سرشناسه : حسن، عباس
عنوان و نام پدیدآور : النحو الوافی مع ربطه بالا سالیب الرفیعه و الحیاه اللغویه المتجدده/ تالیف عباس حسن.
مشخصات نشر : تهران : ناصرخسرو، 1422ق.= 1380.
مشخصات ظاهری : 4 ج.
مندرجات : ج. 1. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 2. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 3. القسم الموجز للطلبه الدداسات النحویه و الصرفیه بالجامعات و المفصل للاساتذه و المتخصصین مشتمل علی ضوابط و الاحکام التی قررتها الجامع اللغویه و موتمراتها الرسمیه .-- ج. 4. القسم الموجز للطلبه الدراسات النحویه بالجامعات و المفصل للاسائذه و المتخصصین
موضوع : زبان عربی -- نحو
رده بندی کنگره : PJ6151/ح 45ن 31380
رده بندی دیویی : 492/75
شماره کتابشناسی ملی : م 68-685
توضیح : «النحو الوافی»، تألیف عباس حسن، از جمله آثار معاصر در موضوع علم نحو است که به شیوه ای آموزشی، در چهار مجلد به زبان عربی تألیف شده است.کتاب، مشتمل بر یک مقدمه و چهار جزء است. ابواب کتاب، بنا بر ترتیبی که ابن مالک در «الفیه» انتخاب کرده و بسیاری از نحویون پس از او اختیار کرده اند، مرتب شده است.
نویسنده در تألیف کتاب، به شیوه آموزشی معینی ملتزم نبوده و به تناسب از شیوه های استنباطی، القائی و محاوره ای استفاده کرده است.همچنین در پاورقی پس از بیان قاعده و شرح آن، ابیاتی از الفیه را که مرتبت با بحث بوده نقل کرده و به طور خلاصه توضیح داده است.
در مواردی که بین یک مبحث از صفحات پیشین یا پسین رابطه ای با مسئله مورد بحث بوده، به صفحه آن بحث اشاره شده است.
ص: 1
ص: 2
الکلام عنوان علی صاحبه - علمت الکلام عنوانا علی صاحبه المجاملة حارسة للصّداقة - ظننت المجاملة حارسة للصداقة الوفاء دلیل علی النّبل - اعتقدت الوفاء دلیلا علی النبل ... الماء الجامد ثلج - صیّر البرد الماء ثلجا الجلد أسود - ردّت (2) الشمس الجلد أسود الخشب مشتعل - ترکت النار الخشب رمادا من النواسخ ما یدخل - فی الغالب - علی المبتدأ والخبر فینصبهما معا (3) ، ویغیر اسمهما ؛ إذ یصیر اسم کل منهما : «مفعولا به (4)» للناسخ. (مثل : علم. ظنّ - اعتقد - صیّر ...) وغیرها من الکلمات التی تحتها خطّ فی الأمثلة المعروضة. وهذا هو : «القسم الثالث» من النواسخ. ویشتهر باسم : «ظنّ وأخواتها» ولیس فیه حروف ؛ فکله أفعال ، أو أسماء تعمل عملها. وتنحصر هذه الأسماء فی مصادر تلک الأفعال ، وفی بعض المشتقات العاملة عملها.
ص: 3
فالفعل الماضی المتصرف (1) هنا ، لا ینفرد وحده بالعمل السالف ؛ وإنما یشابهه فیه ما قد یکون له من مضارع ، وأمر ، ومصدر ، واسم فاعل. واسم مفعول ، دون بقیة المشتقات (2) الأخری. أما غیر المتصرّف فعمله مقصور علی صیغته الخاصة ؛ إذ لیس لها فروع ، ولا صیغ أخری تتصل بها.
وقد ارتضی بعض النحاة تقسیم الأفعال العاملة هنا قسمین ؛ مراعیا الأغلب فی استعمالها (3) ؛ هما : «أفعال قلوب» (4) ، و «أفعال تحویل» (5). ولا بد لکل فعل فی القسمین من فاعل (6) ؛ ولا یغنی عنه وجود المفعولین أو أحدهما :
ص: 4
(أ) فأما أفعال القلوب (1) فمنها ما قد یکون معناه العلم. (أی : الدلالة علی الیقین (2) والقطع) ، ومنها ما قد یکون معناه الرّجحان (3). ویشتهر من الأولی سبعة (4) :
1- علم (5) ؛ مثل : علمت البرّ سبیل المحبة. وعلمت المحبة سبیل القوة.
2- رأی (6) ؛ مثل : رأیت الأمل داعی العمل ، ورأیت الیأس رائد الإخفاق ، وقول الشاعر :
رأیت لسان المرء وافد (7)
عقله
وعنوانه ؛ فانظر بماذا تعنون
3- وجد ؛ مثل : وجدت ضعاف الأمم نهبا لأقویائها ، ووجدت العلم أعظم أسباب القوة.
4- دری ؛ مثل : دریت المجد قریبا من الدائب فی طلبه ، ودریت لذة إدراکه ماحیة تعب السعی إلیه.
ص: 5
5- ألفی (1) ؛ مثل : ألفیت الشدائد صاقلة للنفوس ، وألفیت احتمالها سهلا علی کبار العزائم.
6- جعل ؛ مثل : جعلت (2) الإله واحدا ، لا شکّ فیه.
7- تعلّم (3) ؛ بمعنی «اعلم» : مثل : تعلّم وطنک شرکة بین أبنائه ، وتعلّم نجاح الشرکة رهنا بالإخلاص والعمل.
ویشتهر من الثانیة ثمانیة (4) :
1- ظن ؛ مثل : ظنّ الطیار النهر قناة ، وظن البیوت الکبیرة أکواخا.
2- خال (5) ؛ مثل : خال المسافر الطیارة أنفع له ، وهو یخال الرکوب فیها متعة.
3- حسب ؛ مثل : أحسب السهر الطویل إرهاقا ، وأحسب الإرهاق سبیل المرض ، وقول الشاعر :
لا تحسبنّ الموت موت البلی
وإنما الموت سؤال الرجال (6)
ص: 6
4- زعم (1) ؛ مثل : زعمت الملاینة مرغوبة فی مواطن ، وزعمت التشدد مرغوبا فی أخری.
5- عدّ ؛ مثل : عددت الصدیق أخا. وقول الشاعر :
فلا تعدد المولی (2)
شریکک فی الغنی
ولکنما المولی شریکک فی العدم (3)
6- حجا ؛ مثل : حجا السائح المئذنة برج مراقبة.
وقول الشاعر :
قد کنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة
حتی ألمّت بنا یوما ملمّات
7- جعل ؛ مثل : جعل الصیاد السمکة الکبیرة حوتا. وقوله تعالی فی المشرکین : (وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...)(4)
8- هب ؛ مثل : هب مالک سلاحا فی یدک ؛ فلا تعتمد علیه وحده.
ص: 7
وهذا الفعل دون بقیة أفعال الرجحان - جامد ، ملازم صیغة الأمر (1).
* * *
(ب) وأما أفعال التحویل (أو : التّصییر) فأشهرها سبعة ، ولا تدخل علی مصدر مؤول من «أنّ» مع معمولیها ، أو «أن» والفعل وفاعله (2) ...
1- صیّر ؛ مثل : صیّر (3) الصائغ الذهب سبیکة ، وصیّر السبیکة سوارا.
2- جعل ؛ مثل : جعل الغازل القطن خیوطا ، وجعل الحائک الخیوط نسیجا.
وقول الشاعر :
اجعل شعارک رحمة ومودة
إن القلوب مع المودة تکسب
3- اتّخذ ؛ مثل : اتخذ المهندسون الحدید والخشب باخرة ، واتخذ المسافرون الباخرة فندقا.
4- تخذ ؛ مثل : تخذت الحرارة الثلج ماء ، وتخذت الماء بخارا.
5- ترک ؛ مثل : ترک الموج الصخور حصی ، وترکت الشمس الحصی رمالا.
6- ردّ ؛ مثل : ردّ الأمل الوجوه الشاحبة مشرقة ، ورد النفوس الیائسة مستبشرة.
ص: 8
7- وهب ؛ مثل : وهبت الآلات الحدیثة السنابل حبّا ، ووهبت الحبّ دقیقا ، ووهبت الدقیق عجینا (1).
وفیما یلی بیان موجز للأفعال السابقة (2) ، وأنواعها المختلفة :
ص: 9
(ا) لیس من اللازم - کما أشرنا (1) - أن یکون المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر حقیقة ، بل یکفی أن یکون أصلهما کذلک ولو بشیء من التأویل المقبول ، کالشأن فی أفعال التحویل ، وکالشأن فی : «حسب» ؛ مثل : صیرت الفضة خاتما ؛ إذ لا یصح المعنی بقولنا : الفضة خاتم ؛ لأن الخبر هنا لیس المبتدأ فی المعنی ؛ فلیست الفضة هی الخاتم ، ولیس الخاتم هو الفضة ؛ إلا علی تقدیر أن هذه الفضة ستئول (2) إلی خاتم. ومثل : حسبت المرّیخ الزّهرة ؛ إذ لا یقال : المرّیخ الزّهرة ؛ لفساد المعنی کذلک ؛ فلیس أحدهما هو الآخر ، إلا علی ضرب من التشبیه ، أو نحوه من التأویل السائغ ، المناسب للتعبیر. فالأول (أی : التشبیه) قد جعل المفعول الثانی بمنزلة ما أصله الخبر ، وإن لم یکن خبرا حقیقیّا فی أصله.
هذا کلامهم. والواقع أنه لا داعی لهذا التمحل ، والتماس التأویل ؛ إذ یکفی أن یکون فصحاء العرب قد أدخلوا النواسخ علی ما أصله المبتدأ والخبر حقیقة ، وعلی ما لیس أصله المبتدأ والخبر ، مما یستقیم معه المعنی.
(ب) لیس من اللازم أن تدخل أفعال هذا الباب القلبیة علی المبتدأ والخبر مباشرة ؛ فقد تدخل علی «أنّ» مع معمولیها ، أو : علی «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فیکون المصدر المؤول سادّا مسد المفعولین (3) ، مغنیا عنهما. مثل : علمت
ص: 11
أن السباحة أسلم من الملاکمة ، وأظن أن العاقل یختار الأسلم. وقول الشاعر :
یری الجبناء أن الجبن حزم
وتلک خدیعة الطبع اللئیم
ومثل : دریت أن الکبر بغیض إلی النفوس الکبیرة ، ووجدت أن صغائر الأمور محببة إلی النفوس الصغیرة. ومثل : من زعم أن یخدع الناس فهو المخدوع ، ومن حسب أن یدرک غایته بالتمنی فهو مخبول (1).
أما أفعال التحویل فلا تدخل علی «أنّ» ومعمولیها ، ولا علی «أن» والفعل مع فاعله.
(ح) جری بعض النحاة علی تقسیم الأفعال القلبیة السابقة أربعة أقسام ، بدلا من اثنین :
فللیقین وحده خمسة : وجد - تعلم ، بمعنی : اعلم - دری - ألفی - جعل.
وللرجحان وحده خمسة : جعل - حجا - عدّ - زعم - هب ، بمعنی : ظنّ.
وللأمرین والغالب الیقین ، اثنان : رأی - علم.
وللأمرین والغالب الرجحان ، ثلاثة : ظنّ - خال - حسب.
لکن التقسیم الثنائی أنسب ؛ لأنه أدمج القسم الثالث فی الأول ، والرابع فی الثانی ؛ نظرا للغالب علیهما ، وتقلیلا للأقسام (2) ، واکتفاء بالإشارة إلی أن کل فعل قد یستعمل فی معنی آخر غیر ما ذکر له ، مع ضرب أمثلة لذلک. فمن أفعال الیقین وألفاظه ما قد یستعمل فی الرجحان ؛ فینصب مفعولین أیضا ، وقد
ص: 12
یستعمل فی بعض المعانی الأخری ؛ فینصب مفعولا به واحدا ، أو لا ینصب ؛ فیکون لازما. کل ذلک علی حسب معناه اللغوی الذی تدل علیه المراجع اللغویّة الخاصة ، ولیس هنا موضع استقصاء تلک المعانی ؛ وإنما نسوق بعضها :
فمن الأمثلة : الفعل «علم» ؛ فإنه ینصب المفعولین حین یکون بمعنی : اعتقد وتیقن : - کما سبق - ؛ مثل : علمت الکواکب متحرکة. وقد یکتفی بمفعول به واحد فی هذه الحالة ؛ بأن نأتی بمصدر المفعول الثانی ، وننصبه مفعولا به ، ونکتفی به ، بعد أن نجعله مضافا أیضا ، ونجعل المفعول الأول هو المضاف إلیه. فنقول : علمت تحرّک الکواکب ، فیستغنی عن المفعول الثانی وعن تقدیره. ومن النحاة من لا یقصر هذا الحکم علی «علم» ؛ بل یجعله عامّا فی جمیع أفعال هذا الباب ؛ فیجیز إضافة مصدر المفعول الثانی إلی المفعول الأول ، والاکتفاء بهذا المصدر مفعولا واحدا (1).
وقد یکون بمعنی : «ظن» فینصب مفعولین أیضا ؛ مثل : أعلم الجوّ باردا فی الغد. فإن کان بمعنی : «عرف» نصب مفعولا به واحدا (2) :
ص: 13
مثل : علمت الخبر ؛ أی : عرفته (1). وإن کان بمعنی : «انشقّ» لم ینصب مفعولا به ؛ مثل : علم البعیر (2) ، أی : انشقت شفته العلیا ...
والفعل : «رأی» ینصب المفعولین إذا کان بمعنی : اعتقد وتیقّن ، أو : بمعنی : «ظنّ». وقد اجتمع المعنیان فی قوله تعالی عن منکری البعث ویوم القیامة : «إنهم یرونه بعیدا ، ونراه قریبا» (3). فالفعل الأول بمعنی : «الظن» ، والثانی بمعنی : الیقین. وکلاهما نصب مفعولین. وکذلک إن کان معناه مأخوذا من : «الحلم» (أی : دالا علی الرؤیا المنامیة) نحو : کنت نائما ؛ فرأیت صدیقا
ص: 14
مسرعا إلی القطار (1).
فإن کان معناه الفهم وإبداء الرأی فی أمر عقلیّ فقد ینصب مفعولا به واحدا ، أو مفعولین ، علی حسب مقتضیات المعنی ؛ مثل : یختلف الأطباء فی أمر القهوة ؛ فواحد یراها ضارّة ، وآخر یراها مفیدة إذا خلت من الإفراط. أو : واحد یری ضررها ، وآخر یری إفادتها.
وکذلک ینصب مفعولا به واحدا إن کان معناه : أبصر بعینه ؛ مثل : رأیت النجم وهو یتلألأ. وقول الشاعر :
إنّ العرانین تلقاها محسّدة
ولن تری للئام الناس حسّادا
أو : کان معناه أصاب : الرئة ؛ مثل انطلق السهم فرأی الغزال ؛ أی : أصاب رئته.
وقد أشرنا قریبا (2) إلی أن الأسالیب العالیة یتردد فیها الماضی : «رأی» - دون المضارع ، والأمر ، والمشتقات الأخری - مسبوقا بأداة استفهام. ومعناه : «أخبرنی» ؛ نحو : أرأیتک هذا القمر ، أمسکون هو؟ وینصب مفعولا به ، أو مفعولین ، علی حسب المراد. وأوضحنا الأمر بإسهاب فیما سبق (3).
کذلک یتردد فی تلک الأسالیب وقوع المضارع : «أری» مبنیّا للمجهول
ص: 15
- غالبا - علی حسب السماع ، وناصبا للمفعولین (1) ؛ لأن معناه : «أظنّ» الدال علی الرجحان ؛ نحو : کنت أری الرحلة متعبة ، فإذا هی سارّة.
ص: 16
ولا یکون معناه فی الفصیح الوارد : «أعلم» ؛ الدّال علی الیقین ، بالرغم من أنّ الماضی : «أریت» المبنی للمجهول والمسند للضمیر : «التاء» - لا یستعمل فی الأکثر إلا بمعنی : «أعلمت» المفید للیقین ؛ مثل : أریت الخیر فی مقاومة الباطل.
وکذلک یتردد فی بعض الأسالیب المسموعة وقوع المضارع : «تری» قد حذف آخره ، وقبله الحرف : «لا» ، أو : «لو» ، وبعده «ما» الموصولة فی الحالتین. ومعناه فیهما : «لا سیّما» ، مثل : کرّمت الضیوف ، لا تر ما علیّ - أو : کرّمت الضیوف لو تر ما علیّ. والمعنی ولا سیما علیّ (1) ...
والفعل : «وجد» قد یکون بمعنی : «لقی ، وصادف» ؛ فینصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : وجدت القلم. وقد یکون بمعنی «استغنی» ، فلا یحتاج لمفعول ؛ نحو : وجد الأبیّ بعمله.
والفعل : «دری» قد ینصب المفعولین کما سبق ، والأکثر استعماله لازما
ص: 17
مع تعدیته إلی مفعوله بحرف الجر : «الباء» ؛ نحو : «دریت بالخبر السارّ. فإن سبقته همزة التعدیة نصب بنفسه مفعولا آخر مع المجرور ؛ نحو : قد أدریتک بالخبر السارّ (1). وکذلک إن کان بمعنی : «ختل» (أی : خدع) نحو : دریت الصید ؛ بمعنی : ختلته وخدعته.
والفعل : «تعلّم» ینصب المفعولین حین یکون جامدا بمعنی : «اعلم». فإن کان مشتقّا بمعنی : «تعلّم» نصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : تعلّم فنون الآداب (2).
والفعل : «ألفی» قد یکون بمعنی : «وجد» و «لقی» فینصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : غاب عصفوری ، ثم ألفیته.
ومن أفعال الرجحان ما قد یستعمل فی الیقین ؛ فینصب المفعولین أیضا. وقد یستعمل فی بعض المعانی اللغویة الأخری ؛ فینصب بنفسه مفعولا واحدا ؛
ص: 18
أو لا ینصبه ؛ وذلک علی حسب ما ترشد إلیه اللغة. ومن أمثلة ذلک الفعل : «خال» فمعناه الیقین فی نحو : إخال الظلم بغیضا إلی النفوس الکریمة. وکذلک الفعل «ظن» فی نحو : أظنّ الله منتقما من الجبارین. والفعل : «حسب» فی نحو : حسبت المال وقایة من ذل السؤال. فإن کان «حسب» (1) بمعنی : «عدّ» نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : حسبت النقود التی معی. أی : عددتها وإن کان معناه صار ذا بیاض ، وحمرة ، وشقرة - کان لازما ؛ نحو : حسب الغلام ... و...
والفعل : «جعل» إن کان بمعنی : «أوجد» أو بمعنی : «فرض وأوجب» - نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : جعل الله الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وسائر المخلوقات ؛ أی : أوجدها وخلقها ، ونحو : جعلت للحارس أجرا (2) ، بمعنی فرضت له ، وأوجبت علیّ ... والفعل : «هب» ینصب مفعولا به واحدا إن کان أمرا من الهبة ؛ نحو : هب بعض المال لأعمال البرّ (3). أو أمرا من الهیبة ؛ نحو : هب ربّک فی کل ما تقدم علیه من عمل ... وهکذا (4) ....
ص: 19
یشترط لإعمال هذه النواسخ بنوعیها القلبیّ والتحویلیّ ، أن یکون المبتدأ الذی تدخل علیه صالحا للنسخ علی الوجه الذی سبق تفصیله وتوضیحه عند بدء الکلام علی النواسخ (1). وملخصه : أن النواسخ بأنواعها المختلفة لا تدخل علی شیء مما یأتی :
(ا) المبتدأ الذی له الصدارة الدائمة فی جملته ؛ بحیث لا یصح أن یسبقه منها شیء. ومن أمثلته : أسماء الشرط - أسماء الاستفهام - کم الخبریة - المبتدأ المقرون بلام الابتداء ... (نحو : من یکثر مزحه تضع هیبته. من ذا الذی ما ساء قط؟ کم من فئة قلیلة غلبت فئة کثیرة بإذن الله. لکلمة حقّ فی وجه حاکم ظالم أفضل عند الله من اعتکاف صاحبها فی المسجد).
ویستثنی من هذا النوع الذی له الصدارة فی جملته - ضمیر الشان (2) فیجوز أن تدخل علیه النواسخ بأقسامها المختلفة ؛ نحو حسبته «الحقّ واضح».
لکن تختص النواسخ فی هذا الباب - دون غیرها من النواسخ - بجواز دخولها علی المبتدأ الذی هو اسم استفهام ، أو المضاف إلی اسم استفهام. وإذا دخلت علی أحدهما وجب تقدیمه علیها ؛ نحو : أیّا ظننت أحسن؟ وغلام أیّ حسبت أنشط؟
ولا تدخل علی أحدهما «کان» ولا «إن» ولا أخواتهما ؛ منعا للتعارض ؛ إذ الاسم فی بابی «کان» و «إنّ» وأخواتهما لا یصح تقدیمه علی الناسخ. فلو وقع الاسم أحدهما لامتنع تقدیمه علی الناسخ ؛ تطبیقا لهذا الحکم ، مع أن الاستفهام لا بد أن یتقدم (3).
ص: 20
(ب) المبتدأ الملازم للابتداء بسبب غیره ؛ کالاسم الواقع بعد «لو لا» ؛ الامتناعیة ، أو بعد «إذا» الفجائیة ؛ فإنه لا یکون إلا مبتدأ ؛ إذ لا یصح - فی الرأی الأشهر - دخول أحدهما علی غیر المبتدأ ؛ نحو : لو لا العقوبة لزادت الجرائم. ونحو ؛ فتحت الکتاب ؛ فإذا الصّور فاتنة.
(ح) المبتدأ الذی یجب حذفه بشرط أن یکون أصل خبره نعتا مقطوعا (1) ؛ نحو : شکرا للمتعلم ، النافع العزیز (أی : هو النافع العزیز).
(د) کلمات معینة لم ترد عن العرب إلا مبتدأ. ومنها : «ما» التعجبیة ، وکلمة : «طوبی» ؛ (بمعنی : الجنة) وکلمة : درّ (2) ، وکلمة : أقلّ ... وذلک فی نحو : ما أجمل الهواء سحرا!! ، وما أطیب الریاضة عصرا!! طوبی للشهداء ، ولله درّهم (3)!! وأقلّ (4) رجل ینکر فضلهم.
ص: 21
ومثل بعض ألفاظ الدعاء ؛ ومنها (1) : سلام - ویل ؛ فی نحو : سلام علی الأحرار ، وویل للجبناء.
* * *
لا ترتیب فی هذا الباب بین الناسخ ومعمولیه ؛ فیجوز - لغرض بلاغی - أن یتقدم علیهما معا ، أو یتأخر عنهما ، أو یتوسط بینهما. لکن یترتب علی کل حالة أحکام سیجیء تفصیلها قریبا (2). فمثال تقدّم الناسخ علیهما : یظنّ الجاهل السراب ماء. ومثال تأخره عنهما : السراب ماء یظن الجاهل. ومثال توسطه بینهما : السراب یظن الجاهل ماء ، أو : ماء یظن الجاهل السراب.
أما الترتیب بین المفعولین وتقدیم أحدهما علی الآخر دون الناسخ فحکمه حکم الترتیب بین أصلهما المبتدأ والخبر قبل دخول الناسخ علیهما ؛ فما ثبت لأصلهما یثبت لهما من غیر اعتبار لوجود الناسخ. ویترتب علی هذا أن یکون المفعول الأول واجب التقدیم علی المفعول الثانی فی کل موضع یجب فیه تقدیم المبتدأ علی الخبر ، وأن یکون المفعول الثانی واجب التقدیم علی المفعول الأول فی کل موضع یجب فیه تقدیم الخبر علی المبتدأ ، وأن یکون تقدیم أحدهما علی الآخر جائزا فی کل موضع یجوز فیه تقدیم المبتدأ أو الخبر بغیر ترجیح. فلا بد من مراعاة الأصل (3) فی ناحیة التقدیم والتأخیر ، وتطبیقه علی الفرع تطبیقا مماثلا. ففی مثل : حسبت أخی شریکی ، یجب الترتیب ؛ بتقدیم المفعول الأول وتأخیر الثانی ؛ منعا لوقوع لبس لا یمکن معه تمییز الأول من الثانی ؛ فیلتبس المعنی تبعا لذلک. وفی مثل : علمت الکلب حارسا أمینا ، یجب تقدیم المفعول الثانی عند إرادة الحصر فی الأول ؛ فنقول : ما علمت حارسا أمینا إلا الکلب. أی : أنه لا حارس أمینا سواه. وفی مثل : ظننت القطّ البرّیّ (4) ثعلبا ، یجوز تقدیم المفعول الثانی ؛ فتقول :
ص: 22
ظننت ثعلبا القطّ البرّیّ ؛ إذ لا مانع یمنع تقدیم أحدهما علی الآخر ... وهکذا تجب مراعاة الأحکام الخاصة بالترتیب بین المبتدأ والخبر ، وتطبیقها هنا ، عند النظر فی الترتیب بین المفعولین (1).
* * *
تنفرد النواسخ القلبیة بخمسة أحکام ، منها حکم واحد مشترک بینها جمیعا ، سواء أکانت متصرفة أم جامدة. وهذا الحکم هو : تنوّع مفعولها الثانی. أما الأحکام الأربعة الأخری فمقصورة علی القلبیة المتصرفة ، دون الجامدة ، - وغیرها - وسیجیء لهذه الأربعة بحث مستقل (2).
(ا) فأما تنوع المفعول الثانی الذی أشرنا إلیه فلأنه خبر فی الأصل ؛ فهو ینقسم إلی مثل ما ینقسم إلیه الخبر ؛ من مفرد (3) ، وجملة (4) ، وشبه جملة (5) ؛ فلیس من اللازم فی المفعول الثانی أن یکون مفردا ، وإنما اللازم أن یکون الفعل الناسخ قلبیّا متصرفا أو غیر متصرف (6) ؛ کما فی الأمثلة الآتیة ، ومن المهم التنبه لإعراب کل قسم. ولا سیما الجملة وشبهها :
ص: 23
الجملة مشتملة علی الفعل القلبی
ومفعولیه
المفعول الثانی
نوعه
إعرابه
علمت الریاء داء وبیلا.
داء
مفرد
مفعول ثان منصوب
أحسب النفاق مزریا بصاحبه.
مزریا
مفرد
مفعول ثان منصوب
زعمت الکذب سوء أدب
سوء
مفرد
مفعول ثان منصوب
أری الفضل یعرفه أهله
(یعرف*)
جملة فعلیة.
فعل مضارع ، فاعله ضمیر مستتر تقدیره : هو والجملة
فی محل نصب (1) تسد مسد المفعول الثانی.
تعلم (اعلم) الفرصة تضیع بالتوانی
(تضیع*)
جملة فعلیة
فعل مضارع ، فاعل ، ضمیر مستتر تقدیره هو والجملة
فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.
وجدت التوفیق حالف أهل الإجادة
(حالف*)
جملة فعلیة.
فعل ماض ، فاعله ضمیر مستتر تقدیره : هو. والجملة
فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.
ألفیت الإذاعة هی المنبر العام ،
هی المنبر
جملة اسمیة
هی : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع. المنبر خبره
الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.
إخال سلطان الضمیر هو السلطان الأکبر
هو السلطان
جملة اسمیة
هو : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع. السلطان
خبره الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی
أظن المجد هو هدف العظیم.
هو هدف
جملة اسمیة
هو : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع ، هدف : خبره
الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.
دریت الصدیق عند الشدة
عند
ظرف منصوب
متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد
مسد المفعول الثانی (2).
جعلت الکتاب معک.
مع
ظرف منصوب
متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد
مسد المفعول الثانی.
أعلم قوة الحق فوق طغیان الباطل.
فوق
ظرف منصوب
متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد
مسد المفعول الثانی.
.
أحسب الخیر فی مجانبة أهل السوء
فی مجانبة
جار مع مجروره
متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی. أو الجار مع
مجروره سد مسد المفعول الثانی (3).
أری السعادة فی عمل الخیر.
فی عمل
جار مع مجروره
متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الجار مع
مجروره سد مسد المفعول الثانی. متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الجار مع
مجروره سد مسد المفعول الثانی.
علمت العفو من دواعی التآلف.
من دواعی ...
جار مع مجروره
ص: 24
عرفنا (2) أن الأفعال القلبیة متصرفة ، إلا فعلین ؛ هما : «تعلّم» (3) بمعنی «اعلم» ، و «هب» بمعنی : «ظنّ» ؛ نحو : تعلم داء الصمت خیرا من داء الکلام. وهب کلامک محمودا ؛ فتخیر له أنسب الأوقات.
والفعل القلبیّ المتصرف قد یکون له الماضی ، والمضارع ، والأمر ، والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وبقیة المشتقات المعروفة. لکن الناسخ الذی یعمل فی هذا الباب هو الماضی وما جاء بعده مما صرّحنا باسمه هنا ، دون بقیة المشتقات المعروفة (4)التی اکتفینا بالإشارة الموجزة إلیها ، ولم نصرح بأسمائها. وبدیه أن النواسخ المتصرفة التی سردنا أسماءها - متساویة فی العمل ؛ لا فرق بین ماض وغیره ، ولا بین فعل واسم مما سردناه (5). أما الناسخ الجامد فیعمل وهو علی صورته
ص: 25
القائمة ، لا یفارقها ، ولا یدخل علیها تغییر.
وتختص الأفعال القلبیة المتصرفة ، هی وما تتصرف له مما ذکرنا اسمه صریحا بأحکام تنفرد بها ؛ فلا یدخل - فی الأغلب - حکم منها علی المشتقات القلبیة التی لا تعمل هنا (1) ، ولا علی الأفعال القلبیة الجامدة ، ولا علی أفعال التحویل وما یتصرف منها. وأشهر تلک الأحکام أربعة (2) :
ومعناه : «منع الناسخ من العمل الظاهر فی لفظ المفعولین معا ، أو لفظ أحدهما ، دون منعه من العمل فی المحلّ (3)». فهو فی الظاهر لیس عاملا النصب ، ولکنه فی التقدیر عامل. وهذا ما یعبر عنه النحاة بأنه :
«إبطال العمل لفظا ، لا محلّا». سواء أکان أثر الإبطال واقعا علی المفعولین معا ، أم علی أحدهما.
هذا المنع والإبطال واجب إلا فی صورة واحدة (4). وسببه أمر واحد ، هو : وجود لفظ له الصدارة یلی الناسخ ؛ فیفصل بینه وبین المفعولین معا ، أو أحدهما ، ویحول بینه وبین العمل الظاهر. ویسمی هذا اللفظ الفاصل : «بالمانع» ویقع بعده جملة (5) - فی الغالب - ؛ ففی مثل : علمت البلاغة إیجازا ، ورأیت الإطالة عجزا. نجد الفعل : «علم» قد نصب مفعولین مباشرة. وکذلک الفعل ؛ «رأی» - فإذا قلنا : علمت للبلاغة إیجاز ،
ص: 26
ورأیت للإطالة عجز - لم ینصب کل من الفعلین شیئا فی الظاهر ، بسبب وجود «لام الابتداء» التی فصلت بین کل فعل ناسخ ومفعولیه - وهی من ألفاظ التعلیق ، أی : من الموانع - ، ولکن هذا الفعل ینصب المحلّ ؛ فنقول عند الإعراب : «البلاغة» : مبتدأ - «إیجاز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فی محل نصب ؛ سدّت مسدّ مفعولی «علم» (وهذه الجملة هی التی تلی - فی الغالب - اللفظ المانع من العمل).
وکذلک نقول : «الإطالة» : مبتدأ - «عجز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فی محل نصب ؛ سدّت مسد مفعولی : «رأی». فقد وقع التعلیق بسبب وجود المانع من العمل ، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب ؛ لتسدّ مسد المفعولین.
أما فی مثل : علمت البلاغة لهی الإیجاز ، ورأیت الإطالة لهی العجز - فاللفظ المانع من العمل - وهو لام الابتداء - قد وقع فی المثالین بعد المفعول به الأول ، ووقع بعد المانع جملة سدت مسدّ المفعول به الثانی الذی لا یظهر فی الکلام ، وحلّت محله وحده. فعند الإعراب یحتفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه ؛ (مفعولا به أول ، منصوبا (1)). وتعرب الجملة التی بعد المانع إعرابا التفصیلی ، ویزاد علیه : «أنها فی محل نصب ؛ سدّت مسد المفعول به الثانی (2) الذی وقع علیه التعلیق».
نعلم مما تقدم أن أثر التعلیق فی منع العمل لفظی ظاهریّ فقط ؛ لا حقیقی ، محلیّ ، وأن سببه الوحید وجود فاصل لفظی له الصدارة ، یسمی : «المانع» ؛
ص: 27
یفصل بین الناسخ ومفعولیه معا ، أو أحدهما (1) ، وبعد «المانع» جملة (2) تسدّ مسدّ المفعولین معا ، أو أحدهما علی حسب الترکیب ...
ولما کان أثر التعلیق مقصورا علی ظاهر الألفاظ دون محلها کان اختفاء النصب عن المفعولین معا أو أحدهما ، هو اختفاء شکلیّ محض ؛ لا حقیقی محلیّ - کما قدمنا - ولهذا یصح فی التوابع (کالعطف ...) مراعاة الناحیة الشکلیة الظاهرة ، أو مراعاة الناحیة المحلیة ؛ فنقول : علمت للبلاغة إیجاز والفصاحة اختصار - ورأیت للإطالة عجز والحشو عیب ؛ برفع المعطوف ؛ تبعا للفظ المعطوف علیه ، وحرکته الظاهرة. أو نقول : علمت للبلاغة إیجاز ، والفصاحة اختصارا - ورأیت للإطالة عجز والحشو عیبا ؛ بنصب المعطوف ؛ تبعا للحکم المحلیّ فی المعطوف علیه. فمراعاة إحدی الناحیتین جائزة (3).
أما سبب التعلیق فی هذه الأمثلة وأشباهها ، فیترکز فی الأمر الواحد الذی ذکرناه ؛ وهو : وجود فاصل لفظیّ بعد الناسخ ؛ یفصل بینه وبین مفعولیه أو أحدهما ، بشرط أن یکون هذا الفاصل اللفظی من الألفاظ التی لها الصدارة (4) فی جملتها ،
ص: 28
کلام الابتداء ، وأدوات الاستفهام (1) وغیرها من کل ما له الصدارة فی جملته. وإلیک مثالا آخر للمانع الذی یفصل بین الناسخ ومفعولیه معا ، أو یفصل بین الناسخ ومفعوله الثانی فقط :
أعلم ، أمحمود حاضر أم غائب؟ أعلم محمودا ، أحاضر هو أم غائب؟ فمتی وقع بعد الناسخ مانع بإحدی الصورتین السالفتین منع العمل الظاهر حتما ، دون العمل التقدیریّ (المحلیّ) کما رأینا ، وأوجب التعلیق (2).
وأشهر الموانع ما یأتی من الألفاظ التی لها الصدارة ، وکل واحد منها یوجب (3) التعلیق :
(ا) لام الابتداء ، کالأمثلة السالفة.
(ب) لام القسم : نحو : علمت لیحاسبنّ (4) المرء علی عمله.
ص: 29
(ح) حرف من حروف النفی الثلاثة (1) : (ما - إن - لا) دون غیرها من أدوات النفی الأخری. فمثال «ما» النافیة : علمت ما التهوّر شجاعة. ومثال
ص: 30
«إن» النافیة : زعمت إن الصفح الجمیل ضارّ (أی : ما الصفح الجمیل ضارّ) ومثال «لا» النافیة : ألفیت لا الإفراط محمود ولا التفریط (1).
(د) الاستفهام (2) ؛ وله صور ثلاث : أن یکون أحد المفعولین اسم استفهام ، نحو : علمت أیّهم بطل؟ أو یکون مضافا إلی اسم استفهام ؛ نحو : علمت صاحب أیّهم البطل؟ أو یکون قد دخلت علیه أداة استفهام ؛ نحو : علمت أعلیّ مسافر أم مقیم؟ وأعلم هل الشتاء أنسب للعمل من الصیف (3)؟ وقولهم لظریف : لا ندری أجدّک أبلغ وألطف ، أم هزلک أحبّ وأظرف؟
ص: 31
(ه) الألفاظ الأخری التی لها الصدارة فی جملتها ؛ مثل «کم» (1). الخبریة ؛ فی نحو : دریت کم کتاب اشتریته. ومثل : «إنّ» وأخواتها ، ما عدا «أنّ» مفتوحة الهمزة ؛ فلیس لها الصدارة ؛ نحو : علمت إنک لمنصف (2) ، ونحو : لا أدری لعل الله یرید بکم خیرا. والأغلب الفصیح فی : «لعل» هذه أن تکون أداة تعلیق للفعل : «أدری» المبدوء بالهمزة ، أو بحرف آخر من حروف المضارعة (ندری - تدری - یدری ...).
ومثل : أدوات الشرط الجازمة وغیر الجازمة فی نحو : لا أعلم إن کان الغد
ص: 32
ملائما للسفر أو غیر ملائم. ونحو أحسب لو ائتلف العامل وصاحب العمل لسعدا.
* * *
فیما یلی أمثلة تزید التعلیق وضوحا (1) وتبیّن موضع «المانع» وأن موضعه بعد الناسخ حتما ویلیه المفعولان ، أو بعد الناسخ مع توسط هذا المانع بین المفعولین :
الجملة وفیها الناسخ بغیر تعلیق
الجملة بعد تعلیق الناسخ
السبب
علمت التواضع غیر الضعة
علمت للتواضع غیر الضعة
الفصل بلام الابتداء بین الناسخ ومعمولیه معا.
ألفیت العظمة غیر التعاظم
ألفیت للعظمة غیر التعاظم
الفصل بلام الابتداء بین الناسخ ومعمولیه معا.
عددت التجارب خیر معلم
عددت والله التجارب خیر معلم
الفصل بالقسم بین الناسخ ومعمولیه معا.
(2) جعلت اتباع الهوی شرّ البلایا
جعلت ما اتباع الهوی إلا شرّ البلایا
الفصل بأداة النفی «ما» بین الناسخ ومعمولیه معا.
وجدت الشرقّ مستردّا مجده.
وجدت الشرق لهو مستردّ مجده
وقوع لام الابتداء قبل المفعول الثانی وحده جعل أثر
التعلیق ینصب علیه
أری التقصیر فی العمل إسائة للوطن
أری التقصیر فی العمل والله هو إسائة للوطن.
وقوع القسم قبل المفعول الثانی وحده جعل أثر
التلعیق ینصبّ علیه کذلک لام القسم.
أحسب خلف الوعد إهانة لصاحبه.
أحسب خلف الوعد لیهینن صاحبه.
دریت إکرام الجار مؤدیا لطیب الإقامة.
دریت إکرام الجار لا یؤدی إلا لطیب الإقامة
وکذلک حرف النفی : «لا»
ففی الأمثلة الأربعة الأولی وقع المانع (الفاصل) بعد الناسخ وقبل المفعولین مباشرة ؛ فلا نقول فی إعرابهما إنهما مفعولان ؛ وإنما نقول هما - فی الأمثلة المعروضة - مبتدأ وخبر ، والجملة فی محل نصب سدّت مسدّ المفعولین.
ص: 33
وفی الأمثلة الأربعة الأخیرة وقع الناسخ فی صدر جملته ، ثم ولیه المفعول به الأول. أما المفعول به الثانی فغیر ظاهر فی الکلام بعد أن حلت محله جملة جدیدة. وفی مثل هذا الحالة یبقی المفعول به الأول محتفظا باسمه وبعلامة إعرابه ، فیعرب مفعولا به أول ، وتعرب الجملة التی (1) بعده إعراب الجملة المستقلة ، ویزاد علی إعرابها أنها فی محل نصب ، تسدّ مسدّ المفعول به الثانی ...
ص: 34
(ا) تقدم (1) أن الفعل القلبی الناصب لمفعولین یصیبه التعلیق إذا وجدت إحدی أدوات التعلیق ، ومنها : «الاستفهام». والتعلیق بالاستفهام لیس مقصورا علی الأفعال القلبیة المتصرفة الخاصة بهذا الباب - کما أشرنا من قبل (2) - ، وإنما یصیبها ویصیب غیرها ، طبقا للبیان الآتی :
1 - الفعل القلبی الناصب لمفعول به واحد ؛ مثل : نسی - عرف ... ومنه قول الشاعر :
ومن أنتمو؟ إنا نسینا من أنتمو
وریحکمو! من أی ریح الأعاصر
2 - الفعل القلبی اللازم ، مثل : تفکّر ؛ کقوله تعالی : (أَوَلَمْ یَتَفَکَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟؛) فالتعلیق هنا عن الجار المجرور (3) ؛ لأن المجرور بالحرف بمنزلة المفعول به (4).
3 - ما لیس قلبیّا ، وینطبق علی أفعال کثیرة لا تکاد تدخل تحت حصر ؛ مثل : نظر - أبصر - سأل - استنبأ - .. و... ومن الأمثلة قوله تعالی : (فَلْیَنْظُرْ أَیُّها أَزْکی طَعاماً،) وقوله تعالی : (فَسَتُبْصِرُ وَیُبْصِرُونَ ؛ بِأَیِّکُمُ الْمَفْتُونُ؟،) وقوله تعالی : (یَسْئَلُونَ : أَیَّانَ یَوْمُ الدِّینِ؟،) وقوله تعالی : (وَیَسْتَنْبِئُونَکَ : أَحَقٌّ هُوَ؟ ...) فهذه الأفعال ونظائرها قد یصیبها التعلیق بأداة الاستفهام ، ولهذا یوقف فی الآیة الأولی علی قوله : (یَتَفَکَّرُوا،) والکلام بعدها مستأنف ، وهو : (ما بِصاحِبِکُمْ مِنْ جِنَّةٍ؟،) وما استفهامیة بمعنی النفی ، إذ المراد : أی شیء بصاحبکم من الجنون؟ لیس به شیء منه.
(ب) عرفنا (5) أن التعلیق لا یکون فی الأفعال القلبیة الجامدة ، ولا فی بعض
ص: 35
النواسخ الأخری ؛ کأفعال التحویل ... و... فما المراد من هذا؟ أیراد أن ألفاظ التعلیق لا تقع بعد تلک الأفعال الجامدة ولا بعد تلک النواسخ ؛ فلا یحدث التعلیق؟ أم یراد أن هذه الألفاظ مع وقوعها بعدها لا تقوی علی منعها من العمل الظاهری ، فکأنها غیر موجودة؟ یرتضی النحاة الرأی الأول. والاقتصار علیه حسن.
(ح) سبق (1) أن الجملة بعد أداة التعلیق تسدّ مسدّ المفعولین إن کان الناسخ یتعدی إلیهما ، ولم ینصب المفعول به الأول مباشرة ، فإن نصبه سدت مسدّ الثانی فقط ... فإن کان الفعل لیس ناسخا ولا یتعدی لمفعولین ، ووقعت بعده جملة مسبوقة بأداة التعلیق - فإن کان یتعدی بحرف جر فالجملة فی محل نصب بإسقاط الجار ؛ نحو : فکرت أصحیح هذا أم غیر صحیح؟ أی : فکرت فی ذلک (2). وإن کان الفعل یتعدی بنفسه إلی واحد غیر مذکور سدت مسدّه ؛ نحو : عرفت من البارع؟ فإن کان مذکورا فی الکلام ؛ نحو : عرفت البارع أبو من هو؟ فقیل الجملة بدل کل من کل ، علی تقدیر مضاف ؛ أی : عرفت شأن البارع ، وقیل بدل اشتمال من غیر حاجة إلی تقدیر ، أو هی مفعول ثان لعرفت بعد تضمینه معنی : «علمت». والرأیان الأخیران أوضح ، وأیسر استعمالا ولکل منهما مزیة قد یتطلبها المقام ، ویقتضیها المعنی.
(د) إذا کانت «رأی» حلمیّة لم یدخل علیها التعلیق (3).
* * *
ص: 36
وهو : «منع الناسخ من نصب المفعولین معا ؛ لفظا ومحلا ، منعا جائزا ، - فی الأغلب - لا واجبا». أو هو : «إبطال عمله فی المفعولین لفظا ومحلا ، علی سبیل الجواز لا الوجوب». ولا یصح أن یقع المنع علی أحد المفعولین دون الآخر. وسببه : إمّا توسط الناسخ بین مفعولیه مباشرة بغیر فاصل آخر بعده یوجب التعلیق (1) ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز - فی الأغلب (2) - الإعمال أو الإهمال ، وإن لم یتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحیة موقعه فی الجملة :
الأولی : أن یتقدم علی المفعولین. وفی هذه الحالة یجب إعماله - عند عدم المانع - ؛ فینصبهما مفعولین به ، نحو : رأیت النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها.
الثانیة : أن یتوسط بین مفعولیه مباشرة. وفی هذه الحالة یجوز - فی الأغلب (3) - إعماله ؛ فینصبهما مفعولین (4) به ؛ نحو : النزاهة - رأیت - وسیلة لتکریم صاحبها. ویجوز إهماله (5) ؛ فلا یعمل النصب فیهما معا ، ولا فی أحدهما ؛ وإنما یرتفعان باعتبارهما جملة اسمیة : (مبتدأ وخبرا) ، نحو : النزاهة - رأیت - وسیلة لتکریم صاحبها.
الثالثة : أن یتأخر عن مفعولیه ؛ والحکم هنا کالحکم فی الحالة السابقة ؛ فیجوز إعماله فینصب المفعولین ؛ نحو : النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها - رأیت.
ص: 37
ویجوز إهماله فلا یعمل النصب (1) ویرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمیة ، مرکبة من مبتدأ وخبره ؛ نحو : النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها - رأیت.
مما تقدم ندرک أوجه الفرق بین التعلیق والإلغاء ؛ وأهمها :
(ا) أن التعلیق واجب (2) عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز - فی الأغلب (3) - عند وجود سببه.
(ب) أن أثر التعلیق یصیب المفعولین معا أو أحدهما. أما أثر الإلغاء فیصیبهما معا.
(ح) أن أثر التعلیق لفظیّ ظاهری ، لا یمتد إلی الحقیقة والمحلّ. وأثر الإلغاء لفظیّ ومحلیّ معا.
(د) أن التعلیق یجوز فی توابعه مراعاة ناحیته اللفظیة الظاهریة ، أو
ص: 38
مراعاة ناحیته المحلیة. والإلغاء لا یجوز فی توابعه إلا مراعاة الناحیة الواحدة التی هو علیها ؛ وهی الناحیة الظاهرة المحضة.
(ه) أن التعلیق لا بد فیه من تقدم الناسخ علی معمولیه ؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.
أما الإلغاء فلا بد فیه من توسط (1) الناسخ بینهما ، أو تأخره عنهما ؛
ص: 39
ولیس فی حاجة بعد هذا إلی فاصل ، أو غیره (1).
ص: 40
(ا) إذا تقدم الناسخ علی مفعولیه فلن یخرجه من حکم هذا التقدم - فی الرأی الأصح - أن یسبقه معمول آخر له ، أو لأحدهما ؛ نحو : متی علمت الضیف قادما؟ باعتبار : «متی» ظرفا للناسخ ، أو لمفعوله الثانی.
وکذلک لن یخرجه من حکم التقدم أن یسبقه شیء آخر لیس معمولا له ، ولا لأحدهما ، مثل : إنی علمت الحذر واقیا الضرر.
(ب) یختلف النحاة فی بیان الأفضل عند توسط العامل أو تأخیره. ولهم فی هذا جدل طویل ، لا یعنینا منه إلا أن الأنسب هو تساوی الإلغاء والإعمال عند توسط العامل. أما عند تأخره فالأمران جائزان ولکن الإلغاء أعلی ، لشیوعه فی الأسالیب البلیغة المأثورة.
وإذا توسط الناسخ أو تأخر وکان مؤکدا بمصدر فإن الإلغاء یقبح ؛ نحو : الکتاب - زعمت زعما - خیر صدیق ؛ لأن التوکید دلیل الاهتمام بالعامل ، والإلغاء دلیل علی عدم الاهتمام به ؛ فیقع بینهما شبه التخالف والتنافی. فإن أکّد الناسخ بضمیر یعود علی مصدره المفهوم فی الکلام بقرینة ، أو باسم إشارة یعود علی ذلک المصدر - کان الإلغاء ضعیفا أیضا ؛ نحو : السفینة - ظننته - قصرا. أی : ظننت الظن - و: السفینة ظننت - ذاک - قصرا. أی : ذاک الظن ...
(ج) رأی الحلمیة لا یصیبها الإلغاء ، وقد سبق (1) أنها لا یصیبها تعلیق.
* * *
ص: 41
یجوز أن یسدّ المصدر المؤول من «أنّ» (1) الناسخة وما دخلت علیه ، أو : «أن» المصدریة الناصبة وما دخلت علیه من جملة فعلیة - مسدّ المفعولین ، ویغنی (2) عنهما. ویجب أن یراعی فی معنی المصدر بعد تأویله أن یکون مثبتا أو منفیّا علی حسب ما کان علیه المعنی قبل التأویل.
فمن أمثلة المثبت ما جاء فی خطبة لقائد مشهور : (علمنا أن السیف ینفع حیث لا ینفع الکلام ، ورأینا أنّ کلمة القویّ مسموعة. فمن زعم أن یفوز وهو ضعیف فقد أخطأ ، ومن ظن أن یسلم بالاستسلام فقد قضی علی نفسه ...)
وتقدیر المصادر المؤولة (3) : علمنا نفع السیف ... - رأینا سماع کلمة القویّ - من زعم فوزه ... - من ظنّ سلامته ... فکل مصدر من المصادر التی نشأت من التأویل سدّ مسدّ المفعولین المطلوبین للفعل القلبیّ الذی قبله.
فالمصدر : «نفع» ، أغنی عن مفعولی الفعل «علم». والمصدر : «سماع» ، أغنی عن مفعولی الفعل : «رأی». والمصدر : «فوز» ، أغنی عن مفعولی الفعل : «زعم» ، والمصدر : «سلامة» أغنی عن مفعولی الفعل «ظن». ویقاس علی هذا أشباهه (4) من مثل قول الشاعر :
تودّ عدوی ثم تزعم أننی
صدیقک ؛ إن الرأی عنک لعازب
ص: 42
فالمصدر المؤول من «أنّ مع معمولیها» یسدّ مسدّ الفعل : «تزعم» وفاعله ومن أمثلة المعنی المنفی قول الشاعر :
الله یعلم أنی لم أقل کذبا
والحق عند جمیع الناس مقبول
وتأویل المصدر مع زیادة ما یدل علی النفی هو : «الله یعلم عدم کذب قولی».
- وقد سبق (1) تفصیل الکلام علی طریقة صوغ المصدر المؤول.
* * *
الحکم الرابع (2) - جواز وقوع فاعلها ومفعولها الأول ضمیرین معینین :
وذلک بأن یکونا ضمیرین متصلین ، متحدین فی المعنی (3) ، مختلفین فی النوع ؛ نحو : علمتنی راغبا فی مودة الأصدقاء ، ورأیتنی حریصا علیها. فالتاء والیاء فی المثالین ضمیران ، متصلان ، ومدلولهما شیء واحد ؛ فهما للمتکلم ، مع اختلاف نوعهما ؛ فالتاء ضمیر رفع فاعل ، والیاء ضمیر نصب. مفعول به. ونحو : علمتک زاهدا فی الشهرة الزائفة ، وحسبتک نافرا من أسبابها. فالتاء والکاف فی المثالین ضمیران ، متصلان ، ومعناهما واحد ؛ لأن مدلولهما هو المخاطب ، مع اختلاف نوعهما کذلک ؛ فالتاء ضمیر رفع فاعل ، والکاف ضمیر نصب ، مفعول به (4).
ص: 43
الحکم الرابع غیر خاص بالأفعال القلبیة وحدها ؛ فهناک بعض أفعال أخری تشارکها فیه ؛ مثل : «رأی» البصریة والحلمیة ، وهو کثیر فیهما ، ومثل : «وجد» (بمعنی : لقی) ، وقد ، وعدم. وهو قلیل فی هذه الثلاثة ، ولکنه قیاسی فی الخمسة ، وفی غیرها مما نصّت علیه المراجع ؛ ولیس عامّا فی الأفعال ؛ نحو : استیقظت فرأیتنی منفردا. - أخذنی النوم فرأیتنی جالسا فی حفل أدبیّ. - ساءلت نفسی فی غمرة الحوادث : أین أنا؟ ثم وجدتنی (أی : لقیت نفسی ، وعرفت مکانها) - فقدتنی إن جنحت إلی خیانة ، أو عدمتنی. ولا یجوز هذا فی غیر ما سبق إلا ما له سند لغوی یؤیده. فلا یصح : کرمتنی ، ولا سمعتنی ، ولا قرأتنی ، وأشباهها مما لم یرد فی المراجع. إلا إن کان أحد الضمیرین منفصلا ، فیجوز فی جمیع الأفعال ، نحو : ما لمست إلا إیای - ما راقبت إلا إیای (1).
ویمتنع فی باب : «ظن وأخواتها» وفی جمیع الأفعال الأخری - اتحاد الفاعل والمفعول اتحادا معنویّا إن کان الفاعل ضمیرا ، متصلا ، مستترا ، مفسّرا بالمفعول به ، فلا یصح محمدا ظنّ قائما - ولا علیّا نظر ؛ بمعنی : محمدا ظنّ نفسه ... وعلیّا نظر نفسه ... لأن مفسر الضمیر هنا : (أی : مرجعه) هو المفعول به. فإن کان الضمیر الفاعل منفصلا بارزا صحّ ؛ فیقال : ما ظن محمدا قائما إلا هو ، وما نظر علیّا إلا هو ...
ص: 44
القول معناه ، متی ینصب مفعولا واحدا؟ ومتی ینصب مفعولین؟
یعرض النحاة فی هذا الباب للقول ومشتقاته ؛ لتشابه بینه وبین «الظن» فی بعض المعانی والأحکام. وصفوة کلامهم : أن «القول» متعدد المعانی ، وأنّ الذی یتصل منها بموضوعنا معنیان ؛ أحدهما : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» والآخر : «الظنّ».
(ا) فإن کان معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» فإنه ینصب مفعولا به واحدا ؛ سواء أکان الذی جری به التلفظ ، ووقع علیه القول - کلمة مفردة (1) ، أم جملة. فمثال المفردة ما جاء علی لسان حکیم : (تسألنی عن العظمة الحقة ؛ فأقول : «الکرامة» ، وعن رأس الرذائل ؛ فأقول : «الکذب») فمعنی «أقول» هنا «أنطق ، وأتلفظ». والکلمة التی وقع علیها القول (أی : التی قیلت) ، هی : «الکرامة» - «الکذب». وکلتاهما مفعول به منصوب مباشرة.
ومن الأمثلة للکلمة المفردة أیضا : سألت والدی عن مکان نقضی فیه یوم العطلة ، فقال : «الریف». وعن شیء نعمله هناک ، فقال : «التنقل» ، فمعنی قال : «تلفظ ونطق» ، والکلمة التی وقع علیها القول هی : «الریف» - «التنقل» وتعرب کل واحدة منهما مفعولا به منصوبا مباشرة. ومثل هذا قول الشاعر :
جدّ الرحیل ، وحثّنی صحبی
قالوا : «الصباح» ؛ فطیّروا لبّی (2)
ومثال الجملة بنوعیها : (قلت : الشعر غذاء العاطفة) - (أقول : تصفو
ص: 45
النفس بسماع الغناء الرفیع) - (قال شوقی : خ خ آیة هذا الزمان الصحف) - (ویقول : خ خ تسیر مسیر الضحا فی البلاد ...)
ومثل :
(یقولون : «طال اللیل») ، واللیل لم یطل
ولکنّ من یشکو من الهمّ یسهر
فمعنی «القول» هنا کسابقه. وبعده جملة اسمیة ، أو فعلیة ، یزاد علی إعرابها : أنها فی محل نصب (1) سدّت مسدّ المفعول به للقول ، ولیست مفعولا به (2) مباشرة. بخلاف الکلمة المفردة ، فإنها هی المفعول به مباشرة - کما تقدم - سواء أکان الناطق بالکلمة قد نطقها ابتداء ؛ دون أن یسمعها من غیره فیرددها بعده ؛ کالتی فی المثال الأول (أم کان نطقه بها تالیا لنطق آخر ، وتردیدا لما سمعه ؛ (کالتی فی الثانی. وهی فی الحالتین لا تسمی کلمة «محکیة بالقول» فی اصطلاح کثرة النحاة ، ولو کان النطق بها تردیدا ومحاکاة لنطق سابق ؛ لأن الحکایة فی هذا الباب لا تکون عندهم للکلمة المفردة (3).
ص: 46
أما الجملة التی تسدّ مسدّ مفعول «القول» فی الأغلب (1) والتی محلها النصب فیسمونها : «محکیّة بالقول» بشرط أن تکون قد جرت من قبل علی لسان ، ثم أعادها المتکلم ، وردّد ما سبق أن جری علی لسانه أو علی لسان غیره. فلا بدّ فی الجملة التی تسمی : «محکیّة» أن تکون قد ذکرت مرة سابقة قبل حکایتها بالقول. وإلا فلا یصح تسمیتها : «محکیّة» علی الصحیح. والأغلب (2) أنها فی الحالتین فی محل نصب ، سادة مسدّ المفعول به. وتشتهر بین المعربین بأنها : «مقول القول» (3) ؛ أی : الجملة التی جری بها القول ، وهی المرادة منه.
(ب) وإن کان معنی «القول» - ومشتقاته هو : «الظنّ» (أی : الرجحان (4)) فإنه ینصب مفعولین مثله - بالشروط التی سنعرفها - ویجری علیه ما یجری علی «الظنّ» (5) (بمعنی الرجحان) من التعلیق ، والإلغاء ، وسائر الأحکام السابقة الخاصة بالأفعال القلبیة ؛ فهو والظن سواء. إلا فی اختلاف الحروف الهجائیة. ومن الأمثلة : أتقول السماء صحوا (6) فی الغد -؟ أتقولان الکتاب نفیسا إن تمّ إعداده؟ - أتقولون السفر المنتظر مفیدا؟ ...
فلا بد من مفعولین منصوبین بعده (7) - إلا عند التعلیق أو الإلغاء (8) - فإن
ص: 47
لم یتحقق له المفعولان المنصوبان لم یکن معناه «الظن» وإنما یکون معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» ، وفی هذه الصورة یکون من النوع الأول «ا» الذی ینصب مفعولا به واحدا ، ولا ینصب مفعولین ؛ فمدلوله إن کان کلمة مفردة وقع علیها القول وجب اعتبارها مفعوله المنصوب مباشرة ؛ مثل : أتقول : الجوّ؟ ؛ أی : أتنطق بکلمة : «الجوّ» وإن کان مدلوله جملة اسمیة أو فعلیة فهی فی محل نصب تسدّ مسدّ ذلک المفعول به الواحد ، مثل : أتقول : الحروب خادمة للعلوم؟ - أتقول : السّلم الطویلة داء؟ -. ومثل : أتقول : قد یجمع الله الشتیتین بعد الیأس من التلاقی؟ - أتقول : لا یضیع العرف (1) بین الله والناس؟ فمعنی «تقول» : تنطق ، ومعنی «القول» فی کل ما تقدم هو «النطق» لا الظن ، والجملة بعده فی الأمثلة المذکورة : «مقول القول» ولا تسمی محکیة بالقول إلا إذا سبق النطق بها قبل هذه المرة - کما أوضحنا -.
وملخص ما تقدم : أن القول المستوفی للشروط إذا وقع له مفعولان منصوبان به کان بمعنی : «الظن» حتما ، وتجری علیه أحکام «الظن» ولا وجود للحکایة هنا أو غیرها. - علی الأرجح. - وإذا وقع له کلمة واحدة (هی التی قیلت) کان معناه : «مجرد النطق» ، ونصبها مفعولا به واحدا ، ولا تسمی هذه الکلمة محکیة (2) ، مع أنها هی مفعوله المباشر. وکذلک إذا وقع له جملة اسمیة أو فعلیة کان معناه مجرد النطق أیضا ، ولکنه ینصب مفعولا به واحدا نصبا غیر مباشر ؛ لأن الجملة التی بعده تکون فی محل نصب ؛ فتسدّ مسدّ المفعول به ؛ وتسمی : «مقول القول» دائما ، ولا تسمی «محکیة بالقول» إلا إذا سبق النطق بها.
فالقول بمعنی «الظن» لا حکایة معه - کما عرفنا - إذا وقع له مفعولاه المنصوبان. فإذا تغیر ضبطهما وصارا مرفوعین أصالة (3) فإن معناه وعمله یتغیران تبعا لذلک ؛ إذ یصیر معناه : النطق المجرد ، ویقتصر عمله علی نصب مفعول واحد فتکون الجملة الجدیدة اسمیة فی محل نصب ، تسدّ مسدّ مفعوله.
* * *
ص: 48
یشترط النحاة ما یأتی لإجراء القول مجری الظن معنی وعملا ، طبقا لما استنبطوه من أفصح اللغات العربیة ، وأکثرها شیوعا :
1- أن یکون فعلا مضارعا.
2- وأن یکون للمخاطب بأنواعه المختلفة (1).
3- وأن یکون مسبوقا باستفهام (2).
4- وألا یفصل بین الاستفهام والمضارع فاصل. لکن یجوز الفصل بالظرف ، أو بالجار (3) مع مجروره ، أو بمعمول آخر للفعل ، أو بمعمول معموله (4). وکثیر من النحاة لا یشترط عدم الفصل ، ورأیه قوی ، والأخذ به أیسر.
5- ألا یتعدی بلام الجر ؛ وإلا وجب الرفع علی الحکایة (5) ، نحو : أتقول للوالد فضلک مشکور؟
فمثال المستوفی للشروط الخمسة : أتقول المنافق أخطر من العدو؟ أتقول الاستحمام ضارّا بعد الأکل مباشرة؟
ومثال الفصل بالظرف : أفوق السحاب - تقول الطائر مرتفعا؟.
وقول الشاعر :
أبعد بعد تقول الدار جامعة
شملی بهم ، أم تقول البعد محتوما
وبالجار مع مجروره : - أفی أعماق البحر - تقول الغواصة مقیمة؟. وبمعمول الفعل مباشرة : - أواثقا - تقول الکیمیاء دعامة الصناعة؟ ومن هذا أن یفصل أحد المفعولین بین الاستفهام والفعل المضارع ، کقول الشاعر :
أجهّالا تقول : بنی لؤیّ
لعمر أبیک أم متجاهلینا
ص: 49
والأصل : أتقول بنی لؤی جهالا ...
وبمعمول معموله : - أللأمن - تقول : العدل ناشرا. والأصل : ناشرا للأمن.
فإذا اختل شرط من الشروط السابقة لم یکن «القول» بمعنی : «الظن» فلا ینصب مفعولین مثله ، ولا یخضع للأحکام الأخری التی یخضع لها «الظن» وإنما یکون بمعنی : «النطق والتلفظ» ؛ فینصب مفعولا به واحدا لا محالة.
أما إذا استوفی شروطه مجتمعة فیجوز أن یکون کالظن معنی وعملا ، علی التفصیل الذی شرحناه. ویجوز - مع استیفائه تلک الشروط کاملة - أن یکون بمعنی : «النطق والتلفظ» فینصب مفعولا به واحدا فقط ، وعندئذ یتعین أن یکون الاسمان بعده مرفوعین حتما - کما سلف - ویتعین إعرابهما مبتدأ وخبرا فی محل نصب ، لتسد جملتهما مسد المفعول به. فالأمران جائزان عند استیفائه الشروط (1). ولکن لکل منهما معنی وإعراب یخالف الآخر. والمتکلم یختار منهما ما یناسب المراد. فیصح : أتقول : الطائر مرتفعا؟ کما یصح : أتقول : الطائر مرتفع؟ بنصب الاسمین معا ، أو برفعهما علی الاعتبارین السالفین المختلفین (2) ؛ طبقا للمعنی المقصود. وهناک رأی آخر مستمدّ من لغة قبیلة عربیة اسمها : سلیم ، وملخصه : أن القول - ومشتقاته - إذا کان معناه : «الظن» فإنه ینصب مفعولین مثله ، وتجری علیه بقیة أحکام «الظن» بغیر اشتراط شیء من تلک الشروط الخمسة أو غیرها ، فالشرط الوحید عندهم أن یکون معناه : «الظن» (3) فإن لم یتحقق هذا الشرط یکن معناه - فی الغالب - «النطق المجرد والتلفظ» ، وینصب مفعولا به واحدا ، ولهذا یجب رفع الاسمین بعده ، واعتبار جملتهما الاسمیة فی محل نصب تسدّ مسدّ مفعوله.
ص: 50
(ا) تضطرب أقوال النحاة فی اللفظ المحکیّ بالقول ؛ أیکون مفردا وجملة ، أم یقتصر علی الجملة فقط؟ أیکون تردیدا ومحاکاة لنطق سابق به ، أم یکون ابتداء کما یکون تردیدا ومحاکاة؟ أیکون حکایة للقول بمعنی النطق والتلفظ فقط ، أم یکون حکایة له بهذا المعنی ، وبمعنی الظن أیضا ...؟ إلی غیر ذلک من صنوف التفریع ؛ والخلف ، والاضطراب الذی یخفی الحقیقة ، ویغشّی علی وضوحها ، ویکدّ الذهن فی استخلاصها. وقد تخیرنا أصفی الآراء فیها ، وقدمناه فیما سبق. وللحکایة تفصیلات وأحکام أخری فی بابها الخاص ، وأشرنا فی الجزء الأول (1) إلی بعض أحکامها.
(ب) الأصل (2) فی الجملة المحکیة بالقول أن یذکر لفظها نصّا کما سمع ، وکما جری علی لسان الناطق بها أول مرة. لکن یجوز أن تحکی بمعناها ، لا بألفاظها (3) ، فإذا نطق الناطق الأول ، وقال حکمة ؛ هی : «الأمم الأخلاق» جاز لمن یحکیها بعده أن یرددها بنصها الحرفی ، وبضبطها وترتیبها ، فیرددها بالعبارة التالیة : قال الحکیم : «الأمم الأخلاق». وجاز أن یرددها بمعناها مع مراعاة الدقة فی المعنی ؛ کما یأتی : قال الحکیم : «الأمم لیست شیئا إلا الأخلاق». أو : «الأمم بأخلاقها». أو : «ما الأمم إلا أخلاقها» ... وعلی هذا لو سمعنا شخصا یقول : «البرد قارس» ، لجاز فی الحکایة أن نذکر النصّ بحروفه وضبطه وترتیبه : قال فلان : «البرد قارس» ، أو بمعناه : قال فلان : «البرد شدید» ... وإذا قالت فاطمة «أنا کاتبة» - مثلا - وقلت : لزینب «أنت شاعرة» ؛ فلک فی الحکایة أن تذکر النصّ : (قالت فاطمة «أنا کاتبة» ، وقلت لزینب «أنت شاعرة») ، مراعاة لنصّ اللفظ المحکیّ فیهما ، ولک أن تذکر المعنی : (قالت فاطمة «هی کاتبة» ، وقلت لزینب «هی شاعرة» ، أو : «إنها شاعرة») مراعاة لذلک المعنی ، فی حالة الحکایة ؛ حیث تکون فیها فاطمة وزینب غائبتین
ص: 51
وقت الکلام (1). فالحکایة بالمعنی لا تقتضی المحافظة علی اسمیة الجملة ، أو فعلیتها ، أو نصّ کلماتها ، أو إعراب بعض کلماتها إعرابا معینا ؛ وإنما تقتضی المحافظة علی سلامة المعنی ، ودقته ، وصحة الألفاظ ، وصیاغة الترکیب ، فیکفی فی الجملة المحکیة أن تکون صحیحة فی مطابقة المعنی الأصلی ، وسلیمة من الخطأ اللفظی.
فإن کانت الجملة المحکیة مشتملة فی أصلها علی خطأ لغویّ أو نحویّ وجب حکایتها بالمعنی للتخلص مما فیها من خطأ. إلا إن کان المراد إظهار هذا الخطأ ، وإبرازه لسبب مقصود ؛ وعندئذ یجب حکایتها بما اشتملت علیه.
(ج) هل یلحق «بالقول» الذی معناه النطق والتلفظ ، ما یؤدی معناه من کلمات أخری ؛ مثل : نادیت ، دعوت ، أوحیت ، قرأت - أوصیت - نصحت ... وغیرها من کل ما یراد به : «النطق المجرد» فتنصب مفعولا به أو مفعولین (2) ؛ علی التفصیل الذی سبق؟
الأنسب الأخذ بالرأی القائل : إنها تلحق به فی نصب المفعول والمفعولین ، ما دامت واضحة الدلالة علی معناه. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَنادَوْا یا مالِکُ : لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ،) وقوله تعالی : (فَدَعا رَبَّهُ : أَنِّی مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) بکسر الهمزة فی قراءة الکسر. وقوله تعالی : (فَأَوْحی إِلَیْهِمْ رَبُّهُمْ : لَنُهْلِکَنَّ الظَّالِمِینَ ...) ولا داعی للتأویل فی هذه الآیات وغیرها بتقدیر «قول» ... إذ لا حاجة للتقدیر مع الدلالة الواضحة ، وعدم فساد المعنی أو الترکیب ... أما إذا اقتضی المقام التقدیر فلا مانع منه لسبب قوی. ومن ذلک قوله تعالی : (یَوْمَ تَبْیَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ... أَکَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِکُمْ ...) أی : فیقال لهم : أکفرتم؟ فهنا القول محذوف (3) ولا بد من تقدیره لصحة المعنی والأسلوب.
ص: 52
حذف المفعولین ، أو أحدهما ، وحذف الناسخ
الاختصار أصل بلاغیّ عامّ ، لا یختص بباب ، ولا یقتصر علی مسألة ، ویراد به : حذف ما یمکن الاستغناء عنه من الألفاظ لداع یقتضیه. وهو جائز بشرطین :
(ا) أن یوجد دلیل یدل علی المحذوف ، ومکانه (1).
(ب) وألا یترتب علی حذفه إساءة للمعنی ، أو إفساد فی الصیاغة اللفظیة (2).
واستنادا إلی هذا الأصل القویم یصح الاختصار هنا بحذف المفعولین معا أو أحدهما. فمثال حذفهما : - هل علمت الطیارة سابحة فی ماء الأنهار؟ فتجیب : نعم ، علمت ... - هل حسبت الإنسان واصلا إلی الکواکب الأخری؟. نعم ، حسبت ... أی : علمت الطیارة سابحة ... وحسبت الإنسان واصلا ...
ومثال حذف الثانی (وهو کثیر) : أیّ الکلامین أشدّ تأثیرا فی الجماهیر ؛ آ لشعر أم الخطابة؟ فتقول : أظن الخطابة ... أی : أظن الخطابة أشدّ ... ومثال حذف الأول : (وحذفه أقل من الثانی) ما مبلغ علمک بخالد بن الولید؟ فتقول : أعلم ... بطلا صحابیّا من أبطال التاریخ. أی : أعلم خالدا بطلا ...
فقد صحّ الحذف فی الأمثلة السابقة ؛ لتحقق الشرطین معا. فإن لم یتحقق
ص: 53
الشرطان معا لم یجز الحذف (1) ؛ فلا یصح فی تلک الأمثلة وأشباهها : علمت فقط ، ولا حسبت فقط ، بحذف المفعولین فیهما. ولا یصح علمت الطیارة ... ولا حسبت الإنسان ... بحذف المفعول الثانی فقط ، ولا علمت سابحة ... ولا حسبت واصلا ؛ بحذف الأول. وهکذا من کل ما فقد القرینة ، أو فقد الشرطین معا.
واعتمادا علی الأصل البلاغیّ السابق أیضا یصح حذف الناسخ مع مرفوعه ؛ نحو : ماذا تزعم؟ فتجیب : ... الأخ منتظرا فی الحقل. أی : أزعم ... (2)
ص: 54
أعلم ... أری ..
ا : فرح الحزین. أفرحت الحزین.
زهق الباطل. أزهق الحقّ الباطل.
لان المتشدّد. ألانت الحوادث المتشدّد.
ب : سمع الصدیق الخبر السارّ. أسمعت الصدیق الخبر السارّ.
ورد الغائب أهله. أوردت الغائب أهله.
قرأ الأدیب القصیدة. قرأت الأدیب القصیدة.
ح : علمت الحرفة وسیلة الرزق. أعلمت الغلام الحرفة وسیلة الرزق.
علم الشباب الاستقامة طریق السلامة. أعلمت الشباب الاستقامة طریق السلامة.
رأیت الفهم رائد النبوغ. أریت المتعلم الفهم رائد النبوغ.
رأی الخبراء الآثار کنوزا. أریت الخبراء الآثار کنوزا.
الفعل نوعان. لازم ؛ (أی : قاصر ؛ لا ینصب بنفسه المفعول به) ، ومتعد ینصب بنفسه مفعولا به ، أو مفعولین ، أو ثلاثة. ولا یزید علیها.
ولتعدیة الفعل اللازم وسائل معروفة فی بابه (1). منها وقوعه بعد «همزة النقل». (أی : التعدیة) فإذا دخلت همزة النقل علی الفعل الثلاثی اللازم ، أو الثلاثی المتعدی لواحد أو لاثنین غیّرت حاله ، وجعلت الثلاثیّ اللازم متعدیا - کأمثلة : «ا» - وصیّرت الثلاثیّ المتعدی لواحد متعدّیا لاثنین - کأمثلة : «ب» - وصیّرت الثلاثی المتعدی لاثنین متعدیا لثلاثة - کأمثلة : «ح» - فشأنها
ص: 55
أن تجعل فاعل الفعل الثلاثی مفعولا به (1) ؛ فتنقله من حالة إلی أخری تخالفها ؛ فتکسب الجملة مفعولا به جدیدا لم یکن له وجود قبل دخول همزة النقل علی الفعل. أما غیر الثلاثی فلا تدخل علیه هذه الهمزة.
ولا یکاد یوجد خلاف هامّ فی أن التعدیة بهمزة النقل علی الوجه السالف قیاسیة فی الثلاثی اللازم ، وفی الثلاثی المتعدی بأصله لواحد (2). إنما الخلاف فی الثلاثی المتعدی بأصله لاثنین ؛ أتکون تعدیته بهمزة النقل مقصورة علی فعلین من الأفعال القلبیة ؛ هما : «علم - ورأی» (3) - دون غیرهما من باقی الأفعال القلبیة التی تنصب مفعولین ، والتی سبق الکلام علیها (4) - أم لیست مقصورة علی الفعلین المذکورین ؛ فتشملهما ، وتشمل أخواتهما القلبیة التی مرّت فی الباب السالف؟ رأیان. وتمیل إلی أولهما جمهرة النحاة ، فتقصر التعدیة علی الفعلین المعینین («علم» و «رأی») ولا تبیح قیاس شیء علیهما من أفعال الیقین والرجحان وغیرهما ، فلا یصح عندها أن تقول : أظننت الرجل السیارة قادمة ، وأحسبته السفر فیها مریحا. فی حین یصح هذا عند بعض آخر یبیح القیاس علی الفعلین السالفین ، ولا یری وجها للتفرقة بینهما وبین نظائرهما من أفعال الیقین والرجحان التی تنصب مفعولین بحسب أصلها (5).
سواء أخذنا برأی الجمهرة أم بالرأی الآخر ، فالفعل القلبیّ الناصب للمفعولین
ص: 56
بحسب أصله وبحسب رأی کل منهما فی نوعه ... (1) سینصب ثلاثة بعد دخول همزة التعدیة علیه. ومفعوله الثانی والثالث أصلهما المبتدأ والخبر ، ویجری علیهما فی حالتهما الجدیدة ما کان یجری علیهما قبل مجیء همزة التعدیة ؛ فتطبق علیهما وعلی أفعالهما - وباقی المشتقات - الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة التی سبق شرحها ، ومنها : التعلیق ، والإلغاء ، والحذف اختصارا لدلیل ...
فمن أمثلة التعلیق : أعلمت الشاهد لأداء الشهادة واجب ، وأریته إنّ (2) کتمانها لإثم کبیر. ومن أمثلة الإلغاء أو عدمه : النخیل أعلمت البدویّ أنسب للصحراء - أو : أنسب للصحراء أعلمت البدویّ النخیل - أو : النخیل أنسب للصحراء أعلمت البدویّ. وأصل الجملة : أعلمت البدویّ النخیل أنسب للصحراء. أما المفعول به الأول من الثلاثة فقد کان فی أصله فاعلا کما عرفنا ، فلا علاقة له بهذه الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة السالفة.
ومن أمثلة حذف المفعول به الثانی لدلیل أن یقال : هل عرفت حالة المزرعة؟ فتجیب : أعلمنی الخبیر ... جیدة ، أی : أعلمنی الخبیر المزرعة جیدة. ومثال حذف الثالث لدلیل ؛ أن یقال : هل علم الوالد أحدا قادما لزیارتک؟ فتجیب : أعلمته زمیلا ، أی : زمیلا قادما (3) لزیارتی. ومثال حذف الثانی والثالث معا أن تقول : أعلمته ...
فإن کان الفعل : «علم» بمعنی : «عرف» أو کان الفعل : «رأی» بمعنی : «أبصر» - لم ینصب کلاهما فی أصله إلا مفعولا به واحدا کما سبق (4). نحو : علمت الطریق إلی النهر - رأیت الشهب المتساقطة. فإذا دخلت علی أحدهما همزة التعدیة صیرته ینصب مفعولین ، نحو : أعلمت الرجل الطریق
ص: 57
إلی النهر ، وأریت (1) الغلام الشهب المتساقطة. وهذان المفعولان لیسا فی الأصل مبتدأ وخبرا ؛ إذ لا یصح : الرجل الطریق - الغلام الشهب. ولهذا لا یصح تطبیق الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة علیهما. إلا التعلیق فجائز ؛ ومنه قوله تعالی : (رَبِّ أَرِنِی)(2) کَیْفَ تُحْیِ الْمَوْتی).
وقد نصت کتب اللغة علی أفعال أخری - قلبیة وغیر قلبیة - ینصب کل فعل منها بذاته ثلاثة من المفاعیل ، دون وجود همزة التعدیة قبله. وأشهر تلک الأفعال خمسة : نبّأ - أنبأ - حدّث - أخبر - خبّر ... مثل : نبّأت الطیار الجوّ مناسبا للطیران - أنبأت البحّار المیناء مستعدّا - حدّثت الصدیق الرحلة طیبة - أخبرت المریض الراحة لازمة - خبّرت البائع الأمانة أنفع له. والکثیر فی الأسالیب المأثورة أن یکون فیها تلک الأفعال الخمسة مبنیة للمجهول ، وأن یقع أول المفاعیل الثلاثة نائب فاعل مرفوعا ، ویبقی الثانی والثالث مفعولین صریحین. ومن الأمثلة قول الشاعر :
نبّئت نعمی علی الهجران عاتبة
سقیا ورعیا (3) لذاک العاتب
الزاری
وقد جاء فی القرآن «نبّأ» ناصبا مفعولا واحدا صریحا ، وسدّ مسدّ المفعولین الآخرین جملة «إن» مع معمولیها ، بعد أن علّقت الفعل عنها باللام فی قوله تعالی : (وَقالَ الَّذِینَ کَفَرُوا هَلْ نَدُلُّکُمْ عَلی رَجُلٍ یُنَبِّئُکُمْ - إِذا مُزِّقْتُمْ
ص: 58
کُلَّ مُمَزَّقٍ - إِنَّکُمْ لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ)(1).
ص: 59
(وَاعْبُدُوا اللهَ - وَلا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً)(1) - (شاع أن البغی وخیم العاقبة) - (اشتهر أن تنتقل العدوی من المریض للسلیم).
ومثال ما یشبه الفعل : أواقف علی الشجرة عصفورة - ما فرح أعداؤنا بوحدتنا وقوتنا. فکلمة : «عصفورة» فاعل للوصف ؛ (وهو : واقف ، اسم الفاعل) وکلمة : «أعداؤنا» فاعل للوصف : (فرح - الصفة المشبهة).
ومن أمثلة الفاعل الذی قام به الفعل أیضا : اتسعت میادین العمل فی بلادنا ، وتنوعت أسبابه ؛ فلن یضیق الرزق بطالبیه ما داموا جادّین.
ص: 62
یکون الفاعل مؤولا إذا وقع مصدرا منسبکا من حرف مصدری وصلته. وحروف المصادر خمسة (1) ، لکن الذی یصلح منها للسبک فی باب الفاعل ثلاثة (2) ؛ هی : «أن» - «أنّ» - «ما» ، المصدریة بنوعیها. مثل یسعدک أن تعمل الخیر ، ویسعدنی أنک حریص علیه. (أی : یسعدک عمل الخیر ویسعدنی حرصک علیه). ومثل : ینفعک ما أخلصت فی عملک - یسرنی ما طالت ساعات الصفو. (أی : ینفعک إخلاصک فی عملک - یسرنی مدة (3) إطالة ساعات الصفو). فلا یوجد المصدر المؤول إلا من اجتماع أمرین مذکورین - غالبا - (4) فی الکلام ، هما : حرف سابک وصلته. ولا یجوز حذف أحدهما إلا «أن» الناصبة للمضارع ؛
ص: 63
فإنها قد تحذف وحدها وجوبا أو جوازا فی مواضع معینة ، وتبقی صلتها - کما سیجیء (1) - ومع حذفها فی تلک المواضع تسبک مع صلتها الباقیة مصدرا یعرب علی حسب حالة الجملة. وقد حذفت سماعا فی غیر تلک المواضع ، وبقیت صلتها أیضا. وهو حذف شاذ لا یصح القیاس علیه. ومنه قولهم : وما راعنی إلا یسیر الرکب. أی : إلا أن یسیر ... والتقدیر ما راعنی إلا سیره ؛ فالمصدر المؤول فاعل. ومثله : یفرحنی یبرأ المریض ؛ أی : أن یبرأ والتقدیر : یفرحنی برؤه ؛ فالمصدر المنسبک فاعل. وهو نظیر المسموع ، وکلاهما لا یجوز القیاس علیه ، وإنما یذکر هنا لفهم المسموع الوارد فی الکلام العربی القدیم ، دون محاکاته.
وقد دعاهم إلی تقدیر «أن» حاجة الفعل الذی قبلها إلی فاعل ، فیکون المصدر المنسبک منها ومن صلتها فی محل رفع فاعلا. ولو لا هذا لکان الفاعل محذوفا أو جملة : (یسیر - یبرأ المریض) وکلاهما لا یرضی عنه النحاة ، لمخالفته الأعم الأغلب.
وبهذه المناسبة نشیر إلی أن الراجح الذی یلزمنا اتباعه الیوم یرفض أن تقع الجملة الفعلیة أو الاسمیة فاعلا. وأما قوله تعالی فی قصة یوسف : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآیاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ ...) فالفاعل ضمیر مستتر تقدیره : «هو» عائد علی المصدر المفهوم من الفعل. أی : بدا لهم بداء ، أی : ظهور رأی. وهذا أحد المواضع التی یستتر فیها الضمیر - کما سبق - (2).
وهناک رأی یجیز وقوعها فاعلا مطلقا. ورأی ثالث یجیز وقوعها فاعلا بشرط أن تکون فعلیة معلّقة (3) بفعل قلبیّ ، وأداة التعلیق الاستفهام ؛ کقوله تعالی : (وَتَبَیَّنَ لَکُمْ کَیْفَ)(4) فَعَلْنا بِهِمْ). والرأی الأول أکثر مسایرة للأصول
ص: 64
اللغویة ، وأبعد من التشتیت والتفریق ، وآثارهما السیئة فی الإبانة والتعبیر ، فالاقتصار علیه أولی.
نعم إن کانت الجملة مقصودا لفظها وحکایتها بحروفها وضبطها جاز وقوعها فاعلا ؛ لأنها - بسبب قصد لفظها - تعتبر بمنزلة المفرد ؛ کأن تسمع صوتا یقول : «رأیت البشیر». فتقول : «سرنی رأیت البشیر» ؛ فتکون الجملة کلها باعتبارها کتلة واحدة متماسکة ، فاعلا ، مرفوعا بضمة مقدرة علی آخره ، منع من ظهورها حرکة الحکایة (1)).
ص: 65
للفاعل أحکام تسعة ، لا بد أن تتحقق فیه مجتمعة :
أولها : أن یکون مرفوعا ، کالأمثلة المتقدمة. ویجوز أن یکون الفاعل مجرورا فی لفظه ، ولکنه فی محل رفع. ومن أمثلته إضافة المصدر إلی فاعله ؛ فی نحو : یسرنی إخراج الغنیّ الزکاة ؛ فکلمة : «الغنیّ» مضاف إلیه مجرور. وهی فاعل المصدر ؛ إذ المصدر هنا یعمل عمل فعله (1) : «أخرج» فیرفع مثله فاعلا ، وینصب مفعولا به ... وأصل الکلام : یعجبنی إخراج الغنیّ الزکاة ؛ ثم صار المصدر مضافا ، وصار فاعله مضافا إلیه مجرورا فی اللفظ ، ولکنه مرفوع فی المحل بحسب أصله (2) ، کما قلنا ؛ فیجوز فی تابعه (کالنعت ، أو غیره من التوابع الأربعة) (3) أن یکون مجرورا ؛ مراعاة للفظه ، ومرفوعا مراعاة للمحل ، تقول : یعجبنی إخراج الغنیّ المقتدر الزکاة ؛ برفع کلمة : «المقتدر» أو جرها.
ومن أمثلة ذلک أیضا الفاعل المجرور بحرف جرّ زائد. ویغلب أن یکون حرف الجر الزائد هو : «من» ، أو : «الباء» ، أو : «اللام». نحو : ما بقی من أنصار للظالمین - کفی (4) بالحق ناصرا ومعینا - هیهات لتحقیق الأمل بغیر الجهد الصادق. فکلمة : «أنصار» مجرورة فی اللفظ بحرف الجر الزائد : «من» ، ولکنها فی محل رفع فاعل ، وکلمة : «الحق» ، مجرورة بحرف الجر الزائد : «الباء» فی محل رفع ؛ لأنها «فاعل». وکذلک : کلمة : «تحقیق» مجرورة باللام الزائدة فی محل رفع ؛ لأنها فاعل لاسم الفعل : «هیهات».
ص: 66
فالفاعل فی الأمثلة الثلاثة وأشباهها مجرور اللفظ ، مرفوع المحل ؛ بحیث لو جاء بعده تابع (کالعطف ، أو غیره من التوابع الأربعة) لجاز فی تابعه الرفع والجر ؛ - کما أسلفنا - ففی المثال الأول نقول : ما بقی من أنصار وأعوان (1) للظالمین ؛ بالجر والرفع فی کلمة : «أعوان» المعطوفة. وفی المثال الثانی نقول : کفی بالحق والأخلاق ... بجر کلمة : «الأخلاق» ورفعها. وفی الثالث هیهات لتحقیق الأمل والفوز ... بجر کلمة : «الفوز» ورفعها (2).
ثانیها : أن یکون موجودا - ظاهرا ، أو مستترا - لأنه جزء أساسی (3) فی جملته ؛ لا بدّ منه ، ولا تستغنی الجملة عنه لتکملة معناها الأصیل مع عامله ؛ ولهذا لا یصح حذفه.
ص: 67
ویستثنی من هذا الحکم أربعة أشیاء (1) کل منها یحتاج للفاعل ، ولکنه قد یحذف - وجوبا ، أو جوازا - لداع یقتضی الحذف ؛ وهی :
(ا) أن یکون عامله مبنیّا للمجهول ؛ نحو : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ ...،) ومثل : إنّ القویّ یخاف بأسه. وأصل الکلام : کتب الله علیکم الصیام - إن القویّ یخاف الناس بأسه ... ثم بنی الفعل للمجهول ، فحذف الفاعل وجوبا ، وحلّ مکانه نائب له.
(ب) أن یکون الفاعل واو جماعة أو یاء مخاطبة ، وفعله مؤکد بنون التوکید ؛ کالذی فی خطبة أحد القوّاد ...
«أیها الأبطال ، لتهز من أعداءکم ، ولترفعنّ رایة بلادکم خفاقة بین رایات الأمم الحرة العظیمة ... فأبشری یا بلادی ؛ فو الله لتسمعنّ أخبار النصر المؤزّر (2) ، ولتفرحنّ بما کتب الله لک من عزة ، وقوة ، وارتقاء». (وأصل الکلام : تهزموننّ - ترفعوننّ - تسمعیننّ - تفرحیننّ - حذفت نون الرفع لتوالی الأمثال. ثم حذفت وجوبا واو الجماعة ، ویاء المخاطبة ؛ لالتقاء الساکنین) (3).
(ح) أن یکون عامله مصدرا ؛ مثل : إکرام الوالد (4) مطلوب. والحذف هنا جائز.
(د) أن یحذف جوازا مع عامله لداع بلاغی ، بشرط وجود دلیل یدل علیهما
ص: 68
مثل : من قابلت؟ فتقول : صدیقا (1). أی : قابلت صدیقا.
وفی بعض الأسالیب القدیمة التی نحاکیها الیوم ما قد یوهم أن الفاعل محذوف فی غیر المواضع السالفة ، لکن الحقیقة أنه لیس بمحذوف. ومن الأمثلة لهذا : أن یتکلم اثنان فی مسألة ، یختلفان فی تقدیرها ، والحکم علیها ، ثم ینتهی بهما الکلام إلی أن یقول أحدهما لصاحبه : إن کان لا یناسبک فافعل ما تشاء. ففاعل الفعل المضارع : «یناسب» لیس محذوفا ، ولکنه ضمیر مستتر یعود إلی شیء مفهوم من المقام. أی : إن کان لا یناسبک رأیی ، أو نصحی ، أو الحال الذی أنت فیه (2) ...
ومنها : أن یعلن أحدهما رأیه بقوة وتشدد ؛ فیقول أحد السامعین : ظهر - أو : تبین - أو : تکشف .... یرید : ظهر الحق ... أو تبین الحق ... أو : تکشف الحق.
وقصاری القول : لا بد - فی أکثر الحالات - من وجود الفاعل اسما ظاهرا ، أو ضمیرا مستترا أو بارزا. وقد یحذف أحیانا ؛ کما فی تلک المسائل الأربعة. وحذفه فی المسألتین الأولیین واجب ، أما فی الأخیرتین فجائز.
ص: 69
هناک أفعال لا تحتاج إلی فاعل مذکور أو محذوف ؛ منها : «کان» (1) الزائدة ؛ مثل : المال - کان - عماد للمشروعات العمرانیة. ومنها الفعل التالی لفعل آخر ؛ لیؤکده توکیدا لفظیّا ؛ مثل : (اقترب - اقترب - القطار) ؛ (فتهیأ - تهیأ - له). فالفعل الثانی منهما مؤکد للأول توکیدا لفظیّا ؛ فلا یحتاج لفاعل مع وجود الفاعل السابق.
ومنها أفعال اتصلت بآخرها : «ما» الکافة. (أی : التی تکفّ غیرها عن العمل ، وتمنع ما اتصلت به أن یؤثر فی معمول) مثل : طالما - کثر ما - قلّما ،. نحو : (طالما أوفیت بوعدک ، وکثر ما حمدت لک الوفاء ؛ وقلما (2) یخلف النبیل وعده) ویعرب کل واحد فعلا ماضیا مکفوفا عن العمل (أی : ممنوعا) بسبب وجود «ما» التی کفّته. وقد یقال فی الإعراب : طالما - أو : کثرما - أو : قلما - «کافة ومکفوفة» بمعنی : أن کل کلمة من الاثنتین کفّت الأخری ، ومنعتها من العمل ، فهی کافة لغیرها ، ومکفوفة بغیرها.
وهناک رأی أفضل ؛ یعرب الفعل ماضیا ، ویعرب «ما» مصدریة ، والمصدر المنسبک منها ومن صلتها فی محل رفع فاعل الفعل الماضی ؛ فالتقدیر : طال إیفاؤک الوعد - وکثر حمدی لک الوفاء - وقلّ إخلاف النبیل وعده. وإنما کان هذا الرأی أفضل لأنه یوافق الأصل العام الذی یقضی بأن یکون لکل فعل أصلیّ فاعل ؛ فلا داعی لإخراج هذه الأفعال من نطاق ذلک الأصل (3).
هذا ویقول اللغویون : إن تلک الأفعال - فی الرأی الأحسن الجدیر بالاتباع - لا یلیها إلا جملة فعلیة ؛ کالأمثلة السابقة.
ص: 70
ثالثها ؛ وجوب تأخیره عن عامله ، کالأمثلة السالفة. وقد یوجد فی بعض الأسالیب الفصحی ما یوهم أن الفاعل متقدم. والواقع أنه لیس بفاعل فی الرأی الأرجح ؛ ففی مثل : «الخیر زاد» ، لا تعرب کلمة : «الخیر» فاعلا مقدما ، وإنما هی مبتدأ. وفاعل الفعل بعده ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی الخیر ، والجملة الفعلیة خبر المبتدأ. وفی مثل : إن ملهوف استعان بک فعاونه ، تعرب کلمة : «ملهوف» فاعلا (1) بفعل محذوف یفسره الفعل بعدها ؛ والتقدیر : إن استعان بک ملهوف - استعان بک - فعاونه. ومثله : إن أحد استغاث بک فأغثه ... وقوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ) فالفاعل لا یکون متقدما. أما الاسم المتقدم علی الفعل فی تلک الأمثلة وأشباهها فقد یعرب حینا ، مبتدأ ، وفاعل الفعل الذی بعده ضمیر مستتر یعود علی ذلک الاسم ، وقد یعرب فی حالات أخری فاعلا لفعل محذوف یفسره المذکور بعده (2) ، أو غیر هذا ...
رابعها : أن یتجرد عامله (فعلا کان ، أو شبه فعل) من علامة فی آخره تدل علی التثنیة أو علی الجمع حین یکون الفاعل اسما ظاهرا مثنی أو جمعا ، نحو : طلع النّیران - أقبل المهنئون - برعت الفتیات فی الحرف المنزلیة. فلا یصح فی الأمثلة السابقة وأشباهها أن یتصل بآخر الفعل ألف تثنیة ، ولا واو جماعة ، ولا نون نسوة ؛ فلا یقال : طلعا النیران - أقبلوا المهنئون - برعن
ص: 71
الفتیات (1) ... إلا علی لغة تزید هذه الحروف مع وجود الفاعل الظاهر بعدها. وهی لغة فصیحة (2) ، ولکنها لم تبلغ من درجة الشیوع والجری علی ألسنة الفصحاء ما بلغته الأولی التی یحسن الاکتفاء بها الیوم ، والاقتصار علیها ؛ إیثارا للأشهر ، وتوحیدا للبیان.
ومثل الفعل فی الحکم السابق ما یشبهه فی العمل ، فلا یقال فی اللغة الشائعة : هل المتکلمان غریبان؟ هل المتکلمون غریبون ، بإعراب کلمتی : «غریبان» و «غریبون» فاعلا للوصف ، ویجوز علی اللغة الأخری (3).
ص: 72
خامسها : أن عامله قد یکون مضمرا (أی محذوف اللفظ) جوازا أو وجوبا : (ا) فیضمر العامل (أی : یحذف لفظه) جوازا حین یکون واقعا فی جواب استفهام ظاهر الأداة ، تشتمل جملته علی نظیر العامل المحذوف. نحو : من انتصر؟ فتجیب : الشجاع. أی : انتصر الشجاع ... ونحو : أحضر الیوم أحد؟ فتجیب : الضیف ، أی : حضر الضیف ...
أو واقعا فی جواب استفهام ضمنی مفهوم من السیاق من غیر تصریح بأداته ودلالته ؛ نحو : ظهر المصلح فاشتد الفرح به ... العلماء - القادة - الجنود - أی : فرح العلماء - فرح القادة - فرح الجنود - ... فکأن سائلا سأل : من فرح به؟ فکان الجواب : العلماء ... فالاستفهام غیر صریح ، ولکنه مفهوم من مضمون الکلام. ومثل : ازدحم الطریق ؛ الأولاد ، السیارات ، الدراجات ... أی : زحمه الأولاد ، زحمته السیارات ... زحمته الدّرّاجات ... فلیس فی الکلام استفهام صریح ، وإنما فیه استفهام ضمنیّ ، أو مقدر یفهم من السیاق ؛ فکأن أصل الکلام : من زحمه؟ فأجیب : الأولاد ، أی : زحمه الأولاد ... ومثل : العید بهجة مأمولة ، وفرحة مشترکة. الکبار ، الأطفال ، الرجال ، النساء ... ففی الکلام سؤال ضمنی أو مقدر ؛ هو : من یشترک فیها؟ فأجیب : الکبار ... أی : یشترک فیها الکبار ... ومثل : لم یدخل الحزن قلبک لموت فلان ... فتقول : بل أعظم الحزن. فکأن أصل الکلام : أهذا صحیح؟ فأجبت : أعظم الحزن ، أی : بل دخله أعظم الحزن ... وهکذا (1).
(ب) ویضمر العامل وجوبا حین یکون مفسّرا بما بعد فاعله من فعل آخر (أو ما یشبهه) یعمل مباشرة فی ضمیر یعود علی الفاعل الظاهر السابق ، أو : فی اسم مضاف إلی ضمیر (2) یعود علی ذلک الفاعل ؛ نحو : إن ضعیف
ص: 73
استنصرک فانصره - إن صدیق حضر والده فأحسن استقباله. فالفعل : «استنصر» و «حضر» هو المفسّر للفعل المحذوف. وأصل الکلام : إن استنصرک ضعیف استنصرک ، وفاعل الفعل المفسّر ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی فاعل الفعل المحذوف. وکذلک فاعل الفعل : «حضر» فإنه مفسّر لفعل محذوف ، والتقدیر : إن لابس صدیق حضر والده فأحسن استقباله (1) ؛ فالضمیر فی کلمة : «والده» مضاف إلیه ، والمضاف هو کلمة : «الوالد» المعمولة للفعل المفسّر : «حضر». وفی هذین المثالین وأشباههما لا یجوز الجمع بین المفسّر والمفسّر ؛ لأن المفسّر هنا یدل علی الأول ، ویغنی عنه ؛ فهو کالعوض ، ولا یجوز الجمع بین العوض والمعوض عنه (2).
سادسها : أن یتصل بعامله علامة تأنیث تدل علی تأنیثه (أی : علی تأنیث الفاعل حین یکون مؤنثا ، هو ، أو نائبه) (3) ، وزیادتها علی الوجه الآتی :
(ا) إن کان العامل فعلا ماضیا لحقت آخره تاء التأنیث الساکنة (4) ، مثل قول شوقی فی سکینة بنت الحسین بن علیّ - رضی الله عنهما - :
کانت سکینة تملأ الدّنیا ، وتهزأ بالرواة
روت الحدیث ، وفسرت
آی الکتاب البینات
ص: 74
(ب) إن کان العامل مضارعا فاعله المؤنث اسم ظاهر ، للمفردة ، أو لمثناها ، أو جمعها ، لحقت أوله تاء متحرکة : مثل : تتعلم عائشة ، تتعلم العائشتان - تتعلم العائشات. وکذلک إن کان فاعله ضمیرا متصلا للغائبة المفردة أو لمثناها (1) ، مثل : عائشة تتعلم (2) - العائشتان تتعلمان. ومثل قولهم : عجبت للباغی کیف تهدأ نفسه ، وتنام عیناه ، وهو یعلم أن عین الله لا تنام؟ وکالمضارع «تملأ» و «تهزأ» فی البیت السالف.
فإن کان فاعله ضمیرا متصلا لجمع الغائبات (أی : نون النسوة) فالأحسن - ولیس بالواجب (3) - تصدیره بالیاء ، لا بالتاء ؛ استغناء بنون النسوة فی آخره ؛ نحو : الوالدات یبذلن الطاقة فی حمایة الأولاد ، ویسهرن اللیالی فی رعایتهم.
(ج) إن کان العامل وصفا لحقت آخره تاء التأنیث المربوطة (4) ؛ مثل : أساهرة والدة الطفل؟ ...
وحکم زیادة تاء التأنیث عام ینطبق علی المواضع الثلاثة السالفة (ا - ب - ج) غیر أن زیادتها قد تکون واجبة ، وقد تکون جائزة. فتجب فی حالتین :
الحالة الأولی : أن یکون الفاعل اسما ظاهرا ، حقیقی التأنیث (5) ، متصلا
ص: 75
بعامله مباشرة ، غیر مراد منه الجنس ، وغیر جمع (1) - وما یجری مجراه - کقولهم : سعدت امرأة عرفت ربها حق المعرفة ؛ فأطاعته. وشقیت امرأة لم تراقبه فی السّرّ والعلن. ویلاحظ التفصیل الآتی :
1 - إن کان الفاعل اسما ظاهرا مؤنثا حقیقیّا ولکنه مفصول من عامله بفاصل جاز تأنیث العامل وعدم تأنیثه (2) ؛ نحو : نسّق الزهر مهندسة بارعة. أو نسّقت ... ومثل : ما صاح إلا طفلة صغیرة ، أو : صاحت ، وعدم التأنیث هو الأفصح حین یکون الفاصل کلمة ... «إلا» (3) والأفصح مع غیرها التأنیث (4).
ص: 76
2 - وکذلک یصح الأمران إن کان للفاعل ظاهرا ، ومؤنثا حقیقیّا غیر مفصول ، ولکن لا یراد به فرد معین ، وإنما یراد به الجنس کله ممثلا فی الفاعل ، فکأن الفاعل رمز لجنس معناه ، أو مراد به ذلک الجنس کله. ومنه «الفاعل» الذی فعله : «نعم» أو «بئس» أو أخواتهما (1). فیجوز إثبات علامة التأنیث وحذفها. نحو : نعم الأمّ ، ترعی أولادها ، وتشرف علی شئون بیتها ... فکلمة «الأم» هنا لا یراد بها واحدة معینة ، وإنما یرمز بها إلی جنس الأم من غیر تحدید ولا تخصیص. وهذا علی اعتبار «أل» جنسیة (2) ؛ فیجوز أن یقال : نعم الأم ، ونعمت الأم (3).
3 - وکذلک إن کان الفاعل ظاهرا ولکنه جمع تکسیر للإناث أو الذکور فیصح تأنیث العامل ، وعدم تأنیثه ؛ نحو : عرفت الفواطم طریق السداد ،
ص: 77
واتبعت الهنود سبل الرشاد. ویصح : عرف .. واتّبع ... ؛ فالتأنیث علی قصد تأویل الفاعل بالجماعة ، أو الفئة ، ... وعدم التأنیث علی قصد تأویله بالجمع أو الفریق ؛ فکأنک فی الحالة الأولی تقول : عرفت جماعة الفواطم طریق السّداد ، واتبعت جماعة الهنود سبل الرشاد. وکأنک فی الحالة الثانیة تقول : عرف جمع الفواطم (1) ... واتبع جمع الهنود (2) ... فالتأنیث ملاحظ فیه معنی «الجماعة» والتذکیر ملاحظ فیه معنی «الجمع». وکأن العامل مسند إلی هذه أو تلک ؛ ویجری التأنیث أو التذکیر علی أحد الاعتبارین.
ومثل قولهم : إذا دعا البدوی استجاب سکان الحی لدعوته ؛ فأسرع الرجال إلیه ، وبادر الفتیان لنجدته ... ویجوز : استجابت - أسرعت - بادرت ؛ فیجری التأنیث أو التذکیر هنا - کما فی سابقتها - علی أحد الاعتبارین.
ویجری علی اسم الجمع (3) واسم الجنس الجمعی (4) المعرب (5) ، ما یجری علی جمع التکسیر ؛ نحو : قالت طائفة لا تسالموا العدوّ. ونحو : شربت البقر ... ویجوز : «قال ، وشرب» (6) ...
ص: 78
4 - وإن کان الفاعل الظاهر جمع مؤنث سالما - مستوفیا للشروط (1) - فحکمه کحکم مفرده ؛ فیجب تأنیث عامله - فی الرأی الأقوی - کقولهم : بلغت الأعرابیات فی قوة البیان وبلاغة القول مبلغ الرجال ، وکانت الشاعرات تجید القریض کالشعراء ، وربما سبقت شاعرة کثیرا من الفحول ...
فإن لم یکن مستوفیا للشروط جاز الأمران ؛ نحو : أعلنت الطلحات السفر ، أو أعلن ... (جمع : طلحة ، اسم رجل) ؛ وکقول بعض المؤرخین : (لما تمت «أذرعات» (2) بناء وعمرانا هیأ والیها طعاما للفقراء ، ونظر فإذا جمع من النساء مقبل ؛ فقال : الحمد لله ، أقبل أولات الفضل ممن عملن بأنفسهن ، وساعدن بأولادهن ؛ ابتغاء مرضاة الله ...) فیصح فی الفعلین : «تمّ ...» - «أقبل ...» زیادة تاء التأنیث فی آخرهما ، أو عدم زیادتها.
وبدیه أن الفاعل إذا کان جمع مذکر سالما مستوفیا للشروط ، لا یجوز - فی الرأی الأصح - تأنیث عامله ؛ وإنما یحکم له بحکم مفرده ؛ کقولهم : «أسرع المحاربون إلی لقاء العدو ، فرحین ، ولم یتزحزح الواقفون فی الصفوف الأمامیة ، ولم یتقهقر الواقفون فی الصفوف الخلفیة ؛ حتی کتب الله لهم النصر ، وفاز المخلصون بما یبتغون».
فإن کان غیر مستوف للشروط (3) جاز الأمران علی الاعتبارین السالفین - (معنی الجمع أو : معنی الجماعة) نحو : أظهر أولو العلم فی السنوات الأخیرة عجائب ؛ لم یشهد الأرضون مثلها من بدء الخلیقة ، وشاهد العالمون من آثار العبقریة ما جعلهم یرفعون العلم والعلماء إلی أعلی الدرجات ... ؛ فیصح فی الأفعال
ص: 79
المذکورة عدم إلحاق علامة التأنیث بها کما هنا ، أو زیادتها فیقال : أظهرت - - تشهد - شاهدت ...
5 - وإن کان الفاعل الظاهر مؤنثا غیر حقیقیّ (وهو المجازیّ) صح تأنیث عامله وعدم تأنیثه ؛ نحو : امتلأت الحدیقة بالأزهار - تمتلئ الحدیقة بالأزهار. ویصح : امتلأ ، ویمتلئ.
6 - هناک صور للفاعل المؤنث الحقیقی لا یصح أن یؤنث فیها عامله ، منها : أن یکون الفاعل هو التاء التی للمفردة ؛ مثل : کتبت - أو لمثناها ؛ نحو کتبتما ، أو التی معها نون النسوة ؛ مثل کتبتن (1) ... أو یکون الفاعل هو : «نا» التی لجماعة المتکلمات ؛ نحو : کتبنا. أو نون النسوة ؛ نحو کتبن ...
ومنها : أن یکون الفاعل المؤنث الحقیقی مجرورا فی اللفظ بالباء التی هی حرف جرّ زائد ، وفعله هو : کلمة : «کفی» مثل : «کفی بهند شاعرة (2)».
* * *
الحالة الثانیة (3) : أن یکون الفاعل ضمیرا متصلا عائدا علی مؤنث مجازیّ ، أو حقیقی ؛ کقولهم : بلادک أحسنت إلیک طفلا ، وأفاءت علیک الخیر یافعا ؛ فمن حقها أن تسترد جزاءها منک شابّا وکهلا. وکقولهم : الأم المتعلمة تحسن رعایة أبنائها ؛ فترفع شأن بلادها ... (4) ففاعل الأفعال (وهی : أحسن - أفاء - تسترد ...) ضمیر مستتر تقدیره : «هی» ، یعود علی مؤنث مجازیّ ، وأما فاعل
ص: 80
الفعلین : (تحسن - ترفع ...) فضمیر مستتر تقدیره : «هی» یعود علی مؤنث حقیقی ...
فإن کان الفاعل ضمیرا بارزا منفصلا کان الأفصح الشائع فی الأسالیب العالیة عدم تأنیث عامله : نحو : (ما فاز إلا أنت یا فتاة الحیّ) - (الفتاة ما فاز إلا هی) - (إنما فاز أنت - إنما فاز هی) ، و... وأشباه هذه الصّور مما یقال عند إرادة الحصر. ومع أن التأنیث جائز فإن الفصحاء یفرون منه.
ص: 81
(ا) اسم الجنس الجمعیّ الذی یفرق بینه وبین واحده بالتاء المربوطة - إذا وقع مفرده هذا فاعلا وجب تأنیث عامله مطلقا ؛ (أی : سواء أکان من الممکن تمییز مذکره من مؤنثه ، کبقرة وشاة ، أم لم یمکن ؛ کنملة ودودة) ؛ فیقال : سارت بقرة - أکلت شاة - دأبت نملة علی العمل - ماتت دودة.
أما اسم الجنس المفرد الخالی من التاء الذی لا یمکن تمییز مذکره من مؤنثه فیجب تذکیر عامله ، ولو أرید به مؤنث ؛ مثل : صاح هدهد - غرد بلبل ، ... فإن أمکن تمییز مذکره من مؤنثه روعی فی تأنیث العامل وعدم تأنیثه ما یدل علیه التمییز. فالمعول علیه فی تأنیث عامل اسم الجنس المفرد الخالی من التاء ، أو عدم تأنیثه - هو مراعاة اللفظ عند عدم التمییز.
(ب) إذا کان الفاعل جمعا یجوز فی عامله التذکیر والتأنیث (کجمع التکسیر) فإن الضمیر الغائد علی ذلک الفاعل یجوز فیه أیضا التذکیر والتأنیث ؛ نحو : قامت الرجال کلهم - أو قام الرجال کلها ... والأحسن لدی البلغاء موافقة الضمیر للعامل فی التذکیر وعدمه ؛ نحو : قامت الرجال کلها ، أو قام الرجال کلهم ، ونحو : حضرت الأبطال کلها ، أو : حضر الأبطال کلهم ، وذلک لیسیر الکلام علی نسق متماثل.
(ح) کما تلحق تاء التأنیث الفعل فی المواضع السابقة تلحق أیضا الوصف - کما سبق (1) - إلا إذا کان الوصف مما یغلب علیه ألّا تلحقه التاء ؛ مثل : «فعول» ، بمعنی : «فاعل» ؛ کصبور ، وجحود ... ومثل : «فعیل» بمعنی : مفعول ؛ کطریح وطرید ، بمعنی : مطروح ، ومطرود (2). ومثل : التفضیل (3) فی بعض صوره. وکذلک لا تلحق آخر اسم الفعل (4) ؛ کهیهات. ولا العامل إذا کان
ص: 82
شبه جملة علی الرأی الذی یجعل شبه الجملة رافعا فاعلا بشروط اشترطها. وهو رأی یحسن إغفاله الیوم.
(د) إذا قصد لفظ کلمة ما ؛ (اسما کانت ، أو فعلا ، أو حرفا) جاز اعتبارها مذکرة علی نیة : «لفظ» أو مؤنثة علی نیة : «کلمة». وکذلک حروف الهجاء فی الرأی الأشهر ؛ تقول فی کلمة سمعتها مثل : «هواء» أعجبنی الهواء ، أو : أعجبتنی الهواء. فالأولی علی إرادة : أعجبنی لفظ : «الهواء» والثانیة علی إرادة : أعجبتنی کلمة : «الهواء». وتقول فی إعراب : «أعجب» إنه فعل ماض ، أو إنها فعل ماض ...
وتقول «أل» هو : حرف یفید التعریف أحیانا. أو : هی حرف تفید التعریف أحیانا. وهکذا ...
وتنظر للحرف الهجائی «المیم» مثلا فتقول : إنه جمیل المنظر ، أو إنها جمیلة المنظر ... وعلی حسب التذکیر أو التأنیث فی کل ما سبق ، یذکر أو یؤنث العامل والضمائر وغیرها.
(ه) الأحکام الخاصة بالتذکیر والتأنیث المترتبین علی وقوع الفاعل مفردا مؤنثا. تطبّق أیضا حین وقوعه مثنی مؤنثا ، فیجری علی عامل الفاعل المؤنث المثنی. وعلی الضمائر العائدة علیه من التذکیر والتأنیث ، ما یجری علیهما مع الفاعل المفرد المؤنث - کما یفهم مما سبق -.
ص: 83
سابعها : أن یتقدم - أحیانا - علی المفعول به ؛ کالأمثلة السابقة ، وکقول الشاعر:
وإذا أراد الله أمرا لم تجد
لقضائه ردّا ولا تحویلا
ولهذا التقدم أحوال ثلاث ؛ فقد یکون واجبا ، وقد یکون ممنوعا ، وقد یکون جائزا.
(ا) فیجب الترتیب بتقدیم الفاعل وتأخیر مفعوله فی مواضع ، أشهرها :
1 - خوف اللّبس الذی لا یمکن معه تمییز الفاعل من المفعول به ؛ کأن یکون کل منهما اسما مقصورا ؛ نحو : ساعد عیسی یحیی. أو مضافا لیاء المتکلم ؛ نحو : کرّم صدیقی أبی (1). فلو تقدم المفعول به علی الفاعل لخفیت حقیقة کل منهما. وفسد المراد بسبب خفائها ؛ لعدم وجود قرینة تزیل هذا الغموض (2) واللبس. فإن وجدت قرینة لفظیة أو معنویة تزیله لم یکن الترتیب واجبا. فمثال اللفظیة : أکرمت یحیی سعدی ، فوجود تاء التأنیث فی الفعل دلیل علی أن الفاعل هو المؤنث (سعدی) ، ومثل : کلّم فتاه یحیی ؛ لأن عودة الضمیر علی «یحیی» دلیل علی أنه الفاعل ، وأنه متقدم فی الرتبة (3) ، برغم تأخره فی اللفظ. (ولهذا یسمّی المتقدم خ خ حکما). ولم یکن مفعولا به لکیلا یعود الضمیر علی شیء متأخر فی اللفظ والرتبة ؛ وهذا أمر لا یسایر الأسالیب الصحیحة التی تقضی بأن الضمیر لا بد أن یعود علی متقدم فی الرتبة ، إلا فی بعض مواضع (4) معینة ، لیس منها هذا الموضع.
ومثال المعنویة : أتعبت نعمی الحمّی. فالمعنی یقتضی أن تکون «الحمّی» هی الفاعل ؛ لأنها هی التی تتعب «نعمی» ، لا العکس.
2 - أن یکون الفاعل ضمیرا متصلا والمفعول به اسما ظاهرا ؛ نحو : أتقنت العمل ، وأحکمت أمره. ولا مانع فی مثل هذه الصورة من تقدم المفعول به علی
ص: 84
الفعل والفاعل معا ؛ لأن الممنوع أن یتقدم علی الفاعل وحده ، فیتوسط بینه وبین الفعل.
3 - أن یکون کل منهما ضمیرا متصلا ولا حصر (1) فی أحدهما ؛ نحو عاونتک کما عاونتنی.
4 - أن یکون المفعول به قد وقع علیه الحصر. (والغالب أن تکون أداة الحصر هی : «إنّما» أو «إلا» المسبوقة بالنفی) ، نحو : إنما یفید الدواء المریض ، أو : ما أفاد الدواء إلا المریض.
وقد یجوز تقدیم المفعول به علی فاعله إذا کان المفعول محصورا بإلا المسبوقة بالنفی ، بشرط أن تتقدم معه «إلا» ؛ نحو : ما أفاد - إلا المریض - الدواء (2). ومع جواز هذا التقدیم لا یمیل أهل المقدرة البلاغیة إلی اصطناعه ؛ لمخالفته الشائع بین کبار الأدباء.
(ب) ویجب إهمال الترتیب ، وتقدیم المفعول به علی الفاعل فیما یأتی :
1 - أن یکون الفاعل مشتملا علی ضمیر یعود علی ذلک المفعول به ، نحو : صان الثوب لابسه - قرأ الکتاب صاحبه. ففی الفاعل (وهو : لابس - صاحب) ضمیر یعود علی المفعول به السابق (3). فلو تأخر المفعول به لعاد ذلک الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة (4) ؛ وهو مرفوض فی هذا الموضع. أما عوده علی المتأخر لفظا
ص: 85
دون رتبة - وهو المسمی بالمتقدم حکما - فجائز. ومن أمثلته : عود الضمیر من مفعول به متقدم علی فاعله المتأخر ؛ نحو ؛ حملت ثمارها الشجرة - فالضمیر «ها» فی المفعول عائد علی «الشجرة» التی هی الفاعل المتأخر فی اللفظ ، دون الرتبة ؛ لأن ترتیب الفاعل فی تکوین الجملة العربیة یسبق المفعول به. ونحو : أفادت صاحبها الریاضة - أروی حقله الزارع ... أما عودة الضمیر علی المتأخر لفظا ورتبة فکما عرفنا - ممنوعة إلا فی بعض مواضع محددة. وقد وردت أمثلة قدیمة عاد الضمیر فیها علی متأخر لفظا ورتبة فی غیر تلک المواضع ؛ فحکم علیها بالشذوذ وبعدم صحة محاکاتها ، إلا فی الضرورة الشعریة ، بشرط وضوح المعنی ، وتمییز الفاعل من المفعول به ؛ فمن الخطأ أن نقول : أطاع ولدها الأمّ - أرضی ابنه أباه.
2 - أن یکون الفاعل قد وقع علیه الحصر (بأداة یغلب أن تکون «إلا» المسبوقة بالنفی ، أو «إنما»). نحو : لا ینفع المرء إلا العمل الحمید - إنما ینفع المرء العمل الحمید. وقد یجوز تقدیم المحصور «بإلا» علی مفعوله إذا هی تقدمت معه وسبقته ؛ نحو : لا ینفع إلا العمل الحمید المرء ...
«ملاحظة» : ستأتی (1) مواضع یجب أن یتقدم فیها المفعول به علی عامله ، فیکون متقدما علی فاعله تبعا لذلک.
(ح) فی غیر ما سبق (فی : ا ، ب) یجوز الترتیب وعدمه. ومن أمثلة تقدیم الفاعل علی المفعول جوازا قول الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضیلة
طویت أتاح لها لسان حسود
ص: 86
ومن أمثلة تقدیم المفعول به علی فاعله وحده : الجهل لا یلد الضیاء ظلامه ... وقول الشاعر :
أبت لی حمل الضّیم نفس أبیة
وقلب إذا سیم الأذی شبّ وقده (1)
ویفهم من الأقسام السالفة أن المواضع التی یتقدم فیها الفاعل وجوبا - هی عینها المواضع التی یتأخر فیها المفعول به وجوبا ، فیمتنع تقدیمه علی فاعله. والعکس صحیح کذلک ؛ فالمواضع التی یتقدم فیها المفعول به علی فاعله وجوبا هی عینها المواضع التی یتأخر فیها الفاعل وجوبا ، ویمتنع تقدیمه علیه. وحیث لا وجوب فی التقدیم أو التأخیر یجوز الأمران ، ولا یمتنع تقدیم هذا أو ذاک.
* * *
بقیت مسألة الترتیب بینهما وبین عاملهما. وملخص القول فیها : أنّ الفاعل لا یجوز تقدیمه علی عامله - کما سبق (2) - وأن المفعول به یجب تقدیمه علی عامله فی صور (3) ، ویمتنع فی أخری ؛ ویجوز فی غیرهما.
- ا - فیجب تقدیمه :
1 - إن کان اسما له الصدارة فی جملته ؛ کأن یکون اسم استفهام ، أو اسم شرط .. ؛ نحو ؛ من قابلت؟ - أیّ نبیل تکرّم أکرّم ... وکذلک إن کان مضافا لاسم له الصدارة ؛ نحو : صدیق من قابلت؟ - صاحب أیّ نبیل تکرّم أکرّم ...
2 - کذلک یجب تقدیمه إن کان ضمیرا منفصلا لو تأخر عن عامله لوجب اتصاله (4) به ؛ کقولهم : «أیها الأحرار : إیاکم نخاطب ، وإیاکم ترقب البلاد ...» فلو تأخر المفعول به : (إیا) لاتّصل بالفعل ، وصار الکلام : نخاطبکم ... ترقبکم .. ؛ فیضیع الغرض البلاغی من التقدیم (وهو : الحصر).
3 - وکذلک یجب تقدیمه إذا کان عامله مقرونا بفاء الجزاء (5) فی جواب
ص: 87
«أمّا» الشرطیة الظاهرة أو المقدرة ، ولا اسم یفصل بین هذا العامل وأما. فیجب تقدیم المفعول به لیکون فاصلا ، لأن الفعل - وخاصة المقرون بفاء الجزاء - لا یلی «أمّا» الشرطیة (1). ومن الأمثلة قوله تعالی : (فَأَمَّا الْیَتِیمَ ، فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ،) وقوله : (وَرَبَّکَ فَکَبِّرْ ، وَثِیابَکَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ...)(2) بخلاف : أما الیوم فساعد نفسک ، حیث لا یجب تقدیم المفعول به ، لوجود الفاصل ؛ وهو هنا : الظرف (3).
ب - ویمتنع تقدیم المفعول به علی عامله فی الصور الآتیة (4) : (وقد سبقت الإشارة لبعضها).
1 - جمیع الصور التی یمتنع فیها تقدمه علی فاعله ، وقد سبقت (5) ؛ (ومنها أن یکون تقدمه موقعا فی لبس ، نحو : ساعد یحیی عیسی. فلو تقدم المفعول به - من غیر قرینة - لالتبس بالمبتدأ ، ومهمة المبتدأ المعنویة تخالف مهمة الفاعل. وکذلک بقیة الصور الأخری) ما عدا الثانیة ؛ فیجوز فیها الأمران.
2 - أن یکون مفعولا لفعل التعجب «أفعل» فی مثل : ما أعجب قدرة الله التی خلقت هذا الکون.
3 - أن یکون محصورا بأداة حصر ؛ هی : «إلا» المسبوقة بالنفی ، أو «إنما» نحو : لا یقول الشریف إلا الصدق - إنما یقول الشریف الصدق.
4 - أن یکون مصدرا مؤولا من «أنّ المشددة أو المخففة» مع معمولیها ؛ نحو : عرف الناس أنّ الکواکب تفوق الحصر ، وأیقن العلماء أن بعض منها قریب الشبه بالأرض. إلا إن کانت «أنّ» مع معمولیها مسبوقة بأداة الشرط :
ص: 88
«أمّا» ؛ نحو : أمّا أنک فاضل فعرفت. لأن «أمّا» لا تدخل إلا علی الاسم.
5 - أن یکون واقعا فی صلة حرف مصدری (1) ینصب الفعل (وهو : أن - کی) فی نحو : سرنی أن تقرن القول الحسن بالعمل الأحسن ؛ لکی یرفع الناس قدرک. فإن کان واقعا فی صلة حرف مصدری غیر ناصب جاز - فی رأی - تقدیمه علی عامله ، لا علی الحرف المصدری ؛ نحو : أبتهج ما الکبیر احترم الصغیر. والأصل : أبتهج ما احترم الصغیر الکبیر ، وامتنع - فی رأی آخر (2) - تقدیمه علی عامله. وهذا الرأی أقوی وأنسب فی غیر صلة «ما» المصدریة (3).
6 - أن یکون مفعولا لعامل مجزوم بحرف جزم یجزم فعلا واحدا (4). فیجوز تقدمه علی عامله وعلی الجازم معا ، ولا یجوز تقدمه علی العامل دون الجازم ؛ تقول : وعدا لم أخلف ، وإساءة لم أفعل. ولا یصح : لم وعدا أخلف ، ولم إساءة أفعل.
7 - أن یکون مفعولا به لفعل منصوب بالحرف : «لن» ، فلا یجوز أن یتقدم علی عامله فقط. وإنما یجوز أن یتقدم علیه وعلی «لن» معا ، نحو : ظلما لن أحاول ، وعدوانا لن أبدأ (5).
ص: 89
وفی غیر مواضع التقدیم الواجب ، والتأخیر الواجب (1) ، یجوز الأمران.
ص: 90
هناک مواضع أخری لا یجوز فیها تقدم المفعول به علی عامله. منها (1) : أن یکون مفعولا به لفعل مؤکد بالنون. نحو : حاربن هواک.
أو مفعولا به لفعل مسبوق بلام الابتداء ؛ ولیس قبلها «إنّ» ؛ فلا یصح : فی مثل : لینصر (2) الشریف أهل الحق ... أن یقال : أهل الحق لینصر الشریف. ویصح أن یقال : إن الشریف أهل الحق لینصر.
أو یکون فعله مسبوقا بلام القسم ؛ نحو : والله لفی غد أقضی حق الأهل.
أو مسبوقا بالحرف : «قد» نحو : قد یدرک المتأنی غایته ؛ أو : «سوف» ؛ نحو : سوف أعمل الخیر جهدی.
أو باللفظ : «قلما» ؛ نحو : قلما أخرت زیارة واجبة.
أو : «ربما» نحو : ربما أهلکت البعوضة الفیل.
ص: 91
ثامنها : عدم تعدّده ؛ فلا یصح أن یکون للفعل وشبهه إلا فاعل واحد. أما مثل : تصافح علیّ وأمین ، ومثل : تسابق حلیم ، ومحمود ، وسلیم ، و.. فإن الفاعل هو الأول ، وما بعده معطوف علیه. ولا یصح فی الاصطلاح النحویّ إعراب ما بعده فاعلا ، برغم أن أثر الفعل ومعناه متساو بین الأول وغیره (1).
تاسعها : إغناؤه عن الخبر حین یکون المبتدأ وصفا مستوفیا الشروط (2) ؛ مثل : أمتقن الصانعان؟
ص: 92
مسألة أخیرة : عرض بعض (1) النحاة لما سمّاه : «الاشتباه بین الفاعل والمفعول به» وصعوبة التمییز بینهما فی بعض الأسالیب. وأن ذلک یکثر حین یکون أحدهما اسما ناقصا (أی : محتاجا لتکملة بعده تبین معناه ؛ کاسم الموصول ، و «ما» الموصوفة ...) والآخر اسما تامّا ؛ أی : لا یحتاج للتکملة. وضرب لذلک مثلا هو : «أعجب الرجل ما کره الأخ». فما الفاعل فی الجملة السابقة؟ أهو کلمة : «الرجل» ، أم کلمة : «ما» التی بعده؟ وما المفعول به فی الحالتین؟
وقد وضع ضابطا مستقلا لإزالة الاشتباه ؛ ملخصه :
(ا) أن نفرض الاسم التام هو الفاعل ؛ فنضع مکانه ضمیرا مرفوعا للمتکلم ، ونفرض الاسم الناقص هو المفعول به ، ونضع مکانه اسما ظاهرا ، منصوبا. أیّ اسم ، بشرط أن یکون من جنسه (2) ؛ (حیوانا مثله إن کان المراد من الاسم الناقص حیوانا ، وغیر حیوان إن کان الناقص کذلک) فإن استقام المعنی مع هذا الفرض فالضبط الأول صحیح ، علی اعتبار أن الاسم التام هو الفاعل ، وأن الناقص هو المفعول به. وإن لم یستقم المعنی لم یصح الضبط السابق. نقول فی المثال السالف أعجبت الثوب. فالتاء ضمیر للفاعل المتکلم ، جاءت بدلا من الاسم التام (الرجل) وکلمة : «الثوب» جاءت بدلا من الاسم الناقص : «ما» وهی من جنسه ، باعتباره من جنس غیر حیوانی. وقد ظهر أن المعنی علی هذا الفرض غیر مستقیم ؛ وهذا ینتهی إلی أن الضبط الذی کان قبله غیر صحیح أیضا.
فإن کان المقصود من : «ما» ، إنسانا مثلا ، فوضعنا مکانها فردا من أفراد الإنسان فقلنا : أعجبت محمدا ... - صحّ الفرض وصح الضبط الذی کان قبله.
(ب) نفرض الاسم التام : «الرجل» فی المثال السابق هو المفعول به. «وما» هی الفاعل ؛ فنضع مکان المفعول به ضمیرا منصوبا للمتکلم ، ونضع
ص: 93
مکان الناقص اسما ظاهرا ، أیّ اسم ، بشرط أن یکون من جنسه ؛ فإن استقام المعنی صح الضبط السابق وإلا فلا یصح ؛ نقول : أعجبنی الثوب ؛ إن کان المراد من «ما» شیئا غیر حیوانیّ ، فیستقیم المعنی ویصح الضبط الأول.
(ح) إذا لم یصلح المعنی علی اعتبار الاسم التام فاعلا أجریت التجربة علی اعتباره مفعولا به ، وکذلک العکس إلی أن یستقیم.
وکالمثال السالف : أمکن المسافر السفر (1) ، بنصب : المسافر ، کما یدل علی هذا الضابط السالف ؛ لأنک تقول : أمکننی السفر ؛ بمعنی : مکّننی فاستطعته ، ولا تقول : أمکنت السفر ...
والحق أن هذه المسألة التی عرض لها بعض النحاة لا تفهم بضابطهم (2) ، ولا یزول ما فیها من اشتباه إلا بفهم مفرداتها اللغویة ، وقیام قرینة تدل علی الفاعل والمفعول به ، وتفرق بینهما. أما ذلک الضابط وما یحتویه من فروض فلا یزیل شبهة ، ولا یکشفها ؛ لأنه قائم علی أساس وضع اسم ظاهر مکان الناقص بشرط أن یکون من جنسه (حیوانا عاقلا ، وغیر عاقل - أو غیر حیوان) فکیف نختار هذا البدیل من جنس الأصیل إذا کنا لا نعرف حقیقة ذلک الأصیل وجنسه؟ فمعرفة البدیل متوقفة علی معرفة الأصیل أولا. ونحن إذا اهتدینا إلی معرفة الأصیل لم نکن بعده فی حاجة إلی ذلک الضابط ، وما یتطلبه من فروض لا تجدی شیئا ؛ ذلک أن الأصیل سیدل بمعناه فی جملته علی من فعل الفعل ، فیعرف من وقع علیه الفعل تبعا لذلک ، ویزول الاشتباه. وإذا لا حاجة إلی الضابط ، ولا فائدة من استخدامه ؛ لأن الغرض من استخدامه الکشف عن حقیقة الاسم الناقص ، وهذا الکشف یتطلب اختیار اسم من جنسه لیحل محله. فکیف یمکن الاهتداء إلی اسم آخر من جنسه إذا کان الاسم الناقص مجهول الجنس لنا؟
ص: 94
فمن الخیر إهمال تلک المسألة بضابطها. وفروضه ، والرجوع فی فهم المثالین السابقین وأشباههما إلی فهم المعانی الصحیحة لمفرداتها اللغویة ، والاعتماد بعد ذلک علی القرائن ، مع الفرار - جهد الطاقة - من استعمال تلک الأسالیب الغامضة. هذا هو الطریق السدید ، وعلیه المعول.
ص: 95
(1) من الدواعی (2) ما یقتضی حذف الفاعل دون فعله. ویترتب علی حذفه أمران محتومان ؛ أحدهما : تغییر یطرأ علی فعله (3) ، والآخر : إقامة نائب عنه یحل محله ، ویجری علیه کثیر من أحکامه التی أسلفناها (4) - ؛ کأن یصیر جزءا أساسیّا فی الجملة ؛ لا یمکن الاستغناء عنه ، ویرفع مثله ؛ وکتأخره عن عامله (5) ، وتأنیث عامله له أحیانا ، وتجرد العامل من علامة تثنیة أو جمع ... ؛ وکعدم تعدده ، وکإغناء هذا النائب عن الخبر أحیانا فی مثل : أمزروع الحقلان؟
ص: 96
(فالحقلان : نائب فاعل للمبتدأ اسم المفعول ، واسم المفعول لا یرفع إلا نائب فاعل ؛ کما عرفنا من قبل) ... إلی غیر هذا من الأحکام الخاصة بالفاعل ؛ والتی قد تنتقل بعد حذفه إلی نائبه (1).
ولکل واحد من الأمرین تفصیلات وأحکام تخصه.
(ا) إلیک ما یتعلق بالأمر الأول :
1 - إن کان الفعل ماضیا ، صحیح العین (2) ، خالیا من التضعیف - وجب ضم أوله ، وکسر الحرف الذی قبل آخره إن لم یکن مکسورا من قبل. فالفعل فی مثل : (فتح العمل باب الرزق - أکرم الناس الغریب ...) ، یتغیر بعد حذف الفاعل ؛ فیصیر فی الجملة : (فتح باب الرزق - أکرم الغریب (3) ...) (وهناک بعض حالات یجوز فیها کسر أوله ، وستجیء (4) ...).
2 - إن کان الفعل مضارعا وجب - فی کل حالاته - ضم أوله أیضا ، وفتح الحرف الذی قبل آخره إن لم یکن مفتوحا من قبل ؛ فالمضارع فی مثل : یرسم المهندس البیت - یحرّک الهواء الغصن - یصیر فی الجملة بعد حذف الفاعل :
ص: 97
یرسم البیت - یحرّک الغصن (1). ومثل قول الشاعر :
أعندی وقد مارست (2)
کل خفیّة
یصدّق واش ، أو یخیّب سائل
وقد یکون الفتح قبل الآخر مقدرا لعلة تمنع ظهوره ؛ مثل : یصام. (أصله : یصوم ، ثم صار «یصام» لسبب صرفیّ معروف) (3). ومثل : «تصاب وتنال» ، فی قول الشاعر :
یهون علینا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول.
وفی قول الآخر :
إنّ الکبار من الأمو
ر تنال بالهمم الکبار
والأصل قبل التغییر الصرفی : تصوب وتنیل.
3 - إن کان الماضی مبدوءا بتاء تکثر زیادتها عادة - سواء أکانت للمطاوعة (4)
ص: 98
أم لغیرها - (مثل : تعلّم ، تفضّل - تعاون - تناشد ، تجاهل ...) وجب ضم الحرف الثانی مع الأول ؛ ففی مثل : تعلّم الصبی حرفة - تفضّل الصدیق بالزیارة - ... یصیر : تعلّمت حرفة - تفضّل بالزیارة (1) ... وفی مثل قولهم : تعلم البحار فن الملاحة ، وتعاون مع رفاقه فأمن الخطر ... یصیر الکلام بعد بناء الفعل للمجهول : تعلّم (2) فنّ الملاحة ، وتعوون مع الرفاق ؛ فأمن الخطر.
4 - إن کان الماضی مبدوءا بهمزة وصل فإن ثالثه یضم مع أوله ؛ ففی مثل :
ص: 99
اعتمد العاقل علی کفاحه - انتصر المکافح بعمله - یقال فی بناء الفعلین للمجهول : اعتمد علی الکفاح - انتصر بالعمل (1).
5 - إن کان الماضی الثلاثی معلّ العین (2) ؛ واویّا کان أو یائیّا - مثل : صام ، باع - وبنی للمجهول ، جاز فی فائه عند النطق أو الکتابة ، إما الکسر الخالص ؛ فینقلب حرف العلة یاء ؛ نحو : صیم ، بیع ، وإما الضم الخالص ،
ص: 100
فینقلب حرف العلة واوا ، نحو : صوم ، بوع ، وإما الإشمام (1) - وهذا لا یکون إلا فی النطق - والکسر أعلاها ، فالإشمام ، فالضم. وکل واحد من الثلاثة جائز بشرط ألا یوقع فی لبس ، وإلا وجب العدول عنه إلی ضبط آخر لا لبس فیه ؛ فکثیر من الماضی المعلّ الوسط قد یوقع فی اللبس إذا بنی للمجهول ، وأسند لضمیر تکلم ، أو خطاب ؛ سواء أکان الضمیر فیهما للمفرد المذکر أم لغیره ، وکذلک إذا أسند لنون النسوة الدالة علی الغائبات. فالفعل : «ساد» - وأشباهه - فی نحو : «ساد الرجل قومه بالفضل» إذا أسندناه لضمیر متکلم أو مخاطب من غیر أن یبنی للمجهول ، قلنا عند الضم : «سدت». ولو بنینا الفعل للمجهول ، وقلنا : «سدت» أیضا (2) ؛ لوقع اللبس حتما بین هذه الصورة التی بنی فیها للمجهول والصورة السالفة التی لم یبن فیها للمجهول. وفرارا من اللبس الذی لیس معه قرینة تزیله ، یجب البعد عن ضم الحرف الأول (3) فی هذه الصورة المبنیة للمجهول ، ولنا بعد ذلک استعمال الکسر ، أو : الإشمام.
ص: 101
ومثل : الفعل : «ساد» غیره من کل فعل ماض ثلاثی ، إمّا معلّ الوسط بألف أصلها واو ؛ (ولیس من باب : «فعل یفعل» ؛ کخاف یخاف ... (1)) ، مثل : شاق ، یشوق ، رام ، یروم ... وإما معلّ الوسط بألف أصلها یاء أیضا ؛ فلیس اللبس مقصورا علی الماضی الثلاثی المعل الوسط بألف أصلها واو ، ولیس من باب فعل یفعل ، بل یمتد إلی الماضی الثلاثی المعلّ الوسط بألف أصلها یاء ؛ مثل الفعل : «زاد» فی نحو : قد زادک الصدیق ودّا ؛ فإنه إذا أسند لضمیر المخاطب - مثلا - من غیر بناء للمجهول یصیر : قد زدت الصدیق ودّا ، بکسر أول الماضی. وإذا أسند للمخاطب أیضا مع البناء للمجهول فإن کسر أوله صار : زدت ودّا (2) کذلک ، فصورته فی الحالتین واحدة مع اختلاف الإسناد والمعنی. وهذا هو اللبس الواجب توقّیه. ومن أجله لا یصح الکسر هنا عند بنائه للمجهول ؛ فیجب العدول عنه ؛ إمّا إلی ضم أوله نطقا وکتابة ، فنقول : «زدت». وإمّا إلی الإشمام (وهذا لا یکون إلا فی حالة النطق - کما عرفنا -).
ومثل الفعل «زاد» کثیر من الأفعال الماضیة المعلّة الوسط بالألف التی أصلها الیاء ؛ ومنها : دان ، یدین - قاس ، یقیس - عاب ، یعیب - باع ، یبیع ... وخلاصة ما سبق : أنّ الواجب یقتضی العدول عن ضم فاء الثلاثی المعل العین بالواو ، عند خوف اللبس (إلا ما کان مثل : «خاف») ، والعدول عن کسر فاء الثلاثی المعل العین بالیاء عند خوف اللبس أیضا. وکذلک إن أوقع الإشمام فی لبس وجب العدول عنه إلی النطق بالکسرة الصریحة الواضحة ، أو بالضمة الصریحة الواضحة.
ص: 102
ومن أجل اللبس والعمل علی اجتنابه وضع النحاة القاعدة التالیة :
(یجوز فی فاء الفعل الماضی ، الثلاثی ، المعتلّ الوسط ، عند بنائه للمجهول - ثلاثة أشیاء : الضم ، أو : الکسر ، أو : الإشمام ، بشرط أمن اللبس فی کل حالة. فإن أوقع الضم فی لبس وجب ترکه إلی الکسر أو الإشمام ، وإن أوقع الکسر فی لبس وجب ترکه إلی الضم أو الإشمام ، وإن أوقع الإشمام فی لبس وجب العدول عنه إلی النطق بحرکة صریحة واضحة ، هی : الضمة أو الکسرة ، بحیث یمتنع اللبس معها. وعند صحة الأمور الثلاثة ، یکون الکسر أحسنها (1) ، فالإشمام ، ثم الضم وهو أقلها استعمالا).
6 - وإن کان الماضی الثلاثی المبنی للمجهول مضعفا (2). مدغما ؛ مثل الفعل : «عدّ» فی : «عدّ الصّیرفیّ المال» - جاز فی فائه الأوجه الثلاثة ، (الضم الخالص ، وهو الأکثر هنا ، فالإشمام ، فالکسر الخالص) ، تقول وتکتب : عرفت أن المال قد عدّ - بضم العین أو کسرها - کما یجوز الإشمام فی حرکتها عند النطق. وإذا خیف اللبس فی وجه من الثلاثة وجب ترکه إلی غیره ؛ کالفعل : «عدّ» - «ردّ» ، وأشباههما ، فإن فعل الأمر منهما یکون مضموم الأول ؛ فیلتبس به الماضی المبنی للمجهول إذا کانت حرکة فائه الضمة ؛ إذ یقال : عدّ المال ، ردّ العدو. فلا تتضح حقیقة الفعل ؛ أهو فعل ماض مبنی للمجهول أم فعل أمر؟ وفی مثل هذه الحالة یجب العدول عن الضم إلی الکسر ، أو الإشمام ؛ لأن الکسر والإشمام لا یدخلان أول هذین الفعلین إذا کانا للأمر (3)(4).
ص: 103
7 - وتجوز الأوجه الثلاثة أیضا فی الحرف الثالث الأصلیّ من الماضی المعلّ العین ؛ إذا کان علی وزن ؛ انفعل ، أو : افتعل ؛ مثل : (انقاد - انهال - انهار ...) ، ومثل : (اختار - اجتاز - احتال ...)
ویلاحظ هنا أن حرکة الحرف الأول (وهو : همزة الوصل) لا تلزم صورة واحدة فی ضبطها ، فلا تقتصر علی حرکة معینة ، وإنما تماثل وتسایر حرکة الحرف الثالث ، وأن ضمة الثالث ستؤدی إلی قلب الألف التی بعده واوا ، وأن کسرته ستؤدی إلی قلبها یاء ؛ فلا بد فی حرکة الحرف الأول - وهو همزة الوصل - من أن تکون مناسبة لحرکة الثالث فی الضم ، أو الکسر ، أو الإشمام ، کما سبق ؛ فیقال ویکتب فیهما : انقود ، أو : انقید ، أو : ینطق بالإشمام فی حرکة الحرف الأول والثالث ، وکذا باقی الأفعال التی تشبه : «انقاد».
کذلک یقال ویکتب : اختور. أو : اختیر ، أو : ینطق بالإشمام فی حرکة الحرف الأول والثالث ، وکذا یقال فی باقی الأفعال التی تشبه : «اختار».
ویشبههما فی الحکم السابق : «انفعل» و «افتعل» إذا کانا صحیحین مضعفی اللام ؛ نحو : انصبّ - انسدّ - انجرّ - ... ومثل : امتدّ - اشتدّ -
ص: 104
ابتلّ ... فإذا بنی فعل للمجهول من هذه الأفعال ونظائرها - جاز فی حرفه الثالث - عند أمن اللبس - الضم ، الخالص نطقا وکتابة ، أو : الکسر الخالص کذلک ، أو الإشمام نطقا ، وفی کل حالة من الثلاث یتحرک الحرف الأول ؛ - وهو همزة الوصل - ، بمثل حرکة الحرف الثالث ، نحو : انصبّ - أو انصبّ ... امتدّ - امتدّ (1).
8 - إن کان الفعل جامدا أو فعل أمر لم یصح بناؤه للمجهول مطلقا ...
9 - إن کان الفعل ناقصا (مثل : کان ، وکاد ، وأخواتهما) ، فالصحیح أنه یبنی للمجهول ، وتجری علیه أحکام المبنی للمجهول (2) بشرط الإفادة ، وعدم اللبس - إلا الناقص الجامد ؛ مثل : لیس ، وعسی ؛ لأن الجامد لا یبنی للمجهول کما سبق ...
ص: 105
(ا) ورد عن العرب أفعال ماضیة تشتهر بأنها ملازمة للبناء للمجهول ، سماعا عن أکثر قبائلهم. وهی الأفعال التی یعتبرها اللغویون مبنیة للمجهول فی الصورة اللفظیة ، لا فی الحقیقة المعنویة ؛ ولذلک یعربون المرفوع بها فاعلا ؛ ولیس نائب (1) فاعل. ومن أشهرها : هزل - زکم - دهش وشده ، وهما بمعنی واحد. ومنها : (شغف بکذا ، وأولع به ، وأهتر به ، واستهتر به ، وأغری به ، وأغرم به ... ، وکلها بمعنی واحد ؛ هو : التعلق القوی بالشیء). ومنها : أهرع ، بمعنی : أسرع. ومنها : نتج. ومنها : عنی بکذا ؛ أی : اهتم به. ومنها : حمّ فلان (بمعنی أصابته الحمّی) - أغمی علیه - فلج - امتقع لونه (بمعنی تغیّر) - زهی (بمعنی تکبر) ... و (2) ...
لکن ما حکم مضارع هذه الأفعال؟ أیجب بناؤه للمجهول مثلها ، أم یتوقف أمره علی السماع الوارد من العرب فی کل فعل؟ الصحیح أنه مقصور علی السماع الوارد فی کل فعل. ومنه فی الشائع : یهرع ، یعنی ، یولع ، یستهتر.
بقی توضیح المراد من أن تلک الأفعال الماضیة ملازمة للبناء للمجهول سماعا عن أکثر القبائل :
یری أکثر النحاة أن المراد هو عدم استعمالها فی معانیها السالفة مبنیة للمعلوم ؛ تقول : شدهت من الأمر ، بالبناء للمجهول ، ولا یصح عند هؤلاء شدهنی الأمر ، بالبناء للفاعل ، لاعتمادهم علی ما جاء فی کتاب : «فصیح ثعلب» ، ونحوه من التصریح القاطع بأنها لا تبنی للمعلوم.
ص: 106
وأنکر بعض المحققین - کابن برّی - ما قاله ثعلب وغیره من اللغویین والنحاة. وحجة ابن برّی فی الإنکار أن «ثعلبا» ومن معه لم یعلموا ما سجّله ابن درستویه وردده ؛ ونصّه (1) : «(عامة أهل اللغة یزعمون أن هذا الباب لا یکون إلا مضموم الأول ، ولم یقولوا إنه إذا سمّی فاعله جاز بغیر ضم. وهذا غلط منهم ، لأن هذه الأفعال کلها مفتوحة الأوائل فی الماضی ؛ فإذا لم یسمّ فاعلها فهی کلها مضمومة الأوائل ، ولم نخصّ بذلک بعضها دون بعض. وقد بیّنا ذلک بعلّته وقیاسه ؛ فیجوز : عنیت بأمرک ، وعنانی أمرک - وشغلت بأمرک ، وشغلنی أمرک - وشدهت بأمرک ، وشدهنی أمرک ...) ، اه ، هذا ما نقله «ابن یری» وختمه بقوله : (وفی ذلک کفایة تغنی عن زیادة إیضاح وبیان)» اه.
ورأیه هو السدید الذی تؤیده النصوص الصحیحة التی تحمل الباحث علی أن یسأل : کیف خفیت هذه النصوص علی کثیر من اللغویین والنحاة القدامی؟ وکیف رتبوا علی وجود نوع وهمّی من الأفعال یلازم البناء للمجهول أحکاما خاصة ؛ کمنع مجیء «صیغتی التعجب» من الثلاثی مباشرة ، وعدم صحته إلا بوسیط. وکمنع صوغ «أفعل التفضیل» من مصادرها إلا بوسیط کذلک ... و...
ولا شک أن رأی «ابن برّی» ومن معه من المحققین هو السدید - کما تقدم - والأخذ به یؤدی إلی إلغاء تلک الأحکام الخاصة ، ویبیح فی الثلاثی «التعجب» المباشر ، وکذا «التفضیل» بغیر وسیط ، ویرد لتلک الأفعال اعتبارها ، ویجعل شأنها شأن غیرها من باقی الأفعال التی تبنی للمعلوم.
(ب) عرفنا (2) أن نائب الفاعل یکون مرفوعا بأحد شیئین ؛ الفعل المبنی للمجهول ، واسم المفعول ، فهل یرتفع بالمصدر المؤول المسبوک فی أصله من «أن» والفعل المبنی للمجهول؟ انتهی النحاة إلی أن الأصح جوازه بشرط أمن اللبس. ومن أمثلتهم : عجبت من أکل الطعام ؛ بتنوین المصدر «أکل» ورفع کلمة :
ص: 107
«الطعام» علی اعتبارها نائب فاعل له. والأصل عندهم : عجبت من أن أکل الطعام. فلما سبک المصدر المؤول صارت کلمة : «الطعام» نائب فاعل له بعد سبکه.
فإن أوقع فی لبس لم یصح ؛ نحو : عجبت من إهانة علیّ ، إذا کان علیّ هو المهان ؛ (والأصل : من أهین علیّ) فیتعین أن یکون المصدر مضافا ، و «علیّ» ، هو المضاف إلیه المجرور. وهو فی محل نصب مفعول به ، ولا یصح الرفع ؛ لوقوع اللبس بسببه.
وکما صح رفع نائب الفاعل بالمصدر المؤول یصح أن یکون مجرورا باعتباره مضافا إلیه ، والمصدر هو المضاف ؛ فیکون مجرورا لفظا ، مرفوعا محلا ؛ کما یجوز جعل ما أضیف إلیه المصدر فی محل نصب علی المفعولیة ، والفاعل محذوف من غیر نیابة شیء عنه.
أما علی الرأی الذی یمنع المصدر المؤول من رفع نائب فاعل فیتعین إضافة المصدر لما بعده علی أنه فی محل نصب علی المفعولیة (1).
بالرغم من أن الأصح - عندهم - جوازه ، فالأنسب الیوم عدم الالتجاء إلیه ؛ لأنه لا یکاد یخلو من غموض وثقل ینافیان الأسالیب الناصعة العالیة ، وأسس البلاغة ، وهذان أمران لهما اعتبارهما. ویزیدهما قوة ورجاحة خلو المراجع المتداولة من أمثلة مسموعة عن فصحاء العرب تؤیده.
(ح) فی الفعل الثلاثی المعلّ العین ، وفی غیره من الأفعال الماضیة المبنیة للمجهول - لغات أخری ، أعرضنا عنها ؛ لأنها لهجات متعددة ، لقبائل متباینة لا نری خیرا فی استعمالها الیوم ؛ حرصا علی الإبانة والتوحد المفید قدر الاستطاعة ، ومنعا للتشتت والتعدد فی أهم وسیلة للتفاهم والإیضاح ، وهی : اللغة.
ص: 108
ننتقل إلی الأمر الثانی (1) الذی یترتب علی حذف الفاعل ؛ وهو : إقامة نائب عنه یحلّ محله ، ویخضع لکثیر من أحکامه ، - کما قلنا -.
والذی یصلح للنبابة عن الفاعل واحد من أربعة أشیاء ؛ المفعول به ، والمصدر ، والظرف ، والجار مع مجروره (2) ، وقد تلحق بها - أحیانا - حالة خامسة ، ستجیء (3)
1- فأما المفعول به فقد سبقت له أمثلة کثیرة. غیر أن فعله قد یکون متعدیا لواحد ؛ کالأمثلة المشار إلیها. وقد یکون متعدیا لاثنین أصلهما المبتدأ والخبر ؛ کمفعولی : «ظن» وأخواتها (4) - فی مثل ؛ ظنّ الغلام الندی مطرا ، أو لیس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ کمفعولی : «أعطی» وأخواتها ومنها : «کسا» ، فی مثل : أعطی الغنیّ الفقیر مالا ، وکسا المحتاج ثوبا (5) وقد یکون متعدیا لثلاثة ؛ «کأعلم» و «أری (6)» ، نحو : أعلم الطبیب المریض الدواء شافیا.
فإن کان الفعل متعدیا لمفعول به واحد ، مذکور فی الکلام ، أقیم هذا الواحد مقام الفاعل ... وإن کان متعدیا لاثنین مذکورین فقد یکون أصلهما المبتدأ والخبر أو لیس أصلهما کذلک. فأی المفعولین ینوب؟
ص: 109
وإن کان متعدیا لثلاثة مذکورة فأیها ینوب کذلک (1)؟
خیر الآراء وأنسبها : اختیار الأول للنیابة إذا کان هو الأظهر والأبین للقصد مهما کان نوع فعله. لکن لا مانع من ترکه ، واختیار غیره ؛ فیکون فی هذا اختیار لغیر الأفضل. فإن کان غیر الأول هو الأقدر علی إیضاح المراد ، وإبراز الغرض من الجملة فنیابته مقدمة علی نیابة الأول. ولا بد فی کل الحالات من أمن اللّبس ؛ وإلا وجب العدول عما یحدثه إلی ما لا یحدثه. وفیما یلی أمثلة لأنواع الفعل المتعدی قبل بنائه للمجهول ، وبعد بنائه ، وما یحدث اللبس وما لا یحدثه. فمما لا یحدثه :
(عرف المسترشد الصواب - عرف الصواب).
(ظن الجاهل الخفّاش طائرا - ظنّ الخفاش طائرا - ظنّ طائر الخفاش).
(أعطی الوالد الطفل کتابا - أعطی الطفل کتابا - أعطی کتاب الطفل).
(أعلمت التاجر الأمانة نافعة - أعلم التاجر الأمانة نافعة - أعلم الأمانة التاجر نافعة - أعلم نافعة التاجر الأمانة).
ولا یصح إنابة غیر الأول فی مثل : (أعطیت محمدا فریقا من الأعوان). (منحت الشرکة مهندسا). لأن کلا من الأول والثانی یصلح أن یکون آخذا ومأخوذا ؛ فلا یمکن التمییز بینهما عند بناء الفعل للمجهول إلا باختیار أولهما لیکون نائب فاعل ؛ لأن اختیاره یجعله بمنزلة الفاعل فی المعنی ؛ فیتضح من تقدمه أنه الآخذ ؛ وغیره المأخوذ. ومثل هذا یقال فی : ظننت الولد الوالد ، حیث یجب اختیار الأول للنیابة لأن کلا منهما صالح أن یکون هو المظنون الشبیه بالآخر. ولا یمنع هذا اللبس إلا اختیار الأول وذلک للسبب السالف ؛ ولا سیما أن الأول هنا أصله مبتدأ ، والمبتدأ
ص: 110
متقدم بحسب أصل رتبته علی الخبر. ومثل هذا یقال فی : (أعلم السائق المهندس زمیلا مهملا) ، حیث یجب اختیار الأول ؛ لما سلف.
وإذا وقع الاختیار علی واحد وجب ترک ما عداه علی حاله کما کان مفعولا به منصوبا (1).
ومما یجب التنبه له أن المفعول الثانی «لظن» وأخواتها قد یکون جملة - کما سبق فی بابها (2) - فإن کان جملة لم یصح اختیاره نائبا للفاعل ؛ لأن الفاعل ونائبه لا یقعان جملة (3) فی الراجح. وینطبق هذا علی غیر «ظن» أیضا ؛ فهو حکم عام فیها وفی غیرها ..
2- وأما المصدر - ومثله اسم المصدر - فیصلح للنیابة عن الفاعل بشرطین ؛ أن یکون متصرفا ، ومختصّا. والمراد بالتصرف : ألّا یلازم النصب علی المصدریة ، وإنما ینتقل بین حرکات الإعراب المختلفة ؛ فتارة یکون مرفوعا ، وأخری یکون منصوبا ، أو مجرورا ؛ علی حسب حالة الجملة ؛ مثل : فهم ، جلوس ، تعلّم ... ؛ نحو : الفهم ضروریّ للمتعلم - إن الفهم ضروری ... - اعتمدت علی الفهم ... و... وکذا الباقی ونظائره مما لا یلازم النصب علی المصدریة. لأن ملازمته النصب علی المصدریة تمنع أن یکون مرفوعا مطلقا ؛ فلا یصلح نائب فاعل أو غیره من المرفوعات.
ص: 111
فإن کان المصدر - أو اسمه - ملازما النصب علی المصدریة لم یکن متصرفا ، ولم یصح اختیاره للنیابة عن الفاعل ؛ مثل : «معاذ» ؛ فإنه مصدر میمیّ لم یشتهر استعماله عن العرب إلا منصوبا مضافا (1) فی نحو : معاذ الله أن یغدر الأمین. ومثل : «سبحان» (2) ؛ فإنه اسم مصدر لم یشتهر استعماله عن العرب کذلک إلا منصوبا مضافا - فی الأغلب - ، فلو وقع أحدهما نائب فاعل لصار مرفوعا ، ولخرج عن النصب الواجب له ، وهو ضبط لا یصح مخالفته ، ولا الخروج علیه ؛ حرصا علی اللغة ، ومحافظة علی طرائقها المشهورة.
والمراد بالاختصاص : أن یکتسب المصدر من لفظ آخر معنی زائدا علی معناه المبهم ، المقصور علی الحدث المجرد ؛ لیکون فی الإسناد إلیه فائدة. فالمعانی المبهمة المجردة مثل ؛ قراءة - أکل - سفر ... و.... وأمثالها ؛ یدل کل منها علی معناه الذی یفهم من لفظه نصّا ، دون زیادة شیء علیه ؛ فکلمة : «قراءة» لیس فی معناها الحرفی ما یدل علی أنها قراءة سهلة أو صعبة ، نافعة أو ضارة ، ... و «الأکل» لیس فی معناه الحرفی ما یدل علی أنه لذیذ أو بغیض ، قلیل أو کثیر ، حارّ أو بارد ... و «السفر» لیس فی معنی نصه الحرفی ما یدل علی أنه سفر قریب أو بعید ، سهل أو شاق ، مرغوب فیه أو مرغوب عنه ... وهکذا یدل المصدر وحده - وکذا اسمه - علی المعنی المجرد ؛ أی : علی ما یسمونه : «الحدث المحض» فمثل هذا المصدر ، أو اسمه لا یصلح أن یکون نائب فاعل ، لأن الإسناد إلیه لا یفید معنی جدیدا أکثر من معنی فعله ؛ فکأنه جاء
ص: 112
لتأکید معنی فعله ؛ وتوکید المعنی الموجود لیس هو المقصود الأساسی من الإسناد ، ولا یوصف بأنه معنی جدید ، فلا یصح أن یقال : علم علم ، فهم فهم ... إذ لا بد مع المصدر من زیادة معنی جدید علی معناه الأصلی ؛ لیکون صالحا للنیابة ، وهذه الزیادة تأتیه من خارج لفظه ، وهی التی تجعله مختصّا.
وتحدث بواحد أو أکثر من أمور متعددة ؛ منها : وصفه ؛ نحو : علم علم نافع - فهم فهم عمیق ، ومنها إضافته ؛ نحو : علم علم المخترعین ، وفهم فهم العباقرة. ومنها : دلالته علی العدد ؛ نحو : قرئ عشرون قراءة ... وغیر هذا من کل ما یزیل إبهام المصدر ، واسمه ، ویزید معناهما علی مجرد تأکید معنی الفعل ، ویجعل الإسناد إلیهما مفیدا فائدة جدیدة أساسیة.
ومما سبق نعلم المراد من قولهم المختصر : «إن المصدر یصلح للنیابة إذا کان مفیدا» ویکتفون بهذه الجملة ، لأن الإفادة لا تحقق إلا بالشرطین السالفین وهما : التصرف والاختصاص.
3- وأما الظرف بنوعیه فیصلح للنیابة عن الفاعل إذا کان مفیدا أیضا ، وهذه الفائدة تتحقق بشرطین ؛ أن یکون متصرفا کامل التصرف ، وأن یکون مختصّا.
والمراد بالتصرف الکامل : صحة التنقل بین حالات الإعراب المختلفة ؛ من (رفع ، إلی نصب ، إلی جر ؛ علی حسب حالة الجملة) ، وعدم التزامه النصب علی الظرفیة وحدها دائما ، أو النصب علی الظرفیة مع الخروج عنها أحیانا إلی شبه الظرفیة ، وهو الجر بالحرف «من» (1) - فی الغالب - ؛ لأن عدم تصرفه الکامل یمنع وقوعه مرفوعا - نائب فاعل أو غیره من المرفوعات ، کما سبق. فمثال الظرف الکامل التصرف : یوم - زمان - قدّام - خلف ... ؛ لأنک تقول : الیوم یوم طیب - قضیت یوما طیبا - تطلعت إلی یوم طیب ... وتقول : قدّامک فسیح - إن قدّامک فسیح - سأتجه إلی قدامک. فهذه الظروف المتصرفة یصح وقوعها نائب فاعل إن کانت مختصة (2).
ص: 113
ومثال الظرف غیر المتصرف مطلقا (وهو الذی یلازم النصب علی الظرفیة وحدها) : قطّ (1) - عوض (2) - إذا - سحر ؛ (بشرط أن یراد به سحر یوم معین دون غیره ؛ لیکون ظرفا ملازما للنصب). فلا یصح أن یقع واحد من هذه الظروف - وأشباهها - نائب فاعل ؛ فلا یقال عنه نائب فاعل فی مثل (3) : ما کتب قطّ - لن یکتب عوض - ما یجاء إذا جاء الصدیق ، مدح سحر.
لا یقال ذلک لعدم تحقق الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولئلا یخرج الظرف عن الظرفیة إلی غیرها وهی الحکم الدائم الثابت له فی الکلام العربی الأصیل الذی لا تجوز مخالفة طریقته.
ومثال الظرف الشبیه بالمتصرف (أی : الظرف ناقص التصرف ، وهو الذی لا یترک النصب علی الظرفیة إلا إلی ما یشبهها ؛ وهو الجر بالحرف «من» - غالبا ؛ - کما سبق) : عند - ثمّ - مع ... وهذا النوع لا یصلح للنیابة عن الفاعل ؛ لأنه کسابقه - لا یفید الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولأنه لا یصح إخراجه عن الحکم والضبط الذی استقر له وثبت فی الکلام العربی المأثور ؛ وهو النصب أو الجر الغالب بمن ؛ فلا یقال : قرئ عند ، ولا کتب ثمّ. ولا عرف مع (4) ...
ص: 114
والمراد بالاختصاص هنا : أن یزاد علی معنی الظرف معنی جدید آخر یکتسبه من کلمة تتصل به اتصالا قویّا ؛ لیزول الغموض والإبهام عن معناه. کأن یکون الظرف مضافا ؛ نحو : أذّن وقت الصلاة - نودی ساعة البیع ... أو یکون موصوفا ؛ نحو : قضی شهر جمیل فی المصایف - قطع یوم کامل فی السفر - أو یکون معرّفا (1) ؛ نحو : یحبّ الیوم لأنه معتدل ، أو غیر ذلک مما یزید معنی جدیدا علی الظرف ، ویخرج معناه السابق من الإبهام والتجرد.
4- وأما الجار مع مجروره فإن کان حرف الجر زائدا - نحو : ما صودر من شیء - فلا خلاف فی أن النائب هو المجرور وحده - ، وأنه مجرور لفظا ، مرفوع محلّا ، فیجوز فی التوابع مراعاة لفظه أو محله.
أمّا حرف الجر الأصلی مع مجروره - نحو : قعد فی الحدیقة الناضرة - فالصحیح أن الذی ینوب منهما عن الفاعل هو المجرور وحده (2). (برغم أن الشائع علی الألسنة هو : الجار مع مجروره. ولا مانع من قبوله تیسیرا وتخفیفا) (3).
ویشترط لإنابتهما أن یکون الإسناد إلیهما مفیدا. وتتحقق الفائدة بأمرین ؛ أن یکون حرف الجر متصرفا ، وأن یکون مجروره مختصّا.
والمراد من التصرف فی حرف الجر ألا یلتزم طریقة واحدة لا یخرج عنها إلی غیرها ... کأن یلتزم جر الأسماء الظاهرة فقط ؛ ومن أمثلته : مذ - منذ -
ص: 115
حتی ... ، أو جرّ النکرات فقط ؛ ومن أمثلته : «ربّ» ، أو یلتزم جرّ نوع آخر معین من الأسماء ؛ کحروف القسم ؛ فإنها لا تجر إلا مقسما به ، وکحروف الجر التی للاستثناء (وهی : خلا - عدا - حاشا) فإنها لا تجر إلا المستثنی ومثل : مذ ومنذ : فإنهما لا یجران إلا الأسماء الظاهرة الدالة علی الزمان ... فلا یصح وقوع شیء من تلک الحروف مع مجروراتها نائب فاعل ؛ فلا یقال نائب فاعل فی مثل : صنع منذ الصبح ، ولا زرع حتی الشاطئ ، ولا قوتل ربّ رجل عنید ... و... (1)
والمراد بالاختصاص أن یکتسب الجار مع مجروره معنی زائدا فوق معناهما الخاص بهما. ویجیئهما هذا المعنی الزائد من لفظ آخر یتصل بهما ؛ کالوصف ، أو المضاف إلیه ، أو غیرهما مما یکسبهما معنی جدیدا ؛ فتحصل الفائدة المطلوبة من الإسناد.
ومن أمثلة الجار والمجرور المستوفیین للشروط : أخذ من حقل ناضج - قطع فی طریق الماء. فلا یصحّ : أخذ من حقل - قطع فی طریق ...
من کلّ ما سبق نعرف أن «الإفادة» هی الشرط الذی یجب تحققه فیما ینوب عن الفاعل من مصدر ، أو ظرف ، أو جار مع مجروره ، وأن هذه الإفادة تنحصر فی التصرف والاختصاص معا.
5- یلحق بما تقدم الجملة المحکیّة بالقول ، وکذا المؤوّلة بالمفرد ، طبقا للبیان الذی سلف (2) عنهما.
ص: 116
إلی هنا انتهی الکلام علی الأشیاء التی یصلح کل واحد منها أن یکون نائب فاعل إذا لم یوجد غیره فی الجملة ، فإذا وجد أکثر من واحد صالح للإنابة لم یجز أن ینوب عن الفاعل إلا واحد فقط ؛ لأن نائب الفاعل - کالفاعل - لا یتعدد.
لکن ما الأحق بالنیابة عند وجود نوعین مختلفین ، صالحین أو أکثر؟ یمیل کثیر من النحاة إلی الرأی القائل باختیار المفعول به (1) دائما ، (أی : فی کل الحالات) ؛ لیکون هو النائب ، ویفضلونه علی غیره. وهم - مع ذلک - یجیزون ترک الأفضل ؛ ففی مثل : أنشد الشاعر القصیدة إنشادا بارعا فی الحفل أمام الحاضرین ، یکون الأفضل عندهم - حین بناء الفعل للمجهول - اختیار المفعول به نائبا ؛ فیقال : أنشدت القصیدة ، إنشادا بارعا ، فی الحفل أمام الحاضرین. ولا مانع من ترک الأفضل واختیار غیره ، کما قالوا.
والحق أن الرأی السدید الأنسب هو أن نختار من تلک الأنواع ما له الأهمیة فی إیضاح الغرض ، وإبراز المعنی المراد ، من غیر تقید بأنه مفعول به أو غیر مفعول به ، وأنه أوّل أو غیر أوّل ، متقدم علی البقیة أو غیر متقدم. ففی مثل : «خطف اللصّ الحقیبة من ید صاحبتها أمام الراکبین فی السیارة» - تکون نیابة الظرف : «أمام» أولی من نیابة غیره ؛ فیقال خطف أمام الراکبین فی السیارة الحقیبة من ید صاحبتها ؛ لأن أهم شیء فی الخبر وأعجبه أن تقع الحادثة أمام الراکبین ، وبحضورهم ؛ وهم جمع کبیر یشاهد الحادث فلا یدفعه ، ولا یبالی بهم اللص ...
وقد تکون الأهمیة فی مثال آخر : للجار والمجرور ؛ نحو : سرق فی دیوان الشرطة سلاح جنودها ... وهکذا (2).
ص: 117
ومثل هذا یقال عند حذف الفاعل ، وعدم وجود مفعول به فی الجملة ینوب عنه ، مع وجود أنواع أخری تصلح للنیابة : فإن اختیار بعض هذه الأنواع دون بعض یقوم علی أساس الأهمیة ودرجتها ؛ فما کان أکبر أهمیة وأعظم تحقیقا للمراد من الجملة ، فهو الأحق بالاختیار ، والأولی بالنیابة.
ص: 118
(ا) لا یجوز إنابة الحال ، والمستثنی ، والمفعول معه ، والتمییز الملازم للنصب ، والمفعول لأجله ؛ فکل واحد من هذه الخمسة لا یصلح للإنابة ؛ لأنها تخرجه من مهمته الخاصة ، وتنقله إلی غیرها ، وقد تتغیر حرکته الملازمة له. لکن فریقا من النحاة یری - بحق - جواز نیابة التمییز المجرور بالحرف «من» ، وکذا نیابة المفعول لأجله المجرور. بشرط أن یحقق کل منهما الفائدة المطلوبة منه ، والغرض من وجوده ؛ نحو : یقام لإجلال العلماء النافعین ، ویفاض من سرور رؤیتهم ، ویسمی کل منهما : نائب فاعل ، ویزول عنه الاسم السابق. ورأی هذا الفریق حسن (1).
(ب) الصحیح أنه لا یجوز إنابة خبر «کان» (2) ولا سیما المفرد ؛ لعدم الإفادة ؛ فلا یصح : کین قائم ، (علی فرض استساغته) ؛ إذ معناه کما یقولون : حصل کون لقائم. ومن المعلوم أن الدنیا لا تخلو من حصول کون لقائم.
(ح) عرفنا (3) أن جمهرة النحاة تختار المفعول به - دون غیره - لإقامته نائبا عن الفاعل المحذوف عند تعدد الأنواع الصالحة للنیابة. وقد شرحنا رأیهم ، وأوضحنا ما فیه ، ویترتب علی الأخذ برأیهم ما یأتی :
إذا قلت : زید فی أجر الصانع عشرون - کانت «عشرون» باعتبارها مرفوعة النائب عن الفاعل ، ولا یکون الفعل متحملا ضمیرا ، ولا یلحق بآخره علامة تثنیة أو جمع.
أما إذا قدّمت : «الصانع» فقلت : الصانع زید فی أجره عشرون - فیجوز أحد أمرین :
1- أن تکون : «عشرون» مرفوعة علی أنها نائب الفاعل ، والفعل معها خال من الضمیر ، فلا یتصل بآخره علامة تثنیة أو جمع. وفی هذه الصورة یجب بقاء
ص: 119
الجار والمجرور ، واشتماله علی ضمیر مطابق للاسم السابق - المبتدأ - ویکون هو الرابط ، مثل : الصانعان زید فی أجرهما عشرون - الصانعون زید فی أجرهم عشرون .... وهکذا.
2 - نصب کلمة : «عشرین» علی أنها لیست نائب فاعل (1) ، وإنما النائب ضمیر متصل بالفعل ، لأن الفعل فی هذه الصورة یتحمل الضمیر مستترا أو بارزا ، یعود علی المبتدأ ویطابقه ، ویکون الرابط. وفی هذه الحالة یمکن الاستغناء عن الجار ومجروره ، أو عدم الاستغناء مع بقاء الضمیر الذی فی آخر المجرور ، ومطابقته أیضا للمبتدأ : (تقول : الصانعان زیدا عشرین. أو : الصانعان زیدا فی أجرهما عشرین) - (الصانعون زیدوا عشرین. أو الصانعون زیدوا فی أجرهم عشرین ...) وهکذا ...
ص: 120
(ا) فی مثل : «شاورت الخبیر» - یتعدی الفعل المتصرف : «شاور» بنفسه إلی مفعول به واحد ؛ فینصبه ؛ ککلمة : «الخبیر» هنا. ویجوز - لسبب یلاغیّ ، أو غیره - أن یتقدم هذا المفعول الواحد علی فعله (1) ، ویحل فی مکانه بعد تقدمه أحد شیئین ؛ إما ضمیر عائد إلیه ، یعمل فیه الفعل الموجود النصب مباشرة ، ویستغنی به عن المفعول المتقدم ؛ فنقول : الخبیر شاورته (فالهاء ضمیر حل محل المفعول السابق ، واکتفی به الفعل) - وإما لفظ ظاهر آخر ، یعمل فیه الفعل المتصرف النصب أیضا ؛ بشرط أن یکون هذا اللفظ الظاهر سببیّا (2) للمفعول به المتقدم الذی استغنی عنه الفعل ، وأن یکون مشتملا علی ضمیر یعود علی ذلک المفعول ؛ نحو : الخبیر شاورت زمیله. فاللفظ الظاهر : «زمیل» هو الذی حل محل المفعول به السابق ، وهو سببیّ له ومضاف ، والضمیر فی آخره مضاف إلیه ، عائد علی المفعول به المتقدم.
والسببی فی هذا المثال مضاف ، لکنه فی مثال آخر قد یکون متبوعا بنعت ، ونعته هو المشتمل علی الضمیر المطلوب ؛ نحو : التجارة عرفت رجلا یتقنها ؛ (فجملة «یتقنها» نعت ، وفیها الضمیر العائد) وقد یکون متبوعا بعطف بیان مشتمل علی ذلک الضمیر أیضا ؛ نحو : الصدیق أکرمت الوالد أباه ، وقد یکون متبوعا بعطف نسق بالواو - دون غیرها - مشتملا علی الضمیر المذکور ، نحو : الزمیلة أکرمت الوالد وأهلها. ولا یصلح من التوابع غیر هذه الثلاثة.
ص: 121
ومن الممکن حذف ما حلّ محل المفعول السابق من ضمیره العائد إلیه مباشرة ، أو سببیه المشتمل علی ضمیر یعود علیه کذلک. ومتی وقع هذا الحذف صار الاسم المتقدم مفعولا به للفعل المتأخر عنه کما کان. وتفرّغ هذا الفعل لنصبه.
وکالأمثلة السابقة نظائرها ؛ نحو : یصاحب العاقل الأخیار ... أنجز الوعد ... وأشباههما ؛ حیث ینصب الفعل المتصرف مفعولا به واحدا (1) ؛ یجوز أن یتقدم علی عامله ، ویحل محله أحد الشیئین ؛ إما ضمیره العائد علیه مباشرة ، والذی یعمل فیه الفعل الموجود النصب ، ویستغنی به عن المفعول السابق ؛ فنقول : الأخیار یصاحبهم العاقل - الوعد أنجزه - وإما لفظ ظاهر سببی یشتمل علی ضمیر یعود علی المفعول به المتقدم ، ویشتغل الفعل الموجود بنصبه ، ویکتفی به عن ذلک المفعول ؛ فنقول : الأخبار یصاحب العاقل زملاءهم - الوعد أنجز صاحبه ... وهکذا ، من غیر أن نتقید فی السببی بأن یکون مضافا ؛ فقد یکون مضافا ، أو منعوتا ، أو عطف بیان ، أو عطف نسق بالواو ، مع اشتمال کل واحد علی الضمیر العائد إلی الاسم السابق.
ویصح - کما سبق - حذف الضمیر العائد علی ذلک الاسم المتقدم ، کما یصح حذف السببیّ وما فیه من ضمیر عائد علیه أیضا ؛ فیصیر الاسم المتقدم فی الحالتین مفعولا به للفعل المتأخر ، ویتفرغ هذا الفعل لنصبه بعد أن کان قد انصرف عنه إلی الضمیر المباشر ، أو إلی السببی.
(ب) ولیس من اللازم أن یکون الفعل المتصرف متعدیا بنفسه مباشرة إلی مفعوله الواحد ؛ وإنما یجوز أن یکون هذا الفعل قاصرا لا یتعدی إلی المفعول به إلا بمساعدة حرف جر أصلیّ ؛ نحو : فرحت بالنصر ؛ فالفعل : «فرح» لازم ، لم ینصب مفعوله (وهو : «النصر») بنفسه مباشرة ؛ وإنما نصبه بمعونة حرف الجر : «الباء». فکلمة «النصر» فی ظاهرها مجرورة بالباء ، ولکنها فی المعنی والحکم بمنزلة المفعول به (2) ویصح فی هذه الکلمة المجرورة التی تعتبر بمنزلة المفعول به
ص: 122
فی المعنی والحکم ، أن تتقدم وحدها - دون حرف الجرّ - علی فعلها ؛ بشرط أن یحل محلها أحد الشیئین ؛ إما الضمیر الذی یعمل فیه الفعل معنی وحکما ، والذی یعود علی المفعول به المعنوی السابق ؛ نحو : النصر فرحت به ، وإما لفظ آخر سببیّ ، یعمل فیه الفعل ، ویشتمل علی ضمیر یعود علی المفعول به المعنوی (الحکمیّ) السابق ، نحو : النصر فرحت بأبطاله (1).
ومثل هذا یقال فی النظائر : من نحو ؛ ینتصر الحقّ علی الباطل - سرّ فی طریق الخیر ، حیث یصح : الباطل ینتصر الحق علیه - الباطل ینتصر الحقّ علی أعوانه - طریق الخیر سر فیه - طریق الخیر سر فی جوانبه ... وهکذا ، من غیر أن نتقید فی السببی بأن یکون مضافا.
ومن الممکن حذف الضمیر أو السببی ، فیرجع الاسم السابق إلی مکانه القدیم ، فیعمل فیه عامله الجر.
(ح) ولیس من اللازم أیضا أن یکون العامل فعلا ، فقد یکون (2) اسم فاعل ، أو : اسم مفعول ، فنحو : أنا مشارک الأمین ، نقول فیه : الأمین
ص: 123
أنا مشارکه (1) - الأمین أنا مشارک رفاقه. ونحو : الحقّ منصور علی الباطل ، نقول فیه : الباطل الحقّ منصور علیه - الباطل الحقّ منصور علی شیاطینه.
فمتی تقدم المفعول به علی عامله وحل محله ما یشغل مکانه ، ویغنی العامل عنه ؛ فقد تحقق ما یسمیه النحاة : «اشتغال العامل عن المعمول» ویقولون فی تعریف الاشتغال:
أن یتقدم اسم واحد (2) ، ویتأخر عنه عامل یعمل فی ضمیره مباشرة ، أو یعمل فی سببیّ للمتقدم ، مشتمل علی ضمیر یعود علیه ؛ بحیث لو خلا الکلام من الضمیر الذی یباشره العامل ، ومن السببیّ ، وتفرغ العامل للمتقدم - لعمل فیه النصب لفظا ، أو معنی (حکما) کما کان قبل التقدم.
فلا بد فی الاشتغال من ثلاثة أمور مجتمعة ؛ «مشغول» ، وهو : العامل ، ویسمی أیضا : «المشتغل» ، وله شروط عرفناها (3). «ومشغول به» : وینطبق علی الضمیر العائد علی الاسم السابق مباشرة ؛ کما ینطبق علی اللفظ السببیّ الذی له ضمیر یعود علی ذلک المتقدم. و «مشغول عنه» وهو : الاسم المتقدم الذی کان فی الأصل مفعولا حقیقیّا أو معنویّا (حکمیّا) ، ثم تقدم علی عامله ، وترک مکانه للضمیر المباشر ، أو للسببیّ ؛ فانصرف عنه العامل ، واشتغل بما حل محله.
ولا بد فی هذا الاسم المتقدم أن یتصل بعامله بغیر فاصل ممنوع بینهما (4) إذا
ص: 124
کان العامل فعلا (1). أما إن کان وصفا فیجوز الفصل.
* * *
یجوز فی هذا الاسم السابق من ناحیة إعرابه وضبط آخره ، أمران - بشرط ألّا یوجد ما یحتم أحدهما مما سنعرفه -.
أولهما : إعرابه مبتدأ والجملة بعده خبره (2).
ص: 125
وثانیهما : إعرابه مفعولا به لعامل محذوف وجوبا ، یدل علیه ویرشد إلیه العامل المذکور بعده فی الجملة ، فیکون العامل المحذوف وجوبا مشارکا للمذکور إما فی لفظه ومعناه معا ، وإما فی معناه ، فقط ، ولا یصح الجمع بین العاملین ما داما مشترکین (1) ، إذ الموجود عوض عن المحذوف. فمثال الأول : الأمین شارکته ، فالتقدیر : شارکت الأمین شارکته. ومثال الثانی : البیت قعدت فیه ، التقدیر : لابست البیت ، قعدت فیه : أو : لازمت البیت ، قعدت فیه. ومثل : الحدیقة مررت بها ؛ أی : جاوزت الحدیقة مررت بها. وهکذا نستأنس بالعامل الموجود فی الوصول إلی العامل المحذوف وجوبا من غیر أن نتقید بلفظ العامل الموجود أحیانا. أمّا معناه فنحن مقیدون به فی کل حالات الاشتغال.
مع جواز الأمرین السالفین فالأول (وهو إعرابه مبتدأ) أحسن ؛ لأنه لا یحتاج إلی تقدیر عامل محذوف ، ولا إلی التفکیر فی اختیاره ، وفی موافقته للعامل المذکور ، وقد تکون موافقته معنویة فقط ؛ فتحتاج - أحیانا - إلی کدّ الفکر (2).
* * *
والنحاة یتخیرون هذا الموضع للکلام علی حکم کثیر من الأسماء المتقدمة علی عواملها ، وینتهزون فرصة «الاشتغال» لیعرضوا أحکام تلک الأسماء ؛ سواء منها ما یدخل فی باب «الاشتغال» وتنطبق علیه أوصافه التی عرفناها ، وما لا یدخل فیه ، ولا تنطبق علیه صفاته (3). وهم یقسمونها ثلاثة أقسام (4) : ما یجب نصبه ، وما یجب رفعه ، وما یجوز فیه الأمران.
ص: 126
(ا) فیجب نصب الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل ؛ کأداة الشرط ، وأداة التحضیض (1) ، وأداة العرض (2) ، وأداة الاستفهام (3) إلا الهمزة (4) ؛ نحو : (إن ضعیفا تصادفه (5) فترفق به - حیثما أدیبا تجالسه
ص: 127
یؤنسک) - (هلّا حلما تصطنعه - ألا زیارة واجبة تؤدیها) - (متی عملا تباشره؟ أین الکتاب وضعته؟) فلا یجوز الرفع فی هذه الأمثلة ونظائرها علی الابتداء أما الرفع علی أنه فاعل ، أو نائب فاعل لفعل محذوف ، أو أنه اسم لکان المحذوفة - فجائز (1). ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ ...،) وقول الشاعر :
ولیس بعامر بنیان قوم
إذا أخلاقهم کانت خرابا
وقول الآخر :
وإذا مطلب کسا حلّة العا
ر فبعدا (2) لمن یروم
نجازه (3)
التقدیر : وإن استجارک أحد من المشرکین استجارک ... - وإذا کانت أخلاقهم کانت ... - وإذا کسا مطلب کسا حلة العار ... وهکذا (4).
* * *
(ب) ویجب (5) رفع الاسم السابق :
ص: 128
1 - إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الاسم ؛ فلا یجوز أن یقع بعدها فعل ؛ مثل : إذا «الفجائیة» (1) ؛ نحو : خرجت فإذا الرفاق أشاهدهم ؛ فیجب رفع کلمة : «الرفاق» ولا یجوز نصبها علی الاشتغال بفعل محذوف ؛ لأن «إذا الفجائیة» لا یقع بعدها الفعل مطلقا ؛ لا ظاهرا ولا مقدرا.
ومثل «إذا» الفجائیة أدوات أخری ؛ منها : «لام» الابتداء فی نحو : إنی للوالد أطیعه ؛ فلا یجوز نصب کلمة : «الوالد» علی الاشتغال ، ولا اعتبارها مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ؛ لأن لام الابتداء لا تدخل علی المفعول به.
ومنها : واو الحال الداخلة علی الاسم الذی یلیه المضارع المثبت ، فی مثل : أسرع والصارخ أغیثه ؛ فلا یصح نصب «الصارخ» علی اعتباره مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ، وتقدیرهما : «أغیث» ، والجملة من الفعل المحذوف مع فاعله فی محل نصب علی الحال. - لا یصح هذا ؛ لأن الجملة المضارعیة التی مضارعها مثبت ، غیر مسبوق بلفظ : «قد» لا تقع حالا - علی الأرجح - إذا کان الرابط هو : «الواو» فقط (2) ؛ کهذا المثال وأشباهه.
ومنها : «لیت» المتصلة «بما» الزائدة ؛ فلا نصب علی الاشتغال فی مثل : لیتما وفیّ أصادفه ؛ لأن «ما» الزائدة لا تخرج «لیت» من اختصاصها بالأسماء ؛ إذ یجوز إعمال «لیت» وإهمالها ؛ فالمنصوب بعدها اسم لها ، ولا یصح أن یقع بعدها فعل مطلقا.
2 - وکذلک یجب رفع الاسم السابق إذا وقع قبل أداة لها الصدارة فی جملتها ؛ - فلا یعمل ما بعدها فیما قبلها - ، وبعدها العامل ، کأداة الشرط ، والاستفهام (3) ، وما النافیة ، ولا النافیة الواقعة فی جواب قسم ... (4) ؛ فلا یصح نصب الاسم
ص: 129
السابق فی نحو : الکتاب إن استعرته فحافظ علیه - المریض هل زرته؟ - الحدیقة ما أتلف زروعها - والله الذنوب لا أرتکبها ... ؛ لأن هذه الأدوات لها الصدارة ، فلا یعمل ما بعدها فیما قبلها ؛ (أی : لا یجوز أن یتقدم معمولها علیها ، ولا معمول لعامل بعدها). وما کان کذلک لا یصلح أن یکون دالا علی عامل محذوف یماثله ، ولا مرشدا إلیه. ومثلها : أدوات الاستثناء ؛ فلا نصب فی نحو : ما السفر إلا یحبه الرحّالون (1) ...
* * *
(ح) ما یجوز فیه الأمران (2) ، وهو ما عدا القسمین السالفین ، فیشمل ما یأتی : 1 - الاسم - المشتغل عنه - الذی بعده فعل دال علی طلب ؛ کالأمر (3) ، والنهی ، والدعاء ؛ نحو : الحیوان ارحمه - الطیور لا تعذبها - اللهم الشهید ارحم ، أو : الشهید رحمه الله ...
وکذلک إن وقع الاسم السابق بعد أداة یغلب أن یلیها فعل ، کهمزة الاستفهام ، نحو : أطائرة رکبتها؟ وکأدوات النفی الثلاثة : (ما - لا - إن -) ؛ نحو : ما السفه نطقته - لا الوعد أخلفته ، ولا الواجب أهملته - إن السوء فعلته. ومثل : «حیث» المجردة من «ما» ، نحو : اجلس حیث الضیف أجلسته.
وکذلک إن وقع الاسم السابق بعد عاطف تقدمته جملة فعلیة ، ولم تفصل کلمة :
ص: 130
«أمّا» (1) بین الاسم والعاطف ؛ نحو : خرج زائر والقادم استقبلته ، فلو فصلت «أما» بینهما کان الاسم «المشتغل عنه» فی حکم الذی لم یسبقه شیء ؛ نحو : خرج زائر ، وأمّا المقیم فأکرمته.
فالأمثلة فی کل الصور السابقة وأشباهها ، یجوز فیها الأمران. النصب والرفع. وجمهرة النحاة تدخلها فی النوع الذی یجوز فیه الأمران قیاسا ، والنصب أرجح (2) عندهم. وحجتهم : أن الرفع یجعل الاسم السابق مبتدأ ، والجملة الطلبیة بعده خبر ، ووقوع الطلبیة خبرا - مع جوازه - قلیل بالنسبة لغیر الطلبیة. أو یجعل الاسم السابق مبتدأ بعد همزة الاستفهام ونحوها ، ووقوع المبتدأ بعدها - مع جوازه - قلیل أیضا ، لکثرة دخولها علی الأفعال دون الأسماء. أو یجعل الجملة الاسمیة بعده إذا کانت غیر مفصولة بإما ، معطوفة علی الجملة الفعلیة قبله ؛ والعطف علی جملتین مختلفتین فی الاسمیة والفعلیة قلیل مع صحته.
ص: 131
2 - الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع بعد عاطف غیر مفصول بالأداة : «أمّا» وقبله جملة ذات وجهین (1) ، مع اشتمال التی بعده فی حالة نصبه علی رابط یربطها بالمبتدأ السابق (2) ؛ - کالضمیر العائد علیه ؛ أو الفاء المفیدة للربط به - ؛ نحو : (النهر فاض ماؤه صیفا ، والحقول سقیناها من جداوله) - (العلم الحدیث نجح فی غزو الکون السماوی ، فالعلوم الریاضیة ، استلهمها الغزاة قبل الشروع). فیصح رفع کلمتی : «الحقول - والعلوم» علی اعتبار کل منهما مبتدأ ، خبره الجملة الفعلیة بعده. وهذه الجملة الاسمیة معطوفة علی الاسمیة التی قبلها. ویجوز نصب الکلمتین علی أنهما مفعولان لفعل محذوف ، والجملة من هذا الفعل وفاعله معطوفة علی الجملة الفعلیة الواقعة خبرا قبله. وفی الحالتین تتفق الجملتان المعطوفتان مع المعطوف علیهما فی ناحیة الاسمیة أو الفعلیة ؛ فیجری الکلام علی نسق واحد ، ولهذا یتساوی (3) الأمران.
3 - الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع فی غیر ما سبق. نحو الریاحین زرعتها. والنحاة یجیزون الأمرین ویرجحون الرفع ؛ لأنه لا یحتاج إلی تقدیر عامل محذوف (4).
ص: 132
«ملاحظة» بانضمام هذه الأقسام الثلاثة (1 ، 2 ، 3) إلی القسم الذی یجب فیه النصب فقط ، والقسم الذی یجب فیه الرفع فقط ... ، تنشأ الأقسام الخمسة التی عرضها النحاة فی هذا الباب ، وارتضوها وجعلوا لکل منها حکما. وقد أشرنا (1) إلی أنه یمکن إدماج بعضها فی بعض ، وجعلها ثلاثة ، اختصارا وتیسیرا.
ص: 133
1 - زاد فریق من النحاة شروطا أخری للاشتغال رفضها سراه ؛ بحجة أنها لا تثبت علی التمحیص. وهذا رأی سدید حملنا علی إهمالها ؛ ادخارا للجهد ، وإبعادا لنوع من الجدل لا خیر فیه للنحو.
2 - أشرنا قریبا (1) إلی صحة أن یکون الاسم السابق المنصوب مفعولا به لفعل محذوف ، یخالف الفعل المذکور بعده فی جملته ، ولا یکون له صلة بلفظه ولا بمعناه ؛ وذلک حین تقوم قرینة تدل علی هذه المخالفة ؛ کأن یقال : ماذا اشتریت؟ فتجیب : کتابا أقرؤه. «فکتابا» مفعول به لفعل محذوف تقدیره : اشتریت کتابا أقرؤه ؛ فالفعل المحذوف مخالف للمذکور فی لفظه ومعناه ؛ فلا تکون المسألة من باب «الاشتغال» ، ولا یکون العامل الثانی صالحا للعمل فی المفعول به السابق ، ولا مفسرا لعامله المحذوف. وفی هذه الحالة التی یختلف فیها الفعلان : المحذوف والمذکور ، لا یکون الحذف واجبا ، وإنما یکون جائزا (2) ، فیصح فی الفعل المحذوف أن یذکر. أما الحذف الواجب ففی : «الاشتغال» ؛ فلا یصح الجمع بینهما ؛ لأن الثانی بمنزلة العوض عن الأول ؛ ولا یجمع بین العوض والمعوّض عنه (3).
3 - إنما یقع «الاشتغال» بمعناه العام الذی یشمل الاسم السابق المرفوع بعد أدوات الشرط ، والتحضیض والاستفهام ، غیر الهمزة ، کما سبق - فی الشعر ؛ فقط ؛ للضرورة. وأما فی النثر فلا یحسن بعد تلک الأدوات إلا صریح الفعل (4)
ص: 134
ویستثنی من أدوات الشرط ثلاثة أشیاء ؛ یقع بعدها الاشتغال نثرا ونظما ، أولها : أدوات الشرط التی لا تجزم ؛ ومنها : إذا - ولو - مثل : (إذا السماء انشقت ...) إلخ ، ومثل : لو الحرب امتنعت لطابت الحیاة.
وثانیها : «إن» ، بشرط أن یکون الفعل فی التفسیر ماضیا لفظا ، نحو : إن علما تعلمته فاعمل به ، أو ماضیا معنی (1) فقط ، نحو : إن علما لم تتعلمه فاتتک فائدته. فإن کان فعل التفسیر مضارعا مجزوما (2) لم یقع الاشتغال بعدها إلا فی الشعر ، دون النثر.
وثالثها : «أمّا» الشرطیة. ولکن لا یجب نصب الاسم بعدها ؛ لأن الاسم یلیها حتما (3) ، ولو کان الفعل مذکورا بعده ؛ نحو : قوله تعالی : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیْناهُمْ ...) فقد قرئ «ثمود» بالرفع علی الابتداء ، وبالنصب علی الاشتغال. وفی حالة النصب یجب تقدیر العامل بعد الاسم المنصوب ، وبعد الفاء معا ؛ لأن «أمّا» لا یلیها إلا الاسم (4) ولا یفصل بینها وبین الفاء إلا اسم واحد ، والتقدیر - کما یقولون - وأما ثمود فهدیناهم هدیناهم. وللبحث تحقیق.
4 - من الأصول النحویة أن المحذوف قد یحتاج - أحیانا - إلی شیء مذکور یفسره ، ویدل علیه. وقد یکون التفسیر واجبا ، کما فی باب : «الاشتغال». وفی هذا الباب إن کان المحذوف جملة فعلیة فتفسیره لا یکون إلا بجملة مذکورة فی الکلام ، مشارکة للمحذوفة فی لفظها ومعناها معا ، أو فی المعنی فقط ؛ نحو : العظیم نافسته - المصنع وقفت فیه. التقدیر : نافست العظیم نافسته - لابست المصنع وقفت فیه. أو نحو ذلک مما یؤدی إلی الغرض فی الحدود المرسومة. ولا یصح هنا تفسیر الجملة بغیر جملة مثلها علی الوجه السابق.
وإن کان المحذوف فعلا فقط أو وصفا عاملا یشبهه ، ویحل محله ، جاز أن
ص: 135
یفسّر کل منهما بفعل أو بما یشبهه ، تفسیرا لفظیّا ومعنویّا معا ، أو معنویّا فقط والأفضل التماثل عند عدم المانع بأن یفسّر الفعل نظیره الفعل ، ویفسّر الوصف نظیره الوصف ، نحو : إن أحد دعاک الخیر فاستجب - ما الصلح أنت کارهه. التقدیر : إن دعاک أحد ، دعاک الخیر فاستجب - ما أنت کاره الصلح - أنت کارهه.
ویدور بین النحاة جدل طویل فی موضع الجملة المفسّرة ؛ أیکون لها محل من الإعراب ، أم لیس لها محل؟ وقد یکون الأنسب الأخذ بالرأی القائل إنها تسایر الجملة المحذوفة «المفسّرة» وتماثلها فی محلها الإعرابی وعدمه ، کما تماثلها فی لفظها ومعناها علی الوجه السالف. وعلی هذا إن کانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لا محل لها من الأعراب فالمفسّرة کذلک لا محل لها من الإعراب ؛ نحو : البحر أحببته ، أی : أحببت البحر أحببته ؛ فالجملة التفسیریة لا محل لها من الإعراب ؛ لأن الأصلیة المحذوفة کذلک. وإن کانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لها محل من الإعراب فالتی تفسرها تسایرها وتماثلها فیه ؛ نحو قوله تعالی : (إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ،) أی : إنا خلقنا کلّ شیء خلقناه بقدر ؛ فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فی محل رفع خبر «إنّ» ؛ فالتی تفسرها کذلک فی محل رفع خبر. ونحو : العقلاء الواجب یؤدونه ؛ أی : العقلاء یؤدون الواجب یؤدونه ، فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فی محل رفع خبر المبتدأ ، والمفسّرة فی محل رفع خبر المبتدأ کذلک. وفی قوله تعالی : (وَعَدَ اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ... تقع الجملة الاسمیة (المفسّرة) مفعولا فی محل نصب ؛ لأن المحذوف المفسّر مفعول به منصوب ؛ إذ التقدیر : الجزاء ، أو الجنة وعد الله الذین آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم مغفرة ؛ فجملة : «لهم مغفرة» هی المفسرة للمفعول به المحذوف (1).
ولا تکون الجملة هی المفسّرة فی باب الاشتغال إلا حین یکون الاسم السابق
ص: 136
منصوبا کالأمثلة السالفة ؛ فإن کان مرفوعا للمحذوف فالمحذوف هو فعله وحده (1) ویتعین أن یکون مفسّره هو الفعل المذکور ولیس الجملة ، ولا بد - عند المحققین أن یکون هذا الفعل المذکور (المفسّر) مسایرا للمحذوف (المفسّر) فی حکمه وإعرابه اللفظی ، والتقدیری ، والمحلی ... مثل إن العتاب یکثر یؤد إلی القطیعة ، التقدیر : إن یکثر العتاب - یکثر - یؤد إلی القطیعة. فالمفسّر هو الفعل : «یکثر» الثانی ، وهو مضارع مجزوم کالأول المحذوف (2). ومثل : إذا العنایة تلاحظک عیونها فلا تخف شیئا. التقدیر : إذا تلاحظک العنایة تلاحظک عیونها ، فالمفسّر فی المثال هو الفعل : «تلاحظ» وحده ، وهو کالأول فی حکمه الإعرابی. ومثل :
إذا الملک الجبّار صعّر خدّه (3)
مشینا إلیه بالسیوف نعاتبه
أی : صعّر الملک خدّه ، صعره ، فالمفسّر هو الفعل الماضی وحده (صعّر). ومثل
فمن نحن نؤمنه (4) یبت وهو آمن
ومن لا نجره یمس منا مفزّعا
التقدیر : فمن نؤمنه یبت وهو آمن ... فالمفسّر هو الفعل «نؤمن» وحده ، وهو مجزوم کالفعل المفسّر المحذوف. وکلمة : «نحن» فی البیت ضمیر فاعل للفعل المحذوف. وقد برز هذا الضمیر - بعد استتاره الواجب - بسبب حذف فعله وحده ؛ إذ لا یبقی الفاعل مستترا بعد حذف عامله. فإذا رجع العامل وظهر ، عاد الضمیر الفاعل إلی الاستتار کما کان. فإن ظهر مع ظهور عامله لم یعرب
ص: 137
- فی الرأی الشائع - فاعلا ؛ وإنما یعرب ترکیدا لفظیّا للضمیر المستتر المماثل له. وینطبق هذا الکلام علی البیت التالی :
فإن أنت لم ینفعک علمک (1)
فانتسب
لعلک تهدیک القرون الأوائل
التقدیر : فإن لم تنتفع لم ینفعک علمک ... وأشباه هذا. فالفعل «ینفع» هو وحده المفسّر للفعل المحذوف ، وهو مسایر لذلک المحذوف فی الجزم والنفی معا. والضمیر البارز «أنت» فاعل الفعل المحذوف ، وکان مستترا وجوبا فیه ، فلما حذف الفعل برز فی الکلام فاعله المستتر ، ولما رجع الفعل إلی الظهور فی الجملة الأخیرة عاد فاعله الضمیر إلی الاستتار. کما کان أولا. ومثله قول الشاعر :
إذا أنت (2) فضّلت امرأ
ذا براعة
علی ناقص کان المدیح من النقص
وقول الآخر :
بلیغ إذا یشکو إلی غیرها الهوی
وإن هو لاقاها فغیر بلیغ
وفی مثل :
لا تجزعی إن منفس أهلکته
فإذا هلکت فعند ذلک فاجزعی
یکون التقدیر : لا تجزعی إن هلک منفس أهلکته ... والمحذوف هنا مطاوع للمذکور ، فهو من مادته اللفظیة ومن معناه ، وإن کانت المشارکة اللفظیة لیست کاملة.
أما تفضیل الرأی القائل بمسایرة الجملة المفسّرة للجملة المفسّرة فی حکمها ، ومحلها الإعرابی فراجع إلی أمرین :
أولهما : أن الجملة المفسّرة قد یکون لها محل من الإعراب - بالاتفاق - فی بعض مواضع ، کالجملة المفسّرة لضمیر الشأن (3) فی نحو : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فإن جملة (اللهُ أَحَدٌ) مبتدأ وخبر فی محل رفع ، لأنها خبر لضمیر
ص: 138
الشان : «هو». وفی نحو : ظننته : «الصدیق نافع» ؛ الجملة الاسمیة فی محل نصب ؛ لأنها المفعول الثانی لظنّ ... ولیس فی هذا خلاف.
وثانیهما (1) : أن هناک کلمات تفسر غیرها وقد تسایرها فی حرکة إعرابها ؛ کالکلمات الواقعة بعد «أی» التی هی حرف تفسیر فی مثل هذا سوار من عسجد ، أی : ذهب. فکلمة : «أی» حرف تفسیر ؛ یدل علی أن ما بعده یفسر شیئا قبله. وکلمة : «ذهب» هی التفسیر لکلمة : «عسجد» ویجب أن تضبط مثلها فی حرکات الإعراب. نعم إنهم یعربون کلمة «ذهب» وأمثالها مما یقع بعد «أی» التفسیریة بدلا أو عطف بیان ؛ لکن هذا لا یخرجها عن أنها مماثلة للمفسّر فی حرکة إعرابه ؛ إذ کل من البدل وعطف البیان تابع هو بمنزلة متبوعه. ومن الکلمات التی تفسر غیرها ویتحتم أن تسایره فی حرکة إعرابه ما یقع بعد حرف العطف : «الواو» الذی یدل أحیانا علی أن ما بعده مفسر لما قبله ، کما فی مثل : الماء الصافی یشبه اللجین والفضة. فالواو حرف عطف للتفسیر ، لأن ما بعدها یفسر ما قبلها. وهو مسایر له - وجوبا - فی حرکات إعرابه ؛ إذ المعطوف کالمعطوف علیه فی کثیر من أحکامه التی منها حرکات الإعراب.
فالرأی القائل باعتبار الجملة التفسیریة مسایرة لما تفسره یجعلها کنظائرها من الجمل التی لها محل من الإعراب ، وکغیرها من المفردات التی تؤدی مهمة التفسیر. ولا معنی للتفرقة فی الحکم بین ألفاظ تؤدی مهمة واحدة ، إلا إن کان هناک سبب قویّ ، ولم یتبین هنا السبب القویّ ؛ بل الذی تبین أن الکلام المأثور الفصیح یؤید أصحاب هذا الرأی الواضح الذی یمنع تعدّد الأقسام والأحکام ، ویؤدی إلی التیسیر بغیر ضرر.
وقد أشرنا (2) إلی أن الجملة لا تکون مفسرة فی باب «الاشتغال» إلا حین یکون الاسم السابق منصوبا. فإن کان مرفوعا لعامله المحذوف فالمحذوف هو فعله وحده ، ویتعین أن یکون التفسیر بفعل فقط ، کما قلنا إن الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل وجب نصبه ، ولا یجوز رفعه علی أنه مبتدأ ، وإنما یجوز رفعه
ص: 139
علی أنه مرفوع فعل محذوف ؛ کقوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ) ، فکلمة : «أحد» فاعل لفعل محذوف یفسره المذکور بعده ، والتقدیر : وإن استجارک أحد من المشرکین استجارک ... إلی آخر ما أوضحنا ...
والذی نرید بسطه الآن أن بعض القدامی والمحدثین لا یروقهم هذا التقدیر ، ویسخرون منه ، مطالبین بإعراب الاسم المرفوع - فی الآیة السالفة وأشباهها - إما مبتدأ مباشرة ، وإما فاعلا مقدما للفعل الذی بعده (أی : للمفسّر) وبإهمال التعلیل الذی یحول دون هذا الإعراب ، لأنه - کما یقولون - تعلیل نظری محض ، أساسه التخیل والتوهم ، وتعارضه النصوص الکثیرة الواردة بالرفع الصریح ...
ولا حاجة إلی عرض أدلة کل فریق ممن یبیح أو یمنع ؛ فقد فاضت بها المطولات والکتب التی تتصدّی لمثل هذا الخلاف ، وسرد تفاصیله وأدلته التی نضیق بها الصدور - أحیانا - حین تقوم علی مجرد الجدل ، وتعتمد علی التسابق فی إظهار البراعة الکلامیة. ومنها : کتاب : «الإنصاف فی أسباب الخلاف» ، لابن الأنباری ...
والحق یقتضینا أن نحکم علی کل وجه من أوجه الإعراب الثلاثة بالضعف. ولکن الضعف فی حالة تقدیر عامل محذوف ، أخفّ وأیسر. وفیما یلی البیان بإیجاز ، ولعل فیه - مع إیجازه - ما یرد بالأمر مورده الحق ، ویضعه فی نصابه الصحیح. هذا ، وفی الاستئناس والاسترشاد بما یقال فی الاسم المرفوع بعد أداة الشرط - کالآیة السابقة ، وأمثالها - ما یکفی ویوصّل لتأیید النحاة ، ودعم رأیهم فی باقی حالات رفعه.
(ا) فی مثل : إن عاقل ینصحک ینفعک ، لو أعربنا الاسم السابق : «عاقل» مبتدأ لکانت الجملة الفعلیة بعده (وهی : ینصحک) فی محل رفع ، خبره. ویترتب علی هذا أن تکون أداة الشرط ، وهی تفید - دائما - التعلیق (1)
ص: 140
قد دخلت علی جملة اسمیة ، مع أنّ الجملة الاسمیة تفید الثبوت (1) ؛ وهو من أضداد التعلیق. وهنا یقع فی الجملة الواحدة التعارض الواسع بین مدلول الأداة ، مدلول والمبتدأ مع خبره ؛ وهو تعارض واقعیّ (2) لا خیالیّ ؛ إذ مردّه الاستقراء المنتزع من الأسالیب العربیة الصحیحة التی لا یسوغ مخالفتها ، ولا سیما فی النواحی المتعلقة بالمعنی ، وإلا اضطربت المعانی ، وتناقضت ، ولم تؤد اللغة مهمتها -. بخلاف الجملة الفعلیة ؛ فإنها تقبل التعلیق ، ولا تعارضه.
وشیء آخر یؤید ما سلف ؛ هو أن بعض النصوص الفصیحة الواردة تدل علی وجود لغات أو لهجات ترفع المضارع «ینصح» فی ذلک المثال وأشباهه. فإذا ورد مرفوعا فأین فعل الشرط؟ أیکون هو فعل الشرط مع رفعه ؛ فنتکلف أقبح التأول والتمحل فی إعرابه؟ أم نترکه علی حاله مرفوعا ، ونقدّر فعلا آخر للشرط مجزوما مباشرة؟ الأمران معیبان. ولکن الثانی أقرب إلی القبول ؛ لأنه - بسبب جزمه المباشر الخالی من التأول - ینخرط فی عداد أفعال الشرط ؛ إذ الأصل فی أفعال الشرط أن تکون مجزومة. وهذا دلیل آخر یدفعنا إلی رفض الوجه الإعرابی السابق (المبتدأ). کما تحمل علی رفضه أمور أخری نحویة وبلاغیة دقیقة وفی مقدمتها الفصل بالمبتدأ بین أداة الشرط الجازمة وفعلها وهذا ممنوع ؛ لمخالفته المأثور الشائع (3).
ص: 141
(ب) ولو أعربنا الاسم السابق وهو : «عاقل» وأشباهه ، فاعلا - أو شیئا آخر مرفوعا بالعامل الذی بعده - کما یری فریق من الکوفیین لکان هذا أخذا برأی ضعیف أیضا ، فوق ما فیه من الفصل الممنوع عند أکثر النحاة ، ومن اختلاط الأمر فی کثیر من الأسالیب بین المبتدأ والفاعل المتقدم کما فی المثال المعروض ونظائره - وما أکثرها - فیوجد من یعرب کلمة ؛ «عاقل» مبتدأ ، والجملة الفعلیة بعده خبره ، ومن یعربها فاعلا مقدّما للفعل بعده. وعلی الإعراب الأول تکون الجملة اسمیة ، وقد سبق ما فیها من عیب. أما علی الإعراب الثانی فالجملة فعلیة ؛ ودلالتها مختلفة عن سابقتها ، فشتان بین مدلولی الجملتین فی لغتنا ، هذا إلی مشکلات أخری تتعلق بوجود فاعل مذکور - أحیانا - بعد الفعل المتأخر ، وبالضمائر المتصلة بالفعل المتأخر ، وعودتها ، ومطابقتها للفاعل المتقدم أو عدم مطابقتها ، واعتبارها حروفا أو أسماء ...
(ح) فلم یبق إلا اختیار الإعراب الثالث القائم علی تقدیر فعل محذوف ، (تحقیقا لما اشترطه جمهور النحاة من دخول أداة الشرط علی فعل ظاهر أو مقدر ومنع دخولها علی الاسم) واعتباره أفضلها ، وأن العیب فیه أخف وأیسر ، کما قلنا. ولن یترتب علی هذا «التقدیر» خلط بین المعانی والمدلولات اللغویة ، ولا تداخل بین القواعد النحویة. علی أن «التقدیر» باب واسع وأصیل فی لغتنا ، ولکنه محکم ، وسائغ ممن یحسن استخدامه - عند مسیس الحاجة الشدیدة - علی النمط الوارد الفصیح الذی یحتج به ، والذی لا یؤدی إلی خلط أو اضطراب.
4 - أجری بعض النحاة الذین لا یقصرون الاشتغال علی النصب - أحکاما أربعة علی الاسم السابق إذا کان مرفوعا وبعده فعل قد عمل الرفع فی ضمیره أو فی ملابسه : فیجب رفع هذا الاسم السابق إما بالابتداء إذا وقع بعد أداة لا یلیها فعل ؛ کإذا الفجائیة ، ولیتما (المختومة «بما» الزائدة) ؛ نحو : خرجت فإذا النسیم
ص: 142
ینعش - لیتما الجو یعتدل ، وإما علی الفاعلیة بفعل محذوف إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل - کأداة الشرط - نحو : إن سیارة أقبلت فاحترس منها.
ویکون الرفع بالابتداء راجحا فی مثل : الزارع یکافح ؛ حیث لا یحتاج إلی تقدیر شیء محذوف ، أما إعرابه فاعلا بفعل محذوف فیحتاج إلی تقدیر ذلک الفعل ، والتقدیر هنا ردیء ما دام الاسم غیر واقع بعد أداة تطلب فعلا ؛ کأداة الاستفهام ، ونحوها ...
وقد یکون الرفع بالفعل المحذوف راجحا علی الرفع بالابتداء فی مثل : العاملة لتجتهد ؛ لأن وقوع الجملة الطلبیة خبرا قلیل بالنسبة لغیر الطلبیة.
وقد یستویان فی مثل کلمة : «الزروع» من نحو : المطر نزل ، والزروع ارتوت منه. لأن الجملة الأولی ذات وجهین فإذا أعربت کلمة «الزروع» مبتدأ والجملة بعدها الخبر کانت هذه الجملة الاسمیة معطوفة علی الجملة الاسمیة التی قبلها. وإذا أعربت کلمة : «الزروع» فاعلا لفعل محذوف کانت هذه الجملة الفعلیة معطوفة علی الجملة الفعلیة الواقعة خبرا قبلها.
5 - أبیات ابن مالک فی هذا الباب لیست مرتبة ترتیبا متماسکا یسایر المعانی ویؤالف بعضه بعضا ، فقد یذکر بیتا أو بیتین فی أول الباب یشرح بهما قاعدة معینة ، ثم یأتی ببیت أو أکثر لیشرح قاعدة ثانیة ، فثالثة ... ثم یذکر بیتا آخر یتمم القاعدة الأولی ، فآخر یتمم الثالثة ، وهکذا تتفرق أجزاء القاعدة الواحدة فی بیتین أو أکثر لیس بینهما توال ، أو اتصال مباشر. فلم یکن بد من استیفاء کل قاعدة علی حدة استیفاء کاملا. ثم الإشارة فی الهامش إلی أبیات ابن مالک المتعلقة بتلک القاعدة ، وتدوینها علی حسب ما یقتضیه تماسک القاعدة وتکاملها ، لا علی حسب ورودها فی ألفیته ؛ وإلا جاءت القاعدة مفککة ، متناثرة هنا وهناک ، متداخلة فی غیرها. علی أنا وضعنا بجانب کل بیت من أبیات ابن مالک رقما خاصّا به یدل علی ترتیبه الحقیقی بین أبیات هذا الباب کما وردت فی ألفیته.
6 - أسلوب : «الاشتغال» بمعناه العام دقیق ، یتطلب براعة فی تألیفه وضبطه ، کی یسلم من الخطأ ، والالتواء ، والتفکک ؛ فحبذا الاقتصاد فی استعماله.
ص: 143
ثلاثة أنواع :
(ا) نوع یسمی : «المتعدی» (2) ، وهو الذی ینصب بنفسه مفعولا به (3) أو اثنین ، أو ثلاثة ؛ من غیر أن یحتاج إلی مساعدة حرف جر ، أو غیره مما یؤدی إلی تعدیة الفعل اللازم (4) ؛ مثل : سمع - ظنّ - أعلم ، فی نحو : لما سمعت الخبر ظننت الراوی مخطئا ، لکن الصحف أعلمتنا الخبر صحیحا.
ص: 144
(ب) نوع یسمی «اللازم» (1) أو : «القاصر» ، وهو الذی لا ینصب بنفسه مفعولا به أو أکثر ؛ وإنما ینصبه بمعونة حرف جر ، أو غیره مما یؤدی إلی التعدیة. مثل : أسرف - انتهی - قعد - فی نحو : إذا أسرف الأحمق فی ماله انتهی أمره إلی الفقر ، وقعد فی بیته ملوما محسورا (2). فکل کلمة من : مال ، فقر ، بیت ... هی فی المعنی - لا فی الاصطلاح - مفعول به للفعل قبلها. ولکن الفعل لم یوقع معناه وأثره علیها مباشرة ، وإنما أوصله بمساعدة حرف جر ؛ فهی فی الظاهر مجرورة به ، وهی فی المعنی فی حکم المفعول به لذلک الفعل (3).
(ح) نوع مسموع ، یستعمل متعدیا ولازما ؛ مثل : شکر ونصح (4).
وقد أراد النحاة تیسیر التمییز بین الفعل المتعدی بنفسه والفعل اللازم ، وسهولة
ص: 145
تعیین کلیهما ؛ فوضعوا لذلک ضابطین یصلح کل منهما لأداء هذه المهمة - فی رأیهم (1) -
أولهما : أن یتصل بالفعل ضمیر ؛ - کالهاء (2) أو : ها - ، یعود علی اسم سابق غیر ظرف وغیر مصدر.
وطریقة ذلک : أن یوضع الفعل فی جملة تامة ، وقبله اسم جامد ، أو مشتق ؛ بشرط أن یکون هذا الاسم غیر مصدر وغیر ظرف. وبعد الفعل ضمیر یعود علی ذلک الاسم المتقدم. فإن صح الترکیب واستقام المعنی فالفعل متعد بنفسه ، وإلا فهو لازم. فإذا أردنا أن نتبین حقیقة الفعل : «أخذ» من ناحیة التعدی واللزوم وضعنا قبله اسما غیر مصدر وغیر ظرف ، وجعلنا بعد الفعل ضمیرا یعود علی ذلک الاسم ؛ فنقول : الصحف أخذتها ، فنری المعنی سلیما والترکیب صحیحا (لموافقته الأصول والضوابط اللغویة) ؛ فنحکم بأن هذا الفعل متعد ؛ ینصب المفعول به بنفسه ، إلا إن صار المفعول به نائب فاعل فیرفع (3). ومثل هذا یتبع فی الفعل «قعد» حیث نقول : الغرفة قعدتها ؛ فندرک سریعا فساد الأسلوب والمعنی. ولا سبب لهذا الفساد اللغویّ إلا تعدیة الفعل : «قعد» تعدیة مباشرة. لهذا نحکم بأنه لازم. ومثل الفعلین «أخذ» و «قعد» غیرهما من الأفعال ؛ حیث یمکن التوصل إلی معرفة المتعدی واللازم باستخدام الضابط السالف.
وإنما اشترطوا فی الاسم السابق أن یکون غیر مصدر وغیر ظرف لأن الضمیر یعود علیهما من الفعل المتعدی واللازم علی السواء ؛ فلا یصلح الضمیر العائد علی أحدهما أن یکون أداة للتمییز بینهما ، ولکشف المتعدی واللازم منهما ؛ ففی مثل : طلبت منک أن تمشی فی الصباح المبکر طویلا ، ثم تستریح ساعة ، تذهب بعدها إلی مزاولة عملک ؛ فماذا فعلت؟
ص: 146
قد یکون الجواب : المشی مشیته ، والساعة استرحتها (1) ، والذهاب ذهبته ، والعمل زاولته. ففی الإجابة ضمائر عاد بعضها علی المصدر أو علی الظرف ، مع أن أفعالها لازمة ؛ کما فی الثلاثة الأولی ، وعاد بعضها علی المصدر أیضا مع أن الفعل : «زاول» متعد بنفسه.
ثانیهما : صیاغة اسم مفعول تامّ (2) من الفعل الذی یراد معرفة تعدیته أو لزومه ؛ فإن أدی اسم المفعول معناه بغیر حاجة إلی جار ومجرور کان فعله متعدیا بنفسه ، وإلا کان لازما. ففی مثل : فتح - أکل - أعلن ... نقول : الباب مفتوح - الفاکهة مأکولة - الخبر معلن ... فنری اسم المفعول مستغنیا عن الجار والمجرور فی أداء المراد منه ، بخلافه عند صیاغته من مثل : قعد - یئس - هتف ... حیث نقول : الحجرة مقعود فیها - القضاء علی أسباب الحرب میئوس منه - العظیم مهتوف باسمه ... فاسم المفعول هنا لم یستغن فی أداء معناه عن الجار مع مجروره ...
فالوسیلة إلی معرفة التعدیة واللزوم تکون باستخدام أحد الضابطین ، أو کلیهما معا ؛ کما یقول النحاة (3).
ص: 147
وبالرغم من هذه الوسیلة لجئوا إلی أخری أدقّ منها وأصحّ ؛ فقد بذلوا الجهد - قدر استطاعتهم - فی استقصاء کلام العرب ، وحصر الأفعال اللازمة الواردة فیه ، وتقسیمها أقساما تقریبیة متعددة ، لکل قسم عنوان معیّن ینطبق - إلی حدّ کبیر - علی عدد کثیر من الأفعال اللازمة الداخلة تحته ؛ فیکتفی الراغب بمعرفة هذا العنوان ، وتطبیق معناه علی الفعل الذی یرید الحکم علیه بالتعدیة أو باللزوم ؛ فیصل - غالبا - إلی ما یرید. فمنزلة هذا العنوان العام منزلة القاعدة التی تطبق علی أفراد متعددة ؛ فتغنی عن المراجع اللغویة ، وتوصل إلی الغایة المرجوة بغیر جهد مبذول ، ولا وقت ضائع. وقد نجحوا فی وضع هذه العناوین أو القواعد التقریبیة نجاحا کبیرا یمکن الاعتماد علیه ، والاکتفاء به ، بالرغم من أنها لم تنطبق علی قلیل من الأفعال وصف بالشذوذ ، ونحوه. وأشهر تلک العناوین والقواعد الدالة - فی الغالب - علی الأفعال اللازمة ما یأتی :
1 - الأفعال الدالة علی صفة تلازم صاحبها ، ولا تکاد تفارقه إلا لسبب قاهر ، وهی الأفعال الدالة علی السجایا ، والأوصاف الفطریة مثل : شرف فلان ؛ نبل - ظرف - قصر - طال - سمن - نحف ... والأغلب فی هذه الأفعال أن تکون علی وزن : «فعل» - بفتح فضم - وهذه صیغة تکاد تقتصر علی الفعل (1) اللازم.
ویتصل بهذا ما لا یدوم ولکن زمنه یطول ، أو یتکرر ؛ مثل : جبن - شجع - نهم (2) - جشع.
2 - الأفعال الدالة علی أمر عرضیّ (3) طارئ ، یزول بزوال سببه المؤقت ؛ کالأفعال فی مثل : مرض المتعرض للعدوی - ، احمر وجهه - ارتعشت یده ... وکالأفعال الدالة علی فرح أو حزن ؛ فرح - (هنئ - سعد - حزن - جزع - فزع - رجف ...) أو علی نظافة ودنس ؛ مثل : نظف الثوب أو غیره -
ص: 148
طهر - وضؤ - دنس - وسخ - قذر - نجس ...
3 - الأفعال الدالة علی لون ، أو حلیة ، أو عیب ؛ مثل : حمر - احمرّ - احمارّ - سود اسودّ - ابیضّ ... ومثل : دعج (1) ، کحل - عور - عمی ...
4 - الأفعال التی علی وزان «افعللّ» نحو : اقشعرّ - ابذعر (2) - ، اشمأزّ - وما ألحق بهذا الوزن من مثل : افوعلّ (بسکون الفاء ، وفتح الواو والعین ، وتشدید اللام) ، نحو : اکوهدّ (3) واکوألّ ...
5 - الأفعال التی علی وزن «افغلل» ؛ من کل فعل فی وسطه نون بعدها حرفان أصلیان ، نحو : احرنجم (4). وکالأفعال التی تضاهی «افعنلل» من کل فعل فی وسطه نون بعدها حرفان أحدهما زائد للإلحاق ، نحو : اقعنسس (5) ؛ فإن السین الثانیة زائدة للإلحاق (6) ؛ باحرنجم.
ویلحق بهما ما کان علی وزان «افعنلی» نحو اسلنقی (7) واحرنبی (8)
6 - الأفعال التی علی وزن «فعل» - بکسر العین أو فتحها - إذا کان الوصف
ص: 149
منها علی «فعیل» ؛ نحو : قوی الرجل ، فهو قویّ ، وذلّ (1) الضعیف ، فهو ذلیل.
7 - الأفعال التی علی وزن : انفعل ؛ نحو : انبعث وانطلق ، والتی علی وزن «أفعل» ، ومعناها : صار صاحب شیء معین. مثل : أغدّ البعیر ؛ بمعنی : صار ذا غدّة (2) ... أو التی علی وزن : «استفعل» وتفید الصیرورة (3) أیضا ؛ نحو : استنوق الجمل ، أی : صار کالناقة ، واستأسد القط ؛ أی : صار کالأسد فی صورته ...
8 - الأفعال الدالة علی مطاوعة (4) فعل لفعل آخر متعد بنفسه لواحد ؛ مثل : «امتد» فی نحو : مددت الحدید الساخن فامتد ، ومثل : «توفّر» فی نحو : وفّرت المال فتوفّر ، ومثل : انکسر فی نحو : کسرت الخشبة فانکسرت.
9 - الأفعال الرباعیة الأصول التی یزاد علیها حرف أو حرفان ؛ مثل : تدحرج ، واحرنجم.
تلک هی أشهر أنواع الأفعال التی یغلب علیها اللزوم (5).
ص: 150
الفعل اللازم ثلاثة أنواع یتردد ذکرها فی مناسبات مختلفة (1).
أولها : اللازم أصالة ؛ ویراد به الفعل الموضوع فی أصله اللغوی لازما ؛ مثل : نام - قعد - تحرک - ...
ثانیها : اللازم تنزیلا ؛ ویراد به الفعل المتعدی لواحد ، ولکن مفعوله هذا یحذف - غالبا - فی بعض الاستعمالات ؛ کأن یشتق من مصدر هذا الفعل اسم فاعل یضاف إلی فاعله ، فیصیر اسم الفاعل بسبب هذه الإضافة دالا علی الثبوت بعد کان قبل الإضافة دالا علی الحدوث ، ویصیر فی حالته الجدیدة : «صفة مشبهة» ، ویسمی باسمها ، وتجری علیه کل أحکامها مع بقائه علی صورته الأولی ، دون بقاء اسمه السابق. وهو فی حالته الجدیدة لا ینصب «مفعولا به» لأنه صار - کما قلنا - صفة مشبهة ، والصفة المشبهة لا تشتقّ أصالة إلّا من فعل لازم ، فحقّ ما هو بمنزلتها أن یکون کذلک ، فیحذف - فی الغالب - مفعوله ؛ مجاراة لها ، مثل : رحم قلب المؤمن الضعفاء ، یقال فیه : فلان راحم القلب.
ثالثها : اللازم تحویلا ، وهذا یکون بتحویل الفعل المتعدی لواحد إلی صیغة : «فعل» بقصد المدح أو الذم وهذه الصیغة لا تکون إلّا لازمة ؛ مثل : جهل الأمیّ ، فی ذمّ الأمیّ. والأصل المتعدی قبل التحویل هو : جهله ... ؛ فصار بعد التحویل لازما.
ص: 151
من الممکن جعل الفعل الثلاثی اللازم متعدیا إلی مفعول به واحد ، أو فی حکم المتعدی إلیه (1) ؛ وذلک بإحدی الوسائل التی سنذکرها ، وکلها قیاسیّ ، إلا الأخیرة (2) ...
وقبل أن نسردها نشیر إلی أمر هامّ ، هو أنّ هذه الوسائل کلها تتشابه فی أمر واحد ، یترکز فی صلاحیة کل منها لتعدیة الفعل اللازم. وتختلف بعد ذلک بینها اختلافا واضحا. وناحیة الخلاف تترکز أیضا فی أن کل وسیلة منها تؤدی مع التعدیة معنی خاصّا لا تکاد تؤدیه وسیلة أخری ؛ فواحدة تفید - مثلا - مع التعدیة جعل الفاعل مفعولا به ؛ کهمزة النقل (3). ولهذا أثره فی تغییر المعنی الأول (4) ، وواحدة تفید التکرار والتمهل ؛ کالتضعیف ، وهذا تغییر طارئ علی المعنی السابق ، وثالثة قد تفید المشارکة ، ولم تکن موجودة ؛ کتحویل الفعل اللازم إلی صیغة فاعل ... وهکذا ، مما سیتضح عند الکلام علی کل واحدة ، وما تجلبه من المعنی مع التعدیة. فإن کان أثر الوسائل من ناحیة التعدیة واحدا فإن أثرها مختلف من ناحیة المعنی. لهذا لا تختار وسیلة منها إلا علی أساس أنها - مع تعدیتها الفعل - تؤدی معنی جدیدا یسایر الجملة ، ویناسب الغرض. وعلی هذا الأساس وحده یقع الاختیار علی وسیلة دون أختها ؛ فالتی تصلح لمعنی لا تصلح لغیره فی الغالب ... إلا إذا عرف عنها أنها قد تشابه غیرها فی تأدیة معناه ، کحرف الجر الأصلیّ فإنه یؤدی ما تؤدیه همزة النقل أحیانا ؛ نحو : أذهبت العصفور ، وذهبت به ... وإلیک الوسائل :
ص: 152
1 - إدخال حرف الجر الأصلی المناسب للمعنی ، علی الاسم الذی یعتبر فی الحکم - کما شرحنا أول هذا الباب - مفعولا به معنویّا للفعل اللازم (1) ، لیکون حرف الجر الأصلی مساعدا علی توصیل أثر الفعل إلی مفعوله المعنوی ؛ فمثل : قعد - صاح - خرج -. یقال فی تعدیته بحرف الجر : قعد المریض علی السریر - صاح الجندی بالبوق - خرجت من القریة. فکلمة : السریر - البوق - القریة - ... هی من الناحیة المعنویة فی حکم المفعول به ؛ لوقوع أثر الفعل علیها ، وإن کانت لا تسمی فی اصطلاح النحاة مفعولا به حقیقیّا (2) ، ولا یجوز - فی الرأی الأنسب - نصب شیء من توابعها ما دام حرف الجر الأصلی مذکورا قبلها فی الکلام (کما سبق وکما سیجیء) (3).
وقد وردت أمثلة قلیلة مسموعة عن العرب. حذف فیها حرف الجر ، ونصب مجروره بعد حذفه ؛ منها : «تمرون الدیار» ، بدلا من : تمرون بالدیار ، ومنها : «توجهت مکة ، وذهبت الشام» ، بدلا من : توجهت إلی مکة ، وذهبت إلی الشام .... فهذه کلمات منصوبة علی نزع الخافض (4) - کما یقول النحویون - والنصب به سماعیّ (5) ؛ مقصور علی ما ورد منها منصوبا مع فعله الوارد نفسه ؛ فلا یجوز - فی الرأی الصائب - أن ینصب فعل من تلک الأفعال المحددة المعینة کلمة علی نزع الخافض إلا الکلمة التی وردت معه مسموعة عن العرب ، کما لا یجوز فی کلمة من تلک الکلمات المعدودة المحدودة أن تکون منصوبة
ص: 153
علی نزع الخافض إلا مع الفعل الذی وردت معه مسموعة. أی : أن هذه الکلمات القلیلة المنصوبة علی نزع الخافض لا یجوز القیاس علیها ، فهی ، مقصورة علی أفعالها الخاصة بها ، وأفعالها مقصورة علیها (1). ولو لا هذا لکثر الخلط ، وانتشر اللبس والإفساد ، وفقدت اللغة أوضح خصائصها ؛ وهو : التبیین ؛ وأساسه الضوابط السلیمة المتمیزة التی لا تداخل فیها ، ولا اختلاط.
ولیس للتعدیة بحرف الجر الأصلی حرف معین ، وإنما یختار للفعل وشبهه الحرف الذی یسایر معناه ، ویناسب السیاق ؛ فقد یکون الحرف : من ، أو ، إلی ، أو الباء ، أو غیرها ؛ کالأمثلة السابقة. وکقولنا : انصرف الصانع إلی مصنعه - وانصرف من المصنع إلی بیته - انصرف العالم عن الهزل - انصرف فی سیارته ... وهکذا تتغیر أحرف الجر وتتنوع مع العامل اللازم بتنوع (2) المعانی المطلوبة.
وحرف الجر إذا کان وسیلة للتعدیة ، (وهی التعدیة غیر المباشرة) ، لا یجوز حذفه مع بقاء معموله مجرورا ، إلا فی بضعة مواضع قیاسیة (3).
ص: 154
ویعنینا الآن من تلک المواضع ما یکون فیه المجرور مصدرا مؤولا من حرف
ص: 155
مصدری من الحروف الثلاثة مع صلته. (وهی : أنّ ، وأن المختصة بالفعل (1) وکی (2)) ، مثل : سررت من أن الناشئ راغب فی العلم ، حریص علی أن یزداد منه ، لکی یبنی مجده ، ویرفع شأن بلاده. فیصح حذف الجار قبل کل حرف من الثلاثة ؛ فتصیر الجملة : سررت أن الناشئ ... حریص أن یزداد ... کی یبنی ... فالمصادر التی تؤول فی العبارات السالفة من الحرف المصدری وصلته ، تکون مجرورة علی التوالی بالحرف : «من» فالحرف : «علی» ، فالحرف : «اللام» ولا داعی لأن یکون المصدر المؤول فی محل نصب علی نزع الخافض - کما یری فریق - لأن حرف الجر المحذوف ملاحظ بعد حذفه ، والمعنی قائم علی اعتباره کالموجود ؛ فهو محذوف بمنزلة المذکور. ولأن النصب علی نزع الخافض خروج علی الأصل السائد الغالب ؛ فلا نلجأ إلیه مختارین.
ص: 156
وهذا الحذف القیاسی لا یصح إلا عند أمن اللبس (1) کما فی الأمثلة السالفة ، وفی قول الشاعر :
ولا عار أن زالت عن الحرّ نعمة
ولکنّ عارا أن یزول التّجمّل ...
والأصل : فی أن ... - فإن خیف اللبس لا یصح ؛ ففی مثل : رغبت فی أن یفیض النهر - لا یصح حذف حرف الجرّ : «فی» فلا یقال : رغبت أن یفیض النهر ؛ إذ لا یتضح المراد بعد الحذف ؛ أهو : رغبت فی أن یفیض النهر. أم رغبت عن أن یفیض ... ؛ والمعنیان متعارضان متناقضان ؛ لعدم معرفة الحرف المحذوف المعیّن ، وخلو الکلام من قرینة تزیل اللبس. ومثل هذا : انصرفت عن أن أقرأ المجلة ؛ فلا یجوز حذف الجار ؛ لأن حذفه یؤدی إلی أن تصیر الجملة : انصرفت أن أقرأ المجلة ؛ فلا ندری المقصود ؛ أهو : انصرفت إلی أن أقرأ ، أم انصرفت عن أن أقرأ ... والمعنیان متناقضان ، ولا قرینة تزیل اللبس (2) ...
2 - إدخال همزة النقل علی أول الفعل الثلاثی (3) (وهی همزة تنقل معنی الفعل إلی مفعوله ، ویصیر بها الفاعل مفعولا. ولا تقتضی - فی الغالب - تکرارا ، ولا تمهلا) ،
ص: 157
نحو : خفی القمر - وأخفی السحاب القمر ، ومثل : جزعنا وأجزعنا ، فی قول الشاعر :
فإن جزعنا فإن الشرّ أجزعنا
وإن صبرنا فإنّا معشر صبر (1)
3 - تضعیف عین الفعل اللازم ، بشرط ألا تکون همزة (2) ؛ ففی نحو : فرح المنتصر - نام الطفل ، نقول - فرّحت المنتصر - نوّمت الأمّ طفلها.
4 - تحویل الثلاثی اللازم إلی صیغة : «فاعل» ، الدالة علی المشارکة ؛ نقول فی : جلس الکاتب ، ثم مشی ، وسار - جالست الکاتب ، وماشیته ، وسایرته.
5 - تحویل الفعل الثلاثی اللازم إلی صیغة : «استفعل» التی تدل علی الطلب (3) ، أو علی النسبة لشیء آخر. فمثال الأول : حضر - عان (بمعنی : عاون) تقول : استحضرت الغائب - استعنت الله ؛ أی : طلبت حضور الغائب ، وعون الله. ومثال الثانی : حسن - قبح ... تقول : استحسنت الهجرة - استقبحت الظلم ؛ أی : نسبت الحسن للهجرة ، ونسبت القبح للظلم.
وقد تؤدی صیغة استفعل إلی التعدیة لمفعولین إذا کان الفعل قبلها متعدیا لواحد ؛ نحو : کتبت الرسالة - استکتبت الأدیب الرسالة ، وربما لا تؤدّی ، نحو : استفهمت الخبیر. والأحسن قصر هاتین الحالتین الأخیرتین علی السّماع (4) ....
6 - تحویل الفعل الثلاثی إلی فعل (مفتوح العین) الذی مضارعه «یفعل»
ص: 158
بضمها ، بقصد إفادة المغالبة (1) ؛ نحو : کرمت الفارس أکرمه ؛ بمعنی : غلبته فی الکرم - شرفت النبیل أشرفه ؛ بمعنی : غلبته فی الشرف.
7 - التضمین - (وهو أن یؤدّی فعل - أو ما فی معناه - مؤدّی فعل آخر أو ما فی معناه ؛ فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم) (2). ومن أمثلته فی التعدیة : لا تعزموا السفر ؛ فقد عدّی الفعل. «تعزم» إلی المفعول به مباشرة ؛ مع أن هذا الفعل لازم لا یتعدی إلا بحرف الجر ؛ فیقال : أنت تعزم علی السفر. وإنما وقعت التعدیة بسبب تضمین الفعل اللازم : «تعزم» معنی الفعل المتعدی : تنوی ، فنصب المفعول بنفسه مثله ؛ فمعنی : «لا تعزموا السفر» لا تنووا السفر ... ومثل : رحبتکم الدار - وهو مسموع - فإن الفعل : «رحب» لازم ؛ لا یتعدی بنفسه إلی مفعول به. ولکنه تضمن معنی : «وسع» فنصب المفعول به «الکاف» مثله ؛ إذ یقال وسعتکم الدار ؛ بمعنی : اتسعت لکم. ومثل : طلع القمر الیمن ، - وهو من الأمثلة المسموعة أیضا - والفعل : «طلع»
ص: 159
- بضم اللام (1) - لازم ، ولکنه نصب المفعول به بنفسه بعد أن ضمن معنی : «بلغ».
ومن أمثلة جعل المتعدی لازما : «سمع الله لمن حمده» فالفعل : «سمع» فی أصله متعد بنفسه ، ولکنه هنا تضمن معنی : «استجاب» فتعدی مثله باللام ، وهکذا ...
والصحیح عندهم أن التضمین قیاسی ، والأخذ بهذا الرأی یفید اللغة تیسیرا واتساعا (2). ولما کان الفعل فی التضمین لا یتعدی إلا بعد أن یستمد القوة من فعل آخر فقد وصف بأنه فی حکم المتعدی. ولیس بالمتعدی حقیقة ؛ لأن المتعدی الحقیقی لا تتوقف تعدیته علی حالة واحدة تجیئه فیها المعونة من غیره.
8 - إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور علی نزع الخافض. وهذا مقصور علی السماع (3) ؛ کقوله تعالی : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّکُمْ،) أی : عن أمره. وهذا - کسابقه (4) - یکون فیه الفعل فی حکم المتعدی لا حقیقته ؛ مراعاة لأنه العامل فی المجرور معنی ، ولکنه لا دخل له فی نصبه.
ص: 160
إلی هنا انتهی الکلام علی أشهر الوسائل لتعدیة الفعل اللازم ، ومنها یتضح ما أشرنا إلیه (1) قبل سردها ، وهو :
أن کل واحدة تؤدی مع تعدیة الفعل اللازم معنی خاصّا لا تؤدیه أختها - فی الغالب - وأنّ تلک الوسائل قیاسیة مطردة ، ما عدا إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور علی نزع الخافض ؛ فإن إسقاطه بهذه الصورة (2) مقصور علی السماع.
ص: 161
سبق تعریف «المغالبة (1)» ، ووعدنا أن نتکلم علیها هنا ، ملخصین آراء الباحثین فیها :
جاء فی مقدمة «القاموس» - فی المقصد الأول الخاص ببیان الأمور التی امتاز بها القاموس ، عند تعلیق المصحح علی الأمر الخامس ، والکلام علی الأمور التی توجب ضم العین فی المضارع ضمّا قیاسیّا ، ومنها أن یکون دالا علی المغالبة - التعلیق التالی :
(«قوله : أو دالّا علی المغالبة ...» یقتضی أن باب المغالبة قیاسی ؛ ولیس کذلک ، کما یدل علیه عبارة الرضی ؛ حیث قال : «واعلم أن باب المغالبة لیس قیاسیّا بحیث یجوز نقل کل لغة إلی هذا الباب. قال : س (2). ولیس فی کل شیء یکون هذا ؛ ألا تری أنک لا تقول نازعنی فنزعته أنزعه بضم العین [وهی الزای] ، للاستغناء عنه بغلبته. وکذا غیره. بل نقول هذا الباب مسموع کثیر») اه.
وقال صاحب القاموس فی الجزء الرابع مادة : الخصومة : ما نصه :
(الخصومة : الجدل - خاصمه مخاصمة ، وخصومة ؛ فخصمه یخصمه : غلبه ، وهو شاذ ، لأن فاعلته ففعلته یردّ «یفعل» منه (أی : المضارع منه) إلی الضم ، إن لم تکن عینه حرف حلق فإنه بالفتح ؛ کفاخره ففخره یفخره. وأما المعتل کوجدت وبعت فیردّ إلی الکسر إلا ذوات الواو ؛ فإنها تردّ إلی الضم ؛ کراضیته فرضوته أرضوه - وخاوفنی فخفته أخوفه. ولیس فی کل شیء (یکون ذلک) لا یقال : نازعته أنزعه ؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته».
وقال الجار بردی فی شرح الکافیة (3) :
«معنی المغالبة : ما یذکر بعد المفاعلة مسندا إلی الغالب». أی : المقصود
ص: 162
بیان الغلبة فی الفعل الذی جاء بعد المفاعلة ، علی الآخر. فإذا قلت : کارمنی ، اقتضی أن یکون من غیرک إلیک کرم ، مثل ما کان منک إلیه ؛ فإذا غلبته فی الکرم فإنک تبنیه علی «فعل» بفتح العین ؛ لکثرة معانیه. ثم خصوا من أبوابه بالرد إلیه ما کان عین مضارعه مضمومة ، وإن کان من غیر هذا الباب ، نحو کارمنی فکرمته ، یکارمنی فأکرمه ، وضاربنی فضربته ، یضاربنی فأضربه (بضم الراء فی المضارع) فهذا قد ضربته وضربک ، ولکنک قد غلبته فی الضرب. ویجوز ألا یکون قد ضربک ، وإنما ضربتما غیرکما ؛ لتغلبه فی ذلک ، أو لتغلبک ، کذا البواقی.
(وإنما فعلوا ذلک لأن «الفعل» بمعنی المغالبة قد جاء کثیرا من هذا الباب ؛ نحو الکبر ؛ وهو : الغلبة فی الکبر ، والکثر ، وهو الغلبة فی الکثرة ، والقمر ؛ وهو الغلبة فی القمار ، فنقلوا من غیر ذلک الباب أیضا إلیه ، لیدل علی المراد الموضوع ؛ ثم استثنوا من هذه القاعدة معتل الفاء ؛ واویّا کان نحو : وعد ، أو یائیّا نحو : یسر ؛ فإنه لا ینقل إلی «یفعل» بضم العین ، لئلا یلزم خلاف لغتهم ؛ إذ لم یجیء «مثال» (1) مضموم العین. فیقال : واعدنی فوعدته أعده ، ویاسرنی فیسرته ، ومعتل العین أو اللام ، الیائی ؛ فإنه لا ینقل إلی «یفعل» بالضم بل یبقی علی الکسر ؛ فیقول بایعنی فبعته أبیعه ، ورامانی فرمیته أرمیه ؛ إذا لم یجئ أجوف ولا ناقص یأتی من : «یفعل» بالضم ؛ لأنک لو ضممت عینه لانقلب حرف الیاء واوا فیلتبس بذوات الواو. ومثل هذا قاله الرضی وغیره من شراح الکافیة) اه.
وجاء فی الهمع (ج 2 ص 163) فی فعل یفعل ما نصه : «لزموا الضم فی باب المغالبة. علی الصحیح ؛ نحو : ضاربنی فضربته أضربه - وکابرنی فکبرته أکبره ، وفاضلنی ففضلته أفضله. وجوز الکسائی فتح عین مضارع هذا النوع إذا کان عینه أو لامه حرف حلق ؛ قیاسا ؛ نحو : فاهمنی ففهمته أفهمه ، وفاقهنی ففقهته أفقهه ، وحکی الجوهری : واضأنی فوضأته ، أوضؤه ؛ قال : وذلک بسبب الحرف الحلقی. وروی غیره : وشاعرته فشعرته ، أشعره. وفاخرته ففخرته
ص: 163
أفخره ، بالفتح ، وروایة أبی ذرّ بالضم ...» اه.
ورأی الکسائی - مع قلته - حسن ؛ لأن فیه تیسیرا باستعمال ضبطین فی بعض الصور والأسالیب. والعجیب أن اللغتین شائعتان - حتی الیوم - فی کثیر من نواحی الإقلیم الجنوبیّ «الصعید» المصری.
مما تقدم یعلم أنه مسموع کثیر عند سیبویه. والوصف بأنه مسموع کثیر یؤدی إلی الحکم بأنه قیاسی ، وکذلک یعلم من قول شارح الکافیة السابق - وهو : «أنک تبنیه علی کذا - أن هذا من عملک ؛ فهو مقیس لک ؛ لکثرته. وهذا رأی ابن جنی أیضا فی کتابه : خ خ الخصائص ج 1 عند الکلام علی المغالبة».
وخیر ما یلخص به الموضوع تلخیصا وافیا حکیما هو ما جاء فی الجزء الثانی من مجلة المجمع اللغوی القاهری ص 226 ، ونصّه (1) :
«ذهب بعض إلی أن المغالبة لیست قیاسا ؛ وإنما هی مسموعة کثیرا. وذهب بعض إلی أن استعمالها مطرد فی کل ثلاثی متصرف تام خال مما یلزم الکسر. وإنه یکفی أنه مسموع کثیر لنقیس علیه ، کما قرر المجمع ، وکما قال ابن جنی» اه.
وهذا هو الحکم الموفق الذی یحسن الاقتصار علیه.
ص: 164
وما یتبع هذا من ترتیب وحذف
عرفنا أن الفعل المتعدی قد یتعدی - مباشرة - إلی مفعول به واحد ؛ نحو : عدل الحاکم یکفل السعادة للمحکومین. أو إلی مفعولین أصلهما المبتدأ والخبر ، نحو : رأیت الظلم أقرب طریق للخراب. أو لیس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ نحو : منعت النفس التسرع فی الرأی. وقد ینصب ثلاثة ؛ نحو : أعلمنی العقل الاعتدال واقیا من البلاء ... ولا یتعدی الفعل لأکثر من ثلاثة.
(ا) فإن کان الفعل متعدیا لاثنین أصلهما المبتدأ والخبر جاز مراعاة هذا الأصل فی ترتیبهما ؛ فیتقدم المفعول به الذی أصله المبتدأ علی المفعول به الذی أصله الخبر ؛ - ففی مثل : (الصبر أنفع فی الشدائد ...) یجوز : حسبت الصبر أنفع فی الشدید ، کما یجوز : حسبت أنفع فی الشدائد الصبر ، لکن مراعاة الأصل أحسن.
وقد تجب مراعاة الأصل فی المواضع التی یجب فیها تقدیم المبتدأ علی الخبر (1) ؛ کأن یؤدی عدم الترتیب إلی الوقوع فی اللبس ؛ ففی نحو : خالد محمود ... (والمراد : خالد کمحمود) نقول : ظننت خالدا محمودا ؛ فلو تقدم الثانی لاختلط الأمر والتبس ؛ إذ لا یمکن تمییز المشبه من المشبه به ؛ لعدم وجود قرینة تساعد علی هذا ؛ فیکون التقدیم بمرعاة الأصل هو القرینة.
وقد تجب مخالفة الأصل ؛ فیتقدم المفعول الثانی فی المواضع التی یجب فیها تقدیم الخبر علی المبتدأ (2) ؛ کأن یکون فی المفعول الأول ضمیر یعود علی الثانی ؛ نحو : ظننت فی البیت (3) صاحبه.
فأحوال الترتیب بین المفعولین ثلاثة : حالة یجب فیها مراعاة الأصل بتقدیم
ص: 165
ما أصله المبتدأ وتأخیر ما أصله الخبر ، وحالة یجب فیها مخالفة هذا الأصل ، وثالثة یجوز فیها الأمران. وقد تقدم هذا مفصلا فی موضعه الأنسب من باب : ظن «وأخواتها» (1).
(ب) إن لم یکن أصلهما المبتدأ والخبر فالأحسن تقدیم ما هو فاعل فی المعنی علی غیره ؛ نحو : أعطیت الزائر وردة من الحدیقة. «فالزائر» هو الآخذ ، و «الوردة» هی المأخوذة ؛ فهو فی المعنی بمنزلة الفاعل ؛ وهی بمنزلة المفعول به ، وإن کانت هذه التسمیة المعنویة لا یلتفت إلیها فی الإعراب.
ویجوز مخالفة الأصل ؛ فیقال : أعطیت وردة من الحدیقة الزائر. لکنّ الترتیب أحسن.
وقد یجب التزام الترتیب بتقدیم الأول حتما وتأخیر الثانی فی مواضع ، أشهرها ثلاثة :
1 - خوف اللبس ؛ نحو : أعطیت محمودا زمیلا فی السفر. فلا یجوز تقدیم الثانی ؛ إذ لو تقدم لم یتبین الآخذ من المأخوذ ، ولا قرینة تزیل هذا اللبس ، ولا وسیلة لإزالته إلا بتقدیم ما هو فاعل فی المعنی علی غیره ؛ لیکون التقدیم هو الدلیل علی أنه الفاعل المعنویّ. وفی هذه الصورة یجوز تقدیم المفعول الثانی علی المفعول الأول وعلی الفعل معا ؛ لعدم اللبس فی هذه الحالة ، نحو : زمیلا فی السفر أعطیت محمودا.
2 - أن یکون الثانی واقعا علیه الحصر (2) ؛ نحو : لا أکسو الأولاد إلا المناسب ، فلو تقدم الثانی لفسد الحصر ، ولزال الغرض منه.
ولا مانع من تقدیمه مع «إلا» ، علی المفعول الأول ؛ إذ لا ضرر من هذا ، لأنّ المحصور فیه هو الواقع بعد «إلا» مباشرة ؛ نحو : لا أکسو إلا المناسب الأولاد.
3 - أن یکون الأول ضمیرا متصلا والثانی اسما ظاهرا ؛ نحو : منحتک الودّ.
(لکن لا مانع من تقدیم المفعول الثانی علی الأول والفعل معا ، نحو الودّ منحتک).
وتجب مخالفة الترتیب فی مسائل ، أشهرها ثلاثة أیضا :
1 - أن یکون المفعول الأول (أی : الفاعل فی المعنی) محصورا نحو : ما أعطیت المکافأة إلا المستحقّ. ویجوز تقدیمه مع «إلا» علی المفعول الأول وحده ، دون عامله.
ص: 166
2 - أن یکون المفعول الأول - الذی هو فاعل معنوی - مشتملا علی ضمیر یعود علی المفعول الثانی ؛ نحو : أسکنت البیت صاحبه. فإن کان الثانی هو المشتمل علی ضمیر یعود علی الأول جاز الأمران ؛ نحو : أسکنت محمدا بیته ، أو : أسکنت بیته محمدا.
3 - أن یکون المفعول الثانی ضمیرا متصلا ، والأول (أی : الفاعل المعنوی) اسما ظاهرا ؛ نحو : القلم أعطیته کاتبا ...
فأحوال الترتیب ثلاث فی هذا القسم «ب» ؛ وجوب التزامه فی ثلاثة مواضع ، ووجوب مخالفته فی ثلاثة أخری ، وجواز الأمرین فی غیر المواضع السالفة (1).
(ح) إن کان الفعل متعدیا لثلاثة ، فالأول منها کان فاعلا ، وقد صیرته همزة النقل مفعولا به (2). فالأصل الذی یراعی فیه أن یتقدم علی المفعول الثانی والثالث. وأصلهما - الأرجح - مبتدأ وخبر ؛ فیراعی فی الترتیب بینهما ما یراعی بین المبتدأ والخبر ؛ طبقا للبیان الذی سبق (3) (عند الکلام علی حکم الناسخ ومعمولیه من ناحیة التقدیم والتأخیر).
ص: 167
الأغلب أن یؤدی المفعول به معنی لیس أساسیّا (1) فی الجملة ؛ فیمکن الاستغناء عن المفعول به من غیر أن یفسد ترکیبها ، أو یختل معناها الأساسیّ ، ولهذا یسمونه : «فضلة» (وهی اسم یطلقه النحاة علی کل لفظ معناه غیر أساسیّ فی جملته) بخلاف المبتدأ ، أو الخبر ، أو الفاعل ، أو نائبه ... أو غیر هذا من کل جزء أصیل فی الجملة لا یمکن أن تتکون ولا أن یتم معناها الأساسیّ إلا به ، مما یسمیه النحاة «عمدة».
بالرغم من أن المفعول به فضلة - فقد تشتد الحاجة إلیه أحیانا ؛ فلا یمکن الاستغناء عنه فی بعض المواضع ، ولا یصح حذفه فیها کما سنری. أما فی غیرها فیجوز حذفه - واحدا أو أکثر - لغرض لفظیّ ، أو معنوی.
فمن اللفظیّ : المحافظة علی وزن الشعر ، کقول شوقی :
ما فی الحیاة لأن تعا
تب أو تحاسب متّسع
(أی : تعاتب المخطئ أو تحاسبه (2)) ... والمحافظة علی تناسب الفواصل (3) ؛ نحو قوله تعالی مخاطبا رسوله الکریم : (ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی - إِلَّا تَذْکِرَةً لِمَنْ یَخْشی) ، وقوله : (وَالضُّحی وَاللَّیْلِ إِذا سَجی)(4) - ما وَدَّعَکَ رَبُّکَ وَما قَلی) (5) فحذف مفعول الفعل : «یخشی» ولم یقل : «یخشاه» أو : یخشی الله ؛ لکی تنتهی الجملة الثانیة بکلمة مناسبة فی وزنها لکلمة : «تشقی» التی انتهت بها الجملة الأولی. ومثل هذا الفعل : «قلا» الذی حذف مفعوله ؛ لیکون مناسبا فی وزنه للفعل : «سجا».
ص: 168
والرغبة فی الإیجاز ؛ نحو : دعوت البخیل للبذل ، فلم یقبل ، ولن یقبل. أی : لم یقبل الدعوة ، أو البذل ، ولن یقبل الدعوة أو البذل ...
ومن المعنوی : عدم تعلق الغرض به ، کقول البخیل لمن یعیبه بالبخل : طالما أنفقت ، وساعدت ، وعاونت ؛ أی : طالما أنفقت المال ، وساعدت فلانا ، وعاونت فلانا (1).
أو : الترفع عن النطق به ؛ لاستهجانه ، أو : لاحتقار صاحبه ، أو نحو هذا من الدواعی البلاغیة وغیر البلاغیة.
فإذا اشتدت حاجة المعنی إلی ذکر المفعول به بحیث یختل أو یفسد بحذفه لم یجز الحذف ؛ کأن یکون المفعول به هو الجواب المقصود من سؤال معین ؛ مثل : ما ذا أکلت؟ فیجاب : أکلت فاکهة. فلا یجوز حذف المفعول به : «فاکهة» لأنه المقصود من الإجابة.
أو : یکون المفعول به محصورا ؛ نحو : ما أکلت إلا الفاکهة.
أو : یکون مفعولا به متعجبا منه بعد صیغة : «ما أفعل» التعجبیة ، نحو : ما أحسن الحریة.
أو : یکون عامله محذوفا ؛ نحو قول القائل عند نزول المطر : خیرا لنا ، وشرا لعدونا ، أی : یجلب خیرا ...
ولیس هذا الحذف مقصورا علی مفعول الفعل المتعدی لواحد ؛ بل یشمله ویشمل المفعول الأول وحده ، أو الثانی وحده ، أو هما معا للفعل الذی ینصب مفعولین ؛ مثل : «ظن» وأخواتها. وکذلک یشمل المفعول الثانی والثالث - دون الأول (2) - للأفعال التی تنصب ثلاثة ؛ مثل : «أعلم وأری» کما سبق الکلام علی هذا وإیضاحه بالأمثلة (3).
* * *
ص: 169
بمناسبة الکلام علی حذف المفعول به الواحد أو المتعدد یعرض النحاة إلی حذف عامله جوازا أو جوبا.
ا - فیجیزون حذفه إن کان معلوما بقرینة تدل علیه ، مثل : ماذا حصدت؟ فتقول : قمحا. أی : حصدت قمحا. وما ذا صنعت؟ فتجیب : خیرا. أی : صنعت خیرا.
ب - ویوجبون حذفه فی أبواب معینة ؛ منها : الاشتغال ؛ وقد سبق (1) ، ومنها : النداء (2) ، ومنها : التحذیر والإغراء (3) ... بالشروط المدونة فی باب (4) کل. ومنها : الأمثال المسموعة عن العرب بالنصب ؛ نحو : أحشفا وسوء کیلة (5)؟
ص: 170
وکذلک ما یشبه الأمثال ؛ کقوله تعالی : (انْتَهُوا ... خَیْراً لَکُمْ) أی : واعملوا خیرا لکم.
* * *
سبق تفصیل الکلام علیه ، وعلی طریقة کشفه ، فی آخر باب «الفاعل» (1).
* * *
جعل الفعل الثلاثی المتعدی لازما أو فی حکم اللازم (2) ، قیاسا.
یصیر الثلاثی المتعدی لواحد لازما - قیاسا - أو فی حکم اللازم لسبب مما یأتی (3) :
1 - التضمین (4) لمعنی فعل لازم ؛ نحو : قوله تعالی : (فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ،) فإن الفعل : «یحذر» متعد فی الأصل بنفسه ، تقول
ص: 171
حذرت عواقب الغضب. ولکنه حین تضمن معنی الفعل المضارع : «یخرج» صار متعدیا مثله بحرف الجر : «عن». فالمراد : فلیحذر الذین یخرجون عن أمره. ومثله قوله تعالی : (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) فالفعل ؛ «تعدو» بمعنی «تتجاوز» متعد بنفسه ؛ کما فی مثل : أنت لا تعدو الحق ؛ أی : لا تتجاوز الحق. ولکنه هنا متعد بحرف الجرّ : «عن» ؛ بسبب تضمنه معنی فعل آخر ، هو : «تنصرف» الذی یتعدی بحرف الجر : «عن».
ومثله قول القائل : «قد قتل الله زیادا عنی» فالفعل : «قتل» فی أصله متعد بنفسه مباشرة إلی مفعول واحد ، مستغن بعد ذلک - غالبا - عن التعدیة بالحرف الجارّ إلی مفعول ثان. ولکنه هنا تضمن معنی الفعل : «صرف» المتعدی بنفسه إلی مفعول ، وإلی الثانی بحرف الجر : «عن» ؛ فصار مثله متعدیا بنفسه إلی الأول ، وبهذا الحرف إلی الثانی. فالمراد : قد صرف الله بالقتل زیادا عنی ...
والتضمین من الوسائل التی تجعل المتعدی فی حکم اللازم ؛ ولا تجعله لازما حقیقیّا ؛ - لما بیناه من قبل (1).
2 - تحویل الفعل الثلاثی المتعدی لواحد إلی صیغة : «فعل» (بفتح أوله وضم عینه) (2) بشرط أن یکون القصد من التحویل إما المبالغة فی معنی الفعل والتعجب منه (3) ، نحو : نظر القطّ ، وإما المدح أو الذم (4) ؛ نحو : سبق الفیلسوف
ص: 172
وفهم. وذلک فی مدحه بالسبق والفهم. ومنع القادر وحبس ؛ عند ذمه بمنع المعونة وحبسها.
3 - الإتیان بمطاوع (1) للفعل الثلاثی المتعدی لواحد ؛ نحو : هدمت الحائط المائل ؛ فانهدم ، ثم بنیته ؛ فانبنی.
4 - ضعف الفعل الثلاثی عن العمل بسبب تأخیره عن معموله ؛ نحو قوله تعالی : (... إِنْ کُنْتُمْ لِلرُّءْیا تَعْبُرُونَ،) وقوله تعالی : (... لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ.)
ومثله العامل الوصف الذی یعتوره الضعف بسبب أنه من المشتقات ؛ مثل قوله تعالی : (فَعَّالٌ لِما یُرِیدُ) وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ) والأصل : إن کنتم تعبرون الرؤیا - الذین یرهبون ربهم - فعّال ما یرید - مصدّقا ما بین یدیه ... وفی کل ما سبق تجیء قبل المعمول لام الجر ، وتسمی : «لام التقویة» ؛ لأنها تساعد العامل علی الوصول إلی مفعوله المعنوی الحالیّ الذی کان فی الأصل مفعوله الحقیقی.
والضعف علی الوجه السابق یجعل المتعدی فی حکم اللازم ، ولیس لازما حقیقة (2).
ص: 173
5 - ضرورة الشعر ، کقول القائل :
تبلت فؤادک (1) فی المنام
خریدة (2)
تسقی الضجیع ببارد بسّام
فإن الفعل «تسقی» ینصب مفعولین بنفسه ولکنه تعدی إلی الثانی هنا : «بالباء» نزولا علی حکم الضرورة الشعریة. وهذه الوسیلة أیضا مما یجعل الفعل فی حکم اللازم ، ولیس باللازم حقیقة. لما أوضحناه من قبل (3).
ص: 174
(ا) فی مثل : وقف وتکلم الخطیب - نجد فعلین لا بد لکل منهما من فاعل ، ولیس فی الکلام إلا اسم ظاهر واحد ، یصلح أن یکون فاعلا لأحدهما ، وهذا الاسم الظاهر هو : «الخطیب». فأی الفعلین أحق بالفاعل؟ وإذا فاز به أحدهما فأین فاعل الفعل الثانی؟
(ب) وفی مثل : سمعت وأبصرت القارئ - نجد فعلین أیضا ، یحتاج کل منهما إلی مفعول به منصوب. ولیس فی الکلام ما یصلح أن یکون مفعولا به إلا شیئا واحدا ؛ هو : «القارئ» فأیهما أحق به؟ وإذا فاز به أحدهما فأین مفعول الفعل الثانی؟
(ح) وفی مثل : أنشد وسمعت الأدیب : نجد فعلین یحتاج أحدهما إلی مرفوع یکون فاعلا ، ویحتاج الآخر إلی منصوب ، یکون مفعولا به ، فمطلب کل منهما یخالف الآخر - علی غیر ما فی الحالتین السالفتین - ولیس فی الکلام إلا لفظة : «الأدیب» التی تصلح لأحدهما. فأیّ الفعلین أولی بها؟ وما نصیب الآخر بعده؟
(د) وفی مثل : أنست وسعدت بالزائر ، نجد کلّا من الفعلین محتاجا إلی الجار مع مجروره (2) ؛ لیکمل المعنی ، فأی الفعلین أولی؟ وما نصیب الآخر بعد ذلک؟
ص: 175
من الأمثلة السالفة - وأشباهها - نعرف أن الأفعال (1) قد تتعدد فی الأسلوب الواحد ، ویحتاج کل منها إلی معمول خاص به ، ولکن لا یوجد فی الکلام إلا بعض معمولات ظاهرة ، تکفی بعض الأفعال دون بعض ، مع حاجة کل فعل إلی معمول خاص به ؛ فتتزاحم تلک العوامل الکثیرة علی المعمولات القلیلة ، وکأنها تتنازع لیظفر کل منها وحده بالمعمول ، ولهذا یسمی الأسلوب : «أسلوب التنازع» (2). ویعرفه النحاة بأنه :
«ما یشتمل علی فعلین - غالبا (3) - ، متصرفین (4) ، مذکورین ، أو علی اسمین یشبهانهما فی العمل ، أو علی فعل واسم یشبهه فی العمل ، وبعد الفعلین وما یشبههما معمول مطلوب (5) لکل من الاثنین السابقین».
والفعلان أو ما یشبههما یسمیان : «عاملی التنازع» ، والمعمول یسمی : «المتنازع فیه».
فلا بد فی التنازع من أمرین ؛ أولهما : تقدم فعلین أو ما یشبههما فی العمل ، وکلاهما یرید المعمول. ثانیهما : تأخیر المعمول عنهما.
فمثال تقدم العاملین وهما فعلان متصرفان : تصدّق وأخلص الصالح. ومثال تقدّم العاملین وهما اسمان مشتقّان یعملان عمل الفعل : المؤمن ناصر ومساعد الضعیف. ومثال المختلفین : دراک وساعد الملهوف ؛ بمعنی أدرک وساعد. وهکذا الصور (6) الأخری التی تدخل فی التعریف.
ص: 176
علی هذا لا یصح أن یکون من عوامل التنازع الحرف ، ولا العامل المتأخر فی مثل : أیّ الرجال قابلت وصافحت ، ولا العامل الذی توسط المعمول بینه وبین العامل الآخر ، نحو : اشتریت الکتاب وقرأت ، ولا العامل الجامد ؛ مثل : «عسی» أو «لیس» ، کما فی قول الشاعر :
من کان فوق محل الشمس موضعه
فلیس یرفعه شیء ولا یضع
إلا فعلی التعجب ، فإنهما مع جمودهما یصح أن یکونا العاملین فی أسلوب التنازع ؛ نحو ما أحسن وأنفع صفاء النفوس ، وأحسن وأنفع بصفاء النفوس.
ص: 177
(ا) لیس من اللازم - کما أشرنا (1) - الاقتصار فی أسلوب «التنازع» علی عاملین متقدمین ، ولا علی معمول واحد ظاهر (2) بعدهما ، فقد یقتضی الأمر أن تکون العوامل ثلاثة (3) متقدمة من غیر أن یتعدد المعمول ؛ نحو : یجلس ویسمع ویکتب المتعلم. وقد تتعدد العوامل والمعمولات الظاهرة ؛ نحو : تکتبون وتقرءون وتحفظون النصوص الأدبیة کل أسبوع. ففی صدر الکلام ثلاثة عوامل تتنازع العمل فی معمولین بعدها ؛ (أی : فی المفعول به. وهو : «النصوص» ، وفی الظرف (4) ؛ وهو : «کلّ ...») والکثیر فی التنازع الاقتصار علی عاملین ومعمول واحد. ولا یعرف فی الأسالیب القدیمة الزیادة علی أربعة عوامل ، ولکن لا مانع من الزیادة عند وجود ما یقتضیها. ویشترط - فی کل الحالات - أن تقوم القرینة علی أن الأسلوب أسلوب تنازع ؛ لتجری علیه أحکام التنازع ، وأنه لیس من باب اللف والنشر ؛ مثل : غرّد وزأر العصفور والأسد ...
(ب) لا بد أن یکون بین العاملین - أو العوامل - نوع ارتباط ؛ کالعطف
ص: 178
فی مثل : أعبد وأخاف الله. أو أن یکون العامل المتأخر جوابا معنویّا عن السابق ؛ نحو قوله تعالی : (یَسْتَفْتُونَکَ ، قُلِ اللهُ یُفْتِیکُمْ فِی الْکَلالَةِ)(1). أی : یستفتونک فی الکلالة ، قل الله یفتیکم فی الکلالة ... أو جوابا نحویّا ، کجواب الأمر وغیره مما یحتاج لجواب ؛ نحو : أنشد ، أسمع القصیدة. أو یکون المتأخر معمولا للسابق ؛ نحو قوله تعالی : (وَأَنَّهُ کانَ یَقُولُ سَفِیهُنا عَلَی اللهِ شَطَطاً،) أو أن یکون العاملان خبرین عن اسم ؛ نحو : الحاکم مکافئ معاقب المستحق ... (ح) یقع التنازع فی أکثر المعمولات ، ومنها : المفعول به ، والمفعول المطلق ، والمفعول لأجله ، وشبه الجملة ، دون الحال والتمییز - علی الأصح -.
(د) لیس من التنازع «التوکید اللفظی» ؛ کالذی فی قولهم : «هیهات هیهات العقیق ومن به ...» لأن شرط التنازع : أن یکون المعمول مطلوبا لکل واحد من العاملین من حیث المعنی. وأن یوجد الضمیر - إذا کان مرفوعا - فی العامل المهمل ، وهو غیر موجود فی هذا التوکید ، إذ الطالب للمعمول إنما هو کلمة : «هیهات» الأولی ؛ فهی وحدها المحتاجة للعقیق ؛ لتکون فاعلها ، والإسناد بینهما. أما کلمة : «هیهات» الثانیة فلم تجئ للإسناد إلی العقیق ؛ وهی خالیة من الضمیر المرفوع ؛ وإنما جاءت لمجرد تأکید الأولی وتقویتها ؛ فالأولی هی المحتاجة للفاعل ، أما الثانیة فلا تحتاج لفاعل ؛ ولا لغیره ، فلیست عاملة ، ولا معمولة ؛ شأن نظائرها التی تجیء للتوکید اللفظی. ومثل هذا : جاءک الراغبون فی معرفتک (2).
ص: 179
ص: 180
تتلخص هذه الأحکام فیما یأتی :
1 - لا مزیة لعامل علی نظیره من ناحیة استحقاقه للمعمول (أی : للمتنازع فیه) ؛ فکل عامل یجوز اختیاره للعمل من غیر ترجیح فی الأغلب (2) ؛ فیجوز اختیار الأول السابق مع إهمال الأخیر ، ویجوز العکس (3). وإذا کانت العوامل ثلاثة أو أکثر فإن الحکم لا یتغیر بالنسبة للأول والأخیر. أما المتوسط بینهما - ثالثا أو أکثر - فیصح أن یسایر الأول أو الأخیر ؛ فالأمران متساویان بالنسبة لإعمال الثالث المتوسط ، وما زاد علیه من کل عامل بین الأول والأخیر.
2 - إذا وقع الاختیار علی الأول لیکون هو العامل المستحق للمعمول وجب تعویض العامل الأخیر المهمل تعویضا یغنیه عن المعمول ، وذلک بإلحاق ضمیر (4) به یطابق ذلک المعمول مطابقة تامة فی الإفراد ، والتثنیة ، والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث ؛
ص: 181
لأن المعمول ، (المتنازع فیه) هو المرجع للضمیر ، ویعتبر هذا المرجع متقدما برغم تأخر لفظه عن الضمیر. ولا بد من المطابقة بین الضمیر ومرجعه فی الأشیاء السالفة. والأفضل وجود الضمیر فی جمیع الحالات ؛ سواء أکان ضمیر رفع ، أم نصب ، أم جرّ ؛ فمن إعمال الأول فی المعمول المرفوع مع إعمال الأخیر فی ضمیره : المثال الوارد فی «ا» ، وهو (1) : «وقف - وتکلم - الخطیب» فنقول : (وقف - وتکلما - الخطیبان). (وقف - وتکلموا - الخطیبون). (وقفت - وتکلمت - الخطیبة). (وقفت - وتکلمتا - الخطیبتان) - (وقفت - وتکلمن - الخطیبات).
فکأن الأصل : (وقف الخطیب ، وتکلم). (وقف الخطیبان وتکلما). (وقف الخطیبون ، وتکلموا). (وقفت الخطیبة ، وتکلمت). (وقفت الخطیبتان ، وتکلمتا) ، (وقفت الخطیبات وتکلمن). وهکذا ...
والوسیلة المضبوطة لاستعمال الضمیر علی الوجه الصحیح أن نتخیل العامل الأول وهو فی صدر الجملة ، ثم یلیه مباشرة المعمول : «المتنازع فیه» وقد تقدم من مکانه حتی صار بعده بغیر فاصل بینهما ، ثم یلیهما کل عامل مهمل ، وبعده الضمیر المناسب لهذا الترکیب القائم علی التخیل المحض ؛ کما فی الأمثلة السالفة ؛ وکما فی الآتیة :
«أوقد واستدفأ الحارس» ؛ فکل من الفعلین : «أوقد» و «استدفأ» یحتاج إلی کلمة : «الحارس» لتکون فاعلا له. فإذا أعملنا الأول وجب تعویض الأخیر بإلحاق ضمیر مناسب ، بآخره. ولکی یکون الضمیر مناسبا صحیح الاستعمال نتخیل أن الاسم الظاهر «المتنازع فیه» وهو کلمة : «الحارس» قد تقدم حتی صار بعد العامل الأول مباشرة (أی : بغیر فاصل بینهما). وهذا یقتضی أن یتأخر عنهما کل عامل مهمل. فکأن أصل الأسلوب : «أوقد الحارس واستدفأ». «فالحارس» هو الفاعل للفعل : «أوقد» أما الفعل المهمل «استدفأ» فقد لحق بآخره ضمیر مستتر ، مرفوع ، یعرب فاعلا ، ویغنی عن الاسم الظاهر «المتنازع فیه». وهذا الضمیر هنا مفرد مذکر ؛ لیطابق مرجعه «المتنازع فیه». فلو کان المرجع مفردا مؤنثا أو مثنی أو جمعا بنوعیهما ، لوجب أن یطابقه الضمیر ،
ص: 182
فنقول : (أوقدت - واستدفأت - الحارسة). أوقد - واستدفأا - الحارسان). (أوقدت - واستدفأتا - الحارستان). (أوقد - واستدفئوا - الحارسون). (أوقدت - واستدفأن - الحارسات) ... و... وهکذا. فکأن الأصل : (أوقدت الحارسة ، واستدفأت). (أوقد الحارسان ، واستدفأا). (أوقدت الحارستان ، واستدفأتا). (أوقد الحارسون ، واستدفئوا). (أوقدت الحارسات واستدفأن ...)
هذا حکم «التنازع» عند إعمال الأول حین تتعدد العوامل ولا یتعدد المعمول المرفوع ؛ وهو هنا الفاعل الظاهر الذی یطلبه کل منهما.
وما سبق یقال فی مثال : «ب» (1) وهو : «سمعت وأبصرت القارئ» عند إعمال الأول أیضا ، حیث تعددت العوامل التی یحتاج کل منها إلی المفعول به ؛ ولیس فی الکلام إلا مفعول به واحد فنقول : (سمعت - وأبصرته - القارئ). (سمعت - وأبصرتها - القارئة). (سمعت - وأبصرتهما - القارئین). (سمعت - وأبصرتهما - القارئتین). (سمعت - وأبصرتهم - القارئین). (سمعت - وأبصرتهن - القارئات) فکأن أصل الکلام عند التخیل : (سمعت القارئ وأبصرته). (سمعت القارئة ، وأبصرتها). (سمعت القارئین ، وأبصرتهما). (سمعت القارئتین ، وأبصرتهما). (سمعت القارئین ، وأبصرتهم). (سمعت القارئات وأبصرتهن).
وکذلک یقال فی مثال : «ج» (2) وهو : «أنشد وسمعت الأدیب» ، برغم اختلاف المطلب بین العاملین ، فأحدهما یرید المعمول فاعلا له ، والآخر یریده مفعولا به ؛ فنقول ؛ عند إعمال الأول (3) ؛ (أنشد - وسمعته - الأدیب). (أنشدت - وسمعتها - الأدیبة). (أنشد - وسمعتهما - الأدیبان). (أنشدت - وسمعتهما - الأدیبتان). (أنشد - وسمعتهم - الأدیبون). (أنشدت - وسمعتهن - الأدیبات). فکأن الأصل مع التخیل : (أنشد الأدیب ، وسمعته). (أنشدت الأدیبة ، وسمعتها). (أنشد الأدیبان ، وسمعتهما). (أنشد الأدیبون وسمعتهم). (أنشدت الأدیبات ، وسمعتهن ...)
ص: 183
ومثل هذا یقال عند إعمال الأول أیضا فی مثال : «د» وهو : «أنست وسعدت
بالزائر الأدیب» حیث یحتاج کل من العاملین فی تکملة معناه إلی الجار مع مجروره ؛ نحو : (أنست - وسعدت - بالزائر الأدیب ، به (1)). (أنست - وسعدت - بالزائرة الأدیبة ، بها). (أنست - وسعدت - بالزائرین الأدیبین ، بهما). (أنست - وسعدت بالزائرتین الأدیبتین ، بهما). (أنست - وسعدت - بالزائرین الأدیبین ، بهم) ، (أنست - وسعدت - بالزائرات الأدیبات ، بهن). وکأن الأصل مع التخیل : (أنست بالزائر الأدیب ، وسعدت به). (أنست بالزائرة الأدیبة ، وسعدت بها). (أنست بالزائرین الأدیبین ، وسعدت بهما). (أنست بالزائرتین الأدیبتین ، وسعدت بهما). أنست بالزائرین الأدیبین ، وسعدت بهم) ، (أنست بالزائرات الأدیبات ، وسعدت بهن.) ... و...
وهکذا نری أن إعمال الأول یقتضی أمرین محتومین ، ألّا یعمل الأخیر فی ذلک المعمول ، وأن یعمل هذا الأخیر فی ضمیر مطابق للمعمول فی الإفراد ، والتثنیة. والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث. ویعتبر مرجع الضمیر فی کل الصور السالفة متقدما علیه ، بالرغم من تأخر لفظ المرجع - کما أسلفنا -.
وهناک حالة واحدة لا یصح فیها مجیء الضمیر لتعویض الأخیر المهمل ، وإنما یجب أن یحل محله اسم ظاهر ، تلک الحالة تتحقق بأن یکون هذا الفعل المهمل محتاجا إلی مفعول به لا یصح حذفه ؛ لأنه عمدة فی الأصل ، ولا یصح إضماره ، إذ لو أضمرناه لترتب علی إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ مثل : (أظن - ویظنانی أخا - محمودا وعلیّا ، أخوین) فکلمة : «محمودا» هی المفعول به الأول للفعل العامل : «أظن» ، وکلمة : «علیّا» معطوفة علیها. و «أخوین» هی المفعول به الثانی للفعل : «أظن». وإلی هناک استوفی الفعل العامل : «أظن» مفعولیه. وبقی الفعل الأخیر المهمل : «یظنان» وهو محتاج لمفعولین کذلک. فأین هما؟ أو أین ما یغنی عنهما؟
ص: 184
إن «الیاء» ضمیر ، وهی مفعوله الأول. وبقی مفعوله الثانی ، فلو أتینا به ضمیرا أیضا ، فقلنا : أظن - ویظنانی إیاه - محمودا وعلیّا أخوین ، أی : أظن محمودا وعلیّا أخوین ویظنانی إیاه - لکان (إیاه) مطابقا فی الإفراد «للیاء» التی هی المفعول الأول ؛ فتتحقق المطابقة بینهما ، علی اعتبار أن أصلهما مبتدأ وخبر ، کما هو الشأن فی مفعولی : «ظن وأخواتها» ولکنها لا تتحقق بین الضمیر «إیاه» وما یعود علیه ؛ وهو : «أخوین» ؛ إذ «إیاه» ضمیر للمفرد ، ومرجعه دال علی اثنین ؛ فتفوت المطابقة بین الضمیر ومرجعه. وهذا غیر جائز. ولو أتینا بالضمیر الثانی مثنی فقلنا : أظنّ - ویظنانی إیاهما - محمودا وعلیّا ، أخوین - لتحققت المطابقة بین الضمیر ومرجعه ؛ فکلاهما لاثنین ، ولکن تفوت المطابقة بین المفعول الثانی والمفعول الأول ، مع أن الثانی أصله خبر عن الأول ، ولا بد من المطابقة بین المبتدأ والخبر ، أو ما أصلهما المبتدأ أو الخبر ، کما أشرنا.
فلما کان الإضمار هنا یوقع فی الخطأ وجب العدول عنه إلی الإظهار الذی یحقق الغرض ، ولا یوقع فی الخطأ ، فنقول : أظن - ویظنانی أخا - محمودا وعلیّا أخوین. أی : أظن محمودا وعلیّا أخوین ، ویظنانی أخا. وفی هذه الصورة لا تکون المسألة من باب التنازع(1).
3 - إذا أعملنا الأخیر ، وأهملنا الأول ، وجب الاستغناء عن تعویض الأول المهمل ؛ فلا نلحق به ضمیر المعمول (المتنازع فیه) ولا ما ینوب عن ذلک الضمیر. إلا فی ثلاث حالات ، لا بد فی کل واحدة من الإتیان بضمیر مطابق للمعمول ، المتأخر عن هذا الضمیر (وفی الحالات الثلاث یجوز عودة الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة (2).
الأولی : أن یکون المعمول المتأخر مرفوعا ، کأن یکون فاعلا مطلوبا لعاملین - أو أکثر - وکل عامل یریده لنفسه ؛ نحو : شرب وتمهل العاطش. فإذا أعملنا
ص: 185
الأخیر وأهملنا الأول وجب إلحاق الضمیر المناسب بالأول (1) ؛ فنقول : (شربت ، وتمهلت العاطشة). (شربا ، وتمهل العاطشان). (شربتا ، وتمهلت العاطشتان) (شربوا وتمهل العاطشون). (شربن وتمهلت العاطشات).
الثانیة : أن یکون المعمول «المتنازع فیه» اسما منصوبا أصله عمدة ؛ کمفعولی «ظن» وأخواتها ؛ فأصلهما المبتدأ والخبر ؛ وکخبر «کان» وأخواتها (2). وفی هذه الحالة لا یحذف الضمیر المناسب وإنما یبقی ویوضع متأخرا عن المعمول (المتنازع فیه) ؛ نحو : أظنهما - ویظن محمد حامدا ومحمودا ، مخلصین - إیاهما ، فالفعلان تنازعا کلمة : «مخلصین» لتکون المفعول الثانی ... فجعلناها للأخیر ، وأعملنا الأول فی الضمیر العائد إلیهما متأخرا.
والمراد : یظن محمد حامدا ومحمودا مخلصین ، وأظنهما إیاهما ، أی : أظن حامدا ومحمودا المخلصین. «فحامدا» : مفعول أول للفعل : «یظن». و «محمودا» : معطوف علیه. «مخلصین» مفعول ثان للفعل : «یظن». و «أظنهما» : «أظن» : مضارع ، فاعله مستتر تقدیره : «أنا». «هما» ضمیر ، مفعول أول. وقد تقدم لیتصل بفعله ، لأن الاتصال ممکن ؛ وهذا یقتضی التقدیم فلا داعی للانفصال (3). «إیاهما» : المفعول الثانی الذی جاء متأخرا (4).
ومثل : کنت وکان الصدیق أخا إیاه. فالفعلان تنازعا کلمة : «أخا» لتکون خبرا ؛ فجعلناها للمتأخر منهما ، وأعملنا السابق فی ضمیر هذا الخبر وجعلنا الضمیر متأخرا بعد الخبر ؛ فالمراد : کان الصّدیق أخا ، وکنت إیاه ، أی : کنت أخا. ویصح : کنته ؛ لأن الاتصال ممکن وجائز ؛ فلا داعی للانفصال (5).
ص: 186
بقی أن نذکر حالة (1) لا یصح فیها حذف ضمیر الاسم المتنازع فیه ، ولا إعمال الأول المهمل فیه ، وإنما یجب أن یحل محله اسم ظاهر ؛ وهذه الحالة هی التی یکون فیها الفعل الأول المهمل محتاجا إلی مفعول به ، أصله عمدة ، فلا یحذف (2) ولو أضمرناه لترتب علی إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ نحو : (یظنانی ، وأظن الزمیلین أخوین - أخا). فکلمة : «أظن» مضارع ، فاعله مستتر ، تقدیره : «أنا». وهذا المضارع محتاج إلی مفعولین ، أصلهما : المبتدأ والخبر ؛ فلا یحذف واحد منهما. «الزمیلین» مفعوله الأول. «أخوین» : مفعوله الثانی. إلی هنا استوفی العامل الأخیر مفعولیه. بقی أن یستوفی المتقدم المهمل (وهو : «یظنان») مفعولیه. فالفعل «یظنان» مضارع. فاعله : «ألف الاثنین» و «الیاء». مفعوله الأول. فأین مفعوله الثانی؟
لو جئنا به ضمیرا مطابقا للمفعول الأول فقلنا : یظنانی - وأظن الزمیلین أخوین إیاه - لتحققت المطابقة بین المفعول الثانی : «إیاه» والمفعول الأول : «الیاء» وهی المطابقة الواجبة بین المبتدأ ، والخبر أو ما أصلهما المبتدأ والخبر. ولکن تفوت المطابقة بین الضمیر : «إیاه» الذی للمفرد ، ومرجعه المثنی ، وهو : «أخوین».
ولو جئنا به مثنی ؛ فقلنا : یظنانی - وأظن الزمیلین أخوین - إیاهما ، لتحققت المطابقة الواجبة بین الضمیر ومرجعه ؛ فکلاهما للتثنیة. وضاعت بین المفعول الثانی ، الدال علی التثنیة ، والمفعول الأول وهو «الیاء» الدالة علی المفرد ، مع أن المطابقة بینهما لازمة ؛ لأنهما فی الأصل مبتدأ وخبر.
فللخروج من هذا الحرج نأتی بالمفعول الثانی اسما ظاهرا ؛ فنقول. یظنانی وأظن الزمیلین أخوین - أخا. ولا تکون المسألة من باب «التنازع» (3).
فإن کان المفعول : «المتنازع فیه» لیس عمدة فی أصله ، وکان العامل هو المتأخر ، فالأحسن حذف المعمول ؛ نحو : عاونت وعاوننی الجار. ولیس من الأحسن أن یقال : عاونته وعاوننی الجار.
ص: 187
الثالثة : أن یکون الضمیر مجرورا (1) ، ولو حذف لأوقع حذفه فی لیس. فیبقی ویوضع متأخرا عن المعمول ؛ نحو : استعنت ، - واستعان علیّ الزمیل - به. فالفعل الأول یطلب کلمة : «الزمیل» لتکون مجرورة بالباء : (أی : استعنت بالزمیل) والفعل الأخیر یطلبها لتکون فاعلا ؛ لأنه استوفی معموله المجرور بالحرف ، «علی» فأعملنا الفعل المتأخر فی الاسم الظاهر ، وأضمرنا بعده ضمیره مجرورا بالباء ، فقلنا : «به». ولو تقدم بحیث یقع بعد عامله المهمل ، ویتوسط بین الفعلین لترتب علی هذا تقدم الضمیر الفضلة ، المجرور علی مرجعه ، وهو غیر مستحسن فی هذه الصورة. ولو حذفناه وقلنا : استعنت - واستعان علیّ الزمیل لأدی حذفه إلی لبس ؛ إذ لا ندری : آلزمیل مستعان به ، أم مستعان علیه ...
فإن أمن اللبس فالأحسن الحذف مع ملاحظة المحذوف فی النیة ؛ فکأنه موجود نحو : مررت ومر بی الصدیق (2).
ص: 188
ص: 189
یعدّ باب «التنازع» من أکثر الأبواب النحویة اضطرابا ، وتعقیدا ، وخضوعا لفلسفة عقلیة خیالیة ، لیست قویة السند بالکلام المأثور الفصیح ، بل ربما کانت مناقضة له.
(ا) فأما الاضطراب فیبدو فی کثرة الآراء والمذاهب المتعارضة التی لا سبیل للتوفیق بینها ، أو التقریب. وقد أهملنا أکثرها.
یتجلی هذا فی أن بعضها یجیز حذف المرفوع ؛ کالفاعل ، وبعضها لا یجیز. وفریق یجیز أن یشترک فعلان أو أکثر فی فاعل واحد ، وفریق یمنع. وطائفة تبیح الاستغناء عن المعمولات المنصوبة ، وعن ضمائرها ... ، وطائفة تبیح حذف ما لیس عمدة الآن أو فی الأصل ، وفئة تحتم تقدیر ضمیر المعمول متأخرا فی بعض الصور ، وفئة لا تحتم ... و... فلیس بین أحکام «التنازع» حکم متفق علیه ، أو قریب من الاتفاق ، حتی ما اخترناه هنا. وقد یبدو الخلاف واضحا فی کثیر من المسائل النحویة الأخری ، ولکنه فی مسائل «التنازع» أوضح وأفدح ، کما یبدو فی المراجع المطولة (1). حیث یدور الرأس ، وتضیق النفس.
ومن مظاهر الاضطراب أیضا أن یحرموا هنا ما أباحوه فی أبواب أخری ، فقد منعوا حذف ضمیر الاسم المتنازع فیه إن کان أصله عمدة ؛ کأحد مفعولی «ظن» وأخواتها ، مع أنهم أباحوا ذلک فی باب «ظن» (2). ومنعوا حذف المعمول إن کان فضلة ، والمهمل هو المتأخر ، مع أنهم أجازوه فی الأسالیب الأخری التی لیست للتنازع. ومنعوا هنا الإضمار قبل الذکر فی بعض الحالات ، مع أنهم أباحوه فی مکان آخر ... و... وکأنّ اسم هذا الباب قد سری إلی کل حکم من أحکامه.
(ب) وأما التعقید فلما أوجبوه مما لیس بواجب ، ولا شبه واجب ؛ فقد حتموا أن یکون ضمیر الاسم المتنازع فیه واجب التأخیر عنه حینا - فی رأی کثرتهم ؛
ص: 190
فرارا من الإضمار قبل الذکر ، ومتقدما حینا آخر إذا تعذر تأخیره لسبب ما تخیلوه. وربما استغنوا عن الضمیر ، وأحلوا محله اسما ظاهرا مناسبا إذا أدی الإضمار إلی الوقوع فی مخالفة نحویة. ولقد نشأ من مراعاة أحکامهم هذه أسالیب لا ندری : ألها نظیر فی الکلام العربی أم لیس لها نظیر؟ کقولهم ما نصه الحرفیّ : (استعنت واستعان علیّ زید به. وظننت منطلقة وظنتنی منطلقا هند إیاها. وأعلمنی وأعلمته إیاه إیاه زید عمرا قائما. وأعلمت وأعلمنی زیدا عمرا قائما إیاه إیاه ... و... و...) (1) وهذا قلیل من الأمثلة البغیضة ، التی لا یطمئن المرء إلی أن لها نظائر فی الأسالیب المأثورة. ومن شاء زیادة عجیبة منها فلیرجع إلی مظانها فی المطولات.
(ح) وأما الخضوع إلی الفلسفة العقلیة الوهمیة فواضح فی عدد من مسائل هذا الباب ؛ منها : تحتیمهم التنازع فی مثل : قام وذهب محمد ؛ حیث یوجبون أن یکون الفاعل : «محمد» لأحد الفعلین ، وأما فاعل الآخر فضمیر. ولا یبیحون أن یکون لفظ : «محمد» فاعلا لهما ؛ بحجة «أن العوامل کالمؤثرات فلا یجوز اجتماع عاملین علی معمول واحد» (2) ولا ندری السبب فی منع هذا الاجتماع مع إباحته لو قلنا : «قام محمد وذهب» فإن فاعل الفعل : «ذهب» ضمیر یعود علی محمد. فمحمد فی الحقیقة فاعل الفعلین ؛ ولا یقبل غیر هذا ...
من کل ما سبق یتبین ما اشتمل علیه هذا الباب من عیوب الاضطراب ؛ والتعقید ، والتخیل الذی لا یؤیده - فی ظننا - الفصیح المأثور.
ومن سلامة الذوق الأدبی وحسن التقدیر البلاغی الفرار من محاکاة الصور البیانیة وأسالیب التعبیر الواردة بهذا الباب - ولو کان لها نظائر مسموعة - لقبح ترکیبها ، وصعوبة الاهتداء إلی صیاغتها الصحیحة ، ولغموض معانیها ...
ولتدارک هذا کله ، والوصول إلی أحکام واضحة ، سهلة ، لا غبار علیها من ناحیة السلامة اللغویة ، وقوة مشابهتها للکلام البلیغ ، وتناسقها مع الأحکام
ص: 191
النحویة الأخری - نری أن تکون أحکام التنازع مقصورة علی ما یأتی (وکلها مستمدّ من آراء ومذاهب لبعض النحاة ، تضمنتها الکتب المتداولة ، وهذا ما نود التنویه به) :
1 - تعریف التنازع : هو ما سبق أن ارتضیناه من مذاهب النحاة ، ونقلناه أول هذا الباب.
2 - تتعدد العوامل ؛ فتکون اثنین ، أو أکثر. وقد تتعدد المعمولات ، أو لا تتعدد بشرط أن تکون أقل عددا من عواملها المتنازعة.
3 - کل عامل من العوامل المتعددة یجوز اختیاره وحده للعمل فی المعمول المذکور فی الکلام. ولا ترجیح من هذه الناحیة ، لعامل علی آخر.
4 - إذا تعددت العوامل وکان کل واحد منها محتاجا إلی معمول مرفوع ؛ (کاحتیاجه إلی الفاعل فی مثل : جلس وکتب المتعلم) فالمرفوع المذکور یکون لأحدها ، أما غیره فمرفوعه ضمیر یعود علی ذلک الاسم المرفوع. ولا مانع هنا من عودة الضمیر علی متأخر فی الرتبة. ویجوز أن یکون المرفوع مشترکا بین العوامل المتعدد کلها (1) ؛ إذا کان متأخرا عنها فیکون فاعلا - مثلا - ولا یحتاج واحد منها للعمل فی ضمیره.
5 - إذا تعددت العوامل وکان کل منها محتاجا إلی معمول غیر مرفوع جاز اختیار أحدهما للعمل ، وترک الباقی من غیر عمل ، لا فی ضمیر المعمول ، ولا فی اسم ظاهر ینوب عنه ؛ لأن الاستغناء عن هذا الضمیر أو ما یحل محله من اسم ظاهر ، جائز فی الأسالیب الخالیة من التنازع. فلا بأس أن یجری فی التنازع أیضا ، وبعض المأثور من أمثلة التنازع یطابق هذا ویسایره. ولا فرق بین ما أصله عمدة ، وما أصله فضلة. وإذا أوقع الحذف فی لبس وجب إزالته بإحدی الوسائل التی لا تعقید فیها ، ولا تهوی بقوة الأسلوب ، وحسن ترکیبه.
ص: 192
معناه
(1) الفعل یدل علی أمرین معا ؛ أحدهما : المعنی المجرد (2) ، ویسمی : «الحدث» والآخر : الزمان ؛ ففی مثل : رجع المجاهد ؛ فأسرع الناس لاستقباله ، وفرحوا بقدومه ، یدل کل فعل من الأفعال الثلاثة : (رجع - أسرع - فرح ...) بنفسه مباشرة ؛ - أی : من غیر حاجة إلی کلمة أخری ، - علی أمرین.
أولهما : معنی محض نفهمه بالعقل ؛ هو : الرجوع - الإسراع - الفرح ... وهذا المعنی المجرد هو ما یسمی أیضا : «الحدث».
وثانیهما : زمن وقع فیه ذلک المعنی المجرد (الحدث) وانتهی قبل النطق بالفعل ، فهو زمن قد فات ، وانقضی قبل الکلام. وهذا الفعل یسمی : «الماضی».
ولو غیرنا صیغة الفعل ؛ فقلنا : یرجع المجاهد ؛ فیسرع الناس لاستقباله ، ویفرحون بقدومه - لظلّ کل فعل دالّا علی الأمرین : المعنی المجرد ، والزمن. ولکن الزمن هنا صالح للحال والاستقبال. وهذا هو : «الفعل المضارع».
ولو غیرنا الصیغة مرة ثالثة فقلنا : ارجع ... أسرع ... افرح - لدلّ الفعل فی صورته الجدیدة علی الأمرین ؛ المعنی المجرد ، والزمن ، لکن الزمن
ص: 193
هنا مستقبل فقط. وهذا هو : «فعل الأمر» فالفعل بأنواعه الثلاثة یدل علی المعنی المجرد (الحدث) والزمان (1) معا.
ولو أتینا بمصدر صریح (2) - لتلک الأفعال - أو غیرها - لوجدناه وحده یدل علی المعنی المجرد (الحدث) فقط ؛ کالمصدر وحده فی مثل : الرجوع حسن - الإسراع نافع - الفرح کثیر. فهو یدل علی أحد الشیئین اللذین یدل علیهما الفعل. وهذا معنی قولهم : «المصدر الصریح (3) یدل - فی الغالب (4) - علی الحدث دون الزمان» (5).
والمصدر الصریح أصل المشتقات - فی الرأی الشائع (6) - ، ویصلح لأنواع الإعراب المختلفة ؛ فیکون مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا ، ومفعولا به ... و... و... وقد یکون منصوبا فی جملته باعتباره مصدرا صریحا جاء لغرض معنوی ؛ کتأکید معنی عامله المشارک له فی المادة اللفظیة (أو غیر هذا مما سیجیء هنا) مثل : حطّم التمساح السفینة تحطیما. وفی هذه الحالة وأشباهها یسمی : «مفعولا
ص: 194
مطلقا» (1) ، ویقال فی إعرابه : إنه منصوب علی المصدریة ، أو منصوب ، لأنه مفعول مطلق.
وإذا کان منصوبا علی هذه الصورة الخاصة فناصبه قد یکون مصدرا آخر من لفظه ومعناه ، أو من معناه فقط. وقد یکون فعلا (2) من مادته ومعناه ، أو من معناه فقط ، وقد یکون الناصب له وصفا متصرفا یعمل عمل فعله - إلا أفعل التفضیل - کقولهم : إن الترفع عن الناس ترفعا أساسه الغطرسة ، یدفع بصاحبه إلی الشقاء دفعا لا یستطیع منه خلاصا. وقولهم : المخلص لنفسه إخلاص العقلاء یصدّها عن الغیّ ؛ فیسعد ، والمعجب بها إعجاب الحمقی یطلق لها العنان فیهلک (3).
فالمصدر : «ترفّعا» - قد نصب بمصدر مثله ؛ هو : ترفّع.
والمصدر : «دفعا» - قد نصب بالفعل المضارع قبله ؛ وهو : یدفع.
والمصدر : «إخلاص» - قد نصب باسم الفاعل قبله ؛ وهو : المخلص.
والمصدر : «إعجاب» - قد نصب باسم المفعول قبله ؛ هو : المعجب.
وکقولهم : الفرح فرحا مسرفا ، کالحزین حزنا مفرطا ؛ کلاهما مسیء لنفسه ، بعید عن الحکمة والسداد.
فالمصدر : «فرحا» منصوب بالصفة المشبهة قبله وهی : «الفرح».
ص: 195
وکذلک المصدر : «حزنا» ؛ فإنه منصوب بالصفة المشبهة قبله ، وهی : «الحزین» (1).
* * *
(ا) قد یکون الغرض من المصدر أمرا واحدا ؛ هو : أن یؤکّد - توکیدا لفظیّا - معنی عامله المذکور قبله ، ویزیده قوة ، ویقرره ؛ (أی : یبعد عنه الشک واحتمال المجاز.) ویتحقق هذا بالمصدر المنصوب المبهم (2) ، نحو : بلع الحوت الرجل بلعا - طارت السمکة فی الجو طیرانا ...
(ب) وقد یکون الغرض من المصدر المنصوب أمرین معا ؛ - فهما متلازمان - : توکید معنی عامله المذکور ، وبیان نوعه ، ویکون بیان النوع هو الأهم (3) ؛
ص: 196
نحو : نظرت للعالم نظر الإعجاب والتقدیر ، وأثنیت علیه ثناء مستطابا. وقوله تعالی : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِیَةٌ ، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِیلَ،) ولیس من الممکن بیان النوع (1) من غیر توکید معنی العامل.
(ح) وقد یکون الغرض منه أمرین متلازمین أیضا ؛ هما : توکید معنی عامله المذکور مع بیان (2) عدده ، ویکون الثانی هو الأهم. ولا یتحقق الثانی بغیر توکیده معنی العامل ؛ نحو : قرأت الکتاب قراءتین ، وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات.
(د) وقد یکون الغرض منه الأمور الثلاثة مجتمعة (3) ؛ نحو : قرأت الکتاب قراءتین نافعتین - وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات طویلات ... ولا بد من اعتبار المصدر مختصّا فی هذه الحالات الثلاث الأخیرة : (ب - ج - د) لأن المصدر المبهم مقصور علی التوکید المحض ؛ لا یزید علیه شیئا. فإذا دلّ مع التوکید علی بیان النوع ، أو بیان العدد ، أو هما معا - وجب اعتباره مصدرا مختصّا.
ومما تقدم نعلم أن فائدة المصدر المعنویة قد تقتصر علی التوکید وحده. ولکنها لا تقتصر علی بیان النوع وحده ، أو بیان العدد وحده. أو علیهما معا ؛ إذ لا بد من إفاة التوکید فی کل حالة من هذه الحالات الثلاث. ومن ثمّ قسّم
ص: 197
بعض النحاة المصدر قسمین ؛ مبهما ؛ ویراد به : المؤکّد لمعنی عامله المذکور. ومختصّا ؛ ویراد به المؤکّد أیضا مع زیادة بیان النوع ، أو بیان العدد ، أو بیانهما معا.
وقسمه بعض آخر ثلاثة أقسام ؛ هی : المؤکّد لعامله المذکور ، والمؤکد المبین لنوعه ، والمؤکد المبین لعدده ، وسکت عن المؤکّد المبین للنوع والعدد معا ؛ لأنه مرکب من الأخیرین ؛ فهو مفهوم ومقبول بداهة. ونتیجة التقسیم واحدة (1).
أمثلة لما سبق :
أمثلة للتوکید وحده : کلم الله موسی تکلیما - غزا العلم الکواکب غزوا - صافح الفیل صاحبه مصافحة.
أمثلة للتوکید مع بیان النوع : ترنّم المغنّی ترنم البلبل - رسم الخبیر رسما بدیعا - أجاد المطرب إجادة الموسیقیّ.
أمثلة للتوکید مع بیان العدد : قرأت رسالة الأدیب قراءة واحدة ، وقرأها أخی قراءتین ، وقرأها غیرنا ثلاث قراءات.
أمثلة للتوکید مع بیان الأمرین : ترنمت ترنیمی البلبل والمغنی الساحرین - رحلت لبلاد الشام ثلاث رحلات جمیلات.
والنحاة یسمون المصدر المنصوب الدال بنفسه علی نوع مما سبق (2) : «المفعول المطلق».
ص: 198
فالمفعول المطلق تسمیة یراد منها : المصدر المنصوب المبهم أو المختص. وقد یراد منها : النائب عن ذلک المصدر فهی تسمیة صالحة لکل واحد منهما ، تنطبق علیه. - کما سنعرف (1). -
1 - إذا کان المصدر مؤکّدا لعامله المذکور فی الجملة تأکیدا محضا ؛ فإنه لا یرفع فاعلا (3) ، ولا ینصب مفعولا به. إلا إن کان مؤکّدا نائبا عن فعله المحذوف (4) کما لا یجوز - فی الرأی الشائع - تثنیته ، ولا جمعه ما دام المراد منه فی کل حالة هو المعنی المجرد ، دون تقییده بشیء یزید علیه ، أی : ما دام المصدر مبهما ؛ فلا یقال : صفحت عن المخطئ صفحین ، ولا وعدتک وعودا. إلا إن کان المصدر المبهم مختوما بالتاء ؛ مثل التلاوة ؛ فیقال : التلاوتان والتلاوات.
وسبب امتناع التثنیة والجمع أن المصدر المؤکّد مقصود به معنی الجنس (5) ؛ لا الأفراد ؛ فهو یدل بنفسه علی القلیل والکثیر ، فیستغنی بهذه الدلالة عن الدلالة
ص: 199
العددیة فی المفرد ، والتثنیة ، والجمع ؛ لأن دلالته تتضمنها ومثل المصدر المؤکد ما ینوب عنه.
ولا یجوز أیضا - فی الغالب - حذف عامل المصدر المؤکّد ولا تأخیره ؛ عن معموله المصدر ؛ لأن المصدر جاء لتقویة معنی عامله ، وتقریره بإزالة الشک عنه ، وإثبات أنه معنی حقیقی ، لا مجازی ، والحذف مناف للتقویة والتقریر. لکن هناک مواضع یحذف فیها عامل المصدر المؤکّد وجوبا بشرط إنابة المصدر عنه ، وستجیء (1).
2 - أما المصدر المبین للنوع - إذا اختلفت أنواعه - أو المبین للعدد ، فیجوز تثنیتهما وجمعهما ، وتقدمهما علی العامل ، وهما فی حالة الإفراد أو التثنیة أو الجمع ، ولا یعملان شیئا - فی الغالب - (2) ؛ فلیس لهما فاعل ولا مفعول ... فمثال تثنیة الأول وجمعه : سلکت مع الناس سلوکی العاقل ؛ الشدة حینا ، والملاینة حینا آخر - سرت سیر الخلفاء الراشدین ؛ أی : سلکت مع الناس نوعین من السلوک ، وسرت معهم أنواعا من السّیر (ولیس المراد بیان عدد مرات السلوک ، وأنه کان مرتین ، ولا بیان عدد مرات السیر ، وأنه کان متعددا ، وإنما المراد بیان اختلاف الأنواع فی کل حالة ، بغیر نظر للعدد).
ومثال الثانی : خطوت فی الحدیقة عشر خطوات ، ودرت فی جوانبها أربع دورات(3).
ص: 200
یجوز حذف المصدر الصریح بشرطین : أن تکون صیغته : (أی : مادته اللفظیة) من مادة عامله اللفظیة (1) ، وأن یوجد فی الکلام ما ینوب عنه بعد حذفه.
وحکم هذا النائب النصب دائما (2). ویذکر فی إعرابه : أنه منصوب لنیابته عن المصدر المحذوف ، أو : منصوب لأنه مفعول مطلق ، ولا یصح فی الإعراب الدقیق أن یقال : «منصوب لأنه مصدر» ؛ ذلک لأنه لیس مصدرا للعامل المذکور ؛ إذ مصدر العامل المذکور قد حذف ، وهذا نائب عنه ... فمن الواجب عدم الخلط بین المصطلحات ، والتحرز من الخطأ فی مدلولاتها ؛ فعند إعراب المصدر الأصلی المنصوب نقول : إنه «مصدر منصوب» ، أو : «مفعول مطلق» منصوب کذلک. أما عند حذف المصدر الأصلی ووجود نائب عنه فنقول فی إعرابه : «إنه نائب عن المصدر المحذوف ، منصوب» ، أو : «مفعول مطلق ، منصوب» ، ولا یصح أن یقال : مصدر.
ص: 201
والأشیاء التی تصلح للإنابة کثیرة (1) ؛ منها : ما یصلح للإنابة عن المصدر المؤکّد ، وقد ینوب عن المصدر المبیّن أیضا إذا وجدت قرینة تعیّن المصدر المبین المحذوف. ومنها ما لا ینوب عن المصدر المؤکّد ، ولکنه ینوب عن غیره من باقی أنواع المصدر. فمما یصلح للإنابة عن المصدر المؤکّد :
1 - مرادفه (2) ؛ مثل : أحببت عزیز النفس مقة ، وأبغضت الوضیع کرها.
2 - اسم المصدر (3) ، بشرط أن یکون غیر علم (4) : نحو : توضأ المصلّی وضوءا - اغتسل - الصانع غسلا. فالوضوء والغسل اسما مصدرین للفعلین قبلهما ، نائبین عن المحذوف. ومثل : فرقة ، وحرمة ، فی قولهم : افترق الأصدقاء فرقة ، ولکنی أحترم عهودهم حرمة. فالکلمتان اسما مصدرین للفعلین «افترق ، واحترم» قبلهما. ونائبین عن المصدرین المحذوفین (5) ؛ کالشأن فی کل ما یلاقی المصدر فی أصول مادة الاشتقاق (6) ؛ بأن یشارکه فی حروف مادته الأصلیة ؛
ص: 202
إما مع کونه مصدر فعل آخر ؛ کالمثالین الأولین ، ونحو : «التبتیل» فی قوله تعالی : (وَاذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ ، وَتَبَتَّلْ)(1) إِلَیْهِ تَبْتِیلاً) ، فإنه مصدر (2) للفعل : «بتّل» وقد ناب عن «التبتّل» ، الذی هو مصدر الفعل : «تبتّل». وإما مع کونه اسم (3) عین ؛ نحو قوله تعالی : (وَاللهُ أَنْبَتَکُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ...،) فکلمة : «نباتا» اسم للشیء النابت من زرع أو غیره ، وقد ناب عن : «إنباتا» الذی هو المصدر القیاسی للفعل : «أنبت»(4).
3 - بعض أشیاء أخری ؛ کالضمیر العائد علیه بعد الحذف ، وکالإشارة له بعد الحذف أیضا ؛ کقولهم لمن یتکلم عن الإخلاص : «أخلصته لمن أودّه» ، وعن الإقبال : «أقبلت هذا». والأصل : أخلصت الإخلاص ، وأقبلت الإقبال. فالضمیر عائد علی المصدر المؤکد الذی حذف ، ونائب عنه ، وهو : (الإخلاص) واسم الإشارة یشیر إلی المصدر المؤکد الذی حذف وینوب عنه ؛ وهو : (الإقبال).
1 - لفظ کلّ أو بعض ، بشرط الإضافة لمثل المصدر المحذوف ؛ نحو : لا تنفق کل الإنفاق ، ولا تبخل کل البخل ؛ وابتغ بین ذلک قواما (5). - إذا سنحت الفرصة لغایة کریمة فلا تتمهل فی اقتناصها بعض تمهل ، ولا تتردد بعض تردّد ؛ فإنها قد تفلت ، ولا تعود.
ص: 203
ومثل کل وبعض ما یؤدی معناهما من الألفاظ الدالة علی العموم أو علی البعضیة ، مثل : جمیع ، عامة ، بعض ، نصف ، شطر ...
2 - صفة المصدر المحذوف (1) ؛ نحو : تکلمت أحسن التکلم - وتکلمت ، أیّ تکلم (2). إذ الأصل : تکلمت تکلّما أحسن التکلم - وتکلمت تکلما أیّ تکلم ، بمعنی : تکلمت تکلما عظیما - مثلا -.
3 - مرادف المحذوف ؛ نحو : وقوفا وجلوسا فی : قمت وقوفا سریعا للقادم العظیم ، وقعدت جلوسا حسنا بعد قعوده ، ومثله : لما اشتعلت النار صرخ الحارس صیاحا عالیا ؛ لینبه الغافلین ، ولم یتباطأ توانیا معیبا فی مقاومتها.
4 - اسم الإشارة ؛ والغالب أن یکون بعده مصدر کالمحذوف ؛ کأن تسمع من یقول : «راقنی عدل عمر» ؛ فتقول : سأعدل ذاک العدل العمریّ. ویصح مع القرینة : سأعدل ذاک.
ومثل أن تسمع : أعجبنی إلقاؤک الجمیل ، وسألقی ذاک الإلقاء ، أو سألقی ذاک ، فقد حذف المصدر بعد اسم الإشارة : لوجود القرینة الدالة علیه بعد حذفه ، وهی اسم الإشارة - فی المثالین - فإنه یدل دلالة المصدر هنا ویغنی عنه (3) ...
5 - الضمیر العائد علی المصدر المحذوف ؛ کأن تقول لمن یتحدث عن الإکرام التام والإساءة البالغة : «أکرمه من یستحقه ، وأسیئها من یستحقها» ترید :
ص: 204
أکرم الإکرام التام ... من یستحقه ، وأسیء الإساءة البالغة من یستحقها (1).
6 - العدد الدال علی المصدر المحذوف : نحو : یدور عقرب الساعات فی الیوم واللیلة أربعا وعشرین دورة ، ویدور عقرب الدقائق فی الساعة ستین دورة.
7 - الآلة التی تستخدم لإیجاد معنی ذلک المصدر المحذوف ، وتحقیق دلالته ؛ نحو : سقیت العاطش کوبا - ضرب اللاعب الکرة رأسا ، أو رجلا ، أی : سقیت العاطش سقی کوب - ضرب اللاعب الکرة ضرب رأس ، أو ضرب رجل ، بمعنی : سقیت العاطش بأداة تؤدی مهمة السقی : تسمی : «الکوب». وضرب اللاعب الکرة بأداة معروفة بهذا الضرب. تسمی : الرأس ، أو : الرجل (2) ولا بد فی الآلة أن تکون معروفة بأنها تستخدم فی إحداث معنی المصدر ؛ فلا یصح سقیت الرجل العاطش دلوا - ولا ضرب اللاعب الکرة بطنا ؛ لأن الدلو لا یسقی بها الرجل ، والبطن لا یضرب به الکرة.
8 - نوع من أنواعه ؛ نحو : قعد الطفل القرفصاء (3) - مشی العدوّ القهقری (4) ، أو : التقهقر - سرت وراءه الجری - نام الآمن ملء جفونه ... (5)
ص: 205
أی : قعد قعود القرفصاء - مشی مشی القهقری ؛ وسرت سیر الجری - نام الآمن نوما ملء جفونه ...
9 - اللفظ الدال علی هیئة المصدر المحذوف ؛ کصیغة : «فعلة» ؛ نحو : مشی القط مشیة الأسد ، ووثب وثبة النّمر. فکلمة : مشیة - وثبة - تدل علی نوع من الهیئة یکون علیه المصدر ؛ فهی هنا نائبة عنه.
10 - وقته ؛ نحو : فلان یلهو ویمرح ؛ لأنه لم یحی لیلة المریض ، ولم یعش ساعة الجریح. أی : لم یحی حیاة لیلة المریض ، ولم یعش عیشة ساعة الجریح. (ترید : لم یحی فی لیلة کلیلة المریض ، ولم یعش فی ساعة کساعة الجریح ؛ یذوق ما فیهما من آلام). ومن هذا کلمة : «لیلة» فی قول الشاعر :
ألم تغتمض عیناک لیلة أرمدا
وبتّ کما بات السّلیم (1)
مسهّدا
11 - «ما» الاستفهامیة ؛ نحو : ما تکتب خطّک؟ بمعنی : أیّ کتابة تکتب خطّک؟ أرقعة ، أم ثلثا ، أم نسخا ...؟ ومثله : ما تزرع حقلک؟ بمعنی : أیّ زرع تزرع حقلک؟ أزرع قمح ، أم ذرة ، أم قطن ...؟
12 - «ما» الشرطیة ؛ نحو : ما شئت فاجلس ، بمعنی : أیّ جلوس شئته فاجلس.
تلک هی أشهر الأشیاء التی تنوب عن المصدر غیر المؤکّد عند حذفه (2). وتتلخص کلها فی أمر واحد ، هو : وجود ما یدل علیه عند حذفه (3) ویغنی عنه.
ص: 206
إقامة المصدر المؤکّد نائبا عن عامله فی بعض المواضع
(ا) یجوز حذف عامل المصدر المبین للنوع أو للعدد بشرط وجود دلیل (1) مقالیّ أو حالیّ یدل علی المحذوف. فمثال حذف عامل النوعیّ لدلیل مقالیّ ، أن یقال : هل جلس الزائر عندک؟ فیجاب : جلوسا طویلا ؛ أی : جلس جلوسا طویلا ، ومثال حذفه لدلیل حالیّ أن تری صیادا أصاب فریسته ؛ فتقول : إصابة سریعة ؛ أی : أصاب إصابة سریعة. ومن هذا قولهم للمتهیئ للسفر : «سفرا حمیدا ، ورجوعا سعیدا» أی : تسافر سفرا حمیدا ، وترجع رجوعا سعیدا.
ومثال حذف عامل العددی لدلیل مقالیّ : أرجعت إلی بیتک الیوم؟ فیجاب رجعتین ، أی : رجعت رجعتین. ولدلیل حالیّ أن تری خیل السباق وهی تدور فی الملعب ؛ فتقول : دورتین ؛ أی : دارت دورتین ... وهکذا.
والمصدر فی الحالات السالفة منصوب بعامله المحذوف جوازا ، ولیس نائبا عنه. (ب) أما المصدر المؤکّد لعامله فالأصل عدم حذف عامله ؛ لما عرفنا (2) من أن هذا المصدر مسوق لتأکید معنی عامله فی النفس ، وتقویته ، ولتقریر المراد منه ، أی : لإزالة الشک عنه ، ولبیان أن معناه حقیقی لا مجازی ، وهذه هی حکمة المجیء بالمصدر المؤکّد ، ومن أجلها لا یصح تثنیته ، ولا جمعه ، ولا أن یرفع فاعلا أو ینصب مفعولا ، ولا أن یتقدم علی عامله ، ولا أن یحذف عامله (3) ... لأن هذا
ص: 207
الحذف مناف لتلک الحکمة ، معارض للغرض من الإتیان بالمصدر المؤکّد (1).
لکن العرب التزموا حذف عامله باطراد فی بعض مواضع معینة ، وأنابوا عنه المصدر المؤکّد ؛ فعمل عمله فی رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، وأغنی عن التلفظ بالعامل ، وعن النطق بصیغته ؛ وصار ذکر العامل ممنوعا معه ؛ لأن المصدر بدل عنه ، وعوض عن لفظه ومعناه ؛ ولا یجتمع العوض والمعوّض عنه (2).
ولما کان العرب قد التزموا الحذف باطراد فی تلک المواضع ، لم یکن بدّ من أن نحاکیهم ، ونلتزم طریقتهم الحتمیة فی حذف العامل فی تلک المواضع ، وفی إنابة المصدر المؤکّد عنه. ولهذا قال النحاة : إن عامل المصدر المؤکّد لا یحذف جوازا - فی الصحیح - ؛ وإنما یحذف وجوبا فی المواضع التی التزم فیها العرب حذفه ، وإقامة المصدر المؤکّد مقامه.
ومع أن العامل محذوف وجوبا فإنه هو الذی ینصب المصدر النائب عنه (أی : أن المصدر نائب عن عامله المحذوف ، ومنصوب به معا).
أما المواضع التی ینوب فیها هذا المصدر عن عامله (3) المحذوف وجوبا فبعضها خاص بالأسالیب الإنشائیة الطلبیة ، وبعض آخر خاص بالأسالیب الإنشائیة غیر الطلبیة ، أو بالأسالیب الخبریة المحضة (4).
ص: 208
1 - فیراد بالأسالیب الإنشائیة الطلبیة هنا : ما یکون فیها المصدر النائب دالّا علی أمر ، أو نهی ، أو دعاء ، أو توبیخ ، والکثیر أن یکون التوبیخ مقرونا بالاستفهام (1) ؛ فمثال الأمر أن تقول للحاضرین عند دخول زعیم : قیاما. بمعنی : قوموا ، وأن تقول لهم بعد دخوله واستقراره : جلوسا. بمعنی : اجلسوا. فکلمة : «قیاما» مصدر (أو : مفعول مطلق) منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا. والمصدر نائب عنه فی الدلالة علی معناه ، وفی تحمل ضمیره المستتر الذی کان فاعلا (2) له ؛ فصار بعد حذف فعله فاعلا للمصدر. ومثل هذا یقال فی : «جلوسا» وأشباههما. والأصل قبل حذف العامل وجوبا : قوموا قیاما - اجلسوا جلوسا.
ومثال النهی أن تقول لجارک وقت سماع محاضرة ، أو خطبة ... سکوتا ، لا تکلما ؛ أی : اسکت ، لا تتکلم. فکلمة : «سکوتا» مصدر - أو : مفعول مطلق - منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا ، والذی ینوب عنه المصدر فی أداء معناه. وفاعل المصدر مستتر وجوبا ، تقدیره : أنت ؛ وقد انتقل إلیه هذا الفاعل بعد حذف فعل الأمر علی الوجه السالف. وکلمة : «لا» ناهیة ، و «تکلما» :
ص: 209
مصدر منصوب بالمضارع المحذوف ، المجزوم بلا الناهیة (1) ، ونائب عنه فی تأدیة معناه. وفاعل المصدر ضمیر مستتر فیه ، تقدیره : أنت. وهذا الضمیر انتقل للمصدر من المضارع المحذوف.
ومثال الدعاء بنوعیه (2) قول زعیم : «ربنا إنا قادمون علی معرکة فاصلة مع طاغیة جبار ؛ فنصرا عبادک المخلصین ، وهلاکا وسحقا للباغی الأثیم». أی : فانصر - یا رب - عبادک المخلصین ، واهلک واسحق الباغی الأثیم.
ومنه «سقیا» و «رعیا» (3) لک ، وجدعا ولیّا لأعدائک. وإعراب المصادر فی هذه الأمثلة کإعرابها فی نظائرها السابقة.
ومثال الاستفهام التوبیخی (4) : أبخلا وأنت واسع الغنی؟ أسفاهة وأنت
ص: 210
مثقف؟ أی : أتبخل بخلا ... أتسفه سفاهة ... وإعراب المصدر هنا کسابقه.
ونیابة المصدر عن عامله المحذوف فی الأسالیب الإنشائیة الطلبیة - قیاسیة ، بشرط أن یکون العامل المحذوف فعلا من لفظ المصدر ومادته ، وأن یکون المصدر مفردا منکرا ، وإلا کان سماعیّا ؛ مثل : ویحه ، - ویله (1) ... - کما تقدم (2) -.
2 - ویراد - هنا - بالأسالیب الإنشائیة غیر الطلبیة : المصادر الدالة علی معنی یراد إقراره وإعلانه ، من غیر طلب شیء (3) ، أو عدم إقراره ، کما سبق (4). والکثیر من هذه المصادر مسموع عن العرب جار مجری الأمثال ، والأمثال لا تغیر ؛ کقولهم عند تذکر النعمة : حمدا ، وشکرا ، لا کفرا ؛ أی : أحمد الله وأشکره - ولا أکفر به. وکانوا یردّدون الکلمات الثلاث مجتمعة لهذا الغرض وهو إنشاء المدح ، والشکر ، وإعلان عدم الکفر. ووجوب حذف العامل متوقف علی اجتماعها ؛ مراعاة للمأثور ؛ وإلا لم یکن الحذف واجبا.
وکقولهم عند تذکر الشدة : «صبرا ، لا جزعا». بمعنی : أصبر ، لا أجزع ، یریدون إنشاء هذا المعنی. وعند ظهور ما یعجب : «عجبا» ، بمعنی : أعجب ، وعند الحث علی أمر : افعل وکرامة ، أی : وأکرمک. وعند إظهار الموافقة والامتثال : سمعا وطاعة ، بمعنی : أسمع وأطیع.
والمصدر فی کل ما سبق - أو : المفعول المطلق - منصوب بالعامل المحذوف وجوبا وهو الذی ناب عنه المصدر فی أداء المعنی ، وفی تحمل الضمیر الفاعل ، وتقدیره للمتکلم : أنا.
ص: 211
ونیابة هذا النوع من المصادر عن عامله تکاد تکون مقصورة علی الألفاظ المحددة الواردة سماعا عن العرب. ویری بعض المحققین جواز القیاس علیها فی کل مصدر یشبع استعماله فی معنی معین ، ویشتهر تداوله فیه ، وله فعل من لفظه ، من غیر اقتصار علی ألفاظ المصادر المسموعة. وهذا رأی عملیّ مفید (1).
3 - ویراد بالأسالیب الخبریة المحضة أنواع ، کلها قیاسیّ ، بشرط أن یکون العامل المحذوف وجوبا فعلا من لفظ المصدر ومادته.
منها : الأسلوب المشتمل علی مصدر یوضح أمرا مبهما مجملا ، تتضمنه جملة قبل هذا المصدر ، ویفصّل عاقبتها ؛ أی : یبین الغایة منها (فالشروط ثلاثة فی المصدر : تفصیله عاقبة ، وأنها عاقبة أمر تتضمنه جملة ، وهذه الجملة قبله) مثل : إن أساء إلیک الصدیق فاسلک مسلک العقلاء ؛ فإما عتابا کریما ، وإما صفحا جمیلا (2) ؛ فسلوک مسلک العقلاء أمر مبهم ، مجمل ، لا یعرف المقصود منه ؛ فهو مضمون جملة محتاجة إلی إیضاح ، وتفصیل ، وإبانة عن المراد ، فجاء بعدها الإیضاح والتفصیل والبیان من المصدرین : «عتابا» و «صفحا» المسبوقین بالحرف الدال علی التفصیل ؛ وهو : «إما» وهما منصوبان بالفعلین المحذوفین وجوبا ، وقد ناب کل مصدر عن فعله فی بیان معناه. والتقدیر : فإما أن تعتب عتابا کریما ، وإما أن تصفح صفحا جمیلا. ومثله : إذا تعبت من القراءة فاترکها لأشیاء أخری ؛ فإما مشیا فی الحدائق ، وإما استماعا للإذاعة ، وإما عملا یدویّا. فالمصادر «مشیا» - «استماعا» «عملا» موضّحة ومفصّلة لأمر غامض مجمل قبلها یحتاج لبیان ، هو : «التّرک لأشیاء أخری» فعامل کل منها محذوف وجوبا ، والتقدیر : تمشی مشیا - تسمتع استماعا - تعمل عملا ... وهی منصوبة بفعلها المحذوف الذی نابت عنه فی تأدیة معناه ... وانتقل إلیها الفاعل بعد حذف العامل فصار فاعلا مستترا للمصدر النائب. والتقدیر : «أنت». ومثل قول الشاعر :
ص: 212
لأجهدنّ ؛ فإمّا درء واقعة
تخشی ، وإما بلوغ السؤل والأمل
والتقدیر : فإمّا أدرأ درء واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل ...
ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مکررا أو محصورا ، ومعناه مستمرّا إلی وقت الکلام ، وعامل المصدر واقعا فی خبر مبتدأ اسم ذات (1). فمثال المکرر : المطر سحّا سحّا - الخیل الفارهة (2) صهیلا (3) ، صهیلا ، وقول الشاعر :
أنا جدّا جدّا ولهوک یزدا
د ؛ إذا ما إلی اتفاق سبیل
ومثال المحصور : ما الوحش مع فریسته إلا فتکا - ما النمر عند لقاء الفیل إلا غدرا ؛ التقدیر : یسحّ سحّا سحّا - تصهل صهیلا صهیلا - أجدّ جدّا جدّا - یفتک فتکا فتکا - یغدر غدرا غدرا -. فهذه المصادر وأشباهها ؛ تقتضی - بسبب التکرار أو الحصر - حذف فعلها. وهی منصوبة بفعلها المحذوف وجوبا ، ونائبة عنه فی بیان معناه ، ومتحملة لضمیره المستتر الذی صار فاعلا لها ، وتقدیره : «هو» ، أو : «هی» علی حسب نوع الضمیر المستتر.
ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مؤکّدا لنفسه ؛ بأن یکون واقعا بعد جملة مضمونها کمضمونه ، ومعناها الحقیقی - لا المجازی (4) - کمعناه ،
ص: 213
ولا تحتمل مرادا غیر ما یراد منه ؛ فهی نص فی معناه (1) الحقیقی ، نحو : أنت تعرف لوالدیک فضلهما ، یقینا. أی : توقن یقینا ، فجملة : «تعرف لوالدیک فضلهما» هی فی المعنی : «الیقین» المذکور بعدها ، لأن الأمر الذی توقنه هنا هو : الاعتراف بفضل والدیک ، والاعتراف بفضل والدیک هو الأمر الذی توقنه ، فکلاهما مساو للآخر من حیث المضمون.
ومثلها : سرّتنی رؤیتک ، حقّا ، بمعنی : أحقّ حقّا ، أی : أقرر حقّا. فالمراد من : سرتنی رؤیتک ، هو المراد من : «حقّا» ، إذ السرور بالرؤیة هو : «الحق» هنا ، والحق هنا هو : «السرور بالرؤیة». فمضمون الجملة هو مضمون المصدر ، والعکس صحیح. فکلمة : «یقینا» ، و «حقّا» وأشباههما من المصادر المؤکدة لنفسها ، منصوبة بالفعل المحذوف وجوبا ، النائبة عنه فی الدلالة علی معناه. أما فاعله فقد صار بعد حذف الفعل فاعلا للمصدر ، وهذا الفاعل ضمیر مستتر تقدیره فی المثالین : أنا.
ولا یصح فی هذا النوع (2) من الأسالیب تقدیم المصدر علی الجملة التی یؤکد معناها ، ولا التوسط بین جزأیها.
ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مؤکدا لغیره ؛ بأن یکون المصدر واقعا بعد جملة معناها ومدلولها لیس نصّا فی معنی هذا المصدر ومدلوله ؛ وإنما یصح أن ینطبق علی معناه وعلی غیره قبل مجیئه ؛ فإذا جاء هذا المصدر امتنع الاحتمال ، وزال التوهم وصار المعنی نصّا فی شیء واحد ؛ نحو : هذا بیتی قطعا ، أی : أقطع برأیی قطعا. فلو لا مجیء المصدر : «قطعا» لجاز فهم المعنی علی أوجه متعددة بعضها حقیقی ، والآخر مجازی ... - أقربها : أنه بیتی حقّا ، أو :
ص: 214
أنه لیس بیتی حقیقة ، ولکنه بمنزلة بیتی ؛ لکثرة ترددی علیه ، أو : لیس بیتی ولکنه یضم أکثر أهلی ... أو : .. فمجیء المصدر بعد الجملة قد أزال أوجه الاحتمال والشک ، والمجاز ، وجعل معناها نصّا فی أمر واحد (1) بعد أن لم یکن نصّا.
وهو منصوب بعامله المحذوف وجوبا ، وقد ناب عنه بعد حذفه لتأدیة معناه. وفاعل المصدر ضمیر مستتر فیه ، تقدیره : أنا ، انتقل إلیه بعد حذف ذلک العامل. ولا یصح - أیضا - فی هذا النوع من الأسالیب تقدیم المصدر المؤکد لغیره علی تلک الجملة ، ولا التوسط بین جزأیها.
ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر دالّا علی التشبیه بعد جملة ، مشتملة علی معناه وعلی فاعله المعنوی (2) ، ولیس فیها ما یصلح عاملا غیر المحذوف (3) ؛ نحو : للمغنی صوت صوت البلبل. أی : للمغنی صوت. یصوّت صوت البلبل ، بمعنی : صوتا یشبهه. ومنه : للشجاع المقاتل زئیر زئیر الأسد. أی : یزأر زئیر الأسد ، أی : زئیرا یشبه زئیره. ومنه : للمهموم أنین ؛ أنین الجریح. أی : یئن أنین الجریح. (أنینا شبیها بأنین الجریح) ... وهکذا. والمصدر منصوب فی هذه الأمثلة علی الوجه الذی شرحناه (4).
ص: 215
هذا ، وقد اشترطنا أن تکون الجملة السابقة مشتملة علی معناه ، فهل یشترط أن تکون مشتملة علی لفظه أیضا؟
ص: 216
الجواب : لا ؛ فإنها قد تشتمل علی لفظه کالأمثلة السابقة ، وربما لا تشتمل ؛ مثل قول القائل یصف النخیل : رأیت شجرا محتجبا فی الفضاء ، ارتفاع المآذن ، فکلمة «ارتفاع» مصدر منصوب بعامل محذوف وجوبا ، تقدیره : یرتفع ارتفاع المآذن. وإنما حذف وجوبا لتحقق الشروط ؛ التی منها ؛ وقوع المصدر بعد جملة مشتملة علی معناه ، وإن کانت غیر مشتملة علی لفظه ، لأن معنی : «رأیت شجرا محتجبا فی الفضاء» - هو : رأیت شجرا مرتفعا. ومثله : رأیت رجلا یزحم الباب - ضخامة الجمل ، أی : یضخم ضخامة الجمل.
ص: 217
(أ) کررنا أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلّا بنفسه ، ینضم إلی الأقسام الأخری الشائعة ، وأوضحنا (1) سبب استقلاله. أما عامله المحذوف فلا بد أن یکون فی جمیع المواضع القیاسیة فعلا مشترکا معه فی المادة اللفظیة ، وفی حروف صیغتها ، کالأمثلة الکثیرة التی مرت. وأما الأمثلة السماعیة فمنها الخالی من هذا الاشتراک اللفظی ؛ مثل : ویح - ویل - ویس - ویب ... وأمثالها من الألفاظ التی کانت بحسب أصلها کنایات عن العذاب والهلاک ، وتقال عند الشتم والتوبیخ ، ثم کثر استعمالها حتی صارت کالتعجب ؛ یقولها الإنسان لمن یحب ومن یکره ، ثم غلب استعمال : «ویس» و «ویح» فی الترحم وإظهار الشفقة ، کما غلب استعمال : «ویل» و «ویب» فی العذاب. وإذا نصبت الألفاظ الأربعة - وأشباهها - کانت مفعولات مطلقة لعامل مهمل (2) ، أو لفعل من معناها ؛ فالأصل : (رحمه الله ویحا وویسا ؛ بمعنی : رحمه الله رحمة) -. أو : (رحمه الله ویحه وویسه. بمعنی رحمه الله رحمته ...) وکذا : (أهلکه الله ویلا - وویبا ، أو أهلکه الله ویله - وویبه ؛ بمعنی أهلکه الله إهلاکا - وأهلکه الله إهلاکه). فالفعل مقدّر فی الأمثلة بما ذکرناه ، أو بما یشبهه فی أداء المعنی من غیر تقید بنصّ الأفعال السالفة التی قدرناها.
وقیل إن الکلمات السالفة : (ویح - ویس - ویل - ویب ... عند
ص: 218
نصبها تکون منصوبة علی أنها مفعول به ؛ ولیست مفعولا مطلقا ؛ فالأصل مثلا : ألزمه الله ویحه ، أو ویله ... أو ... وهذا رأی حسن لوضوحه ویسره. وإن کان الأول هو الشائع. ومثلها : بله الأکفّ (فی حالة الکسر) بمعنی : ترک الأکفّ ، أی : اترک ترک الأکفّ ...
(ب) من المصادر المسموعة التی لیس لها فعل من لفظها ، ما یستعمل مضافا وغیر مضاف ؛ کالکلمات الخمس السابقة. فإن کانت مضافة فالأحسن نصبها علی اعتبارها مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أو مفعولا به ، کما شرحنا. والنصب هو الأعلی. ولم یعرف - سماعا - فی کلمة : «بله» المضافة سواه. أما الکلمات الأربع التی قبلها فیجوز فیها الرفع علی اعتبارها مبتدأ خبره محذوف ، أو خبرا والمبتدأ محذوف. وتقدیر الخبر المحذوف : ویحه مطلوب - مثلا - ویله مطلوب - مثلا - وهکذا الباقی ... وتقدیر المبتدأ المحذوف : المطلوب ویحه ... - المطلوب ویله ... وهکذا ...
فإن کانت الکلمات الأربع مقرونة «بأل» فالأحسن الرفع علی الابتداء - وهو الشائع - ؛ نحو : الویح للحلیف ، والویل للعدو. ولا مانع أن تکون
ص: 219
خبرا ؛ نحو : المطلوب الویح - المطلوب الویل ... ویجوز النصب علی أنها مفعول مطلق للفعل المحذوف ، أو مفعول به لفعل محذوف أیضا.
وإن کانت تلک الکلمات خالیة من «أل» ومن الإضافة جاز النصب والرفع علی السواء.
وملخص الحکم أن الرفع والنصب جائزان فی کل حالات الألفاظ الأربعة غیر أن أحد الأمرین قد یکون أفضل من الآخر أحیانا ، طبقا للبیان السالف (1).
(ج) أشرنا (2) إلی أن فریقا من النحاة یجیز عدم التقیید بالسماع ، وعدم وجوب حذف العامل فی المصادر المسموعة بالنصب علی المصدریة لنیابتها عن عاملها ، مثل : «سقیا» و «رعیا» ... کما یجیز فی التی لیست مضافة ، ولا مقرونة بأل ، أن تضاف ، وأن تقترن بأل ؛ فتجری علیها الأحکام السالفة فی کل حالة. وهذا هو الأنسب الیوم ؛ لیسره مع صحته وإن کان الأول هو الأقوی.
(د) هناک مصادر أخری مسموعة بالنصب ، وعاملها محذوف وجوبا ، وهی نائبة عنه (3) :
1 - منها : ما هو مسموع بصیغة التثنیة مع الإضافة ؛ مثل : «لبّیک ، وسعدیک» ، لمن ینادیک أو یدعوک لأمر. والأصل : ألبی لبیک ، وأسعد
ص: 220
سعدیک ؛ بمعنی : أجیبک إجابة بعد إجابة ، وأساعدک مساعدة بعد مساعدة. أی : کلما دعوتنی وأمرتنی أجبتک ، وساعدتک. والمسموع فی الأسالیب الواردة استعمال : «سعدیک» بعد «لبّیک». واتباع هذه الطریقة الواردة أفضل. لکن یجوز استعمال «سعدیک» بدون «لبیک» إن دعت حکمة بلاغیة. أما «لبیک» فالمسموع فیها الاستعمالان.
ومثل : حنانیک فی قولهم : «حنانیک ، بعض الشرّ أهون من بعض» بمعنی : حنّ علیّ حنانیک ؛ (أی : تحنّن واعطف) حنانا بعد حنان ، ومرة بعد أخری. - فهی هنا کلمة : «استعطاف».
ومثل : دوالیک فی نحو : تقرأ بعض الکتاب ، ثم ترده إلیّ. فأقرأ بعضه ، وأرده إلیک ؛ فتقرأ وتردّ ... وهکذا دوالیک ... بمعنی أداول دوالیک ، أی : أجعل الأمر متداولا ومتنقلا بینی وبینک ، مرة بعد مرة.
ومثل : هذاذیک ؛ فی نحو : هذاذیک فی غصون الشجر ؛ أی : تهذّ هذاذیک ؛ بمعنی : تقطع مرة بعد مرة. ومثل : حجازیک ؛ فی نحو : حجازیک عن إیذاء الیتامی : أی : تحجز حجازیک ؛ بمعنی : تمنع.
ومثل : حذاریک ؛ فی نحو : حذاریک الخائن ، أی : احذر حذاریک بمعنی : احذر الخائن ؛ حذرا بعد حذر ...
والمصادر السالفة کلها منصوبة ، وعاملها محذوف وجوبا وهی نائبة عنه ، وکلها غیر متصرف - فی الأغلب - ، أی : أنها ملازمة فی الأکثر حالة واحدة سمعت بها ، وهی حالة النصب والتثنیة مع الإضافة إلی کاف الخطاب - التی هی ضمیر مضاف إلیه -. وقد ورد بعضها بغیر التثنیة ، أو : بغیر الإضافة مطلقا ، أو : بالإضافة مع غیر غیر کاف الخطاب ، أو : له عامل مذکور ... لکن لا داعی لمحاکاة هذه الأمثلة القلیلة ؛ فلا خیر فی محاکاتها ، وترک الأکثر الأغلب. بقی أن نسأل : ما معنی التثنیة فی الأمثلة السابقة وأشباهها؟ أهی تثنیة حقیقیة یصیر بها الواحد اثنین لیس غیر ، فیکون معنی : «لبیک» ، و «سعدیک» و «حنانیک» ... تلبیة موصولة بأخری ، ومساعدة موصولة بمساعدة ، وحنانا موصولا بمثله؟ أیکون هذا هو المراد ، أم یکون المراد هو مجرد التکثیر؟
ص: 221
رأیان قویان ... ولا داعی للاقتصار علی أحدهما دون الآخر ؛ لأن بعض المناسبات والمواقف المختلفة قد یصلح له هذا ولا یصلح له ذاک ، وبعض آخر یخالفه ؛ فالأمر موقوف علی ما یقتضیه المقام.
2 - ومنها ما هو مفرد منصوب ملازم للإضافة - إلا فی ضرورة الشعر - مثل : «سبحان (1) الله» أی : براءة له من السوء. ومثل : معاذ (2) الله ؛ أی : عیاذا بالله ، واستعانة به. ومثل ریحان الله ؛ أی : استرزاق الله. ولا یعرف لهذا فعل من لفظه ؛ فیقدر من معناه ؛ أی : أسترزقه. والکثیر استعماله بعد سبحان الله. والثلاثة السالفة غیر متصرفة. ومثلها : حاش (3) الله ؛ بمعنی تنزیه الله.
3 - أمثلة أخری أکثرها ملازم النصب بغیر تثنیة ولا إضافة ؛ مثل : «سلاما» من الأعداء ، بمعنی : براءة منهم ، لا صلة بیننا وبینهم. بخلاف «سلام» بمعنی : «تحیة» ؛ فإنه متصرف. ومثل : «حجرا» فی نحو قولک لمن یسألک : أتصاحب المنافق؟ فتجیب : حجرا ، أی : أحجر حجرا ؛ بمعنی أمنع نفسی ، وأبعده عنی ، وأبرأ منه (4) ... ومثل قولک لمن یطلب إنجاز أمره : سأفعله ، وکرامة ومسرّة - أو : ونعمة ، أو ؛ ونعام عین - وهذه مضافة - ... أی سأفعله وأکرمک کرامة ، وأسرّک مسرة ، وأنعم نفسک نعمة ، وأنعم نعام عین ، أی : إنعام عین ... بمعنی أمتعک تمتع عین.
4 - أمثلة أخری تختلف عن کل ما سبق فی أنها لیست مصادر ، ولکنها
ص: 222
أسماء منصوبة تدل علی أعیان ، أی : علی أشیاء مجسمة محسوسة : (ذوات) ، کقولهم فی الدعاء علی من یکرهونه : «تربا (1) وجندلا (2)». والأحسن أن تکون هذه الکلمات وأشباهها مفعولا به لفعل محذوف ، والتقدیر : ألزمه الله تربا وجندلا أو : لقی تربا وجندلا. أو : أصاب ، أو : صادف ... أو : نحو هذه الأفعال المناسبة لمعنی الدعاء المطلوب ...
ص: 223
أ
لازمت البیت ؛ استجماما
-
أو : للاستجمام.
زرت المریض ؛ اطمئنانا علیه
-
أو : للاطمئنان.
أتغاضی عن هفوات الزمیل ؛ استبقاء لمودته
-
أو : لاستبقاء مودته.
أحترم القانون ؛ دفعا للضرر
-
أو : لدفع الضرر.
ب
/ تنزهت ؛ طلب الراحة
-
أو : لطلب الراحة.
تحفظت فی کلامی ؛ خشیة الزلل
-
أو : لخشیة الزلل.
ألتزم الاعتدال ؛ رغبة السّلامة
-
أو : لرغبة السلامة.
أسأل الخبیر ؛ قصد الاسترشاد
-
أو : لقصد الاسترشاد.
ج
أجلس بین الأصدقاء ؛ الصلح
-
أو : للصلح.
أطلت المشی بین الزروع ؛ التمتع بها
-
أو : للتمتع بها.
أسعی بین المتخاصمین ؛ التوفیق
-
أو : للتوفیق.
هجرت الصحف الهزلیة ؛ النّفور منها
-
أو : للنفور.
کل جملة من الجمل المعروضة تصلح أن تکون سؤالا معه جوابه علی النحو الآتی ، ما الداعی أو : ما السبب فی أنک لازمت البیت؟ الجواب : الاستجمام. ما العلة ، أو : ما السبب فی أنک زرت المریض؟ ... الاطمئنان.
ما السبب فی تغاضیک عن هفوات زمیلک؟ استبقاء المودة ... وهکذا باقی الأمثلة ؛ حیث یدل کل مثال علی أنه یصلح سؤالا عن السبب (1) ، جوابه کلمة معه فی جملته.
ولو لحظنا الکلمة الواقعة جوابا لوجدناها : مصدرا ، یبین سبب ما قبله (أی : علته ...) ویشارک عامله فی الوقت ، وفی الفاعل ؛ لأن زمن الاستجمام وفاعله
ص: 224
هو زمن ملازمة البیت وفاعلها. وزمن الاطمئنان وفاعله ، هو زمن زیارة المریض وفاعلها ... وکذا الباقی ...
فکل کلمة اجتمعت فیها الأمور - أو الشروط - الأربعة السالفة تسمی : «المفعول له» ، أو : «المفعول لأجله» (1) فهو : المصدر (2) الذی یدل علی سبب ما قبله (أی : علی بیان علته) (3) ویشارک عامله فی وقته ، وفاعله ...
المفعول لأجله ثلاثة أقسام (4) ، مجرد من «أل» ، والإضافة ؛ کالقسم الأول : «ا». ومضاف ؛ کالقسم الثانی : «ب» ، ومقترن بأل ؛ کالقسم الثالث «ح». وهذا القسم دقیق فی استعماله وفهمه ، قلیل التداول قدیما وحدیثا ، ومن المستحسن لذلک أن نتخفف من استعماله.
1 - من أحکامه أنه إذا کان مستوفیا للشروط جاز نصبه مباشرة ، وجاز جره بحرف من حروف الجر التی تفید التعلیل ؛ وأوضحها (5) : اللام - ثم : فی ،
ص: 225
والباء ، ومن - والأمثلة السالفة توضح أمر النصب والجر باللام ، ومن الممکن حذف اللام من تلک الأمثلة ، ووضع حرف آخر من حروف التعلیل مکانها.
لکنه فی جمیع حالات جرّه لا یعرب - اصطلاحا - مفعولا لأجله ، وإنما یعرب جارّا ومجرورا متعلقا بعامله. وهذا برغم استیفائه الشروط ، وبرغم أن معناه فی حالتی نصبه وجره لا یختلف (1).
ومع أن النصب والجر جائزان - هما لیسا فی درجة واحدة من القوة والحسن ؛ فإنّ نصب المجرد أفضل من جره ، لشیوع النصب فیه ، ولتوجیهه الذهن مباشرة إلی أن الکلمة «مفعول لأجله». وجرّ المقترن «بأل» أکثر من نصبه. أما المضاف فالنصب والجر فیه سیانّ. (وقد تقدمت الأمثلة للأنواع الثلاثة).
فإن فقد شرط من الأربعة (2) لم یجز تسمیته مفعولا لأجله ، ولا نصبه علی هذا الاعتبار ؛ وإنما یجب جره بحرف من حرف التعلیل السابقة ، إلا عند فقد التعلیل ؛ فإنه لا یجوز جره بحرف من هذه الحروف الدالة علی التعلیل ؛ منعا للتناقض.
فمثال ما فقد المصدریة : أعجبتنی الحدیقة ؛ لأشجارها ، وسرتنی أشجارها ؛ لثمارها ؛ فالأشجار والثمار لیستا مصدرین ، ولهذا لم یصح نصبهما مفعولین لأجله ، وصارتا مجرورتین.
ومثال ما فقد التعلیل : عبدت الله عبادة ، واطعت الرسول إطاعة (3) ... ولا یجوز فی هذین وأمثالهما الجر بحرف جر یفید التعلیل - کما سبق -.
ص: 226
ومثال ما لم یتحد مع عامله فی الوقت : ساعدتنی الیوم ؛ لمساعدتی إیاک غدا (1).
ومثال ما لم یتحد مع عامله فی الفاعل : أجبت الصارخ ؛ لاستغاثته. لأن فاعل الإجابة غیر فاعل الاستغاثة (2).
ص: 227
2 - ومن أحکامه أنه یجوز حذفه لدلیل یدل علیه عند الحذف ؛ کأن یقال : إن الله أهل للشکر الدائم ؛ فاعبده شکرا ، وأطعه. والتقدیر : أطعه شکرا ؛ فحذف الثانی لدلالة الأول علیه. ومثل : إن الضیف الذی سیزورنا جدیر أن نظهر له التکریم فی کل حرکاتنا ؛ فنقف تکریما ، ونتقدم عند قدومه تکریما ، ونصافحه ، أی : نصافحه تکریما. ومثل ما سبق من قول ابن مالک : جد شکرا ودن (1).
3 - ومنها : أنه - وهو منصوب أو مجرور - یجوز تقدمه علی عامله ؛ نحو : (طلبا للنزهة - رکبت الباخرة). (انتفاعا - شاهدت تمثیل المسرحیة). والأصل : رکبت الباخرة ، طلبا للنزهة - شاهدت تمثیل المسرحیة ؛ انتفاعا. وقول الشاعر :
فما جزعا - وربّ الناس - أبکی
ولا حرصا علی الدنیا اعترانی
والأصل : فما أبکی جزعا.
4 - ومنها : جواز حذف عامله ؛ لوجود قرینة تدل علیه ؛ نحو : بعدا عن الضوضاء ؛ فی إجابة من سأل : لم قصدت الضواحی؟ ...
5 - ومنها : أنه لا یتعدد (2) ؛ سواء أکان منصوبا أم مجرورا ؛ فیجب الاقتصار علی واحد للعامل الواحد - ولا مانع من العطف علیه أو البدل منه (3) - لهذا قالوا فی الآیة الکریمة : (وَلا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً ؛ لِتَعْتَدُوا.) أن کلمة : «ضرارا» مفعول لأجله ، والجار والمجرور : (لتعتدوا) متعلق بها ، ولا یصلح أن یکون متعلقا بالفعل إلا عند إعراب : «ضرارا» حالا مؤولة ؛ بمعنی : مضارّین.
ص: 228
فی مثل : جاءت السیارة صباحا ، ووقفت یمین الطریق ؛ لیرکب الراغبون - تدل کلمة : «صباحا» علی زمن معروف ؛ هو أول النهار وتتضمن فی ثنایاها معنی الحرف : «فی» الدال علی الظرفیة (2) ، بحیث نستطیع أن نضع قبلها هذا الحرف ، ونقول : جاءت السیارة فی صباح ، ووقفت یمین الطریق ؛ فلا یتغیر المعنی مع وجود «فی» ، ولا یفسد صوغ الترکیب. فهو حرف عند حذفه هنا ملاحظ کالموجود ، یراعی عند تأدیة المعنی ، ولأن کلمة : «صباحا» ترشد إلیه ، وتوجه الذهن لمکانه ؛ وهذا هو المقصود من أن کلمة «صباحا» تتضمنه (3).
ولو غیّرنا الفعل : «جاء» ، ووضعنا مکانه فعلا آخر ؛ مثل : وقف - ذهب - تحرک ... - لبقیت کلمة : «صباحا» علی حالها من الدلالة علی الزمن المعروف ، ومن تضمنها معنی : «فی». وهذا یدل علی أن تضمنها معنی : «فی» مطرد (4) مع أفعال کثیرة متغیرة المعنی.
ص: 229
بخلاف ما لو قلنا : الصباح مشرق - صباح الخمیس معتدل ، ... فإن کلمة : «الصباح» فی المثالین ، وأشباههما تدل علی الزمن المعروف ، ولکنها لا تتضمن معنی «فی». فلو وضعنا هذا الحرف قبلها لفسد الأسلوب والمعنی ؛ إذ لا یصح أن یقال : فی الصباح مشرق - ولا فی صباح الخمیس معتدل ؛ ومن أجل هذا لا یصح - اصطلاحا - تسمیة کلمة : «الصباح» فی هذین المثالین ظرف زمان ؛ لعدم وجود شیء مظروف فیها ، بالرغم من أنها تدل علی الزمان فیهما.
وتدل کلمة : «یمین» فی المثال الأول علی المکان ؛ لأن معناها وقفت السیارة فی مکان هو : جهة الیمین. وهی متضمنة معنی : «فی» ، إذ نستطیع أن نقول : وقفت فی جهة الیمین ؛ فلا یتغیر المعنی. ولو غیّرنا الفعل ، وجئنا بآخر ، فآخر ... لظلت کلمة : «یمین» علی حالها من الدلالة علی المکان ، ومن تضمنها معنی «فی» باطّراد.
بخلاف قولنا : الیمین مأمونة - إن الیمین مأمونة - خلت الیمین ... فإنها فی هذه الأمثلة - وأشباهها - لا تتضمن معنی الحرف : «فی» ویفسد الأسلوب والمعنی بمجیئه ؛ إذ لا یقال : فی الیمین مأمونة. وکذا الحال فی باقی الأمثلة وأشباهها ؛ لهذا لا یصح تسمیتها فی هذه الأمثلة ظرف مکان ، لعدم وجود شیء مظروف فیها ... فکلمة : «صباحا» فی المثال الأول - ونظائرها - تسمی : ظرف «زمان». وکلمة «یمین» ونظائرها ، تسمی : «ظرف مکان».
فالظرف (1) هو : (اسم منصوب یدل علی زمان أو مکان ، ویتضمن معنی :
ص: 230
«فی» باطراد (1) ...) وینقسم إلی ظرف زمان ، وظرف مکان (2).
1 - أنه منصوب (3) علی الظرفیة (4) ، فلو کان مرفوعا ، أو منصوبا لداع آخر غیر الظرفیة ، أو مجرورا (5) ولو کان الجار هو «فی» الدالة علی الظرفیة - فإنه لا یسمی ظرفا ، ولا یعرب ظرفا ، ولو دلّ علی زمان أو مکان.
وناصبه - ویسمی : عامله - إما مصدر ؛ نحو : المشی یمین الطریق أسلم ، والجری وراء السیارات یعرض للأخطار. وإما فعل (6) لازم أو متعد ، نحو : أنجزت عملی مساء ، ثم قعدت أمام المذیاع ، أتمتع به. وإما وصف (7) حقیقی عامل ، (اسم فاعل ، اسم مفعول ...) ، نحو الطیارة مرتفعة فوق السحاب ، والسحاب مرکوم تحتها لا یعوقها. وإما وصف تأویلا ؛ ویراد به الاسم الجامد المقصود منه الوصف بإحدی الصفات المعنویة ، مثل : أنا عمر عند الفصل فی قضایا الناس ، وأنت معاویة ساعة الغضب ، فالظرف : «عند» منصوب بکلمة : «عمر» ، والمراد منها : «العادل». وکلمة : «ساعة» منصوبة بکلمة : «معاویة» والمراد منها : الحلیم (8).
ص: 231
ولا بد أن یتعلق (1) الظرف بناصبه (أی : بعامله) ولیس من اللازم أن یکون عامله متقدما علیه ؛ کالأمثلة السالفة ، فقد یکون متأخرا عنه ؛ کقولهم : «الحرّ عند الحمیّة لا یصطاد ، ولکنه عند الکرم ینقاد ، وعند الشدائد تذهب الأحقاد». والمشهور أنه لا یتعلق بعامله المباشر إن کان هذا العامل حرفا من حروف المعانی (2).
ص: 232
2 - أن عامله قد یحذف جوازا ، أو وجوبا ؛ فیحذف جوازا حین یدل علیه دلیل ؛ کأن یقال : متی حضرت؟ فیجاب : یوم الجمعة ؛ أی : حضرت یوم الجمعة. ومتی وصلت یوم الجمعة؟ فیجاب : مساء. أی : وصلت مساء ، ومثل : کم میلا مشیت؟ فیجاب : میلین ؛ أی : مشیت میلین ، ویسمی الظرف الذی ذکر عامله أو حذف جوازا لوجود قرینة تدل علیه : «الظرف اللغو». أما الذی حذف عامله وجوبا فیسمی : «الظرف المستقر» (1). ویجب حذف هذا العامل فی ستة مواضع :
أن یقع خبرا ، أو حالا ، أو صفة ، أو صلة ، أو مشتغلا (2) عنه ، أو لفظا مسموعا عن العرب محذوفا فی أکثر استعمالهم. فمثال الخبر : الأزهار أمامنا ، والزروع حولنا. ومثال الحال : هذا الأسد أمام مروضه کالفأر. ومثال الصفة : إن شهادة زور أمام القضاء قد تحفر هوة سحیقة تحت أقدام شاهدها ، ومثال الصلة : احتفیت بالصدیق الذی معک. ومثال الاشتغال : یوم الأحد سافرت فیه (3). ومثال المسموع : حینئذ الآن.
ص: 233
والعامل المحذوف فی الثلاثة الأولی یصح أن یکون وصفا أو فعلا ؛ فالتقدیر علی اعتباره وصفا هو : (مستقر ، أو موجود ، أو کائن ، أو حاصل ... وأشباه هذا مما یناسب.) وعلی اعتباره فعلا هو : (استقر - وجد - کان ؛ بمعنی : وجد - حصل ... وأشباه هذا مما یناسب). أما مع الصلة فیجب أن یکون فعلا (1) ؛ لأن الصلة لغیر «أل» لا بد أن تکون جملة فعلیة ، والوصف مع مرفوعه لیس جملة (2). والأحسن فی «المشغول عنه» هنا وفی «المسموع» أیضا أن یکون فعلا ، فأصل المشغول عنه : سافرت یوم الأحد سافرت فیه. وأصل المسموع : حینئذ الآن. أی :
ص: 234
کان ذلک حینئذ ، واسمع الآن (1).
ص: 235
إذا کان عامل الظرف محذوفا وجوبا فی بعض المواضع (1) ، فما الداعی إلی ملاحظته عند الإعراب ، ووجوب تقدیره فی تلک المواضع ، واعتباره هو الخبر أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... دون الظرف نفسه؟ لم لا یکون الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... فی تلک المواضع ما دام متعلقه المحذوف واجب الحذف ، ولا یصح ذکره بحال؟ وإذا کان کلام العرب خالیا منه دائما فکیف عرفنا أنه محذوف؟ إن الحکم بالحذف یقتضی علما سابقا ومعرفة من اللغة بأن هذا المحذوف - أو نظائره - قد وجد حقیقة فی الکلام العربیّ ، ثم حذف لسبب طارئ. وهذه المعرفة لم توجد حقّا. فکیف حکمنا - إذا - بأنه محذوف؟ ... إلی غیر هذا مما یحتج به المعارضون ، وینتهون منه إلی أن الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو ... أو ... ولیس من اللازم فی رأیهم أن یکون هذا الظرف منصوبا بالعامل المحذوف ، فقد یکون منصوبا بشیء آخر فی الجملة ، أو بعامل معنوی کالحذف ... أو بغیر عامل ... ولا ضرر فی هذا عندهم.
وفریق منهم یقول إن خصائص العامل - ومنها : معناه ، وتحمّله للضمیر - قد انتقلت للظرف ؛ فلا ضرر أن یکون الظرف نفسه بعد هذا هو الخبر ، أو : الصفة ... أو ... (وقد أشرنا لهذا الرأی فی ص 413 ، وسبق إیضاحه فی الجزء الأول (هامش ص 271 م 27 وص 346 م 35) ، وأنه رأی مقبول عند بعض القدامی المحققین).
أما الذین یحتمون أن یکون العامل المحذوف هو الخبر ، أو الصفة ... أو ... دون الظرف ، ویشترطون أن یکون للظرف فی تلک المواضع متعلقا هو الخبر أو الصفة ... فلهم حجة منطقیة قویة. ولکنها علی قوتها تتسع للتیسیر والتخفیف بغیر ضرر ، وتنتهی إلی ما یقوله المعارضون ؛ هی : أن الزمان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحیل أن یوجد زمان لا یقع فیه حادث جدید ، أو لا یستمر فیه حادث موجود ، فخلو الزمان من أحداث جدیدة أو مستمرة - محال. وبتعبیر أدقّ : لا بدّ من اقتران کل حادث بزمان ، ویستحیل أن یوجد حادث فی غیر زمان. ولهذا سمی
ص: 236
الزمان ظرفا ؛ تشبیها بالظرف الحسی - کالأوانی والأوعیة التی توضع فی داخلها الأشیاء. وإذا کان الأمر هکذا فکل زمان مقرون - حتما - بالحادث المتصل به الواقع فیه ، وکثیر من هذه الحوادث أمر عام یدل علی مجرد «الوجود المطلق» من غیر زیادة معنویة علیه. فهو معروف ، فلا داعی لذکره ؛ إذ لا فرق فی المعنی بین : قولنا : «السفر حاصل غدا» ، وقولنا : «السفر غدا» لأنه هو والزمان متلازمان کما سلف ؛ فذکر الثانی کاف فی الدلالة علی وجود المحذوف ؛ فهو مع حذفه ملاحظ وکأنه موجود. هذا من الناحیة العقلیة المحضة(1).
وهناک شیء آخر یقولونه فی شبه الجملة الواقع خبرا - أو غیر خبر - من الأشیاء التی سلفت ؛ هو : أن اللفظ الدال علی الزمان لا یکمل وحده - بغیر متعلقه - المعنی الأساسی للجملة ، ولا یستقل بنفسه فی تحقیق فائدة تامة ، وإنما یجیء لتکملة معنی آخر فیما یسمی : «العامل» ؛ فلیس من شأن اللفظ الزمانی أن یتمم المعنی الأساسی المراد بغیر ملاحظة العامل المحذوف ؛ فلو لا ملاحظته فی مثل : «السفر یوم الخمیس» لکان المعنی : السفر زمان ، وهذا الزمان یوم الخمیس ، وبعبارة أخری : السفر هو یوم الخمیس نفسه ، ویوم الخمیس هو السفر ، والمعنی - لا شک - فاسد ، لأن الثابت المقرر من استقراء کلام العرب یوجب أن یکون الخبر هو المبتدأ فی المعنی ، والمبتدأ هو الخبر فی المعنی کذلک.
ومثل هذا یقولون فی ظرف المکان ؛ فالمکان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحیل أن یوجد مکان لا تقع فیه أحداث جدیدة ، أو تستمر فیه أحداث قدیمة ؛ فالحوادث والأماکن مقترنان متلازمان علی الدوام ، فذکر الثانی فی الکلام کاف فی الدلالة علی وجود المحذوف الملاحظ حتما ، فیتساوی المعنی بین : «علیّ موجود فی البیت» و «علی فی البیت». هذا إلی أن ظرف المکان وحده بغیر ملاحظة عامله المحذوف لا یتمم المعنی الأساسی المراد ، ولا یکمل القصد ؛ فالمکان إنما یجیء لتکملة معنی ، ولا یمکن
ص: 237
أن یستقل بإیجاد معنی أساسی جدید. وإذا ثبت أن لکل حادثة زمنا فلا بد لها من مکان أیضا. وإذا استحال أن یخلو زمان من حادثة استحال أن یخلو مکان من حادثة أیضا. ولو لا ملاحظة المحذوف لکان المبتدأ فی مثل : «الجلوس فوق» هو نفس الخبر ، أی : أن : الجلوس هو «فوق» ، «وفوق» هو الجلوس ذاته. وهذا معنی فاسد ، لما تقدم من أن المبتدأ هو الخبر فی المعنی ، والخبر هو المبتدأ فی المعنی فی غیر هذه المواضع.
ومثل هذا یقولون فی الجار مع مجروره .
تلک هی الأدلة القویة ولا حاجة لغیر المتخصصین بمعاناتها. وحسبنا أن نسایر الرأی القائل بأن شبه الجملة هو الخبر ، أو الحال ، أو ... علی الوجه المدون فی الجزء الأول فی الصفحات المشار إلیها.
ص: 238
3 - أن أسماء الزمان الظاهرة (1) کلها تصلح للنصب علی الظرفیة ، یتساوی فی هذا ما یدل علی الزمان المبهم (2) وما یدل علی الزمان المختص (3) ، فمثال الأول : عملت حینا ، واسترحت حینا ، ومثال الثانی : قضیت یوما سعیدا فی الضواحی ، وأمضیت یوم الخمیس فی الریف. کما یتساوی فی هذا ما کان منها جامدا ؛ مثل : یوم ، وساعة ... وما کان مشتقّا مرادا به الزمان ؛ کصیغتی : «مفعل ، ومفعل» - بفتح العین وکسرها - القیاسیتین الدالتین علی «الزمان» ، بشرط أن تکون الصیغ القیاسیة المشتقة جاریة علی عاملها (أی : مشترکة معه فی مثل حروفه الأصلیة) ، مثل : قعدت مقعد الضیف ، أی : زمن قعود الضیف (4).
أما أسماء المکان فلا یصلح منها للنصب علی الظرفیة إلا بعض أنواع :
ص: 239
(ا) منها : المبهم (1) وملحقاته ؛ نحو : الجهات الستّ ، فی مثل : وقف الحارس أمام البیت - وطار العصفور فوقه ... فإن کان المکان مختصّا لم یصح نصبه علی الظرفیة ، ووجب جره بالحرف : «فی» إلا فی حالتین :
الأولی : أن یکون عامل الظرف المکانی المختص هو الفعل : «دخل» أو : «سکن» أو : «نزل» فقد نصب العرب کل ظرف مختص مع هذه الثلاثة ؛ نحو : دخلت الدار ، وسکنت البیت ... ونزلت البلد ... والأحسن فی إعراب هذه الصور وأشباهها أن یکون کل من «الدار» ، و «البیت» ، «والبلد» مفعولا به - لا ظرفا - ویکون الفعل قبلها متعدیا (2) إلیها بنفسه مباشرة.
الثانیة : أن یکون الظرف المکانی المختص هو کلمة : «الشام» وعامله هو الفعل : «ذهب». فقد قال العرب : «ذهبت الشام» ویعرب هنا ظرفا - ومثله الظرف المختص : «مکة» مع عامله الفعل : «توجّه» فقد قال العرب أیضا : توجهت مکة. فنصب ظرفا مع هذا الفعل وحده. و «الشام» و «مکة» ظرفان مکانیّان علی معنی : «إلی».
(ب) ومنها : المقادیر (3) ، نحو : غلوة (4) - میل - فرسخ - برید ...
ص: 240
و... و... مثل : مشیت غلوة ، ثم رکبت میلا ، ثم سرت فرسخا.
(ح) ومنها : ما صیغ. علی وزن (1) : «مفعل» ، أو «مفعل» للدلالة علی المکان ، بشرط أن یکون الوزن جاریا علی عامله ، (أی : مشترکا معه فی مثل حروفه الأصیلة ، ومشتملا علیها) (2) ، مثل : وقفت موقف الخطیب ، وجلست مجلس المتعلم - صنعت مصنع الورق ، وبنیت مبناه ... فلو کان عامله من غیر لفظه لوجب الجر بالحرف : «فی» ؛ نحو : جلست فی مرمی الکرة (3).
ومن ثم کان هذا النوع غیر متضمن معنی «فی» باطراد ، ومستثنی من التضمن (4) المطرد.
وهذا القسم یکون مختصّا کالأمثلة السالفة ، ومبهما ؛ نحو : وقفت موقفا - جلست مجلسا (5).
ص: 241
ومما یلاحظ أن هذه الصیغة : (مفعل - مفعل) صالحة للزمان والمکان ویکون التمییز بینهما بالقرائن ؛ کأن یقال : متی حضرت؟ فیجاب : حضرت محضر القطار ؛ أی : زمن حضور القطار ؛ لأن «متی» للاستفهام عن الزمن. بخلاف : أین حضرت؟ فیجاب : حضرت محضر المجتمعین حول الخطیب ؛ لأن «أین» أداة استفهام عن المکان.
4 - أنه یجوز تعدد الظروف المنصوبة علی الظرفیة لعامل واحد بغیر إتباع (1) ، بشرط اختلافها فی جنسها ؛ (أی : اختلافها زمانا ومکانا) ؛ مثل : استرح هنا ساعة - أقم عندنا یوما. أما إذا اتفقت فی جنسها فلا تتعدد إلا فی صورتین ؛ إحداهما : الإتباع ؛ بجعل الظرف الثانی بدلا (2) من الأول ، نحو : أقابلک یوم الجمعة ظهرا. فکلمة : «ظهرا» بدل بعض من کلمة : یوم.
والأخری ، أن یکون العامل اسم تفضیل ؛ نحو : المریض الیوم أحسن منه أمس. (فالیوم وأمس ؛ ظرفان عاملها أفعل التفضیل : أحسن) وقد تقدم علیه واحد ، وتأخر واحد.
5 - أنه یجوز عطف الزمان علی المکان وعکسه ؛ مسایرة للرأی القائل بذلک ، توسعا وتیسیرا ؛ نحو : أعطیت السائل أمامک ویوم العید - قرأت الکتاب هنا ویوم السبت الماضی.
6 - إذا وقع الظرف خبرا فإنه یستحق أحکاما خاصة یستقل بها ، وقد سبق تسجیلها فی مکانها الأنسب. وهو باب : «المبتدأ والخبر» (3) ومن تلک الأحکام أن یکون فی مواضع معینة باقیا علی حالته من النصب ، وفی مواضع أخری یکون مرفوعا أو مجرورا ولا یسمی فی هاتین الحالتین ظرفا ... إلی غیر هذا من الأحکام الهامّة المدونة فی الموضع المشار إلیه.
ص: 242
(ا) عرفنا (1) «المبهم» من ظروف المکان ، وأنه یشمل أنواعا منها : «الجهات الست». وقد ألحقوا بهذه الجهات ألفاظا أخری ، منها : عند - - لدی - وسط - بین - إزاء - حذاء ... واختلفوا فی مثل (2) : داخل - خارج - ظاهر - باطن - جوف الدار - جانب ، وما بمعناه (مثل : جهة - وجه - کنف) فی مثل : قابلته داخل المدینة أو خارجها ، أو ظاهرها ... ؛ فکثیر من النحاة یمنع نصب هذه الکلمات علی الظرفیة المکانیة ؛ لعدم إبهامها ، ویوجب جرّها بالحرف : «فی». وفریق یجیز ، ویری أنّ هذا هو الأنسب (3) ، لما فیه من تیسیر ، لأن تلک الکلمات الدالة علی المکان لا تخلو من إبهام ، فهی شبیهة بالمبهم ، وملحقة به. وکان الجدیر بکل فریق أن یستند فی تأیید رأیه علی موقفه من المسموع المأثور ، ویعتمد علیه وحده فی الاستدلال ، واستنباط الحکم ، فمن نصره السماع الکثیر فرأیه هو الأقوی دون غیره. ولکنهم لم یفعلوا. ومن ثمّ یکون الرأی المجیز أولی بالاتباع ، وإن کانت المبالغة فی الدقة والحرص علی سلامة الأسلوب وسمّوه تقتضی البعد عن الخلاف باستعمال الحرف «فی» ؛ لاتفاق الفریقین علی صحة مجیئه ؛ فیجری التعبیر اللغوی علی سنن موحد.
(ب) من أنواع الظرف ما یکون مؤسّسا ؛ وما یکون مؤکّدا ، فالمؤسّس هو الذی یفید زمانا أو مکانا جدیدا لا یفهم من عامله ؛ نحو : صفا الجو الیوم ، فقضیته حول المیاه المتدفقة ، وبین الأزاهر والریاحین. فکل من الظروف : (الیوم - حول - بین - ...) یسمی : ظرفا مؤسسا ، أو تأسیسیّا ؛ لأنه أسّس - أی : أنشأ - معنی جدیدا لا یفهم من الجملة بغیر وجوده.
والمؤکّد هو الذی لا یأتی بزمن جدید ، وإنما یؤکد زمنا مفهوما من عامله. ومن أمثلة قوله تعالی : (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً.) فالظرف : «لیلا» لا جدید معه إلا التوکید لزمن الإسراء ؛ لأن الإسراء لا یکون إلّا لیلا ...
ومثله : سرت حینا ومدة ، لأن الظرف لم یزد زمنا جدیدا غیر الزمن الذی دل علیه الفعل (4)
ص: 243
الظرف بنوعیه قد یکون متصرفا ، وقد یکون غیر متصرف.
(ا) فالمتصرف هو الذی لا یلازم النصب علی الظرفیة ، وإنما یترکها إلی کل حالات الإعراب الأخری التی لا یکون فیها ظرفا ؛ کأن یقع مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو مفعولا به ، أو مجرورا بالحرف : «فی» المذکور قبله ... أو ... فمثال الزمان المتصرف : یومکم مبارک ، ونهارکم سعید. إن یومکم مبارک ، وإن نهارکم سعید. جاء الیوم المبارک ... إنّا نرقب مجیء الیوم المبارک - فی یوم العید یتزاور الأهل والأصدقاء.
ومثال المکان المتصرف : یمینک أوسع من شمالک - العاقل لا ینظر إلی الخلف إلا للعبرة ؛ وإنما وجهته الأمام. ومثل : الفرسخ ثلاثة أمیال ، ونعرف أن المیل ألف باع (1).
وقد سبق (2) أن الظرف بنوعیه إذا ترک النصب علی الظرفیة إلی حالة أخری غیر النصب علی الظرفیة - ولو إلی الجر «بفی» أو غیرها - فإنه لا یسمی ظرفا ، ولا یعرب ظرفا ، ولو دل علی زمان أو مکان.
بشرط أن تکون کل واحدة علم جنس (1) علی وقتها المعین المعروف ؛ سواء أکان هذا الوقت مقصودا ومحددا من یوم خاص بعینه ، أم غیر مقصود ولا محدد من یوم معین. فهذه الثلاثة - وأشباهها - متصرفة ؛ تستعمل ظرفا وغیر ظرف ، وفی الحالتین تمنع من الصرف. وسبب منعها من الصرف : «العلمیة والتأنیث اللفظی». فإن فقدت العلمیة لم تمنع من الصرف ؛ وذلک لعدم التعیین (لأنها فقدت تعیین الزمن وتحدیده ؛ وصارت دالة علی مجرد الوقت المحض الخالی من کل أنواع التخصیص إلا بقرینة أخری للتعیین) ؛ مثل : غدوة وقت نشاط ، یسرنی السفر غدوة والقدوم فی ضحوة ، بشرط أن یراد بهما مطلق زمن بغیر تعیینه. ومن هذا قوله تعالی فی أهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِیها بُکْرَةً وَعَشِیًّا)(2).
3 - وإما مبنی. والمبنی قد یکون مبنیّا علی السکون ، مثل : «إذ» الواقعة «مضافا إلیه» والمضاف زمان ، نحو : لاح النصر ساعة إذ أخلص المجاهدون - کان النصر یوم إذ جاهد المخلصون. أو مبنیّا علی الکسر ، مثل الظرف : «أمس» عند الحجازیین ؛ فی نحو : اعتدل الجوّ أمس.
* * *
(ب) أما غیر المتصرف (3) : فمنه الذی لا یستعمل إلا ظرفا ، ومنه ما یستعمل
ص: 245
ظرفا ، وقد یترک الظرفیة - ولا یسمی ظرفا - إلی شبهها ، وهو الجر بالحرف : «من» - غالبا (1) - فمثال الذی لا یستعمل إلا ظرفا : «قطّ» (2) ، و «عوض» (3) و «بدل» ؛ بمعنی : مکان (مثل : خذ هذا بدل ذاک) ، و «مکان» بمعنی بدل. (أما «مکان» بمعناه الأصلی فظرف متصرف) «وسحر» (4) ؛ إذا أرید به سحر یوم معین محدد ؛ نحو : أزورک سحر یوم السبت المقبل ؛ وإلا فهو ظرف متصرف ؛ نحو : تمتعت بسحر منعش ؛ فهل یساعفنی سحر مثله؟
ومثال ما یلازم النصب علی الظرفیة وقد یترکها إلی شبهها : (عند ، ولدن ، وقبل ، وبعد ... و...) مثل : مکثت عندک ساعة ، ثم خرجت من عندک إلی بیتی - سأقصد الحدائق لدن الصبح حتی الضحا ، ثم أعود من لدنها - - حضرت قبل المیعاد ، ولم أحضر بعده. أو : حضرت من قبل المیعاد ، ولم أحضر من بعده (5).
ص: 246
1 - إما معرب ممنوع من الصرف ؛ مثل : سحر - عتمة (1) - عشیة (2) بشرط أن یقصد بکل واحدة التعیین الدال علی وقت خاص ، فتکون علم جنس علیه ؛ لدلالتها علی زمن معین محدد دون غیره من الأزمان المبهمة الخالیة من التعیین ، نحو : استیقظت لیلة الخمیس سحر - حضرت یوم الجمعة عشیّة - سهرت یوم السبت عتمة.
فإن فقدت هذه العلمیة صارت نکرة لا تدل علی وقت مخصص من یوم بذاته ، وخرجت من نوع الظرف غیر المتصرف ودخلت فی نوع المتصرف المنصرف فتصیر مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا و... وغیر ذلک ، مع التنوین فی کل حالة ؛ نحو سحر خیر من عشیّة ، وربّ عتمة خیر من سحر (3).
2 - وإما معرب مصروف مثل : «بدل» و «مکان» السالفین (4).
3 - وإما مبنی علی السکون أو غیره ، مثل : لدن ، ومذ ، ومنذ (5) وقطّ ، ... وغیرها (مما سیجیء (6) فی الزیادة والتفصیل).
4 - جمیع الظروف غیر المتصرفة لا یصح التصریح قبلها بالحرف : «فی» بخلاف المتصرفة ، وإذا ظهرت «فی» قبل الظرف - مطلقا - فإنه یصیر اسما محضا مجرورا بها ، ولا یصح تسمیته ظرف زمان أو ظرف (7) مکان.
ص: 247
(ا) یکثر حذف الظرف الزمانیّ المضاف إلی مصدر ، وإقامة المصدر مقامه (1). فینصب مثله باعتباره نائبا عنه ، وذلک بشرط أن یعیّن المصدر الوقت ویوضحه ، أو یبین مقداره ، وإن لم یعینه ؛ فمثال الأول : أخرج من البیت شروق الشمس ، وأعود إلیه غروبها - أزورکم فی العام الآتی قدوم الراجعین من الحج. (ترید : أخرج من البیت وقت طلوع الشمس ، وأعود إلیه وقت غروبها - ووقت قدوم الراجعین). فحذف الظرف الزمانی : «وقت». وقام مقامه المصدر ، وهو : (شروق - غروب - قدوم ، فأعرب ظرفا بالنیابة).
ومثال الثانی : أمکث عندک کتابة صفحة ؛ (أی : مدة کتابة صفحة) ، وأنتظرک لبس الثیاب ، (أی : مدة لبسها) ، وأغیب غمضة عین ، (أی : مدة غمضها).
وقد یحذف الظرف وینوب عنه مصدر مضاف إلی اسم عین (2) ثم یحذف هذا المصدر المضاف أیضا ، ویحل محله اسم العین. باعتباره نائبا عن النائب عن الظرف الزمانی. ویعرب ظرفا بالإنابة. نحو : لا أکلم السفیه النّیّرین - أی : مدة طلوع النیرین ؛ (وهما : الشمس والقمر) : فحذف الظرف الزمانی ؛ وهو «مدة» ، وقام مقامه المصدر المضاف : «طلوع» ، ثم حذف المصدر المضاف وحل محله المضاف إلیه ؛ وهو : کلمة : «النیرین». وتعرب ظرفا بالإنابة - کما قلنا - ومن أمثلتهم : لا أجالس ملحدا الفرقدین (3) ، ولا أماشیه القارظین (4) ؛ یریدون : مدة ظهور الفرقدین ، ومدة غیاب القارظین.
هذا ، والإنابة فی کل ما سبق قیاسیة إذا تحقق ما شرحناه.
(ب) أما نیابة المصدر عن ظرف المکان فقلیلة حتی قصروها علی المسموع دون غیره - مثل کلمة : قرب - ؛ نحو : جلست قرب المدفأة ، أی : مکان قرب المدفأة. فکلمة : «قرب» مصدر بالنیابة.
ص: 248
(ح) وهناک أشیاء أخری غیر المصدر تصلح للإنابة - قیاسا - عن الظرف بنوعیه بعد حذفه ، وتعرب ظرفا بالنیابة.
منها : صفته ؛ نحو : صبرت طویلا من الدهر - جلست شرقیّ المنزل ؛ أی : صبرت زمنا طویلا ... - جلست مجلسا شرقیّ المنزل. أو جلست مکانا شرقیّ المنزل.
ومنها : عدده ؛ بشرط أن یوجد ما یدل علی أنه عدده : کالإضافة إلی زمان ، أو مکان نحو : مشیت خمس ساعات قطعت فیها ثلاثة فراسخ.
ومنها کل أو بعض ، وغیرهما مما یدل علی الکلیة والجزئیة ، بشرط الإضافة إلی زمان أو مکان (1) ؛ نحو : نمت کل اللیل. وقول الشاعر :
أکلّ الدهر حلّ وارتحال
أما یبقی علیّ ، وما یقینی
ومثل : استمر الحفل بعض اللیل ... مشت القافلة کل الأمیال - أو بعض الأمیال(2) ...
ص: 249
(ا) الظروف من حیث التصرف وعدمه ، ودرجته ، أربعة أقسام :
قسم یمتنع تصرفه أصلا ؛ مثل : «قطّ» ، «عوض» - وقد سبقا - ومثل : «بعین» إذا اتصلت بها الألف أو «ما» فصارت : «بینا أو بینما» ، فإنها عندئذ تلازم الظرفیة تماما - کالتی فی ص 260 و 267 أیضا -
ویلحق بهذا القسم : «عند ، وفوق ، وتحت» (1) وأشباهها مما لا یخرج عن الظرفیة إلا إلی الجر بالحرف : «من» - غالبا (2) -.
وقسم ثان : یتصرف کثیرا ، کیوم ، شهر ، یمین (3) ، شمال ، ذات الیمین ، ذات الشمال (4).
وثالث : متوسط فی تصرفه ؛ وهو : أسماء الجهات (إلا ما سبق حکمه فی القسمین السالفین ؛ من مثل : فوق ، وتحت ، ویمین ، وشمال ، وذات الیمین ، وذات الشمال ...).
ومن هذا القسم المتوسط : «بین» التی لم یتصل بآخرها : «الألف» أو «ما» فإن اتصلت بها : «الألف» أو : «ما» وصارت : (بینا - بینما) ... فهی ممنوعة التصرف ، کما أسلفنا.
ورابع : تصرفه نادر فی السماع ، لا یقاس علیه ، مثل : الآن ، وحیث ، ودون ، التی لیست بمعنی ردیء - ووسط ؛ بسکون السین فی الغالب. أما بفتحها فاسم متصرف فی الغالب أیضا. وفی غیر الغالب یجوز فی کلیهما التسکین والفتح ،
ص: 250
والأفضل اتباع الغالب ؛ لیقع التفاهم بغیر تردد. وقد وضعوا علامة للتمییز المعنوی بین الکلمتین ؛ فقالوا : إن أمکن وضع کلمة : «بین» مکان : «وسط» واستقام المعنی فهی ظرف ؛ نحو : جلست وسط القوم ، أی : بینهم. وفی هذه الحالة یحسن تسکین السین ؛ مراعاة للغالب. وإن لم تصلح کانت اسما ، نحو : احمرّ وسط وجهه. وفی هذه الصورة یحسن تحریک السین بالفتح ، مراعاة للغالب.
(ب) إذا کان الظرف منصوب اللفظ أو المحل علی الظرفیة ، وجب - عند الأکثرین - أن یکون متعلقا بالعامل الذی عمل فیه النصب (1) ، وهذا العامل یکون - فی الغالب - فعلا (2) ، أو مصدرا ، أو شیئا یعمل عمل الفعل (3) کالوصف ؛ نحو : سافرت یوم الجمعة فوق درّاجة بخاریة. أو : أنا مسافر یوم الجمعة فوق درّاجة بخاریة ... فالظرفان «یوم» و «فوق» متعلقان بعاملهما «سافر» أو : «مسافر» ... و... ومعنی أنهما متعلقان به : مرتبطان ومستمسکان به ، کأنهما جزءان منه لا یظهر معناهما إلا بالتعلق به. فاستمساکهما بالعامل کاستمساک الجزء بأصله ، ثم هما فی الوقت نفسه یکملان معناه.
بیان هذا أن العامل یؤدی معناه فی جملته ، ولکن هذا المعنی لا یتم ولا یکمل إلا بالظرف الذی هو جزء متمم ومکمل له ؛ ففی مثل : جلس المریض ... قد نحس فی المعنی نقصا یتمثل فی الأسئلة التی تدور فی النفس عند سماع هذه الألفاظ ؛ ومن الأسئلة : أین جلس؟ أکان فوق السریر ، أم أمامه ، أوراء
ص: 251
النافذة ، ... أیمین الداخل ... أم شمال الخارج ...؟ متی جلس؟ أصباحا ، أم ظهرا ، أم مساء ...؟ وهکذا ... فإذا جاء الظرف الزمانی أو المکانی فقد أقبل ومعه جزء من الفائدة ینضم إلی الفائدة المتحققة من العامل ؛ فیزداد المعنی العام اکتمالا بقدر الزیادة التی جلبها معه ؛ فمجیئه إنما هو لسبب معین ، ولتحقیق غایة مقصودة دعت إلی استحضاره ، هی عرض معناه ، مع تکملة معنی عامله. فلهذا وجب أن یتعلق به.
والاهتداء إلی هذا العامل قد یحتاج فی کثیر من الأحیان إلی فطنة ویقظة ، ولا سیما إذا تعددت فی الجملة الواحدة الأفعال أو ما یعمل عملها ؛ حیث یتطلب استخلاص العامل الحقیقی من بینها أناة وتفهما ؛ خذ مثلا لذلک : أسرعت الطائرة التی تخیرتها بین السحب ... فقد یتسرع من لا درایة له فیجعل الظرف «بین» متعلقا بالفعل القریب منه ، وهو الفعل : «تخیر» فیفسد المعنی ؛ إذ یصیر الکلام : تخیرت الطیارة بین السحب ، إنما الصحیح : أسرعت بین السحب ، وهذا یقتضی أن یکون الظرف متعلقا بالفعل «أسرع» ، فیزداد معناه ، ویکمل بعض نقصه ، کما لو قلنا : تخیرت الطیارة فأسرعت بین السحب.
مثال آخر : قاس الطبیب حرارة المریض ، وکتبها تحت لسانه ، فلا یصح أن یکون الظرف «تحت» متعلقا بالفعل «کتب» ؛ لئلا یؤدی التعلق إلی أن الکتابة کانت تحت اللسان ؛ وهذا معنی فاسد لا یقع. أما إذا تعلق الظرف «تحت» بالفعل : «قاس» فإن المعنی یستقیم ، وتزداد به الفائدة ، أی : قاس الطبیب حرارة المریض تحت لسانه. فالقیاس تحت اللسان. وهکذا یجب الالتفات لسلامة المعنی وحدها دون اعتبار لقرب العامل أو بعده من الظرف.
(ح) الزمان أربعة أقسام (1) :
أولها : المعیّن (2) المعدود (3) معا ، مثل رمضان - المحرّم (من غیر أن یذکر قبلهما کلمة : شهر) - الصیف - الشتاء. وهذا القسم یصلح جوابا
ص: 252
لأداتی الاستفهام : «کم - ومتی» ، نحو : کم شهرا صمت؟ متی رجعت من سفرک؟ والجواب : صمت رمضان - رجعت الصیف ...
ثانیا : غیر المعیّن وغیر المعدود ؛ فلا یصلح جوابا لواحد منهما ؛ مثل : حین - وقت.
ثالثها : المعیّن غیر المعدود ؛ فیقع جوابا لأداة الاستفهام : «متی» فقط ؛ نحو : یوم الخمیس ، وکلمة : «شهر» المضاف إلی اسم بعده من أسماء الشهور ، مثل : شهر صفر - شهر رجب ... وذلک جوابا فیهما عن قول القائل : متی حضرت؟ متی تغیبت؟
رابعها : المعدود غیر المعین ؛ فیقع جوابا لأداة الاستفهام : «کم» فقط ، نحو : یومین ، ثلاثة أیام ، أسبوع - شهر - حول.
1 - فالذی یصلح جوابا للأداتین : «کم» ، و «متی» (وهو القسم الأول) ، أو یصلح جوابا للأداة : «کم» (وهو القسم الرابع) یستغرقه الحدث (المعنی) الذی تضمنه ناصبه - سواء أکان الجواب نکرة أم معرفة - بشرط ألا یوجد ما یدل علی أن الحدث مختص ببعض أجزاء ذلک الزمان. فإذا قیل : کم سرت؟ فأجبت : «شهرا» ، وجب أن یقع السیر فی جمیع الشهر کله ، لیله ونهاره - إلا إن قامت قرینة تدل علی أن المقصود المبالغة والتجوز - وکذا إن کان الجواب : المحرم ، مثلا. وکذا یقال فی الأبد والدهر ، مقرونین بکلمة : «أل» فالحدث الواقع من ناصبهما یستغرقهما لیلا ونهارا (1).
فإن کان حدث الناصب (أی : معناه) مختصّا ببعض أجزاء الزمان. استغرق بعضها الذی یختص به ، وانصب علیه وحده دون غیره من الأجزاء الأخری. فإذا قیل : کم صمت؟ فکان الجواب : «شهرا» ، انصبّ الصوم علی الأیام دون اللیالی ، لأن الصوم لا یکون إلا نهارا. وإذا قیل : کم سریت؟ فکان الجواب : «شهرا» - انصب السّری علی اللیالی دون الأیام ، لأن السری لا یکون
ص: 253
إلا لیلا. وکذا یقال : فی اللیل والنهار معرفین ، فالحدث الواقع علی کل منهما مقصور علی زمنه الخاص.
2 - وغیر ما سبق یجوز فیه التعمیم والتبعیض ؛ کیوم ، ولیلة ، وأسماء أیام الأسبوع ، وأسماء الشهور ؛ بشرط أن یذکر قبلها المضاف وهو کلمة : شهر ؛ کشهر رمضان - شهر المحرم.
وهناک رأی آخر من عدة آراء فی هذا البحث ؛ هو : أن ما صلح جوابا لأداة الاستفهام : «کم» أو : «متی» یکون الحدث (المعنی) فی جمیعه تعمیما أو تقسیطا ، فإذا قلت : سرت یومین ؛ فالسیر واقع فی کل منهما من أوله إلی آخره ، وقد یکون فی کل واحد من الیومین ، وإن لم یشمل الیوم کله من أوله إلی آخره. ولا یجوز أن یکون فی أحدهما فقط. ومن التعمیم : صمت ثلاثة أیام ، ومن التقسیط أذّنت ثلاثة أیام ، ومن الصالح لهما : تهجدت ثلاث لیال.
وعلی کل فهذه - کما قالوا - ضوابط تقریبیة. والقول الفصل للقرائن الحاسمة ، ولا سیما العرف الشائع ؛ فتلک القرائن هی التی توضح أن المراد التعمیم أو التبعیض.
(د) قلنا (1) إن الظرف غیر المتصرف إما معرب منصرف ، وإما معرب غیر منصرف ، وإما مبنی ، وقد تقدمت الأمثلة. وهو فی حالاته الثلاث لا یجوز أن تسبقه «فی» (2). فالمبنی قد یکون مبنیّا علی السکون مثل : مذ (3) ، ولدن ... أو علی الضم مثل : منذ (4) ، أو علی فتح الجزأین ؛ مثل ظروف الزمان أو المکان المرکبة ؛ (نحو : صباح مساء - یوم یوم - صباح صباح. والمعنی : کلّ صباح ومساء «أی : کل صباح ، وکل مساء» - وکلّ یوم - وکلّ صباح). (ومثل : بین بین وستأتی) (5).
فإن فقدت الترکیب ، أو أضیف أحد الجزأین للآخر ، أو عطف علیه - امتنع البناء ، ووجب إعرابها وتصرفها ... لکن أیبقی المعنی فی الجمیع مع فقد الترکیب ،
ص: 254
بسبب وجود العطف ، أو الإضافة کما کان مع الترکیب أم یختلف؟
اتفقوا علی أنه باق فی الجمیع ، إلا صباح مساء عند الإضافة ، مثل : أنت تزورنا صباح مساء ، ففریق یری أنها کغیرها من الظروف المرکبة التی تتخلی عن الترکیب وتضاف ، فیظل المعنی الأول باقیا بعد الإضافة (وهو هنا : کل صباح وکل مساء) ، وفریق یری أن المعنی مع الإضافة یختلف ؛ فیقتصر علی الصباح وحده کما فی المثال السالف ، حیث تقتصر الزیارة فیه علی الصباح فقط ؛ اعتمادا علی أن المعنی منصب علی المضاف ، (وهو الصباح). أما المضاف إلیه فهو مجرد قید له ؛ أی : صباحا لمساء.
والحق أن الأمرین محتملان فی المثال ، إلا عند جود قرینة تحتم هذا وحده ، أو ذاک ، فوجودها ضروریّ لمنع هذا الاحتمال.
ومن الظروف المرکبة المبنیة علی فتح الجزأین والتی لا تتصرف : «بین بین» (1) بمعنی : التوسط بین شیئین ، مثل : درجة حرارة الجو أو الماء : بین بین ، أی : متوسطة بین المرتفعة والمنخفضة. - ثروة فلان بین بین ، أی : بین الکثیرة القلیلة ... فإن فقد الظرف : «بین» الترکیب جاز أن یکون معربا متصرفا ومنه قوله تعالی : (... مَوَدَّةَ بَیْنِکُمْ،) وقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ) فی قراءة من قرأه مرفوعا ، أمّا من قرأه بالنصب بدل الرفع فقد جری علی أغلب أحواله (2) ومثله الظرف : «دون» فی قوله تعالی : (وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ.)
ومن الظروف غیر المتصرفة (3) : «ذا» ، و «ذات» ، بشرط إضافتهما إلی الزمان دن غیره ، فیلتزمان النصب علی الظرفیة الزمانیة فلا یجوز جرّهما ب «فی» ولا وقوعهما فی موقع إعرابیّ آخر ، إلا علی لغة ضعیفة لقبیلة «خثعم» تبیح فیهما التصرف. وقد رفضها جمهرة النحاة (4) ؛ نحو : قابلت الأخ ذا صباح ، أو ذا مساء ، أو ذات یوم ، أو ذات لیلة ، أی : وقتا ذا صباح ، ووقتا ذا
ص: 255
مساء ، ومدة ذات یوم ، ومدة ذات لیلة ، أی : وقتا صاحبا لهذا الاسم ، ومدة صاحبة لهذا الاسم (1).
قد تضاف «ذات». إلی کلمة : «الیمین» أو : «الشمال» - وهما من الظروف المکانیة کما سبق (2) - فتصیر ظرف مکان متصرفا ؛ نحو : تتحرک الشجرة ذات الیمین وذات الشمال ، نحو : دارک ذات الیمین والحدائق ذات الشمال. (وقد سبقت الإشارة إلی «ذا» و «ذات» من ناحیة إفرادهما وجمعهما فی الجزء الأول ، باب الأسماء الستة م 8 ص 699 وفی آخر هامش ص 321 منه إشارة إلی استعمال : «ذات» استعمال الأسماء المحضة المستقلة ، وأن النسب إلیها هو : «ذووی ، أو ذاتی» طبقا للبیان التفصلی فی باب النسب ج 4 م 178 وص 554)
ومن غیر المتصرف أیضا : حوال - حوالی - حول - حولی ... - أحوال - أحوالی ... ولیس المراد - فی الغالب - حقیقة التثنیة والجمع وإنما المراد المعنی المفهوم من الکلمة المفردة ، وهو : الإحاطة والالتفاف - وقد یستعمل «حوالیک» مصدرا : مثل : لبّیک (3) ؛ لأن الحول ، والحوال یکونان بمعنی «جانب الشیء المحیط به» کما یکونان بمعنی : «القوة».
ومن الظروف التی لا تتصرف «شطر» بمعنی : ناحیة أو جهة ؛ کقوله تعالی : (وَمِنْ حَیْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ،) ومنها : زنة الجبل ، أی : إزاءه ، ومثله : وزن الجبل أی : الناحیة التی تقابله ؛ سواء أکانت قریبة أم بعیدة.
ومنها - فی رأی - : صددک وصقبک ، تقول : بیتی صدد بیتک ، بنصبه علی الظرفیة ؛ أی : قربه وقبالته ، وبیتی صقب بیتک ، أی : قربه کذلک ، والصحیح أن هذین الظرفین یتصرفان ؛ فیستعملان اسمین.
(ه) هناک ألفاظ مسموعة بالنصب ، جرت مجری ظرف الزمان والمکان ،
ص: 256
وکانت مجرورة بحرف الجر : «فی» فأسقطوه توسعا ، ونصبوها علی اعتبارها متضمنة معناه. فمن أمثلة الزمان کلمة «حقّا» فی مثل : أحقّا أنک مسرور؟ فحقّا ظرف زمان منصوب خبر مقدم ، والمصدر المؤول بعده مبتدأ والأصل : أفی حق سرورک (1)؟ وقد نطقوا بالحرف «فی» احیانا فقالوا :
«أفی حقّ مواساتی أخاکم ...» وقالوا : «أفی الحق أنی مغرم بک هائم ...» وهذا الاستشهاد قد یصلح دلیلا علی أن کلمة : «حقّا» السالفة ظرف زمان .. ومثلها : غیر شک أنک مسرور ، أو : جهد رأیی أنک محسن ، أو : ظنّا منی أنک أدیب فغیر ، وجهد ، وظنّا - کلمات منصوبة هنا علی الظرفیة الزمانیة (2) توسعا بإسقاط حرف الجر : «فی» والأصل : فی غیر شک - فی جهد رأیی - فی ظنی - والظرف فیها جمیعا خیر مقدم والمصدر المؤول بعده مبتدأ مؤخر. ومن أمثلة ظروف المکان السماعیة : مطرنا السّهل والجبل ، وضربت الجاسوس الظّهر والبطن. وإنما کانت هذه الظروف سماعیة مقصورة علیه لأنها لا تدخل فی أنواع الظروف المکانیة القیاسیة.
(و) قد ینزل بعض الظروف منزلة الشرط ؛ فیحتاج لجملة بعدها جملة أخری بمثابة الجواب ، وقد تقترن بالفاء کقوله تعالی : (وَإِذْ لَمْ یَهْتَدُوا بِهِ فَسَیَقُولُونَ ..) وعلی هذا قول ابن مالک فی حکم «خلا وعدا» ، فی باب «الاستثناء» :
(وحیث جرّا فهما حرفان ...) (3).
(ز) هل یجوز عطف الزمان علی المکان وعکسه؟ سیجیء الجواب فی مکانه
ص: 257
الأنسب ، من باب العطف آخر الجزء الثالث (1).
(ح) الظروف الزمانیة والمکانیة متعددة الأنواع ، والأحکام ، جدیرة أن تستقل برسالة توفیها حقها من البسط ، والإیضاح ، والتهذیب ، وجمع شتاتها المتناثر فی المطولات ، والمراجع الکبیرة ، واستصفاء ما یجدر الأخذ به ، واستبعاد ما یغشیه مما لا یناسب. وتحقیق هذا کله غرض جلیل هام یقتضی بحثا مستقلّا ؛ لا تزحمه البحوث الأخری ؛ فتضغطه ، أو تطغی علیه.
علی أن هذا لا یحول دون استخلاص موجز ، مرکّز ، دقیق ؛ قد یفید القانع ، أو یسعف المضطر ، ولکنه لا یغنی المستقصی ، الذی لن یرضی بغیر التوفیة بدیلا. ومثل هذا لا یجد طلبته إلا فی بطون المراجع الواسعة ؛ کالمغنی ، وشرح المفصل ، والجزء الأول من همع الهوامع : للسیوطی ؛ فقد - حوی أو کاد - من شأن «الظرف» بنوعیه - ولا سیما الظرف المبنی - ما لم یهیأ لسواه ، وجمع فی فصل : «الظروف المبنیة» ما وصفه صادقا بقوله (2) : «إنی أوردت ما لم أسبق إلی جمعه واستیفائه من مبنیّ ظروف الزمان والمکان ، مرتبا علی حروف المعجم ...».
مضافا إلیه ، والمضاف اسم زمان ؛ نحو : حینئذ - یومئذ ... فتتحرک «الذال» بالکسر عند التنوین. وإذا کانت ظرفا التزمت الإضافة إلی جملة (1) ؛ إمّا اسمیة لیس عجزها فعلا ماضیا ، نحو قوله تعالی : (وَاذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ ...) وقوله تعالی : (... إِذْ هُما فِی الْغارِ) وإما فعلیة نحو : جئتک إذ دعوتنی. ویشترط فی الجملة الفعلیة أن تکون ماضویة لفظا ومعنی أو معنی فقط - کأن یکون فعلها مضارعا قصد به حکایة الحال الماضیة - وألا تکون شرطیة ، ولا مشتملة علی ضمیر یعود علی المضاف ؛ فلا یصح : أتذکر اذ إن تأتنا نکرمک ..
ص: 259
وقد یحذف شطر الجملة الاسمیة أحیانا مع ملاحظة وجوده ؛ کقول الشاعر :
هل ترجعنّ لیال قد مضین لنا
والعیش منقلب إذ ذاک أفنانا
والتقدیر عندهم : العیش منقلب أفنانا إذ ذاک کذلک ، لأنها لا تضاف - فی الأغلب - (1) إلی مفرد (2). ومثله قول الآخر :
کانت منازل ألّاف عهدتهمو
إذ نحن إذ ذاک دون الناس إخوانا
أی : إذ ذاک کذلک.
وقد تحذف الجملة التی تضاف إلیها ، ویعوض عنها التنوین (3) ؛ نحو : أقبل الغائب وکنتم حینئذ مجتمعین ، أی : حین إذ أقبل ...
وقد تزاد للتعلیل ؛ کقوله تعالی : (وَلَنْ یَنْفَعَکُمُ الْیَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّکُمْ فِی الْعَذابِ مُشْتَرِکُونَ؛) أی : لأجل ظلمکم فی الدنیا ... وهی حرف بمنزلة لام التعلیل ... وقیل : ظرف ، والتعلیل مستفاد من قوة الکلام ، لا من اللفظ ؛ وقد تکون حرفا للمفاجأة ، أو زائدة لتأکید معنی الجملة کلها ؛ وذلک بعد کلمة : «بین» (4) المختومة «بالألف» الزائدة ، أو «ما» الزائدة ؛ نحو : بینا نحن جلوس إذ أقبل صدیق ... ومثل : فبینما العسر إذ دارت میاسیر (5).
هذا ، واستعمال «إذ» قیاسیّ فی جمیع الصور ، والحالات المختلفة التی سردناها فی الکلام علیها.
2 - إذا - الصحیح أنها اسم ؛ بدلیل وقوعها خبرا مع مباشرتها الفعل ؛ نحو : الهناء إذا تسود المحبة الأهل ، ووقوعها بدلا من الاسم الصریح ، نحو : المقابلة غدا إذا تطلع الشمس.
ص: 260
(ا) وهی ظرف للمستقبل فی أکثر استعمالاتها ، وتکون للماضی بقرینة ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَیْها ...) لأن الآیة نزلت بعد انفضاضهم.
وقد تکون للحال بعد القسم ؛ نحو قوله تعالی : (وَاللَّیْلِ إِذا یَغْشی) لأن اللیل والغشیان مقترنان. وهل «إذا» فی الآیة متعلقة بفعل القسم وفعل القسم للحال (1)؟
ومثل قوله تعالی تعالی : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوی ؛ ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَما غَوی ....)
(ب) والغالب فی استعمالها أن تتضمن مع الظرفیة معنی الشرط بغیر أن تجزم إلا فی ضرورة الشعر ، وتحتاج بعدها إلی جملتین ، الأولی تحتوی علی فعل الشرط ، والثانیة هی الجواب. نحو قوله تعالی : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفْواجاً - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَاسْتَغْفِرْهُ ....)
وقد تتجرد للظرفیة المحضة الخالیة من الشرط (2) ؛ کقوله تعالی : (وَاللَّیْلِ إِذا یَغْشی ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّی ...،) وقوله تعالی : (وَالضُّحی وَاللَّیْلِ إِذا سَجی ...،) وقوله تعالی : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ یَغْفِرُونَ)(3). وقد
ص: 261
اجتمع النوعان - الظرفیة المحضة ، والظرفیة الشرطیة مع حذف فعل الشرط - فی قول الشاعر :
إذا أنت لم تترک أخاک وزلّة (1)
- إذا زلّها - أوشکتما (2)
أن تفرّقا (3)
وإذا کانت للشرط فإنها لا تدل علی التکرار ؛ ففی مثل إذا خرجت أخرج معک. یتحقق المراد بالخروج مرة واحدة. وهی أیضا لا تفید الشمول والتعمیم - فی الرأی الشائع - فلو حلف رجل علی أن یتصدق بمائة - مثلا - إذا رجع ابن من أبنائه الغائبین ؛ فرجع ثلاثة ، لم یجب علیه إلا مائة ، وتسقط عنه الیمین بعدها.
وتستعمل «إذا» الظرفیة الشرطیة فی التعلیق إذا کان الشرط محقق الوقوع (4) ، نحو : إذا أقبل الشتاء أقیم عندکم ، أو مرجّح الوقوع ، نحو : إذا دعوتمونی أیها الإخوان أحضر.
(ح) «وإذا» الظرفیة الشرطیة تضاف دائما إلی جملة فعلیة خبریة ، غیر مشتملة علی ضمیر یعود علی المضاف ، والأکثر أن تکون ماضویة. وقد اجتمع النوعان فی قول الشاعر :
والنفس راغبة إذا رغّبتها
وإذا تردّ إلی قلیل تقنع
والماضی فی شرطها أو جوابها مستقبل الزمن (5) ؛ فإن ولیها اسم مرفوع بعده فعل
ص: 262
فالاسم - فی الغالب - فاعل لفعل محذوف (1) مثل : (إذا السماء انشقت ...) وحین تقع شرطیة ظرفیة تکون مضافة إلی الجملة الشرطیة المکونة من فعل الشرط ومرفوعه ، ومنصوبة بما یکون فی جملة الجواب من فعل أو شبهه (2).
(د) وقد تکون «إذا» للمفاجأة (3) - والأحسن فی هذه الحالة اعتبارها حرفا (4) - ؛ فتدخل وجوبا ؛ إما علی الجمل الاسمیة ، نحو : اشتدت الریح ، فإذا البحر هائج ، وإما علی الجمل الفعلیة المقرونة بقد ، لأن «قد» تقرب زمن الفعل من الحال - نحو : اشتدت الریاح ؛ فإذا قد لجأت السفن إلی الموانی - یضطرب البحر فإذا قد یتألم رکاب البواخر. کما یجب فی کل حالاتها أن یسبقها کلام قبلها تقع علیه المفاجأة ، وأن تکون المفاجأة فی الزمن الحالیّ (5) حتما - لا المستقبل ، ولا الماضی - وأن تقترن بها الفاء الزائدة للتوکید (6). وأن تخلو من جواب بعدها. وقد تلیها الباء الزائدة التی تدخل سماعا فی مواضع ؛ منها بعض أنواع معینة من المبتدأ ، کالمبتدأ الذی بعدها ، نحو نظرت فإذا بالطیور مهاجرة (7).
3 - الآن - وهو اسم للوقت الحاضر جمیعه ، وهو الوقت الذی یستغرقه نطق
ص: 263
الإنسان بهذه الکلمة ؛ نحو : أنارت الشمس الآن ، أو الحاضر بعضه فقط ، مثل : الملّاح یحرک سفینته الآن. فإن تحریکه السفینة لا یعم ولا یشمل کل وقته الحاضر عند النطق. وقد یقع علی الماضی القریب من زمن النطق ، أو علی المستقبل القریب منه ؛ تنزیلا للقریب فی الحالتین منزلة الحاضر.
وهو ظرف ، مبنی علی الفتح ، وظرفیته غالبة ، لازمة ، أی : لا یخرج عنها إلا فی القلیل المسموع الذی لا یقاس علیه. ویری بعض النحاة أنه معرب منصوب علی الظرفیة - ولیس مبنیّا - وله أدلة تدعو إلی الاطمئنان والاستراحة لرأیه الأسهل (1).
4 - أمس - اسم ، معرفة ، متصرف ، وهو اسم زمان للیوم الذی قبل یومک مباشرة ، أو ما فی حکمه عند إرادة القرب. ویستعمل مقرونا بأل لزیادة التعریف ، أو غیر مقترن بها فلا یفقد التعریف.
وللعرب فیه لهجات ولغات مختلفة ، تعددت بسببها آراء النحاة فی استنباط حکمه. وخیر ما یستصفی منها أنه : إذا کان مقرونا بأل فإعرابه وتصرفه هو الغالب ، ولا یکون ظرفا ؛ نحو کان الأمس طیبا - إن الأمس طیب ، أسفت علی انقضاء الأمس. وإذا لم یکن مقترنا بأل فالأحسن عند استعماله ظرفا أن
ص: 264
یکون مبنیّا علی الکسر دائما فی محل نصب ، نحو : أتممت الکتابة أمس. وإن لم یستعمل ظرفا فالأحسن بناؤه علی الکسر أیضا فی جمیع أحواله. نحو : انقضی أمس بخیر - إن أمس کان حسنا - لم أشعر بانقضاء أمس.
ومما یتصل باستعمال «أمس» ما جاء فی کتاب : «لسان العرب» وغیره وهو أنک تقول : ما رأیت الصدیق مذ أمس ؛ إذا کان ابتداء عدم الرؤیة هو الیوم الذی قبل یومک الحالیّ مباشرة. فإن لم تره یوما قبل أمس قلت : ما رأیته مذ أول من أمس (1). فإن لم تره مذ یومین قبل أمس قلت : ما رأیته مذ أول من أول من أمس ، ولا یقال إلا لیومین قبل أمس ، أی : لا یصح ذکر «أمس» لما قبلهما (2).
5 - بعد - أول - قبل - أمام - قدّام - وراء - خلف - أسفل - یمین - شمال - فوق - تحت - عل (3) - دون - ... (4)
من الظروف المبنیة حینا ، والمعربة حینا آخر : «بعد» وهو زمان ملازم للإضافة.
ا - غیر أن المضاف إلیه قد یذکر ، نحو : صفا الجو بعد المطر ، وفی هذه الحالة یتعین أن یکون الظرف معربا منصوبا بغیر تنوین ؛ لأنه مضاف ، ویجوز جره بالحرف : «من».
ب - وقد یحذف المضاف إلیه وینوی وجود لفظه بنصّه الحرفی ؛ فیبقی المضاف
ص: 265
علی حاله معربا منصوبا غیر منوّن ؛ کما کان قبل حذف المضاف إلیه ؛ نحو : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أی : بعد المطر. وحکم الظرف هنا کسابقه.
ح - وقد یحذف المضاف إلیه ، ویستغنی عنه نهائیّا کأن لم یکن ؛ مثل : صفا الجو بعدا ... والظرف فی هذه الحالة معرب ، منصوب ، منون ...
د - وقد یحذف وینوی معناه. (أی : ینوی وجود کلمة أخری تؤدی معنی المحذوف من غیر أن تشارکه فی نصّه وحروفه) وفی هذه الصورة یلتزم الظرف المضاف : البناء علی الضم ؛ مثل : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أی : بعد انقطاعه ، أو بعد ذلک ...
فالأحوال أربعة (1) تعرب فی ثلاثة منها ، وتبنی فی حالة واحدة هی : التی یحذف فیها المضاف وینوی معناه. وتلک الأحوال الأربعة تنطبق علی باقی الظروف التی ولیت : «بعد».
غیر أن هناک بعض الأمور تتصل بلفظ : «أوّل» الذی لیس ظرفا (2). منها : اعتباره اسما مصروفا معناه ابتداء الشیء المقابل لنهایته ، ولا یستلزم أن یکون له ثان ؛ فقد یکون له ثان ، وربما لا یکون ؛ تقول : هذا أول ما اکتسبته ، فقد تکتسب بعده شیئا ، أولا تکتسب. وقیل : یستلزم کما أن الآخر یستلزم أولا. والحق الرأی الأول. وللقرائن دخل کبیر فی توجیه المعنی إلی أحد الرأیین. ومنه قولهم : ما له أول ولا آخر (3)
ومنها : أن یکون وصفا مؤولا ، أی : أفعل تفضیل بمعنی : «أسبق» ، فیجری علیه حکمه ؛ من منع الصرف وعدم التأنیث بالتاء. ووجوب إدخال «من» علی المفضّل علیه ... ؛ نحو : هذا أول من هذین ، ولقیته عام أول من عامنا (4).
ومنها : أن یکون اسما معناه : «السابق» ؛ فیکون مصروفا ؛ نحو لقیته عاما أولا ، أی : سابقا.
ص: 266
أما «أول» الظرف الزمانی فمعناه : «قبل» نحو : رأیت الهلال أول الناس.
هذا ، وأصل أول - فی الأرجح ، بنوعیه : الظرف ، والاسم - ، هو : أو أل بوزن : أفعل ؛ قلبت الهمزة الثانیة واوا ، ثم أدغمت الواو فی الواو ، بدلیل جمعه علی أوائل (1).
6 - بین (2) - بدل - فأما : «بین» فأصله ظرف للمکان ، وقد یکون للزمان أیضا والکلمة فی الحالتین مضافة إلا عند الترکیب - کما سبق (3) - وتتخلّل شیئین (4) ، أو ما فی تقدیر شیئین (5) أو أشیاء (6) ، وتصرفها متوسط ، وکذلک وقوعها معربة ، مثل قوله تعالی فی الزوجین : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَکَماً مِنْ أَهْلِها ...) ، فقد وقعت اسما معربا مضافا إلیه ، مجرورا بالکسرة الظاهرة ؛ کشأنها فی قوله تعالی : (هذا فِراقُ بَیْنِی وَبَیْنِکَ،) وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ) فی قراءة من رفع الظرف ، وقوله : (وَمِنْ بَیْنِنا وَبَیْنِکَ حِجابٌ).
ولا تضاف إلّا إلی متعدد ، کقول الشاعر :
شوقی إلیک نفی لذیذ هجوعی
فارقتنی فأقام بین ضلوعی
فإن أضیفت لمفرد وکان ضمیرا لا یدل علی تعدد ، وجب تکرارها مع عطف
ص: 267
المکررة بالواو ، کالآیة السابقة ، (هذا فراق بینی وبینک ..) وإن کان اسما ظاهرا فالکثیر أنها لا تتکرر ؛ إذ یکتفی بالعطف بالواو علی الاسم الظاهر المضاف إلیه ؛ مع جواز التکرار ، وإن کان الأول هو الأکثر (1) ؛ مثل : تضیع الغایة بین التردد والیأس. وقولهم : شتان بین رویّة وتسرّع.
وقد یتصل بآخرها «الألف» الزائدة أو «ما» (2) الزائدة ، فتصیر زمانیة غیر متصرفة ، وفی هذه الحالة یضاف الظرف وجوبا إلی جملة (اسمیة ، أو فعلیة) ، وبعدها کلام مترتب علی هذه الجملة ، یعتبر بمنزلة الجواب (3).
ص: 268
، فمثال الفعلیة : بینما أنصفتنی بالودّ ظلمتنی بالمنّ ، وقول الشاعر :
_________________
- (أصل : «بین» مصدر بان ، إذا تفرق ، ثم استعملت استعمال الظروف ؛ زمانیة ومکانیة. ولا تضاف إلا لمتعدد ؛ فأصل قولک : جلست بین زید وعمرو ، وأتیت بین الظهر والعصر ، جلست مکان تفرق زید وعمرو ، أی : المکان الواقع بینهما ، وأتیت زمن تفرق الظهر والعصر ، أی : الزمن الذی یفصل بینهما ، فحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه. ثم لما أرادوا أن یضیفوها إلی الجملة مع کونها لازمة للإضافة للمفرد - أی : لغیر الجملة - وکانت الإضافة إلی الجملة کلا إضافة ؛ لعدم تأثیرها فی لفظ المضاف إلیه - وصلوها - بأحد الأمرین ؛ «ما» التی شأنها الکف ؛ فکأنها کفتها عن الإضافة ، أو الألف مشبعة عن الفتحة ؛ لأنها أیضا تفید قطع ما قبلها فی الوقف ، مبدلة عن تنوین إثر فتح ؛ کالظنونا - فی قوله تعالی : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا -.) ثم هی بعد ظرف زمان فقط ؛ لأنه لیس لنا مکان یضاف للجملة غیر «حیث». وإن تأملت ما سبق أغناک عن إضمار «أزمان» بعدها إذا أضیفت للجملة کما قیل») اه. وهذا الرأی أحسن من التالی.
وقال الصبان فی الجزء الثانی - باب الإضافة عند الکلام علی قول ابن مالک :
وألزموا إضافة إلی الجمل
حیث وإذ ...
ما نصه :
(اعلم أن أصل : «بین» أن تکون مصدرا بمعنی : الفراق ، فمعنی جلست بینکما : جلست مکان فراقکما. ومعنی أقبلت بین خروجک ودخولک : أقبلت زمان فراق خروجک ودخولک ؛ فحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه. فتبین أن : «بین» المضافة إلی المفرد - أی : الذی لیس جملة - تستعمل فی الزمان والمکان. فلما قصدوا إضافتها إلی الجملة ، اسمیة أو فعلیة - والإضافة إلی الجملة کلا إضافة - زادوا علیها تارة : «ما» الکافة : لأنها تکف المقتضی عن اقتضائه ، وأشبعوا تارة أخری الفتحة ؛ فتولدت «ألف» لتکون الألف دلیل عدم اقتضائه للمضاف إلیه ، لأنه حینئذ کالموقوف علیه ، لأن الألف قد یؤتی بها للوقوف کما فی : «أنا» والظنونا - یشیر إلی أن الأصل فی «أنا» خلوها من الألف ، وإلی قوله تعالی : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) وتعین حینئذ ألا تکون إلا للزمان ؛ لما تقرر أنه لا یضاف إلی الجمل من المکان إلا حیث. وإضافة : «بینما» أو «بینا» فی الحقیقة إلی زمان مضاف إلی الجملة ؛ فحذف الزمان المضاف ، والتقدیر : بین أوقات زید قائم ، أی : بین أوقات قیام زید - کذا قرره الرضی.
(وقد یضاف «بینا» إلی مفرد مصدر دون «بینما» علی الصحیح ، کذا فی الدمامینی والهمع ، وتقدیر : «أوقات» ؛ لأن «بین» إنما تضاف لمتعدد. وناقش أبو حیان بأن : «بین» قد تضاف للمصدر المتجزئ ؛ کالقیام ، مع أنهم لا یحذفون المضاف إلی الجملة فی مثل هذا.
(قال فی الهمع : وما ذکر من أن الجملة بعد : «بینا» و «بینما» مضاف إلیها هو قول الجمهور. وقیل : «ما» و «الألف» کافتان ؛ فلا محل للجملة بعدهما. وقیل «ما» کافة دون الألف بل هی مجرد إشباع».
وعلی عدم إضافتهما یکون عاملهما ما فی الجملة التی تلیهما کما فی المغنی) اه. کلام الصبان.
ص: 269
فبینا نسوس الناس - والأمر أمرنا -
إذا نحن فیهم سوقة نتنصّف (1)
ومثال الاسمیة :
استقدر الله خیرا (2) ،
وارضینّ به
فبینما العسر إذ دارت میاسیر
وبینما المرء فی الأحیاء مغتبطا
إذ صار فی الرّمس (3)
تعفوه الأعاصیر
وقد ورد فی السماع الذی لا یقاس علیه إضافة «بینا» للمصدر دون : «بینما» - علی الصحیح - ...
وقد ترکب «کخمسة عشر» فتبنی علی فتح الجزأین مثل :
نحمی حقیقتنا وبع
ض القوم یسقط بین بین
الأصل : بیننا وبین الأعداء ، أی : بین المقاتلین. فأزیلت الإضافة من الظرفین ، ورکب الاسمان ترکیب خمسة عشر. فإن أضیف صدر : «بین إلی عجزها جاز بقاء الظرفیة فی الصدر ، وجاز زوالها. فمن الأول قولهم : المنافق بین بین ؛ بنصب الأولی علی الظرفیة مباشرة. ومن الثانیة قولهم : المنافق بین بین. أما إذا وقعت مضافا إلیه فیتعین زوال الظرفیة.
وأما : «بدل» فقد سبق الکلام علیه فی ص 246.
6 - حیث - من الظروف المکانیة الملازمة للبناء ، برغم أنها مضافة (4).
والأکثر أن تبنی علی الضم ، وتضاف للجمل (5) الاسمیة والفعلیة ، وإضافتها للفعلیة أکثر نحو : قعدت حیث الجوّ معتدل ، وبقیت حیث طاب المقام ؛ وقول الشاعر :
وما المرء إلا حیث یجعل نفسه
ففی صالح الأخلاق نفسک فاجعل
ص: 270
ومن القلیل إضافتها للمفرد ، ومع قلته جائز ، ولکن لا داعی لترک الکثیر إلی القلیل. ومثله دلالتها علی الزمان (1).
7 - ریث - أصله : مصدر راث ، یریث ؛ إذا أبطأ. ویجوز أن یترک المصدریة ویستعمل فی معنی ظرف الزمان فیکون مبنیّا علی الفتح ، ومضافا إلی جملة فعلیة ؛ نحو : بقیت معک ریث حضر زمیلک ، أی : قدر بطء حضور زمیلک. وقد تقع بعدها «ما» الزائدة أو المصدریة فاصلة بینها وبین الجملة الفعلیة ، نحو : فلان یمنح المحتاج ریث ما (2) یسمع.
9 - عند - ظرف یبین أن مظروفه إما حاضر حسّا ، أو : معنی ، وإما قریب حسّا ، أو : معنی ، فالأول ، نحو : قوله تعالی : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ...) والثانی : نحو قوله : (قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتابِ ...) والثالث : نحو قوله تعالی : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهی ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوی،) والرابع : نحو قوله تعالی : (رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ،) وقوله : (عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ.)
وهی ظرف مکان معرب ، لا یکاد یستعمل إلا منصوبا علی الظرفیة المکانیة ، کالأمثلة السابقة ، أو مجرورا بالحرف : «من» - دون غیره من حروف الجر - مثل : (وَآتَیْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ؛ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) وقد وردت للزمان قلیلا فی
ص: 271
قولهم : الصبر عند الصدمة الأولی. ویجوز محاکاته عند قیام قرینة ، بشرط إضافته للزمان (1).
وتشترک : «عند» (2) مع «لدی» - و «لدن» فی أمور ، وأهمها : الدلالة علی ابتداء غایة مکانیة أو زمانیة (3). وتخالفهما فی أمور أخری یجیء الکلام علیها مع الکلام علیهما.
ص: 272
10 - 11 - عوض - قطّ - سبق الکلام علیهما فی ص 114 و 246
ص: 273
12 - لدن - یکون ظرفا دالا علی مبدأ الغایات ، أی : أنه لابتداء غایة زمان أو مکان بالمعنی الذی سبق (1) شرحه فی «عند» - ، ویلازم البناء ، وبناؤه علی السکون هو الأغلب ، مثل : تذکر فضل والدیک لدن أنت صغیر. والکثیر فی استعماله أن یکون مسبوقا «بمن الجارة» (2) مثل : هذا فضل من لدن المولی الکریم. ومثل : بقیت هنا من لدن الظهر إلی الغروب. وأن یکون مضافا لمفرد کالأمثلة السالفة ، أو مضافا للجملة ؛ نحو : فلان مولع بالعلم لدن شبّ إلی أن شاب - أو : مولع بالعلم لدن هو یافع.
ویکون بمعنی : «عند» کثیرا ولکن یخالفها فی أمور ؛ منها : أن «لدن» ملازم للإضافة للمفرد ، أو للجملة ، ویجوز استغناؤه عن الإضافة إذا وقعت بعده کلمة : «غدوة» ؛ منصوبة (3) مثل قضیت الوقت لدن غدوة حتی غروب الشمس. أما «عند» فیصح أن تترک الإضافة. وتصیر اسما مجردا ؛ کأن یقول شخص : عندی مال ؛ فیجاب : وهل لک عند؟ «فعند» هنا مبتدأ. أو یقال : الکتاب عندی. فیجاب : أین عندک :
ومنها : أنه لا یکون إلا فضلة ولو ترک الظرفیة ؛ ففی مثل السفر من عند البیت
ص: 274
لا یصح : السفر من لدن البیت. فکلمة : «عند» مجرورة ، والجار والمجرور خبر ، والخبر عمدة. وقد اشترکت «عند» فی تکوینه ؛ فهی عمدة بسبب اشتراکها ، ولهذا لا یصح : «من لدن البیت» لکیلا تشترک : «لدن» فی تکوین العمدة ، وهی لا تکون إلا فضلة خالصة دائما.
13 - لدی - ظرف معرب ملازم للنصب علی الظرفیة. ومعناه : «عند» ویخالفها فی أمور :
منها : أن «لدی» لا تجر أصلا ، أما «عند» فتجر بالحرف «من».
ومنها : أن «عند» تکون ظرفا للأعیان (أی : للأشیاء المجسمة) وللمعانی ، أما «لدی» فلا تکون إلا للأعیان فی الصحیح ؛ تقول : هذا الرأی عندی صائب ، ولا تقول : لدیّ.
ومنها : أنک تقول : عندی مال ، وإن کان غائبا ، ولا تقول : لدیّ مال ، إلا إذا کان حاضرا.
هذا ، وبإضافة «لدی» للضمیر تنقلب ألفها یاء ، نحو : لدیک - لدیه ... (1) أما عند إضافتها للاسم الظاهر فلا تنقلب.
14 - لمّا (2) - ظرف زمان (3) ، بمعنی : حین. ویفید وجود شیء لوجود آخر. والثانی منهما مترتب علی الأول ؛ فهو بمنزلة الجواب المعلّق وقوعه علی وقوع شیء آخر. نحو : لما جری الماء شرب الزرع. ولهذا لا بد لها من جملتین ، بعدها ، تضاف - وجوبا - إلی الأولی منهما ؛ لأنها من الأسماء الواجبة الإضافة
ص: 275
للجملة ، وتکون ثانیتهما متوقفة التحقق علی الأولی. وعامل النصب فی : «لمّا» هو الفعل أو ما یشبهه فی الجملة الثانیة.
والأغلب الأکثر شیوعا فی الجملتین - ولا سیما (1) الثانیة - أن تکونا معا ماضیتین لفظا ومعنی ؛ نحو : قوله تعالی : (فَلَمَّا نَجَّاکُمْ إِلَی الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.) أو معنی فقط (2) کقول المعری یصف خیلا سریعة :
ولمّا لم یسابقهن شیء
من الحیوان سابقن الظّلالا
وقول المتنبی :
عرفت اللیالی قبل ما صنعت بنا
فلما دهتنی لم تزدنی بها علما
وقد ورد فی القرآن الکریم وقوع الجملة الثانیة مضارعیة فی قوله تعالی : (فَلَمَّا
ص: 276
ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِیمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْری - یُجادِلُنا ...) کما ورد فیه وقوعها جملة اسمیة مقترنة بالفاء ، أو إذا ، حیث یقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ...) ویقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ إِذا هُمْ یُشْرِکُونَ.) وقد تأول النحاة هذه الآیات ؛ بتقدیر حذف الجواب أو بغیر هذا. ولا داعی للتأول فی القرآن بغیر حاجة شدیدة ، وإذا کنا نقبل التأول فی القرآن فلم لا نقبله فی کلام من یحاکی القرآن؟ نعم نقبل محاکاته ، وندع التأول لمن یتخذه شرطا للقبول ؛ فالنتیجة الأخیرة واحدة ، هی صحة الاستعمال ، وصحة تألیف الأسلوب علی نسق القرآن. وقد جاء فی کتاب : «مجمع البیان لعلوم القرآن» للطبرسیّ - ج 3 ص 155 - فی إعراب قوله تعالی : (فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ کَخَشْیَةِ اللهِ ...) ما نصّه ، (إذا ، بمنزلة «الفاء» فی تعلیقه الجملة بالشرط) اه ، یرید : ربط جملة جواب «لما» بشرطها. وهذا یؤید ما قلناه.
هذا «ولا مانع أن یتقدم جواب «لمّا» علیها کما ورد فی بعض المراجع اللغویة (1).
ص: 277
15 - مذ ومنذ (1) - قد یکونان ظرفین للزمان (2) متصرفین ، مبنیین ، وقد یکونان اسمین مجردین من الظرفیة ، وقد یکونان حرفی جر.
فیصلحان للظرفیة إذا وقع بعدهما جملة اسمیة ، أو فعلیة ماضویة ؛ فیعربان ظرفین مبنیین فی محل نصب ، مع إضافة کل منهما إلی الجملة التی بعده. وعامل النصب فیهما لا بد أن یکون فعلا ماضیا ؛ وکذلک الفعل فی الجملة الفعلیة التی یضافان إلیهما لا بد أن یکون ماضیا. نحو : جئت مذ أو منذ الوالد حاضر - جئت مذ أو منذ حضر الوالد.
ویتجردان للاسمیة الخالصة (3) إذا لم تقع بعدهما جملة ، ووقع بعدهما اسم مرفوع (4) نحو : غادرت البلد مذ ، أو : منذ یومان. «فمذ» أو «منذ» مبتدأ و «یومان» خبره. أو العکس (5). ولا بد من تقدمهما فی الحالتین (أی : عند إعرابهما مبتدأ وخبرا). والمعنی : غادرت البلد ، أمد المغادرة یومان.
ویکونان حرف جر إذا وقع الاسم بعدها مجرورا.
16 - مع - ظرف لا یتصرف. وهو معرب منصوب علی الظرفیة - فی الرأی
ص: 278
الشائع - ویدل علی زمان اجتماع اثنین - غالبا - أو مکانهما. وإضافته هی الکثیرة. فإن انقطع عن الإضافة نوّن ، وصار حالا. وقد یصیر خبرا - طبقا لما سیجیء (1) من کلام وتفصیل هام ، علیه وعلی ظروف تقدمت ، فی المکان المناسب من باب الإضافة -
* * *
بناء أسماء الزمان المبهمة ، وشبیهتها الأسماء الأخری المبهمة التی لیست بزمان.
تبنی علی الفتح أسماء الزمان المبهمة کلها (2) ، ظروفا وغیر ظروف ، جوازا - لا وجوبا - فی حالتین :
الأولی إذا أضیفت إلی الجمل جوازا لا وجوبا (3) ، والمراد بالمبهمة هنا : النکرة التی تدل علی الزمان دلالة غیر محدودة بمبدأ ولا نهایة ، مثل : حین - زمان - وقت ، أو تدل علی وجه من الزمان دون وجه ؛ مثل : نهار - صباح - عشیة - غداة. بخلاف أسماء الزمان المختصة بتعریف أو غیره - مما سبق بیانه فی رقم 2 من هامش ص 239 - ، فإنها لا تضاف إلی الجمل ، ومثلها : الزمان المحدود ، کأمس ، وغد ، والمعدودة کیومین - لیلتین - أسبوع - شهر - سنة ؛ فکل هذه الأزمنة (4) لا یضاف منها شیء للجمل.
فإذا أضیفت تلک الأسماء الزمانیة المبهمة إلی الجمل فإنها تبنی جوازا - کما أسلفنا - ویکون بناؤها علی الفتح (5). ویجوز فیها الإعراب ؛ ولکن البناء علی الفتح
ص: 279
أفضل إذا أضیفت لجملة فعلیة ، فعلها مبنی - ولو کان مضارعا مبنیّا - ، مثل : عاد المسرف فقیرا کیوم جاء إلی الدنیا ، ومثل : أشرف أیام الأمهات حین یحرصن علی تربیة أولادهن. والإعراب أفضل إذا أضیفت لجملة مضارعیة مضارعها معرب ، أو لجملة اسمیة (1) ؛ مثل قوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ،) ومثل : أن تسمع من یقول «الشجاعة مطلوبة» فتقول : هذا یوم الشّجاعة مطلوبة.
الثانیة : إذا أضیفت لمبنی مفرد (غیر جملة) ، نحو : یومئذ - حینئذ ... وألحق النحاة بأسماء الزمان المبهمة ، ما لیس زمانا من کل اسم معرب ناقص الدلالة بسبب توغله (2) فی الإبهام ؛ مثل : غیر - دون - بین - مثل ... ونحوها مما یسمونه : «متوغلا فی الإبهام» (3) ومن الأمثلة : (ما قام أحد غیرک) - والآیات : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّکُمْ تَنْطِقُونَ،) فی قراءة من قرأ «مثل» بفتح اللام -
ص: 280
(وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ) - (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ ...) بالبناء علی الفتح جوازا فی هذه الأمثلة ، وأشباهها. فالإضافة تجوّز البناء علی الفتح - وحده - فی الأنواع الثلاثة السالفة.
وذهب ابن مالک إلی أنه لا یبنی مضاف بسبب إضافته إلی مبنی أصلا ، لا ظرفا ولا غیره ؛ وأن الفتحة فی الأمثلة السابقة حرکة إعراب لابناء ؛ إما علی الحالیة ، أو علی المصدریة ، أو ... أو (1) ...
وهذا الرأی قد یکون أنسب للأخذ به الیوم والاقتصار علیه ، بالرغم من صحة الأول وقوته ، وشیوعه قدیما - ، منعا للاضطراب ، وتحدیدا للغرض.
ص: 281
(ا) إذا سأل مسترشد : أین دار الآثار القدیمة؟ فقد یکون الجواب : تسیر مع طریقک هذا ؛ فینتهی بک إلیها.
لیس المراد أنه یسیر ، والطریق یسیر معه حقیقة ، وإلا کان المعنی فاسدا ، لأن الطریق لا یمشی ، وإنما المراد أن یباشر السیر فی هذا الطریق ، ویقرن المشی به حتی یصل.
ولو کان الجواب : تسیر وطریقک هذا ... لکان التعبیر سلیما ، والمراد واحدا فی الجوابین.
فإن کان السؤال : أین محطة (2) القطر؟ فإن الجواب قد یکون : تمشی مع الأبنیة التی أمامک ؛ فتنتهی بک إلی میدان فسیح ، فیه المحطة. لیس المراد أن یمشی ، وتمشی معه الأبنیة فعلا : وإلا فسد المعنی ؛ إذ الأبنیة لا تمشی. وإنما المراد أن یلتزم المشی الذی یقارنها ویلابسها حتی یصل إلی غایته. ولو کان الجواب تمشی والأبنیة التی أمامک ... لصحّ الأسلوب ، وما تغیر المراد.
(ب) وإذا قلنا : أکل الوالد مع الأبناء ... فإن الجملة تفید أن الأبناء شارکوا والدهم - فعلا فی الأکل حین کان یأکل ؛ بسبب وجود کلمة تفید المشارکة المعنویة الحقیقیة ، وهی : «مع» ولا یفسد المعنی بهذا الاشتراک الحقیقی. وکذلک لو قلنا أکل الوالد والأبناء ؛ فإن المعنی یبقی علی حاله ، ولا فساد فی الترکیب.
ومثل هذا : جلس الأب مع الأسرة ، فإن هذه الجملة تفید اشتراک الأسرة فی الجلوس اشتراکا واقعا فی زمن واحد ؛ بسبب وجود کلمة تفید هذا ؛ وهی : «مع». ولا شیء یحول دون هذا المعنی أو یؤدی إلی فساد الصیاغة لو قلنا : جلس الأب والأسرة.
ص: 282
نعود إلی الجمل التی فیها : «الواو» بدلا من کلمة : «مع» وهی :
تسیر وطریقک - تمشی والأبنیة - أکل الوالد والأبناء - جلس الأب والأسرة - .. فنلحظ أن کل کلمة وقعت بعد الواو مباشرة هی : اسم ، مسبوق بواو بمعنی : «مع» ، وهذه الواو تدل علی أن ما بعدها قد لازم اسما قبلها ، وصاحبه زمن وقوع الحدث (1) ، وقد یشارکه ، فی الحدث - کالمثالین الأخیرین فی «ب» - أو لا یشارکه ؛ کالمثالین الأولین. وهذا الاسم الذی بعدها هو ما یسمی : «المفعول معه». ویقولون فی تعریفه :
إنه : اسم مفرد (2) ، فضلة ، قبله واو بمعنی : «مع» ، مسبوقة بجملة فیها فعل أو ما یشبهه فی العمل ، وتلک الواو تدل نصّا (3) علی اقتران الاسم الذی بعدها باسم آخر قبلها فی زمن حصول الحدث ، مع مشارکة الثانی للأول فی الحدث ، أو عدم مشارکته (4).
ص: 283
من التعریف السابق نعلم أن کل جملة مما یأتی لا تشتمل علی المفعول معه : أقبل القطار والناس منتظرون ، لأن الذی وقع بعد الواو (1) جملة ، ولیس اسما مفردا.
اشترک محمود وحامد ؛ لأن الذی بعد الواو عمدة ، لا فضلة ، إذ الفعل : «اشترک» یقتضی أن یکون فاعله مثنی أو جمعا ؛ لأنه لا یقع إلا من اثنین أو أکثر فلا بدّ من التعدد ، ولو بطریق العطف کالمثال المذکور ؛ «فحامد» معطوف علی الفاعل : «محمود» فهو فی حکم الفاعل ، وعمدة مثله.
خلطت القمح والشعیر ؛ لأن الواو لم تفد : «معیة» وإنما فهمت المعیة من الفعل : «خلط».
نظرت علیّا وحلیما قبله ، أو بعده - شاهدت اللیل والنهار ، لأن الواو فیهما لیست للمعیة ، وإلا فسد المعنی.
شاهدت الرجل مع زمیله - اشتریت الحقیبة بکتبها ؛ فالمعیة هنا مفهومة واضحة ، ولکن لا توجد الواو.
کل زارع وحقله ، بشرط أن یکون خبر المبتدأ : «کل» محذوفا فی آخر الجملة ؛ والتقدیر : کل زارع وحقله مقترنان ؛ فلا تکون الواو للمعیة ؛ لعدم وقوعها بعد جملة. أما إذا کان الخبر مقدرا قبل الواو (أی : کل زارع موجود وحقله) فالواو للمعیة.
لا تتناول الطعام وتقرأ ؛ لأن الذی وقع بعد الواو فعل (2).
ص: 284
هذا المال لک وأباک - ما الرجل فرح والشریک ، لعدم وجود ناصب یعمل النصب فیهما (1) ؛ فلا یصح النصب ؛ إذ لا مفعول معه.
ص: 285
له عدة أحکام ، منها
1 - النصب. والناصب له : إما الفعل الذی قبله کالأمثلة السالفة - أول الباب - ، وإما ما یشبه الفعل فی العمل (1) ، کاسم الفاعل ، فی نحو : الرجل سائر والحدائق - وکاسم المفعول ؛ فی نحو : السیارة متروکة والسائق ، وکالمصدر ؛ فی نحو : یعجبنی سیرک والطّوار (2) ، واسم الفعل فی مثل : رویدک والغاضب (3) ، بمعنی : أمهل نفسک مع الغاضب.
وقد وردت أمثلة مسموعة - لا یصح القیاس علیها لقلّتها - وقع فیها المفعول معه منصوبا بعد : «ما» ، أو : «کیف» الاستفهامیتین ، ولم یسبقه فعل أو ما یشبهه فی العمل. مثل : ما أنت والبحر؟ کیف أنت والبرد؟ فالبحر والبرد - - وأشباههما - مفعولان معه ، منصوبان بأداة الاستفهام. وقد تأول النحاة هذه الأمثلة. وقدّروا لها أفعالا مشتقة من الکون وغیره (4) ، مثل : ما تکون والبحر؟ کیف تکون والبرد؟ فالکلمتان مفعولان معه ، منصوبان بالفعل المقدر (5) عندهم.
ص: 286
2 - لا یجوز أن یتقدم علی عامله مطلقا ، ولا أن یتوسط بینه وبین الاسم
ص: 287
المشارک له والمقارن ... ففی مثل : مشی الرجل والحدیقة ؛ لا یصح أن یقال : والحدیقة مشی الرجل ، ولا : مشی والحدیقة الرجل.
3 - لا یجوز أن یفصل بینه وبین واو المعیة فاصل ، ولو کان الفاصل شبه جملة کما لا یجوز حذف هذه الواو مطلقا.
4 - إذا جاء بعده تابع أو ضمیر أو ما یحتاج إلی المطابقة وجب أن یراعی عند المطابقة الاسم الذی قبل الواو وحده ؛ نحو : کنت أنا وزمیلا کالأخ ؛ أحبّه وأعطف علیه. ولا یصح کالأخوین ...
* * *
له حالات أربع
أولها : جواز عطفه علی الاسم السابق ، أو نصبه مفعولا معه (1). والعطف أحسن ، مثل : بالغ الرجل والابن فی الحفاوة بالضیف. فکلمة : «الابن» ، یجوز رفعها بالعطف علی الرجل ، أو نصبها مفعولا معه ، ولکن العطف أحسن من النصب علی المعیة ؛ لأنه أقوی فی الدلالة المعنویة علی المشارکة والاقتران (2) ولا شیء یعیبه هنا. ومثله : أشفق الأب والجدّ علی الولید - أضاء القمر والنجوم ...
ثانیها : جواز الأمرین ، والنصب علی المعیة أحسن ؛ للفرار من عیب لفظی أو معنوی. فمثال اللفظی : أسرعت والصدیق ؛ فکلمة : «الصدیق» یجوز فیها الرفع عطفا علی الضمیر المرفوع المتصل ، ویجوز فیها النصب علی المعیة ، وهذا أحسن ؛ لأن العطف علی الضمیر المرفوع المتصل یشوبه بعض الضعف إذا کان بغیر فاصل بین المعطوف والمعطوف علیه ؛ کهذا المثال (3). والفرار من الضعف أفضل من
ص: 288
الإقبال علیه بغیر داع (1).
ومثال العیب المعنوی قولهم : «لو ترکت الناقة وفصیلها (2) لرضعها». فلو عطفنا کلمة : «فصیل» علی کلمة : «الناقة» لکان المعنی : لو ترکت الناقة وترکت (3) فصیلها - لرضعها ، وهذا معنی غیر دقیق ، یحتاج تصحیحه إلی تأویل وتقدیر لا داعی لهما. وعیبه آت من أن ترکهما لا یستلزم تلاقیهما المؤدی إلی حصول الرضاعة. وقد نترکهما ؛ لا نحول بینهما ، ولکن الأم تنفر منه ، ولا تمکنه من الرضاعة ، أو ینفر منها ...
ثالثها : وجوب العطف ، وامتناع المعیة (4) : وذلک حین یکون الفعل أو ما یشبهه مستلزما تعدد الأفراد التی تشترک فی معناه اشتراکا حقیقیّا. وکذلک حین یوجد ما یفسد المعنی مع المعیة. فمثال الأول : تقابل النمر والفیل - اختصم العادل والظالم - اتفق التاجر والصانع ... فکل فعل من هذه الأفعال : (تقاتل - اختصم - اتفق - وأشباهها) لا یتحقق معناه إلا بالفاعل المتعدد فیشترک الأفراد فی معنی العامل ؛ فلا بد من وجود اثنین أو أکثر یشترکان حقیقة فی التقاتل ، والاختصام ، والاتفاق ... وهذا یتحقق بالعطف دائما ؛ لأنه یقتضی الاشتراک المعنوی الحقیقی (5). بخلاف المعیة ؛ فإنها تقتضی الاشتراک الزمنی ؛ أما المعنوی فقد تقتضیه حینا ، ولا تقتضیه أحیانا ؛ کما عرفنا (6).
ومثال الثانی : أشرف القمر وسهیل قبله أو بعده ... فتفسد المعیة بسبب وجود : «قبل» ، أو «بعد».
ص: 289
رابعها : امتناع العطف ووجوب النصب - فی الأصح - ، إمّا علی المعیة ، إن استقام المعنی علیها. وإما علی غیرها إن لم یستقم ؛ (کنصب الکلمة مفعولا به لفعل محذوف) ؛ وذلک منعا لفساد لفظی أو معنوی. فمثال وجوب النصب علی المعیة لمانع لفظی یمنع العطف : نظرت لک وطائرا ؛ لأن الأصل - الغالب - فی العطف علی الضمیر المجرور أن یعاد حرف الجر مع المعطوف ؛ کما فی قول الشاعر :
فما لی وللأیّام - لا درّ درّها
تشرّق بی طورا ، وطورا تغرّب
فقد أعاد اللام مع المعطوف (1) ، ومثال النصب لمانع معنوی یمنع العطف : مشی المسافر والصحراء. بنصب کلمة : «الصحراء» علی المعیة ؛ إذ لو رفعت بالعطف علی کلمة : «المسافر» لکان المعنی : مشت الصحراء. وهذا فاسد. ومثال النصب علی غیر المعیة بتقدیر فعل محذوف ینصب الکلمة مفعولا به : دعینا لحفل ساهر فأکلنا لحما ، وفاکهة ، وخضرا ، وماء عذبا ، وغناء ساحرا - فیجب نصب کلمة : «ماء» وکلمة : «غناء» بفعل محذوف یناسب کلا منهما. والتقدیر : وشربنا ماء عذبا ، وسمعنا غناء ساحرا ... ولا یصح النصب علی المعیة ، ولا علی العطف (2) وإلا فسد المعنی. ومثله قول الشاعر:
تراه کأنّ الله یجدع أنفه
وعینیه إن کان مولاه له وفر (3)
یرید : ویفقأ عینیه ؛ لأن الجدع - خاص بالأنف ، فلا یکون للعینین ... (4)
ص: 290
تمهید
(1).
یتردد فی هذا الباب کثیر من المصطلحات الخاصة به ، والتی لا بدّ من معرفة مدلولاتها - قبل الدخول فی مسائله وأحکامه. ومن تلک المصطلحات :
المستثنی منه - المستثنی - أداة الاستثناء - التّام - الموجب - المفرّغ - المتصل - المنقطع - ... وفیما یلی بیانها.
(ا) (المستثنی منه - المستثنی - أداة الاستثناء).
هذه الثلاثة تنکشف مدلولاتها علی أکمل وجه إذا عرفنا أن أسلوب الاستثناء فی أکثر حالاته ، هو أسلوب أهل الحساب فی عملیة : «الطّرح». فالذی یقول : أنفقت من المال مائة إلا عشرة ، إنما یعبر عما یقوله أهل الحساب : (100 - 10) والذی یقول : اشتریت تسعة کتب إلا اثنین ؛ إنما یعبر عن قولهم : (9 - 2) ... وهکذا ...
والتعبیر الحسابی یشتمل علی ثلاثة أرکان مهمة ؛ هی : المطروح منه (مثل 100 ومثل 9 ... وأشباههما ...) والمطروح (مثل 10 ومثل 2 ...) وعلامة الطرح ویرمزون لها بشرطة أفقیة قصیرة : (-)
ولهذه المصطلحات الحسابیة الثلاثة ما یقابلها تماما فی الأسلوب الاستثنائی ؛ ولکن بأسماء أخری ؛ فالمطروح منه یقابله : «المستثنی منه». والمطروح یقابله : «المستثنی». وعلامة الطرح یقابلها الأداة : «إلا» ، أو إحدی أخواتها ، أی : ثلاثة إزاء ثلاثة.
ولما کانت عملیة الطرح بمصطلحاتها شائعة ، بل أوّلیة - کان ربط أسلوب
ص: 292
الاستثناء بها کفیلا بإیضاح مصطلحاته الثلاثة السالفة ، وفهمه فی سهولة ویسر واستقرار(1).
وفی ضوء هذا نستطیع أن نفهم قول النحاة فی تعریف الاستثناء الاصطلاحی : (إنه الإخراج «بإلا» أو إحدی أخواتها لما کان داخلا فی الحکم السابق علیها) (2). فلیس هذا الإخراج إلا «الطرح» ؛ بإسقاط ما بعدها مما قبلها ، ومخالفته إیاه فیما تقرر من أمر مثبت أو منفی ...
(ب) الاستثناء التام :
ما کان فیه المستثنی منه مذکورا ؛ کالأمثلة السالفة ، ومثل : رکبت الطائرة عشرین ساعة إلا خمسة. وکان معی زملائی إلا ثلاثة. فکلمة «عشرین» هی المستثنی منه. وکذا کلمة : «زملاء». وبسبب وجود کل منهما فی الکلام سمی الاستثناء : «تامّا».
(ح) الاستثناء الموجب ، وغیر الموجب :
فالأول ما کانت جملته خالیة من النفی ؛ وشبهه - وشبه النفی هنا : النهی ؛ والاستفهام الذی یتضمن معنی النفی (3) - کالأمثلة السابقة ، وکقول الشاعر :
قد یهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
ص: 293
والثانی : ما کان مشتملا علی نفی أو شبهه ؛ نحو : ما تأخر المدعوون للحفل إلا واحدا - هل تأخر المدعوون إلا واحدا (1)؟
ومن النفی ما هو معنوی (یفهم من المعنی اللغوی للکلمة ، دون وجود لفظ من ألفاظ النفی). مثل : یأبی الله إلا أن یتم نوره ، فمعنی «یأبی» : لا یرید. ومثل : قلّ رجل یفعل ذلک ، لأن معنی : «قلّ» فی هذا الأسلوب المسموع ، هو : النفی ؛ أی : لا رجل یقول ذلک.
أما «لو» فی مثل : لو حضر الضیوف إلا واحدا ، لأکرمتهم ، فإنه نفی ضمنیّ غیر مقصود ، فلا ینظر إلیه من هذه الناحیة ، فکأنه غیر موجود.
(د) الاستثناء المفرغ (2) ، هو : ما حذف فیه المستثنی منه والکلام غیر موجب ؛ (فلا بد من الأمرین معا) (3) نحو : ما تکلم ... إلا واحد - ما شاهدت ... إلا واحدا - ما ذهبت ... إلا لواحد والأصل - مثلا - قبل الحذف : ما تکلم الناس إلا ... - ما شاهدت الناس إلا ... - ما ذهبت للناس إلّا (4) ... ثم حذف المستثنی منه ، کحذفه فی قول الشاعر :
لا یکتم السرّ إلا کلّ ذی شرف
والسّرّ عند کرام الناس مکتوم
والأصل : لا یکتم الناس السرّ إلا کل ذی شرف.
فالاستثناء المفرّغ یقتضی أمرین مجتمعین حتما (5) ؛ أن یکون الکلام غیر تام ، وغیر موجب. وهذا أمر یجب التنبه له. وإلی أن أداة الاستثناء الفعلیة لا یصح استخدامها فیه. - لأنها لا تستخدم إلا فی الاستثناء التام المتصل -
ص: 294
فالأول : ما کان فیه المستثنی بعضا (1) من المستثنی منه ؛ نحو : سقیت الأشجار إلا شجرة - فحص الطبیب الجسم إلا الید.
والثانی : ما لم یکن فیه المستثنی بعضا من المستثنی منه ؛ نحو حضر الضیوف إلا سیاراتهم - اکتمل الطلاب إلا الکتب. ومثل قوله تعالی عن أهل الجنّة : (لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً إِلَّا سَلاماً،) فاللغو هو : ردیء الکلام وقبیحه ، والسّلام لیس بعضا منه. وکذلک قوله تعالی : (لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً وَلا تَأْثِیماً ، إِلَّا قِیلاً سَلاماً سَلاماً.)
ولیس معنی انقطاعه أنه لا صلة له بالمستثنی منه ، ولا علاقة تربطهما ارتباطا معنویّا ، وإنما معناه انقطاع صلة «البعضیة» بینهما ؛ فلیس «المستثنی» جزءا حقیقیّا من «المستثنی منه» ، ولا فردا من أفراده. ومع انقطاع هذه الصلة علی الوجه السالف لا بد أن یکون هناک نوع اتصال معنوی یربط بینهما. ولهذا تؤدی أداة الاستثناء فیه معنی الحرف : «لکن» (ساکن النون أو مشددها) الذی یفید الابتداء والاستدراک معا (2) ؛ وبالرغم من إفادته الابتداء والاستدراک معا لا یقطع الصلة المعنویة بین ما بعده وما قبله ، ومن ثمّ کان من المحتوم فی کل «استثناء منقطع» صحة وقوع الحرف : «لکن» - الساکن النون ، أو مشددها - موقع أداة الاستثناء فیه مع استقامة المعنی. (علی التفصیل الذی سیجیء فی الزیادة) (3) ولا یجوز فی الاستثناء المنقطع أن تکون أداته فعلا ؛ لأن هذه الأداة الفعلیة لا تستخدم إلا فی التامّ المتصل ، کما تقدم.
والآن نبدأ الکلام فی أحوال الاستثناء ، وأحکامه ، وهی متعددة (4) یتعدد أدواته
ص: 295
الثمانیة التی منها الحرف المحض ، والاسم المحض ، والفعل المحض ، وما یصلح فعلا وحرفا.
* * *
الکلام علی أحکام المستثنی الذی أداته حرف خالص ، وهی : «إلّا» (1) :
(ا) إذا کانت أداة الاستثناء «إلّا» ، ولم تتکرر (2) فللمستثنی بها ثلاثة أحکام :
الأول : وجوب النصب - فی الأغلب (3) - ، بشرط أن یکون الکلام تامّا موجبا (4) ؛ سواء أکان «المستثنی» متأخرا بعد «المستثنی منه» ، أم متقدما (5) علیه ، «متصلا» ، أم «منقطعا» فمتی تحقق الشرط کان النصب واجبا - فی الأغلب (6) - ، وعامّا یشمل کل الأحوال. وعند الإعراب یقال : «إلا» أداة استثناء حرف. والمستثنی : منصوب علی الاستثناء کالأمثلة الآتیة. ولا بد أن تتقدم «إلا» علی المستثنی فی کل الحالات (7) ، سواء أکان متقدما علی المستثنی منه أم متأخرا عنه :
(امتلأت الجداول إلا جدولا کبیرا). (امتلأت - إلا جدولا کبیرا - الجداول).
(کتبت الرسائل إلا رسالة واحدة). (کتبت - إلا رسالة واحدة - الرسائل).
(تمتعت بالصحف إلا صحیفة تافهة). (تمتعت - إلا صحیفة تافهة - بالصحف).
(أعدّت ملابس الرحلة إلا الحقائب). (أعدت - إلا الحقائب - ملابس الرحلة).
(تناولت الطعام إلا الماء). (تناولت - إلا الماء - الطعام).
(أضأت المصابیح إلا غرفة). (أضأت - إلا غرفة - المصابیح).
ص: 296
الثانی : إما نصب «المستثنی» (والإعراب کالحالة السابقة). وإما ضبطه علی حسب حرکة «المستثنی منه» ، (فیکون مثله ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا) ویعرب : «بدلا» (1). ولا بد فی الحالتین أن یکون الکلام تامّا غیر موجب (2). ولا فرق بین المتصل والمنقطع (3). ومن الأمثلة :
ما تخلف السباقون إلا واحدا - أو : واحد.
ما جهلت السباقین إلا واحدا - أو : واحدا (4).
هل تأخرت عن السباقین إلا واحدا - أو : واحد.
ویجوز أن یتقدم «المستثنی» (5) وهو منصوب ، علی المستثنی منه مباشرة ویبقی کلّ شیء کما کان ، فلا یتغیر الإعراب کالأمثلة الآتیة :
ما تخلف - إلا واحدا - السباقون.
ما جهلت إلا واحدا - السباقین (6).
هل تأخرت إلا واحدا - عن السباقین.
أما لو تقدم وهو بدل فی الأصل ؛ فإن الأمر یتغیّر تغیّرا کلیّا (7) فیعرب «المستثنی» المتقدم علی حسب حاجة الکلام قبله ، ویزول عنه اسم المستثنی ؛ کما یزول عن «المستثنی منه» المتأخر ، اسمه ، ویعرب بدلا من الاسم الذی تقدم ، وتابعا له فی حرکة
ص: 297
إعرابه ، وتصیر «إلا» ملغاة (1). ومن الأمثلة :
ما تخلف إلا واحد - السباقون.
ما جهلت إلا واحدا - السباقین (2).
هل تأخرت إلا عن واحد (3) - السباقین.
ففی مثل : ما تخلف - إلا واحد - السباقون ... تعرب کلمة «إلا» ملغاة. وتعرب کلمة : «واحد» فاعلا للفعل : «تخلّف» وتعرب کلمة :
«السباقون» بدلا منها (4) ، بدل کل من کل ، وهذا إعرابها فی باقی الأمثلة المعروضة (5).
الثالث : أن یعرب ما بعد «إلا» علی حسب العوامل قبلها ؛ بشرط أن یکون الکلام «مفرّغا (6)». وهذه الصورة لا تعدّ من صور الاستثناء ؛ لعدم وجود «المستثنی منه» (7). لهذا تعرب «إلا» ملغاة. ویعرب ما بعدها فاعلا ، أو مبتدأ ، أو مفعولا ، أو خبرا ، أو غیر ذلک ... فکأن کلمة : «إلا» غیر موجودة من هذه الناحیة الإعرابیة (8) فقط دون المعنویة. ویسمّون الکلام : «مفرّغا» ؛ لأن ما قبل «إلا» تفرغ للعمل الإعرابی فیما بعدها. ولم یشتغل بالعمل فی غیره. ومن الأمثلة : ما أخطأ إلا واحد متسرع - ما العدل إلا دعامة الحکم الصالح. ما سمعت إلا بلبلا صدّاحا - لیس العمل إلا سلاح الشریف.
ص: 298
ما ذهبت إلا للنابغ (1) - ما سعیت إلا فی الخیر.
ونحو :
یأبی الحرّ إلا العزة - یأبی الله إلا أن یتم نوره (2).
وأصل الکلام - مثلا - : قبل حذف المستثنی منه :
ما أخطأ المتکلمون إلا واحدا متسرعا - أو : واحد.
ما العدل دعامة إلا دعامة الحکم الصالح - أو دعامة الحکم الصالح.
ما سمعت طیورا مغردة إلّا بلبلا صدّاحا - أو : بلبلا صدّاحا.
لیس العمل سلاحا إلّا سلاح الشریف - أو : سلاح الشریف.
ما ذهبت لأحد إلا النابغ - أو : النابغ
ما سعیت فی أمر إلا الخیر - أو : الخیر.
یأبی الحرّ کلّ شیء ، إلّا العزة - أو : العزة.
یأبی الله کل شیء إلا إتمام نوره - أو : إتمام ...
فهو فی أصله کلام تام غیر موجب ، یجوز فیه الأمران السالفان ؛ إما النصب علی الاستثناء ، وإما الإتباع علی البدلیة ، فلما حذف المستثنی منه صار الکلام نوعا
ص: 299
جدیدا ؛ هو : المفرغ (1) ، وصار له حکم جدید خاص ، تبعا لذلک ...
ویمکن تلخیص کل ما تقدم من أحکام المستثنی ب «إلا» الواحدة (2) فیما یأتی :
(ا) النصب صحیح فی جمیع أحوال المستثنی «بإلا» التی لم تتکرر ، ما عدا حالة : «التفریغ» ؛ فإنه یعرب فیها علی حسب حاجة الجملة ، وتعرب «إلا» ملغاة.
(ب) یزاد علی النصب البدلیة حین یکون الکلام «تامّا» غیر موجب ، بشرط ألا یتقدم المستثنی علی المستثنی منه مباشرة ؛ فإن تقدم وهو منصوب بقی علی حاله منصوبا علی الاستثناء ، وإن تقدم وهو «بدل» تغیر الأمر ؛ فزال اسمه
ص: 300
عنه ، وصار معربا علی حسب حاجة الجملة ، لأن الکلام یصیر : «مفرّغا». أما المستثنی منه الذی تأخر فیزول عنه اسمه أیضا ، ویعرب «بدل کلّ من کلّ» من المستثنی الذی تقدم وتغیر حاله (1).
ص: 301
(ا) یتردد فی فصیح الأسالیب الواردة أسلوب مطّرد ، یحوی نوعا آخر من التفریغ ، یخالف ما سبق. وضابط هذا النوع : أن یکون الکلام مشتملا علی جملة قسمیّة ، ظاهرها مثبت ، ولکن معناها منفی ، وجواب القسم جملة فعلیة ماضویة لفظا ، مستقبلة معنی ، مصدّرة «بإلا» ؛ نحو : سألتک بالله إلّا نصرت المظلوم - ناشدتک الله إلّا ترکت الإساءة ... حلفت بربی إلا عاونت الضعیف ، وقول الشاعر :
بالله ربک إلّا قلت صادقة
هل فی لقائک للمشغوف من طمع
فالاستثناء فی الأمثلة السابقة - ونظائرها - مفرغ یقتضی أن یکون للکلام فی معناه غیر تام ، وغیر موجب ، فالمراد : (ما سألتک بالله ... إلا نصرک) - (ما ناشدتک الله ... إلا ترک الإساءة ...) - (ما حلفت بربی ... إلا علی معاونة الضعیف). - (ما حلفت بالله ربک ... إلا علی قولک صادقة ...) فقد اجتمع فی الکلام الأمران معا تقدیرا ؛ (وهما عدم التمام وعدم الإیجاب) واجتمع معهما أمر ثالث ؛ هو : أن الفعل - مع فاعله - به «إلا» مؤول بمصدر منسبک بغیر سابک ، لیمکن إعراب هذا المصدر علی حسب ما تحتاج إلیه الجملة قبل «إلا» ، أی : علی حسب ما یقتضیه «التفریغ» ؛ - تطبیقا لحکم «الاستثناء المفرغ». فیکون مفعولا به فی المثال الأول ، (وهو : سألتک بالله إلا نصرت الضعیف) ، أی : ما سألتک بالله إلا نصرک الضعیف ، ویکون شیئا آخر غیر مفعول به - إذا اقتضی الکلام غیره ؛ لعدم صلاحیة المفعول به ویجری هذا التأویل والسبک فی بقیة الأمثلة ، وأشباهها مما یطرد صوغه علی النمط الوارد الموافق للمأثور (1).
ص: 302
وبهذه المناسبة نذکر «لمّا» - التی سبقت الإشارة إلیها (1) - وهی التی تماثل «إلّا» فی الحرفیة ، وفی الدلالة علی الاستثناء ، ولکنها لا تدخل إلا علی جملة اسمیة ؛ (کقوله تعالی : (إِنْ کُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَیْها حافِظٌ) - ، فی قراءة من شدّد المیم ، واعتبر «إن» التی فی صدر الجملة ، نافیة -) أو علی جملة فعلیة ماضویة لفظا لا معنی ؛ (بأن یکون الفعل ماضیا فی لفظه ، مستقبلا فی معناه) ، نحو : أنشدک الله لمّا فعلت ؛ أی : أنشدک بالله ، وأستحلفک به إلا فعلت. والمعنی : ما أسألک إلا فعلک ؛ علی تقدیر : إلا أن تفعل کذا ... ؛ لیکون الفعل الماضی مستقبل الزمن ؛ تطبیقا لما تقرر من أن الماضی الذی یلیها یکون ماضیا فی لفظه ، مستقبلا فی معناه (2) - وسیجیء (3) تفصیل الکلام علی جواب القسم ، وأنواعه ، وأحکامه.
(ب) نعود لذکر ما قرره النحاة خاصّا بتقدیم المستثنی بإلا. قالوا : لا یصح - مطلقا - تقدیمه وحده علیها (4) ولا یجوز أن یتقدم علی المستثنی منه ، وعلی عامله معا ؛ فلا یصح : إلا التفاح أکلت الفواکه. أما تقدمه علی أحدهما وحده فجائز ؛ وقد تقدمت الأمثلة لتقدمه علی المستثنی منه دون العامل. وأما تقدمه علی العامل وحده فنحو : الفواکه إلا التفاح أکلت. حیث تقدم المستثنی علی عامله
ص: 303
بعد أن سبقهما معا المستثنی منه. وإذا کان المستثنی منه اسم موصول لم یجز تقدیمه علی الصلة ، لأنه لا یصح الفصل بین الموصول وصلته بالمستثنی.
وإذا کان للاسم الواقع بعد إلا - مباشرة - أو لغیره مما بعدها معمول ؛ فإنه لا یجوز تقدیمه علیها ؛ ففی مثل : ما أنا إلا طالب علما - لا یصح : ما أنا علما إلا طالب. وإذا کان قبلها عامل له معمول ، فإنه لا یجوز تأخیر هذا المعمول عنها ؛ ففی مثل ما یجید الناشئون الخطابة إلا الأدیب - أو مثل : ما یحرص علی الأدب إلا الأدیب ... لا یصح أن یقال : ما یجید الناشئون إلا الأدیب الخطابة - ولا ما یحرص إلا الأدیب علی الأدب. وبعض النحاة یجیز تأخیر هذا المعمول إذا کان شبه جملة ، أو حالا ، ویؤید رأیه بأمثلة کثیرة فصیحة تجعله مقبولا ؛ فیصح أن یقال : یتکلم الخطباء - إلا المریض - واقفین ... یعترف الإجانب - إلا بعضهم - بعظمة العرب ... تتصافی النفوس إلا الخبیثة - أمام الخطر.
ویصح تقدیم المستثنی علی صفة المستثنی منه ؛ ففی مثل : ما کرّمت الأمة المتحضرة إلا النابغین ... یصح أن یقال : ما کرّمت الأمة إلا النابغین المتحضرة.
(ح) تعددت الآراء فی الناصب للمستثنی ؛ فقیل : «إلا» ، وقیل : العامل الذی قبلها بمساعدتها. وقیل فعل محذوف تقدیره : أستثنی ... و... ولا أثر لهذا الخلاف النظری فی أحکام المستثنی ، وضبطه ؛ فالخیر فی إغفاله ؛ اکتفاء بأن نقول فی الإعراب : المستثنی منصوب علی الاستثناء. ولعل أقوی الآراء أنه منصوب بالفعل قبلها ، أو بغیره مما یعمل عمله (1). إلا المستثنی المنقطع فعامله هو : «إلا». ونحن فی غنی عن التّعرض لأقواها وغیره إلا حین یعرض أمر یختص بالعامل - وهذا قلیل - وعندئذ یرجح الفعل أو ما یعمل عمله کالحالات السالفة التی یجوز فیها تقدم المستثنی علی عامله أو عدم تقدمه.
(د) وردت أمثلة مسموعة وقع فیها المستثنی غیر منصوب ، مع أن الکلام تام موجب ؛ ومنها قوله تعالی : (فشربوا منه إلا قلیل منهم) فی قراءة کلمة :
ص: 304
«قلیل» بالرفع. ومنها : تغیر المنزل إلا باب (1) ... و... و...
وقد کلف النحاة أنفسهم عناء التأویل والتقدیر ؛ لیجعلوا الکلام تامّا غیر موجب ؛ فیصلوا من هذا إلی جواز البدل ، وإلی أن الأمثلة مسایرة للقاعدة عندهم. فقالوا فی الآیة : إن نصها - علی لسان طالوت - هو : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِیکُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَیْسَ مِنِّی) ... (فشربوا منه إلا قلیل منهم) فمعنی : «شربوا منه» : لم یکونوا منی ولا من أنصاری. فهی فی تأویل کلام منفی فی تقدیرهم. وقالوا : فی المثال الثانی وأشباهه : إنّ : «تغیّر» معناها لم یبق علی حاله. فالکلام یتضمن نفیا فی المعنی ...
ولا شک أن کلامهم مردود ، وتأویلهم بعید ، لسببین :
أولهما : أن کل کلام مثبت لا بد له من نقیض غیر مثبت ، ویستحیل الحکم علی شیء بالإثبات دون أن یتصور العقل له ضدّا منفیّا. فمعنی «نام الرجل» لم یتیقظ. ومعنی «تیقظ» لیس بنائم. ومعنی «تحرک الطفل» : لم یسکن. ومعنی «سکن» : لم یتحرک ... ومعنی «شرب» : لم یفقد الماء ویظمأ. ومعنی «فقد الماء» : ما شرب ... و... و...
وهکذا ، فلو أخذنا برأیهم وفتحنا باب التأویل لم یبق فی الکلام العربی أسلوب مقصور علی «التمام مع الإیجاب» دون أن یصلح للنوع الثانی (وهو : التام غیر الموجب) وهذا غیر مقبول.
وثانیهما : وهو الأهم - أن الآیة والمثال وغیرهما مما وقع فیه المستثنی غیر منصوب فی الکلام التام الموجب - إنما ورد صحیحا مطابقا للغة بعض القبائل العربیة ، التی تجعل الکلام «التّامّ الموجب ، والتام غیر الموجب» متماثلین فی الحکم (2) ؛ یجوز فیهما : إما النصب علی الاستثناء ، وإما البدل من المستثنی منه ، وإما الرفع علی الابتداء (3) ... و... فلا معنی للتأویل بقصد إخضاع لغة قبیلة للغة
ص: 305
نظیرتها. وإذا کان التأویل معیبا وواجبنا الفرار منه جهد استطاعتنا ، فإن الأنسب لنا الیوم أن نتخیر - عند الضبط - اللغة الضاربة فی الفصاحة ، الغالبة الشائعة بین اللغات المتعددة ؛ لنقتصر علیها فی استعمالنا تارکین غیرها من اللغات واللهجات القلیلة ، توحیدا للتفاهم ، وفرارا من البلبلة الناشئة من تعدد اللهجات واللغات بغیر حاجة ماسة ؛ فعلینا أن نعرف تلک اللغات فی مناسباتها ، ویستعین بها المتخصصون علی فهم النصوص الواردة بها ، دون محاکاتها فی الضبط ، أو القیاس علیها - کما أشرنا لهذا کثیرا - علی الرغم من أنها صحیحة یجوز محاکاتها (1).
(ه) إذا کان الکلام تامّا موجبا (2) فلا یکون المستثنی منه - فی الفصیح - نکرة ، إلا إن أفادت (3). فلا یقال جاء قوم إلا رجلا ، ولا قام رجال إلا محمدا ، لعدم الفائدة ، بسبب أن النکرة محضة. فإن أفادت جاز ؛ نحو قوله تعالی : (فَلَبِثَ فِیهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِینَ عاماً) - وقام رجال کانوا فی بیتک إلا واحدا. أما الکلام التام غیر الموجب فالفائدة تحقق فیه بالنفی وشبهه ؛ لدلالة النکرة معه - غالبا - علی العموم نحو : ما جاءنا أحد إلا رجلا ، أو إلا علیّا ...
ص: 306
کذلک لا یکون المستثنی منه معرفة ، والمستثنی نکرة لم تخصص ؛ فلا یقال : قام القوم إلا رجلا ، فإن تخصصت جاز ؛ نحو : خرج القوم إلا رجلا منهم.
(و) عرفنا (1) أن المستثنی المنقطع لیس بعضا من المستثنی منه ، فلیس فردا من أفراد نوعه - أی : من أفراد صنفه - ، ولیس جزءا من أجزاء الفرد ؛ - کما سبق (2) - فکیف یکون مستثنی وبینه وبین المستثنی منه هذا التخالف والتباین؟ کیف یکون المطروح مباینا جنس المطروح منه؟
قال النحاة :
1 - إن کان المستثنی المنقطع جملة (3) ؛ مثل قوله تعالی : (فَذَکِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَکِّرٌ ، لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّی وَکَفَرَ فَیُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَکْبَرَ ...) أعربت هذه الجملة (4) ، فی موضع نصب علی الاستثناء ، و «إلا» أداة استثناء حرف ؛ بمعنی : «لکن» (الساکنة النون ، التی تفید الاستدراک والابتداء معا ، وتقتضی أن تسبقها جملة ، وتدخل علی جملة جدیدة - اسمیة أو فعلیة -) (5) ، فهی متوسطة بین جملتین ؛ فکأن التقدیر ؛ لست علیهم بمسیطر ، لکن من تولی وکفر فیعذبه الله ...
ص: 307
2 - إن کان المستثنی المنقطع مفردا منصوبا فأداة الاستثناء : «إلا» تکون - عند أکثر النحاة - بمعنی : لکنّ (المشددة النون) التی تفید الابتداء ، والاستدراک ، وتعمل عمل : «إنّ» ، نحو : نام أصحاب البیت إلا عصفورا مغردا. فکلمة : «إلا» بمعنی : «لکنّ» المذکورة ، التی تقتضی بعدها جملة اسمیة الأصل تنصب فیها المبتدأ وترفع الخبر ؛ سواء أکان خبرها مذکورا أم محذوفا. ولا بدّ - علی هذا الرأی - من جملة اسمیة بعدها ، ولا بدّ من ذکر جملة أخری قبلها ؛ فکأن التقدیر : نام أصحاب البیت لکنّ عصفورا مغردا یقظ ، أو : لم ینم ...
ویری سیبویه أن المستثنی المنقطع المنصوب بعد «إلا» إنما هو منصوب بعامل قبلها ؛ شأنه فی هذا شأن المستثنی المتصل. فما بعد «إلّا» عند سیبویه - مفرد سواء أکان متصلا أم منقطعا. وهی بمعنی : «لکن» العاطفة التی لا یقع المعطوف بها إلا مفردا غیر أن «إلّا» لیست حرف عطف. والأخذ برأی سیبویه فی اعتبار المستثنی المنقطع أسهل وأیسر.
3 - وإن کان المستثنی المنقطع مفردا مرفوعا - ؛ کما فی حالة البدلیة .. عند من یجیزها ، والابتداء عند من لا یجیزها (1) - فی نحو ؛ ما سهر أصحاب البیت إلا عصفور مغرد - کانت أداة الاستثناء «إلا» بمعنی : لکن (ساکنة النون) فأصل التقدیر ، ما سهر أصحاب البیت لکن عصفور مغرد سهر.
والسبب فی کل هذه التقدیرات - کما یبدو - هو إدخال کل ضبط من تلک الضبوط تحت قاعدة نحویة عامة ، أما المعنی فلن یتغیر فی المستثنی ، ولا المستثنی منه ، ولا غیرهما ، وسیظل المستثنی منصوبا علی الاستثناء إن کان جملة أو مفردا منصوبا ، فإن کان مفردا غیر منصوب فهو بدل. ویجوز فی الاسم المرفوع اعتباره مبتدأ خبره مذکور أو محذوف ، کما تقدم - والجملة منصوبة علی الاستثناء.
بالرغم من أن المنقطع لیس بعضا من المستثنی منه فإنه لا یجوز أن یکون منقطع المناسبة والعلاقة بینه وبین المستثنی منه انقطاعا کلیّا فی المعتاد - کما سبق (2) -
ص: 308
فلا یصح : أقبل الجمع إلا ثعبانا. کذلک لا یصح أن یسبقه ما هو نص صریح فی خروجه وفقد تلک العلاقة ، فلا یجوز : صهلت الخیل إلا الإبل ، لأن الصهیل نص قاطع فی صوت الخیل وحدها ؛ فلا صلة بین المستثنی والمستثنی منه مطلقا ؛ فیصیر الکلام خلطا وبترا. بخلاف صوّتت الخیل إلا الإبل.
(ز) تقدم - فی الحکم الثانی (1) - أن المستثنی فی الکلام التام غیر الموجب یجوز فیه النصب والبدل. ویقول النحاة فی تفریع هذا البدل کلاما مرهقا غیر مقبول ، والخیر فی إهماله ؛ ومنه :
إذا تعذر البدل علی اللفظ أبدل علی الموضع. فمثل : ما جاءنی من أحد إلا البائع ... لا یجوز إعراب «البائع» بدلا مجرورا من لفظ : «أحد» ، لزعمهم أن کلمة : «أحد» مجرورة اللفظ بالحرف الزائد : «من» وهو حرف لا یزاد - غالبا - إلا فی کلام منفی ؛ کالمثال السالف ، وأن کلمة : «البائع» معناها مثبت ؛ (لأن الکلام الذی بعد «إلا» مناقض لما قبلها فی النفی والإثبات ، کما هو معروف) فإذا کان معناها مثبتا فکیف تکون بدلا من کلمة : «أحد» المنفیة ، المجرورة لفظا بالحرف الزائد ، والبدل علی نیة تکرار العامل الذی یعمل فی المبدل منه؟ فکأنهم یقولون :
إنّ کلمة : «البائع» قبلها فی التقدیر الحرف «من» الزائد الذی عمل الجر فی المبدل منه «أحد». ویترتب علی هذا - عندهم - دخول «من» الزائدة الجارة فی کلام مثبت بعد «إلّا» ، وهی - فی الغالب - لا تکون إلا فی کلام منفیّ ، کما سبق. وفرارا من هذا الذی یرونه محظورا منعوا البدل بالجر من لفظة : «أحد» وأجازوا البدل بالرفع من محلها ؛ لأنها مجرورة بمن «لفظا» وفی محل رفع فاعل للفعل : جاء ، فالتقدیر : جاء البائع.
ومثل : لیس اللص بشیء إلا رجلا تافها ، فقالوا لا یجوز إعراب کلمة : «رجلا» بالجر علی اعتبارها بدلا من کلمة : «شیء» المجرور لفظها ؛ وإنما یجوز النصب علی اعتبارها بدلا من محل کلمة : «شیء» ، وذلک للوهم السالف أیضا ؛ وهو أن المبدل منه (وهو کلمة : شیء) مجرور بالباء الزائدة ، وهذه
ص: 309
الباء لا تزاد إلا فی جملة منفیة ، والمستثنی «بإلا» مثبت بعد الکلام المنفی ، فلو أبدلنا کلمة : «رجلا» من کلمة : «شیء» لکان هذا البدل مستلزما فی التقدیر وقوع الباء - وهی العامل فی المبدل منه - قبل البدل أیضا ؛ لأن البدل علی نیة تکرار العامل ؛ فیترتب علی هذا دخول «باء» الجر الزائدة علی مثبت ؛ وهو عندهم ممنوع. فللفرار من هذا أبدلوا کلمة : «رجلا» من کلمة : «شیء» مع مراعاة محلها ، لا لفظها ، لأن محلها النصب ؛ فهی مجرورة لفظا ، منصوبة محلا ، باعتبارها خبر : «لیس»!!
ومثل : لا ساهر هنا إلا حارس. لا یجوز عندهم أن تکون کلمة : «حارس» بدلا منصوبا من محلّ کلمة ؛ «ساهر» المبنیة علی الفتح لفظا فی محل نصب. وحجتهم أن کلمة : «ساهر» ... اسم «لا» واسم «لا» منفی ، أما المستثنی هنا فموجب ، لوقوعه بعد «إلّا». (وما بعدها مخالف لما قبلها نفیا وإثباتا ، کما تقدم) - ولما کان العامل فی المستثنی منه : هو : «لا» النافیة للجنس وجب عندهم أن تکون عاملة أیضا فی المستثنی ؛ لأن العامل فی الاثنین لا بد - فی الرأی المشهور - أن یکون واحدا ، ثم یقولون : کیف تعمل «لا» فی المستثنی الموجب وهی لا تعمل إلا فی منفی؟ وللفرار من هذا قالوا : إن البدل هو من محل اسم «لا» قبل دخولها ، ولیس من محل اسمها بعد دخولها ، فاسمها قبل کان مبتدأ (1) فالبدل مرفوع مثله ، ولا عمل للناسخ فیه إذ ذاک.
ومثل : ما الخائن شیئا إلا رجل حقیر ؛ فقد منعوا أن تکون کلمة : «رجل»
ص: 310
بدلا منصوبا من کلمة : «شیئا» المنصوبة. وحتموا أن تکون بدلا مرفوعا من کلمة : «شیئا» باعتبار أصلها ؛ فقد کانت خبرا مرفوعا للمبتدأ قبل مجیء «ما» الحجازیة التی تعمل عمل : «لیس». وسبب المنع أن المستثنی منه منفی ، والمستثنی موجب ، والعامل فی الاثنین واحد ؛ هو : «ما» الحجازیة ، فتکون «ما» الحجازیة قد علمت فی الموجب ، وهی لا تعمل إلا فی المنفیّ.
ذلک رأیهم ودلیلهم (1) فی کل ما سبق من الأمثلة الممنوعة ، وهو رأی غریب (إذ ما الحکمة - کما قال بعض آخر (2) من النحاة - فی ارتکاب هذا التکلف (3)؟ مع أن القاعدة : أنه یغتفر فی التابع ما لا یغتفر فی المتبوع (4). ومثلوا له بقوله تعالی : (اسْکُنْ أَنْتَ وَزَوْجُکَ الْجَنَّةَ -) حیث لا یمکن تسلیط العامل علی المعطوف (5) - فهلا جاز هنا فی البدل الجر أو النصب تبعا للفظ المبدل منه بناء علی هذه القاعدة ...) (6).
وشیء آخر له الأهمیة الأولی ، ولا أعرف أنهم ذکروه ؛ هو کلام العرب فی مثل ما سبق ، والمأثور من أسالیبهم ، أجاء خالیا من إتباع المستثنی للفظ المستثنی منه ، أم لم یجئ؟ وفی الحالتین لا یقوم دلیل علی المنع ؛ لأن عدم المجیء لیس معناه التحریم ، فالأمر السلبی لا یکفی فی انتزاع حکم قاطع مخالف للمألوف فی نظرائه التی یتبع فیها البدل حرکة المبدل منه اللفظیة ، کما أن المجیء قاطع فی الصحة.
ص: 311
الحق أن هذا کله - وأشباهه - هو الجانب المعیب فی : «نظریة العامل» ، إذ یمنحه سلطانا قویّا یتحکم به فی صیاغة الأسلوب ، أو فی ضبطه ، بغیر سند یؤیده من فصیح الکلام. وقد سبق أن امتدحنا هذه النظریة البارعة التی لم تصدر إلا عن عبقریة ، وذکاء لماح ، وقلنا (1) إنها لا عیب فیها إلا ما قد یشوبها فی قلیل من الأحیان من مثل هذه الهنوات.
(ح) فی مثل : ما أحد یقول الباطل إلا الدنیء ، یجوز فی کلمة : «الدنیء» أن یکون بدلا مرفوعا من کلمة : «أحد» أو : من ضمیره المستتر الواقع فاعلا للمضارع. ویجوز نصبه علی الاستثناء. فللرفع ناحیتان ، وللنصب واحدة.
أما فی مثل : ما رأیت أحدا یقول الباطل إلا الدنیء ، فیجوز فی کلمة : «الدنیء» النصب علی الاستثناء ، أو : علی البدلیة من کلمة : «أحدا» المنصوبة ویجوز فیها الرفع علی البدلیة من الفاعل المستتر فی الفعل المضارع ؛ فللنصب ناحیتان وللرفع ناحیة.
* * *
ص: 312
(ب) إذا کانت أداة الاستثناء هی «إلا» ، المکررة (1) :
(ا) قد یکون تکرارها بقصد التوکید اللفظیّ المحض ، وتقویة «إلا» الأولی الاستثنائیة ، بغیر إفادة استثناء جدید. ولهذه الحالة صورتان :
الأولی : أن تقع «إلا» التی تکررت للتوکید اللفظی المحض ، بعد «الواو» العاطفة - ولا یصح أن تقع بعد غیرها من حروف العطف - نحو : أحب رکوب السفن إلا الشراعیة ، وإلا الصغیرة. فالواو حرف عطف. «إلا» الثانیة : للتوکید اللفظیّ ، ولا تفید استثناء. و «الصغیرة» معطوفة علی «الشراعیة» ؛ فهی مستثنی ، بسبب العطف ، لا بسبب «إلا» المکررة (2). ولهذا یکون المستثنی المعطوف تابعا للمعطوف علیه فی ضبطه.
الثانیة : ألّا تقع «إلا» التی جاءت للتکرار بعد حرف عطف ، ولکن یکون اللفظ الواقع بعدها مباشرة متفقا مع المستثنی الذی قبلها فی المعنی والمدلول. برغم اختلاف اللفظین فی الحروف الهجائیة ، ویکون ضبط اللفظ بعد المکررة مبنیّا علی افتراض أنها غیر موجودة ؛ فوجودها وعدمها سواء من ناحیة الحکم الإعرابی الذی یخصه. مثال ذلک رجل یقال له : هارون الرشید ، أو : محمد الأمین ... أو ... نحو : جاء القوم إلا هارون إلا الرشید ، اشتهر الخلفاء إلا محمدا إلا الأمین. فکلمة : «إلا» الثانیة فی المثالین لا تفید استثناء جدیدا ، لأن «الرشید» المقصود ، هو : «هارون» ، و «الأمین» هو : «محمد». وإنما أفادت الثانیة توکیدا لفظیّا
ص: 313
لکلمة : «إلا» الأولی ، ولا تأثیر لها فی ضبط کلمتی : «الرشید والأمین» ، فکل واحدة منهما تعرب هنا بدل کل من کل (1) ، أو : عطف بیان من المستثنی الأول. ولو حذفنا کلمة : «إلا» التی جاءت للتکرار ما تغیر الضبط ولا الإعراب ، فوجودها لا أثر له من هذه الناحیة.
ولو قلنا : ما جاء القوم إلا هارون إلا الرشید لصحّ فی کلمة : «الرشید» الرفع أو النصب ، تبعا لکلمة : «هارون» التی یجوز فیها الأمران ، بسبب أن الاستثناء تام غیر موجب. وکذلک ما جاء القوم إلا محمدا ، أو محمد ، إلّا الأمین ؛ فیجوز فی کلمة : «الأمین» الأمران للسبب السابق. فکأن «إلا» المکررة غیر موجودة : إذ لا أثر لها فی الحکم الإعرابیّ.
ولو قلنا : ما اشتهر إلا هارون إلا الرشید ، لوجب رفع کلمة «الرشید» إتباعا لکلمة : «هارون» التی یجب رفعها ؛ بسبب أن الاستثناء مفرّغ. وکذلک الحال فی المثال الثانی (2).
* * *
(ب) وقد یکون تکرارها لغیر التوکید اللفظیّ وإنما الغرض استثناء جدید : بحیث لو حذفت لم یفهم الاستثناء الجدید ، ولم یتحقق المراد منه ؛ فهی فی هذا الغرض کالأولی تماما ؛ کلتاهما تفید استثناء مستقلا ؛ وفی هذه الحالة تتعدد الأحکام علی الوجه الآتی :
1 - إن کان تکرارها فی کلام تام موجب فالمستثنیات کلها منصوبة فی کل الأحوال ؛ نحو ظهرت النجوم إلا الشمس - إلا القمر - إلا المرّیخ.
ص: 314
2 - إن کان الکلام تامّا غیر موجب والمستثنیات متقدمة نصبت جمیعا ؛ نحو : ما غاب إلا الشمس - إلا القمر إلا المرّیخ - النجوم. فإن تأخرت نصبت أیضا. ما عدا واحدا منها - أیّ واحد - فیجوز فیه أمران ؛ إما النصب علی الاستثناء کغیره ، وإما البدل من المستثنی منه ؛ مثل : ما غابت النجوم ، إلا الشمس (بالرفع أو النصب) إلا القمر - إلا المرّیخ.
3 - إن کان الکلام مفرغا وجب إخضاع احد المستثنیات (1) لحاجة العامل الذی قبل «إلا» «الأولی» ، ونصب باقی المستثنیات ، نحو ما نبت إلا قمح جید - إلا شعیرا غزیرا - إلا قصبا قویّا ...
وإذا کانت «إلا» التی جاءت للتکرار تفید استثناء جدیدا - کما سبق - فلا بد أن یجیء بعدها مستثنی ، ولا بد أن یکون له مستثنی منه. فأین هذا المستثنی منه؟ أهو المستثنی منه الأول السابق ، أم هو المستثنی الذی قبل «إلا» المکررة مباشرة ، فیکون المستثنی الذی بعدها خارجا ومطروحا من المستثنی الذی قبلها مباشرة؟ وبعبارة أخری : أین «المستثنی منه» بعد «إلا» المکررة لغیر توکید فی مثل : بکّر العاملون إلا صالحا ، إلا محمودا ، إلا حسینا؟ فکلمة : «محمودا» مستثنی ثان ، فأین المستثنی منه؟ أهو : «العاملون» المستثنی منه الأول ، أم هو «صالحا» المستثنی الذی قبله مباشرة؟
وکذلک : «حسینا» مستثنی ثالث ... فأین المستثنی منه؟ أهو العاملون أم (محمودا) ، أم ما ذا؟
إذا لم یمکن استثناء بعض المستثنیات من بعض - کهذا المثال - کان المستثنی منه هو الأول حتما ، وهو هنا : العاملون. أما إذا أمکن استثناء کل واحد مما قبله مباشرة - کالأعداد - فیجوز الأمران ، أی : استثناء کل واحد مما قبله مباشرة ، أو استثناء المجموع من المستثنی منه الأول ؛ ففی مثل : أنفقت عشرة ، إلا أربعة ، إلا اثنین ، إلا واحدا ، یجوز إسقاط المستثنیات کلها من العشرة ، فنجمع أربعة ، واثنین ، وواحدا ، ونطرح المجموع من العشرة ؛ فیکون الباقی الذی أنفق هو ثلاثة. أی : 10 - (4+ 2+ 1) - 3 کما یجوز إسقاط المستثنی
ص: 315
الأخیر مما قبله مباشرة. ثم نسقط الباقی من المستثنی الذی قبله ... وهکذا ، فما بقی آخر الأمر یکون هو المطلوب ، ففی المثال السابق : نطرح 1 من 2 فیکون الباقی : 1 ثم نطرح 1 من 4 فیکون الباقی : 3 ثم نطرح 3 من 10 فیکون الباقی : 7 وهو المبلغ الذی أنفق.
والأحسن فی الطریقة الثانیة جمع الأعداد التی فی المراتب الفردیة ، ومنها المستثنی منه الأول ، ثم جمع الأعداد التی فی المراتب الزوجیة ، وطرح مجموعها من مجموع الفردیة ، فباقی الطرح هو المطلوب.
ویلاحظ أن الطریقتین جائزتان ولکن نتیجتهما مختلفة ، ولهذا کان اختیار إحداهما خاضعا للقرائن ؛ فهی التی تعین إحداهما فقط مراعاة للمعنی.
* * *
ولو أردنا تلخیص کل ما تقدم من الأحکام الخاصة بکلمة : «إلا» المکررة (1)
ص: 316
المفیدة لاستثناء جدید - أی : التی لیست للتوکید المحض - لکان التلخیص الموجز هو :
1 - إذا تکررت «إلا» لغیر التوکید نصبت بعدها المستثنیات فی جمیع الأحوال ، وفی مختلف الأسالیب ، إلا فی حالة : «التفریغ» فیجب - حتما - تخصیص مستثنی واحد یخضع فی إعرابه لحاجة العامل ، ونصب ما عداه.
2 - ویجوز فی حالة الکلام التام غیر الموجب إذا تأخرت المستثنیات اختیار واحد منها لیکون بدلا من المستثنی منه الأول ، ویجوز نصبه مع باقیها.
ص: 317
(ا) فی کل حالة یجوز فیها الأمران ؛ (العطف والمعیة) ، لا بد أن یختلف المعنی فی کل أمر منهما ؛ ذلک أن العطف یقتضی المشارکة الحتمیة بین المعطوف والمعطوف علیه فی معنی الفعل ، من غیر أن یقتضی المشارکة الزمنیة الحتمیة ؛ فقد یقتضیها أو لا یقتضیها ، ففی مثل : «آنسنی محمود وصالح فی السفر» لا بد أن یشترک الاثنان فی مؤانسة المتکلم ، وأن تتناولهما المؤانسة ؛ لأن العطف علی نیة تکرار العامل ؛ فکأنک قلت : آنسنی محمود ، وآنسنی صالح. لکن لیس من اللازم أن تکون هذه المؤانسة قد شملتهما ، وشملت المتکلم فی زمن واحد ؛ فقد تکون فی وقت واحد أو لا تکون (1). والأمر فی هذه المشارکة الزمنیة وعدمها ، متروک للقرائن والدلائل.
أما المفعول معه فلا بد فیه من المشارکة الزمنیة الحتمیة. أما المشارکة المعنویة فقد یقتضیها أو لا یقتضیها (2) ؛ ففی مثل : سافر الرحالة والصحراء ، تتعین المشارکة الزمنیة وحدها دون المعنویة ؛ فإنها تفسد المعنی ؛ لأن الصحراء لا تسافر ... وفی مثل : سار القائد والجنود ، تصح المشارکة المعنویة مع المشارکة الزمنیة المحتومة فجواز الأمرین فی کل حالة یجوز فیها أمران لیس معناه أن المراد منهما واحد. وإنما معناه أن هذا الضبط صحیح إن أردت المعنی المعین المختص به ، وأن ذاک الضبط صحیح أیضا إن أردت المعنی المختص به کذلک. وإن شئت فقل : إن کل ضبط صحیح منهما لا بد أن یؤدی إلی معنی یخالف ما یؤدیه الضبط الآخر.
(ب) قد یقتضی المقام ذکر أنواع مختلفة من المفاعیل. وفی هذه الحالة یحسن ترتیبها بتقدیم المفعول المطلق ، فالمفعول به الذی تعدی إلیه العامل مباشرة. فالمفعول به الذی تعدی إلیه العامل بمعونة حرف جرّ ، فالظرف الزمانی ، فالمکانی ، فالمفعول له ، فالمفعول معه. وهذا الترتیب هو ما ارتضاه کثیر من النحاة. والحق أن الذی یجب مراعاته عند الترتیب هو تقدیم ما له الأهمیة.
ص: 291
الذی أدواته أسماء (1) : (غیر ، وسوی ، بلغاتها المختلفة)
من أدوات الاستثناء ما هو اسم صریح ؛ أشهره : غیر ، وسوی (وفیها لغات مختلفة : سوی ، سوی ، سواء ، سواء) وهذه الأسماء الصریحة - عند استعمالها أداة استثناء - تشترک فی المعنی وفی الحکم.
فأما «غیر» - ومثلها نظیراتها - فمعناها إفادة المغایرة ... أی : الدلالة علی أن ما بعدها مغایر ومخالف لما قبلها فی المعنی الذی ثبت له ، إیجابا أو نفیا ؛ فمعنی : «أسرع المتسابقون غیر سعید» ، أنهم أسرعوا مغایرین ومخالفین فی هذا سعیدا ؛ فهو لم یسرع ، فکان مخالفا ومغایرا لهم أیضا. وکذلک : «ما ضحک الحاضرون غیر صالح». فالمعنی : أنهم لم یضحکوا ، مغایرین مخالفین صالحا فی هذا ، أی : فی عدم الضحک ؛ لأنه ضحک دونهم ، فکان مخالفا ومغایرا أیضا. ومثل هذا یقال فی بقیة أسماء الاستثناء.
وأما حکم تلک الأسماء فینحصر فی أمرین (2) ؛ أولهما : ضبط المستثنی الواقع بعد کل اسم منها ، وطریقة إعرابه.
وثانیهما : ضبط أداة الاستثناء الاسمیة ، وطریقة إعرابها ، (لأنها اسم لا بد له من موقع إعرابیّ ؛ فیکون مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، علی حسب موقعه من الجملة ؛ کشأن جمیع الأسماء).
ص: 318
ا - فأما ضبط المستثنی وإعرابه فلیس له إلا ضبط واحد ، وإعراب واحد ، هو : ضبطه بالجر ، ویعرب «مضافا إلیه» ، إلیه دائما ، - ولا بد أن یکون مفردا (1) - والأداة الاسمیة هی المضاف. کما فی الأمثلة الآتیة :
أسرع
المتسابقون
غیر
سعید.
فرح
الفائزون
غیر
واحد.
ظهرت
النجوم
غیر
نجم.
ب -
ما أسرع
المتسابقون
غیر سعید ،
أو : غیر سعید.
ما رأیت
الفائزین
غیر سعید ،
أو : غیر سعید.
ما
نظرت للنجوم غیر
نجم ، أو :
غیر نجم.
ح -
ما أسرع
...
غیر سعید.
ما رأیت
...
غیر سعید.
ما نظرت
...
لغیر سعید.
ففی کل هذه الأمثلة - وأشباهها - لا یکون المستثنی إلا مضافا إلیه مجرورا ، مفردا (2) ، وأداة الاستثناء الاسمیة هی : المضاف.
ب - وأما ضبط أداة الاستثناء وإعرابها فیختلف باختلاف حالة الکلام ، فحین یکون الکلام تامّا موجبا ، تنصب علی الاستثناء کما فی «ا» من الأمثلة السالفة ، وکقول الشاعر :
کلّ المصائب قد تمرّ علی الفتی
وتهون ، غیر شماتة الحسّاد
وحین یکون الکلام تامّا غیر موجب یجوز نصبها علی «الاستثناء» ، ویجوز إتباعها للمستثنی منه ؛ کما فی «ب» من الأمثلة السالفة ، وقولهم : أین الأقوال من الأفعال ، فلن تتحقق بالکلام الغایات الجلیلة غیر بعض منها ، وما أقلّه؟
وحین یکون الکلام مفرغا تضبط وتعرب علی حسب حاجة الجملة ؛ فقد
ص: 319
تکون فاعلا ، أو مفعولا ، أو غیرهما ، کما فی «ج» من الأمثلة السالفة ، وکقولهم : لا ینفع المرء غیر عمله.
یفهم من کل ما تقدم : أنه یطبق علیها عند ضبط صیغتها الخاصة کل الأحکام التی تجری علی المستثنی بإلا عند إرادة ضبطه (1) بالتفصیلات المختلفة التی سبقت هناک. ولا فرق فی هذا بین : «غیر» وباقی أخواتها الأسماء (2).
لکن بینها وبین أخواتها (3) بعض فروق فی نواح أخری ؛ منها : أن المضاف إلیه بعد الأداة «غیر» (4) قد یحذف إذا دلت علیه قرینة : مثل : عرفت خمسین لیس غیر (5) ، أی : لیس غیر الخمسین. ولا یصح : عرفت خمسین لیس سوی. لأن «سوی بلغاتها المختلفة واجبة الإضافة لفظا ومعنی ، ولا یصح قطعها عن هذه الإضافة اللفظیة (6).
ص: 320
ومنها : أن «غیر» لا تکون ظرفا. أما «سوی» فتقع ظرف مکان فی مثل : جاء الذی سواک ، عند من یری ذلک ، وجعلها صلة الموصول ؛ (لأن الصلة لا تکون إلا جملة أو شبه جملة) ، والتقدیر عنده : جاء الذی استقر فی مکانک عوضا عنک ، ثم توسعوا فی استعمال «سواک» ومکانک ، فجعلوهما - مجازا - بمعنی : «عوضک» من غیر ملاحظة حلول بالمکان.
ومنها : أن استعمال «غیر» فی الاستثناء لیس هو الأکثر ، وإنما الأکثر أن تکون :
1 - نعتا لنکرة ؛ فتفید مغایرة مجرورها للمنعوت ، إما فی ذاته المادیة ؛ نحو : أقبلت علی رجل غیر (1) علیّ ، وإما فی وصف طارئ علی ذاته المادیة ، نحو : خرج البریء من المحکمة بوجه غیر الذی دخل به ، ذلک أن وصف الوجه مختلف فی الحالتین ... أما ذات الوجه ، ومادته التی یتکون منها ، فلم تتغیر. وکقول الشاعر :
تحاول منی شیمة غیر شیمتی
وتطلب منی مذهبا غیر مذهبی
«فالشیمة ، أو المذهب» وصف طارئ علی الذات ، وأمر عرضیّ لاحق بها ، ولیس جزءا أساسیّا من تکوینها المادیّ الأصیل.
2 - أو نعتا لشبه النکرة : وهو المعرفة المراد منها الجنس (2) ، نحو قوله تعالی : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ) فکلمة «غیر» مجرورة ، وهی لذلک نعت لکلمة : «الذین» المراد بها جنس لأقوام معیّنین (3) ، ولیست للاستثناء ؛ إذ لو کانت للاستثناء لوجب نصبها
ص: 321
وإذا وقعت نعتا - کما فی الحالتین السالفتین - فإنها تکون مؤولة بالمشتق بمعنی : مغایر (1).
3 - یلی هاتین فی الکثرة أن تقع موقعا إعرابیّا آخر مما تصلح له الأسماء الجامدة ؛ کالمبتدأ فی قول الشاعر :
وغیر تقیّ یأمر الناس بالتقی
طبیب یداوی والطبیب مریض
وکالخبر - ومنه خبر النواسخ - فی قول الشاعر :
وهل ینفع الفتیان حسن وجوههم
إذا کانت الأعمال غیر حسان
وکالفاعل ونائبه ، والمفعول به ... و... ، وکل هذا قیاسی فصیح.
أما «سوی» فالأکثر فیها أن تکون للاستثناء ؛ کالأمثلة السالفة ؛ ولغیر الاستثناء فی نحو : سواک متسرع - رأیت سواک متسرعا - القوة بسوی الحق مهزومة ... - لا ینفع سوی الصبر عند معالجة المشکلات ، وکقول الشاعر :
وإذا تباع کریمة أو تشتری
فسواک بائعها ، وأنت المشتری
وقول الآخر :
أأترک لیلی لیس بینی وبینها
سوی لیلة؟ إلی إذا لصبور
وقد تکون نعتا لنکرة ، أو لشبه نکرة کما تکون «غیر» ... وهکذا (2).
* * *
حکم تابع المستثنی «بغیر» وأخواتها :
مما یلاحظ أن المستثنی «بغیر وأخواتها» مجرور دائما ؛ لأنه مضاف إلیه لکن إذا جاء بعده تابع (3) له جاز فی التابع أمران :
أحدهما : الجر مراعاة للفظ المستثنی المجرور ؛ نحو : قدمت المنح للفائزین غیر محمود وحسن.
ثانیهما : ضبطه بمثل ضبط المستثنی «بإلّا» ، لو حذفت «غیر» وحل محلها : «إلا». وذلک بأن نتخیل حذف : «غیر» ، ووقوع «إلا» موقعها ؛
ص: 322
وضبط المستثنی بغیر علی حسب ما تقتضیه الحالة الجدیدة بسبب : «إلا» ، ثم نضبط تابعه بمثل حرکته الجدیدة ، ففی المثال السابق : قدمت المنح للفائزین غیر محمود - یصیر : قدمت المنح للفائزین إلا محمودا ، فصار المستثنی منصوبا مع «إلا» بعد أن کان مجرورا مع الأداة : «غیر» ، فیصح فی تابعه أن یکون منصوبا مع «غیر» أیضا علی تخیل «إلا» المقدرة والملحوظة ، وأن المستثنی بها - علی فرض وجودها فی الکلام - منصوب ؛ فنقول : غیر محمود ، وحسن أو : غیر محمود وحسنا ؛ بافتراض أن کلمة : «محمود» مجرورة فی ظاهرها ؛ لأنها مستثنی للأداة «غیر» ، ومنصوبة فی التقدیر والتوهم ؛ لأنها مستثنی للأداة: «إلا» المقدرة ، ولهذا یصح النصب والجر فی کلمة : «ضرب» من قول الشاعر :
لیس بینی وبین قیس عتاب
غیر طعن الکلی ، وضرب الرقاب
ومثل : ما جاء الفائزون غیر محمود وحسن ، أو : حسنا ، أو : حسن ؛ لأننا لو وضعنا الأداة «إلا» مکان الأداة «غیر» لجاز فی المستثنی ، الذی کان مجرورا بعد «غیر» أمران بعد مجیء «إلا» هما النصب علی الاستثناء ، والرفع علی البدلیة ، هکذا : ما جاء الفائزون إلا محمودا - أو محمود ، فیجوز فی تابعه الأمران : النصب والرفع ؛ وهذا یجری أیضا فی تابع المستثنی بکلمة : «غیر» التی تجیء فی مکان : «إلا» فیجوز فیه الأمران زیادة علی جرّه. ومعنی هذا أن کلمة «حسن» وهی المعطوفة فی المثال السالف ، یجوز فیها الجر ، والنصب ، والرفع.
والنحاة یسمون الضبط الناشئ من التخیل السالف : «الإعراب علی التوهم» (1) أو : «علی المحل» وهو مقصور - فی باب الاستثناء - علی المستثنی «بغیر» وأخواتها الأسماء. ولا یجوز فی غیرها. ومع جوازه المشار إلیه یحسن البعد عنه ، وعن التوهم عامة ؛ حرصا علی أهم خصائص اللغة ، وتمسکا بسلامة البیان.
ص: 323
(ا) من أخوات «غیر» الاستثنائیة کلمة بمعناها ، هی : «بید» (1) (وقد یقال فیها : «مید») ، ولکنها تختلف عن «غیر» فی أمور :
منها : ملازمة «بید» للنصب دائما ، علی اعتبارها حالا مؤولة ، بمعنی : «مغایر» ، أو علی اعتبارها منصوبة علی الاستثناء ؛ فلا تکون صفة ، ولا تکون مرفوعة ، ولا مجرورة ، ولا تکون منصوبة إلا علی الاعتبار السابق.
ومنها : أنها لا تکون أداة استثناء إلا فی الاستثناء المنقطع.
ومنها : أنها مضافة دائما إلی مصدر مؤول من : «أنّ ومعمولیها». ولا یجوز قطعها عن الإضافة.
ومن الأمثلة : فلان غنیّ ، بید أنه جشع ، وأخوه فقیر بید أنه عزیز النفس.
(ب) تختلف الأداتان «غیر» و «إلا» فی أمور (2) ، أهمها :
1 - أن «إلا» تقع بعدها الجمل بنوعیها الاسمیة والفعلیة ، (وقد سبق (3) القول بأنه لا داعی للأخذ بما اشترطه بعض النحاة : لوقوع الجمل بعدها وهو : ألا یکون الاستثناء متصلا ، وأن یکون الکلام مفرغا - وأن یکون الفعل فی الجمل الفعلیة إما مضارعا ، نحو : ما النبیل إلا یعمل الخیر ، وإما ماضیا مقترنا بالحرف «قد» نحو : ما النبیل إلا قد قام بالواجب ، وإما ماضیا مسبوقا بماض آخر قبل «إلا» ، نحو : ما أرسلت رسالة إلا تمنیت أن ترضی صاحبها ... ؛ فالظاهر أن ما سبق لیس بالشروط المحتومة ، وإنما هو الصور الکثیرة) (4) أما «غیر» فلا تقع بعدها الجمل ، لأنها لا تضاف إلا للمفرد.
2 - یجوز أن یقال : عندی درهم غیر جید ، علی النعت ، ولا یجوز : عندی درهم إلا جید - لأن الکثیر فی وقوع «إلا» نعتا أن یکون ذلک فی أسلوب
ص: 324
یصح فیه الاستثناء. وهنا لا یصح الاستثناء ؛ لمخالفته الکثیر (1) ...
3 - یجوز أن یقال : قام غیر واحد. ولا یجوز : قام إلا واحد ؛ لأن حذف المستثنی منه لا یکون فی الکلام الموجب.
4 - یجوز أن یقال : أقبل الإخوان غیر واحد وزمیلة ، أو زمیلة ، بجر «زمیلة» مراعاة للفظ المعطوف علیه ، أو نصبها حملا علی المعنی المتخیل - کما شرحناه ، وأبدینا فیه رأینا من قبل (2) - ولا یجوز مع «إلا» تخیل سقوطها ، وإحلال «غیر» محلها ...
5 - یجوز أن یقال : ما جئتک إلا ابتغاء علمک ، ولا یجوز مع الأداة : «غیر» إلا الجر ، أی : ما جئتک لغیر ابتغاء معروفک ؛ لأن المفعول لأجله یجب أن یکون مصدرا. و «غیر» لیست مصدرا.
(ح) قد یقتضی المعنی أن تخرج «إلا» عن الحرفیة ، وعن أن تکون أداة استثناء ، لتکون اسما بمعنی : «غیر» وتعرب صفة - بشرطین (3).
أولهما : أن یکون الموصوف نکرة أو ما شبهها من معرفة یراد بها الجنس - کما سبق (4) - مثل المعرف بأل الجنسیة ...
وثانیهما : أن یکون جمعا أو شبه جمع ، والمراد بشبه الجمع : ما کان مفردا فی اللفظ ، دالا علی متعدد فی المعنی ؛ مثل : کلمة : «غیر» ... فی نحو : جاء غیر الغریب. فغیر الغریب - وأشباهه - متعدد حتما (5).
ص: 325
فمثال «إلا» الواقعة صفة لجمع حقیقی هو نکرة حقیقیة : سینهزم الأعداء ، فقد خرج لملاقاتهم جیش کبیر ، إلا القواد والرماة. فلا یصح أن تکون «إلا» هنا حرف استثناء ؛ خشیة أن یفسد المعنی ؛ إذ الاستثناء - کما شرحنا أول الباب - یقتضی أن یکون المعنی : خرج لملاقاتهم جیش کبیر طرحنا ونقصنا منه القواد والرماة ، ولا یعقل أن یخرج جیش کبیر دون قواده ورماته. ومثل : تتسع قاعة المحاضرة لجموع کثیرة إلا المحاضر ، فهی هنا - کما فی المثال السابق - بمعنی : غیر. ولا یصح أن تکون بمعنی «إلا» الاستثنائیة ؛ لئلا یترتب علی ذلک أن یکون المعنی : تتسع قاعة المحاضرة لجموع کثیرة طرحنا ونقصنا منهم المحاضر ، إذ لا یعقل أن تتسع قاعة المحاضرة للسامعین ، ولا تتسع للمحاضر ، فلا یمکن أن یجتمعوا لسماع محاضرة من لیس له مکان عندهم ، ومثل هذا قوله تعالی : (لَوْ کانَ فِیهِما)(1) آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، فلو کانت «إلا» حرف استثناء لکان المعنی : لو کان فیهما آلهة ، لیس من ضمنها الله لفسدتا. (أی : لو کان فیهما آلهة أخرجنا وطرحنا منها الله ، لفسدتا) وهذا معنی باطل ؛ إذ یوحی بأنهما لا تفسدان إذا کان الله من ضمن الآلهة ولم یخرج ولم یطرح. وهذا واضح البطلان. بخلاف ما لو کانت «إلا» اسما بمعنی : «غیر» ، نعتا للنکرة قبلها ؛ فإن المعنی یصح ویستقیم.
ومثال : «إلا» الاسمیة الواقعة نعتا لشبه الجمع الذی هو نکرة حقیقیة أن تقول للخائن : غیرک إلا الخائن یستحق الصفح ، فکلمة «إلا» اسم بمعنی : «غیر» ولا تصلح أن تکون استثناء لئلا یکون المعنی : غیرک من الخائنین یستحقّ الصفح إلا الخائن ، وفی هذا تناقض ظاهر. أو غیرک من الأمناء مطروحا وخارجا منهم الخائن یستحقون الصفح. والخائن لیس من الأمناء ، ولا علاقة له بهم حتی یستثنی منهم (2). فإذا جعلنا : «إلا» بمعنی : «غیر» صح المعنی واستقام وتعرب صفة لکلمة «غیر» الأولی ، ولا یصح أن تکون حرف استثناء لفساد المعنی وتناقضه ...
ومثالها نعتا للجمع الحقیقیّ الشبیه بالنکرة : یخشی عقاب الله العصاة إلا الصالحون
ص: 326
فالعصاة شبه نکرة لوجود «أل» (1) الجنسیة. و «إلا» بمعنی «غیر» صفة. ولو کان حرفا لفسد المعنی ؛ إذ یکون : یخشی عقاب الله العصاة ، والصالحون لا یخشونه.
أما شبه الجمع الشبیه بالنکرة فکالمفرد المعرف «بأل الجنسیة» نحو : الرجل إلا المریض یحتمل الأثقال.
وإذا کانت «إلا» الاسمیة نعتا فکیف نعربها؟ أتکون هی - وحدها - النعت : مباشرة ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرور بحرکات مقدرة علی آخره. علی حسب المنعوت ، وبعدها ما أضیفت إلیه مجرورا؟ أم تکون هی النعت - أیضا - ، مرفوعة ، أو منصوبة ، أو مجرورة ، علی حسب المنعوت ، ولکن صورتها کصورة الحرف ، فالحرکات لا تقدّر علیها ، وإنما تنتقل إلی المضاف إلیه الذی بعدها مباشرة ؛ فتکون «إلا» نعتا مضافا ، واللفظ بعدها هو المضاف إلیه ، وهو مجرور بکسرة مقدرة منع من ظهورها الحرکة المنقولة إلیه من «إلا»؟
رأیان ، وکلاهما معیب ، معترض علیه. وأولهما أقرب إلی القبول ، ومن الخیر ألا نلجأ فی أسالیبنا إلی استعمال «إلا» الاسمیة ما استطعنا لذلک
ص: 327
الذی أدواته أفعال (1) خالصة ،
والذی أدواته تصلح أن تکون أفعالا (2) وحروفا ...
(ا) فأما الأدوات التی هی أفعال خالصة فتنحصر فی فعلین ناسخین (3) جامدین ؛ هما : «لیس» و «لا یکون». (بشرط وجود «لا» النافیة قبل هذا الفعل المضارع ، الذی للغائب ، دون غیرها من أدوات النفی) ، ولا یصلح من أفعال «الکون» أداة للاستثناء إلّا هذا المضارع الجامد ، المنفی بالحرف : «لا» ، الدال علی الغائب ؛ مثل : زرعت الحقول لیس حقلا ، أو : زرعت الحقول لا یکون (4) حقلا. ومثل : ما ترکت الکتب لیس کتابا ، أو لا یکون کتابا ...
وحکم المستثنی بهما وجوب النصب ، باعتباره خبرا لهما ، لأنهما ناسخان جامدان ، من أخوات : «کان» (5). أما الاسم فضمیر مستتر وجوبا تقدیره : هو ؛ یعود علی «بعض» مفهوم من «کل» یرشد إلیه السیاق ، ویدل علیه المقام ضمنا (6) ؛
ص: 328
فمعنی «زرعت الحقول لیس حقلا» : لیس هو من المزروع ؛ أی : لیس بعض الحقول المزروعة حقلا. فالمزروع «کلّ» استثنی (1) بعضه.
ولا بد أن یکون هذا النوع من الاستثناء تامّا متصلا ، موجبا أو غیر موجب کما فی الأمثلة المذکورة ... وتعرب الجملة المشتملة علی الناسخ واسمه وخبره فی محل نصب حالا (2) ، أو تعتبر جملة استئنافیة لا محل لها من الإعراب ، ولا علاقة لها بما قبلها من الناحیة الإعرابیة فقط ؛ أما من الناحیة المعنویة فبینهما ارتباط (3).
(ب) وأما الأدوات التی تکون أفعالا تارة ، وحروفا تارة أخری - فهی ثلاثة : عدا - خلا - حاشا (وفی الأخیرة لغات (4) أشهرها : حاشا - حشا - حاش ...). ومعنی کل أداة من هذه الأدوات الفعلیة : «جاوز». ویتعین عند استعمالها أفعالا أن یکون الاستثناء بها تامّا متصلا ، موجبا أو غیر موجب ؛ کالشأن فی جمیع أدوات الاستثناء إذا کانت أفعالا ؛ فإنها لا تصلح للمفرّغ ، ولا المنقطع. 1 - فإن تقدمت علی کل منها «ما» المصدریة وجب اعتبارها أفعالا ماضیة خالصة - ولا تکون هنا إلا ماضیة جامدة ؛ (فهی جامدة فی حالة استعمالها أدوات استثناء) مثل : أحب الأدباء ما عدا الخدّاع - وأقرأ الصحف ما خلا التافهة ، وأشاهد تمثیل المسرحیات ما حاشا السوقیة ، غیر أن تقدّم «ما» المصدریة علی «حاشا» قلیل ؛ حتی قیل إنه ممنوع. ویحسن الأخذ بهذا الرأی.
وحکم المستثنی فی الصور السالفة التی تتقدم فیها «ما» المصدریة وجوب النصب ، باعتباره مفعولا به لفعل الاستثناء المذکور فی الجملة ، وفاعله ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : «هو» ، یعود علی «بعض» مفهوم من «کل» یدل علیه المقام - کما سبق - أمّا المصدر المؤول من «ما» المصدریة والجملة
ص: 329
الفعلیة التی بعدها (1) ، فهو فی محل نصب حال (2) مؤولة بالمشتق ، أو ظرف زمان. والتقدیر علی الأول : (أحب الأدباء مجاوزین الخداع ... مجاوزة التافهة ... و... مجاوزة السوقیة).
والتقدیر علی الثانی : (وقت مجاوزتهم الخداع ... وقت مجاوزتها التافهة ... وقت مجاوزتها السوقیة) (3) ... وکلا التقدیرین حسن ، ولا یکاد یختلف فی الدلالة عن الآخر.
2 - أما إذا لم تتقدم «ما» المصدریة علی الکلمات الثلاث السابقة فیجوز اعتبارها أفعالا ماضیة جامدة تنصب المستثنی ، مفعولا لها ، وفاعلها ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : «هو» - کما سلف - والجملة فی محل نصب حال ، أو لا محل لها من الإعراب ، مستأنفة. ویجوز اعتبارها حروف جر ، والمستثنی مجرور بها ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما أو بما یشبهه. أو أنهما لیسا فی حاجة - إلی تعلق. علی اعتبار الثلاثة حروف جر شبیهة بالزائد (4) ، (وحرف الجر الشبیه بالزائد لا یحتاج إلی تعلیق) ، ففی الأمثلة السابقة یجوز : أحب الأدباء عدا الخداع ، أو : الخداع - وأقرأ الصحف خلا التافهة ، أو التافهة - وأشاهد تمثیل المسرحیات حاشا السوقیة أو السوقیة. فکلمات : (الخدّاع ، التافهة ، السوقیة) - یجوز فی کل منها النصب ، فیکون المستثنی مفعولا به ، والعامل فعلا ماضیا جامدا. ویجوز فیها الجر والعامل حرف جرّ (5) ...
ص: 330
وقد وردت أمثلة مسموعة وقعت فیها «ما» قبل الکلمات الثلاث : (خلا - عدا - حاشا) (1) ووقع فیها المستثنی مجرورا وهی ؛ أمثلة شاذة لا یصح
ص: 331
القیاس علیها. وقد أوّلها النحاة لیصححوها ؛ فقالوا : إن «ما» التی وقعت قبلها لیست مصدریة ، ولکنها زائدة. ولا خیر فی هذا التأویل ، لأن العربی الذی نطق بتلک الأمثلة لا یعرف «ما» المصدریة ، ولا الزائدة ، ولا شیئا من هذه المصطلحات التی ظهرت أیام تدوین العلوم ، وجمعها ، وتألیفها ، ولا شأن له بها. هذا إلی أن التأویل السابق - کشأن کثیر من نظائره - قد یخضع لغة قبیلة ولهجتها لأخری تخالفها من غیر علم أصحابها. وهذا غیر سائغ ؛ کما أشرنا مرارا.
ص: 332
(ا) هل تقع الجملة المکونة من فعل الاستثناء وفاعله نعتا؟
ننقل هنا رأیین مفیدین ، وإن کان بینهما نوع تعارض ...
أولهما : ما جاء فی الهمع (1) ونصه (2) :
(من أدوات الاستثناء : «لیس» ، «ولا یکون» ، - وهذه هی الناقصة ، ولیست أخری ارتجلت للاستثناء -. وینصبان المستثنی علی أنه خبر لهما ، والاسم ضمیر مستتر ، لازم الاستتار - کما تقدم فی مبحث الضمیر (3) - نحو : قام القوم لیس محمدا ، وخرج الناس لا یکون علیّا. ولفظ : «لا» قید فی کلمة : «یکون» فلو نفیت بما ، أو : لم ، أو : لمّا ، أو : لن ... لم تقع فی الاستثناء. ومن شواهد «لیس» قول الشاعر :
عددت قومی کعدید الطیس
إذ ذهب القوم الکرام لیسی (4)
وقوله علیه السّلام : یطبع المؤمن علی کل خلق ، لیس الخیانة والکذب.
(وقد یوصف ب «لیس ، ولا یکون» ، حیث یصح الاستثناء ؛ بأن یکون - أی : المستثنی منه - نکرة منفیة (5). قال ابن مالک : أو معرفا بلام الجنس. نحو : ما جاءنی أحد لیس محمدا ، وما جاءنی رجل لا یکون بشرا. وجاءنی القوم لیسوا إخوتک. قال أبو حیان : ولا أعلم فی ذلک خلافا ، إلا أن المنقول هو اختصاصه بالنکرة ، دون المعرف بلام الجنس.
(ولا یجوز فی النکرة المؤنثة : نحو : أتتنی امرأة لا تکون فلانة ، إذ لا یصح الاستثناء منها ، ولا فی المعرفة ؛ نحو جاء القوم لیسوا إخوتک. بل یکونان فی موضع نصب علی الحال.
(وإذا وصف بهما رفعا ضمیر الموصوف المطابق له ؛ فیبرز (6) ؛ نحو : ما جاءتنی
ص: 333
امرأة لیست أو لا تکون فلانة ، وما جاءنی رجال لیسوا زیدا ، أو نساء لسن الهندات.
(قال السیرافی : أجازوا الوصف «بلیس ، ولا یکون» لأنهما نص فی نفی المعنی عن الثانی. وهذا معنی الاستثناء ، ولیس ذلک فی «عدا وخلا» ، إلا بالتضمن ، فلم یوصف بهما ؛ لأنهما لیسا موضعی جحد ؛ فلا یقال : ما أتتنی امرأة عدت هندا ، أو : خلت دعدا) اه. همع - بتیسیر.
ثانیهما : ما جاء فی المفصّل (1) ونصه :
«قد یکون : «لیس ، ولا یکون» وصفین لما قبلهما من النکرات ، تقول : أتتنی امرأة لا تکون هندا ، فموضع «لا تکون» رفع ؛ بأنه وصف لامرأة. وکذلک تقول فی النصب والجر : رأیت امرأة لیست هندا ، ولا تکون هندا ، ومررت بامرأة لیست هندا ، ولا تکون هندا.
ولا یوصف «بخلا وعدا» کما وصف ب «لیس ، ولا یکون» فلا تقول : أتتنی امرأة خلت هندا ، وعدت جملا. وذلک أن : «لیس ولا یکون» لفظهما جحد ، فخالف ما بعدهما ما قبلهما ؛ فجریا فی ذلک مجری «غیر» ، فوصف بهما کما یوصف «بغیر». وأما «خلا وعدا» فلیسا کذلک ، وإنما یستثنی بهما علی التأویل ، لا لأنهما جحد. ولما کان معناهما المجاوزة والخروج عن الشیء فهم منهما مفارقة الأول ، فاستثنی بهما لهذا المعنی ، ولم یوصف بهما ؛ لأن لفظهما لیس جحدا ؛ فلیس جاریّا مجری «غیر») ا. ه.
ویلاحظ : أن صاحب «المفصّل» لم یقید وقوعهما نعتا بالموضع الذی یصلحان فیه للاستثناء ، کما قیّده صاحب الهمع ، وأن الأمثلة التی ذکرها صاحب المفصل صالحة للنعت هی التی نصّ صاحب الهمع علی عدم صلاحها نعتا. فکیف ذلک؟
لا مفر من إعراب الجملة الفعلیة فی هذه الأمثلة نعتا خالصا لا یصلح للاستثناء ؛ لأن النکرة التی قبل الفعلین لیست عامة ؛ فلا تصلح «مستثنی منه» یتسع لإخراج المستثنی فالجملة نعت محض - کالشأن فی کل الجمل الواقعة بعد النکرات المحضة - وبهذا یتلاقی الرأیان ویتفقان.
ص: 334
(ب) لیست : «حاشا» مقصورة علی الاستثناء ؛ وإنما هی ثلاثة أنواع : أولها : الاستثنائیة ؛ وهی فعل ماض جامد ، وقد سبق ما یختص بها (1).
وثانیها : أن تکون. فعلا ماضیا متعدیا متصرفا ؛ بمعنی : «استثنی» ، مثل : (حاشیت مال غیری أن تمتد له یدی - حین نتخیر موضوعات الکلام نحاشی الموضوعات الضارّة - إذا دعوت لحفل فحاش من لا یحسن أدب الاجتماع) (2).
ثالثها : أن تکون للتنزیه وحده (3) أی : للدلالة علی تنزیه ما بعدها من العیب (4) وهی اسم مرادف لکلمة : «تنزیه» التی هی مصدر : نزّه. وتنصب علی اعتبارها مصدرا قائما مقام فعل من معناه ، محذوف وجوبا ، ویغنی هذا المصدر عن النطق بفعله المحذوف (5) ؛ نحو : حاشا لله ، أی : تنزیها لله من أن یقترب منه السوء. فکلمة : «حاشا» - بالتنوین - مفعول مطلق ، منصوب بالفعل المحذوف - وجوبا ، الذی من معناه ، وتقدیره : «أنزه». والجار والمجرور متعلقان بها. ویصح أن یقال فیها : حاش لله ، بغیر تنوین ؛ فتکون «حاش» مفعولا مطلقا ، ولکنه مضاف ، واللام بعده زائدة (6) ، وکلمة «الله» مضاف إلیه مجرور ، کما یصح أن یقال فیها : حاش الله ، بغیر اللام الزائدة بین المضاف والمضاف إلیه.
ص: 335
(ح) هل یحذف المستثنی؟ وهل تحذف أداة الاستثناء؟
أما حذف الأداة فالأصح أنها لا تحذف. وأما حذف المستثنی فیجوز بشروط ثلاثة : فهم المعنی ، وأن تکون الأداة هی : «إلا» أو : «غیر» وأن تسبقهما کلمة : «لیس» (1). نحو : قبضت عشرة لیس إلا ، أو : لیس غیر. أی لیس المقبوض إلا العشرة. ولیس المقبوض غیر العشرة ... ومن القلیل أن یحذف المستثنی بعد : «لا یکون». بشرط فهم المعنی أیضا ، نحو : قبضت عشرة. لا یکون ... أی لا یکون غیرها ... لا یکون المقبوض غیرها.
(د) من أدوات الاستثناء «لمّا» بمعنی «إلا» وقد وردت فی أمثلة مسموعة إما فی کلام منفی ؛ مثل قوله تعالی : (إِنْ)(2) کُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَیْها حافِظٌ) وإما فی کلام مثبت ولکنه مقصور علی بضعة أسالیب سماعیة ؛ أشهرها : نشدتک الله لما فعلت کذا. وعمرک الله لمّا فعلت کذا.
وإذا کانت للاستثناء وجب إدخالها علی الجملة الاسمیة أو علی الماضی لفظا لا معنی کالمثالین السالفین (3) إذا المعنی فیهما «إلا أن تفعل کذا» ویستحسن النحاة الاقتصار علی المسموع.
(ه) یذکر بعض النحاة فی آخر باب الاستثناء تفصیل الکلام علی «لا سیما» من ناحیة ترکیبها ؛ ومعناها ، وعلاقتها بالاستثناء ، وضبط الاسم الذی بعدها ، وإعرابهما ... ویذکرها فریق آخر فی باب الموصول ، بحجة أن «ما» المتصلة بها قد تکون موصولة ... وقد آثرنا ذکرها فی باب الموصول (4) ؛ لأنه أسبق ، وصلتها به أقوی.
ونزید هنا أن بعض الرواة نقل لها أخوات مسموعة (5) ، منها : «لا مثل ما» ... - لا سوی ما (6) ... - فهذان یشارکان : «لا سیما» فی معناها وفی
ص: 336
أحکامها الإعرابیة التی فصلناها فیما سبق (1).
ومنها : «لا تر ما ...» ، و «لو تر ما» ... ، وهما بمعناها - کما قلنا فی الموضع المشار إلیه - ولکنهما یخالفانها فی الإعراب ؛ فهذان فعلان لا بد من رفع الاسم بعدهما ؛ ولا یمکن اعتبار «ما» زائدة مع جر الاسم بعدها بالإضافة ، لأن الأفعال لا تضاف. والأحسن أن تکون «ما» موصولة وهی مفعول للفعل : «تر» وفاعله ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : أنت. والاسم بعدها مرفوع علی اعتباره خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة.
وإنما کان الفعل مجزوما بعد «لا» لأنها للنهی. والتقدیر فی «قام القوم لا تر ما علیّ» : لا تبصر (أیها المخاطب الشخص) الذی هو علیّ ؛ فإنه فی القیام أولی منهم. أو تکون «لا» للنفی ، وحذفت الألف من آخر الفعل سماعا ، وشذوذا.
وکذلک بعد «لو» سماعا. والتقدیر : لو تبصر الذی هو علیّ لرأیته أولی بالقیام.
والجدیر بنا أن نقتصر فی استعمالنا ، علی : «ولا سیما» لشیوعها قدیما وحدیثا.
ص: 337
(1) ظهر البدر کاملا - نجا الغریق شاحبا
أبصرت النجوم متوهجة - أرسل التاجر البضاعة ملفوفة
فحص الطبیب مریضه جالسین - صافح المضیف ضیفه واقفین
البرد - قارسا - ضارّ - الشمس - شدیدة - مؤذیة
النزول من القطار - متحرکا - خطر - رکوب السیارة - ماشیة - وخیم العاقبة ،
تعریفه :
وصف (2) ، منصوب (3) ، فضلة (4) ، یبین هیئة ما قبله ؛ - من فاعل ، أو مفعول به
ص: 338
أو منهما معا ، أو من غیرهما (1) - وقت وقوع الفعل (2). کالکلمات التی تحتها خط فی الأمثلة المعروضة.
وتعرف دلالته علی الهیئة بوضع سؤال کهذا : کیف کان شکل البدر حین ظهر؟ أو : کیف کانت صورته؟ فیکون الجواب : هو لفظ الحال السابقة ؛ أی : کاملا ، أو : مستدیرا ... و... و... وکذا الباقی.
ولیس من اللازم أن تکون الحال فی کل الاستعمالات وصفا ، وإنما هذا هو الغالب (3) ، ولا أن تکون فضلة ؛ فهذا غالب أیضا ، إذ تکون بمنزلة العمدة أحیانا فی إتمام المعنی الأساسی للجملة ، أو فی منع فساده ؛ فالأولی ؛ کالحال التی تسدّ مسد الخبر (4) ، فی مثل : امتداحی الغلام مؤدّبا ؛ فإن المعنی الأساسی - هنا لم یتم إلا بذکر الحال. وکالحال فی قوله تعالی : (... وَإِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی) وقوله تعالی : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِینَ،) وقول الشاعر :
ص: 339
ولست ممن إذا یسعی لمکرمة
یسعی وأنفاسه بالخوف تضطرب
فالمعنی الأساسی لا یتم لو حذفت الحال : «کسالی» أو : «جبارین» أو : «أنفاسه تضطرب»؟ والثانیة (وهی الحال التی یفسد معنی الجملة بحذفها) ؛ مثل : لیس المیت من فارق الحیاة ، إنما المیت من یحیا خاملا لا نفع له ؛ فلو حذفنا الحال ، وقلنا : المیت من یحیا - لوقع التناقض الذی یفسد المعنی. ومثل کلمة : «لاعبین» فی قوله تعالی : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَیْنَهُما لاعِبِینَ.) فلو حذفت الحال (لاعبین) لفسد المعنی أشد الفساد (1) ...
هذا ، وما یبین الحال هیئته من فاعل ، أو مفعول به ، أو : منهما معا ؛ أو : غیرهما ، یسمی : «صاحب الحال» (2).
والتعریف السابق مقصور علی الحال «المؤسّسة» دون «المؤکدة» ، لأن المؤسسة هی التی تبین هیئة صاحبها ، أما المؤکدة فلا تبین هیئة. ومثال الأولی : ارتمی السارق صارخا. ومثال الثانیة : ولّی الحزین منصرفا ، وسیجیء بیانهما وتفصیل الکلام علیهما قریبا(3).
* * *
أقسام (4) الحال ، والکلام علی کل قسم :
تتعدد أقسام الحال بتعدد الاعتبارات المختلفة التی ینبنی علیها التقسیم. وفیما یلی أشهر هذه الاعتبارات ، وما تؤدی إلیه.
الأول : انقسام الحال باعتبار ثبات معناها انقسام الحال باعتبار ثبات معناها وملازمته (5) شیئا (6) آخر ، أو عدم ذلک - إلی «منتقلة» ، وهی الأکثر ، «وثابتة» ، وهی الأقل.
فالمنتقلة : هی التی تبین هیئة شیء (7) مدة مؤقتة ، ثم تفارقه بعدها ، فلیست دائمة الملازمة له : مثل : أقبل الرابح ضاحکا - أسرع البرق مشتعلا - شاهدت
ص: 340
کتائب النمل مهاجرة - ... و... فکل حال من الثلاثة : (ضاحکا - مشتعلا - مهاجرة ...) غیر دائم ، وإنما یوجد مدة تقصر أو تطول ، ثم ینقطع. «فالضحک» لا یلازم صاحبه إلا مدة محددة ، وکذلک : «الاشتعال» ، أو «المهاجرة».
والثابتة : هی التی تبیّن هیئة شیء تلازمه - غالبا - ولا تکاد تفارقه ، وتتحقق الملازمة فی إحدی صور ثلاث :
(ا) أن یکون معناها التأکید. وهذا یشمل :
1 - أن یکون معناها مؤکّدا مضمون جملة قبلها ، بشرط أن یکون هذا المضمون أمرا ثابتا ملازما فی الغالب ، فیتفق معنی الحال ومضمون الجملة ؛ ویترتب علی هذا أن تکون الحال ثابتة ملازمة صاحبها تبعا لذلک ؛ نحو : خلیل أبوک رحیما ، «فرحیما» حال من «أب» الذی هو صاحبها الملازمة له. ومعناها - وهو : «الرحمة» - یوافق المعنی الضمنی للجملة التی قبلها. وهو : «أبوة خلیل» ، لأن هذه الأبوة لا تتجرد من الرحمة ، کما أن المعنی الضمنی للجملة هو معنی الحال ، إذ مضمون : «خلیل أبوک» أنه رحیم ؛ بداعی الأبوة التی تقتضی الرحمة والشفقة - کما سلف - فلهذا کان معنی الحال مؤکدا مضمون الجملة التی قبلها. والحال فیها ملازمة صاحبها.
ویشترط فی هذه الجملة التی قبلها أن تکون اسمیة ، وأن یکون طرفاها (وهما : المبتدأ والخبر) معرفتین ، جامدتین (1). ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا وعن عاملها ، وأن یحذف عاملها وصاحبها (2) وجوبا ؛ طبقا للتفصیل الذی سیأتی ...
ص: 341
2 - وکذلک یشمل أن تکون مؤکدة لعاملها ؛ إما فی اللفظ والمعنی معا ، نحو قوله تعالی : (وَأَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً،) وإما فی المعنی فقط ، نحو قوله تعالی : (وَالسَّلامُ عَلَیَّ یَوْمَ وُلِدْتُ ، وَیَوْمَ أَمُوتُ ، وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا،) فکلمة : «حیّا». حال من فاعل المضارع : أبعث ، أی : من الضمیر المستتر (أنا). ومعناها : الحیاة ، وهو معنی الفعل : أبعث ؛ لأن البعث هو الحیاة بعد الموت. فمعناها موکّد لمعنی عاملها. والرسالة صفة ملازمة للرسول ، وکذا حیاة المبعوث ؛ فکلاهما وصف حلّ بصاحبه لا یفارقه.
3 - ویشمل أیضا أن تکون مؤکّدة بمعناها معنی صاحبها مع ملازمتها صاحبها ؛ نحو : اختلف کل الشعوب جمیعا. فکلمة : «جمیعا» حال مؤکدة معنی صاحبها ، وهو : «کلّ» ، لأن معنی الجمعیة هو معنی الکلیة ، لا یفترقان وسنعود للکلام علی أنواع من المؤکدة بمناسبة أخری (1).
(ب) أن یکون عاملها دالّا علی تجدّد صاحبها ؛ بأن یکون صاحبها فردا من نوع یستمر فیه خلق الأفراد وإیجادها علی مر الأیام ، أی : أن لذلک الفرد أشباه ونظراء توجد وتخلق بعد أن لم تکن. ویتکرر هذا الخلق والإیجاد طول الحیاة ؛ نحو : خلق الله جلد النمر منقّطا ، وجلد الحمار الوحشیّ مخطّطا ؛ فکلمة «منقطا» حال ، وکذا کلمة «مخططا» ، وعاملهما : ، «خلق» ، وهو یدل علی تجدّد هذا المخلوق ، أی : إیجاد أمثاله ، واستمرار الإیجاد فی الأزمنة المقبلة.
(ح) أحوال مرجعها السماع ، وتدل علی الدوام بقرائن خارجیة ؛ مثل ؛ «قائما» فی قوله تعالی : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِکَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ - قائِماً بِالْقِسْطِ،) فکلمة «قائما» حال ، وعاملها الفعل : «شهد» ، وصاحبها : «الله». ودوام القیام بالقسط معروف من أمر خارجی عن الجملة ؛ هو : صفات الخالق. ومثل : «مفصّلا» فی قوله تعالی : (وَهُوَ الَّذِی أَنْزَلَ إِلَیْکُمُ الْکِتابَ مُفَصَّلاً)(2).
* * *
الثانی : انقسامها بحسب الاشتقاق والجمود (3) إلی : «مشتقة» - وهی الغالبة ؛
ص: 342
کالأمثلة السالفة - وإلی «جامدة» وهی القلیلة ، ولکنها مع قلتها قیاسیة فی عدة مواضع (1) ؛ سواء أکانت جامدة مؤولة بالمشتق ، أم غیر مؤولة (2). وأشهر مواضع المؤولة بالمشتق أربعة :
(ا) أن تقع الحال «مشبّها به» فی جملة تفید التشبیه إفادة تبعیّة غیر مقصودة لذاتها. نحو : ترنم المغنّی بلبلا - سارت الطیارة برقا - هجم القط أسدا. فالکلمات الثلاث : (بلبلا - برقا - أسدا) أحوال منصوبة مؤولة بالمشتق ، أی : سارّا - سریعة - جریئا. وکل حال من الثلاث یعدّ بمنزلة المشبه به. (أی : کالبلبل - کالبرق - کالأسد) ، ولا یعتبر مشبها به مقصودا حقیقة ، لأن التشبیه لیس المقصود الأول هنا ؛ إنما المقصود الأول هو المعنی الحادث عند التأویل بالمشتق.
(ب) أن تکون الحال دالة علی مفاعلة : (بأن یکون لفظها أو معناها جاریا علی صیغة «المفاعلة» ؛ وهی صیغة تقتضی - فی الأغلب - المشارکة من جانبین أو فریقین فی أمر) ، نحو ؛ سلمت البائع نقوده مقابضة ؛ أو سلمت البائع النقود یدا بید ؛ فکلمة : «مقابضة». حال جامدة ، ولفظها علی صیغة : «المفاعلة» مباشرة ، ومعناها : «مقابضین» وهذا یستلزم اشتراک البائع والمتکلم فی عملیة القبض. ولهذا کانت الحال هنا مبینة هیئة الفاعل والمفعول به معا ، أی : أن صاحب الحال هو الأمران.
ص: 343
ومثلها : یدا بید (1) ، إذ معنی الکلمتین - لا لفظهما - جاریا علی صیغة : «المفاعلة» غیر المباشرة ؛ لأن معناهما : «مقابضة» وتأویلها : «مقابضین» أیضا. والأسهل عند الإعراب أن تقول : «یدا» حال من الفاعل والمفعول به معا. و: «بید» جار ومجرور متعلقان بمحذوف ، صفة للحال. فمن مجموع الصفة والموصوف ینشأ معنی الحال ، وهو : «المفاعلة» المقتضیة للمشارکة. فهذه المشارکة لا تتحقق إلا باجتماع الصفة والموصوف فی المعنی. أما فی الإعراب فکلمة : «یدا» وحدها هی الحال. وهی أیضا الموصوف ، و «بید» صفة.
ومثل هذا یقال فی : «کلّمت المنکر عینه إلی عینی (2) - أی : مواجهة أو مقابلة ؛ بمعنی مواجهین ... فکلمة «عین» حال (3) من الفاعل والمفعول به معا. وهی مضاف ، «والهاء» مضاف إلیه. و «إلی عینی» جار ومجرور ، ومضاف إلیه. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ؛ والتقدیر ؛ عینه المتجهة إلی عینی ... ومجموع الصفة والموصوف هو الذی یوجد صیغة : «المفاعلة» برغم أن الإعراب یقتضی التوزیع علی الطریقة السالفة ؛ فتکون : «عین» الأولی وحدها هی الحال والموصوف معا ، وما بعدها صفة ...
ومثل هذا أیضا : کلمت الصدیق فاه إلی فیّ (أی : فمه إلی فمی) ، بمعنی مشافهة ؛ المؤولة بکلمة : مشافهین.
ومثل : ساکنته غرفته إلی غرفتی ؛ بمعنی : ملاصقة ، التی تؤول بکلمة : ملاصقین ، وجالسته جنبه إلی جنبی ، کذلک ... وکل هذا قیاسی فی الرأی الأحسن.
(ح) أن تکون دالة علی سعر ؛ نحو : بع القمح. کیلة بثلاثین ، أی : مسعّرا. فکلمة «الکیلة» حال منصوبة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف ، صفتها. ومن مجموع الصفة والموصوف یکون المشتق المؤول.
ص: 344
(د) أن تکون الحال دالة علی ترتیب ؛ نحو ادخلوا الغرفة واحدا واحدا (1). أو : اثنین اثنین ، أو : ثلاثا ثلاثا ... والمعنی : ادخلوها : مترتّبین. وضابط هذا النوع : أن یذکر المجموع أوّلا مجملا ، مشتملا - ضمنا - علی جزأیه المکررین ، ثم یأتی بعده تفصیله مشتملا - صراحة - علی بیان الجزأین المکررین.
ومن أمثلته : یمشی الجنود ثلاثة ثلاثة. أو أربعة أربعة ... ینقضی الأسبوع یوما یوما ، وینقضی الشهر أسبوعا أسبوعا. وتنقضی السنة شهرا شهرا ، وهکذا (2).
ومن مجموع الکلمتین المکررتین تنشأ الحال المؤولة ؛ الدالة علی الترتیب ولا یحدث الترتیب من واحدة فقط. لکن الأمر عند الإعراب یختلف ؛ إذ یجب إعراب الأولی وحدها هی الحال من الفاعل - کما فی الأمثلة السالفة - أو من المفعول به ، أو من غیره علی حسب الجمل الأخری التی تکون فیها.
أما الکلمة الثانیة المکررة فیجوز إعرابها توکیدا لفظیّا للأولی ، کما یجوز - وهذا أحسن - أن تکون معطوفة علی الأولی بحرف العطف المحذوف «الفاء» أو : «ثمّ» - دون غیرهما من حروف العطف (3) - ، فالأصل : ادخلوا الغرفة
ص: 345
واحدا فواحدا ، أو : ثم واحدا - یمشی الجنود ثلاثة فثلاثة ، أو : ثم ثلاثة ... (1) ویصح أن یقال : ادخلوا الأول فالأول (2) ... و... و... فیکون حرف العطف ظاهرا ، وما بعده معطوف علی الحال التی قبله. ولکن الحال هنا - مع صحتها - فقدت الاشتقاق والتنکیر معا.
(ه) أن تکون مصدرا صریحا (3) متضمنا معنی الوصف (أی : المشتق) ؛ بحیث تقوم قرینة تدل علی هذا ؛ نحو اذهب جریا لإحضار البرید ؛ أی : جاریا - تکلم الخطیب ارتجالا ، أی : مرتجلا (4) - حضر الوالد بغتة. أی : مفاجئا ...
لا تثق بالکذوب ، واعلم یقینا
أن شرّ الرجال فینا الکذوب
أی : متیقنا.
وقد ورد - بکثرة - فی الکلام الفصیح وقوع المصدر الصریح المنکّر حالا ؛ ولکثرته کان القیاس علیه مباحا فی رأی بعض المحققین ، وهو رأی - فوق صحته - فیه تیسیر ، وتوسعة ، وشمول لأنواع من المصادر أجازها فریق ، ومنعها فریق. ولا معنی لتأویل المصادر الکثیرة المسموعة تأویلا یبعدها عن المصدر ، کما فعل بعض النحاة من ابتکار عدة أنواع من التأویل بغیر
ص: 346
داع (1) ؛ إذ لم یراعوا للکثرة حقها الذی یبیح القیاس (2).
* * *
وأشهر مواضع الحال الجامدة التی لا تتأول بالمشتق سبعة :
(ا) أن تکون الحال الجامدة موصوفة بمشتق (3) أو بشبه (4) المشتق ؛ نحو (ارتفع السعر قدرا کبیرا - وقفت القلعة سدّا حائلا) - (تخیل العدو القلعة جبلا فی طریقه - عرفت جبل المقطم حصنا حول القاهرة).
والنحاة یسمون هذه الحال الموصوفة : «بالحال المؤطّئة» ، أی : الممهّدة لما بعدها ؛ لأنها تمهد الذهن ، وتهیئه لما یجیء بعدها من الصفة التی لها الأهمیة
ص: 347
الأولی دون الحال ، فإن الحال غیر مقصودة ؛ وإنما هی مجرد وسیلة وطریق إلی النعت ؛ ولهذا یقسم النحاة الحال قسمین : أحدهما : «المؤطّئة» ، وتسمّی أیضا : «غیر المقصودة» ، وهی التی شرحناها ، وثانیهما : «المقصودة مباشرة» ؛ وهی المخالفة للسالفة.
(ب) أن تکون دالة علی شیء له سعر ؛ نحو : اشتریت الأرض قیراطا بألف قرش ، وبعتها قصبة بدینار - رضیت بالعسل رطلا بعشرة قروش ، وبعته أقة بثلاثین ... فالکلمات : (قیراطا - قصبة - رطلا - أقة -) حال جامدة. وهی من الأشیاء التی تسعّر ؛ کالمکیلات ، والموزونات ، والمساحات ...
(ح) أن تکون دالة علی عدد ؛ نحو : اکتمل العمل عشرین یوما ، وتم عدد العاملین فیه ثلاثین عاملا. فکلمة : «عشرین» و «ثلاثین» ، .... حال.
(د) أن تکون إحدی حالین ینصبهما أفعل التفضیل ، متحدتین فی مدلولهما ، وتدل علی أن صاحبها فی طور من أطواره مفضّل (1) علی نفسه أو علی غیره ، فی الحال الأخری ، نحو : هذا الخادم شبابا أنشط منه کهولة ، فللخادم أطوار مختلفة ؛ منها طور الشباب ، وطور الکهولة ، وهو فی طور الشباب مفضل علی نفسه فی طور الکهولة ، وناحیة التفضیل هی النشاط.
ومثل : الشتاء بردا أشد منه دفئا. فللشتاء أطوار ، منها طور البرودة ، وطور الدفء. وهو فی ناحیة البرد أشد منه فی ناحیة الدفء. ومثل : الحقل قصبا أنفع منه قمحا.
ومن الأمثلة : الولد غلاما أقوی من الفتاة غلامة (2) - المنزل سکنا أحسن من الفندق إقامة ...
وکلتا الحالین منصوبة بأفعل التفضیل. والأکثر أن تتقدم إحداهما علیه ، وهی المفضّلة ، وتتأخر الثانیة (3).
ص: 348
(ه) أن تکون نوعا من أنواع صاحبها المتعددة ؛ نحو : هذه أموالک (1) بیوتا ؛ فکلمة : «بیوتا» حال ، وصاحبها - وهو : أموال - له أنواع متعددة (منها : البیوت ، والزروع ، والمتاجر ، والثیاب ...) ونحو : هذه ثروتک کتبا وهذه کتبک هندسة ...
(و) أن یکون صاحبها نوعا معینا وهی فرع منه ؛ نحو : رغبت فی الذهب خاتما - انتفعت بالفضة سوارا - تمتعت بالحریر قمیصا ... و... فکل من الذهب ؛ والفضة ، والحریر ، نوع ، والحال فرع منه (2).
(ز) أن تکون هی النوع وصاحبها هو الفرع المعین ؛ نحو : رغبت فی الخاتم ذهبا - انتفعت بالسوار فضة - تمتعت بالقمیص حریرا (3) ...
* * *
الثالث : انقسامها من ناحیة التنکیر والتعریف :
لا تکون الحال إلا نکرة (4) ، کالأمثلة السالفة. وقد وردت معرفة فی ألفاظ مسموعة لا یقاس علیها ، ولا یجوز الزیادة فیها. ومنها کلمة «وحد» فی قولهم : جاء الضیف وحده - سایرت الزمیل وحده. فکلمة : «وحد» حال ، معرفة ؛
ص: 349
بسبب إضافتها للضمیر ؛ وهی جامدة مؤولة بمشتق من معناها ، أی : منفردا ، أو متوحدا(1).
ومنها : رجع المسافر عوده علی بدئه ، فکلمة : «عود» حال ، وهی معرفة ؛ لإضافتها للضمیر ، ومؤولة بالمشتق ، علی إرادة : رجع عائدا ، أو راجعا علی بدئه. والمعنی : رجع عائدا فورا ، أی : فی الحال : أو : رجع علی الطریق نفسه.
ومنها : ادخلوا الأول فالأول (2) ، أی : مترتبین ، ومنها : جاء الوافدون الجمّاء الغفیر (3) ، أی : جمیعا.
ومنها قولهم فی رجل أرسل إبله أو حمره الوحشیة إلی الماء ، مزاحمة غیرها ومعارکة : أرسلها العراک ، أی : معارکة ، مقاتلة (4).
* * *
ص: 350
من الألفاظ التی وقعت حالا مع أنها معرفة بالإضافة ، قولهم : تفرق المهزومون أیادی سبإ. علی تأویل : متبدّدین ، لا بقاء لهم. أو علی تأویل «مثل أیادی سبإ» (1). وحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه ؛ فأعرب حالا مثله (2).
ومنها : طلبت الأمر جهدی ، أو : طاقتی. علی تأویل ، جاهدا ، ومطیقا (3).
ومنها : العدد من ثلاثة إلی عشرة ، مضافا إلی ضمیر المعدود ؛ نحو : مررت بالإخوان ثلاثتهم ... أو خمستهم ... أو سبعتهم ... علی تأویل مثلّثا إیاهم ، أو مخمّسا ، أو مسبعا ...
ویجوز إتباعه لما قبله ؛ فلا یعرب حالا ، وإنما یعرب توکیدا معنویّا : بمعنی جمیعهم. ویضبط لفظ العدد بما یضبط به التوکید.
والصحیح أن هذا لیس مقصورا علی العدد المفرد ؛ بل یسری علی المرکب ؛ نحو : جاء القوم خمسة عشرهم ؛ بالبناء علی الفتح (4) فی محل نصب ، أو محل غیره علی حسب حاجة الجملة.
* * *
ص: 351
الرابع : انقسامها من ناحیة أنها هی نفس صاحبها فی المعنی أو لیست کذلک.
والغالب أنها هی نفسه ؛ کالحال المشتقة فی نحو : صالح المتألم صارخا.
- شاهدت الطیور مبکرة ... فالصارخ فی الجملة - هو المتألم ، والمتألم هو الصارخ ؛ والمبکرة هی الطیور ، والطیور هی المبکرة.
وغیر الغالب أن تکون مخالفة له ، کالحال الواقعة مصدرا صریحا فی نحو : خرج الولد جریا ، وجاء القادم بغتة ، وأشباههما ؛ فإن الجری لیس هو الولد ، والولد لیس هو الجری. والبغتة لیست هی القادم ، والقادم لیس هو البغتة. وقد سبق (1) الکلام علی صحة وقوع المصدر حالا ، وهذه المخالفة لا تؤثر فی المعنی مع القرینة.
* * *
الخامس : انقسامها بحسب تأخیرها عن صاحبها ، أو تقدیمها علیه ، وبحسب تأخیرها عن عاملها أو تقدیمها علیه - إلی ثلاثة أقسام فی کل (2). هی : وجوب تأخیرها ، ووجوب تقدیمها ، وجواز الأمرین.
(ا) یجب تأخیرها عن صاحبها إذا کانت محصورة (3) ، نحو قوله تعالی : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ.) فلا یصح تقدیم الحال وحدها ، لأن تقدیمها یفسد سلامة الترکیب ، ویزیل الحصر ، فیفوت الغرض البلاغی منه. ولو تقدمت معها «إلا» فالإحسن المنع أیضا ، مجاراة للنهج الصحیح الشائع.
وکذلک یجب تأخیرها إن کان صاحبها مجرورا بالإضافة (أی : أنه مضاف إلیه) (4) ، نحو : أعجبنی شکل النجوم واضحة ؛ فلا یجوز تقدیم الحال : (واضحة) علی صاحبها : (النجوم) لئلا تکون فاصلة بین المضاف والمضاف
ص: 352
إلیه. والفصل بها لا یصح. کما لا یصح - فی الرأی الأنسب - تقدیمها علی المضاف (ولا فرق فی الحالتین بین الإضافة المحضة وغیرها).
أما إذا کان صاحبها مجرورا بحرف جر أصلی ؛ نحو : جلست فی الحدیقة ناضرة ، فالأحسن الأخذ بالرأی القائل بجواز تقدیمها ؛ لورود أمثلة کثیرة منها فی القرآن وغیره ، تؤیده (1). ولا داعی لتکلف التأویل والتقدیر (2).
فإن کانت مجرورة بحرف جر زائد ، جاز التقدیم ؛ نحو : ما جاء متأخرا من
ص: 353
أحد. وهذا بشرط أن یکون حرف الجر الزائد مما لا یمتنع حذفه ، أو مما لا یقل حذفه ؛ فالأول کالباء الداخلة علی صیغة : «أفعل» الخاصة بأسلوب التعجب ؛ نحو : أجمل بالنجوم (1) طالعة. والثانی کالباء فی فاعل : «کفی» بمعنی : «یکفی» ، مثل : کفی بالزمان مرشدا. فإن کان حرف الجر الزائد مما یمتنع حذفه أو یقل لم یجز تقدیم الحال علیه.
وزاد بعض النحاة مواضع أخری یمتنع فیها تقدیم الحال علی صاحبها ، منها أن یکون صاحبها منصوبا بالحرف الناسخ : «کأنّ» أو : «لیت» ، أو : «لعل» أو بفعل تعجب ، أو بصلة الحرف المصدری فی نحو : أعجبنی أن ساعدت الفقیرة عاجزة - أو أن یکون ضمیرا متصلا بصلة «أل» ، نحو : الود أنت المستحقه صافیا (2).
(ب) ویجب تقدیمها علی صاحبها إذا کان محصورا ؛ نحو : ما فاز خطیبا إلا البلیغ ، ولا انتصر مدافعا إلا الصادق.
أو کان صاحبها مضافا إلی ضمیر یعود علی شیء له صلة وعلاقة بالحال ، نحو : جاء زائرا هندا أخوها - جاء منقادا للوالد ولده.
(ح) ویجوز التقدیم والتأخیر فی غیر حالتی الوجوب السالفتین ، نحو دخل الصدیق مبتسما ، أو : دخل - مبتسما - الصدیق.
ما أحسن الصدیق وفیّا ، أرکان مشتقّا یشبه الجامد ، کأفعل التفضیل (1) ؛ نحو : أنت أفصح الناس متکلما (2).
أو کان عاملها مصدرا صریحا یمکن تقدیره بأن والفعل والفاعل ، نحو : من الخیر إنجازک العمل سریعا ، فکلمة : «سریعا» حال من الکاف ، والعامل هو المصدر الصریح (3) : «إنجاز» ومن الممکن أن یحل محله مصدر مؤول من أن والفعل والفاعل فتکون الجملة : من الخیر أن تنجز العمل سریعا. ومثله أن تقول : یعجبنی إنجاز الصانع عمله سریعا ؛ فکلمة : «سریعا» حال من «الصّانع» والعامل هو : «إنجاز» أیضا. فإن کان المصدر الصریح غیر مقدّر بهما جاز تقدیم الحال وتأخیره ؛ نحو : معتذرا لک صفحا عن المسیء ... ، أو : صفحا عن المسیء معتذرا لک.
أو کان العامل اسم فعل ؛ نحو : نزال مسرعا ؛ أی : انزل مسرعا ؛ لأن معمول اسم الفعل لا یتقدم علیه.
أو کان العامل معنویّا ؛ (وهو الذی یتضمن معنی الفعل دون حروف الفعل کألفاظ الإشارة ، والاستفهام ، وأحرف التمنی والتشبیه ، وکشبه الجملة - الظرف ،
ص: 355
أو الجارّ مع مجروره - الواقع خبرا ، أو نعتا کذلک) (1) ، نحو : هذا کتابک جمیلا ، فکلمة : «جمیلا» حال من الخبر : (کتاب) والعامل هو اسم الإشارة. ومعناه : أشیر ؛ فهو یتضمن معنی الفعل ، دون أن یشتمل علی حروفه. ومثل : لیت الصانع - متعلما - حریص علی الإتقان. فکلمة : «متعلما» حال من الصانع ، والعامل «هو : لیت» ، وهو حرف معناه : «أتمنّی» ، فیتضمّن معنی الفعل دون حروفه ... ومثل : کأن الباخرة - واسعة - فندق کبیر. ومثل : الزروع أمامک ناضرة ، أو : الزروع فی حدیقتک - ناضرة ...
والاستفهام المقصود به التعظیم ؛ نحو : یا جارتا ، ما أنت جارة؟ ... وهکذا کل ما یتضمن معنی الفعل دون حروفه غیر ما سبق ، کأدوات التنبیه ، والترجی ، والنداء ...
لکن بعض النحاة یستثنی من العامل الذی یتضمن معنی الفعل دون حروفه ، شبه الجملة بنوعیه (الظرف والجار مع مجروره) فیجیز أن یتقدم علیهما الحال أو یتأخر ، نحو : الحارس عند الباب واقفا ، و: الحارس - واقفا - عند الباب ، ونحو : القطّ فی الحدیقة قابعا ، أو : القطّ - قابعا - فی الحدیقة. وإنما یجیز تقدم هذه الحال بشرط أن تتوسط بین مبتدأ متقدم وخبره شبه الجملة المتأخر عنه وعن الحال معا. ولا یصح تقدم الحال علیهما معا ، فلا یقال : واقفا - الحارس عند الباب ، ولا قابعا القط فی الحدیقة. فإن تقدمت الحال والخبر معا ، وکانت الحال هی الأسبق جاز ؛ نحو : واقفا عند الباب الحارس ، وهذا رأی مقبول(2).
ویصح عند أکثر النحاة تقدیم الحال علی عاملها «شبه الجملة» إن کانت
ص: 356
هی شبه جملة أیضا ؛ نحو : الخیر عندک أمامک - أو الخیر فی الدار أمامک ... علی اعتبار الظرف (عند) والجار مع مجروره (فی الدار) حالین من الضمیر المستکن فی شبه الجملة بعدهما (1).
أو کانت الحال مؤکدة معنی الجملة (2) ؛ نحو : علی جدّک شفیقا ، وتقدیر العامل : علیّ جدّک أعرفه ، (أو : أعلمه ، أو : أحقه ...) شفیقا. فعامل الحال وصاحبها (باعتباره الضمیر) محذوفان وجوبا قبل الحال.
أو کان العامل قد عرض له ما یمنع من تقدم معموله علیه ، کالماضی المبدوء بلام الابتداء (3) أو بلام جواب القسم (4) ، فإن المعمول لا یتقدم علی هذه اللام نحو : إنی لقد تحملت - صابرا - هفوة القریب. أو : والله لقد تحملت - صابرا - هفوة القریب.
وکالعامل الواقع فی صلة حرف مصدری مطلقا ؛ نحو : لک أن تتنقل راکبا. أو الواقع صلة «أل» (5) ، نحو : أنت السائق بارعا ، لأن معمولهما لا یتقدم علیهما - فی الرأی الراجح.
أو کانت الحال مقترنة بالواو ؛ نحو : اقر الکتاب والنفس صافیة (6).
(ب) یجب أن تتقدم علیه إذا کان لها الصدارة ، نحو : کیف أنقذت الغریق؟ فکلمة : «کیف» اسم - علی الأرجح - مبنی علی الفتح فی محل نصب ، حال (7).
ص: 357
(ح) یجوز الأمران فی غیر الحالتین السالفتین ، مثل : واقفا أنشد الشاعر القصیدة. وأشباه هذا مما یکون فیه عامل الحال فعلا متصرفا ، أو مشتقّا یشبه الفعل المتصرف ، أو مصدرا نائبا عن فعله المحذوف وجوبا (کما سبقت الإشارة إلیه) (1). والمراد بالذی یشبه الفعل ما یتضمن معنی الفعل وحروفه ، ویقبل علامات التأنیث ، والتثنیة ، والجمع (2). فمثال الحال المتقدمة علی عاملها الفعل المتصرف - غیر ما سبق - راغبا أقبلت علی زیارتک. ومثال المتقدمة علی اسم فاعل : مسرعة الطائرة مسافرة ، ومثال المتقدمة علی صفة مشبهة : الإنسان - قانعا - غنیّ ، ومثال اسم المفعول : الحاکم - ظالما - محطّم ... ومثال المتقدمة علی المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا : متعلمة إکراما هندا (3).
(د) إذا کان العامل هو أفعل التفضیل الذی یقتضی حالین (4) إحداهما تدل علی أن صاحبها فی طور من أطواره أفضل من نفسه أو غیره فی الحال الأخری - فالأحسن أن تتقدم إحداهما علی أفعل التفضیل ، وتتأخر الثانیة - کما سبق - (5) نحو : الحقل قطنا أنفع منه قمحا - الفدان عنبا أحسن منه قطنا - المتعلم تاجرا أقدر منه زارعا. المصباح الکهربیّ منفردا أقوی من عشرات الشموع مجتمعة (6) ، ومثل قول علیّ - رضی الله عنه - لأنصاره ، وهم یعرضون علیه الخلافة
ص: 358
أول الأمر : (أنا لکم وزیرا ، خیر لکم منی أمیرا ...)
أجاز فریق من النحاة ما یشیع الیوم فی بعض الأسالیب ، من تأخیر الحالین معا عن أفعل التفضیل ، بشرط أن تقع بعده الحال الأولی مفصولة من الثانیة بالمفضل علیه ؛ نحو : المتعلم أقدر تاجرا منه زارعا - المصباح الکهربیّ أقوی متفردا من عشرات الشموع مجتمعة - هذه الفاکهة أطیب ناضجة منها فجّة -.
* * *
السادس : انقسامها بحسب التعدد - الجائز والواجب - وعدمه ، إلی واحدة وإلی أکثر :
قد تکون الحال واحدة لواحد ؛ نحو : یقف الشرطیّ متیقظا ، وهذه تطابق : صاحبها الحقیقی فی الإفراد وفروعه ، وفی التأنیث والتذکیر (1) ، نحو : هبط
ص: 359
الطیار هادئا - هبط الطیاران هادئین - هبط الطیارون هادئین - هبطت الطیارة هادئة ... و...
وقد تکون الحال واحدة ولکن یتعدد ما تصلح له ، من غیر أن توجد قرینة تعین واحدا مما یصلح ؛ نحو : قابلت الأخ راکبا. والأنسب فی هذا النوع أن تکون للأقرب. ومنع بعض النحاة هذا الأسلوب ، لإبهامه ، وخفاء الصاحب الحقیقی ، ورأیه سدید.
والمتعددة (1) قد تکون متعددة لواحد ، فتطابقه فی الأمور السالفة ، نحو : هبط الطیار هادئا ، مبتسما ، لابسا ثیاب الطیران. ونزل مساعده نشیطا مبتهجا حاملا بعض معداته ، وخرجت المضیفة مسرعة قاصدة حجرتها ... ولا یجوز وجود حرف عطف بین الأحوال المتعددة - ما دامت أحوالا - فإن وجد حرف العطف صحّ ، وکان ما بعده معطوفا ، ولا یصح أن یعرب حالا (2).
وقد تکون متعددة لأکثر من واحد ؛ فإن کان معنی الأحوال ولفظها واحدا وجب تثنیتها أو جمعها علی حسب أصحابها من غیر نظر للعوامل ، أهی متحدة فی عملها وألفاظها ، ومعانیها ، أم غیر متحدة فی شیء من ذلک؟ نحو : عرفت النحل والنمل دائبین علی العمل. والأصل : عرفت النحل دائبا ... والنمل دائبا ... والحالان متفقان لفظا ومعنی (3) ، وهما یبیّنان هیئة شیئین ؛ فوجب تثنیتهما تبعا لذلک ، فرارا من التکرار. ونحو : أبصرت فی الباخرة الرّبّان ، والبحّار والمهندس منهمکین فی إدارتها. والأصل : أبصرت الرّبّان منهمکا ، والبحار منهمکا ، والمهندس منهمکا. فالحال هنا متعددة. وهی متفقة الألفاظ والمعانی ، وأصحابها ثلاثة ؛ فجمعت وجوبا تبعا لذلک ، استغناء عن التکرار.
ص: 360
ونحو : بنیت البیت وأصلحت السّور جمیلین. ووقفت سعاد وشاهدت أمّها متکلمتین (1).
هذا ، والتکرار الممنوع فی التثنیة والجمع هو تعدد الأحوال متوالیة ، کل واحدة وراء الأخری مباشرة. أما وقوع کل واحدة بعد صاحبها مباشرة فلیس بممنوع. وإن تعددت لمتعدد وکانت مختلفة الألفاظ أو المعانی وجب التفریق بغیر عطف ؛ بحیث تکون کل حال بعد صاحبها مباشرة ، وهو الأحسن ؛ منعا للغموض. ویجوز تأخیر الأحوال المتعددة کلها وتکون الأولی منها للاسم الأخیر ، والحال الثانیة للاسم الذی قبله ، والحال الثالثة للاسم الذی قبل هذا ... وهکذا ترتب الأحوال مع أصحابها ترتیبا عکسیّا. فأول الأحوال لآخر الأصحاب ، وثانی الأحوال للصاحب الذی قبل الأخیر ... ومراعاة هذا واجبة. إلا إن قامت قرینة تدل علی غیره. فمثال مراعاة الترتیب السابق : کنت أسوق السیارة فأبصرت زمیلی فی سیارته قاصدا الریف ، مقبلا من الریف. فکلمة : «قاصدا» حال من «زمیل» بإعطاء أول الحالین لآخر الاسمین. وکلمة : «مقبلا» حال من التاء فی : «أبصرت» ؛ بإعطاء ثانی الحالین للاسم الذی قبل السابق ... و... ومثال مخالفة هذا الترتیب لقرینة تدعو للمخالفة : لقی التّرجمان جماعة السیاح باحثا عنهم ، سائلة عنه. فکلمة : «باحثا» حال من : «الترجمان» وکلمة : «سائله» حال من «جماعة» ولو روعی الترتیب هنا لاختلّت المطابقة الواجبة بین الحال وصاحبها فی التذکیر والتأنیث. فالذی ربط بین الحال وصاحبها ، وعیّن لکل حال صاحبها هو قرینة التذکیر فیهما معا ، أو التأنیث فیهما معا. ومثل : حدث المحاضر طلابه واقفا جالسین ؛ فکلمة : «واقفا» حال من : «المحاضر» ، و «جالسین» حال من : «الطلاب». ولم یراع الترتیب ؛ لأن اللبس مأمون ؛ بسبب وجود المطابقة التی تقضی بأن یکون صاحب الحال المفردة مفردا ، والمجموعة جمعا (2).
ص: 361
والجدیر فی هذه المسألة - وفی غیرها - الاعتماد علی القرینة ؛ فلها الاعتبار الأول دائما.
وإذا وقعت الحال بعد : «إمّا» التی للتفصیل ، أو بعد : «لا» النافیة وجب تعدد الحال ، نحو قوله تعالی : (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ ؛ إِمَّا شاکِراً وَإِمَّا کَفُوراً) ونحو : یقفز الطیار ؛ لا خائفا ، ولا مترددا. أما فی غیر هذین الموضعین فالتعدد جائز علی حسب الدواعی المعنویة.
* * *
ص: 362
(ا) إذا تعددت الحال لواحد سمیت : «مترادفة» ؛ أی : متوالیة ، (تتلو الواحدة الأخری). ویجوز أن تکون الحال الثانیة حالا من الضمیر المستتر فی الأولی ؛ وعندئذ تسمی الثانیة : «متداخلة». وهذا یجری فی کل حال متعددة ، فیجوز أن تکون حالا من ضمیر التی قبلها مباشرة.
ویمنع جماعة من النحاة ترادف الحالین ؛ بزعم أن العامل الواحد لا ینصب إلا حالا واحدة. وله حجة جدلیة مردودة ، لأنها من نوع الجدلیات التی تسیء إلی النحو من غیر أن تفیده (1).
(ب) عرفنا أنه یجوز أن تتعدد الحال من غیر أن یتعدد صاحبها ؛ نحو : مشیت بین الریاحین هانئا ، مستنشقا أریجها ، متملیا جمالها ... ، ولکن لا یجوز أن تتعارض الأحوال ، فلا یقال : حضر القطار سریعا بطیئا ، ولا وقف الحارس متیقظا غافلا. نعم یجوز هذا عند إرادة الوصول إلی معنی واحد یؤخذ من الحالین معا ، ولا یؤدیه أحدهما دون الآخر ؛ نحو : أکلت الطعام ساخنا باردا ، ترید : معتدلا فی حرارته ، ونحو : رکبت السیارة مسرعة بطیئة ؛ أی : متوسطة فی سرعتها ، ومثل : لا تأکل الفاکهة ناضجة فجّة ، أی : متوسطة النضج.
ونحو : اترک الطعام ممتلئا جائعا ، أی : متوسطا فی الشبع. ونحو : تخیر ثیابک واسعة ضیقة ، أی : معتدلة السعة. وهکذا.
بالرغم من أن المعنی المقصود لا یتحقق إلا من اللفظین معا فإن الإعراب یقضی أن یکون کل لفظ منهما - حالا.
* * *
ص: 363
السابع : انقسامها بحسب الزمان إلی : مقارنة ، ومقدّرة (1) (مستقبلة) ... فالمقارنة هی التی یتحقق معناها فی زمن تحقق معنی عاملها ، وحصول مضمونه ؛ بحیث لا یتخلف وقوع معنی أحدهما عن الآخر ، نحو : (أقبل البریء فرحا ، - هذا یسوق السیارة الآن محترسا) - فزمن الفرح ، والاحتراس ، هو زمن وقوع معنی الفعلین : أقبل - یسوق.
والمقدّرة ، أو المستقبلة (2) : هی التی یتحقق معناها بعد وقوع معنی عاملها ، أی : بعد تحقق معناه بزمن یطول أو یقصر ؛ فحصول معنی الحال هنا متأخر عن حصول مضمون عاملها ؛ نحو : سیسافر بعض الطلاب غدا إلی البلاد الغربیة ؛ موزّعین فیها ، متدرّبین فی مصانعها. ثم یعودون عاملین فی مصانعنا ؛ فزمن التوزع والتدرب متأخر عن السفر ، الذی هو زمن حصول العامل ، ومستقبل بالنسبة له. وکذلک العمل متأخر عن العودة. وکقوله تعالی فی الإنسان : (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ ، إِمَّا شاکِراً وَإِمَّا کَفُوراً) فکلمة «شاکرا» حال ، وزمن وقوعه متأخر - حتما - عن زمن عامله (وهو الفعل : هدی) ، وکلمة : «کفورا» معطوف علیه ، وهو حال مثله. وکذلک قوله تعالی للصالحین أهل الجنة : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِینَ) ، وقوله تعالی : (فَادْخُلُوها خالِدِینَ،) فکلّ من الأمن والخلود متأخر فی زمنه عن زمن الدخول لا محالة (3) ...
ص: 364
والحال المقارنة أکثر استعمالا وورودا فی الکلام ، ولا تحتاج إلی قرینة کالتی یحتاج إلیها غیرها.
* * *
الثامن : انقسامها بحسب التأسیس والتأکید إلی مؤسّسة ومؤکّدة. فالمؤسّسة ، وتسمی المبیّنة (1) : هی التی تفید معنی جدیدا لا یستفاد من الکلام إلا بذکرها ، نحو : وقف الأسد فی قفصه غاضبا ، ثم هدأ حین رأی حارسه مقبلا ، فکلمة : «غاضبا» حال مؤسّسة : لأنها أفادت الجملة معنی جدیدا لا یفهم عند حذفها. وکذلک کلمة : «مقبلا» وأشباههما من الأحوال التی لا یستفاد معناها من سیاق الکلام بدون ذکرها.
والمؤکّدة : هی التی لا تفید معنی جدیدا ، وإنما تقوّی معنی موجودا فی الجملة قبل مجیئها (2) ، ولو حذفت الحال لفهم معناها مما بقی من الجملة. نحو : لا تظلم الناس باغیا ، ولا تتکبر علیهم مستعلیا ، «فالبغی» هو الظلم ، و «الاستعلاء» هو الکبر. ولو حذف کل من الحالین فی المثال (وهما یؤکدان عاملهما) ما نقص المعنی ، ولا تغیر ، ولفهم معناه من بقیة الکلام. ومثلهما باقی الأحوال التی یستفاد معناها بغیر وجودها. وقد سبق - فی مناسبة أخری (3) - الإشارة إلی المؤکدة ، وأنها قد تکون مؤکدة لمضمون الجملة ؛ نحو : خلیل أبوک عطوفا ، أو مؤکدة لعاملها لفظا ومعنی ؛ نحو : (وَأَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أو معنی فقط : نحو : (... وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا ...) لأن البعث یقتضی الحیاة ، أو مؤکدة لصاحبها ؛ نحو قوله تعالی : (وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیعاً.) فکلمة : «جمیعا» حال من الفاعل «من» وهذا الفاعل اسم موصول یفید العموم ، والحال - هنا - تفید العموم ، فهی مؤکدة له.
وأشرنا هناک إلی أن الجملة التی تؤکّد الحال مضمونها لا بد أن تکون جملة اسمیة ، طرفاها معرفتان ، جامدتان (4) ؛ ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا ،
ص: 365
وعن عاملها أیضا. وأن العامل فی هذه الحال محذوف وجوبا ، وکذلک صاحبها. ففی المثال السابق : «خلیل أبوک عطوفا» ، یکون التقدیر : أحقه ، أو : أعرفه ، أو : أعلمه ، أو نحو ذلک. وهذا التقدیر حین یکون المبتدأ کلمة غیر ضمیر المتکلم ، فإن کان ضمیرا للمتکلم وجب اختیار الفعل أو العامل المقدر مناسبا له ، أی : أحقّنی - أعرفنی - أعلم أنی ... ولا بد أن تکون هذه الحال متأخرة عنه أیضا.
أما الغرض (1) من التوکید بالحال فقد یکون بیان الیقین نحو : أنت الرجل معلوما ، أو الفخر ، نحو : أنا فلان بطلا ، والتعظیم ؛ نحو : أنت العالم مهیبا ، أو التحقیر ؛ نحو : هو الجانی مقهورا ؛ أو التصاغر ؛ نحو : ربّ أنا عبدک فقیرا إلیک ؛ أو التهدید والوعید ، نحو : فلان قاهر للأبطال قادرا علی الفتک بک (2) ...
* * *
التاسع : انقسامها بحسب الإفراد وعدمه إلی مفردة ، وجملة ، وشبه جملة. ثم الکلام علی ما تحتاج إلیه الجملة الحالیة من رابط :
فالمفردة : ما لیست جملة ولا شبهها ، نحو : أشرب الماء صافیا (3) -
ص: 366
سر فی الطریق حذرا (1) ، ... ومثل کلمة : «جاهدا» فی قول الشاعر :
ومن یتتبّع - جاهدا - کل عثرة
یجدها ، ولا یسلم له الدهر صاحب
وشبه الجملة هو الظرف والجار مع مجروره. نحو : کنت فی الطائرة فأبصرت البیوت الکبیرة فوق الأرض صغیرة. والسفن الضخمة بین الأمواج محتجبة - إن دار الآثار فی القاهرة ملیئة بالنفائس - تشکلت الثلوج علی الغصون أشکالا بدیعة.
ولا بد فی شبه الجملة أن یکون تامّا ؛ أی : مفیدا. وإفادته قد تکون بالإضافة ، أو بالنعت ، أو بالعدد ، أو بغیر ذلک مما یکون مناسبا له ، ویجعله مفیدا (علی الوجه الذی تکرر شرحه من قبل) (2) فلا یصح : هذا إبراهیم عنک ، ولا هذا إبراهیم الیوم ...
وإذا کانت الحال جملة أو شبه جملة فلا بد أن یکون صاحبها معرفة (3) محضة ؛ (أی : معرفة لفظا ومعنی) ؛ مثل : وقف جاری یکلمنی. فإن لم یکن معرفة خالصة ؛ (بأن کان معرفة فی اللفظ دون المعنی ؛ کالمبدوء «بأل الجنسیة
ص: 367
أو کان نکرة مختصة ، بسبب نعت أو غیره ...) (1) ، جاز فی الجملة وشبهها أن تکون حالا ، وأن تکون نعتا ؛ نحو : أعرف الطائرات تفوق غیرها فی السرعة. وقد عرفنا طائرات سریعة تطوف بالکرة الأرضیة فی دقائق ، ونحو : تهدر الطائرات فی الجو کقصف الرعود ... وهذه طائرة کبیرة أمامنا تهدر کالرعد. والجملة (2) قد تکون اسمیة أو فعلیة ؛ نحو : لازمت البیت والمطر هاطل - لازمت البیت وقد هطل المطر وقد اجتمعت الجملتان فی قول الشاعر:
کأن سواد اللیل - والفجر ضاحک
- یلوح ویخفی ، أسود یتبسم
ویشترط فی الجملة الواقعة حالا أن تکون خبریة ، غیر تعجبیة (علی القول بأن الجملة التعجبیة خبریة) فلا تصح الإنشائیة بنوعیها (3) الطلبی ، وغیر الطلبی. وأن تکون مجردة من علامة تدل علی الاستقبال (4) کالسین وسوف ، ولن ، وأداة
ص: 368
الشرط ... و ... وأن تکون مشتملة علی رابط یربطها بصاحبها لیکون المعنی متصلا بین الجملتین ؛ فیتحقق الغرض من مجیء الحال جملة ، ولو لا الرابط (1) لکانت الجملتان منفصلتین لا صلة بینهما ، والکلام مفککا (2) ...
والرابط قد یکون واوا مجردة تسمی : واو (3) الحال ، نحو : احترست من الشمس والحرارة شدیدة. وقد یکون الضمیر (4) وحده ؛ نحو : ترکت البحر أمواجه عنیفة. وقد یکون الواو والضمیر معا ، نحو : لا آکل الطعام وأنا شبعان. ولا أشرب الماء وهو غیر نقی وکقول الشاعر :
إن الکریم لیخفی عنک عسرته
حتی تراه غنیّا وهو مجهود
وقد یستغنی عن الرابط أحیانا - کما سیجیء (5).
لکن هناک موضعان تجب فیهما الواو ، ومواضع أخری تمتنع ؛ فتجب فی الجملة الحالیة الخالیة من الضمیر لفظا وتقدیرا (6) ؛ نحو : تیقظت وما طلعت الشمس. وفی الجملة المضارعیة المثبتة ، المسبوقة بالحرف : «قد» ؛ نحو قوله تعالی : (لِمَ تُؤْذُونَنِی وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ اللهِ إِلَیْکُمْ.)
ص: 369
هی :
1 - أن تکون جملة الحال اسمیة واقعة بعد عاطف یعطفها علی حال قبلها ، نحو : سیجیء المتسابقون مشاة ، أو هم راکبون (1) السیارات ؛ فلا یصح أن یکون الرابط هنا واو الحال ؛ لوجود حرف العطف : «أو». وواو الحال لا تلاقی حرف عطف.
2 - أن تکون جملة الحال مؤکدة لمضمون جملة قبلها (2) ؛ کالقول عن القرآن : (هو الحق لا شک فیه) وقوله تعالی عنه : (ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ،) ولیس من اللازم أن تکون جملة الحال المؤکدة اسمیة ، فقد تکون فعلیة أیضا ؛ نحو : هو الحق لا یشک فیه أحد ..
أما المؤکدة لعاملها فقد تقترن بالواو ؛ نحو : قوله تعالی : (ثُمَّ تَوَلَّیْتُمْ إِلَّا قَلِیلاً مِنْکُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.)
3 - الجملة الفعلیة الماضویة بعد «إلا» التی تفید الإیجاب (أی : المسبوقة بکلام غیر موجب فیکون المعنی بعدها موجبا) ؛ نحو : ما تکلم العظیم إلا قال حقّا. ویری بعض النحاة : أنه یجوز فی هذا الموضع الربط بالواو ، محتجّا بأمثلة فصیحة متعددة (3). وحجته مقبولة. ولکن من یرید الاقتصار علی الأعم الأفصح لا یسایر هذا الرأی. ویجیز بعض آخر صحة الربط بالواو بشرط أن تقع بعدها «قد» مباشرة (4) وهذا رأی حسن وفیه تیسیر.
4 - الجملة الماضویة المعطوفة علی حال ، بالحرف العاطف : «أو» ؛ نحو : أخلص للصدیق ؛ حضر (5) أو غاب.
ص: 370
5 - الجملة المضارعیة المسبوقة بحرف النفی : «لا» ؛ نحو : ما أنتم ؛ لا تعملون (1). ومن القلیل الذی لا یقاس علیه أن تقع الواو رابطة فی الجملة الفعلیة (مضارعیة ، أو ماضویة) إذا کانت مسبوقة بالحرف النافی «لا».
6 - الجملة المضارعیة المسبوقة بحرف النفی : «ما» (2) ؛ نحو : عرفتک ما تحب العبث ، وعهدتک ما تسعی للإیذاء.
7 - الجملة المضارعیة المثبتة المجردة من «قد» ؛ نحو : شهدت الطالب الحریص یسرع إلی المحاضرة ، یتفرغ لها. وقد وردت أمثلة مسموعة من هذا النوع ، وکان الرابط فیها الواو ، منها قولهم : قمت وأصکّ عین العدو ، ومنها :
فلما خشیت أظافیرهم
نجوت ، وأرهنهم مالکا
ومنها :
«علّقتها (3) عرضا وأقتل قومها» ... وأمثلة أخری.
وقد تأول النحاة هذه الأمثلة لیدخلوها فی نطاق القاعدة ، ویخرجوها من مجال الشذوذ. ولا داعی لهذا التأول (4) الذی لم یعرفه ولم یقصد إلیه الناطقون بتلک الأمثلة. والخیر أن نحکم علیها بما تستحقه من القلة والندرة التی لا تحاکی ، ولا یقاس علیها.
ص: 371
فی غیر هذه المواضع التی تمتنع فیها الواو یکون الربط بالواو وحدها ، أو بالضمیر وحده ، أو بهما معا. وقد سبقت الأمثلة لکل هذا (1).
وإذا کانت جملة الحال ماضویة مثبتة وفعلها متصرف ورابطها الواو وحدها وجب مجیء «قد» بعد الواو مباشرة (2) ؛ نحو : انصرفت وقد انتزی میعاد العمل ، فإن کان الرابط هو الضمیر وحده ، أو الواو والضمیر معا فالأحسن مجیء «قد» أیضا.
وتمتنع «قد» مع الماضی الممتنع ربطه بالواو - وقد سبق بیانه - کالماضی التالی «إلا» الاستثنائیة التی تفید الإیجاب عند من یمنع ربطه بالواو (3) ، أو الذی بعده : «أو».
* * *
ص: 372
العاشر : انقسامها باعتبار جریانها علی صاحبها أو عدم جریانها إلی قسمین ؛ حقیقیة وسببیّة (1).
فالحقیقیة : هی التی تبین هیئة صاحبها مباشرة ؛ کالأمثلة التی مرت فی أکثر الموضوعات السالفة ، ومثل : فزع العصفور من المطر مبتلّا. فکلمة «مبتلّا» حال. تبین هیئة صاحبها نفسه ؛ وهو : «العصفور» وقت فزعه. ولا تبین هیئة شیء آخر غیر العصفور نفسه ، - کعشه ، أو شجرته ، أو صاحبه ، أو طیور أخری - ومثل : وقف المصلی خاشعا. فکلمة : «خاشعا» حال تبین هیئة صاحبها مباشرة ؛ وهو : المصلی ، ولا شأن لها بغیره ...
ولا بد أن تطابق الحال الحقیقیة (2) صاحبها فی التذکیر ، والتأنیث والإفراد ، والتثنیة والجمع.
والسببیة : هی التی تبین هیئة شیء له اتصال وعلاقة بصاحبها الحقیقی ، أیّ علاقة ، دون أن تبین هیئة صاحبها الحقیقی مباشرة ؛ مثل : فزع العصفور من المطر مبتلا عشّه ، ومثل : وقف المصلی خاشعا قلبه. فکلمة : «مبتلا» حال ، کما کانت ، وصاحبها هو : «العصفور» کما کان ، أیضا. ولکن الحال هنا لا تبین هیئة صاحبها الحقیقی : «العصفور» ، وإنما تبین هیئة : «العش» وللعش صلة وعلاقة بصاحبها ؛ فهو مسکن العصفور ومأواه. کذلک المثال الثانی ، فکلمة : «خاشعا» حال ، وصاحبها الحقیقی هو : المصلی. ولکنها لا تبین هیئته ، وإنما تبین شیئا له صلة وعلاقة به ؛ هو : قلبه ؛ فإن قلبه جزء منه.
ومن أمثلة السببیة : کتبت الصفحة مستقیمة خطوطها ، سمعت المغنیة عذبا صوتها ، وسمعت القارئ واضحة نبراته.
ولا بد فی الحال السببیة أن ترفع اسما ظاهرا مضافا لضمیر یعود علی صاحب الحال کالأمثلة السالفة ، وأن تکون مطابقة لهذا الاسم المرفوع بها ، فی التذکیر والتأنیث ، والإفراد ، دون التثنیة والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد ؛ نحو : سکنت البیت جیدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جمیلا مدخلاه ، نظیفة مسالکه ... (3)
ص: 373
عرفنا (1) أن الحال قد تبین هیئة الفاعل فی مثل : ینفع الصانع متقنا ، أو هیئة المفعول به فی مثل : یحترم الناس العامل مخلصا ، أو هیئة الفاعل والمفعول به معا فی نحو : استقبل الأخ أخاه مسرورین ، أو هیئة المبتدأ (2) فی نحو : (الصحف - ماجنة - ضارة) ... أو غیر ذلک مما تبین الحال هیئته ؛ کالمضاف والمضاف إلیه (3) ... وهذا الذی تبین الحال هیئته یسمی : صاحب الحال ؛ کالذی فی الأمثلة السالفة : (الصّانع - العامل - الأخ - أخاه - الصحف ...)
والأکثر فی صاحب الحال أن یکون معرفة. وقد یکون نکرة بمسوّغ من المسوغات الآتیة :
1 - أن تکون النکرة متأخرة والحال متقدمة علیها ، نحو :
(یمشی - حزینا - مدین). (یدعو - متألما - مظلوم) (4) ...
2 - أن تکون النکرة متخصصة (5) ؛ إما بنعت بعدها ؛ نحو : أشفقت علی
ص: 374
طفلة صغیرة تائهة ، وإما بإضافة ؛ نحو : حافظت علی أثاث الغرفة منسّقا ، وإما بعمل ؛ نحو : أفرح بناظم شعرا مبتدئا ، وإما بعطف معرفة علیها ، نحو : ذهب فریق ومحمود مسرعین.
3 - أن تکون النکرة مسبوقة بنفی ، أو شبهه (وهو هنا : النهی والاستفهام) ؛ نحو : ما خاب عامل مخلصا - لا تشرب فی کوب مکسورا - هل ترضی عن أمّ قاسیا قلبها؟
4 - أن تکون الحال جملة مقرونة بالواو ؛ نحو : استقبلت صدیقا وهو راجع من سفر.
5 - أن تکون الحال جامدة ، نحو : هذا خاتم ذهبا (1).
وقد وردت أمثلة مسموعة من فصحاء العرب وقع فیها صاحب الحال نکرة بغیر مسوغ ؛ منها : صلی رجال قیاما. ومنها : فلان یستعین بمائة أبطالا. وللنحاة فی هذا کلام وجدل. والذی یعنینا أن فریقا منهم یبیح مجیء صاحب الحال نکرة بغیر مسوغ (2) وفریقا آخر (3) یمنعه ، ویقصره علی السّماع ، ویؤول الأمثلة القدیمة ، أو یحکم علیها بالشذوذ الذی لا یصح القیاس علیه. وفی الأخذ بالرأی الأول توسعة ومحاکاة نافعة ، ولکن یحسن ألا نسارع إلیه قدر الاستطاعة ، ذلک أن صاحب الحال النکرة بغیر مسوغ - قلیل فی فصیح الکلام. نعم هذه القلة لیست مطلقة ؛ وإنما هی نسبیة (أی بالنسبة لصاحب الحال المعرفة أو النکرة ، المختصة) (4). لکن هذا لا یمنعنا أن نختار الأکثر استعمالا فی المأثور الفصیح ، وإن کان غیره مقبولا (5).
* * *
ص: 375
صاحب الحال إذا کان مضافا إلیه :
یصح أن یکون صاحب الحال مضافا إلیه ، نحو : تمتّعت بجمال الحدیقة واسعة ، - ونعمت برائحة الزهر متفتحا ناضرا - ، وأکلت نادر الفاکهة ناضجة. ویشترط أکثر النحاة (1) فی صاحب الحال إذا کان مضافا إلیه :
(ا) أن یکون المضاف إما جزءا حقیقیّا منه ؛ نحو : أعجبتنی أسنان الرجل نظیفا ، وراقتنی أظفاره باسطا أنامله. «فالأسنان» مضاف وهی جزء حقیقی من المضاف إلیه ؛ أی : من صاحب الحال ؛ (وهو : «الرجل») و «الأظفار» مضاف ، وهی جزء حقیقی من المضاف إلیه صاحب الحال ؛ (وهو : الضمیر العائد علی الرجل ، ویعتبر فی حکم الرجل). ومن هذا قوله تعالی : (وَنَزَعْنا ما فِی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً؛) فکلمة : «إخوانا» حال من الضمیر : «هم» المضاف إلیه. والمضاف بعض حقیقی منه. ومن الأمثلة قوله تعالی : (أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَنْ یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً ...،) فکلمة : «میتا» حال من المضاف إلیه (وهو : «أخ») والمضاف (وهو : «لحم») بعض منه.
(ب) وإما بمنزلة الجزء الحقیقی ، (حیث یصح حذف المضاف وإقامة المضاف إلیه مقامه ؛ فلا یتغیر المعنی) کما فی الأمثلة الأولی : (تمتعت بجمال الحدیقة واسعة ، ونعمت برائحة الزهر ، متفتحا ناضرا ... و...) فیصح أن یقال : تمتعت بالحدیقة واسعة ، ونعمت بالزهر متفتحا ... و... ومن هذا قوله تعالی : (ثُمَّ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِیمَ حَنِیفاً؛) حیث یصح : أن اتّبع إبراهیم حنیفا ...
(ح) وإما عاملا فی المضاف إلیه ، کأن یکون المضاف مصدرا عاملا
ص: 376
فیه ؛ نحو : عند الله تقدیر العاملین مسرورین ، ونحو : (إلیه مرجعکم (1) جمیعا) أو أن یکون وصفا عاملا فیه (2) ، نحو : هذا رافع الرایة عالیة فی الغد (3) ... (4)
* * *
- بنوعیها (5) - لصاحبها :
(ا) الأصل أن تطابق الحال «الحقیقیة» صاحبها - وجوبا - فی التذکیر والتأنیث ، وفی الإفراد وفروعه. کالأمثلة السالفة. لکن یستثنی من هذا الأصل بعض حالات لها أحکام أخری تتلخص فیما یلی :
ص: 377
1 - إذا کان صاحب الحال الحقیقیة جمعا مفرده مذکر لغیر العاقل (1) ، جاز فی الحال أن تکون مفردة مؤنثة ، وجمع مؤنث سالما ، وجمع تکسیر (2) ؛ نحو : سرتنی الکتب نافعة ، أو : نافعات ، أو : نوافع.
2 - إذا کان لفظ الحال الحقیقیة من الألفاظ التی یغلب استعمالها بصورة واحدة للمذکر والمؤنث - ککلمة : صبور - بقی علی صورته ؛ نحو : عرفت المؤمن صبورا عند الشدائد ، وعرفت المؤمنة صبورا کذلک (3).
3 - إذا کان لفظ الحال الحقیقیة أفعل التفضیل المجرد من «أل» والإضافة ، أو المضاف إلی نکرة ، لزم الإفراد والتذکیر - علی الأرجح ، کما سیجیء فی بابه (4) - ؛ نحو : عرفت العصامیّ أنشط وأنفع ، أو : أنشط عامل ، وأنفع رجل.
4 - إذا کانت الحال الحقیقیة مصدرا فإنه یلازم صورة واحدة ؛ نحو : حضر القطار سرعة. وإذا اشتهر المصدر صح تثنیته وجمعه - کالنعت - ؛ نحو : عرفت الوالی عدلا ، والوالیین عدلین ، والولاة عدولا.
5 - إذا کانت الحال کلمة : «أیّ» (5) فإنها - فی الغالب - تقع حالا من معرفة مع إضافتها إلی نکرة ؛ نحو : استمعت إلی علیّ أیّ خطیب.
(ب) أما الحال «السببیة» فتطابق الاسم الظاهر المرفوع بها - وجوبا - فی التذکیر والتأنیث والإفراد ، دون التثنیة والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد
ص: 378
- کما سبق (1) - نحو : سکنت البیت جیدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جمیلا مدخلاه ، نظیفة مسالکه.
* * *
ص: 379
، وعاملها ، وصاحبها ، ورابطها ، من ناحیة الذّکر والحذف.
(ا) الأصل فی الحال أن تکون مذکورة ؛ لتؤدی مهمتها المعنویة ؛ وهی : بیان هیئة الفاعل ، أو المفعول به ، أو غیرهما ، مما سبق تفصیله (1). لهذا یجب ذکرها فی کثیر من المواضع ، ویجوز حذفها فی أخری. فمن المواضع التی یجب أن تذکر فیها ما یأتی :
1 - أن تکون محصورة ؛ نحو : ما أحب العالم إلا نافعا بعلمه.
2 - أن تکون نائبة عن عاملها المحذوف سماعا ؛ نحو : هنیئا لک (2) ، بمعنی : ثبت لک الخیر هنیئا ، أو : هنأک الأمر هنیئا (3) ، أو نحو هذا التقدیر الدّال علی الدعاء بالهناءة.
3 - أن یتوقف علی ذکرها المعنی المراد ، أو یفسد بحذفها ... - کما أشرنا أول الباب (4) - ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی) وقوله تعالی : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَیْنَهُما لاعِبِینَ.)
ومن هذا الموضع أن تکون سادّة مسدّ الخبر (5) فی مثل : سهری علی المزرعة نافعة.
4 - أن تکون جوابا. مثل : کیف حضرت؟ فیجاب : راکبا.
ویصح حذف الحال إذا دل علیها دلیل. وأکثر حذفها حین یکون لفظها مشتقّا من مادة «القول» ویکون الدلیل علیها بعد الحذف هو : المقول (6) ؛ نحو : جلست فی حجرتی ؛ فإذا صدیقی الغائب یدخل : «السّلام علیکم» ، أی : یدخل قائلا : السّلام علیکم. فکلمة : «قائلا» هی الحال المحذوفة ، وهی
ص: 380
مشتقة من مادة : «القول». وقد دل علیها الکلام الذی قیل ؛ وهو : «السّلام علیکم». ومثل : هل دار بینک وبین المسافر کلام؟ نعم. لما قابلنی فی الصباح حیّانی : «صباح الخیر» ، وحدثنی عن رحلته المنتظرة ؛ ثم أسرع إلی القطار بعد أن صافحنی ومد یده : «الوداع». أی : قائلا صباح الخیر ؛ قائلا : الوداع. ومن هذا قوله تعالی فی أهل الجنة : (وَالْمَلائِکَةُ یَدْخُلُونَ عَلَیْهِمْ مِنْ کُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَیْکُمْ،) أی : قائلین : سلام علیکم. وقوله تعالی : (وَإِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَإِسْماعِیلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا،) أی : قائلین ربنا تقبل منا.
* * *
(ب) والأصل فی عامل الحال - وغیرها - أن یکون مذکورا ؛ لیحقق غرضا معینا ، هو : إیجاد معنی جدید ، أو تقویة معنی موجود. وقد یحذف جوازا أو وجوبا ؛ لدواع تقتضی الحذف ، أی : أن عامل الحال قد یذکر وجوبا ، وقد یحذف وجوبا ، وقد یجوز ذکره وحذفه.
فیجب ذکره إن کان عاملا معنویّا (وقد سبق شرحه) (1) کأسماء الإشارة ؛ وحروف التنبیه ، والتمنی ؛ وکشبه الجملة ... و... و...
ویجوز حذفه إذا کان عاملا غیر معنوی ، ودل علیه دلیل مقالیّ (2) ، أو حالیّ فمثال المقالیّ أن یقال : أتستطیع الصعود إلی قمة الجبل؟ فیجیب المسئول : مسرعا. أی : أصعد مسرعا - أتعتنی بخط رسائلک؟ فیجاب : واضحا جمیلا أی : أعتنی به واضحا جمیلا.
ومثال الحالیّ : أن تری مسافرا فتقول له : «سالما». أی : تسافر سالما ، وأن تری من یشرب الدواء فتقول : «شافیا» ، أی : تشرب الدواء شافیا. وأن تقول لمن یبنی بیتا : «معمورا» ، أی : تبنی البیت معمورا ...
ص: 381
، أهمها :
1 - أن تکون الحال سادّة مسدّ الخبر (1) ، نحو : إنشادی القصیدة محفوظة ، فکلمة : «محفوظة» حال ؛ سدت مسدّ خبر المبتدأ المحذوف وجوبا ؛ والأصل : إنشادی القصیدة إذ کانت ، أو : إذا کانت محفوظة.
2 - أن تکون الحال مفردة مؤکدة مضمون جملة (2) قبلها. - نحو : الجدّ أب راحما.
3 - أن تکون الحال مفردة دالة بلفظها علی زیادة تدریجیة ، أو نقص تدریجی ؛ نحو : تصدّق علی المحتاج بدرهم ؛ فصاعدا - لا تتعرض للشمس عند شروقها إلا عشرین دقیقة ؛ فنازلا ... فکلمة : «صاعدا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان. والتقدیر : فاذهب بالعدد صاعدا. والجملة المحذوفة هنا إنشائیة ، معطوفة بالفاء علی نظیرتها الفعلیة الإنشائیة (3). وکلمة : «نازلا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان : والجملة منهما إنشائیة معطوفة بالفاء علی نظیرتها. ولا بد من اقتران هذه الحال المفردة «بالفاء» العاطفة ، أو «ثم» العاطفة (4) ؛ ومن الأمثلة : تدرب علی الحفظ خمسة أسطر ، فستة ، فسبعة ، فصاعدا. لا تتناول فی الیوم أکثر من ثلاث وجبات ؛ فنازلا ...
4 - أن تکون الحال مسبوقة باستفهام یراد به التوبیخ ؛ نحو : أنائما وقد أشرقت الشمس؟ أعاطلا والعمل یطلبک؟ أسفیها وهو کریم النشأة؟ أی : أتوجد نائما؟ - أتوجد عاطلا؟ - أیوجد سفیها؟ ...
ص: 382
5 - عوامل حذفت سماعا. من ذلک قولهم لمن ظفر بشیء ؛ هنیئا لک ما أدرکت. أی : ثبت هنیئا (1).
والحذف فی المواضع الأربعة الأولی قیاسی (2).
* * *
(ح) والأصل فی صاحب الحال أن یکون مذکورا فی الکلام ؛ لتتحقق الفائدة من ذکره. وقد یحذف جوازا فی مثل قوله تعالی : (أَهذَا الَّذِی بَعَثَ اللهُ رَسُولاً،) أی : بعثه الله.
ویجب حذفه فی الصورة التی یحذف فیها عامله وجوبا حین تؤکد الحال مضمون جملة قبلها ، علی الوجه الذی سبق (3) شرحه. وکذلک یجب حذفه مع عامله حین تدل الحال علی زیادة تدریجیة ، أو نقص تدریجی - وهی الصورة الثالثة من الصور التی فی الصفحة المتقدمة.
* * *
(د) والأصل فی الرابط أن یکون مذکورا ؛ لیعقد الصلة المعنویة بین جملة الحال والجملة التی قبلها المشتملة علی صاحب الحال ، فیمنع التفکک. لکن یجوز حذف الرابط لفظا ، لا تقدیرا (4) ، إذا کان ضمیرا مفهوما من السیاق. نحو : ارتفع سعر القمح ، کیلة بخمسین قرشا ، أی : کیلة منه ...
وکذلک یصح حذفه إن کان الحال جملة خالیة من الرابط لکن عطف علیها «بالفاء» ، أو : «الواو» ، أو : «ثم» جملة تصلح أن تکون حالا مع اشتمالها علی الرابط ؛ نحو : عرفت الوالی العادل تشکو الرعیة ، فیزیل أسباب
ص: 383
الشکوی (1) - أقبل الفائز ، یصفق الناس ، ویشرق وجهه - تداوی المریض یشیر الأطباء ثم یستجیب للمشورة.
ص: 384
التمییز
(ا) کیل
عندی إردبّ ...
-
عندی إردبّ شعیرا ، أو : أردبّ شعیر ، أو : إردبّ
من شعیر.
وهبت کیلة ...
-
وهبت کیلة قمحا ، أو کیلة قمح ، أو : کیلة من قمح.
خلطت غذاء الفرس بقدح ...
-
خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو :
بقدح من فول
(ب)
وزن
خلطت غذاء الفرس بقدح ...
-
خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو :
بقدح من فول
اشتریت أوقیّة ...
-
اشتریت أوقیة ذهبا. أو : أوقیة ذهب ، أو : أوقیة من
ذهب
وزن الإناء رطل ...
-
وزن الإناء رطل نحاسا ، أو :
رطل نحاس ، أو رطل : من نحاس.
دفعت ثمن أقة ...
-
دفعت ثمن أقة تفاحا. أو : أقة تفاح ... أو أقة من
تفاح.
(ح)
مساحة
جنیت محصول فدان ...
-
جنیت محصول فدان قطنا ، أو فدان قطن ، أو : فدانا
من قطن
حرثت قیراطا ...
-
حرثت قیراطا برسیما. أو :
قیراط برسیم ، أو : قیراطا من برسیم.
سقیت قصبة ...
-
سقیت قصبة خضرا ، أو قصبة خضر ، أو : قصبة من خضر.
(د)
عدد
عندی خمسة ...
-
عندی خمسة أقلام.
رأیت عشرین ...
-
رأیت عشرین سائحا.
أخذت مائة ...
-
أخذت مائة جنیه مکافأة.
ص: 385
(ه) نسبة أو :
جملة (1)
ازداد المتعلم ...
-
ازداد المتعلم أدبا.
أعجبنی الخطیب ...
-
أعجبنی الخطیب کلاما.
فاضت البئر ...
-
فاضت البئر نفطا (2).
(ا) فی جملة مثل : «عندی إردب» من أمثلة القسم : «ا» نجد کلمة غامضة مبهمة هی : «إردب» ، لأن مدلولها یحتمل عدة أنواع مختلفة ، لا نستطیع تخصیص واحد منها بالقصد دون غیره ، فقد یکون هذا الإردب : قمحا ، أو : شعیرا ، أو : فولا ، أو : غیرها ، ولا ندری النوع المراد من تلک الأشیاء الکثیرة ، إذ لا دلیل یدل علیه وحده ، لهذا کانت کلمة : «إردب» مبهمة ، غامضة ، لعدم تحدید المراد منها وتعیینه. لکن إذا قلنا : عندی إردبّ شعیرا - زال الغموض والإبهام ، وتعین المراد بسبب اللفظ الذی جاء ؛ وهو : «شعیرا».
کذلک الشأن فی کلمة : «کیلة» ، فإنها غامضة ، مبهمة ، لا تعیین فیها ؛ لاحتمال أن تکون الکیلة : قمحا ، أو : ذرة ، أو : فولا ، أو : عدسا ... فإذا قلنا : کیلة قمحا ، تعین المراد ، وزال الاحتمال. ومثل هذا یقال فی کلمة : «قدح» فی المثال الأخیر من قسم «ا» ، وفی غیرها من کل کلمة عربیة تدل فی العرف الشائع علی شیء یقع به الکیل ؛ مثل : ویبة ، ربع ، ملوة (3) ...
(ب) وفی جملة مثل : اشتریت أوقیّة (من أمثلة القسم : «ب») ، نصادف هذا الإبهام والغموض فی کلمة : «أوقیّة» ؛ لاحتمالها عدة أنواع ، لا نستطیع تخصیص واحد منها بالمراد دون غیره ، فقد تکون الأوقیة ذهبا ، أو : فضة ، أو عنصرا آخر من العناصر التی توزن ... لکن إذا قلنا : أوقیة ذهبا - اختفی الإبهام ، وحل محله التعیین الموضح للمطلوب. ومثل هذا یقال فی کلمة : رطل ، وأقّة ، فی المثال الثانی والثالث (من أمثلة : قسم ب) وفی نظائرها من
ص: 386
الکلمات العربیة التی یجری فی العرف اعتبارها من الموازین ، ومنها : قنطار ، ودرهم ، وحبّة ...
(ح) وفی جملة مثل : جنیت محصول فدان (من أمثلة : «ج») نجد الکلمة الغامضة المبهمة هی کلمة : «فدان» فإنها تحتمل أن یکون مدلولها فدان قصب ، أو فدان عنب ، أو قمح ، أو غیره. فإذا قلنا : ... «فدان قطن» - انقطع الاحتمال ، وزال الغموض والإبهام ، وتحدد القصد. ومثل هذا یقال فی کلمة : «قیراط» ، وقصبة (من أمثلة القسم : «ج») ، وغیرها من الألفاظ العربیة التی تستعمل فی المساحات (1) ، (ومنها : السهم (2) ، والذراع ، والباع ، والشبر ، والفتر ...)
(د) ومثل هذا یقال فی کل عدد من جمل القسم : «د» أو ما شابهها مما یشتمل علی أحد الأعداد ؛ نحو : عندی خمسة ، فإن کلمة : «خمسة» - وهی عدد حسابیّ - غامضة ، مبهمة ؛ لا یزول غموضها وإبهامها إلا بلفظ آخر یحدد المراد منها ؛ مثل : أقلام ، أو غیرها مما ورد فی هذا القسم وفی نظائره.
(ه) ننتقل بعد ذلک إلی نوع آخر من الغموض والإبهام یختلف عما سبق ؛ ففی مثل : «ازداد المتعلم» ، لا یقع الغموض علی کلمة واحدة کالتی سلفت ، وإنما ینصبّ علی الجملة کلها ؛ أی : علی معنی جزأیها الأساسیین معا. فقد نسبنا الازدیاد للمتعلم. فأی ازدیاد هذا الذی نسبناه له ، أهو فی علمه؟ أم فی أدبه ، أم فی ماله؟ أم فی جسمه ، أم فی حسن معاملته ...؟ فالأمر المنسوب للمتعلم غامض مبهم ، وهذا الأمر الغامض لیس منصبّا علی کلمة واحدة کما قلنا ؛ وإنما یشمل معنی جملة کاملة ؛ لأن الجملة هی التی تحوی فی طرفیها نسبة شیء (3) لشیء آخر. فإذا قلنا : ازداد المتعلم أدبا - ارتفع الغموض عن النسبة ، واتضح المراد من
ص: 387
الجملة. ومثل هذا یقال فی المثالین الأخیرین من أمثلة القسم : «ه» وفی غیرهما من کل جملة یقع فیها الغموض علی النسبة الناشئة من طرفیها.
ومن کل ما تقدم یتضح ما یأتی :
(ا) أن فی اللغة ألفاظا مبهمة ، غامضة ، تحتاج إلی تبیین وتوضیح.
(ب) وأن هذه الألفاظ قد تکون کلمات منفردة ، کالکلمات المستعملة فی العدد ، أو فی المقادیر الثلاثة الشائعة ، - وهی : الکیل ، والوزن ، والمساحة (1) - وقد تکون جملا کاملة تقع النسبة فی کلّ واحدة منها موقع الغموض والإبهام المحتاج إلی تفسیر وإیضاح (2).
(ح) وإذا تأملنا الکلمات التی أزالت الغموض والإبهام فی الأمثلة السالفة - وأشباهها - وجدنا کل کلمة منها : نکرة (3) ، منصوبة - فی الأکثر (4) - ، فضلة ، تبین جنس ما قبلها أو نوعه ، أو : توضح النسبة فیه ، فهی - کما یقولون - بمعنی : «من» (5) البیانیة - غالبا - والکلمة التی تجتمع فیها هذه الأوصاف تسمی : «التمییز» (6) ، کما یسمی ما تفسره وتزیل الإبهام عنه : «الممیّز» ، أی :
ص: 388
أن التمییز : (نکرة ، منصوبة - فی الأغلب - فضلة ، بمعنی «من» التی للبیان (1))
ینقسم التمییز بحسب الممیّز إلی قسمین :
أولهما : تمییز المفرد ، أو : الذات (2) وهو الذی یکون ممیّزه لفظا دالّا علی العدد ، أو علی شیء من المقادیر (3) الثلاثة : (الکیل - الوزن - المساحة). أی : أنه الذی یزیل إبهام لفظ من ألفاظ الکیل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، أو : العدد (4). فتمییز المفرد أو الذات أربعة أنواع - غالبا - (5).
ص: 389
ثانیهما : تمییز الجملة وهو الذی یزیل الغموض والإبهام عن المعنی العام بین طرفیها ، وهو المعنی المنسوب فیها لشیء من الأشیاء ، ولذلک یسمی أیضا : «تمییز النسبة» ، وقد سبقت الأمثلة للنوعین.
ینقسم تمییز الجملة (دون تمییز المفرد) إلی ما أصله فاعل فی الصناعة (1) وإلی ما أصله مفعول به کذلک. ویری أکثر النحاة أنّ تمییز الجملة لا یخرج - فی الغالب - عن واحد من هذین ، (ولو تأویلا) (2) ؛ مثل : زادت البلاد سکانا - اختلف الناس طباعا - قوی الرجل احتمالا ، ومثل : أعددت الطعام ألوانا - وفیت العمال أجورا - نسقت الحدیقة أزهارا.
فالأصل : زاد سکان البلاد - اختلفت طباع الناس - قوی احتمال الرجل. فتغیر الأسلوب ؛ بتحویل الفاعل تمییزا. وقد کان الفاعل مضافا ؛ فأتینا بالمضاف إلیه ، وجعلناه فاعلا ، بعد أن صار الفاعل تمییزا بالصورة السالفة.
والأصل فی الأمثلة الباقیة : أعددت ألوان الطعام - وفیت أجور العمال - نسقت أزهار الحدیقة ؛ فتغیر الأسلوب ؛ بتحویل المفعول به تمییزا ، وقد کان هذا المفعول مضافا ، فأتینا بالمضاف إلیه ، وجعلناه مفعولا به ، بعد أن صار المفعول به السابق تمییزا.
أما تمییز المفرد فلا تحویل فیه مطلقا.
ص: 390
(ا) یختص تمییز المفرد (أو : الذات) بالأحکام التالیة :
1 - إن کان تمییزا للکیل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، جاز فیه ثلاثة أشیاء ، إما نصبه علی أنه التمییز مباشرة - وهذا هو الأحسن (1) - وإما جره (2) علی أنه مضاف إلیه ، والممیّز هو المضاف ، وإما جره بالحرف «من» ، ومن الأمثلة غیر ما سبق : (اشتریت کیلة أرزا - اشتریت کیلة أرز - اشتریت کیلة من أرز). (اشتریت درهما ذهبا - اشتریت درهم ذهب - اشتریت درهما من ذهب). (بعت محصول فدان قصبا - بعت محصول فدان قصب - بعت محصول فدان من قصب).
وإنما یجب جر التمییز علی اعتباره مضافا إلیه بشرط ألا یکون المقدار - وهو الممیّز - قد أضیف لغیره ؛ فإن أضیف المقدار لغیر التمییز وجب نصب التمییز ، أو : جره «بمن» ، نحو : ما فی الإناء قدر راحة دقیقا (3) ، أو :من دقیق.
ص: 391
وإن کان تمییز المفرد خاصّا بالعدد الصریح ، والعدد ثلاثة ، أو عشرة ، أو ما بینهما ... ، وجب جرّ التمییز ؛ بإعرابه مضافا إلیه ، والمضاف هو العدد (أی : الممیّز) ، والغالب فی هذا التمییز المجرور أن یکون جمع تکسیر للقلة.
فإن کان العدد لفظا دالّا علی المائة أو المئات ، أو الألف أو الألوف - وجب أن یکون التمییز مفردا مجرورا ، لأنه یعرب مضافا إلیه ، والمضاف هو العدد (1).
وإن کان العدد غیر ما سبق وجب نصب التمییز مباشرة ، وأن یکون مفردا ، وفیما یلی أمثلة لما سبق :
(قرأت فی العطلة ثلاثة کتب ، کل کتاب مائة صفحة ، وعدد السطور ألف سطر).
(قضینا فی الرحلة خمسة أیام ، قطعنا فیها مائة میل مشیا ، وأنفق کل منا ألف قرش). (الأسبوع سبعة أیام بلیالیها ، کل منها أربع وعشرون ساعة ،
ص: 392
والساعة ستون دقیقة). (الستة اثنا عشر شهراً ، الشهر ثلاثون یوماً - غالباً - السنة ثلاثمائة یوم وأربعة وستون یوماً ، فی الغالب) (1) -.
2 - وعامل النصب أو الجر بالإضافة فی «التمییز المفرد» ، هو اللفظ المبهم ، أی : الممیّز. أما عند الجرّ بالحرف : «من» فإن هذا الحرف یکون هو العامل.
3 - ولا بد من تقدم العامل علی التمییز فی جمیع الأنواع الخاصة بتمییز الذات (المفرد) (2).
4 - وإذا تعدد تمییز المفرد فالأحسن العطف بین المتعدد (3). وإذا کان التمییز مخلوطا من شیئین جاز تعدده بعطف وغیر عطف ، نحو : عندی رطل سمنا عسلا ، أو : سمنا وعسلا.
* * *
(ب) یختص تمییز «الجملة» أو : «النسبة» بالأحکام الآتیة :
1 - یجب نصبه إن کان محوّلا عن الفاعل أو المفعول الصناعیین (4) ؛ نحو : ارتفع المخلص درجة ، وعلا الأمین منزلة ، ومثل : رتبت الحجرة أثاثا - نظمت الکتب صفوفا. والأصل : ارتفعت درجة المخلص - علت منزلة الأمین - رتبت أثاث الحجرة - نظمت صفوف الکتب.
ومن تمییز الجملة الواجب النصب ما یکون واقعا بعد أفعل التفضیل ، نحو : المتعلم أکثر إجادة. وإنما یجب نصبه بشرط أن یکون سببیّا (5) ؛ أی : فاعلا فی المعنی ، کالمثال المذکور ، وإلا وجب جره بالإضافة. وعلامة التمییز الذی هو فاعل فی المعنی ألّا یکون من جنس المفضّل الذی قبله ، وأن یستقیم المعنی بعد جعله فاعلا مع جعل أفعل التفضیل فعلا (6) ؛ ففی المثال السابق نقول : المتعلم
ص: 393
کثرت إجادته وفی مثل : أنت أحسن خلقا ، نقول : أنت حسن خلقک ... وهکذا. ومثال التمییز الذی لیس بفاعل فی المعنی : علیّ أفضل جندیّ ، ومیّة أفضل شاعرة. وضابط هذا النوع أن یکون أفعل التفضیل بعضا من جنس التمییز ؛ فیصح أن یوضع مکان أفعل التفضیل کلمة : «بعض» مضافة ، والمضاف إلیه جمع یقوم مقام التمییز ویحل فی مکانه ؛ فلا یفسد المعنی ، ففی المثال السابق نقول : علیّ بعض الجنود ، ومیّة بعض الشاعرات. وإذا لم یصح أن یکون فاعلا فی المعنی وجب جره بالإضافة - کما قلنا - ، لوجوب إضافة أفعل التفضیل إلی ما هو بعضه (1) (متابعة للرأی الأشهر).
وإنما یجب الجر بالإضافة بشرط أن یکون أفعل التفضیل غیر مضاف لشیء آخر غیر التمییز. فإن کان مضافا وجب نصب التمییز ؛ نحو : علیّ أفضل الناس إخوة - ومیّة أفضل النساء أشعارا.
ومما تقدم نعلم أن تمییز أفعل التفضیل یجب نصبه فی حالتین وجره فی واحدة. ومن تمییز الجملة الذی یجب نصبه ، ولا تصح إضافته (2) : ما یقع بعد التعجب القیاسیّ ، أو السماعی (3) ؛ فالأول ، نحو : ما أحسن الغنیّ مشارکة فی الخیر - أحسن بالغنیّ مشارکة فی الخیر - والثانی نحو : لله در العالم مخترعا (4) - حسبک به
ص: 394
رجلا - کفی به نافعا - یا جارتا ما أنت جارة (1) حسبک بالصادق رجلا ، وقول الشاعر :
وحسبک داء أن تبیت ببطنة (2)
وحولک أکباد تحنّ إلی القدّ (3)
2 - لا یجوز تعدده بغیر عطف ؛ نحو : نما الغلام جسما وعقلا (4) ...
3 - عامل النصب فی هذا التمییز هو ما فی الجملة من فعل ، أو : شبهه (5).
4 - لا یجوز تقدیم هذا التمییز علی عامله إذا کان جامدا. کأفعل فی التعجب ؛ وکنعم وبئس (6) - وأخواتهما - من أفعال المدح والذم ، نحو : ما أنفع الطبیب إنسانا ، ونعم المغیث رفیقا ، وبئس القاسی رجلا ، أو کان فعلا متصرفا یؤدی معنی الجامد ؛ نحو : کفی بالطبیب إنسانا ، فإن الفعل : «کفی» متصرف ولکنه بمعنی فعل غیر متصرف ، وهو فعل التعجب ، فمعنی قولنا : کفی بالطبیب إنسانا : ما أکفاه إنسانا : أما فی غیر هاتین الصورتین الممنوعتین فالأحسن عدم تقدیم التمییز (7). وأما توسط هذا التمییز بین العامل ومعموله فجائز بشرط أن یکون
ص: 395
العامل فعلا أو وصفا یشبهه ؛ نحو : صفا نفسا الورع ، وقول المتنبی :
فهنّ أسلن - دما - مقلتی
وعذّبن قلبی بطول الصدود
ص: 396
(ا) تمییز النسبة قد یکون غیر محوّل إلا بتأویل لا داعی له ، نحو : امتلأ الإناء ماء ؛ إذ لا یقال امتلأ الماء.
(ب) عرفنا (1) أن التمییز الواجب النصب بعد «أفعل التفضیل» هو السببیّ (2) ، وأنه نوع من تمییز الجملة ؛ إذ أصله : «فاعل» ، وأصل «أفعل» هو : الفعل ، ومن الممکن إرجاعهما إلی أصلهما ؛ فتعود الجملة الفعلیة للظهور ، وترجع لأصلها الذی ترکته ، وتحولت عنه إلی أسلوب آخر ...
لکن کیف یتحقق هذا؟ ففی مثل : أنت أکثر مالا ، وأعلی منزلا ، - ونظائرهما - لا یمکن تحویل أفعل إلی فعل یؤدی المعنی الأصلی الأساسی لصیغة التفضیل (وهو الکثرة ، والعلوّ - مثلا.) مزیدا علیه الدلالة علی التفضیل.
یری بعض النحاة فی هذا النوع التفضیلیّ أنه محول عن مبتدأ مضاف ، والأصل ، مالک أکثر ؛ ومنزلک أعلی ... فصار المبتدأ تمییزا ، وصار الضمیر المتصل المضاف إلیه مبتدأ مرفوعا منفصلا. وفی هذه الحالة وأمثالها یجیء التمییز محولا عن المبتدأ ، ویری آخرون ؛ أن المراد معروف من السیاق ، وهو : أنه کثر کثرة زائدة ، وملأ علوّا زائدا ، فلا یفوت التفضیل بتحویله عن الفاعل ، أو : أن فوات معنی التفضیل غیر ضار ؛ إذ لا یجب بقاؤه فی الفعل الموضوع مکان أفعل التفضیل فی هذا الباب ، قیاسا علی عدم بقائه فی بعض أبواب أخری.
وکلا الرأیین حسن. ولعل الرأی الثانی - بوجهتیه - أحسن ؛ لأن فیه تخفیفا من غیر ضرر ، وتقلیلا للأقسام بحصرها فی الفاعل والمفعول به.
(ح) من الأسالیب المسموعة فی التمییز : لله در خالد فارسا (3). فکلمة :
ص: 397
«فارسا» وأشباهها (مما یحل محلها فی هذا الترکیب ویکون مشتقّا) یصح إعرابها حالا ؛ لاشتقاقها ، ولأن المعنی یتحمل الحالیة ، ویصح إعرابها تمییزا للنسبة ؛ والمعنی علی هذا التمییز أوضح ، وبه أکمل. وإنما یکون التمییز فی مثل : «لله در خالد فارسا» من تمییز النسبة إذا کان المتعجب منه (وهو الممیّز) ، اسما ظاهرا مذکورا فی الکلام کهذا المثال ، أو کان ضمیرا مرجعه معلوم ؛ نحو : سجل التاریخ أبدع صور البطولة لخالد بن الولید ؛ لله درّه بطلا. أو : یا له رجلا ، أو : حسبک به فارسا ... فالضمیر هنا معروف المرجع : فإن جهل المرجع وجب اعتبار التمییز من تمییز المفرد (1) ، لأن الضمیر مبهم ، فافتقاره إلی التمییز لیکون مرجعا یبین ذات صاحبه ؛ ویوضح حقیقته - أشد من افتقاره إلی بیان نسبة التعجب إلیه (أی : إلی صاحب الضمیر). أما الضمیر المعلوم فبالعکس کما ذکرنا (2). ومثل هذا یقال فی الضمیر المتصل بالصیغتین القیاسیتین فی التعجب ، وهما «ما أفعله وأفعل به».
أما تمییز الضمیر المستتر فی : «نعم» و «بئس» فی مثل : الفارس نعم رجلا - الجبان بئس جندیّا - فالأحسن اعتباره من تمییز المفرد ، برغم أن مرجعه مذکور دائما : وهو : التمییز. ومثله : ربّه رجلا ، أما تمییز : «کم» فی مثل : کم رجلا شارکتهم ؛ فإنه مفرد من نوع تمییز العدد ، لأن «کم» کنایة عنه.
(د) تجب مطابقة تمییز الجملة للاسم السابق فی مواضع ، ویجب ترک المطابقة فی أخری. وقد تترجح المطابقة أو عدمها فی ثالثة. وفیما یلی البیان :
1 - إن کان کل من التمییز والاسم السابق علیه فی الجملة لشیء واحد ، أی : أن مدلول کل منهما هو مدلول الآخر ؛ نحو : کرم علیّ رجلا ، (فالرجل هو :
ص: 398
علیّ ، وعلیّ هو : الرجل). وکرم العلیان رجلین ، وکرم العلیون رجالا ، وکرمت عبلة فتاة ، وکرمت العبلتان فتاتین ، وکرمت العبلات فتیات ... و...
2 - إن کان مدلول التمییز غیر مدلول الاسم السابق ، ولکن هذا الاسم السابق جمع ، والتمییز مصدر فإنه یجمع إذا اختلفت أنواعه باختلاف الأفراد التی یدل علیها الاسم السابق ، وتنطبق علیها تلک الأنواع ، وتنصبّ علیها ، نحو : خسر الأشقیاء أعمالا ، فقد جمع التمییز «أعمالا» بقصد معیّن : هو بیان أن هذه الأعمال مختلفة الأنواع ، وأن کل نوع منها یصیب شقیّا ، وهو فرد من أفراد الاسم السابق المجموع : (الأشقیاء).
3 - إن کان التمییز غیر الاسم السابق ، ولکن الاسم السابق جمع ، والتمییز جمع متعدد ، غیر مصدر ، فیجمع لإزالة لبس محتمل ؛ نحو : کرم الأولاد آباء ، فقد جمع التمییز: «آباء» لیدل جمعه علی أن لکل ولد أبا ، ولیسوا إخوة. ولو لم نجمعه وقلنا : کرم الأولاد أبا ، لقوی احتمال أنهم إخوة من أب واحد.
1 - إن کان معنی التمییز واحدا لیس له أفراد متعددة ومعنی الاسم السابق متعددا ؛ نحو : کرم الأولاد أبا (إذا کانوا إخوة لأب).
2 - أو کان التمییز غیر الاسم السابق ، ولکن الاسم السابق مفرد ، والتمییز جمع متعدد غیر مصدر ، وقصد بجمعه إزالة لبس محتمل ؛ نحو : نظف المتعلم أثوابا ، وکرم الشریف آباء ، فلو طابق التمییز الاسم السابق لوقع فی الوهم أن المقصود ثوب واحد ، وأب واحد. ولإزالة هذا الاحتمال جمع التمییز.
3 - أو کان التمییز مصدرا لا یقصد أن تختلف أنواعه ، نحو : أحسن الجنود عملا.
وتترجح المطابقة فی مثل ؛ حسنت الفتاة عینا ؛ لأن احتمال اللبس یکاد یکون معدوما ؛ إذ لا یکاد یخطر علی البال أن الحسن مقصور علی عین ، واحدة. ویترجح ترکها فی : حسن الفتیان ، أو الفتیة وجها ، للسبب السالف.
ص: 399
(ه) یتفق الحال والتمییز فی أمور ، ویفترقان فی أخری. وأهم ما یتفقان فیه خمسة أمور :
کلاهما : اسم ، نکرة ، منصوب ، فضلة ، رافع للإبهام.
1 - التمییز لا یکون إلا مفردا (1) ، أما الحال فقد تکون جملة ، أو شبه جملة.
2 - التمییز لا یکون إلا فضلة ، أما الحال فقد یتوقف علیها المعنی الأساسی - کما سبق فی بابها (2) -.
3 - التمییز مبین للذوات أو للنسبة ، والحال لا تکون إلا مبینة للهیئات.
4 - تمییز الجملة لا یتعدد إلا بالعطف ؛ نحو : ارتفع النبیل خلقا ، وعلما ، وجاها. والأحسن فی التمییز المتعدد للمفرد أن یکون تعدده بالعطف.
إلا إن کان المراد من التمییز المتعدد المفرد معنی واحدا ، مثل عندی رطل عسلا سمنا ؛ فیجوز التعدد مع العطف ، وبدونه (3) - أما الحال فتتعدّد بعطف وبغیر عطف ؛ نحو أقبل المنتصر ، فرحا ، مسرعا ، مصافحا رفاقه ، أو فرحا ومسرعا ، ومصافحا ... - وعند وجود العاطف لا تسمی فی الاصطلاح «حالا» وإنما تعرب معطوفا ، برغم أنها تؤدی معنی الحال (4) ، وکذلک التمییز -.
5 - لا یصح تقدیم تمییز المفرد علی عامله. والأحسن عدم تقدیم تمییز الجملة علی عامله ، إذا کان فعلا مشتقّا ، أو وصفا یشبهه. أما الحال فیجوز.
6 - التمییز فی الغالب یکون جامدا ، أما الحال فتکون مشتقة وجامدة.
7 - التمییز لا یکون مؤکدا لعامله - فی الصحیح (5) - والحال قد تکون مؤکّدة.
ص: 400
الکلام علیها الأمور الآتیة : (وأکثرها دقیق هامّ)
(عددها ، وبیانها) - (عملها) - (تقسیمها من ناحیة هذا العمل ، والأصالة فیه ، أو عدمها ؛ وما یترتب علی ذلک من التعلق بالعامل ، وآثار التعلق ...) - (معانی کل حرف ، ووجوه استعماله) - (حذف حرف الجر وحده مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره) - (نیابة حرف جر عن آخر).
(ا) فأما عددها وبیانها فالمشهور منها عشرون (2) ؛ هی : من - إلی - حتی - خلا - عدا - حاشا - فی - عن - علی - مذ - منذ - ربّ - اللام - کی - الواو - التاء - الکاف - الباء - لعل - متی -.
(ب) وأما عملها فهو جرّ آخر الاسم (3) الذی یلیها مباشرة فی
ص: 401
الاختیار (1) جرّا محتوما (2) ؛ ظاهرا ، أو مقدرا ، أو محلیّا (3). فالظاهر کالذی فی قول الشاعر :
إنی نظرت إلی الشعوب فلم أجد
کالجهل داء للشعوب ، مبیدا
ص: 402
والمقدّر کالذی فی قولهم : ما من فتی یستجیب لدواعی الغضب إلا کانت استجابته بلاء وخسرانا.
والمحلی کالذی فی قولهم : لا أتألم ممن یسعی بالوقیعة بین الناس قدر تألمی من الذین یعرفونه ، وهم - إلی ذلک - یستجیبون لما یقول ...
(ح) وتنقسم هذه الحروف من ناحیة الاسم الذی تجرّه إلی قسمین ، قسم لا یجر إلا الأسماء الظاهرة ، وهو : عشرة.
مذ - منذ - حتی - الکاف - الواو - ربّ (1) - التاء - کی - لعلّ - متی.
وقسم یجر الأسماء الظاهرة والمضمرة ؛ وهو : العشرة الأخری (2). وسیأتی الکلام (3) علی معنی کل حرف من القسمین ، وعمله.
وتنقسم من ناحیة الأصالة وعدمها إلی ثلاثة أقسام ، حروف أصلیة - وما قد
ص: 403
یشبهها (1) ویلحق بها أحیانا - وحروف زائدة (2) ، وحروف شبیهة بالزائدة.
* * *
القسم الأول : الحرف الأصلی - وشبهه (3) ، وهو الذی یؤدی معنی فرعیّا جدیدا فی الجملة ، ویوصّل بین العامل والاسم المجرور (4) ؛ فله مهمتان یؤدیهما معا. وفیما یلی إیضاحهما :
(ا) فأما من ناحیة إفادته معنی فرعیّا جدیدا لا یوجد إلا بوجوده فیتجلی فی مثل : «حضر المسافر» ؛ فإن هذه الجملة تبعث فی النفس عدة أسئلة ، قد یکون منها : أحضر المسافر من القریة أم من المدینة؟ أحضر من بلد أجنبی ، أم غیر أجنبی؟ أحضر فی سیارة ، أم فی طیارة ، أم فی باخرة ، أم فی قطار؟ أحضر إلی بیته ، أم إلی مقر عمله؟ ... و... و.. ففی الجملة نقص معنوی فرعیّ فإذا قلنا : «حضر المسافر من القریة» وأتینا بحرف الجر الأصلی «من» ، وبعده مجروره - فإن بعض النقص یزول ، ویحل محله معنی فرعیّ جدید ، بسبب وجود «من» ، فإنها بینت أن ابتداء المجیء هو : «القریة». ولم یوجد هذا المعنی إلا بوجود «من» ؛ فهی لبیان : «الابتداء» ، وقد ظهر هذا المعنی الفرعی الجدید علی المجرور بها.
وإذا قلنا : حضر المسافر من القریة إلی مقر عمله ، فإنّ نقصا آخر معنویّا یزول ، ویحل محله معنی فرعیّ جدید ، هو : «الانتهاء» ؛ بسبب وجود «إلی» ، فقد دلت علی أن نهایة السفر هی مقر العمل ، ولو لا وجود : «إلی» ما فهم هذا المعنی الفرعیّ الجدید ، فهی لبیان الانتهاء ، وقد ظهر علی المجرور بها (5).
ولو قلنا : حضر المسافر من القریة إلی مقر عمله فی سیارة - لزال نقص معنوی آخر ، وحل محله معنی فرعیّ جدید ؛ هو : «الظرفیة» بسبب وجود حرف الجر الأصلیّ «فی» الذی یدل علی أن المسافر کان خلال حضوره - فی سیارة تحویه
ص: 404
کما یحوی الظرف المظروف ، أی : کما یحوی الوعاء الشیء الذی یوضع فیه وهکذا بقیة حروف الجر الأصلیة کلها - وکذا الشبیهة بالأصلیة (1) - ؛ فإن کلّا منها لا بد أن یحمل معه للجملة معنی فرعیّا جدیدا من المعانی (2) التی یختص بتأدیتها ، ولا یتکشف هذا المعنی الجدید إلا بعد وضع الحرف مع مجروره فی الجملة. وعندئذ یتکشف ویتحقق مدلوله علی الاسم المجرور به - کما سبق (3) -.
أما وجود الحرف وحده أو مع مجروره بغیر وضعهما فی جملة ، فلا یفید شیئا.
هذا من ناحیة إفادته معنی فرعیّا جدیدا لم یکن له وجود قبل مجیئه.
(ب) وأما من ناحیة وصله بین عامله والاسم المجرور - وهو ما یسمی : «التعلق بالعامل» - فالنحاة یقولون : إن الداعی القوی لاستخدام حرف الجر الأصلی مع مجروره ، هو الاستفادة بما یجلبه من معنی جدید - وهذا المعنی الجدید لیس مستقلا بنفسه ، وإنما هو تکملة فرعیة لمعنی فعل أو شبهه. ویوضحون هذا بما یشبه الکلام السابق. ففی مثل : حضر المسافر من القریة - نجد الجار مع مجروره قد أکملا بعض النقص البادی فی معنی الفعل : «حضر» ؛ فلولاهما لتواردت علینا الأسئلة السالفة ، لکن بمجیئهما انحسم الأمر. فلهذا یقال : الجار والمجرور متعلق بالفعل : «حضر» ، أی : مستمسک ومرتبط به ارتباطا معنویّا کما یرتبط الجزء بکله ، أو الفرع بأصله ؛ لأن المجرور یکمل معنی هذا
ص: 405
الفعل ، بشرط أن یوصله به حرف الجر الأصلی - ، أو ما ألحق به -. والنحاة یسمون هذا الفعل (1) «عاملا». ویقولون أیضا :
إن حرف الجر الأصلی (2) - وما ألحق به - بمثابة قنطرة توصل المعنی بین العامل والاسم المجرور ، أو بمثابة رابطة تربط بینهما ؛ ولا یستطیع العامل أن یوصل أثره إلی ذلک الاسم إلا بمعونة حرف الجر الأصلی - وما ألحق به - ؛ فهو وسیط ، أو وسیلة للاتصال بینهما (3) ومن أجل هذا کان حرف الجر الأصلی - وملحقه - مؤدیا معنی فرعیّا وهو فی الوقت نفسه أداة من أدوات تعدیة الفعل اللازم لمفعول به معنی (أی : حکما). مثال آخر : قعد الرجل ... ، أقعد فی البیت ، أم فی السفینة ، أم فی الحقل ...؟ فمعنی الفعل : «قعد» فی حاجة إلی تکملة فرعیة تدعو للإتیان بالجار الأصلی مع مجروره ؛ فإذا قلنا : قعد الرجل فی السفینة ... انکشف المعنی الکامل للفعل : «قعد» بسبب اتصاله بالسفینة ، وکان هذا الاتصال بمساعدة حرف الجر الأصلیّ ، إذ لیس من الممکن أن نقول : قعد الرجل السفینة ؛ بإیقاع المعنی علی السفینة مباشرة بغیر حرف الجر ؛ لأن الاستعمال العربی الصحیح یأبی ذلک ؛ برغم شدة احتیاج العامل - وهو هنا الفعل : «قعد» - إلی کلمة : «السفینة» لیوقع علیها أثره المعنوی. لکنه عاجز عن أن یوصله إلیها بنفسه ؛ فجاء حرف الجر الأصلی وسیطا للجمع بینهما ، ومعینا علی تذلیل تلک الصعوبة ، ووصل بین معنی الفعل والاسم المجرور بعده. فهو - بحق - أداة اتصال بینهما ؛ ولذا یعدّ وسیلة من وسائل تعدیة الفعل اللازم إلی مفعول به تقدیرا ، زیادة علی ما یجلبه معه من معنی فرعی
ص: 406
مثال ثالث : نام الولید. فمعنی الفعل : «نام» معروف ، ولکنه معنی یشوبه بعض النقص الفرعیّ ؛ إذ لا یدل - مثلا - علی المکان الذی وقع فیه النوم.
فالعامل ؛ (وهو هنا الفعل : نام) بحاجة إلی إتمام المعنی بذکر المکان الذی وقع فیه أثره. فهل نقول : نام الولید السریر؟ لا نستطیع ذلک ؛ لأن الأسالیب السلیمة تأباه ، فالفعل عاجز عن إیصال معناه المباشر إلی تلک الکلمة ، فنلجأ إلی الوسیط المساعد ؛ وهو حرف الجر الأصیل ، - وشبهه - لیوصّل بین الاثنین ؛ ویعدّی الفعل اللازم إلی مفعول به معنی ، (حکما) ؛ فنقول : نام الولید فی السریر. ومثل هذا یقال فی الفعلین : «دعا» ، و «ذم» من قول الشاعر :
ومن دعا الناس إلی ذمّه (1)
ذموه بالحق وبالباطل ...
وهکذا ...
من کل ما سبق نفهم أن حرف الجر الأصلی (2) مع مجروره إنما یقومان بمهمة مشترکة ومزدوجة ، کانت السبب القویّ فی مجیئهما ؛ وهی : إتمام معنی عاملهما ، واستکمال بعض نقصه (3) بما یجلبانه معهما من معنی فرعیّ جدید ؛ وأحدهما - وهو حرف الجر الأصلی (4) - یقوم بمنزلة الوسیط الذی یصل بین معنی العامل والاسم المجرور ، ویجعل عامله اللازم متعدیا حکما وتقدیرا ویعبر النحاة عن کل هذا تعبیرا اصطلاحیّا ؛ هو : «أن الجار الأصلیّ - وشبهه - مع مجروره متعلّقان بالعامل» (5). فالمراد من تعلقهما به هو : اتصالهما وارتباطهما به ؛ لتکملة معناه الفرعیّ علی الوجه الذی سلف.
کما نفهم أیضا ما یقولونه من : أن الاسم المجرور بالحرف الأصلی - وشبهه - هو بمنزلة «المفعول به» لذلک العامل ؛ لوقوع معنی العامل علیه ؛ کما یقع علی «المفعول به» ؛ فکلا الاسمین یقع علیه معنی عامله ، وکلاهما یتمم معنی العامل ، والمتعلّق به. إلا أن المفعول به منصوب ، ویصل إلیه معنی ذلک العامل مباشرة ، أما الاسم الآخر فمجرور بحرف الجر الأصلی ، ولا یصل إلیه معنی عامله «وهو المتعلّق به» إلا بوسیط ، ولا یصح تسمیته مفعولا به حقیقیّا ، بالرغم من أنه
ص: 407
بمنزلته (1) ، کما لا یصح إعرابه فاعلا ، ولا مفعولا به ، ولا مبتدأ ، ولا بدلا (2) ولا غیر ذلک ... ، وإنما یقتصر فی إعرابه علی أنه «اسم مجرور بالحرف» ، وکفی (3) ...
(أی : المتعلّق به) ومواضع ذکره وحذفه :
لیس من اللازم أن یکون العامل (أی : المتعلّق به) فعلا ؛ فقد یکون شیئا آخر یشبهه ؛ کاسم الفعل فی مثل : نزال فی الباخرة ، بمعنی : انزل فی الباخرة ، وحیّهل علی داعی المروءة ، بمعنی : أقبل علی داعی المروءة ، وکالمصدر الصریح (4) فی قولهم : السکوت عن السفیه جواب ، والإعراض عنه عقاب ..
ومثل : الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر دعامة من أقوی الدعائم لإصلاح المجتمع ، وکالمشتق الذی یعمل عمل الفعل ؛ نحو : أنا محبّ لعملی ، فرح به ، مرتاح لرفاقی فیه. وقول الشاعر :
یموت المداوی للنفوس ولا یری
لما فیه من داء النفوس مداویا
وکذلک المشتق الذی لا یعمل (5) ؛ کاسم الزمان ، واسم المکان ... نحو : انقضی مسعاک لتأیید الحق ، وعرفنا مدخلک إلی أعوانه.
وقد یکون العامل لفظا غیر مشتق ، ولکنه فی حکم المؤول به (أی :
ص: 408
یؤدی معنی المشتق) ؛ مثل : أنت عمر فی قضائک ، فالجار مع مجروره متعلّقان بکلمة : «عمر» الجامدة ؛ لأنها مؤولة بالمشتق ؛ فهی هنا بمعنی : عادل. ومثل قولهم : قراءة کلام السفهاء علقم علی ألسنتنا. فالجار والمجرور متعلقان «بعلقم» الجامدة ؛ لأنها هنا بمعنی : صعب ، أو شاق ، أو مؤلم ، أو : مرّ ...
والمشهور : أن حرف الجر الأصلی ومجروره لا یتعلقان بأحرف المعانی ، ولکن هذا المشهور مخالف لما نقلناه عن بعض المحققین (1).
وقد یخلو الکلام من ذکر العامل (2) ؛ لأنه إما محذوف جوازا لوضوحه ؛ بسبب اشتهاره فی الاستعمال قبل الحذف وأمن اللبس بعد الحذف ، أو بسبب وجود دلیل یدل علیه ؛ فمثال الأول : «بأبی» فی قول المتنبی :
بأبی من وددته فافترقنا
وقضی الله بعد ذاک اجتماعا
وقول الآخر :
بنفسی تلک الأرض ؛ ما أطیب الرّبا
وما أحسن المصطاف (3)
والمتربعا (4)
یرید : أفدی بأبی ، - أفدی بنفسی. ومثال الثانی : أزورک فی مساء الخمیس أما أخوک ففی مساء الجمعة ، أی : فأزوره فی مساء الجمعة.
وإما محذوف وجوبا إذا کان دالا علی مجرد الکون العام ، أی : الوجود المطلق ؛ وذلک فی مسائل ؛ أشهرها سبعة :
أن یقع صفة ، نحو ؛ هذه رسالة فی ید صدیق عزیز. أو : حالا ؛ نحو : قرأت الرسالة من صدیق عزیز. أو : صلة ، نحو : استمتعت بالأزهار التی فی الحدیقة ؛ أو : خبرا لمبتدأ أو لناسخ ، کقول الشاعر :
جسمی معی ، غیر أن الروح عندکمو
فالجسم فی غربة ، والروح فی وطن
فلیعجب الناس منی ؛ أنّ لی بدنا
لا روح فیه ، ولی روح بلا بدن
ص: 409
أو : أن یلتزم العرب حذفه فی أسلوب معین ؛ کقولهم لمن تزوج : «بالرّفاء (1) والبنین» ، أی : تزوجت ... فلا یجوز فی مثل هذا الأسلوب ذکر العامل ؛ لأنه أسلوب جری مجری الأمثال ، والأمثال لا تغیر.
أو یکون حرف الجر هو «الواو» أو «التاء» المستعملتین فی القسم ، نحو : والله لا أبتدئ بالأذی ، وقول الشاعر :
فو الله لا یبدی لسانی حاجة
إلی أحد حتی أغیّب فی القبر
تالله لأصنعن المعروف. التقدیر : أقسم والله ، أقسم بالله.
أو أن یرفع الجار مع مجروره الاسم الظاهر عند من یقول بذلک ؛ (2) بشرط اعتمادهما علی استفهام ، أو نفی ؛ نحو : أفی الله شک؟ : ما فی الله شک.
وإذا کان العامل محذوفا جاز تقدیره فعلا ، (مثل : استقر - حصل - وجد - کان بمعنی : وجد ... و...) وجاز تقدیره وصفا یشبهه ؛ (مثل : مستقر - - حاصل - کائن ...). إلا فی القسم والصلة لغیر «أل» الموصولة ؛ فیجب تقدیره فیهما فعلا ، لأن جملتی (3) القسم والصلة لغیر «أل» ، لا تکونان هنا إلا جملتین فعلیتین ، ولن یتحقق هذا إلا بتعلق شبه الجملة بفعل محذوف ، لا بغیره. وقد سبق أن أوضحنا جواز القول - تیسیرا - بأن الجار والمجرور إذا وقعا صفة ، أو صلة ، أو خبرا ، أو حالا -. هما الصفة ، أو الصلة ، أو الخبر ، أو الحال ، من غیر نظر للعامل ، ولا اعتباره واحدا من تلک الأشیاء (4).
ولما کانت العلاقة بین العامل (المتعلّق به) ، والجار مع مجروره علی ما ذکرنا من الارتباط المعنوی الوثیق - وجب أن نتنبه عند التعلیق ؛ فنمیز العامل الذی یحتاج إلی الجار مع المجرور لتکملة معناه ، من غیره الذی لا یحتاج ؛ فنخص الأول بتعلقهما به ، ونعطیه ما یناسبه ، دون سواه من العوامل التی لا یصلح لها التّعلق ؛ إما
ص: 410
بسبب الاکتفاء بمعنی العامل دون احتیاج إلی الجار مع مجروره ، وإما بسبب فساد المعنی المراد من العامل إذا تعلقا به.
بیان ذلک : أن الکلام قد یشتمل علی عدة أفعال أو غیرها مما یشبهها ؛ فیتوهم من لا فطنة له أن التعلق بکل واحد منها جائز ؛ فیسارع إلی التعلیق غیر متثبت من حاجة العامل له ، فی استکمال المعنی أو عدم حاجته ، وغیر ملتفت إلی ما یترتب علیه من فساد المعنی أو عدم فساده ؛ کما یتضح من الأمثلة التالیة :
«جلست أقرأ فی کتاب تاریخی» ... فلو تعلق الجار والمجرور : «فی کتاب» بالفعل : «جلس» لکان المعنی : جلست فی کتاب ... ، وهذا واضح الفساد. لکن یستقیم المعنی لو تعلقا بالفعل : «أقرأ».
«قاس الطبیب حرارة المریض ، وکتبها ، بمقیاس الحرارة». فلو تعلق الجار والمجرور بالفعل : «کتب» لکان المعنی : کتب الطبیب حرارة المریض بمقیاس الحرارة. وهذا غیر صحیح ؛ لأنه لا یقع ، وإنما یصح المعنی بتعلقهما بالفعل : «قاس» ؛ إذ یکون الأصل : قاس الطبیب بمقیاس الحرارة - حرارة المریض. وهذا معنی سلیم.
ویقول الرّصافی :
جهلت کجهل الناس حکمة خالق
علی الخلق طرّا بالتعاسة حاکم
وغایة جهدی أننی قد علمته
حکیما ، تعالی عن رکوب المظالم
فلو تعلق الجار والمجرور : (علی الخلق) بالفعل : «جهل» لأدی هذا التعلق إلی فساد شنیع فی المعنی ؛ إذ یکون الترکیب : جهلت علی الخلق جمیعا أی : تکبرت علیهم ، وأسأت إلیهم. وهذا غیر المراد ، وکذلک لو تعلقا بالمصدر : «جهل» أو : «حکمة» ... أما لو تعلقا بالوصف المشتق : «حاکم» فإن المعنی یستقیم ، ویتحقق به المراد ، إذ یکون الترکیب ... حاکم علی الخلق طرّا بالتعاسة ... ومثل هذا یقال فی الجار والمجرور : «بالتعاسة». ویقول الشاعر :
عداتک منک فی وجل وخوف
یریدون المعاقل والحصونا ...
فلو تعلق الجار ومجروره (منک) بکلمة : «عداة» (1) لفسد المعنی ، بخلاف
ص: 411
تعلقهما بکلمة : «وجل» فإن المعنی معه یکون : عداتک فی وجل منک ... وهو معنی مستقیم.
ومن الأمثلة السالفة یتبین أن متعلّقهما قد یکون متأخرّا عنهما ، أو متقدما علیهما ؛ فلیس من اللازم أن یتقدم علیهما العامل الذی یتعلقان به. وقد اجتمع الأمران فی قول الشاعر :
بالعلم والمال یبنی الناس ملکهمو
لم یبن ملک علی جهل وإقلال
وفی قول الآخر :
لئن لم أقم فیکم خطیبا فإننی
بسیفی إذا جدّ الوغی لخطیب ...
فالمراد : یبنی الناس ملکهم علی العلم والمال ... - لم یبن الناس ملکهم علی جهل وإقلال - لئن لم أقم فیکم خطیبا فإننی لخطیب بسیفی ...
فالواجب یقتضی - فی کل الأحوال - أن نبحث لحرف الجر الأصلی (1) مع مجروره عن «العامل» المناسب لهما - ولا سیما إذا تعددت حروف الجر ومجروراتها ، وتعددت معها الأفعال وأشباهها (2) - وأن نمیزه ونستخلصه من غیر المناسب ؛ ولا نتأثر فی اختیاره بقربه من الجار والمجرور ، أو بعده عنهما ، أو تقدمه علیهما أو تأخره ، أو ذکره ، أو حذفه. وإنما نتأثر بشی واحد ؛ هو ما یکون بین العامل وبینهما من ارتباط معنوی یحتم اتصالهما به بطریقة تعلقهما به مع ملاحظة الرأی المشهور ؛ وهو : أن شبه الجملة بنوعیه لا یتقدم علی عامله المؤکد بالنون (3).
ص: 412
وفی هذه الحالة التی یتمم فیها الجار والمجرور المعنی مع عاملهما یسمیان «شبه الجملة (1) التام» فإن لم یکمل بهما المعنی (وقد یکون ذلک لعدم اختیار «المتعلّق به» المناسب) سمیّا : «شبه الجملة الناقص» ، نحو : محمد عنک - الشمس حتی الیوم - النهر بک ... و... فهذه تراکیب فاسدة ، بخلاف : محمد فی البیت - الشمس علی خط الاستواء - النهر لنا (2).
ص: 413
المشهور أن شبه الجملة التام بنوعیه (الظرف ، والجار مع مجروره) إذا وقع بعد نکرة محضة وجب إعراب متعلّقه (عامله) نعتا. وإذا وقع بعد معرفة محضة
ص: 414
وجب إعرابه حالا. أما إذا وقع بعد نکرة غیر محضة ، أو معرفة غیر محضة فیجوز إعرابه فی کلّ صورة من الصورتین ، حالا ، أو نعتا. لکن یقول بعض المحققین إن متعلّق شبه الجملة یصلح أن یکون حالا أو نعتا فی جمیع الصوّر ؛ سواء
ص: 415
أکانت النکرة والمعرفة محضتین أم غیر محضتین ، ما عدا صورة واحدة یتعین أن یکون شبه الجملة فیها نعتا ، هی : أن تکون النکرة محضة. ورأیه حسن. وقد سبق
ص: 416
إیضاحه التام وتفصیله (1).
وحروف الجر السابقة کلها أصلیة إلّا أربعة ؛ هی : «من». و «الباء» و «اللام» و «الکاف» فهذه الأربعة تستعمل أصلیة حینا ، وزائدة حینا آخر ، وإلا «لعل» و «ربّ» ؛ فإنهما حرفا جر شبیهان بالزائد ، وکذا : «لو لا» فی رأی أشرنا إلیه من قبل (2). ومن النحاة من یجعل : خلا ، وعدا ، وحاشا ، من حروف الجر الشبیهة بالزائدة. لکن لا داعی للعدول عن اعتبارها حروفا أصلیة ؛ - کما سبق (3) فی باب الاستثناء -. وسیجیء تفصیل الکلام عن معانی حروف الجر وعملها فی الموضع الخاص بهذا من الباب (4).
* * *
القسم الثانی : حرف الجر الزائد (5) زیادة محضة (6) وهو الذی لا یفید معنی
ص: 417
جدیدا ، وإنما یؤکد المعنی العامّ فی الجملة کلها ، فشأنه شأن کل الحروف الزائدة ؛ یفید الواحد منها توکید المعنی العام للجملة کما یفیده تکرار تلک الجملة کلها. سواء أکان المعنی العام إیجابا أم سلبا ، ولهذا لا یحتاج إلی شیء یتعلق به ، ولا یتأثر المعنی الأصلی بحذفه ، نحو : کفی بالله شهیدا ، بمعنی : یکفی الله شهیدا ؛ فقد جاءت «الباء» الزائدة لتفید تقویة المعنی الموجب وتأکیده ؛ فکأنما تکررت الجملة کلها لتوکید إثباته وإیجابه. ومثل : لیس من خالق إلا الله. أی : لیس خالق إلا الله ، فأتینا بالحرف الزائد : «من» : لتأکید ما تدل علیه الجملة کلها من المعنی المنفی ، وتقویة ما تتضمنه من السلب. ولو حذفنا الحرف الزائد فی المثالین ما تأثر المعنی بحذفه.
ولا فرق فی إفادة التأکید بین أن یکون الحرف الزائد فی أول الجملة ، أو فی وسطها ، أو فی آخرها ؛ نحو : بحسبک الأدب - کفی بالله شهیدا - الأدب بحسبک ... وقد تکون زیادة الحرف واجبة لا غنی عنها کزیادة «باء الجر» بعد صیغة «أفعل» للتعجب القیاسیّ ؛ نحو : أکرم بالعرب (1).
وإنما لم یتعلق الجار الزائد مع مجروره بعامل لأن التعلّق والزیادة متعارضان ، إذ الداعی للتعلق هو الارتباط المعنوی بین عامل عاجز ، ناقص المعنی ، واسم یکمله لا یصل إلیه أثر ذلک العامل إلا بمساعدة حرف جرّ أصلیّ - وشبهه - ، أما الزائد فلا یدخل الکلام لیعین علی الإکمال ، وإیصال الأثر من العامل العاجز إلی الاسم المجرور ، وإنما یدخل الکلام لتأکید معناه القائم ، وتقویته کله ، لا للربط.
لا بد من أمرین فی الاسم المجرور بالحرف الزائد ؛ أن یکون مجرورا فی اللفظ ، وأن یکون - مع ذلک - فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ؛ علی حسب مقتضیات العوامل. فله إعراب لفظیّ ، وآخر محلی معا. ففی مثل. «کفی بالله شهیدا» تعرب «الباء» حرف جر زائدا - «الله» مجرور بها ، فی محل رفع ، لأنه فاعل ، إذ الأصل : کفی الله ...
ص: 418
وفی مثل : «بحسبک الأدب». «الباء» : حرف جرّ زائد ، «حسب» مجرورة بها ، فی محل رفع ؛ لأنها تصلح مبتدأ ؛ إذ الأصل : حسبک الأدب ... وهکذا.
فحرف الجر الأصلی والزائد یشترکان فی أمر واحد ، هو : أن کلا منهما لا بد أن یجر الاسم بعده. ویختلفان فی ثلاثة أمور :
فی أن الحرف الأصلی لا بد أن یأتی بمعنی فرعیّ جدید لم یکن فی الجملة قبل مجیئه. أما الحرف الزائد فلا یأتی بمعنی جدید. وإنما یؤکد ویقوی المعنی العامّ الذی تتضمنه الجملة کلها من قبل مجیئه.
والحرف الأصلی مع مجروره لا بد أن یتعلقا (1) بعامل محتاج إلیهما فی تکملة معناه ، أما الحرف الزائد ومجروره فلا یتعلقان. والحرف الأصلی یجر الاسم بعده لفظا دون أن یکون لهذا الاسم محل آخر من الإعراب (2). وتوابعه مجرورة اللفظ مثله ، ولا محل لها. أما الزائد فلا بد أن یجر الاسم لفظا ، وأن یکون له مع ذلک محل من الإعراب. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فیه أمران ؛ إما الجر مراعاة للفظ المتبوع ، وإما حرکة أخری یراعی فیها محل المتبوع لا لفظه ؛ ففی مثل : کفی بالله القادر شهیدا. یصح فی کلمة : «القادر» الجر تبعا للفظ «الله» المجرور لفظا ، ویجوز الرفع تبعا لمحله باعتباره فاعلا. ومثل هذا یجری فی سائر التوابع.
وأشهر حروف الجر الزائدة هو الأربعة السالفة (من - الباء - اللام - الکاف ...) وسیأتی معنی کل وعمله فی المکان الخاص بذلک (3).
* * *
القسم الثالث : حرف الجر الشبیه بالزائد ، وهو الذی یجر الاسم بعده لفظا فقط ، ویکون له مع ذلک محل من الإعراب (4) - فهو کالزائد فی هذا - ویفید الجملة معنی جدیدا مستقلا ، لا معنی فرعیّا مکملا لمعنی موجود ، ولهذا لا یصح
ص: 419
حذفه ؛ إذ لو حذفناه لفقدت الجملة المعنی الجدید المستقل الذی جلبه معه. لکنه لا یحتاج - مع مجروره - لشیء یتعلق به ، لأنّ هذا الحرف الشبیه بالزائد لا یستخدم وسیلة للربط بین عامل عاجز ناقص المعنی ، واسم آخر یتمم معناه. ومن أمثلته : ربّ - لعلّ (وکذا «لو لا» ، عند فریق من النحاة). نحو : ربّ غریب شهم کان أنفع من قریب - رب صدیق أمین کان أوفی من شقیق. فقد جر الحرف : ربّ ، الاسم بعده فی اللفظ. وأفاد الجملة معنی جدیدا مستقلا هو : التقلیل. ولم یکن هذا المعنی موجودا. (وسیجیء تفصیل الکلام علی هذا الحرف من ناحیة معناه وعمله وکل ما یتصل به فی موضعه الخاص) (1).
حرف الجر الشبیه بالزائد یجر الاسم بعده لفظا فقط ، ویکون لهذا الاسم محل من الإعراب ؛ فهو فی هذا شبیه بالحرف الزائد - کما أسلفنا - ففی المثالین السابقین ؛ تعرب «ربّ» حرف جر شبیه بالزائد. وکلمة : «غریب» أو : «صدیق» - مجرورة بها فی محل رفع ، لأنها مبتدأ. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز الجرّ مراعاة للفظ المتبوع. وجاز ضبطه بحرکة تناسب محله. ففی المثالین السابقین نقول : رب غریب شهم کان أنفع من قریب - ربّ صدیق مهذب کان أوفی من شقیق ؛ بجر کلمتی : «شهم» و «مهذب» مراعاة للفظ المنعوت ، أو رفعهما مراعاة لمحله.
مما سبق نعلم أن الشبیه بالزائد یشبه الأصلی فی أمرین ؛ هما : جر الاسم بعده ، وإفادة الجملة معنی جدیدا مستقلّا لم یجئ لیتمم معنی عامله. ویخالفه فی أمرین ؛ هما : عدم تعلقه هو ومجروره بعامل ، وأن لمجروره محلا من الإعراب فوق إعرابه اللفظی بالجر.
وأن الشبیه بالزائد یشارک الزائد فی أمور ثلاثة : هی : جر الاسم لفظا ، واستحقاق هذا الاسم للإعراب المحلیّ فوق إعرابه اللفظی بالجر ، وعدم حاجة الجار مع مجروره إلی متعلّق.
ص: 420
ویخالفه فی أمر واحد ؛ هو : إتیانه بمعنی جدید مستقل - کما أسلفنا - أما الزائد فلا جدید معه وإنما یستخدم لتأکید معنی الجملة کلها.
وتتلخص أوجه المشابهة والمخالفة بین الأنواع الثلاثة فیما یأتی :
نوع الحرف
الأحکام الخاصة بکل نوع
حرف الجر الأصلی ، وشبهه
یأتی بمعین جدید یکمل معنی عامله
یجر الاسم بعده لفظا فقط.
لا یکون للمجرور محل إعرابی آخر
یحتاج مع مجروره لمتعلق
حرف الجر الزائد زیادة (1)
محضة
لا یأتی بمعنی جدید -
یجر الاسم بعده لفظا.
یکون للمجرور محل إعرابی آخر مع ذلک الجر
لا یحتاج مع مجروره لمتعلق.
حرف الجر الشبیه بالزائد
یأتی بمعنی جدید مستقل
یجر الاسم بعده لفظا.
یکون للمجرور محل إعرابیّ آخر مع ذلک.
لا یحتاج مع مجروره لمتعلق
ص: 421
د - معانی (1) حروف الجر ، ووجوه استعمالها
المشهور من حروف الجر - عشرون ، سردنا ألفاظها (2) ، وأنواعها الثلاثة ونشیر إلی أمرین :
أولهما : أن کل حرف من هذه العشرین ، قد یتعدد معناه ، وقد یشارکه غیره فی بعض هذه المعانی ، أی : أن المعنی الواحد قد یؤدیه حرفان أو أکثر. وللمتکلم أن یختار من الحروف المشترکة فی تأدیة المعنی الواحد أو غیر المشترکة ، ما یشاء مما یناسب السیاق. غیر أن الحروف المشترکة فی تأدیة المعنی الواحد قد تتفاوت فی هذه المهمة ، فبعضها أقوی علی إظهاره من غیرها ، لکثرة استعمالها فیه ، ، وشهرتها به. وهذه الکثرة والشهرة ، تختلف باختلاف العصور والطبقات ومن ثمّ کان من المستحسن - بلاغة - اختیار الحرف الأوضح والأشهر وقت الکلام ، دون الحرف الغریب ، أو غیر المألوف ، برغم صحة استعمال الاثنین استعمالا قیاسیّا.
ثانیهما : أن بعض حروف الجر یکثر استعماله فی الجر حتی یکاد یقتصر علیه ؛ مثل : من ، إلی ، عن ، ربّ ... وبعضا آخر یقل استعماله فیه ، وهذا ستة أحرف ؛ خلا - عدا - حاشا - کی - لعلّ - متی.
غیر أن الذی یکثر استعماله فی الجر والذی لا یکثر - سیان ، من ناحیة أن استخدامهما فی الموطن المناسب للمعنی قیاسیّ ، لا یمنع منه مانع ؛ حتی القلة المشار إلیها ؛ فإنها لیست من النوع الذی یمنع القیاس والمحاکاة ، إذ هی قلة نسبیة لا ذاتیة (3) (أی : أنها تعتبر قلیلة إذا قیست بالنوع الآخر الکثیر ،
ص: 422
ولیست قلیلة فی ذاتها ، بل کثیرة بغیر تلک الموازنة).
فأما الثلاثة الأولی من القسم القلیل القیاسی فقد سبق إیفاؤها حقها من الإبانة والتفصیل فی باب الاستثناء (1).
وأما «کی» فحرف جر أصلیّ للتعلیل لا یجر إلا أحد ثلاثة أشیاء :
الأول : «ما» الاستفهامیة التی یسأل بها عن سبب الشیء وعلته ؛ کأن یقول شخص : قد لازمت البیت أسبوعا. فیسأله آخر : کیمه (2)؟ بمعنی : لمه؟ أی : لماذا؟. ومثل : أقصد الریف کل أسبوع ؛ فیقال : کیمه؟ أی : لمه؟. و «کی» هذه تسمی : «کی التعلیلیة» ، لأنها تدخل علی استفهام یسأل به عن العلة والسبب - کما سبق - فهی بمنزلة اللام الجارة التی تسمی : «لام التعلیل» فی معناها وعملها.
الثانی : «ما» المصدریة مع صلتها (3) ؛ فتجر المصدر المنسبک منهما معا ؛ مثل : أحسن معاملة الناس کی ما تسلم من أذاهم ، أی : لسلامتک من أذاهم. وتسمی : «کی المصدریة» : لجرها المصدر المنسبک من الحرف المصدری مع صلته ؛ فهی مثل «لام التعلیل» معنی وعملا.
الثالث : «أن المصدریة» مع صلتها (4) ؛ فتجر المصدر المنسبک منهما معا ؛ والغالب فی هذه الصورة إضمار «أن» بعد «کی» ؛ مثل : أحسن السکوت کی تحسن الفهم ، والأصل : کی أن تحسن الفهم ، فالمصدر المنسبک من «أن» المضمرة وصلتها فی محل جر بالحرف : «کی» (5) ، وهی أیضا مثل «لام التعلیل» ، معنی وعملا. أی : أنها فی المواضع الثلاثة السابقة تؤدی معنی
ص: 423
واحدا وعملا واحدا (1) ...
ومما تقدم نعلم أن : «کی» الجارّة لا تجر اسما معربا ، ولا اسما صریحا.
وأما لعل (2). فحرف جر شبیه بالزائد ، ومعناه الکثیر هو : الترجی والتوقع ؛ (3) نحو : لعل الغائب قادم غدا ، فکلمة : «لعل» حرف جر شبیه بالزائد «الغائب» مجرور بها لفظا فی محل رفع مبتدأ ، «قادم» خبره. غدا ظرف زمان منصوب علی الظرفیة.
وأما «متی» فحرف جرّ أصلی (4) ومعناه : الابتداء - غالبا - نحو : قرأت الکتاب متی الصفحة الأولی حتی نهایة العشرین. أی : من ابتداء الصفحة الأولی ...
إلی هنا انتهی الکلام علی الحروف التی تستعمل قلیلا فی الجر ، مع قیاس استعمالها.
ص: 424
وننتقل إلی الکلام علی الحروف الکثیرة الاستعمال فیه فنوضح المعانی القیاسیة لکل واحد ، وما قد یتصل بعمله.
ویلاحظ ما سبق (1) ، وهو أن حرف الجر الأصلی حین یؤدی معنی فرعیّا من المعانی التی ستذکر لا بد أن یقوم فی الوقت نفسه بتعدیة عامله اللازم إلی مفعول به معنی (2) ...
من : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا ... ویتردد بین أحد عشر معنی:
1 - التبعیض ، أی : الدلالة علی البعضیة. وعلامتها : أن یکون ما قبلها - فی الغالب - جزءا من المجرور بها ، مع صحة حذفها ووضع کلمة : «بعض» مکانها ؛ نحو : خذ من الدراهم. وکقولهم : ادّخر من غناک لفقرک ، ومن قوّتک لضعفک ؛ فالمأخوذ بعض الدراهم ، والمدّخر بعض الغنی والقوة. ویصح وضع کلمة : «بعض» مکان کلمة : «من». ومثل هذا قول الشاعر :
وإنک ممن زیّن الله وجهه
ولیس لوجه زانه الله شائن
فالمخاطب جزء من الاسم المجرور بها ؛ وهو : «من» الموصولة التی بمعنی «الّذین» ، وقد یکون ذلک الجزء متأخرا عنها وعن الاسم المجرور بها ، فی اللفظ دون الرتبة ؛ کقولهم : «إنّ من آفة المنطق الکذب ، ومن لؤم الأخلاق الملق» فالکذب والملق متأخران فی الترتیب اللفظی وحده ، ولکنهما متقدمان فی درجتهما ؛ لأن کلا منهما هو : «اسم إنّ» ، والأصل فی «اسم إنّ» تقدمه فی الرتبة علی خبرها.
2 - بیان (3) الجنس ، وعلامتها : أن یصح الإخبار بما بعدها عما (4) قبلها ؛
ص: 425
کقولهم ؛ اجتنب المستهترین من الزملاء. فالزملاء فئة من جنس عام هو : المستهترون ؛ فهی نوع یدخل تحت جنس «المستهترین» الشامل للزملاء وغیر الزملاء. وکقولهم : تخیر الأصدقاء من الأوفیاء ... أی : الأصدقاء الذین هم جنس ینطبق علی فئة منهم لفظ : «الأوفیاء». وهذا الجنس عامّ ، یشمل بعمومه الأوفیاء وغیرهم. 3 - ابتداء الغایة (1) فی الأمکنة کثیرا ، وفی الأزمنة أحیانا - وهی فی الحالتین قیاسیّة - وهذا المعنی أکثر معانیها استعمالا ؛ فمثال الأولی قوله تعالی : (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ ...،) ونحو : جاءتنی رسالة من فلان. ومثال الثانیة قولهم : فلان میمون الطالع من یوم ولادته ، راجح العقل من أول نشأته ...
4 - التوکید ، (ولا تکون معه إلا زائدة) وزیادتها إما للنص علی عموم المعنی وشموله کلّ فرد من أفراد الجنس ، وإما لتأکید ذلک العموم والشمول إذا کانا مفهومین من الکلام قبل دخولها. فالأول مثل : ما غاب من رجل. وأصل الجملة : ما غاب رجل. وهی جملة قد یفهم منها أن نفی المعنی منصبّ علی رجل واحد دون ما زاد علیه. أی : أن رجلا واحدا لم یغب ، وأنّ من الجائز غیاب رجلین أو رجال.
والسبب فی اختلاف الفهم أن کلمة : «رجل» النکرة ، لیست من النکرات الملازمة للوقوع بعد النفی ، (وهی النکرات القاطعة فی الدلالة علی العموم والشمول بعد ذلک النفی ، ویتحتم أن ینصبّ النفی الذی قبلها علی کل فرد من أفراد مدلولها ؛ وأن یمتنع معه الخلاف فی الفهم ؛ مثل : کلمة : أحد ، ودیّار ، وعریب). وإنما کلمة «رجل» من النکرات التی قد تقع بعد النفی ، أو لا تقع وإذا وقعت بعده لم تفد العموم والشمول الإفادة القاطعة التی تشمل کل فرد - إلا بقرینة - وإنما تفیدهما مع احتمال خروج بعض الأفراد من دائرة المعنی المنفی کما أوضحنا. فإذا
ص: 426
أردنا إزالة هذا الاحتمال ، وجعل المعنی نصّا فی العموم والشمول علی سبیل الیقین - أتینا بالحرف الزائد : «من» ووضعناه قبل هذه النکرة مباشرة ، وقلنا : ما غاب من رجل ؛ وعندئذ لا یختلف الفهم ، ولا یتنوع ؛ إذ یتعین أن یکون المراد النص علی عدم غیاب فرد وما زاد علیه من أفراد الرجال ، ومن ثمّ لا یصح أن یقال : ما غاب من رجل ، وإنما غاب رجلان أو أکثر ، منعا للتناقض والتخالف ، فی حین یصح هذا قبل مجیء «من» الزائدة ، لأن الأسلوب قبل مجیئها قد یحتمل أمرین ؛ نفی الواحد دون ما زاد علیه ؛ ونفیه مع ما زاد علیه معا - کما أسلفنا - وهذا معنی قولهم : («من الزائدة» تفید النص علی عموم الحکم وشموله کلّ فرد من أفراد الجنس إذا دخلت علی نکرة منفیة لا تقتضی وجود النفی الدائم الشامل قبلها اقتضاء محتوما). وعلی ضوء ما سبق تتبین فائدة «من» فی قول الشاعر :
ما من غریب وإن أبدی تجلّده
إلا تذکّر عند الغربة الوطنا
وأما الثانی وهو التأکید فمثل : ما غاب من دیّار ؛ من کل کلام مشتمل علی نکرة لا تستعمل - غالبا - إلا بعد النفی أو شبهه (مثل : أحد - عریب - دیّار ... و...) فإنها بعده تدل دلالة قاطعة علی العموم والشمول ، أی : أنّ کل نکرة من هذه النکرات ونظائرها لا یراد منها فرد واحد من أفراد الجنس ینتفی عنه المعنی ، وإنما یراد أن ینتفی المعنی عن الواحد وما زاد علیه. ففی المثال السابق قطع ویقین بأمر واحد ؛ هو : عدم غیاب فرد أو أکثر من أفراد الرجال ؛ فکل الأفراد حاضرون : ولا مجال لاحتمال معنی آخر ، فإذا أتینا بحرف الجر الزائد «من» وقلنا : ما غاب من دیّار - لم یفد الحرف الزائد معنی جدیدا ، ولم یحدث دلالة لم تکن قبل مجیئه ، وإنما أفاد تقویة المعنی القائم وتأکیده ، وهو النص علی شمول المعنی المنفی وتعمیمه ؛ بحیث ینطبق علی الأفراد کلها فردا فردا.
والفصیح الذی لا یحسن مخالفته عند استعمال «من» الزائدة أن یتحقق شرطان : وقوعها بعد نفی (1) وشبهه (وهو هنا :
ص: 427
النهی (1) وبعض أدوات الاستفهام) وأن یکون الاسم المجرور بها نکرة. وهذا الاسم یکون مجرورا فی اللفظ لکنه مرفوع المحل - إما لأنه مبتدأ ، أو أصله مبتدأ ؛ فی مثل قولهم : هل للواشی من صدیق؟ وما من صاحب للنمام ، وإما لأنه فاعل ؛ فی مثل قولهم : ما سعی من أحد فی الشرّ إلا ارتد إلیه سعیه - وقد یکون مجرورا فی اللفظ منصوب المحل (إما لأنه مفعول به ، کقولهم : تأمل هذا الکون العجیب هل تری من نقص أو قصور؟ وهل تظن من أحد یقدر علی هذا الإبداع إلا الله؟ وإما لأنه مفعول مطلق ، نحو قوله تعالی : ([ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْءٍ] ،) أی : من تفریط).
ومن النادر الذی لا یقاس علیه ، زیادتها فی غیر هذه المواضع الأربعة التی یکون الاسم فیها مجرورا لفظا کما سبق ، لکنه فی محل رفع مبتدأ ، (الآن أو بحسب أصله) ، أو : فاعل ، أو فی محل نصب ؛ لأنه مفعول به ، أو مفعول مطلق ... و...
وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فی التابع أمران (2) ؛ الجر مراعاة للفظ المتبوع ، والرفع أو النصب مراعاة لمحله ؛ نحو : ما للواشی من صدیق مخلص ، بجر کلمة : «مخلص» ، أو برفعها ؛ باعتبارها نعتا لکلمة : «صدیق» ، وکذا بقیة التوابع ، وباقی الأمثلة المختلفة ، وأشباهها.
5 - أن تکون بمعنی کلمة : «بدل» بحیث یصح أن تحل هذه الکلمة محلها. کقوله تعالی : (أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ،) أی : بدل الآخرة.
6 - أن تکون دالة علی الظرفیة (3). (أی : علی أن شیئا یحویه آخر ، کما
ص: 428
یحوی الإناء ما فی داخله ، أو : کما یحوی الظرف - وهو الغلاف - المظروف ، (وهو الشیء الذی یوضع فیه) ، نحو : ماذا أصلحت من حقلک ، وغرست من جوانبه؟ أی : فی حقلک ... فی جوانبه.
7 - إفادة التعلیل. فتدخل علی اسم یکون سببا وعلة فی إیجاد شیء آخر ، نحو : لا تقوی العین علی مواجهة قرص الشمس ، من شدة ضوئها ، ونحو : من کدّک ودأبک أدرکت غایتک. أی : بسبب شدة ضوئها ... وبسبب کدّک ...
8 - إفادة المجاوزة (1) ، فتدخل علی الاسم للدلالة علی البعد الحسی أو المعنوی بینه وبین ما قبله ... نحو قوله تعالی : (قَدْ کُنَّا فِی غَفْلَةٍ مِنْ هذا،) أی : عن هذا ، بمعنی بعیدین عنه ، وقوله تعالی : (فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللهِ ...) أی : عن ذکر الله.
ومثل : کلام الحمقی بمعزل من الصواب ، أی : عن الصواب ...
9 - إفادة الاستعانة (2) فتدخل علی الاسم للدلالة علی أنه الأداة التی استخدمت فی إنفاذ أمر من الأمور ؛ نحو : ینظر العدو إلی عدوه من عین ترمی بالشرر ، أی : بعین ...
ص: 429
10 - إفادة الاستعلاء. فتدخل علی الاسم للدلالة علی أن شیئا حسیّا أو أو معنویّا وقع فوقه ؛ نحو قوله تعالی : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا.) أی : علی القوم(1) ...
11 - إفادة معنی القسم. ذلک أن بعض العرب یستعملها (مضمومة المیم أو مکسورتها) حرف قسم ، ولا یکاد یجرّ إلا کلمة : «الله» ؛ نحو ؛ من الله لأقاومنّ الباطل (2) ، ویجب معه حذف الجملة القسمیة ، (فعلها وفاعلها).
(وسیجیء (3) الکلام علی بقیة أدوات القسم بنوعیه وأحکامه).
هذا ، وقد تتصل «ما» الزائدة بالحرف : «من» فلا تخرجه عن معناه ولا عن عمله ، بل یبقی له کل اختصاصه کما کان قبل مجیء الحرف الزائد (4) ؛ نحو : مما أعمال المسیء یلاقی جزاءه. أی : من أعمال المسیء ؛ وبسببها (5) ...
ص: 430
(ا) من الأسالیب الواردة المأثورة : «ممّا» کالتی فی حدیث لابن عباس نصه :
«کان رسول الله یعالج من التنزیل شدة إذا نزل علیه الوحی ، وکان مما یحرّک لسانه وشفتیه».
وکقول الشاعر :
وإنا لمما یضرب الکبش ضربة
علی رأسه تلقی اللسان من الفم
و... و...
وقد قیل إن معنی «مما» هنا : «ربما» ، طبقا لما بینه سیبویه فی کتابه (ج 1 ص 76) وملخصه : أن «من» الجارّة المکفوفة بالحرف «ما» - قد تکون بمعنی «ربما» ، واستشهد بالبیت السالف.
وقال ابن هشام فی «المغنی» عند الکلام علی : «من» وعلی معناها العاشر : إنها تکون بمعنی «ربما» وذلک إذا اتصلت بما ؛ کالبیت السالف. ثم أردف هذا بقوله : والظاهر : أن «من» فی البیت ابتدائیة و «ما» مصدریة ، وأنهم جعلوا کأنهم خلقوا من الضرب (1) ...
(ب) إذا کان الاسم المجرور بالحرف : «من» مبدوءا بالأداة : «أل» التی لیست معدودة فی حروفه الأصلیة ، فالأشهر فتح النون ؛ مثل : قد نعرف من الإذاعة ما لا نعرفه من الصحف ، وغیرها (2). والأحسن ألا تحذف النون إن
ص: 431
وقع حرف مشدد بعد «أل» السالفة ؛ نحو : لا تعجب من الشعوب إذا انتقمت من الظالم.
وإن وقع بعد : «من» حرف ساکن آخر تحرکت النون بالکسر - غالبا - نحو : عجبت من استهانة الإنسان بحقوق أخیه ومن استبداده به.
* * *
ص: 432
إلی : حرف جرّ أصلیّ (1) یجر الظاهر والمضمر ، ویتنقل بین معان أشهرها ستة :
1 - انتهاء الغایة (2) مطلقا ؛ (أی : سواء أکانت نهایة الغایة فی زمان أم مکان ؛ وسواء أکانت» هی الآخر الحقیقیّ لما قبل «إلی» أم لیست الآخر الحقیقی ، ولکنها متصلة به اتصالا قریبا أو بعیدا). وهذا المعنی أکثر استعمالات الحرف إلی ؛ فمثال انتهاء الغایة الحقیقیة الزمانیة : نمت اللیلة إلی طلوع النهار. ومثال انتهاء الغایة الزمانیة المتصلة بالآخر اتصالا قریبا : نمت اللیلة إلی سحرها (3) ومثال انتهاء الغایة الزمانیة البعیدة من الآخر نمت اللیلة إلی نصفها أو ثلثها و... و...
ومثال انتهاء الغایة المکانیة الحقیقیة : عبرت الطریق إلی الجانب الآخر محترسا. ومثال انتهاء الغایة المکانیة المتصلة بالآخر : قرأت الکتاب إلی خاتمته. ومثال انتهاء الغایة المکانیة البعیدة من الآخر : قرأت الکتاب إلی ثلثه.
والغالب أن نهایة الغایة نفسها لا تدخل فی الحکم الذی قبل «إلی» ما لم توجد قرینة تدل علی دخوله. فإذا قلت : قرأت الکتاب إلی الصفحة العاشرة ، فالمقصود - غالبا - فی مثل هذا الاستعمال أن الصفحة العاشرة لم تقرأ ، فهی خارجة من الحکم الذی ثبت لما قبل «إلی». وکذلک لو قلت : صمت الأسبوع الماضی إلی یوم الخمیس ؛ فإن یوم الخمیس لا یدخل فی أیام الصیام. فإذا وجدت قرینة تدل علی دخولها کانت داخلة ؛ مثل : صمت الشهر المفروض من أوله إلی الیوم الأخیر ، ومثل : أکملت قراءة الکتاب کله من أوله إلی الصفحة الأخیرة ... لأن صیام الشهر المفروض یقتضی صوم الیوم الأخیر منه ، وإکمال الکتاب کله یقتضی قراءة الصفحة الأخیرة منه ... (4)
ص: 433
2 - المصاحبة (1) ، کقولهم : من قعد عن طلب الرزق أساء أهله إلی نفسه ، وعذّبهم إلی عذابه ، أی : مع نفسه ... ومع عذابه ...
3 - التبیین ، (فتبین أن الاسم المجرور بها فاعل فی المعنی لا فی الصناعة النحویة ، وما قبلها مفعول به فی المعنی لا فی الصناعة کذلک. وذلک بشرط أن تقع بعد اسم التفضیل ، أو : فعل التعجب ، المشتقین من لفظ یدل علی الحب أو : البغض وما بمعناهما ، کالود والکره ...) ، کقولهم : «احتمال المشقة أحبّ إلی النفس الکریمة من الاستعانة بلئیم الطبع. فما أبغض الاستعانة به إلی نفوس الأحرار!!» فکلمة : «نفس» ، هی الفاعل المعنوی - لا النحویّ - لاسم التفضیل (أحب) لأنها - فی الواقع - هی فاعلة الحب ، أو : هی التی قام بها الحب. وکذلک کلمة «نفوس». فإنها الفاعل المعنوی (لا النحوی) لفعل التعجب : (أبغض) ؛ إذ هی فاعلة البغض حقیقة ، أو : هی التی قام بها البغض ، والذی قطع فی الحکم بفاعلیتهما المعنویة ومنع کل احتمال آخر هو وقوعهما بعد حرف الجر : «إلی» الذی من وظیفته القطع فی مثل هذا الأسلوب الذی یحتاج إلی تیقظ ، لدقته (2) ، ولأنه قد یلتبس بما یقع فیه حرف «اللام» مکان «إلی» ، (وسیأتی الکلام علیه فی اللام) (3).
4 - الاختصاص (أی : قصر شیء علی آخر ، وتخصیصه به) کقولهم :
ص: 434
الأب راعی الأسرة ؛ وأمرها إلیه ، والحاکم راعی المحکومین ، وأمرهم إلیه ... فلیتق الله کلّ راع فی رعیته.
5 - الظرفیة (1) : کقولهم : سیجمع الله الولاة إلی یوم تشیب من هوله الولدان ...
أی : فی یوم.
6 - البعضیة ، (وهذا قلیل فی المسموع) (2) ، نحو : شرب العاطش فلم یرتو إلی الماء ، أی : من الماء.
ص: 435
(ا) جعل بعض النحاة من معانی : «إلی» أن تکون بمعنی : «عند» (1) مستدلا بمثل قول القائل :
أم لا سبیل إلی الشباب ، وذکره
أشهی إلی من الرحیق السلسل
وأن تکون زائدة ؛ مستدلا بقراءة من قرأ قوله تعالی : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ،) - بفتح الواو - ، أی : تهواهم ... وقد دفع ذلک الرأی بأن الشاهد الأول وقعت فیه «إلی» للتبیین ؛ لأن ما بعدها - وهو یاء المتکلم - فاعل معنوی علی الوجه المشروح فی الحالة الثالثة السالفة ، وأن الشاهد الثانی : (الآیة) وقع فیه الفعل ، «تهوی» مضمّنا ، معنی : «تمیل» فلا تکون «إلی» زائدة. وهذا رأی حسن یقتضینا أن نأخذ به.
(ب) یجب قلب ألفها (2) یاء إذا کان المجرور بها ضمیرا. نحو : تقصد الوفود إلینا من بلاد بعیدة ، فنقدم إلیهم ضروب المجاملة الکریمة.
فإن کان الضمیر یاء المتکلم أدغمت الیاءان ؛ نحو : إلیّ یتجه الخائف.
* * *
ص: 436
اللام : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا. ویؤدی عدة معان قد تجاوز العشرین.
1 - انتهاء الغایة (1) (أی : الدلالة علی أن المعنی قبل اللام ینتهی وینقطع بوصوله إلی الاسم المجرور بها). نحو : صمت شهر رمضان لآخره ، وقرأت الکتاب لخاتمته .. واستعمالها فی هذا المعنی قلیل بالنسبة لباقی معانیها ، ولکنه - مثل کل معانیها المختلفة - قیاسیّ (کما سبق).
2 - الملک ؛ وتقع بین ذاتین ، الثانیة منهما هی التی تملک حقیقة ، نحو : المنزل لمحمود ، وهذا المعنی أکثر استعمالاتها.
3 - شبه الملک ؛ وتقع إما بین ذاتین ، الثانیة منهما لا تملک ملکا حقیقیّا ؛ وإنما تختص بالأولی ، وتقتصر الأولی علیها ، دون تملّک حقیقی من إحداهما للأخری ؛ نحو : السرج للحصان - المفتاح للباب - الباب للبیت ، وإما قبلهما نحو : للصدیق ولد نبیه ، حیث تقدمت «اللام» علی الذاتین ... وإما بین معنی وذات ؛ نحو الحمد للأمهات ، والشکر للوالدین ... وتسمی هذه اللام بصورها الثلاثة : لام الاستحقاق ، أو : لام الاختصاص.
4 - الدلالة علی التملیک ؛ نحو : جعلت للمحتاج عطاء ثابتا. فالعطاء الذی یأخذه المحتاج یصیر ملکا له ، یتصرف فیه تصرف المالک الحر کما یشاء.
5 - الدلالة علی شبه التملیک ؛ نحو : جعلت لک أعوانا من أبنائک البررة ، فالأعوان هنا بمنزلة الشیء المملوک ، ولکنه لیس ملکا حقیقیّا تقع علیه التصرفات المختلفة ، وإنما یشبهه من بعض الوجوه دون بعض.
6 - الدلالة علی النسب ؛ نحو : لفلان أب یقول الحق ، ویفعل الخیر. أی : ینتسب فلان لأب (2) ...
ص: 437
7 - التعدیة (1) المجردة ؛ نحو : ما أحبّ العقلاء للصمت المحمود ، وما أبغضهم للثرثرة.
8 - التعلیل ؛ بأن یکون ما بعدها علة وسببا فیما قبلها. نحو : الاکتساب ضروری ، لدفع الفاقة وذل الحاجة (2).
9 - التوکید المحض ، وتکون فی هذه الحالة زائدة زیادة محضة لتأکید معنی الجملة کلها ، لا معنی العامل وحده - کما شرحنا (3) - ، ویجری علیها ما یجری علی حرف الجر الزائد (4). وأکثر ما تکون زیادتها بین الفعل ومفعوله ؛ نحو قول الشاعر :
وملکت ما بین العراق ویثرب (5)
ملکا أجار (6) لمسلم ومعاهد
أی : أجار مسلما ومعاهدا (7). وقول الشاعر فی الغزل :
أرید لأنسی ذکرها فکأنما
تمثل لی لیلی بکل سبیل
فالفعل : «أرید» متعد یحتاج للمفعول به ، ومفعوله الذی یکمل المعنی هو المصدر المؤول بعد «لام التعلیل» الجارة. والأصل : أرید أن أنسی. واللام زائدة
ص: 438
بینهما. أو بین المتضایفین ؛ کقولهم : لا أبا لفلان ، علی الرأی الذی یعتبرها زائدة (1).
وقد أجازوا زیادتها (2) للضرورة الشعریة بین المنادی المضاف والمضاف إلیه ، کقول الشاعر (3) فی فتاة :
لو تموت لراعتنی ، وقلت ألا
یا بؤس للموت. لیت الموت أبقاها
وقول الآخر (4) :
یا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام ...
ومن المستحسن الیوم الاقتصار فی الزائدة علی المسموع ؛ مبالغة فی الاحتیاط 10 - التقویة. وهی التی تجیء لتقویة عامل ضعیف ؛ إما بسبب تأخره عن معموله. نحو قوله تعالی: (... إِنْ کُنْتُمْ لِلرُّءْیا تَعْبُرُونَ)(5) وقوله تعالی : (... لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ،) وإما بسبب أنه فرع مأخوذ من غیره. کالفروع المشتقة ؛ مثل قوله تعالی : (فَعَّالٌ لِما یُرِیدُ.) وقوله : (... مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) وقول علیّ رضی الله عنه : «لعن الله الآمرین بالمعروف التارکین له ، والناهین عن المنکر العاملین به» ، فأصل الکلام فی الآیتین الأولیین : إن کنتم تعبرون الرؤیا - یرهبون ربّهم ... فلما تقدم کل من المفعولین علی فعله ضعف الفعل بسبب تأخیره عن معموله (مفعوله) ؛ فجاءت اللام لتقویته (6). وأصل الکلام فی الآیتین الأخیرتین وفی کلام علیّ : فعّال
ص: 439
ما یرید - مصدقا ما معهم ، التارکینه ... فکلمة : «فعال» صیغة مبالغة متعدیة ، تعمل عمل فعلها ، ولکنها أضعف منه ، فجاءت اللام لتقویتها.
وکذلک کلمة : «مصدّقا» ، وکلمة «التارکین» وکلاهما اسم فاعل (1) ...
ص: 440
11 - الدلالة علی القسم (1) والتعجب معا ، بشرط أن تکون جملة القسم محذوفة ، وأن یکون المقسم به هو لفظ الجلالة ؛ کقولهم : «لله!! لا ینجو من الزمان حذر». یقال هذا فی معرض الحدیث عن رجل حریص یتوقی أسباب الضرر جهد استطاعته ، ولکنه بالرغم من ذلک یصاب.
وقولهم : «لله!! انتصرت الفئة القلیلة المؤمنة بحقها علی الفئة الکبیرة المختلفة».
وهذا یقال فی معرض الکلام عن قلة متوحدة ، مؤتلفة ، لم یکن أحد ینتظر لها الفوز والغلبة ، علی کثرة تفوقها عدّة وعدیدا. فلا بد من قرینة تدل علی معنی القسم والتعجب المجتمعین فی «اللام». وبغیر القرینة لا یتضح هذا المدلول.
ومن الجائز أن تحذف هذه اللام ویبقی المقسم به علی حاله من الجر بشرط أن یکون لفظ الجلالة.
12 - الدلالة علی التعجب بغیر قسم ، بشرط القرینة أیضا ؛ ویکون بعد النداء کثیرا ؛ نحو : یا للأصیل (2) وما به من روعة - یا للکشف العلمی وما انتهی إلیه. ویکون بعد غیره ، نحو : لله درّ فلان شجاعا فی الحق - لله أنت معوانا فی الخیر (3) ...
ص: 441
13 - الدلالة علی العاقبة المنتظرة ، (أی : علی النتیجة المرتقبة أو : الصیرورة). نحو : سأتعلم للحیاة السعیدة ، وأتنقل فی جنبات المعمورة لتحصیل أنفع التجارب. ونحو : ربّیت النمر للهجوم علیّ. یقول هذا من صادف نمرا صغیرا فأشفق علیه وتعهده ، وخدع فیه ، ثم غدر به النمر ، فکأنه یقول ساخطا متألما متهکما : ربیته ، فکانت عاقبة التربیة ونتیجتها الهجوم علیّ. ونحو : أربی هذ الولد الضال لیسرقنی ، ویفر کأخیه. یقول هذا من یؤوی إلیه شریدا ، ویحسن إلیه ، وهو یتوقع أن یغافله ، ویسرقه ، ویهرب ، کما فعل أخوه من قبل. وتسمی اللام فی الأمثلة السابقة وأشباهها : لام «الصیرورة» ، أو : «العاقبة» لأنها تبین ما صار إلیه الأمر ، وتوضح عاقبته (1) ...
14 - الدلالة علی التبلیغ ؛ وهی الدالة علی إیصال المعنی إلی الاسم المجرور بها ؛ نحو : قابلت صدیقک ، ونقلت له ما ترید أن أقوله ... (وقد یسمیها لذلک بعض النحاة «لام التعدیة» یرید : إیصال المعنی وتبلیغه).
15 - الدلالة علی التبیین ؛ أی : إظهار أن الاسم المجرور هو فی حکم المفعول به معنی ، وما قبلها هو الفاعل فی المعنی کذلک ، بشرط أن تقع بعد اسم تفضیل أو فعل تعجب ، مشتقین من لفظ یدل علی الحب ، أو البغض ، وما بمعناهما ؛ کالودّ ، والکره ، ونظائرهما ... ، نحو : السکون فی المستشفی أحبّ للمرضی ، وإطالة زمن الزیارة أبغض لنفوسهم. فالمجرور باللام فی المثالین - وأشباههما - فی حکم المفعول به من جهة المعنی (لوقوع أثر الکلام السابق علیه) لا من جهة الإعراب. فکلمة «السکون» هی الفاعل المعنوی - لا النحوی - الذی أوجد الحب ، وکان سببا فیه. وکلمة : «المرضی» هی المفعول به المعنوی - لا النحوی - الذی وقع علیه الحب ، وانصبّ علیه أثره. ومثل هذا یقال فی کلمتی : «إطالة ، ونفوس» فالأولی هی الفاعل المعنوی - لا النحوی ، والأخری هی المفعول به المعنوی کذلک.
ومثل : البدوی الصمیم أحبّ للصحراء ، وأبغض للحضر ، وما أکرهه
ص: 442
للاستقرار ، ودوام الإقامة فی مکان واحد (1).
ومن هنا یتبین الفرق الدقیق بین : «إلی» التی تفید التبیین ، و «اللام» التی تفیده أیضا (2). ویترکز فی أن ما بعد «إلی» التبیینیة «فاعل» فی المعنی لا فی اللفظ ؛ وما قبلها مفعول به فی المعنی کذلک. أما «اللام التبیینیة» فبعکسها ؛ فما بعدها مفعول به معنوی لا لفظی ؛ وما قبلها فاعل معنوی کذلک ، فإذا قلت : الوالد أحب إلی ابنه. کان الابن هو المحب ، والوالد هو المحبوب ، أی : أن الابن هو فاعل الحب معنی ، والوالد هو الذی وقع علیه المحب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنی. أما إذا قلت : الوالد أحب لابنه ، فإن المعنی ینعکس ؛ فیصیر الابن هو المحبوب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنی ، والأب هو المحبوب ، فهو بمنزلة الفاعل معنی. وقد سبق (3) القول بأن مثل هذا الأسلوب دقیق یتطلب یقظة فی استعماله وفهمه (4).
16 - أن تکون بمعنی : بعد (5) ، کقولهم : کان الخلیفة یقصد المسجد لأذان الفجر مباشرة ، ویصلی الصبح بالناس إماما ، ثم ینظر قضایاهم ، ولا یغادر المسجد إلا للعصر ، وقد فرغ من صلاته ، ونظر شئون رعیته. أی : بعد أذان الفجر مباشرة ، وبعد العصر. ومن هذا النوع ما کان یؤرخ به الأدباء رسائلهم ؛ فیقولون : کتبت هذه الرسالة لخمس خلون من «شوّال» یریدون : بعد خمس لیال مررن من شوال. ومثل قول الشاعر :
فلما تفرقنا کأنی ومالکا
لطول (6) اجتماع لم
نبت لیلة معا
ص: 443
17 - أن تکون بمعنی : «قبل» ، کقولهم فی التاریخ : کتبت رسالتی للیلة بقیت من رمضان. أی : قبل لیلة.
18 - أن تفید الظرفیة (1) نحو : قوله تعالی : (وَنَضَعُ الْمَوازِینَ الْقِسْطَ لِیَوْمِ الْقِیامَةِ.) وقوله تعالی فی أمر الساعة : (لا یُجَلِّیها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ.) وقولهم فی التاریخ : کتبت هذه الرسالة لغرة شهر رجب ، وقولهم : مضی فلان لسبیله (أی : فی یوم القیامة - فی وقتها - فی غرة شهر رجب - فی سبیله -)
19 - أن تکون بمعنی : «من البیانیة (2)» کقول الشاعر یخاطب عدوّه :
لنا الفضل فی الدنیا وأنفک راغم
ونحن لکم یوم القیامة أفضل
أی : نحن أفضل منکم یوم القیامة.
20 - أن تکون للمجاوزة (3). (مثل : عن) کقول الشاعر :
کضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا وبغضا إنه لذمیم
أی : عن وجهها ... ویری بعض النحاة أنها هنا بمعنی الظرفیة (أی مثل : «فی». وأنها لا تکون بمعنی : «عن» ، ولا بمعنی : «علی» ، المفیدة للاستعلاء) (4). والرأی السدید أنها إن دلت فی السیاق علی المجاوزة ، أو : الاستعلاء دلالة واضحة کالتی فی الأمثلة الواردة - جاز أن تکون من حروفهما ، وإلا طلبنا لها معنی آخر یظهر فیه الوضوح والإبانة.
21 - أن تکون لتوکید النفی ، وهی الداخلة فی ظاهر الأمر - دون حقیقته - علی المضارع المسبوق بکون منفیّ ؛ وتسمی : «لام الجحود» (5) ؛ لسبقها بالنفی دائما. نحو : ما کان الحق لینهزم ، ولم یکن الباطل لینتصر.
22 - أن تکون بمعنی : «مع» کقوله تعالی فی الیتامی : (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : مع أموالکم.
ص: 444
تتحرک لام الجر بالکسرة إن دخلت علی اسم ظاهر غیر المستغاث (1) فی ، نحو : یا للقادر للضعیف ؛ وتتحرک بالفتحة إن دخلت علی ضمیر ، إلا علی یاء المتکلم ؛ فتکسر فی نحو : رب اغفر لی ...
* * *
(2) : حرف جرّ أصلی ، وهو نوعان :
(ا) نوع لا یجر إلا الاسم الظاهر الصریح (3) ، ومعنی : «حتی» فی هذا النوع الدلالة علی انتهاء الغایة (4) ولهذا تسمی فیه : «حتی الغائیة» نحو : تمتعت بأیام الراحة حتی آخرها. والأکثر أن یکون الوصول إلی نهایة الغایة تدرجا وتمهلا ، أی : دفعات لا دفعة واحدة. والغالب کذلک أن یجرّ الآخر ، أو ما یتصل بالآخر مما یکون قبله مباشرة. نحو : شربت الکوب کله حتی الصّبابة ، وأتممت الصفحة حتی السطر الأخیر. ونحو : سهرت اللیلة حتی السّحر ، وتنقلت فی الحدیقة حتی الباب الخارجیّ. والغالب أیضا أن تدخل نهایة الغایة فی الحکم (5) الذی قبل «حتی». إلّا إذا قامت قرینة علی عدم الدخول ؛ نحو : قرأت الکتاب کله
ص: 445
حتی الفصل الأخیر ؛ فنهایة الغایة داخلة بقرینة تدل علی الشمول والعموم ؛ هی کلمة «کل» ، بخلاف : کدت أفرغ من الکتاب ؛ فقد قرأته حتی الفصل الأخیر ، لأن کلمة : «کدت» التی معناها : «قاربت» تدل علی أنّ بعضه الأخیر لم یقرأ ... وعلی هذا لا یستحسن الإتیان «بحتی» فی مثل : قرأت الکتاب حتی ثلثه أو نصفه ، وإنما یجیء مکانها «إلی».
(ب) نوع لا یجر إلا المصدر المنسبک من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت علیه من الجملة المضارعیة. وأشهر معانی هذا النوع ثلاثة : الدلالة علی انتهاء الغایة ، کالنوع ، السابق ، أو الدلالة علی التعلیل (1) أو الدلالة علی الاستثناء إن لم یصلح أحد المعنیین السابقین.
وهذا النوع - کما قلنا - لا یجر إلا المصدر المنسبک من «أن» الناصبة المقدرة وجوبا ، ومن صلتها الفعلیة المضارعیة (2) ؛ نحو : أتقن عملک حتی تشتهر - اجتنب الکسب الخبیث حتی تسلم ثروتک - التاجر الحصیف یحرص علی الأمانة حتی یزداد ربحه ... ولا یصح أن تکون فی هذه الأمثلة لانتهاء الغایة ؛ لأن انتهاء الغایة یقتضی انقطاع ما قبل : «حتی» وانتهاءه بمجرد وقوع
ص: 446
ما بعدها وحصوله ، ولا یتحقق هذا فی الأمثلة السالفة إلا بفساد المعنی ؛ إذ لیس المراد أن یتقن المرء عمله حتی یشتهر ؛ فإذا اشتهر ترک الإتقان ... ولا أن یجتنب الکسب الخبیث حتی تسلم ثروته ، فإذا سلمت لا یجتنبه ... ، ولا أن یحرص علی الأمانة حتی یزداد ربحه ، فإذا ازداد ترکها ؛ لیس المقصود شیئا من هذا لفساده. فهی فی تلک الأمثلة للتعلیل.
ومثال الدلالة علی انتهاء الغایة : أقرأ الکتاب النافع حتی تنتهی صفحاته - یمتد اللیل حتی یطلع الفجر ...
ص: 447
(ا) قلنا فیما سبق : إن «حتی» الجارة نوعان : یجر الاسم الصریح ، ومعنی هذا النوع الدلالة علی الغائیة ، أی : علی نهایة الغایة ، فیجر الآخر ، أو ما یتصل بالآخر. ونوع یجر المصدر المنسبک من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت علیه من الجملة المضارعیة. ومعنی هذا النوع ، إما نهایة الغایة (1) وإما التعلیل ، وإما الاستثناء.
فمن معانی «حتی» : الدلالة علی الاستثناء وهذا أقل - استعمالاتها ، ولا یلجأ إلیه إلا بعد القطع بعدم صحة واحد من المعنیین السابقین - ولا تجر فیه إلا المصدر المنسبک من «أن» الناصبة المستترة وجوبا ومن صلتها الفعلیة المضارعیة. وتکون «حتی» فی هذه الحالة بمعنی «إلا» الاستثنائیة. والغالب أن یکون الاستثناء منقطعا ، فتکون «إلا» فیه بمعنی «لکن» أی : یصح أن یحل محلها : «لکن» التی تفید الابتداء والاستدراک معا ؛ (فیکون الاستثناء منقطعا) (2) ؛ نحو :
ص: 448
لا یذهب دم القتیل هدرا حتی تثأر (1) له الحکومة. أی : إلّا أن تثأر له الحکومة ، بمعنی : لکن تثأر له الحکومة ؛ فلا یذهب هدرا. والغالب فی هذا المثال - وأشباهه - أن یبقی النفی الذی قبل «حتی» علی حاله بعد تأویلها بالحرف «إلا».
ولا یصح فی المثال أن تکون : «حتی» للغایة ؛ لأن «حتی» الغائیة - کما عرفنا - إذا وقع ما بعدها وتحقق معناه توقف المعنی الذی قبلها ، وانقطع.
علی هذا فالحکومة حین تثأر للقتیل ، ینقطع عدم ذهاب دمه هدرا ؛ وانقطاعه وتوقفه یؤدی - حتما - إلی وقوع ضده وحصوله ؛ أی : إلی أن دمه یذهب هدرا. وهذا فاسد.
وشیء آخر یمنع أن تکون «حتی» غائیة فی المثال ؛ هو : أن ما قبلها لا ینقضی شیئا فشیئا.
وکذلک لا تصح أن تکون : «حتی» «تعلیلیة» ، لأن ما قبلها - هنا - لیس علة وسببا فیما بعدها ؛ إذ عدم ذهاب دمه هدرا بالفعل لیس هو السبب فی انتقام الحکومة له ؛ لأنّ هذا یناقض المراد ، وإنما الانتقام له فعلا واقعا هو السبب فی عدم ذهاب دمه هدرا ، إذ السبب لا بد أن یسبق المسبّب ، ویوجد قبله ؛ لیجیء بعده ما ینشأ عنه ، ویترتب علیه ، وهو : المسبب ، فأخذ الثأر لا بد أن یوجد أوّلا. لیوجد بعده عدم ذهاب الدم هدرا ، لا العکس.
وإذا کانت «حتی» فی المثال السابق وأشباهه لا تصلح أن تکون غائیة ولا تعلیلیة فلا مفرّ بعدهما من أن تکون بمعنی : «إلا» الاستثنائیة ، فی استثناء منقطع ؛ أی : أنها بمعنی : «لکن» التی تفید الابتداء والاستدراک معا - کما أسلفنا - ومن الأمثلة : 1 - کل مولود یولد جاهلا بالشرّ حتی یتعلّمه من أسرته وبیئته. بمعنی إلا أن یتعلمه. أی : لکن یتعلمه. فلا تصلح أن تکون «غائیة» ؛ لأن ما قبلها هنا لا یقع متدرجا متطاولا بحیث یمتد إلی ما بعدها. بل یقع دفعة واحدة. ولا تصلح أن تکون «تعلیلیة» ، لأن ولادة الجاهل بالشر لیست هی العلة المؤثرة فی أمر
ص: 449
التعلم ، ولا السبب المباشر فیه ؛ إذ العلة لا یتخلف أثرها ؛ فلا بد أن یتحقق بتحققها المعلول ، ویوجد بوجودها ؛ لأن العلة لا یتأخر عنها المعلول ، فلم یبق إلا أن تکون «حتی» ، بمعنی : «إلا» فی استثناء منقطع ، أی : بمعنی : «لکن» المشار إلیها.
2- نادیتک حتی نحصد القمح بعد ساعات ؛ فالنداء لیس فیه تمهل وتدرج یمتدان إلی وقت الحصد ، ولیس سببا مباشرا فی الحصد.
3 - افتح نوافذ الحجرة نهارا حتی یشتد (1) البرد لیلا ... ویقال فیه ما سبق.
(ب) من الأمثال : «ما سلّم القادم العزیز حتی (2) ودّع». (وهو مثل یقال فیمن قصرت مدّة زیارته). أی : ما سلّم فی زمن ؛ لکن ودّع فیه ، أو : ما سلّم فی زمن إلّا زمنا ودّع فیه (3).
ص: 450
ومن المستحسن التخفف من استعمال «حتی» التی بمعنی «إلّا» قدر الاستطاعة ؛ لأن فهم المراد منها ، والتمییز بینها وبین نوعیها الآخرین - لا یخلو من صعوبة ، ولأن کثیرا من النحاة لا یوافق علی أنها تکون بمعنی «إلا» ویتأول الوارد منها.
(ح) وضح مما تقدم أن «حتی» الجارّة بنوعیها لا تدخل علی جملة ، لأن التی تدخل علی الجملة (الاسمیة أو الفعلیة) نوع آخر ، یسمی : «حتی الابتدائیة» (1) وسیجیء تفصیل الکلام علیها فی موضعها المناسب (2) ...
* * *
ص: 451
الواو والتاء : حرفان أصلیان للجر ، ومعناهما القسم (1) - غیر الاستعطافیّ (2) - ولا یصح أن یذکر معهما جملة القسم ، وهما لا یجران إلا الاسم الظاهر. والتاء لا تجر من الأسماء الظاهرة إلا ثلاثة : (الله - رب - الرحمن) ومن الشذوذ أن تجر غیر هذه الثلاثة.
فمن أمثلة واو القسم قول الشاعر :
فلا وأبیک ما فی العیش خیر
ولا الدنیا إذا ذهب الحیاء
ومن أمثلة تاء القسم قوله تعالی : (وَتَاللهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ ...)
ویجری علی الحرفین السابقین ما یجری علی کل حروف القسم من جواز الحذف (3) مع بقاء المقسم به مجرورا بشرط أن یکون هو لفظ الجلالة (أی : الله).
* * *
الباء : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا (4) ، ویؤدی عدة معان ، أشهرها خمسة عشر :
1 - الإلصاق حقیقة أو مجازا ؛ نحو : أمسکت باللّص ، ومررت بالشرطیّ. فمعنی أمسکت به : قبضت علی شیء من جسمه ، أو مما یتصل به اتصالا مباشرا ؛ کالثوب ونحوه. وهو - عند کثیر من النحاة - أبلغ من : أمسکت اللص ؛ لأن معناه مع «الباء» ، المنع من الانصراف منعا تامّا.
ومعنی مررت به : ألصقت مروری بمکان یتصل به ...
2 - السببیة أو التعلیل (بأن یکون ما بعدها سببا وعلة فیما قبلها). نحو :
ص: 452
کل امرئ یکافأ بعمله ، ویعاقب بتقصیره. أی : بسبب عمله ، وبسبب تقصیره .. وقول الشاعر :
إنما ینکر الدیانات قوم
هم بما ینکرونه أشقیاء
وقول الآخر :
جزی الله الشدائد کل خیر
عرفت بها عدوی من صدیقی ...
والمراد : هم أشقیاء بسبب ما ینکرونه - وعرفت بسببها ... (1)
3 - الاستعانة ، (بأن یکون ما بعد الباء هو الآلة لحصول المعنی الذی قبلها) (2) ؛ نحو : سافرت بالطیارة - رصدت الکوکب بالمنظار ، وهذا المعنی هو والإلصاق أکثر معانیها استعمالا.
4 - الظرفیة ؛ نحو قوله تعالی : (وَلَقَدْ نَصَرَکُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ....) أی : فی بدر.
5 - التعدیة ، أو : النقل (وهی التی یستعان بها - غالبا - فی تعدیة الفعل اللازم إلی مفعول به ، کما تعدیه همزة النقل) ، نحو : ذهبت بالمریض إلی الطبیب ، بمعنی : أذهبته. وقعدت بفلان همته عن الطموح ، بمعنی : أقعدته ...
6 - أن تکون بمعنی کلمة : «بدل» ، (بحیث یصح حلول هذه الکلمة محل «الباء» من غیر أن یتغیر المعنی) ، مثل : ما یرضینی بعملی عمل آخر - أرتضی بالملاکمة ریاضة أخری. أی : ما یرضینی بدل عملی عمل آخر ، - أرتضی ریاضة أخری بدل الملاکمة (3).
ص: 453
ومنه قول الشاعر :
إن الذین اشتروا دنیا بآخرة
وشقوة بنعیم ، ساء ما فعلوا
7 - العوض (1) (أو : المقابلة) ؛ نحو : اشتریت الکتاب بعشرة دراهم واشتراه أخی بأحد عشر ...
8 - المصاحبة (2) ؛ نحو قوله تعالی : (اهْبِطْ بِسَلامٍ،) ونحو : سافر برعایة الله ، وارجع بعنایته. أی : مع سلام - مع رعایة الله - مع عنایته.
9 - التبعیض ، أو : البعضیّة ، (بأن یکون الاسم المجرور بالباء بعضا من شیء قبلها). نحو قوله تعالی : (عَیْناً یَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ،) أی : منها ،
ص: 454
وقولهم : حفلت المائدة ؛ فتناولت بها شهی الطعام ، ولذیذ الفواکه. أی : تناولت منها(1) ...
11 - المجاوزة (2) ؛ نحو قوله تعالی : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِیراً.) أی : عنه. وقوله تعالی فی وصف المؤمنین یوم القیامة : (یَسْعی نُورُهُمْ بَیْنَ أَیْدِیهِمْ ؛ وَبِأَیْمانِهِمْ) أی : عن أیمانهم ، وقوله تعالی : (وَیَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ،) أی : عن الغمام ...
12 - الاستعلاء ؛ کقولهم : من الناس من تأمنه بدینار فیخون الأمانة ، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب فیصونه ویؤدیه کاملا ، أی : علی دینار ، وعلی قنطار.
13 - أن تکون بمعنی : «إلی» ، نحو قوله تعالی : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِی إِذْ أَخْرَجَنِی مِنَ السِّجْنِ ....) بمعنی أحسن إلیّ.
14 - التوکید (3) ؛ (وهی الزائدة) ؛ نحو : قوله تعالی : (وَکَفی بِاللهِ شَهِیداً) وقوله تعالی : (وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ ...) ونحو : بحسبک البراعة الفنیة ، ونحو : لیس المال بمغن عن التعلّم (4) ...
ویجوز زیادتها فی المبتدأ الواقع بعد «إذا الفجائیة» ؛ نحو : نزلت البحر فإذا بالماء بارد (5). وتزاد وجوبا فی الاسم بعد صیغة «أفعل» المستعملة فی التعجب القیاسی ؛ نحو : أعظم بالمحسن (6) - بشرط ألا یکون الاسم مصدرا مؤولا من «أنّ وأن» وصلتهما (7) - فإن کان المصدر مؤولا من إحداهما ومعها
ص: 455
صلتهما جاز حذف «الباء» وذکرها إلا فی الرأی الذی یوجب هنا ذکرها قبل «أنّ» المشددة ومعمولیها ، وهو رأی یفرق بینهما فی هذه الصورة وحدها من غیر داع - کما أشرنا (1) -.
* * *
وکذلک تزاد وجوبا فی مثل : «جاء القوم بأجمعهم» - بفتح المیم أو ضمها - فکلمة : «أجمع» هذه من ألفاظ التوکید القلیلة ، ولا بد أن تضاف إلی ضمیر المؤکّد ، وأن تسبقها «الباء» الزائدة الجارة. وهی زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب کلمة : «أجمع» توکیدا مجرور اللفظ وله محل إعرابی علی حسب الجملة - (کما سیجیء فی ج 3).
یصح زیادة : «ما» بعد «باء» الجر ؛ فلا یؤثر هذا الحرف الزائد فی معناها ، ولا فی عملها ؛ بل یبقی لها کل اختصاصها الذی کان قبل اتصالها بالحرف الزائد ؛ نحو قوله تعالی : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ،) أی : فبرحمة من الله ، وبسببها (2) ...
ص: 456
تعددت هنا الأمثلة للباء الزائدة کی تدل علی أنها تزاد فی الفاعل ، والمفعول به ، والمبتدأ ، وخبره ، وخبر الناسخ. وقد تزاد فی غیر ذلک قلیلا.
بقی أن نسأل : أزیادتها قیاسیة أم سماعیة (1)؟ الأحسن الأخذ بالرأی القائل : إن الزائدة فی الفاعل تکون واجبة فی فاعل فعل التعجب الذی صیغته القیاسیة : «أفعل» ، مثل : أصلح بنفسک ، وأحسن بعملک ؛ بمعنی : ما أصلح نفسک!! وما أحسن عملک!!
وتکون جائزة ، فی فاعل : «کفی» ، مثل : کفی بالله شهیدا.
أما الزائدة فی المفعول به فغیر مقیسة ، ولو کان مفعولا به للفعل : «کفی» نحو : کفی بالمرء عیبا أن یکون نمّاما.
وقول الشاعر :
کفی بالمرء عیبا أن تراه
له وجه ولیس له لسان
ویستثنی من هذا زیادتها فی مفعول الأفعال الآتیة : (عرف - علم بمعنی : عرف - جهد - سمع - أحسن). فإن هذه الزیادة جائزة.
والزائدة فی المبتدأ والخبر غیر قیاسیة ؛ إلا فی مثل الأنواع المسموعة (2) کثیرا منها - کالتی : بعد «کیف» و «إذا» وقبل : «حسب» - کقول الشاعر :
وقفنا ، فقلنا إیه عن أمّ سالم
وکیف بتکلیم الدیار البلاقع؟
ص: 457
ونحو : کیف (1) بک إذا اشتد الأمر - أصغیت فإذا بالطیور (2) مغردة - بحسبک علم نافع ، ومثل : منعکها بشیء یستطاع.
أما زیادتها فی خبر : «لیس» ، وخبر : «ما» النافیة ، وخبر : «کان» المنفیة ، فقیاسیة ؛ کزیادتها : فی کلمتی : النفس ، والعین ، عند استعمال لفظهما فی (3) التوکید ؛ مثل : اخترقت الطائرات السحاب نفسه أو بنفسه ، واجتازت الغلاف الهوائی عینه أو بعینه. قطعت السیارات نفسها أو بنفسها ، الصحراء.
ص: 458
15 - الدلالة علی القسم ؛ وهذا من أکثر استعمالاتها ، وهی الأصیلة فیه دون حروفه السابقة (اللام ، الواو ، التاء ، من ...) وتشارکها فی جواز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها علی حاله ؛ بشرط أن یکون هذا الاسم هو لفظ الجلالة (الله) ولکنها تخالف تلک الحروف فی ثلاثة أمور تنفرد بها ، ولا یوجد واحد منها فی حرف آخر من حروف القسم ، غیر الباء ؛ هی :
جواز إثبات فعل القسم وفاعله معها أو حذفهما ؛ نحو : أقسم بالله لأعاونن الضعیف ، أو بالله لأعاونن الضعیف. أما مع غیرها فیجب حذف فعل القسم وفاعله.
وجواز أن یکون المقسم به اسما ظاهرا ، أو ضمیرا بارزا ؛ نحو : بربّ الکون لأعملنّ علی نشر السّلام - بک لأنزلن عند رغبتک الکریمة. أما غیرها فلا یجر إلا الظاهر.
وجواز أن یکون القسم بها «استعطافیّا (1)» (وهو الذی یکون جوابه إنشائیّا) ؛ نحو : بالله ، هل ترحم الطائر الضعیف ، والحیوان الأعجم؟ بربک ، أموافق أنت علی تأیید الضعفاء؟ وقول الشاعر (2) :
بعیشک هل أبصرت أحسن منظرا
- علی ما رأت عیناک - من هرمی مصر؟
أما سواها فمقصور - فی الرأی الغالب - علی القسم غیر الاستعطافی.
* * *
ص: 459
(ا) کل حرف من حروف القسم الأربعة (1) ومجروره یتعلقان بالعامل : «أحلف» ، أو : «أقسم» أو : نحوهما من کل فعل یستعمل فی القسم ، ومن فعل القسم الصریح وفاعله تتکون الجملة الفعلیة الإنشائیة : التی هی : جملة القسم. ولا بد أن تکون فعلیة ؛ سواء أذکر الفعل أم حذف. لکن لیس من اللازم أن یکون الفعل صریحا فی دلالته علی القسم کالأفعال السابقة ؛ فهناک ألفاظ أخری یسمونها : «ألفاظ القسم غیر الصریح» وهو الذی لا یعرف منه بمجرد سماعه أن الناطق به حالف ؛ بل لا بد معه من قرینة ؛ ومن أمثلته الأفعال : شهد - علم - آلی ... ؛ نحو : أشهد لقد رأیت الغلبة للحقّ آخر الأمر - علمت لقد فاز بالسبق من أحسن الوسیلة إلیه - والقرینة هنا «اللام ، وقد» الداخلان علی الجواب - غیر أنّ الجملة القسمیة التی من هذا النوع خبریة لفظا.
ولا بد لجملة القسم من جملة بعدها تسمی : «جواب القسم». بیان ذلک أن الغرض من «جملة القسم» إما تأکید المراد من جملة تجیء بعدها ، وإزالة الشک عن معناها ؛ بشرط أن تکون هذه الجملة الثانیة خبریة (2) ، وغیر تعجبیة (3) ، نحو : أقسم بالله (لا أنقاد لرأی یجافی العدالة). فهذه الجملة الثانیة هی «جواب القسم» ، ولا محل لها من الإعراب فی الأغلب (4) ویسمی القسم فی هذه الحالة : «قسما خبریّا» أو : «غیر استعطافیّ». وإما تحریک النفس ، وإثارة شعورها
ص: 460
بجملة إنشائیة تجیء بعد جملة القسم. والفصیح أن تکون الأداة هی الباء ؛ نحو : بربک ، هل رحمت الثّکلی؟ بحیاتک ، أعطفت علی البائس ، وقول الشاعر :
بعینیک یا سلمی ارحمی ذا صبابة
أبی غیر ما یرضیک فی السرّ والجهر
فالجملة الثانیة هی جواب القسم ، ولا محل لها من الإعراب هنا ، ویسمی القسم فی هذه الحالة : «استعطافیّا» ، أو : «غیر إنشائی». ولا بد أن یکون جوابه جملة إنشائیة ، (کما أوضحنا) (1) وهی لا تحتاج لزیادة شیء علیها. بخلاف : القسم «غیر الاستعطافی» فإن جوابه یتطلب إدخال بعض الزیادة علی جملته ، بالتفصیل الآتی (2) :
1 - إن کان الجواب جملة فعلیة ... فعلها ماض ، متصرّف ، مثبت - فالکثیر الفصیح اقترانها «باللام» و «قد» ، معا ، نحو : والله لقد أفاد الاعتدال فی ممارسة الأمور. ویجوز - بقلة - الاقتصار علی أحدهما ، أو التجرد منهما ، مع ما فی الأمرین من ترک الکثیر الفصیح. وتسمی هذه اللام المفتوحة : «لام جواب القسم ، أو : الداخلة علی جوابه».
وإن کان الماضی غیر متصرف فالکثیر الفصیح اقترانه باللام فقط ؛ نحو : والله لنعم المرء یبتعد عن الشّبهات. إلا الفعل «لیس» فلا یقترن بشیء ؛ مثل : والله لیست قیمة المرء بالأقوال ، ولکن بالأفعال.
وإن کان الماضی غیر مثبت لم یزد علیه شیء إلا حرف من حروف النفی الثلاثة التی یکثر دخولها علی الجواب المنفیّ ؛ وهی : ما - لا - إن - ؛ نحو : والله ما مدحت أثیما - بالله لا رفضت عتاب الصدیق ، ولا غضبت منه. تالله إن امتنعت عن مزاملتک فیما یرفع الشأن ، أی : بالله ما امتنعت. وغیر هذا شاذ.
ص: 461
2 - إن کان الجواب جملة مضارعیة مثبتة فالأغلب الأقوی اقتران مضارعها باللام ونون التوکید معا (1) ؛ نحو : والله لأحبسن یدی ولسانی عن الأذی. ومن القلیل الجائز الاقتصار علی أحدهما.
فإن کانت الجملة مضارعیة منفیة ... لم یزد علیها شیء إلا أحد حروف النفی الثلاثة (2) التی یکثر دخولها علی الجواب المنفی (3) (وقد سبقت لها الإشارة) مثل : والله ما أحبس یدی ولسانی عن محاربة المنکر - والله إن أحبس یدی ولسانی ... - الله لا أحبس یدی ولسانی. ومن هذا قول الشاعر :
رقیّ ، بعمرکم لا تهجرینا
ومنّینا المنی ، ثم امطلینا
3 - إن کان الجواب جملة اسمیة مثبتة فالأحسن اقترانه بحرفین معا ، هما : «إنّ» ولام الابتداء فی خبرها (4) ، نحو : والله إن الغدر لأقبح الطّباع.
ص: 462
ویجوز الاقتصار علی أحدهما ؛ نحو : والله إن عنوان المرء عمله ، أو : والله لعنوان المرء عمله. ولا یستحسن التجرّد من إحداهما إلا إذا طال القسم ، بأن ذکر معه تابع له ، أو : شیء آخر یتصل به ؛ نحو : بالله الذی لا إله سواه ، الرجوع إلی الحق خیر من التمادی فی الباطل. وقول الشاعر :
وربّ السموات العلا وبروجها
والأرض وما فیها - المقدر کائن
ولا یصح اقتران الجملة الاسمیة الجوابیة بالحرف : «إنّ» إذا کانت هذه الجملة مصدرة بحرف ناسخ من أخوات «إن» : کقولهم فی وجه جمیل : والله لکأن جماله یقتاد العیون قسرا إلیه ؛ فما تستطیع عنه تحولا.
فإن کان الجواب جملة اسمیة منفیة لم یزد علیه إلا أداة النفی فی أوله وهی إحدی الحروف الثلاثة السالفة (ما - لا - إن) ، نحو : والله ما هذه الدنیا بدار قرار - بالله لا المال ولا الجاه بنافع إلا بسیاج من الفضیلة ... - والله إن هذه الدنیا بدار قرار ...
مما سبق یتبین أن الجواب المنفی ، فی جمیع أحواله لا یتطلب زیادة شیء إلا أداة النفی قبله ، مع اشتراط أن تکون إحدی الأدوات الثلاث (1) ، سواء أکان الجواب جملة فعلیة ماضویة ، أم مضارعیة ، أم جملة اسمیة.
قد یکون الکلام مشتملا علی جملة قسمیة ، ظاهرها مثبت ، ولکن معناها منفیّ ، وجواب القسم جملة فعلیّة ماضویة لفظا ، مستقبلة معنی ، مصدرة «بإلّا» أو : «لمّا» التی بمعناها ، نحو : سألتک بالله إلا نصرت المظلوم - بالله ربّک لما قلت الحق .. وأمثال هذا مما یعدّ نوعا خاصّا من «الاستثناء المفرغ ...» (وقد سبق بیان هذا النوع ، وتفصیل الکلام - بإسهاب - علی معناه ، وحکمه ، وطریقة إعرابه) (2)
(ب) قد یقع القسم بین أداتی نفی ، بقصد تأکید النفی فی المحلوف علیه ؛ کقول الشاعر :
أخلّای ، لا تنسوا مواثیق بیننا
فإنی لا - والله - ما زلت ذاکرا
ص: 463
(ح) قد تتکرر أداة القسم - ومعها مجرورها - ، مبالغة فی التأکید. غیر أن المستحسن ألّا یتکرر حرف من حرف القسم إلا بعد استیفاء الأول جملة جوابه ، نحو : بالله لأطیعن الوالدین ، بالله لأطیعنهما ، والله لأطیعنهما (1) ...
(د) تحذف جملة القسم وجوبا إن کان حرف القسم «الواو» ، أو : «التاء» ، أو : «اللام» (2). وجوازا إن کان حرف القسم الباء - کما سبق عند الکلام علی الحروف الأربعة (3) - ومن أوضح الدلائل المرشدة إلی جملة قسمیة محذوفة ، (ومعها أداة القسم) وجود واحد من الألفاظ الآتیة بعدها ؛ وهی : (لقد - لئن (4) - المضارع المبدوء باللام المفتوحة المختوم بنون التوکید). فإن وجد أحد هذه الثلاثة بغیر أن یسبقه جملة قسم فهی - مع القسم وأداته - مقدرة قبله ، ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَلَقَدْ صَدَقَکُمُ اللهُ وَعْدَهُ ...،) أی : أقسم بالله لقد صدقکم الله وعده (5). ومثله قوله تعالی : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا یَخْرُجُونَ مَعَهُمْ،) وقوله تعالی : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِیداً ...) وهذه اللام المفتوحة فی المواضع السالفة هی الداخلة علی الجواب بعد حذف جملة القسم ، وأداته. ولا یصح فیها ، وفی أمثالها أن تکون لام ابتداء أو غیره ؛ لأن أنواع اللام الأخری لها مواضع محدودة معینة ، لیس منها هذه.
(ه) یجوز أن تحذف أداة القسم وحدها مع بقاء الاسم المجرور بها علی حاله ، بشرط أن یکون لفظ الجلالة (الله) طبقا للرأی الأرجح (6) مثل : الله لأساعدنّ الضعیف ، أی : والله .. ویجوز حذف أداة القسم والمقسم به معا لوضوحهما بکثرة
ص: 464
الاستعمال ؛ نحو أقسم إن الحریة لغالیة - أشهد إنّ الوطن لعزیز. أی : أقسم بالله - أشهد بالله - ومنه قول الشاعر :
فأقسم ما ترکی عتابک عن قلی
ولکن لعلمی أنه غیر نافع
(و) ما نوع «اللام» فی مثل : والله لئن أخلصت لی لأخلصنّ لک؟ وهی «اللام» التی قبلها قسم ، وبعدها أداة شرط ؛ کالمثال السابق وأشباهه ، والتی سبقت فی : «د»؟
یسمیها بعض النحاة «لام الشرط» ، ویسمیها آخرون : «اللام الموطّئة» للقسم ؛ أی : الممهدة له ، لأنها التی تهیئ الذهن لمعرفته. وتدل علی أن الجملة المتأخرة المصدّرة بلام أخری ، هی جواب للقسم ولیست جوابا للشرط. فاللام الأولی «الموطّئة» هی التی أعلمت بذلک ، وبینت أن اللام الثانیة هی «اللام» الداخلة علی جواب القسم ، وأن الجملة بعد هذه اللام الثانیة هی جملة جواب القسم. ولا یصح أن تکون «اللام» الأولی وما دخلت علیه جوابا للقسم ؛ لأن القسم - کما أسلفنا (1) - لا یکون جوابه جملة شرطیة ، ولا جملة قسمیة. ویجب التنبه إلی الفرق بین «لام القسم» ، و «لام الابتداء» ، وقد أوضحناه فی مکانه المناسب من الجزء الأول عند الکلام علی : «لام الابتداء» (2).
وحین یجتمع أداتا قسم وشرط فالجواب یکون - فی الأغلب - للمتقدم منهما (3). أما المتأخر فیحذف جوابه ؛ لوجود الجواب السابق الذی یدل علیه. وبسبب أن الجواب - فی الأغلب - للمتقدم لم تحذف النونان فی المضارع من قوله تعالی : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا یَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا یَنْصُرُونَهُمْ.) وهو السبب - أیضا - فی عدم مجیء الفاء قبل «إنّ» فی قول الشاعر :
لئن کنت محتاجا إلی الحلم إننی
إلی الجهل (4) فی بعض
الأحایین أحوج
ص: 465
(ز) تحذف جملة الجواب وجوبا فی إحدی حالات ثلاث :
1 - أن یتأخر القسم ویتقدم علیه جملة تغنی عن جوابه - لدلالتها علیه - نحو : تسعد الأمة وتشقی بأبنائها ، والله. ویلاحظ أن جملة الجواب نفسها لا یصح تقدیمها علی القسم.
2 - أو أن یحیط بالقسم جملة تغنی عن الجواب کذلک ؛ نحو : سعادة الأمة - والله - رهن بعمل أبنائها. فجواب القسم فی هذه الحالة - کالتی قبلها - جملة محذوفة لا یصح ذکرها ؛ لوجود ما یغنی عنها ؛ فلا داعی للتکرار فیهما بقولنا : «تسعد الأمة وتشقی بأبنائها ، والله تسعد الأمة وتشقی بأبنائها» وقولنا : «سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها ، والله سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها».
أما فی مثل : الغضب والله إنه وخیم ، أو الغضب والله إنه لوخیم - حیث یکون المتأخر عن القسم جملة - فیصح فی هذه الجملة المتأخرة أن تکون جوابا للقسم ، وجملة القسم مع جملة جوابه فی محل رفع خبر السابق (1) (وهذا من المواضع التی یکون فیها لجملة القسم مع جملة جوابه محل من الإعراب) (2). کما یصح أن تکون الجملة المتأخرة خبرا للمتقدم فی محل رفع وجواب القسم محذوف لوجود ما یغنی عنه ویدل علیه.
3 - أو أن یجتمع أداتا شرط وقسم ویتأخر القسم عن الشرط وهذه الحالة فی الأغلب کما سبق فی : «و».
وتحذف جملة الجواب جوازا فی غیر الحالات السالفة ، لدلیل أیضا ؛ نحو قوله تعالی : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِیدِ،) فجواب القسم محذوف تقدیره : «إنک لمنذر» ، أو نحو هذا ؛ بدلیل قوله تعالی بعد ذلک : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.) ومثله قوله تعالی : (ص ، وَالْقُرْآنِ ذِی الذِّکْرِ.) فجملة الجواب محذوفة ، تقدیرها : «إنّک لمنذر» ؛ بدلیل قوله تعالی بعد ذلک :
ص: 466
(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...،) أو : نحو هذا مما یکون فیه دلالة علی المحذوف. کأن یقال : أتقسم علی أنّک أدیت الشهادة الصادقة؟ فتقول : أقسم والله.
ومن مواضع الحذف الجائز لدلیل أن یکون القسم مسبوقا بحرف جواب عن سؤال سابق ؛ کقوله تعالی : (أَلَیْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلی وَرَبِّنا.) فالأصل : بلی وربّنا ؛ إنّ هذا هو الحق ، ومثله أن یسألک سائل : أتعاهد علی تأیید الملهوف؟ فتقول : إی ، والله ، أو : نعم ، والله ، أو : أجل ، والله ... أو غیر هذا من حرف الجواب التی تسبق القسم مباشرة.
(ح) جواب القسم لا یکون إلا جملة ؛ فلا یکون مفردا ، ولا شبه جملة ، غیر أن النحاة عرضوا حالة وقع فیها الجار والمجرور سادّا مسدّ جواب القسم ، ومغنیا عنه - ولیس جوابا أصیلا - ، وهی التی سبقت (1) عند الکلام علی جواز فتح همزة «إن» وکسرها ؛ حیث قالوا یجوز فتح همزة «إن» وکسرها إذا وقعت فی صدر جواب القسم ، وفعل القسم مذکور قبلها ، ولیس فی خبرها اللام ؛ نحو : أقسم بالله أن الإحسان نافع ، فقد جوزوا عند فتح الهمزة أن یکون التقدیر ؛ أقسم بالله نفع الإحسان ، أی : أقسم بالله علی نفع الإحسان ؛ فیصح فی المصدر المؤول الجر بحرف الجر المحذوف ، والجار مع مجروره یسدّ مسد الجواب مباشرة. أو : أن المصدر المؤول منصوب علی نزع الخافض (2) ؛ فهو مفعول به تأویلا. وهذا المفعول به سادّ مسدّ الجواب (3).
والإعراب الأول أحسن. وهناک إعرابات أخری لا تتصل بموضوعنا الحالی.
(ط) من الألفاظ التی قد تستعمل - أحیانا - فی القسم - : «جیر» ، کقول الشاعر :
قالوا قهرت. فقلت : جیر ؛ لیعلمن
عمّا قلیل أینا المقهور
ص: 467
والأحسن فی إعرابها : أن تکون حرف قسم مبنیّا علی الکسر لا محل له من الإعراب(1).
ومنها : «لا جرم» فی مثل : لا جرم إن الله یمهل الظالم ، حتی إذا أخذه لم یترکه بعد ذلک. وقد سبق أن قلنا (2) : إذا کسرت همزة «إن» فالسبب إجراء : «لا جرم» مجری الیمین عند بعض العرب ؛ بدلیل وجود اللام بعدها فی مثل : لا جرم لأنا مکرمک. فالحرف «لا». ناف للجنس - «جرم» اسمه مع تضمنه القسم ، والجملة بعده من «إن ومعمولیها» جواب القسم ، أغنت عن خبر «لا». أما مع فتح همزة «أن» فکلمة : «جرم» فعل ماض. بمعنی : «وجب» و «لا» زائدة ، والمصدر المؤول فاعل.
ومنها : «ها» التی للتنبیه فی مثل : ها الله ما فعلت کذا ... أی : والله ما فعلت کذا ... وقد سبقت الإشارة إلیها (3) ...
* * *
ص: 468
فی : حرف یجرّ الظاهر والمضمر ، والغالب فیه أن یکون أصلیّا ، وأشهر معانیه تسعة:
1 - الظرفیة حقیقة أو مجازا ؛ نحو : المعادن متراکمة فی جوف الأرض. والنّفط حبیس فی طبقاتها. ونحو : السعادة فی راحة النفس ، والغنی فی التعفف عما لا یملکه المرء ، وهذا المعنی أکثر استعمالاته.
2 - السببیة ؛ نحو : کان المحامی الشاب مغمورا ؛ فاشتهر فی قضیة خطیرة تجرد لها ، وذاع اسمه فیها ، أی : اشتهر بسبب قضیة ... وذاع اسمه بسببها ...
3 - المصاحبة ؛ کقول أحد المؤرخین : «کان الخلیفة العباسیّ یتخیر یوما للراحة ، ولقاء بطانته ، ویدعو فیهم الشاعر الذی یؤنسهم ، فیستجیب فرحا ، ویسرع فی الداخلین ، فیستقبله الخلیفة ، قائلا إلیّ فی بطانتی ؛ فلن یتم سرورنا إلا بک» ... أی : یدعو معهم - یسرع مع الداخلین - مع بطانتی ... ومن هذا قوله تعالی : (قالَ ادْخُلُوا فِی أُمَمٍ ...) أی : مع أمم.
4 - الاستعلاء ؛ نحو : (غرد الطائر فی الغصن ، أی : علی الغصن) - (یصیح الغراب فی المئذنة ، أی : علیها). ونحو : (بطل کأن ثیابه فی سرحة. (1) أی : علی سرحة ، لأنه ضخم طویل).
5 - المقایسة ، أو : الموازنة (2) ؛ نحو : قوله تعالی : (فَما مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ.) أی : بالنسبة للآخرة ، وموازنته بمتاعها.
6 - أن تکون بمعنی : «إلی» الغائیة ؛ نحو : دعوت الأحمق للسداد ؛ فرد یده فی أذنیه ، - أی : إلی أذنیه ، کی لا یسمع النصح -. ومنه قوله تعالی : (فَرَدُّوا أَیْدِیَهُمْ فِی أَفْواهِهِمْ،) کنایة عن عدم الردّ ، وعن ترک الکلام. وقوله تعالی : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِی کُلِّ قَرْیَةٍ نَذِیراً.)
ص: 469
7 - أن تکون بمعنی «من» التبعیضیة - غالبا - ؛ نحو : أخذت فی الأکل قدر ما أشار الطبیب ، أی : من الأکل. (بعض الأکل).
8 - أن تکون بمعنی «الباء» التی للإلصاق (1) ؛ نحو : وقف الحارس فی الباب ، أی : ملاصقا له.
ومثل قولهم : من لم یکن بصیرا فی ضرب المقاتل لم یکن آمنا علی حیاته. أی : بضرب المقاتل.
9 - التوکید (بسبب زیادتها) ، والرأی الراجح أن زیادتها غیر قیاسیة ، فیقتصر فیها علی المسموع ؛ مثل قول الشاعر :
أنا أبو سعد إذا اللیل دجا
یخال فی سواده یرندجا (2)
أی : یظنّ سواده یرندجا (3).
* * *
علی : حرف جرّ أصلی یجر الظاهر والمضمر ، وأشهر معانیه ثمانیة :
1 - الاستعلاء ؛ وهو أکثر معانیه استعمالا. ویدل علی أن الاسم المجرور به قد وقع فوقه المعنی الذی قبل «علی» وقوعا حقیقیّا أو مجازیّا. نحو : سیعود السائحون إما علی القطر ، وإما علی السیارات ، أو علی الطائرات ، أو علی البواخر. ونحو قوله تعالی : (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ.)
ص: 470
ولیس من الاستعلاء المجازی قولهم : توکلت علی الله ، واعتمدت علیه ؛ لأن الله لا یعلو علیه شیء حقیقة أو مجازا ، وإنما هی بمعنی الإستناد له ، والإضافة (أی : النسبة) إلیه ؛ ترید : أسندت توکلی واعتمادی إلی الله ، وأضفتهما (أی : نسبتهما) إلیه.
2 - الظرفیة (1) ؛ نحو قوله تعالی : (وَدَخَلَ الْمَدِینَةَ عَلی حِینِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها،) أی : فی حین غفلة.
3 - المجاوزة (2) ؛ نحو : إذا رضی علیّ الأبرار غضب الأشرار ، أی : رضی عنی.
4 - التعلیل ؛ نحو : اشکر المحسن علی إحسانه ، وکافئه علی صنیعه ، أی : لإحسانه ، ولصنیعه.
5 - المصاحبة ؛ نحو : البرّ الحق أن تبذل المال علی حبک له ، وحاجتک إلیه ، أی : مع حبک له ... ومثل قوله تعالی : (وَإِنَّ رَبَّکَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلی ظُلْمِهِمْ.) أی : مع ظلمهم (3) وقول الشاعر (4) :
بعیشک ، هل أبصرت أحسن منظرا
- علی ما رأت عیناک - من هرمی مصر؟
6 - أن تکون بمعنی من ، نحو قوله تعالی : (وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ ؛ الَّذِینَ إِذَا اکْتالُوا عَلَی النَّاسِ یَسْتَوْفُونَ.) أی : من الناس. ونحو قوله علیه السّلام : (بنی الإسلام علی خمس) ... أی : من خمس موادّ.
7 - أن تکون بمعنی «الباء» ؛ نحو : سمعت من الوالد نصحا ، وحقیق علیه أن یقول ما ینفع ، أی : حقیق به ، بمعنی : جدیر به.
ص: 471
8 - الإضراب. والمراد به هنا : إبعاد المعانی الفرعیة التی تخطر علی البال من کلام سابق ، وإبطال ما یرد علی النفس منها ؛ (فهو کالاستدراک المستفاد من کلمة : «لکن»). ومن أمثلته قولهم : «هفا الصدیق فاحتملت هفوته ؛ علی أنّ احتمالها مرّ ألیم ، وجفا ؛ فقبلت جفوته. علی أن الرضا بها کالرضا بالطعنة المسدّدة ؛ کلّ نفس لها کارهة ...» فقد بین المتکلم أنه احتمل الهفوة ، وهذا یوحی إلی النفس أن احتمالها سهل ، وأنه راض باحتمالها ، فأزال هذا الوحی بما ذکره من أنّ احتمالها مرّ وألیم ، کذلک بیّن أنه قبل جفوة صدیقه. وهذا یشعر بأن قبولها کان عن رضا وارتیاح ؛ فأزال هذا الوهم ، نافیا له ، مبینا أن الرضا به بغیض إلی النفس بغض الطعنة القاتلة ... وکانت وسیلته للإبانة هی کلمة : «علی» التی بمنزلة : «لکن».
ومن ذلک قولهم : «الإسراف کالشحّ ؛ کلاهما داء وبیل ، یخشی عواقبه اللبیب ، علی أن داء الشّح أخفّ ضررا ، وأهون خطرا من داء الإسراف ...» فقد بین أن کلاهما داء سیئ العاقبة ، وهذا یوحی إلی النفس أنهما فی الشر سواء ، ومنزلتهما من الضرر واحدة ، فأزال هذا المعنی الفرعی المتوهّم بکلمة : «علی» ، وما بعدها ؛ فهی بمنزلة : «لکن» ، التی تجیء أول الجملة لإبطال المعانی الفرعیة الناشئة مما قبلها.
ومن الأمثلة أیضا ما قاله الشاعر فی أمر قربه أو بعده عن دیار أخلائه ، وأنه یفید أو لا یفید :
بکلّ تداوینا ؛ فلم یشف ما بنا
علی أنّ قرب الدار خیر من البعد
علی أنّ قرب الدار لیس بنافع
إذا کان من تهواه لیس بذی ودّ
فقد بیّن أولا أنه تداوی بالقرب وبالبعد فلم یفده واحد منهما. وعدم الإفادة بعد التجربة یوقع فی الوهم أنهما سیان من کل الوجوه. لکنه أبطل هذا التّوهم بتصریحه بعد ذلک حیث یقول : «علی أن قرب الدار خیر من البعد». فهذه الجملة تبطل ما سبق ، وتوحی بمعنی جدید ؛ هو : أن القرب مطلقا خیر من البعد. ثم عاد فابطل هذا المعنی الذی أوحی به الوهم بجملة جدیدة ؛
ص: 472
هی : «قرب الدار لیس بنافع» ... وکانت أداة الإضراب والإبطال هی کلمة : «علی».
والأحسن فی کلمة : «علی» إذا کانت للإضراب والإبطال عدم تعلقها هی ومجرورها بشیء ؛ (لأنها فی هذا الاستعمال بمنزلة : «لکن» التی تفید الاستدراک) مع اعتبارها حرف ابتداء ، لوقوعها فی أول الجملة (1).
وقد تستعمل : «علی» اسما بمعنی : «فوق» ویکثر هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف «من» فإنه لا یدخل إلا علی الأسماء ، نحو : تمرّ من علی بلدنا الطائرات. أی : من فوق بلدنا (2) ، فقد خرجت من حرفیتها ، وصارت اسما بمعنی «فوق» ، کما نری. وهذا قیاسی کباقی استعمالاتها.
وإذا کان المجرور بها ضمیرا وجب قلب ألفها یاء (3) ؛ نحو : تقبل علینا وفود السائحین شتاء. وقول الشاعر :
إذا طلعت شمس النهار فإنها
أمارة تسلیمی علیک ، فسلّمی
فإن کان الضمیر یاء المتکلم ، وجب إدغام الیاءین ؛ نحو : علیّ أن أسعی للخیر جاهدا (4) ...
* * *
عن (5) : حرف جر أصلی ؛ یجر الظاهر والمضمر. وأشهر معانیه تسعة :
ص: 473
1 - المجاوزة (1) ، وهی أظهر معانیه ، وأکثرها استعمالا ؛ نحو : جلوت عن بلد المظالم ، ورغبت عن الإقامة فیه. أی : ابتعدت وترکت.
2 - أن تکون بمعنی : «بعد» (2) ، کقولهم : دع المتکبر ؛ فعن قلیل یؤدبه زمانه ، والمغرور ؛ فعن قریب تکشفه أیامه. أی : بعد قلیل. وبعد قریب ...
3 - الاستعلاء (فتکون بمعنی : «علی»). نحو : من یبخل بخدمة وطنه فإنما یسیء لنفسه بما یبخل عنها ، ویمنع من إفادتها ... أی : بما یبخل علیها (3). وکقولهم : العظیم من زادت خیراته عن المحتاج لها ، وفضلت عنه ... أی : علی المحتاج لها - وفضلت علیه ، وقول الشاعر :
إذا رضیت عنی کرام عشیرتی
فما زال غضبانا علیّ لئامها
4 - التعلیل. (أن یکون ما بعدها علة وسببا فیما قبلها) ، نحو : لم أحضر إلیک إلا عن طلب منک ، ولم أفارقک إلا عن میعاد ینتظرنی ، أی : بسبب طلب ، وبسبب میعاد.
5 - الظرفیة ؛ کقولهم : الزعیم لا یکون عن حمل الأعباء الثّقال وانیا ، ولا عن بذل التضحیات مترددا. أی : فی حمل ... وفی بذل.
6 - الاستعانة (4) ؛ نحو : رمیت عن القوس ، أی : بالقوس ، إذا کانت القوس أداة الرمی.
7 - أن تکون بمعنی : بدل ؛ نحو قوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً.) ومثل : أدیت العمل عن صدیقی المریض ، أی : بدل نفس ، وبدل صدیقی. وقول الشاعر یمدح محسنا :
وتکفّل الأیتام عن آبائهم
حتی وددنا أننا أیتام
ص: 474
8 - أن تکون بمعنی : «من» نحو قوله تعالی : (وَهُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...،) أی : من عباده. (وهذا أوضح من اعتبارها للمجاوزة ؛ علی معنی : الصادرة عن عباده ، ولا تقدیر فیه).
9 - أن تکون بمعنی الباء ، نحو قوله تعالی : (وَما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی،) أی : بالهوی.
وقد ذکر لها بعض معان أخری ، ترکناها متابعة للمعترضین - بحق - علیها (1).
وتستعمل «عن» اسما بمعنی : «جانب». ویغلب أن یکون هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف : «من» ، نحو : یجلس القاضی ؛ ومن عن یمینه مساعده ، ومن عن یساره کاتبه. أی : من جانب یمینه ، ومن جانب یساره (2) .. وهذا الاستعمال قیاسیّ کباقی استعمالاتها السابقة.
إذا کانت «عن» جارّة جاز وقوع «ما» الزّائدة بعدها ، فلا تغیر شیئا من عملها أو معناها ؛ وإنما یبقی لها کل اختصاصها السابق قبل مجیء الحرف
ص: 475
الزائد ، نحو : عما قریب یتحقق المأمول (1).
* * *
الکاف : حرف یجر الظاهر ویقع أصلیّا وزائدا. وأظهر معانیه أربعة :
1 - التشبیه : وهو - بنوعیه الحسّی والمعنوی - أکثر معانیه تداولا ، والأغلب دخول «الکاف» علی المشبّه به ؛ نحو : الأرض کرة کالکواکب الأخری. تستمد ضوءها من الشمس کبقیة المجموعة الشمسیة. ونحو : الذکاء کالکهربا ، کلاهما لا یدرک إلا بآثاره. ویقولون فی المدح : فلان کهربیّ الذکاء. یریدون : أنه فی سرعة فهمه واستنباطه کالکهربا ؛ فی سرعة تأثرها وتأثیرها (2) ...
2 - التعلیل والسببیّة ؛ کقوله تعالی : (وَاذْکُرُوهُ کَما هَداکُمْ.) أی : بسبب هدایته لکم. وقوله تعالی عن الوالدین : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما کَما رَبَّیانِی صَغِیراً ....) أی : بسبب تربیتهما إیای فی صغری.
3 - التوکید (3) ویختص بالزائدة ؛ نحو قوله تعالی : (لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ.) أی لیس شیء مثله ... (وهذا فی رأی من یرون زیادة الکاف هنا) (4).
ص: 476
4 - الاستعلاء ، کقولهم : کن کما أنت. أی : علی الحال التی أنت علیها. واستعمالها فی هذا المعنی والذی قبله قلیل - ولکنه قیاسی.
ومن الاستعمالات القیاسیة أن تخرج عن الحرفیة ؛ وتصیر اسما بمعنی : مثل کقولهم : لن ینفع فی منع الإجرام کالعقوبات الرادعة. وقولهم : ما عاقب الحرّ الکریم کنفسه ، وقولهم :
وما قتل الأحرار کالعفو عنهمو
ومن لک بالحر الذی یحفظ الیدا؟
أی : مثل العقوبات - مثل نفسه - مثل العفو ؛ فالکاف فی الأمثلة السالفة فاعل ، مبنی علی الفتح فی محل رفع ، وقد تکون خبرا لمبتدأ ؛ کقولهم : من حذّرک کمن بشّرک.
وقد تکون مفعولا به فی نحو قول الشاعر :
ولم أر کالمعروف ؛ أمّا مذاقه
فحلو ، وأما وجهه فجمیل
وقد تکون فی محل جر فی نحو : یبتسم فلان عن کاللؤلؤ المکنون.
فهی بمعنی : «مثل» فی کل ذلک ، وفی کل موضع آخر تکون فیه اسما (1).
وإذا کانت «الکاف» أداة جر فقد تتصل بها «ما» الزائدة فتکفها عن العمل -
غالبا - وتزیل اختصاصها (وهو الدخول علی الاسم لجرّه). فتدخل علی الجمل الاسمیة والفعلیة ، نحو : الصحة خیر النعم ؛ کما المرض شرّ المصائب. ونحو : الفقر یخفی مزایا المرء ، کما یزیل ثقة الناس
ص: 477
بصاحبه (1) ... وهذه هی «ما» الزائدة الکافة عن العمل ، ومن القلیل ؛ الذی لا یقاس علیه أن یبقی لها اختصاصها الأول ، ؛ فتدخل علی الاسم فتجره ؛ نحو : قول القائل :
وننصر مولانا ونعلم أنه
کما الناس مظلوم علیه وظالم
أی : کالناس ، وهذه هی «ما» الزائدة فقط ، ولیست بکافة.
* * *
مذ ومنذ (2) : یکثر استعمالهما اسمین ظرفین ، أو اسمین غیر ظرفین ، کما یکثر استعمالهما حرفین أصلیین للجر.
(ا) فیصلحان للاسمیة المجردة من الظرفیة إذا لم تقع بعدهما جملة ، وإنما وقع بعدهما اسم مرفوع ؛ نحو : ما سافرت مذ الشهر الماضی ، أو منذ ... فمذ ومنذ مبتدأ خبره الاسم المرفوع بعده (3).
ویصلحان للظرفیة إذا وقع بعدهما جملة اسمیة ، وفعلیة ماضویة ، ولا یصح أن تقع بعدهما المضارعیة المستقبلة (4) ؛ فمثال الجملة الاسمیة : ما سافرت مذ الجوّ مضطرب ، أو منذ ... فکلاهما ظرف زمان للفعل «سافر» ، مبنیّ علی
ص: 478
السکون أو الضم ، فی محل نصب ، وهو مضاف ، والجملة الاسمیة بعدهما فی محل جر مضاف إلیه. ومثال الجملة الفعلیة الماضویة : أسرعت إلیک مذ أو منذ دعوتنی ، وکلاهما ظرف زمان للفعل : «أسرع» مبنی علی السکون والضم فی محل نصب. والظرف مضاف والجملة الماضویة بعده مضاف إلیه فی محل جر. ومن هذا قول الشاعر :
بدا الصبح فیها (1) منذ فارقت
مظلما
فإن أبت صار اللیل أبیض ناصعا
«فمنذ» ظرف زمان للفعل : «بدا».
(ب) ویکونان حرفین أصلیین للجر ، وهذا یوجب شروطا ؛ أهمها (2) : أن یکون المجرور اسما ظاهرا ، لا ضمیرا ، وأن یکون وقتا (3) ، وأن یکون هذا الوقت متصرفا ، معینا لا مبهما ، ماضیا أو حاضرا لا مستقبلا. نحو : ما رأیته مذ یوم السبت الأخیر ، أو مذ ساعتنا ، فلا یصح : مذه ، ولا مذ البیت ، ولا : مذ سحر ، (ترید : سحر یوم معین) ولا مذ زمن ، ولا مذ غد ، وکذلک «منذ» فی کل ما سبق.
ویشترط فی عاملهما أن یکون ماضیا ، إما منفیّا یصح أن یتکرر معناه ؛ نحو : ما رأیته مذ أو منذ یوم الجمعة ، وإمّا مثبتا ، معناه ممتدّ متطاول (4) ؛ نحو : سرت مذ ، أو منذ یوم الخمیس. فإن کان الاسم المجرور بهما معرفة ومدلول زمنه ماضیا ، کان معناهما الابتداء مثل : «من» الابتدائیة ، نحو : ما رأیته مذ ، أو : منذ یوم الجمعة الماضی ، أی : من یوم الجمعة ؛ فابتداء عدم الرؤیة هو یوم الجمعة. وإن کان معرفة ومدلول زمنه حاضرا کان معناهما - لا إعرابهما -
ص: 479
الظرفیة ، مثل «فی». نحو : ما رأیته مذ ساعتنا ، أو منذ یومنا. أی : فی ساعتنا وفی یومنا.
أما إن کان المجرور بهما نکرة معدودة (1) فمعناهما الابتداء والانتهاء معا ؛ فهما مثل «من» و «إلی» مجتمعین ؛ نحو : ما رأیته مذ أو منذ یومین. أی : ما رأیته من ابتداء هذه المدة إلی نهایتها.
ومما یجب التنویه به أن الاسم بعد «مذ» ، و «منذ» مع جواز جره علی اعتبارهما حرفی جر ، وجواز رفعه علی اعتبارهما اسمین محضین - قد یترجح فیه أحد الضبطین علی الآخر ، وقد یقوی حتی یقترب من الوجوب کما یتبین مما یأتی :
إذا کان الزمن بعدهما للحاضر فالراجح أن یکونا حرفی جر ، والاسم بعدهما مجرورا بهما ، نحو : ما ترکت الکتابة مذ أو منذ ساعتنا. وعلی هذا تجری أکثر القبائل العربیة ، وتکاد تلتزمه وتوجبه.
وإذا کان الزمن بعدهما للماضی فالأرجح اعتبار «منذ» حرف جر ، والاسم بعدها مجرور ، نحو : ما زرت الصدیق منذ یومین. والعکس فی «مذ» ، نحو ما زرت الصدیق مذ یومان (2).
ص: 480
فی مثل : «ما رأیته مذ أو منذ أن الله خلقه» - بفتح همزة أنّ ، (أی : من زمن أن الله خلقه) یجوز اعتبارهما اسمین ، مبتدأین ، والمصدر المؤول خبرهما ، کما یجوز اعتبارهما حرفی جر والمصدر المؤول هو المجرور بهما. أما عند کسر همزة «إن» فیتعین اعتبارهما اسمین مبتدأین لوقوع جملة اسمیة بعدهما هی الخبر (1).
* * *
ص: 481
«ربّ» : لیس بین حروف الجر ما یشبه هذا الحرف فی تعدد الآراء فیه ، واضطراب المذاهب النحویة واللغویة فی أحکامه ونواحیه المختلفة. (التی منها ناحیة معناه ، وناحیة حرفیته ، وناحیة زیادته أو شبهها ، وتعلقه بعامل أو عدم تعلقه ، ونوع الفعل الذی یقع بعده ، والجملة التی یوصف بها مجروره ... و...) وکان من أثر هذا الاضطراب قدیما وحدیثا الحکم علی بعض الأسالیب بالخطأ عند فریق ، وبالصحة عند آخر ، وبالقبول بعد التأول والتقدیر عند ثالث. وکل هذا یقتضینا أن نستخلص أفضل الآراء ، بأناة ، وحسن تقدیر.
وخیر ما نستصفیه من معناه ، ومن أحکامه النحویة هو ما یأتی :
(ا) أن معناه قد یکون التکثیر وقد یکون التقلیل ، وکلاهما لا بد فیه من القرینة التی توجه الذهن إلیه. ولهذا کان الاستعمال الصحیح للحرف «ربّ» وما دخل علیه أن یجیء بعد حالة شک تقتضی النص علی الکثرة أو القلة ، (کأن یقول قائل (1) : أظنک لم تمارس الصناعة. فتجیب : رب صناعة نافعة مارستها. فقد جاءت الأداة «ربّ» وجملتها لإزالة شک قبل مجیئها). فمثال دلالتها علی الکثرة : ربّ محسود علی جاهه احتمل البلاء بسببه ، وربّ مغمور فی قومه سعد بغفلة العیون عنه ... وقولهم : ربّ أمل فی صفاء الزمان قد خاب ، وربّ أمنیة فی مسالمة اللیالی قد بددتها المفاجئات.
ومثال القلة قولهم : ربّ منیة فی أمنیّة تحققت ... ؛ ورب غصّة فی انتهاز فرصة تهیأت. وقولهم : ربّ غایة مأمولة دنت بغیر سعی ، وربّ حظ سعید أقبل بغیر انتظار. والقرینة علی القلة والکثرة فی الأمثلة السالفة هی : التجارب الشائعة التی یعرفها السامع ، ویسلم بها.
(ب) وأن أحکامه النحویة أهمها :
1 - أنه حرف جر شبیه (2) بالزائد. وله الصدارة فی جملته ؛ فلا یجوز
ص: 482
أن یتقدم علیه شیء منها (1). لکن یجوز أن یسبقه أحد الحرفین : «ألا» الذی للاستفتاح و «یا» ، نحو : ألا ربّ مظهر جمیل حجب وراءه مخبرا مرذولا. - یا ربّ عظیم متواضع زاده تواضعه عظمة وإکبارا.
2 - وأنه لا یجر - غالبا - إلا الاسم الظاهر النکرة. وقد وردت أمثلة قلیلة - لا یحسن القیاس علیها - کان مجروره فیها ضمیرا للغائب ، یفسره اسم منصوب ، متأخر عنه وجوبا ، یعرب : تمییزا ، نحو : ربّه شابّا نبیلا صادفته ، وفی تلک الأمثلة القلیلة کان الضمیر مفردا غائبا فی جمیع أحواله ، یعود علی التمییز الواجب التأخیر. ویجب مطابقة هذا التمییز لمدلول هذا الضمیر المسمی : «الضمیر المجهول (2)» لعدم عودته علی متقدم. نحو : ربه شابین نبیلین صادفتهما - ربه شبابا نبلاء صادفتهم - ربه فتاة نبیلة صادفتها ... و... وهکذا.
3 - وأن النکرة التی یجرها تحتاج فی أشهر الآراء - لنعت مفرد ، أو جملة ، أو شبه جملة. غیر أن الأکثر الأفصح حین یکون النعت جملة أن تکون فعلیة ، ماضویة لفظا ومعنی ، أو : معنی فقط - کالمضارع المسبوق بالحرف «لم» - (نحو : رب صدیق وفیّ عرفته - رب صدیق لازمک عرفته - رب صدیق عندک عرفته - رب صدیق فی الشدة عرفته - رب صدیق لم یتغیر عرفته). ومثال النعت بجملة اسمیة ، ربّ ملوم لا ذنب له ، وقول الشاعر :
ذلّ من یغبط الذلیل بعیش
ربّ عیش أخفّ منه الحمام (3)
4 - وأن «رب» مع مجرورها لا بد أن یکون لها فی أغلب الأحوال اتصال معنویّ بفعل ماض یقع بعدها ، أو : بما یعمل عمله ویدل دلالته الزمنیة ، (وهذا الفعل مع فاعله غیر الجملة الماضویة التی قد تقع - أحیانا - صفة لمجرورها) ،
ص: 483
ویکون الفعل - أو ما یعمل عمله - بمنزلة العامل الذی تتعلق به «رب» ومجرورها (1) بالرغم مما هو مقرر من أن حرف الجر الزائد وشبه الزائد لا یتعلق مع مجروره بعامل - کما سبق - نحو : رب کلمة طیبة جلبت خیرا ، ودفعت شرّا. وقول الشاعر :
فیا ربّ وجه کصافی النمیر
تشابه حامله والنّمر ... (2)
والأغلب فی هذا الفعل وما فی معناه أن یکون محذوفا مع فاعله ؛ لأنهما معلومان تدلّ علیهما قرینة لفظیة أو معنویة ، (لما قدمنا من أن الاستعمال الصحیح للحرف «رب» وما دخل علیه أن یکون بعد حالة شک تستدعی النص علی القلة أو الکثرة ، فیکون جوابا عن قول لقائل ، أو : من ه فی حکمه) ؛ فاللفظیة نحو : ما أطیب العمل ، وما أبغض البطالة : فربّ عمل نافع ، وربّ بطالة ضارة. التقدیر : فرب عمل نافع أحببته ، وربّ بطالة ضارة کرهتها. والمعنویة کأن تمرّ علی قوم منهمکین فی العمل ، مشغولین به ، فتبتسم ابتسامة الرضا والانشراح ؛ ثم تنصرف عنهم قائلا : رب عمل نافع ، ورب بطالة ضارة ، فالتقدیر : رب عمل نافع أحببته ، أو احترمت صاحبه ، أو أکبرته ... و... ورب بطالة ضارة کرهتها ، أو أنکرت أمرها ... أو ... ومن الجائز ذکر هذا الفعل وفاعله.
ویقول النحاة إن «ربّ» توصل معنی هذا الفعل وما فی حکمه إلی الاسم المجرور بها ، ففی مثل : «رب رجل عالم أدرکت» أوصلت معنی الإدراک إلی
ص: 484
الرجل (1) ، وکذلک فی الأمثلة السابقة. ومن ثمّ کان الأحسن عندهم فی مثل : «ربّ عالم لقیته» وقول الشاعر :
ربّ حلم (2) أضاعه عدم
الما
ل ، وجهل غطّی علیه النعیم
أن تکون الجملة الفعلیة الماضویة المذکورة هی صفة للنکرة المجرورة بالحرف : «ربّ». وأن تکون هناک جملة أخری ماضویة محذوفة ، تتصل بها «ربّ» ومجرورها اتصالا معنویّا. ولا یرتاحون أن تکون الجملة الماضویة المذکورة هی المرتبطة ارتباطا معنویّا بهما ؛ لأنها صفة للنکرة المجرورة «بربّ» وهذه النکرة قد تستغنی عن کل شیء أساسیّ أو غیر أساسی بعدها إلا عن الصفة. ومثل هذا الفعل الداخل فی جملة الصفة - لا یصلح أن یکون هو الذی بمنزلة العامل فی : «ربّ» ومجرورها ؛ لأن الصفة لا تعمل فی الموصوف ؛ منعا للفساد المعنوی.
5 - وأنه یجوز أن یتصل بآخرها «ما» الزائدة. والشائع فی هذه الحالة أن تمنعها من الدخول علی الأسماء المفردة ، ومن الجرّ ، فتجعلها مختصة بالدخول علی الجمل الفعلیة والاسمیة (3) ، ولذا تسمی : «ما» الزائدة الکافة ؛ لأنها کفّتها ، أی : منعتها من عملها (وهو الجر) ومن اختصاصها (وهو الدخول علی الاسم وحده ؛ لجره) ؛ نحو : ربما رأیت فی الطریق مستجدیا وهو من الأغنیاء. ونحو : ربما کان السائل أغنی من المسئول ، أو ربما السائل أغنی من المسئول. ولکن دخولها علی الماضی هو الکثیر. أما دخولها علی المضارع الصریح (4) وعلی الجملة الاسمیة فنادر لا یقاس علیه ، إلا إن کان معنی المضارع محقق الوقوع قطعا - کما سیجیء - ومن العرب من یبقیها علی حالها من الدخول علی الأسماء المفردة. وجرها
ص: 485
مع وجود «ما» الزائدة ؛ فیقول : ربّ ما سائل فی الطریق أزعجنی ، ولا تسمی فی هذه الحالة «کافة» ؛ وإنما تسمی : «زائدة» فقط. والأفضل الاقتصار علی الرأی الأول الشائع (1).
6 - والشائع أیضا أن «ربّ» بحالتیها العاملة والمکفوفة عن العمل ، لا تدخل إلا علی کلام یدل علی الزمن الماضی ، سواء أکان مشتملا علی فعل ماض أم علی غیره مما یدل علی الزمن الماضی ، کالمضارع المقرون بالحرف : «لم» ، أو : الوصف الدال علی الماضی ... و... نحو : رب معروف قدمته سعدت بفعله - رب علم لم ینفع صاحبه أحزنه - رب بئر متفجرة أمس نفعت بما فی داخلها.
وقد أشرنا إلی أنها تدخل علی المضارع الصریح إذا کان معناه محقق الوقوع لا شک فی حصوله ؛ فکأنه من حیث التحقق بمنزلة الماضی الذی وقع معناه (2) ، وصار أمرا مقطوعا به ، کقوله تعالی ، فی وصف الکفار یوم القیامة ، - ووصفه صدق لا شک فیه - : (رُبَما)(3) یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ کانُوا مُسْلِمِینَ) ، أما فی غیر ذلک فشاذ لا یقاس علیه (4).
ص: 486
وإنما کان الأکثر دخولها علی الزمن الماضی لأن معناها التکثیر والتقلیل ، ولا یمکن الحکم بأحدهما إلا علی شیء قد عرف (1) ...
7 - أنه یجوز فی ضبطها لغات تقارب العشرین ، أشهرها ضم الراء أو فتحها مع تشدید الباء فی الحالتین ، أو تخفیفها بالفتح بغیر تشدید. کما یجوز أن تلحقها تاء التأنیث المتسعة - فی المشهور - لتدل علی تأنیث مجرورها ؛ نحو : ربّت عبارة موجزة أغنت عن کلام کثیر. وتکون التاء إما ساکنة ویوقف علیها بالسکون ، وإما مفتوحة ویوقف علیها بالهاء.
حذف ربّ : یجوز حذف «ربّ» لفظا ، مع إبقاء عملها ومعناها کما کانت. وهذا الحذف قیاسی بعد «الواو» ، و «الفاء» ، و «بل». ولکنه بعد الأولی أکثر ، وبعد الثانیة کثیر ، وبعد الثالثة قلیل بالنسبة للحرفین الآخرین. نحو :
وجانب من الثّری یدعی الوطن
ملء العیون ، والقلوب ، والفطن (2)
ونحو : أن تسمع من یقول : ما أعجب ما قرأته علی صفحات الوجوه الیوم! فتقول : فحزین قضی اللیل همّا طلع النهار علیه بما بدّد أحزانه ، ومبتهج
ص: 487
نام لیله قریرا ، ثم أفاق علی همّ وبلاء ، ونحو : بل حزین قد تأسّی (1) بحزین. أی : رب جانب ... - رب حزین قضی اللیل ... - رب مبتهج ... - ربّ حزین قد تأسی ...
وکل حرف من هذه الثلاثة یسمی : العوض عن : «رب» (2) ؛ أو النائب عنها ؛ لأنه یدل علیها ، وهو مبنی لا محل له من الإعراب ؛ والاسم المجرور بعده ، مجرور بربّ المحذوفة (3). ولیس مجرورا فی الصحیح بالعوض عنها أو النائب (4).
* * *
ص: 488
(ا) إذا کان الحرف : «ربّ» شبیها بالزائد (1) فمن الواجب أن یکون للاسم النکرة المجرور به ناحیتان ، ناحیة الجر لفظا ، وناحیة الإعراب محلا ؛ فیکون مجرورا فی محل رفع ، أو محل نصب علی حسب حاجة الجملة ، ویعامل بما یعامل به عند عدم وجودها. ففی مثل : ربّ زائر کریم أقبل - تعرب کلمة : «زائر» مجرورة بربّ لفظا ، فی محل رفع : لأنها مبتدأ. وفی مثل : رب زمیل ودیع صاحبت ، تعرب کلمة : «زمیل» مجرورة لفظا فی محل نصب ، لأنها مفعول به للفعل : «صاحبت». وفی مثل : رب مساعدة خفیة ساعدت ، تعرب کلمة : «مساعدة» مجرورة لفظا فی محل نصب ؛ لأنها مفعول مطلق. وفی مثل : رب لیلة مقمرة سهرت مع رفاقی ، تعرب کلمة : «لیلة» مجرورة لفظا فی محل نصب ؛ لأنها ظرف زمان ... و... وهکذا ...
وخیر مرشد لمعرفة المحل الإعرابی للاسم المجرور بها هو ما قلناه من تخیل عدم وجود «ربّ» ، وإعراب المجرور بها بما یستحقه عند فقدها ...
ویترتب علی ما سبق من جر النکرة لفظا بها واعتبارها فی محل رفع أو نصب أن التابع لهذه النکرة (من نعت ، أو : عطف ، أو : توکید ، أو : بدل) یجوز فیه الأمران ، مراعاة لفظ النکرة ، أو مراعاة المحل ، ففی مثل : رب زائر کریم
ص: 489
أقبل ، یجوز فی کلمة : «کریم» الجر والرفع. وفی مثل : رب زمیل ودیع صاحبت ، یجوز فی کلمة : «ودیع» الجر والنصب ... وهکذا.
ولا یتغیر الحکم لو جاء تابع آخر - کالعطف - فقلنا : رب زائر کریم وسائح هنا ، فیجوز فی کلمة : «سائح» المعطوفة ، الأمران الجائزان فی المعطوف علیه ... ویجوز أن یکون المعطوف هنا معرفة ، نحو : رب زائر کریم وأخیه أقبلا ، مع أن المعطوف فی حکم المعطوف علیه ، فهو بمنزلة الاسم الذی دخلت علیه «رب» فحقه أن یکون نکرة کمجرورها ، إلا أن الأسالیب العربیة الفصحی تدل علی أنه قد یجوز فی التابع ما لا یجوز فی المتبوع ، وهذا معنی قول النحاة : قد یغتفر فی الثوانی ما لا یغتفر فی الأوائل (1).
(ب) إذا دخل الحرف : «رب» علی الجمل بنوعیها (2) ، وهو مکفوف - بسبب اتصاله «بما» الکافة - فإن معناه یبقی علی حاله من إفادة التکثیر أو التقلیل علی حسب القرائن (کما أشرنا من قبل) (3) ، ولکن التکثیر أو التقلیل فی هذه الحالة یکون منصبّا علی النسبة التی فی الجملة ، وهی النسبة الدائرة بین طرفیها ؛ ففی مثل : ربما أتی الغائب ، أو ربما الغائب آت یکون التقلیل والتکثیر واقعا علی نسبة الإتیان للغائب. وقیل : إن معنی «رب» المکفوفة ، هو : التحقیق.
* * *
ص: 490
ه - حذف حرف الجر وحده ، مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره
یجوز أن یحذف حرف الجر ، ویبقی عمله کما کان قبل الحذف. ویطّرد هذا فی مواضع قیاسیة ، أشهرها أربعة عشر نذکرها کاملة هنا - وقد مرّ بعضها فی مواضع متفرقة(1).
1 - أن یکون حرف الجر هو «ربّ» بشرط أن تکون مسبوقة «بالواو» ، أو : «الفاء» ، أو «بل» - کما سبق قریبا عند الکلام علیها (2) - نحو :
وعامل بالحرام ، یأمر بال
برّ ؛ کهاد یخوض فی الظّلم
2 - أن یکون الاسم المجرور بالحرف مصدرا مؤولا من «أنّ» مع معمولیها ، أو من «أن» والفعل والفاعل ؛ نحو : فرحت أنّ الصانع بارع ، أو : أفرح أن یبرع الصانع. والأصل : فرحت بأن الصانع بارع - أو : أفرح بأن یبرع الصانع. والتقدیر فیهما : فرحت ببراعة الصانع ، أو : أفرح ... ولا بد من أمن اللبس قبل حذف حرف الجر علی الوجه الذی شرحناه فی مکانه من باب : «تعدیة الفعل ولزومه (3)».
3 - أن یکون حرف الجر حرفا من حروف القسم ، والاسم المجرور به هو
ص: 491
لفظ الجلالة (الله) ؛ نحو : الله لأکثرنّ من العمل النافع ، أی : بالله ... (1)
4 - أن یکون حرف الجر داخلا علی تمییز «کم» الاستفهامیة ، بشرط أن تکون مجرورة بحرف جر مذکور قبلها ؛ نحو : بکم درهم اشتریت کتابک؟ أی : بکم من درهم(2) ...؟
5 - أن یکون حرف الجر مع مجروره واقعین فی جواب سؤال ، وهذا السؤال مشتمل علی نظیر لحرف الجر المحذوف ؛ کأن یقال : فی أی بلد قضیت الأمس؟ فیجاب : القاهرة. أی : فی القاهرة.
6 - أن یکون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، بغیر فاصل بین الحرفین ، والمعطوف علیه مشتمل علی حرف جر مماثل للمحذوف ؛ کقولهم : ألا تفکر فی ترکیب جسمک لتری قدرة الله العجیبة ، والسموات ؛ لتری ما یحیّر العقول ، وخواصّ المادة ؛ لتری الإبداع والإعجاز ... أی : فی السموات - وفی خواص المادة ... ؛ وقد حذف الحرف : «فی» ؛ لأنه مع مجروره معطوف بالواو بغیر فاصل بینهما. والمعطوف علیه وهو «ترکیب» مشتمل علی حرف جر قبله ؛ مماثل للمحذوف (3).
7 - أن یکون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، والمعطوف علیه مشتمل علی حرف جر مماثل للمحذوف مع وجود «لا» فاصلة بین حرف العطف وحرف الجر ؛ نحو : ما للفتی سلاح إلا علمه النافع ، ولا
ص: 492
الفتاة إلا فنها العملیّ. أی : ولا للفتاة.
8 - أن یکون حرف الجر کالسابق ولکن الحرف الفاصل هو : «لو» ؛ کقولهم : من تعوّد الاعتماد علی غیره ، ولو أهله ؛ فقد استحق الخیبة والإخفاق. أی : ولو علی أهله(1) ...
9 - أن یکون حرف الجر واقعا هو ومجروره فی سؤال بالهمزة ، وهذا السؤال ناشئ من کلام مشتمل علی نظیر للحرف المحذوف ؛ کأن یقال : أعجبت بمحمود. فیسأل القائل : أمحمود النجار؟ أی : أبمحمود النجار؟
10 - أن یکون حرف الجر ومجروره واقعین بعد «هلّا» التی للتحضیض بشرط أن یکون التحضیض واردا بعد کلام مشتمل علی مثیل لحرف الجر المحذوف ؛ کأن یقال : سأتصدق بدرهم ، فیقال : هلّا نقود ، أی : بنقود ، والمراد : هلا تتصدق بنقود.
11 - أن یکون حرف الجر هو : «لام التعلیل» الداخلة علی : «کی» المصدریة ؛ نحو : یجید الصانع صناعته کی یقبل الناس علیه. أی : لکی یقبل الناس علیه ، بمعنی : لإقبالهم علیه.
12 - أن یکون حرف الجر داخلا علی المعطوف علی خبر «لیس» أو خبر «ما» الحجازیة ، بشرط أن یکون کل منهما صالحا لدخول حرف الجر علیه (2) ؛ نحو : لست مرجعا فرصة ضاعت ، ولا قادر علی ردّها. فکلمة «قادر» مجرورة لأنها معطوفة علی خبر لیس : (مرجعا) وهذا الخبر یجوز جره بالباء فیقال : لست بمرجع. فکأنها موجودة توهما وتخیلا. وعلی أساس هذا الجواز الموهوم عطفنا علیه بالجر ؛ وهذا هو العطف الذی یسمیه النحاة ؛ «العطف علی التوهم». وقد سبق (3) إبداء الرأی فیه تفصیلا ، وأنه لا یصح الالتجاء إلیه ، ولا القیاس علی ما ورد منه.
ص: 493
13 - أن یکون حرف الجر مسبوقا «بإن» الشرطیة ، وقبلهما کلام یشتمل علی مثیل للحرف المحذوف ، نحو : سلّم علی من تختاره ، إن محمد ، وإن علیّ ؛ وإن حامد. التقدیر : إن شئت فسلم علی محمد ، وإن شئت فسلّم علی علیّ ، وإن شئت فسلم علی حامد. وبالرغم من جواز هذا فالمحذوف فیه کثیر ، والمراد قد یخفی. فمن المستحسن عدم محاکاته قدر الاستطاعة.
14 - أن یکون حرف الجر مسبوقا بفاء الجزاء الواقعة فی جواب شرط. نحو : اعتزمت علی رحلة طویلة ؛ إن لم تکن طویلة فقصیرة ، أی : فعلی رحلة قصیرة. ویقال فی هذا الموضع ما قیل فی سابقه من ترک القیاس علیه قدر الاستطاعة. - بالرغم من صحة القیاس -
هذا وجمیع التأویلات والتقدیرات السابقة جائزة ولیست محتومة ؛ بل إنّ الکثیر منها یجوز فیه أوجه إعرابیة أخری ؛ قد تکون أیسر ، والمعنی علیها أوضح. واختیار هذه أو تلک متروک لمقدرة المتکلم والسّامع ، وخبرتهما بدرجات الکلام قوة ، وضعفا ، وحسنا ، وقبحا. مع التزام الصحة التزاما دقیقا ، والبعد عن الخطأ فی کل حالة. ومن الخیر أن نترک ما فیه غموض وإلباس إلی ما لا خفاء فیه ولا إبهام ، لأن اللغة لیست تعمیة وإلغازا ، وإلا فقدت خاصتها ، وعجزت عن أداء مهمتها. وهذا أساس یجب مراعاته عند استخدامها ، وفی کل شأن من شئونها.
تلک مواضع حذف حرف الجر حذفا قیاسیّا مطردا مع إبقاء عمله. وهناک أمثلة مسموعة وقع الحذف فیها مخالفا ما سبق ، ولا شأن لنا بها ؛ فهی مقصورة علی السماع ؛ لا یجوز محاکاتها ؛ لعدم اطرادها (1).
ص: 494
أما حذف الجار والمجرور معا فجائز إذا لم یتعلق الغرض بذکرهما ، بشرط وجود قرینة تعینهما ، وتعین مکانهما ، وتمنع اللبس. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً،) أی : لا تجزی فیه ...
* * *
ص: 495
یتردد بین النحاة أن حروف الجر ینوب بعضها عن بعض ؛ فیتوهم من لا درایة له أن المراد جواز وضع حرف مکان آخر بغیر ضابط ، ولا توقّف علی اشتراک بینهما فی المعنی ، ولا تشابه فی الدلالة. وهذا ضرب من الفهم المتغلغل فی الخطأ (1) ...
أما حقیقة الأمر فی نیابة حروف الجر بعضها عن بعض فتتلخص فی مذهبین : الأول (2) : أنه لیس لحرف الجر إلا معنی واحد یؤدیه علی سبیل الحقیقة ، لا المجاز ؛ فالحرف : «فی» یؤدی معنی واحدا حقیقیّا هو : «الظرفیة». والحرف : «علی» یؤدی معنی واحدا حقیقیّا هو : «الاستعلاء». والحرف : «من» یؤدی : «الابتداء» ، والحرف : «إلی» یؤدی : «الانتهاء» ... و... وهکذا ... فإن أدّی الحرف معنی آخر غیر المعنی الأصلی الخاص به وجب القول : بأنه یؤدی المعنی الجدید إما تأدیة مجازیة (أی : من طریق المجاز (3) ، لا الحقیقة) ، وإما تأدیة تضمینیة (4) (أی : بتضمین الفعل ، أو : العامل الذی
ص: 496
یتعلق به حرف الجر الأصلی (1) ومجروره. معنی فعل أو عامل آخر یتعدّی بهذا الحرف) فحرف الجر مقصور علی تأدیة معنی حقیقیّ واحد یختص به ، ولا یؤدی غیره إلا من طریق المجاز فی هذا الحرف ، أو من طریق التضمین فی العامل الذی یتعلق به الجار الأصلی (2) مع مجروره. ومن الأمثلة الحرف الأصلیّ : «فی» : فمعناه : الظرفیة (أی : الدّلالة علی أن شیئا یحوی بین جوانبه شیئا آخر ... و... کما سبق) ، فإذا قلنا : الماء فی الکوب ، فهمنا أن الکوب یحوی بین جوانبه الماء ؛ فیکون الحرف «فی» مستعملا فی تأدیة معناه الحقیقی الأصیل. ولکن إذا قلنا : غرّد الطائر فی الغصن .. ، لم نفهم أن الغصن یحوی فی داخله وبین جوانبه الطائر المغرد ، لاستحالة هذا. وإنما نفهم أنه کان علی الغصن وفوقه ، لا بین ثنایاه. فالحرف : «فی» قد أدی معنی لیس بمعناه الحقیقی الأصیل. فالمعنی الجدید ؛ وهو : «الفوقیة» ، أو «الاستعلاء» إنما یؤدیه حرف آخر مختص بتأدیته ؛ هو : «علی» فلو راعینا الاختصاص وحده لقلنا : غرد الطائر علی الغصن ، فالحرف : «فی» قد أدّی معنی لیس من اختصاصه. بل هو من اختصاص غیره. وهذه التأدیة لیست علی سبیل الحقیقة. وإنما علی سبیل المجاز. واجتمع للحرف : «فی» الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز (3) ؛ فالاستعلاء بما یقتضیه من تمکن وثبات شبیه بالظرفیة التی تقتضی التمکن والثبات أیضا. فاستعملنا «الظرفیة» مکان «الاستعلاء» ؛ بسبب التشابه الذی بینهما ، واستعملنا الحرف الدال علی «الظرفیة» مکان الحرف الدال علی الاستعلاء ؛ تبعا لذلک. وکل هذا علی سبیل المجاز. والقرینة الدالة علی أنه مجاز (أی : علی أن الحرف : «فی» مستعمل فی غیر معناه الأصلی) وجود الفعل : «غرّد» ؛ إذ لا یقع التغرید فی داخل الغصن ؛ وإنما یکون فوقه ، فهذه القرینة هی المانعة من إرادة المعنی الأصلی.
ومن الأمثلة : «علی» ؛ فهو حرف جر یقتصر عند أصحاب هذا الرأی علی معنی حقیقی واحد ؛ هو : «الاستعلاء». فإذا قلنا : الکتاب علی المکتب ، فهمنا هذا المعنی الحقیقی الدال علی أن شیئا فوق آخر. فالحرف مستعمل فی معناه
ص: 497
الأصیل. لکن إذا قلنا : اشکر المحسن علی إحسانه ، لم نفهم الاستعلاء الحقیقی ، ولم یرد علی خاطرنا أن الشکر قد حلّ واستقرّ فوق الإحسان ؛ لاستحالة هذا ، وإنما الذی یخطر ببالنا هو أن المراد : اشکر المحسن لإحسانه ، فالحرف : «علی» قد جاء فی مکان : «اللام» التی معناها : «السببیة» ، أو «التعلیل». فأفاد ما تفیده اللام ، ولکن إفادته علی سبیل المجاز ؛ ذلک أن لام التعلیل تفید التمکن والاتصال القوی بین السبب والمسبب ، أو بین العلة والمعلول ؛ والاستعلاء یشبهها فی أنه یفید التمکن والاتصال بین الشیئین ؛ فلهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازا ، مکان السببیة والتعلیل. وتبع ذلک استعمال الحرف الدال علی الاستعلاء مکان الحرف الدال علی السببیة. والقرینة الدالة علی أن الحرف : «علی» مستعمل فی غیر حقیقته وجود الفعل : «اشکر» إذ لا یستقر الشکر فوق الإحسان ، ولا یوضع فوقه وضعا حقیقیّا.
ومثل ما سبق یقال فی بقیة حروف الجر حین یؤدی الواحد منها معنیین أو أکثر.
أما أمثلة التضمین (1) فی العامل فمنها قول بعض الأدباء : «نأیت من صحبة فلان بعد أن سقانی بمر فعاله». والأصل : نأیت عن صحبة فلان ، بعد أن سقانی من مر فعاله. ولکنه ضمن الفعل : «نأی» الذی لا یتعدی هنا بالحرف «من» معنی فعل آخر یتعدی بها ؛ هو : بعد ، أو «ضجر» ؛ فالمراد : بعدت أو ضجرت من صحبة فلان. کما ضمّن الفعل : «سقی» الذی لا یتعدی هنا «بالباء» معنی فعل آخر یتعدی بها ؛ هو : «آذی» ، أو «تناول». فالمراد : «آذانی» أو تناولنی بمرّ فعاله ، وکذلک : شربت بماء عذب ؛ فإن الفعل شرب قد ضمّن معنی الفعل : «روی» فالأصل : رویت. وهکذا بقیة حروف الجر.
* * *
والمذهب الثانی (2) : أن قصر حرف الجر علی معنی حقیقی واحد ، تعسف وتحکم لا مسوّغ له ، فما الحرف إلا کلمة ، کسائر الکلمات الاسمیة والفعلیة ، وهذه الکلمات الاسمیة والفعلیة تؤدی الواحدة منها عدة معان حقیقیة (3) ، لا مجازیة ،
ص: 498
ولا یتوقف العقل فی فهم دلالتها الحقیقیة فهما سریعا. فما الداعی لإخراج الحرف من أمر یدخل فیه غیره ، ولإبعاده عما یجری علی نظائره؟
إنه نظیرها ؛ فإذا اشتهر معناه فی العرف ، وشاعت دلالته ؛ بحیث یفهمها السامع بغیر غموض ، کان المعنی حقیقیّا لا مجازیّا ، وکانت الدلالة أصیلة لا علاقة لها بالمجاز ، ولا بالتضمین ولا بغیرهما ، فالأساس الذی یعتمد علیه هذا المذهب فی الحکم علی معنی الحرف بالحقیقة هو شهرة هذا المعنی وشیوعه ، بحیث یتبادر ویتضح سریعا عند السامع ؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقیقة. وإن من یسمع قول القائل : (کنت فی الصحراء ، ونفد ما معی من الماء ، وکدت أهلک من الظمأ ، حتی صادفت بئرا شربت من مائها العذب ما حفظ حیاتی التی تعرضت للخطر من یومین ...) سیدرک سریعا معنی الحرف : «من» وقد تکرر فی الکلام بمعان مختلفة : أولها : بیان الجنس. وثانیها : السببیة ، وثالثها : البعضیة. ورابعها : الابتداء ... و...
کذلک من یسمع قول القائل : «إنی بصیر فی الغناء : یستهوینی ، ویملک مشاعری إذا کان لحنه شجیّا ، وعبارته رصینة ؛ کالأبیات التی مطلعها :
ربّ ورقاء هتوف فی الضّحا
ذات شجو صدحت فی فنن
.......».
فإن معانی الحرف : «فی» ستبتدر إلی ذهنه. فالأول : للإلصاق. والثانی : للظرفیة. والثالث : للاستعلاء. وکل واحد من المعانی السالفة یقفز إلی الذهن سریعا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته. وهذا علامة الحقیقة - کما سبق -.
فإذا کان المعنی من الشیوع ، والوضوح وسرعة الورود علی الخاطر - بالصورة التی ذکرناها ، ففیم المجاز أو التضمین أو غیرهما؟ إن المجاز أو التضمین أو نحوهما یقبلان ، بل یتحتمان حین لا یبتدر المعنی إلی الذهن ، ولا یسارع الذهن إلی التقاطه ؛ بسبب عدم شیوعه شیوعا یجعله واضحا جلیّا ، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تکفی لکشف دلالته فی یسر وجلاء. أما إذا شاع واشتهر وتکشف للذهن سریعا فإن هذا یکون علامة الحقیقة - کما قلنا - فلا داعی للعدول عنها ،
ص: 499
ولا عن قبولها براحة واطمئنان (1).
وهذا رأی نفیس أشار بالأخذ به ، والاقتصار علیه ؛ کثیر من المحققین (2).
* * *
ص: 500
لا شک أن المذهب الثانی (1) نفیس کما سبق ؛ لأنه عملیّ وبعید من الالتجاء إلی المجاز ، والتأویل ، ونحوهما من غیر حاجة. فلا غرابة فی أن یؤدی الحرف الواحد عدة معان مختلفة. وکلها حقیقی (2) - کما قلنا - ولا غرابة أیضا فی اشتراک عدد من الحروف فی تأدیة معنی واحد. لأن هذا کثیر فی اللغة ، ویسمی : المشترک اللفظی (3).
وهناک سبب آخر یؤید أصحاب المذهب الثانی هو أن الباحثین متفقون علی أنّ المجاز إذا اشتهر معناه ، وشاع بین الناطقین به ، انتقل هذا المجاز إلی نوع جدید آخر یسمی : «الحقیقة العرفیة» (ولها بحث مستفیض فی مکانها بین أبواب البلاغة) ومن أشهر أحکامها : أنها فی أصلها مجاز قائم علی رکنین : علاقة بین المشبه والمشبه به ، وقرینة تمنع من إرادة المعنی الأصلی. فإذا اشتهر المجاز وشاع استعماله تناسی الناس أصله ، واختفی رکناه ، واستغنی عنهما وعن اسمه ، ودخل فی عداد نوع جدید یخالفه ، یسمی : «الحقیقة العرفیة» فلو سلّمنا أن حرف الجر لا یؤدی إلا معنی واحدا أصلیّا. وأن ما زاد علیه لیس بأصلی ، لکان بعد اشتهاره وشیوعه فی المعنی الجدید داخلا فی الحقیقة العرفیة. وهی لیست بمجاز فی صورتها الواقعة.
ص: 501
بحث مستقل فی : (مذ) و (منذ) من الوجهتین اللفظیة ، والمعنویة (1)
قال الباحث :
طالما أنعمت النظر فی هاتین الکلمتین ، ورجعت إلی ما دوّنه فیهما النحاة واللغویون. فکنت أجد أحیانا عنتا ومشقة فی استخلاص حکم ، أو تلخیص خلاف ، أو دفع إشکال. ذلک بأن هذه المادة مبعثرة فی الکتب قدیمها وحدیثها ؛ فما فی هذا لیس فی ذاک ، مع کثرة الآراء ، واشتداد الخلاف ، وتباین التفسیرات والشروح.
فما زلت فی مراجعة وبحث ، حتی اجتمع لی من ذلک فصل صالح ، حاولت أن أذلل فیه ما استصعب ، وأن أشرح ما خفی ، بالموازنة والترجیح.
ولا أدعی أنی أحطت بالموضوع جمیعه. فهذا ما لا سبیل إلیه فی وجیز کهذا. ولکننی أرجو أن أکون قد عبّدت الطریق ، ومهدت السبیل للباحثین والمستفیدین. فأقول :
(ا) یقع مذ ومنذ (2) اسمین :
1 - إن کان ما بعدهما اسما مرفوعا ، معرفة ، أو نکرة ، معدودة لفظا أو معنی کما سیأتی.
ص: 502
2 - أو کان ما بعدهما فعلا ماضیا (1).
3 - أو کان ما بعدهما جملة اسمیة.
فالحالة الأولی (وفیها الأسماء المرفوعة نکرة معدودة) ، نحو : ما رأیته مذ أو منذ یومان ، أو عشرة أیام ، أو خمسة عشر یوما ، أو عشرون یوما ، أو مائة یوم ، أو ألف یوم ، أو ألفا یوم ، أو سنة ، أو شهر أو یوم (2). ومثال المعرفة ما رأیته مذ أو منذ یوم الجمعة.
فمذ أو منذ اسم مبتدأ (3). والخبر واجب التأخیر معهما. وجوّز بعضهم أن یکونا خبرین لما بعدهما.
والحالة الثانیة ، نحو : رکب أخی مذ أو منذ حضرت السیارة. فمذ أو منذ
ص: 503
اسم منصوب المحل علی الظرفیة. والعامل فیه (رکب). وهو مضاف إلی الجملة بعده. وهذا هو المشهور. وقیل : هما مبتدآن (1).
والحالة الثالثة نحو :
فما زلت أبغی الخیر مذ أنا یافع
ولیدا وکهلا حیث شبت ، وأمردا
فمذ هنا ظرف لمضمون ما قبله ، ومضاف إلی الجملة بعده ، علی المشهور.
(ب) وتقعان حرفین (2).
1 - بمعنی : (من) الابتدائیة ، إن کان المجرور ماضیا معرفة ؛ نحو : ما قابلت صدیقی مذ أو منذ یوم الأربعاء ، أی : من یوم الأربعاء (3).
2 - بمعنی : (فی) ، إن کان المجرور حاضرا معرفة ، نحو ما قرأت مذ أو منذ الیوم ، أو عامنا ، أو شهرنا ، أو أسبوعنا - أو منذ هذا الأسبوع - أو هذا الشهر ، أو هذه السنة ، مثلا. ولا یجوز فی الحاضر بعدهما إلا الجر عند أکثر العرب.
3 - بمعنی من وإلی معا ، فیدخلان علی الزمان الذی وقع فیه ابتداء الفعل وانتهاؤه. ویشترط حینئذ :
أولا : أن یکون الزمان نکرة ، معدودا لفظا ؛ کمذ یومین.
ثانیا : أو أن یکون معدودا معنی ، کمذ شهر.
ص: 504
لأنهما لا یجان المبهم. أی : ما عملت کذا من ابتداء هذه المدة إلی انتهائها ، وما عملت کذا من ابتداء شهر إلی انتهائه.
والمراد بالمبهم هنا الوقت النکرة غیر المعدودة لفظا أو معنی ، نحو : (برهة) ولا ینافیه قول زهیر بن أبی سلمی :
لمن الدیار بقنّة الحجر
أقوین مذ حجج ومذ دهر (1)
لأن الدهر متعدد فی المعنی (2).
ویأتون بهذا البیت أیضا شاهدا علی قلة الجر بعد (مذ) فی الماضی. أما (منذ) فما بعده یترجح جره فی الماضی (3).
ص: 505
3 - وأنه معین لا مبهم. وقد فسرنا معنی الإبهام آنفا.
4 - وأنه ماض أو حاضر ، لا مستقبل ، لما تقدم.
(ب) وقد رأیت فی عاملهما فی هذه الأحوال الثلاث :
1 - أنه فعل ماض.
2 - وأنه منفی یصح تکرره.
وقد یأتی مثبتا بشرط أن یکون متطاولا ، نحو : سرت منذ یوم الخمیس. والمراد بالتطاول : أن یکون فی طبیعة الحدث معنی الاستمرار کالسیر ، فإن من شأنه التطاول. وکالنوم ، والمشی ، والکلام ؛ وهکذا ... وتوفیة للمقام ، نذکر عبارة الخضری فی هذا الموضوع ، قال :
«شرط عاملهما کونه ماضیا ، إما منفیّا یصح تکرره ، کما رأیته منذ یوم الجمعة ، أو مثبتا متطاولا ، کسرت منذ یوم الخمیس. بخلاف : قتلته ، أو ما قتلته منذ کذا ، فإن قلت : ما قتلت منذ کذا ، بلا هاء ، صح. لأن القتل المتعلق بمعین لا یکرر ، بخلاف غیره. ما لم یتجوز بالقتل عن الضرب. فتدبر». اه.
فقوله : (بخلاف : قتلته ... إلخ) ، کأن تقول مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ یوم الجمعة ، مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی (من) الابتدائیة - وکأن تقول : مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ سنتین ، مثلا. مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی من وإلی معا. فکل هذا غیر جائز.
أقول : فهبنا قلنا مثلا : قتلته مذ أو منذ یومنا ، مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی (فی) - فعلی مقتضی إطلاق کلامهم لا یجوز مثل هذا ، لبقاء السبب ، وهو : عدم تطاول العامل فی حالات الإثبات. ولکنی أری أنه سائغ. إذ ما الذی یمنعنا أن نقول مثلا : قتلته الیوم ، أو فی هذا الیوم الحاضر؟
وواضح أنه یجوز لک أن تقول أیضا : ما قتلت مذ أو منذ یومنا ، وما قتلته
ص: 507
مذ أو منذ یومنا - فکلامهم فی (التطاول) و (صحة التکرر) مجمل یفتقر إلی تفصیل وتوضیح (1).
هذا ، ولم أجد فیما لدیّ من المراجع مثالا للحدث غیر المتطاول إلا (القتل).
وإنی مورد أمثلة له فیما یلی للإیضاح ، لا للحصر فأقول :
أولا : أومض ، أو - ومض - وفسر الزمخشری الإیماض بأنه لمع خفی ، قال : وشمت ومضة برق کنبضة عرق. اه.
فالإیماض غیر متطاول کالقتل ، لأنه عبارة عن لمع خاطف کرجع البصر ، أو نبضة العرق - فلا یصح أن نقول مثلا : ومض البرق مذ أو منذ یوم الخمیس ، أی : من یوم الخمیس. کما لا یجوز أن نقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ لیلتین : من ابتدائهما إلی انتهائهما (2).
ولکن یصح أن تقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ لیلتنا ، أی : فی لیلتنا - کما صح أن تقول مثلا : قتلته مذ أو منذ یومنا ، کما قررته آنفا - کما یصح أن تقول مثلا : ما أومض البرق مذ أو منذ یوم الجمعة ، أی : من یوم الجمعة ، وما أومض البرق منذ أو منذ لیلتنا ، أی : فی لیلتنا ، وما أومض البرق مذ أو منذ لیلتین ، لأن الحدث هنا یصح تکرره.
ثانیا : شرق ، أی بدا وظهر ، یقال : شرقت الشمس ، إذا بدت من المشرق. وکذا القمر ، أو النجم. فالشروق غیر متطاول ، لأنه مجرد الظهور ، وهو ملامسة الأفق. وهو لا یستغرق من الوقت إلا ما لا یکاد یذکر. فلا یقال مثلا فی الإثبات : شرقت الشمس مذ أو منذ ساعتین ، أی : من ابتدائهما إلی انتهائهما. کما أوضحنا مثل هذا من قبل. کما لا یصح أن یقال فی النفی مثلا : ما شرقت الشمس مذ أو منذ دقیقتین (3) ، لأن شروق الشمس لا یمکن تکرره فی
ص: 508
أثناء دقیقتین بالنسبة لأفق واحد. وکذا یقال فی سائر الکواکب ؛ لأنها کلها بحسبان. فهب نجما بعینه یتم دورته فی ثلاث سنین مثلا ، فإنه لا یجوز أن یقال : ما شرق هذا النجم مذ أو منذ ثلاث سنین. لأنه لا یمکن أن یتکرر شروقه فی هذه المدة - ویجوز أن یقال : ما شرق نجم مذ أو منذ ساعتنا. وذلک لأنه شروق متعلق بغیر معین ، فیجوز تکرره.
ولا تقول : شرق هذا النجم ، أو نجم مذ أو منذ السبت - ولکنک تقول فی الإثبات ، علی ما استظهرت آنفا : شرق هذا النجم ، أو نجم ، أو منذ ساعتنا أو لیلتنا ، مثلا.
ثالثا : سنح - قال فی الأساس : من المجاز : سنح له رأی ، أی عرض له. اه ، وفی المصباح : وسنح لی رأی فی کذا : ظهر. وسنح الخاطر به : جاد. اه.
فأنت تری أن عروض الرأی حدث غیر متطاول ، لأنه طروء فاجئ. فإذا حصلت الفکرة فقد انقطع السنوح. وذلک لا یستغرق إلا وقتا یسیرا ؛ لا یمکن أن یوصف بالتطاول. فلا تقول مثلا : سنحت لی فکرة کذا مذ أو منذ یوم الخمیس ، أی : من یوم الخمیس ، ولا : سنحت لی فکرة کذا منذ ساعتین. ولکنک تقول ، علی ما استظهرت آنفا : سنحت لی فکرة کذا منذ یومنا ، أو مذ هذه الساعة ، أو الدقیقة ، مثلا.
وتقول أیضا ، مثلا : ما سنحت لی هذه الفکرة مذ أو منذ ساعتین لأن سنوح فکرة بعینها یمکن تکرره فی أثناء ساعتین - ولکن لا یمکن أن تقول : ما سنحت لی فکرة مذ أو منذ ساعتین ، مثلا : أو مذ أو منذ یومنا. لاستحالة مثل هذا عادة ، فی حال الإنسان الطبیعیة.
فقد رأیت فی الأفعال الثلاثة المتقدمة ، وما فرّعنا علیها من الأمثلة أنها لیست کلها سواء (1). فقد یجوز فی استعمال أحدها مع مذ أو منذ ما لا یجوز فی الآخر. فالمسألة إذا راجعة لمعنی الفعل الخاص عند استعماله مع مذ أو منذ ، فی الإثبات أو النفی ، وما قد یلابسه من تطاول أو تکرر أو عدمهما.
ص: 509
(ج) ما اشترط فی مجرور مذ ومنذ وفی عاملهما ، یشترط فی حالة رفع ما بعدهما.
(د) لا تدخل (من) علی مذ أو منذ ، ولا یصح العکس أیضا.
وقد وقعت (إلی) بعدهما ، حیث لا مانع من وقوعها (1). فقد جاء فی اللسان : قال سیبویه : أما (مذ) فیکون ابتداء غایة الأیام والأحیان. کما کانت (من) فیما ذکرت لک. ولا تدخل واحدة منهما علی صاحبتها. وذلک قولک : ما لقیته مذ یوم الجمعة إلی الیوم ، ومذ غدوة إلی الساعة. وما لقیته مذ الیوم إلی ساعتک هذه. فجعلت الیوم أول غایتک ، وأجریت فی بابها کما جرت (من) حیث قلت : من مکان کذا إلی مکان کذا - وتقول : ما رأیته مذ یومین ، فجعلته (2) غایة ، کما قلت أخذته من ذلک المکان ، فجعلته (3) غایة : ولم ترد منتهی. هذا کله کلام سیبویه. اه عبارة اللسان.
فقد وضع سیبویه (إلی) بعد (مذ). ولم أر ذلک فی أمثلة غیره من النحویین فیما بین یدی من المراجع. أما فی کلام البلغاء فکثیر. ففی کتاب «الأوراق» للصولی ، فی أخبار الراضی بالله : وکان (الراضی) یقول : أنا مذ (4) حبسنی القاهر علیل إلی وقتی هذا. اه ، وفی البخلاء للجاحظ : أعلم أنی منذ یوم ولدتها إلی أن زوجتها ... اه ، إلی غیر ذلک.
وقول سیبویه : (ما رأیته مذ یوم الجمعة إلی الیوم) مذ فیه بمعنی (من). وقوله : (ما لقیته مذ الیوم إلی ساعتک هذه) ، مذ فیه بمعنی (من) الابتدائیة أیضا. لأن عدم اللقاء وقع فی الماضی واتصل بالحال. کما یجوز أن تقول ، فیما أری : ما حدث کذا من الیوم إلی هذه الساعة .
ص: 510
وقوله : (وتقول : ما رأیته مذ یومین ... إلخ) ، یرید من قوله : (فجعلته غایة) ، أی جعلت معنی : (مذ یومین) ابتداء الغایة لانقطاع الرؤیة. وقوله : (ولم ترد منتهی) ، یرید أنک أردت ابتداء الغایة وحدها ، ولم تتعرض للمنتهی - ولکنا رأینا فیما سقناه آنفا لمعنی هذا المثال أنه یتضمن ابتداء الغایة ومنتهاها.
وقوله : (ومذ غدوة إلی الساعة) ، «مذ» فیه بمعنی (من) ، فیجب أن یکون ما بعدها معرفة. فیتعین أن تکون «غدوة» هنا من یوم بعینه. ولإیضاح المقام نورد ما جاء فی اللسان ، قال :
الغدوة ، بالضم ، البکرة ، ما بین صلاة الغداة وطلوع الشمس. وغدوة من یوم بعینه غیر مجراة (1) ، علم للوقت ... وفی التهذیب : وغدوة - معرفة - لا تصرف. قال النحویون : إنها لا تنون ، ولا یدخل فیها الألف واللام ... ویقال : أتیته غدوة ، غیر مصروفة ، لأنها معرفة ؛ مثل : سحر. إلا أنها من الظروف المتمکنة. تقول : سیر علی فرسک غدوة وغدوة وغدوة وغدوة ، فما نوّن من هذه فهو نکرة ، وما لم ینوّن فهو معرفة. والجمع غدا (2). اه ، ونحوه فی الصحاح.
وإذا رجعنا إلی عبارة اللسان هذه نجده یقول : (... لأنها «أی : غدوة» معرفة ، مثل سحر ، إلا أنها من الظروف المتمکنة) (3) ...
فیلخص مما مر من الکلام علی «غدوة وسحر» أنهما یجتمعان فی الامتناع من الصرف ، إذا أریدا من یوم بعینه. فأما (سحر) فلأنه معدول عن الألف
ص: 511
واللام. وأما غدوة فللعلمیة والتأنیث. کما یجتمعان فی أنهما کلیهما من الظروف المتصرفة إذا لم یرادا من یوم بعینه.
ویفترقان فی أن (سحر) غیر متصرف إذا أرید من یوم بعینه. فلا یرفع علی الابتداء أو الخبر مثلا ، کأن تقول : سحر جمیل ، أو هذا سحر - ولکنک تقول مثلا : بین أسحار الأسبوع الماضی سحر جمیل. بخلاف غدوة ، فإنها متصرفة ، ولو أریدت من یوم بعینه. فتقول مثلا : غدوة جمیلة. کما تقول : کان بین غدا هذا الأسبوع غدوة جمیلة.
وقال الأشمونی : (ثم الظرف المتصرف منه منصرف نحو ... ومنه غیر منصرف ، وهو غدوة ، وبکرة ، علمین لهذین الوقتین) فقال الصبان : «قوله علمین لهذین الوقتین» ، أی : علمین جنسیین ، بمعنی أن الواضع وضعهما علمین جنسیین لهذین الوقتین ، أعمّ من أن یکونا من یوم بعینه أولا. اه.
وإنما أطلنا القول فی (غدوة) و (سحر) ، وأکثرنا من الأمثلة فیهما ، لما یغشاهما من الإجمال والإبهام فی کلام اللغویین والنحویین ، حتی إن العلامة الصبان علی جلال قدره أشکل علیه الأمر فی (سحر). وإلیک البیان :
فقد قال الأشمونی : والظرف غیر المتصرف ، منه منصرف وغیر منصرف. فالمنصرف نحو : سحر ، ولیل ، و... غیر مقصود بها کلها التعیین. اه.
فقال الصبان : فیه أن سحرا ... متصرفة. ومن خروج سحر عن الظرفیة وشبهها قوله تعالی : (نَجَّیْناهُمْ بِسَحَرٍ.) فکیف جعلها من غیر المتصرف. اه.
وقد مر بک ردّ العلامة الخضری علیه ، (فراجعه فی رقم 2 من هامش ص 506).
(ه) قد تقدم (1) أنهم جوزوا أن یقال مثلا : ما قابلته مذ أو منذ دهر ، أو شهر ، علی أن یکون مذ أو منذ بمعنی من وإلی معا. لأن الدهر والشهر فی حکم المعدود.
فیظهر علی هذا أنه یجوز أن یقال أیضا : ما قابلته مذ أو منذ زمن ، لأن الدهر من معانیه الزمن ، فقد جاء فی المصباح : الدهر یطلق علی الأبد. وقیل :
ص: 512
هو الزمان قل أو کثر. وقال الأزهری : والدهر عند العرب یطلق علی الزمان ، وعلی الفصل من فصول السنة ، وأقل من ذلک. اه.
ولکن بعض العلماء یعدون (الزمن) أو (الزمان) من المبهم. فقد جاء فی حاشیة العلامة الخضری علی ابن عقیل ما یأتی : وشرط الزمان المجرور بهما کونه متعینا لا مبهما ، کمنذ زمن. اه. ولکن جاء فی الأشمونی أن (بعضهم یقول : مذ (1) زمن طویل) ، فلعله یعتبر الوصف نوعا من التعیین.
وکما یقال : مذ أو منذ دهر ، یقال أیضا : مذ أو منذ أدهر ، أو دهور (2) ، ومذ أو منذ أزمن ، أو أزمان ، أو أزمنة - قال : (وربع عفت آیاته منذ أزمان (3)).
وکذا یقال : مذ أو منذ حقب ، أو حقوب ، أو حقب ، أو حقب (4) أو حقاب ، أو أحقاب - إلی غیر ذلک من کل متعدد لفظا ، أو ما هو فی حکم المتعدد.
ولیت شعری هل قال العرب مثلا : مذ أو منذ دهرین ، أو زمنین ، أو حقبین کما جمعوا ، فقالوا : أحقاب وأزمان ، مثلا؟ الظاهر أنهم لم یقولوا ذلک ، اکتفاء بالجمع عند المبالغة. علی أن تثنیته لا مانع منها صناعة.
(و) یظهر أن ابن هشام لا یشترط التعریف فی مجرور (مذ) و (منذ) ، إذا کانا بمعنی (من). فیقول فی التوضیح : (ومعنی مذ ومنذ ابتداء الغایة ، إن کان الزمان ماضیا ، کقوله : «أقوین مذ حجج ومذ دهر» ، وقوله : «وربع عفت آیاته منذ أزمان». فأقره شارحه الشیخ خالد بن عبد الله الأزهری. فقال بعد «أقوین إلخ» : من حجج. وقال بعد : «وربع إلخ» : أی : من أزمان).
ص: 513
وقد رأیت فیما ذکرناه آنفا أن مذ ومنذ ، إذا کانا بمعنی (من) ، کان مجرورهما معرفة. فقد قال ابن عقیل : (وإن وقع ما بعدهما مجرورا فهما حرفا جرّ بمعنی «من» ، إن کان المجرور ماضیا) ، فقال العلامة الخضری : «قوله بمعنی من» ، أی : البیانیة (1) هذا إذا کان المجرور معرفة کمثاله ، فإن کان نکرة فهما بمعنی (من) و (إلی) معا. ولا تکون النکرة إلا معدودة لفظا ، کمذ یومین ، أو معنی ، کمذ شهر ، لما مر من أنهما لا یجران المبهم. اه - ونحو ذلک فی الأشمونی ، قال : ... ثم إن کان ذلک (فی مضیّ فکمن هما) فی المعنی ، نحو : ما رأیته مذ یوم الجمعة. اه.
ویتضح من ذلک أن فی الموضوع مذهبین : أحدهما یشترط تعریف مجرور مذ ومنذ إذا کانا بمعنی (من) ، مع مضیّ الزمن. والثانی لا یشترط غیر مضی الزمن (2).
(ز) قال العلامة الشیخ یاسین بن زین الدین العلیمی الحمصی فی حاشیته علی شرح التوضیح ، عند قول المتن : (أحدهما أن یدخلا علی اسم مرفوع ، نحو : ما رأیته مذ یومان) ، ما یأتی : «قوله مذ یومان» ، قال الزرقانی : قال الرضی : قال الأخفش : لا تقول : ما رأیته مذ یومان وقد رأیته أمس - ویجوز أن یقال : ما رأیته مذ یومان ، وقد رأیته أوّل من أمس - أما إذا کان وقت التکلم آخر الیوم فلا شک فیه ، لأنه یکون قد تکمّل لانتفاء الرؤیة یومان ... قال : ویجوز أن یقال فی یوم الاثنین مثلا : ما رأیته منذ یومان : وقد رأیته یوم الجمعة ولا تعتدّ بیوم الإخبار ولا یوم الانقطاع. قال : ویجوز أن تقول : ما رأیته منذ یومان ، وأنت لم تره منذ عشرة أیام. قال : لأنک تکون قد أخبرت عن بعض ما مضی - أقول : وعلی ما بینا ، وهو أن منذ لا بد فیه من معنی الابتداء فی جمیع مواقعه ، لا یجوز ذلک (3).
ص: 514
وقال : إنهم یقولون : منذ الیوم ولا یقولون : منذ الشهر ؛ ولا : منذ السنة. ویقولون : منذ العام. قال : وهو علی غیر القیاس - قال : ولا یقال : منذ یوم ، استغناء بقولهم : منذ أمس - ولا یقولون : منذ الساعة ، لقصرها - فإن کان جمیع ما قاله مستندا إلی السماع فبها ونعمت. وإلا فالقیاس جواز الجمیع. والقصر لیس بمانع. لأنه جوز : (منذ أقل من ساعة). اه. المراد من کلام الشیخ یاسین.
أقول : قد أسلفنا القول فی امتناع أن یقال مثلا : ما رأیته مذ أو منذ یوم ، لا لتلک العلة التی نقلها یاسین عن الأخفش ، بل لأن منذ ومذ لا یجران إلا النکرة المعدودة ، أو التی فی حکم المعدودة ، إذا کانا بمعنی من وإلی معا.
وقوله : (ولا یقولون : منذ الساعة ، لقصرها) ، هذا هو أحد معانیها ، وهو الوقت القلیل. فقد جاء فی اللسان : والساعة الوقت الحاضر ... والساعة فی الأصل تطلق بمعنیین : أحدهما أن تکون عبارة عن جزء من أربعة وعشرین جزءا ، هی مجموع الیوم واللیلة. والثانی أن تکون عبارة عن جزء قلیل من النهار أو اللیل. یقال : جلست عندک ساعة من النهار ، أی وقتا قلیلا منه. اه.
فإذا قلت مثلا ، علی القول بالجواز : طار العصفور مذ أو منذ الساعة ، فمعنی مذ أو منذ هنا (فی) ، أی : طار فی هذا الوقت الحاضر. وهذا واضح ، کما قال یس. والقصر لیس بمانع.
وأما ما قاله یاسین من أنه جوّز أن یقال : منذ أقل من ساعة ، فمعناه : منذ وقت أقل من ساعة. فمنذ فیه بمعنی (من) (علی رأی ابن هشام ومن تابعه ، کما قررنا فی «و»). فتقول مثلا : حضر فلان مذ أو منذ أقل من ساعة ، أی : من زمن وجیز.
بقی المعنی الثانی للساعة ، وهی أنها جزء من أربعة وعشرین جزءا هی مجموع الیوم واللیلة. فهذه الساعة محدودة ، لأنها مقسمة أیضا أقساما متساویة ؛ هی الدقائق الفلکیة. والقصر الذی هو علة المنع فیما قال الأخفش ، منتف فیها.
ص: 515
فتقول مثلا : ما کتبت مذ أو منذ الساعة ، أی : فی هذا الوقت المقدّر بستین دقیقة. کما تقول مثلا : کتبت مذ أو منذ الساعة ، فی الإثبات لأن الفعل متطاول - هذا ما نستظهره.
(ح) وهناک موضوع له شبه واتصال بما قررنا فی الفقرة السابقة. ذلک أنا قلنا آنفا : إن (یوما) من المبهم ؛ فلا یجوز : مذ أو منذ یوم. فهذا ما مثل به النحاة. ففی الصبان عند قول الأشمونی : (فإن کان المجرور بهما نکرة ... إلخ ما یأتی : «قوله نکرة» ، أی معدودة ، إذ لا یجوز : منذ یوم). اه. والظاهر أن النحاة لم یدخلوا (الیوم) فی باب ما هو فی حکم المعدود ، وألحقوه بالمبهم ، لاختلاف اللغویین فی معناه. فمنها أنه من طلوع الشمس إلی غروبها ، ومنها أنه مطلق الزمان ، إلی غیر ذلک.
وأما المعنی الآخر الذی نقلناه عن اللسان فیما تقدم ، فقد حدث فی الحضارة الإسلامیة. وهو فی حکم المعدود. ذلک أن تقول مثلا : ما کلمته مذ أو منذ یوم ، کما لک أن تقول : مذ أو منذ لیلة ، لهذا الاعتبار ، کما قالوا : مذ أو منذ شهر ، أو سنة.
وکذلک یقال فی الساعة والدقیقة الفلکیتین. فنقول مثلا : قرأ القارئ مذ أو منذ ساعة ، ما قرأ منذ أو مذ ساعة. وکلمنی صدیقی مذ أو منذ دقیقة ، قیاسا سائغا لا غبار علیه.
وقد خطر لی وأنا أکتب هذا ، لفظ : هنیهة أو هنیّة. ففی المصباح : الهن - خفیف النون - کنایة عن کل اسم جنس. والأنثی : هنة ؛ ولامها محذوفة. ففی لغة هی هاء ؛ فیصغر علی : هنیهة. ومنه یقال : سکت هنیهة أی : ساعة لطیفة. وفی لغة هی : واو ، فیصغر فی المؤنث علی : هنیّة. وجمعها [أی : هنة] هنوات. وربما جمعت علی هنات ، علی لفظها ، مثل عدات - وفی المذکر : هنیّ. اه.
وإنما تعرضت لهذه الکلمة ، لکثرة دورانها علی الألسن والأقلام فی مختلف شئون الحیاة. فهی لیست من المعدود لفظا أو حکما. ولا یمکن ضبطها بقیاس.
ص: 516
ومثل هنیهة أو هنیّة : «لحظة» ، للزمان الیسیر - ففی الأساس : وفعل ذلک فی لحظة. اه. وفی شرح القاموس : ومما یستدرک علیه : اللّحظة المرة من اللّحظ ویقولون : جلست عنده لحظة ، أی : کلحظة العین (1) ، ویصغرونه لحیظة. والجمع لحظات. اه.
وهذه الکلمة أیضا شائعة جدّا. وحکمها حکم الهنیهة أو الهنیّة ، لما قررنا من انبهامها ، وأنها لیست من المعدود ولا ما هو فی حکمه. وهل ثنّوا هنیهة أو هنیّة (للوقت الیسیر) ، ولحظة ، فقالوا مثلا : جلس هنیهتین أو هنیتین؟ لعلهم لم یفعلوا. لأنه لا معنی لقولک مثلا : جلست وقتین لطیفین (2). ولو أنهم فعلوا لجاز ؛ نحو قولک : جلست مذ أو منذ لحظتین أو هنیهتین ، کما تقرر آنفا.
وهل جمعوا هنیهة أو هنیّة (للوقت الیسیر) ، فقالوا مثلا : جلس هنیهات ، أو هنیّات. الغالب أنهم لم یفعلوا ، علی ما وصل إلیه اطلاعی. ولو أنهم فعلوا لجاز أن تقول مثلا : جلست أو ما جلست عنده مذ أو منذ هنیهات.
أما اللحظة فلعلهم لم یثنوها. والغالب أنهم جمعوها.
علی أن تثنیة کل أولئک وجمعه جائز صناعة فلا کلام فی هذا (3).
(ط) وقد کنت أرجع فی أثناء کتابة هذه العجالة إلی شرح الإمام موفق الدین أبی البقاء یعیش بن علی بن یعیش النحوی المتوفی سنة 643 ه. لمفصل الزمخشری - ورجعت أیضا إلی شرح کتاب سیبویه للإمام أبی سعید الحسن
ص: 517
ابن عبد الله بن المرزبان السیرافی المتوفی 368 ه ، فوجدت فیهما تعلیقات طریفة تتصل بموضوع هذا البحث. آثرت أن أتحف القارئ بنتف منهما ، لیری کیف کان یکتب هذان الإمامان ، ولتکمل بها الفائدة.
قال الإمام ابن یعیش :
(1)وأما الفرق بینهما [أی : «مذ ومنذ» الحرفیتین والاسمیتین] من جهة المعنی ، فإن «مذ» إذا کانت حرفا دلت علی أن المعنی - الکائن فیما دخلت علیه ، لا فیها نفسها ، نحو قولک : زید عندنا مذ شهر ؛ علی اعتقاد أنها حرف ، وخفض ما بعدها. فالشهر هو الذی حصل فیه الاستقرار فی ذلک المکان ، بدلالة مذ علی ذلک.
وأما إذا کانت اسما ورفعت ما بعدها ، دلت علی المعنی الکائن فی نفسها. نحو قولک : ما رأیته مذ یوم الجمعة. فالرؤیة متضمنة «مذ» وهو الوقت الذی حصلت فیه الرؤیة ، وهو یوم الجمعة. کأنک قلت : الوقت الذی حصلت (1) فیه الرؤیة یوم الجمعة. اه.
وقال :
(2)
والصواب ما ذهب إلیه البصریون من أن ارتفاعه بأنه خبر. والمبتدأ منذ ومذ. فإذا قلت : ما رأیته منذ یومان ، کأنک قلت : ما رأیته مذ ذلک یومان. فهما جملتان ، علی ما تقدم. وإنما قلنا : إن «مذ» فی موضع مرفوع بالابتداء ، لأنه مقدّر بالأمد. والأمد لو ظهر لم یکن إلا مرفوعا بالابتداء. فکذلک ما کان فی معناه. اه.
وقال :
(3)
وله [مذ أو منذ] فی الرفع معنیان : تعریف ابتداء المدة ، من غیر تعرض إلی الانتهاء. والآخر تعریف المدة کلها.
ص: 518
فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة ، نحو قولک ، ما رأیته مذ یوم الجمعة ونحوه ، کان المقصود به ابتداء غایة الزمان الذی انقطعت فیه الرؤیة وتعریفه. والانتهاء مسکوت عنه. کأنک قلت : وإلی الآن. ویکون فی تقدیر جواب (متی).
وإذا وقع بعده نکرة ، نحو : ما رأیته منذ یومان ، ونحو ذلک ، کان المراد منه انتظام المدة کلها ، من أولها إلی آخرها ، وانقطاع الرؤیة فیها کلها.
فإن خفضت ما بعدهما ، معرفة کان أو نکرة ، کان المراد الزمان الحاضر ، ولم تکن الرؤیة قد وقعت فی شیء منه. اه.
ویظهر أن أبا البقاء أراد بالمعرفة فی قوله : (فإن خفضت ما بعدها ... إلخ) نحو یومنا أو الیوم ، فی قولک مثلا : ما رأیته مذ أو منذ یومنا ، أو الیوم.
ولم یرد نحو قولک : ما رأیته مذ أو منذ یوم الأربعاء (1) ، أی من یوم الأربعاء ، کما تقدم. وذلک لأن أبا البقاء یرفع (یوم) فیه وجوبا. بدلیل قوله آنفا فی فقرة (3) : (فإذا وقع الاسم بعدها معرفة ، نحو قولک : ما رأیته مذ یوم الجمعة ... إلخ).
أما الدلالة علی الزمن الحاضر فی حال جر مذ ومنذ للنکرة ، فقد سلف لک أنک إذا قلت مثلا : ما کلمته مذ أو منذ شهرین (مما هو معدود) ، أو شهر (مما هو فی حکم المعدود) ، کان المعنی أن الحدث انتفی من ابتداء هذه المدة إلی انتهائها. فأنت إذ تقول مثلا : ما کلمته مذ أو منذ شهر ، تتکلم فی نهایة الشهر. أی : ما وقع الکلام فی هذا الشهر الحاضر ، من أوله إلی آخره.
هذا شرح الفقرة الأخیرة من کلام أبی البقاء ، کما قدرت أن أوجهها.
وقال الإمام السیرافی :
1- اعلم أن منذ ومذ جمیعا فی معنی واحد. وهما یکونان اسمین وحرفین ، غیر أن الغالب علی منذ أن تکون حرفا ، وعلی مذ أن تکون اسما. اه.
ص: 519
2- ... تقول : ما رأیته منذ یوم الجمعة ، وما رأیته منذ الیوم. وإذا قلت : ما رأیته منذ یوم الجمعة : کان معناه : انقطعت رؤیتی له من یوم الجمعة. فکان یوم الجمعة لابتداء غایة انقطاع الرؤیة. فمحل ذلک من الزمان کمحل (من) فی المکان ، إذا قلت : ما سرت من بغداد ، أی : ما ابتدأت السیر من هذا المکان. فکذلک : ما وقعت رؤیتی علیه من هذا الزمان. اه.
3-... وتقول : ما رأیته مذ یوم الجمعة ، وما رأیته مذ السبت ... فإن قال قائل : فما حکم «مذ» فی هذا الوجه ، وتقدیرها؟ قیل له : حکمها أن تکون اسما ، وتقدیرها أن تکون مبتدأة ، ویکون ما بعدها خبرها. کأنک قلت : ما رأیته ، مدة ذلک یوم السبت. فیکون علی کلامین ... وذلک أنک إذا قلت : ما رأیته مذ یوم الجمعة فإنما معناه : انقطاع رؤیتی له ابتداؤه یوم الجمعة ، وانتهاؤه الساعة. فتضمنت (من) معنی الابتداء والانتهاء.
وإذا قلت ما رأیته مذ الیوم ، فلیس فیه إلا معنی ابتداء الغایة وانقطاعها. وهو (فی) معنی ، وانخفض ما بعدها. اه.
4- ... وذلک أنک إذا قلت : لم أره مذ یومان ، أو مذ شهران ، أو نحو ذلک ، مما یکون جوابا لکم ، فتقدیره : لم أره وقتا مّا. ثم فسرت ذلک فقلت : أمد ذلک شهران ، أو مدة ذلک شهران. فقولک مذ شهران جملة ثانیة هی تفسیر للوقت المبهم فی الجملة الأولی. فهذا أحد تقدیری مذ إذا رفعت ما بعدها.
والتقدیر الآخر أن تقول : ما رأیته مذ یوم الجمعة فیکون تقدیره : فقدت رؤیته وقتا ما ، أوله یوم الجمعة فمذ فی هذین الوجهین بمنزلة اسم مضاف : إما علی تقدیر : أمد ذلک ، أو أول ذلک. اه.
ص: 520
5- تکمیل
وفی المخصص : قال سیبویه : سألت الخلیل رحمه الله عن قولهم ؛ مذ عام أوّل (1) ، ومذ عام أوّل. فقال : أول : ها هنا صفة. وهو أول من عامک. ولکن ألزموه ها هنا الحذف استخفافا. فجعلوا هذا الحرف بمنزلة (أفضل منک) قال : وسألته رحمه لله عن قول العرب ، وهو قلیل : مذ عام أوّل. فقال : جعلوه ظرفا فی هذا الموضع ، وکأنه قال : مذ عام قبل عامک. اه.
* * *
قال الباحث : إلی هنا وقف القلم ، وفی النفس شوق إلی المزید ، وتطلع إلی الاستیفاء. ولعلی أکون قد وفقت إلی ما أردت من توضیح وتسهیل. والله تعالی المستعان.
ص: 521
أقوال العلماء فی التضمین
قال أبو البقاء فی کتابه «الکلیات» : التضمین : هو إشراب معنی فعل لفعل ، لیعامل معاملته. وبعبارة أخری : هو أن یحمل اللفظ معنی غیر الذی یستحقه بغیر آله ظاهرة.
ثم قال : قال بعضهم : التضمین هو أن یستعمل اللفظ فی معناه الأصلی ، وهو المقصود أصالة ، لکن قصد تبعیة معنی آخر یناسبه من غیر أن یستعمل فیه ذلک اللفظ ، أو یقدر له لفظ آخر ، فلا یکون التضمین من باب الکنایة ، ولا من باب الإضمار ، بل من قبیل الحقیقة التی [فیها] قصد بمعناه الحقیقی معنی آخر یناسبه ویتبعه فی الإرادة.
وقال بعضهم : التضمین إیقاع لفظ موقع غیره لتضمنه لمعناه ، وهو نوع من المجاز. ولا اختصاص للتضمین بالفعل ، بل یجری فی الاسم أیضا. قال التفتازانی فی تفسیر قوله تعالی : (وَهُوَ اللهُ فِی السَّماواتِ وَفِی الْأَرْضِ:) لا یجوز تعلقه بلفظة : الله ، لکونه اسما لا صفة. بل هو متعلق بالمعنی الوصفی الذی ضمنه اسم الله ، کما فی قولک : هو حاتم من طیئ ، علی تضمین معنی : الجواد.
ص: 522
وجریانه فی الحرف ظاهر فی قوله تعالی : (ما نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ،) فإن «ما» تتضمن معنی «إن» الشرطیة. ولذلک جزم الفعل.
وکل من المعنیین مقصود لذاته فی التضمین ، إلا أن القصد إلی أحدهما - وهو المذکور بذکر متعلقه - یکون تبعا للآخر وهو المذکور بلفظه ، وهذه التبعیة فی الإرادة من الکلام ، فلا ینافی کونه مقصودا لذاته فی المقام. وبه یفارق التضمین الجمع بین الحقیقة والمجاز ، فإن کلا من المعنیین فی صورة الجمع مراد من الکلام لذاته ، مقصود فی المقام أصالة ، ولذلک اختلف فی صحته مع الاتفاق فی صحة التضمین.
والتضمین سماعی لا قیاسی ، وإنما یذهب إلیه عند الضرورة. أما إذ أمکن إجراء اللفظ علی مدلوله فإنه یکون أولی. وکذا الحذف والإیصال ، لکنهما لشیوعهما صارا کالقیاس ، حتی کثر للعلماء التصرف والقول بهما فیما لا سماع فیه. ونظیره ما ذکره الفقهاء من أن ما ثبت علی خلاف القیاس إذا ما کان مشهورا یکون کالثابت بالقیاس فی جواز القیاس علیه.
وجاز تضمین اللازم المتعدی ؛ مثل : «سفه نفسه» فإنه متضمن لأهلک.
وفائدة التضمین هی أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین ، فالکلمتان مقصودتان معا قصدا وتبعا ، فتارة یجعل المذکور أصلا والمحذوف حالا ، کما قیل فی قوله تعالی : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) کأنه قیل : ولتکبروا الله حامدین علی ما هداکم ، وتارة بالعکس ، کما فی قوله تعالی : (وَالَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ) أی : یعترفون به مؤمنین.
ومن تضمین لفظ معنی آخر قوله تعالی : (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ،) أی : لا تفتهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم. (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : لا تضموها آکلین. (مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللهِ،) أی : من ینضاف فی نصرتی إلی الله. (هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی،) أی : أدعوک وأرشدک إلی أن تزکی : (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ،) أی : فلن تحرموه ، فعدی إلی اثنین. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ،) أی : لا تنووه ، فعدی بنفسه لا بعلی. (لا یَسَّمَّعُونَ إِلَی الْمَلَإِ الْأَعْلی،) أی : لا یصغون ، فعدی بإلی ، وأصله یتعدی بنفسه. ونحو : «سمع
ص: 523
الله لمن حمده» ، أی : استجاب ، فعدی باللام. (وَاللهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أی : یمیز.
ومن هذا الفن فی اللغة شیء کثیر لا یکاد یحاط به.
ومن تضمین لفظ لفظا آخر قوله تعالی : (هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیاطِینُ) إذ الأصل : أمن. حذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال علی حذفه کما فی «هل» فإن الأصل أهل؟ فإذا أدخلت حرف الجر فقدر الهمزة قبل حرف الجر فی ضمیرک ؛ کأنک تقول : أعلی من تنزل الشیاطین ، کقولک : أعلی زید مررت. وهذا تضمین لفظ لفظا آخر(1).
لقد ذکر أبو البقاء عن بعض العلماء أن التضمین لیس من باب الکنایة ، ولا من باب الإضمار ، بل من باب الحقیقة ، إذ قصد بمعناه الحقیقی معنی آخر یناسبه ویتبعه فی الإرادة.
ویؤخذ من هذا أنه لا بد من المناسبة ، وإنما یعرف المناسبة أهل العربیة الذین لهم درایة بالعربیة وأسرارها.
وذکر عن بعضهم أن التضمین إیقاع لفظ موقع غیره. لتضمنه معناه. وهو نوع من المجاز.
وقال : التضمین سماعی لا قیاسی ، وإنما یذهب إلیه عند الضرورة. أما إذا أمکن إجراء اللفظ علی مدلوله ، فإنه یکون أولی.
وذکر أمثلة لتضمین لفظ معنی لفظ آخر. ثم قال : «ومن هذا الفن فی اللغة شیء کثیر لا یکاد یحاط به».
ویؤخذ من هذا أن التضمین قیاسی.
* * *
وقال ابن هشام فی المغنی : قد یشربون لفظا معنی لفظ فیعطونه حکمه ، ویسمی ذلک تضمینا. وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین. قال الزمخشری : ألا تری کیف رجع معنی (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) إلی قولک : ولا تقتحمهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم. و (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : ولا تضموها آکلین لها.
ص: 524
قال الدسوقی : قوله یشربون لفظا معنی لفظ ، هذا ظاهر فی تغایر المعنیین ، فلا یشمل نحو : (وقد أحسن بی) ، أی : لطف ، فإن اللطف والإحسان واحد.
فالأولی أن التضمین إلحاق مادة بأخری لتضمنها معناها ولو فی الجملة ، أعنی باتحاد أو تناسب. قوله : «أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین» : ظاهر فی أن الکلمة تستعمل فی حقیقتها ومجازها. ألا تری أن الفعل من قوله تعالی : (لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ضمن معنی : یمتنعون من نسائهم بالحلف ، ولیس حقیقة الإیلاء إلا الحلف ، فاستعماله فی الامتناع من وطء المرأة إنما هو بطریق المجاز ، من باب إطلاق السبب علی المسبب ؛ فقد أطلق فعل الإیلاء مرادا به ذانک المعنیان جمیعا ، وذلک جمع بین الحقیقة والمجاز بلا شک. وهو ، أی : الجمع المذکور إنما یتأتی علی قول الأصولیین : إن قرینة المجاز لا یشترط أن تکون مانعة. أما علی طریقة البیانیین من اشتراط کونها مانعة من إرادة المعنی الحقیقی ، فقیل إن التضمین حقیقة ملوحة لغیرها.
وقدر (السعد) العامل مع بقاء الفعل مستعملا فی معناه الحقیقی ، فالفعل المذکور مستعمل فی معناه الحقیقی ، مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة. فقولنا أحمد إلیک فلانا ، معناه : أحمده منهیّا إلیک حمده. ویقلب کفیه علی کذا : أی. نادما علی کذا. فمعنی الفعل المتروک وهو المضمن معتبر علی أنه قید لمعنی الفعل المذکور.
وزعم بعضهم أن التضمین بالمعنی الذی ذکره (السعد) - وهو جعل وصف الفعل المتروک حالا من فاعل المذکور - یسمی تضمینا بیانیّا ، وأنه مقابل للنحوی (1).
وقیل إن التضمین من باب المجاز ، ویعتبر المعنی الحقیقی قیدا ، وهذا هو الذی اعتبره الزمخشری. فعلی مذهب السعد یقال : ولا تأکلوا أموالهم ضامّیها إلی أموالکم. وعلی مذهب الزمخشری نقول ولا تضموها إلیها آکلین.
وقیل التضمین من الکنایة ، أی لفظ أرید به لازم معناه.
ص: 525
فالأقوال خمسة ، وانظر ما بیان صحة الأخیر منها. تأمل. اه. تقریر الدردیر.
وقال الأمیر : قوله : «وفائدته إلخ» ظاهر فی الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وقیل مجاز فقط ، وقیل حقیقة ملوحة بغیرها.
وقدر «السعد» العامل ، فزعم بعضهم أنه تضمین بیانی مقابل للنحوی. قول ابن هشام «قد یشربون لفظا معنی لفظ» لا یخفی أن «قد» فی عرف المصنفین للتقلیل کما سیأتی. وعلی ذلک یکون التضمین قلیلا. ولکنه سیذکر فی آخر الموضوع عن ابن جنی أنه کثیر ، حتی قال الدسوقی : هذا ربما یؤید القول بأن التضمین قیاسی.
وقد أشار الدسوقی إلی أن قول ابن هشام : «وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین» ظاهر فی أن الکلمة تستعمل فی حقیقتها ومجازها. والجمع بین الحقیقة والمجاز إنما یتأتی علی قول الأصولیین إن قرینة المجاز لا یشترط أن تکون مانعة ، أما علی قول البیانیین یشترط أن تکون القرینة مانعة ، فقیل التضمین حقیقة ملوحة لغیرها. وقدر السعد العامل مع بقاء الفعل مستعملا فی معناه الحقیقی إلخ ما تقدم.
وقیل : التضمین من باب المجاز ، وقیل من باب الکنایة ، وسیأتی شرح المذاهب فی ذلک.
وذکر یاسین علی التصریح أن التضمین سماعی کما هو المختار.
ثم قال : واعلم أن کلام المصنف فی المغنی فی تقریره التضمین فی مواضع یقتضی أن أحد اللفظین مستعمل فی معنی الآخر ؛ لأنه قال فی (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ،) أی : فلن تحرموه. وفی (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ) أی : لا تنووا. وحینئذ فمعنی قوله : إنه إشراب لفظ معنی آخر ، أن اللفظ مستعمل فی معنی الآخر فقط. فإن هذا هو الموافق لذلک التقریر ، وإن احتمل أنه مستعمل فی معناه ومعنی الآخر.
وقول ابن جنی فی الخصائص : إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفین (1)
ص: 526
موقع الآخر ، إیذانا بأن هذا الفعل فی معنی ذلک الآخر ، فلذلک جیء معه بالحرف المعتاد ، مع ما هو بمعناه - صریح فی أنه مستعمل فی معنی الآخر فقط.
وعلی هذا فالتضمین مجاز مرسل ، لأنه استعمال اللفظ فی غیر معناه لعلاقة بینهما وقرینة ، کما سیتضح ذلک. وهذا أحد أقوال فیه.
وقیل إن فیه جمعا بین الحقیقة والمجاز ، لدلالة المذکور علی معناه بنفسه ، وعلی معنی المحذوف بالقرینة.
وهذا إنما یقول به من یری جواز الجمع بین الحقیقة والمجاز. وهو ظاهر قول المغنی «إن فائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین». فظاهر تعریفه مخالف لما ذکره من فائدته. فلیتنبه لذلک.
وعلی هذا القول جری سلطان العلماء العز بن عبد السّلام ، فقال فی کتاب «مجاز القرآن» :
«الفصل الثانی والأربعون فی مجاز التضمین ، وهو أن یضمن اسم معنی اسم لإفادة معنی اسمین ، فتعدیه تعدیته فی بعض المواضع ، کقوله : (حَقِیقٌ عَلی أَنْ لا أَقُولَ عَلَی اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) فیضمن : خ خ حقیق معنی : خ خ حریص ، لیفید أنه محقوق بقول الحق ، وحریص علیه. ویضمن فعل معنی فعل ، فتعدیه أیضا تعدیته فی بعض المواضع کقول الشاعر : خ خ قد قتل الله زیادا عنی ، ضمن : قتل ، معنی : صرف ، لإفادة أنه صرفه حکما بالقتل ، دون ما عداه من الأسباب ، فأفاد معنی القتل والصرف جمیعا». اه ، المقصود منه.
وفیه تصریح بأن التضمین یجری فی الأسماء بل صدر به.
وقول المغنی «إشراب لفظ» یشملها.
فاقتصار (السعد) و (السید) علی بیانه فی الأفعال ، جار مجری التمثیل لا التقیید. ودعوی أصالته فی الأفعال مجردة عن الدلیل.
وقیل إن المذکور مستعمل فی حقیقته ، لم یشرب معنی غیره ، وعلیه جری صاحب الکشاف. وعجیب للمصنف فی المغنی حیث نقل کلامه بعد تعریف التضمین بما مر ، فأوهم أنه یری بما یقتضیه ذلک التعریف فتفطن له. وقال السعد
ص: 527
فی تقریر کلام الکشاف ، وبیان أنه لا یری أن فی التضمین مجازا ، ولا الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وأنه مع استعماله فی المذکور یدل علی المحذوف ما نصه :
حقیقة التضمین أن یقصد بالفعل معناه الحقیقی مع فعل آخر یناسبه. ثم قال : إن الفعل المذکور مستعمل فی معناه الحقیقی مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة ، نحو : أحمد إلیک فلانا ، معناه أحمده منهیّا إلیک حمده.
وقد یعکس ، کما یقال فی (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) یعترفون به مؤمنین.
وفی قوله «مع فعل آخر» حذف مضاف أی مع حذف فعل.
فإن قلت : المناسبة إنما هی بین الفعل المحذوف ومتعلقه المذکور لا بین الفعلین ، قلت : لا بد من المناسبة بینهما ، فلا یقال : ضربت إلیک زیدا ، أی منهیّا إلیک ضربه ؛ ولا تکفی القرینة.
واعترض علیه بأن فی کلامه تناقضا ، لأن قوله : «مع فعل آخر یناسبه» غیر ملائم لقوله : «مع حذف حال» ، فإن الثانی یدل علی أن المحذوف اسم هو حال ، لا فعل ، بخلاف الأول.
وأجیب بأن فی کلامه تغلیبا وإطلاقا للفعل علیه وعلی الاسم ، أو أراد بالفعل معناه اللغوی ، وکذا فی قوله : «أن یقصد بالفعل» ولا یخفی سقوطه علی هذا الکلام وبعده عن المرام.
وذلک أن الداعی للسعد علی ما قاله ، الفرار من الجمع بین الحقیقة والمجاز. والأصل تضمین الفعل لمثله ، فالملاحظة فی تضمین المذکور مثله ، وأشیر بالحال عند بیان المعنی إلی ذلک التضمن ولو قدر نفس الفعل ، کان من الحذف المجرد ، ولم یکن المحذوف فی تضمن المذکور. وأیضا فی تقدیره تکثیر للحذف.
وبهذا یظهر أن من قال لا تنحصر طرق التضمین فیما قال ، وأن منها العطف ، نحو : (الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ) ، أی : الرفث والإفضاء إلی نسائکم ، فقد غفل عن الباعث علی هذا القول. علی أنه لم یدع أحد الحصر. وقال السید : ذهب بعضهم إلی أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی فقط. والمعنی الآخر مراد بلفظ محذوف یدل علیه ما هو من متعلقاته. فتارة یجعل المذکور أصلا فی
ص: 528
الکلام والمحذوف قیدا فیه ، علی أنه حال ، کما فی قوله : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) کأنه قال : «لتکبروا الله حامدین علی ما هداکم». وتارة یعکس ، فیجعل المحذوف أصلا والمذکور مفعولا ، کقوله : «أحمد إلیک فلانا» کأنک قلت أنهی إلیک حمده ، أو حالا کما یدل علیه قوله ، (یعنی الکشاف) ، عند الکلام علی قوله تعالی : (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ،) أی : یعترفون به ، فإنه لا بد من تقدیر الحال ، أی : یعترفون به مؤمنین ، إذ لو لم یقدر لکان مجازا عن الاعتراف لا تضمینا ، وقوله علی «أنه حال» ، وقوله : «والمذکور مفعولا» بمعنی أن المذکور یدل علی ذلک کما یفیده قول السعد مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر.
والظاهر أن السید یوافقه علی ذلک ، لأنه لم یشر للرد علیه ، کما هو دأبه عند مخالفته.
فاندفع قول بعضهم : إن فی جعله المذکور مفعولا للمحذوف نظرا ظاهرا ، لأن الفعل والجملة لا یقع واحد منهما مفعولا لغیر القول والفعل المعلق.
فالصواب کون جملة : «أحمد» حالا من فاعل : أنهی ، والمعنی أنهی حمده إلیک حال کونی حامدا له. ویرد علیه أنه إن أراد أن جملة : «أحمد» حال فی الترکیب ففاسد أو فی المعنی ، فالذی وقع فیه حالا إنما هو اسم الفاعل المحذوف بدلالة الفعل المذکور علیه ، کما یشهد به قوله حال کونی حامدا. وقد ذکر السعد أن هذا الترکیب مما حذف فیه الحال ، والظاهر أن السید لم یقصد الرد علیه ، وإنما أراد بیان وجه آخر ، لیفید أن ذلک أمر اعتباری لا ینحصر فیما قاله السعد.
ومن العجب أن بعضهم بعد ذکر کلام السعد والسید قال إنه لا ینحصر فیما قال السید بل له طرق أخری ، منها : أن یکون مفعولا ، کما فی قولهم : أحمد إلیک الله ، أی : أنهی حمده إلیک.
ومن العجب أیضا قوله فی الجواب عن کلام البعض المتقدم ، إن هذا من السبک بلا سابک کباب التسویة ، وأنت قد عرفت أن هذا حذف کما نص علیه السعد لاسبک.
ص: 529
هذا ، وقد اتفق هذان المحققان السعد والسید ، علی أن فی «أحمد إلیک زیدا» تضمینا.
ووقع للمولی أبی السعود فی أول تفسیره الفرق بین الحمد والمدح ، بأن الحمد یشعر بتوجیه النعت بالجمیل إلی المنعوت بخلاف المدح ، وأنه یرشد إلی ذلک اختلافهما فی کیفیة التعلق بالمفعول فی حمدته ومدحته فإن تعلق الثانی تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها ، والأول مبنی علی معنی الإنهاء کما فی قولک کلمته ، فإنه معرب عما تفیده لام التبلیغ فی قولک قلت له.
ولا یخفی أن هذا مخالف لکلام القوم ، ولم یثبت بشهادة من معقول أو منقول.
فمن العجائب نقل شیخنا الدنوشری له فی رسالة التضمین ، وقوله : وهو کلام حسن ربما یؤخذ منه أن الإنهاء من مفهوم الحمد فتعلق إلی به بالنظر لذلک ، فلا حاجة إلی ادعاء التضمین فیه ، فلیتأمل ذلک. اه.
فإن أراد بکونه حسنا حسن تراکیبه ، فلا شک فی ذلک ، وإن أراد حسنه من جهة المعنی فلم یظهر ، فإنه وإن أطال الکلام کما یعلم بالوقوف علیه ، لم یأت فیه ببیان المرام.
بقی هنا أمران ؛ الأول : ما أشار إلیه السعد والسید من أخذ الحال من المحذوف أو المذکور ، لا شک أنهما وجهان متغایران عند من له فی التحقیق یدان ، وإنما الکلام فی أنهما : هل یستویان دائما أو یترجح أحدهما فی بعض الأحیان؟
والذی یقتضیه النظر وإلیه یشیر کلامهم ، رجحان أحدهما علی الآخر بحسب المقام. بل تعینه کما لا یخفی علی من له بالقواعد إلمام. فیترجح أخذها من المحذوف فی : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) وإن جری السید علی خلافه کما مر ، فقد قال صاحب الکشاف : المعنی لتکبروا الله حامدین ، ولم یقل لتحمدوا الله مکبرین. قال بعضهم : لأن الحمد إنما یستحق ویطلب لما فیه من التعظیم. وکما فی حدیث : (أن تؤمن بالقضاء ...) ، فالمعنی : أن تؤمن معترضا بالقضاء ؛ لا أن تعترف بالقضاء مؤمنا ، لأن «أن» والفعل یسبک بمصدر معرف ، وهو لا یقع حالا کما قاله الرضی فی الکلام علی أن (إنّ)
ص: 530
تکسر وجوبا إذا وقعت حالا ، وإن کان لا یخلو عن نظر ؛ لعدم وجوب کون المصدر المسبوک معرفة کما یأتی ، ولما یدلان علیه من اسم الفاعل حکمهما. وفی بعضها یترجح أخذها من المذکور کما إذا ضمن العلم معنی القسم ، نحو : علم الله لأفعلن ، فالمعنی : أقسم بالله عالما لأفعلن لا عکسه ، لأن «أقسم» جملة إنشائیة لا تقع حالا إلا بتأویل. واسم الفاعل الواقع حالا قائم مقامها فیعطی حکمها ، ونحو : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ، لأن التقدیر : ألبثه الله مائة عام مماتا ، لا أماته الله مائة عام ملبثا ، لأنه یلزم منه ألّا تکون الحال مقارنة بل مقدرة ، والأصل کونها مقارنة.
وأما ما توهمه بعضهم من أن صلة المتروک تدل علی أنه المقصود أصالة ، فمردود بأنها إنما تدل علی کونه مرادا فی الجملة ؛ إذ لولاها لم یکن مرادا أصلا. بل إن الصلة لا یلزم أن تکون للمتروک کما دل علیه کلام البیضاوی فی تفسیر : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَکاناً شَرْقِیًّا) فإنه فسر «انتبذت» باعتزلت. وذکر أنه متضمن معنی : أتت ، و «مکانا» ظرف أو مفعول. ولا شک أن قوله «من أهلها» حینئذ متعلق «بانتبذت» الذی بمعنی : اعتزلت ، لا بأتت.
ومما یتفطن له أن المراد بالصلة ما له دلالة علی التضمن ؛ لارتباطه بالمحذوف الذی فی ضمن المذکور ، فیشمل ما إذا ضمن اللازم معنی المتعدی ، فإن التعدیة حینئذ قرینة التضمین لا ذکر الصلة.
وأما إذا ضمن فعل متعد لواحد معنی متعد لاثنین وبالعکس ، کتضمن العلم معنی القسم کما مر ، فإن القرینة إنما هو الجواب.
الثانی : هل الخلاف فی کون التضمین سماعیّا أو قیاسیّا ، مبنی علی الخلاف فی أنه حقیقة أو مجاز إلی غیر ذلک مما فیه من المذاهب؟ وهل ذلک فی المجاز مبنی علی کون المجاز سماعیّا أولا؟
والذی یخطر بالبال أنه علی القول بأنه حقیقة لا تتوقف علی سماع. واشتراط المناسبة بین اللفظین لا یقتضی ذلک کما لا یخفی. وأنه یلزم من کون مطلق المجاز قیاسیّا قیاسیة هذا المجاز الخاص ، خلافا لبعضهم.
قال فی التلویح : المعتبر فی المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها فی استعمال
ص: 531
العرب ، فلا یشترط اعتبارها بشخصها ، حتی یلزم فی آحاد المجاز أن ینقل بأعیانها عن أهل اللغة. وذلک لإجماعهم علی اختراع الاستعارات العربیة البدیعة التی لم تسمع بأعیانها من أهل اللغة ، وهی من طرق البلاغة وشعبها التی بها ترتفع طبقة الکلام. فلو لم یصح لما کان کذلک ، ولهذا لم یدونوا المجاز تدوینهم الحقائق. وتمسک المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز : «نخلة» لطویل ، غیر إنسان ، للمشابهة. و «شبکة» للصید ، للمجاورة ، و «أب» ، لابن ، للسببیة ، واللازم باطل اتفاقا.
وأجیب یمنع الملازمة ، فإن العلاقة مقتضیة للصحة ، والتخلف عن المقتضی لیس بقادح ، لجواز أن یکون لمانع مخصوص ، فإن عدم المانع لیس جزءا من المقتضی. وذهب المصنف - رحمه الله - إلی أنه لم یجز نحو «نخلة» لطویل غیر إنسان ، لانتفاء شرط الاستعارة. وهو المشابهة فی أخص الأوصاف ، أی : فیما له مزید اختصاص بالمشبه به ، کالشجاعة للأسد.
فإن قیل : الطول للنخلة کذلک ، قلنا : لعل الجامع لیس مجرد الطول ، بل مع فروع وأغصان فی أعالیها ، وطراوة وتمایل فیها.
ولا شک أنه علی القول بأن التضمین مجاز فهو لغوی علاقته تدور علی المناسبة ، وهی - مع أنها لیست مما نصوا علیه فی العلاقات - أمر مشترک بین أفراده ، لکن الذکی یرجعها فی کل موضع إلی ما یلیق به ، مما هو من العلاقات المعتبرة ، وبذلک یمتاز بعض الأفراد عن بعض آخر ، والتخلف فی بعض الأفراد - إن فرض - لا یضر ، کما علمت.
هکذا ینبغی أن یحقق المقام ، وقل من حققه مع إطالته الکلام.
فنتم الکلام علی بقیة الأقوال. تقدم ثلاثة.
والرابع : وهو الذی ارتضاه السید ، أن اللفظ مستعمل فی معناه الأصلی ، فیکون هو المقصود أصالة ، لکن قصد بتبعیته معنی آخر یناسبه من غیر أن یستعمل فیه ذلک اللفظ ویقدر له لفظ آخر. فلا یکون من الکنایة ولا الإضمار ، بل من الحقیقة التی قصد منها معنی آخر یناسبها ویتبعها فی الإرادة ، وحینئذ یکون واضحا بلا تکلف.
ص: 532
وهذا مبنی علی أن اللفظ یدل علی المعنی ، ولا یکون حقیقة ، ولا مجازا ، ولا کنایة.
والسید جوزه ومثله بمستتبعات التراکیب ، وذلک أن الکلام قد یستفاد من عرضه معنی لیس دالا علیه بأحد الوجوه الثلاثة المذکورة ، کما یفید قولک «آذیتنی فستعرف» التهدید ، «وإن زیدا قائم» إنکار المخاطب.
و (السعد) وغیره جعلوا ذلک کنایة.
والمراد من التبعیة فی قوله : (لکن قصد بتبعیته) التبعیة فی اللفظ ، کما یصرح به قوله فی حواشی المطول فی بحث الاستعارة عند الکلام فی قوله :
«أسد علیّ وفی الحروب نعامة» - لا ینافی تعلق الجار به إذا لوحظ مع ذلک المعنی ما هو لازم له ، ومفهوم منه ؛ من الجراءة والصولة.
والفرق بین هذا الوجه والتضمین ، أن فی التضمین لا بد أن یکون المعنی المقصود من اللفظ تبعا مقصودا فی المقام أصالة. وبه یفارق التضمین الکنایة ، وفی هذا الوجه لا یکون المعنی الملحوظ تبعا مقصودا فی المقام أصلا. کیف والمقام مقام التشبیه بالأسد علی وجه المبالغة. وذلک یغنی عن القصد إلی وصف الجراءة والصولة مرة أخری.
وبذلک یندفع قول ابن کمال باشا فی رسالة التضمین : إن قید : «یتبعه فی الإرادة» یخرج المعنی الآخر عن حد الأصالة فی القصد ، والأمر فی التضمین لیس کذلک ، بل قد تکون العنایة إلیه أوفر ، ومن العجب أنه نقل کلام حاشیة المطول فی تلک الرسالة.
وأما الاعتراض علی ما قاله (السید) بأنه : کیف یعمل اللفظ باعتبار معنی لا یدل علیه ، فلا یرد ؛ لأن اللفظ دال علیه ، لکنه لم یستعمل فیه.
والخامس : أن المعنیین مرادان علی طریق الکنایة ، فیراد المعنی الأصلی توصلا إلی المقصود ، ولا حاجة إلی التقدیر إلا لتصویر المعنی.
قال السید : وفیه ضعف ، لأن المعنی المکنی به قد لا یقصد ، وفی التضمین یجب القصد إلی کل من المضمّن والمضمن فیه. اه.
ولا یخفی أن «قد» علم القلة فی عرف المصنفین. وجعلها المناطقة سور الجزئیة. فمن الغریب قول بعضهم : إن أراد أنه لا یقصد أصلا فممنوع ؛ لتصریحهم بخلافه ،
ص: 533
وإن أراد التقلیل أو التکثیر لم یثبت المطلوب ، لأن عدم إرادته فی بعض المواضع لا ینافی إرادته فی بعض آخر.
وحاصل ما أشار إلیه السید : أن الکنایة فی بعض الأحیان لا یقصد منها المعنی الأصلی. ولو کان التضمین منها لا ستعمل استعمالها فی وقت ما.
ویجاب - کما قال العصام - : بأنه قد یجب فی بعض الکنایة شیء لا یجب فی جنسها ، ولذلک سمی باسم خاص. اه.
فإن قیل : إذا شرط فی التضمین وجوب إرادة المعنیین ، نافی الکنایة ، لأن المشروط فیها جواز إرادته.
أجیب : بأن المراد بالجواز الإمکان العام المقید بجانب الوجود ، لإخراج المجاز ، لا الجواز بمعنی الإمکان الخاص ؛ لظهور أن عدم إرادة الموضوع له لا مدخل له فی خروج المجاز ، حتی لو وجب إرادته خرج أیضا. وأورد بعضهم علی قول السید : إن التضمین یجب فیه القصد إلی المعنیین ، أنه ممنوع ، وادعی أنه وارد علی طریق الکنایة. قال : ألا تری أن معنی الإیمان جعلته فی الأمان ، وبعد تضمینه بمعنی التصدیق لا یقصد معناه الأصلی. وأرأیتک بمعنی أخبرنی. (اه) وهو باطل ، لما أنه مفوت فائدة التضمین من أداء کلمة مؤدی کلمتین ، وجعل : «أرأیتک» بمعنی : أخبرنی من التضمین : غیر ظاهر.
والسادس : أن المعنیین مرادان علی طریق عموم المجاز کما بیناه فی رسالتنا.
وذکر بعضهم فی التضمین قولا آخر لو صح کان (سابعا) وهو : أن دلالته غیر حقیقیة ؛ ولا تجوز فی اللفظ ، وإنما التجوز فی إفضائه إلی المعمول ، وفی النسبة غیر التامة. ونقل ذلک عن ابن جنی وقال ألا تری أنهم حملوا : النقیض علی نقیضه ، فعدوه بما یتعدی به ، کما عدوا : «أسرّ» بالباء ، حملا : علی «جهر» و «فضل» بعن حملا علی «نقص» ، ولا مجاز فیه قطعا بمجرد تغییر صلته ، وإنما هو تصرف فی النسبة الناقصة. اه.
وهذا القول مخالف لما نص علیه ابن جنی فی الخصائص ، وقد تقدم کلامه فیها. ومن العجب أن هذ الناقل نقل کلامه فی الخصائص ، واستدل به المذهب فی التضمین جعله مغایرا لهذا ، وحمل النقیض علی النقیض لیس من التضمین
ص: 534
ولا قریب منه لیقرب به ، ولهذا قابله بعضهم به ، فإنه قال فی المغنی فی بحث «علی» وقد تکلم علی قوله : «إذا رضیت علیّ بنو قشیر» یحتمل أن یکون «رضی» ضمن معنی : «عطف». وقال الکسائی : حمل علی نقیضه وهو سخط اه. نسأل الله تعالی الرضا بغیر سخط ، بفضله وکرمه.
وبقی قول آخر ، إن ثبت کان (ثامنا) واختاره المولی ابن کمال باشا حیث قال : وبالجملة لا بد فی التضمین من إرادة معنیین من لفظ واحد علی وجه یکون کل منهما بعض المراد ، وبه یفارق الکنایة ، فإن أحد المعنیین تمام المراد ، والآخر وسیلة إلیه ، لا یکون مقصودا أصالة. وبما قررناه اندفع ما قیل. والفعل المذکور إن کان فی معناه الحقیقی ، فلا دلالة له علی الفعل الآخر ، وإن کان فی معنی الفعل الآخر ، فلا دلالة له علی المعنی الحقیقی. وإن کان فیهما لزم الجمع بین الحقیقة والمجاز ، ولا یمکن أن یقال ها هنا ما یقال فی الجمع بین المعنیین فی صورة التغلیب ، لأن کلا من المعنیین ها هنا مراد بخصوصه. اه. المقصود منه.
ولا یخفی أنه لم یظهر اندفاع الجمع بین الحقیقة والمجاز فی التضمین ، لما اعترف به من أن کلا من المعنیین مراد بخصوصه. ثم قال : إن التضمین علی المعنی الذی قررناه ، لا اشتباه بینه وبین المجاز المرسل ، لأنه مشروط بتعذر المعنی الحقیقی ، وهو فیه متعذر ، نعم یلزم اندراجه تحت مطلق المجاز ، وبین أن الحق أنه رکن مستقل من أرکان البیان ، کالکنایة والمجاز المرسل ، وأنه فیه مندوحة عن تکلف الجمع بین الحقیقة والمجاز. وفی قوله : «إن المعنی الحقیقی فی التضمین غیر متعذر» ، نظر ؛ لأنه متعذر بواسطة القرینة کما عرف مما مر ، ولا بد من المصیر إلی المجاز ، أو الجمع بین الحقیقة والمجاز ؛ لأن القرینة فی المجاز إنما تمنع من إرادة الحقیقة فقط ، فاحفظه فإنه مما یقع فیه الغلط.
ثم إنه علم من کلامه أن فی المذهب الذی اختاره السلامة من الجمع بین الحقیقة والمجاز اللازم علی بعض الأقوال ، وهو القول الثانی المتقدم ، کما عرفت تحقیقه مما مر. فدعوی أن شبهة الجمع فی التضمین مطلقا واهیة ، دعوی باطلة ، ولم یرد بذلک علی السید ، کما لا یخفی علی من راجع کلامه. وإن کلام السید لا یتوهم
ص: 535
فیه ذلک الجمع. فمن قال إنه اعترض علیه بذلک فقد افتری.
فی کلام یاسین ثمانیة أقوال فی التضمین :
الأول : أنه مجاز مرسل ، لأن اللفظ استعمل فی غیر معناه لعلاقة وقرینة.
الثانی : أن فیه جمعا بین الحقیقة والمجاز لدلالة المذکور علی معناه بنفسه ، وعلی معنی المحذوف بالقرینة.
الثالث : أن الفعل المذکور مستعمل فی حقیقته لم یشرب معنی غیره ، «کما جری علیه صاحب الکشاف» ، ولکن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب ، بمعونة القرینة اللفظیة ، کما ذکر السعد.
وقال السید : «ذهب بعضهم إلی أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی. فقط ، والمعنی الآخر مراد بلفظ محذوف یدل علیه ما هو من متعلقاته». وفیما مثل به جعل المحذوف أصلا ، والمذکور مفعولا «کأحمد إلیک فلانا» أی : أنهی إلیک حمده. یعنی أن المذکور یدل علی ذلک کما یدل علی الحال. وقد أراد السید بیان وجه آخر ، لیفید أن ذلک أمر اعتباری لا ینحصر فیما قاله السعد.
الرابع : أن اللفظ مستعمل فی معناه الأصلی ، فیکون هو المقصود أصالة ، ولکن قصد بتبعیته معنی آخر. فلا یکون من الکنایة ولا الإضمار.
الخامس : أن المعنیین مرادان علی طریق الکنایة ، فیراد المعنی الأصلی ، توصلا إلی المقصود ، ولا حاجة إلی التقدیر إلا لتصویر المعنی.
السادس : أن المعنیین مرادان علی طریق عموم المجاز.
السابع : أن دلالته غیر حقیقیة ، ولا تجوّز فی اللفظ ، وإنما التجوز فی إفضائه إلی المعمول ، وفی النسبة غیر التامة. ونقل ذلک عن ابن جنی. وقال : ألا تری أنهم حملوا النقیض علی نقیضه ، فعدوه بما یتعدی به ، کما عدوا : «أسر» بالباء حملا علی : «جهر». «وفضل» بعن حملا علی : «نقص».
وقد علق هذا القول علی الصحة.
الثامن : أنه لا بد فی التضمین من إرادة معنیین فی لفظ واحد علی وجه یکون کل منهما بعض المراد. وبذلک یفارق الکنایة ، فإنه أحد المعنیین تمام المراد ،
ص: 536
والآخر وسیلة إلیه لا یکون مقصودا أصالة» «وهذا اختیار ابن کمال باشا» وقد علق هذا القول علی الثبوت.
وقال السیوطی فی الأشباه والنظائر : قال الزمخشری فی شأنهم : یضمنون الفعل معنی فعل آخر ؛ فیجرونه مجراه ، ویستعملونه استعماله ، مع إرادة معنی المتضمن. قال : والغرض فی التضمین إعطاء مجموع معنیین. وذلک أقوی من إعطاء معنی. ألا تری کیف رجع معنی (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) ، إلی قولک ولا تقتحمهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم - (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ) ، أی : ولا تضموها إلیها آکلین. اه.
قال الشیخ سعد الدین التفتازانی فی حاشیة الکشاف : فإن قیل الفعل المذکور إن کان مستعملا فی معناه الحقیقی فلا دلالة علی الفعل الآخر ، وإن کان فی معنی الفعل الآخر فلا دلالة علی معناه الحقیقی. وإن کان فیهما جمیعا لزم الجمیع بین الحقیقة والمجاز.
قلنا : هو فی معناه الحقیقی مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة ؛ فمعنی یقلب کفیه علی کذا : نادما علی کذا ، ولا بد من اعتبار الحال ، وإلا کان مجازا محضا لا تضمینا. وکذا قوله (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) تقدیره : معترفین بالغیب (انتهی).
وقال ابن یعیش : الظرف منتصب علی تقدیر «فی» ولیس متضمنا معناها حتی یجب بناؤه لذلک ، کما وجب بناء نحو : «من وکم» فی الاستفهام. وإنما «فی» محذوفة من اللفظ لضرب من التخفیف ، فهی فی حکم المنطوق به. ألا تری أنه یجوز ظهور «فی» معه. نحو قمت الیوم وقمت فی الیوم. ولا یجوز ظهور الهمزة مع من وکم فی الاستفهام ، فلا یقال أمن ولا أکم. وذلک من قبل أن «من وکم» لما تضمنا معنی الهمزة صارا کالمشتملین علیها. فظهور الهمزة حینئذ کالتکرار. ولیس کذلک الظرف ، فإن الظرفیة فیه مفهومة من تقدیر «فی» ولذلک یصح ظهورها.
ثم ذکر أن ابن جنی قال فی التضمین : «ووجدت فی اللغة من هذا الفن شیئا کثیرا لا یکاد یحاط به ، ولعله لو جمع أکثره لا جمیعه لجاء کتابا ضخما.
ص: 537
وقد عرفت طریقه ، فإذا مر بک شیء منه فتقبله وأنس به ، فإنه فصل من العربیة لطیف حسن».
وقال ابن هشام فی تذکرته : زعم قوم من المتأخرین - منهم خطاب الماردی - أنه قد یجوز تضمین الفعل المتعدی لواحد معنی : «صیر» ویکون من باب : «ظن» فأجاز : حفرت وسط الدار بئرا ؛ أی : صیرت ، قال : ولیس «بئرا» تمییزا ، إذ لا یصلح لمن. وکذا أجاز : بنیت الدار مسجدا. وقطعت الثوب قمیصا. وقطعت الجلد نعلا -. وصبغت الثوب أبیض إلخ ...
قال : والحق أن التضمین لا ینقاس. وقال ابن هشام فی المغنی : قد یشربون لفظا معنی لفظ فیعطونه حکمه ، ویسمی ذلک تضمینا. وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین ، ثم ذکر لذلک عدة أمثلة منها قوله تعالی : (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ) ضمّن معنی تحرموه. فعدّی إلی اثنین لا إلی واحد ، ومنها : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ) ضمّن معنی : تنووه. فعدّی بنفسه لا بعلی. وقوله : (لا یَسَّمَّعُونَ إِلَی الْمَلَإِ الْأَعْلی) ضمّن معنی «یصغون». فعدی بإلی ، وأصله أن یتعدی بنفسه. ومثل : سمع الله لمن حمده. ضمن معنی : استجاب ، فعدّی باللام ، ومثل : «والله یعلم المفسد من المصلح». ضمن معنی : یمیز ؛ فجیء بمن.
وذکر ابن هشام فی موضع آخر : من المغنی : أن التضمین لا ینقاس. وکذا ذکر أبو حیان. ثم قال السیوطی :
«قاعدة» : المتضمن معنی شیء لا یلزم أن یجری مجراه فی کل شیء. ومن ثم جاز دخول الفاء فی خبر المبتدأ المتضمن معنی الشرط ، نحو الذی یأتینی فله درهم. وکل رجل یأتینی فله درهم. وامتنع فی الاختیار جزمه عند البصریین. ولم یجیزوا : الذی یأتینی أحسن إلیه ، أو : کل من یأتینی أحسن إلیه ، بالجزم ، إلا فی الضرورة. وأجاز الکوفیون جزمه فی الکلام تشبیها بجواب الشرط ، ووافقهم ابن مالک. قال أبو حیان : ولم یسمع من کلام العرب الجزم فی ذلک إلا فی الشعر. اه.
قال ابن هشام فی المغنی : وهو کثیر. قال أبو الفتح فی کتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه ، لجاء منه کتاب یکوّن مئین أوراقا. اه.
ص: 538
قال الدسوقی : قوله : وهو - أی التضمین - کثیر ، وقوله : قال أبو الفتح ، دلیل لقوله وهو کثیر. «قوله قال أبو الفتح إلخ» هذا ربما یؤید القول بأن التضمین قیاسی ، وقیل البیانی فقط. وظاهر أنه لیس کل حذف مقیسا ، وکذا المجاز إذا ترتب علیه حکم زائد. اه.
وقال ابن هشام فی أوائل الباب الخامس من المغنی : وفائدة التضمین أن یدل بکلمة واحدة علی معنی کلمتین ، یدلک علی ذلک أسماء الشروط والاستفهام.
قال الأمیر : قوله «علی معنی کلمتین» ظاهره الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وسبق الخلاف فی ذلک. قال ابن جنی : لو جمعت تضمینات العرب ملأت مجلدات ، فظاهره القول بأنه قیاسی. قوله أسماء الشروط مثلا «من» معناها العاقل ، وتدل مع ذلک علی معنی إن ، والهمزة. اه.
وقال ابن هشام فی معانی الباء من المغنی : (الثالث عشر) الغایة ، نحو : (وقد أحسن بی) ، أی : إلیّ. وقیل ضمن أحسن معنی : لطف. اه.
قال الأمیر : ظاهره کقولهم التضمین إشراب الکلمة معنی آخر ، وأنه مجاز ، أو حقیقة ملوحة ، أو جمع بینهما ؛ یقتضی مغایرة المعنیین ، ولا یظهر فی الإنسان واللطف. فالأولی أن التضمین إلحاق کلمة بأخری لاتحاد المعنی أو تناسبه ، ویأتی الکلام فیه ، وهل هو قیاسی أو البیانی (1) لأنه مجرد حذف لدلیل إن قلنا بمغایرته للنحوی. اه.
وقال الملوی علی السلم : «وذللت فیه صعاب المشکلات علی طرف الثمام». فقال : الصبان : «الثمام» بضم المثلثة : نبت ضعیف یشد به فرج السقوف ، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف : أی : ووضعتها ، فهو من باب حذف الواو مع ما عطفته لعدم اللبس ، أو : «بذللت» ، علی تضمینه معنی «وضعت» تضمینا نحویّا. وقد نقل أبو حیان فی ارتشافه عن الأکثرین أنه ینقاس ، فهو من باب الجمع بین الحقیقة والمجاز.
أو بحال محذوفة من فاعل ذللت ، أی : واضعا لها ، أو من مفعوله : أی : موضوعة ، فعلی هذین التضمین بیانی ، وهو مقیس. اه.
ص: 539
وقال الصبان علی الأشمونی : إن التضمین النحوی إشراب کلمة معنی أخری ، بحیث تؤدی المعنیین ، والتضمین البیانی تقدیر حال تناسب الحرف. وتمنع کون التضمین النحوی ظاهرا عن البیانی ، للخلاف فی کون النحوی قیاسیّا ، وإن کان الأکثرون علی أنه قیاسی ، - کما فی ارتشاف أبی حیان - دون البیانی فاعرفه. اه. أی : فلا خلاف فی کونه قیاسیّا ، کما أشار إلیه قبل بقوله : «وهو مقیس».
وقال صاحب التصریح فی آخر الکلام فی المفعول معه : «واختلف فی التضمین : أهو قیاسی أم سماعی ، والأکثرون علی أنه قیاسی. وضابطه أن یکون الأول والثانی یجتمعان فی معنی عام. قاله المرادی فی تلخیصه. اه». وکلامه فی النحوی. وقال یاسین علی القطر فی أن «التضمین إشراب لفظ معنی لفظ آخر» هو أحد أقوال خمسة فی التضمین. والمختار منها عند المحققین أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی ، مع حذف حال مأخوذ من اللفظ الآخر ، بمعونة القرینة اللفظیة. فمعنی «یقلب کفیه علی کذا» : أی نادما علی کذا. وقد یعکس کما فی (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) ، أی : یعترفون به مؤمنین ، وبهذا یتوقع أن اللفظ المذکور إن کان فی معناه الحقیقی فلا دلالة علی الآخر ، وإن کان فی معنی الآخر فلا دلالة علی المعنی الحقیقی ، وإن کان فیهما لزم الجمع بین الحقیقة والمجاز.
* * *
لقد ذکرنا طائفة من أقوال العلماء فی التضمین ، وذکرنا القول بأنه سماعی ، والقول بأنه قیاسی ، ورأینا قوة فی القول بأنه قیاسی ، ونقلنا فیما تقدم أن التضمین رکن من أرکان البیان. فإن ذهبنا إلی القول بأنه قیاسی ، قلنا إنما یستعمله العارف بدقائق العربیة وأسرارها علی نحو ما ورد. وإنک لتجد کثیرا فی عبارات المؤلفین فیها التضمین. فمن ذلک عبارة الملوی السابقة ، ومن ذلک قول ابن مالک «وأستعین الله فی ألفیة» ، فقد جوز الأشمونی أنه ضمن أستعین معنی : أستخیر ، ونحوه مما یتعدی بفی.
ذکرنا القول بأن التضمین سماعی. ومعناه أنه یحفظ ولا یقاس علیه. وذکرنا
ص: 540
قول القائلین إن التضمین النحوی قیاسی عند الإکثرین. وأن التضمین البیانی قیاسی بإجماع النحویین. وقد ذکر ابن جنی فی الخصائص أنه لو نقل ما جمع من التضمین عن العرب لبلغ مئین أوراقا.
والتضمین مبحث ذو شأن فی اللغة العربیة. وللعلماء فی تخریجه طرق مختلفة فقال بعضهم : إنه حقیقة. قال بعضهم : إنه مجاز. وقال آخرون : إنه کنایة ، وقال بعضهم : إنه جمع بین الحقیقة والمجاز علی طریقة الأصولیین ، لأن العلاقة عندهم لا یشترط فیها أن تمنع من إرادة المعنی الأصلی ...
فإذا قررنا أن التضمین قیاسی ، فقد جرینا علی قول له قوة. وإذا قلنا إنه سماعی ، فقد یعترض علینا من یقول إن من علماء اللغة من یری أنه قیاسی. فلماذا تضیقون علی الناس ، وما جئتم إلا لتسهلوا اللغة علیهم؟
فنحن نثبت القولین بالقیاس وبالسماع ، ولکنا نرجح قیاسیته ، والقول بجواز استعماله للعارفین بدقائق العربیة وأسرارها. ولا یصح أن نحظره علیهم ، لأنه داخل فی الحقیقة ، أو : المجاز ، أو : الکنایة. والبلغاء یستعملونه فی کلامهم بلا حرج ، فکیف نسد باب التضمین فی اللغة ، وهو یرجع إلی أصول ثابتة فیها؟
وأقول بعد هذا : لا بد من قیود نضبط بها استعمال التضمین. وقد رأی بعض الزملاء أن یقصر التضمین علی الشعر. وفی هذا قصر للحقیقة ، أو للمجاز ، أو للکنایة ؛ وهی الأصول التی یخرج علیها التضمین» علی فن من الکلام دون آخر. وهذه الأمور الثلاثة تقع فی الشعر والنثر بلا قید ولا شرط.
علی أن الشعر من أکثر فنون القول ذیوعا. والناس یحفظون الشعر ویجرون علی أسالیبه فی الکتابة والخطابة. فإذا أجزنا التضمین فی الشعر وحده ، وقعنا فی الأمر الذی نفر منه. ونحن هنا نقرر الحقائق العلمیة. ونرجح منها ما یستحق الترجیح تحقیقا لأغراضنا.
انتهی البحث
* * *
حضرة رئیس الجلسة : یتفضل الأستاذ الشیخ محمد الخضر حسین بتلاوة بحثه فی التضمین.
ص: 541
حضرة العضو المحترم الأستاذ الخضر حسین : للتضمین غرض هو الإیجاز. وللتضمین قرینة ، هی تعدیة الفعل بالحرف وهو یتعدی بنفسه ، أو تعدیته بنفسه وهو یتعدی بالحرف. وللتضمین شرط هو وجود مناسبة بین الفعلین. وکثرة وروده فی الکلام المنثور والمنظوم تدل علی أنه أصبح من الطرق المفتوحة فی وجه کل ناطق بالعربیة ، متی حافظ علی شرطه ؛ وهو : مراعاة المناسبة.
فإذا لم توجد بین الفعلین العلاقة المعتبرة فی صحة المجاز کان التضمین باطلا. فإذا وجدت العلاقة بین الفعلین ولم یلاحظها المتکلم ، بل استعمل فعل : «أذاع» مثلا - متعدیا بحرف الباء علی ظن أنه یتعدی بهذا الحرف لم یکن کلامه من قبیل التضمین ، بل کان کلامه غیر صحیح عربیة.
فالکلام الذی یشتمل علی فعل عدی بحرف وهو یتعدی بنفسه ، أو عدی بحرف وهو یتعدی بغیره ، یأتی علی وجهین :
الوجه الأول : ألا یکون هناک فعل یناسب الفعل المنطوق به ، حتی تخرج الجملة علی طریقة التضمین. ومثل هذا نصفه بالخطأ ، والخروج عن العربیة ، ولو صدر من العارف بفنون البیان.
الوجه الثانی : أن یکون هناک فعل یصح أن یقصد المتکلم لمعناه مع معنی الفعل الملفوظ ، وبه یستقیم النظم ، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربیة ومعرفة طرق استعمالها حمل علی وجه التضمین الصحیح ، کما قال سعد الدین التفتازانی. «فشمرت عن ساق الجد إلی اقتناء ذخائر العلوم» والتشمیر لا یتعدی بإلی ، فیحمل علی أنه قد ضمن شمر معنی : «المیل» الذی هو سبب التشمیر عن ساق الجد.
فإن صدر مثل هذا من عامی أو شبیه بعامی (1) ، أی : ممن یدلک حاله علی أنه لم یبن کلامه علی مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ ، کان لک أن تحکم
ص: 542
علیه بالخطأ. فلا جناح علیک أن تحکم علی قول العامة مثلا - أرجو الله قضاء حاجتی ، باللحن والخروج عن قانون اللغة الفصحی. لأن فعل الرجاء لا یتعدی إلی مفعولین. ولیس لک أن تخرجه علی باب التضمین. کأن تجعل «أرجو» مشربا معنی «أسأل» بناء علی أن بین الرجاء والسؤال علاقة السببیة والمسببیة ، فإن هذا الوجه لم ینظر إلیه أولئک الذین استعملوا فعل «أرجو» متعدیا إلی المفعولین.
ومن هنا نعلم أن من یخطئ العامة فی أفعال متعدیة بنفسها ، وهم یعدّونها بالحروف ، مصیب فی تخطئته ، إذ لم یقصدوا لإشراب هذه الأفعال معانی أفعال أخری تناسبها ، حتی یخرج کلامهم علی باب التضمین.
ولیس معنی هذا أن التضمین سائغ للعارف بطرق البیان دون غیره ، وإنما أرید أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ ، لا نبادر إلی تخطئته ، متی وجدنا لکلامه مخرجا من التضمین الصحیح. أما غیره کالتلامیذ ، ومن یتعاطی الکتابة من غیر أن یستوفی وسائلها ، فإن قام الشاهد علی أنه نحا نحو التضمین ، کما إذا اعترضت علیه فی استعمال الفعل المتعدی بنفسه متعدیا بحرف ، فأجاب بأنه قصد التضمین ، وبین الوجه ، فوجدته قد أصاب الرمیة ؛ فقد اعتصم منک بهذا الجواب المقبول ، ولم یبق لاعتراضک علیه من سبیل.
وإن قام شاهد علی أن المتکلم لم یقصد التضمین ، وإنما تکلم علی جهالة بوجه استعمال الفعل ، کان قضاؤک علیه بالخطأ قضاء لا مرد له. فمصحح ما یکتبه التلامیذ ونحوهم ، یجب علیه أن یرد الأفعال إلی أصولها ، ولا یتخذ من التضمین وجها لترک العبارة بحالها ، والکاتب لا یعرف هذا الوجه ، أو لم یلاحظه عند الاستعمال (1).
فللتضمین صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدی الفعل بنفسه أو تعدیه بالحرف ، وصلة بعلم البیان من جهة التصریف فی معنی الفعل ، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له ، ومن هذه الناحیة لم یکن کبقیة قواعد علم النحو ، قد یستوی فی العمل بها خاصة الناس وعامتهم.
ص: 543
حضرة العضو المحترم الأستاذ الشیخ أحمد علی الإسکندری : رجعت إلی أقوال العلماء بعد المناقشة التی دارت أمس ، فوجدت أن القائلین بسماعیة التضمین إنما یخشون أن یحدث فی اللغة فساد واضطراب فی معانی الأفعال. إذا أباحوه للناس ، مع أنهم یسلمون أن ما ورد من التضمین کثیر یجمع فی مئین أوراقا.
وقد شرط القائلون بقیاسیة التضمین شرطین وهما : (1) وجود المناسبة. (2) وجود القرینة. ثم تأملت فی وظیفة علوم البلاغة وخاصة علم المعانی ، فوجدت أن موضوعه إن هو إلا بیان الذوق المعبر عنه عندهم «بمقتضی الحال». وکذلک رأیت الشرطین اللذین اشترطهما العلماء قدیما للتضمین غیر کافیین. فرأیت أن نضیف إلیهما قیدا ثالثا ، هو «موافقة العبارة التی فیها التضمین للذوق العربی» وذلک ما تنشده علوم البلاغة.
ثم قلت : هل للذوق حد؟ ففطنت إلی وجوب تقیید الذوق بالبلاغی ، وهو الذی وضعت علوم البلاغة العربیة لتحدید ضوابطه.
وبعد ذلک رأیت أن ألخص مناقشات اللجنة والمجمع ومذکرتی (1) التی قدمتها فی القرار الآتی :
«التضمین : أن یؤدی فعل أو ما فی معناه فی التعبیر ، مؤدی فعل آخر أو ما فی معناه ، فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم. ومجمع اللغة العربیة یری أنه قیاسی لا سماعی بشروط ثلاثة.
الأول : تحقق المناسبة بین الفعلین.
الثانی : وجود قرینة تدل علی ملاحظة الفعل الآخر ، ویؤمن معها اللبس.
الثالث : ملاءمة التضمین للذوق البلاغی العربی».
حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : التضمین سواء أخرج علی الحقیقة أم علی المجاز أم علی الجمع بین الحقیقة والمجاز ، لا یستعمله إلا البلغاء العارفون
ص: 544
بأسرار اللغة ، وإذا لا یستعمله العامة إلا إذا جارینا من یقول إن العامة لا یزال عندهم بقیة من الذوق العربی والبلاغة.
وأری أن نأخذ الرأی أولا علی أن التضمین قیاسی ، ثم نأخذ الرأی علی الشروط التی نشترطها لإباحته.
حضرة العضو المحترم الدکتور منصور فهمی : أرید أن أعرف ما فائدة «التضمین» الذی نبحث فیه هذا البحث الطویل. إن کل ما فهمته من کلام فضیلة الشیخ محمد الخضر حسین أن فائدته الإیجاز ، أی : أن تؤدی الکلمة معنی کلمتین. وفی اللائحة التی وضعناها نص یوجهنا إلی العمل لتیسیر اللغة علی الناس. والذی یرید أن ییسر اللغة علی الناس لا یکلفهم العمل الشاق الطویل لمعرفة کلمات تؤدی الواحدة منها معنی کلمتین. ولعل هذه الکلمات لا تزید علی مائتی کلمة ، فلا أجد الفائدة کبیرة بتقسیم الناس إلی خاصة وعامة ، وطفل وبالغ ، وبلیغ له ذوق العرب البلاغی ، وآخر لیس له هذا الذوق ، لأنه لم یدرس العلوم العربیة التی تفید الذوق علی رأی الأستاذ الإسکندری. قالوا إن القانون الریاضی والقانون الطبیعی أولی القوانین بالاحترام ، لأنه لا یتخلف. والعلوم المختلفة الآن تتجه اتجاه الریاضیات والطبیعیات ، فیحاول أصحابها أن یجعلوا قوانینها کقوانین الریاضیات فی الدقة والضبط وعدم الاستثناء.
وأرید أن نرقی باللغة العربیة إلی مصاف العلوم ذات القوانین الثابتة التی یقل فیها الشذوذ والاستثناء.
الغرض من عملنا المحافظة علی اللغة وتیسیرها. فهل نتحکم فی «تطور» اللغة وذوقها من أجل مائتی کلمة لطبقة خاصة. هذا عمل - علی ما أری - لیس من خدمة اللغة التی نسعی لخدمتها. نحن الآن نقرر الواقع الذی تقرر منذ أزمان طویلة. فنقول : إن التضمین قیاسی أو سماعی. وکنت أظن أن المجمع یدرس الواقع ، ویسمو فوقه ، فیقرر ما من شأنه أن یحقق حاجات الرقی الحاضر.
قد یکون المثل الأعلی للبلاغة العربیة ما یراه بعض الأعضاء فی علوم البلاغة وبعض نماذج معروفة ، والذی یخیل إلیّ أن التقدم لا ینبغی أن یقید بمثل أعلی واحد. فإذا کان تقدم اللغة ینتهی عند معرفة ما قررته علوم البلاغة ، فلیس هذا
ص: 545
عندی تقدما. واللغة تتطور مع العصور. وکل هذا یبیح لی ألا ألتزم أمرا إلا بمقدار ، وأری أن هذا القرار لا یوصلنی إلی غایتی.
کل اللغات «تتطور». فلما ذا نرید أن نقف بلغتنا؟ ولو أن کاتبا فرنسیّا أو إیطالیّا الیوم أراد أن یرجع إلی أسالیب القرن الخامس عشر مثلا ، تشبها بکاتب قدیم ، لقیل إنه متحذلق. ونحن کأولئک. فلما ذا نتعمل ونجهد أنفسنا ونقول بالتضمین؟
والذی أراه أن نقر الماضی علی أنه تاریخ ، ونتقدم نحن خطوة أخری ، فنقرر أشیاء جدیدة لا تنافی تاریخ اللغة ، وهی مع ذلک تفی بحاجات العصر الحاضر.
وأنا لا أزال علی رأیی. فلا أقبل التضمین إلا إذا اضطرنی إلیه الشعر أو السجع. وفی غیر ذلک نجری الأفعال فی معانیها الأصلیة.
حضرة العضو المحترم الدکتور فارس نمر : أری أن کل واحد منا ینظر إلی المسألة من «زاویة» غیر التی ینظر منها الآخر ، علی حد تعبیر الریاضیین ، وأرجو أن تسمحوا لی أن أورد بعض أمثلة خبرتها بنفسی.
فعند ما کنت أدرس الحروف واستعمالها ، عرفت أن «متی» تکون بمعنی «من» کما فی قول الشاعر :
شربن بماء البحر ثم ترفّعت
متی لجج خضر لهن نئیج
فأردت أن أبین لأستاذی أنی حفظت هذا الشاهد وأرید القیاس علیه فی کتابتی ، فکتبت له هذه العبارة : «إن صدیقی ینتظرنی فخرجت متی منزلی إلی السوق» فأنکر علیّ قولی. فقلت : إنه علی حد قول القائل : أخرجها متی کمّه ، أی : من کمه ، فحار أستاذی ، ولم یدر أیمنعنی من استعمال الحرف أم یوافقنی علیه؟
والذی أریده من الأستاذ الشیخ الخضر حسین أن یجیبنی : هل یوافق علی أن نستعمل مثل هذه العبارات فی العصر الحاضر؟
أنا أجل علماء اللغة ، وأحترم ما قالوه ، ولا أنازع فی قیاسیة التضمین أو سماعیته ، وإنما أرید أن نسهل اللغة علی الناس عامة ، فنتخیر اللغة السهلة الصریحة ، ونضع أساسا ، ونحکم حکما یلائم هذا العصر ، ونسهل علی علمائنا وکتابنا الکتابة
ص: 546
والتألیف ، لیکون المجمع ثقة ومرجعا للناس.
حضرة العضو المحترم الأب أنستاس الکرملی : أوافق علی ما قال الدکتور منصور فهمی ، والدکتور نمر ، وفی ذکر الشواهد وغیرها تطویل ، وقد اختصرت قرار المجمع ووضعته فی الصیغة لآتیة :
«یعمل بالتضمین بنوع عام لوروده فی کثیر من الآیات القرآنیة ، وفی الشعر القدیم والمخضرم والإسلامی ، بشرط ألا یقع فی التضمین لبس فی التعبیر ، ولا إخلال بالمعنی».
حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : کلام الأب المحترم یفید قیاسیة التضمین ، وشرط عدم اللبس هو ما ذکرناه ، ونحن ما اخترنا البحث فی التضمین إلا لنسهل علی الناس الکتابة والکلام ، لأنه إذا اتسع مجال القول ، کان فی ذلک رخصة وتیسیر. وما قصدنا إلی هذا البحث إلا لأن بعض المتحذلقین من النقاذ یأخذون علی بعض الشعراء والکتاب مآخذ ترجع إلی تعدیة الأفعال بحروف لا تتعدی بها. ویردون استدلالهم إلی المعاجم دون القواعد اللغویة والنحویة. فإذا قلنا بترجیح قیاسیة التضمین ، فإنما نقصد بهذا توجیه مثل هؤلاء النقاد إلی أشیاء غابت عنهم ، ونیسر فی الوقت ذاته علی الکتاب والشعراء مجال القول والکتابة ، فنزید الثروة اللغویة بتعدد أسالیب التعبیر وصوره. وإنی أقرر أن عمل المجمع لا یقف عند ذکر الآراء المختلفة ونصوص العلماء ، وإنما یذکرها لیوازن بینها ویرجح رأیا علی رأی ، إذا رأی أن فی هذا الترجیح فائدة. والمجمع یقرر الجدید ، متی کان موافقا للذوق البلاغی والقواعد الصحیحة. ولا ینبغی أن یکون ذوق العامة حجة علی أهل اللغة ، وقیاس لغتنا علی اللغات الأوربیة قیاس مع الفارق ، وفائدة التضمین لا تقتصر علی مائة کلمة أو مائتین ، وإنما هو باب واسع یتعلق بجمیع الأفعال فی اللغة العربیة ، ولکننا لا نبیح التضمین علی إطلاقه ، لأن هذا یجر إلی الفوضی والفساد فی اللغة. ولهذا نشترط له شروطا خاصة.
* * *
حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : إذا قلنا إن التضمین قیاسی ، فقد وافقنا القدماء. وإذا قلنا إنه سماعی فقد وافقناهم فی ذلک أیضا. أما إذا قلنا
ص: 547
إنه قیاسی بشرط أن یسیغه الذوق ؛ فهذا تلفیق بین المذهبین. ونحن کمجمع ینبغی ألا نرجع المسألة إلی الذوق ، لأن ذلک رد إلی مجهول ، فلا بد إذا أن نضع ضوابط وأمثلة نقدمها للجمهور لیحتذیها.
حضرة العضو المحترم الأستاذ نلینو : استفدت کثیرا من المناقشة فی هذا الباب. وعلی الرغم من أنی أستحسن قرار الإسکندری بقیوده التی وضعها ، فإنی أری أن فتح باب التضمین فی عصرنا یجر إلی کثیر من الخطأ ، لأننا لا نستطیع أن نمیز الخاصة من العامة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ عیسی إسکندر المعلوف : (قدم اقتراحا مکتوبا طلب فیه أن توضع أمثلة للتضمین لیحتذیها الناس).
حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : قال بعض حضرات الأعضاء : ما أتت به اللجنة من الکلام فی التضمین معروف. والمجمع ألف لجنته للبحث فی التضمین ، وکتابة تقریر فیه. فبحثت اللجنة ، وکتبت التقریر ، وذکرت آراء العلماء ؛ ووجدت أن القول بقیاسیته أقوی من القول بسماعیته ، ثم رفعت عملها إلی المجمع وهو صاحب الرأی فیه. فلا لوم علینا فی نقل کلام القدماء.
أما ما قاله حضرة الدکتور منصور فهمی من أن فائدة التضمین الإیجاز. وهو فائدة یسیرة. فلا نقره علیه ، لأن الإیجاز مقصد من مقاصد البلغاء : وأصل من أصول الأسالیب اللغویة.
وأما القول بأن التضمین یفتح باب الخطأ والفساد فی اللغة ، فهذا صحیح ، ولکن علاج هذا أن یتعلم الناس قواعد لغتهم التی تعصمهم من الوقوع فی الخطأ. فکما أن إغفال الاشتقاق والتصریف یجر إلی الخطأ فیهما ، کذلک یجر إهمال قواعد التضمین وضوابطه إلی الخطأ فی الأسلوب. فإذا ثابرنا علی تعلیم قواعد اللغة فی المدارس مثلا ، انتشرت الأسالیب الصحیحة وذاعت ، وفتح باب التضمین یسهل اللغة علی الناس. أما القول بسماعیته فهو التضییق والحجر. وإذا قلنا بهذا فربما جاء زمان یقول فیه الناس کان باب التضمین مفتوحا بالقیاس ، فسده مجمع اللغة العربیة ، وأنه لا بد من سبب اضطره إلی هذا. فإذا قرأ الناس ما جاء فی القرآن الکریم والأحادیث النبویة من التضمین ، توهموا أو ظنوا أن فیها شیئا حمل المجمع علی حظر التضمین علی الناس.
ص: 548
وأما قول حضرة الدکتور منصور إن فائدة التضمین محصورة فی مائتی کلمة ، فهذه مبالغة ، لأننا علی أی وجه خرجناه فقد خرجنا علی ما هو قیاسی : من حقیقة أو مجاز ، أو کنایة ، وهذه أمور مقیسة لا تحصر.
والقول بقصره علی الشعر والسجع - مع أن شأنهما الشیوع - یوقعنا فیما نرید الفرار منه.
واللجنة قد أدّت عملها ، وهو البحث فی مسألة التضمین ، وبقی الکلام فی اتقاء الخطأ الذی یقع فیه العامة ، فإذا رأی المجمع أن اتقاء ذلک یکون بقصر استعمال التضمین علی العارفین باللغة ودقائقها ، فإنی أوافق علیه. وإذا رأی المجمع أن یرجئ بت الکلام فی التضمین ، فله ما یری.
حضرة رئیس الجلسة : لا بد أن نقر فیه الیوم قرارا.
حضرة العضو المحترم الأستاذ فیشر : أنا موافق علی ما قال الدکتور منصور فهمی والأب الکرملی. وقولهما بالتقریب هو قول فقهاء اللغة الأوربیین العصریین فی حیاة اللسان وتقدّمه وترقیه. حسن عندهم ما یرد فی الأشعار المشهورة وفی کتب الأدب الحسنة وما یسمع من ناس کثیرین. والسماع عندهم أولی من القیاس.
حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : أری أن أضیف فی آخر القرار الذی اقترحته العبارة الآتیة : «ویوصی المجمع ألا تستعمل هذه الرخصة فی کتابة المبتدئین ، ولا فی الکتابة العلمیة».
حضرة العضو المحترم محمد کرد علی (بک) : لا أری ، وقد ضبطت اللغة وقررت قواعدها وأصولها بلاغتها ، أن نقر شیئا جدیدا فی التضمین ، لأنی أخشی أن یفتح الباب لکل کاتب أو شاعر أن یخترع أمورا وتعابیر تزیدنا اضطرابا ولا یقرها القدماء الذین عرفوا ضوابط اللغة برمتها ، وعللوا فی هذه المسألة مسألة التضمین التی نحن بصددها ، فقال قوم بقیاسیتها وآخرون بسماعیتها إلخ. وإذا کان لا بد من التعرض لهذه المسألة التی قتلها زملائی بحثا کاد یخرجنا عن الغرض الذی نتوخاه - إذا کان لا بد من التعرض لهذه المسألة ، فأری إجراء تعدیل خفیف فی صورة القرار الذی اقترحه الأستاذ الإسکندری ، أو نسکت الآن عن هذه المسألة وهو الأولی ، ونصرف جهدنا إلی العملیات لنخرج أولا للأمة ألفاظا وتعابیر
ص: 549
تشتد الحاجة إلیها من ألفاظ العلوم والفنون ، وبذلک نکون قد قمنا بالجزء العملی من واجب المجمع.
حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : قال بعض حضرات الأعضاء إن التضمین لا یقبل منه إلا ما یستسیغه الذوق البلاغی ، فبماذا تحدون الذوق البلاغی؟ حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : وضعت کلمة الذوق البلاغی العربی ، اتقاء لحذلقة بعض الناس ، مثل کتاب البرازیل وغیرها ممن خرجوا علی قواعد اللغة وأسالیبها ، حتی صار کلامهم یشبه الرطانة ، فإذا جاءنا واحد من هؤلاء وقال إن هذا ذوقی الخاص ، قلنا له إنک تخالف الذوق العربی الذی لا یزال ثابتا بحکم الفطرة والسلیقة فی البلاد العربیة ، والذی یجری علی قواعد اللغة والبلاغة ولا ینفر منها.
حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : أنکتفی بعبارة الذوق البلاغی ، ویکون هذا مرجعنا عند الاختلاف ، أم نأتی بأمثلة ضوابط؟
حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : نرید ألا یرد الأمر إلی الذوق ، بل نستخرج ضوابط بعد درس أمثلة.
حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : المتقدّمون لم یدوّنوا قواعدهم إلا بعد الاستقصاء ، ولا نرید أن نبحث فی أصول القواعد من جدید ، فکل هذا قد فرغ منه العلماء قبلنا بأکثر من ألف سنة.
حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : المجمع مکلف تقدیم تراکیب صحیحة لتتبع ، وتراکیب فاسدة لتجتنب ، ورجع الناس إلی الذوق لا معنی له وکأننا لم نعمل شیئا ، وابن جنی وغیره لم یکلفوا تقدیم تراکیب للأمة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ علی الجارم : هل تری أن یقال ؛ الذوق العربی.
حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : الذوق العربی یختلف.
حضرة رئیس الجلسة : أترید أن نحذف کلمة «الذوق»؟
حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : لا ، ولکننی أرید أن نضع ضوابط لنحدد ما الذوق؟
ص: 550
حضرة العضو المحترم الدکتور فارس تمر : التضمین صحیح ، وموضوعه عربی ، ولکن المجمع یجب أن یقدّم الحقیقة علی اتباع التضمین إلا حیث تکون ضرورة.
حضرة العضو المحترم الدکتور منصور فهمی : نقول : «ویوصی المجمع ألا یستعمل التضمین فی الکتابة العامة».
حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : أوافق علی هذا ، والأصل ألا تخرج عن الحقیقة إلا لنکتة بلاغیة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد العوامری (بک) أقترح أن یقال : «ویوصی المجمع ألا یلجأ إلی التضمین إلا لغرض بلاغی».
فوافق أکثر الأعضاء علی هذا.
وأمر رئیس الجلسة أن یقرأ نص القرار النهائی ، وهو :
ص: 551
«التضمین أن یؤدی فعل أو ما فی معناه فی التعبیر مؤدی فعل آخر أو ما فی معناه ، فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم».
ومجمع اللغة العربیة یری أنه قیاسی لا سماعی ، بشروط ثلاثة.
الأول : تحقق المناسبة بین الفعلین.
الثانی : وجود قرینة تدل علی ملاحظة الفعل الآخر ، ویؤمن معها اللبس.
الثالث : ملاءمة التضمین للذوق العربی.
ویوصی المجمع ألا یلجأ إلی التضمین إلا لغرض بلاغی».
فوافق أکثر حضرات الأعضاء علی هذا النص (1).
ص: 552
ص: 553
بحث نفیس لابن جنی (1) ، عنوانه : «باب فی اللغة المأخوذة قیاسا»
هذا موضع کأن فی ظاهره تعجرفا ، وهو مع ذلک تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلا عن صدور الأشیاخ ، وهو أکثر من أن أحصیه فی هذا الموضع لک ، لکنی أنبهک علی کثیر من ذلک ، لتکثر التعجب ممن تعجب منه ، أو یستبعد الأخذ به.
وذلک أنک لا تجد مختصرا من العربیة إلا وهذا المعنی منه فی عدة مواضع ، ألا تری أنهم یقولون فی وصایا الجمع : إن ما کان من الکلام علی فعل فتکسیره علی : أفعل ؛ ککلب وأکلب ، وکعب وأکعب ، وفرخ وأفرخ ... ، وما کان علی غیر ذلک من أبنیة الثلاثی فتکسیره فی القلة علی أفعال : نحو جبل وأجبال ، وعنق وأعناق ، وإبل وآبال ، وعجز وأعجاز ، وربع وأرباع ، وضلع وأضلاع ، وکبد وأکباد ، وقفل وأقفال ، وحمل وأحمال و... ؛ فلیت شعری هل قالوا هذا لیعرف وحده ، أو لیعرف هو ویقاس علیه غیره؟ ألا تراک لو لم تسمع تکسیر واحد من هذه الأمثلة ، بل سمعته منفردا أکنت تحتشم من تکسیره علی ما کسّر علیه نظیره؟ لا ، بل کنت تحمله علیه للوصیة التی تقدمت لک فی بابه ، وذلک کأن یحتاج إلی تکسیر : «الرّجز» الذی هو العذاب ، فکنت قائلا - لا محالة - «أرجاز» ؛ قیاسا علی : «أحمال». وإن لم تسمع «أرجازا» فی هذا المعنی. وکذلک لو احتجت إلی تفسیر عجر ، من قولهم : «وظیف عجر (2)» لقلت : «أعجار» ؛ قیاسا علی یقظ (3) وأیقاظ ، وإن لم تسمع «أعجارا». وکذلک لو احتجت إلی تکسیر : «شیع» ، بأن توقعه علی
ص: 554
النوع ، لقلت «أشیاع» ، وإن لم تسمع ذلک ، لکنک سمعت : «نطع وأنطاع» ، و «ضلع وأضلاع» ، وکذلک لو احتجت إلی تکسیر : «دمثر (1)» لقلت : «دماثر» ؛ قیاسا علی : «سبطر وسباطر».
وکذلک قولهم : إن کان الماضی علی «فعل» فالمضارع منه علی یفعل : فلو أنک علی هذا سمعت ماضیا علی فعل ، لقلت فی مضارعه یفعل ، وإن لم تسمع ذلک ، کأن یسمع سامع ضؤل ، ولا یسمع مضارعه ؛ فإنه یقول فیه یضؤل ، وإن لم یسمع ذلک ، ولا یحتاج أن یتوقف إلی أن یسمعه ، لأنه لو کان محتاجا إلی ذلک لما کان لهذه الحدود والقوانین التی وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنی یفاد ، ولا غرض ینتحیه الاعتماد ، ولکان القوم قد جاءوا بجمیع المواضی والمضارعات ، وأسماء الفاعلین ، والمفعولین ، والمصادر ، وأسماء الأزمنة ، والأمکنة ، والأحادیّ والثنائی ، والجموع والتکابیر ، والتصاغیر (2) ، ولما أقنعهم أن یقولوا : إذا کان الماضی کذا وجب أن یکون المضارع کذا ، واسم فاعله کذا ، واسم مفعوله کذا ، واسم مکانه کذا ، واسم زمانه کذا ؛ ولا قالوا : إذا کان المکبر کذا فتصغیره کذا ، وإذا کان الواحد کذا فتکسیره کذا - دون أن یستوفوا کل شیء من ذلک ، فیوردوه لفظا منصوصا معینا ، لا مقیسا ولا مستنبطا کغیره من اللغة ؛ التی لا تؤخذ قیاسا ولا تنبیها ؛ نحو : دار ، وباب ، وبستان ، وحجر ، وضبع ، وثعلب ، وخزز ، لکن القوم بحکمتهم وزنوا کلام العرب فوجدوه ضربین : أحدهما ما لا بد من تقبله کهیئته لا بوصیة فیه ، ولا تنبیه علیه ؛ نحو : حجر ، ودار ، وما تقدم ؛ ومنه ما وجدوه یتدارک بالقیاس ، وتخف الکلفة فی علمه علی الناس ، فقننوه وفصلوه ، إذ قدروا علی تدارکه من هذا الوجه القریب ، المغنی عن المذهب الحزن (3) البعید. وعلی ذلک قدم الناس فی أول المقصور والممدود ما یتدارک بالقیاس والأمارات ، ثم أتبعوه ما لا بد له من السماع والروایات ، فقالوا : المقصور من حاله کذا ، ومن صفته کذا ؛ والممدود من أمره کذا ، ومن سببه کذا. وقالوا :
ص: 555
ومن المؤنث الذی فیه علامات التأنیث کذا ، وأوصافه کذا ، ثم لما أنجزوا ذلک قالوا : ومن المؤنث الذی روی روایة کذا وکذا ، فهذا من الوضوح علی مالا خفاء به.
فلما رأی القوم کثیرا من اللغة مقیسا منقادا وسموه بمواسمه ، وغنوا بذلک عن الإطالة والإسهاب فیما ینوب عنه الاختصار والإیجاز ، ثم لما تجاوزوا ذلک إلی ما لا بد من إیراده ، ونص ألفاظه التزموا وألزموا کلفته ؛ إذ لم یجدوا منها بدّا ، ولا عنها مصرفا.
ومعاذ الله أن ندعی أن جمیع اللغة تستدرک بالأدلة وقیاسا ، لکن ما أمکن ذلک فیه قلنا به ، ونبهنا علیه ، کما فعله من قبلنا ، ممن نحن له متبعون ، وعلی مثله وأوضاعه حاذون. فأما هجنة الطبع ، وکدورة الفکر ، وجمود النفس ، وخیس (1) الخاطر ، وضیق المضطرب ، فنحمد الله علی أن حماناه ، ونسأله سبحانه أن یبارک لنا فیما آتاناه ، ویستعملنا به فیما یدنی منه ، ویوجب الزلفة لدیه ، بمنه) اه.
* * *
هذا البحث النفیس لابن جنّی یذکرنا بما له من آراء جلیلة أخری ، یتصل منها بموضوعنا قوله (2) :
(حکی لنا أبو علی عن ابن الأعرابی ، أظنه قال : یقال : درهمت الخبّازی ، أی : صارت کالدّرهم ، فاشتق من الدرهم ، وهو اسم أعجمی. وحکی أبو زید : رجل مدرهم ، ولم یقولوا منه «درهم» إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فی الکفّ (3) ، ولهذا أشباه ...» اه.
ثم قال بعد ذلک (4) :
ص: 556
«لیس کل ما یجوز فی القیاس یخرج به سماع ؛ فإذا حذا إنسان علی مثلهم ، وأمّ مذهبهم ، لم یجب أن یورد فی ذلک سماعا ، ولا أن یرویه روایة ...».
وکذلک قوله (1) : «إذا ثبت أمر المصدر الذی هو الأصل لم یتخالج شک فی الفعل الذی هو الفرع. قال لی أبو علیّ بالشام : إذا صحت الصفة فالفعل فی الکف. وإذا کان هذا حکم الصفة کان فی المصدر أجدر ؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ؛ ألا تری أن فی الصفة نحو : مررت بإبل مائة ، وبرجل أبی عشرة أهلة ...». اه.
ص: 557