی أن المراد هو الدلالة علی التثنیة الحقیقیة التی تنصبّ علی اثنین معا ، أو اثنتین معا (1).
لابد عند استعمالهما فی التوکید أن یسبقهما «المؤکّد» ، وأن یکون ضبطهما کضبطه ، وأن تضاف کل واحدة منهما إلی ضمیر مذکور یطابقه فی التثنیة - لیربط بینهما - کما فی الأمثلة السالفة. وهذا الضمیر لا یصح حذفه ولا تقدیره. فإذا تحققت الشروط ، وصارتا للتوکید وجب إعرابهما إعراب المثنی (2) ، فیرفعان بالألف ، وینصبان ویجران بالیاء المفتوح ما قبلها ، المکسور ما بعدها ؛ نحو : أفادنی الوالدان کلاهما - أحببت الوالدین کلیهما - دعوت الله للوالدین کلیهما. نفعتنی الجدّتان کلتاهما - أطعت الجدّتین کلتیهما - استمعت إلی نصح الجدتین کلتیهما.
ولما کان الغرض من التوکید بکلا وکلتا هو ما سلف ، کان من المستقبح بلاغة (3) أن یقال : تخاصم الرجلان کلاهما ، والمرأتان کلتاهما ، حیث لا مجال
ص: 508
لاحتمال التخاصم من أحدهما دون الآخر ؛ لأن التخاصم لا یتحقق معناه إلا بوقوعه من اثنین حتما ؛ فلا فائدة من صیغة التوکید هنا ، ومثله : تقاتل اللصانّ ، وتحارب العدوان ، وأشباه هذا من کل ما یخلو من الاحتمال ، ویدل علی «المفاعلة» الحقیقیة ، أی : المشارکة الحتمیّة بین شیئین ...
* * *
نوع یراد منه إفادة التعمیم الحقیقی المناسب لمدلوله المقصود ، وإزالة الاحتمال عن الشمول الکامل. وأشهر ألفاظه ثلاثة : (کلّ - جمیع - عامّة). وأقواها فی التوکید ، وأکثرها أصالة ، هو : کلّ ، ثم جمیع ، ثم عامة - نحو : قرأت دیوان المتنبی کلّه ، واستوعبت قصائده کلّها. فلو لم نأت بکلمة : «کلّ» لکان من المحتمل أن المراد من المقروء ومن المستوعب ، هو : الأکثر ، أو الأقل ، أو النصف ، أو غیر ذلک ؛ إذ لیس فی الکلام ما یدل علی الإحاطة الکاملة ، والشمول الوافی. فمجیء لفظ : «کلّ» (1) منع - فی الأغلب - الاحتمالات ، وأفاد الإحاطة والشمول بغیر مبالغة ولا مجاز (2) ...
ومثل هذا : غردت العصافیر جمیعها لاستقبال الصبح. فلو لم تذکر کلمة : «جمیع» لکان من المحتمل أن المراد هو تغرید أکثرها ، أو بعض منها ... إذ لیس فی الکلام ما یقطع بالدلالة علی الإحاطة والشمول ، فلما جاءت کلمة : «جمیع» أزالت - فی الأغلب - الاحتمال ، وأفادت العموم القاطع.
ومثلها کلمة : «عامة» (والتاء فی آخرها زائدة لازمة لا تفارقها فی إفراد ، ولا فی تذکیر. ولا فی فروعهما. وهی للمبالغة ، ولیست للتأنیث) ، تقول : حضر الجیش عامّته - حضر الجیشان عامّتهما - حضر الجیوش عامّتهم - حضرت الفرقة عامّتها - حضرت الفرقتان عامّتهما - حضرت الفرق عامّتهن ...
لابد فی استعمال کل لفظ من هذه الثلاثة فی التوکید أن یسبقه المؤکّد ، وأن
ص: 509
یکون المؤکّد مماثلا له فی ضبطه ، ومضافا إلی ضمیر مذکور حتما ، یطابقه فی الإفراد والتذکیر وفروعهما ؛ لیربط بینهما ، وأن یکون المؤکّد ، إما جمعا له أفراد (1) ، وإما مفردا یتجزأ بنفسه ، أو بعامله (2). فمثال الجمع المؤکّد : حضر الزملاء کلهم ، أو : جمیعهم ، أو عامتهم - کرّمت الزمیلات کلّهن - أو جمیعهن ، أو عامتهن ، ومنه قول الشاعر :
لولا المشقّة ساد الناس کلّهم
الجود یفقر ، والإقدام قتّال
ومثال المفرد الذی یتجزأ بنفسه : قرأت الکتاب کلّه ، أو : جمیعه ، أو : عامّته. ومثال المفرد الذی یتجزأ بعامله اشتریت الحصان کله ، أو : جمیعه ، أو : عامته.
لما سبق کان من المستقبح أن یقال : جاء الأخ کله - مثلا - لعدم الفائدة من التوکید ؛ إذ یستحیل نسبة المجیء إلی جزء منه دون آخر (3) ... ومال أکثر النحاة إلی منع هذا وأمثاله ، ولم یکتفوا باستقباحه.
ص: 510
وکل واحد من الألفاظ الثلاثة لا یفید اتحاد الوقت عند وقوع المعنی علی أفراده (1) ؛ ففی مثل : حضرت الوفود کلها - یصح أن یکون حضورها فی وقت واحد ، أو فی أوقات متباینة ، ومثل : غاب الجنود کلهم ... ، یصح أن یکون الغیاب فی وقت واحد ، أو فی أوقات متعددة. وهکذا ، فهی فی معناها تفید العموم المطلق من غیر زیادة محتومة علیه ، أما ما زاد علیه فلا یفهم إلا بقرینة أخری.
ویلحق بهذا النوع : ألفاظ العدد التی تفید العموم (2) تأویلا ، لا صراحة ؛ وهی الأعداد المفردة (وتترکز فی 3 و10 وما بینهما) فهذه الأعداد قد تضاف أحیانا إلی ضمیر المعدود ، نحو : مررت بالإخوان ثلاثتهم ، أو خمستهم أو سبعتهم ، أو ... ، بالنصب فی کل ذلک علی الحال (3) ؛ بتأویل : مثلّثا إیاهم ، أو : مخمّسا ، أو مسبعا ...
ویصح إتباع اسم العدد لما قبله فلا یعرب حالا ، وإنما یعرب توکیدا معنویّا ؛ بمعنی : جمیعهم ، ویضبط لفظ العدد بما یضبط به التوکید المعنوی ، والصحیح أن هذا لیس مقصورا علی العدد المفرد (کما یقول کثیر من النحاة) ، بل یسری علی العدد المرکب أیضا ؛ نحو : جاء القوم خمسة عشرهم (4) بالبناء علی فتح الجزأین فی محل نصب. علی الحال ، أو فی محل آخر یطابق فیه المتبوع (5).
* * *
ص: 511
ا - فی مثل قوله تعالی : (خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً)، تعرب کلمة : «جمیعا» حالا ، ولا یصح إعرابها توکیدا ؛ لعدم وجود الضمیر الرابط.
وفی قراءة من قرأ قوله تعالی : (إنا کلا فیها) ، لا یصح إعراب : «کلّا» توکیدا ، لعدم وجود الضمیر ، وإنما تعرب بدلا من الضمیر «نا» اسم : «إنّ» بدل کل من کل. وهذا هو الإعراب الأحسن ؛ إذ لا ضعف فیه ، ولا مانع یمنع من إبدال الاسم الظاهر من الضمیر الحاضر (1) بدل کل من کل ... - (کما سیجیء فی باب البدل (2) ومنه : قمتم ثلاثتکم). وبدل الکل من الکل لا یحتاج لرابط من ضمیر أو غیره.
ب - إذا اجتمع أکثر من مؤکد معنویّ - بشرط وجود داع بلاغیّ (3) ، یقتضی هذا الاجتماع - تقدمت (4) النفس علی العین ، ویستحسن تأخیر کلمة : «کل» عنهما ، ویلیها کلمة : «جمیع» ثم کلمة : «عامة» وإذا تعددت ألفاظ التوکید فهی للمتبوع وحده (5) ، ولا یصح - فی الرأی الأنسب - اعتبار واحد منها توکیدا للتوکید. وهذا حکم عامّ فی جمیع ألفاظ التوکید الأصلیة والملحقة بها.
ح - قد تقع ألفاظ التوکید المعنوی السبعة (وهی : نفس - عین - کلا - کلتا - کلّ (6) - جمیع - عامة) معمولة لبعض العوامل ، ولا تعرب توکیدا - لعدم وجود المؤکّد - ؛ فتعرب علی حسب حاجة ذلک العامل ، فاعلا ، أو مفعولا ، أو مبتدأ ، أو خبرا ... و ... وبالرغم من امتناع إعرابها توکیدا -
ص: 512
تظل فی حالتها الجدیدة تؤدی معنی التوکید کما کانت تؤدیه من قبل ، مع أنها فی حالتها الجدیدة لا تسمی فی اصطلاح النحاة توکیدا ، ولا تعرب توکیدا. وهذا کثیر فی : «جمیع» ، و «عامة» ؛ نحو : الزائرون انصرف جمیعهم ، أو : عامتهم - الزائرون رأیت جمیعهم ، أو : عامّتهم - الزائرون مررت بجمیعهم ، أو بعامّتهم ...
أما : «کلّ» فیکثر وقوعها - عند فقد المؤکّد - بعد عامل الابتداء ، فتکون مبتدا ، ویقل وقوعها بعد غیره ؛ فمثال الأول : الحاضرون کلّهم نابه. ومثال الثانی قول الشاعر :
یمید (1) إذا والت
علیه دلاؤهم
فیصدر عنه کلّها ، وهو ناهل
وهذا من القلیل الذی لا یحسن محاکاته ، لوقوعها فاعلا مع إضافتها للضمیر (2).
ومن الأمثلة للثانی : الحاضرون تکلم کلّهم - الحاضرون سمعت کلّهم ، وأعجبت بکلهم ...
وکلمة : «کلّ» فی لفظها مفردة مذکرة دائما (3) ، وإذا وقعت مبتدأ ، وأضیفت إلی نکرة - وجب فی الأغلب عند المطابقة مراعاة معنی النکرة فی خبر : المبتدأ : «کلّ» ؛ کقوله تعالی : (کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)،وقوله تعالی : (کُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَیْهِمْ فَرِحُونَ) وقول جریر :
وکل قوم لهم رأی ومختبر
ولیس فی تغلب رأی ولا خبر
ص: 513
فإن أضیفت لمعرفة لم یلزم اعتبار المعنی ، وإنما یصح اعتباره أو اعتبار لفظ «کلّ» المفرد المذکر ؛ کقوله تعالی : (وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقِیامَةِ فَرْداً.) وقوله علیه السّلام : «کلکم راع ، وکلکم مسئول عن رعیته» ونحو : کلکم هداة للخیر ، وکلکم داعون إلیه. وقول الشاعر :
کلّ العداوات قد ترجی إزالتها
إلا عداوة من عاداک من حسد
وقول الآخر :
کل المصائب قد تمر علی الفتی
وتهون غیر شماتة الحساد
وقد تقع بدلا کالتی فی الآیة السابقة - ، فی ص 512 - علی قراءة من قرأها (إنا کلّا فیها). وقد سبق أن قلنا (1) ما نصّه :
«إنها تقع نعتا بشرط إضافتها إلی اسم ظاهر ، مماثل للمنعوت فی لفظه ، وفی معناه معا - وهو الأغلب - أو مماثل لشیء له صلة معنویة قویة به ، فمثال الأول قول الشاعر :
کم قد ذکرتک لو أجزی بذکرکمو
یا أشبه الناس کلّ الناس بالقمر
فکلمة : «کل» نعت للناس. ومثال الثانی قول الآخر :
وإن کان ذنبی کلّ ذنب فإنه
محا الذنب کلّ المحو من جاء تائبا
فکلمة : «کلّ» - فی الشطر الثانی - نعت للذنب ، وهی مضافة إلی ما له صلة معنویة بالمنعوت.
«وإذا وقعت کلمة : «کل» نعتا صارت من الجامد المؤول بالمشتق ، وصار معناها : «الکامل» فی کذا (2) ... وهو معنی یختلف عن معناها فی التوکید». ا ه.
ولا یجوز فیها القطع فی حالتی استعمالها نعتا أو توکیدا - کما سبقت الإشارة
ص: 514
لهذا (1) - ولا داعی للأخذ بالرأی الذی یبیح استعمالها توکیدا فی الصورة السالفة التی تضاف فیها لاسم ظاهر مماثل لما قبلها علی الوجه الذی شرحناه (2) ، لأن فی الأخذ به خروجا علی الکثیر الفصیح من کلام العرب الذی یضیفها عند التوکید إلی ضمیر مطابق للمؤکّد (المتبوع) - أما المضافة للظاهر فلها معنی آخر ، وتأویل مغایر ، کما رأینا.
«ملاحظة» : یقول الصبان فی هذا الموضع من باب : «التوکید» ما نصّه :
(«اعلم أنّ «کلّا» وشبهها فی إفادة شمول کل فرد ، إن کانت داخلة فی حیّز النفی - بأن أخّرت عن أداته لفظا ؛ (نحو : «ما کلّ ما یتمنی المرء یدرکه ...» ، وما جاء کل القوم ، وما جاء القوم کلّهم ، ولم آخذ کلّ الدراهم ، ولم آخذ الدراهم کلّها ...) أو رتبة ؛ (نحو : کلّ الدراهم لم آخذ ، والدراهم کلها لم آخذ ...) توجّه النفی إلی الشمول خاصة ، وأفاد سلب العموم. وإلا بأن قدّمت علی أداته لفظا ورتبة توجّه النفی إلی کل فرد ، وأفاد عموم السّلب ؛ کقوله علیه الصلاة والسّلام : «... کل ذلک لم یکن ...». وکالنفی النهی. قال التفتازانی : «والحقّ أن الشق الأول أکثریّ لا کلیّ ؛ بدلیل قوله تعالی : (وَاللهُ لا یُحِبُّ کُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.) وقوله : (وَاللهُ لا یُحِبُّ کُلَّ کَفَّارٍ أَثِیمٍ.) - وقوله : (وَلا تُطِعْ کُلَّ حَلَّافٍ مَهِینٍ.) ا ه. کلام الصبان.
وأما «کلا» و «کلتا» فیکثر - عند فقد المؤکّد - وقوعهما بعد عامل الابتداء ، ویقل بعد غیره (فهما من هذه الناحیة مثل : «کلّ») ؛ فمثال الأول : الحاضران کلاهما (3) نابه - الحاضرتان کلتاهما نابهة ... ومثال الثانی ما قاله بعض الأعراب وقد خیر بین شیئین : «کلیهما وتمرا». یرید : أعطنی کلیهما وتمرا (4). وفی هذه الصور وأشباهها یفیدان معنی التوکید ، لکن لا یصح إعرابهما توکیدا.
وأما «نفس» و «عین» فالصحیح - عند فقد المؤکّد وقوعهما معمولین
ص: 515
- أحیانا - لبعض العوامل (1) ، وإفادتهما التوکید المعنوی مع امتناع إعرابهما توکیدا (2) ، ومن الأمثلة قوله تعالی : (کَتَبَ رَبُّکُمْ عَلی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(3) ، ونحو : جاءنی عین الکتاب ... والعرب تقول : نزلت بنفس الجبل ، ونفس الجبل مقابلی (4).
د - فی جمیع أنواع التوکید المعنوی لا یصح اتحاد توکید المتعاطفین إلا إذا اتحد عاملاهما معنی ، فلا یقال غاب المسافر ، وحضر الغائب کلاهما. فإن اتحد معنی العاملین صح اتحاد توکید المتعاطفین ، ولو کان لفظ العاملین مختلفا ؛ نحو : ذهب المسافر ، وانطلق الصانع کلاهما.
ه - یجوز الفصل بین المؤکّد والمؤکّد بغیر أجنبی محض من العامل ؛ طبقا للبیان الشامل الذی سلف (5) - ومنه قوله تعالی : (وَلا یَحْزَنَّ ، وَیَرْضَیْنَ بِما آتَیْتَهُنَّ ، کُلُّهُنَّ ...)، وقد اختلفت النحاة فی الفصل بالحرف : «إمّا» ، والأحسن الأخذ بالرأی الذی یبیحه فیقول : سأسعد بالقوم إمّا کلّهم ، وإما بعضهم ...
و - سبقت الإشارة (6) إلی أنه لا یجوز - فی أصح الآراء - قطع التوکید مطلقا (7) حتی کلمة : «کل» إذا صارت نعتا وجب إتباعها ، وعدم قطعها.
* * *
ص: 516
هناک ألفاظ ملحقة بالثلاثة السالفة الدالة علی الإحاطة والشمول ، وهذه الملحقة هی : أجمع - جمعاء - أجمعون - جمع -.
وإنما سمیت ملحقة لأن الکثیر الفصیح فی استعمالها أن تقع مسبوقة بلفظة : «کلّ» التی للتوکید أیضا ، ومطابقة لها ، ومقوّیة لمعناها (2) ؛ وذلک بأن تقع : «أجمع» بعد : «کلّ» ، و «جمعاء» بعد : «کلها» ، و «أجمعون» بعد : «کلهم» ، و «جمع» بعد : «کلهن» ، مثل : حصدت الحقل کلّه أجمع - - سافرت الأسرة کلها جمعاء - أقبل الضیوف کلهم أجمعون - أقبلت الفتیات کلّهن جمع (3) ...
ومن الجائز - مع قلته (4) وفصاحته - أن تستقل کل واحدة من هذه الألفاظ الملحقة ، فتقع توکیدا غیر مسبوقة بکلمة : «کل» التی أوضحناها. نحو : استوعبت النصح أجمع - استظهرت القصیدة جمعاء - صافحت الزائرین أجمعین (5) - أکرمت الزائرات جمع.
ولا تدل کلمة : «أجمعین» وأخواتها علی اتحاد الوقت عند وقوع
ص: 517
المعنی علی الأفراد ؛ فهی مثل : «کل» وأخواتها ، فی إفادة العموم المطلق دون زیادة علیه (1). فإذا قلنا : قابلت الزائرین أجمعین فقد تکون المقابلة فی وقت واحد أو فی أوقات مختلفة.
والفصیح الذی یحسن الاقتصار علیه عدم تثنیة : «أجمع» و «جمعاء» ، فلا یقال : أفادنی الکتابان أجمعان ، ولا أنشدت القصیدتین جمعاوین ، لأن أکثر العرب استغنوا «بکلا» و «کلتا» عن تثنیة أجمع وجمعاء (2) ...
وهناک ألفاظ أخری للتوکید ، تجیء - مجتمعة أو غیر مجتمعة - مرتبة وجوبا بعد «أجمع» وفروعها ، وهی بمعناها ، وتعد من الملحقات أیضا مثلها ، وتفید فائدتها فی تقویة معنی : «کلّ» - إن وجد فی الکلام لفظ : «کل» (3) - وإزالة الاحتمال عن شمولها ؛ فیجیء بعد «أجمع» لفظ بمعناه وفائدته ؛ هو : «أکتع» ، وإن شئنا الزیادة جئنا بعد «أکتع» ، بلفظ : «أبصع» ، ثم إن شئنا الزیادة جئنا بلفظ : «أبتع» أخیرا. ونأتی بعد : «جمعاء» ، بلفظ : کتعاء ، ثم بصعاء ، ثم بتعاء. ونأتی بعد : أجمعین ، بلفظ : (أکتعین ، ثم أبصعین ، ثم أبتعین) - مجموعة جمع مذکر سالما -. وبعد : «جمع» بلفظ : (کتع - بتع - بصع ...) مجموعة علی وزن : «فعل» (4) فالمثال الذی یجمع لفظ التوکید الأصلی هو : «کلّ» ویلیه ملحقاته المختلفة - کاملة أو غیر کاملة - مرتبة علی الترتیب السالف وجوبا ، وهو : سافر الوفد کله ، أجمع ، أکتع ، أبصع ، أبتع - سافرت
ص: 518
الکتیبة کلها جمعاء ، کتعاء ، بصعاء ، بتعاء - حضر المدعوون کلهم ، أجمعون ، أکتعون ، أبصعون ، أبتعون ، وحضرت المدعوات کلهن جمع - کتع - بصع - بتع. ویقاس علی هذا غیرها من الصور التی تستعمل فی الإفراد والتذکیر وفروعهما.
ویجب ملاحظة ما یأتی :
1- أن جمیع ألفاظ التوکید الملحقة بالثلاثة الأصلیة لا تضاف مطلقا (لضمیر ولا لغیر ضمیر (1)) بخلاف ألفاظ التوکید المعنوی الأصلیة مثل : «کلّ» وسواها ؛ فلابد من إضافتها لضمیر مطابق للمؤکّد ، کما عرفنا.
2- أنّ جمیع ألفاظ التوکید المعنوی الأصلیة والملحقة - معارف ، فأما الأصلیة فإنها معارف بسبب إضافتهما إلی الضمیر الرابط ؛ فهی تکتسب منه التعریف. وأما الملحقة فإنها معارف بالعلمیة ، لأن کل لفظ منها هو «علم جنس» یدل علی الإحاطة والشمول ؛ ولهذا لا یجوز نصبه علی الحال - فی الرأی الصحیح (2) - ویجب منع الصرف فی : «أجمع» و «جمعاء» و «جمع» ، وکل ما کان من تلک الملحقات علی وزن : فعل (3).
3- أن ألفاظ التوکید الملحقة إذا اجتمعت وجب ترتیبها علی الوجه السابق ، وقبلها - فی الغالب - لفظة : «کلّ» ، ویجب إعراب لفظة : «کلّ» توکیدا للمؤکّد الذی قبلها - وکذلک بقیة ما بعدها من الملحقات التی تجیء لتقویتها ، وإزالة الاحتمال عن شمولها ؛ فتعرب کل واحدة منها توکیدا معنویّا للمؤکّد (المتبوع) ولیس التالی توکیدا للتوکید الذی سبقه - فی الرأی الأنسب (4) -
ص: 519
ولا یصح عطف هذه الملحقات بعضها علی بعض. أو علی شیء قبلها ما دامت مستعملة فی التوکید ؛ لأن جمیع ألفاظ التوکید المعنوی - الأصلیة والملحقة - لا یصح أن یسبقها عاطف ؛ - کما سلف (1) -.
وکذلک لا یصح - فی الرأی الأصح - الفصل بین کلمة : «کل» وما یلیها من هذه الألفاظ الملحقة المستعملة فی التوکید - کما تقدم (2) -
4- عرفنا (3) أن جمیع ألفاظ التوکید الأصلیة والملحقة إذا تعددت کانت توکیدا للمتبوع وحده ولا یصح أن یکون أحدها توکیدا للتوکید -.
* * *
ص: 520
ا - من الأسالیب الصحیحة - کما سبقت الإشارة (1) - جاء القوم بأجمعهم (بفتح المیم ، أو ضمها). فکلمة : «أجمع» هذه من ألفاظ التوکید القلیلة ، ولا بد أن تضاف إلی ضمیر المؤکّد ، وأن تسبقها الباء الزائدة الجارة. وهی زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب کلمة : «أجمع» توکیدا مجرور اللفظ بالباء الزائدة اللازمة ، فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب حالة المؤکّد (المتبوع). وهذا الإعراب أوضح وأیسر من إعرابها بدلا من المتبوع ، مجرورة اللفظ بالباء فی محل رفع ، أو : نصب ، أو : جر ؛ لأن صاحب هذا الإعراب لا یجعل «أجمع» هنا من ألفاظ التوکید ، برغم أنها - عنده - تؤدی معناه وتضاف إلی ضمیر مطابق للمؤکّد.
* * *
ب - تتلخص أهم الأحکام السابقة الخاصة بألفاظ التوکید المعنوی فیما یأتی :
1- وجوب تقدم المؤکّد (المتبوع). ومماثلة التوکید له فی الضبط
2- وجوب إضافة لفظ التوکید إلی ضمیر مطابق للمؤکّد إذا کان لفظ التوکید أساسیّا ، لا ملحقا. وهذا الضمیر لا یصح حذفه ولا تقدیره.
3- وجوب تطبیق أحکام التابع التی سبق بیانها ، (فی ص 435).
علی ألفاظ التوکید.
4- امتناع وجود عاطف یدخل علی لفظ التوکید إذا أرید بقاؤه للتوکید.
5- عدم قطعه.
6- إذا تعددت ألفاظ التوکید کانت لتوکید المتبوع وحده وروعی فی تقدیم بعضها عن بعض ترتیب خاصّ.
7- جمیع ألفاظ التوکید الأصلیة والملحقة معارف.
ص: 521
ألفاظ التوکید المعنوی معارف (1) بذاتها ، أو بإضافتها إلی الضمیر المطابق للمؤکّد. (المتبوع). والنکرة تدل علی الإبهام والشیوع ؛ فهما متعارضان تعریفا وتنکیرا.
لکن یجوز - فی الرأی الأصح - توکید النکرة إذا أفادها التوکید شیئا من التحدید والتخصیص ؛ یقربها من التعریف نوعا. وإلا لا یجوز ، لأنه لا فائدة منه.
وتتحقق استفادتها من التوکید إذا اجتمع فیها أمران :
أولهما : دلالتها علی زمن محدود بابتداء وانتهاء معینین معروفین ، کیوم وأسبوع ، وشهر ... ، أو علی شیء معلوم المقدار ؛ کدرهم ، ودینار ... وثانیهما : أن یکون لفظ التوکید من ألفاظ الإحاطة والشمول التی عرفناها ؛ تقول عملت یوما کلّه - وسافرت أسبوعا جمیعه - وتنقلت شهرا عامّته ... وتبرعت بدینار کلّه ... وکقول الشاعر (2) :
لکنه شاقه أن قیل ذا رجب
یا لیت عدّة حول کلّه رجب
وعلی أساس ما تقدم لا یصح : عملت زمنا کله - ولا أنفقت مالا کله ؛ لأن النکرة غیر محدودة الوقت ، ولا معلومة المقدار. کما لا یصح ؛ عملت یوما نفسه ، أو عینه ؛ لأن لفظ التوکید لیس من ألفاظ الإحاطة والشمول (3) ....
* * *
حذف المؤکّد (المتبوع) توکیدا معنویّا :
منعت جمهرة النحاة حذف المؤکّد (المتبوع) بحجة أن الحذف مناف
ص: 522
للغرض من توکیده توکیدا معنویّا. وأجاز آخرون الحذف ، بشرط أن یکون المؤکّد (المتبوع) ضمیرا رابطا فی جملة الصلة ، أو : الصفة ، أو : الخبر ؛ نحو : جاء الذی أکرمت نفسه ، أی : أکرمته نفسه - جاء قوم أکرمت کلّهم ، أجمعین ، أی : أکرمتهم کلّهم أجمعین - الأسرة أکرمت (1) کلّها أجمعین ، أی : أکرمتها کلها أجمعین ، وحذفه - عند هؤلاء - فی الصلة أکثر من الصفة ، وفی الصفة أکثر من الخبر.
والأحسن الاقتصار علی الرأی الذی یمنع الحذف جهد الاستطاعة ، لأن حجتهم أقرب إلی العقل والسّماع ، ورأیهم أبعد من اللبس والشک ، ولم یستند الموافقون علی الحذف - إلی الأدلة والأمثلة المأثورة التی تکفی لتأیید رأیهم.
* * *
توکید الضمیر المرفوع المتصل والمنفصل توکیدا معنویّا ...
ا - إذا أرید توکید الضمیر المتصل ، المرفوع ، (المستتر أو البارز) توکیدا معنویّا یزیل الاحتمال عن الذات ، جیء بلفظ التوکید الذی یحقق هذا الغرض ؛ وهو : «نفس» أو «عین» ، بشرط أن یفصل بینه وبین المؤکّد إما ضمیر منفصل مرفوع یعرب توکیدا (2) لفظیّا مناسبا للضمیر السّالف ، (أی : للمؤکّد) ، وإما فاصل آخر لیس ضمیرا ، نحو : أسرع أنت نفسک للصارخ. ونحو : رغبت أنت نفسک فی الخیر - رغبتما أنتما أنفسکما فی الخیر - رغبتم أنتم أنفسکم فی الخیر - رغبتن أنتن أنفسکن فی الخیر. ویجوز : (رغبت - حقّا - نفسک فی الخیر) - (رغبت یوم الجمعة نفسک أن تسافر) - (رغبتما - حقّا - أنفسکما فی الخیر) .. وهکذا. فالفصل واجب ، ولکن الفصل بالضمیر المنفصل أحسن وأفصح (3) ...
ص: 523
وعلی أساس ما سبق لا یصح : " تکلم المحمدون هم أنفسهم" علی اعتبار الضمیر : (هم) توکیدا ، لأن المؤکّد (المحمدون) لیس ضمیرا متصلا مرفوعا ، وإنما هو اسم ظاهر لا یؤکده الضمیر توکیدا معنویّا (1) والاسم الظاهر أقوی فی الدلالة من الضمیر ؛ إذ لا یحتاج إلی مرجع یفسره ، بخلاف الضمیر.
أما فی نحو : " المحمدون أکرمتهم هم أنفسهم" فالفصل جائز لا واجب ؛ لأن المؤکّد ضمیر متصل ، ولکنه لیس مرفوعا ؛ فیؤکّد الضمیر بالضمیر ، ویجوز : المحمدون أکرمتهم أنفسهم بغیر توکید بالضمیر. وأما فی نحو : المحمدون قاموا کلّهم ، فالفصل جائز أیضا لا واجب ؛ لأن لفظ التوکید وهو : «کل» لیس : «النفس» أو «العین» (2) ...
ب - وإذا أرید توکید الضمیر المرفوع المنفصل ، بالنفس» أو : «بالعین» ، فحکمه حکم توکید الاسم الظاهر بهما ؛ کلاهما لا یحتاج إلی
ص: 524
فاصل ؛ تقول : أنت نفسک سافرت - أنتما أنفسکما سافرتما - أنتم أنفسکم سافرتم ... وهکذا ...
* * *
(1) : هو تکرار اللفظ السابق بنصّه (2) ، أو بلفظ آخر مرادف (3) له.
والمؤکّد (المتبوع) ، قد یکون اسما ، نحو : الشمس الشمس أمّ الأرض. وقد یکون فعلا ؛ نحو : تتحرک تتحرک الأجرام السماویة ، وقد یکون حرفا ؛ نحو : نعم نعم أیها الداعی إلی الهدی. وقد یکون جملة فعلیة ، أو : اسمیة ؛ نحو : (الخیر محمود المغبّة - تواتیک عواقبه). (الخیر محمود المغبّة - تواتیک عواقبه). وقد یکون اسم فعل ؛ نحو :
ص: 525
هی الدنیا تقول بملء فیها
حذار حذار من بطشی وغدری
ومثال التوکد اللفظی بالمرادف : الذهب التبر مختبیء فی صحارینا ... هذا ، وفی جمیع صور التوکید اللفظی وحالاته لا یصح تکرار اللفظ السابق (وهو : المؤکّد) ، أکثر من ثلاث مرات ؛ کقول الشاعر :
ألا حبّذا ، حبّذا ، حبّذا
صدیق تحملت منه الأذی
وقول الآخر :
ألا ، یا اسلمی ، ثم (1)
اسلمی ، ثمّت (2) اسلمی
ثلاث تحیّات ، وإن لم تکلّمی (3)
...
الغرض من التوکید اللفظیّ (4) ؛ أمور ؛ أهمها : تمکین السامع من تدارک لفظ لم یسمعه ، أو سمعه ولکن لم یتبینه. وقد یکون الغرض التهدید ؛ کقوله تعالی فی خطاب المعاندین بالباطل : (کَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ کَلَّا ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ.)
وقد یکون التهویل : کقوله تعالی : (وَما أَدْراکَ (5) ما یَوْمُ الدِّینِ (6)؟ ثُمَّ ما أَدْراکَ ما یَوْمُ الدِّینِ)؟.
وقد یکون التلذّذ بتردید لفظ مدلوله محبوب مرغوب فیه ، نحو : (الصحة ، الصحة!! ، هی السعادة الحقّة الحقّة) - (الجنة الجنة!! ما أسعد من یفوز بها.) - (الأمّ ، الأمّ!! أعذب لفظ ینطق به الفم (7).) ..
ص: 526
هذا ، والأغراض السالفة هی أهم ما یمیز التوکید اللفظی بالمرادف من عطف البیان - کما سیجیء فی بابه (1) ...
* * *
للتوکید اللفظی أحکام تختلف باختلاف نوع المؤکّد (المتبوع) من ناحیة أنه اسم ، أو فعل ، أو حرف ، أو جملة ، أو اسم فعل ، وتتلخص هذه الأحکام فیما یأتی ، (والأول منها عام ینطبق علی جمیع أنواع التوکید اللفظی ، ولا یختلف فیه نوع عن نوع) :
ا - اللفظ الذی یقع توکیدا لفظیّا ، ممنوع من التأثر والتأثیر ، (أی : لا تؤثر فیه العوامل ؛ - فلا یکون مبتدأ ، ولا خبرا ، ولا فاعلا ، ولا مفعولا به ، ولا غیره ... ؛ فلیس له موضع ، ولا محل من الإعراب ، مطلقا - وکذلک لیس له تأثیر فی غیره مطلقا ؛ فلا یحتاج لفاعل ، أو مفعول ، أو مجرور ، أو غیره (2) ...) وإنما یقال فی إعرابه : «إنه توکید لفظی لکذا.» ؛ فهو تابع له فی ضبطه الإعرابیّ ، من غیر أن یکون کالمتبوع فاعلا ، أو مفعولا ، أو مبتدأ ، أو غیر ذلک .. ومن غیر أن یکون له محلّ من الإعراب ، أو معمول ... ولا فرق فی هذا الحکم بین أن یکون لفظ التوکید اسما ، أو فعلا ، أو حرفا ، أو جملة ، أو اسم فعل ؛ ففی مثل : إن الشمس إن الشمس قاتلة للجراثیم ، تعرب : «إنّ» الثانیة «توکیدا لفظیّا» ، ولیس لها عمل ولا محلّ. کما تعرب «الشمس» الثانیة «توکیدا لفظیّا» ولیس لها عمل ولا محلّ ، ولیست معمولة. و «قاتلة» خبر «إن» الأولی ، التی لها العمل وحدها ، وهی التی تحتاج إلی الاسم والخبر ، دون الثانیة.
ص: 527
ویصح أن یقال - کما سیجیء (1) - : إن الشمس إنها قاتلة للجراثیم. فکلمة «إن» الثانیة توکید لفظی لا عمل لها ولا محلّ ، و «ها» ضمیر عائد علی الشمس ، مبنی علی السّکون ، لا محل له من الإعراب ؛ فلیس اسما ل «إنّ» ، ولا لغیرها ، ولا عاملا ، ولا معمولا لشیء مطلقا ؛ وإنما هو مجرد رمز یحاکی (2) اسم «إن» الأولی ، ویعرب توکیدا لفظیّا له (3) ... وهکذا کل رمز آخر یشبهه.
ومن الواجب مراعاة ما سبقت (4) الإشارة إلیه ، وهو : أن المؤکّد (المتبوع) لا یصح تکراره أکثر من ثلاث مرات.
ب - إن کان المؤکد (وهو : المتبوع) اسما :
1- فإن کان اسما ظاهرا (ومثله : اسم الفعل). فتوکیده اللفظیّ یکون بمجرد التکرار ، نحو : النجوم النجوم معلقة فی الفضاء ، والشمس واحدة منها ، والأرض الأرض کالحصاة الصغیرة بین آلاف من الکواکب الأخری. فکلمة : «النجوم» الثانیة ، وکذلک کلمة : «الأرض» الثانیة - توکید لفظیّ ، وکلتاهما تضبط کالأولی ، لأنها تابعة لها فی الضبط فقط ، من غیر أن یقال عن الثانیة إنها مبتدأ ، أو خبر ؛ أو فاعل ، أو غیره مما له موقع إعرابی ... ویستثنی من هذا الحکم الأسماء الموصولة ، فإنها لا تؤکّد توکیدا لفظیّا إلا بإعادة لفظها وصلته معه ، فلا یجوز تکرار اسم الموصول وحده دون تکرار صلته. نحو : الذی سمک السماء. الذی سمک السماء - قادر علی دکّ عروش الظالمین ...
هذا ، والأغلب أن الاسم الظاهر لا یکون توکیده اللفظی ضمیرا - لما سبق بیانه (5) -.
ص: 528
2- وإن کان المؤکّد (وهو المتبوع) ضمیرا متصلا - مرفوعا ، أو غیر مرفوع - فمن الممکن توکیده توکیدا لفظیّا بضمیر یماثله فی معناه لا فی لفظه ؛ فیکون توکیده بالضمیر المنفصل المرفوع المناسب له فی الإفراد والتذکیر وفروعهما ؛ نحو : أرأیت أنت (1) الخیر وافی خاملا - یفرحک أنت وصول الحق إلی صاحبه - هل لک أنت فی عمل الخیر فتؤجر؟. ونحو : أرأیتما أنتما ... أرأیتم أنتم .. أرأیتن أنتن .... (2) ففی الأمثلة السالفة وقع الضمیر المنفصل المرفوع (أنت وفروعه) ، توکیدا لفظیّا لضمیر قبله متصل ، مرفوع ، أو : منصوب ، أو مجرور ؛ وفی کل حالة من الثلاث یعرب الضمیر «أنت» ، وفروعه - توکیدا لفظیّا مبنیّا علی الفتح أو غیره ، ولا یقال فیه إنه مبنی فی محلّ رفع ، أو : نصب ، أو : جر ، إذ لیس للتوکید اللفظیّ محل إعرابیّ ، لأن المحل الإعرابی لا یکون إلا للمبتدأ ، أو الخبر ، أو الفاعل ، أو غیرها مما له موضع إعرابی لا یقوم علی التوکید اللفظیّ.
ومن الضمیر المرفوع المتصل ما هو بارز کالأمثلة السابقة ، وما هو مستتر کالفاعل لکل من الأفعال الآتیة فی قوله علیه السّلام : «کل واشرب ، والبس فی غیر مخیلة (3) ولا کبر» ... فکل فعل من هذه الأفعال له فاعل ضمیر مستتر مرفوع ، تقدیره : أنت. فإذا أرید توکید هذا الفاعل المستتر توکیدا لفظیّا فتوکیده بالضمیر المرفوع البارز «أنت» ، وهو غیر الفاعل المستتر. فنقول : کل أنت ، واشرب أنت ، والبس أنت ، «فأنت» الضمیر الظاهر هو توکید لفظی للمستتر ، ومثله قول الشاعر :
إذا ما بدت من صاحب لک زلّة
فکن أنت محتالا لزلّته عذرا
فالضمیر : «أنت» البارز توکید لاسم : «کان» المستتر ، وتقدیره : أنت ، أیضا.
والضمیر : «أنت» المؤکّد ، هو فی أصله أحد ضمائر الرفع البارزة فحقه أن یؤکّد الضمیر المرفوع فقط ، لکنه - علی الرغم من هذا - یکون أحیانا
ص: 529
کثیرة توکیدا لفظیّا لضمیر غیر مرفوع کما علمنا ، فیخالف بهذا ما یناسب أصله الأول ، ولکن هذه المخالفة مقبولة ، وقیاسیة قویة.
3- وإن کان المؤکّد (وهو : المتبوع) ضمیرا متّصلا - مرفوعا ، أو غیر مرفوع - وأرید توکیده بضمیر یماثله فی اللفظ والمعنی معا ، وفی الاتصال ، وفی النوع الإعرابیّ (1) - فلابد أن یعاد مع التوکید اللفظ الذی یتصل - مباشرة - بالمؤکّد (المتبوع) ، أی : أنه لا بد من تماثل الضمیرین (التابع والمتبوع) فی اللفظ ، وفی المعنی ، وفی الاتصال ، وفی أن یسبق کل ضمیر منهما - مباشرة - لفظ یماثل الذی یسبق الآخر فی نصّه ومعناه ، نحو : (انساب حولی صوت غنائی ساحر ؛ فجعلت جعلت ، أسمعه أسمعه ، وأصغی إلیه إلیه ؛ فامتلأت النفس سرورا). ولا یصح إعادة المؤکّد (المتبوع) وحده لأن هذا یخرجه عن الاتصال.
ففی الأمثلة المذکورة أرید توکید الضمیر المتصل المرفوع ، وهو : «التاء» التی فی آخر الفعل الأول : «جعل» فأکدنا هذا الضمیر بمثله فی کل ما أوضحناه ، وهو «التاء» الثانیة التی هی کالأولی فی لفظها ، وفی أنها ضمیر ، متصل ، للرفع ، مسبوق بفعل کالفعل الذی سبق المؤکّد (المتبوع). وکذلک أرید توکید الضمیر المتصل المنصوب ؛ وهو : «الهاء» فی آخر الفعل الأول : «أسمع» فأکدناه «بالهاء» الثانیة التی تماثله فی لفظه ، ومعناه ، واتصاله ، ووقوعه بعد فعل کالفعل الذی سبق المؤکّد (المتبوع). وکذلک أرید توکید الضمیر المجرور ، وهو : «الهاء» التی بعد «إلی» الأولی ، فأکّدناه بالهاء الثانیة التی تماثله فی لفظه ومعناه ، واتصاله ، ووقوعه بعد حرف جو یماثل الحرف الذی قبلی المؤکّد (المتبوع) تمام المماثلة ... (هذا ، وکل لفظ تکرر - بعد الأول - لا یکون له محل إعرابی کما سبق) (2) ....
ص: 530
4- وإن کان المؤکّد (المتبوع) ضمیرا منفصلا مرفوعا أو منصوبا (1) فتوکیده اللفظی یکون بتکراره بغیر شرط. (أی : أن توکیده یکون بضمیر یماثله لفظا ومعنی) فمثال المرفوع : أنت أنت مفطور علی حب الخیر. ومثال المنصوب قول الشاعر :
وإیّاک إیّاک المراء (2) ،
فإنه
إلی الشّرّ دعّاء ، وللشّرّ جالب
ویتضح من هذا أن المنفصل المنصوب لا یصح توکیده بالمنفصل المرفوع ، فلا یقال إیاک أنت أکرمت ، ولا ما أکرمت إلا إیاک أنت ، علی اعتبار کلمة : «أنت» للتوکید فی الصورتین.
ح - إن کان المؤکّد فعلا - ماضیا أو مضارعا (3) - فإن توکیده اللفظی یکون بتکراره وحده دون تکرار فاعله (4) ولا یکون للفعل المؤکّد (التابع) فاعل ؛ إنما الفاعل للأول (المتبوع) کقول أعرابی ، وقد سئل : أتقول الحق؟ فأجاب : (وهل یقول یقول غیری الحق؟ وأنا من معشر ولد ولد الحق معهم ، ولم یفارقهم). فلفظة : «یقول» الثانیة ، ومثلها : «ولد» الثانیة - لا محل لها من الإعراب.
د - وإن کان المؤکّد حرفا :
1- فإن کان حرف جواب (5) - یفید الإثبات أو النفی - فتوکیده اللفظی یکون بتکراره فقط ؛ کقول أعرابی لأخیه الحزین : (فیم الأسف علی مافات
ص: 531
ولیس علی الأرض باق؟ نعم نعم. لیس فی طول الحزن إلا إطالة الشقاء ، واستدامة العذاب) ... وقول آخر ، وقد سئل : لم تحاذر فلانا وهو یصادقک؟ فأجاب : (لا. لا ؛ فلیس المنافق بالصدیق. ورب أصداقة ظاهرة ، باطنها عداوة کامنة ، وهی أشد ضررا ، وأعمق خطرا من العداوة السافرة) ...
2- وإن کان المؤکّد حرفا غیر جوابیّ وقد اتصل به ضمیر - فتوکید هذا الحرف لا یکون بتکراره وحده ، وإنما یکون بتکراره ومعه الضمیر المتصل به. ویجب الفصل بین المؤکّد والمؤکّد بفاصل مّا ؛ نحو : لک (1) لک منزلة الشقیق البارّ ؛ وبک بعد الله بک أستعین ... وکقول الشاعر :
أیا من لست أقلاه (2)
ولا فی البعد أنساه
لک الله علی ذاکا
لک الله لک الله
3- وإن کان المؤکّد حرفا غیر جوابیّ - أیضا - وقد اتصل باسم ظاهر فتوکیده اللفظی یکون بتکراره ومعه الاسم الظاهر ، أو ضمیر هذا الاسم الظاهر ، - وإعادة الضمیر أفصح - ، وفی الحالتین یجب الفصل بین الحرفین ؛ المؤکّد والمؤکّد. ویصح فی الفصل الاکتفاء بذلک الاسم الظاهر ، نحو : (إن العاقل الکریم ، إن العاقل الکریم ، أحرص علی إماتة الحقد من تنمیة أسبابه) أو : (إن العاقل ، إن العاقل أحرص علی إماتة الحقد ...) ، أو : (إن العاقل إنه أحرص علی إماتة الحقد ...) ومثل : (آفة النصح أن یکون جهارا ، فلیت الناصح الحکیم لیت الناصح الحکیم لا یعلنه) ، أو : (لیت الناصح لا یعلنه) ، أو : (لیت الناصح لیته لا یعلنه) ومن أمثلة الفصل بالاسم الظاهر وحده قول الشاعر :
فتلک ولاة السوء قد طال ملکهم
فحتّام (3) حتّام العناء
المطوّل؟
ص: 532
ولو کان الحرف المؤکّد داخلا علی مضاف فالحکم السابق أیضا فیتکرر المؤکّد (المتبوع) ومعه الاسم المضاف والمضاف إلیه أو ضمیر المضاف إلیه : والأحسن إعادة الضمیر مع الفصل بینهما فی الحالتین. نحو : الکریم یود الکریم ، واللئیم یودّ الناس علی رجاء الفائدة. علی رجاء الفائدة ، أو : علی رجاء الفائدة علی رجائها (1) ...
4- وإن کان المؤکّد حرفا غیر جوابی - أیضا - وقد دخل علی حرف آخر فالتوکید اللفظی یکون بتکرار الأول مع ما دخل (2) علیه. ومن أمثلة هذا دخول «یا» علی «لیت» فی قول الشاعر (3) :
ویا لیتنی ثم (4) یا لیتنی
شهدت وإن کنت لم أشهد
هذا ، وتوکید الحروف توکیدا لفظیّا علی غیر الوجه السالف ضعیف ، بل شاذ ، لا یصح القیاس علیه ، کقول القائل :
إن إنّ الکریم یحلم ما لم
یرین من أجاره قد أضیما
فقد تکرر الحرف : «إنّ» بغیر فصل ولا إعادة شیء. ومثل قول الآخر :
أعناقها مشددات بقرن (7)
ص: 533
فقد تکرر الحرف «کأنّ» من غیر إعادة شیء معه ، ولکن وجد فاصل بین الحرفین. وهو : «واو» العطف ، فکان الضعف هنا أخف منه فی البیت السابق (1). ومثل قول الآخر یشکو حاله وحال أتباعه :
فلا والله لا یلفی (2)
لما بی
ولا للما بهم أبدا دواء
فقد تکرر الحرف اللام (للما) بغیر فصل ولا إعادة شیء. والتوکید هنا واضح الثقل ؛ لأن الحرف فردی ؛ فتکراره مباشرة یزید ثقله ویوضحه (3).
وأخف منه فی الثقل لاختلاف الحرفین مع منعهم إیاه إلا فی المسموع ، قول الشاعر :
فأصبحن لا یسألنه عن بمابه
أصعّد فی علو الهوی أم تصوّبا
فقد أتی «بالباء» بعد «عن» وهما یستعملان فی معنی واحد ؛ إذ یقال سألت به ، وسألت عنه (4).
والحق أن هذه الأمثلة ثقیلة ، فوق أن الدافع إلی أکثرها قد یکون الضرورة الشعریة. فاستبعادها أفضل.
ص: 534
عرفنا أن توکید الحروف الجوابیة توکیدا لفظیّا لا یتطلب أکثر من تکرار الحرف ، وأشرنا (1) إلی أن هذا الحکم ینطبق علی بعض حروف أخری ؛ فقد قالوا (2) : لا یشترط شیء عند توکید الحرف توکیدا لفظیّا إن کان الحرف للجواب کقول الشاعر :
لا - لا - أبوح بحبّ بثنة إنها
أخذت علیّ مواثقا وعهودا
وکذلک إن کان مفصولا من المؤکّد بسکتة (3) ؛ کقول الشاعر :
لا ینسک الأسی تأسّیا ؛ فما
ما من حمام أحد معتصما (4)
أو : کان مفصولا بجملة اعتراضیة ؛ نحو : إنّ - وأنت تعرف ما أقول - إن شر الإخوان من یخذل أخاه عند الشدائد.
أو : کان مفصولا بعاطف (5) کقول الشاعر :
لیت شعری!! هل ، ثم هل آتینهم
أم یحولنّ دون ذاک حمام؟
ص: 535
ه - وإن کان المؤکّد جملة اسمیة أو فعلیة جاز تکرارها بعطف صوریّ أو بغیر عطف. والأکثر أن یکون بالعطف الصّوریّ ، وأن یکون العاطف المهمل هو الحرف «ثمّ» (1) - غالبا -. ومن الأمثلة قوله تعالی : (کَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ کَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ،) وقوله تعالی : (وَما أَدْراکَ ما یَوْمُ الدِّینِ ، ثُمَّ ما أَدْراکَ ما یَوْمُ الدِّینِ)(2) ... وقولهم للتّقیّ : (الثواب عظیم ، الثواب عظیم). وللشقی : (الحساب عسیر ، الحساب عسیر).
ومما تجب ملاحظته أن العاطف هنا مهمل - لا یعطف مطلقا ، فهو صوریّ ، أی : فی صورة العاطف وشکله الظاهر ، دون حقیقته (3) ..
ویجب ترک العطف بین الجملتین إذا أوقع فی لبس ، نحو : عاقب الحاکم اللصوص ، عاقب الحاکم اللصوص ، فلو قلنا ؛ عاقب الحاکم اللصوص ثم عاقب الحاکم اللصوص - لوقع فی الوهم أن العقاب تکرر ، وأنه مرتان ، إحداهما بعد الأخری. مع أن المراد : مرة واحدة.
و - نعید هنا ما قلناه فی مناسبة سابقة (4) ، وهو أن توکید المصدر لعامله نوع من التوکید اللفظیّ ، فیؤکد نفس عامله إن کان مصدرا مثله ، ویؤکد مصدر عامله الذی لیس بمصدر ، لیتحد المؤکّد والمؤکّد معا فی نوع الصیغة ؛ تطبیقا لشرط التوکید اللفظی - ومنه التوکید بالمصدر الذی نحن فیه - فمعنی
ص: 536
قولک : عبرت النهر عبرا ... هو : عبرت النهر ، أوجدت عبرا عبرا. وهذا رأی کثرة النحاة (1).
* * *
حذف المؤکّد (المتبوع) فی التوکید اللفظیّ (2).
لا یکاد یوجد خلاف فی منع حذف المؤکّد توکیدا لفظیّا ، لأن حذفه مناف - حقّا - لتکراره.
ص: 537
العطف نوعان : عطف بیان ، وعطف نسق (1) ، وفیما یلی بیانهما :
نسوق بعض الأمثلة لإیضاحه :
(1) قال أحد المؤرخین : (طرق الحسین بن علیّ - رضی الله عنهما - باب سید کریم فی قومه ؛ هو : «امرؤ القیس الکلبیّ ، وخطب بنته : «الرّباب» فرحب به أبوها ، وملأت الفرحة جوانب نفسه ؛ لعلمه أن هذه المصاهرة ستربطه ببیت الرسول : «محمد» علیه السّلام ، وتسجل له شرفا خالدا علی الأیام ... وتمّ الزواج ، وأنجبت الرّباب ، فکان من ذریتها : الأدبیة المتفقهة «سکینة» إحدی شهیرات النساء فی الصدر الأول ، والتی قیل فیها (2) :
کانت «سکینة» تملأ الدّنیا ، وتهزأ بالرواة
روت الحدیث ، وفسّرت
آی الکتاب البینات
......)
فلو أن المؤرخ قال : طرق «الحسین» باب سید کریم لتساءلنا : من هو «الحسین»؟ ولشعرنا أن هذا الاسم - برغم أنه معرفة بالعلمیة - یحتاج إلی مزید من الإیضاح والتبیین یزیل عن حقیقة صاحبه ، وعن ذاته (3) شائبة الإبهام ،
ص: 538
إذ لا ندری أهو الحسین بن علی ، أم غیره ؛ لاشتراک هذا الاسم بین أفراد متعددة ، کل منها یسمی : «الحسین». لکن حین قیل : «الحسین بن علیّ» زالت تلک الشائبة بسبب کلمة : «ابن» الجامدة (1) التی وضحت المقصود ، وعینت المراد ، والتی معناها هنا معنی : «الحسین» ؛ لأن «الحسین» المقصود هو «ابن علی» ، «وابن علیّ» المقصود هو : «الحسین» فالمراد من الکلمتین ذات واحدة ، ولکن الثانیة أوضحت الأولی - کما قلنا - مع أنها تخالفها لفظا ، لا معنی وذاتا.
وکذلک خطب : «بنته» فإن کلمة : «بنت» هنا معرفة ؛ بإضافتها إلی الضمیر ، لکنها - بالرغم من تعریفها - مغشّاة بشیء من الشیوع والإبهام یجعلنا لا ندری حین نسمعها : أیّ بنات الرجل هی؟ أتکون ذات «الرّباب» أم ذات غیرها؟ ... فلما قال : «الرباب» - تحدد الغرض ، وتعینت ذات واحدة دون غیرها ؛ بسبب کلمة : «الرباب» الجامدة التی أزالت الإبهام ، وأوضحت المراد ، وبینته بمعناها الذی هو معنی : «البنت» ؛ لأن حقیقة البنت المقصودة هنا فی الکلام هی حقیقة «الرباب» وذات «الرباب» المقصودة هی ذات البنت التی یدور بشأنها الکلام. فهما مختلفتان لفظا ، مع اتفاقهما معنی وذاتا.
ومثل هذا یقال فی کلمة «الرسول» السالفة. فما حقیقة الرسول المراد؟ وما ذاته؟ إنّ کلمة : «الرسول» - برغم تعریفها هنا «بأل» تحتاج إلی تعیین أکمل وإیضاح أشمل ؛ لانطباقها علی عدد من الأفراد. فلما جاء اسم : «محمد» (2) تم به التعیین الذاتی ، وزال ما قد یحوم حول مدلول «الرسول» من شیوع وإبهام ؛ بفضل کلمة : «محمد» التی عینت ذاته ؛ لأنها بمعناها تماما ، والمراد منهما ذات واحدة.
ومثل هذا کلمة : «الأدبیة». فهذه الکلمة - برغم تعریفها هنا «بأل» - لا تدل دلالة دقیقة علی ذات واحدة معیّنة دون غیرها ، وإنما تصدق علی أدیبات متعددات ، فلما جاء بعدها کلمة بمعناها ، هی : «سکینة» الجامدة ترکز المراد : فی ذات أدیبة واحدة معینة ، لا ینصرف الذهن إلی سواها ، وهی الذات
ص: 539
المقصودة التی تدل علیها کل واحدة من الکلمتین.
فنلحظ مما سبق أن کل کلمة من الکلمات التی عرضناها (وهی : «ابن» - الرباب - محمد - سکینة ...) جامدة ، قد أزالت عن المعرفة التی قبلها ما یشوبها من غموض ، وشیوع ، وأوضحت المقصود منها إیضاحا لا یکاد یترک أثرا لإبهام أو اشتراک ، وهی فی الوقت نفسه بمعنی تلک المعرفة دون لفظها فمدلولهما ذات واحدة ، بالرغم من اختلاف لفظهما.
2- کتب أحد الأدباء إلی خطیب :
(عرفتک قبل الیوم عذب الکلام ، حلو الحدیث ، وسمعتک اللیلة خطیبا بارعا عبقریّا ... ولقد أصغیت إلی ما قلت ؛ فإذا کلمة ، «خطبة» استهوت الأفئدة ، وأداء ، «تمثیل» خلب الألباب ، وجرس ، «نغم» جسّم المعانی ، وکشف للعیون دلالات الألفاظ ؛ حتی کدنا نراها بیننا تروح وتغدو ..).
فلو أن الکاتب کتب : «أصغیت إلی ما قلت فإذا «کلمة» ...» لذهبت بنا الظنون ، مذاهب عدة فی الذات المرادة من هذه الکلمة المصوغة بصیغة النکرة. أهی ذات کلمة واحدة؟ أهی شعر أم نثر؟ أخطبة أم مقالة ... ولکن الکاتب أزال کثیرا من الظنون حین قال بعد ذلک : «خطبة» ومعناها هنا ، والمراد من ذاتها هو معنی : «کلمة» وذاتها ؛ فتحدّد المراد من : کلمة» بعض التحدید ، وحصرت النکرة فی دائرة أضیق من الدائرة الأولی الواسعة الإبهام والشیوع ، وصارت النکرة مختصّة بعد أن کانت مطلقة کاملة الإبهام والشیوع. وکذلک کلمة : «أداء» ؛ فإنها نکرة مطلقة ، قد یراد منها ذات الأداء البلاغیّ فی تکوین الأسلوب ، أو : ذات الأداء فی الثبات ، وعدم الاضطراب ، أو : ذات الأداء فی استیفاء المعانی ... أو .. ؛ فجاءت بعدها کلمة : «تمثیل» التی هی بمعناها هنا ، فحددت - بعض التحدید - - المراد من حقیقة الأداء وذاته ، وقللت الاحتمالات فی فهم المراد من تلک النکرة ، أو : بعبارة أخری : خصّصتها ، وقیدت شمولها بعض التقیید. ومثلها کلمة : «نغم» بعد النکرة : «جرس».
فکل کلمة من الثلاث : (خطبة - تمثیل - نغم) - وأمثالها - هی کلمة
ص: 540
جامدة ، وقد خصّصت النکرة التی قبلها بعض التخصیص ، وحددت شیوعها وإبهامها بعض التحدید. وهی فی الوقت نفسه بمعناها ، دون لفظها ؛ فالمراد منهما ذات واحدة.
وکل واحدة من هذه الثلاث ، ومن الأربعة التی سبقتها فی المثال الأول - ونظائرها - تسمی : عطف بیان ، ویقولون فی تعریفه :
إنه تابع (1) جامد - غالبا - یخالف متبوعه (2) فی لفظه (3) ، ویوافقه فی معناه المراد منه الذات (4) ، مع توضیح الذات إن کان المتبوع معرفة ، وتخصیصها (5) إن کان نکرة(6) ...
* * *
ص: 541
(1) والتوابع الأخری :
من التعریف السابق یتبین أن عطف البیان یشبه بعض أنواع النعت الحقیقی فی إیضاح المتبوع أو تخصیصه ، علی الوجه المشروح فی باب النعت (وقد یشبهه فی القطع) - کما أسلفنا - والفارق بینهما أن النعت الحقیقی لا بد من اشتماله علی ضمیر مستتر یعود علی المنعوت ، وأن الغالب علی النعت الحقیقی : «الاشتقاق» وأنه لا یوضح ولا یخصص الذات الأصلیة لمنعوته بلفظ یدل علیها مباشرة ، وتکون هی المرادة منه ، وإنما یوضح منعوته بصفة عرضیة وأمر طارئ علی الذات ، کالفهم ، والحسن ، والطول ، والقصر ...
أما عطف البیان فإنه یوضح أو یخصص الذات نفسها ، لا بأمر عرضی طارئ علیها (2) : وإنما بلفظ یدل علیها مباشرة وهو عین معناها ، فهو بمنزلة التفسیر للأول باسم آخر مرادف له یکون أشهر منه فی العرف والاستعمال من غیر أن یتضمن حالة من الحالات العرضیة التی تطرأ علی الذات وتوصف بها. ولهذا یغلب أن یکون عطف البیان جامدا - أی : غیر مشتق - فیکون کالعلم المجرد ، والکنیة. فلا ضمیر فیه ؛ لأن الغالب علیه الجمود - کما سبق - ومن الجائز ألا یتحقق فیهما هذا الفارق الأغلبی إذ یصح - بقلة - وقوع النعت جامدا مؤولا بالمشتق ، ووقوع عطف البیان مشتقّا ، ولکن الأولی مراعاة الأغلب الأفصح.
کما یتبین أن عطف البیان قد یشابه التوکید اللفظیّ بالمرادف فی بعض الصور مثل : (تبر ذهب) فی أن کلا منهما کمتبوعه فی معناه ، دون لفظه. إلّا أن الغرض من عطف البیان هو : الإیضاح أو التخصیص (3). أما الغرض من التوکید اللفظیّ - بتکرار اللفظ أو مرادفه - فأمر آخر ، أوضحناه فی بابه (4) ، وعلی
ص: 542
ملاحظة هذا الغرض الذی تدل علیه القرائن یتعین أحدهما فی موضع لا یصلح له الآخر.
أما المشابهة بین عطف البیان وبدل الکل من الکل (1) (من ناحیة معناهما ، وإعرابهما ، وقطعهما (2) وجمودهما ، دون لفظهما). فغالبة (3) ، ویصح فی أکثر حالاتهما أن یحل أحدهما محل الآخر من غیر أن یتأثر الکلام بهذا التغییر - کما سیجیء فی باب البدل - نحو : ما أعجب ملکة النحل ؛ (الیعسوب). تدیر مملکتها بحزم ومهارة ، وتراقب رعیتها بیقظة واهتمام ، ولا تستقر فی قصرها (خلیّتها) ، إلا فترات قصیرة للراحة والهدوء.
فکلمة : «الیعسوب» ، عطف بیان ، أو بدل کل من کل ، من النحلة ، وکلمة : «خلیة» عطف بیان ، أو بدل کل من کل ، من : قصر (4) ....
وثالثها : فی تذکیره وتأنیثه.
ورابعها : فی إفراده ، وتثنیته ، وجمعه.
أی : أنه لا بد أن یطابقه فی أربعة أمور من عشرة (1) ... کما فی الأمثلة التی سلفت (2) ... وقد یقع عطف البیان بعد أی (بفتح الهمزة
ص: 544
وسکون الیاء) ، التی هی حرف تفسیر (1) ، فلا یتغیر من حکمه شیء ؛ نحو : هذا الخاتم لجین ، أی : فضة. وفی هذه الصورة یتعین عطف البیان أو بدل الکل ؛ إذ لا یقع سواهما بعد : «أی» التفسیریة.
* * *
ص: 545
الکل من الکل (1) :
أشرنا (2) إلی أن المشابهة غالبة بین عطف البیان وبدل الکل من الکل ، فی ناحیة معناهما ، وإعرابهما ، وقطعهما (3) ، وجمودهما ، دون حروفهما ، والأحسن القول بأن المشابهة بینهما کاملة فیما سبق ، لا غالبة ؛ إذ التفرقة بینهما قائمة علی غیر أساس سلیم ، فمن الخیر توحیدهما ، لما فی هذا من التیسیر ، ومجاراة الأصول اللغویة العامة. أما الرأی الذی یفرّق بینهما فی بعض حالات فرأی قام علی التخیل ، والحذف ، والتقدیر ، من غیر داع ، ومن غیر فائدة ترتجی. ومن السداد إهماله وإغفاله (4) ...
علی أنا نشیر هنا إلی بعض الصور التی یتحتم فیها العطف البیانی بناء علی ذلک الرأی ؛ ویمتنع بدل الکل ، ، مرددین بعد ذلک عدم الالتفات إلی الرأی السالف. منها (5) :
(1) أن یکون التابع مفردا ، معرفة ، منصوبا ، والمتبوع منادی ، مبنیّا علی الضم مثل : یا صدیق علیّا (6). فیجب عندهم إعراب : «علیا» عطف بیان ، ولا یصح إعرابه بدل کل ؛ لأن البدل لا بد أن یلاحظ معه فی التقدیر تکرار العامل الذی عمل فی المتبوع ، بحیث یصح أن یوجد هذا العامل قبل التابع وقبل المتبوع معا ، من غیر أن یترتب علی هذا التکرار فساد فی المعنی ، أو مخالفة لضابط نحویّ. فإن ترتب علیه فساد لم یصح إعراب الکلمة «بدل
ص: 546
کل» ووجب الاقتصار علی إعرابها «عطف بیان» فقط. وهذا معنی قولهم : «إن البدل علی نیة تکرار العامل». فتقدیر الکلام فی المثال السالف : یا صدیق یا علیا ؛ بتکرار العامل ، وهو «یا» ووجوده قبل المتبوع حقیقة ، وقبل التابع تخیلا. وهذا التکرار یؤدی إلی خطأ النصب فی کلمة «علیّا» المذکورة ، لأنها فی التخیل : منادی مفرد علم ؛ فیجب بناؤها علی الضم ؛ طبقا لأحکام المنادی ، ولا یجوز نصبها. إلا علی اعتبارها عطف بیان (1) ؛ لأن عطف البیان لا یلاحظ فیه تکرار العامل ، ولا أنه مقدّر قبل التابع ، وإنما یکتفی بوجوده قبل المتبوع فقط. فإعراب الکلمة المذکورة : (علیّا) بدلا ، یؤدی عندهم إلی فساد نحویّ یجب توقیه ، بالعدول عن البدل إلی عطف البیان ، أو غیره إن أمکن.
2- أن یکون التابع خالیا من «أل» ، والمتبوع مقترنا بها مع إعرابه مضافا إلیه ، والمضاف اسم مشتق ، إضافته غیر محضة (2) ؛ نحو : نحن المکرمو النابغة هند ؛ فیجب - عندهم - إعراب «هند» عطف بیان ، لا بدلا ؛ لأن البدل علی نیة تکرار العامل ، وملاحظة وجوده قبل التابع کوجوده قبل المتبوع ، - کما أسلفنا - وعلی هذا یکون الأصل المتخیّل للمثال هو : نحن المکرمو النابغة ، المکرمو هند ، فلو أعربنا کلمة : «هند» التی فی المثال الأصلی بدلا لأدی الإعراب إلی فساد ؛ هو : أن یکون المضاف مشتقّا مقترنا «بأل» ، والمضاف إلیه غیر مقرون بها ؛ لأن الإضافة غیر محضة ؛ یمتنع فیها مثل هذا ، إلا بوجود بعض المسوغات (3) التی تصححها. والجملة هنا خالیة من کل مسوغ - فی رأیهم -.
ولا سبیل عندهم للفرار من الفساد إلا بإعراب «هند» عطف بیان ، لا بدلا ؛ إذ عطف البیان لا یشترط فیه صحة تکرار العامل (4) ...
ص: 547
هذا رأی المانعین. وفیه ما فیه من إرهاق وتعسیر بغیر طائل ؛ لأن المعنی واضح علی البدلیة ؛ کوضوحه علی عطف البیان ، ولیس أحدهما أبلغ من الآخر ، ولا أکثر تداولا واستعمالا ، ولا مخالفا لأصل لغوی واقعیّ. ففیم الحذف ، والتقدیر ، والنیة ، والملاحظة ...؟ وبخاصة مع ما سجله النحاة فی هذا الباب - وغیره - من أنه قد یغتفر فی الثوانی ما لا یغتفر فی الأوائل ؛ أی : قد یغتفر فی التابع ما لا یغتفر فی المتبوع (1). وذکروا لتأیید هذا أمثلة کثیرة فصیحة. فلیس من ضرر مطلقا ألا یصلح العامل فی بعض المواضع لوقوعه قبل التابع ، کهذا الموضع. إنما الضرر فی عدم صحة وقوعه قبل المتبوع وحده. فلم العناء؟ وفیم التعسیر؟
ص: 548
نعم قد تکون التفرقة بینهما سائغة فی بعض صور ، ولکن من ناحیة أخری دقیقة غیر تلک التی تصدی لها المانعون ؛ هی أن لعطف البیان غرضا معنویّا هامّا ؛ هو : إیضاح الذات نفسها ، أو تخصیصها علی الوجه الذی شرحناه (1) أما بدل الکل فله غرض آخر یختلف عن هذا تماما ؛ هو الدلالة علی ذات المتبوع بلفظ آخر یساویه فی المعنی ؛ بحیث یقع اللفظان علی ذات واحدة ، وفرد معین واحد فی حقیقته - کما سیجیء فی بابه - ولا یضر أن یختلفا فی المفهوم بعض الاختلاف الیسیر ما دامت حقیقة الذات المقصودة واحدة ؛ کالاختلاف الذی فی نحو عرفت سعیدا أخاک (2) ، ولا شأن لبدل الکل بالإیضاح والتخصیص ، فحیث اقتضی المقام إیضاح حقیقة الذات أو تخصیصها - والإیضاح والتخصیص هنا ذاتیان ، (أی : یقعان وینصبان علی الذات) - فاللفظ عطف بیان لیس غیر ، بشرط أن تجتمع فیه بقیة الشروط الواجبة فی عطف البیان ، ومنها : مطابقته للمتبوع فی الأمور الأربعة السالفة ؛ ولهذا کانت کلمة : «سید» الثانیة عطف بیان فی قول الشاعر:
إذا سید منّا مضی لسبیله
أقام عمود الدین آخر سید
وحیث اقتضی المقام الدلالة علی ذات المتبوع نفسها بلفظ آخر یساویه تماما فی المدلول فاللفظ «بدل کل من کل» ، وبخاصة إذا فقد اللفظ شرطا من شروط عطف البیان.
هذه هی ناحیة التفرقة الحقة التی یجب الاقتصار علیها ؛ نزولا علی أحکام اللغة ، وتقدیرا لخصائصها ، وکشفا لأسرارها ، بل إن هذه التفرقة نفسها قد یمکن رفضها (3).
ص: 549
ملحوظة : مما یمتاز به عطف البیان من بدل الکل أن عطف البیان لا یکون ضمیرا (1) ، ولا تابعا لضمیر ، ولا مخالفا لمتبوعه فی تعریف وتنکیر (2) - علی الرأی الصحیح - ولا یقع جملة ، ولا تابعا لجملة (3) ، ولا فعلا ، ولا تابعا لفعل ، ولا یکون ملحوظا فی النیة إحلاله محل الأول - کما شرحنا - ، ولا یعد متبوعه فی حکم الطّرح. ولا یعدّ فی جملة أخری مستقلة عن جملة متبوعه (4). بخلاف بدل الکل فی جمیع هذا.
ص: 550
الذین یمنعون البدل فی المسألتین السالفتین ، وفی بعض مسائل أخری ، ویحتمون أن تکون عطف بیان - یضعون لهذه المسائل کلها ضابطا عامّا ینطبق علیها جمیعا. وسنعرضه فیما یلی ؛ لیتبین ما فیه من إرهاق وإعنات لا داعی لهما.
یقولون : یصح فی عطف البیان - إذا قصد به ما یقصد ببدل الکل - أن یعرب «بدل کل» ، إلا فی حالتین :
أولاهما : ألّا یمکن الاستغناء عن عطف البیان لمانع یحول دون صحة بدل الکل.
وثانیتهما : ألّا یمکن إحلال عطف البیان - لو صار بدلا - محل متبوعه لمانع یحول دون البدلیة ، ودون وضع البدل مکان المبدل منه ...
1- ومن أمثلة الحالة الأولی أن یکون الاسم (التابع) ؛ واقعا بعد جملة تعرب خبرا ، أو : صلة ، أو : نعتا ، ولیس فیها رابط یربطها بالمبتدأ ، إنما الرابط ضمیر - أو نحوه - فی ذلک الاسم التابع ؛ فمثاله بعد الجملة الواقعة خبرا : هند حضر صالح ولدها. فلو أعربنا کلمة : «ولد». بدل - والبدل عندهم علی نیة تکرار العامل - لکان التقدیر : هند حضر صالح ، حضر ولدها ؛ فتخلو جملة الخبر من الرابط ؛ لأن الضمیر المتصل بالاسم صار فی جملة أخری مستقلة عن الجملة الخبریة ؛ إذ الکلام جملتان : الأولی هی الخبر ، ولا رابط فیها ، والثانیة مستقلة عن الأولی ، استئنافیة ، والضمیر الذی بها لا یربط الأولی بمبتدئها.
ومثال الجملة الواقعة صلة : أجاد الذی تکلم علیّ خاله. فلو أعربنا کلمة : خال «بدلا» لکان التقدیر : أجاد الذی تکلم علیّ تکلم خاله ؛ فتکون الجملة الثانیة مستقلة عن الجملة الأولی ، وتصیر الصلة خالیة من الرابط ؛ فلا تصلح أن تکون صلة.
ومثال الجملة الواقعة نعتا : أجاد رجل تکلم علیّ خاله ؛ فإعراب کلمة «خال» بدلا یقتضی تکرار العامل ، وأن الأصل : أجاد رجل تکلم علیّ
ص: 551
تکلم خاله ؛ فتکون الجملة الأولی الواقعة نعتا (وهی تکلم علیّ) خالیة من الرابط الذی یربطها بالمنعوت ؛ وهذا غیر جائز. أما الضمیر المتأخر فإنه فی جملة مستقلة بنفسها لا یصلح رابطا فی الأولی ... لاستقلال کل جملة بکیانها.
وفی الحق أن المعنی وسلامة الأسلوب لن یتغیرا بإعراب الاسم بدل کل أو عطف بیان فی صورة من الصور السابقة الممنوعة عندهم.
2- ومن أمثلة الحالة الثانیة التی لا یصح فیها إحلال البدل محل المبدل منه ما تقدم من أن یکون التّابع مفردا معرفة منصوبا والمتبوع منادی ، مبنی علی الضم. أو : أن یکون التابع خالیا من «أل» والمتبوع مقترنا بها ... بالصورة التی شرحناها - وهذان هما الأمران المعروضان أولا فی ص 546 وما بعدها -.
ومن أمثلة الأمر الثانی أیضا : أن یکون المتبوع منادی والتابع اسم إشارة ، أو مقرونا «بأل» : نحو : یا إبراهیم هذا ، أو یا إبراهیم الحسین ، إذ یترتب علی إحلال البدل محل المبدل منه فی المثال الأول صحة : «یا إبراهیم یا هذا» ، مع أن الفصیح أن یکون لاسم الإشارة تابع مقرون «بأل». ویترتب علی إحلاله فی المثال الثانی صحة : «یا إبراهیم یا الحسین» ، مع أن دخول «أل» علی المنادی ممنوع.
وکل هذا ، وکل ما یأتی مما هو ممنوع عندهم ، إنما یقوم علی أساس توهمهم أن البدل لا بد أن یکون علی نیة تکرار العامل. أی علی أساس أن یصح وقوع البدل مکان المبدل منه.
ومنها : أن یکون التابع مثنی أو جمعا ، مع التفریق فیهما بالعاطف ، والمتبوع غیر مفرق ؛ کقول الشاعر :
أیا أخوینا عبد شمس ونوفلا
أعیذکما بالله أن تحدثا حربا
فیتعین کونهما عطف بیان ؛ لأن التقدیر علی البدلیة : یا عبد شمس ونوفلا ، بنصب کلمة «نوفلا» مع أن المعطوف المفرد فی النداء لا یجوز نصبه ، وإنما یجری علیه حکم المنادی المستقل (1).
ص: 552
ومنها : أن یکون المنادی «أیّ» الموصوفة بما فیه «أل» بعدها» وتابعه خال من «أل» ، نحو : یأیها القائد سعید. فلو أعربت کلمة : «سعید» بدلا لکان التقدیر : یأیها القائد یأیها سعید ، وهذا خطأ ؛ لأن تابع «أیّ» فی النداء لا بد أن یکون مقرونا «بأل» أو اسم إشارة له تابع مقرون بها ....
ومنها : أن یکون اسم الإشارة المنادی - أو غیر المنادی - متبوعا بما فیه «أل» والتابع خال منها ، ولا یوجد ما یغنی عنها ؛ نحو : یا ذا الرجل غلام حامد ، أو جاء هذا الرجل حامد. فلو أعرب : «غلام» أو «حامد» بدلا لکان التقدیر : یا ذا الرجل یا ذا غلام حامد - وجاء هذا الرجل جاء هذا حامد ، وتابع اسم الإشارة لا یکون مجردا من «أل».
ومنها : أن یکون المتبوع مضافا إلیه والمضاف هو : «کلا» أو «کلتا» والتابع مثنی مفرق ؛ نحو : أسرع کلا المتنافسین محمود وحامد - أسرعت کلتا المتنافستین فاطمة وزینب - فلو أعرب التابع : (وهو : محمود وفاطمة) بدلا لکان تقدیر الکلام : (أسرع کلا المتنافسین ، أسرع کلا محمود وحامد) - (أسرعت کلتا المتنافستین ، أسرعت کلتا فاطمة وزینب) ، فیترتب علی نیة تکرار العامل إضافة کلا وکلتا للمثنی المفرق ؛ وهما لا یضافان إلیه إلا شذوذا.
ومنها : أن یکون التابع مثنی مفرقا ، أو جمعا مفرقا کذلک ، والمتبوع مثنی أو جمعا غیر مفرق فی الصورتین ، وهو مضاف إلیه والمضاف هو : «أیّ». نحو : (بأی الزمیلین جعفر وحسن مررت) ، فلو أعرب «جعفر» وما عطف علیه بدلا من الزمیلین لکان التقدیر : بأی الزمیلین ، بأی جعفر وحسن
ص: 553
مررت ؛ وهذا ممنوع ؛ لما فیه من إضافة : «أیّ» للمفرد المعرفة ، وهی لا تضاف إلیه إلا بالشروط التی عرفناها عند الکلام علیها فی باب «الإضافة (1)» ، وهی غیر متحققة هنا. ولا یتغیر الحکم بإحلال الجمع لمحل المثنی فی مواقعه السّالفة ...
ومنها : أن یضاف «اسم التفضیل» إلی عامّ ، وبعده تابعه ذو قسمین ؛ أحدهما لا یکون المفضل بعضا منه ؛ نحو : الرسل أفضل الناس الرجال والنساء ، فلو أعرب التابع بدلا لکان التقدیر : الرسل أفضل النساء ؛ لأن اسم التفضیل إذا بقی علی دلالته من التفضیل والزیادة علی المضاف إلیه وجب أن یکون بعضا من هذا المضاف إلیه - کما سبق فی بابه - ولهذا أخطأ من قال : أنا أشعر الإنس والجن ، إذا أراد التفضیل علی الوجه السالف.
إلی هنا انتهت صور من أشهر الأمثلة للنوع الثانی ، وهی - کنظیرتها من صور النوع الأول - خیالیة ، مصنوعة ، أساسها توهم أن البدل لا بد أن یکون علی نیة تکرار العامل ، وهذه دعوی لا تستند إلی أساس قوی. والعرب - أصحاب اللغة - لا تدری من أمرها شیئا ؛ ولن یترتب علی إهمالها ، وعدم التمسک بها فساد فی المعنی ولا فی الترکیب (2) ؛ فالجهد فیها ضائع لا محالة.
ص: 554
عشرة (1) ، کل منها یسمی : «حرف العطف» ، ویؤدی معنی خاصّا.
ص: 556
وفیما یلی هذه الحروف ، ومعانیها ، وأحکامها (1) :
والمراد من «الاشتراک المطلق والجمع المطلق» أنها لا تدل علی أکثر من التشریک فی المعنی العام ؛ فلا تفید الدلالة علی ترتیب زمنی بین المتعاطفین (1) وقت وقوع المعنی ، ولا علی مصاحبة ، ولا علی تعقیب (2) ، أو مهلة ، ولا علی خسّة ، أو شرف (3) ...
وهی إنما تتجرد للاشتراک المطلق حیث لا توجد قرینة تدل علی غیره ، وحیث لا تقع بعدها «إمّا» الثانیة. فإن وجدت قرینة وجب الأخذ بما تقتضیه ، وإن وقعت بعدها «إمّا» الثانیة کانت الواو لمعنی آخر غیر التشریک والجمع - وسیجیء التفصیل (4) -.
ففی مثل : وصل القطار والسیارة - تفید الواو مجرد اشتراک المعطوف (وهو : السیارة) مع المعطوف علیه ؛ (وهو : القطار) فی المعنی المراد ، وهو : «الوصول» من غیر أن تزید علی هذا شیئا آخر ؛ فلا تدل علی : «ترتیب» زمنیّ بینهما یفید أن أحدهما سابق فی وقته ، وأن الآخر لاحق به ، ولا علی : «مصاحبة» تفید اشتراکهما فی الزمن الذی وقع فیه اشتراکهما فی المعنی (5) ، ولا علی «تعقیب» یدل علی أن المعنی تحقّق فی المعطوف بعد تحققه فی المعطوف علیه مباشرة ، من غیر انقضاء وقت طویل بینهما ، ولا علی : «مهلة» تدل علی أن تحققه کان بعد سعة من الوقت ، وفسحة فیه (6) ...
ص: 558
ففی المثال السابق قد یکون وصول القطار أوّلا وبعده السیارة ، وقد یکون العکس ، وقد یکون الزمن بین وصول السابق واللاحق طویلا أو قصیرا ، وقد یکون وصولهما اصطحابا معا (أی : فی وقت واحد) ، فلا سبق لأحدهما ولا زمن بین وصولهما. فکل هذه احتمالات صحیحة ، لا یزیلها إلا وجود قرینة تدل علی واحد منها دون غیره. کأن یقال : وصل القطار والسیارة قبله ، أو بعده ، أو معه ...
فمن أمثلة الترتیب والمهلة - بقرینة - قوله تعالی : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِیمَ ...)، فقد أفادت الواو الاشتراک ، والترتیب الزمنی ، والمهلة ؛ فعطفت المتأخر کثیرا فی زمنه (وهو : إبراهیم) علی المتقدم فی زمنه ، (وهو : نوح) ، وکانت إفادتها الترتیب والإمهال مستفادة من قرینة خارجیة یجب احترامها ، هی التاریخ الثابت الذی یقطع بأن زمن إبراهیم متأخر کثیرا عن زمن نوح ، ولو لا هذه القرینة ما أفادت الواو الترتیب الزمنی ، وفسحة الوقت. وهذه الفسحة - أو المهلة - یقدّرها العرف بین الناس ، فهو - وحده - الذی یحکم علی مدة زمنیة بالطول ، وعلی أخری بالقصر ، تبعا لما یجری فی العرف الشائع.
ومن الأمثلة أیضا قوله تعالی مخاطبا النبی محمدا علیه السّلام : (کذلک یوحی إلیک وإلی الذین من قبلک الله العزیز الحکیم) ، فالواو قد أفادت الاشتراک والجمع فی المعنی المراد ؛ وهو : الإیحاء ، وأفادت - أیضا - الترتیب الزمنی والمهلة بعطف المتقدم فی زمنه علی المتأخر کثیرا فی زمنه بقرینة خارجة عنهما ، هی : «من قبلک» فهذا النص صریح فی أن «المعطوف» سابق فی زمنه علی «المعطوف علیه» ولو لا هذه القرینة لاقتصرت الواو علی إفادة الجمع المطلق فی المعنی ، والاشتراک المجرد فیه ، دون إفادة ترتیب زمنیّ ، وأما المهلة فقد دلّ علیها التاریخ.
وکقوله تعالی فی نوح علیه السّلام حین رکب السفینة هو وأصحابه المؤمنون ، فرارا من الغرق بالطوفان : (فَأَنْجَیْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِینَةِ ...) فالواو تفید الجمع
ص: 559
والاشتراک فی المعنی ؛ وتفید معه الاتحاد فی الزمن بین المعطوف ؛ (أصحاب ...) والمعطوف علیه : (الهاء) فقد نجا نوح وأصحابه فی وقت واحد - معا - بدلیل النصوص القرآنیة الأخری (1) وروایات التاریخ القاطع ؛ فلا ترتیب ولا مهلة. ومن أمثلة الترتیب والتعقیب ؛ جری الماء وأروی الزروع.
وإذا فقدت القرینة الدالة علی الترتیب الزمنی أو علی المصاحبة فالأکثر اعتبارها للمصاحبة ، ویلی هذا اعتبارها للترتیب ؛ فیکون المعطوف متأخرا فی زمنه عن المعطوف علیه. ومن النادر العکس ، - ویراعی فی هاتین الحالتین عدم التعقیب إلا بقرینة.
وإن وقعت «واو» العطف قبل : «إمّا» الثانیة لم تفد معنی الجمع والتشریک ، وإنما تفید معنی آخر یقتضیه المقام الذی لا یسایره معنی الجمع ؛ کالتخییر (2) ؛ مثل : استرض إما مشیا وإما رکوبا ... ، وقد تکون للتخییر مباشرة بغیر «إما» ؛ نحو : سافر الآن بالقطار والطائرة. وقد یکون معناها التقسیم ؛ نحو : الکلمة اسم ، وفعل ، وحرف.
وأشباهها (1). وأنها یجوز حذفها مع معطوفها بشرط أمن اللبس (2) ، مثل قول الشاعر :
إنی مقسّم ما ملکت ، فجاعل
قسما لآخرة ودنیا تنفع
أی : وقسم دنیا. یرید : وقسما لدنیا .. ومن هذا قولهم : راکب الناقة طلیحان (3). والأصل : راکب الناقة والناقة طلیحان. (أی :
ص: 561
متعبان) (1) ..
ب - وتنفرد الواو بأحکام نحویة تکاد تستأثر بها (2) :
منها : أنها الحرف المختص بعطف اسم علی آخر حین لا یکتفی العامل فی أداء معناه بالمعطوف علیه ؛ نحو : تقاتل النمر والفیل ؛ فإن العامل : (تقاتل) لا یتحقق معناه المراد بالمعطوف وحده ؛ فلو قلنا : «تقاتل النمر» ، ما تمّ المعنی ؛ لأن المقاتلة لا تکون من طرف واحد ؛ وإنما تقتضی معه وجود طرف آخر - حتما - کی یتحقق معناها. وکذلک : تنازع الظالم والمظلوم ، فإن المنازعة لا تقع إلا من طرفین .. ، وکذلک تصالح الغالب والمغلوب.
ص: 562
ومثل : (سکنت بین النهر والحدائق (1) - ومثل : تضیع الکرامة بین الطمع والبخل) ، لأن معنی «بین» لا یتحقق بفرد واحد تضاف إلیه (2) ، وهکذا غیرها من الکلمات التی تؤدی معنی نسبیّا (3) ؛ مثل : تشارک - تعاون - اختصم - اصطفّ - (4) ...
ومنها : اختصاصها بعطف عامل قد حذف وبقی معموله. نحو : (قضینا فی الحدیقة یوما سعیدا ؛ أکلنا فیه أشهی الطعام ، وأطیب الفاکهة ، وأعذب الماء) فکلمة : «أطیب» معطوفة علی : «أشهی» ، أی : أکلنا أشهی
ص: 563
الطعام ، وأکلنا أطیب الفاکهة. أما کلمة : «أعذب» فلا یصح - فی الرأی الأغلب - عطفها علی أشهی ، إذ لا یصح أن یقال : أکلنا أعذب الماء ؛ لأن أعذب الماء لا یؤکل ، وإنما یشرب ، ولهذا کانت کلمة : «أعذب» معمولة لعامل محذوف ، تقدیره : شرب ، أی : وشربنا أعذب الماء ، والجملة بعد الواو معطوفة علی الجملة التی قبلها وهی : أکلنا - ؛ فالعطف عطف جملة علی جملة.
ومثل : (اشتد البرد القارس فی لیلة شاتیة ، فأغلقت الأبواب والنوافذ ، وأوقدت نارا للدفء ، والملابس الصوفیة) ؛ فلا یصح عطف کلمة : «الملابس» علی «الأبواب» ولا علی «نارا» لفساد المعنی علی هذا العطف ؛ إذ لا یقال : أغلقت الملابس الصوفیة ، ولا أوقدت الملابس ، وإنما هی معمول لعامل محذوف تقدیره : ولبست الملابس الصوفیة ، أو أکثرت الملابس الصوفیة ، أو نحو هذا مما یناسب الملابس ، والجملة بعد الواو معطوفة علی جملة : أغلقت. فالعطف عطف جملة علی جملة ، لا عطف مفرد علی مفرد - کما سبقت الإشارة (1) -.
ولا فرق فی المعمول الباقی بین المرفوع ؛ نحو : قوله تعالی : (اسْکُنْ أَنْتَ وَزَوْجُکَ الْجَنَّةَ ،) والمنصوب ؛ نحو : قوله تعالی : (وَالَّذِینَ تَبَوَّؤُا (2) الدَّارَ وَالْإِیمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ یُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَیْهِمْ ...) ، والمجرور نحو قولهم : «ما کلّ سوداء فحمة ، ولا بیضاء شحمة ، والأصل فی المثال المرفوع : (اسکن أنت ولیسکن زوجک الجنة) ؛ إذ لا یصح عطف «زوج» علی الضمیر المستتر الفاعل ؛ وإلا کان فاعلا مثله حکما ؛ فیترتب علی هذا أن یقال : اسکن زوجک ، بوقوع الاسم الظاهر فاعلا للأمر ؛ وهذا لا یصح (3). کما أن الأصل فی المنصوب : (تبوّءوا الدار ، وألفوا الإیمان) ؛ لأن الإیمان لا یسکن - والأصل فی المجرور : (ما کلّ سوداء فحمة ولا کلّ
ص: 564
بیضاء شحمة) لئلا یترتب علی العطف المباشر من غیر تقدیر المحذوف ، عطف شیئین علی معمولی عاملین مختلفین بحرف عطف واحد ، وهذا ممنوع. والعاملان هما : (ما (1) - وکلّ) والمعمولان هما : (بیضاء ، وشحمة) (2).
هذا ما یقوله کثیر من النحاة. ولکن الصحیح أن الواو العاطفة لا تختص بهذا الحکم وحدها ، وإنما تشارکها فیه «فاء» العطف - کما سیجیء عند الکلام علیها (3) - مثل : أحسن بدینار فصاعدا ... أی فاذهب صاعدا بالعدد (4) ...
ومنها جواز حذفها عند أمن اللبس (5) ؛ نحو : زرت أقاربی فی الصعید ، وقابلت منهم : العم ، العمة ، الخال ، الخالة ، أبناءهم ... أی : العم والعمة ، والخال والخالة ، وأبناءهم. ومثل : قرأت الیوم : الصحف الیومیة - المجلات - الرسائل - المحاضرات .. أی : الصحف الیومیة - والمجلات ، والرسائل ، والمحاضرات ...
ومثل هذا یقال فی سرد الأعداد ، نحو : من الأعداد عشر ، - عشرون - ثلاثون - أربعون ...
ومنها : عطف الشیء علی مرادفه لتقویة معناه وتأکیده (6) کقولهم : الصمت والسکوت عن غیر السداد سداد. وقولهم یعود البغی والطغیان وبالا علی صاحبه ، فالمعطوف وهو : «السکوت» بمعنی المعطوف علیه : «الصمت» وکذلک الطغیان والبغی ... ومن هذا قوله تعالی : (إِنَّما أَشْکُوا بَثِّی وَحُزْنِی إِلَی اللهِ)، فکلمة ؛ «بثّ» معطوف علیه ؛ وکلمة : «حزن» معطوف مرادف له فی المعنی.
ص: 565
ومثل النّأی والبعد (1) فی قول الحطیئة :
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند أتی من دونها النّأی والبعد (2)
ص: 566
ا - ومما انفردت به الواو غیر ما سبق :
1- عطف العام علی الخاص (1) ؛ نحو : زرت القاهرة ، والحواضر الکبری. وقوله تعالی : (رَبِّ اغْفِرْ لِی ، وَلِوالِدَیَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَیْتِیَ مُؤْمِناً ؛ وَلِلْمُؤْمِنِینَ ، وَالْمُؤْمِناتِ.)
2- وقوعها بعد کلام منفی ، عاطفة مفردا. وبعدها «لا» النافیة ؛ نحو : شجاع النفس لا یحب الجبن ، ولا الکذب ، ولا الریاء (أی : لا یحب کل واحدة من الصفات المذکورة). فتکرار «لا» یفید أن النفی واقع علی کل واحدة وحدها من غیر توقف علی غیرها. ولو لم تتکرر (2) «لا» لتوهمنا أنه مقصور علی حالة اجتماعها مع غیرها (3). فإن لم یوجد نفی قبلها ، أو قصدت المعیة لم یصح مجیء «لا» (4).
3- وقوعها بعد نهی عاطفة لمفرد ، وبعدها : «لا» النافیة ؛ التی تؤکد الغرض السالف ؛ نحو : لا تصدق الحلّاف ، ولا النمّام ، ولا الحاسد.
4- جواز الفصل بینها وبین معطوفها بظرف ، أو جار مع مجروره (5) ، نحو : أینعت حدیقتان ؛ حدیقة أمام البیت ، وخلفه حدیقة (6) ، ومثل قوله
ص: 567
تعالی : (وَجَعَلْنا مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدًّا ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ...
5- عطف العقد (1) علی النّیّف ، نحو : واحد وعشرون ... - سبعة وثلاثون ... - خمسة وأربعون ... و ...
6- اقترانها بالحرف : «لکن» ؛ کقوله تعالی : (ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ ، وَلکِنْ رَسُولَ (2) اللهِ وَخاتَمَ النَّبِیِّینَ).
7- وقوعها قبل الحرف «إما» المسبوق بمثله فی کلام قبله ؛ نحو : المنّ بالمعروف إما جهالة ، وإما سوء أدب.
8- العطف بها فی أسلوب الإغراء والتحذیر ؛ نحو : الرفق والملاینة جهد طاقتک ، وإیاک والعنف ما وجدت سبیلا للفرار منه.
9- عطف النعوت المتعددة المفرّقة التی منعوتها متعدد غیر مفرّق : نحو : تنقلت فی بلاد زراعیة وصناعیة وتجاریة ... والواقع بعد هذه «الواو» یسمی معطوفا ، ولا یصح تسمیته - الآن - نعتا.
10- عطف المفردات التی حقها التثنیة أو الجمع ، نحو قول الحجاج وقد مات
ص: 568
محمد ابنه ، ومحمد أخوه : «محمد ومحمد فی یوم واحد». وقول الشاعر الفرزدق :
إن الرزیة لا رزیة بعدها
فقدان مثل محمد ومحمد
وقول الآخر :
أقمنا بها یوما ، ویوما ، وثالثا
ویوما له یوم التّرحّل خامس
یرید : أیاما ثمانیة ...
(11) عطف السببی علی الأجنبی فی : «الاشتغال» ؛ نحو : محمدا أکرمت عمرا وأخاه (1). ومثل : محمد مررت بأخیک وأخیه (2).
(12) عطف کلمة : «أیّ» علی مثلها (3) ، کقول الشاعر :
فلئن لقیتک خالیین لتعلمن
أیّی وأیّک فارس الأحزاب
(13) عطف الظرف : «بین» علی نظیره ، مثل : المال بینی وبین أهلی (4).
(14) عطف السابق فی زمنه علی اللاحق ، نحو قوله تعالی : (کَذلِکَ یُوحِی إِلَیْکَ ، وَإِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ اللهُ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ.)
(16) المتعاطفان بالواو لا یختلفان بالسلب والإیجاب إذا کانا مفردین فلا یصح : لا الشمس طالعة والقمر.
(17) وجوب الفصل بها مع إهمالها بین کلمتین معینتین ینشأ منهما مسموع من الترکیب المزجیّ (من أمثلته : کیت وکیت - ذیت وذیت ..) بالتفصیل والبیان الآتیین فی الموضع الأنسب - ج 4 باب : «کم» م 168 ص 540 -
(18) جواز عطفها عاملا قد حذف وبقی معموله علی الوجه المشروح فی ص 615.
ب - یری الکوفیون من خصائص الواو وقوعها زائدة ؛ کالتی فی قوله تعالی : (وَسِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ زُمَراً. حَتَّی إِذا جاؤُها ،
ص: 569
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَیْکُمْ ..) فالواو التی قبل : «فتحت» زائدة عندهم (1). ومثل قوله تعالی : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ. لِلْجَبِینِ ...) أی : تلّه للجبین (2).
والبصریون یؤولون الآیتین وشبههما - بتأویلات منها : أن الواو عاطفة أصلیة وجواب «إذا» و «لما» محذوف ... لکن التأویل عسیر فی قول الشاعر :
ولقد رمقتک فی المجالس کلها
فإذا وأنت تعین من یبغینی
والمراد : فإذا أنت. وقول الآخر :
فما بال من أسعی لأجبر عظمه
حفاظا ، وینوی من سفاهته کسری
أی : ینوی من سفاهته.
وإنما کان التأویل هنا عسیرا لأن ما بعد إذا «الفجائیة» لا یقترن بالواو. ولأن جملة (ینوی) علی تأویلها بأنها حالیة هی جملة مضارعیة مثبتة ، وصاحب الحال هو «من» والجملة المضارعیة المثبتة لا تقع حالا مقترنة بالواو إلا علی تقدیرها خبرا لمبتدأ محذوف ، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره هی الحال .. فهی محتاجة للتأویل والحذف. ولا داعی لهذا أو لغیره من التأویلات. فمذهب الکوفیین أوضح وأقل تعسفا ، والأخذ به هنا أیسر (3) ، لکن الأفضل التخفّف من الزائدة قدر الاستطاعة ، والبعد عن استعمالها ؛ فرارا من اللبس ، ومن التأویل بغیر داع.
ح - هل «الواو» الواقعة بعد «بل» نوع من الزائدة؟ مثل : الصالح أمین ،
ص: 570
بل ومحسن .. الجواب فی «ح» من ص 628.
د - تختص همزة الاستفهام دون باقی أخواتها بالدخول علی أحد ثلاثة من حروف العطف ولا تدخل علی غیر هذه الثلاثة ، هی : (الواو - الفاء - ثم) فمثالها قبل الواو قوله تعالی : (أَوَلَمْ یَتَفَکَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ؛ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِیرٌ مُبِینٌ. أَوَلَمْ یَنْظُرُوا فِی مَلَکُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَیْءٍ ...)؟، وقبل «الفاء» (1) قوله تعالی فی المشرکین : (أَفَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَیْرٌ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا ، أَفَلا تَعْقِلُونَ ...) ، وقبل «ثمّ» (2) قوله تعالی : (قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ أَتاکُمْ عَذابُهُ بَیاتاً أَوْ نَهاراً ما ذا یَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ...)؟ ...
ولا بد أن یکون المعطوف بعد الثلاثة جملة.
وقد اشتهر للنحاة فی هذا رأیان (3).
أولهما : وهو رأی جمهورهم - أن الهمزة ترکت مکانها بعد حرف العطف ، وتقدمت علیه ؛ تنبیها علی أصالتها فی التصدیر - کما یقولون - فالجملة بعد العاطف معطوفة علی الجملة التی قبله وقبل الهمزة. ما لم یمنع من هذا العطف مانع (کأن تکون إحدی الجملتین إنشائیة والأخری خبریة ؛ عند من یمنع العطف بین الجملتین المختلفتین خبرا وإنشاء ؛ مثل هذه الصورة. فتکون الجملة عنده بعد حرف العطف معطوفة علی أخری محذوفة مماثلة لها فی الخبریة أو الإنشائیة ...).
ثانیهما : وهو رأی الزمخشری - أن الجملة بعد العاطف معطوفة علی جملة محذوفة موقعها بین الهمزة والعاطف. والأصل مثلا ، أنسوا ولم یتفکّروا؟ - أأغمضوا عیونهم ولم ینظروا؟ - أقعدوا ولم یسیروا ...؟ - أکفرتم ثم إذا وقع
ص: 571
آمنتم به ..؟ والرأی الأول أشهر. وبالرغم من ذلک فإن کلا الرأیین معیب ؛ لقیامه علی الحذف والتقدیر ، أو التقدیم والتأخیر ، ولعدم انطباق کل منهما علی بعض الصور الأخری التی یدور حولها وحول ما سبق جدل طویل واعتراضات مختلفة (1).
فما السبب فی هذا التکلف ؛ والالتجاء إلی الحذف ، والتقدیر ، والتقدیم ، والتأخیر - وعندنا ما هو أوضح وأیسر ، وأبعد من التأویل؟ ؛ وذلک باعتبار الهمزة للاستفهام ، وبعدها «الواو» و «الفاء» ، و «ثم» حروف استئناف داخلة علی جملة مستأنفة. وقد نص النحاة علی أن کل واحد من هذه الثلاثة یصلح أن یکون حرف استئناف.
ولا مانع أیضا أن تدخل الهمزة - هنا - علی حرف العطف مباشرة ؛ مسایرة للنصوص الکثیرة الواردة فی القرآن وغیره ، ولن یترتب علی أحد هذین الرأیین إخلال بمعنی ، أو تعارض مع ضابط لغوی.
«ملاحظة» فی غیر الهمزة من أدوات الاستفهام یجب تقدیم حرف العطف وتأخیر أداة الاستفهام عنه ، لأن هذا هو قیاس جمیع الأجزاء فی الجملة المعطوفة ، نحو : قوله تعالی : (وَکَیْفَ تَکْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلی عَلَیْکُمْ آیاتُ اللهِ وَفِیکُمْ رَسُولُهُ) - وقوله تعالی : (فَهَلْ یُهْلَکُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ...
* * *
ص: 572
معناها الغالب هو الترتیب بنوعیه" المعنویّ والذّکریّ" مع التعقیب فیهما وإفادة التشریک. والمراد بالترتیب المعنوی : أن یکون زمن تحقق المعنی فی المعطوف متأخرا عن زمن تحققه فی المعطوف علیه ؛ نحو : (نفعنا بذر القمح للزراعة ، فإنباته ، فنضجه ، فحصاده،) ... و ... فزمن البذر سابق علی زمن الإنبات ، والنضج ، وما بعده.
والمراد : بالترتیب الذّکری : أن یکون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف علیه بحسب التحدث عنهما فی کلام سابق ، وترتیبهما فیه ، لا بحسب زمان وقوع المعنی علی أحدهما ، کأن یقال لمؤرخ : حدثنا عن بعض الأنبیاء ؛ کآدم ، ومحمد ، وعیسی ، ونوح ، وموسی - علیهم السّلام - فیقول : أکتفی الیوم بالحدیث عن محمد ، فعیسی. فوقوع «عیسی» بعد الفاء لم یقصد به هنا الترتیب الزمنی التاریخی ؛ لأن زمن عیسی أسبق فی التاریخ الحقیقی من زمن محمد ، وإنما قصد مراعاة الترتیب الذّکری (أی : اللفظیّ) الذی ورد أولا فی کلام السائل ، وتضمن ذکر «محمد» قبل «عیسی» (1).
والمراد بالتعقیب : عدم المهلة - ویتحقق بقصر المدة الزمنیة التی تنقضی بین وقوع المعنی علی المعطوف علیه ووقوعه علی المعطوف - ؛ نحو : وصلت الطیارة فخرج المسافرون. وأول من خرج النساء فالرجال .. فخروج المسافرین -
ص: 573
- فی المثال - یجیء سریعا بعد وصول الطیارة ، وخروج الرجال یکون بعد خروج النساء مباشرة من غیر انقضاء وقت طویل فی الصورتین ...
وقصر الوقت متروک تقدیره للعرف الشائع ؛ إذ لا یمکن تحدید الوقت القصیر أو الطویل تحدیدا عامّا یشمل کل الحالات. فقد یکون الوقت قصیرا فی حالة معینة ، ولکنه یعدّ طویلا فی أخری.
وبمناسبة إفادتها الترتیب نشیر إلی قاعدة عامة سبقت (1) ؛ هی : أن «المعطوفات» المتعددة تقتضی أن یکون لها جمیعا «معطوف علیه» واحد ، هو : الأول الذی یسبقها کلها ، وقبل کل معطوف حرف عطف خاص به. لکن إذا کان حرف العطف یفید الترتیب ؛ (مثل : «الفاء» و «ثم» وجب أن یکون المعطوف علیه هو السابق علیهما مباشرة ، ولو لم یکن هو الأول : نحو : تکلم فی النادی الرئیس والوکیل والمحاضر ، فالناثر ثم الشاعر. فالوکیل والمحاضر معطوفان علی الرئیس ، أمّا کلمة : «الناثر» فمعطوفة علی : «المحاضر» وأمّا کلمة : «الشاعر» فمعطوفة علی «الناثر» (2) ...
وتفید - کثیرا - مع الترتیب والتعقیب ، «التسبب» ؛ أی الدلالة علی السببیّة (3) ؛ (بأن یکون المعطوف متسببا عن المعطوف علیه) ویغلبب هذا فی شیئین ؛ عطف الجمل ، نحو : رمی الصیاد الطائر فقتله (4) ، وفی المعطوف المشتق ، نحو : أنتم - أیها الجنود - واثقون بأنفسکم ، فهاجمون علی عدوکم ، ففاتکون به. فمنتصرون علیه ...
ومن أحکام الفاء (5) :
ص: 574
أنها لا تنفصل من معطوفها بفاصل (1) اختیارا ، فلابد من اتصالهما فی غیر الضرورة الشعریة. وأنها تعطف المفردات (2) والجمل کما فی الأمثلة السالفة (3) ، وأنه یجوز حذفها بقرینة - کما أن «الواو» و «أو» (4) کذلک - نحو : قطعت سنوات التعلم ؛ الأولی ، الثانیة ، الثالثة ، الرابعة ... ونحو : أنفقت المال درهما - درهمین - ثلاثة - وأنها قد تحذف مع معطوفها ؛ کالآیة التی سلفت (5).
وتختص الفاء (6) : بأنها تعطف جملة لا تصلح صلة ، ولا خبرا ، ولا نعتا ؛ ولا حالا - علی جملة تصلح لذلک ، والعکس ، بأن تعطف جملة تصلح لتلک الأشیاء علی جملة لا تصلح. (وسبب عدم الصلاحیة فی الصور السالفة کلها : خلو الجملة من الرابط ، ووجوده فی الجملة الصالحة) (7) .. فمثال عطفها جملة لا تصلح صلة علی جملة أخری تصلح : (الذی عاونته ففرح الوالد - مریض) ومثال العکس : (التی وقف القطار فساعدتها علی النزول - عجوز ضعیفة).
ص: 575
ومثال عطفها جملة لا تصلح خبرا علی أخری تصلح : (الحدیقة یرعاها البستانی فیکثر الثّمر). ومثال (العکس : الحدیقة أهمل البستانیّ فقلّ ثمرها).
ومثال عطفها جملة لا تصلح نعتا علی أخری تصلح : (هذا حاکم سهر علی خدمة رعیته ؛ فسعدت الرعیة). ومثال العکس : (هذا حاکم شکا الناس فأزال أسباب الشکوی).
ومثال عطفها جملة لا تصلح حالا علی أخری تصلح : (أقبل المنتصر یتهلل وجهه فتنشرح القلوب) ومثال العکس : (أقبل المنتصر تنشرح القلوب فیتهلل وجهه).
هذا ، والفاء کالواو فی أنها تعطف عاملا قد حذف ، وبقی معموله ؛ نحو : اشتریت الکتاب بدینار فصاعدا (1) ، والأصل - مثلا - : فذهب الثمن صاعدا.
«ملاحظة» : من الفاء العاطفة للمفرد : «فاء السببیة ، التی ینصب بعدها المضارع بأن المستترة وجوبا ، فالمصدر المؤول بعدها مفرد معطوف بها علی مفرد قبلها - کما سیجیء فی مکانه (2) ....
وهناک نوع من الفاء یسمی : «فاء الفصیحة» ، سیجیء الکلام علیه (3). ونوع آخر تکون الفاء فیه - فی بعض الآراء - حرف عطف صورة لا حقیقة ؛ فشکلها وظاهرها أنها عطف ، مع أنها فی الحقیقة والواقع مهملة ولیست عاطفة ، وقد سبق الکلام علی هذا النوع (4).
بقی حکم الضمیر العائد علی المتعاطفین بعد الفاء العاطفة من ناحیة المطابقة وعدمها وسیجیء البیان (5) ...
ومعناها الترتیب مع عدم التعقیب ، (أی : الترتیب مع التّراخی) ؛ وهو : انقضاء مدة زمنیة طویلة بین وقوع المعنی علی المعطوف علیه ووقوعه علی
ص: 576
المعطوف. وتقدیر المدة الزمنیة الطویلة متروک للعرف الشائع - کما رددنا (1) - ؛ فهو وحده الذی یحکم علیها بالطول أو القصر ، ولا یمکن وضع ضابط آخر یحددها ؛ لأن ما یعتبر طویلا فی حادثة معینة قد یکون قصیرا فی غیرها ؛ فمردّ الأمر للعرف. ومن الأمثلة : زرعت القطن ، ثم جنیته .. - دخل الطالب الجامعة ثم تخرّج ناجحا - کان الشاب طفلا ثم صبیّا ، ثم غلاما ؛ ثم شابّا فتیّا.
ومن أحکامها :
أنها تعطف المفردات والجمل ، کما فی الأمثلة السالفة (2) .. وقد تدخل علیها تاء التأنیث (3) لتفیدها التأنیث اللفظیّ ؛ فتختص بعطف الجمل ، نحو : من ظفر بحاجته ثمّت قصّر فی رعایتها کان حزنه طویلا ، وغصّته شدیدة.
ومنها : - وهذا قلیل جائز - أنها قد تکون بمعنی واو العطف ، فتفید مطلق الجمع والاشتراک من غیر دلالة علی ترتیب ، بشرط وجود قرینة ؛ نحو : لما انقضی اللیل ، واستنار الکون ، ثم طلعت الشمس ، واقترب ظهور الفجر سارع الناس إلی أعمالهم (4) ..
ص: 577
ویدخل فی هذا القلیل الجائز أن تکون للترتیب الذّکری الإخباریّ ، (وهو : الذی سبق إیضاحه (1) فی «الفاء») نحو : بلغنی ما صنعت الیوم ، ثم ما صنعت أمس أعجب. أی : ثم أخبرک أن الذی صنعته أمس أعجب.
ومنه قول الشاعر :
إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلک جدّه ...
ومنها : أنها تکون بمعنی «الفاء» أحیانا فتفید الترتیب مع التعقیب بقرینة ؛ نحو شرب العاطش ثم ارتوی.
ومنها : أن إفادتها الترتیب توجب - عند تعدد المعطوف علیه قبلها بتفریق - أن یکون معطوفها تابعا لما قبلها مباشرة من المعطوفات ؛ طبقا للبیان الذی تقدم (2) ؛ ففی مثل : قرأت الآیة ، والقصیدة ، والخطبة. والرسالة ثم النشید ... یتعین أن یکون النشید معطوفا بها علی الرسالة ، کما یتعین أن یکون کل واحد من المعطوفات الأخری التی قبلها معطوفا علی الآیة.
ومنها : أنها قد تکون أحیانا حرف عطف فی الصورة الظاهرة دون الحقیقة الواقعة ؛ فشکلها الظاهر هو شکل العاطفة ، ولکنها لا تعطف مطلقا ، وقد سبق (3) الکلام علی هذا النوع.
ص: 578
ا - أشار النحاة إلی وهم یقع فیه من یعرب : «ثمّ» حرف عطف فی قوله تعالی : (أَوَلَمْ یَرَوْا کَیْفَ یُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ ...) لأن «ثم» لا تصلح عاطفة هنا ؛ إذ إعادة الخلق لم تقع ، وإذا لم تقع فکیف یقرون برؤیتها؟ لهذا کانت «ثمّ» للاستئناف فی الآیة. ویؤید کونها للاستئناف فی الآیة قوله تعالی بعد ذلک : (قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُرُوا کَیْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ. ثُمَّ اللهُ یُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ)؛ فمن المستحیل أن یسیروا فینظروا بدء الخلق ثم إنشاء النشأة الآخرة. والاستئناف أحد المعانی التی تؤدیها ثلاثة من الأحرف ؛ هی : (الواو ، والفاء ، وثمّ) ، وحین یکون الحرف للاستئناف لا یکون للعطف.
قال الفیروزبادی صاحب «القاموس المحیط» فی کتابه الآخر المسمی : «بصائر ذوی التمییز» عند الکلام علی معانی «ثمّ» (1) - ما نصه : (تکون للابتداء کقوله تعالی فی سورة فاطر : (وَالَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ ، إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا) ا ه.
وسیجیء فی الجزء الرابع - عند الکلام علی «واو المعیة» ، باب إعراب الفعل ، (2) - ما یؤید وقوع «ثم» للاستئناف ، ویزید الحکم بیانا ووضوحا.
ب - «ثم» تصلح للوقوع بعد همزة الاستفهام مباشرة إذا کان المعطوف بها جملة ، واقتضی المعنی الاستفهام علی الوجه المشروح فی «ء» من ص 570 فهی کالواو والفاء (3) فی هذا. ولا یقع بعد الاستفهام مباشرة من حروف العطف غیر هذه الثلاثة.
ح - ما حکم الضمیر بعد «ثم» إذا کان عائدا علی «المتعاطفین» أیطابقهما أم لا یطابق؟ الجواب فی رقم 3 من ص 657.
ص: 579
معناها الدلالة علی أن المعطوف بلغ الغایة فی الزیادة أو النقص بالنسبة للمعطوف علیه (1) ؛ سواء أکانت الغایة حسیة أم معنویة ، محمودة أم مذمومة ؛ نحو : لم یبخل الغنیّ الورع بالمال حتی الآلاف ، ولم یقصّر فی العبادة حتی التهجّد (2). ومثل : حبس البخیل أمواله حتی الدّرهم ، وارتضی لنفسه المعایب حتی الاستجداء.
ولا تکون عاطفة إلا باجتماع شروط أربعة (3) :
ا - أن یکون المعطوف بها اسما (فلا یصح أن یکون فعلا ، ولا حرفا (4) ، ولا جملة (5)) ، نحو : استخدمت وسائل الانتقال حتی الطیارة ، فلا یجوز
ص: 580
العطف فی نحو : صفحت عن المسیء حتی خجل ، وترکته لنفسه حتی ندم. ولا فی قول المعری :
وهوّنت الخطوب علیّ ، حتی
کأنی صرت أمنحها الودادا
ب - أن یکون الاسم المعطوف بها اسما ظاهرا لا ضمیرا ، وصریحا لا مؤولا ؛ فلا یجوز اعتبارها حرف عطف فی مثل : انصرف المدعوون حتی أنا. وقد ارتضی بعض المحققین الاستغناء عن هذا الشرط ، وأجاز المثال السالف ، وأشباهه. وفی الأخذ برأیه توسعة وتیسیر. کما لا یجوز اعتبارها عاطفة فی مثل : «أحب المقالات الأدبیة حتی أن أقرأ الصحف» ؛ لما یترتب علی هذا من وقوع معطوفها مصدرا مؤولا. وهذا لا یصح.
ح - أن یکون المعطوف بعضا حقیقیّا (1) من المعطوف علیه ، أو شبیها بالبعض (2) ، أو بعضا بالتأویل (3). فمثال البعض الحقیقی : بالریاضة تقوی
ص: 581
الأعضاء حتی الرّجل ، ومثال الشبیه بالبعض : أعجبنی العصفور حتی لونه (1). ومثال البعض بالتأویل : تمتعت الأسرة بالعید حتی طیورها.
د - أن تکون الغایة الحسیة أو المعنویة محققّة لفائدة جدیدة ، فلا یصح : قرأت الکتب حتی کتابا ، ولا سافرت أیاما حتی یوما ...
منها : أنها لمطلق الجمع - کواو العطف عند عدم القرینة ؛ فلا تفید الترتیب الزمنی بین العاطف والمعطوف فی الحکم - نحو : أدّیت الفرائض الخمس حتی المغرب ، ووفیت أرکان کل صلاة حتی الرکوع (2) ، وکقول الشاعر :
رجالی - حتی الأقدمون - تمالئوا
علی کل أمر یورث المجد والحمدا
ومنها : إعادة حرف الجر وجوبا بعد «حتی» إذا عطف بها آخر شیء ، والمعطوف علیه مجرور بمثل ذلک الحرف ، ویلتبس المعنی بعدم إعادته ؛ نحو : سافرت فی الأسبوع الماضی حتی فی آخره ، إذا کان المراد السفر فی أوقات متقطعة من الأسبوع ، وبعضها فی آخره. فلو لم تذکر کلمة : «فی» مرة ثانیة بعد : «حتی» لکان من المحتمل فهم المراد بأنه السفر المتصل من أول الأسبوع إلی آخر لحظة فیه. وهذا غیر المقصود ، فمن الواجب أن یعاد بعدها حرف الجرّ إذا کان «المعطوف علیه» مجرورا بمثیله ؛ لکیلا تلتبس بالجارة. فإن تعیّن (3) العطف بحیث یمتنع اللبس المعنوی کانت الإعادة جائزة لا واجبة ، نحو : فرحت بالقادمین حتی أولادهم ، وقول الشاعر :
ص: 582
جود یمناک فاض فی الخلق حتّی
بائس دان بالإساءة دینا
ومنها : أن استعمالها عاطفة أقل من استعمالها جارة ، فیراعی هذا فی کل موضع یصلح فیه الأمران ؛ نحو : قرأت الکتاب حتی الخاتمة ، فیجوز نصب «الخاتمة» باعتبارها معطوفة «بحتی» علی : «الکتاب». ویجوز جرها باعتبار «حتی» حرف جر ، والأحسن الجرّ ، لأن العطف بالحرف : «حتّی» أقل فی کلام العرب (1) من استعمالها جارة(2).
ص: 583
ا - ومن أحکامها أنها لا تعطف نعتا علی نعت کما تقدم (1). وأنها لا تقع فی صدر جملة تعرب خبرا (2).
ب - أشرنا (3) إلی أن «حتی» العاطفة - کالواو - لمطلق الجمع عند عدم القرینة ، لا للترتیب الزمنی فی الحکم ، نحو : مات کل الأنبیاء حتی نوح. واستدلوا علی هذا بأمثلة مختلفة ؛ منها قوله علیه السّلام : «کل شیء بقضاء وقدر حتی العجز ، والکیس» إذ لا یتأخر تعلق القضاء والقدر بهما عن غیرهما. لکنها - فی مثل هذه الحالة - تفید ترتیب أجزاء ما قبلها ذهنا ؛ أی : تفید تدریجها من الأضعف إلی الأقوی وعکسه طبقا للبیان والتفصیل السالفین (4).
وتکون کالواو أیضا فی عطفها الخاص علی العامّ. وفی وجوب مطابقة الضمیر العائد علی المتعاطفین بعدها لهما (5) ...
ص: 584
نوعان (1) ؛ متصلة ، ومنقطعة ، (أو : منفصلة).
النوع الأول : «المتصلة» ، هی المسبوقة بکلام مشتمل علی همزة التسویة (2) ، أو علی همزة استفهام یراد منها ومن «أم» التعیین (ویکون معناهما فی هذه الحالة هو : «أیّ» الاستفهامیة) (3). فالمتصلة قسمان (4) ، ولکل منهما علامة تمیزه من الآخر :
ا - علامة «أم» المتصلة بهمزة التسویة أن تکون متوسطة بین جملتین خبریتین ، قبلهما معا همزة التسویة (5) ، وکلتا الجملتین صالحة لأن یحل محلها هی والأداة التی تسبقها (6) مصدر مؤول من هذه الجملة ؛ فهما جملتان فی تأویل مفردین - وبین هذین المفردین «واو» عاطفة تغنی عن «أم» ؛ کقولهم : علی
ص: 585
العقلاء أن یعملوا برأی الخبیر الأمین ، فإن العمل برأیه غنم ؛ سواء أیوافق الرأی هواهم أم یخالفه). والتقدیر : موافقة الرأی هواهم ومخالفته سواء. ومثل : (سؤال الناس مذلة وهوان ؛ سواء أکان المسئول قریبا أم کان غریبا). أی : سواء کون المسئول قریبا وکونه غریبا. فقد حل محل الجملة الفعلیة الأولی فی المثالین ومعها همزة التسویة ، مصدر مؤول من الهمزة والجملة معا ؛ هو مصدر الفعل (1) المذکور فیها مع إضافته إلی مرفوعه (فاعلا کان ، أو اسما لناسخ ...) وحل محل الجملة الفعلیة الثانیة فی المثالین ومعها «أم» مصدر مؤول هو مصدر الفعل المذکور فیها مع إضافته إلی مرفوعه کذلک ، وجاءت «الواو» بدلا من «أم» فی المثالین ؛ لتعطف المصدر الثانی المؤول علی نظیره المصدر الأول. ویعرب المصدر الأول علی حسب حاجة الجملة .. فیعرب فی المثالین السالفین خبرا ، مبتدؤه کلمة : «سواء» ، أو العکس. وقد یعرب فی غیرهما مفعولا به ، أو ... أو ... علی حسب الموقع ... ویعرب المصدر المؤول الثانی معطوفا علی الأول بالواو.
والجملتان إما فعلیتان کما رأینا - وهو الأکثر ، ومنه قوله تعالی : (سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، والتقدیر : إنذارک (2) وعدمه سواء. وقوله تعالی : (سَواءٌ عَلَیْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) ، والتقدیر : جزعنا وصبرنا سواء (3) وإما اسمیتان کقول الشاعر :
ص: 586
ولست أبالی بعد فقدی مالکا
أموتی ناء أم هو الآن واقع
ص: 587
والتقدیر : لست أبالی نأی (1) موتی ووقوعه الآن. وإما مختلفتان بأن تکون الأولی (وهی المعطوف علیها) فعلیة : والثانیة (وهی المعطوفة) اسمیة کقوله تعالی عن الأصنام : (سَواءٌ عَلَیْکُمْ ، أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)، والتقدیر : سواء علیکم دعاؤکم إیاهم وصمتکم. أو العکس ، نحو : لا یبالی الحرّ فی إنجاز العمل أرئیسه حاضر أم یغیب. والتقدیر : لا یبالی الحرّ حضور رئیسه وغیابه (2). والمصدر المؤول هنا مفعول به ... والجملة بمعنی : سواء علی الحرّ أرئیسه حاضر أم غائب.
ولیس من اللازم أن تکون همزة التسویة مسبوقة بکلمة «سواء» فقد یغنی عنها ما یدل دلالتها فی التسویة ؛ نحو : «ما أبالی» ... أو ما یشبهها من هذه الناحیة (3) إنما اللازم أن تکون مسبوقة بکلمة : «سواء» أو بما یؤدی
ص: 588
معناها ؛ کما فی بعض الأمثلة السابقة.
هذا ، ولا شأن لهمزة التسویة بالاستفهام فقد ترکته نهائیّا وتمحضت للتسویة.
حکم هذا القسم :
مما سبق یتبین أن «أم» المتصلة المسبوقة بهمزة التسویة لا تعطف إلا جملة علی جملة وکلتا الجملتین خبریة بمنزلة الفرد ، لأنها صالحة مع الأداة لأن یحل محلها مصدر مؤول. ولا شأن لها بعطف المفردات إلا نادرا ؛ لا یقاس علیه ، ومن صور هذا النادر القلیل الذی لا یقاس علیه أن تتوسط بین مفرد وجملة (1) ؛ کقول القائل :
سواء علیک النّفر (2)
أم بتّ لیلة
بأهل القباب من عمیر (3)
بن عامر
* * *
ب - وعلامة : «أم» المسبوقة بهمزة التّعیین أن تکون متوسطة بین شیئین ، ینسب لواحد غیر معین منهما أمر یعلمه المتکلم. ولکنه لا یعلم - علی وجه التعیین - صاحبه منهما ، وقبلهما معا همزة استفهام ، یراد منها ومن «أم» تعیین أحد هذین الشیئین (4) ، وتحدید المختص منهما بالأمر الذی یعرفه المتکلم ، ویسأل
ص: 589
عن صاحبه الحقیقیّ ؛ لیعرفه علی وجه الیقین ، لا التردد والشک ؛ نحو : أعمّک مسافر أم أخوک؟ فقد وقعت «أم» بین شیئین ، هما : «عم» و «أخ» وقبلهما همزة استفهام (1) یرید المتکلم بها و «بأم» أن یعین له المخاطب أحد الشخصین تعیینا قاطعا یدل علی المسافر منهما دون الآخر. فالمتکلم یعلم یقینا أن أحدهما مسافر ؛ لکن من منهما؟ هذا هو ما یجهله المتکلم ، ویرید أن یعرفه بغیر تشکک فیه ؛ إذ لا یدری ؛ أهو : العم أم الأخ؟ ؛ ومن أجله یطلب من المخاطب أن یعیّن له المسافر تعیینا مضبوطا ، ویحدده تحدیدا یؤدی إلی کشف حقیقته وذاته ، فیمکن بعد هذا إسناد السّفر إلیه وحده ، ونسبته إلیه ، دون غیره. فالسفر المجرد - لیس موضع السؤال ، لأنه غیر مجهول للمتکلم ، إنما المجهول الذی یسأل عنه ویرید أن یعرفه - هو تعیین أحدهما ، وتخصیص فرد منهما بالأمر دون الآخر.
ومن الأمثلة أیضا : أعادل والیکم أم جائر؟ فقد وقعت «أم» بین شیئین ؛ هما : عادل وجائر ، وقبلهما معا همزة الاستفهام التی یرید المتکلم بها وبأم استبانة أحد هذین الشیئین ، وتحدیده ، وتعیینه ، لیقتصر المعنی علیه ، وینسب إلیه وحده. ذلک أن المتکلم یقطع بأن هناک والیا ، ولا یشک فی وجوده ، ولکن الذی یجهله ویرید أن یعرفه من المخاطب هو : تعیین هذا الوالی ، وتحدید أمره ؛ بحیث یکون واحدا محددا من هذین الاثنین لا یتجه الفهم إلی غیره مطلقا. وتسمی هذه الهمزة : «بالمغنیة عن کلمة : أیّ» - لأنها مع «أم» یغنیان عن کلمة : «أیّ» فی طلب التعیین ، ولیست الهمزة وحدها - فمعنی ؛ أعمک مسافر أم أخوک؟ هو : أیّهما المسافر؟ ومعنی أعادل والیکم أم جائر : أیّ الأمرین واقع ومحقق؟
حکم هذا القسم :
یشترط فی : «أم» هذه - کما سبق - أن تتوسط بین الشیئین اللذین یراد
ص: 590
تعیین أحدهما ؛ فیقع قبلها واحد منهما ، ویقع بعدها الآخر (1) ؛ کما فی الأمثلة (2).
ولما کان التعیین والتحدید هما الغرض من الإتیان «بأم» هذه ومعها همزة الاستفهام التی قبلها - وجب أن یجیء الجواب مشتملا علی ما یحقق الغرض ؛ فیتضمن النص الصریح بذکر أحد الشیئین وحده. فیقال فی المثال الأول : (العم ...) مع الاقتصار علی هذا. أو : (الأخ ...) مع الاقتصار علیه. ویقال فی المثال الثانی : (عادل) کذلک ، أو : (جائر).
ولا یصح أن یقال فی الإجابة عن السؤالین وأشباههما : نعم ، أو : لا ، لأن الإجابة بأحد هذین الحرفین - أو بأخواتهما من أحرف الجواب - لا تفید تعیینا ، ولا تحدیدا ، وإنما تفید الموافقة علی الشیء المسئول عنه أو المخالفة. وهذه الموافقة أو المخالفة لا تحقق الغرض المقصود من استعمال «أم» المتصلة المسبوقة بهمزة الاستفهام علی الوجه الذی شرحناه (3).
ولهذا القسم من قسمی «أم» المتصلة صور مختلفة ؛ منها :
1- أن تقع بین مفردین متعاطفین بها ، وبینهما فاصل لا یسأل عنه المتکلم - وهذه الصورة هی الغالبة - کأن یقول قائل لآخر : شاهدت الیوم سباق السبّاحین ؛ أمحمد هو الذی فاز أم محمود؟ فالمراد من السؤال تعیین واحد من الاثنین ، وقد توسط بینهما أمر لیس موضوع الاستفهام ، لأنه أمر معروف
ص: 591
للمتکلم ، وهو الفوز ، أما المجهول الذی یرید أن یعرفه فهو الفائز.
وقد تقع بین مفردین تعطفهما ، مع تأخر شیء عنهما لا یسأل عنه المتکلم ؛ تقول فی المثال السالف : أمحمد أم محمود هو الذی فاز؟ وکأن یقول قائل : کتاب «العقد الفرید» کتاب أدبی نفیس ، فتقول : نعم سمعت اسمه یتردد کثیرا. ولکن أغال أم رخیص کتاب «العقد الفرید»؟ فأنت تسأل عن غلوّه ورخصه ، وتطلب بسؤالک تعیین أحدهما ، ولست تسأل عن الکتاب ذاته ، فإنک تعرفه ...
ومن الأمثلة السالفة یتبین أن الذی یلی الهمزة مباشرة هو واحد مما یتجه إلیه الاستفهام ، یراد معرفته وتعیینه ، أمّا الذی لا یتجه إلیه الاستفهام فیتوسط أو یتأخر (1). وهذا الحکم هو الأکثر والأولی ، ولکنه لیس بالواجب ؛ فلیس من المحتم أن یلی الهمزة أحد الأمرین اللذین یتجه إلیهما الاستفهام لطلب التعیین. بل یصح - عند أمن اللبس - أن یقال : أکتاب «العقد الفرید» غال أم رخیص؟ وهذا - بالرغم من صحته - قلیل ، ودرجته البلاغیة ضئیلة ومراعاة الأکثر هی الأحسن ...
2- ومنها : أن تقع بین جملتین لیستا فی تأویل مصدر (2) ، وتعطف ثانیتهما علی الأولی ، وهما ، إمّا فعلیتان ، نحو : أزراعة مارست ، أم زاولت التجارة؟ وإما اسمیتان ، نحو : أضیفک مقیم غدا أم ضیفک مسافر؟ وإما مختلفتان ، نحو : أأنت کتبت رسالة لأخیک الغائب أم أبوک کاتبها؟
3- ومنها : أن تقع بین مفرد وجملة ؛ کقوله تعالی : (وَإِنْ (3) أَدْرِی
ص: 592
أَقَرِیبٌ أَمْ بَعِیدٌ ما تُوعَدُونَ ، أَمْ یَجْعَلُ (1) لَهُ رَبِّی أَمَداً).
* * *
فملخص ما یقال فی «أم المتصلة» أنها تنحصر فی قسمین ؛ قسم مسبوق بهمزة التسویة ، ولا تعطف فیه إلا الجمل التی هی فی حکم المفرد ، (لأن کل جملة منها مؤولة بالمصدر المنسبک) ، وقسم مسبوق بهمزة استفهام یطلب بها وبأم التعیین ، وتعطف فیه المفردات حینا والجمل حینا آخر ، أو المفرد والفعل (2).
وإنما سمیت «أم» فی القسمین : «متصلة» لوقوعها بین شیئین مرتبطین ارتباطا کلامیّا وثیقا ، لا یستغنی أحدهما عن الآخر ، ولا یستقیم المعنی إلا بهما معا. لأن التسویة فی النوع الأول وطلب التعیین فی النوع الثانی - لا یتحققان إلا بین متعدد ، وهذا التعدد لا یتحقق إلا بما قبلها وما بعدها مجتمعین.
وتسمی کذلک فی هذین القسمین : «أم المعادلة» للهمزة ؛ لأنها فی القسم الأول تدخل علی الجملة الثانیة المعادلة للجملة الأولی فی إفادة التسویة ، وهذه الجملة الثانیة هی التی تفید المعادلة فی التّسویة (3) ، ولیست «أم». غیر أن «أم» تعتبر معادلة للهمزة بسبب الدخول علی الجملة المعادلة للأولی التی دخلت علیها الهمزة - ولا دخل للهمزة ولا «أم» فی إفادة التسویة المباشرة.
ولأنها فی النوع الثانی تعادل الهمزة فی إفادة الاستفهام.
ص: 593
ویجب فی النوعین أن یتأخر عنها المنفیّ ؛ - کما أشرنا (1) - مثل : سواء علیّ أغضب الظالم أم لم یغضب. ولا یصح : سواء علیّ ألم یغضب الظالم أم غضب (2). وفی مثل : أمطر نزل أم لم ینزل؟ لا یصح : ألم ینزل مطر أم نزل؟
* * *
الفرق بین قسمی «أم» المتصلة :
تختلف «أم» التی بعد همزة التسویة عن «أم» التی یراد بها وبهمزة الاستفهام التعیین فی أربعة أمور :
أولها : أن الواقعة بعد همزة التسویة لا تستحق جوابا حتمیّا (3) ، لأن المعنی معها علی الإخبار ؛ ولیس علی الاستفهام ؛ فقد ترکت الاستفهام إلی الإخبار بالتسویة ؛ بخلاف الأخری ، فإنها باقیة علی الاستفهام. فتحتاج للجواب.
ثانیها : أن الکلام مع الواقعة بعد همزة التسویة قابل للتصدیق والتکذیب (4) إذ هو خبر - کما أسلفنا - بخلاف الأخری ؛ فإن الکلام معها إنشائی ؛ لا دخل للتصدیق والتکذیب فیه ؛ لبقاء الاستفهام علی حقیقته فی الغالب.
ثالثها : أن الواقعة بعد همزة التسویة لا بد أن تقع بین جملتین - ومن النادر الذی لا یقاس علیه ألا تکون کذلک ، کما سبق (5) - أما الأخری فقد تکون بین
ص: 594
الجمل أو المفردات ، أو بین مفرد وجملة.
رابعها : أن الجملتین اللتین تتوسطهما «أم» الواقعة بعد همزة التسویة لابد أن تکونا فی تأویل مفردین ؛ لأن کلا منهما فی تأویل مصدر منسبک.
بخلاف اللتین تتوسطهما «أم» الأخری ، فلا یصح تأویل واحدة منهما بمفرد ؛ لعدم وجود سبک ولا غیره مما یجعلها فی حکم المفرد (1) ...
* * *
ص: 595
ا - یصح فی الأسلوب المشتمل علی «أم» المتصلة الاستغناء عن الهمزة بنوعیها إن علم أمرها ، ولم یوقع حذفها فی لبس. فمثال حذف همزة التسویة : (سواء علی الشریف راقبه الناس أم لم یراقبوه ؛ فلن یرتکب إثما ، ولن یقع فی محظور). والأصل : أراقبه الناس .. ، ومثال حذف الأخری قول الشاعر :
لعمرک ما أدری - وإن کنت داریا -
بسبع رمین الجمر أم بثمان؟
یرید : أبسبع أم بثمان؟ وتظل حالات : «أم» وأحکامها بعد حذف الهمزة کما کانت قبل حذفها (1).
ب - من النادر الذی لا یقاس علیه أن تحذف «أم» المتصلة مع معطوفها کقول الشاعر :
دعانی إلیها القلب ، إنی لأمره
سمیع ؛ فما أدری أرشد طلابها ..؟
یرید : أم غیّ. وقول الآخر :
أراک فلا أدری أهمّ هممته؟
وذو الهمّ قدما خاشع متضائل ...
یرید : أهمّ أم غیره (2) ...؟
وقیل : إن الهمزة للتصدیق فلا تحتاج لمعادل. - وستجیء إشارة للحذف فی ص 637 -
ویجوز حذف المعطوف علیه قبلها - کما سیجیء فی موضعه المناسب ص 639 -
ح - سبقت الإشارة (فی ص 588 ورقم 3 من هامشها) إلی أن الهمزة الواقعة بعد: «لا أبالی» هی للتسویة بخلاف الواقعة بعد : (لا أدری ، أو لا أعلم ، أو لیت شعری) فإنها للتعیین علی الأرجح ، وأن سیبویه یجیز العطف بأو وأم بعد هذه الألفاظ إذا سبقتها الهمزة (3).
ص: 596
النوع الثانی - «أم» المنقطعة ، (أو : المنفصلة) :
تعریفها : (هی التی تقع - فی الغالب - بین جملتین مستقلتین فی معناهما ، لکل منهما معنی خاص یخالف معنی الأخری ، ولا یتوقف أداء أحدهما وتمامه علی الآخر ؛ فلیس بین المعنیین ما یجعل أحدهما جزءا من الثانی. وهذا هو السبب فی تسمیة : «أم» بالمنقطعة ، أو : بالمنفصلة ، وفی أن یکون معناها - فی غیر النادر - الإضراب دائما (1) فتکون فی هذا بمعنی : «بل (2)». وقد تفید معه معنی آخر أحیانا (3).
ألا تقع - مطلقا (4) - بعد همزة التسویة ، ولا بعد همزة الاستفهام التی یطلب بها ، و «بأم» التعیین - وقد شرحناهما (5) - وإنما تقع بعد نوع مما یأتی :
1- الخبر المحض ؛ کقوله تعالی فی الکفار : (" وَإِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُنا بَیِّناتٍ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِینٌ ، أَمْ یَقُولُونَ افْتَراهُ " ....) أی : بل یقولون افتراه ، فقد وقعت «أم» بین جملتین هما : (هذا سحر مبین) ، و (یقولون افتراه) وکل واحدة منهما مستقلة بمعناها عن الأخری ، ومن الممکن عند الاکتفاء بها أن تؤدی معنی کاملا. و «أم» هنا بمعنی : «بل» الدالة علی الإضراب المحض الذی لا یشارکه معنی آخر.
ص: 597
2- وقد تقع بعد أداة استفهام غیر الهمزة ، کقوله تعالی : (هَلْ یَسْتَوِی الْأَعْمی وَالْبَصِیرُ ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِی الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ...)(1) والشأن فی هذه الآیة کسالفتها. فی الدلالة علی الإضراب المحض.
3- وقد تقع بعد همزة لیست للتسویة ولا لطلب التعیین ، وإنما هی لنوع من الاستفهام غیر الحقیقی ، معناه : الإنکار والنفی ؛ کقوله تعالی فی الأصنام ، (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ یَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَیْدٍ یَبْطِشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَعْیُنٌ یُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ یَسْمَعُونَ بِها ...) فالاستفهام هنا غیر حقیقی (2) والمراد منه ما سبق.
4- وقد تقع بعد همزة استفهام غیر حقیقی أیضا ، ولکن یراد منه التقریر ، أی : الحکم علی الشیء بأنه ثابت مقرر ، وأمر واقع ؛ کقوله تعالی فی المنافقین : (أَفِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أَمِ ارْتابُوا ، أَمْ یَخافُونَ أَنْ یَحِیفَ اللهُ عَلَیْهِمْ وَرَسُولُهُ ...)(3).
فکلمة «أم» فی جمیع الأنواع السالفة منقطعة بمعنی : «بل».
ومن الأمثلة للإضراب المحض (4) : (هذا صوت مغنیة بارعة ، أم هذا صوت مغنّ مقتدر ، فقد تبینت لحیته وشاربه.) هنا وقعت «أم» بین جملتین تفید الأولی منهما أن الصوت لمغنیة ، وتدل الثانیة علی أن المتکلم أضرب ، - أی : عدل - عما قرره أوّلا ، وترکه إلی معنی آخر ، هو أن الغناء لرجل ، لا لمغنیة. والذی یدل علی إضرابه وعدوله عن المعنی الأول إلی الثانی ، هو ذکر
ص: 598
اللحیة والشارب ، فهما قرینة علی الإضراب. وأداة الإضراب هی : «أم».
ومن الأمثلة : (استیقظت فی الصباح الباکر فرأیت ورق الشجر مبتلا فقد سقط المطر لیلا ، أم تکاثر الندی علیه ؛ فإنی أجد الطرق والمسالک جافة ؛ لا أثر فیها للمطر). فهنا وقعت «أم» بین جملتین ؛ الأولی منهما تفید أن بلل الورق من سقوط المطر ، وتدل الثانیة منهما علی أن سبب البلل شیء آخر ؛ هو : النّدی ، فعدل المتکلم علی المعنی الأول ، وانصرف عنه إلی الثانی ؛ بدلیل یؤیده ؛ هو : جفاف الطرق والمسالک. والأداة المستعملة فی الإضراب هی : «أم» (1) ....
الرأی الراجح أن «أم» المنقطعة لیست عاطفة ، وإنما هی حرف ابتداء یفید الإضراب ، فلا تدخل إلا علی الجمل ، أما الرأی المرجوح فإنها حرف عطف لا یعطف إلا الجمل. والأخذ بالرأی الأول أنسب وأیسر.
* * *
ص: 599
ا - من نوع المنقطعة «أم» الواقعة بعد همزة الاستفهام الحقیقی ، بشرط أن یکون ما بعدها نقیض ما قبلها : نحو : أفاکهة عندک أم لا؟ لأن المتکلم لو اقتصر علی الجملة الأولی لکان المعنی المستقل کافیا مستغنیا عن معنی الجملة الثانیة - کالشأن فی : «أم» المنقطعة - ، ولکان الجواب : نعم ، أو : لا ، ونحوهما ، علی حسب المراد من غیر حاجة إلی المعنی الثانی. وإنما ذکر ما بعدها لبیان أن المتکلم عرض له ظنّ الانتفاء فاستفهم عنه ، ضاربا عن الثبوت ، ولو لا ذلک لضاع قوله : «أم لا» بغیر فائدة (1) فإن لم یکن الثانی نقیض الأول ؛ نحو : أفاکهة أکلت أم خبزا ، کانت «أم» محتملة للاتصال والانقطاع ، فإن کان السؤال عن تعیین المأکول مع تیقن وقوع الأکل علی أحدهما فمتصلة - طبقا لما شرحناه (2) عند الکلام علیها -. وإن کان السائل قد عرض له الظن بأن المأکول هو الخبز بعد ظنه أن المأکول هو الفاکهة ، فاستفهم عن الثانی مضربا عن الأول فهی منقطعة. فالاحتمال إنما یقع عند عدم القرینة الدالة علی أحدهما ، وهی القرینة التی تعین الاتصال وحده ، أو الإضراب وحده ، فإذا وجدت وجب الأخذ بها ، وامتنع الاحتمال (3).
ب - قلنا (4) إن : «أم» المنقطعة لا یفارقها معنی الإضراب ، إلا نادرا ... لکنها قد تفید معه استفهاما حقیقیّا ، وفی هذه الصورة تفید الإضراب والاستفهام الحقیقی معا من غیر وجود همزة استفهام معها. کأن تری کوکبا یضطرب ویهتز فتقول : هذا کوکب المرّیخ. ثم تعدل عن هذا الرأی لسبب یداخلک ، فتقول : «هذا کوکب المرّیخ. أم هو کوکب سهیل ؛ فإن هذه أمارات سهیل التی تعرفها أنت»؟ فقد قررت أولا أن هذا هو المرّیخ ، ثم عدلت عنه إلی کوکب آخر أردت أن تستوثق من اسمه ؛ فکأنک قلت : بل أهو کوکب سهیل؟ ومثل هذا قول العربی حین رأی أشباحا بعیدة حسبها إبلا ، ثم عدل عن رأیه إلی رأی آخر؛
ص: 600
هو : أنها شاء (1) ، وأراد أن یستوثق من رأیه الجدید ، فقال : (إنها لإبل ، أم شاء)؟ یرید : إنها لإبل ، بل أهی شاء؟ والهمزة داخلة علی مبتدأ محذوف ، لأن «أم» المنقطعة لا تدخل - فی الغالب - إلا علی جملة - کما أسلفنا (2) -.
وقد تفید مع الإضراب استفهاما إنکاریّا (3) بغیر أن تسبقها أداة استفهام ؛ کقوله تعالی : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَکُمُ الْبَنُونَ)، أی : بل أله البنات ولکم البنون؟ لأنها لو کانت للإضراب المحض الذی لا یتضمن الاستفهام الإنکاری لکان المعنی محالا ، إذ یترتب علیه الإخبار بنسبة البنات إلی المولی جل شأنه.
وقد تتجرد للإضراب المحض الذی لا یتضمن استفهاما مطلقا ؛ لا حقیقیّا ولا إنکاریّا ؛ کالأمثلة الأولی (4) التی منها قوله تعالی : (هَلْ یَسْتَوِی الْأَعْمی وَالْبَصِیرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِی الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)، أی : بل هل تستوی الظلمات ؛ ولا یصح أن یکون التقدیر : بل أهل تستوی الظلمات ، لأن أداة الاستفهام لا تدخل علی أداة استفهام - کما أسلفنا (5). -
ومثل الآیة فی الإضراب المحض قول الشاعر :
فلیت سلیمی فی الممات ضجیعتی
هنالک أم فی جنة (6)
أم جهنم
ص: 601
أی : بل فی جهنم ، ولا یصح التقدیر : بل أفی جهنم ، إذ لا معنی للاستفهام هنا ؛ لأن الغرض من الکلام التمنی.
وقد تتجرد - نادرا - للاستفهام الخالی من الإضراب کقول الشاعر :
کذبتک عینک ، أم رأیت بواسط (1)
غلس الظّلام من الرّباب خیالا
إذ المراد : هل رأیت؟ وهذا أقلّ استعمالاتها. ومن المستحسن عدم القیاس علیه ؛ لغموض المراد معه.
ح - یجوز أن تجاب «أم» المنقطعة. وجوابها یکون بحرف من أحرف الجواب ؛ مثل : نعم ، أو : لا ، أو : أخواتهما ... ففی نحو قوله تعالی فی الأصنام : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ یَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَیْدٍ یَبْطِشُونَ بِها ...) یکون الجواب عند عدم الموافقة وعدم التصدیق «لا» ، أو ما یدل دلالتها. وفی مثل : قوله تعالی : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَکُمُ الْبَنُونَ) یکون الجواب عند المخالفة : «لا» أو ما یدل دلالتها.
وإذا تکررت «أم» المنقطعة متضمنة فی کل مرة استفهاما ، بحیث تتوالی بها الاستفهامات - کان الجواب للأخیر ؛ مراعاة للانصراف إلیه ، لأن المتکلم أضرب عما سبقه ، وانصرف إلیه تارکا ما قبله.
د - تقسیم «أم» إلی المتصلة والمنقطعة هو المشهور (2). وزاد بعضهم نوعا ثالثا ؛ هو الزائدة ؛ کقول الشاعر :
یا لیت شعری ولا منجی من الهرم
أم هل علی العیش بعد الشّیب من ندم
وهذا نوع لا یقاس علیه.
ه - حکم الضمیر الواقع بعد «أم» العائد علی المتعاطفین - من ناحیة المطابقة وعدمها - موضح فی رقم 3 من ص 656
* * *
ص: 602
حرف یکون فی أغلب استعمالاته عاطفا ؛ فیعطف المفردات والجمل. فمن عطفه المفردات قول أحد الأدباء : طلع علینا فلان طلوع الصبح المنیر ، أو الشمس المشرقة ، وأقبل کالدنیا المواتیة ، أو السعادة المرتجاة.
فقد عطف الحرف «أو» کلمة : الشمس ، علی کلمة : الصبح ، کما عطف کلمة : السعادة ، علی کلمة : الدنیا ، وکل هذه المعطوفات وما عطفت علیه مفردات (1) ، وأداة العطف هی : «أو».
ومثال عطفه الجمل قول الشاعر :
أعوذ بالله من أمر یزیّن لی
شتم العشیرة ، أو یدنی من العار
فالجملة المضارعیة المکونة من الفعل : «یدنی» وفاعله ، معطوفة علی نظیرتها السابقة : (المکونة من المضارع : یزیّن وفاعله) والعاطف هو : «أو» (2) ... معناه :
لهذا الحرف معان واردة قیاسیة ، یحددها السیاق وحده ، فیعین المعنی المناسب لکل موضع ، ومن ثمّ اختلفت المعانی القیاسیة للحرف : «أو» باختلاف التراکیب والقرائن ، وبما یکون قبله من جملة طلبیة أمریّة (3) ، أو غیر أمریة ، أو جملة خبریّة علی الوجه الّذی یجیء (4) :
ا - فمن معانیه : «الإباحة» ، و «التخییر» ، بشرط أن یکون الأسلوب قبلهما مشتملا علی صیغة دالة علی الأمر (5). فمثال الإباحة : تمتع بمشاهدة
ص: 603
آثار الفراعین فی «الصعید الأعلی (1)» ، أو : «الجیزة» (2) ، وانعم بشتاء «أسوان» (3) ، أو : «حلوان» (4).
ومعنی الإباحة : ترک المخاطب حرّا فی اختیار أحد المتعاطفین (5) فقط ، أو اختیارهما معا ، والجمع بینهما إذا أراد ...
ففی المثال السالف یصح أن یختار زیارة آثار «الصعید الأعلی» فقط ، أو آثار «الجیزة» فقط ، أو یجمع بین زیارتهما من غیر أن یقتصر علی واحدة. وکذلک أن ینعم بشتاء «أسوان» وحدها ، أو «حلوان» وحدها ، أو ینعم بالشتاء فی هذه وفی تلک. فالإباحة تترک للمخاطب کامل الحریة فی أن یختار أحد المتعاطفین ، ویقتصر علیه ، وفی أن یجمع بینهما.
ومثال التخییر : من أتم دراسته الثانویة العلمیة فلیدخل کلیة الطب أو الهندسة ، لإتمام تعلمه بالجامعة.
ومعنی التخییر : ترک المخاطب حرّا یختار أحد المتعاطفین (6) فقط ، ویقتصر علیه ، دون أن یجمع بینهما ؛ لوجود سبب یمنع الجمع (7) ، ففی المثال السالف یدخل الطالب لیتعلم فی إحدی الکلیتین المذکورتین دون الأخری. ولیس له أن یدخلهما معا للتعلم ؛ لوجود ما یمنع الجمع ؛ وهو أن القوانین الجامعیة الحالیة تحرّم هذا ، وتمنعه.
ومن أمثلة التخییر أن یقول الوالد لابنه : هاتان أختان نبیلتان ؛ فتزوج هذه أو تلک. فمعنی «أو» هنا : الترخیص له بزواج إحداهما فقط ، ولا یجوز التزوج بالاثنتین ، لوجود سبب یمنع الجمع بینهما ؛ هو أن الدین یحرّم الجمع بین الأختین فی الحیاة الزوجیة القائمة(8).
وقد سبق أن الواو العاطفة تکون أحیانا مثل «أو» فی إفادة التخییر ؛ کالذی فی قول الشاعر :
ص: 604
وقالوا : نأت ؛ فاختر لها الصبر والبکا
فقلت : البکا أشفی - إذا - لغلیلی
والدلیل علی الاختیار المجرد ، وعدم الجمع .. : هو إجابة السامع ، وأن البکا والصبر لا یجتمعان فی وقت واحد ، ولا یتلاقیان معا.
ومما تقدم یتبین أن الإباحة والتخییر لا یکونان إلا بعد صیغة دالة علی الأمر (1) دون غیره ، کما یتبین وجه الشبه والتخالف بین الإباحة والتخییر ؛ فهما یتشابهان فی أن کلا منهما یجیز للمخاطب أن یختار أحد المتعاطفین. ویختلفان فی أن التخییر یمنع الجمع بین المتعاطفین ، أما الإباحة فلا تمنع.
ب - ومن معانیه : الشک من المتکلم فی الحکم ، بشرط أن یکون قبل «أو» جملة خبریة (2) ؛ نحو : قضیت فی السباحة ثلاثین دقیقة ، أو أربعین.
ح - ومن معانیه : الإبهام (3) من المتکلم علی المخاطب ، بشرط أن یکون قبله جملة خبریة أیضا : کمن یسأل : متی تسافر لأشارکک؟ فإذا کنت لا ترغب فی مصاحبته أجبت : قد أسافر یوم الخمیس أو الجمعة ، أو السبت ... ، وإذا سألک : أین کنت یوم الأحد - مثلا -؟ أجبت : کنت فی البیت ، أو المتجر ، أو الضیّعة ، تقول هذا عند الرغبة فی إخفاء المکان عنه. فالشک والإبهام إنما یقعان لغرض مقصود ، حیث تکون «أو» بعد جملة خبریة (4).
د - وهناک معان أخری غیر التی سبقت فی : (ا ، ب ، ح) ولا یشترط
ص: 605
لتحقق هذه المعانی الأخری أن تکون : «أو» مسبوقة بنوع معیّن من الجمل ، فقد یتحقق المعنی والجملة السابقة طلبیة مطلقا ، أو خبریة.
ومن هذه المعانی : التفصیل (1) بعد الإجمال (أی : التقسیم ، وبیان الأنواع) ؛ نحو : الکلمة : اسم ، أو فعل ، أو حرف. والاسم : مشتق ، أو جامد. والفعل : ماض ، أو مضارع ، أو أمر ... ؛ ومن هذا النوع قول القائل : اجتمع فی النادی ثلاث طوائف ممن یمارسون أعمالا حرة مختلفة یحبونها. فسألتهم
ص: 606
ما أفضل الأعمال الحرة للشباب؟ قالوا : أفضلها الزراعة ، أو التجارة ، أو الصیدلة ، فالجملة الفعلیة : (قالوا) جملة خبریة ، مکونة من الفعل : «قال» الدال علی القول ، من غیر تفصیل للکلام الذی قیل ، ومن الضمیر : (واو الجماعة) العائد علی الطوائف المعدودة بالثلاث (1) ، وهو ضمیر مجمل یدل علی مرجعه دلالة خالیة من التفصیل. وبسبب الإجمال فی دلالة الفعل وفی الضمیر جاء بعدهما التفصیل الذی یعدّد طوائفهم ، وأنهم زراعیون. وتجاریون ، وصیادلة ، کما یبین کلام کل طائفة ؛ أی : قال الزراعیون : أفضلها الزراعة ، وقال التجاریون : أفضلها التجارة ، وقال الصیادلة ؛ أفضلها الصیدلة.
ومن هذه المعانی أیضا : الإضراب (2) ، ومن أمثلته : أن یتهیأ المرء للخروج ، وتبدو علیه أماراته ، ثم یعدل عنه ، قائلا : (أنا أخرج. أو أقیم). فینطق بالجملة الأولی ، ولا یلبث أن یغیّر رأیه ، وینصرف عما قرره ، فیسارع إلی إردافها بقوله : أو : «أقیم» ویجلس جلسة المقیم ، فیکون جلوسه قرینة علی أن معنی «أو» هو : الإضراب. فکأنه قال : (أخرج ، لا ، بل أقیم). ومثله قول القائل : (أقیم فی البیت ، أو أخرج ؛ فإن ورائی عملا لا مناص من إنجازه الآن فی الخارج). فقد أخبر بالإقامة فی البیت ، ثم بدا له أن ینصرف عن هذا الرأی ویخرج ، فکأنه قال : «لا. بل أخرج الآن» ومثل قول الشاعر یتغزل :
بدت مثل قرن الشمس فی رونق الضحا
وصورتها. أو أنت فی العین أملح
یرید : بل أنت أملح.
ویحسن فی الأسلوب المشتمل علی : «أو» التی تفید الإضراب أن یحتوی أمرین معا ؛ أولهما : أن یسبقها نفی أو نهی (3). وثانیهما : تکرار العامل ، نحو :
ص: 607
(ما زارنی عمی ، أو : ما زارنی أخی). (ولا یخرج حامد ، أو : لا یخرج إبراهیم). والمراد : بل ما زارنی أخی - بل لا یخرج إبراهیم. ونحو : (لا ترجیء عملک الناجز ، أو : لا تهمل عملک). ونحو : (لیس المنافق صاحبا ، أو : لیس مأمونا علی شیء.) .. والمراد : بل لا تهمل - بل لیس مأمونا ...
وإذا کانت «أو» للإضراب فالأحسن اتباع الرأی الذی یعتبرها حرفا لمجرد الإضراب لا للعطف ، فما بعدها جملة مستقلة عما قبلها. شأنها فی هذا شأن «أم» المتجردة للإضراب وحده ؛ فلیست عاطفة - فی الرأی الراجح ، کما أسلفنا (1) -
ویری فریق آخر أنهما مع الإضراب یعربان حرفی عطف ، فما بعدهما معطوف علی ما قبلهما ... والخلاف شکلی ، ولکنّ الأول أوضح وأنسب.
وقد یکون معنی الحرف : «أو» الدلالة علی الاشتراک ومطلق الجمع (2) بین المتعاطفین ؛ فکأنه الواو العاطفة فی هذا ، وبصح أن یحل محله الواو (3) ، کقول الشاعر :
وقالوا لنا : ثنتان لا بدّ منهما
صدور رماح أشرعت (4) ،
أو سلاسل (5)
ونحو : جلس الضیف بین صاحب الدار أو ابنه. أی : جلس بین صاحب الدار وابنه : لأن کلمة : «بین» إذا أضیفت لاسم ظاهر اقتضت - فی الغالب -
ص: 608
أن یکون ما بعدها متعدد الأفراد ، وهذا التعدد لا یتحقق «بأو» إلا إذا کانت بمعنی الواو الدالة علی الجمع والمشارکة ....
ومثل قول الشاعر :
وقد زعمت لیلی بأنی فاجر
لنفسی تقاها ، أو علیها فجورها
وقول الآخر یمدح أحد الخلفاء :
نال الخلافة أو کانت له قدرا
کما أتی ربّه موسی علی قدر
فلابد من محاسبة النفس علی التقی والفجور معا ، دون الاقتصار علی أحدهما ولا تتحقق الخلافة إلا مع قضاء الله وقدره (1) ..
* * *
وملخص ما سبق (2) من معانی «أو» ، أن هذه المعانی المتعددة القیاسیة خاضعة فی إدراکها للسیاق والقرائن خضوعا تامّا ؛ کی یتمیز ویتحدد کل نوع منها ، وأن التخییر والإباحة (3) لا یکونان إلا بعد أمر ، وأن الشک والإبهام لا یکونان إلا بعد جملة خبریّة. أما المعانی الأخری التی تخالف ما سبق (کالتفصیل ، والإضراب ، ومعنی الواو ...) فتکون بعد الجمل الخبریة ، والطلبیة ، و .... والأفضل فی الإضراب أن یسبقه نفی أو نهی. وأن یتکرر العامل معه (4) ...
ص: 609
ص: 610
ا - الأصل فی «أو» أن تکون لأحد الشیئین أو الأشیاء (1) لکنها إذا وقعت بعد نفی أو نهی کانت للنفی العام الذی یشمل کل فرد مما فی حیّز النفی قبلها وبعدها ، وللنهی العام الذی ینصبّ علی کل فرد کذلک : فمثالها بعد النفی : (لا أحب منافقا أو کاذبا). ومثالها بعد النهی قوله تعالی : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ کَفُوراً)(2) ...
ب - یقول سیبویه : إذا ذکرت همزة التسویة بعد کلمة : «سواء» فلابد من مجیء «أم» العاطفة ، لا فرق فی هذا الحکم بین أن یکون بعد الهمزة اسمان أو فعلان ؛ نحو : (سواء علیّ أمقیم ضیفی أم هو مرتحل - سواء علیّ أبقی الضیف أم ارتحل) ، فإن کان بعد : «سواء» فعلان بغیر همزة التسویة عطف الثانی منهما علی الأول بالحرف : «أو». نحو : (سواء علینا رضی العدو أو سخط.) ورأیه هذا مخالف لما نقلناه - فی رقم 3 من هامش ص 588 وما یتصل بها - عن بعض المحققین الذین یجیزون مجیء «أم» والصواب معهم. وفی تلک الصفحة أیضا بیان الصلة والارتباط بین الحرفین : «أو» و «أم»
وإن کان بعدها اسمان بغیر همزة التسویة عطف الثانی علی الأول بالواو ، ولو کان الاسمان مصدرین ؛ نحو سواء علیّ حمزة وعامر ، ونحو : سواء علینا اعتدال الجو وانحرافه(3) ....
ح - یصح حذف «أو» عند أمن اللّبس (4) ؛ نحو : وسائل السفر متنوعة ؛ یتخیر منها کل امرئ ما یناسبه ؛ فسافر بالطیارة - القطار - الباخرة - السیارة ...
د - وقد تعطف الشیء علی مرادفه (5) کقوله تعالی : (وَمَنْ یَکْسِبْ خَطِیئَةً أَوْ إِثْماً ...) فالإثم هو : الخطیئة ....
ص: 611
یری بعض النحاة أن کلمة : «إمّا» الثانیة فی مثل «امنح السائل إمّا درهما وإمّا درهمین» - حرف عطف بمعنی : «أو» ، وأنها تشارک «أو» فی خمسة من معانیها (1). هی :
التخییر والإباحة» ، بشرط أن تکون «إمّا» الثانیة مسبوقة بکلام یشتمل علی أمر.
«والشکّ والإبهام» ، بشرط أن تکون مسبوقة بجملة خبریة.
«والتفصیل (2)» بعد الخبر أو الطلب.)
ولا تکون «إمّا الثانیة» عند هؤلاء - للإضراب ، ولا بمعنی «واو» العطف ؛ فبهذین المعنیین تختص : «أو» دونها.
والمعانی الخمسة السابقة هی لکلمة : «إمّا» الثانیة ، وتشارکها الأولی فیها وتسایرها ؛ لأنهما حرفان (3) متلازمان - فی الأغلب - معنی واستعمالا (4) ، غیر أن الأولی لا تکون للعطف مطلقا - کما سنعرف -
فمن أمثلة الشک : احتجبت الشمس وراء الغمام إمّا ساعتین ، وإمّا ثلاثا. ومن الإبهام قوله تعالی : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ. إِمَّا یُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا یَتُوبُ عَلَیْهِمْ)(5). والتخییر کقوله تعالی : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِیهِمْ حُسْناً)؛ والإباحة ، نحو : إمّا أن تزرع فاکهة وإمّا قصبا. والتفصیل ، کقوله تعالی فی الإنسان : (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ ؛ إِمَّا شاکِراً وَإِمَّا کَفُوراً.)
وإذا کانت «إمّا» الثانیة عندهم حرف عطف «فالواو» التی قبلها زائدة لازمة لها. والأولی لا عمل لها فی عطف أو غیره.
ویری آخرون : أنّ «إما» الثانیة والأولی متشابهتان فی الحرفیة ، وفی تأدیة
ص: 612
معنی من تلک المعانی الخمسة ، وأن کلا منهما لیس حرف عطف ، لأن الأولی لا یسبقها معطوف مطلقا ، ولأن الثانیة تقع دائما بعد الواو العاطفة بغیر فاصل بینهما. ومن المقرر أن حرف العطف لا یدخل علی حرف العطف مباشرة (1) ، إذ لا یصح أن یتوالی حرفان للعطف من غیر فاصل. والفریقان متفقان علی أن الأولی لیست عاطفة (2) وأنها حرف - لا خلاف فی حرفیته - یفصل بین عامل قبله ومعمول یلیه (3). ولکن الخلاف فی الثانیة.
والرأی الأرجح الذی یجدر الأخذ به هو : أن الثانیة کالأولی فی المعنی والحرفیة ، وفی أنها لیست حرف عطف لأن العاطف هو الواو (4).
* * *
ص: 613
ا - لیس من اللازم أن تتکرر «إمّا» ، ولکن الأغلب تکرارها ، فقد تحذف الثانیة ؛ لوجود ما یغنی عنها. ویغلب أن یکون أحد شیئین : (وإلّا) - (أو).
فمثال الأول : إما أن یتکلم المرء لیحمد وإلا فلیسکت. ومنه قول الشاعر :
فإمّا أن تکون أخی بصدق
فأعرف منک غثّی من سمینی
وإلّا فاطّرحنی واتّخذنی
عدوّا أتّقیک وتتّقینی
ومنال الثانی قول الشاعر :
وقد شفّنی ألّا یزال یروعنی
خیالک إمّا طارقا أو (1)
معادیا
وقد یستغنی عن الأولی اکتفاء بالثانیة کقول الشاعر :
تلمّ بدار قد تقادم عهدها
وإمّا بأموات ألمّ خیالها
أی : إمّا بدار ... والفراء یقیس هذا الاستغناء ، فیجیز : فیضان النّهر معتدل وإمّا خطیر.
و «إمّا» السالفة تختلف عن «إمّا» المرکبة من : «إن» الشرطیة التی تجزم فعلین ، ومن : «ما» الزائدة ، فی مثل : إمّا یعدل الوالی تجتمع حوله القلوب. أی : إن یعدل ... کما تختلف اختلافا واسعا عن «أمّا» الشرطیة التی سیجیء الکلام علیها (2) فی باب خاص بها.
ب - من اللهجات النّادرة أن یقال «أیما» بدلا من «أمّا» ، وکذلک
ص: 614
حذف واو العطف قبل «إمّا» الثانیة (1) ، وقد اجتمع النّادران فی قول الشاعر :
یا لیتما أمّنا شالت (2)
نعامتها
أیما إلی جنّة ، أیما إلی نار
ومن المستحسن الیوم عدم محاکاة هذه اللغات القلیلة.
ح - الفرق بین «إمّا» و «أو» فی المعانی الخمسة السالفة أن «إمّا» مکررة ؛ فیدل الکلام معها من أول النطق بها علی الغرض الذی جاءت من أجله ؛ أهو شک ، أم تخییر ، أم غیرهما. بخلاف «أو» فإن الکلام معها یدل أوّلا علی الجزم والیقین ، ثم تجیء «أو» فتدل علی المعنی الذی جاءت من أجله.
د - حکم الضمیر بعدها إذا کان عائدا علی المتعاطفین من ناحیة المطابقة وعدمها مدون فی رقم 3 من ص 657
* * *
ص: 615
حرف عطف معناه الاستدراک (1) ؛ نحو : ما صاحبت الخائن لکن الأمین ؛ «فالأمین» معطوف علی «الخائن».
ولا یکون عاطفا إلا باجتماع شروط ثلاثة :
أولها : أن یکون المعطوف به مفردا (2) ، لا جملة ، مثل : ما قطفت الزهر لکن الثمر. فإن لم یکن مفردا وجب اعتبار «لکن» حرف ابتداء واستدراک معا ، ولیس عاطفا ، ووجب أن تکون الجملة بعده مستقلة فی إعرابها عن الجملة التی قبله ، نحو : ما قطفت الزهر لکن قطفت الثمر .... فکلمة : «لکن» حرف ابتداء واستدراک معا ، ولا یفید عطفا ، والجملة بعدها مستقلة فی إعرابها ؛ لأن «لکن» الابتدائیة لا تدخل إلا علی جملة جدیدة مستقلة من الناحیة الإعرابیة (3). ثانیها : ألا یکون مسبوقا بالواو مباشرة ؛ نحو : ما صافحت المسیء لکن المحسن. فإن سبقته الواو مباشرة لم یکن حرف عطف واقتصر علی أن یکون حرف استدراک وابتداء کلام ، ووجب أن تقع بعده جملة (فعلیة أو اسمیة) تعطف بالواو علی الجملة التی قبلها ؛ فمثال الفعلیة : ما صافحت المسیء ولکن صافحت المحسن ، وقول الشاعر :
إذا ما قضیت الدّین بالدّین لم یکن
قضاء ؛ ولکن کان غرما علی غرم ...
ص: 616
ومثال الاسمیة :
ولیس أخی من ودّنی رأی عینه
ولکن أخی من ودنی وهو غائب
«فالواو» حرف عطف. «لکن» ، حرف استدراک وابتداء کلام. والجملة بعدها معطوفة بالواو علی الجملة التی قبلها (1).
ثالثها : أن تکون مسبوقة (2) بنفی ، أو نهی ؛ کما فی الأمثلة السابقة. ونحو : لا تأکل الفاکهة الفجّة لکن الناضجة. فإن لم تسبق بذلک کانت حرف ابتداء واستدراک لا عاطفة ، ووجب أن یقع بعدها جملة مستقلة فی إعرابها ، نحو : تکثر الفواکه شتاء ، لکن یکثر العنب صیفا.
ویؤخذ مما سبق أن الحرف «لکن» حرف استدراک دائما ؛ سواء أکان عاطفا أم غیر عاطف. وأنه لا یعطف إلا بشروط ثلاثة مجتمعة ، فإن فقد منها شرط أو أکثر لم یکن عاطفا ، ووجب دخوله علی الجمل ، واعتباره حرف استدراک وابتداء معا.
والاستدراک یقتضی أن یکون ما بعد أداته مخالفا لما قبلها فی حکمه المعنوی ؛ کما فی الأمثلة السالفة ، وکما فی نحو : (لا أصاحب المنافق لکن الشهم. - لا تجالس الأشرار لکن الأخیار). فمعنی الجملة التی قبل «لکن» منفی ، أو منهی عنه ، وهذا المعنی فی الجملة التی بعدها مثبت وغیر منهی عنه ؛ فهما مختلفان فیه نفیا وإیجابا ، ونهیا وغیر نهی.
ولما کان الکلام قبل «لکن» العاطفة منفیّا دائما ، أو منهیّا عنه ، وجب أن یکون ما بعدها مثبتا دائما ، وغیر منهی عنه (3) ، فالمعنی بعدها مناقض للمعنی قبلها (4) ...
ص: 617
حرف عطف یفید نفی الحکم عن المعطوف بعد ثبوته للمعطوف علیه ؛ نحو : یفوز الشجاع لا الجبان. فکلمة : «لا» حرف عطف ونفی. و «الجبان» معطوف علی الشجاع ، والحکم الثابت للمعطوف علیه هو : فوز الشجاع ، وقد نفی الفوز عن المعطوف (الجبان) بسبب أداة النفی : «لا». ومثل هذا یقال فی «لا» التی فی الشطر الثانی من قول الشاعر :
القلب یدرک ما لا عین تدرکه
والحسن ما استحسنته النفس لا البصر
فهی حرف عطف ونفی ، و «البصر» معطوف علی النفس ، والحکم الثابت للمعطوف علیه هو نسبة الاستحسان إلی النفس (أی : إسناده إلیها) مع نفی هذا الاستحسان عن البصر.
ولا یکون هذا الحرف عاطفا إلا باجتماع خمسة شروط :
أولها : أن یکون المعطوف مفردا - لا جملة (1) - کالأمثلة السالفة ، وکقول الشاعر :
قل لبان بقول رکن مملکة
علی الکتائب یبنی الملک ، لا الکتب
«فالکتب» معطوفة علی : «الکتائب» ، وهذا المعطوف لیس جملة. فإن لم
ص: 618
یکن المعطوف مفردا لم یصح اعتبار «لا» عاطفة ؛ وعندئذ یجب اعتبارها حرف نفی فقط ، والجملة بعدها مستقلة فی إعرابها ، لیست معطوفة ؛ نحو : تصان الممالک بالجیوش والأعمال ، لا تصان بالخطب والآمال.
ثانیها : أن یکون الکلام قبله موجبا لا منفیّا ویدخل فی الموجب - هنا - الأمر والنداء ؛ کقول بعضهم : (الملق وضاعة لا وداعة ، وخسّة لا کیاسة. فکن أبیّا لا ذلیلا ، مصونا لا متبذّلا. یابن الغرّ البهالیل (1) لا السّفلة (2) الأوغاد (3) : إن الکرامة فی الإباء ، والعزة فی التّصون ، ولا سعادة بغیر عزة وکرامة ...)
ثالثها : ألا یکون أحد المتعاطفین داخلا فی مدلول الآخر ، ومعدودا من أفراده التی یصدق علیها لفظه (اسمه) ؛ فلا یصح : مدحت رجلا لا قائدا ؛ لأن الرجل (وهو المعطوف علیه) ینطبق علی أفراد کثیرة تشمل المعطوف (وهو القائد) وتشمل غیره ، ولا یصح أکلت تفاحا لا فاکهة ، لأن الفاکهة (وهی المعطوف) تشمل المعطوف علیه (وهو : التفاح) ویصدق اسمها علیه ... وهکذا. لکن یصح : مدحت رجلا لا فتاة وأکلت فاکهة لا خبزا ؛ إذ لا یصدق أحد المتعاطفین علی الآخر (4) ...
ص: 619
رابعها : ألا تقترن کلمة «لا» بعاطف - لأن حرف العطف لا یدخل علی حرف العطف (1) مباشرة - فإن اقترنت به کان العطف به وحده وتمحضت هی للنفی الخالص (2) ، نحو : أسابیع الشهر ثلاثة ، لا بل أربعة ، فالعاطف هو «بل» (3) ، وقد عطف أربعة علی ثلاثة. أما «لا» فلیست هنا عاطفة ، وإنما هی مجرد حرف نفی لإبطال المعنی السابق وردّه. ومثل هذا : (سبقت السیارة لا بل القطار) فلیست «لا» هنا بعاطفة وإنما هی حرف نفی یسلب الحکم السابق ویزیله ویرده ، و «بل» هی العاطفة (4) ....
خامسها : ألا یکون ما یدخل علیه مفردا صالحا لأن یکون صفة لموصوف
ص: 620
مذکور ، أو لأن یکون خبرا (1) ، أو حالا. فإن صلح لشیء من هذا کانت للنفی المحض ، ولیست عاطفة ، ووجب تکرارها ؛ فمثال المفرد الصفة : هذا بیت لا قدیم ولا جدید. فکلمة : «لا» نافیة - «وقدیم» نعت لبیت. ومثال الخبر : الغلام لا صبیّ ولا شابّ ، والشابّ لا غلام ولا کهل ... (2). ومثال الحال. عرفت العاطل لا نافعا ولا منتفعا ...
ص: 621
ا - اختلف النحاة فی وقوع «لا» العاطفة بعد الدعاء والتحضیض ، نحو : (أطال الله عمرک لا عمر الأعداء ، وحرستک عنایته لا عنایة الناس) ... ونحو : (ألا تکرّم النّابه لا الخامل ، وهلا تقدّر الذکیّ لا الغبیّ.) .. والأحسن الأخذ بالرأی الذی یبیح هذا ؛ تیسیرا وموافقة للمأثور.
ویزید بعضهم فیبدی اطمئنانه لصحة وقوع «لا» العاطفة بعد الاستفهام أیضا ، نحو : أفرغت من کتابة الرسالة لا الخطبة؟ ولا بأس بهذا الاطمئنان.
ب - إذا کانت «لا» عاطفة فقد یجوز حذف المعطوف علیه ، نحو : عودت نفسی أن أتکلم ... لا شرّا ، وأن أنفع ... لا قلیلا (1) ... والأصل : أن أتکلم خیرا لا شرّا - وأن أنفع کثیرا لا قلیلا.
ح - لا یجوز تکرار «لا» العاطفة ؛ فلا یقال : حضر هاشم ، لا محمود - لا أمین - لا حامد - ، بل یجب الإتیان بالواو العاطفة قبل المکرر ، لیکون العطف بهذه الواو وحدها ، وتقتصر «لا» علی توکید النفی ، دون أن تکون عاطفة.
د - حکم الضمیر بعدها إذا کان عائدا علی المتعاطفین ، من ناحیة المطابقة وعدمها مدون فی رقم 3 من ص 657
* * *
ص: 622
حرف یختلف معناه وحکمه باختلاف ما یجیء بعده من جملة أو مفرد.
ا - فإن دخل علی جملة فهو حرف ابتداء فقط ، ومعناه إما : «الإضراب الإبطالی» ، وإما : «الإضراب الانتقالی». فالإبطالی (1) : هو الذی یقتضی نفی الحکم السابق ، فی الکلام قبل «بل» ، والقطع بأنه غیر واقع ، ومدعیه کاذب ، والانصراف عنه واجب إلی حکم آخر یجیء بعدها. نحو : الأجرام السّماویة ثابتة ، بل الأجرام السماویة متحرکة. فالحرف «بل» (بمعنی «لا» النافیة) أفاد الإضراب الإبطالی الذی یقتضی نفی الثبات ونفی عدم الحرکة عن الأجرام السماویة ؛ لأن هذا الثبات أمر غیر حاصل ، ومن یدعیه کاذب ، فکأن المتکلم قال : (الأجرام السماویة ثابتة. لا ، فالأجرام السماویة متحرکة ولیست ثابتة) ؛ فأبطل الحکم الأول ونفاه ، وعرض بعده حکما جدیدا. ومن الأمثلة قوله تعالی فی المشرکین : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً - سُبْحانَهُ - بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ)، أی : بل هم (2) عباد مکرمون. فقد أبطل الحکم السابق ، ونفاه ، وأثبت حکما آخر بعده ؛ فکأن الأصل : (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لا ؛ فإن الذین اتخذهم هم عباد مکرمون). ومثل قوله أیضا تردیدا لما یقوله الکفار عن الرسول علیه السّلام : (أم یقولون به جنّة (3). بل جاءهم بالحق).
والانتقالیّ هو : الذی یقتضی الانتقال من غرض قبل الحرف : «بل» إلی غرض جدید بعده ، مع إبقاء الحکم السابق علی حاله ، وعدم إلغاء ما یقتضیه. کقوله تعالی : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَکَّی (4) وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی ، بَلْ تُؤْثِرُونَ (5) الْحَیاةَ الدُّنْیا ، وَالْآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقی ...)
فالغرض الذی یدور حوله الکلام قبل : «بل» هو : الطاعة ، (بالطهارة من الذنوب ، وبعبادة الله ، وبالصلاة ..) ، والغرض الجدید بعدها هو حب
ص: 623
الدنیا ، وتفضیل الآخرة علیها ... وکلا الغرضین مقصود باق علی حاله. وکقوله تعالی : (وَلَدَیْنا کِتابٌ یَنْطِقُ بِالْحَقِّ ، وَهُمْ لا یُظْلَمُونَ. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِی غَمْرَةٍ (1) ...)
وکقولهم : (لیس من المروءة أن یتخلیّ الشریف عن أصدقائه ساعة الشدّة : بل یقیهم بماله ، ویدفع عنهم بنفسه).
وحکم الحرف : «بل» الداخل علی الجملة أنه حرف ابتداء محض یفید الإضراب (2) - کما أسلفنا - ولا یصح اعتباره حرف عطف ولا شیئا آخر غیر الابتداء ، فالجملة بعده مستقلة فی إعرابها عما قبلها ، ولا یصح إعرابها خبرا ولا غیر خبر عن شیء سابق علیه (3) ...
ص: 624
ب - وإن دخل علی مفرد فحکمه أنه : حرف عطف ؛ یختص بعطف المفردات وحدها. أما معناه هنا فیختلف باختلاف ما قبله من کلام مثبت ، أو مشتمل علی صیغة أمر ، أو کلام منفی ، أو مشتمل علی صیغة نهی.
1- فإن تقدم علی : «بل» کلام موجب أو صیغة أمر (1) - نحو : (أعددت الرسالة بل القصیدة - لبست المعطف بل الثیاب) - (عاون المحتاج بل الضعیف - ساعف الصدیق بل الصارخ). - کان معنی «بل» أمرین معا ، أساسیین :
أولهما : الإضراب عن الحکم السابق ؛ بنفی المراد منه نفیا تامّا ، وإبطال أثره کأن لم یکن ، وسلبه عن صاحبه ، وترک صاحبه مسکوتا عنه مهملا ؛ أی غیر محکوم علیه بشیء مطلقا بمقتضی هذا الکلام الذی أزال عنه الحکم السالف ، وترکه بغیر حکم جدید یقع علیه. وإن شئت فقل : إنّ الکلام السابق علی «بل» صار کأنه لم یذکر (2).
ثانیهما : نقل الحکم الذی قبل «بل» نقلا تامّا إلی ما بعدها من غیر تغییر شیء فی هذا الحکم الذی أزیل عما قبلها ، واستقر لما بعدها ، ففی الأمثلة السابقة یقع الإضراب علی إعداد الرسائل ، فینفی الإعداد لها ، ولکنه یثبت للقصیدة بعدها. ویقع الإضراب علی لبس المعطف ، فلا یلبس ، وإنما ینتقل اللّبس إلی الثیاب. وکذلک ینصبّ الإضراب علی معاونة المحتاج ؛ فلا یحصل ؛ وإنما تنتقل المعاونة إلی الضعیف وتثبت له. وأیضا تلغی المساعفة للصدیق ولکنها تثبت للصارخ ، وهکذا.
2- وإن تقدم علی «بل» کلام منفی ، أو مشتمل علی صیغة نهی ، نحو :
ص: 625
(ما زرعت القمح بل القطن - ما أسأت مظلوما بل ظالما) - (لا یتصدر مجلسنا جاهل بل عالم - لا تصاحب الأحمق بل العاقل) - لم یکن معنی «بل» الإضراب ، وإنما المعنی أمران معا.
أولهما : إقرار الحکم السابق ، وترکه علی حاله من غیر تغییر فیه.
ثانیهما : إثبات ضدّه لما بعد «بل» ..
ففی المثال الأول : حکم منفیّ ، قبل کلمة «بل» هو نفی زراعتی القمح ، وأقررنا هذا الحکم المنفیّ ، وترکناه علی حاله ، وفی الوقت نفسه أثبتنا بعدها حکما آخر ، هو ، زرع القطن ... ، وأیضا نفینا قبلها حکما ؛ هو وقوع الإساءة علی المظلوم ، وأثبتنا بعدها وقوعها علی الظالم. وکذلک نهینا قبلها عن تصدر الجاهل لمجلسنا ، وأمرنا بعدها بهذا التصدر للعالم. ونهینا عن مصاحبة الأحمق ، وأمرنا بها للعاقل ، وهکذا ...
فالحکم الأول فی کل الأمثلة السالفة - ونظائرها - باق علی حاله ، لم یقع علیه إضراب ، أو تغییر ، والحکم بعد «بل» مضاد لما قبلها ، فالحکمان متضادان ؛ ما ینفی أو ینهی عنه قبل «بل» یثبت أو یؤمر به بعدها (1) ...
* * *
ص: 626
ا - لا یجوز العطف بالحرف «بل» ، بعد کلام فیه استفهام ؛ فلا یصح أحفظت قصیدة بل خطبة؟
ب - تقع «لا» النافیة قبل «بل» (1) بنوعیها ؛ العاطفة (وهی المستوفیة للشروط (2) ؛ وفی مقدمتها الدخول علی المفرد) وغیر العاطفة (وهی غیر المستوفیة للشروط ؛ کالداخلة علی الجملة) فإذا دخلت علی العاطفة المسبوقة بکلام مثبت ، أو بصیغة أمر - کان معنی «لا» النافیة : تقویة الإضراب المستفاد من «بل» ، وتوکیده. وإن دخلت علی العاطفة المسبوقة بنفی أو نهی کان معنی «لا» تقویة النفی والنهی المستفادین من «بل». فمثالها بعد کلام مثبت قول الشاعر :
وجهک البدر ، لا ، بل الشّمس لو لم
یقض للشمس کسفة وأفول
ومثال وقوعها بعد النفی : ما عاقنی البرد ، لا بل المطر.
ومثالها بعد النهی : لا تغفل الریاضة ، لا بل طول القعود.
وإن دخلت علی غیر العاطفة کان معناها تقویة الإضراب المستفاد من : «بل» وتوکیده ؛ کقول الشاعر :
وما هجرتک ، لا ، بل زادنی شغفا
هجر ، وبعد تراخ لا إلی أجل
ح - ورد قلیلا فی المسموع الفصیح (3) زیادة «الواو» بعد «بل» کالتی فی قول علیّ رضی الله عنه : «إنما یحزن الحسدة أبدا ؛ لأنهم لا یحزنون لما ینزل بهم من الشر فقط ، بل ولما ینال الناس من الخیر» ا ه (4).
والأحسن عدم القیاس علی هذا ، لندرته البالغة.
د - حکم الضمیر بعدها إذا کان عائدا علی المتعاطفین من ناحیة المطابقة وعدمها مدون فی رقم 3 ص 657.
ص: 627
، وبیان ما یقتضی التشریک ، وما لا یقتضیه.
من کل ما تقدم من الکلام علی أدوات العطف یتبین :
1- أنها حروف.
2- وأنها فی أغلب الحالات - تشرک المعطوف مع المعطوف علیه فی الضبط الإعرابیّ (1) (رفعا ، ونصبا ، وجرّا ، وجزما) وهذا هو التشریک اللفظی.
أما من جهة التشریک المعنوی فبعضها یشرکه أیضا فی معنی المعطوف علیه ؛ وینحصر هذا فی أربعة حروف : (الواو - الفاء - ثمّ - حتی) ؛ فهذه الأربعة تشرک المعطوف مع المعطوف علیه فی المعنی ، کما تشرکه فی اللفظ إشراکا إعرابیّا - فی الغالب - کما أسلفنا.
وبعضها یشرکه فی اللفظ دون المعنی ، فیثبت للمعطوف ما انتفی عن المعطوف علیه ، وهو : (بل - لکن) ، أو العکس ، فیثبت للمعطوف علیه ما انتفی عن المعطوف ، وهو : (لا).
وبعض ثالث هو (أو (2) - أم) یشرکان فی اللفظ کما یشرکان فی المعنی ولکن بشرط ألّا یقتضیا إضرابا (3).
ص: 628
3- وأن المتعاطفین إذا تکررا کان «المعطوف علیه» واحدا هو الأول. إلا إذا کان حرف العطف یفید الترتیب (مثل : الفاء ، وثم) ، فإن «المعطوف علیه» واحد ، هو ما قبل حرف العطف مباشرة (1).
ص: 629
یجوز عطف الاسم الظاهر علی مثله أو علی الضمیر ، ویجوز عطف الضمیر علی مثله أو علی اسم ظاهر. لکن بعض هذه الصور یکون فیه الفصل بین المتعاطفین واجبا ، وبعض آخر یکون الفصل فیه مستحسنا راجحا ، وفی غیر ما سبق یکون جائزا (1) ....
فأما الفصل الواجب ففی حالتین ، سبقت إحداهما (2). وملخصها : أنه إذا عطف علی المبتدأ الذی خبره نوع من الأنواع المقرونة بالفاء - وقد ذکرت هناک - أو علی ما یتصل به من صلة ، أو صفة ، أو نحوهما ... وجب تأخیر المعطوف عن الخبر ، إذ لا یجوز الفصل بین هذا الخبر ومبتدئه بالمعطوف ؛ ففی مثل : الذی عندک فمؤدب - لا یصح أن یقال : الذی عندک والخادم فمؤدب ، أو فمؤدبان ، وهکذا ...
والحالة الثانیة التی یجب فیها الفصل - تبعا لأرجح الآراء - هی التی یکون فیها المعطوف علیه مصدرا له معمولات ؛ فلا یجوز العطف علیه إلا بعد استیفائه کل معمولاته ، نحو : ما أحسن تقدیر الأمة العاملین المخلصین لها ، وإکبارهم.
ص: 630
وأما الحالتان اللتان یستحسن فیهما الفصل ویرجح (1).
فالأولی : أن یکون المعطوف علیه ضمیرا مرفوعا متصلا ، سواء أکان مستترا أم بارزا ؛ فیستحسن عند العطف علیه فصله بالتوکید (2) اللفظی أو المعنویّ أو بغیرهما أحیانا. فالفصل بالتوکید اللفظی یتحقق بضمیر مرفوع منفصل مناسب (3) نحو : (لقد کنت أنت ورفاقک طلائع الإصلاح ، وکنتم أنتم والسباقون إلیه موضع الإعجاب والتقدیر). فکلمة : «رفاق» معطوفة علی : «التاء» وهی الضمیر المتصل المرفوع البارز بعد توکید لفظه بالضمیر المرفوع المنفصل : «أنت». وکذلک کلمة : «السباقون» معطوفة علی الضمیر البارز (التاء والمیم) ، فی «کنتم» بعد توکیده توکیدا لفظیّا بالضمیر المرفوع المنفصل : «أنتم».
ومثال العطف علی الضمیر المتصل المرفوع المستتر مع الفصل : انتفع أنت وإخوانک (4) بتجارب السابقین.
والفصل بالتوکید المعنوی یتحقق بوجود لفظ من ألفاظه بین المتعاطفین ؛ ومن الأمثلة قول الشاعر :
ذعرتم أجمعون ومن یلیکم
برؤیتنا ، وکنا الظافرینا
ویغنی عن التوکید بنوعیه - کما أسلفنا - وجود فاصل آخر أیّ فاصل بین المتعاطفین ؛ کالضمیر «ها» فی قوله تعالی فی المؤمنین الصالحین : (جَنَّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ ...) ومثل «لا» النافیة
ص: 631
فی قوله تعالی : (سَیَقُولُ الَّذِینَ أَشْرَکُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَکْنا وَلا آباؤُنا)، وقد اجتمع الفصل بالتوکید اللفظی وبحرف النفی «لا» فی قوله تعالی : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُکُمْ ...)،
ومن غیر المستحسن فی النثر - مع جوازه - العطف علی الضمیر المستتر المرفوع بغیر فاصل علی الوجه السالف ، نحو : (قاوم ونظراؤک أعوان السوء) ، فقد عطفت کلمة : «نظراء» علی الفاعل الضمیر المستتر : (أنت) بغیر فاصل ؛ ومنه العبارة المأثورة (1) : «مررت برجل سواء والعدم». أی : متساو هو والعدم ، فکلمة ، «سواء» اسم بمعنی المشتق ، وهی متحملة للضمیر المرفوع. والعدم (بالرفع) معطوفة علی الضمیر المستتر بغیر فاصل بینهما (2). أما الشعر فقد یجوز فیه عدم الفصل ، اضطرارا ؛ مراعاة لقیوده الکثیرة التی قد تقهر الشاعر علی ترک الفصل .. ومن الأمثلة قول جریر یهجو الأخطل :
ورجا الأخیطل من سفاهة رأیه
ما لم یکن وأب له لینالا
فقد عطف کلمة «أب» علی اسم «یکن» المرفوع المستتر بغیر فاصل بینهما (3).
ومثله قول الآخر :
مضی وبنوه ، وانفردت بمدحهم
وألف إذا ما جمّعت واحد فرد
فقد عطف کلمة : «بنوه» علی الضمیر المرفوع المستتر فی : «مضی» بغیر فاصل.
ص: 632
والثانیة : أن یکون المعطوف علیه ضمیرا مجرورا بحرف أو بإضافة ؛ فیستحسن عند أمن اللبس إعادة عامل الجر مع المعطوف ، لیفصل بین المتعاطفین ، فمثال المعطوف المجرور بحرف جر (1) معاد : ما علیک وعلی أضرابک من سبیل إن أدیتم الواجب. فکلمة : «أضراب» معطوفة علی الضمیر الکاف المجرور بالحرف : «علی». وقد أعید هذا الحرف مع المعطوف. والأصل ما علیک وأضرابک ، ومثل هذا قوله تعالی عن نفسه : (ثُمَّ اسْتَوی إِلَی السَّماءِ وَهِیَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ (2) ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً : قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ).
فکلمة : «الأرض» معطوفة علی الضمیر : «ها» المجرور باللام ، وقد أعیدت اللام مع المعطوف : والأصل : فقال لها والأرض. ومثله إعادة اللام فی قول الشاعر :
فما لی وللأیام - لا درّ درّها -
تشرّق بی طورا ، وطورا (3)
تغرّب
ومثال إعادة عامل الجر وهو اسم مضاف (4) قوله تعالی : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَکَ وَإِلهَ آبائِکَ ...) فکلمة : «آباء» معطوفة فی الأصل علی الضمیر المضاف إلیه ، وهو : «الکاف الأولی» ، فأعید المضاف وهو : «إله» وذکر قبل المعطوف. وأصل الکلام : نعبد إلهک وآبائک ...
هذا هو الکثیر. وترک الفصل جائز أیضا ، ولکنه لا یبلغ فی قوته وحسنه البلاغیّ درجة الکثیر. ومن هذا قراءة قوله تعالی : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِی تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.) والتقدیر : الذی تساءلون به وبالأرحام. أی : تستعطفون به وباسمه ، وبالأرحام ؛ بعطف کلمة : «الأرحام» علی الضّمیر المجرور بالباء. وکقول الشاعر :
ص: 633
الیوم قد بتّ (1) تهجونا
وتشتمنا
فاذهب ، فما بک والأیام من عجب
أی : وبالأیام. وقول بعض العرب : ما فی الدار غیره وفرسه ، بجر کلمة : «فرس» المعطوفة علی الهاء من غیر إعادة الجار وهو الاسم المضاف (2).
ص: 634
حذف بعض حروف العطف مع معطوفها :
من حروف العطف ثلاثة یختص کل منها بجواز حذفه مع معطوفه بشرط أمن اللبس. - کما سبق عند الکلام علیها (1) - وهذه الثلاثة هی : الواو ، والفاء ، وأم المتصلة. فمثال حذف الواو مع معطوفها لدلیل : أنقذت الغریق ولم یکن بین الموت إلا لحظات. أی : لم یکن بین الموت وبینه ....
وقول الشاعر :
إنی مقسّم ما ملکت ؛ فجاعل
قسما لآخرة ، ودنیا تنفع ...
یرید : وقسم - دنیا ، أی : وقسما لدنیا .. ومثل قول الآخر :
فما کان بین الخیر لو جاء سالما
أبو حجر (2) إلّا لیال
قلائل
أی : بین الخیر وبینی. ومما یصلح لهذا أیضا قول بعض العرب : (راکب الناقة طلیحان (3)) ، والتقدیر : راکب الناقة والنّاقة طلیحان.
ومثال حذف الفاء مع معطوفها لدلیل قوله تعالی : (وَأَوْحَیْنا إِلی مُوسی إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ (4) - أَنِ اضْرِبْ بِعَصاکَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ (5) مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَیْناً) ، الأصل : فضرب فانبجست (6). وقوله تعالی :
ص: 635
(وَإِذِ اسْتَسْقی مُوسی لِقَوْمِهِ ، فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاکَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَیْناً ...)، أی : فضرب فانفجرت ، وتسمی هذه الفاء المذکورة فی الکلام ، والتی تعطف ما بعدها علی الفاء المحذوفة مع معطوفها : «فاء الفصیحة (1)».
ومثال حذف «أم» المتصلة ومعها معطوفها بدلیل - وحذفهما ، قلیل - قول الشاعر :
وقال ، صحابی : قد غبنت ، وخلتنی
غبنت. فما أدری أشکلکم (2)
شکلی؟ ...
والأصل : أشکلکم شکلی أم غیره ،؟ وکقول الآخر :
دعانی إلیها القلب ، إنی لأمره
سمیع ؛ فما أدری : أرشد طلابها؟
والتقدیر : أرشد طلابها أم غیّ (3)؟
* * *
تنفرد الواو بجواز عطفها عاملا قد حذف وبقی معموله المرفوع أو المنصوب أو المجرور ، فمثال المعمول المرفوع قوله تعالی لآدم : (اسْکُنْ أَنْتَ وَزَوْجُکَ الْجَنَّةَ) فکلمة : «زوج» فاعل بفعل محذوف ، والجملة من الفعل المحذوف وفاعله المذکور معطوفة علی الجملة الأمریة المکونة من فعل الأمر : «اسکن»
ص: 636
وفاعله. والتقدیر : اسکن أنت ، ولیسکن زوجک (1). والسبب فی هذا أننا لو أعربنا کلمة : «زوج» معطوفة بالواو علی الفاعل المستتر لفعل الأمر لکان العامل فی المعطوف (زوج) هو العامل فی المعطوف علیه ، أی : فی الفاعل المستتر. فیکون الفعل : «اسکن» عاملا فی فاعله ، وفی کلمة : «زوج» ، فهو الذی رفع کلمة «زوج» وهی بمنزلة الفاعل بسبب عطفها علی الفاعل ویترتب علی هذا أن یکون فاعل الأمر اسما ظاهرا مع أن فعل الأمر لا یرفع الظاهر.
هذا تعلیلهم. وهو تعلیل مرفوض ، یعارضه ما یرددونه کثیرا من أنه : «قد یغتفر فی التابع مالا یغتفر فی المتبوع» ، أو : «قد یغتفر فی الثوانی مالا یغتفر فی الأوائل». فإذا امتنع أن یقع الاسم الظاهر فاعلا لفعل الأمر مباشرة فلن یمتنع أن یکون المعطوف علی هذا الفاعل اسما ظاهرا ، لأنه تابع أو ثان ینطبق علیه ما سبق من التوسع والتیسیر ؛ فلا داعی للتکلف والتقدیر ...
ومثال المعمول المنصوب قوله تعالی فی أنصار الدّین (وَالَّذِینَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِیمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ یُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَیْهِمْ ...) ، ومعنی تبوّءوا الدار أعدّوها للسکنی. وهذا المعنی مناسب للدار ؛ لکنه غیر مناسب للإیمان ، إذ لا یقال علی سبیل الحقیقة : هیئوا الإیمان للسکنی ؛ ومن ثم أعربت کلمة : «الإیمان» مفعول لفعل محذوف تقدیره : «ألفوا» وهذه الجملة الفعلیة المحذوفة معطوفة بالواو علی الجملة الفعلیة التی قبلها. ومنه قول الشاعر :
إذا ما الغانیات برزن یوما
وزجّجن الحواجب والعیونا
أی : وکحلن العیون ؛ لأن التزجیج (وهو ترقیق الحاجب بأخذ بعض الشعر منه کی یصیر منحنیا کالقوس) لا یصلح للعیون.
ومثال المعمول المجرور قولهم : ما کلّ سوداء فحمة ، ولا بیضاء شحمة. فکلمة : «بیضاء» مجرورة بمضاف محذوف معطوف علی «کلّ» ، والأصل «ولا کلّ بیضاء شحمة». والداعی للتقدیر هنا هو الفرار من العطف علی معمولی عاملین مختلفین.
ص: 637
وإیضاح (1) هذا أن کلمة : «سوداء» مضاف إلیه فهی معمول ، عامله هو المضاف ؛ (لفظة : «کلّ» المذکورة) وأن «فحمة» خبر «ما» الحجازیة فهی معمول ، عامله : «ما» ، فالعاملان مختلفان ، وکذلک المعمولان. فلو عطفنا «بیضاء» علی «سوداء» ، و «شحمة» علی «فحمة» لزم العطف بعاطف واحد (هو : الواو) علی معمولین مختلفین لعاملین مختلفین - کما یقولون - وهذا لا یبیحه کثرة النحاة ... إذ یجب أن یکون العامل فی المتعاطفین واحدا ، لا أکثر. وهذا الرأی أحق بالاتباع (2) ...
ملاحظة : من موضوعات الحذف الهامّة : «حذف الموصول» وقد سبق تفصیل الکلام علیه (3).
* * *
، (أی : المتبوع): یصح عند أمن اللبس - حذف المعطوف علیه وحده إذا کانت أداة العطف هی : [الواو ، أو : الفاء ، أو : أم المتصلة ، أو : «لا» العاطفة (4) ..]
فمثال حذفه مع بقاء الواو (5) أن یقول قائل : مرحبا بک. فتجیب : وبک وأهلا وسهلا ؛ أی : ومرحبا بک وأهلا وسهلا. فالجار والمجرور : (بک) متعلقان بکلمة : مرحبا» المحذوفة. «وأهلا» : الواو حرف عطف ، «أهلا» ، معطوفة علی : «مرحبا» المحذوفة ، فالمعطوف علیه محذوف. و «سهلا» «الواو» حرف عطف. «سهلا» معطوفة علی «مرحبا» المحذوفة فالمعطوف علیه هو المحذوف (6).
ص: 638
ومثال الحذف مع بقاء الفاء قوله تعالی (أَفَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) والتقدیر : أمکثوا فلم یسیروا (1) ... ومثال الحذف مع بقاء «أم» المتصلة قوله تعالی : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا یَعْلَمِ اللهُ الَّذِینَ جاهَدُوا مِنْکُمْ ...) والتقدیر : أعلمتم أن دخول الجنة یسیر أم حسبتم أن تدخلوا الجنة.
ومثال الحذف قبل «لا» العاطفة : (عاهدت نفسی أن أعمل الخیر ... لا قلیلا ، وأن أقول الحق .. لا بعض الأوقات) والأصل : أن أعمل الخیر کثیرا لا قلیلا ، وأن أقول الحق کل الأوقات لا بعض الأوقات.
«ملحوظة» - من أمثلة حذف المعطوف علیه مع بقاء حرف العطف : «الواو» ، ما سجله ابن جنی فی کتابه المسمی : «تفسیر أرجوزة أبی نواس فی تقریظ الفضل بن الربیع (2)». قال عند شرحه بیت أبی نواس :
(وبلدة فیها زور
صعراء تحظی فی صعر)
ما نصه الحرفی : «(قوله : وبلدة)» .. قیل فی هذه الواو قولان ، أحدهما : أنها للعطف ، والآخر : أنها عوض من «ربّ» ؛ فکأنهم إنما هربوا من أن یجعلوها عاطفة لأنها فی أول القصیدة ، وأول الکلام لا یعطف. ولا یمتنع العطف علی ما تقدم من الحدیث والقصص ؛ فکأنه کان فی حدیث ، ثم قال : وبلدة. فکأنه وکل الکلام إلی الدلالة فی الحال. ونظیر هذا قوله تعالی : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ ...) فالضمیر (الهاء) یراد به القرآن ، وإن لم یجر للقرآن ذکر.
ص: 639
وکذلک قوله تعالی : (حَتَّی تَوارَتْ بِالْحِجابِ) یعنی الشمس ؛ فأضمرها وإن لم یجر لها ذکر. وهذا فی کلام العرب واسع فاش)» ا ه کلام ابن جنی (1) ...
* * *
أشرنا من قبل (2) إلی أنه یجوز حذف العاطف وحده ولا یکون هذا إلا فی الواو ، والفاء ، وأو. فمثال الواو قوله علیه السّلام : «تصدق رجل ، من دیناره ، من درهمه ، من صاع برّه ، من صاع تمره ...» ، وما نقل من قول بعض العرب : أکلت خبزا ، لحما ، تمرا ، وقول الشاعر :
کیف أصبحت؟ کیف أمسیت؟ ممّا
یغرس الودّ فی فؤاد الکریم
ومثال الفاء : قرأت الکتاب بابا بابا ، وادخلوا الغرفة واحدا واحدا.
والتقدیر بابا فبابا ، وواحدا فواحدا.
ومثال «أو» قولهم : أعط الرجل درهما ، درهمین ، ثلاثة ...
* * *
ورد فی المسموع تقدیم «المعطوف» بالواو - دون غیرها - علی المعطوف علیه ، وهو تقدیم شاذ - لا یجوز القیاس علیه (3) - ومنه قول الشاعر :
وأنت غریم لا أظن قضاءه
(ولا العنزیّ القارظ - الدهر -) جائیا
أی : جائیا هو ، ولا العنزی. وقول الآخر (4) :
أیا نخلة من ذات عرق
علیک ورحمة الله السّلام
ص: 640
وعطف الجملة علی الجملة (1).
ا - عطف الفعل وحده علی الفعل کذلک :
عرفنا فیما سبق أن عطف الاسم وحده علی الاسم یعدّ من عطف المفردات (2) بعضها علی بعض ، کقول الشاعر :
وکلّ زاد عرضة للنفاد
غیر التقی ، والبرّ ، والرشاد
وکما یجوز عطف الاسم وحده علی نظیره فی الاسمیة عطف مفردات - یجوز عطف الفعل - وحده من غیر مرفوعه (3) - علی الفعل وحده عطف مفردات أیضا ؛ نحو : «إذا تعرض وتصدّی المرء لکشف معایب الناس مزّقوه بسهام أقوالهم وأعمالهم. وهی سهام لن یستطیع أو یقدر أحد علی احتمالها (4)». فالفعل : «تصدّی» معطوف وحده علی الفعل : «تعرض» وکذا الفعل : «یقدر» معطوف وحده علی الفعل «یستطیع (5)» وکل هذا من عطف المفردات ؛ إذ لم یشترک الفاعل - هنا - مع فعله فی العطف. فلو اشترک معه لکان العطف عطف جملة فعلیة علی جملة فعلیة (6) ...
ویشترط لعطف الفعل علی الفعل أمران :
ص: 641
أولهما : اتحادهما فی الزمن (1) ؛ بأن یکون زمنهما معا ماضیا ، أو حالا ، أو مستقبلا ؛ سواء أکانا متحدین فی النوع (أی : ماضیین ، أو : مضارعین (2)) أم مختلفین ؛ فلا یمنع من عطف أحدهما علی الآخر تخالفهما فی النوع (3). إذا اتّحدا زمانا. فمثال اتحادها زمانا ونوعا ، قوله تعالی : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا یُؤْتِکُمْ أُجُورَکُمْ ...)(4). وقول الشاعر فی مدح عالم :
سعی وجری (5) للعلم شوطا
یروقه
فأدرک حظّا لم ینله أوائله
ومثال اتحادهما زمانا مع اختلافهما نوعا : عطف الماضی علی المضارع فی قوله تعالی بشأن فرعون : (یَقْدُمُ (6) قَوْمَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ، فالفعل : «أورد» ماض ، معطوف بالفاء علی الفعل المضارع : «یقدم» وهما مختلفان نوعا ، لکنهما متحدان زمانا ؛ لأن مدلولهما لا یتحقق إلا فی المستقبل (یوم القیامة) (7) ...
ومثال عطف المضارع علی الماضی قوله تعالی : (تَبارَکَ الَّذِی إِنْ
ص: 642
شاءَ جَعَلَ لَکَ خَیْراً مِنْ ذلِکَ ، جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَیَجْعَلْ لَکَ قُصُوراً ...) فالفعل : «یجعل» مضارع مجزوم ؛ لأنه معطوف علی الفعل الماضی : «جعل» المبنی فی محل جزم (1) ؛ لأنه جواب الشرط. وصحّ العطف لاتحاد زمانیهما الذی یتحقق فیه المعنی (2) ، وهو الزمن المستقبل ...
ثانیهما : اتحادهما إن کانا مضارعین فی العلامة الدالة علی الإعراب - (من حرکة أو سکون ، أو غیرهما) - ویتبع هذا اتحاد معنیهما فی النفی والإثبات ؛ فإذا کان «المعطوف علیه» مضارعا مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجزوما ، وجب أن یکون المضارع «المعطوف» ، کذلک. وأن یکون معنی المعطوف کالمعطوف علیه فی النفی والإثبات ؛ فکما یتبعه فی علامات الإعراب یتبعه فیهما معنی. فمثال المرفوعین : یفیض فیغدق نهرنا الخیر علی الوادی.
ومثال المنصوبین : لن یفیض النهر فیغرق الساحل. ومثال المجزومین : لم یفض نهرنا فیغرق ساحله (3) ....
ص: 643
نصب المضارعین معا ، أو جزمهما معا بغیر تکرار الناصب والجازم قبل الفعل المضارع المعطوف ، دلیل قاطع علی أن العطف عطف فعل وحده بغیر مرفوعه علی فعل وحده کذلک ، ولیس عطف جملة علی جملة ؛ لأن عطف الجملة الفعلیة علی الفعلیة بغیر تکرار أداة النصب أو الجزم یستلزم - حتما - أن یکون المضارع المعطوف غیر منصوب ولا مجزوم ؛ إذ نصبه أو جزمه یوجب أن یکون عطف فعل وحده علی فعل کذلک.
أما رفع المضارعین معا - فی مثل : یشتدّ البرد فتهاجر طیور کثیرة إلی بلاد دافئة - فلا دلیل معه علی أن العطف عطف مضارع مفرد علی نظیره المفرد ، أو عطف جملة مضارعیة علی جملة مضارعیة (أی : عطف مضارع مع فاعله ، علی مضارع مع فاعله) ، فمثل هذا الکلام صالح للأمرین عند عدم القرینة التی تعینه لأحدهما (1) ... وکذلک العطف فی قول الشاعر :
قد ینعم الله بالبلوی - وإن عظمت -
ویبتلی الله بعض القوم بالنعم
فیصح أن یکون المعطوف هنا جملة مضارعیة هی : «یبتلی الله» ، والمعطوف علیه جملة مضارعیة کذلک ، هی : «ینعم الله» ؛ ویصح أن یکون المتعاطفان مفردین هما المضارعان ، ومثل هذا یقال فی الماضی فی نحو : (إذا تعرض وتصدّی المرء لکشف معایب الناس مزّقوه بسهام أقوالهم وأفعالهم ... (2)). حیث یجوز الأمران ، لعدم وجود قرینة تعین نوع العطف ؛ أهو عطف فعل ماض وحده علی ماض وحده أم عطف جملة
ص: 644
ماضویة علی جملة مثلها؟ بخلاف العطف فی قوله تعالی عن الکافرین : (وَکَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ...) حیث یتعین أن یکون عطف جملة ماضویة علی جملة ماضویة ، لوجود فاعل غیر مستقل هو الضمیر المتصل - لکل فعل ماض منهما (1) ...
ومما سبق یتبین الفرق اللفظی بین عطف الفعل علی الفعل وعطف الجملة الفعلیة علی الفعلیة (2) ، وهو فرق دقیق خفی علی بعض العلماء المشتغلین بالنحو قدیما ، فقد نقل عن أحدهم قوله : إنی لا أتصور لعطف الفعل علی الفعل مثالا ؛ لأن نحو : قام علیّ وقعد حامد (3) - یکون فیه المعطوف جملة لا فعلا ، وکذا : قام وقعد علیّ ، لأن فی أحد الفعلین ضمیرا ؛ فیکون فاعلا له ، ویکون الاسم الظاهر فاعلا للآخر ؛ ففی الکلام جملتان معطوفتان. فقیل له : ماذا تری فی مثل : یعجبنی أن تقوم وتخرج ؛ بنصب المضارعین ، وفی مثل : لم تقم وتخرج ؛ بجزمهما. وفی مثل : یعجبنی أن یقوم محمود ویخرج حلیم ، وفی مثل : لم یقم محمود ویخرج حلیم ...؟ فالفعل فی الأمثلة
ص: 645
السالفة منصوب أو مجزوم ؛ فما الذی نصبه أو جزمه؟ فلولا أن العطف للفعل وحده لم یمکن نصبه أو جزمه ...
ومما هو جدیر بالملاحظة أن الفرق اللفظی فی عطف الفعل علی الفعل ، یترتب علیه فرق معنوی کبیر من ناحیة النفی والإثبات. فالفعل إذا کان هو «المعطوف» وحده فإنه یتبع الفعل «المعطوف علیه» فیهما ؛ کما یتبعه فی الإعراب ؛ طبقا لما سبق (1) وهذه التبعیة فی النفی قد تفسد المعنی المراد - أحیانا - لو جعلنا الکلام عطف جمل ؛ فعطفنا کل فعل مع فاعله علی الآخر مع فاعله ، أی : أن المعنی قد یختلف کثیرا باختلاف نوعی العطف ، أهو عطف فعل وحده علی آخر ، أم جملة فعلیة علی مثیلتها الجملة الفعلیة؟ یتضح هذا من المثال التّالی : لم یحضر قطار ویسافر یوسف. بعطف «یسافر» علی «یحضر» عطف فعل مفرد علی نظیره المفرد ، فیکون «یسافر» مجزوما. والمعنی نفی حضور القطار ، ونفی سفر یوسف أیضا ، فالحضور لم یتحقق ، وکذلک السفر ، فالأمران لم یتحققا قطعا.
أما إن کان الفعل : «یسافر» مرفوعا فیتعین أن یکون العطف عطف جملة فعلیة علی جملة فعلیة ؛ تحقیقا لنوع من الربط والاتصال بینهما. ویتعین أن یکون المعنی عدم حضور القطار. أما یوسف فسفره یحتمل أمرین باعتبارین مختلفین ، فعند اعتبار الجملة الثانیة مثبتة لم یتسرب إلیها النفی من الأولی یکون یوسف قد سافر. وعند اعتبارها منفیة لتسرب النفی إلیها من الأولی یکون مقیما لم یسافر. والقرینة هی التی تعین سریان النفی من الأولی إلی الثانیة ، أو عدم سریانه (2).
ومن أمثلة فساد المعنی الذی یترتب علی عطف الفعل وحده علی الفعل وحده
ص: 646
- لا عطف جملة فعلیة علی جملة فعلیة - قولک : (الطالب النابغة لا یتأخر مکانه عن المقام الأول ، أو یکون فی المقام الثانی ...) إذا کان المراد أنه فی المقام الأول أو الثانی. فلو عطفنا المضارع «یکون» علی المضارع «یتأخر» لصار منفیّا حتما مثل المعطوف علیه قطعا ، ولصار المعنی : لا یتأخر عن المقام الأول ، أو لا یکون فی المقام الثانی ، وهذا غیر المراد ، أما عطف الجملة الثانیة کاملة علی الأولی کاملة فلا یستلزم نفی الثانیة فیجوز أن تبقی مثبتة المعنی إن اقتضی الأمر الثبوت برغم أن الأولی منفیة - کما فی هذا المثال -.
ومما سبق یتبین أن عطف الفعل علی الفعل یوجب سریان النفی من المتبوع إلی التابع ، فهما یشترکان فی النفی کما یشترکان فی الإثبات ؛ وفی علامات الإعراب. بخلاف عطف الجملة علی الجملة ؛ فإن النفی فیه لا یسری من المتبوع إلی التابع إلا بقرینة.
ص: 647
ب - عطف الفعل وحده (1) علی ما یشبهه ، والعکس :
یجوز عطف الفعل الماضی بغیر مرفوعه ، وکذا المضارع بغیر مرفوعه (2) - علی اسم یشبههما فی المعنی ، کما یجوز العکس. والاسم الذی یشبههما هو اسم الفعل - فی بعض حالاته (3) - والمشتقات العامة ، (ومنها : اسم الفاعل ، واسم المفعول ... ،) وکذلک یجوز عطفهما علی المصدر الصریح أیضا ، فمثال عطف الماضی علی اسم الفعل الماضی : هیهات وابتعدت الغایة أمام العاجز. والعکس نحو : افترق وشتان ما بین الکمال والنقص.
ومثال عطف الماضی علی اسم الفاعل : هذا مصاحبنا بالأمس وأعاننا علی تحقیق بغیتنا (4). والعکس نحو : هذا أعاننا بالأمس ومصاحبنا فی احتمال المشتقات. ومثال عطف المضارع علی اسم الفاعل أنت مشارکنا فی الخیر ، وتستجیب لندائنا (5) ، والعکس : أنت تستجیب لندائنا ومشارکنا فی الخیر ؛
ص: 648
ومنه قوله تعالی : (یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَیِّتِ مِنَ الْحَیِّ ...)(1)
ومثال عطف الماضی علی المصدر الصریح : إنی سعید بإنقاذ الغریق ، وقدّمت له الإسعاف المناسب.
ص: 649
ومثال عطف المضارع علی المصدر الصریح. الکدح وأدرک غابتی خیر من الراحة مع الإخفاق (1) ...
ص: 650
ما إعراب الفعل إذا عطف علی اسم یشبهه؟ کالفعل : «أثار» المعطوف علی «المغیرات» فی : الآیة السابقة ، وهی قوله تعالی : (فَالْمُغِیراتِ صُبْحاً ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً)، وکالفعل : أقرض فی قوله تعالی فی الآیة الأخری : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِینَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ، وَأَقْرَضُوا اللهَ ...) فإنه معطوف علی المصّدّقین.
وکذلک ما إعراب الاسم الذی یشبه الفعل إذا کان معطوفا علی الفعل کالأمثلة التی عرضناها هناک (1)؟
لم أجد رأیا صریحا شافیا فی هذا ، ورأیت اعتراضات کثیرة ، ودفاعا لم تنته إلی حکم حاسم. ومن هذه الاعتراضات : کیف یعطف الفعل «أثار» علی : «المغیرات» والمعطوف علیه مجرور مع أن المعطوف فعل ، والفعل لا یدخله الجر؟ وقد سبق (2) أن أول الآیات هو : (وَالْعادِیاتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِیاتِ قَدْحاً ، فَالْمُغِیراتِ صُبْحاً ...).
قال الفخر الرازی فی تفسیره : إن الفعل هنا معطوف علی فعل محذوف حلّ محله فی معناه الاسم المشتق من مصدره ، والأصل : فأغرن صبحا فأثرن نقعا ....
وهذه الإجابة تخرج المسألة من وضعها الأصلی وتنقلها إلی وضع آخر لا علاقة لنا به ، إذ تجعلها عطف فعل علی فعل أو مشتق علی مشتق. وهذا غیر موضوع البحث ... ولو أخذنا به لکان حسنا ، وناجحا فی التغلب علی کل اعتراض ، وخالیا من العیب. ورأیت مثله فی تفسیر الزمخشری ، وفی بعض الحواشی الأخری.
أما إذا لم نأخذ به ، وتمسّکنا بذلک النوع من العطف الذی لم أجد لحکمه نصّا واضحا صریحا یتناول المتعاطفین تفصیلا ... - فإن الغموض یظل باقیا والاعتراضات قائمة ، ما لم نجعل المعطوف غیر تابع للمعطوف علیه فی الإعراب ، وتکون فائدة العطف هی الربط المجرد بین معنی الجملتین ؛ کالذی سبق فی عطف الماضی علی المضارع وعکسه - بالإیضاح الذی سلف (3).
ص: 651
ح - عطف الجملة علی الجملة.
یجوز عطف الجملة الاسمیة علی نظیرتها الاسمیة ؛ نحو : الریاضة نافعة ، والمداومة المحمودة علیها لازمة. وقولهم : «الرأی الصادق أمانة ، وکتمانه عند الحاجة إلیه خیانة :» وقول الشاعر :
الصدق یألفه الکریم المرتجی
والکذب یألفه الدّنیّ الأخیب (1)
کما یجوز عطف الفعلیة علی الفعلیة (2) - بشرط اتفاقهما خبرا أو إنشاء - ولو اختلف زمان الفعلین فیهما (3) ؛ فمثال اتحاد الزمن فیهما : وصلت الطائرة وفرح المسافرون بالوصول سالمین (4) - یفرح المنتصر ویفرح أهله وأعوانه (5) ....
ص: 652
کل واشرب ، والبس ، فی غیر مخیلة (1) ولاکبر (2) ...
ومثال اختلاف الزمن : وصل الیوم الغائب ویسافر غدا - یحاسب المرء علی عمله یوم الحساب ، ورأی المسیء عاقبة ما کان منه.
أما الجملة الفعلیة الأمریّة (3) - أو غیرها من الجمل الإنشائیة الأخری - فلا تعطف إلّا علی جملة فعلیة متّحدة معها فی الزمن ، نحو قوله تعالی للصائمین : (وَکُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)، وقوله تعالی : (قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ ...)
وبهذه المناسبة نذکر أن النحاة اختلفوا فی جواز عطف الجملتین المختلفتین إنشاء وخبرا ، وعطف الجملة الاسمیة علی الفعلیة والعکس.
فأما عطف المختلفتین إنشاء وخبرا فالأحسن اتباع الرأی الذی یمنعه (4) : لوضوح هذا الرأی ، وبعده من التکلف ، وخلوه من الحذف والتقدیر :
ص: 653
فلا یصح عطف الثانیة علی الأولی فی مثل : داوم علی الطاعات ، وداوم لک. ولا فی مثل : هدأ البحر وانزل للعوم فیه.
وأما عطف الاسمیة علی الفعلیة والعکس فجائز (1) - فی أرجح الآراء - إن لم یختلفا خبرا وإنشاء ؛ فیصح عطف الثانیة علی الأولی فی مثل : أحب الزراعة ، والصناعة تفیدنی (2). ومثل : الصناعة مفیدة لنا وأحبّ الزراعة. ومن الأمثال المأثورة : (للباطل جولة ، ثم یضمحلّ) ؛ فالجملة المضارعیة معطوفة علی الجملة الاسمیة قبلها. و .. و ...
أما عطف الجملة علی المفرد ، والعکس فسیجیء (3) ...
ص: 654
(1).
(منها : - شرط صحة العطف - تقدیر العامل بعد العاطف - الضمیر العائد علی المتعاطفین - الفصل بین الفاء والواو ومعطوفهما - تقدم المعطوف - عطف الجملة علی المفرد والعکس ، وقد سبق (2) بیان المراد من المفرد - العطف علی التوهم - المغایرة بین المتعاطفین - معنی المعطوف وحکمه إذا کان المعطوف علیه کنیة - جواز القطع فی عطف النسق - عطف الزمان علی المکان ، وعکسه).
1- یشترط لصحة العطف أن یکون المعطوف صالحا بنفسه ، أو بما هو بمعناه لمباشرة العامل المذکور - أی : للوقوع بعده مباشرة ، من غیر أن یمنع من ذلک مانع نحویّ (3) - فمثال الأول : دخل سعید وسلیم ؛ إذ یصح دخل سلیم. والثانی قام سعید وأنا ، فالضمیر «أنا» لا یصلح فاعلا للفعل : «قام» (4) ولکن «تاء» المتکلم التی هی ضمیر بمعناه تصلح ؛ فتقول : قمت.
فإن لم یصلح المعطوف ولا شیء بمعناه لمباشرة العامل المذکور أضمر له عامل مقدّر یناسبه ، وصار مع عامله المقدر جملة معطوفة علی الجملة السابقة ، (أی : صار الکلام عطف جمل.) وذلک کالمعطوف علی الضمیر المرفوع الذی یعرب فاعلا لمضارع مبدوء بالهمزة أو بالنون أو بتاء المخاطب ، أو بتاء التأنیث ، وکالمعطوف علی الفاعل المستتر لفعل الأمر ، ومن الأمثلة لکل ما سبق : أتعاون أنا والجار - نتعاون نحن والجیران - تتعاون أنت والجار - تتعاون فاطمة والجار - اسکن أنت وزوجک الجنة. فکل معطوف من هذه المعطوفات لا یصلح لمباشرة العامل (إذ لا یقال : أتعاون الجار - نتعاون الجیران - تتعاون
ص: 655
الجار - : تتعاون الجار - اسکن زوجک ...) فلما کان المعطوف غیر صالح لمباشرة العامل المذکور فی الکلام وجب أن یقدّر له عامل آخر یناسبه ؛ کأن یقال : أتعاون أنا ویتعاون الجار ... اسکن أنت ولیسکن زوجک الجنة ...
هذا کلام کثیر من النحاة ، وفیه تعقید وتکلف لا داعی له ، ولا یتفق مع قولهم : «قد یغتفر فی الثوانی ما لا یغتفر فی الأوائل» ... (وردّدوا هذه القاعدة هنا وفی أبواب أخری) (1) فمن الخیر الأخذ بها والعطف المباشر علی الفاعل المستتر ، وعدم الالتفات هنا إلی التقدیر ، والحذف والتضییق بغیر فائدة أو دفع ضرر إلا مجاراة الخیال (2).
2- لا یشترط من الوجهة المعنویة (3) صحة تقدیر العامل بعد العاطف ، فمن الصحیح أن تقول : تخاصم المأمون والأمین ، مع أنه لا یصح من الوجهة (4) المعنویة أن یقال تخاصم المأمون وتخاصم الأمین ، إذ الفعل : «تخاصم» لا یقع إلا من متعدد ؛ فلا یکتفی بأن یقع بعده واحد. ولا تعدد هنا بعد کل فعل من الفعلین.
3- کل ضمیر یعود علی المعطوف والمعطوف علیه معا یجب مطابقته : لهما ؛ بشرط أن تکون أداة العطف هی : «الواو» ، أو «حتی» ؛ نحو العم والأخ حضرا - الجسم حتی الأظافر اعتنیت بنظافتهما (5) ....
فإن کان حرف العطف هو : «الفاء» ، أو «ثم» وکان الضمیر فی الخبر عائدا علی المعطوف والمعطوف علیه جاز حذف الخبر من أحدهما ؛ نحو : محمود فحامد قام ، ویجوز تقدیم الخبر علی الحذف من الثانی ؛ نحو : محمود قام فحامد ، ویجوز مطابقة الضمیر بغیر حذف ، نحو : محمود فحامد قاما ... و «ثم» کالفاء فیما سبق.
ص: 656
فإن لم یکن الضمیر فی الخبر وجبت المطابقة ، نحو : جاءنی الوالد والعم فقمت لهما ، وأقبل علیّ وسلیم وهما صدیقان ....
وأما : «لا» ، و «بل» ، و «أو» (1) ، و «أم» ، و «لکن» ، و «إما» (عند من یعتبرها عاطفة) ، فمطابقة الضمیر معها وعدم المطابقة راجعة إلی قصد المتکلم ، فإن قصد أحد المتعاطفین - وذلک واجب فی الإخبار - وجب إفراد الضمیر ؛ نحو : الأخ لا الصدیق جاءنی - الأخ بل الصدیق خرج - أمسعود أم منصور زارک؟ إسماعیل أو فاطمة حیّانی ، إذ المعنی : حیّانی أحدهما. ویراعی تغلیب المذکر. أما فی غیر الإخبار فتقول : زارنی إما العم وإما الخال فأکرمته - أصدیقا قابلت أم عدوّا فترکته - ما جاءنی أحمد لکن سلیم فاستقبلته خیر استقبال.
وإن قصدتهما معا وجبت المطابقة ؛ نحو : حسن لا حسین جاءنی مع أنی دعوتهما - وعاصم أو سلیم دعانی حین ذهبت إلیهما ... (وقد سبقت الإشارة لهذا).
4- لا یجوز الفصل بین الفاء ومعطوفها إلا فی الضرورة الشعریة (2) ، فلا یقال : فلان ورّثه أبوه مالا ففی القوم جاها. وإنما یقال : فلان ورّثه أبوه مالا فجاها فی القوم. ویصح الفصل بین غیرها ومعطوفه بالظرف أو الجار والمجرور (ویدخل القسم فی هذا) ، نحو : تعبت ثم عندک جلست - نزل المطر ثم والله طلعت الشمس - ما أهنت أحدا لکن فی البیت المسیء ...
أما الفصل بین المعطوف والمعطوف علیه فقد سبق (3) بیانه.
5- لا یتقدم المعطوف علی المعطوف علیه إلا شذوذا فیقتصر فیه علی المسموع ، وقیل یجوز فی الضرورة الشعریة. والأولی إهمال هذا الرأی ؛ ومنه قول القائل :
أیا نخلة من ذات عرق
علیک - ورحمة الله - السّلام
ص: 657
یرید : علیک السّلام ورحمة الله ... وقد سبقت الإشارة لهذا (1).
6- قد تعطف الجملة علی المفرد - أحیانا - أو العکس ، إذا کانت الجملة فی الحالتین بمنزلة المفرد ؛ لأنها مؤولة به ، کأن تکون : نعتا ، أو : حالا ، أو : خبرا ، أو : مفعولا لظن وما فی حکمها ...
فمن عطف المفرد علی الجملة ما ورد من مثل : ألفیت الشجاع یهزم خصمه وفاتکا به. فکلمة : «فاتکا» منصوبة ؛ لأنها معطوفة علی الجملة الفعلیة (المرکبة من المضارع «یهزم» وفاعله) وهذه الجملة بمنزلة المفرد المنصوب ، لأنها المفعول الثانی للفعل : «ألفی». ومن هذا کلمة : «مصدقا» الثانیة فی قوله تعالی : (وَقَفَّیْنا عَلی آثارِهِمْ بِعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَآتَیْناهُ الْإِنْجِیلَ فِیهِ هُدیً وَنُورٌ ، وَمُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ التَّوْراةِ ...) فالجملة الاسمیة : (فیه هدی) فی محل نصب ، حال من الإنجیل ، وکلمة : «مصدقا» التی بعدها معطوفة علیها ، منصوبة ؛ مراعاة لمحل المعطوف علیه ... (2) ومثل هذا قول الشاعر :
وجدنا الصالحین لهم جزاء
وجنات وعینا سلسبیلا
فالجملة الاسمیة (لهم جزاء) فی محل نصب ، لأنها المفعول الثانی للفعل : «وجد» وقد روعی هذا المحل فجاء المعطوفان (جنات وعینا) منصوبین تبعا لذلک المحل (3).
ومن عطف الجملة علی المفرد قوله تعالی : (وَکَمْ مِنْ قَرْیَةٍ أَهْلَکْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَیاتاً (4) أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ، أی : قائلین (5).
ومن عطف المفرد علی شبه الجملة قوله تعالی (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً ، أَوْ قائِماً) فقاعدا عطف علی «لجنبه» ؛ لتأویل شبه الجملة بمفرد ، هو : مجنوب.
ص: 658
ومن عطف شبه الجملة علی المفرد قولهم : لا یصح مخالفة القاعدة المطردة إلا شذوذا أو فی ضرورة (1).
7- هناک نوع من العطف ، یرتضیه بعض النحاة ، ویسمیه : «العطف علی التوهم». ومن أوضح أمثلته عندهم - العطف «بفاء السببیة» علی معطوف مأخوذ من مضمون الجملة التی قبلها. ذلک أن «فاء السببیة» تقتضی عطف المصدر المؤول بعدها علی مصدر صریح قبلها ، وهذا المصدر الصریح قد یکون مذکورا صراحة قبلها ؛ نحو : ما الشجاعة تهورا فتهمل الحذر ، وقد یکون غیر مذکور فیتصید ؛ نحو : ما أنت مسیء فنسیء إلیک. أی : ما تکون منک إساءة یترتب علیها أن نسیء لک.
فإن لم یوجد قبل فاء السببیة مصدر صریح ولا ما یصلح أن یتصید منه المصدر - (الجملة الاسمیة التی یکون فیها الخبر جامدا ؛ نحو : ما أنت عمر فنهابک) - فبعض النحاة یمنع نصب المضارع ، وبعض آخر یجیز تصید مصدر من مضمون الجملة السابقة التی فیها الخبر جامدا ؛ ویکون الکلام عطف جملة علی جملة ، ومن لازم معناها ؛ کأن یقال فی المثال السالف : ما یثبت کونک عمر ، فهیبتنا إیاک (2) ...
8- یقول النحاة : إن «المغایرة» هی الأصل الغالب فی عطف النسق بین المتعاطفین. یریدون : أن یکون المعطوف مغایرا المعطوف علیه فی لفظه وفی معناه معا ؛ فلا یعطف الشیء علی نفسه. هذا هو الأصل الغالب ، لکن العرب قد
ص: 659
تعطف - لغرض بلاغیّ - الشیء علی نفسه إذا اختلف اللفظان ؛ کقولهم ... «وألفی قولها کذبا ومینا» فقد عطفوا المین علی الکذب (ومعناهما واحد ، واللفظان مختلفان) لغرض بلاغیّ هو تقویة معنی المعطوف علیه وتأکیده. وهذا النوع من العطف - علی قلته - قیاسی (1) ...
وقد یعطفون الخاص علی العامّ وعکسه لغرض بلاغی کذلک ؛ فمن الأول قوله تعالی فی سورة البقرة : (حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطی ...) فقد عطف «الصلاة الوسطی» - ومن معانیها : صلاة العصر ... - علی «الصلوات» ، والمعطوف خاص ؛ لأنه نوع بعض المعطوف علیه العام الذی یشمله مع غیره من الأنواع الأخری.
ومن الثانی قوله تعالی : (وَالَّذِینَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَکَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...) فقد عطف الجملة الفعلیة : «ظلموا» علی الجملة الفعلیة : «فعلوا» والمعطوف هنا عام ، والمعطوف علیه خاص ؛ لأنه داخل فی مضمون المعطوف الذی یشمله وغیره ... (2)
(9) إذا کان المعطوف علیه کنیة لوحظ فیه وفی المعطوف ما سبقت الإشارة إلیه فی «ا» من ص 444.
(10) الصحیح جواز «القطع (3)» فی المعطوف عطف نسق ؛ کما أشرنا من قبل (4) - وهو کثیر فی المعطوفات المتعددة التی کانت فی أصلها نعوتا ، ثم فصل بینها بحرف العطف ؛ فصارت معطوفات بعد أن کانت نعوتا. وحجة القائلین بصحته وقوعه فی أفصح الکلام. ومن الأمثلة کلمة : «الصابرین» من قوله تعالی فی سورة البقرة : (لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِکَةِ وَالْکِتابِ وَالنَّبِیِّینَ ،
ص: 660
وَآتَی الْمالَ عَلی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبی ، وَالْیَتامی ، وَالْمَساکِینَ ، وَابْنَ السَّبِیلِ وَالسَّائِلِینَ وَفِی الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَی الزَّکاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِینَ الْبَأْسِ ...) فقد نصبت کلمة : «الصابرین» بسبب «القطع» ولو کانت معطوفة لرفعت کسائر المعطوفات المرفوعة التی قبلها ، ومثل کلمة : «المقیمین» من قوله : فی سورة النساء : (لکِنِ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ ، وَالْمُؤْمِنُونَ ، یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ ، وَالْمُقِیمِینَ الصَّلاةَ ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّکاةَ ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالْیَوْمِ الْآخِرِ ، أُولئِکَ سَنُؤْتِیهِمْ أَجْراً عَظِیماً) ، ومثل کلمة : «القائلون» فیما أنشده الکسائی لبعض فصحاء العرب :
وکلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم
إلا نمیرا أطاعت أمر غاویها
الظاعنین ، ولما یظعنوا أحدا
والقائلون لمن دار نخلیها؟
ومثل : ما أنشده الفراء لبعضهم کذلک :
إلی الملک القرم (1)
وابن الهمام
ولیث الکتیبة فی المزدحم
وذا الرأی حین تغمّ الأمور
بذات الصلیل (2) ، وذات اللجم
فقد نصب کلمتی : «لیث» و «ذا» علی الاعتبار السابق (4) ...
(11) هل یصح عطف الزمان علی المکان وعکسه؟ الأحسن الأخذ بالرأی الذی یجیزه عند أمن اللبس ؛ نحو قابلتک أمام بیتک هذا ویوم الخمیس أو : قابلتک یوم الخمیس وأمام بیتک (5).
ص: 661
ص: 662
د - (1)
تعریفه : یتضح تعریفه مما یأتی :
لو سمعنا من یقول : «عدل الخلیفة» - لفهمنا المراد ، وکادت الفائدة المعنویة تتمّ ، لو لا ما یشوبها من بعض النقص الواضح ؛ إذ تتطلع النفس إلی معرفة هذا الخلیفة ، واسمه ، وتتعدد الخواطر بشأنه ؛ أأبو بکر هو ، أم عمر ، أم عثمان ، أم علیّ ... و ...؟.
فلو أن المتکلم قال : عدل الخلیفة «عمر» - مثلا - ما شعرنا بذلک النقص المعنوی ؛ لأن «عمر» هو المقصود الأساسی بالحکم الذی فی هذه الجملة ، (أی : هو الذی ینسب العدل إلیه) ، فلیس لفظ «الخلیفة» هو المقصود الأصیل بهذا الحکم ، وبهذه النسبة.
وکذلک لو قلنا : اتسع مجال الحضارة فی زمن : «ابن الرشید» ، لکانت الجملة مفیدة. لکن السامع - بالرغم من هذه الإفادة - یشعر بنقص معنوی کبیر تدور بسببه أسئلة متعددة : من ابن الرشید هذا؟ ما اسمه؟ ما زمنه؟ ... أهو الأمین ، أم المأمون ، أم غیرهما ...؟
فإذا قلنا : اتسع مجال الحضارة فی زمن ابن الرشید المأمون - اکتملت الإفادة من هذه الناحیة المعینة ، وزال النقص بسبب ذکر : «المأمون» ، الذی هو المقصود الأصیل من الحکم السابق ، ومن نسبة اتساع المجال إلیه.
فکلمة : «عمر» تسمی : «بدلا» ، وکذلک کلمة : «المأمون» ، وأشباههما من کل کلمة تکون هی المقصودة فی الجملة بالحکم بعد کلمة سبقتها ؛ لتمهد الذهن للمتأخرة عنها ، وتوجه الخاطر إلیها ، ولیس بین الکلمتین
ص: 663
رابط لفظی یتوسط بالربط بینهما. ولهذا یقولون فی تعریف البدل :
«إنه التابع (1) المقصود وحده بالحکم المنسوب إلی تابعه ، من غیر أن تتوسط - فی الأغلب (2) - واسطة لفظیة بین التابع والمتبوع».
ومن هذا التعریف یتضح الفرق بین البدل والتوابع الأخری : فالنعت والتوکید وعطف (3) البیان ، لیست مقصودة بالحکم ، وإنما هی مکملة له بوجه من الوجوه التی سبقت فی أبوابها. وعطف النسق لا بد فیه من الواسطة ، وهی أداة العطف. هذا إلی أن ما بعد هذه الأداة قد یکون مخالفا فی الحکم لما قبلها فلا یکون مقصودا به ، وقد یشارکه فی الحکم ولکنه لا ینفرد به. فلا یکون هو المقصود وحده (4) ...
والأغلب فی «البدل» أن یکون جامدا ، ومن القلیل الجائز أن یکون مشتقّا (5). فإذا أمکن إعراب المشتق شیئا آخر یصلح له ، کان أولی (6).
* * *
ص: 664
الغرض الأصیل هو - فی الغالب - تقریر الحکم السّابق وتقویته بتعیین المراد ، وإیضاحه ، ورفع الاحتمال عنه. لأن هذا الحکم ینسب أوّلا للمتبوع فیکون ذکر المتبوع تمهیدا للتابع الذی سیجیء ، وتوجیها للنفس لاستقباله بشوق ولهفة. فإذا استقبلته وعرفته استقبلت معه الحکم وعرفته أیضا ؛ فکأن الحکم قد ذکر مرتین ؛ وفی هذا تقویة للحکم وتوکید (1). ولأجل تحقیق هذا الغرض لا یصح أن یتحد لفظ البدل والمبدل منه إلا إذا أفاد الثانی زیادة بیان وإیضاح ؛ فلا یصح فی مثل : یا سعد سعد أنت زعیم موفق - إعراب : کلمة «سعد» الثانیة بدلا (2).
* * *
- وکل منها هو المقصود وحده بالحکم -
: بدل کلّ من کل (3) ، ویسمی «بدل المطابقة» ، أو : «بدل المطابق من مطابقه». وضابطه : أن یکون الثانی مطابقا - أی : مساویا -
ص: 665
للأول فی المعنی تمام المطابقة مع اختلاف لفظیهما فی الأغلب (1) فهما واقعان علی ذات واحدة ؛ وأمر واحد - نحو : (أشرقت الغزالة ، الشمس ؛ فأنارت الدنیا) ، فالشمس بدل کل من کل ، والمبدل منه : هو الغزالة ، ومعنی الثانی - هنا - معنی الأول تماما. ومثله : (الدینار من تبر ؛ ذهب ، والدرهم من لجین فضة) ، فکلمة : «ذهب» بدل مطابق من «تبر» ، وکلمة : «فضة» بدل مطابق من : «لجین». وهذا النوع من البدل لا یحتاج لرابط یربطه بالمتبوع (2) ..
ومن الأمثلة أیضا : قوله تعالی : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ ، صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ ...) ، فکلمة : «صراط» الثانیة بدل کل من کل من الأولی لأن صراط الذین أنعم الله علیهم هو عینه الصراط المستقیم ؛ فالکلمتان بمعنی واحد تماما. وقول الشاعر :
ص: 666
إن النجوم نجوم الأفق أصغرها
فی العین أذهبها فی الجو إصعادا
فکلمة : «نجوم» الثانیة بدل کل من کل ، من الأولی ، لأن المراد من نجوم الأفق هو عین المراد من کلمة : «نجوم» الأولی. ومثل هذا قول الآخر :
إن الأسود أسود الغاب همتها
یوم الکریهة فی المسلوب لا السّلب (1)
وقد تقدم الارتباط بین بدل الکل وعطف البیان (2) ....
ثانیها : بدل بعض من کل ، (أو : بدل جزء من کل). وضابطه : أن یکون البدل جزءا حقیقیّا (3) من المبدل منه (سواء أکان هذا الجزء أکبر من باقی الأجزاء ، أم أصغر منها ، أم مساویا) وأن یصح الاستغناء عنه بالمبدل منه ؛ فلا یفسد المعنی بحذفه .... (4) نحو : أکلت البطیخة ثلثها ، والبرتقالة ثلثیها. ونحو : اعتنیت بوجه الطفل ، عینیه. ونظفت فمه ، أسنانه.
والأعمّ الأکثر أن یشتمل هذا البدل علی رابط یربطه بالمتبوع ، وأهم الروابط هو «الضمیر» (5) فإن کان الرابط الضمیر وجب أن یطابق المتبوع فی الإفراد والتذکیر وفروعهما (6) .... ومن الجائز - مع قلته - الاستغناء عن هذا الضمیر فی إحدی حالات ثلاث.
ص: 667
ا - وجود «أل» التی تغنی عنه فی إفادة الربط ، وتقوم مقامه عند أمن اللبس ، نحو : إذا رأیت الوالد فقبّله ، الید ، أی : فقبّله یده ، أو الید منه (1) ...
ب - أن یکون البدل بعضا والمبدل منه هو المستثنی منه فی کلام تام غیر موجب ، (حیث یصح فی المستثنی : إمّا النصب علی الاستثناء ، وإما الإتباع علی البدلیة من المستثنی منه - کما تقدم فی باب المستثنی - (2)) ؛ نحو : ما تعب السباحون إلا واحدا أو واحد ؛ فوجود «إلا» یغی عن الرابط ؛ لدلالتها علی أن المستثنی بعض من المستثنی منه (3).
ح - أن یجیء بعد البدل سرد بقیة أجزاء المبدل منه ، بحیث یکون سردها وافیا یشملها جمیعا ، ویستوفی کل أجزاء المتبوع ؛ مثل : الکلمة أقسام ثلاثة ؛ اسم ، وفعل ، وحرف ، فلفظة : «اسم» بدل بعض من ثلاثة ، أو من أقسام. وهذا البدل خال من الرابط ؛ لأن البدل وما بعده قد جمع کل أجزاء المبدل منه ، وذکرت فی الکلام مستوفاة (4). ومن الأمثلة قول الشاعر :
أداوی جحود القلب بالبر والتقی
ولا یستوی القلبان : قاس وراحم
فکلمة : «قاس» بدل خال من الرابط ؛ لأنه مع ما بعده یشتمل علی کل ما للمبدل منه. ولیس للمبدل منه هنا سوی هذین النوعین.
ثالثها : بدل الاشتمال ، ولتوضیحه نسوق المثال التالی :
إذا قلت : أعجبتنی الوردة ، جاز للسامع أن ینسب الإعجاب إلی لونها أو رائحتها ، أو تنسیق أوراقها - أو ... لأن الإعجاب یحتمل هذه المعانی العرضیة مفردة ، ومجتمعة ، ویشتمل علیها ضمنا. فإذا قلت : أعجبتنی الوردة رائحتها .. ، تعیّن معنی واحد من تلک المعانی العرضیة التی یتضمنها العامل :
ص: 668
(أعجب) ، واتجه القصد إلی هذا المعنی دون باقی المعانی التی یشتمل علیها العامل إجمالا ، والتی تنطبق علی الوردة وتتصل بها ، من غیر أن یدخل واحد منها فی ذات الوردة ، وفی تکوینها المادیّ (الجسمی) ، أی : من غیر أن یکون واحد منها جزءا حقیقّا أساسیّا لا توجد الوردة إلا به ، فلیست رائحة الوردة جزءا أصیلا فی تکوینها المادیّ یتوقف علیه وجود الوردة ، ولیس لونها ، أو تنسیق ورقها جزءا أساسیّا کذلک ، وإنما هی أمور عرضیة طارئة علی ذاتها المادیة ، قد تلازم الذات أولا تلازمها. وبقاء الذات أو فناؤها لیس متوقفا علیها ؛ فمن الممکن أن توجد الوردة وأن تبقی من غیر أن یکون لها رائحتها ، أو لونها ، أو تنسیق ورقها ، أو غیر هذا من المعانی والأوصاف الطارئة التی تندمج تحت لفظ العامل : «أعجب».
فالرائحة فی الأسلوب السابق هی التی تسمی : «بدل اشتمال» و «المبدل منه» هو : «الوردة» ، والعامل هو : «أعجب». ویقولون فی بدل الاشتمال :
«إنه تابع یعیّن أمرا عرضیّا ، ووصفا طارئا من الأمور والأوصاف المتعددة التی تتصل بالمتبوع ، ویشتمل علیها معنی عامله إجمالا بغیر تفصیل (1)».
ومن هذا التعریف یتبین أن بدل الاشتمال مقصود لتعیین أمر فی متبوعه ، وأن هذا الأمر عرضیّ طارئ ، ولیس جزءا أصیلا من المتبوع (2). وأن أساس الاشتمال وموضعه الحق هو «العامل» بمعناه ، لا التابع ولا المتبوع.
ومن الأمثلة لهذا البدل : بهرنی عمر عدله - راقنی معاویة حلمه - سرتنی عائشة علمّها ودینها. فالکلمات : عدل : حلم - علم ... بدل اشتمال کل واحدة منها تعیّن أمرا خاصّا فی المتبوع. وهو أمر عرضیّ لا یدخل فی تکوین الذات تکوینا مادیّا أصیلا. وهذا الأمر العرضیّ الطارئ یندرج
ص: 669
مع أمور عرضیة أخری تحت العامل ، ویشتمل علیها معنی هذا العامل إجمالا. ولا بد فی بدل الاشتمال من ضمیر یطابق المتبوع فی الإفراد والتذکیر وفروعهما ، وهذا الضمیر قد یکون مذکورا کما فی الأمثلة السالفة ، وقد یکون مقدرا ؛ کقوله تعالی : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (1) ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) ، والتقدیر : «النار فیه». فحذف الجار والمجرور ، والمجرور هو الضمیر الرابط ، ویصح أن یکون التقدیر : ناره ذات الوقود. ثم حذف الضمیر ، ونابت عنه «أل» فی الربط (2).
وبدل الاشتمال - کبدل البعض - لابد لصحته من صحة الاستغناء عنه بالمبدل منه وعدم فساد المعنی بحذفه (3).
رابعها : البدل المباین للمبدل منه - ویسمی : «بدل المباینة» - وهو ثلاثة أنواع لا بد فی کل منها أن یکون هو المقصود بالحکم (4) ، وأن یقوم دلیل (أی : قرینة) یوضح المراد منه ، ویمنع اللبس (5). وهذا القسم بأنواعه الثلاثة لا یحتاج إلی ضمیر - أو غیره - یربطه بالمتبوع.
ا - بدل الغلط : وهو الذی یذکر فیه المبدل منه غلطا لسانیّا ، ویجیء البدل بعده لتصحیح الغلط. وذلک بأن یجری اللسان بالمتبوع من غیر قصد ،
ص: 670
ثم ینکشف هذا الغلط والخطأ للمتکلم سریعا ؛ فیذکر البدل ، لیتدارک به الخطأ اللّسانیّ ویصححه. فالغلط إنما هو فی ذکر المبدل منه ، لا فی البدل ، نحو : (أعظم الخلفاء العباسیین : «المأمون» بن «المنصور» ، «الرشید».) فالحقیقة : أن «المأمون» هو ابن «الرشید» ، ولکن المتکلم جری لسانه بالخطأ ، فذکر أنه ابن المنصور ؛ فأسرع وأصلح الخطأ بذکر الصواب ، قائلا : «الرشید». فالرشید ؛ بدل من المتبوع ، الذی ذکر خطأ لسانیّا. ولیس «الرشید» هو : الغلط ؛ وإنما هو تصحیح للغلط الکلامی السالف الذی ذکر بغیر قصد ولا تنبّه. فکلمة : «الرشید» بدل من «المنصور» بدل غلط ، أی : بدلا مقصودا من شیء غیر مقصود ذکر غلطا - کما أوضحنا - ولا یحتاج هذا البدل إلی ضمیر یربطه بالمتبوع (1) ولا ورود لهذا النوع فی القرآن الکریم منسوبا إلی الله (2) ...
ب - بدل النسیان : هو الذی یذکر فیه المبدل منه قصدا ، ویتبین للمتکلم فساد قصده : فیعدل عنه ، ویذکر البدل الذی هو الصواب ؛ نحو : (صلیت أمس العصر ، الظهر ، فی الحقل) ، فقد قصد المتکلم النص علی صلاة العصر ، ثم تبین له أنه نسی حقیقة الوقت الذی صلّاه ، وأنه لیس العصر ؛ فبادر إلی ذکر الحقیقة التی تذکّرها ؛ وهی : «الظهر» فکلمة : «الظهر» بدل مقصود من کلمة ؛ «العصر» بدل نسیان. والفرق بین هذا البدل وسابقه أن الغلط یکون من اللسان ، أما النسیان فمن العقل.
وهذا النوع کسابقه لا یحتاج إلی ضمیر یعود علی المتبوع ، ولا إلی رابط آخر (3) .... ولا ورود لهذا النوع فی القرآن الکریم منسوبا إلی الله (4) ...
ح - بدل الإضراب (5) : وهو الذی یذکر فیه المبدل منه قصدا ، ولکن
ص: 671
یضرب عنه المتکلم (أی : ینصرف عنه ویترکه مسکوتا عنه) من غیر أن یتعرض له بنفی أو إثبات - کأنه لم یذکره - ویتجه إلی البدل. نحو : سافر فی قطار ، سیارة. فقد نصّ المتکلم علی القطار أولا ، ثم أضرب عنه تارکا أمره ، ونصّ علی السیارة بعد ذلک ، فهی بدل مقصود من القطار. ولا یحتاج هذا البدل إلی ضمیر یعود إلی المتبوع ، ولا إلی غیره من الروابط ... (1)
ص: 672
والأحسن عدم الالتجاء إلی هذا النوع من البدل قدر الاستطاعة ؛ لأن احتمال اللبس فیه کبیر (1) ....
«ملاحظة» : سبق أن أنواع البدل المباین الثلاثة تحتاج إلی قرینة توضح وتمنع اللبس. وأحسن منها أن یتقدم علی کل نوع - مباشرة - حرف العطف «بل» المفید للإضراب. لأن وجود هذا الحرف یؤدی إلی إعراب ما بعده معطوفا لا بدلا. وبهذا یمتنع احتمال أنه نعت ، ذلک الاحتمال الذی قد یتسرب إلی الوهم قبل مجیء الحرف : «بل» وبمجیئه تنتقل المسألة من البدل إلی العطف.
ص: 673
ا - المشهور من أنواع البدل هو الأربعة التی شرحناها. وزاد بعض النحاة نوعا خامسا سماه : «بدل الکل من البعض» ، واستدل له بأمثلة متعددة تؤیده ، منها قوله تعالی فی التائبین الصالحین : (... فَأُولئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَلا یُظْلَمُونَ شَیْئاً ، جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِی وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَیْبِ ...) ، فجنات بدل کل من الجنة ، والأولی جمع ، والثانیة مفرد ، ولهذا کان البدل کلّا والمبدل منه بعضا. ومنه قول الشاعر :
رحم الله أعظما دفنوها
بسجستان طلحة الطلحات
فکلمة : طلحة «بدل کل» من «أعظم» التی هی جزء من «طلحة» ، وکذلک قول الشاعر :
یوم تحمّلوا (3)
لدی سمرات (4) الحیّ ناقف
حنظل (5)
فکلمة «یوم» بدل کل من «غداة» مع أنه یشملها ، وهی جزء منه (6) ...
البدل أحد التوابع ؛ فلابد أن یوافق متبوعه فی حرکات الإعراب ، وفی بعض الأشیاء المشترکة التی سبق النص علیها (7). أما موافقته إیاه فی غیر ذلک فیجری فیها التفصیل الآتی:
1- فمن جهة التنکیر والتعریف لا یلزم أن یوافق متبوعه فیهما ؛ فقد یکونان
ص: 674
- معا - معرفتین ؛ کقراءة من قرأ قوله تعالی : (کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلی صِراطِ الْعَزِیزِ الْحَمِیدِ ؛ اللهِ الَّذِی لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الْأَرْضِ ...) بجر کلمة. «الله» ؛ علی اعتبارها بدلا من کلمة : «العزیز». وقد یکونان نکرتین ؛ کقوله تعالی : (إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ مَفازاً (1) ، حَدائِقَ وَأَعْناباً ...). وقد تبدل المعرفة من النکرة کقوله تعالی : (وَإِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ؛ صِراطِ اللهِ ...)
وقد تبدل النکرة من المعرفة ، کقوله تعالی : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِیَةِ ، ناصِیَةٍ کاذِبَةٍ ...)(2) .. والمفهوم من کلامهم أن تکون هذه النکرة مختصة - لا محضة - لأن النکرة المختصة الخالیة من فائدة التعریف - نحو : مررت بمحمد رجل عاقل - قد تفید ما لا تفیده المعرفة المشتملة علی فائدة التعریف (3). ومما یؤید هذا أن الغرض من البدل - کما عرفناه فیما سبق - لا یتحقق بالنکرة المحضة.
2- ومن جهة الإفراد والتذکیر وفروعهما ، فإن بدل الکل من الکل یطابق متبوعه فیها جمیعا ... ما لم یمنع مانع من التثنیة أو الجمع ، کأن یکون أحدهما مصدرا لا یثنی ولا یجمع ؛ کالمصدر المیمی (4) ؛ مثل : قوله تعالی فی الآیة السالفة : (مَفازاً ، حَدائِقَ ...) وکقصد التفصیل ، فی قول الشاعر :
وکنت کذی رجلین رجل صحیحة
ورجل رمی فیها الزّمان فشلّت (5)
وأما غیره من أنواع البدل فلا یلزم موافقته فیها (6).
والغالب أن البدل یرتبط به ما بعده ویعتمد علیه ؛ فیطابقه فی حالتی التذکیر
ص: 675
والتأنیث وغیرهما ؛ نحو : إن الغزال عینه جمیلة ، وإن الفتاة جفنها فاتر ، بتأنیث خبر «إن» فی المثال الأول ، وتذکیره فی الثانی ، ولو لا أن الملاحظ هو البدل لوجب التذکیر فی الأول والتأنیث فی الثانی. ولا بد فی مراعاة ذلک الغالب من عدم وجود قرینة تمنع منه ، وتدل علی غیره (1). ومن غیر الغالب قول الشاعر :
إنّ السیوف غدوّها ورواحها
ترکت هوازن مثل قرن الأعضب (2)
فقد جاء الفعل «ترک» مؤنثا مراعاة للمبدل منه ، (وهو اسم «إن» لا للبدل.
ح - قلنا (3) - إنه قد یتحد (4) لفظ البدل والمبدل منه إذا کان فی لفظ البدل زیادة بیان وإیضاح ؛ کقراءة من قرأ قوله تعالی : (وَتَری کُلَّ أُمَّةٍ جاثِیَةً (5) کُلُّ أُمَّةٍ تُدْعی إِلی کِتابِهَا ...) بنصب کلمة : «کلّ» الثانیة ؛ فقد اتصل بها معنی زائد ، لیس فی المبدل منه ؛ هو بیان سبب الجثو ، وهو استدعاء کل أمة لتقرأ کتابها. ومن الأمثلة : شاهدنا الجنود ، فرحة ، الجنود التی انتصرت علی أعدائها ، ورأینا الأمة تخرج لاستقبالهم ، الأمة التی أنجبتهم ...
د - قد یحذف المبدل منه ویستغنی عنه بالبدل بشرط أن یکون المبدل منه فی جملة وقعت صلة موصول ؛ نحو : أحسن إلی الذی عرفت المحتاج ، أی : الذی عرفته المحتاج. فکلمة : «المحتاج» یصح أن تکون بدلا من الضمیر المحذوف (6) ....
ه - یصح الإتباع والقطع فی البدل إذا کان المبدل منه مذکورا مجملا ، مضمونه أفراد وأقسام متعددة ، تذکر بعده مفصّلة - بأن یشتمل الکلام بعده علی جمیع أقسامه کاملة - نحو : مررت برجال ، طویل ، وقصیر ،
ص: 676
وربعة (1) ... بالرفع ، أو النصب ؛ أو الجر فی هذا المثال.
فإن کان الکلام غیر مستوف أقسام المبدل منه تعین فی البدل القطع (2) نحو : مررت برجال طویلا وقصیرا ، أو : طویل وقصیر ، بالرفع أو النصب فی الکلمتین. إلا عند نیة معطوف محذوف ، فلا یتعین القطع وإنما یصح الأمران - کما صح فی الأول - وهما : البدل والقطع. ومن الأمثلة لهذا قوله علیه السّلام : «اجتنبوا الموبقات ، الشرک والسحر» بنصبهما. والتقدیر : وأخواتهما .... بدلیل ذکر هذا المعطوف فی حدیث آخر.
فإن کان البدل خالیا من التفصیل جاز فیه الأمران أیضا : الإتباع والقطع ؛ نحو : فرحت بعلیّ أخوک أو أخاک علی القطع فیهما. أو : أخیک علی البدل ... وسیجیء - فی ص 684 وما بعدها - إیضاح آخر لبدل التفصیل ، وأنه نوع من بدل الکل.
أما تفصیل الکلام علی القطع وطریقته فقد سبق فی باب النعت. ومن المستحسن التخفف من استعماله قدر الاستطاعة.
و - یشترط (3) فی بدل البعض وبدل الاشتمال أن یصح فی کل منهما الاستغناء بالمبدل منه ، وعدم فساد المعنی أو اختلال الترکیب لو حذف البدل ، أو اتصل به عامله اتصالا لفظیّا ظاهرا ومباشرا ، فلا یجوز : (قطعت اللص أنفه ، ولا لقیت کل أصحابک أکثرهم ، ولا أسرجت القوم دابتهم ،) لعدم صحة الاستغناء بالمبدل منه عن البدل. وکذلک لا یصح مررت بمحمد أبیه ، إذ لا یصح أن یقال فی هذا المثال - وأشباهه - عند إظهار عامل
ص: 677
البدل - وهو مررت ، أو الباء - وتسلیطه علی البدل مباشرة : مررت أبیه ، بتعدیة الفعل اللازم ، کما لا یقال مررت بأبیه ، من غیر مرجع للضمیر.
ز - الأغلب أن البدل علی نیة تکرار العامل (1) ، ولیس علی تکراره حقیقة. بیان هذا : أن العامل فی «البدل منه» هو العامل فی «البدل» لکن هذا العامل المشترک بینهما واجب الإظهار والتلفظ به قبل المتبوع وحده. ولا یصح إعادته وتکراره ظاهرا صریحا قبل التابع. وإنما یکفی تخیل وجوده قبل البدل مباشرة. وملاحظة أنه موجود قبله فی النیة والتقدیر ؛ لا فی الحقیقة والواقع. مع استقامة الأسلوب ، وسلامة المعنی بغیر حاجة إلی إعادته وتکراره صریحا ظاهرا فی الکلام.
والسبب فی منع التکرار الحقیقی - لا الخیالی - أنه یؤدی إلی تأثیر العامل المتکرر فی «البدل» تأثیرا جدیدا یزحزحه عن «البدلیة» ویدخله فی عداد معمولات أخری لا تصلح «بدلا» ؛ ففی مثل : نظف الرجل فمه أسنانه ، یکون المبدل منه هو «الفم» ، والبدل هو : «أسنان» وعاملهما هو : «نظّف» المذکور صریحا قبل المتبوع. وتخیلا وتقدیرا - دون تکراره - قبل التابع ، وعلی أساس هذا التخیل المجرد ، والتقدیر المحض یصح أن نفترض أن أصل الکلام هو : نظّف الرجل فمه - نظف الرجل أسنانه. وهذا الافتراض لم یفسد المعنی ولا الترکیب ، وإنما أدّی إلی توضیح المراد : فلو اعتبرنا العامل الثانی ، الملاحظ تخیلا وتقدیرا - وهو هنا : «نظّف» - عاملا معادا حقیقة ، وتکرارا للأول لأدی هذا إلی إیجاد ترکیب جدید ، خال من البدل ، ولوجب إعراب کلمة : «أسنان» شیئا آخر غیر البدل ؛ فتکون هنا علی الاعتبار الجدید «مفعولا به» ، ولا تصلح بدلا ، ویترتب علی هذا التغییر الإعرابی تغییر معنوی معروف ینشأ من الفرق المعنوی بین البدل ، والمفعول به ، إذ لکل منهما مهمة تختلف عن مهمة الآخر.
ویستثنی من الحکم السالف صورة یصح فیها الأمران ؛ إما تکرار العامل تکرارا لفظیّا ، وإعادة التلفظ به مرة ثانیة ، وإما الاکتفاء بتخیل وجوده قبل البدل
ص: 678
والاقتصار علی ملاحظته فی النیة والتقدیر (1). وهذه الصورة الجائزة - لا الواجبة ، کما أسلفنا (2) - هی التی یکون فیها العامل حرفا من حروف الجر ؛ کاللام الجارة فی قوله تعالی : (لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ ...)، وفی قوله تعالی : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَیْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ، تَکُونُ لَنا عِیداً ، لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا ...) ومثل : «من» فی قوله تعالی : (وَلا تَکُونُوا مِنَ الْمُشْرِکِینَ ، مِنَ الَّذِینَ فَرَّقُوا دِینَهُمْ وَکانُوا شِیَعاً ...)؛ فقد تکررت اللام وأعیدت صریحة فی الآیة الأولی (... لکم - لمن ..) ، وکذلک فی الآیة الثانیة (.. لنا - لأولنا) کما تکررت «من» فی الآیة الثالثة (مِنَ الْمُشْرِکِینَ - مِنَ الَّذِینَ ...) وهکذا ...
لکن ما إعراب حرف الجر المکرر؟ وما إعراب الاسم المجرور بعده؟ قیل : إن حرف الجر المکرر أصلیّ ، باق علی عمله ، وإنه هو الذی جر الاسم الواقع «بدلا» بعده. دون الحرف الأول المتقدم ، ودون حرف آخر مقدر ، أو ملحوظ متخیل. بحجة أنه لا داعی للتقدیر فی هذه الصورة مع وجود عامل مذکور ، منطوق به صراحة ؛ فإن التخیل أو التقدیر إنما یکون فی غیر هذه الصورة التی ظهر فیها العامل المتکرر ، ووقع تحت الحسّ ؛ فلا یمکن إغفاله ، ولا إنکار وجوده. ولا المطالبة بأن یکون العامل فی المبدل منه هو العامل فی البدل ، إذ لا داعی للتمسک بهذا الحکم حین یکون العامل المتکرر حرف جر ، بعده البدل مباشرة.
بقی الاعتراض بشیء آخر ، هو أن حرف الجرّ الأصلیّ لا یجر البدل ؛ لأن عمله مقصور علی شیء واحد ؛ هو جر الاسم جرّا مجردا ، لا یصح معه اعتبار ذلک الاسم المجرور بدلا أو غیر بدل.
قد یندفع هذا الاعتراض بواحد من ثلاثة :
أولها : وهو أقواها وأحسنها - صحة اعتبار المجرور فی هذه الصورة وحدها «بدلا» ؛ بالرغم مما هو مقرر أن التوکید اللفظیّ لا یؤثر فی غیره ، ولا
ص: 679
یتأثر به ؛ فلا یصلح عاملا ولا معمولا (1).
ثانیها : اعتبار العامل المتکرر توکیدا لفظیّا محضا (أی : لا یؤثر ولا یتأثر ؛ طبقا لما سبق تقریره). وأن الاسم المجرور بعده مجرور بالعامل الأول الذی له التأثیر فی المبدل منه ؛ فهو - أی : العامل الأول - وحده - مؤثر فی التابع والمتبوع معا ، عملا بالرأی الذی یقول : إن البدل لیس علی نیة تکرار العامل ، وإنما العامل فی المبدل منه وفی البدل واحد ، لا تکرار له ، ولا تخیل لإعادته.
ثالثها : اعتبار البدل علی نیة تکرار العامل ، وأن حرف الجر المتکرر هو توکید لفظیّ محض ، ولیس تکرارا للعامل المتقدم. وبالرغم من وجوده مکررا واعتباره توکیدا لفظیّا خالصا یکون الجر بعده بعامل آخر غیر ظاهر ولکنه ملحوظ فی النیة والتقدیر.
ولا شک أن الآراء الثلاثة یشوبها الضعف ؛ لمخالفة کل منهما للضوابط العامة ، ولاعتمادها علی النیة ، والتقدیر ، والتأویل ، ولکن الأول أخفها ضعفا ؛ ولذا کان أنسبها قبولا.
ص: 680
، والعکس فی کل حالة ...
ا - یجوز إبدال الظاهر من الظاهر ؛ کالأمثلة السابقة بأحکامها المختلفة. ویصح إبدال الظاهر من ضمیر الغائب بدل کل ، أو بعض ، أو : اشتمال ، أو مباینة (1). نحو : وقفت أمام الدار أترقب القادمین. فلما أقبلوا الضیوف صافحتهم فی بشر وابتهاج. فکلمة «الضیوف» بدل کل من کل : «هو الفاعل (2) ، واو الجماعة». ونحو : وقفت أترقب الأضیاف الخمسة فأقبلوا أربعة منهم ... فکلمة «أربعة» بدل بعض ، أی : من الفاعل (3) «واو الجماعة». أو : فأقبلوا حقائبهم .. «فحقائب» بدل اشتمال من الواو ... أو : فأقبلوا حقائبهم. علی اعتبار أن «حقائب» بدل غلط ، أو نسیان ، أو إضراب - فالبدل بأنواعه المختلفة یقع صحیحا من ضمیر الغائب ، ولا مانع یمنع منه.
فإن لم یکن الضمیر لغائب بأن کان لحاضر (أی : لمتکلم ، أو لمخاطب) جاز مجیء البدل منه بشرط أن یکون الاسم الظاهر إمّا بدل کلّ من کلّ یفید الإحاطة والشمول والبیان کقوله تعالی : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَیْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَکُونُ لَنا عِیداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا ...)(4) ، فکلمة «أول» بدل «کل» من الضمیر «نا» المجرور باللام ، ولذلک أعید جوازا مع البدل عامل الجر ، وهو هنا : «اللام» ، مجاراة للمبدل منه. ومثله : تسابقتم ثلاثتکم. فکلمة : «ثلاثة» بدل کل من کل ، من التاء (5) ....
ص: 681
وإما بدل بعض من کل ؛ کقول المریض بأذنه مثلا : عالجنی الطبیب أذنی. فکلمة «أذن» بدل بعض من کل ، (هو : یاء المتکلم) ونحو أعجبتنی أسنانک. فکلمة : «أسنان» بدل بعض من ضمیر المخاطب (التاء).
وإما بدل اشتمال کقول الشاعر :
بلغنا السماء مجدنا وثناؤنا
وإنا لنرجو فوق ذلک مظهرا
فکلمة : «مجدنا» بدل اشتمال من ضمیر المتکلمین : «نا» ؛ ونحو : أرضیتنی کلامک ، «فکلام» بدل اشتمال من ضمیر المخاطب (التاء).
ب - ولا یجوز إبدال ضمیر من ضمیر ، ولا ضمیر من ظاهر (1) ، فالضمیر : أنت فی مثل «قمت» أنت ، ورأیتک أنت ، ومررت بک أنت - یعرب توکیدا لفظیّا ، وکذلک یعرب الضمیر «إیاک» فی مثل : رأیتک إیاک. ولا یصح فی مثل : رأیت محمدا إیاه ، إعراب الضمیر «إیاه» بدلا من الاسم الظاهر ؛ لأن هذا الترکیب فاسد فی رأی النحاة ؛ إذ لم یسمع له عن العرب نظیر (2) ......
ص: 682
: بدل التفصیل.
قد یکون «المبدل منه» اسم استفهام ، (ویسمی : «المضمّن معنی همزة الاستفهام» (1)) وقد یکون اسم شرط (ویسمی : المضمن معنی حرف الشرط. «إن») فإذا اقتضی الأمر بدلا یفصّل ذلک المضمون المعنوی المجمل ظهر فی الحالة الأولی مع البدل حرف الاستفهام : «الهمزة» ، وفی الحالة الثانیة حرف الشرط : «إن» لیوافق البدل المبدل منه فی تأدیة المعنی. وهذا بشرط ألا یظهر حرف الاستفهام ولا حرف الشرط مع المبدل منه ...
والاستفهام الذی یتضمنه المتبوع قد یکون عن الکمیة (2) ، أو عن الذات ، أو عن معنی من المعانی. فمثال الاستفهام عن الکمیة : کم کتبک؟ أمائة أم مائتان؟ «فمائة» بدل من «کم» بدل تفصیل للمعنی العددیّ.
ومثال الاستفهام عن الذات : من شارکت؟ أکاملا أم منصورا؟ «فکاملا» بدل تفصیل من کلمة : «من».
ص: 683
ومثال الاستفهام عن المعنی : ما تقرأ؟ أجیدا أم ردیئا؟ فجیدا بدل تفصیل من : «ما».
وإنما تضمّن البدل همزة الاستفهام لیوافق متبوعه الذی هو اسم یتضمن معنی همزة الاستفهام من غیر تصریح بأداة الاستفهام الحرفیة - کما أسلفنا - ؛ فلا تجیء الهمزة فی مثل : هل أحد جاءک ؛ محمد أو علی ، بسبب التصریح بحرف الاستفهام.
والشرط الذی یتضمنه المتبوع قد یکون للعاقل أو غیره ، وللزمان أو المکان. فمثال الشرط للعاقل : من یجاملنی - إن صدیق وإن عدوّ - أجامله. فکلمة : «صدیق» بدل تفصیل من کلمة «من» الشرطیة. وإن» الشرطیة الظاهرة فی الکلام لیس لها من الشرط إلا اسمه ؛ فلا تجزم ، ولا تعمل شیئا ، وإنما تفید مجرد التفصیل ؛ ولذا تسمی : «إن التفصیلیة».
ومثال الشرط لغیر العاقل : ما تقرأ ، إن جیّدا وإن ردیئا ، تتأثر به نفسک. فکلمة : «جیدا» بدل من کلمة : «ما» و «إن» المذکورة فی الجملة لا أثر لها إلا فی إفادة التفصیل ، کما سبق.
ومثال الشرط الدالّ علی الزمان : متی تزرنی - إن غدا وإن بعد غد - أسعد بلقائک. فکلمة «غدا» بدل من «متی» ، وکلمة : «إن» للتفصیل.
وإنما قرن البدل فی کل ما سبق بالحرف : «إن» لیکون موافقا لاسم الشرط المتبوع الذی یتضمن معنی هذا الحرف من غیر أن یذکر صریحا (1).
فلا یصح مجیء «إن» فی مثل : إن تساعد أحدا محمدا أو علیّا أساعده. هذا وبدل التفصیل (2) نوع من بدل الکل من الکل لا یحتاج إلی رابط.
ص: 684
1 - یبدل الفعل من الفعل بدل کل من کل بشرط اتحادهما فی الزمان ولو لم یتحدا فی النوع (1) ، وأن یستفید المتبوع من ذلک زیادة بیان ؛ کقوله تعالی (2) : (وَمَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ یَلْقَ أَثاماً ، یُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ.) فالفعل : «یضاعف» بدل کلّ من الفعل : «یلق» لأن مضاعفة العذاب هی البیان الذی یزید معنی الفعل : «یلق» وضوحا ، ویکشف المراد منه.
وجزم الفعل : «یضاعف» دلیل علی أنه البدل وحده دون فاعله ، وأن البدل بدل مفردات ، لا جمل (3).
2 - ویبدل الفعل من الفعل للدلالة علی الجزئیة : إن تصلّ تسجد لله یرحمک. فالفعل : «تسجد» بدل من تصلّ ، والسجود جزء من الصلاة لا تتحقق إلا به.
3 - ویبدل الفعل من الفعل بدل اشتمال ؛ مثل : إنی لن أسیء إلی الحیوان
ص: 685
الألیف ، أزعجه. فالفعل «أزعج» بدل اشتمال من «أسیء». ومثله :
إنّ علیّ الله أن تبایعا (1)
تؤخذ کرها أو تجیء طائعا
فالفعل : «تؤخذ» بدل اشتمال من : «تبایع» ، لأن الأخذ کرها هو صفة من صفات کثیرة تشملها المبایعة.
4 - ویبدل الفعل من الفعل للإضراب ، أو الغلط ، أو النسیان ، فی مثل : إن تطعم المحتاج ، تکسه ثوبا ، یحرسک.
والذی یدل فی کل ما سبق - وأشباهه - علی أن البدل بدل مفردات لا بدل جمل ، هو مشارکة الفعل التابع لمتبوعه فی نصبه أو جزمه (2).
ب - أما الجملة فتبدل من الجملة بدل کل من کل - علی الصحیح - بشرط أن تکون الثانیة أوفی من الأولی فی بیان المراد ، وتأدیته ... نحو : اقطع قمح الحقل ، احصده.
وتبدل بدل «جزء من کل» لإفادة البعضیة ؛ کقوله تعالی : (أَمَدَّکُمْ بِما تَعْلَمُونَ ؛ أَمَدَّکُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِینَ وَجَنَّاتٍ وَعُیُونٍ)، فجملة : «أمدّکم» الثانیة أخص من الأولی ؛ لأن «ما تعلمون» یشمل الأنعام ، والبنین ، والجنات ، والعیون ، وغیرها.
وتبدل بدل اشتمال ؛ کقول الشاعر :
أقول له ارحل. لا تقیمنّ عندنا
وإلا فکن فی السّرّ والجهر مسلما
فجملة : «لا تقیمن» بدل اشتمال من جملة «ارحل» ؛ لما بینهما من المناسبة ؛ إذ یلزم من الرحیل عدم الإقامة.
وتبدل بدل غلط ؛ مثل : اجلس ، قف ... و ....
ص: 686
ولا یشترط فی بدل الجملة بأنواعه المختلفة ولا فی بدل الفعل من الفعل أن یشتمل علی ضمیر ؛ إذ من المتعذر أن یعود ضمیر علی جملة ، کما یتعذر فی. بدل الفعل وحده من الفعل.
هذا وقد أشرنا إلی أن الفعل التابع یتبع المبدل منه فی إعرابه لفظا وتقدیرا. أما الجملة فتتبع المتبوعة فی محلها إن کان لها محل. فإن لم یکن للمتبوعة محل فتسمیة الجملة الثانیة بالتابعة هی تسمیة مجازیة ، أساسها التوسع فقط .... وقد تبدل الجملة من المفرد ، والعکس ، بدل کلّ من کلّ - وهذان النوعان نادران - کقول الشاعر :
إلی الله أشکو بالمدینة حاجة
وبالشام أخری کیف یلتقیان
فجملة : «کیف یلتقیان» بدل من : «حاجة» ؛ لأنّ کیفیة الالتقاء هی الحاجة التی یشکو منها. وإنما صح البدل هنا لأن الجملة بمنزلة المفرد (1) إذ التقدیر : إلی الله أشکو هاتین الحاجتین تعذّر اجتماعهما ؛ فلابد من تأویل الجملة بالمفرد لیمکن إعرابها بدلا. ومثال العکس : «الحمد لله الذی أنزل علی عبده الکتاب ، ولم یجعل له عوجا قیّما) ، فکلمة : قیّما» بدل من جملة : «لم یجعل عوجا» ، لأنها فی معنی المفرد ، أی : جعله مستقیما.
ص: 687
ا - یری بعض النحاة أنه یجوز إبدال الفعل من اسم یشبهه ، والعکس ویمثل لهذا بنحو : محمد متّق ، یخاف ربه. أو محمد یخاف ربّه متّق ، لکن الأوضح اعتبار هذا خبرا بعد خبر (1). ما لم یمنع مانع آخر.
ب - سبق الکلام علی الفصل بین التوابع ومتبوعاتها - ومنها البدل والمبدل منه - فی أول النعت (2)
ص: 688