النحو الوافی المجلد 2

اشارة

سرشناسه : حسن، عباس

عنوان و نام پدیدآور : النحو الوافی مع ربطه بالا سالیب الرفیعه و الحیاه اللغویه المتجدده/ تالیف عباس حسن.

مشخصات نشر : تهران : ناصرخسرو، 1422ق.= 1380.

مشخصات ظاهری : 4 ج.

مندرجات : ج. 1. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 2. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 3. القسم الموجز للطلبه الدداسات النحویه و الصرفیه بالجامعات و المفصل للاساتذه و المتخصصین مشتمل علی ضوابط و الاحکام التی قررتها الجامع اللغویه و موتمراتها الرسمیه .-- ج. 4. القسم الموجز للطلبه الدراسات النحویه بالجامعات و المفصل للاسائذه و المتخصصین

موضوع : زبان عربی -- نحو

رده بندی کنگره : PJ6151/ح 45ن 31380

رده بندی دیویی : 492/75

شماره کتابشناسی ملی : م 68-685

توضیح : «النحو الوافی»، تألیف عباس حسن، از جمله آثار معاصر در موضوع علم نحو است که به شیوه ای آموزشی، در چهار مجلد به زبان عربی تألیف شده است.کتاب، مشتمل بر یک مقدمه و چهار جزء است. ابواب کتاب، بنا بر ترتیبی که ابن مالک در «الفیه» انتخاب کرده و بسیاری از نحویون پس از او اختیار کرده اند، مرتب شده است.

نویسنده در تألیف کتاب، به شیوه آموزشی معینی ملتزم نبوده و به تناسب از شیوه های استنباطی، القائی و محاوره ای استفاده کرده است.همچنین در پاورقی پس از بیان قاعده و شرح آن، ابیاتی از الفیه را که مرتبت با بحث بوده نقل کرده و به طور خلاصه توضیح داده است.

در مواردی که بین یک مبحث از صفحات پیشین یا پسین رابطه ای با مسئله مورد بحث بوده، به صفحه آن بحث اشاره شده است.

ص: 1

اشارة

ص: 2

المسألة 60: ظنّ وأخواتها

اشارة

(1)

الکلام عنوان علی صاحبه - علمت الکلام عنوانا علی صاحبه المجاملة حارسة للصّداقة - ظننت المجاملة حارسة للصداقة الوفاء دلیل علی النّبل - اعتقدت الوفاء دلیلا علی النبل ... الماء الجامد ثلج - صیّر البرد الماء ثلجا الجلد أسود - ردّت (2) الشمس الجلد أسود الخشب مشتعل - ترکت النار الخشب رمادا من النواسخ ما یدخل - فی الغالب - علی المبتدأ والخبر فینصبهما معا (3) ، ویغیر اسمهما ؛ إذ یصیر اسم کل منهما : «مفعولا به (4)» للناسخ. (مثل : علم. ظنّ - اعتقد - صیّر ...) وغیرها من الکلمات التی تحتها خطّ فی الأمثلة المعروضة. وهذا هو : «القسم الثالث» من النواسخ. ویشتهر باسم : «ظنّ وأخواتها» ولیس فیه حروف ؛ فکله أفعال ، أو أسماء تعمل عملها. وتنحصر هذه الأسماء فی مصادر تلک الأفعال ، وفی بعض المشتقات العاملة عملها.

ص: 3


1- هما من النواسخ. ویلاحظ ما لا یصلح أن یدخل علیه الناسخ ، (وقد سبق بیانه وبیان معنی الناسخ ، وعمله ، وأقسامه ، وما یتصل بهذا - فی ج 1 ص 402 م 42 - باب : «کان وأخوتها». وتأتی له إشارة فی ص 20).
2- صیرت.
3- وبالرغم من اعتبارهما مفعولین هما عمدتان - لا فضلتان کبقیة المفعولات - کما سیجیء فی رقم 1 هامش ص 168 ، لأن أصلهما المبتدأ والخبر فیکون الثانی فی المعنی هو الأول - ولو تأویلا - والأول هو الثانی أیضا ؛ کالشأن فی المبتدأ والخبر دائما. وقد یدخل هذا الناسخ علی غیرهما ، - کما سنعرف فی «ا» من ص 11 - والمفعول الثانی هنا هو الذی تتم به الفائدة الأساسیة ؛ لأنه الخبر فی الأصل ، فهو أهم. وإنما کان دخول هذا النوع من النواسخ علی المبتدأ والخبر أمرا غالبیا ، لأن منه ما قد یدخل علیهما ، وعلی غیرهما ، کالفعل : «حسب» ومنه ما لا یدخل إلا علی غیرهما ؛ کأفعال التحویل الآتیة - فی ص 8 -. وللنحاة تعلیل یسوغ الدخول علی غیرهما ، سیجیء فی «ا» من ص 11.
4- لاحظ ما یأتی فی «ج» من ص 12 ، لأهمیته.

فالفعل الماضی المتصرف (1) هنا ، لا ینفرد وحده بالعمل السالف ؛ وإنما یشابهه فیه ما قد یکون له من مضارع ، وأمر ، ومصدر ، واسم فاعل. واسم مفعول ، دون بقیة المشتقات (2) الأخری. أما غیر المتصرّف فعمله مقصور علی صیغته الخاصة ؛ إذ لیس لها فروع ، ولا صیغ أخری تتصل بها.

وقد ارتضی بعض النحاة تقسیم الأفعال العاملة هنا قسمین ؛ مراعیا الأغلب فی استعمالها (3) ؛ هما : «أفعال قلوب» (4) ، و «أفعال تحویل» (5). ولا بد لکل فعل فی القسمین من فاعل (6) ؛ ولا یغنی عنه وجود المفعولین أو أحدهما :

ص: 4


1- الفعل الماضی المتصرف إما أن یکون تصرفه کاملا ؛ - فیکون له المضارع ، والأمر ، والمصدر ، واسم الفاعل ... وبقیة المشتقات المعروفة ، کالفعل : «سمع» - وإما أن یکون تصرفه ناقصا ؛ فیکون له بعض تلک الأشیاء فقط ؛ کالفعل : «کاد» ، من أفعال المقاربة. وکالفعل : «یدع». أما غیر المتصرف مطلقا فهو الجامد الذی یلازم صیغة واحدة لا یفارقها ؛ کالفعل : «تعلّم» بمعنی. «اعلم» ، والفعل : «هب» ، بمعنی : ظنّ. وهما من أفعال هذا الباب القلبیة ، وکالفعل «عسی» و «لیس» وهما من أخوات «کان».
2- رددنا فی مناسبات مختلفة ، أسماء المشتقات الاصطلاحیة من المصدر ؛ وهی : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضیل ، المصدر المیمی ، اسم الزمان ، اسم المکان ، اسم الآلة. (ویدخل فی عداد المشتقات الأفعال بأنواعها الثلاثة). وهذه المشتقات قسمان : قسم یعمل عمل فعله بشروط ؛ فیرفع الفاعل مثله ، أو نائب الفاعل ، وقد ینصب المفعول به ، کفعله أحیانا ، وهو : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضیل ، المصدر المیمی. ویدخل فی هذا القسم : المصدر الأصلی أیضا (بالرغم من جموده ، فی الرأی الشائع) .. وقسم لا یعمل شیئا من عمل الفعل ؛ ویسمی : «المهمل». وهو اسم الزمان ، واسم المکان ، واسم الآلة. ولا دخل لهذا القسم المهمل بأحکام هذا الباب. بل إن بعض المشتقات العاملة لا دخل لها به ؛ فالصفة المشبهة الأصیلة خارجة من أحکامه ؛ لأنها تجیء من الفعل اللازم وحده ؛ فلا تنصب مفعولا به. أما غیر الأصیلة فقد تنصب بالشروط والطریقة المذکورة فی بابها (ج 3 ص 211 م 104) وأفعل التفضیل خارج ؛ لأنه لا ینصب مفعولا به. والفعل الماضی الذی للتعجب خارج ؛ لأنه ینصب مفعولا واحدا. فالثلاثة لا تصلح لأحکام هذا الباب ، - کما سیجیء فی ص 25 م 61 -.
3- راجع «ج» من ص 12 حیث تقسیم آخر ، وبیان عن سبب التقسیمین.
4- سمیت بذلک لأن معانیها قائمة بالقلب ، متصلة به ، وهی المعانی النفسیة التی تعرف الیوم : بالأمور النفسیة ؛ ویسمیها القدماء : الأمور القلبیة ؛ لاعتقادهم أن مرکزها القلب. ومنها : الفرح - الحزن - الفهم - الذکاء - الیقین - الإنکار ...
5- تدل علی انتقال الشیء من حالة إلی حالة أخری تخالفها. وتسمّی أیضا : «أفعال التصییر» ؛ لأن کل فعل منها بمعنی : «صیّر» ، أی : حوّل الشیء من حالته القائمة إلی أخری تغایرها.
6- بخلاف «کان» وأخواتها من الأفعال الناسخة ؛ فإنها لا ترفع الفاعل - کما سبق - وهذا أحد وجوه الاختلاف بین النوعین.

(أ) فأما أفعال القلوب (1) فمنها ما قد یکون معناه العلم. (أی : الدلالة علی الیقین (2) والقطع) ، ومنها ما قد یکون معناه الرّجحان (3). ویشتهر من الأولی سبعة (4) :

1- علم (5) ؛ مثل : علمت البرّ سبیل المحبة. وعلمت المحبة سبیل القوة.

2- رأی (6) ؛ مثل : رأیت الأمل داعی العمل ، ورأیت الیأس رائد الإخفاق ، وقول الشاعر :

رأیت لسان المرء وافد (7)

عقله

وعنوانه ؛ فانظر بماذا تعنون

3- وجد ؛ مثل : وجدت ضعاف الأمم نهبا لأقویائها ، ووجدت العلم أعظم أسباب القوة.

4- دری ؛ مثل : دریت المجد قریبا من الدائب فی طلبه ، ودریت لذة إدراکه ماحیة تعب السعی إلیه.

ص: 5


1- أفعال القلوب ثلاثة أنواع ؛ نوع لازم (لا ینصب المفعول به) مثل : فکّر - تفکر - حزن - جبن .... ونوع ینصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : خاف - أحب - کره .... ونوع ینصب مفعولین ؛ کأفعال هذا الباب المذکورة هنا ، بشرط أن تؤدی معنی معینا ؛ کما سنعرف.
2- هو : الاعتقاد الجازم الذی لا یعارضه دلیل آخر یسلم به المتکلم. وقد یکون هذا الاعتقاد صحیحا فی الواقع أو غیر صحیح.
3- الشک : ما ینشأ فی النفس من تعارض دلیلین فی أمر واحد ؛ بحیث تتساوی قوتهما فی التعارض والاستدلال ؛ فلا یستطیع المرء ترجیح أحدهما علی الآخر ؛ لعدم وجود مرجح. أما الرجحان أو الظن ، فهو ما ینشأ من تغلب أحد الدلیلین المتعارضین فی أمر ؛ بحیث یصیر أقرب إلی الیقین. فالأمر الراجح محتمل للشک والیقین ، لکنه أقرب إلی الیقین منه إلی الشک. وفی هذه الحالة یسمی المرجوح : «وهما».
4- قد یستعمل کل منها فی معان أخری غیر الیقین ؛ فینصب مفعولا واحدا ، أو لا ینصب. (وسنعرض لبعض هذا فی ص 12).
5- سیجیء فی الباب التالی : «أعلم وأری» - ص 55 - حکم الفعلین : «علم» و «رأی» إذا سبقتما همزة النقل ؛ (أی : همزة التعدیة). ومما یتصل بمعنی الفعل «رأی» وباستعماله وروده فی الأسالیب العالیة بمعنی : «أخبرنی» ؛ نحو : أرأیتک هذا الکتاب هل عرفت قیمته؟ ... وقد أوضحنا هذا الأسلوب ، ونوع الکاف وحکمها ، بتفصیل واف یشمل معناه ، وصیاغته ، وطریقة استعماله ... (فی باب الضمیر ص 215 ، م 19 من الجزء الأول). وستجیء له تتمة هامة فی ص 15.
6- سیجیء فی الباب التالی : «أعلم وأری» - ص 55 - حکم الفعلین : «علم» و «رأی» إذا سبقتما همزة النقل ؛ (أی : همزة التعدیة). ومما یتصل بمعنی الفعل «رأی» وباستعماله وروده فی الأسالیب العالیة بمعنی : «أخبرنی» ؛ نحو : أرأیتک هذا الکتاب هل عرفت قیمته؟ ... وقد أوضحنا هذا الأسلوب ، ونوع الکاف وحکمها ، بتفصیل واف یشمل معناه ، وصیاغته ، وطریقة استعماله ... (فی باب الضمیر ص 215 ، م 19 من الجزء الأول). وستجیء له تتمة هامة فی ص 15.
7- رسول عقله ودلیله. وبعد هذا البیت : ویعجبنی زیّ الفتی وجماله فیسقط من عینیّ ساعة یلحن

5- ألفی (1) ؛ مثل : ألفیت الشدائد صاقلة للنفوس ، وألفیت احتمالها سهلا علی کبار العزائم.

6- جعل ؛ مثل : جعلت (2) الإله واحدا ، لا شکّ فیه.

7- تعلّم (3) ؛ بمعنی «اعلم» : مثل : تعلّم وطنک شرکة بین أبنائه ، وتعلّم نجاح الشرکة رهنا بالإخلاص والعمل.

ویشتهر من الثانیة ثمانیة (4) :

1- ظن ؛ مثل : ظنّ الطیار النهر قناة ، وظن البیوت الکبیرة أکواخا.

2- خال (5) ؛ مثل : خال المسافر الطیارة أنفع له ، وهو یخال الرکوب فیها متعة.

3- حسب ؛ مثل : أحسب السهر الطویل إرهاقا ، وأحسب الإرهاق سبیل المرض ، وقول الشاعر :

لا تحسبنّ الموت موت البلی

وإنما الموت سؤال الرجال (6)

ص: 6


1- لا یستعمل هذا الفعل هنا إلا مزیدا بالهمزة.
2- أی : اعتقدت. ومن هذا - فی بعض الآراء - قوله تعالی : (وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أی : اعتقدوا. - انظر رقم 4 فی الصفحة الآتیة - : ولهذا الفعل معان أخری سیجیء بعضها (وقد أشرنا لها فی رقم 2 من هامش ص 9).
3- الفعل : «تعلم» بمعنی : «اعلم» ، فعل أمر جامد - عند فریق من النحاة - لا یجیء من صیغته الأصلیة غیر الأمر ، مع کثرة دخوله علی مصدر مؤول ، أداته : «أنّ» المشددة أو المخففة الناسختین ، أو «أن» الداخلة علی الفعل ؛ نحو : تعلم أن وطنک شرکة .. وتعلم أن تنجح الشرکة بالإخلاص (کما فی رقم 3 من هامش ص 11). ومتصرف عند فریق آخر یجری علیه أحکام الفعل المتصرف. وقد شاع الرأی الأول فیحسن اتباعه ؛ توحیدا للتفاهم (وسیجیء إیضاح هامّ لمعناه فی رقم 2 من هامش ص 18).
4- وقد یستعمل کل منها فی معان أخری ؛ فینصب مفعولا واحدا ، أو لا ینصبه (کما سیجیء قریبا فی ج من ص 12 وما بعدها).
5- ومضارعها المسموع للمتکلم : إخال - بکسر الهمزة غالبا ، وهذا السماعیّ مخالف للقیاس - فإن کان الفعل «خال» بمعنی : تکبر ، أو ظلع التی بمعنی : عرج .. فهو لازم.
6- بعد هذا البیت : کلاهما موت. ولکنّ ذا أفظع من ذاک ، لذل السّؤال

4- زعم (1) ؛ مثل : زعمت الملاینة مرغوبة فی مواطن ، وزعمت التشدد مرغوبا فی أخری.

5- عدّ ؛ مثل : عددت الصدیق أخا. وقول الشاعر :

فلا تعدد المولی (2)

شریکک فی الغنی

ولکنما المولی شریکک فی العدم (3)

6- حجا ؛ مثل : حجا السائح المئذنة برج مراقبة.

وقول الشاعر :

قد کنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتی ألمّت بنا یوما ملمّات

7- جعل ؛ مثل : جعل الصیاد السمکة الکبیرة حوتا. وقوله تعالی فی المشرکین : (وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...)(4)

8- هب ؛ مثل : هب مالک سلاحا فی یدک ؛ فلا تعتمد علیه وحده.

ص: 7


1- کثر الکلام فی معنی : «زعم». وصفوة ما یقال : إنها قد تکون بمعنی الیقین أحیانا عند المخاطب ؛ کقول أبی طالب یخاطب الرسول علیه السّلام : ودعوتنی وزعمت أنک ناصح ولقد صدقت ، وکنت ثمّ أمینا وقد تکون بمعنی الاعتقاد من غیر دلیل ؛ کقوله تعالی : (زَعَمَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنْ لَنْ یُبْعَثُوا ...) إلخ. وقد تدل علی الرجحان. وقد تستعمل للدلالة علی الشک ، وهو الغالب فی استعمالها ، وقد تستعمل فی القول الکاذب ؛ فإذا قلت : «زعم فلان کذا» ، فکأنک قلت : کذب ، وردد کلاما غیر صحیح. والقرینة هی التی تحدد المعنی المناسب للمقام من بین المعانی السالفة. وزعم - کغیرها من الأفعال القلبیة الناصبة للمفعولین - قد تنصب المفعولین مباشرة ، وقد تدخل علی «أن» مع الفعل وفاعله ، أو «أنّ» مع معمولیها ؛ فیکون المصدر المؤول فی الحالتین سادا مسد المفعولین ، ومغنیا عنهما ، وهذا هو الأغلب فی «زعم» - کما سیجیء فی رقم 3 من هامش ص 11 - وإلیه تمیل أکثر الأسالیب الأدبیة ؛ کقوله تعالی : (زَعَمَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنْ لَنْ یُبْعَثُوا ....) وقول الشاعر : وقد زعمت أنی تغیرت بعدها ومن ذا الذی - یا عزّ - لا یتغیر
2- الناصر ، أو الصدیق.
3- الفقر الشدید.
4- وقیل : إن «جعل» هنا بمعنی : اعتقد - کما فی رقم 2 من هامش الصفحة السالفة.

وهذا الفعل دون بقیة أفعال الرجحان - جامد ، ملازم صیغة الأمر (1).

* * *

(ب) وأما أفعال التحویل (أو : التّصییر) فأشهرها سبعة ، ولا تدخل علی مصدر مؤول من «أنّ» مع معمولیها ، أو «أن» والفعل وفاعله (2) ...

1- صیّر ؛ مثل : صیّر (3) الصائغ الذهب سبیکة ، وصیّر السبیکة سوارا.

2- جعل ؛ مثل : جعل الغازل القطن خیوطا ، وجعل الحائک الخیوط نسیجا.

وقول الشاعر :

اجعل شعارک رحمة ومودة

إن القلوب مع المودة تکسب

3- اتّخذ ؛ مثل : اتخذ المهندسون الحدید والخشب باخرة ، واتخذ المسافرون الباخرة فندقا.

4- تخذ ؛ مثل : تخذت الحرارة الثلج ماء ، وتخذت الماء بخارا.

5- ترک ؛ مثل : ترک الموج الصخور حصی ، وترکت الشمس الحصی رمالا.

6- ردّ ؛ مثل : ردّ الأمل الوجوه الشاحبة مشرقة ، ورد النفوس الیائسة مستبشرة.

ص: 8


1- هو فعل أمر ، بمعنی : «ظنّ» وهو بهذا المعنی فعل جامد ، لا یکون منه غیر الأمر ، ودخوله علی «أنّ» مع معمولیها جائز ، نحو : هب أن الآمال محققة. فالمصدر المؤول من أن مع معمولیها فی محل نصب ، سد مسد المفعولین. وهذا استعمال نادر فی الأسالیب الرفیعة ، بالرغم من إجازته (انظر الخضری والتصریح. ثم رقم 3 من هامش ص 11 الآتیة).
2- انظر «ب» من ص 11.
3- «صیّر» ، و «أصار» ، فعلان ، أصلهما قبل التعدیة بالتضعیف والهمزة : «صار» الذی هو من أخوات «کان» ، نحو : صار الخشب بابا. وبعد تعدیتهما ابتعدا عن عمل «کان» ، وانتقلا منه إلی نصب المفعولین ؛ نحو : صیّر الجوهری الدر فصوصا ، وأصار الفصوص عقدا. أما «صیّر» بمعنی : «نقل» فینصب مفعولا واحدا ، نحو : صیرت السائح إلی دار الآثار ، أی : نقلته.

7- وهب ؛ مثل : وهبت الآلات الحدیثة السنابل حبّا ، ووهبت الحبّ دقیقا ، ووهبت الدقیق عجینا (1).

وفیما یلی بیان موجز للأفعال السابقة (2) ، وأنواعها المختلفة :

ص: 9


1- وهب ، بمعنی : «صیر» - فعل ماض جامد ، ولا یستعمل فی معنی التحویل إلا بصیغة الماضی. ومنه قولهم : «وهبنی الله فداء الحق» ، أی : صیرنی.
2- إلی ما سبق یشیر ابن مالک باختصار ، قائلا : انصب بفعل القلب جزأی ابتدا أعنی : رأی - خال - علمت - - وجدا ظنّ - حسبت - وزعمت - مع عد حجا - دری - وجعل ؛ اللّذ کاعتقد وهب - تعلّم - والّتی کصیّرا أیضا - بها انصب مبتدا وخبرا أی : انصب بفعل القلب جملة ذات ابتداء. وسرد فی الأبیات کثیرا من أفعال القلوب التی شرحناها ؛ منها ما یدل علی الیقین ، ومنها ما یدل علی الرجحان. وقبل سردها صرح بکلمة : «أعنی» لیدل علی أن المقصود أفعال معینة ، دون غیرها ؛ فلیس کل فعل قلبی ینصب مفعولین - کما أوضحنا فی رقم 1 من هامش ص 5 - وطالب أن تنصب هذه الأفعال جزأی ابتداء (وهما : المبتدأ والخبر) کما أشار إلی أن «جعل» إذا کان من أفعال القلوب - أی : بمعنی الفعل : «اعتقد» - فإنه ینصب مفعولین مثله. وهو یختلف فی المعنی والعمل عن «جعل» الذی سبق الکلام علیه فی باب : «أفعال المقاربة والشروع» من الجزء الأول ، کما یختلف فی معناه عن «جعل» الذی هو من أفعال الرجحان ، والذی من أفعال التحویل والتصییر ؛ کما عرفنا فی الشرح. والفعل : «اعتقد» معدود من أفعال کثیرة قد تنصب مفعولین ولم تذکر فی هذا الباب. منها : تیقن - تمنی - توهم - تبین - شعر - أصاب .... إلی غیر هذا مما سرده صاحب الهمع (ج 1 ص 151) ونقل بعضه الصبان هنا. أما أفعال التحویل والتصییر فلم یذکرها ابن مالک ، واکتفی بأن یشیر إلیها بقوله : .... والّتی کصیّرا أیضا بها انصب مبتدا وخبرا أی : انصب - أیضا - مبتدأ وخبرا بالنواسخ التی مثل «صیر» فی إفادة التحویل. وقضنت ضرورة الشعر علی الناظم بزیادة الألف فی آخر الفعلین : «وجد» ، «صیر» ، وبتخفیف الدال فی الفعل : عد. أما کلمة : «اللذ» فی أبیاته فهی لغة صحیحة فی «الذی».

صورة

(1)

ص: 10


1- وهذا الفعل یستعمل - أحیانا - فی القسم غیر الصریح ، فیحتاج لجواب ، وتکسر بعده همزة «إنّ» ... - وقد أشرنا لهذا فی آخر الجزء الأول عند الکلام علی کسر همزة «إن» ، وله إشارة تجیء فی ص 460 -

زیادة وتفصیل

(ا) لیس من اللازم - کما أشرنا (1) - أن یکون المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر حقیقة ، بل یکفی أن یکون أصلهما کذلک ولو بشیء من التأویل المقبول ، کالشأن فی أفعال التحویل ، وکالشأن فی : «حسب» ؛ مثل : صیرت الفضة خاتما ؛ إذ لا یصح المعنی بقولنا : الفضة خاتم ؛ لأن الخبر هنا لیس المبتدأ فی المعنی ؛ فلیست الفضة هی الخاتم ، ولیس الخاتم هو الفضة ؛ إلا علی تقدیر أن هذه الفضة ستئول (2) إلی خاتم. ومثل : حسبت المرّیخ الزّهرة ؛ إذ لا یقال : المرّیخ الزّهرة ؛ لفساد المعنی کذلک ؛ فلیس أحدهما هو الآخر ، إلا علی ضرب من التشبیه ، أو نحوه من التأویل السائغ ، المناسب للتعبیر. فالأول (أی : التشبیه) قد جعل المفعول الثانی بمنزلة ما أصله الخبر ، وإن لم یکن خبرا حقیقیّا فی أصله.

هذا کلامهم. والواقع أنه لا داعی لهذا التمحل ، والتماس التأویل ؛ إذ یکفی أن یکون فصحاء العرب قد أدخلوا النواسخ علی ما أصله المبتدأ والخبر حقیقة ، وعلی ما لیس أصله المبتدأ والخبر ، مما یستقیم معه المعنی.

(ب) لیس من اللازم أن تدخل أفعال هذا الباب القلبیة علی المبتدأ والخبر مباشرة ؛ فقد تدخل علی «أنّ» مع معمولیها ، أو : علی «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فیکون المصدر المؤول سادّا مسد المفعولین (3) ، مغنیا عنهما. مثل : علمت

ص: 11


1- فی رقم 3 من هامش ص 3.
2- أی : ستتحول وینتهی أمرها فی المستقبل إلیه.
3- وسنعود للکلام علی هذا المصدر عند بحث الحکم الثالث من الأحکام التی تختص بها الأفعال القلبیة (فی ص 42) ، والأغلب فی «زعم» وفی «تعلم» بمعنی : «اعلم» دخولهما علی «أن» مع معمولیها ، أو «أن». والفعل مع فاعله (کما فی رقم 3 من هامش ص 6 وفی 1 من هامش ص 7). والأغلب فی «هب» بمعنی «ظن» عدم دخوله علیهما ، برغم صحته کما سبق (فی رقم 1 من هامش ص 8). والأحسن الأخذ بالرأی السهل القائل : إن المصدر المؤول فی هذا الباب یسد مسد المفعولین ، دون الرأی القائل : إنه یسد مسد المفعول الأول ، وأن المفعول الثانی محذوف ، وتقدیره : «ثابتا» ، أو ما یشبهه ؛ ففی نحو : وجدت أن الصبر أنفع فی الشدائد - یقدرون : وجدت نفع الصبر فی الشدائد ثابتا ... وهذا نوع من التضییق والإطالة لا داعی له.

أن السباحة أسلم من الملاکمة ، وأظن أن العاقل یختار الأسلم. وقول الشاعر :

یری الجبناء أن الجبن حزم

وتلک خدیعة الطبع اللئیم

ومثل : دریت أن الکبر بغیض إلی النفوس الکبیرة ، ووجدت أن صغائر الأمور محببة إلی النفوس الصغیرة. ومثل : من زعم أن یخدع الناس فهو المخدوع ، ومن حسب أن یدرک غایته بالتمنی فهو مخبول (1).

أما أفعال التحویل فلا تدخل علی «أنّ» ومعمولیها ، ولا علی «أن» والفعل مع فاعله.

(ح) جری بعض النحاة علی تقسیم الأفعال القلبیة السابقة أربعة أقسام ، بدلا من اثنین :

فللیقین وحده خمسة : وجد - تعلم ، بمعنی : اعلم - دری - ألفی - جعل.

وللرجحان وحده خمسة : جعل - حجا - عدّ - زعم - هب ، بمعنی : ظنّ.

وللأمرین والغالب الیقین ، اثنان : رأی - علم.

وللأمرین والغالب الرجحان ، ثلاثة : ظنّ - خال - حسب.

لکن التقسیم الثنائی أنسب ؛ لأنه أدمج القسم الثالث فی الأول ، والرابع فی الثانی ؛ نظرا للغالب علیهما ، وتقلیلا للأقسام (2) ، واکتفاء بالإشارة إلی أن کل فعل قد یستعمل فی معنی آخر غیر ما ذکر له ، مع ضرب أمثلة لذلک. فمن أفعال الیقین وألفاظه ما قد یستعمل فی الرجحان ؛ فینصب مفعولین أیضا ، وقد

ص: 12


1- فی مثل قولهم : «غبت ، وما حسبتک أن تغیب» تکون الکاف حرفا محضا لمجرد الخطاب ومتصرفا. ولیس اسما ضمیرا ؛ إذ لو کان ضمیرا لکان هو المفعول الأول للفعل «حسب» ومفعوله الثانی هو المصدر المؤول (أن تجیء) ویترتب علی هذا أن یکون ذلک المصدر المؤول خبرا عن الکاف ، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر ؛ لأن مفعولی «حسب» أصلهما المبتدأ والخبر. وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبرا عن الکاف أدی إلی الإخبار بالمعنی عن الجثة. وهو ممنوع عندهم فی أغلب الحالات إذا کان المراد الإخبار من طریق الحقیقة لا من طریق المجاز. أما من طریق المجاز فصحیح - کما سبق البیان فی الجزء الأول ص 217 م 19. باب : «الضمیر» عند الکلام علی «کاف الخطاب».
2- راجع الخضری أول هذا الباب.

یستعمل فی بعض المعانی الأخری ؛ فینصب مفعولا به واحدا ، أو لا ینصب ؛ فیکون لازما. کل ذلک علی حسب معناه اللغوی الذی تدل علیه المراجع اللغویّة الخاصة ، ولیس هنا موضع استقصاء تلک المعانی ؛ وإنما نسوق بعضها :

فمن الأمثلة : الفعل «علم» ؛ فإنه ینصب المفعولین حین یکون بمعنی : اعتقد وتیقن : - کما سبق - ؛ مثل : علمت الکواکب متحرکة. وقد یکتفی بمفعول به واحد فی هذه الحالة ؛ بأن نأتی بمصدر المفعول الثانی ، وننصبه مفعولا به ، ونکتفی به ، بعد أن نجعله مضافا أیضا ، ونجعل المفعول الأول هو المضاف إلیه. فنقول : علمت تحرّک الکواکب ، فیستغنی عن المفعول الثانی وعن تقدیره. ومن النحاة من لا یقصر هذا الحکم علی «علم» ؛ بل یجعله عامّا فی جمیع أفعال هذا الباب ؛ فیجیز إضافة مصدر المفعول الثانی إلی المفعول الأول ، والاکتفاء بهذا المصدر مفعولا واحدا (1).

وقد یکون بمعنی : «ظن» فینصب مفعولین أیضا ؛ مثل : أعلم الجوّ باردا فی الغد. فإن کان بمعنی : «عرف» نصب مفعولا به واحدا (2) :

ص: 13


1- وهذا الرأی فیه اختصار محمود ، ولا ضرر فی الأخذ به أحیانا. وتفضیل أحدهما متروک للمتکلم ؛ لیختار منهما ما یناسب کلامه علی حسب الدواعی البلاغیة. ومن تلک الدواعی أن الإبانة قد تقتضینا - أحیانا - أن نصرح بالمفعولین منصوبین .... فإن لم یکن فی التصریح بهما زیادة إیضاح ، أو إزالة لبس عند السامع ، أو إتمام فائدة - فالاختصار أحسن.
2- فی بعض کتب اللغة - دون بعض - ما یدل علی أن «المعرفة» مقصورة علی العلم المکتسب بحاسة من الحواس ؛ جاء فی «المصباح المنیر» ، مادة «عرف» ما نصه : (عرفته عرفة - بالکسر - وعرفانا ، علمته بحاسة من الحواس الخمس). وأیضا یری کثیر من النحاة فرقا بین «علم» التی بمعنی : «عرف» و «علم التی بمعنی : اعتقد» وأنهما فعلان غیر متساویین لا فی المعنی ولا فی العمل ، وحجته : أن «العلم» الذی بمعنی : «المعرفة» یتعلق بنفس الشیء وذاته المادیة ؛ تقول : «علمت القمر» ، کما تقول «عرفت القمر» کلاهما معناه منصب علی ذاته المحسوسة وجرمه ، (أی : حقیقته المادیة) وعلی هذا تکون «علم التی بمعنی : عرف» مختصة عندهم بما یسمیه المناطقة : «الذات» أو : «الشیء المفرد» أی : «البسیط» وکلا الفعلین بهذا المعنی یتعدی لواحد. أما «علم» الناصبة للمفعولین فمختصة بوصف الذات بصفة ما ، ولا شأن لها بالذات مباشرة ، مثل : علمت القمر متنقلا. أی : علمت اتصاف ذات القمر بالتنقل ، ولیس المراد علمت ذات القمر وجرمه. فالفعل «علم» بهذا المعنی مختص بما یسمیه المناطقة : «الکلیات». علی أساس ما سبق کله یکون القائل : «عرفت قدوم الضیف» مریدا عرفت القدوم ذاته ، دون - - زیادة أخری علیه ، فهو لا یرید وصف الضیف بالقدوم. بخلاف من یقول : علمت من الرسالة الضیف قادما ، فإنه یرید اتصاف الضیف بالقدوم ، ولا یرید أنه علم حقیقة القدوم المنسوب إلی الضیف ، بشرط أن یکون الفعل «علم» فی هذا المثال ناصبا مفعولین. وقال الرضی : لا فرق بین الفعلین فی المعنی ، وإنما الفرق فی العمل فالفعل «علم بمعنی عرف» ینصب مفعولا واحدا ، والآخر ینصب مفعولین ، بالرغم من تساویهما معنی ؛ لأن العرب هی التی فرقت بینهما فی العمل دون المعنی ، فلا اعتراض علیها. غیر أن کلامه هذا - مع قبوله والارتیاح له - مناقض لما قرره فی هذا الشأن فی باب : «کان» - کما نصوا علی ذلک - والحق أن الخلاف بین الآراء السابقة یسیر ، یکاد یکون شکلیا ، ذلک أن بین الفعلین (المتعدی لواحد والمتعدی لاثنین) فرقا فی المعنی الحقیقی لا المجازی ، وأنه لا مانع من استعمال أحدهما مکان الآخر مجازا لسبب بلاغی.

مثل : علمت الخبر ؛ أی : عرفته (1). وإن کان بمعنی : «انشقّ» لم ینصب مفعولا به ؛ مثل : علم البعیر (2) ، أی : انشقت شفته العلیا ...

والفعل : «رأی» ینصب المفعولین إذا کان بمعنی : اعتقد وتیقّن ، أو : بمعنی : «ظنّ». وقد اجتمع المعنیان فی قوله تعالی عن منکری البعث ویوم القیامة : «إنهم یرونه بعیدا ، ونراه قریبا» (3). فالفعل الأول بمعنی : «الظن» ، والثانی بمعنی : الیقین. وکلاهما نصب مفعولین. وکذلک إن کان معناه مأخوذا من : «الحلم» (أی : دالا علی الرؤیا المنامیة) نحو : کنت نائما ؛ فرأیت صدیقا

ص: 14


1- وإلی هذا یشیر ابن مالک فی بیت متأخر ، نصه : لعلم عرفان وظنّ تهمه تعدیة لواحد ملتزمه («لعلم عرفان» ؛ أی العلم المنسوب للعرفان ، ولمعنی العرفان. «ظن تهمه» ؛ أی : الظن المنسوب معناه للتهمة ..) یرید : أن «علم» بمعنی عرف - والمصدر : العلم ؛ بمعنی : العرفان - یتعدی لمفعول واحد. ومثله : الفعل : «ظن» بمعنی : اتهم - والمصدر : الظن ؛ بمعنی : الاتهام - ومثال الأول : اقترب الشبح فعلمت صاحبه ؛ أی : عرفته. ومثال الثانی : اختفی القلم ، فظننت اللص ؛ أی : اتهمته.
2- فهو أعلم. والناقة علماء. (والفعل من بابی : فرح وضرب).
3- المراد بالبعد هنا : عدم حصول الشیء ، ونفی وقوعه. وبالقرب : حصوله ووقوعه. وعلی هذا جرت ألسنة العرب وأسالیبهم الفصیحة.

مسرعا إلی القطار (1).

فإن کان معناه الفهم وإبداء الرأی فی أمر عقلیّ فقد ینصب مفعولا به واحدا ، أو مفعولین ، علی حسب مقتضیات المعنی ؛ مثل : یختلف الأطباء فی أمر القهوة ؛ فواحد یراها ضارّة ، وآخر یراها مفیدة إذا خلت من الإفراط. أو : واحد یری ضررها ، وآخر یری إفادتها.

وکذلک ینصب مفعولا به واحدا إن کان معناه : أبصر بعینه ؛ مثل : رأیت النجم وهو یتلألأ. وقول الشاعر :

إنّ العرانین تلقاها محسّدة

ولن تری للئام الناس حسّادا

أو : کان معناه أصاب : الرئة ؛ مثل انطلق السهم فرأی الغزال ؛ أی : أصاب رئته.

وقد أشرنا قریبا (2) إلی أن الأسالیب العالیة یتردد فیها الماضی : «رأی» - دون المضارع ، والأمر ، والمشتقات الأخری - مسبوقا بأداة استفهام. ومعناه : «أخبرنی» ؛ نحو : أرأیتک هذا القمر ، أمسکون هو؟ وینصب مفعولا به ، أو مفعولین ، علی حسب المراد. وأوضحنا الأمر بإسهاب فیما سبق (3).

کذلک یتردد فی تلک الأسالیب وقوع المضارع : «أری» مبنیّا للمجهول

ص: 15


1- وفی هذا یقول ابن مالک : ولرأی الرّؤیا انم ما لعلما طالب مفعولین من قبل انتمی (انم : انسب. انتمی : انتسب. والتقدیر : انم للفعل : «رأی» الذی مصدره «الرؤیا» ما انتمی من قبل للفعل : «علم» طالب المفعولین لینصبهما. و «الرؤیا» هی المصدر الغالب لرأی الحلمیة) أی : انسب للفعل : «رأی» الذی مصدره : «الرؤیا» المنامیة - ما انتسب وثبت من قبل للفعل : «علم» الذی یطلب مفعولین ، ویتعدی إلیهما بنفسه (لکن سنعرف فی ج من ص 41 أن «رأی» الحلمیة لا یدخلها تعلیق ولا إلغاء ، بخلاف : «علم»).
2- فی رقم 5 من هامش ص 5.
3- هذا الأسلوب یتطلب بیانا شافیا ، جلیا ، یتعرض لنواحیه المختلفة ، کصیاغته ، وترکیبه ، وإعرابه ، ومعناه .. وقد وفیناه حقه فی موضعه من الجزء الأول ، ص 215 م 19 - من الطبعة الثالثة - عند الکلام علی الضمیر وأنواعه ...

- غالبا - علی حسب السماع ، وناصبا للمفعولین (1) ؛ لأن معناه : «أظنّ» الدال علی الرجحان ؛ نحو : کنت أری الرحلة متعبة ، فإذا هی سارّة.

ص: 16


1- إذا کان المضارع «أری» بمعنی : «أظن» ، ویعمل عمله - فکیف ینصب مفعولین مع رفعه نائب فاعل ، هو فی الأصل مفعول أیضا؟ ألیس معنی هذا أنه ینصب من المفاعیل ثلاثة ، مع أن الفعل : «أظن» ینصب اثنین فقط؟ یجیب النحاة بإجابتین ؛ کل واحدة منهما وافیة فی تقدیرهم. وفی الأولی من التعارض والتکلف ما سنعرفه. الأولی : أن هذا المضارع : «أری» المبنی للمجهول - غالبا ، طبقا للسماع - قد یکون ماضیه هو «أری» مفتوح الهمزة ، الناصب لثلاثة من المفاعیل ، والذی معناه : «أعلم» الدال علی الیقین - وسیجیء الکلام علیه فی الباب التالی ص 55 - ؛ مثل : أری العالم الناس السفر للکواکب سهلا ؛ أی : أعلمهم السفر سهلا ... ومقتضی هذا أن یکون مضارعه ناصبا ثلاثة أیضا ، ولیس ناصبا اثنین فقط. لکن السبب فی نصبه اثنین أنه ترک معنی ماضیه ، وانتقل إلی معنی آخر جدید ؛ إذ صار بمعنی : الفعل المضارع : «أظنّ» لا بمعنی الفعل المضارع : أعلم ویعلم وغیرهما مما فعله الماضی : «أعلم» الدال علی الیقین. فلما ترک معناه الأصلی إلی معنی فعل آخر ، کان من الضروری أن یترک عمله الأصلی لیعمل العمل المناسب للمعنی الجدید ؛ فینصب مفعولین لا ثلاثة. وعلی هذا یتعین أن یکون ضمیر المتکلم فی المضارع المبنی للمجهول فاعلا. ، ولا یصح أن یکون نائب فاعل ؛ لأن اعتباره نائب فاعل یؤدی إلی اعتباره مفعولا به فی الأصل قبل أن ینوب عن الفاعل ؛ فینتهی الأمر إلی أن ذلک المضارع قد نصب من المفاعیل ثلاثة. وهذا مرفوض عندهم حتما. فالسبب فی تعدیة المضارع المبنی للمجهول - سماعا - إلی مفعولین مع أن ماضیه : «أری» الدال علی العلم والیقین ، ینصب ثلاثة - هو استعماله بمعنی الفعل : «أظن» المتعدی لاثنین ، من باب الاستعمال فی اللازم ؛ لأن معنی : «أری العالم الناس السفر سهلا» هو : «جعل العالم الناس ظانین السفر سهلا» وصحة هذا المعنی تستلزم صحة قولنا : ظن الناس السفر للکواکب سهلا. أما إن کان الفعل «أری» مفتوح الهمزة (أی : غیر مبنی للمجهول ، وهذا جائز) ومعناه : «أظن» فینصب مفعولین بغیر حاجة لتأویل ، واضح التکلف والالتواء ، کالذی سبق. الثانیة : أن الفعل : «أری» المضارع المبنی للمجهول سماعا ، ینصب ثلاثة من المفاعیل برغم أنه بمعنی : الظن ، وأن ماضیه بمعنی : «أظننت» وأول المفاعیل الثلاثة هو الذی صار نائب فاعل ، ویلیه المفعولان المنصوبان. ویقولون : إن الفعل «أری» المبنی للمجهول هو المضارع للفعل الماضی : «أریت» المبنی للمجهول أیضا ، بمعنی : «أظننت» کما سبق ، وإن العرب لم تنطق بالماضی «أریت» إلا مبنیا للمجهول ، ولم یعرف عنهم بناؤه للفاعل. کما لم یعرف عنهم أنهم قالوا : «أظننت» ببناء الماضی «أظننت» للمجهول مع أنه بمعنی الماضی «أریت». وفی هذه الاجابة بعض الیسر ومسایرة القواعد العامة ، وإن کانت - کالأولی - لا تخلو من تکلف ، والتواء. وخیر منها أن نقول : (إذا کان - - المضارع «أری» المبنی للمجهول بمعنی : «أظن» فإنه یرفع نائب فاعل ، وینصب بعده مفعولین فقط). وبهذا نستریح من الإطالة والإعنات والتأویل ، ولن یترتب علی هذا الرأی ضرر لفظی أو معنوی. وقد اتفق النحاة علی أن نائب فاعله لا بد أن یکون ضمیرا للمتکلم الواحد أو الأکثر ؛ نحو : شاع الحدیث عن الحیاة فی الکواکب ، وأری المرّیخ مأهولا. أو نری المریخ مأهولا. وقد یکون للمخاطب ؛ کقراءة من قرأ الآیة الکریمة : (وَتَرَی النَّاسَ سُکاری) بنصب کلمة : «الناس». مما تقدم نعلم أنه لا بد للمضارع : «أری» الذی سبق الکلام علیه - من نائب فاعل یکون ضمیرا للمتکلم - فی الأغلب - ومن مفعولین منصوبین. أما الفعل : «أریت» الذی یتردد فی الأسالیب الصحیحة أیضا بصیغة الماضی المبنی للمجهول - فقد یکون بمعنی : «أظننت» ، لکن الغالب فی استعماله أن یکون بمعنی : «أعلمت» أی : من مادة «العلم» لا من مادة الظن. (راجع فی کل ما سبق : حاشیة الخضری ، والصبان ، والتصریح ، فی باب «إن وأخواتها» عند الکلام علی المواضع التی یجوز فیها فتح همزة «أن» وکسرها ، ومنها : «إذا الفجائیة». وبیت الشاعر : وکنت أری زیدا کما قیل سیدا .... إلخ. ثم راجع بعد ذلک المراجع السالفة فی باب «ظن» عند الکلام علی «رأی» وأنواعها.

ولا یکون معناه فی الفصیح الوارد : «أعلم» ؛ الدّال علی الیقین ، بالرغم من أنّ الماضی : «أریت» المبنی للمجهول والمسند للضمیر : «التاء» - لا یستعمل فی الأکثر إلا بمعنی : «أعلمت» المفید للیقین ؛ مثل : أریت الخیر فی مقاومة الباطل.

وکذلک یتردد فی بعض الأسالیب المسموعة وقوع المضارع : «تری» قد حذف آخره ، وقبله الحرف : «لا» ، أو : «لو» ، وبعده «ما» الموصولة فی الحالتین. ومعناه فیهما : «لا سیّما» ، مثل : کرّمت الضیوف ، لا تر ما علیّ - أو : کرّمت الضیوف لو تر ما علیّ. والمعنی ولا سیما علیّ (1) ...

والفعل : «وجد» قد یکون بمعنی : «لقی ، وصادف» ؛ فینصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : وجدت القلم. وقد یکون بمعنی «استغنی» ، فلا یحتاج لمفعول ؛ نحو : وجد الأبیّ بعمله.

والفعل : «دری» قد ینصب المفعولین کما سبق ، والأکثر استعماله لازما

ص: 17


1- سبق الکلام علی معنی هذین الأسلوبین المسموعین ، وتفصیل إعرابهما ، وأحکامهما فی الموضع المناسب. وهو الجزء الأول ، باب الموصول ، - م 28 ص 363 من الطبعة الثالثة - عند الکلام علی «لا سیما» والاقتصار فی الاستعمال علی هذه أحسن.

مع تعدیته إلی مفعوله بحرف الجر : «الباء» ؛ نحو : «دریت بالخبر السارّ. فإن سبقته همزة التعدیة نصب بنفسه مفعولا آخر مع المجرور ؛ نحو : قد أدریتک بالخبر السارّ (1). وکذلک إن کان بمعنی : «ختل» (أی : خدع) نحو : دریت الصید ؛ بمعنی : ختلته وخدعته.

والفعل : «تعلّم» ینصب المفعولین حین یکون جامدا بمعنی : «اعلم». فإن کان مشتقّا بمعنی : «تعلّم» نصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : تعلّم فنون الآداب (2).

والفعل : «ألفی» قد یکون بمعنی : «وجد» و «لقی» فینصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : غاب عصفوری ، ثم ألفیته.

ومن أفعال الرجحان ما قد یستعمل فی الیقین ؛ فینصب المفعولین أیضا. وقد یستعمل فی بعض المعانی اللغویة الأخری ؛ فینصب بنفسه مفعولا واحدا ؛

ص: 18


1- فإن وقعت همزة التعدیة بعد أداة استفهام ، کما فی قوله تعالی : (الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ؟) (وَما أَدْراکَ مَا الْقارِعَةُ؟) فقیل إن الفعل فی الآیة نصب ثلاثة مفاعیل ؛ أولها : الضمیر «الکاف» ، وثانیها وثالثها معا الجملة الاسمیة التی بعد الضمیر ، فقد سدت مسد المفعولین الأخیرین. وقیل إن الفعل نصب بنفسه مفعولا واحدا هو الضمیر ، وإن الجملة سدت مسد المفعول الآخر الذی یتعدی إلیه الفعل «أدری» بحرف الجر : «الباء» فالجملة فی محل نصب بإسقاط حرف الجر ، کما فی قولنا : «فکرت ، أهذا صحیح أم لا؟» وأصله : فکرت ، فی هذا ، أصحیح أم لا ... (راجع الخضری فی هذا الموضع) وراجع أیضا «ح» من ص 36.
2- بین الفعلین فرق فی اللفظ والمعنی والاستعمال ؛ فالفعل الأول : تعلم : بمعنی : «اعلم» فعل أمر جامد ؛ لا ماضی له ، ولا مضارع ، ولا مصدر ، ولا شیء من المشتقات فی الرأی الأقوی (کما أسلفنا فی رقم 3 من هامش ص 6). والغالب فی استعماله دخوله علی «أنّ» مع معمولیها ، أو «أن» والفعل مع فاعله ؛ نحو : تعلم أن احتمال الأذی فی سبیل الله لذة ... فالمصدر المؤول من «أنّ» مع معمولیها سد مسد المفعولین. ومعناه مطلوب تحقیقه سریعا ، وتحصیل المراد منه فی المستقبل القریب الذی یشبه الحال ؛ وذلک بالإصغاء للمتکلم ، واستیعاب ما یریده فورا ، وتنفیذ ما یجیء بعد فعل الأمر بغیر تمهل. أما الفعل الثانی فلفظه أمر أیضا ، ولکنه غیر جامد ، فله ماض هو : «تعلّم» وله مضارع هو : «یتعلّم» وله مصدر ... وباقی المشتقات ... والغالب فی استعماله دخوله مباشرة علی مفعوله الصریح. ویجوز دخوله علی «أنّ» مع معمولیها ، أو : «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فیکون المصدر المؤول مفعوله. ومعناه مطلوب تحقیقه وتحصیله فی المستقبل ، ولکن مع تمهل وامتداد ، واتخاذ للوسائل المختلفة. الکفیلة بالوصول.

أو لا ینصبه ؛ وذلک علی حسب ما ترشد إلیه اللغة. ومن أمثلة ذلک الفعل : «خال» فمعناه الیقین فی نحو : إخال الظلم بغیضا إلی النفوس الکریمة. وکذلک الفعل «ظن» فی نحو : أظنّ الله منتقما من الجبارین. والفعل : «حسب» فی نحو : حسبت المال وقایة من ذل السؤال. فإن کان «حسب» (1) بمعنی : «عدّ» نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : حسبت النقود التی معی. أی : عددتها وإن کان معناه صار ذا بیاض ، وحمرة ، وشقرة - کان لازما ؛ نحو : حسب الغلام ... و...

والفعل : «جعل» إن کان بمعنی : «أوجد» أو بمعنی : «فرض وأوجب» - نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : جعل الله الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وسائر المخلوقات ؛ أی : أوجدها وخلقها ، ونحو : جعلت للحارس أجرا (2) ، بمعنی فرضت له ، وأوجبت علیّ ... والفعل : «هب» ینصب مفعولا به واحدا إن کان أمرا من الهبة ؛ نحو : هب بعض المال لأعمال البرّ (3). أو أمرا من الهیبة ؛ نحو : هب ربّک فی کل ما تقدم علیه من عمل ... وهکذا (4) ....

ص: 19


1- الغالب فی الفعل : «حسب» بمعنی : «عدّ» ، فتح «السین» فی الماضی ، وضمها مضارعه.
2- قد یکون الفعل : «جعل» بمعنی : شرع. (وقد سبق الکلام علیه مع أفعال الشروع فی باب أفعال المقاربة ج 1 ص 464 م 50) وقد یکون بمعنی : اعتقد ، أو ظن ، أو «صیّر» - کما عرفنا فیما سبق.
3- وردت أمثلة صحیحة نصب فیها مفعولین بنفسه ؛ منها : انطلق معی ؛ أهبک نبلا. (المخصص ح 12 ص 227). ولا مانع من محاکاتها وإن کانت قلیلة ؛ إذ الکثیر أن ینصب بنفسه مفعولا واحدا ، ویتعدی للآخر بحرف الجر. وقد صرح المغنی بأن هذا الفعل نصب المفعول الثانی بعد إسقاط حرف الجر : «اللام».
4- إن کان الفعل : «زعم» بمعنی : «کفل» ، أو : رأس (أی : شرف وساد) تعدی لواحد بنفسه ، أو بحرف الجر ، والمصدر : «الزعامة». وإن کان بمعنی : سمن أو هزل (أی : أصابه الهزال) لم ینصب بنفسه مفعولا. وإن کان الفعل «حجا» بمعنی : قصد ، أو : رد ، أو : ساق ، أو : حفظ ، أو : کتم ، أو غلب فی المحاجة (وهی إقامة الحجة ، وإظهار البراعة وحدة الذکاء فی تقدیمها) نصب مفعولا به واحدا - ....

شروط إعمالها

یشترط لإعمال هذه النواسخ بنوعیها القلبیّ والتحویلیّ ، أن یکون المبتدأ الذی تدخل علیه صالحا للنسخ علی الوجه الذی سبق تفصیله وتوضیحه عند بدء الکلام علی النواسخ (1). وملخصه : أن النواسخ بأنواعها المختلفة لا تدخل علی شیء مما یأتی :

(ا) المبتدأ الذی له الصدارة الدائمة فی جملته ؛ بحیث لا یصح أن یسبقه منها شیء. ومن أمثلته : أسماء الشرط - أسماء الاستفهام - کم الخبریة - المبتدأ المقرون بلام الابتداء ... (نحو : من یکثر مزحه تضع هیبته. من ذا الذی ما ساء قط؟ کم من فئة قلیلة غلبت فئة کثیرة بإذن الله. لکلمة حقّ فی وجه حاکم ظالم أفضل عند الله من اعتکاف صاحبها فی المسجد).

ویستثنی من هذا النوع الذی له الصدارة فی جملته - ضمیر الشان (2) فیجوز أن تدخل علیه النواسخ بأقسامها المختلفة ؛ نحو حسبته «الحقّ واضح».

لکن تختص النواسخ فی هذا الباب - دون غیرها من النواسخ - بجواز دخولها علی المبتدأ الذی هو اسم استفهام ، أو المضاف إلی اسم استفهام. وإذا دخلت علی أحدهما وجب تقدیمه علیها ؛ نحو : أیّا ظننت أحسن؟ وغلام أیّ حسبت أنشط؟

ولا تدخل علی أحدهما «کان» ولا «إن» ولا أخواتهما ؛ منعا للتعارض ؛ إذ الاسم فی بابی «کان» و «إنّ» وأخواتهما لا یصح تقدیمه علی الناسخ. فلو وقع الاسم أحدهما لامتنع تقدیمه علی الناسخ ؛ تطبیقا لهذا الحکم ، مع أن الاستفهام لا بد أن یتقدم (3).

ص: 20


1- راجع ج 1 ص 402 م 42 من هذا الکتاب ؛ حیث التفصیل والبیان الذی لا غنی عنه.
2- سبق شرحه فی ج 1 ص 177 باب : الضمیر وأنواعه.
3- أما الخبر فیجوز أن یکون اسم استفهام ، أو مضافا إلی اسم استفهام فی البابین ، ولا یجوز أن یکون جملة إنشائیة ؛ ویجوز تقدیمه فی بابی : «ظن» و «کان» بشرط ألا یوجد مانع یمنع من - - تقدیمه ، کوجود «ما» النافیة قبل الناسخ ، أو غیرها من الموانع التی ذکرناها فی أحوال خبر «کان» (ج 1 ص 420 م 43) ، مثل : أین کنت؟ وأین ظننت الکتاب؟ أما خبر «إن» وأخواتها فلا یتقدم علیها - کما سبق فی بابها ح 1 - وقد قلنا إن الخبر لا یکون جملة إنشائیة برغم ورود صور منها مسموعة ، نقل النحاة واحدة منها ثقیلة فی نطقها ، ولا أدری لماذا تخیروها دون غیرها مع ما فیها من ثقل وإن کانت صادقة المعنی؟ هی قولهم : «رأیت الناس ، اخبر تقله». أی : اختبر کل واحد منهم تبغضه وتکرهه ؛ لما تکشفه من عیوبه. فهذا - وأمثاله - علی إضمار قول مقدر ؛ أی : رأیت الناس مقولا فیهم : اختبر کل واحد منهم تبغضه وتکرهه. ویری کثیر من النحاة عدم القیاس علی هذا. والحق أن القیاس علیه جائز بشرط وجود قرینة کاشفة تمنع الغموض ؛ وتهدی للمقصود ؛ لأن هذا هو الموافق للأصول اللغویة العامة. وفیه تیسیر وتوسیع فی میدان الکلام والتعبیر بغیر ضرر ، کما یتبین هذا من الباب الخاص بأحکام «الحکایة».

(ب) المبتدأ الملازم للابتداء بسبب غیره ؛ کالاسم الواقع بعد «لو لا» ؛ الامتناعیة ، أو بعد «إذا» الفجائیة ؛ فإنه لا یکون إلا مبتدأ ؛ إذ لا یصح - فی الرأی الأشهر - دخول أحدهما علی غیر المبتدأ ؛ نحو : لو لا العقوبة لزادت الجرائم. ونحو ؛ فتحت الکتاب ؛ فإذا الصّور فاتنة.

(ح) المبتدأ الذی یجب حذفه بشرط أن یکون أصل خبره نعتا مقطوعا (1) ؛ نحو : شکرا للمتعلم ، النافع العزیز (أی : هو النافع العزیز).

(د) کلمات معینة لم ترد عن العرب إلا مبتدأ. ومنها : «ما» التعجبیة ، وکلمة : «طوبی» ؛ (بمعنی : الجنة) وکلمة : درّ (2) ، وکلمة : أقلّ ... وذلک فی نحو : ما أجمل الهواء سحرا!! ، وما أطیب الریاضة عصرا!! طوبی للشهداء ، ولله درّهم (3)!! وأقلّ (4) رجل ینکر فضلهم.

ص: 21


1- سبق تفصیل الکلام علی النعت المقطوع فی الجزء الأول ص 375 م 39. وله تفصیل أشمل فی باب النعت ح 3 ص 357 م 115.
2- الدر : اللبن. «ولله در البطل» ... أسلوب یتقدم فیه الخبر وجوبا. (لأن العرب التزمت فیه التقدیم) ویقصد به المدح والتعجب من بطولته ، معا ... والسبب : هو ما یدعیه القائل من أن اللبن الذی ارتضعه البطل فی صغره ، ونشأ علیه ، وترعرع - لم یکن لبنا عادیا کالمألوف لنا ، وإنما هو لبن خاص أعده الله لهذا البطل فی طفولته ؛ لینشأ نشأة ممتازة ، ویشب عظیما. فنسب اللبن لله - ادعاء - لیکون من وراء ذلک إظهار الممدوح فی صفات تفوق صفات البشر ، وکأنه لیس منهم ، فهو أسمی وأرقی ، للعنایة الإلهیة التی خصته برعایتها. (راجع رقم 4 من هامش ص 394 و «ح» من ص 397 من هذا الجزء ، وص 458 ح 1 م 38 من الطبعة الثالثة).
3- الدر : اللبن. «ولله در البطل» ... أسلوب یتقدم فیه الخبر وجوبا. (لأن العرب التزمت فیه التقدیم) ویقصد به المدح والتعجب من بطولته ، معا ... والسبب : هو ما یدعیه القائل من أن اللبن الذی ارتضعه البطل فی صغره ، ونشأ علیه ، وترعرع - لم یکن لبنا عادیا کالمألوف لنا ، وإنما هو لبن خاص أعده الله لهذا البطل فی طفولته ؛ لینشأ نشأة ممتازة ، ویشب عظیما. فنسب اللبن لله - ادعاء - لیکون من وراء ذلک إظهار الممدوح فی صفات تفوق صفات البشر ، وکأنه لیس منهم ، فهو أسمی وأرقی ، للعنایة الإلهیة التی خصته برعایتها. (راجع رقم 4 من هامش ص 394 و «ح» من ص 397 من هذا الجزء ، وص 458 ح 1 م 38 من الطبعة الثالثة).
4- أی : قلّ رجل یقول ذلک ، بمعنی : صغر وحقر. (راجع ج 1 ص 328 م 33).

ومثل بعض ألفاظ الدعاء ؛ ومنها (1) : سلام - ویل ؛ فی نحو : سلام علی الأحرار ، وویل للجبناء.

* * *

حکم الناسخ ومعمولیه من ناحیة التقدیم والتأخیر

لا ترتیب فی هذا الباب بین الناسخ ومعمولیه ؛ فیجوز - لغرض بلاغی - أن یتقدم علیهما معا ، أو یتأخر عنهما ، أو یتوسط بینهما. لکن یترتب علی کل حالة أحکام سیجیء تفصیلها قریبا (2). فمثال تقدّم الناسخ علیهما : یظنّ الجاهل السراب ماء. ومثال تأخره عنهما : السراب ماء یظن الجاهل. ومثال توسطه بینهما : السراب یظن الجاهل ماء ، أو : ماء یظن الجاهل السراب.

أما الترتیب بین المفعولین وتقدیم أحدهما علی الآخر دون الناسخ فحکمه حکم الترتیب بین أصلهما المبتدأ والخبر قبل دخول الناسخ علیهما ؛ فما ثبت لأصلهما یثبت لهما من غیر اعتبار لوجود الناسخ. ویترتب علی هذا أن یکون المفعول الأول واجب التقدیم علی المفعول الثانی فی کل موضع یجب فیه تقدیم المبتدأ علی الخبر ، وأن یکون المفعول الثانی واجب التقدیم علی المفعول الأول فی کل موضع یجب فیه تقدیم الخبر علی المبتدأ ، وأن یکون تقدیم أحدهما علی الآخر جائزا فی کل موضع یجوز فیه تقدیم المبتدأ أو الخبر بغیر ترجیح. فلا بد من مراعاة الأصل (3) فی ناحیة التقدیم والتأخیر ، وتطبیقه علی الفرع تطبیقا مماثلا. ففی مثل : حسبت أخی شریکی ، یجب الترتیب ؛ بتقدیم المفعول الأول وتأخیر الثانی ؛ منعا لوقوع لبس لا یمکن معه تمییز الأول من الثانی ؛ فیلتبس المعنی تبعا لذلک. وفی مثل : علمت الکلب حارسا أمینا ، یجب تقدیم المفعول الثانی عند إرادة الحصر فی الأول ؛ فنقول : ما علمت حارسا أمینا إلا الکلب. أی : أنه لا حارس أمینا سواه. وفی مثل : ظننت القطّ البرّیّ (4) ثعلبا ، یجوز تقدیم المفعول الثانی ؛ فتقول :

ص: 22


1- الکثیر فی اللفظین الآتیین الرفع علی الابتداء ، ولا مانع من النصب علی اعتبار آخر ؛ کما سیجیء البیان فی ص 218.
2- فی ص 37.
3- سبق إیضاحه فی الجزء الأول (ص 361 م 37) عند الکلام علی مواضع تأخیر الخبر.
4- الصحراوی غیر الألیف.

ظننت ثعلبا القطّ البرّیّ ؛ إذ لا مانع یمنع تقدیم أحدهما علی الآخر ... وهکذا تجب مراعاة الأحکام الخاصة بالترتیب بین المبتدأ والخبر ، وتطبیقها هنا ، عند النظر فی الترتیب بین المفعولین (1).

* * *

ما تنفرد به الأفعال القلبیة الناسخة ، هی وما یعمل عملها

تنفرد النواسخ القلبیة بخمسة أحکام ، منها حکم واحد مشترک بینها جمیعا ، سواء أکانت متصرفة أم جامدة. وهذا الحکم هو : تنوّع مفعولها الثانی. أما الأحکام الأربعة الأخری فمقصورة علی القلبیة المتصرفة ، دون الجامدة ، - وغیرها - وسیجیء لهذه الأربعة بحث مستقل (2).

(ا) فأما تنوع المفعول الثانی الذی أشرنا إلیه فلأنه خبر فی الأصل ؛ فهو ینقسم إلی مثل ما ینقسم إلیه الخبر ؛ من مفرد (3) ، وجملة (4) ، وشبه جملة (5) ؛ فلیس من اللازم فی المفعول الثانی أن یکون مفردا ، وإنما اللازم أن یکون الفعل الناسخ قلبیّا متصرفا أو غیر متصرف (6) ؛ کما فی الأمثلة الآتیة ، ومن المهم التنبه لإعراب کل قسم. ولا سیما الجملة وشبهها :

ص: 23


1- ستجیء إشارة موجزة لهذا الترتیب فی ص 165 م 72.
2- فی ص 25 المسألة : 61.
3- المراد به هنا وفی الخبر : ما لیس جملة ولا شبهها.
4- بشرط ألا تکون إنشائیة .. لأن الإنشائیة لا تصلح هنا (انظر رقم 3 من هامش ص 20).
5- طبقا لما جاء فی بعض المراجع الوثیقة وتؤیده النصوص الفصیحة التی تکفی لإباحة القیاس علیه.
6- قد سبقت أمثلة المفرد. ومثال الجملة الاسمیة قول الشاعر : حذار ، حذار من جشع ؛ فإنی رأیت الناس أجشعها اللئام ومثال الجملة الفعلیة : وإنی رأیت الشمس زادت محبة إلی الناس أن لیست علیهم بسرمد فکل واحدة من الجملتین (أجشعها اللئام - زادت محبة) سدت مسد المفعول الثانی الذی یحتاج إلیه الفعل الناسخ. ومثال شبه الجملة - قول بعضهم : رأیت قدرة الله فی کل شیء ، وألفیت سلطانه فوق کل سلطان. وقول الشاعر ینتخر : إنی - إذا خفی الرجال - وجدتنی کالشمس ؛ لا تخفی بکل مکان فشبه الجملة (الجار مع مجروره ، أو الظرف) سد مسد الثانی.

الجملة مشتملة علی الفعل القلبی

ومفعولیه

المفعول الثانی

نوعه

إعرابه

علمت الریاء داء وبیلا.

داء

مفرد

مفعول ثان منصوب

أحسب النفاق مزریا بصاحبه.

مزریا

مفرد

مفعول ثان منصوب

زعمت الکذب سوء أدب

سوء

مفرد

مفعول ثان منصوب

أری الفضل یعرفه أهله

(یعرف*)

جملة فعلیة.

فعل مضارع ، فاعله ضمیر مستتر تقدیره : هو والجملة

فی محل نصب (1) تسد مسد المفعول الثانی.

تعلم (اعلم) الفرصة تضیع بالتوانی

(تضیع*)

جملة فعلیة

فعل مضارع ، فاعل ، ضمیر مستتر تقدیره هو والجملة

فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.

وجدت التوفیق حالف أهل الإجادة

(حالف*)

جملة فعلیة.

فعل ماض ، فاعله ضمیر مستتر تقدیره : هو. والجملة

فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.

ألفیت الإذاعة هی المنبر العام ،

هی المنبر

جملة اسمیة

هی : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع. المنبر خبره

الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.

إخال سلطان الضمیر هو السلطان الأکبر

هو السلطان

جملة اسمیة

هو : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع. السلطان

خبره الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی

أظن المجد هو هدف العظیم.

هو هدف

جملة اسمیة

هو : مبتدأ مبنی علی الفتح فی محل رفع ، هدف : خبره

الجملة فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی.

دریت الصدیق عند الشدة

عند

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد

مسد المفعول الثانی (2).

جعلت الکتاب معک.

مع

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد

مسد المفعول الثانی.

أعلم قوة الحق فوق طغیان الباطل.

فوق

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الظرف نفسه سد

مسد المفعول الثانی.

.

أحسب الخیر فی مجانبة أهل السوء

فی مجانبة

جار مع مجروره

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی. أو الجار مع

مجروره سد مسد المفعول الثانی (3).

أری السعادة فی عمل الخیر.

فی عمل

جار مع مجروره

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الجار مع

مجروره سد مسد المفعول الثانی. متعلق بمحذوف هو المفعول الثانی ، أو الجار مع

مجروره سد مسد المفعول الثانی.

علمت العفو من دواعی التآلف.

من دواعی ...

جار مع مجروره

ص: 24


1- ما معنی فی محل نصب ...؟ سبق الجواب عن هذا واضحا عند تفصیل الکلام علی الإعراب المحلی والتقدیری. - ح 1 م 6 فی آخر المعرب والمبنی ...
2- راجع رقم 2 من هامش ص 413 م 89 ، وهی تلخیص لما سبق فی ج 1 ص 271 و 346 م 27 وم 35 حیث الکلام علی شبه الجملة بنوعیه ، من ناحیة وقوعه هو أو متعلقة خبرا ، وصفة .. و... - مرجعه). والظاهر أن هذا الحکم لیس مقصورا علی اسم الفاعل وحده ، بل یشارکه فیه کل مشتق یتحمل ضمیرا مستترا ؛ فیجب أن یکون المستتر للغائب ، ویعود علی غائب دائما.
3- راجع رقم 2 من هامش ص 413 م 89 ، وهی تلخیص لما سبق فی ج 1 ص 271 و 346 م 27 وم 35 حیث الکلام علی شبه الجملة بنوعیه ، من ناحیة وقوعه هو أو متعلقة خبرا ، وصفة .. و... - مرجعه). والظاهر أن هذا الحکم لیس مقصورا علی اسم الفاعل وحده ، بل یشارکه فیه کل مشتق یتحمل ضمیرا مستترا ؛ فیجب أن یکون المستتر للغائب ، ویعود علی غائب دائما.

المسألة 61: الأحکام الأربعة الخاصة بالأفعال القلبیة المتصرفة

اشارة

(1)

عرفنا (2) أن الأفعال القلبیة متصرفة ، إلا فعلین ؛ هما : «تعلّم» (3) بمعنی «اعلم» ، و «هب» بمعنی : «ظنّ» ؛ نحو : تعلم داء الصمت خیرا من داء الکلام. وهب کلامک محمودا ؛ فتخیر له أنسب الأوقات.

والفعل القلبیّ المتصرف قد یکون له الماضی ، والمضارع ، والأمر ، والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وبقیة المشتقات المعروفة. لکن الناسخ الذی یعمل فی هذا الباب هو الماضی وما جاء بعده مما صرّحنا باسمه هنا ، دون بقیة المشتقات المعروفة (4)التی اکتفینا بالإشارة الموجزة إلیها ، ولم نصرح بأسمائها. وبدیه أن النواسخ المتصرفة التی سردنا أسماءها - متساویة فی العمل ؛ لا فرق بین ماض وغیره ، ولا بین فعل واسم مما سردناه (5). أما الناسخ الجامد فیعمل وهو علی صورته

ص: 25


1- هذا البحث هو الذی سبقت الإشارة إلیه فی ص 23 عند بیان ما تنفرد به الأفعال القلبیة ...
2- فی رقم 1 من هامش ص 4 وفی رقم 3 و 1 من هامشی ص 6 و 8.
3- ) علی الرأی القائل بأنه جامد. وهو الرأی الشائع الذی یحسن الاقتصار علیه (کما سبق فی رقم 3 من هامش ص 6 ورقم 2 من هامش ص 18). أما علی الرأی القائل بأنه متصرف فیجری علیه ما یجری علی الأفعال القلبیة المتصرفة.
4- أوضحنا - فی رقم 1 و 2 من هامش ص 4 - معنی المتصرف وقسمیه ، وبیان المشتقات المختلفة ، والعامل منها وغیر العامل ، وما یعمل فی غیر هذا الباب ولکنه لا یصلح للعمل هنا ، وأسباب ذلک ...
5- ومن الأمثلة ، الفعل : «علم» ، وما یتصرف له ؛ نحو : علم العاقل الحیاة جهادا - یعلم العاقل الحیاة جهادا - اعلم الحیاة جهادا ، فمارسه - علم العاقل الحیاة جهادا دافع له إلی الصبر والدأب - العاقل عالم الحیاة جهادا - أمعلوم الحیاة جهادا. (الحیاة : هی المفعول الأول ؛ لکنه صار نائب فاعل لاسم المفعول ، إذ لا بد لاسم المفعول من نائب فاعل حتما. لا فاعل). وتسوقنا المناسبة إلی بیان أن اسم الفاعل لا بد له من فاعل - لا نائب فاعل - وقد یکون فاعله اسما ظاهرا ، أو ضمیرا. غیر أن الضمیر لا بد أن یکون للغائب دائما ، ولهذا قالوا فی مثل : أنا صائم - أنا مخلص ... إن فاعله ضمیر مستتر تقدیره : «هو». علی تأویل : أنا رجل صائم ... أنا رجل مخلص ... فالضمیر المستتر تقدیره : «هو» للغائب ، وعائد علی محذوف ؛ لیکون عائدا علی الغائب ؛ إذ لا یصح أن یعود إلا علیه. فمن الخطأ إرجاعه إلی متکلم أو مخاطب (راجع الخضری ج 1 «باب ظن» عند الکلام علی بیت ابن مالک : «وخص بالتعلیق والإلغاء ..» - وستجیء الإشارة لهذا فی باب اسم الفاعل ج 3 ص 191 م 102 کما سبق البیان فی ج 1 م 19 ص 243 من الطبعة الثالثة ، عند الکلام علی اختلاف نوع الضمیر مع -- مرجعه). والظاهر أن هذا الحکم لیس مقصورا علی اسم الفاعل وحده ، بل یشارکه فیه کل مشتق یتحمل ضمیرا مستترا ؛ فیجب أن یکون المستتر للغائب ، ویعود علی غائب دائما.

القائمة ، لا یفارقها ، ولا یدخل علیها تغییر.

وتختص الأفعال القلبیة المتصرفة ، هی وما تتصرف له مما ذکرنا اسمه صریحا بأحکام تنفرد بها ؛ فلا یدخل - فی الأغلب - حکم منها علی المشتقات القلبیة التی لا تعمل هنا (1) ، ولا علی الأفعال القلبیة الجامدة ، ولا علی أفعال التحویل وما یتصرف منها. وأشهر تلک الأحکام أربعة (2) :

الحکم الأول - التعلیق

اشارة

ومعناه : «منع الناسخ من العمل الظاهر فی لفظ المفعولین معا ، أو لفظ أحدهما ، دون منعه من العمل فی المحلّ (3)». فهو فی الظاهر لیس عاملا النصب ، ولکنه فی التقدیر عامل. وهذا ما یعبر عنه النحاة بأنه :

«إبطال العمل لفظا ، لا محلّا». سواء أکان أثر الإبطال واقعا علی المفعولین معا ، أم علی أحدهما.

هذا المنع والإبطال واجب إلا فی صورة واحدة (4). وسببه أمر واحد ، هو : وجود لفظ له الصدارة یلی الناسخ ؛ فیفصل بینه وبین المفعولین معا ، أو أحدهما ، ویحول بینه وبین العمل الظاهر. ویسمی هذا اللفظ الفاصل : «بالمانع» ویقع بعده جملة (5) - فی الغالب - ؛ ففی مثل : علمت البلاغة إیجازا ، ورأیت الإطالة عجزا. نجد الفعل : «علم» قد نصب مفعولین مباشرة. وکذلک الفعل ؛ «رأی» - فإذا قلنا : علمت للبلاغة إیجاز ،

ص: 26


1- ) وهی المشتقات التی لم نصرح فیما سبق باسمها. إلا التعلیق بالاستفهام فإنه عام شامل ، وستجیء الإشارة لهذا فی رقم 2 من هامش ص 31 أما البیان المفصل ففی 35.
2- وهی غیر الحکم المشترک : «ا» الذی یدخل النواسخ القلبیة المتصرفة والجامدة ، وغیرها. وقد سبق بیانه فی ص 23.
3- تفصیل الکلام علی الإعراب المحلی فی ج 1 م 6 فی الزیادة والتفصیل التی فی آخر : «المعرب والمبنی» - کما أشرنا -
4- جائزة ، وتجیء فی رقم 2 من هامش ص 29.
5- إلا إن کان المانع أحد المفعولین بحسب أصله : نحو ؛ علمت من أنت ، أو وقع المصدر المؤول سادا مسد المفعولین ، أو ثانیهما وحده ؛ (کما یجیء فی ص 27 ، ورقم 3 من هامش ص 31 وص 42 - (ثم انظر رقم 2 من هامش ص 29).

ورأیت للإطالة عجز - لم ینصب کل من الفعلین شیئا فی الظاهر ، بسبب وجود «لام الابتداء» التی فصلت بین کل فعل ناسخ ومفعولیه - وهی من ألفاظ التعلیق ، أی : من الموانع - ، ولکن هذا الفعل ینصب المحلّ ؛ فنقول عند الإعراب : «البلاغة» : مبتدأ - «إیجاز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فی محل نصب ؛ سدّت مسدّ مفعولی «علم» (وهذه الجملة هی التی تلی - فی الغالب - اللفظ المانع من العمل).

وکذلک نقول : «الإطالة» : مبتدأ - «عجز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فی محل نصب ؛ سدّت مسد مفعولی : «رأی». فقد وقع التعلیق بسبب وجود المانع من العمل ، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب ؛ لتسدّ مسد المفعولین.

أما فی مثل : علمت البلاغة لهی الإیجاز ، ورأیت الإطالة لهی العجز - فاللفظ المانع من العمل - وهو لام الابتداء - قد وقع فی المثالین بعد المفعول به الأول ، ووقع بعد المانع جملة سدت مسدّ المفعول به الثانی الذی لا یظهر فی الکلام ، وحلّت محله وحده. فعند الإعراب یحتفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه ؛ (مفعولا به أول ، منصوبا (1)). وتعرب الجملة التی بعد المانع إعرابا التفصیلی ، ویزاد علیه : «أنها فی محل نصب ؛ سدّت مسد المفعول به الثانی (2) الذی وقع علیه التعلیق».

نعلم مما تقدم أن أثر التعلیق فی منع العمل لفظی ظاهریّ فقط ؛ لا حقیقی ، محلیّ ، وأن سببه الوحید وجود فاصل لفظی له الصدارة ، یسمی : «المانع» ؛

ص: 27


1- ستجیء حالة یجوز فیها رفعه - فی رقم 2 من هامش ص 29 -.
2- إذا سدت جملة مسد المفعول الثانی - أو مسد غیره مما یکون مفردا لا جملة - فهی مفرد فی المعنی ؛ ففی مثل : أظن محمدا أبوه قائم ، تعرب الجملة - «أبوه قائم» - مبتدأ وخبر ، فی محل نصب سدت مسد المفعول الثانی ؛ فهی مفرد فی المعنی ؛ لأن المعنی : أظن محمدا قائم الأب. وقد نص النحاة علی هذا ، وتضمنته کتبهم ، - (ومنها : الصبان فی الجزء الأول عند الکلام علی علامات الأسماء ، وأوضحنا هذا وبسطنا الکلام علی الإعراب المحلی فی الموضع الذی أشرنا إلیه فی رقم 1 من هامش ص 24).

یفصل بین الناسخ ومفعولیه معا ، أو أحدهما (1) ، وبعد «المانع» جملة (2) تسدّ مسدّ المفعولین معا ، أو أحدهما علی حسب الترکیب ...

ولما کان أثر التعلیق مقصورا علی ظاهر الألفاظ دون محلها کان اختفاء النصب عن المفعولین معا أو أحدهما ، هو اختفاء شکلیّ محض ؛ لا حقیقی محلیّ - کما قدمنا - ولهذا یصح فی التوابع (کالعطف ...) مراعاة الناحیة الشکلیة الظاهرة ، أو مراعاة الناحیة المحلیة ؛ فنقول : علمت للبلاغة إیجاز والفصاحة اختصار - ورأیت للإطالة عجز والحشو عیب ؛ برفع المعطوف ؛ تبعا للفظ المعطوف علیه ، وحرکته الظاهرة. أو نقول : علمت للبلاغة إیجاز ، والفصاحة اختصارا - ورأیت للإطالة عجز والحشو عیبا ؛ بنصب المعطوف ؛ تبعا للحکم المحلیّ فی المعطوف علیه. فمراعاة إحدی الناحیتین جائزة (3).

أما سبب التعلیق فی هذه الأمثلة وأشباهها ، فیترکز فی الأمر الواحد الذی ذکرناه ؛ وهو : وجود فاصل لفظیّ بعد الناسخ ؛ یفصل بینه وبین مفعولیه أو أحدهما ، بشرط أن یکون هذا الفاصل اللفظی من الألفاظ التی لها الصدارة (4) فی جملتها ،

ص: 28


1- فلا بد من تقدم الناسخ علی «المانع» ، ولا بد من تقدم «المانع» علی المفعولین معا ، أو علی الثانی فقط ؛ إذ لیس من اللازم - کما عرفنا - أن یقع أثر التعلیق. علی المفعولین معا ، فقد یقع علی الثانی وحده ، ویبقی الأول منصوبا کما کان قبل التعلیق. أما وقوعه علی الأول دون الثانی فغیر ممکن ؛ لأن أداة التعلیق التی تفصل بین الناسخ ومفعوله الأول ستکون فاصلة کذلک بین الناسخ ومفعوله الثانی فی الوقت نفسه.
2- إلا فی الحالة التی سبق استثناؤها فی رقم 4 من هامش ص 26.
3- یجب عند العطف بالنصب علی محل الجملة التی علق عنها الناسخ - أن یکون المعطوف إما جملة اسمیة فی الأصل ؛ کالأمثلة السابقة ؛ فیعطف کل جزء من جزأیها علی ما یقابله ، فی الجملة المتبوعة وإما مفردا فیه معنی الجملة ؛ نحو : علمت لمحمود «أدیب» و «غیر» ذلک من أموره. فلا یصح : علمت لمحمود «أدیب» وحامدا ، ولا : علمت لمحمود «أدیب» وشاعرا - إلا علی تأول وتقدیر محذوف فی کل صورة ، أما کلمة «غیر» فی المثال السالف فإنها منصوبة جوازا ؛ لأنها بمنزلة الجملة کما قلنا. فهی معطوفة بالنصب علی محل الجملة الاسمیة التی هی المعطوف علیها ؛ فلفظ «غیر» - وهو مفرد - قد ساغ عطفه علی محل الجملة ؛ لأنه بمعناها ؛ إذ معناه : علمت لمحمود «أدیب» ومحمودا غیر ذلک ، أی : متصفا بغیر ذلک. (أی : علمت محمودا متصفا بغیر ذلک). - راجع ح 3 ص 478 م 121 باب العطف. وعطف المفرد علی الجملة ، والعکس -.
4- تقدم الناسخ علی «المانع» واجب. وهو مع تقدمه لا یعمل النصب فی «المانع» ، ولا فیما بعده ، إذ لو عمل فیه أو فیما بعده النصب لفقد المانع صدارته فی جملته ، وصار حشوا لا یصلح سببا للتعلیق ؛ ووقوعه حشوا مع بقاء أثره غیر جائز.

کلام الابتداء ، وأدوات الاستفهام (1) وغیرها من کل ما له الصدارة فی جملته. وإلیک مثالا آخر للمانع الذی یفصل بین الناسخ ومفعولیه معا ، أو یفصل بین الناسخ ومفعوله الثانی فقط :

أعلم ، أمحمود حاضر أم غائب؟ أعلم محمودا ، أحاضر هو أم غائب؟ فمتی وقع بعد الناسخ مانع بإحدی الصورتین السالفتین منع العمل الظاهر حتما ، دون العمل التقدیریّ (المحلیّ) کما رأینا ، وأوجب التعلیق (2).

وأشهر الموانع ما یأتی من الألفاظ التی لها الصدارة ، وکل واحد منها یوجب (3) التعلیق :

(ا) لام الابتداء ، کالأمثلة السالفة.

(ب) لام القسم : نحو : علمت لیحاسبنّ (4) المرء علی عمله.

ص: 29


1- انظر ما یختص بالاستفهام فی ص 35.
2- إلا فی حالة یکون فیها جائزا ، وستجیء هنا. وعند إعراب المثال الأول الوارد هنا نقول : «محمود حاضر» ، مبتدأ وخبر. وجملتهما فی محل نصب سدت مسد مفعولی : «أعلم». وفی المثال الثانی نقول : «محمودا» ، مفعول أول. «حاضر» : خبر مقدم ، «هو» : مبتدأ مؤخر ، والجملة منهما فی محل نصب سدت مسد المفعول الثانی وحده. ومن المثالین یتضح أن الجملة الواقعة بعد «المانع» وجوبا قد تسد مسد المفعولین معا أو مسد الثانی عند وجود الأول منصوبا لفظه. أما الحالة التی یکون فیها التعلیق جائزا - لا واجبا - فحین تکون أداة التعلیق مسلطة علی الثانی وحده (کأن یکون المفعول الثانی قد صدر - فی الغالب - بکلمة استفهام ، أو مضافا إلیها وقد سبقها المفعول الأول ، فی الصورتین ؛ نحو : علمت الأدیب من هو؟ وظننت الشاعر أخو من هو؟) ففی هاتین الصورتین یجوز نصب الکلمة السابقة التی هی المفعول الأول ؛ لأن الناسخ سلط علیها من غیر مانع ، ویجوز رفعها ؛ لأنها هی وما بعد الاستفهام شیء واحد فی المعنی ؛ فکأنها واقعة بعد الاستفهام فلا یؤثر فیها الناسخ. فالتعلیق جائز هنا.
3- إلا فی حالة یکون فیها جائزا ، وستجیء هنا. وعند إعراب المثال الأول الوارد هنا نقول : «محمود حاضر» ، مبتدأ وخبر. وجملتهما فی محل نصب سدت مسد مفعولی : «أعلم». وفی المثال الثانی نقول : «محمودا» ، مفعول أول. «حاضر» : خبر مقدم ، «هو» : مبتدأ مؤخر ، والجملة منهما فی محل نصب سدت مسد المفعول الثانی وحده. ومن المثالین یتضح أن الجملة الواقعة بعد «المانع» وجوبا قد تسد مسد المفعولین معا أو مسد الثانی عند وجود الأول منصوبا لفظه. أما الحالة التی یکون فیها التعلیق جائزا - لا واجبا - فحین تکون أداة التعلیق مسلطة علی الثانی وحده (کأن یکون المفعول الثانی قد صدر - فی الغالب - بکلمة استفهام ، أو مضافا إلیها وقد سبقها المفعول الأول ، فی الصورتین ؛ نحو : علمت الأدیب من هو؟ وظننت الشاعر أخو من هو؟) ففی هاتین الصورتین یجوز نصب الکلمة السابقة التی هی المفعول الأول ؛ لأن الناسخ سلط علیها من غیر مانع ، ویجوز رفعها ؛ لأنها هی وما بعد الاستفهام شیء واحد فی المعنی ؛ فکأنها واقعة بعد الاستفهام فلا یؤثر فیها الناسخ. فالتعلیق جائز هنا.
4- یقولون فی مثل هذا : إن اللام داخلة علی جواب القسم المقدر. وأصل الجملة : «علمت - أقسم والله - لیحاسبن المرء علی عمله». فجواب القسم - وهو جملة : «یحاسبن المرء» - مع جملة القسم المقدرة وهی : (أقسم*) فی محل نصب سدّا معا مسد المفعولین. أی : أن مجموع الجملتین هو الذی سد مسد المفعولین ، وأنه فی محل نصب. وما یترتب علی هذا الإعراب من عدم وقوع أداة التعلیق فی صدر جملتها یدفعونه بأن وقوعها فی الصدارة لیس واجبا مطردا ؛ وإنما هو الغالب. وبفرض أنه واجب حتما فالمقصودا بالقسم وجملته هو تأکید جملة جوابه ؛ فهما معا کالشیء الواحد ؛ فإذا تقدمت أداة التعلیق علی جواب القسم وحده فکأنها فی الوقت نفسه قد تقدمت علی جملة القسم ، واحتلت مکان الصدارة اللازم لها ؛ فلا تعتبر متخلیة عنه. فوجودها فی صدر الثانیة یعد بمنزلة التصدر فی الأولی. لکن سیترتب علی قولهم هذا محظور آخر ؛ هو : وقوع جملة جواب القسم فی محل نصب ، والشائع أنها - - لا محل لها من لإعراب. وقد أجابوا : بأنها لا محل لها باعتبارها : «جواب قسم» - ولا مانع أن یکون لها محل باعتبار آخر ؛ هو : «التعلیق» ومعنی هذا أن جملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب إذا لم یوجد عامل یحتاج إلیها حتما ؛ فإن وجد عامل یحتاج إلیها حتما کانت معمولة له. وقیل إن : «العلم» فی المثال السالف منصب علی مضمون جملة الجواب فقط ، بدون نظر إلی أنها جواب قسم ؛ فجملة الجواب وحدها علی هذا الاعتبار فی محل نصب سدت مسد المفعولین. (راجع الصبان ج 2 عند الکلام علی أدوات التعلیق). وفی هذا الرأی راحة وتیسیر ؛ لأنه واقعی ؛ لا یلتفت إلی الجملة القسمیة المستترة ، ولا یتناسی أن جواب القسم هنا لیس مجلوبا للقسم : وإنما الغرض الأساسی الأول هو إیفاء الناسخ ما یریده ، ولا ضرر فی أن یستفید القسم منه بعد ذلک. (وسیجیء الکلام علی جملة القسم وجوابه فی باب حروف الجر (ص 460 و 467 - وما بینهما ، وفی ص 466 النص الخاص بأن جملة جواب القسم قد یکون لها محل إعرابی مع جملة القسم).

(ح) حرف من حروف النفی الثلاثة (1) : (ما - إن - لا) دون غیرها من أدوات النفی الأخری. فمثال «ما» النافیة : علمت ما التهوّر شجاعة. ومثال

ص: 30


1- سواء أکان کل واحد منها ناسخا أم مهملا ، فالأولان قد یعملان عمل «لیس» ، والأخیر قد یعمل عمل «إنّ» أو : «لیس» فاثلاثة مع الإعمال أو الإعمال صالحة لأن تکون أداة تعلیق. ولا داعی لاشتراط بعضهم القسم قبل کل أداة من الثلاثة ؛ لأن هذا الاشتراط - فوق ما فیه من تضییق - لا سند له من النصوص الفصیحة الکثیرة ، فالوارد منها یدعو إلی إغفاله. ویزید التمسک بإغفاله قوة ما یقوله أصحابه من أن القسم قبل هذه الأدوات الثلاثة یجب تقدیره إن لم یکن ظاهرا فی الجملة ؛ مثل : «علمت ما محمد جبان» إذ یقدرونه : علمت والله ما محمد جبان. فما الحاجة إلی التقدیر والتأویل بغیر داع؟ ولا سیما التأویل القائم علی مجرد التخیل المذکور. وإنه لتخیل مستطاع فی کل صورة خالیة من القسم ، فتصیر به صحیحة إلا أنه یدفعنا إلی الدخول فی الجدل المرهق الذی مر فی المسألة السابقة - فی رقم 3 من الصفحة الماضیة - الخاصة بجواب القسم ومحله من لإعراب ، کما سیفتح علینا أبوبا أخری للاعتراض والجدل ؛ نحن فی غنی عنها ، ولا حاجة للبیان اللغوی الناصع بها. وزیادة فی البیان نقول : إن اشتراط القسم مقصور عند جمهرة النحاة علی «لا - إن» - النافیتین ، ولا یکاد یوجد خلاف فی صدارة «ما» النافیة غیر الزائدة ؛ عاملة وغیر عاملة. فقد جاء فی الجزء الأول من «المغنی» عند الکلام علی «لا» ما نصه : (تنبیه - اعتراض «لا» بین الجار والمجرور فی نحو : غضبت من لا شیء ، وبین الناصب والمنصوب فی نحو قوله تعالی : (لِئَلَّا یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَی اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ..) وبین الجازم والمجزوم فی نحو : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَکُنْ فِتْنَةٌ فِی الْأَرْضِ ..) وتفدم معمول ما بعدها علیها فی نحو قوله تعالی : (یَوْمَ یَأْتِی بَعْضُ آیاتِ رَبِّکَ لا یَنْفَعُ نَفْساً إِیمانُها ..) - دلیل علی أنها لیس لها الصدر. بخلاف «ما» ... «اللهم إلا أن تقع فی جواب القسم فإن الحروف التی یتلقی بها القسم کلها لها الصدر. ولهذا قال سیبویه فی قوله : «آلیت حب العراق الدهر أطعمه ...» أن التقدیر : علی حب العراق ، فحذف الخافض ، ونصب ما بعده ؛ بوصول الفعل إلیه ، ولم یجعله من باب : «زیدا ضربته» ؛ لأن التقدیر «لا أطعمه» وهذه الجملة جواب : لآلیت ؛ فإن معناه : حلفت. وقیل : لها الصدر مطلقا ، وقیل : «لا» مطلقا. والصواب الأول) 1 ه وإنما قال سیبویه ذلک لأن «لا» هنا لها الصدارة فلا یعمل ما بعدها فیما قبلها ، ولا یفسر عاملا أیضا .. وقال الأشمونی عند سرد الأدوات التی لها الصدارة ، ویحدث التعلیق بسببها ما نصه : - - (التزم التعلیق عن العمل فی اللفظ إذا وقع الفعل قبل شیء له الصدر ؛ کما إذا وقع قبل «ما» النافیة ؛ نحو قوله تعالی (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ یَنْطِقُونَ) وقبل «إن - ولا» النافیتین فی جواب قسم ملفوظ أو مقدر) اه. وقد استدرک الصبان فقال ما نصه : (قوله فی جواب قسم .. قیل الصحیح أنه لیس بقید. لکن فی «المغنی» ما یظهر به وجه التقیید ؛ حیث نقل فیه أن الذی اعتمده سیبویه أن «لا» النافیة إنما یکون لها الصدارة حیث وقعت فی صدر جواب القسم. وقال فی محل آخر : «لا» النافیة فی جواب القسم لها الصدر : لحلولها محل ذوات الصدر ؛ کلام الابتداء و «ما» النافیة .. اه و «إن» مثل : «لا») اه کلام الصبان.

«إن» النافیة : زعمت إن الصفح الجمیل ضارّ (أی : ما الصفح الجمیل ضارّ) ومثال «لا» النافیة : ألفیت لا الإفراط محمود ولا التفریط (1).

(د) الاستفهام (2) ؛ وله صور ثلاث : أن یکون أحد المفعولین اسم استفهام ، نحو : علمت أیّهم بطل؟ أو یکون مضافا إلی اسم استفهام ؛ نحو : علمت صاحب أیّهم البطل؟ أو یکون قد دخلت علیه أداة استفهام ؛ نحو : علمت أعلیّ مسافر أم مقیم؟ وأعلم هل الشتاء أنسب للعمل من الصیف (3)؟ وقولهم لظریف : لا ندری أجدّک أبلغ وألطف ، أم هزلک أحبّ وأظرف؟

ص: 31


1- الإفراط : المبالغة فی إعداد الشیء حتی یتجاوز حدوده المحمودة. والتفریط : الإهمال فیه. فهما نقیضان.
2- لأن الاستفهام له الصدارة ، فلا یعمل ما قبله فیما بعده (کما سبق ، إلا إن کان ما قبله حرف جر ؛ نحو : ممن علمت الخبر؟ - بم جئت؟ - عم یتساءلون؟ - علی أی حال کنت؟ .. أو کان ما قبله مضافا واسم الاستفهام مضاف إلیه ، نحو : صدیق من أنت؟ ...) وجدیر بالتنویه أن التعلیق بالاستفهام لیس مقصورا علی أفعال هذا الباب القلبیة - کما أشرنا فی رقم : 1 من هامش ص 26 ؛ وسیجیء البیان فی ص 35 -
3- عرض بعض النحاة لهذه الصور الثلاث بشیء من التفصیل ، فقال : إن الاستفهام قد یکون بالحرف نحو قوله تعالی : (وَإِنْ أَدْرِی أَقَرِیبٌ أَمْ بَعِیدٌ ما تُوعَدُونَ.) أو بالاسم الواقع مبتدأ مباشرة ، نحو : ستعلم أیّ الرأیین أفضل؟ أو یکون المبتدأ مضافا إلی اسم الاستفهام ؛ نحو : علمت أبو من صالح. أو یکون اسم الاستفهام خبرا ؛ نحو علمت متی السفر. أو یکون الخبر مضافا إلی اسم الاستفهام ؛ نحو : علمت صباح أیّ یوم قدومک. أو یکون اسم الاستفهام فضلة ؛ نحو : علمت أیّ کتاب تقرأ. وقول الشاعر : حشاشة نفس ودّعت یوم ودّعوا فلم أدر أیّ الظاعنین أشیّع ومما سلف یتبین أن الاستفهام قد یکون حرفا فاصلا بین العامل والجملة ، وقد یکون اسما فضلة ، وقد یکون اسما عمدة ، سواء أکان العمدة مبتدأ مباشرة للاستفهام ، أم خبرا مباشرة کذلک. وسواء أکان العمدة مبتدأ مضافا والاستفهام هو المضاف إلیه أم خبرا مضافا والاستفهام هو المضاف إلیه.

(ه) الألفاظ الأخری التی لها الصدارة فی جملتها ؛ مثل «کم» (1). الخبریة ؛ فی نحو : دریت کم کتاب اشتریته. ومثل : «إنّ» وأخواتها ، ما عدا «أنّ» مفتوحة الهمزة ؛ فلیس لها الصدارة ؛ نحو : علمت إنک لمنصف (2) ، ونحو : لا أدری لعل الله یرید بکم خیرا. والأغلب الفصیح فی : «لعل» هذه أن تکون أداة تعلیق للفعل : «أدری» المبدوء بالهمزة ، أو بحرف آخر من حروف المضارعة (ندری - تدری - یدری ...).

ومثل : أدوات الشرط الجازمة وغیر الجازمة فی نحو : لا أعلم إن کان الغد

ص: 32


1- «کم» ، نوعان ، «استفهامیة» ؛ وهی : اسم یسأل به عن عدد شیء. وتحتاج لتمییز منصوب فی الغالب ؛ نحو : کم درهما تبرعت به؟ وتدخل فی أدوات التعلیق الاستفهامیة. «وخبریة» ؛ وهی : اسم یدل علی کثرة الشیء ووفرته ، ولها تمییز مجرور فی الغالب ؛ نحو : کم ظالم أهلکه الله بظلمه. و «کم» بنوعیها لها باب خاص فی الجزء الرابع یضم أحکامها المختلفة (ص 425 م 168).
2- فی هذا المثال یصح أن تکون أداة التعلیق هی : «إن» ، أو «لام الابتداء» ؛ فکلاهما له الصدارة ؛ فیصلح للتعلیق. ولا یقال : «لام الابتداء فیه لیس بعدها جملة». ففی هذا القول إغفال لما قرروه من أن موضعها الأصیل هو أول الجملة. فلما شغلته «إنّ» - ولها الصدارة أیضا - تخلت عنه اللام ، وتأخرت إلی الخبر ؛ منعا للتعارض. علی أن هذا من التعلیلات المصنوعة التی لا خیر فی تردیدها. وحسبنا أن نهتدی إلی ما فی الکلام المأثور من تعلیق ، سببه «إن» أو : «لام الابتداء» ، أو : هما معا ؛ فکل هذا صحیح ومریح. وما یقال فی لام الإبتداء الداخلة علی خبر «إن» یقال فی لام الابتداء الداخلة علی اسم «إن» ، المتأخر ، أو علی معمول خبرها ؛ نحو : حسبت إن فی الصحراء لمناجم ، وعلمت إن «المناجم لکنوزا ممتلئة. ویجب کسر همزة «ان» فی الأمثلة السابقة وأشباهها من کل جملة تجمع بین «إن» و «لام الابتداء». کما سبق فی مواضع کسرها. وسبب ذلک فی رأیهم : أن «لام الابتداء» تصیب الفعل القلی بالتعلیق ، وهذا التعلیق یقتضی أن تقع بعده فی الغالب جملة - کما سبق فی ص 26 -. فلما وقعت «إنّ» فی صدر هذه الجملة کسرت وجوبا. فلام الابتداء کانت السبب فی التعلیق ، وفی کسر همزة «إن». فإذا لم توجد «لام الابتداء» فلن یکون هناک داع للتعلیق ، ولا لکسر همزة «إن» ، فتفتح. لکن أیتفق هذا مع إدخالهم «إنّ» فی عداد الأدوات التی لها الصدارة ، وتحدث التعلیق؟ لا. ومن أجله قال بعض النحاة بحق : یجوز کسر همزة «إن» وفتحها فی المثال السابق عند خلوه من لام الابتداء. فمن اختار الکسر لسبب عنده فله اختیاره. ولکن یحب مع الکسر تعلیق الفعل القلبی ؛ لما سبق تقریره من اعتبار «إن» مکسورة الهمزة فی عداد أدوات التعلیق. ومن اختار الفتح لسبب آخر فله اختیاره ، ولا یصح تعلیق الفعل القلبی فی هذه الحالة ؛ لعدم وجود أداة التعلیق ؛ إذ لیست «أن» مفتوحة الهمزة من أدواته. (راجع ح 1 ص 488 م 51). وراجع الصبان ج 2 باب ظن وأخواتها عند الکلام علی أدوات التعلیق.

ملائما للسفر أو غیر ملائم. ونحو أحسب لو ائتلف العامل وصاحب العمل لسعدا.

* * *

فیما یلی أمثلة تزید التعلیق وضوحا (1) وتبیّن موضع «المانع» وأن موضعه بعد الناسخ حتما ویلیه المفعولان ، أو بعد الناسخ مع توسط هذا المانع بین المفعولین :

الجملة وفیها الناسخ بغیر تعلیق

الجملة بعد تعلیق الناسخ

السبب

علمت التواضع غیر الضعة

علمت للتواضع غیر الضعة

الفصل بلام الابتداء بین الناسخ ومعمولیه معا.

ألفیت العظمة غیر التعاظم

ألفیت للعظمة غیر التعاظم

الفصل بلام الابتداء بین الناسخ ومعمولیه معا.

عددت التجارب خیر معلم

عددت والله التجارب خیر معلم

الفصل بالقسم بین الناسخ ومعمولیه معا.

(2) جعلت اتباع الهوی شرّ البلایا

جعلت ما اتباع الهوی إلا شرّ البلایا

الفصل بأداة النفی «ما» بین الناسخ ومعمولیه معا.

وجدت الشرقّ مستردّا مجده.

وجدت الشرق لهو مستردّ مجده

وقوع لام الابتداء قبل المفعول الثانی وحده جعل أثر

التعلیق ینصب علیه

أری التقصیر فی العمل إسائة للوطن

أری التقصیر فی العمل والله هو إسائة للوطن.

وقوع القسم قبل المفعول الثانی وحده جعل أثر

التلعیق ینصبّ علیه کذلک لام القسم.

أحسب خلف الوعد إهانة لصاحبه.

أحسب خلف الوعد لیهینن صاحبه.

دریت إکرام الجار مؤدیا لطیب الإقامة.

دریت إکرام الجار لا یؤدی إلا لطیب الإقامة

وکذلک حرف النفی : «لا»

ففی الأمثلة الأربعة الأولی وقع المانع (الفاصل) بعد الناسخ وقبل المفعولین مباشرة ؛ فلا نقول فی إعرابهما إنهما مفعولان ؛ وإنما نقول هما - فی الأمثلة المعروضة - مبتدأ وخبر ، والجملة فی محل نصب سدّت مسدّ المفعولین.

ص: 33


1- من الممکن البدء بهذه الأمثلة ، وتفهمها قبل الدخول فی تعریف التعلیق وما یتصل به.
2- أیقنت.

وفی الأمثلة الأربعة الأخیرة وقع الناسخ فی صدر جملته ، ثم ولیه المفعول به الأول. أما المفعول به الثانی فغیر ظاهر فی الکلام بعد أن حلت محله جملة جدیدة. وفی مثل هذا الحالة یبقی المفعول به الأول محتفظا باسمه وبعلامة إعرابه ، فیعرب مفعولا به أول ، وتعرب الجملة التی (1) بعده إعراب الجملة المستقلة ، ویزاد علی إعرابها أنها فی محل نصب ، تسدّ مسدّ المفعول به الثانی ...

ص: 34


1- قد تکون الجملة فعلیة ، وقد تکون اسمیة ؛ فالحکم علیها بأنها جملة اسمیة مرکبة من مبتدأ وخبر ، أو جملة فعلیة مکونة من فعل ومرفوعه ... موقوف علی نوعها المعروض.

زیادة وتفصیل

(ا) تقدم (1) أن الفعل القلبی الناصب لمفعولین یصیبه التعلیق إذا وجدت إحدی أدوات التعلیق ، ومنها : «الاستفهام». والتعلیق بالاستفهام لیس مقصورا علی الأفعال القلبیة المتصرفة الخاصة بهذا الباب - کما أشرنا من قبل (2) - ، وإنما یصیبها ویصیب غیرها ، طبقا للبیان الآتی :

1 - الفعل القلبی الناصب لمفعول به واحد ؛ مثل : نسی - عرف ... ومنه قول الشاعر :

ومن أنتمو؟ إنا نسینا من أنتمو

وریحکمو! من أی ریح الأعاصر

2 - الفعل القلبی اللازم ، مثل : تفکّر ؛ کقوله تعالی : (أَوَلَمْ یَتَفَکَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟؛) فالتعلیق هنا عن الجار المجرور (3) ؛ لأن المجرور بالحرف بمنزلة المفعول به (4).

3 - ما لیس قلبیّا ، وینطبق علی أفعال کثیرة لا تکاد تدخل تحت حصر ؛ مثل : نظر - أبصر - سأل - استنبأ - .. و... ومن الأمثلة قوله تعالی : (فَلْیَنْظُرْ أَیُّها أَزْکی طَعاماً،) وقوله تعالی : (فَسَتُبْصِرُ وَیُبْصِرُونَ ؛ بِأَیِّکُمُ الْمَفْتُونُ؟،) وقوله تعالی : (یَسْئَلُونَ : أَیَّانَ یَوْمُ الدِّینِ؟،) وقوله تعالی : (وَیَسْتَنْبِئُونَکَ : أَحَقٌّ هُوَ؟ ...) فهذه الأفعال ونظائرها قد یصیبها التعلیق بأداة الاستفهام ، ولهذا یوقف فی الآیة الأولی علی قوله : (یَتَفَکَّرُوا،) والکلام بعدها مستأنف ، وهو : (ما بِصاحِبِکُمْ مِنْ جِنَّةٍ؟،) وما استفهامیة بمعنی النفی ، إذ المراد : أی شیء بصاحبکم من الجنون؟ لیس به شیء منه.

(ب) عرفنا (5) أن التعلیق لا یکون فی الأفعال القلبیة الجامدة ، ولا فی بعض

ص: 35


1- و 1) وفی رقم 1 من هامش ص 26 وفی «د» من ص 31.
2- انظر «ح» الآتیة.
3- کما سیجیء فی ص 153.
4- فی ص 26.
5- فی ص 26.

النواسخ الأخری ؛ کأفعال التحویل ... و... فما المراد من هذا؟ أیراد أن ألفاظ التعلیق لا تقع بعد تلک الأفعال الجامدة ولا بعد تلک النواسخ ؛ فلا یحدث التعلیق؟ أم یراد أن هذه الألفاظ مع وقوعها بعدها لا تقوی علی منعها من العمل الظاهری ، فکأنها غیر موجودة؟ یرتضی النحاة الرأی الأول. والاقتصار علیه حسن.

(ح) سبق (1) أن الجملة بعد أداة التعلیق تسدّ مسدّ المفعولین إن کان الناسخ یتعدی إلیهما ، ولم ینصب المفعول به الأول مباشرة ، فإن نصبه سدت مسدّ الثانی فقط ... فإن کان الفعل لیس ناسخا ولا یتعدی لمفعولین ، ووقعت بعده جملة مسبوقة بأداة التعلیق - فإن کان یتعدی بحرف جر فالجملة فی محل نصب بإسقاط الجار ؛ نحو : فکرت أصحیح هذا أم غیر صحیح؟ أی : فکرت فی ذلک (2). وإن کان الفعل یتعدی بنفسه إلی واحد غیر مذکور سدت مسدّه ؛ نحو : عرفت من البارع؟ فإن کان مذکورا فی الکلام ؛ نحو : عرفت البارع أبو من هو؟ فقیل الجملة بدل کل من کل ، علی تقدیر مضاف ؛ أی : عرفت شأن البارع ، وقیل بدل اشتمال من غیر حاجة إلی تقدیر ، أو هی مفعول ثان لعرفت بعد تضمینه معنی : «علمت». والرأیان الأخیران أوضح ، وأیسر استعمالا ولکل منهما مزیة قد یتطلبها المقام ، ویقتضیها المعنی.

(د) إذا کانت «رأی» حلمیّة لم یدخل علیها التعلیق (3).

* * *

ص: 36


1- فی ص 26 وما بعدها.
2- سبقت إشارة لهذا ولإعراب آخر فی رقم 1 من هامش ص 18.
3- کما سیجیء فی «ج» من ص 41.

الحکم الثانی - الإلغاء

اشارة

وهو : «منع الناسخ من نصب المفعولین معا ؛ لفظا ومحلا ، منعا جائزا ، - فی الأغلب - لا واجبا». أو هو : «إبطال عمله فی المفعولین لفظا ومحلا ، علی سبیل الجواز لا الوجوب». ولا یصح أن یقع المنع علی أحد المفعولین دون الآخر. وسببه : إمّا توسط الناسخ بین مفعولیه مباشرة بغیر فاصل آخر بعده یوجب التعلیق (1) ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز - فی الأغلب (2) - الإعمال أو الإهمال ، وإن لم یتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحیة موقعه فی الجملة :

الأولی : أن یتقدم علی المفعولین. وفی هذه الحالة یجب إعماله - عند عدم المانع - ؛ فینصبهما مفعولین به ، نحو : رأیت النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها.

الثانیة : أن یتوسط بین مفعولیه مباشرة. وفی هذه الحالة یجوز - فی الأغلب (3) - إعماله ؛ فینصبهما مفعولین (4) به ؛ نحو : النزاهة - رأیت - وسیلة لتکریم صاحبها. ویجوز إهماله (5) ؛ فلا یعمل النصب فیهما معا ، ولا فی أحدهما ؛ وإنما یرتفعان باعتبارهما جملة اسمیة : (مبتدأ وخبرا) ، نحو : النزاهة - رأیت - وسیلة لتکریم صاحبها.

الثالثة : أن یتأخر عن مفعولیه ؛ والحکم هنا کالحکم فی الحالة السابقة ؛ فیجوز إعماله فینصب المفعولین ؛ نحو : النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها - رأیت.

ص: 37


1- إذ یجب التعلیق لوجود سببه ، ویجوز فی صورة واحدة - انظر ص 26 وبیانها فی رقم 2 من هامش ص 29 -
2- إلا فی مسائل ستذکر فی رقم 3 من هامش الصفحة الآتیة. ثم انظر رقم 1 من هامش ص 39.
3- إلا فی مسائل ستذکر فی رقم 3 من هامش الصفحة الآتیة. ثم انظر رقم 1 من هامش ص 39.
4- فی حالة توسط العامل بین مفعولیه یجوز أن یکون المفعول الثانی هو المتقدم علیه ، ویجوز فی حالة - تقدم هذا المفعول الثانی أن یکون جملة ، أو شبه جملة ، أو مفردا ، وهی الأنواع الثلاثة التی ینقسم إلیها - کما سبق فی : «ا» من ص 23 - ومن الأمثلة لتقدمه وهو جملة ما نقلوه من نحو : (شجاک - أظن - ربع الظاعنین ...) فکلمة «ربع» یجوز ضبطها بالنصب مفعولا أول للفعل : «أظن». والجملة الفعلیة «شجاک» (أی : أحزنک) فی محل نصب تسد مسد المفعول الثانی. فیکون أصل الکلام : أظن ربع الظاعنین شجاک. فتقدمت الجملة الفعلیة السادة مسد المفعول الثانی. ویصح فی کلمة : ربع» الرفع علی أنها فاعل للفعل : «شجا» ویکون الفعل «أظن» مهملا. ویجوز أیضا رفع کلمة : «ربع» علی أنها خبر للکلمة : «شجا» المبتدأ ، ومعناها : «حزن» ولا تکون فی هذه الصورة فعلا ، ویکون الفعل : «أظن» متوسطا بینهما ، مهملا.
5- وفی هذه الصورة تکون جملة : «رأیت» ، معترضة بین المفعولین ، لا محل لها من الإعراب.

ویجوز إهماله فلا یعمل النصب (1) ویرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمیة ، مرکبة من مبتدأ وخبره ؛ نحو : النزاهة وسیلة لتکریم صاحبها - رأیت.

مما تقدم ندرک أوجه الفرق بین التعلیق والإلغاء ؛ وأهمها :

(ا) أن التعلیق واجب (2) عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز - فی الأغلب (3) - عند وجود سببه.

(ب) أن أثر التعلیق یصیب المفعولین معا أو أحدهما. أما أثر الإلغاء فیصیبهما معا.

(ح) أن أثر التعلیق لفظیّ ظاهری ، لا یمتد إلی الحقیقة والمحلّ. وأثر الإلغاء لفظیّ ومحلیّ معا.

(د) أن التعلیق یجوز فی توابعه مراعاة ناحیته اللفظیة الظاهریة ، أو

ص: 38


1- وجملته استئنافیة ، کما کانت قبل التأخر عن المفعولین.
2- إلا فی الحالة التی یکون فیها جائزا ، (وقد سبق بیانها فی رقم 2 من هامش ص 29).
3- الإلغاء جائز فی أغلب الأحوال. لکن هناک بعض حالات أخری یجب فیها الإعمال فقط ، أو الإهمال فقط. فیجب الإعمال إذا کان الناسخ منفیا ، سواء أکان متأخرا عن المفعولین ، أم متوسطا بینهما ، نحو : «مطرا نازلا لم أظن». أو : «مطرا لم أظن نازلا» ؛ لأنه لا یجوز أن یبنی الکلام علی المبتدأ والخبر ثم نأتی بالظن المنفی ، إذ إلغاء الفعل المنفی - فی الصورتین - قد یوهم أن ما قبل الفعل مثبت. مع أن نفی الفعل یعم الجملة کلها ، ویتجه فی المعنی إلی المفعولین المنصوبین عند تقدمهما ، أو تأخر أحدهما. فلمنع هذا الاحتمال والوهم یجب الإعمال ؛ مبالغة فی الاحتراس ؛ کما یقولون. وهذا التعلیل - دون الحکم - لا ترتاح له النفس إلا إن أیدته النصوص الفصیحة التی لم یعرضوها فیما وقع فی یدی من المراجع. ویجب الإهمال إذا کان العامل مصدرا ؛ نحو : المطر قلیل - ظنی غالب ؛ لأن المصدر المتأخر لا یعمل - غالبا - فی شیء متقدم علیه ، فلا یصح تقدیم مفعوله علیه أو مفعولیه (عند کثیر من النحاة ویخالفهم آخرون ، کما سیجیء فی بابه ، ج 3). وکذلک یجب الإهمال إذا کان فی المفعول المتقدم لام ابتداء أو غیرها من ألفاظ التعلیق ؛ نحو : لخالد مکافح ظننت ؛ لأن لام الابتداء وألفاظ التعلیق تمنع العامل من العمل فیما بعدها - غالبا - وقد یعتبر هذا تعلیقا فی رأی بعض النحاة الذین لا یشترطون فی التعلیق تقدم الناسخ. ولا قیمة لهذا الخلاف فی التسمیة ؛ لأن الأثر واحد - إلا فی التوابع کما سیجیء فی «د» - لا یتغیر باختلاف الرأیین ؛ فکلاهما یوجب الإهمال. وهذا حسبنا. وکذلک یجب الإهمال إذا وقع الناسخ بین اسم إن وخبرها ؛ مثل : إن التردد - حسبت - مضیعة. أو بین «سوف» وما دخلت علیه ؛ نحو : سوف - إخال - أکافح الشر. أو بین معطوف ومعطوف علیه ؛ نحو : دعاک الخیر - أحسب - والبر.

مراعاة ناحیته المحلیة. والإلغاء لا یجوز فی توابعه إلا مراعاة الناحیة الواحدة التی هو علیها ؛ وهی الناحیة الظاهرة المحضة.

(ه) أن التعلیق لا بد فیه من تقدم الناسخ علی معمولیه ؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.

أما الإلغاء فلا بد فیه من توسط (1) الناسخ بینهما ، أو تأخره عنهما ؛

ص: 39


1- یذکر النحاة بعض أمثلة یستدلون بها علی أن الإلغاء قد یقع والفعل الناسخ متقدم علی مفعولیه ، ولیس متوسطا ولا متأخرا. ثم یؤولون تلک الأمثلة تأویلا یخرجها من حکم الإلغاء ، ویدخلها فی أحکام أخری مطردة تنطبق علیها بعد ذلک التأویل. وهذا تکلف مردود ، وتصنع یجب البعد عنه ، منعا للفوضی فی التعبیر ، والخلط فی الأصول العامة. فمن تلک الأمثلة قول الشاعر : أرجو وآمل أن تدنو مودتها وما إخال لدینا منک تنزیل فالفعل : «إخال» قد ألغی ؛ فلم ینصب المفعولین : «لدی» و «تنویل» مع أنه مقدم علیهما. ومع تقدمه فکلمة «لدی» ظرف ، خبر متقدم ، وکلمة : «تنویل» مبتدأ مؤخر. أی : أنه لم ینصبهما ؛ بدلیل رفع الثانیة. فما السبب فی الإلغاء؟ لا سبب. لهذا ینتحلون ما یجعل الأسلوب صحیحا. فیتخیلون وجود «ضمیر شأن» مستتر بعد الفعل : «إخال» ؛ فالتقدیر : «إخاله. فیکون ضمیر الشأن المستتر هو المفعول به الأول ، وتکون الجملة الاسمیة بعده : (لدینا تنویل) فی محل نصب ، تسد مسد المفعول الثانی ، إذ یصح فی الأفعال القلبیة - کما سبق ، فی «ا» ن ص 23 - أن یکون مفعولها الثانی جملة أو غیرها. وبهذا التأویل الخیالی لا یوجد فی الکلام ناسخ متقدم لم یعمل. أی : لا یوجد فی الکلام إلغاء ، ولا مخالفة لوجوب عمل الناسخ المتقدم ... فلم هذا؟ ما فائدته؟ إن واقع الأمر صریح فی مخالفة التعبیر للقاعدة. والسبب هو الضرورة الشعریة ، أو المسایره للغة ضعیفة ، أو ما إلی ذلک مما یخالف اللغة الشائعة فی البیان الرفیع الذی یدعونا لهجر تلک التأویلات ، والفرار منها ؛ حرصا علی سلامة اللغة ، وإیثارا للراحة من غیر ضرر ، والاقتصار فی القیاس علی ما لا ضعف فیه ، ولا شذوذ ، ولا تأویل ... ومن الأمثلة أیضا قول الشاعر : کذاک أدّبت حتی صار من خلقی أنی وجدت ملاک الشیمة الأدب ففی البیت فعل قلبی (هو : وجد) لم ینصب ، مع أنه متقدم. فلماذا أصابه الإلغاء مع تقدمه؟ یجیبون بمثل الإجابة السابقة ؛ فیتأولون. ویتخیلون وجود «ضمیر شأن» مستتر بعد ذلک الفعل ، ویعربون هذا الضمیر مفعوله الأول ، والجملة الاسمیة : «ملاک الشیمة الأدب» فی محل نصب سدت مسد المفعول به الثانی. أو : یقولون : إن الفعل أصابه «التعلیق» بسبب وقوع لام ابتداء مقدرة بعده ، وأصل الکلام کما یتخیلون : «أنی وجدت لملاک الشیمة الأدب» ... وفی هذا ما فی سابقه مما یوجب عدم الأخذ بمثل هذا التخیل ، والتأول ، واتقاء ضرره بالاقتصار علی ما لا حاجة فیه إلی تصید وتحایل.

ولیس فی حاجة بعد هذا إلی فاصل ، أو غیره (1).

ص: 40


1- فیما سبق یقول ابن مالک بإیجازه المعروف : وخصّ بالنّعلیق والإلغاء ما من قبل : «هب» والأمر : «هب» قد ألزما. کذا : «تعلّم». ولغیر الماض من سواهما اجعل کلّ ما له زکن. («خص» : فعل أمر. ویصح أن یکون فعلا ماضیا مبنیا للمجهول. «الأمر» : مبتدأ مرفوع. «هب» : مبتدأ ثان. «ألزم» فعل ماض للمجهول ، ونائب فاعله ضمیر مستر تقدیره : هو ، یعود علی «هب» والجملة من المبتدأ الثانی وخبره خبر المبتدأ الأول الذی هو : «الأمر». والرابط محذوف ، والتقدیر ألزمه ، أی ألزم صورة الأمر ، وصیغته. والألف التی فی آخر «ألزما» زائدة لأجل الشعر ، وتسمی : «ألف الإطلاق». أی : الألف الناشئة من إطلاق الصوت بالفتحة ، ومده بها حتی ینشأ من المد : «ألف». «زکن» : علم). ومعنی البیتین : التعلیق والإلغاء مختصان ببعض الأفعال التی سبقت أول الباب دون بعض. ولم یبین الأفعال المقصودة ، مکتفیا بأن قال : إنها الأفعال التی ورد ذکرها قبل : «هب» و «تعلم» فی الأبیات الثلاثة الأولی من الباب : وبالرجوع إلیها یتبین أنها الأفعال القلبیة المتصرفة ، دون فعلین منها أخرجهما صراحة ؛ هما : «هب» بمعنی : «ظنّ» ، وتعلّم بمعنی : «اعلم» ، - ویزاد علیهما أفعال التحویل أیضا - ثم قال : إذا کان الناسخ هنا غیر ماض فإنه یعمل عمل الماضی ، ویدخل علیه من الأحکام ما یدخل علی الماضی. ولم یذکر تفصیل شیء من هذا المجمل. ثم انتقل بعد ذلک إلی الکلام علی بعض أحکام التعلیق والإلغاء ؛ فقال : وجوّز الإلغاء لا فی الابتدا وانو ضمیر الشّان أو لام ابتدا : فی موهم إلغاء ما تقدّما والتزم التّعلیق قبل : نفی «ما» و «إن» ، و «لا» «لام ابتداء» ، أو قسم کذا ، و «الاستفهام» ذا له انحتم یرید : أن الإلغاء أمر جائز ؛ لا واجب ، وأنه لا یقع حین یکون الناسخ فی ابتداء جملته ، أی : متقدما علی مفعولیه. فإذا کان فی ابتدائها لم یصح إلغاء عمله. أما إذا لم یکن فی ابتدائها - بأن وقع بین المفعولین أو بعدهما فإن الإلغاء والإعمال جائزان - فی الأغلب - ثم أشار بتقدیر «ضمیر للشان» ، أو تقدیر «لام ابتداء» إذا وردت أمثلة قدیمة توهم أن الناسخ المتقدم قد ألغی عمله. وقد شرحنا هذا وأبدینا الرأی فیه. ثم سرد بعض الموانع التی تکون سببا فی التعلیق ؛ فعرض منها ثلاثة أدوات للنفی (ما - إن - لا) وعرض ثلاثة تغایرها ؛ هی : لام الابتداء - القسم - الاستفهام. وقال فی الاستفهام : انحتم له ذا». أی : وجب لأجله وقوع التعلیق بسببه. ثم قال بعد ذلک : «لعلم» عرفان ، و «ظنّ» تهمه تعدیة لواحد ملتزمه ولرأی الرّؤیا ، انم ما لعلما طالب مفعولین من قبل انتمی وقد سبق شرح هذین البیتین فی مناسبة قریبة - ص 14 و 15 - بما ملخصه : أن «علم» إذا کان - - منسوبا للعرفان (بأن کان معناه : «عرف» الذی مصدره : «العرفان»). وأیضا : «ظن» إذا کان مصدره «الظن» المنسوب للتهمة (بأن یکون الفعل : «ظن» بمعنی : «اتّهم». ومصدره : «الظن» بمعنی الاتهام ؛ ومنه التهمة) - فإن کل فعل منهما یتعدی لمفعول واحد لزوما ؛ أی : حتما. ما دام معناه ما سبق. ثم قال : إن الفعل «رأی» المنسوب للرؤیا (بأن کان مصدره «الرؤیا» المنامیة) ینصب مفعولین.

زیادة وتفصیل

(ا) إذا تقدم الناسخ علی مفعولیه فلن یخرجه من حکم هذا التقدم - فی الرأی الأصح - أن یسبقه معمول آخر له ، أو لأحدهما ؛ نحو : متی علمت الضیف قادما؟ باعتبار : «متی» ظرفا للناسخ ، أو لمفعوله الثانی.

وکذلک لن یخرجه من حکم التقدم أن یسبقه شیء آخر لیس معمولا له ، ولا لأحدهما ، مثل : إنی علمت الحذر واقیا الضرر.

(ب) یختلف النحاة فی بیان الأفضل عند توسط العامل أو تأخیره. ولهم فی هذا جدل طویل ، لا یعنینا منه إلا أن الأنسب هو تساوی الإلغاء والإعمال عند توسط العامل. أما عند تأخره فالأمران جائزان ولکن الإلغاء أعلی ، لشیوعه فی الأسالیب البلیغة المأثورة.

وإذا توسط الناسخ أو تأخر وکان مؤکدا بمصدر فإن الإلغاء یقبح ؛ نحو : الکتاب - زعمت زعما - خیر صدیق ؛ لأن التوکید دلیل الاهتمام بالعامل ، والإلغاء دلیل علی عدم الاهتمام به ؛ فیقع بینهما شبه التخالف والتنافی. فإن أکّد الناسخ بضمیر یعود علی مصدره المفهوم فی الکلام بقرینة ، أو باسم إشارة یعود علی ذلک المصدر - کان الإلغاء ضعیفا أیضا ؛ نحو : السفینة - ظننته - قصرا. أی : ظننت الظن - و: السفینة ظننت - ذاک - قصرا. أی : ذاک الظن ...

(ج) رأی الحلمیة لا یصیبها الإلغاء ، وقد سبق (1) أنها لا یصیبها تعلیق.

* * *

ص: 41


1- فی «د» من ص 36.

الحکم الثالث - الاستغناء عن المفعولین بالمصدر المؤول

اشارة

یجوز أن یسدّ المصدر المؤول من «أنّ» (1) الناسخة وما دخلت علیه ، أو : «أن» المصدریة الناصبة وما دخلت علیه من جملة فعلیة - مسدّ المفعولین ، ویغنی (2) عنهما. ویجب أن یراعی فی معنی المصدر بعد تأویله أن یکون مثبتا أو منفیّا علی حسب ما کان علیه المعنی قبل التأویل.

فمن أمثلة المثبت ما جاء فی خطبة لقائد مشهور : (علمنا أن السیف ینفع حیث لا ینفع الکلام ، ورأینا أنّ کلمة القویّ مسموعة. فمن زعم أن یفوز وهو ضعیف فقد أخطأ ، ومن ظن أن یسلم بالاستسلام فقد قضی علی نفسه ...)

وتقدیر المصادر المؤولة (3) : علمنا نفع السیف ... - رأینا سماع کلمة القویّ - من زعم فوزه ... - من ظنّ سلامته ... فکل مصدر من المصادر التی نشأت من التأویل سدّ مسدّ المفعولین المطلوبین للفعل القلبیّ الذی قبله.

فالمصدر : «نفع» ، أغنی عن مفعولی الفعل «علم». والمصدر : «سماع» ، أغنی عن مفعولی الفعل : «رأی». والمصدر : «فوز» ، أغنی عن مفعولی الفعل : «زعم» ، والمصدر : «سلامة» أغنی عن مفعولی الفعل «ظن». ویقاس علی هذا أشباهه (4) من مثل قول الشاعر :

تودّ عدوی ثم تزعم أننی

صدیقک ؛ إن الرأی عنک لعازب

ص: 42


1- سواء أکانت مشددة النون أم مخففة.
2- سبق (فی رقم 3 و 1 من هامش 6 و 7 و 8 وفی 2 من هامش ص 18) أن هذا کثیر فی الفعلین «زعم» و «تعلم» بمعنی ، «اعلم». قلیل فی : «هب» بمعنی : ظنّ. وأن المصدر المؤول سد مسد المفعولین طبقا للرأی المختار هناک ، وفی رقم 3 من هامش ص 11.
3- سبق (فی ح 1 ص 299 م 29 من هذا الکتاب ، باب الموصول) إیضاح شامل لطریقة صوغ المصدر المؤول بصوره المختلفة ، وبیان الدافع لاستعمال الحرف المصدری ، وصلته ، دون الالتجاء إلی المصدر الصریح ابتداء.
4- یکون الفعل القلبی فی الأمثلة السابقة وأشباهها عاملا فی لفظ المصدر المتصید (أی ، المستخرج) من «أنّ» و «أن» وصلتهما ، ولیس عاملا فی الجملة التی دخلت علیها «أن» أو «أنّ» إذ لو کان عاملا فی الجملة نفسها لوجب تعلیق الفعل عن العمل ، بسبب الفاصل (طبقا لما عرفناه فی «التعلیق») ولوجب أیضا کسر همزة «إن» لوقوعها فی صدر جملة جدیدة. فالذی حل محل المفعولین هو المصدر المؤول وهو مفرد. وکل هذا بشرط خلو خبر «إنّ» من لام الابتداء ؛ لأن وجودها یوجب کسر همزة «إنّ» ویوجب» التعلیق (راجع رقم 2 من هامش ص 32 ورقم 4 من هامش ص 47. وکذلک ج 1 ص 489 م 51).

فالمصدر المؤول من «أنّ مع معمولیها» یسدّ مسدّ الفعل : «تزعم» وفاعله ومن أمثلة المعنی المنفی قول الشاعر :

الله یعلم أنی لم أقل کذبا

والحق عند جمیع الناس مقبول

وتأویل المصدر مع زیادة ما یدل علی النفی هو : «الله یعلم عدم کذب قولی».

- وقد سبق (1) تفصیل الکلام علی طریقة صوغ المصدر المؤول.

* * *

الحکم الرابع (2) - جواز وقوع فاعلها ومفعولها الأول ضمیرین معینین :

وذلک بأن یکونا ضمیرین متصلین ، متحدین فی المعنی (3) ، مختلفین فی النوع ؛ نحو : علمتنی راغبا فی مودة الأصدقاء ، ورأیتنی حریصا علیها. فالتاء والیاء فی المثالین ضمیران ، متصلان ، ومدلولهما شیء واحد ؛ فهما للمتکلم ، مع اختلاف نوعهما ؛ فالتاء ضمیر رفع فاعل ، والیاء ضمیر نصب. مفعول به. ونحو : علمتک زاهدا فی الشهرة الزائفة ، وحسبتک نافرا من أسبابها. فالتاء والکاف فی المثالین ضمیران ، متصلان ، ومعناهما واحد ؛ لأن مدلولهما هو المخاطب ، مع اختلاف نوعهما کذلک ؛ فالتاء ضمیر رفع فاعل ، والکاف ضمیر نصب ، مفعول به (4).

ص: 43


1- سبق فی (ج 1 ص 299 م 29 من هذا الکتاب ، باب الموصول).
2- انظر تکملته فی الزیادة والتفصیل.
3- بأن یکون مدلولهما واحدا (أی : أن صاحب کل منهما هو صاحب الآخر ، فکلاهما یدل علی ما یدل علیه الثانی).
4- ومن الأمثلة أیضا قوله تعالی : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی ؛ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی) فالفعل : «رأی» فاعله ضمیر مستر ، تقدیره : «هو» - والضمیر المستتر نوع من المتصل - ومفعوله الأول : «الهاء» - فقد وقع الفاعل والمفعول هنا ضمیرین ، متصلین ، متحدین فی المعنی ؛ لأن مدلولهما واحد ؛ هو : الغائب ، مع اختلاف نوعهما ، فالضمیر المستتر : «هو» ضمیر رفع ، فاعل ، والضمیر «الهاء» ضمیر نصب ، مفعول به.

زیادة وتفصیل

الحکم الرابع غیر خاص بالأفعال القلبیة وحدها ؛ فهناک بعض أفعال أخری تشارکها فیه ؛ مثل : «رأی» البصریة والحلمیة ، وهو کثیر فیهما ، ومثل : «وجد» (بمعنی : لقی) ، وقد ، وعدم. وهو قلیل فی هذه الثلاثة ، ولکنه قیاسی فی الخمسة ، وفی غیرها مما نصّت علیه المراجع ؛ ولیس عامّا فی الأفعال ؛ نحو : استیقظت فرأیتنی منفردا. - أخذنی النوم فرأیتنی جالسا فی حفل أدبیّ. - ساءلت نفسی فی غمرة الحوادث : أین أنا؟ ثم وجدتنی (أی : لقیت نفسی ، وعرفت مکانها) - فقدتنی إن جنحت إلی خیانة ، أو عدمتنی. ولا یجوز هذا فی غیر ما سبق إلا ما له سند لغوی یؤیده. فلا یصح : کرمتنی ، ولا سمعتنی ، ولا قرأتنی ، وأشباهها مما لم یرد فی المراجع. إلا إن کان أحد الضمیرین منفصلا ، فیجوز فی جمیع الأفعال ، نحو : ما لمست إلا إیای - ما راقبت إلا إیای (1).

ویمتنع فی باب : «ظن وأخواتها» وفی جمیع الأفعال الأخری - اتحاد الفاعل والمفعول اتحادا معنویّا إن کان الفاعل ضمیرا ، متصلا ، مستترا ، مفسّرا بالمفعول به ، فلا یصح محمدا ظنّ قائما - ولا علیّا نظر ؛ بمعنی : محمدا ظنّ نفسه ... وعلیّا نظر نفسه ... لأن مفسر الضمیر هنا : (أی : مرجعه) هو المفعول به. فإن کان الضمیر الفاعل منفصلا بارزا صحّ ؛ فیقال : ما ظن محمدا قائما إلا هو ، وما نظر علیّا إلا هو ...

ص: 44


1- «ملاحظة» : المفهوم من کلام النحاة أنهم یمنعون ما سبق من اجتماع الفاعل والمفعول به إذا کانا ضمیرین ، متصلین ، متحدین معنی - بأن یکونا لمتکلم واحد ، أو لمخاطب واحد - ولا فرق فی هذا بین المفعول به الحقیقی ، والمفعول به التقدیری ، وهو الذی یتعدی إلیه العامل بحرف جر ، إذ المجرور فی هذه الصورة مفعول به تقدیرا. فیمتنع أن یقال : «أحضرتنی ، أو أحضرت بی» إذا کان الضمیران للمتکلم. کما یمتنع أن یقال : أوثقتک ، وأوثقت بک إذا کان الضمیران لمخاطب واحد. لکن یعترض رأیهم فی المفعول التقدیری آیات کریمة متعددة ، منها قوله تعالی : (وَهُزِّی إِلَیْکِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ..) وقوله تعالی : (وَاضْمُمْ إِلَیْکَ جَناحَکَ ..) وقوله تعالی : (أَمْسِکْ عَلَیْکَ زَوْجَکَ) ولا عبرة بما یقوله «الصبان» نقلا عن «المغنی» من أن الآیات مؤولة علی تقدیر حذف مضاف ، کلمة «نفس» محذوفة ، وأن الأصل : هزی إلی نفسک - أضمم إلی نفسک - أمسک علی نفسک - قاصدین بهذا التأویل أن توافق الآیات رأیهم ، مع أن الواجب أن یغیروا رأیهم لیوافق أفصح کلام عرفوه ؛ فلا علینا من اتباعه ، ومن شاء فلیتأوله.

المسألة 62: القول

اشارة

القول معناه ، متی ینصب مفعولا واحدا؟ ومتی ینصب مفعولین؟

یعرض النحاة فی هذا الباب للقول ومشتقاته ؛ لتشابه بینه وبین «الظن» فی بعض المعانی والأحکام. وصفوة کلامهم : أن «القول» متعدد المعانی ، وأنّ الذی یتصل منها بموضوعنا معنیان ؛ أحدهما : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» والآخر : «الظنّ».

(ا) فإن کان معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» فإنه ینصب مفعولا به واحدا ؛ سواء أکان الذی جری به التلفظ ، ووقع علیه القول - کلمة مفردة (1) ، أم جملة. فمثال المفردة ما جاء علی لسان حکیم : (تسألنی عن العظمة الحقة ؛ فأقول : «الکرامة» ، وعن رأس الرذائل ؛ فأقول : «الکذب») فمعنی «أقول» هنا «أنطق ، وأتلفظ». والکلمة التی وقع علیها القول (أی : التی قیلت) ، هی : «الکرامة» - «الکذب». وکلتاهما مفعول به منصوب مباشرة.

ومن الأمثلة للکلمة المفردة أیضا : سألت والدی عن مکان نقضی فیه یوم العطلة ، فقال : «الریف». وعن شیء نعمله هناک ، فقال : «التنقل» ، فمعنی قال : «تلفظ ونطق» ، والکلمة التی وقع علیها القول هی : «الریف» - «التنقل» وتعرب کل واحدة منهما مفعولا به منصوبا مباشرة. ومثل هذا قول الشاعر :

جدّ الرحیل ، وحثّنی صحبی

قالوا : «الصباح» ؛ فطیّروا لبّی (2)

ومثال الجملة بنوعیها : (قلت : الشعر غذاء العاطفة) - (أقول : تصفو

ص: 45


1- أی : لیست جملة ، ولا شبه جملة.
2- وقول الآخر بلد یکاد یقول حی ن تزوره : «أهلا وسهلا»

النفس بسماع الغناء الرفیع) - (قال شوقی : خ خ آیة هذا الزمان الصحف) - (ویقول : خ خ تسیر مسیر الضحا فی البلاد ...)

ومثل :

(یقولون : «طال اللیل») ، واللیل لم یطل

ولکنّ من یشکو من الهمّ یسهر

فمعنی «القول» هنا کسابقه. وبعده جملة اسمیة ، أو فعلیة ، یزاد علی إعرابها : أنها فی محل نصب (1) سدّت مسدّ المفعول به للقول ، ولیست مفعولا به (2) مباشرة. بخلاف الکلمة المفردة ، فإنها هی المفعول به مباشرة - کما تقدم - سواء أکان الناطق بالکلمة قد نطقها ابتداء ؛ دون أن یسمعها من غیره فیرددها بعده ؛ کالتی فی المثال الأول (أم کان نطقه بها تالیا لنطق آخر ، وتردیدا لما سمعه ؛ (کالتی فی الثانی. وهی فی الحالتین لا تسمی کلمة «محکیة بالقول» فی اصطلاح کثرة النحاة ، ولو کان النطق بها تردیدا ومحاکاة لنطق سابق ؛ لأن الحکایة فی هذا الباب لا تکون عندهم للکلمة المفردة (3).

ص: 46


1- وهذا هو الأعم الأغلب فی محلها - کما سیجیء فی رقم 3 -.
2- لأن أصل المفعول به لا یکون جملة ، فهی تسد مسده ، ولا تکون مفعولا به أصیلا.
3- إلا إذا کانت الکلمة المفردة لا تدل علی جملة ، ولا تعبر عنها ، ولا عن مفرد ؛ وإنما یراد نص لفظها المنطوق من قبل ؛ فیجب حکایته ورعایة إعرابه بضبطه المنطوق السابق ، نحو : قال علیّ باب ، إذا تکلم بکلمة : «باب» مرفوعة ، مثلا. هذا ، ولا یخرج الکلمة عن وصفها بالإفراد أن تکون فی معنی الجملة أو الجمل ؛ أی : أن تکون فی ظاهرها لفظة مفردة فی مضمون جملة أو جمل ، مثل : (سمعت المؤذن یصیح : «الله أکبر» ، لقد قال : کلمة رائعة). فالکلمة هنا مفردة فی معنی الجملة ؛ لأنها تقوم مقامها فی المضمون. ومثل : کنت فی ندوة أدبیة ؛ فسمعت من یقول حدیثا ، وأصغیت لشاعر یقول قصیدة ، ولخطیب یقول خطبة. فکل کلمة من الکلمات الثلاث : (حدیثا - قصیدة - خطبة) مفردة فی ظاهرها ، ولکنها فی مقام جمل کثیرة ؛ لأن الحدیث الذی فی الندوة لا یکون إلا جملا متعددة ، وکذلک القصیدة ، والخطبة ؛ فالکلمة هنا مفردة ، ولکنها فی معنی الجملة ، کما یقول النحاة. وقد یراد بالکلمة المفردة ، لا نصها ؛ وإنما الرمز والکنایة إلی لفظة أخری ؛ مثل : قلت کلمة. أرید : لفظة معینة نطقت بها قبل نطقی الآن ؛ مثل لفظة : عصفور ، أو بلبل ، أو خدیجة ، أو کتاب أو غیر ذلک مما أشیر إلیه ، ولا أرید إعادة النطق به لداع یمنعنی. فالکلمة المفردة التی لا تحکی ، ثلاثة أنواع هنا : کلمة مفردة لا یراد التمسک بنصها الحرفی بضبطه الأول المنطوق ، وکلمة مفردة فی لفظها ولکنها فی معنی الجملة ، وکلمة هی رمز لأخری مفردة. والثلاثة مفعول به مباشرة للقول - ثم انظر «ا» من ص 51.

أما الجملة التی تسدّ مسدّ مفعول «القول» فی الأغلب (1) والتی محلها النصب فیسمونها : «محکیّة بالقول» بشرط أن تکون قد جرت من قبل علی لسان ، ثم أعادها المتکلم ، وردّد ما سبق أن جری علی لسانه أو علی لسان غیره. فلا بدّ فی الجملة التی تسمی : «محکیّة» أن تکون قد ذکرت مرة سابقة قبل حکایتها بالقول. وإلا فلا یصح تسمیتها : «محکیّة» علی الصحیح. والأغلب (2) أنها فی الحالتین فی محل نصب ، سادة مسدّ المفعول به. وتشتهر بین المعربین بأنها : «مقول القول» (3) ؛ أی : الجملة التی جری بها القول ، وهی المرادة منه.

(ب) وإن کان معنی «القول» - ومشتقاته هو : «الظنّ» (أی : الرجحان (4)) فإنه ینصب مفعولین مثله - بالشروط التی سنعرفها - ویجری علیه ما یجری علی «الظنّ» (5) (بمعنی الرجحان) من التعلیق ، والإلغاء ، وسائر الأحکام السابقة الخاصة بالأفعال القلبیة ؛ فهو والظن سواء. إلا فی اختلاف الحروف الهجائیة. ومن الأمثلة : أتقول السماء صحوا (6) فی الغد -؟ أتقولان الکتاب نفیسا إن تمّ إعداده؟ - أتقولون السفر المنتظر مفیدا؟ ...

فلا بد من مفعولین منصوبین بعده (7) - إلا عند التعلیق أو الإلغاء (8) - فإن

ص: 47


1- وقد تکون فاعلا أو نائب فاعل ، طبقا للبیان الذی فی ص 65 وفی 3 من هامش ص 111.
2- وقد تکون فاعلا أو نائب فاعل ، طبقا للبیان الذی فی ص 65 وفی 3 من هامش ص 111.
3- وهذا التعبیر أحسن ؛ إذ یصدق علی الجملة التی سبق النطق بها والتی لم یسبق ، فهو تعبیر عام یشمل الحالتین وقد اجتمعتا فی قول جمیل : بثینة قالت - یا جمیل - : أربتنی فقلت : کلانا - یا بثین - مریب أما التعبیر هنا بکلمة : «المحکیة» فیؤدی إلی أن یشمل ما سبق النطق به ، وما لم یسبق ، مع أن الشائع قصر «الحکایة» علی الذی یعاد ، إلا عند إرادة المجاز.
4- سبق معنی الرجحان فی رقم 3 من هامش ص 5.
5- ولهذا تفتح همزة «أن» الواقعة بعد «القول» الذی معناه «الظن» ؛ لأن القول بهذا المعنی ینصب مفعولین ؛ فیکون المصدر المؤول من «أن» مع معمولیها سادا مسد المفعولین. (کما سبق فی ج 1 فی موضع الکسر ص 488 م 51 ، ولما تقدم هنا فی رقم 4 من هامش ص 42 ویجیء فی رقم 2 من من هامش ص 0).
6- لا غیم ولا مطر فیها.
7- ویجوز أن یحل محل المفعول به الثانی جملة ، أو شبه جملة ، (کما أسلفنا فی أحکام الأفعال القلبیة - «ا» ص 23 - ومنها : القول بمعنی الظن). وتکون الجملة فی محل نصب.
8- أو : عند قیام قرینة تدل علی حذفهما ، أو حذف أحدهما - کما سیجیء فی ص 53 -.

لم یتحقق له المفعولان المنصوبان لم یکن معناه «الظن» وإنما یکون معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» ، وفی هذه الصورة یکون من النوع الأول «ا» الذی ینصب مفعولا به واحدا ، ولا ینصب مفعولین ؛ فمدلوله إن کان کلمة مفردة وقع علیها القول وجب اعتبارها مفعوله المنصوب مباشرة ؛ مثل : أتقول : الجوّ؟ ؛ أی : أتنطق بکلمة : «الجوّ» وإن کان مدلوله جملة اسمیة أو فعلیة فهی فی محل نصب تسدّ مسدّ ذلک المفعول به الواحد ، مثل : أتقول : الحروب خادمة للعلوم؟ - أتقول : السّلم الطویلة داء؟ -. ومثل : أتقول : قد یجمع الله الشتیتین بعد الیأس من التلاقی؟ - أتقول : لا یضیع العرف (1) بین الله والناس؟ فمعنی «تقول» : تنطق ، ومعنی «القول» فی کل ما تقدم هو «النطق» لا الظن ، والجملة بعده فی الأمثلة المذکورة : «مقول القول» ولا تسمی محکیة بالقول إلا إذا سبق النطق بها قبل هذه المرة - کما أوضحنا -.

وملخص ما تقدم : أن القول المستوفی للشروط إذا وقع له مفعولان منصوبان به کان بمعنی : «الظن» حتما ، وتجری علیه أحکام «الظن» ولا وجود للحکایة هنا أو غیرها. - علی الأرجح. - وإذا وقع له کلمة واحدة (هی التی قیلت) کان معناه : «مجرد النطق» ، ونصبها مفعولا به واحدا ، ولا تسمی هذه الکلمة محکیة (2) ، مع أنها هی مفعوله المباشر. وکذلک إذا وقع له جملة اسمیة أو فعلیة کان معناه مجرد النطق أیضا ، ولکنه ینصب مفعولا به واحدا نصبا غیر مباشر ؛ لأن الجملة التی بعده تکون فی محل نصب ؛ فتسدّ مسدّ المفعول به ؛ وتسمی : «مقول القول» دائما ، ولا تسمی «محکیة بالقول» إلا إذا سبق النطق بها.

فالقول بمعنی «الظن» لا حکایة معه - کما عرفنا - إذا وقع له مفعولاه المنصوبان. فإذا تغیر ضبطهما وصارا مرفوعین أصالة (3) فإن معناه وعمله یتغیران تبعا لذلک ؛ إذ یصیر معناه : النطق المجرد ، ویقتصر عمله علی نصب مفعول واحد فتکون الجملة الجدیدة اسمیة فی محل نصب ، تسدّ مسدّ مفعوله.

* * *

ص: 48


1- المعروف والخیر.
2- إلا فی الصورة التی تقدمت فی رقم 3 من هامش ص 46.
3- أی : بغیر سبب إلغاء العامل.

شروط القول بمعنی الظن

یشترط النحاة ما یأتی لإجراء القول مجری الظن معنی وعملا ، طبقا لما استنبطوه من أفصح اللغات العربیة ، وأکثرها شیوعا :

1- أن یکون فعلا مضارعا.

2- وأن یکون للمخاطب بأنواعه المختلفة (1).

3- وأن یکون مسبوقا باستفهام (2).

4- وألا یفصل بین الاستفهام والمضارع فاصل. لکن یجوز الفصل بالظرف ، أو بالجار (3) مع مجروره ، أو بمعمول آخر للفعل ، أو بمعمول معموله (4). وکثیر من النحاة لا یشترط عدم الفصل ، ورأیه قوی ، والأخذ به أیسر.

5- ألا یتعدی بلام الجر ؛ وإلا وجب الرفع علی الحکایة (5) ، نحو : أتقول للوالد فضلک مشکور؟

فمثال المستوفی للشروط الخمسة : أتقول المنافق أخطر من العدو؟ أتقول الاستحمام ضارّا بعد الأکل مباشرة؟

ومثال الفصل بالظرف : أفوق السحاب - تقول الطائر مرتفعا؟.

وقول الشاعر :

أبعد بعد تقول الدار جامعة

شملی بهم ، أم تقول البعد محتوما

وبالجار مع مجروره : - أفی أعماق البحر - تقول الغواصة مقیمة؟. وبمعمول الفعل مباشرة : - أواثقا - تقول الکیمیاء دعامة الصناعة؟ ومن هذا أن یفصل أحد المفعولین بین الاستفهام والفعل المضارع ، کقول الشاعر :

أجهّالا تقول : بنی لؤیّ

لعمر أبیک أم متجاهلینا

ص: 49


1- المفرد وغیر المفرد ، والمذکر والمؤنث ...
2- سواء أکانت أداة الاستفهام اسما أم حرفا ، وسواء أکان المستفهم عنه الفعل أم بعض معمولاته ..
3- بشرط ألا یکون الجار هو اللام المعدیة للمضارع ، کما سیأتی فی الشرط الخامس.
4- لا مانع من الفصل بأکثر من واحد مما ذکر.
5- ویکون القول بمعنی النطق ، والجملة بعده فی محل النصب سادة مسد مفعوله.

والأصل : أتقول بنی لؤی جهالا ...

وبمعمول معموله : - أللأمن - تقول : العدل ناشرا. والأصل : ناشرا للأمن.

فإذا اختل شرط من الشروط السابقة لم یکن «القول» بمعنی : «الظن» فلا ینصب مفعولین مثله ، ولا یخضع للأحکام الأخری التی یخضع لها «الظن» وإنما یکون بمعنی : «النطق والتلفظ» ؛ فینصب مفعولا به واحدا لا محالة.

أما إذا استوفی شروطه مجتمعة فیجوز أن یکون کالظن معنی وعملا ، علی التفصیل الذی شرحناه. ویجوز - مع استیفائه تلک الشروط کاملة - أن یکون بمعنی : «النطق والتلفظ» فینصب مفعولا به واحدا فقط ، وعندئذ یتعین أن یکون الاسمان بعده مرفوعین حتما - کما سلف - ویتعین إعرابهما مبتدأ وخبرا فی محل نصب ، لتسد جملتهما مسد المفعول به. فالأمران جائزان عند استیفائه الشروط (1). ولکن لکل منهما معنی وإعراب یخالف الآخر. والمتکلم یختار منهما ما یناسب المراد. فیصح : أتقول : الطائر مرتفعا؟ کما یصح : أتقول : الطائر مرتفع؟ بنصب الاسمین معا ، أو برفعهما علی الاعتبارین السالفین المختلفین (2) ؛ طبقا للمعنی المقصود. وهناک رأی آخر مستمدّ من لغة قبیلة عربیة اسمها : سلیم ، وملخصه : أن القول - ومشتقاته - إذا کان معناه : «الظن» فإنه ینصب مفعولین مثله ، وتجری علیه بقیة أحکام «الظن» بغیر اشتراط شیء من تلک الشروط الخمسة أو غیرها ، فالشرط الوحید عندهم أن یکون معناه : «الظن» (3) فإن لم یتحقق هذا الشرط یکن معناه - فی الغالب - «النطق المجرد والتلفظ» ، وینصب مفعولا به واحدا ، ولهذا یجب رفع الاسمین بعده ، واعتبار جملتهما الاسمیة فی محل نصب تسدّ مسدّ مفعوله.

ص: 50


1- فلیس استیفاؤه الشروط موجبا تنزیله منزلة «الظن». وإنما یجیز ذلک فقط. أما إجراؤه مجری الظن فیوجب أولا تحقق الشروط کلها ..
2- فلیس استیفاؤه الشروط موجبا تنزیله منزلة «الظن». وإنما یجیز ذلک فقط. أما إجراؤه مجری الظن فیوجب أولا تحقق الشروط کلها ..
3- ویروی بعض النحاة : أن «سلیما» لا یشترطون أن یکون معناه «الظن» فعندهم القول قد ینصب مفعولین دائما. وفی هذا الرأی ضعف. وقد أشرنا (فی رقم 4 من هامش ص 47) إلی وجوب فتح همزة «أن» الواقعة بعد «القول» إذا کان معناه الظن ، لأنه یحتاج إلی مفعولین ؛ فیکون المصدر المؤول من «أن» مع معمولیها فی محل نصب سادا مسد المفعولین. ونشیر هنا إلی أن الرأی السالف یسایر لغة سلیم وغیرها ما دام القول بمعنی الظن ؛ لحاجته إلی ما بعده ، فتفقد «إن» الصدارة فی جملتها ؛ فتفتح همزتها وجوبا.

زیادة وتفصیل

(ا) تضطرب أقوال النحاة فی اللفظ المحکیّ بالقول ؛ أیکون مفردا وجملة ، أم یقتصر علی الجملة فقط؟ أیکون تردیدا ومحاکاة لنطق سابق به ، أم یکون ابتداء کما یکون تردیدا ومحاکاة؟ أیکون حکایة للقول بمعنی النطق والتلفظ فقط ، أم یکون حکایة له بهذا المعنی ، وبمعنی الظن أیضا ...؟ إلی غیر ذلک من صنوف التفریع ؛ والخلف ، والاضطراب الذی یخفی الحقیقة ، ویغشّی علی وضوحها ، ویکدّ الذهن فی استخلاصها. وقد تخیرنا أصفی الآراء فیها ، وقدمناه فیما سبق. وللحکایة تفصیلات وأحکام أخری فی بابها الخاص ، وأشرنا فی الجزء الأول (1) إلی بعض أحکامها.

(ب) الأصل (2) فی الجملة المحکیة بالقول أن یذکر لفظها نصّا کما سمع ، وکما جری علی لسان الناطق بها أول مرة. لکن یجوز أن تحکی بمعناها ، لا بألفاظها (3) ، فإذا نطق الناطق الأول ، وقال حکمة ؛ هی : «الأمم الأخلاق» جاز لمن یحکیها بعده أن یرددها بنصها الحرفی ، وبضبطها وترتیبها ، فیرددها بالعبارة التالیة : قال الحکیم : «الأمم الأخلاق». وجاز أن یرددها بمعناها مع مراعاة الدقة فی المعنی ؛ کما یأتی : قال الحکیم : «الأمم لیست شیئا إلا الأخلاق». أو : «الأمم بأخلاقها». أو : «ما الأمم إلا أخلاقها» ... وعلی هذا لو سمعنا شخصا یقول : «البرد قارس» ، لجاز فی الحکایة أن نذکر النصّ بحروفه وضبطه وترتیبه : قال فلان : «البرد قارس» ، أو بمعناه : قال فلان : «البرد شدید» ... وإذا قالت فاطمة «أنا کاتبة» - مثلا - وقلت : لزینب «أنت شاعرة» ؛ فلک فی الحکایة أن تذکر النصّ : (قالت فاطمة «أنا کاتبة» ، وقلت لزینب «أنت شاعرة») ، مراعاة لنصّ اللفظ المحکیّ فیهما ، ولک أن تذکر المعنی : (قالت فاطمة «هی کاتبة» ، وقلت لزینب «هی شاعرة» ، أو : «إنها شاعرة») مراعاة لذلک المعنی ، فی حالة الحکایة ؛ حیث تکون فیها فاطمة وزینب غائبتین

ص: 51


1- م 2 ص 29.
2- ومراعاته أحسن.
3- إن لم یکن هناک ما یقتضی التمسک بالنص الحرفی لداع دینی ، أو علمی ، أو قضائی ، أو نحو ذلک ..

وقت الکلام (1). فالحکایة بالمعنی لا تقتضی المحافظة علی اسمیة الجملة ، أو فعلیتها ، أو نصّ کلماتها ، أو إعراب بعض کلماتها إعرابا معینا ؛ وإنما تقتضی المحافظة علی سلامة المعنی ، ودقته ، وصحة الألفاظ ، وصیاغة الترکیب ، فیکفی فی الجملة المحکیة أن تکون صحیحة فی مطابقة المعنی الأصلی ، وسلیمة من الخطأ اللفظی.

فإن کانت الجملة المحکیة مشتملة فی أصلها علی خطأ لغویّ أو نحویّ وجب حکایتها بالمعنی للتخلص مما فیها من خطأ. إلا إن کان المراد إظهار هذا الخطأ ، وإبرازه لسبب مقصود ؛ وعندئذ یجب حکایتها بما اشتملت علیه.

(ج) هل یلحق «بالقول» الذی معناه النطق والتلفظ ، ما یؤدی معناه من کلمات أخری ؛ مثل : نادیت ، دعوت ، أوحیت ، قرأت - أوصیت - نصحت ... وغیرها من کل ما یراد به : «النطق المجرد» فتنصب مفعولا به أو مفعولین (2) ؛ علی التفصیل الذی سبق؟

الأنسب الأخذ بالرأی القائل : إنها تلحق به فی نصب المفعول والمفعولین ، ما دامت واضحة الدلالة علی معناه. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَنادَوْا یا مالِکُ : لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ،) وقوله تعالی : (فَدَعا رَبَّهُ : أَنِّی مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) بکسر الهمزة فی قراءة الکسر. وقوله تعالی : (فَأَوْحی إِلَیْهِمْ رَبُّهُمْ : لَنُهْلِکَنَّ الظَّالِمِینَ ...) ولا داعی للتأویل فی هذه الآیات وغیرها بتقدیر «قول» ... إذ لا حاجة للتقدیر مع الدلالة الواضحة ، وعدم فساد المعنی أو الترکیب ... أما إذا اقتضی المقام التقدیر فلا مانع منه لسبب قوی. ومن ذلک قوله تعالی : (یَوْمَ تَبْیَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ... أَکَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِکُمْ ...) أی : فیقال لهم : أکفرتم؟ فهنا القول محذوف (3) ولا بد من تقدیره لصحة المعنی والأسلوب.

ص: 52


1- لأن ذکر اسمیهما دلیل - فی الغالب - علی غیابهما وقت حکایة الکلام. ولو لا غیابهما لاتجه إلیهما الخطاب : «قلت لک» ... بدلا من «قلت لفاطمة .. وقلت لزینب ..». (راجع حاشیة الصبان ج 2 آخر باب «ظن» وکذلک الخضری - وغیره - فی هذا الموضع).
2- طبقا للرأی الذی یفید أن سلیما - کما نقل بعض النحاة - تنصب بالقول مفعولین مطلقا ، (أی : ولو لم یکن بمعنی : الظن. ، کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 50).
3- هذا موضع من مواضع حذفه جوازا ؛ لوجود کلام قبله یدل علیه وعلی مکانه ، وهو قوله تعالی : (یَوْمَ تَبْیَضُّ وُجُوهٌ ...) إلخ.

المسألة 63: حذف المفعولین ...

اشارة

حذف المفعولین ، أو أحدهما ، وحذف الناسخ

الاختصار أصل بلاغیّ عامّ ، لا یختص بباب ، ولا یقتصر علی مسألة ، ویراد به : حذف ما یمکن الاستغناء عنه من الألفاظ لداع یقتضیه. وهو جائز بشرطین :

(ا) أن یوجد دلیل یدل علی المحذوف ، ومکانه (1).

(ب) وألا یترتب علی حذفه إساءة للمعنی ، أو إفساد فی الصیاغة اللفظیة (2).

واستنادا إلی هذا الأصل القویم یصح الاختصار هنا بحذف المفعولین معا أو أحدهما. فمثال حذفهما : - هل علمت الطیارة سابحة فی ماء الأنهار؟ فتجیب : نعم ، علمت ... - هل حسبت الإنسان واصلا إلی الکواکب الأخری؟. نعم ، حسبت ... أی : علمت الطیارة سابحة ... وحسبت الإنسان واصلا ...

ومثال حذف الثانی (وهو کثیر) : أیّ الکلامین أشدّ تأثیرا فی الجماهیر ؛ آ لشعر أم الخطابة؟ فتقول : أظن الخطابة ... أی : أظن الخطابة أشدّ ... ومثال حذف الأول : (وحذفه أقل من الثانی) ما مبلغ علمک بخالد بن الولید؟ فتقول : أعلم ... بطلا صحابیّا من أبطال التاریخ. أی : أعلم خالدا بطلا ...

فقد صحّ الحذف فی الأمثلة السابقة ؛ لتحقق الشرطین معا. فإن لم یتحقق

ص: 53


1- لأن عدم معرفة المحذوف یفسد المعنی فسادا کاملا ، وعدم معرفة مکانه یؤثر فی المعنی قلیلا أو کثیرا ؛ فلوضع الکلمة فی الجملة أثر فی المعنی. ولا فرق فی الدلیل (القرینة) بین أن یکون مقالیا ؛ (أی : قولا یدل علی المحذوف) وأن یکون حالیا : (أی : أمرا آخر مفهوما من الحال والمقام ، ولیس بکلام. ولهذا إشارة فی رقم 1 من هامش ص 207 م 76 ، وراجع ح 1 ص 362 م 37).
2- یری بعض النحاة الاقتصار علی هذا الشرط ؛ لأنه یتضمن معنی الشرط الأول. ولکنا ذکرناهما معا مبالغة فی الإیضاح والإبانة.

الشرطان معا لم یجز الحذف (1) ؛ فلا یصح فی تلک الأمثلة وأشباهها : علمت فقط ، ولا حسبت فقط ، بحذف المفعولین فیهما. ولا یصح علمت الطیارة ... ولا حسبت الإنسان ... بحذف المفعول الثانی فقط ، ولا علمت سابحة ... ولا حسبت واصلا ؛ بحذف الأول. وهکذا من کل ما فقد القرینة ، أو فقد الشرطین معا.

واعتمادا علی الأصل البلاغیّ السابق أیضا یصح حذف الناسخ مع مرفوعه ؛ نحو : ماذا تزعم؟ فتجیب : ... الأخ منتظرا فی الحقل. أی : أزعم ... (2)

ص: 54


1- ولا التفات لمن أباح : «الاقتصار» ؛ وهو الحذف بغیر دلیل. لأن هذه الإباحة مفسدة.
2- فی المسألتین الأخیرتین ؛ (مسألة : «القول» ومسألة : «الحذف») یقول ابن مالک فی الحذف : ولا تجز هنا بلا دلیل سقوط مفعولین أو مفعول یرید : لیس من الجائز فی هذا الباب سقوط مفعول (أی : حذفه) أو مفعولین. إلا بوجود دلیل یدل علی المحذوف. وکلامه مختصر ، وقد وفیناه. وفی القول : و «کتظنّ» اجعل : «تقول» إن ولی مستفهما به. ولم ینفصل بغیر ظرف ، أو کظرف ، أو عمل وإن ببعض ذی فصلت یحتمل المعنی : اجعل «تقول» - وهی مضارع للمخاطب - مثل «تظن» فی المعنی والعمل إن ولیت : «تقول» مستفهما به ، أی : إن جاءت «تقول» بعد أداة یستفهم بها. (فوقوع الفعل «تقول» بعد الاستفهام شرط). وشرط آخر ؛ هو : ألا ینفصل الفعل المضارع : «تقول» عن أداة الاستفهام بفاصل غیر الظرف. أما الظرف فیجوز أن یقع فاصلا بینهما ، کذا ما یشبه الظرف ؛ وهو الجار مع مجروره. - وقد یطلق «الظرف» - أحیانا - علی شبه الجملة بنوعیه - وکذا کل شیء آخر وقع علیه عمل الفعل : «ظن» أو عمل معمول الفعل ؛ کالأمثلة التی سبقت فی الشرح. ثم بین الرأی الآخر فی : «القول» بالبیت التالی : وأجری «القول» ، «کظنّ» مطلقا عند «سلیم» ؛ نحو ؛ قل ذا مشفقا أی : قبیلة «سلیم» تجری القول مجری الظن فی المعنی ، والعمل والأحکام المختلفة ، من غیر اشتراط شیء مطلقا. إلا اشتراط أن یکون «القول» بمعنی «الظن» ... مثل : قل هذا مشفقا. وقد سبق فی رقم 2 من هامش ص 50 رأی آخر لهم.

المسألة 64 : أعلم

اشارة

أعلم ... أری ..

ا : فرح الحزین. أفرحت الحزین.

زهق الباطل. أزهق الحقّ الباطل.

لان المتشدّد. ألانت الحوادث المتشدّد.

ب : سمع الصدیق الخبر السارّ. أسمعت الصدیق الخبر السارّ.

ورد الغائب أهله. أوردت الغائب أهله.

قرأ الأدیب القصیدة. قرأت الأدیب القصیدة.

ح : علمت الحرفة وسیلة الرزق. أعلمت الغلام الحرفة وسیلة الرزق.

علم الشباب الاستقامة طریق السلامة. أعلمت الشباب الاستقامة طریق السلامة.

رأیت الفهم رائد النبوغ. أریت المتعلم الفهم رائد النبوغ.

رأی الخبراء الآثار کنوزا. أریت الخبراء الآثار کنوزا.

الفعل نوعان. لازم ؛ (أی : قاصر ؛ لا ینصب بنفسه المفعول به) ، ومتعد ینصب بنفسه مفعولا به ، أو مفعولین ، أو ثلاثة. ولا یزید علیها.

ولتعدیة الفعل اللازم وسائل معروفة فی بابه (1). منها وقوعه بعد «همزة النقل». (أی : التعدیة) فإذا دخلت همزة النقل علی الفعل الثلاثی اللازم ، أو الثلاثی المتعدی لواحد أو لاثنین غیّرت حاله ، وجعلت الثلاثیّ اللازم متعدیا - کأمثلة : «ا» - وصیّرت الثلاثیّ المتعدی لواحد متعدّیا لاثنین - کأمثلة : «ب» - وصیّرت الثلاثی المتعدی لاثنین متعدیا لثلاثة - کأمثلة : «ح» - فشأنها

ص: 55


1- هو باب «تعدی الفعل ولزومه». وسیأتی فی ص 144 م 70.

أن تجعل فاعل الفعل الثلاثی مفعولا به (1) ؛ فتنقله من حالة إلی أخری تخالفها ؛ فتکسب الجملة مفعولا به جدیدا لم یکن له وجود قبل دخول همزة النقل علی الفعل. أما غیر الثلاثی فلا تدخل علیه هذه الهمزة.

ولا یکاد یوجد خلاف هامّ فی أن التعدیة بهمزة النقل علی الوجه السالف قیاسیة فی الثلاثی اللازم ، وفی الثلاثی المتعدی بأصله لواحد (2). إنما الخلاف فی الثلاثی المتعدی بأصله لاثنین ؛ أتکون تعدیته بهمزة النقل مقصورة علی فعلین من الأفعال القلبیة ؛ هما : «علم - ورأی» (3) - دون غیرهما من باقی الأفعال القلبیة التی تنصب مفعولین ، والتی سبق الکلام علیها (4) - أم لیست مقصورة علی الفعلین المذکورین ؛ فتشملهما ، وتشمل أخواتهما القلبیة التی مرّت فی الباب السالف؟ رأیان. وتمیل إلی أولهما جمهرة النحاة ، فتقصر التعدیة علی الفعلین المعینین («علم» و «رأی») ولا تبیح قیاس شیء علیهما من أفعال الیقین والرجحان وغیرهما ، فلا یصح عندها أن تقول : أظننت الرجل السیارة قادمة ، وأحسبته السفر فیها مریحا. فی حین یصح هذا عند بعض آخر یبیح القیاس علی الفعلین السالفین ، ولا یری وجها للتفرقة بینهما وبین نظائرهما من أفعال الیقین والرجحان التی تنصب مفعولین بحسب أصلها (5).

سواء أخذنا برأی الجمهرة أم بالرأی الآخر ، فالفعل القلبیّ الناصب للمفعولین

ص: 56


1- کما سیجیء فی ص 152 م 71. وفی رقم 2 من ص 157.
2- راجع الأشمونی والصبان - ج 1 - أول باب : «تعدی الفعل ولزومه».
3- سواء أکانت علمیة کالأمثلة المذکورة ، أم حلمیة ؛ وهی التی مصدرها «الرؤیا» المنامیة. کقوله تعالی : (إِذْ یُرِیکَهُمُ اللهُ فِی مَنامِکَ قَلِیلاً ، وَلَوْ أَراکَهُمْ کَثِیراً لَفَشِلْتُمْ ...)
4- فی ص 5. ثم راجع رقم 1 من ص 157.
5- وهذا رأی حسن الیوم ؛ فإنه مع خلوه من التشدد والتضییق ، یسایر الأصول اللغویة العامة ، ویلائم التعبیر الموجز المطلوب فی بعض الأحیان ، فتقول : أظننت الرجل السیارة قادمة ؛ بدلا من جعلت الرجل یظن السیارة قادمة ، إذ من الدواعی البلاغیة ، والاستعمالات اللازمة فی العلوم الحدیثة ما قد یجعل له التفضیل. فمن الخیر إباحة الرأیین ، وترک الاختیار للمتکلم یراعی فیه الملابسات.

بحسب أصله وبحسب رأی کل منهما فی نوعه ... (1) سینصب ثلاثة بعد دخول همزة التعدیة علیه. ومفعوله الثانی والثالث أصلهما المبتدأ والخبر ، ویجری علیهما فی حالتهما الجدیدة ما کان یجری علیهما قبل مجیء همزة التعدیة ؛ فتطبق علیهما وعلی أفعالهما - وباقی المشتقات - الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة التی سبق شرحها ، ومنها : التعلیق ، والإلغاء ، والحذف اختصارا لدلیل ...

فمن أمثلة التعلیق : أعلمت الشاهد لأداء الشهادة واجب ، وأریته إنّ (2) کتمانها لإثم کبیر. ومن أمثلة الإلغاء أو عدمه : النخیل أعلمت البدویّ أنسب للصحراء - أو : أنسب للصحراء أعلمت البدویّ النخیل - أو : النخیل أنسب للصحراء أعلمت البدویّ. وأصل الجملة : أعلمت البدویّ النخیل أنسب للصحراء. أما المفعول به الأول من الثلاثة فقد کان فی أصله فاعلا کما عرفنا ، فلا علاقة له بهذه الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة السالفة.

ومن أمثلة حذف المفعول به الثانی لدلیل أن یقال : هل عرفت حالة المزرعة؟ فتجیب : أعلمنی الخبیر ... جیدة ، أی : أعلمنی الخبیر المزرعة جیدة. ومثال حذف الثالث لدلیل ؛ أن یقال : هل علم الوالد أحدا قادما لزیارتک؟ فتجیب : أعلمته زمیلا ، أی : زمیلا قادما (3) لزیارتی. ومثال حذف الثانی والثالث معا أن تقول : أعلمته ...

فإن کان الفعل : «علم» بمعنی : «عرف» أو کان الفعل : «رأی» بمعنی : «أبصر» - لم ینصب کلاهما فی أصله إلا مفعولا به واحدا کما سبق (4). نحو : علمت الطریق إلی النهر - رأیت الشهب المتساقطة. فإذا دخلت علی أحدهما همزة التعدیة صیرته ینصب مفعولین ، نحو : أعلمت الرجل الطریق

ص: 57


1- من ناحیة أنه محصور فی الفعلین السالفین دون غیرهما من أفعال القلوب ، أو غیر محصور فیهما وإنما یشمل کل أفعال القلوب التی سبق شرحها. - انظر ما یتصل بهذا فی رقم 1 من هامش ص 157 -
2- یوضح هذا المثال وکسر همزة «إن» ما سبق فی رقم 2 من هامش ص 32.
3- المعنی الأساسی لا یتم إلا بهذه الکلمة ، فلا تعرب حالا ، لأن الحال فضلة
4- فی ص 13 ، 14.

إلی النهر ، وأریت (1) الغلام الشهب المتساقطة. وهذان المفعولان لیسا فی الأصل مبتدأ وخبرا ؛ إذ لا یصح : الرجل الطریق - الغلام الشهب. ولهذا لا یصح تطبیق الأحکام والآثار الخاصة بالأفعال القلبیة علیهما. إلا التعلیق فجائز ؛ ومنه قوله تعالی : (رَبِّ أَرِنِی)(2) کَیْفَ تُحْیِ الْمَوْتی).

وقد نصت کتب اللغة علی أفعال أخری - قلبیة وغیر قلبیة - ینصب کل فعل منها بذاته ثلاثة من المفاعیل ، دون وجود همزة التعدیة قبله. وأشهر تلک الأفعال خمسة : نبّأ - أنبأ - حدّث - أخبر - خبّر ... مثل : نبّأت الطیار الجوّ مناسبا للطیران - أنبأت البحّار المیناء مستعدّا - حدّثت الصدیق الرحلة طیبة - أخبرت المریض الراحة لازمة - خبّرت البائع الأمانة أنفع له. والکثیر فی الأسالیب المأثورة أن یکون فیها تلک الأفعال الخمسة مبنیة للمجهول ، وأن یقع أول المفاعیل الثلاثة نائب فاعل مرفوعا ، ویبقی الثانی والثالث مفعولین صریحین. ومن الأمثلة قول الشاعر :

نبّئت نعمی علی الهجران عاتبة

سقیا ورعیا (3) لذاک العاتب

الزاری

وقد جاء فی القرآن «نبّأ» ناصبا مفعولا واحدا صریحا ، وسدّ مسدّ المفعولین الآخرین جملة «إن» مع معمولیها ، بعد أن علّقت الفعل عنها باللام فی قوله تعالی : (وَقالَ الَّذِینَ کَفَرُوا هَلْ نَدُلُّکُمْ عَلی رَجُلٍ یُنَبِّئُکُمْ - إِذا مُزِّقْتُمْ

ص: 58


1- سبقت أحکام خاصة ببعض حالات هذا الفعل عند بنائه للمجهول ، وطریقة إعرابه - فی هامش ص 16 م 60.
2- فالآیة تشتمل علی فعل الأمر «أر» وهو من «أری» البصریة التی تنصب مفعولین بشرط وجود همزة التعدیة قبلها. و «یاء المتکلم» هی مفعوله الأول. وجملة(کَیْفَ تُحْیِ الْمَوْتی) فی محل نصب سدت مسد المفعول الثانی. فی الرأی الراجح. باعتبار «کیف» استفهامیة معمولة للفعل : «تحیی» (وقد سبق الکلام علی إعراب «کیف» فی ج 1 ص 375 م 39 وفی رقم 3 من هامش ص 111).
3- فی رقم 2 من هامش ص 210 بیان عن کلمتی «سقی ورعی» ، وفی ج 1 م 39 ص 468 بیان أکمل.

کُلَّ مُمَزَّقٍ - إِنَّکُمْ لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ)(1).

ص: 59


1- فیما سبق یقول ابن مالک فی باب مستقل ، عنوانه : «أعلم وأری». إلی ثلاثة «رأی» و «علما» عدّوا ، إذا صارا ؛ أری وأعلما وما لمفعولی : «علمت» مطلقا للثّان والثالث : أیضا حقّقا التقدیر - وهو شرح أیضا - : النحاة عدوا الفعل : «رأی» والفعل : «علم» إلی ثلاثة من المفاعیل إذا صار کل من الفعلین فی صیغة جدیدة ؛ هی : «أری ، وأعلم» ؛ حیث سبقتهما (همزة التعدیة). ثم بین أن ما ثبت لمفعولی «علم» من الأحکام المختلفة باعتبارهما فی الأصل مبتدأ وخبرا - یثبت للثانی والثالث هنا ، فلیس الثانی والثالث مع وجود همزة التعدیة إلا الأول والثانی قبل دخولها علی فعلهما. (والألف فی «علما» - وأعلما - وحققا - ألف الإطلاق الزائدة لوزن الشعر). ثم قال : وإن تعدّیا لواحد بلا همز ، فلاثنین به توصّلا والثّان منهما کثانی اثنی کسا فهو به فی کلّ حکم ذو ائتسا یرید : إذا تعدی کل من «علم» و «رأی» إلی مفعول واحد قبل مجیء حرف التعدیة (وهو : الهمزة) ، فإن الفعل یتوصل بحرف الهمزة إلی مفعولین یتعدی لهما ، لیس أصلهما المبتدأ والخبر. فالثانی منهما کالثانی للفعل : «کسا» فی مثل : کسوت المحتاج ثوبا ؛ حیث لا یصلح الثانی فی هذا المثال وأشباهه أن یقع خبرا للأول : إذ لا یصح : المحتاج ثوب ... ولما کان المفعول الثانی للفعل : «کسا» لیس خبرا فی الأصل - کان هو وفعله غیر قابلین للأحکام الخاصة بالأفعال القلبیة وآثارها ، ومنها ؛ أن یکون جملة ، وشبه جملة ، والإلغاء .. و.. إلا التعلیق فیجوز علی الوجه الذی سبق فی ص 57 ومثله المفعول الثانی للفعل : «علم» بمعنی «عرف» والفعل : «رأی» بمعنی : «أبصر» کلاهما یشبهه فی هذا الحکم ، فالمفعول الثانی للفعل «علم» و «رأی» بالمعنیین المذکورین «ذو ائتسا» بالمفعول الثانی للفعل : «کسا» أی : ذو محاکاة ومتابعة واقتداء به فیما سبق. ثم قال ابن مالک : وکأری السّابق : نبّا ، أخبرا حدّث ، أنبأ ، کذاک خبرا. أی : مثل الفعل : «أری» السابق أول الباب ، فی نصب ثلاثة من المفاعیل بضعة أفعال أخری ، سرد منها فی البیت خمسة وإنما قال «أری» السابق لیبتعد عن «أری» التی بعدها ، وهی التی تنصب مفعولین بعد دخول همزة التعدیة. وماضیها هو : رأی ، بمعنی : نظر.

زیادة وتفصیل

من الأسالیب الفصیحة : أحبّ العلوم ، ولا تر ما العلوم الکونیة. أو : أحب العلوم ، ولو تر ما العلوم الکونیة ... بمعنی : ولا سیما العلوم الکونیة.

وقد سبق الکلام مفصلا علی : «لا سیما» وعلی هذه الأسالیب التی بمعناها - (1) وسیجیء هنا لمناسبة أخری (2).

ص: 60


1- فی ج 1 م 28 ص 363 - الطبعة الثالثة.
2- فی «ه» من ص 336.

المسألة 65: الفاعل

اشارة

(1) تعریفه :

اسم ، مرفوع ، قبله فعل تامّ (2) ، أو ما یشبهه (3) ، وهذا الاسم هو الذی فعل (4) الفعل ، أو قام به (5).

فمثال الاسم ، صریحا ، أو مؤولا : (لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللهُ فِی مَواطِنَ کَثِیرَةٍ) -

ص: 61


1- للنحاة فیه تعریفات کثیرة ، راعوا فی أکثرها جانب الدقة اللفظیة المنطقیة. ولا بأس بهذا ؛ لو لا أنهم بالغوا حتی انتهوا إلی إطالة مذمومة لا تناسب التعریف ، أو اختصار معیب ؛ یحوی الغموض والإبهام. وقد اخترنا من تعریفاتهم ما خلا من العیبین السالفین ، ومال إلی الوضوح ، والیسر ، وإن اشتمل علی بعض أجزاء یعدها المناطقة من أحکام الفاعل ، لا من تعریفه ؛ مثل : الرفع. ولکن هذا لا أهمیة له قدیما وحدیثا.
2- أی : لیس من الأفعال الناقصة - وهی النواسخ التی تحتاج إلی اسم وخبر ، لا إلی فاعل .. - ویشترط فی الفعل أیضا أن یکون مبنیا للمعلوم ، لأن المبنی للمجهول یحتاج إلی نائب فاعل فی الأغلب ، ولا یحتاج إلی فاعل. وإنما قلنا فی «الأغلب» لتخرج الأفعال الملازمة للبناء للمجهول - فیما یقال - فإنها قد تحتاج لفاعل أحیانا - وسیجیء البیان والتفصیل فی ص 106 -.
3- من کل ما یعمل عمل الفعل ؛ کالمصدر ، واسم الفاعل ، والصفة المشبهة ، وباقی المشتقات العاملة التی سبق الکلام علیها (فی الباب الأول ، هامش ص 4 ، وغیره) ، وکاسم الفعل أیضا. فالمصدر نحو عجبت من إتلاف المال محمد ، واسم الفاعل ؛ مثل : أصانع الثوب فتاة؟ والصفة المشبهة مثل : سحرنا الخطیب بکلام جمیل أسالیبه ، قویّ براهینه. وأفعل التفضیل ؛ نحو : هذا الأکمل خلقه ... وهکذا. أما اسم المفعول فحکمه حکم الفعل المبنی للمجهول ؛ کلاهما یرفع نائب فاعل ، (کما سیجیء). ومثل المشتق المؤول بالمشتق ؛ نحو : العدو نمر ، أی : هو ؛ لأنه بمعنی : غادر ؛ فهو جامد مؤول بالمشتق ، وفاعله ضمیر مستتر فیه. وقد یکون ظاهرا نحو : القائد أسد هجماته ، أی : القائد جریئة هجماته (وقد سبق بیان الجامد المؤول بالمشتق فی ج 1 ص 326 م 33 باب المبتدأ).
4- أو یفعله الآن ، أو فی المستقبل ؛ لیشمل المضارع الذی یقع مدلوله الآن أو فی المستقبل ؛ ویشمل الأمر الذی یقع مدلوله فی المستقبل ؛ وکذا الفعل الذی قبله أداة تعلیق ؛ مثل : إن یحضر الغائب نستقبله ، والفعل هنا قد یکون داخلا فی جملة إنشائیة ؛ مثل : نعم المحسن ؛ لأن الفعل فی الجمل الإنشائیة وفی التعریفات العلمیة لا یدل علی زمان - کما قرره المحققون ، وأشرنا إلیه هامش ج 1 ص 31 م 4 - ولا فرق بین أن یکون معنی الفعل موجبا أو منفیا ؛ نحو : لم ینتصر الجبان.
5- یرد علی البال السؤال عن الفرق المعنوی بین الفاعل الذی قام به الفعل ، والمفعول به الذی - - وقع علیه الفعل ؛ لأن المعنی اللغوی للعبارتین واحد. بحیث لو وضعت إحدهما مکان الأخری ما تغیر المعنی اللغوی .. إن الفرق اللفظی بین الفاعل والمفعول به معروف للنحاة ؛ فالفاعل مرفوع ، والمفعول به منصوب ، وهذا الفرق اللفظی یستتبع عندهم فرنا اصطلاحیا فی معنی کل جملة ، یوضحه ما یأتی : «تحرک الشجر». کلمة : «الشجر» تعرب فاعلا نحویا. لکن هذا الإعراب لا یوافق المعنی اللغوی الواقعی لکلمة : «فاعل». وهو : «من أوجد الفعل حقیقة ، وباشر بنفسه إبرازه فی الوجود» ؛ لأن الشجر لم یفعل شیئا ؛ إذ لا دخل له فی إیجاد هذا التحرک ، ولا فی خلقه ، وجعله حقیقة واقعة بعد أن لم تکن. فلیس للشجر عمل إیجابی - مطلقا - فی إحداث التحرک. وکل علاقته به أنه استجاب له ، وتفاعل معه ؛ فقامت الحرکة به ، وخالطته ، ولابسته ، من غیر أن یکون له اختیار أو دخل فی إیجادها ، کما سبق. فأین الفاعل الحقیقی الذی أوجد التحرک من العدم ، وکان السبب الحقیقی فی إبرازه للوجود؟ لیس فی الجملة ما یدل علیه ، أو علی شیء ینوب عنه. فإذا قلنا : حرک الهواء الشجر - تغیر الأمر ؛ فظهر الفاعل الحقیقی المنشئ للتحرک ، وبان الموجد له ، الذی أوقع أثره علی المفعول به. مثال آخر : تمزقت الورقة. تعرب کلمة : «الورقة» فاعلا نحویا. وهذا الإعراب لا یوافق ولا یسایر المعنی اللغوی لکلمة ؛ «فاعل» ، ولا یوافق الأمر الواقع ؛ لأن الورقة فی الحقیقة لم تفعل شیئا ؛ فلم تمزق نفسها ، ولا دخل لها فی تمزقها ، ولم تشترک فیه بعمل إیجابی یحدثه ؛ ولکنها تأثرت به حین أصابها. فأین الفاعل الحقیقی - لا النحوی - الذی أوجد التمزق ، وجعله حقیقة قائمة بالورقة؟ لا وجود له فی الجملة ، ولا دلیل فیها یدل علیه أو علی شیء ینوب عنه. لکن إذا قلنا : مزق الطفل الورقة - ظهر الفاعل الحقیقی ، واتضح من أوجد الفعل بمعناه اللغوی الدقیق. ومما سبق یتبین الفرق المعنوی بینهما ، وأنه ینحصر فی : ا - أن الفاعل النحوی - علی الوجه السالف - لیس هو الفاعل الحقیقی ، وإنما هو المتأثر بالفعل ، ولیس فی الجملة ما یدل علی ذلک الفاعل الحقیقی ، أو علی شیء ینوب عنه. ب - وأن المفعول به لیس فاعلا نحویا ولا حقیقیا. وإنما هو المتأثر بالفعل ، أیضا ، ولکن مع اشتمال جملته علی الفاعل الحقیقی ، أو ما ینوب عنه.

(وَاعْبُدُوا اللهَ - وَلا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً)(1) - (شاع أن البغی وخیم العاقبة) - (اشتهر أن تنتقل العدوی من المریض للسلیم).

ومثال ما یشبه الفعل : أواقف علی الشجرة عصفورة - ما فرح أعداؤنا بوحدتنا وقوتنا. فکلمة : «عصفورة» فاعل للوصف ؛ (وهو : واقف ، اسم الفاعل) وکلمة : «أعداؤنا» فاعل للوصف : (فرح - الصفة المشبهة).

ومن أمثلة الفاعل الذی قام به الفعل أیضا : اتسعت میادین العمل فی بلادنا ، وتنوعت أسبابه ؛ فلن یضیق الرزق بطالبیه ما داموا جادّین.

ص: 62


1- المراد بالاسم الصریح هنا : ما یشمل الضمیر ؛ کما فی الآیة.

زیادة وتفصیل

یکون الفاعل مؤولا إذا وقع مصدرا منسبکا من حرف مصدری وصلته. وحروف المصادر خمسة (1) ، لکن الذی یصلح منها للسبک فی باب الفاعل ثلاثة (2) ؛ هی : «أن» - «أنّ» - «ما» ، المصدریة بنوعیها. مثل یسعدک أن تعمل الخیر ، ویسعدنی أنک حریص علیه. (أی : یسعدک عمل الخیر ویسعدنی حرصک علیه). ومثل : ینفعک ما أخلصت فی عملک - یسرنی ما طالت ساعات الصفو. (أی : ینفعک إخلاصک فی عملک - یسرنی مدة (3) إطالة ساعات الصفو). فلا یوجد المصدر المؤول إلا من اجتماع أمرین مذکورین - غالبا - (4) فی الکلام ، هما : حرف سابک وصلته. ولا یجوز حذف أحدهما إلا «أن» الناصبة للمضارع ؛

ص: 63


1- حروف المصادر وتسمی : «حروف السبک» ، خمسة : (أن الناصبة للمضارع - أن مشددة ومخففة - ما - کی - لو) وقد سبق الکلام علی معناها ، وصلتها ، وکل ما یتعلق بها فی ج 1 - آخر الموصول - ص 368 م 29 من هذا الکتاب. وزاد علیها بعضهم همزة التسویة ؛ فإنها من أدوات السبک عندهم. وهی التی تقع بعد کلمة : «سواء» ، ویلیها صلتها مشتملة علی لفظة «أم» الخاصة بهما. کقوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فالهمزة تسبک - بغیر سابک - مع الجملة بعدها بمصدر یعرب هنا فاعلا. والتقدیر : إن الذین کفروا سواء - بمعنی : متساو - إنذارک وعدمه علیهم. فهم یعربون کلمة : «سواء» خبر «إن» والمصدر المؤول - من غیر سابک - فاعل لکلمة «سواء» التی هی بمعنی اسم الفاعل (وتفصیل الکلام علی هذا فی مکانه الخاص ج 3 باب العطف عند بیان أحوال «أم». ص 431 م 118 - وسبقت الإشارة له فی ج 1 بآخر «باب الموصول» م 29 ، کما قلنا).
2- حروف المصادر وتسمی : «حروف السبک» ، خمسة : (أن الناصبة للمضارع - أن مشددة ومخففة - ما - کی - لو) وقد سبق الکلام علی معناها ، وصلتها ، وکل ما یتعلق بها فی ج 1 - آخر الموصول - ص 368 م 29 من هذا الکتاب. وزاد علیها بعضهم همزة التسویة ؛ فإنها من أدوات السبک عندهم. وهی التی تقع بعد کلمة : «سواء» ، ویلیها صلتها مشتملة علی لفظة «أم» الخاصة بهما. کقوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فالهمزة تسبک - بغیر سابک - مع الجملة بعدها بمصدر یعرب هنا فاعلا. والتقدیر : إن الذین کفروا سواء - بمعنی : متساو - إنذارک وعدمه علیهم. فهم یعربون کلمة : «سواء» خبر «إن» والمصدر المؤول - من غیر سابک - فاعل لکلمة «سواء» التی هی بمعنی اسم الفاعل (وتفصیل الکلام علی هذا فی مکانه الخاص ج 3 باب العطف عند بیان أحوال «أم». ص 431 م 118 - وسبقت الإشارة له فی ج 1 بآخر «باب الموصول» م 29 ، کما قلنا).
3- أما : «کی» المصدریة فلا تصلح للسبک فی باب الفاعل ؛ لأنها - فی الغالب - تکون مسبوقة بلام الجزم لفظا ، أو تقدیرا. فالمصدر المؤول منها ومن صلتها مجرور باللام ؛ فلا یکون فاعلا وکذلک : «لو» المصدریة ؛ لأنها - فی الغالب مسبوقة بجملة فعلیة ، فعلها «ود» أو «یود» - أو ما فی معناهما ، فالمصدر المنسبک منها ومن صلتها یعرب مفعولا للفعل الذی قبلها ...
4- بشرط أن یکون المراد : أن مدة الإطالة هی التی تسر ، ولیست الإطالة نفسها ؛ وإلا کانت «ما» مصدریة فقط.

فإنها قد تحذف وحدها وجوبا أو جوازا فی مواضع معینة ، وتبقی صلتها - کما سیجیء (1) - ومع حذفها فی تلک المواضع تسبک مع صلتها الباقیة مصدرا یعرب علی حسب حالة الجملة. وقد حذفت سماعا فی غیر تلک المواضع ، وبقیت صلتها أیضا. وهو حذف شاذ لا یصح القیاس علیه. ومنه قولهم : وما راعنی إلا یسیر الرکب. أی : إلا أن یسیر ... والتقدیر ما راعنی إلا سیره ؛ فالمصدر المؤول فاعل. ومثله : یفرحنی یبرأ المریض ؛ أی : أن یبرأ والتقدیر : یفرحنی برؤه ؛ فالمصدر المنسبک فاعل. وهو نظیر المسموع ، وکلاهما لا یجوز القیاس علیه ، وإنما یذکر هنا لفهم المسموع الوارد فی الکلام العربی القدیم ، دون محاکاته.

وقد دعاهم إلی تقدیر «أن» حاجة الفعل الذی قبلها إلی فاعل ، فیکون المصدر المنسبک منها ومن صلتها فی محل رفع فاعلا. ولو لا هذا لکان الفاعل محذوفا أو جملة : (یسیر - یبرأ المریض) وکلاهما لا یرضی عنه النحاة ، لمخالفته الأعم الأغلب.

وبهذه المناسبة نشیر إلی أن الراجح الذی یلزمنا اتباعه الیوم یرفض أن تقع الجملة الفعلیة أو الاسمیة فاعلا. وأما قوله تعالی فی قصة یوسف : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآیاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ ...) فالفاعل ضمیر مستتر تقدیره : «هو» عائد علی المصدر المفهوم من الفعل. أی : بدا لهم بداء ، أی : ظهور رأی. وهذا أحد المواضع التی یستتر فیها الضمیر - کما سبق - (2).

وهناک رأی یجیز وقوعها فاعلا مطلقا. ورأی ثالث یجیز وقوعها فاعلا بشرط أن تکون فعلیة معلّقة (3) بفعل قلبیّ ، وأداة التعلیق الاستفهام ؛ کقوله تعالی : (وَتَبَیَّنَ لَکُمْ کَیْفَ)(4) فَعَلْنا بِهِمْ). والرأی الأول أکثر مسایرة للأصول

ص: 64


1- فی الجزء الرابع ، باب «إعراب الفعل» حیث الکلام علی النواصب ثم الجوازم ...
2- ج 1 ص 181 م 20 عند الکلام علی «مرجع الضمیر».
3- شرحنا فی الباب الأول : (ظن وأخواتها) التعلیق وأدواته. ص - 26 -
4- تفصیل الکلام علی حالات : «کیف» الإعرابیة والبنائیة ، فی ج 1 م 39 ص 357.

اللغویة ، وأبعد من التشتیت والتفریق ، وآثارهما السیئة فی الإبانة والتعبیر ، فالاقتصار علیه أولی.

نعم إن کانت الجملة مقصودا لفظها وحکایتها بحروفها وضبطها جاز وقوعها فاعلا ؛ لأنها - بسبب قصد لفظها - تعتبر بمنزلة المفرد ؛ کأن تسمع صوتا یقول : «رأیت البشیر». فتقول : «سرنی رأیت البشیر» ؛ فتکون الجملة کلها باعتبارها کتلة واحدة متماسکة ، فاعلا ، مرفوعا بضمة مقدرة علی آخره ، منع من ظهورها حرکة الحکایة (1)).

ص: 65


1- انظر رقم 3 من هامش ص 111 حیث البیان الخاص بنوع الجملة التی تصلح نائب فاعل.

المسألة 66: أحکام الفاعل

اشارة

للفاعل أحکام تسعة ، لا بد أن تتحقق فیه مجتمعة :

أولها : أن یکون مرفوعا ، کالأمثلة المتقدمة. ویجوز أن یکون الفاعل مجرورا فی لفظه ، ولکنه فی محل رفع. ومن أمثلته إضافة المصدر إلی فاعله ؛ فی نحو : یسرنی إخراج الغنیّ الزکاة ؛ فکلمة : «الغنیّ» مضاف إلیه مجرور. وهی فاعل المصدر ؛ إذ المصدر هنا یعمل عمل فعله (1) : «أخرج» فیرفع مثله فاعلا ، وینصب مفعولا به ... وأصل الکلام : یعجبنی إخراج الغنیّ الزکاة ؛ ثم صار المصدر مضافا ، وصار فاعله مضافا إلیه مجرورا فی اللفظ ، ولکنه مرفوع فی المحل بحسب أصله (2) ، کما قلنا ؛ فیجوز فی تابعه (کالنعت ، أو غیره من التوابع الأربعة) (3) أن یکون مجرورا ؛ مراعاة للفظه ، ومرفوعا مراعاة للمحل ، تقول : یعجبنی إخراج الغنیّ المقتدر الزکاة ؛ برفع کلمة : «المقتدر» أو جرها.

ومن أمثلة ذلک أیضا الفاعل المجرور بحرف جرّ زائد. ویغلب أن یکون حرف الجر الزائد هو : «من» ، أو : «الباء» ، أو : «اللام». نحو : ما بقی من أنصار للظالمین - کفی (4) بالحق ناصرا ومعینا - هیهات لتحقیق الأمل بغیر الجهد الصادق. فکلمة : «أنصار» مجرورة فی اللفظ بحرف الجر الزائد : «من» ، ولکنها فی محل رفع فاعل ، وکلمة : «الحق» ، مجرورة بحرف الجر الزائد : «الباء» فی محل رفع ؛ لأنها «فاعل». وکذلک : کلمة : «تحقیق» مجرورة باللام الزائدة فی محل رفع ؛ لأنها فاعل لاسم الفعل : «هیهات».

ص: 66


1- فی أول الجزء الثالث باب خاص بإعمال المصدر ، وأحکامه المختلفة ، وکذا اسم المصدر.
2- ومثل المصدر المضاف لفاعله اسم المصدر فی نحو : یسرنی عطاء الغنی الفقیر. فکلمة «عطاء» اسم مصدر الفعل : «أعطی» الذی مصدره : إعطاء. وقد أضیف اسم المصدر لفاعله ، ونصب مفعوله. ففاعله مجرور اللفظ ، مرفوع المحل.
3- فی آخر الجزء الثالث باب مستقل لکل واحد منها.
4- فعل ماض ، معناه : وفّی وأغنی : (حصل به الاستغناء) ....

فالفاعل فی الأمثلة الثلاثة وأشباهها مجرور اللفظ ، مرفوع المحل ؛ بحیث لو جاء بعده تابع (کالعطف ، أو غیره من التوابع الأربعة) لجاز فی تابعه الرفع والجر ؛ - کما أسلفنا - ففی المثال الأول نقول : ما بقی من أنصار وأعوان (1) للظالمین ؛ بالجر والرفع فی کلمة : «أعوان» المعطوفة. وفی المثال الثانی نقول : کفی بالحق والأخلاق ... بجر کلمة : «الأخلاق» ورفعها. وفی الثالث هیهات لتحقیق الأمل والفوز ... بجر کلمة : «الفوز» ورفعها (2).

ثانیها : أن یکون موجودا - ظاهرا ، أو مستترا - لأنه جزء أساسی (3) فی جملته ؛ لا بدّ منه ، ولا تستغنی الجملة عنه لتکملة معناها الأصیل مع عامله ؛ ولهذا لا یصح حذفه.

ص: 67


1- إذا کان المعطوف معرفة والمعطوف علیه مجرورا بمن الزائدة ؛ مثل : ما بقی من أنصار والجنود - وجب فی المعطوف الرفع فقط - کما یقول النحاة - لأن «من الزائدة لا تکون جارة زائدة إلا بشرطین - کما سیجیء فی ص 476 - أن تکون مسبوقة بنفی أو شبهه ، وأن یکون المجرور بها نکرة. ولما کان المعطوف فی حکم المعطوف علیه ، ویعد معمولا مثله لحرف الجر الزائد : «من» - وجب عندهم أن یکون نکرة کالمعطوف علیه. فإن لم یکن نکرة مثله لم یصلح أن یکون معمولا للحرف «من» فلا یصح فیه الجر ، ویجب فیه الاقتصار علی الرفع. وکذا إن کان المعطوف علیه نکرة وأداة العطف : «لکن» أو : «بل» ؛ لأن المعطوف بهما بعد النفی والنهی یکون مثبتا ؛ فلا یصح جره ؛ لأنه بمنزلة المجرور بالحرف «من» والمجرور به لا بد أن یکون نکرة منفیة (راجع إیضاح الکلام علی : «بل» و «لکن» فی ج 1 ص 443 م 43 وفی باب العطف جزء 3). هذا تلخیص کلامهم. وهو مناقض لما یقولونه فی مواضع مختلفة ؛ من أنه یغتفر فی الثوانی (أی فی التوابع - وأشباهها) - ما لا یغتفر فی الأوائل - راجع ص 311 م 81 و 490 - وبنوا علی هذا أحکاما کثیرة ؛ فلا داعی هنا لخروجهم علی ما قرروه ، وتشددهم وتضییقهم. والرأی تطبیق قاعدتهم السابقة علی توابع الفاعل المجرور ؛ فیجوز فی توابعه الجر مطلقا ؛ مراعاة للفظ المجرور ، والرفع مراعاة لمحله. ولیس فی هذا ضرر لفظی أو معنوی ، بل فیه تیسیر ، وتخفیف ، وتقلیل للتفریع.
2- وإلی ما سبق یشیر ابن مالک بقوله : الفاعل الّذی کمرفوعی : أتی زید منیرا وجهه : نعم الفتی وقد اکتفی فی تعریف الفاعل بذکر أمثلة مستوفیة للشروط هی : أتی زید ... فکلمة «زید» فاعل للفعل المتصرف : «أتی» وکلمة : «وجه» فاعل للوصف المشبه للفعل ؛ وهو : «منیر» اسم فاعل. و «الفتی» فاعل للفعل الجامد : «نعم» فقد عدّد الفاعل تبعا لأنواع العامل.
3- الجزء الأساسی فی الجملة ، أو الأصیل ، هو : الذی لا یمکن الاستغناء عنه فی أداء معناها الأصلیّ ویسمیه النحاة : عمدة. ومنه : المبتدأ - الخبر - الفاعل - کثیر من أنواع الفعل ...

ویستثنی من هذا الحکم أربعة أشیاء (1) کل منها یحتاج للفاعل ، ولکنه قد یحذف - وجوبا ، أو جوازا - لداع یقتضی الحذف ؛ وهی :

(ا) أن یکون عامله مبنیّا للمجهول ؛ نحو : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ ...،) ومثل : إنّ القویّ یخاف بأسه. وأصل الکلام : کتب الله علیکم الصیام - إن القویّ یخاف الناس بأسه ... ثم بنی الفعل للمجهول ، فحذف الفاعل وجوبا ، وحلّ مکانه نائب له.

(ب) أن یکون الفاعل واو جماعة أو یاء مخاطبة ، وفعله مؤکد بنون التوکید ؛ کالذی فی خطبة أحد القوّاد ...

«أیها الأبطال ، لتهز من أعداءکم ، ولترفعنّ رایة بلادکم خفاقة بین رایات الأمم الحرة العظیمة ... فأبشری یا بلادی ؛ فو الله لتسمعنّ أخبار النصر المؤزّر (2) ، ولتفرحنّ بما کتب الله لک من عزة ، وقوة ، وارتقاء». (وأصل الکلام : تهزموننّ - ترفعوننّ - تسمعیننّ - تفرحیننّ - حذفت نون الرفع لتوالی الأمثال. ثم حذفت وجوبا واو الجماعة ، ویاء المخاطبة ؛ لالتقاء الساکنین) (3).

(ح) أن یکون عامله مصدرا ؛ مثل : إکرام الوالد (4) مطلوب. والحذف هنا جائز.

(د) أن یحذف جوازا مع عامله لداع بلاغی ، بشرط وجود دلیل یدل علیهما

ص: 68


1- زاد علیها بعص النحاة. ولکن الزیادة لم تثبت علی التمحیص ، ولم یرض عنها المحققون (راجع الخضری ج 1 ، والصبان ج 2 أول باب الفاعل عند الکلام علی مواضع حذفه) بل إنهم لم یرضوا عن هذه الأربعة ، وقالوا هناک : إن الحذف فیها ظاهری فقط ، ولیس بحقیقی. ولهم أدلتهم المقبولة القویة ، وإن کنا قد وقفنا وسطا.
2- البالغ الشدید.
3- الکلام علی هذا الحذف من نواحیه المختلفة مدون بالجزء الأول ص 62 المسألة السادسة. أما التفصیل الأکمل ففی ج 4 ص 129 م 143. بابی : نون التوکید ، ثم الإعلال والإبدال.
4- یری بعض النحاة : أن المصدر جامد ، فلا یتحمل ضمیرا مستترا فاعلا ، إن حذف فاعله الظاهر ، إلا إن کان نائبا عن عامله المحذوف فیتحمل ضمیره (راجع ص 207). ویری بعض آخر أنه جامد مؤول بمشتق فهو محتمل للضمیر ، ففاعله مستتر فیه (راجع : «ب» ص 107 ورقم 2 من هامش ص 209).

مثل : من قابلت؟ فتقول : صدیقا (1). أی : قابلت صدیقا.

وفی بعض الأسالیب القدیمة التی نحاکیها الیوم ما قد یوهم أن الفاعل محذوف فی غیر المواضع السالفة ، لکن الحقیقة أنه لیس بمحذوف. ومن الأمثلة لهذا : أن یتکلم اثنان فی مسألة ، یختلفان فی تقدیرها ، والحکم علیها ، ثم ینتهی بهما الکلام إلی أن یقول أحدهما لصاحبه : إن کان لا یناسبک فافعل ما تشاء. ففاعل الفعل المضارع : «یناسب» لیس محذوفا ، ولکنه ضمیر مستتر یعود إلی شیء مفهوم من المقام. أی : إن کان لا یناسبک رأیی ، أو نصحی ، أو الحال الذی أنت فیه (2) ...

ومنها : أن یعلن أحدهما رأیه بقوة وتشدد ؛ فیقول أحد السامعین : ظهر - أو : تبین - أو : تکشف .... یرید : ظهر الحق ... أو تبین الحق ... أو : تکشف الحق.

وقصاری القول : لا بد - فی أکثر الحالات - من وجود الفاعل اسما ظاهرا ، أو ضمیرا مستترا أو بارزا. وقد یحذف أحیانا ؛ کما فی تلک المسائل الأربعة. وحذفه فی المسألتین الأولیین واجب ، أما فی الأخیرتین فجائز.

ص: 69


1- لیس من اللازم فی هذه الصورة ، وأشباهها من کل اسم مذکور وحده .. - أن یعرب مفعولا به ؛ بل یصح إعرابه شیئا آخر یناسب الغرض والمقام ؛ کأن یکون مبتدأ خبره محذوف ، أو العکس .. أو .. أو .. أو .. أو ...
2- سبق الکلام علی هذا الموضع عند الکلام علی مرجع الضمیر ح 1 ص 230 م 19.

زیادة وتفصیل

هناک أفعال لا تحتاج إلی فاعل مذکور أو محذوف ؛ منها : «کان» (1) الزائدة ؛ مثل : المال - کان - عماد للمشروعات العمرانیة. ومنها الفعل التالی لفعل آخر ؛ لیؤکده توکیدا لفظیّا ؛ مثل : (اقترب - اقترب - القطار) ؛ (فتهیأ - تهیأ - له). فالفعل الثانی منهما مؤکد للأول توکیدا لفظیّا ؛ فلا یحتاج لفاعل مع وجود الفاعل السابق.

ومنها أفعال اتصلت بآخرها : «ما» الکافة. (أی : التی تکفّ غیرها عن العمل ، وتمنع ما اتصلت به أن یؤثر فی معمول) مثل : طالما - کثر ما - قلّما ،. نحو : (طالما أوفیت بوعدک ، وکثر ما حمدت لک الوفاء ؛ وقلما (2) یخلف النبیل وعده) ویعرب کل واحد فعلا ماضیا مکفوفا عن العمل (أی : ممنوعا) بسبب وجود «ما» التی کفّته. وقد یقال فی الإعراب : طالما - أو : کثرما - أو : قلما - «کافة ومکفوفة» بمعنی : أن کل کلمة من الاثنتین کفّت الأخری ، ومنعتها من العمل ، فهی کافة لغیرها ، ومکفوفة بغیرها.

وهناک رأی أفضل ؛ یعرب الفعل ماضیا ، ویعرب «ما» مصدریة ، والمصدر المنسبک منها ومن صلتها فی محل رفع فاعل الفعل الماضی ؛ فالتقدیر : طال إیفاؤک الوعد - وکثر حمدی لک الوفاء - وقلّ إخلاف النبیل وعده. وإنما کان هذا الرأی أفضل لأنه یوافق الأصل العام الذی یقضی بأن یکون لکل فعل أصلیّ فاعل ؛ فلا داعی لإخراج هذه الأفعال من نطاق ذلک الأصل (3).

هذا ویقول اللغویون : إن تلک الأفعال - فی الرأی الأحسن الجدیر بالاتباع - لا یلیها إلا جملة فعلیة ؛ کالأمثلة السابقة.

ص: 70


1- تفصیل الکلام علی زیادتها ، وفائدتها وإعرابها ... فی ج 1 ص 428 المسألة : 44.
2- تستعمل : «قلما» فی أغلب الأسالیب لإثبات الشیء القلیل ؛ کهذا المثال المذکور بعد. وقد تستعمل فی بعض الأسالیب للنفی المحض ؛ فتکون حرفا نافیا - لا فعلا - مثل : «ما» النافیة ، و «لا» النافیة ؛ نحو : قلما یسلم السفیه من المکاره. أی : ما یسلم ... ولا بد فی استعمالها حرف نفی من وجود قرینة تدل علی هذا. والأحسن ترک هذا الاستعمال القلیل - بالرغم من جوازه - فرارا من اللبس.
3- ولأن العلة التی یذکرونها لکف الفعل فی مثل : «قلما» وعدم احتیاجه للفاعل - وهی کما جاء فی المغنی - شبهه فی معناه للحرف : «رب» علة واهیة. وعلی اعتبار «ما» کافة ، یجب وصلها بالفعل الذی قبلها فی الکتابة ؛ فتشبک بآخره. أما علی اعتبارها مصدریة فیجب فصلها فی الکتابة.

ثالثها ؛ وجوب تأخیره عن عامله ، کالأمثلة السالفة. وقد یوجد فی بعض الأسالیب الفصحی ما یوهم أن الفاعل متقدم. والواقع أنه لیس بفاعل فی الرأی الأرجح ؛ ففی مثل : «الخیر زاد» ، لا تعرب کلمة : «الخیر» فاعلا مقدما ، وإنما هی مبتدأ. وفاعل الفعل بعده ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی الخیر ، والجملة الفعلیة خبر المبتدأ. وفی مثل : إن ملهوف استعان بک فعاونه ، تعرب کلمة : «ملهوف» فاعلا (1) بفعل محذوف یفسره الفعل بعدها ؛ والتقدیر : إن استعان بک ملهوف - استعان بک - فعاونه. ومثله : إن أحد استغاث بک فأغثه ... وقوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ) فالفاعل لا یکون متقدما. أما الاسم المتقدم علی الفعل فی تلک الأمثلة وأشباهها فقد یعرب حینا ، مبتدأ ، وفاعل الفعل الذی بعده ضمیر مستتر یعود علی ذلک الاسم ، وقد یعرب فی حالات أخری فاعلا لفعل محذوف یفسره المذکور بعده (2) ، أو غیر هذا ...

رابعها : أن یتجرد عامله (فعلا کان ، أو شبه فعل) من علامة فی آخره تدل علی التثنیة أو علی الجمع حین یکون الفاعل اسما ظاهرا مثنی أو جمعا ، نحو : طلع النّیران - أقبل المهنئون - برعت الفتیات فی الحرف المنزلیة. فلا یصح فی الأمثلة السابقة وأشباهها أن یتصل بآخر الفعل ألف تثنیة ، ولا واو جماعة ، ولا نون نسوة ؛ فلا یقال : طلعا النیران - أقبلوا المهنئون - برعن

ص: 71


1- بیان السبب فی ص 140.
2- هذا رأی فریق کبیر من النحاة ، وخاصة البصریین. ویری غیرهم - ولا سیما الکوفیین - جواز تقدم الفاعل علی عامله. وهم یعربون الاسم الظاهر المرفوع من الأمثلة المذکورة فاعلا. وبالرغم من المیل للتیسیر وتقلیل الأقسام رأی البصریین هنا أقرب مسایرة للأصول اللغویة ؛ ذلک أن مهمة «المبتدأ» البلاغیة تختلف عن مهمة «الفاعل» ؛ فلا معنی للخلط بینهما ، وإزالة الفوارق التی لها آثارها فی المعنی - کما سیجیء إیضاحه مفصلا فی مکانه المناسب من باب «الاشتغال» ص 140 -. وفی الحکم الثانی والثالث یقول ابن مالک : وبعد فعل فاعل ، فإن ظهر فهو ، وإلّا فضمیر استتر أی : أن الفعل لا بد له - فی الأغلب - من فاعل بعده ، فإن ظهر فهو المطلوب ، ولا استتار ولا حذف وإلا فهو ضمیر مستتر ... أو محذوف إن کان الموضع موضع حذفه.

الفتیات (1) ... إلا علی لغة تزید هذه الحروف مع وجود الفاعل الظاهر بعدها. وهی لغة فصیحة (2) ، ولکنها لم تبلغ من درجة الشیوع والجری علی ألسنة الفصحاء ما بلغته الأولی التی یحسن الاکتفاء بها الیوم ، والاقتصار علیها ؛ إیثارا للأشهر ، وتوحیدا للبیان.

ومثل الفعل فی الحکم السابق ما یشبهه فی العمل ، فلا یقال فی اللغة الشائعة : هل المتکلمان غریبان؟ هل المتکلمون غریبون ، بإعراب کلمتی : «غریبان» و «غریبون» فاعلا للوصف ، ویجوز علی اللغة الأخری (3).

ص: 72


1- لا یقال هذا ولو کانت التثنیة والجمع من طریق التفریق والعطف بالواو ؛ مثل : طلعا الشمس والقمر ... - حضروا محمود ، وصالح ، وحامد .. - تعلمن فاطمة ، ومیة ، وبثینة ...
2- لأن الوارد المسموع بها کثیر فی ذاته ، وإن کان قلیلا بالنسبة للوارد من اللغة الأخری ولا معنی لما یتکلفه بعض النحاة من تأویل ذلک الوارد المشتمل علی علامة التثنیة أو الجمع مع وجود الفاعل الظاهر بعد تلک العلامة ؛ قاصدا بالتأویل إدخال تلک الأمثلة تحت حکم المنع الذی یمنع اجتماع الأمرین فی جملة فعلیة واحدة ؛ فهذا خطأ منهم إذ المقرر أنه لا یصح إخضاع لغة قبیلة للغة أخری ما دامت کلتاهما عربیة صحیحة. ویستدل الذین یجیزون الجمع بین الأمرین بأمثلة کثیرة : منها قوله تعالی : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَی الَّذِینَ ظَلَمُوا ..) وقوله تعالی : (عَمُوا وَصَمُّوا کَثِیرٌ مِنْهُمْ.) بإعراب کلمة : «الذین» وکلمة «کثیر» هی «الفاعل وواو حرف محض ؛ للدلالة علی الجمع». وعلیها قول الشاعر : جاد بالأموال حتی حسبوه الناس حمقا وقول الآخر : لو یرزقون الناس حسب عقولهم ألفیت أکثر من تری یتکفّف ولا داعی لإعراب الواو فاعلا ، مع إعراب الاسم الظاهر بدلا أو غیره من ضروب التأویل.
3- لعل الأخذ باللغة الأخری التی تزید هذه الحروف أحسن فی حالة الوصف ؛ لأنه أیسر وأوضح - کما سبق أن قلنا فی باب المبتدأ والخبر عند الکلام علی الوصف - ح 1 ص 330 م 34 -. وفی الحکم الرابع یقول ابن مالک : وجرّد الفعل إذا ما أسندا لاثنین ، أو جمع ؛ کفاز الشّهدا وقد یقال : سعدا وسعدوا والفعل للظاهر بعد مسند یقول : لا تلحق بآخر الفعل الذی فاعله مثنی أو جمع - علامة تثنیة أو جمع. وساق مثلا لذلک : «فاز الشهداء» فالفاعل جمع تکسیر للرجال ، وفعله مجرد من علامة جمع الرجال ؛ فلم یقل : فازوا - - الشهداء. ثم عاد فقال : إنه قد یصح فی بعض اللغات زیادة علامة التثنیة والجمع علی اعتباره مجرد علامة حرفة ، ولیست ضمیرا فاعلا ؛ لأن الفاعل اسم ظاهر مذکور بعدها ، والفعل مسند له ؛ فنقول : سعدا الرجلان ، وسعدوا الرجال ...

خامسها : أن عامله قد یکون مضمرا (أی محذوف اللفظ) جوازا أو وجوبا : (ا) فیضمر العامل (أی : یحذف لفظه) جوازا حین یکون واقعا فی جواب استفهام ظاهر الأداة ، تشتمل جملته علی نظیر العامل المحذوف. نحو : من انتصر؟ فتجیب : الشجاع. أی : انتصر الشجاع ... ونحو : أحضر الیوم أحد؟ فتجیب : الضیف ، أی : حضر الضیف ...

أو واقعا فی جواب استفهام ضمنی مفهوم من السیاق من غیر تصریح بأداته ودلالته ؛ نحو : ظهر المصلح فاشتد الفرح به ... العلماء - القادة - الجنود - أی : فرح العلماء - فرح القادة - فرح الجنود - ... فکأن سائلا سأل : من فرح به؟ فکان الجواب : العلماء ... فالاستفهام غیر صریح ، ولکنه مفهوم من مضمون الکلام. ومثل : ازدحم الطریق ؛ الأولاد ، السیارات ، الدراجات ... أی : زحمه الأولاد ، زحمته السیارات ... زحمته الدّرّاجات ... فلیس فی الکلام استفهام صریح ، وإنما فیه استفهام ضمنیّ ، أو مقدر یفهم من السیاق ؛ فکأن أصل الکلام : من زحمه؟ فأجیب : الأولاد ، أی : زحمه الأولاد ... ومثل : العید بهجة مأمولة ، وفرحة مشترکة. الکبار ، الأطفال ، الرجال ، النساء ... ففی الکلام سؤال ضمنی أو مقدر ؛ هو : من یشترک فیها؟ فأجیب : الکبار ... أی : یشترک فیها الکبار ... ومثل : لم یدخل الحزن قلبک لموت فلان ... فتقول : بل أعظم الحزن. فکأن أصل الکلام : أهذا صحیح؟ فأجبت : أعظم الحزن ، أی : بل دخله أعظم الحزن ... وهکذا (1).

(ب) ویضمر العامل وجوبا حین یکون مفسّرا بما بعد فاعله من فعل آخر (أو ما یشبهه) یعمل مباشرة فی ضمیر یعود علی الفاعل الظاهر السابق ، أو : فی اسم مضاف إلی ضمیر (2) یعود علی ذلک الفاعل ؛ نحو : إن ضعیف

ص: 73


1- یجوز فی الأسماء التی أعربناها فاعلا لفعل محذوف إعرابات أخری لغیر ما نحن فیه.
2- هذا الاسم المضاف یسمی : «الملابس» للفاعل ، أی : الذی یجمعه به صلة أیّ صلة ؛ کقرابة ، أو صداقة ، أو عمل ، أو تملک ...

استنصرک فانصره - إن صدیق حضر والده فأحسن استقباله. فالفعل : «استنصر» و «حضر» هو المفسّر للفعل المحذوف. وأصل الکلام : إن استنصرک ضعیف استنصرک ، وفاعل الفعل المفسّر ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی فاعل الفعل المحذوف. وکذلک فاعل الفعل : «حضر» فإنه مفسّر لفعل محذوف ، والتقدیر : إن لابس صدیق حضر والده فأحسن استقباله (1) ؛ فالضمیر فی کلمة : «والده» مضاف إلیه ، والمضاف هو کلمة : «الوالد» المعمولة للفعل المفسّر : «حضر». وفی هذین المثالین وأشباههما لا یجوز الجمع بین المفسّر والمفسّر ؛ لأن المفسّر هنا یدل علی الأول ، ویغنی عنه ؛ فهو کالعوض ، ولا یجوز الجمع بین العوض والمعوض عنه (2).

سادسها : أن یتصل بعامله علامة تأنیث تدل علی تأنیثه (أی : علی تأنیث الفاعل حین یکون مؤنثا ، هو ، أو نائبه) (3) ، وزیادتها علی الوجه الآتی :

(ا) إن کان العامل فعلا ماضیا لحقت آخره تاء التأنیث الساکنة (4) ، مثل قول شوقی فی سکینة بنت الحسین بن علیّ - رضی الله عنهما - :

کانت سکینة تملأ الدّنیا ، وتهزأ بالرواة

روت الحدیث ، وفسرت

آی الکتاب البینات

ص: 74


1- سیجیء فی باب الاشتغال تفصیل المسألة ، وتوضیحها ، وسبب اختیارهم هذا الإعراب - ص 136 م 69 و 140 -
2- وفی الحکم الخامس یقول ابن مالک : ویرفع الفاعل فعل أضمرا کمثل : زید ، فی جواب : من قرا؟ یرید أن الفاعل قد یکون مرفوعا بفعل مضمر ، (أی : غیر مذکور مع فاعله). وضرب لهذا مثالا هو : أن یسأل سائل : من قرأ؟ فیجاب : زید. أی : قرأ زید. واکتفی بهذا عن سرد التفصیل الخاص بهذا الحکم ، وقد ذکرنا.
3- وکذلک تدل علی تأنیث اسم الناسخ إن کان العامل من النواسخ. وتمتنع التاء ، فی مواضع ستذکر فی «ج» من ص 82
4- وفی هذا یقول ابن مالک : وتاء تأنیث تلی الماضی إذا کان لأنثی ؛ کأبت هند الأذی

(ب) إن کان العامل مضارعا فاعله المؤنث اسم ظاهر ، للمفردة ، أو لمثناها ، أو جمعها ، لحقت أوله تاء متحرکة : مثل : تتعلم عائشة ، تتعلم العائشتان - تتعلم العائشات. وکذلک إن کان فاعله ضمیرا متصلا للغائبة المفردة أو لمثناها (1) ، مثل : عائشة تتعلم (2) - العائشتان تتعلمان. ومثل قولهم : عجبت للباغی کیف تهدأ نفسه ، وتنام عیناه ، وهو یعلم أن عین الله لا تنام؟ وکالمضارع «تملأ» و «تهزأ» فی البیت السالف.

فإن کان فاعله ضمیرا متصلا لجمع الغائبات (أی : نون النسوة) فالأحسن - ولیس بالواجب (3) - تصدیره بالیاء ، لا بالتاء ؛ استغناء بنون النسوة فی آخره ؛ نحو : الوالدات یبذلن الطاقة فی حمایة الأولاد ، ویسهرن اللیالی فی رعایتهم.

(ج) إن کان العامل وصفا لحقت آخره تاء التأنیث المربوطة (4) ؛ مثل : أساهرة والدة الطفل؟ ...

وحکم زیادة تاء التأنیث عام ینطبق علی المواضع الثلاثة السالفة (ا - ب - ج) غیر أن زیادتها قد تکون واجبة ، وقد تکون جائزة. فتجب فی حالتین :

الحالة الأولی : أن یکون الفاعل اسما ظاهرا ، حقیقی التأنیث (5) ، متصلا

ص: 75


1- أما تاء المخاطبة للمفردة ، ومثناها ، وجمعها ؛ فلیست تاء تأنیث ؛ وإنما هی للدلالة علی الخطاب لا علی التأنیث ؛ نحو : أنت یازمیلتی لا تعرفین العبث - أنتما یا زمیلتیّ لا تعرفان العبث - أنتن یا زمیلاتی لا تعرفن العبث.
2- الضمیر المستتر نوع من المتصل - کما سبق فی ج 1 م 18 ص 198 باب الضمیر. -
3- کما سبق تفصیل هذا فی باب الفعل (ح 1 م 4 رقم 2 من هامش ص 46 عند الکلام علی : «المضارع» وکذا فی «ج» ص 164 م 14 عند الکلام علی الأفعال الخمسة).
4- انظر «ج» من ص 82 حیث التکملة.
5- المؤنث أنواع اصطلاحیة ، فمنه «المؤنث الحقیقی» ؛ وهو الذی یلد ویتناسل. وقد یکون تناسله من طریق البیض والتفریخ ؛ کالطیور. ومنه «المؤنث المجازی» ، وهو الذی لا یلد ولا یتناسل ولکنه یجری فی أغلب استعمالاته اللفظیة علی حکم المؤنث الحقیقی ؛ فیؤنث له الفعل أحیانا ، وکذلک الصفة والخبر ... ومن أمثلته : شمس ، أرض ، سماء ... ومن الأنواع «المؤنث اللفظی» وهو الذی یشتمل لفظه علی علامة تأنیث ؛ سواء أکان مؤنثا حقیقیا ، أم مجازیا ، أم دالا علی مذکر ، فمن أمثلة المؤنث اللفظی والحقیقی معا : عائشة - فاطمة - لیلی - سعدی - نجلاء ، ومن أمثلة المؤنث اللفظی والمجازی معا : ورقة ، صحیفة ، صحراء ... ومن أمثلة المؤنث اللفظی ومعناه مذکر : طلحة ، معاویة ... وهناک نوع من المؤنث یسمونه «المؤنث المعنوی» فقط وهو : ما کان دالا علی مؤنث مطلقا ، مع - - خلو لفظه من علامة تأنیث. ونوع آخر یسمونه : «المؤنث تأویلا» ؛ کالکتاب ، مرادا به : الصحیفة ، وکاللسان ، مرادا به الرسالة. ونوع آخر ؛ یقال له : «المؤنث حکما» وهو المذکر المضاف لمؤنث ؛ نحو کلمة : «کل» فی قوله تعالی : (وَجاءَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِیدٌ) ونحو کلمة : «صدر» فی قول الشاعر : «وتحطمت صدر القناة علی العدا.» فکلمة : «کل» مذکرة ، وکذا کلمة : «صدر». ولکنهما فی المثالین مؤنثتین ؛ فقد اکتسبتا التأنیث من المضاف إلیه ؛ وأنث الفعل لتأنیهما. وهذا النوع - وکذا التأویل - مع جواز استعماله وصحة محاکاته یقتضینا أن نقتصد فی استعماله ؛ منعا للشبهة اللغویة ، وحیرة السامع والقارئ. فإن خیف اللبس باستعماله وجب العدول عنه ، نزولا علی الصالح اللغوی. ولیس من اللازم أن توجد علامة لفظیة للتأنیث فی المؤنث الحقیقی ، أو المجازی ؛ فقد توجد کالأمثلة السابقة ، أو لا توجد مثل : زینب ، سعاد ، می .. ومثل : عین ، أذن ، ید ... (وفی الجزء الرابع - ص 437 م 169 - الباب الشامل الخاص بالأنیث ، وأقسامه المتعددة ، وعلاماته ، وأحکامه المختلفة). وقد أشار ابن مالک إلی حالتی الوجوب بقوله : وإنما تلزم فعل مضمر متّصل. أو مفهم ذات حر یرید : أن علامة التأنیث تکون لازمة فی الفعل الذی فاعله ضمیر متصل - مستتر ، أو بارز - یعود علی مؤنث مطلقا. وکذلک فی الفعل الذی فاعله اسم ظاهر متصل به ما یفهم ویدل علی مؤنثة حقیقیة ...

بعامله مباشرة ، غیر مراد منه الجنس ، وغیر جمع (1) - وما یجری مجراه - کقولهم : سعدت امرأة عرفت ربها حق المعرفة ؛ فأطاعته. وشقیت امرأة لم تراقبه فی السّرّ والعلن. ویلاحظ التفصیل الآتی :

1 - إن کان الفاعل اسما ظاهرا مؤنثا حقیقیّا ولکنه مفصول من عامله بفاصل جاز تأنیث العامل وعدم تأنیثه (2) ؛ نحو : نسّق الزهر مهندسة بارعة. أو نسّقت ... ومثل : ما صاح إلا طفلة صغیرة ، أو : صاحت ، وعدم التأنیث هو الأفصح حین یکون الفاصل کلمة ... «إلا» (3) والأفصح مع غیرها التأنیث (4).

ص: 76


1- بأن یکون مفردا ، أو مثنی ؛ لأن للجموع حکما سیجیء هنا.
2- سواء أکان الفاصل ضمیرا کالذی فی قوله تعالی : (یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِذا جاءَکَ الْمُؤْمِناتُ ...) أم غیر ضمیر کالأمثلة التی ستجیء.
3- أو : غیر ، أو سوی ... مع ملاحظة أن کلمة : «غیر» أو : «سوی» هی التی تعرب فاعلا ولکنها مضافة إلی المؤنث.
4- وفی هذا یقول ابن مالک : وقد یبیح الفصل ترک التّاء فی نحو : أتی القاضی بنت الواقف - - یرید : أن الفصل بین الفعل وفاعله الظاهر المؤنث الحقیقی الذی وصفناه - یبیح تجرید الفعل من علامة التأنیث ، وضرب لذلک مثلا هو : أتی - القاضی - بنت الواقف. ویصح أنت القاضی ... ولو لا الفصل لوجب تأنیث الفعل. ثم قال : والحذف مع فصل بإلّا فضّلا کما زکا إلّا فتاة ابن العلا وفی رأی ابن مالک أن عدم التأنیث مفضل علی التأنیث حین یکون الفاصل کلمة : «إلا» مثل : ما زکا إلا فتاة ابن العلا ؛ أی : ما صلحت إلا فتاة الرجل المعروف بابن العلا. ثم قال : والحذف قد یأتی بلا فصل ، ومع ضمیر ذی المجاز فی شعر وقع أی : أن العامل الذی فاعله مؤنث ظاهر حقیقی قد یتجرد من علامة التأنیث مع عدم وجود فاصل ؛ نحو : قال فتاة. وکذلک قد تحذف علامة التأنیث من العامل الذی فاعله ضمیر متصل - مستتر ، أو بارز : - یعود علی مؤنث مجازی (ذی مجاز ، أی : صاحب مجاز) نحو الأرض اهتز بالأمس اهتزازا شدیدا ، ثم انشق بعد ذلک وهذا الحذف شاذ لا یصح محاکاته ، ولا القیاس علیه.

2 - وکذلک یصح الأمران إن کان للفاعل ظاهرا ، ومؤنثا حقیقیّا غیر مفصول ، ولکن لا یراد به فرد معین ، وإنما یراد به الجنس کله ممثلا فی الفاعل ، فکأن الفاعل رمز لجنس معناه ، أو مراد به ذلک الجنس کله. ومنه «الفاعل» الذی فعله : «نعم» أو «بئس» أو أخواتهما (1). فیجوز إثبات علامة التأنیث وحذفها. نحو : نعم الأمّ ، ترعی أولادها ، وتشرف علی شئون بیتها ... فکلمة «الأم» هنا لا یراد بها واحدة معینة ، وإنما یرمز بها إلی جنس الأم من غیر تحدید ولا تخصیص. وهذا علی اعتبار «أل» جنسیة (2) ؛ فیجوز أن یقال : نعم الأم ، ونعمت الأم (3).

3 - وکذلک إن کان الفاعل ظاهرا ولکنه جمع تکسیر للإناث أو الذکور فیصح تأنیث العامل ، وعدم تأنیثه ؛ نحو : عرفت الفواطم طریق السداد ،

ص: 77


1- فی الجزء الثالث باب خاص بهما ، وبألفاظ المدح والذم الأخری.
2- ولیست للعهد. ومقتضی ذلک - کما قالوا ، ونصوا علی أنه لا بعد فیه - جواز الأمرین فی مؤنث قصد به الجنس ؛ نحو : صار المرأة متعلمة کالرجل. ومثل هذا : ما قام من امرأة ؛ فیصح زیادة تاء التأنیث وعدم زیادتها ؛ لأن «من» أفادت الجنسیة بخلاف ما قامت امرأة ؛ لکون المراد بها الفرد وإنما جاء العموم من النفی ...
3- لیس من اللازم فی هذه الصورة أن یکون الفاعل ظاهرا ، فقد یکون ضمیرا مفسرا بنکرة بعده ، نحو : نعم فتاة عائشة؟

واتبعت الهنود سبل الرشاد. ویصح : عرف .. واتّبع ... ؛ فالتأنیث علی قصد تأویل الفاعل بالجماعة ، أو الفئة ، ... وعدم التأنیث علی قصد تأویله بالجمع أو الفریق ؛ فکأنک فی الحالة الأولی تقول : عرفت جماعة الفواطم طریق السّداد ، واتبعت جماعة الهنود سبل الرشاد. وکأنک فی الحالة الثانیة تقول : عرف جمع الفواطم (1) ... واتبع جمع الهنود (2) ... فالتأنیث ملاحظ فیه معنی «الجماعة» والتذکیر ملاحظ فیه معنی «الجمع». وکأن العامل مسند إلی هذه أو تلک ؛ ویجری التأنیث أو التذکیر علی أحد الاعتبارین.

ومثل قولهم : إذا دعا البدوی استجاب سکان الحی لدعوته ؛ فأسرع الرجال إلیه ، وبادر الفتیان لنجدته ... ویجوز : استجابت - أسرعت - بادرت ؛ فیجری التأنیث أو التذکیر هنا - کما فی سابقتها - علی أحد الاعتبارین.

ویجری علی اسم الجمع (3) واسم الجنس الجمعی (4) المعرب (5) ، ما یجری علی جمع التکسیر ؛ نحو : قالت طائفة لا تسالموا العدوّ. ونحو : شربت البقر ... ویجوز : «قال ، وشرب» (6) ...

ص: 78


1- وإنما صح حذف التاء من الفعل مع أن فاعله اسم ظاهر حقیقی التأنیث لأن تأویله بمعنی «الجمع» جعله بمنزلة المذکر مجازا ؛ فأزال المجازی الطارئ ما کان یلاحظ لأجل التأنیث الحقیقی کما أزال التذکیر الحقیقی فی «رجال» فی الصورة التالیة.
2- وإنما صح حذف التاء من الفعل مع أن فاعله اسم ظاهر حقیقی التأنیث لأن تأویله بمعنی «الجمع» جعله بمنزلة المذکر مجازا ؛ فأزال المجازی الطارئ ما کان یلاحظ لأجل التأنیث الحقیقی کما أزال التذکیر الحقیقی فی «رجال» فی الصورة التالیة.
3- هو ما یدل علی ما یدل علیه الجمع ، ولکن لیس له مفرد من لفظه ، مثل : قوم - رهط - طائفة ...
4- سبق تعریفه وکل ما یتصل به فی ج 1 م 1 ص 20.
5- بخلاف المبنی مثل : «الذین» فی رأی من یعتبرها اسم جنس جمعیا (وانظر «ا» فی ص 82 حیث تتمة الحکم الخاص بعامل اسم الجنس الجمعی).
6- وفی جمع التکسیر وفی فاعل «نعم» وأخواتها (وهی التی سبق الکلام علیها قبل جمع التکسیر) یقول ابن مالک : والتّاء مع جمع سوی السّالم من مذکّر کالتّاء مع إحدی اللّبن أی : تاء التأنیث التی تزاد فی العامل للدلالة علی تأنیث الفاعل - حکمها من ناحیة وجودها أو الاستغناء عنها ، کحکمها فی العامل الذی یکون فاعله هو کلمة : «اللبن» (بمعنی : الطوب الذی لم یطبخ بالنار ولم یدخلها) حیث یقال : تکاثر اللّبن. أو تکاثرت اللبن ؛ بزیادة تاء التأنیث أو بحذفها فکذلک - - الشأن فی کل جمع سوی جمع المذکر السالم المستوفی للشروط - وجمع المؤنث السالم المستوفی أیضا - فلم یبق جمع سواهما إلا جمع التکسیر ، فکأنه یرید أن یقول : إذا کان الفاعل جمع تکسیر جاز فی عامله التأنیث ؛ نحو : قام الرجال ، وقامت الرجال ، علی نحو ما شرحناه. ثم قال : والحذف فی «نعم الفتاة» استحسنوا لأنّ قصد الجنس فیه بیّن

4 - وإن کان الفاعل الظاهر جمع مؤنث سالما - مستوفیا للشروط (1) - فحکمه کحکم مفرده ؛ فیجب تأنیث عامله - فی الرأی الأقوی - کقولهم : بلغت الأعرابیات فی قوة البیان وبلاغة القول مبلغ الرجال ، وکانت الشاعرات تجید القریض کالشعراء ، وربما سبقت شاعرة کثیرا من الفحول ...

فإن لم یکن مستوفیا للشروط جاز الأمران ؛ نحو : أعلنت الطلحات السفر ، أو أعلن ... (جمع : طلحة ، اسم رجل) ؛ وکقول بعض المؤرخین : (لما تمت «أذرعات» (2) بناء وعمرانا هیأ والیها طعاما للفقراء ، ونظر فإذا جمع من النساء مقبل ؛ فقال : الحمد لله ، أقبل أولات الفضل ممن عملن بأنفسهن ، وساعدن بأولادهن ؛ ابتغاء مرضاة الله ...) فیصح فی الفعلین : «تمّ ...» - «أقبل ...» زیادة تاء التأنیث فی آخرهما ، أو عدم زیادتها.

وبدیه أن الفاعل إذا کان جمع مذکر سالما مستوفیا للشروط ، لا یجوز - فی الرأی الأصح - تأنیث عامله ؛ وإنما یحکم له بحکم مفرده ؛ کقولهم : «أسرع المحاربون إلی لقاء العدو ، فرحین ، ولم یتزحزح الواقفون فی الصفوف الأمامیة ، ولم یتقهقر الواقفون فی الصفوف الخلفیة ؛ حتی کتب الله لهم النصر ، وفاز المخلصون بما یبتغون».

فإن کان غیر مستوف للشروط (3) جاز الأمران علی الاعتبارین السالفین - (معنی الجمع أو : معنی الجماعة) نحو : أظهر أولو العلم فی السنوات الأخیرة عجائب ؛ لم یشهد الأرضون مثلها من بدء الخلیقة ، وشاهد العالمون من آثار العبقریة ما جعلهم یرفعون العلم والعلماء إلی أعلی الدرجات ... ؛ فیصح فی الأفعال

ص: 79


1- سبقت شروطه فی ج 1 ص 100 المسألة 12.
2- اسم بلد بالشام.
3- ومن هذا أن یدخل علی صیغة المفرد عند الجمع تغییر - أیّ تغییر - فی عدد الحروف ، أو فی ضبطها.

المذکورة عدم إلحاق علامة التأنیث بها کما هنا ، أو زیادتها فیقال : أظهرت - - تشهد - شاهدت ...

5 - وإن کان الفاعل الظاهر مؤنثا غیر حقیقیّ (وهو المجازیّ) صح تأنیث عامله وعدم تأنیثه ؛ نحو : امتلأت الحدیقة بالأزهار - تمتلئ الحدیقة بالأزهار. ویصح : امتلأ ، ویمتلئ.

6 - هناک صور للفاعل المؤنث الحقیقی لا یصح أن یؤنث فیها عامله ، منها : أن یکون الفاعل هو التاء التی للمفردة ؛ مثل : کتبت - أو لمثناها ؛ نحو کتبتما ، أو التی معها نون النسوة ؛ مثل کتبتن (1) ... أو یکون الفاعل هو : «نا» التی لجماعة المتکلمات ؛ نحو : کتبنا. أو نون النسوة ؛ نحو کتبن ...

ومنها : أن یکون الفاعل المؤنث الحقیقی مجرورا فی اللفظ بالباء التی هی حرف جرّ زائد ، وفعله هو : کلمة : «کفی» مثل : «کفی بهند شاعرة (2)».

* * *

الحالة الثانیة (3) : أن یکون الفاعل ضمیرا متصلا عائدا علی مؤنث مجازیّ ، أو حقیقی ؛ کقولهم : بلادک أحسنت إلیک طفلا ، وأفاءت علیک الخیر یافعا ؛ فمن حقها أن تسترد جزاءها منک شابّا وکهلا. وکقولهم : الأم المتعلمة تحسن رعایة أبنائها ؛ فترفع شأن بلادها ... (4) ففاعل الأفعال (وهی : أحسن - أفاء - تسترد ...) ضمیر مستتر تقدیره : «هی» ، یعود علی مؤنث مجازیّ ، وأما فاعل

ص: 80


1- طریقة إعراب هذا الضمیر ونظائره موضحة تفصیلا فی موضعها الأنسب وهو «کیفیة إعراب الضمیر» ج 1 م 19 ص 213.
2- نص النحاة علی أن یکون الفعل هو : «کفی» الذی یکون فاعله مجرورا بحرف الباء الزائدة. ویفهم من هذا أن غیره من الأفعال التی فاعلها مجرور بحرف جر زائد - قد یتصل به علامة تدل علی تأنیث ذلک الفاعل. بل إنهم ذکروا أمثلة للتأنیث بمناسبة عارضة فی باب النائب عن الفاعل ومن تلک الأمثلة قوله تعالی : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ...) وقوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَکْمامِها ...) وقوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثی ....)
3- سبقت الأولی من حالتی وجوب التأنیث فی ص 75.
4- «ملاحظة» : التأنیث فی صور الحالة الثانیة واجب ولو عطف علی الفاعل مذکر ؛ نحو : البنت قامت - هی - والوالد ؛ کوجوبه فی نحو : قامت البنت والوالد. کما یلزم التذکیر فی عکسه ؛ نحو : قام الوالد والبنت. أما قولهم : «یغلب المذکر علی المؤنث عند الاجتماع فخاص بنحو : البنت والوالد قائمان.

الفعلین : (تحسن - ترفع ...) فضمیر مستتر تقدیره : «هی» یعود علی مؤنث حقیقی ...

فإن کان الفاعل ضمیرا بارزا منفصلا کان الأفصح الشائع فی الأسالیب العالیة عدم تأنیث عامله : نحو : (ما فاز إلا أنت یا فتاة الحیّ) - (الفتاة ما فاز إلا هی) - (إنما فاز أنت - إنما فاز هی) ، و... وأشباه هذه الصّور مما یقال عند إرادة الحصر. ومع أن التأنیث جائز فإن الفصحاء یفرون منه.

ص: 81

زیادة وتفصیل

(ا) اسم الجنس الجمعیّ الذی یفرق بینه وبین واحده بالتاء المربوطة - إذا وقع مفرده هذا فاعلا وجب تأنیث عامله مطلقا ؛ (أی : سواء أکان من الممکن تمییز مذکره من مؤنثه ، کبقرة وشاة ، أم لم یمکن ؛ کنملة ودودة) ؛ فیقال : سارت بقرة - أکلت شاة - دأبت نملة علی العمل - ماتت دودة.

أما اسم الجنس المفرد الخالی من التاء الذی لا یمکن تمییز مذکره من مؤنثه فیجب تذکیر عامله ، ولو أرید به مؤنث ؛ مثل : صاح هدهد - غرد بلبل ، ... فإن أمکن تمییز مذکره من مؤنثه روعی فی تأنیث العامل وعدم تأنیثه ما یدل علیه التمییز. فالمعول علیه فی تأنیث عامل اسم الجنس المفرد الخالی من التاء ، أو عدم تأنیثه - هو مراعاة اللفظ عند عدم التمییز.

(ب) إذا کان الفاعل جمعا یجوز فی عامله التذکیر والتأنیث (کجمع التکسیر) فإن الضمیر الغائد علی ذلک الفاعل یجوز فیه أیضا التذکیر والتأنیث ؛ نحو : قامت الرجال کلهم - أو قام الرجال کلها ... والأحسن لدی البلغاء موافقة الضمیر للعامل فی التذکیر وعدمه ؛ نحو : قامت الرجال کلها ، أو قام الرجال کلهم ، ونحو : حضرت الأبطال کلها ، أو : حضر الأبطال کلهم ، وذلک لیسیر الکلام علی نسق متماثل.

(ح) کما تلحق تاء التأنیث الفعل فی المواضع السابقة تلحق أیضا الوصف - کما سبق (1) - إلا إذا کان الوصف مما یغلب علیه ألّا تلحقه التاء ؛ مثل : «فعول» ، بمعنی : «فاعل» ؛ کصبور ، وجحود ... ومثل : «فعیل» بمعنی : مفعول ؛ کطریح وطرید ، بمعنی : مطروح ، ومطرود (2). ومثل : التفضیل (3) فی بعض صوره. وکذلک لا تلحق آخر اسم الفعل (4) ؛ کهیهات. ولا العامل إذا کان

ص: 82


1- فی «ج» من ص 75
2- بیان هذا وتفصیله فی الباب الخاص بالتأنیث ج 4 م 169 ص 437.
3- له باب مستقل فی ج 3 م 112 ص 322.
4- له باب مستقل فی ج 4 م 141 ص 108.

شبه جملة علی الرأی الذی یجعل شبه الجملة رافعا فاعلا بشروط اشترطها. وهو رأی یحسن إغفاله الیوم.

(د) إذا قصد لفظ کلمة ما ؛ (اسما کانت ، أو فعلا ، أو حرفا) جاز اعتبارها مذکرة علی نیة : «لفظ» أو مؤنثة علی نیة : «کلمة». وکذلک حروف الهجاء فی الرأی الأشهر ؛ تقول فی کلمة سمعتها مثل : «هواء» أعجبنی الهواء ، أو : أعجبتنی الهواء. فالأولی علی إرادة : أعجبنی لفظ : «الهواء» والثانیة علی إرادة : أعجبتنی کلمة : «الهواء». وتقول فی إعراب : «أعجب» إنه فعل ماض ، أو إنها فعل ماض ...

وتقول «أل» هو : حرف یفید التعریف أحیانا. أو : هی حرف تفید التعریف أحیانا. وهکذا ...

وتنظر للحرف الهجائی «المیم» مثلا فتقول : إنه جمیل المنظر ، أو إنها جمیلة المنظر ... وعلی حسب التذکیر أو التأنیث فی کل ما سبق ، یذکر أو یؤنث العامل والضمائر وغیرها.

(ه) الأحکام الخاصة بالتذکیر والتأنیث المترتبین علی وقوع الفاعل مفردا مؤنثا. تطبّق أیضا حین وقوعه مثنی مؤنثا ، فیجری علی عامل الفاعل المؤنث المثنی. وعلی الضمائر العائدة علیه من التذکیر والتأنیث ، ما یجری علیهما مع الفاعل المفرد المؤنث - کما یفهم مما سبق -.

ص: 83

سابعها : أن یتقدم - أحیانا - علی المفعول به ؛ کالأمثلة السابقة ، وکقول الشاعر:

وإذا أراد الله أمرا لم تجد

لقضائه ردّا ولا تحویلا

ولهذا التقدم أحوال ثلاث ؛ فقد یکون واجبا ، وقد یکون ممنوعا ، وقد یکون جائزا.

(ا) فیجب الترتیب بتقدیم الفاعل وتأخیر مفعوله فی مواضع ، أشهرها :

1 - خوف اللّبس الذی لا یمکن معه تمییز الفاعل من المفعول به ؛ کأن یکون کل منهما اسما مقصورا ؛ نحو : ساعد عیسی یحیی. أو مضافا لیاء المتکلم ؛ نحو : کرّم صدیقی أبی (1). فلو تقدم المفعول به علی الفاعل لخفیت حقیقة کل منهما. وفسد المراد بسبب خفائها ؛ لعدم وجود قرینة تزیل هذا الغموض (2) واللبس. فإن وجدت قرینة لفظیة أو معنویة تزیله لم یکن الترتیب واجبا. فمثال اللفظیة : أکرمت یحیی سعدی ، فوجود تاء التأنیث فی الفعل دلیل علی أن الفاعل هو المؤنث (سعدی) ، ومثل : کلّم فتاه یحیی ؛ لأن عودة الضمیر علی «یحیی» دلیل علی أنه الفاعل ، وأنه متقدم فی الرتبة (3) ، برغم تأخره فی اللفظ. (ولهذا یسمّی المتقدم خ خ حکما). ولم یکن مفعولا به لکیلا یعود الضمیر علی شیء متأخر فی اللفظ والرتبة ؛ وهذا أمر لا یسایر الأسالیب الصحیحة التی تقضی بأن الضمیر لا بد أن یعود علی متقدم فی الرتبة ، إلا فی بعض مواضع (4) معینة ، لیس منها هذا الموضع.

ومثال المعنویة : أتعبت نعمی الحمّی. فالمعنی یقتضی أن تکون «الحمّی» هی الفاعل ؛ لأنها هی التی تتعب «نعمی» ، لا العکس.

2 - أن یکون الفاعل ضمیرا متصلا والمفعول به اسما ظاهرا ؛ نحو : أتقنت العمل ، وأحکمت أمره. ولا مانع فی مثل هذه الصورة من تقدم المفعول به علی

ص: 84


1- یقع اللبس فی صور کثیرة ؛ فیشمل کل الأسماء التی یقدر علی آخرها الإعراب ، کالمقصور ، وکالمضاف إلی یاء المتکلم ، وکالأسماء التی تعرب إعرابا محلیا ، ومنها «المبنیات» ؛ کأسماء الإشارة ، وأسماء الموصول ...
2- لا التفات لما یقال من أن مخالفة الترتیب جائزة مع اللبس ، فهذا کلام لا یسایر الأصول اللغویة العامة ، ولا یوافق القصد من التفاهم الصریح بالکلام.
3- بیان الرتبة والدرجة ملخص فی رقم 4 من هامش ص 85
4- سبقت فی باب الضمیر ج 1 ص 184. م 20.

الفعل والفاعل معا ؛ لأن الممنوع أن یتقدم علی الفاعل وحده ، فیتوسط بینه وبین الفعل.

3 - أن یکون کل منهما ضمیرا متصلا ولا حصر (1) فی أحدهما ؛ نحو عاونتک کما عاونتنی.

4 - أن یکون المفعول به قد وقع علیه الحصر. (والغالب أن تکون أداة الحصر هی : «إنّما» أو «إلا» المسبوقة بالنفی) ، نحو : إنما یفید الدواء المریض ، أو : ما أفاد الدواء إلا المریض.

وقد یجوز تقدیم المفعول به علی فاعله إذا کان المفعول محصورا بإلا المسبوقة بالنفی ، بشرط أن تتقدم معه «إلا» ؛ نحو : ما أفاد - إلا المریض - الدواء (2). ومع جواز هذا التقدیم لا یمیل أهل المقدرة البلاغیة إلی اصطناعه ؛ لمخالفته الشائع بین کبار الأدباء.

(ب) ویجب إهمال الترتیب ، وتقدیم المفعول به علی الفاعل فیما یأتی :

1 - أن یکون الفاعل مشتملا علی ضمیر یعود علی ذلک المفعول به ، نحو : صان الثوب لابسه - قرأ الکتاب صاحبه. ففی الفاعل (وهو : لابس - صاحب) ضمیر یعود علی المفعول به السابق (3). فلو تأخر المفعول به لعاد ذلک الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة (4) ؛ وهو مرفوض فی هذا الموضع. أما عوده علی المتأخر لفظا

ص: 85


1- سبق فی الجزء الأول - ص 364 م 37 - الإشارة إلی معنی الحصر (القصر) والغرض منه ..
2- لما کان المحصور بإلا هو الواقع بعدها مباشرة کان تقدمه معها لا لبس فیه ؛ لأن وجودها قبله مباشرة یدل علی أنه المحصور بغیر غموض. أما المحصور «بإنما» فإنه المتأخر عنها ، الذی لا یلیها مباشرة. فإذا تقدم ضاع - فی بعض الحالات - الغرض البلاغی من الحصر ، ولا قرینة فی الجملة تدل علی التقدیم وموضعه. فیقع اللبس الذی یفسد الغرض.
3- یتساوی فی هذا الحکم اتصال الضمیر بالفاعل مباشرة ، - کالمثالین المذکورین - واتصاله بشیء ملازم للفاعل ، لا یمکن أن یستغنی عنه الفاعل ، کصلة الموصول إذا کان الفاعل اسم موصول کالذی فی قول الشاعر : سموت فأدرکت العلاء وإنما یلقّی علیّات العلا من سما لها ففی الصلة : (سما لها) ضمیر یعود علی المفعول به ، (وهو : علیات) فوجب تقدمه لهذا.
4- شرحنا (فی باب الضمیر ج 1 ص 182) معنی التقدم فی اللفظ مع التقدم فی الرتبة ، ومعنی التقدم فی اللفظ دون الرتبة. وملخصه : أن بناء الجملة العربیة قائم علی ترتیب یجب مراعاته بین کلماتها ؛ - - فتتقدم واحدة علی الأخری وجوبا أو جوازا ؛ فإن کان تقدم اللفظ واجبا بحسب الأصل الغالب علیه سمی تقدما فی الرتبة ، أو فی الدرجة ، فالأصل فی المبتدأ وجوب تقدمه علی الخبر ، والأصل فی الفعل وجوب تقدمه علی فاعله ومفعوله ، والأصل فی الفاعل أن یتقدم علی المفعول ... فإذا تحقق هذا الأصل ووضع کل لفظ فی مکانه وفی درجته قیل إنه متقدم فی اللفظ وفی الرتبة ؛ کالمبتدأ حین یتقدم علی خبره ، وکالفاعل حین یتقدم علی مفعوله. فإذا تأخر المبتدأ عن خبره ، أو الفاعل عن مفعوله ، لم یفقد درجته ، ولم تزل عنه رتبته ، برغم تأخره اللفظی ؛ فیقال عنه : إنه متأخر لفظا لا رتبة ... وهناک مواضع یجوز فیها عود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة شرحناها - کما قلنا - فی مکانها الأنسب لها ، وهو باب الضمیر ج 1 ص 174 م 20 برغم أن بعض المطولات النحویة تذکرها فی آخر باب الفاعل لمناسبة طارئة.

دون رتبة - وهو المسمی بالمتقدم حکما - فجائز. ومن أمثلته : عود الضمیر من مفعول به متقدم علی فاعله المتأخر ؛ نحو ؛ حملت ثمارها الشجرة - فالضمیر «ها» فی المفعول عائد علی «الشجرة» التی هی الفاعل المتأخر فی اللفظ ، دون الرتبة ؛ لأن ترتیب الفاعل فی تکوین الجملة العربیة یسبق المفعول به. ونحو : أفادت صاحبها الریاضة - أروی حقله الزارع ... أما عودة الضمیر علی المتأخر لفظا ورتبة فکما عرفنا - ممنوعة إلا فی بعض مواضع محددة. وقد وردت أمثلة قدیمة عاد الضمیر فیها علی متأخر لفظا ورتبة فی غیر تلک المواضع ؛ فحکم علیها بالشذوذ وبعدم صحة محاکاتها ، إلا فی الضرورة الشعریة ، بشرط وضوح المعنی ، وتمییز الفاعل من المفعول به ؛ فمن الخطأ أن نقول : أطاع ولدها الأمّ - أرضی ابنه أباه.

2 - أن یکون الفاعل قد وقع علیه الحصر (بأداة یغلب أن تکون «إلا» المسبوقة بالنفی ، أو «إنما»). نحو : لا ینفع المرء إلا العمل الحمید - إنما ینفع المرء العمل الحمید. وقد یجوز تقدیم المحصور «بإلا» علی مفعوله إذا هی تقدمت معه وسبقته ؛ نحو : لا ینفع إلا العمل الحمید المرء ...

«ملاحظة» : ستأتی (1) مواضع یجب أن یتقدم فیها المفعول به علی عامله ، فیکون متقدما علی فاعله تبعا لذلک.

(ح) فی غیر ما سبق (فی : ا ، ب) یجوز الترتیب وعدمه. ومن أمثلة تقدیم الفاعل علی المفعول جوازا قول الشاعر :

وإذا أراد الله نشر فضیلة

طویت أتاح لها لسان حسود

ص: 86


1- فی الصفحة التالیة

ومن أمثلة تقدیم المفعول به علی فاعله وحده : الجهل لا یلد الضیاء ظلامه ... وقول الشاعر :

أبت لی حمل الضّیم نفس أبیة

وقلب إذا سیم الأذی شبّ وقده (1)

ویفهم من الأقسام السالفة أن المواضع التی یتقدم فیها الفاعل وجوبا - هی عینها المواضع التی یتأخر فیها المفعول به وجوبا ، فیمتنع تقدیمه علی فاعله. والعکس صحیح کذلک ؛ فالمواضع التی یتقدم فیها المفعول به علی فاعله وجوبا هی عینها المواضع التی یتأخر فیها الفاعل وجوبا ، ویمتنع تقدیمه علیه. وحیث لا وجوب فی التقدیم أو التأخیر یجوز الأمران ، ولا یمتنع تقدیم هذا أو ذاک.

* * *

بقیت مسألة الترتیب بینهما وبین عاملهما. وملخص القول فیها : أنّ الفاعل لا یجوز تقدیمه علی عامله - کما سبق (2) - وأن المفعول به یجب تقدیمه علی عامله فی صور (3) ، ویمتنع فی أخری ؛ ویجوز فی غیرهما.

- ا - فیجب تقدیمه :

1 - إن کان اسما له الصدارة فی جملته ؛ کأن یکون اسم استفهام ، أو اسم شرط .. ؛ نحو ؛ من قابلت؟ - أیّ نبیل تکرّم أکرّم ... وکذلک إن کان مضافا لاسم له الصدارة ؛ نحو : صدیق من قابلت؟ - صاحب أیّ نبیل تکرّم أکرّم ...

2 - کذلک یجب تقدیمه إن کان ضمیرا منفصلا لو تأخر عن عامله لوجب اتصاله (4) به ؛ کقولهم : «أیها الأحرار : إیاکم نخاطب ، وإیاکم ترقب البلاد ...» فلو تأخر المفعول به : (إیا) لاتّصل بالفعل ، وصار الکلام : نخاطبکم ... ترقبکم .. ؛ فیضیع الغرض البلاغی من التقدیم (وهو : الحصر).

3 - وکذلک یجب تقدیمه إذا کان عامله مقرونا بفاء الجزاء (5) فی جواب

ص: 87


1- ناره.
2- فی ص 71
3- وفی هذه الصور یکون متقدما علی فاعله أیضا - کما أشرنا - ؛ إذ لا یمکن أن یتقدم علی عامله دون أن یتقدم علی فاعله.
4- وذلک فی غیر باب : «سلنیه» و «خلتنیه» حیث یجوز الاتصال والانفصال مع تأخر المفعول به عن عامله ؛ (کما تقدم فی ج 1 ص 172 باب الضمیر. م 20).
5- فی هذا الموضع یصح أن یعمل ما بعد فاء الجزاء فیما قبلها.

«أمّا» الشرطیة الظاهرة أو المقدرة ، ولا اسم یفصل بین هذا العامل وأما. فیجب تقدیم المفعول به لیکون فاصلا ، لأن الفعل - وخاصة المقرون بفاء الجزاء - لا یلی «أمّا» الشرطیة (1). ومن الأمثلة قوله تعالی : (فَأَمَّا الْیَتِیمَ ، فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ،) وقوله : (وَرَبَّکَ فَکَبِّرْ ، وَثِیابَکَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ...)(2) بخلاف : أما الیوم فساعد نفسک ، حیث لا یجب تقدیم المفعول به ، لوجود الفاصل ؛ وهو هنا : الظرف (3).

ب - ویمتنع تقدیم المفعول به علی عامله فی الصور الآتیة (4) : (وقد سبقت الإشارة لبعضها).

1 - جمیع الصور التی یمتنع فیها تقدمه علی فاعله ، وقد سبقت (5) ؛ (ومنها أن یکون تقدمه موقعا فی لبس ، نحو : ساعد یحیی عیسی. فلو تقدم المفعول به - من غیر قرینة - لالتبس بالمبتدأ ، ومهمة المبتدأ المعنویة تخالف مهمة الفاعل. وکذلک بقیة الصور الأخری) ما عدا الثانیة ؛ فیجوز فیها الأمران.

2 - أن یکون مفعولا لفعل التعجب «أفعل» فی مثل : ما أعجب قدرة الله التی خلقت هذا الکون.

3 - أن یکون محصورا بأداة حصر ؛ هی : «إلا» المسبوقة بالنفی ، أو «إنما» نحو : لا یقول الشریف إلا الصدق - إنما یقول الشریف الصدق.

4 - أن یکون مصدرا مؤولا من «أنّ المشددة أو المخففة» مع معمولیها ؛ نحو : عرف الناس أنّ الکواکب تفوق الحصر ، وأیقن العلماء أن بعض منها قریب الشبه بالأرض. إلا إن کانت «أنّ» مع معمولیها مسبوقة بأداة الشرط :

ص: 88


1- کما سیجیء فی ص 135.
2- هذا الموضع یعبر عنه بعض النحاة بأنه ما یکون العامل فیه جوابا للأداة «أما» الشرطیة المقدرة ، ویعبر عنه بعض آخر بما یکون العامل فیه فعل أمر مقرونا بالفاء ، والمعمول به منصوبا بفعل الأمر. ولم یشترط وجود «أما» المقدرة. فعند الإعراب قد یلاحظ وجودها فتکون الفاء فی الأمثلة السابقة داخلة علی جوابها ، أو لا یلاحظ وجودها فتکون الفاء زائدة. والمفعول المتقدم معمولا لفعل الأمر المتأخر عنه. وهذا الإعراب أیسر وأوضح لخلوه من التقدیر. (ثم انظر الأمر الثالث ص 135).
3- راجع ص 135.
4- مع ملاحظة ما هو مذکور منها فی الزیادة ، - ص 91 -
5- فی ص 84.

«أمّا» ؛ نحو : أمّا أنک فاضل فعرفت. لأن «أمّا» لا تدخل إلا علی الاسم.

5 - أن یکون واقعا فی صلة حرف مصدری (1) ینصب الفعل (وهو : أن - کی) فی نحو : سرنی أن تقرن القول الحسن بالعمل الأحسن ؛ لکی یرفع الناس قدرک. فإن کان واقعا فی صلة حرف مصدری غیر ناصب جاز - فی رأی - تقدیمه علی عامله ، لا علی الحرف المصدری ؛ نحو : أبتهج ما الکبیر احترم الصغیر. والأصل : أبتهج ما احترم الصغیر الکبیر ، وامتنع - فی رأی آخر (2) - تقدیمه علی عامله. وهذا الرأی أقوی وأنسب فی غیر صلة «ما» المصدریة (3).

6 - أن یکون مفعولا لعامل مجزوم بحرف جزم یجزم فعلا واحدا (4). فیجوز تقدمه علی عامله وعلی الجازم معا ، ولا یجوز تقدمه علی العامل دون الجازم ؛ تقول : وعدا لم أخلف ، وإساءة لم أفعل. ولا یصح : لم وعدا أخلف ، ولم إساءة أفعل.

7 - أن یکون مفعولا به لفعل منصوب بالحرف : «لن» ، فلا یجوز أن یتقدم علی عامله فقط. وإنما یجوز أن یتقدم علیه وعلی «لن» معا ، نحو : ظلما لن أحاول ، وعدوانا لن أبدأ (5).

ص: 89


1- بیان الحروف المصدریة ، وتفصیل الکلام علی أحکامها مدون فی ج 1 ص 294 م 29 :
2- لهذا بیان فی ج 1 م 29.
3- راجع «الصبان» فی هذا الموضع ، ثم «التصریح» فی باب «الحال» ، عند الکلام علی تأخر الحال عن عاملها وجوبا.
4- فخرج حرف الشرط الذی یجزم فعلین مثل : إن. فلا یجوز التقدم علیه.
5- وقد عرض ابن مالک عرضا سریعا موجزا لأحوال الترتیب السابقة ، واکتفی فیها بالإشارة المختصرة التی لا توفی الموضوع حقه من الإیضاح والتفصیل النافعین. قال : والأصل فی الفاعل أن یتّصلا والأصل فی المفعول أن ینفصلا وقد یجاء بخلاف الأصل وقد یجی المفعول قبل الفعل یرید : أن الأصل فی تکوین الجملة العربیة ، وترتیب کلماتها ، یقتضی اتصال الفاعل بعامله ، وانفصال المفعول به عن ذلک العامل بسبب وقوع الفاعل فاصلا بینهما ؛ إذ مرتبة الفاعل مقدمة علی مرتبة - - المفعول به. ومراعاة هذه المرتبة تجعل الفاعل هو الذی یل العامل ، وتجعل المفعول به مفصولا منه بالفاعل. ثم بین أن هذا الأصل لا یراعی أحیانا ؛ فیتقدم المفعول به علی الفاعل ، ویفصله عن فعله وعامله. وانتقل بعد ذلک إلی حالتین من الحالات التی یجب فیها تأخیر المفعول به ؛ وهما حالة خوف اللبس ، وحالة الفاعل الضمیر ، غیر المحصور ، الواجب اتصاله بعامله ، فقال فیهما : وأخّر المفعول إن لبس حذر أو أضمر الفاعل غیر منحصر وأوضح بعد ذلک أن المحصور «بإلا» أو «إنما» یجب تأخیره ؛ فاعلا کان أو مفعولا به ، وأنه یجوز تقدیمه. ولم یذکر النوع الذی یصح تقدیمه ، ولا شرطه ، مکتفیا بأن یقول إن تقدیم المنحصر یصح إذا ظهر المقصود ، ولم یخف المعنی ، أو یتأثر به. وفی هذا یقول : وما بإلّا أو بإنّما انحصر أخّر ، وقد یسبق إن قصد ظهر وختم کلامه بأن بیّن أن عود الضمیر من المفعول به المتقدم علی فاعله المتأخر شائع فی أفصح الأسالیب ، لا عیب فیه ؛ لأنه عائد علی متأخر فی اللفظ متقدم فی الرتبة. وهذا کثیر سائغ ، کما قلنا : وساق مثالا لذلک هو : خاف ربّه عمر. أما عود الضمیر من الفاعل المتقدم علی مفعوله المتأخر فوصفه بأنه شاذ ، لا یصح القیاس علیه : ومثل له بنحو : زان نوره الشجر. فیقول : وشاع نحو : «خاف ربّه عمر» وشذّ نحو : «زان نوره الشّجر» وکلامه مجمل ، بل مبتور.

وفی غیر مواضع التقدیم الواجب ، والتأخیر الواجب (1) ، یجوز الأمران.

ص: 90


1- ومن مواضع التأخیر الواجب ما یأتی فی الزیارة - ص 91 -

زیادة وتفصیل

هناک مواضع أخری لا یجوز فیها تقدم المفعول به علی عامله. منها (1) : أن یکون مفعولا به لفعل مؤکد بالنون. نحو : حاربن هواک.

أو مفعولا به لفعل مسبوق بلام الابتداء ؛ ولیس قبلها «إنّ» ؛ فلا یصح : فی مثل : لینصر (2) الشریف أهل الحق ... أن یقال : أهل الحق لینصر الشریف. ویصح أن یقال : إن الشریف أهل الحق لینصر.

أو یکون فعله مسبوقا بلام القسم ؛ نحو : والله لفی غد أقضی حق الأهل.

أو مسبوقا بالحرف : «قد» نحو : قد یدرک المتأنی غایته ؛ أو : «سوف» ؛ نحو : سوف أعمل الخیر جهدی.

أو باللفظ : «قلما» ؛ نحو : قلما أخرت زیارة واجبة.

أو : «ربما» نحو : ربما أهلکت البعوضة الفیل.

ص: 91


1- راجع المواضع التالیة فی الصبان ، وکذا الهمع ج 1 ص 166.
2- علی اعتبار هذه اللام للابتداء.

ثامنها : عدم تعدّده ؛ فلا یصح أن یکون للفعل وشبهه إلا فاعل واحد. أما مثل : تصافح علیّ وأمین ، ومثل : تسابق حلیم ، ومحمود ، وسلیم ، و.. فإن الفاعل هو الأول ، وما بعده معطوف علیه. ولا یصح فی الاصطلاح النحویّ إعراب ما بعده فاعلا ، برغم أن أثر الفعل ومعناه متساو بین الأول وغیره (1).

تاسعها : إغناؤه عن الخبر حین یکون المبتدأ وصفا مستوفیا الشروط (2) ؛ مثل : أمتقن الصانعان؟

ص: 92


1- یقول النحاة : إن مجموع المعطوف والمعطوف علیه فی المثالین السابقین وأشباههما هو الفاعل الذی أسند إلیه الفعل ؛ فلا تعدد إلا فی أجزائه. لکن هذا المجموع من حیث هو مجموع لا یقبل الإعراب ، فجعل الإعراب فی أجزائه.
2- للوصف المستغنی بفاعله عن الخبر أحکام وتفصیلات سبق بیانها فی بابها المناسب لها (باب المبتدأ والخبر ج 1 ص 322 م 33).

زیادة وتفصیل

مسألة أخیرة : عرض بعض (1) النحاة لما سمّاه : «الاشتباه بین الفاعل والمفعول به» وصعوبة التمییز بینهما فی بعض الأسالیب. وأن ذلک یکثر حین یکون أحدهما اسما ناقصا (أی : محتاجا لتکملة بعده تبین معناه ؛ کاسم الموصول ، و «ما» الموصوفة ...) والآخر اسما تامّا ؛ أی : لا یحتاج للتکملة. وضرب لذلک مثلا هو : «أعجب الرجل ما کره الأخ». فما الفاعل فی الجملة السابقة؟ أهو کلمة : «الرجل» ، أم کلمة : «ما» التی بعده؟ وما المفعول به فی الحالتین؟

وقد وضع ضابطا مستقلا لإزالة الاشتباه ؛ ملخصه :

(ا) أن نفرض الاسم التام هو الفاعل ؛ فنضع مکانه ضمیرا مرفوعا للمتکلم ، ونفرض الاسم الناقص هو المفعول به ، ونضع مکانه اسما ظاهرا ، منصوبا. أیّ اسم ، بشرط أن یکون من جنسه (2) ؛ (حیوانا مثله إن کان المراد من الاسم الناقص حیوانا ، وغیر حیوان إن کان الناقص کذلک) فإن استقام المعنی مع هذا الفرض فالضبط الأول صحیح ، علی اعتبار أن الاسم التام هو الفاعل ، وأن الناقص هو المفعول به. وإن لم یستقم المعنی لم یصح الضبط السابق. نقول فی المثال السالف أعجبت الثوب. فالتاء ضمیر للفاعل المتکلم ، جاءت بدلا من الاسم التام (الرجل) وکلمة : «الثوب» جاءت بدلا من الاسم الناقص : «ما» وهی من جنسه ، باعتباره من جنس غیر حیوانی. وقد ظهر أن المعنی علی هذا الفرض غیر مستقیم ؛ وهذا ینتهی إلی أن الضبط الذی کان قبله غیر صحیح أیضا.

فإن کان المقصود من : «ما» ، إنسانا مثلا ، فوضعنا مکانها فردا من أفراد الإنسان فقلنا : أعجبت محمدا ... - صحّ الفرض وصح الضبط الذی کان قبله.

(ب) نفرض الاسم التام : «الرجل» فی المثال السابق هو المفعول به. «وما» هی الفاعل ؛ فنضع مکان المفعول به ضمیرا منصوبا للمتکلم ، ونضع

ص: 93


1- منهم الأشمونی فی آخر باب الفاعل.
2- عاقلا کان الجنس أم غیر عاقل.

مکان الناقص اسما ظاهرا ، أیّ اسم ، بشرط أن یکون من جنسه ؛ فإن استقام المعنی صح الضبط السابق وإلا فلا یصح ؛ نقول : أعجبنی الثوب ؛ إن کان المراد من «ما» شیئا غیر حیوانیّ ، فیستقیم المعنی ویصح الضبط الأول.

(ح) إذا لم یصلح المعنی علی اعتبار الاسم التام فاعلا أجریت التجربة علی اعتباره مفعولا به ، وکذلک العکس إلی أن یستقیم.

وکالمثال السالف : أمکن المسافر السفر (1) ، بنصب : المسافر ، کما یدل علی هذا الضابط السالف ؛ لأنک تقول : أمکننی السفر ؛ بمعنی : مکّننی فاستطعته ، ولا تقول : أمکنت السفر ...

والحق أن هذه المسألة التی عرض لها بعض النحاة لا تفهم بضابطهم (2) ، ولا یزول ما فیها من اشتباه إلا بفهم مفرداتها اللغویة ، وقیام قرینة تدل علی الفاعل والمفعول به ، وتفرق بینهما. أما ذلک الضابط وما یحتویه من فروض فلا یزیل شبهة ، ولا یکشفها ؛ لأنه قائم علی أساس وضع اسم ظاهر مکان الناقص بشرط أن یکون من جنسه (حیوانا عاقلا ، وغیر عاقل - أو غیر حیوان) فکیف نختار هذا البدیل من جنس الأصیل إذا کنا لا نعرف حقیقة ذلک الأصیل وجنسه؟ فمعرفة البدیل متوقفة علی معرفة الأصیل أولا. ونحن إذا اهتدینا إلی معرفة الأصیل لم نکن بعده فی حاجة إلی ذلک الضابط ، وما یتطلبه من فروض لا تجدی شیئا ؛ ذلک أن الأصیل سیدل بمعناه فی جملته علی من فعل الفعل ، فیعرف من وقع علیه الفعل تبعا لذلک ، ویزول الاشتباه. وإذا لا حاجة إلی الضابط ، ولا فائدة من استخدامه ؛ لأن الغرض من استخدامه الکشف عن حقیقة الاسم الناقص ، وهذا الکشف یتطلب اختیار اسم من جنسه لیحل محله. فکیف یمکن الاهتداء إلی اسم آخر من جنسه إذا کان الاسم الناقص مجهول الجنس لنا؟

ص: 94


1- الاسمان هنا تامان - وهی حالة قلیلة بالنسبة للأولی.
2- عبارة الضابط کما وردت عنهم هی : «أن تجعل فی موضع التام إن کان مرفوعا ضمیر المتکلم المرفوع ، وإن کان منصوبا ضمیره المنصوب ، وتبدل من الناقص اسما بمعناه فی العقل وعدمه».

فمن الخیر إهمال تلک المسألة بضابطها. وفروضه ، والرجوع فی فهم المثالین السابقین وأشباههما إلی فهم المعانی الصحیحة لمفرداتها اللغویة ، والاعتماد بعد ذلک علی القرائن ، مع الفرار - جهد الطاقة - من استعمال تلک الأسالیب الغامضة. هذا هو الطریق السدید ، وعلیه المعول.

ص: 95

المسألة 67: النائب عن الفاعل

اشارة

(1) من الدواعی (2) ما یقتضی حذف الفاعل دون فعله. ویترتب علی حذفه أمران محتومان ؛ أحدهما : تغییر یطرأ علی فعله (3) ، والآخر : إقامة نائب عنه یحل محله ، ویجری علیه کثیر من أحکامه التی أسلفناها (4) - ؛ کأن یصیر جزءا أساسیّا فی الجملة ؛ لا یمکن الاستغناء عنه ، ویرفع مثله ؛ وکتأخره عن عامله (5) ، وتأنیث عامله له أحیانا ، وتجرد العامل من علامة تثنیة أو جمع ... ؛ وکعدم تعدده ، وکإغناء هذا النائب عن الخبر أحیانا فی مثل : أمزروع الحقلان؟

ص: 96


1- یسمیه کثیر من القدماء : «المفعول الذی لم یسم فاعله». والأول أحسن ؛ لأنه أخصر ، ولأن النائب عن الفاعل قد یکون مفعولا به فی أصله وغیر مفعول به ؛ کالمصدر ، والظرف ، والجار مع مجروره ؛ - کما سیجیء فی ص 109 م 68 - هذا ، والذی یحتاج لنائب فاعل شیئان ، أحدهما : «الفعل المبنی للمجهول». وقد یسمی أیضا : «الفعل المبنی للمفعول» ، والتسمیة الأولی أحسن. والآخر : «اسم المفعول» ؛ فلا بد لکل منهما من نائب فاعل. ویزاد علیهما المصدر المؤول فی رأی سیجیء فی «ب» من ص 107 ، أما اسم المفعول ، وأحکامه ، وکل ما یتعلق به ، فله باب خاص مستقل فی الجزء الثالث.
2- بعضها لفظی ؛ کالرغبة فی الاختصار فی مثل : لما فاز السباق کوفی. أی : کافأت الحکومة السباق ، مثلا ... وکالمماثلة بین حرکات الحروف الأخیرة فی السجع ؛ نحو : من حسن عمله ، عرف فضله. فلو قیل : عرف الناس فضله ، لتغیرت حرکة اللام الثانیة ، ولم تکن مماثلة للأولی ، وکالضرورة الشعریة ... وبعضها معنوی ؛ کالجهل به ، وکالخوف منه ، أو علیه ... (ومما یصلح لکل واحد من الثلاثة قولنا : قتل فلان ، من غیر ذکر اسم القاتل) وکإبهامه ، أو تعظیمه بعدم ذکر اسمه علی الألسنة صیانة له ، أو تحقیره بإهماله ، وکعدم تعلق الغرض بذکره ، حین یکون الغرض المهم هو الفعل. وکشیوعه ومعرفته فی مثل : جبلت النفوس علی حب من أحسن إلیها ... أی : جبلها الله وخلقها ...
3- ولا بد أن یکون فعله غیر جامد ، وغیر أمر - کما سیجیء فی رقم 8 من ص 105 -
4- فی ص 66.
5- یری بعض النحاة أنه یجوز تقدیم نائب الفاعل إذا کان شبه جملة ؛ لأن علة منع التقدیم - وهی خوف التباس الجملة الاسمیة بالفعلیة - غیر موجودة هنا - (راجع الصبان ج 3 باب. «أفعل التفضیل» عند قول ابن مالک : «وما به إلی تعجب وصل ...»). ولهذا إشارة فی رقم 2 من هامش ص 109.

(فالحقلان : نائب فاعل للمبتدأ اسم المفعول ، واسم المفعول لا یرفع إلا نائب فاعل ؛ کما عرفنا من قبل) ... إلی غیر هذا من الأحکام الخاصة بالفاعل ؛ والتی قد تنتقل بعد حذفه إلی نائبه (1).

ولکل واحد من الأمرین تفصیلات وأحکام تخصه.

(ا) إلیک ما یتعلق بالأمر الأول :

1 - إن کان الفعل ماضیا ، صحیح العین (2) ، خالیا من التضعیف - وجب ضم أوله ، وکسر الحرف الذی قبل آخره إن لم یکن مکسورا من قبل. فالفعل فی مثل : (فتح العمل باب الرزق - أکرم الناس الغریب ...) ، یتغیر بعد حذف الفاعل ؛ فیصیر فی الجملة : (فتح باب الرزق - أکرم الغریب (3) ...) (وهناک بعض حالات یجوز فیها کسر أوله ، وستجیء (4) ...).

2 - إن کان الفعل مضارعا وجب - فی کل حالاته - ضم أوله أیضا ، وفتح الحرف الذی قبل آخره إن لم یکن مفتوحا من قبل ؛ فالمضارع فی مثل : یرسم المهندس البیت - یحرّک الهواء الغصن - یصیر فی الجملة بعد حذف الفاعل :

ص: 97


1- وفی هذا یقول ابن مالک : ینوب مفعول به عن فاعل فیما له - کنیل خیر نائل وأصل الکلام : نال المستحق خیر نائل ؛ أی : خیر عطاء. فحذف الفاعل ، وتغیر الفعل بعد حذفه تغیرا سنعرفه. وناب عنه المفعول به. ولیس من اللازم أن یکون النائب مفعولا به ، کما قلنا ...
2- من الاصطلاحات اللغویة الشائعة : «فاء» الکلمة ، «عین» الکلمة ، «لام» الکلمة. یریدون بالفاء : الحرف الأول من الکلمة الثلاثیة ، أصیلة الأحرف ، وبالعین : الحرف الثانی ، «أی : الأوسط» وباللام الحرف الثالث ؛ «أی : الأخیر». ویقولون عنها لذلک : إنها علی وزن : «فعل» ؛ مثل : کتب - قعد - فتح ... فکل واحدة علی وزن «فعل».
3- أین الکسر فی نحو : صیم الشهر - بیع التمر؟ أصلهما : صوم - بیع. وخضوعا لأحکام عامة فی : «الإعلال» طرأ علیهما تغییر معروف ؛ بقلب الضمة فیهما کسرة ، فقلب الواو یاء ، وحذف الکسرة من یاء : «بیع» - وانظر رقم 5 الآتی فی ص 100 - فالکسر مقدر کتقدیره فی المضعف ؛ (مثل : عدّ ؛ فأصله : عدد قبل الإدغام).
4- فی رقم 5 من ص 100.

یرسم البیت - یحرّک الغصن (1). ومثل قول الشاعر :

أعندی وقد مارست (2)

کل خفیّة

یصدّق واش ، أو یخیّب سائل

وقد یکون الفتح قبل الآخر مقدرا لعلة تمنع ظهوره ؛ مثل : یصام. (أصله : یصوم ، ثم صار «یصام» لسبب صرفیّ معروف) (3). ومثل : «تصاب وتنال» ، فی قول الشاعر :

یهون علینا أن تصاب جسومنا

وتسلم أعراض لنا وعقول.

وفی قول الآخر :

إنّ الکبار من الأمو

ر تنال بالهمم الکبار

والأصل قبل التغییر الصرفی : تصوب وتنیل.

3 - إن کان الماضی مبدوءا بتاء تکثر زیادتها عادة - سواء أکانت للمطاوعة (4)

ص: 98


1- وفی الحالتین السابقتین یقول ابن مالک : فأوّل الفعل اضممن ، والمتّصل بالآخر اکسر فی مضیّ ؛ کوصل واجعله من مضارع منفتحا کینتحی ؛ المقول فیه : ینتحی أی : أن أول الفعل المبنی للمجهول یضم فی الماضی والمضارع ، وأن الحرف المتصل بالآخر یکسر فی الماضی ؛ مثل : وصل ؛ فأصله : وصل ، ویصیر مفتوحا فی المضارع ، مثل ینتحی ، فإن الحرف الذی قبل آخره یفتح عند البناء للمجهول ؛ فیصیر : «ینتحی». (ینتحی الرجل إلی الشجرة : أی : یمیل إلیها ، ویتجه نحوها). وقد قلنا : إن هناک بعض حالات یکسر فیها أول الماضی ، کالحالة الخامسة والسادسة ، والسابعة - وستجیء -
2- جربت وعرفت
3- هو : نقل فتحة «الواو» و «الیاء». إلی الساکن الصحیح قبلهما ؛ فتکون «الواو» ، وکذا «الیاء» متحرکة بحسب أصلها - قبل نقل فتحتها - ویکون ما قبلها متحرکا بحسب الحالة الجدیدة التی طرأت علیه بعد أن کان ساکنا ؛ فیقلب حرف العلة «ألفا»..
4- حین نسمع شخصا یقول : علّمت الغلام الزراعة ، یتردد علی الذهن سؤال ؛ هو : هل إستجاب الغلام للتعلم واستفاد؟ ویظل السؤال قائما حتی یجد جوابا. فإذا قال المتکلم : علّمت الغلام الزراعة فتعلمها - دل الفعل الثانی علی أن الغلام تعلم ، واستفاد واستجاب للتعلم ، وحقق معناه ، وهذا هو ما یسمی : «المطاوعة». وحین یقول شخص : کسّرت الحدید ، فقد یرد علی الذهن : کیف تستطیع تکسیر الحدید؟ هل استطعت تکسیره حقا؟ فإذا قال المتکلم : کسّرت الحدید فتکسّر ، کان الفعل : «تکسر» هو الجواب عن المطلوب ، الماحی للشبهة السالفة ، الدال علی أن الحدید تأثر بالکسر واستجاب له ، وحقق معنی الفعل الأول. ولهذا یسمی الفعل الثانی : «مطاوعا». ومثله : حطّمت الصخر ... فتحطم ، - - بریت الخشب ... فانبری ... فالمطاوعة فی فعل هی : قبول فاعله التأثر بأثر واقع علیه من فاعل ذی علاج محسوس لفعل آخر یلاقیه اشتقاقا ، بحیث یحقق التأثر معنی ذلک الفعل. والتعریف السابق للمطاوعة هو أوضح التعریفات وأشملها ، وهو ملخص الذی ارتضاه «الخضری» فی باب : «تعدی الفعل ولزومه». ونص علی اشتراط العلاج الحسی ، وتلاقی الفعلین فی الاشتقاق ؛ فلا یقال : علّمت الرجل المسألة فانعلمت ؛ لعدم المعالجة الحسیة ، ولا یقال : ضربته فتألم ، لعدم التلاقی فی الاشتقاق. وحصول الأثر وتحققه لیس بالواجب ، وإنما هو الغالب الکثیر ، طبقا لما جاء فی حاشیة التصریح فی باب : «التعدی واللزوم» ، نقلا عن البیضاوی فی تفسیر قوله تعالی : (وعلّم آدم الأسماء کلها) حیث صرح بأنه : (یقال : کسرته فلم ینکسر ، وعلّمته فلم یتعلم وقال : إن حصول الأثر غالب لازم) اه وهذا الرأی یسایر المسموع کثیرا ، ویلاحظ أنه جعل الفعل : «علّم» من أفعال المعالجة الحسیة ، خلافا لسابقه. وللمطاوعة صیغ قیاسیة تشتمل کل صیغة منها علی بعض حروف خاصة ترمز للمطاوعة ، وتدل علیها ، منها التاء فی أول الماضی ، ویسمونها لذلک : تاء المطاوعة ؛ مثل : درّبت الصانع ؛ فتدرب. هدّمت الحائط ؛ فتهدم. فجّرت الماء فتفجر. کسرت الغصن فتکسر ... وقد عقد صاحب «المخصص» (ابن سیده) بحثا لطیفا (فی الجزء 14 ص 175 وما حولها) عرض فیه لکثیر من أوزان المطاوعة القیاسیة ، ومنها : أن کل ماض ذی أربعة أحرف علی وزن «فعّل» یکون له مطاوع علی وزن «تفعّل» وهذا جزء من قواعد عامة هناک تفید أعظم الفائدة ، وتتسع لکثیر مما نظنه محذورا. وفی الجزء الأول من مجلة مجمع اللغة العربیة بالقاهرة شیء قلیل من تلک الأوزان ، مستخلص من المرجع السابق الأصیل. ومن بین قرارات هذا المجمع قیاسیة جمیع أفعال المطاوعة. وقد سجل هذا القرار فی الصفحة الثامنة من المجلد الذی أصدره بعنوان : «البحوث والمحاضرات» فی مؤتمر الدورة الخاصة بسنة 1963 - 1964.

أم لغیرها - (مثل : تعلّم ، تفضّل - تعاون - تناشد ، تجاهل ...) وجب ضم الحرف الثانی مع الأول ؛ ففی مثل : تعلّم الصبی حرفة - تفضّل الصدیق بالزیارة - ... یصیر : تعلّمت حرفة - تفضّل بالزیارة (1) ... وفی مثل قولهم : تعلم البحار فن الملاحة ، وتعاون مع رفاقه فأمن الخطر ... یصیر الکلام بعد بناء الفعل للمجهول : تعلّم (2) فنّ الملاحة ، وتعوون مع الرفاق ؛ فأمن الخطر.

4 - إن کان الماضی مبدوءا بهمزة وصل فإن ثالثه یضم مع أوله ؛ ففی مثل :

ص: 99


1- یقول ابن مالک : والثانی التّالی «تا» المطاوعه کالأوّل اجعله بلا منازعه أی : اجعل الحرف الثانی فی الماضی مضموما کالأول. إن کان الأول تاء المطاوعة ، إذ لا نزاع - أی : لا خلاف فی هذا.
2- إذا کانت التاء التی فی أول الماضی لا تکثر زیادتها فلا یضم الحرف الذی یلیها ؛ مثل : تعرمس الزارع (الحب ، أی : رمسه ، بمعنی : دفنه.) وإنما کانت زیادة التاء غیر معتادة فی هذا الکلمة - وأشباهها - لأنها جاءت للتوصل إلی النطق بالساکن ، وهو الراء ، وهذا اختصاص همزة الوصل.

اعتمد العاقل علی کفاحه - انتصر المکافح بعمله - یقال فی بناء الفعلین للمجهول : اعتمد علی الکفاح - انتصر بالعمل (1).

5 - إن کان الماضی الثلاثی معلّ العین (2) ؛ واویّا کان أو یائیّا - مثل : صام ، باع - وبنی للمجهول ، جاز فی فائه عند النطق أو الکتابة ، إما الکسر الخالص ؛ فینقلب حرف العلة یاء ؛ نحو : صیم ، بیع ، وإما الضم الخالص ،

ص: 100


1- وفی هذا یقول ابن مالک : وثالث الّذی بهمز الوصل کالأوّل اجعلنّه کاستحلی أی : أن الحرف الثالث من الفعل المبدوء بهمزة الوصل یضم کالأول. ومثّل له بالفعل «استحلی» المبنی للمجهول. وأصله : «استحلی» مبدوءا بهمزة وصل. فلما بنی للمجهول ضم الحرف الأول والثالث منه. ومما یلاحظ فی البیت أن کلمة : «ثالث» ... بالنصب تعرب مفعولا به لفعل محذوف یسره الفعل الآتی بعده ؛ وهو : «اجعل» المؤکد بالنون. مع أن الفعل المؤکد بالنون لا یصلح أن یعمل فیما قبله ، ولا أن یفسر عاملا محذوفا قبله. کذلک إعراب «کالأول» فإنه جار ومجرور متعلق بالفعل المتأخر عنه المؤکد بالنون ، وهو : «اجعل» والفعل المؤکد بالنون لا یصح أن یتعلق به شبه جملة قبله ، وهذا هو الرأی الأقوی والأفصح. ویخالفه رأی آخر أقل شیوعا وقوة وهو مقبول فی شبه الجملة .. لکن ابن مالک یقع فی هذه المخالفة کثیرا لضرورة النظم. وقد سبق لها نظائر فی الجزء الأول والمعربون یلتمسون تأویلات وتقدیرات لتصحیح مخالفته. ولا داعی لشیء من هذا ، لما فیه من تکلف وتعسف. ویکفی التصریح بأن النظم قهره علی ارتکاب المخالفة ؛ وهذا هو السبب الحق.
2- معل العین «ما یکون وسطه حرف علة» ویخضع لأحکام «الإعلال» المعروفة فی الباب الخاص بهذا (ج 4). ومنها : قلب حرف العلة الواو أو الیاء ألفا ، فی نحو صام - هام ... فأصلهما صوم - هیم - .. ومنها : نقل حرکة حرف العلة الواقع عین الکلمة إلی ساکن صحیح قبله بالشروط المذکورة هناک ؛ نحو : یقوم ، وأصله : یقوم ... إلی غیر ذلک من أحکام «الإعلال» التی تدخل علی حرف العلة ؛ فتحدث به تغییرا. فإن کان حرف العلة الواقع عین الفعل لا یخضع للأحکام السالفة فإنه لا یسمی : «معلا» ، وإنما یسمی : «معتلا» وجاز فی فائه من الحرکات الثلاث ما یجوز فی فاء الفعل الصحیح ؛ مثل : عور - هیف - اعتور ... وغیرها من الأفعال المشابهة لها ؛ فإنها تسلک مسلک الفعل الصحیح عند بنائها للمجهول - کما قلنا. والشائع بین النحاة أن حروف العلة الثلاث (و- ا - ی) إذا سکنت وکان قبلها حرکة مجانسة لها سمیت : حروف علة ، ومد ، ولین. فإن لم تجانسها الحرکة التی قبلها سمیت : حروف علة ولین. فإن تحرکت فیه حروف علة فقط (راجع حاشیة الخضری «ج 2» أول باب : الإعلال بالنقل.) ومن النحاة من یطلق اللین علی حرف العلة المتحرک. وهذا مخالف للشائع ، کما قال الخضری فی المرجع السالف - (وقد سبقت لهذا إشارة فی ج 1 م 16 هامش ص 169 من الطبعة الثالثة - وسیجیء التفصیل الأوضح فی ج 4 فی بابی «الترخیم» و «الإعلال والإبدال»).

فینقلب حرف العلة واوا ، نحو : صوم ، بوع ، وإما الإشمام (1) - وهذا لا یکون إلا فی النطق - والکسر أعلاها ، فالإشمام ، فالضم. وکل واحد من الثلاثة جائز بشرط ألا یوقع فی لبس ، وإلا وجب العدول عنه إلی ضبط آخر لا لبس فیه ؛ فکثیر من الماضی المعلّ الوسط قد یوقع فی اللبس إذا بنی للمجهول ، وأسند لضمیر تکلم ، أو خطاب ؛ سواء أکان الضمیر فیهما للمفرد المذکر أم لغیره ، وکذلک إذا أسند لنون النسوة الدالة علی الغائبات. فالفعل : «ساد» - وأشباهه - فی نحو : «ساد الرجل قومه بالفضل» إذا أسندناه لضمیر متکلم أو مخاطب من غیر أن یبنی للمجهول ، قلنا عند الضم : «سدت». ولو بنینا الفعل للمجهول ، وقلنا : «سدت» أیضا (2) ؛ لوقع اللبس حتما بین هذه الصورة التی بنی فیها للمجهول والصورة السالفة التی لم یبن فیها للمجهول. وفرارا من اللبس الذی لیس معه قرینة تزیله ، یجب البعد عن ضم الحرف الأول (3) فی هذه الصورة المبنیة للمجهول ، ولنا بعد ذلک استعمال الکسر ، أو : الإشمام.

ص: 101


1- الإشمام - عند النحاة - هو : النطق بحرکة صوتیة تجمع بین الضمة والکسرة علی التوالی السریع ، بغیر مزج بینهما ؛ فینطق أولا بجزء قلیل من الضمة ، یعقبه جزء کبیر من الکسرة ؛ یجلب بعده یاء. فالجمع بین الحرکتین لیس معناه الخلط بینهما فی وقت واحد خلال النطق ؛ وإنما معناه مجیئهما علی التعاقب السریع بالطریقة التی أسلفناها.
2- لإیضاح هذا المثال وأشباهه نقول فی : «ساد الرجل قومه بالفضل» إذا أسند الماضی المبنی للمعلوم إلی ضمیر المخاطب مثلا ؛ صارت الجملة : سدت قومک بالفضل - بضم السین - فإذا صارت الجملة : یا مهمل سادک النابغ .. وأردنا بناء الفعل للمجهول مع إسناده للمخاطب أیضا فإننا نحذف الفاعل «النابغ» ونقیم المفعول به (وهو : کاف الخطاب) مقامه. ولما کان الضمیر «الکاف» لا یقع فی محل رفع وجب استبداله ووضع ضمیر آخر بمعناه فی مکانه ؛ بحیث یصلح الضمیر الجدید أن یکون فی محل رفع نائب فاعل. لهذا نجیء بدله بضمیر الخطاب التاء : فنقول عند بنائه للمجهول : یا مهمل سدت ؛ أی : صرت مسودا ، لا سیدا ؛ بمعنی أن غیرک صار سیدک. فالصورة الشکلیة للفعل واحدة عند الضم ، فی حالتی بنائه للمعلوم والمجهول ، وفیها یقع اللبس. وللفرار منه منعوا فی المبنی للمجهول ضم أوله إن کانت عینه ألفا أصلها واو ... إلا نحو : خاف - کما سیجیء هنا.
3- لا یجوز الضم فی الواوی إلا إذا کان ماضیه فعل (بکسر العین) ومضارعه علی وزن : یفعل (بفتح العین) نحو : خاف - یخاف (وأصله : خوف - یخوف). ذلک أن الفعل : «خاف» وأشباهه - إذا أسند وهو مبنی للمعلوم لمخاطب - مثلا - یصیر : خفت ، بکسر أوله ، وحذف وسطه ، طبقا لقواعد الإسناد. فلو بنی للمجهول وکسر أوله لأوقع فی لبس ؛ بسبب تشابه صورتی الفعل فی حالتی بنائه للمعلوم وللمجهول. والفرار من هذا اللبس یوجب ضم أوله عند بنائه للمجهول أو الإشمام.

ومثل : الفعل : «ساد» غیره من کل فعل ماض ثلاثی ، إمّا معلّ الوسط بألف أصلها واو ؛ (ولیس من باب : «فعل یفعل» ؛ کخاف یخاف ... (1)) ، مثل : شاق ، یشوق ، رام ، یروم ... وإما معلّ الوسط بألف أصلها یاء أیضا ؛ فلیس اللبس مقصورا علی الماضی الثلاثی المعل الوسط بألف أصلها واو ، ولیس من باب فعل یفعل ، بل یمتد إلی الماضی الثلاثی المعلّ الوسط بألف أصلها یاء ؛ مثل الفعل : «زاد» فی نحو : قد زادک الصدیق ودّا ؛ فإنه إذا أسند لضمیر المخاطب - مثلا - من غیر بناء للمجهول یصیر : قد زدت الصدیق ودّا ، بکسر أول الماضی. وإذا أسند للمخاطب أیضا مع البناء للمجهول فإن کسر أوله صار : زدت ودّا (2) کذلک ، فصورته فی الحالتین واحدة مع اختلاف الإسناد والمعنی. وهذا هو اللبس الواجب توقّیه. ومن أجله لا یصح الکسر هنا عند بنائه للمجهول ؛ فیجب العدول عنه ؛ إمّا إلی ضم أوله نطقا وکتابة ، فنقول : «زدت». وإمّا إلی الإشمام (وهذا لا یکون إلا فی حالة النطق - کما عرفنا -).

ومثل الفعل «زاد» کثیر من الأفعال الماضیة المعلّة الوسط بالألف التی أصلها الیاء ؛ ومنها : دان ، یدین - قاس ، یقیس - عاب ، یعیب - باع ، یبیع ... وخلاصة ما سبق : أنّ الواجب یقتضی العدول عن ضم فاء الثلاثی المعل العین بالواو ، عند خوف اللبس (إلا ما کان مثل : «خاف») ، والعدول عن کسر فاء الثلاثی المعل العین بالیاء عند خوف اللبس أیضا. وکذلک إن أوقع الإشمام فی لبس وجب العدول عنه إلی النطق بالکسرة الصریحة الواضحة ، أو بالضمة الصریحة الواضحة.

ص: 102


1- للسبب الذی تقدم فی رقم 3 من هامش الصفحة السابقة والذی یمنع الکسر فی مثل : «خاف یخاف» عند بناء الماضی للمجهول ، ویوجب الضم.
2- وذلک بعد حذف الفاعل وإقامة المفعول به (وهو : الکاف) مقامه ، ولما کانت «الکاف» - کما أوضحنا فی رقم 2 من هامش ص 101 - من الضمائر التی لا تقع فی محل رفع أتینا مکانها بضمیر للمتکلم مثلها مع صلاحیته لأن یکون نائب فاعل فی محل رفع ، هو : تاء المخاطب. والمعنی المقصود فی المثال الثانی المبنی للمجهول هو الدلالة علی وقوع الزیادة علی المخاطب. أما فی المثال الأول فهو الدلالة علی وقوع الزیادة من المخاطب (الفاعل) ، علی الصدیق (المفعول به). والفرق کبیر بین الدلالتین مع اتفاق الصورة الشکلیة للفعلین. ومن هنا یقع اللبس الذی یجب الفرار منه ؛ بتغییر الشکل فی المبنی للمجهول ...

ومن أجل اللبس والعمل علی اجتنابه وضع النحاة القاعدة التالیة :

(یجوز فی فاء الفعل الماضی ، الثلاثی ، المعتلّ الوسط ، عند بنائه للمجهول - ثلاثة أشیاء : الضم ، أو : الکسر ، أو : الإشمام ، بشرط أمن اللبس فی کل حالة. فإن أوقع الضم فی لبس وجب ترکه إلی الکسر أو الإشمام ، وإن أوقع الکسر فی لبس وجب ترکه إلی الضم أو الإشمام ، وإن أوقع الإشمام فی لبس وجب العدول عنه إلی النطق بحرکة صریحة واضحة ، هی : الضمة أو الکسرة ، بحیث یمتنع اللبس معها. وعند صحة الأمور الثلاثة ، یکون الکسر أحسنها (1) ، فالإشمام ، ثم الضم وهو أقلها استعمالا).

6 - وإن کان الماضی الثلاثی المبنی للمجهول مضعفا (2). مدغما ؛ مثل الفعل : «عدّ» فی : «عدّ الصّیرفیّ المال» - جاز فی فائه الأوجه الثلاثة ، (الضم الخالص ، وهو الأکثر هنا ، فالإشمام ، فالکسر الخالص) ، تقول وتکتب : عرفت أن المال قد عدّ - بضم العین أو کسرها - کما یجوز الإشمام فی حرکتها عند النطق. وإذا خیف اللبس فی وجه من الثلاثة وجب ترکه إلی غیره ؛ کالفعل : «عدّ» - «ردّ» ، وأشباههما ، فإن فعل الأمر منهما یکون مضموم الأول ؛ فیلتبس به الماضی المبنی للمجهول إذا کانت حرکة فائه الضمة ؛ إذ یقال : عدّ المال ، ردّ العدو. فلا تتضح حقیقة الفعل ؛ أهو فعل ماض مبنی للمجهول أم فعل أمر؟ وفی مثل هذه الحالة یجب العدول عن الضم إلی الکسر ، أو الإشمام ؛ لأن الکسر والإشمام لا یدخلان أول هذین الفعلین إذا کانا للأمر (3)(4).

ص: 103


1- وبالکسر جاء قول الشاعر : إذا قیس إحسان امرئ بإساءة فأربی علیها فالإساءة تغفر
2- مضعف الثلاثی : ما کانت عینه ولامه من جنس واحد ؛ نحو : عدّ - مدّ - شقّ - صبّ ...
3- وإنما قرئ بالضم قوله تعالی : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ...) لوجود قرینة تمنع اللبس ، هی : أن فعل الأمر لا یکون فعل شرط للأداة «لو» أو غیرها.
4- وفی الأوجه الثلاثة الجائزة فی الثلاثی معل العین. وفی الثلاثی المضعف ، ومنع ما یوقع منها فی - - لبس ، یقول ابن مالک : واکسر أو اشمم «فا» ثلاثیّ أعل عینا ، وضمّ جا ، کبوع : فاحتمل أی : اکسر أو أشمم فاء الماضی الثلاثی المعل العین. وقد جاء فیه الضم عن العرب ؛ فیجوز القیاس علیه ؛ واحتمل قبوله ؛ لمجیئه عنهم. («فا» هی مقصور : «فاء» الحرف. و «جا» ، هی : مقصور الفعل : «جاء». وعند قراءة کلمة «أو» فی البیت تتحرک الواو بالفتحة التی انتقلت إلیها من الهمزة التی بعدها والأصل أو أشمم ؛ لأنه أمر من الفعل : «أشمّ» الرباعی. وقد انتقلت حرکة الهمزة إلی الواو الساکنة بعد حذف الهمزة للوزن الشعری). ثم یقول : وإن بشکل خیف لبس یجتنب وما لباع قد یری لنحو حب یرید : إذا أدی وجه من الأوجه الثلاثة السالفة إلی اللبس الذی لا یمکن معه تمییز الفعل المبنی للمجهول من غیره ، وإلی اختلاط المعانی - وجب اجتناب ذلک الوجه إلی آخر لیس فیه لبس. ثم بین أن ما ثبت من الأحکام لفاء الفعل : «باع» - وغیره من الماضی الثلاثی المعل الوسط - عند البناء للمجهول ، قد یثبت لنحو : «حبّ» من کل فعل ماض ثلاثی مضاعف ، حیث یجوز فی فائه الأمور الثلاثة ، بشرط أمن اللبس ؛ فإن خیف اللبس فی أحدها وجب ترکه.

7 - وتجوز الأوجه الثلاثة أیضا فی الحرف الثالث الأصلیّ من الماضی المعلّ العین ؛ إذا کان علی وزن ؛ انفعل ، أو : افتعل ؛ مثل : (انقاد - انهال - انهار ...) ، ومثل : (اختار - اجتاز - احتال ...)

ویلاحظ هنا أن حرکة الحرف الأول (وهو : همزة الوصل) لا تلزم صورة واحدة فی ضبطها ، فلا تقتصر علی حرکة معینة ، وإنما تماثل وتسایر حرکة الحرف الثالث ، وأن ضمة الثالث ستؤدی إلی قلب الألف التی بعده واوا ، وأن کسرته ستؤدی إلی قلبها یاء ؛ فلا بد فی حرکة الحرف الأول - وهو همزة الوصل - من أن تکون مناسبة لحرکة الثالث فی الضم ، أو الکسر ، أو الإشمام ، کما سبق ؛ فیقال ویکتب فیهما : انقود ، أو : انقید ، أو : ینطق بالإشمام فی حرکة الحرف الأول والثالث ، وکذا باقی الأفعال التی تشبه : «انقاد».

کذلک یقال ویکتب : اختور. أو : اختیر ، أو : ینطق بالإشمام فی حرکة الحرف الأول والثالث ، وکذا یقال فی باقی الأفعال التی تشبه : «اختار».

ویشبههما فی الحکم السابق : «انفعل» و «افتعل» إذا کانا صحیحین مضعفی اللام ؛ نحو : انصبّ - انسدّ - انجرّ - ... ومثل : امتدّ - اشتدّ -

ص: 104

ابتلّ ... فإذا بنی فعل للمجهول من هذه الأفعال ونظائرها - جاز فی حرفه الثالث - عند أمن اللبس - الضم ، الخالص نطقا وکتابة ، أو : الکسر الخالص کذلک ، أو الإشمام نطقا ، وفی کل حالة من الثلاث یتحرک الحرف الأول ؛ - وهو همزة الوصل - ، بمثل حرکة الحرف الثالث ، نحو : انصبّ - أو انصبّ ... امتدّ - امتدّ (1).

8 - إن کان الفعل جامدا أو فعل أمر لم یصح بناؤه للمجهول مطلقا ...

9 - إن کان الفعل ناقصا (مثل : کان ، وکاد ، وأخواتهما) ، فالصحیح أنه یبنی للمجهول ، وتجری علیه أحکام المبنی للمجهول (2) بشرط الإفادة ، وعدم اللبس - إلا الناقص الجامد ؛ مثل : لیس ، وعسی ؛ لأن الجامد لا یبنی للمجهول کما سبق ...

ص: 105


1- وفی هذا یقول ابن مالک : وما لفا باع لما العین تلی فی اختار ، وانقاد ، وشبه ینجلی وفی هذا البیت شیء من التعقید بسبب التقدیم والتأخیر والحذف. والأصل الذی یریده : الذی یثبت لفاء : «باع» یثبت کذلک للحرف الذی تلیه عین الفعل من نحو : «اختار» و «انقاد» أو شبه لهما ینجلی ، (أی : یتضح). والمشابهة تکون فی الوزن والإعلال. وهناک ما یشبههما من جهة انطباق الحکم علیه ، کانفعل وافتعل ؛ الصحیحین مشددی اللام ... - تلی العین ، أی : تلیه. فالهاء محذوفة - والمعنی : ما تقرر من الأوجه الثلاثة فی حرکة الفاء من الفعل المعل العین. (مثل : باع ، صام) یتقرر مثله للحرف السابق لعین الفعل المعلة ، إذا کان الفعل علی وزن : «افتعل» أو «انفعل» وأشباههما وما یلحق بهما ...
2- بالرغم من صحة بناء هذه الأفعال للمجهول فمن المستحسن عدم بنائها للمجهول ؛ مسایرة للأسالیب العلیا ، وأحکام البلاغة التی تری فیها ثقلا فی النطق ، وقبحا فی الجرس. وسیأتی فی («ب» من ص 119) کلام خاص بخبر «کان» وحدها یتصل بما نحن فیه.

زیادة وتفصیل

(ا) ورد عن العرب أفعال ماضیة تشتهر بأنها ملازمة للبناء للمجهول ، سماعا عن أکثر قبائلهم. وهی الأفعال التی یعتبرها اللغویون مبنیة للمجهول فی الصورة اللفظیة ، لا فی الحقیقة المعنویة ؛ ولذلک یعربون المرفوع بها فاعلا ؛ ولیس نائب (1) فاعل. ومن أشهرها : هزل - زکم - دهش وشده ، وهما بمعنی واحد. ومنها : (شغف بکذا ، وأولع به ، وأهتر به ، واستهتر به ، وأغری به ، وأغرم به ... ، وکلها بمعنی واحد ؛ هو : التعلق القوی بالشیء). ومنها : أهرع ، بمعنی : أسرع. ومنها : نتج. ومنها : عنی بکذا ؛ أی : اهتم به. ومنها : حمّ فلان (بمعنی أصابته الحمّی) - أغمی علیه - فلج - امتقع لونه (بمعنی تغیّر) - زهی (بمعنی تکبر) ... و (2) ...

لکن ما حکم مضارع هذه الأفعال؟ أیجب بناؤه للمجهول مثلها ، أم یتوقف أمره علی السماع الوارد من العرب فی کل فعل؟ الصحیح أنه مقصور علی السماع الوارد فی کل فعل. ومنه فی الشائع : یهرع ، یعنی ، یولع ، یستهتر.

بقی توضیح المراد من أن تلک الأفعال الماضیة ملازمة للبناء للمجهول سماعا عن أکثر القبائل :

یری أکثر النحاة أن المراد هو عدم استعمالها فی معانیها السالفة مبنیة للمعلوم ؛ تقول : شدهت من الأمر ، بالبناء للمجهول ، ولا یصح عند هؤلاء شدهنی الأمر ، بالبناء للفاعل ، لاعتمادهم علی ما جاء فی کتاب : «فصیح ثعلب» ، ونحوه من التصریح القاطع بأنها لا تبنی للمعلوم.

ص: 106


1- وهذا فی الرأی الشائع الذی ورد صریحا فی کثیر من المراجع : کالقاموس المحیط ، فی مقدمته تحت عنوان : «مسألة» - وکالخضری ، فی مواضع متفرقة ، منها : باب «أبنیة المصادر» ، عند الکلام علی مصدر «فعل» اللازم ... - إلا إن کان المبنی للمجهول لزوما غیر رافع الاسم بعده ؛ نحو : سقط فی ید المتسرع ، (بمعنی : قدم) ، فشبه الجملة نائب فاعل ؛ لیس بفاعل : لأن الفاعل لا یکون شبه جملة.
2- عقد «ابن سیده» فی کتابه : «المخصص» (ج 15 ص 72) بابا سماه ما جاء من الأفعال علی صیغة ما لم یسم فاعله.

وأنکر بعض المحققین - کابن برّی - ما قاله ثعلب وغیره من اللغویین والنحاة. وحجة ابن برّی فی الإنکار أن «ثعلبا» ومن معه لم یعلموا ما سجّله ابن درستویه وردده ؛ ونصّه (1) : «(عامة أهل اللغة یزعمون أن هذا الباب لا یکون إلا مضموم الأول ، ولم یقولوا إنه إذا سمّی فاعله جاز بغیر ضم. وهذا غلط منهم ، لأن هذه الأفعال کلها مفتوحة الأوائل فی الماضی ؛ فإذا لم یسمّ فاعلها فهی کلها مضمومة الأوائل ، ولم نخصّ بذلک بعضها دون بعض. وقد بیّنا ذلک بعلّته وقیاسه ؛ فیجوز : عنیت بأمرک ، وعنانی أمرک - وشغلت بأمرک ، وشغلنی أمرک - وشدهت بأمرک ، وشدهنی أمرک ...) ، اه ، هذا ما نقله «ابن یری» وختمه بقوله : (وفی ذلک کفایة تغنی عن زیادة إیضاح وبیان)» اه.

ورأیه هو السدید الذی تؤیده النصوص الصحیحة التی تحمل الباحث علی أن یسأل : کیف خفیت هذه النصوص علی کثیر من اللغویین والنحاة القدامی؟ وکیف رتبوا علی وجود نوع وهمّی من الأفعال یلازم البناء للمجهول أحکاما خاصة ؛ کمنع مجیء «صیغتی التعجب» من الثلاثی مباشرة ، وعدم صحته إلا بوسیط. وکمنع صوغ «أفعل التفضیل» من مصادرها إلا بوسیط کذلک ... و...

ولا شک أن رأی «ابن برّی» ومن معه من المحققین هو السدید - کما تقدم - والأخذ به یؤدی إلی إلغاء تلک الأحکام الخاصة ، ویبیح فی الثلاثی «التعجب» المباشر ، وکذا «التفضیل» بغیر وسیط ، ویرد لتلک الأفعال اعتبارها ، ویجعل شأنها شأن غیرها من باقی الأفعال التی تبنی للمعلوم.

(ب) عرفنا (2) أن نائب الفاعل یکون مرفوعا بأحد شیئین ؛ الفعل المبنی للمجهول ، واسم المفعول ، فهل یرتفع بالمصدر المؤول المسبوک فی أصله من «أن» والفعل المبنی للمجهول؟ انتهی النحاة إلی أن الأصح جوازه بشرط أمن اللبس. ومن أمثلتهم : عجبت من أکل الطعام ؛ بتنوین المصدر «أکل» ورفع کلمة :

ص: 107


1- ما یأتی منقول مما یسمی : (الرسالة المشتملة علی انتقاد «ابن الخشاب البغدادی» علی العلامة «أبی محمد الحریری» فی مقاماته. وانتصار الشیخ الإمام العلامة أبی محمد عبد الله بن بری ، للإمام الحریری فی الرد علی «ابن الخشاب») اه. وهذه الرسالة مطبوعة فی ختام بعض طبعات «مقامات الحریری».
2- فی رقم 1 من هامش ص 96.

«الطعام» علی اعتبارها نائب فاعل له. والأصل عندهم : عجبت من أن أکل الطعام. فلما سبک المصدر المؤول صارت کلمة : «الطعام» نائب فاعل له بعد سبکه.

فإن أوقع فی لبس لم یصح ؛ نحو : عجبت من إهانة علیّ ، إذا کان علیّ هو المهان ؛ (والأصل : من أهین علیّ) فیتعین أن یکون المصدر مضافا ، و «علیّ» ، هو المضاف إلیه المجرور. وهو فی محل نصب مفعول به ، ولا یصح الرفع ؛ لوقوع اللبس بسببه.

وکما صح رفع نائب الفاعل بالمصدر المؤول یصح أن یکون مجرورا باعتباره مضافا إلیه ، والمصدر هو المضاف ؛ فیکون مجرورا لفظا ، مرفوعا محلا ؛ کما یجوز جعل ما أضیف إلیه المصدر فی محل نصب علی المفعولیة ، والفاعل محذوف من غیر نیابة شیء عنه.

أما علی الرأی الذی یمنع المصدر المؤول من رفع نائب فاعل فیتعین إضافة المصدر لما بعده علی أنه فی محل نصب علی المفعولیة (1).

بالرغم من أن الأصح - عندهم - جوازه ، فالأنسب الیوم عدم الالتجاء إلیه ؛ لأنه لا یکاد یخلو من غموض وثقل ینافیان الأسالیب الناصعة العالیة ، وأسس البلاغة ، وهذان أمران لهما اعتبارهما. ویزیدهما قوة ورجاحة خلو المراجع المتداولة من أمثلة مسموعة عن فصحاء العرب تؤیده.

(ح) فی الفعل الثلاثی المعلّ العین ، وفی غیره من الأفعال الماضیة المبنیة للمجهول - لغات أخری ، أعرضنا عنها ؛ لأنها لهجات متعددة ، لقبائل متباینة لا نری خیرا فی استعمالها الیوم ؛ حرصا علی الإبانة والتوحد المفید قدر الاستطاعة ، ومنعا للتشتت والتعدد فی أهم وسیلة للتفاهم والإیضاح ، وهی : اللغة.

ص: 108


1- راجع الخضری والصبان.

المسألة 68: الأشیاء التی تنوب عن الفاعل بعد حذفه

اشارة

ننتقل إلی الأمر الثانی (1) الذی یترتب علی حذف الفاعل ؛ وهو : إقامة نائب عنه یحلّ محله ، ویخضع لکثیر من أحکامه ، - کما قلنا -.

والذی یصلح للنبابة عن الفاعل واحد من أربعة أشیاء ؛ المفعول به ، والمصدر ، والظرف ، والجار مع مجروره (2) ، وقد تلحق بها - أحیانا - حالة خامسة ، ستجیء (3)

1- فأما المفعول به فقد سبقت له أمثلة کثیرة. غیر أن فعله قد یکون متعدیا لواحد ؛ کالأمثلة المشار إلیها. وقد یکون متعدیا لاثنین أصلهما المبتدأ والخبر ؛ کمفعولی : «ظن» وأخواتها (4) - فی مثل ؛ ظنّ الغلام الندی مطرا ، أو لیس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ کمفعولی : «أعطی» وأخواتها ومنها : «کسا» ، فی مثل : أعطی الغنیّ الفقیر مالا ، وکسا المحتاج ثوبا (5) وقد یکون متعدیا لثلاثة ؛ «کأعلم» و «أری (6)» ، نحو : أعلم الطبیب المریض الدواء شافیا.

فإن کان الفعل متعدیا لمفعول به واحد ، مذکور فی الکلام ، أقیم هذا الواحد مقام الفاعل ... وإن کان متعدیا لاثنین مذکورین فقد یکون أصلهما المبتدأ والخبر أو لیس أصلهما کذلک. فأی المفعولین ینوب؟

ص: 109


1- أما الأول فقد سبق فی ص 97.
2- راجع ما قلناه أول الباب (فی رقم 5 من هامش ص 96) من أن بعض النحاة یجیز تقدیم نائب الفاعل إذا کان شبه جملة.
3- فی ص 116 - أما غیر هذه الخمسة فسیجیء عنه کلام فی الزیادة والتفصیل ص 119 - أ- ومنه یعلم وجود أشیاء أخری.
4- سبق بابها فی ص 3.
5- لیس أصل المفعولین هنا المبتدأ والخبر ، إذ لا یقال علی سبیل الحقیقة اللغویة. لا المجاز : الفقیر مال - المحتاج ثوب ؛ لفساد المعنی الحقیقی علی هذا.
6- سبق بابهما فی ص 55.

وإن کان متعدیا لثلاثة مذکورة فأیها ینوب کذلک (1)؟

خیر الآراء وأنسبها : اختیار الأول للنیابة إذا کان هو الأظهر والأبین للقصد مهما کان نوع فعله. لکن لا مانع من ترکه ، واختیار غیره ؛ فیکون فی هذا اختیار لغیر الأفضل. فإن کان غیر الأول هو الأقدر علی إیضاح المراد ، وإبراز الغرض من الجملة فنیابته مقدمة علی نیابة الأول. ولا بد فی کل الحالات من أمن اللّبس ؛ وإلا وجب العدول عما یحدثه إلی ما لا یحدثه. وفیما یلی أمثلة لأنواع الفعل المتعدی قبل بنائه للمجهول ، وبعد بنائه ، وما یحدث اللبس وما لا یحدثه. فمما لا یحدثه :

(عرف المسترشد الصواب - عرف الصواب).

(ظن الجاهل الخفّاش طائرا - ظنّ الخفاش طائرا - ظنّ طائر الخفاش).

(أعطی الوالد الطفل کتابا - أعطی الطفل کتابا - أعطی کتاب الطفل).

(أعلمت التاجر الأمانة نافعة - أعلم التاجر الأمانة نافعة - أعلم الأمانة التاجر نافعة - أعلم نافعة التاجر الأمانة).

ولا یصح إنابة غیر الأول فی مثل : (أعطیت محمدا فریقا من الأعوان). (منحت الشرکة مهندسا). لأن کلا من الأول والثانی یصلح أن یکون آخذا ومأخوذا ؛ فلا یمکن التمییز بینهما عند بناء الفعل للمجهول إلا باختیار أولهما لیکون نائب فاعل ؛ لأن اختیاره یجعله بمنزلة الفاعل فی المعنی ؛ فیتضح من تقدمه أنه الآخذ ؛ وغیره المأخوذ. ومثل هذا یقال فی : ظننت الولد الوالد ، حیث یجب اختیار الأول للنیابة لأن کلا منهما صالح أن یکون هو المظنون الشبیه بالآخر. ولا یمنع هذا اللبس إلا اختیار الأول وذلک للسبب السالف ؛ ولا سیما أن الأول هنا أصله مبتدأ ، والمبتدأ

ص: 110


1- الخلاف بین النحاة عنیف متشعب فیما یصلح للنیابة عند تعدد المفعول به ، وتباین أوصافه ؛ أهو الأول وحده ، فلا یصح إنابة غیره ، أم الأول وغیره ؛ فیختار واحد بغیر تعیین؟ وهل الأول وغیره سواء عند الاختیار ، لا مزیة لأحدهما علی الآخر؟ وهل بین المفعولین أو الثلاثة ما لا یصلح للنیابة؟ ... و... و... ولا نرید الإرهاق بسرد أوجه الخلاف ، وأسبابه ، وأدلته کما وردت فی المطولات فلیس فی السرد ؛ ما یناسبنا الیوم. وحسبنا أن نستقصی الآراء ، ونستصفی خیرها لنقدمه هنا.

متقدم بحسب أصل رتبته علی الخبر. ومثل هذا یقال فی : (أعلم السائق المهندس زمیلا مهملا) ، حیث یجب اختیار الأول ؛ لما سلف.

وإذا وقع الاختیار علی واحد وجب ترک ما عداه علی حاله کما کان مفعولا به منصوبا (1).

ومما یجب التنبه له أن المفعول الثانی «لظن» وأخواتها قد یکون جملة - کما سبق فی بابها (2) - فإن کان جملة لم یصح اختیاره نائبا للفاعل ؛ لأن الفاعل ونائبه لا یقعان جملة (3) فی الراجح. وینطبق هذا علی غیر «ظن» أیضا ؛ فهو حکم عام فیها وفی غیرها ..

2- وأما المصدر - ومثله اسم المصدر - فیصلح للنیابة عن الفاعل بشرطین ؛ أن یکون متصرفا ، ومختصّا. والمراد بالتصرف : ألّا یلازم النصب علی المصدریة ، وإنما ینتقل بین حرکات الإعراب المختلفة ؛ فتارة یکون مرفوعا ، وأخری یکون منصوبا ، أو مجرورا ؛ علی حسب حالة الجملة ؛ مثل : فهم ، جلوس ، تعلّم ... ؛ نحو : الفهم ضروریّ للمتعلم - إن الفهم ضروری ... - اعتمدت علی الفهم ... و... وکذا الباقی ونظائره مما لا یلازم النصب علی المصدریة. لأن ملازمته النصب علی المصدریة تمنع أن یکون مرفوعا مطلقا ؛ فلا یصلح نائب فاعل أو غیره من المرفوعات.

ص: 111


1- وإلی بعض ما سبق یشیر ابن مالک بقوله : وباتّفاق قد ینوب الثّان من باب : «کسا» فیما التباسه أمن فی باب : «ظنّ» و «أری» المنع اشتهر ولا أری منعا إذا القصد ظهر یرید : أن النحاة اتفقوا - بناء علی ما استنبطوه من کلام العرب - علی جواز إنابة المفعول الثانی الذی فعله : «کسا» وشبهه ، - وهو الفعل الذی ینصب مفعولین ، لیس أصلها المبتدأ والخبر - إذا أمن الالتباس. أما إنابة الثانی مما فعله «ظن» أو «رأی» - وأخواتهما فقد بین أن المشهور المنع. وهو لا یوافق علی المنع إذا کان القصد یظهر ویتضح بالثانی. ولم یتعرض للمفعول الثالث الذی فعله ینصب ثلاثة ، وقد ذکرنا أن حکمه کغیره. وسیعاد البیتان لمناسبة أخری فی هامش ص 118.
2- ص 23.
3- قد تقع الجملة نائب فاعل إذا حکیت بالقول ، وقصد لفظها بحروفها وضبطها - بالتفصیل المبین «فی ب» من ص 51 - ؛ لأنها تکون حینئذ بمنزلة المفرد ، بسبب قصد لفظها. مثل قوله تعالی : (وَإِذا قِیلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ ...) فیجوز أن تکون جملة : «لا تفسدوا» هی نائب الفاعل مرفوعة بضمة مقدرة علی آخرها ، منع من ظهورها الحکایة ... ومثل المحکیة أیضا المؤولة بالمفرد ؛ نحو : - - عرف کیف جاء علی. أی : عرف کیفیة مجیء علی (راجع ج 1 م 39 - هامش ص 375 - حیث تفصیل الکلام علی حالات إعراب : «کیف» وبنائها وقد أشرنا إلیه فی رقم 2 من هامش ص 58 و 64 وهذا یشمل المفعول الثانی لظن وغیرها. أما وقوع الجملة فاعلا فقد سبق الفصل فیه فی ص 56 وأن الأرجح المنع.

فإن کان المصدر - أو اسمه - ملازما النصب علی المصدریة لم یکن متصرفا ، ولم یصح اختیاره للنیابة عن الفاعل ؛ مثل : «معاذ» ؛ فإنه مصدر میمیّ لم یشتهر استعماله عن العرب إلا منصوبا مضافا (1) فی نحو : معاذ الله أن یغدر الأمین. ومثل : «سبحان» (2) ؛ فإنه اسم مصدر لم یشتهر استعماله عن العرب کذلک إلا منصوبا مضافا - فی الأغلب - ، فلو وقع أحدهما نائب فاعل لصار مرفوعا ، ولخرج عن النصب الواجب له ، وهو ضبط لا یصح مخالفته ، ولا الخروج علیه ؛ حرصا علی اللغة ، ومحافظة علی طرائقها المشهورة.

والمراد بالاختصاص : أن یکتسب المصدر من لفظ آخر معنی زائدا علی معناه المبهم ، المقصور علی الحدث المجرد ؛ لیکون فی الإسناد إلیه فائدة. فالمعانی المبهمة المجردة مثل ؛ قراءة - أکل - سفر ... و.... وأمثالها ؛ یدل کل منها علی معناه الذی یفهم من لفظه نصّا ، دون زیادة شیء علیه ؛ فکلمة : «قراءة» لیس فی معناها الحرفی ما یدل علی أنها قراءة سهلة أو صعبة ، نافعة أو ضارة ، ... و «الأکل» لیس فی معناه الحرفی ما یدل علی أنه لذیذ أو بغیض ، قلیل أو کثیر ، حارّ أو بارد ... و «السفر» لیس فی معنی نصه الحرفی ما یدل علی أنه سفر قریب أو بعید ، سهل أو شاق ، مرغوب فیه أو مرغوب عنه ... وهکذا یدل المصدر وحده - وکذا اسمه - علی المعنی المجرد ؛ أی : علی ما یسمونه : «الحدث المحض» فمثل هذا المصدر ، أو اسمه لا یصلح أن یکون نائب فاعل ، لأن الإسناد إلیه لا یفید معنی جدیدا أکثر من معنی فعله ؛ فکأنه جاء

ص: 112


1- «معاذ» فی نحو : معاذ الله أن أنسی الفضل ، مصدر میمی نائب عن اللفظ بفعله ، (أی : یغنی عن التلفظ بفعله). والأصل أعوذ بالله معاذا. ثم حذف الفعل ، وقام المصدر نائبا عن لفظه ، وأضیف ؛ فصار : معاذ الله. ویعرب مفعولا مطلقا. وستجیء إشارة له فی ص 222 م 76 ، ولاستعماله غیر مضاف ، لضرورة الشعر.
2- اسم مصدر معناه : التسبیح. وفعله : سبّح. وستجیء إشارة له فی ص 222 م 222 م 76 ولاستعماله فی ضرورة الشعر غیر مضاف.

لتأکید معنی فعله ؛ وتوکید المعنی الموجود لیس هو المقصود الأساسی من الإسناد ، ولا یوصف بأنه معنی جدید ، فلا یصح أن یقال : علم علم ، فهم فهم ... إذ لا بد مع المصدر من زیادة معنی جدید علی معناه الأصلی ؛ لیکون صالحا للنیابة ، وهذه الزیادة تأتیه من خارج لفظه ، وهی التی تجعله مختصّا.

وتحدث بواحد أو أکثر من أمور متعددة ؛ منها : وصفه ؛ نحو : علم علم نافع - فهم فهم عمیق ، ومنها إضافته ؛ نحو : علم علم المخترعین ، وفهم فهم العباقرة. ومنها : دلالته علی العدد ؛ نحو : قرئ عشرون قراءة ... وغیر هذا من کل ما یزیل إبهام المصدر ، واسمه ، ویزید معناهما علی مجرد تأکید معنی الفعل ، ویجعل الإسناد إلیهما مفیدا فائدة جدیدة أساسیة.

ومما سبق نعلم المراد من قولهم المختصر : «إن المصدر یصلح للنیابة إذا کان مفیدا» ویکتفون بهذه الجملة ، لأن الإفادة لا تحقق إلا بالشرطین السالفین وهما : التصرف والاختصاص.

3- وأما الظرف بنوعیه فیصلح للنیابة عن الفاعل إذا کان مفیدا أیضا ، وهذه الفائدة تتحقق بشرطین ؛ أن یکون متصرفا کامل التصرف ، وأن یکون مختصّا.

والمراد بالتصرف الکامل : صحة التنقل بین حالات الإعراب المختلفة ؛ من (رفع ، إلی نصب ، إلی جر ؛ علی حسب حالة الجملة) ، وعدم التزامه النصب علی الظرفیة وحدها دائما ، أو النصب علی الظرفیة مع الخروج عنها أحیانا إلی شبه الظرفیة ، وهو الجر بالحرف «من» (1) - فی الغالب - ؛ لأن عدم تصرفه الکامل یمنع وقوعه مرفوعا - نائب فاعل أو غیره من المرفوعات ، کما سبق. فمثال الظرف الکامل التصرف : یوم - زمان - قدّام - خلف ... ؛ لأنک تقول : الیوم یوم طیب - قضیت یوما طیبا - تطلعت إلی یوم طیب ... وتقول : قدّامک فسیح - إن قدّامک فسیح - سأتجه إلی قدامک. فهذه الظروف المتصرفة یصح وقوعها نائب فاعل إن کانت مختصة (2).

ص: 113


1- ینقسم الظرف - باعتبار التصرف وعدمه - إلی ثلاثة أقسام : ظرف کامل التصرف ، وظرف ناقص التصرف ، - ویسمی أیضا الشبیه بالمتصرف - وظرف غیر متصرف مطلقا. وسیجیء هنا موجز عنها. أمّا تفصیل الکلام علی الأقسام کلها ففی باب الظرف ص 229 م 244.
2- «ملاحظة» : إذا صار الظرف نائب فاعل ، أو شیئا آخر غیر النصب علی الظرفیة ، فإنه لا یسمی ظرفا - کما سیجیء فی بابه ، ص 231 -

ومثال الظرف غیر المتصرف مطلقا (وهو الذی یلازم النصب علی الظرفیة وحدها) : قطّ (1) - عوض (2) - إذا - سحر ؛ (بشرط أن یراد به سحر یوم معین دون غیره ؛ لیکون ظرفا ملازما للنصب). فلا یصح أن یقع واحد من هذه الظروف - وأشباهها - نائب فاعل ؛ فلا یقال عنه نائب فاعل فی مثل (3) : ما کتب قطّ - لن یکتب عوض - ما یجاء إذا جاء الصدیق ، مدح سحر.

لا یقال ذلک لعدم تحقق الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولئلا یخرج الظرف عن الظرفیة إلی غیرها وهی الحکم الدائم الثابت له فی الکلام العربی الأصیل الذی لا تجوز مخالفة طریقته.

ومثال الظرف الشبیه بالمتصرف (أی : الظرف ناقص التصرف ، وهو الذی لا یترک النصب علی الظرفیة إلا إلی ما یشبهها ؛ وهو الجر بالحرف «من» - غالبا ؛ - کما سبق) : عند - ثمّ - مع ... وهذا النوع لا یصلح للنیابة عن الفاعل ؛ لأنه کسابقه - لا یفید الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولأنه لا یصح إخراجه عن الحکم والضبط الذی استقر له وثبت فی الکلام العربی المأثور ؛ وهو النصب أو الجر الغالب بمن ؛ فلا یقال : قرئ عند ، ولا کتب ثمّ. ولا عرف مع (4) ...

ص: 114


1- ستجیء له إشارة أخری فی «ب» من ص 245 والأشهر فی ضبطه أن یکون بفتح القاف مع تشدید الطاء المضمومة ، وأن یفید استغراق الزمن الماضی کله منفیا ؛ لأنه - فی الأشهر - لا بد أن یسبقه النفی أو شبهه ؛ نحو : ما تأخرت قط. أی : ما تأخرت فیما انقضی من عمری إلی الآن. وهو ظرف مبنی علی الضمّ. (وفیه لغات أخری أقل شیوعا). و «قط» ه : غیر التی فی مثل : تصدق بدرهمین أو ثلاثة فقط ؛ فإن هذه بمعنی : حسب» ، والفاء زائدة لتزیین اللفظ. (وتفصیل المسألة وإیضاحها فی ج 1 ص 301).
2- هو ظرف لاستغراق الزمن المستقبل المنفی ؛ لأنه - فی الغالب یکون مسبوقا بالنفی. وحکمه عند عدم إضافته : البناء علی الضم أو الفتح أو الکسر ، فإن أضیف کان معربا ؛ نحو : لن أنافق عوض العائضین. - کما سیجیء فی «ب» من ص 245. -
3- لا یقال ذلک ؛ سواء اعتبرنا کلا منها نائب فاعل ، مرفوعا مباشرة ، أو اعتبرناه غیر معرب ، أی : نائبا مبنیا فی محل رفع.
4- بعض النحاة یجیز فی مثل : جلس عندک - بإضافة الظرف إلی الضمیر - أن یکون الظرف منصوبا علی الظرفیة مع کونه فی الوقت نفسه فی محل رفع بالنیابة عن الفاعل. ویجیز فی قوله تعالی : لقد تقطع بینکم ... وقوله (وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ) أن یکون الظرف فی الآیة الأولی منصوبا علی الظرفیة فی محل رفع فاعلا. وأن یکون فی الآیة الثانیة منصوبا علی الظرفیة فی محل رفع مبتدأ. وهذا غریب والمشهور فی الآیتین ونظائرهما مما یضاف فیه الظرف إلی المبنی أن یبنی علی الفتح جوازا ؛ فیکتسب البناء من المضاف إلیه. وفی هذه الحالة التی یبنی فیها علی الفتح جوازا تکون فتحته فتحة بناء ، لا فتحة إعراب. فیکون مبنیا علی الفتح فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر علی حسب حاجة الجملة ... (راجع الخضری والصبان فی هذا الموضع من باب نائب الفاعل).

والمراد بالاختصاص هنا : أن یزاد علی معنی الظرف معنی جدید آخر یکتسبه من کلمة تتصل به اتصالا قویّا ؛ لیزول الغموض والإبهام عن معناه. کأن یکون الظرف مضافا ؛ نحو : أذّن وقت الصلاة - نودی ساعة البیع ... أو یکون موصوفا ؛ نحو : قضی شهر جمیل فی المصایف - قطع یوم کامل فی السفر - أو یکون معرّفا (1) ؛ نحو : یحبّ الیوم لأنه معتدل ، أو غیر ذلک مما یزید معنی جدیدا علی الظرف ، ویخرج معناه السابق من الإبهام والتجرد.

4- وأما الجار مع مجروره فإن کان حرف الجر زائدا - نحو : ما صودر من شیء - فلا خلاف فی أن النائب هو المجرور وحده - ، وأنه مجرور لفظا ، مرفوع محلّا ، فیجوز فی التوابع مراعاة لفظه أو محله.

أمّا حرف الجر الأصلی مع مجروره - نحو : قعد فی الحدیقة الناضرة - فالصحیح أن الذی ینوب منهما عن الفاعل هو المجرور وحده (2). (برغم أن الشائع علی الألسنة هو : الجار مع مجروره. ولا مانع من قبوله تیسیرا وتخفیفا) (3).

ویشترط لإنابتهما أن یکون الإسناد إلیهما مفیدا. وتتحقق الفائدة بأمرین ؛ أن یکون حرف الجر متصرفا ، وأن یکون مجروره مختصّا.

والمراد من التصرف فی حرف الجر ألا یلتزم طریقة واحدة لا یخرج عنها إلی غیرها ... کأن یلتزم جر الأسماء الظاهرة فقط ؛ ومن أمثلته : مذ - منذ -

ص: 115


1- ومنه التعریف بالعلمیة ؛ مثل : رمضان ، للشهر المعروف. ومثل : «سحر» - فی رأی - إذا جعل علما علی سحر یوم معین عند القائلین بعلمیه.
2- فهو مجرور فی الظاهر ، ولکنه فی المعنی والتقدیر مرفوع. ولا یصح - فی الرأی القویّ - مراعاة هذا المعنی والتقدیر فی التوابع أو غیرها ؛ فهو أمر ملاحظ عقلیا فقط ، ولا یجوز مراعاته أو تطبیق حکمه علی غیره. شأنه فی ذلک شأن المجرور بحرف جر أصلی بعد فعل لازم مبنی للمعلوم ؛ نحو : قعد الرجل فی البیت. فإن کلمة : «البیت» مجرورة فی اللفظ ؛ لکنها فی المعنی والتقدیر منصوبة ؛ لأنها بمنزلة المفعول به للفعل اللازم. ولا یصح فی الرأی الأحسن مراعاة هذا النصب فی التوابع أو غیرها ؛ فنصبها ملاحظ فیها عقلیا مقصور علیها. فالمجرور مع الفعل المبنی للمجهول مرفوع «محلا» ، ورفعه مقصور علیه. والمنصوب مع الفعل المبنی للمعلوم منصوب محلا ، ونصبه مقصور علیه ؛ فکلاهما یشبه الآخر فی حرکة معنویة عقلیة ، مقصورة علیه وحده ؛ لا یظهر لها أثر فی غیره. (انظر هامش ص 122 ثم رقم 3 من هامش 145 لأهمیته حیث تجد رأیا آخر ، وتعلیقا علیه).
3- وفوق ذلک یریحنا من أنواع مرهقة من الجدل الثقیل حول إثبات أن النائب هو حرف الجر وحده ، أو مجروره وحده ...

حتی ... ، أو جرّ النکرات فقط ؛ ومن أمثلته : «ربّ» ، أو یلتزم جرّ نوع آخر معین من الأسماء ؛ کحروف القسم ؛ فإنها لا تجر إلا مقسما به ، وکحروف الجر التی للاستثناء (وهی : خلا - عدا - حاشا) فإنها لا تجر إلا المستثنی ومثل : مذ ومنذ : فإنهما لا یجران إلا الأسماء الظاهرة الدالة علی الزمان ... فلا یصح وقوع شیء من تلک الحروف مع مجروراتها نائب فاعل ؛ فلا یقال نائب فاعل فی مثل : صنع منذ الصبح ، ولا زرع حتی الشاطئ ، ولا قوتل ربّ رجل عنید ... و... (1)

والمراد بالاختصاص أن یکتسب الجار مع مجروره معنی زائدا فوق معناهما الخاص بهما. ویجیئهما هذا المعنی الزائد من لفظ آخر یتصل بهما ؛ کالوصف ، أو المضاف إلیه ، أو غیرهما مما یکسبهما معنی جدیدا ؛ فتحصل الفائدة المطلوبة من الإسناد.

ومن أمثلة الجار والمجرور المستوفیین للشروط : أخذ من حقل ناضج - قطع فی طریق الماء. فلا یصحّ : أخذ من حقل - قطع فی طریق ...

من کلّ ما سبق نعرف أن «الإفادة» هی الشرط الذی یجب تحققه فیما ینوب عن الفاعل من مصدر ، أو ظرف ، أو جار مع مجروره ، وأن هذه الإفادة تنحصر فی التصرف والاختصاص معا.

5- یلحق بما تقدم الجملة المحکیّة بالقول ، وکذا المؤوّلة بالمفرد ، طبقا للبیان الذی سلف (2) عنهما.

ص: 116


1- وکذلک یشترط ألا یکون معنی حرف الجر هو : «التعلیل» کالذی یفهم من «اللام» و «الباء» وقد یفهم من حرف الجر «من» أحیانا. والداعی لهذا الاشتراط عندهم أن حرف الجر حین یکون معناه التعلیل یکون مجروره مبنیا علی سؤال مقدر. أی : یکون بمنزلة جواب عن سؤال مقدر ؛ فکأن المجرور من جملة أخری. ویمثلون له بأمثلة منها قول الشاعر : یغضی حیاء ، ویغضی من مهابته فلا یکلّم إلا حین یبتسم أی : یغضی هو ، أی الطرف ؛ لأن الإغضاء خاص بالطرف ؛ فیدل علیه. ولا یصح عندهم أن یکون الجار والمجرور نائب فاعل ؛ لأن معنی حرف الجر هنا : «التعلیل» ؛ فالمجرور مبنی علی سؤال مقدر ، هو : لماذا یغضی؟ فأجیب : من مهابته. فکأن الجواب من جملة أخری فی رأیهم - کما سبق - لکن کیف نوفق بین هذا الرأی وما یخلفه مما یأتی فی : «ا» ص 119 ه.
2- فی رقم 3 من هامش ص 111.

إلی هنا انتهی الکلام علی الأشیاء التی یصلح کل واحد منها أن یکون نائب فاعل إذا لم یوجد غیره فی الجملة ، فإذا وجد أکثر من واحد صالح للإنابة لم یجز أن ینوب عن الفاعل إلا واحد فقط ؛ لأن نائب الفاعل - کالفاعل - لا یتعدد.

لکن ما الأحق بالنیابة عند وجود نوعین مختلفین ، صالحین أو أکثر؟ یمیل کثیر من النحاة إلی الرأی القائل باختیار المفعول به (1) دائما ، (أی : فی کل الحالات) ؛ لیکون هو النائب ، ویفضلونه علی غیره. وهم - مع ذلک - یجیزون ترک الأفضل ؛ ففی مثل : أنشد الشاعر القصیدة إنشادا بارعا فی الحفل أمام الحاضرین ، یکون الأفضل عندهم - حین بناء الفعل للمجهول - اختیار المفعول به نائبا ؛ فیقال : أنشدت القصیدة ، إنشادا بارعا ، فی الحفل أمام الحاضرین. ولا مانع من ترک الأفضل واختیار غیره ، کما قالوا.

والحق أن الرأی السدید الأنسب هو أن نختار من تلک الأنواع ما له الأهمیة فی إیضاح الغرض ، وإبراز المعنی المراد ، من غیر تقید بأنه مفعول به أو غیر مفعول به ، وأنه أوّل أو غیر أوّل ، متقدم علی البقیة أو غیر متقدم. ففی مثل : «خطف اللصّ الحقیبة من ید صاحبتها أمام الراکبین فی السیارة» - تکون نیابة الظرف : «أمام» أولی من نیابة غیره ؛ فیقال خطف أمام الراکبین فی السیارة الحقیبة من ید صاحبتها ؛ لأن أهم شیء فی الخبر وأعجبه أن تقع الحادثة أمام الراکبین ، وبحضورهم ؛ وهم جمع کبیر یشاهد الحادث فلا یدفعه ، ولا یبالی بهم اللص ...

وقد تکون الأهمیة فی مثال آخر : للجار والمجرور ؛ نحو : سرق فی دیوان الشرطة سلاح جنودها ... وهکذا (2).

ص: 117


1- ویبالغون ، فیفضلونه ، ولو کان من نوع المفعول به المنصوب علی نزع الخافض. ویترتب علی هذا الاختیار بعض صور لها أحکام خاصة ، منها ما سیجیء فی «ح» من ص 119.
2- وفیما سبق یقول ابن مالک : وقابل من ظرف لو من مصدر أو حرف جرّ بنیابة حری یرید : أن اللفظ القابل للنیابة حر (أی : حقیق وجدیر بها) إذا کان ذلک اللفظ ظرفا أو مصدرا ؛ أو حرف جر. ولعل ابن مالک یرید : أو مجرور الحرف (فکلمة «قابل» مبتدأ خبره : «حر» وقد حذف التنوین ورجعت الیاء عند الوقف ، فصارت «حری» «من ظرف» جار ومجرور ، - - حال من الضمیر فی «قابل» ، أو صفة لقابل فتقدیر البیت نحویا هو : ولفظ قابل للنیابة حر بنیابة ، حالة کون هذا اللفظ ظرفا ، أو مصدرا ، أو حرف جر - وهذا اللفظ موصوف بأنه من ظرف ، أو من مصدر ، أو حرف جر). ثم قال بعد ذلک : ولا ینوب بعض هذی إن وجد فی اللّفظ مفعول به. وقد یرد - یرید أنه لا یصح - فی الغالب - إنابة شیء مما ذکره فی البیت السابق مع وجود المفعول به. ثم عاد فقرر أنه قد یرد فی الکلام الصحیح إنابة غیر المفعول به مع وجوده. ثم سرد بعد ذلک بیتین سبق شرحهما فی مکانهما الأنسب من هذا الباب ص 111 - وهما : وباتّفاق قد ینوب الثّان من باب «کسا» فیما التباسه أمن فی باب «ظنّ وأری» ، المنع اشتهر ولا أری منعا إذا القصد ظهر ثم ختم الباب بالبیت التالی : وما سوی النّائب ممّا علّقا بالرّافع ، النّصب له ، محقّقا یرید : أن النائب عن الفاعل سیصیر مرفوعا ؛ لتعلق معناه بالفعل الرافع له ؛ فلأن معناه علق برافعه (وثبت أنه رافعه) لا بد أن یرتفع. وما سوی هذا النائب فالنصب له. أی : حکمه النصب. (وکلمة «محققا» ، حال من الضمیر ، الهاء فی : «له») فإذا وجد فی الکلام مفعول به أو أکثر ، ومعه شیء آخر یصلح للنیابة عن الفاعل - فالذی وقع علیه الاختیار للإنابة یرتفع ، وما عداه ینصب لفظا ، إلا الجملة المحکیة ، والمؤولة بالمفرد (وقد سبق حکمهما فی رقم 3 من هامش ص 111) وإلا المجرور ؛ فیبقی جره علی حاله لفظا ، وینصب محلا. بالتفصیل الذی عرضناه.

ومثل هذا یقال عند حذف الفاعل ، وعدم وجود مفعول به فی الجملة ینوب عنه ، مع وجود أنواع أخری تصلح للنیابة : فإن اختیار بعض هذه الأنواع دون بعض یقوم علی أساس الأهمیة ودرجتها ؛ فما کان أکبر أهمیة وأعظم تحقیقا للمراد من الجملة ، فهو الأحق بالاختیار ، والأولی بالنیابة.

ص: 118

زیادة وتفصیل

(ا) لا یجوز إنابة الحال ، والمستثنی ، والمفعول معه ، والتمییز الملازم للنصب ، والمفعول لأجله ؛ فکل واحد من هذه الخمسة لا یصلح للإنابة ؛ لأنها تخرجه من مهمته الخاصة ، وتنقله إلی غیرها ، وقد تتغیر حرکته الملازمة له. لکن فریقا من النحاة یری - بحق - جواز نیابة التمییز المجرور بالحرف «من» ، وکذا نیابة المفعول لأجله المجرور. بشرط أن یحقق کل منهما الفائدة المطلوبة منه ، والغرض من وجوده ؛ نحو : یقام لإجلال العلماء النافعین ، ویفاض من سرور رؤیتهم ، ویسمی کل منهما : نائب فاعل ، ویزول عنه الاسم السابق. ورأی هذا الفریق حسن (1).

(ب) الصحیح أنه لا یجوز إنابة خبر «کان» (2) ولا سیما المفرد ؛ لعدم الإفادة ؛ فلا یصح : کین قائم ، (علی فرض استساغته) ؛ إذ معناه کما یقولون : حصل کون لقائم. ومن المعلوم أن الدنیا لا تخلو من حصول کون لقائم.

(ح) عرفنا (3) أن جمهرة النحاة تختار المفعول به - دون غیره - لإقامته نائبا عن الفاعل المحذوف عند تعدد الأنواع الصالحة للنیابة. وقد شرحنا رأیهم ، وأوضحنا ما فیه ، ویترتب علی الأخذ برأیهم ما یأتی :

إذا قلت : زید فی أجر الصانع عشرون - کانت «عشرون» باعتبارها مرفوعة النائب عن الفاعل ، ولا یکون الفعل متحملا ضمیرا ، ولا یلحق بآخره علامة تثنیة أو جمع.

أما إذا قدّمت : «الصانع» فقلت : الصانع زید فی أجره عشرون - فیجوز أحد أمرین :

1- أن تکون : «عشرون» مرفوعة علی أنها نائب الفاعل ، والفعل معها خال من الضمیر ، فلا یتصل بآخره علامة تثنیة أو جمع. وفی هذه الصورة یجب بقاء

ص: 119


1- لکن کیف نوفق بین هذا الرأی وما یخالفه مما سبق فی رقم 1 من هامش ص 111 ه.
2- هذا الحکم خاص بخبر کان - دون أخواتها (انظر رقم 2 من هامش ص 105).
3- فی ص 117.

الجار والمجرور ، واشتماله علی ضمیر مطابق للاسم السابق - المبتدأ - ویکون هو الرابط ، مثل : الصانعان زید فی أجرهما عشرون - الصانعون زید فی أجرهم عشرون .... وهکذا.

2 - نصب کلمة : «عشرین» علی أنها لیست نائب فاعل (1) ، وإنما النائب ضمیر متصل بالفعل ، لأن الفعل فی هذه الصورة یتحمل الضمیر مستترا أو بارزا ، یعود علی المبتدأ ویطابقه ، ویکون الرابط. وفی هذه الحالة یمکن الاستغناء عن الجار ومجروره ، أو عدم الاستغناء مع بقاء الضمیر الذی فی آخر المجرور ، ومطابقته أیضا للمبتدأ : (تقول : الصانعان زیدا عشرین. أو : الصانعان زیدا فی أجرهما عشرین) - (الصانعون زیدوا عشرین. أو الصانعون زیدوا فی أجرهم عشرین ...) وهکذا ...

ص: 120


1- والأحسن فی هذه الصورة أن تعرب مفعولا مطلقا (أی : نائبة عن المصدر).

المسألة 69: اشتغال العامل عن المعمول

اشارة

(ا) فی مثل : «شاورت الخبیر» - یتعدی الفعل المتصرف : «شاور» بنفسه إلی مفعول به واحد ؛ فینصبه ؛ ککلمة : «الخبیر» هنا. ویجوز - لسبب یلاغیّ ، أو غیره - أن یتقدم هذا المفعول الواحد علی فعله (1) ، ویحل فی مکانه بعد تقدمه أحد شیئین ؛ إما ضمیر عائد إلیه ، یعمل فیه الفعل الموجود النصب مباشرة ، ویستغنی به عن المفعول المتقدم ؛ فنقول : الخبیر شاورته (فالهاء ضمیر حل محل المفعول السابق ، واکتفی به الفعل) - وإما لفظ ظاهر آخر ، یعمل فیه الفعل المتصرف النصب أیضا ؛ بشرط أن یکون هذا اللفظ الظاهر سببیّا (2) للمفعول به المتقدم الذی استغنی عنه الفعل ، وأن یکون مشتملا علی ضمیر یعود علی ذلک المفعول ؛ نحو : الخبیر شاورت زمیله. فاللفظ الظاهر : «زمیل» هو الذی حل محل المفعول به السابق ، وهو سببیّ له ومضاف ، والضمیر فی آخره مضاف إلیه ، عائد علی المفعول به المتقدم.

والسببی فی هذا المثال مضاف ، لکنه فی مثال آخر قد یکون متبوعا بنعت ، ونعته هو المشتمل علی الضمیر المطلوب ؛ نحو : التجارة عرفت رجلا یتقنها ؛ (فجملة «یتقنها» نعت ، وفیها الضمیر العائد) وقد یکون متبوعا بعطف بیان مشتمل علی ذلک الضمیر أیضا ؛ نحو : الصدیق أکرمت الوالد أباه ، وقد یکون متبوعا بعطف نسق بالواو - دون غیرها - مشتملا علی الضمیر المذکور ، نحو : الزمیلة أکرمت الوالد وأهلها. ولا یصلح من التوابع غیر هذه الثلاثة.

ص: 121


1- بشرط ألا یفصل بین الفعل والمفعول المتقدم فاصل غیر توابع الاسم المتقدم (من : النعت والتوکید ، والعطف البیانی ، أو العطف بالواو ، والبدل) وغیر المضاف إلیه ، وغیر الظرف ، وغیر الجار ومجروره. ویصح الفصل بالأمرین ؛ الظرف والجار ومجروره معا. کما یجوز الفصل بما لا بد منه مما یقتضیه المقام ، وذکر الضمیر فإن کان العامل وصفا صالحا للعمل جاز الفصل - کما سیجیء فی ص 125 -.
2- المراد بالسبی للاسم : کل شیء له صلة وعلاقة بذلک الاسم ، سواء أکانت صلة قرابة ، أم صداقة ، أم عمل ، أم غیر هذا مما یکون فیه جمع وارتباط بین الاسمین بنوع من أنواع الجمع والارتباط.

ومن الممکن حذف ما حلّ محل المفعول السابق من ضمیره العائد إلیه مباشرة ، أو سببیه المشتمل علی ضمیر یعود علیه کذلک. ومتی وقع هذا الحذف صار الاسم المتقدم مفعولا به للفعل المتأخر عنه کما کان. وتفرّغ هذا الفعل لنصبه.

وکالأمثلة السابقة نظائرها ؛ نحو : یصاحب العاقل الأخیار ... أنجز الوعد ... وأشباههما ؛ حیث ینصب الفعل المتصرف مفعولا به واحدا (1) ؛ یجوز أن یتقدم علی عامله ، ویحل محله أحد الشیئین ؛ إما ضمیره العائد علیه مباشرة ، والذی یعمل فیه الفعل الموجود النصب ، ویستغنی به عن المفعول السابق ؛ فنقول : الأخیار یصاحبهم العاقل - الوعد أنجزه - وإما لفظ ظاهر سببی یشتمل علی ضمیر یعود علی المفعول به المتقدم ، ویشتغل الفعل الموجود بنصبه ، ویکتفی به عن ذلک المفعول ؛ فنقول : الأخبار یصاحب العاقل زملاءهم - الوعد أنجز صاحبه ... وهکذا ، من غیر أن نتقید فی السببی بأن یکون مضافا ؛ فقد یکون مضافا ، أو منعوتا ، أو عطف بیان ، أو عطف نسق بالواو ، مع اشتمال کل واحد علی الضمیر العائد إلی الاسم السابق.

ویصح - کما سبق - حذف الضمیر العائد علی ذلک الاسم المتقدم ، کما یصح حذف السببیّ وما فیه من ضمیر عائد علیه أیضا ؛ فیصیر الاسم المتقدم فی الحالتین مفعولا به للفعل المتأخر ، ویتفرغ هذا الفعل لنصبه بعد أن کان قد انصرف عنه إلی الضمیر المباشر ، أو إلی السببی.

(ب) ولیس من اللازم أن یکون الفعل المتصرف متعدیا بنفسه مباشرة إلی مفعوله الواحد ؛ وإنما یجوز أن یکون هذا الفعل قاصرا لا یتعدی إلی المفعول به إلا بمساعدة حرف جر أصلیّ ؛ نحو : فرحت بالنصر ؛ فالفعل : «فرح» لازم ، لم ینصب مفعوله (وهو : «النصر») بنفسه مباشرة ؛ وإنما نصبه بمعونة حرف الجر : «الباء». فکلمة «النصر» فی ظاهرها مجرورة بالباء ، ولکنها فی المعنی والحکم بمنزلة المفعول به (2) ویصح فی هذه الکلمة المجرورة التی تعتبر بمنزلة المفعول به

ص: 122


1- وقد ینصب أکثر من واحد ولکن الذی یتقدم علیه واحد فقط - کما سیأتی -
2- ومع أنها بمنزلة المفعول به معنی وحکما لا یجوز نصبها مع وجود حرف الجر قبلها ، کما لا یجوز - فی الرأی الأنسب - اعتبارها فی محل نصب. ولهذا لا یصح فی توابعها إلا الجر فقط (راجع رقم 2 من هامش ص 115 ثم رقم 3 من هامش ص 145 م 70 - حیث الرأی الآخر ، والتعلیق علیه ، ثم ص 407).

فی المعنی والحکم ، أن تتقدم وحدها - دون حرف الجرّ - علی فعلها ؛ بشرط أن یحل محلها أحد الشیئین ؛ إما الضمیر الذی یعمل فیه الفعل معنی وحکما ، والذی یعود علی المفعول به المعنوی السابق ؛ نحو : النصر فرحت به ، وإما لفظ آخر سببیّ ، یعمل فیه الفعل ، ویشتمل علی ضمیر یعود علی المفعول به المعنوی (الحکمیّ) السابق ، نحو : النصر فرحت بأبطاله (1).

ومثل هذا یقال فی النظائر : من نحو ؛ ینتصر الحقّ علی الباطل - سرّ فی طریق الخیر ، حیث یصح : الباطل ینتصر الحق علیه - الباطل ینتصر الحقّ علی أعوانه - طریق الخیر سر فیه - طریق الخیر سر فی جوانبه ... وهکذا ، من غیر أن نتقید فی السببی بأن یکون مضافا.

ومن الممکن حذف الضمیر أو السببی ، فیرجع الاسم السابق إلی مکانه القدیم ، فیعمل فیه عامله الجر.

(ح) ولیس من اللازم أیضا أن یکون العامل فعلا ، فقد یکون (2) اسم فاعل ، أو : اسم مفعول ، فنحو : أنا مشارک الأمین ، نقول فیه : الأمین

ص: 123


1- إذا کان الاسم المشتغل عنه ظرفا وجب فی الضمیر العائد علیه أن یجر بالحرف «فی» ، نحو : یوم الخمیس سافرت فیه. وهذا هو المشهور. ویجوز حذف حرف الجر ؛ توسعا ، فیقال : سافرته ؛ طبقا للبیان المفصل الذی سیجیء فی رقم 3 من هامش ص 333 ورقم 1 من هامش ص 239.
2- لا یکون العامل هنا إلا فعلا متصرفا ، أو اسم فاعل ، أو صیغة مبالغة ، أو اسم مفعول. ولا یکون صفة مشبهة ، ولا تفضیلا ، ولا وصفا آخر ، لأن ما بعد هذه الثلاثة من معمولاتها لا یکون مفعولا به. ویشترط فی هذا الوصف العامل ألا یوجد ما یمنعه من العمل فی المتقدم ؛ کاسم الفاعل المبدوء بکلمة «أل». وکذلک إذا کان مجردا منها ومعناه المضی المحض ، فانه لا ینصب مفعولا به بعده ، فلا یصلح أن یوضح عاملا قبله ، أو یرشد إلیه إن کان محذوفا. فلا اشتغال فی مثل : المخترع أنا المادحه ، ولا المخترع أنا مادحه أمس. ولا اشتغال إذا کان اسم المفعول للماضی ، أو مقرونا بأل ، أو کان العامل اسم فعل ؛ لأن اسم الفعل لا یتقدم معموله علیه فهو لا یعمل فیما قبله ؛ والذی لا یتقدمه مفعوله لا یصلح أن یکون موضحا ولا دالا علی عامل قبله محذوف ، ولهذا السبب نفسه لا یصح الاشتغال إذا کان العامل مصدرا ، ... ، أو فعلا جامدا ، کفعل التعجب ، وعسی ، ولیس ، وغیرها من کل ما لیس له مفعول به ، أو لا یصلح أن یتقدم علیه مفعوله. هذا إلی أن العامل فی الاشتغال لا بد أن یکون مشتقا والمصدر وما بعده مما ذکرناه هنا - لیس مشتقا. نعم یجوز الاشتغال فی المصدر ، وفی اسم الفعل ، وفی لیس ، عند من یجیز تقدیم معمول الأولی ، وخبر لیس ، نحو : محمودا لست مثله ، أی : باینت محمودا لست مثله ، وهو رأی مقبول ، وفیه توسعة.

أنا مشارکه (1) - الأمین أنا مشارک رفاقه. ونحو : الحقّ منصور علی الباطل ، نقول فیه : الباطل الحقّ منصور علیه - الباطل الحقّ منصور علی شیاطینه.

فمتی تقدم المفعول به علی عامله وحل محله ما یشغل مکانه ، ویغنی العامل عنه ؛ فقد تحقق ما یسمیه النحاة : «اشتغال العامل عن المعمول» ویقولون فی تعریف الاشتغال:

أن یتقدم اسم واحد (2) ، ویتأخر عنه عامل یعمل فی ضمیره مباشرة ، أو یعمل فی سببیّ للمتقدم ، مشتمل علی ضمیر یعود علیه ؛ بحیث لو خلا الکلام من الضمیر الذی یباشره العامل ، ومن السببیّ ، وتفرغ العامل للمتقدم - لعمل فیه النصب لفظا ، أو معنی (حکما) کما کان قبل التقدم.

فلا بد فی الاشتغال من ثلاثة أمور مجتمعة ؛ «مشغول» ، وهو : العامل ، ویسمی أیضا : «المشتغل» ، وله شروط عرفناها (3). «ومشغول به» : وینطبق علی الضمیر العائد علی الاسم السابق مباشرة ؛ کما ینطبق علی اللفظ السببیّ الذی له ضمیر یعود علی ذلک المتقدم. و «مشغول عنه» وهو : الاسم المتقدم الذی کان فی الأصل مفعولا حقیقیّا أو معنویّا (حکمیّا) ، ثم تقدم علی عامله ، وترک مکانه للضمیر المباشر ، أو للسببیّ ؛ فانصرف عنه العامل ، واشتغل بما حل محله.

ولا بد فی هذا الاسم المتقدم أن یتصل بعامله بغیر فاصل ممنوع بینهما (4) إذا

ص: 124


1- سیأتی فی الجزء الثالث (باب اسم الفاعل ، م 102 ص 214 - الهامش رقم 1) ما نصه : (فی هذا المثال - وأشباهه - نجد الاسم السابق منصوبا مع أن الضمیر الراجع إلیه مجرور ، لکنه مجرور فی حکم المنصوب ؛ لأن کلمة : مشارک» ، أو «مساعد» - ونظائرهما فی مثل هذا الترکیب فی حکم الفعل ، وتنوینها ملحوظ ، وإن لم یکن ملفوظا فالضمیر هنا کالضمیر فی مثل : «أعلیا مررت به» مجرور فی حکم المنصوب (راجع شرح المفصل ج 6 ص 69). وانظر «ب» السابقة.
2- التقیید واحد هو الرأی الصحیح عند عدم تعدد العامل المقدر .. أو لا مانع أن یکون العامل متعدیا إلی أکثر من واحد ولکن الذی یتقدم علیه هو معمول واحد له - کما سبق -
3- وانظر رقم 1 من ص 134.
4- وقد سبق فی رقم 1 من هامش ص 121 ما یجوز الفصل به. وفی بیان «الاشتغال» وتوضیح أمره یقول ابن مالک : إن مضمر اسم سابق فعلا شغل عنه بنصب لفظه أو المحل - 1 فالسّابق انصبه بفعل أضمرا حتما ، موافق لما قد أظهرا - 2 - - (أی : إن شغل ضمیر اسم سابق فعلا ، عن نصب الاسم السابق لفظا أو محلا مثل : البیت قعدت فیه - فانصب الاسم السابق بفعل مضمر «غیر ظاهر لأنه محذوف» حتما ؛ أی : إضمارا حتما ، لا مفر منه فی حالة النصب ؛ لأنه محذوف ، ویکون ذلک الفعل المحذوف موافقا للفعل الظاهر فی الجملة من ناحیة اللفظ والمعنی ، أو المعنی فقط - کما سیأتی -) ذلک تقدیر البیتین ومعناهما ؛ مع ما فیهما من التواء النظم ؛ بسبب التقدیم والتأخیر ، والحذف. یرید : حین یوجد اسم متقدم علی فعله ، ولهذا الاسم المتقدم ضمیر یعود علیه ، ویشغل فعله بدلا من نصب السابق لفظا أو محلا - فإن ذلک الاسم السابق یجوز نصبه ولکن بفعل غیر ظاهر حتما ؛ فلا یجوز إظهاره. ویکون هذا الفعل المحذوف موافقا للفعل المذکور (فکلمة حتما : صفة لمصدر محذوف ، أی : إضمارا حتما ، فتعرب مفعولا مطلقا ، و «بنصب» بمعنی عن : نصب). ثم بین بعد أبیات : أن العامل قد یتعدی إلی مفعوله بمساعدة حرف جر ؛ فینصبه محلا ، (أی : حکما) حین لا یتعدی إلیه مباشرة. وعندئذ یفصل حرف الجر بینهما. وقد یفصل بینهما المضاف حین یکون المضاف إلیه هو الضمیر العائد للاسم السابق. والحکم فی حالة فصل العامل المشغول کالحکم فی حالة وصله المباشر بالمعمول ؛ فیقول : وفصل مشغول بحرف جرّ أو بإضافة کوصل یجری - 10 وصرح بعد ذلک بأن العامل هنا قد یکون فعلا أو وصفا عاملا ؛ فالوصف العامل یساوی الفعل فیما تقدم ؛ بشرط ألا یوجد مانع یمنع الوصف من العمل ونصب مفعوله إذا تقدم ؛ فیقول : وسوّ فی ذا الباب وصفا ذا عمل بالفعل ، إن لم یک مانع حصل 11 وقد شرحنا من قبل - فی رقم 2 من هامش ص 123 - نوع الوصف الذی یصلح للعمل هنا ، والمانع الذی یعوقه عن العمل ، وسبب ذلک ثم ختم الباب بالبیت التالی : وعلقة حاصلة بتابع کعلقة بنفس الاسم الواقع - 12 ومضمونه : أن السببی الخالی من الضمیر إذا کان له تابع یشتمل علی ضمیر عائد علی الاسم السابق فإن العلقة (أی : العلاقة) تحصل وتتم بین العامل والتابع کما تحصل وتتم بالاسم الواقع بعد العامل مباشرة ، وهذا الاسم هو ضمیر المتقدم ، أو سببه المشتمل علی ضمیره ..

کان العامل فعلا (1). أما إن کان وصفا فیجوز الفصل.

* * *

حکم الاسم السابق فی الاشتغال

یجوز فی هذا الاسم السابق من ناحیة إعرابه وضبط آخره ، أمران - بشرط ألّا یوجد ما یحتم أحدهما مما سنعرفه -.

أولهما : إعرابه مبتدأ والجملة بعده خبره (2).

ص: 125


1- یجوز الفصل بتوابع الاسم السابق ، - إلا العطف بحرف غیر الواو - والمضاف إلیه ، وشبه الجملة وغیر هذا مما سبق تفصیله کاملا فی رقم 1 من هامش ص 121.
2- فی هذه الصورة التی یرفع فیها الاسم السابق - تخرج المسألة من باب الاشتغال (انظر رقم 3 من هامش ص 126).

وثانیهما : إعرابه مفعولا به لعامل محذوف وجوبا ، یدل علیه ویرشد إلیه العامل المذکور بعده فی الجملة ، فیکون العامل المحذوف وجوبا مشارکا للمذکور إما فی لفظه ومعناه معا ، وإما فی معناه ، فقط ، ولا یصح الجمع بین العاملین ما داما مشترکین (1) ، إذ الموجود عوض عن المحذوف. فمثال الأول : الأمین شارکته ، فالتقدیر : شارکت الأمین شارکته. ومثال الثانی : البیت قعدت فیه ، التقدیر : لابست البیت ، قعدت فیه : أو : لازمت البیت ، قعدت فیه. ومثل : الحدیقة مررت بها ؛ أی : جاوزت الحدیقة مررت بها. وهکذا نستأنس بالعامل الموجود فی الوصول إلی العامل المحذوف وجوبا من غیر أن نتقید بلفظ العامل الموجود أحیانا. أمّا معناه فنحن مقیدون به فی کل حالات الاشتغال.

مع جواز الأمرین السالفین فالأول (وهو إعرابه مبتدأ) أحسن ؛ لأنه لا یحتاج إلی تقدیر عامل محذوف ، ولا إلی التفکیر فی اختیاره ، وفی موافقته للعامل المذکور ، وقد تکون موافقته معنویة فقط ؛ فتحتاج - أحیانا - إلی کدّ الفکر (2).

* * *

والنحاة یتخیرون هذا الموضع للکلام علی حکم کثیر من الأسماء المتقدمة علی عواملها ، وینتهزون فرصة «الاشتغال» لیعرضوا أحکام تلک الأسماء ؛ سواء منها ما یدخل فی باب «الاشتغال» وتنطبق علیه أوصافه التی عرفناها ، وما لا یدخل فیه ، ولا تنطبق علیه صفاته (3). وهم یقسمونها ثلاثة أقسام (4) : ما یجب نصبه ، وما یجب رفعه ، وما یجوز فیه الأمران.

ص: 126


1- فإن لم یکونا مشترکین جاز أن یکون الأول مذکورا. ومعنی هذا جواز نصب الاسم السابق بفعل مخالف للمذکور ؛ فلا اشتغال معه ؛ - کما سنوضحه فی الزیادة والتفصیل فی رقم 2 من ص ؛ 13 -.
2- والبلاغیون یفرقون بین الأمرین ؛ إذ یترتب علی أحدهما أن تکون الجملة اسمیة ، وعلی الآخر أن تکون فعلیة ، وفرق بلاغی بین المدلولین مع صحتهما ؛ لهذا یقولون : إن أحسن الأمرین هو ما یتفق مدلوله مع غرض المتکلم. فإن لم یعرف غرضه فهما سیّان.
3- کالحالة التی یجب فیها رفع الاسم السابق ؛ إذ لا ینطبق علیها فی الصحیح تعریف «الاشتغال» الأصیل. ومثلها حالات الرفع الأخری التی یکون الرفع فیها جائزا ، فحالة الرفع بنوعیه لا ینطبق علیها - فی الصحیح - الاشتغال الحقیقی ، ما دام الاسم مرفوعا - کما سیجیء فی «ب» من ص 128 ثم انظر رقم 3 من ص 134 -.
4- الواقع أنهم یقسمونها خمسة أقسام ، «قسم یجب فیه النصب ، وقسم یجب فیه الرفع ، وقسم یجوز فیه الأمران والنصب أرجح ، وقسم یجوز فیه الأمران والرفع أرجح ، وقسم یجوز فیه الأمران علی - - السواء». وواضح أن هذا التقسیم یوجب النصب وحده فی بعض حالات ، ویوجب الرفع وحده فی حالات أخری کذلک ، ویجیز الأمرین فی کل حالة من الأحوال الثلاثة الباقیة. ولکن هذه الإجازة قد تکون مع الترجیح أحیانا ؛ کأن یکون النصب هو الأرجح ؛ فیکون الرفع هو الراجح ، أو العکس ؛ (بأن یکون النصب هو الراجح ، والرفع هو الأرجح). واستعمال الراجح لیس معیبا ولا ضعیفا من الوجهة اللغویة. نعم هو - مع کثرته وقوته - لا یبلغ درجة الأرجح فیهما ، لکن کلاهما عربی فصح ، وهذه الأرجحیة مزیة یسیرة إذا کان الداعی لها أمرا بلاغیا مما یطرأ ویتغیر بحسب الدواعی ، فهی لیست أرجحیة ذاتیة دائمة وإنما هی خاضعة لأذواق البلغاء فی العصور اللغویة المختلفة ؛ متفاوتة بتفاوت تلک الأزمان والدواعی ؛ - لکیلا تتحجر البلاغة وتجمد عند حد لا تتجاوزه کما یصرح علماؤها - فالراجح قد یشیع ویکثر استعماله فی عصر لغوی ؛ فیکون هو الأرجح ، وعندئذ ینزل الأرجح إلی درجة الراجح ، ثم یتبدل الحال مرة أخری فی عصر لغوی جدید ، فیذیع استعمال بلاغی لم یکن ذائعا من قبل ، بل فی بیئة أخری مع اتحاد العصر ، فیقع التغییر فی الدرجة کما وصفنا ؛ وهکذا دوالیک ... فالتفاوت بینهما منشؤه الأرجحیة التی قد تتغیر ، ولا تثبت - کما قلنا - ولو کان منشؤه القلة المعیبة والضعف ، أو الحسن والقبح اللغویین لوجب الاقتصار علی القوی دون الضعیف ، وعلی الحسن دون القبیح. لهذا لا داعی لکثرة الأقسام ، والأحکام ، وتعدد الآراء فی کل حکم ، وما یتبعه من عناء لا طائل وراءه. علی أنا سنشیر إلی أقسامهم الخمسة (فی ص 132) ونصف منها بالقلة ما وصفو ، علما بأن هذه القلة - کما سبق - لیست المعیبة فی الاستعمال ، ولا المانعة من القیاس علی نظائرها ؛ فإنما هی قلة عددیة راجحة ، بالنسبة للکثرة العددیة التی للأرجح. ولو کانت القلة معیبة هنا ما وصفوا الضبط الوارد بها بأنه «راجح» ، وأن غیره أرجح ؛ إذ المعیب الذی لا یصلح استعماله لا یوصف بأنه راجح ولا حسن ، وفوق هذا فالخلاف محتدم فی أمر هذین الوصفین وانطباقهما أو عدم انطباقهما علی بعض أقسامهم.

(ا) فیجب نصب الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل ؛ کأداة الشرط ، وأداة التحضیض (1) ، وأداة العرض (2) ، وأداة الاستفهام (3) إلا الهمزة (4) ؛ نحو : (إن ضعیفا تصادفه (5) فترفق به - حیثما أدیبا تجالسه

ص: 127


1- التحضیض هو : الحث وطلب الشیء بقوة وشدة تظهر فی نبرات الصوت وکلماته. والعرض : طلب الشیء برفق وملاینة تعرف من نبرات الصوت وکلماته أیضا. وکثیر من أدواتهما مشترک بینهما مثل : - هلّا - ألا - ألّا - لو لا - لو ما ... (ولهذه الأدوات باب خاص - فی ج 4 م 162 - یفصل أحکامها المختلفة التی منها اختصاصها بالفعل إذا کانت للتحضیض أو العرض).
2- التحضیض هو : الحث وطلب الشیء بقوة وشدة تظهر فی نبرات الصوت وکلماته. والعرض : طلب الشیء برفق وملاینة تعرف من نبرات الصوت وکلماته أیضا. وکثیر من أدواتهما مشترک بینهما مثل : - هلّا - ألا - ألّا - لو لا - لو ما ... (ولهذه الأدوات باب خاص - فی ج 4 م 162 - یفصل أحکامها المختلفة التی منها اختصاصها بالفعل إذا کانت للتحضیض أو العرض).
3- إنما تکون أدوات الاستفهام مختصة بالفعل وحده إذا وقع فعل بعدها فی جملتها ؛ کالمثالین المذکورین ؛ بخلافها فی نحو : متی العمل؟ - أین الکتاب؟ لخلو کل جملة من فعل بعد أداة الاستفهام. أی : أن وجود الفعل بعد أداة الاستفهام - غیر الهمزة لأنها لیست مختصة بالأفعال ، بل تدخل علیها کما تدخل علی الأسماء - ووقوعه متأخرا عنها فی جملتها ، یجعل هذه الأداة مختصة بالدخول علی الفعل.
4- لما تقدم من أنها غیر مختصة بالأفعال. وفی هذا الموضع الذی یجب فیه النصب یقول ابن مالک : والنّصب حتم إن تلا السّابق ما یختصّ بالفعل ؛ کإن ، وحیثما - 3 (تلا السابق : أی : وقع الاسم السابق بعد ما یختص بالفعل ...)
5- المضارع هنا مرفوع لا یصح جزمه ، لأنه لیس فعلا للشرط ؛ لأن فعل الشرط المجزوم هو - - الفعل المحذوف مع فاعله ، وموضعهما ؛ بعد أداة الشرط مباشرة. أما هذا الفعل الموجود فهو مع فاعله جملة مضارعیة یتحتم رفع مضارعها ، وهی تفسر الجملة الفعلیة التی حذفت وبقی معمولها المنصوب ، والتی موضعها بعد أداة الشرط مباشرة. فالمفسّر جملة ، وکذلک المفسّر. ولا یصح أن یکون الفعل المذکور هو المفسّر وحده ، بالرغم من أنه المرشد للفعل المحذوف ، والدال علیه. وسیجیء فی الزیادة والتفصیل (فی آخر رقم 4 من ص 135 و 136) بیان مناسب عن الفعل إذا کان هو المفسّر وحده ، وأنه یکون کذلک عند رفع الاسم الواقع بعد أداة الشرط ، باعتباره مرفوعا لفعله المحذوف ، وعن الجملة الفعلیة إذا کانت بتمامها هی المفسرة ، ولیس الفعل وحده.

یؤنسک) - (هلّا حلما تصطنعه - ألا زیارة واجبة تؤدیها) - (متی عملا تباشره؟ أین الکتاب وضعته؟) فلا یجوز الرفع فی هذه الأمثلة ونظائرها علی الابتداء أما الرفع علی أنه فاعل ، أو نائب فاعل لفعل محذوف ، أو أنه اسم لکان المحذوفة - فجائز (1). ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ ...،) وقول الشاعر :

ولیس بعامر بنیان قوم

إذا أخلاقهم کانت خرابا

وقول الآخر :

وإذا مطلب کسا حلّة العا

ر فبعدا (2) لمن یروم

نجازه (3)

التقدیر : وإن استجارک أحد من المشرکین استجارک ... - وإذا کانت أخلاقهم کانت ... - وإذا کسا مطلب کسا حلة العار ... وهکذا (4).

* * *

(ب) ویجب (5) رفع الاسم السابق :

ص: 128


1- سیجیء فی الزیادة والتفصیل (ص 134 رقم 3 و 4 وما بعدهما) إیضاح واف عن النصب الواجب ومکانه ، ثم عن هذا الرفع وما یقال فیه ، ثم تعقیبه بعرض للرأی السدید.
2- فهلاکا (دعاء بالهلاک).
3- إنجازه ، والحصول علیه.
4- ومن الأمثلة أیضا قول الشاعر : إذا أنت أعطیت الغنی ثم لم تجد بفضل الغنی ألفیت مالک حامد الأصل : أعطیت أعطیت الغنی فحذف الفعل : «أعطی الأول» ، وبقی نائب فاعله : «التاء» وهو ضمیر واجب الاتصال ، لا یستقل بنفسه ، فأتینا مکانه بضمیر منفصل له معناه وحکمه. ومثل هذا یقال فی کلمة : «نحن» من قول الشاعر : تری الناس ما سرنا یسیرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلی الناس وقّفوا الأصل : وإن أومأنا أومأنا. حذف الفعل الأول ، وبقی فاعله «نا» وهو ضمیر متصل لا یستقل بنفسه ، فأتینا مکانه بما یصلح محله ، وهو «نحن» (انظر ما یوضح هذا فی ص 117).
5- وهذه الحالة - کغیرها من حالات الرفع الواجب والجائز - لیست داخلة فی الاشتغال الأصیل (انظر رقم 3 من هامش ص 126).

1 - إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الاسم ؛ فلا یجوز أن یقع بعدها فعل ؛ مثل : إذا «الفجائیة» (1) ؛ نحو : خرجت فإذا الرفاق أشاهدهم ؛ فیجب رفع کلمة : «الرفاق» ولا یجوز نصبها علی الاشتغال بفعل محذوف ؛ لأن «إذا الفجائیة» لا یقع بعدها الفعل مطلقا ؛ لا ظاهرا ولا مقدرا.

ومثل «إذا» الفجائیة أدوات أخری ؛ منها : «لام» الابتداء فی نحو : إنی للوالد أطیعه ؛ فلا یجوز نصب کلمة : «الوالد» علی الاشتغال ، ولا اعتبارها مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ؛ لأن لام الابتداء لا تدخل علی المفعول به.

ومنها : واو الحال الداخلة علی الاسم الذی یلیه المضارع المثبت ، فی مثل : أسرع والصارخ أغیثه ؛ فلا یصح نصب «الصارخ» علی اعتباره مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ، وتقدیرهما : «أغیث» ، والجملة من الفعل المحذوف مع فاعله فی محل نصب علی الحال. - لا یصح هذا ؛ لأن الجملة المضارعیة التی مضارعها مثبت ، غیر مسبوق بلفظ : «قد» لا تقع حالا - علی الأرجح - إذا کان الرابط هو : «الواو» فقط (2) ؛ کهذا المثال وأشباهه.

ومنها : «لیت» المتصلة «بما» الزائدة ؛ فلا نصب علی الاشتغال فی مثل : لیتما وفیّ أصادفه ؛ لأن «ما» الزائدة لا تخرج «لیت» من اختصاصها بالأسماء ؛ إذ یجوز إعمال «لیت» وإهمالها ؛ فالمنصوب بعدها اسم لها ، ولا یصح أن یقع بعدها فعل مطلقا.

2 - وکذلک یجب رفع الاسم السابق إذا وقع قبل أداة لها الصدارة فی جملتها ؛ - فلا یعمل ما بعدها فیما قبلها - ، وبعدها العامل ، کأداة الشرط ، والاستفهام (3) ، وما النافیة ، ولا النافیة الواقعة فی جواب قسم ... (4) ؛ فلا یصح نصب الاسم

ص: 129


1- سبق إیضاح لها فی ص 482 ج 1.
2- کما سیجیء فی ص 731 من باب الحال.
3- انظر رقم 2 من هامش ص 127.
4- ومما لا یعمل ما بعده فیما قبله : أدوات التحضیض والعرض ، ولام الابتداء ، وکم الخبریة ، والحروف الناسخة ، «ما عدا أنّ» ، والموصول ، والموصوف ، وحروف الاستثناء. فکل هذا لا یعمل ما بعده فیما قبله ؛ فلا یصلح دالا علی المحذوف. فلا یصح النصب فی الأسماء التی فی أول الجمل التالیة : التائه هلا أرشدته - الضّالّ ألا هدیته - الخائف لأنا مؤمن - الهرم کم مرة زرته!! - الخیر إنی أحببته - النزیه الذی أصطفیه - الغناء فن أهواه - شاع ما المال إلا ینفقه العاقل فی النافع. أما حرفا التنفیس فالشائع جواز النصب والرفع فی الاسم الذی یسبقهما ؛ نحو الرسالة سأکتبها - القصیدة سوف أحفظها.

السابق فی نحو : الکتاب إن استعرته فحافظ علیه - المریض هل زرته؟ - الحدیقة ما أتلف زروعها - والله الذنوب لا أرتکبها ... ؛ لأن هذه الأدوات لها الصدارة ، فلا یعمل ما بعدها فیما قبلها ؛ (أی : لا یجوز أن یتقدم معمولها علیها ، ولا معمول لعامل بعدها). وما کان کذلک لا یصلح أن یکون دالا علی عامل محذوف یماثله ، ولا مرشدا إلیه. ومثلها : أدوات الاستثناء ؛ فلا نصب فی نحو : ما السفر إلا یحبه الرحّالون (1) ...

* * *

(ح) ما یجوز فیه الأمران (2) ، وهو ما عدا القسمین السالفین ، فیشمل ما یأتی : 1 - الاسم - المشتغل عنه - الذی بعده فعل دال علی طلب ؛ کالأمر (3) ، والنهی ، والدعاء ؛ نحو : الحیوان ارحمه - الطیور لا تعذبها - اللهم الشهید ارحم ، أو : الشهید رحمه الله ...

وکذلک إن وقع الاسم السابق بعد أداة یغلب أن یلیها فعل ، کهمزة الاستفهام ، نحو : أطائرة رکبتها؟ وکأدوات النفی الثلاثة : (ما - لا - إن -) ؛ نحو : ما السفه نطقته - لا الوعد أخلفته ، ولا الواجب أهملته - إن السوء فعلته. ومثل : «حیث» المجردة من «ما» ، نحو : اجلس حیث الضیف أجلسته.

وکذلک إن وقع الاسم السابق بعد عاطف تقدمته جملة فعلیة ، ولم تفصل کلمة :

ص: 130


1- وفی وجوب الرفع یقول ابن مالک : وإن تلا السّابق ما بالابتدا یختصّ فالرّفع التزمه أبدا - 4 کذا إذا الفعل تلا ما لم یرد ما قبل معمولا لما بعد ، وجد - 5 ومعنی البیتین : إن تلا الاسم السابق ما یختص بالابتداء ... - أی : إن وقع الاسم السابق بعد لفظ مختص بالدخول علی المبتدأ - فالتزم رفع ذلک الاسم السابق. کذلک یجب رفع الاسم السابق إذا کان الفعل المشتغل قد وقع بعد لفظ لا یرد ما قبله معمولا لعامل بعده. «الفعل تلا ما لم یرد قبل معمولا لما بعد وجد» - أی : تلا الفعل شیئا ، لم یرد ما قبل ذلک الشیء معمولا لما وجد بعده. وفی هذا البیت شیء من التعقید.
2- مع ملاحظة أن المسألة لا تکون من باب : «الاشتغال» فی حالة ضبط الاسم السابق بالرفع - کما سبق فی رقم 3 من هامش ص 126 -
3- سواء أکان الأمر بصیغة فعل الأمر ؛ نحو : التردد اجتنبه ، أم بلام الأمر الداخلة علی المضارع ؛ نحو : التردد لتجتنبه.

«أمّا» (1) بین الاسم والعاطف ؛ نحو : خرج زائر والقادم استقبلته ، فلو فصلت «أما» بینهما کان الاسم «المشتغل عنه» فی حکم الذی لم یسبقه شیء ؛ نحو : خرج زائر ، وأمّا المقیم فأکرمته.

فالأمثلة فی کل الصور السابقة وأشباهها ، یجوز فیها الأمران. النصب والرفع. وجمهرة النحاة تدخلها فی النوع الذی یجوز فیه الأمران قیاسا ، والنصب أرجح (2) عندهم. وحجتهم : أن الرفع یجعل الاسم السابق مبتدأ ، والجملة الطلبیة بعده خبر ، ووقوع الطلبیة خبرا - مع جوازه - قلیل بالنسبة لغیر الطلبیة. أو یجعل الاسم السابق مبتدأ بعد همزة الاستفهام ونحوها ، ووقوع المبتدأ بعدها - مع جوازه - قلیل أیضا ، لکثرة دخولها علی الأفعال دون الأسماء. أو یجعل الجملة الاسمیة بعده إذا کانت غیر مفصولة بإما ، معطوفة علی الجملة الفعلیة قبله ؛ والعطف علی جملتین مختلفتین فی الاسمیة والفعلیة قلیل مع صحته.

ص: 131


1- کان الفاصل المراد هنا - غالبا - هو : «أما» ؛ لأن ما بعدها مستأنف ، ومنقطع فی إعرابه قبلها : فلا أثر للفصل بغیرها (راجع لأمر الثالث ص 135).
2- وإلی الأمور التی مرت فی القسم الأول یشیر ابن مالک ، ویبین أن المختار النصب فیقول : واختبر نصب قبل فعل ذی طلب وبعد ما إیلاؤه الفعل غلب - 6 وبعد عاطف - بلا فصل علی معمول فعل مستقرّ أوّلا ... - 7 یرید : أن النصب والرفع جائزان فی أمور ، ولکن النصب هو المختار فیها ؛ وذلک حین یقع الاسم السابق قبل فعل دال علی الطلب ، أو بعد شیء غلب إیلاؤه الفعل ، (أی : غلب أن یلیه ویقع بعده الفعل ؛ کهمزة الاستفهام) ، وکذلک بعد عاطف یعطف الاسم السابق علی معمول لفعل مذکور أول جملته بغیر فصل بین العاطف والمعطوف. وصیاغة البیت الثانی عاجزة عن تأدیة المراد منه ؛ إذ المراد أن الاسم المشتغل عنه یجوز فیه الأمران ، والنصب أرجح إذا کان ذلک الاسم واقعا - مباشرة - بعد عاطف یعطف جملته علی الجملة الفعلیة قبله والتی استقر مکان الفعل فی أولها ، سواء أکان المعمول فی الجملة الفعلیة التی قبله مرفوعا ؛ مثل : غاب حارس وحارسا أحضرته (فکلمة «حارس» الأولی فاعل وهو معمول للفعل : غاب) أم معمولا منصوبا ، نحو : صافحت رجلا ، وجندیا کلمته (فکلمة : «رجلا» مفعول ، وهو معمول للفعل : صافح) فنصب الاسم المشتغل عنه یقتضی أن یکون مفعولا لفعل محذوف یوضحه المذکور بعده. والجملة من الفعل المحذوف وفاعله معطوف علی الجملة التی قبلها ، فالعطف عطف جملة فعلیة علی جملة فعلیة ، ولیس عطف مفردات. فلا معنی لقول ابن مالک إن العطف علی معمول فعل مستقر فی أول جملته التی قبل العاطف. ذلک أن المعمول فی الجملة السابقة لیس معطوفا علیه ما أوضحنا. ولکن ضیق الوزن وضرورة الشعر أوقعاه فی التعبیر القاصر. وقد تأوله النحاة بأن التقدیر : وبعد عاطف - بلا فصل - علی جملة معمول فعل مستقر أولا ... ومهما کان العذر فإن الخیر فی اختیار الأسلوب الناصع الوافی الذی لا یحوی عیبا ، ولا یتطلب تأویلا أو تقدیرا.

2 - الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع بعد عاطف غیر مفصول بالأداة : «أمّا» وقبله جملة ذات وجهین (1) ، مع اشتمال التی بعده فی حالة نصبه علی رابط یربطها بالمبتدأ السابق (2) ؛ - کالضمیر العائد علیه ؛ أو الفاء المفیدة للربط به - ؛ نحو : (النهر فاض ماؤه صیفا ، والحقول سقیناها من جداوله) - (العلم الحدیث نجح فی غزو الکون السماوی ، فالعلوم الریاضیة ، استلهمها الغزاة قبل الشروع). فیصح رفع کلمتی : «الحقول - والعلوم» علی اعتبار کل منهما مبتدأ ، خبره الجملة الفعلیة بعده. وهذه الجملة الاسمیة معطوفة علی الاسمیة التی قبلها. ویجوز نصب الکلمتین علی أنهما مفعولان لفعل محذوف ، والجملة من هذا الفعل وفاعله معطوفة علی الجملة الفعلیة الواقعة خبرا قبله. وفی الحالتین تتفق الجملتان المعطوفتان مع المعطوف علیهما فی ناحیة الاسمیة أو الفعلیة ؛ فیجری الکلام علی نسق واحد ، ولهذا یتساوی (3) الأمران.

3 - الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع فی غیر ما سبق. نحو الریاحین زرعتها. والنحاة یجیزون الأمرین ویرجحون الرفع ؛ لأنه لا یحتاج إلی تقدیر عامل محذوف (4).

ص: 132


1- وهی الجملة الاسمیة التی یکون المبتدأ فیها اسما خبره جملة فعلیة ؛ مثل : الشجرة ظهر ثمرها - الفاکهة طاب طعمها. (ومنها الجملة التعجبیة. ولکن التعجبیة لا تصلح فی هذا الموضع) أو : هی جملة اسمیة صدرها مبتدأ ، وعجزها جملة فعلیة ، کقولهم : النبیل زادته النعمة نبلا وشرفا ، واللئیم زادته النعمة لؤما وبطرا. - الحر ینتصر لکرامته ، والذلیل یمتهنها.
2- لأنها حینئذ تکون معطوفة علی الخبر ، فلا بد فیها من رانط کالخبر (راجع الأشمونی والصبان).
3- وفی هذا یقول ابن مالک : وإن تلا المعطوف فعلا مخبرا به عن اسم فاعطفن مخیّرا - 8 یرید : إن وقع الاسم السابق بعد حرف عطف قبله فعل ، وهذا الفعل - مع فاعله - خبر عن مبتدأ قبلهما وقبل حرف العطف - فلک الخیار فی هذه الحالة أن تعطف ما بعد حرف العطف علی ما قبله ، مباشرة عطف جملة فعلیة علی الجملة الفعلیة السابقة أیضا ، وأن تعطف ما بعد حرف العطف علی ما قبله عطف جملة اسمیة علی نظیرتها الاسمیة. وقد شرحنا توجیه کل حالة من هاتین الحالتین المتساویتین فی الصحة ، شرحا یوضح هذا البیت الغامس.
4- وفی حالة الرفع لا تکون المسألة من باب «الاشتغال» - کما کررنا فی کل حالات الرفع الواجب والجائز - وفی هذا یقول ابن مالک. والرفع فی غیر الّذی مرّ رجح فما أبیح افعل. ودع ما لم یبح - 9

«ملاحظة» بانضمام هذه الأقسام الثلاثة (1 ، 2 ، 3) إلی القسم الذی یجب فیه النصب فقط ، والقسم الذی یجب فیه الرفع فقط ... ، تنشأ الأقسام الخمسة التی عرضها النحاة فی هذا الباب ، وارتضوها وجعلوا لکل منها حکما. وقد أشرنا (1) إلی أنه یمکن إدماج بعضها فی بعض ، وجعلها ثلاثة ، اختصارا وتیسیرا.

ص: 133


1- فی رقم 4 من هامش ص 126.

زیادة وتفصیل

1 - زاد فریق من النحاة شروطا أخری للاشتغال رفضها سراه ؛ بحجة أنها لا تثبت علی التمحیص. وهذا رأی سدید حملنا علی إهمالها ؛ ادخارا للجهد ، وإبعادا لنوع من الجدل لا خیر فیه للنحو.

2 - أشرنا قریبا (1) إلی صحة أن یکون الاسم السابق المنصوب مفعولا به لفعل محذوف ، یخالف الفعل المذکور بعده فی جملته ، ولا یکون له صلة بلفظه ولا بمعناه ؛ وذلک حین تقوم قرینة تدل علی هذه المخالفة ؛ کأن یقال : ماذا اشتریت؟ فتجیب : کتابا أقرؤه. «فکتابا» مفعول به لفعل محذوف تقدیره : اشتریت کتابا أقرؤه ؛ فالفعل المحذوف مخالف للمذکور فی لفظه ومعناه ؛ فلا تکون المسألة من باب «الاشتغال» ، ولا یکون العامل الثانی صالحا للعمل فی المفعول به السابق ، ولا مفسرا لعامله المحذوف. وفی هذه الحالة التی یختلف فیها الفعلان : المحذوف والمذکور ، لا یکون الحذف واجبا ، وإنما یکون جائزا (2) ، فیصح فی الفعل المحذوف أن یذکر. أما الحذف الواجب ففی : «الاشتغال» ؛ فلا یصح الجمع بینهما ؛ لأن الثانی بمنزلة العوض عن الأول ؛ ولا یجمع بین العوض والمعوّض عنه (3).

3 - إنما یقع «الاشتغال» بمعناه العام الذی یشمل الاسم السابق المرفوع بعد أدوات الشرط ، والتحضیض والاستفهام ، غیر الهمزة ، کما سبق - فی الشعر ؛ فقط ؛ للضرورة. وأما فی النثر فلا یحسن بعد تلک الأدوات إلا صریح الفعل (4)

ص: 134


1- فی رقم 1 من هامش ص 126.
2- ما لم یوجد سبب آخر غیر الاشتغال یوجبه.
3- لا یصح الجمع بین العوض والمعوض عنه. وهذا أسلم من قولهم : لا یصح الجمع بین التفسیر والمفسّر ، «أی : المفسّر والمفسّر» لأنه یصح أحیانا الجمع بین هذین کما فی التفسیر بما بعد الحرف : «أی» وکالتفسیر بعطف البیان ، وبواو العطف التی تفید التفسیر ... - کما سیجیء فی ص 139 - ومن هنا کان التعبیر بعدم جواز الجمع بین العوض والمعوض عنه هو الأسلم والأدق.
4- یقول النحاة : إن وقوعه فی النثر مستقبح ، ولو وقع فیه لجاز مع القبح.

ویستثنی من أدوات الشرط ثلاثة أشیاء ؛ یقع بعدها الاشتغال نثرا ونظما ، أولها : أدوات الشرط التی لا تجزم ؛ ومنها : إذا - ولو - مثل : (إذا السماء انشقت ...) إلخ ، ومثل : لو الحرب امتنعت لطابت الحیاة.

وثانیها : «إن» ، بشرط أن یکون الفعل فی التفسیر ماضیا لفظا ، نحو : إن علما تعلمته فاعمل به ، أو ماضیا معنی (1) فقط ، نحو : إن علما لم تتعلمه فاتتک فائدته. فإن کان فعل التفسیر مضارعا مجزوما (2) لم یقع الاشتغال بعدها إلا فی الشعر ، دون النثر.

وثالثها : «أمّا» الشرطیة. ولکن لا یجب نصب الاسم بعدها ؛ لأن الاسم یلیها حتما (3) ، ولو کان الفعل مذکورا بعده ؛ نحو : قوله تعالی : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیْناهُمْ ...) فقد قرئ «ثمود» بالرفع علی الابتداء ، وبالنصب علی الاشتغال. وفی حالة النصب یجب تقدیر العامل بعد الاسم المنصوب ، وبعد الفاء معا ؛ لأن «أمّا» لا یلیها إلا الاسم (4) ولا یفصل بینها وبین الفاء إلا اسم واحد ، والتقدیر - کما یقولون - وأما ثمود فهدیناهم هدیناهم. وللبحث تحقیق.

4 - من الأصول النحویة أن المحذوف قد یحتاج - أحیانا - إلی شیء مذکور یفسره ، ویدل علیه. وقد یکون التفسیر واجبا ، کما فی باب : «الاشتغال». وفی هذا الباب إن کان المحذوف جملة فعلیة فتفسیره لا یکون إلا بجملة مذکورة فی الکلام ، مشارکة للمحذوفة فی لفظها ومعناها معا ، أو فی المعنی فقط ؛ نحو : العظیم نافسته - المصنع وقفت فیه. التقدیر : نافست العظیم نافسته - لابست المصنع وقفت فیه. أو نحو ذلک مما یؤدی إلی الغرض فی الحدود المرسومة. ولا یصح هنا تفسیر الجملة بغیر جملة مثلها علی الوجه السابق.

وإن کان المحذوف فعلا فقط أو وصفا عاملا یشبهه ، ویحل محله ، جاز أن

ص: 135


1- کالمضارع الداخلة علیه «لم» فإنها - فی الأغلب - تقلب زمنه للمضی.
2- انظر سبب الجزم فی رقم 2 من هامش ص 137
3- کما تقدم هنا ، وفی رقم 3 ص 87.
4- وقد عرفنا أن شرط وجوب النصب وحده أن تکون الأداة الشرطیة مختصة بالدخول علی الأفعال دون الأسماء. ولیست «أما» کذلک. لأنها لا تدخل إلا علی الاسم لهذا کان الاقتصار علی نصب الاسم السابق غیر واجب ، بل یجوز فیه الأمران.

یفسّر کل منهما بفعل أو بما یشبهه ، تفسیرا لفظیّا ومعنویّا معا ، أو معنویّا فقط والأفضل التماثل عند عدم المانع بأن یفسّر الفعل نظیره الفعل ، ویفسّر الوصف نظیره الوصف ، نحو : إن أحد دعاک الخیر فاستجب - ما الصلح أنت کارهه. التقدیر : إن دعاک أحد ، دعاک الخیر فاستجب - ما أنت کاره الصلح - أنت کارهه.

ویدور بین النحاة جدل طویل فی موضع الجملة المفسّرة ؛ أیکون لها محل من الإعراب ، أم لیس لها محل؟ وقد یکون الأنسب الأخذ بالرأی القائل إنها تسایر الجملة المحذوفة «المفسّرة» وتماثلها فی محلها الإعرابی وعدمه ، کما تماثلها فی لفظها ومعناها علی الوجه السالف. وعلی هذا إن کانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لا محل لها من الأعراب فالمفسّرة کذلک لا محل لها من الإعراب ؛ نحو : البحر أحببته ، أی : أحببت البحر أحببته ؛ فالجملة التفسیریة لا محل لها من الإعراب ؛ لأن الأصلیة المحذوفة کذلک. وإن کانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لها محل من الإعراب فالتی تفسرها تسایرها وتماثلها فیه ؛ نحو قوله تعالی : (إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ،) أی : إنا خلقنا کلّ شیء خلقناه بقدر ؛ فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فی محل رفع خبر «إنّ» ؛ فالتی تفسرها کذلک فی محل رفع خبر. ونحو : العقلاء الواجب یؤدونه ؛ أی : العقلاء یؤدون الواجب یؤدونه ، فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فی محل رفع خبر المبتدأ ، والمفسّرة فی محل رفع خبر المبتدأ کذلک. وفی قوله تعالی : (وَعَدَ اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ... تقع الجملة الاسمیة (المفسّرة) مفعولا فی محل نصب ؛ لأن المحذوف المفسّر مفعول به منصوب ؛ إذ التقدیر : الجزاء ، أو الجنة وعد الله الذین آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم مغفرة ؛ فجملة : «لهم مغفرة» هی المفسرة للمفعول به المحذوف (1).

ولا تکون الجملة هی المفسّرة فی باب الاشتغال إلا حین یکون الاسم السابق

ص: 136


1- ولا یصح أن تکون هی المفعول الثانی للفعل : «وعد» لأنه من باب «کسا» ، أی : من الأفعال التی لا یقع فیها المفعول الثانی جملة.

منصوبا کالأمثلة السالفة ؛ فإن کان مرفوعا للمحذوف فالمحذوف هو فعله وحده (1) ویتعین أن یکون مفسّره هو الفعل المذکور ولیس الجملة ، ولا بد - عند المحققین أن یکون هذا الفعل المذکور (المفسّر) مسایرا للمحذوف (المفسّر) فی حکمه وإعرابه اللفظی ، والتقدیری ، والمحلی ... مثل إن العتاب یکثر یؤد إلی القطیعة ، التقدیر : إن یکثر العتاب - یکثر - یؤد إلی القطیعة. فالمفسّر هو الفعل : «یکثر» الثانی ، وهو مضارع مجزوم کالأول المحذوف (2). ومثل : إذا العنایة تلاحظک عیونها فلا تخف شیئا. التقدیر : إذا تلاحظک العنایة تلاحظک عیونها ، فالمفسّر فی المثال هو الفعل : «تلاحظ» وحده ، وهو کالأول فی حکمه الإعرابی. ومثل :

إذا الملک الجبّار صعّر خدّه (3)

مشینا إلیه بالسیوف نعاتبه

أی : صعّر الملک خدّه ، صعره ، فالمفسّر هو الفعل الماضی وحده (صعّر). ومثل

فمن نحن نؤمنه (4) یبت وهو آمن

ومن لا نجره یمس منا مفزّعا

التقدیر : فمن نؤمنه یبت وهو آمن ... فالمفسّر هو الفعل «نؤمن» وحده ، وهو مجزوم کالفعل المفسّر المحذوف. وکلمة : «نحن» فی البیت ضمیر فاعل للفعل المحذوف. وقد برز هذا الضمیر - بعد استتاره الواجب - بسبب حذف فعله وحده ؛ إذ لا یبقی الفاعل مستترا بعد حذف عامله. فإذا رجع العامل وظهر ، عاد الضمیر الفاعل إلی الاستتار کما کان. فإن ظهر مع ظهور عامله لم یعرب

ص: 137


1- کما أشرنا فی رقم 4 من هامش ص 127 وفی ص 136. سواء أکان الفعل مبنیا للمعلوم أی للمجهول تاما أم ناقصا مثل : کان. کل هذا علی حسب السیاق ، وعلی مقتضاه یعرب الاسم المرفوع فاعلا ، أو نائب فاعل ، اسما لکان ... مثل : إن برد اشتد فاحترس - إن عمل أتقنته فلازمه - المرء مجزی بعمله إن خیر فخیر. التقدیر : (إن اشتد برد - اشتد - فاحترس) - (إن أتعقن عمل - أتقنه - فلازمه) - (المرء مجزی بعمله إن کان فی عمله خیر فجزاؤه خیر ...).
2- ما سبب الجزم؟ خلاف فیه وجاء فی الصبان ما نصه : (قال أبو علی : الفعل المذکور والفعل المحذوف فی نحو قوله : «لا تجزعی إن منفسا أهلکته». مجزومان محلا ؛ وجزم الثانی لیس علی البدلیة ؛ إذ لم یثبت حذف المبدل منه. بل علی تکریر «إن» أی : إن أهلکت منفسا إن أهلکته. وساغ إضمار «إن» أی : وإن لم یسغ إضمار لام الأمر إلا فی ضرورة لاتّساعهم فیها ، ولقوة الدلالة علیها بتقدیم مثلها. واستغنی بجواب «إن الأولی» عن جواب الثانیة) اه.
3- صعر خده : حوله إلی جهة لا یری فیها الناس ؛ تکبرا منه وترفعا.
4- بمعنی : نؤمنه ، ونمنحه الأمان.

- فی الرأی الشائع - فاعلا ؛ وإنما یعرب ترکیدا لفظیّا للضمیر المستتر المماثل له. وینطبق هذا الکلام علی البیت التالی :

فإن أنت لم ینفعک علمک (1)

فانتسب

لعلک تهدیک القرون الأوائل

التقدیر : فإن لم تنتفع لم ینفعک علمک ... وأشباه هذا. فالفعل «ینفع» هو وحده المفسّر للفعل المحذوف ، وهو مسایر لذلک المحذوف فی الجزم والنفی معا. والضمیر البارز «أنت» فاعل الفعل المحذوف ، وکان مستترا وجوبا فیه ، فلما حذف الفعل برز فی الکلام فاعله المستتر ، ولما رجع الفعل إلی الظهور فی الجملة الأخیرة عاد فاعله الضمیر إلی الاستتار. کما کان أولا. ومثله قول الشاعر :

إذا أنت (2) فضّلت امرأ

ذا براعة

علی ناقص کان المدیح من النقص

وقول الآخر :

بلیغ إذا یشکو إلی غیرها الهوی

وإن هو لاقاها فغیر بلیغ

وفی مثل :

لا تجزعی إن منفس أهلکته

فإذا هلکت فعند ذلک فاجزعی

یکون التقدیر : لا تجزعی إن هلک منفس أهلکته ... والمحذوف هنا مطاوع للمذکور ، فهو من مادته اللفظیة ومن معناه ، وإن کانت المشارکة اللفظیة لیست کاملة.

أما تفضیل الرأی القائل بمسایرة الجملة المفسّرة للجملة المفسّرة فی حکمها ، ومحلها الإعرابی فراجع إلی أمرین :

أولهما : أن الجملة المفسّرة قد یکون لها محل من الإعراب - بالاتفاق - فی بعض مواضع ، کالجملة المفسّرة لضمیر الشأن (3) فی نحو : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فإن جملة (اللهُ أَحَدٌ) مبتدأ وخبر فی محل رفع ، لأنها خبر لضمیر

ص: 138


1- یرید : إن لم یکن لک علم بحوادث الموت المحیطة بک بحیث یعظک فارجع إلی أصولک الأوائل الذاهبین ، لعل لک عظة فی موتهم.
2- فالأصل : إذا فضلت ... فلما حذف الفعل بقیت التاء ، وهی ضمیر متصل لا یستقل بنفسه فأتینا مکانها بضمیر مرفوع منفصل بمعناها ؛ هو الضمیر : «أنت» - کما سبق مثل هذا فی رقم 4 من هامش ص 128 - فإذا رجع الفعل المحذوف رجع فاعله السابق ، وهو «التاء» واتصل به.
3- راجع ضمیر الشأن ج 1 ص 226 م 19 - باب الضمیر.

الشان : «هو». وفی نحو : ظننته : «الصدیق نافع» ؛ الجملة الاسمیة فی محل نصب ؛ لأنها المفعول الثانی لظنّ ... ولیس فی هذا خلاف.

وثانیهما (1) : أن هناک کلمات تفسر غیرها وقد تسایرها فی حرکة إعرابها ؛ کالکلمات الواقعة بعد «أی» التی هی حرف تفسیر فی مثل هذا سوار من عسجد ، أی : ذهب. فکلمة : «أی» حرف تفسیر ؛ یدل علی أن ما بعده یفسر شیئا قبله. وکلمة : «ذهب» هی التفسیر لکلمة : «عسجد» ویجب أن تضبط مثلها فی حرکات الإعراب. نعم إنهم یعربون کلمة «ذهب» وأمثالها مما یقع بعد «أی» التفسیریة بدلا أو عطف بیان ؛ لکن هذا لا یخرجها عن أنها مماثلة للمفسّر فی حرکة إعرابه ؛ إذ کل من البدل وعطف البیان تابع هو بمنزلة متبوعه. ومن الکلمات التی تفسر غیرها ویتحتم أن تسایره فی حرکة إعرابه ما یقع بعد حرف العطف : «الواو» الذی یدل أحیانا علی أن ما بعده مفسر لما قبله ، کما فی مثل : الماء الصافی یشبه اللجین والفضة. فالواو حرف عطف للتفسیر ، لأن ما بعدها یفسر ما قبلها. وهو مسایر له - وجوبا - فی حرکات إعرابه ؛ إذ المعطوف کالمعطوف علیه فی کثیر من أحکامه التی منها حرکات الإعراب.

فالرأی القائل باعتبار الجملة التفسیریة مسایرة لما تفسره یجعلها کنظائرها من الجمل التی لها محل من الإعراب ، وکغیرها من المفردات التی تؤدی مهمة التفسیر. ولا معنی للتفرقة فی الحکم بین ألفاظ تؤدی مهمة واحدة ، إلا إن کان هناک سبب قویّ ، ولم یتبین هنا السبب القویّ ؛ بل الذی تبین أن الکلام المأثور الفصیح یؤید أصحاب هذا الرأی الواضح الذی یمنع تعدّد الأقسام والأحکام ، ویؤدی إلی التیسیر بغیر ضرر.

وقد أشرنا (2) إلی أن الجملة لا تکون مفسرة فی باب «الاشتغال» إلا حین یکون الاسم السابق منصوبا. فإن کان مرفوعا لعامله المحذوف فالمحذوف هو فعله وحده ، ویتعین أن یکون التفسیر بفعل فقط ، کما قلنا إن الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل وجب نصبه ، ولا یجوز رفعه علی أنه مبتدأ ، وإنما یجوز رفعه

ص: 139


1- لهذا إشارة فی رقم 3 من هامش ص 134.
2- فی رقم 4 من هامش ص 127 وفی ص 136.

علی أنه مرفوع فعل محذوف ؛ کقوله تعالی : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ) ، فکلمة : «أحد» فاعل لفعل محذوف یفسره المذکور بعده ، والتقدیر : وإن استجارک أحد من المشرکین استجارک ... إلی آخر ما أوضحنا ...

والذی نرید بسطه الآن أن بعض القدامی والمحدثین لا یروقهم هذا التقدیر ، ویسخرون منه ، مطالبین بإعراب الاسم المرفوع - فی الآیة السالفة وأشباهها - إما مبتدأ مباشرة ، وإما فاعلا مقدما للفعل الذی بعده (أی : للمفسّر) وبإهمال التعلیل الذی یحول دون هذا الإعراب ، لأنه - کما یقولون - تعلیل نظری محض ، أساسه التخیل والتوهم ، وتعارضه النصوص الکثیرة الواردة بالرفع الصریح ...

ولا حاجة إلی عرض أدلة کل فریق ممن یبیح أو یمنع ؛ فقد فاضت بها المطولات والکتب التی تتصدّی لمثل هذا الخلاف ، وسرد تفاصیله وأدلته التی نضیق بها الصدور - أحیانا - حین تقوم علی مجرد الجدل ، وتعتمد علی التسابق فی إظهار البراعة الکلامیة. ومنها : کتاب : «الإنصاف فی أسباب الخلاف» ، لابن الأنباری ...

والحق یقتضینا أن نحکم علی کل وجه من أوجه الإعراب الثلاثة بالضعف. ولکن الضعف فی حالة تقدیر عامل محذوف ، أخفّ وأیسر. وفیما یلی البیان بإیجاز ، ولعل فیه - مع إیجازه - ما یرد بالأمر مورده الحق ، ویضعه فی نصابه الصحیح. هذا ، وفی الاستئناس والاسترشاد بما یقال فی الاسم المرفوع بعد أداة الشرط - کالآیة السابقة ، وأمثالها - ما یکفی ویوصّل لتأیید النحاة ، ودعم رأیهم فی باقی حالات رفعه.

(ا) فی مثل : إن عاقل ینصحک ینفعک ، لو أعربنا الاسم السابق : «عاقل» مبتدأ لکانت الجملة الفعلیة بعده (وهی : ینصحک) فی محل رفع ، خبره. ویترتب علی هذا أن تکون أداة الشرط ، وهی تفید - دائما - التعلیق (1)

ص: 140


1- توقف حصول شیء ، أو عدم حصوله ، علی أمر آخر ؛ فیکون الثانی - فی الأغلب - مترتبا علی الأول وجودا وعدما. فإن کانت أداة الشرط جازمة فالتعلق والتوقف لا یتحقق إلا فی المستقبل.

قد دخلت علی جملة اسمیة ، مع أنّ الجملة الاسمیة تفید الثبوت (1) ؛ وهو من أضداد التعلیق. وهنا یقع فی الجملة الواحدة التعارض الواسع بین مدلول الأداة ، مدلول والمبتدأ مع خبره ؛ وهو تعارض واقعیّ (2) لا خیالیّ ؛ إذ مردّه الاستقراء المنتزع من الأسالیب العربیة الصحیحة التی لا یسوغ مخالفتها ، ولا سیما فی النواحی المتعلقة بالمعنی ، وإلا اضطربت المعانی ، وتناقضت ، ولم تؤد اللغة مهمتها -. بخلاف الجملة الفعلیة ؛ فإنها تقبل التعلیق ، ولا تعارضه.

وشیء آخر یؤید ما سلف ؛ هو أن بعض النصوص الفصیحة الواردة تدل علی وجود لغات أو لهجات ترفع المضارع «ینصح» فی ذلک المثال وأشباهه. فإذا ورد مرفوعا فأین فعل الشرط؟ أیکون هو فعل الشرط مع رفعه ؛ فنتکلف أقبح التأول والتمحل فی إعرابه؟ أم نترکه علی حاله مرفوعا ، ونقدّر فعلا آخر للشرط مجزوما مباشرة؟ الأمران معیبان. ولکن الثانی أقرب إلی القبول ؛ لأنه - بسبب جزمه المباشر الخالی من التأول - ینخرط فی عداد أفعال الشرط ؛ إذ الأصل فی أفعال الشرط أن تکون مجزومة. وهذا دلیل آخر یدفعنا إلی رفض الوجه الإعرابی السابق (المبتدأ). کما تحمل علی رفضه أمور أخری نحویة وبلاغیة دقیقة وفی مقدمتها الفصل بالمبتدأ بین أداة الشرط الجازمة وفعلها وهذا ممنوع ؛ لمخالفته المأثور الشائع (3).

ص: 141


1- ثبوت الحکم إیجابا أو سلبا. أی : تحقق وقوعه والقطع بحصوله ؛ سواء أکان موجبا أم منفیا.
2- لإیضاح هذا التعارض نقول : الأصل فی الجملة الاسمیة - کما هو مقرر مقطوع به - أنها تدل علی الثبوت إذا کانت اسمیة محضة ؛ (أی خالیة من فعل) ومن أمثلتها : الوالد رحیم - الوالدان نفعهما عمیم ... وقد تفید مع الثبوت الدوام بقرینة. هذا شأن الجملة الاسمیة المحضة. فإن کانت غیر محضة (وهی التی یکون فیها الخبر جملة فعلیة) نحو : الوالد زاد فضله ، فإنها تفید التجدد ، وقد تفید الاستمرار التجددی. وکل ما سبق موضح بتفصیلاته فی علوم البلاغة وغیرها. ومنه یتبین أن الدلالة التی تؤدیها الجملة الاسمیة بنوعیها (المحضة ، وغیر المحضة) تعارض وتناقض التعلیق. فکیف یجتمعان فی جملة واحدة؟
3- عند جمهور البصریین (راجع شرح العکبری ، لدیوان المتنبی وبیته : - - لو الفلک الدوار أبغضت سعیه لعوّقه شیء عن الدوران من القصیدة التی مطلعها : عدوّک مذموم بکل لسان ولو کان من أعدائک القمران ....)

(ب) ولو أعربنا الاسم السابق وهو : «عاقل» وأشباهه ، فاعلا - أو شیئا آخر مرفوعا بالعامل الذی بعده - کما یری فریق من الکوفیین لکان هذا أخذا برأی ضعیف أیضا ، فوق ما فیه من الفصل الممنوع عند أکثر النحاة ، ومن اختلاط الأمر فی کثیر من الأسالیب بین المبتدأ والفاعل المتقدم کما فی المثال المعروض ونظائره - وما أکثرها - فیوجد من یعرب کلمة ؛ «عاقل» مبتدأ ، والجملة الفعلیة بعده خبره ، ومن یعربها فاعلا مقدّما للفعل بعده. وعلی الإعراب الأول تکون الجملة اسمیة ، وقد سبق ما فیها من عیب. أما علی الإعراب الثانی فالجملة فعلیة ؛ ودلالتها مختلفة عن سابقتها ، فشتان بین مدلولی الجملتین فی لغتنا ، هذا إلی مشکلات أخری تتعلق بوجود فاعل مذکور - أحیانا - بعد الفعل المتأخر ، وبالضمائر المتصلة بالفعل المتأخر ، وعودتها ، ومطابقتها للفاعل المتقدم أو عدم مطابقتها ، واعتبارها حروفا أو أسماء ...

(ح) فلم یبق إلا اختیار الإعراب الثالث القائم علی تقدیر فعل محذوف ، (تحقیقا لما اشترطه جمهور النحاة من دخول أداة الشرط علی فعل ظاهر أو مقدر ومنع دخولها علی الاسم) واعتباره أفضلها ، وأن العیب فیه أخف وأیسر ، کما قلنا. ولن یترتب علی هذا «التقدیر» خلط بین المعانی والمدلولات اللغویة ، ولا تداخل بین القواعد النحویة. علی أن «التقدیر» باب واسع وأصیل فی لغتنا ، ولکنه محکم ، وسائغ ممن یحسن استخدامه - عند مسیس الحاجة الشدیدة - علی النمط الوارد الفصیح الذی یحتج به ، والذی لا یؤدی إلی خلط أو اضطراب.

4 - أجری بعض النحاة الذین لا یقصرون الاشتغال علی النصب - أحکاما أربعة علی الاسم السابق إذا کان مرفوعا وبعده فعل قد عمل الرفع فی ضمیره أو فی ملابسه : فیجب رفع هذا الاسم السابق إما بالابتداء إذا وقع بعد أداة لا یلیها فعل ؛ کإذا الفجائیة ، ولیتما (المختومة «بما» الزائدة) ؛ نحو : خرجت فإذا النسیم

ص: 142

ینعش - لیتما الجو یعتدل ، وإما علی الفاعلیة بفعل محذوف إذا وقع بعد أداة لا یلیها إلا الفعل - کأداة الشرط - نحو : إن سیارة أقبلت فاحترس منها.

ویکون الرفع بالابتداء راجحا فی مثل : الزارع یکافح ؛ حیث لا یحتاج إلی تقدیر شیء محذوف ، أما إعرابه فاعلا بفعل محذوف فیحتاج إلی تقدیر ذلک الفعل ، والتقدیر هنا ردیء ما دام الاسم غیر واقع بعد أداة تطلب فعلا ؛ کأداة الاستفهام ، ونحوها ...

وقد یکون الرفع بالفعل المحذوف راجحا علی الرفع بالابتداء فی مثل : العاملة لتجتهد ؛ لأن وقوع الجملة الطلبیة خبرا قلیل بالنسبة لغیر الطلبیة.

وقد یستویان فی مثل کلمة : «الزروع» من نحو : المطر نزل ، والزروع ارتوت منه. لأن الجملة الأولی ذات وجهین فإذا أعربت کلمة «الزروع» مبتدأ والجملة بعدها الخبر کانت هذه الجملة الاسمیة معطوفة علی الجملة الاسمیة التی قبلها. وإذا أعربت کلمة : «الزروع» فاعلا لفعل محذوف کانت هذه الجملة الفعلیة معطوفة علی الجملة الفعلیة الواقعة خبرا قبلها.

5 - أبیات ابن مالک فی هذا الباب لیست مرتبة ترتیبا متماسکا یسایر المعانی ویؤالف بعضه بعضا ، فقد یذکر بیتا أو بیتین فی أول الباب یشرح بهما قاعدة معینة ، ثم یأتی ببیت أو أکثر لیشرح قاعدة ثانیة ، فثالثة ... ثم یذکر بیتا آخر یتمم القاعدة الأولی ، فآخر یتمم الثالثة ، وهکذا تتفرق أجزاء القاعدة الواحدة فی بیتین أو أکثر لیس بینهما توال ، أو اتصال مباشر. فلم یکن بد من استیفاء کل قاعدة علی حدة استیفاء کاملا. ثم الإشارة فی الهامش إلی أبیات ابن مالک المتعلقة بتلک القاعدة ، وتدوینها علی حسب ما یقتضیه تماسک القاعدة وتکاملها ، لا علی حسب ورودها فی ألفیته ؛ وإلا جاءت القاعدة مفککة ، متناثرة هنا وهناک ، متداخلة فی غیرها. علی أنا وضعنا بجانب کل بیت من أبیات ابن مالک رقما خاصّا به یدل علی ترتیبه الحقیقی بین أبیات هذا الباب کما وردت فی ألفیته.

6 - أسلوب : «الاشتغال» بمعناه العام دقیق ، یتطلب براعة فی تألیفه وضبطه ، کی یسلم من الخطأ ، والالتواء ، والتفکک ؛ فحبذا الاقتصاد فی استعماله.

ص: 143

المسألة 70: تعدیة الفعل ولزومه

اشارة

الکلام علی المفعول به ، وأحکامه المختلفة

الفعل التام

(1)

ثلاثة أنواع :

(ا) نوع یسمی : «المتعدی» (2) ، وهو الذی ینصب بنفسه مفعولا به (3) أو اثنین ، أو ثلاثة ؛ من غیر أن یحتاج إلی مساعدة حرف جر ، أو غیره مما یؤدی إلی تعدیة الفعل اللازم (4) ؛ مثل : سمع - ظنّ - أعلم ، فی نحو : لما سمعت الخبر ظننت الراوی مخطئا ، لکن الصحف أعلمتنا الخبر صحیحا.

ص: 144


1- الفعل التام ، هو : ما یکتفی بمرفوعه فی تأدیة المعنی الأساسی للجملة ؛ مثل : ساد - أضاء - تحرک - ... وأشباهها ؛ حیث نقول : ساد الهدوء - أضاء النجم - تحرک الکوکب. أما الناقص فهو الذی لا یکتفی بمرفوعه فی ذلک ، وإنما یحتاج معه لمنصوب حتما ؛ مثل : «کان وأخواتها» من الأفعال الناسخة التی ترفع الاسم وتنصب الخبر - کما سبق فی ج 1 ص 403 م 42 - وهذه الأفعال الناقصة (الناسخة) لا توصف بأنها متعدیة أو لازمة ، وإنما هی قسم مستقل ، ومثلها الأفعال المسموعة التی تصلح للأمرین ؛ فتستعمل فی المعنی الواحد لازمة ومتعدیة ، مثل : شکرت لله علی ما أنعم ، ونصحت للعاقل بشکره. أو : شکرت الله علی ما أنعم ، ونصحت العاقل بشکره. فهذه الأفعال وأشباهها قسم قائم بذاته أیضا ؛ وعلی هذا تکون أنواع الفعل - من ناحیة التعدی واللزوم أو عدمهما - أربعة ، نوع متعد فقط ، ونوع لازم فقط ، ونوع صالح للأمرین ، ونوع ناقص لا یوصف بأحدهما. والثلاثة الأولی أقسام للتام وحده.
2- یسمیه بعض القدماء «المجاوز» ، أو «الواقع» ؛ لأن أثره لم یقتصر علی الفاعل وإنما جاوزه إلی المفعول به ، فوقع مدلوله علیه.
3- المفعول به هو : ما وقع علیه فعل الفاعل إیجابا أو سلبا ؛ نحو : یطلب العاقل السعود ، ولا ینسی السعی الحمید لها. والمفعول به یعدّ - فی الأغلب - من الفضلات ؛ طبقا للبیان الذی فی ص 168 - ولا ینصبه إلا الفعل المتعدی وفروعه ، أما غیره من أنواع المفاعیل فینصبها الفعل المتعدی واللازم ، وکذا بقیة المنصوبات. ویجوز الاقتصار علی کلمة : «مفعول» وحدها ، دون تقییدها بالجار والمجرور بعدها ، لأن کلمة : «مفعول» إذا ذکرت مطلقة بغیر قید لا یراد منها إلا «المفعول به» وهو غیر «المفعول المطلق» الذی سیجیء فی ص 193 ویختلف عنه اختلافا واسعا.
4- اللازم أنواع ثلاثة ، یجیء بیانها فی ص 151. وسیجیء فی ص 152 بیان الوسائل التی تؤدی إلی تعدیة الفعل اللازم.

(ب) نوع یسمی «اللازم» (1) أو : «القاصر» ، وهو الذی لا ینصب بنفسه مفعولا به أو أکثر ؛ وإنما ینصبه بمعونة حرف جر ، أو غیره مما یؤدی إلی التعدیة. مثل : أسرف - انتهی - قعد - فی نحو : إذا أسرف الأحمق فی ماله انتهی أمره إلی الفقر ، وقعد فی بیته ملوما محسورا (2). فکل کلمة من : مال ، فقر ، بیت ... هی فی المعنی - لا فی الاصطلاح - مفعول به للفعل قبلها. ولکن الفعل لم یوقع معناه وأثره علیها مباشرة ، وإنما أوصله بمساعدة حرف جر ؛ فهی فی الظاهر مجرورة به ، وهی فی المعنی فی حکم المفعول به لذلک الفعل (3).

(ح) نوع مسموع ، یستعمل متعدیا ولازما ؛ مثل : شکر ونصح (4).

وقد أراد النحاة تیسیر التمییز بین الفعل المتعدی بنفسه والفعل اللازم ، وسهولة

ص: 145


1- وقد یسمی : غیر المتعدی ، أو المتعدی بحرف الجر.
2- منقطعا عن أسباب الخیر ، ووسائل القوة.
3- وإذا کانت فی حکم المفعول به معنی فهل یجوز فی توابع هذا المفعول الحکمی (أی : المعنوی) النصب مراعاة له کما یجوز الجر مراعاة للفظ؟ تؤخذ الإجابة من شرح کتاب : «المفصل» - فی ج 7 ص 65 - ونصها : (لفظه مجرور وموضعه نصب ؛ لأنه مفعول ؛ ولذلک یجوز فیما عطف علیه وجهان ، الجر والنصب ؛ نحو قولک : مررت بزید وعمرو - وعمرا ؛ فالجر علی اللفظ ، والنصب علی الموضع ؛ وذلک من قبل أن الحرف یتنزل منزلة الجزء من الفعل ؛ من جهة أنه به وصل إلی الاسم ؛ فکأنه کالهمزة فی : أذهبته ، والتضعیف فی : فرحته ، وتارة یتنزل منزلة الجزء من الاسم المجرور به ؛ ولذلک جاز أن یعطف علیهما بالنصب ؛ فالجر علی الاسم وحده. والنصب علی موضع الحرف والاسم معا) ا. ه والرأی صریح فی جواز الأمرین ، ولا شک أن ما یجری فی العطف یجری فی غیره من باقی التوابع. ثم عاد فردد هذا - فی ج 8 ص 10 - من غیر أن یقتصر فی التوابع علی العطف. بل نص علی الصفة أیضا. ولا ریب أن بقیة التوابع یجری علیها ما یجری علی العطف والنعت. ولعل الخیر الیوم فی إهمال هذا الرأی ، والاقتصار علی الرأی الآخر السدید الذی یوجب الجر وحده فی التوابع ، وترک النصب لما قد یکون مسموعا من الکلام القدیم دون محاکاته ؛ حرصا علی الضبط فی أداء المعانی بدقة وإحکام ، ومنعا للخلط الذی یؤدی إلیه إباحة النصب ، إذ یترتب علی جواز النصب أن یکون لکل اسم مجرور بحرف جر أصلی إعراب محلی غیر إعرابه اللفظی ، وهذا الحکم العام الشامل - الذی یقضی بإعراب جمیع الأسماء المجرورة بحرف جر أصلی إعرابا محلیا بعد إعرابها اللفظی ، وبإدخالها فی أنواع الألفاظ التی لها إعراب محلی - غیر معروف فی المعربات المحلیة ، ولم یذکره أحد بین أنواعها المعروضة فی المراجع المتداولة - فیما نعرف - اللهم إلا المنادی المستغاث المجرور باللام ، بالتفصیل الخاص به فی باب الاستغاثة (ج 4 م 133 ص 61) - (راجع ما سبق فی رقم 2 من هامش ص 115 و: «ب» ص 122 وما یتبعها فی رقم : 1 من هامش ص 124 وص 153 ثم ص 407).
4- انظر «ب» من هامش ص 155.

تعیین کلیهما ؛ فوضعوا لذلک ضابطین یصلح کل منهما لأداء هذه المهمة - فی رأیهم (1) -

أولهما : أن یتصل بالفعل ضمیر ؛ - کالهاء (2) أو : ها - ، یعود علی اسم سابق غیر ظرف وغیر مصدر.

وطریقة ذلک : أن یوضع الفعل فی جملة تامة ، وقبله اسم جامد ، أو مشتق ؛ بشرط أن یکون هذا الاسم غیر مصدر وغیر ظرف. وبعد الفعل ضمیر یعود علی ذلک الاسم المتقدم. فإن صح الترکیب واستقام المعنی فالفعل متعد بنفسه ، وإلا فهو لازم. فإذا أردنا أن نتبین حقیقة الفعل : «أخذ» من ناحیة التعدی واللزوم وضعنا قبله اسما غیر مصدر وغیر ظرف ، وجعلنا بعد الفعل ضمیرا یعود علی ذلک الاسم ؛ فنقول : الصحف أخذتها ، فنری المعنی سلیما والترکیب صحیحا (لموافقته الأصول والضوابط اللغویة) ؛ فنحکم بأن هذا الفعل متعد ؛ ینصب المفعول به بنفسه ، إلا إن صار المفعول به نائب فاعل فیرفع (3). ومثل هذا یتبع فی الفعل «قعد» حیث نقول : الغرفة قعدتها ؛ فندرک سریعا فساد الأسلوب والمعنی. ولا سبب لهذا الفساد اللغویّ إلا تعدیة الفعل : «قعد» تعدیة مباشرة. لهذا نحکم بأنه لازم. ومثل الفعلین «أخذ» و «قعد» غیرهما من الأفعال ؛ حیث یمکن التوصل إلی معرفة المتعدی واللازم باستخدام الضابط السالف.

وإنما اشترطوا فی الاسم السابق أن یکون غیر مصدر وغیر ظرف لأن الضمیر یعود علیهما من الفعل المتعدی واللازم علی السواء ؛ فلا یصلح الضمیر العائد علی أحدهما أن یکون أداة للتمییز بینهما ، ولکشف المتعدی واللازم منهما ؛ ففی مثل : طلبت منک أن تمشی فی الصباح المبکر طویلا ، ثم تستریح ساعة ، تذهب بعدها إلی مزاولة عملک ؛ فماذا فعلت؟

ص: 146


1- انظر الحکم علی هذا فی رقم 3 من هامش الصفحة التالیة.
2- وتسمی : «هاء المفعول به» لأنها تعود علیه.
3- وفی هذا یقول ابن مالک : علامة الفعل المعدّی أن تصل «ها» غیر مصدر به ؛ نحو : عمل فانصب به مفعوله ، إن لم ینب عن فاعل ؛ نحو : تدبرت الکتب أی : تأملتها.

قد یکون الجواب : المشی مشیته ، والساعة استرحتها (1) ، والذهاب ذهبته ، والعمل زاولته. ففی الإجابة ضمائر عاد بعضها علی المصدر أو علی الظرف ، مع أن أفعالها لازمة ؛ کما فی الثلاثة الأولی ، وعاد بعضها علی المصدر أیضا مع أن الفعل : «زاول» متعد بنفسه.

ثانیهما : صیاغة اسم مفعول تامّ (2) من الفعل الذی یراد معرفة تعدیته أو لزومه ؛ فإن أدی اسم المفعول معناه بغیر حاجة إلی جار ومجرور کان فعله متعدیا بنفسه ، وإلا کان لازما. ففی مثل : فتح - أکل - أعلن ... نقول : الباب مفتوح - الفاکهة مأکولة - الخبر معلن ... فنری اسم المفعول مستغنیا عن الجار والمجرور فی أداء المراد منه ، بخلافه عند صیاغته من مثل : قعد - یئس - هتف ... حیث نقول : الحجرة مقعود فیها - القضاء علی أسباب الحرب میئوس منه - العظیم مهتوف باسمه ... فاسم المفعول هنا لم یستغن فی أداء معناه عن الجار مع مجروره ...

فالوسیلة إلی معرفة التعدیة واللزوم تکون باستخدام أحد الضابطین ، أو کلیهما معا ؛ کما یقول النحاة (3).

ص: 147


1- انظر نیابة العدد عن الظرف - فی ص 248 -.
2- أی : لا یحتاج فی تأدیة المعنی المراد منه إلی جار مع مجروره.
3- الحق أن تلک الوسیلة لیست ناجعة ، ولا سلیمة ، وأن الضابط الصحیح هو حکم اللغة بمفرداتها ، وتراکیبها الواردة عن أهلها العرب. وقد حوت النصوص والمراجع الوثیقة کثیرا من هذه المفردات والتراکیب ، وأبانت الکتب اللغویة - فی عنایة تامة - ما تعدی من الأفعال وما لزم ، مع سرد معانیها ؛ نشهد هذا فی کتاب : المصباح المنیر ، وفی القاموس المحیط ، وشرحه تاج العروس ، وفی لسان العرب ، وفی أساس البلاغة ... وغیرها من المطولات اللغویة. أما الضابطان السالفان فلا یصلح أحدهما أو کلاهما للإبانة دون الرجوع إلی تلک المراجع الوثیقة. وإلا فمن أین نعلم ویعلم المستعرب أن الفعل : (فتح - أکل - أعلن - ...) واسم المفعول منه مستغنیان عن الجار والمجرور ، وأن الفعل : (قعد - یئس - هتف ...) واسم مفعوله لا یستغنیان؟ من أین نعلم أن هذا الأسلوب صحیح فی ترکیبه بعد التعدیة ، أو غیر صحیح؟ وأن مثل : «الحجرة قعدتها» - خطأ؟ لا سبیل لذلک إلا بالرجوع إلی تلک المصادر اللغویة الأمینة ، ولا دخل للذوق الشخصی فی الصحة أو الفساد ؛ لأنه غیر مأمون. ومعنی ما تقدم أننا - ولا سیما المستعربون - لا نستطیع الانتفاع بأحد الضابطین السالفین أو بهما معا دون تحکیم اللغة أولا ، والاعتماد علی ما تشیر به ، ولها وحدها القول الفصل. أما الضابطان أو أحدهما فیستطیع من عرف أولا ، من اللغة تعدیة هذا الفعل أو لزومه - أن یلجأ إلیهما ؛ لمجرد الاستئناس ، لا لمعرفة أمر مجهول ، بل إنه لا یحتاج إلی مثل هذا الاستئناس ؛ لاستغنائه عنه بالمعرفة اللغویة السابقة.

وبالرغم من هذه الوسیلة لجئوا إلی أخری أدقّ منها وأصحّ ؛ فقد بذلوا الجهد - قدر استطاعتهم - فی استقصاء کلام العرب ، وحصر الأفعال اللازمة الواردة فیه ، وتقسیمها أقساما تقریبیة متعددة ، لکل قسم عنوان معیّن ینطبق - إلی حدّ کبیر - علی عدد کثیر من الأفعال اللازمة الداخلة تحته ؛ فیکتفی الراغب بمعرفة هذا العنوان ، وتطبیق معناه علی الفعل الذی یرید الحکم علیه بالتعدیة أو باللزوم ؛ فیصل - غالبا - إلی ما یرید. فمنزلة هذا العنوان العام منزلة القاعدة التی تطبق علی أفراد متعددة ؛ فتغنی عن المراجع اللغویة ، وتوصل إلی الغایة المرجوة بغیر جهد مبذول ، ولا وقت ضائع. وقد نجحوا فی وضع هذه العناوین أو القواعد التقریبیة نجاحا کبیرا یمکن الاعتماد علیه ، والاکتفاء به ، بالرغم من أنها لم تنطبق علی قلیل من الأفعال وصف بالشذوذ ، ونحوه. وأشهر تلک العناوین والقواعد الدالة - فی الغالب - علی الأفعال اللازمة ما یأتی :

1 - الأفعال الدالة علی صفة تلازم صاحبها ، ولا تکاد تفارقه إلا لسبب قاهر ، وهی الأفعال الدالة علی السجایا ، والأوصاف الفطریة مثل : شرف فلان ؛ نبل - ظرف - قصر - طال - سمن - نحف ... والأغلب فی هذه الأفعال أن تکون علی وزن : «فعل» - بفتح فضم - وهذه صیغة تکاد تقتصر علی الفعل (1) اللازم.

ویتصل بهذا ما لا یدوم ولکن زمنه یطول ، أو یتکرر ؛ مثل : جبن - شجع - نهم (2) - جشع.

2 - الأفعال الدالة علی أمر عرضیّ (3) طارئ ، یزول بزوال سببه المؤقت ؛ کالأفعال فی مثل : مرض المتعرض للعدوی - ، احمر وجهه - ارتعشت یده ... وکالأفعال الدالة علی فرح أو حزن ؛ فرح - (هنئ - سعد - حزن - جزع - فزع - رجف ...) أو علی نظافة ودنس ؛ مثل : نظف الثوب أو غیره -

ص: 148


1- ویقول صاحب المغنی (ج 2 باب الأمور التی لا یکون الفعل معها إلا قاصرا) : إنه لم یرد منها متعدیا سماعا إلا اثنان ؛ هما : رحب ، طلع - بفتح أولهما ، وضم ثانیهما - فی مثل رحبتکم الدار ، طلع القمر الیمن. کما سیجیء فی ص 159 وفی رقم 2 من هامش ص 172.
2- نهم الرجل : اشتدت رغبته فی الطعام وملازمته.
3- یراد بالعرضی هنا. المعنی الطارئ الذی لیس له طول ثبات ، ولا دوام ، ولیس حرکة جسم. أما الفعل الدال علی الحرکة فقد یکون لازما ؛ مثل : مشی ، وقد یکون متعدیا مثل : مد -

طهر - وضؤ - دنس - وسخ - قذر - نجس ...

3 - الأفعال الدالة علی لون ، أو حلیة ، أو عیب ؛ مثل : حمر - احمرّ - احمارّ - سود اسودّ - ابیضّ ... ومثل : دعج (1) ، کحل - عور - عمی ...

4 - الأفعال التی علی وزان «افعللّ» نحو : اقشعرّ - ابذعر (2) - ، اشمأزّ - وما ألحق بهذا الوزن من مثل : افوعلّ (بسکون الفاء ، وفتح الواو والعین ، وتشدید اللام) ، نحو : اکوهدّ (3) واکوألّ ...

5 - الأفعال التی علی وزن «افغلل» ؛ من کل فعل فی وسطه نون بعدها حرفان أصلیان ، نحو : احرنجم (4). وکالأفعال التی تضاهی «افعنلل» من کل فعل فی وسطه نون بعدها حرفان أحدهما زائد للإلحاق ، نحو : اقعنسس (5) ؛ فإن السین الثانیة زائدة للإلحاق (6) ؛ باحرنجم.

ویلحق بهما ما کان علی وزان «افعنلی» نحو اسلنقی (7) واحرنبی (8)

6 - الأفعال التی علی وزن «فعل» - بکسر العین أو فتحها - إذا کان الوصف

ص: 149


1- دعجت العین : اشتد سوادها وبیاضها - أو اتسعت مع شدة سواد المقلة.
2- ابذعر القطیع : تفرق هربا.
3- اکوهد الفرخ : ارتعش ؛ لیشعر أمه بجوعه. واکوأل الرجل. بمعنی : قصر.
4- احرنجم الرجل : أراد شیئا ثم عدل عنه ، واحرنجمت الخیل أو الإبل. اجتمعت متزاحمة.
5- اقعنسس الجمل : أبی أن ینقاد ، أو : رجع إلی الخلف.
6- کانت العرب تزید علی الکلمة الشائعة حرفا ؛ لتجعلها مساویة فی عدد حروفها وفی وزنها لکلمة أخری ، وتجری مجراها فی التصغیر ، والنسب ، والجمع ، وغیرها. والذی یدعوها لذلک دواع فی مقدمتها ضرورة الشعر ، والتملیح ، أو التهکم ... ولیس من حق أحد - سوی العرب القدامی - أن یزید فی بنیة الکلمة الواردة شیئا للإلحاق ؛ فتلک الزیادة مقصورة علیهم ، وقد انتهی زمنها بانتهاء عصورهم التی حددت للاستشهاد بکلامهم ، والتی حددها مجمع اللغة العربیة بالقاهرة ، بنهایة القرن الثانی الهجری فی الحواضر ، ونهایة القرن الرابع الهجری فی البوادی. (راجع ص 18 من کتابا : «رأی فی بعض الأصول اللغویة والنحویة» ، وص 202 من الجزء الأول من مجلة المجمع اللغوی القاهری ، و 294 ، 303 من محاضر انعقاده الأول) ...
7- اسلنقی المریض : نام علی ظهره.
8- احرنبی الدیک : نفش ریشه ؛ استعدادا للقتال.

منها علی «فعیل» ؛ نحو : قوی الرجل ، فهو قویّ ، وذلّ (1) الضعیف ، فهو ذلیل.

7 - الأفعال التی علی وزن : انفعل ؛ نحو : انبعث وانطلق ، والتی علی وزن «أفعل» ، ومعناها : صار صاحب شیء معین. مثل : أغدّ البعیر ؛ بمعنی : صار ذا غدّة (2) ... أو التی علی وزن : «استفعل» وتفید الصیرورة (3) أیضا ؛ نحو : استنوق الجمل ، أی : صار کالناقة ، واستأسد القط ؛ أی : صار کالأسد فی صورته ...

8 - الأفعال الدالة علی مطاوعة (4) فعل لفعل آخر متعد بنفسه لواحد ؛ مثل : «امتد» فی نحو : مددت الحدید الساخن فامتد ، ومثل : «توفّر» فی نحو : وفّرت المال فتوفّر ، ومثل : انکسر فی نحو : کسرت الخشبة فانکسرت.

9 - الأفعال الرباعیة الأصول التی یزاد علیها حرف أو حرفان ؛ مثل : تدحرج ، واحرنجم.

تلک هی أشهر أنواع الأفعال التی یغلب علیها اللزوم (5).

ص: 150


1- من باب : ضرب ، یضرب.
2- یریدون بها : ورما ناتئا یظهر فی بعض أعضائه.
3- التحول والانتقال من حالة إلی حالة.
4- سبق شرح المطاوعة وإیضاحها بالأمثلة (فی رقم 4 من هامش ص 98). وأشرنا هناک إلی أن صاحب کتاب «المخصص» (ابن سیده) عقد بحثا وافیا للمطاوعة ضمته کثیرا من شئونها (فی الجزء 14 ص 175) ، کما أشرنا إلی قرار المجمع اللغوی القاهری بقیاسه أفعال المطاوعة کلها.
5- وفیما سبق یقول ابن مالک : ولازم غیر المعدّی. وحتم لزوم أفعال السّجایا ؛ کنهم یرید : اللازم هو الذی لیس متعدیا. وشرع یبین أنواع الأفعال اللازمة ، فقال : حتم لزوم أفعال السجایا وعدم تعدیتها ، أی : أن لزومها محتوم. وسرد أنواعا أخری فی الأبیات التالیة : کذا : «افعللّ» والمضاهی اقعنسسا وما اقتضی نظافة أو دنسا أو عرضا ، أو طاوع المعدّی لواحد ؛ کمدّه فامتدّا أی : ما کان علی وزان «افعلل» فهو لازم ، وکذا الفعل الذی علی وزن یضاهی ویشابه فی أحکامه الفعل : «اقعنسس» فإنه یشابه الفعل «افعنلل» مثل : «احرنجم» - کما أوضحنا فی الشرح - وکذلک من اللازم أیضا ما دل علی نظافة ، أو دنس ، أو عرض ، أو مطاوعة لفعل متعد لواحد ...

«ملاحظة»

الفعل اللازم ثلاثة أنواع یتردد ذکرها فی مناسبات مختلفة (1).

أولها : اللازم أصالة ؛ ویراد به الفعل الموضوع فی أصله اللغوی لازما ؛ مثل : نام - قعد - تحرک - ...

ثانیها : اللازم تنزیلا ؛ ویراد به الفعل المتعدی لواحد ، ولکن مفعوله هذا یحذف - غالبا - فی بعض الاستعمالات ؛ کأن یشتق من مصدر هذا الفعل اسم فاعل یضاف إلی فاعله ، فیصیر اسم الفاعل بسبب هذه الإضافة دالا علی الثبوت بعد کان قبل الإضافة دالا علی الحدوث ، ویصیر فی حالته الجدیدة : «صفة مشبهة» ، ویسمی باسمها ، وتجری علیه کل أحکامها مع بقائه علی صورته الأولی ، دون بقاء اسمه السابق. وهو فی حالته الجدیدة لا ینصب «مفعولا به» لأنه صار - کما قلنا - صفة مشبهة ، والصفة المشبهة لا تشتقّ أصالة إلّا من فعل لازم ، فحقّ ما هو بمنزلتها أن یکون کذلک ، فیحذف - فی الغالب - مفعوله ؛ مجاراة لها ، مثل : رحم قلب المؤمن الضعفاء ، یقال فیه : فلان راحم القلب.

ثالثها : اللازم تحویلا ، وهذا یکون بتحویل الفعل المتعدی لواحد إلی صیغة : «فعل» بقصد المدح أو الذم وهذه الصیغة لا تکون إلّا لازمة ؛ مثل : جهل الأمیّ ، فی ذمّ الأمیّ. والأصل المتعدی قبل التحویل هو : جهله ... ؛ فصار بعد التحویل لازما.

ص: 151


1- ولا سیما باب «الصفة المشبهة» - ج 3 م 104 و 105 ص 216 و 250 حیث البیان -

المسألة 71: طریقة تعدیة الفعل اللازم الثلاثی

اشارة

من الممکن جعل الفعل الثلاثی اللازم متعدیا إلی مفعول به واحد ، أو فی حکم المتعدی إلیه (1) ؛ وذلک بإحدی الوسائل التی سنذکرها ، وکلها قیاسیّ ، إلا الأخیرة (2) ...

وقبل أن نسردها نشیر إلی أمر هامّ ، هو أنّ هذه الوسائل کلها تتشابه فی أمر واحد ، یترکز فی صلاحیة کل منها لتعدیة الفعل اللازم. وتختلف بعد ذلک بینها اختلافا واضحا. وناحیة الخلاف تترکز أیضا فی أن کل وسیلة منها تؤدی مع التعدیة معنی خاصّا لا تکاد تؤدیه وسیلة أخری ؛ فواحدة تفید - مثلا - مع التعدیة جعل الفاعل مفعولا به ؛ کهمزة النقل (3). ولهذا أثره فی تغییر المعنی الأول (4) ، وواحدة تفید التکرار والتمهل ؛ کالتضعیف ، وهذا تغییر طارئ علی المعنی السابق ، وثالثة قد تفید المشارکة ، ولم تکن موجودة ؛ کتحویل الفعل اللازم إلی صیغة فاعل ... وهکذا ، مما سیتضح عند الکلام علی کل واحدة ، وما تجلبه من المعنی مع التعدیة. فإن کان أثر الوسائل من ناحیة التعدیة واحدا فإن أثرها مختلف من ناحیة المعنی. لهذا لا تختار وسیلة منها إلا علی أساس أنها - مع تعدیتها الفعل - تؤدی معنی جدیدا یسایر الجملة ، ویناسب الغرض. وعلی هذا الأساس وحده یقع الاختیار علی وسیلة دون أختها ؛ فالتی تصلح لمعنی لا تصلح لغیره فی الغالب ... إلا إذا عرف عنها أنها قد تشابه غیرها فی تأدیة معناه ، کحرف الجر الأصلیّ فإنه یؤدی ما تؤدیه همزة النقل أحیانا ؛ نحو : أذهبت العصفور ، وذهبت به ... وإلیک الوسائل :

ص: 152


1- الذی فی حکم المتعدی هو ما یبدو متعدیا بحسب المظهر الشکلی اللفظی دون الواقع الحقیقی المعنوی ، ویتضح هذا جلیا فی الوسیلتین الأخیرتین (7 ، 8) کما سیجیء عند الکلام علیهما. فی ص 159 و 160.
2- الأخیرة المقصورة علی السماع هی : إسقاط حرف الجر - کما سیجیء فی هامش ص 160 - وتلک الوسائل القیاسیة مستنبطة من الکلام العربی الأصیل الشائع لاستخدامها کسائر القواعد العامة المستنبطة منه ولا یلتفت إلی الرأی القائل إن استخدامها أو بعضها مقصور علی السماع ؛ إذ لو کان کذلک ما کان هناک داع لتدوین هذه الوسائل ، ولوجب الاقتصار علی المسموع. وهذا غیر مقبول إلا فی الحالة الأخیرة ، حالة إسقاط حرف الجر - کما سیأتی. أما جعل المتعدی لازما أو فی حکمه ، فیجیء الکلام علیه فی ص 171.
3- إیضاحها فی ص 157 ولها إشارة فی ص 167.
4- کما سیجیء فی ص 157.

1 - إدخال حرف الجر الأصلی المناسب للمعنی ، علی الاسم الذی یعتبر فی الحکم - کما شرحنا أول هذا الباب - مفعولا به معنویّا للفعل اللازم (1) ، لیکون حرف الجر الأصلی مساعدا علی توصیل أثر الفعل إلی مفعوله المعنوی ؛ فمثل : قعد - صاح - خرج -. یقال فی تعدیته بحرف الجر : قعد المریض علی السریر - صاح الجندی بالبوق - خرجت من القریة. فکلمة : السریر - البوق - القریة - ... هی من الناحیة المعنویة فی حکم المفعول به ؛ لوقوع أثر الفعل علیها ، وإن کانت لا تسمی فی اصطلاح النحاة مفعولا به حقیقیّا (2) ، ولا یجوز - فی الرأی الأنسب - نصب شیء من توابعها ما دام حرف الجر الأصلی مذکورا قبلها فی الکلام (کما سبق وکما سیجیء) (3).

وقد وردت أمثلة قلیلة مسموعة عن العرب. حذف فیها حرف الجر ، ونصب مجروره بعد حذفه ؛ منها : «تمرون الدیار» ، بدلا من : تمرون بالدیار ، ومنها : «توجهت مکة ، وذهبت الشام» ، بدلا من : توجهت إلی مکة ، وذهبت إلی الشام .... فهذه کلمات منصوبة علی نزع الخافض (4) - کما یقول النحویون - والنصب به سماعیّ (5) ؛ مقصور علی ما ورد منها منصوبا مع فعله الوارد نفسه ؛ فلا یجوز - فی الرأی الصائب - أن ینصب فعل من تلک الأفعال المحددة المعینة کلمة علی نزع الخافض إلا الکلمة التی وردت معه مسموعة عن العرب ، کما لا یجوز فی کلمة من تلک الکلمات المعدودة المحدودة أن تکون منصوبة

ص: 153


1- التعدیة بحرف الجر لیست مقصورة علی الثلاثی اللازم ؛ وإنما تشمله وتشمل المتعدی لواحد أو أکثر ؛ فإنه یتعدی لغیره بالجار أیضا - کما أشار إلیه «الصبان» ، ونص علیه «الخضری» صراحة فی أول هذا الباب -.
2- لأن المفعول به الحقیقی عندهم ؛ هو الذی یقع علیه الأثر مباشرة بدون مساعدة. ولهذا یسمون التعدیة بحرف الجر : «تعدیة غیر مباشرة» ؛ لأنها جاءت نتیجة معاونة قدمت للفعل اللازم ، ولم یستطع التعدیة إلا بهذه المعاونة.
3- راجع رقم 2 من هامش ص 115 ؛ ثم «ب» ص 122 م 69 ثم 3 من هامش ص 145 ثم رقم 1 من هامش 408 م 89.
4- أی : عند نزعه من مکانه ، والمراد : عند حذفه. وفی هذه الحالة تسمی أفعالها : متعدیة. بنزع الخافض ، أما مع وجود حرف الجر فتسمی : متعدیة بالحرف ؛ کما سبق. - ولنزع الخافض إشارة فی رقم 3 من هامش ص 291 ، عند الکلام علی حذف حرف الجر. -
5- راجع حاشیة الأمیر علی المغنی ج 1 عند الکلام علی : «لکن» مشددة النون.

علی نزع الخافض إلا مع الفعل الذی وردت معه مسموعة. أی : أن هذه الکلمات القلیلة المنصوبة علی نزع الخافض لا یجوز القیاس علیها ، فهی ، مقصورة علی أفعالها الخاصة بها ، وأفعالها مقصورة علیها (1). ولو لا هذا لکثر الخلط ، وانتشر اللبس والإفساد ، وفقدت اللغة أوضح خصائصها ؛ وهو : التبیین ؛ وأساسه الضوابط السلیمة المتمیزة التی لا تداخل فیها ، ولا اختلاط.

ولیس للتعدیة بحرف الجر الأصلی حرف معین ، وإنما یختار للفعل وشبهه الحرف الذی یسایر معناه ، ویناسب السیاق ؛ فقد یکون الحرف : من ، أو ، إلی ، أو الباء ، أو غیرها ؛ کالأمثلة السابقة. وکقولنا : انصرف الصانع إلی مصنعه - وانصرف من المصنع إلی بیته - انصرف العالم عن الهزل - انصرف فی سیارته ... وهکذا تتغیر أحرف الجر وتتنوع مع العامل اللازم بتنوع (2) المعانی المطلوبة.

وحرف الجر إذا کان وسیلة للتعدیة ، (وهی التعدیة غیر المباشرة) ، لا یجوز حذفه مع بقاء معموله مجرورا ، إلا فی بضعة مواضع قیاسیة (3).

ص: 154


1- إلا الکلمة المنصوبة علی نزع الخافض فی مثل : «أرأیتک الحدیقة ، هل راقک جمالها» علی اعتبار أن «أرأیتک» بمعنی : أخبرنی ، والحدیقة منصوبة علی نزع الخافض ، والأصل عن الحدیقة. ولهذه المسألة تفصیل هام ، وإیضاح مفید فی ج 1 ص 216 م 19 - باب الضمیر.
2- هذا أمر یجب التنبیه له ، فإذا رأینا لغویا - أو غیره - ینص صراحة أو تمثیلا علی أن فعلا - مثل : قعد ، أو نام .. - یتعدی بحرف الجر «فی» أو بحرف جر آخر ینص علیه ، فلیس مراده أن هذا الفعل لا یتعدی إلا بوسیلة المجیء بجار مع مجروره ، وأن حرف الجر الذی یجیء هو «فی» أو غیره مما نص علیه. وإنما مراده أمران معا ، هما : أن هذا الفعل لازم ، وأنه یجوز تعدیته. بإحدی وسائل التعدیة التی ستذکر هنا ، والتی منها الإتیان بحرف جر مناسب للمعنی وللسیاق مع مجروره ، دون الاقتصار علی حرف جر واحد فی الأسالیب والمعانی المختلفة. فإذا اقتضی الأمر تعدیته بالوسیلة القیاسیة وکانت حرف الجر جاز لنا أن نختار من بین حروف الجر حرفا یناسب المقام والغرض المراد ، من غیر التزام حرف واحد فی کل المواقف المعنویة المتباینة. وعلی هذا نقول : قعدت علی الکرسی - قعدت منذ ساعة - من قعدت به همته لم تنهض به عشیرته ... وهکذا. ویزید الأمر وضوحا ما سیجیء فی ص 405 خاصا ببیان المراد من تعلق الجار والمجرور بالعامل.
3- سیجیء کثیر منها فی باب حروف الجر ص 491 م 91 - وقد استفاض الخلاف والجدل فی جواز حذف الحروف الجارة حذفا قیاسیا ، أو عدم جوازه ، وفی حکم المجرور بعد الحذف ؛ أیبقی مجرورا کما کان أم ینصب علی نزع الخافض؟ وعند نصبه أیجوز أن یکون مفعولا به لعامله المذکور ، أم لا یجوز؟ وما حکم المصدر المؤول إذا کان مجرورا بالحرف المحذوف؟ أیکون فی محل جر أم فی محل نصب علی نزع الخافض ، أو علی أنه مفعول به للعامل الجدید؟ .. و.. و... بحوث جدلیة وتفریعات متشعبة ... وصفوة ما یقال إن حذف الجار علی أربعة أنواع : ا - نوع یحذف وینصب بعده المجرور بما یسمی : «النصب علی نزع الخافض» ؛ مثل : - - تمرون الدیار - توجهت مکة - ذهبت الشام ... وهذا نوع قلیل جدا - فهو غیر مطرد ، وقد أوضحنا حکمه بأنه سماعی محض ؛ فلا یجوز فی الفعل الذی ورد معه أن ینصب غیره علی نزع الخافض ، ولا یجوز فی الاسم المنصوب علی نزع الخافض أن ینصب علی هذه الصورة إلا مع الفعل الوارد معه ؛ فلا یجوز : توجهت الحدیقة ، ولا ذهبت النهر ، ولا أشباه هذا ، لأن تعدیة هذین الفعلین لم ترد عن العرب إلا فی : «مکة» و «الشام» علی التوزیع السالف ، وکان ورودهما فیهما قلیلا جدا فلا یسمح بالقیاس. ومثلهما : مطرنا السهل والجبل ، وضربت الخائن الظهر والبطن ، أی : فی السهل والجبل - وعلی الظهر والبطن. والقول بأن هذه الأسماء منصوبة علی نزع الخافض أولی من القول بأنها مفعول به ، وأن الفعل قبلها نصبها شذوذا ، لأن نصبها علی المفعولیة مباشرة ولو علی وجه الشذوذ - قد یوحی - خطأ - أن الفعل قبلها متعد بنفسه ؛ وأن المعنی لا یحتاج إلی المحذوف ؛ فیقع فی الوهم إباحة تعدیته مباشرة فی غیرها لکن إذا قلنا : «منصوبة علی نزع الخافض» کان هذا إعلانا صریحا عن حرف جر محذوف ، نصب بعده المجرور ؛ فیکون النصب دلیلا علی ذلک لا یستقیم المعنی إلا بملاحظته ، وتقدیر وجوده. ومن هذا النوع المنصوب سماعا ما نصب علی نزع الخافض للضرورة. ب - نوع یحذف وینصب بعده المجرور أیضا ، ولکن علی اعتباره مفعولا به مباشرة - للعامل الذی یطلبه ؛ کالحروف التی یکثر استخدامها فی تعدیة بعض الأفعال ؛ فتجر الأسماء بعدها. وکذلک یکثر حذفها بعد تلک الأفعال ؛ فتنتصب الأسماء بعد حذفها ؛ مثل الفعل : «دخل» فقد استعملته العرب کثیرا متعدیا بالحرف : «فی» ؛ مثل : دخلت فی الدار. وکذلک استعملته بغیر «فی» ونصبت ما بعده فقالت : دخلت الدار ، ولم تقتصر فی حالة وجوده أو حذفه علی کلمة «الدار» بل أکثرت من غیرها ، مثل : المسجد - الغرفة - الخیمة - القصر - الکوخ - فکثرة استعمال الفعل بغیر حرف الجر ، ووقوع تلک الأسماء المختلفة بعده منصوبة مع عدم وجود عامل آخر - کل ذلک یدعو إلی الاطمئنان أن تلک الأسماء المنصوبة هی مفعولات للفعل الموجود ، وأن هذا الفعل نصبها مباشرة ؛ فلا حاجة إلی اعتبارها منصوبة علی نزع الخافض - کما یری بعض النحاة دون بعض - لما فی هذا من العدول عن الإعراب الواضح ، المسایر لظواهر الألفاظ ومعانیها - إلی الإغراب ، والتعقید من غیر داع. ومعنی ما سبق أن الفعل : «دخل» یعد من الأفعال التی تتعدی بنفسها تارة وبحرف الجر أخری ، فهو : مثل : شکر - نصح - حیث تقول فیهما : شکرت لله علی ما أنعم ، ونصحت للغافل بأن یشکره ، أو : شکرت الله علی ما أنعم ، ونصحت الغافل بأن یشکره. وهذا النوع هو الذی وصفناه أول هذا الباب - عند تقسیم الفعل التام إلی متعد ولازم ، ص 145 - بأنه قسم مستقل بنفسه یسمی : الفعل الذی یستعمل لازما ومتعدیا. وهذا النوع یطرد فیه النصب مع حذف حرف الجر کما یطرد الجر مع ذکر الحرف. ح - نوع یحذف فیه الحرف قلیلا مع بقاء مجروره علی حاله من الجر ، کما کان قبل حذف الجار وهذا النوع القلیل مقصور علی السماع لا محالة ؛ فلا یجوز التوسع فیه بجر کلمات غیر الکلمات التی وردت عن العرب کقولهم : «لاه ابن عمک» ... (أی : لله ابن عمک). فقد حذفت اللام وبقی مجرورها ؛ فلا یجوز عند حذفها وضع مجرور آخر ؛ کأن یقال : المجد أنت - العمل النافع أخوک. ترید : للمجد أنت - للعمل النافع أخوک ، فهذا - وأشباهه - مما لا یصح. ومن هذا المسموع القلیل حذف «الباء» ، أو «علی» ، مع بقاء مجرورها فی قول أعرابی سئل : کیف أصبحت؟ فأجاب : «خیر والحمد لله» أی : - - بخیر ، أو : علی خیر ؛ وحذف «إلی» فی قول آخر : إذا قیل أیّ الناس شرّ قبیلة أشارت کلیب بالأکفّ الأصابع أی : أشارت إلی کلیب الأصابع مع الأکف ... وهکذا من کل ما حذف فیه حرف الجر وبقی مجروره علی حاله. وهذا النوع لا یطرد فیه الجر ، وإنما یقتصر علی المسموع ؛ کما قلنا. د - نوع یکثر فیه حذف الجار مع إبقاء مجروره علی حاله من الجر. وهذا النوع قیاسی یطرد فی جملة أشیاء ؛ أشهرها : حرف الجر الذی مجروره المصدر المؤول من أحد الحروف المصدریة الثلاثة مع صلته ، وهذه الحروف الثلاثة هی : أنّ - (أن - کی ،) وقد تکلمنا علیها هنا - أما بقیة الأشیاء ومناقشتها ، فموضوع الکلام علیها : آخر باب حروف الجر عند الکلام علی حذف حرف الجر وإبقاء عمله - ص 491 م 91 - ، والکثیر منها غیر داخل فی موضوع التعدیة بحرف الجر الذی نحن فیه. ومما تقدم نعلم أن حرف الجر إذا حذف ، ینصب الاسم بعده فی حالتین ؛ إحداهما : قلیلة غیر مطردة ، فالنصب فیها مقصور علی السماع. والأخری کثیرة مطردة ؛ فالنصب فیها قیاسی. ویجر فی حالتین ؛ إحداهما : قلیلة غیر مطردة ؛ فالجر فیها سماعی ، والأخری : کثیرة مطردة فالجر فیها قیاسی فالحالات الأربع ؛ منها اثنتان قیاسیتان واثنتان سماعیتان.

ویعنینا الآن من تلک المواضع ما یکون فیه المجرور مصدرا مؤولا من حرف

ص: 155

مصدری من الحروف الثلاثة مع صلته. (وهی : أنّ ، وأن المختصة بالفعل (1) وکی (2)) ، مثل : سررت من أن الناشئ راغب فی العلم ، حریص علی أن یزداد منه ، لکی یبنی مجده ، ویرفع شأن بلاده. فیصح حذف الجار قبل کل حرف من الثلاثة ؛ فتصیر الجملة : سررت أن الناشئ ... حریص أن یزداد ... کی یبنی ... فالمصادر التی تؤول فی العبارات السالفة من الحرف المصدری وصلته ، تکون مجرورة علی التوالی بالحرف : «من» فالحرف : «علی» ، فالحرف : «اللام» ولا داعی لأن یکون المصدر المؤول فی محل نصب علی نزع الخافض - کما یری فریق - لأن حرف الجر المحذوف ملاحظ بعد حذفه ، والمعنی قائم علی اعتباره کالموجود ؛ فهو محذوف بمنزلة المذکور. ولأن النصب علی نزع الخافض خروج علی الأصل السائد الغالب ؛ فلا نلجأ إلیه مختارین.

ص: 156


1- إذا وقعت «أنّ وأن» بعد حرف الجر الباء فی صیغة : «أفعل» - بفتح فسکون فکسر - الخاصة بالتعجب جاز حذف الباء مع «أن» قیاسا دون «أنّ» المشددة فی رأی قوی. بحجة أن السماع لم یرد بحذفها ؛ وهذه التفرقة بینهما فی مسألة واحدة غیر مقبولة ؛ لأن حذف الباء قبلهما جائز فی کل المسائل الأخری ، فلم تخرج هذه المسألة - کما سنشیر فی ص 455 وفی رقم 3 من هامش ص 491 لکن إذ حذفت الباء فی التعجب بعد الصیغة السالفة أتلاحظ فی التقدیر أم لا؟ رأیان ، کما سیجیء فی باب التعجب ج 3 - ص 272 م 109.
2- کی المصدریة لا بد أن یسبقها - لفظا أو تقدیرا - لام الجر التی تفید التعلیل.

وهذا الحذف القیاسی لا یصح إلا عند أمن اللبس (1) کما فی الأمثلة السالفة ، وفی قول الشاعر :

ولا عار أن زالت عن الحرّ نعمة

ولکنّ عارا أن یزول التّجمّل ...

والأصل : فی أن ... - فإن خیف اللبس لا یصح ؛ ففی مثل : رغبت فی أن یفیض النهر - لا یصح حذف حرف الجرّ : «فی» فلا یقال : رغبت أن یفیض النهر ؛ إذ لا یتضح المراد بعد الحذف ؛ أهو : رغبت فی أن یفیض النهر. أم رغبت عن أن یفیض ... ؛ والمعنیان متعارضان متناقضان ؛ لعدم معرفة الحرف المحذوف المعیّن ، وخلو الکلام من قرینة تزیل اللبس. ومثل هذا : انصرفت عن أن أقرأ المجلة ؛ فلا یجوز حذف الجار ؛ لأن حذفه یؤدی إلی أن تصیر الجملة : انصرفت أن أقرأ المجلة ؛ فلا ندری المقصود ؛ أهو : انصرفت إلی أن أقرأ ، أم انصرفت عن أن أقرأ ... والمعنیان متناقضان ، ولا قرینة تزیل اللبس (2) ...

2 - إدخال همزة النقل علی أول الفعل الثلاثی (3) (وهی همزة تنقل معنی الفعل إلی مفعوله ، ویصیر بها الفاعل مفعولا. ولا تقتضی - فی الغالب - تکرارا ، ولا تمهلا) ،

ص: 157


1- طبقا لما سیجیء فی رقم 2 من ص 491.
2- وفیما سبق یقول ابن مالک مقتصرا علی بعض الحالات : وعدّ لازما بحرف جرّ وإن حذف فالنّصب للمنجرّ نقلا - وفی : «أنّ» و «أن» یطّرد مع أمن لبس ، کعجبت أن یدوا «عجبت أن یدوا» : أن یعطوا الدیة ، وهی التعویض المالی الذی یدفعه من ارتکب نوعا معینا من الجرائم ؛ لیأخذه المظلوم الذی وقعت علیه الجریمة ... یقول : إن تعدیة اللازم تکون بإدخال حرف الجر علی مفعوله المعنوی - کما شرحنا - وعند حذف حرف الجر ینصب الاسم المجرور بشرط أن یکون هذا النصب نقلا عن العرب ؛ أی : مسموعا فی کلمات واردة عنهم ؛ فلیس النصب قیاسا ولا مباحا فی غیر المنقول عنهم. ثم بین أن حذف الجار قیاسی مطرد قبل «أنّ» و «أن».
3- التعدیة القیاسیة بهمزة النقل لیست مقصورة علی الفعل الثلاثی اللازم ؛ فقد صرح «الأشمونی» فی أول هذا الباب - وتبعه «الصبان» - أن همزة النقل تدخل أیضا علی الثلاثی المتعدی للواحد ؛ فتجعله متعدیا لاثنین. أما دخولها علی المتعدی لاثنین فإن لم یکن من أفعال الیقین والرجحان فلا یصح تعدیته بها لثلاثة وإن کان منهما جاز تعدیته بها للثالث ، بشرط أن یکون الفعل هو : «أعلم» أو : «أری» دون أخواتهما من أفعال الیقین والرجحان ، فإن فی تعدیة أخواتها الخلاف الذی سبق فی ص 56. ویقول صاحب الهمع - ج 2 ص 81 باب «العوامل» وأولها : «الفعل» - ما نصه عن همزة - - النقل إنها : (لا تعدی ذا الاثنین إلی ثلاثة فی غیر باب : «علم» بإجماع) اه فکیف وصف الحکم بالإجماع مع وجود الخلاف فیه ، کما أشرنا.

نحو : خفی القمر - وأخفی السحاب القمر ، ومثل : جزعنا وأجزعنا ، فی قول الشاعر :

فإن جزعنا فإن الشرّ أجزعنا

وإن صبرنا فإنّا معشر صبر (1)

3 - تضعیف عین الفعل اللازم ، بشرط ألا تکون همزة (2) ؛ ففی نحو : فرح المنتصر - نام الطفل ، نقول - فرّحت المنتصر - نوّمت الأمّ طفلها.

4 - تحویل الثلاثی اللازم إلی صیغة : «فاعل» ، الدالة علی المشارکة ؛ نقول فی : جلس الکاتب ، ثم مشی ، وسار - جالست الکاتب ، وماشیته ، وسایرته.

5 - تحویل الفعل الثلاثی اللازم إلی صیغة : «استفعل» التی تدل علی الطلب (3) ، أو علی النسبة لشیء آخر. فمثال الأول : حضر - عان (بمعنی : عاون) تقول : استحضرت الغائب - استعنت الله ؛ أی : طلبت حضور الغائب ، وعون الله. ومثال الثانی : حسن - قبح ... تقول : استحسنت الهجرة - استقبحت الظلم ؛ أی : نسبت الحسن للهجرة ، ونسبت القبح للظلم.

وقد تؤدی صیغة استفعل إلی التعدیة لمفعولین إذا کان الفعل قبلها متعدیا لواحد ؛ نحو : کتبت الرسالة - استکتبت الأدیب الرسالة ، وربما لا تؤدّی ، نحو : استفهمت الخبیر. والأحسن قصر هاتین الحالتین الأخیرتین علی السّماع (4) ....

6 - تحویل الفعل الثلاثی إلی فعل (مفتوح العین) الذی مضارعه «یفعل»

ص: 158


1- جمع صبور. والبیت لأعشی باهلة.
2- لأنه غیر مسموع فیها. هذا ، والتضعیف یقتضی - غالبا - التکرار والتمهل ، بخلاف همزة النقل ، بشرط ألا توجد قرینة تعارض کالتی فی قوله تعالی : (.... لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...) فإن : «جملة واحدة» تعارض التکرار والتمهل فی الفعل : «نزّل».
3- اما صیغة : «استفعل» الدالة علی الصیرورة فلازمة - غالبا - ، نحو : استأسد القط - استرجل الغلام ... أی : صار القط أسدا - صار الغلام رجلا. وقد أباح المجمع اللغوی القاهری قیاسیة صوغها وجاء قراره هذا صریحا (فی ص 364 من محاضر جلسات دور الانعقاد الأول) ونصه : (یری المجمع أن صیغة «استفعل» قیاسیة لإفادة الطلب ، أو الصیرورة) اه.
4- اما صیغة : «استفعل» الدالة علی الصیرورة فلازمة - غالبا - ، نحو : استأسد القط - استرجل الغلام ... أی : صار القط أسدا - صار الغلام رجلا. وقد أباح المجمع اللغوی القاهری قیاسیة صوغها وجاء قراره هذا صریحا (فی ص 364 من محاضر جلسات دور الانعقاد الأول) ونصه : (یری المجمع أن صیغة «استفعل» قیاسیة لإفادة الطلب ، أو الصیرورة) اه.

بضمها ، بقصد إفادة المغالبة (1) ؛ نحو : کرمت الفارس أکرمه ؛ بمعنی : غلبته فی الکرم - شرفت النبیل أشرفه ؛ بمعنی : غلبته فی الشرف.

7 - التضمین - (وهو أن یؤدّی فعل - أو ما فی معناه - مؤدّی فعل آخر أو ما فی معناه ؛ فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم) (2). ومن أمثلته فی التعدیة : لا تعزموا السفر ؛ فقد عدّی الفعل. «تعزم» إلی المفعول به مباشرة ؛ مع أن هذا الفعل لازم لا یتعدی إلا بحرف الجر ؛ فیقال : أنت تعزم علی السفر. وإنما وقعت التعدیة بسبب تضمین الفعل اللازم : «تعزم» معنی الفعل المتعدی : تنوی ، فنصب المفعول بنفسه مثله ؛ فمعنی : «لا تعزموا السفر» لا تنووا السفر ... ومثل : رحبتکم الدار - وهو مسموع - فإن الفعل : «رحب» لازم ؛ لا یتعدی بنفسه إلی مفعول به. ولکنه تضمن معنی : «وسع» فنصب المفعول به «الکاف» مثله ؛ إذ یقال وسعتکم الدار ؛ بمعنی : اتسعت لکم. ومثل : طلع القمر الیمن ، - وهو من الأمثلة المسموعة أیضا - والفعل : «طلع»

ص: 159


1- تسابق اثنین أو أکثر - إلی أمر ؛ وتزاحمهما علیه ، رغبة فی انتصار کل فریق علی الآخر ، وتغلّبه فی ذلک الأمر. ولأهمیة المغالبة سنعود للکلام علیها فی الزیادة والتفصیل ، ص 162.
2- عرفه کثیر من النحاة بأنه : «إشراب اللفظ معنی آخر ، وإعطاؤه حکمه ؛ لتؤدی الکلمة معنی کلمتین». لکن التعریف الذی ذکرناه هو الذی ارتضاه المجمع اللغوی القاهری من بین تعریفات کثیرة ؛ کما ورد فی الجزء الأول من مجلته ص 180 وما حولها. وکما فی ص 202 من محاضر جلساته فی دور الانعقاد الأول. وفی المرجعین السالفین بحوث لطیفة وافیة فی أمر التضمین من نواحیه المختلفة. وقرار المجمع فی ص 180 المشار إلیها صریح فی أن التضمین قیاسی بشروط ثلاثة ؛ أولها : تحقق المناسبة بین الفعلین. ثانیها : وجود قرینة تدل علی ملاحظة الفعل الآخر ، ویؤمن معها اللبس. ثالثا : ملاءمة التضمین للذوق العربی. ویوصی المجمع بعدم الالتجاء إلی التضمین إلا لغرض بلاغی. لکن أیکون التضمین فی الفعل وما شابههه - نوعا من المجاز ، أم من الحقیقة ، أم مرکبا منها؟ وهل یختلف التضمین بمعناه السالف النحوی عن التضمین البیانی وهو الذی یقضی بتقدیر حال محذوفة موضعها قبل الجار والمجرور ، مناسبة فی معناها لهما ، ویتعلق بها الجار والمجرور من غیر حاجة إلی إعطاء کلمة معنی کلمة أخری لتؤدی المعنیین کما یقول النحاة؟ وهل یمکن وجود التضمین السماعی؟ کل هذا وأکثر منه وأوفی وأوضح ، مدون فی المرجعین السالفین وقلیل منه مدون فی حاشیة الصبان قبیل آخر الباب. وکذلک عرض له «یاسین» فی حاشیته علی «التصریح» - أول الجزء الثانی ، باب «حروف الجز» - عرضا محمود الإسهاب ، فی نحو أربع صفحات کبیرة. وقد سجلنا فی آخر هذا الجزء - ص 522 - بحثا نفیسا خاصا به ؛ لا یستغنی عنه المتخصصون. ثم أبدینا فیه رأینا بایجاز. وهو بحث لأحد أعضاء المجمع اللغوی القاهری ألقاه صاحبه علی زملائه ، ثم سجلته - مع المناقشات التی دارت حوله - مجلة المجمع.

- بضم اللام (1) - لازم ، ولکنه نصب المفعول به بنفسه بعد أن ضمن معنی : «بلغ».

ومن أمثلة جعل المتعدی لازما : «سمع الله لمن حمده» فالفعل : «سمع» فی أصله متعد بنفسه ، ولکنه هنا تضمن معنی : «استجاب» فتعدی مثله باللام ، وهکذا ...

والصحیح عندهم أن التضمین قیاسی ، والأخذ بهذا الرأی یفید اللغة تیسیرا واتساعا (2). ولما کان الفعل فی التضمین لا یتعدی إلا بعد أن یستمد القوة من فعل آخر فقد وصف بأنه فی حکم المتعدی. ولیس بالمتعدی حقیقة ؛ لأن المتعدی الحقیقی لا تتوقف تعدیته علی حالة واحدة تجیئه فیها المعونة من غیره.

8 - إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور علی نزع الخافض. وهذا مقصور علی السماع (3) ؛ کقوله تعالی : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّکُمْ،) أی : عن أمره. وهذا - کسابقه (4) - یکون فیه الفعل فی حکم المتعدی لا حقیقته ؛ مراعاة لأنه العامل فی المجرور معنی ، ولکنه لا دخل له فی نصبه.

ص: 160


1- کشأن جمیع الأفعال التی علی وزن : «فعل» - بفتح فضم - وقد نقلنا فی رقم 1 من هامش ص 148 عن صاحب المغنی أنه : یرد من هذه الصیغة متعدیا إلا رحب وطلع - بضم ثانیهما. فیما یعرف ، وکما سیجیء أیضا فی رقم 2 من هامش ص 172.
2- ویمتاز التضمین من بقیة وسائل التعدیة بأنه قد ینقل الفعل اللازم طفرة إلی أکثر من مفعول واحد ؛ ولذلک عدی : «آلوت» بمعنی : «قصّرت» إلی مفعولین بعد أن کان الفعل قاصرا ، وذلک فی نحو قولهم : لا آلوک نصحا ؛ لأنه تضمن معنی : «لا أمنعک» الذی ینصب مفعولین. وعدی : «أخبر ، وخبر ، وحدّث ، ونبّأ» إلی الثلاثة ، بعد أن تضمنت معنی : «أعلم» وبعد ما کانت متعدیة إلی واحد بنفسها وإلی آخر بحرف الجر ، نحو قوله تعالی : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) - (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) - (نَبِّئُونِی بِعِلْمٍ.)
3- سبقت الإشارة لهذه المسألة فی ج 1 ص 18 م 8 ولا داعی للأخذ بالرأی القائل إنه قیاسی إذا وجد حرف جر سابق ، نظیر للحرف المحذوف ، ولو فصل بینهما فاصل ؛ کبیت ابن مالک فی الإعراب ونصه : فارفع بضمّ ، وانصبن فتحا ، وجر کسرا ؛ کذکر الله عبده یسر أی : انصب بفتح ، وجر بکسر. لا داعی للأخذ بهذا الرأی ، منعا للخلط ، ودفعا للإلباس ؛ إذ قد یقع فی وهم کثیرین أن الفعل متعد بنفسه. (انظر ما یتصل بهذا فی رقم 3 من هامش ص 492.
4- کما سبقت لهما الإشارة فی رقم 1 من هامش ص 152.

إلی هنا انتهی الکلام علی أشهر الوسائل لتعدیة الفعل اللازم ، ومنها یتضح ما أشرنا إلیه (1) قبل سردها ، وهو :

أن کل واحدة تؤدی مع تعدیة الفعل اللازم معنی خاصّا لا تؤدیه أختها - فی الغالب - وأنّ تلک الوسائل قیاسیة مطردة ، ما عدا إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور علی نزع الخافض ؛ فإن إسقاطه بهذه الصورة (2) مقصور علی السماع.

ص: 161


1- فی ص 152.
2- یلاحظ الفرق بینها وبین حذف الجار قیاسا مع بقاء معموله مجرورا ، علی الوجه الذی سیجیء فی ص 491 کما یلاحظ ما سبق (فی رقم 3 من هامش ص 154) من أنواع حذف الجار ، وحکم کل نوع.

زیادة وتفصیل

سبق تعریف «المغالبة (1)» ، ووعدنا أن نتکلم علیها هنا ، ملخصین آراء الباحثین فیها :

جاء فی مقدمة «القاموس» - فی المقصد الأول الخاص ببیان الأمور التی امتاز بها القاموس ، عند تعلیق المصحح علی الأمر الخامس ، والکلام علی الأمور التی توجب ضم العین فی المضارع ضمّا قیاسیّا ، ومنها أن یکون دالا علی المغالبة - التعلیق التالی :

(«قوله : أو دالّا علی المغالبة ...» یقتضی أن باب المغالبة قیاسی ؛ ولیس کذلک ، کما یدل علیه عبارة الرضی ؛ حیث قال : «واعلم أن باب المغالبة لیس قیاسیّا بحیث یجوز نقل کل لغة إلی هذا الباب. قال : س (2). ولیس فی کل شیء یکون هذا ؛ ألا تری أنک لا تقول نازعنی فنزعته أنزعه بضم العین [وهی الزای] ، للاستغناء عنه بغلبته. وکذا غیره. بل نقول هذا الباب مسموع کثیر») اه.

وقال صاحب القاموس فی الجزء الرابع مادة : الخصومة : ما نصه :

(الخصومة : الجدل - خاصمه مخاصمة ، وخصومة ؛ فخصمه یخصمه : غلبه ، وهو شاذ ، لأن فاعلته ففعلته یردّ «یفعل» منه (أی : المضارع منه) إلی الضم ، إن لم تکن عینه حرف حلق فإنه بالفتح ؛ کفاخره ففخره یفخره. وأما المعتل کوجدت وبعت فیردّ إلی الکسر إلا ذوات الواو ؛ فإنها تردّ إلی الضم ؛ کراضیته فرضوته أرضوه - وخاوفنی فخفته أخوفه. ولیس فی کل شیء (یکون ذلک) لا یقال : نازعته أنزعه ؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته».

وقال الجار بردی فی شرح الکافیة (3) :

«معنی المغالبة : ما یذکر بعد المفاعلة مسندا إلی الغالب». أی : المقصود

ص: 162


1- فی رقم 1 من هامش ص 159.
2- یرید : سیبویه.
3- وقد نقلنا کلامه عن ص 68 ج 1 من المواهب الفتحیة.

بیان الغلبة فی الفعل الذی جاء بعد المفاعلة ، علی الآخر. فإذا قلت : کارمنی ، اقتضی أن یکون من غیرک إلیک کرم ، مثل ما کان منک إلیه ؛ فإذا غلبته فی الکرم فإنک تبنیه علی «فعل» بفتح العین ؛ لکثرة معانیه. ثم خصوا من أبوابه بالرد إلیه ما کان عین مضارعه مضمومة ، وإن کان من غیر هذا الباب ، نحو کارمنی فکرمته ، یکارمنی فأکرمه ، وضاربنی فضربته ، یضاربنی فأضربه (بضم الراء فی المضارع) فهذا قد ضربته وضربک ، ولکنک قد غلبته فی الضرب. ویجوز ألا یکون قد ضربک ، وإنما ضربتما غیرکما ؛ لتغلبه فی ذلک ، أو لتغلبک ، کذا البواقی.

(وإنما فعلوا ذلک لأن «الفعل» بمعنی المغالبة قد جاء کثیرا من هذا الباب ؛ نحو الکبر ؛ وهو : الغلبة فی الکبر ، والکثر ، وهو الغلبة فی الکثرة ، والقمر ؛ وهو الغلبة فی القمار ، فنقلوا من غیر ذلک الباب أیضا إلیه ، لیدل علی المراد الموضوع ؛ ثم استثنوا من هذه القاعدة معتل الفاء ؛ واویّا کان نحو : وعد ، أو یائیّا نحو : یسر ؛ فإنه لا ینقل إلی «یفعل» بضم العین ، لئلا یلزم خلاف لغتهم ؛ إذ لم یجیء «مثال» (1) مضموم العین. فیقال : واعدنی فوعدته أعده ، ویاسرنی فیسرته ، ومعتل العین أو اللام ، الیائی ؛ فإنه لا ینقل إلی «یفعل» بالضم بل یبقی علی الکسر ؛ فیقول بایعنی فبعته أبیعه ، ورامانی فرمیته أرمیه ؛ إذا لم یجئ أجوف ولا ناقص یأتی من : «یفعل» بالضم ؛ لأنک لو ضممت عینه لانقلب حرف الیاء واوا فیلتبس بذوات الواو. ومثل هذا قاله الرضی وغیره من شراح الکافیة) اه.

وجاء فی الهمع (ج 2 ص 163) فی فعل یفعل ما نصه : «لزموا الضم فی باب المغالبة. علی الصحیح ؛ نحو : ضاربنی فضربته أضربه - وکابرنی فکبرته أکبره ، وفاضلنی ففضلته أفضله. وجوز الکسائی فتح عین مضارع هذا النوع إذا کان عینه أو لامه حرف حلق ؛ قیاسا ؛ نحو : فاهمنی ففهمته أفهمه ، وفاقهنی ففقهته أفقهه ، وحکی الجوهری : واضأنی فوضأته ، أوضؤه ؛ قال : وذلک بسبب الحرف الحلقی. وروی غیره : وشاعرته فشعرته ، أشعره. وفاخرته ففخرته

ص: 163


1- المثال : ما کانت فاؤه حرف عنة.

أفخره ، بالفتح ، وروایة أبی ذرّ بالضم ...» اه.

ورأی الکسائی - مع قلته - حسن ؛ لأن فیه تیسیرا باستعمال ضبطین فی بعض الصور والأسالیب. والعجیب أن اللغتین شائعتان - حتی الیوم - فی کثیر من نواحی الإقلیم الجنوبیّ «الصعید» المصری.

مما تقدم یعلم أنه مسموع کثیر عند سیبویه. والوصف بأنه مسموع کثیر یؤدی إلی الحکم بأنه قیاسی ، وکذلک یعلم من قول شارح الکافیة السابق - وهو : «أنک تبنیه علی کذا - أن هذا من عملک ؛ فهو مقیس لک ؛ لکثرته. وهذا رأی ابن جنی أیضا فی کتابه : خ خ الخصائص ج 1 عند الکلام علی المغالبة».

وخیر ما یلخص به الموضوع تلخیصا وافیا حکیما هو ما جاء فی الجزء الثانی من مجلة المجمع اللغوی القاهری ص 226 ، ونصّه (1) :

«ذهب بعض إلی أن المغالبة لیست قیاسا ؛ وإنما هی مسموعة کثیرا. وذهب بعض إلی أن استعمالها مطرد فی کل ثلاثی متصرف تام خال مما یلزم الکسر. وإنه یکفی أنه مسموع کثیر لنقیس علیه ، کما قرر المجمع ، وکما قال ابن جنی» اه.

وهذا هو الحکم الموفق الذی یحسن الاقتصار علیه.

ص: 164


1- بقلم شیخ الجامع الأزهر - الخضر حسین ، وکان - رحمه الله - أحد أعضاء المجمع اللغوی الأجلاء.

المسألة 72: تعدد المفعول به ...

اشارة

وما یتبع هذا من ترتیب وحذف

عرفنا أن الفعل المتعدی قد یتعدی - مباشرة - إلی مفعول به واحد ؛ نحو : عدل الحاکم یکفل السعادة للمحکومین. أو إلی مفعولین أصلهما المبتدأ والخبر ، نحو : رأیت الظلم أقرب طریق للخراب. أو لیس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ نحو : منعت النفس التسرع فی الرأی. وقد ینصب ثلاثة ؛ نحو : أعلمنی العقل الاعتدال واقیا من البلاء ... ولا یتعدی الفعل لأکثر من ثلاثة.

(ا) فإن کان الفعل متعدیا لاثنین أصلهما المبتدأ والخبر جاز مراعاة هذا الأصل فی ترتیبهما ؛ فیتقدم المفعول به الذی أصله المبتدأ علی المفعول به الذی أصله الخبر ؛ - ففی مثل : (الصبر أنفع فی الشدائد ...) یجوز : حسبت الصبر أنفع فی الشدید ، کما یجوز : حسبت أنفع فی الشدائد الصبر ، لکن مراعاة الأصل أحسن.

وقد تجب مراعاة الأصل فی المواضع التی یجب فیها تقدیم المبتدأ علی الخبر (1) ؛ کأن یؤدی عدم الترتیب إلی الوقوع فی اللبس ؛ ففی نحو : خالد محمود ... (والمراد : خالد کمحمود) نقول : ظننت خالدا محمودا ؛ فلو تقدم الثانی لاختلط الأمر والتبس ؛ إذ لا یمکن تمییز المشبه من المشبه به ؛ لعدم وجود قرینة تساعد علی هذا ؛ فیکون التقدیم بمرعاة الأصل هو القرینة.

وقد تجب مخالفة الأصل ؛ فیتقدم المفعول الثانی فی المواضع التی یجب فیها تقدیم الخبر علی المبتدأ (2) ؛ کأن یکون فی المفعول الأول ضمیر یعود علی الثانی ؛ نحو : ظننت فی البیت (3) صاحبه.

فأحوال الترتیب بین المفعولین ثلاثة : حالة یجب فیها مراعاة الأصل بتقدیم

ص: 165


1- وقد سبقت فی بابهما بالجزء الأول م 37 ص 61.
2- وقد سبقت فی بابهما بالجزء الأول م 37 ص 61.
3- سبق فی (ص 23 من باب «ظن وأخواتها») أن المفعول الثانی للأفعال القلبیة یجوز أن یکون جملة ، وأن یکون شبه جملة ، کالمثال المذکور هنا. وقد وجب فیه التقدیم علی المفعول الأول کی لا یعود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة ؛ وهذا ممنوع إلا فی مواضع أخری محدودة ، لیس منها هذا الموضع.

ما أصله المبتدأ وتأخیر ما أصله الخبر ، وحالة یجب فیها مخالفة هذا الأصل ، وثالثة یجوز فیها الأمران. وقد تقدم هذا مفصلا فی موضعه الأنسب من باب : ظن «وأخواتها» (1).

(ب) إن لم یکن أصلهما المبتدأ والخبر فالأحسن تقدیم ما هو فاعل فی المعنی علی غیره ؛ نحو : أعطیت الزائر وردة من الحدیقة. «فالزائر» هو الآخذ ، و «الوردة» هی المأخوذة ؛ فهو فی المعنی بمنزلة الفاعل ؛ وهی بمنزلة المفعول به ، وإن کانت هذه التسمیة المعنویة لا یلتفت إلیها فی الإعراب.

ویجوز مخالفة الأصل ؛ فیقال : أعطیت وردة من الحدیقة الزائر. لکنّ الترتیب أحسن.

وقد یجب التزام الترتیب بتقدیم الأول حتما وتأخیر الثانی فی مواضع ، أشهرها ثلاثة :

1 - خوف اللبس ؛ نحو : أعطیت محمودا زمیلا فی السفر. فلا یجوز تقدیم الثانی ؛ إذ لو تقدم لم یتبین الآخذ من المأخوذ ، ولا قرینة تزیل هذا اللبس ، ولا وسیلة لإزالته إلا بتقدیم ما هو فاعل فی المعنی علی غیره ؛ لیکون التقدیم هو الدلیل علی أنه الفاعل المعنویّ. وفی هذه الصورة یجوز تقدیم المفعول الثانی علی المفعول الأول وعلی الفعل معا ؛ لعدم اللبس فی هذه الحالة ، نحو : زمیلا فی السفر أعطیت محمودا.

2 - أن یکون الثانی واقعا علیه الحصر (2) ؛ نحو : لا أکسو الأولاد إلا المناسب ، فلو تقدم الثانی لفسد الحصر ، ولزال الغرض منه.

ولا مانع من تقدیمه مع «إلا» ، علی المفعول الأول ؛ إذ لا ضرر من هذا ، لأنّ المحصور فیه هو الواقع بعد «إلا» مباشرة ؛ نحو : لا أکسو إلا المناسب الأولاد.

3 - أن یکون الأول ضمیرا متصلا والثانی اسما ظاهرا ؛ نحو : منحتک الودّ.

(لکن لا مانع من تقدیم المفعول الثانی علی الأول والفعل معا ، نحو الودّ منحتک).

وتجب مخالفة الترتیب فی مسائل ، أشهرها ثلاثة أیضا :

1 - أن یکون المفعول الأول (أی : الفاعل فی المعنی) محصورا نحو : ما أعطیت المکافأة إلا المستحقّ. ویجوز تقدیمه مع «إلا» علی المفعول الأول وحده ، دون عامله.

ص: 166


1- ص 22 م 60.
2- تقدم فی ج 1 ص 364 م 37 إیضاح للحصر (معناه وطریقته).

2 - أن یکون المفعول الأول - الذی هو فاعل معنوی - مشتملا علی ضمیر یعود علی المفعول الثانی ؛ نحو : أسکنت البیت صاحبه. فإن کان الثانی هو المشتمل علی ضمیر یعود علی الأول جاز الأمران ؛ نحو : أسکنت محمدا بیته ، أو : أسکنت بیته محمدا.

3 - أن یکون المفعول الثانی ضمیرا متصلا ، والأول (أی : الفاعل المعنوی) اسما ظاهرا ؛ نحو : القلم أعطیته کاتبا ...

فأحوال الترتیب ثلاث فی هذا القسم «ب» ؛ وجوب التزامه فی ثلاثة مواضع ، ووجوب مخالفته فی ثلاثة أخری ، وجواز الأمرین فی غیر المواضع السالفة (1).

(ح) إن کان الفعل متعدیا لثلاثة ، فالأول منها کان فاعلا ، وقد صیرته همزة النقل مفعولا به (2). فالأصل الذی یراعی فیه أن یتقدم علی المفعول الثانی والثالث. وأصلهما - الأرجح - مبتدأ وخبر ؛ فیراعی فی الترتیب بینهما ما یراعی بین المبتدأ والخبر ؛ طبقا للبیان الذی سبق (3) (عند الکلام علی حکم الناسخ ومعمولیه من ناحیة التقدیم والتأخیر).

ص: 167


1- ترک ابن مالک الکلام علی أحوال القسم الأول : «ا» - واقتصر علی أحوال هذا القسم : «ب» - فقال بإیجاز : والأصل سبق فاعل معنی ؛ ک «من» من : «ألبسن من زارکم نسج الیمن» ویلزم الأصل لموجب عری وترک ذاک الأصل حتما ، قد یری یرید : إذا تعدی الفعل لمفعولین ، أحدهما فاعل فی المعنی ، فالأصل المستحسن أن یتقدم هذا المفعول علی غیره. وساق مثالا هو : «ألبسن من زاکم نسج الیمن». فکلمة : «من» مفعول به ، وهی من ناحیة المعنی - لا الاصطلاح النحوی - بمنزلة الفاعل ؛ لأن مدلولها هو : اللابس ، «ونسج الیمن» ، هو الملبوس. وفی هذه الحالة یراعی الأصل بتقدیم المفعول الذی هو فاعل معنوی ، ویجوز عدم مراعاته ؛ فنقول : ألبسن نسج الیمن من زارکم. ثم صرح بعد ذلک بأن مراعاة هذا الأصل قد تلزم بسبب موجب لمراعاتها قد عرا ، - أی : حل ووجد - کما صرح بأن ترک مراعاة الأصل قد یری حتما ، أی : قد یری أمرا محتوما ، واجبا. (حتما : مفعول یری).
2- راجع رقم 2 من ص 157.
3- فی ص 22 و 165.

حذف المفعول به

الأغلب أن یؤدی المفعول به معنی لیس أساسیّا (1) فی الجملة ؛ فیمکن الاستغناء عن المفعول به من غیر أن یفسد ترکیبها ، أو یختل معناها الأساسیّ ، ولهذا یسمونه : «فضلة» (وهی اسم یطلقه النحاة علی کل لفظ معناه غیر أساسیّ فی جملته) بخلاف المبتدأ ، أو الخبر ، أو الفاعل ، أو نائبه ... أو غیر هذا من کل جزء أصیل فی الجملة لا یمکن أن تتکون ولا أن یتم معناها الأساسیّ إلا به ، مما یسمیه النحاة «عمدة».

بالرغم من أن المفعول به فضلة - فقد تشتد الحاجة إلیه أحیانا ؛ فلا یمکن الاستغناء عنه فی بعض المواضع ، ولا یصح حذفه فیها کما سنری. أما فی غیرها فیجوز حذفه - واحدا أو أکثر - لغرض لفظیّ ، أو معنوی.

فمن اللفظیّ : المحافظة علی وزن الشعر ، کقول شوقی :

ما فی الحیاة لأن تعا

تب أو تحاسب متّسع

(أی : تعاتب المخطئ أو تحاسبه (2)) ... والمحافظة علی تناسب الفواصل (3) ؛ نحو قوله تعالی مخاطبا رسوله الکریم : (ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی - إِلَّا تَذْکِرَةً لِمَنْ یَخْشی) ، وقوله : (وَالضُّحی وَاللَّیْلِ إِذا سَجی)(4) - ما وَدَّعَکَ رَبُّکَ وَما قَلی) (5) فحذف مفعول الفعل : «یخشی» ولم یقل : «یخشاه» أو : یخشی الله ؛ لکی تنتهی الجملة الثانیة بکلمة مناسبة فی وزنها لکلمة : «تشقی» التی انتهت بها الجملة الأولی. ومثل هذا الفعل : «قلا» الذی حذف مفعوله ؛ لیکون مناسبا فی وزنه للفعل : «سجا».

ص: 168


1- هذا فی غیر مفعولی «ظن» وأخواتها ، لأن أصلهما المبتدأ والخبر - غالبا - ، فهما عمدتان بحسب أصلهما ، (کما سبق فی رقم 3 من هامش ص 3 وقد سبق الکلام علی حذفهما فی ص 53 م 63).
2- ومثل قول الشاعر : شکرتک ؛ إن الشکر فرع من التقی وما کل من أولیته نعمة یقضی یرید : یقضی حقها من الشکر .. ، أو یقضی شکرها ...
3- الکلمات التی فی نهایة الجمل المتصلة اتصالا معنویا.
4- هدأ وسکن ، وخلا من الریاح والعواصف ، وأشباهها.
5- کره.

والرغبة فی الإیجاز ؛ نحو : دعوت البخیل للبذل ، فلم یقبل ، ولن یقبل. أی : لم یقبل الدعوة ، أو البذل ، ولن یقبل الدعوة أو البذل ...

ومن المعنوی : عدم تعلق الغرض به ، کقول البخیل لمن یعیبه بالبخل : طالما أنفقت ، وساعدت ، وعاونت ؛ أی : طالما أنفقت المال ، وساعدت فلانا ، وعاونت فلانا (1).

أو : الترفع عن النطق به ؛ لاستهجانه ، أو : لاحتقار صاحبه ، أو نحو هذا من الدواعی البلاغیة وغیر البلاغیة.

فإذا اشتدت حاجة المعنی إلی ذکر المفعول به بحیث یختل أو یفسد بحذفه لم یجز الحذف ؛ کأن یکون المفعول به هو الجواب المقصود من سؤال معین ؛ مثل : ما ذا أکلت؟ فیجاب : أکلت فاکهة. فلا یجوز حذف المفعول به : «فاکهة» لأنه المقصود من الإجابة.

أو : یکون المفعول به محصورا ؛ نحو : ما أکلت إلا الفاکهة.

أو : یکون مفعولا به متعجبا منه بعد صیغة : «ما أفعل» التعجبیة ، نحو : ما أحسن الحریة.

أو : یکون عامله محذوفا ؛ نحو قول القائل عند نزول المطر : خیرا لنا ، وشرا لعدونا ، أی : یجلب خیرا ...

ولیس هذا الحذف مقصورا علی مفعول الفعل المتعدی لواحد ؛ بل یشمله ویشمل المفعول الأول وحده ، أو الثانی وحده ، أو هما معا للفعل الذی ینصب مفعولین ؛ مثل : «ظن» وأخواتها. وکذلک یشمل المفعول الثانی والثالث - دون الأول (2) - للأفعال التی تنصب ثلاثة ؛ مثل : «أعلم وأری» کما سبق الکلام علی هذا وإیضاحه بالأمثلة (3).

* * *

ص: 169


1- وقد حذفت المفعولات ؛ لأن الغرض الهام من الجملة لیس فلانا وفلانا من الأشخاص المعینة ؛ إنما الغرض هو : البذل والإعطاء لهذا أو لذاک بغیر تعیین. ومن هذا قوله تعالی : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطی وَاتَّقی ....) أی : أعطی المال واتقی الله ... وقوله : (وَلَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی ؛) أی یعطیک الخیر ؛ فترضاه.
2- لأنه فی الأصل فاعل ، وقد صیرته همزة النقل مفعولا به (راجع البیان الخاص بهذا فی ص 53 ثم فی ص 57).
3- فی ص 57. وقد اقتصر ابن مالک علی بعض مواضع الحذف ؛ فقال : - - وحذف فضلة أجز إن لم یضر کحذف ما سیق جوابا أو حصر یقول : أجز حذف الفضلة (والمراد هنا : المفعول به) بشرط ألا یضر حذفها. وبین التی یضر حذفها بأنها ما سیقت جوابا ، أو وقعت محصورة علی الوجه الذی شرحناه فیهما. (هذا والفعل : «یضر» هو مضارع مجزوم ، ماضیه : «ضار» بمعنی : ضرّ ، تقول : ضارنی البرد یضیرنی ، بمعنی : ضرّنی ، یضرنی).

حذف عامل المفعول به

بمناسبة الکلام علی حذف المفعول به الواحد أو المتعدد یعرض النحاة إلی حذف عامله جوازا أو جوبا.

ا - فیجیزون حذفه إن کان معلوما بقرینة تدل علیه ، مثل : ماذا حصدت؟ فتقول : قمحا. أی : حصدت قمحا. وما ذا صنعت؟ فتجیب : خیرا. أی : صنعت خیرا.

ب - ویوجبون حذفه فی أبواب معینة ؛ منها : الاشتغال ؛ وقد سبق (1) ، ومنها : النداء (2) ، ومنها : التحذیر والإغراء (3) ... بالشروط المدونة فی باب (4) کل. ومنها : الأمثال المسموعة عن العرب بالنصب ؛ نحو : أحشفا وسوء کیلة (5)؟

ص: 170


1- فی ص 121.
2- فإن المنادی منصوب بعامل محذوف وجوبا ، تقدیره : أنادی ، أو أدعو ، وحرف النداء عوض عنه (طبقا للبیان الآتی فی باب «النداء» أول الجزء الرابع).
3- یشترط فی حذف العامل فی التحذیر أن یکون التحذیر بکلمة : «إیاک» ؛ نحو إیاک والکذب ، أو : مع العطف ؛ نحو : الکذب والنفاق ، أو مع التکرار ؛ نحو : النار النار ... ویشترط فی الإغراء : العطف ؛ نحو : الکرامة والشهامة. أو التکرار ؛ نحو الحیاء الحیاء.
4- بالجزء الرابع ... وفی حذف العامل الناصب للفضلة یقول ابن مالک : ویحذف النّاصبها إن علما وقد یکون حذفه ملتزما أی : یجوز حذف ناصب الفضلة (والمراد بها هنا : المفعول به) إن کان الناصب معلوما بقرینة وقد یکون الحذف أحیانا لازما لا بد منه.
5- هذا مثل قاله فی الأصل أعرابی لآخر یبیع التمر ردیئا ، ولا یوفی الکیل. وقد اشتهر المثل حتی صار یقال لمن یسیء إلی غیره إساءتین فی وقت واحد. (الحشف : أردأ التمر). والمثل : الکلام یشبه مضربه بمورده ؛ أی : یشبه ما یستعمل فیه أخیرا بما وضع له فی الأصل. - - أما ما یشبه المثل ؛ (أی : یجری مجراه) ، فکلام مستعمل فیما وضع له من الأصل ، واستعماله شائع ودورانه علی الألسنة کثیر.

وکذلک ما یشبه الأمثال ؛ کقوله تعالی : (انْتَهُوا ... خَیْراً لَکُمْ) أی : واعملوا خیرا لکم.

* * *

الاشتباه بین الفاعل والمفعول به

سبق تفصیل الکلام علیه ، وعلی طریقة کشفه ، فی آخر باب «الفاعل» (1).

* * *

جعل الفعل الثلاثی المتعدی لازما أو فی حکم اللازم (2) ، قیاسا.

یصیر الثلاثی المتعدی لواحد لازما - قیاسا - أو فی حکم اللازم لسبب مما یأتی (3) :

1 - التضمین (4) لمعنی فعل لازم ؛ نحو : قوله تعالی : (فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ،) فإن الفعل : «یحذر» متعد فی الأصل بنفسه ، تقول

ص: 171


1- ص 93.
2- یصیر لازما بأن ینسلخ عن التعدیة ، ویترکها نهائیا ؛ بحسب الظاهر ، وبحسب الحقیقة الواقعة والمعنی ؛ کما فی السبب الثانی والثالث. ویصیر فی حکم اللازم بأن یکون بحسب المظهر الشکلی اللفظی لازما ؛ لا بحسب المعنی والواقع الحقیقی ؛ کما فی الأول ، والرابع ، والخامس ؛ لأن «المضمن» ، متعد باعتبار دلالته الأصلیة علی معنی الفعل المتعدی ، ولأن الضعیف عن العمل ، المحتاج إلی مساعدة حرف الجر ، متعد فی المعنی وفی أصله للمفعول ، وطالب له. وکذلک الفعل فی الضرورة ... هکذا قالوا. أما جعل الفعل الثلاثی اللازم متعدیا فقد سبق الکلام علیه (فی ص 152).
3- لیس من المناسب الأخذ بالرأی القائل إن کل الأسباب الآتیة أو بعضها مقصور علی السماع ؛ إذ لو کان کذلک ما کانت هناک حاجة إلی ذکر هذه الضوابط ، ولوجب قصر الأمر علی العرب. وفی هذا تضییق وإفساد یجافی طبیعة اللغة ، وینافی أصولها ، کما سبق فی الحالة الأخری (رقم 2 من هامش ص 152) ویلاحظ أن الثلاثة الأولی تجلب مع منع التعدیة معنی جدیدا ، علی الوجه الذی سبق شرح نظیره فی طریقه تعدیة الفعل اللازم ، (ص 152 م 71).
4- سبق الکلام علی معناه ، والغرض منه ، وحکمه (فی ص 159 م 71) وقلنا : إن فی آخر هذا الجزء بحثا نفیسا خاصا به ، لا یستغنی عنه المتخصصون ، ویلیه رأینا فیه بإیجاز.

حذرت عواقب الغضب. ولکنه حین تضمن معنی الفعل المضارع : «یخرج» صار متعدیا مثله بحرف الجر : «عن». فالمراد : فلیحذر الذین یخرجون عن أمره. ومثله قوله تعالی : (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) فالفعل ؛ «تعدو» بمعنی «تتجاوز» متعد بنفسه ؛ کما فی مثل : أنت لا تعدو الحق ؛ أی : لا تتجاوز الحق. ولکنه هنا متعد بحرف الجرّ : «عن» ؛ بسبب تضمنه معنی فعل آخر ، هو : «تنصرف» الذی یتعدی بحرف الجر : «عن».

ومثله قول القائل : «قد قتل الله زیادا عنی» فالفعل : «قتل» فی أصله متعد بنفسه مباشرة إلی مفعول واحد ، مستغن بعد ذلک - غالبا - عن التعدیة بالحرف الجارّ إلی مفعول ثان. ولکنه هنا تضمن معنی الفعل : «صرف» المتعدی بنفسه إلی مفعول ، وإلی الثانی بحرف الجر : «عن» ؛ فصار مثله متعدیا بنفسه إلی الأول ، وبهذا الحرف إلی الثانی. فالمراد : قد صرف الله بالقتل زیادا عنی ...

والتضمین من الوسائل التی تجعل المتعدی فی حکم اللازم ؛ ولا تجعله لازما حقیقیّا ؛ - لما بیناه من قبل (1).

2 - تحویل الفعل الثلاثی المتعدی لواحد إلی صیغة : «فعل» (بفتح أوله وضم عینه) (2) بشرط أن یکون القصد من التحویل إما المبالغة فی معنی الفعل والتعجب منه (3) ، نحو : نظر القطّ ، وإما المدح أو الذم (4) ؛ نحو : سبق الفیلسوف

ص: 172


1- فی رقم 1 من هامش ص 152 وفی ص 160.
2- وإنما کان تحویل الفعل الثلاثی المتعدی ، إلی هذه الصیغة مؤدیا إلی لزومه لأنها صیغة لا تکاد تستعمل إلا لازمة ، إذ لم یرد منها فی المسموع متعدیا إلا فعلان - فیما یقال - هما : رحب وطلع (بفتح أولهما وضم ثانیهما) علی الوجه الذی سبق بیانه فی رقم 1 من هامش ص 148.
3- بشرط استیفاء الفعل لشروط التعجب المدونة فی بابه الخاص - ج 3 (ص 209 وص 293).
4- یجوز تحویل الفعل الثلاثی إلی : «فعل» - بضم العین - لیکون للمدح أو الذم کنعم وبئس علی الوجه المشروح فی بابهما (ج 3) مع أوجه اختلاف بینهما ؛ أشهرها : أمران فی معنی : «فعل» ؛ وهما : إشرابه التعجب مع عدم الاقتصار علی المدح الخالص أو الذم الخالص ، وأنه للمدح الخاص بمعنی الفعل ، أو الذم الخاص کذلک ، لا العام الشامل الذی لا یقتصر فیهما علی معنی الفعل. - - وأمران فی فاعله الظاهر ؛ وهما : جواز خلوه من «أل» المباشرة وغیر المباشرة ؛ نحو : (وَحَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً ،) وجواز جره بالباء الزائدة ؛ نحو حب بزیارة المخلص. واثنان فی فاعله المضمر ؛ وهما : جواز عوده إلی ما قبله ، وجواز مطابقته له ، نحو : محمد شرف رجلا ؛ فیصح أن یکون الفاعل ضمیرا عائدا علی «محمد» المتقدم ، أو عائدا علی : «رجلا» المتأخر. فإن عاد علی المتقدم کان مطابقا له فی الإفراد والتثنیة والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث. وإن کان عائدا علی المتأخر لزم الإفراد ؛ تقول : المحمدان شرفا رجلین ، المحمدون شرفوا رجالا. فاطمة شرفت امرأة ، وهکذا.

وفهم. وذلک فی مدحه بالسبق والفهم. ومنع القادر وحبس ؛ عند ذمه بمنع المعونة وحبسها.

3 - الإتیان بمطاوع (1) للفعل الثلاثی المتعدی لواحد ؛ نحو : هدمت الحائط المائل ؛ فانهدم ، ثم بنیته ؛ فانبنی.

4 - ضعف الفعل الثلاثی عن العمل بسبب تأخیره عن معموله ؛ نحو قوله تعالی : (... إِنْ کُنْتُمْ لِلرُّءْیا تَعْبُرُونَ،) وقوله تعالی : (... لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ.)

ومثله العامل الوصف الذی یعتوره الضعف بسبب أنه من المشتقات ؛ مثل قوله تعالی : (فَعَّالٌ لِما یُرِیدُ) وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ) والأصل : إن کنتم تعبرون الرؤیا - الذین یرهبون ربهم - فعّال ما یرید - مصدّقا ما بین یدیه ... وفی کل ما سبق تجیء قبل المعمول لام الجر ، وتسمی : «لام التقویة» ؛ لأنها تساعد العامل علی الوصول إلی مفعوله المعنوی الحالیّ الذی کان فی الأصل مفعوله الحقیقی.

والضعف علی الوجه السابق یجعل المتعدی فی حکم اللازم ، ولیس لازما حقیقة (2).

ص: 173


1- سبق شرح المطاوعة فی ص 98 ، م 76.
2- لأن العامل متعد فی المعنی إلی ما بعد لام التقویة ؛ لکنه بحسب الشکل اللفظی الظاهر لازم ، تجیء اللام للتقویة یجعل العامل لازما بحسب المظهر. ونعود فنشیر إلی ضعف کلام النحاة فی هذه الوسیلة الرابعة - کما سیجیء البیان المفید عنها فی حروف الجر ، (ص 439) - إذ من المعروف أن الفعل المتعدی لواحد یجوز تقدیم مفعوله علیه (إلا فی بعض صور قلیلة واجبة التقدیم أو التأخیر) وأنه لا یترتب علی ذلک التقدیم إبعاد الفعل عن التعدیة إلی اللزوم إبعادا حتمیا. وإذا کان بقاؤه متعدیا مع التقدیم أمرا جائزا فمن أین یأتیه الضعف - - الذی یعالج بلام التقویة؟ وما سبب هذا الضعف؟ وإذا عرفنا أنه یجوز حذف هذه اللام فیعود الاسم بعدها مفعولا منصوبا کما کان قبل مجیئها من غیر أن یترتب علی هذا فساد فی صیاغة الأسلوب أو فی معناه فما الحاجة الحقیقیة إلیها؟ وأین الضعف الذی تزیله؟ کذلک المشتقات العاملة التی یصفونها بالضعف ، من أین یأتیها الضعف؟ وما سببه وهی التی یجوز - أحیانا - أن تنصب مفعولها الخالی من لام التقویة مع تقدمه أو تأخره ، کما یجوز حذف لام التقویة إن وجدت فتنصبه مباشرة ، من غیر أن یترتب علی حذفها ضرر؟ والأولی بالنحاة أن یقولوا : (ا) إذا تعدی الفعل إلی مفعول واحد ، وجاز تقدم هذا المفعول علی فعله ، فقد یبقی علی حاله من النصب ، وقد یجر باللام ؛ فالأمران صحیحان. (ب) إذا کان المشتق ناصبا مفعولا واحدا جاز فی مفعوله النصب مباشرة أو جره باللام ، سواء أکان المفعول متقدما أم متأخرا عن عامله.

5 - ضرورة الشعر ، کقول القائل :

تبلت فؤادک (1) فی المنام

خریدة (2)

تسقی الضجیع ببارد بسّام

فإن الفعل «تسقی» ینصب مفعولین بنفسه ولکنه تعدی إلی الثانی هنا : «بالباء» نزولا علی حکم الضرورة الشعریة. وهذه الوسیلة أیضا مما یجعل الفعل فی حکم اللازم ، ولیس باللازم حقیقة. لما أوضحناه من قبل (3).

ص: 174


1- أصابته بالمرض بسبب الحب.
2- امرأة حسناء.
3- فی رقم 1 من هامش ص 152 وفی ص 160.

المسألة 73: التنازع فی العمل

اشارة

(1)

(ا) فی مثل : وقف وتکلم الخطیب - نجد فعلین لا بد لکل منهما من فاعل ، ولیس فی الکلام إلا اسم ظاهر واحد ، یصلح أن یکون فاعلا لأحدهما ، وهذا الاسم الظاهر هو : «الخطیب». فأی الفعلین أحق بالفاعل؟ وإذا فاز به أحدهما فأین فاعل الفعل الثانی؟

(ب) وفی مثل : سمعت وأبصرت القارئ - نجد فعلین أیضا ، یحتاج کل منهما إلی مفعول به منصوب. ولیس فی الکلام ما یصلح أن یکون مفعولا به إلا شیئا واحدا ؛ هو : «القارئ» فأیهما أحق به؟ وإذا فاز به أحدهما فأین مفعول الفعل الثانی؟

(ح) وفی مثل : أنشد وسمعت الأدیب : نجد فعلین یحتاج أحدهما إلی مرفوع یکون فاعلا ، ویحتاج الآخر إلی منصوب ، یکون مفعولا به ، فمطلب کل منهما یخالف الآخر - علی غیر ما فی الحالتین السالفتین - ولیس فی الکلام إلا لفظة : «الأدیب» التی تصلح لأحدهما. فأیّ الفعلین أولی بها؟ وما نصیب الآخر بعده؟

(د) وفی مثل : أنست وسعدت بالزائر ، نجد کلّا من الفعلین محتاجا إلی الجار مع مجروره (2) ؛ لیکمل المعنی ، فأی الفعلین أولی؟ وما نصیب الآخر بعد ذلک؟

ص: 175


1- لنا فی هذا الباب وفی أحکامه رأی خاص ، نراه أنسب ، وقد سجلناه فی آخره ص 190.
2- أوضحنا فی باب : «تعدی الفعل ولزومه» ص 145 - وفی حروف الجر - ص 406 - أن لمجرور للتعدیة فی هذا المثال وأشباهه یعد فی المعنی بمنزلة المفعول به ، فهو فی حکم المنصوب محلا ، برغم أنه مجرور لفظا ، ولا یجوز فی الرأی الأحسن مراعاة المحل إذا جاء تابع بعده. وفی باب التنازع قد یتکلم النحاة أحیانا عن العامل الذی ینصب المفعول به لفظا ، والذی ینصبه محلا. یریدون بالأول ما یصل إلیه العامل بنفسه ، وبالثانی : ما یصل إلیه بحرف الجر.

من الأمثلة السالفة - وأشباهها - نعرف أن الأفعال (1) قد تتعدد فی الأسلوب الواحد ، ویحتاج کل منها إلی معمول خاص به ، ولکن لا یوجد فی الکلام إلا بعض معمولات ظاهرة ، تکفی بعض الأفعال دون بعض ، مع حاجة کل فعل إلی معمول خاص به ؛ فتتزاحم تلک العوامل الکثیرة علی المعمولات القلیلة ، وکأنها تتنازع لیظفر کل منها وحده بالمعمول ، ولهذا یسمی الأسلوب : «أسلوب التنازع» (2). ویعرفه النحاة بأنه :

«ما یشتمل علی فعلین - غالبا (3) - ، متصرفین (4) ، مذکورین ، أو علی اسمین یشبهانهما فی العمل ، أو علی فعل واسم یشبهه فی العمل ، وبعد الفعلین وما یشبههما معمول مطلوب (5) لکل من الاثنین السابقین».

والفعلان أو ما یشبههما یسمیان : «عاملی التنازع» ، والمعمول یسمی : «المتنازع فیه».

فلا بد فی التنازع من أمرین ؛ أولهما : تقدم فعلین أو ما یشبههما فی العمل ، وکلاهما یرید المعمول. ثانیهما : تأخیر المعمول عنهما.

فمثال تقدم العاملین وهما فعلان متصرفان : تصدّق وأخلص الصالح. ومثال تقدّم العاملین وهما اسمان مشتقّان یعملان عمل الفعل : المؤمن ناصر ومساعد الضعیف. ومثال المختلفین : دراک وساعد الملهوف ؛ بمعنی أدرک وساعد. وهکذا الصور (6) الأخری التی تدخل فی التعریف.

ص: 176


1- مثل الأفعال ما یشبهها مما یعمل عملها - کما سیجیء هنا -
2- ویسمیه بعض النحاة القدامی : «الإعمال».
3- سنعرف - فی ص 178 - أنه یجوز أن تزید العوامل علی اثنین مع زیادة المعمولات أو عدم زیادتها ، ویشترط فی کل الحالات أن یزید عدد العوامل علی عدد المعمولات فی الکلام ؛ لکی ینشأ «التنازع».
4- إلا «فعل التعجب» فیجوز أن یکونا عاملین فی «التنازع» مع أنهما جامدان - کما فی الصفحة التالیة -.
5- من حیث المعنی والعمل معا ، ولو کان عملهما مختلفا. وسیجیء فی الزیادة والتفصیل نوع المعمول.
6- کأن یکون الفعلان معا من نوع واحد (للماضی ، أو المضارع ، أو للأمر) وقد یکونان مختلفین فی بعض الصور ، وقد یکون أحد العاملین فعلا والآخر اسما یشبهه ، وقد یکون الفعل هو المتقدم أو الاسم الذی یشبه ...

علی هذا لا یصح أن یکون من عوامل التنازع الحرف ، ولا العامل المتأخر فی مثل : أیّ الرجال قابلت وصافحت ، ولا العامل الذی توسط المعمول بینه وبین العامل الآخر ، نحو : اشتریت الکتاب وقرأت ، ولا العامل الجامد ؛ مثل : «عسی» أو «لیس» ، کما فی قول الشاعر :

من کان فوق محل الشمس موضعه

فلیس یرفعه شیء ولا یضع

إلا فعلی التعجب ، فإنهما مع جمودهما یصح أن یکونا العاملین فی أسلوب التنازع ؛ نحو ما أحسن وأنفع صفاء النفوس ، وأحسن وأنفع بصفاء النفوس.

ص: 177

زیادة وتفصیل

(ا) لیس من اللازم - کما أشرنا (1) - الاقتصار فی أسلوب «التنازع» علی عاملین متقدمین ، ولا علی معمول واحد ظاهر (2) بعدهما ، فقد یقتضی الأمر أن تکون العوامل ثلاثة (3) متقدمة من غیر أن یتعدد المعمول ؛ نحو : یجلس ویسمع ویکتب المتعلم. وقد تتعدد العوامل والمعمولات الظاهرة ؛ نحو : تکتبون وتقرءون وتحفظون النصوص الأدبیة کل أسبوع. ففی صدر الکلام ثلاثة عوامل تتنازع العمل فی معمولین بعدها ؛ (أی : فی المفعول به. وهو : «النصوص» ، وفی الظرف (4) ؛ وهو : «کلّ ...») والکثیر فی التنازع الاقتصار علی عاملین ومعمول واحد. ولا یعرف فی الأسالیب القدیمة الزیادة علی أربعة عوامل ، ولکن لا مانع من الزیادة عند وجود ما یقتضیها. ویشترط - فی کل الحالات - أن تقوم القرینة علی أن الأسلوب أسلوب تنازع ؛ لتجری علیه أحکام التنازع ، وأنه لیس من باب اللف والنشر ؛ مثل : غرّد وزأر العصفور والأسد ...

(ب) لا بد أن یکون بین العاملین - أو العوامل - نوع ارتباط ؛ کالعطف

ص: 178


1- فی رقم 3 من هامش الصفحة 176.
2- لا فرق فی المعمول بین أن یکون اسما ظاهرا ، أو ضمیرا بشرط أن یکون الضمیر منفصلا مرفوعا ، أو منصوبا ، أو متصلا مجرورا ، نحو : علی إنما قام وقعد هو ، وما زرت وصافحت إلا إیاه. ووثقت وتقویت بک. کذلک لا فرق بین اختیار الأول وغیره للعمل ما لم یکن لأحدهما مرجح ؛ کوجود «بل» أو «لا» العاطفین. فیجب إعمال الأول فی مثل : أهنت لا أکرمت النمام. ویجب إعمال الثانی فی مثل : ضربت بل أکرمت الرجل. لأن «بل» - هنا - تجعل الحکم لما بعدها ، فما قبلها مسکوت عنه ، فلا یطلب المعمول. و «لا» - هنا - تجعل الحکم لما قبلها مثبتا. فما بعدها منفی لا یطلب المعمول.
3- ومنه قول القطامی : صریع غوان راقهنّ ورقنه لدن شبّ حتی شاب سود الذوائب فقد تنازع العمل فی الطرف : «لدن» عوامل ثلاثة ؛ هی : صریع ، وراق - وراق أیضا المسند إلی نون النسوة.
4- انظر «ح» ص 179.

فی مثل : أعبد وأخاف الله. أو أن یکون العامل المتأخر جوابا معنویّا عن السابق ؛ نحو قوله تعالی : (یَسْتَفْتُونَکَ ، قُلِ اللهُ یُفْتِیکُمْ فِی الْکَلالَةِ)(1). أی : یستفتونک فی الکلالة ، قل الله یفتیکم فی الکلالة ... أو جوابا نحویّا ، کجواب الأمر وغیره مما یحتاج لجواب ؛ نحو : أنشد ، أسمع القصیدة. أو یکون المتأخر معمولا للسابق ؛ نحو قوله تعالی : (وَأَنَّهُ کانَ یَقُولُ سَفِیهُنا عَلَی اللهِ شَطَطاً،) أو أن یکون العاملان خبرین عن اسم ؛ نحو : الحاکم مکافئ معاقب المستحق ... (ح) یقع التنازع فی أکثر المعمولات ، ومنها : المفعول به ، والمفعول المطلق ، والمفعول لأجله ، وشبه الجملة ، دون الحال والتمییز - علی الأصح -.

(د) لیس من التنازع «التوکید اللفظی» ؛ کالذی فی قولهم : «هیهات هیهات العقیق ومن به ...» لأن شرط التنازع : أن یکون المعمول مطلوبا لکل واحد من العاملین من حیث المعنی. وأن یوجد الضمیر - إذا کان مرفوعا - فی العامل المهمل ، وهو غیر موجود فی هذا التوکید ، إذ الطالب للمعمول إنما هو کلمة : «هیهات» الأولی ؛ فهی وحدها المحتاجة للعقیق ؛ لتکون فاعلها ، والإسناد بینهما. أما کلمة : «هیهات» الثانیة فلم تجئ للإسناد إلی العقیق ؛ وهی خالیة من الضمیر المرفوع ؛ وإنما جاءت لمجرد تأکید الأولی وتقویتها ؛ فالأولی هی المحتاجة للفاعل ، أما الثانیة فلا تحتاج لفاعل ؛ ولا لغیره ، فلیست عاملة ، ولا معمولة ؛ شأن نظائرها التی تجیء للتوکید اللفظی. ومثل هذا : جاءک الراغبون فی معرفتک (2).

ص: 179


1- الکلالة : المیت الذی لیس له والد ولا ولد ، أو : الوارث الذی لیس بولد ولا ولد للمیت.
2- فریق من النحاة یدخل هذین المثالین وأشباههما فی باب التنازع ، ویجری علیهما أحکامه ؛ بأن یکون العامل هو الأول ، وفی الثانی ضمیر مستتر ، أو العکس مع مراعاة التفصیل الخاص بأحکام الضمیر فی باب التنازع. وفی هذه الحالة لا یکون العامل الثانی من باب التوکید اللفظی ؛ لأن العامل الثانی فی بابه زائد للتوکید اللفظی ؛ فلا فاعل له - فی الرأی الشائع - فلا یتحمل ضمیرا ، کما سیجیء فی باب التوکید من الجزء الثالث ، ص 425 م 116. والذین یقولون إن التوکید اللفظی لا یصلح للتنازع یستدلون بأمثلة مسموعة ؛ منها قول - - الشاعر یخاطب نفسه : فأین إلی أین النّجاة ببغلتی؟ أتاک أتاک اللّاحقون احبس احبس فلو کان فی الکلام تنازع لقال : أتاک أتوک اللاحقون ، أو : أتوک أتاک اللاحقون ، تطبیقا لأحکام التنازع. والحق أن کلا الرأیین لا یصلح للأخذ المطلق أو الرفض المطلق ؛ لمجرد أنه منسوب لهذا أو لذاک وإنما الذی یعول علیه عند عدم الضمیر البارز هو الأخذ بما یسایر المعنی ویحقق الغرض ؛ فیجب أن أن تکون المسألة من باب التوکید اللفظی وحده - ولا دخل للتنازع فیها - حین یقتضی المقام تحقیق غرض من أغراض التوکید اللفظی ، وفی مقدمتها إزالة شک یحیط بالعامل وحده ؛ کأن یجری الحدیث عن سقوط المطر عدة أیام متوالیة ؛ فیقول أحد الحاضرین : لم یسقط المطر أمس .. فیرد آخر : سقط سقط المطر أمس. ففی هذه الصورة یدور الشک حول الفعل : «سقط» وحده دون فاعله ؛ إذ لیس هناک شک فی أن الذی سقط هو : المطر ، ولیس حجرا ، ولا حدیدا ، ولا خشبا .. و. أما فی صورة أخری یدور الشک فیها حول العامل ومعموله معا فإن إزالة الشک عنها قد تکون بتکرار الجملة کلها ، وتکرارها قد یدخلها فی باب التنازع ، ولا سیما مع وجود الضمیر البارز. مثال ذلک : أن یدور الحدیث حول عدم حضور أحد من الغائبین ؛ بأن یقول قائل : لم یحضر أحد من الغائبین. فیرد آخر : حضر حضر أخی ، أو حضر حضرا المجاهدان ، أو حضرا حضر المجاهدان ... فالمقام هنا یقتضی أن تکون المسألة من باب «التنازع» ، ولیست من توکید الجملة الفعلیة بأختها ؛ لأن توکید الجملة الفعلیة بنظیرتها الفعلیة یقتضی تکرار لفظی الفعل والفاعل فی کل واحدة منها - کما هو مدون فی باب التوکید ج 3 -.

ص: 180

الأحکام الخاصة بالتنازع

(1)

تتلخص هذه الأحکام فیما یأتی :

1 - لا مزیة لعامل علی نظیره من ناحیة استحقاقه للمعمول (أی : للمتنازع فیه) ؛ فکل عامل یجوز اختیاره للعمل من غیر ترجیح فی الأغلب (2) ؛ فیجوز اختیار الأول السابق مع إهمال الأخیر ، ویجوز العکس (3). وإذا کانت العوامل ثلاثة أو أکثر فإن الحکم لا یتغیر بالنسبة للأول والأخیر. أما المتوسط بینهما - ثالثا أو أکثر - فیصح أن یسایر الأول أو الأخیر ؛ فالأمران متساویان بالنسبة لإعمال الثالث المتوسط ، وما زاد علیه من کل عامل بین الأول والأخیر.

2 - إذا وقع الاختیار علی الأول لیکون هو العامل المستحق للمعمول وجب تعویض العامل الأخیر المهمل تعویضا یغنیه عن المعمول ، وذلک بإلحاق ضمیر (4) به یطابق ذلک المعمول مطابقة تامة فی الإفراد ، والتثنیة ، والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث ؛

ص: 181


1- سنذکر أشهر الآراء ، ثم نردفه - آخر الباب فی الزیادة والتفصیل - برأی لنا خاص قد یکون فیه یسر ونفع خالصان من الشوائب - کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 175 -.
2- إلا فی الحالتین المذکورتین فی رقم 2 من هامش ص 178.
3- الکوفیون یعملون الأول لسبقه ، والبصریون یعملون الثانی لقربه ، وهذا خلاف یجب إهماله ، إذ لا قیمة له فی الترجیح ، وفی تفضیل أحد العاملین علی الآخر إلا ما سبقت الإشارة إلیه. فی رقم 2 ویقول ابن مالک فی الإشارة للتنازع ما نصه : إن عاملان اقتضیا فی اسم عمل قبل ، فللواحد منهما العمل والثّان أولی عند أهل البصره واختار عکسا غیرهم ذا أسره یقول : إن وجد عاملان یتطلبان عملا فی اسم ظاهر ، وکانا قبله ، فلواحد منهما العمل دون نظیره ، وهذا الواحد لیس معینا مقصورا علی أحدهما ، وإنما یجوز أن یعمل هذا أو ذاک ؛ ولا یصح أن یکون العمل لهما معا فی ذلک الاسم. وإعمال الثانی أولی عند البصریین ، لقربه. واختار غیرهم العکس ، أی : إعمال الأول ، لسبقه. ومعنی : «ذا أسرة» ، صاحب رابطة قویة ، یرید بها الرابطة العلمیة ، وأصحاب هذا الرأی هم الکوفیون. (التقدیر : اختار غیرهم العکس حالة کون غیرهم ذا أسرة).
4- إلا فی الحالة التی فی ص 184 والأخری التی فی ص 187 حیث یجب إحلال اسم ظاهر بدل ذلک الضمیر. طبقا للتفصیل الموضح هناک.

لأن المعمول ، (المتنازع فیه) هو المرجع للضمیر ، ویعتبر هذا المرجع متقدما برغم تأخر لفظه عن الضمیر. ولا بد من المطابقة بین الضمیر ومرجعه فی الأشیاء السالفة. والأفضل وجود الضمیر فی جمیع الحالات ؛ سواء أکان ضمیر رفع ، أم نصب ، أم جرّ ؛ فمن إعمال الأول فی المعمول المرفوع مع إعمال الأخیر فی ضمیره : المثال الوارد فی «ا» ، وهو (1) : «وقف - وتکلم - الخطیب» فنقول : (وقف - وتکلما - الخطیبان). (وقف - وتکلموا - الخطیبون). (وقفت - وتکلمت - الخطیبة). (وقفت - وتکلمتا - الخطیبتان) - (وقفت - وتکلمن - الخطیبات).

فکأن الأصل : (وقف الخطیب ، وتکلم). (وقف الخطیبان وتکلما). (وقف الخطیبون ، وتکلموا). (وقفت الخطیبة ، وتکلمت). (وقفت الخطیبتان ، وتکلمتا) ، (وقفت الخطیبات وتکلمن). وهکذا ...

والوسیلة المضبوطة لاستعمال الضمیر علی الوجه الصحیح أن نتخیل العامل الأول وهو فی صدر الجملة ، ثم یلیه مباشرة المعمول : «المتنازع فیه» وقد تقدم من مکانه حتی صار بعده بغیر فاصل بینهما ، ثم یلیهما کل عامل مهمل ، وبعده الضمیر المناسب لهذا الترکیب القائم علی التخیل المحض ؛ کما فی الأمثلة السالفة ؛ وکما فی الآتیة :

«أوقد واستدفأ الحارس» ؛ فکل من الفعلین : «أوقد» و «استدفأ» یحتاج إلی کلمة : «الحارس» لتکون فاعلا له. فإذا أعملنا الأول وجب تعویض الأخیر بإلحاق ضمیر مناسب ، بآخره. ولکی یکون الضمیر مناسبا صحیح الاستعمال نتخیل أن الاسم الظاهر «المتنازع فیه» وهو کلمة : «الحارس» قد تقدم حتی صار بعد العامل الأول مباشرة (أی : بغیر فاصل بینهما). وهذا یقتضی أن یتأخر عنهما کل عامل مهمل. فکأن أصل الأسلوب : «أوقد الحارس واستدفأ». «فالحارس» هو الفاعل للفعل : «أوقد» أما الفعل المهمل «استدفأ» فقد لحق بآخره ضمیر مستتر ، مرفوع ، یعرب فاعلا ، ویغنی عن الاسم الظاهر «المتنازع فیه». وهذا الضمیر هنا مفرد مذکر ؛ لیطابق مرجعه «المتنازع فیه». فلو کان المرجع مفردا مؤنثا أو مثنی أو جمعا بنوعیهما ، لوجب أن یطابقه الضمیر ،

ص: 182


1- ص 175.

فنقول : (أوقدت - واستدفأت - الحارسة). أوقد - واستدفأا - الحارسان). (أوقدت - واستدفأتا - الحارستان). (أوقد - واستدفئوا - الحارسون). (أوقدت - واستدفأن - الحارسات) ... و... وهکذا. فکأن الأصل : (أوقدت الحارسة ، واستدفأت). (أوقد الحارسان ، واستدفأا). (أوقدت الحارستان ، واستدفأتا). (أوقد الحارسون ، واستدفئوا). (أوقدت الحارسات واستدفأن ...)

هذا حکم «التنازع» عند إعمال الأول حین تتعدد العوامل ولا یتعدد المعمول المرفوع ؛ وهو هنا الفاعل الظاهر الذی یطلبه کل منهما.

وما سبق یقال فی مثال : «ب» (1) وهو : «سمعت وأبصرت القارئ» عند إعمال الأول أیضا ، حیث تعددت العوامل التی یحتاج کل منها إلی المفعول به ؛ ولیس فی الکلام إلا مفعول به واحد فنقول : (سمعت - وأبصرته - القارئ). (سمعت - وأبصرتها - القارئة). (سمعت - وأبصرتهما - القارئین). (سمعت - وأبصرتهما - القارئتین). (سمعت - وأبصرتهم - القارئین). (سمعت - وأبصرتهن - القارئات) فکأن أصل الکلام عند التخیل : (سمعت القارئ وأبصرته). (سمعت القارئة ، وأبصرتها). (سمعت القارئین ، وأبصرتهما). (سمعت القارئتین ، وأبصرتهما). (سمعت القارئین ، وأبصرتهم). (سمعت القارئات وأبصرتهن).

وکذلک یقال فی مثال : «ج» (2) وهو : «أنشد وسمعت الأدیب» ، برغم اختلاف المطلب بین العاملین ، فأحدهما یرید المعمول فاعلا له ، والآخر یریده مفعولا به ؛ فنقول ؛ عند إعمال الأول (3) ؛ (أنشد - وسمعته - الأدیب). (أنشدت - وسمعتها - الأدیبة). (أنشد - وسمعتهما - الأدیبان). (أنشدت - وسمعتهما - الأدیبتان). (أنشد - وسمعتهم - الأدیبون). (أنشدت - وسمعتهن - الأدیبات). فکأن الأصل مع التخیل : (أنشد الأدیب ، وسمعته). (أنشدت الأدیبة ، وسمعتها). (أنشد الأدیبان ، وسمعتهما). (أنشد الأدیبون وسمعتهم). (أنشدت الأدیبات ، وسمعتهن ...)

ص: 183


1- ص 175.
2- ص 175.
3- أما عند إعمال الأخیر المحتاج للمفعول به فیجیء حکمه فی ص 186.

ومثل هذا یقال عند إعمال الأول أیضا فی مثال : «د» وهو : «أنست وسعدت

بالزائر الأدیب» حیث یحتاج کل من العاملین فی تکملة معناه إلی الجار مع مجروره ؛ نحو : (أنست - وسعدت - بالزائر الأدیب ، به (1)). (أنست - وسعدت - بالزائرة الأدیبة ، بها). (أنست - وسعدت - بالزائرین الأدیبین ، بهما). (أنست - وسعدت بالزائرتین الأدیبتین ، بهما). (أنست - وسعدت - بالزائرین الأدیبین ، بهم) ، (أنست - وسعدت - بالزائرات الأدیبات ، بهن). وکأن الأصل مع التخیل : (أنست بالزائر الأدیب ، وسعدت به). (أنست بالزائرة الأدیبة ، وسعدت بها). (أنست بالزائرین الأدیبین ، وسعدت بهما). (أنست بالزائرتین الأدیبتین ، وسعدت بهما). أنست بالزائرین الأدیبین ، وسعدت بهم) ، (أنست بالزائرات الأدیبات ، وسعدت بهن.) ... و...

وهکذا نری أن إعمال الأول یقتضی أمرین محتومین ، ألّا یعمل الأخیر فی ذلک المعمول ، وأن یعمل هذا الأخیر فی ضمیر مطابق للمعمول فی الإفراد ، والتثنیة. والجمع ، والتذکیر ، والتأنیث. ویعتبر مرجع الضمیر فی کل الصور السالفة متقدما علیه ، بالرغم من تأخر لفظ المرجع - کما أسلفنا -.

وهناک حالة واحدة لا یصح فیها مجیء الضمیر لتعویض الأخیر المهمل ، وإنما یجب أن یحل محله اسم ظاهر ، تلک الحالة تتحقق بأن یکون هذا الفعل المهمل محتاجا إلی مفعول به لا یصح حذفه ؛ لأنه عمدة فی الأصل ، ولا یصح إضماره ، إذ لو أضمرناه لترتب علی إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ مثل : (أظن - ویظنانی أخا - محمودا وعلیّا ، أخوین) فکلمة : «محمودا» هی المفعول به الأول للفعل العامل : «أظن» ، وکلمة : «علیّا» معطوفة علیها. و «أخوین» هی المفعول به الثانی للفعل : «أظن». وإلی هناک استوفی الفعل العامل : «أظن» مفعولیه. وبقی الفعل الأخیر المهمل : «یظنان» وهو محتاج لمفعولین کذلک. فأین هما؟ أو أین ما یغنی عنهما؟

ص: 184


1- یجیز فریق من النحاة تقدیم هذا المعمول بعد عامله. وسیجیء فی الزیادة والتفصیل رأی مستقل.

إن «الیاء» ضمیر ، وهی مفعوله الأول. وبقی مفعوله الثانی ، فلو أتینا به ضمیرا أیضا ، فقلنا : أظن - ویظنانی إیاه - محمودا وعلیّا أخوین ، أی : أظن محمودا وعلیّا أخوین ویظنانی إیاه - لکان (إیاه) مطابقا فی الإفراد «للیاء» التی هی المفعول الأول ؛ فتتحقق المطابقة بینهما ، علی اعتبار أن أصلهما مبتدأ وخبر ، کما هو الشأن فی مفعولی : «ظن وأخواتها» ولکنها لا تتحقق بین الضمیر «إیاه» وما یعود علیه ؛ وهو : «أخوین» ؛ إذ «إیاه» ضمیر للمفرد ، ومرجعه دال علی اثنین ؛ فتفوت المطابقة بین الضمیر ومرجعه. وهذا غیر جائز. ولو أتینا بالضمیر الثانی مثنی فقلنا : أظنّ - ویظنانی إیاهما - محمودا وعلیّا ، أخوین - لتحققت المطابقة بین الضمیر ومرجعه ؛ فکلاهما لاثنین ، ولکن تفوت المطابقة بین المفعول الثانی والمفعول الأول ، مع أن الثانی أصله خبر عن الأول ، ولا بد من المطابقة بین المبتدأ والخبر ، أو ما أصلهما المبتدأ أو الخبر ، کما أشرنا.

فلما کان الإضمار هنا یوقع فی الخطأ وجب العدول عنه إلی الإظهار الذی یحقق الغرض ، ولا یوقع فی الخطأ ، فنقول : أظن - ویظنانی أخا - محمودا وعلیّا أخوین. أی : أظن محمودا وعلیّا أخوین ، ویظنانی أخا. وفی هذه الصورة لا تکون المسألة من باب التنازع(1).

3 - إذا أعملنا الأخیر ، وأهملنا الأول ، وجب الاستغناء عن تعویض الأول المهمل ؛ فلا نلحق به ضمیر المعمول (المتنازع فیه) ولا ما ینوب عن ذلک الضمیر. إلا فی ثلاث حالات ، لا بد فی کل واحدة من الإتیان بضمیر مطابق للمعمول ، المتأخر عن هذا الضمیر (وفی الحالات الثلاث یجوز عودة الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة (2).

الأولی : أن یکون المعمول المتأخر مرفوعا ، کأن یکون فاعلا مطلوبا لعاملین - أو أکثر - وکل عامل یریده لنفسه ؛ نحو : شرب وتمهل العاطش. فإذا أعملنا

ص: 185


1- لهذه الحالة نظیر (فی ص 187) ولکن عند إعمال الأخیر وإهمال الأول.
2- کما سبق فی بابی الضمیر ، والفاعل. ج 1 ص 184 م 20.

الأخیر وأهملنا الأول وجب إلحاق الضمیر المناسب بالأول (1) ؛ فنقول : (شربت ، وتمهلت العاطشة). (شربا ، وتمهل العاطشان). (شربتا ، وتمهلت العاطشتان) (شربوا وتمهل العاطشون). (شربن وتمهلت العاطشات).

الثانیة : أن یکون المعمول «المتنازع فیه» اسما منصوبا أصله عمدة ؛ کمفعولی «ظن» وأخواتها ؛ فأصلهما المبتدأ والخبر ؛ وکخبر «کان» وأخواتها (2). وفی هذه الحالة لا یحذف الضمیر المناسب وإنما یبقی ویوضع متأخرا عن المعمول (المتنازع فیه) ؛ نحو : أظنهما - ویظن محمد حامدا ومحمودا ، مخلصین - إیاهما ، فالفعلان تنازعا کلمة : «مخلصین» لتکون المفعول الثانی ... فجعلناها للأخیر ، وأعملنا الأول فی الضمیر العائد إلیهما متأخرا.

والمراد : یظن محمد حامدا ومحمودا مخلصین ، وأظنهما إیاهما ، أی : أظن حامدا ومحمودا المخلصین. «فحامدا» : مفعول أول للفعل : «یظن». و «محمودا» : معطوف علیه. «مخلصین» مفعول ثان للفعل : «یظن». و «أظنهما» : «أظن» : مضارع ، فاعله مستتر تقدیره : «أنا». «هما» ضمیر ، مفعول أول. وقد تقدم لیتصل بفعله ، لأن الاتصال ممکن ؛ وهذا یقتضی التقدیم فلا داعی للانفصال (3). «إیاهما» : المفعول الثانی الذی جاء متأخرا (4).

ومثل : کنت وکان الصدیق أخا إیاه. فالفعلان تنازعا کلمة : «أخا» لتکون خبرا ؛ فجعلناها للمتأخر منهما ، وأعملنا السابق فی ضمیر هذا الخبر وجعلنا الضمیر متأخرا بعد الخبر ؛ فالمراد : کان الصّدیق أخا ، وکنت إیاه ، أی : کنت أخا. ویصح : کنته ؛ لأن الاتصال ممکن وجائز ؛ فلا داعی للانفصال (5).

ص: 186


1- ولکی یقع الضمیر موقعا صحیحا نتخیل - کما سبق - أن الفعل المهمل قد تأخر عن مکانه إلی آخر الجملة وقد سبقته واو العطف وقبلها الفعل العامل وفاعله. وعلی أساس هذا التخیل نجیء بالضمیر مطابقا لمرجعه المتقدم علیه ، فکأن أصل الکلام : تمهلت العاطشة ، وشربت. تمهل العاطشان وشربا. تمهلت العاطشتان وشربتا. تمهل العاطشون وشربوا. تمهلت العاطشات وشر بن ...
2- إلا خبر الجامد منها ؛ مثل : «لیس» و «عسی» إذ لا یصلح الجامد الذی لیس فعل تعجب قیاسی أن یکون عاملا فی «التنازع» - کما أوضحنا فی ص 176 و 177 -.
3- طبقا لما سبق فی باب الضمیر من الجزء الأول م 20.
4- طبقا لما سبق فی باب الضمیر من الجزء الأول م 20.
5- هناک رأی حسن ، یجیز حذفه. وارتضاه کثیر من النحاة.

بقی أن نذکر حالة (1) لا یصح فیها حذف ضمیر الاسم المتنازع فیه ، ولا إعمال الأول المهمل فیه ، وإنما یجب أن یحل محله اسم ظاهر ؛ وهذه الحالة هی التی یکون فیها الفعل الأول المهمل محتاجا إلی مفعول به ، أصله عمدة ، فلا یحذف (2) ولو أضمرناه لترتب علی إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ نحو : (یظنانی ، وأظن الزمیلین أخوین - أخا). فکلمة : «أظن» مضارع ، فاعله مستتر ، تقدیره : «أنا». وهذا المضارع محتاج إلی مفعولین ، أصلهما : المبتدأ والخبر ؛ فلا یحذف واحد منهما. «الزمیلین» مفعوله الأول. «أخوین» : مفعوله الثانی. إلی هنا استوفی العامل الأخیر مفعولیه. بقی أن یستوفی المتقدم المهمل (وهو : «یظنان») مفعولیه. فالفعل «یظنان» مضارع. فاعله : «ألف الاثنین» و «الیاء». مفعوله الأول. فأین مفعوله الثانی؟

لو جئنا به ضمیرا مطابقا للمفعول الأول فقلنا : یظنانی - وأظن الزمیلین أخوین إیاه - لتحققت المطابقة بین المفعول الثانی : «إیاه» والمفعول الأول : «الیاء» وهی المطابقة الواجبة بین المبتدأ ، والخبر أو ما أصلهما المبتدأ والخبر. ولکن تفوت المطابقة بین الضمیر : «إیاه» الذی للمفرد ، ومرجعه المثنی ، وهو : «أخوین».

ولو جئنا به مثنی ؛ فقلنا : یظنانی - وأظن الزمیلین أخوین - إیاهما ، لتحققت المطابقة الواجبة بین الضمیر ومرجعه ؛ فکلاهما للتثنیة. وضاعت بین المفعول الثانی ، الدال علی التثنیة ، والمفعول الأول وهو «الیاء» الدالة علی المفرد ، مع أن المطابقة بینهما لازمة ؛ لأنهما فی الأصل مبتدأ وخبر.

فللخروج من هذا الحرج نأتی بالمفعول الثانی اسما ظاهرا ؛ فنقول. یظنانی وأظن الزمیلین أخوین - أخا. ولا تکون المسألة من باب «التنازع» (3).

فإن کان المفعول : «المتنازع فیه» لیس عمدة فی أصله ، وکان العامل هو المتأخر ، فالأحسن حذف المعمول ؛ نحو : عاونت وعاوننی الجار. ولیس من الأحسن أن یقال : عاونته وعاوننی الجار.

ص: 187


1- وهی التی أشرنا إلیها فی رقم 1 من هامش ص 184 عند إعمال الأول ، وإهمال الأخیر.
2- بالرغم من جواز الحذف فی غیر التنازع - انظر «ا» من ص 190.
3- فهی فی هذا کالتی سبقت فی ص 184.

الثالثة : أن یکون الضمیر مجرورا (1) ، ولو حذف لأوقع حذفه فی لیس. فیبقی ویوضع متأخرا عن المعمول ؛ نحو : استعنت ، - واستعان علیّ الزمیل - به. فالفعل الأول یطلب کلمة : «الزمیل» لتکون مجرورة بالباء : (أی : استعنت بالزمیل) والفعل الأخیر یطلبها لتکون فاعلا ؛ لأنه استوفی معموله المجرور بالحرف ، «علی» فأعملنا الفعل المتأخر فی الاسم الظاهر ، وأضمرنا بعده ضمیره مجرورا بالباء ، فقلنا : «به». ولو تقدم بحیث یقع بعد عامله المهمل ، ویتوسط بین الفعلین لترتب علی هذا تقدم الضمیر الفضلة ، المجرور علی مرجعه ، وهو غیر مستحسن فی هذه الصورة. ولو حذفناه وقلنا : استعنت - واستعان علیّ الزمیل لأدی حذفه إلی لبس ؛ إذ لا ندری : آلزمیل مستعان به ، أم مستعان علیه ...

فإن أمن اللبس فالأحسن الحذف مع ملاحظة المحذوف فی النیة ؛ فکأنه موجود نحو : مررت ومر بی الصدیق (2).

ص: 188


1- یعد المجرور بحرف جر للتعدیة بمنزلة المفعول به المنصوب حکما. (کما سبقت الإشارة فی رقم 2 من هامش ص 175).
2- عرض ابن مالک أحکام التنازع مجملة ، موجزة ، متداخلة. وساقها فی الأبیات القلیلة التالیة : وأعمل المهمل فی ضمیر ما تنازعاه ، والتزم ما التزما یرید : إذا أعمل واحد وأهمل الآخر ، فإن المهمل یعمل فی ضمیر الاسم المتنازع فیه ، مع التزام الطریقة التی أشار النحاة بالتزامها فی الإعمال ، أو : مع التزام الطریقة التی التزمها العرب فی مثل هذه الأسالیب. ولم یوضح هذه الطریقة ، ولم یتعرض لتفصیلها إلا بذکر مثالین فی البیت الآتی ؛ یوضح أولهما إعمال العامل الأخیر فی الاسم المتنازع فیه ، مع إعمال المتقدم فی ضمیره. ویوضح ثانیهما إعمال الأول فی ذلک الاسم المتنازع فیه مع إعمال الأخیر فی ضمیره ؛ وکلا الفعلین یحتاج للاسم الظاهر ، لیکون فاعلا له. یقول : کیحسنان ویسیء ابناکا وقد بغی واعتدیا عبداکا فالاسم المتنازع فیه هو : «ابناک» ، وقد أعمل فیه مباشرة الفعل المتأخر : «یسیء» أما الفعل المتقدم : «یحسن» فقد أعمل فی ضمیره ؛ فصار : «یحسنان» والمثال الذی فی الشطر الثانی یشتمل علی الاسم المتنازع فیه ؛ وهو : «عبداک» ، وقد أعمل فیه الأول : «بغی» وأهمل المتأخر وهو ؛ «اعتدی». ولکنه أعمل فی ضمیره ، فصار : «اعتدیا». ولم یحذف الضمیر فی المثالین ؛ لأنه ضمیر رفع ، فلا یحذف ... ثم انتقل إلی بیان حکم خاص بالعامل الأول المهمل ؛ یتلخص فی أنه لا یعمل فی ضمیر الاسم - - المتنازع فیه ، إلا إذا کان ذلک الضمیر للرفع ، فإن کان للنصب ، أو للجر لم یذکر مع الأول ، وإنما یحذف إن کان ضمیرا لیس عمدة فی الأصل ، ویؤخر إن کان أصله عمدة. (وقد شرحنا هذا تفصیلا ، وأوضحناه بالأمثلة). ویقول فیه : ولا تجئ مع أوّل قد أهملا بمضمر لغیر رفع أوهلا بل حذفه الزم إن یکن غیر خبر وأخّرنه إن یکن هو الخبر (أو هل : أهّل. أی : صار أهلا ، بمعنی أعدّ ، واستعمل فی غیر الرفع) ثم بین الحالة التی یحل فیها الظاهر محل الضمیر فقال : وأظهران یکن ضمیر خبرا لغیر ما یطابق المفسّرا نحو : أظنّ ویظنّانی أخا زیدا وعمرا أخوین فی الرّخا (الرخا - الرخاء. وهو سعة الرزق).

ص: 189

زیادة وتفصیل

یعدّ باب «التنازع» من أکثر الأبواب النحویة اضطرابا ، وتعقیدا ، وخضوعا لفلسفة عقلیة خیالیة ، لیست قویة السند بالکلام المأثور الفصیح ، بل ربما کانت مناقضة له.

(ا) فأما الاضطراب فیبدو فی کثرة الآراء والمذاهب المتعارضة التی لا سبیل للتوفیق بینها ، أو التقریب. وقد أهملنا أکثرها.

یتجلی هذا فی أن بعضها یجیز حذف المرفوع ؛ کالفاعل ، وبعضها لا یجیز. وفریق یجیز أن یشترک فعلان أو أکثر فی فاعل واحد ، وفریق یمنع. وطائفة تبیح الاستغناء عن المعمولات المنصوبة ، وعن ضمائرها ... ، وطائفة تبیح حذف ما لیس عمدة الآن أو فی الأصل ، وفئة تحتم تقدیر ضمیر المعمول متأخرا فی بعض الصور ، وفئة لا تحتم ... و... فلیس بین أحکام «التنازع» حکم متفق علیه ، أو قریب من الاتفاق ، حتی ما اخترناه هنا. وقد یبدو الخلاف واضحا فی کثیر من المسائل النحویة الأخری ، ولکنه فی مسائل «التنازع» أوضح وأفدح ، کما یبدو فی المراجع المطولة (1). حیث یدور الرأس ، وتضیق النفس.

ومن مظاهر الاضطراب أیضا أن یحرموا هنا ما أباحوه فی أبواب أخری ، فقد منعوا حذف ضمیر الاسم المتنازع فیه إن کان أصله عمدة ؛ کأحد مفعولی «ظن» وأخواتها ، مع أنهم أباحوا ذلک فی باب «ظن» (2). ومنعوا حذف المعمول إن کان فضلة ، والمهمل هو المتأخر ، مع أنهم أجازوه فی الأسالیب الأخری التی لیست للتنازع. ومنعوا هنا الإضمار قبل الذکر فی بعض الحالات ، مع أنهم أباحوه فی مکان آخر ... و... وکأنّ اسم هذا الباب قد سری إلی کل حکم من أحکامه.

(ب) وأما التعقید فلما أوجبوه مما لیس بواجب ، ولا شبه واجب ؛ فقد حتموا أن یکون ضمیر الاسم المتنازع فیه واجب التأخیر عنه حینا - فی رأی کثرتهم ؛

ص: 190


1- کالأشمونی وحاشیته ، والتوضیح وشروحه وحواشیه ، والجزء الثانی من الهمع و... و.
2- سبقت الإشارة لهذا فی رقم 2 من هامش ص 187.

فرارا من الإضمار قبل الذکر ، ومتقدما حینا آخر إذا تعذر تأخیره لسبب ما تخیلوه. وربما استغنوا عن الضمیر ، وأحلوا محله اسما ظاهرا مناسبا إذا أدی الإضمار إلی الوقوع فی مخالفة نحویة. ولقد نشأ من مراعاة أحکامهم هذه أسالیب لا ندری : ألها نظیر فی الکلام العربی أم لیس لها نظیر؟ کقولهم ما نصه الحرفیّ : (استعنت واستعان علیّ زید به. وظننت منطلقة وظنتنی منطلقا هند إیاها. وأعلمنی وأعلمته إیاه إیاه زید عمرا قائما. وأعلمت وأعلمنی زیدا عمرا قائما إیاه إیاه ... و... و...) (1) وهذا قلیل من الأمثلة البغیضة ، التی لا یطمئن المرء إلی أن لها نظائر فی الأسالیب المأثورة. ومن شاء زیادة عجیبة منها فلیرجع إلی مظانها فی المطولات.

(ح) وأما الخضوع إلی الفلسفة العقلیة الوهمیة فواضح فی عدد من مسائل هذا الباب ؛ منها : تحتیمهم التنازع فی مثل : قام وذهب محمد ؛ حیث یوجبون أن یکون الفاعل : «محمد» لأحد الفعلین ، وأما فاعل الآخر فضمیر. ولا یبیحون أن یکون لفظ : «محمد» فاعلا لهما ؛ بحجة «أن العوامل کالمؤثرات فلا یجوز اجتماع عاملین علی معمول واحد» (2) ولا ندری السبب فی منع هذا الاجتماع مع إباحته لو قلنا : «قام محمد وذهب» فإن فاعل الفعل : «ذهب» ضمیر یعود علی محمد. فمحمد فی الحقیقة فاعل الفعلین ؛ ولا یقبل غیر هذا ...

من کل ما سبق یتبین ما اشتمل علیه هذا الباب من عیوب الاضطراب ؛ والتعقید ، والتخیل الذی لا یؤیده - فی ظننا - الفصیح المأثور.

ومن سلامة الذوق الأدبی وحسن التقدیر البلاغی الفرار من محاکاة الصور البیانیة وأسالیب التعبیر الواردة بهذا الباب - ولو کان لها نظائر مسموعة - لقبح ترکیبها ، وصعوبة الاهتداء إلی صیاغتها الصحیحة ، ولغموض معانیها ...

ولتدارک هذا کله ، والوصول إلی أحکام واضحة ، سهلة ، لا غبار علیها من ناحیة السلامة اللغویة ، وقوة مشابهتها للکلام البلیغ ، وتناسقها مع الأحکام

ص: 191


1- الأشمونی - فی هذا الباب - عند شرح بیت ابن مالک الذی شطره الأخیر : (.. وأخرته إن یکن هو الخبر) وکذا فی المطولات الأخری.
2- حاشیة الصبان وغیره. وقد أجاز الاجتماع فریق آخره ، ودفع الإجازة فریق ثالث!! وهکذا دوالیک.

النحویة الأخری - نری أن تکون أحکام التنازع مقصورة علی ما یأتی (وکلها مستمدّ من آراء ومذاهب لبعض النحاة ، تضمنتها الکتب المتداولة ، وهذا ما نود التنویه به) :

1 - تعریف التنازع : هو ما سبق أن ارتضیناه من مذاهب النحاة ، ونقلناه أول هذا الباب.

2 - تتعدد العوامل ؛ فتکون اثنین ، أو أکثر. وقد تتعدد المعمولات ، أو لا تتعدد بشرط أن تکون أقل عددا من عواملها المتنازعة.

3 - کل عامل من العوامل المتعددة یجوز اختیاره وحده للعمل فی المعمول المذکور فی الکلام. ولا ترجیح من هذه الناحیة ، لعامل علی آخر.

4 - إذا تعددت العوامل وکان کل واحد منها محتاجا إلی معمول مرفوع ؛ (کاحتیاجه إلی الفاعل فی مثل : جلس وکتب المتعلم) فالمرفوع المذکور یکون لأحدها ، أما غیره فمرفوعه ضمیر یعود علی ذلک الاسم المرفوع. ولا مانع هنا من عودة الضمیر علی متأخر فی الرتبة. ویجوز أن یکون المرفوع مشترکا بین العوامل المتعدد کلها (1) ؛ إذا کان متأخرا عنها فیکون فاعلا - مثلا - ولا یحتاج واحد منها للعمل فی ضمیره.

5 - إذا تعددت العوامل وکان کل منها محتاجا إلی معمول غیر مرفوع جاز اختیار أحدهما للعمل ، وترک الباقی من غیر عمل ، لا فی ضمیر المعمول ، ولا فی اسم ظاهر ینوب عنه ؛ لأن الاستغناء عن هذا الضمیر أو ما یحل محله من اسم ظاهر ، جائز فی الأسالیب الخالیة من التنازع. فلا بأس أن یجری فی التنازع أیضا ، وبعض المأثور من أمثلة التنازع یطابق هذا ویسایره. ولا فرق بین ما أصله عمدة ، وما أصله فضلة. وإذا أوقع الحذف فی لبس وجب إزالته بإحدی الوسائل التی لا تعقید فیها ، ولا تهوی بقوة الأسلوب ، وحسن ترکیبه.

ص: 192


1- وتعدد العوامل مع وجود معمول واحد لها ، رأی یبیحه ویصرح به بعض أئمة النحو ؛ کالفراء - ومکانته بین کبار النحاة معروفة. وقد أوضحناها فی ج 3 م 98 ص 158 باب : «أبنیة المصادر».

المسألة 74: المفعول المطلق

اشارة

معناه

(1) الفعل یدل علی أمرین معا ؛ أحدهما : المعنی المجرد (2) ، ویسمی : «الحدث» والآخر : الزمان ؛ ففی مثل : رجع المجاهد ؛ فأسرع الناس لاستقباله ، وفرحوا بقدومه ، یدل کل فعل من الأفعال الثلاثة : (رجع - أسرع - فرح ...) بنفسه مباشرة ؛ - أی : من غیر حاجة إلی کلمة أخری ، - علی أمرین.

أولهما : معنی محض نفهمه بالعقل ؛ هو : الرجوع - الإسراع - الفرح ... وهذا المعنی المجرد هو ما یسمی أیضا : «الحدث».

وثانیهما : زمن وقع فیه ذلک المعنی المجرد (الحدث) وانتهی قبل النطق بالفعل ، فهو زمن قد فات ، وانقضی قبل الکلام. وهذا الفعل یسمی : «الماضی».

ولو غیرنا صیغة الفعل ؛ فقلنا : یرجع المجاهد ؛ فیسرع الناس لاستقباله ، ویفرحون بقدومه - لظلّ کل فعل دالّا علی الأمرین : المعنی المجرد ، والزمن. ولکن الزمن هنا صالح للحال والاستقبال. وهذا هو : «الفعل المضارع».

ولو غیرنا الصیغة مرة ثالثة فقلنا : ارجع ... أسرع ... افرح - لدلّ الفعل فی صورته الجدیدة علی الأمرین ؛ المعنی المجرد ، والزمن ، لکن الزمن

ص: 193


1- المطلق ، أی : الذی لیس مقیدا تقیید باقی المفاعیل - بذکر شیء بعده ، کحرف جر مع مجروره ، أو غیره من القیود ؛ کالمفعول به - المفعول لأجله - المفعول معه ... ویقولون فی سبب إطلاقه : إنه المفعول الحقیقی لفاعل الفعل ؛ إذ لم یوجد من الفاعل إلا ذلک الحدث ؛ نحو : قام المریض قیاما. فالمریض قد أو جد القیام نفسه ، وأحدثه حقّا بعد أن لم یکن ؛ بخلاف باقی المفعولات ، فإنه لم یوجدها ، وإنما سمیت باسمها باعتبار إلصاق الفعل بها ، أو وقوعه لأجلها ، أو معها ، أو فیها ؛ فلذلک لا تسمی مفعولا إلا مقیدة بشیء بعدها. هذا ، وقد لازمته کلمة : «المطلق» حتی صارت قیدا.
2- أی : العقل المحض الذی لا کیان ولا وجود له إلا فی العقل ؛ فهو صورة عقلیة بحتة ؛ فلا یقوم بنفسه ، وإنما یقوم بغیره ، ولا یدل علی صاحبه الذی یقوم به ، ولا علی إفراد ، ولا تثنیة ، ولا جمع ، ولا تذکیر ، ولا تأنیث. هذا هو المراد من «التجرید البحت».

هنا مستقبل فقط. وهذا هو : «فعل الأمر» فالفعل بأنواعه الثلاثة یدل علی المعنی المجرد (الحدث) والزمان (1) معا.

ولو أتینا بمصدر صریح (2) - لتلک الأفعال - أو غیرها - لوجدناه وحده یدل علی المعنی المجرد (الحدث) فقط ؛ کالمصدر وحده فی مثل : الرجوع حسن - الإسراع نافع - الفرح کثیر. فهو یدل علی أحد الشیئین اللذین یدل علیهما الفعل. وهذا معنی قولهم : «المصدر الصریح (3) یدل - فی الغالب (4) - علی الحدث دون الزمان» (5).

والمصدر الصریح أصل المشتقات - فی الرأی الشائع (6) - ، ویصلح لأنواع الإعراب المختلفة ؛ فیکون مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا ، ومفعولا به ... و... و... وقد یکون منصوبا فی جملته باعتباره مصدرا صریحا جاء لغرض معنوی ؛ کتأکید معنی عامله المشارک له فی المادة اللفظیة (أو غیر هذا مما سیجیء هنا) مثل : حطّم التمساح السفینة تحطیما. وفی هذه الحالة وأشباهها یسمی : «مفعولا

ص: 194


1- وهذا هو الغالب ؛ لأن هناک أفعالا لا تدل علی الزمان کنعم وبئس فی المدح والذم ، وکالأفعال التی فی التعریفات العلمیة ، وغیرها ، مما أوضحناه وفصلناه - فیما یتعلق بمعنی الفعل ، وأقسامه ، والزمان ، وغیره - بالجزء الأول ص 29 م 4.
2- غیر مؤول. وإذا أطلق المصدر کان المراد : الصریح.
3- لأن المؤول یدل علی زمن معین ، (علی الوجه الذی بسطناه فی مکانه من الجزء الأول ص 302 م 29).
4- لأن المصدر الصریح قد یدل مع الحدث علی المرة ، أو الهیئة. وإیضاح هذا وتفصیله فی موضعه الخاص من بابهما (ج 3 ص 144 و 161 ، 174).
5- وإلی هذا أشار ابن مالک بقوله. المصدر اسم ما سوی الزّمان من مدلولی الفعل ؛ کأمن ، من أمن - 1 یقول فی تعریف المصدر : إنه اسم یطلق علی شیء غیر الزمان من المدلولین اللذین یدل علیهما الفعل. ولما کان هذان المدلولان هما : الحدث والزمان ، وقد صرح بأنه یدل علی غیر الزمان - اتجهت الدلالة بعد ذلک إلی المعنی المجرد وحده. ومثل للمصدر بکلمة : «أمن» وقال عنه : إنه من الفعل الماضی : «أمن» ، یرید بذلک : أن معنی هذا المصدر هو بعض مما یحویه الفعل «أمن» إذ الأمن یدل علی المعنی المجرد الذی هو أحد شیئین یدل علیهما الفعل : أمن.
6- راجع الرأی فی ج 3 باب : أبنیة المصادر. ص 144 م 98 وفی 99 161 م باب : «إعمال المصدر واسمه».

مطلقا» (1) ، ویقال فی إعرابه : إنه منصوب علی المصدریة ، أو منصوب ، لأنه مفعول مطلق.

وإذا کان منصوبا علی هذه الصورة الخاصة فناصبه قد یکون مصدرا آخر من لفظه ومعناه ، أو من معناه فقط. وقد یکون فعلا (2) من مادته ومعناه ، أو من معناه فقط ، وقد یکون الناصب له وصفا متصرفا یعمل عمل فعله - إلا أفعل التفضیل - کقولهم : إن الترفع عن الناس ترفعا أساسه الغطرسة ، یدفع بصاحبه إلی الشقاء دفعا لا یستطیع منه خلاصا. وقولهم : المخلص لنفسه إخلاص العقلاء یصدّها عن الغیّ ؛ فیسعد ، والمعجب بها إعجاب الحمقی یطلق لها العنان فیهلک (3).

فالمصدر : «ترفّعا» - قد نصب بمصدر مثله ؛ هو : ترفّع.

والمصدر : «دفعا» - قد نصب بالفعل المضارع قبله ؛ وهو : یدفع.

والمصدر : «إخلاص» - قد نصب باسم الفاعل قبله ؛ وهو : المخلص.

والمصدر : «إعجاب» - قد نصب باسم المفعول قبله ؛ هو : المعجب.

وکقولهم : الفرح فرحا مسرفا ، کالحزین حزنا مفرطا ؛ کلاهما مسیء لنفسه ، بعید عن الحکمة والسداد.

فالمصدر : «فرحا» منصوب بالصفة المشبهة قبله وهی : «الفرح».

ص: 195


1- سیجیء تعریفه فی رقم 2 من هامش ص 198.
2- بشرط أن یکون متصرفا ، وتاما ، وغیر ملغی عن العمل ، فخرج الفعل الجامد ؛ کفعل التعجب ، والناقص مثل کان. والملغی ، مثل «ظن» عند إلغائها بالطریقة السابقة - فی ص 37 -
3- وفی هذا یقول ابن مالک : بمثله ؛ أو فعل ، أو وصف نصب وکونه أصلا لهذین انتخب - 2 بیّن فی هذا البیت حکم المصدر ، وأنه قد ینصب بمصدر مثله ، أو بفعل ، أو وصف ، وانتخب کونه أصلا للفعل والوصف ؛ أی : وقع الاختیار والتفضیل علی الرأی القائل بهذا. ثم بین أقسام المصدر بحسب فائدته المعنویة ؛ فقال : توکیدا ، أو نوعا یبین ، أو عدد کسرت سیرتین ، سیر ذی رشد - 3 أی : أن المصدر قد یفید التوکید ، أو یبین النوع ، أو یبین العدد. وساق مثالا یجمع الأقسام الثلاثة ؛ فإن : «سیرتین» هی لبیان العدد مع التوکید أیضا ، و «سیر ذی رشد» لبیان النوع مع التوکید أیضا. وترک القسم الرابع النائب عن عامله. وسیجیء فی ص 207.

وکذلک المصدر : «حزنا» ؛ فإنه منصوب بالصفة المشبهة قبله ، وهی : «الحزین» (1).

* * *

تقسیم المصدر بحسب فائدته المعنویة

(ا) قد یکون الغرض من المصدر أمرا واحدا ؛ هو : أن یؤکّد - توکیدا لفظیّا - معنی عامله المذکور قبله ، ویزیده قوة ، ویقرره ؛ (أی : یبعد عنه الشک واحتمال المجاز.) ویتحقق هذا بالمصدر المنصوب المبهم (2) ، نحو : بلع الحوت الرجل بلعا - طارت السمکة فی الجو طیرانا ...

(ب) وقد یکون الغرض من المصدر المنصوب أمرین معا ؛ - فهما متلازمان - : توکید معنی عامله المذکور ، وبیان نوعه ، ویکون بیان النوع هو الأهم (3) ؛

ص: 196


1- والصفة المشبهة تنصب المصدر فی الرأی الأنسب ؛ لأن فیه تیسیرا - کما سیجیء فی بابها ج 3 م 105 «ملاحظة» : قد یکون العامل فی المنادی هو العامل فی نصب المصدر. ومن الأمثلة قول الشاعر : یا هند دعوة صبّ هائم دنف منّی بوصل ، وإلا مات أو کربا (راجع الهمع ج 1 ص 173. وستجیء لهذا إشارة فی ج 4 باب النداء ، م 127 ص 6)
2- المصدر المبهم هو الذی یقتصر علی معناه المجرد دون أن تجیء له زیادة معنویة من ناحیة أخری ؛ کإضافة أو وصف ، أو عدد ، أو «أل» التی للعهد ... والمصدر ، المختص ما یؤدی معناه المجرد مع زیادة أخری تجیء لمعناه من خارج لفظه ؛ کالتی تجیء له من الإضافة ، أو الوصف .. أو أو .. والبلاغة تقتضی أن یکون استعمال المصدر المبهم مقصورا علی الحالة یکون فیها معنی عامله موضع غرابة أو شک ؛ فیزیل المصدر المبهم تلک الغرابة ، وهذا الشک ؛ کالأمثلة التی عرضناها. فلیس من البلاغة أن یقال : قعدت قعودا - أکلت أکلا .. وأشباه هذا ، مادام الفعل : «قعد» أو أکل ، لیس موضع غرابة أو شک. نعم التعبیر صحیح لغویا ، ولکنه رکیک بلاغیا. أما مثل : طارت السمکة طیرانا ، فالبلاغة ترضی عن مجیء المصدر المبهم ؛ لغرابة معنی عامله ، وتشکک السامع فی صحته ... وهکذا ... وتوکید المصدر لعامله هو من نوع التوکید اللفظی - الذی سیجیء فی الجزء الثالث م 116 ص 434 - ؛ فیؤکد نفس عامله إن کان مصدرا مثله ، ویؤکد مصدر عامله الذی لیس بمصدر لیتحد المؤکّد والمؤکّد معا فی نوع الصیغة ؛ (تطبیقا لشرط التوکید اللفظی ، ومنه التوکید بالمصدر الذی نحن فیه) ؛ فمعنی قولک : عبرت النهر عبرا - أو جدت عبرا عبرا. وهذا رأی المحققین. لکن سیترتب علی الأخذ برأیهم حذف المؤکّد فی التوکید اللفظی ، وهذا الحذف ینافی الغرض من التوکید اللفظی. وفوق هذا عامله الحقیقی محذوف أیضا ؛ ففی الکلام حذف کثیر. هل یجاب بأن اؤکّد مع حذفه ملاحظ یدل علیه اللفظ المذکور الذی یشارکه فی الاشتقاق ، وهو : «عبرت» فهو محذوف کالمذکور؟
3- یدخل فی هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة علی الهیئة ، (وسیجیء الکلام علیه فی ج 3 م 100)

نحو : نظرت للعالم نظر الإعجاب والتقدیر ، وأثنیت علیه ثناء مستطابا. وقوله تعالی : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِیَةٌ ، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِیلَ،) ولیس من الممکن بیان النوع (1) من غیر توکید معنی العامل.

(ح) وقد یکون الغرض منه أمرین متلازمین أیضا ؛ هما : توکید معنی عامله المذکور مع بیان (2) عدده ، ویکون الثانی هو الأهم. ولا یتحقق الثانی بغیر توکیده معنی العامل ؛ نحو : قرأت الکتاب قراءتین ، وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات.

(د) وقد یکون الغرض منه الأمور الثلاثة مجتمعة (3) ؛ نحو : قرأت الکتاب قراءتین نافعتین - وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات طویلات ... ولا بد من اعتبار المصدر مختصّا فی هذه الحالات الثلاث الأخیرة : (ب - ج - د) لأن المصدر المبهم مقصور علی التوکید المحض ؛ لا یزید علیه شیئا. فإذا دلّ مع التوکید علی بیان النوع ، أو بیان العدد ، أو هما معا - وجب اعتباره مصدرا مختصّا.

ومما تقدم نعلم أن فائدة المصدر المعنویة قد تقتصر علی التوکید وحده. ولکنها لا تقتصر علی بیان النوع وحده ، أو بیان العدد وحده. أو علیهما معا ؛ إذ لا بد من إفاة التوکید فی کل حالة من هذه الحالات الثلاث. ومن ثمّ قسّم

ص: 197


1- یقولون : إن المصدر النوعی إن کان مضافا فالأصح اعتباره نائب مصدر ؛ لاستحالة أن یفعل الإنسان فعل غیره ؛ وإنما یفعل فعله الصادر منه ؛ فالأصل فی مثل : سرت سیر ذی رشد ؛ هو ؛ سرت سیرا مثل سیر ذی رشد ؛ فحذف المصدر ، ثم صفته ، وأنیب المضاف إلیه منابه. ولو لا ذلک لکان المعنی : أن سیر ذی الرشد قد سرته هو نفسه ؛ وهذا فاسد ، إذ کیف أسیر السیر المنسوب لذی الرشد؟ کیف یکون ذو الرشد هو الذی ساره وأوجده فی حین أقول أنا الذی سرته وأوجدته؟ ففی الکلام تناقض وفساد لا یزیلهما إلا اعتبار النوعی المضاف نائب مصدر. وهذا کلام دقیق ، یتجه إلیه غرض المعربین ، وإن لم یتقیدوا به فی إعرابهم الشائع المقبول أیضا ؛ تیسیرا وتخفیفا. (راجع رقم 1 هامش ص 204).
2- ویدخل فی هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة علی المرة ، وهو - فی الغالب - لا یعمل ، کسائر المصادر العددیة. (وسنشیر لهذا فی رقم 4 من هامش ص 199 وفی ص 200. أما تفصیل الکلام علیه ففی بابه الخاص من ج 3 م 100).
3- هی : توکید المعنی ، وبیان النوع ، وبیان العدد.

بعض النحاة المصدر قسمین ؛ مبهما ؛ ویراد به : المؤکّد لمعنی عامله المذکور. ومختصّا ؛ ویراد به المؤکّد أیضا مع زیادة بیان النوع ، أو بیان العدد ، أو بیانهما معا.

وقسمه بعض آخر ثلاثة أقسام ؛ هی : المؤکّد لعامله المذکور ، والمؤکد المبین لنوعه ، والمؤکد المبین لعدده ، وسکت عن المؤکّد المبین للنوع والعدد معا ؛ لأنه مرکب من الأخیرین ؛ فهو مفهوم ومقبول بداهة. ونتیجة التقسیم واحدة (1).

أمثلة لما سبق :

أمثلة للتوکید وحده : کلم الله موسی تکلیما - غزا العلم الکواکب غزوا - صافح الفیل صاحبه مصافحة.

أمثلة للتوکید مع بیان النوع : ترنّم المغنّی ترنم البلبل - رسم الخبیر رسما بدیعا - أجاد المطرب إجادة الموسیقیّ.

أمثلة للتوکید مع بیان العدد : قرأت رسالة الأدیب قراءة واحدة ، وقرأها أخی قراءتین ، وقرأها غیرنا ثلاث قراءات.

أمثلة للتوکید مع بیان الأمرین : ترنمت ترنیمی البلبل والمغنی الساحرین - رحلت لبلاد الشام ثلاث رحلات جمیلات.

والنحاة یسمون المصدر المنصوب الدال بنفسه علی نوع مما سبق (2) : «المفعول المطلق».

ص: 198


1- وهناک قسم آخر - سیجیء فی ص 207 - هو المصدر النائب عن عامله المحذوف ، وهو مستقل بنفسه فی رأی حسن ؛ ولذا یقول المحققون إن أقسام المصدر أربعة ، والأخذ بهذا الرأی أنفع ، لأنه یذلل صعوبات لا یمکن تذلیلها إلا بالتأویل والتقدیر والتکلف من غیر داع. ومن أمثلة هذا : أن المصدر المؤکد لعامله لا یجوز فی الغالب حذف عامله - کما سیجیء فی ص 200 و 207 وفی رقم 1 من هامش ص 208 - ، ولا أن یعمل ، مع أن هناک أنواعا من المصادر قد تؤکد عاملها وتعمل عمله مع وجوب حذفه ؛ کالمصدر النائب عن عامله المحذوف ، فهذا تناقض یمنعه أن یکون هذا قسما مستقلا.
2- یقول ابن هشام فی تعریف المفعول المطلق : «إنه اسم یؤکد عامله ، أو یبین نوعه ، أو عدده. ولیس خبرا عن مبتدأ (کقولنا : علمک علم نافع) ولا حالا (نحو : ولی مدبرا) ...» اه لا داعی لقوله : (لیس خبرا عن مبتدأ) ؛ لأن هذا الخبر مرفوع وعمدة ، کما أن خبر النواسخ عمدة. ولا لقوله : (لیس حالا) ، لأن الحال مشتق - فی الغالب - أما المفعول المطلق فلیس مرفوعا ولا عمدة ، ولیس بمشتق فی الغالب ... - هذا ، والحال فی المثال مؤکدة لعاملها -

فالمفعول المطلق تسمیة یراد منها : المصدر المنصوب المبهم أو المختص. وقد یراد منها : النائب عن ذلک المصدر فهی تسمیة صالحة لکل واحد منهما ، تنطبق علیه. - کما سنعرف (1). -

حکم المصدر

(2)

1 - إذا کان المصدر مؤکّدا لعامله المذکور فی الجملة تأکیدا محضا ؛ فإنه لا یرفع فاعلا (3) ، ولا ینصب مفعولا به. إلا إن کان مؤکّدا نائبا عن فعله المحذوف (4) کما لا یجوز - فی الرأی الشائع - تثنیته ، ولا جمعه ما دام المراد منه فی کل حالة هو المعنی المجرد ، دون تقییده بشیء یزید علیه ، أی : ما دام المصدر مبهما ؛ فلا یقال : صفحت عن المخطئ صفحین ، ولا وعدتک وعودا. إلا إن کان المصدر المبهم مختوما بالتاء ؛ مثل التلاوة ؛ فیقال : التلاوتان والتلاوات.

وسبب امتناع التثنیة والجمع أن المصدر المؤکّد مقصود به معنی الجنس (5) ؛ لا الأفراد ؛ فهو یدل بنفسه علی القلیل والکثیر ، فیستغنی بهذه الدلالة عن الدلالة

ص: 199


1- سنعلم مما سیجیء فی ص 201 أن هناک أشیاء تنوب عن المصدر الأصیل عند حذفه ؛ فتعرب مفعولا مطلقا ، أو نائب مصدر ، ولا تعرب مصدرا. وعلی هذا قد یکون المصدر مفعولا مطلقا کالأمثلة السابقة ، وقد یکون المصدر غیر المفعول المطلق ؛ وذلک إذا کان المصدر مرفوعا ، أو مجرورا أو کان منصوبا لا یبین توکیدا ، ولا نوعا ، ولا عددا ، نحو : القتل أشنع الجرائم ، والفتنة أشد من القتل. إن القتل أشنع الجرائم. وقد یکون المفعول المطلق غیر مصدر ؛ کالأشیاء التی أشرنا إلیها ؛ وهی التی تنوب عن المصدر عند حذفه فالمصدر والمفعول المطلق یجتمعان معا فی بعض الحالات فقط ، وینفرد کل منهما بحالات لا یوجد فیها الآخر. (وهذا یسمی عند المناطقة : بالعموم الوجهی بین شیئین ؛ فیجتمعان معا فی جهة معینة ، وینفرد کل منهما فی جهة أخری تجعله أعم. وأشمل ، وأکثر أفراد من نظیره ...)
2- أفرد النحاة لإعمال المصدر بابا خاصا بهذا العنوان ، یشمل شروط إعماله ، ومختلف أحکامه ، (وسیجیء فی ج 3 ص 161 م 99).
3- لأنه نوع من التوکید اللفظی - کما أشرنا فی رقم 2 من هامش ص 196 - والتوکید اللفظی لا یکون عاملا ولا معمولا ، إلا فیما نص علیه البیان المدون هنا ، وفی بابه الخاص.
4- هذه الحالة الفریدة التی یعمل فیها المصدر المؤکد عمل فعله. وستجیء مواضع نیابته عنه فی ص 207 م 76 ، أما المبین - بنوعیه - فلا یعمل فی الغالب ، کما سنذکره.
5- المراد : الجنس الإفرادی ، وهو ما یصدق علی القلیل والکثیر ، مثل ، ماء - هواء - ضوء (راجع ج 1 ص 15 م 1).

العددیة فی المفرد ، والتثنیة ، والجمع ؛ لأن دلالته تتضمنها ومثل المصدر المؤکد ما ینوب عنه.

ولا یجوز أیضا - فی الغالب - حذف عامل المصدر المؤکّد ولا تأخیره ؛ عن معموله المصدر ؛ لأن المصدر جاء لتقویة معنی عامله ، وتقریره بإزالة الشک عنه ، وإثبات أنه معنی حقیقی ، لا مجازی ، والحذف مناف للتقویة والتقریر. لکن هناک مواضع یحذف فیها عامل المصدر المؤکّد وجوبا بشرط إنابة المصدر عنه ، وستجیء (1).

2 - أما المصدر المبین للنوع - إذا اختلفت أنواعه - أو المبین للعدد ، فیجوز تثنیتهما وجمعهما ، وتقدمهما علی العامل ، وهما فی حالة الإفراد أو التثنیة أو الجمع ، ولا یعملان شیئا - فی الغالب - (2) ؛ فلیس لهما فاعل ولا مفعول ... فمثال تثنیة الأول وجمعه : سلکت مع الناس سلوکی العاقل ؛ الشدة حینا ، والملاینة حینا آخر - سرت سیر الخلفاء الراشدین ؛ أی : سلکت مع الناس نوعین من السلوک ، وسرت معهم أنواعا من السّیر (ولیس المراد بیان عدد مرات السلوک ، وأنه کان مرتین ، ولا بیان عدد مرات السیر ، وأنه کان متعددا ، وإنما المراد بیان اختلاف الأنواع فی کل حالة ، بغیر نظر للعدد).

ومثال الثانی : خطوت فی الحدیقة عشر خطوات ، ودرت فی جوانبها أربع دورات(3).

ص: 200


1- فی ص 207 م 76.
2- وقد یعمل المبین للنوع أحیانا ، کأن یکون مضافا لفاعله ، ناصبا مفعوله أو غیر ناصب ؛ نحو : تألمت من إیذاء القویّ الضعیف - حزنت حزن المریض. وهذا العمل - علی قلته - قیاسی. (کما سیجیء البیان فی ج 3 م 99.)
3- وإلی هذا یشیر ابن مالک ببیت ذکره متأخرا عن هذا المکان المناسب له - وسیجیء فی هامش ص 06 - : وما لتوکید فوحّد أبدا وثنّ ، واجمع غیره ، وأفردا أی : أن المصدر الدال علی التوکید یجب توحیده ؛ أی : إفراده ؛ فلا یترک الإفراد إلی التثنیة أو إلی الجمع. أما غیره فثنه إن شئت ، أو اجمعه ، أو أفرده ، أی : اجعله مفردا. وقد أوضحنا فی الصفحة الآتیة أن النائب عن المصدر المؤکد ، أو : المبین ، یجری علی حکمه.

المسألة 75: حذف المصدر الصریح ، وبیان ما ینوب عنه

اشارة

یجوز حذف المصدر الصریح بشرطین : أن تکون صیغته : (أی : مادته اللفظیة) من مادة عامله اللفظیة (1) ، وأن یوجد فی الکلام ما ینوب عنه بعد حذفه.

وحکم هذا النائب النصب دائما (2). ویذکر فی إعرابه : أنه منصوب لنیابته عن المصدر المحذوف ، أو : منصوب لأنه مفعول مطلق ، ولا یصح فی الإعراب الدقیق أن یقال : «منصوب لأنه مصدر» ؛ ذلک لأنه لیس مصدرا للعامل المذکور ؛ إذ مصدر العامل المذکور قد حذف ، وهذا نائب عنه ... فمن الواجب عدم الخلط بین المصطلحات ، والتحرز من الخطأ فی مدلولاتها ؛ فعند إعراب المصدر الأصلی المنصوب نقول : إنه «مصدر منصوب» ، أو : «مفعول مطلق» منصوب کذلک. أما عند حذف المصدر الأصلی ووجود نائب عنه فنقول فی إعرابه : «إنه نائب عن المصدر المحذوف ، منصوب» ، أو : «مفعول مطلق ، منصوب» ، ولا یصح أن یقال : مصدر.

ص: 201


1- یشترط النحاة أن یکون المصدر متأصلا فی المصدریة. ویفسرونها بأنها التی تکون من لفظ عامله وحروفه ، لا مطلق المصدر ؛ ففی مثل : سررت فرحا - أو فرحت جذلا - لا تعدّ کلمة «فرحا» ولا کلمة : «جذلا» مصدرا متأصلا للفعل المذکور ؛ لعدم الاشتراک اللفظی فی الصیغة ، وإنما هما نائیتان عن المصدرین الأصیلین المحذوفین ، والأصل : «سررت سرورا» ، و «فرحت فرحا» ، ثم حذف المصدر الأصیل ، وناب عنه مصدر آخر من غیر لفظه ، ولکنه یرادفه من جهة المعنی. لهذا یعربون المصدر المرادف السالف «نائبا عن المصدر الأصیل» ، أو : «مفعولا مطلقا» کما قلنا ، وکما عرفنا فی رقم 2 من هامش ص 199 أن المفعول المطلق قد یطلق - أحیانا - علی المصدر الأصیل المنصوب علی المصدریة ، وقد یطلق علی ما ینوب عنه أحیانا أخری ، کما فی هذا المرادف. والمترادفان هما اللفظان المشترکان فی المعنی تمام الاشتراک - بحیث یؤدی أحدهما المعنی الذی یؤدیه الآخر - مع اختلاف صیغتهما فی الحروف ؛ مثل : (فرح ، وجذل) ومثل : (شنآن ، وکره) ومثل : (حبّ ، ومقة).
2- مع خضوعه لبقیة الأحکام التی کان یخضع لها المصدر المحذوف کما أشرنا قریبا فی آخر الهامش ص 200.

والأشیاء التی تصلح للإنابة کثیرة (1) ؛ منها : ما یصلح للإنابة عن المصدر المؤکّد ، وقد ینوب عن المصدر المبیّن أیضا إذا وجدت قرینة تعیّن المصدر المبین المحذوف. ومنها ما لا ینوب عن المصدر المؤکّد ، ولکنه ینوب عن غیره من باقی أنواع المصدر. فمما یصلح للإنابة عن المصدر المؤکّد :

1 - مرادفه (2) ؛ مثل : أحببت عزیز النفس مقة ، وأبغضت الوضیع کرها.

2 - اسم المصدر (3) ، بشرط أن یکون غیر علم (4) : نحو : توضأ المصلّی وضوءا - اغتسل - الصانع غسلا. فالوضوء والغسل اسما مصدرین للفعلین قبلهما ، نائبین عن المحذوف. ومثل : فرقة ، وحرمة ، فی قولهم : افترق الأصدقاء فرقة ، ولکنی أحترم عهودهم حرمة. فالکلمتان اسما مصدرین للفعلین «افترق ، واحترم» قبلهما. ونائبین عن المصدرین المحذوفین (5) ؛ کالشأن فی کل ما یلاقی المصدر فی أصول مادة الاشتقاق (6) ؛ بأن یشارکه فی حروف مادته الأصلیة ؛

ص: 202


1- یتبین مما یأتی أن أربعة أشیاء تصلح للنیابة عن کل مصدر أصیل محذوف هی : المرادف - ملاقیه فی الاشتقاق ، ومن هذا اسم المصدر غیر العلم - الضمیر - اسم الإشارة.
2- راجع رقم 1 من هامش الصفحة الماضیة.
3- هو : ما ساوی المصدر فی الدلالة علی معناه ، وخالفه من ناحیة الاشتقاق. بنقص بعض حروفه عن حروف المصدر - وهذا هو الغالب - کما فی الأمثلة المعروضة. فهما یتلاقیان فی الاشتقاق. ولکن الغالب أن اسم المصدر تقل حروفه عن حروف المصدر الذی یلاقیه فی مادة الاشتقاق ، وقد عرضوا للفرق بین المصدر واسم المصدر من الناحیة اللفظیة السابقة ، ومن الناحیة المعنویة ؛ فقالوا فیهما : إن لفظ المصدر یجمع فی صیغته جمیع حروف فعله ؛ فهو یجری علیه فی أمرها ، واسم المصدر لا یجری علی فعله وإنما ینقص عن حروفه - غالبا - وإن معنی المصدر ومدلوله هو : الحدث. أما اسم المصدر فمعناه ومدلوله المصدر لا الحدث ، فهو یدل علی الحدث بواسطة. أی : أن المصدر یدل علی الحدث مباشرة وبالإصالة ، واسم المصدر بمنزلة النائب عنه فی ذلک. علی أن تفصیل الکلام علی تعریفهما وإیضاح الفروق الدقیقة بینهما وسرد أحکامهما - سیجیء فی الباب الخاص بهما ؛ وهو : باب إعمال المصدر واسمه (ح 3 ص 161 م 99).
4- وحجتهم أن العلمیة معنی زائد علی المصدر ؛ إذ المصدر یدل علی الحدث فقط ، - کما عرفنا - فإذا کان النائب اسم مصدر وعلما معا فقد اجتمع فیه أمران ؛ هما العلمیة والدلالة علی الحدث .. واجتماعهما یجعله غیر صالح للنیابة عن المصدر المحذوف ؛ لأن المصدر المحذوف لا یدل علی العلمیة ؛ فکیف یدل علیها اسم المصدر وهو نائب عنه فی لفظه وفی معناه؟ أی : کیف یدل النائب علی شیء لیس فی الأصیل؟
5- انظر المصباح المنیر ، مادة : «حرم».
6- یدخل فی هذا المصدر المیمی.

إما مع کونه مصدر فعل آخر ؛ کالمثالین الأولین ، ونحو : «التبتیل» فی قوله تعالی : (وَاذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ ، وَتَبَتَّلْ)(1) إِلَیْهِ تَبْتِیلاً) ، فإنه مصدر (2) للفعل : «بتّل» وقد ناب عن «التبتّل» ، الذی هو مصدر الفعل : «تبتّل». وإما مع کونه اسم (3) عین ؛ نحو قوله تعالی : (وَاللهُ أَنْبَتَکُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ...،) فکلمة : «نباتا» اسم للشیء النابت من زرع أو غیره ، وقد ناب عن : «إنباتا» الذی هو المصدر القیاسی للفعل : «أنبت»(4).

3 - بعض أشیاء أخری ؛ کالضمیر العائد علیه بعد الحذف ، وکالإشارة له بعد الحذف أیضا ؛ کقولهم لمن یتکلم عن الإخلاص : «أخلصته لمن أودّه» ، وعن الإقبال : «أقبلت هذا». والأصل : أخلصت الإخلاص ، وأقبلت الإقبال. فالضمیر عائد علی المصدر المؤکد الذی حذف ، ونائب عنه ، وهو : (الإخلاص) واسم الإشارة یشیر إلی المصدر المؤکد الذی حذف وینوب عنه ؛ وهو : (الإقبال).

والذی یصلح للإنابة فی الأنواع الأخری

1 - لفظ کلّ أو بعض ، بشرط الإضافة لمثل المصدر المحذوف ؛ نحو : لا تنفق کل الإنفاق ، ولا تبخل کل البخل ؛ وابتغ بین ذلک قواما (5). - إذا سنحت الفرصة لغایة کریمة فلا تتمهل فی اقتناصها بعض تمهل ، ولا تتردد بعض تردّد ؛ فإنها قد تفلت ، ولا تعود.

ص: 203


1- تفرغ وانقطع لعبادته وطاعته.
2- لم یعتبروا : «التبتیل» اسم مصدر للفعل : «تبتل» ؛ لأن حروفه تزید علی حروف مصدر هذا الفعل ، واسم المصدر - فی الرأی الشائع عندهم - لا بد أن تقل حروفه عن حروف مصدر الفعل الذی یجری علی مقتضاه فی الاشتقاق. أما الرأی الذی لا یشترط أن یقل عن حروف المصدر ، ویبیح أن تزید ، فیجعل «تبتیلا» اسم مصدر.
3- ذات مجسمة ، ولیس - کالمصدر ؛ واسمه - معنی مجردا.
4- یری بعض النحاة أن کلمة «نبات» فی الآیة مصدر جری علی غیر فعله ؛ لأنه فی الأصل مصدر للفعل : «نبت» - ثم سمی به النابت ؛ فیکون داخلا فی قسم الملاقی للمصدر فی الاشتقاق مع کونه مصدر فعل آخر. ولا مانع أن تکون «نبات» اسم مصدر للفعل : «أنبت».
5- اطلب طریقا وسطا معتدلا بین الأمرین.

ومثل کل وبعض ما یؤدی معناهما من الألفاظ الدالة علی العموم أو علی البعضیة ، مثل : جمیع ، عامة ، بعض ، نصف ، شطر ...

2 - صفة المصدر المحذوف (1) ؛ نحو : تکلمت أحسن التکلم - وتکلمت ، أیّ تکلم (2). إذ الأصل : تکلمت تکلّما أحسن التکلم - وتکلمت تکلما أیّ تکلم ، بمعنی : تکلمت تکلما عظیما - مثلا -.

3 - مرادف المحذوف ؛ نحو : وقوفا وجلوسا فی : قمت وقوفا سریعا للقادم العظیم ، وقعدت جلوسا حسنا بعد قعوده ، ومثله : لما اشتعلت النار صرخ الحارس صیاحا عالیا ؛ لینبه الغافلین ، ولم یتباطأ توانیا معیبا فی مقاومتها.

4 - اسم الإشارة ؛ والغالب أن یکون بعده مصدر کالمحذوف ؛ کأن تسمع من یقول : «راقنی عدل عمر» ؛ فتقول : سأعدل ذاک العدل العمریّ. ویصح مع القرینة : سأعدل ذاک.

ومثل أن تسمع : أعجبنی إلقاؤک الجمیل ، وسألقی ذاک الإلقاء ، أو سألقی ذاک ، فقد حذف المصدر بعد اسم الإشارة : لوجود القرینة الدالة علیه بعد حذفه ، وهی اسم الإشارة - فی المثالین - فإنه یدل دلالة المصدر هنا ویغنی عنه (3) ...

5 - الضمیر العائد علی المصدر المحذوف ؛ کأن تقول لمن یتحدث عن الإکرام التام والإساءة البالغة : «أکرمه من یستحقه ، وأسیئها من یستحقها» ترید :

ص: 204


1- ویدخل فی صفة المصدر المحذوف المصدر النوعی المضاف الذی سبق أن أشرنا إلیه فی رقم 1 من هامش ص 197 وأوضحنا الرأی والسبب فی اعتباره نائبا عن المصدر. والکثیر فی الصفة النائبة عن المصدر أن تکون مضافة إلیه ؛ کالأمثلة المذکورة ، وقول الشاعر : الغنی فی ید اللئیم قبیح قدر قبح الکریم فی الإملاق أی : قبیح قبحا قدر قبح الکریم فی الإملاق.
2- هذا الترکیب فصیح بالاعتبار الذی یلیه ، والذی یبین أصله ، وما طرأ علیه من حذف. (وبسط الکلام علی صحته مدون فی ج 3 - باب الإضافة ، موضوع «أی»).
3- لا بد من هذه القرینة التی تجعل المحذوف بمنزلة المذکور ، وإلا کان اسم الإشارة نائبا عن مصدر مؤکّد ، لا عن مصدر نوعی.

أکرم الإکرام التام ... من یستحقه ، وأسیء الإساءة البالغة من یستحقها (1).

6 - العدد الدال علی المصدر المحذوف : نحو : یدور عقرب الساعات فی الیوم واللیلة أربعا وعشرین دورة ، ویدور عقرب الدقائق فی الساعة ستین دورة.

7 - الآلة التی تستخدم لإیجاد معنی ذلک المصدر المحذوف ، وتحقیق دلالته ؛ نحو : سقیت العاطش کوبا - ضرب اللاعب الکرة رأسا ، أو رجلا ، أی : سقیت العاطش سقی کوب - ضرب اللاعب الکرة ضرب رأس ، أو ضرب رجل ، بمعنی : سقیت العاطش بأداة تؤدی مهمة السقی : تسمی : «الکوب». وضرب اللاعب الکرة بأداة معروفة بهذا الضرب. تسمی : الرأس ، أو : الرجل (2) ولا بد فی الآلة أن تکون معروفة بأنها تستخدم فی إحداث معنی المصدر ؛ فلا یصح سقیت الرجل العاطش دلوا - ولا ضرب اللاعب الکرة بطنا ؛ لأن الدلو لا یسقی بها الرجل ، والبطن لا یضرب به الکرة.

8 - نوع من أنواعه ؛ نحو : قعد الطفل القرفصاء (3) - مشی العدوّ القهقری (4) ، أو : التقهقر - سرت وراءه الجری - نام الآمن ملء جفونه ... (5)

ص: 205


1- مثل هذا الأسلوب قد یبدو غریبا. لکن إذا عرفنا أن معناه : الإکرام ، أکرم إکراما من یستحقه. والإساءة ، أسیء إساءة إلی من یستحقها - هبت الغرابة. وهو أسلوب عربی صحیح له نظائر کثیرة فی القرآن ؛ وغیره مثل قوله تعالی : (فَإِنِّی أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِینَ) أی : لا أعذب العذاب - لا أعذب عذابا - أحدا من العالمین ...
2- فی مثل هذه الأمثلة ونحوها حذف المضاف - وهو المصدر المنصوب - وأقیم المضاف إلیه مقامه ؛ فصار منصوبا مثله ؛ إذ الأصل کما قلنا : سقیت العاطش سقی کوب - ضرب اللاعب الکرة ضرب رأس ، أو ضرب رجل.
3- نوع من القعود ، یستقر فیه الجالس ، وفخذاه ملتصقتان ببطنه ، یحیط بهما ذراعاه. أو ینکب علی رکبتیه ، لاصقا فخذیه ببطنه ، وکفاه تحت إبطیه ... والقرفصاء والقهقری معدودان هنا نائبین للمصدر ؛ لأنهما من غیر لفظ العامل ؛ بالرغم من أنهما مصدرین أصلیین للفعلین : «قرفص» و «قهقر» ؛ فهما مع فعلیهما المشارکین لهما فی المادة - مصدران ، أما مع عامل آخر لا یشارکهما فی المادة اللفظیة - کالذی هنا - فنائبان عن المصدر کما سلف فی رقم 1 من هامش ص 201.
4- هی الرجوع إلی الخلف.
5- ومن هذا قول المتنبی عن قصائده ومشکلاتها المعنویة : أنام ملء جفونی عن شواردها ویسهر الخلق جرّاها ویختصم (جراها - جرائها. أی : من أجلها ...)

أی : قعد قعود القرفصاء - مشی مشی القهقری ؛ وسرت سیر الجری - نام الآمن نوما ملء جفونه ...

9 - اللفظ الدال علی هیئة المصدر المحذوف ؛ کصیغة : «فعلة» ؛ نحو : مشی القط مشیة الأسد ، ووثب وثبة النّمر. فکلمة : مشیة - وثبة - تدل علی نوع من الهیئة یکون علیه المصدر ؛ فهی هنا نائبة عنه.

10 - وقته ؛ نحو : فلان یلهو ویمرح ؛ لأنه لم یحی لیلة المریض ، ولم یعش ساعة الجریح. أی : لم یحی حیاة لیلة المریض ، ولم یعش عیشة ساعة الجریح. (ترید : لم یحی فی لیلة کلیلة المریض ، ولم یعش فی ساعة کساعة الجریح ؛ یذوق ما فیهما من آلام). ومن هذا کلمة : «لیلة» فی قول الشاعر :

ألم تغتمض عیناک لیلة أرمدا

وبتّ کما بات السّلیم (1)

مسهّدا

11 - «ما» الاستفهامیة ؛ نحو : ما تکتب خطّک؟ بمعنی : أیّ کتابة تکتب خطّک؟ أرقعة ، أم ثلثا ، أم نسخا ...؟ ومثله : ما تزرع حقلک؟ بمعنی : أیّ زرع تزرع حقلک؟ أزرع قمح ، أم ذرة ، أم قطن ...؟

12 - «ما» الشرطیة ؛ نحو : ما شئت فاجلس ، بمعنی : أیّ جلوس شئته فاجلس.

تلک هی أشهر الأشیاء التی تنوب عن المصدر غیر المؤکّد عند حذفه (2). وتتلخص کلها فی أمر واحد ، هو : وجود ما یدل علیه عند حذفه (3) ویغنی عنه.

ص: 206


1- الملدوغ.
2- ومنهما : ملاقیه فی الاشتقاق ؛ نحو قوله تعالی فی مریم : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) واسم المصدر غیر العلم ؛ نحو تکلم المتعلم کلام النبلاء - انظر رقم 2 ص 202 ورقم 1 من هامشها.
3- وفی هذا یقول ابن مالک : وقد ینوب عنه ما علیه دل کجدّ کلّ الجدّ ، وافرح الجذل - 6 فسجل فی هذا البیت أن المصدر ینوب عنه عند حذفه کل شیء یدل علیه. واقتصر فی التمثیل علی نائبین ؛ هما : لفظ «کل» ، وقد أضافها للمصدر ؛ حیث قال : «جد کل الجد» ، ولفظ المرادف ، وهو : الجذل ، بمعنی الفرح ، فی «افرح الجذل» ثم ساق بعد هذا البیت بیتا آخر سبق تدوینه وشرحه فی مکانه المناسب له - بهامش ص 200 - ، من مسائل الباب. هو : وما لتوکید فوحّد أبدا وثنّ واجمع غیره وأفردا - 5

المسألة 76: حذف عامل المصدر

اشارة

إقامة المصدر المؤکّد نائبا عن عامله فی بعض المواضع

(ا) یجوز حذف عامل المصدر المبین للنوع أو للعدد بشرط وجود دلیل (1) مقالیّ أو حالیّ یدل علی المحذوف. فمثال حذف عامل النوعیّ لدلیل مقالیّ ، أن یقال : هل جلس الزائر عندک؟ فیجاب : جلوسا طویلا ؛ أی : جلس جلوسا طویلا ، ومثال حذفه لدلیل حالیّ أن تری صیادا أصاب فریسته ؛ فتقول : إصابة سریعة ؛ أی : أصاب إصابة سریعة. ومن هذا قولهم للمتهیئ للسفر : «سفرا حمیدا ، ورجوعا سعیدا» أی : تسافر سفرا حمیدا ، وترجع رجوعا سعیدا.

ومثال حذف عامل العددی لدلیل مقالیّ : أرجعت إلی بیتک الیوم؟ فیجاب رجعتین ، أی : رجعت رجعتین. ولدلیل حالیّ أن تری خیل السباق وهی تدور فی الملعب ؛ فتقول : دورتین ؛ أی : دارت دورتین ... وهکذا.

والمصدر فی الحالات السالفة منصوب بعامله المحذوف جوازا ، ولیس نائبا عنه. (ب) أما المصدر المؤکّد لعامله فالأصل عدم حذف عامله ؛ لما عرفنا (2) من أن هذا المصدر مسوق لتأکید معنی عامله فی النفس ، وتقویته ، ولتقریر المراد منه ، أی : لإزالة الشک عنه ، ولبیان أن معناه حقیقی لا مجازی ، وهذه هی حکمة المجیء بالمصدر المؤکّد ، ومن أجلها لا یصح تثنیته ، ولا جمعه ، ولا أن یرفع فاعلا أو ینصب مفعولا ، ولا أن یتقدم علی عامله ، ولا أن یحذف عامله (3) ... لأن هذا

ص: 207


1- فی رقم 1 من هامش ص 53 أن الدلیل (ویسمی : القرینة أیضا) : قد یکون مقالیا ، أی : مرجعه إلی القول والکلام - وقد یکون حالیا ، لا شأن له بالقول أو الکلام ؛ وإنما الشأن فیه للمشاهدة ، أو نحوها مما یحیط بالشخص ، ویجعله یفهم أمرا مستنبطا مما حوله.
2- فی ص 200 و «ا» من ص 196
3- سبقت أحکامه فی ص 199.

الحذف مناف لتلک الحکمة ، معارض للغرض من الإتیان بالمصدر المؤکّد (1).

لکن العرب التزموا حذف عامله باطراد فی بعض مواضع معینة ، وأنابوا عنه المصدر المؤکّد ؛ فعمل عمله فی رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، وأغنی عن التلفظ بالعامل ، وعن النطق بصیغته ؛ وصار ذکر العامل ممنوعا معه ؛ لأن المصدر بدل عنه ، وعوض عن لفظه ومعناه ؛ ولا یجتمع العوض والمعوّض عنه (2).

ولما کان العرب قد التزموا الحذف باطراد فی تلک المواضع ، لم یکن بدّ من أن نحاکیهم ، ونلتزم طریقتهم الحتمیة فی حذف العامل فی تلک المواضع ، وفی إنابة المصدر المؤکّد عنه. ولهذا قال النحاة : إن عامل المصدر المؤکّد لا یحذف جوازا - فی الصحیح - ؛ وإنما یحذف وجوبا فی المواضع التی التزم فیها العرب حذفه ، وإقامة المصدر المؤکّد مقامه.

ومع أن العامل محذوف وجوبا فإنه هو الذی ینصب المصدر النائب عنه (أی : أن المصدر نائب عن عامله المحذوف ، ومنصوب به معا).

أما المواضع التی ینوب فیها هذا المصدر عن عامله (3) المحذوف وجوبا فبعضها خاص بالأسالیب الإنشائیة الطلبیة ، وبعض آخر خاص بالأسالیب الإنشائیة غیر الطلبیة ، أو بالأسالیب الخبریة المحضة (4).

ص: 208


1- فیما سبق یقول ابن مالک : وحذف عامل المؤکّد امتنع وفی سواه لدلیل متّسع - 6 یرید : أن هناک متسعا للحذف فی غیر عامل المؤکد ، عند وجود دلیل علی المحذوف.
2- سبقت الإشارة (فی رقم 1 هامش ص 198 وفی رقم 1 من هامش ص 213 إشارة أیضا) إلی أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلا بذاته یزاد علی الأقسام الثلاثة المشهورة. والسبب أن کثیرا من المصادر النائبة عن عاملها المحذوف قد یکون مؤکّدا لعامله ، والأصل فی المؤکّد ألا یعمل ، وألا یحذف عامله ... و... مع أن المؤکّد هنا یعمل ویحذف عامله ؛ فیقع التعارض والتناقض بین حکم المؤکّد هنا وحکمه فی ناحیة أخری. ولا سبیل للتغلب علی هذا التعارض والتناقض إلا بالتأویل والتقدیر ؛ - وهذا معیب - ، أو باعتبار المؤکد هنا ، المحذوف عامله وجوبا ، قسما مستقلا. ولا ضرر فی هذا ؛ بل فیه تغلب علی الصعوبة السالفة.
3- بعض المصادر المؤکّدة قد تنوب عن عوامل مهملة ، أو لیست من لفظها ؛ فتکون مقصورة علی السماع ، کما یجیء فی ص 211 مثل : ویح ، ویل ... وسیجیء الکلام عنها فی الزیادة ، ص 218.
4- سبق فی ج 1 ص 268 م 72 إیضاح للجملة الخبریة ، والجملة الإنشائیة. وملخصه : أن الجملة الخبریة هی التی یکون معناها صالحا للحکم علیه بأنه صدق أو کذب ، من غیر نظر لقائلها من - - ناحیة أنه معروف بهذا أو بذاک. مثل : نزل المطر أمس. فهی جملة صالحة لأن توصف بأنها - فی حد ذاتها - صادقة أو کاذبة ... والجملة الإنشائیة هی التی یطلب بها إما حصول شیء ، أو عدم حصوله ، وإما إقراره والموافقة علیه ، أو عدم إقراره ؛ فلا دخل للصدق أو الکذب فیها. وهی قسمان ؛ إنشائیة طلبیة ، أی : یراد بها طلب حصول الشیء أو عدم حصوله ، وتشمل الأمر ، والنهی ، والدعاء ، والاستفهام ، والتمنی ، والعرض ، والتحضیض ... ، - کما هو مدون فی المصادر الخاصة بالبلاغة -. وإنشائیة غیر طلبیة وهی التی یراد منها : إعلان شیء والتسلیم به ، وتقریر مدلوله ، من غیر أن یصحب هذا الإعلان والتسلیم طلب أمر آخر ، - کما سیجیء فی ص 211 - وتشمل جملة التعجب - فی الرأی الشائع - وجملة المدح والذم بنعم وبئس ونظائرهما ، وجملة القسم نفسه ، لا جملة جوابه ... وصیغ العقود التی یراد إقرارها ؛ مثل : بعت ، وهبت ... إلی غیر هذا مما فی المرجع السابق.

1 - فیراد بالأسالیب الإنشائیة الطلبیة هنا : ما یکون فیها المصدر النائب دالّا علی أمر ، أو نهی ، أو دعاء ، أو توبیخ ، والکثیر أن یکون التوبیخ مقرونا بالاستفهام (1) ؛ فمثال الأمر أن تقول للحاضرین عند دخول زعیم : قیاما. بمعنی : قوموا ، وأن تقول لهم بعد دخوله واستقراره : جلوسا. بمعنی : اجلسوا. فکلمة : «قیاما» مصدر (أو : مفعول مطلق) منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا. والمصدر نائب عنه فی الدلالة علی معناه ، وفی تحمل ضمیره المستتر الذی کان فاعلا (2) له ؛ فصار بعد حذف فعله فاعلا للمصدر. ومثل هذا یقال فی : «جلوسا» وأشباههما. والأصل قبل حذف العامل وجوبا : قوموا قیاما - اجلسوا جلوسا.

ومثال النهی أن تقول لجارک وقت سماع محاضرة ، أو خطبة ... سکوتا ، لا تکلما ؛ أی : اسکت ، لا تتکلم. فکلمة : «سکوتا» مصدر - أو : مفعول مطلق - منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا ، والذی ینوب عنه المصدر فی أداء معناه. وفاعل المصدر مستتر وجوبا ، تقدیره : أنت ؛ وقد انتقل إلیه هذا الفاعل بعد حذف فعل الأمر علی الوجه السالف. وکلمة : «لا» ناهیة ، و «تکلما» :

ص: 209


1- انظر رقم 4 من هامش الصفحة الآتیة.
2- ذلک أن فعل الأمر المحذوف ، له فاعل لم یحذف. فلما ناب المصدر عن فعل الأمر المحذوف انتقل فاعله إلی المصدر النائب ، وصار فاعلا له بعد أن کان فاعلا لفعل الأمر المحذوف ؛ فالمصدر متحمل لضمیر عامله. وقیل : إن المصدر ناب عن الفعل المحذوف وعن فاعله معا ؛ فلا یحتاج لفاعل ... وقیل ... والرأی الأول أحسن ، لأنه یسایر القواعد النحویة العامة. والثانی أخف وأیسر. ولا تأثیر لاختلافهما فی الاستعمال الکلامی والکتابی.

مصدر منصوب بالمضارع المحذوف ، المجزوم بلا الناهیة (1) ، ونائب عنه فی تأدیة معناه. وفاعل المصدر ضمیر مستتر فیه ، تقدیره : أنت. وهذا الضمیر انتقل للمصدر من المضارع المحذوف.

ومثال الدعاء بنوعیه (2) قول زعیم : «ربنا إنا قادمون علی معرکة فاصلة مع طاغیة جبار ؛ فنصرا عبادک المخلصین ، وهلاکا وسحقا للباغی الأثیم». أی : فانصر - یا رب - عبادک المخلصین ، واهلک واسحق الباغی الأثیم.

ومنه «سقیا» و «رعیا» (3) لک ، وجدعا ولیّا لأعدائک. وإعراب المصادر فی هذه الأمثلة کإعرابها فی نظائرها السابقة.

ومثال الاستفهام التوبیخی (4) : أبخلا وأنت واسع الغنی؟ أسفاهة وأنت

ص: 210


1- والأصل قبل الحذف فیهما : اسکت سکوتا ، لا تتکلم تکلما ، ولا یکون حذف المضارع المجزوم «بلا» الناهیة واجبا إلا فی هذه الصورة.
2- الخیر والشر.
3- یوجب أکثر النحاة حذف العامل هنا ؛ مراعاة للسماع. ویکون التقدیر : اسق یا رب ، ارع یا رب. الدعاء لک أیها المخاطب ، فالجار والمجرور فی الصورتین خبر لمحذوف ؛ تقدیره : الدعاء - مثلا - ولا یصح أن یکون الجار والمجرور متعلقین بالمصدر قبلهما ؛ لئلا یفسد المعنی ؛ إذ یکون : اسق یا رب لک - ارع یا رب لک. وهذا فاسد ؛ لأن السقی لیس مطلوبا لله ، وکذلک الرعی. من أجل هذا قالوا بحق فی مثل : سقیا لک - إن الکلام جملتان ولیس جملة واحدة. علی أن لهذا البحث تفصیلات واسعة ، وتفریعات دقیقة ؛ لا غنی عن الإلمام بها ، لتعدد أحکامها بتعدد استعمالاتها - وقد سجلناها فی ج 1 ص 372 م 39. - ویجیز فریق من النحاة عدم التقید بوجوب حذف العامل فی مثل هذه الصورة المسموعة ، ورأیه سائغ ، والأول هو الأفصح والأقوی - کما سیجیء فی «ح» من ص 220.
4- قد یکون التوبیخ للمتکلم ، بأن یوجه صیغة التوبیخ مشتملة علی الخطاب یرید بها نفسه ، بقرینة. کقول القائل لنفسه : أترکا للعمل وأنا فقیر؟ وقد یکون التوبیخ للمخاطب ، نحو : أسرقة وأنت غنی؟ وقد یکون للغائب : نحو : أخوفا وهو جندی؟ وقد یکون التوبیخ مسبوقا بأداة استفهام. إما مذکورة صراحة ، أو ملحوظة فی حکم المذکورة ، وإما غیر مذکورة ولا ملحوظة. فمثال المذکورة وما فی حکمها قول الشاعر : أذلّا إذا شبّ العدا نار حربهم؟ وزهوا إذا ما یجنحون إلی السّلم؟ والأصل : أتذل ذلا؟ وتزهو زهوا؟ فالأول مسبوق بهمزة الاستفهام المذکورة ، والثانی مسبوق بها ملاحظة وتقدیرا. ومثال غیر المذکورة وغیر المقدرة قول الشاعر : خمولا ، وإهمالا وغیرک مولع بتثبیت أسباب السیادة والمجد أی : تخمل خمولا ، وتهمل إهمالا ...

مثقف؟ أی : أتبخل بخلا ... أتسفه سفاهة ... وإعراب المصدر هنا کسابقه.

ونیابة المصدر عن عامله المحذوف فی الأسالیب الإنشائیة الطلبیة - قیاسیة ، بشرط أن یکون العامل المحذوف فعلا من لفظ المصدر ومادته ، وأن یکون المصدر مفردا منکرا ، وإلا کان سماعیّا ؛ مثل : ویحه ، - ویله (1) ... - کما تقدم (2) -.

2 - ویراد - هنا - بالأسالیب الإنشائیة غیر الطلبیة : المصادر الدالة علی معنی یراد إقراره وإعلانه ، من غیر طلب شیء (3) ، أو عدم إقراره ، کما سبق (4). والکثیر من هذه المصادر مسموع عن العرب جار مجری الأمثال ، والأمثال لا تغیر ؛ کقولهم عند تذکر النعمة : حمدا ، وشکرا ، لا کفرا ؛ أی : أحمد الله وأشکره - ولا أکفر به. وکانوا یردّدون الکلمات الثلاث مجتمعة لهذا الغرض وهو إنشاء المدح ، والشکر ، وإعلان عدم الکفر. ووجوب حذف العامل متوقف علی اجتماعها ؛ مراعاة للمأثور ؛ وإلا لم یکن الحذف واجبا.

وکقولهم عند تذکر الشدة : «صبرا ، لا جزعا». بمعنی : أصبر ، لا أجزع ، یریدون إنشاء هذا المعنی. وعند ظهور ما یعجب : «عجبا» ، بمعنی : أعجب ، وعند الحث علی أمر : افعل وکرامة ، أی : وأکرمک. وعند إظهار الموافقة والامتثال : سمعا وطاعة ، بمعنی : أسمع وأطیع.

والمصدر فی کل ما سبق - أو : المفعول المطلق - منصوب بالعامل المحذوف وجوبا وهو الذی ناب عنه المصدر فی أداء المعنی ، وفی تحمل الضمیر الفاعل ، وتقدیره للمتکلم : أنا.

ص: 211


1- المصادر الدالة علی الطلب لا تصلح أن تکون نعتا ، ولا منعوتا - کما سیجیء فی باب النعت - ج 3 ص 347.
2- فی رقم 3 من هامش ص 208.
3- المقصود فی الأسالیب الآتیة : الإنشاء غیر الطلبی - وقد شرحناه فی رقم 4 من هامش ص 108 - ولکنهم جعلوها من قسم الخبر نظرا لصورة العامل ولفظه. ویری بعض النحاة أنها أسالیب خبریة لفظا ومعنی. وهذا رأی حسن ، لوضوحه ، والمسألة رهن بالاصطلاح.
4- فی رقم 4 من هامش ص 208.

ونیابة هذا النوع من المصادر عن عامله تکاد تکون مقصورة علی الألفاظ المحددة الواردة سماعا عن العرب. ویری بعض المحققین جواز القیاس علیها فی کل مصدر یشبع استعماله فی معنی معین ، ویشتهر تداوله فیه ، وله فعل من لفظه ، من غیر اقتصار علی ألفاظ المصادر المسموعة. وهذا رأی عملیّ مفید (1).

3 - ویراد بالأسالیب الخبریة المحضة أنواع ، کلها قیاسیّ ، بشرط أن یکون العامل المحذوف وجوبا فعلا من لفظ المصدر ومادته.

منها : الأسلوب المشتمل علی مصدر یوضح أمرا مبهما مجملا ، تتضمنه جملة قبل هذا المصدر ، ویفصّل عاقبتها ؛ أی : یبین الغایة منها (فالشروط ثلاثة فی المصدر : تفصیله عاقبة ، وأنها عاقبة أمر تتضمنه جملة ، وهذه الجملة قبله) مثل : إن أساء إلیک الصدیق فاسلک مسلک العقلاء ؛ فإما عتابا کریما ، وإما صفحا جمیلا (2) ؛ فسلوک مسلک العقلاء أمر مبهم ، مجمل ، لا یعرف المقصود منه ؛ فهو مضمون جملة محتاجة إلی إیضاح ، وتفصیل ، وإبانة عن المراد ، فجاء بعدها الإیضاح والتفصیل والبیان من المصدرین : «عتابا» و «صفحا» المسبوقین بالحرف الدال علی التفصیل ؛ وهو : «إما» وهما منصوبان بالفعلین المحذوفین وجوبا ، وقد ناب کل مصدر عن فعله فی بیان معناه. والتقدیر : فإما أن تعتب عتابا کریما ، وإما أن تصفح صفحا جمیلا. ومثله : إذا تعبت من القراءة فاترکها لأشیاء أخری ؛ فإما مشیا فی الحدائق ، وإما استماعا للإذاعة ، وإما عملا یدویّا. فالمصادر «مشیا» - «استماعا» «عملا» موضّحة ومفصّلة لأمر غامض مجمل قبلها یحتاج لبیان ، هو : «التّرک لأشیاء أخری» فعامل کل منها محذوف وجوبا ، والتقدیر : تمشی مشیا - تسمتع استماعا - تعمل عملا ... وهی منصوبة بفعلها المحذوف الذی نابت عنه فی تأدیة معناه ... وانتقل إلیها الفاعل بعد حذف العامل فصار فاعلا مستترا للمصدر النائب. والتقدیر : «أنت». ومثل قول الشاعر :

ص: 212


1- لأنه یسایر الأصول اللغویة العامة ، ولا تضار اللغة باتباعه. وقد أشرنا لهذا فی «ج» من ص 220.
2- وتغنی «أو» عن «إما» الثانیة ؛ کقول الشاعر : وقد شفّنی ألا یزال یروعنی خیالک إما طارقا أو مغادیا

لأجهدنّ ؛ فإمّا درء واقعة

تخشی ، وإما بلوغ السؤل والأمل

والتقدیر : فإمّا أدرأ درء واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل ...

ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مکررا أو محصورا ، ومعناه مستمرّا إلی وقت الکلام ، وعامل المصدر واقعا فی خبر مبتدأ اسم ذات (1). فمثال المکرر : المطر سحّا سحّا - الخیل الفارهة (2) صهیلا (3) ، صهیلا ، وقول الشاعر :

أنا جدّا جدّا ولهوک یزدا

د ؛ إذا ما إلی اتفاق سبیل

ومثال المحصور : ما الوحش مع فریسته إلا فتکا - ما النمر عند لقاء الفیل إلا غدرا ؛ التقدیر : یسحّ سحّا سحّا - تصهل صهیلا صهیلا - أجدّ جدّا جدّا - یفتک فتکا فتکا - یغدر غدرا غدرا -. فهذه المصادر وأشباهها ؛ تقتضی - بسبب التکرار أو الحصر - حذف فعلها. وهی منصوبة بفعلها المحذوف وجوبا ، ونائبة عنه فی بیان معناه ، ومتحملة لضمیره المستتر الذی صار فاعلا لها ، وتقدیره : «هو» ، أو : «هی» علی حسب نوع الضمیر المستتر.

ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مؤکّدا لنفسه ؛ بأن یکون واقعا بعد جملة مضمونها کمضمونه ، ومعناها الحقیقی - لا المجازی (4) - کمعناه ،

ص: 213


1- الشروط أربعة : أن یکون المصدر مکررا أو محصورا. وأن یکون عامله خبرا لمبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ ، وأن یکون هذا المبتدأ اسم عین ؛ (أی : اسم ذات مجسمة) فلا یراد به أمر معنوی (عقلی) کالعلم - الفهم - النبل - البراعة ... وأن یکون معنی المصدر مستمرا إلی زمن الحال ؛ لا منقطعا ولا مستقبلا محضا فإن فقد شرط من الشروط لم یکن الحذف واجبا ، وإنما یکون جائزا - فی رأی -. ویقوم مقام التکرار والحصر السالفین بشرط استیفاء باقی الشروط - دخول الهمزة علی المبتدأ نحو : أأنت طیرانا ، والعطف علی المصدر ؛ نحو أنت طیرانا وعوما. ویلاحظ هنا ما سبق أن أشرنا إلیه من أن حذف عامل المؤکد ممنوع - علی الصحیح - إلا حین یکون المصدر نائبا عن فعله فی المواضع التی ینوب فیها عنه ، (ومنها هذه الصورة التی ینوب فیها وجوبا عند استیفاء الشروط ، وجوازا - فی رأی - عند فقد شرط أو أکثر.) ، وأن الأحسن اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما رابعا مستقلا بنفسه ؛ لأنه قد یؤکد عامله المحذوف ، والأصل فی المؤکد ألا یحذف عامله. فلدفع هذا التعارض یعتبر قسما مستقلا ؛ کی لا یدخل فی قسم المؤکد غیر النائب ، فیقع تعارض واضح بین حکم المؤکد وهو یقتضی عدم حذف عامله ، وحکم هذه الأنواع التی یکون فیها المصدر نائبا عن عامله ومؤکدا له. مع أن هذا العامل محذوف (کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 198 وفی رقم 2 من هامش ص 208).
2- النشیطة القویة.
3- الصهیل : صوت الخیل.
4- لأن المجازی قد یراد منه ما لا یراد من المعنی الحقیقی للمصدر ، فقد یراد السخریة أو التهکم. فی الأمثلة الآتیة.

ولا تحتمل مرادا غیر ما یراد منه ؛ فهی نص فی معناه (1) الحقیقی ، نحو : أنت تعرف لوالدیک فضلهما ، یقینا. أی : توقن یقینا ، فجملة : «تعرف لوالدیک فضلهما» هی فی المعنی : «الیقین» المذکور بعدها ، لأن الأمر الذی توقنه هنا هو : الاعتراف بفضل والدیک ، والاعتراف بفضل والدیک هو الأمر الذی توقنه ، فکلاهما مساو للآخر من حیث المضمون.

ومثلها : سرّتنی رؤیتک ، حقّا ، بمعنی : أحقّ حقّا ، أی : أقرر حقّا. فالمراد من : سرتنی رؤیتک ، هو المراد من : «حقّا» ، إذ السرور بالرؤیة هو : «الحق» هنا ، والحق هنا هو : «السرور بالرؤیة». فمضمون الجملة هو مضمون المصدر ، والعکس صحیح. فکلمة : «یقینا» ، و «حقّا» وأشباههما من المصادر المؤکدة لنفسها ، منصوبة بالفعل المحذوف وجوبا ، النائبة عنه فی الدلالة علی معناه. أما فاعله فقد صار بعد حذف الفعل فاعلا للمصدر ، وهذا الفاعل ضمیر مستتر تقدیره فی المثالین : أنا.

ولا یصح فی هذا النوع (2) من الأسالیب تقدیم المصدر علی الجملة التی یؤکد معناها ، ولا التوسط بین جزأیها.

ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر مؤکدا لغیره ؛ بأن یکون المصدر واقعا بعد جملة معناها ومدلولها لیس نصّا فی معنی هذا المصدر ومدلوله ؛ وإنما یصح أن ینطبق علی معناه وعلی غیره قبل مجیئه ؛ فإذا جاء هذا المصدر امتنع الاحتمال ، وزال التوهم وصار المعنی نصّا فی شیء واحد ؛ نحو : هذا بیتی قطعا ، أی : أقطع برأیی قطعا. فلو لا مجیء المصدر : «قطعا» لجاز فهم المعنی علی أوجه متعددة بعضها حقیقی ، والآخر مجازی ... - أقربها : أنه بیتی حقّا ، أو :

ص: 214


1- ولذلک سمی المؤکد لنفسه ، لأنه بمنزلة إعادة الجملة التی تتضمن معناه نصا ؛ فکأنه نفس الجملة التی أعیدت ، وکأنها ذاته.
2- من هذا النوع : لا أفعل الأمر ألبتة. فکلمة : «ألبتة» ، مصدر حذف عامله وجوبا. والتا فیه لیست للتأنیث ، وإنما هی للوحدة. ومعنی «البت» القطع. أی : أقطع فی هذا الأمر القطعة الواحدة ؛ لا ثانیة لها ، فلا أتردد ، ثم أجزم بعد الترد. وقد تکون «أل» هنا للعهد ، أی : القطعة المعهودة بیننا ؛ وهی التی لا تردد معها. فألبتة : تفید استمرار النفی الذی قبلها. ولو لم توجد لکان انقطاء محتملا. والأفصح ملازمة : «أل» لکلمة : «ألبتة» فی الاستعمال السالف وأن تکون همزتها للقطع.

أنه لیس بیتی حقیقة ، ولکنه بمنزلة بیتی ؛ لکثرة ترددی علیه ، أو : لیس بیتی ولکنه یضم أکثر أهلی ... أو : .. فمجیء المصدر بعد الجملة قد أزال أوجه الاحتمال والشک ، والمجاز ، وجعل معناها نصّا فی أمر واحد (1) بعد أن لم یکن نصّا.

وهو منصوب بعامله المحذوف وجوبا ، وقد ناب عنه بعد حذفه لتأدیة معناه. وفاعل المصدر ضمیر مستتر فیه ، تقدیره : أنا ، انتقل إلیه بعد حذف ذلک العامل. ولا یصح - أیضا - فی هذا النوع من الأسالیب تقدیم المصدر المؤکد لغیره علی تلک الجملة ، ولا التوسط بین جزأیها.

ومنها : الأسلوب الذی یکون فیه المصدر دالّا علی التشبیه بعد جملة ، مشتملة علی معناه وعلی فاعله المعنوی (2) ، ولیس فیها ما یصلح عاملا غیر المحذوف (3) ؛ نحو : للمغنی صوت صوت البلبل. أی : للمغنی صوت. یصوّت صوت البلبل ، بمعنی : صوتا یشبهه. ومنه : للشجاع المقاتل زئیر زئیر الأسد. أی : یزأر زئیر الأسد ، أی : زئیرا یشبه زئیره. ومنه : للمهموم أنین ؛ أنین الجریح. أی : یئن أنین الجریح. (أنینا شبیها بأنین الجریح) ... وهکذا. والمصدر منصوب فی هذه الأمثلة علی الوجه الذی شرحناه (4).

ص: 215


1- ولهذا سمی المؤکد لغیره ، أی : للجملة التی قبله ، والتی لا تتضمن معناه نصا ؛ لأنه أثر فیها ، وجعل معناها نصّا ، فصار به مؤکدا قویا ، لا ضعف فیه ولا احتمال ، وقد کان ذلک المعنی ضعیفا قبل مجیء المصدر.
2- یراد به الفاعل اللغوی - لا النحوی - وذلک من فعل الشیء حقیقة ، ولو لم تنطبق علیه الشروط النحویة للفاعل. کالمغنی فی المثال المذکور ؛ فهو فاعل معنی للغناء والتصویت. کذلک : «الشجاع» ، هو فاعل الزئیر معنی ، لا نحویا.
3- جملة الشروط فی الحقیقة سبعة : کونه مصدرا - مشعرا بأن معناه مما یحدث ویطرأ ، ولیس أمرا ثابتا دائما أو کالدائم (أی : أنه لیس من السجایا الثابتة ، ولا الأمور الفطریة الملازمة ، کالذکاء - الطول - السمنة. فلا یکون مما نحن فیه : لفلان ذکاء ذکاء العبقری. بنصب کلمة : «ذکاء» الثانیة لأنها من السجایا) - کونه دالا علی التشبیه - بعد جملة - هذه الجملة مشتملة علی فاعله المعنوی ، وعلی معناه - لیس فیها ما یصلح للعمل. قال الخضری فی هذا المکان : (هذه الشروط لوجوب حذف الناصب إذا نصب ، ویجوز معها رفعه ؛ بدلا مما قبله ، أو : صفة له ؛ بتقدیر : «مثل» أو خبرا لمحذوف. وهل النصب حینئذ أرجح ، أو هما سواء؟ قولان ...) اه.
4- عرض ابن مالک - بإیجاز - لمواضع حذف عامل المصدر وجوبا فقال : والحذف حتم مع آت بدلا من فعله ؛ کندلا اللّذ کاندلا - - أی : الحذف واجب فی عامل المصدر الآتی بدلا وعوضا عن فعله ، ومغنیا عن التلفظ به ؛ مثل : المصدر : «ندلا» ومعناه : «خطفا» ؛ وهو بمعنی «اندل» فی الدلالة علی طلب الندل ، أی : الخطف. فالمصدر «ندلا» منصوب بعامله المحذوف «اندل» ونائب عنه فی تأدیة معناه ، ومتحمل لضمیره الفاعل الذی تقدیره : أنت. (واللذ : الذی). ثم قال : وما لتفصیل ؛ کإمّا منّا عامله یحذف حیث عنّا (عنّا ، أصله : عنّ ، بمعنی : عرض. والألف لوزن الشعر ، ویسمونها : ألف الإطلاق ، لأن الصوت ینطلق من غیر حبس ، ویمتد ؛ فیجیء بها). یرید أن عامل المصدر یحذف حیث عرض هذا العامل بشرط أن یدل المصدر علی تفصیل أمر مبهم مجمل قبله ، وساق لهذا بعض آیة تصلح للتمثیل ؛ هی قوله تعالی یخاطب المسلمین فی أمر أسری الکفار المهزومین : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ ؛ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ، وَإِمَّا فِداءً). الوثاق - القید ، ومعنی شده : إحکام ربطه وتمکینه. وموضع الشاهد هو : منّا. وفداء - التقدیر : تمنون منا بإطلاق الأسری أحرارا بغیر مقابل. أو یفدون أنفسهم فداء ، أی : یدفعون الفدیة ؛ وهی : التعویض المالی أو غیره فی نظیر إطلاق سراحهم. ثم قال : کذا مکرّر ، وذو حصر ، ورد نائب فعل لاسم عین استند أی : یحذف عامل المصدر وجوبا إذا وقع المصدر نائبا عن فعل محذوف استند لمبتدأ اسم عین. أی : کان مسندا هو وفاعله ، والمسند إلیه مبتدأ ، دال علی اسم عین (أی : علی ذات) وقد شرحناه. ثم انتقل إلی المؤکد لنفسه أو لغیره : ومنه ما یدعونه مؤکّدا لنفسه ، أو غیره ، فالمبتدا نحو : له علیّ ألف عرفا والثّان کابنی أنت حقّا صرفا یرید بالمبتدأ : النوع الأول ، وهو المؤکد لنفسه. «عرفا». أی : اعترافا ، وهو المصدر المؤکد لنفسه ، والأصل أعترف اعترفا ، فحذف الفعل وجوبا وناب عنه مصدره. و «صرفا» ، أی : خالصا ، وهی نعت لکلمة : «حقا» أی : حقا خالصا لا شبهة فیه. و «حقا» هی المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا. ثم قال : کذاک ذو التّشبیه بعد جمله کلی بکا ، بکاء ذات عضله یرید : المصدر المقصود به التشبیه بعد جملة مشتملة علی فاعله المعنوی ، کما أوضحنا فی الشرح. ومثل له بمثال هو : لی بکا بکاء ذات عضلة» ، أی : لی بکاء. أبکی بکاء ذات عضلة ؛ «فبکاء» - - هی المصدر الدال علی التشبیه ، وعامله محذوف وجوبا ... ولا یصح أن یکون عامله المصدر الذی قبله ، وهو کلمة : «بکا» المقصورة ، لأن المصدر لا یعمل هنا ، لأنه لیس نائبا عن فعله ، ولا مؤولا بالحرف المصدری. وهذان هما الموضعان اللذان یعمل فی کل منهما المصدر الصریح. و «العضلة» الداهیة. و «بکاء ذات عضلة» ، أی : بکاء من أصابتها داهیة.

هذا ، وقد اشترطنا أن تکون الجملة السابقة مشتملة علی معناه ، فهل یشترط أن تکون مشتملة علی لفظه أیضا؟

ص: 216

الجواب : لا ؛ فإنها قد تشتمل علی لفظه کالأمثلة السابقة ، وربما لا تشتمل ؛ مثل قول القائل یصف النخیل : رأیت شجرا محتجبا فی الفضاء ، ارتفاع المآذن ، فکلمة «ارتفاع» مصدر منصوب بعامل محذوف وجوبا ، تقدیره : یرتفع ارتفاع المآذن. وإنما حذف وجوبا لتحقق الشروط ؛ التی منها ؛ وقوع المصدر بعد جملة مشتملة علی معناه ، وإن کانت غیر مشتملة علی لفظه ، لأن معنی : «رأیت شجرا محتجبا فی الفضاء» - هو : رأیت شجرا مرتفعا. ومثله : رأیت رجلا یزحم الباب - ضخامة الجمل ، أی : یضخم ضخامة الجمل.

ص: 217

زیادة وتفصیل

(أ) کررنا أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلّا بنفسه ، ینضم إلی الأقسام الأخری الشائعة ، وأوضحنا (1) سبب استقلاله. أما عامله المحذوف فلا بد أن یکون فی جمیع المواضع القیاسیة فعلا مشترکا معه فی المادة اللفظیة ، وفی حروف صیغتها ، کالأمثلة الکثیرة التی مرت. وأما الأمثلة السماعیة فمنها الخالی من هذا الاشتراک اللفظی ؛ مثل : ویح - ویل - ویس - ویب ... وأمثالها من الألفاظ التی کانت بحسب أصلها کنایات عن العذاب والهلاک ، وتقال عند الشتم والتوبیخ ، ثم کثر استعمالها حتی صارت کالتعجب ؛ یقولها الإنسان لمن یحب ومن یکره ، ثم غلب استعمال : «ویس» و «ویح» فی الترحم وإظهار الشفقة ، کما غلب استعمال : «ویل» و «ویب» فی العذاب. وإذا نصبت الألفاظ الأربعة - وأشباهها - کانت مفعولات مطلقة لعامل مهمل (2) ، أو لفعل من معناها ؛ فالأصل : (رحمه الله ویحا وویسا ؛ بمعنی : رحمه الله رحمة) -. أو : (رحمه الله ویحه وویسه. بمعنی رحمه الله رحمته ...) وکذا : (أهلکه الله ویلا - وویبا ، أو أهلکه الله ویله - وویبه ؛ بمعنی أهلکه الله إهلاکا - وأهلکه الله إهلاکه). فالفعل مقدّر فی الأمثلة بما ذکرناه ، أو بما یشبهه فی أداء المعنی من غیر تقید بنصّ الأفعال السالفة التی قدرناها.

وقیل إن الکلمات السالفة : (ویح - ویس - ویل - ویب ... عند

ص: 218


1- فی هوامش ص 198 و 208 و 213.
2- أی : لفعل من لفظها ؛ کان یستعمله العرب قدیما ، ثم ترکوا استعماله اختیارا ؛ فصار مهملا مستغنی عنه ؛ شأن کل شیء مهمل. لکن أیجوز استعمال هذا الفعل الذی أهمله العرب؟ الرأی السدید أنه لا مانع من استعماله ما دام معروفا بنصه وصیغته. فإن لم یکن معروف الصیغة وکان المعروف مصدرا أو مشتقا ، فقد انطبق علیه رأی بعض اللغویین - کابن جنی - وهو یقضی بإباحة تکملة المادة اللغویة الناقصة بما یجعلها علی غرار نظائرها ، فالمصدر تشتق منه فروع تسایر الفروع التی تشتق من نظیره فی الدلالة العامة ، وفی الوزن ... ، والمشتق کاسم الفاعل وغیره تکمل له فروعه ومصدره بما یسایر نظائره کذلک. وقد ارتضی مجمع اللغة بالقاهرة هذا المذهب ، وسار علیه فی بعض قراراته. وفیما یلی کلام ابن جنی : - - قال فی کتابه الخصائص (ج 1 ص 362 باب : فی أن ما قیس علی کلام العرب فهو من کلام العرب) ما نصه : «حکی لنا أبو علی عن ابن الأعرابی أظنه قال : یقال درهمت الخبّازی ، أی : صارت کالدرهم ؛ فاشتق من الدرهم ، وهو اسم عجمی. وحکی أبو زید : رجل مدرهم. قالوا ولم یقولوا منه درهم ؛ إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فی الکف ، ولهذا أشباه» اه. ثم قال بعد ذلک فی ص 367 من الفصل نفسه ما نصه : «لیس کل ما یجوز فی القیاس یخرج به سماع ؛ فإذا أخذ إنسان علی مثلهم ، وأم مذهبهم لم یجب علیه أن یورد فی ذلک سماعا ، ولا أن یرویه روایة ...» وفی ص 127 - باب تعارض السماع والقیاس - ما نصه : «إذا ثبت أمر المصدر الذی هو الأصل لم یتخالج شک فی الفعل الذی هو الفرع. قال لی أبو علی فی الشام : إذا صحت الصفة فالفعل فی الکف. وإذا کان هذا حکم الصفة کان فی المصدر أجدر لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ...» ثم ضرب أمثلة تحتاج إلی حسن تفهم وأناة ... وله فصل آخر جلیل الشأن ، عظیم النفع ، عنوانه : فصل فی اللغة المأخوذة قیاسا (ج 1 ص 439) - یؤید ما سبق - وسنذکر فی آخر الکتاب - هذا الفصل کاملا ؛ لأهمیته ، ونفیس مضمونه.

نصبها تکون منصوبة علی أنها مفعول به ؛ ولیست مفعولا مطلقا ؛ فالأصل مثلا : ألزمه الله ویحه ، أو ویله ... أو ... وهذا رأی حسن لوضوحه ویسره. وإن کان الأول هو الشائع. ومثلها : بله الأکفّ (فی حالة الکسر) بمعنی : ترک الأکفّ ، أی : اترک ترک الأکفّ ...

(ب) من المصادر المسموعة التی لیس لها فعل من لفظها ، ما یستعمل مضافا وغیر مضاف ؛ کالکلمات الخمس السابقة. فإن کانت مضافة فالأحسن نصبها علی اعتبارها مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أو مفعولا به ، کما شرحنا. والنصب هو الأعلی. ولم یعرف - سماعا - فی کلمة : «بله» المضافة سواه. أما الکلمات الأربع التی قبلها فیجوز فیها الرفع علی اعتبارها مبتدأ خبره محذوف ، أو خبرا والمبتدأ محذوف. وتقدیر الخبر المحذوف : ویحه مطلوب - مثلا - ویله مطلوب - مثلا - وهکذا الباقی ... وتقدیر المبتدأ المحذوف : المطلوب ویحه ... - المطلوب ویله ... وهکذا ...

فإن کانت الکلمات الأربع مقرونة «بأل» فالأحسن الرفع علی الابتداء - وهو الشائع - ؛ نحو : الویح للحلیف ، والویل للعدو. ولا مانع أن تکون

ص: 219

خبرا ؛ نحو : المطلوب الویح - المطلوب الویل ... ویجوز النصب علی أنها مفعول مطلق للفعل المحذوف ، أو مفعول به لفعل محذوف أیضا.

وإن کانت تلک الکلمات خالیة من «أل» ومن الإضافة جاز النصب والرفع علی السواء.

وملخص الحکم أن الرفع والنصب جائزان فی کل حالات الألفاظ الأربعة غیر أن أحد الأمرین قد یکون أفضل من الآخر أحیانا ، طبقا للبیان السالف (1).

(ج) أشرنا (2) إلی أن فریقا من النحاة یجیز عدم التقیید بالسماع ، وعدم وجوب حذف العامل فی المصادر المسموعة بالنصب علی المصدریة لنیابتها عن عاملها ، مثل : «سقیا» و «رعیا» ... کما یجیز فی التی لیست مضافة ، ولا مقرونة بأل ، أن تضاف ، وأن تقترن بأل ؛ فتجری علیها الأحکام السالفة فی کل حالة. وهذا هو الأنسب الیوم ؛ لیسره مع صحته وإن کان الأول هو الأقوی.

(د) هناک مصادر أخری مسموعة بالنصب ، وعاملها محذوف وجوبا ، وهی نائبة عنه (3) :

1 - منها : ما هو مسموع بصیغة التثنیة مع الإضافة ؛ مثل : «لبّیک ، وسعدیک» ، لمن ینادیک أو یدعوک لأمر. والأصل : ألبی لبیک ، وأسعد

ص: 220


1- ویجوز فی حالتی الرفع والنصب المذکورتین أن یکون الاسم المعمول لهما مجرورا باللام ؛ نحو ویح للمحسنین ، وویل للظالمین ... أو : ویحا وویلا. ومن هذا قول جریر : کسا اللؤم تیما خضرة فی جلودها فویلا لتیم من سرابیلها الخضر أما کلمة : «تعسا» ... و «بعدا» - و «تبّا» فأفصح الاستعمالات فیها النصب مع جر معمولها باللام ، فیقال : تعسا للخائن ، وبعدا له (أی : هلاکا له) وتبّا له - (راجع کتاب مجمع البیان لعلوم القرآن ج 1 ص - 290 -)
2- فی رقم 1 من هامش صفحتی 210 م
3- کثیر من هذه المصادر متفرق فی النصوص الأدبیة القدیمة وفی المراجع اللغویة ، وقد جمع طائفة کبیرة منها شارح المفصل ج 1 ص 109 وما بعدها ، کذلک صاحب الهمع ، ج 1 ص 188 وما بعدها. وسیجیء تفصیل الکلام علیها من جهة إضافتها فی أول الجزء الثالث م 94 ص 65

سعدیک ؛ بمعنی : أجیبک إجابة بعد إجابة ، وأساعدک مساعدة بعد مساعدة. أی : کلما دعوتنی وأمرتنی أجبتک ، وساعدتک. والمسموع فی الأسالیب الواردة استعمال : «سعدیک» بعد «لبّیک». واتباع هذه الطریقة الواردة أفضل. لکن یجوز استعمال «سعدیک» بدون «لبیک» إن دعت حکمة بلاغیة. أما «لبیک» فالمسموع فیها الاستعمالان.

ومثل : حنانیک فی قولهم : «حنانیک ، بعض الشرّ أهون من بعض» بمعنی : حنّ علیّ حنانیک ؛ (أی : تحنّن واعطف) حنانا بعد حنان ، ومرة بعد أخری. - فهی هنا کلمة : «استعطاف».

ومثل : دوالیک فی نحو : تقرأ بعض الکتاب ، ثم ترده إلیّ. فأقرأ بعضه ، وأرده إلیک ؛ فتقرأ وتردّ ... وهکذا دوالیک ... بمعنی أداول دوالیک ، أی : أجعل الأمر متداولا ومتنقلا بینی وبینک ، مرة بعد مرة.

ومثل : هذاذیک ؛ فی نحو : هذاذیک فی غصون الشجر ؛ أی : تهذّ هذاذیک ؛ بمعنی : تقطع مرة بعد مرة. ومثل : حجازیک ؛ فی نحو : حجازیک عن إیذاء الیتامی : أی : تحجز حجازیک ؛ بمعنی : تمنع.

ومثل : حذاریک ؛ فی نحو : حذاریک الخائن ، أی : احذر حذاریک بمعنی : احذر الخائن ؛ حذرا بعد حذر ...

والمصادر السالفة کلها منصوبة ، وعاملها محذوف وجوبا وهی نائبة عنه ، وکلها غیر متصرف - فی الأغلب - ، أی : أنها ملازمة فی الأکثر حالة واحدة سمعت بها ، وهی حالة النصب والتثنیة مع الإضافة إلی کاف الخطاب - التی هی ضمیر مضاف إلیه -. وقد ورد بعضها بغیر التثنیة ، أو : بغیر الإضافة مطلقا ، أو : بالإضافة مع غیر غیر کاف الخطاب ، أو : له عامل مذکور ... لکن لا داعی لمحاکاة هذه الأمثلة القلیلة ؛ فلا خیر فی محاکاتها ، وترک الأکثر الأغلب. بقی أن نسأل : ما معنی التثنیة فی الأمثلة السابقة وأشباهها؟ أهی تثنیة حقیقیة یصیر بها الواحد اثنین لیس غیر ، فیکون معنی : «لبیک» ، و «سعدیک» و «حنانیک» ... تلبیة موصولة بأخری ، ومساعدة موصولة بمساعدة ، وحنانا موصولا بمثله؟ أیکون هذا هو المراد ، أم یکون المراد هو مجرد التکثیر؟

ص: 221

رأیان قویان ... ولا داعی للاقتصار علی أحدهما دون الآخر ؛ لأن بعض المناسبات والمواقف المختلفة قد یصلح له هذا ولا یصلح له ذاک ، وبعض آخر یخالفه ؛ فالأمر موقوف علی ما یقتضیه المقام.

2 - ومنها ما هو مفرد منصوب ملازم للإضافة - إلا فی ضرورة الشعر - مثل : «سبحان (1) الله» أی : براءة له من السوء. ومثل : معاذ (2) الله ؛ أی : عیاذا بالله ، واستعانة به. ومثل ریحان الله ؛ أی : استرزاق الله. ولا یعرف لهذا فعل من لفظه ؛ فیقدر من معناه ؛ أی : أسترزقه. والکثیر استعماله بعد سبحان الله. والثلاثة السالفة غیر متصرفة. ومثلها : حاش (3) الله ؛ بمعنی تنزیه الله.

3 - أمثلة أخری أکثرها ملازم النصب بغیر تثنیة ولا إضافة ؛ مثل : «سلاما» من الأعداء ، بمعنی : براءة منهم ، لا صلة بیننا وبینهم. بخلاف «سلام» بمعنی : «تحیة» ؛ فإنه متصرف. ومثل : «حجرا» فی نحو قولک لمن یسألک : أتصاحب المنافق؟ فتجیب : حجرا ، أی : أحجر حجرا ؛ بمعنی أمنع نفسی ، وأبعده عنی ، وأبرأ منه (4) ... ومثل قولک لمن یطلب إنجاز أمره : سأفعله ، وکرامة ومسرّة - أو : ونعمة ، أو ؛ ونعام عین - وهذه مضافة - ... أی سأفعله وأکرمک کرامة ، وأسرّک مسرة ، وأنعم نفسک نعمة ، وأنعم نعام عین ، أی : إنعام عین ... بمعنی أمتعک تمتع عین.

4 - أمثلة أخری تختلف عن کل ما سبق فی أنها لیست مصادر ، ولکنها

ص: 222


1- «سبحان» اسم مصدر ؛ فهو فی حکم المصدر (وقد سبقت الإشارة إلیه فی : ص 112 م 68) ومن استعماله غیر مضاف لضرورة الشعر قول الأعشی : أقول لما جاءنی فخره سبحان من علقمة الفاخر
2- سبقت الإشارة إلیه فی ص 112 م 68.
3- تفصیل الکلام علیها وعلی لغاتها وأوجه إعرابها موضح فی باب «الاستثناء» ص 329 وفی «ب» من ص 335 عند بیان أنواع : «حاشا».
4- فی الجزء الأول من تفسیر القرطبی ص 78 ما نصه : (العرب تقول عند الأمر تنکره : «حجرا له» - بضم الحاء ، وسکون الجیم - أی : دفعا له. وهو استعاذة من الأمر) اه.

أسماء منصوبة تدل علی أعیان ، أی : علی أشیاء مجسمة محسوسة : (ذوات) ، کقولهم فی الدعاء علی من یکرهونه : «تربا (1) وجندلا (2)». والأحسن أن تکون هذه الکلمات وأشباهها مفعولا به لفعل محذوف ، والتقدیر : ألزمه الله تربا وجندلا أو : لقی تربا وجندلا. أو : أصاب ، أو : صادف ... أو : نحو هذه الأفعال المناسبة لمعنی الدعاء المطلوب ...

ص: 223


1- ترابا.
2- صخرا.

المفعول له ، أو : المفعول لأجله

اشارة

أ

لازمت البیت ؛ استجماما

-

أو : للاستجمام.

زرت المریض ؛ اطمئنانا علیه

-

أو : للاطمئنان.

أتغاضی عن هفوات الزمیل ؛ استبقاء لمودته

-

أو : لاستبقاء مودته.

أحترم القانون ؛ دفعا للضرر

-

أو : لدفع الضرر.

ب

/ تنزهت ؛ طلب الراحة

-

أو : لطلب الراحة.

تحفظت فی کلامی ؛ خشیة الزلل

-

أو : لخشیة الزلل.

ألتزم الاعتدال ؛ رغبة السّلامة

-

أو : لرغبة السلامة.

أسأل الخبیر ؛ قصد الاسترشاد

-

أو : لقصد الاسترشاد.

ج

أجلس بین الأصدقاء ؛ الصلح

-

أو : للصلح.

أطلت المشی بین الزروع ؛ التمتع بها

-

أو : للتمتع بها.

أسعی بین المتخاصمین ؛ التوفیق

-

أو : للتوفیق.

هجرت الصحف الهزلیة ؛ النّفور منها

-

أو : للنفور.

کل جملة من الجمل المعروضة تصلح أن تکون سؤالا معه جوابه علی النحو الآتی ، ما الداعی أو : ما السبب فی أنک لازمت البیت؟ الجواب : الاستجمام. ما العلة ، أو : ما السبب فی أنک زرت المریض؟ ... الاطمئنان.

ما السبب فی تغاضیک عن هفوات زمیلک؟ استبقاء المودة ... وهکذا باقی الأمثلة ؛ حیث یدل کل مثال علی أنه یصلح سؤالا عن السبب (1) ، جوابه کلمة معه فی جملته.

ولو لحظنا الکلمة الواقعة جوابا لوجدناها : مصدرا ، یبین سبب ما قبله (أی : علته ...) ویشارک عامله فی الوقت ، وفی الفاعل ؛ لأن زمن الاستجمام وفاعله

ص: 224


1- والغالب أن تکون أداة الاستفهام هی : «لماذا»؟ أو : «لم»؟ ، أو : «ما»؟ ، أو نحوها من کل ما یسأل به عن السبب.

هو زمن ملازمة البیت وفاعلها. وزمن الاطمئنان وفاعله ، هو زمن زیارة المریض وفاعلها ... وکذا الباقی ...

فکل کلمة اجتمعت فیها الأمور - أو الشروط - الأربعة السالفة تسمی : «المفعول له» ، أو : «المفعول لأجله» (1) فهو : المصدر (2) الذی یدل علی سبب ما قبله (أی : علی بیان علته) (3) ویشارک عامله فی وقته ، وفاعله ...

أقسامه

المفعول لأجله ثلاثة أقسام (4) ، مجرد من «أل» ، والإضافة ؛ کالقسم الأول : «ا». ومضاف ؛ کالقسم الثانی : «ب» ، ومقترن بأل ؛ کالقسم الثالث «ح». وهذا القسم دقیق فی استعماله وفهمه ، قلیل التداول قدیما وحدیثا ، ومن المستحسن لذلک أن نتخفف من استعماله.

أحکامه

1 - من أحکامه أنه إذا کان مستوفیا للشروط جاز نصبه مباشرة ، وجاز جره بحرف من حروف الجر التی تفید التعلیل ؛ وأوضحها (5) : اللام - ثم : فی ،

ص: 225


1- أی : لأجل شیء آخر ، بسببه حصل هذا المفعول. فالمراد : ما فعل لأجله فعل.
2- أی الصریح. ومثله : المصدر المیمی ، واسم المصدر. وکذلک المصدر المنسبک ؛ (کالذی فی رقم 1 من هامش ص 228) ، ومن المصدر المیمی قول الشاعر : وأمر تشتهیه النفس ، حلو ترکت مخافة سوء السماع أی : ترکته خوف سوء السمعة.
3- ولأنه یبین علة ما قبله وسببه لا یکون من لفظ عامله ؛ - لکیلا یصیر مصدرا مؤکدا لعامله -. ولا من من معناه ، ولا یبین نوعه ، أو عدده ؛ لأن هذا کله مناقض للتعلیل الذی هو شرط أساسی فی المفعول لأجله.
4- إذا کان المفعول لأجله مضافا لمعرفة أو مقترنا «بأل» التی تفید التعریف - فإنه یکون معرفة ، وإذا کان مجردا منهما فإنه یکون نکرة.
5- من أمثلة «فی» التی لبیان السبب (أی : للتعلیل) قوله علیه السّلام : «دخلت امرأة النار فی هرة حبستها» ... أی : بسبب هرة. ومن أمثلة الباء التی لبیان السبب قوله تعالی : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِینَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَیْهِمْ طَیِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أی : بسبب ظلم. ومن أمثلة «من» الدالة علی بیان السبب قوله تعالی : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ....) أی : بسبب إملاق : (فقر). وسیجیء البیان التام عن هذه الأحرف مع نظائرها من حروف الجر ، فی الباب الخاص بها ، آخر هذا الجزء - ص 401 -

والباء ، ومن - والأمثلة السالفة توضح أمر النصب والجر باللام ، ومن الممکن حذف اللام من تلک الأمثلة ، ووضع حرف آخر من حروف التعلیل مکانها.

لکنه فی جمیع حالات جرّه لا یعرب - اصطلاحا - مفعولا لأجله ، وإنما یعرب جارّا ومجرورا متعلقا بعامله. وهذا برغم استیفائه الشروط ، وبرغم أن معناه فی حالتی نصبه وجره لا یختلف (1).

ومع أن النصب والجر جائزان - هما لیسا فی درجة واحدة من القوة والحسن ؛ فإنّ نصب المجرد أفضل من جره ، لشیوع النصب فیه ، ولتوجیهه الذهن مباشرة إلی أن الکلمة «مفعول لأجله». وجرّ المقترن «بأل» أکثر من نصبه. أما المضاف فالنصب والجر فیه سیانّ. (وقد تقدمت الأمثلة للأنواع الثلاثة).

فإن فقد شرط من الأربعة (2) لم یجز تسمیته مفعولا لأجله ، ولا نصبه علی هذا الاعتبار ؛ وإنما یجب جره بحرف من حرف التعلیل السابقة ، إلا عند فقد التعلیل ؛ فإنه لا یجوز جره بحرف من هذه الحروف الدالة علی التعلیل ؛ منعا للتناقض.

فمثال ما فقد المصدریة : أعجبتنی الحدیقة ؛ لأشجارها ، وسرتنی أشجارها ؛ لثمارها ؛ فالأشجار والثمار لیستا مصدرین ، ولهذا لم یصح نصبهما مفعولین لأجله ، وصارتا مجرورتین.

ومثال ما فقد التعلیل : عبدت الله عبادة ، واطعت الرسول إطاعة (3) ... ولا یجوز فی هذین وأمثالهما الجر بحرف جر یفید التعلیل - کما سبق -.

ص: 226


1- یری بعض النحاة أن المفعول لأجله حین یکون منصوبا ، لا یکون منصوبا بالعامل الذی قبله ؛ وإنما یکون منصوبا علی نزع الخافض (أی : عند نزعه من مکانه ، وحذفه ؛ کما تقدم فی رقم 4 من هامش ص 153 من باب : تعدی الفعل ولزومه) ولا داعی للأخذ بهذا الرأی ؛ لما فیه من تکلف وتعقید بغیر فائدة. ومثله الآراء الأخری التی تزید بعض الشروط أو تنقص. ومن الزیادة أن یکون المفعول لأجله «قلبیا» ؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر ، هو : التعلیل ؛ إذ التعلیل - غالبا - یکون بأمور قلبیة معنویة ، لا بأمور حسیة من أفعال الجوارح ، ویفهم أیضا من باقی الشروط ...
2- یری بعض النحاة أن المفعول لأجله حین یکون منصوبا ، لا یکون منصوبا بالعامل الذی قبله ؛ وإنما یکون منصوبا علی نزع الخافض (أی : عند نزعه من مکانه ، وحذفه ؛ کما تقدم فی رقم 4 من هامش ص 153 من باب : تعدی الفعل ولزومه) ولا داعی للأخذ بهذا الرأی ؛ لما فیه من تکلف وتعقید بغیر فائدة. ومثله الآراء الأخری التی تزید بعض الشروط أو تنقص. ومن الزیادة أن یکون المفعول لأجله «قلبیا» ؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر ، هو : التعلیل ؛ إذ التعلیل - غالبا - یکون بأمور قلبیة معنویة ، لا بأمور حسیة من أفعال الجوارح ، ویفهم أیضا من باقی الشروط ...
3- یری بعض النحاة أن المفعول لأجله حین یکون منصوبا ، لا یکون منصوبا بالعامل الذی قبله ؛ وإنما یکون منصوبا علی نزع الخافض (أی : عند نزعه من مکانه ، وحذفه ؛ کما تقدم فی رقم 4 من هامش ص 153 من باب : تعدی الفعل ولزومه) ولا داعی للأخذ بهذا الرأی ؛ لما فیه من تکلف وتعقید بغیر فائدة. ومثله الآراء الأخری التی تزید بعض الشروط أو تنقص. ومن الزیادة أن یکون المفعول لأجله «قلبیا» ؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر ، هو : التعلیل ؛ إذ التعلیل. -

ومثال ما لم یتحد مع عامله فی الوقت : ساعدتنی الیوم ؛ لمساعدتی إیاک غدا (1).

ومثال ما لم یتحد مع عامله فی الفاعل : أجبت الصارخ ؛ لاستغاثته. لأن فاعل الإجابة غیر فاعل الاستغاثة (2).

ص: 227


1- المراد من اتحاد المصدر مع عامله فی الوقت أن یقع حدث العامل فی أثناء زمن تحقق معنی المصدر ؛ مثل : هرب اللص جبنا ، أو : یقع أول زمن العامل فی آخر زمن تحقق المصدر : نحو : حبست المتهم خوفا من فراره ، أو العکس ، نحو : جئتک حرصا علی إفادتک.
2- وفیما سبق یقول ابن مالک : ینصب «مفعولا له» المصدر ، إن أبان تعلیلا ؛ کجد شکرا ، ودن أی : ینصب علی اعتباره مفعولا له إن أبان تعلیل ما قبله ، أی : إن بین سبب ما قبله. وضرب لهذا مثلا هو : جد شکرا. بمعنی : جد لأجل الشکر ، فکلمة : «شکرا» مصدر بین سبب الجود. ومعنی : «دن» ، داین الناس بجودک وفضلک : لیشکروک. فهو فعل أمر من دان الرجل غیره بمعنی : صار دائنا له. ویصح أن یکون فعل أمر من : «دان» بمعنی : صار صاحب دین (بکسر الدال) وعلی المعنیین یصح أن یکون للفعل مفعول لأجله محذوف ؛ تقدیره : شکرا. ویکون أصل الکلام : جد شکرا ، ودن شکرا. ثم قال فی بیان بقیة الشروط : وهو - بما یعمل فیه - متّحد وقتا ، وفاعلا ، وإن شرط فقد فاجرره بالحرف ، ولیس یمتنع مع الشّروط ، کلزهد ذا قنع یرید : أنه یکون مفعولا لأجله بشرط أن یکون متحدا مع عامله فی الوقت والفاعل ، وهذا مراده من قوله بما یعمل فیه متحد. أی : وهو متحد بالذی یعمل فیه النصب. (والضمیر عائد علی المفعول له) فإن فقد شرط فاجرر بالحرف ، ولا تنصب. ثم بین أن الجر بالحرف لیس ممتنعا مع استبقاء الشروط ؛ مثل : قنع زهدا ؛ فیصح : هذا قنع لزهد. وانتقل بعد ذلک لبیان درجة النصب والجر من القوة البلاغیة عند دخولهما فی أقسام المفعول لأجله ، فقال : وقلّ أن یصحبها المجرّد والعکس فی مصحوب «أل» وأنشدوا : لا أقعد الجبن عن الهیجاء ولو توالت زمر الأعداء (قل أن یصحبها : أی : یصحب الحرف. وأنثه باعتباره : کلمة. ویجوز التذکیر باعتبار أنه حرف) فدخول حرف الجر علی المجرد من «أل والإضافة» قلیل ، ودخوله کثیر علی المقرون بأل ؛ مثل قول الشاعر القدیم : لا أقعد الجبن عن الهیجاء ... (أی : لا أقعد عن الهیجاء الجبن ، یرید : للجبن ، أی : بسبب الجبن). ولم یتعرض ابن مالک للمضاف. وکلامه السابق یشعر بالحکم ، وهو أن النصب والجر سیان ، إذ بین أن أحد الثلاثة یکثر فیه النصب دون الجر ، وأن واحدا آخر یکثر فیه الجر دون النصب ، وسکت عن الثالث ، فالسکوت فی هذه الحالة قد یوحی بجواز الأمرین علی التساوی.

2 - ومن أحکامه أنه یجوز حذفه لدلیل یدل علیه عند الحذف ؛ کأن یقال : إن الله أهل للشکر الدائم ؛ فاعبده شکرا ، وأطعه. والتقدیر : أطعه شکرا ؛ فحذف الثانی لدلالة الأول علیه. ومثل : إن الضیف الذی سیزورنا جدیر أن نظهر له التکریم فی کل حرکاتنا ؛ فنقف تکریما ، ونتقدم عند قدومه تکریما ، ونصافحه ، أی : نصافحه تکریما. ومثل ما سبق من قول ابن مالک : جد شکرا ودن (1).

3 - ومنها : أنه - وهو منصوب أو مجرور - یجوز تقدمه علی عامله ؛ نحو : (طلبا للنزهة - رکبت الباخرة). (انتفاعا - شاهدت تمثیل المسرحیة). والأصل : رکبت الباخرة ، طلبا للنزهة - شاهدت تمثیل المسرحیة ؛ انتفاعا. وقول الشاعر :

فما جزعا - وربّ الناس - أبکی

ولا حرصا علی الدنیا اعترانی

والأصل : فما أبکی جزعا.

4 - ومنها : جواز حذف عامله ؛ لوجود قرینة تدل علیه ؛ نحو : بعدا عن الضوضاء ؛ فی إجابة من سأل : لم قصدت الضواحی؟ ...

5 - ومنها : أنه لا یتعدد (2) ؛ سواء أکان منصوبا أم مجرورا ؛ فیجب الاقتصار علی واحد للعامل الواحد - ولا مانع من العطف علیه أو البدل منه (3) - لهذا قالوا فی الآیة الکریمة : (وَلا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً ؛ لِتَعْتَدُوا.) أن کلمة : «ضرارا» مفعول لأجله ، والجار والمجرور : (لتعتدوا) متعلق بها ، ولا یصلح أن یکون متعلقا بالفعل إلا عند إعراب : «ضرارا» حالا مؤولة ؛ بمعنی : مضارّین.

ص: 228


1- من أمثلة حذفه - کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 225 - قوله تعالی : (یُبَیِّنُ اللهُ لَکُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والأصل : کراهة أن تضلوا. أی : کراهة ضلالکم ؛ فالمصدر المؤول مفعول له - کما نص علی ذلک صاحب : «المغنی» عند الکلام علی الحرف : لا -. والمفهوم أن المفعول لأجله (وهو کلمة : کراهة) مضاف إلی المصدر المؤول بعدها ، ثم حذف المضاف ؛ فقام المضاف إلیه مقامه ، وأعرب إعرابه.
2- لأن العلة فی وجود الشیء لا تکون إلا واحدة. والسبب الواحد لا یوجد إلا مسببا عنه واحدا.
3- ومن أمثلة العطف علیه قول علی رضی الله عنه فی بعض الأشرار : «لا تلتقی بذمهم الشفتان ؛ استصغارا لقدرهم ، وذهابا عن ذکرهم» ، ومن أمثلة البدل قول أحد الباحثین : (ما تأملت الکون إلا تجلت لی عظمة الله ، وعجائب قدرته ؛ فأطأطئ الرأس إخباتا ، خشوعا ، وتواضعا ...) فالخشوع هو الإخبات بدل کل من کل -.

المسألة 78: ظرف المکان و ظرف الزمان

اشارة

(1)

فی مثل : جاءت السیارة صباحا ، ووقفت یمین الطریق ؛ لیرکب الراغبون - تدل کلمة : «صباحا» علی زمن معروف ؛ هو أول النهار وتتضمن فی ثنایاها معنی الحرف : «فی» الدال علی الظرفیة (2) ، بحیث نستطیع أن نضع قبلها هذا الحرف ، ونقول : جاءت السیارة فی صباح ، ووقفت یمین الطریق ؛ فلا یتغیر المعنی مع وجود «فی» ، ولا یفسد صوغ الترکیب. فهو حرف عند حذفه هنا ملاحظ کالموجود ، یراعی عند تأدیة المعنی ، ولأن کلمة : «صباحا» ترشد إلیه ، وتوجه الذهن لمکانه ؛ وهذا هو المقصود من أن کلمة «صباحا» تتضمنه (3).

ولو غیّرنا الفعل : «جاء» ، ووضعنا مکانه فعلا آخر ؛ مثل : وقف - ذهب - تحرک ... - لبقیت کلمة : «صباحا» علی حالها من الدلالة علی الزمن المعروف ، ومن تضمنها معنی : «فی». وهذا یدل علی أن تضمنها معنی : «فی» مطرد (4) مع أفعال کثیرة متغیرة المعنی.

ص: 229


1- یسمی الظرف بنوعیه : «المفعول فیه» وهو نوع من شبه الجملة ، وکذا من شبه الوصف - کما سیجیء فی رقم 1 من هامش الصفحة الآتیة.
2- أی : «علی أن شیئا فی داخل شیء آخر» ؛ فالغلاف الخارجی هو الظرف ، وما فی داخله هو : المظروف ؛ نحو : الماء فی الکوب. وفی مثل : السفر الیوم ، یکون الظرف هو الیوم ، والمظروف هو السفر.
3- فالمراد من تضمنها : أنها تشیر إلی معنی «فی» من غیر أن تتضمن لفظ ، أو تنوب عنه فی أداء معنا ، أو عمله ، أو تکتسب شیئا بهذا التضمن. ولو لا ذلک لوجب بناء هذه الظروف ؛ (لما یسمیه النحاة : «السبب التضمنی ، أو : المعنوی» ؛ وهو یمنع غالبا ، ظهور الحرف. (وقد سبق بیانه فی الجزء الأول ، ص 60 م 7 - وهو یزید الأمر هنا وضوحا) - مع أن أکثر الظروف معرب ؛ برغم تضمنه معنی : «فی».
4- أی : مستمر فی مختلف الأحوال ، ومع کل الأفعال ومشتقاتها العاملة. غیر مقصور علی نوع معین منها. لکن یجب ملاحظة أمور ثلاثة. أولها : أن کلمة : «فی» لا یصح التصریح بها مع الظروف التی لا تتصرف - کما سیجیء فی رقم 4 من ص 247 و «د» من ص 254 - بخلاف المتصرفة. وثانیها : أن نوعین من الظروف المکانیة لا ینصبهما إلا أفعال معینة خاصة ، أو مشتقاتها ؛ - - فلا یتضمنان - فی الأعم الأغلب - معنی : «فی» باطراد - کما سیجیء فی رقم 3 من هامش ص 240 ، فالظروف الدالة علی المقادیر لا تنصبها إلا أفعال السیر ومشتقاتها ، والظروف التی تلاقی فعلها فی الاشتقاق إنما ینصبها ما تجتمع معه فی حروف مادته من فعل ، أو وصف یعمل عمله. ثالثها : أن أسماء الزمان التی تلاقی فعلها فی الاشتقاق ، ینصبها ما تجتمع معه فی حروف مادته من فعل ، أو وصف یعمل عمله ... (انظر «ج» من ص 241).

بخلاف ما لو قلنا : الصباح مشرق - صباح الخمیس معتدل ، ... فإن کلمة : «الصباح» فی المثالین ، وأشباههما تدل علی الزمن المعروف ، ولکنها لا تتضمن معنی «فی». فلو وضعنا هذا الحرف قبلها لفسد الأسلوب والمعنی ؛ إذ لا یصح أن یقال : فی الصباح مشرق - ولا فی صباح الخمیس معتدل ؛ ومن أجل هذا لا یصح - اصطلاحا - تسمیة کلمة : «الصباح» فی هذین المثالین ظرف زمان ؛ لعدم وجود شیء مظروف فیها ، بالرغم من أنها تدل علی الزمان فیهما.

وتدل کلمة : «یمین» فی المثال الأول علی المکان ؛ لأن معناها وقفت السیارة فی مکان هو : جهة الیمین. وهی متضمنة معنی : «فی» ، إذ نستطیع أن نقول : وقفت فی جهة الیمین ؛ فلا یتغیر المعنی. ولو غیّرنا الفعل ، وجئنا بآخر ، فآخر ... لظلت کلمة : «یمین» علی حالها من الدلالة علی المکان ، ومن تضمنها معنی «فی» باطّراد.

بخلاف قولنا : الیمین مأمونة - إن الیمین مأمونة - خلت الیمین ... فإنها فی هذه الأمثلة - وأشباهها - لا تتضمن معنی الحرف : «فی» ویفسد الأسلوب والمعنی بمجیئه ؛ إذ لا یقال : فی الیمین مأمونة. وکذا الحال فی باقی الأمثلة وأشباهها ؛ لهذا لا یصح تسمیتها فی هذه الأمثلة ظرف مکان ، لعدم وجود شیء مظروف فیها ... فکلمة : «صباحا» فی المثال الأول - ونظائرها - تسمی : ظرف «زمان». وکلمة «یمین» ونظائرها ، تسمی : «ظرف مکان».

فالظرف (1) هو : (اسم منصوب یدل علی زمان أو مکان ، ویتضمن معنی :

ص: 230


1- یسمی الظرف بنوعیه : «المفعول فیه - کما سبق فی رقم 1 من هامش الصفحة الماضیة - وقد یطلق الظرف فی کلام الأقدمین - أحیانا - مرادا منه الجار مع مجروره. لأن کلمة : «الظرف» عندهم قد تشمل «شبه الجملة» بنوعیه ؛ وتطلق علی کل منهما. صرح بهذا «المغنی» و «الهمع ح 1» - فی مبحث : «کیف». وکذا الخضری - وغیره. - فی ج 1 باب : «المبتدأ والخبر» عند بیت ابن مالک : «وفی جواب کیف زید؟ قل دنف ...» وانظر النحو الوافی (ج 1 م 39 ص 462 من الطبعة الثالثة - وشبه الجملة یسمی أیضا : «شبه المشتق ، أو : شبه الوصف» للسبب المدون فی رقم 4 من هامش ص 347).

«فی» باطراد (1) ...) وینقسم إلی ظرف زمان ، وظرف مکان (2).

أحکام الظرف بنوعیه - أشهرها

1 - أنه منصوب (3) علی الظرفیة (4) ، فلو کان مرفوعا ، أو منصوبا لداع آخر غیر الظرفیة ، أو مجرورا (5) ولو کان الجار هو «فی» الدالة علی الظرفیة - فإنه لا یسمی ظرفا ، ولا یعرب ظرفا ، ولو دلّ علی زمان أو مکان.

وناصبه - ویسمی : عامله - إما مصدر ؛ نحو : المشی یمین الطریق أسلم ، والجری وراء السیارات یعرض للأخطار. وإما فعل (6) لازم أو متعد ، نحو : أنجزت عملی مساء ، ثم قعدت أمام المذیاع ، أتمتع به. وإما وصف (7) حقیقی عامل ، (اسم فاعل ، اسم مفعول ...) ، نحو الطیارة مرتفعة فوق السحاب ، والسحاب مرکوم تحتها لا یعوقها. وإما وصف تأویلا ؛ ویراد به الاسم الجامد المقصود منه الوصف بإحدی الصفات المعنویة ، مثل : أنا عمر عند الفصل فی قضایا الناس ، وأنت معاویة ساعة الغضب ، فالظرف : «عند» منصوب بکلمة : «عمر» ، والمراد منها : «العادل». وکلمة : «ساعة» منصوبة بکلمة : «معاویة» والمراد منها : الحلیم (8).

ص: 231


1- أی : بأن یتعدی إلیه کل الأفعال مع بقاء تضمنه فی المعنی لذلک الحرف الدال علی احتواء الظرف لمعنی عامله. إلا الظروف التی أشرنا إلیها (فی رقم 4 من هامش ص 229) ومنها نوعان لا یتضمنان معنی «فی» إلا فی حالات معینة یکون فیها الفعل العامل أو مشتقاته من نوع معین ؛ فهما بسبب هذا التعیین لا یتضمنان معنی «فی» باطراد.
2- وفی هذا یقول ابن مالک : الظّرف وقت أو مکان ضمّنا : «فی» ، باطّراد ؛ «کهنا» امکث «أزمنا» والأحسن فی : «ضمنا» أن تکون ألفه للتثنیة المراد منها الوقت والمکان. وکلمة : «أو» للتنویع ، بمعنی الواو.
3- إما مباشرة ؛ لأنه معرب ، وإما مبنی فی محل نصب.
4- انظر «ا» من ص 244 حیث الکلام علی الظرف المتصرف.
5- کالصور التی یجب فیها جره بالحرف : «فی» وإعرابهما بعد ذلک خبرا للمبتدأ - وقد سبقت فی باب المبتدأ والخبر ، ج 1 م 35 -.
6- تام أو ناقص ، جامد أو مشتق ... (وسیجیء الکلام علی سبب التعلق فی ص 236 وفی باب حروف الجر ، ص 405 ب).
7- أی : مشتق.
8- وقد یکون ناصبه هو العامل فی المنادی ؛ کقول الشاعر : یا دار بین النّقا والحزن ما صنعت ید النّوی بالألی کانوا أهالیک؟ وسیجیء بیان هنا ، وفی باب المنادی ، ج 4 م 127 -

ولا بد أن یتعلق (1) الظرف بناصبه (أی : بعامله) ولیس من اللازم أن یکون عامله متقدما علیه ؛ کالأمثلة السالفة ، فقد یکون متأخرا عنه ؛ کقولهم : «الحرّ عند الحمیّة لا یصطاد ، ولکنه عند الکرم ینقاد ، وعند الشدائد تذهب الأحقاد». والمشهور أنه لا یتعلق بعامله المباشر إن کان هذا العامل حرفا من حروف المعانی (2).

ص: 232


1- معنی التعلق موضح فی «ب» ص 251 وفیها أن التعلق قد یکون بعامل معنوی ، هو : «الإسناد».
2- المراد من حروف المعانی موضح ، فی صدر الجزء الأول (م 5) عند الکلام علی «الحرف» ونزید هنا ما یقوله صاحب «المفصل» - فی ج 8 ص 7 - من أنها حروف جاءت عوضا عن الجمل ، ومفیدة معناها ، بأوجز لفظ ، فکل حرف منها یفید فائدتها المعنویة مع الإیجاز والاختصار ؛ فحروف العطف جیء بها عوضا عن : «أعطف» وحروف الاستفهام جیء بها عوضا عن : «أستفهم». وحروف النفی إنما جاءت عوضا عن : «أجحد» ، أو : «أنفی» ، وحروف الاستثناء جاءت عوضا عن : «أستثنی» ، أو : «لا أقصد» ، وکذلک لام التعریف نابت عن : «أعرّف» ، وحروف الجر جاءت لتنوب عن الأفعال التی بمعناها ؛ فالباء نابت عن : ألصق - مثلا - والکاف نابت عن أشبه ، وکذلک سائر حروف المعانی : کأحرف النداء والتمنی ... وقد عقد صاحب المغنی - فی الجزء الثانی من کتابه - فصلا عن شبه الجملة بنوعیه (الظرف ، والجار مع مجروره) ؛ عنوانه : «هل یتعلقان بأحرف المعانی»؟ ملخصه : أن هناک ثلاثة آراء : أولها : المنع مطلقا ، وهو المشهور. ثانیها : الجواز مطلقا. ثالثها : التفصیل ؛ فإن کان حرف المعنی نائبا عن فعل حذف جاز ذلک علی طریق النیابة ، لا الأصالة ، وإلا فلا ؛ فنحو «یا لمحمد» یکون الجار والمجرور متعلقین بالحرف : «یا» ؛ لنیابته عن «أدعو» ، أو : «أنادی». وأما الذین قالوا بالجواز مطلقا فمثلوا له بقول الشاعر : وما سعاد غداة البین إذ رحلوا إلا أغنّ غضیض الطّرف مکحول فالظرف : «غداة» ظرف للنفی ، أی : انتفی کونها فی هذا الوقت إلا کأغن ، ولا یصح تعلقه بما بعد «إلا» لأن معمول المستثنی لا یتقدم علیهما - کما سیجیء فی بابه ص 303 م 81 -. ومثل : ما ضربت الغلام للتأدیب. فإن قصدت نفی ضرب معلل بالتأدیب فالجار والمجرور متعلقا بالفعل ، والمنفی ضرب مخصوص ، وللتأدیب تعلیل للضرب المنفی. أما إذا قصدت نفی الضرب علی کل حال فالجار والمجرور متعلقان بالنفی ، والتعلیل له. أی : أن انتفاء الضرب کان لأجل التأدیب ، لأنه قد یؤدب بعض الناس بالصفح عنه ، وترکک إیاه دون أن تضربه. ومثله فی التعلق بحرف النفی عندهم : ما أکرمت المسیء لتأدیبه ، وما أهنت المحسن لمکافأته ؛ إذ لو علق هذا بالفعل لفسد المعنی المراد. ومثل هذا قوله تعالی : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّکَ بِمَجْنُونٍ ؛) فالباء متعلقة بالنفی ؛ إذ لو علق الجار والمجرور بکلمة : «مجنون» ولم یتعلقا بالنفی - لأفاد نفی جنون خاص ؛ هو الجنون الذی یکون من نعمة الله. ولیس فی الوجود جنون هو نعمة ، ولا المراد نفی جنون خاص ... و... ثم قال صاحب المغنی تعلیقا علی هذا الرأی ما نصه : - - «هذا کلام بدیع. إلا أن جمهور النحویین لا یوافقون علی صحة التعلق بالحرف ، فینبغی علی قولهم أن یقدر التعلق بفعل دل علیه النافی ... و...» اه. وإذا کان الکلام السالف بدیعا «کما یقول - بحق - صاحب المغنی» فکیف لا یوافق علیه جمهرة النحاة بعد ما بدا له من تلک الآثار المعنویة الهامة التی کشفها أصحابه ، وأبانوا جلیل قدرها؟ لهذا لم یکن بد من الاطمئنان إلی ذلک الکلام والاقتصار علیه ، وإن خالفه الجمهور بغیر حجة واضحة. اللهم إلا إن کان القصد أن التعلق بالفعل أظهر وأبین. فهذا صحیح.

2 - أن عامله قد یحذف جوازا ، أو وجوبا ؛ فیحذف جوازا حین یدل علیه دلیل ؛ کأن یقال : متی حضرت؟ فیجاب : یوم الجمعة ؛ أی : حضرت یوم الجمعة. ومتی وصلت یوم الجمعة؟ فیجاب : مساء. أی : وصلت مساء ، ومثل : کم میلا مشیت؟ فیجاب : میلین ؛ أی : مشیت میلین ، ویسمی الظرف الذی ذکر عامله أو حذف جوازا لوجود قرینة تدل علیه : «الظرف اللغو». أما الذی حذف عامله وجوبا فیسمی : «الظرف المستقر» (1). ویجب حذف هذا العامل فی ستة مواضع :

أن یقع خبرا ، أو حالا ، أو صفة ، أو صلة ، أو مشتغلا (2) عنه ، أو لفظا مسموعا عن العرب محذوفا فی أکثر استعمالهم. فمثال الخبر : الأزهار أمامنا ، والزروع حولنا. ومثال الحال : هذا الأسد أمام مروضه کالفأر. ومثال الصفة : إن شهادة زور أمام القضاء قد تحفر هوة سحیقة تحت أقدام شاهدها ، ومثال الصلة : احتفیت بالصدیق الذی معک. ومثال الاشتغال : یوم الأحد سافرت فیه (3). ومثال المسموع : حینئذ الآن.

ص: 233


1- تکلمنا بإسهاب عن الظرف «اللغو» ، والظرف «المستقر» ، - بفتح القاف - وعن سبب التسمیة ؛ وما یصحبها من أحکام مختلفة ؛ فی الجزء الأول (فی ص 271 م 27 و 346 م 35) وهی أحکام هامة (منها : أن الظرف اللغو لا یقع بنفسه خبرا ، ولا صلة ... و... وإنما الذی یقع هو عامله المذکور ، أو المحذوف جوازا لقرینة - کما سیجیء ، فی ص 236 -) وبعضها یؤدی إلی تیسیر محمود. ثم عدنا إلی الکلام المفصل مرة أخری فی هذا الجزء الثانی بمناسبة الکلام علی حروف الجر ، وتعلقها بعامل محذوف - وغیره - وآثاره من النواحی المختلفة (ص 413). والموضوع کله جدیر بالإطلاع علیه.
2- تقدم باب الاشتغال فی هذا الجزء ص 121.
3- القیاس فی الاشتغال بمعناه العام أن نقول : سافرته ، إلا أن الضمیر العائد علی الظرف یغلب جره بفی. وقد تحذف تیسیرا وتوسعا ؛ - کما قالوا - علی تخیل أن الفعل اللازم متعد بنفسه. وبناء علی هذا التخیل یکون الضمیر المتصل به مباشرة ، مفعولا به ، لا ظرفا - بالرغم من أنه عائد علی الظرف - ، - - ویصیر الفعل متعدیا بنفسه. (راجع الصبان فی هذا الموضع ، ثم المفصل ج 2 ص 46). وهذا التخیل یؤدی إلی اللبس والخلط بین المتعدی واللازم. فالخیر فی إبقاء حرف الجر وجوبا کما یری کثرة النحاة. أما عند حذفه فالأنسب إعراب الضمیر ظرفا لأنه راجع إلی الظرف - (انظر رقم 1 من هامش ص 239) ومما فیه إشارة إلی التخیل السالف کلام «أبی علی القالی» فی کتابه : «ذیل الأمالی والنوادر» - ص 3 - عند عرضه قصیدة الأبیرد الریاحی فی رثاء أخیه ، ومطلعها : تطاول لیلی لم أنمه تقلبا کأن فراشی حال من دونه الجمر قال : أبو علی ، بعد الفراغ منها ما نصه : (قال أبو الحسن - یرید : أبا الحسن علی بن سلیمان الأخفش - من روی : «لم أنمه» جعله مفعولا به علی السعة ، کما قالوا : «الیوم صمته». والمعنی : لم أنم فیه ، وصمت فی الیوم. جعله مثل : زید ضربته) اه. ومثل هذا فی کتاب : «الکامل للمبرد» - ص 27 - فقد نقل فی باب عنوانه : «من کلام العرب الاختصار» حذف کلمة «فی» من قول العرب : «أقمت ثلاثا ما أذوقهن طعاما ولا شرابا» ، وقول الراجز : «فی ساعة یحبها الطعام» - ببناء المضارع للمجهول - ثم قال بعد ذلک : (یرید فی ساعة یحب فیها الطعام. وکذلک الأول معناه ما أذوق فیهن ... وذلک أن ضمیر الظرف تجعله العرب مفعولا به علی السعة کقولهم یوم الجمعة سرته ، ومکانکم قمته ، وشهر رمضان صمته ... فهذا یشبه فی السعة بقولک : «زید ضربته» ، وما أشبهه ، فهذا بیّن). اه.

والعامل المحذوف فی الثلاثة الأولی یصح أن یکون وصفا أو فعلا ؛ فالتقدیر علی اعتباره وصفا هو : (مستقر ، أو موجود ، أو کائن ، أو حاصل ... وأشباه هذا مما یناسب.) وعلی اعتباره فعلا هو : (استقر - وجد - کان ؛ بمعنی : وجد - حصل ... وأشباه هذا مما یناسب). أما مع الصلة فیجب أن یکون فعلا (1) ؛ لأن الصلة لغیر «أل» لا بد أن تکون جملة فعلیة ، والوصف مع مرفوعه لیس جملة (2). والأحسن فی «المشغول عنه» هنا وفی «المسموع» أیضا أن یکون فعلا ، فأصل المشغول عنه : سافرت یوم الأحد سافرت فیه. وأصل المسموع : حینئذ الآن. أی :

ص: 234


1- وکذلک العامل المحذوف فی - القسم ، لأن القسم والصلة - لغیر أل - ، لا یکونان إلا جملتین ، ولن یتحقق هذا إلا بتقدیر العامل المحذوف فعلا ، ولیس اسما مشتقا یشبهه - کما سیجیء فی باب حروف الجر ص 460 - أما صلة «أل» فصفة صریحة ؛ فیجب أن یکون المحذوف اسما مشتقا یصلح أن یکون صلة لها علی الوجه الذی تقدم بیانه عند الکلام علیها فی باب الموصول والصلة (ج 1 ص 253 م 26 و 271 م 27).
2- إذا کان المحذوف فی الصلة وغیرها هو متعلق الظرف فهل یجوز أن نقول إن الظرف نفسه هو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ، أو الخبر ، ونستریح من التقدیر؟ الجواب ؛ نعم ، (وتفاصیل هذا وأدلته قد سبقت فی ج 1 ص 272 ، م 27 وفی باب باب المبتدأ والخبر شبه الجملة. م 35 وسیجیء تلخیصها فی الزیادة (ص 236) ، وفی باب حروف الجر (هامش ص 413).

کان ذلک حینئذ ، واسمع الآن (1).

ص: 235


1- هذا مثل یقال لمن ذکر أمرا تقادم عهده ، أی : حصل ووقع ما تقوله حین إذا کان کذا وکذا ، واسمع الآن کلامی ؛ فهما جملتان. والمقصود منعه من ذکر ما سبق ، وأمره بسماع ما یقال له الآن. وفی نصب الظرف وحذف عامله جوازا أو وجوبا یشیر ابن مالک بقوله : فانصبه بالواقع فیه مظهرا کان ، وإلّا فانوه مقدّرا وکلّ وقت قابل ذاک ، وما یقبله المکان إلّا مبهما نحو : الجهات ، والمقادیر ، وما صیغ من الفعل ؛ کمرمی من رمی الظرف یقع فیه المعنی إما من المصدر المجرد ، أو من الفعل ، أو من الوصف العامل. وهو هنا یقول : انصب الظرف بالعامل الذی معناه یقع فی هذا الظرف. فالمراد : انصبه بواحد من الأشیاء السالفة إن کان موجودا ، وإلا فقدره. ثم بین أن کل وقت ، - أی : ظرف للزمان - یقبل النصب علی الظرفیة ؛ مبهما کان أم مختصا. أما ظرف المکان فلا ینصب منه إلا ما ذکره من الجهات ، والمقادیر ، وما صیغ من الفعل. (وسیأتی شرح هذا فی ص 239).

زیادة وتفصیل

إذا کان عامل الظرف محذوفا وجوبا فی بعض المواضع (1) ، فما الداعی إلی ملاحظته عند الإعراب ، ووجوب تقدیره فی تلک المواضع ، واعتباره هو الخبر أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... دون الظرف نفسه؟ لم لا یکون الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... فی تلک المواضع ما دام متعلقه المحذوف واجب الحذف ، ولا یصح ذکره بحال؟ وإذا کان کلام العرب خالیا منه دائما فکیف عرفنا أنه محذوف؟ إن الحکم بالحذف یقتضی علما سابقا ومعرفة من اللغة بأن هذا المحذوف - أو نظائره - قد وجد حقیقة فی الکلام العربیّ ، ثم حذف لسبب طارئ. وهذه المعرفة لم توجد حقّا. فکیف حکمنا - إذا - بأنه محذوف؟ ... إلی غیر هذا مما یحتج به المعارضون ، وینتهون منه إلی أن الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو ... أو ... ولیس من اللازم فی رأیهم أن یکون هذا الظرف منصوبا بالعامل المحذوف ، فقد یکون منصوبا بشیء آخر فی الجملة ، أو بعامل معنوی کالحذف ... أو بغیر عامل ... ولا ضرر فی هذا عندهم.

وفریق منهم یقول إن خصائص العامل - ومنها : معناه ، وتحمّله للضمیر - قد انتقلت للظرف ؛ فلا ضرر أن یکون الظرف نفسه بعد هذا هو الخبر ، أو : الصفة ... أو ... (وقد أشرنا لهذا الرأی فی ص 413 ، وسبق إیضاحه فی الجزء الأول (هامش ص 271 م 27 وص 346 م 35) ، وأنه رأی مقبول عند بعض القدامی المحققین).

أما الذین یحتمون أن یکون العامل المحذوف هو الخبر ، أو الصفة ... أو ... دون الظرف ، ویشترطون أن یکون للظرف فی تلک المواضع متعلقا هو الخبر أو الصفة ... فلهم حجة منطقیة قویة. ولکنها علی قوتها تتسع للتیسیر والتخفیف بغیر ضرر ، وتنتهی إلی ما یقوله المعارضون ؛ هی : أن الزمان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحیل أن یوجد زمان لا یقع فیه حادث جدید ، أو لا یستمر فیه حادث موجود ، فخلو الزمان من أحداث جدیدة أو مستمرة - محال. وبتعبیر أدقّ : لا بدّ من اقتران کل حادث بزمان ، ویستحیل أن یوجد حادث فی غیر زمان. ولهذا سمی

ص: 236


1- سبق بیانها فی ص 233.

الزمان ظرفا ؛ تشبیها بالظرف الحسی - کالأوانی والأوعیة التی توضع فی داخلها الأشیاء. وإذا کان الأمر هکذا فکل زمان مقرون - حتما - بالحادث المتصل به الواقع فیه ، وکثیر من هذه الحوادث أمر عام یدل علی مجرد «الوجود المطلق» من غیر زیادة معنویة علیه. فهو معروف ، فلا داعی لذکره ؛ إذ لا فرق فی المعنی بین : قولنا : «السفر حاصل غدا» ، وقولنا : «السفر غدا» لأنه هو والزمان متلازمان کما سلف ؛ فذکر الثانی کاف فی الدلالة علی وجود المحذوف ؛ فهو مع حذفه ملاحظ وکأنه موجود. هذا من الناحیة العقلیة المحضة(1).

وهناک شیء آخر یقولونه فی شبه الجملة الواقع خبرا - أو غیر خبر - من الأشیاء التی سلفت ؛ هو : أن اللفظ الدال علی الزمان لا یکمل وحده - بغیر متعلقه - المعنی الأساسی للجملة ، ولا یستقل بنفسه فی تحقیق فائدة تامة ، وإنما یجیء لتکملة معنی آخر فیما یسمی : «العامل» ؛ فلیس من شأن اللفظ الزمانی أن یتمم المعنی الأساسی المراد بغیر ملاحظة العامل المحذوف ؛ فلو لا ملاحظته فی مثل : «السفر یوم الخمیس» لکان المعنی : السفر زمان ، وهذا الزمان یوم الخمیس ، وبعبارة أخری : السفر هو یوم الخمیس نفسه ، ویوم الخمیس هو السفر ، والمعنی - لا شک - فاسد ، لأن الثابت المقرر من استقراء کلام العرب یوجب أن یکون الخبر هو المبتدأ فی المعنی ، والمبتدأ هو الخبر فی المعنی کذلک.

ومثل هذا یقولون فی ظرف المکان ؛ فالمکان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحیل أن یوجد مکان لا تقع فیه أحداث جدیدة ، أو تستمر فیه أحداث قدیمة ؛ فالحوادث والأماکن مقترنان متلازمان علی الدوام ، فذکر الثانی فی الکلام کاف فی الدلالة علی وجود المحذوف الملاحظ حتما ، فیتساوی المعنی بین : «علیّ موجود فی البیت» و «علی فی البیت». هذا إلی أن ظرف المکان وحده بغیر ملاحظة عامله المحذوف لا یتمم المعنی الأساسی المراد ، ولا یکمل القصد ؛ فالمکان إنما یجیء لتکملة معنی ، ولا یمکن

ص: 237


1- بل إن الظرف بنوعیه لا بد أن یدل فی أصله علی : «الوجود المطلق» ثم یمتاز «اللغو» بدلالته - فوق هذا - علی معنی خاص آخر کالأکل أو الشرب أو غیرهما مما یزاد علیه فیجعله خاصا مقیدا بعد أن کان عاما مطلقا. وسیجیء للموضوع بیان فی باب : «حروف الجر». عند الکلام علی شبه الجملة - رقم 2 من هامش ص 413 -.

أن یستقل بإیجاد معنی أساسی جدید. وإذا ثبت أن لکل حادثة زمنا فلا بد لها من مکان أیضا. وإذا استحال أن یخلو زمان من حادثة استحال أن یخلو مکان من حادثة أیضا. ولو لا ملاحظة المحذوف لکان المبتدأ فی مثل : «الجلوس فوق» هو نفس الخبر ، أی : أن : الجلوس هو «فوق» ، «وفوق» هو الجلوس ذاته. وهذا معنی فاسد ، لما تقدم من أن المبتدأ هو الخبر فی المعنی ، والخبر هو المبتدأ فی المعنی فی غیر هذه المواضع.

ومثل هذا یقولون فی الجار مع مجروره .

تلک هی الأدلة القویة ولا حاجة لغیر المتخصصین بمعاناتها. وحسبنا أن نسایر الرأی القائل بأن شبه الجملة هو الخبر ، أو الحال ، أو ... علی الوجه المدون فی الجزء الأول فی الصفحات المشار إلیها.

ص: 238

3 - أن أسماء الزمان الظاهرة (1) کلها تصلح للنصب علی الظرفیة ، یتساوی فی هذا ما یدل علی الزمان المبهم (2) وما یدل علی الزمان المختص (3) ، فمثال الأول : عملت حینا ، واسترحت حینا ، ومثال الثانی : قضیت یوما سعیدا فی الضواحی ، وأمضیت یوم الخمیس فی الریف. کما یتساوی فی هذا ما کان منها جامدا ؛ مثل : یوم ، وساعة ... وما کان مشتقّا مرادا به الزمان ؛ کصیغتی : «مفعل ، ومفعل» - بفتح العین وکسرها - القیاسیتین الدالتین علی «الزمان» ، بشرط أن تکون الصیغ القیاسیة المشتقة جاریة علی عاملها (أی : مشترکة معه فی مثل حروفه الأصلیة) ، مثل : قعدت مقعد الضیف ، أی : زمن قعود الضیف (4).

أما أسماء المکان فلا یصلح منها للنصب علی الظرفیة إلا بعض أنواع :

ص: 239


1- بخلاف المضمرة کضمیر الظرف - فی مثل : یوم الجمعة سرت فیه - فإنه ظرف یجر بالحرف ، «فی» وجوبا ؛ فلا یقال : سرته ، إلا علی رأی یبیح التوسع بحذف حرف الجر قبله ، وإعرابه مفعولا به. (وقد سبق البیان والتفصیل فی رقم 3 من هامش ص 233).
2- اسم الزمان المبهم هو : النکرة التی تدل علی زمن غیر محدود ، (أی : غیر مقدر بابتداء معین ونهایة معروفة) ؛ مثل : حین ، وقت ، مدة ، زمن. أو : تدل علی وجه من الزمان دون وجه ، مثل : صباح ، - عشیة - غداة. (کما سیجیء فی ص 279 م 79 أما الإیضاح الأنسب فی باب الإضافة ج 3 م 94) والمختص عکسه ؛ ومنه المقدر المعلوم ؛ لتعریفه بالعلمیة ؛ کرمضان ، أو بالإضافة مثل : زمن الشتاء ، أو بأل ، مثل : الیوم ... ومنه أیضا : المقدر غیر المعلوم کالنکرة المعدودة غیر المعینة نحو : سرت یوما أو یومین ، والنکرة الموصوفة کسرت زمنا طویلا. وهناک فرق آخر یترتب علی ما سبق ؛ هو : أن الظرف الزمانی المبهم بمنزلة التأکید المعنوی لزمن عامله. لأن معنی : سار الرجل ، هو : حصول سیر من الرجل فی زمن فات ، فإذا قلنا : «سار الرجل زمنا» کان المعنی أیضا : حصول سیر الرجل فی زمن فات. فالظرف الزمانی لم یفد إلا التأکید المعنوی للزمن ؛ کما قلنا. ومنه (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً) فکلمة : «لیلا» ظرف زمان یؤکد زمن الفعل. «أسری» ؛ لأن الإسراء لا یکون إلا لیلا. أما الظرف المختص فیفید التأکید المعنوی مع الزیادة الدالة علی الاختصاص. وعلی هذا یکون من الظروف الزمانیة ما یؤکد عامله کما یقع تأکید العامل بالمصدر والحال ، ومنها ما یؤکده مع زیادة أخری ؛ کالشأن فی المصدر المبین للنوع أو للعدد ، - وقد سبق - وسیجیء الکلام علی الظرف المؤکد والمؤسس فی «ب» من ص 243. وظرف الزمان المبهم غیر الأسماء المبهمة التی سبق الکلام علیها فی ج 1 ص 241 م 26. وبمناسبة الکلام علی الظرف الزمانی المضاف تردد کتب اللغة (أن العرب لم تضف کلمة : «شهر» إلا إلی «رمضان» والربیعین).» لکن لا مانع من إضافتها إلی الشهور الأخری. ولا مانع کذلک من ترک الإضافة إلی رمضان والربیعین وغیرها ؛ کما نص علی ذلک النحاة.
3- اسم الزمان المبهم هو : النکرة التی تدل علی زمن غیر محدود ، (أی : غیر مقدر بابتداء معین ونهایة معروفة) ؛ مثل : حین ، وقت ، مدة ، زمن. أو : تدل علی وجه من الزمان دون وجه ، مثل : صباح ، - عشیة - غداة. (کما سیجیء فی ص 279 م 79 أما الإیضاح الأنسب فی باب الإضافة ج 3 م 94) والمختص عکسه ؛ ومنه المقدر المعلوم ؛ لتعریفه بالعلمیة ؛ کرمضان ، أو بالإضافة مثل : زمن الشتاء ، أو بأل ، مثل : الیوم ... ومنه أیضا : المقدر غیر المعلوم کالنکرة المعدودة غیر المعینة نحو : سرت یوما أو یومین ، والنکرة الموصوفة کسرت زمنا طویلا. وهناک فرق آخر یترتب علی ما سبق ؛ هو : أن الظرف الزمانی المبهم بمنزلة التأکید المعنوی لزمن عامله. لأن معنی : سار الرجل ، هو : حصول سیر من الرجل فی زمن فات ، فإذا قلنا : «سار الرجل زمنا» کان المعنی أیضا : حصول سیر الرجل فی زمن فات. فالظرف الزمانی لم یفد إلا التأکید المعنوی للزمن ؛ کما قلنا. ومنه (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً) فکلمة : «لیلا» ظرف زمان یؤکد زمن الفعل. «أسری» ؛ لأن الإسراء لا یکون إلا لیلا. أما الظرف المختص فیفید التأکید المعنوی مع الزیادة الدالة علی الاختصاص. وعلی هذا یکون من الظروف الزمانیة ما یؤکد عامله کما یقع تأکید العامل بالمصدر والحال ، ومنها ما یؤکده مع زیادة أخری ؛ کالشأن فی المصدر المبین للنوع أو للعدد ، - وقد سبق - وسیجیء الکلام علی الظرف المؤکد والمؤسس فی «ب» من ص 243. وظرف الزمان المبهم غیر الأسماء المبهمة التی سبق الکلام علیها فی ج 1 ص 241 م 26. وبمناسبة الکلام علی الظرف الزمانی المضاف تردد کتب اللغة (أن العرب لم تضف کلمة : «شهر» إلا إلی «رمضان» والربیعین).» لکن لا مانع من إضافتها إلی الشهور الأخری. ولا مانع کذلک من ترک الإضافة إلی رمضان والربیعین وغیرها ؛ کما نص علی ذلک النحاة.
4- انظر رقم 1 من هامش ص 241 - (راجع أول «باب الظرف» فی ج 1 - من حاشیتی الخضری والصبان).

(ا) منها : المبهم (1) وملحقاته ؛ نحو : الجهات الستّ ، فی مثل : وقف الحارس أمام البیت - وطار العصفور فوقه ... فإن کان المکان مختصّا لم یصح نصبه علی الظرفیة ، ووجب جره بالحرف : «فی» إلا فی حالتین :

الأولی : أن یکون عامل الظرف المکانی المختص هو الفعل : «دخل» أو : «سکن» أو : «نزل» فقد نصب العرب کل ظرف مختص مع هذه الثلاثة ؛ نحو : دخلت الدار ، وسکنت البیت ... ونزلت البلد ... والأحسن فی إعراب هذه الصور وأشباهها أن یکون کل من «الدار» ، و «البیت» ، «والبلد» مفعولا به - لا ظرفا - ویکون الفعل قبلها متعدیا (2) إلیها بنفسه مباشرة.

الثانیة : أن یکون الظرف المکانی المختص هو کلمة : «الشام» وعامله هو الفعل : «ذهب». فقد قال العرب : «ذهبت الشام» ویعرب هنا ظرفا - ومثله الظرف المختص : «مکة» مع عامله الفعل : «توجّه» فقد قال العرب أیضا : توجهت مکة. فنصب ظرفا مع هذا الفعل وحده. و «الشام» و «مکة» ظرفان مکانیّان علی معنی : «إلی».

(ب) ومنها : المقادیر (3) ، نحو : غلوة (4) - میل - فرسخ - برید ...

ص: 240


1- المراد به : ما لیس له هیئة ولا شکل محسوس ، ولا حدود تحصره وتحدد جوانبه ؛ مثل : الجهات الست - وما یشبهها فی الشیوع - وهی (أمام - خلف - یمین - شمال - فوق - تحت) والمختص : عکسه ؛ مثل : بیت - دار - غرفة - وقد ألحق بالجهات الست ألفاظ ستجیء ؛ فی «أ» من ص 243 منها : عند ، ولدی ... و... وهناک تفصیل آخر فی باب الإضافة ج 3 م 94.
2- لنستریح من النصب علی نزع الخافض ، ومن اعتراضات أخری علی إعرابه ظرفا منصوبا.
3- ویلاحظ ما سبقت الإشارة إلیه (فی رقم 4 من هامش ص 229 ورقم 1 من هامش ص 231) وهو أن الظروف الدالة علی المقادیر لا تتضمن معنی : «فی» باطراد ؛ وإنما تتضمنها أحیانا قلیلة لأن ناصبها لا بد أن یکون من أفعال السیر ، أو مشتقاتها ؛ فلا توجد : «فی» مع ناصب آخر. وکذلک النوع الآتی : وهو ما صیغ من مادة فعله وحوی حروفه ، فإن هذا الظرف لا یتضمن معنی «فی» باطراد لأن ناصبه من فعل أو وصف یعمل عمله ، لا بد أن یکون مشترکا معه فی حروف صیغته فلا توجد «فی» مع غیره. ففی هذین النوعین لا تطرد «فی» ؛ إذ توجد مع بعض الأفعال المعینة ومشتقاتها دون بعض آخر لا یمکن أن یتضمنها معنویا ؛ لأنه غیر صالح للعمل فی النوعین السالفین. هذا ، وقد اختلف النحاة فی المقادیر ؛ أهی من المبهم ، أم قسم قائم بذاته ، أم شبیهة بالمبهم ... ولسنا فی حاجة إلی العناء ؛ فاعتبارها قسما مستقلا أنسب ؛ ولیست من المبهم ؛ لأنها معلومة المقدار ، ولکنها مختلفة الابتداء ، والانتهاء ، والبقعة ، بحسب الاعتبار ؛ فلیس لها جهة ثابتة مستقرة فیها ، فالمیل قد یکون فی بلد ، وقد یکون فی غیرها ... ، یکون فی صحراء ، وقد یکون فی حضر ، وقد یکون فی الشرق بالنسبة لشیء آخر ، أو فی الغرب ، وهکذا.
4- الغلوة : مائة باع تقریبا ، أو : هی أبعد مسافة یقطعها السهم. والمیل : ألف باع ، والفرسخ : ثلاثة أمیال ، والبرید : أربعة فراسخ ...

و... و... مثل : مشیت غلوة ، ثم رکبت میلا ، ثم سرت فرسخا.

(ح) ومنها : ما صیغ. علی وزن (1) : «مفعل» ، أو «مفعل» للدلالة علی المکان ، بشرط أن یکون الوزن جاریا علی عامله ، (أی : مشترکا معه فی مثل حروفه الأصیلة ، ومشتملا علیها) (2) ، مثل : وقفت موقف الخطیب ، وجلست مجلس المتعلم - صنعت مصنع الورق ، وبنیت مبناه ... فلو کان عامله من غیر لفظه لوجب الجر بالحرف : «فی» ؛ نحو : جلست فی مرمی الکرة (3).

ومن ثم کان هذا النوع غیر متضمن معنی «فی» باطراد ، ومستثنی من التضمن (4) المطرد.

وهذا القسم یکون مختصّا کالأمثلة السالفة ، ومبهما ؛ نحو : وقفت موقفا - جلست مجلسا (5).

ص: 241


1- - کما سبق فی ص 239 - ویکون اسم الزمان والمکان من الثلاثی علی وزن : مفعل (بفتح العین) إن کان مضارع فعله مفتوح العین ، أو مضمومها (مثل : یلعب - یقعد) أو : کان مضارعه معتل اللام ؛ نحو : یرمی. ویکون علی وزن مفعل (بکسر العین) إن کان مضارع فعله مکسور العین ، مثل : یجلس ، أو : معتل الفاء فی أصلها مع سلامة اللام ، بشرط أن تکون الفاء واوا تحذف فی مضارعه ؛ مثل : یعد ، من : وعد. أما من غیر الثلاثی فیکون علی وزن مضارعه ، مع إبدال أوله میما مضمومة وفتح ما قبل الآخر ؛ مثل : «مستخرج» ومضارعه : «یستخرج» (وفی ج 3 ص 242 م 106 تفصیل الکلام علیهما وعلی أحکامها).
2- وکذلک ما سبقت إلیه الإشارة (فی رقم 3 ص 239) وهو المشتق من مصدر الفعل للدلالة علی الزمان - وتحقق فیه هذا الشرط - وکان منصوبا ؛ فإنه یصلح أن یعرب ظرف زمان ؛ کالمثال : قعدت مقعد الضیف ؛ أی : زمن قعود الضیف.
3- وردت ألفاظ مسموعة بالنصب لا یصح القیاس علیها. مثل قولهم : فلان یجلس من الباب مقعد القابلة (أی : المولدة) کنایة عن قربه من الباب. وفلان مزجر الکلب ، ومتناط الثریا. کنایة عن البعد فیهما.
4- کما سبق فی رقم 4 من هامش ص 229 وفی رقم 3 من هامش ص 240. وهذا والظروف المکانیة الثلاثة : (المبهم - المقدار - ما صیغ من الفعل) هی التی أشار إلیها ابن مالک فیما سبق - رقم 1 من هامش ص 235 - بقوله : ... وما یقبله المکان إلّا مبهما
5- وإلی هذا أشار ابن مالک (وهو یسرد الأشیاء التی تصلح للنصب علی الظرفیة المکانیة ؛ ومنها ما صیغ من الفعل کمرمی من رمی ،) بقوله : وشرط کون ذا مقیسا أن یقع ظرفا لما فی أصله معه اجتمع

ومما یلاحظ أن هذه الصیغة : (مفعل - مفعل) صالحة للزمان والمکان ویکون التمییز بینهما بالقرائن ؛ کأن یقال : متی حضرت؟ فیجاب : حضرت محضر القطار ؛ أی : زمن حضور القطار ؛ لأن «متی» للاستفهام عن الزمن. بخلاف : أین حضرت؟ فیجاب : حضرت محضر المجتمعین حول الخطیب ؛ لأن «أین» أداة استفهام عن المکان.

4 - أنه یجوز تعدد الظروف المنصوبة علی الظرفیة لعامل واحد بغیر إتباع (1) ، بشرط اختلافها فی جنسها ؛ (أی : اختلافها زمانا ومکانا) ؛ مثل : استرح هنا ساعة - أقم عندنا یوما. أما إذا اتفقت فی جنسها فلا تتعدد إلا فی صورتین ؛ إحداهما : الإتباع ؛ بجعل الظرف الثانی بدلا (2) من الأول ، نحو : أقابلک یوم الجمعة ظهرا. فکلمة : «ظهرا» بدل بعض من کلمة : یوم.

والأخری ، أن یکون العامل اسم تفضیل ؛ نحو : المریض الیوم أحسن منه أمس. (فالیوم وأمس ؛ ظرفان عاملها أفعل التفضیل : أحسن) وقد تقدم علیه واحد ، وتأخر واحد.

5 - أنه یجوز عطف الزمان علی المکان وعکسه ؛ مسایرة للرأی القائل بذلک ، توسعا وتیسیرا ؛ نحو : أعطیت السائل أمامک ویوم العید - قرأت الکتاب هنا ویوم السبت الماضی.

6 - إذا وقع الظرف خبرا فإنه یستحق أحکاما خاصة یستقل بها ، وقد سبق تسجیلها فی مکانها الأنسب. وهو باب : «المبتدأ والخبر» (3) ومن تلک الأحکام أن یکون فی مواضع معینة باقیا علی حالته من النصب ، وفی مواضع أخری یکون مرفوعا أو مجرورا ولا یسمی فی هاتین الحالتین ظرفا ... إلی غیر هذا من الأحکام الهامّة المدونة فی الموضع المشار إلیه.

ص: 242


1- أی : بغیر أن یکون واحد منها تابعا للآخر ، (نعتا له ، أو عطفا ، أو توکیدا ، أو بدلا).
2- ولا یبدل الأکثر من الأقل - علی الصحیح - ففی نحو : کتبت الرسالة یوم الخمیس سنة کذا ... یعرب الظرف الثانی (سنة) حالا من الأول ، ولیس بدلا (راجع أول باب السادس من المغنی). وهذا رأی البصریین. لکن جاء فی «الهمع» ، ما یرده حیث قال - فی ج 2 ص 127 باب بدل ما نصه : (المختار - خلافا للجمهور - إثبات بدل الکل من البعض ، لوروده فی الفصیح ...) اه وسرد أمثلة من القرآن والشعر تؤید رأیه ، وقد ذکرناها فی باب البدل - ج 3 م 123.
3- ج 1 م 35 ص 437.

زیادة وتفصیل

(ا) عرفنا (1) «المبهم» من ظروف المکان ، وأنه یشمل أنواعا منها : «الجهات الست». وقد ألحقوا بهذه الجهات ألفاظا أخری ، منها : عند - - لدی - وسط - بین - إزاء - حذاء ... واختلفوا فی مثل (2) : داخل - خارج - ظاهر - باطن - جوف الدار - جانب ، وما بمعناه (مثل : جهة - وجه - کنف) فی مثل : قابلته داخل المدینة أو خارجها ، أو ظاهرها ... ؛ فکثیر من النحاة یمنع نصب هذه الکلمات علی الظرفیة المکانیة ؛ لعدم إبهامها ، ویوجب جرّها بالحرف : «فی». وفریق یجیز ، ویری أنّ هذا هو الأنسب (3) ، لما فیه من تیسیر ، لأن تلک الکلمات الدالة علی المکان لا تخلو من إبهام ، فهی شبیهة بالمبهم ، وملحقة به. وکان الجدیر بکل فریق أن یستند فی تأیید رأیه علی موقفه من المسموع المأثور ، ویعتمد علیه وحده فی الاستدلال ، واستنباط الحکم ، فمن نصره السماع الکثیر فرأیه هو الأقوی دون غیره. ولکنهم لم یفعلوا. ومن ثمّ یکون الرأی المجیز أولی بالاتباع ، وإن کانت المبالغة فی الدقة والحرص علی سلامة الأسلوب وسمّوه تقتضی البعد عن الخلاف باستعمال الحرف «فی» ؛ لاتفاق الفریقین علی صحة مجیئه ؛ فیجری التعبیر اللغوی علی سنن موحد.

(ب) من أنواع الظرف ما یکون مؤسّسا ؛ وما یکون مؤکّدا ، فالمؤسّس هو الذی یفید زمانا أو مکانا جدیدا لا یفهم من عامله ؛ نحو : صفا الجو الیوم ، فقضیته حول المیاه المتدفقة ، وبین الأزاهر والریاحین. فکل من الظروف : (الیوم - حول - بین - ...) یسمی : ظرفا مؤسسا ، أو تأسیسیّا ؛ لأنه أسّس - أی : أنشأ - معنی جدیدا لا یفهم من الجملة بغیر وجوده.

والمؤکّد هو الذی لا یأتی بزمن جدید ، وإنما یؤکد زمنا مفهوما من عامله. ومن أمثلة قوله تعالی : (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً.) فالظرف : «لیلا» لا جدید معه إلا التوکید لزمن الإسراء ؛ لأن الإسراء لا یکون إلّا لیلا ...

ومثله : سرت حینا ومدة ، لأن الظرف لم یزد زمنا جدیدا غیر الزمن الذی دل علیه الفعل (4)

ص: 243


1- فی ص 239.
2- من کل ما لا یدل علی حقیقته بنفسه ، وإنما تعرف بما تضاف إلیه ؛ مثل : مکان - ناحیة - أمام - وراء - جهة ... فیقال مثلا : مکان علی - ناحیة محمود ...
3- راجع حاشیة الخضری ، باب الظرف - ج 1 - ففیها تلخیص الرأیین ، وبیان الأنسب منهما ، وأنه المفهوم من کلام صاحب الهمع فی هذا الباب.
4- انظر رقم 2 من هامش ص 239.

المسألة 79: الظرف المتصرف وغیر المتصرف ، وأقسام کلّ

اشارة

الظرف بنوعیه قد یکون متصرفا ، وقد یکون غیر متصرف.

(ا) فالمتصرف هو الذی لا یلازم النصب علی الظرفیة ، وإنما یترکها إلی کل حالات الإعراب الأخری التی لا یکون فیها ظرفا ؛ کأن یقع مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو مفعولا به ، أو مجرورا بالحرف : «فی» المذکور قبله ... أو ... فمثال الزمان المتصرف : یومکم مبارک ، ونهارکم سعید. إن یومکم مبارک ، وإن نهارکم سعید. جاء الیوم المبارک ... إنّا نرقب مجیء الیوم المبارک - فی یوم العید یتزاور الأهل والأصدقاء.

ومثال المکان المتصرف : یمینک أوسع من شمالک - العاقل لا ینظر إلی الخلف إلا للعبرة ؛ وإنما وجهته الأمام. ومثل : الفرسخ ثلاثة أمیال ، ونعرف أن المیل ألف باع (1).

وقد سبق (2) أن الظرف بنوعیه إذا ترک النصب علی الظرفیة إلی حالة أخری غیر النصب علی الظرفیة - ولو إلی الجر «بفی» أو غیرها - فإنه لا یسمی ظرفا ، ولا یعرب ظرفا ، ولو دل علی زمان أو مکان.

حکم الظرف المتصرف

1 - إما معرب منصرف ؛ مثل : یوم - شهر - یمین - مکان (3).

2 - وإما معرب غیر منصرف مثل : غدوة (4) ؛ وبکرة (5) ؛ وضحوة ؛

ص: 244


1- وفی الظرف المتصرف یقول ابن مالک : وما یری ظرفا وغیر ظرف فذاک ذو تصرّف فی العرف أی : فی عرف النحاة واصطلاحهم.
2- فی ص 231.
3- انظر ما یختص بهذه الکلمة فی ص 247 ،
4- الوقت من طلوع الفجر إلی شروق الشمس. وفی ص 511 کلام یختص بهذه الکلمة.
5- الوقت من طلوع الشمس إلی الضحوة ، أی : الضحا ، وهو وقت ارتفاع الشمس فی الأفق.

بشرط أن تکون کل واحدة علم جنس (1) علی وقتها المعین المعروف ؛ سواء أکان هذا الوقت مقصودا ومحددا من یوم خاص بعینه ، أم غیر مقصود ولا محدد من یوم معین. فهذه الثلاثة - وأشباهها - متصرفة ؛ تستعمل ظرفا وغیر ظرف ، وفی الحالتین تمنع من الصرف. وسبب منعها من الصرف : «العلمیة والتأنیث اللفظی». فإن فقدت العلمیة لم تمنع من الصرف ؛ وذلک لعدم التعیین (لأنها فقدت تعیین الزمن وتحدیده ؛ وصارت دالة علی مجرد الوقت المحض الخالی من کل أنواع التخصیص إلا بقرینة أخری للتعیین) ؛ مثل : غدوة وقت نشاط ، یسرنی السفر غدوة والقدوم فی ضحوة ، بشرط أن یراد بهما مطلق زمن بغیر تعیینه. ومن هذا قوله تعالی فی أهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِیها بُکْرَةً وَعَشِیًّا)(2).

3 - وإما مبنی. والمبنی قد یکون مبنیّا علی السکون ، مثل : «إذ» الواقعة «مضافا إلیه» والمضاف زمان ، نحو : لاح النصر ساعة إذ أخلص المجاهدون - کان النصر یوم إذ جاهد المخلصون. أو مبنیّا علی الکسر ، مثل الظرف : «أمس» عند الحجازیین ؛ فی نحو : اعتدل الجوّ أمس.

* * *

(ب) أما غیر المتصرف (3) : فمنه الذی لا یستعمل إلا ظرفا ، ومنه ما یستعمل

ص: 245


1- سبق إیضاحه فی مکانه المناسب (ج 1 ص 200 م 22 و 208 م 23).
2- لزیادة الإیضاح نسوق ما قاله الصبان فی هذا الموضع من الجزء الثانی آخر باب الظرف. قال : عن «غدوة وبکرة» - ومثلهما : ضحوة - ما نصه : «إنهما علمان جنسیان ؛ بمعنی أن الواضع وضعهما علمین جنسیین لهذین الوقتین ؛ أعم من أن یکونا من یوم بعینه ، أو لا. وهذا معنی قولهم : قصد بهما التعیین أو لم یقصد ، کما وضع لفظ : أسامة علما للحقیقة الأسدیة ، أعم من أن یقصد به واحد بعینه أو لا. فالتعیین المنفی قصده هو التعیین الشخصی ، لا النوعی ؛ إذ هو لا بد منه. فلا اعتراض بأن عدم قصد التعیین یصیرهما نکرتین منصرفتین. ویؤید ما ذکرناه قول الدمامینی : کما یقال عند قصد التعمیم : أسامة شر السباع ، وعند التعیین هذا أسامة فاحذره - یقال عند قصد التعمیم غدوة أو بکرة وقت نشاط ، وعند قصد التعیین لأسیرنّ اللیلة إلی غدوة أو بکرة قال : وقد یخلوان من العلمیة فینصرفان ، ومنه قوله تعالی : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِیها بُکْرَةً وَعَشِیًّا ،) وحکی الخلیل : جئتک الیوم غدوة ، وجئتنی أمس بکرة. والتعیین فی هذا لا یقتضی العلمیة حتی یمنع الصرف ؛ لأن التعیین أعم من العلمیة ، فلا یلزم من استعمالهما فی یوم معین أن یکونا علمین ؛ لجواز أن یشار بهما إلی معین مع بقائهما علی کونهما من أسماء الأجناس النکرات بحسب الوضع ، کما تقول : رأیت رجلا وأنت ترید شخصا معینا ، فیحمل علی ما أردته من المعین ، ولا یکون علما» اه. ما نقله الصبان. ثم انظر الکلام علیهما فی ج 1 ص 110 م 22.
3- ستجیء له أمثلة أخری فی «الزیادة والتفصیل» ، ص 250 وما بعدها.

ظرفا ، وقد یترک الظرفیة - ولا یسمی ظرفا - إلی شبهها ، وهو الجر بالحرف : «من» - غالبا (1) - فمثال الذی لا یستعمل إلا ظرفا : «قطّ» (2) ، و «عوض» (3) و «بدل» ؛ بمعنی : مکان (مثل : خذ هذا بدل ذاک) ، و «مکان» بمعنی بدل. (أما «مکان» بمعناه الأصلی فظرف متصرف) «وسحر» (4) ؛ إذا أرید به سحر یوم معین محدد ؛ نحو : أزورک سحر یوم السبت المقبل ؛ وإلا فهو ظرف متصرف ؛ نحو : تمتعت بسحر منعش ؛ فهل یساعفنی سحر مثله؟

ومثال ما یلازم النصب علی الظرفیة وقد یترکها إلی شبهها : (عند ، ولدن ، وقبل ، وبعد ... و...) مثل : مکثت عندک ساعة ، ثم خرجت من عندک إلی بیتی - سأقصد الحدائق لدن الصبح حتی الضحا ، ثم أعود من لدنها - - حضرت قبل المیعاد ، ولم أحضر بعده. أو : حضرت من قبل المیعاد ، ولم أحضر من بعده (5).

ص: 246


1- قلنا : «غالبا» لأن الظرف : «أین» قد یخرج عن النصب علی الظرفیة إلی الجر بالحرف : «من» أو : «إلی». وکذلک الظرفان : «ثم» و «هنا» - بلغاتهما المختلفة - وهما فی الوقت نفسه من أسماء الإشارة ؛ فیخرجان إلی الجر بأحد الحرفین : «من» أو «إلی» (راجع الصبان ج 1 باب اسم الإشارة عند الکلام علی : ثمّ - وسبق لهذا بیان فی ج 1 باب اسم الإشارة م 25). وکذلک الظرف : «متی» قد یخرج إلی الجر بالحرف : «إلی» أو : حتی.
2- سبق الکلام علیهما فی هذا الجزء ص 114 م 68 وملخصه : أن «قط» ظرف زمان لاستغراق الماضی ، ولا یستعمل - فی الغالب - إلا بعد نفی أو شبهه. والأفصح فی ضبطه : فتح القاف وضم الطاء مع تشدیدها ، وفیها لغات أخری - وهو ظرف مبنی علی الضم ، مثل : ما خدعت أحدا قط («وقطّ» غیر : «فقط» التی سبق الکلام علیها فی رقم 1 من هامش ص 114 - وقلنا هناک إن إیضاحها ، وبیان حکمها فی ج 1 م 30 عند بیت ابن مالک فی المعرف «بأل» : «أل» حرف تعریف ... وأنها بمعنی : «حسب» والفاء زائدة لتزیین اللفظ) ... وعوض : ظرف لاستغراق الزمان المستقبل ، - غالبا - ولا یکاد یستعمل إلا بعد نفی أو شبهه. وهو مبنی علی الضم ، أو الفتح ، أو الکسر ، إن لم یضف. فإن أضیف أعرب ؛ نحو : لن أخادع عوض العائضین.
3- سبق الکلام علیهما فی هذا الجزء ص 114 م 68 وملخصه : أن «قط» ظرف زمان لاستغراق الماضی ، ولا یستعمل - فی الغالب - إلا بعد نفی أو شبهه. والأفصح فی ضبطه : فتح القاف وضم الطاء مع تشدیدها ، وفیها لغات أخری - وهو ظرف مبنی علی الضم ، مثل : ما خدعت أحدا قط («وقطّ» غیر : «فقط» التی سبق الکلام علیها فی رقم 1 من هامش ص 114 - وقلنا هناک إن إیضاحها ، وبیان حکمها فی ج 1 م 30 عند بیت ابن مالک فی المعرف «بأل» : «أل» حرف تعریف ... وأنها بمعنی : «حسب» والفاء زائدة لتزیین اللفظ) ... وعوض : ظرف لاستغراق الزمان المستقبل ، - غالبا - ولا یکاد یستعمل إلا بعد نفی أو شبهه. وهو مبنی علی الضم ، أو الفتح ، أو الکسر ، إن لم یضف. فإن أضیف أعرب ؛ نحو : لن أخادع عوض العائضین.
4- الثلث الأخیر من اللیل.
5- لهذه الظروف وملازمتهما النصب علی الظرفیة أحکام تفصیلیة موضع الکلام علیها باب : «الإضافة» ج 3 ص 114 وما بعدها. وغیر ذی التصرف : الذی لزم ظرفیة ، أو شبهها - من الکلم یرید : أن الظرف غیر المتصرف من الکلمات ، هو : الذی لزم الظرفیة وحدها ، أو : لزم الظرفیة وقد یترکها إلی شبها أحیانا. وفی البیت تقصیر فی صیافته ، لقوله : وغیرصاحب التصرف. بدل قوله : وغیر المتصرف. وکما الحذف فی الشطر الأخیر حیث الواجب : ظرفیة فقط ، أو ظرفیة وشبها.

حکم الظرف غیر المتصرف

1 - إما معرب ممنوع من الصرف ؛ مثل : سحر - عتمة (1) - عشیة (2) بشرط أن یقصد بکل واحدة التعیین الدال علی وقت خاص ، فتکون علم جنس علیه ؛ لدلالتها علی زمن معین محدد دون غیره من الأزمان المبهمة الخالیة من التعیین ، نحو : استیقظت لیلة الخمیس سحر - حضرت یوم الجمعة عشیّة - سهرت یوم السبت عتمة.

فإن فقدت هذه العلمیة صارت نکرة لا تدل علی وقت مخصص من یوم بذاته ، وخرجت من نوع الظرف غیر المتصرف ودخلت فی نوع المتصرف المنصرف فتصیر مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا و... وغیر ذلک ، مع التنوین فی کل حالة ؛ نحو سحر خیر من عشیّة ، وربّ عتمة خیر من سحر (3).

2 - وإما معرب مصروف مثل : «بدل» و «مکان» السالفین (4).

3 - وإما مبنی علی السکون أو غیره ، مثل : لدن ، ومذ ، ومنذ (5) وقطّ ، ... وغیرها (مما سیجیء (6) فی الزیادة والتفصیل).

4 - جمیع الظروف غیر المتصرفة لا یصح التصریح قبلها بالحرف : «فی» بخلاف المتصرفة ، وإذا ظهرت «فی» قبل الظرف - مطلقا - فإنه یصیر اسما محضا مجرورا بها ، ولا یصح تسمیته ظرف زمان أو ظرف (7) مکان.

ص: 247


1- الثلث الأول من اللیل. (وعی ممنوعة من الصرف ، علی رأی راجح).
2- آخر النهار.
3- فتمنع کلمة : «سحر» للعلمیة والعدل عن السّحر ؛ لأنها تدل علی معین کما تدل علیه الکلمة المقرونة بأل التی للتعریف ؛ فکان حقها التصدیر بکلمة «أل» التی للتعریف ، ولکن العرب عدلوا عن هذا ؛ فاجتمع فی الکلمة العلمیة والعدل ، وبسبب اجتماعهما تحقق ما یوجب منع الصرف - کما یقول النحاة -. وتمنع کلمتا : «عتمة وعشیة» للعلمیة والتأنیث اللفظی. (وقد یوضح العلمیة هنا ما سبق فی رقم 2 من هامش ص 245) ویشترط لمنع الثلاثة من الصرف الخلو من «أل» ومن الإضافة فإن نکرت نونت وتصرفت ؛ کقوله تعالی : (نَجَّیْناهُمْ بِسَحَرٍ) وکذلک مع أل أو الإضافة ؛ نحو : سافر الرجل یوم الجمعة السحر منه ، أو فی سحره. (ولهذا الکلام صلة بما سیجیء عنها فی ص 511).
4- فی ص 246.
5- لا یکون «مذ ومنذ» غیر متصرفین إلا علی الرأی الذی یمنع وقوعهما مبتدأ ، أو شیئا آخر غیر الظرفیة (کما یجیء فی رقم 3 هامش ص 254).
6- فی ص 250.
7- کما سبق فی ص 244 و 1 من ص 231.

ما ینوب عن الظرف

(ا) یکثر حذف الظرف الزمانیّ المضاف إلی مصدر ، وإقامة المصدر مقامه (1). فینصب مثله باعتباره نائبا عنه ، وذلک بشرط أن یعیّن المصدر الوقت ویوضحه ، أو یبین مقداره ، وإن لم یعینه ؛ فمثال الأول : أخرج من البیت شروق الشمس ، وأعود إلیه غروبها - أزورکم فی العام الآتی قدوم الراجعین من الحج. (ترید : أخرج من البیت وقت طلوع الشمس ، وأعود إلیه وقت غروبها - ووقت قدوم الراجعین). فحذف الظرف الزمانی : «وقت». وقام مقامه المصدر ، وهو : (شروق - غروب - قدوم ، فأعرب ظرفا بالنیابة).

ومثال الثانی : أمکث عندک کتابة صفحة ؛ (أی : مدة کتابة صفحة) ، وأنتظرک لبس الثیاب ، (أی : مدة لبسها) ، وأغیب غمضة عین ، (أی : مدة غمضها).

وقد یحذف الظرف وینوب عنه مصدر مضاف إلی اسم عین (2) ثم یحذف هذا المصدر المضاف أیضا ، ویحل محله اسم العین. باعتباره نائبا عن النائب عن الظرف الزمانی. ویعرب ظرفا بالإنابة. نحو : لا أکلم السفیه النّیّرین - أی : مدة طلوع النیرین ؛ (وهما : الشمس والقمر) : فحذف الظرف الزمانی ؛ وهو «مدة» ، وقام مقامه المصدر المضاف : «طلوع» ، ثم حذف المصدر المضاف وحل محله المضاف إلیه ؛ وهو : کلمة : «النیرین». وتعرب ظرفا بالإنابة - کما قلنا - ومن أمثلتهم : لا أجالس ملحدا الفرقدین (3) ، ولا أماشیه القارظین (4) ؛ یریدون : مدة ظهور الفرقدین ، ومدة غیاب القارظین.

هذا ، والإنابة فی کل ما سبق قیاسیة إذا تحقق ما شرحناه.

(ب) أما نیابة المصدر عن ظرف المکان فقلیلة حتی قصروها علی المسموع دون غیره - مثل کلمة : قرب - ؛ نحو : جلست قرب المدفأة ، أی : مکان قرب المدفأة. فکلمة : «قرب» مصدر بالنیابة.

ص: 248


1- والمصدر قد یقع - أحیانا - ظرفا دون تقدیر مضاف ؛ مثل : أحقا أنک مکافح ، أی : أفی حق ... (وسیجیء فی ه من ص 256) ...
2- اسم ذات ، أی : شیء حسی مجسم.
3- اسم نجمین.
4- رجلان خرجا یجمعان القرظ (وهو : ثمر شجر السنط ، ویستخدم فی الدباغة) فلم یعودا.

(ح) وهناک أشیاء أخری غیر المصدر تصلح للإنابة - قیاسا - عن الظرف بنوعیه بعد حذفه ، وتعرب ظرفا بالنیابة.

منها : صفته ؛ نحو : صبرت طویلا من الدهر - جلست شرقیّ المنزل ؛ أی : صبرت زمنا طویلا ... - جلست مجلسا شرقیّ المنزل. أو جلست مکانا شرقیّ المنزل.

ومنها : عدده ؛ بشرط أن یوجد ما یدل علی أنه عدده : کالإضافة إلی زمان ، أو مکان نحو : مشیت خمس ساعات قطعت فیها ثلاثة فراسخ.

ومنها کل أو بعض ، وغیرهما مما یدل علی الکلیة والجزئیة ، بشرط الإضافة إلی زمان أو مکان (1) ؛ نحو : نمت کل اللیل. وقول الشاعر :

أکلّ الدهر حلّ وارتحال

أما یبقی علیّ ، وما یقینی

ومثل : استمر الحفل بعض اللیل ... مشت القافلة کل الأمیال - أو بعض الأمیال(2) ...

ص: 249


1- کما سیجیء فی باب الإضافة ج 3 ص 58 م 94.
2- وفیما سبق یقول ابن مالک : وقد ینوب عن مکان مصدر وذاک فی ظرف الزمان یکثر

زیادة وتفصیل

(ا) الظروف من حیث التصرف وعدمه ، ودرجته ، أربعة أقسام :

قسم یمتنع تصرفه أصلا ؛ مثل : «قطّ» ، «عوض» - وقد سبقا - ومثل : «بعین» إذا اتصلت بها الألف أو «ما» فصارت : «بینا أو بینما» ، فإنها عندئذ تلازم الظرفیة تماما - کالتی فی ص 260 و 267 أیضا -

ویلحق بهذا القسم : «عند ، وفوق ، وتحت» (1) وأشباهها مما لا یخرج عن الظرفیة إلا إلی الجر بالحرف : «من» - غالبا (2) -.

وقسم ثان : یتصرف کثیرا ، کیوم ، شهر ، یمین (3) ، شمال ، ذات الیمین ، ذات الشمال (4).

وثالث : متوسط فی تصرفه ؛ وهو : أسماء الجهات (إلا ما سبق حکمه فی القسمین السالفین ؛ من مثل : فوق ، وتحت ، ویمین ، وشمال ، وذات الیمین ، وذات الشمال ...).

ومن هذا القسم المتوسط : «بین» التی لم یتصل بآخرها : «الألف» أو «ما» فإن اتصلت بها : «الألف» أو : «ما» وصارت : (بینا - بینما) ... فهی ممنوعة التصرف ، کما أسلفنا.

ورابع : تصرفه نادر فی السماع ، لا یقاس علیه ، مثل : الآن ، وحیث ، ودون ، التی لیست بمعنی ردیء - ووسط ؛ بسکون السین فی الغالب. أما بفتحها فاسم متصرف فی الغالب أیضا. وفی غیر الغالب یجوز فی کلیهما التسکین والفتح ،

ص: 250


1- هناک رأی یقول : «فوق ، وتحت» - یتصرفان نادرا. ولا داعی للأخذ به ، وسیجیء فی ص 265. الکلام علی حالات بنائهما وإعرابهما.
2- انظر رقم 1 من هامش ص 246.
3- کل من الظرفین : «یمین» و «شمال» قد یکون معربا - کما فی ص 244 - ، وقد یکون مبنیا. بالتفصیل الذی فی رقم 5 من ص 265) أما تفصیل الکلام علی معناهما وإضافتهما ففی ج 3 ص 36 م 93.
4- بشرط إضافة : «ذات» إلی : «الیمین» أو : «الشمال». (کما سیأتی فی ص 256 من هذا الجزء ، وفی ج 3 ص 36 م 93 ، هذا ، إلی أن لکلمة : «ذو» و «ذات» أحکاما أخری فی ج 1 ص 70 م 8 ، باب : «الأسماء الستة» ، وص 254 م 26 باب : «الموصول»).

والأفضل اتباع الغالب ؛ لیقع التفاهم بغیر تردد. وقد وضعوا علامة للتمییز المعنوی بین الکلمتین ؛ فقالوا : إن أمکن وضع کلمة : «بین» مکان : «وسط» واستقام المعنی فهی ظرف ؛ نحو : جلست وسط القوم ، أی : بینهم. وفی هذه الحالة یحسن تسکین السین ؛ مراعاة للغالب. وإن لم تصلح کانت اسما ، نحو : احمرّ وسط وجهه. وفی هذه الصورة یحسن تحریک السین بالفتح ، مراعاة للغالب.

(ب) إذا کان الظرف منصوب اللفظ أو المحل علی الظرفیة ، وجب - عند الأکثرین - أن یکون متعلقا بالعامل الذی عمل فیه النصب (1) ، وهذا العامل یکون - فی الغالب - فعلا (2) ، أو مصدرا ، أو شیئا یعمل عمل الفعل (3) کالوصف ؛ نحو : سافرت یوم الجمعة فوق درّاجة بخاریة. أو : أنا مسافر یوم الجمعة فوق درّاجة بخاریة ... فالظرفان «یوم» و «فوق» متعلقان بعاملهما «سافر» أو : «مسافر» ... و... ومعنی أنهما متعلقان به : مرتبطان ومستمسکان به ، کأنهما جزءان منه لا یظهر معناهما إلا بالتعلق به. فاستمساکهما بالعامل کاستمساک الجزء بأصله ، ثم هما فی الوقت نفسه یکملان معناه.

بیان هذا أن العامل یؤدی معناه فی جملته ، ولکن هذا المعنی لا یتم ولا یکمل إلا بالظرف الذی هو جزء متمم ومکمل له ؛ ففی مثل : جلس المریض ... قد نحس فی المعنی نقصا یتمثل فی الأسئلة التی تدور فی النفس عند سماع هذه الألفاظ ؛ ومن الأسئلة : أین جلس؟ أکان فوق السریر ، أم أمامه ، أوراء

ص: 251


1- سبق (فی رقم 2 من هامش ص 232 ثم فی ص 236 م 78) کلام هام یتصل بهذا الموضوع ، ویتممه ؛ من ناحیة التعلق بحروف المعانی ، والحکمة فی وجوب التعلق. وسیجیء فی ص 413 باب حروف الجر عند الکلام علی (شبه الجملة م 89) ما یزیده توفیة واکتمالا.
2- والرأی الشائع القوی أن شبه الجملة بنوعیه (وهما الظرف ، وحرف الجر الأصلی مع مجروره) لا یجوز أن یتقدم علی عامله الفعل المؤکد بالنون - طبقا للبیان الذی سبق فی رقم 1 من هامش ص 100.
3- وقد یکون تعلقهما بعامل معنوی ، - إذا لم یوجد عامل آخر یصح التعلق به - وهذا العامل المعنوی هو : الإسناد (أی : النسبة) علی الوجه المشروح فی آخر هامش ص 331 ورقم 2 من ص 409 أما تعلقه بأحرف المعانی فقد سبق بیانه فی رقم 2 من هامش ص 232 م 78.

النافذة ، ... أیمین الداخل ... أم شمال الخارج ...؟ متی جلس؟ أصباحا ، أم ظهرا ، أم مساء ...؟ وهکذا ... فإذا جاء الظرف الزمانی أو المکانی فقد أقبل ومعه جزء من الفائدة ینضم إلی الفائدة المتحققة من العامل ؛ فیزداد المعنی العام اکتمالا بقدر الزیادة التی جلبها معه ؛ فمجیئه إنما هو لسبب معین ، ولتحقیق غایة مقصودة دعت إلی استحضاره ، هی عرض معناه ، مع تکملة معنی عامله. فلهذا وجب أن یتعلق به.

والاهتداء إلی هذا العامل قد یحتاج فی کثیر من الأحیان إلی فطنة ویقظة ، ولا سیما إذا تعددت فی الجملة الواحدة الأفعال أو ما یعمل عملها ؛ حیث یتطلب استخلاص العامل الحقیقی من بینها أناة وتفهما ؛ خذ مثلا لذلک : أسرعت الطائرة التی تخیرتها بین السحب ... فقد یتسرع من لا درایة له فیجعل الظرف «بین» متعلقا بالفعل القریب منه ، وهو الفعل : «تخیر» فیفسد المعنی ؛ إذ یصیر الکلام : تخیرت الطیارة بین السحب ، إنما الصحیح : أسرعت بین السحب ، وهذا یقتضی أن یکون الظرف متعلقا بالفعل «أسرع» ، فیزداد معناه ، ویکمل بعض نقصه ، کما لو قلنا : تخیرت الطیارة فأسرعت بین السحب.

مثال آخر : قاس الطبیب حرارة المریض ، وکتبها تحت لسانه ، فلا یصح أن یکون الظرف «تحت» متعلقا بالفعل «کتب» ؛ لئلا یؤدی التعلق إلی أن الکتابة کانت تحت اللسان ؛ وهذا معنی فاسد لا یقع. أما إذا تعلق الظرف «تحت» بالفعل : «قاس» فإن المعنی یستقیم ، وتزداد به الفائدة ، أی : قاس الطبیب حرارة المریض تحت لسانه. فالقیاس تحت اللسان. وهکذا یجب الالتفات لسلامة المعنی وحدها دون اعتبار لقرب العامل أو بعده من الظرف.

(ح) الزمان أربعة أقسام (1) :

أولها : المعیّن (2) المعدود (3) معا ، مثل رمضان - المحرّم (من غیر أن یذکر قبلهما کلمة : شهر) - الصیف - الشتاء. وهذا القسم یصلح جوابا

ص: 252


1- من ناحیة استغراق المعنی. (راجع الهمع ج 1 ص 197 والصبان ج 2 ص 95 وبینهما اضطراب ظاهر تدارکناه بمعونة مراجع أخری).
2- أی : المعین بالعلمیة.
3- الدال بلفظه علی عدد محدود.

لأداتی الاستفهام : «کم - ومتی» ، نحو : کم شهرا صمت؟ متی رجعت من سفرک؟ والجواب : صمت رمضان - رجعت الصیف ...

ثانیا : غیر المعیّن وغیر المعدود ؛ فلا یصلح جوابا لواحد منهما ؛ مثل : حین - وقت.

ثالثها : المعیّن غیر المعدود ؛ فیقع جوابا لأداة الاستفهام : «متی» فقط ؛ نحو : یوم الخمیس ، وکلمة : «شهر» المضاف إلی اسم بعده من أسماء الشهور ، مثل : شهر صفر - شهر رجب ... وذلک جوابا فیهما عن قول القائل : متی حضرت؟ متی تغیبت؟

رابعها : المعدود غیر المعین ؛ فیقع جوابا لأداة الاستفهام : «کم» فقط ، نحو : یومین ، ثلاثة أیام ، أسبوع - شهر - حول.

1 - فالذی یصلح جوابا للأداتین : «کم» ، و «متی» (وهو القسم الأول) ، أو یصلح جوابا للأداة : «کم» (وهو القسم الرابع) یستغرقه الحدث (المعنی) الذی تضمنه ناصبه - سواء أکان الجواب نکرة أم معرفة - بشرط ألا یوجد ما یدل علی أن الحدث مختص ببعض أجزاء ذلک الزمان. فإذا قیل : کم سرت؟ فأجبت : «شهرا» ، وجب أن یقع السیر فی جمیع الشهر کله ، لیله ونهاره - إلا إن قامت قرینة تدل علی أن المقصود المبالغة والتجوز - وکذا إن کان الجواب : المحرم ، مثلا. وکذا یقال فی الأبد والدهر ، مقرونین بکلمة : «أل» فالحدث الواقع من ناصبهما یستغرقهما لیلا ونهارا (1).

فإن کان حدث الناصب (أی : معناه) مختصّا ببعض أجزاء الزمان. استغرق بعضها الذی یختص به ، وانصب علیه وحده دون غیره من الأجزاء الأخری. فإذا قیل : کم صمت؟ فکان الجواب : «شهرا» ، انصبّ الصوم علی الأیام دون اللیالی ، لأن الصوم لا یکون إلا نهارا. وإذا قیل : کم سریت؟ فکان الجواب : «شهرا» - انصب السّری علی اللیالی دون الأیام ، لأن السری لا یکون

ص: 253


1- أما کلمة ؛ «أبدا» بغیر «أل» فلاستغراق الزمن المستقبل وحده ؛ فإذا قلت : صام الرجل الأبد ، کان معناه : صام کل زمن من أزمنة عمره ، القابلة للصوم - عادة - إلی حین وفاته. ولا تقول صام أبدا ؛ وإنما تقول : لأصومن أبدا.

إلا لیلا. وکذا یقال : فی اللیل والنهار معرفین ، فالحدث الواقع علی کل منهما مقصور علی زمنه الخاص.

2 - وغیر ما سبق یجوز فیه التعمیم والتبعیض ؛ کیوم ، ولیلة ، وأسماء أیام الأسبوع ، وأسماء الشهور ؛ بشرط أن یذکر قبلها المضاف وهو کلمة : شهر ؛ کشهر رمضان - شهر المحرم.

وهناک رأی آخر من عدة آراء فی هذا البحث ؛ هو : أن ما صلح جوابا لأداة الاستفهام : «کم» أو : «متی» یکون الحدث (المعنی) فی جمیعه تعمیما أو تقسیطا ، فإذا قلت : سرت یومین ؛ فالسیر واقع فی کل منهما من أوله إلی آخره ، وقد یکون فی کل واحد من الیومین ، وإن لم یشمل الیوم کله من أوله إلی آخره. ولا یجوز أن یکون فی أحدهما فقط. ومن التعمیم : صمت ثلاثة أیام ، ومن التقسیط أذّنت ثلاثة أیام ، ومن الصالح لهما : تهجدت ثلاث لیال.

وعلی کل فهذه - کما قالوا - ضوابط تقریبیة. والقول الفصل للقرائن الحاسمة ، ولا سیما العرف الشائع ؛ فتلک القرائن هی التی توضح أن المراد التعمیم أو التبعیض.

(د) قلنا (1) إن الظرف غیر المتصرف إما معرب منصرف ، وإما معرب غیر منصرف ، وإما مبنی ، وقد تقدمت الأمثلة. وهو فی حالاته الثلاث لا یجوز أن تسبقه «فی» (2). فالمبنی قد یکون مبنیّا علی السکون مثل : مذ (3) ، ولدن ... أو علی الضم مثل : منذ (4) ، أو علی فتح الجزأین ؛ مثل ظروف الزمان أو المکان المرکبة ؛ (نحو : صباح مساء - یوم یوم - صباح صباح. والمعنی : کلّ صباح ومساء «أی : کل صباح ، وکل مساء» - وکلّ یوم - وکلّ صباح). (ومثل : بین بین وستأتی) (5).

فإن فقدت الترکیب ، أو أضیف أحد الجزأین للآخر ، أو عطف علیه - امتنع البناء ، ووجب إعرابها وتصرفها ... لکن أیبقی المعنی فی الجمیع مع فقد الترکیب ،

ص: 254


1- فی 247 م 79.
2- کما سبق فی رقم 4 من هامش ص 229 وفی رقم 4 من ص 247.
3- لا یکون «مذ ومنذ» غیر متصرفین إلا فی الرأی الذی یقصرهما علی الظرفیة وحدها ، ویمنع وقوعهما مبتدأ ، (کما سبق فی رقم 5 من هامش ص 247).
4- لا یکون «مذ ومنذ» غیر متصرفین إلا فی الرأی الذی یقصرهما علی الظرفیة وحدها ، ویمنع وقوعهما مبتدأ ، (کما سبق فی رقم 5 من هامش ص 247).
5- فی ص 255 و 260 و 267.

بسبب وجود العطف ، أو الإضافة کما کان مع الترکیب أم یختلف؟

اتفقوا علی أنه باق فی الجمیع ، إلا صباح مساء عند الإضافة ، مثل : أنت تزورنا صباح مساء ، ففریق یری أنها کغیرها من الظروف المرکبة التی تتخلی عن الترکیب وتضاف ، فیظل المعنی الأول باقیا بعد الإضافة (وهو هنا : کل صباح وکل مساء) ، وفریق یری أن المعنی مع الإضافة یختلف ؛ فیقتصر علی الصباح وحده کما فی المثال السالف ، حیث تقتصر الزیارة فیه علی الصباح فقط ؛ اعتمادا علی أن المعنی منصب علی المضاف ، (وهو الصباح). أما المضاف إلیه فهو مجرد قید له ؛ أی : صباحا لمساء.

والحق أن الأمرین محتملان فی المثال ، إلا عند جود قرینة تحتم هذا وحده ، أو ذاک ، فوجودها ضروریّ لمنع هذا الاحتمال.

ومن الظروف المرکبة المبنیة علی فتح الجزأین والتی لا تتصرف : «بین بین» (1) بمعنی : التوسط بین شیئین ، مثل : درجة حرارة الجو أو الماء : بین بین ، أی : متوسطة بین المرتفعة والمنخفضة. - ثروة فلان بین بین ، أی : بین الکثیرة القلیلة ... فإن فقد الظرف : «بین» الترکیب جاز أن یکون معربا متصرفا ومنه قوله تعالی : (... مَوَدَّةَ بَیْنِکُمْ،) وقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ) فی قراءة من قرأه مرفوعا ، أمّا من قرأه بالنصب بدل الرفع فقد جری علی أغلب أحواله (2) ومثله الظرف : «دون» فی قوله تعالی : (وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ.)

ومن الظروف غیر المتصرفة (3) : «ذا» ، و «ذات» ، بشرط إضافتهما إلی الزمان دن غیره ، فیلتزمان النصب علی الظرفیة الزمانیة فلا یجوز جرّهما ب «فی» ولا وقوعهما فی موقع إعرابیّ آخر ، إلا علی لغة ضعیفة لقبیلة «خثعم» تبیح فیهما التصرف. وقد رفضها جمهرة النحاة (4) ؛ نحو : قابلت الأخ ذا صباح ، أو ذا مساء ، أو ذات یوم ، أو ذات لیلة ، أی : وقتا ذا صباح ، ووقتا ذا

ص: 255


1- ستجیء إشارة إلیها فی ص 260 بمناسبة الکلام علی : «إذا» کما سیجیء بعض أحکامها الهامة فی ص 267.
2- یجوز إعرابه ظرفا منصوبا مباشرة ، والفاعل محذوف ، ویجوز اعتباره اسما مبنیا علی الفتح فی محل رفع فاعل ... وهناک إعرابات أخری ... وانظر کلاما یختص به فی ص 260 و 267.
3- لهذه الظروف أمثلة أیضا فی ص 246 و 250 م 79.
4- راجع الهمع ج 1 ص 197.

مساء ، ومدة ذات یوم ، ومدة ذات لیلة ، أی : وقتا صاحبا لهذا الاسم ، ومدة صاحبة لهذا الاسم (1).

قد تضاف «ذات». إلی کلمة : «الیمین» أو : «الشمال» - وهما من الظروف المکانیة کما سبق (2) - فتصیر ظرف مکان متصرفا ؛ نحو : تتحرک الشجرة ذات الیمین وذات الشمال ، نحو : دارک ذات الیمین والحدائق ذات الشمال. (وقد سبقت الإشارة إلی «ذا» و «ذات» من ناحیة إفرادهما وجمعهما فی الجزء الأول ، باب الأسماء الستة م 8 ص 699 وفی آخر هامش ص 321 منه إشارة إلی استعمال : «ذات» استعمال الأسماء المحضة المستقلة ، وأن النسب إلیها هو : «ذووی ، أو ذاتی» طبقا للبیان التفصلی فی باب النسب ج 4 م 178 وص 554)

ومن غیر المتصرف أیضا : حوال - حوالی - حول - حولی ... - أحوال - أحوالی ... ولیس المراد - فی الغالب - حقیقة التثنیة والجمع وإنما المراد المعنی المفهوم من الکلمة المفردة ، وهو : الإحاطة والالتفاف - وقد یستعمل «حوالیک» مصدرا : مثل : لبّیک (3) ؛ لأن الحول ، والحوال یکونان بمعنی «جانب الشیء المحیط به» کما یکونان بمعنی : «القوة».

ومن الظروف التی لا تتصرف «شطر» بمعنی : ناحیة أو جهة ؛ کقوله تعالی : (وَمِنْ حَیْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ،) ومنها : زنة الجبل ، أی : إزاءه ، ومثله : وزن الجبل أی : الناحیة التی تقابله ؛ سواء أکانت قریبة أم بعیدة.

ومنها - فی رأی - : صددک وصقبک ، تقول : بیتی صدد بیتک ، بنصبه علی الظرفیة ؛ أی : قربه وقبالته ، وبیتی صقب بیتک ، أی : قربه کذلک ، والصحیح أن هذین الظرفین یتصرفان ؛ فیستعملان اسمین.

(ه) هناک ألفاظ مسموعة بالنصب ، جرت مجری ظرف الزمان والمکان ،

ص: 256


1- سبقت الإشارة لهذه الظروف فی ص 250 أما إیضاح معناها وحکم إضافتها مفصلة فیجیء فی ج 3 ص 36 م 93.
2- فی ص 250.
3- سبق الکلام علیه فی ص 220 م 76.

وکانت مجرورة بحرف الجر : «فی» فأسقطوه توسعا ، ونصبوها علی اعتبارها متضمنة معناه. فمن أمثلة الزمان کلمة «حقّا» فی مثل : أحقّا أنک مسرور؟ فحقّا ظرف زمان منصوب خبر مقدم ، والمصدر المؤول بعده مبتدأ والأصل : أفی حق سرورک (1)؟ وقد نطقوا بالحرف «فی» احیانا فقالوا :

«أفی حقّ مواساتی أخاکم ...» وقالوا : «أفی الحق أنی مغرم بک هائم ...» وهذا الاستشهاد قد یصلح دلیلا علی أن کلمة : «حقّا» السالفة ظرف زمان .. ومثلها : غیر شک أنک مسرور ، أو : جهد رأیی أنک محسن ، أو : ظنّا منی أنک أدیب فغیر ، وجهد ، وظنّا - کلمات منصوبة هنا علی الظرفیة الزمانیة (2) توسعا بإسقاط حرف الجر : «فی» والأصل : فی غیر شک - فی جهد رأیی - فی ظنی - والظرف فیها جمیعا خیر مقدم والمصدر المؤول بعده مبتدأ مؤخر. ومن أمثلة ظروف المکان السماعیة : مطرنا السّهل والجبل ، وضربت الجاسوس الظّهر والبطن. وإنما کانت هذه الظروف سماعیة مقصورة علیه لأنها لا تدخل فی أنواع الظروف المکانیة القیاسیة.

(و) قد ینزل بعض الظروف منزلة الشرط ؛ فیحتاج لجملة بعدها جملة أخری بمثابة الجواب ، وقد تقترن بالفاء کقوله تعالی : (وَإِذْ لَمْ یَهْتَدُوا بِهِ فَسَیَقُولُونَ ..) وعلی هذا قول ابن مالک فی حکم «خلا وعدا» ، فی باب «الاستثناء» :

(وحیث جرّا فهما حرفان ...) (3).

(ز) هل یجوز عطف الزمان علی المکان وعکسه؟ سیجیء الجواب فی مکانه

ص: 257


1- والظرفیة هنا زمانیة مجازیة. - کما فی الخضری والتصریح آخر باب : «الظرف» وقد سبق الکلام علیه مفصلا فی ج 1 ص 487 م 51 عند الکلام علی فتح همزة «أن». وسبقت الإشارة إلیه فی رقم 1 هامش ص 248.
2- والمعنی : سرورک حاصل فی زمن لا شک فی وقوع السرور فیه ، وإحسانک متحقق فی زمن سجلت فیه هذا قدر جهدی واستطاعتی ، وأدبک حاصل فی زمن أظن وقوعه فیه.
3- راجع الصبان والخضری عند شرح البیت. ویجیء الإیضاح فی هامش ص 331 وانظر الکلام علی الظرف «بین» فی ص 267 وما یلیها من رقم 3 هامش ص 268) وهامشها لصلته لموضوع.

الأنسب ، من باب العطف آخر الجزء الثالث (1).

(ح) الظروف الزمانیة والمکانیة متعددة الأنواع ، والأحکام ، جدیرة أن تستقل برسالة توفیها حقها من البسط ، والإیضاح ، والتهذیب ، وجمع شتاتها المتناثر فی المطولات ، والمراجع الکبیرة ، واستصفاء ما یجدر الأخذ به ، واستبعاد ما یغشیه مما لا یناسب. وتحقیق هذا کله غرض جلیل هام یقتضی بحثا مستقلّا ؛ لا تزحمه البحوث الأخری ؛ فتضغطه ، أو تطغی علیه.

علی أن هذا لا یحول دون استخلاص موجز ، مرکّز ، دقیق ؛ قد یفید القانع ، أو یسعف المضطر ، ولکنه لا یغنی المستقصی ، الذی لن یرضی بغیر التوفیة بدیلا. ومثل هذا لا یجد طلبته إلا فی بطون المراجع الواسعة ؛ کالمغنی ، وشرح المفصل ، والجزء الأول من همع الهوامع : للسیوطی ؛ فقد - حوی أو کاد - من شأن «الظرف» بنوعیه - ولا سیما الظرف المبنی - ما لم یهیأ لسواه ، وجمع فی فصل : «الظروف المبنیة» ما وصفه صادقا بقوله (2) : «إنی أوردت ما لم أسبق إلی جمعه واستیفائه من مبنیّ ظروف الزمان والمکان ، مرتبا علی حروف المعجم ...».

وفیما یلی الموجز

الذی استخلصناه من تلک المراجع ، ورتبناه علی حسب الحروف الهجائیة ، مع ترک ما سبق الکلام علیه (3).

1 - إذ (4) - ظرف للزمن الماضی فی أکثر استعمالاتها ، وقد تکون للمستقبل بقرینة (5) ، وهی مبنیة علی السکون ، غیر متصرفة (6) فی الأغلب - وتکون أحیانا

ص: 258


1- ج 3 م 122 ص 524 وقد عرض الصبان لهذا البحث فی آخر باب الظرف من الجزء الثانی من حاشیته علی الأشمونی.
2- فی ص 204.
3- مما یمکن الاکتفاء به.
4- سیجیء الکلام علی «إذ» و «إذا» بمناسبة أخری فی ج 3 باب : «الإضافة» ص 63 ، 70 ، و 72 م 94 ویجیء کلام آخر مفید علی «إذا» فی ج 4 باب : «عوامل الجزم» ، ص 333 م 56
5- بیان هذا فی رقم 6 الآتی.
6- جاء فی المغنی - ج 1 - عند الکلام علیها ما یفید أنها متصرفة ؛ حیث یقول فی الوجه الثانی من أوجه استعمالها ما نصه : (أن تکون مفعولا به ، نحو قوله تعالی : (وَاذْکُرُوا إِذْ کُنْتُمْ قَلِیلاً فَکَثَّرَکُمْ.) والغالب علی المذکورة فی أوائل القصص فی التنزیل أن تکون مفعولا به بتقدیر : «اذکر» ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ ... -) وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ ...) - وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا - - بِکُمُ الْبَحْرَ ...) وبعض المعربین یقول فی ذلک إنه ظرف للفعل : «اذکر» محذوفا - ولیس مفعولا به - وهذا وهم فاحش لاقتضائه حینئذ الأمر بالذکر فی ذلک الوقت ، مع أن الأمر للاستقبال ، وذلک الوقت قد مضی قبل تعلق الخطاب بالمکلفین منا ، وإنما المراد ذکر الوقت نفسه - أی : تذکره - لا الذکر فیه) اه. کلام المغنی. وقال صاحب الهمع (ج 1 ص 204) فی دلالتها الزمنیة ، وفی تصرفها. ما نصه : (أصل وضعها أن تکون ظرفا للوقت الماضی. وهل تقع للاستقبال؟ قال الجمهور : لا. وقال جماعة منهم ابن مالک : نعم. واستدلوا بقوله تعالی : (یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) والجمهور جعلوا الآیة ونحوها من باب قوله تعالی : (وَنُفِخَ فِی الصُّورِ ...) أی : من تنزیل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد وقع. قال ابن هشام : ویحتج لغیرهم - أی : لغیر الجمهور - بقوله تعالی : (فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ ؛ إِذِ الْأَغْلالُ فِی أَعْناقِهِمْ ... ؛) فإن : «یعلمون» مستقبل لفظا ومعنی : لدخول حرف «التنفیس» علیه ، وقد عمل فی «إذ» فیلزم أن یکون بمنزلة «إذا» لأن «إذا» للمستقبل. وتلزم «إذ» الظرفیة ؛ فلا تتصرف بأن تکون فاعلة أو مبتدأة ... إلا أن یضاف اسم الزمان إلیها : نحو : «حینئذ» - «یومئذ» ... وجوز الأخفش ، والزجاج ، وابن مالک وقوعها مفعولا به ، نحو قوله تعالی : (وَاذْکُرُوا إِذْ کُنْتُمْ قَلِیلاً ...) وبدلا منه ؛ نحو : (وَاذْکُرْ فِی الْکِتابِ مَرْیَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ...). والجمهور لا یثبتون ذلک ، ووافقهم أبو حیان ، قال : «لأنه لا یوجد فی کلام العرب : «أحببت إذ قدم زید ، ولا کرهت إذ قدم». وإنما ذکروا ذلک مع الفعل : «اذکر» لما اعتاص - أی : التوی ، وصعب - علیهم ما ورد من ذلک فی القرآن. وتخریجه مهل ، وهو أن تکون «إذ» معمولة لمحذوف یدل علیه المعنی. أی : اذکروا حالتکم ، أو : قضیتکم ، أو أمرکم ... وقد جاء بعض ذلک مصرحا به ؛ قال تعالی : (وَاذْکُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ ...) «فإذ» ظرف معمول لقوله : «نعمة الله». وهذا أولی من إثبات حکم کل بمحتمل ، بل بمرجوح». اه. کلام أبو حیان)» اه. ما دوّنه الهمع.

مضافا إلیه ، والمضاف اسم زمان ؛ نحو : حینئذ - یومئذ ... فتتحرک «الذال» بالکسر عند التنوین. وإذا کانت ظرفا التزمت الإضافة إلی جملة (1) ؛ إمّا اسمیة لیس عجزها فعلا ماضیا ، نحو قوله تعالی : (وَاذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ ...) وقوله تعالی : (... إِذْ هُما فِی الْغارِ) وإما فعلیة نحو : جئتک إذ دعوتنی. ویشترط فی الجملة الفعلیة أن تکون ماضویة لفظا ومعنی أو معنی فقط - کأن یکون فعلها مضارعا قصد به حکایة الحال الماضیة - وألا تکون شرطیة ، ولا مشتملة علی ضمیر یعود علی المضاف ؛ فلا یصح : أتذکر اذ إن تأتنا نکرمک ..

ص: 259


1- وفی هذه الحالة یشترط فی «إذ» الظرفیة المحضة ألا تکون مختومة بما الزائدة - نص علی هذا المبرد فی کتابه المقتضب ، ج 2 ص 54 -.

وقد یحذف شطر الجملة الاسمیة أحیانا مع ملاحظة وجوده ؛ کقول الشاعر :

هل ترجعنّ لیال قد مضین لنا

والعیش منقلب إذ ذاک أفنانا

والتقدیر عندهم : العیش منقلب أفنانا إذ ذاک کذلک ، لأنها لا تضاف - فی الأغلب - (1) إلی مفرد (2). ومثله قول الآخر :

کانت منازل ألّاف عهدتهمو

إذ نحن إذ ذاک دون الناس إخوانا

أی : إذ ذاک کذلک.

وقد تحذف الجملة التی تضاف إلیها ، ویعوض عنها التنوین (3) ؛ نحو : أقبل الغائب وکنتم حینئذ مجتمعین ، أی : حین إذ أقبل ...

وقد تزاد للتعلیل ؛ کقوله تعالی : (وَلَنْ یَنْفَعَکُمُ الْیَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّکُمْ فِی الْعَذابِ مُشْتَرِکُونَ؛) أی : لأجل ظلمکم فی الدنیا ... وهی حرف بمنزلة لام التعلیل ... وقیل : ظرف ، والتعلیل مستفاد من قوة الکلام ، لا من اللفظ ؛ وقد تکون حرفا للمفاجأة ، أو زائدة لتأکید معنی الجملة کلها ؛ وذلک بعد کلمة : «بین» (4) المختومة «بالألف» الزائدة ، أو «ما» الزائدة ؛ نحو : بینا نحن جلوس إذ أقبل صدیق ... ومثل : فبینما العسر إذ دارت میاسیر (5).

هذا ، واستعمال «إذ» قیاسیّ فی جمیع الصور ، والحالات المختلفة التی سردناها فی الکلام علیها.

2 - إذا - الصحیح أنها اسم ؛ بدلیل وقوعها خبرا مع مباشرتها الفعل ؛ نحو : الهناء إذا تسود المحبة الأهل ، ووقوعها بدلا من الاسم الصریح ، نحو : المقابلة غدا إذا تطلع الشمس.

ص: 260


1- راجع الخضری والصبان (باب : «إن» - مواضع کسر الهمزة وجوبا ، وهل منها : «حیث»؟)
2- قد یبدو هذا التقدیر غریبا ، ولکن تزول غرابته - کما یجیء فی ج 3 ص 65 م 94 - بأمثلة أخری توضحه وتؤیده. کأن نقول : المنافق منقلب أحوالا إذ هذا - المنافقان منقلبان أحوالا إذ هذان - المنافقون منقلبون أحوالا إذ هؤلاء. ففی کل هذه التراکیب وأشباهها - وما أکثرها - لا یتم المعنی إلا بالتقدیر السالف.
3- کما سبق فی ج 1 ص 26 م 3.
4- لها بیان فی ص 267 وما یلیها.
5- ولا یشترط فیها غیر هذا ، بخلاف «إذا» الفجائیة التی سیجیء الکلام علیها فی ص 263.

(ا) وهی ظرف للمستقبل فی أکثر استعمالاتها ، وتکون للماضی بقرینة ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَیْها ...) لأن الآیة نزلت بعد انفضاضهم.

وقد تکون للحال بعد القسم ؛ نحو قوله تعالی : (وَاللَّیْلِ إِذا یَغْشی) لأن اللیل والغشیان مقترنان. وهل «إذا» فی الآیة متعلقة بفعل القسم وفعل القسم للحال (1)؟

ومثل قوله تعالی تعالی : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوی ؛ ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَما غَوی ....)

(ب) والغالب فی استعمالها أن تتضمن مع الظرفیة معنی الشرط بغیر أن تجزم إلا فی ضرورة الشعر ، وتحتاج بعدها إلی جملتین ، الأولی تحتوی علی فعل الشرط ، والثانیة هی الجواب. نحو قوله تعالی : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفْواجاً - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَاسْتَغْفِرْهُ ....)

وقد تتجرد للظرفیة المحضة الخالیة من الشرط (2) ؛ کقوله تعالی : (وَاللَّیْلِ إِذا یَغْشی ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّی ...،) وقوله تعالی : (وَالضُّحی وَاللَّیْلِ إِذا سَجی ...،) وقوله تعالی : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ یَغْفِرُونَ)(3). وقد

ص: 261


1- هذا رأی فریق من النحاة. ولم یوافق علیه آخرون ؛ لما یلزم علیه من أن یکون القسم فی وقت غشیان اللیل ، وأنهما یحصلان معا فی زمن واحد. وارتضی هؤلاء أن تکون «إذا» ظرفا متعلقا بمضاف یدل علیه القسم ؛ إذ لا یقسم بشیء إلا لعظمته. والتقدیر : وعظمة اللیل إذا یغشی. (راجع الصبان ، ج 2. باب الإضافة عند الکلام علی «إذا»).
2- جمهزة النحاة فی هذه الحالة توجب نصبها علی الظرفیة دون غیرها ، فلا تکون فاعلا ولا مفعولا به ، ولا غیرهما. أما قوله علیه السّلام لعائشة : «إنی لأعلم إذا کنت عنی راضیة ...» فیؤولونه بأن المراد : إنی لأعلم شأنک إذا کنت عنی راضیة ، ولا یوافقون علی أن تکون مفعولا به ، لئلا یفسد المعنی إذ المراد لیس العلم بالزمن ، وإنما المراد العلم بالحال والشأن. وهذا صحیح فی الحدیث السالف أما فی غیره فقد یکون المراد وقوع الأثر علی الزمن نفسه وعندئذ لا یمنع مانع من أن تکون «إذا» مفعولا به ، نزولا علی ما یقتضیه المعنی.
3- لو کانت «إذا» فی الآیة شرطیة لاشتمل جوابها (هم یغفرون) علی الفاء الرابطة أو ما ینوب عنها فی الربط ، لأن هذا الجواب جملة اسمیة تحتاج للرابط ، ولا داعی للتمحل بأن الرابط قد یحذف أحیانا. (انظر ج 4 ص 333 م 156 لأهمیته).

اجتمع النوعان - الظرفیة المحضة ، والظرفیة الشرطیة مع حذف فعل الشرط - فی قول الشاعر :

إذا أنت لم تترک أخاک وزلّة (1)

- إذا زلّها - أوشکتما (2)

أن تفرّقا (3)

وإذا کانت للشرط فإنها لا تدل علی التکرار ؛ ففی مثل إذا خرجت أخرج معک. یتحقق المراد بالخروج مرة واحدة. وهی أیضا لا تفید الشمول والتعمیم - فی الرأی الشائع - فلو حلف رجل علی أن یتصدق بمائة - مثلا - إذا رجع ابن من أبنائه الغائبین ؛ فرجع ثلاثة ، لم یجب علیه إلا مائة ، وتسقط عنه الیمین بعدها.

وتستعمل «إذا» الظرفیة الشرطیة فی التعلیق إذا کان الشرط محقق الوقوع (4) ، نحو : إذا أقبل الشتاء أقیم عندکم ، أو مرجّح الوقوع ، نحو : إذا دعوتمونی أیها الإخوان أحضر.

(ح) «وإذا» الظرفیة الشرطیة تضاف دائما إلی جملة فعلیة خبریة ، غیر مشتملة علی ضمیر یعود علی المضاف ، والأکثر أن تکون ماضویة. وقد اجتمع النوعان فی قول الشاعر :

والنفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلی قلیل تقنع

والماضی فی شرطها أو جوابها مستقبل الزمن (5) ؛ فإن ولیها اسم مرفوع بعده فعل

ص: 262


1- هفوة.
2- اقتربتما.
3- الأصل : تتفرقا. حذفت إحدی التاءین تخفیفا.
4- وهی بهذا تختلف عن «إن» الشرطیة وأخواتها ؛ مما یکثر فی الأمر المحتمل ، أو المشکوک فی تحقیقه. وقد تدخل علی المستحیل ، کقوله تعالی : (قُلْ إِنْ کانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ...) وقد تدخل علی الأمر المحقق إن کان غیر متیقن الزمان : کقوله تعالی : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) فالموت محقق ، ولکن زمنه مبهم. (وفی الجزء الرابع ص 327 م 155 وص 333 م 156. - باب الجوازم - البیان الشامل لهذه الأدوات کلها).
5- سواء أکان ماضی اللفظ والمعنی معا ، (وهو الماضی الحقیقی بصیغته وزمنه) أم کان ماضیا معنی وحکما دون لفظ ، وهو المضارع المسبوق بحرف الجزم : «لم» فإن هذا الحرف الجازم یقلب - فی الغالب - زمنه للمضی - کما هو موضح فی باب «الجوازم» - ج 4 - فإذا وقع الماضی الحقیقی ، أو المعنوی (وهو المضارع المسبوق بالحرف «لم») فعل شرط للأداة : «إذا» الشرطیة ، أو لأداة جازمة تخلص زمنه للمستقبل : المحض ؛ کقول الشاعر : إنّ السماء إذا لم تبک مقلتها لم تضحک الأرض عن دان من الثمر

فالاسم - فی الغالب - فاعل لفعل محذوف (1) مثل : (إذا السماء انشقت ...) وحین تقع شرطیة ظرفیة تکون مضافة إلی الجملة الشرطیة المکونة من فعل الشرط ومرفوعه ، ومنصوبة بما یکون فی جملة الجواب من فعل أو شبهه (2).

(د) وقد تکون «إذا» للمفاجأة (3) - والأحسن فی هذه الحالة اعتبارها حرفا (4) - ؛ فتدخل وجوبا ؛ إما علی الجمل الاسمیة ، نحو : اشتدت الریح ، فإذا البحر هائج ، وإما علی الجمل الفعلیة المقرونة بقد ، لأن «قد» تقرب زمن الفعل من الحال - نحو : اشتدت الریاح ؛ فإذا قد لجأت السفن إلی الموانی - یضطرب البحر فإذا قد یتألم رکاب البواخر. کما یجب فی کل حالاتها أن یسبقها کلام قبلها تقع علیه المفاجأة ، وأن تکون المفاجأة فی الزمن الحالیّ (5) حتما - لا المستقبل ، ولا الماضی - وأن تقترن بها الفاء الزائدة للتوکید (6). وأن تخلو من جواب بعدها. وقد تلیها الباء الزائدة التی تدخل سماعا فی مواضع ؛ منها بعض أنواع معینة من المبتدأ ، کالمبتدأ الذی بعدها ، نحو نظرت فإذا بالطیور مهاجرة (7).

3 - الآن - وهو اسم للوقت الحاضر جمیعه ، وهو الوقت الذی یستغرقه نطق

ص: 263


1- أو نائب فاعل أحیانا - ولهذا الرأی توضیح واف سبق فی باب الاشتغال من هذا الجزء ص 139 وما بعدهما.
2- ولا یمنع من هذا العمل أن یکون الجواب مشتملا - أحیانا - علی الفاء الرابطة ، أو ما ینوب عنها ، لأن هذه الفاء لا یعمل ما بعدها فیما قبلها فی غیر هذا الموضع الذی یکون فیه العامل واقعا فی جواب الشرط.
3- أی : مفاجأة ما بعدها ، بمعنی : هجومه.
4- ویجوز اعتبارها ظرف زمان أو مکان أیضا ، بمعنی : (ففی الوقت أو ففی المکان) - راجع ج 1 ص 492 م 52.
5- المقصود بالزمن الحالی : الزمن الذی یتحقق فیه المعنیان فی وقت واحد ؛ المعنی الذی بعدها والمعنی الذی قبلها ؛ بحیث یقترنان معا فی زمن تحققهما ، ولو کان الزمن ماضیا ؛ کالذی فی نحو : خرجت أمس فإذا المطر فیاض.
6- وقد سبقت الإشارة لهذا فی ج 1 ص 492.
7- راجع المغنی ج 1 عند الکلام علی «الباء» ، وص 455 الآتیة ؛ حیث الکلام علی حرف الجر الباء ، والبیان الأنسب.

الإنسان بهذه الکلمة ؛ نحو : أنارت الشمس الآن ، أو الحاضر بعضه فقط ، مثل : الملّاح یحرک سفینته الآن. فإن تحریکه السفینة لا یعم ولا یشمل کل وقته الحاضر عند النطق. وقد یقع علی الماضی القریب من زمن النطق ، أو علی المستقبل القریب منه ؛ تنزیلا للقریب فی الحالتین منزلة الحاضر.

وهو ظرف ، مبنی علی الفتح ، وظرفیته غالبة ، لازمة ، أی : لا یخرج عنها إلا فی القلیل المسموع الذی لا یقاس علیه. ویری بعض النحاة أنه معرب منصوب علی الظرفیة - ولیس مبنیّا - وله أدلة تدعو إلی الاطمئنان والاستراحة لرأیه الأسهل (1).

4 - أمس - اسم ، معرفة ، متصرف ، وهو اسم زمان للیوم الذی قبل یومک مباشرة ، أو ما فی حکمه عند إرادة القرب. ویستعمل مقرونا بأل لزیادة التعریف ، أو غیر مقترن بها فلا یفقد التعریف.

وللعرب فیه لهجات ولغات مختلفة ، تعددت بسببها آراء النحاة فی استنباط حکمه. وخیر ما یستصفی منها أنه : إذا کان مقرونا بأل فإعرابه وتصرفه هو الغالب ، ولا یکون ظرفا ؛ نحو کان الأمس طیبا - إن الأمس طیب ، أسفت علی انقضاء الأمس. وإذا لم یکن مقترنا بأل فالأحسن عند استعماله ظرفا أن

ص: 264


1- فی الجزء الأول من : «همع الهوامع» (باب : الظرف ص 207) عرض واف للآراء المختلفة المتعددة التی تدور حول الظرف : «الآن» من ناحیة الحکم علیه بالبناء ، أو بالإعراب ، وأدلة کل رأی. وجمیعها أدلة جدلیة محضة لا قیمة لها فی إثبات المراد ، لأن إثباته القاطع إنما یکون بعرض الأمثلة الصحیحة الواردة عن العرب التی تکفی فی تأیید هذا أو ذاک ، لا فی مجرد الجدل المحض الذی لا تسایره الشواهد الکثیرة. علی أن صاحب الهمع بعد فراغه من عرض الآراء أدلی برأیه. فقال ما نصه :(«المختار عندی القول بإعرابه ؛ لأنه لم یثبت لبنائه علة معتبرة ؛ فهو منصوب علی الظرفیة ، وإن دخلته «من» جرّ. وخروجه عن الظرفیة غیر ثابت ، ولا یصلح الاستدلال له بالحدیث السابق لما تقرر غیر مرة») اه. ثم قال بعد ذلک ما نصه : (وفی شرح الألفیة لابن الصائغ : إن الذی قال بأن أصله «أوان» یقول بإعرابه ، کما أن «أوانا» معرب) اه. أما الحدیث المشار إلیه فقد ذکره قبل رأیه هذا قائلا ما نصه : (وقال ابن مالک : ظرفیته «أی : الآن» غالبة لازمة ؛ فقد یخرج عنها إلی الاسمیة ، کحدیث «فهو یهوی فی النار ، الآن حین انتهی إلی قعرها ...» ف «الآن» فی موضع رفع بالابتداء ، «وحین انتهی» خبره. و «حین» مبنی لإضافته إلی جملة صدرها ماض) اه. وإنما کان الحدیث السالف غیر صالح عنده للاستدلال به لأن صاحب الهمع من طائفة تری أن الحدیث - - النبوی لا یستشهد به فی اللغویات ، لاحتمال أن یکون مرویا بالمعنی دون حرص علی النص اللفظی الذی نطق به الرسول علیه السّلام ، ولأن بعض رواة الحدیث أجنبی لا یحسن النطق بالکلام العربی الصحیح. وهذا رأی له معارضون لا یوافقون علیه. وللفریقین أدلة وبحوث طویلة فی هذا الشأن عرضها مختصرة صاحب : «خزانة الأدب» فی أولها ، وکذلک عرض لها بشیء من البسط صاحب کتاب : «المواهب الفتحیة» فی الجزء الثانی.

یکون مبنیّا علی الکسر دائما فی محل نصب ، نحو : أتممت الکتابة أمس. وإن لم یستعمل ظرفا فالأحسن بناؤه علی الکسر أیضا فی جمیع أحواله. نحو : انقضی أمس بخیر - إن أمس کان حسنا - لم أشعر بانقضاء أمس.

ومما یتصل باستعمال «أمس» ما جاء فی کتاب : «لسان العرب» وغیره وهو أنک تقول : ما رأیت الصدیق مذ أمس ؛ إذا کان ابتداء عدم الرؤیة هو الیوم الذی قبل یومک الحالیّ مباشرة. فإن لم تره یوما قبل أمس قلت : ما رأیته مذ أول من أمس (1). فإن لم تره مذ یومین قبل أمس قلت : ما رأیته مذ أول من أول من أمس ، ولا یقال إلا لیومین قبل أمس ، أی : لا یصح ذکر «أمس» لما قبلهما (2).

5 - بعد - أول - قبل - أمام - قدّام - وراء - خلف - أسفل - یمین - شمال - فوق - تحت - عل (3) - دون - ... (4)

من الظروف المبنیة حینا ، والمعربة حینا آخر : «بعد» وهو زمان ملازم للإضافة.

ا - غیر أن المضاف إلیه قد یذکر ، نحو : صفا الجو بعد المطر ، وفی هذه الحالة یتعین أن یکون الظرف معربا منصوبا بغیر تنوین ؛ لأنه مضاف ، ویجوز جره بالحرف : «من».

ب - وقد یحذف المضاف إلیه وینوی وجود لفظه بنصّه الحرفی ؛ فیبقی المضاف

ص: 265


1- هذا الترکیب مثل قولهم : ما رأیته أول من أمس. (راجع ما یتصل به فی الصفحة الآتیة).
2- راجع الکلام علی کلمة «أول» فی الصفحة التالیة ثم إیضاح آخر عنها فی ح 3 ص 623 ، 125 م 94 - باب الإضافة.
3- فی الظرف «عل» لغات مختلفة أوضحناها فی باب الإضافة ج 3 منها : علا (علی وزن : عصا) وبعض العرب یجیز إضافته ولکنه یوجب قلب ألفه یاء عند إضافته لیاء المتکلم طبقا للبیان الخاص به فی باب الإضافة.
4- فی باب الإضافة من ج 3 ص 115 م 95 تفصیل الکلام علی هذه الظروف ، وعرض أحکامها مستوفاة.

علی حاله معربا منصوبا غیر منوّن ؛ کما کان قبل حذف المضاف إلیه ؛ نحو : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أی : بعد المطر. وحکم الظرف هنا کسابقه.

ح - وقد یحذف المضاف إلیه ، ویستغنی عنه نهائیّا کأن لم یکن ؛ مثل : صفا الجو بعدا ... والظرف فی هذه الحالة معرب ، منصوب ، منون ...

د - وقد یحذف وینوی معناه. (أی : ینوی وجود کلمة أخری تؤدی معنی المحذوف من غیر أن تشارکه فی نصّه وحروفه) وفی هذه الصورة یلتزم الظرف المضاف : البناء علی الضم ؛ مثل : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أی : بعد انقطاعه ، أو بعد ذلک ...

فالأحوال أربعة (1) تعرب فی ثلاثة منها ، وتبنی فی حالة واحدة هی : التی یحذف فیها المضاف وینوی معناه. وتلک الأحوال الأربعة تنطبق علی باقی الظروف التی ولیت : «بعد».

غیر أن هناک بعض الأمور تتصل بلفظ : «أوّل» الذی لیس ظرفا (2). منها : اعتباره اسما مصروفا معناه ابتداء الشیء المقابل لنهایته ، ولا یستلزم أن یکون له ثان ؛ فقد یکون له ثان ، وربما لا یکون ؛ تقول : هذا أول ما اکتسبته ، فقد تکتسب بعده شیئا ، أولا تکتسب. وقیل : یستلزم کما أن الآخر یستلزم أولا. والحق الرأی الأول. وللقرائن دخل کبیر فی توجیه المعنی إلی أحد الرأیین. ومنه قولهم : ما له أول ولا آخر (3)

ومنها : أن یکون وصفا مؤولا ، أی : أفعل تفضیل بمعنی : «أسبق» ، فیجری علیه حکمه ؛ من منع الصرف وعدم التأنیث بالتاء. ووجوب إدخال «من» علی المفضّل علیه ... ؛ نحو : هذا أول من هذین ، ولقیته عام أول من عامنا (4).

ومنها : أن یکون اسما معناه : «السابق» ؛ فیکون مصروفا ؛ نحو لقیته عاما أولا ، أی : سابقا.

ص: 266


1- تفصیل أحکامها وأحوالها فی ج 3 ص 53 م 59 باب الإضافة.
2- تقدم له بیان آخر فی الصفحة السابقة. وکذلک فی ج 1 ص 146 م 17 باب النکرة والمعرفة وستجیء إشارة مهمة إلیه فی ج 3 باب الإضافة.
3- راجع الکلام علیه مع الظرف «أمس» فی الصفحة الماضیة وله بیان آخر فی ج 3 باب الإضافة ص 125.
4- ویصح لقیته عاما أول من عامنا. جاء فی الهمع (ج 1 ص 54 باب «النکرة والمعرفة») ما نصه : (من الأسماء ما هو معرفة معنی ، نکرة لفظا ، نحو : کان ذلک عاما أول - وأول من أمس ؛ فمدلولهما معین لا شیوع فیه بوجه ، ولم یستعملا إلا نکرتین ، وقد سبق بیان هذا - فی ج 1 م.

أما «أول» الظرف الزمانی فمعناه : «قبل» نحو : رأیت الهلال أول الناس.

هذا ، وأصل أول - فی الأرجح ، بنوعیه : الظرف ، والاسم - ، هو : أو أل بوزن : أفعل ؛ قلبت الهمزة الثانیة واوا ، ثم أدغمت الواو فی الواو ، بدلیل جمعه علی أوائل (1).

6 - بین (2) - بدل - فأما : «بین» فأصله ظرف للمکان ، وقد یکون للزمان أیضا والکلمة فی الحالتین مضافة إلا عند الترکیب - کما سبق (3) - وتتخلّل شیئین (4) ، أو ما فی تقدیر شیئین (5) أو أشیاء (6) ، وتصرفها متوسط ، وکذلک وقوعها معربة ، مثل قوله تعالی فی الزوجین : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَکَماً مِنْ أَهْلِها ...) ، فقد وقعت اسما معربا مضافا إلیه ، مجرورا بالکسرة الظاهرة ؛ کشأنها فی قوله تعالی : (هذا فِراقُ بَیْنِی وَبَیْنِکَ،) وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ) فی قراءة من رفع الظرف ، وقوله : (وَمِنْ بَیْنِنا وَبَیْنِکَ حِجابٌ).

ولا تضاف إلّا إلی متعدد ، کقول الشاعر :

شوقی إلیک نفی لذیذ هجوعی

فارقتنی فأقام بین ضلوعی

فإن أضیفت لمفرد وکان ضمیرا لا یدل علی تعدد ، وجب تکرارها مع عطف

ص: 267


1- انظر ما یتعلق به فی ص 521 وفی ج 3 - باب الإضافة -
2- سبقت الإشارة إلی بعض أحکامها (لترکیب) ، فی ص 255 وإشارة أخری فی ص 260. بمناسبة الکلام علی : «إذ».
3- سبقت الإشارة إلی بعض أحکامها (لترکیب) ، فی ص 255 وإشارة أخری فی ص 260. بمناسبة الکلام علی : «إذ».
4- کقوله تعالی : (... وَتَصْرِیفِ الرِّیاحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ.)
5- کقوله تعالی : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِکَ وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَیْنَ ذلِکَ سَبِیلاً ،) أی : بین الجهر والمخافتة.
6- کقول امرئ القیس : قفا نبک من ذکری حبیب ومنزل بسقط اللّوی بین الدّخول فحومل ومما یصلح لتقدیر شیئین ، أو أشیاء قول الشاعر : قدّر الهجر بیننا فافترقنا وطوی البین عن جفونی غمضی

المکررة بالواو ، کالآیة السابقة ، (هذا فراق بینی وبینک ..) وإن کان اسما ظاهرا فالکثیر أنها لا تتکرر ؛ إذ یکتفی بالعطف بالواو علی الاسم الظاهر المضاف إلیه ؛ مع جواز التکرار ، وإن کان الأول هو الأکثر (1) ؛ مثل : تضیع الغایة بین التردد والیأس. وقولهم : شتان بین رویّة وتسرّع.

وقد یتصل بآخرها «الألف» الزائدة أو «ما» (2) الزائدة ، فتصیر زمانیة غیر متصرفة ، وفی هذه الحالة یضاف الظرف وجوبا إلی جملة (اسمیة ، أو فعلیة) ، وبعدها کلام مترتب علی هذه الجملة ، یعتبر بمنزلة الجواب (3).

ص: 268


1- تکرارها بین المتعاطفین الضمیرین واجب أما بین المتعاطفین الظاهرین فجائز للتوکید ؛ فیصح أن یقال : المال بین محمود وبین علی ، بزیادة : «بین» الثانیة ، للتأکید کما قاله ابن بری وغیره ، وبذلک یرد علی منع الحریری تکرارها. (راجع حاشیة یاسین علی شرح التصریح ج 2 وکذا «الصبان» أول باب عطف النسق فیها عند الکلام علی واو العطف). ویؤید ما سبق ورودها مکررة فی بعض الأحادیث الشریفة ، التی نقلها وشرحها صاحب المواهب الفتحیة (ح 2) وفی کلام آخر لعمر بن عبد العزیز وهو ممن یحتج بکلامهم. وکذلک وردت فی شعر یحتج به نقله «الطبرسی (فی کتابه مجمع البیان ج 1 ص 45) ونصه : قال عدی بن زید : وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به بین النهار ، وبین اللیل قد فصلا - المصر : الحاجز - وقول أعشی همدان : بین الأشج وبین قیس باذخ بخ بخ لوالده وللمولود
2- وقوع «ما» الزائدة بعد الظرف : «بین» یوجب وصلهما فی الکتابة.
3- یکون الظرف مضافا للجملة التی بعده مباشرة ، ومنصوبا لعامل فی الکلام المتأخر عنها المترتب علیها ، کأنه جواب لها ، معلق علیها کتعلیق الجواب علی الشرط (علی الوجه الذی سبق فی «و» ص 257 وکما یجیء فی ص 331). وما سبق هو رأی الجمهور. وهناک آراء أخری أیسرها أنها - بعد اتصال «ما» الزائدة ، أو : الألف الزائدة بها ، تصیر ظرف زمان غیر مضاف ، لأن الحرف الزائد قد کفها عن العمل. ویصیر الظرف «بین» منصوبا بالعامل الذی فی الجملة التی تلیه والجملة التی تلیها بمنزلة الجواب. وهذا رأی حسن وفیه تیسیر. ومن المفید الذی یوضح ما سبق أن نسجل هنا ما جاء فی حاشیة الأمیر علی المغنی ، وما جاء فی الصبان عن هذه المسألة. جاء فی المغنی ؛ ج 1 فی الکلام علی «إذ» وأنواعها ، ما نصه : (تکون للمفاجأة ، نص علی ذلک سیبویه ، وهی الواقعة بعد «بینا» ، أو «بینما» ... و...) وقد علق علی هذا : الأمیر فی حاشیته ، قائلا ما نصه : -

للظرف

، فمثال الفعلیة : بینما أنصفتنی بالودّ ظلمتنی بالمنّ ، وقول الشاعر :

_________________

- (أصل : «بین» مصدر بان ، إذا تفرق ، ثم استعملت استعمال الظروف ؛ زمانیة ومکانیة. ولا تضاف إلا لمتعدد ؛ فأصل قولک : جلست بین زید وعمرو ، وأتیت بین الظهر والعصر ، جلست مکان تفرق زید وعمرو ، أی : المکان الواقع بینهما ، وأتیت زمن تفرق الظهر والعصر ، أی : الزمن الذی یفصل بینهما ، فحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه. ثم لما أرادوا أن یضیفوها إلی الجملة مع کونها لازمة للإضافة للمفرد - أی : لغیر الجملة - وکانت الإضافة إلی الجملة کلا إضافة ؛ لعدم تأثیرها فی لفظ المضاف إلیه - وصلوها - بأحد الأمرین ؛ «ما» التی شأنها الکف ؛ فکأنها کفتها عن الإضافة ، أو الألف مشبعة عن الفتحة ؛ لأنها أیضا تفید قطع ما قبلها فی الوقف ، مبدلة عن تنوین إثر فتح ؛ کالظنونا - فی قوله تعالی : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا -.) ثم هی بعد ظرف زمان فقط ؛ لأنه لیس لنا مکان یضاف للجملة غیر «حیث». وإن تأملت ما سبق أغناک عن إضمار «أزمان» بعدها إذا أضیفت للجملة کما قیل») اه. وهذا الرأی أحسن من التالی.

وقال الصبان فی الجزء الثانی - باب الإضافة عند الکلام علی قول ابن مالک :

وألزموا إضافة إلی الجمل

حیث وإذ ...

ما نصه :

(اعلم أن أصل : «بین» أن تکون مصدرا بمعنی : الفراق ، فمعنی جلست بینکما : جلست مکان فراقکما. ومعنی أقبلت بین خروجک ودخولک : أقبلت زمان فراق خروجک ودخولک ؛ فحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه. فتبین أن : «بین» المضافة إلی المفرد - أی : الذی لیس جملة - تستعمل فی الزمان والمکان. فلما قصدوا إضافتها إلی الجملة ، اسمیة أو فعلیة - والإضافة إلی الجملة کلا إضافة - زادوا علیها تارة : «ما» الکافة : لأنها تکف المقتضی عن اقتضائه ، وأشبعوا تارة أخری الفتحة ؛ فتولدت «ألف» لتکون الألف دلیل عدم اقتضائه للمضاف إلیه ، لأنه حینئذ کالموقوف علیه ، لأن الألف قد یؤتی بها للوقوف کما فی : «أنا» والظنونا - یشیر إلی أن الأصل فی «أنا» خلوها من الألف ، وإلی قوله تعالی : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) وتعین حینئذ ألا تکون إلا للزمان ؛ لما تقرر أنه لا یضاف إلی الجمل من المکان إلا حیث. وإضافة : «بینما» أو «بینا» فی الحقیقة إلی زمان مضاف إلی الجملة ؛ فحذف الزمان المضاف ، والتقدیر : بین أوقات زید قائم ، أی : بین أوقات قیام زید - کذا قرره الرضی.

(وقد یضاف «بینا» إلی مفرد مصدر دون «بینما» علی الصحیح ، کذا فی الدمامینی والهمع ، وتقدیر : «أوقات» ؛ لأن «بین» إنما تضاف لمتعدد. وناقش أبو حیان بأن : «بین» قد تضاف للمصدر المتجزئ ؛ کالقیام ، مع أنهم لا یحذفون المضاف إلی الجملة فی مثل هذا.

(قال فی الهمع : وما ذکر من أن الجملة بعد : «بینا» و «بینما» مضاف إلیها هو قول الجمهور. وقیل : «ما» و «الألف» کافتان ؛ فلا محل للجملة بعدهما. وقیل «ما» کافة دون الألف بل هی مجرد إشباع».

وعلی عدم إضافتهما یکون عاملهما ما فی الجملة التی تلیهما کما فی المغنی) اه. کلام الصبان.

ص: 269

فبینا نسوس الناس - والأمر أمرنا -

إذا نحن فیهم سوقة نتنصّف (1)

ومثال الاسمیة :

استقدر الله خیرا (2) ،

وارضینّ به

فبینما العسر إذ دارت میاسیر

وبینما المرء فی الأحیاء مغتبطا

إذ صار فی الرّمس (3)

تعفوه الأعاصیر

وقد ورد فی السماع الذی لا یقاس علیه إضافة «بینا» للمصدر دون : «بینما» - علی الصحیح - ...

وقد ترکب «کخمسة عشر» فتبنی علی فتح الجزأین مثل :

نحمی حقیقتنا وبع

ض القوم یسقط بین بین

الأصل : بیننا وبین الأعداء ، أی : بین المقاتلین. فأزیلت الإضافة من الظرفین ، ورکب الاسمان ترکیب خمسة عشر. فإن أضیف صدر : «بین إلی عجزها جاز بقاء الظرفیة فی الصدر ، وجاز زوالها. فمن الأول قولهم : المنافق بین بین ؛ بنصب الأولی علی الظرفیة مباشرة. ومن الثانیة قولهم : المنافق بین بین. أما إذا وقعت مضافا إلیه فیتعین زوال الظرفیة.

وأما : «بدل» فقد سبق الکلام علیه فی ص 246.

6 - حیث - من الظروف المکانیة الملازمة للبناء ، برغم أنها مضافة (4).

والأکثر أن تبنی علی الضم ، وتضاف للجمل (5) الاسمیة والفعلیة ، وإضافتها للفعلیة أکثر نحو : قعدت حیث الجوّ معتدل ، وبقیت حیث طاب المقام ؛ وقول الشاعر :

وما المرء إلا حیث یجعل نفسه

ففی صالح الأخلاق نفسک فاجعل

ص: 270


1- نطلب الإنصاف.
2- اسأله أن یقدره ویهیئه لک.
3- القبر.
4- سیجیء الکلام علیها من ناحیة إضافتها للجملة أو المفرد (فی ج 3 م 93 ص 68) وبناء الظروف مع إضافتها شائع ، کما تری فی هذا الباب.
5- بشرط أن تکون «حیث» غیر مختومة بما الزائدة عند إضافتها إلی الجملة. وقد نص علی هذا الشرط فیها وفی «إذ» الظرفیة المحضة المبرد فی کتابه : «المقتضب» ج 2 ص 54.

ومن القلیل إضافتها للمفرد ، ومع قلته جائز ، ولکن لا داعی لترک الکثیر إلی القلیل. ومثله دلالتها علی الزمان (1).

7 - ریث - أصله : مصدر راث ، یریث ؛ إذا أبطأ. ویجوز أن یترک المصدریة ویستعمل فی معنی ظرف الزمان فیکون مبنیّا علی الفتح ، ومضافا إلی جملة فعلیة ؛ نحو : بقیت معک ریث حضر زمیلک ، أی : قدر بطء حضور زمیلک. وقد تقع بعدها «ما» الزائدة أو المصدریة فاصلة بینها وبین الجملة الفعلیة ، نحو : فلان یمنح المحتاج ریث ما (2) یسمع.

9 - عند - ظرف یبین أن مظروفه إما حاضر حسّا ، أو : معنی ، وإما قریب حسّا ، أو : معنی ، فالأول ، نحو : قوله تعالی : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ...) والثانی : نحو قوله : (قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتابِ ...) والثالث : نحو قوله تعالی : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهی ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوی،) والرابع : نحو قوله تعالی : (رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ،) وقوله : (عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ.)

وهی ظرف مکان معرب ، لا یکاد یستعمل إلا منصوبا علی الظرفیة المکانیة ، کالأمثلة السابقة ، أو مجرورا بالحرف : «من» - دون غیره من حروف الجر - مثل : (وَآتَیْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ؛ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) وقد وردت للزمان قلیلا فی

ص: 271


1- فقد قالوا إن الأصل فیها أن تکون للمکان ، وقد تکون للزمان ؛ کقول الشاعر : للفتی عقل یعیش به حیث تهدی ساقه قدمه (أی : حین تهدی ...) کما قالوا : إنها لا تستعمل فی الغالب إلا ظرفا ، وندر جرها بالباء ، نحو : تلاقینا بحیث صافح أحدنا الآخر. وکذلک جرها بالحرف «إلی» ، کقول الشاعر : «إلی حیث ألقت رحلها أمّ قشعم». و «فی» نحو : أصبحنا فی حیث التقینا. ونص ابن مالک علی أن تصرفها نادر. وقال ابن هشام فی المغنی : الغالب کونها فی محل نصب علی الظرفیة ، أو خفض بمن. وقد تخفض بغیرها ، کقول الشاعر : إلی حیث ... إلخ. والأحسن الأخذ برأی ابن هشام ؛ لما فیه من تیسیر وإن کان الجر قلیلا.
2- إن کانت «ما» زائدة فالأحسن وصلها بالظرف : «ریث» وإن کانت مصدریة فالأحسن فصلها.

قولهم : الصبر عند الصدمة الأولی. ویجوز محاکاته عند قیام قرینة ، بشرط إضافته للزمان (1).

وتشترک : «عند» (2) مع «لدی» - و «لدن» فی أمور ، وأهمها : الدلالة علی ابتداء غایة مکانیة أو زمانیة (3). وتخالفهما فی أمور أخری یجیء الکلام علیها مع الکلام علیهما.

ص: 272


1- جاء فی المصباح المنیر فی مادة : «عند» ما نصه : (الأصل فی استعمال هذا الظرف أن یکون فیما حضرک من أی قطر «ناحیة» من أقطارک ، أو دنا منک. وقد استعمل فی غیره ؛ فتقول : عندی مال ؛ لما هو بحضرتک ، ولما غاب عنک ؛ فقد ضمّن معنی الملک والسلطان علی الشیء ، ومن هنا استعمل فی المعانی فیقال : عنده خیر ، وما عنده شر ، لأن المعانی لیس لها جهات ...) اه. ویقول أیضا :(«عند» ظرف مکان. ویکون ظرف زمان إذا أضیف إلی الزمان ؛ نحو : عند الصبح ، وعند طلوع الشمس ، ویدخل علیه من حروف الجر «من» لا غیر ؛ تقول : جئت من عنده. وکسر العین هو اللغة الفصحی وتکلم بها أهل الفصاحة ... وحکی الفتح والضم) اه.
2- سیجیء الکلام علی : (لدن ولدی فی ص 274) وأیضا علی (عند ، ولدن) فی باب الإضافة ، ج 3 ص 101 م 95.
3- قال صاحب المفصل - ج 4 ص 85 - ما نصه فی معنی ظروف الغایات : (قیل لهذا الضرب من الظروف غایات لأن غایة کل شیء ما ینتهی به ذلک الشیء ، وهذه الظروف إذا أضیفت کانت غایتها آخر المضاف إلیه ؛ لأن به یتم الکلام ، وهو نهایته. فإذا قطعت عن الإضافة وأرید معنی الإضافة صارت هی غایات ذلک الکلام ؛ فلذلک من المعنی ، قیل لها : غایات). وتوضیحا لما سلف نسوق بعض الأمثلة التی تجلی المراد ، منبهین إلی أن الغایة لها معان أخری تختلف باختلاف الموضوعات والمناسبات - (منها : ما سیجیء فی رقم 1 من هامش ص 426 ورقم 2 من هامش ص 433) (ومنها ما سیجیء فی ص 101 و 121 م 95 من الجزء الثالث وفیه هذه الأمثلة التی نسوقها لمناسبة دعت إلیها هناک):. ا - فی مثل : سافرت من لدن بیتنا إلی الضاحیة - تشتمل هذه الجملة علی الفعل : «سافر» ، والسفر یقتضی الانتقال من مکان إلی آخر. فلا بد لتحققه من نقطة معینة یبتدئ منها ، وأخری ینتهی إلیها. أی : لا بد له من مکان ابتداء ، ومکان انتهاء ، محددین ، مضبوطین ؛ کاللذین هنا ، وهما : البیت والضاحیة. وبین نقطتی الابتداء والانتهاء مسافة محصورة بینهما ، لا محالة. ویطلق علی مجموع الثلاثة اسم اصطلاحی ، هو : «الغایة المکانیة» أی : «المسافة المکانیة» أو : «المقدار المکانی» ، وهی تشمل کما نری مکانا محدودا ، محصورا ، له بدایة ونهایة معینتان ، ومسافة تصل هذه بتلک. وقد دخل لفظ «لدن» علی کلمة هی بدایة الغایة ؛ فدخوله علی هذه الکلمة - وعلی نظائرها - یرشد إلی أنها أول - - جزء من أجزاء الغایة ، أو أنها نقطة البدایة. ولو قلت : سافرت من لدن الصبح إلی العصر ، لدل الفعل : «سافر» علی أنه استغرق زمنا محددا معینا ، له بدایة زمنیة معروفة ، ونهایة زمنیة معروفة کذلک ؛ فله نقطتا ابتداء وانتهاء ، زمنیتان ، مضبوطتان ، وینحصر بینهما مقدار زمنی یصلهما. ویتکون من مجموع الثلاثة (أی : من نقطة البدایة ، ونقطة النهایة ، وما بینهما) ما یسمی فی الاصطلاح : «الغایة الزمانیة» بمعنی : «المقدار الزمانی» ودخول لفظ «لدن» علی الکلمة التی بعده یرشد إلی أن هذه الکلمة نفسها هی نقطة البدایة ، أی : أول جزء من أجزاء الغایة. ویفهم مما سبق أن «لدن» ، و «عند» اسمان یدلان علی ما بعدهما من بدء الغایة ... فسمی کل منهما «نقطة البدایة» نفسها ، ولیس الابتداء الذی هو أمر معنوی. ولهذا کانا اسمین - عند النحاة - دون «من» ، «ومنذ» الحرفین اللذین معناهما الابتداء المعنوی. فإضافة «لدن» ، و «عند» إنما هی من إضافة الاسم إلی مسماه. (هذا وقد أطلنا الکلام - فی ج 1 ص 56 م 6 - عن سبب تفرقتهم بین کلمة : «ابتداء» واعتبارها اسما ، وکلمة : «من» الجارة المفیدة للابتداء واعتبارها حرفا). لکن قد یخطر علی البال السؤال الآتی : إذا کان لفظ «لدن» للدلالة علی بدایة الغایة فما الداعی لمجیء الحرف «من» قبله ، ومعناه الابتداء أیضا؟ أجاب النحاة عن هذا إجابة غیر مقنعة ؛ فقالوا : إن دلالة «لدن» علی بدایة الغایة لیست مألوفة فی الأسماء ؛ فجاء الحرف «من» لیکون بمنزلة الدال علی ذلک ، ولهذا یکون فی الأعم الأغلب موجودا. (راجع حاشیة یاسین علی شرح التصریح فی هذا الموضع). والسبب الحق هو استعمال العرب القدامی لهما مجتمعین ، دون تعلیل آخر. ب - ما سبق یقال فی الظرف : «عند» ؛ فلو وضعناه مکان «لدن» فی الأمثلة السالفة - وأشباهها - لم یتغیر الأمر ؛ ففی مثل : قرأت الکتاب من عند المقدمة إلی الخاتمة ، نجد الفعل : «قرأ» لا یتحقق کاملا إلا بنقطة مکانیة معینة تبتدئ منها القراءة ؛ هی المقدمة ، ونقطة أخری محددة تنتهی إلیها ؛ هی الخاتمة ، وبین النقطتین المکانیتین مسافة مکانیة تصل بینهما هی المسافة الأخری المکتوبة ، ومن اجتماع الثلاثة : (أی من نقطة البدایة المکانیة ، ونقطة النهایة المکانیة ، وما بینهما) یتکون ما یسمونه : «الغایة المکانیة» التی یجیء الظرف «عند» لیدل علی أن المضاف إلیه هو نقطة البدایة فیها. وإذا قلت : قرأت الکتاب من عند العصر إلی المغرب نشأت الغایة الزمانیة التی تتکون من اجتماع تلک الثلاثة ، والتی یدخل الظرف «عند» علی أول جزء منها ؛ فیکون وجوده دلیلا علی أن ما بعده (وهو المضاف إلیه) نقطة البدایة الزمانیة ... مما تقدم یتضح الفرق بین «الغایة» ، ومبدأ الغایة الذی یدل علیه «لدن» أو «عند» ؛ فالغایة تشمل الأجزاء الثلاثة ، أما مبدأ الغایة فهو الجزء الأول منها ، دون الجزأین الآخرین. وکذلک یتضح المراد من قولهم : (إن معنی : «لدن» ، و «عند» هو الدلالة علی مبدأ الغایات الزمانیة أو المکانیة). وأنه - - یصح وضع أحدهما مکان الآخر ؛ فیقال : جئت من عند الصدیق ، أو : من لدن الصدیق. وفی القرآن الکریم : (آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ؛) فلو وضع أحد الظرفین مکان الآخر لجاز ، ولم یمنع منه مانع إلا کره التکرار اللفظی بغیر داع بلاغی. ح - إذا دخل «لدن» ، أو : «عند» علی بدایة الغایة فلیس من اللازم أن یذکر معها اللفظ الدال علی النهایة ، إذ یکفی أن یشتمل الکلام علی البدایة وحدها ما دام المقام یکتفی به. د - لیس الأمر فی کل ما سبق مقصورا علی الأفعال التی تعمل فی الظرف ، وتحتاج فی تحقیق معناها إلی غایة زمانیة أو مکانیة ، وإنما الأمر یشمل کل عامل آخر لا یتحقق معناه کاملا إلا بذکر الغایة ؛ یتساوی فی هذا أن یکون العامل فعلا ، أو شبه فعل ، أو اسم فاعل ، أو اسم مفعول ، أو غیر ذلک مما یعمل ...

10 - 11 - عوض - قطّ - سبق الکلام علیهما فی ص 114 و 246

ص: 273

12 - لدن - یکون ظرفا دالا علی مبدأ الغایات ، أی : أنه لابتداء غایة زمان أو مکان بالمعنی الذی سبق (1) شرحه فی «عند» - ، ویلازم البناء ، وبناؤه علی السکون هو الأغلب ، مثل : تذکر فضل والدیک لدن أنت صغیر. والکثیر فی استعماله أن یکون مسبوقا «بمن الجارة» (2) مثل : هذا فضل من لدن المولی الکریم. ومثل : بقیت هنا من لدن الظهر إلی الغروب. وأن یکون مضافا لمفرد کالأمثلة السالفة ، أو مضافا للجملة ؛ نحو : فلان مولع بالعلم لدن شبّ إلی أن شاب - أو : مولع بالعلم لدن هو یافع.

ویکون بمعنی : «عند» کثیرا ولکن یخالفها فی أمور ؛ منها : أن «لدن» ملازم للإضافة للمفرد ، أو للجملة ، ویجوز استغناؤه عن الإضافة إذا وقعت بعده کلمة : «غدوة» ؛ منصوبة (3) مثل قضیت الوقت لدن غدوة حتی غروب الشمس. أما «عند» فیصح أن تترک الإضافة. وتصیر اسما مجردا ؛ کأن یقول شخص : عندی مال ؛ فیجاب : وهل لک عند؟ «فعند» هنا مبتدأ. أو یقال : الکتاب عندی. فیجاب : أین عندک :

ومنها : أنه لا یکون إلا فضلة ولو ترک الظرفیة ؛ ففی مثل السفر من عند البیت

ص: 274


1- فی رقم 3 من هامش ص 272.
2- وفی حالة جرّه لا یکون ظرفا. وکذلک کل حالة أخری لا یکون فیها منصوبا علی الظرفیة.
3- علی اعتبار : «غدوة» تمییزا ، أو : اعتبارها خبرا لکان المحذوفة ، والتقدیر : لدن کانت الساعة غدوة ، ویجوز فی «غدوة» الرفع عند الکوفیین ، علی اعتبارها فاعلا لکان التامة المحذوفة ، والتقدیر : لدن کانت غدوة ، أی : ظهرت ووجدت غدوة ، ویجوز فی غدوة الجر بالإضافة ؛ وهو القیاس.

لا یصح : السفر من لدن البیت. فکلمة : «عند» مجرورة ، والجار والمجرور خبر ، والخبر عمدة. وقد اشترکت «عند» فی تکوینه ؛ فهی عمدة بسبب اشتراکها ، ولهذا لا یصح : «من لدن البیت» لکیلا تشترک : «لدن» فی تکوین العمدة ، وهی لا تکون إلا فضلة خالصة دائما.

13 - لدی - ظرف معرب ملازم للنصب علی الظرفیة. ومعناه : «عند» ویخالفها فی أمور :

منها : أن «لدی» لا تجر أصلا ، أما «عند» فتجر بالحرف «من».

ومنها : أن «عند» تکون ظرفا للأعیان (أی : للأشیاء المجسمة) وللمعانی ، أما «لدی» فلا تکون إلا للأعیان فی الصحیح ؛ تقول : هذا الرأی عندی صائب ، ولا تقول : لدیّ.

ومنها : أنک تقول : عندی مال ، وإن کان غائبا ، ولا تقول : لدیّ مال ، إلا إذا کان حاضرا.

هذا ، وبإضافة «لدی» للضمیر تنقلب ألفها یاء ، نحو : لدیک - لدیه ... (1) أما عند إضافتها للاسم الظاهر فلا تنقلب.

14 - لمّا (2) - ظرف زمان (3) ، بمعنی : حین. ویفید وجود شیء لوجود آخر. والثانی منهما مترتب علی الأول ؛ فهو بمنزلة الجواب المعلّق وقوعه علی وقوع شیء آخر. نحو : لما جری الماء شرب الزرع. ولهذا لا بد لها من جملتین ، بعدها ، تضاف - وجوبا - إلی الأولی منهما ؛ لأنها من الأسماء الواجبة الإضافة

ص: 275


1- ویراعی فی الإعراب ما سبق تفصیله فی ج 1 م 16 ص 178. (آخر الکلام علی الاسم المعتل الآخر).
2- «لما» أنواع متعددة ، منها : «لما» الظرفیة ، والکلام علیها هنا ، (ولها إشارة فی باب الإضافة ، ج 3) ومنها : التی بمعنی «إلا» الاستثنائیة (وستجیء فی «د» من ص 336) ومنها : «لما» الجازمة (وستجیء فی ج 4 م 153 ص 314).
3- علی المشهور ؛ (لأن بعض النحاة یعتبرها حرفا بمعنی : حین) وتسمی : «لما الحینیة» ویسمیها بعض النحاة : «لما الوجودیة» ، لأنها الرابطة لوجود شیء بوجود غیره ؛ أو : «لما التوقیتیة» ، لأنها بمعنی وقت.

للجملة ، وتکون ثانیتهما متوقفة التحقق علی الأولی. وعامل النصب فی : «لمّا» هو الفعل أو ما یشبهه فی الجملة الثانیة.

والأغلب الأکثر شیوعا فی الجملتین - ولا سیما (1) الثانیة - أن تکونا معا ماضیتین لفظا ومعنی ؛ نحو : قوله تعالی : (فَلَمَّا نَجَّاکُمْ إِلَی الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.) أو معنی فقط (2) کقول المعری یصف خیلا سریعة :

ولمّا لم یسابقهن شیء

من الحیوان سابقن الظّلالا

وقول المتنبی :

عرفت اللیالی قبل ما صنعت بنا

فلما دهتنی لم تزدنی بها علما

وقد ورد فی القرآن الکریم وقوع الجملة الثانیة مضارعیة فی قوله تعالی : (فَلَمَّا

ص: 276


1- قال الأشمونی فی الجزء الثالث ، أول باب : «إعراب الفعل» عند الکلام علی أنواع : «أن» ومنها الزائدة ، ما نصه : (الزائدة هی التالیة «لما» ؛ نحو قوله تعالی : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِیرُ ...) اه کلام الأشمونی. وهنا قال الصبان : (قوله : نحو : فلما أن جاء البشیر ... وتقول : «أکرمک لما أن یقوم زید ، برفع المضارع. فارضی). اه. کلام الصبان نقلا عن الفارضی. وهذا النص صریح فی أنها قد تدخل علی المضارع قیاسا إذا کان مسبوقا بأن الزائدة والعجیب أن الصبان یأتی به هنا جلیا واضحا ، لیکمل ما فات الأشمونی ثم ینسی هذا فی الجزء الرابع - أول باب الجوازم - عند الکلام علی : «لما» الجازمة حیث یصرح «الأشمونی» بأنه استغنی - کبعض من سبقوه - بقوله : «لما» أخت «لم» عن أن یقول : «لما» الجازمة ، وأنه احترز بکلمة : «أختها» من «لما» الحینیة ، ومن «لما» الاستثنائیة ؛ لأن هاتین لا یلیهما المضارع ، فیقول «الصبان» تعلیقا علی هذا ، وتأییدا له ما نصه : (أی : کلامه فیما یلیه المضارع ، فلا حاجة إلی الاحتراز منهما). اه. فهو یکتفی بهذا ساکتا عما قیل من أن المضارع لا یجیء بعد «لما» الحینیة ، و «لما» الاستثنائیة. وکما نسی هذا فی «باب الجوازم» نسیه أیضا فی باب «جمع التکسیر» - ج 4 - عند الکلام علی صیغة : «فعول» واطّرادها ، حیث قال الأشمونی عنها فی ذلک الباب (ظاهر کلام المصنف هنا موافقة التسهیل فإنه لم یذکر فی هذا النظم غالبا إلا المطرد ، ولما یذکر غیره یشیر إلی عدم اطراده غالبا بقد ، أو نحو : قلّ ، أو ندر ...) اه وهنا قال الصبان ما نصه : (قوله : ولما یذکر غیره ... إلخ) ترکیب فاسد لأن «لما» الحینیة لا تدخل إلا علی ماض ... اه کلام الصبان. فبأی الرأیین نأخذ؟ بالأول ؛ لأنه نص صریح ، فیه تیسیر. ولکن حظه من القوة والسمو البلاغی أقل کثیرا من الآخر الذی منعه أکثر النحاة - حتی الصبان فی بعض تصریحاته - (وستأتی إشارة أخری للظرف «لما» فی ج 4 ص 314 م 53. ونص للکلام السالف فی ج 4 ، فی النواصب م 148 ص 122). ومن الخیر ترک الأول الضعیف
2- بأن یکون الفعل مضارعا مجزوما بالحرف «لم» الذی یخلصه للماضی.

ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِیمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْری - یُجادِلُنا ...) کما ورد فیه وقوعها جملة اسمیة مقترنة بالفاء ، أو إذا ، حیث یقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ...) ویقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ إِذا هُمْ یُشْرِکُونَ.) وقد تأول النحاة هذه الآیات ؛ بتقدیر حذف الجواب أو بغیر هذا. ولا داعی للتأول فی القرآن بغیر حاجة شدیدة ، وإذا کنا نقبل التأول فی القرآن فلم لا نقبله فی کلام من یحاکی القرآن؟ نعم نقبل محاکاته ، وندع التأول لمن یتخذه شرطا للقبول ؛ فالنتیجة الأخیرة واحدة ، هی صحة الاستعمال ، وصحة تألیف الأسلوب علی نسق القرآن. وقد جاء فی کتاب : «مجمع البیان لعلوم القرآن» للطبرسیّ - ج 3 ص 155 - فی إعراب قوله تعالی : (فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ کَخَشْیَةِ اللهِ ...) ما نصّه ، (إذا ، بمنزلة «الفاء» فی تعلیقه الجملة بالشرط) اه ، یرید : ربط جملة جواب «لما» بشرطها. وهذا یؤید ما قلناه.

هذا «ولا مانع أن یتقدم جواب «لمّا» علیها کما ورد فی بعض المراجع اللغویة (1).

ص: 277


1- فقد جاء فی : «تاج العروس ، شرح القاموس» عند الکلام علیها ما نصه : «(قد یتقدم الجواب علیها فیقال : استعد القوم للقاء العدو لما أحسوا بهم. أی : حین أحسوا بهم)» اه ومن هذا قول حافظ إبراهیم فی قصیدته العمریة : أمنت لمّا أقمت العدل بینهمو فنمت نوم قریر العین هانیها والتقدیر : لما أقمت العدل بینهم أمنت ... لکن إذا تقدم جوابها علیها أیظل محتفظا باسمه وبعمله ، فیسمی جوابها ، ویعمل فیها النصب ، مع مخالفة هذا للحکم العام الذی یمنع تقدم الجواب علی کل أداة من أدوات التعلیق ...؟ أم هی مستثناة من هذا الحکم العام؟ المفهوم من کلام «تاج العروس» هو احتفاظ جوابها باسمه وبعمله بالرغم من تقدمه علیها مع أنها أداة تعلیق. غیر أن المفهوم من کلام للصبان فی مسألة أخری کهذه یخالف ما هنا. فقال فی «لما» التی تقدم علیها عاملها إنها ظرف بمعنی «حین» متعلقة بالعامل الملفوظ المتقدم علیها ، ثم قال ما نصه : (والظاهر أنها علی هذا القول خالیة من معنی الشرط). اه - راجع الصبان ج 2 باب الإضافة عند بیت ابن مالک : وألزموا «إذا» إضافة إلی جمل الأفعال ... إلخ - - وهو یرید بخلوها من معنی الشرط أنها ظرف محض لا یفید تعلیقا : فلا یصح تسمیة عامله جوابا إذا تقدم علیه ، وعلی هذا لا یکون فی الکلام أداة شرط. سواء أبقیت «لما» مفیدة للتعلیق مع تقدم الجواب أم غیر مفیدة ، وسواء أکان هذا الرأی هو الأوضح أم ذاک ، فالخلاف لفظی شکلی ؛ لا یعنینا منه إلا أن الاستعمال صحیح علی الرأیین ، وأن الأسلوب خال من العیب اللفظی والمعنوی.

15 - مذ ومنذ (1) - قد یکونان ظرفین للزمان (2) متصرفین ، مبنیین ، وقد یکونان اسمین مجردین من الظرفیة ، وقد یکونان حرفی جر.

فیصلحان للظرفیة إذا وقع بعدهما جملة اسمیة ، أو فعلیة ماضویة ؛ فیعربان ظرفین مبنیین فی محل نصب ، مع إضافة کل منهما إلی الجملة التی بعده. وعامل النصب فیهما لا بد أن یکون فعلا ماضیا ؛ وکذلک الفعل فی الجملة الفعلیة التی یضافان إلیهما لا بد أن یکون ماضیا. نحو : جئت مذ أو منذ الوالد حاضر - جئت مذ أو منذ حضر الوالد.

ویتجردان للاسمیة الخالصة (3) إذا لم تقع بعدهما جملة ، ووقع بعدهما اسم مرفوع (4) نحو : غادرت البلد مذ ، أو : منذ یومان. «فمذ» أو «منذ» مبتدأ و «یومان» خبره. أو العکس (5). ولا بد من تقدمهما فی الحالتین (أی : عند إعرابهما مبتدأ وخبرا). والمعنی : غادرت البلد ، أمد المغادرة یومان.

ویکونان حرف جر إذا وقع الاسم بعدها مجرورا.

16 - مع - ظرف لا یتصرف. وهو معرب منصوب علی الظرفیة - فی الرأی

ص: 278


1- سبق الکلام علیهما فی ج 1 ص 266 م 37 وص 370 م 38. وسیجیء فی حروف الجر ص 478 م 90. مناسبة أخری لهما. والکلام علیهما متشعب النواحی ، متعدد الأحکام. ولقد خصهما ببحث واف مستقل أحد أعضاء مجمع اللغة العربیة القاهری ، ودوّن بحثه المستفیض بمجلة المجمع (ج 3 ص 254) واستطاع أن یعرض فیه کل ما یختص بهما عرضا مفیدا کاملا. (وقد أثبتناه آخر الکتاب ص 507).
2- معناهما : زمن ، أو : أمد.
3- أی : بغیر ظرفیة.
4- فإن کان مجرورا فهما حرفا جر ، کما سیجیء هنا. أما التفصیل ففی ص 478 م 90 ، مبحث حرف الجر ، وفی البحث المستقل الخاص بهما ص 507.
5- فیکون «مذ ومنذ» ظرفین متعلقین بمحذوف هو الخبر.

الشائع - ویدل علی زمان اجتماع اثنین - غالبا - أو مکانهما. وإضافته هی الکثیرة. فإن انقطع عن الإضافة نوّن ، وصار حالا. وقد یصیر خبرا - طبقا لما سیجیء (1) من کلام وتفصیل هام ، علیه وعلی ظروف تقدمت ، فی المکان المناسب من باب الإضافة -

* * *

بناء أسماء الزمان المبهمة ، وشبیهتها الأسماء الأخری المبهمة التی لیست بزمان.

تبنی علی الفتح أسماء الزمان المبهمة کلها (2) ، ظروفا وغیر ظروف ، جوازا - لا وجوبا - فی حالتین :

الأولی إذا أضیفت إلی الجمل جوازا لا وجوبا (3) ، والمراد بالمبهمة هنا : النکرة التی تدل علی الزمان دلالة غیر محدودة بمبدأ ولا نهایة ، مثل : حین - زمان - وقت ، أو تدل علی وجه من الزمان دون وجه ؛ مثل : نهار - صباح - عشیة - غداة. بخلاف أسماء الزمان المختصة بتعریف أو غیره - مما سبق بیانه فی رقم 2 من هامش ص 239 - ، فإنها لا تضاف إلی الجمل ، ومثلها : الزمان المحدود ، کأمس ، وغد ، والمعدودة کیومین - لیلتین - أسبوع - شهر - سنة ؛ فکل هذه الأزمنة (4) لا یضاف منها شیء للجمل.

فإذا أضیفت تلک الأسماء الزمانیة المبهمة إلی الجمل فإنها تبنی جوازا - کما أسلفنا - ویکون بناؤها علی الفتح (5). ویجوز فیها الإعراب ؛ ولکن البناء علی الفتح

ص: 279


1- ج 3 ص 107 م 95.
2- سبقت الإشارة إلیها فی ص 239 ویجیء تفصیل الکلام علی أحکامها فی ج 3 باب الإضافة ص 21 و 54 و 70 و 73.
3- لأن الإضافة الواجبة إلی الجمل تحتم البناء - کما سیجیء فی ج 3 ص 63 ، 65 و 67 م 94 - وإذا أضیفت أسماء الزمان إلی جملة وجب أن تکون جملة خبریة ، ولا تصلح الجملة الشرطیة المقترنة «بإن» أو بغیرها من أدوات التعلیق ، ولا الجملة الإنشائیة علی اختلاف أنواعها ... ، إلی غیر هذا من بقیة الشروط التی ستذکر فی الموضع السالف.
4- سبق الکلام علیها أیضا فی ص 239 م 78.
5- راجع الخضری - وغیره - فی باب الإضافة حیث عقد «تنبیها» مستقلا للنص علی الفتح فقط.

أفضل إذا أضیفت لجملة فعلیة ، فعلها مبنی - ولو کان مضارعا مبنیّا - ، مثل : عاد المسرف فقیرا کیوم جاء إلی الدنیا ، ومثل : أشرف أیام الأمهات حین یحرصن علی تربیة أولادهن. والإعراب أفضل إذا أضیفت لجملة مضارعیة مضارعها معرب ، أو لجملة اسمیة (1) ؛ مثل قوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ،) ومثل : أن تسمع من یقول «الشجاعة مطلوبة» فتقول : هذا یوم الشّجاعة مطلوبة.

الثانیة : إذا أضیفت لمبنی مفرد (غیر جملة) ، نحو : یومئذ - حینئذ ... وألحق النحاة بأسماء الزمان المبهمة ، ما لیس زمانا من کل اسم معرب ناقص الدلالة بسبب توغله (2) فی الإبهام ؛ مثل : غیر - دون - بین - مثل ... ونحوها مما یسمونه : «متوغلا فی الإبهام» (3) ومن الأمثلة : (ما قام أحد غیرک) - والآیات : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّکُمْ تَنْطِقُونَ،) فی قراءة من قرأ «مثل» بفتح اللام -

ص: 280


1- سواء أکانت الجملة الاسمیة مصدرة بما الحجازیة ، أو : «لا» أختها ، أو : «لا» العاملة عمل : «إن» - أم غیر مصدرة.
2- أی : تعمقه وتغلغله فی داخله.
3- المراد به : اللفظ الذی لا یتضح معناه إلا بما یضاف إلیه. وستجیء إشارة له (فی الجزء الثالث باب الإضافة ص 21 وص 45 م 93) ومنها نعلم أن اللفظ المتوغل فی الإبهام قد یکتسب البناء من المضاف إلیه - مع إیضاح هذا مفصلا - وأنه فی أکثر أحواله لا یقع نعتا ، ولا منعوتا ، - إلا «غیر ، وسوی» ، فیصلحان للنعت - ومن ألفاظه : قبل وبعد ... و... - کما سیجیء فی باب النعت ص 346 م 114 من الجزء الثالث - وأنه فی أکثر أحواله لا یستفید التعریف من المضاف إلیه المعرفة إلا بأمر خارج عن الإضافة ؛ کوقوع کلمة : «غیر» بین ضدّین معرفتین - کما نص علی هذا «العکبری» فی صدر کتابه المسمی : «إملاء ما منّ به الرحمن ...» أول سورة البقرة - فی مثل : رأیت العلم غیر الجهل ، وعرفت العالم غیر الجاهل ، وکقوله تعالی : (صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ) فوقوع کلمة : «غیر» بین ضدین معرفتین أزال إبهامها ؛ لأن جهة المغایرة تتعین. بخلاف خلوها من ذلک فی مثل : أبصرت رجلا غیرک. وکذلک الشأن فی کلمة : «مثل» إذا أضیفت إلی معرفة بغیر وجود قرینة تشعر بمماثلة خاصة ، فإن الإضافة لا تعرفها ، ولا تزیل إبهامها. أما إن أضیفت لمعرفة وقارنها ما یشعر بمماثلة خاصة فإنها تتعرف ؛ نحو : راقنی هذا الخط ، وسأکتب مثله ؛ وهذا معنی قولهم ؛ إذا أرید بکلمة : «غیر» و «مثل» مغایرة خاصة ومماثلة خاصة حکم بتعریفهما. وأکثر ما یکون ذلک فی «غیر» إذا وقعت بین متضادین ؛ أما قوله تعالی : (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَیْرَ الَّذِی کُنَّا نَعْمَلُ) حیث وقعت کلمة : «غیر» المضافة للمعرفة صفة للنکرة فالحقیقة أنها لا تعرب هنا صفة ولکن تعرب بدلا ؛ لعدم مطابقتها.

(وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ) - (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ ...) بالبناء علی الفتح جوازا فی هذه الأمثلة ، وأشباهها. فالإضافة تجوّز البناء علی الفتح - وحده - فی الأنواع الثلاثة السالفة.

وذهب ابن مالک إلی أنه لا یبنی مضاف بسبب إضافته إلی مبنی أصلا ، لا ظرفا ولا غیره ؛ وأن الفتحة فی الأمثلة السابقة حرکة إعراب لابناء ؛ إما علی الحالیة ، أو علی المصدریة ، أو ... أو (1) ...

وهذا الرأی قد یکون أنسب للأخذ به الیوم والاقتصار علیه ، بالرغم من صحة الأول وقوته ، وشیوعه قدیما - ، منعا للاضطراب ، وتحدیدا للغرض.

ص: 281


1- راجع فی کل ما سبق الهمع ج 1 ص 218 والأشمونی والصبان أول باب الإضافة ؛ عند الکلام علی الإضافة غیر المحضة ؛ وبیت ابن مالک : وذی الإضافة اسمها لفظیة ... بقی أن نذکر ما قرره النحاة بشأن تلک الألفاظ إذا لم تستفد التعریف من المضاف إلیه. فسیبویه والمبرد یقولان : إن الإضافة غیر محضة : فائدتها التخفیف ، وما یتبعه من مزایا تلک الإضافة. وغیرهما یقول : إنها محضة ومعنویة تفید «التخصیص» ، وإن کانت لا تفید «التعیین» - کما سیجیء فی باب الإضافة ، ج 3 -.

المسألة 80: المفعول معه

اشارة

(1)

(ا) إذا سأل مسترشد : أین دار الآثار القدیمة؟ فقد یکون الجواب : تسیر مع طریقک هذا ؛ فینتهی بک إلیها.

لیس المراد أنه یسیر ، والطریق یسیر معه حقیقة ، وإلا کان المعنی فاسدا ، لأن الطریق لا یمشی ، وإنما المراد أن یباشر السیر فی هذا الطریق ، ویقرن المشی به حتی یصل.

ولو کان الجواب : تسیر وطریقک هذا ... لکان التعبیر سلیما ، والمراد واحدا فی الجوابین.

فإن کان السؤال : أین محطة (2) القطر؟ فإن الجواب قد یکون : تمشی مع الأبنیة التی أمامک ؛ فتنتهی بک إلی میدان فسیح ، فیه المحطة. لیس المراد أن یمشی ، وتمشی معه الأبنیة فعلا : وإلا فسد المعنی ؛ إذ الأبنیة لا تمشی. وإنما المراد أن یلتزم المشی الذی یقارنها ویلابسها حتی یصل إلی غایته. ولو کان الجواب تمشی والأبنیة التی أمامک ... لصحّ الأسلوب ، وما تغیر المراد.

(ب) وإذا قلنا : أکل الوالد مع الأبناء ... فإن الجملة تفید أن الأبناء شارکوا والدهم - فعلا فی الأکل حین کان یأکل ؛ بسبب وجود کلمة تفید المشارکة المعنویة الحقیقیة ، وهی : «مع» ولا یفسد المعنی بهذا الاشتراک الحقیقی. وکذلک لو قلنا أکل الوالد والأبناء ؛ فإن المعنی یبقی علی حاله ، ولا فساد فی الترکیب.

ومثل هذا : جلس الأب مع الأسرة ، فإن هذه الجملة تفید اشتراک الأسرة فی الجلوس اشتراکا واقعا فی زمن واحد ؛ بسبب وجود کلمة تفید هذا ؛ وهی : «مع». ولا شیء یحول دون هذا المعنی أو یؤدی إلی فساد الصیاغة لو قلنا : جلس الأب والأسرة.

ص: 282


1- أی : المفعول الذی وقع معه فعل الفاعل.
2- هذه کلمة عربیة صحیحة.

نعود إلی الجمل التی فیها : «الواو» بدلا من کلمة : «مع» وهی :

تسیر وطریقک - تمشی والأبنیة - أکل الوالد والأبناء - جلس الأب والأسرة - .. فنلحظ أن کل کلمة وقعت بعد الواو مباشرة هی : اسم ، مسبوق بواو بمعنی : «مع» ، وهذه الواو تدل علی أن ما بعدها قد لازم اسما قبلها ، وصاحبه زمن وقوع الحدث (1) ، وقد یشارکه ، فی الحدث - کالمثالین الأخیرین فی «ب» - أو لا یشارکه ؛ کالمثالین الأولین. وهذا الاسم الذی بعدها هو ما یسمی : «المفعول معه». ویقولون فی تعریفه :

إنه : اسم مفرد (2) ، فضلة ، قبله واو بمعنی : «مع» ، مسبوقة بجملة فیها فعل أو ما یشبهه فی العمل ، وتلک الواو تدل نصّا (3) علی اقتران الاسم الذی بعدها باسم آخر قبلها فی زمن حصول الحدث ، مع مشارکة الثانی للأول فی الحدث ، أو عدم مشارکته (4).

ص: 283


1- معنی الفعل ، أو ما یشبهه.
2- لیس جملة ولا شبهها.
3- إن لم یمکن التنصیص بها علی المصاحبة - بسبب أن الاسم السابق منصوب ، وأن العامل یصح أن یتسلط علی الاسم الذی بعدها مباشرة - فهی للعطف قطعا ؛ نحو : قرأت المجلة والصحیفة. (کما سیجیء فی رقم 1 من هامش ص 288). أما إذا کان الاسم السابق مرفوعا أو مجرورا والاسم بعد الواو منصوبا منطبقا علیه تعریف المفعول معه فإن نصبه یقطع بأن المراد هو المعیة نصا ، إذ لو کان المراد العطف لوجب جر المعطوف أو رفعه تبعا للمعطوف علیه.
4- انظر «ا» من ص 291.

زیادة وتفصیل

من التعریف السابق نعلم أن کل جملة مما یأتی لا تشتمل علی المفعول معه : أقبل القطار والناس منتظرون ، لأن الذی وقع بعد الواو (1) جملة ، ولیس اسما مفردا.

اشترک محمود وحامد ؛ لأن الذی بعد الواو عمدة ، لا فضلة ، إذ الفعل : «اشترک» یقتضی أن یکون فاعله مثنی أو جمعا ؛ لأنه لا یقع إلا من اثنین أو أکثر فلا بدّ من التعدد ، ولو بطریق العطف کالمثال المذکور ؛ «فحامد» معطوف علی الفاعل : «محمود» فهو فی حکم الفاعل ، وعمدة مثله.

خلطت القمح والشعیر ؛ لأن الواو لم تفد : «معیة» وإنما فهمت المعیة من الفعل : «خلط».

نظرت علیّا وحلیما قبله ، أو بعده - شاهدت اللیل والنهار ، لأن الواو فیهما لیست للمعیة ، وإلا فسد المعنی.

شاهدت الرجل مع زمیله - اشتریت الحقیبة بکتبها ؛ فالمعیة هنا مفهومة واضحة ، ولکن لا توجد الواو.

کل زارع وحقله ، بشرط أن یکون خبر المبتدأ : «کل» محذوفا فی آخر الجملة ؛ والتقدیر : کل زارع وحقله مقترنان ؛ فلا تکون الواو للمعیة ؛ لعدم وقوعها بعد جملة. أما إذا کان الخبر مقدرا قبل الواو (أی : کل زارع موجود وحقله) فالواو للمعیة.

لا تتناول الطعام وتقرأ ؛ لأن الذی وقع بعد الواو فعل (2).

ص: 284


1- هذه الواو تسمی : واو الحال ، وهی من جهة المعنی تفید المعیة ، لأنها تفید المقارنة - فی الغالب - والمقارنة نوع من المعیة ، لکن لا تسمی اصطلاحا واو المعیة.
2- یصح فی هذا الفعل أن یکون مجزوما بالعطف ، أو مرفوعا علی الاستئناف فلا تکون الواو للمعیة. ویجوز أن یکون منصوبا بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعیة ؛ فیکون المصدر المؤول مفعولا معه (فی رأی راجح) کما صرح بهذا الخضری وغیره فی هذا الباب. ولهذا الرأی ما یعارضه. (وتفصیلهما فی مکانهما من الجزء الرابع فی باب النواصب عند الکلام علی نصب المضارع بعد واو المعیة).

هذا المال لک وأباک - ما الرجل فرح والشریک ، لعدم وجود ناصب یعمل النصب فیهما (1) ؛ فلا یصح النصب ؛ إذ لا مفعول معه.

ص: 285


1- سیجیء عند الکلام علی الحکم الأول من أحکامه - بعض أمثلة مسموعة خالیة من عامل ظاهر ؛ فیقدر لها عامل.

أحکامه

له عدة أحکام ، منها

1 - النصب. والناصب له : إما الفعل الذی قبله کالأمثلة السالفة - أول الباب - ، وإما ما یشبه الفعل فی العمل (1) ، کاسم الفاعل ، فی نحو : الرجل سائر والحدائق - وکاسم المفعول ؛ فی نحو : السیارة متروکة والسائق ، وکالمصدر ؛ فی نحو : یعجبنی سیرک والطّوار (2) ، واسم الفعل فی مثل : رویدک والغاضب (3) ، بمعنی : أمهل نفسک مع الغاضب.

وقد وردت أمثلة مسموعة - لا یصح القیاس علیها لقلّتها - وقع فیها المفعول معه منصوبا بعد : «ما» ، أو : «کیف» الاستفهامیتین ، ولم یسبقه فعل أو ما یشبهه فی العمل. مثل : ما أنت والبحر؟ کیف أنت والبرد؟ فالبحر والبرد - - وأشباههما - مفعولان معه ، منصوبان بأداة الاستفهام. وقد تأول النحاة هذه الأمثلة. وقدّروا لها أفعالا مشتقة من الکون وغیره (4) ، مثل : ما تکون والبحر؟ کیف تکون والبرد؟ فالکلمتان مفعولان معه ، منصوبان بالفعل المقدر (5) عندهم.

ص: 286


1- إن کان الشبیه من المشتقات وجب أن یکون مما ینصب المفعول به ، ولهذا لا تصلح الصفة المشبهة ، ولا أفعل التفضیل ؛ ولا ما لا یعمل.
2- الرصیف. «والرصیف» : کلمة صحیحة.
3- بشرط أن تکون الواو للمعیة ، وبعدها المفعول معه ، ولیست للعطف وبعدها معطوف ؛ (لأن هناک حالات تصلح فیها للمعیة والعطف کما سیجیء فی ص 288).
4- مثل : تصنع - تفعل ... وکل ما یصلح له الکلام - کالمثالین - لبیان مضمون المعنی ...
5- والحق : أنه لا داعی لهذا التقدیر ؛ فقد کان بعض العرب ینصب المفعول معه بعد الأداتین السالفتین ، ولن نقیس علیهما أدوات استفهام أخری ؛ إذ التقدیر فی مثل هذه الحالات معناه إخضاع لغة ولهجة ، للغة ولهجة أخری ، من غیر علم أصحابهما. ولیس هذا من حقنا - (کما یری بعض المحققین ، ومنهم «ابن جنی» فی بحثه الذی عنوانه : «باب ، اختلاف اللهجات» بکتابه : «الخصائص» ونقله عنه «المزهر» - ج 1 ص 148) - وبعض النحاة یجیز أن یقیس علیهما الأدوات الاستفهامیة الأخری. ا - وإذا کان أصل الکلام : ما تکون والبحر؟ وکیف تکون والبرد؟ فإن «تکون» فی المثالین - - ناقصة ، وأداة الاستفهام خبرها متقدما. أما اسمها - أنت - فضمیر المخاطب ، کان مستترا فیها. فلما حذفت برز ، وصار منفصلا. ب - ویجوز اعتبار «تکون» تامة ، وفاعلها الضمیر المستتر ، ویصیر بعد حذفها بارزا منفصلا ، و «کیف» الاستفهامیة حال مقدم و «ما» الاستفهامیة مفعول مطلق متقدم ، بمعنی : أی وجود توجد مع البحر ... و... وهذا أسهل کسهولة : تصنع ، أو تعمل ، بدلا من «کان» الناقصة. ج - المبرد رأی آخر - لا بأس به - فی إعراب تلک الأمثلة ، وما شابهها ، فقد جاء فی کتابه : «الکامل» للمبرد ج 1 ص 235 عند ذکره لکتاب علی بن أبی طالب إلی معاویة المطالب بدم عثمان رضی الله عنه ، یقول علی : (وبعد ، فما أنت وعثمان؟) قال المبرد ما نصه : (ما أنت وعثمان؟ فالرفع فیه الوجه ، لأنه عطف اسما ظاهرا علی اسم مضمر منفصل ، وأجراه مجرا ، ولیس هنا فعل ، فیحمل علی المفعول ؛ فکأنه قال : فما أنت؟ وما عثمان؟ هذا تقدیره فی العربیة. ومعناه : لست منه فی شیء. وقد ذکر سیبویه - رحمه الله - النصب ، وجوزه جوازا حسنا ، وجعله مفعولا معه ، وأضمر : «کان» من أجل الاستفهام ؛ فتقدیره عنده «ما کنت وفلانا؟» اه. ثم سرد المبرد أمثلة أخری قال بعدها ما نصه : (فإن کان الأول مضمرا متصلا کان للنصب ... و... تقول مالک وزیدا ؛ فکأنه فی التقدیر : وملابستک زیدا ، وفی النحو تقدیره : مع زید) اه کلام المبرد. * * * وإلی ما سبق یشیر ابن مالک بقوله : ینصب تالی الواو مفعولا معه فی نحو : سیری والطّریق مسرعه (أی : سیری مع الطریق) یقول : ما یجیء بعد الواو فی مثل : سیری والطریق مسرعة - ینصب علی اعتباره مفعولا معه. ولم یوضح هذا المفعول ، ببیان أوصافه ، وشروطه ؛ مکتفیا بالمثال ، والتعریف بالمثال نوع من أنواع التعریف المنطقی ، ولکنه لا یناسب ما نحن فیه مما یحتاج إلی شروط وقیود ... ثم قال : بما من الفعل وشبهه سبق ذا النّصب. لا بالواو فی القول الأحق یرید : هذا النصب للمفعول معه یکون بشیء سبق ؛ کالفعل وشبهه ، ولا یکون بالواو فی الرأی الأحق باتباع (فکلمة : «ما» بمعنی : شیء. والجار والمجرور - بما - خبر متقدم للمبتدأ المتأخر : ؛ «ذا». والجملة من الفعل : «سبق» وفاعله فی محل نصب حال من کلمة ؛ الفعل) ... والتقدیر : هذا النصب بشیء من الفعل وشبهه حالة کون الشیء سبق ، وتقدم علی المفعول معه وعلی الواو ، ویصح أن تکون : «ما» موصولة ، والجملة الفعلیة صلة ... ثم أشار بعد ذلک إلی المفعول معه المنصوب بعد «ما» و «کیف الاستفهامیتین ، فقال : وبعد «ما» استفهام أو «کیف» نصب بفعل کون مضمر بعض العرب وقد نسب النصب بعد الأداتین السالفتین لبعض العرب للدلالة علی أنه سماعی فقط وهذا صحیح. ولکن العرب لا دخل لها بفعل الکون المقدر وغیره من المصطلحات النحویة المحضة

2 - لا یجوز أن یتقدم علی عامله مطلقا ، ولا أن یتوسط بینه وبین الاسم

ص: 287

المشارک له والمقارن ... ففی مثل : مشی الرجل والحدیقة ؛ لا یصح أن یقال : والحدیقة مشی الرجل ، ولا : مشی والحدیقة الرجل.

3 - لا یجوز أن یفصل بینه وبین واو المعیة فاصل ، ولو کان الفاصل شبه جملة کما لا یجوز حذف هذه الواو مطلقا.

4 - إذا جاء بعده تابع أو ضمیر أو ما یحتاج إلی المطابقة وجب أن یراعی عند المطابقة الاسم الذی قبل الواو وحده ؛ نحو : کنت أنا وزمیلا کالأخ ؛ أحبّه وأعطف علیه. ولا یصح کالأخوین ...

* * *

حالات الاسم الواقع بعد الواو

له حالات أربع

أولها : جواز عطفه علی الاسم السابق ، أو نصبه مفعولا معه (1). والعطف أحسن ، مثل : بالغ الرجل والابن فی الحفاوة بالضیف. فکلمة : «الابن» ، یجوز رفعها بالعطف علی الرجل ، أو نصبها مفعولا معه ، ولکن العطف أحسن من النصب علی المعیة ؛ لأنه أقوی فی الدلالة المعنویة علی المشارکة والاقتران (2) ولا شیء یعیبه هنا. ومثله : أشفق الأب والجدّ علی الولید - أضاء القمر والنجوم ...

ثانیها : جواز الأمرین ، والنصب علی المعیة أحسن ؛ للفرار من عیب لفظی أو معنوی. فمثال اللفظی : أسرعت والصدیق ؛ فکلمة : «الصدیق» یجوز فیها الرفع عطفا علی الضمیر المرفوع المتصل ، ویجوز فیها النصب علی المعیة ، وهذا أحسن ؛ لأن العطف علی الضمیر المرفوع المتصل یشوبه بعض الضعف إذا کان بغیر فاصل بین المعطوف والمعطوف علیه ؛ کهذا المثال (3). والفرار من الضعف أفضل من

ص: 288


1- إلا فی الحالة المشار إلیها فی رقم 3 من آخر هامش ص 283.
2- لأن العطف یقتضی إعادة العامل تقدیرا قبل المعطوف ، فکأن العامل مکرر. فیقع به التأکید اللفظی الذی یقوی المعنی. (انظر ما یتصل بهذا فی «ا» من ص 291).
3- کما هو موضح فی مکانه من باب العطف - ج 3 - عند الکلام علی العطف علی الضمیر المرفوع المتصل.

الإقبال علیه بغیر داع (1).

ومثال العیب المعنوی قولهم : «لو ترکت الناقة وفصیلها (2) لرضعها». فلو عطفنا کلمة : «فصیل» علی کلمة : «الناقة» لکان المعنی : لو ترکت الناقة وترکت (3) فصیلها - لرضعها ، وهذا معنی غیر دقیق ، یحتاج تصحیحه إلی تأویل وتقدیر لا داعی لهما. وعیبه آت من أن ترکهما لا یستلزم تلاقیهما المؤدی إلی حصول الرضاعة. وقد نترکهما ؛ لا نحول بینهما ، ولکن الأم تنفر منه ، ولا تمکنه من الرضاعة ، أو ینفر منها ...

ثالثها : وجوب العطف ، وامتناع المعیة (4) : وذلک حین یکون الفعل أو ما یشبهه مستلزما تعدد الأفراد التی تشترک فی معناه اشتراکا حقیقیّا. وکذلک حین یوجد ما یفسد المعنی مع المعیة. فمثال الأول : تقابل النمر والفیل - اختصم العادل والظالم - اتفق التاجر والصانع ... فکل فعل من هذه الأفعال : (تقاتل - اختصم - اتفق - وأشباهها) لا یتحقق معناه إلا بالفاعل المتعدد فیشترک الأفراد فی معنی العامل ؛ فلا بد من وجود اثنین أو أکثر یشترکان حقیقة فی التقاتل ، والاختصام ، والاتفاق ... وهذا یتحقق بالعطف دائما ؛ لأنه یقتضی الاشتراک المعنوی الحقیقی (5). بخلاف المعیة ؛ فإنها تقتضی الاشتراک الزمنی ؛ أما المعنوی فقد تقتضیه حینا ، ولا تقتضیه أحیانا ؛ کما عرفنا (6).

ومثال الثانی : أشرف القمر وسهیل قبله أو بعده ... فتفسد المعیة بسبب وجود : «قبل» ، أو «بعد».

ص: 289


1- وفی الحالتین السابقتین یقول ابن مالک : والعطف إن یمکن بلا ضعف أحق والنّصب مختار لدی ضعف النّسق النسق هو العطف بالحرف ؛ کالعطف بالواو ، أو الفاء ، أو ثم ...
2- الفصیل : ابن الناقة الذی یفصل عنها.
3- لأن العطف علی نیة تکرار العامل. - انظر رقم 2 من هامش الصفحة السالفة -
4- من هذا القسم المسألة المشار إلیها فی رقم 2 من هامش ص 283.
5- أما الاشتراک فی الزمن فقد یقتضیه أو لا یقتضیه ؛ فمثل : أکلت خالدة وأختها ، قد یقع أکلهما فی زمن واحد أو مختلف (کما یتضح فی «ا» من ص 291).
6- فی ص 282 ، 283.

رابعها : امتناع العطف ووجوب النصب - فی الأصح - ، إمّا علی المعیة ، إن استقام المعنی علیها. وإما علی غیرها إن لم یستقم ؛ (کنصب الکلمة مفعولا به لفعل محذوف) ؛ وذلک منعا لفساد لفظی أو معنوی. فمثال وجوب النصب علی المعیة لمانع لفظی یمنع العطف : نظرت لک وطائرا ؛ لأن الأصل - الغالب - فی العطف علی الضمیر المجرور أن یعاد حرف الجر مع المعطوف ؛ کما فی قول الشاعر :

فما لی وللأیّام - لا درّ درّها

تشرّق بی طورا ، وطورا تغرّب

فقد أعاد اللام مع المعطوف (1) ، ومثال النصب لمانع معنوی یمنع العطف : مشی المسافر والصحراء. بنصب کلمة : «الصحراء» علی المعیة ؛ إذ لو رفعت بالعطف علی کلمة : «المسافر» لکان المعنی : مشت الصحراء. وهذا فاسد. ومثال النصب علی غیر المعیة بتقدیر فعل محذوف ینصب الکلمة مفعولا به : دعینا لحفل ساهر فأکلنا لحما ، وفاکهة ، وخضرا ، وماء عذبا ، وغناء ساحرا - فیجب نصب کلمة : «ماء» وکلمة : «غناء» بفعل محذوف یناسب کلا منهما. والتقدیر : وشربنا ماء عذبا ، وسمعنا غناء ساحرا ... ولا یصح النصب علی المعیة ، ولا علی العطف (2) وإلا فسد المعنی. ومثله قول الشاعر:

تراه کأنّ الله یجدع أنفه

وعینیه إن کان مولاه له وفر (3)

یرید : ویفقأ عینیه ؛ لأن الجدع - خاص بالأنف ، فلا یکون للعینین ... (4)

ص: 290


1- سیذکر هذا البیت لمناسبة أخری فی باب العطف ج 3 - م 116.
2- لأن الماء لا یؤکل ، وکذا الغناء ، ولأن سماع الغناء فی الحفل الساهر یکون بعد الأکل - عادة - لا معه فی زمنه. وعند تقدیر فعل محذوف مناسب. تنشأ جملة فعلیة تکون معطوفة بالواو علی الجملة الفعلیة الأولی ؛ فالعطف - علی الأصح - عطف جمل. والممنوع عطف المفردات ، إذ لا یجوز عطف «ماء» ولا غناء علی : لحما. لکن یصح عطف جملة : «شربنا» وجملة : «سمعنا» علی الجملة الأولی ؛ وهی : «أکلنا». (وستجیء مناسبة أخری لهذا فی ج 3 باب العطف عند الکلام علی العطف بالواو).
3- الوفر الزیادة. والبیت یذم حقودا بأنه یحزن لنعمة تبدو علی جاره أو صاحبه ، ویتألم کمن جدع أنفه ، أو فقئت عیناه.
4- وإلی شطر من هذه الحالة یشیر ابن مالک قائلا : والنّصب - إن لم یجز العطف - یجب أو اعتقد إضمار عامل نصب

المسألة 81: الاستثناء

اشارة

تمهید

(1).

یتردد فی هذا الباب کثیر من المصطلحات الخاصة به ، والتی لا بدّ من معرفة مدلولاتها - قبل الدخول فی مسائله وأحکامه. ومن تلک المصطلحات :

المستثنی منه - المستثنی - أداة الاستثناء - التّام - الموجب - المفرّغ - المتصل - المنقطع - ... وفیما یلی بیانها.

(ا) (المستثنی منه - المستثنی - أداة الاستثناء).

هذه الثلاثة تنکشف مدلولاتها علی أکمل وجه إذا عرفنا أن أسلوب الاستثناء فی أکثر حالاته ، هو أسلوب أهل الحساب فی عملیة : «الطّرح». فالذی یقول : أنفقت من المال مائة إلا عشرة ، إنما یعبر عما یقوله أهل الحساب : (100 - 10) والذی یقول : اشتریت تسعة کتب إلا اثنین ؛ إنما یعبر عن قولهم : (9 - 2) ... وهکذا ...

والتعبیر الحسابی یشتمل علی ثلاثة أرکان مهمة ؛ هی : المطروح منه (مثل 100 ومثل 9 ... وأشباههما ...) والمطروح (مثل 10 ومثل 2 ...) وعلامة الطرح ویرمزون لها بشرطة أفقیة قصیرة : (-)

ولهذه المصطلحات الحسابیة الثلاثة ما یقابلها تماما فی الأسلوب الاستثنائی ؛ ولکن بأسماء أخری ؛ فالمطروح منه یقابله : «المستثنی منه». والمطروح یقابله : «المستثنی». وعلامة الطرح یقابلها الأداة : «إلا» ، أو إحدی أخواتها ، أی : ثلاثة إزاء ثلاثة.

ولما کانت عملیة الطرح بمصطلحاتها شائعة ، بل أوّلیة - کان ربط أسلوب

ص: 292


1- المراد به هنا الاستثناء فی اصطلاح النحاة ، فله تعریف خاص عندهم ، وأدوات وأحکام نحویة یتمیز بها. ومن الممکن تأدیة المعنی الاستثنائی بوسائل مختلفة تخالف الاستثناء النحوی ، ولکنها لا تسمی : «استثناء» فی اصطلاحهم ؛ لعدم انطباق تعریفه وأحکامه علیها.

الاستثناء بها کفیلا بإیضاح مصطلحاته الثلاثة السالفة ، وفهمه فی سهولة ویسر واستقرار(1).

وفی ضوء هذا نستطیع أن نفهم قول النحاة فی تعریف الاستثناء الاصطلاحی : (إنه الإخراج «بإلا» أو إحدی أخواتها لما کان داخلا فی الحکم السابق علیها) (2). فلیس هذا الإخراج إلا «الطرح» ؛ بإسقاط ما بعدها مما قبلها ، ومخالفته إیاه فیما تقرر من أمر مثبت أو منفی ...

(ب) الاستثناء التام :

ما کان فیه المستثنی منه مذکورا ؛ کالأمثلة السالفة ، ومثل : رکبت الطائرة عشرین ساعة إلا خمسة. وکان معی زملائی إلا ثلاثة. فکلمة «عشرین» هی المستثنی منه. وکذا کلمة : «زملاء». وبسبب وجود کل منهما فی الکلام سمی الاستثناء : «تامّا».

(ح) الاستثناء الموجب ، وغیر الموجب :

فالأول ما کانت جملته خالیة من النفی ؛ وشبهه - وشبه النفی هنا : النهی ؛ والاستفهام الذی یتضمن معنی النفی (3) - کالأمثلة السابقة ، وکقول الشاعر :

قد یهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

ص: 293


1- أی : بقائه مفهوما.
2- وهذا یشمل الدخول الحقیقی ؛ کالأمثلة السالفة ، والدخول التقدیری الملاحظ فی النفس کالمفرّغ ؛ وکالمستثنی المنقطع ، - وسیجیء إیضاحهما فی ص 294 و 295 و 298 و 308 - ؛ فإنهما لا یدخلان فی الحکم السابق حقیقة ، وإنما یندمجان فیه تقدیرا.
3- وهذا یشمل أنواعا ؛ منها الاستفهام الإنکاری : (ویسمی أیضا : الإبطالی) ویعرفونه بأنه الذی یسأل به عن شیء غیر واقع ، ولا یمکن أن یحصل. فمدعیه کاذب. وهذا النوع یتضمن معنی النفی ؛ لأن أداة الاستفهام فیه بمنزلة أداة النفی فی أن الکلام الذی تدخل علیه منفی المعنی ؛ نحو قوله تعالی : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِیثاً؟.) (راجع : المغنی ج 1 عند الکلام علی الهمزة. وکذلک حاشیة الأمیر علیه عند الکلام علی : «أم»). ومنها : الاستفهام التوبیخی ؛ وهو : ما یسأل به عن أمر حاصل واقع ، ومن یدعی وجوده یکون صادقا فی إخباره عن أمر موجود ذمیم. وفاعله ملوم یستحق التوبیخ بسببه ؛ مثل قولنا للأوصیاء : أتأکلون أموال الیتامی بالباطل؟ وفی الجزء الثانی من «المغنی» عند الکلام علی : «هل» أن أنواع الإنکار ثلاثة ؛ منها النوعان السالفان ، أما الثالث فمعناه النفی المجرد ، والسلب المحض. بحیث یمکن وضع أداة النفی مکان أداة الاستفهام فلا یتغیر المعنی. والأکثر أن تکون أداة الاستفهام هی : «هل» نحو : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، أی : ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

والثانی : ما کان مشتملا علی نفی أو شبهه ؛ نحو : ما تأخر المدعوون للحفل إلا واحدا - هل تأخر المدعوون إلا واحدا (1)؟

ومن النفی ما هو معنوی (یفهم من المعنی اللغوی للکلمة ، دون وجود لفظ من ألفاظ النفی). مثل : یأبی الله إلا أن یتم نوره ، فمعنی «یأبی» : لا یرید. ومثل : قلّ رجل یفعل ذلک ، لأن معنی : «قلّ» فی هذا الأسلوب المسموع ، هو : النفی ؛ أی : لا رجل یقول ذلک.

أما «لو» فی مثل : لو حضر الضیوف إلا واحدا ، لأکرمتهم ، فإنه نفی ضمنیّ غیر مقصود ، فلا ینظر إلیه من هذه الناحیة ، فکأنه غیر موجود.

(د) الاستثناء المفرغ (2) ، هو : ما حذف فیه المستثنی منه والکلام غیر موجب ؛ (فلا بد من الأمرین معا) (3) نحو : ما تکلم ... إلا واحد - ما شاهدت ... إلا واحدا - ما ذهبت ... إلا لواحد والأصل - مثلا - قبل الحذف : ما تکلم الناس إلا ... - ما شاهدت الناس إلا ... - ما ذهبت للناس إلّا (4) ... ثم حذف المستثنی منه ، کحذفه فی قول الشاعر :

لا یکتم السرّ إلا کلّ ذی شرف

والسّرّ عند کرام الناس مکتوم

والأصل : لا یکتم الناس السرّ إلا کل ذی شرف.

فالاستثناء المفرّغ یقتضی أمرین مجتمعین حتما (5) ؛ أن یکون الکلام غیر تام ، وغیر موجب. وهذا أمر یجب التنبه له. وإلی أن أداة الاستثناء الفعلیة لا یصح استخدامها فیه. - لأنها لا تستخدم إلا فی الاستثناء التام المتصل -

ص: 294


1- من النحاة من یری أن هذا النوع لا تستخدم فیه أدوات الاستثناء الفعلیة ، ورأیه ضعیف یجب إهماله ؛ أخذا بصریح ما جاء فی المفصل - ح 2 ص 77 و 78 -. وفی الخضری والصبان - وسیجیء هذا فی رقم 1 من هامش ص 228 -.
2- انظر رقم 2 من هامش ص 293 أما سبب التسمیة ففی ص 198.
3- ومن القلیل الذی لا یلتفت إلیه وقوع التفریغ فی الإیجاب ، إذا کان المحذوف فضلة حصلت مع حذفه فائدة. لکن هذه القلة لا اعتبار لها ، ویجب إهمالها - کما نصوا علی ذلک - راجع الصبان -
4- یوضح هذا المثال ما یجیء فی رقم 1 من هامش ص 299.
5- انظر ص 328 وقد ورد النص الخاص بمنع استخدام أداة الاستثناء الفعلیة فی غیر التام المتصل فی حاشیة الخضری ، وبالجزء الثانی من الصبان عند الکلام علی الأدوات الفعلیة ، وکذا المفصل ج 2 ص 77.

الاستثناء المتصل والمنقطع

فالأول : ما کان فیه المستثنی بعضا (1) من المستثنی منه ؛ نحو : سقیت الأشجار إلا شجرة - فحص الطبیب الجسم إلا الید.

والثانی : ما لم یکن فیه المستثنی بعضا من المستثنی منه ؛ نحو حضر الضیوف إلا سیاراتهم - اکتمل الطلاب إلا الکتب. ومثل قوله تعالی عن أهل الجنّة : (لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً إِلَّا سَلاماً،) فاللغو هو : ردیء الکلام وقبیحه ، والسّلام لیس بعضا منه. وکذلک قوله تعالی : (لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً وَلا تَأْثِیماً ، إِلَّا قِیلاً سَلاماً سَلاماً.)

ولیس معنی انقطاعه أنه لا صلة له بالمستثنی منه ، ولا علاقة تربطهما ارتباطا معنویّا ، وإنما معناه انقطاع صلة «البعضیة» بینهما ؛ فلیس «المستثنی» جزءا حقیقیّا من «المستثنی منه» ، ولا فردا من أفراده. ومع انقطاع هذه الصلة علی الوجه السالف لا بد أن یکون هناک نوع اتصال معنوی یربط بینهما. ولهذا تؤدی أداة الاستثناء فیه معنی الحرف : «لکن» (ساکن النون أو مشددها) الذی یفید الابتداء والاستدراک معا (2) ؛ وبالرغم من إفادته الابتداء والاستدراک معا لا یقطع الصلة المعنویة بین ما بعده وما قبله ، ومن ثمّ کان من المحتوم فی کل «استثناء منقطع» صحة وقوع الحرف : «لکن» - الساکن النون ، أو مشددها - موقع أداة الاستثناء فیه مع استقامة المعنی. (علی التفصیل الذی سیجیء فی الزیادة) (3) ولا یجوز فی الاستثناء المنقطع أن تکون أداته فعلا ؛ لأن هذه الأداة الفعلیة لا تستخدم إلا فی التامّ المتصل ، کما تقدم.

والآن نبدأ الکلام فی أحوال الاستثناء ، وأحکامه ، وهی متعددة (4) یتعدد أدواته

ص: 295


1- لهذا صورتان ؛ الأول : أن یکون المستثنی منه متعدد الأفراد ، والمستثنی أحد تلک الأفراد المتماثلة ؛ نحو : تناولت الکتب إلا کتابا. فالمستثنی منه - وهو الکتب - متعدد الأفراد ، والمستثنی واحد منها. الثانیة : أن یکون المستثنی منه فردا واحدا ، ولکنه ذو أجزاء ، والمستثنی جزء من تلک الأجزاء ؛ مثل : غطیت الجسم إلا الوجه. وفی الحالتین یکون ما بعد «إلا» مخالفا فی المعنی لما قبلها. ولا مانع فی الرأی الأحسن أن یکون المستثنی المتصل جملة - وسیجیء البیان فی رقم 3 من هامش ص 305 ورقم 2 من هامش ص 307 -
2- راجع «و» من ص 307.
3- فی : «و» من ص 307.
4- هذا الباب من أکثر الأبواب تعددا فی الأحکام ، واختلافا فیها. ومنها المردود والضعیف. وقد حاولنا جاهدین تصفیته مما یشوه الحقائق الناصعة.

الثمانیة التی منها الحرف المحض ، والاسم المحض ، والفعل المحض ، وما یصلح فعلا وحرفا.

* * *

الکلام علی أحکام المستثنی الذی أداته حرف خالص ، وهی : «إلّا» (1) :

(ا) إذا کانت أداة الاستثناء «إلّا» ، ولم تتکرر (2) فللمستثنی بها ثلاثة أحکام :

الأول : وجوب النصب - فی الأغلب (3) - ، بشرط أن یکون الکلام تامّا موجبا (4) ؛ سواء أکان «المستثنی» متأخرا بعد «المستثنی منه» ، أم متقدما (5) علیه ، «متصلا» ، أم «منقطعا» فمتی تحقق الشرط کان النصب واجبا - فی الأغلب (6) - ، وعامّا یشمل کل الأحوال. وعند الإعراب یقال : «إلا» أداة استثناء حرف. والمستثنی : منصوب علی الاستثناء کالأمثلة الآتیة. ولا بد أن تتقدم «إلا» علی المستثنی فی کل الحالات (7) ، سواء أکان متقدما علی المستثنی منه أم متأخرا عنه :

(امتلأت الجداول إلا جدولا کبیرا). (امتلأت - إلا جدولا کبیرا - الجداول).

(کتبت الرسائل إلا رسالة واحدة). (کتبت - إلا رسالة واحدة - الرسائل).

(تمتعت بالصحف إلا صحیفة تافهة). (تمتعت - إلا صحیفة تافهة - بالصحف).

(أعدّت ملابس الرحلة إلا الحقائب). (أعدت - إلا الحقائب - ملابس الرحلة).

(تناولت الطعام إلا الماء). (تناولت - إلا الماء - الطعام).

(أضأت المصابیح إلا غرفة). (أضأت - إلا غرفة - المصابیح).

ص: 296


1- ومثلها : «لمّا» التی تشبهها فی الحرفیة ، وفی الدلالة علی الاستثناء. وإفادته ؛ (طبقا للبیان الخاص بها فی «ا» من «الزیادة» ص 303 وفی «د» من ص 336 -) وهی غیر «لما» الظرفیة التی سبق الکلام علیها فی ص 275 وتجیء لها إشارة فی باب الإضافة ، ج 3 م 94 ص 81 ، وهما کذلک غیر لما الجازمة التی سیجیء الکلام علیها فی ح 4 م 153 ص 314 هذا ، و «إلا» التی للاستثناء کلمة واحدة ، ولیست مرکبة ، وهی حرف ، وقد تترک الحرفیة والاستثناء وتصیر اسما محضا (کما سیجیء البیان فی «ج» من ص 325) بخلاف : «إلا» التی فی مثل : إلا تجامل زملاءک یکرهوک ، فإنها مرکبة من «إن» الشرطیة المدغمة فی : «لا» النافیة.
2- أما المکررة فیجیء حکمها فی ص 313.
3- وهذا هو الشائع وهناک رأی آخر لا یوجب النصب ، سیجیء بیانه فی «د» من ص 304.
4- وهذا هو الشائع وهناک رأی آخر لا یوجب النصب ، سیجیء بیانه فی «د» من ص 304.
5- سیجیء شرط آخر فی «ه» من ص 306 هو ألا یکون المستثنی نکرة محضة ... و...
6- فی ص 304 أحکام خاصة بتقدیم المستثنی وبیان العامل الذی یعمل فیه النصب ...
7- انظر ما یختص بهذا فی «ب» من ص 303.

الثانی : إما نصب «المستثنی» (والإعراب کالحالة السابقة). وإما ضبطه علی حسب حرکة «المستثنی منه» ، (فیکون مثله ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا) ویعرب : «بدلا» (1). ولا بد فی الحالتین أن یکون الکلام تامّا غیر موجب (2). ولا فرق بین المتصل والمنقطع (3). ومن الأمثلة :

ما تخلف السباقون إلا واحدا - أو : واحد.

ما جهلت السباقین إلا واحدا - أو : واحدا (4).

هل تأخرت عن السباقین إلا واحدا - أو : واحد.

ویجوز أن یتقدم «المستثنی» (5) وهو منصوب ، علی المستثنی منه مباشرة ویبقی کلّ شیء کما کان ، فلا یتغیر الإعراب کالأمثلة الآتیة :

ما تخلف - إلا واحدا - السباقون.

ما جهلت إلا واحدا - السباقین (6).

هل تأخرت إلا واحدا - عن السباقین.

أما لو تقدم وهو بدل فی الأصل ؛ فإن الأمر یتغیّر تغیّرا کلیّا (7) فیعرب «المستثنی» المتقدم علی حسب حاجة الکلام قبله ، ویزول عنه اسم المستثنی ؛ کما یزول عن «المستثنی منه» المتأخر ، اسمه ، ویعرب بدلا من الاسم الذی تقدم ، وتابعا له فی حرکة

ص: 297


1- بدل بعض من کل ، والمبدل منه هو المستثنی منه. والبدل هنا لا یحتاج لرابط ؛ لأن وجود «إلا» یغنی عنه ؛ لدلالتها علی أن ما بعدها بعض مما قبلها - وستجیء إشارة لهذا فی البدل ج 3 ص 487 -.
2- إذا انتقض النفی بسبب وجود «إلا» المکررة لم یجز البدل ، واقتصر الأمر علی النصب وحده ؛ نحو : ما شرب أحد شیئا إلا الماء إلا محمودا ؛ لأن الکلام هنا بمنزلة المثبت ؛ إذ معناه. شربوا الماء إلا محمودا. وفی «د» من ص 304 أمثلة مسموعة للبدل فی کلام تام موجب. وفی «ز» من ص 309 الرأی فی تفریعات البدل التی یعرضها النحاة.
3- فی «و» من ص 307 أحوال وأحکام هامة تختص بالمنقطع.
4- فی هذا المثال نصبت کلمة : «واحدا» فی الصورتین ، ولکن النصب فی إحداهما علی البدلیة ، وفی الأخری علی الاستثناء.
5- بشرط أن تتقدم معه «إلا» وتسبقه ، لأن تقدمها علیه شرط عام فی کل الحالات التی یتقدم فیها علی المستثنی منه أو یتأخر عنه ، کما أسلفنا ، وکما یجیء فی «ب» من الزیادة والتفصیل» ص 303.
6- سیذکر هذا المثال فی الحالة التالیة التی یتقدم فیها البدل ؛ لأنه - وأشباهه - صالح للحالتین
7- فی هذه الحالة سیعتبر من القسم الثالث الآتی ، وهو قسم : «المفرغ».

إعرابه ، وتصیر «إلا» ملغاة (1). ومن الأمثلة :

ما تخلف إلا واحد - السباقون.

ما جهلت إلا واحدا - السباقین (2).

هل تأخرت إلا عن واحد (3) - السباقین.

ففی مثل : ما تخلف - إلا واحد - السباقون ... تعرب کلمة «إلا» ملغاة. وتعرب کلمة : «واحد» فاعلا للفعل : «تخلّف» وتعرب کلمة :

«السباقون» بدلا منها (4) ، بدل کل من کل ، وهذا إعرابها فی باقی الأمثلة المعروضة (5).

الثالث : أن یعرب ما بعد «إلا» علی حسب العوامل قبلها ؛ بشرط أن یکون الکلام «مفرّغا (6)». وهذه الصورة لا تعدّ من صور الاستثناء ؛ لعدم وجود «المستثنی منه» (7). لهذا تعرب «إلا» ملغاة. ویعرب ما بعدها فاعلا ، أو مبتدأ ، أو مفعولا ، أو خبرا ، أو غیر ذلک ... فکأن کلمة : «إلا» غیر موجودة من هذه الناحیة الإعرابیة (8) فقط دون المعنویة. ویسمّون الکلام : «مفرّغا» ؛ لأن ما قبل «إلا» تفرغ للعمل الإعرابی فیما بعدها. ولم یشتغل بالعمل فی غیره. ومن الأمثلة : ما أخطأ إلا واحد متسرع - ما العدل إلا دعامة الحکم الصالح. ما سمعت إلا بلبلا صدّاحا - لیس العمل إلا سلاح الشریف.

ص: 298


1- لأن ما بعدها یکون خاضعا فی إعرابه لحاجة ما قبلها ؛ فکأنها غیر موجودة لکنها من ناحیة المعنی تفید استثناء ما بعدها من حکم ما قبلها.
2- لأن ما بعدها یکون خاضعا فی إعرابه لحاجة ما قبلها ؛ فکأنها غیر موجودة لکنها من ناحیة المعنی تفید استثناء ما بعدها من حکم ما قبلها.
3- هذا المثال لا یتعین فیه التفریغ عند تقدیم البدل المنصوب ؛ إذ یصح - کما قلنا فی رقم 6 من هامش الصفحة السابقة - اعتبار الکلام تاما غیر موجب تقدم فیه المستثنی المنصوب الذی لیس بدلا ؛ ویکون حکمه حکم الأمثلة التی قبل هذا مباشرة.
4- ما یأتی فی رقم 1 من هامش ص 299 یوضح أصل هذا المثال ، وما جری فیه.
5- البدل هنا : بدل کل من کل ، لأن المتأخر عام أرید به خاص ؛ فصح لذلک إبداله من المستثنی الذی تقدم ، وکان قبل تقدمه بدل بعض ؛ - کما سبق فی رقم 1 من هامش ص 297 - فانقلب المتبوع تابعا ، کما فی قولهم : ما مررت بمثلک أحد.
6- إلا المثال الثانی فلا یتعین فیه التفریغ لما سبق فی رقم 2.
7- من التفریغ النوع الآتی فی ص 302.
8- انظر البیان فی رقم 2 من هامش ص 293.

ما ذهبت إلا للنابغ (1) - ما سعیت إلا فی الخیر.

ونحو :

یأبی الحرّ إلا العزة - یأبی الله إلا أن یتم نوره (2).

وأصل الکلام - مثلا - : قبل حذف المستثنی منه :

ما أخطأ المتکلمون إلا واحدا متسرعا - أو : واحد.

ما العدل دعامة إلا دعامة الحکم الصالح - أو دعامة الحکم الصالح.

ما سمعت طیورا مغردة إلّا بلبلا صدّاحا - أو : بلبلا صدّاحا.

لیس العمل سلاحا إلّا سلاح الشریف - أو : سلاح الشریف.

ما ذهبت لأحد إلا النابغ - أو : النابغ

ما سعیت فی أمر إلا الخیر - أو : الخیر.

یأبی الحرّ کلّ شیء ، إلّا العزة - أو : العزة.

یأبی الله کل شیء إلا إتمام نوره - أو : إتمام ...

فهو فی أصله کلام تام غیر موجب ، یجوز فیه الأمران السالفان ؛ إما النصب علی الاستثناء ، وإما الإتباع علی البدلیة ، فلما حذف المستثنی منه صار الکلام نوعا

ص: 299


1- أصل الکلام : ما ذهبت لأحد إلا النابغ. فلما حذف المستثنی منه - وهو : أحد ، - بقیت لام الجر منفردة تحتاج لشیء بعدها تجره ؛ إذ لا یمکن أن تستقل بنفسها ؛ فتأخرت إلی ما بعد «إلا» ؛ لتجره ؛ لأنه خاضع فی إعرابه لما قبلها ، ولا یمکن تقدیمه وحده دون «إلا». (وهذا التفسیر هو الذی أحلنا علیه فی رقم 3 من هامش الصفحة السابقة ومن ص 294).
2- الکلام هنا مفرغ ؛ لأن المستثنی منه محذوف ، ولوجود نفی معنوی فی کلمة «یأبی» ؛ لأن معناها دائما هو : لا یرید - کما سبق ، فی ص 294 - (هذا تأویلهم ، وفیه مجال للتوقف والرفض).

جدیدا ؛ هو : المفرغ (1) ، وصار له حکم جدید خاص ، تبعا لذلک ...

ویمکن تلخیص کل ما تقدم من أحکام المستثنی ب «إلا» الواحدة (2) فیما یأتی :

(ا) النصب صحیح فی جمیع أحوال المستثنی «بإلا» التی لم تتکرر ، ما عدا حالة : «التفریغ» ؛ فإنه یعرب فیها علی حسب حاجة الجملة ، وتعرب «إلا» ملغاة.

(ب) یزاد علی النصب البدلیة حین یکون الکلام «تامّا» غیر موجب ، بشرط ألا یتقدم المستثنی علی المستثنی منه مباشرة ؛ فإن تقدم وهو منصوب بقی علی حاله منصوبا علی الاستثناء ، وإن تقدم وهو «بدل» تغیر الأمر ؛ فزال اسمه

ص: 300


1- یجوز التفریغ لجمیع المعمولات ، إلا المفعول معه ، والمصدر المؤکد لعامله ، وکذا الحال المؤکد لعامله ؛ فلا یقال : ما سرت إلا والأشجار - ما زرعت إلا زرعا - لا تعمل إلا عاملا - وسبب المنع وقوع التناقض بذکر المعنی مثبتا أو منفیا قبل : «إلا» ثم مخالفته بعد : «إلا». وأما قوله تعالی : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) فالقرائن تدل علی أن المراد : إن نظن إلا ظنا عظیما ، فهو مصدر مبین للنوع. ویجوز أن یقع «التفریغ» فی غیر ما سبق منعه ؛ فمن التفریغ للمبتدأ قوله تعالی : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ومن التفریغ للفاعل قول الشاعر: ما المجد زخرف أقوال تطالعه لا یدرک المجد إلا کلّ فعال وللظرف قول الشاعر : لم یضحک الورد إلا حین أعجبه حسن الریاض ، وصوت الطائر الغرد وللجار مع مجروره قول الشاعر یمدح الخلیفة باحتمال التعب لراحة الرعیة : بصرت بالراحة الکبری فلم ترها تنال إلا علی جسر من التعب وقول الآخر : ما القرب إلا لمن صحّت مودته ولم یخنک ، ولیس القرب للنسب ثم انظر «ا» الآتیة فی «الزیادة والتفصیل» - ص 302 - حیث النوع من التفریغ المشتمل علی جملة فعلیة قسمیة ... ویشیع فی الأسالیب الأدبیة المسموعة ، وهو نوع یخالف ما سبق.
2- أی : التی لم تتکرر.

عنه ، وصار معربا علی حسب حاجة الجملة ، لأن الکلام یصیر : «مفرّغا». أما المستثنی منه الذی تأخر فیزول عنه اسمه أیضا ، ویعرب «بدل کلّ من کلّ» من المستثنی الذی تقدم وتغیر حاله (1).

ص: 301


1- وفیما سبق من الأحوال الثلاثة وأحکامها یقول ابن مالک : ما استثنت «الّا» مع تمام ینتصب وبعد نفی أو کنفی انتخب : إتباع ما اتّصل ، وانصب ما انقطع وعن تمیم فیه إبدال وقع یرید : ما استثنته «إلا» (أی : کانت أداة استثنائه) وکان تاما ، فإنه ینصب. ولم یذکر الإیجاب مع شرط التمام ؛ لأنه مفهوم من المقابلة الواردة فی الشطر الثانی من البیت ، حیث نص علی أنه بعد النفی وشبه النفی یکون المختار هو الإتباع مع المستثنی المتصل ، والنصب وحده مع المنقطع. إلا عند تمیم فإنهم یجوزون فی المنقطع الإبدال أیضا. ففهم من هذا أن الأول لا بد أن یکون موجبا. وهذه تفریعات لا داعی لها ؛ والحکم المستصفی یتلخص فیما قلناه من أن المستثنی التام فی الکلام الموجب ینصب فی جمیع صوره ، وأن المستثنی فی الکلام التام غیر الموجب یجوز فیه أمران : النصب ، والإبدال. ولا أهمیة لکثرة أحد الأمرین علی الآخر کثرة نسبیة (أی : بالنسبة لذلک الآخر ، بحیث لا تنزل القلة إلی حد القلة الذاتیة) أو لاستعمال قبیلة دون الأخری ، ما دام الضبط صحیحا وکثیرا فی نفسه ، دون أن تکون قلته ذاتیة. ثم عرض بعد ذلک لحالة المستثنی المتقدم حین یکون الکلام تاما غیر موجب فبین أن غیر النصب - وهو : «البدل» - قد یجوز ، ولکن النصب هو المختار. فالأمران جائزان ، قیاسیان ، ولکن أحدهما أکثر فی الاستعمال من الآخر کثرة نسبیة ؛ یقول : وغیر نصب سابق فی النّفی قد یأتی. ولکن نصبه اختر إن ورد ثم انتقل للکلام علی الاستثناء المفرغ فقال : وإن یفرّغ سابق «إلّا» لما بعد یکن کما لو الّا عدما أی : إذا کان الکلام قبل إلا مفرغا (متجها للعمل فیما بعدها) فإن تأثیره فیما بعدها یقوم علی افتراض أنها غیر موجودة. وعلی هذا الفرض نضبط ما بعدها ؛ فقد یکون فاعلا ، أو مفعولا ، أو مبتدأ ، أو خبرا ... علی حسب حاجة ما قبلها.

زیادة وتفصیل

(ا) یتردد فی فصیح الأسالیب الواردة أسلوب مطّرد ، یحوی نوعا آخر من التفریغ ، یخالف ما سبق. وضابط هذا النوع : أن یکون الکلام مشتملا علی جملة قسمیّة ، ظاهرها مثبت ، ولکن معناها منفی ، وجواب القسم جملة فعلیة ماضویة لفظا ، مستقبلة معنی ، مصدّرة «بإلا» ؛ نحو : سألتک بالله إلّا نصرت المظلوم - ناشدتک الله إلّا ترکت الإساءة ... حلفت بربی إلا عاونت الضعیف ، وقول الشاعر :

بالله ربک إلّا قلت صادقة

هل فی لقائک للمشغوف من طمع

فالاستثناء فی الأمثلة السابقة - ونظائرها - مفرغ یقتضی أن یکون للکلام فی معناه غیر تام ، وغیر موجب ، فالمراد : (ما سألتک بالله ... إلا نصرک) - (ما ناشدتک الله ... إلا ترک الإساءة ...) - (ما حلفت بربی ... إلا علی معاونة الضعیف). - (ما حلفت بالله ربک ... إلا علی قولک صادقة ...) فقد اجتمع فی الکلام الأمران معا تقدیرا ؛ (وهما عدم التمام وعدم الإیجاب) واجتمع معهما أمر ثالث ؛ هو : أن الفعل - مع فاعله - به «إلا» مؤول بمصدر منسبک بغیر سابک ، لیمکن إعراب هذا المصدر علی حسب ما تحتاج إلیه الجملة قبل «إلا» ، أی : علی حسب ما یقتضیه «التفریغ» ؛ - تطبیقا لحکم «الاستثناء المفرغ». فیکون مفعولا به فی المثال الأول ، (وهو : سألتک بالله إلا نصرت الضعیف) ، أی : ما سألتک بالله إلا نصرک الضعیف ، ویکون شیئا آخر غیر مفعول به - إذا اقتضی الکلام غیره ؛ لعدم صلاحیة المفعول به ویجری هذا التأویل والسبک فی بقیة الأمثلة ، وأشباهها مما یطرد صوغه علی النمط الوارد الموافق للمأثور (1).

ص: 302


1- جاء فی الدرر اللوامع ، شرح همع الهوامع - ج 2 ص 46 - بمناسبة البیت السالف ، وهو : (بالله ربک إلا قلت صادقة ... إلخ) ما ملخصه : أن البیت المذکور یذکر شاهدا علی تصدیر جواب القسم بالحرف «إلا» ، وأن التقدیر فیه : أسألک بالله إلا قلت ، والاستثناء مفرغ. والمعنی : ما أسألک إلا قولک ، فالمثبت لفظا ، منفی معنی ، لیتأتی التفریغ. والفعل - مع فاعله - مؤول بالمصدر لیتأتی فیه المفعولیة ... فإن قام الاعتراض بأن تأویل الفعل - مع فاعله - بالمصدر من غیر سابک هو تأویل شاذ غیر قیاسی ، وأنه - - مقصور علی ما ورد السماع به من مثل : «تسمع بالمعیدیّ خیر من أن تراه» ... کان دفع الاعتراض بأن تأویل الفعل بالمصدر من غیر سابک أمر قیاسی فی بعض الحالات ؛ کالتی نحن فیها ، دون بعض ؛ فیحکم علیه بالشذوذ فی کل باب لم یطرد فیه السبک عن العرب. أما إذا اطرد السبک فی باب واستمر فیه ، فإنه لا یکون شاذا ؛ کالأسالیب التی نحن بصددها حیث التزمت فیها العرب ذلک النسق ، وکإضافة بعض أسماء الزمان إلی الجملة فی مثل : جئت حین رکب الأمیر ، أی : فی حین رکوب الأمیر. وفی مثل قوله تعالی : (هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصَّادِقِینَ صِدْقُهُمْ ،) أی : یوم نفع الصادقین ... فهذا وأمثاله مطرد. ومثل : لا تأکل السمک وتشرب اللبن ، فإنک إذا نصبت «تشرب» فإنما تنصبه بأن مضمره ؛ فیصیر اسما معطوفا فی الظاهر علی فعل ، وهذا العطف ممتنع إلا عند التأویل ؛ فتحتاج إلی أن تتصید من الفعل مصدرا من غیر سابک ، ولا یعد هذا شاذا ، لاطراده فی بابه. وکذلک مثل : سواء علی أقمت أم قعدت. أی : قیامک وقعودک ، فهذا مؤول بالمصدر بدون أداة سبک ؛ لاطراده فی باب التسویة ... اه الملخص.

وبهذه المناسبة نذکر «لمّا» - التی سبقت الإشارة إلیها (1) - وهی التی تماثل «إلّا» فی الحرفیة ، وفی الدلالة علی الاستثناء ، ولکنها لا تدخل إلا علی جملة اسمیة ؛ (کقوله تعالی : (إِنْ کُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَیْها حافِظٌ) - ، فی قراءة من شدّد المیم ، واعتبر «إن» التی فی صدر الجملة ، نافیة -) أو علی جملة فعلیة ماضویة لفظا لا معنی ؛ (بأن یکون الفعل ماضیا فی لفظه ، مستقبلا فی معناه) ، نحو : أنشدک الله لمّا فعلت ؛ أی : أنشدک بالله ، وأستحلفک به إلا فعلت. والمعنی : ما أسألک إلا فعلک ؛ علی تقدیر : إلا أن تفعل کذا ... ؛ لیکون الفعل الماضی مستقبل الزمن ؛ تطبیقا لما تقرر من أن الماضی الذی یلیها یکون ماضیا فی لفظه ، مستقبلا فی معناه (2) - وسیجیء (3) تفصیل الکلام علی جواب القسم ، وأنواعه ، وأحکامه.

(ب) نعود لذکر ما قرره النحاة خاصّا بتقدیم المستثنی بإلا. قالوا : لا یصح - مطلقا - تقدیمه وحده علیها (4) ولا یجوز أن یتقدم علی المستثنی منه ، وعلی عامله معا ؛ فلا یصح : إلا التفاح أکلت الفواکه. أما تقدمه علی أحدهما وحده فجائز ؛ وقد تقدمت الأمثلة لتقدمه علی المستثنی منه دون العامل. وأما تقدمه علی العامل وحده فنحو : الفواکه إلا التفاح أکلت. حیث تقدم المستثنی علی عامله

ص: 303


1- فی رقم 1 من هامش ص 296 وتجیء لها إشارة أیضا فی : «د» من ص 336.
2- راجع الأشمونی والصبان - ج 4 - أول باب : «الجوازم» عند الکلام علی : «لما» الجازمة.
3- فی ص 460.
4- کما سبق فی رقم 5 من هامش ص 297.

بعد أن سبقهما معا المستثنی منه. وإذا کان المستثنی منه اسم موصول لم یجز تقدیمه علی الصلة ، لأنه لا یصح الفصل بین الموصول وصلته بالمستثنی.

وإذا کان للاسم الواقع بعد إلا - مباشرة - أو لغیره مما بعدها معمول ؛ فإنه لا یجوز تقدیمه علیها ؛ ففی مثل : ما أنا إلا طالب علما - لا یصح : ما أنا علما إلا طالب. وإذا کان قبلها عامل له معمول ، فإنه لا یجوز تأخیر هذا المعمول عنها ؛ ففی مثل ما یجید الناشئون الخطابة إلا الأدیب - أو مثل : ما یحرص علی الأدب إلا الأدیب ... لا یصح أن یقال : ما یجید الناشئون إلا الأدیب الخطابة - ولا ما یحرص إلا الأدیب علی الأدب. وبعض النحاة یجیز تأخیر هذا المعمول إذا کان شبه جملة ، أو حالا ، ویؤید رأیه بأمثلة کثیرة فصیحة تجعله مقبولا ؛ فیصح أن یقال : یتکلم الخطباء - إلا المریض - واقفین ... یعترف الإجانب - إلا بعضهم - بعظمة العرب ... تتصافی النفوس إلا الخبیثة - أمام الخطر.

ویصح تقدیم المستثنی علی صفة المستثنی منه ؛ ففی مثل : ما کرّمت الأمة المتحضرة إلا النابغین ... یصح أن یقال : ما کرّمت الأمة إلا النابغین المتحضرة.

(ح) تعددت الآراء فی الناصب للمستثنی ؛ فقیل : «إلا» ، وقیل : العامل الذی قبلها بمساعدتها. وقیل فعل محذوف تقدیره : أستثنی ... و... ولا أثر لهذا الخلاف النظری فی أحکام المستثنی ، وضبطه ؛ فالخیر فی إغفاله ؛ اکتفاء بأن نقول فی الإعراب : المستثنی منصوب علی الاستثناء. ولعل أقوی الآراء أنه منصوب بالفعل قبلها ، أو بغیره مما یعمل عمله (1). إلا المستثنی المنقطع فعامله هو : «إلا». ونحن فی غنی عن التّعرض لأقواها وغیره إلا حین یعرض أمر یختص بالعامل - وهذا قلیل - وعندئذ یرجح الفعل أو ما یعمل عمله کالحالات السالفة التی یجوز فیها تقدم المستثنی علی عامله أو عدم تقدمه.

(د) وردت أمثلة مسموعة وقع فیها المستثنی غیر منصوب ، مع أن الکلام تام موجب ؛ ومنها قوله تعالی : (فشربوا منه إلا قلیل منهم) فی قراءة کلمة :

ص: 304


1- فإن لم یوجد قبلها فعل أو غیره مما یعمل - نحو : الزملاء أخوة إلا الغادر - أمکن تأویله بما یعمل ، أی : الزملاء منتسبون للأخوة إلا الغادر.

«قلیل» بالرفع. ومنها : تغیر المنزل إلا باب (1) ... و... و...

وقد کلف النحاة أنفسهم عناء التأویل والتقدیر ؛ لیجعلوا الکلام تامّا غیر موجب ؛ فیصلوا من هذا إلی جواز البدل ، وإلی أن الأمثلة مسایرة للقاعدة عندهم. فقالوا فی الآیة : إن نصها - علی لسان طالوت - هو : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِیکُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَیْسَ مِنِّی) ... (فشربوا منه إلا قلیل منهم) فمعنی : «شربوا منه» : لم یکونوا منی ولا من أنصاری. فهی فی تأویل کلام منفی فی تقدیرهم. وقالوا : فی المثال الثانی وأشباهه : إنّ : «تغیّر» معناها لم یبق علی حاله. فالکلام یتضمن نفیا فی المعنی ...

ولا شک أن کلامهم مردود ، وتأویلهم بعید ، لسببین :

أولهما : أن کل کلام مثبت لا بد له من نقیض غیر مثبت ، ویستحیل الحکم علی شیء بالإثبات دون أن یتصور العقل له ضدّا منفیّا. فمعنی «نام الرجل» لم یتیقظ. ومعنی «تیقظ» لیس بنائم. ومعنی «تحرک الطفل» : لم یسکن. ومعنی «سکن» : لم یتحرک ... ومعنی «شرب» : لم یفقد الماء ویظمأ. ومعنی «فقد الماء» : ما شرب ... و... و...

وهکذا ، فلو أخذنا برأیهم وفتحنا باب التأویل لم یبق فی الکلام العربی أسلوب مقصور علی «التمام مع الإیجاب» دون أن یصلح للنوع الثانی (وهو : التام غیر الموجب) وهذا غیر مقبول.

وثانیهما : وهو الأهم - أن الآیة والمثال وغیرهما مما وقع فیه المستثنی غیر منصوب فی الکلام التام الموجب - إنما ورد صحیحا مطابقا للغة بعض القبائل العربیة ، التی تجعل الکلام «التّامّ الموجب ، والتام غیر الموجب» متماثلین فی الحکم (2) ؛ یجوز فیهما : إما النصب علی الاستثناء ، وإما البدل من المستثنی منه ، وإما الرفع علی الابتداء (3) ... و... فلا معنی للتأویل بقصد إخضاع لغة قبیلة للغة

ص: 305


1- نص المثال الوارد فی «التصریح» - وفی حاشیة یاسین أمثلة متنوعة أخری - ؛ : وبالصّریمة منهم منزل خلق عاف تغیّر إلا النّؤی والوتد
2- وقد ورد النص علی هذا فی کثیر من المراجع النحویة ، ومنها : حاشیة یاسین علی «التصریح ، شرح التوضیح» ، ففیها البیان والأمثلة من القرآن والحدیث وغیرهما مما سرده فی أول «الاستثناء». - وکذا الصبان -
3- من یرفع الاسم بعد : «إلا» فی الکلام التام الموجب فعل اعتبار ذلک الاسم مبتدأ ، خبره - - مذکور أو محذوف ، ویجعل المستثنی حینئذ هو الجملة فی محل نصب علی الاستثناء. ویجری هذا فی المتصل والمنقطع (راجع الصبان ، أول باب الاستثناء ، وکذلک حاشیة «الأمیر» علی المغنی ج 2 ، بعد الجملة السابعة من باب الجمل التی لها محل من الإعراب ؛ حیث الأمثلة المتعددة الواردة برفع المستثنی فی الکلام التام الموجب والتی لا تحتمل تأویلا ، وحیث النص الصریح من کلام ابن مالک وغیره بأن النصب جائز لا واجب ، مؤیدا رأیه بالشواهد الفصیحة المتنوعة التی سردها ...) (وانظر رقم 2 من هامش ص 307) والخیر فی ترک هذه اللغات القلیلة ؛ بالرغم من أنها صحیحة قیاسیة.

نظیرتها. وإذا کان التأویل معیبا وواجبنا الفرار منه جهد استطاعتنا ، فإن الأنسب لنا الیوم أن نتخیر - عند الضبط - اللغة الضاربة فی الفصاحة ، الغالبة الشائعة بین اللغات المتعددة ؛ لنقتصر علیها فی استعمالنا تارکین غیرها من اللغات واللهجات القلیلة ، توحیدا للتفاهم ، وفرارا من البلبلة الناشئة من تعدد اللهجات واللغات بغیر حاجة ماسة ؛ فعلینا أن نعرف تلک اللغات فی مناسباتها ، ویستعین بها المتخصصون علی فهم النصوص الواردة بها ، دون محاکاتها فی الضبط ، أو القیاس علیها - کما أشرنا لهذا کثیرا - علی الرغم من أنها صحیحة یجوز محاکاتها (1).

(ه) إذا کان الکلام تامّا موجبا (2) فلا یکون المستثنی منه - فی الفصیح - نکرة ، إلا إن أفادت (3). فلا یقال جاء قوم إلا رجلا ، ولا قام رجال إلا محمدا ، لعدم الفائدة ، بسبب أن النکرة محضة. فإن أفادت جاز ؛ نحو قوله تعالی : (فَلَبِثَ فِیهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِینَ عاماً) - وقام رجال کانوا فی بیتک إلا واحدا. أما الکلام التام غیر الموجب فالفائدة تحقق فیه بالنفی وشبهه ؛ لدلالة النکرة معه - غالبا - علی العموم نحو : ما جاءنا أحد إلا رجلا ، أو إلا علیّا ...

ص: 306


1- لأن کل قراءة صحیحة قرئ بها القرآن یصح محاکاتها فی غیره ، والقیاس علیها ، وکذلک کل لغة سلیمة لإحدی القبائل ؛ کما نص علی هذا الأئمة ، وعرضنا له بأدلته وتفاصیله فی بحث مستفیض ؛ عنوانه «القیاس». بکتابنا المسمی : (اللغة والنحو بین القدیم والحدیث).
2- راجع فی الحکم الآتی فی کتاب : همع الهوامع ج 1 ص 223 أول باب الاستثناء ، (وفی رقم 4 من هامش ص 296 ، إشارة لما یأتی.)
3- إفادتها تکون بزیادة تطرأ علیها ؛ کوصف ، أو إضافة ، أو غیرها مما یفیدها تخصیصا.

کذلک لا یکون المستثنی منه معرفة ، والمستثنی نکرة لم تخصص ؛ فلا یقال : قام القوم إلا رجلا ، فإن تخصصت جاز ؛ نحو : خرج القوم إلا رجلا منهم.

(و) عرفنا (1) أن المستثنی المنقطع لیس بعضا من المستثنی منه ، فلیس فردا من أفراد نوعه - أی : من أفراد صنفه - ، ولیس جزءا من أجزاء الفرد ؛ - کما سبق (2) - فکیف یکون مستثنی وبینه وبین المستثنی منه هذا التخالف والتباین؟ کیف یکون المطروح مباینا جنس المطروح منه؟

قال النحاة :

1 - إن کان المستثنی المنقطع جملة (3) ؛ مثل قوله تعالی : (فَذَکِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَکِّرٌ ، لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّی وَکَفَرَ فَیُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَکْبَرَ ...) أعربت هذه الجملة (4) ، فی موضع نصب علی الاستثناء ، و «إلا» أداة استثناء حرف ؛ بمعنی : «لکن» (الساکنة النون ، التی تفید الاستدراک والابتداء معا ، وتقتضی أن تسبقها جملة ، وتدخل علی جملة جدیدة - اسمیة أو فعلیة -) (5) ، فهی متوسطة بین جملتین ؛ فکأن التقدیر ؛ لست علیهم بمسیطر ، لکن من تولی وکفر فیعذبه الله ...

ص: 307


1- فی ص 294.
2- فی ص 294.
3- یجوز وقوع المستثنی المنقطع جملة بنوعیها ، ویکون لها محل من الإعراب - کما سبق فی رقم 3 من هامش ص 305 - ، ولا داعی لاشتراط أن یکون الاستثناء مفرغا ، وأن یکون الفعل إما مضارعا ، وإما ماضیا مسبوقا بقد ، أو بماض قبل «إلا». فهذا الشرط الذی نص علیه «یاسین» فی حاشیته علی «التصریح» عند الکلام علی : «غیر» التی للاستثناء - خالفه فیه الأکثرون ، ولعله غالب ، لا شرط لازم ؛ (کما سیجیء فی «ب» من ص 324). فإن کان المستثنی متصلا جاز - فی القول الصحیح - وقوعه جملة ، برغم ما فی حاشیة یاسین ج 1 ، الباب الخامس من أبواب النیابة ، عند الکلام علی جر الممنوع من الصرف بالکسرة لإضافته -.
4- هی جملة اسمیة ، المبتدأ «من» اسم موصول بمعنی الذی ، مبنی علی السکون فی محل رفع - «تولی» ، فعل ماض ، الفاعل ، ضمیر مستتر تقدیره : هو. والجملة لا محل لها من الأعراب صلة الموصول ... «فیعذبه» ؛ الفاء زائدة ، داخلة علی جملة الخبر. «یعذبه الله» جملة من مضارع وفاعله ومفعوله فی محل رفع ؛ خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره فی محل نصب علی الاستثناء - وقد سبق بیان المواضع التی تزاد فیها الفاء فی الخبر ، ج 1 م 41 ص 487 آخر باب المبتدأ والخبر -.
5- فهی تقتضی - بعد الجملة السابقة علیها - الدخول علی جملة جدیدة ، زیادة علی ما تفیده من الاستدراک (وقد مر شرح الاستدراک وتفصیل أحکامه فی ج 1 ص 472 م 51).

2 - إن کان المستثنی المنقطع مفردا منصوبا فأداة الاستثناء : «إلا» تکون - عند أکثر النحاة - بمعنی : لکنّ (المشددة النون) التی تفید الابتداء ، والاستدراک ، وتعمل عمل : «إنّ» ، نحو : نام أصحاب البیت إلا عصفورا مغردا. فکلمة : «إلا» بمعنی : «لکنّ» المذکورة ، التی تقتضی بعدها جملة اسمیة الأصل تنصب فیها المبتدأ وترفع الخبر ؛ سواء أکان خبرها مذکورا أم محذوفا. ولا بدّ - علی هذا الرأی - من جملة اسمیة بعدها ، ولا بدّ من ذکر جملة أخری قبلها ؛ فکأن التقدیر : نام أصحاب البیت لکنّ عصفورا مغردا یقظ ، أو : لم ینم ...

ویری سیبویه أن المستثنی المنقطع المنصوب بعد «إلا» إنما هو منصوب بعامل قبلها ؛ شأنه فی هذا شأن المستثنی المتصل. فما بعد «إلّا» عند سیبویه - مفرد سواء أکان متصلا أم منقطعا. وهی بمعنی : «لکن» العاطفة التی لا یقع المعطوف بها إلا مفردا غیر أن «إلّا» لیست حرف عطف. والأخذ برأی سیبویه فی اعتبار المستثنی المنقطع أسهل وأیسر.

3 - وإن کان المستثنی المنقطع مفردا مرفوعا - ؛ کما فی حالة البدلیة .. عند من یجیزها ، والابتداء عند من لا یجیزها (1) - فی نحو ؛ ما سهر أصحاب البیت إلا عصفور مغرد - کانت أداة الاستثناء «إلا» بمعنی : لکن (ساکنة النون) فأصل التقدیر ، ما سهر أصحاب البیت لکن عصفور مغرد سهر.

والسبب فی کل هذه التقدیرات - کما یبدو - هو إدخال کل ضبط من تلک الضبوط تحت قاعدة نحویة عامة ، أما المعنی فلن یتغیر فی المستثنی ، ولا المستثنی منه ، ولا غیرهما ، وسیظل المستثنی منصوبا علی الاستثناء إن کان جملة أو مفردا منصوبا ، فإن کان مفردا غیر منصوب فهو بدل. ویجوز فی الاسم المرفوع اعتباره مبتدأ خبره مذکور أو محذوف ، کما تقدم - والجملة منصوبة علی الاستثناء.

بالرغم من أن المنقطع لیس بعضا من المستثنی منه فإنه لا یجوز أن یکون منقطع المناسبة والعلاقة بینه وبین المستثنی منه انقطاعا کلیّا فی المعتاد - کما سبق (2) -

ص: 308


1- راجع رقم 3 من هامش ص 305.
2- فی ص 294 «ه».

فلا یصح : أقبل الجمع إلا ثعبانا. کذلک لا یصح أن یسبقه ما هو نص صریح فی خروجه وفقد تلک العلاقة ، فلا یجوز : صهلت الخیل إلا الإبل ، لأن الصهیل نص قاطع فی صوت الخیل وحدها ؛ فلا صلة بین المستثنی والمستثنی منه مطلقا ؛ فیصیر الکلام خلطا وبترا. بخلاف صوّتت الخیل إلا الإبل.

(ز) تقدم - فی الحکم الثانی (1) - أن المستثنی فی الکلام التام غیر الموجب یجوز فیه النصب والبدل. ویقول النحاة فی تفریع هذا البدل کلاما مرهقا غیر مقبول ، والخیر فی إهماله ؛ ومنه :

إذا تعذر البدل علی اللفظ أبدل علی الموضع. فمثل : ما جاءنی من أحد إلا البائع ... لا یجوز إعراب «البائع» بدلا مجرورا من لفظ : «أحد» ، لزعمهم أن کلمة : «أحد» مجرورة اللفظ بالحرف الزائد : «من» وهو حرف لا یزاد - غالبا - إلا فی کلام منفی ؛ کالمثال السالف ، وأن کلمة : «البائع» معناها مثبت ؛ (لأن الکلام الذی بعد «إلا» مناقض لما قبلها فی النفی والإثبات ، کما هو معروف) فإذا کان معناها مثبتا فکیف تکون بدلا من کلمة : «أحد» المنفیة ، المجرورة لفظا بالحرف الزائد ، والبدل علی نیة تکرار العامل الذی یعمل فی المبدل منه؟ فکأنهم یقولون :

إنّ کلمة : «البائع» قبلها فی التقدیر الحرف «من» الزائد الذی عمل الجر فی المبدل منه «أحد». ویترتب علی هذا - عندهم - دخول «من» الزائدة الجارة فی کلام مثبت بعد «إلّا» ، وهی - فی الغالب - لا تکون إلا فی کلام منفیّ ، کما سبق. وفرارا من هذا الذی یرونه محظورا منعوا البدل بالجر من لفظة : «أحد» وأجازوا البدل بالرفع من محلها ؛ لأنها مجرورة بمن «لفظا» وفی محل رفع فاعل للفعل : جاء ، فالتقدیر : جاء البائع.

ومثل : لیس اللص بشیء إلا رجلا تافها ، فقالوا لا یجوز إعراب کلمة : «رجلا» بالجر علی اعتبارها بدلا من کلمة : «شیء» المجرور لفظها ؛ وإنما یجوز النصب علی اعتبارها بدلا من محل کلمة : «شیء» ، وذلک للوهم السالف أیضا ؛ وهو أن المبدل منه (وهو کلمة : شیء) مجرور بالباء الزائدة ، وهذه

ص: 309


1- ص 297.

الباء لا تزاد إلا فی جملة منفیة ، والمستثنی «بإلا» مثبت بعد الکلام المنفی ، فلو أبدلنا کلمة : «رجلا» من کلمة : «شیء» لکان هذا البدل مستلزما فی التقدیر وقوع الباء - وهی العامل فی المبدل منه - قبل البدل أیضا ؛ لأن البدل علی نیة تکرار العامل ؛ فیترتب علی هذا دخول «باء» الجر الزائدة علی مثبت ؛ وهو عندهم ممنوع. فللفرار من هذا أبدلوا کلمة : «رجلا» من کلمة : «شیء» مع مراعاة محلها ، لا لفظها ، لأن محلها النصب ؛ فهی مجرورة لفظا ، منصوبة محلا ، باعتبارها خبر : «لیس»!!

ومثل : لا ساهر هنا إلا حارس. لا یجوز عندهم أن تکون کلمة : «حارس» بدلا منصوبا من محلّ کلمة ؛ «ساهر» المبنیة علی الفتح لفظا فی محل نصب. وحجتهم أن کلمة : «ساهر» ... اسم «لا» واسم «لا» منفی ، أما المستثنی هنا فموجب ، لوقوعه بعد «إلّا». (وما بعدها مخالف لما قبلها نفیا وإثباتا ، کما تقدم) - ولما کان العامل فی المستثنی منه : هو : «لا» النافیة للجنس وجب عندهم أن تکون عاملة أیضا فی المستثنی ؛ لأن العامل فی الاثنین لا بد - فی الرأی المشهور - أن یکون واحدا ، ثم یقولون : کیف تعمل «لا» فی المستثنی الموجب وهی لا تعمل إلا فی منفی؟ وللفرار من هذا قالوا : إن البدل هو من محل اسم «لا» قبل دخولها ، ولیس من محل اسمها بعد دخولها ، فاسمها قبل کان مبتدأ (1) فالبدل مرفوع مثله ، ولا عمل للناسخ فیه إذ ذاک.

ومثل : ما الخائن شیئا إلا رجل حقیر ؛ فقد منعوا أن تکون کلمة : «رجل»

ص: 310


1- یجوز فی هذا المثال من الأوجه الإعرابیة ما یجوز فی أشباهه التی عرضوها فی باب «لا» النافیة للجنس - آخر الجزء الأول - ؛ ومنها : «لا إله إلا الله». فقد جوزوا فی کلمة : «الله» ما یأتی : ا - الرفع علی البدلیة ؛ مراعاة لمحل «لا مع اسمها ؛ لأن محلها رفع علی الابتداء عند سیبویه. ب - أو : الرفع علی البدلیة مراعاة لمحل اسم «لا» باعتباره فی الأصل مبتدأ مرفوعا قبل دخول الناسخ. ج - أو : الرفع علی البدلیة من الضمیر المستتر فی خبر «لا» المحذوف ؛ فأصل الکلام لا إله موجود ؛ أی : هو. د - أو : النصب علی الاستثناء من هذا الضمیر المستتر ؛ لأن الجملة تامة غیر موجبة ؛ فیجوز فی المستثنی أمران کما عرفنا : البدلیة ، أو : النصب علی الاستثناء.

بدلا منصوبا من کلمة : «شیئا» المنصوبة. وحتموا أن تکون بدلا مرفوعا من کلمة : «شیئا» باعتبار أصلها ؛ فقد کانت خبرا مرفوعا للمبتدأ قبل مجیء «ما» الحجازیة التی تعمل عمل : «لیس». وسبب المنع أن المستثنی منه منفی ، والمستثنی موجب ، والعامل فی الاثنین واحد ؛ هو : «ما» الحجازیة ، فتکون «ما» الحجازیة قد علمت فی الموجب ، وهی لا تعمل إلا فی المنفیّ.

ذلک رأیهم ودلیلهم (1) فی کل ما سبق من الأمثلة الممنوعة ، وهو رأی غریب (إذ ما الحکمة - کما قال بعض آخر (2) من النحاة - فی ارتکاب هذا التکلف (3)؟ مع أن القاعدة : أنه یغتفر فی التابع ما لا یغتفر فی المتبوع (4). ومثلوا له بقوله تعالی : (اسْکُنْ أَنْتَ وَزَوْجُکَ الْجَنَّةَ -) حیث لا یمکن تسلیط العامل علی المعطوف (5) - فهلا جاز هنا فی البدل الجر أو النصب تبعا للفظ المبدل منه بناء علی هذه القاعدة ...) (6).

وشیء آخر له الأهمیة الأولی ، ولا أعرف أنهم ذکروه ؛ هو کلام العرب فی مثل ما سبق ، والمأثور من أسالیبهم ، أجاء خالیا من إتباع المستثنی للفظ المستثنی منه ، أم لم یجئ؟ وفی الحالتین لا یقوم دلیل علی المنع ؛ لأن عدم المجیء لیس معناه التحریم ، فالأمر السلبی لا یکفی فی انتزاع حکم قاطع مخالف للمألوف فی نظرائه التی یتبع فیها البدل حرکة المبدل منه اللفظیة ، کما أن المجیء قاطع فی الصحة.

ص: 311


1- راجع الأشمونی ، وحاشیة الصبان ج 2 أول باب : «الاستثناء» ، عند الکلام علی البدل ، فی الکلام التام غیر الموجب.
2- راجع الأشمونی ، وحاشیة الصبان ج 2 أول باب : «الاستثناء» ، عند الکلام علی البدل ، فی الکلام التام غیر الموجب.
3- عرضنا صورا من تطبیقه فی آخر الجزء الثالث عند الموازنة بین عطف البیان وبدل الکل.
4- وقد یعبرون عن هذه القاعدة بتعبیرات مختلفة الألفاظ متحدة المعانی ؛ منها : (یغتفر کثیرا فی الثوانی ما لا یغتفر فی الأوائل) - کما جاء فی الصبان ، فی باب الإضافة ، عند الکلام علی : «أی» ومنها : (یغتفر فی الثوانی ما لا یجوز فی الأوائل) - کما جاء فی الهمع ج 1 ص 215 عند الکلام علی الظرف : «لدن» - انظر ما یتصل بهذا فی رقم 1 من هامش ص 67 وص 490.
5- لأن فعل الأمر لا یرفع اسما ظاهرا. ومثل هذا ما یقال فی الحرف : «ربّ» من صحة عطف المعرفة علی الاسم المجرور بها مع أن «رب» لا یجر إلا النکرة - کما سیجیء فی حروف الجر -.
6- وقد ردوا کلامه بأن الأخذ بتلک القاعدة إنما یکون فی بعض المواضع دون بعض ولیست مطردة. وهذا غریب أیضا.

الحق أن هذا کله - وأشباهه - هو الجانب المعیب فی : «نظریة العامل» ، إذ یمنحه سلطانا قویّا یتحکم به فی صیاغة الأسلوب ، أو فی ضبطه ، بغیر سند یؤیده من فصیح الکلام. وقد سبق أن امتدحنا هذه النظریة البارعة التی لم تصدر إلا عن عبقریة ، وذکاء لماح ، وقلنا (1) إنها لا عیب فیها إلا ما قد یشوبها فی قلیل من الأحیان من مثل هذه الهنوات.

(ح) فی مثل : ما أحد یقول الباطل إلا الدنیء ، یجوز فی کلمة : «الدنیء» أن یکون بدلا مرفوعا من کلمة : «أحد» أو : من ضمیره المستتر الواقع فاعلا للمضارع. ویجوز نصبه علی الاستثناء. فللرفع ناحیتان ، وللنصب واحدة.

أما فی مثل : ما رأیت أحدا یقول الباطل إلا الدنیء ، فیجوز فی کلمة : «الدنیء» النصب علی الاستثناء ، أو : علی البدلیة من کلمة : «أحدا» المنصوبة ویجوز فیها الرفع علی البدلیة من الفاعل المستتر فی الفعل المضارع ؛ فللنصب ناحیتان وللرفع ناحیة.

* * *

ص: 312


1- ج 1 ص 45 م 6.

(ب) إذا کانت أداة الاستثناء هی «إلا» ، المکررة (1) :

(ا) قد یکون تکرارها بقصد التوکید اللفظیّ المحض ، وتقویة «إلا» الأولی الاستثنائیة ، بغیر إفادة استثناء جدید. ولهذه الحالة صورتان :

الأولی : أن تقع «إلا» التی تکررت للتوکید اللفظی المحض ، بعد «الواو» العاطفة - ولا یصح أن تقع بعد غیرها من حروف العطف - نحو : أحب رکوب السفن إلا الشراعیة ، وإلا الصغیرة. فالواو حرف عطف. «إلا» الثانیة : للتوکید اللفظیّ ، ولا تفید استثناء. و «الصغیرة» معطوفة علی «الشراعیة» ؛ فهی مستثنی ، بسبب العطف ، لا بسبب «إلا» المکررة (2). ولهذا یکون المستثنی المعطوف تابعا للمعطوف علیه فی ضبطه.

الثانیة : ألّا تقع «إلا» التی جاءت للتکرار بعد حرف عطف ، ولکن یکون اللفظ الواقع بعدها مباشرة متفقا مع المستثنی الذی قبلها فی المعنی والمدلول. برغم اختلاف اللفظین فی الحروف الهجائیة ، ویکون ضبط اللفظ بعد المکررة مبنیّا علی افتراض أنها غیر موجودة ؛ فوجودها وعدمها سواء من ناحیة الحکم الإعرابی الذی یخصه. مثال ذلک رجل یقال له : هارون الرشید ، أو : محمد الأمین ... أو ... نحو : جاء القوم إلا هارون إلا الرشید ، اشتهر الخلفاء إلا محمدا إلا الأمین. فکلمة : «إلا» الثانیة فی المثالین لا تفید استثناء جدیدا ، لأن «الرشید» المقصود ، هو : «هارون» ، و «الأمین» هو : «محمد». وإنما أفادت الثانیة توکیدا لفظیّا

ص: 313


1- سبق الکلام علی : «إلا» غیر المکررة فی ص 296.
2- وهذا الحکم ینطبق علی جمیع أنواع المستثنی الثلاثة إذا تکررت «إلا» وقد سبق مثال «التام الموجب» أما مثال «التام غیر الموجب» فنحو : لا أحب رکوب السفن إلا البواخر ، وإلا الکبیرة. وأما مثال «المفرغ» فقول الشاعر : لا یمنح النفس ما ترجوه من أرب إلا الطموح ، وإلا الجدّ ، والعمل وقول الآخر : وما الفضل إلا أن تجود بنائل وإلا لقاء الخلّ ذی الخلق العالی فالمصدر المؤول بعد «إلا» ، الأولی خبر. أما الثانیة فلمجرد التوکید اللفظی ، والمصدر الصریح بعدها معطوف بالواو علی المصدر المؤول.

لکلمة : «إلا» الأولی ، ولا تأثیر لها فی ضبط کلمتی : «الرشید والأمین» ، فکل واحدة منهما تعرب هنا بدل کل من کل (1) ، أو : عطف بیان من المستثنی الأول. ولو حذفنا کلمة : «إلا» التی جاءت للتکرار ما تغیر الضبط ولا الإعراب ، فوجودها لا أثر له من هذه الناحیة.

ولو قلنا : ما جاء القوم إلا هارون إلا الرشید لصحّ فی کلمة : «الرشید» الرفع أو النصب ، تبعا لکلمة : «هارون» التی یجوز فیها الأمران ، بسبب أن الاستثناء تام غیر موجب. وکذلک ما جاء القوم إلا محمدا ، أو محمد ، إلّا الأمین ؛ فیجوز فی کلمة : «الأمین» الأمران للسبب السابق. فکأن «إلا» المکررة غیر موجودة : إذ لا أثر لها فی الحکم الإعرابیّ.

ولو قلنا : ما اشتهر إلا هارون إلا الرشید ، لوجب رفع کلمة «الرشید» إتباعا لکلمة : «هارون» التی یجب رفعها ؛ بسبب أن الاستثناء مفرّغ. وکذلک الحال فی المثال الثانی (2).

* * *

(ب) وقد یکون تکرارها لغیر التوکید اللفظیّ وإنما الغرض استثناء جدید : بحیث لو حذفت لم یفهم الاستثناء الجدید ، ولم یتحقق المراد منه ؛ فهی فی هذا الغرض کالأولی تماما ؛ کلتاهما تفید استثناء مستقلا ؛ وفی هذه الحالة تتعدد الأحکام علی الوجه الآتی :

1 - إن کان تکرارها فی کلام تام موجب فالمستثنیات کلها منصوبة فی کل الأحوال ؛ نحو ظهرت النجوم إلا الشمس - إلا القمر - إلا المرّیخ.

ص: 314


1- البدل فی هذا المثال بدل کل من کل ، وفی غیره قد یکون بدل بعض ، أو : اشتمال ، أو : إضراب ؛ مثل : ما أعجبنی أحد ، إلا الطبیب الرحیم ، إلا وجهه ، أو : إلا عطفه ، أو : ما أعجبنی أحد ، إلا الطبیب الرحیم ، إلا المهندس المبتکر.
2- وفی «إلا» المکررة للتوکید یقول ابن مالک : وألغ إلّا ذات توکید ؛ کلا تمرر بهم ، إلّا الفتی إلّا العلا یرید : اعتبر «إلا» ملغاة ، أی : غیر موجودة ، إذا کانت للتوکید ، وأردت أن تضبط ما بعدها. ومثل لها بمثال هو : لا تمرر بهم إلا الفتی إلا العلا. والعلا أو العلاء ، هو اسم الفتی. فالفتی هو : العلاء ، والعلاء هو الفتی. وهو بدل کل ، أو عطف بیان من کلمة : «الفتی». ولو حذفت «إلا» المکررة ما تغیر الإعراب ؛ فوجودها وعدمها سیان من هذه الوجهة الإعرابیة ، - کما شرحنا -.

2 - إن کان الکلام تامّا غیر موجب والمستثنیات متقدمة نصبت جمیعا ؛ نحو : ما غاب إلا الشمس - إلا القمر إلا المرّیخ - النجوم. فإن تأخرت نصبت أیضا. ما عدا واحدا منها - أیّ واحد - فیجوز فیه أمران ؛ إما النصب علی الاستثناء کغیره ، وإما البدل من المستثنی منه ؛ مثل : ما غابت النجوم ، إلا الشمس (بالرفع أو النصب) إلا القمر - إلا المرّیخ.

3 - إن کان الکلام مفرغا وجب إخضاع احد المستثنیات (1) لحاجة العامل الذی قبل «إلا» «الأولی» ، ونصب باقی المستثنیات ، نحو ما نبت إلا قمح جید - إلا شعیرا غزیرا - إلا قصبا قویّا ...

وإذا کانت «إلا» التی جاءت للتکرار تفید استثناء جدیدا - کما سبق - فلا بد أن یجیء بعدها مستثنی ، ولا بد أن یکون له مستثنی منه. فأین هذا المستثنی منه؟ أهو المستثنی منه الأول السابق ، أم هو المستثنی الذی قبل «إلا» المکررة مباشرة ، فیکون المستثنی الذی بعدها خارجا ومطروحا من المستثنی الذی قبلها مباشرة؟ وبعبارة أخری : أین «المستثنی منه» بعد «إلا» المکررة لغیر توکید فی مثل : بکّر العاملون إلا صالحا ، إلا محمودا ، إلا حسینا؟ فکلمة : «محمودا» مستثنی ثان ، فأین المستثنی منه؟ أهو : «العاملون» المستثنی منه الأول ، أم هو «صالحا» المستثنی الذی قبله مباشرة؟

وکذلک : «حسینا» مستثنی ثالث ... فأین المستثنی منه؟ أهو العاملون أم (محمودا) ، أم ما ذا؟

إذا لم یمکن استثناء بعض المستثنیات من بعض - کهذا المثال - کان المستثنی منه هو الأول حتما ، وهو هنا : العاملون. أما إذا أمکن استثناء کل واحد مما قبله مباشرة - کالأعداد - فیجوز الأمران ، أی : استثناء کل واحد مما قبله مباشرة ، أو استثناء المجموع من المستثنی منه الأول ؛ ففی مثل : أنفقت عشرة ، إلا أربعة ، إلا اثنین ، إلا واحدا ، یجوز إسقاط المستثنیات کلها من العشرة ، فنجمع أربعة ، واثنین ، وواحدا ، ونطرح المجموع من العشرة ؛ فیکون الباقی الذی أنفق هو ثلاثة. أی : 10 - (4+ 2+ 1) - 3 کما یجوز إسقاط المستثنی

ص: 315


1- لیس من اللازم أن یکون الأول ، وإن کان هو المستحسن.

الأخیر مما قبله مباشرة. ثم نسقط الباقی من المستثنی الذی قبله ... وهکذا ، فما بقی آخر الأمر یکون هو المطلوب ، ففی المثال السابق : نطرح 1 من 2 فیکون الباقی : 1 ثم نطرح 1 من 4 فیکون الباقی : 3 ثم نطرح 3 من 10 فیکون الباقی : 7 وهو المبلغ الذی أنفق.

والأحسن فی الطریقة الثانیة جمع الأعداد التی فی المراتب الفردیة ، ومنها المستثنی منه الأول ، ثم جمع الأعداد التی فی المراتب الزوجیة ، وطرح مجموعها من مجموع الفردیة ، فباقی الطرح هو المطلوب.

ویلاحظ أن الطریقتین جائزتان ولکن نتیجتهما مختلفة ، ولهذا کان اختیار إحداهما خاضعا للقرائن ؛ فهی التی تعین إحداهما فقط مراعاة للمعنی.

* * *

ولو أردنا تلخیص کل ما تقدم من الأحکام الخاصة بکلمة : «إلا» المکررة (1)

ص: 316


1- وفی أحکام «إلا» المکررة لغیر التوکید یقول ابن مالک : وإن تکرّر لا لتوکید فمع تفریغ - التأثیر بالعامل دع فی واحد ممّا بإلّا استثنی ولیس عن نصب سواه مغنی (التقدیر : إن تکررت «إلّا» لتوکید فدع التأثیر بالعامل فی واحد مما استثنی بإلا - مع التفریغ. أی : فی حالة التفریغ ...) یرید : إذا تکررت «إلا» لغیر التوکید فإن کان الکلام مفرغا فاترک واحدا من المستثنیات لیخضع لتأثیر العامل الذی فی الجملة السابقة ، وانصب باقی المستثنیات ، فلیس عن نصبها غنی ، أی : مفر. ثم انتقل إلی الحالات الأخری التی لیس فیها تفریغ ؛ فقال : ودون تفریغ مع التّقدّم نصب الجمیع احکم به والتزم یرید فی الحالات التی لیس فیها تفریغ - وهی حالة التام الموجب ، وحالة التام غیر الموجب - إن تقدمت المستثنیات وجب نصبها جمیعا فی مختلف أحوالها. أما إن تأخرت فقال فیها : وانصب لتأخیر ، وجئ بواحد منها ؛ کما لو کان درن زائد کلم یفوا إلّا امرؤ إلّا علی وحکمها فی القصد حکم الأوّل أی : تنصب المستثنیات کلها فی حالة التأخیر ؛ فإن کان الکلام تاما غیر موجب ، صح اختیار واحد منها ، وضبطه بما کان یستحقه من الضبط لو لم تتکرر إلا ، وهذا الضبط هو البدایة أو النصب کما وضحه مثاله ؛ وهو : (لم یفوا إلا امرؤ إلا علی) فیجوز فی «علی» الرفع علی البدلیة من «امرؤ» ، أو النصب. ثم بین أن المستثنیات کلها مقصودة کالمستثنی الأول. فما تکرر من المستثنیات حکمه فی المعنی حکم الأول ؛ فیثبت له ما یثبت للأول من الخروج مما قبله إثباتا أو نفیا.

المفیدة لاستثناء جدید - أی : التی لیست للتوکید المحض - لکان التلخیص الموجز هو :

1 - إذا تکررت «إلا» لغیر التوکید نصبت بعدها المستثنیات فی جمیع الأحوال ، وفی مختلف الأسالیب ، إلا فی حالة : «التفریغ» فیجب - حتما - تخصیص مستثنی واحد یخضع فی إعرابه لحاجة العامل ، ونصب ما عداه.

2 - ویجوز فی حالة الکلام التام غیر الموجب إذا تأخرت المستثنیات اختیار واحد منها لیکون بدلا من المستثنی منه الأول ، ویجوز نصبه مع باقیها.

ص: 317

زیادة وتفصیل

(ا) فی کل حالة یجوز فیها الأمران ؛ (العطف والمعیة) ، لا بد أن یختلف المعنی فی کل أمر منهما ؛ ذلک أن العطف یقتضی المشارکة الحتمیة بین المعطوف والمعطوف علیه فی معنی الفعل ، من غیر أن یقتضی المشارکة الزمنیة الحتمیة ؛ فقد یقتضیها أو لا یقتضیها ، ففی مثل : «آنسنی محمود وصالح فی السفر» لا بد أن یشترک الاثنان فی مؤانسة المتکلم ، وأن تتناولهما المؤانسة ؛ لأن العطف علی نیة تکرار العامل ؛ فکأنک قلت : آنسنی محمود ، وآنسنی صالح. لکن لیس من اللازم أن تکون هذه المؤانسة قد شملتهما ، وشملت المتکلم فی زمن واحد ؛ فقد تکون فی وقت واحد أو لا تکون (1). والأمر فی هذه المشارکة الزمنیة وعدمها ، متروک للقرائن والدلائل.

أما المفعول معه فلا بد فیه من المشارکة الزمنیة الحتمیة. أما المشارکة المعنویة فقد یقتضیها أو لا یقتضیها (2) ؛ ففی مثل : سافر الرحالة والصحراء ، تتعین المشارکة الزمنیة وحدها دون المعنویة ؛ فإنها تفسد المعنی ؛ لأن الصحراء لا تسافر ... وفی مثل : سار القائد والجنود ، تصح المشارکة المعنویة مع المشارکة الزمنیة المحتومة فجواز الأمرین فی کل حالة یجوز فیها أمران لیس معناه أن المراد منهما واحد. وإنما معناه أن هذا الضبط صحیح إن أردت المعنی المعین المختص به ، وأن ذاک الضبط صحیح أیضا إن أردت المعنی المختص به کذلک. وإن شئت فقل : إن کل ضبط صحیح منهما لا بد أن یؤدی إلی معنی یخالف ما یؤدیه الضبط الآخر.

(ب) قد یقتضی المقام ذکر أنواع مختلفة من المفاعیل. وفی هذه الحالة یحسن ترتیبها بتقدیم المفعول المطلق ، فالمفعول به الذی تعدی إلیه العامل مباشرة. فالمفعول به الذی تعدی إلیه العامل بمعونة حرف جرّ ، فالظرف الزمانی ، فالمکانی ، فالمفعول له ، فالمفعول معه. وهذا الترتیب هو ما ارتضاه کثیر من النحاة. والحق أن الذی یجب مراعاته عند الترتیب هو تقدیم ما له الأهمیة.

ص: 291


1- کما سبق فی رقم 5 من هامش ص 289.
2- کما سبق فی ص 283.

المسألة 82: أحکام المستثنی

اشارة

الذی أدواته أسماء (1) : (غیر ، وسوی ، بلغاتها المختلفة)

من أدوات الاستثناء ما هو اسم صریح ؛ أشهره : غیر ، وسوی (وفیها لغات مختلفة : سوی ، سوی ، سواء ، سواء) وهذه الأسماء الصریحة - عند استعمالها أداة استثناء - تشترک فی المعنی وفی الحکم.

فأما «غیر» - ومثلها نظیراتها - فمعناها إفادة المغایرة ... أی : الدلالة علی أن ما بعدها مغایر ومخالف لما قبلها فی المعنی الذی ثبت له ، إیجابا أو نفیا ؛ فمعنی : «أسرع المتسابقون غیر سعید» ، أنهم أسرعوا مغایرین ومخالفین فی هذا سعیدا ؛ فهو لم یسرع ، فکان مخالفا ومغایرا لهم أیضا. وکذلک : «ما ضحک الحاضرون غیر صالح». فالمعنی : أنهم لم یضحکوا ، مغایرین مخالفین صالحا فی هذا ، أی : فی عدم الضحک ؛ لأنه ضحک دونهم ، فکان مخالفا ومغایرا أیضا. ومثل هذا یقال فی بقیة أسماء الاستثناء.

وأما حکم تلک الأسماء فینحصر فی أمرین (2) ؛ أولهما : ضبط المستثنی الواقع بعد کل اسم منها ، وطریقة إعرابه.

وثانیهما : ضبط أداة الاستثناء الاسمیة ، وطریقة إعرابها ، (لأنها اسم لا بد له من موقع إعرابیّ ؛ فیکون مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، علی حسب موقعه من الجملة ؛ کشأن جمیع الأسماء).

ص: 318


1- من هذه الأسماء : بید ، وسیجیء الکلام علیها وعلی الفرق بینها وبین «غیر» وأخواتها فی : «ا» «من» الزیادة ، ص 324.
2- لا بد قبل النظر فی تحقق هذین الأمرین معا ، من أن یکون الکلام جاریا علی ما یقتضیه ویتطلبه أسلوب الاستثناء ؛ بحیث لا یستقیم المعنی إلا علی أساس الاستثناء. والسبب فی هذا الشرط أن کل اسم من أدوات الاستثناء الاسمیة یصلح فی ذاته لأشیاء کثیرة ، منها الاستثناء ، وغیره ؛ فلا یتعین للاستثناء إلا إذا اقتضی السیاق ذلک ، وتحققت أرکان الاستثناء بوجود المستثنی منه ، أو بعدم وجوده إن کان الکلام «مفرغا» فلا بد من النظر لحاجة السیاق أولا - انظر رقم 2 وما بعدها ص 324.

ا - فأما ضبط المستثنی وإعرابه فلیس له إلا ضبط واحد ، وإعراب واحد ، هو : ضبطه بالجر ، ویعرب «مضافا إلیه» ، إلیه دائما ، - ولا بد أن یکون مفردا (1) - والأداة الاسمیة هی المضاف. کما فی الأمثلة الآتیة :

أ -

أسرع

المتسابقون

غیر

سعید.

فرح

الفائزون

غیر

واحد.

ظهرت

النجوم

غیر

نجم.

ب -

ما أسرع

المتسابقون

غیر سعید ،

أو : غیر سعید.

ما رأیت

الفائزین

غیر سعید ،

أو : غیر سعید.

ما

نظرت للنجوم غیر

نجم ، أو :

غیر نجم.

ح -

ما أسرع

...

غیر سعید.

ما رأیت

...

غیر سعید.

ما نظرت

...

لغیر سعید.

ففی کل هذه الأمثلة - وأشباهها - لا یکون المستثنی إلا مضافا إلیه مجرورا ، مفردا (2) ، وأداة الاستثناء الاسمیة هی : المضاف.

ب - وأما ضبط أداة الاستثناء وإعرابها فیختلف باختلاف حالة الکلام ، فحین یکون الکلام تامّا موجبا ، تنصب علی الاستثناء کما فی «ا» من الأمثلة السالفة ، وکقول الشاعر :

کلّ المصائب قد تمرّ علی الفتی

وتهون ، غیر شماتة الحسّاد

وحین یکون الکلام تامّا غیر موجب یجوز نصبها علی «الاستثناء» ، ویجوز إتباعها للمستثنی منه ؛ کما فی «ب» من الأمثلة السالفة ، وقولهم : أین الأقوال من الأفعال ، فلن تتحقق بالکلام الغایات الجلیلة غیر بعض منها ، وما أقلّه؟

وحین یکون الکلام مفرغا تضبط وتعرب علی حسب حاجة الجملة ؛ فقد

ص: 319


1- أی : لیس جملة ولا شبهها
2- فی الأخذ بهذا الرأی راحة وسهولة ؛ لأنه یسایر فی إعرابه إعراب المنصوب من المستثنیات الأخری. ولأن الاعتراض علیه أخف من الاعتراض علی الرأی القائل بإعرابها حالا مؤولة ؛ بمعنی : «مغایر» ، وعلی الرأی القائل إنها منصوبة علی التشبیه بظرف المکان فی الإبهام (انظر الحالة الثانیة التی تشتمل علی ما ألحق بأسماء الزمان المبهمة - ص 280) ، ولسنا بحاجة إلی الإثقال بعرض الأدلة ؛ لأنها جدلیة محضة ؛ ولا أثر لها فی الأمر الهام. وهو : ضبط الکلمة.

تکون فاعلا ، أو مفعولا ، أو غیرهما ، کما فی «ج» من الأمثلة السالفة ، وکقولهم : لا ینفع المرء غیر عمله.

یفهم من کل ما تقدم : أنه یطبق علیها عند ضبط صیغتها الخاصة کل الأحکام التی تجری علی المستثنی بإلا عند إرادة ضبطه (1) بالتفصیلات المختلفة التی سبقت هناک. ولا فرق فی هذا بین : «غیر» وباقی أخواتها الأسماء (2).

لکن بینها وبین أخواتها (3) بعض فروق فی نواح أخری ؛ منها : أن المضاف إلیه بعد الأداة «غیر» (4) قد یحذف إذا دلت علیه قرینة : مثل : عرفت خمسین لیس غیر (5) ، أی : لیس غیر الخمسین. ولا یصح : عرفت خمسین لیس سوی. لأن «سوی بلغاتها المختلفة واجبة الإضافة لفظا ومعنی ، ولا یصح قطعها عن هذه الإضافة اللفظیة (6).

ص: 320


1- ویجوز بناؤها علی الفتح فی کل الحالات بشرط أن تکون مضافة إلی مبنی. شأنها فی ذلک شأن الأسماء المتوغلة فی الإبهام - وقد سبقت الإشارة إلی المراد منها فی باب الظرف ص 279 - (ومنها : غیر ، ومثل ، وبعض الظروف التی عرضناها ...)
2- وفیما سبق یقول ابن مالک : واستثن مجرورا بغیر ، معربا بما لمستثنی بإلّا نسبا ولسوی ، سوی ، سواء - اجعلا علی الأصح ما لغیر جعلا (التقدیر : استثن بکلمة : غیر ، مجرورا ، أی : مستثنی مجرورا. حالة کون لفظ : «غیر» معربا بمثل ما نسب للمستثنی بإلا. أی : معربا مثل إعرابه فی الحالات المختلفة). یرید : أن المستثنی «بغیر» مجرور دائما. وأن کلمة «غیر» نفسها تضبط بالضبط الذی یکون للمستثنی «بإلا» فیما لو حذفت «غیر» ، وحلت محلها : «إلا» وجاء بعد «إلا» مستثناها. - کما شرحنا -. ثم بین أن مثل «غیر» فی ذلک کلمات أخری ؛ منها : سوی - وسوی - سواء. وأن الأصح أنها تشبهها فی الاستثناء. ولیست ظرفا إلا عند فریق.
3- أما الفرق بین «غیر» و «إلا» و «بید» فیجیء فی «ب» من ص 324.
4- وبعض أدوات سیجیء ذکرها فی مکانها الخاص من باب الإضافة ج 3.
5- یصح ضبط «غیر» هنا بأوجه متعددة ؛ (کما سبق فی باب الظروف ص 265) ، والتقدیر مثلا : کالبناء علی الضم ؛ باعتبارها اسم «لیس» والخبر محذوف ؛ ویکون المضاف إلیه محذوفا مع نیة معناه لیس غیرها معروفا. ویجوز فی : «غیر» أن تکون مبنیة علی الفتح لإضافتها إلی مبنی (وهو : الضمیر) فی محل رفع اسم «لیس» أیضا والخبر محذوف کالسابق. ویجوز أن تکون مرفوعة منونة باعتبارها اسم «لیس» ، والمضاف إلیه محذوف ، ولم ینو لفظه ولا معناه ، والخبر محذوف أیضا ، أی : لیس غیر ... معروفا. ویجوز نصبها مع تنوینها باعتبارها خبر «لیس» واسمها محذوف ؛ والتقدیر : عرفت خمسین لیس المعروف غیرا ، أی : غیرها - وسیجیء الکلام علی : «غیر» فی باب الإضافة - ج 3 م 95 -.
6- بیان هذا فی مکانه المناسب من باب الإضافة (ج 3) عند الکلام علی : «غیر».

ومنها : أن «غیر» لا تکون ظرفا. أما «سوی» فتقع ظرف مکان فی مثل : جاء الذی سواک ، عند من یری ذلک ، وجعلها صلة الموصول ؛ (لأن الصلة لا تکون إلا جملة أو شبه جملة) ، والتقدیر عنده : جاء الذی استقر فی مکانک عوضا عنک ، ثم توسعوا فی استعمال «سواک» ومکانک ، فجعلوهما - مجازا - بمعنی : «عوضک» من غیر ملاحظة حلول بالمکان.

ومنها : أن استعمال «غیر» فی الاستثناء لیس هو الأکثر ، وإنما الأکثر أن تکون :

1 - نعتا لنکرة ؛ فتفید مغایرة مجرورها للمنعوت ، إما فی ذاته المادیة ؛ نحو : أقبلت علی رجل غیر (1) علیّ ، وإما فی وصف طارئ علی ذاته المادیة ، نحو : خرج البریء من المحکمة بوجه غیر الذی دخل به ، ذلک أن وصف الوجه مختلف فی الحالتین ... أما ذات الوجه ، ومادته التی یتکون منها ، فلم تتغیر. وکقول الشاعر :

تحاول منی شیمة غیر شیمتی

وتطلب منی مذهبا غیر مذهبی

«فالشیمة ، أو المذهب» وصف طارئ علی الذات ، وأمر عرضیّ لاحق بها ، ولیس جزءا أساسیّا من تکوینها المادیّ الأصیل.

2 - أو نعتا لشبه النکرة : وهو المعرفة المراد منها الجنس (2) ، نحو قوله تعالی : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ) فکلمة «غیر» مجرورة ، وهی لذلک نعت لکلمة : «الذین» المراد بها جنس لأقوام معیّنین (3) ، ولیست للاستثناء ؛ إذ لو کانت للاستثناء لوجب نصبها

ص: 321


1- لیست هنا أداة استثناء لما هو مقرر من وجوب أن یکون المستثنی منه - فی الأغلب - أعم من المستثنی ، بحیث یشمله.
2- کاسم الموصول ؛ فإنه مبهم باعتبار عینه ، من غیر اعتبار صلته معه ؛ فإنها تزیل إبهامه ، وتجعله معینا. (کما سیجیء فی «ج» من ص 325).
3- کیف تقع «غیر» نعتا لاسم الموصول وأشباهه مع أنها نکرة وهو معرفة؟ والجواب : أن منعوتها وحده - من غیر الصلة - بمنزلة النکرة ؛ فهی مطابقة له فی التنکیر ، أو : أن إبهامها وتنکیرها ضعیفان - بسبب وقوعها بین ضدین - فهی قریبة من المعرفة ؛ فتقع نعتا للمعرفة. بالإیضاح الذی : کر عنها فی ج 3 باب الإضافة. والرأی الحق هو أن العرب استعملت فی کلامها «غیر» نعتا للنکرة أحیانا ، وللمعرفة التی تشبهها حینا ؛ کما فی الآیة المعروضة.

وإذا وقعت نعتا - کما فی الحالتین السالفتین - فإنها تکون مؤولة بالمشتق بمعنی : مغایر (1).

3 - یلی هاتین فی الکثرة أن تقع موقعا إعرابیّا آخر مما تصلح له الأسماء الجامدة ؛ کالمبتدأ فی قول الشاعر :

وغیر تقیّ یأمر الناس بالتقی

طبیب یداوی والطبیب مریض

وکالخبر - ومنه خبر النواسخ - فی قول الشاعر :

وهل ینفع الفتیان حسن وجوههم

إذا کانت الأعمال غیر حسان

وکالفاعل ونائبه ، والمفعول به ... و... ، وکل هذا قیاسی فصیح.

أما «سوی» فالأکثر فیها أن تکون للاستثناء ؛ کالأمثلة السالفة ؛ ولغیر الاستثناء فی نحو : سواک متسرع - رأیت سواک متسرعا - القوة بسوی الحق مهزومة ... - لا ینفع سوی الصبر عند معالجة المشکلات ، وکقول الشاعر :

وإذا تباع کریمة أو تشتری

فسواک بائعها ، وأنت المشتری

وقول الآخر :

أأترک لیلی لیس بینی وبینها

سوی لیلة؟ إلی إذا لصبور

وقد تکون نعتا لنکرة ، أو لشبه نکرة کما تکون «غیر» ... وهکذا (2).

* * *

حکم تابع المستثنی «بغیر» وأخواتها :

مما یلاحظ أن المستثنی «بغیر وأخواتها» مجرور دائما ؛ لأنه مضاف إلیه لکن إذا جاء بعده تابع (3) له جاز فی التابع أمران :

أحدهما : الجر مراعاة للفظ المستثنی المجرور ؛ نحو : قدمت المنح للفائزین غیر محمود وحسن.

ثانیهما : ضبطه بمثل ضبط المستثنی «بإلّا» ، لو حذفت «غیر» وحل محلها : «إلا». وذلک بأن نتخیل حذف : «غیر» ، ووقوع «إلا» موقعها ؛

ص: 322


1- لأن النعت لا یکون إلا مشتقا ، أو مؤولا به.
2- سیجیء فی : ه من ص 336 أن «سوی» قد تکون - أحیانا - بمعنی : (ولا سیما) ؛ طبقا للبیان الشامل الذی سبق تفصیله فی ج 1 م 28 ص 366 - باب : «الموصول».
3- سبق أن التوابع أربعة : النعت - العطف - التوکید - البدل. (وفی الجزء الثالث باب خاص بکل واحد).

وضبط المستثنی بغیر علی حسب ما تقتضیه الحالة الجدیدة بسبب : «إلا» ، ثم نضبط تابعه بمثل حرکته الجدیدة ، ففی المثال السابق : قدمت المنح للفائزین غیر محمود - یصیر : قدمت المنح للفائزین إلا محمودا ، فصار المستثنی منصوبا مع «إلا» بعد أن کان مجرورا مع الأداة : «غیر» ، فیصح فی تابعه أن یکون منصوبا مع «غیر» أیضا علی تخیل «إلا» المقدرة والملحوظة ، وأن المستثنی بها - علی فرض وجودها فی الکلام - منصوب ؛ فنقول : غیر محمود ، وحسن أو : غیر محمود وحسنا ؛ بافتراض أن کلمة : «محمود» مجرورة فی ظاهرها ؛ لأنها مستثنی للأداة «غیر» ، ومنصوبة فی التقدیر والتوهم ؛ لأنها مستثنی للأداة: «إلا» المقدرة ، ولهذا یصح النصب والجر فی کلمة : «ضرب» من قول الشاعر :

لیس بینی وبین قیس عتاب

غیر طعن الکلی ، وضرب الرقاب

ومثل : ما جاء الفائزون غیر محمود وحسن ، أو : حسنا ، أو : حسن ؛ لأننا لو وضعنا الأداة «إلا» مکان الأداة «غیر» لجاز فی المستثنی ، الذی کان مجرورا بعد «غیر» أمران بعد مجیء «إلا» هما النصب علی الاستثناء ، والرفع علی البدلیة ، هکذا : ما جاء الفائزون إلا محمودا - أو محمود ، فیجوز فی تابعه الأمران : النصب والرفع ؛ وهذا یجری أیضا فی تابع المستثنی بکلمة : «غیر» التی تجیء فی مکان : «إلا» فیجوز فیه الأمران زیادة علی جرّه. ومعنی هذا أن کلمة «حسن» وهی المعطوفة فی المثال السالف ، یجوز فیها الجر ، والنصب ، والرفع.

والنحاة یسمون الضبط الناشئ من التخیل السالف : «الإعراب علی التوهم» (1) أو : «علی المحل» وهو مقصور - فی باب الاستثناء - علی المستثنی «بغیر» وأخواتها الأسماء. ولا یجوز فی غیرها. ومع جوازه المشار إلیه یحسن البعد عنه ، وعن التوهم عامة ؛ حرصا علی أهم خصائص اللغة ، وتمسکا بسلامة البیان.

ص: 323


1- انظر البیان فی رقم 4 من هامش ص 401 وله إشارة فی ص 493.

زیادة وتفصیل

(ا) من أخوات «غیر» الاستثنائیة کلمة بمعناها ، هی : «بید» (1) (وقد یقال فیها : «مید») ، ولکنها تختلف عن «غیر» فی أمور :

منها : ملازمة «بید» للنصب دائما ، علی اعتبارها حالا مؤولة ، بمعنی : «مغایر» ، أو علی اعتبارها منصوبة علی الاستثناء ؛ فلا تکون صفة ، ولا تکون مرفوعة ، ولا مجرورة ، ولا تکون منصوبة إلا علی الاعتبار السابق.

ومنها : أنها لا تکون أداة استثناء إلا فی الاستثناء المنقطع.

ومنها : أنها مضافة دائما إلی مصدر مؤول من : «أنّ ومعمولیها». ولا یجوز قطعها عن الإضافة.

ومن الأمثلة : فلان غنیّ ، بید أنه جشع ، وأخوه فقیر بید أنه عزیز النفس.

(ب) تختلف الأداتان «غیر» و «إلا» فی أمور (2) ، أهمها :

1 - أن «إلا» تقع بعدها الجمل بنوعیها الاسمیة والفعلیة ، (وقد سبق (3) القول بأنه لا داعی للأخذ بما اشترطه بعض النحاة : لوقوع الجمل بعدها وهو : ألا یکون الاستثناء متصلا ، وأن یکون الکلام مفرغا - وأن یکون الفعل فی الجمل الفعلیة إما مضارعا ، نحو : ما النبیل إلا یعمل الخیر ، وإما ماضیا مقترنا بالحرف «قد» نحو : ما النبیل إلا قد قام بالواجب ، وإما ماضیا مسبوقا بماض آخر قبل «إلا» ، نحو : ما أرسلت رسالة إلا تمنیت أن ترضی صاحبها ... ؛ فالظاهر أن ما سبق لیس بالشروط المحتومة ، وإنما هو الصور الکثیرة) (4) أما «غیر» فلا تقع بعدها الجمل ، لأنها لا تضاف إلا للمفرد.

2 - یجوز أن یقال : عندی درهم غیر جید ، علی النعت ، ولا یجوز : عندی درهم إلا جید - لأن الکثیر فی وقوع «إلا» نعتا أن یکون ذلک فی أسلوب

ص: 324


1- وهی التی سبقت لها الإشارة فی رقم 1 من هامش ص 318.
2- سبق (فی ص 320) بیان الفوارق بین «غیر» وأخواتها الأخری.
3- فی رقم 2 من هامش ص 307 البیان والإیضاح.
4- فی رقم 2 من هامش ص 307 البیان والإیضاح.

یصح فیه الاستثناء. وهنا لا یصح الاستثناء ؛ لمخالفته الکثیر (1) ...

3 - یجوز أن یقال : قام غیر واحد. ولا یجوز : قام إلا واحد ؛ لأن حذف المستثنی منه لا یکون فی الکلام الموجب.

4 - یجوز أن یقال : أقبل الإخوان غیر واحد وزمیلة ، أو زمیلة ، بجر «زمیلة» مراعاة للفظ المعطوف علیه ، أو نصبها حملا علی المعنی المتخیل - کما شرحناه ، وأبدینا فیه رأینا من قبل (2) - ولا یجوز مع «إلا» تخیل سقوطها ، وإحلال «غیر» محلها ...

5 - یجوز أن یقال : ما جئتک إلا ابتغاء علمک ، ولا یجوز مع الأداة : «غیر» إلا الجر ، أی : ما جئتک لغیر ابتغاء معروفک ؛ لأن المفعول لأجله یجب أن یکون مصدرا. و «غیر» لیست مصدرا.

(ح) قد یقتضی المعنی أن تخرج «إلا» عن الحرفیة ، وعن أن تکون أداة استثناء ، لتکون اسما بمعنی : «غیر» وتعرب صفة - بشرطین (3).

أولهما : أن یکون الموصوف نکرة أو ما شبهها من معرفة یراد بها الجنس - کما سبق (4) - مثل المعرف بأل الجنسیة ...

وثانیهما : أن یکون جمعا أو شبه جمع ، والمراد بشبه الجمع : ما کان مفردا فی اللفظ ، دالا علی متعدد فی المعنی ؛ مثل : کلمة : «غیر» ... فی نحو : جاء غیر الغریب. فغیر الغریب - وأشباهه - متعدد حتما (5).

ص: 325


1- یوضح هذا ما سبق فی رقم 2 من هامش ص 318. وما سیجیء فی «ج».
2- ص 322 و 323 - عند الکلام علی تابع المستثنی ب «غیر».
3- زاد بعض النحاة شرطا ثالثا ؛ هو : أن تکون فی الأسلوب الذی تقع فیه نعتا صالحة لأن تکون للاستثناء. والتحقیق أن هذا الشرط مردود بدلیل أن سیبویه یمثل لها بقوله : (لو کان معنا رجل إلا زید لهلکنا) بل إن المبرد یصرح - فی أحد رأییه - بأن سیبویه یشترط ألا تکون صالحة للاستثناء ، ویذکر مثاله السالف. فالصحیح أن هذا الشرط مرفوض - کما تقدم -.
4- انظر رقم 2 و 3 من ص 321.
5- ومن الشرطین السالفین تنشأ صور أربع : (أن یکون الموصوف جمعا حقیقیا ونکرة حقیقیة.) - (وأن یکون شبیها بالجمع ونکرة حقیقیة) - (وأن یکون جمعا حقیقیا وشبیها بالنکرة الحقیقیة). وللصور الثلاث السالفة أمثلة معروضة. (أما الرابعة : فأن یکون شبیها بالجمع ، شبیها بالنکرة ، کالمفرد المعروف بأل الجنسیة).

فمثال «إلا» الواقعة صفة لجمع حقیقی هو نکرة حقیقیة : سینهزم الأعداء ، فقد خرج لملاقاتهم جیش کبیر ، إلا القواد والرماة. فلا یصح أن تکون «إلا» هنا حرف استثناء ؛ خشیة أن یفسد المعنی ؛ إذ الاستثناء - کما شرحنا أول الباب - یقتضی أن یکون المعنی : خرج لملاقاتهم جیش کبیر طرحنا ونقصنا منه القواد والرماة ، ولا یعقل أن یخرج جیش کبیر دون قواده ورماته. ومثل : تتسع قاعة المحاضرة لجموع کثیرة إلا المحاضر ، فهی هنا - کما فی المثال السابق - بمعنی : غیر. ولا یصح أن تکون بمعنی «إلا» الاستثنائیة ؛ لئلا یترتب علی ذلک أن یکون المعنی : تتسع قاعة المحاضرة لجموع کثیرة طرحنا ونقصنا منهم المحاضر ، إذ لا یعقل أن تتسع قاعة المحاضرة للسامعین ، ولا تتسع للمحاضر ، فلا یمکن أن یجتمعوا لسماع محاضرة من لیس له مکان عندهم ، ومثل هذا قوله تعالی : (لَوْ کانَ فِیهِما)(1) آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، فلو کانت «إلا» حرف استثناء لکان المعنی : لو کان فیهما آلهة ، لیس من ضمنها الله لفسدتا. (أی : لو کان فیهما آلهة أخرجنا وطرحنا منها الله ، لفسدتا) وهذا معنی باطل ؛ إذ یوحی بأنهما لا تفسدان إذا کان الله من ضمن الآلهة ولم یخرج ولم یطرح. وهذا واضح البطلان. بخلاف ما لو کانت «إلا» اسما بمعنی : «غیر» ، نعتا للنکرة قبلها ؛ فإن المعنی یصح ویستقیم.

ومثال : «إلا» الاسمیة الواقعة نعتا لشبه الجمع الذی هو نکرة حقیقیة أن تقول للخائن : غیرک إلا الخائن یستحق الصفح ، فکلمة «إلا» اسم بمعنی : «غیر» ولا تصلح أن تکون استثناء لئلا یکون المعنی : غیرک من الخائنین یستحقّ الصفح إلا الخائن ، وفی هذا تناقض ظاهر. أو غیرک من الأمناء مطروحا وخارجا منهم الخائن یستحقون الصفح. والخائن لیس من الأمناء ، ولا علاقة له بهم حتی یستثنی منهم (2). فإذا جعلنا : «إلا» بمعنی : «غیر» صح المعنی واستقام وتعرب صفة لکلمة «غیر» الأولی ، ولا یصح أن تکون حرف استثناء لفساد المعنی وتناقضه ...

ومثالها نعتا للجمع الحقیقیّ الشبیه بالنکرة : یخشی عقاب الله العصاة إلا الصالحون

ص: 326


1- فی السماء والأرض.
2- ولا یصح هنا جعل الاستثناء منقطعا ؛ لعدم وجود نوع من العلاقة أو الارتباط بین المستثنی والمستثنی منه. (طبقا لما یقتضیه الاستثناء المنقطع ، کما سبق فی ص 295 و 308).

فالعصاة شبه نکرة لوجود «أل» (1) الجنسیة. و «إلا» بمعنی «غیر» صفة. ولو کان حرفا لفسد المعنی ؛ إذ یکون : یخشی عقاب الله العصاة ، والصالحون لا یخشونه.

أما شبه الجمع الشبیه بالنکرة فکالمفرد المعرف «بأل الجنسیة» نحو : الرجل إلا المریض یحتمل الأثقال.

وإذا کانت «إلا» الاسمیة نعتا فکیف نعربها؟ أتکون هی - وحدها - النعت : مباشرة ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرور بحرکات مقدرة علی آخره. علی حسب المنعوت ، وبعدها ما أضیفت إلیه مجرورا؟ أم تکون هی النعت - أیضا - ، مرفوعة ، أو منصوبة ، أو مجرورة ، علی حسب المنعوت ، ولکن صورتها کصورة الحرف ، فالحرکات لا تقدّر علیها ، وإنما تنتقل إلی المضاف إلیه الذی بعدها مباشرة ؛ فتکون «إلا» نعتا مضافا ، واللفظ بعدها هو المضاف إلیه ، وهو مجرور بکسرة مقدرة منع من ظهورها الحرکة المنقولة إلیه من «إلا»؟

رأیان ، وکلاهما معیب ، معترض علیه. وأولهما أقرب إلی القبول ، ومن الخیر ألا نلجأ فی أسالیبنا إلی استعمال «إلا» الاسمیة ما استطعنا لذلک

ص: 327


1- سبقت أحکامها مفصلة - ولا سیما من ناحیة أثرها فی التعریف والتنکیر - فی ج 1 ص 308 م 3.

المسألة 83: أحکام المستثنی

اشارة

الذی أدواته أفعال (1) خالصة ،

والذی أدواته تصلح أن تکون أفعالا (2) وحروفا ...

(ا) فأما الأدوات التی هی أفعال خالصة فتنحصر فی فعلین ناسخین (3) جامدین ؛ هما : «لیس» و «لا یکون». (بشرط وجود «لا» النافیة قبل هذا الفعل المضارع ، الذی للغائب ، دون غیرها من أدوات النفی) ، ولا یصلح من أفعال «الکون» أداة للاستثناء إلّا هذا المضارع الجامد ، المنفی بالحرف : «لا» ، الدال علی الغائب ؛ مثل : زرعت الحقول لیس حقلا ، أو : زرعت الحقول لا یکون (4) حقلا. ومثل : ما ترکت الکتب لیس کتابا ، أو لا یکون کتابا ...

وحکم المستثنی بهما وجوب النصب ، باعتباره خبرا لهما ، لأنهما ناسخان جامدان ، من أخوات : «کان» (5). أما الاسم فضمیر مستتر وجوبا تقدیره : هو ؛ یعود علی «بعض» مفهوم من «کل» یرشد إلیه السیاق ، ویدل علیه المقام ضمنا (6) ؛

ص: 328


1- إذا کانت أداة الاستثناء فعلا - خالصا ، أو غیر خالص - وجب أن یکون جامدا ، وأن یکون الکلام تاما متصلا ؛ موجبا أو غیر موجب ؛ فلا تصلح الفعلیة للاستثناء المنقطع ، ولا المفرغ - کما سیجیء هنا - (وقد نص «الصبان ، والخضری» علی هذا عند الکلام علی الاستثناء بالأدوات الفعلیة ، وکذلک صاحب «المفصل» ص 77 ج 2) وسبقت الإشارة له فی رقم 1 من هامش ص 294.
2- إذا کانت أداة الاستثناء فعلا - خالصا ، أو غیر خالص - وجب أن یکون جامدا ، وأن یکون الکلام تاما متصلا ؛ موجبا أو غیر موجب ؛ فلا تصلح الفعلیة للاستثناء المنقطع ، ولا المفرغ - کما سیجیء هنا - (وقد نص «الصبان ، والخضری» علی هذا عند الکلام علی الاستثناء بالأدوات الفعلیة ، وکذلک صاحب «المفصل» ص 77 ج 2) وسبقت الإشارة له فی رقم 1 من هامش ص 294.
3- أحکامهما الخاصة بالنّسخ مدونة فی باب «النواسخ» ح 1 م 42.
4- الفعل هنا مضارع زمنه للحال ، أو للاستقبال ؛ فیبدو غریبا متناقضا مع الفعل الماضی قبله فی هذا المثال أو ما یشبهه. وقد قالوا إن المراد : لا تعد ولا تحسب حقلا ؛ فلا منافاة بین زمن المضارع والماضی علی هذا التفسیر. ومثل هذا یقال فی الفعل : «لیس» إذا سبقه الماضی الصریح ، مع أن «لیس» لنفی المعنی فی الزمن الحالی ، أو یقال : إنه لنفی المعنی فی الزمن الحالی عند عدم قرینة تعینه للماضی - کالتی هنا - أو تعینه للمستقبل ؛ علی الوجه المبین فی مکانه المناسب ج 1 ص 411 م 42 باب «کان» وأخواتها.
5- إذا کان المستثنی ضمیرا منصوبا وجب فصله ؛ نحو : الرجل قام القوم لیس إیاه ، أو لا یکون إیاه ، لما تقدم (فی ج 1 م 20 باب الضمیر) من أن «لیس ولا یکون» فعلین للاستثناء ، ناسخین أیضا ؛ فلا یجوز : «لیسه ولا یکونه» کما لا یجوز : «إلاه» ، فکما لا یقع الضمیر المتصل بعد «إلا» - لا یقع بعد ما هو بمعناها. - لکن انظر رقم 4 من هامش ص 333 -.
6- الکلام علی مرجع الضمیر فی ج 1 ص 181 م 19.

فمعنی «زرعت الحقول لیس حقلا» : لیس هو من المزروع ؛ أی : لیس بعض الحقول المزروعة حقلا. فالمزروع «کلّ» استثنی (1) بعضه.

ولا بد أن یکون هذا النوع من الاستثناء تامّا متصلا ، موجبا أو غیر موجب کما فی الأمثلة المذکورة ... وتعرب الجملة المشتملة علی الناسخ واسمه وخبره فی محل نصب حالا (2) ، أو تعتبر جملة استئنافیة لا محل لها من الإعراب ، ولا علاقة لها بما قبلها من الناحیة الإعرابیة فقط ؛ أما من الناحیة المعنویة فبینهما ارتباط (3).

(ب) وأما الأدوات التی تکون أفعالا تارة ، وحروفا تارة أخری - فهی ثلاثة : عدا - خلا - حاشا (وفی الأخیرة لغات (4) أشهرها : حاشا - حشا - حاش ...). ومعنی کل أداة من هذه الأدوات الفعلیة : «جاوز». ویتعین عند استعمالها أفعالا أن یکون الاستثناء بها تامّا متصلا ، موجبا أو غیر موجب ؛ کالشأن فی جمیع أدوات الاستثناء إذا کانت أفعالا ؛ فإنها لا تصلح للمفرّغ ، ولا المنقطع. 1 - فإن تقدمت علی کل منها «ما» المصدریة وجب اعتبارها أفعالا ماضیة خالصة - ولا تکون هنا إلا ماضیة جامدة ؛ (فهی جامدة فی حالة استعمالها أدوات استثناء) مثل : أحب الأدباء ما عدا الخدّاع - وأقرأ الصحف ما خلا التافهة ، وأشاهد تمثیل المسرحیات ما حاشا السوقیة ، غیر أن تقدّم «ما» المصدریة علی «حاشا» قلیل ؛ حتی قیل إنه ممنوع. ویحسن الأخذ بهذا الرأی.

وحکم المستثنی فی الصور السالفة التی تتقدم فیها «ما» المصدریة وجوب النصب ، باعتباره مفعولا به لفعل الاستثناء المذکور فی الجملة ، وفاعله ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : «هو» ، یعود علی «بعض» مفهوم من «کل» یدل علیه المقام - کما سبق - أمّا المصدر المؤول من «ما» المصدریة والجملة

ص: 329


1- إذا لم یکن فی الکلام فعل ملفوظ أو مشتق یشبهه فی الإرشاد إلی ما یرجع إلیه الضمیر ، أمکن تصیده من فحوی العبارة ؛ ففی مثل : القوم إخوتک لیس علیا - یکون التقدیر : لیس هو علیا ؛ أی : لیس المنتسب إلیک بالإخوة علیا.
2- ولا تجیء «قد» المشروطة - عند کثیر من النحاة - فی الجملة الماضویة المثبتة الواقعة حالا ؛ لأن هذا الشرط فی غیر الجمل الماضویة التی أفعالها جامدة ، ومنها الأفعال الواقعة فی الاستثناء ، مثل : لیس خلا - عدا - حاشا (کما سیجیء فی رقم 2 من هامش ص 372) لهذا لا یصح مجیء «قد» هنا.
3- یصح إعراب آخر علی اعتبار مخالف لما سبق. والبیان یجیء فی الزیادة والتفصیل ص 333.
4- ولها أنواع تجیء فی ص 335.

الفعلیة التی بعدها (1) ، فهو فی محل نصب حال (2) مؤولة بالمشتق ، أو ظرف زمان. والتقدیر علی الأول : (أحب الأدباء مجاوزین الخداع ... مجاوزة التافهة ... و... مجاوزة السوقیة).

والتقدیر علی الثانی : (وقت مجاوزتهم الخداع ... وقت مجاوزتها التافهة ... وقت مجاوزتها السوقیة) (3) ... وکلا التقدیرین حسن ، ولا یکاد یختلف فی الدلالة عن الآخر.

2 - أما إذا لم تتقدم «ما» المصدریة علی الکلمات الثلاث السابقة فیجوز اعتبارها أفعالا ماضیة جامدة تنصب المستثنی ، مفعولا لها ، وفاعلها ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : «هو» - کما سلف - والجملة فی محل نصب حال ، أو لا محل لها من الإعراب ، مستأنفة. ویجوز اعتبارها حروف جر ، والمستثنی مجرور بها ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما أو بما یشبهه. أو أنهما لیسا فی حاجة - إلی تعلق. علی اعتبار الثلاثة حروف جر شبیهة بالزائد (4) ، (وحرف الجر الشبیه بالزائد لا یحتاج إلی تعلیق) ، ففی الأمثلة السابقة یجوز : أحب الأدباء عدا الخداع ، أو : الخداع - وأقرأ الصحف خلا التافهة ، أو التافهة - وأشاهد تمثیل المسرحیات حاشا السوقیة أو السوقیة. فکلمات : (الخدّاع ، التافهة ، السوقیة) - یجوز فی کل منها النصب ، فیکون المستثنی مفعولا به ، والعامل فعلا ماضیا جامدا. ویجوز فیها الجر والعامل حرف جرّ (5) ...

ص: 330


1- فعل الاستثناء جامد لا یدخل بنفسه فی صیاغة المصدر المنسبک ؛ وإنما یدخل الفعل الذی بمعناه ؛ وهو : جاوز. هذا ، والحرف المصدری لا یدخل علی فعل جامد إلا علی هذه الأفعال ؛ لأنها مستثناة من القاعدة السالفة ، أو لأنها متصرفة فی أصلها - وقد أشرنا لهذا فی ج 1 م 29. -
2- الحال هنا جائزة ، بالرغم من أن الحال لا تکون مصدرا مؤولا ؛ لاشتماله علی ضمیر یجعلها معرفة. ولکنها هنا معرفة مؤولة بالنکرة ، أی : مجاوزین - مثلا - (کما سیجیء فی : «ه» من ص 346 ورقم 3 من هامشها).
3- طریقة صوغ المصدر المؤول من «ما» وصلتها وکل ما یتصل بها - مدونة فی ج 1 ص 296 م 29 آخر باب الموصول.
4- - کما سیجیء فی ص 417 - ولا داعی للأخذ بهذا الرأی ، لأنه معقد ، وحجة أصحابه واهیة
5- «ملاحظة» - : قالوا إنما یجوز الأمران - النصب والجر - بعد تلک الأفعال الثلاثة فی غیر الحالة التی یکون المستثنی بها یاء المتکلم. فإن کان المستثنی بها ضمیرا للمتکلم (الیاء) ولم توجد «ما» المصدریة تعیّن اعتبار الأداة - - حرف جر إن لم یوجد قبل یاء المتکلم نون الوقایة ؛ نحو : أطال الخطباء حاشای ، أو : عدای ، أو خلای. والمستثنی مبنی علی الفتح فی محل جر. ولا یصح هنا اعتبار الأداة فعلا ینصب المستثنی (الیاء) إذ لو کانت الأداة فعلا لوجب - علی المشهور - الإتیان بنون الوقایة قبل ضمیر المتکلم «الیاء» (تطبیقا لما سبق فی باب الضمیر ، ج 1 ص 192 م 21) ، بخلاف ما لو قلنا : حاشانی ، أو عدانی ، أو خلانی حیث یجب اعتبار الأداة فعلا محضا ، والیاء مفعوله ، بسبب وجود نون الوقایة التی تلزم آخر الفعل عند اتصاله بیاء المتکلم ؛ طبقا للرأی الغالب. هذا کلامهم. وهو مدفوع بأن نون الوقایة إنما تجیء فی آخر الفعل عند اتصاله بیاء المتکلم لتقیه وتحفظه من الکسر الذی یجیء فی آخره لمناسبة الیاء التی تلحق بآخره. ولما کانت هذه الأدوات لا یلحقها الکسر عند اتصالها بالیاء امتنع الداعی لمجیء نون الوقایة مجیئا حتمیا ، وصار الاستغناء عنها جائزا ؛ فیصح أن یقال : حاشای ، أو : عدای ، أو خلای ... وفی هذه الصور یصح اعتبار الأداة فعلا أو حرفا ، لعدم وجود ما یعینها لأحدهما دون الآخر. نعم ، لو قلنا : حاشانی ، أو : عدانی ، أو : خلانی ... لکان وجود نون الوقایة - ووجودها هنا جائز لا واجب ، کما أسلفنا - مرجحا قویا لاعتبار الأداة فعلا ، لکثرة هذه النون فی الأفعال ... وقلتها فی الحروف ؛ مثل : منّی وعنّی ...

وقد وردت أمثلة مسموعة وقعت فیها «ما» قبل الکلمات الثلاث : (خلا - عدا - حاشا) (1) ووقع فیها المستثنی مجرورا وهی ؛ أمثلة شاذة لا یصح

ص: 331


1- وفیما سبق من أدوات الاستثناء التی تکون أفعالا فقط ، أو : التی تصلح لأن تکون أفعالا وحروفا یقول ابن مالک ، وقد خلطها : واستثن - ناصبا - «بلیس وخلا» «وبعدا» ، «وبیکون» بعد : «لا» أی : استثن بالأدوات التی ذکرها ، (وهی : لیس - خلا - عدا - یکون ؛ بشرط وقوع «یکون» بعد «لا» النافیة). ناصبا المستثنی بها ، وفی هذه الحالة التی تنصب فیها المستثنی یتعین أن تکون أفعالا خالصة. ثم أردف قائلا : واجرر بسابقی «یکون» إن ترد وبعد : «ما» انصب ، وانجرار قد یرد یقول : جر المستثنی بالأداتین السابقتین علی «یکون». إن شئت ؛ وهما : «خلا وعدا» وإن شئت فانصبه بعدهما بشرط أن تسبقهما. «ما» ولم یذکر نوع «ما» وأنها المصدریة. ثم أشار إلی رأی ضعیف مردود ؛ هو أنهما قد یجران المستثنی أحیانا مع وجود : «ما» قبلهما - علی اعتبارها زائدة - وأوضح بعد ذلک أنهما فی حالة جرهما المستثنی یعتبران حرفی جر ، وأنهما فی حالة نصبه یعتبران فعلین : وحیث جرّا فهما حرفان کما هما إن نصبا فعلان (ویلاحظ أنه أدخل «الفاء» علی جملة : «هما حرفان» تنزیلا للظرف : «حیث» منزلة الشرط علی الوجه الذی شرحناه فی موضعه المناسب ص 257 «و» و 268 وهامشها). أو علی اعتبار : «حیث» شرطیة بغیر اتصالها «بما» الزائدة ، تبعا لرأی الکوفیین ، أما الظرف : «حیث» فمتعلق بعامل معنوی ، هو : الإسناد (أی : بالنسبة الواقعة بین رکنی جملة) تطبیقا لما دونوه من أن شبه الجملة یتعلق - - بما فی الجملة من فعل أو غیره مما یصح التعلق به ، فإن لم یوجد ما یصلح فقد یتعلق بالنسبة (الإسناد) وذلک کالنسبة المأخوذة من قول ابن مالک «فهما حرفان» فالظرف «حیث» متعلق بالنسبة. أی تثبت حرفیتهما حیث جرا ... - وسیجیء إشارة لهذا فی باب حروف الجر عند الکلام علی التعلق فی رقم 2 من هامش ص 409 کما سیجیء فی ج 4 م 157 ص 351 إشارة لإجراء الظرف مجری الشرط -. ثم بین أن الأداة : «حاشا» شبیهة بالأداة : «خلا» فی کل أحکامها. لکن لا تجیء : «ما» ، قبل : «حاشا» وأن فیها لغات أشهرها «حاش» ، و «حشا» ، حیث یقول : وکخلا : حاشا ، ولا تصحب «ما» وقیل : «حاش» ، «وحشا» ؛ فاحفظهما

القیاس علیها. وقد أوّلها النحاة لیصححوها ؛ فقالوا : إن «ما» التی وقعت قبلها لیست مصدریة ، ولکنها زائدة. ولا خیر فی هذا التأویل ، لأن العربی الذی نطق بتلک الأمثلة لا یعرف «ما» المصدریة ، ولا الزائدة ، ولا شیئا من هذه المصطلحات التی ظهرت أیام تدوین العلوم ، وجمعها ، وتألیفها ، ولا شأن له بها. هذا إلی أن التأویل السابق - کشأن کثیر من نظائره - قد یخضع لغة قبیلة ولهجتها لأخری تخالفها من غیر علم أصحابها. وهذا غیر سائغ ؛ کما أشرنا مرارا.

ص: 332

زیادة وتفصیل

(ا) هل تقع الجملة المکونة من فعل الاستثناء وفاعله نعتا؟

ننقل هنا رأیین مفیدین ، وإن کان بینهما نوع تعارض ...

أولهما : ما جاء فی الهمع (1) ونصه (2) :

(من أدوات الاستثناء : «لیس» ، «ولا یکون» ، - وهذه هی الناقصة ، ولیست أخری ارتجلت للاستثناء -. وینصبان المستثنی علی أنه خبر لهما ، والاسم ضمیر مستتر ، لازم الاستتار - کما تقدم فی مبحث الضمیر (3) - نحو : قام القوم لیس محمدا ، وخرج الناس لا یکون علیّا. ولفظ : «لا» قید فی کلمة : «یکون» فلو نفیت بما ، أو : لم ، أو : لمّا ، أو : لن ... لم تقع فی الاستثناء. ومن شواهد «لیس» قول الشاعر :

عددت قومی کعدید الطیس

إذ ذهب القوم الکرام لیسی (4)

وقوله علیه السّلام : یطبع المؤمن علی کل خلق ، لیس الخیانة والکذب.

(وقد یوصف ب «لیس ، ولا یکون» ، حیث یصح الاستثناء ؛ بأن یکون - أی : المستثنی منه - نکرة منفیة (5). قال ابن مالک : أو معرفا بلام الجنس. نحو : ما جاءنی أحد لیس محمدا ، وما جاءنی رجل لا یکون بشرا. وجاءنی القوم لیسوا إخوتک. قال أبو حیان : ولا أعلم فی ذلک خلافا ، إلا أن المنقول هو اختصاصه بالنکرة ، دون المعرف بلام الجنس.

(ولا یجوز فی النکرة المؤنثة : نحو : أتتنی امرأة لا تکون فلانة ، إذ لا یصح الاستثناء منها ، ولا فی المعرفة ؛ نحو جاء القوم لیسوا إخوتک. بل یکونان فی موضع نصب علی الحال.

(وإذا وصف بهما رفعا ضمیر الموصوف المطابق له ؛ فیبرز (6) ؛ نحو : ما جاءتنی

ص: 333


1- ج 1 ص 233.
2- مع بعض تیسیر فی بضع کلمات.
3- ج 1 م 18 ص 207 باب : «الضمیر» ، وکذلک هنا فی ص 328.
4- قد وقع المستثنی هنا ضمیر متصلا یخالف الأکثر الذی سبق حکمه. فی رقم 4 من هامش 328.
5- ولا بد أن تکون أعم من المستثنی ؛ لیمکن استثناؤه منها - کما هو معلوم.
6- إلا عند ابن مالک - کما سبق -.

امرأة لیست أو لا تکون فلانة ، وما جاءنی رجال لیسوا زیدا ، أو نساء لسن الهندات.

(قال السیرافی : أجازوا الوصف «بلیس ، ولا یکون» لأنهما نص فی نفی المعنی عن الثانی. وهذا معنی الاستثناء ، ولیس ذلک فی «عدا وخلا» ، إلا بالتضمن ، فلم یوصف بهما ؛ لأنهما لیسا موضعی جحد ؛ فلا یقال : ما أتتنی امرأة عدت هندا ، أو : خلت دعدا) اه. همع - بتیسیر.

ثانیهما : ما جاء فی المفصّل (1) ونصه :

«قد یکون : «لیس ، ولا یکون» وصفین لما قبلهما من النکرات ، تقول : أتتنی امرأة لا تکون هندا ، فموضع «لا تکون» رفع ؛ بأنه وصف لامرأة. وکذلک تقول فی النصب والجر : رأیت امرأة لیست هندا ، ولا تکون هندا ، ومررت بامرأة لیست هندا ، ولا تکون هندا.

ولا یوصف «بخلا وعدا» کما وصف ب «لیس ، ولا یکون» فلا تقول : أتتنی امرأة خلت هندا ، وعدت جملا. وذلک أن : «لیس ولا یکون» لفظهما جحد ، فخالف ما بعدهما ما قبلهما ؛ فجریا فی ذلک مجری «غیر» ، فوصف بهما کما یوصف «بغیر». وأما «خلا وعدا» فلیسا کذلک ، وإنما یستثنی بهما علی التأویل ، لا لأنهما جحد. ولما کان معناهما المجاوزة والخروج عن الشیء فهم منهما مفارقة الأول ، فاستثنی بهما لهذا المعنی ، ولم یوصف بهما ؛ لأن لفظهما لیس جحدا ؛ فلیس جاریّا مجری «غیر») ا. ه.

ویلاحظ : أن صاحب «المفصّل» لم یقید وقوعهما نعتا بالموضع الذی یصلحان فیه للاستثناء ، کما قیّده صاحب الهمع ، وأن الأمثلة التی ذکرها صاحب المفصل صالحة للنعت هی التی نصّ صاحب الهمع علی عدم صلاحها نعتا. فکیف ذلک؟

لا مفر من إعراب الجملة الفعلیة فی هذه الأمثلة نعتا خالصا لا یصلح للاستثناء ؛ لأن النکرة التی قبل الفعلین لیست عامة ؛ فلا تصلح «مستثنی منه» یتسع لإخراج المستثنی فالجملة نعت محض - کالشأن فی کل الجمل الواقعة بعد النکرات المحضة - وبهذا یتلاقی الرأیان ویتفقان.

ص: 334


1- ج 2 ص 78.

(ب) لیست : «حاشا» مقصورة علی الاستثناء ؛ وإنما هی ثلاثة أنواع : أولها : الاستثنائیة ؛ وهی فعل ماض جامد ، وقد سبق ما یختص بها (1).

وثانیها : أن تکون. فعلا ماضیا متعدیا متصرفا ؛ بمعنی : «استثنی» ، مثل : (حاشیت مال غیری أن تمتد له یدی - حین نتخیر موضوعات الکلام نحاشی الموضوعات الضارّة - إذا دعوت لحفل فحاش من لا یحسن أدب الاجتماع) (2).

ثالثها : أن تکون للتنزیه وحده (3) أی : للدلالة علی تنزیه ما بعدها من العیب (4) وهی اسم مرادف لکلمة : «تنزیه» التی هی مصدر : نزّه. وتنصب علی اعتبارها مصدرا قائما مقام فعل من معناه ، محذوف وجوبا ، ویغنی هذا المصدر عن النطق بفعله المحذوف (5) ؛ نحو : حاشا لله ، أی : تنزیها لله من أن یقترب منه السوء. فکلمة : «حاشا» - بالتنوین - مفعول مطلق ، منصوب بالفعل المحذوف - وجوبا ، الذی من معناه ، وتقدیره : «أنزه». والجار والمجرور متعلقان بها. ویصح أن یقال فیها : حاش لله ، بغیر تنوین ؛ فتکون «حاش» مفعولا مطلقا ، ولکنه مضاف ، واللام بعده زائدة (6) ، وکلمة «الله» مضاف إلیه مجرور ، کما یصح أن یقال فیها : حاش الله ، بغیر اللام الزائدة بین المضاف والمضاف إلیه.

ص: 335


1- فی ص 329.
2- إذا کانت فعلا ماضیا متصرفا کهذا النوع ، فإن ألفها الأخیرة تکتب یاء ، هکذا : «حاشی». بخلافها فی النوعین الآخرین ؛ فتکتب ألفا.
3- أی : التنزیه الخالص الذی لا یشوبه معنی آخر ؛ کالاستثناء أو غیره ، ذلک أن «حاشا» الاستثنائیة والمتصرفة - لا تخلوان من تنزیه ؛ ولکنه مختلط بمعنی آخر.
4- وهذا یشمل ما یکثر الآن حین یریدون تنزیه شخص من العیب ، فیبتدئون بتنزیه الله تعالی : ثم ینزهون من أرادوا. یریدون أن الله منزه عن ألا یطهر ذلک الشخص من العیب.
5- سبق فی باب المفعول المطلق تفصیل الکلام علی المصدر القائم بدلا من التلفظ بفعله ص 207 ، وفی ص 222 إشارة إلیها.
6- کزیادتها فی قوله تعالی : (هَیْهاتَ هَیْهاتَ لِما تُوعَدُونَ.) ولهذا قال بعض النحاة إن «حاش» اسم فعل بمعنی : برئ. أو تنزه. فتکون اسم فعل ماض مبنی علی الفتح ، واللام بعدها زائدة و «الله» مجرور باللام الزائدة فی محل رفع ، فاعل اسم الفعل.

(ح) هل یحذف المستثنی؟ وهل تحذف أداة الاستثناء؟

أما حذف الأداة فالأصح أنها لا تحذف. وأما حذف المستثنی فیجوز بشروط ثلاثة : فهم المعنی ، وأن تکون الأداة هی : «إلا» أو : «غیر» وأن تسبقهما کلمة : «لیس» (1). نحو : قبضت عشرة لیس إلا ، أو : لیس غیر. أی لیس المقبوض إلا العشرة. ولیس المقبوض غیر العشرة ... ومن القلیل أن یحذف المستثنی بعد : «لا یکون». بشرط فهم المعنی أیضا ، نحو : قبضت عشرة. لا یکون ... أی لا یکون غیرها ... لا یکون المقبوض غیرها.

(د) من أدوات الاستثناء «لمّا» بمعنی «إلا» وقد وردت فی أمثلة مسموعة إما فی کلام منفی ؛ مثل قوله تعالی : (إِنْ)(2) کُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَیْها حافِظٌ) وإما فی کلام مثبت ولکنه مقصور علی بضعة أسالیب سماعیة ؛ أشهرها : نشدتک الله لما فعلت کذا. وعمرک الله لمّا فعلت کذا.

وإذا کانت للاستثناء وجب إدخالها علی الجملة الاسمیة أو علی الماضی لفظا لا معنی کالمثالین السالفین (3) إذا المعنی فیهما «إلا أن تفعل کذا» ویستحسن النحاة الاقتصار علی المسموع.

(ه) یذکر بعض النحاة فی آخر باب الاستثناء تفصیل الکلام علی «لا سیما» من ناحیة ترکیبها ؛ ومعناها ، وعلاقتها بالاستثناء ، وضبط الاسم الذی بعدها ، وإعرابهما ... ویذکرها فریق آخر فی باب الموصول ، بحجة أن «ما» المتصلة بها قد تکون موصولة ... وقد آثرنا ذکرها فی باب الموصول (4) ؛ لأنه أسبق ، وصلتها به أقوی.

ونزید هنا أن بعض الرواة نقل لها أخوات مسموعة (5) ، منها : «لا مثل ما» ... - لا سوی ما (6) ... - فهذان یشارکان : «لا سیما» فی معناها وفی

ص: 336


1- أجاز بعضهم أن یکون النافی هو : «لا» إذا کانت أداة الاستثناء هی : «غیر» ؛ کما سیجیء فی الجزء الثالث باب الإضافة عند الکلام علی : «غیر».
2- «إن» حرف نفی.
3- نص علی هذا «الأشمونی» فی الجزء الرابع - باب الجوازم ؛ عند الکلام علی «لما» الجازمة. (انظر ما یتصل بالمسألة ویوضحها فی : «ا» من الزیادة ، ص 302 و 303).
4- ج 1 ص 366 م 29.
5- أشرنا لهذه فی ص 60 وفی رقم 2 من هامش ص 322 ، أما البیان الکامل ففی ج 1 م 28 ص 366.
6- أشرنا لهذه فی ص 60 وفی رقم 2 من هامش ص 322 ، أما البیان الکامل ففی ج 1 م 28 ص 366.

أحکامها الإعرابیة التی فصلناها فیما سبق (1).

ومنها : «لا تر ما ...» ، و «لو تر ما» ... ، وهما بمعناها - کما قلنا فی الموضع المشار إلیه - ولکنهما یخالفانها فی الإعراب ؛ فهذان فعلان لا بد من رفع الاسم بعدهما ؛ ولا یمکن اعتبار «ما» زائدة مع جر الاسم بعدها بالإضافة ، لأن الأفعال لا تضاف. والأحسن أن تکون «ما» موصولة وهی مفعول للفعل : «تر» وفاعله ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : أنت. والاسم بعدها مرفوع علی اعتباره خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة.

وإنما کان الفعل مجزوما بعد «لا» لأنها للنهی. والتقدیر فی «قام القوم لا تر ما علیّ» : لا تبصر (أیها المخاطب الشخص) الذی هو علیّ ؛ فإنه فی القیام أولی منهم. أو تکون «لا» للنفی ، وحذفت الألف من آخر الفعل سماعا ، وشذوذا.

وکذلک بعد «لو» سماعا. والتقدیر : لو تبصر الذی هو علیّ لرأیته أولی بالقیام.

والجدیر بنا أن نقتصر فی استعمالنا ، علی : «ولا سیما» لشیوعها قدیما وحدیثا.

ص: 337


1- ح 1 ص 366 م 28.

المسألة 84: الحال

اشارة

(1) ظهر البدر کاملا - نجا الغریق شاحبا

أبصرت النجوم متوهجة - أرسل التاجر البضاعة ملفوفة

فحص الطبیب مریضه جالسین - صافح المضیف ضیفه واقفین

البرد - قارسا - ضارّ - الشمس - شدیدة - مؤذیة

النزول من القطار - متحرکا - خطر - رکوب السیارة - ماشیة - وخیم العاقبة ،

تعریفه :

وصف (2) ، منصوب (3) ، فضلة (4) ، یبین هیئة ما قبله ؛ - من فاعل ، أو مفعول به

ص: 338


1- أبیات ابن مالک - کما وردت فی هذا الباب من «ألفیته» - لا تسایر تسلسل المسائل ، ولا ترتیبها المنهجی علی الوجه الذی ارتضیناه. لهذا وضعنا کل بیت عقب القاعدة التی یناسبها ، ویتصل بها اتصالا منطقیا. وفی الوقت نفسه وضعنا بجانب کل بیت رقما یمیزه ، ویدل علی ترتیبه بین أبیات الباب کما رتبها ابن مالک. وکلمة : الحال - بغیر تاء التأنیث فی آخرها - صالحة لأن تکون مذکرة أو مؤنثة ؛ نحو : الحال طیب ، أو : طیبة. إن هذا الحال حسن ، أو هذه الحال حسنة. أما إذا ختمت بتاء التأنیث فهی مؤنثة فقط ، نحو : الحالة طیبة ، وإن هذه الحالة حسنة. والکثیر فی اللفظ التذکیر ؛ بخلو آخره من التاء ، والکثیر فی المعنی التأنیث.
2- اسم مشتق. وقد تکرر تعریف المشتق وأنواعه - ولکل منها باب خاص فی الجزء الثالث -.
3- فی بعض المراجع المطولة - کهامش التصریح - معرکة جدلیة بسبب أن «النصب» لیس جزءا من التعریف ؛ وإنما هو حکم ، والدفاع عن هذا ، أو مقاومته. ولا یعنینا مثل هذا الجدل الذی لا خیر فیه. والنصب قد یکون ظاهرا ، کما فی الأمثلة المعروضة ، أو : مقدرا مثل : تغدو الطیور شتی ، أو : محلیا ، کقولهم : جاءت الخیل بداد ، فکلمة : «بداد» علم جنس ، وهی حال ، مبنیة علی الکسر فی محل نصب.
4- الفضلة : ما یمکن أن یستغنی عنه - فی الأغلب - المعنی الأساسی للجملة. وهی خلاف العمدة.

أو منهما معا ، أو من غیرهما (1) - وقت وقوع الفعل (2). کالکلمات التی تحتها خط فی الأمثلة المعروضة.

وتعرف دلالته علی الهیئة بوضع سؤال کهذا : کیف کان شکل البدر حین ظهر؟ أو : کیف کانت صورته؟ فیکون الجواب : هو لفظ الحال السابقة ؛ أی : کاملا ، أو : مستدیرا ... و... و... وکذا الباقی.

ولیس من اللازم أن تکون الحال فی کل الاستعمالات وصفا ، وإنما هذا هو الغالب (3) ، ولا أن تکون فضلة ؛ فهذا غالب أیضا ، إذ تکون بمنزلة العمدة أحیانا فی إتمام المعنی الأساسی للجملة ، أو فی منع فساده ؛ فالأولی ؛ کالحال التی تسدّ مسد الخبر (4) ، فی مثل : امتداحی الغلام مؤدّبا ؛ فإن المعنی الأساسی - هنا لم یتم إلا بذکر الحال. وکالحال فی قوله تعالی : (... وَإِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی) وقوله تعالی : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِینَ،) وقول الشاعر :

ص: 339


1- أی : یبین هیئة صاحبه ، کالفاعل ، وکالمبتدأ ، أو الخبر ، أو اسم النواسخ. ولا قیمة للاعتراض علی مجیء الحال من المبتدأ ، أو من اسم الناسخ ، أو مما لیس فاعلا ، أو مفعولا ، أو نحوهما ؛ ذلک لأن من یرفضونه لا یرفضونه للسبب القویم الصحیح ، وهو عدم الاستعمال العربی الأصیل ، وإنما یرفضونه لأنه لا یتفق مع مظهر من مظاهر السلطان الذی وهبوه للعامل ، کأن یقولوا فی منع مجیء الحال من المبتدأ : إن العامل فی المبتدأ هو : «الابتداء» ، فلو جاءت الحال من المبتدأ لکان المبتدأ هو عاملها ؛ فیختلف العاملان وأحدهما عامل فی الحال ، والآخر عامل فی صاحبها. مع أن العامل - عندهم - فی الحال لا بد أن یکون هو نفسه العامل فی صاحبها أیضا - طبقا للبیان الآتی فی رقم 3 من هامش ص 354 - والغریب أن المأثور الکثیر من کلام العرب الخلّص لا یوافقهم ، ولا یؤیدهم ، مع کثرته - بدلیل صحة قولهم : أعجبنی عطاء المحسن مبتسما ، وسرنی صوت القارئ خاشعا. ولهذا یخالفهم - بحق - «سیبویه» وفریق معه. وإن ما یرفضونه ظاهرا صریحا ، یقبلونه علی نیة التأویل ؛ فکأن مجرد النیة یبیح المحظور ؛ بالرغم من أن اللفظ الذی یؤولونه لن یتغیر فی ظاهره ، وصریح الأسلوب لن یطرأ علیه تبدیل. وهذا موضع من مواضع الشکوی. ولعله السبب الذی حمل بعض النحاة المحققین ؛ - کالرضی - علی رفض اعتراضهم ، ونبذ رأیهم المخالف رأی سیبویه (کما جاء فی الخضری ج 1 والصبان وغیرهما - فی باب الحال عند بیت ابن مالک : «وعامل ضمن معنی الفعل ، لا ...») وعلی أن یقول : «إن رأی سیبویه هو الحق ، ولا ضرورة تدعو للرأی المخالف». وإذا کان المحظور یباح بمثل هذه النیة وجب ترک الناس أحرارا فی محاکاة الکثیر المأثور من الکلام العربی الصحیح ، وفی القیاس علیه. ومن شاء بعد ذلک أن یتأول فلیفعل. فالمهم هو ترک اللفظ علی حاله الظاهر الموافق للوارد. ومن حمل نفسه بعد ذلک مشقة التأویل فهو حر وإن کانت المشقة بغیر فائدة.
2- هذا هو الغالب. وقد یکون زمن الحال مقدرا (أی : مستقبلا ، وسیجیء البیان فی ص 364).
3- کما سیجیء فی ص 342.
4- سبق شرحه فی ج 1 ص 385 م 39 باب المبتدأ والخبر.

ولست ممن إذا یسعی لمکرمة

یسعی وأنفاسه بالخوف تضطرب

فالمعنی الأساسی لا یتم لو حذفت الحال : «کسالی» أو : «جبارین» أو : «أنفاسه تضطرب»؟ والثانیة (وهی الحال التی یفسد معنی الجملة بحذفها) ؛ مثل : لیس المیت من فارق الحیاة ، إنما المیت من یحیا خاملا لا نفع له ؛ فلو حذفنا الحال ، وقلنا : المیت من یحیا - لوقع التناقض الذی یفسد المعنی. ومثل کلمة : «لاعبین» فی قوله تعالی : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَیْنَهُما لاعِبِینَ.) فلو حذفت الحال (لاعبین) لفسد المعنی أشد الفساد (1) ...

هذا ، وما یبین الحال هیئته من فاعل ، أو مفعول به ، أو : منهما معا ؛ أو : غیرهما ، یسمی : «صاحب الحال» (2).

والتعریف السابق مقصور علی الحال «المؤسّسة» دون «المؤکدة» ، لأن المؤسسة هی التی تبین هیئة صاحبها ، أما المؤکدة فلا تبین هیئة. ومثال الأولی : ارتمی السارق صارخا. ومثال الثانیة : ولّی الحزین منصرفا ، وسیجیء بیانهما وتفصیل الکلام علیهما قریبا(3).

* * *

أقسام (4) الحال ، والکلام علی کل قسم :

تتعدد أقسام الحال بتعدد الاعتبارات المختلفة التی ینبنی علیها التقسیم. وفیما یلی أشهر هذه الاعتبارات ، وما تؤدی إلیه.

الأول : انقسام الحال باعتبار ثبات معناها انقسام الحال باعتبار ثبات معناها وملازمته (5) شیئا (6) آخر ، أو عدم ذلک - إلی «منتقلة» ، وهی الأکثر ، «وثابتة» ، وهی الأقل.

فالمنتقلة : هی التی تبین هیئة شیء (7) مدة مؤقتة ، ثم تفارقه بعدها ، فلیست دائمة الملازمة له : مثل : أقبل الرابح ضاحکا - أسرع البرق مشتعلا - شاهدت

ص: 340


1- انظر رقم 3 من ص 380.
2- یجیء الکلام علیه مفصلا فی ص 374 م 85.
3- فی ص 365.
4- یسمیها بعض النحاة أقساما ، ویسمیها آخرون أوصافا ، ویسمیها فریق ثالث : نواحی الحال ... و... ولا أهمیة لاختلاف التسمیة ما دام المراد واحدا ؛ وهو الکلام علی الحال بحسب الاعتبارات المتصلة بها.
5- وسبب هذه الملازمة وجود علاقة مبعثها العقل ، أو الطبع ، أو العادة ، ولو لم تکن الملازمة دائمة فی بعض الأحیان - کما جاء فی حاشیة یاسین فی هذا الموضع -.
6- وهو : صاحبها.
7- وهو : صاحبها.

کتائب النمل مهاجرة - ... و... فکل حال من الثلاثة : (ضاحکا - مشتعلا - مهاجرة ...) غیر دائم ، وإنما یوجد مدة تقصر أو تطول ، ثم ینقطع. «فالضحک» لا یلازم صاحبه إلا مدة محددة ، وکذلک : «الاشتعال» ، أو «المهاجرة».

والثابتة : هی التی تبیّن هیئة شیء تلازمه - غالبا - ولا تکاد تفارقه ، وتتحقق الملازمة فی إحدی صور ثلاث :

(ا) أن یکون معناها التأکید. وهذا یشمل :

1 - أن یکون معناها مؤکّدا مضمون جملة قبلها ، بشرط أن یکون هذا المضمون أمرا ثابتا ملازما فی الغالب ، فیتفق معنی الحال ومضمون الجملة ؛ ویترتب علی هذا أن تکون الحال ثابتة ملازمة صاحبها تبعا لذلک ؛ نحو : خلیل أبوک رحیما ، «فرحیما» حال من «أب» الذی هو صاحبها الملازمة له. ومعناها - وهو : «الرحمة» - یوافق المعنی الضمنی للجملة التی قبلها. وهو : «أبوة خلیل» ، لأن هذه الأبوة لا تتجرد من الرحمة ، کما أن المعنی الضمنی للجملة هو معنی الحال ، إذ مضمون : «خلیل أبوک» أنه رحیم ؛ بداعی الأبوة التی تقتضی الرحمة والشفقة - کما سلف - فلهذا کان معنی الحال مؤکدا مضمون الجملة التی قبلها. والحال فیها ملازمة صاحبها.

ویشترط فی هذه الجملة التی قبلها أن تکون اسمیة ، وأن یکون طرفاها (وهما : المبتدأ والخبر) معرفتین ، جامدتین (1). ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا وعن عاملها ، وأن یحذف عاملها وصاحبها (2) وجوبا ؛ طبقا للتفصیل الذی سیأتی ...

ص: 341


1- اشترط بعض النحاة أن یکون هذا الجمود محضا ، بحیث لا یتأول الجامد بالمشتق ؛ احترازا من مثل : «علی الأسد مقداما» ؛ لأن «الأسد» مؤول بالشجاع ؛ فیکون الجامد المؤول بالمشتق هو العامل فی الحال ، وتصیر الحال مؤکدة لعاملها ، لا لمضمون الجملة. أما الجامد الذی لا یتأول عندهم فمثل : «علی أخوک رحیما» ، بزعم أن الأخوة لا تستلزم الرحمة ، بخلاف الأبوة. هذا رأیهم وتحقیقه عسیر ؛ إذ لا یکاد یوجد جامد لا یمکن تأویله - کما یقول کثیر من النحاة - انظر رقم 3 من هامش ص 347 - حتی المثال الذی عرضوه - ونظائره - ولعل هذا کان السبب فی أن شرطهم ورأیهم لم یذکره بل لم یوافق علیه - فریق آخر من النحاة ، کصاحب التوضیح ؛ کما یدل علیه مثاله وهو : (زید أبوک عطوفا) وکما یصرح شارحه بأنه مخالف للرأی السالف. (راجع التوضیح وشرحه عند تقسیمه الحال إلی مؤسسة ومؤکدة) وقد ذکر الأشمونی وغیره مثال التوضیح أیضا فی أول باب الحال ، ثم فی الحال المؤکدة.
2- وهذا علی اعتبار أنها حال من الضمیر المحذوف مع العامل کما سیجیء فی ص 357 و 365 و 370.

2 - وکذلک یشمل أن تکون مؤکدة لعاملها ؛ إما فی اللفظ والمعنی معا ، نحو قوله تعالی : (وَأَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً،) وإما فی المعنی فقط ، نحو قوله تعالی : (وَالسَّلامُ عَلَیَّ یَوْمَ وُلِدْتُ ، وَیَوْمَ أَمُوتُ ، وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا،) فکلمة : «حیّا». حال من فاعل المضارع : أبعث ، أی : من الضمیر المستتر (أنا). ومعناها : الحیاة ، وهو معنی الفعل : أبعث ؛ لأن البعث هو الحیاة بعد الموت. فمعناها موکّد لمعنی عاملها. والرسالة صفة ملازمة للرسول ، وکذا حیاة المبعوث ؛ فکلاهما وصف حلّ بصاحبه لا یفارقه.

3 - ویشمل أیضا أن تکون مؤکّدة بمعناها معنی صاحبها مع ملازمتها صاحبها ؛ نحو : اختلف کل الشعوب جمیعا. فکلمة : «جمیعا» حال مؤکدة معنی صاحبها ، وهو : «کلّ» ، لأن معنی الجمعیة هو معنی الکلیة ، لا یفترقان وسنعود للکلام علی أنواع من المؤکدة بمناسبة أخری (1).

(ب) أن یکون عاملها دالّا علی تجدّد صاحبها ؛ بأن یکون صاحبها فردا من نوع یستمر فیه خلق الأفراد وإیجادها علی مر الأیام ، أی : أن لذلک الفرد أشباه ونظراء توجد وتخلق بعد أن لم تکن. ویتکرر هذا الخلق والإیجاد طول الحیاة ؛ نحو : خلق الله جلد النمر منقّطا ، وجلد الحمار الوحشیّ مخطّطا ؛ فکلمة «منقطا» حال ، وکذا کلمة «مخططا» ، وعاملهما : ، «خلق» ، وهو یدل علی تجدّد هذا المخلوق ، أی : إیجاد أمثاله ، واستمرار الإیجاد فی الأزمنة المقبلة.

(ح) أحوال مرجعها السماع ، وتدل علی الدوام بقرائن خارجیة ؛ مثل ؛ «قائما» فی قوله تعالی : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِکَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ - قائِماً بِالْقِسْطِ،) فکلمة «قائما» حال ، وعاملها الفعل : «شهد» ، وصاحبها : «الله». ودوام القیام بالقسط معروف من أمر خارجی عن الجملة ؛ هو : صفات الخالق. ومثل : «مفصّلا» فی قوله تعالی : (وَهُوَ الَّذِی أَنْزَلَ إِلَیْکُمُ الْکِتابَ مُفَصَّلاً)(2).

* * *

الثانی : انقسامها بحسب الاشتقاق والجمود (3) إلی : «مشتقة» - وهی الغالبة ؛

ص: 342


1- فی ص 357 و 365 و 370.
2- مبینا فیه الحق والباطل بحیث لا یلتبس أحدهما بالآخر ، ولا یختلط به.
3- وفیما سبق من تعریف الحال ، وبیان المنتقل منها والثابت ، والجامد والمشتق ، وأن المنتقل غالب ولکنه لیس مستحقا ، أی : لیس واجبا - یقول ابن مالک : الحال : وصف ، فضلة ، منتصب مفهم فی حال : (کفردا أذهب) - 1 - - أراد : مفهم فی حال کذا ... فکلمة : «حال» هنا لا تنون ؛ لأنها مضاف ، والمضاف إلیه محذوف علی نیة الثبوت ، أی : فی حال کذا - کما سبق -. ذلک أن قولک : جاء محمود راکبا ، یفید المعنی الذی فی : جاء محمود فی حال الرکوب ، وهو بیان هیئة صاحبه. وهذا معنی قولهم : الحال علی معنی : «فی». ثم قال بعد ذلک : وکونه منتقلا ، مشتقّا یغلب. لکن لیس مستحقّا - 2 أی : هذا الکون الذی سرده ووصفه بالانتقال والاشتقاق - لیس مستحقا. فهو کثیر لا واجب

کالأمثلة السالفة - وإلی «جامدة» وهی القلیلة ، ولکنها مع قلتها قیاسیة فی عدة مواضع (1) ؛ سواء أکانت جامدة مؤولة بالمشتق ، أم غیر مؤولة (2). وأشهر مواضع المؤولة بالمشتق أربعة :

(ا) أن تقع الحال «مشبّها به» فی جملة تفید التشبیه إفادة تبعیّة غیر مقصودة لذاتها. نحو : ترنم المغنّی بلبلا - سارت الطیارة برقا - هجم القط أسدا. فالکلمات الثلاث : (بلبلا - برقا - أسدا) أحوال منصوبة مؤولة بالمشتق ، أی : سارّا - سریعة - جریئا. وکل حال من الثلاث یعدّ بمنزلة المشبه به. (أی : کالبلبل - کالبرق - کالأسد) ، ولا یعتبر مشبها به مقصودا حقیقة ، لأن التشبیه لیس المقصود الأول هنا ؛ إنما المقصود الأول هو المعنی الحادث عند التأویل بالمشتق.

(ب) أن تکون الحال دالة علی مفاعلة : (بأن یکون لفظها أو معناها جاریا علی صیغة «المفاعلة» ؛ وهی صیغة تقتضی - فی الأغلب - المشارکة من جانبین أو فریقین فی أمر) ، نحو ؛ سلمت البائع نقوده مقابضة ؛ أو سلمت البائع النقود یدا بید ؛ فکلمة : «مقابضة». حال جامدة ، ولفظها علی صیغة : «المفاعلة» مباشرة ، ومعناها : «مقابضین» وهذا یستلزم اشتراک البائع والمتکلم فی عملیة القبض. ولهذا کانت الحال هنا مبینة هیئة الفاعل والمفعول به معا ، أی : أن صاحب الحال هو الأمران.

ص: 343


1- لأنها لیست قلة ذاتیة مردها قلة استعمال العرب لها ، وإنما مردها أنها قلة بالنسبة للمشتقة. فهی کثیرة فی ذاتها بغیر نظر لقسیمتها. (انظر معنی «القلة» فی الأشمونی ج 2 «باب الإضافة» عند بیت ابن مالک : «وربما أکسب ثان أولا ...» وستجیء إشارة لها فی ص 422 ویجیء الإیضاح فی ح 3 رقم 1 من هامش ص 74 م 94).
2- الأهمیة الأولی إنما هی لصحة وقوع الحال جامدة فی هذه المواضع ، أما التأویل وعدمه فلا أهمیة له.

ومثلها : یدا بید (1) ، إذ معنی الکلمتین - لا لفظهما - جاریا علی صیغة : «المفاعلة» غیر المباشرة ؛ لأن معناهما : «مقابضة» وتأویلها : «مقابضین» أیضا. والأسهل عند الإعراب أن تقول : «یدا» حال من الفاعل والمفعول به معا. و: «بید» جار ومجرور متعلقان بمحذوف ، صفة للحال. فمن مجموع الصفة والموصوف ینشأ معنی الحال ، وهو : «المفاعلة» المقتضیة للمشارکة. فهذه المشارکة لا تتحقق إلا باجتماع الصفة والموصوف فی المعنی. أما فی الإعراب فکلمة : «یدا» وحدها هی الحال. وهی أیضا الموصوف ، و «بید» صفة.

ومثل هذا یقال فی : «کلّمت المنکر عینه إلی عینی (2) - أی : مواجهة أو مقابلة ؛ بمعنی مواجهین ... فکلمة «عین» حال (3) من الفاعل والمفعول به معا. وهی مضاف ، «والهاء» مضاف إلیه. و «إلی عینی» جار ومجرور ، ومضاف إلیه. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ؛ والتقدیر ؛ عینه المتجهة إلی عینی ... ومجموع الصفة والموصوف هو الذی یوجد صیغة : «المفاعلة» برغم أن الإعراب یقتضی التوزیع علی الطریقة السالفة ؛ فتکون : «عین» الأولی وحدها هی الحال والموصوف معا ، وما بعدها صفة ...

ومثل هذا أیضا : کلمت الصدیق فاه إلی فیّ (أی : فمه إلی فمی) ، بمعنی مشافهة ؛ المؤولة بکلمة : مشافهین.

ومثل : ساکنته غرفته إلی غرفتی ؛ بمعنی : ملاصقة ، التی تؤول بکلمة : ملاصقین ، وجالسته جنبه إلی جنبی ، کذلک ... وکل هذا قیاسی فی الرأی الأحسن.

(ح) أن تکون دالة علی سعر ؛ نحو : بع القمح. کیلة بثلاثین ، أی : مسعّرا. فکلمة «الکیلة» حال منصوبة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف ، صفتها. ومن مجموع الصفة والموصوف یکون المشتق المؤول.

ص: 344


1- من الحال الجامدة المسموعة بنصّها بعض أمثلة ، منها قولهم (... یدا بید) وقولهم (... فاه إلی فیّ) ... فهل یجوز القیاس علی تلک الأمثلة فنقول مثلا : کلمت المنکر عینه إلی عینی؟ قالوا لا یجوز القیاس إلا عند بعض الکوفیین. وحجة المانعین جدلیة لا تثبت علی الفحص. والأنسب الرأی الکوفی.
2- من الحال الجامدة المسموعة بنصّها بعض أمثلة ، منها قولهم (... یدا بید) وقولهم (... فاه إلی فیّ) ... فهل یجوز القیاس علی تلک الأمثلة فنقول مثلا : کلمت المنکر عینه إلی عینی؟ قالوا لا یجوز القیاس إلا عند بعض الکوفیین. وحجة المانعین جدلیة لا تثبت علی الفحص. والأنسب الرأی الکوفی.
3- یصح فیها وفی أمثالها الرفع ؛ فتکون مبتدأ. والجار مع مجروره خبرها ، والجملة فی محل نصب ، حال. ولا یحسن فی کلمة : «عین» أن تکون بدلا ؛ لأن البدل - فی القول الشائع - یکون علی نیة تکرر العامل. ولا یستقیم المعنی هنا علی تکراره ، إذ لا یقال : کلمت عینه.

(د) أن تکون الحال دالة علی ترتیب ؛ نحو ادخلوا الغرفة واحدا واحدا (1). أو : اثنین اثنین ، أو : ثلاثا ثلاثا ... والمعنی : ادخلوها : مترتّبین. وضابط هذا النوع : أن یذکر المجموع أوّلا مجملا ، مشتملا - ضمنا - علی جزأیه المکررین ، ثم یأتی بعده تفصیله مشتملا - صراحة - علی بیان الجزأین المکررین.

ومن أمثلته : یمشی الجنود ثلاثة ثلاثة. أو أربعة أربعة ... ینقضی الأسبوع یوما یوما ، وینقضی الشهر أسبوعا أسبوعا. وتنقضی السنة شهرا شهرا ، وهکذا (2).

ومن مجموع الکلمتین المکررتین تنشأ الحال المؤولة ؛ الدالة علی الترتیب ولا یحدث الترتیب من واحدة فقط. لکن الأمر عند الإعراب یختلف ؛ إذ یجب إعراب الأولی وحدها هی الحال من الفاعل - کما فی الأمثلة السالفة - أو من المفعول به ، أو من غیره علی حسب الجمل الأخری التی تکون فیها.

أما الکلمة الثانیة المکررة فیجوز إعرابها توکیدا لفظیّا للأولی ، کما یجوز - وهذا أحسن - أن تکون معطوفة علی الأولی بحرف العطف المحذوف «الفاء» أو : «ثمّ» - دون غیرهما من حروف العطف (3) - ، فالأصل : ادخلوا الغرفة

ص: 345


1- یکثر الیوم أمثال هذه الأسالیب المشتملة علی التکرار العددی المفید للترتیب ، وقد منعها بعض النحاة ، تبعا للحریری فی کتابه : «درة الغواص» حیث صرح بأنه لا یجوز : جاءوا واحدا واحدا ، ولا اثنین اثنین ، لأن العرب - فی رأیه - عدلوا عن ذلک إلی : «أحاد ، ومثنی ؛ وأخواتهما» ، وهجروا المعدول عنه. وقد تعقبه الشهاب الخفاجی ، وعلق علی ذلک الرأی ، مثبتا بالأدلة والشواهد القاطعة ابتعاده عن الصواب ، وأن رأی الحریری هو الخطأ الذی لا سند یؤیده ، وأن ذلک التکریر کثیر فی کلام العرب ، فهو قیاسی. وکذلک صرح بعض شراح «الکافیة» بأن أسماء العدد المستعملة للتکریر المعنوی بلفظها مطردة. مما سبق یتبین أنه لا داعی لمنع تلک الأسالیب ، ولا للجدل حول قیاسیتها. (کما ستجیء الإشارة فی ج 4 ص 172 م 146).
2- فالمجموع المجمل هو : (واو الجماعة - الجنود - الأسبوع - الشهر - السنة ...) ولهذه الأسالیب صلة بما یشبهها من نحو : ثناء ومثنی ، وثلاث ومثلث و... و... مما سیجیء بیانه فی ج 4 ص 171 م 146 عند الکلام علی منع الصرف للوصفیة والعدل.
3- لأن هذین الحرفین هما اللذان یدلان علی الترتیب ، دون باقی حروف العطف.

واحدا فواحدا ، أو : ثم واحدا - یمشی الجنود ثلاثة فثلاثة ، أو : ثم ثلاثة ... (1) ویصح أن یقال : ادخلوا الأول فالأول (2) ... و... و... فیکون حرف العطف ظاهرا ، وما بعده معطوف علی الحال التی قبله. ولکن الحال هنا - مع صحتها - فقدت الاشتقاق والتنکیر معا.

(ه) أن تکون مصدرا صریحا (3) متضمنا معنی الوصف (أی : المشتق) ؛ بحیث تقوم قرینة تدل علی هذا ؛ نحو اذهب جریا لإحضار البرید ؛ أی : جاریا - تکلم الخطیب ارتجالا ، أی : مرتجلا (4) - حضر الوالد بغتة. أی : مفاجئا ...

لا تثق بالکذوب ، واعلم یقینا

أن شرّ الرجال فینا الکذوب

أی : متیقنا.

وقد ورد - بکثرة - فی الکلام الفصیح وقوع المصدر الصریح المنکّر حالا ؛ ولکثرته کان القیاس علیه مباحا فی رأی بعض المحققین ، وهو رأی - فوق صحته - فیه تیسیر ، وتوسعة ، وشمول لأنواع من المصادر أجازها فریق ، ومنعها فریق. ولا معنی لتأویل المصادر الکثیرة المسموعة تأویلا یبعدها عن المصدر ، کما فعل بعض النحاة من ابتکار عدة أنواع من التأویل بغیر

ص: 346


1- وقد یکون الغرض من التکرار الاستیعاب لا الترتیب ؛ فقد جاء فی کتاب الإقلید : (إن العرب تکرر الشیء مرتین فتستوعب جمیع جنسه) ؛ مثل : ستمر بک أبواب الکتاب مفصلة بابا بابا. (راجع ص 80 من حاشیة الألوسی علی شرح القطر).
2- «الأول» السابقة «حال» منصوبة ، والثانیة معطوفة علیها بالفاء التی تفید الترتیب. وزیدت فیهما «أل» شذوذا. کما تزاد فی النظم للضرورة. والأصل : ادخلوا أول فأول ؛ أی : ادخلوا مترتبین (وقد سبق هذا عند الکلام علی «أل» الزائدة - ج 1 م 31 ص 398 «ب» -) انظر ما یتصل بهذا فی ص 350.
3- أما المصدر المؤول فلا یکون حالا ؛ لأنه یشتمل علی ضمیر یجعل الحال معرفة ، فتخالف الأغلب فیها ؛ وهو : التنکیر. وبالرغم من هذا یصح وقوعها مصدرا مؤولا بشرط أن تکون أداة السبک هی : «ما» المصدریة ، وبعدها فعل من أفعال الاستثناء الثلاثة ، - «خلا» أو «عدا» أو «حاشا» لأن المصدر المؤول هنا یؤول بنکرة. (انظر رقم 2 من هامش ص 330. وفی ج 1 ص 291 م 29 إشارة لبعض ما تقدم).
4- من غیر إعداد سابق للخطبة.

داع (1) ؛ إذ لم یراعوا للکثرة حقها الذی یبیح القیاس (2).

* * *

وأشهر مواضع الحال الجامدة التی لا تتأول بالمشتق سبعة :

(ا) أن تکون الحال الجامدة موصوفة بمشتق (3) أو بشبه (4) المشتق ؛ نحو (ارتفع السعر قدرا کبیرا - وقفت القلعة سدّا حائلا) - (تخیل العدو القلعة جبلا فی طریقه - عرفت جبل المقطم حصنا حول القاهرة).

والنحاة یسمون هذه الحال الموصوفة : «بالحال المؤطّئة» ، أی : الممهّدة لما بعدها ؛ لأنها تمهد الذهن ، وتهیئه لما یجیء بعدها من الصفة التی لها الأهمیة

ص: 347


1- غریب - کما یقول بعض النحاة - أن یکثر ورود الحال مصدرا منکرا ، فی فصیح الکلام المأثور ، بل فی أفصحه ؛ وهو : القرآن ، ثم نسمع من یقول : إنه بالرغم من تلک الکثرة مقصور علی السماع. فمما جاء فی القرآن قوله تعالی : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ یَأْتِینَکَ سَعْیاً) وقوله : (یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِیَةً) وقوله : (إِنِّی دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) وقوله : (یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً.) هذا بعض ما جاء فی الکتاب العزیز من الأحوال ، وما أکثر ما جاء فی غیره مما یستشهد به. وتأویلها بالمفعول المطلق الذی حذف عامله ضعیف ؛ لأن حذف عامل المؤکد فی مثل هذا معیب - کما سبق فی ص 172 - وکذا کل تأویل آخر یشبهه. فما الذی یقاس علیه إن لم تکن هذه الشواهد کلها داعیة للقیاس علیها؟ ولماذا یوافق بعضهم علی القیاس فی المصدر إذا کان نوعا لعامله ؛ نحو جاء السائق سرعة ، أی : سریعا؟ ولماذا یقصره کثیر منهم علی أنواع ثلاثة من المصدر؟ هی : ا - المصدر الدال علی بلوغ نهایة الشیء ؛ نحو : أنت الرجل شجاعة ، وأخوک الرجل علما. وأمثال هذا المصدر الذی قبله خبر مقرون «بأل» الدالة علی الوصول إلی نهایة الشیء ؛ حسنا أو قبحا. ب - والمصدر الذی قبله مبتدأ وخبر والمبتدأ مشبه بالخبر ، أنت عمر عدلا - وهی الخنساء شعرا. ح - والمصدر الواقع بعد : «أما» فی نحو : أما بلاغة فبلیغ ، من کل مصدر وقع بعد «أما» فی مقام قصد فیه الرد علی من وصف شخصا بوصفین ، أو سلبه أحدهما ، وأنت تعتقد اتصافه بواحد منهما. والحق أنه لا داعی لشیء من هذا کله. فالقیاس مباح.
2- یقول ابن مالک : ومصدر منکّر حالا یقع بکثرة ؛ کبغتة زید طلع - 6 - وسیعاد هذا البیت لمناسبة أخری فی ص 350 -
3- یری کثیر من النحاة أن هذه مؤولة بالمشتق أیضا ، وأنه لا وجود لحال جامدة لا تؤول بالمشتق. - کما سبق فی رقم 1 من هامش ص 341 - والخلاف شکل لا أثر له.
4- شبه المشتق هو الظرف والجار مع مجروره ، وإنما کان شبه الجملة شبیها بالمشتق لإمکان تعلق کل منهما بمحذوف مشتق ، تقدیره : کائن ، أو : موجود ، أو : حاصل ... ولأن الضمیر قد انتقل من المشتق بعد حذفه إلی شبه الجملة (کما سیجیء البیان فی رقم 1 من هامش ص 356 وفی هامش ص 417 م 89).

الأولی دون الحال ، فإن الحال غیر مقصودة ؛ وإنما هی مجرد وسیلة وطریق إلی النعت ؛ ولهذا یقسم النحاة الحال قسمین : أحدهما : «المؤطّئة» ، وتسمّی أیضا : «غیر المقصودة» ، وهی التی شرحناها ، وثانیهما : «المقصودة مباشرة» ؛ وهی المخالفة للسالفة.

(ب) أن تکون دالة علی شیء له سعر ؛ نحو : اشتریت الأرض قیراطا بألف قرش ، وبعتها قصبة بدینار - رضیت بالعسل رطلا بعشرة قروش ، وبعته أقة بثلاثین ... فالکلمات : (قیراطا - قصبة - رطلا - أقة -) حال جامدة. وهی من الأشیاء التی تسعّر ؛ کالمکیلات ، والموزونات ، والمساحات ...

(ح) أن تکون دالة علی عدد ؛ نحو : اکتمل العمل عشرین یوما ، وتم عدد العاملین فیه ثلاثین عاملا. فکلمة : «عشرین» و «ثلاثین» ، .... حال.

(د) أن تکون إحدی حالین ینصبهما أفعل التفضیل ، متحدتین فی مدلولهما ، وتدل علی أن صاحبها فی طور من أطواره مفضّل (1) علی نفسه أو علی غیره ، فی الحال الأخری ، نحو : هذا الخادم شبابا أنشط منه کهولة ، فللخادم أطوار مختلفة ؛ منها طور الشباب ، وطور الکهولة ، وهو فی طور الشباب مفضل علی نفسه فی طور الکهولة ، وناحیة التفضیل هی النشاط.

ومثل : الشتاء بردا أشد منه دفئا. فللشتاء أطوار ، منها طور البرودة ، وطور الدفء. وهو فی ناحیة البرد أشد منه فی ناحیة الدفء. ومثل : الحقل قصبا أنفع منه قمحا.

ومن الأمثلة : الولد غلاما أقوی من الفتاة غلامة (2) - المنزل سکنا أحسن من الفندق إقامة ...

وکلتا الحالین منصوبة بأفعل التفضیل. والأکثر أن تتقدم إحداهما علیه ، وهی المفضّلة ، وتتأخر الثانیة (3).

ص: 348


1- لیس المراد بالتفضیل الحسن ، أو عدم العیب ، أو قلته ... وإنما المراد الزیادة فی الشیء مطلقا ؛ حسنا أو قبحا. (کما سیجیء فی باب التفضیل ، ج 3).
2- مؤنث غلام.
3- کما یجیء فی رقم 2 من هامش 5 ، 3 وفی «د» من ص 358 ، ثم انظر الملاحظة التی فی ص 359 حیث یجوز تأخرهما.

(ه) أن تکون نوعا من أنواع صاحبها المتعددة ؛ نحو : هذه أموالک (1) بیوتا ؛ فکلمة : «بیوتا» حال ، وصاحبها - وهو : أموال - له أنواع متعددة (منها : البیوت ، والزروع ، والمتاجر ، والثیاب ...) ونحو : هذه ثروتک کتبا وهذه کتبک هندسة ...

(و) أن یکون صاحبها نوعا معینا وهی فرع منه ؛ نحو : رغبت فی الذهب خاتما - انتفعت بالفضة سوارا - تمتعت بالحریر قمیصا ... و... فکل من الذهب ؛ والفضة ، والحریر ، نوع ، والحال فرع منه (2).

(ز) أن تکون هی النوع وصاحبها هو الفرع المعین ؛ نحو : رغبت فی الخاتم ذهبا - انتفعت بالسوار فضة - تمتعت بالقمیص حریرا (3) ...

* * *

الثالث : انقسامها من ناحیة التنکیر والتعریف :

لا تکون الحال إلا نکرة (4) ، کالأمثلة السالفة. وقد وردت معرفة فی ألفاظ مسموعة لا یقاس علیها ، ولا یجوز الزیادة فیها. ومنها کلمة «وحد» فی قولهم : جاء الضیف وحده - سایرت الزمیل وحده. فکلمة : «وحد» حال ، معرفة ؛

ص: 349


1- المال : کل شیء یمکن امتلاکه ، من عقار ، ونقود ، وغیرهما.
2- ضابط هذا القسم : أن یکون الفرع جزءا من أصله ، وحین یتفرع منه یکتسب اسما جدیدا ، وهذا الاسم الجدید لا یمنع من إطلاق اسم الأصل علیه.
3- وفی الحال الجامدة یقول ابن مالک : ویکثر الجمود فی سعر ، وفی مبدی تأوّل بلا تکلّف - 3 أی : فی الأشیاء التی تسعر ، وفی کل ما یظهر قبول التأویل السهل : کبعه مدّا بکذا ، یدا بید وکرّ زید أسدا ، أی : کأسد - 4 المد : مکیال یختلف باختلاف الجهات ؛ فهو فی بعضها مقدار رطل وثلث ، وفی بعض آخر مقدار رطلین ... و... وقد یکون ملء الکفین المعتدلتین مع امتدادهما.
4- أو ما هو بمنزلة النکرة ، کالجملة الواقعة حالا ؛ لما رددناه من أن الجملة نکرة أو بمنزلة النکرة (راجع رقم 2 من هامش ص 368).

بسبب إضافتها للضمیر ؛ وهی جامدة مؤولة بمشتق من معناها ، أی : منفردا ، أو متوحدا(1).

ومنها : رجع المسافر عوده علی بدئه ، فکلمة : «عود» حال ، وهی معرفة ؛ لإضافتها للضمیر ، ومؤولة بالمشتق ، علی إرادة : رجع عائدا ، أو راجعا علی بدئه. والمعنی : رجع عائدا فورا ، أی : فی الحال : أو : رجع علی الطریق نفسه.

ومنها : ادخلوا الأول فالأول (2) ، أی : مترتبین ، ومنها : جاء الوافدون الجمّاء الغفیر (3) ، أی : جمیعا.

ومنها قولهم فی رجل أرسل إبله أو حمره الوحشیة إلی الماء ، مزاحمة غیرها ومعارکة : أرسلها العراک ، أی : معارکة ، مقاتلة (4).

* * *

ص: 350


1- کلمة : «وحد» ملازمة للإضافة دائما. ویدور الجدل حول إعرابها وإضافتها ؛ أهی ملازمة للنصب دائما ، أم تترکه إلی غیره؟ أهی مضافة للضمیر وجوبا ، أم یجوز إضافتها إلی غیره؟ بیان هذا کله مسجل فی «باب الإضافة» ح 3 م 94 ص 66.
2- انظر ما یوضح هذا فی رقم 2 من هامش ص 346.
3- الجماء : مؤنث الأجمّ ، بمعنی : الکثیر. و «الغفیر» : الکثیر الذی یغفر وجه الأرض ، أی : یغطیه بکثرته. والغفیر - فی المثال - صفة للجماء ، مع أن «الغفیر» هنا مذکرة ، والجماء مؤنثة فلم تطابق الصفة موصوفها الحقیقی. وقد تلمس النحاة لهذا تأویلات ؛ منها ؛ أن «فعیلا» هنا وإن کان بمعنی فاعل ، قد حمل علی «فعیل» بمعنی «مفعول» حیث تحذف التاء منه غالبا عند ذکر الموصوف - وهذا وأشباهه - مردود. والسبب الذی لا یرد هو : أن العرب نطقوا بها هکذا من غیر تعلیل ...
4- یقول بعض النحاة إن الأحوال المذکورة لیست معارف ؛ لأن «وحد» و «عود» ألفاظ مبهمة لا تکتسب التعریف ، ولأن «أل» زائدة فی الأحوال الباقیة المبدوءة بها - وهذا رأی فیه تکلف وضعف. یقول ابن مالک : والحال إن عرّف لفظا فاعتقد تنکیره معنی ، کوحدک اجتهد - 5 ومصدر منکّر حالا یقع بکثرة ؛ کبغتة زید طلع - 6 وقد سبق هذا البیت فی هامش ص 347 لمناسبة أخری.

زیادة وتفصیل

من الألفاظ التی وقعت حالا مع أنها معرفة بالإضافة ، قولهم : تفرق المهزومون أیادی سبإ. علی تأویل : متبدّدین ، لا بقاء لهم. أو علی تأویل «مثل أیادی سبإ» (1). وحذف المضاف ، وأقیم المضاف إلیه مقامه ؛ فأعرب حالا مثله (2).

ومنها : طلبت الأمر جهدی ، أو : طاقتی. علی تأویل ، جاهدا ، ومطیقا (3).

ومنها : العدد من ثلاثة إلی عشرة ، مضافا إلی ضمیر المعدود ؛ نحو : مررت بالإخوان ثلاثتهم ... أو خمستهم ... أو سبعتهم ... علی تأویل مثلّثا إیاهم ، أو مخمّسا ، أو مسبعا ...

ویجوز إتباعه لما قبله ؛ فلا یعرب حالا ، وإنما یعرب توکیدا معنویّا : بمعنی جمیعهم. ویضبط لفظ العدد بما یضبط به التوکید.

والصحیح أن هذا لیس مقصورا علی العدد المفرد ؛ بل یسری علی المرکب ؛ نحو : جاء القوم خمسة عشرهم ؛ بالبناء علی الفتح (4) فی محل نصب ، أو محل غیره علی حسب حاجة الجملة.

* * *

ص: 351


1- یلاحظ أن کلمة : «مثل» هی من الألفاظ المبهمة فی أغلب استعمالاتها - کما سبق فی ص 280 - ولهذا لا تکتسب التعریف إذا أضیفت لمعرفة.
2- سیجیء هذا فی ج 3 م 96 ص 136.
3- ستجیء الإشارة لهذه الألفاظ فی باب الإضافة (ج 3 ص 24 م 93).
4- بالرغم من أن العدد المرکب مبنی هنا فهو مضاف للضمیر - (وستجیء إشارة لهذا فی باب «التوکید» ج 3 م 116 ص 413 ، وکذلک فی ج 4 باب : «العدد» عند الکلام علی تمییز العدد م 164 ص 397 -).

الرابع : انقسامها من ناحیة أنها هی نفس صاحبها فی المعنی أو لیست کذلک.

والغالب أنها هی نفسه ؛ کالحال المشتقة فی نحو : صالح المتألم صارخا.

- شاهدت الطیور مبکرة ... فالصارخ فی الجملة - هو المتألم ، والمتألم هو الصارخ ؛ والمبکرة هی الطیور ، والطیور هی المبکرة.

وغیر الغالب أن تکون مخالفة له ، کالحال الواقعة مصدرا صریحا فی نحو : خرج الولد جریا ، وجاء القادم بغتة ، وأشباههما ؛ فإن الجری لیس هو الولد ، والولد لیس هو الجری. والبغتة لیست هی القادم ، والقادم لیس هو البغتة. وقد سبق (1) الکلام علی صحة وقوع المصدر حالا ، وهذه المخالفة لا تؤثر فی المعنی مع القرینة.

* * *

الخامس : انقسامها بحسب تأخیرها عن صاحبها ، أو تقدیمها علیه ، وبحسب تأخیرها عن عاملها أو تقدیمها علیه - إلی ثلاثة أقسام فی کل (2). هی : وجوب تأخیرها ، ووجوب تقدیمها ، وجواز الأمرین.

ترتیبها مع صاحبها

(ا) یجب تأخیرها عن صاحبها إذا کانت محصورة (3) ، نحو قوله تعالی : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ.) فلا یصح تقدیم الحال وحدها ، لأن تقدیمها یفسد سلامة الترکیب ، ویزیل الحصر ، فیفوت الغرض البلاغی منه. ولو تقدمت معها «إلا» فالإحسن المنع أیضا ، مجاراة للنهج الصحیح الشائع.

وکذلک یجب تأخیرها إن کان صاحبها مجرورا بالإضافة (أی : أنه مضاف إلیه) (4) ، نحو : أعجبنی شکل النجوم واضحة ؛ فلا یجوز تقدیم الحال : (واضحة) علی صاحبها : (النجوم) لئلا تکون فاصلة بین المضاف والمضاف

ص: 352


1- فی : «ه» من ص 346.
2- أحکام التقدیم والتأخیر الآتیة مقصورة علی الحال المؤسسة. أما المؤکدة فالرأی الأنسب عدم تقدیمها.
3- سبقت الإشارة إلی الحصر ومعناه وطریقته فی الجزء الأول ص 364 م 37.
4- بشرط أن یصلح لمجیء الحال منه ، وسیجیء بیان ذلک فی ص 376.

إلیه. والفصل بها لا یصح. کما لا یصح - فی الرأی الأنسب - تقدیمها علی المضاف (ولا فرق فی الحالتین بین الإضافة المحضة وغیرها).

أما إذا کان صاحبها مجرورا بحرف جر أصلی ؛ نحو : جلست فی الحدیقة ناضرة ، فالأحسن الأخذ بالرأی القائل بجواز تقدیمها ؛ لورود أمثلة کثیرة منها فی القرآن وغیره ، تؤیده (1). ولا داعی لتکلف التأویل والتقدیر (2).

فإن کانت مجرورة بحرف جر زائد ، جاز التقدیم ؛ نحو : ما جاء متأخرا من

ص: 353


1- ومنها قوله تعالی : (وَما أَرْسَلْناکَ - إِلَّا کَافَّةً - لِلنَّاسِ.) أی : وما أرسلناک إلا للناس کافة. وقول الشاعر : تسلّیت - طرّا عنکمو - بعد بینکم بذکراکمو حتی کأنکمو عندی البین : الفراق. طرا : جمیعا. أی : تسلیت عنکم طرا. وبمناسبة الکلام علی : «کافة» یذکر أکثر اللغویین والنحاة ألفاظا لا تستعمل إلا منصوبة علی «الحال» ، ومنها : «کافة» و «قاطبة». غیر أن «الصبان» سجل فی باب : «الحال» - ج 2 - عند الکلام علی الآیة السابقة استعمال «کافة» مجرورة ومضافة فی کلام عمر بن الخطاب ونصه : «قد جعلت لآل بنی کاکلة علی کافة المسلمین لکل عام مائتی مثقال ذهبا إبریزا». وعرض الصبان بعد ذلک لتفصیلات أخری تختص بهذه الکلمة ، وباستعمالها. وعلی هامش القاموس المحیط - ج 3 - مادة : «کف» نص منقول عن شرح القاموس یجیز استعمال هذه الکلمة مقرونة بأل ، أو مضافة ، وأن رفض هذین الاستعمالین لا مسوغ له. ونص کلامه : (ما رفضوه رده الشهاب فی شرح الدرة ، وصحح أنه یقال ، وإن کان قلیلا». اه. أما : «قاطبة» فقد استعملها «الجاحظ» غیر حال فی أول رسالته التی موضوعها : «تفضیل النطق علی الصمت» حیث یقول : «وإن حجته قد لزمت جمیع الأنام ، ودحضت حجته قاطبة أهل الأدیان». وتردد الأدباء فی محاکاته. ولکن هذا التردد یزول بما جاء فی کتاب : «الأمالی ، للقالی» - ج 1 ص 170 طبعه المطبعة الأمیریة بالقاهرة - فقد قال مؤلفه عند الکلام علی مادة : «قطب» ومعناها ما نصه : (قال یعقوب بن السکیت : یقال : قطب ، یقطب ، قطوبا ، وهو قاطب ... إذا جمع ما بین عینیه ، واسم ذلک الموضع : «المقطب» ومنه قیل : الناس قاطبة أی : الناس جمیع) اه. فقد استعملها خبرا. ومن کل ما سبق یتبین أن الکلمتین لیستا ملازمتین للحال.
2- فی هذه الصورة یقول ابن مالک : وسبق حال ما بحرف جرّ قد أبوا. ولا أمنعه فقد ورد - 9 أی : أن النحاة أبوا أن یوافقوا علی تقدیم حال صاحب قد جر بحرف جر (أی : أصلی). ثم أوضح رأیه الخاص قائلا : إنه لا یوافقهم ، ولا یمنع تقدیم الحال وسبقها علی صاحبها المجرور بالحرف ؛ لأن هذا ورد فی الکلام الفصیح. وإذا کان واردا فیه بقدر کاف فکیف یمنع؟ لکنه لم یذکر التفصیل.

أحد. وهذا بشرط أن یکون حرف الجر الزائد مما لا یمتنع حذفه ، أو مما لا یقل حذفه ؛ فالأول کالباء الداخلة علی صیغة : «أفعل» الخاصة بأسلوب التعجب ؛ نحو : أجمل بالنجوم (1) طالعة. والثانی کالباء فی فاعل : «کفی» بمعنی : «یکفی» ، مثل : کفی بالزمان مرشدا. فإن کان حرف الجر الزائد مما یمتنع حذفه أو یقل لم یجز تقدیم الحال علیه.

وزاد بعض النحاة مواضع أخری یمتنع فیها تقدیم الحال علی صاحبها ، منها أن یکون صاحبها منصوبا بالحرف الناسخ : «کأنّ» أو : «لیت» ، أو : «لعل» أو بفعل تعجب ، أو بصلة الحرف المصدری فی نحو : أعجبنی أن ساعدت الفقیرة عاجزة - أو أن یکون ضمیرا متصلا بصلة «أل» ، نحو : الود أنت المستحقه صافیا (2).

(ب) ویجب تقدیمها علی صاحبها إذا کان محصورا ؛ نحو : ما فاز خطیبا إلا البلیغ ، ولا انتصر مدافعا إلا الصادق.

أو کان صاحبها مضافا إلی ضمیر یعود علی شیء له صلة وعلاقة بالحال ، نحو : جاء زائرا هندا أخوها - جاء منقادا للوالد ولده.

(ح) ویجوز التقدیم والتأخیر فی غیر حالتی الوجوب السالفتین ، نحو دخل الصدیق مبتسما ، أو : دخل - مبتسما - الصدیق.

ترتیبها مع عاملها

(3)

(ا) یجب أن تتأخر عنه إن کان فعلا جامدا کفعل التعجب ؛ نحو :

ص: 354


1- تفصیل الکلام علی هذه «الباء». فی باب التعجب ، ج 3 م 108. ص 279.
2- علی اعتبار أن صاحب الحال : «هاء» الضمیر ، لا المبتدأ.
3- «ملاحظة هامة» تختص بالعامل فی الحال ، وفی صاحبها : الحال منصوبة ، وعامل النصب إما لفظی ؛ کالمصدر ، وکالفعل المشتق ، وکالوصف الذی یعمل عمله ، وکاسم الفعل ... وإما معنوی ؛ کأسماء الإشارة ، وألفاظ الاستفهام ، وبعض الحروف والأدوات التی سیجیء ذکرها هنا ، ومنها شبه الجملة. والعامل فی الحال هو - فی أکثر الصور - العامل فی صاحبها ، فعاملهما واحد ولو اختلف نوع عمله فی کل منهما. وهناک صور أخری یختلف فیها العاملان - عامل الحال ، وعامل صاحبها - کالحال التی صاحبها المبتدأ ، حیث یکون المبتدأ هو العامل فی الحال ، ویکون الابتداء هو العامل فی المبتدأ - وکالحال التی صاحبها اسم لناسخ ... وکثرة النحاة تشترط أن یکون العامل فی الحال وفی صاحبها واحدا فی کل الصور ، إلا سیبویه وفریق معه فإنه یرفض هذا الشرط - کما سبق البیان فی رقم 1 من هامش ص 339 - ورأیه هو الحق ؛ لما سلف هناک مفصلا.

ما أحسن الصدیق وفیّا ، أرکان مشتقّا یشبه الجامد ، کأفعل التفضیل (1) ؛ نحو : أنت أفصح الناس متکلما (2).

أو کان عاملها مصدرا صریحا یمکن تقدیره بأن والفعل والفاعل ، نحو : من الخیر إنجازک العمل سریعا ، فکلمة : «سریعا» حال من الکاف ، والعامل هو المصدر الصریح (3) : «إنجاز» ومن الممکن أن یحل محله مصدر مؤول من أن والفعل والفاعل فتکون الجملة : من الخیر أن تنجز العمل سریعا. ومثله أن تقول : یعجبنی إنجاز الصانع عمله سریعا ؛ فکلمة : «سریعا» حال من «الصّانع» والعامل هو : «إنجاز» أیضا. فإن کان المصدر الصریح غیر مقدّر بهما جاز تقدیم الحال وتأخیره ؛ نحو : معتذرا لک صفحا عن المسیء ... ، أو : صفحا عن المسیء معتذرا لک.

أو کان العامل اسم فعل ؛ نحو : نزال مسرعا ؛ أی : انزل مسرعا ؛ لأن معمول اسم الفعل لا یتقدم علیه.

أو کان العامل معنویّا ؛ (وهو الذی یتضمن معنی الفعل دون حروف الفعل کألفاظ الإشارة ، والاستفهام ، وأحرف التمنی والتشبیه ، وکشبه الجملة - الظرف ،

ص: 355


1- کان شبیها بالجامد ، لأنه فی کثیر من أحواله لا یقبل علامة التأنیث ، ولا علامة التثنیة ، أو الجمع ؛ فخالف بهذا المشتقات الأصیلة ؛ کاسم الفاعل ، واسم المفعول. واقترب من الجامد الذی لا تتغیر صورته.
2- یستثنی من أفعل التفضیل صورتان ؛ إحداهما : أن یکون عاملا فی حالین لاسمین ، متحدین فی مسماهما ، وإحداهما مفضلة علی الأخری ؛ فالأحسن تقدیم المفضلة علیه ، وتأخیر الأخری عنه. نحو : هذا الأدیب ناثرا أبرع منه شاعرا. فکلمة : «أبرع» أفعل تفضیل ، نصبت حالین ؛ هما : «ناثرا» و «شاعرا» والاسمان لمسمی واحد ، وإحداهما مفضلة ، وهی : «ناثر» فتقدمت علی العامل ؛ وتأخرت الثانیة. والصورة الثانیة کالسابقة ؛ إلا أن الحالین لشیئین مختلفین فی مسماهما ؛ نحو ؛ المتعلم منفردا أنفع من الجاهل مستعینا بغیره. (راجع د من ص 348 ود من ص 358 وانظر الملاحظة التی بعدها حیث یجوز تأخیرهما).
3- إذا کان العامل مصدرا نائبا عن فعله المحذوف وجوبا جاز تقدیم الحال ، نحو : إکراما هندا متعلمة. فیصح : متعلمة إکراما هندا (کما فی ج من ص 358). وقد سبقت مواضع المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا فی ص 178 م 76.

أو الجارّ مع مجروره - الواقع خبرا ، أو نعتا کذلک) (1) ، نحو : هذا کتابک جمیلا ، فکلمة : «جمیلا» حال من الخبر : (کتاب) والعامل هو اسم الإشارة. ومعناه : أشیر ؛ فهو یتضمن معنی الفعل ، دون أن یشتمل علی حروفه. ومثل : لیت الصانع - متعلما - حریص علی الإتقان. فکلمة : «متعلما» حال من الصانع ، والعامل «هو : لیت» ، وهو حرف معناه : «أتمنّی» ، فیتضمّن معنی الفعل دون حروفه ... ومثل : کأن الباخرة - واسعة - فندق کبیر. ومثل : الزروع أمامک ناضرة ، أو : الزروع فی حدیقتک - ناضرة ...

والاستفهام المقصود به التعظیم ؛ نحو : یا جارتا ، ما أنت جارة؟ ... وهکذا کل ما یتضمن معنی الفعل دون حروفه غیر ما سبق ، کأدوات التنبیه ، والترجی ، والنداء ...

لکن بعض النحاة یستثنی من العامل الذی یتضمن معنی الفعل دون حروفه ، شبه الجملة بنوعیه (الظرف والجار مع مجروره) فیجیز أن یتقدم علیهما الحال أو یتأخر ، نحو : الحارس عند الباب واقفا ، و: الحارس - واقفا - عند الباب ، ونحو : القطّ فی الحدیقة قابعا ، أو : القطّ - قابعا - فی الحدیقة. وإنما یجیز تقدم هذه الحال بشرط أن تتوسط بین مبتدأ متقدم وخبره شبه الجملة المتأخر عنه وعن الحال معا. ولا یصح تقدم الحال علیهما معا ، فلا یقال : واقفا - الحارس عند الباب ، ولا قابعا القط فی الحدیقة. فإن تقدمت الحال والخبر معا ، وکانت الحال هی الأسبق جاز ؛ نحو : واقفا عند الباب الحارس ، وهذا رأی مقبول(2).

ویصح عند أکثر النحاة تقدیم الحال علی عاملها «شبه الجملة» إن کانت

ص: 356


1- لأن شبه الجملة قد یکون متعلقا بفعل أو بوصف محذوف ، وینتقل إلیه الضمیر الذی یکون فی المتعلق بعد حذفه. وبهذا یصیر شبه الجملة متضمنا معنی الفعل ، لاشتماله علی المتعلق المحذوف ، فوق اشتماله علی ضمیره علی (الوجه المفصل فی ج 1 ص 346 م 35 ورقم 4 من هامش ص 347 فی هذا الباب وص 350 م 98).
2- برغم قلته بالنسبة إلی الأول. وحجة أصحابه ورود أمثلة فصیحة تکفی للحکم بقیاسیته ؛ منها قراءة من قرأ قوله تعالی : (وَالسَّماواتُ مَطْوِیَّاتٌ بِیَمِینِهِ) بنصب : «مطویات» - وقول الشاعر : رهط ابن کوز محقبی أدراعهم فیهم ، ورهط ربیعة بن حذار - - فکلمة : «محقبی» حال ، تقدمت علی عاملها شبه الجملة : (فیهم) ... والمخالفون لهذا الرأی یؤلونه بغیر داع مقبول.

هی شبه جملة أیضا ؛ نحو : الخیر عندک أمامک - أو الخیر فی الدار أمامک ... علی اعتبار الظرف (عند) والجار مع مجروره (فی الدار) حالین من الضمیر المستکن فی شبه الجملة بعدهما (1).

أو کانت الحال مؤکدة معنی الجملة (2) ؛ نحو : علی جدّک شفیقا ، وتقدیر العامل : علیّ جدّک أعرفه ، (أو : أعلمه ، أو : أحقه ...) شفیقا. فعامل الحال وصاحبها (باعتباره الضمیر) محذوفان وجوبا قبل الحال.

أو کان العامل قد عرض له ما یمنع من تقدم معموله علیه ، کالماضی المبدوء بلام الابتداء (3) أو بلام جواب القسم (4) ، فإن المعمول لا یتقدم علی هذه اللام نحو : إنی لقد تحملت - صابرا - هفوة القریب. أو : والله لقد تحملت - صابرا - هفوة القریب.

وکالعامل الواقع فی صلة حرف مصدری مطلقا ؛ نحو : لک أن تتنقل راکبا. أو الواقع صلة «أل» (5) ، نحو : أنت السائق بارعا ، لأن معمولهما لا یتقدم علیهما - فی الرأی الراجح.

أو کانت الحال مقترنة بالواو ؛ نحو : اقر الکتاب والنفس صافیة (6).

(ب) یجب أن تتقدم علیه إذا کان لها الصدارة ، نحو : کیف أنقذت الغریق؟ فکلمة : «کیف» اسم - علی الأرجح - مبنی علی الفتح فی محل نصب ، حال (7).

ص: 357


1- ومما یصلح مثالا لهذا شبه الجملة «من الله» فی قوله تعالی : (وَمَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللهِ فِی شَیْءٍ ...) (راجع الصبان ، وکذا حاشیة الأمیر علی «المغنی» أول المقدمة).
2- سبق الکلام علیها فی ص 341 وسیجیء بمناسبة أخری فی ص 365 و 370.
3- سبق الکلام علیها فی ج 1 ص 497 م 53.
4- الکلام علیها سیأتی - 461 - فی حروف القسم ، باب : حروف الجر.
5- بخلاف صلة غیرها : فیجوز : من الذی راکبا جاء ، لجواز تقدیم معمول الصلة علیها لا علی الموصول.
6- یحسن الاقتصار علی هذا الرأی ، دون الرأی الذی یجیز التقدیم والتأخیر بتأول.
7- تقدم فی ج 1 ص 367 م 39 إعراب «کیف» فی صورها المختلفة ، وأشرنا لهذا فی رقم 3 من هامش ص 58 وفی هامش ص 64 و 111.

(ح) یجوز الأمران فی غیر الحالتین السالفتین ، مثل : واقفا أنشد الشاعر القصیدة. وأشباه هذا مما یکون فیه عامل الحال فعلا متصرفا ، أو مشتقّا یشبه الفعل المتصرف ، أو مصدرا نائبا عن فعله المحذوف وجوبا (کما سبقت الإشارة إلیه) (1). والمراد بالذی یشبه الفعل ما یتضمن معنی الفعل وحروفه ، ویقبل علامات التأنیث ، والتثنیة ، والجمع (2). فمثال الحال المتقدمة علی عاملها الفعل المتصرف - غیر ما سبق - راغبا أقبلت علی زیارتک. ومثال المتقدمة علی اسم فاعل : مسرعة الطائرة مسافرة ، ومثال المتقدمة علی صفة مشبهة : الإنسان - قانعا - غنیّ ، ومثال اسم المفعول : الحاکم - ظالما - محطّم ... ومثال المتقدمة علی المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا : متعلمة إکراما هندا (3).

(د) إذا کان العامل هو أفعل التفضیل الذی یقتضی حالین (4) إحداهما تدل علی أن صاحبها فی طور من أطواره أفضل من نفسه أو غیره فی الحال الأخری - فالأحسن أن تتقدم إحداهما علی أفعل التفضیل ، وتتأخر الثانیة - کما سبق - (5) نحو : الحقل قطنا أنفع منه قمحا - الفدان عنبا أحسن منه قطنا - المتعلم تاجرا أقدر منه زارعا. المصباح الکهربیّ منفردا أقوی من عشرات الشموع مجتمعة (6) ، ومثل قول علیّ - رضی الله عنه - لأنصاره ، وهم یعرضون علیه الخلافة

ص: 358


1- فی رقم 3 من هامش ص 355.
2- خرج اسم الفعل ؛ فإنه قد یتضمن معنی الفعل وحروفه ولکنه غیر مشتق ، ولا یقبل تلک العلامات ؛ کاسم الفعل : «نزال» بمعنی : انزل. وخرج أفعل التفضیل کذلک ، لأنه مشتق ، ولکن لا یقبل تلک العلامات فی حالات کثیرة (کما سبق فی رقم 1 من هامش ص 355).
3- کما سبقت الإشارة فی رقم 3 من هامش ص 355.
4- ولا مانع أن تکون الحالان أو إحداهما جامدة ، غیر مؤولة بالمشتق ؛ طبقا لما سبق فی «د» من ص 348 عند سرد مواضع الحال الجامدة غیر المؤولة بالمشتق.
5- فی «د» من ص 348 وکما فی رقم 2 من هامش ص 355.
6- وإلی مواضع تقدیم الحال علی عاملها وعلی صاحبها یشیر ابن مالک بإیجاز ومزج بین مواضعهما ؛ فیقول : والحال إن ینصب بفعل صرّفا أو صفة أشبهت المصرّفا - 12 - - فجائز تقدیمه کمسرعا ذا راحل. ومخلصا زید دعا - 13 یرید : أن الحال المنصوبة بفعل متصرف أو وصف یشبهه - یجوز تقدیمها وتأخیرها عن عاملها ؛ وذکر مثالین : أحدهما لحال تقدمت علی عاملها الفعل المصرف ، (وهو مخلصا زید دعا) ، والآخر لحال تقدمت علی عاملها الوصف الذی یشبه الفعل المتصرف ، (وهو : مسرعا ذا راحل). ثم انتقل إلی الکلام علی الحال التی لا یجوز تقدیمها علی عاملها المعنوی فقال : وعامل ضمّن معنی الفعل لا حروفه - مؤخّرا لن یعملا - 14 کتلک ، لیت ، وکأنّ ، وندر نحو : سعید مستقرّا فی هجر - 15 أی : أن العامل المعنوی (وهو الذی یتضمن معنی الفعل دون حروفه) لا یعمل النصب إذا کان متأخرا عن الحال. وبین أمثلة من العامل المعنوی ، هی : تلک ؛ لیت ، کأن ... وأوضح أن تقدیم الحال علی عاملها المعنوی شبه الجملة نادر عنده. وضرب له مثلا هو : سعید مستقرا فی هجر. (بلد بالیمن) ثم ثم تکلم علی جواز تقدیم أحد الحالین المنصوبین بأفعل التفضیل : ونحو : زید مفردا أنفع من عمرو معانا ، مستجاز ، لن یهن - 16 مستجاز : أجازه النحاة. لن یهن : لن یضعف مثل هذا الأسلوب فی نظر العارفین.

أول الأمر : (أنا لکم وزیرا ، خیر لکم منی أمیرا ...)

ملاحظة

أجاز فریق من النحاة ما یشیع الیوم فی بعض الأسالیب ، من تأخیر الحالین معا عن أفعل التفضیل ، بشرط أن تقع بعده الحال الأولی مفصولة من الثانیة بالمفضل علیه ؛ نحو : المتعلم أقدر تاجرا منه زارعا - المصباح الکهربیّ أقوی متفردا من عشرات الشموع مجتمعة - هذه الفاکهة أطیب ناضجة منها فجّة -.

* * *

السادس : انقسامها بحسب التعدد - الجائز والواجب - وعدمه ، إلی واحدة وإلی أکثر :

قد تکون الحال واحدة لواحد ؛ نحو : یقف الشرطیّ متیقظا ، وهذه تطابق : صاحبها الحقیقی فی الإفراد وفروعه ، وفی التأنیث والتذکیر (1) ، نحو : هبط

ص: 359


1- کل هذا بشرط أن تکون الحال حقیقیة (وهی : الدالة علی هیئة صاحبها مباشرة ، لا هیئة شیء آخر یتصل به. فالدالة علی هیئة صاحبها الحقیقی نحو : یقف الشرطی متیقظا ، والدالة علی هیئة شیء - - آخر یتصل به بسبب. (وتسمی : الحال السببیة ، ولا تشترط فیها المطابقة التامة لصاحبها ، وسیجیء حکمها فی ص 373) نحو یقف الشرطی مفتحة عیناه طول اللیل.

الطیار هادئا - هبط الطیاران هادئین - هبط الطیارون هادئین - هبطت الطیارة هادئة ... و...

وقد تکون الحال واحدة ولکن یتعدد ما تصلح له ، من غیر أن توجد قرینة تعین واحدا مما یصلح ؛ نحو : قابلت الأخ راکبا. والأنسب فی هذا النوع أن تکون للأقرب. ومنع بعض النحاة هذا الأسلوب ، لإبهامه ، وخفاء الصاحب الحقیقی ، ورأیه سدید.

والمتعددة (1) قد تکون متعددة لواحد ، فتطابقه فی الأمور السالفة ، نحو : هبط الطیار هادئا ، مبتسما ، لابسا ثیاب الطیران. ونزل مساعده نشیطا مبتهجا حاملا بعض معداته ، وخرجت المضیفة مسرعة قاصدة حجرتها ... ولا یجوز وجود حرف عطف بین الأحوال المتعددة - ما دامت أحوالا - فإن وجد حرف العطف صحّ ، وکان ما بعده معطوفا ، ولا یصح أن یعرب حالا (2).

وقد تکون متعددة لأکثر من واحد ؛ فإن کان معنی الأحوال ولفظها واحدا وجب تثنیتها أو جمعها علی حسب أصحابها من غیر نظر للعوامل ، أهی متحدة فی عملها وألفاظها ، ومعانیها ، أم غیر متحدة فی شیء من ذلک؟ نحو : عرفت النحل والنمل دائبین علی العمل. والأصل : عرفت النحل دائبا ... والنمل دائبا ... والحالان متفقان لفظا ومعنی (3) ، وهما یبیّنان هیئة شیئین ؛ فوجب تثنیتهما تبعا لذلک ، فرارا من التکرار. ونحو : أبصرت فی الباخرة الرّبّان ، والبحّار والمهندس منهمکین فی إدارتها. والأصل : أبصرت الرّبّان منهمکا ، والبحار منهمکا ، والمهندس منهمکا. فالحال هنا متعددة. وهی متفقة الألفاظ والمعانی ، وأصحابها ثلاثة ؛ فجمعت وجوبا تبعا لذلک ، استغناء عن التکرار.

ص: 360


1- وتسمی : المترادفة. وقد تسمی : المتداخلة ، طبقا للبیان الموضح فی «ا» من ص 363.
2- کما فی رقم من ص 400.
3- ولا یضر الاختلاف تذکیرا ، وتأنیثا ؛ نحو قوله تعالی : (وَسَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَیْنِ) أی : سخر لکم الشمس دائبة والقمر دائبا.

ونحو : بنیت البیت وأصلحت السّور جمیلین. ووقفت سعاد وشاهدت أمّها متکلمتین (1).

هذا ، والتکرار الممنوع فی التثنیة والجمع هو تعدد الأحوال متوالیة ، کل واحدة وراء الأخری مباشرة. أما وقوع کل واحدة بعد صاحبها مباشرة فلیس بممنوع. وإن تعددت لمتعدد وکانت مختلفة الألفاظ أو المعانی وجب التفریق بغیر عطف ؛ بحیث تکون کل حال بعد صاحبها مباشرة ، وهو الأحسن ؛ منعا للغموض. ویجوز تأخیر الأحوال المتعددة کلها وتکون الأولی منها للاسم الأخیر ، والحال الثانیة للاسم الذی قبله ، والحال الثالثة للاسم الذی قبل هذا ... وهکذا ترتب الأحوال مع أصحابها ترتیبا عکسیّا. فأول الأحوال لآخر الأصحاب ، وثانی الأحوال للصاحب الذی قبل الأخیر ... ومراعاة هذا واجبة. إلا إن قامت قرینة تدل علی غیره. فمثال مراعاة الترتیب السابق : کنت أسوق السیارة فأبصرت زمیلی فی سیارته قاصدا الریف ، مقبلا من الریف. فکلمة : «قاصدا» حال من «زمیل» بإعطاء أول الحالین لآخر الاسمین. وکلمة : «مقبلا» حال من التاء فی : «أبصرت» ؛ بإعطاء ثانی الحالین للاسم الذی قبل السابق ... و... ومثال مخالفة هذا الترتیب لقرینة تدعو للمخالفة : لقی التّرجمان جماعة السیاح باحثا عنهم ، سائلة عنه. فکلمة : «باحثا» حال من : «الترجمان» وکلمة : «سائله» حال من «جماعة» ولو روعی الترتیب هنا لاختلّت المطابقة الواجبة بین الحال وصاحبها فی التذکیر والتأنیث. فالذی ربط بین الحال وصاحبها ، وعیّن لکل حال صاحبها هو قرینة التذکیر فیهما معا ، أو التأنیث فیهما معا. ومثل : حدث المحاضر طلابه واقفا جالسین ؛ فکلمة : «واقفا» حال من : «المحاضر» ، و «جالسین» حال من : «الطلاب». ولم یراع الترتیب ؛ لأن اللبس مأمون ؛ بسبب وجود المطابقة التی تقضی بأن یکون صاحب الحال المفردة مفردا ، والمجموعة جمعا (2).

ص: 361


1- من الکلام النظری المحض ما یقوله النحاة : (إن العامل فی الحال عند تعدد العامل هو مجموع العوامل. لا کل واحد مستقلا. لئلا یجتمع عاملان علی معمول واحد!! وانظر «ا» من» 363). ولا فائدة من تناسی الأمر الواقع من غیر داع ؛ فالواقع أن کل عامل قد اشترک فی العمل برغم ما سبق.
2- اقتصر ابن مالک فی الکلام علی الحال المتعددة علی البیت الآتی : والحال قد یجیء ذا تعدّد لمفرد - فاعلم - وغیر مفرد - 17

والجدیر فی هذه المسألة - وفی غیرها - الاعتماد علی القرینة ؛ فلها الاعتبار الأول دائما.

وإذا وقعت الحال بعد : «إمّا» التی للتفصیل ، أو بعد : «لا» النافیة وجب تعدد الحال ، نحو قوله تعالی : (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ ؛ إِمَّا شاکِراً وَإِمَّا کَفُوراً) ونحو : یقفز الطیار ؛ لا خائفا ، ولا مترددا. أما فی غیر هذین الموضعین فالتعدد جائز علی حسب الدواعی المعنویة.

* * *

ص: 362

زیادة وتفصیل

(ا) إذا تعددت الحال لواحد سمیت : «مترادفة» ؛ أی : متوالیة ، (تتلو الواحدة الأخری). ویجوز أن تکون الحال الثانیة حالا من الضمیر المستتر فی الأولی ؛ وعندئذ تسمی الثانیة : «متداخلة». وهذا یجری فی کل حال متعددة ، فیجوز أن تکون حالا من ضمیر التی قبلها مباشرة.

ویمنع جماعة من النحاة ترادف الحالین ؛ بزعم أن العامل الواحد لا ینصب إلا حالا واحدة. وله حجة جدلیة مردودة ، لأنها من نوع الجدلیات التی تسیء إلی النحو من غیر أن تفیده (1).

(ب) عرفنا أنه یجوز أن تتعدد الحال من غیر أن یتعدد صاحبها ؛ نحو : مشیت بین الریاحین هانئا ، مستنشقا أریجها ، متملیا جمالها ... ، ولکن لا یجوز أن تتعارض الأحوال ، فلا یقال : حضر القطار سریعا بطیئا ، ولا وقف الحارس متیقظا غافلا. نعم یجوز هذا عند إرادة الوصول إلی معنی واحد یؤخذ من الحالین معا ، ولا یؤدیه أحدهما دون الآخر ؛ نحو : أکلت الطعام ساخنا باردا ، ترید : معتدلا فی حرارته ، ونحو : رکبت السیارة مسرعة بطیئة ؛ أی : متوسطة فی سرعتها ، ومثل : لا تأکل الفاکهة ناضجة فجّة ، أی : متوسطة النضج.

ونحو : اترک الطعام ممتلئا جائعا ، أی : متوسطا فی الشبع. ونحو : تخیر ثیابک واسعة ضیقة ، أی : معتدلة السعة. وهکذا.

بالرغم من أن المعنی المقصود لا یتحقق إلا من اللفظین معا فإن الإعراب یقضی أن یکون کل لفظ منهما - حالا.

* * *

ص: 363


1- انظر رقم 1 من هامش ص 361.

السابع : انقسامها بحسب الزمان إلی : مقارنة ، ومقدّرة (1) (مستقبلة) ... فالمقارنة هی التی یتحقق معناها فی زمن تحقق معنی عاملها ، وحصول مضمونه ؛ بحیث لا یتخلف وقوع معنی أحدهما عن الآخر ، نحو : (أقبل البریء فرحا ، - هذا یسوق السیارة الآن محترسا) - فزمن الفرح ، والاحتراس ، هو زمن وقوع معنی الفعلین : أقبل - یسوق.

والمقدّرة ، أو المستقبلة (2) : هی التی یتحقق معناها بعد وقوع معنی عاملها ، أی : بعد تحقق معناه بزمن یطول أو یقصر ؛ فحصول معنی الحال هنا متأخر عن حصول مضمون عاملها ؛ نحو : سیسافر بعض الطلاب غدا إلی البلاد الغربیة ؛ موزّعین فیها ، متدرّبین فی مصانعها. ثم یعودون عاملین فی مصانعنا ؛ فزمن التوزع والتدرب متأخر عن السفر ، الذی هو زمن حصول العامل ، ومستقبل بالنسبة له. وکذلک العمل متأخر عن العودة. وکقوله تعالی فی الإنسان : (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ ، إِمَّا شاکِراً وَإِمَّا کَفُوراً) فکلمة «شاکرا» حال ، وزمن وقوعه متأخر - حتما - عن زمن عامله (وهو الفعل : هدی) ، وکلمة : «کفورا» معطوف علیه ، وهو حال مثله. وکذلک قوله تعالی للصالحین أهل الجنة : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِینَ) ، وقوله تعالی : (فَادْخُلُوها خالِدِینَ،) فکلّ من الأمن والخلود متأخر فی زمنه عن زمن الدخول لا محالة (3) ...

ص: 364


1- سیجیء - فی رقم 3 من هذا الهامش - نوع ثالث یذکره بعض النحاة ویعارض فیه آخرون.
2- وهی التی أشرنا إلیها فی رقم 2 من ص 339.
3- أما النوع الثالث الذی یسمیه بعض النحاة : «الحال المحکیة» فحال وقع معناها قبل النطق بها ؛ نحو : نزل المطر أمس فیاضا ، واندفع فی طریقه جارفا. وقد عارض - بحق - کثرة النحاة فی هذا القسم وفی أمثلته بحجة قویة ؛ هی أن العبرة إنما تکون بمقارنة الحال وقت تحقق معناها وحین وقوعها ووجودها - لزمن العامل وتحقق معناه - کالتی هنا ، ولیست لزمن المتکلم. هذا إلی أن الأمثلة المعروضة (وأشباهها) وقد جاءت فیها «الأحوال» مشتقات نوعها اسم فاعل ، واسم الفاعل حقیقة فی الزمن الحالی ، عند عدم القرینة التی توجهه لزمن غیر الحال. فالتعبیر به عن الماضی ، یعتبر مجازا ویسمی «حکایة حال ماضیة». وهذه الحجة صحیحة ، وبرغم صحتها لا أهمیة للخلاف. لأن الغرض المطلوب هو الحکم علی مثل تلک «الأحوال» بالصحة والبعد عن الخطأ. وقد ثبت أن ذلک الاستعمال صحیح والأسلوب سلیم ، فلا أهمیة بعد ذلک لأن یکون الاستعمال الصحیح حقیقیا أو مجازیا وإن کانت قلة الأقسام - من غیر ضرر - أمرا محمودا.

والحال المقارنة أکثر استعمالا وورودا فی الکلام ، ولا تحتاج إلی قرینة کالتی یحتاج إلیها غیرها.

* * *

الثامن : انقسامها بحسب التأسیس والتأکید إلی مؤسّسة ومؤکّدة. فالمؤسّسة ، وتسمی المبیّنة (1) : هی التی تفید معنی جدیدا لا یستفاد من الکلام إلا بذکرها ، نحو : وقف الأسد فی قفصه غاضبا ، ثم هدأ حین رأی حارسه مقبلا ، فکلمة : «غاضبا» حال مؤسّسة : لأنها أفادت الجملة معنی جدیدا لا یفهم عند حذفها. وکذلک کلمة : «مقبلا» وأشباههما من الأحوال التی لا یستفاد معناها من سیاق الکلام بدون ذکرها.

والمؤکّدة : هی التی لا تفید معنی جدیدا ، وإنما تقوّی معنی موجودا فی الجملة قبل مجیئها (2) ، ولو حذفت الحال لفهم معناها مما بقی من الجملة. نحو : لا تظلم الناس باغیا ، ولا تتکبر علیهم مستعلیا ، «فالبغی» هو الظلم ، و «الاستعلاء» هو الکبر. ولو حذف کل من الحالین فی المثال (وهما یؤکدان عاملهما) ما نقص المعنی ، ولا تغیر ، ولفهم معناه من بقیة الکلام. ومثلهما باقی الأحوال التی یستفاد معناها بغیر وجودها. وقد سبق - فی مناسبة أخری (3) - الإشارة إلی المؤکدة ، وأنها قد تکون مؤکدة لمضمون الجملة ؛ نحو : خلیل أبوک عطوفا ، أو مؤکدة لعاملها لفظا ومعنی ؛ نحو : (وَأَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أو معنی فقط : نحو : (... وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا ...) لأن البعث یقتضی الحیاة ، أو مؤکدة لصاحبها ؛ نحو قوله تعالی : (وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیعاً.) فکلمة : «جمیعا» حال من الفاعل «من» وهذا الفاعل اسم موصول یفید العموم ، والحال - هنا - تفید العموم ، فهی مؤکدة له.

وأشرنا هناک إلی أن الجملة التی تؤکّد الحال مضمونها لا بد أن تکون جملة اسمیة ، طرفاها معرفتان ، جامدتان (4) ؛ ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا ،

ص: 365


1- لأنها تبین هیئة صاحبها - أما المؤکدة فلا تبین هیئة - کما فی ص 339 و 340 -.
2- سواء أکان المعنی الذی تؤکده هو معنی عاملها أم معنی صاحبها ، أم معنی الجملة التی قبلها. - کما سبق فی ص 341 وما بعدها وله إشارة فی ص 370.
3- ص 341 وما بعدها.
4- إذا کان فی الجملة فعل أو ما یعمل عمله کان عاملا فی الحال ؛ فلا یعتبر العامل مضمرا ، - - ولا تکون الحال مؤکدة لمضمون الجملة. وقد قلنا فی رقم 1 من هامش ص 341 إن بعض النحاة اشترط الجمود المحض ؛ لیخرج : هو الأسد مقداما ؛ فإنها مؤکدة لعاملها ؛ وهو : «الأسد» ؛ لتأوله بالشجاع ، ولیست مؤکدة لمضمون الجملة ، لأن هذه الحال لیست جامدة محضة ، کما یشترط. وقد آثرنا هناک إهمال رأیه ، والأخذ بالرأی الذی یکتفی بمجرد الجمود للأسباب التی أوضحناها.

وعن عاملها أیضا. وأن العامل فی هذه الحال محذوف وجوبا ، وکذلک صاحبها. ففی المثال السابق : «خلیل أبوک عطوفا» ، یکون التقدیر : أحقه ، أو : أعرفه ، أو : أعلمه ، أو نحو ذلک. وهذا التقدیر حین یکون المبتدأ کلمة غیر ضمیر المتکلم ، فإن کان ضمیرا للمتکلم وجب اختیار الفعل أو العامل المقدر مناسبا له ، أی : أحقّنی - أعرفنی - أعلم أنی ... ولا بد أن تکون هذه الحال متأخرة عنه أیضا.

أما الغرض (1) من التوکید بالحال فقد یکون بیان الیقین نحو : أنت الرجل معلوما ، أو الفخر ، نحو : أنا فلان بطلا ، والتعظیم ؛ نحو : أنت العالم مهیبا ، أو التحقیر ؛ نحو : هو الجانی مقهورا ؛ أو التصاغر ؛ نحو : ربّ أنا عبدک فقیرا إلیک ؛ أو التهدید والوعید ، نحو : فلان قاهر للأبطال قادرا علی الفتک بک (2) ...

* * *

التاسع : انقسامها بحسب الإفراد وعدمه إلی مفردة ، وجملة ، وشبه جملة. ثم الکلام علی ما تحتاج إلیه الجملة الحالیة من رابط :

فالمفردة : ما لیست جملة ولا شبهها ، نحو : أشرب الماء صافیا (3) -

ص: 366


1- یتبین هذا الغرض بالقرائن المنضمة للکلام
2- فیما سبق یقول ابن مالک : وعامل الحال بها قد أکّدا فی نحو : لا تعث فی الأرض مفسدا - 18 بها : أی : بالحال. ثم قال فی الحال المؤکدة لمضمون الجملة : وإن تؤکّد جملة فمضمر عاملها ولفظها یؤخّر - 19 أی : أن العامل مضمر (أی : محذوف) إذا کانت الحال مؤکدة للجملة ، وأن لفظ الحال یؤخر وجوبا عن الجملة ، وعن عاملها المحذوف ، هو وصاحبها.
3- ومن الحال المفردة بعض ألفاظ مرکبة سماعا (فلا یجوز القیاس علیها) وهی ألفاظ وردت عن العرب مرکبة ، ومبنیة : - علی الأصح - علی فتح الجزأین فی محل نصب ، باعتبارها حالا ، ولا تکون غیر حال. ومنها : تفرق الأعداء شغر بغر ، أی : متفرقین. وکذلک شذر مذر ، بمعنی : متفرقین أیضا - - ومثل : ترکت الصحراء حیث بیث ، أی : مبحوثا عن أهلها ، مطلوبا إخراجهم منها - ومثل : فلان جاری بیت بیت ، أی : مقاربا ، أو ملاصقا - ومثل : لاقیتهم کفّة کفّة ، أی : مواجها ... وهکذا ... ویلاحظ أن الجزء الثانی من تلک المرکبات - ونظائرها - (مثل : بغر - مذر - بیث - إلخ) هو مجرد لفظ عرضی ، أی : صوت لیس له معنی مستقل ، ولا کیان ذاتی یستقل به عن الکلمة التی یتبعها ، ولا یجلب أو معنی یکمله (کما سیجیء فی باب النعت ح 3) وإنما یجیء عرضا بعد الأول ، ولهذا یذکر فی إعرابه أنه تبع للأول ، فهو داخل فیما یسمی : الأتباع (بفتح الهمزة) ولیس من التوابع الأربعة المشهورة (النعت - - التوکید - العطف - البدل) ولا یعرب إعرابها ما لم یؤد معنی جدیدا ، وإنما یکتفی فی إعرابه بأن یقال : إنه تبع للأول ، أو من الأتباع ؛ فمثله مثل الثانی من قولهم : (حسن بسن) و (شیطان فیطان) و (عفریت نفریت) ... ولا شیء فی هذه الثوانی وأشباهها داخلا فی التوابع الأربعة المذکورة. لأنه لا یأتی بمعنی من معانیها.

سر فی الطریق حذرا (1) ، ... ومثل کلمة : «جاهدا» فی قول الشاعر :

ومن یتتبّع - جاهدا - کل عثرة

یجدها ، ولا یسلم له الدهر صاحب

وشبه الجملة هو الظرف والجار مع مجروره. نحو : کنت فی الطائرة فأبصرت البیوت الکبیرة فوق الأرض صغیرة. والسفن الضخمة بین الأمواج محتجبة - إن دار الآثار فی القاهرة ملیئة بالنفائس - تشکلت الثلوج علی الغصون أشکالا بدیعة.

ولا بد فی شبه الجملة أن یکون تامّا ؛ أی : مفیدا. وإفادته قد تکون بالإضافة ، أو بالنعت ، أو بالعدد ، أو بغیر ذلک مما یکون مناسبا له ، ویجعله مفیدا (علی الوجه الذی تکرر شرحه من قبل) (2) فلا یصح : هذا إبراهیم عنک ، ولا هذا إبراهیم الیوم ...

وإذا کانت الحال جملة أو شبه جملة فلا بد أن یکون صاحبها معرفة (3) محضة ؛ (أی : معرفة لفظا ومعنی) ؛ مثل : وقف جاری یکلمنی. فإن لم یکن معرفة خالصة ؛ (بأن کان معرفة فی اللفظ دون المعنی ؛ کالمبدوء «بأل الجنسیة

ص: 367


1- قد یجب اقتران الحال المفردة «بالفاء» ، أو : «ثم» العاطفتین فی صورة واحدة هی الصورة الثالثة التی تجیء فی ص 382 والکوفیون یجیزون : «واو العطف» أیضا - کما سیجیء -.
2- فی باب الموصول «ج 1 ص 347 م 27) والمبتدأ والخبر (ج 1 ص 431 م 35 وج 2 ص 100 م 68). وفی المواضع السالفة بیان عن شبه الجملة من ناحیة تعلقه.
3- یصح أن یکون صاحب الحال نکرة فی بضعة مواضع تجیء فی ص 374. عند الکلام علیه.

أو کان نکرة مختصة ، بسبب نعت أو غیره ...) (1) ، جاز فی الجملة وشبهها أن تکون حالا ، وأن تکون نعتا ؛ نحو : أعرف الطائرات تفوق غیرها فی السرعة. وقد عرفنا طائرات سریعة تطوف بالکرة الأرضیة فی دقائق ، ونحو : تهدر الطائرات فی الجو کقصف الرعود ... وهذه طائرة کبیرة أمامنا تهدر کالرعد. والجملة (2) قد تکون اسمیة أو فعلیة ؛ نحو : لازمت البیت والمطر هاطل - لازمت البیت وقد هطل المطر وقد اجتمعت الجملتان فی قول الشاعر:

کأن سواد اللیل - والفجر ضاحک

- یلوح ویخفی ، أسود یتبسم

ویشترط فی الجملة الواقعة حالا أن تکون خبریة ، غیر تعجبیة (علی القول بأن الجملة التعجبیة خبریة) فلا تصح الإنشائیة بنوعیها (3) الطلبی ، وغیر الطلبی. وأن تکون مجردة من علامة تدل علی الاستقبال (4) کالسین وسوف ، ولن ، وأداة

ص: 368


1- کما سیجیء فی رقم 4 من هامش ص 374 وقد سبق بیان النکرة المحضة وغیر المحضة بإسهاب ، وکذا المعرفة بنوعیها - فی الجزء الأول ، باب النکرة والمعرفة ، ص 194 م 17 ویجیء فی الجزء الثالث (باب النعت. م 114 ص 390) إشارة له أیضا.
2- إذا وقعت الجملة حالا فإنما تسمی جملة باعتبار أصلها السابق قبل الحالیة حین کانت تؤدی فیه معنی مفیدا مستقلا. أما بعد وقوعها حالا فإنها تؤدی معنی غیر مستقل ، وهی لذلک لا تسمی جملة ولا کلاما ، شأنها فی هذا کشأن الجملة الواقعة خبرا ونعتا وغیرهما ؛ (طبقا للبیان الشامل الذی سبق فی ج 1 هامش ص 15 م 1 وفی رقم 3 من هامش ص 226 م 27). وإذا وقعت الجملة حالا أو نعتا أو موقعا إعرابیا آخر ، فهی نکرة ، وقیل : فی حکم النکرة ، - (کما سبق فی رقم 4 من هامش ص 49) 3. وقد تردد هذا فی کثیر من المراجع النحویة ، ومنها حاشیة یاسین علی شرح التوضیح (أول باب النکرة والمعرفة) حیث قال : «وأما الجمل والأفعال فلیست نکرات ، وإن حکم لها بحکم النکرات. وما یوجد فی عبارة بعضهم أنها نکرات فهو تجوز». وهذا الخلاف لا أهمیة له ؛ إذ الأهمیة فی أنها تقع فی کل موقع لا یصلح فیه إلا النکرة ، کوقوعها خبر «لا» النافیة للجنس ، ونعتا للنکرة المحضة.
3- سبق توضیح المراد من الجملة الإنشائیة ملخصا فی رقم 3 من هامش ص 209 وفی ج 1 ص 268 م 72.
4- فی هذا الشرط وفی تعلیله خلاف ، وجدل کلامی ... أما مثل : لأمدحن المخلص ؛ إن حضر وإن غاب : حیث وقعت الجملة الشرطیة حالا مع أنها إنشائیة ، ومشتملة علی علامة استقبال - وهی حرف الشرط : «إن» - فالمسوغ عندهم أنها شرطیة لفظا لا معنی ؛ إذ التقدیر : لأمدحنه علی کل حال. ونشیر إلی ما جاء فی «المغنی» ، و «الهمع» خاصا بأن : «لا» النافیة تخلص المضارع للاستقبال إذا سبقته ، خلافا لابن مالک - ومن معه - محتجا بإجماع النحاة علی صحة «جاء محمد لا یتکلم» مع الإجماع أیضا علی أن الجملة الحالیة لا تصدر بعلامة استقبال. ونقول : الرأی الأنسب هو أن «لا» تخلصه للاستقبال عند عدم قرینة تمنع. (وقد سجلنا کلام المغنی والهمع ج 1 م 4 ص 56).

الشرط ... و ... وأن تکون مشتملة علی رابط یربطها بصاحبها لیکون المعنی متصلا بین الجملتین ؛ فیتحقق الغرض من مجیء الحال جملة ، ولو لا الرابط (1) لکانت الجملتان منفصلتین لا صلة بینهما ، والکلام مفککا (2) ...

والرابط قد یکون واوا مجردة تسمی : واو (3) الحال ، نحو : احترست من الشمس والحرارة شدیدة. وقد یکون الضمیر (4) وحده ؛ نحو : ترکت البحر أمواجه عنیفة. وقد یکون الواو والضمیر معا ، نحو : لا آکل الطعام وأنا شبعان. ولا أشرب الماء وهو غیر نقی وکقول الشاعر :

إن الکریم لیخفی عنک عسرته

حتی تراه غنیّا وهو مجهود

وقد یستغنی عن الرابط أحیانا - کما سیجیء (5).

لکن هناک موضعان تجب فیهما الواو ، ومواضع أخری تمتنع ؛ فتجب فی الجملة الحالیة الخالیة من الضمیر لفظا وتقدیرا (6) ؛ نحو : تیقظت وما طلعت الشمس. وفی الجملة المضارعیة المثبتة ، المسبوقة بالحرف : «قد» ؛ نحو قوله تعالی : (لِمَ تُؤْذُونَنِی وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ اللهِ إِلَیْکُمْ.)

ص: 369


1- وقد یکون الرابط محذوفا ، کما سیجیء فی ص 383.
2- یقول ابن مالک فی الحال التی تقع جملة من غیر تفصیل لأنواعها ، ولا بیان لشروطها الکاملة : وموضع الحال تجیء جمله کجاء زید ، وهو ناو رحله - 20 أی : تجیء الجملة موضع الحال المفردة ؛ بمعنی أنها تکون حالا مثلها وعرض لها مثالا جملة اسمیة هی قوله : (وهو ناو رحلة).
3- وهی فی الوقت نفسه للاستئناف ؛ لوجوب دخولها علی جملة. کما أنها تفید الاقتران والمعیة ، ولکنها لا تسمی اصطلاحا واو معیّة (انظر رقم 1 من هامش ص 284).
4- إذا کان المبتدأ ضمیرا للمتکلم ، والحال جملة فعلیة رابطها الضمیر - جاز فی الضمیر الرابط أن یکون للمتکلم أو للغائب ؛ نحو : أنا الصادق أحب الحق ، أو یحب الحق ، وکذلک إن کان المبتدأ ضمیرا للمخاطب جاز فی الضمیر الرابط أن یکون للمخاطب أو للغائب ؛ نحو : أنت الصادق تحب الحق ، أو یحب الحق. ومراعاة التکلم والخطاب أحسن فی الصورتین (کما سبق فی ج 1 م 35 ص 425 - هامشها -).
5- فی ص 383.
6- ذلک أن الضمیر قد یجوز حذفه لفظا لا تقدیرا - إذا عرف من السیاق - کما سیجیء فی ص 383 - نحو : ارتفع سعر القمح ؛ کیلة بخمسین قرشا. أی : کیلة منه.

والمواضع التی تمتنع فیها

هی :

1 - أن تکون جملة الحال اسمیة واقعة بعد عاطف یعطفها علی حال قبلها ، نحو : سیجیء المتسابقون مشاة ، أو هم راکبون (1) السیارات ؛ فلا یصح أن یکون الرابط هنا واو الحال ؛ لوجود حرف العطف : «أو». وواو الحال لا تلاقی حرف عطف.

2 - أن تکون جملة الحال مؤکدة لمضمون جملة قبلها (2) ؛ کالقول عن القرآن : (هو الحق لا شک فیه) وقوله تعالی عنه : (ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ،) ولیس من اللازم أن تکون جملة الحال المؤکدة اسمیة ، فقد تکون فعلیة أیضا ؛ نحو : هو الحق لا یشک فیه أحد ..

أما المؤکدة لعاملها فقد تقترن بالواو ؛ نحو : قوله تعالی : (ثُمَّ تَوَلَّیْتُمْ إِلَّا قَلِیلاً مِنْکُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.)

3 - الجملة الفعلیة الماضویة بعد «إلا» التی تفید الإیجاب (أی : المسبوقة بکلام غیر موجب فیکون المعنی بعدها موجبا) ؛ نحو : ما تکلم العظیم إلا قال حقّا. ویری بعض النحاة : أنه یجوز فی هذا الموضع الربط بالواو ، محتجّا بأمثلة فصیحة متعددة (3). وحجته مقبولة. ولکن من یرید الاقتصار علی الأعم الأفصح لا یسایر هذا الرأی. ویجیز بعض آخر صحة الربط بالواو بشرط أن تقع بعدها «قد» مباشرة (4) وهذا رأی حسن وفیه تیسیر.

4 - الجملة الماضویة المعطوفة علی حال ، بالحرف العاطف : «أو» ؛ نحو : أخلص للصدیق ؛ حضر (5) أو غاب.

ص: 370


1- الأحسن فی إعراب مثل هذا المثال : أن تکون : «أو» حرف عطف ، والجملة بعدها فی محل نصب حال ، وهذه الحال المنصوبة معطوفة علی «مشاة».
2- سبق تفصیل الکلام علیها فی ص 341 ، 354 ، 365.
3- منها قول الشاعر : نعم امرؤ هرم لم تعر نائبة إلا وکان لمرتاع بها وزرا
4- قال «الصبان» ما نصه : (فی الرضی أنهما قد یجتمعان بعد «إلا» نحو : ما لقیته إلا وقد أکرمی) اه.
5- الجملة من الفعل «حضر» وفاعله فی محل نصب حال من الصدیق وبعدها : «أو» فلا یجوز أن یکون الرابط فی الجملة السابقة الواو ، لأن الکلام العربی خال من الواو فی مثل هذا الأسلوب. أما التعلیلات الأخری للمنع فمردودة.

5 - الجملة المضارعیة المسبوقة بحرف النفی : «لا» ؛ نحو : ما أنتم ؛ لا تعملون (1). ومن القلیل الذی لا یقاس علیه أن تقع الواو رابطة فی الجملة الفعلیة (مضارعیة ، أو ماضویة) إذا کانت مسبوقة بالحرف النافی «لا».

6 - الجملة المضارعیة المسبوقة بحرف النفی : «ما» (2) ؛ نحو : عرفتک ما تحب العبث ، وعهدتک ما تسعی للإیذاء.

7 - الجملة المضارعیة المثبتة المجردة من «قد» ؛ نحو : شهدت الطالب الحریص یسرع إلی المحاضرة ، یتفرغ لها. وقد وردت أمثلة مسموعة من هذا النوع ، وکان الرابط فیها الواو ، منها قولهم : قمت وأصکّ عین العدو ، ومنها :

فلما خشیت أظافیرهم

نجوت ، وأرهنهم مالکا

ومنها :

«علّقتها (3) عرضا وأقتل قومها» ... وأمثلة أخری.

وقد تأول النحاة هذه الأمثلة لیدخلوها فی نطاق القاعدة ، ویخرجوها من مجال الشذوذ. ولا داعی لهذا التأول (4) الذی لم یعرفه ولم یقصد إلیه الناطقون بتلک الأمثلة. والخیر أن نحکم علیها بما تستحقه من القلة والندرة التی لا تحاکی ، ولا یقاس علیها.

ص: 371


1- مثل هذا الترکیب یتضح معناه ویزول ما قد یکون فیه من غموض إذا عرفنا أن «لا» النافیة تقدر فیه بکلمة : «غیر» المنصوبة علی الحال ، المضافة ، وأن المضارع بعدها یقدر باسم فاعل ، هو : «المضاف إلیه» ، أی : ما أنتم غیر عاملین؟ أی : ما أنتم وما أمرکم فی الحالة التی لا تعملون فیها؟ وهو مثل الآیة الکریمة : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ....) التقدیر : ما لنا غیر مؤمنین؟ ما أمرنا ، وما شأننا فی الحالة التی نکون فیها غیر مؤمنین؟ (ثم راجع رقم 4 من هامش ص 368 خاصا بالحرف : «لا» النافیة).
2- «إن» : النافیة ، مثل : «ما» فیقال فی حرف النفی : «ما» وفی المضارع بعده ما قیل فی سابقه مما هو مدون قبل هذا مباشرة فی رقم 1.
3- أحببتها.
4- قالوا فی التأویل : إن الواو واو الحال حقیقة. ولکنها لم تدخل علی الجملة المضارعیة مباشرة ؛ وإنما دخلت علی مبتدأ محذوف ؛ خبره الجملة المضارعیة المذکورة بعده ، والجملة من المبتدأ وخبره فی محل نصب حال. فالحال هو الجملة الاسمیة لا الفعلیة. والواو داخلة علی جملة اسمیة عندهم. فما الداعی لهذا؟ إن کان دخول الواو علی الجملة المضارعیة المثبتة المجردة من «قد» غیر مقبول وغیر صحیح وجب التصریح بهذا ، والحکم علی ما یخالفه بأنه یحفظ ولا یقاس علیه. وإن کان دخول الواو صحیحا وجب التصریح بهذا أیضا من غیر تأویل. وإن کان التأویل یبیح الممنوع وجب السماح بالواو لکل من شاء. ومن أراد بعد ذلک أن یحمل نفسه مشقة التأویل فهو حرفیما یرتضیه لها. ولا شک أن التأول علی هذه الصورة لا خیر فیه. وأن الخیر فی منع الواو فی مثل هذه المواضع.

فی غیر هذه المواضع التی تمتنع فیها الواو یکون الربط بالواو وحدها ، أو بالضمیر وحده ، أو بهما معا. وقد سبقت الأمثلة لکل هذا (1).

وإذا کانت جملة الحال ماضویة مثبتة وفعلها متصرف ورابطها الواو وحدها وجب مجیء «قد» بعد الواو مباشرة (2) ؛ نحو : انصرفت وقد انتزی میعاد العمل ، فإن کان الرابط هو الضمیر وحده ، أو الواو والضمیر معا فالأحسن مجیء «قد» أیضا.

وتمتنع «قد» مع الماضی الممتنع ربطه بالواو - وقد سبق بیانه - کالماضی التالی «إلا» الاستثنائیة التی تفید الإیجاب عند من یمنع ربطه بالواو (3) ، أو الذی بعده : «أو».

* * *

ص: 372


1- اقتصر ابن مالک علی حالة واحدة من الحالات التی تمتنع فیها الواو ، سجلها بقوله : وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضمیرا ، ومن الواو خلت - 21 یرید : أن الجملة المضارعیة المثبتة الواقعة حالا تحوی الضمیر الرابط وتخلو من الواو المستعملة فی الربط ؛ لأن هذه الواو لا تصلح للربط هنا. ثم بین أن الجملة المضارعیة الحالیة المسبوقة بالواو ینوی ویقدر لها بعد هذه الواو مبتدأ محذوف ، خبره الجملة المضارعیة ؛ فتکون مسندة له. یقول : وذات واو بعدها انو مبتدا له المضارع اجعلنّ مسندا - 22 وما عدا هذه الحالة التی اقتصر علیها یجوز فیه الربط بالواو فقط ، أو بالضمیر فقط ، أو بهما معا ؛ فیقول : وجملة الحال سوی ما قدّما بواو ، أو بمضمر ، أو بهما - 23
2- لتقرب زمنها من الحال ، وهذا هو الرأی المختار. ویری فریق آخر من النحاة لزوم : «قد» مع الماضی المثبت ؛ سواء أکان الرابط هو الواو ، أم الضمیر ، أم هما معا. لکن یقول «أبو حیان» م نصه : (الصحیح جواز وقوع الماضی حالا بدون قد» ولا یحتاج لتقدیرها ؛ للکثرة. وردّ ذلک ، وتأویل الکثیر ، ضعیف جدا ، لأنا إنما نبنی المقاییس العربیة علی وجود الکثرة) اه. - راجع «الهمع» ح 1 ص 247 آخر باب الحال - وهذا الرأی حسن ، وفی الأخذ به تیسیر تؤیده النصوص الکثیرة المسموعة کما یقول أبو حیان - ومن وافقه - ومن تلک النصوص قوله تعالی : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَیْنا) وقوله تعالی : (... أَوْ جاؤُکُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ....) هذا ، ولا تدخل «قد» علی الجملة الماضویة التی فعلها جامد ؛ کأفعال الاستثناء (لیس. - خلا - عدا - حاشا) - کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 329. -
3- انظر ما یختص بهذا فی رقم 5 من هامش ص 370.

العاشر : انقسامها باعتبار جریانها علی صاحبها أو عدم جریانها إلی قسمین ؛ حقیقیة وسببیّة (1).

فالحقیقیة : هی التی تبین هیئة صاحبها مباشرة ؛ کالأمثلة التی مرت فی أکثر الموضوعات السالفة ، ومثل : فزع العصفور من المطر مبتلّا. فکلمة «مبتلّا» حال. تبین هیئة صاحبها نفسه ؛ وهو : «العصفور» وقت فزعه. ولا تبین هیئة شیء آخر غیر العصفور نفسه ، - کعشه ، أو شجرته ، أو صاحبه ، أو طیور أخری - ومثل : وقف المصلی خاشعا. فکلمة : «خاشعا» حال تبین هیئة صاحبها مباشرة ؛ وهو : المصلی ، ولا شأن لها بغیره ...

ولا بد أن تطابق الحال الحقیقیة (2) صاحبها فی التذکیر ، والتأنیث والإفراد ، والتثنیة والجمع.

والسببیة : هی التی تبین هیئة شیء له اتصال وعلاقة بصاحبها الحقیقی ، أیّ علاقة ، دون أن تبین هیئة صاحبها الحقیقی مباشرة ؛ مثل : فزع العصفور من المطر مبتلا عشّه ، ومثل : وقف المصلی خاشعا قلبه. فکلمة : «مبتلا» حال ، کما کانت ، وصاحبها هو : «العصفور» کما کان ، أیضا. ولکن الحال هنا لا تبین هیئة صاحبها الحقیقی : «العصفور» ، وإنما تبین هیئة : «العش» وللعش صلة وعلاقة بصاحبها ؛ فهو مسکن العصفور ومأواه. کذلک المثال الثانی ، فکلمة : «خاشعا» حال ، وصاحبها الحقیقی هو : المصلی. ولکنها لا تبین هیئته ، وإنما تبین شیئا له صلة وعلاقة به ؛ هو : قلبه ؛ فإن قلبه جزء منه.

ومن أمثلة السببیة : کتبت الصفحة مستقیمة خطوطها ، سمعت المغنیة عذبا صوتها ، وسمعت القارئ واضحة نبراته.

ولا بد فی الحال السببیة أن ترفع اسما ظاهرا مضافا لضمیر یعود علی صاحب الحال کالأمثلة السالفة ، وأن تکون مطابقة لهذا الاسم المرفوع بها ، فی التذکیر والتأنیث ، والإفراد ، دون التثنیة والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد ؛ نحو : سکنت البیت جیدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جمیلا مدخلاه ، نظیفة مسالکه ... (3)

ص: 373


1- وهذا الموضوع هو الذی سبقت له الإشارة العابرة فی رقم 1 من هامش ص 359 وتفصیل الکلام علی صاحب الحال یجیء فی الصفحة التالیة.
2- ما لم یمنع من وجوب المطابقة مانع لغویّ ، مما سیجیء فی موضعه ؛ ولمطابقة الحال لصاحبها موضوع مستقل ؛ فی ص 377.
3- وکما فی «ب» من ص 378.

المسألة 85:صاحب الحال

اشارة

عرفنا (1) أن الحال قد تبین هیئة الفاعل فی مثل : ینفع الصانع متقنا ، أو هیئة المفعول به فی مثل : یحترم الناس العامل مخلصا ، أو هیئة الفاعل والمفعول به معا فی نحو : استقبل الأخ أخاه مسرورین ، أو هیئة المبتدأ (2) فی نحو : (الصحف - ماجنة - ضارة) ... أو غیر ذلک مما تبین الحال هیئته ؛ کالمضاف والمضاف إلیه (3) ... وهذا الذی تبین الحال هیئته یسمی : صاحب الحال ؛ کالذی فی الأمثلة السالفة : (الصّانع - العامل - الأخ - أخاه - الصحف ...)

والأکثر فی صاحب الحال أن یکون معرفة. وقد یکون نکرة بمسوّغ من المسوغات الآتیة :

1 - أن تکون النکرة متأخرة والحال متقدمة علیها ، نحو :

(یمشی - حزینا - مدین). (یدعو - متألما - مظلوم) (4) ...

2 - أن تکون النکرة متخصصة (5) ؛ إما بنعت بعدها ؛ نحو : أشفقت علی

ص: 374


1- فی ص 338 م 84.
2- مجیء الحال من المبتدأ صحیح ، (طبقا للبیان المدون فی رقم 1 من هامش ص 339 ورقم 3 من هامش ص 354)
3- لمجیء الحال من المضاف إلیه شروط ذکرناها فی ص 376.
4- من الجائز أن یکون أصل الجملتین السالفتین هو : یمشی مدین حزین - یدعو مظلوم متألم ... ومن المقرر أن نعت النکرة إذا تقدم علیها أعرب حالا ؛ کالمثالین المذکورین ، ما لم یمنع مانع من إعرابه حالا ؛ ذلک أن المنعوت النکرة قد یکون - أحیانا - کالمنعوت المعرفة ، من جهة أن النعت المتقدم علیه یعرب علی حسب العوامل ، والمنعوت المتأخر یعرب بدلا منه أو عطف بیان ، نحو : مررت بقائم رجل ، واستمعت إلی خطیب غلام. ومما تقدم نعلم أن نصب نعت النکرة المتقدم علیها باعتباره حالا هو أمر غالب ، لا واجب علی الأصح ؛ لتخرج الصور السالفة ، ویخرج النعت فی مثل : جاءنی رجل أحمر ، ونحوه من الصفات الثابتة - (راجع ج 3 من حاشیة الصبان آخر باب النعت).
5- ولهذا یصح أن تکون الجملة - وشبهها - بعد النکرة المتخصصة حالا إذا لاحظنا تخصصها - کما سبق عند الکلام علی الحکم التاسع (وفی ص 368) - ویصح أن تکون نعتا إذا لم نلاحظه. وقد أوضحنا هذا فی مواضع متعددة ؛ منها : باب النکرة والمعرفة فی الجزء الأول.

طفلة صغیرة تائهة ، وإما بإضافة ؛ نحو : حافظت علی أثاث الغرفة منسّقا ، وإما بعمل ؛ نحو : أفرح بناظم شعرا مبتدئا ، وإما بعطف معرفة علیها ، نحو : ذهب فریق ومحمود مسرعین.

3 - أن تکون النکرة مسبوقة بنفی ، أو شبهه (وهو هنا : النهی والاستفهام) ؛ نحو : ما خاب عامل مخلصا - لا تشرب فی کوب مکسورا - هل ترضی عن أمّ قاسیا قلبها؟

4 - أن تکون الحال جملة مقرونة بالواو ؛ نحو : استقبلت صدیقا وهو راجع من سفر.

5 - أن تکون الحال جامدة ، نحو : هذا خاتم ذهبا (1).

وقد وردت أمثلة مسموعة من فصحاء العرب وقع فیها صاحب الحال نکرة بغیر مسوغ ؛ منها : صلی رجال قیاما. ومنها : فلان یستعین بمائة أبطالا. وللنحاة فی هذا کلام وجدل. والذی یعنینا أن فریقا منهم یبیح مجیء صاحب الحال نکرة بغیر مسوغ (2) وفریقا آخر (3) یمنعه ، ویقصره علی السّماع ، ویؤول الأمثلة القدیمة ، أو یحکم علیها بالشذوذ الذی لا یصح القیاس علیه. وفی الأخذ بالرأی الأول توسعة ومحاکاة نافعة ، ولکن یحسن ألا نسارع إلیه قدر الاستطاعة ، ذلک أن صاحب الحال النکرة بغیر مسوغ - قلیل فی فصیح الکلام. نعم هذه القلة لیست مطلقة ؛ وإنما هی نسبیة (أی بالنسبة لصاحب الحال المعرفة أو النکرة ، المختصة) (4). لکن هذا لا یمنعنا أن نختار الأکثر استعمالا فی المأثور الفصیح ، وإن کان غیره مقبولا (5).

* * *

ص: 375


1- فی هذا المثال حین یکون صاحب الحال نکرة ، وفرعا من الحال - یرتضی النحاة إعراب الأصل تمییزا.
2- من هؤلاء سیبویه ، وحجته : أن الحال جاءت لتقیید العامل ؛ فلا معنی لاشتراط المسوغ ، وهذه الحجة یؤیدها ویقویها السماع الذی یکفی للقیاس علیه.
3- کالخلیل ویونس.
4- فهی قلة نسبیة (کالتی شرحناها فی رقم 1 من هامش ص 343 و 422 والبیان فی ج 3 رقم 1 من هامش ص 74 م 94).
5- وفی صاحب الحال النکرة یقول ابن مالک : ولم ینکّر - غالبا - ذو الحال إن لم یتأخّر ، أو یخصّص ، أو یبن - 7 من بعد نفی ، أو مضاهیه ؛ کلا یبغ امرؤ علی امری مستسهلا - 8 - - یرید : أن الغالب علی صاحب الحال ألا یکون نکرة ، إلا إذا تأخر عنها صاحب الحال ، أو : خصص ، أو : بان (أی : ظهر) بعد نفی أو ما یضاهی النفی (یشابهه ، وهو هنا النهی والاستفهام) وساق مثالا هو : لا یبغ امرؤ علی امرئ مستسهلا ، والمسوغ فیه النهی.

صاحب الحال إذا کان مضافا إلیه :

یصح أن یکون صاحب الحال مضافا إلیه ، نحو : تمتّعت بجمال الحدیقة واسعة ، - ونعمت برائحة الزهر متفتحا ناضرا - ، وأکلت نادر الفاکهة ناضجة. ویشترط أکثر النحاة (1) فی صاحب الحال إذا کان مضافا إلیه :

(ا) أن یکون المضاف إما جزءا حقیقیّا منه ؛ نحو : أعجبتنی أسنان الرجل نظیفا ، وراقتنی أظفاره باسطا أنامله. «فالأسنان» مضاف وهی جزء حقیقی من المضاف إلیه ؛ أی : من صاحب الحال ؛ (وهو : «الرجل») و «الأظفار» مضاف ، وهی جزء حقیقی من المضاف إلیه صاحب الحال ؛ (وهو : الضمیر العائد علی الرجل ، ویعتبر فی حکم الرجل). ومن هذا قوله تعالی : (وَنَزَعْنا ما فِی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً؛) فکلمة : «إخوانا» حال من الضمیر : «هم» المضاف إلیه. والمضاف بعض حقیقی منه. ومن الأمثلة قوله تعالی : (أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَنْ یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً ...،) فکلمة : «میتا» حال من المضاف إلیه (وهو : «أخ») والمضاف (وهو : «لحم») بعض منه.

(ب) وإما بمنزلة الجزء الحقیقی ، (حیث یصح حذف المضاف وإقامة المضاف إلیه مقامه ؛ فلا یتغیر المعنی) کما فی الأمثلة الأولی : (تمتعت بجمال الحدیقة واسعة ، ونعمت برائحة الزهر ، متفتحا ناضرا ... و...) فیصح أن یقال : تمتعت بالحدیقة واسعة ، ونعمت بالزهر متفتحا ... و... ومن هذا قوله تعالی : (ثُمَّ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِیمَ حَنِیفاً؛) حیث یصح : أن اتّبع إبراهیم حنیفا ...

(ح) وإما عاملا فی المضاف إلیه ، کأن یکون المضاف مصدرا عاملا

ص: 376


1- ویخالفهم سیبویه بحق ، وإن کان رأیه - مع صحته - لیس الأفصح فیما اشترطوه ، کما سیجیء البیان فی رقم 3 من هامش الصفحة التالیة : (377).

فیه ؛ نحو : عند الله تقدیر العاملین مسرورین ، ونحو : (إلیه مرجعکم (1) جمیعا) أو أن یکون وصفا عاملا فیه (2) ، نحو : هذا رافع الرایة عالیة فی الغد (3) ... (4)

* * *

مطابقة الحال

- بنوعیها (5) - لصاحبها :

(ا) الأصل أن تطابق الحال «الحقیقیة» صاحبها - وجوبا - فی التذکیر والتأنیث ، وفی الإفراد وفروعه. کالأمثلة السالفة. لکن یستثنی من هذا الأصل بعض حالات لها أحکام أخری تتلخص فیما یلی :

ص: 377


1- «مرجع» ، مصدر میمی ، أی : رجوعکم.
2- کاسمی الفاعل والمفعول بالشروط الواجبة لإعمالهما ، ومنها أن یکونا بمعنی الحال أو الاستقبال ... و...
3- جاء فی «الخضری» فی هذا الموضع خاصا بالأمور الثلاثة ما نصه : (وإنما اشترط أحد الأمور الثلاثة لوجوب اتحاد عامل الحال وصاحبها عند الجمهور ؛ کالنعت والمنعوت ، وصاحبها إذا کان مضافا إلیه هو معمول للمضاف. وهو - أی : المضاف - لا یعمل فی الحال إلا إذا أشبه الفعل ؛ بأن کان مصدرا ، أو صفة «أی : وصفا مشتقا» وحینئذ فالقاعدة موفاة. فإن کان المضاف جزءا أو کالجزء من المضاف إلیه ، صار هو کأنه صاحب الحا ل ؛ لشدة اتصال الجزء بکله ؛ فیصح توجه عامله للحال. بخلاف غیر ذلک. وذهب سیبویه إلی جواز اختلاف الحال وصاحبها فی العامل ؛ لأنه أشبه بالخبر من النعت ، وعامل الخبر غیر عامل صاحبه ، وهو : المبتدأ علی الصحیح. ومقتضی ذلک صحة مجیئه من المضاف إلیه مطلقا ، فلیحرر. ثم رأیت فی الصبان التصریح به) اه.
4- وفی مجیء الحال من المضاف إلیه یقول ابن مالک : ولا تجز حالا من المضاف له إلّا إذا اقتضی المضاف عمله - 10 أی : إلا إذا استوفی المضاف عمله فی الحال ، وهذا یدل علی اشتراط أن یکون المضاف مما یعمل. أو کان جزء ما له أضیفا أو مثل جزئه ؛ فلا تحیفا - 11 یرید : أن الحال یجیء من المضاف إلیه إذا کان المضاف جزءا مما أضیف إلیه ، (أی : إذا کان المضاف جزءا من المضاف إلیه) ، أو مثل الجزء کما شرحناه. أما قوله : «فلا تحیفا» ، فأصلها : تحیفن ، بنون التوکید الخفیفة التی تنقلب ألفا عند الوقف. والجملة معناها : لا تظلم نفسک ، أو اللغة بمخالفة هذا. وهو حشو لم یذکر إلا لتکملة البیت.
5- انظر ص 373 حیث الکلام : علی الحال «الحقیقیة» ، وعلی قسیمتها : «السببیة».

1 - إذا کان صاحب الحال الحقیقیة جمعا مفرده مذکر لغیر العاقل (1) ، جاز فی الحال أن تکون مفردة مؤنثة ، وجمع مؤنث سالما ، وجمع تکسیر (2) ؛ نحو : سرتنی الکتب نافعة ، أو : نافعات ، أو : نوافع.

2 - إذا کان لفظ الحال الحقیقیة من الألفاظ التی یغلب استعمالها بصورة واحدة للمذکر والمؤنث - ککلمة : صبور - بقی علی صورته ؛ نحو : عرفت المؤمن صبورا عند الشدائد ، وعرفت المؤمنة صبورا کذلک (3).

3 - إذا کان لفظ الحال الحقیقیة أفعل التفضیل المجرد من «أل» والإضافة ، أو المضاف إلی نکرة ، لزم الإفراد والتذکیر - علی الأرجح ، کما سیجیء فی بابه (4) - ؛ نحو : عرفت العصامیّ أنشط وأنفع ، أو : أنشط عامل ، وأنفع رجل.

4 - إذا کانت الحال الحقیقیة مصدرا فإنه یلازم صورة واحدة ؛ نحو : حضر القطار سرعة. وإذا اشتهر المصدر صح تثنیته وجمعه - کالنعت - ؛ نحو : عرفت الوالی عدلا ، والوالیین عدلین ، والولاة عدولا.

5 - إذا کانت الحال کلمة : «أیّ» (5) فإنها - فی الغالب - تقع حالا من معرفة مع إضافتها إلی نکرة ؛ نحو : استمعت إلی علیّ أیّ خطیب.

(ب) أما الحال «السببیة» فتطابق الاسم الظاهر المرفوع بها - وجوبا - فی التذکیر والتأنیث والإفراد ، دون التثنیة والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد

ص: 378


1- یدخل فی هذا الجمع نوعان ، أحدهما : جمع التکسیر الذی مفرده مذکر غیر عاقل. والآخر : ما ألحق بجمع المذکر السالم. وکان مفرده مذکرا غیر عاقل أیضا : مثل : وابلون» ، جمع : وابل للمطر الغزیر ، وعلّیون ، جمع : علّیّ ؛ للمکان المرتفع. ولا یدخل جمع المذکر السّالم الأصیل ؛ لأن مفرده - فی الأغلب - مذکر عاقل.
2- یصح فی جمع التکسیر هذا أن یکون للمؤنث ، وأن یکون للمذکر ، بملاحظة مفرده المذکر غیر العاقل مثل قرأت الکتب نوافع ، سرتنی الکتب أحاسن (جمع : أحسن) - (راجع رقم 1 من هامش ص 362 م 114 ج 3 - ثم حاشیة یاسین ج 2 أول باب النعت حیث النص الشامل).
3- لهذه الصورة فروع تتضح من نظائرها فی النعت - ج 3 ص 337 -.
4- ج 3 م 112 ص 327 و 338.
5- الکلام علی : «أی» وأنواعها ، وأحکامها المختلفة ، مفرق فی أجزاء الکتاب المختلفة علی حسب الأبواب التی تستعمل فیها ؛ کصفحة 204 السابقة ، والصفحة 262 م 26 ج 1 - باب الموصول ، وکبابی الإضافة والنعت فی ج 3.

- کما سبق (1) - نحو : سکنت البیت جیدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جمیلا مدخلاه ، نظیفة مسالکه.

* * *

ص: 379


1- انظر ص 373.

المسألة 86 : حکم الحال ...

اشارة

، وعاملها ، وصاحبها ، ورابطها ، من ناحیة الذّکر والحذف.

(ا) الأصل فی الحال أن تکون مذکورة ؛ لتؤدی مهمتها المعنویة ؛ وهی : بیان هیئة الفاعل ، أو المفعول به ، أو غیرهما ، مما سبق تفصیله (1). لهذا یجب ذکرها فی کثیر من المواضع ، ویجوز حذفها فی أخری. فمن المواضع التی یجب أن تذکر فیها ما یأتی :

1 - أن تکون محصورة ؛ نحو : ما أحب العالم إلا نافعا بعلمه.

2 - أن تکون نائبة عن عاملها المحذوف سماعا ؛ نحو : هنیئا لک (2) ، بمعنی : ثبت لک الخیر هنیئا ، أو : هنأک الأمر هنیئا (3) ، أو نحو هذا التقدیر الدّال علی الدعاء بالهناءة.

3 - أن یتوقف علی ذکرها المعنی المراد ، أو یفسد بحذفها ... - کما أشرنا أول الباب (4) - ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی) وقوله تعالی : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَیْنَهُما لاعِبِینَ.)

ومن هذا الموضع أن تکون سادّة مسدّ الخبر (5) فی مثل : سهری علی المزرعة نافعة.

4 - أن تکون جوابا. مثل : کیف حضرت؟ فیجاب : راکبا.

ویصح حذف الحال إذا دل علیها دلیل. وأکثر حذفها حین یکون لفظها مشتقّا من مادة «القول» ویکون الدلیل علیها بعد الحذف هو : المقول (6) ؛ نحو : جلست فی حجرتی ؛ فإذا صدیقی الغائب یدخل : «السّلام علیکم» ، أی : یدخل قائلا : السّلام علیکم. فکلمة : «قائلا» هی الحال المحذوفة ، وهی

ص: 380


1- فی ص 338.
2- ونحو قولهم : «هنیئا لأرباب البیان بیانهم ...»
3- ستجیء إشارة لهذا فی ص 383 والحال فی هذا المثال مؤکدة لعاملها کنظائرها التی سبقت : فی ص 341 و 165 و... ومنها : ولا تعث فی الأرض مفسدا - (وَأَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) - (وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا) -.
4- ص 339.
5- فی ج 1 ص 385 م 39 تفصیل الکلام علی الحال التی تسد مسد الخبر.
6- الشیء الذی قیل.

مشتقة من مادة : «القول». وقد دل علیها الکلام الذی قیل ؛ وهو : «السّلام علیکم». ومثل : هل دار بینک وبین المسافر کلام؟ نعم. لما قابلنی فی الصباح حیّانی : «صباح الخیر» ، وحدثنی عن رحلته المنتظرة ؛ ثم أسرع إلی القطار بعد أن صافحنی ومد یده : «الوداع». أی : قائلا صباح الخیر ؛ قائلا : الوداع. ومن هذا قوله تعالی فی أهل الجنة : (وَالْمَلائِکَةُ یَدْخُلُونَ عَلَیْهِمْ مِنْ کُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَیْکُمْ،) أی : قائلین : سلام علیکم. وقوله تعالی : (وَإِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَإِسْماعِیلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا،) أی : قائلین ربنا تقبل منا.

* * *

(ب) والأصل فی عامل الحال - وغیرها - أن یکون مذکورا ؛ لیحقق غرضا معینا ، هو : إیجاد معنی جدید ، أو تقویة معنی موجود. وقد یحذف جوازا أو وجوبا ؛ لدواع تقتضی الحذف ، أی : أن عامل الحال قد یذکر وجوبا ، وقد یحذف وجوبا ، وقد یجوز ذکره وحذفه.

فیجب ذکره إن کان عاملا معنویّا (وقد سبق شرحه) (1) کأسماء الإشارة ؛ وحروف التنبیه ، والتمنی ؛ وکشبه الجملة ... و... و...

ویجوز حذفه إذا کان عاملا غیر معنوی ، ودل علیه دلیل مقالیّ (2) ، أو حالیّ فمثال المقالیّ أن یقال : أتستطیع الصعود إلی قمة الجبل؟ فیجیب المسئول : مسرعا. أی : أصعد مسرعا - أتعتنی بخط رسائلک؟ فیجاب : واضحا جمیلا أی : أعتنی به واضحا جمیلا.

ومثال الحالیّ : أن تری مسافرا فتقول له : «سالما». أی : تسافر سالما ، وأن تری من یشرب الدواء فتقول : «شافیا» ، أی : تشرب الدواء شافیا. وأن تقول لمن یبنی بیتا : «معمورا» ، أی : تبنی البیت معمورا ...

ص: 381


1- ص 355.
2- سبق - فی رقم 1 من هامش ص 53 م 63 وفی ج 1 ص 362 م 37 - أن الدلیل المقالی هو : ما یکون قائما علی کلام مذکور صریح ، وأن الدلیل الحالیّ ، هو : ما یکون أساسه القرائن والمناسبات المحیطة بالمتکلم من غیر استعانة بکلام أو ألفاظ ...

ویجب حذفه فی مواضع

، أهمها :

1 - أن تکون الحال سادّة مسدّ الخبر (1) ، نحو : إنشادی القصیدة محفوظة ، فکلمة : «محفوظة» حال ؛ سدت مسدّ خبر المبتدأ المحذوف وجوبا ؛ والأصل : إنشادی القصیدة إذ کانت ، أو : إذا کانت محفوظة.

2 - أن تکون الحال مفردة مؤکدة مضمون جملة (2) قبلها. - نحو : الجدّ أب راحما.

3 - أن تکون الحال مفردة دالة بلفظها علی زیادة تدریجیة ، أو نقص تدریجی ؛ نحو : تصدّق علی المحتاج بدرهم ؛ فصاعدا - لا تتعرض للشمس عند شروقها إلا عشرین دقیقة ؛ فنازلا ... فکلمة : «صاعدا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان. والتقدیر : فاذهب بالعدد صاعدا. والجملة المحذوفة هنا إنشائیة ، معطوفة بالفاء علی نظیرتها الفعلیة الإنشائیة (3). وکلمة : «نازلا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان : والجملة منهما إنشائیة معطوفة بالفاء علی نظیرتها. ولا بد من اقتران هذه الحال المفردة «بالفاء» العاطفة ، أو «ثم» العاطفة (4) ؛ ومن الأمثلة : تدرب علی الحفظ خمسة أسطر ، فستة ، فسبعة ، فصاعدا. لا تتناول فی الیوم أکثر من ثلاث وجبات ؛ فنازلا ...

4 - أن تکون الحال مسبوقة باستفهام یراد به التوبیخ ؛ نحو : أنائما وقد أشرقت الشمس؟ أعاطلا والعمل یطلبک؟ أسفیها وهو کریم النشأة؟ أی : أتوجد نائما؟ - أتوجد عاطلا؟ - أیوجد سفیها؟ ...

ص: 382


1- سبق إیضاحها وتفصیل الکلام علیها فی ج 1 ص 385 م 39 آخر باب المبتدأ والخبر.
2- ورد ذکرها فی مواضع ، منها : (ص 341 و 357 و 365 و 370).
3- لیس من اللازم أن تکون الجملتان إنشائیتین ، إنما الأحسن - فی رأی جمهرة النحاة - اتحادهما خبرا أو إنشاء.
4- کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 367. والکوفیون یجیزون واو العطف أیضا ، (کما جاء فی مجالس ثعلب ، ج 4 ص 215 من القسم الأول).

5 - عوامل حذفت سماعا. من ذلک قولهم لمن ظفر بشیء ؛ هنیئا لک ما أدرکت. أی : ثبت هنیئا (1).

والحذف فی المواضع الأربعة الأولی قیاسی (2).

* * *

(ح) والأصل فی صاحب الحال أن یکون مذکورا فی الکلام ؛ لتتحقق الفائدة من ذکره. وقد یحذف جوازا فی مثل قوله تعالی : (أَهذَا الَّذِی بَعَثَ اللهُ رَسُولاً،) أی : بعثه الله.

ویجب حذفه فی الصورة التی یحذف فیها عامله وجوبا حین تؤکد الحال مضمون جملة قبلها ، علی الوجه الذی سبق (3) شرحه. وکذلک یجب حذفه مع عامله حین تدل الحال علی زیادة تدریجیة ، أو نقص تدریجی - وهی الصورة الثالثة من الصور التی فی الصفحة المتقدمة.

* * *

(د) والأصل فی الرابط أن یکون مذکورا ؛ لیعقد الصلة المعنویة بین جملة الحال والجملة التی قبلها المشتملة علی صاحب الحال ، فیمنع التفکک. لکن یجوز حذف الرابط لفظا ، لا تقدیرا (4) ، إذا کان ضمیرا مفهوما من السیاق. نحو : ارتفع سعر القمح ، کیلة بخمسین قرشا ، أی : کیلة منه ...

وکذلک یصح حذفه إن کان الحال جملة خالیة من الرابط لکن عطف علیها «بالفاء» ، أو : «الواو» ، أو : «ثم» جملة تصلح أن تکون حالا مع اشتمالها علی الرابط ؛ نحو : عرفت الوالی العادل تشکو الرعیة ، فیزیل أسباب

ص: 383


1- سائغا مقبولا. والفعل هنئ. (وقد سبقت الإشارة لهذا فی رقم 2 ص 380).
2- وفی حذف العامل یقول ابن مالک : والحال قد یحذف ما فیها عمل وبعض ما یحذف ، ذکره حظل - 24 یرید : أن الحال قد یحذف ما یعمل فیها النصب (أی : یحذف عاملها) وأن بعض ما یحذف من هذه العوامل محظول ذکره ، أی : ممنوع (حظل : منع) لأنه واجب الحذف.
3- ص 341 و 357 و 365 و 370
4- کما سبق فی رقم 6 من ص 312.

الشکوی (1) - أقبل الفائز ، یصفق الناس ، ویشرق وجهه - تداوی المریض یشیر الأطباء ثم یستجیب للمشورة.

ص: 384


1- راجع الصبان ، ج 1 باب المبتدأ ، عند الکلام علی الخبر الجملة ، ورابطه. وکذا التصریح ج 2 باب العطف عند الکلام علی الفاء العاطفة. وقد اقتصر فی الرابط علیها لأنها الأصل وخالفه الصبان وغیره ...

المسألة 87 : أقسام التمییز

اشارة

التمییز

(ا) کیل

عندی إردبّ ...

-

عندی إردبّ شعیرا ، أو : أردبّ شعیر ، أو : إردبّ

من شعیر.

وهبت کیلة ...

-

وهبت کیلة قمحا ، أو کیلة قمح ، أو : کیلة من قمح.

خلطت غذاء الفرس بقدح ...

-

خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو :

بقدح من فول

(ب)

وزن

خلطت غذاء الفرس بقدح ...

-

خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو :

بقدح من فول

اشتریت أوقیّة ...

-

اشتریت أوقیة ذهبا. أو : أوقیة ذهب ، أو : أوقیة من

ذهب

وزن الإناء رطل ...

-

وزن الإناء رطل نحاسا ، أو :

رطل نحاس ، أو رطل : من نحاس.

دفعت ثمن أقة ...

-

دفعت ثمن أقة تفاحا. أو : أقة تفاح ... أو أقة من

تفاح.

(ح)

مساحة

جنیت محصول فدان ...

-

جنیت محصول فدان قطنا ، أو فدان قطن ، أو : فدانا

من قطن

حرثت قیراطا ...

-

حرثت قیراطا برسیما. أو :

قیراط برسیم ، أو : قیراطا من برسیم.

سقیت قصبة ...

-

سقیت قصبة خضرا ، أو قصبة خضر ، أو : قصبة من خضر.

(د)

عدد

عندی خمسة ...

-

عندی خمسة أقلام.

رأیت عشرین ...

-

رأیت عشرین سائحا.

أخذت مائة ...

-

أخذت مائة جنیه مکافأة.

ص: 385

(ه) نسبة أو :

جملة (1)

ازداد المتعلم ...

-

ازداد المتعلم أدبا.

أعجبنی الخطیب ...

-

أعجبنی الخطیب کلاما.

فاضت البئر ...

-

فاضت البئر نفطا (2).

(ا) فی جملة مثل : «عندی إردب» من أمثلة القسم : «ا» نجد کلمة غامضة مبهمة هی : «إردب» ، لأن مدلولها یحتمل عدة أنواع مختلفة ، لا نستطیع تخصیص واحد منها بالقصد دون غیره ، فقد یکون هذا الإردب : قمحا ، أو : شعیرا ، أو : فولا ، أو : غیرها ، ولا ندری النوع المراد من تلک الأشیاء الکثیرة ، إذ لا دلیل یدل علیه وحده ، لهذا کانت کلمة : «إردب» مبهمة ، غامضة ، لعدم تحدید المراد منها وتعیینه. لکن إذا قلنا : عندی إردبّ شعیرا - زال الغموض والإبهام ، وتعین المراد بسبب اللفظ الذی جاء ؛ وهو : «شعیرا».

کذلک الشأن فی کلمة : «کیلة» ، فإنها غامضة ، مبهمة ، لا تعیین فیها ؛ لاحتمال أن تکون الکیلة : قمحا ، أو : ذرة ، أو : فولا ، أو : عدسا ... فإذا قلنا : کیلة قمحا ، تعین المراد ، وزال الاحتمال. ومثل هذا یقال فی کلمة : «قدح» فی المثال الأخیر من قسم «ا» ، وفی غیرها من کل کلمة عربیة تدل فی العرف الشائع علی شیء یقع به الکیل ؛ مثل : ویبة ، ربع ، ملوة (3) ...

(ب) وفی جملة مثل : اشتریت أوقیّة (من أمثلة القسم : «ب») ، نصادف هذا الإبهام والغموض فی کلمة : «أوقیّة» ؛ لاحتمالها عدة أنواع ، لا نستطیع تخصیص واحد منها بالمراد دون غیره ، فقد تکون الأوقیة ذهبا ، أو : فضة ، أو عنصرا آخر من العناصر التی توزن ... لکن إذا قلنا : أوقیة ذهبا - اختفی الإبهام ، وحل محله التعیین الموضح للمطلوب. ومثل هذا یقال فی کلمة : رطل ، وأقّة ، فی المثال الثانی والثالث (من أمثلة : قسم ب) وفی نظائرها من

ص: 386


1- لهذا النوع أمثلة أخری فی «ب» من ص 393.
2- هو المسمی : زیت البترول.
3- من المکاییل الشائعة فی مصر : الإردب ؛ وهو یساوی اثنتی عشرة کیلة ، ومقدار الکیلة : ربعان ، والربع : أربعة أقداح - والویبة کیلتان. والکیلة أیضا أربع ملوات.

الکلمات العربیة التی یجری فی العرف اعتبارها من الموازین ، ومنها : قنطار ، ودرهم ، وحبّة ...

(ح) وفی جملة مثل : جنیت محصول فدان (من أمثلة : «ج») نجد الکلمة الغامضة المبهمة هی کلمة : «فدان» فإنها تحتمل أن یکون مدلولها فدان قصب ، أو فدان عنب ، أو قمح ، أو غیره. فإذا قلنا : ... «فدان قطن» - انقطع الاحتمال ، وزال الغموض والإبهام ، وتحدد القصد. ومثل هذا یقال فی کلمة : «قیراط» ، وقصبة (من أمثلة القسم : «ج») ، وغیرها من الألفاظ العربیة التی تستعمل فی المساحات (1) ، (ومنها : السهم (2) ، والذراع ، والباع ، والشبر ، والفتر ...)

(د) ومثل هذا یقال فی کل عدد من جمل القسم : «د» أو ما شابهها مما یشتمل علی أحد الأعداد ؛ نحو : عندی خمسة ، فإن کلمة : «خمسة» - وهی عدد حسابیّ - غامضة ، مبهمة ؛ لا یزول غموضها وإبهامها إلا بلفظ آخر یحدد المراد منها ؛ مثل : أقلام ، أو غیرها مما ورد فی هذا القسم وفی نظائره.

(ه) ننتقل بعد ذلک إلی نوع آخر من الغموض والإبهام یختلف عما سبق ؛ ففی مثل : «ازداد المتعلم» ، لا یقع الغموض علی کلمة واحدة کالتی سلفت ، وإنما ینصبّ علی الجملة کلها ؛ أی : علی معنی جزأیها الأساسیین معا. فقد نسبنا الازدیاد للمتعلم. فأی ازدیاد هذا الذی نسبناه له ، أهو فی علمه؟ أم فی أدبه ، أم فی ماله؟ أم فی جسمه ، أم فی حسن معاملته ...؟ فالأمر المنسوب للمتعلم غامض مبهم ، وهذا الأمر الغامض لیس منصبّا علی کلمة واحدة کما قلنا ؛ وإنما یشمل معنی جملة کاملة ؛ لأن الجملة هی التی تحوی فی طرفیها نسبة شیء (3) لشیء آخر. فإذا قلنا : ازداد المتعلم أدبا - ارتفع الغموض عن النسبة ، واتضح المراد من

ص: 387


1- هی الأشیاء التی یجری تقدیرها بالقیاس ویدخلها العرف الشائع فی المقاییس.
2- فی مصر ینقسم الفدان إلی أربعة وعشرین قیراطا. والقیراط أربعة وعشرون سهما.
3- فی هامش الصفحة الأولی من صفحات الجزء الثالث ، بیان مستفیض عن معنی : «النسبة» وأنواعها ، وما یتصل بها.

الجملة. ومثل هذا یقال فی المثالین الأخیرین من أمثلة القسم : «ه» وفی غیرهما من کل جملة یقع فیها الغموض علی النسبة الناشئة من طرفیها.

ومن کل ما تقدم یتضح ما یأتی :

(ا) أن فی اللغة ألفاظا مبهمة ، غامضة ، تحتاج إلی تبیین وتوضیح.

(ب) وأن هذه الألفاظ قد تکون کلمات منفردة ، کالکلمات المستعملة فی العدد ، أو فی المقادیر الثلاثة الشائعة ، - وهی : الکیل ، والوزن ، والمساحة (1) - وقد تکون جملا کاملة تقع النسبة فی کلّ واحدة منها موقع الغموض والإبهام المحتاج إلی تفسیر وإیضاح (2).

(ح) وإذا تأملنا الکلمات التی أزالت الغموض والإبهام فی الأمثلة السالفة - وأشباهها - وجدنا کل کلمة منها : نکرة (3) ، منصوبة - فی الأکثر (4) - ، فضلة ، تبین جنس ما قبلها أو نوعه ، أو : توضح النسبة فیه ، فهی - کما یقولون - بمعنی : «من» (5) البیانیة - غالبا - والکلمة التی تجتمع فیها هذه الأوصاف تسمی : «التمییز» (6) ، کما یسمی ما تفسره وتزیل الإبهام عنه : «الممیّز» ، أی :

ص: 388


1- وکذلک بعض الضمائر (کما سیجیء فی «ح» من الزیادة ص 397) ثم انظر المراد من «المقادیر» فی رقم 3 من هامش الصفحة الآتیة.
2- وقد یکون تمییز النسبة لمجرد التوکید ؛ کقول أبی طالب عم النبی علیه السّلام : ولقد علمت بأن دین محمد من خیر أدیان البریة دینا (راجع الصبان والخضری فی باب : «نعم ، وبئس» عند الکلام علی اجتماع فاعلهما ، وتمییزهما) وهذا یختلف عما فی رقم 7 من هامش ص 400.
3- النکرة هنا : لا بد أن تکون اسما صریحا ، لأن التمییز لا یکون جملة ولا لفظا مؤولا.
4- إذا کانت الکلمة التی تزیل الإبهام مجرورة بالإضافة أو بالحرف - کما فی بعض الأمثلة المعروضة هنا - فإنها لا تسمی فی الاصطلاح «تمییزا» إلا مع التقیید بأنه مجرور ، لأن کلمة : «تمییز» عند إطلاقها بغیر تقیید لا تنصرف إلا للنوع المنصوب. أما غیره مما یفید فائدته فی هذا الباب فلا یسمی تمییزا اصطلاحا وقد یسمی تمییزا ولکن مع تقییده بأنه مجرور ؛ لکیلا ینصرف الذهن إلی النوع المنصوب. والأحسن مراعاة الاصطلاح (کما فی رقم 2 من هامش ص 391).
5- أی : «من» التی تبین جنس ما قبلها ، أو نوعه ، والمجرور بها هو عین الشیء الذی تبینه. - وستجیء معانیها فی ص 475 - ولیس المراد أنه یمکن دائما تقدیر «من» قبلها. فإن هذا لا یمکن فی بعض الأسالیب.
6- ویسمی أحیانا : التبیین ، أو : التفسیر ، أو : المفسّر ، أو : الممیّز ، أو : المبیّن.

أن التمییز : (نکرة ، منصوبة - فی الأغلب - فضلة ، بمعنی «من» التی للبیان (1))

ینقسم التمییز بحسب الممیّز إلی قسمین :

أولهما : تمییز المفرد ، أو : الذات (2) وهو الذی یکون ممیّزه لفظا دالّا علی العدد ، أو علی شیء من المقادیر (3) الثلاثة : (الکیل - الوزن - المساحة). أی : أنه الذی یزیل إبهام لفظ من ألفاظ الکیل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، أو : العدد (4). فتمییز المفرد أو الذات أربعة أنواع - غالبا - (5).

ص: 389


1- غالبا - کما سبق -. ویقول ابن مالک فی تعریف التمییز ، وبیان عامله ، والتمثیل لبعض أقسامه ما یأتی : اسم بمعنی : «من» ، مبین ، نکره ینصب تمییزا بما قد فسّره کشبر ارضا ، وقفیز برّا ، ومنوین عسلا وتمرا یرید بالمبین : أن التمییز یبین إبهام ما قبله ، أی : یوضحه ویزیل غموضه. ثم یقول : إن التمییز منصوب ، وناصبه هو الشیء المبهم الذی جاء التمییز لتفسیره وإیضاحه. ومعنی هذا عنده أن تمییز النسبة منصوب - فی رأیه - بالجملة التی یوضح النسبة فیها. وسیجیء الرأی فی کل ذلک. (رقم 2 من ص 393 و 3 من ص 395). «البر» : القمح. «القفیز» إذا کان مکیلا فإنه یختلف باختلاف الأقطار ؛ فهو فی بعضها نحو : 3 / 2 / 18 قدحا ، وفی بعض آخر نحو : ثمان وأربعین قدحا - «منوین» تثنیة : «منا» وهو فی بعض الأقطار من مقادیر الوزن المقدرة برطلین.
2- سمی تمییز مفرد : لأنه یزیل الإبهام عن کلمة واحدة ، أو ما هو بمنزلتها ، ویسمی أیضا : تمییز «ذات» لأن الغالب فی تلک الکلمة التی یزیل إبهامها أن تکون شیئا محسوسا مجسما. فمعنی ذات ؛ أنها جسم. ولیس فی هذا النوع من التمییز تحویل - کما سیجیء فی الصفحة التالیة عند الکلام علی تمییز الجملة -.
3- المقادیر هنا : جمع مقدار ، وهو : ما یقدر به غیره. ویشمل کل شیء یستعمل فی تقدیر الکیل ، أو الوزن ، أو المساحة ، من غیر تقید بلفظ خاص ، أو بزمن معین. وبهذا یدخل کل لفظ عربی عرف العمل به فی تقدیر واحد من الثلاثة المذکورة. ولا یدخل العدد فی المقادیر - علی المشهور - لأن العدد فی المعنی هو المعدود ؛ کما فی مثل : هنا خمسة رجال ؛ فالخمسة التی هنا هی الرجال ، والرجال هی الخمسة ، بخلاف المقادیر.
4- العدد المقصود فی هذا الباب هو العدد الصریح ؛ أی : العدد الحسابی : مثل 3 ، 4 ، 5 ، 6 ... و... أما العدد المبهم (أی : الکنائی) مثل : «کم» ، ... فله - فی الجزء الرابع - باب خاص بأحکامه المختلفة ، هو : باب کنایات العدد.
5- غالبا ؛ لأن هناک نوعا خامسا - کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 388 - هو تمییز الضمیر «المبهم» ، وسیجیء الکلام علیه فی «ج» من الزیادة ، ص 397.

ثانیهما : تمییز الجملة وهو الذی یزیل الغموض والإبهام عن المعنی العام بین طرفیها ، وهو المعنی المنسوب فیها لشیء من الأشیاء ، ولذلک یسمی أیضا : «تمییز النسبة» ، وقد سبقت الأمثلة للنوعین.

تقسیم تمییز الجملة بحسب أصله

ینقسم تمییز الجملة (دون تمییز المفرد) إلی ما أصله فاعل فی الصناعة (1) وإلی ما أصله مفعول به کذلک. ویری أکثر النحاة أنّ تمییز الجملة لا یخرج - فی الغالب - عن واحد من هذین ، (ولو تأویلا) (2) ؛ مثل : زادت البلاد سکانا - اختلف الناس طباعا - قوی الرجل احتمالا ، ومثل : أعددت الطعام ألوانا - وفیت العمال أجورا - نسقت الحدیقة أزهارا.

فالأصل : زاد سکان البلاد - اختلفت طباع الناس - قوی احتمال الرجل. فتغیر الأسلوب ؛ بتحویل الفاعل تمییزا. وقد کان الفاعل مضافا ؛ فأتینا بالمضاف إلیه ، وجعلناه فاعلا ، بعد أن صار الفاعل تمییزا بالصورة السالفة.

والأصل فی الأمثلة الباقیة : أعددت ألوان الطعام - وفیت أجور العمال - نسقت أزهار الحدیقة ؛ فتغیر الأسلوب ؛ بتحویل المفعول به تمییزا ، وقد کان هذا المفعول مضافا ، فأتینا بالمضاف إلیه ، وجعلناه مفعولا به ، بعد أن صار المفعول به السابق تمییزا.

أما تمییز المفرد فلا تحویل فیه مطلقا.

ص: 390


1- أی : فاعل لفعل أو ما یشبه الفعل مما یحتاج لفاعل بمقتضی الأصول النحویة وصناعتها. والتقیید بأن الفاعل المعنوی أصله فاعل فی الصناعة تقیید ضروری ؛ لإبعاد ما هو فاعل فی المعنی دون الصناعة ؛ نحو : لله درّک فارسا ، وأبرحت جارا (أی : أعجبت ؛ یقال : أبرح الرجل ، إذا جاء بالبرج - بسکون الراء - أی : بالعجب). فإن معناهما : عظمت فارسا ، وعظمت جارا ، ولکنهما غیر محولین أصلا عن الفاعل الصناعی ، ولهذا یجوز جرهما بالحرف : «من» ؛ نحو : لله درک من فارس. ونحو : أبرحت من جار ، فی حین التمییز المحول عن الفاعل الصناعی یجب نصبه ، ولا یجوز جره بمن. - انظر «ج» من ص 397 - وکذلک : ما أحسن المهذب رجلا ، فإنه مفعول فی المعنی. لکنه غیر محول ؛ لأنه عین ما قبله ، ولهذا یصح جره أیضا بمن. انظر ما یتصل بفعل التعجب فی هامش ص 394. أما نحو : نعم رجالا الزراع ، فقد رأی بعض النحاة فی التمییز أنه محول عن الفاعل الصناعی ؛ فیجب نصبه. ورأی آخرون أنه غیر محول فیجوز فیه النصب أو الجر بمن ، والرأی الأول أقوی. (راجع : «ج» من ص 397).
2- راجع «ا» ، و: «ب» من الزیادة والتفصیل (ص 397) حیث الکلام علی التأویل ، ونوع من التفضیل.

المسألة 88 : أحکام التمییز

اشارة

(ا) یختص تمییز المفرد (أو : الذات) بالأحکام التالیة :

1 - إن کان تمییزا للکیل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، جاز فیه ثلاثة أشیاء ، إما نصبه علی أنه التمییز مباشرة - وهذا هو الأحسن (1) - وإما جره (2) علی أنه مضاف إلیه ، والممیّز هو المضاف ، وإما جره بالحرف «من» ، ومن الأمثلة غیر ما سبق : (اشتریت کیلة أرزا - اشتریت کیلة أرز - اشتریت کیلة من أرز). (اشتریت درهما ذهبا - اشتریت درهم ذهب - اشتریت درهما من ذهب). (بعت محصول فدان قصبا - بعت محصول فدان قصب - بعت محصول فدان من قصب).

وإنما یجب جر التمییز علی اعتباره مضافا إلیه بشرط ألا یکون المقدار - وهو الممیّز - قد أضیف لغیره ؛ فإن أضیف المقدار لغیر التمییز وجب نصب التمییز ، أو : جره «بمن» ، نحو : ما فی الإناء قدر راحة دقیقا (3) ، أو :من دقیق.

ص: 391


1- لأنه یدل علی المقصود نصّا من غیر احتمال شیء آخر معه ؛ ففی مثل : «اشتریت رطلا عسلا» ... یدل النصب علی أن المتکلم یرید أن الرطل مملوء بالعسل ، ولا یرید الوعاء نفسه ، وفی أمثلة أخری لأنواع التمییز المفرد یمنع النصب احتمالات معنویة أخری ؛ کالصنجة الموزون بها ، وکالمکیال الذی یکال به ، وکالمقیاس الذی یمسح به (یقاس به).
2- ومع جره یسمی : «تمییزا» مجرورا أیضا ؛ فالجر لا یمنع من هذه التسمیة المقیدة (انظر رقم 4 من هامش ص 388). والإضافة هنا علی معنی : «من» البیانیة التی سبق الکلام علیها (فی رقم 5 من هامش ص 388) وهذا هو الشأن فی إضافة المقادیر إلی الأشیاء المقدرة ، نحو : بعت فدان قصب ، وفی إضافة الأعداد إلی معدوداتها ؛ نحو : خمسة أقلام ، وفی إضافة العدد إلی عدد آخر ، نحو عندی من الکتب أربعمائة - (وسیجیء البیان فی ج 3 م 93 ص 18 حیث الأوجه الإعرابیة المختلفة فیما سبق).
3- فی هذا یقول ابن مالک : وبعد ذی وشبهها اجرره إذا أضفتها ؛ کمدّ حنطة ، غذا یرید : «بذی» ... الأشیاء التی سبق أن عرض لها أمثلة فی البیت السابق ؛ (وهی ثلاثة : المساحة ، الکیل ، الوزن) فإن التمییز بعدها مجرور بالإضافة ، أما «شبهها» فهو : کل لفظ عربی جری العرف علی - - استعماله فی واحد من الثلاثة. و «المد» : یقدر فی بعض الأقالیم بنحو 12 / 7 من القدح ، وفی بعض آخر بنحو : رطل وثلث رطل. «حنطة» : قمح. غذا : غذاء. ثم قال إن الجر بالإضافة إنما یکون حین إضافة الممیّز للتمییز مباشرة. أما إذا أضیف الممیز لغیر التمییز فیجب نصب التمییز : والنّصب بعد ما أضیف وجبا إن کان مثل : «ملء الأرض ذهبا» وسیذکر بعد بیتین أنه یجوز جر التمییز بالحرف «من» بشرط ألا یکون التمییز للعدد ولا للنسبة. فیقول فی ص 394 : واجرر «بمن» إن شئت غیر ذی العدد والفاعل المعنی ؛ کطب نفسا تفد «ذی العدد» أی : صاحب العدد ، یرید التمییز الذی للعدد الصریح ؛ فإنه لا یجوز جره بالحرف «من» أما العدد غیر الصریح ؛ مثل : «کم» فیجوز جر تمییزه - بالتفصیل الوارد فی بابه ، ج 4 - نحو : کم من کتاب عندک ، کما أن التمییز الذی کان أصله فاعلا ، لا یجوز جره بمن ، ومثل له بمثال هو : طب نفسا تفد ، أی : تستفد. وإنما کان أصل التمییز هنا فاعلا لأن أساس الکلام : لتطب نفسک ؛ ثم حول الکلام فصار الفاعل تمییزا. ومثله طاب الورع نفسا ؛ أصله : طابت نفس الورع ؛ ثم حول الکلام علی الوجه السالف. (وقد وفینا الکلام علی أصل التمییز ، وستجیء الإشارة للبیت السالف لمناسبة أخری فی ص 394).

وإن کان تمییز المفرد خاصّا بالعدد الصریح ، والعدد ثلاثة ، أو عشرة ، أو ما بینهما ... ، وجب جرّ التمییز ؛ بإعرابه مضافا إلیه ، والمضاف هو العدد (أی : الممیّز) ، والغالب فی هذا التمییز المجرور أن یکون جمع تکسیر للقلة.

فإن کان العدد لفظا دالّا علی المائة أو المئات ، أو الألف أو الألوف - وجب أن یکون التمییز مفردا مجرورا ، لأنه یعرب مضافا إلیه ، والمضاف هو العدد (1).

وإن کان العدد غیر ما سبق وجب نصب التمییز مباشرة ، وأن یکون مفردا ، وفیما یلی أمثلة لما سبق :

(قرأت فی العطلة ثلاثة کتب ، کل کتاب مائة صفحة ، وعدد السطور ألف سطر).

(قضینا فی الرحلة خمسة أیام ، قطعنا فیها مائة میل مشیا ، وأنفق کل منا ألف قرش). (الأسبوع سبعة أیام بلیالیها ، کل منها أربع وعشرون ساعة ،

ص: 392


1- والإضافة علی معنی : «ومن» طبقاً البیان الذی سلف فی رقم 2 من هامش الصفحة السابقة.

والساعة ستون دقیقة). (الستة اثنا عشر شهراً ، الشهر ثلاثون یوماً - غالباً - السنة ثلاثمائة یوم وأربعة وستون یوماً ، فی الغالب) (1) -.

2 - وعامل النصب أو الجر بالإضافة فی «التمییز المفرد» ، هو اللفظ المبهم ، أی : الممیّز. أما عند الجرّ بالحرف : «من» فإن هذا الحرف یکون هو العامل.

3 - ولا بد من تقدم العامل علی التمییز فی جمیع الأنواع الخاصة بتمییز الذات (المفرد) (2).

4 - وإذا تعدد تمییز المفرد فالأحسن العطف بین المتعدد (3). وإذا کان التمییز مخلوطا من شیئین جاز تعدده بعطف وغیر عطف ، نحو : عندی رطل سمنا عسلا ، أو : سمنا وعسلا.

* * *

(ب) یختص تمییز «الجملة» أو : «النسبة» بالأحکام الآتیة :

1 - یجب نصبه إن کان محوّلا عن الفاعل أو المفعول الصناعیین (4) ؛ نحو : ارتفع المخلص درجة ، وعلا الأمین منزلة ، ومثل : رتبت الحجرة أثاثا - نظمت الکتب صفوفا. والأصل : ارتفعت درجة المخلص - علت منزلة الأمین - رتبت أثاث الحجرة - نظمت صفوف الکتب.

ومن تمییز الجملة الواجب النصب ما یکون واقعا بعد أفعل التفضیل ، نحو : المتعلم أکثر إجادة. وإنما یجب نصبه بشرط أن یکون سببیّا (5) ؛ أی : فاعلا فی المعنی ، کالمثال المذکور ، وإلا وجب جره بالإضافة. وعلامة التمییز الذی هو فاعل فی المعنی ألّا یکون من جنس المفضّل الذی قبله ، وأن یستقیم المعنی بعد جعله فاعلا مع جعل أفعل التفضیل فعلا (6) ؛ ففی المثال السابق نقول : المتعلم

ص: 393


1- لتمییز العدد أحکام کثیرة ، ، متشعبة ، وتفصیلات متعددة - ولا سیما تقدمه - ؛ مکانها : «باب العدد» فی الجز الرابع. (م 94 ص 394) وقد اقتصرنا هنا علی ما یناسب موضوعنا.
2- والذی بعد العاطف لا یسمی تمییزا - وإنما یعرب معطوفا ، برغم أنه یؤدی معنی التمییز. - کما سیجیء فی رقم 4 من هامش ص 395 -
3- انظر رقم (1) من هامش ص 390. و «ب» من ص 397.
4- معناه الأصیل فی هامش ص 397.
5- لهذا إیضاح یجیء فی «ب» من الزیادة والتفصیل ص 397 ، وبیان مفید آخر فی باب أفعل التفضیل - ج 3 م 112 ص 338 -
6- لهذا إیضاح یجیء فی «ب» من الزیادة والتفصیل ص 397 ، وبیان مفید آخر فی باب أفعل التفضیل - ج 3 م 112 ص 338 -

کثرت إجادته وفی مثل : أنت أحسن خلقا ، نقول : أنت حسن خلقک ... وهکذا. ومثال التمییز الذی لیس بفاعل فی المعنی : علیّ أفضل جندیّ ، ومیّة أفضل شاعرة. وضابط هذا النوع أن یکون أفعل التفضیل بعضا من جنس التمییز ؛ فیصح أن یوضع مکان أفعل التفضیل کلمة : «بعض» مضافة ، والمضاف إلیه جمع یقوم مقام التمییز ویحل فی مکانه ؛ فلا یفسد المعنی ، ففی المثال السابق نقول : علیّ بعض الجنود ، ومیّة بعض الشاعرات. وإذا لم یصح أن یکون فاعلا فی المعنی وجب جره بالإضافة - کما قلنا - ، لوجوب إضافة أفعل التفضیل إلی ما هو بعضه (1) (متابعة للرأی الأشهر).

وإنما یجب الجر بالإضافة بشرط أن یکون أفعل التفضیل غیر مضاف لشیء آخر غیر التمییز. فإن کان مضافا وجب نصب التمییز ؛ نحو : علیّ أفضل الناس إخوة - ومیّة أفضل النساء أشعارا.

ومما تقدم نعلم أن تمییز أفعل التفضیل یجب نصبه فی حالتین وجره فی واحدة. ومن تمییز الجملة الذی یجب نصبه ، ولا تصح إضافته (2) : ما یقع بعد التعجب القیاسیّ ، أو السماعی (3) ؛ فالأول ، نحو : ما أحسن الغنیّ مشارکة فی الخیر - أحسن بالغنیّ مشارکة فی الخیر - والثانی نحو : لله در العالم مخترعا (4) - حسبک به

ص: 394


1- کما سیجیء فی بابه بالجزء الثالث م 112 ص 338. وفی هذه الصورة یقول ابن مالک : والفاعل المعنی انصبن بأفعلا مفضّلا ؛ کأنت أعلی منزلا
2- فیمتنع جره بالإضافة حتما ، دون جره بمن فی بعض الصور - کما سیجیء فی رقم 4 من هذا الهامش.
3- القیاسی یکون بإحدی الصیغتین المخصصتین له ، وهما : ما أفعله ، وأفعل به. (وسیجیء الکلام المفصل علیهما فی مکانه من الجزء الثالث باب : «التعجب»). أما التعجب بغیرهما فمقصور علی السماع ، ویقال له : التعجب العرضی. وفی هذه الصورة یقول ابن مالک : وبعد کلّ ما اقتضی تعجّبا میّز ، کأکرم بأبی بکر أبا وذکر بعد هذا البیت بیتا سبق أن نقلناه وشرحناه بمناسبة أخری فی ص 392 ؛ هو : واجرر بمن إن شئت غیر ذی العدد والفاعل المعنی ؛ کطب نفسا تفد
4- یجوز فیه وفیما بعده جره بمن بملاحظة ما سبق فی رقم 1 من هامش ص 390 وما سیجیء فی «ح» من الزیادة ص 397 - والدر : اللبن ، أی : أن اللبن الذی ارتضعه هذا الرجل ونشأ علیه ، لبن غیر معتاد ولا مألوف ، إنما هو لبن موضع العجب ، إذ أنشأ هذا الرجل الذی لا مثیل له ؛ فهو لبن خاص من عند منشیء العجائب. ومبدعها الأول وهو : الله. (راجع رقم 2 من هامش ص 21 و 31 ح من ص 397 من هذا الجزء ، ثم الجزء الأول ص 458 م 38. من الطبعة الثالثة).

رجلا - کفی به نافعا - یا جارتا ما أنت جارة (1) حسبک بالصادق رجلا ، وقول الشاعر :

وحسبک داء أن تبیت ببطنة (2)

وحولک أکباد تحنّ إلی القدّ (3)

2 - لا یجوز تعدده بغیر عطف ؛ نحو : نما الغلام جسما وعقلا (4) ...

3 - عامل النصب فی هذا التمییز هو ما فی الجملة من فعل ، أو : شبهه (5).

4 - لا یجوز تقدیم هذا التمییز علی عامله إذا کان جامدا. کأفعل فی التعجب ؛ وکنعم وبئس (6) - وأخواتهما - من أفعال المدح والذم ، نحو : ما أنفع الطبیب إنسانا ، ونعم المغیث رفیقا ، وبئس القاسی رجلا ، أو کان فعلا متصرفا یؤدی معنی الجامد ؛ نحو : کفی بالطبیب إنسانا ، فإن الفعل : «کفی» متصرف ولکنه بمعنی فعل غیر متصرف ، وهو فعل التعجب ، فمعنی قولنا : کفی بالطبیب إنسانا : ما أکفاه إنسانا : أما فی غیر هاتین الصورتین الممنوعتین فالأحسن عدم تقدیم التمییز (7). وأما توسط هذا التمییز بین العامل ومعموله فجائز بشرط أن یکون

ص: 395


1- «یا جارتا» : أصلها : یا جارتی ، منادی منصوب ، لأنه مضاف لیاء المتکلم ، المنقلبة ألفا. وهذا الأسلوب تتعدد فیه الصور الإعرابیة بتعدد المعانی ، فقد تکون «ما» حرف نفی خرج عن معناه للتعجب ، والجملة بعدها اسمیة ؛ (مبتدأ وخبر) خالیة من التمییز ، ویکون المعنی : لست جارة ، وإنما أنت شیء أکثر منها ؛ فأنت أم ، أو أخت ، أو إحدی القریبات الحمیمات ، أی : بمنزلة واحدة من هؤلاء ؛ إعلانا للتعجب من عملها الذی لا یصدر من جارة ، وإنما یصدر من واحدة ممن سبقن. وقد تکون «ما» استفهامیة ، خبرا مقدما ، و «الضمیر» مبتدأ مؤخر ، و «جارة» : تمییز ، والجملة تفید التعجب بسبب أداة الاستفهام الدالة علی الاستعظام ؛ فقد خرج عن معناه الحقیقی إلی التعجب. ویصح فی هذه الصورة أیضا أن تکون : «جارة» حال مؤولة ، بمعنی : ملاصقة ... ویصح أن تکون «ما» نافیة ، والجملة بعدها منفیة ، أی : أنت لست أهلا أن تکونی جارة ... و...
2- شدة امتلاء المعدة بالطعام.
3- القطعة من الجلد الجاف غیر المدبوغ.
4- وما بعد العاطف یعرب معطوفا ولا یسمی فی الاصطلاح تمییزا ؛ مع أنه یؤدی معنی التمییز - کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 393 -.
5- وهذا عند غیر ابن مالک ، وقد سجلنا رأیه فی رقم 1 من هامش ص 389.
6- انظر رقم 1 من هامش ص 301 م 110 ج 3 - باب «نعم وبئس» - ففیه أحکام خاصة بتمییزهما ، ومنها : أنه لا یصح تأخیره عن المخصوص بالمدح أو الذم.
7- فی حکم تقدیم التمییز وعدم تقدیمه یقول ابن مالک : وعامل التّمییز قدّم مطلقا والفعل ذو التّصریف نزرا سبقا - - یرید : أن عامل التمییز یجب تقدیمه ؛ سواء أکان التمییز تمییز مفرد أم تمییز نسبة. ثم بین أن التمییز إن کان عامله فعلا متصرفا - وهذا لا یکون إلا فی تمییز الجملة - فقد یتأخر هذا العامل ویتقدم بالتمییز علیه فی حالات نادرة. والأحسن عدم القیاس هنا.

العامل فعلا أو وصفا یشبهه ؛ نحو : صفا نفسا الورع ، وقول المتنبی :

فهنّ أسلن - دما - مقلتی

وعذّبن قلبی بطول الصدود

ص: 396

زیادة وتفصیل

(ا) تمییز النسبة قد یکون غیر محوّل إلا بتأویل لا داعی له ، نحو : امتلأ الإناء ماء ؛ إذ لا یقال امتلأ الماء.

(ب) عرفنا (1) أن التمییز الواجب النصب بعد «أفعل التفضیل» هو السببیّ (2) ، وأنه نوع من تمییز الجملة ؛ إذ أصله : «فاعل» ، وأصل «أفعل» هو : الفعل ، ومن الممکن إرجاعهما إلی أصلهما ؛ فتعود الجملة الفعلیة للظهور ، وترجع لأصلها الذی ترکته ، وتحولت عنه إلی أسلوب آخر ...

لکن کیف یتحقق هذا؟ ففی مثل : أنت أکثر مالا ، وأعلی منزلا ، - ونظائرهما - لا یمکن تحویل أفعل إلی فعل یؤدی المعنی الأصلی الأساسی لصیغة التفضیل (وهو الکثرة ، والعلوّ - مثلا.) مزیدا علیه الدلالة علی التفضیل.

یری بعض النحاة فی هذا النوع التفضیلیّ أنه محول عن مبتدأ مضاف ، والأصل ، مالک أکثر ؛ ومنزلک أعلی ... فصار المبتدأ تمییزا ، وصار الضمیر المتصل المضاف إلیه مبتدأ مرفوعا منفصلا. وفی هذه الحالة وأمثالها یجیء التمییز محولا عن المبتدأ ، ویری آخرون ؛ أن المراد معروف من السیاق ، وهو : أنه کثر کثرة زائدة ، وملأ علوّا زائدا ، فلا یفوت التفضیل بتحویله عن الفاعل ، أو : أن فوات معنی التفضیل غیر ضار ؛ إذ لا یجب بقاؤه فی الفعل الموضوع مکان أفعل التفضیل فی هذا الباب ، قیاسا علی عدم بقائه فی بعض أبواب أخری.

وکلا الرأیین حسن. ولعل الرأی الثانی - بوجهتیه - أحسن ؛ لأن فیه تخفیفا من غیر ضرر ، وتقلیلا للأقسام بحصرها فی الفاعل والمفعول به.

(ح) من الأسالیب المسموعة فی التمییز : لله در خالد فارسا (3). فکلمة :

ص: 397


1- فی ص 393.
2- هو المتصف فی المعنی بالشیء الجاری فی اللفظ علی غیر ذلک المتصف به ؛ فإن المنزل - فی مثل : أنت أعلی منزلا - هو المتصف فی المعنی بالعلو ، مع أن العلو جار فی اللفظ علی المخاطب.
3- سبق شرحها وبیان حکمها فی رقم 1 من هامش ص 390 ولها شرح مع غیرها فی رقم 4 من هامش ص 394. وکذا فی رقم 2 من هامش ص 18 - وکذا فی ص 458 ج 1 م 38 من الطبعة الثالثة.

«فارسا» وأشباهها (مما یحل محلها فی هذا الترکیب ویکون مشتقّا) یصح إعرابها حالا ؛ لاشتقاقها ، ولأن المعنی یتحمل الحالیة ، ویصح إعرابها تمییزا للنسبة ؛ والمعنی علی هذا التمییز أوضح ، وبه أکمل. وإنما یکون التمییز فی مثل : «لله در خالد فارسا» من تمییز النسبة إذا کان المتعجب منه (وهو الممیّز) ، اسما ظاهرا مذکورا فی الکلام کهذا المثال ، أو کان ضمیرا مرجعه معلوم ؛ نحو : سجل التاریخ أبدع صور البطولة لخالد بن الولید ؛ لله درّه بطلا. أو : یا له رجلا ، أو : حسبک به فارسا ... فالضمیر هنا معروف المرجع : فإن جهل المرجع وجب اعتبار التمییز من تمییز المفرد (1) ، لأن الضمیر مبهم ، فافتقاره إلی التمییز لیکون مرجعا یبین ذات صاحبه ؛ ویوضح حقیقته - أشد من افتقاره إلی بیان نسبة التعجب إلیه (أی : إلی صاحب الضمیر). أما الضمیر المعلوم فبالعکس کما ذکرنا (2). ومثل هذا یقال فی الضمیر المتصل بالصیغتین القیاسیتین فی التعجب ، وهما «ما أفعله وأفعل به».

أما تمییز الضمیر المستتر فی : «نعم» و «بئس» فی مثل : الفارس نعم رجلا - الجبان بئس جندیّا - فالأحسن اعتباره من تمییز المفرد ، برغم أن مرجعه مذکور دائما : وهو : التمییز. ومثله : ربّه رجلا ، أما تمییز : «کم» فی مثل : کم رجلا شارکتهم ؛ فإنه مفرد من نوع تمییز العدد ، لأن «کم» کنایة عنه.

(د) تجب مطابقة تمییز الجملة للاسم السابق فی مواضع ، ویجب ترک المطابقة فی أخری. وقد تترجح المطابقة أو عدمها فی ثالثة. وفیما یلی البیان :

فتجب المطابقة

1 - إن کان کل من التمییز والاسم السابق علیه فی الجملة لشیء واحد ، أی : أن مدلول کل منهما هو مدلول الآخر ؛ نحو : کرم علیّ رجلا ، (فالرجل هو :

ص: 398


1- کأن ینظر شخص قائدین. أحدهما راکب ، والآخر راجل ، ثم یقول عن غیر إعلان ولا تصریح باسم أحدهما : لله دره فارسا. أو : یقرأ نصین ؛ أحدهما نثر ، والآخر شعر ، وهما لأدیب واحد ، ثم یقتصر علی أن یقول : لله دره شاعرا.
2- هذا النوع هو الذی أشرنا إلیه فی رقم 5 من هامش ص 389.

علیّ ، وعلیّ هو : الرجل). وکرم العلیان رجلین ، وکرم العلیون رجالا ، وکرمت عبلة فتاة ، وکرمت العبلتان فتاتین ، وکرمت العبلات فتیات ... و...

2 - إن کان مدلول التمییز غیر مدلول الاسم السابق ، ولکن هذا الاسم السابق جمع ، والتمییز مصدر فإنه یجمع إذا اختلفت أنواعه باختلاف الأفراد التی یدل علیها الاسم السابق ، وتنطبق علیها تلک الأنواع ، وتنصبّ علیها ، نحو : خسر الأشقیاء أعمالا ، فقد جمع التمییز «أعمالا» بقصد معیّن : هو بیان أن هذه الأعمال مختلفة الأنواع ، وأن کل نوع منها یصیب شقیّا ، وهو فرد من أفراد الاسم السابق المجموع : (الأشقیاء).

3 - إن کان التمییز غیر الاسم السابق ، ولکن الاسم السابق جمع ، والتمییز جمع متعدد ، غیر مصدر ، فیجمع لإزالة لبس محتمل ؛ نحو : کرم الأولاد آباء ، فقد جمع التمییز: «آباء» لیدل جمعه علی أن لکل ولد أبا ، ولیسوا إخوة. ولو لم نجمعه وقلنا : کرم الأولاد أبا ، لقوی احتمال أنهم إخوة من أب واحد.

ویجب ترک المطابقة

1 - إن کان معنی التمییز واحدا لیس له أفراد متعددة ومعنی الاسم السابق متعددا ؛ نحو : کرم الأولاد أبا (إذا کانوا إخوة لأب).

2 - أو کان التمییز غیر الاسم السابق ، ولکن الاسم السابق مفرد ، والتمییز جمع متعدد غیر مصدر ، وقصد بجمعه إزالة لبس محتمل ؛ نحو : نظف المتعلم أثوابا ، وکرم الشریف آباء ، فلو طابق التمییز الاسم السابق لوقع فی الوهم أن المقصود ثوب واحد ، وأب واحد. ولإزالة هذا الاحتمال جمع التمییز.

3 - أو کان التمییز مصدرا لا یقصد أن تختلف أنواعه ، نحو : أحسن الجنود عملا.

وتترجح المطابقة فی مثل ؛ حسنت الفتاة عینا ؛ لأن احتمال اللبس یکاد یکون معدوما ؛ إذ لا یکاد یخطر علی البال أن الحسن مقصور علی عین ، واحدة. ویترجح ترکها فی : حسن الفتیان ، أو الفتیة وجها ، للسبب السالف.

ص: 399

(ه) یتفق الحال والتمییز فی أمور ، ویفترقان فی أخری. وأهم ما یتفقان فیه خمسة أمور :

کلاهما : اسم ، نکرة ، منصوب ، فضلة ، رافع للإبهام.

وأهم ما یختلفان فیه سبعة

1 - التمییز لا یکون إلا مفردا (1) ، أما الحال فقد تکون جملة ، أو شبه جملة.

2 - التمییز لا یکون إلا فضلة ، أما الحال فقد یتوقف علیها المعنی الأساسی - کما سبق فی بابها (2) -.

3 - التمییز مبین للذوات أو للنسبة ، والحال لا تکون إلا مبینة للهیئات.

4 - تمییز الجملة لا یتعدد إلا بالعطف ؛ نحو : ارتفع النبیل خلقا ، وعلما ، وجاها. والأحسن فی التمییز المتعدد للمفرد أن یکون تعدده بالعطف.

إلا إن کان المراد من التمییز المتعدد المفرد معنی واحدا ، مثل عندی رطل عسلا سمنا ؛ فیجوز التعدد مع العطف ، وبدونه (3) - أما الحال فتتعدّد بعطف وبغیر عطف ؛ نحو أقبل المنتصر ، فرحا ، مسرعا ، مصافحا رفاقه ، أو فرحا ومسرعا ، ومصافحا ... - وعند وجود العاطف لا تسمی فی الاصطلاح «حالا» وإنما تعرب معطوفا ، برغم أنها تؤدی معنی الحال (4) ، وکذلک التمییز -.

5 - لا یصح تقدیم تمییز المفرد علی عامله. والأحسن عدم تقدیم تمییز الجملة علی عامله ، إذا کان فعلا مشتقّا ، أو وصفا یشبهه. أما الحال فیجوز.

6 - التمییز فی الغالب یکون جامدا ، أما الحال فتکون مشتقة وجامدة.

7 - التمییز لا یکون مؤکدا لعامله - فی الصحیح (5) - والحال قد تکون مؤکّدة.

ص: 400


1- لیس جملة ، ولا شبهها.
2- فی ص 339 ، وفی رقم 3 من ص 380.
3- سبق فی ص 339.
4- راجع ما یختص بهذا فی ص 360 من باب الحال. حیث التفصیل.
5- یلاحظ الفرق الکبیر بین هذا الحکم والذی سبق فی رقم 2 من هامش ص 388.

المسألة 89 : حروف الجر

اشارة

(1)

الکلام علیها الأمور الآتیة : (وأکثرها دقیق هامّ)

(عددها ، وبیانها) - (عملها) - (تقسیمها من ناحیة هذا العمل ، والأصالة فیه ، أو عدمها ؛ وما یترتب علی ذلک من التعلق بالعامل ، وآثار التعلق ...) - (معانی کل حرف ، ووجوه استعماله) - (حذف حرف الجر وحده مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره) - (نیابة حرف جر عن آخر).

(ا) فأما عددها وبیانها فالمشهور منها عشرون (2) ؛ هی : من - إلی - حتی - خلا - عدا - حاشا - فی - عن - علی - مذ - منذ - ربّ - اللام - کی - الواو - التاء - الکاف - الباء - لعل - متی -.

(ب) وأما عملها فهو جرّ آخر الاسم (3) الذی یلیها مباشرة فی

ص: 401


1- یسمیها بعض القدماء : «حروف الإضافة». (لما یأتی فی رقم 3 من هامش ص 406) وقد یطلقون علیها أحیانا. «الظرف» لأن «الظرف» یشمل «شبه الجملة» بنوعیه المعروفین وهما : الظرف والجار مع مجروره. (انظر رقم 1 من هامش ص 230 حیث بیان المراجع) وقد یطلق علی کل واحد منهما : «شبه الوصف» للسبب المبین فی رقم 4 من هامش ص 347.
2- لم ندخل فی عدادها الحرف : «لو لا» الداخل علی ضمیر غیر مرفوع (عند من یقول بأنه حرف جر شبیه بالزائد - کما سیجیء فی ص 417 - ، فما بعده مجرور لفظا مرفوع محلا ، علی أنه مبتدأ) لأن فی هذا تعقیدا.
3- لیست حروف الجر وحدها هی السبب أو العامل فی جر الاسم ؛ فأسباب جره أو عوامله الأصیلة ثلاثة. «أولها» : حروف الجر ؛ فکل حرف منها لا بد له من اسم یجره علی الوجه المبین فی هذا الباب. «ثانیها» : أن یکون الاسم مضافا إلیه. «ثالثها» : أن یکون تابعا لمتبوع مجرور ؛ فالنعت. والعطف ، والتوکید ، والبدل - مجرورة حتما إذا کان المتبوع مجرورا. بقی سببان آخران للجر ؛ «أحدهما» : الجر علی «التوهم» ، ومن صواب الرأی إهماله ، وعدم الاعتداد به (کما قلنا فی ص 323 وفی ج 1 ص 441 م 49 بعد أن أوضحناه وتناولناه بالبیان فی الموضعین وفی ج 3 م 93 ص 8). والآخر الجر علی : «المجاورة» والواجب التشدد فی إغفاله ، وعدم الأخذ به مطلقا (کما أشرنا فی الموضع السابق) ، أما الداعی لاتخاذه سببا للجر عند القائلین به فورود أمثلة قلیلة - وبعضها خطأ ، أو - - مشکوک فی صحة نقله عن العرب - قد اشتملت علی جر الاسم من غیر سبب ظاهر لجره ، إلا مجاورته لاسم مجرور قبله مباشرة ؛ منها : هذا جحر ضب خرب ؛ بجر کلمة : «خرب» مع أنها صفة لکلمة : «جحر» ولا تصلح صفة لکلمة : «ضب» ؛ لأن الضّب لا یوصف بأنه خرب. ومنها قول الشاعر : «یا صاح بلغ ذوی الزوجات کلّهم ...» ؛ بجر کلمة : «کل» مع أنها توکید لکلمة : «ذوی» المنصوبة ؛ إذ لو کانت توکیدا لکلمة : «الزوجات» لقال : کلهن. - وقد تأول النحاة المثال الأول بأن أصله : هذا جحر ضبّ خرب الجحر منه ، أو خرب جحره ، ثم حذف ما حذف ؛ وبقی ما بقی. واشتد الجدل فی نوع المحذوف وصحته وعدم صحته ، علی الوجه المبین فی المطولات (ومنها الهمع ج 2 ص 55). وقالوا فی المثال الثانی ؛ إنه خطأ أو ضرورة. واتفق کثیر من الأئمة علی أن الجر بالمجاورة ضعیف ، أو ضعیف جدا. وعلی هذا لا یصح القیاس علیه وإنما یقتصر علی الوارد فیه ، المسموع عن العرب ، - کما جاء فی خزانة الأدب للبغدادی ج 2 ص 324 - بل جاء فی کتاب : «مجمع البیان ، لعلوم القرآن» (ج 3 ص 335) ما نصه : (إن المحققین من النحویین نفوا أن یکون الإعراب بالمجاورة جائزا فی کلام العرب) اه. (وقد أعدنا ما سبق - لأهمیته - فی أول الجزء الثالث ص 8).

الاختیار (1) جرّا محتوما (2) ؛ ظاهرا ، أو مقدرا ، أو محلیّا (3). فالظاهر کالذی فی قول الشاعر :

إنی نظرت إلی الشعوب فلم أجد

کالجهل داء للشعوب ، مبیدا

ص: 402


1- مباشرة : أی : بغیر أن یفصل بینهما فاصل فی الاختیار ، لکن یجوز الفصل - أحیانا - ب «کان» الزائدة التی سبق الکلام علیها فی باب «کان» ج 1 م 44. أما فی حالة الضرورة الشعریة فقد یجوز - مع القبح - الفصل بینهما بالظرف ، أو بالجار مع مجروره ، أو بالمفعول به ، کقول الشاعر : إن عمرا لا خیر فی - الیوم - عمرو إنّ عمرا مکثّر الأحزان وقول الآخر : وإنی لأطوی الکشح من دون ما انطوی وأقطع بالخرق الهبوع المراجم والأصل : وأقطع بالهبوع المراجم الخرق ، (الهبوع : الجمل الذی یمشی مشیة حمار الوحش. والمراجم : الذی یرجم الأرض بأخفافه. - ویروی : المزاحم بالزای - والخرق : المکان الواسع الذی تصفر فیه الریح).
2- ولا یجوز إلغاء عمله الجر.
3- الجر المحلی فرع من الإعراب المحلی المختص بالکلمات المبنیة ؛ کالضمائر ، وکأکثر أسماء الإشارة والموصول ... فیکون لفظ الکلمة مبنیا ؛ لکنه فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب ما یقتضیه العامل. ویختص کذلک بالجمل المحکیة ، وغیرها من الجمل الأخری التی لها موقع إعرابی ؛ - - کجملة النعت ، أو الحال ... کما یکون فی المصادر المنسبکة ، وفی آخر الکلمة المجرورة بحرف جر زائد ، أو شبیه بالزائد - کما سیأتی فی هذا الباب - وما سبق مبنی علی الرأی القائل : إن الإعراب المحلی نوع یختلف عن الإعراب التقدیری (وقد عرض لهما الصبان فی الجزء الثانی من حاشیته ، أول باب الفاعل ، عند الکلام علی حکمه : «الرفع» وأوضحنا هذا مفصلا فی المکان المناسب من الجزء الأول ؛ باب المعرب والمبنی ... ص 54 م 6 وص 132 م 17 و 220 م 23.)

والمقدّر کالذی فی قولهم : ما من فتی یستجیب لدواعی الغضب إلا کانت استجابته بلاء وخسرانا.

والمحلی کالذی فی قولهم : لا أتألم ممن یسعی بالوقیعة بین الناس قدر تألمی من الذین یعرفونه ، وهم - إلی ذلک - یستجیبون لما یقول ...

(ح) وتنقسم هذه الحروف من ناحیة الاسم الذی تجرّه إلی قسمین ، قسم لا یجر إلا الأسماء الظاهرة ، وهو : عشرة.

مذ - منذ - حتی - الکاف - الواو - ربّ (1) - التاء - کی - لعلّ - متی.

وقسم یجر الأسماء الظاهرة والمضمرة ؛ وهو : العشرة الأخری (2). وسیأتی الکلام (3) علی معنی کل حرف من القسمین ، وعمله.

وتنقسم من ناحیة الأصالة وعدمها إلی ثلاثة أقسام ، حروف أصلیة - وما قد

ص: 403


1- ومن القلیل الذی لا یقاس علیه جره الضمیر - وسیجیء البیان فی ص 483.
2- فی بیان حروف الجر ، والمختص منها بالظاهر دون غیره ، یقول ابن مالک : هاک حروف الجرّ ، وهی : من ، إلی حتی ، خلا ، حاشا ، عدا ، فی ، عن ، علی مذ ، منذ ، ربّ ، اللّام ، کی ، واو ، وتا والکاف ، والبا ، ولعلّ ، ومتی بالظّاهر اخصص منذ ، مذ ، وحتّی والکاف ، والواو ، وربّ ، والتّا وقد اقتصر علی سبعة أحرف تجر الظاهر ، وترک ثلاثة ؛ هی : کی ، لعل ، متی. ویقول أیضا : واخصص بمذ ، ومنذ وقتا ، وبرب منکّرا. والتّاء لله ، ورب وما رووا من نحو : ربّه فتی نزر ، کذا کها ، ونحوه أتی أی : أن الکاف قد تجر المضمر شذوذا.
3- فی ص 422.

یشبهها (1) ویلحق بها أحیانا - وحروف زائدة (2) ، وحروف شبیهة بالزائدة.

* * *

القسم الأول : الحرف الأصلی - وشبهه (3) ، وهو الذی یؤدی معنی فرعیّا جدیدا فی الجملة ، ویوصّل بین العامل والاسم المجرور (4) ؛ فله مهمتان یؤدیهما معا. وفیما یلی إیضاحهما :

(ا) فأما من ناحیة إفادته معنی فرعیّا جدیدا لا یوجد إلا بوجوده فیتجلی فی مثل : «حضر المسافر» ؛ فإن هذه الجملة تبعث فی النفس عدة أسئلة ، قد یکون منها : أحضر المسافر من القریة أم من المدینة؟ أحضر من بلد أجنبی ، أم غیر أجنبی؟ أحضر فی سیارة ، أم فی طیارة ، أم فی باخرة ، أم فی قطار؟ أحضر إلی بیته ، أم إلی مقر عمله؟ ... و... و.. ففی الجملة نقص معنوی فرعیّ فإذا قلنا : «حضر المسافر من القریة» وأتینا بحرف الجر الأصلی «من» ، وبعده مجروره - فإن بعض النقص یزول ، ویحل محله معنی فرعیّ جدید ، بسبب وجود «من» ، فإنها بینت أن ابتداء المجیء هو : «القریة». ولم یوجد هذا المعنی إلا بوجود «من» ؛ فهی لبیان : «الابتداء» ، وقد ظهر هذا المعنی الفرعی الجدید علی المجرور بها.

وإذا قلنا : حضر المسافر من القریة إلی مقر عمله ، فإنّ نقصا آخر معنویّا یزول ، ویحل محله معنی فرعیّ جدید ، هو : «الانتهاء» ؛ بسبب وجود «إلی» ، فقد دلت علی أن نهایة السفر هی مقر العمل ، ولو لا وجود : «إلی» ما فهم هذا المعنی الفرعیّ الجدید ، فهی لبیان الانتهاء ، وقد ظهر علی المجرور بها (5).

ولو قلنا : حضر المسافر من القریة إلی مقر عمله فی سیارة - لزال نقص معنوی آخر ، وحل محله معنی فرعیّ جدید ؛ هو : «الظرفیة» بسبب وجود حرف الجر الأصلیّ «فی» الذی یدل علی أن المسافر کان خلال حضوره - فی سیارة تحویه

ص: 404


1- انظر رقم 1 من هامش الصفحة الآتیة.
2- فی الجزء الأول (م 5 ص 62 و 65) بیان مفید عن المراد من اللفظ الزائد ، سواء أکان حرفا أم غیر حرف.
3- انظر رقم 1 من هامش الصفحة الآتیة.
4- إلا الحرف : «علی» إذا کان معناه الإضراب ؛ فإنه لا یتعلق بعامل ؛ کما سیجیء فی ص 391.
5- طبقا للبیان الخاص بمعنی الحرف ، والغرض منه. (وقد تقدم فی ج 1 م 5 ص 62).

کما یحوی الظرف المظروف ، أی : کما یحوی الوعاء الشیء الذی یوضع فیه وهکذا بقیة حروف الجر الأصلیة کلها - وکذا الشبیهة بالأصلیة (1) - ؛ فإن کلّا منها لا بد أن یحمل معه للجملة معنی فرعیّا جدیدا من المعانی (2) التی یختص بتأدیتها ، ولا یتکشف هذا المعنی الجدید إلا بعد وضع الحرف مع مجروره فی الجملة. وعندئذ یتکشف ویتحقق مدلوله علی الاسم المجرور به - کما سبق (3) -.

أما وجود الحرف وحده أو مع مجروره بغیر وضعهما فی جملة ، فلا یفید شیئا.

هذا من ناحیة إفادته معنی فرعیّا جدیدا لم یکن له وجود قبل مجیئه.

(ب) وأما من ناحیة وصله بین عامله والاسم المجرور - وهو ما یسمی : «التعلق بالعامل» - فالنحاة یقولون : إن الداعی القوی لاستخدام حرف الجر الأصلی مع مجروره ، هو الاستفادة بما یجلبه من معنی جدید - وهذا المعنی الجدید لیس مستقلا بنفسه ، وإنما هو تکملة فرعیة لمعنی فعل أو شبهه. ویوضحون هذا بما یشبه الکلام السابق. ففی مثل : حضر المسافر من القریة - نجد الجار مع مجروره قد أکملا بعض النقص البادی فی معنی الفعل : «حضر» ؛ فلولاهما لتواردت علینا الأسئلة السالفة ، لکن بمجیئهما انحسم الأمر. فلهذا یقال : الجار والمجرور متعلق بالفعل : «حضر» ، أی : مستمسک ومرتبط به ارتباطا معنویّا کما یرتبط الجزء بکله ، أو الفرع بأصله ؛ لأن المجرور یکمل معنی هذا

ص: 405


1- حرف الجر الشبیه بالأصل هو : «لام الجر الزائدة» زیادة غیر محضة ؛ لأنها تجیء لتقویة عاملها الضعیف ، ومن الممکن الاستغناء عنها : فإذا لوحظ أنها تفید عاملها «التقویة» کان هذا معنی جدیدا جلبته معها ، وأفادته عاملها ؛ فیجب تعلقها مع مجرورها به. وإن لوحظ أنه یجوز حذفها فلا تتأثر الجملة بحذفها کانت زائدة زیادة غیر محضة ، لأن الحرف الزائد زیادة محضة لا یفید شیئا إلا توکید معنی الجملة کلها ، لا بعضها - وسیجیء البیان عند الکلام علی لام الجر الزائدة المحضة التی للتقویة ص 439 -.
2- لکل حرف من حروف الجر الأصلیة أو الشبیهة بالأصلیة ، عدة معان ، ولکل معنی مقام یناسبه ، وسیاق یقتضیه. (وسیجیء فی ص 422 تفصیل هذا).
3- وقد أسهبنا القول فی إیضاح معنی الحرف مطلقا ، وأن معناه لا یعرف من لفظه فقط ؛ وإنما یعرف بعد وضعه فی جملة. وأن هذا المعنی یظهر علی ما بعده ... و... کل هذا فی ج 1 ص 62 م 5.

الفعل ، بشرط أن یوصله به حرف الجر الأصلی - ، أو ما ألحق به -. والنحاة یسمون هذا الفعل (1) «عاملا». ویقولون أیضا :

إن حرف الجر الأصلی (2) - وما ألحق به - بمثابة قنطرة توصل المعنی بین العامل والاسم المجرور ، أو بمثابة رابطة تربط بینهما ؛ ولا یستطیع العامل أن یوصل أثره إلی ذلک الاسم إلا بمعونة حرف الجر الأصلی - وما ألحق به - ؛ فهو وسیط ، أو وسیلة للاتصال بینهما (3) ومن أجل هذا کان حرف الجر الأصلی - وملحقه - مؤدیا معنی فرعیّا وهو فی الوقت نفسه أداة من أدوات تعدیة الفعل اللازم لمفعول به معنی (أی : حکما). مثال آخر : قعد الرجل ... ، أقعد فی البیت ، أم فی السفینة ، أم فی الحقل ...؟ فمعنی الفعل : «قعد» فی حاجة إلی تکملة فرعیة تدعو للإتیان بالجار الأصلی مع مجروره ؛ فإذا قلنا : قعد الرجل فی السفینة ... انکشف المعنی الکامل للفعل : «قعد» بسبب اتصاله بالسفینة ، وکان هذا الاتصال بمساعدة حرف الجر الأصلیّ ، إذ لیس من الممکن أن نقول : قعد الرجل السفینة ؛ بإیقاع المعنی علی السفینة مباشرة بغیر حرف الجر ؛ لأن الاستعمال العربی الصحیح یأبی ذلک ؛ برغم شدة احتیاج العامل - وهو هنا الفعل : «قعد» - إلی کلمة : «السفینة» لیوقع علیها أثره المعنوی. لکنه عاجز عن أن یوصله إلیها بنفسه ؛ فجاء حرف الجر الأصلی وسیطا للجمع بینهما ، ومعینا علی تذلیل تلک الصعوبة ، ووصل بین معنی الفعل والاسم المجرور بعده. فهو - بحق - أداة اتصال بینهما ؛ ولذا یعدّ وسیلة من وسائل تعدیة الفعل اللازم إلی مفعول به تقدیرا ، زیادة علی ما یجلبه معه من معنی فرعی

ص: 406


1- وکذا ما یشبهه.
2- إلا الحرف : «علی» الذی للإضراب (کما سیجیء فی رقم 4 من هامش ص 407 - و 1 من هامش ص 412 وص 472).
3- ولهذا یسمیها بعض النحاة : «حروف الإضافة» ، - کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 401 - لأنها إذا کانت أصلیة (کما جاء فی بعض المطولات ومنها : المفصل ج 2 ص 117) تضیف إلی الأسماء المجرورة بها معانی الأفعال وشبهها من کل ما یقع علیه التعلق به ، ولو لم یوجد الحرف الأصلی ما تحققت الفائدة الفرعیة التکمیلیة ، ولا صح الأسلوب بعد حذفه وحده وإبقاء مجروره السابق - فی غیر المواضع التی یصح فیها حذفه ، ویظل ملحوظا بالرغم من حذفه ، ومعتبرا کالمذکور - ، بخلاف غیر الأصلی ؛ فإن حذفه وحده لا یفسد الأسلوب ، وفائدته إما جدیدة مستقلة لا یقصد منها أن تتمم نقصا فی غیرها ، وهذا هو الشبیه بالزائد ، وإما مؤکدة لمعناه وهذا هو الزائد - کما سیجیء فی ص 417 - لهذا کان ما یسمونه : «التعلق» بالعامل مقصورا علی حرف الجر الأصلی مع مجروره - وکذا ما ألحق به -.

مثال ثالث : نام الولید. فمعنی الفعل : «نام» معروف ، ولکنه معنی یشوبه بعض النقص الفرعیّ ؛ إذ لا یدل - مثلا - علی المکان الذی وقع فیه النوم.

فالعامل ؛ (وهو هنا الفعل : نام) بحاجة إلی إتمام المعنی بذکر المکان الذی وقع فیه أثره. فهل نقول : نام الولید السریر؟ لا نستطیع ذلک ؛ لأن الأسالیب السلیمة تأباه ، فالفعل عاجز عن إیصال معناه المباشر إلی تلک الکلمة ، فنلجأ إلی الوسیط المساعد ؛ وهو حرف الجر الأصیل ، - وشبهه - لیوصّل بین الاثنین ؛ ویعدّی الفعل اللازم إلی مفعول به معنی ، (حکما) ؛ فنقول : نام الولید فی السریر. ومثل هذا یقال فی الفعلین : «دعا» ، و «ذم» من قول الشاعر :

ومن دعا الناس إلی ذمّه (1)

ذموه بالحق وبالباطل ...

وهکذا ...

من کل ما سبق نفهم أن حرف الجر الأصلی (2) مع مجروره إنما یقومان بمهمة مشترکة ومزدوجة ، کانت السبب القویّ فی مجیئهما ؛ وهی : إتمام معنی عاملهما ، واستکمال بعض نقصه (3) بما یجلبانه معهما من معنی فرعیّ جدید ؛ وأحدهما - وهو حرف الجر الأصلی (4) - یقوم بمنزلة الوسیط الذی یصل بین معنی العامل والاسم المجرور ، ویجعل عامله اللازم متعدیا حکما وتقدیرا ویعبر النحاة عن کل هذا تعبیرا اصطلاحیّا ؛ هو : «أن الجار الأصلیّ - وشبهه - مع مجروره متعلّقان بالعامل» (5). فالمراد من تعلقهما به هو : اتصالهما وارتباطهما به ؛ لتکملة معناه الفرعیّ علی الوجه الذی سلف.

کما نفهم أیضا ما یقولونه من : أن الاسم المجرور بالحرف الأصلی - وشبهه - هو بمنزلة «المفعول به» لذلک العامل ؛ لوقوع معنی العامل علیه ؛ کما یقع علی «المفعول به» ؛ فکلا الاسمین یقع علیه معنی عامله ، وکلاهما یتمم معنی العامل ، والمتعلّق به. إلا أن المفعول به منصوب ، ویصل إلیه معنی ذلک العامل مباشرة ، أما الاسم الآخر فمجرور بحرف الجر الأصلی ، ولا یصل إلیه معنی عامله «وهو المتعلّق به» إلا بوسیط ، ولا یصح تسمیته مفعولا به حقیقیّا ، بالرغم من أنه

ص: 407


1- بأن یفعل ما یستدعی أن یذموه بسبه.
2- وکذا ما ألحق به
3- وکذا ما ألحق به
4- لتجلیة هذه المسألة أیضا والسبب فی وجوب التعلق تراجع ص 236.
5- إلا الحرف : «علی» إذا کان معناه الإضراب - کما أشرنا فی رقم 2 من هامش ص 406 و 1 من هامش ص 412 ویجیء البیان فی ص 472.

بمنزلته (1) ، کما لا یصح إعرابه فاعلا ، ولا مفعولا به ، ولا مبتدأ ، ولا بدلا (2) ولا غیر ذلک ... ، وإنما یقتصر فی إعرابه علی أنه «اسم مجرور بالحرف» ، وکفی (3) ...

أنواع العامل

(أی : المتعلّق به) ومواضع ذکره وحذفه :

لیس من اللازم أن یکون العامل (أی : المتعلّق به) فعلا ؛ فقد یکون شیئا آخر یشبهه ؛ کاسم الفعل فی مثل : نزال فی الباخرة ، بمعنی : انزل فی الباخرة ، وحیّهل علی داعی المروءة ، بمعنی : أقبل علی داعی المروءة ، وکالمصدر الصریح (4) فی قولهم : السکوت عن السفیه جواب ، والإعراض عنه عقاب ..

ومثل : الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر دعامة من أقوی الدعائم لإصلاح المجتمع ، وکالمشتق الذی یعمل عمل الفعل ؛ نحو : أنا محبّ لعملی ، فرح به ، مرتاح لرفاقی فیه. وقول الشاعر :

یموت المداوی للنفوس ولا یری

لما فیه من داء النفوس مداویا

وکذلک المشتق الذی لا یعمل (5) ؛ کاسم الزمان ، واسم المکان ... نحو : انقضی مسعاک لتأیید الحق ، وعرفنا مدخلک إلی أعوانه.

وقد یکون العامل لفظا غیر مشتق ، ولکنه فی حکم المؤول به (أی :

ص: 408


1- إذا کان بمنزلة المفعول به حکما ومعنی ، فهل یجوز فی توابعه النصب؟ الإجابة الصحیحة : لا. (راجع «ب» من ص 122 ثم رقم 3 من هامش ص 145 ثم ص 153).
2- یستثنی من هذا الحکم صورة خاصة یصح فیها عند فریق من النحاة إعراب الاسم المجرور بالحرف «بدلا» ؛ طبقا للبیان التفصیلی فی باب «البدل» - ج 3 ص 538 م 123.
3- «ملاحظة» : ما المراد الدقیق مما نقرؤه فی بعض المراجع اللغویة ، وغیرها ، أن فعلا معینا لازما ، ثم یردفونه تصریحا أو تمثیلا ؛ بأنه یتعدی بحرف جر معین؟ الجواب فی ص 153.
4- وهو یشمل المصدر الدال علی المرة ، أو الهیئة ، کما یشمل المصدر المیمی ، والصناعی.
5- هذا هو الراجح ؛ لأن المشتق غیر العامل لا یخلو من رائحة الفعل. راجع حاشیتی : الخضری والصبان ، أول باب : «إعمال اسم الفاعل» عند قول ابن مالک : ............. إن کان عن مضیّه بمعزل حیث علق الجار والمجرور : «عن مضیه» بکلمة : «معزل» التی هی اسم مکان. (وستجیء الإشارة لهذا فی ج 3 ص 204).

یؤدی معنی المشتق) ؛ مثل : أنت عمر فی قضائک ، فالجار مع مجروره متعلّقان بکلمة : «عمر» الجامدة ؛ لأنها مؤولة بالمشتق ؛ فهی هنا بمعنی : عادل. ومثل قولهم : قراءة کلام السفهاء علقم علی ألسنتنا. فالجار والمجرور متعلقان «بعلقم» الجامدة ؛ لأنها هنا بمعنی : صعب ، أو شاق ، أو مؤلم ، أو : مرّ ...

والمشهور : أن حرف الجر الأصلی ومجروره لا یتعلقان بأحرف المعانی ، ولکن هذا المشهور مخالف لما نقلناه عن بعض المحققین (1).

وقد یخلو الکلام من ذکر العامل (2) ؛ لأنه إما محذوف جوازا لوضوحه ؛ بسبب اشتهاره فی الاستعمال قبل الحذف وأمن اللبس بعد الحذف ، أو بسبب وجود دلیل یدل علیه ؛ فمثال الأول : «بأبی» فی قول المتنبی :

بأبی من وددته فافترقنا

وقضی الله بعد ذاک اجتماعا

وقول الآخر :

بنفسی تلک الأرض ؛ ما أطیب الرّبا

وما أحسن المصطاف (3)

والمتربعا (4)

یرید : أفدی بأبی ، - أفدی بنفسی. ومثال الثانی : أزورک فی مساء الخمیس أما أخوک ففی مساء الجمعة ، أی : فأزوره فی مساء الجمعة.

وإما محذوف وجوبا إذا کان دالا علی مجرد الکون العام ، أی : الوجود المطلق ؛ وذلک فی مسائل ؛ أشهرها سبعة :

أن یقع صفة ، نحو ؛ هذه رسالة فی ید صدیق عزیز. أو : حالا ؛ نحو : قرأت الرسالة من صدیق عزیز. أو : صلة ، نحو : استمتعت بالأزهار التی فی الحدیقة ؛ أو : خبرا لمبتدأ أو لناسخ ، کقول الشاعر :

جسمی معی ، غیر أن الروح عندکمو

فالجسم فی غربة ، والروح فی وطن

فلیعجب الناس منی ؛ أنّ لی بدنا

لا روح فیه ، ولی روح بلا بدن

ص: 409


1- راجع إیضاح هذا وتفصیله الکامل فی باب : «الظرف» - رقم 2 من هامش ص 232 م 78 -.
2- قد یکون تعلق شبه الجملة بالإسناد (أی : بالنسبة الواقعة بین رکنی الجملة ، وهذا إذا لم نتوصل إلی فعل أو شبهه مما یصح التعلق به ؛ کقول ابن مالک فی باب الاستثناء خاصّا بالأداتین «خلا وعدا» : «وحیث جرافهما حرفان ...» فالظرف «حیث» متعلق بالنسبة المأخوذة من قوله : «فهما حرفان» أی : تثبت حرفیتهما حیث جرا. (وقد سبق تفصیل وإیضاح لهذا فی هامش ص 331 ، وتسمیة الإسناد بالعامل المعنوی).
3- المکان المختار لقضاء فصل الصیف فیه.
4- المکان المختار لقضاء فصل الربیع فیه.

أو : أن یلتزم العرب حذفه فی أسلوب معین ؛ کقولهم لمن تزوج : «بالرّفاء (1) والبنین» ، أی : تزوجت ... فلا یجوز فی مثل هذا الأسلوب ذکر العامل ؛ لأنه أسلوب جری مجری الأمثال ، والأمثال لا تغیر.

أو یکون حرف الجر هو «الواو» أو «التاء» المستعملتین فی القسم ، نحو : والله لا أبتدئ بالأذی ، وقول الشاعر :

فو الله لا یبدی لسانی حاجة

إلی أحد حتی أغیّب فی القبر

تالله لأصنعن المعروف. التقدیر : أقسم والله ، أقسم بالله.

أو أن یرفع الجار مع مجروره الاسم الظاهر عند من یقول بذلک ؛ (2) بشرط اعتمادهما علی استفهام ، أو نفی ؛ نحو : أفی الله شک؟ : ما فی الله شک.

وإذا کان العامل محذوفا جاز تقدیره فعلا ، (مثل : استقر - حصل - وجد - کان بمعنی : وجد ... و...) وجاز تقدیره وصفا یشبهه ؛ (مثل : مستقر - - حاصل - کائن ...). إلا فی القسم والصلة لغیر «أل» الموصولة ؛ فیجب تقدیره فیهما فعلا ، لأن جملتی (3) القسم والصلة لغیر «أل» ، لا تکونان هنا إلا جملتین فعلیتین ، ولن یتحقق هذا إلا بتعلق شبه الجملة بفعل محذوف ، لا بغیره. وقد سبق أن أوضحنا جواز القول - تیسیرا - بأن الجار والمجرور إذا وقعا صفة ، أو صلة ، أو خبرا ، أو حالا -. هما الصفة ، أو الصلة ، أو الخبر ، أو الحال ، من غیر نظر للعامل ، ولا اعتباره واحدا من تلک الأشیاء (4).

ولما کانت العلاقة بین العامل (المتعلّق به) ، والجار مع مجروره علی ما ذکرنا من الارتباط المعنوی الوثیق - وجب أن نتنبه عند التعلیق ؛ فنمیز العامل الذی یحتاج إلی الجار مع المجرور لتکملة معناه ، من غیره الذی لا یحتاج ؛ فنخص الأول بتعلقهما به ، ونعطیه ما یناسبه ، دون سواه من العوامل التی لا یصلح لها التّعلق ؛ إما

ص: 410


1- الرفاء (بکسر الراء المشددة) هو : التوافق ، والالتئام ، وعدم الشقاق.
2- وهو رأی یحسن الیوم إغفاله قدر الاستطاعة. لما یوقع فیه من بلبلة.
3- کما فی ص 413.
4- سبق هذا فی ج 1 ص 272 ، 346 وسیجیء فی رقم 2 من هامش ص 413 کلام هام فی هذا.

بسبب الاکتفاء بمعنی العامل دون احتیاج إلی الجار مع مجروره ، وإما بسبب فساد المعنی المراد من العامل إذا تعلقا به.

بیان ذلک : أن الکلام قد یشتمل علی عدة أفعال أو غیرها مما یشبهها ؛ فیتوهم من لا فطنة له أن التعلق بکل واحد منها جائز ؛ فیسارع إلی التعلیق غیر متثبت من حاجة العامل له ، فی استکمال المعنی أو عدم حاجته ، وغیر ملتفت إلی ما یترتب علیه من فساد المعنی أو عدم فساده ؛ کما یتضح من الأمثلة التالیة :

«جلست أقرأ فی کتاب تاریخی» ... فلو تعلق الجار والمجرور : «فی کتاب» بالفعل : «جلس» لکان المعنی : جلست فی کتاب ... ، وهذا واضح الفساد. لکن یستقیم المعنی لو تعلقا بالفعل : «أقرأ».

«قاس الطبیب حرارة المریض ، وکتبها ، بمقیاس الحرارة». فلو تعلق الجار والمجرور بالفعل : «کتب» لکان المعنی : کتب الطبیب حرارة المریض بمقیاس الحرارة. وهذا غیر صحیح ؛ لأنه لا یقع ، وإنما یصح المعنی بتعلقهما بالفعل : «قاس» ؛ إذ یکون الأصل : قاس الطبیب بمقیاس الحرارة - حرارة المریض. وهذا معنی سلیم.

ویقول الرّصافی :

جهلت کجهل الناس حکمة خالق

علی الخلق طرّا بالتعاسة حاکم

وغایة جهدی أننی قد علمته

حکیما ، تعالی عن رکوب المظالم

فلو تعلق الجار والمجرور : (علی الخلق) بالفعل : «جهل» لأدی هذا التعلق إلی فساد شنیع فی المعنی ؛ إذ یکون الترکیب : جهلت علی الخلق جمیعا أی : تکبرت علیهم ، وأسأت إلیهم. وهذا غیر المراد ، وکذلک لو تعلقا بالمصدر : «جهل» أو : «حکمة» ... أما لو تعلقا بالوصف المشتق : «حاکم» فإن المعنی یستقیم ، ویتحقق به المراد ، إذ یکون الترکیب ... حاکم علی الخلق طرّا بالتعاسة ... ومثل هذا یقال فی الجار والمجرور : «بالتعاسة». ویقول الشاعر :

عداتک منک فی وجل وخوف

یریدون المعاقل والحصونا ...

فلو تعلق الجار ومجروره (منک) بکلمة : «عداة» (1) لفسد المعنی ، بخلاف

ص: 411


1- جمع : عاد ، بمعنی ظالم. (فهو عامل مشتق).

تعلقهما بکلمة : «وجل» فإن المعنی معه یکون : عداتک فی وجل منک ... وهو معنی مستقیم.

ومن الأمثلة السالفة یتبین أن متعلّقهما قد یکون متأخرّا عنهما ، أو متقدما علیهما ؛ فلیس من اللازم أن یتقدم علیهما العامل الذی یتعلقان به. وقد اجتمع الأمران فی قول الشاعر :

بالعلم والمال یبنی الناس ملکهمو

لم یبن ملک علی جهل وإقلال

وفی قول الآخر :

لئن لم أقم فیکم خطیبا فإننی

بسیفی إذا جدّ الوغی لخطیب ...

فالمراد : یبنی الناس ملکهم علی العلم والمال ... - لم یبن الناس ملکهم علی جهل وإقلال - لئن لم أقم فیکم خطیبا فإننی لخطیب بسیفی ...

فالواجب یقتضی - فی کل الأحوال - أن نبحث لحرف الجر الأصلی (1) مع مجروره عن «العامل» المناسب لهما - ولا سیما إذا تعددت حروف الجر ومجروراتها ، وتعددت معها الأفعال وأشباهها (2) - وأن نمیزه ونستخلصه من غیر المناسب ؛ ولا نتأثر فی اختیاره بقربه من الجار والمجرور ، أو بعده عنهما ، أو تقدمه علیهما أو تأخره ، أو ذکره ، أو حذفه. وإنما نتأثر بشی واحد ؛ هو ما یکون بین العامل وبینهما من ارتباط معنوی یحتم اتصالهما به بطریقة تعلقهما به مع ملاحظة الرأی المشهور ؛ وهو : أن شبه الجملة بنوعیه لا یتقدم علی عامله المؤکد بالنون (3).

ص: 412


1- وشبهه ، إلا الحرف «علی» الذی للإضراب فإنه لا یتعلق ، (کما سبق فی رقم 2 من هامش 406 ورقم 4 من هامش 407 طبقا للبیان الآتی فی ص 472).
2- الکثیر ألا یتعلق حرفان للجر بعامل واحد إذا کانا بمعنی واحد ، نحو : مررت بالوالد بالأخ ؛ حتی لقد منع بعض النحاة هذا التعلیق منعا باتا. أما عند اختلاف معنی الحرفین فیجوز تعلقهما بعامل واحد ؛ نحو : مررت بالعربی بالبادیة. والحق أن المنع القاطع المطلق مخالف لظاهر کلام الزمخشری فی قوله تعالی : (کُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِی رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فإنه یفید الجواز مع کون معنی الحرفین : (من» الأولی والثانیة) واحدا ؛ ذلک لأن الحرف الثانی إنما یتعلق بالفعل بعد تقییده بالأول ، والأول إنما تعلق به فی حال الإطلاق (راجع شرح التصریح وحاشیة یاسین ج 1 باب الحال عند الکلام علی الحال مع صاحبها).
3- انظر البیان فی 1 من هامش ص 100.

وفی هذه الحالة التی یتمم فیها الجار والمجرور المعنی مع عاملهما یسمیان «شبه الجملة (1) التام» فإن لم یکمل بهما المعنی (وقد یکون ذلک لعدم اختیار «المتعلّق به» المناسب) سمیّا : «شبه الجملة الناقص» ، نحو : محمد عنک - الشمس حتی الیوم - النهر بک ... و... فهذه تراکیب فاسدة ، بخلاف : محمد فی البیت - الشمس علی خط الاستواء - النهر لنا (2).

ص: 413


1- شبه الجملة قسمان : الظرف ، والجار مع مجروره. وفی باب الصلة. خاصة - یعتبر الوصف الواقع صلة «أل» بمنزلة شبه الجملة. (وقد تقدم إیضاح هذا فی الجزء الأول عند الکلام علی أنواع الصلة. وسیجیء فی الهامش بعد هذا مباشرة بیان العلامة التی تمیز شبه الجملة التام المفید مما لیس تاما ولا مفیدا).
2- من المستحسن أن نلخص ما سبق متناثرا هنا فی ص 236 وفی ج 1 فی بابی «الموصول» ، و «المبتدأ والخبر» خاصا یشبه الجملة ؛ من ناحیة التعلق ، ووجوب حذف العامل أو جوازه ، وشبه الجملة اللغو والمستقر ... و... وما یصحب کل هذا من أحکام هامة. وإنما نعیده بمناسبة الکلام علی حروف الجر ، لأن الجار مع مجروره أحد الشطرین اللذین یسمیان : «بشبه الجملة» ، والشطر الآخر هو : «الظرف» - ویطلقه بعض القدماء علی الشطرین - ویزاد علیهما صلة «أل» خاصة (کما سبق فی رقم 1) فأنسب مکان لتسجیل کل ما یختص بشبه الجملة هو : «باب الظرف» ، و «باب حروف الجر». وإلی هذین البابین - قبل غیرهما - یتجه نظر الباحث فی «شبه الجملة» ؛ حیث یجب أن یتجمع ویترکز فی کل باب ما یناسبه من أحوال شبه الجملة ، وأحکامه ، دون الاعتماد علی المتفرق فی الأبواب الأخری ، لمناسبات طارئة. الأصل المتفق علیه بین النحاة أن العامل فی الظرف ، وفی الجار مع مجروره یقع بنفسه فی مواقع إعرابیة مختلفة ؛ منها : الصلة ، والصفة ، والخبر ، والحال ... و... فهل یقع شبه الجملة نفسه فی تلک المواقع الإعرابیة بدلا من عامله ، ویحل محله؟ لا مانع من هذا فی رأی حسن لفریق من قدامی النحاة. بشرط أن یکون العامل فی شبه الجملة بنوعیه محذوفا ، وبشرط أن یکون کل منهما مفیدا بعد حذف العامل الذی یتعلقان به - مع ملاحظة أن الذی یتعلق من أنواع الجار مع مجروره هو حرف الجر الأصلی مع مجروره وشبه الأصلی ، دون حرف الجر الزائد وشبهه مع مجرورهما وأوضح علامة تدل علی وجود الفائدة المطلوبة من الظرف ومن الجار مع مجروره هو أن یفهم متعلقهما المحذوف بمجرد ذکرهما : ویتحقق هذا فی صورتین : الأولی : أن یکون هذا المتعلق المحذوف شیئا یدل علی مجرد الوجود العام ، أی : الوجود المطلق دون زیادة معنی آخر. وهذا یسمی : «الاستقرار العام» أو : «الکون العام» ومعناهما : مجرد الوجود ؛ ففی نحو : (تکلم الذی عندک) لا یفید الظرف : «عند» شیئا أکثر من الدلالة علی وجود الشخص وجودا مطلقا من غیر زیادة شیء آخر علی هذا الوجود ؛ کالأکل ، أو الشرب ، أو القراءة ، أو سواها ... وهذا هو «الاستقرار العام» أو «الکون العام» کما قلنا ، ولا یحتاج فی فهمه إلی قرینة ، أو غیرها. وکذلک نحو : (سکت الذی فی الحجرة) أی : الموجود فی الحجرة وجودا مطلقا غیر مقید بزیادة شیء آخر ؛ کالنوم ، أو الضحک ، أو المشی. وکذلک غیرهما من الأمثلة. ولأن هذا الکون العام واضح «ومفهوم» بداهة - طبقا للبیان الهام الذی سبق فی ص 236 - وجب حذفه فی مسائل ؛ منها ما ذکرناه ، وهو : أن یقع صلة ، أو صفة ، أو خبرا ، أو حالا ... إذ لا داعی للإطالة بذکره من غیر حاجة إلیه. - - الثانیة : أن یکون متعلقهما أمرا خاصا محذوفا جوازا لوجود ما یدل علیه. ویظهر المتعلق الخاص فی المثالین السابقین بأن نقول : تکلم الذی وقف عندک ، وسکت الذی نام فی الحجرة. فکلمة : «وقف» أو : «نام» تؤدی معنی خاصا هو : الوقوف ، أو : النوم. ولا یمکن فهمه إلا بذکر کلمته فی الجملة ، والتصریح بها. فلیس هو مجرد حضور الشخص ، ووجوده المطلقین ؛ وإنما هو الوجود والحضور المقیدین بالوقوف أو بالنوم. ولهذا لا یصح حذف المتعلق الخاص إلا بدلیل یدل علیه وعندئذ یجوز حذفه ؛ مثل : قعد صالح فی البیت ومحمود فی الحدیقة ؛ فتقول : بل صالح الذی فی الحدیقة. ترید : بل صالح الذی قعد فی الحدیقة ؛ فإن حذف المتعلق الخاص بغیر دلیل کان الظرف والجار مع مجروره غیر تامین ؛ فلا یصلحان للصلة ، ولا لغیرها مما سبق ؛ مثل : هذا الذی أمامک ، أو : منک. ترید هذا الذی غضب أمامک ، أو : غضب منک. ومثل : غاب الذی الیوم ... أو : الذی بک. ترید غاب الذی حضر الیوم ، والذی استعان بک. فالمتعلق العام المطلق قد زید علیه هنا ما جعله خاصا مقیدا. وظرف المکان هو الذی یکون متعلقه فی الصلة کونا عاما واجب الحذف ، أو کونا خاصا واجب الذکر إلا عند وجود قرینة ؛ فیجوز معها حذفه أو ذکره. أما ظرف الزمان فلا یکون متعلقه إلا خاصا ؛ فلا یجوز حذفه إلا بقرینة ، وبشرط أن یکون الزمن قریبا من زمن الکلام ، نحو : نزلنا المنزل الذی البارحة ، أو : أمس ، أو آنفا ، (أی : فی أقرب ساعة ووقت منا). ترید : الذی نزلناه البارحة ، أو أمس ، أو آنفا. فإن کان زمن الظرف بعیدا من زمن الإخبار بمقدار أسبوع مثلا ، لم یحذف العامل ؛ فلا تقول یوم الأربعاء : نزلنا المنزل الذی یوم الخمیس أو یوم الجمعة. ولم أطلع علی تحدید النحاة للزمن القریب أو البعید ؛ ولکن قد یفهم من أمثلتهم أن القریب ما لم یتجاوز یومین ، وأن البعید ما زاد علیهما. وربما کان عدم التحدید مقصودا منه ترک الأمر للمتکلم والسامع. وشبه الجملة بنوعیه یسمی : «مستقرا» (بفتح القاف ، والمراد : مستقر فیه) حین یقع متعلقه «کونا عاما» یفهم بدون ذکره. ویسمی : «لغوا» حین یقع متعلقه «کونا» مذکورا أو محذوفا لقرینة تدل علیه. وإنما سمی «مستقرا» لأمرین - سبقت الإشارة إلیهما فی ص 236 - ؛ لاستقرار معنی عامله فیه ؛ أی : فهمه منه ، ولأنه حین یصیر خبرا - مثلا - ینتقل إلیه الضمیر من عامله المحذوف ، ویستقر فیه ، وبسبب هذین الأمرین استحق عامله الحذف وجوبا. وسمی «اللغو» لغوا لأن وجوده ضئیل الأثر مع وجود عامله ؛ إذ لا یستقر فیه معنی عامله ، ولا یتحمل ضمیره. وفی هذه الحالة یکون العامل الملفوظ به فی الجملة هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... أو ... ویجب ذکره ، ولا یجوز حذفه إلا لقرینة. ولو حذف لوجودها لکان - مع حذفه أیضا - هو الخبر أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... فلا یصح - فی رأی الکثرة - فی حالتی ذکر الکون الخاص أو حذفه أن یکون الظرف أو الجار مع مجروره خبرا ، أو نعتا ، أو واحدا مما سبق. وهذا نوع من التشدد لا داعی له ؛ إذ لا مانع هنا أن نعرب شبه الجملة بنوعیه هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ، أو غیرها. وذلک عند ما - - یحذف جوازا عامله المعروف ، لأن هذا الإعراب جائز فی شبه الجملة الذی حذف عامله العام وجوبا - کما سیجیء - فلم لا یجوز هنا؟ ویتضح مما سبق أن شبه الجملة بنوعیه لا بد أن یدل فی أصله علی : «الوجود المطلق» ، ثم یمتاز اللغو بدلالته - فوق هذا - علی معنی خاص ؛ کالمشی ، والحرکة ، وغیرهما مما یزاد علیه فیجعله خاصا مقیدا بعد أن کان عاما مطلقا ویتضح أیضا أن الکون العام واجب الحذف مع شبه الجملة ؛ إذ لا فائدة من ذکره ؛ ولا خفاء ، ولا لبس بحذفه ، ولانتقال الضمیر منه إلی شبه الجملة. وأن الکون الخاص یجب ذکره حتما ؛ لعدم وجود ما یدل علیه عند حذفه - فإن وجدت قرینة تدل علیه وتعینه صح حذفه - مثل : الفارس فوق الحصان ، أی : راکب فوق الحصان ، ومن لی بفلان؟ أی : من یتکفل لی بفلان؟ والبحتری من الشعراء ؛ أی : معدود منهم. ومثل قوله تعالی فی القصاص : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) علی تقدیر : الحر مقتول بالحر ؛ لأن تقدیر الکون العام فی الأمثلة السابقة لا یؤدی المعنی المراد. والمتعلق الخاص المحذوف لوجود قرینة تدل علیه هو الذی یعرب عندهم - کما سبق - خبرا ، أو صفة ، أو صلة ، أو حالا ... لا شبه الجملة. وبالرغم من حذفه فإنه لا یخرج شبه الجملة - فی رأیهم - عن اعتباره : «لغوا». ولا یتنافی مع ما هو ثابت له من أنه : «کون خاص». فالمعول علیه عندهم فی الحکم باللغو راجع إلی خصوص الکون ، وأنه لیس بعام ؛ سواء أذکر الکون الخاص أم حذف لقرینة ، وفی الحکم بالاستقرار إلی عموم الکون ، وأنه لیس بخاص. وینتقلون بعد هذا إلی تقسیمات وتفریعات شاقة ، وأدلة جدلیة مرهقة فی إثبات تلک الأقسام والفروع ، وفی المفاضلة بین أن یکون المتعلق المحذوف فعلا أو اسما ، وغیر هذا مما لا حاجة إلیه الیوم ، ولا ضرر من إهماله ، بل الخیر فی إهماله ، وفی الاقتصار - عند حذف العامل - علی إعراب الظرف ، والجار مع مجروره هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... وهو رأی لبعض السابقین ، ولا داعی للتشدد فی البحث عن نوع العامل المحذوف مع عدم الحاجة إلیه ، ولا للتمسک بأنه هو الخبر ، أو الصفة ... أو ... ولا خیر فی رکوب الشطط لإظهار آثاره ، لأن المعنی جلی کامل بدونه. إن ذلک التشدد هو صورة من الجانب المعیب فی نظریة العامل النافعة الجمیلة. ولم الإعنات وفی استطاعتنا التخفیف والتیسیر بغیر إفساد؟ وقد دعا لهذا بعض القدامی - کما أشرنا - ، وکما ورد فی کثیر من المراجع الکبیرة ، کالمفصل وغیره. یقول صاحب المفصل (ج 1 ص 90) عند الکلام علی أقسام الخبر ما نصه : (اعلم أنک لما حذفت الخبر الذی هو : «استقر» أو : «مستقر» ، وأقمت الظرف مقامه - علی ما ذکرنا - صار الظرف هو الخبر ، والمعاملة معه [یرید أن الآثار اللفظیة والمعنویة فی الجملة قد انتقلت إلیه] وهو مغایر المبتدأ فی المعنی. ونقلت الضمیر الذی کان فی الاستقرار إلی الظرف ، وصار مرتفعا به ؛ کما کان مرتفعا بالاستقرار ؛ ثم حذفت الاستقرار ، وصار أصلا مرفوضا لا یجوز إظهاره ؛ للاستغناء عنه بالظرف. وقد صرح ابن جنی بجواز إظهاره. والقول عندی أنه بعد حذف الخبر الذی هو الاستقرار ، ونقل الضمیر إلی الظرف - لا یجوز إظهار ذلک المحذوف لأنه قد صار أصلا مرفوضا فإن ذکرته أولا وقلت زید استقر عندک - لم یمنع منه مانع. - - واعلم أنک إذا قلت ؛ «زید عندک فعندک ظرف منصوب بالاستقرار المحذوف ؛ سواء أکان فعلا : أم اسما ، وفیه ضمیر مرفوع ، والظرف وذلک الضمیر فی موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. وإذا قلت : زید فی الدار ، أو : من الکرام ، فالجار والمجرور فی موضع نصب بالاستقرار علی حد انتصاب. «عندک» إذا قلت : زید عندک. ثم الجار والمجرور والضمیر المنتقل فی موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ...) اه. وهو یشیر بقوله : «الجار والمجرور فی موضع نصب بالاستقرار ...» إلی ما هو معروف فی الاصطلاح النحوی من أن المجرور بحرف جر أصلی وشبهه هو «مفعول به» فی المعنی ، وحرف الجر أداة لتوصیل أثر الفعل إلیه - (کما شرحنا أول الباب ، ص 408 وفیما سبقه من ص 145 و 153 و...). وعلی هذا یکون ما یدور علی الألسنة الیوم عند الإعراب من أن الظرف ، أو الجار مع مجروره هو الصلة ، أو الصفة ، أو الخبر ، أو الحال ... أمرا سائغا مقبولا ، ورأیا لبعض القدامی یحمل طابع التیسیر والاختصار. فإن وقع أحدهما فی تلک المواضع فقد یتعلق بشیء مذکور یصلح للتعلق ، کالفعل ونحوه ... وقد یتعلق بفعل محذوف أو بمشتق ، أو غیره مما یصح التعلق به. ولا یتحتم أن یکون المحذوف فعلا إلا حین یقع صلة ، - لغیر «أل» - لأن الصلة لا تکون إلا جملة (والوصف المشتق مع مرفوعه لیس جملة ، ولا یکون صلة لغیر «أل» ، کما عرفنا فی باب الموصول) ، وکذلک یتحتم أن یکون فعلا فی حالة القسم الذی حذف عامله ؛ لأن جملة القسم أیضا لا بد أن تکون فعلیة - کما سبق فی ص 410 -. ومما تجدر ملاحظته أن شبه الجملة بنوعیه (الظرف ، والجار الأصلی مع مجروره) إذا تعلق بفعل مؤکد بالنون لم یجز أن یتقدم علی هذا الفعل فی الرأی المشهور دون الرأی الآخر - طبقا للبیان الذی سبق فی رقم 1 هامش ص 100 ، وأشرنا إلیه فی رقم 3 من هامش 412 -. وإذا أخذنا بهذا الرأی السهل الیسیر کانت تسمیة الظرف والجار مع مجروره «شبه جملة» إنما هی من قبیل الإبقاء علی التسمیة القدیمة ، ومراعاة أصلها السابق ، أو : لأن کلا من الظرف والجار مع مجروره لیس مفردا فی الحقیقة ، بل هو مرکب ؛ إذ یحمل معه الضمیر المستتر الذی انتقل إلیه من العامل المحذوف علی الوجه الذی بسطناه. أما التسمیة القدیمة وأصلها السابق فقد أوضحناهما من قبل بما ملخصه : أن الظرف أو الجار مع المجرور لیس هو الخبر ، ولا الصفة ، ولا الصلة ، ولا الحال و... و... فی رأی جمهورتهم. وإنما الخبر وغیره فی الحقیقة لفظ آخر محذوف یتعلق به الظرف والجار الأصلی مع مجروره ؛ إذ لا مهمة لشبه الجملة إلا إتمام المعنی فی غیره ، لهذا لا بد لنوعیه أن یتعلقا بفعل أو بما یشبهه ؛ لیتم بهما المعنی - للأسباب الموضحة فی أول هذا الباب ، وفی باب الظرف - ، والمحذوف قد یکون فعلا فقط (أما فاعله الضمیر فقد ترکه واستقر فی شبه الجملة) وقد یکون - فی غیر الصلة والقسم - شیئا آخر ، فإن لم یوجد فی الکلام ما یصلح أن یقع عاملا یتعلق به الظرف أو الجار الأصلی مع مجروره کما فی مثل : الغزال فی الحدیقة ، فأین العامل؟ فلما کان التعلق واجبا وکان شبه الجملة غیر صالح لأن یکون هو المبتدأ فی المعنی - کالشأن فی الخبر - ، وکان العامل غیر موجود ؛ وجب تقدیره - - محذوفا ؛ إما فعلا مع فاعله (أی : جملة فعلیة ، مثل : استقر ، أو : ثبت ، أو : حصل ، أو : کان ، بمعنی : وجد ، (وهی التامة) ... وإما اسما مشتقا ؛ مثل : «مستقر» ، أو : «کائن» المشتقة من «کان» التامة ، وإما اسما آخر یصلح عاملا. وإما بالنسبة (أی : الإسناد طبقا لما هو مشروح فی رقم 2 من هامش ص 409). فلیس الخبر - أو غیره ... - عندهم هو الظرف نفسه ، أو الجار مع مجروره مباشرة ؛ إنما الخبر هو المحذوف ، ویتعلق به کل واحد من هذین. ولما کان کل منهما صالحا لأن یتعلق بالفعل المحذوف ، ویدل علیه وعلی فاعله بغیر خفاء ولا لبس - کان شبه الجملة بمنزلة النائب عنهما ، والقائم مقامهما ، والفعل مع فاعله جملة ، فما ناب عنها وقام مقامها - شبیه بها ، لذلک أسموه : «شبه الجملة». وأصحاب هذا الرأی یقولون إن الضمیر الذی کان فاعلا للعامل المحذوف قد انتقل بعد ذلک کله إلی شبه الجملة ، أی : بعد أن تمت المشابهة. وبسبب انتقال الضمیر إلی شبه الجملة ، وصحة تعلقه بالمشتق سموه : «شبه الوصف» أیضا - کما سبق فی رقم 4 من هامش ص 347 وفی رقم 1 من هامش ص 356 - وقد أوضحنا سبب تعلق الظرف ، وطریقته وما یتصل بهذا فی بابه من هذا الجزء - ص 236 وکذا فی ج 1 م 35 ص 431 - کما أوضحنا هنا فی هذا الباب أمرهما مع الجار والمجرور.

ملاحظة

المشهور أن شبه الجملة التام بنوعیه (الظرف ، والجار مع مجروره) إذا وقع بعد نکرة محضة وجب إعراب متعلّقه (عامله) نعتا. وإذا وقع بعد معرفة محضة

ص: 414

وجب إعرابه حالا. أما إذا وقع بعد نکرة غیر محضة ، أو معرفة غیر محضة فیجوز إعرابه فی کلّ صورة من الصورتین ، حالا ، أو نعتا. لکن یقول بعض المحققین إن متعلّق شبه الجملة یصلح أن یکون حالا أو نعتا فی جمیع الصوّر ؛ سواء

ص: 415

أکانت النکرة والمعرفة محضتین أم غیر محضتین ، ما عدا صورة واحدة یتعین أن یکون شبه الجملة فیها نعتا ، هی : أن تکون النکرة محضة. ورأیه حسن. وقد سبق

ص: 416

إیضاحه التام وتفصیله (1).

وحروف الجر السابقة کلها أصلیة إلّا أربعة ؛ هی : «من». و «الباء» و «اللام» و «الکاف» فهذه الأربعة تستعمل أصلیة حینا ، وزائدة حینا آخر ، وإلا «لعل» و «ربّ» ؛ فإنهما حرفا جر شبیهان بالزائد ، وکذا : «لو لا» فی رأی أشرنا إلیه من قبل (2). ومن النحاة من یجعل : خلا ، وعدا ، وحاشا ، من حروف الجر الشبیهة بالزائدة. لکن لا داعی للعدول عن اعتبارها حروفا أصلیة ؛ - کما سبق (3) فی باب الاستثناء -. وسیجیء تفصیل الکلام عن معانی حروف الجر وعملها فی الموضع الخاص بهذا من الباب (4).

* * *

القسم الثانی : حرف الجر الزائد (5) زیادة محضة (6) وهو الذی لا یفید معنی

ص: 417


1- فی ج 1 ص 192 و 194 حیث البیان الکامل.
2- رقم 2 من هامش ص 401 م 89 وتفصیل هذا فی الجزء الأول عند الکلام علی الحرف ص 43 وما بعدها م 5.
3- فی رقم 4 من هامش ص 330.
4- ص 422 وما بعدها.
5- أشرنا فی رقم 2 من هامش ص 404 إلی الموضع الذی یشتمل علی بیان المراد من «اللفظ الزائد» - سواء أکان اللفظ حرفا أم غیر حرف - وأن ذلک الموضع هو : ج 1 م 5 ص 62 و 65.
6- هناک «اللام الجارة» قد تکون زیادتها لتقویة عاملها فتکون زیادتها شبیهة بالمحضة - (کما سبق فی رقم 1 من هامش ص 405).

جدیدا ، وإنما یؤکد المعنی العامّ فی الجملة کلها ، فشأنه شأن کل الحروف الزائدة ؛ یفید الواحد منها توکید المعنی العام للجملة کما یفیده تکرار تلک الجملة کلها. سواء أکان المعنی العام إیجابا أم سلبا ، ولهذا لا یحتاج إلی شیء یتعلق به ، ولا یتأثر المعنی الأصلی بحذفه ، نحو : کفی بالله شهیدا ، بمعنی : یکفی الله شهیدا ؛ فقد جاءت «الباء» الزائدة لتفید تقویة المعنی الموجب وتأکیده ؛ فکأنما تکررت الجملة کلها لتوکید إثباته وإیجابه. ومثل : لیس من خالق إلا الله. أی : لیس خالق إلا الله ، فأتینا بالحرف الزائد : «من» : لتأکید ما تدل علیه الجملة کلها من المعنی المنفی ، وتقویة ما تتضمنه من السلب. ولو حذفنا الحرف الزائد فی المثالین ما تأثر المعنی بحذفه.

ولا فرق فی إفادة التأکید بین أن یکون الحرف الزائد فی أول الجملة ، أو فی وسطها ، أو فی آخرها ؛ نحو : بحسبک الأدب - کفی بالله شهیدا - الأدب بحسبک ... وقد تکون زیادة الحرف واجبة لا غنی عنها کزیادة «باء الجر» بعد صیغة «أفعل» للتعجب القیاسیّ ؛ نحو : أکرم بالعرب (1).

وإنما لم یتعلق الجار الزائد مع مجروره بعامل لأن التعلّق والزیادة متعارضان ، إذ الداعی للتعلق هو الارتباط المعنوی بین عامل عاجز ، ناقص المعنی ، واسم یکمله لا یصل إلیه أثر ذلک العامل إلا بمساعدة حرف جرّ أصلیّ - وشبهه - ، أما الزائد فلا یدخل الکلام لیعین علی الإکمال ، وإیصال الأثر من العامل العاجز إلی الاسم المجرور ، وإنما یدخل الکلام لتأکید معناه القائم ، وتقویته کله ، لا للربط.

طریقة إعراب المجرور بالحرف الزائد

لا بد من أمرین فی الاسم المجرور بالحرف الزائد ؛ أن یکون مجرورا فی اللفظ ، وأن یکون - مع ذلک - فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ؛ علی حسب مقتضیات العوامل. فله إعراب لفظیّ ، وآخر محلی معا. ففی مثل. «کفی بالله شهیدا» تعرب «الباء» حرف جر زائدا - «الله» مجرور بها ، فی محل رفع ، لأنه فاعل ، إذ الأصل : کفی الله ...

ص: 418


1- بشرط دخولها علی اسم صریح ، لا مؤول من أن وأن وصلتهما - کما سیجیء عند الکلام علی «الباء» فی حروف الجر ص 455. وانظر ص 135 وهامشها ، ثم رقم 3 من هامش ص 491 للأهمیة.

وفی مثل : «بحسبک الأدب». «الباء» : حرف جرّ زائد ، «حسب» مجرورة بها ، فی محل رفع ؛ لأنها تصلح مبتدأ ؛ إذ الأصل : حسبک الأدب ... وهکذا.

فحرف الجر الأصلی والزائد یشترکان فی أمر واحد ، هو : أن کلا منهما لا بد أن یجر الاسم بعده. ویختلفان فی ثلاثة أمور :

فی أن الحرف الأصلی لا بد أن یأتی بمعنی فرعیّ جدید لم یکن فی الجملة قبل مجیئه. أما الحرف الزائد فلا یأتی بمعنی جدید. وإنما یؤکد ویقوی المعنی العامّ الذی تتضمنه الجملة کلها من قبل مجیئه.

والحرف الأصلی مع مجروره لا بد أن یتعلقا (1) بعامل محتاج إلیهما فی تکملة معناه ، أما الحرف الزائد ومجروره فلا یتعلقان. والحرف الأصلی یجر الاسم بعده لفظا دون أن یکون لهذا الاسم محل آخر من الإعراب (2). وتوابعه مجرورة اللفظ مثله ، ولا محل لها. أما الزائد فلا بد أن یجر الاسم لفظا ، وأن یکون له مع ذلک محل من الإعراب. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فیه أمران ؛ إما الجر مراعاة للفظ المتبوع ، وإما حرکة أخری یراعی فیها محل المتبوع لا لفظه ؛ ففی مثل : کفی بالله القادر شهیدا. یصح فی کلمة : «القادر» الجر تبعا للفظ «الله» المجرور لفظا ، ویجوز الرفع تبعا لمحله باعتباره فاعلا. ومثل هذا یجری فی سائر التوابع.

وأشهر حروف الجر الزائدة هو الأربعة السالفة (من - الباء - اللام - الکاف ...) وسیأتی معنی کل وعمله فی المکان الخاص بذلک (3).

* * *

القسم الثالث : حرف الجر الشبیه بالزائد ، وهو الذی یجر الاسم بعده لفظا فقط ، ویکون له مع ذلک محل من الإعراب (4) - فهو کالزائد فی هذا - ویفید الجملة معنی جدیدا مستقلا ، لا معنی فرعیّا مکملا لمعنی موجود ، ولهذا لا یصح

ص: 419


1- إلا الحرف : «علی» الذی للإضراب - (انظر ص 391).
2- أی : أنه لیس له إعراب محلی.
3- ص 422 وما بعدها.
4- سبقت الإشارة فی ص 330 و 417 إلی أن الأفضل إهمال الرأی الذی یدخل : «خلا وعدا وحاشا» فی حروف الجر الشبیهة بالزائدة ، لما فیه من تضییق وتعقید لا داعی لهما. فاعتبارها حروف جر أصلیة أیسر وأوضح.

حذفه ؛ إذ لو حذفناه لفقدت الجملة المعنی الجدید المستقل الذی جلبه معه. لکنه لا یحتاج - مع مجروره - لشیء یتعلق به ، لأنّ هذا الحرف الشبیه بالزائد لا یستخدم وسیلة للربط بین عامل عاجز ناقص المعنی ، واسم آخر یتمم معناه. ومن أمثلته : ربّ - لعلّ (وکذا «لو لا» ، عند فریق من النحاة). نحو : ربّ غریب شهم کان أنفع من قریب - رب صدیق أمین کان أوفی من شقیق. فقد جر الحرف : ربّ ، الاسم بعده فی اللفظ. وأفاد الجملة معنی جدیدا مستقلا هو : التقلیل. ولم یکن هذا المعنی موجودا. (وسیجیء تفصیل الکلام علی هذا الحرف من ناحیة معناه وعمله وکل ما یتصل به فی موضعه الخاص) (1).

طریقة إعراب الاسم المجرور بحرف الجر الشبیه بالزائد

حرف الجر الشبیه بالزائد یجر الاسم بعده لفظا فقط ، ویکون لهذا الاسم محل من الإعراب ؛ فهو فی هذا شبیه بالحرف الزائد - کما أسلفنا - ففی المثالین السابقین ؛ تعرب «ربّ» حرف جر شبیه بالزائد. وکلمة : «غریب» أو : «صدیق» - مجرورة بها فی محل رفع ، لأنها مبتدأ. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز الجرّ مراعاة للفظ المتبوع. وجاز ضبطه بحرکة تناسب محله. ففی المثالین السابقین نقول : رب غریب شهم کان أنفع من قریب - ربّ صدیق مهذب کان أوفی من شقیق ؛ بجر کلمتی : «شهم» و «مهذب» مراعاة للفظ المنعوت ، أو رفعهما مراعاة لمحله.

مما سبق نعلم أن الشبیه بالزائد یشبه الأصلی فی أمرین ؛ هما : جر الاسم بعده ، وإفادة الجملة معنی جدیدا مستقلّا لم یجئ لیتمم معنی عامله. ویخالفه فی أمرین ؛ هما : عدم تعلقه هو ومجروره بعامل ، وأن لمجروره محلا من الإعراب فوق إعرابه اللفظی بالجر.

وأن الشبیه بالزائد یشارک الزائد فی أمور ثلاثة : هی : جر الاسم لفظا ، واستحقاق هذا الاسم للإعراب المحلیّ فوق إعرابه اللفظی بالجر ، وعدم حاجة الجار مع مجروره إلی متعلّق.

ص: 420


1- انظر الکلام علی : «رب» ص 482 وما بعدها. وفی ص 484 رأی آخر یجعل الحرف «رب» من حروف الجر التی تتعلق بعامل.

ویخالفه فی أمر واحد ؛ هو : إتیانه بمعنی جدید مستقل - کما أسلفنا - أما الزائد فلا جدید معه وإنما یستخدم لتأکید معنی الجملة کلها.

وتتلخص أوجه المشابهة والمخالفة بین الأنواع الثلاثة فیما یأتی :

نوع الحرف

الأحکام الخاصة بکل نوع

حرف الجر الأصلی ، وشبهه

یأتی بمعین جدید یکمل معنی عامله

یجر الاسم بعده لفظا فقط.

لا یکون للمجرور محل إعرابی آخر

یحتاج مع مجروره لمتعلق

حرف الجر الزائد زیادة (1)

محضة

لا یأتی بمعنی جدید -

یجر الاسم بعده لفظا.

یکون للمجرور محل إعرابی آخر مع ذلک الجر

لا یحتاج مع مجروره لمتعلق.

حرف الجر الشبیه بالزائد

یأتی بمعنی جدید مستقل

یجر الاسم بعده لفظا.

یکون للمجرور محل إعرابیّ آخر مع ذلک.

لا یحتاج مع مجروره لمتعلق

ص: 421


1- أما الذی زیادته غیر محضة فإیضاحه فی رقم 1 من هامش ص 405 ، وکذلک فی رقم 6 من هامش 449 حیث الکلام علی «لام الجر» الزائدة للتوکید ، أی للتقویة.

المسألة 90 : معانی حروف الجر...

اشارة

د - معانی (1) حروف الجر ، ووجوه استعمالها

المشهور من حروف الجر - عشرون ، سردنا ألفاظها (2) ، وأنواعها الثلاثة ونشیر إلی أمرین :

أولهما : أن کل حرف من هذه العشرین ، قد یتعدد معناه ، وقد یشارکه غیره فی بعض هذه المعانی ، أی : أن المعنی الواحد قد یؤدیه حرفان أو أکثر. وللمتکلم أن یختار من الحروف المشترکة فی تأدیة المعنی الواحد أو غیر المشترکة ، ما یشاء مما یناسب السیاق. غیر أن الحروف المشترکة فی تأدیة المعنی الواحد قد تتفاوت فی هذه المهمة ، فبعضها أقوی علی إظهاره من غیرها ، لکثرة استعمالها فیه ، ، وشهرتها به. وهذه الکثرة والشهرة ، تختلف باختلاف العصور والطبقات ومن ثمّ کان من المستحسن - بلاغة - اختیار الحرف الأوضح والأشهر وقت الکلام ، دون الحرف الغریب ، أو غیر المألوف ، برغم صحة استعمال الاثنین استعمالا قیاسیّا.

ثانیهما : أن بعض حروف الجر یکثر استعماله فی الجر حتی یکاد یقتصر علیه ؛ مثل : من ، إلی ، عن ، ربّ ... وبعضا آخر یقل استعماله فیه ، وهذا ستة أحرف ؛ خلا - عدا - حاشا - کی - لعلّ - متی.

غیر أن الذی یکثر استعماله فی الجر والذی لا یکثر - سیان ، من ناحیة أن استخدامهما فی الموطن المناسب للمعنی قیاسیّ ، لا یمنع منه مانع ؛ حتی القلة المشار إلیها ؛ فإنها لیست من النوع الذی یمنع القیاس والمحاکاة ، إذ هی قلة نسبیة لا ذاتیة (3) (أی : أنها تعتبر قلیلة إذا قیست بالنوع الآخر الکثیر ،

ص: 422


1- سبقت إشارة إلی معنی الحرف ، فی رقم 2 و 3 من هامش ص 405.
2- فی ص 401 م 89.
3- انظر الأشمونی ج 3 أول باب الإضافة عند بیت ابن مالک : «وربما أکسب ثان أولا ...» وقد أشرنا إلی هذا المعنی فی مواضع مختلفة من أجزاء الکتاب ، (ومنها رقم 2 من هامش ص 290 ، ومنها مع الإیضاح ج 3 رقم 1 من هامش ص 57 م 93 ورقم 1 من هامش ص 69 م 94).

ولیست قلیلة فی ذاتها ، بل کثیرة بغیر تلک الموازنة).

فأما الثلاثة الأولی من القسم القلیل القیاسی فقد سبق إیفاؤها حقها من الإبانة والتفصیل فی باب الاستثناء (1).

وأما «کی» فحرف جر أصلیّ للتعلیل لا یجر إلا أحد ثلاثة أشیاء :

الأول : «ما» الاستفهامیة التی یسأل بها عن سبب الشیء وعلته ؛ کأن یقول شخص : قد لازمت البیت أسبوعا. فیسأله آخر : کیمه (2)؟ بمعنی : لمه؟ أی : لماذا؟. ومثل : أقصد الریف کل أسبوع ؛ فیقال : کیمه؟ أی : لمه؟. و «کی» هذه تسمی : «کی التعلیلیة» ، لأنها تدخل علی استفهام یسأل به عن العلة والسبب - کما سبق - فهی بمنزلة اللام الجارة التی تسمی : «لام التعلیل» فی معناها وعملها.

الثانی : «ما» المصدریة مع صلتها (3) ؛ فتجر المصدر المنسبک منهما معا ؛ مثل : أحسن معاملة الناس کی ما تسلم من أذاهم ، أی : لسلامتک من أذاهم. وتسمی : «کی المصدریة» : لجرها المصدر المنسبک من الحرف المصدری مع صلته ؛ فهی مثل «لام التعلیل» معنی وعملا.

الثالث : «أن المصدریة» مع صلتها (4) ؛ فتجر المصدر المنسبک منهما معا ؛ والغالب فی هذه الصورة إضمار «أن» بعد «کی» ؛ مثل : أحسن السکوت کی تحسن الفهم ، والأصل : کی أن تحسن الفهم ، فالمصدر المنسبک من «أن» المضمرة وصلتها فی محل جر بالحرف : «کی» (5) ، وهی أیضا مثل «لام التعلیل» ، معنی وعملا. أی : أنها فی المواضع الثلاثة السابقة تؤدی معنی

ص: 423


1- ص 378 م 83 وأن الأفضل اعتبارها حروف جر أصلیة ، لا شبیهة بالزائدة (کما أشرنا قریبا فی رقم 2 من هامش ص 419).
2- أصلی الکلام : کیما؟ أی : لما؟ .. ومن المعروف أن «ما» الاستفهامیة إذا جرّت تحذف ألفها ویحل محل الألف «هاء السکت» الساکنة ، بشرط أن تکون هذه الزیادة فی حالة الوقف علی «ما» دون حالة اتصالها بما بعدها من الکلام.
3- سبق تفصیل الکلام علی «ما» المصدریة بنوعیها ، ومعناها ، وطریقة استعمالها ، وصوغ المصدر منها ، وکذا أن ، فی ج 1 باب الموصول ص 269 م 27.
4- سبق تفصیل الکلام علی «ما» المصدریة بنوعیها ، ومعناها ، وطریقة استعمالها ، وصوغ المصدر منها ، وکذا أن ، فی ج 1 باب الموصول ص 269 م 27.
5- هناک مذهب ؛ یجعل «کی» هی الناصبة المصدریة ، وقبلها لام التعلیل مقدرة فی هذا المثال وغیره مما لا یظهر فیه «أن» الناصبة ، (کما سیجیء فی رقم 1 من هامش الصفحة التالیة) ولا مانع من الأخذ به. وهو ملخص لما فی ج 4 باب إعراب الفعل : (قسم النواصب).

واحدا وعملا واحدا (1) ...

ومما تقدم نعلم أن : «کی» الجارّة لا تجر اسما معربا ، ولا اسما صریحا.

وأما لعل (2). فحرف جر شبیه بالزائد ، ومعناه الکثیر هو : الترجی والتوقع ؛ (3) نحو : لعل الغائب قادم غدا ، فکلمة : «لعل» حرف جر شبیه بالزائد «الغائب» مجرور بها لفظا فی محل رفع مبتدأ ، «قادم» خبره. غدا ظرف زمان منصوب علی الظرفیة.

وأما «متی» فحرف جرّ أصلی (4) ومعناه : الابتداء - غالبا - نحو : قرأت الکتاب متی الصفحة الأولی حتی نهایة العشرین. أی : من ابتداء الصفحة الأولی ...

إلی هنا انتهی الکلام علی الحروف التی تستعمل قلیلا فی الجر ، مع قیاس استعمالها.

ص: 424


1- یکثر فی الأسالیب الفصیحة القیاسیة إما وقوع لام الجر قبل : «کی» مباشرة ؛ مثل : تنقلت فی البلاد ؛ لکی أستفید خبرة. وإما وقوع «أن» المصدریة بعدها ، دون أن تسبقها لام الجر ، مثل : أتجنب السهر الطویل ؛ کی أن أحتفظ بقوتی ونشاطی ، وإما أن تقع قبلها لام الجر وبعدها «أن» المصدریة (وهذه الصورة قلیلة بالنسبة للسابقتین) مثل : أواظب علی نوع من الریاضة البدنیة ؛ لکی أن أفید جسمی. فإن وجدت «لام» الجر وحدها قبل : «کی» وجب اعتبار «کی» حرفا مصدریا ناصبا بنفسه ؛ فیکون مثل «أن» المصدریة ؛ معنی وعملا ؛ لأن حرف الجر لا یدخل - فی الغالب - علی مثله إلا لتوکید لفظی. وإن وقعت بعدها : «أن» المصدریة ولم تسبقها «لام» الجر وجب اعتبارها حرف جر ک «لام» التعلیل معنی وعملا - لأن الحرف المصدری - لا یدخل علی نظیره إلا لتوکید لفظی - فی الغالب - وإن توسطت بینهما - وهذا قلیل قیاسی کما سبق - فالأحسن اعتبارها جارة للمصدر المنسبک بعدها مع تأکیدها للام الجر قبلها. ویجوز أن تکون مصدریة مؤکدة «بأن» بعدها ، والمصدر المنسبک مجرور باللام التی قبلها. فإن لم توجد «لام» الجر قبلها ، ولا «أن» بعدها جاز اعتبارها مصدریة بتقدیر «اللام» قبلها ، أو حرف جر بتقدیر : «أن» بعدها. - راجع أحکامها فی ج 4 باب النواصب -.
2- تکثر فیها لغات أربع : إثبات اللام الأولی مفتوحة ، مع تشدید الثانیة مفتوحة أو مکسورة ، وحذف الأولی مع تشدید الثانیة مفتوحة أو مکسورة ؛ فهذه اللغات الأربع هی التی تستعمل بکثرة فی الجر دون غیرها من باقی اللهجات. واستعمالها حرف جر مقصور علی قلیل من العرب. وهو - مع جوازه وقیاسیته - غیر خفیف علی الأسماع ، ولا سائغ الیوم ، لغرابته.
3- سبق (فی الجزء الأول ، باب : «إن») أن الترجی أو التوقع ، هو : انتظار حصول شیء مرغوب فیه ، میسور التحقیق ، ولا یکون إلا فی الأمر الممکن. «ولعل» قد تکون أحیانا للتعلیل ، أو : الظن ...
4- یستعمله قلیل من العرب دون کثرتهم. ومع جواز استعماله وقیاسیته لا ترتاح له الأذن الیوم ، لغرابته -

وننتقل إلی الکلام علی الحروف الکثیرة الاستعمال فیه فنوضح المعانی القیاسیة لکل واحد ، وما قد یتصل بعمله.

ویلاحظ ما سبق (1) ، وهو أن حرف الجر الأصلی حین یؤدی معنی فرعیّا من المعانی التی ستذکر لا بد أن یقوم فی الوقت نفسه بتعدیة عامله اللازم إلی مفعول به معنی (2) ...

من : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا ... ویتردد بین أحد عشر معنی:

1 - التبعیض ، أی : الدلالة علی البعضیة. وعلامتها : أن یکون ما قبلها - فی الغالب - جزءا من المجرور بها ، مع صحة حذفها ووضع کلمة : «بعض» مکانها ؛ نحو : خذ من الدراهم. وکقولهم : ادّخر من غناک لفقرک ، ومن قوّتک لضعفک ؛ فالمأخوذ بعض الدراهم ، والمدّخر بعض الغنی والقوة. ویصح وضع کلمة : «بعض» مکان کلمة : «من». ومثل هذا قول الشاعر :

وإنک ممن زیّن الله وجهه

ولیس لوجه زانه الله شائن

فالمخاطب جزء من الاسم المجرور بها ؛ وهو : «من» الموصولة التی بمعنی «الّذین» ، وقد یکون ذلک الجزء متأخرا عنها وعن الاسم المجرور بها ، فی اللفظ دون الرتبة ؛ کقولهم : «إنّ من آفة المنطق الکذب ، ومن لؤم الأخلاق الملق» فالکذب والملق متأخران فی الترتیب اللفظی وحده ، ولکنهما متقدمان فی درجتهما ؛ لأن کلا منهما هو : «اسم إنّ» ، والأصل فی «اسم إنّ» تقدمه فی الرتبة علی خبرها.

2 - بیان (3) الجنس ، وعلامتها : أن یصح الإخبار بما بعدها عما (4) قبلها ؛

ص: 425


1- فی ص 407.
2- انظر رقم 1 من هامش ص 438.
3- أی : بیان أن ما قبلها - فی الغالب - جنس عام یشمل ما بعدها. فما قبلها أکثر وأکبر ؛ کالمثال الأول الآتی ، وقد یکون العکس ، نحو : هذا السوار من ذهب ، وهذا الباب من خشب.
4- له علامة أخری : أن یصح حذف. «من» ووضع اسم موصول مکانها مع ضمیر یعود علی ما قبلها. هذا إن کان ما قبلها معرفة ، فإن کان نکرة فعلامتها أن یخلفها الضمیر وحده ؛ نحو : اساور من ذهب ، أی : هی ذهب.

کقولهم ؛ اجتنب المستهترین من الزملاء. فالزملاء فئة من جنس عام هو : المستهترون ؛ فهی نوع یدخل تحت جنس «المستهترین» الشامل للزملاء وغیر الزملاء. وکقولهم : تخیر الأصدقاء من الأوفیاء ... أی : الأصدقاء الذین هم جنس ینطبق علی فئة منهم لفظ : «الأوفیاء». وهذا الجنس عامّ ، یشمل بعمومه الأوفیاء وغیرهم. 3 - ابتداء الغایة (1) فی الأمکنة کثیرا ، وفی الأزمنة أحیانا - وهی فی الحالتین قیاسیّة - وهذا المعنی أکثر معانیها استعمالا ؛ فمثال الأولی قوله تعالی : (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ ...،) ونحو : جاءتنی رسالة من فلان. ومثال الثانیة قولهم : فلان میمون الطالع من یوم ولادته ، راجح العقل من أول نشأته ...

4 - التوکید ، (ولا تکون معه إلا زائدة) وزیادتها إما للنص علی عموم المعنی وشموله کلّ فرد من أفراد الجنس ، وإما لتأکید ذلک العموم والشمول إذا کانا مفهومین من الکلام قبل دخولها. فالأول مثل : ما غاب من رجل. وأصل الجملة : ما غاب رجل. وهی جملة قد یفهم منها أن نفی المعنی منصبّ علی رجل واحد دون ما زاد علیه. أی : أن رجلا واحدا لم یغب ، وأنّ من الجائز غیاب رجلین أو رجال.

والسبب فی اختلاف الفهم أن کلمة : «رجل» النکرة ، لیست من النکرات الملازمة للوقوع بعد النفی ، (وهی النکرات القاطعة فی الدلالة علی العموم والشمول بعد ذلک النفی ، ویتحتم أن ینصبّ النفی الذی قبلها علی کل فرد من أفراد مدلولها ؛ وأن یمتنع معه الخلاف فی الفهم ؛ مثل : کلمة : أحد ، ودیّار ، وعریب). وإنما کلمة «رجل» من النکرات التی قد تقع بعد النفی ، أو لا تقع وإذا وقعت بعده لم تفد العموم والشمول الإفادة القاطعة التی تشمل کل فرد - إلا بقرینة - وإنما تفیدهما مع احتمال خروج بعض الأفراد من دائرة المعنی المنفی کما أوضحنا. فإذا

ص: 426


1- معنی الغایة هنا - کما سیجیء فی رقم 2 من هامش ص 433 - : المسافة والمقدار. ولیس المراد معناها الحقیقی الذی هو آخر الشیء ؛ فالتسمیة هنا من تسمیة الکل باسم الجزء. ومعناها هنا قد یختلف شیئا عنه فی الظروف علی حسب ما هو مبین فی رقم 3 من هامش ص 272 م 79.

أردنا إزالة هذا الاحتمال ، وجعل المعنی نصّا فی العموم والشمول علی سبیل الیقین - أتینا بالحرف الزائد : «من» ووضعناه قبل هذه النکرة مباشرة ، وقلنا : ما غاب من رجل ؛ وعندئذ لا یختلف الفهم ، ولا یتنوع ؛ إذ یتعین أن یکون المراد النص علی عدم غیاب فرد وما زاد علیه من أفراد الرجال ، ومن ثمّ لا یصح أن یقال : ما غاب من رجل ، وإنما غاب رجلان أو أکثر ، منعا للتناقض والتخالف ، فی حین یصح هذا قبل مجیء «من» الزائدة ، لأن الأسلوب قبل مجیئها قد یحتمل أمرین ؛ نفی الواحد دون ما زاد علیه ؛ ونفیه مع ما زاد علیه معا - کما أسلفنا - وهذا معنی قولهم : («من الزائدة» تفید النص علی عموم الحکم وشموله کلّ فرد من أفراد الجنس إذا دخلت علی نکرة منفیة لا تقتضی وجود النفی الدائم الشامل قبلها اقتضاء محتوما). وعلی ضوء ما سبق تتبین فائدة «من» فی قول الشاعر :

ما من غریب وإن أبدی تجلّده

إلا تذکّر عند الغربة الوطنا

وأما الثانی وهو التأکید فمثل : ما غاب من دیّار ؛ من کل کلام مشتمل علی نکرة لا تستعمل - غالبا - إلا بعد النفی أو شبهه (مثل : أحد - عریب - دیّار ... و...) فإنها بعده تدل دلالة قاطعة علی العموم والشمول ، أی : أنّ کل نکرة من هذه النکرات ونظائرها لا یراد منها فرد واحد من أفراد الجنس ینتفی عنه المعنی ، وإنما یراد أن ینتفی المعنی عن الواحد وما زاد علیه. ففی المثال السابق قطع ویقین بأمر واحد ؛ هو : عدم غیاب فرد أو أکثر من أفراد الرجال ؛ فکل الأفراد حاضرون : ولا مجال لاحتمال معنی آخر ، فإذا أتینا بحرف الجر الزائد «من» وقلنا : ما غاب من دیّار - لم یفد الحرف الزائد معنی جدیدا ، ولم یحدث دلالة لم تکن قبل مجیئه ، وإنما أفاد تقویة المعنی القائم وتأکیده ، وهو النص علی شمول المعنی المنفی وتعمیمه ؛ بحیث ینطبق علی الأفراد کلها فردا فردا.

والفصیح الذی لا یحسن مخالفته عند استعمال «من» الزائدة أن یتحقق شرطان : وقوعها بعد نفی (1) وشبهه (وهو هنا :

ص: 427


1- فلا تزاد فی الإثبات إلا فی تمییز «کم» الخبریة إذا کان مفصولا منها بفعل متعد ؛ نحو قوله تعالی : (کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ.) وقد وردت زیادتها فی قول زهیر : ومهما تکن عند امرئ من خلیقة وإن خالها تخفی علی الناس - تعلم - - فقد أجاز النحاة أن تکون : «من» زائدة بعد : «مهما» - (وسیجیء هذا فی ج 4 ص 326 م 155 باب الجوازم وص 381 ل م 161 باب «أما»).

النهی (1) وبعض أدوات الاستفهام) وأن یکون الاسم المجرور بها نکرة. وهذا الاسم یکون مجرورا فی اللفظ لکنه مرفوع المحل - إما لأنه مبتدأ ، أو أصله مبتدأ ؛ فی مثل قولهم : هل للواشی من صدیق؟ وما من صاحب للنمام ، وإما لأنه فاعل ؛ فی مثل قولهم : ما سعی من أحد فی الشرّ إلا ارتد إلیه سعیه - وقد یکون مجرورا فی اللفظ منصوب المحل (إما لأنه مفعول به ، کقولهم : تأمل هذا الکون العجیب هل تری من نقص أو قصور؟ وهل تظن من أحد یقدر علی هذا الإبداع إلا الله؟ وإما لأنه مفعول مطلق ، نحو قوله تعالی : ([ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْءٍ] ،) أی : من تفریط).

ومن النادر الذی لا یقاس علیه ، زیادتها فی غیر هذه المواضع الأربعة التی یکون الاسم فیها مجرورا لفظا کما سبق ، لکنه فی محل رفع مبتدأ ، (الآن أو بحسب أصله) ، أو : فاعل ، أو فی محل نصب ؛ لأنه مفعول به ، أو مفعول مطلق ... و...

وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فی التابع أمران (2) ؛ الجر مراعاة للفظ المتبوع ، والرفع أو النصب مراعاة لمحله ؛ نحو : ما للواشی من صدیق مخلص ، بجر کلمة : «مخلص» ، أو برفعها ؛ باعتبارها نعتا لکلمة : «صدیق» ، وکذا بقیة التوابع ، وباقی الأمثلة المختلفة ، وأشباهها.

5 - أن تکون بمعنی کلمة : «بدل» بحیث یصح أن تحل هذه الکلمة محلها. کقوله تعالی : (أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ،) أی : بدل الآخرة.

6 - أن تکون دالة علی الظرفیة (3). (أی : علی أن شیئا یحویه آخر ، کما

ص: 428


1- مثال النهی : لا تظلم من أحد. ومثال الاستفهام (ولا یکون هنا إلا «بالهمزة» أو : هل») هل جاءک ... ، أو : أجاءک ، .. من بشیر؟
2- فی هذا الحکم تفصیل هام سبق بیانه فی رقم 1 من هامش ص 67. واستیفاء الحکم یقتضی الرجوع إلیه.
3- فتکون بمعنی : «فی» التی للظرفیة. ویدخل فی هذا النوع «من» الداخلة علی : «قبل وبعد ... والغالب فی الداخلة علی الظروف غیر المتصرفة أن تکون للسببیة ، أی : بمعنی : «فی» الدالة - - علی السببیة. أما مجیئها لابتداء الغایة فقلیل ؛ نحو : جئت من عندک - هب لی من لدنک ولیا - (راجع حاشیة الألوسی علی القطر ص 34) وقد شرحنا معنی الغایة فی رقم 272 وفی رقم 1 من هامش ص 426.

یحوی الإناء ما فی داخله ، أو : کما یحوی الظرف - وهو الغلاف - المظروف ، (وهو الشیء الذی یوضع فیه) ، نحو : ماذا أصلحت من حقلک ، وغرست من جوانبه؟ أی : فی حقلک ... فی جوانبه.

7 - إفادة التعلیل. فتدخل علی اسم یکون سببا وعلة فی إیجاد شیء آخر ، نحو : لا تقوی العین علی مواجهة قرص الشمس ، من شدة ضوئها ، ونحو : من کدّک ودأبک أدرکت غایتک. أی : بسبب شدة ضوئها ... وبسبب کدّک ...

8 - إفادة المجاوزة (1) ، فتدخل علی الاسم للدلالة علی البعد الحسی أو المعنوی بینه وبین ما قبله ... نحو قوله تعالی : (قَدْ کُنَّا فِی غَفْلَةٍ مِنْ هذا،) أی : عن هذا ، بمعنی بعیدین عنه ، وقوله تعالی : (فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللهِ ...) أی : عن ذکر الله.

ومثل : کلام الحمقی بمعزل من الصواب ، أی : عن الصواب ...

9 - إفادة الاستعانة (2) فتدخل علی الاسم للدلالة علی أنه الأداة التی استخدمت فی إنفاذ أمر من الأمور ؛ نحو : ینظر العدو إلی عدوه من عین ترمی بالشرر ، أی : بعین ...

ص: 429


1- المجاوزة - کما قالوا - ابتعاد شیء مذکور ، أو غیر مذکور ، عما بعد حرف الجر ؛ بسبب شیء قبله ؛ فالأول ، نحو : رمیت السهم عن القوس. أی : جاوز السهم القوس بسبب الرمی. والثانی نحو : رضی الله عنک : جاوزتک المؤاخذة ؛ بسبب الرضا. ثم المجاوزة قد تکون حقیقیة کهذین المثالین ، وقد تکون مجازیة ؛ نحو أخذت العلم عن العالم. کأنه - لما علمت ما یعلمه - قد جاوزه العلم بسبب الأخذ. (الصبان فی باب حروف الجر - عند الکلام علی الحرف : «عن» وهو الحرف الذی یکثر استعماله فی المجاوزة. وأما غیره فلا یبلغ درجته ؛ فکأنه شبیه به فی الأداء). وقد یراد بالمجاوزة الابتعاد عن الشیء بسبب العجز عن الوصول إلیه کقول أحد الشعراء : هدیتی تقصر عن همتی وهمتی تقصر عن حالی وخالص الود ومحض الثنا أحسن ما یهدیه أمثالی (راجع معجم الشعراء ، للمرزبانی - حرف المیم - ص 372).
2- فتشبه «الباء» فی هذا.

10 - إفادة الاستعلاء. فتدخل علی الاسم للدلالة علی أن شیئا حسیّا أو أو معنویّا وقع فوقه ؛ نحو قوله تعالی : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا.) أی : علی القوم(1) ...

11 - إفادة معنی القسم. ذلک أن بعض العرب یستعملها (مضمومة المیم أو مکسورتها) حرف قسم ، ولا یکاد یجرّ إلا کلمة : «الله» ؛ نحو ؛ من الله لأقاومنّ الباطل (2) ، ویجب معه حذف الجملة القسمیة ، (فعلها وفاعلها).

(وسیجیء (3) الکلام علی بقیة أدوات القسم بنوعیه وأحکامه).

هذا ، وقد تتصل «ما» الزائدة بالحرف : «من» فلا تخرجه عن معناه ولا عن عمله ، بل یبقی له کل اختصاصه کما کان قبل مجیء الحرف الزائد (4) ؛ نحو : مما أعمال المسیء یلاقی جزاءه. أی : من أعمال المسیء ؛ وبسببها (5) ...

ص: 430


1- وقد اقتصر ابن مالک علی خمسة من المعانی السابقة : حیث یقول : بعض ، وبیّن ، وابتدئ فی الأمکنه بمن ، وقد تأتی لبدء الأزمنه ... وزید فی نفی وشبهه ؛ فجر نکرة کما لباغ من مفر فقد ضمن البیتین : البعضیة ، وبیان الجنس ، وابتداء الغایة الزمانیة أو المکانیة ، والزیادة بعد نفی أو شبهه مع جر النکرة. وهذه المعانی أربعة. أما الخامس - وهو البدلیة - فإنه سیذکره (فی ص 450) بقوله : «ومن» و «باء» یفهمان بدلا.
2- ویجوز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها علی حاله من الجر ، کالشأن فی جمیع حروف القسم حین تجر لفظ الجلالة - انظر رقم 3 من ص 491 -.
3- فی رقم 1 من هامش ص 441 و 459 وما بعدها :
4- انظر «ا» من الزیادة الآتیة وقواعد رسم الحروف تقتضی وصلهما کتابة.
5- وسیشیر ابن مالک إلی زیادة «ما» بعد «من» و «عن» و «الباء» ببیت سیجیء آخر الباب نصه : فی هامش ص 456 و 476 و 488. وبعد «من» ، و «عن» و «باء» زید «ما» فلم یعق عن عمل قد علما أی : لم یمنع.

زیادة وتفصیل

(ا) من الأسالیب الواردة المأثورة : «ممّا» کالتی فی حدیث لابن عباس نصه :

«کان رسول الله یعالج من التنزیل شدة إذا نزل علیه الوحی ، وکان مما یحرّک لسانه وشفتیه».

وکقول الشاعر :

وإنا لمما یضرب الکبش ضربة

علی رأسه تلقی اللسان من الفم

و... و...

وقد قیل إن معنی «مما» هنا : «ربما» ، طبقا لما بینه سیبویه فی کتابه (ج 1 ص 76) وملخصه : أن «من» الجارّة المکفوفة بالحرف «ما» - قد تکون بمعنی «ربما» ، واستشهد بالبیت السالف.

وقال ابن هشام فی «المغنی» عند الکلام علی : «من» وعلی معناها العاشر : إنها تکون بمعنی «ربما» وذلک إذا اتصلت بما ؛ کالبیت السالف. ثم أردف هذا بقوله : والظاهر : أن «من» فی البیت ابتدائیة و «ما» مصدریة ، وأنهم جعلوا کأنهم خلقوا من الضرب (1) ...

(ب) إذا کان الاسم المجرور بالحرف : «من» مبدوءا بالأداة : «أل» التی لیست معدودة فی حروفه الأصلیة ، فالأشهر فتح النون ؛ مثل : قد نعرف من الإذاعة ما لا نعرفه من الصحف ، وغیرها (2). والأحسن ألا تحذف النون إن

ص: 431


1- تفصیل هذا البحث مدون فی المجلد التاسع من مجلة المجمع اللغوی القاهری ص 116 وهو بحث مفید. وقد اکتفینا بتقدیم ملخص مهم له فی الجزء الأول م 42 ص 501 ومن تمام الاستفادة الرجوع إلی ذلک البحث أو إلی ملخصه ، وما فیهما من أمثلة وأسالیب تتصل بما نحن فیه.
2- بعض القبائل یحذف النون فی هذه الصورة ، وبها جاء قول النابغة الجعدی : - - ولقد شهدت عکاظ قبل محلّها فیها وکنت أعدّ ملفتیان أی : من الفتیان وقول عبد الرحمن بن حسان فی مدح آل سعید بن العاص : أعفّاء تحسبهم ملحیا مرضی تطاول أسقامها أی : من الحیاء. وکذلک المتنبی حیث یقول : نحن رکب ملجنّ فی زیّ ناس فوق طیر لها شخوص الجمال أی : من الجن ، ولیس من المستحسن الیوم - وإن کان لیس بممنوع قیاسا - محاکاة هذه اللهجات القلیلة فی رفیع الکلام.

وقع حرف مشدد بعد «أل» السالفة ؛ نحو : لا تعجب من الشعوب إذا انتقمت من الظالم.

وإن وقع بعد : «من» حرف ساکن آخر تحرکت النون بالکسر - غالبا - نحو : عجبت من استهانة الإنسان بحقوق أخیه ومن استبداده به.

* * *

ص: 432

إلی : حرف جرّ أصلیّ (1) یجر الظاهر والمضمر ، ویتنقل بین معان أشهرها ستة :

1 - انتهاء الغایة (2) مطلقا ؛ (أی : سواء أکانت نهایة الغایة فی زمان أم مکان ؛ وسواء أکانت» هی الآخر الحقیقیّ لما قبل «إلی» أم لیست الآخر الحقیقی ، ولکنها متصلة به اتصالا قریبا أو بعیدا). وهذا المعنی أکثر استعمالات الحرف إلی ؛ فمثال انتهاء الغایة الحقیقیة الزمانیة : نمت اللیلة إلی طلوع النهار. ومثال انتهاء الغایة الزمانیة المتصلة بالآخر اتصالا قریبا : نمت اللیلة إلی سحرها (3) ومثال انتهاء الغایة الزمانیة البعیدة من الآخر نمت اللیلة إلی نصفها أو ثلثها و... و...

ومثال انتهاء الغایة المکانیة الحقیقیة : عبرت الطریق إلی الجانب الآخر محترسا. ومثال انتهاء الغایة المکانیة المتصلة بالآخر : قرأت الکتاب إلی خاتمته. ومثال انتهاء الغایة المکانیة البعیدة من الآخر : قرأت الکتاب إلی ثلثه.

والغالب أن نهایة الغایة نفسها لا تدخل فی الحکم الذی قبل «إلی» ما لم توجد قرینة تدل علی دخوله. فإذا قلت : قرأت الکتاب إلی الصفحة العاشرة ، فالمقصود - غالبا - فی مثل هذا الاستعمال أن الصفحة العاشرة لم تقرأ ، فهی خارجة من الحکم الذی ثبت لما قبل «إلی». وکذلک لو قلت : صمت الأسبوع الماضی إلی یوم الخمیس ؛ فإن یوم الخمیس لا یدخل فی أیام الصیام. فإذا وجدت قرینة تدل علی دخولها کانت داخلة ؛ مثل : صمت الشهر المفروض من أوله إلی الیوم الأخیر ، ومثل : أکملت قراءة الکتاب کله من أوله إلی الصفحة الأخیرة ... لأن صیام الشهر المفروض یقتضی صوم الیوم الأخیر منه ، وإکمال الکتاب کله یقتضی قراءة الصفحة الأخیرة منه ... (4)

ص: 433


1- سیجیء فی الزیادة - ص 463 - أن بعض النحاة یجیز زیادته ، وأن رأیه مردود.
2- سبق فی رقم 1 من هامش ص 357 - أن الغایة فی هذا الباب ، هی : المسافة والمقدار ، وأنها تختلف عن الغایة فی الظروف - وقد سبق بیانها فی رقم 3 من هامش ص 272. والمراد بانتهاء الغایة أن المعنی قبل : «إلی» ینقطع بوصوله إلی الاسم المجرور بعدها ، واتصاله به. وبین حروف الجر ثلاثة تشترک فی انتهاء الغایة ؛ (هی : إلی - اللام فی ص 437 - حتی فی ص 446) وسیجیء البیان الخاص بکل حرف.
3- السحر : الثلث الأخیر من اللیل.
4- انظر الفرق بین «إلی» و «حتی» فی هذا وفی غیره (رقم 5 من هامش ص 445).

2 - المصاحبة (1) ، کقولهم : من قعد عن طلب الرزق أساء أهله إلی نفسه ، وعذّبهم إلی عذابه ، أی : مع نفسه ... ومع عذابه ...

3 - التبیین ، (فتبین أن الاسم المجرور بها فاعل فی المعنی لا فی الصناعة النحویة ، وما قبلها مفعول به فی المعنی لا فی الصناعة کذلک. وذلک بشرط أن تقع بعد اسم التفضیل ، أو : فعل التعجب ، المشتقین من لفظ یدل علی الحب أو : البغض وما بمعناهما ، کالود والکره ...) ، کقولهم : «احتمال المشقة أحبّ إلی النفس الکریمة من الاستعانة بلئیم الطبع. فما أبغض الاستعانة به إلی نفوس الأحرار!!» فکلمة : «نفس» ، هی الفاعل المعنوی - لا النحویّ - لاسم التفضیل (أحب) لأنها - فی الواقع - هی فاعلة الحب ، أو : هی التی قام بها الحب. وکذلک کلمة «نفوس». فإنها الفاعل المعنوی (لا النحوی) لفعل التعجب : (أبغض) ؛ إذ هی فاعلة البغض حقیقة ، أو : هی التی قام بها البغض ، والذی قطع فی الحکم بفاعلیتهما المعنویة ومنع کل احتمال آخر هو وقوعهما بعد حرف الجر : «إلی» الذی من وظیفته القطع فی مثل هذا الأسلوب الذی یحتاج إلی تیقظ ، لدقته (2) ، ولأنه قد یلتبس بما یقع فیه حرف «اللام» مکان «إلی» ، (وسیأتی الکلام علیه فی اللام) (3).

4 - الاختصاص (أی : قصر شیء علی آخر ، وتخصیصه به) کقولهم :

ص: 434


1- انضمام شیء لآخر انضماما یقتضی تلازمهما فی أمر یقع علیهما معا ، أو یقع منهما معا علی غیرهما ، أو یتصل بهما بنوع من أنواع الاتصال. وعلامة المصاحبة : أن یصح حذف حرف الجر ووضع کلمة : «مع» مکانه ؛ فلا یتغیر المعنی.
2- ضابط ذلک : أن نجعل مکان اسم التفضیل أو فعل التعجب فعلا من مادتهما ومعناهما ، یکون فاعله النحوی هو الاسم المجرور بالحرف «إلی» ، ومفعوله هو الکلام السابق علی التفضیل أو اللاحق لفعل التعجب. فإن صح المعنی واستقام کان مجیء «إلی» ملائما ، وإلا وجب العدول عنها. ففی المثال المذکور نقول : تحب النفس الکریمة احتمال المشقة ... تبغض نفوس الأحرار الاستعانة ... وما سبق من معنی «التبیین» فی «إلی» یختلف عن معناه فی «اللام» الجارة» وسیجیء فی ص 442 وکلاهما یوضح المراد من الآخر.
3- ص 442.

الأب راعی الأسرة ؛ وأمرها إلیه ، والحاکم راعی المحکومین ، وأمرهم إلیه ... فلیتق الله کلّ راع فی رعیته.

5 - الظرفیة (1) : کقولهم : سیجمع الله الولاة إلی یوم تشیب من هوله الولدان ...

أی : فی یوم.

6 - البعضیة ، (وهذا قلیل فی المسموع) (2) ، نحو : شرب العاطش فلم یرتو إلی الماء ، أی : من الماء.

ص: 435


1- سبق شرحها فی رقم 6 من ص 428.
2- فلا یحسن القیاس علیه.

زیادة وتفصیل

(ا) جعل بعض النحاة من معانی : «إلی» أن تکون بمعنی : «عند» (1) مستدلا بمثل قول القائل :

أم لا سبیل إلی الشباب ، وذکره

أشهی إلی من الرحیق السلسل

وأن تکون زائدة ؛ مستدلا بقراءة من قرأ قوله تعالی : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ،) - بفتح الواو - ، أی : تهواهم ... وقد دفع ذلک الرأی بأن الشاهد الأول وقعت فیه «إلی» للتبیین ؛ لأن ما بعدها - وهو یاء المتکلم - فاعل معنوی علی الوجه المشروح فی الحالة الثالثة السالفة ، وأن الشاهد الثانی : (الآیة) وقع فیه الفعل ، «تهوی» مضمّنا ، معنی : «تمیل» فلا تکون «إلی» زائدة. وهذا رأی حسن یقتضینا أن نأخذ به.

(ب) یجب قلب ألفها (2) یاء إذا کان المجرور بها ضمیرا. نحو : تقصد الوفود إلینا من بلاد بعیدة ، فنقدم إلیهم ضروب المجاملة الکریمة.

فإن کان الضمیر یاء المتکلم أدغمت الیاءان ؛ نحو : إلیّ یتجه الخائف.

* * *

ص: 436


1- سبق الکلام علی «عند» فی باب الظرف مع نظائرها من الظروف - ص 271 من هذا الجزء.
2- وهی المکتوبة یاء ؛ تبعا لقواعد رسم الحروف.

اللام : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا. ویؤدی عدة معان قد تجاوز العشرین.

1 - انتهاء الغایة (1) (أی : الدلالة علی أن المعنی قبل اللام ینتهی وینقطع بوصوله إلی الاسم المجرور بها). نحو : صمت شهر رمضان لآخره ، وقرأت الکتاب لخاتمته .. واستعمالها فی هذا المعنی قلیل بالنسبة لباقی معانیها ، ولکنه - مثل کل معانیها المختلفة - قیاسیّ (کما سبق).

2 - الملک ؛ وتقع بین ذاتین ، الثانیة منهما هی التی تملک حقیقة ، نحو : المنزل لمحمود ، وهذا المعنی أکثر استعمالاتها.

3 - شبه الملک ؛ وتقع إما بین ذاتین ، الثانیة منهما لا تملک ملکا حقیقیّا ؛ وإنما تختص بالأولی ، وتقتصر الأولی علیها ، دون تملّک حقیقی من إحداهما للأخری ؛ نحو : السرج للحصان - المفتاح للباب - الباب للبیت ، وإما قبلهما نحو : للصدیق ولد نبیه ، حیث تقدمت «اللام» علی الذاتین ... وإما بین معنی وذات ؛ نحو الحمد للأمهات ، والشکر للوالدین ... وتسمی هذه اللام بصورها الثلاثة : لام الاستحقاق ، أو : لام الاختصاص.

4 - الدلالة علی التملیک ؛ نحو : جعلت للمحتاج عطاء ثابتا. فالعطاء الذی یأخذه المحتاج یصیر ملکا له ، یتصرف فیه تصرف المالک الحر کما یشاء.

5 - الدلالة علی شبه التملیک ؛ نحو : جعلت لک أعوانا من أبنائک البررة ، فالأعوان هنا بمنزلة الشیء المملوک ، ولکنه لیس ملکا حقیقیّا تقع علیه التصرفات المختلفة ، وإنما یشبهه من بعض الوجوه دون بعض.

6 - الدلالة علی النسب ؛ نحو : لفلان أب یقول الحق ، ویفعل الخیر. أی : ینتسب فلان لأب (2) ...

ص: 437


1- فهذا الحرف مثل : «إلی» فی هذا المعنی الذی سبق إیضاحه فی رقم 1 من هامش 426 وفی رقم 2 من هامش ص 433 ، ومثل «حتی» فیه ، وسیجیء الکلام علیها. فی ص 445 والثلاثة مشترکة فی هذا المعنی دون بقیة حروف الجر ، - کما قلنا -.
2- الحق أن المعانی الثلاثة الأخیرة (التملیک - شبهه - النسب) متقاربة ، ویمکن الاستغناء عنها بعد إلحاقها بحروف أخری. ولکنها مع اللام أوضح ؛ فنسبت إلیها. ولقد قیل : إن کل معنی من المعانی الثلاثة یستفاد من الجملة کلها ، لا من اللام وحدها وهذا صحیح. وقد أجابوا بأن فهم هذا المعنی من الترکیب متوقف علی «اللام» فنسب إلیها.

7 - التعدیة (1) المجردة ؛ نحو : ما أحبّ العقلاء للصمت المحمود ، وما أبغضهم للثرثرة.

8 - التعلیل ؛ بأن یکون ما بعدها علة وسببا فیما قبلها. نحو : الاکتساب ضروری ، لدفع الفاقة وذل الحاجة (2).

9 - التوکید المحض ، وتکون فی هذه الحالة زائدة زیادة محضة لتأکید معنی الجملة کلها ، لا معنی العامل وحده - کما شرحنا (3) - ، ویجری علیها ما یجری علی حرف الجر الزائد (4). وأکثر ما تکون زیادتها بین الفعل ومفعوله ؛ نحو قول الشاعر :

وملکت ما بین العراق ویثرب (5)

ملکا أجار (6) لمسلم ومعاهد

أی : أجار مسلما ومعاهدا (7). وقول الشاعر فی الغزل :

أرید لأنسی ذکرها فکأنما

تمثل لی لیلی بکل سبیل

فالفعل : «أرید» متعد یحتاج للمفعول به ، ومفعوله الذی یکمل المعنی هو المصدر المؤول بعد «لام التعلیل» الجارة. والأصل : أرید أن أنسی. واللام زائدة

ص: 438


1- إذا کانت لمجرد التعدیة فما بعدها فی حکم المفعول به معنی ، وإن کان مجرورا - کما سبق فی أول هذا الباب ، ص 407 ، وفی باب : «التعدی واللزوم» ، ص 145 - وکونها هنا للتعدیة المجردة لا ینافی أنها فی بقیة مواضعها للتعدیة أیضا مع إفادتها شیئا آخر فی الوقت نفسه ، - کما جاء فی حاشیة الصبان -.
2- ما بعدها هو السبب هنا ؛ لأن السبب لا بد أن یظهر فی الوجود قبل المسبب. والرغبة فی دفع الفاقة سابقة علی وجود الاکتساب.
3- فی ص 417 ، ومنه یعلم : أن حرف الجر الزائد زیادة محضة لا یفید إلا توکید المعنی العام فی الجملة کلها ، وأنه لا یتعلق بعامل ، وأنه یمکن الاستغناء عنه ، دون أن یتأثر الکلام بحذفه. و... و...
4- فی ص 417 ، ومنه یعلم : أن حرف الجر الزائد زیادة محضة لا یفید إلا توکید المعنی العام فی الجملة کلها ، وأنه لا یتعلق بعامل ، وأنه یمکن الاستغناء عنه ، دون أن یتأثر الکلام بحذفه. و... و...
5- اسم للمدینة المنورة.
6- أجاره : نصره وحماه.
7- یستدل النحاة بالبیت السالف علی زیادة «اللام» - کما قلنا - لکن البیت للشاعر «ابن میّادة» من أبیات یمدح بها أمیر المدینة وبعده : مالیهما ودمیهما من بعد ما غشی الضعیف شعاع سیف المارد وهذا یجعل الحکم بزیادة اللام غیر مقطوع به ، إذ یصح أن یکون «المفعول به» هو «مالیهما» ... إلا إن أعربنا هذه الکلمة «بدلا» من «مسلم» ... فالاستشهاد بالبیت السالف استشهاد بما یقبل الاحتمال من غیر داع ، ولا یصلح للقطع.

بینهما. أو بین المتضایفین ؛ کقولهم : لا أبا لفلان ، علی الرأی الذی یعتبرها زائدة (1).

وقد أجازوا زیادتها (2) للضرورة الشعریة بین المنادی المضاف والمضاف إلیه ، کقول الشاعر (3) فی فتاة :

لو تموت لراعتنی ، وقلت ألا

یا بؤس للموت. لیت الموت أبقاها

وقول الآخر (4) :

یا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام ...

ومن المستحسن الیوم الاقتصار فی الزائدة علی المسموع ؛ مبالغة فی الاحتیاط 10 - التقویة. وهی التی تجیء لتقویة عامل ضعیف ؛ إما بسبب تأخره عن معموله. نحو قوله تعالی: (... إِنْ کُنْتُمْ لِلرُّءْیا تَعْبُرُونَ)(5) وقوله تعالی : (... لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ،) وإما بسبب أنه فرع مأخوذ من غیره. کالفروع المشتقة ؛ مثل قوله تعالی : (فَعَّالٌ لِما یُرِیدُ.) وقوله : (... مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) وقول علیّ رضی الله عنه : «لعن الله الآمرین بالمعروف التارکین له ، والناهین عن المنکر العاملین به» ، فأصل الکلام فی الآیتین الأولیین : إن کنتم تعبرون الرؤیا - یرهبون ربّهم ... فلما تقدم کل من المفعولین علی فعله ضعف الفعل بسبب تأخیره عن معموله (مفعوله) ؛ فجاءت اللام لتقویته (6). وأصل الکلام فی الآیتین الأخیرتین وفی کلام علیّ : فعّال

ص: 439


1- وهو أحد الأوجه التی أوضحناها ، وشرحنا معها الأسلوب ، والمراد منه ، فی ج 1 باب : «الأسماء الستة» م 8 ص 99.
2- کما سیجیء فی ج 3 باب : «الإضافة» وفی ج 4 باب : «النداء».
3- هو أبو جنادة العذری من الشعراء الذین أدرکوا الدولة الأمویة.
4- هو النابغة الذبیانی ، وصدر البیت : قالت بنو عامر خالوا بنی أسد ... إلخ : خالی فلان قبیلته : ترکها ، والمراد : اترکوا بنی أسد ...
5- الرؤیا هنا : الحلم المنامی. وتعبیره : تفسیره.
6- أشرنا باختصار فی رقم 1 من هامش ص 405 إلی أن اللام التی تفید التقویة زائدة زیادة غیر محضة ، (أی : أنها زائدة شبیهة بالأصلیة) لأنها تفید عاملها - لا الجملة - معنی جدیدا ؛ هو : «التقویة» ومن أجل هذا المعنی تتعلق بعاملها فأشبهت حرف الجر الأصلی فی جلب معنی جدید یکمل - - العامل ، وفی التعلق بهذا العامل. ولکنها من ناحیة أخری یمکن حذفها فلا یتأثر المعنی بحذفها. لکل ما سبق لم تکن زیادتها محضة (راجع الصبان والتصریح عند کلامهما علی «لام الجر» ثم «المغنی») ومما تجب ملاحظته أن لام التقویة لا تدخل علی مفعولی عامل ینصب مفعولین مذکورین بشرط أن یتقدما علیه معا ، أو یتأخرا عنه معا ، فمتی وجد المفعولان کذلک فلن یصح دخولها علیهما معا ، ولا علی أحدهما ، وإذا حذف أحدهما أو تقدم ، صح دخولها علی الذی لم یحذف ، وکذا علی المتقدم منهما ، کما فی الصبان ، ومقدمة «المغنی» التی جاء فیها علی لسان ابن هشام ما نصه : (وها أنا بائح بما أسررته ، مفید لما قررته وحررته) فقال العلامة الأمیر تعقیبا علیه ما نصه : (اللام فی قوله : «لما» مقویة ؛ إذ مادة الإفادة تتعدی بنفسها. لا یقال : إنها تتعدی لمفعولین ؛ تقول أفدت محتاجا مالا ؛ وما یتعدی لمفعولین لا یقوی باللام ... لأنا نقول محل ذلک إذا کان المفعولان مذکورین ، مقدمین ، أو مؤخرین عن العامل ، کما یفیده کلام ابن مالک فی تعلیل منع ذلک ؛ لأن اللام إما أن تزاد فیهما ؛ فیلزم تعدی عامل واحد بحرفی جر متحدین - وهذا ممنوع فی الأغلب - وإما أن یزاد فی أحدهما ؛ فیلزم الترجیح بلا مرجح. فإن کان أحدهما محذوفا کما هنا ... فإن «اللام» تدخل علی المذکور ، لأن المحذوف حینئذ قطع النظر عنه ، سواء نزلت العامل بالنظر للمحذوف منزلة اللازم أو لا. وکذلک إذا تقدم أحدهما دخلت علیه اللام ؛ لأن العامل عن المتقدم أضعف. أو ناب أحدهما عن الفاعل ، نحو : محمود مفاد مالا ، دخلت علی المنصوب. لأن طلبه المرفوع أقوی) اه. هذا ، ومما یصلح أن تکون اللام فیه للتقویة قولهم فی الدعاء : «سقیا للمحسن ، ورعیا له» ، ولهذا الأسلوب - وأمثاله ، تفصیلات معنویة ، وأحکام إعرابیة مختلفة ، أوضحناها کاملة فی ج 1 م 39 ص 468.

ما یرید - مصدقا ما معهم ، التارکینه ... فکلمة : «فعال» صیغة مبالغة متعدیة ، تعمل عمل فعلها ، ولکنها أضعف منه ، فجاءت اللام لتقویتها.

وکذلک کلمة : «مصدّقا» ، وکلمة «التارکین» وکلاهما اسم فاعل (1) ...

ص: 440


1- هذا کلام النحاة. ویزیدون أن حرف الجر أصلی هنا ؛ فهو مع مجروره متعلقان بالعامل الضعیف ... وکلامهم مردود بما سردناه فی 1 من هامش ص 173 «د» وبما نسرده هنا : فما معنی التقویة إذا کان من الممکن الصحیح حذف هذه اللام ، وتعدیة الفعل أو المشتق إلی المفعول به مباشرة من غیر حاجة إلیها ، ما دام العامل معدودا فی اللغة من العوامل المتعدیة بنفسها ؛ فنقول ؛ إن کنتم الرؤیا تعبرون - ربهم یرهبون - مصدقا ما معهم - فعال ما یرید ... فیصل بنفسه الفعل أو المشتق إلی المفعول به بغیر حاجة إلی هذه الواسطة ؛ سواء أکان هذا العامل متقدما أم متأخرا؟ وکیف تکون اللام للتقویة مع أن الاسم قبلها کان مفعولا به منصوبا. فلما جاءت جرته ؛ فصار مفعولا به فی المعنی دون اللفظ. ولا شک أن العامل الذی یؤثر فی مفعوله لفظا ومعنی أقوی من العامل الذی یؤثر فیه معنی فقط ... وکان الأولی بالنحاة أن یقولوا إن هذه اللام تزاد جوازا فی المفعول به إذا تقدم علی عامله الفعل ، کما تزاد فی المفعول به إذا کان عامله وصفا ینصب المفعول به متقدما أو متأخرا. وأن الجار والمجرور لا یتعلقان - لأن حرف الجر زائد وأن المجرور لفظا منصوب محلا.

11 - الدلالة علی القسم (1) والتعجب معا ، بشرط أن تکون جملة القسم محذوفة ، وأن یکون المقسم به هو لفظ الجلالة ؛ کقولهم : «لله!! لا ینجو من الزمان حذر». یقال هذا فی معرض الحدیث عن رجل حریص یتوقی أسباب الضرر جهد استطاعته ، ولکنه بالرغم من ذلک یصاب.

وقولهم : «لله!! انتصرت الفئة القلیلة المؤمنة بحقها علی الفئة الکبیرة المختلفة».

وهذا یقال فی معرض الکلام عن قلة متوحدة ، مؤتلفة ، لم یکن أحد ینتظر لها الفوز والغلبة ، علی کثرة تفوقها عدّة وعدیدا. فلا بد من قرینة تدل علی معنی القسم والتعجب المجتمعین فی «اللام». وبغیر القرینة لا یتضح هذا المدلول.

ومن الجائز أن تحذف هذه اللام ویبقی المقسم به علی حاله من الجر بشرط أن یکون لفظ الجلالة.

12 - الدلالة علی التعجب بغیر قسم ، بشرط القرینة أیضا ؛ ویکون بعد النداء کثیرا ؛ نحو : یا للأصیل (2) وما به من روعة - یا للکشف العلمی وما انتهی إلیه. ویکون بعد غیره ، نحو : لله درّ فلان شجاعا فی الحق - لله أنت معوانا فی الخیر (3) ...

ص: 441


1- حروف القسم المشهورة هی : (الباء - التاء - الواو - اللام). إلا ان اللام تنفرد بأنها تدل علی التعجب مع القسم. أما غیرها فمعناه مقصور علی القسم وحده. وسیأتی تفصیل الکلام علی کل واحد من الأربعة ، وأوجه الشبه والمخالفة بینه وبین إخوته. وهناک حرف خامس سبقت الإشارة إلیه فی ص 430 هو : «من» ، فقلیل من العرب یستخدم هذا الحرف (بکسر میمه أو ضمها) أداة قسم ، قد حذف فعل القسم وفاعله وجوبا ، فیقول : من الله لأناصرن النزیه. أی : والله. ولا یکاد یکون القسم معه بغیر الله. وأندر من هذا الحرف استعمال القدماء الحرف «ها» للقسم بعد «إی» التی بمعنی : «نعم» وبدونها .... جاء فی الأمالی (ج 1 ص 172) أن أعرابیا قال لآخر : أنشدنا - رحمک الله ، وتصدق علی هذا الغریب بأبیات ... فقال : إی : ها الله إذا ... (انظر البیان الخاص بها فی رقم 3 من هامش ص 468).
2- الوقت بعد العصر إلی المغرب. ویجوز فی اللام هنا الفتح أو الکسر إذا کان المنادی مقصودا به التعجب (انظر ج 4 ص 66 م 134).
3- ویصح أن یکون من هذا ما یرد فی بعض النصوص القدیمة ، من مثل قول الشاعر : لاه ابن عمک لا أفضلت فی حسب عنّی ، ولا أنت دیّانی فتخزونی والأصل : الله ابن عمک ، بحذف لام الجر قبل لفظ الجلالة.

13 - الدلالة علی العاقبة المنتظرة ، (أی : علی النتیجة المرتقبة أو : الصیرورة). نحو : سأتعلم للحیاة السعیدة ، وأتنقل فی جنبات المعمورة لتحصیل أنفع التجارب. ونحو : ربّیت النمر للهجوم علیّ. یقول هذا من صادف نمرا صغیرا فأشفق علیه وتعهده ، وخدع فیه ، ثم غدر به النمر ، فکأنه یقول ساخطا متألما متهکما : ربیته ، فکانت عاقبة التربیة ونتیجتها الهجوم علیّ. ونحو : أربی هذ الولد الضال لیسرقنی ، ویفر کأخیه. یقول هذا من یؤوی إلیه شریدا ، ویحسن إلیه ، وهو یتوقع أن یغافله ، ویسرقه ، ویهرب ، کما فعل أخوه من قبل. وتسمی اللام فی الأمثلة السابقة وأشباهها : لام «الصیرورة» ، أو : «العاقبة» لأنها تبین ما صار إلیه الأمر ، وتوضح عاقبته (1) ...

14 - الدلالة علی التبلیغ ؛ وهی الدالة علی إیصال المعنی إلی الاسم المجرور بها ؛ نحو : قابلت صدیقک ، ونقلت له ما ترید أن أقوله ... (وقد یسمیها لذلک بعض النحاة «لام التعدیة» یرید : إیصال المعنی وتبلیغه).

15 - الدلالة علی التبیین ؛ أی : إظهار أن الاسم المجرور هو فی حکم المفعول به معنی ، وما قبلها هو الفاعل فی المعنی کذلک ، بشرط أن تقع بعد اسم تفضیل أو فعل تعجب ، مشتقین من لفظ یدل علی الحب ، أو البغض ، وما بمعناهما ؛ کالودّ ، والکره ، ونظائرهما ... ، نحو : السکون فی المستشفی أحبّ للمرضی ، وإطالة زمن الزیارة أبغض لنفوسهم. فالمجرور باللام فی المثالین - وأشباههما - فی حکم المفعول به من جهة المعنی (لوقوع أثر الکلام السابق علیه) لا من جهة الإعراب. فکلمة «السکون» هی الفاعل المعنوی - لا النحوی - الذی أوجد الحب ، وکان سببا فیه. وکلمة : «المرضی» هی المفعول به المعنوی - لا النحوی - الذی وقع علیه الحب ، وانصبّ علیه أثره. ومثل هذا یقال فی کلمتی : «إطالة ، ونفوس» فالأولی هی الفاعل المعنوی - لا النحوی ، والأخری هی المفعول به المعنوی کذلک.

ومثل : البدوی الصمیم أحبّ للصحراء ، وأبغض للحضر ، وما أکرهه

ص: 442


1- ومنها قوله تعالی فی موسی : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ؛ لِیَکُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً.)

للاستقرار ، ودوام الإقامة فی مکان واحد (1).

ومن هنا یتبین الفرق الدقیق بین : «إلی» التی تفید التبیین ، و «اللام» التی تفیده أیضا (2). ویترکز فی أن ما بعد «إلی» التبیینیة «فاعل» فی المعنی لا فی اللفظ ؛ وما قبلها مفعول به فی المعنی کذلک. أما «اللام التبیینیة» فبعکسها ؛ فما بعدها مفعول به معنوی لا لفظی ؛ وما قبلها فاعل معنوی کذلک ، فإذا قلت : الوالد أحب إلی ابنه. کان الابن هو المحب ، والوالد هو المحبوب ، أی : أن الابن هو فاعل الحب معنی ، والوالد هو الذی وقع علیه المحب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنی. أما إذا قلت : الوالد أحب لابنه ، فإن المعنی ینعکس ؛ فیصیر الابن هو المحبوب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنی ، والأب هو المحبوب ، فهو بمنزلة الفاعل معنی. وقد سبق (3) القول بأن مثل هذا الأسلوب دقیق یتطلب یقظة فی استعماله وفهمه (4).

16 - أن تکون بمعنی : بعد (5) ، کقولهم : کان الخلیفة یقصد المسجد لأذان الفجر مباشرة ، ویصلی الصبح بالناس إماما ، ثم ینظر قضایاهم ، ولا یغادر المسجد إلا للعصر ، وقد فرغ من صلاته ، ونظر شئون رعیته. أی : بعد أذان الفجر مباشرة ، وبعد العصر. ومن هذا النوع ما کان یؤرخ به الأدباء رسائلهم ؛ فیقولون : کتبت هذه الرسالة لخمس خلون من «شوّال» یریدون : بعد خمس لیال مررن من شوال. ومثل قول الشاعر :

فلما تفرقنا کأنی ومالکا

لطول (6) اجتماع لم

نبت لیلة معا

ص: 443


1- فالمراد : یحب البدوی الصحراء ... - یبغض البدوی الحضر - یکره البدوی الاستقرار.
2- راجع ما سبق فی ص 434. حیث الإیضاح والضابط الذی یبین الفاعل والمفعول به المعنویین.
3- راجع ما سبق فی ص 434. حیث الإیضاح والضابط الذی یبین الفاعل والمفعول به المعنویین.
4- من أمثلة اللام التبیینیة : سقیا لک - رعیا لک - تبّا للخائن ... وفی هذه الأمثلة وأشباهها تفصیلات لغویة دقیقة ، لها آثار معنویة هامة تتصل باعتبارها جملة واحدة حینا ، وجملتین حینا آخر. وقد وفیناها حقها من الإبانة ، والإیضاح ، وعرض أقوم الطرائق لاستعمالها الصحیح - فی الجزء الأول ص 380 ، م 39 فی قسم الزیادة والتفصیل الخاص بمواضع حذف المبتدأ ، ولا مناص للباحث المستقصی من الرجوع إلیها.
5- بعد ، من الظروف التی سبق الکلام علیها فی باب الظروف بهذا الجزء ص 265.
6- جعلها بعضهم هنا بمعنی : مع - کما أشرنا فی ج 3 - باب الإضافة م 95 ص 109 - والأول أنسب.

17 - أن تکون بمعنی : «قبل» ، کقولهم فی التاریخ : کتبت رسالتی للیلة بقیت من رمضان. أی : قبل لیلة.

18 - أن تفید الظرفیة (1) نحو : قوله تعالی : (وَنَضَعُ الْمَوازِینَ الْقِسْطَ لِیَوْمِ الْقِیامَةِ.) وقوله تعالی فی أمر الساعة : (لا یُجَلِّیها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ.) وقولهم فی التاریخ : کتبت هذه الرسالة لغرة شهر رجب ، وقولهم : مضی فلان لسبیله (أی : فی یوم القیامة - فی وقتها - فی غرة شهر رجب - فی سبیله -)

19 - أن تکون بمعنی : «من البیانیة (2)» کقول الشاعر یخاطب عدوّه :

لنا الفضل فی الدنیا وأنفک راغم

ونحن لکم یوم القیامة أفضل

أی : نحن أفضل منکم یوم القیامة.

20 - أن تکون للمجاوزة (3). (مثل : عن) کقول الشاعر :

کضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغضا إنه لذمیم

أی : عن وجهها ... ویری بعض النحاة أنها هنا بمعنی الظرفیة (أی مثل : «فی». وأنها لا تکون بمعنی : «عن» ، ولا بمعنی : «علی» ، المفیدة للاستعلاء) (4). والرأی السدید أنها إن دلت فی السیاق علی المجاوزة ، أو : الاستعلاء دلالة واضحة کالتی فی الأمثلة الواردة - جاز أن تکون من حروفهما ، وإلا طلبنا لها معنی آخر یظهر فیه الوضوح والإبانة.

21 - أن تکون لتوکید النفی ، وهی الداخلة فی ظاهر الأمر - دون حقیقته - علی المضارع المسبوق بکون منفیّ ؛ وتسمی : «لام الجحود» (5) ؛ لسبقها بالنفی دائما. نحو : ما کان الحق لینهزم ، ولم یکن الباطل لینتصر.

22 - أن تکون بمعنی : «مع» کقوله تعالی فی الیتامی : (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : مع أموالکم.

ص: 444


1- فتکون بمعنی : «فی».
2- سبق الکلام علیها (فی ص 425).
3- سبق فی رقم 2 من هامش 429 تعریفها وبیان أقسامها.
4- جعلها بعضهم للاستعلاء الحسی فی مثل قوله تعالی : (وَیَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ...) وقول الشاعر : (فخر صریعا للیدین وللفم) ... وللاستعلاء المعنوی (وهو المجازی) فی مثل قوله تعالی : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِکُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أی : إن أسأتم فعلیها. والأمر متوقف علی موضوع معناها فی السیاق.
5- تفصیل الکلام علیها فی باب النواصب من الجزء الرابع.

حرکة لام الجر

تتحرک لام الجر بالکسرة إن دخلت علی اسم ظاهر غیر المستغاث (1) فی ، نحو : یا للقادر للضعیف ؛ وتتحرک بالفتحة إن دخلت علی ضمیر ، إلا علی یاء المتکلم ؛ فتکسر فی نحو : رب اغفر لی ...

* * *

حتی

(2) : حرف جرّ أصلی ، وهو نوعان :

(ا) نوع لا یجر إلا الاسم الظاهر الصریح (3) ، ومعنی : «حتی» فی هذا النوع الدلالة علی انتهاء الغایة (4) ولهذا تسمی فیه : «حتی الغائیة» نحو : تمتعت بأیام الراحة حتی آخرها. والأکثر أن یکون الوصول إلی نهایة الغایة تدرجا وتمهلا ، أی : دفعات لا دفعة واحدة. والغالب کذلک أن یجرّ الآخر ، أو ما یتصل بالآخر مما یکون قبله مباشرة. نحو : شربت الکوب کله حتی الصّبابة ، وأتممت الصفحة حتی السطر الأخیر. ونحو : سهرت اللیلة حتی السّحر ، وتنقلت فی الحدیقة حتی الباب الخارجیّ. والغالب أیضا أن تدخل نهایة الغایة فی الحکم (5) الذی قبل «حتی». إلّا إذا قامت قرینة علی عدم الدخول ؛ نحو : قرأت الکتاب کله

ص: 445


1- وغیر المنادی المقصود به التعجب ؛ کالذی سبق فی رقم 12 من ص 441 فإن اللام فیه صالحة للفتح والکسر.
2- سیجیء فی ج 4 م 149 ص 252 تلخیص مفید لجمیع أنواع «حتی» وتفصیل هام عن نوعها الجار.
3- المراد بالظاهر ما لیس ضمیرا ، وبالصریح ما لیس مصدرا مؤولا من «أن المصدریة» والجملة المضارعیة بعدها.
4- أی : علی أن المعنی قبله ینتهی وینقطع بوصوله إلی الاسم المجرور به - کما سبق - وعلامته. صحة وقوع : «إلی» الدالة علی انتهاء الغایة مکانه. «وحتی» أحد حروف ثلاثة تدل علی انتهاء الغایة - وقد سبق الحرفان الآخران : «إلی» فی ص 433 و «اللام» فی ص 437 - وإذا کانت «حتی» لانتهاء الغایة اقتضت أن ینقضی ما قبلها شیئا فشیئا ، لا دفعة واحدة ، ولا سریعا ؛ فلا بد فی انقضائه من التدرج والتمهل - کما سیجیء -.
5- وهذا أحد الأوجه التی تخالف فیها : «إلی». ومنها أیضا ؛ أنه یجوز أن نقول : کتبت إلی الأخ رسالة ، ولا یصح : کتبت حتی الأخ رسالة ، لأن «حتی» الغائیة تتطلب - کما سبق - أن ینقضی المعنی قبلها شیئا فشیئا ، وعلی عدة دفعات حتی یصل إلی نهایة الغایة ؛ بخلاف «إلی» والکنایة لا تحتاج إلی هذا ، فناسبها «إلی» - کما یجوز أن تقول : انتقلت من البادیة إلی الحاضرة ، ولا یحسن أن تقول : «حتی» الحاضرة ؛ لأن الأسالیب الصحیحة المأثورة التزمت - أو کادت - مجیء : «إلی» الدالة علی النهایة بعد : «من» الدالة علی البدایة. - - ومنها : أن «حتی» قد تجر المصدر المنسبک من : (أن المضمرة وجوبا ، والفعل المضارع وفاعله ،) نحو : أسرعت حتی أدرک القطار ، أی : أن أدرک ، ولا یصح أسرعت إلی أدرک القطار ؛ إذ لا تدخل «إلی» علی الفعل مطلقا إلا مع «أن» الظاهرة. فملخص الفروق خمسة : أن : «إلی» تجر الظاهر والمضمر ، أما : «حتی» فلا تجر إلا الظاهر فی أصح الآراء ، ویجب الاقتصار علیه. وأن : «نهایة الغایة» لا تدخل مع «إلی» إلا بقرینة ، والأمر بالعکس مع «حتی» فالغایة النهائیة معها داخلة ، ولا تخرج إلا بقرینة. وأن «إلی» تقتضی انقضاء ما قبلها - غالبا - بغیر تمهل أو انقطاع. بخلاف «حتی». ولهذا آثار فی التعبیر. وأن «إلی» لا تدخل علی المضارع بدون «أن» الظاهرة التی تنصبه بخلاف «حتی» فإنها تدخل علیه إذا کان منصوبا بأن المقدرة بعدها فتجر المصدر المنسبک : وأن : «إلی» تجیء للدلالة علی النهایة حین توجد : «من» الدالة علی البدایة ولا یصح مجیء : «حتی».

حتی الفصل الأخیر ؛ فنهایة الغایة داخلة بقرینة تدل علی الشمول والعموم ؛ هی کلمة «کل» ، بخلاف : کدت أفرغ من الکتاب ؛ فقد قرأته حتی الفصل الأخیر ، لأن کلمة : «کدت» التی معناها : «قاربت» تدل علی أنّ بعضه الأخیر لم یقرأ ... وعلی هذا لا یستحسن الإتیان «بحتی» فی مثل : قرأت الکتاب حتی ثلثه أو نصفه ، وإنما یجیء مکانها «إلی».

(ب) نوع لا یجر إلا المصدر المنسبک من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت علیه من الجملة المضارعیة. وأشهر معانی هذا النوع ثلاثة : الدلالة علی انتهاء الغایة ، کالنوع ، السابق ، أو الدلالة علی التعلیل (1) أو الدلالة علی الاستثناء إن لم یصلح أحد المعنیین السابقین.

وهذا النوع - کما قلنا - لا یجر إلا المصدر المنسبک من «أن» الناصبة المقدرة وجوبا ، ومن صلتها الفعلیة المضارعیة (2) ؛ نحو : أتقن عملک حتی تشتهر - اجتنب الکسب الخبیث حتی تسلم ثروتک - التاجر الحصیف یحرص علی الأمانة حتی یزداد ربحه ... ولا یصح أن تکون فی هذه الأمثلة لانتهاء الغایة ؛ لأن انتهاء الغایة یقتضی انقطاع ما قبل : «حتی» وانتهاءه بمجرد وقوع

ص: 446


1- الدلالة علی أن ما قبلها علة وسبب فیما بعدها. فهی مخالفة للام التعلیل وامثالها مما یکون ما بعده هو العلة (انظر رقم 8 من ص 438).
2- ل «حتی» الجارة للمصدر المنسبک من «أن» الناصبة للمضارع وصلتها ، عدة أحکام أخری مکانها المناصب الذی ستذکر فیه تفصیلا هو الجزء الرابع ، باب : «إعراب الفعل» حیث الکلام علی : «النواصب» ...

ما بعدها وحصوله ، ولا یتحقق هذا فی الأمثلة السالفة إلا بفساد المعنی ؛ إذ لیس المراد أن یتقن المرء عمله حتی یشتهر ؛ فإذا اشتهر ترک الإتقان ... ولا أن یجتنب الکسب الخبیث حتی تسلم ثروته ، فإذا سلمت لا یجتنبه ... ، ولا أن یحرص علی الأمانة حتی یزداد ربحه ، فإذا ازداد ترکها ؛ لیس المقصود شیئا من هذا لفساده. فهی فی تلک الأمثلة للتعلیل.

ومثال الدلالة علی انتهاء الغایة : أقرأ الکتاب النافع حتی تنتهی صفحاته - یمتد اللیل حتی یطلع الفجر ...

ص: 447

زیادة وتفصیل

(ا) قلنا فیما سبق : إن «حتی» الجارة نوعان : یجر الاسم الصریح ، ومعنی هذا النوع الدلالة علی الغائیة ، أی : علی نهایة الغایة ، فیجر الآخر ، أو ما یتصل بالآخر. ونوع یجر المصدر المنسبک من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت علیه من الجملة المضارعیة. ومعنی هذا النوع ، إما نهایة الغایة (1) وإما التعلیل ، وإما الاستثناء.

فمن معانی «حتی» : الدلالة علی الاستثناء وهذا أقل - استعمالاتها ، ولا یلجأ إلیه إلا بعد القطع بعدم صحة واحد من المعنیین السابقین - ولا تجر فیه إلا المصدر المنسبک من «أن» الناصبة المستترة وجوبا ومن صلتها الفعلیة المضارعیة. وتکون «حتی» فی هذه الحالة بمعنی «إلا» الاستثنائیة. والغالب أن یکون الاستثناء منقطعا ، فتکون «إلا» فیه بمعنی «لکن» أی : یصح أن یحل محلها : «لکن» التی تفید الابتداء والاستدراک معا ؛ (فیکون الاستثناء منقطعا) (2) ؛ نحو :

ص: 448


1- یفهم من هذا أن «حتی» لا بد أن تکون لنهایة الغایة إذا کان المجرور بها اسما صریحا ، ولا عکس ؛ فلا یلزم من کونها للغایة أن یکون المجرور بها اسما صریحا. لا یلزم هذا ؛ لجواز أن یکون مصدرا مؤولا من أن المصدریة وصلتها الجملة المضارعیة.
2- قد تکون : «حتی» مع «أن» المستترة بمعنی : (إلا أن) ؛ فیکون الاستثناء منقطعا ، مع ملاحظة أن أداة الاستثناء ، هنا مقصورة علی : «إلا» وحدها. أما الحرف : «أن» الذی یلیها فلا شأن له بالاستثناء ، وإنما جیء به لمجرد التفسیر والإیضاح. وقد یکون الاستثناء - أحیانا - متصلا کما فی بعض الأمثلة التی عرضت ، وکما فی نحو : لا أجیب الصدیق حتی یدعونی لمزاملته ؛ أی : لا أجیبه وقتا إلا وقت دعوتی. ببقاء النفی الذی قبل «حتی» علی حاله بعد تأویلها - کما هو الأغلب -. فالاستثناء متصل مفرغ للظرف ، ولا تصلح «حتی» غائیة ، لأن عدم الإجابة لا یقع تدریجا علی دفعات ؛ إذ الإجابة لا تمتد ولا تتطاول إلی زمن الدعوة ، بل إنها لا تکون قبل الدعوة ، ولا تصلح أن تکون «تعلیلیة» ؛ لأن عدم الإجابة لیس سبب الدعوة. فلم یبق إلا أن تکون بمعنی الاستثناء ، وهو صالح هنا أن یکون متصلا ؛ فلا یعدل إلی الانقطاع. ومثله قوله تعالی : (وَما یُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّی یَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ... ،) أی : ما یعلمان من أحد وقتا (أی : فی وقت) إلا وقت أن یقولا ... ولهذه المسألة بیان أشمل ، یستوعب جوانبها الهامة المختلفة ، وهو فی ج 4 م 149 باب النواصب ص 149.

لا یذهب دم القتیل هدرا حتی تثأر (1) له الحکومة. أی : إلّا أن تثأر له الحکومة ، بمعنی : لکن تثأر له الحکومة ؛ فلا یذهب هدرا. والغالب فی هذا المثال - وأشباهه - أن یبقی النفی الذی قبل «حتی» علی حاله بعد تأویلها بالحرف «إلا».

ولا یصح فی المثال أن تکون : «حتی» للغایة ؛ لأن «حتی» الغائیة - کما عرفنا - إذا وقع ما بعدها وتحقق معناه توقف المعنی الذی قبلها ، وانقطع.

علی هذا فالحکومة حین تثأر للقتیل ، ینقطع عدم ذهاب دمه هدرا ؛ وانقطاعه وتوقفه یؤدی - حتما - إلی وقوع ضده وحصوله ؛ أی : إلی أن دمه یذهب هدرا. وهذا فاسد.

وشیء آخر یمنع أن تکون «حتی» غائیة فی المثال ؛ هو : أن ما قبلها لا ینقضی شیئا فشیئا.

وکذلک لا تصح أن تکون : «حتی» «تعلیلیة» ، لأن ما قبلها - هنا - لیس علة وسببا فیما بعدها ؛ إذ عدم ذهاب دمه هدرا بالفعل لیس هو السبب فی انتقام الحکومة له ؛ لأنّ هذا یناقض المراد ، وإنما الانتقام له فعلا واقعا هو السبب فی عدم ذهاب دمه هدرا ، إذ السبب لا بد أن یسبق المسبّب ، ویوجد قبله ؛ لیجیء بعده ما ینشأ عنه ، ویترتب علیه ، وهو : المسبب ، فأخذ الثأر لا بد أن یوجد أوّلا. لیوجد بعده عدم ذهاب الدم هدرا ، لا العکس.

وإذا کانت «حتی» فی المثال السابق وأشباهه لا تصلح أن تکون غائیة ولا تعلیلیة فلا مفرّ بعدهما من أن تکون بمعنی : «إلا» الاستثنائیة ، فی استثناء منقطع ؛ أی : أنها بمعنی : «لکن» التی تفید الابتداء والاستدراک معا - کما أسلفنا - ومن الأمثلة : 1 - کل مولود یولد جاهلا بالشرّ حتی یتعلّمه من أسرته وبیئته. بمعنی إلا أن یتعلمه. أی : لکن یتعلمه. فلا تصلح أن تکون «غائیة» ؛ لأن ما قبلها هنا لا یقع متدرجا متطاولا بحیث یمتد إلی ما بعدها. بل یقع دفعة واحدة. ولا تصلح أن تکون «تعلیلیة» ، لأن ولادة الجاهل بالشر لیست هی العلة المؤثرة فی أمر

ص: 449


1- تثأر ؛ أی : تأخذ بثأره ، وتقتص له من الجانی.

التعلم ، ولا السبب المباشر فیه ؛ إذ العلة لا یتخلف أثرها ؛ فلا بد أن یتحقق بتحققها المعلول ، ویوجد بوجودها ؛ لأن العلة لا یتأخر عنها المعلول ، فلم یبق إلا أن تکون «حتی» ، بمعنی : «إلا» فی استثناء منقطع ، أی : بمعنی : «لکن» المشار إلیها.

2- نادیتک حتی نحصد القمح بعد ساعات ؛ فالنداء لیس فیه تمهل وتدرج یمتدان إلی وقت الحصد ، ولیس سببا مباشرا فی الحصد.

3 - افتح نوافذ الحجرة نهارا حتی یشتد (1) البرد لیلا ... ویقال فیه ما سبق.

(ب) من الأمثال : «ما سلّم القادم العزیز حتی (2) ودّع». (وهو مثل یقال فیمن قصرت مدّة زیارته). أی : ما سلّم فی زمن ؛ لکن ودّع فیه ، أو : ما سلّم فی زمن إلّا زمنا ودّع فیه (3).

ص: 450


1- وفی معانی الحروف الثلاثة : (حتی - اللام - إلی) یقول ابن مالک : للانتها : «حتّی» ، و «لام» ، و «إلی» و «من» ، و «باء» یفهمان بدلا واللّام للملک وشبهه ، وفی تعدیة أیضا ، وتعلیل ، قفی [وزید ...] (قفی ، أی : نسب وعرف). سرد ابن مالک فی هذین البیتین وکلمة من أول الثالث - عدة معان لعدد من الحروف ؛ فبین أن : «حتی» و «اللام» و «إلی» تشترک فی تأدیة معنی واحد ؛ هو : الانتهاء. وأن «من» و «الباء» یترکان فی معنی واحد ؛ هو : البدلیة. وأن اللام - بعد ذلک - تفید معنی الملک وشبهه ، والتعدیة ، والتعلیل ، وقد تقع زائدة. واکتفی بهذه المعانی القلیلة التی سردها لعدد من حروف الجر سردا مختلطا مبتورا ومن أسبابه ضیق الأوزان الشعریة وقیودها التی لا تتسع لما یتسع له النثر. وقد تدارکنا الأمر بالشرح والترتیب المناسبین.
2- ویلاحظ أن «حتی» فی هذا المثال حرف ابتداء ؛ لوقوع الماضی بعدها ؛ فلیست حرف جر ؛ إذ الجارة لا بد من دخولها - کما عرفنا - علی اسم صریح أو علی مصدر منسبک من «أن» وصلتها الجملة المضارعیة.
3- ففیه نوع شبه بما مر فی رقم 2 من هامش ص 448 برغم الاختلاف فی نوع : «حتی».

ومن المستحسن التخفف من استعمال «حتی» التی بمعنی «إلّا» قدر الاستطاعة ؛ لأن فهم المراد منها ، والتمییز بینها وبین نوعیها الآخرین - لا یخلو من صعوبة ، ولأن کثیرا من النحاة لا یوافق علی أنها تکون بمعنی «إلا» ویتأول الوارد منها.

(ح) وضح مما تقدم أن «حتی» الجارّة بنوعیها لا تدخل علی جملة ، لأن التی تدخل علی الجملة (الاسمیة أو الفعلیة) نوع آخر ، یسمی : «حتی الابتدائیة» (1) وسیجیء تفصیل الکلام علیها فی موضعها المناسب (2) ...

* * *

ص: 451


1- وهی الداخلة علی جملة مضمونها غایة (أی : نهایة) لشیء قبلها (کما جاء فی الخضری - ج 2 باب «العطف» عند الکلام علی «حتی»).
2- باب النواصب ، ج 4 ص 252 م 149.

الواو والتاء : حرفان أصلیان للجر ، ومعناهما القسم (1) - غیر الاستعطافیّ (2) - ولا یصح أن یذکر معهما جملة القسم ، وهما لا یجران إلا الاسم الظاهر. والتاء لا تجر من الأسماء الظاهرة إلا ثلاثة : (الله - رب - الرحمن) ومن الشذوذ أن تجر غیر هذه الثلاثة.

فمن أمثلة واو القسم قول الشاعر :

فلا وأبیک ما فی العیش خیر

ولا الدنیا إذا ذهب الحیاء

ومن أمثلة تاء القسم قوله تعالی : (وَتَاللهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ ...)

ویجری علی الحرفین السابقین ما یجری علی کل حروف القسم من جواز الحذف (3) مع بقاء المقسم به مجرورا بشرط أن یکون هو لفظ الجلالة (أی : الله).

* * *

الباء : حرف یجر الظاهر والمضمر ، ویقع أصلیّا وزائدا (4) ، ویؤدی عدة معان ، أشهرها خمسة عشر :

1 - الإلصاق حقیقة أو مجازا ؛ نحو : أمسکت باللّص ، ومررت بالشرطیّ. فمعنی أمسکت به : قبضت علی شیء من جسمه ، أو مما یتصل به اتصالا مباشرا ؛ کالثوب ونحوه. وهو - عند کثیر من النحاة - أبلغ من : أمسکت اللص ؛ لأن معناه مع «الباء» ، المنع من الانصراف منعا تامّا.

ومعنی مررت به : ألصقت مروری بمکان یتصل به ...

2 - السببیة أو التعلیل (بأن یکون ما بعدها سببا وعلة فیما قبلها). نحو :

ص: 452


1- أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 441 إلی أن أحرف القسم المشهورة أربعة : «اللام» وقد سبق الکلام علیها هناک ، وکذلک «الواو والتاء والباء» ، وسیجیء الکلام علی الثلاثة هنا. والصحیح أن «الواو» و «التاء» أصیلان فی القسم ، ولیسا نائبین فیه عن «الباء» ولیست الباء بعدهما مقدرة تجر الاسم ؛ لأن هذا تعقید لا داعی له. وقد أشرنا أیضا فی تلک الصفحة إلی أن بعض العرب یستعمل الحرف «من» (بکسر المیم أو ضمها) حرف قسم ، ولا یکاد یجر به إلا کلمة : «الله». نحو : من الله لأصاحبنک. وأندر من هذا استعمال کلمة : «ها» حرف قسم بعد کلمة : «إی» : ، بمعنی : نعم أو بدونها. ولا داعی الیوم لاستعمال هذه اللغات النادرة.
2- إیضاحه فی ص 459 و 460.
3- لحذف حروف الجر - ومنها حروف القسم - موضوع مستقل یجیء فی ص 491.
4- وأحسن لغاته أن یتحرک بالکسر فی جمیع أحواله.

کل امرئ یکافأ بعمله ، ویعاقب بتقصیره. أی : بسبب عمله ، وبسبب تقصیره .. وقول الشاعر :

إنما ینکر الدیانات قوم

هم بما ینکرونه أشقیاء

وقول الآخر :

جزی الله الشدائد کل خیر

عرفت بها عدوی من صدیقی ...

والمراد : هم أشقیاء بسبب ما ینکرونه - وعرفت بسببها ... (1)

3 - الاستعانة ، (بأن یکون ما بعد الباء هو الآلة لحصول المعنی الذی قبلها) (2) ؛ نحو : سافرت بالطیارة - رصدت الکوکب بالمنظار ، وهذا المعنی هو والإلصاق أکثر معانیها استعمالا.

4 - الظرفیة ؛ نحو قوله تعالی : (وَلَقَدْ نَصَرَکُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ....) أی : فی بدر.

5 - التعدیة ، أو : النقل (وهی التی یستعان بها - غالبا - فی تعدیة الفعل اللازم إلی مفعول به ، کما تعدیه همزة النقل) ، نحو : ذهبت بالمریض إلی الطبیب ، بمعنی : أذهبته. وقعدت بفلان همته عن الطموح ، بمعنی : أقعدته ...

6 - أن تکون بمعنی کلمة : «بدل» ، (بحیث یصح حلول هذه الکلمة محل «الباء» من غیر أن یتغیر المعنی) ، مثل : ما یرضینی بعملی عمل آخر - أرتضی بالملاکمة ریاضة أخری. أی : ما یرضینی بدل عملی عمل آخر ، - أرتضی ریاضة أخری بدل الملاکمة (3).

ص: 453


1- الفرق بین باء الاستعانة وباء السبب ، أن «باء» السببیة داخلة علی السبب الذی أدی إلی حصول المعنی الذی قبلها ، وتحققه سلبا ، وإیجابا ؛ نحو : مات الرجل بالمرض ، أی : بسبب المرض ، وأن «باء» الاستعانة داخلة علی أداة الفعل وآلته التی هی الواسطة بین الفاعل ومفعوله ؛ نحو : فتحت الباب بالمفتاح - قطعت اللحم بالسکین - کتبت الرسالة بالقلم.
2- الفرق بین باء الاستعانة وباء السبب ، أن «باء» السببیة داخلة علی السبب الذی أدی إلی حصول المعنی الذی قبلها ، وتحققه سلبا ، وإیجابا ؛ نحو : مات الرجل بالمرض ، أی : بسبب المرض ، وأن «باء» الاستعانة داخلة علی أداة الفعل وآلته التی هی الواسطة بین الفاعل ومفعوله ؛ نحو : فتحت الباب بالمفتاح - قطعت اللحم بالسکین - کتبت الرسالة بالقلم.
3- إذا کانت الباء بمعنی : «بدل» فالأکثر دخولها علی المتروک ؛ (أی : علی الشیء الذی لم یؤخذ للاستغناء عنه بأخذ غیره ، بدلا منه). ویصح دخول «الباء» علی المأخوذ لا المتروک ، فقد جاء فی المصباح مادة : «بدل» ما نصه : «(أبدلته بکذا إبدالا ، نحیت الأول ، وجعلت الثانی مکانه)» اه وفی مختار الصحاح ، مادة : «بدل» ما نصه : «(الأبدال قوم من الصالحین لا تخلو الدنیا منهم ، إذا مات واحد منهم أبدل الله مکانه بآخر)» اه وجاء فی تاج العروس - مادة : «بدل» - ما نصه : - - (قال ثعلب ، یقال : أبدلت الخاتم بالحلقة ، إذا نحیت هذا وجعلت هذه مکانه ، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته ، وسویته حلقة. وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما. قال : وحقیقته أن التبدیل تغییر الصورة إلی صورة أخری والجوهرة بعینها. والإبدال : تنحیة الجوهرة واستئناف جوهرة أخری. وقال أبو عمرو : فعرضت هذا علی المبرد فاستحسنه ، وزاد فیه فقال : وقد جعلت العرب أبدلت مکان بدلت ..) اه. وجاء فی تفسیر الألوسی لقوله تعالی : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِیثَ بِالطَّیِّبِ) مثل ما سبق من کلام ثعلب ، وزاد شاهدا آخر لدخول الباء علی المأخوذ ، هو قول الطفیل لما أسلم : «وبدّل طالعی نحسی بسعد» اه ولا فرق فی هذا بین أن یکون ما تعلق به الجار والمجرور هو الفعل : «بدل» وفروعه ، وما تصرف منه ، أم غیره - بقرینة -. ومن الأمثلة الأخری قول عروة بن الورد : فلو أنی شهدت أبا سعاد غداة غدا بمهجته یفوق فدیت بنفسه نفسی ومالی ولا آلوک إلا ما أطیق (یفوق : یجود بها ویلفظها ساعة الاحتضار) ، یرید : فدیت بنفسی ومالی نفسه. أی : قدمتهما فداء له ، وبدلا منه.

ومنه قول الشاعر :

إن الذین اشتروا دنیا بآخرة

وشقوة بنعیم ، ساء ما فعلوا

7 - العوض (1) (أو : المقابلة) ؛ نحو : اشتریت الکتاب بعشرة دراهم واشتراه أخی بأحد عشر ...

8 - المصاحبة (2) ؛ نحو قوله تعالی : (اهْبِطْ بِسَلامٍ،) ونحو : سافر برعایة الله ، وارجع بعنایته. أی : مع سلام - مع رعایة الله - مع عنایته.

9 - التبعیض ، أو : البعضیّة ، (بأن یکون الاسم المجرور بالباء بعضا من شیء قبلها). نحو قوله تعالی : (عَیْناً یَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ،) أی : منها ،

ص: 454


1- المراد بالعوض : دفع شیء من جانب ، فی نظیر أخذ شیء یقابله من جانب آخر. والفرق بین العوض والبدل ، أن العوض هو دفع شیء فی مقابلة آخر. أما البدل فهو اختیار أحد الشیئین وتفضیله علی الآخر من غیر مقابلة من الجانبین کأن یکون أمامک شیئان لتختار أحدهما ؛ فتقول آخذ هذا بدل الآخر من غیر أن یکون هناک تعویض. وهذا هو الشائع ، وقیل : البدل أعمّ مطلقا ؛ فهو الدال علی اختیار شیء وتفضیله علی آخر ؛ سواء أکان هناک مقابلة وعوض أم لا. والحکم فی هذا للقرینة ؛ فهی التی تعین المراد وتوجه الذهن إلیه.
2- سبق توضیحها فی رقم 1 من هامش ص 434 عند الکلام علی : «إلی».

وقولهم : حفلت المائدة ؛ فتناولت بها شهی الطعام ، ولذیذ الفواکه. أی : تناولت منها(1) ...

11 - المجاوزة (2) ؛ نحو قوله تعالی : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِیراً.) أی : عنه. وقوله تعالی فی وصف المؤمنین یوم القیامة : (یَسْعی نُورُهُمْ بَیْنَ أَیْدِیهِمْ ؛ وَبِأَیْمانِهِمْ) أی : عن أیمانهم ، وقوله تعالی : (وَیَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ،) أی : عن الغمام ...

12 - الاستعلاء ؛ کقولهم : من الناس من تأمنه بدینار فیخون الأمانة ، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب فیصونه ویؤدیه کاملا ، أی : علی دینار ، وعلی قنطار.

13 - أن تکون بمعنی : «إلی» ، نحو قوله تعالی : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِی إِذْ أَخْرَجَنِی مِنَ السِّجْنِ ....) بمعنی أحسن إلیّ.

14 - التوکید (3) ؛ (وهی الزائدة) ؛ نحو : قوله تعالی : (وَکَفی بِاللهِ شَهِیداً) وقوله تعالی : (وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ ...) ونحو : بحسبک البراعة الفنیة ، ونحو : لیس المال بمغن عن التعلّم (4) ...

ویجوز زیادتها فی المبتدأ الواقع بعد «إذا الفجائیة» ؛ نحو : نزلت البحر فإذا بالماء بارد (5). وتزاد وجوبا فی الاسم بعد صیغة «أفعل» المستعملة فی التعجب القیاسی ؛ نحو : أعظم بالمحسن (6) - بشرط ألا یکون الاسم مصدرا مؤولا من «أنّ وأن» وصلتهما (7) - فإن کان المصدر مؤولا من إحداهما ومعها

ص: 455


1- ومثل قول المتنبی یمدح : فإن نلت ما أمّلت منک فربما شربت بماء یعجز الطیر ورده
2- سبق إیضاح معناها وأقسامها فی رقم 2 من هامش ص 429.
3- سبق معنی التوکید المستفاد من الحرف الزائد ، فی أول هذا الباب ص 417 ، وکذلک فی الجزء الأول (م 5 ص 65). أما مواضع زیادة الباء. فتوضحها الأمثلة الآتیة هنا ، وفی ص 457.
4- ومثل هذا قول الشاعر : أفسدت بالمنّ ما أسدیت من حسن لیس الکریم - إذا أعطی - بمنّان
5- سبقت الإشارة لهذا فی ص 263.
6- لهذا إشارة فی ص 91 ؛ وانظر - للأهمیة - رقم 3 من هامش ص 491 وج 3 ص 279 م 108 باب : «التعجب».
7- لهذا إشارة فی ص 91 ؛ وانظر - للأهمیة - رقم 3 من هامش ص 491 وج 3 ص 279 م 108 باب : «التعجب».

صلتهما جاز حذف «الباء» وذکرها إلا فی الرأی الذی یوجب هنا ذکرها قبل «أنّ» المشددة ومعمولیها ، وهو رأی یفرق بینهما فی هذه الصورة وحدها من غیر داع - کما أشرنا (1) -.

* * *

وکذلک تزاد وجوبا فی مثل : «جاء القوم بأجمعهم» - بفتح المیم أو ضمها - فکلمة : «أجمع» هذه من ألفاظ التوکید القلیلة ، ولا بد أن تضاف إلی ضمیر المؤکّد ، وأن تسبقها «الباء» الزائدة الجارة. وهی زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب کلمة : «أجمع» توکیدا مجرور اللفظ وله محل إعرابی علی حسب الجملة - (کما سیجیء فی ج 3).

اتصال ما «الزائدة بالباء»

یصح زیادة : «ما» بعد «باء» الجر ؛ فلا یؤثر هذا الحرف الزائد فی معناها ، ولا فی عملها ؛ بل یبقی لها کل اختصاصها الذی کان قبل اتصالها بالحرف الزائد ؛ نحو قوله تعالی : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ،) أی : فبرحمة من الله ، وبسببها (2) ...

ص: 456


1- فی رقم 3 من هامش ص 491.
2- وسیشیر إلی هذا ابن مالک - آخر الباب - فی هامش ص 476 حیث یقول : وبعد «من» ، و «عن» ، و «باء» زید «ما فلم یعق عن عمل قد علما أی : زیدت «ما» بعد کل واحد من هذه الثلاثة فلم تعقه (لم تمنعه) عن العمل الذی عرفناه له.

زیادة وتفصیل

تعددت هنا الأمثلة للباء الزائدة کی تدل علی أنها تزاد فی الفاعل ، والمفعول به ، والمبتدأ ، وخبره ، وخبر الناسخ. وقد تزاد فی غیر ذلک قلیلا.

بقی أن نسأل : أزیادتها قیاسیة أم سماعیة (1)؟ الأحسن الأخذ بالرأی القائل : إن الزائدة فی الفاعل تکون واجبة فی فاعل فعل التعجب الذی صیغته القیاسیة : «أفعل» ، مثل : أصلح بنفسک ، وأحسن بعملک ؛ بمعنی : ما أصلح نفسک!! وما أحسن عملک!!

وتکون جائزة ، فی فاعل : «کفی» ، مثل : کفی بالله شهیدا.

أما الزائدة فی المفعول به فغیر مقیسة ، ولو کان مفعولا به للفعل : «کفی» نحو : کفی بالمرء عیبا أن یکون نمّاما.

وقول الشاعر :

کفی بالمرء عیبا أن تراه

له وجه ولیس له لسان

ویستثنی من هذا زیادتها فی مفعول الأفعال الآتیة : (عرف - علم بمعنی : عرف - جهد - سمع - أحسن). فإن هذه الزیادة جائزة.

والزائدة فی المبتدأ والخبر غیر قیاسیة ؛ إلا فی مثل الأنواع المسموعة (2) کثیرا منها - کالتی : بعد «کیف» و «إذا» وقبل : «حسب» - کقول الشاعر :

وقفنا ، فقلنا إیه عن أمّ سالم

وکیف بتکلیم الدیار البلاقع؟

ص: 457


1- راجع فیما یأتی : المغنی ، حرف الباء ، وحاشیة الصبان - ج 2 - باب حروف الجر عند الکلام علی الباء الجارة.
2- ما المراد هنا من المسموع؟ أهو عام بعد «کیف» یشمل إدخال الباء علی المبتدأ الاسم الظاهر ، وعلی الضمیر مطلقا ؛ (لمتکلم أو لمخاطب ، أو لغائب ، من غیر تقید بنوع الضمیر المسموع ولا بلفظه) ، وکذلک إدخالها علی المبتدأ الذی یلی «إذا» الفجائیة بغیر تقید؟ - أم أن المراد هو الاقتصار علی نص الضمیر المسموع لفظا ونوعا بعد «کیف» وعلی الاسم الظاهر ، وکذلک علی نص المبتدأ المسموع لفظا ونوعا بعد «إذا» الفجائیة؟ الأحسن الأخذ بالرأی الأول الذی یفید العموم فی هذین الموضعین ؛ فیبیح زیادة الباء فی صدر المبتدأ التالی : «کیف» و «إذا» الفجائیة مطلقا من غیر تقید باسم ظاهر ، ولا ضمیر ، ولا نوع من أحدهما. وهذا الرأی هو الأقوی الذی تؤیده الشواهد الکثیرة الفصیحة. أما زیادتها قبل «حسب» فمقصور علی لفظها ذاته.

ونحو : کیف (1) بک إذا اشتد الأمر - أصغیت فإذا بالطیور (2) مغردة - بحسبک علم نافع ، ومثل : منعکها بشیء یستطاع.

أما زیادتها فی خبر : «لیس» ، وخبر : «ما» النافیة ، وخبر : «کان» المنفیة ، فقیاسیة ؛ کزیادتها : فی کلمتی : النفس ، والعین ، عند استعمال لفظهما فی (3) التوکید ؛ مثل : اخترقت الطائرات السحاب نفسه أو بنفسه ، واجتازت الغلاف الهوائی عینه أو بعینه. قطعت السیارات نفسها أو بنفسها ، الصحراء.

ص: 458


1- وأصل الجملة - کما سبقت الإشارة لهذا ج 1 - هامش رقم 2 من ص 405 م 33. - کیف أنت؟ فلما زیدت الباء الجارة وجب تغییر الضمیر : «أنت» ؛ لأنه ضمیر للمخاطب مقصور علی الرفع ؛ فأتینا بضمیر یؤدی معناه ، ویصلح لدخول حرف الجر وهو «کاف الخطاب» فالکاف مجرورة لفظا فی محل رفع مبتدأ. ومثلها : «الباء» فی نحو : خرجت فإذا بالشمس طالعة. فالباء زائدة فی المبتدأ المجرور لفظا المرفوع محلا ، (کما سیأتی فی رقم 2).
2- مثال للمبتدأ الواقع بعد «إذا» الفجائیة وقد دخلته الباء الزائدة. ومثله ما سبق فی رقم 1.
3- إیضاح هذا فی باب التوکید ج 3 ص 49 م 116.

15 - الدلالة علی القسم ؛ وهذا من أکثر استعمالاتها ، وهی الأصیلة فیه دون حروفه السابقة (اللام ، الواو ، التاء ، من ...) وتشارکها فی جواز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها علی حاله ؛ بشرط أن یکون هذا الاسم هو لفظ الجلالة (الله) ولکنها تخالف تلک الحروف فی ثلاثة أمور تنفرد بها ، ولا یوجد واحد منها فی حرف آخر من حروف القسم ، غیر الباء ؛ هی :

جواز إثبات فعل القسم وفاعله معها أو حذفهما ؛ نحو : أقسم بالله لأعاونن الضعیف ، أو بالله لأعاونن الضعیف. أما مع غیرها فیجب حذف فعل القسم وفاعله.

وجواز أن یکون المقسم به اسما ظاهرا ، أو ضمیرا بارزا ؛ نحو : بربّ الکون لأعملنّ علی نشر السّلام - بک لأنزلن عند رغبتک الکریمة. أما غیرها فلا یجر إلا الظاهر.

وجواز أن یکون القسم بها «استعطافیّا (1)» (وهو الذی یکون جوابه إنشائیّا) ؛ نحو : بالله ، هل ترحم الطائر الضعیف ، والحیوان الأعجم؟ بربک ، أموافق أنت علی تأیید الضعفاء؟ وقول الشاعر (2) :

بعیشک هل أبصرت أحسن منظرا

- علی ما رأت عیناک - من هرمی مصر؟

أما سواها فمقصور - فی الرأی الغالب - علی القسم غیر الاستعطافی.

* * *

ص: 459


1- سیجیء فی : «الزیادة والتفصیل» أن القسم نوعان : «استعطافی» ، و «غیر استعطافی ، أو خبری». وإیضاح کل ، وما یطلبه ... مع بسط الکلام علی جواب القسم. ولهذا البحث مناسبة أخری هامة فی ج 4 م 158 ص 462 ، ومن المفید الاطلاع علیه ، توفیة للموضوع.
2- سیعاد هذا البیت فی ص 471 لمناسبة أخری.

زیادة وتفصیل

(ا) کل حرف من حروف القسم الأربعة (1) ومجروره یتعلقان بالعامل : «أحلف» ، أو : «أقسم» أو : نحوهما من کل فعل یستعمل فی القسم ، ومن فعل القسم الصریح وفاعله تتکون الجملة الفعلیة الإنشائیة : التی هی : جملة القسم. ولا بد أن تکون فعلیة ؛ سواء أذکر الفعل أم حذف. لکن لیس من اللازم أن یکون الفعل صریحا فی دلالته علی القسم کالأفعال السابقة ؛ فهناک ألفاظ أخری یسمونها : «ألفاظ القسم غیر الصریح» وهو الذی لا یعرف منه بمجرد سماعه أن الناطق به حالف ؛ بل لا بد معه من قرینة ؛ ومن أمثلته الأفعال : شهد - علم - آلی ... ؛ نحو : أشهد لقد رأیت الغلبة للحقّ آخر الأمر - علمت لقد فاز بالسبق من أحسن الوسیلة إلیه - والقرینة هنا «اللام ، وقد» الداخلان علی الجواب - غیر أنّ الجملة القسمیة التی من هذا النوع خبریة لفظا.

ولا بد لجملة القسم من جملة بعدها تسمی : «جواب القسم». بیان ذلک أن الغرض من «جملة القسم» إما تأکید المراد من جملة تجیء بعدها ، وإزالة الشک عن معناها ؛ بشرط أن تکون هذه الجملة الثانیة خبریة (2) ، وغیر تعجبیة (3) ، نحو : أقسم بالله (لا أنقاد لرأی یجافی العدالة). فهذه الجملة الثانیة هی «جواب القسم» ، ولا محل لها من الإعراب فی الأغلب (4) ویسمی القسم فی هذه الحالة : «قسما خبریّا» أو : «غیر استعطافیّ». وإما تحریک النفس ، وإثارة شعورها

ص: 460


1- سبق فی ص 430 وفی هامش ص 441 ... ، ... الإشارة إلی حرف خامس هو : «من» ومن المستحسن الیوم عدم استعماله لغرابته. وأغرب منه وأندر استعمال : «ها» حرف قسم ، بعد کلمة : «إی» - فی الغالب - التی معناها : نعم (طبقا لما سبق فی رقم 1 من هامش ص 452).
2- فلا تصلح الجملة الشرطیة ، ولا أنواع الإنشائیة ، ومنها القسمیة - کما سیجیء فی : «و» من ص 465.
3- یری کثیر من النحاة أن جملة التعجب خبریة ، ولکنهم یوافقون غیرهم فی أنها لا تصلح جوابا للقسم.
4- الأغلب أن الجملة الواقعة جوابا للقسم لا محل لها ، وقد یکون لها محل - (کما سبق بیانه فی رقم 3 من هامش ص 39 وکما یأتی فی رقم 2 من ص 466).

بجملة إنشائیة تجیء بعد جملة القسم. والفصیح أن تکون الأداة هی الباء ؛ نحو : بربک ، هل رحمت الثّکلی؟ بحیاتک ، أعطفت علی البائس ، وقول الشاعر :

بعینیک یا سلمی ارحمی ذا صبابة

أبی غیر ما یرضیک فی السرّ والجهر

فالجملة الثانیة هی جواب القسم ، ولا محل لها من الإعراب هنا ، ویسمی القسم فی هذه الحالة : «استعطافیّا» ، أو : «غیر إنشائی». ولا بد أن یکون جوابه جملة إنشائیة ، (کما أوضحنا) (1) وهی لا تحتاج لزیادة شیء علیها. بخلاف : القسم «غیر الاستعطافی» فإن جوابه یتطلب إدخال بعض الزیادة علی جملته ، بالتفصیل الآتی (2) :

1 - إن کان الجواب جملة فعلیة ... فعلها ماض ، متصرّف ، مثبت - فالکثیر الفصیح اقترانها «باللام» و «قد» ، معا ، نحو : والله لقد أفاد الاعتدال فی ممارسة الأمور. ویجوز - بقلة - الاقتصار علی أحدهما ، أو التجرد منهما ، مع ما فی الأمرین من ترک الکثیر الفصیح. وتسمی هذه اللام المفتوحة : «لام جواب القسم ، أو : الداخلة علی جوابه».

وإن کان الماضی غیر متصرف فالکثیر الفصیح اقترانه باللام فقط ؛ نحو : والله لنعم المرء یبتعد عن الشّبهات. إلا الفعل «لیس» فلا یقترن بشیء ؛ مثل : والله لیست قیمة المرء بالأقوال ، ولکن بالأفعال.

وإن کان الماضی غیر مثبت لم یزد علیه شیء إلا حرف من حروف النفی الثلاثة التی یکثر دخولها علی الجواب المنفیّ ؛ وهی : ما - لا - إن - ؛ نحو : والله ما مدحت أثیما - بالله لا رفضت عتاب الصدیق ، ولا غضبت منه. تالله إن امتنعت عن مزاملتک فیما یرفع الشأن ، أی : بالله ما امتنعت. وغیر هذا شاذ.

ص: 461


1- مما سبق نفهم قول النحاة : القسم جملة إنشائیة جاءت لتأکید جملة خبریة بعدها. وهذا هو القسم غیر الاستعطافی. فإن کانت الثانیة إنشائیة أیضا فالقسم استعطافی.
2- سیذکر هذا البیان فی ج 4 م 158 ص 362 عند اجتماع الشرط والقسم ومن المفید الرجوع إلیه أیضا.

2 - إن کان الجواب جملة مضارعیة مثبتة فالأغلب الأقوی اقتران مضارعها باللام ونون التوکید معا (1) ؛ نحو : والله لأحبسن یدی ولسانی عن الأذی. ومن القلیل الجائز الاقتصار علی أحدهما.

فإن کانت الجملة مضارعیة منفیة ... لم یزد علیها شیء إلا أحد حروف النفی الثلاثة (2) التی یکثر دخولها علی الجواب المنفی (3) (وقد سبقت لها الإشارة) مثل : والله ما أحبس یدی ولسانی عن محاربة المنکر - والله إن أحبس یدی ولسانی ... - الله لا أحبس یدی ولسانی. ومن هذا قول الشاعر :

رقیّ ، بعمرکم لا تهجرینا

ومنّینا المنی ، ثم امطلینا

3 - إن کان الجواب جملة اسمیة مثبتة فالأحسن اقترانه بحرفین معا ، هما : «إنّ» ولام الابتداء فی خبرها (4) ، نحو : والله إن الغدر لأقبح الطّباع.

ص: 462


1- راجع ماله صلة بهذا فی ص 29 و 30.
2- ویزاد علیها هنا : «لن» فی رأی مقبول من آراء تعارضه. ومن أمثلته قول أبی طالب یعلن حمایته للرسول علیه السّلام من أعدائه المشرکین القرشیین : والله لن یصلوا إلیک بجمعهم حتی أوسّد فی التراب دفینا
3- قد یکون وجود حرف النفی قبل هذه الجملة المضارعیة مقدرا غیر ظاهر اللفظ : (بأن یکون ملحوظا غیر ملفوظ) ومن أمثلته قوله تعالی : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْکُرُ یُوسُفَ ... ،) وقول لیلی الأخیلیة فی رثاء توبة : فأقسمت أبکی بعد توبة هالکا وأحفل من دارت علیه الدوائر أی : لا أبکی ولا أحفل. ومثل قول الآخر : فقلت یمین الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسی لدیک وأوصالی أی : لا أبرح. جاء فی أمالی أبی القاسم الزجاجی ص 50. ما معناه : أن العرب تحذف النفی من جواب القسم فی مثل الصور السالفة لأمن اللبس فیها ، حیث لا یلتبس الجواب المنفی بالمثبت لوضوح المعنی ، ولأن الجواب لو کان مثبتا لوجب تأکیده باللام والنون معا. أو بأحدهما ، طبقا للقاعدة السالفة. فعدم اقترانه دلیل آخر علی أنه منفی بأداة مقدرة.
4- اللام الداخلة علی جواب القسم لا تدخل علی «إن» المشددة ولا علی شیء من أخواتها ، إلا : «کأن». نحو : والله لکأن صدقة البخیل اقتطاع من جسده. أما اللام الداخلة علی خبر «إن» فهی لام ابتداء سواء أکانت «إن» مسبوقة بقسم هی فی صدر جوابه ، أم غیر مسبوقة به. (وقد تقدم فی الجزء الأول فی ص 597 م 53 تفصیل الکلام علی لام الابتداء ، وفائدتها ، ومواضعها ...).

ویجوز الاقتصار علی أحدهما ؛ نحو : والله إن عنوان المرء عمله ، أو : والله لعنوان المرء عمله. ولا یستحسن التجرّد من إحداهما إلا إذا طال القسم ، بأن ذکر معه تابع له ، أو : شیء آخر یتصل به ؛ نحو : بالله الذی لا إله سواه ، الرجوع إلی الحق خیر من التمادی فی الباطل. وقول الشاعر :

وربّ السموات العلا وبروجها

والأرض وما فیها - المقدر کائن

ولا یصح اقتران الجملة الاسمیة الجوابیة بالحرف : «إنّ» إذا کانت هذه الجملة مصدرة بحرف ناسخ من أخوات «إن» : کقولهم فی وجه جمیل : والله لکأن جماله یقتاد العیون قسرا إلیه ؛ فما تستطیع عنه تحولا.

فإن کان الجواب جملة اسمیة منفیة لم یزد علیه إلا أداة النفی فی أوله وهی إحدی الحروف الثلاثة السالفة (ما - لا - إن) ، نحو : والله ما هذه الدنیا بدار قرار - بالله لا المال ولا الجاه بنافع إلا بسیاج من الفضیلة ... - والله إن هذه الدنیا بدار قرار ...

مما سبق یتبین أن الجواب المنفی ، فی جمیع أحواله لا یتطلب زیادة شیء إلا أداة النفی قبله ، مع اشتراط أن تکون إحدی الأدوات الثلاث (1) ، سواء أکان الجواب جملة فعلیة ماضویة ، أم مضارعیة ، أم جملة اسمیة.

«ملاحظة»

قد یکون الکلام مشتملا علی جملة قسمیة ، ظاهرها مثبت ، ولکن معناها منفیّ ، وجواب القسم جملة فعلیّة ماضویة لفظا ، مستقبلة معنی ، مصدرة «بإلّا» أو : «لمّا» التی بمعناها ، نحو : سألتک بالله إلا نصرت المظلوم - بالله ربّک لما قلت الحق .. وأمثال هذا مما یعدّ نوعا خاصّا من «الاستثناء المفرغ ...» (وقد سبق بیان هذا النوع ، وتفصیل الکلام - بإسهاب - علی معناه ، وحکمه ، وطریقة إعرابه) (2)

(ب) قد یقع القسم بین أداتی نفی ، بقصد تأکید النفی فی المحلوف علیه ؛ کقول الشاعر :

أخلّای ، لا تنسوا مواثیق بیننا

فإنی لا - والله - ما زلت ذاکرا

ص: 463


1- ویزاد علیها : «لن» فی الجملة المضارعیة فی رأی أشرنا إلیه فی رقم 2 من هامش ص 462.
2- له إشارة فی آخر هامش ص 300 وبیان فی : «ا» من الزیادة والتفصیل ، ص 302.

(ح) قد تتکرر أداة القسم - ومعها مجرورها - ، مبالغة فی التأکید. غیر أن المستحسن ألّا یتکرر حرف من حرف القسم إلا بعد استیفاء الأول جملة جوابه ، نحو : بالله لأطیعن الوالدین ، بالله لأطیعنهما ، والله لأطیعنهما (1) ...

(د) تحذف جملة القسم وجوبا إن کان حرف القسم «الواو» ، أو : «التاء» ، أو : «اللام» (2). وجوازا إن کان حرف القسم الباء - کما سبق عند الکلام علی الحروف الأربعة (3) - ومن أوضح الدلائل المرشدة إلی جملة قسمیة محذوفة ، (ومعها أداة القسم) وجود واحد من الألفاظ الآتیة بعدها ؛ وهی : (لقد - لئن (4) - المضارع المبدوء باللام المفتوحة المختوم بنون التوکید). فإن وجد أحد هذه الثلاثة بغیر أن یسبقه جملة قسم فهی - مع القسم وأداته - مقدرة قبله ، ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَلَقَدْ صَدَقَکُمُ اللهُ وَعْدَهُ ...،) أی : أقسم بالله لقد صدقکم الله وعده (5). ومثله قوله تعالی : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا یَخْرُجُونَ مَعَهُمْ،) وقوله تعالی : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِیداً ...) وهذه اللام المفتوحة فی المواضع السالفة هی الداخلة علی الجواب بعد حذف جملة القسم ، وأداته. ولا یصح فیها ، وفی أمثالها أن تکون لام ابتداء أو غیره ؛ لأن أنواع اللام الأخری لها مواضع محدودة معینة ، لیس منها هذه.

(ه) یجوز أن تحذف أداة القسم وحدها مع بقاء الاسم المجرور بها علی حاله ، بشرط أن یکون لفظ الجلالة (الله) طبقا للرأی الأرجح (6) مثل : الله لأساعدنّ الضعیف ، أی : والله .. ویجوز حذف أداة القسم والمقسم به معا لوضوحهما بکثرة

ص: 464


1- یصح ذکر الجملة الواقعة بعد القسم المقصود به التوکید اللفظی. علی اعتبارها توکیدا أیضا للجملة الجوابیة الأولی ، ویصح حذفها لعدم الحاجة إلی استخدامها توکیدا لفظیا ؛ فهی مختلفة عن الجمل الجوابیة الأخری التی یجب حذفها.
2- وکذا : «من» عند من یعتبرونها أداة قسم ، کما فی ص 430.
3- فی ص 430 و 441 و 452.
4- انظر «و» الآتیة.
5- ومن هذا قول الشاعر : إذا اغرورقت عینای قال صحابتی لقد أولعت عیناه بالهملان
6- وهو رأی سیبویه ومن وافقه. (وسیأتی فی رقم 1 من ص 492).

الاستعمال ؛ نحو أقسم إن الحریة لغالیة - أشهد إنّ الوطن لعزیز. أی : أقسم بالله - أشهد بالله - ومنه قول الشاعر :

فأقسم ما ترکی عتابک عن قلی

ولکن لعلمی أنه غیر نافع

(و) ما نوع «اللام» فی مثل : والله لئن أخلصت لی لأخلصنّ لک؟ وهی «اللام» التی قبلها قسم ، وبعدها أداة شرط ؛ کالمثال السابق وأشباهه ، والتی سبقت فی : «د»؟

یسمیها بعض النحاة «لام الشرط» ، ویسمیها آخرون : «اللام الموطّئة» للقسم ؛ أی : الممهدة له ، لأنها التی تهیئ الذهن لمعرفته. وتدل علی أن الجملة المتأخرة المصدّرة بلام أخری ، هی جواب للقسم ولیست جوابا للشرط. فاللام الأولی «الموطّئة» هی التی أعلمت بذلک ، وبینت أن اللام الثانیة هی «اللام» الداخلة علی جواب القسم ، وأن الجملة بعد هذه اللام الثانیة هی جملة جواب القسم. ولا یصح أن تکون «اللام» الأولی وما دخلت علیه جوابا للقسم ؛ لأن القسم - کما أسلفنا (1) - لا یکون جوابه جملة شرطیة ، ولا جملة قسمیة. ویجب التنبه إلی الفرق بین «لام القسم» ، و «لام الابتداء» ، وقد أوضحناه فی مکانه المناسب من الجزء الأول عند الکلام علی : «لام الابتداء» (2).

وحین یجتمع أداتا قسم وشرط فالجواب یکون - فی الأغلب - للمتقدم منهما (3). أما المتأخر فیحذف جوابه ؛ لوجود الجواب السابق الذی یدل علیه. وبسبب أن الجواب - فی الأغلب - للمتقدم لم تحذف النونان فی المضارع من قوله تعالی : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا یَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا یَنْصُرُونَهُمْ.) وهو السبب - أیضا - فی عدم مجیء الفاء قبل «إنّ» فی قول الشاعر :

لئن کنت محتاجا إلی الحلم إننی

إلی الجهل (4) فی بعض

الأحایین أحوج

ص: 465


1- فی رقم 2 من هامش ص 460.
2- ص 598 وهامشها م 53.
3- هذا هو الأغلب. والتفصیل المناسب لهذه المسألة مدون فی البحث الخاص بها ؛ وهو : بحث اجتماع الشرط والقسم - ج 4 باب الجوازم - ص 362 م 158.
4- الغضب والانتقام. وسیعاد البیت فی الجزء الرابع فی الموضع السالف من الجوازم.

(ز) تحذف جملة الجواب وجوبا فی إحدی حالات ثلاث :

1 - أن یتأخر القسم ویتقدم علیه جملة تغنی عن جوابه - لدلالتها علیه - نحو : تسعد الأمة وتشقی بأبنائها ، والله. ویلاحظ أن جملة الجواب نفسها لا یصح تقدیمها علی القسم.

2 - أو أن یحیط بالقسم جملة تغنی عن الجواب کذلک ؛ نحو : سعادة الأمة - والله - رهن بعمل أبنائها. فجواب القسم فی هذه الحالة - کالتی قبلها - جملة محذوفة لا یصح ذکرها ؛ لوجود ما یغنی عنها ؛ فلا داعی للتکرار فیهما بقولنا : «تسعد الأمة وتشقی بأبنائها ، والله تسعد الأمة وتشقی بأبنائها» وقولنا : «سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها ، والله سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها».

أما فی مثل : الغضب والله إنه وخیم ، أو الغضب والله إنه لوخیم - حیث یکون المتأخر عن القسم جملة - فیصح فی هذه الجملة المتأخرة أن تکون جوابا للقسم ، وجملة القسم مع جملة جوابه فی محل رفع خبر السابق (1) (وهذا من المواضع التی یکون فیها لجملة القسم مع جملة جوابه محل من الإعراب) (2). کما یصح أن تکون الجملة المتأخرة خبرا للمتقدم فی محل رفع وجواب القسم محذوف لوجود ما یغنی عنه ویدل علیه.

3 - أو أن یجتمع أداتا شرط وقسم ویتأخر القسم عن الشرط وهذه الحالة فی الأغلب کما سبق فی : «و».

وتحذف جملة الجواب جوازا فی غیر الحالات السالفة ، لدلیل أیضا ؛ نحو قوله تعالی : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِیدِ،) فجواب القسم محذوف تقدیره : «إنک لمنذر» ، أو نحو هذا ؛ بدلیل قوله تعالی بعد ذلک : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.) ومثله قوله تعالی : (ص ، وَالْقُرْآنِ ذِی الذِّکْرِ.) فجملة الجواب محذوفة ، تقدیرها : «إنّک لمنذر» ؛ بدلیل قوله تعالی بعد ذلک :

ص: 466


1- یراجع الجزء الثانی من «المغنی» فی موضوع حذف جواب القسم ، وفی موضوع الجمل التی لا محل لها من الإعراب ، والملخص أن جملة القسم مع جملة جوابه قد یکون لهما - أحیانا - معا موضع من الإعراب ؛ لأنهما متماسکتان بمنزلة جملة واحدة ولا محل لإحداهما بدون الأخری - فی الرأی المشهور -. وقد سبق لمناسبة أخری بیان هام یختص بهذا الحکم (فی رقم 3 من هامش ص 29).
2- سبقت الإشارة لهذا فی رقم 3 هامش ص 29 - کما قلنا -. وفی رقم 4 من هامش ص 460.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...،) أو : نحو هذا مما یکون فیه دلالة علی المحذوف. کأن یقال : أتقسم علی أنّک أدیت الشهادة الصادقة؟ فتقول : أقسم والله.

ومن مواضع الحذف الجائز لدلیل أن یکون القسم مسبوقا بحرف جواب عن سؤال سابق ؛ کقوله تعالی : (أَلَیْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلی وَرَبِّنا.) فالأصل : بلی وربّنا ؛ إنّ هذا هو الحق ، ومثله أن یسألک سائل : أتعاهد علی تأیید الملهوف؟ فتقول : إی ، والله ، أو : نعم ، والله ، أو : أجل ، والله ... أو غیر هذا من حرف الجواب التی تسبق القسم مباشرة.

(ح) جواب القسم لا یکون إلا جملة ؛ فلا یکون مفردا ، ولا شبه جملة ، غیر أن النحاة عرضوا حالة وقع فیها الجار والمجرور سادّا مسدّ جواب القسم ، ومغنیا عنه - ولیس جوابا أصیلا - ، وهی التی سبقت (1) عند الکلام علی جواز فتح همزة «إن» وکسرها ؛ حیث قالوا یجوز فتح همزة «إن» وکسرها إذا وقعت فی صدر جواب القسم ، وفعل القسم مذکور قبلها ، ولیس فی خبرها اللام ؛ نحو : أقسم بالله أن الإحسان نافع ، فقد جوزوا عند فتح الهمزة أن یکون التقدیر ؛ أقسم بالله نفع الإحسان ، أی : أقسم بالله علی نفع الإحسان ؛ فیصح فی المصدر المؤول الجر بحرف الجر المحذوف ، والجار مع مجروره یسدّ مسد الجواب مباشرة. أو : أن المصدر المؤول منصوب علی نزع الخافض (2) ؛ فهو مفعول به تأویلا. وهذا المفعول به سادّ مسدّ الجواب (3).

والإعراب الأول أحسن. وهناک إعرابات أخری لا تتصل بموضوعنا الحالی.

(ط) من الألفاظ التی قد تستعمل - أحیانا - فی القسم - : «جیر» ، کقول الشاعر :

قالوا قهرت. فقلت : جیر ؛ لیعلمن

عمّا قلیل أینا المقهور

ص: 467


1- فی ج 1 م 52 ص 592 من الطبعة الثالثة.
2- سبق إیضاح معنی «النصب» علی نزع الخافض فی ج 1 م 52 ص 592.
3- راجع الأشمونی والصبان فی الموضع السالف من باب «إن وأخواتها» عند بیت ابن مالک : «بعد إذا فجاءة أو قسم ...»

والأحسن فی إعرابها : أن تکون حرف قسم مبنیّا علی الکسر لا محل له من الإعراب(1).

ومنها : «لا جرم» فی مثل : لا جرم إن الله یمهل الظالم ، حتی إذا أخذه لم یترکه بعد ذلک. وقد سبق أن قلنا (2) : إذا کسرت همزة «إن» فالسبب إجراء : «لا جرم» مجری الیمین عند بعض العرب ؛ بدلیل وجود اللام بعدها فی مثل : لا جرم لأنا مکرمک. فالحرف «لا». ناف للجنس - «جرم» اسمه مع تضمنه القسم ، والجملة بعده من «إن ومعمولیها» جواب القسم ، أغنت عن خبر «لا». أما مع فتح همزة «أن» فکلمة : «جرم» فعل ماض. بمعنی : «وجب» و «لا» زائدة ، والمصدر المؤول فاعل.

ومنها : «ها» التی للتنبیه فی مثل : ها الله ما فعلت کذا ... أی : والله ما فعلت کذا ... وقد سبقت الإشارة إلیها (3) ...

* * *

ص: 468


1- وتصلح فی بعض الأسالیب الأخری أن تکون حرف جواب فقط.
2- ج 1 ص 595 ، م 51 مواضع فتح همزة «إن» وکسرها.
3- فی رقم 1 من هامش ص 441 - وقد ورد فی الأحادیث النبویة ، وفی نصوص نصیحة أخری استعمال هذا الحرف فی القسم ؛ قال الجوهری : «ها» للتنبیه ، وقد یقسم بها ؛ یقال : لا ها الله ما فعلت کذا. قال ابن مالک : فی هذا شاهد علی جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبیه ، ولا یکون ذلک إلا مع کلمة : «الله» ، أی لم یسمع لا ها الرحمن ، کما سمع والرحمن - ثم قال : وفی النطق بها أربعة أوجه (کما جاء فی ص 263 من کتاب نیل الأوطار شرح منتقی الأخبار ، فی الحدیث - ج 7 - باب السلب ، تألیف الشوکانی) أولها : ها الله ، باللام بعد الهاء فی النطق من غیر إظهار شیء من الألفین. ثانیها : ظهور الألفین نطقا وکتابة مع قطع الهمزة ، فیقال : ها ألله. ثالثها : إظهار ألف واحدة من غیر همزة ، فیقال : هالله. رابعا : حذف ألف «ها» وإظهار همزة القطع فی أول کلمة : «الله» فیقال : هألله. والمشهور من هذه الآراء هو الأول والثانی. اه. وقد تسبقها کلمة : «إی» التی بمعنی : نعم.

فی : حرف یجرّ الظاهر والمضمر ، والغالب فیه أن یکون أصلیّا ، وأشهر معانیه تسعة:

1 - الظرفیة حقیقة أو مجازا ؛ نحو : المعادن متراکمة فی جوف الأرض. والنّفط حبیس فی طبقاتها. ونحو : السعادة فی راحة النفس ، والغنی فی التعفف عما لا یملکه المرء ، وهذا المعنی أکثر استعمالاته.

2 - السببیة ؛ نحو : کان المحامی الشاب مغمورا ؛ فاشتهر فی قضیة خطیرة تجرد لها ، وذاع اسمه فیها ، أی : اشتهر بسبب قضیة ... وذاع اسمه بسببها ...

3 - المصاحبة ؛ کقول أحد المؤرخین : «کان الخلیفة العباسیّ یتخیر یوما للراحة ، ولقاء بطانته ، ویدعو فیهم الشاعر الذی یؤنسهم ، فیستجیب فرحا ، ویسرع فی الداخلین ، فیستقبله الخلیفة ، قائلا إلیّ فی بطانتی ؛ فلن یتم سرورنا إلا بک» ... أی : یدعو معهم - یسرع مع الداخلین - مع بطانتی ... ومن هذا قوله تعالی : (قالَ ادْخُلُوا فِی أُمَمٍ ...) أی : مع أمم.

4 - الاستعلاء ؛ نحو : (غرد الطائر فی الغصن ، أی : علی الغصن) - (یصیح الغراب فی المئذنة ، أی : علیها). ونحو : (بطل کأن ثیابه فی سرحة. (1) أی : علی سرحة ، لأنه ضخم طویل).

5 - المقایسة ، أو : الموازنة (2) ؛ نحو : قوله تعالی : (فَما مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ.) أی : بالنسبة للآخرة ، وموازنته بمتاعها.

6 - أن تکون بمعنی : «إلی» الغائیة ؛ نحو : دعوت الأحمق للسداد ؛ فرد یده فی أذنیه ، - أی : إلی أذنیه ، کی لا یسمع النصح -. ومنه قوله تعالی : (فَرَدُّوا أَیْدِیَهُمْ فِی أَفْواهِهِمْ،) کنایة عن عدم الردّ ، وعن ترک الکلام. وقوله تعالی : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِی کُلِّ قَرْیَةٍ نَذِیراً.)

ص: 469


1- شجرة عظیمة.
2- معناهما : ملاحظة شیء بالقیاس إلی شیء آخر ، والحکم علیه بعد هذا القیاس بأمر ما ، کالحسن ، أو القبح ، والزیادة ، أو النقص ... و... ویغلب هنا أن تکون الموازنة بین شیء سابق علی الحرف : «فی» وشیء لاحق بعده. وهذا اللاحق أفضل أو أکثر من السابق. ولا مانع من العکس أحیانا.

7 - أن تکون بمعنی «من» التبعیضیة - غالبا - ؛ نحو : أخذت فی الأکل قدر ما أشار الطبیب ، أی : من الأکل. (بعض الأکل).

8 - أن تکون بمعنی «الباء» التی للإلصاق (1) ؛ نحو : وقف الحارس فی الباب ، أی : ملاصقا له.

ومثل قولهم : من لم یکن بصیرا فی ضرب المقاتل لم یکن آمنا علی حیاته. أی : بضرب المقاتل.

9 - التوکید (بسبب زیادتها) ، والرأی الراجح أن زیادتها غیر قیاسیة ، فیقتصر فیها علی المسموع ؛ مثل قول الشاعر :

أنا أبو سعد إذا اللیل دجا

یخال فی سواده یرندجا (2)

أی : یظنّ سواده یرندجا (3).

* * *

علی : حرف جرّ أصلی یجر الظاهر والمضمر ، وأشهر معانیه ثمانیة :

1 - الاستعلاء ؛ وهو أکثر معانیه استعمالا. ویدل علی أن الاسم المجرور به قد وقع فوقه المعنی الذی قبل «علی» وقوعا حقیقیّا أو مجازیّا. نحو : سیعود السائحون إما علی القطر ، وإما علی السیارات ، أو علی الطائرات ، أو علی البواخر. ونحو قوله تعالی : (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ.)

ص: 470


1- حقیقة أو مجازا. (ویوضح معنی الإلصاق ما سبق فی «الباء» ، رقم 1 ص 452).
2- الیرندج : الجلد الأسود ، أو الطلاء الأسود.
3- فیما سبق من معانی «الباء» و «فی» یقول ابن مالک مقتصرا علی بعض المعانی : ... والظّرفیّة استبن «ببا» و «فی». وقد یبیّنان السّببا أول البیت کلمة لم نذکرها ، هی : «وزید» ؛ لأنها مختصة بمعنی حرف سبق ؛ هو اللام التی من معانیها التوکید ؛ فتکون معه زائدة. ومعنی استن : «ببا» الظرفیة ، أی : صیر الظرفیة واضحة بها ؛ لأنها معنی من معانیها ، ومعانی «فی». فکلا الحرفین یدل علی الظرفیة ، کما یدل علی السببیة. ثم بین معانی الباء فقال : «بالبا» استعن ، عدّ. عوّض ، ألصق ومثل مع ، ومن ، وعن ، بها انطق أی : أنها تکون للاستعانة ؛ وللتعدیة ، وللعوض ، وللإلصاق ، وبمعنی «مع» (أی : للمصاحبة) ، وبمعنی : «من» (أی : التبعیض) وبمعنی : «عن» (أی : للمجاوزة) وقد شرحنا هذا کله فیما سبق.

ولیس من الاستعلاء المجازی قولهم : توکلت علی الله ، واعتمدت علیه ؛ لأن الله لا یعلو علیه شیء حقیقة أو مجازا ، وإنما هی بمعنی الإستناد له ، والإضافة (أی : النسبة) إلیه ؛ ترید : أسندت توکلی واعتمادی إلی الله ، وأضفتهما (أی : نسبتهما) إلیه.

2 - الظرفیة (1) ؛ نحو قوله تعالی : (وَدَخَلَ الْمَدِینَةَ عَلی حِینِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها،) أی : فی حین غفلة.

3 - المجاوزة (2) ؛ نحو : إذا رضی علیّ الأبرار غضب الأشرار ، أی : رضی عنی.

4 - التعلیل ؛ نحو : اشکر المحسن علی إحسانه ، وکافئه علی صنیعه ، أی : لإحسانه ، ولصنیعه.

5 - المصاحبة ؛ نحو : البرّ الحق أن تبذل المال علی حبک له ، وحاجتک إلیه ، أی : مع حبک له ... ومثل قوله تعالی : (وَإِنَّ رَبَّکَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلی ظُلْمِهِمْ.) أی : مع ظلمهم (3) وقول الشاعر (4) :

بعیشک ، هل أبصرت أحسن منظرا

- علی ما رأت عیناک - من هرمی مصر؟

6 - أن تکون بمعنی من ، نحو قوله تعالی : (وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ ؛ الَّذِینَ إِذَا اکْتالُوا عَلَی النَّاسِ یَسْتَوْفُونَ.) أی : من الناس. ونحو قوله علیه السّلام : (بنی الإسلام علی خمس) ... أی : من خمس موادّ.

7 - أن تکون بمعنی «الباء» ؛ نحو : سمعت من الوالد نصحا ، وحقیق علیه أن یقول ما ینفع ، أی : حقیق به ، بمعنی : جدیر به.

ص: 471


1- إذا جرّت : «علی» الظرف کانت بمعنی : «فی» وقد نص «الخضری» علی هذا فی باب الإضافة عند بیت ابن مالک : وابن أو اعرب ما کإذ قد أجریا
2- سبق فی رقم 2 من هامش ص 429 تعریفها ، وبیان أقسامها.
3- ومن أمثال العرب : لاقرار علی زأر من الأسد. - أی : مع زأر - یریدون : لا أمان ولا استقرار فی مکان یسمع فیه زئیر الأسد.
4- سبق البیت التالی لمناسبة أخری فی ص 459.

8 - الإضراب. والمراد به هنا : إبعاد المعانی الفرعیة التی تخطر علی البال من کلام سابق ، وإبطال ما یرد علی النفس منها ؛ (فهو کالاستدراک المستفاد من کلمة : «لکن»). ومن أمثلته قولهم : «هفا الصدیق فاحتملت هفوته ؛ علی أنّ احتمالها مرّ ألیم ، وجفا ؛ فقبلت جفوته. علی أن الرضا بها کالرضا بالطعنة المسدّدة ؛ کلّ نفس لها کارهة ...» فقد بین المتکلم أنه احتمل الهفوة ، وهذا یوحی إلی النفس أن احتمالها سهل ، وأنه راض باحتمالها ، فأزال هذا الوحی بما ذکره من أنّ احتمالها مرّ وألیم ، کذلک بیّن أنه قبل جفوة صدیقه. وهذا یشعر بأن قبولها کان عن رضا وارتیاح ؛ فأزال هذا الوهم ، نافیا له ، مبینا أن الرضا به بغیض إلی النفس بغض الطعنة القاتلة ... وکانت وسیلته للإبانة هی کلمة : «علی» التی بمنزلة : «لکن».

ومن ذلک قولهم : «الإسراف کالشحّ ؛ کلاهما داء وبیل ، یخشی عواقبه اللبیب ، علی أن داء الشّح أخفّ ضررا ، وأهون خطرا من داء الإسراف ...» فقد بین أن کلاهما داء سیئ العاقبة ، وهذا یوحی إلی النفس أنهما فی الشر سواء ، ومنزلتهما من الضرر واحدة ، فأزال هذا المعنی الفرعی المتوهّم بکلمة : «علی» ، وما بعدها ؛ فهی بمنزلة : «لکن» ، التی تجیء أول الجملة لإبطال المعانی الفرعیة الناشئة مما قبلها.

ومن الأمثلة أیضا ما قاله الشاعر فی أمر قربه أو بعده عن دیار أخلائه ، وأنه یفید أو لا یفید :

بکلّ تداوینا ؛ فلم یشف ما بنا

علی أنّ قرب الدار خیر من البعد

علی أنّ قرب الدار لیس بنافع

إذا کان من تهواه لیس بذی ودّ

فقد بیّن أولا أنه تداوی بالقرب وبالبعد فلم یفده واحد منهما. وعدم الإفادة بعد التجربة یوقع فی الوهم أنهما سیان من کل الوجوه. لکنه أبطل هذا التّوهم بتصریحه بعد ذلک حیث یقول : «علی أن قرب الدار خیر من البعد». فهذه الجملة تبطل ما سبق ، وتوحی بمعنی جدید ؛ هو : أن القرب مطلقا خیر من البعد. ثم عاد فابطل هذا المعنی الذی أوحی به الوهم بجملة جدیدة ؛

ص: 472

هی : «قرب الدار لیس بنافع» ... وکانت أداة الإضراب والإبطال هی کلمة : «علی».

والأحسن فی کلمة : «علی» إذا کانت للإضراب والإبطال عدم تعلقها هی ومجرورها بشیء ؛ (لأنها فی هذا الاستعمال بمنزلة : «لکن» التی تفید الاستدراک) مع اعتبارها حرف ابتداء ، لوقوعها فی أول الجملة (1).

وقد تستعمل : «علی» اسما بمعنی : «فوق» ویکثر هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف «من» فإنه لا یدخل إلا علی الأسماء ، نحو : تمرّ من علی بلدنا الطائرات. أی : من فوق بلدنا (2) ، فقد خرجت من حرفیتها ، وصارت اسما بمعنی «فوق» ، کما نری. وهذا قیاسی کباقی استعمالاتها.

وإذا کان المجرور بها ضمیرا وجب قلب ألفها یاء (3) ؛ نحو : تقبل علینا وفود السائحین شتاء. وقول الشاعر :

إذا طلعت شمس النهار فإنها

أمارة تسلیمی علیک ، فسلّمی

فإن کان الضمیر یاء المتکلم ، وجب إدغام الیاءین ؛ نحو : علیّ أن أسعی للخیر جاهدا (4) ...

* * *

عن (5) : حرف جر أصلی ؛ یجر الظاهر والمضمر. وأشهر معانیه تسعة :

ص: 473


1- ولا داعی للأخذ بالرأی الذی یقول : إنهما متعلقان بمحذوف هو خبر لمبتدأ محذوف والتقدیر : (التحقیق کائن علی أن کذا وکذا) ؛ لأن هذا الرأی یحوی التعقید ، والتکلف ، وکثرة المحذوف من غیر داع. وقد ذکرنا - وأوضحنا الأسباب - أنه لا یصح الالتجاء إلی الحذف والتقدیر والتعسیر بغیر ضرورة قاسیة ؛ لا سبیل للتغلب علیها إلا من هذه الناحیة. والرأیان فی حاشیة الأمیر علی الشذور ص 15 عند الکلام علی «ذی» إحدی الأسماء الستة.
2- وقد أشار إلی هذا ابن مالک فی بیت سیجیء فی هامش ص 477 عند کلامه علی «الکاف» التی قد تقع اسما.
3- وهی المکتوبة یاء ، تبعا لقواعد رسم الحروف.
4- «ملاحظة» : جاء فی «الکامل» للمبرد - ج 1 ص 270 - أن بعض العرب یحذف من آخرها اللام والیاء إذا کان المجرور بها مبدوءا «بأل» ، ویحذف معهما همزة «أل» کقول قطری بن الفجاءة : غداة طفت علماء بکر بن وائل وعجنا صدور الخیل نحو تمم یرید طفت علی الماء القتلی من بکر ... وجاء علی هامش الموضع السالف أن أولئک العرب تفعل ذلک کثیرا فی النثر والشعر اه ، لکن الأنسب الیوم عدم مجاراتهم ، لما فیه من لبس.
5- الغالب أن تتحرک النون بالکسر إذا وقع بعدها ساکن مطلقا : (أل ، أو غیرها) ، نحو : انصرف عن الأذی انصرافک عن استقبال البلایا.

1 - المجاوزة (1) ، وهی أظهر معانیه ، وأکثرها استعمالا ؛ نحو : جلوت عن بلد المظالم ، ورغبت عن الإقامة فیه. أی : ابتعدت وترکت.

2 - أن تکون بمعنی : «بعد» (2) ، کقولهم : دع المتکبر ؛ فعن قلیل یؤدبه زمانه ، والمغرور ؛ فعن قریب تکشفه أیامه. أی : بعد قلیل. وبعد قریب ...

3 - الاستعلاء (فتکون بمعنی : «علی»). نحو : من یبخل بخدمة وطنه فإنما یسیء لنفسه بما یبخل عنها ، ویمنع من إفادتها ... أی : بما یبخل علیها (3). وکقولهم : العظیم من زادت خیراته عن المحتاج لها ، وفضلت عنه ... أی : علی المحتاج لها - وفضلت علیه ، وقول الشاعر :

إذا رضیت عنی کرام عشیرتی

فما زال غضبانا علیّ لئامها

4 - التعلیل. (أن یکون ما بعدها علة وسببا فیما قبلها) ، نحو : لم أحضر إلیک إلا عن طلب منک ، ولم أفارقک إلا عن میعاد ینتظرنی ، أی : بسبب طلب ، وبسبب میعاد.

5 - الظرفیة ؛ کقولهم : الزعیم لا یکون عن حمل الأعباء الثّقال وانیا ، ولا عن بذل التضحیات مترددا. أی : فی حمل ... وفی بذل.

6 - الاستعانة (4) ؛ نحو : رمیت عن القوس ، أی : بالقوس ، إذا کانت القوس أداة الرمی.

7 - أن تکون بمعنی : بدل ؛ نحو قوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً.) ومثل : أدیت العمل عن صدیقی المریض ، أی : بدل نفس ، وبدل صدیقی. وقول الشاعر یمدح محسنا :

وتکفّل الأیتام عن آبائهم

حتی وددنا أننا أیتام

ص: 474


1- سبق فی رقم 2 من هامش ص 429 عند الکلام علی : «من» تعریفها ، وبیان أقسامها ، مع التمثیل والإیضاح.
2- «بعد» ظرف سبق الکلام علیه تفصیلا فی باب الظرف ، ص 265.
3- ومن هذا قوله تعالی : (وَمَنْ یَبْخَلْ فَإِنَّما یَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)
4- سبق فی ص 429 شرح معناها وما یتصل بها.

8 - أن تکون بمعنی : «من» نحو قوله تعالی : (وَهُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...،) أی : من عباده. (وهذا أوضح من اعتبارها للمجاوزة ؛ علی معنی : الصادرة عن عباده ، ولا تقدیر فیه).

9 - أن تکون بمعنی الباء ، نحو قوله تعالی : (وَما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی،) أی : بالهوی.

وقد ذکر لها بعض معان أخری ، ترکناها متابعة للمعترضین - بحق - علیها (1).

وتستعمل «عن» اسما بمعنی : «جانب». ویغلب أن یکون هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف : «من» ، نحو : یجلس القاضی ؛ ومن عن یمینه مساعده ، ومن عن یساره کاتبه. أی : من جانب یمینه ، ومن جانب یساره (2) .. وهذا الاستعمال قیاسیّ کباقی استعمالاتها السابقة.

اتصال «ما» الزائدة بالحرف : عن

إذا کانت «عن» جارّة جاز وقوع «ما» الزّائدة بعدها ، فلا تغیر شیئا من عملها أو معناها ؛ وإنما یبقی لها کل اختصاصها السابق قبل مجیء الحرف

ص: 475


1- منها أن تکون زائدة سماعا - ویجب الاقتصار فی زیادتها علی المسموع وحده - ؛ نحو : (یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) وهذه تصلح أصلیة إذا کان السؤال لمعرفة شأن الأنفال ، وطلب الاستخبار عنها ، لا لطلب الاستعطاء وأخذ شیء منها. ومن زیادتها المسموعة ما نص علیه ابن هشام فی المغنی - ج 1 عند الکلام علیها - قائلا : (إنها تکون زائدة للتعویض من أخری محذوفة ؛ کقول الشاعر : أتجزع إن نفس أتاها حمامها فهلّا التی عن بین جنبیک تدفع قال ابن جنی : أراد ؛ فهلا تدفع عن التی بین جنبیک ، فحذفت «عن» من : أول الموصول ، وزیدت بعده) ... اه ... والبیت مذکور أیضا فی ذیل الأمالی ص 107. وفیما سبق من معانی «علی» ، و «عن» یقول ابن مالک باختصار : «علی» للاستعلا ، ومعنی «فی» و «عن» بعن تجاوزا ، عنی من قد فطن وقد تجیء موضع «بعد» و «علی» کما «علی» ، موضع «عن» قد جعلا یرید : أن «علی» تکون للاستعلاء وتکون للظرفیة ؛ مثل : «فی» ، وللمجاوزة مثل «عن» : التی تؤدی هذا المعنی إذا قصده من فطن ؛ لأنها تؤدیه. ثم بین أن : «عن» قد تکون بمعنی : «بعد» ، وبمعنی : «علی» المفیدة للاستعلاء. کما أن : «علی» تکون بمعنی : «عن» المفیدة للمجاوزة.
2- وسیشیر إلی هذا ابن مالک فی بیت یجیء فی هامش ص 477 عند الکلام علی : «الکاف».

الزائد ، نحو : عما قریب یتحقق المأمول (1).

* * *

الکاف : حرف یجر الظاهر ویقع أصلیّا وزائدا. وأظهر معانیه أربعة :

1 - التشبیه : وهو - بنوعیه الحسّی والمعنوی - أکثر معانیه تداولا ، والأغلب دخول «الکاف» علی المشبّه به ؛ نحو : الأرض کرة کالکواکب الأخری. تستمد ضوءها من الشمس کبقیة المجموعة الشمسیة. ونحو : الذکاء کالکهربا ، کلاهما لا یدرک إلا بآثاره. ویقولون فی المدح : فلان کهربیّ الذکاء. یریدون : أنه فی سرعة فهمه واستنباطه کالکهربا ؛ فی سرعة تأثرها وتأثیرها (2) ...

2 - التعلیل والسببیّة ؛ کقوله تعالی : (وَاذْکُرُوهُ کَما هَداکُمْ.) أی : بسبب هدایته لکم. وقوله تعالی عن الوالدین : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما کَما رَبَّیانِی صَغِیراً ....) أی : بسبب تربیتهما إیای فی صغری.

3 - التوکید (3) ویختص بالزائدة ؛ نحو قوله تعالی : (لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ.) أی لیس شیء مثله ... (وهذا فی رأی من یرون زیادة الکاف هنا) (4).

ص: 476


1- وتقضی قواعد الکتابة باتصال الحرفین خطا. وسیشیر ابن مالک آخر الباب - ص 488 - إلی مسألة زیادة الحرف : «ما» بعد : «من» و «عن» و «الباء» ، وأن هذه الزیادة لا تعوق تلک الحروف عن عملها ، فیقول : وبعد «من» «وعن» ، و «باء» ، زید «ما» فلم یعق عن عمل قد علما
2- ومن الأمثلة قول الشاعر : ابنوا کما بنت الأجیال قبلکمو لا تترکوا بعدکم فخرا لإنسان ای کبنایة الأجیال.
3- سبق فی أول هذا الباب ص 417 إیضاح للتوکید الذی ینشأ من الحرف الزائد. کما سبق فی الجزء الأول ص 43 م 5.
4- وحجتهم أنها لو لم تکن زائدة الترتب علی أصالتها الاعتراف بوجود مثل للمولی تعالی وهذا محال. والأسهل الموافقة علی زیادتها فی هذا الموضع ونظائره - ومنها قوله تعالی : (مَثَلُهُمْ کَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً .. ؛) لتجنب التأویلات الأخری ، والآراء التی یشوبها التعقید ، أما من یمنعون زیادتها فحجتهم أن القرآن لیس فیه زائد. لکن فاتهم أن الزائد هنا وفی فصیح الکلام العربی یؤدی توکید معنی الجملة ؛ فلا عیب فی زیادته مع أدائه هذا الغرض ، إنما المعیب هو الزائد الذی لا فائدة معه ، فیکون وجوده کعدمه.

4 - الاستعلاء ، کقولهم : کن کما أنت. أی : علی الحال التی أنت علیها. واستعمالها فی هذا المعنی والذی قبله قلیل - ولکنه قیاسی.

ومن الاستعمالات القیاسیة أن تخرج عن الحرفیة ؛ وتصیر اسما بمعنی : مثل کقولهم : لن ینفع فی منع الإجرام کالعقوبات الرادعة. وقولهم : ما عاقب الحرّ الکریم کنفسه ، وقولهم :

وما قتل الأحرار کالعفو عنهمو

ومن لک بالحر الذی یحفظ الیدا؟

أی : مثل العقوبات - مثل نفسه - مثل العفو ؛ فالکاف فی الأمثلة السالفة فاعل ، مبنی علی الفتح فی محل رفع ، وقد تکون خبرا لمبتدأ ؛ کقولهم : من حذّرک کمن بشّرک.

وقد تکون مفعولا به فی نحو قول الشاعر :

ولم أر کالمعروف ؛ أمّا مذاقه

فحلو ، وأما وجهه فجمیل

وقد تکون فی محل جر فی نحو : یبتسم فلان عن کاللؤلؤ المکنون.

فهی بمعنی : «مثل» فی کل ذلک ، وفی کل موضع آخر تکون فیه اسما (1).

وإذا کانت «الکاف» أداة جر فقد تتصل بها «ما» الزائدة فتکفها عن العمل -

غالبا - وتزیل اختصاصها (وهو الدخول علی الاسم لجرّه). فتدخل علی الجمل الاسمیة والفعلیة ، نحو : الصحة خیر النعم ؛ کما المرض شرّ المصائب. ونحو : الفقر یخفی مزایا المرء ، کما یزیل ثقة الناس

ص: 477


1- وفی الکلام علی معانی «الکاف» ، وعلی أنها تستعمل اسما بمعنی : «مثل» ، وکذلک : «عن» و «علی» بدلیل دخول «من» علیهما - وهی لا تدخل إلا علی الأسماء - یقول ابن مالک أولا : شبّه بکاف ، وبها «التّعلیل» قد یعنی ، وزائدا لتوکید ورد یرید : أن کلمة : «الکاف» تستعمل فی التشبیه ، وأن «التعلیل» بها قد یعنی (أی : یقصد) وورد هذا الحرف زائدا للتوکید. واستعمل اسما ، وکذا : «عن» و «علی» من أجل ذا علیهما «من» دخلا یرید : أن حرف «الکاف» استعمل اسما ، وکذلک «عن» و «علی». ومن أجل استعمالها اسمین دخل علیهما الحرف الجار : «من» وهو لا یدخل إلا علی الأسماء - کما سبق. فی ص 473 -.

بصاحبه (1) ... وهذه هی «ما» الزائدة الکافة عن العمل ، ومن القلیل ؛ الذی لا یقاس علیه أن یبقی لها اختصاصها الأول ، ؛ فتدخل علی الاسم فتجره ؛ نحو : قول القائل :

وننصر مولانا ونعلم أنه

کما الناس مظلوم علیه وظالم

أی : کالناس ، وهذه هی «ما» الزائدة فقط ، ولیست بکافة.

* * *

مذ ومنذ (2) : یکثر استعمالهما اسمین ظرفین ، أو اسمین غیر ظرفین ، کما یکثر استعمالهما حرفین أصلیین للجر.

(ا) فیصلحان للاسمیة المجردة من الظرفیة إذا لم تقع بعدهما جملة ، وإنما وقع بعدهما اسم مرفوع ؛ نحو : ما سافرت مذ الشهر الماضی ، أو منذ ... فمذ ومنذ مبتدأ خبره الاسم المرفوع بعده (3).

ویصلحان للظرفیة إذا وقع بعدهما جملة اسمیة ، وفعلیة ماضویة ، ولا یصح أن تقع بعدهما المضارعیة المستقبلة (4) ؛ فمثال الجملة الاسمیة : ما سافرت مذ الجوّ مضطرب ، أو منذ ... فکلاهما ظرف زمان للفعل «سافر» ، مبنیّ علی

ص: 478


1- وسیشیر إلی هذا ابن مالک آخر الباب - ص 488 - حیث یقول فی زیادتها بعد «الکاف» ، و «رب» ، وأنها تکفهما عن العمل أو لا تکفهما : وزید بعد «ربّ» والکاف فکفّ وقد یلیهما وجرّ لم یکفّ أی : لم یمنع. یرید بقوله : «وزید» الحرف : «ما» وأن هذا الحرف کفهما عن العمل ، وقد یلیهما فلا یکفهما.
2- سبق کلام علیهما - فی باب الظرف ، ص 278 - ولأهمیتهما وتشعب أحکامها سیجیء لهما بحث شامل مستقل ، آخر هذا الجزء - ص 502 - (وکذلک سبق الکلام علیهما فی ج 1 لمناسبات مختلفة فی ص 357 م 36 و 366 م 37 و 370 م 38).
3- هذا هو الأحسن. ویجوز إعراب کل منهما ظرفا خبرا مقدما بمعنی : «بین ، وبین» مضافین فمعنی ما سافرت مذ أو منذ الشهر الماضی : الشهر الماضی بینی وبین عدم السفر - راجع الصبان - و «الشهر» هو المبتدأ المؤخر. ولا بد من تقدم «مذ ومنذ» عند إعرابهما مبتدأ أو خبرا. وشروط أخری هی المشار لها فی رقم 2 من هامش الصفحة الآتیة.
4- فلا یصح : «مذ ، أو منذ» یفهم ؛ لأن عاملهما لا یکون إلا ماضیا ، فلا یجتمع مع المستقبل - کما سیجیء فی البحث الآتی (ص 503) منقولا عن الصبان.

السکون أو الضم ، فی محل نصب ، وهو مضاف ، والجملة الاسمیة بعدهما فی محل جر مضاف إلیه. ومثال الجملة الفعلیة الماضویة : أسرعت إلیک مذ أو منذ دعوتنی ، وکلاهما ظرف زمان للفعل : «أسرع» مبنی علی السکون والضم فی محل نصب. والظرف مضاف والجملة الماضویة بعده مضاف إلیه فی محل جر. ومن هذا قول الشاعر :

بدا الصبح فیها (1) منذ فارقت

مظلما

فإن أبت صار اللیل أبیض ناصعا

«فمنذ» ظرف زمان للفعل : «بدا».

(ب) ویکونان حرفین أصلیین للجر ، وهذا یوجب شروطا ؛ أهمها (2) : أن یکون المجرور اسما ظاهرا ، لا ضمیرا ، وأن یکون وقتا (3) ، وأن یکون هذا الوقت متصرفا ، معینا لا مبهما ، ماضیا أو حاضرا لا مستقبلا. نحو : ما رأیته مذ یوم السبت الأخیر ، أو مذ ساعتنا ، فلا یصح : مذه ، ولا مذ البیت ، ولا : مذ سحر ، (ترید : سحر یوم معین) ولا مذ زمن ، ولا مذ غد ، وکذلک «منذ» فی کل ما سبق.

ویشترط فی عاملهما أن یکون ماضیا ، إما منفیّا یصح أن یتکرر معناه ؛ نحو : ما رأیته مذ أو منذ یوم الجمعة ، وإمّا مثبتا ، معناه ممتدّ متطاول (4) ؛ نحو : سرت مذ ، أو منذ یوم الخمیس. فإن کان الاسم المجرور بهما معرفة ومدلول زمنه ماضیا ، کان معناهما الابتداء مثل : «من» الابتدائیة ، نحو : ما رأیته مذ ، أو : منذ یوم الجمعة الماضی ، أی : من یوم الجمعة ؛ فابتداء عدم الرؤیة هو یوم الجمعة. وإن کان معرفة ومدلول زمنه حاضرا کان معناهما - لا إعرابهما -

ص: 479


1- فی الدار ، أو البلدة.
2- والراجح أن هذه الشروط تجری علی الاسم المنفرد المرفوع بعدهما أیضا إذا لم یکونا حرفی جر.
3- ومثل الوقت ما یسأل به عن الوقت ، بشرط أن یکون ظرف زمان ؛ نحو : منذکم یوما سافرت؟ أو منذ متی سافرت؟ أو منذ أی وقت سافرت؟ ومثلها : مذ. ویقول النحاة - کما جاء فی الهمع - إنه یصح وقوع المصدر بعدهما ، نحو : ما رأیته مذ قدوم علیّ بالرفع والجر ، وهو علی تقدیر حذف زمان ؛ أی : مذ زمن قدوم علی. ویجوز وقوع «أن وصلتها» ، بعدهما ؛ نحو : ما رأیته مذ أن الله خلقنی ، فیقدر قبل المصدر المؤول لفظ زمان (انظر ص 481 ورقم 3 هامش ص504).
4- فی ص 507 بیان «المتطاول» وما یتصل بهذا.

الظرفیة ، مثل «فی». نحو : ما رأیته مذ ساعتنا ، أو منذ یومنا. أی : فی ساعتنا وفی یومنا.

أما إن کان المجرور بهما نکرة معدودة (1) فمعناهما الابتداء والانتهاء معا ؛ فهما مثل «من» و «إلی» مجتمعین ؛ نحو : ما رأیته مذ أو منذ یومین. أی : ما رأیته من ابتداء هذه المدة إلی نهایتها.

ومما یجب التنویه به أن الاسم بعد «مذ» ، و «منذ» مع جواز جره علی اعتبارهما حرفی جر ، وجواز رفعه علی اعتبارهما اسمین محضین - قد یترجح فیه أحد الضبطین علی الآخر ، وقد یقوی حتی یقترب من الوجوب کما یتبین مما یأتی :

إذا کان الزمن بعدهما للحاضر فالراجح أن یکونا حرفی جر ، والاسم بعدهما مجرورا بهما ، نحو : ما ترکت الکتابة مذ أو منذ ساعتنا. وعلی هذا تجری أکثر القبائل العربیة ، وتکاد تلتزمه وتوجبه.

وإذا کان الزمن بعدهما للماضی فالأرجح اعتبار «منذ» حرف جر ، والاسم بعدها مجرور ، نحو : ما زرت الصدیق منذ یومین. والعکس فی «مذ» ، نحو ما زرت الصدیق مذ یومان (2).

ص: 480


1- لتکون معینة ؛ لأن المبهمة - أی : غیر المعدودة ، مثل : برهة ، وحین ... - لا تصلح بعدهما ، کما سبق. ولا فرق فی المعدود بین أن یکون معدودا لفظا ومعنی ؛ نحو : یومین ، أو معنی فقط ؛ نحو : شهر.
2- وفی الکلام علی مذ ومنذ واسمیتهما وحرفیتهما وأحکامهما یقول ابن مالک : و «مذ ومنذ» اسمان حیث رفعا أو أولیا الفعل ، کجئت مذ دعا یرید : أنهما یکونان اسمین حین یرفعان اسما بعدهما ؛ باعتبارهما مبتدأین ، وهو الخبر المرفوع بالمبتدأ ، أو حین یلیهما ویجیء بعدهما الفعل وفاعله ؛ مثل : جئت مذ دعا. واکتفی بأن ذکر الجملة الفعلیة وترک الاسمیة لفهم القارئ ، أو لأنها ستعرب خبرا والخبر مرفوع - عندهم - بالمبتدأ فتدخل فی ضمن الحالة الأولی. ثم قال فی معناهما : وإن یجرّا فی مضیّ «فکمن» هما ، وفی الحضور معنی : «فی» ، استبن أی : اطلب. بیان معنی «فی» وهو : الظرفیة.

زیادة وتفصیل

فی مثل : «ما رأیته مذ أو منذ أن الله خلقه» - بفتح همزة أنّ ، (أی : من زمن أن الله خلقه) یجوز اعتبارهما اسمین ، مبتدأین ، والمصدر المؤول خبرهما ، کما یجوز اعتبارهما حرفی جر والمصدر المؤول هو المجرور بهما. أما عند کسر همزة «إن» فیتعین اعتبارهما اسمین مبتدأین لوقوع جملة اسمیة بعدهما هی الخبر (1).

* * *

ص: 481


1- لهذا إشارة فی رقم 3 من هامش ص 479 وبیان فی رقم 3 من هامش ص 504.

«ربّ» : لیس بین حروف الجر ما یشبه هذا الحرف فی تعدد الآراء فیه ، واضطراب المذاهب النحویة واللغویة فی أحکامه ونواحیه المختلفة. (التی منها ناحیة معناه ، وناحیة حرفیته ، وناحیة زیادته أو شبهها ، وتعلقه بعامل أو عدم تعلقه ، ونوع الفعل الذی یقع بعده ، والجملة التی یوصف بها مجروره ... و...) وکان من أثر هذا الاضطراب قدیما وحدیثا الحکم علی بعض الأسالیب بالخطأ عند فریق ، وبالصحة عند آخر ، وبالقبول بعد التأول والتقدیر عند ثالث. وکل هذا یقتضینا أن نستخلص أفضل الآراء ، بأناة ، وحسن تقدیر.

وخیر ما نستصفیه من معناه ، ومن أحکامه النحویة هو ما یأتی :

(ا) أن معناه قد یکون التکثیر وقد یکون التقلیل ، وکلاهما لا بد فیه من القرینة التی توجه الذهن إلیه. ولهذا کان الاستعمال الصحیح للحرف «ربّ» وما دخل علیه أن یجیء بعد حالة شک تقتضی النص علی الکثرة أو القلة ، (کأن یقول قائل (1) : أظنک لم تمارس الصناعة. فتجیب : رب صناعة نافعة مارستها. فقد جاءت الأداة «ربّ» وجملتها لإزالة شک قبل مجیئها). فمثال دلالتها علی الکثرة : ربّ محسود علی جاهه احتمل البلاء بسببه ، وربّ مغمور فی قومه سعد بغفلة العیون عنه ... وقولهم : ربّ أمل فی صفاء الزمان قد خاب ، وربّ أمنیة فی مسالمة اللیالی قد بددتها المفاجئات.

ومثال القلة قولهم : ربّ منیة فی أمنیّة تحققت ... ؛ ورب غصّة فی انتهاز فرصة تهیأت. وقولهم : ربّ غایة مأمولة دنت بغیر سعی ، وربّ حظ سعید أقبل بغیر انتظار. والقرینة علی القلة والکثرة فی الأمثلة السالفة هی : التجارب الشائعة التی یعرفها السامع ، ویسلم بها.

(ب) وأن أحکامه النحویة أهمها :

1 - أنه حرف جر شبیه (2) بالزائد. وله الصدارة فی جملته ؛ فلا یجوز

ص: 482


1- أو من هو فی حکم القائل ؛ بأن تدل هیئته علی أنه فی حالة شک ، فلیس من اللازم أن ینطق فعلا ، وإنما یکفی أن یقدر فیه ذلک (شرح المفصل ج 8 ص 27).
2- سبق الکلام فی ص 419 علی حرف الجر الشبیه بالزائد ، وأوجه الاتفاق والمخالفة بینه وبین الأصلی والزائد.

أن یتقدم علیه شیء منها (1). لکن یجوز أن یسبقه أحد الحرفین : «ألا» الذی للاستفتاح و «یا» ، نحو : ألا ربّ مظهر جمیل حجب وراءه مخبرا مرذولا. - یا ربّ عظیم متواضع زاده تواضعه عظمة وإکبارا.

2 - وأنه لا یجر - غالبا - إلا الاسم الظاهر النکرة. وقد وردت أمثلة قلیلة - لا یحسن القیاس علیها - کان مجروره فیها ضمیرا للغائب ، یفسره اسم منصوب ، متأخر عنه وجوبا ، یعرب : تمییزا ، نحو : ربّه شابّا نبیلا صادفته ، وفی تلک الأمثلة القلیلة کان الضمیر مفردا غائبا فی جمیع أحواله ، یعود علی التمییز الواجب التأخیر. ویجب مطابقة هذا التمییز لمدلول هذا الضمیر المسمی : «الضمیر المجهول (2)» لعدم عودته علی متقدم. نحو : ربه شابین نبیلین صادفتهما - ربه شبابا نبلاء صادفتهم - ربه فتاة نبیلة صادفتها ... و... وهکذا.

3 - وأن النکرة التی یجرها تحتاج فی أشهر الآراء - لنعت مفرد ، أو جملة ، أو شبه جملة. غیر أن الأکثر الأفصح حین یکون النعت جملة أن تکون فعلیة ، ماضویة لفظا ومعنی ، أو : معنی فقط - کالمضارع المسبوق بالحرف «لم» - (نحو : رب صدیق وفیّ عرفته - رب صدیق لازمک عرفته - رب صدیق عندک عرفته - رب صدیق فی الشدة عرفته - رب صدیق لم یتغیر عرفته). ومثال النعت بجملة اسمیة ، ربّ ملوم لا ذنب له ، وقول الشاعر :

ذلّ من یغبط الذلیل بعیش

ربّ عیش أخفّ منه الحمام (3)

4 - وأن «رب» مع مجرورها لا بد أن یکون لها فی أغلب الأحوال اتصال معنویّ بفعل ماض یقع بعدها ، أو : بما یعمل عمله ویدل دلالته الزمنیة ، (وهذا الفعل مع فاعله غیر الجملة الماضویة التی قد تقع - أحیانا - صفة لمجرورها) ،

ص: 483


1- ومن المسموع الذی لا یقاس علیه - لندرته - قول الشاعر : وقبلک ربّ خصم قد تمالوا علیّ فما هلعت ولا ذعرت - تمالوا : أی : تمالئوا ، بمعنی : اجتمعوا واتفقوا -. الخصم : المخاصم. وقد یکون للاثنین ، وللجمع. وللمؤنث ...
2- وله أسماء متعددة ، منها : ضمیر الشأن ، وضمیر القصة ... (وقد سبق شرحه وتفصیل الکلام علیه فی باب «الضمیر» - ج 1 م 19 ص 226).
3- الموت.

ویکون الفعل - أو ما یعمل عمله - بمنزلة العامل الذی تتعلق به «رب» ومجرورها (1) بالرغم مما هو مقرر من أن حرف الجر الزائد وشبه الزائد لا یتعلق مع مجروره بعامل - کما سبق - نحو : رب کلمة طیبة جلبت خیرا ، ودفعت شرّا. وقول الشاعر :

فیا ربّ وجه کصافی النمیر

تشابه حامله والنّمر ... (2)

والأغلب فی هذا الفعل وما فی معناه أن یکون محذوفا مع فاعله ؛ لأنهما معلومان تدلّ علیهما قرینة لفظیة أو معنویة ، (لما قدمنا من أن الاستعمال الصحیح للحرف «رب» وما دخل علیه أن یکون بعد حالة شک تستدعی النص علی القلة أو الکثرة ، فیکون جوابا عن قول لقائل ، أو : من ه فی حکمه) ؛ فاللفظیة نحو : ما أطیب العمل ، وما أبغض البطالة : فربّ عمل نافع ، وربّ بطالة ضارة. التقدیر : فرب عمل نافع أحببته ، وربّ بطالة ضارة کرهتها. والمعنویة کأن تمرّ علی قوم منهمکین فی العمل ، مشغولین به ، فتبتسم ابتسامة الرضا والانشراح ؛ ثم تنصرف عنهم قائلا : رب عمل نافع ، ورب بطالة ضارة ، فالتقدیر : رب عمل نافع أحببته ، أو احترمت صاحبه ، أو أکبرته ... و... ورب بطالة ضارة کرهتها ، أو أنکرت أمرها ... أو ... ومن الجائز ذکر هذا الفعل وفاعله.

ویقول النحاة إن «ربّ» توصل معنی هذا الفعل وما فی حکمه إلی الاسم المجرور بها ، ففی مثل : «رب رجل عالم أدرکت» أوصلت معنی الإدراک إلی

ص: 484


1- راجع شرح المفصل (ج 8 ص 27 و 29 ثم الصبان فی أول باب الإضافة عند الکلام علی الإضافة اللفظیة ، ومناقشته مثال ابن مالک : (ربّ راجینا عظیم الأمل ...) ونص ما نقله الصبان : (إن الأکثرین یقولون بوجوب مضی ما تتعلق به «رب» ، بناء علی أنها تتعلق ، ولا یقولون بوجوب مضی مجرورها ؛ وأن ابن السراج یجوز کونه حالا ، وابن مالک یجوز کونه حالا أو مستقبلا وقد قال فی التسهیل «ولا یلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد ومن وافقه ، ولا مضی ما تتعلق به») اه ، هذا ، ولا یحسن الأخذ بالآراء الضعیفة إلا فی فهم ما ورد بها. أما المحاکاة والقیاس فیجریان علی الأعم الأشهر الذی لخصناه.
2- ومثل هذا قول الآخر : رب لیل کأنه الدهر طولا قد تناهی فلیس فیه مزید

الرجل (1) ، وکذلک فی الأمثلة السابقة. ومن ثمّ کان الأحسن عندهم فی مثل : «ربّ عالم لقیته» وقول الشاعر :

ربّ حلم (2) أضاعه عدم

الما

ل ، وجهل غطّی علیه النعیم

أن تکون الجملة الفعلیة الماضویة المذکورة هی صفة للنکرة المجرورة بالحرف : «ربّ». وأن تکون هناک جملة أخری ماضویة محذوفة ، تتصل بها «ربّ» ومجرورها اتصالا معنویّا. ولا یرتاحون أن تکون الجملة الماضویة المذکورة هی المرتبطة ارتباطا معنویّا بهما ؛ لأنها صفة للنکرة المجرورة «بربّ» وهذه النکرة قد تستغنی عن کل شیء أساسیّ أو غیر أساسی بعدها إلا عن الصفة. ومثل هذا الفعل الداخل فی جملة الصفة - لا یصلح أن یکون هو الذی بمنزلة العامل فی : «ربّ» ومجرورها ؛ لأن الصفة لا تعمل فی الموصوف ؛ منعا للفساد المعنوی.

5 - وأنه یجوز أن یتصل بآخرها «ما» الزائدة. والشائع فی هذه الحالة أن تمنعها من الدخول علی الأسماء المفردة ، ومن الجرّ ، فتجعلها مختصة بالدخول علی الجمل الفعلیة والاسمیة (3) ، ولذا تسمی : «ما» الزائدة الکافة ؛ لأنها کفّتها ، أی : منعتها من عملها (وهو الجر) ومن اختصاصها (وهو الدخول علی الاسم وحده ؛ لجره) ؛ نحو : ربما رأیت فی الطریق مستجدیا وهو من الأغنیاء. ونحو : ربما کان السائل أغنی من المسئول ، أو ربما السائل أغنی من المسئول. ولکن دخولها علی الماضی هو الکثیر. أما دخولها علی المضارع الصریح (4) وعلی الجملة الاسمیة فنادر لا یقاس علیه ، إلا إن کان معنی المضارع محقق الوقوع قطعا - کما سیجیء - ومن العرب من یبقیها علی حالها من الدخول علی الأسماء المفردة. وجرها

ص: 485


1- هذا المثال بنصه وبالکلام الخاص به ، منقول من الجزء الثامن ص 27 من کتاب : «المفصل» عند البحث الخاص بالحرف : «رب» وهو کلام یجعل حرف الجر الزائد والشبیه بالزائد معدیا للعامل. مع أن کثرة النحاة تجعل التعدیة مقصورة علی حرف الجر الأصلی ، دون الزائد وشبهه - کما سبق فی ص 407 و 419 وما بعدها ویجیء فی رقم 1 من هامش ص 489 -. إلا إن کان القصد الاتصال المعنوی المجرد - کما قلنا - ولیس فی کلامه دلیل علیه.
2- عقل.
3- أما معناها فیبقی علی الوجه الذی سیجیء مشروحا فی الزیادة والتفصیل (ب - ص 490).
4- وهو الذی یکون لفظه مضارعا وزمنه مستقبلا خالصا.

مع وجود «ما» الزائدة ؛ فیقول : ربّ ما سائل فی الطریق أزعجنی ، ولا تسمی فی هذه الحالة «کافة» ؛ وإنما تسمی : «زائدة» فقط. والأفضل الاقتصار علی الرأی الأول الشائع (1).

6 - والشائع أیضا أن «ربّ» بحالتیها العاملة والمکفوفة عن العمل ، لا تدخل إلا علی کلام یدل علی الزمن الماضی ، سواء أکان مشتملا علی فعل ماض أم علی غیره مما یدل علی الزمن الماضی ، کالمضارع المقرون بالحرف : «لم» ، أو : الوصف الدال علی الماضی ... و... نحو : رب معروف قدمته سعدت بفعله - رب علم لم ینفع صاحبه أحزنه - رب بئر متفجرة أمس نفعت بما فی داخلها.

وقد أشرنا إلی أنها تدخل علی المضارع الصریح إذا کان معناه محقق الوقوع لا شک فی حصوله ؛ فکأنه من حیث التحقق بمنزلة الماضی الذی وقع معناه (2) ، وصار أمرا مقطوعا به ، کقوله تعالی ، فی وصف الکفار یوم القیامة ، - ووصفه صدق لا شک فیه - : (رُبَما)(3) یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ کانُوا مُسْلِمِینَ) ، أما فی غیر ذلک فشاذ لا یقاس علیه (4).

ص: 486


1- وإذا کانت «ما» کافة ، و «رب» غیر عاملة ، فالواجب وصلهما کتابة. أما إذا کانت «رب» عاملة فالواجب فصلهما.
2- وقد تدخل علی مضارع فی لفظه ، ولکنه ماض فی زمنه ، بقرینه تدل علی المضی الزمنی ، کقول الشاعر لها رب من حاکم توعده بالقتل فجاءه الخبر بموت ذلک الحاکم : ربما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة کحلّ العقال فهو یرید : ربما جزعت ... ولا یصلح زمن المضارع هنا إلا للمضی ، لأن الجزع لن یقع فی المستقبل بعد موت الحاکم الظالم ، وزوال سبب الخوف. ومثل هذا قول الشاعر : وحدیث ألذّه هو مما یشتهی السامعون یوزن وزنا منطق صائب ، وتلحن أحیا نا وخیر الکلام ما کان لحنا أی : رب حدیث ألذه ، فقد دخلت «رب» المحذوفة ، والتی تدل علیها الواو ، علی أمر محقق عند المتکلم ، لا شک فی وقوع زمنه وانتهائه قبل الکلام ؛ فالمضارع ماضی الزمن. (تلحن : تشیر إلی ما ترید بغیر کلام).
3- «ربما» (بتخفیف الباء) ، مثل : «ربما» بتشدیدها. کما سیجیء.
4- ومن أمثلة الشاذ ما جاء فی تفسیر القرطبی لقوله تعالی فی سورة البقرة : (وَعَسی أَنْ تَکْرَهُوا - - شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ ،) وهو قول بعض السلف : لا تکرهوا الملمات الواقعة ؛ فلرب أمر تکرهه فیه نجاتک ، ولرب أمر تحبه فیه عطبک ، قال الشاعر : رب أمر تتقیه جرّ أمرا ترتضیه خفی المحبوب منه وبدا المکروه فیه والدلیل علی أن المضارع بعد «رب» فی المثال المنثور مستقبل الزمن وجود «لا» الناهیة فی المضارع الذی قبله ؛ وهی تجعل زمنه مستقبلا خالصا. وهناک قرینة أخری عقلیة فی المثال المنثور ، وفی البیتین - تدل علی استقبال المضارع ؛ هی الحث والحض والترغیب ، وهذه الأمور لا تکون إلا فی شیء لم یقع.

وإنما کان الأکثر دخولها علی الزمن الماضی لأن معناها التکثیر والتقلیل ، ولا یمکن الحکم بأحدهما إلا علی شیء قد عرف (1) ...

7 - أنه یجوز فی ضبطها لغات تقارب العشرین ، أشهرها ضم الراء أو فتحها مع تشدید الباء فی الحالتین ، أو تخفیفها بالفتح بغیر تشدید. کما یجوز أن تلحقها تاء التأنیث المتسعة - فی المشهور - لتدل علی تأنیث مجرورها ؛ نحو : ربّت عبارة موجزة أغنت عن کلام کثیر. وتکون التاء إما ساکنة ویوقف علیها بالسکون ، وإما مفتوحة ویوقف علیها بالهاء.

حذف ربّ : یجوز حذف «ربّ» لفظا ، مع إبقاء عملها ومعناها کما کانت. وهذا الحذف قیاسی بعد «الواو» ، و «الفاء» ، و «بل». ولکنه بعد الأولی أکثر ، وبعد الثانیة کثیر ، وبعد الثالثة قلیل بالنسبة للحرفین الآخرین. نحو :

وجانب من الثّری یدعی الوطن

ملء العیون ، والقلوب ، والفطن (2)

ونحو : أن تسمع من یقول : ما أعجب ما قرأته علی صفحات الوجوه الیوم! فتقول : فحزین قضی اللیل همّا طلع النهار علیه بما بدّد أحزانه ، ومبتهج

ص: 487


1- من کل ما تقدم یتبین نوع المضارع الذی یقصده النحاة بقولهم : إن المضارع یکون ماضی الزمن إذا وقع بعد «رب» (کما جاء فی الهمع ج 1 ص 8).
2- ومن هذا قول الشاعر : ومستعبد إخوانه بثرائه لبست له کبرا أبرّ علی الکبر (أبر - زاد وتغلب).

نام لیله قریرا ، ثم أفاق علی همّ وبلاء ، ونحو : بل حزین قد تأسّی (1) بحزین. أی : رب جانب ... - رب حزین قضی اللیل ... - رب مبتهج ... - ربّ حزین قد تأسی ...

وکل حرف من هذه الثلاثة یسمی : العوض عن : «رب» (2) ؛ أو النائب عنها ؛ لأنه یدل علیها ، وهو مبنی لا محل له من الإعراب ؛ والاسم المجرور بعده ، مجرور بربّ المحذوفة (3). ولیس مجرورا فی الصحیح بالعوض عنها أو النائب (4).

* * *

ص: 488


1- تسلی.
2- فعند الإعراب یقال : الواو ، واو «رب» - الفاء : فاء رب - بل : بل رب. أو یقال فی کل واحد إنه نائب عن : رب.
3- ویقول ابن مالک فی زیادة : «ما» بعد : «من» ، و «عن» و «الباء» وأن هذه الزیادة لا تعوقها عن العمل - کما شرحنا عند الکلام علی کلّ : وبعد «من» ، و «عن» ، و «باء» زید «ما» فلم یعق عن عمل قد علما وقد تقدم هذا البیت - فی ص 476 عند الکلام علی «من» و «عن» و «الباء» للمناسبة الخاصة بکل. ویقول فی زیادتها بعد «رب» و «الکاف» ، وأنها قد تکفهما أو لا تکفهما : وزید بعد «ربّ» و «الکاف» فکفّ وقد یلیهما ، وجرّ لم یکفّ - وقد سبق البیت فی هامش ص 478 - ثم یقول فی حذف : «رب» بعد الحروف الثلاثة : وحذفت «ربّ» ، فجرّت بعد : «بل» و «الفا» وبعد : «الواو» شاع ذا العمل
4- رأی سیبویه أن الجر برب المحذوفة. أما الواو ، وثم ، وبل ، فحروف عطف مهملة هنا لا تعمل شیئا ، مع أنها نائبة عن : «رب» ودالة علیها. وکثیر من النحاة یقول : إن العمل هو للحرف النائب ولیس للمحذوف (راجع المفصل ج 2 ص 117 باب الإضافة) وهذا الخلاف شکل محض لا أثر له.

زیادة وتفصیل

(ا) إذا کان الحرف : «ربّ» شبیها بالزائد (1) فمن الواجب أن یکون للاسم النکرة المجرور به ناحیتان ، ناحیة الجر لفظا ، وناحیة الإعراب محلا ؛ فیکون مجرورا فی محل رفع ، أو محل نصب علی حسب حاجة الجملة ، ویعامل بما یعامل به عند عدم وجودها. ففی مثل : ربّ زائر کریم أقبل - تعرب کلمة : «زائر» مجرورة بربّ لفظا ، فی محل رفع : لأنها مبتدأ. وفی مثل : رب زمیل ودیع صاحبت ، تعرب کلمة : «زمیل» مجرورة لفظا فی محل نصب ، لأنها مفعول به للفعل : «صاحبت». وفی مثل : رب مساعدة خفیة ساعدت ، تعرب کلمة : «مساعدة» مجرورة لفظا فی محل نصب ؛ لأنها مفعول مطلق. وفی مثل : رب لیلة مقمرة سهرت مع رفاقی ، تعرب کلمة : «لیلة» مجرورة لفظا فی محل نصب ؛ لأنها ظرف زمان ... و... وهکذا ...

وخیر مرشد لمعرفة المحل الإعرابی للاسم المجرور بها هو ما قلناه من تخیل عدم وجود «ربّ» ، وإعراب المجرور بها بما یستحقه عند فقدها ...

ویترتب علی ما سبق من جر النکرة لفظا بها واعتبارها فی محل رفع أو نصب أن التابع لهذه النکرة (من نعت ، أو : عطف ، أو : توکید ، أو : بدل) یجوز فیه الأمران ، مراعاة لفظ النکرة ، أو مراعاة المحل ، ففی مثل : رب زائر کریم

ص: 489


1- هذا رأی أکثریة النحاة من أهل التحقیق. وخالف فیه غیرهم - کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 485 - ومن هذه الأکثریة المحققة «الخضری» أحد نحاة القرن الثانی عشر الهجری ، وصاحب الحاشیة المشهورة علی ابن عقیل ، وآخر أصحاب الحواشی علی شرح : «ألفیة ابن مالک» وغیرها حتی عصرنا هذا. وقد اطلع - بلا شک - علی الآراء المخالفة ، ولم یعتدّ بها حین رأی شرح ابن عقیل فی أول باب حروف الجر ینص علی أن الحرف : «لعل» حرف جر زائد ؛ فاستدرک الخضری مصححا ومصرحا بما نصه : (صوابه : شبیه بالزائد. ومثلها «لو لا» و «رب» ؛ لأن الزائد لا یفید شیئا غیر التوکید ؛ وهذه - الحروف - تفید الترجی ، والامتناع ، والتقلیل. وإنما أشبهت الزائد فی أنها لا تتعلق بشیء ... اه) وهذا نص واضح المرمی. وله صلة أیضا بما سیجیء فی هذه الزیادة والتفصیل ...

أقبل ، یجوز فی کلمة : «کریم» الجر والرفع. وفی مثل : رب زمیل ودیع صاحبت ، یجوز فی کلمة : «ودیع» الجر والنصب ... وهکذا.

ولا یتغیر الحکم لو جاء تابع آخر - کالعطف - فقلنا : رب زائر کریم وسائح هنا ، فیجوز فی کلمة : «سائح» المعطوفة ، الأمران الجائزان فی المعطوف علیه ... ویجوز أن یکون المعطوف هنا معرفة ، نحو : رب زائر کریم وأخیه أقبلا ، مع أن المعطوف فی حکم المعطوف علیه ، فهو بمنزلة الاسم الذی دخلت علیه «رب» فحقه أن یکون نکرة کمجرورها ، إلا أن الأسالیب العربیة الفصحی تدل علی أنه قد یجوز فی التابع ما لا یجوز فی المتبوع ، وهذا معنی قول النحاة : قد یغتفر فی الثوانی ما لا یغتفر فی الأوائل (1).

(ب) إذا دخل الحرف : «رب» علی الجمل بنوعیها (2) ، وهو مکفوف - بسبب اتصاله «بما» الکافة - فإن معناه یبقی علی حاله من إفادة التکثیر أو التقلیل علی حسب القرائن (کما أشرنا من قبل) (3) ، ولکن التکثیر أو التقلیل فی هذه الحالة یکون منصبّا علی النسبة التی فی الجملة ، وهی النسبة الدائرة بین طرفیها ؛ ففی مثل : ربما أتی الغائب ، أو ربما الغائب آت یکون التقلیل والتکثیر واقعا علی نسبة الإتیان للغائب. وقیل : إن معنی «رب» المکفوفة ، هو : التحقیق.

* * *

ص: 490


1- تکررت الإشارة لهذا فی أبواب مختلفة ، ولا سیما باب الاستثناء ، عند الکلام علی حکم المستثنی بإلا إذا کان تاما غیر موجب - ص 311 وفی رقم 1 من هامش 67.
2- انظر حکم دخولها علی الجملة الاسمیة والمضارعیة فی رقم 5 من ص 485.
3- فی ص 482 وفی رقم 3 من هامش ص 485.

المسألة 91 : حذف حرف الجر وحده...

اشارة

ه - حذف حرف الجر وحده ، مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره

یجوز أن یحذف حرف الجر ، ویبقی عمله کما کان قبل الحذف. ویطّرد هذا فی مواضع قیاسیة ، أشهرها أربعة عشر نذکرها کاملة هنا - وقد مرّ بعضها فی مواضع متفرقة(1).

1 - أن یکون حرف الجر هو «ربّ» بشرط أن تکون مسبوقة «بالواو» ، أو : «الفاء» ، أو «بل» - کما سبق قریبا عند الکلام علیها (2) - نحو :

وعامل بالحرام ، یأمر بال

برّ ؛ کهاد یخوض فی الظّلم

2 - أن یکون الاسم المجرور بالحرف مصدرا مؤولا من «أنّ» مع معمولیها ، أو من «أن» والفعل والفاعل ؛ نحو : فرحت أنّ الصانع بارع ، أو : أفرح أن یبرع الصانع. والأصل : فرحت بأن الصانع بارع - أو : أفرح بأن یبرع الصانع. والتقدیر فیهما : فرحت ببراعة الصانع ، أو : أفرح ... ولا بد من أمن اللبس قبل حذف حرف الجر علی الوجه الذی شرحناه فی مکانه من باب : «تعدیة الفعل ولزومه (3)».

3 - أن یکون حرف الجر حرفا من حروف القسم ، والاسم المجرور به هو

ص: 491


1- بعضها فی ص 154 وفی هامش تلک الصفحة تفصیلات هامة. أما الداعی إلی ملاحظة حرف الجر المحذوف ، واعتباره کالموجود فهو المحافظة علی سلامة المعنی ، أو علی صحة الترکیب.
2- ص 487.
3- ص 157. وقلنا هناک إن الباء الجارة التی بعد صیغة «أفعل» فی التعجب یجوز حذفها إن کان المجرور بها مصدرا مؤولا من «أن والجملة الفعلیة بعدها». لکن النحاة لا یجیزون حذفها بعد تلک الصیغة إن کان المصدر مؤولا من «أن» ومعمولیها. ولا داعی لهذه التفرقة فی مسألة التعجب لأن حذف الجار مطرد قبل أنّ وأن. وإذا حذفت الباء فی التعجب أتقدر أم لا تقدر؟ رأیان کما أشرنا فی ج 3 باب التعجب م 109 ص 272.

لفظ الجلالة (الله) ؛ نحو : الله لأکثرنّ من العمل النافع ، أی : بالله ... (1)

4 - أن یکون حرف الجر داخلا علی تمییز «کم» الاستفهامیة ، بشرط أن تکون مجرورة بحرف جر مذکور قبلها ؛ نحو : بکم درهم اشتریت کتابک؟ أی : بکم من درهم(2) ...؟

5 - أن یکون حرف الجر مع مجروره واقعین فی جواب سؤال ، وهذا السؤال مشتمل علی نظیر لحرف الجر المحذوف ؛ کأن یقال : فی أی بلد قضیت الأمس؟ فیجاب : القاهرة. أی : فی القاهرة.

6 - أن یکون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، بغیر فاصل بین الحرفین ، والمعطوف علیه مشتمل علی حرف جر مماثل للمحذوف ؛ کقولهم : ألا تفکر فی ترکیب جسمک لتری قدرة الله العجیبة ، والسموات ؛ لتری ما یحیّر العقول ، وخواصّ المادة ؛ لتری الإبداع والإعجاز ... أی : فی السموات - وفی خواص المادة ... ؛ وقد حذف الحرف : «فی» ؛ لأنه مع مجروره معطوف بالواو بغیر فاصل بینهما. والمعطوف علیه وهو «ترکیب» مشتمل علی حرف جر قبله ؛ مماثل للمحذوف (3).

7 - أن یکون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، والمعطوف علیه مشتمل علی حرف جر مماثل للمحذوف مع وجود «لا» فاصلة بین حرف العطف وحرف الجر ؛ نحو : ما للفتی سلاح إلا علمه النافع ، ولا

ص: 492


1- طبقا للرأی الأرجح ، وهو رأی سیبویه ، ومن معه ، (کما سبقت الإشارة لهذا فی ص 459 و 464).
2- هذا هو الراجح ، وهناک رأی آخر یقول إن «کم» الاستفهامیة مضافة إلی تمییزها. أما تمییز «کم» الخبریة فالمشهور أنه المضاف إلیه وهی المضاف ، وقیل إنه مجرور ب «من» محذوفة کما سیأتی فی ج 4 باب : «کم».
3- ولیس من هذا النوع بیت ابن مالک فی باب : «المعرب والمبنی» وهو : فارفع بضم ، وانصبن فتحا ، وجر کسرا : کذکر الله عبده یسر فأصل الکلام : ارفع بضم ، وانصبن بفتح ، وجر بکسر ؛ فحذف حرف الجر وهو الباء ونصب الاسم المجرور به علی ما یسمی : نزع الخافض ، لوجود فاصل ممنوع (وقد سبق الکلام علیه فی هذا الجزء فی باب تعدیة الفعل ولزومه ص 139 کما سبق الکلام علی البیت السابق فی ج 1 ص 68 م 7). ولیس من الجائز فی البیت أن یبقی الاسمان - فتح ، وکسر - مجرورین بعد حذف حرف الجر کما کانا قبل حذفه.

الفتاة إلا فنها العملیّ. أی : ولا للفتاة.

8 - أن یکون حرف الجر کالسابق ولکن الحرف الفاصل هو : «لو» ؛ کقولهم : من تعوّد الاعتماد علی غیره ، ولو أهله ؛ فقد استحق الخیبة والإخفاق. أی : ولو علی أهله(1) ...

9 - أن یکون حرف الجر واقعا هو ومجروره فی سؤال بالهمزة ، وهذا السؤال ناشئ من کلام مشتمل علی نظیر للحرف المحذوف ؛ کأن یقال : أعجبت بمحمود. فیسأل القائل : أمحمود النجار؟ أی : أبمحمود النجار؟

10 - أن یکون حرف الجر ومجروره واقعین بعد «هلّا» التی للتحضیض بشرط أن یکون التحضیض واردا بعد کلام مشتمل علی مثیل لحرف الجر المحذوف ؛ کأن یقال : سأتصدق بدرهم ، فیقال : هلّا نقود ، أی : بنقود ، والمراد : هلا تتصدق بنقود.

11 - أن یکون حرف الجر هو : «لام التعلیل» الداخلة علی : «کی» المصدریة ؛ نحو : یجید الصانع صناعته کی یقبل الناس علیه. أی : لکی یقبل الناس علیه ، بمعنی : لإقبالهم علیه.

12 - أن یکون حرف الجر داخلا علی المعطوف علی خبر «لیس» أو خبر «ما» الحجازیة ، بشرط أن یکون کل منهما صالحا لدخول حرف الجر علیه (2) ؛ نحو : لست مرجعا فرصة ضاعت ، ولا قادر علی ردّها. فکلمة «قادر» مجرورة لأنها معطوفة علی خبر لیس : (مرجعا) وهذا الخبر یجوز جره بالباء فیقال : لست بمرجع. فکأنها موجودة توهما وتخیلا. وعلی أساس هذا الجواز الموهوم عطفنا علیه بالجر ؛ وهذا هو العطف الذی یسمیه النحاة ؛ «العطف علی التوهم». وقد سبق (3) إبداء الرأی فیه تفصیلا ، وأنه لا یصح الالتجاء إلیه ، ولا القیاس علی ما ورد منه.

ص: 493


1- والذی یوجب تقدیر حرف الجر هنا اختصاص «لو» بالدخول علی الجمل ، لا علی المفردات.
2- بأن یکون خبرهما اسما ، وأن یکون النفی المنصب علیه باقیا ، لم ینتقض بإلا ... علی الوجه الذی سبق فی بابهما ، ج 1 ص 452 المسألة : 49 وما بعدها.
3- فی ص 323 عند الکلام علی «غیر» الاستثنائیة وفی رقم 3 من هامش ص 336 ج 1 ص 454 م 49.

13 - أن یکون حرف الجر مسبوقا «بإن» الشرطیة ، وقبلهما کلام یشتمل علی مثیل للحرف المحذوف ، نحو : سلّم علی من تختاره ، إن محمد ، وإن علیّ ؛ وإن حامد. التقدیر : إن شئت فسلم علی محمد ، وإن شئت فسلّم علی علیّ ، وإن شئت فسلم علی حامد. وبالرغم من جواز هذا فالمحذوف فیه کثیر ، والمراد قد یخفی. فمن المستحسن عدم محاکاته قدر الاستطاعة.

14 - أن یکون حرف الجر مسبوقا بفاء الجزاء الواقعة فی جواب شرط. نحو : اعتزمت علی رحلة طویلة ؛ إن لم تکن طویلة فقصیرة ، أی : فعلی رحلة قصیرة. ویقال فی هذا الموضع ما قیل فی سابقه من ترک القیاس علیه قدر الاستطاعة. - بالرغم من صحة القیاس -

هذا وجمیع التأویلات والتقدیرات السابقة جائزة ولیست محتومة ؛ بل إنّ الکثیر منها یجوز فیه أوجه إعرابیة أخری ؛ قد تکون أیسر ، والمعنی علیها أوضح. واختیار هذه أو تلک متروک لمقدرة المتکلم والسّامع ، وخبرتهما بدرجات الکلام قوة ، وضعفا ، وحسنا ، وقبحا. مع التزام الصحة التزاما دقیقا ، والبعد عن الخطأ فی کل حالة. ومن الخیر أن نترک ما فیه غموض وإلباس إلی ما لا خفاء فیه ولا إبهام ، لأن اللغة لیست تعمیة وإلغازا ، وإلا فقدت خاصتها ، وعجزت عن أداء مهمتها. وهذا أساس یجب مراعاته عند استخدامها ، وفی کل شأن من شئونها.

تلک مواضع حذف حرف الجر حذفا قیاسیّا مطردا مع إبقاء عمله. وهناک أمثلة مسموعة وقع الحذف فیها مخالفا ما سبق ، ولا شأن لنا بها ؛ فهی مقصورة علی السماع ؛ لا یجوز محاکاتها ؛ لعدم اطرادها (1).

ص: 494


1- وفیما سبق من حذف الجار ، وإبقاء عمله ومشابهته «رب» فی هذا ، وفی أن حذفه قد یکون مطردا أو غیر مطرد - یقول ابن مالک : وقد یجرّ بسوی : «ربّ» لدی حذف ، وبعضه یری مطّردا أی : أن حروفا غیر «رب» قد تجر الاسم بعدها مع حذفها. وأن بعض حالات الحذف والجر قد یکون مطردا.

أما حذف الجار والمجرور معا فجائز إذا لم یتعلق الغرض بذکرهما ، بشرط وجود قرینة تعینهما ، وتعین مکانهما ، وتمنع اللبس. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً،) أی : لا تجزی فیه ...

* * *

ص: 495

المسألة 92 : نیابة حرف جر عن آخر

اشارة

یتردد بین النحاة أن حروف الجر ینوب بعضها عن بعض ؛ فیتوهم من لا درایة له أن المراد جواز وضع حرف مکان آخر بغیر ضابط ، ولا توقّف علی اشتراک بینهما فی المعنی ، ولا تشابه فی الدلالة. وهذا ضرب من الفهم المتغلغل فی الخطأ (1) ...

أما حقیقة الأمر فی نیابة حروف الجر بعضها عن بعض فتتلخص فی مذهبین : الأول (2) : أنه لیس لحرف الجر إلا معنی واحد یؤدیه علی سبیل الحقیقة ، لا المجاز ؛ فالحرف : «فی» یؤدی معنی واحدا حقیقیّا هو : «الظرفیة». والحرف : «علی» یؤدی معنی واحدا حقیقیّا هو : «الاستعلاء». والحرف : «من» یؤدی : «الابتداء» ، والحرف : «إلی» یؤدی : «الانتهاء» ... و... وهکذا ... فإن أدّی الحرف معنی آخر غیر المعنی الأصلی الخاص به وجب القول : بأنه یؤدی المعنی الجدید إما تأدیة مجازیة (أی : من طریق المجاز (3) ، لا الحقیقة) ، وإما تأدیة تضمینیة (4) (أی : بتضمین الفعل ، أو : العامل الذی

ص: 496


1- جاء فی المغنی - ج 2 الباب السادس فی التحذیر من أمور اشتهرت بین المعربین ، والصواب خلافها به. ما نصه فی الأمر الثالث عشر منها : «قولهم : ینوب بعض حروف الجر عن بعض ، وهذا أیضا مما یتداولونه ؛ ویستدلون به ... «وتصحیحه یکون بإدخال : قد علی قولهم : ینوب ؛ وحینئذ یتعذر استدلالهم به ؛ إذ کل موضع ادعوا فیه ذلک یقال لهم فیه : لا نسلم أن هذا مما وقعت فیه النیابة. ولو صح قولهم لجاز أن یقال : مررت فی زید ، ودخلت من عمرو ، وکتبت إلی القلم. علی أن البصریین ومن تابعهم یرون فی الأماکن التی ادعیت فیها النیابة أن الحرف باق علی معناه ، وأن العامل ضمن معنی عامل یتعدی بذلک الحرف ؛ لأن التجوز فی الفعل أسهل منه فی الحرف». اه. وسیجیء الرأی البصری کاملا مع غیره هنا.
2- وهو مذهب البصریین. أما الثانی فمذهب الکوفیین ، والکلام علیه فی ص 498.
3- وفی هذه الحالة یجب أن یتحقق للمجاز رکناه الأساسیان ، وهما العلاقة والقرینة - انظر معناهما فی هامش الصفحة التالیة -.
4- سبق شرح التضمین فی هذا الجزء ، ص 138 من «باب» «تعدیة الفعل». ولأهمیته سجلنا له بحثا شاملا مستقلا آخر هذا الجزء ص 434.

یتعلق به حرف الجر الأصلی (1) ومجروره. معنی فعل أو عامل آخر یتعدّی بهذا الحرف) فحرف الجر مقصور علی تأدیة معنی حقیقیّ واحد یختص به ، ولا یؤدی غیره إلا من طریق المجاز فی هذا الحرف ، أو من طریق التضمین فی العامل الذی یتعلق به الجار الأصلی (2) مع مجروره. ومن الأمثلة الحرف الأصلیّ : «فی» : فمعناه : الظرفیة (أی : الدّلالة علی أن شیئا یحوی بین جوانبه شیئا آخر ... و... کما سبق) ، فإذا قلنا : الماء فی الکوب ، فهمنا أن الکوب یحوی بین جوانبه الماء ؛ فیکون الحرف «فی» مستعملا فی تأدیة معناه الحقیقی الأصیل. ولکن إذا قلنا : غرّد الطائر فی الغصن .. ، لم نفهم أن الغصن یحوی فی داخله وبین جوانبه الطائر المغرد ، لاستحالة هذا. وإنما نفهم أنه کان علی الغصن وفوقه ، لا بین ثنایاه. فالحرف : «فی» قد أدی معنی لیس بمعناه الحقیقی الأصیل. فالمعنی الجدید ؛ وهو : «الفوقیة» ، أو «الاستعلاء» إنما یؤدیه حرف آخر مختص بتأدیته ؛ هو : «علی» فلو راعینا الاختصاص وحده لقلنا : غرد الطائر علی الغصن ، فالحرف : «فی» قد أدّی معنی لیس من اختصاصه. بل هو من اختصاص غیره. وهذه التأدیة لیست علی سبیل الحقیقة. وإنما علی سبیل المجاز. واجتمع للحرف : «فی» الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز (3) ؛ فالاستعلاء بما یقتضیه من تمکن وثبات شبیه بالظرفیة التی تقتضی التمکن والثبات أیضا. فاستعملنا «الظرفیة» مکان «الاستعلاء» ؛ بسبب التشابه الذی بینهما ، واستعملنا الحرف الدال علی «الظرفیة» مکان الحرف الدال علی الاستعلاء ؛ تبعا لذلک. وکل هذا علی سبیل المجاز. والقرینة الدالة علی أنه مجاز (أی : علی أن الحرف : «فی» مستعمل فی غیر معناه الأصلی) وجود الفعل : «غرّد» ؛ إذ لا یقع التغرید فی داخل الغصن ؛ وإنما یکون فوقه ، فهذه القرینة هی المانعة من إرادة المعنی الأصلی.

ومن الأمثلة : «علی» ؛ فهو حرف جر یقتصر عند أصحاب هذا الرأی علی معنی حقیقی واحد ؛ هو : «الاستعلاء». فإذا قلنا : الکتاب علی المکتب ، فهمنا هذا المعنی الحقیقی الدال علی أن شیئا فوق آخر. فالحرف مستعمل فی معناه

ص: 497


1- وملحقه.
2- وملحقه.
3- هما : العلاقة بین المعنی المنقول منه والمعنی المنقول إلیه ، والقرینة التی تصرف الذهن عن المعنی الأصلی إلی المعنی المجازی الجدید.

الأصیل. لکن إذا قلنا : اشکر المحسن علی إحسانه ، لم نفهم الاستعلاء الحقیقی ، ولم یرد علی خاطرنا أن الشکر قد حلّ واستقرّ فوق الإحسان ؛ لاستحالة هذا ، وإنما الذی یخطر ببالنا هو أن المراد : اشکر المحسن لإحسانه ، فالحرف : «علی» قد جاء فی مکان : «اللام» التی معناها : «السببیة» ، أو «التعلیل». فأفاد ما تفیده اللام ، ولکن إفادته علی سبیل المجاز ؛ ذلک أن لام التعلیل تفید التمکن والاتصال القوی بین السبب والمسبب ، أو بین العلة والمعلول ؛ والاستعلاء یشبهها فی أنه یفید التمکن والاتصال بین الشیئین ؛ فلهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازا ، مکان السببیة والتعلیل. وتبع ذلک استعمال الحرف الدال علی الاستعلاء مکان الحرف الدال علی السببیة. والقرینة الدالة علی أن الحرف : «علی» مستعمل فی غیر حقیقته وجود الفعل : «اشکر» إذ لا یستقر الشکر فوق الإحسان ، ولا یوضع فوقه وضعا حقیقیّا.

ومثل ما سبق یقال فی بقیة حروف الجر حین یؤدی الواحد منها معنیین أو أکثر.

أما أمثلة التضمین (1) فی العامل فمنها قول بعض الأدباء : «نأیت من صحبة فلان بعد أن سقانی بمر فعاله». والأصل : نأیت عن صحبة فلان ، بعد أن سقانی من مر فعاله. ولکنه ضمن الفعل : «نأی» الذی لا یتعدی هنا بالحرف «من» معنی فعل آخر یتعدی بها ؛ هو : بعد ، أو «ضجر» ؛ فالمراد : بعدت أو ضجرت من صحبة فلان. کما ضمّن الفعل : «سقی» الذی لا یتعدی هنا «بالباء» معنی فعل آخر یتعدی بها ؛ هو : «آذی» ، أو «تناول». فالمراد : «آذانی» أو تناولنی بمرّ فعاله ، وکذلک : شربت بماء عذب ؛ فإن الفعل شرب قد ضمّن معنی الفعل : «روی» فالأصل : رویت. وهکذا بقیة حروف الجر.

* * *

والمذهب الثانی (2) : أن قصر حرف الجر علی معنی حقیقی واحد ، تعسف وتحکم لا مسوّغ له ، فما الحرف إلا کلمة ، کسائر الکلمات الاسمیة والفعلیة ، وهذه الکلمات الاسمیة والفعلیة تؤدی الواحدة منها عدة معان حقیقیة (3) ، لا مجازیة ،

ص: 498


1- بعض الأمثلة السابقة صالح «للتضمین فی الفعل مع بقاء حرف الجر علی معناه الحقیقی». وکذا نظائرها.
2- وهو مذهب الکوفیین.
3- والمراد هنا ما یشمل الحقیقة اللغویة ؛ والحقیقة العرفیة.

ولا یتوقف العقل فی فهم دلالتها الحقیقیة فهما سریعا. فما الداعی لإخراج الحرف من أمر یدخل فیه غیره ، ولإبعاده عما یجری علی نظائره؟

إنه نظیرها ؛ فإذا اشتهر معناه فی العرف ، وشاعت دلالته ؛ بحیث یفهمها السامع بغیر غموض ، کان المعنی حقیقیّا لا مجازیّا ، وکانت الدلالة أصیلة لا علاقة لها بالمجاز ، ولا بالتضمین ولا بغیرهما ، فالأساس الذی یعتمد علیه هذا المذهب فی الحکم علی معنی الحرف بالحقیقة هو شهرة هذا المعنی وشیوعه ، بحیث یتبادر ویتضح سریعا عند السامع ؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقیقة. وإن من یسمع قول القائل : (کنت فی الصحراء ، ونفد ما معی من الماء ، وکدت أهلک من الظمأ ، حتی صادفت بئرا شربت من مائها العذب ما حفظ حیاتی التی تعرضت للخطر من یومین ...) سیدرک سریعا معنی الحرف : «من» وقد تکرر فی الکلام بمعان مختلفة : أولها : بیان الجنس. وثانیها : السببیة ، وثالثها : البعضیة. ورابعها : الابتداء ... و...

کذلک من یسمع قول القائل : «إنی بصیر فی الغناء : یستهوینی ، ویملک مشاعری إذا کان لحنه شجیّا ، وعبارته رصینة ؛ کالأبیات التی مطلعها :

ربّ ورقاء هتوف فی الضّحا

ذات شجو صدحت فی فنن

.......».

فإن معانی الحرف : «فی» ستبتدر إلی ذهنه. فالأول : للإلصاق. والثانی : للظرفیة. والثالث : للاستعلاء. وکل واحد من المعانی السالفة یقفز إلی الذهن سریعا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته. وهذا علامة الحقیقة - کما سبق -.

فإذا کان المعنی من الشیوع ، والوضوح وسرعة الورود علی الخاطر - بالصورة التی ذکرناها ، ففیم المجاز أو التضمین أو غیرهما؟ إن المجاز أو التضمین أو نحوهما یقبلان ، بل یتحتمان حین لا یبتدر المعنی إلی الذهن ، ولا یسارع الذهن إلی التقاطه ؛ بسبب عدم شیوعه شیوعا یجعله واضحا جلیّا ، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تکفی لکشف دلالته فی یسر وجلاء. أما إذا شاع واشتهر وتکشف للذهن سریعا فإن هذا یکون علامة الحقیقة - کما قلنا - فلا داعی للعدول عنها ،

ص: 499

ولا عن قبولها براحة واطمئنان (1).

وهذا رأی نفیس أشار بالأخذ به ، والاقتصار علیه ؛ کثیر من المحققین (2).

* * *

ص: 500


1- انظر الزیادة والتفصیل فی الصفحة التالیة.
2- کصاحبی : المغنی ، والتصریح ، وکالصبان ، والخضری فی باب «حروف الجر» عند الکلام علی الحرف : «من» وشرح بیت ابن مالک الذی أوله : «بعّض ، وبیّن ، وبتدئ فی الأمکنه ...» فقد وصفوا المذهب الثانی وهو المذهب (الکوفی) بأنه أقل تکلفا وتعسفا.

زیادة وتفصیل

لا شک أن المذهب الثانی (1) نفیس کما سبق ؛ لأنه عملیّ وبعید من الالتجاء إلی المجاز ، والتأویل ، ونحوهما من غیر حاجة. فلا غرابة فی أن یؤدی الحرف الواحد عدة معان مختلفة. وکلها حقیقی (2) - کما قلنا - ولا غرابة أیضا فی اشتراک عدد من الحروف فی تأدیة معنی واحد. لأن هذا کثیر فی اللغة ، ویسمی : المشترک اللفظی (3).

وهناک سبب آخر یؤید أصحاب المذهب الثانی هو أن الباحثین متفقون علی أنّ المجاز إذا اشتهر معناه ، وشاع بین الناطقین به ، انتقل هذا المجاز إلی نوع جدید آخر یسمی : «الحقیقة العرفیة» (ولها بحث مستفیض فی مکانها بین أبواب البلاغة) ومن أشهر أحکامها : أنها فی أصلها مجاز قائم علی رکنین : علاقة بین المشبه والمشبه به ، وقرینة تمنع من إرادة المعنی الأصلی. فإذا اشتهر المجاز وشاع استعماله تناسی الناس أصله ، واختفی رکناه ، واستغنی عنهما وعن اسمه ، ودخل فی عداد نوع جدید یخالفه ، یسمی : «الحقیقة العرفیة» فلو سلّمنا أن حرف الجر لا یؤدی إلا معنی واحدا أصلیّا. وأن ما زاد علیه لیس بأصلی ، لکان بعد اشتهاره وشیوعه فی المعنی الجدید داخلا فی الحقیقة العرفیة. وهی لیست بمجاز فی صورتها الواقعة.

ص: 501


1- وهو الکوفی.
2- سواء أکانت الحقیقة لغویة أم عرفیة - کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 498.
3- الحق أنه لا سبیل للحکم علی معنی من معانی المشترک اللفظی بأنه «مجازی» أو أن فی عامله «تضمینا» ؛ لأن هذا یقتضینا أن نعرف المعنی الأصلی الذی وضع له اللفظ أولا ، واستعمل فیه ، ثم انتقل منه بعد ذلک إلی غیره من طریق المجاز أو التضمین ، أی : أنه لا بد من معرفة أقدم المعنیین فی الاستعمال ؛ لیکون هذا الأقدم هو الأصلی ؛ والمتأخر عنه هو الحادث مجازا أو تضمینا. وهذا أمر لم یتحقق حتی الیوم فی أکثر المعانی التی یؤدیها کل حرف من حروف الجر ، وهی معان مرددة فی أفصح الکلام العربی - قرآنا وغیر قرآن - ولا سبیل للحکم القاطع بأن معنی معینا منها أسبق فی الاستعمال من معنی آخر ، وإذا لا سبیل للحکم الوثیق بأن واحدا من تلک المعانی هو وحده الحقیقی ، وأن ما عداه هو المجازی أو التضمینی. بل إن هذا یلاحظ فی کل معنی مجازی آخر یجری فی غیر الحرف. ولا یقال إن المعنی الحسیّ أسبق - فی الغالب - وجودا من العقلی المحض ؛ لا یقال هذا لأنه لا یصدق علی حالات متعددة. وفوق هذا أیضا یکاد یکون الحکم بالأسبقیة مستحیلا إذا کان المدلولان عقلیین معا (أی : غیر حسیین). وقد رأی أحد المستشرقین ضرورة وضع معجم خاص یوضح أقدمیة الکلمات وتاریخ میلادها ، وتجرد لهذه المهمة ، ولکن منیته عاجلته فی أول مراحل العمل.

بحث مستقل فی : (مذ) و (منذ) من الوجهتین اللفظیة ، والمعنویة (1)

قال الباحث :

طالما أنعمت النظر فی هاتین الکلمتین ، ورجعت إلی ما دوّنه فیهما النحاة واللغویون. فکنت أجد أحیانا عنتا ومشقة فی استخلاص حکم ، أو تلخیص خلاف ، أو دفع إشکال. ذلک بأن هذه المادة مبعثرة فی الکتب قدیمها وحدیثها ؛ فما فی هذا لیس فی ذاک ، مع کثرة الآراء ، واشتداد الخلاف ، وتباین التفسیرات والشروح.

فما زلت فی مراجعة وبحث ، حتی اجتمع لی من ذلک فصل صالح ، حاولت أن أذلل فیه ما استصعب ، وأن أشرح ما خفی ، بالموازنة والترجیح.

ولا أدعی أنی أحطت بالموضوع جمیعه. فهذا ما لا سبیل إلیه فی وجیز کهذا. ولکننی أرجو أن أکون قد عبّدت الطریق ، ومهدت السبیل للباحثین والمستفیدین. فأقول :

(ا) یقع مذ ومنذ (2) اسمین :

1 - إن کان ما بعدهما اسما مرفوعا ، معرفة ، أو نکرة ، معدودة لفظا أو معنی کما سیأتی.

ص: 502


1- هذا بحث واف ، سبق - فی ص 278 و 478 - أن وعدنا بتسجیله آخر هذا الجزء ؛ لعظیم أثره لدی المتخصصین ، ولیکون للطلاب تدریبا علی البحث ، والتحقیق ، والتمحیص. وقد جمع أکثر المفرق من مسائلهما ، وأحکامهما ، وتمیز بآراء صائبة استقل بها صاحبه ، وإن کان بعضها مختلطا ، أو مفتقرا لمزید تحقیق ، أو قوة استدلال تحمل علی الإقناع. وقد نقلناه کاملا بشروحه وهوامشه - وربما أبدینا تعلیقا علی بعضها - عن الجزء الثالث من مجلة المجمع اللغوی القاهری ، (ص 354 وما بعدها) حیث سجلته لعضو جلیل من أعضاء المجمع السابقین ، هو : الأستاذ أحمد العوامری ، رحمة الله علیه.
2- قال فی الهمع : وکسر میمهما لغة اه ، وفی الخضری ؛ والراجح أن أصل (مذ): (منذ) ، حذفت النون تخفیفا ؛ بدلیل ضمها لملاقاة ساکن ، کذ الیوم. ولو لا هذا لکسرت فی أصل التخلص. وبعضهم یضمها بلا ساکن أصلا. اه.

2 - أو کان ما بعدهما فعلا ماضیا (1).

3 - أو کان ما بعدهما جملة اسمیة.

فالحالة الأولی (وفیها الأسماء المرفوعة نکرة معدودة) ، نحو : ما رأیته مذ أو منذ یومان ، أو عشرة أیام ، أو خمسة عشر یوما ، أو عشرون یوما ، أو مائة یوم ، أو ألف یوم ، أو ألفا یوم ، أو سنة ، أو شهر أو یوم (2). ومثال المعرفة ما رأیته مذ أو منذ یوم الجمعة.

فمذ أو منذ اسم مبتدأ (3). والخبر واجب التأخیر معهما. وجوّز بعضهم أن یکونا خبرین لما بعدهما.

والحالة الثانیة ، نحو : رکب أخی مذ أو منذ حضرت السیارة. فمذ أو منذ

ص: 503


1- فلا یجوز : مذ یقوم ، لأن عاملهما لا یکون إلا ماضیا ، فلا یجتمع مع المستقبل اه ، صبان.
2- علی أن یکون الیوم هو الفلکی المقسم ساعات ، لا الوقت من طلوع الشمس إلی غروبها ، کما سنفصله.
3- قال الخضری عند قول ابن عقیل : (فمذ اسم مبتدأ إلخ) ما یأتی : وسوغه کونها معرفة فی المعنی ، لأنها إن کان الزمان ماضیا ، کما فی المثال الأول (وهو قول ابن عقیل : ما رأیته مذ یوم الجمعة) ، فمعناها : أول مدة عدم الرؤیة کذا. وإن کان حاضرا ، کما فی المثال الثانی (وهو قول ابن عقیل : ما رأیته مذ شهرنا «وهو ما خالف فیه أکثر العرب ، کما سیمر بک») ، أو کان معدودا کما رأیته : «مذ یومان» ، فمعناه نفی المدة ، أی : مدة عدم الرؤیة شهرنا ، أو یومان اه ، وفی تأویل خبریتهما کلام کثیر وتکلف لا یعنینا - وفی الصحاح : ویصلح أن یکونا اسمین ، فترفع ما بعدهما علی التاریخ ، أو علی التوقیت. فتقول فی التاریخ : ما رأیته مذ یوم الجمعة. أی : أول انقطاع الرؤیة یوم الجمعة. وتقول فی التوقیت : ما رأیته مذ سنة. أی : أمد ذلک سنة. ولا تقع ها هنا إلا نکرة. لأنک لا تقول : مذ سنة کذا. اه. وقوله : «ولا تقع ها هنا إلا نکرة» ، یرید بقوله : (ها هنا) حالة إرادة التوقیت ، لأنک لو قلت مثلا : «مذ أو منذ عشرین للهجرة» فمعناه علی ما قرر الجوهری : أمد ذلک سنة عشرین للهجرة ، وهو لغو. أقول : ولا أری ما یمنع أن ندخل نحو هذا المثال فی باب (التاریخ). فیکون معنی (ما حصل کذا مذ أو منذ سنة عشرین للهجرة ، مثلا) : أول انقطاع الحصول سنة عشرین للهجرة. ولم یفرق (القاموس) بین التاریخ والتوقیت ، فقال : أرّخ الکتاب ، وأرّخه ، وآرخه : وقّته اه. وفی شرحه للزبیدی : وقال الصولی : تاریخ کل شیء غایته ووقته الذی ینتهی إلیه. ومنه قیل : فلان تاریخ قومه ، أی : إلیه ینتهی شرفهم ، وریاستهم. اه. وقال فی المصباح : (الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما. وکل شیء قدرت له حینا فقد وقّتّه توقیتا. اه. فعل تعریف الصولی للتاریخ ، وتعریف المصباح للتوقیت یتضح المقام فی التفرقة بینهما.

اسم منصوب المحل علی الظرفیة. والعامل فیه (رکب). وهو مضاف إلی الجملة بعده. وهذا هو المشهور. وقیل : هما مبتدآن (1).

والحالة الثالثة نحو :

فما زلت أبغی الخیر مذ أنا یافع

ولیدا وکهلا حیث شبت ، وأمردا

فمذ هنا ظرف لمضمون ما قبله ، ومضاف إلی الجملة بعده ، علی المشهور.

(ب) وتقعان حرفین (2).

1 - بمعنی : (من) الابتدائیة ، إن کان المجرور ماضیا معرفة ؛ نحو : ما قابلت صدیقی مذ أو منذ یوم الأربعاء ، أی : من یوم الأربعاء (3).

2 - بمعنی : (فی) ، إن کان المجرور حاضرا معرفة ، نحو ما قرأت مذ أو منذ الیوم ، أو عامنا ، أو شهرنا ، أو أسبوعنا - أو منذ هذا الأسبوع - أو هذا الشهر ، أو هذه السنة ، مثلا. ولا یجوز فی الحاضر بعدهما إلا الجر عند أکثر العرب.

3 - بمعنی من وإلی معا ، فیدخلان علی الزمان الذی وقع فیه ابتداء الفعل وانتهاؤه. ویشترط حینئذ :

أولا : أن یکون الزمان نکرة ، معدودا لفظا ؛ کمذ یومین.

ثانیا : أو أن یکون معدودا معنی ، کمذ شهر.

ص: 504


1- وکذا قیل فی الحالة الثالثة الآتیة أیضا : قال الخضری : والجملة بعدهما خبر ، بتقدیر زمن مضاف إلیها (أی : إلی الجملة). والتقدیر فی : (جئت مذ دعا) وقت المجیء هو زمن دعائه. وفی البیت المار ، (فما زلت أبغی الخیر إلخ) : أول وقت طلبی الخیر هو وقت کونی یافعا : فجملة مذ إلخ مستأنفة کما مر. اه.
2- قال فی الهمع : ومذ ومنذ لا یجران إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر ... وأجاز المبرد أن یجرا مضمر الزمان ؛ نحو : یوم الخمیس ما رأیته منذه ، أو مذه. ورد بأن العرب لم تقله. اه. وکونهما حرفین فی هذه الأحوال الثلاثة هو مذهب الجمهور. وقیل : هما ظرفان فی موضع نصب بالفعل - قبلهما - ورد هذا المذهب بما لا محل له هنا.
3- قال فی الهمع : ویجوز وقوع المصدر بعدهما ، نحو : ما رأیته مذ قدوم زید ، بالرفع والجر وهو علی حذف زمان ، أی : مذ زمن قدوم زید. ویجوز وقوع (أن) وصلتها بعدهما ، نحو :ما رأیته مذ أن الله خلقنی. فیحکم علی موضعها بما حکم به للفظ المصدر ، من رفع أو جر. وهو علی تقدیر زمان أیضا. اه ، قال الشاطبی : أما إن کسرت (أی : إن) فالاسمیة متعینة. اه. (وقد سبقت الإشارة لهذا فی رقم 3 من هامش ص 479 وفی ص 481).

لأنهما لا یجان المبهم. أی : ما عملت کذا من ابتداء هذه المدة إلی انتهائها ، وما عملت کذا من ابتداء شهر إلی انتهائه.

والمراد بالمبهم هنا الوقت النکرة غیر المعدودة لفظا أو معنی ، نحو : (برهة) ولا ینافیه قول زهیر بن أبی سلمی :

لمن الدیار بقنّة الحجر

أقوین مذ حجج ومذ دهر (1)

لأن الدهر متعدد فی المعنی (2).

ویأتون بهذا البیت أیضا شاهدا علی قلة الجر بعد (مذ) فی الماضی. أما (منذ) فما بعده یترجح جره فی الماضی (3).

ص: 505


1- المراد بالحجر : حجر ثمود ، وقوله : أقوین ، أی : خلون.
2- نقلنا هذا التعلیل عن الصبان ؛ وهو أیضا فی غیره من کتب المتقدمین.
3- ما قاله الباحث هنا فی تعریف : «الظرف المبهم» لا یشمل أنواعا کثیرة نص علیها النحاة فی تعریفهم الدقیق ، الذی عرضناه فی هامش ص 239 ، وبه تزول بعض الشبهات التی اعترضت الباحث.

تنبیهات وإیضاحات

(ا) قد رأیت فی الأحوال الثلاث التی یقع فیها مذ ومنذ حرفین.

1 - أن المجرور وقت (1). 2 - وأن هذا الوقت متصرف (2).

ص: 506


1- ما یسأل به عن الوقت کالوقت ، بشرط أن یکون مما یستعمل ظرفا. فتقول : مذ کم؟ ومنذ متی؟ ومنذ أی وقت؟ ولا تقول : منذ ما ، لأن (ما) لا تکون ظرفا. اه ، صبان - أی : فتقول مثلا : [1] منذ کم یوما رکبت البحر؟ کما یجوز أن تقول : منذ کم رکبت البحر ، بحذف التمییز للعلم به. وفی حالة ذکر التمییز هنا یجوز نصبه وجرّه بمن مضمرة - وقال فی الهمع عند الکلام علی وقوع الاسم مجرورا بعدهما ما یلی : والجمهور علی أنهما حینئذ حرفا جر ، لإیصالهما الفعل إلی (کم) کما یوصل حرف الجر. تقول : منذ کم سرت ، کما تقول : بکم اشتریت. اه. وتقول : [2] منذ متی نمت؟ - [3] وتقول : منذ أی وقت طار أخوک؟ وتقول فی الإجابة عن [1] : رکبت منذ أو مذ لیلتین - وعن [2] : نمت منذ أو مذ مساء الیوم الماضی - وعن [3] : طار أخی منذ أو مذ طلوع الفجر ، مثلا. ومعنی الإجابة الأولی : رکبت من ابتداء اللیلتین إلی انتهائهما - ومعنی الإجابة الثانیة : نمت من مساء الیوم الماضی ، بوضع (من) الابتدائیة فی مکان مذ أو منذ - ومعنی الإجابة الثالثة : طار أخی منذ زمن طلوع الفجر ، علی تقدیر (زمن) مضاف إلی المصدر. فمنذ أو مذ ، بمعنی (من) الابتدائیة هنا أیضا - ویجوز فی هذا المثال رفع (طلوع) ، ویکون المعنی حینئذ : أول طیرانه وقت طلوع الفجر. وقد جازت هذه الإجابات الثلاث فی الإثبات ، لأن العامل متطاول فیها جمیعا ، وسیمر بک معنی (التطاول) والتمثیل له.
2- فلا تقول : ما رأیته منذ سحر ، ترید سحر یوم بعینه. وقال ابن عقیل : ... نحو : سحر إذا أردته من یوم بعینه. فإن لم ترده من یوم بعینه فهو متصرف ، کقوله تعالی : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّیْناهُمْ بِسَحَرٍ.) اه ، فقال الخضری : «قوله نحو سحر» : ، مثال لما لزم الظرفیة فقط فلا یخرج عنها أصلا ، إذا کان معینا. واعتراضه (یقصد العلامة الصبان) بأنه متصرف ، بدلیل : «نجیناهم بسحر» فیه نظر ظاهر ؛ لأن هذا غیر معین ، کما هو صریح الشرح ، والکلام فی المعین. اه. وفی اللسان ... ولقیته سحرا ، وسحر ، بلا تنوین. ولقیته بالسحر الأعلی (أی : فی أعلی السحرین ، وهما سحر مع الصبح وسحر قبله. اه ، من الأساس) ... ولقیته سحر یا هذا ، إذا أردت به سحر لیلتک لم تصرفه ، لأنه معدول عن الألف واللام ، وهو معرفة. وقد غلب علیه التعریف بغیر إضافة ولا ألف ولام ... وإذا نکرت «سحر» صرفته کما قال تعالی : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّیْناهُمْ بِسَحَرٍ.) أجراه ، (أی : صرفه) لأنه نکرة ، کقولک : نجیناهم بلیل. قال : فإذا ألقت العرب منه الباء لم یجروه ، فقالوا : فعلت هذا سحر یا فتی ... وقال الزجاج ، وهو قول سیبویه : سحر : إذا کان نکرة ؛ یراد - - سحر من الأسحار ، انصرف. تقول ... أتیت زیدا سحرا من الأسحار. فإذا أردت سحر یومک قلت : أتیته سحر یا هذا ... وتقول : سر علی فرسک سحر یا فتی. اه. بقی (سحر) المنصرف. فهل یجوز أن تقول : ما رأیته مذ أو منذ سحر؟ والجواب : لا. لأنهما لا یجران المبهم ، کما مر بک.

3 - وأنه معین لا مبهم. وقد فسرنا معنی الإبهام آنفا.

4 - وأنه ماض أو حاضر ، لا مستقبل ، لما تقدم.

(ب) وقد رأیت فی عاملهما فی هذه الأحوال الثلاث :

1 - أنه فعل ماض.

2 - وأنه منفی یصح تکرره.

وقد یأتی مثبتا بشرط أن یکون متطاولا ، نحو : سرت منذ یوم الخمیس. والمراد بالتطاول : أن یکون فی طبیعة الحدث معنی الاستمرار کالسیر ، فإن من شأنه التطاول. وکالنوم ، والمشی ، والکلام ؛ وهکذا ... وتوفیة للمقام ، نذکر عبارة الخضری فی هذا الموضوع ، قال :

«شرط عاملهما کونه ماضیا ، إما منفیّا یصح تکرره ، کما رأیته منذ یوم الجمعة ، أو مثبتا متطاولا ، کسرت منذ یوم الخمیس. بخلاف : قتلته ، أو ما قتلته منذ کذا ، فإن قلت : ما قتلت منذ کذا ، بلا هاء ، صح. لأن القتل المتعلق بمعین لا یکرر ، بخلاف غیره. ما لم یتجوز بالقتل عن الضرب. فتدبر». اه.

فقوله : (بخلاف : قتلته ... إلخ) ، کأن تقول مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ یوم الجمعة ، مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی (من) الابتدائیة - وکأن تقول : مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ سنتین ، مثلا. مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی من وإلی معا. فکل هذا غیر جائز.

أقول : فهبنا قلنا مثلا : قتلته مذ أو منذ یومنا ، مما تکون فیه مذ أو منذ بمعنی (فی) - فعلی مقتضی إطلاق کلامهم لا یجوز مثل هذا ، لبقاء السبب ، وهو : عدم تطاول العامل فی حالات الإثبات. ولکنی أری أنه سائغ. إذ ما الذی یمنعنا أن نقول مثلا : قتلته الیوم ، أو فی هذا الیوم الحاضر؟

وواضح أنه یجوز لک أن تقول أیضا : ما قتلت مذ أو منذ یومنا ، وما قتلته

ص: 507

مذ أو منذ یومنا - فکلامهم فی (التطاول) و (صحة التکرر) مجمل یفتقر إلی تفصیل وتوضیح (1).

هذا ، ولم أجد فیما لدیّ من المراجع مثالا للحدث غیر المتطاول إلا (القتل).

وإنی مورد أمثلة له فیما یلی للإیضاح ، لا للحصر فأقول :

أولا : أومض ، أو - ومض - وفسر الزمخشری الإیماض بأنه لمع خفی ، قال : وشمت ومضة برق کنبضة عرق. اه.

فالإیماض غیر متطاول کالقتل ، لأنه عبارة عن لمع خاطف کرجع البصر ، أو نبضة العرق - فلا یصح أن نقول مثلا : ومض البرق مذ أو منذ یوم الخمیس ، أی : من یوم الخمیس. کما لا یجوز أن نقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ لیلتین : من ابتدائهما إلی انتهائهما (2).

ولکن یصح أن تقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ لیلتنا ، أی : فی لیلتنا - کما صح أن تقول مثلا : قتلته مذ أو منذ یومنا ، کما قررته آنفا - کما یصح أن تقول مثلا : ما أومض البرق مذ أو منذ یوم الجمعة ، أی : من یوم الجمعة ، وما أومض البرق منذ أو منذ لیلتنا ، أی : فی لیلتنا ، وما أومض البرق مذ أو منذ لیلتین ، لأن الحدث هنا یصح تکرره.

ثانیا : شرق ، أی بدا وظهر ، یقال : شرقت الشمس ، إذا بدت من المشرق. وکذا القمر ، أو النجم. فالشروق غیر متطاول ، لأنه مجرد الظهور ، وهو ملامسة الأفق. وهو لا یستغرق من الوقت إلا ما لا یکاد یذکر. فلا یقال مثلا فی الإثبات : شرقت الشمس مذ أو منذ ساعتین ، أی : من ابتدائهما إلی انتهائهما. کما أوضحنا مثل هذا من قبل. کما لا یصح أن یقال فی النفی مثلا : ما شرقت الشمس مذ أو منذ دقیقتین (3) ، لأن شروق الشمس لا یمکن تکرره فی

ص: 508


1- ردا علی الباحث أقول : إن التطاول متحقق فی المثال الأخیر المنفی ؛ فکلامهم واضح ، وهو الصحیح ، وتؤیده النصوص المسموعة الدالة علی أنهما بمعنی : «فی». بشرط التکرر ، أو التطاول ، لا مجرد «فی».
2- قد فسر ابن الأعرابی الومیض بأن یومض إیماضة ضعیفة ، ثم یختفی ، ثم یومض ... فهذا التکرر المتعاقب قد ینزل منزلة الفعل المتطاول فیما یظهر لی. فیصح أن تقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ یوم الخمیس ، أی استمر هذا منه ، علی هذا التفسیر.
3- هذا وما حمل علیه - مما ینفرد به الباحث - ، مفتقر لتأیید.

أثناء دقیقتین بالنسبة لأفق واحد. وکذا یقال فی سائر الکواکب ؛ لأنها کلها بحسبان. فهب نجما بعینه یتم دورته فی ثلاث سنین مثلا ، فإنه لا یجوز أن یقال : ما شرق هذا النجم مذ أو منذ ثلاث سنین. لأنه لا یمکن أن یتکرر شروقه فی هذه المدة - ویجوز أن یقال : ما شرق نجم مذ أو منذ ساعتنا. وذلک لأنه شروق متعلق بغیر معین ، فیجوز تکرره.

ولا تقول : شرق هذا النجم ، أو نجم مذ أو منذ السبت - ولکنک تقول فی الإثبات ، علی ما استظهرت آنفا : شرق هذا النجم ، أو نجم ، أو منذ ساعتنا أو لیلتنا ، مثلا.

ثالثا : سنح - قال فی الأساس : من المجاز : سنح له رأی ، أی عرض له. اه ، وفی المصباح : وسنح لی رأی فی کذا : ظهر. وسنح الخاطر به : جاد. اه.

فأنت تری أن عروض الرأی حدث غیر متطاول ، لأنه طروء فاجئ. فإذا حصلت الفکرة فقد انقطع السنوح. وذلک لا یستغرق إلا وقتا یسیرا ؛ لا یمکن أن یوصف بالتطاول. فلا تقول مثلا : سنحت لی فکرة کذا مذ أو منذ یوم الخمیس ، أی : من یوم الخمیس ، ولا : سنحت لی فکرة کذا منذ ساعتین. ولکنک تقول ، علی ما استظهرت آنفا : سنحت لی فکرة کذا منذ یومنا ، أو مذ هذه الساعة ، أو الدقیقة ، مثلا.

وتقول أیضا ، مثلا : ما سنحت لی هذه الفکرة مذ أو منذ ساعتین لأن سنوح فکرة بعینها یمکن تکرره فی أثناء ساعتین - ولکن لا یمکن أن تقول : ما سنحت لی فکرة مذ أو منذ ساعتین ، مثلا : أو مذ أو منذ یومنا. لاستحالة مثل هذا عادة ، فی حال الإنسان الطبیعیة.

فقد رأیت فی الأفعال الثلاثة المتقدمة ، وما فرّعنا علیها من الأمثلة أنها لیست کلها سواء (1). فقد یجوز فی استعمال أحدها مع مذ أو منذ ما لا یجوز فی الآخر. فالمسألة إذا راجعة لمعنی الفعل الخاص عند استعماله مع مذ أو منذ ، فی الإثبات أو النفی ، وما قد یلابسه من تطاول أو تکرر أو عدمهما.

ص: 509


1- فی کلام الباحث ما یحتاج إلی التمحیص.

(ج) ما اشترط فی مجرور مذ ومنذ وفی عاملهما ، یشترط فی حالة رفع ما بعدهما.

(د) لا تدخل (من) علی مذ أو منذ ، ولا یصح العکس أیضا.

وقد وقعت (إلی) بعدهما ، حیث لا مانع من وقوعها (1). فقد جاء فی اللسان : قال سیبویه : أما (مذ) فیکون ابتداء غایة الأیام والأحیان. کما کانت (من) فیما ذکرت لک. ولا تدخل واحدة منهما علی صاحبتها. وذلک قولک : ما لقیته مذ یوم الجمعة إلی الیوم ، ومذ غدوة إلی الساعة. وما لقیته مذ الیوم إلی ساعتک هذه. فجعلت الیوم أول غایتک ، وأجریت فی بابها کما جرت (من) حیث قلت : من مکان کذا إلی مکان کذا - وتقول : ما رأیته مذ یومین ، فجعلته (2) غایة ، کما قلت أخذته من ذلک المکان ، فجعلته (3) غایة : ولم ترد منتهی. هذا کله کلام سیبویه. اه عبارة اللسان.

فقد وضع سیبویه (إلی) بعد (مذ). ولم أر ذلک فی أمثلة غیره من النحویین فیما بین یدی من المراجع. أما فی کلام البلغاء فکثیر. ففی کتاب «الأوراق» للصولی ، فی أخبار الراضی بالله : وکان (الراضی) یقول : أنا مذ (4) حبسنی القاهر علیل إلی وقتی هذا. اه ، وفی البخلاء للجاحظ : أعلم أنی منذ یوم ولدتها إلی أن زوجتها ... اه ، إلی غیر ذلک.

وقول سیبویه : (ما رأیته مذ یوم الجمعة إلی الیوم) مذ فیه بمعنی (من). وقوله : (ما لقیته مذ الیوم إلی ساعتک هذه) ، مذ فیه بمعنی (من) الابتدائیة أیضا. لأن عدم اللقاء وقع فی الماضی واتصل بالحال. کما یجوز أن تقول ، فیما أری : ما حدث کذا من الیوم إلی هذه الساعة .

ص: 510


1- احترازا من نحو : ما عملت کذا مذ أو منذ لحظتنا ، فإنه لا یجوز أن تقع (إلی) هنا بعدها ، کما هو ظاهر.
2- انظر المراد من الغایة فی ص 511 وأنه ابتدا الغایة ...
3- یلاحظ أن «مذ» فی هذا المثال الذی أورده الباحث. لیست حرف جر ، أی : لیست مما نحن فیه. ولم یوضح الباحث المراد الدقیق من «الغایة» وقد سبق أن عرضنا لمعناها وأنه یختلف - کما فی رقم 1 من هامش ص 426 وفی رقم 2 من هامش ص 433 ... و... -
4- سبق أن (مذ ومنذ) یقعان حرفین بمعنی (فی) إن کان المجرور (معرفة) حاضرا. وقد مثل النحاة بنحو : ما رأیته مذ أو منذ یومنا ، أو الیوم. فقد یتوهم من مثال سیبویه هذا أن (منذ) فیه - - بمعنی : (فی) لأن (أل) فیه تفید الحضور. ولکن سیبویه لما أتی (بإلی) بعد (مذ) صار المعنی علیه : انقطع لقائی له من ابتداء هذا الیوم ، واستمر هذا الانقطاع إلی وقت التکلم. فالمضی فی المثال واقع - أما إذا قلت : ما لقیته مذ الیوم ، أو یومنا ، أو هذا الیوم ، مثلا ، ولم تزد ، فقد اعتبرت الیوم بأجمعه وقتا حاضرا. فتکون (مذ) بمعنی (فی). هذا ما ظهر لی. اه ، تعلیق الباحث.

وقوله : (وتقول : ما رأیته مذ یومین ... إلخ) ، یرید من قوله : (فجعلته غایة) ، أی جعلت معنی : (مذ یومین) ابتداء الغایة لانقطاع الرؤیة. وقوله : (ولم ترد منتهی) ، یرید أنک أردت ابتداء الغایة وحدها ، ولم تتعرض للمنتهی - ولکنا رأینا فیما سقناه آنفا لمعنی هذا المثال أنه یتضمن ابتداء الغایة ومنتهاها.

وقوله : (ومذ غدوة إلی الساعة) ، «مذ» فیه بمعنی (من) ، فیجب أن یکون ما بعدها معرفة. فیتعین أن تکون «غدوة» هنا من یوم بعینه. ولإیضاح المقام نورد ما جاء فی اللسان ، قال :

الغدوة ، بالضم ، البکرة ، ما بین صلاة الغداة وطلوع الشمس. وغدوة من یوم بعینه غیر مجراة (1) ، علم للوقت ... وفی التهذیب : وغدوة - معرفة - لا تصرف. قال النحویون : إنها لا تنون ، ولا یدخل فیها الألف واللام ... ویقال : أتیته غدوة ، غیر مصروفة ، لأنها معرفة ؛ مثل : سحر. إلا أنها من الظروف المتمکنة. تقول : سیر علی فرسک غدوة وغدوة وغدوة وغدوة ، فما نوّن من هذه فهو نکرة ، وما لم ینوّن فهو معرفة. والجمع غدا (2). اه ، ونحوه فی الصحاح.

وإذا رجعنا إلی عبارة اللسان هذه نجده یقول : (... لأنها «أی : غدوة» معرفة ، مثل سحر ، إلا أنها من الظروف المتمکنة) (3) ...

فیلخص مما مر من الکلام علی «غدوة وسحر» أنهما یجتمعان فی الامتناع من الصرف ، إذا أریدا من یوم بعینه. فأما (سحر) فلأنه معدول عن الألف

ص: 511


1- یعنی أنها ممنوعة من الصرف ، وهو تعبیر قدیم للنحویین. ولهذا الکلام صلة وثیقة بما قیل عنها فی ص 244.
2- قال فی اللسان : والغداة کالغدوة. وجمعها غدوات ... ویقال : آتیک غداة غد. والجمع الغدوات ، مثل قطاة وقطوات. اه.
3- راجع ما یتصل بالکلام علی : «سحر» فی ص 246.

واللام. وأما غدوة فللعلمیة والتأنیث. کما یجتمعان فی أنهما کلیهما من الظروف المتصرفة إذا لم یرادا من یوم بعینه.

ویفترقان فی أن (سحر) غیر متصرف إذا أرید من یوم بعینه. فلا یرفع علی الابتداء أو الخبر مثلا ، کأن تقول : سحر جمیل ، أو هذا سحر - ولکنک تقول مثلا : بین أسحار الأسبوع الماضی سحر جمیل. بخلاف غدوة ، فإنها متصرفة ، ولو أریدت من یوم بعینه. فتقول مثلا : غدوة جمیلة. کما تقول : کان بین غدا هذا الأسبوع غدوة جمیلة.

وقال الأشمونی : (ثم الظرف المتصرف منه منصرف نحو ... ومنه غیر منصرف ، وهو غدوة ، وبکرة ، علمین لهذین الوقتین) فقال الصبان : «قوله علمین لهذین الوقتین» ، أی : علمین جنسیین ، بمعنی أن الواضع وضعهما علمین جنسیین لهذین الوقتین ، أعمّ من أن یکونا من یوم بعینه أولا. اه.

وإنما أطلنا القول فی (غدوة) و (سحر) ، وأکثرنا من الأمثلة فیهما ، لما یغشاهما من الإجمال والإبهام فی کلام اللغویین والنحویین ، حتی إن العلامة الصبان علی جلال قدره أشکل علیه الأمر فی (سحر). وإلیک البیان :

فقد قال الأشمونی : والظرف غیر المتصرف ، منه منصرف وغیر منصرف. فالمنصرف نحو : سحر ، ولیل ، و... غیر مقصود بها کلها التعیین. اه.

فقال الصبان : فیه أن سحرا ... متصرفة. ومن خروج سحر عن الظرفیة وشبهها قوله تعالی : (نَجَّیْناهُمْ بِسَحَرٍ.) فکیف جعلها من غیر المتصرف. اه.

وقد مر بک ردّ العلامة الخضری علیه ، (فراجعه فی رقم 2 من هامش ص 506).

(ه) قد تقدم (1) أنهم جوزوا أن یقال مثلا : ما قابلته مذ أو منذ دهر ، أو شهر ، علی أن یکون مذ أو منذ بمعنی من وإلی معا. لأن الدهر والشهر فی حکم المعدود.

فیظهر علی هذا أنه یجوز أن یقال أیضا : ما قابلته مذ أو منذ زمن ، لأن الدهر من معانیه الزمن ، فقد جاء فی المصباح : الدهر یطلق علی الأبد. وقیل :

ص: 512


1- فی ص 505.

هو الزمان قل أو کثر. وقال الأزهری : والدهر عند العرب یطلق علی الزمان ، وعلی الفصل من فصول السنة ، وأقل من ذلک. اه.

ولکن بعض العلماء یعدون (الزمن) أو (الزمان) من المبهم. فقد جاء فی حاشیة العلامة الخضری علی ابن عقیل ما یأتی : وشرط الزمان المجرور بهما کونه متعینا لا مبهما ، کمنذ زمن. اه. ولکن جاء فی الأشمونی أن (بعضهم یقول : مذ (1) زمن طویل) ، فلعله یعتبر الوصف نوعا من التعیین.

وکما یقال : مذ أو منذ دهر ، یقال أیضا : مذ أو منذ أدهر ، أو دهور (2) ، ومذ أو منذ أزمن ، أو أزمان ، أو أزمنة - قال : (وربع عفت آیاته منذ أزمان (3)).

وکذا یقال : مذ أو منذ حقب ، أو حقوب ، أو حقب ، أو حقب (4) أو حقاب ، أو أحقاب - إلی غیر ذلک من کل متعدد لفظا ، أو ما هو فی حکم المتعدد.

ولیت شعری هل قال العرب مثلا : مذ أو منذ دهرین ، أو زمنین ، أو حقبین کما جمعوا ، فقالوا : أحقاب وأزمان ، مثلا؟ الظاهر أنهم لم یقولوا ذلک ، اکتفاء بالجمع عند المبالغة. علی أن تثنیته لا مانع منها صناعة.

(و) یظهر أن ابن هشام لا یشترط التعریف فی مجرور (مذ) و (منذ) ، إذا کانا بمعنی (من). فیقول فی التوضیح : (ومعنی مذ ومنذ ابتداء الغایة ، إن کان الزمان ماضیا ، کقوله : «أقوین مذ حجج ومذ دهر» ، وقوله : «وربع عفت آیاته منذ أزمان». فأقره شارحه الشیخ خالد بن عبد الله الأزهری. فقال بعد «أقوین إلخ» : من حجج. وقال بعد : «وربع إلخ» : أی : من أزمان).

ص: 513


1- بضم «مذ» فی بعض اللغات ، وإن لم یقع ساکن بعدها.
2- قال فی اللسان : وجمع الدهر أدهر ، ودهور.
3- قال الصبان : وقوله (منذ أزمان). قال قاسم : لعل هذا من العدد فیکون بمعنی (من) و (إلی) معا. اه.
4- قال فی اللسان : والحقب الدهر. والأحقاب الدهور ... وقوله تعالی : (أَوْ أَمْضِیَ حُقُباً :) معناه سنة. وقیل : معناه سنین اه.

وقد رأیت فیما ذکرناه آنفا أن مذ ومنذ ، إذا کانا بمعنی (من) ، کان مجرورهما معرفة. فقد قال ابن عقیل : (وإن وقع ما بعدهما مجرورا فهما حرفا جرّ بمعنی «من» ، إن کان المجرور ماضیا) ، فقال العلامة الخضری : «قوله بمعنی من» ، أی : البیانیة (1) هذا إذا کان المجرور معرفة کمثاله ، فإن کان نکرة فهما بمعنی (من) و (إلی) معا. ولا تکون النکرة إلا معدودة لفظا ، کمذ یومین ، أو معنی ، کمذ شهر ، لما مر من أنهما لا یجران المبهم. اه - ونحو ذلک فی الأشمونی ، قال : ... ثم إن کان ذلک (فی مضیّ فکمن هما) فی المعنی ، نحو : ما رأیته مذ یوم الجمعة. اه.

ویتضح من ذلک أن فی الموضوع مذهبین : أحدهما یشترط تعریف مجرور مذ ومنذ إذا کانا بمعنی (من) ، مع مضیّ الزمن. والثانی لا یشترط غیر مضی الزمن (2).

(ز) قال العلامة الشیخ یاسین بن زین الدین العلیمی الحمصی فی حاشیته علی شرح التوضیح ، عند قول المتن : (أحدهما أن یدخلا علی اسم مرفوع ، نحو : ما رأیته مذ یومان) ، ما یأتی : «قوله مذ یومان» ، قال الزرقانی : قال الرضی : قال الأخفش : لا تقول : ما رأیته مذ یومان وقد رأیته أمس - ویجوز أن یقال : ما رأیته مذ یومان ، وقد رأیته أوّل من أمس - أما إذا کان وقت التکلم آخر الیوم فلا شک فیه ، لأنه یکون قد تکمّل لانتفاء الرؤیة یومان ... قال : ویجوز أن یقال فی یوم الاثنین مثلا : ما رأیته منذ یومان : وقد رأیته یوم الجمعة ولا تعتدّ بیوم الإخبار ولا یوم الانقطاع. قال : ویجوز أن تقول : ما رأیته منذ یومان ، وأنت لم تره منذ عشرة أیام. قال : لأنک تکون قد أخبرت عن بعض ما مضی - أقول : وعلی ما بینا ، وهو أن منذ لا بد فیه من معنی الابتداء فی جمیع مواقعه ، لا یجوز ذلک (3).

ص: 514


1- قال العلامة الصبان عند قول ابن مالک : (وإن یجرا فی مضی فکمن) ما یأتی : «قوله فکمن» ، أی : الابتدائیة اه ، وهو أولی وأظهر من تسمیة الخضری إیاها بالبیانیة.
2- اللهم إلا إذا کان ابن هشام یرید النص علی ابتداء الغایة عند مضی الزمن ، فسکت عن (إلی) فلا منافاة علی هذا بین قوله هذا وقول سائر النحاة.
3- یظهر أن اسم الإشارة راجع إلی ما مثل به ، ابتداء من قوله : (ویجوز أن تقول فی یوم - - الاثنین مثلا ...) إلی قوله : (ما مضی). وذلک لأن عدم الاعتداد بیوم الانقطاع ، ینافی معنی الابتداء الذی یفیده مذ ومنذ. وکذا یقال فی المثال الثانی.

وقال : إنهم یقولون : منذ الیوم ولا یقولون : منذ الشهر ؛ ولا : منذ السنة. ویقولون : منذ العام. قال : وهو علی غیر القیاس - قال : ولا یقال : منذ یوم ، استغناء بقولهم : منذ أمس - ولا یقولون : منذ الساعة ، لقصرها - فإن کان جمیع ما قاله مستندا إلی السماع فبها ونعمت. وإلا فالقیاس جواز الجمیع. والقصر لیس بمانع. لأنه جوز : (منذ أقل من ساعة). اه. المراد من کلام الشیخ یاسین.

أقول : قد أسلفنا القول فی امتناع أن یقال مثلا : ما رأیته مذ أو منذ یوم ، لا لتلک العلة التی نقلها یاسین عن الأخفش ، بل لأن منذ ومذ لا یجران إلا النکرة المعدودة ، أو التی فی حکم المعدودة ، إذا کانا بمعنی من وإلی معا.

وقوله : (ولا یقولون : منذ الساعة ، لقصرها) ، هذا هو أحد معانیها ، وهو الوقت القلیل. فقد جاء فی اللسان : والساعة الوقت الحاضر ... والساعة فی الأصل تطلق بمعنیین : أحدهما أن تکون عبارة عن جزء من أربعة وعشرین جزءا ، هی مجموع الیوم واللیلة. والثانی أن تکون عبارة عن جزء قلیل من النهار أو اللیل. یقال : جلست عندک ساعة من النهار ، أی وقتا قلیلا منه. اه.

فإذا قلت مثلا ، علی القول بالجواز : طار العصفور مذ أو منذ الساعة ، فمعنی مذ أو منذ هنا (فی) ، أی : طار فی هذا الوقت الحاضر. وهذا واضح ، کما قال یس. والقصر لیس بمانع.

وأما ما قاله یاسین من أنه جوّز أن یقال : منذ أقل من ساعة ، فمعناه : منذ وقت أقل من ساعة. فمنذ فیه بمعنی (من) (علی رأی ابن هشام ومن تابعه ، کما قررنا فی «و»). فتقول مثلا : حضر فلان مذ أو منذ أقل من ساعة ، أی : من زمن وجیز.

بقی المعنی الثانی للساعة ، وهی أنها جزء من أربعة وعشرین جزءا هی مجموع الیوم واللیلة. فهذه الساعة محدودة ، لأنها مقسمة أیضا أقساما متساویة ؛ هی الدقائق الفلکیة. والقصر الذی هو علة المنع فیما قال الأخفش ، منتف فیها.

ص: 515

فتقول مثلا : ما کتبت مذ أو منذ الساعة ، أی : فی هذا الوقت المقدّر بستین دقیقة. کما تقول مثلا : کتبت مذ أو منذ الساعة ، فی الإثبات لأن الفعل متطاول - هذا ما نستظهره.

(ح) وهناک موضوع له شبه واتصال بما قررنا فی الفقرة السابقة. ذلک أنا قلنا آنفا : إن (یوما) من المبهم ؛ فلا یجوز : مذ أو منذ یوم. فهذا ما مثل به النحاة. ففی الصبان عند قول الأشمونی : (فإن کان المجرور بهما نکرة ... إلخ ما یأتی : «قوله نکرة» ، أی معدودة ، إذ لا یجوز : منذ یوم). اه. والظاهر أن النحاة لم یدخلوا (الیوم) فی باب ما هو فی حکم المعدود ، وألحقوه بالمبهم ، لاختلاف اللغویین فی معناه. فمنها أنه من طلوع الشمس إلی غروبها ، ومنها أنه مطلق الزمان ، إلی غیر ذلک.

وأما المعنی الآخر الذی نقلناه عن اللسان فیما تقدم ، فقد حدث فی الحضارة الإسلامیة. وهو فی حکم المعدود. ذلک أن تقول مثلا : ما کلمته مذ أو منذ یوم ، کما لک أن تقول : مذ أو منذ لیلة ، لهذا الاعتبار ، کما قالوا : مذ أو منذ شهر ، أو سنة.

وکذلک یقال فی الساعة والدقیقة الفلکیتین. فنقول مثلا : قرأ القارئ مذ أو منذ ساعة ، ما قرأ منذ أو مذ ساعة. وکلمنی صدیقی مذ أو منذ دقیقة ، قیاسا سائغا لا غبار علیه.

وقد خطر لی وأنا أکتب هذا ، لفظ : هنیهة أو هنیّة. ففی المصباح : الهن - خفیف النون - کنایة عن کل اسم جنس. والأنثی : هنة ؛ ولامها محذوفة. ففی لغة هی هاء ؛ فیصغر علی : هنیهة. ومنه یقال : سکت هنیهة أی : ساعة لطیفة. وفی لغة هی : واو ، فیصغر فی المؤنث علی : هنیّة. وجمعها [أی : هنة] هنوات. وربما جمعت علی هنات ، علی لفظها ، مثل عدات - وفی المذکر : هنیّ. اه.

وإنما تعرضت لهذه الکلمة ، لکثرة دورانها علی الألسن والأقلام فی مختلف شئون الحیاة. فهی لیست من المعدود لفظا أو حکما. ولا یمکن ضبطها بقیاس.

ص: 516

ومثل هنیهة أو هنیّة : «لحظة» ، للزمان الیسیر - ففی الأساس : وفعل ذلک فی لحظة. اه. وفی شرح القاموس : ومما یستدرک علیه : اللّحظة المرة من اللّحظ ویقولون : جلست عنده لحظة ، أی : کلحظة العین (1) ، ویصغرونه لحیظة. والجمع لحظات. اه.

وهذه الکلمة أیضا شائعة جدّا. وحکمها حکم الهنیهة أو الهنیّة ، لما قررنا من انبهامها ، وأنها لیست من المعدود ولا ما هو فی حکمه. وهل ثنّوا هنیهة أو هنیّة (للوقت الیسیر) ، ولحظة ، فقالوا مثلا : جلس هنیهتین أو هنیتین؟ لعلهم لم یفعلوا. لأنه لا معنی لقولک مثلا : جلست وقتین لطیفین (2). ولو أنهم فعلوا لجاز ؛ نحو قولک : جلست مذ أو منذ لحظتین أو هنیهتین ، کما تقرر آنفا.

وهل جمعوا هنیهة أو هنیّة (للوقت الیسیر) ، فقالوا مثلا : جلس هنیهات ، أو هنیّات. الغالب أنهم لم یفعلوا ، علی ما وصل إلیه اطلاعی. ولو أنهم فعلوا لجاز أن تقول مثلا : جلست أو ما جلست عنده مذ أو منذ هنیهات.

أما اللحظة فلعلهم لم یثنوها. والغالب أنهم جمعوها.

علی أن تثنیة کل أولئک وجمعه جائز صناعة فلا کلام فی هذا (3).

(ط) وقد کنت أرجع فی أثناء کتابة هذه العجالة إلی شرح الإمام موفق الدین أبی البقاء یعیش بن علی بن یعیش النحوی المتوفی سنة 643 ه. لمفصل الزمخشری - ورجعت أیضا إلی شرح کتاب سیبویه للإمام أبی سعید الحسن

ص: 517


1- أی : فهو من باب نیابة المصدر عن الزمن. والأصل : جلست عنده مقدار لحظة عین.
2- إلا إذا قلت مثلا : جلست هنیهتین ، عند محمد هنیهة ، وعند علی هنیهة - وکذا یقال فی الجمع ، وفی لحظة إذا استعملنا مثناها وجمعها هذا الاستعمال.
3- هناک أسماء أخری کثیرة مبهمة تدل علی الزمان بذاتها ، أو بالنیابة عن المصدر : فحکمها ما قررنا. ومن ذلک - وهو شائع - وقت ، وبرهة ، وعهد ، فیغلط الناس ویقولون : مذ أو منذ برهة ، أو عهد أو وقت. اللهم إلا إذا قالوا : مذ أو منذ عهد طویل. أو برهة طویلة مثلا. فقد یجوز أن یلحق ذلک بما هو فی حکم المعدود. (راجع تعلیقنا علی کلام الأشمونی فی ص 513 آخر «ه») ولیس لی فی ذلک جزم فلیحرر.

ابن عبد الله بن المرزبان السیرافی المتوفی 368 ه ، فوجدت فیهما تعلیقات طریفة تتصل بموضوع هذا البحث. آثرت أن أتحف القارئ بنتف منهما ، لیری کیف کان یکتب هذان الإمامان ، ولتکمل بها الفائدة.

قال الإمام ابن یعیش :

(1)وأما الفرق بینهما [أی : «مذ ومنذ» الحرفیتین والاسمیتین] من جهة المعنی ، فإن «مذ» إذا کانت حرفا دلت علی أن المعنی - الکائن فیما دخلت علیه ، لا فیها نفسها ، نحو قولک : زید عندنا مذ شهر ؛ علی اعتقاد أنها حرف ، وخفض ما بعدها. فالشهر هو الذی حصل فیه الاستقرار فی ذلک المکان ، بدلالة مذ علی ذلک.

وأما إذا کانت اسما ورفعت ما بعدها ، دلت علی المعنی الکائن فی نفسها. نحو قولک : ما رأیته مذ یوم الجمعة. فالرؤیة متضمنة «مذ» وهو الوقت الذی حصلت فیه الرؤیة ، وهو یوم الجمعة. کأنک قلت : الوقت الذی حصلت (1) فیه الرؤیة یوم الجمعة. اه.

وقال :

(2)

والصواب ما ذهب إلیه البصریون من أن ارتفاعه بأنه خبر. والمبتدأ منذ ومذ. فإذا قلت : ما رأیته منذ یومان ، کأنک قلت : ما رأیته مذ ذلک یومان. فهما جملتان ، علی ما تقدم. وإنما قلنا : إن «مذ» فی موضع مرفوع بالابتداء ، لأنه مقدّر بالأمد. والأمد لو ظهر لم یکن إلا مرفوعا بالابتداء. فکذلک ما کان فی معناه. اه.

وقال :

(3)

وله [مذ أو منذ] فی الرفع معنیان : تعریف ابتداء المدة ، من غیر تعرض إلی الانتهاء. والآخر تعریف المدة کلها.

ص: 518


1- هذا نقل الباحث. فهل حصلت الرؤیة؟

فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة ، نحو قولک ، ما رأیته مذ یوم الجمعة ونحوه ، کان المقصود به ابتداء غایة الزمان الذی انقطعت فیه الرؤیة وتعریفه. والانتهاء مسکوت عنه. کأنک قلت : وإلی الآن. ویکون فی تقدیر جواب (متی).

وإذا وقع بعده نکرة ، نحو : ما رأیته منذ یومان ، ونحو ذلک ، کان المراد منه انتظام المدة کلها ، من أولها إلی آخرها ، وانقطاع الرؤیة فیها کلها.

فإن خفضت ما بعدهما ، معرفة کان أو نکرة ، کان المراد الزمان الحاضر ، ولم تکن الرؤیة قد وقعت فی شیء منه. اه.

ویظهر أن أبا البقاء أراد بالمعرفة فی قوله : (فإن خفضت ما بعدها ... إلخ) نحو یومنا أو الیوم ، فی قولک مثلا : ما رأیته مذ أو منذ یومنا ، أو الیوم.

ولم یرد نحو قولک : ما رأیته مذ أو منذ یوم الأربعاء (1) ، أی من یوم الأربعاء ، کما تقدم. وذلک لأن أبا البقاء یرفع (یوم) فیه وجوبا. بدلیل قوله آنفا فی فقرة (3) : (فإذا وقع الاسم بعدها معرفة ، نحو قولک : ما رأیته مذ یوم الجمعة ... إلخ).

أما الدلالة علی الزمن الحاضر فی حال جر مذ ومنذ للنکرة ، فقد سلف لک أنک إذا قلت مثلا : ما کلمته مذ أو منذ شهرین (مما هو معدود) ، أو شهر (مما هو فی حکم المعدود) ، کان المعنی أن الحدث انتفی من ابتداء هذه المدة إلی انتهائها. فأنت إذ تقول مثلا : ما کلمته مذ أو منذ شهر ، تتکلم فی نهایة الشهر. أی : ما وقع الکلام فی هذا الشهر الحاضر ، من أوله إلی آخره.

هذا شرح الفقرة الأخیرة من کلام أبی البقاء ، کما قدرت أن أوجهها.

وقال الإمام السیرافی :

1- اعلم أن منذ ومذ جمیعا فی معنی واحد. وهما یکونان اسمین وحرفین ، غیر أن الغالب علی منذ أن تکون حرفا ، وعلی مذ أن تکون اسما. اه.

ص: 519


1- قد سبق أن نحو هذا المثال یجوز فیما بعد مذ أو منذ فیه الرفع أو الجر.

2- ... تقول : ما رأیته منذ یوم الجمعة ، وما رأیته منذ الیوم. وإذا قلت : ما رأیته منذ یوم الجمعة : کان معناه : انقطعت رؤیتی له من یوم الجمعة. فکان یوم الجمعة لابتداء غایة انقطاع الرؤیة. فمحل ذلک من الزمان کمحل (من) فی المکان ، إذا قلت : ما سرت من بغداد ، أی : ما ابتدأت السیر من هذا المکان. فکذلک : ما وقعت رؤیتی علیه من هذا الزمان. اه.

3-... وتقول : ما رأیته مذ یوم الجمعة ، وما رأیته مذ السبت ... فإن قال قائل : فما حکم «مذ» فی هذا الوجه ، وتقدیرها؟ قیل له : حکمها أن تکون اسما ، وتقدیرها أن تکون مبتدأة ، ویکون ما بعدها خبرها. کأنک قلت : ما رأیته ، مدة ذلک یوم السبت. فیکون علی کلامین ... وذلک أنک إذا قلت : ما رأیته مذ یوم الجمعة فإنما معناه : انقطاع رؤیتی له ابتداؤه یوم الجمعة ، وانتهاؤه الساعة. فتضمنت (من) معنی الابتداء والانتهاء.

وإذا قلت ما رأیته مذ الیوم ، فلیس فیه إلا معنی ابتداء الغایة وانقطاعها. وهو (فی) معنی ، وانخفض ما بعدها. اه.

4- ... وذلک أنک إذا قلت : لم أره مذ یومان ، أو مذ شهران ، أو نحو ذلک ، مما یکون جوابا لکم ، فتقدیره : لم أره وقتا مّا. ثم فسرت ذلک فقلت : أمد ذلک شهران ، أو مدة ذلک شهران. فقولک مذ شهران جملة ثانیة هی تفسیر للوقت المبهم فی الجملة الأولی. فهذا أحد تقدیری مذ إذا رفعت ما بعدها.

والتقدیر الآخر أن تقول : ما رأیته مذ یوم الجمعة فیکون تقدیره : فقدت رؤیته وقتا ما ، أوله یوم الجمعة فمذ فی هذین الوجهین بمنزلة اسم مضاف : إما علی تقدیر : أمد ذلک ، أو أول ذلک. اه.

ص: 520

5- تکمیل

وفی المخصص : قال سیبویه : سألت الخلیل رحمه الله عن قولهم ؛ مذ عام أوّل (1) ، ومذ عام أوّل. فقال : أول : ها هنا صفة. وهو أول من عامک. ولکن ألزموه ها هنا الحذف استخفافا. فجعلوا هذا الحرف بمنزلة (أفضل منک) قال : وسألته رحمه لله عن قول العرب ، وهو قلیل : مذ عام أوّل. فقال : جعلوه ظرفا فی هذا الموضع ، وکأنه قال : مذ عام قبل عامک. اه.

* * *

قال الباحث : إلی هنا وقف القلم ، وفی النفس شوق إلی المزید ، وتطلع إلی الاستیفاء. ولعلی أکون قد وفقت إلی ما أردت من توضیح وتسهیل. والله تعالی المستعان.

ص: 521


1- انظر ما یتصل بکلمة : «أول» فی ص 267 وکذا فی ج 3 م 95 ص 130 حیث الإیضاح المفید.

بحث التضمین

(1)

أقوال العلماء فی التضمین

قال أبو البقاء فی کتابه «الکلیات» : التضمین : هو إشراب معنی فعل لفعل ، لیعامل معاملته. وبعبارة أخری : هو أن یحمل اللفظ معنی غیر الذی یستحقه بغیر آله ظاهرة.

ثم قال : قال بعضهم : التضمین هو أن یستعمل اللفظ فی معناه الأصلی ، وهو المقصود أصالة ، لکن قصد تبعیة معنی آخر یناسبه من غیر أن یستعمل فیه ذلک اللفظ ، أو یقدر له لفظ آخر ، فلا یکون التضمین من باب الکنایة ، ولا من باب الإضمار ، بل من قبیل الحقیقة التی [فیها] قصد بمعناه الحقیقی معنی آخر یناسبه ویتبعه فی الإرادة.

وقال بعضهم : التضمین إیقاع لفظ موقع غیره لتضمنه لمعناه ، وهو نوع من المجاز. ولا اختصاص للتضمین بالفعل ، بل یجری فی الاسم أیضا. قال التفتازانی فی تفسیر قوله تعالی : (وَهُوَ اللهُ فِی السَّماواتِ وَفِی الْأَرْضِ:) لا یجوز تعلقه بلفظة : الله ، لکونه اسما لا صفة. بل هو متعلق بالمعنی الوصفی الذی ضمنه اسم الله ، کما فی قولک : هو حاتم من طیئ ، علی تضمین معنی : الجواد.

ص: 522


1- هذا هو البحث الثانی الذی سبق أن وعدنا - فی رقم 2 من هامش ص 159 - بتسجیله هنا ، لعظیم أثره عند المتخصصین ، ولیکون صورة مرشدة من مسالک البحث العقلی الدقیق أمام کبار الطلاب ، بالرغم من تشعبه الخیالی بغیر سداد ، وکثرة الخلاف والوهم کثرة معیبة تکشف عن نوع عنیف مرهق من البحوث الجدلیة القدیمة. وقد نقلناه کاملا من محاضر جلسات المجمع اللغوی القاهری فی دور انعقاده الأول (ص 209 ، وما بعدها) حیث سجلته تلک المحاضر. بقلم عضو جلیل من أعضاء المجمع ، هو الأستاذ حسین والی ، رحمة الله علیه وقد ألقاه علی الأعضاء قبل تسجیله. ونقلنا معه بعض مناقشات قصیرة دارت بشأنه بین الأعضاء ساعة عرضه علی المجمع اللغوی ؛ لأهمیة ذلک کله. وأردفناه برأی خاص موجز ، فی هامش الصفحة الأخیرة ص 552. ویلاحظ ما سبقت الإشارة إلیه - فی رقم 2 من هامش ص 159 باختصار فی باب : «تعدی الفعل ، ولزومه» وهو أن «الصبان» عرض للتضمین - ج 2 - کما عرض له «یاسین» فی الجزء الثانی من حاشیته علی التصریح ، باب : «حروف الجر» عرضا محمودا ، فی نحو : أربع صفحات.

وجریانه فی الحرف ظاهر فی قوله تعالی : (ما نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ،) فإن «ما» تتضمن معنی «إن» الشرطیة. ولذلک جزم الفعل.

وکل من المعنیین مقصود لذاته فی التضمین ، إلا أن القصد إلی أحدهما - وهو المذکور بذکر متعلقه - یکون تبعا للآخر وهو المذکور بلفظه ، وهذه التبعیة فی الإرادة من الکلام ، فلا ینافی کونه مقصودا لذاته فی المقام. وبه یفارق التضمین الجمع بین الحقیقة والمجاز ، فإن کلا من المعنیین فی صورة الجمع مراد من الکلام لذاته ، مقصود فی المقام أصالة ، ولذلک اختلف فی صحته مع الاتفاق فی صحة التضمین.

والتضمین سماعی لا قیاسی ، وإنما یذهب إلیه عند الضرورة. أما إذ أمکن إجراء اللفظ علی مدلوله فإنه یکون أولی. وکذا الحذف والإیصال ، لکنهما لشیوعهما صارا کالقیاس ، حتی کثر للعلماء التصرف والقول بهما فیما لا سماع فیه. ونظیره ما ذکره الفقهاء من أن ما ثبت علی خلاف القیاس إذا ما کان مشهورا یکون کالثابت بالقیاس فی جواز القیاس علیه.

وجاز تضمین اللازم المتعدی ؛ مثل : «سفه نفسه» فإنه متضمن لأهلک.

وفائدة التضمین هی أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین ، فالکلمتان مقصودتان معا قصدا وتبعا ، فتارة یجعل المذکور أصلا والمحذوف حالا ، کما قیل فی قوله تعالی : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) کأنه قیل : ولتکبروا الله حامدین علی ما هداکم ، وتارة بالعکس ، کما فی قوله تعالی : (وَالَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ) أی : یعترفون به مؤمنین.

ومن تضمین لفظ معنی آخر قوله تعالی : (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ،) أی : لا تفتهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم. (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : لا تضموها آکلین. (مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللهِ،) أی : من ینضاف فی نصرتی إلی الله. (هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی،) أی : أدعوک وأرشدک إلی أن تزکی : (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ،) أی : فلن تحرموه ، فعدی إلی اثنین. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ،) أی : لا تنووه ، فعدی بنفسه لا بعلی. (لا یَسَّمَّعُونَ إِلَی الْمَلَإِ الْأَعْلی،) أی : لا یصغون ، فعدی بإلی ، وأصله یتعدی بنفسه. ونحو : «سمع

ص: 523

الله لمن حمده» ، أی : استجاب ، فعدی باللام. (وَاللهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أی : یمیز.

ومن هذا الفن فی اللغة شیء کثیر لا یکاد یحاط به.

ومن تضمین لفظ لفظا آخر قوله تعالی : (هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیاطِینُ) إذ الأصل : أمن. حذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال علی حذفه کما فی «هل» فإن الأصل أهل؟ فإذا أدخلت حرف الجر فقدر الهمزة قبل حرف الجر فی ضمیرک ؛ کأنک تقول : أعلی من تنزل الشیاطین ، کقولک : أعلی زید مررت. وهذا تضمین لفظ لفظا آخر(1).

لقد ذکر أبو البقاء عن بعض العلماء أن التضمین لیس من باب الکنایة ، ولا من باب الإضمار ، بل من باب الحقیقة ، إذ قصد بمعناه الحقیقی معنی آخر یناسبه ویتبعه فی الإرادة.

ویؤخذ من هذا أنه لا بد من المناسبة ، وإنما یعرف المناسبة أهل العربیة الذین لهم درایة بالعربیة وأسرارها.

وذکر عن بعضهم أن التضمین إیقاع لفظ موقع غیره. لتضمنه معناه. وهو نوع من المجاز.

وقال : التضمین سماعی لا قیاسی ، وإنما یذهب إلیه عند الضرورة. أما إذا أمکن إجراء اللفظ علی مدلوله ، فإنه یکون أولی.

وذکر أمثلة لتضمین لفظ معنی لفظ آخر. ثم قال : «ومن هذا الفن فی اللغة شیء کثیر لا یکاد یحاط به».

ویؤخذ من هذا أن التضمین قیاسی.

* * *

وقال ابن هشام فی المغنی : قد یشربون لفظا معنی لفظ فیعطونه حکمه ، ویسمی ذلک تضمینا. وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین. قال الزمخشری : ألا تری کیف رجع معنی (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) إلی قولک : ولا تقتحمهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم. و (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ،) أی : ولا تضموها آکلین لها.

ص: 524


1- هنا غموض فی العبارة التی سجلها البحث.

قال الدسوقی : قوله یشربون لفظا معنی لفظ ، هذا ظاهر فی تغایر المعنیین ، فلا یشمل نحو : (وقد أحسن بی) ، أی : لطف ، فإن اللطف والإحسان واحد.

فالأولی أن التضمین إلحاق مادة بأخری لتضمنها معناها ولو فی الجملة ، أعنی باتحاد أو تناسب. قوله : «أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین» : ظاهر فی أن الکلمة تستعمل فی حقیقتها ومجازها. ألا تری أن الفعل من قوله تعالی : (لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ضمن معنی : یمتنعون من نسائهم بالحلف ، ولیس حقیقة الإیلاء إلا الحلف ، فاستعماله فی الامتناع من وطء المرأة إنما هو بطریق المجاز ، من باب إطلاق السبب علی المسبب ؛ فقد أطلق فعل الإیلاء مرادا به ذانک المعنیان جمیعا ، وذلک جمع بین الحقیقة والمجاز بلا شک. وهو ، أی : الجمع المذکور إنما یتأتی علی قول الأصولیین : إن قرینة المجاز لا یشترط أن تکون مانعة. أما علی طریقة البیانیین من اشتراط کونها مانعة من إرادة المعنی الحقیقی ، فقیل إن التضمین حقیقة ملوحة لغیرها.

وقدر (السعد) العامل مع بقاء الفعل مستعملا فی معناه الحقیقی ، فالفعل المذکور مستعمل فی معناه الحقیقی ، مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة. فقولنا أحمد إلیک فلانا ، معناه : أحمده منهیّا إلیک حمده. ویقلب کفیه علی کذا : أی. نادما علی کذا. فمعنی الفعل المتروک وهو المضمن معتبر علی أنه قید لمعنی الفعل المذکور.

وزعم بعضهم أن التضمین بالمعنی الذی ذکره (السعد) - وهو جعل وصف الفعل المتروک حالا من فاعل المذکور - یسمی تضمینا بیانیّا ، وأنه مقابل للنحوی (1).

وقیل إن التضمین من باب المجاز ، ویعتبر المعنی الحقیقی قیدا ، وهذا هو الذی اعتبره الزمخشری. فعلی مذهب السعد یقال : ولا تأکلوا أموالهم ضامّیها إلی أموالکم. وعلی مذهب الزمخشری نقول ولا تضموها إلیها آکلین.

وقیل التضمین من الکنایة ، أی لفظ أرید به لازم معناه.

ص: 525


1- فی ص 539 بیان النوعین.

فالأقوال خمسة ، وانظر ما بیان صحة الأخیر منها. تأمل. اه. تقریر الدردیر.

وقال الأمیر : قوله : «وفائدته إلخ» ظاهر فی الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وقیل مجاز فقط ، وقیل حقیقة ملوحة بغیرها.

وقدر «السعد» العامل ، فزعم بعضهم أنه تضمین بیانی مقابل للنحوی. قول ابن هشام «قد یشربون لفظا معنی لفظ» لا یخفی أن «قد» فی عرف المصنفین للتقلیل کما سیأتی. وعلی ذلک یکون التضمین قلیلا. ولکنه سیذکر فی آخر الموضوع عن ابن جنی أنه کثیر ، حتی قال الدسوقی : هذا ربما یؤید القول بأن التضمین قیاسی.

وقد أشار الدسوقی إلی أن قول ابن هشام : «وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین» ظاهر فی أن الکلمة تستعمل فی حقیقتها ومجازها. والجمع بین الحقیقة والمجاز إنما یتأتی علی قول الأصولیین إن قرینة المجاز لا یشترط أن تکون مانعة ، أما علی قول البیانیین یشترط أن تکون القرینة مانعة ، فقیل التضمین حقیقة ملوحة لغیرها. وقدر السعد العامل مع بقاء الفعل مستعملا فی معناه الحقیقی إلخ ما تقدم.

وقیل : التضمین من باب المجاز ، وقیل من باب الکنایة ، وسیأتی شرح المذاهب فی ذلک.

وذکر یاسین علی التصریح أن التضمین سماعی کما هو المختار.

ثم قال : واعلم أن کلام المصنف فی المغنی فی تقریره التضمین فی مواضع یقتضی أن أحد اللفظین مستعمل فی معنی الآخر ؛ لأنه قال فی (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ،) أی : فلن تحرموه. وفی (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ) أی : لا تنووا. وحینئذ فمعنی قوله : إنه إشراب لفظ معنی آخر ، أن اللفظ مستعمل فی معنی الآخر فقط. فإن هذا هو الموافق لذلک التقریر ، وإن احتمل أنه مستعمل فی معناه ومعنی الآخر.

وقول ابن جنی فی الخصائص : إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفین (1)

ص: 526


1- المراد : اللفظین مطلقا ، ولیس المراد الحرف المقابل للاسم والفعل.

موقع الآخر ، إیذانا بأن هذا الفعل فی معنی ذلک الآخر ، فلذلک جیء معه بالحرف المعتاد ، مع ما هو بمعناه - صریح فی أنه مستعمل فی معنی الآخر فقط.

وعلی هذا فالتضمین مجاز مرسل ، لأنه استعمال اللفظ فی غیر معناه لعلاقة بینهما وقرینة ، کما سیتضح ذلک. وهذا أحد أقوال فیه.

وقیل إن فیه جمعا بین الحقیقة والمجاز ، لدلالة المذکور علی معناه بنفسه ، وعلی معنی المحذوف بالقرینة.

وهذا إنما یقول به من یری جواز الجمع بین الحقیقة والمجاز. وهو ظاهر قول المغنی «إن فائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین». فظاهر تعریفه مخالف لما ذکره من فائدته. فلیتنبه لذلک.

وعلی هذا القول جری سلطان العلماء العز بن عبد السّلام ، فقال فی کتاب «مجاز القرآن» :

«الفصل الثانی والأربعون فی مجاز التضمین ، وهو أن یضمن اسم معنی اسم لإفادة معنی اسمین ، فتعدیه تعدیته فی بعض المواضع ، کقوله : (حَقِیقٌ عَلی أَنْ لا أَقُولَ عَلَی اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) فیضمن : خ خ حقیق معنی : خ خ حریص ، لیفید أنه محقوق بقول الحق ، وحریص علیه. ویضمن فعل معنی فعل ، فتعدیه أیضا تعدیته فی بعض المواضع کقول الشاعر : خ خ قد قتل الله زیادا عنی ، ضمن : قتل ، معنی : صرف ، لإفادة أنه صرفه حکما بالقتل ، دون ما عداه من الأسباب ، فأفاد معنی القتل والصرف جمیعا». اه ، المقصود منه.

وفیه تصریح بأن التضمین یجری فی الأسماء بل صدر به.

وقول المغنی «إشراب لفظ» یشملها.

فاقتصار (السعد) و (السید) علی بیانه فی الأفعال ، جار مجری التمثیل لا التقیید. ودعوی أصالته فی الأفعال مجردة عن الدلیل.

وقیل إن المذکور مستعمل فی حقیقته ، لم یشرب معنی غیره ، وعلیه جری صاحب الکشاف. وعجیب للمصنف فی المغنی حیث نقل کلامه بعد تعریف التضمین بما مر ، فأوهم أنه یری بما یقتضیه ذلک التعریف فتفطن له. وقال السعد

ص: 527

فی تقریر کلام الکشاف ، وبیان أنه لا یری أن فی التضمین مجازا ، ولا الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وأنه مع استعماله فی المذکور یدل علی المحذوف ما نصه :

حقیقة التضمین أن یقصد بالفعل معناه الحقیقی مع فعل آخر یناسبه. ثم قال : إن الفعل المذکور مستعمل فی معناه الحقیقی مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة ، نحو : أحمد إلیک فلانا ، معناه أحمده منهیّا إلیک حمده.

وقد یعکس ، کما یقال فی (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) یعترفون به مؤمنین.

وفی قوله «مع فعل آخر» حذف مضاف أی مع حذف فعل.

فإن قلت : المناسبة إنما هی بین الفعل المحذوف ومتعلقه المذکور لا بین الفعلین ، قلت : لا بد من المناسبة بینهما ، فلا یقال : ضربت إلیک زیدا ، أی منهیّا إلیک ضربه ؛ ولا تکفی القرینة.

واعترض علیه بأن فی کلامه تناقضا ، لأن قوله : «مع فعل آخر یناسبه» غیر ملائم لقوله : «مع حذف حال» ، فإن الثانی یدل علی أن المحذوف اسم هو حال ، لا فعل ، بخلاف الأول.

وأجیب بأن فی کلامه تغلیبا وإطلاقا للفعل علیه وعلی الاسم ، أو أراد بالفعل معناه اللغوی ، وکذا فی قوله : «أن یقصد بالفعل» ولا یخفی سقوطه علی هذا الکلام وبعده عن المرام.

وذلک أن الداعی للسعد علی ما قاله ، الفرار من الجمع بین الحقیقة والمجاز. والأصل تضمین الفعل لمثله ، فالملاحظة فی تضمین المذکور مثله ، وأشیر بالحال عند بیان المعنی إلی ذلک التضمن ولو قدر نفس الفعل ، کان من الحذف المجرد ، ولم یکن المحذوف فی تضمن المذکور. وأیضا فی تقدیره تکثیر للحذف.

وبهذا یظهر أن من قال لا تنحصر طرق التضمین فیما قال ، وأن منها العطف ، نحو : (الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ) ، أی : الرفث والإفضاء إلی نسائکم ، فقد غفل عن الباعث علی هذا القول. علی أنه لم یدع أحد الحصر. وقال السید : ذهب بعضهم إلی أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی فقط. والمعنی الآخر مراد بلفظ محذوف یدل علیه ما هو من متعلقاته. فتارة یجعل المذکور أصلا فی

ص: 528

الکلام والمحذوف قیدا فیه ، علی أنه حال ، کما فی قوله : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) کأنه قال : «لتکبروا الله حامدین علی ما هداکم». وتارة یعکس ، فیجعل المحذوف أصلا والمذکور مفعولا ، کقوله : «أحمد إلیک فلانا» کأنک قلت أنهی إلیک حمده ، أو حالا کما یدل علیه قوله ، (یعنی الکشاف) ، عند الکلام علی قوله تعالی : (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ،) أی : یعترفون به ، فإنه لا بد من تقدیر الحال ، أی : یعترفون به مؤمنین ، إذ لو لم یقدر لکان مجازا عن الاعتراف لا تضمینا ، وقوله علی «أنه حال» ، وقوله : «والمذکور مفعولا» بمعنی أن المذکور یدل علی ذلک کما یفیده قول السعد مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر.

والظاهر أن السید یوافقه علی ذلک ، لأنه لم یشر للرد علیه ، کما هو دأبه عند مخالفته.

فاندفع قول بعضهم : إن فی جعله المذکور مفعولا للمحذوف نظرا ظاهرا ، لأن الفعل والجملة لا یقع واحد منهما مفعولا لغیر القول والفعل المعلق.

فالصواب کون جملة : «أحمد» حالا من فاعل : أنهی ، والمعنی أنهی حمده إلیک حال کونی حامدا له. ویرد علیه أنه إن أراد أن جملة : «أحمد» حال فی الترکیب ففاسد أو فی المعنی ، فالذی وقع فیه حالا إنما هو اسم الفاعل المحذوف بدلالة الفعل المذکور علیه ، کما یشهد به قوله حال کونی حامدا. وقد ذکر السعد أن هذا الترکیب مما حذف فیه الحال ، والظاهر أن السید لم یقصد الرد علیه ، وإنما أراد بیان وجه آخر ، لیفید أن ذلک أمر اعتباری لا ینحصر فیما قاله السعد.

ومن العجب أن بعضهم بعد ذکر کلام السعد والسید قال إنه لا ینحصر فیما قال السید بل له طرق أخری ، منها : أن یکون مفعولا ، کما فی قولهم : أحمد إلیک الله ، أی : أنهی حمده إلیک.

ومن العجب أیضا قوله فی الجواب عن کلام البعض المتقدم ، إن هذا من السبک بلا سابک کباب التسویة ، وأنت قد عرفت أن هذا حذف کما نص علیه السعد لاسبک.

ص: 529

هذا ، وقد اتفق هذان المحققان السعد والسید ، علی أن فی «أحمد إلیک زیدا» تضمینا.

ووقع للمولی أبی السعود فی أول تفسیره الفرق بین الحمد والمدح ، بأن الحمد یشعر بتوجیه النعت بالجمیل إلی المنعوت بخلاف المدح ، وأنه یرشد إلی ذلک اختلافهما فی کیفیة التعلق بالمفعول فی حمدته ومدحته فإن تعلق الثانی تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها ، والأول مبنی علی معنی الإنهاء کما فی قولک کلمته ، فإنه معرب عما تفیده لام التبلیغ فی قولک قلت له.

ولا یخفی أن هذا مخالف لکلام القوم ، ولم یثبت بشهادة من معقول أو منقول.

فمن العجائب نقل شیخنا الدنوشری له فی رسالة التضمین ، وقوله : وهو کلام حسن ربما یؤخذ منه أن الإنهاء من مفهوم الحمد فتعلق إلی به بالنظر لذلک ، فلا حاجة إلی ادعاء التضمین فیه ، فلیتأمل ذلک. اه.

فإن أراد بکونه حسنا حسن تراکیبه ، فلا شک فی ذلک ، وإن أراد حسنه من جهة المعنی فلم یظهر ، فإنه وإن أطال الکلام کما یعلم بالوقوف علیه ، لم یأت فیه ببیان المرام.

بقی هنا أمران ؛ الأول : ما أشار إلیه السعد والسید من أخذ الحال من المحذوف أو المذکور ، لا شک أنهما وجهان متغایران عند من له فی التحقیق یدان ، وإنما الکلام فی أنهما : هل یستویان دائما أو یترجح أحدهما فی بعض الأحیان؟

والذی یقتضیه النظر وإلیه یشیر کلامهم ، رجحان أحدهما علی الآخر بحسب المقام. بل تعینه کما لا یخفی علی من له بالقواعد إلمام. فیترجح أخذها من المحذوف فی : (وَلِتُکَبِّرُوا اللهَ عَلی ما هَداکُمْ) وإن جری السید علی خلافه کما مر ، فقد قال صاحب الکشاف : المعنی لتکبروا الله حامدین ، ولم یقل لتحمدوا الله مکبرین. قال بعضهم : لأن الحمد إنما یستحق ویطلب لما فیه من التعظیم. وکما فی حدیث : (أن تؤمن بالقضاء ...) ، فالمعنی : أن تؤمن معترضا بالقضاء ؛ لا أن تعترف بالقضاء مؤمنا ، لأن «أن» والفعل یسبک بمصدر معرف ، وهو لا یقع حالا کما قاله الرضی فی الکلام علی أن (إنّ)

ص: 530

تکسر وجوبا إذا وقعت حالا ، وإن کان لا یخلو عن نظر ؛ لعدم وجوب کون المصدر المسبوک معرفة کما یأتی ، ولما یدلان علیه من اسم الفاعل حکمهما. وفی بعضها یترجح أخذها من المذکور کما إذا ضمن العلم معنی القسم ، نحو : علم الله لأفعلن ، فالمعنی : أقسم بالله عالما لأفعلن لا عکسه ، لأن «أقسم» جملة إنشائیة لا تقع حالا إلا بتأویل. واسم الفاعل الواقع حالا قائم مقامها فیعطی حکمها ، ونحو : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ، لأن التقدیر : ألبثه الله مائة عام مماتا ، لا أماته الله مائة عام ملبثا ، لأنه یلزم منه ألّا تکون الحال مقارنة بل مقدرة ، والأصل کونها مقارنة.

وأما ما توهمه بعضهم من أن صلة المتروک تدل علی أنه المقصود أصالة ، فمردود بأنها إنما تدل علی کونه مرادا فی الجملة ؛ إذ لولاها لم یکن مرادا أصلا. بل إن الصلة لا یلزم أن تکون للمتروک کما دل علیه کلام البیضاوی فی تفسیر : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَکاناً شَرْقِیًّا) فإنه فسر «انتبذت» باعتزلت. وذکر أنه متضمن معنی : أتت ، و «مکانا» ظرف أو مفعول. ولا شک أن قوله «من أهلها» حینئذ متعلق «بانتبذت» الذی بمعنی : اعتزلت ، لا بأتت.

ومما یتفطن له أن المراد بالصلة ما له دلالة علی التضمن ؛ لارتباطه بالمحذوف الذی فی ضمن المذکور ، فیشمل ما إذا ضمن اللازم معنی المتعدی ، فإن التعدیة حینئذ قرینة التضمین لا ذکر الصلة.

وأما إذا ضمن فعل متعد لواحد معنی متعد لاثنین وبالعکس ، کتضمن العلم معنی القسم کما مر ، فإن القرینة إنما هو الجواب.

الثانی : هل الخلاف فی کون التضمین سماعیّا أو قیاسیّا ، مبنی علی الخلاف فی أنه حقیقة أو مجاز إلی غیر ذلک مما فیه من المذاهب؟ وهل ذلک فی المجاز مبنی علی کون المجاز سماعیّا أولا؟

والذی یخطر بالبال أنه علی القول بأنه حقیقة لا تتوقف علی سماع. واشتراط المناسبة بین اللفظین لا یقتضی ذلک کما لا یخفی. وأنه یلزم من کون مطلق المجاز قیاسیّا قیاسیة هذا المجاز الخاص ، خلافا لبعضهم.

قال فی التلویح : المعتبر فی المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها فی استعمال

ص: 531

العرب ، فلا یشترط اعتبارها بشخصها ، حتی یلزم فی آحاد المجاز أن ینقل بأعیانها عن أهل اللغة. وذلک لإجماعهم علی اختراع الاستعارات العربیة البدیعة التی لم تسمع بأعیانها من أهل اللغة ، وهی من طرق البلاغة وشعبها التی بها ترتفع طبقة الکلام. فلو لم یصح لما کان کذلک ، ولهذا لم یدونوا المجاز تدوینهم الحقائق. وتمسک المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز : «نخلة» لطویل ، غیر إنسان ، للمشابهة. و «شبکة» للصید ، للمجاورة ، و «أب» ، لابن ، للسببیة ، واللازم باطل اتفاقا.

وأجیب یمنع الملازمة ، فإن العلاقة مقتضیة للصحة ، والتخلف عن المقتضی لیس بقادح ، لجواز أن یکون لمانع مخصوص ، فإن عدم المانع لیس جزءا من المقتضی. وذهب المصنف - رحمه الله - إلی أنه لم یجز نحو «نخلة» لطویل غیر إنسان ، لانتفاء شرط الاستعارة. وهو المشابهة فی أخص الأوصاف ، أی : فیما له مزید اختصاص بالمشبه به ، کالشجاعة للأسد.

فإن قیل : الطول للنخلة کذلک ، قلنا : لعل الجامع لیس مجرد الطول ، بل مع فروع وأغصان فی أعالیها ، وطراوة وتمایل فیها.

ولا شک أنه علی القول بأن التضمین مجاز فهو لغوی علاقته تدور علی المناسبة ، وهی - مع أنها لیست مما نصوا علیه فی العلاقات - أمر مشترک بین أفراده ، لکن الذکی یرجعها فی کل موضع إلی ما یلیق به ، مما هو من العلاقات المعتبرة ، وبذلک یمتاز بعض الأفراد عن بعض آخر ، والتخلف فی بعض الأفراد - إن فرض - لا یضر ، کما علمت.

هکذا ینبغی أن یحقق المقام ، وقل من حققه مع إطالته الکلام.

فنتم الکلام علی بقیة الأقوال. تقدم ثلاثة.

والرابع : وهو الذی ارتضاه السید ، أن اللفظ مستعمل فی معناه الأصلی ، فیکون هو المقصود أصالة ، لکن قصد بتبعیته معنی آخر یناسبه من غیر أن یستعمل فیه ذلک اللفظ ویقدر له لفظ آخر. فلا یکون من الکنایة ولا الإضمار ، بل من الحقیقة التی قصد منها معنی آخر یناسبها ویتبعها فی الإرادة ، وحینئذ یکون واضحا بلا تکلف.

ص: 532

وهذا مبنی علی أن اللفظ یدل علی المعنی ، ولا یکون حقیقة ، ولا مجازا ، ولا کنایة.

والسید جوزه ومثله بمستتبعات التراکیب ، وذلک أن الکلام قد یستفاد من عرضه معنی لیس دالا علیه بأحد الوجوه الثلاثة المذکورة ، کما یفید قولک «آذیتنی فستعرف» التهدید ، «وإن زیدا قائم» إنکار المخاطب.

و (السعد) وغیره جعلوا ذلک کنایة.

والمراد من التبعیة فی قوله : (لکن قصد بتبعیته) التبعیة فی اللفظ ، کما یصرح به قوله فی حواشی المطول فی بحث الاستعارة عند الکلام فی قوله :

«أسد علیّ وفی الحروب نعامة» - لا ینافی تعلق الجار به إذا لوحظ مع ذلک المعنی ما هو لازم له ، ومفهوم منه ؛ من الجراءة والصولة.

والفرق بین هذا الوجه والتضمین ، أن فی التضمین لا بد أن یکون المعنی المقصود من اللفظ تبعا مقصودا فی المقام أصالة. وبه یفارق التضمین الکنایة ، وفی هذا الوجه لا یکون المعنی الملحوظ تبعا مقصودا فی المقام أصلا. کیف والمقام مقام التشبیه بالأسد علی وجه المبالغة. وذلک یغنی عن القصد إلی وصف الجراءة والصولة مرة أخری.

وبذلک یندفع قول ابن کمال باشا فی رسالة التضمین : إن قید : «یتبعه فی الإرادة» یخرج المعنی الآخر عن حد الأصالة فی القصد ، والأمر فی التضمین لیس کذلک ، بل قد تکون العنایة إلیه أوفر ، ومن العجب أنه نقل کلام حاشیة المطول فی تلک الرسالة.

وأما الاعتراض علی ما قاله (السید) بأنه : کیف یعمل اللفظ باعتبار معنی لا یدل علیه ، فلا یرد ؛ لأن اللفظ دال علیه ، لکنه لم یستعمل فیه.

والخامس : أن المعنیین مرادان علی طریق الکنایة ، فیراد المعنی الأصلی توصلا إلی المقصود ، ولا حاجة إلی التقدیر إلا لتصویر المعنی.

قال السید : وفیه ضعف ، لأن المعنی المکنی به قد لا یقصد ، وفی التضمین یجب القصد إلی کل من المضمّن والمضمن فیه. اه.

ولا یخفی أن «قد» علم القلة فی عرف المصنفین. وجعلها المناطقة سور الجزئیة. فمن الغریب قول بعضهم : إن أراد أنه لا یقصد أصلا فممنوع ؛ لتصریحهم بخلافه ،

ص: 533

وإن أراد التقلیل أو التکثیر لم یثبت المطلوب ، لأن عدم إرادته فی بعض المواضع لا ینافی إرادته فی بعض آخر.

وحاصل ما أشار إلیه السید : أن الکنایة فی بعض الأحیان لا یقصد منها المعنی الأصلی. ولو کان التضمین منها لا ستعمل استعمالها فی وقت ما.

ویجاب - کما قال العصام - : بأنه قد یجب فی بعض الکنایة شیء لا یجب فی جنسها ، ولذلک سمی باسم خاص. اه.

فإن قیل : إذا شرط فی التضمین وجوب إرادة المعنیین ، نافی الکنایة ، لأن المشروط فیها جواز إرادته.

أجیب : بأن المراد بالجواز الإمکان العام المقید بجانب الوجود ، لإخراج المجاز ، لا الجواز بمعنی الإمکان الخاص ؛ لظهور أن عدم إرادة الموضوع له لا مدخل له فی خروج المجاز ، حتی لو وجب إرادته خرج أیضا. وأورد بعضهم علی قول السید : إن التضمین یجب فیه القصد إلی المعنیین ، أنه ممنوع ، وادعی أنه وارد علی طریق الکنایة. قال : ألا تری أن معنی الإیمان جعلته فی الأمان ، وبعد تضمینه بمعنی التصدیق لا یقصد معناه الأصلی. وأرأیتک بمعنی أخبرنی. (اه) وهو باطل ، لما أنه مفوت فائدة التضمین من أداء کلمة مؤدی کلمتین ، وجعل : «أرأیتک» بمعنی : أخبرنی من التضمین : غیر ظاهر.

والسادس : أن المعنیین مرادان علی طریق عموم المجاز کما بیناه فی رسالتنا.

وذکر بعضهم فی التضمین قولا آخر لو صح کان (سابعا) وهو : أن دلالته غیر حقیقیة ؛ ولا تجوز فی اللفظ ، وإنما التجوز فی إفضائه إلی المعمول ، وفی النسبة غیر التامة. ونقل ذلک عن ابن جنی وقال ألا تری أنهم حملوا : النقیض علی نقیضه ، فعدوه بما یتعدی به ، کما عدوا : «أسرّ» بالباء ، حملا : علی «جهر» و «فضل» بعن حملا علی «نقص» ، ولا مجاز فیه قطعا بمجرد تغییر صلته ، وإنما هو تصرف فی النسبة الناقصة. اه.

وهذا القول مخالف لما نص علیه ابن جنی فی الخصائص ، وقد تقدم کلامه فیها. ومن العجب أن هذ الناقل نقل کلامه فی الخصائص ، واستدل به المذهب فی التضمین جعله مغایرا لهذا ، وحمل النقیض علی النقیض لیس من التضمین

ص: 534

ولا قریب منه لیقرب به ، ولهذا قابله بعضهم به ، فإنه قال فی المغنی فی بحث «علی» وقد تکلم علی قوله : «إذا رضیت علیّ بنو قشیر» یحتمل أن یکون «رضی» ضمن معنی : «عطف». وقال الکسائی : حمل علی نقیضه وهو سخط اه. نسأل الله تعالی الرضا بغیر سخط ، بفضله وکرمه.

وبقی قول آخر ، إن ثبت کان (ثامنا) واختاره المولی ابن کمال باشا حیث قال : وبالجملة لا بد فی التضمین من إرادة معنیین من لفظ واحد علی وجه یکون کل منهما بعض المراد ، وبه یفارق الکنایة ، فإن أحد المعنیین تمام المراد ، والآخر وسیلة إلیه ، لا یکون مقصودا أصالة. وبما قررناه اندفع ما قیل. والفعل المذکور إن کان فی معناه الحقیقی ، فلا دلالة له علی الفعل الآخر ، وإن کان فی معنی الفعل الآخر ، فلا دلالة له علی المعنی الحقیقی. وإن کان فیهما لزم الجمع بین الحقیقة والمجاز ، ولا یمکن أن یقال ها هنا ما یقال فی الجمع بین المعنیین فی صورة التغلیب ، لأن کلا من المعنیین ها هنا مراد بخصوصه. اه. المقصود منه.

ولا یخفی أنه لم یظهر اندفاع الجمع بین الحقیقة والمجاز فی التضمین ، لما اعترف به من أن کلا من المعنیین مراد بخصوصه. ثم قال : إن التضمین علی المعنی الذی قررناه ، لا اشتباه بینه وبین المجاز المرسل ، لأنه مشروط بتعذر المعنی الحقیقی ، وهو فیه متعذر ، نعم یلزم اندراجه تحت مطلق المجاز ، وبین أن الحق أنه رکن مستقل من أرکان البیان ، کالکنایة والمجاز المرسل ، وأنه فیه مندوحة عن تکلف الجمع بین الحقیقة والمجاز. وفی قوله : «إن المعنی الحقیقی فی التضمین غیر متعذر» ، نظر ؛ لأنه متعذر بواسطة القرینة کما عرف مما مر ، ولا بد من المصیر إلی المجاز ، أو الجمع بین الحقیقة والمجاز ؛ لأن القرینة فی المجاز إنما تمنع من إرادة الحقیقة فقط ، فاحفظه فإنه مما یقع فیه الغلط.

ثم إنه علم من کلامه أن فی المذهب الذی اختاره السلامة من الجمع بین الحقیقة والمجاز اللازم علی بعض الأقوال ، وهو القول الثانی المتقدم ، کما عرفت تحقیقه مما مر. فدعوی أن شبهة الجمع فی التضمین مطلقا واهیة ، دعوی باطلة ، ولم یرد بذلک علی السید ، کما لا یخفی علی من راجع کلامه. وإن کلام السید لا یتوهم

ص: 535

فیه ذلک الجمع. فمن قال إنه اعترض علیه بذلک فقد افتری.

فی کلام یاسین ثمانیة أقوال فی التضمین :

الأول : أنه مجاز مرسل ، لأن اللفظ استعمل فی غیر معناه لعلاقة وقرینة.

الثانی : أن فیه جمعا بین الحقیقة والمجاز لدلالة المذکور علی معناه بنفسه ، وعلی معنی المحذوف بالقرینة.

الثالث : أن الفعل المذکور مستعمل فی حقیقته لم یشرب معنی غیره ، «کما جری علیه صاحب الکشاف» ، ولکن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب ، بمعونة القرینة اللفظیة ، کما ذکر السعد.

وقال السید : «ذهب بعضهم إلی أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی. فقط ، والمعنی الآخر مراد بلفظ محذوف یدل علیه ما هو من متعلقاته». وفیما مثل به جعل المحذوف أصلا ، والمذکور مفعولا «کأحمد إلیک فلانا» أی : أنهی إلیک حمده. یعنی أن المذکور یدل علی ذلک کما یدل علی الحال. وقد أراد السید بیان وجه آخر ، لیفید أن ذلک أمر اعتباری لا ینحصر فیما قاله السعد.

الرابع : أن اللفظ مستعمل فی معناه الأصلی ، فیکون هو المقصود أصالة ، ولکن قصد بتبعیته معنی آخر. فلا یکون من الکنایة ولا الإضمار.

الخامس : أن المعنیین مرادان علی طریق الکنایة ، فیراد المعنی الأصلی ، توصلا إلی المقصود ، ولا حاجة إلی التقدیر إلا لتصویر المعنی.

السادس : أن المعنیین مرادان علی طریق عموم المجاز.

السابع : أن دلالته غیر حقیقیة ، ولا تجوّز فی اللفظ ، وإنما التجوز فی إفضائه إلی المعمول ، وفی النسبة غیر التامة. ونقل ذلک عن ابن جنی. وقال : ألا تری أنهم حملوا النقیض علی نقیضه ، فعدوه بما یتعدی به ، کما عدوا : «أسر» بالباء حملا علی : «جهر». «وفضل» بعن حملا علی : «نقص».

وقد علق هذا القول علی الصحة.

الثامن : أنه لا بد فی التضمین من إرادة معنیین فی لفظ واحد علی وجه یکون کل منهما بعض المراد. وبذلک یفارق الکنایة ، فإنه أحد المعنیین تمام المراد ،

ص: 536

والآخر وسیلة إلیه لا یکون مقصودا أصالة» «وهذا اختیار ابن کمال باشا» وقد علق هذا القول علی الثبوت.

وقال السیوطی فی الأشباه والنظائر : قال الزمخشری فی شأنهم : یضمنون الفعل معنی فعل آخر ؛ فیجرونه مجراه ، ویستعملونه استعماله ، مع إرادة معنی المتضمن. قال : والغرض فی التضمین إعطاء مجموع معنیین. وذلک أقوی من إعطاء معنی. ألا تری کیف رجع معنی (وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ) ، إلی قولک ولا تقتحمهم عیناک مجاوزتین إلی غیرهم - (وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ) ، أی : ولا تضموها إلیها آکلین. اه.

قال الشیخ سعد الدین التفتازانی فی حاشیة الکشاف : فإن قیل الفعل المذکور إن کان مستعملا فی معناه الحقیقی فلا دلالة علی الفعل الآخر ، وإن کان فی معنی الفعل الآخر فلا دلالة علی معناه الحقیقی. وإن کان فیهما جمیعا لزم الجمیع بین الحقیقة والمجاز.

قلنا : هو فی معناه الحقیقی مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرینة اللفظیة ؛ فمعنی یقلب کفیه علی کذا : نادما علی کذا ، ولا بد من اعتبار الحال ، وإلا کان مجازا محضا لا تضمینا. وکذا قوله (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) تقدیره : معترفین بالغیب (انتهی).

وقال ابن یعیش : الظرف منتصب علی تقدیر «فی» ولیس متضمنا معناها حتی یجب بناؤه لذلک ، کما وجب بناء نحو : «من وکم» فی الاستفهام. وإنما «فی» محذوفة من اللفظ لضرب من التخفیف ، فهی فی حکم المنطوق به. ألا تری أنه یجوز ظهور «فی» معه. نحو قمت الیوم وقمت فی الیوم. ولا یجوز ظهور الهمزة مع من وکم فی الاستفهام ، فلا یقال أمن ولا أکم. وذلک من قبل أن «من وکم» لما تضمنا معنی الهمزة صارا کالمشتملین علیها. فظهور الهمزة حینئذ کالتکرار. ولیس کذلک الظرف ، فإن الظرفیة فیه مفهومة من تقدیر «فی» ولذلک یصح ظهورها.

ثم ذکر أن ابن جنی قال فی التضمین : «ووجدت فی اللغة من هذا الفن شیئا کثیرا لا یکاد یحاط به ، ولعله لو جمع أکثره لا جمیعه لجاء کتابا ضخما.

ص: 537

وقد عرفت طریقه ، فإذا مر بک شیء منه فتقبله وأنس به ، فإنه فصل من العربیة لطیف حسن».

وقال ابن هشام فی تذکرته : زعم قوم من المتأخرین - منهم خطاب الماردی - أنه قد یجوز تضمین الفعل المتعدی لواحد معنی : «صیر» ویکون من باب : «ظن» فأجاز : حفرت وسط الدار بئرا ؛ أی : صیرت ، قال : ولیس «بئرا» تمییزا ، إذ لا یصلح لمن. وکذا أجاز : بنیت الدار مسجدا. وقطعت الثوب قمیصا. وقطعت الجلد نعلا -. وصبغت الثوب أبیض إلخ ...

قال : والحق أن التضمین لا ینقاس. وقال ابن هشام فی المغنی : قد یشربون لفظا معنی لفظ فیعطونه حکمه ، ویسمی ذلک تضمینا. وفائدته أن تؤدی کلمة مؤدی کلمتین ، ثم ذکر لذلک عدة أمثلة منها قوله تعالی : (وَما یَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَلَنْ یُکْفَرُوهُ) ضمّن معنی تحرموه. فعدّی إلی اثنین لا إلی واحد ، ومنها : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ) ضمّن معنی : تنووه. فعدّی بنفسه لا بعلی. وقوله : (لا یَسَّمَّعُونَ إِلَی الْمَلَإِ الْأَعْلی) ضمّن معنی «یصغون». فعدی بإلی ، وأصله أن یتعدی بنفسه. ومثل : سمع الله لمن حمده. ضمن معنی : استجاب ، فعدّی باللام ، ومثل : «والله یعلم المفسد من المصلح». ضمن معنی : یمیز ؛ فجیء بمن.

وذکر ابن هشام فی موضع آخر : من المغنی : أن التضمین لا ینقاس. وکذا ذکر أبو حیان. ثم قال السیوطی :

«قاعدة» : المتضمن معنی شیء لا یلزم أن یجری مجراه فی کل شیء. ومن ثم جاز دخول الفاء فی خبر المبتدأ المتضمن معنی الشرط ، نحو الذی یأتینی فله درهم. وکل رجل یأتینی فله درهم. وامتنع فی الاختیار جزمه عند البصریین. ولم یجیزوا : الذی یأتینی أحسن إلیه ، أو : کل من یأتینی أحسن إلیه ، بالجزم ، إلا فی الضرورة. وأجاز الکوفیون جزمه فی الکلام تشبیها بجواب الشرط ، ووافقهم ابن مالک. قال أبو حیان : ولم یسمع من کلام العرب الجزم فی ذلک إلا فی الشعر. اه.

قال ابن هشام فی المغنی : وهو کثیر. قال أبو الفتح فی کتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه ، لجاء منه کتاب یکوّن مئین أوراقا. اه.

ص: 538

قال الدسوقی : قوله : وهو - أی التضمین - کثیر ، وقوله : قال أبو الفتح ، دلیل لقوله وهو کثیر. «قوله قال أبو الفتح إلخ» هذا ربما یؤید القول بأن التضمین قیاسی ، وقیل البیانی فقط. وظاهر أنه لیس کل حذف مقیسا ، وکذا المجاز إذا ترتب علیه حکم زائد. اه.

وقال ابن هشام فی أوائل الباب الخامس من المغنی : وفائدة التضمین أن یدل بکلمة واحدة علی معنی کلمتین ، یدلک علی ذلک أسماء الشروط والاستفهام.

قال الأمیر : قوله «علی معنی کلمتین» ظاهره الجمع بین الحقیقة والمجاز ، وسبق الخلاف فی ذلک. قال ابن جنی : لو جمعت تضمینات العرب ملأت مجلدات ، فظاهره القول بأنه قیاسی. قوله أسماء الشروط مثلا «من» معناها العاقل ، وتدل مع ذلک علی معنی إن ، والهمزة. اه.

وقال ابن هشام فی معانی الباء من المغنی : (الثالث عشر) الغایة ، نحو : (وقد أحسن بی) ، أی : إلیّ. وقیل ضمن أحسن معنی : لطف. اه.

قال الأمیر : ظاهره کقولهم التضمین إشراب الکلمة معنی آخر ، وأنه مجاز ، أو حقیقة ملوحة ، أو جمع بینهما ؛ یقتضی مغایرة المعنیین ، ولا یظهر فی الإنسان واللطف. فالأولی أن التضمین إلحاق کلمة بأخری لاتحاد المعنی أو تناسبه ، ویأتی الکلام فیه ، وهل هو قیاسی أو البیانی (1) لأنه مجرد حذف لدلیل إن قلنا بمغایرته للنحوی. اه.

وقال الملوی علی السلم : «وذللت فیه صعاب المشکلات علی طرف الثمام». فقال : الصبان : «الثمام» بضم المثلثة : نبت ضعیف یشد به فرج السقوف ، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف : أی : ووضعتها ، فهو من باب حذف الواو مع ما عطفته لعدم اللبس ، أو : «بذللت» ، علی تضمینه معنی «وضعت» تضمینا نحویّا. وقد نقل أبو حیان فی ارتشافه عن الأکثرین أنه ینقاس ، فهو من باب الجمع بین الحقیقة والمجاز.

أو بحال محذوفة من فاعل ذللت ، أی : واضعا لها ، أو من مفعوله : أی : موضوعة ، فعلی هذین التضمین بیانی ، وهو مقیس. اه.

ص: 539


1- سبق المراد من البیانی فی 252.

وقال الصبان علی الأشمونی : إن التضمین النحوی إشراب کلمة معنی أخری ، بحیث تؤدی المعنیین ، والتضمین البیانی تقدیر حال تناسب الحرف. وتمنع کون التضمین النحوی ظاهرا عن البیانی ، للخلاف فی کون النحوی قیاسیّا ، وإن کان الأکثرون علی أنه قیاسی ، - کما فی ارتشاف أبی حیان - دون البیانی فاعرفه. اه. أی : فلا خلاف فی کونه قیاسیّا ، کما أشار إلیه قبل بقوله : «وهو مقیس».

وقال صاحب التصریح فی آخر الکلام فی المفعول معه : «واختلف فی التضمین : أهو قیاسی أم سماعی ، والأکثرون علی أنه قیاسی. وضابطه أن یکون الأول والثانی یجتمعان فی معنی عام. قاله المرادی فی تلخیصه. اه». وکلامه فی النحوی. وقال یاسین علی القطر فی أن «التضمین إشراب لفظ معنی لفظ آخر» هو أحد أقوال خمسة فی التضمین. والمختار منها عند المحققین أن اللفظ مستعمل فی معناه الحقیقی ، مع حذف حال مأخوذ من اللفظ الآخر ، بمعونة القرینة اللفظیة. فمعنی «یقلب کفیه علی کذا» : أی نادما علی کذا. وقد یعکس کما فی (یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) ، أی : یعترفون به مؤمنین ، وبهذا یتوقع أن اللفظ المذکور إن کان فی معناه الحقیقی فلا دلالة علی الآخر ، وإن کان فی معنی الآخر فلا دلالة علی المعنی الحقیقی ، وإن کان فیهما لزم الجمع بین الحقیقة والمجاز.

* * *

لقد ذکرنا طائفة من أقوال العلماء فی التضمین ، وذکرنا القول بأنه سماعی ، والقول بأنه قیاسی ، ورأینا قوة فی القول بأنه قیاسی ، ونقلنا فیما تقدم أن التضمین رکن من أرکان البیان. فإن ذهبنا إلی القول بأنه قیاسی ، قلنا إنما یستعمله العارف بدقائق العربیة وأسرارها علی نحو ما ورد. وإنک لتجد کثیرا فی عبارات المؤلفین فیها التضمین. فمن ذلک عبارة الملوی السابقة ، ومن ذلک قول ابن مالک «وأستعین الله فی ألفیة» ، فقد جوز الأشمونی أنه ضمن أستعین معنی : أستخیر ، ونحوه مما یتعدی بفی.

ذکرنا القول بأن التضمین سماعی. ومعناه أنه یحفظ ولا یقاس علیه. وذکرنا

ص: 540

قول القائلین إن التضمین النحوی قیاسی عند الإکثرین. وأن التضمین البیانی قیاسی بإجماع النحویین. وقد ذکر ابن جنی فی الخصائص أنه لو نقل ما جمع من التضمین عن العرب لبلغ مئین أوراقا.

والتضمین مبحث ذو شأن فی اللغة العربیة. وللعلماء فی تخریجه طرق مختلفة فقال بعضهم : إنه حقیقة. قال بعضهم : إنه مجاز. وقال آخرون : إنه کنایة ، وقال بعضهم : إنه جمع بین الحقیقة والمجاز علی طریقة الأصولیین ، لأن العلاقة عندهم لا یشترط فیها أن تمنع من إرادة المعنی الأصلی ...

فإذا قررنا أن التضمین قیاسی ، فقد جرینا علی قول له قوة. وإذا قلنا إنه سماعی ، فقد یعترض علینا من یقول إن من علماء اللغة من یری أنه قیاسی. فلماذا تضیقون علی الناس ، وما جئتم إلا لتسهلوا اللغة علیهم؟

فنحن نثبت القولین بالقیاس وبالسماع ، ولکنا نرجح قیاسیته ، والقول بجواز استعماله للعارفین بدقائق العربیة وأسرارها. ولا یصح أن نحظره علیهم ، لأنه داخل فی الحقیقة ، أو : المجاز ، أو : الکنایة. والبلغاء یستعملونه فی کلامهم بلا حرج ، فکیف نسد باب التضمین فی اللغة ، وهو یرجع إلی أصول ثابتة فیها؟

وأقول بعد هذا : لا بد من قیود نضبط بها استعمال التضمین. وقد رأی بعض الزملاء أن یقصر التضمین علی الشعر. وفی هذا قصر للحقیقة ، أو للمجاز ، أو للکنایة ؛ وهی الأصول التی یخرج علیها التضمین» علی فن من الکلام دون آخر. وهذه الأمور الثلاثة تقع فی الشعر والنثر بلا قید ولا شرط.

علی أن الشعر من أکثر فنون القول ذیوعا. والناس یحفظون الشعر ویجرون علی أسالیبه فی الکتابة والخطابة. فإذا أجزنا التضمین فی الشعر وحده ، وقعنا فی الأمر الذی نفر منه. ونحن هنا نقرر الحقائق العلمیة. ونرجح منها ما یستحق الترجیح تحقیقا لأغراضنا.

انتهی البحث

* * *

حضرة رئیس الجلسة : یتفضل الأستاذ الشیخ محمد الخضر حسین بتلاوة بحثه فی التضمین.

ص: 541

حضرة العضو المحترم الأستاذ الخضر حسین : للتضمین غرض هو الإیجاز. وللتضمین قرینة ، هی تعدیة الفعل بالحرف وهو یتعدی بنفسه ، أو تعدیته بنفسه وهو یتعدی بالحرف. وللتضمین شرط هو وجود مناسبة بین الفعلین. وکثرة وروده فی الکلام المنثور والمنظوم تدل علی أنه أصبح من الطرق المفتوحة فی وجه کل ناطق بالعربیة ، متی حافظ علی شرطه ؛ وهو : مراعاة المناسبة.

فإذا لم توجد بین الفعلین العلاقة المعتبرة فی صحة المجاز کان التضمین باطلا. فإذا وجدت العلاقة بین الفعلین ولم یلاحظها المتکلم ، بل استعمل فعل : «أذاع» مثلا - متعدیا بحرف الباء علی ظن أنه یتعدی بهذا الحرف لم یکن کلامه من قبیل التضمین ، بل کان کلامه غیر صحیح عربیة.

فالکلام الذی یشتمل علی فعل عدی بحرف وهو یتعدی بنفسه ، أو عدی بحرف وهو یتعدی بغیره ، یأتی علی وجهین :

الوجه الأول : ألا یکون هناک فعل یناسب الفعل المنطوق به ، حتی تخرج الجملة علی طریقة التضمین. ومثل هذا نصفه بالخطأ ، والخروج عن العربیة ، ولو صدر من العارف بفنون البیان.

الوجه الثانی : أن یکون هناک فعل یصح أن یقصد المتکلم لمعناه مع معنی الفعل الملفوظ ، وبه یستقیم النظم ، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربیة ومعرفة طرق استعمالها حمل علی وجه التضمین الصحیح ، کما قال سعد الدین التفتازانی. «فشمرت عن ساق الجد إلی اقتناء ذخائر العلوم» والتشمیر لا یتعدی بإلی ، فیحمل علی أنه قد ضمن شمر معنی : «المیل» الذی هو سبب التشمیر عن ساق الجد.

فإن صدر مثل هذا من عامی أو شبیه بعامی (1) ، أی : ممن یدلک حاله علی أنه لم یبن کلامه علی مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ ، کان لک أن تحکم

ص: 542


1- تکرر هذا الکلام من الباحث وغیره. والنفس لا ترتاح إلیه ؛ لجواز أن یکون العامی - بل غیر اللغوی - مطلقا - مقلدا اللغوی - بقصد ، أو بغیر قصد - فی هذا الاستعمال ، کالشأن فی کثیر من أمور اللغة. وإنما الذی ترتاح له النفس ویجب أن یتجه إلیه الحکم ویقتصر علیه دائما هو أن هذا التعبیر أو ذاک صحیح لغویا أو غیر صحیح.

علیه بالخطأ. فلا جناح علیک أن تحکم علی قول العامة مثلا - أرجو الله قضاء حاجتی ، باللحن والخروج عن قانون اللغة الفصحی. لأن فعل الرجاء لا یتعدی إلی مفعولین. ولیس لک أن تخرجه علی باب التضمین. کأن تجعل «أرجو» مشربا معنی «أسأل» بناء علی أن بین الرجاء والسؤال علاقة السببیة والمسببیة ، فإن هذا الوجه لم ینظر إلیه أولئک الذین استعملوا فعل «أرجو» متعدیا إلی المفعولین.

ومن هنا نعلم أن من یخطئ العامة فی أفعال متعدیة بنفسها ، وهم یعدّونها بالحروف ، مصیب فی تخطئته ، إذ لم یقصدوا لإشراب هذه الأفعال معانی أفعال أخری تناسبها ، حتی یخرج کلامهم علی باب التضمین.

ولیس معنی هذا أن التضمین سائغ للعارف بطرق البیان دون غیره ، وإنما أرید أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ ، لا نبادر إلی تخطئته ، متی وجدنا لکلامه مخرجا من التضمین الصحیح. أما غیره کالتلامیذ ، ومن یتعاطی الکتابة من غیر أن یستوفی وسائلها ، فإن قام الشاهد علی أنه نحا نحو التضمین ، کما إذا اعترضت علیه فی استعمال الفعل المتعدی بنفسه متعدیا بحرف ، فأجاب بأنه قصد التضمین ، وبین الوجه ، فوجدته قد أصاب الرمیة ؛ فقد اعتصم منک بهذا الجواب المقبول ، ولم یبق لاعتراضک علیه من سبیل.

وإن قام شاهد علی أن المتکلم لم یقصد التضمین ، وإنما تکلم علی جهالة بوجه استعمال الفعل ، کان قضاؤک علیه بالخطأ قضاء لا مرد له. فمصحح ما یکتبه التلامیذ ونحوهم ، یجب علیه أن یرد الأفعال إلی أصولها ، ولا یتخذ من التضمین وجها لترک العبارة بحالها ، والکاتب لا یعرف هذا الوجه ، أو لم یلاحظه عند الاستعمال (1).

فللتضمین صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدی الفعل بنفسه أو تعدیه بالحرف ، وصلة بعلم البیان من جهة التصریف فی معنی الفعل ، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له ، ومن هذه الناحیة لم یکن کبقیة قواعد علم النحو ، قد یستوی فی العمل بها خاصة الناس وعامتهم.

ص: 543


1- هذا الرأی مما یحتاج إلی قوة تأیید وإقناع ، فهو علی حاله غیر مقبول - انظر هامش الصفحة السالفة -

حضرة العضو المحترم الأستاذ الشیخ أحمد علی الإسکندری : رجعت إلی أقوال العلماء بعد المناقشة التی دارت أمس ، فوجدت أن القائلین بسماعیة التضمین إنما یخشون أن یحدث فی اللغة فساد واضطراب فی معانی الأفعال. إذا أباحوه للناس ، مع أنهم یسلمون أن ما ورد من التضمین کثیر یجمع فی مئین أوراقا.

وقد شرط القائلون بقیاسیة التضمین شرطین وهما : (1) وجود المناسبة. (2) وجود القرینة. ثم تأملت فی وظیفة علوم البلاغة وخاصة علم المعانی ، فوجدت أن موضوعه إن هو إلا بیان الذوق المعبر عنه عندهم «بمقتضی الحال». وکذلک رأیت الشرطین اللذین اشترطهما العلماء قدیما للتضمین غیر کافیین. فرأیت أن نضیف إلیهما قیدا ثالثا ، هو «موافقة العبارة التی فیها التضمین للذوق العربی» وذلک ما تنشده علوم البلاغة.

ثم قلت : هل للذوق حد؟ ففطنت إلی وجوب تقیید الذوق بالبلاغی ، وهو الذی وضعت علوم البلاغة العربیة لتحدید ضوابطه.

وبعد ذلک رأیت أن ألخص مناقشات اللجنة والمجمع ومذکرتی (1) التی قدمتها فی القرار الآتی :

«التضمین : أن یؤدی فعل أو ما فی معناه فی التعبیر ، مؤدی فعل آخر أو ما فی معناه ، فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم. ومجمع اللغة العربیة یری أنه قیاسی لا سماعی بشروط ثلاثة.

الأول : تحقق المناسبة بین الفعلین.

الثانی : وجود قرینة تدل علی ملاحظة الفعل الآخر ، ویؤمن معها اللبس.

الثالث : ملاءمة التضمین للذوق البلاغی العربی».

حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : التضمین سواء أخرج علی الحقیقة أم علی المجاز أم علی الجمع بین الحقیقة والمجاز ، لا یستعمله إلا البلغاء العارفون

ص: 544


1- طبعت مذکرة حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد الإسکندری فی التضمین ملحقة بمحضر هذه الجلسة.

بأسرار اللغة ، وإذا لا یستعمله العامة إلا إذا جارینا من یقول إن العامة لا یزال عندهم بقیة من الذوق العربی والبلاغة.

وأری أن نأخذ الرأی أولا علی أن التضمین قیاسی ، ثم نأخذ الرأی علی الشروط التی نشترطها لإباحته.

حضرة العضو المحترم الدکتور منصور فهمی : أرید أن أعرف ما فائدة «التضمین» الذی نبحث فیه هذا البحث الطویل. إن کل ما فهمته من کلام فضیلة الشیخ محمد الخضر حسین أن فائدته الإیجاز ، أی : أن تؤدی الکلمة معنی کلمتین. وفی اللائحة التی وضعناها نص یوجهنا إلی العمل لتیسیر اللغة علی الناس. والذی یرید أن ییسر اللغة علی الناس لا یکلفهم العمل الشاق الطویل لمعرفة کلمات تؤدی الواحدة منها معنی کلمتین. ولعل هذه الکلمات لا تزید علی مائتی کلمة ، فلا أجد الفائدة کبیرة بتقسیم الناس إلی خاصة وعامة ، وطفل وبالغ ، وبلیغ له ذوق العرب البلاغی ، وآخر لیس له هذا الذوق ، لأنه لم یدرس العلوم العربیة التی تفید الذوق علی رأی الأستاذ الإسکندری. قالوا إن القانون الریاضی والقانون الطبیعی أولی القوانین بالاحترام ، لأنه لا یتخلف. والعلوم المختلفة الآن تتجه اتجاه الریاضیات والطبیعیات ، فیحاول أصحابها أن یجعلوا قوانینها کقوانین الریاضیات فی الدقة والضبط وعدم الاستثناء.

وأرید أن نرقی باللغة العربیة إلی مصاف العلوم ذات القوانین الثابتة التی یقل فیها الشذوذ والاستثناء.

الغرض من عملنا المحافظة علی اللغة وتیسیرها. فهل نتحکم فی «تطور» اللغة وذوقها من أجل مائتی کلمة لطبقة خاصة. هذا عمل - علی ما أری - لیس من خدمة اللغة التی نسعی لخدمتها. نحن الآن نقرر الواقع الذی تقرر منذ أزمان طویلة. فنقول : إن التضمین قیاسی أو سماعی. وکنت أظن أن المجمع یدرس الواقع ، ویسمو فوقه ، فیقرر ما من شأنه أن یحقق حاجات الرقی الحاضر.

قد یکون المثل الأعلی للبلاغة العربیة ما یراه بعض الأعضاء فی علوم البلاغة وبعض نماذج معروفة ، والذی یخیل إلیّ أن التقدم لا ینبغی أن یقید بمثل أعلی واحد. فإذا کان تقدم اللغة ینتهی عند معرفة ما قررته علوم البلاغة ، فلیس هذا

ص: 545

عندی تقدما. واللغة تتطور مع العصور. وکل هذا یبیح لی ألا ألتزم أمرا إلا بمقدار ، وأری أن هذا القرار لا یوصلنی إلی غایتی.

کل اللغات «تتطور». فلما ذا نرید أن نقف بلغتنا؟ ولو أن کاتبا فرنسیّا أو إیطالیّا الیوم أراد أن یرجع إلی أسالیب القرن الخامس عشر مثلا ، تشبها بکاتب قدیم ، لقیل إنه متحذلق. ونحن کأولئک. فلما ذا نتعمل ونجهد أنفسنا ونقول بالتضمین؟

والذی أراه أن نقر الماضی علی أنه تاریخ ، ونتقدم نحن خطوة أخری ، فنقرر أشیاء جدیدة لا تنافی تاریخ اللغة ، وهی مع ذلک تفی بحاجات العصر الحاضر.

وأنا لا أزال علی رأیی. فلا أقبل التضمین إلا إذا اضطرنی إلیه الشعر أو السجع. وفی غیر ذلک نجری الأفعال فی معانیها الأصلیة.

حضرة العضو المحترم الدکتور فارس نمر : أری أن کل واحد منا ینظر إلی المسألة من «زاویة» غیر التی ینظر منها الآخر ، علی حد تعبیر الریاضیین ، وأرجو أن تسمحوا لی أن أورد بعض أمثلة خبرتها بنفسی.

فعند ما کنت أدرس الحروف واستعمالها ، عرفت أن «متی» تکون بمعنی «من» کما فی قول الشاعر :

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متی لجج خضر لهن نئیج

فأردت أن أبین لأستاذی أنی حفظت هذا الشاهد وأرید القیاس علیه فی کتابتی ، فکتبت له هذه العبارة : «إن صدیقی ینتظرنی فخرجت متی منزلی إلی السوق» فأنکر علیّ قولی. فقلت : إنه علی حد قول القائل : أخرجها متی کمّه ، أی : من کمه ، فحار أستاذی ، ولم یدر أیمنعنی من استعمال الحرف أم یوافقنی علیه؟

والذی أریده من الأستاذ الشیخ الخضر حسین أن یجیبنی : هل یوافق علی أن نستعمل مثل هذه العبارات فی العصر الحاضر؟

أنا أجل علماء اللغة ، وأحترم ما قالوه ، ولا أنازع فی قیاسیة التضمین أو سماعیته ، وإنما أرید أن نسهل اللغة علی الناس عامة ، فنتخیر اللغة السهلة الصریحة ، ونضع أساسا ، ونحکم حکما یلائم هذا العصر ، ونسهل علی علمائنا وکتابنا الکتابة

ص: 546

والتألیف ، لیکون المجمع ثقة ومرجعا للناس.

حضرة العضو المحترم الأب أنستاس الکرملی : أوافق علی ما قال الدکتور منصور فهمی ، والدکتور نمر ، وفی ذکر الشواهد وغیرها تطویل ، وقد اختصرت قرار المجمع ووضعته فی الصیغة لآتیة :

«یعمل بالتضمین بنوع عام لوروده فی کثیر من الآیات القرآنیة ، وفی الشعر القدیم والمخضرم والإسلامی ، بشرط ألا یقع فی التضمین لبس فی التعبیر ، ولا إخلال بالمعنی».

حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : کلام الأب المحترم یفید قیاسیة التضمین ، وشرط عدم اللبس هو ما ذکرناه ، ونحن ما اخترنا البحث فی التضمین إلا لنسهل علی الناس الکتابة والکلام ، لأنه إذا اتسع مجال القول ، کان فی ذلک رخصة وتیسیر. وما قصدنا إلی هذا البحث إلا لأن بعض المتحذلقین من النقاذ یأخذون علی بعض الشعراء والکتاب مآخذ ترجع إلی تعدیة الأفعال بحروف لا تتعدی بها. ویردون استدلالهم إلی المعاجم دون القواعد اللغویة والنحویة. فإذا قلنا بترجیح قیاسیة التضمین ، فإنما نقصد بهذا توجیه مثل هؤلاء النقاد إلی أشیاء غابت عنهم ، ونیسر فی الوقت ذاته علی الکتاب والشعراء مجال القول والکتابة ، فنزید الثروة اللغویة بتعدد أسالیب التعبیر وصوره. وإنی أقرر أن عمل المجمع لا یقف عند ذکر الآراء المختلفة ونصوص العلماء ، وإنما یذکرها لیوازن بینها ویرجح رأیا علی رأی ، إذا رأی أن فی هذا الترجیح فائدة. والمجمع یقرر الجدید ، متی کان موافقا للذوق البلاغی والقواعد الصحیحة. ولا ینبغی أن یکون ذوق العامة حجة علی أهل اللغة ، وقیاس لغتنا علی اللغات الأوربیة قیاس مع الفارق ، وفائدة التضمین لا تقتصر علی مائة کلمة أو مائتین ، وإنما هو باب واسع یتعلق بجمیع الأفعال فی اللغة العربیة ، ولکننا لا نبیح التضمین علی إطلاقه ، لأن هذا یجر إلی الفوضی والفساد فی اللغة. ولهذا نشترط له شروطا خاصة.

* * *

حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : إذا قلنا إن التضمین قیاسی ، فقد وافقنا القدماء. وإذا قلنا إنه سماعی فقد وافقناهم فی ذلک أیضا. أما إذا قلنا

ص: 547

إنه قیاسی بشرط أن یسیغه الذوق ؛ فهذا تلفیق بین المذهبین. ونحن کمجمع ینبغی ألا نرجع المسألة إلی الذوق ، لأن ذلک رد إلی مجهول ، فلا بد إذا أن نضع ضوابط وأمثلة نقدمها للجمهور لیحتذیها.

حضرة العضو المحترم الأستاذ نلینو : استفدت کثیرا من المناقشة فی هذا الباب. وعلی الرغم من أنی أستحسن قرار الإسکندری بقیوده التی وضعها ، فإنی أری أن فتح باب التضمین فی عصرنا یجر إلی کثیر من الخطأ ، لأننا لا نستطیع أن نمیز الخاصة من العامة.

حضرة العضو المحترم الأستاذ عیسی إسکندر المعلوف : (قدم اقتراحا مکتوبا طلب فیه أن توضع أمثلة للتضمین لیحتذیها الناس).

حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : قال بعض حضرات الأعضاء : ما أتت به اللجنة من الکلام فی التضمین معروف. والمجمع ألف لجنته للبحث فی التضمین ، وکتابة تقریر فیه. فبحثت اللجنة ، وکتبت التقریر ، وذکرت آراء العلماء ؛ ووجدت أن القول بقیاسیته أقوی من القول بسماعیته ، ثم رفعت عملها إلی المجمع وهو صاحب الرأی فیه. فلا لوم علینا فی نقل کلام القدماء.

أما ما قاله حضرة الدکتور منصور فهمی من أن فائدة التضمین الإیجاز. وهو فائدة یسیرة. فلا نقره علیه ، لأن الإیجاز مقصد من مقاصد البلغاء : وأصل من أصول الأسالیب اللغویة.

وأما القول بأن التضمین یفتح باب الخطأ والفساد فی اللغة ، فهذا صحیح ، ولکن علاج هذا أن یتعلم الناس قواعد لغتهم التی تعصمهم من الوقوع فی الخطأ. فکما أن إغفال الاشتقاق والتصریف یجر إلی الخطأ فیهما ، کذلک یجر إهمال قواعد التضمین وضوابطه إلی الخطأ فی الأسلوب. فإذا ثابرنا علی تعلیم قواعد اللغة فی المدارس مثلا ، انتشرت الأسالیب الصحیحة وذاعت ، وفتح باب التضمین یسهل اللغة علی الناس. أما القول بسماعیته فهو التضییق والحجر. وإذا قلنا بهذا فربما جاء زمان یقول فیه الناس کان باب التضمین مفتوحا بالقیاس ، فسده مجمع اللغة العربیة ، وأنه لا بد من سبب اضطره إلی هذا. فإذا قرأ الناس ما جاء فی القرآن الکریم والأحادیث النبویة من التضمین ، توهموا أو ظنوا أن فیها شیئا حمل المجمع علی حظر التضمین علی الناس.

ص: 548

وأما قول حضرة الدکتور منصور إن فائدة التضمین محصورة فی مائتی کلمة ، فهذه مبالغة ، لأننا علی أی وجه خرجناه فقد خرجنا علی ما هو قیاسی : من حقیقة أو مجاز ، أو کنایة ، وهذه أمور مقیسة لا تحصر.

والقول بقصره علی الشعر والسجع - مع أن شأنهما الشیوع - یوقعنا فیما نرید الفرار منه.

واللجنة قد أدّت عملها ، وهو البحث فی مسألة التضمین ، وبقی الکلام فی اتقاء الخطأ الذی یقع فیه العامة ، فإذا رأی المجمع أن اتقاء ذلک یکون بقصر استعمال التضمین علی العارفین باللغة ودقائقها ، فإنی أوافق علیه. وإذا رأی المجمع أن یرجئ بت الکلام فی التضمین ، فله ما یری.

حضرة رئیس الجلسة : لا بد أن نقر فیه الیوم قرارا.

حضرة العضو المحترم الأستاذ فیشر : أنا موافق علی ما قال الدکتور منصور فهمی والأب الکرملی. وقولهما بالتقریب هو قول فقهاء اللغة الأوربیین العصریین فی حیاة اللسان وتقدّمه وترقیه. حسن عندهم ما یرد فی الأشعار المشهورة وفی کتب الأدب الحسنة وما یسمع من ناس کثیرین. والسماع عندهم أولی من القیاس.

حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : أری أن أضیف فی آخر القرار الذی اقترحته العبارة الآتیة : «ویوصی المجمع ألا تستعمل هذه الرخصة فی کتابة المبتدئین ، ولا فی الکتابة العلمیة».

حضرة العضو المحترم محمد کرد علی (بک) : لا أری ، وقد ضبطت اللغة وقررت قواعدها وأصولها بلاغتها ، أن نقر شیئا جدیدا فی التضمین ، لأنی أخشی أن یفتح الباب لکل کاتب أو شاعر أن یخترع أمورا وتعابیر تزیدنا اضطرابا ولا یقرها القدماء الذین عرفوا ضوابط اللغة برمتها ، وعللوا فی هذه المسألة مسألة التضمین التی نحن بصددها ، فقال قوم بقیاسیتها وآخرون بسماعیتها إلخ. وإذا کان لا بد من التعرض لهذه المسألة التی قتلها زملائی بحثا کاد یخرجنا عن الغرض الذی نتوخاه - إذا کان لا بد من التعرض لهذه المسألة ، فأری إجراء تعدیل خفیف فی صورة القرار الذی اقترحه الأستاذ الإسکندری ، أو نسکت الآن عن هذه المسألة وهو الأولی ، ونصرف جهدنا إلی العملیات لنخرج أولا للأمة ألفاظا وتعابیر

ص: 549

تشتد الحاجة إلیها من ألفاظ العلوم والفنون ، وبذلک نکون قد قمنا بالجزء العملی من واجب المجمع.

حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : قال بعض حضرات الأعضاء إن التضمین لا یقبل منه إلا ما یستسیغه الذوق البلاغی ، فبماذا تحدون الذوق البلاغی؟ حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : وضعت کلمة الذوق البلاغی العربی ، اتقاء لحذلقة بعض الناس ، مثل کتاب البرازیل وغیرها ممن خرجوا علی قواعد اللغة وأسالیبها ، حتی صار کلامهم یشبه الرطانة ، فإذا جاءنا واحد من هؤلاء وقال إن هذا ذوقی الخاص ، قلنا له إنک تخالف الذوق العربی الذی لا یزال ثابتا بحکم الفطرة والسلیقة فی البلاد العربیة ، والذی یجری علی قواعد اللغة والبلاغة ولا ینفر منها.

حضرة العضو المحترم الشیخ حسین والی : أنکتفی بعبارة الذوق البلاغی ، ویکون هذا مرجعنا عند الاختلاف ، أم نأتی بأمثلة ضوابط؟

حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : نرید ألا یرد الأمر إلی الذوق ، بل نستخرج ضوابط بعد درس أمثلة.

حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : المتقدّمون لم یدوّنوا قواعدهم إلا بعد الاستقصاء ، ولا نرید أن نبحث فی أصول القواعد من جدید ، فکل هذا قد فرغ منه العلماء قبلنا بأکثر من ألف سنة.

حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : المجمع مکلف تقدیم تراکیب صحیحة لتتبع ، وتراکیب فاسدة لتجتنب ، ورجع الناس إلی الذوق لا معنی له وکأننا لم نعمل شیئا ، وابن جنی وغیره لم یکلفوا تقدیم تراکیب للأمة.

حضرة العضو المحترم الأستاذ علی الجارم : هل تری أن یقال ؛ الذوق العربی.

حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : الذوق العربی یختلف.

حضرة رئیس الجلسة : أترید أن نحذف کلمة «الذوق»؟

حضرة العضو المحترم الشیخ إبراهیم حمروش : لا ، ولکننی أرید أن نضع ضوابط لنحدد ما الذوق؟

ص: 550

حضرة العضو المحترم الدکتور فارس تمر : التضمین صحیح ، وموضوعه عربی ، ولکن المجمع یجب أن یقدّم الحقیقة علی اتباع التضمین إلا حیث تکون ضرورة.

حضرة العضو المحترم الدکتور منصور فهمی : نقول : «ویوصی المجمع ألا یستعمل التضمین فی الکتابة العامة».

حضرة العضو المحترم الشیخ أحمد علی الإسکندری : أوافق علی هذا ، والأصل ألا تخرج عن الحقیقة إلا لنکتة بلاغیة.

حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد العوامری (بک) أقترح أن یقال : «ویوصی المجمع ألا یلجأ إلی التضمین إلا لغرض بلاغی».

فوافق أکثر الأعضاء علی هذا.

وأمر رئیس الجلسة أن یقرأ نص القرار النهائی ، وهو :

ص: 551

القرار

«التضمین أن یؤدی فعل أو ما فی معناه فی التعبیر مؤدی فعل آخر أو ما فی معناه ، فیعطی حکمه فی التعدیة واللزوم».

ومجمع اللغة العربیة یری أنه قیاسی لا سماعی ، بشروط ثلاثة.

الأول : تحقق المناسبة بین الفعلین.

الثانی : وجود قرینة تدل علی ملاحظة الفعل الآخر ، ویؤمن معها اللبس.

الثالث : ملاءمة التضمین للذوق العربی.

ویوصی المجمع ألا یلجأ إلی التضمین إلا لغرض بلاغی».

فوافق أکثر حضرات الأعضاء علی هذا النص (1).

ص: 552


1- الذی ألاحظه فی هذا القرار أن شروط التضمین المذکورة هی الشروط البلاغیة المعروفة فی المجاز ، حتی الشرط الثالث ؛ فقد نص علیه القدامی لإبعاد المجاز عن القبح. وإلی المجاز ترتاح النفس وهو رأی کثیر من أئمة القدماء ، فلم العناء ، والکد ، والجدل العنیف بین المذاهب المتعددة التی تضمنها البحثان المجمعیان؟ وشیء آخر أهم من اعتباره مجازا ، هو أن تلک المذاهب - علی تشعبها وعنفها - لم تستطع أن ثبت فی جلاء ویقین ، أن اللفظ الذی جری فیه التضمین لیس حقیقة لغویة أصیلة ، وأنه تضمن حقا معنی لفظ آخر ، فأدی التضمین إلی تعدیة الأول أو لزومه من طریق العدوی الناشئة من الاتصال والمناسبة بینهما ، نعم لم تستطع نفی الحقیقة عنه ، وإثبات التضمین ، لأن تلک التعدیة أو ذاک اللزوم الحادثین من العدوی لا یصلحان دلیلا مقنعا علی وقوع التضمین ؛ لأنها عدوی وهمیة ، إذ قد یکون اللفظ الذی دخله التضمین فی وهمهم - هو فی أصله لازم أو متعد من غیر علاقة له بلفظ آخر تؤثر فیه. لقد ورد اللفظ لازما أو متعدیا فی کلام کثیر یحتج به ، فما الدلیل القوی علی أن تعدیته أو لزومه لیست أصیلة ، ولیست مجازا ، وإنما جاءت من الطریق الذی یسمونه : «التضمین»؟ لیس فی کلامهم مقنع فیما أری. بل إن اللفظ اللازم أو المتعدی إذا ورد مسموعا بإحدی هاتین الحالتین فی کلام قلیل ولکنه صحیح فصیح کان وروده هذا أصیلا فی الحقیقة ، ولا یخرجه عن أنه معنی حقیقی استعمال مسموع آخر یشیع فیه. لأن الحکم علی اللفظ بالخروج عن معناه الحقیقی لیس راجعا إلی قلة استعماله فی صورة ، وکثرة استعماله فی صورة أخری ، وإنما یرجع إلی وجود دلیل علی أن أحد الاستعمالین أسبق وجودا عند العرب وأقدم میلادا ، فالأسبق هو الحقیقی ، وأنهم یریدون منه معنی محدودا دون غیره. ثم ما هذا الذوق العربی الذی یریده المجمع؟ وکیف یحدد؟ ولم یقتصر التضمین علی الفعل دون ما یشبهه کما جاء فی النص الذی أقره المجمع وارتضاه؟ اللهم إلا إذا کان یرید الفعل وما یشبهه ، کما یفهم من سیاق البحث.؟! وبعد : فما زالت أدلة التضمین واهیة. ولم أجد فی الآراء السالفة کلها ، ولا فی أمهات المراجع التی - - صادفتها ما یزیل الضعف. والرأی الأقوی فی جانب الذین یمنعونه ممن عرضنا أسماءهم فیما سبق ، أو لم نعرض. ومن هؤلاء الشهاب الخفاجی فی «طراز المجالس» - ص 219 - حیث یصرح بأنه سماعی. وکالدمامینی فی کتابه : «نزول الغیث» - ص 56 - حیث یقرر أن تضمین فعل معنی آخر یأباه کثیر من النحاة. وکأبی حیان فیما نقله السیوطی فی «الهمع» - ج 1 ص 149 - مصرحا بأنه قال : «التضمین لا ینقاس» وغیر هؤلاء کثیر. بل إن الذین یقصرونه علی السماع لم یستطیعوا إثبات أنه لیس بحقیقة ، ولیس بمجاز ، ولا بشیء مرکب منهما ، وإنما هو نوع جدید اسمه : «التضمین» لم یستطیعوا ذلک ، لأن العرب الفصحاء نطقوا بالفعل - أو بما یشبهه - متعدیا بنفسه مباشرة ، أو بمعونة حرف جر معین ؛ فکیف یسوغ لقائل بعد هذا أن یقول : إن هذا الفعل لم بتعد إلی معموله إلا من طریق التضمین بحجة أن هذا الفعل لا یعرف عنه التعدی بهذه الوسیلة!! کیف یقول هذا محتجا به مع أن الناطق بالفعل المتعدی - وشبهه - هو القرآن والعربی الفصیح الذی یحتج بکلامه من غیر خلاف فی الاحتجاج؟ ما الدلیل علی أن الفعل وشبهه متعد أو غیر متعد إلا من طریق التضمین ونحن نراه متعدیا بواسطة أو غیر واسطة ولا دلیل معنا علی أسبقیة الفعلین فی الوجود ، والتعدی وعدمه؟ الحق أن إثبات التضمین أمر لا تطمئن له نفس المتحری المتحرر. وبالرغم من تلک المعارک الجدلیة لا أری الأمر فی التضمین یخرج عن إحدی حالتین ، وفی غیرهما الفساد اللغوی ، والاضطراب الهدام. الأولی : أن الألفاظ التی وصفت بالتضمین إن کانت قدیمة فی استعمالها من عصور الاستشهاد فإن استعمالها دلیل علی أصالة معناها الحقیقی ، ما دمنا لم نعرف لها معنی - یقینا - سابقا ترکته إلی المعنی الجدید. الثانیة : أن العصور المتأخرة عن عصور الاستشهاد غیر محتاجة إلی التضمین لاستغنائها عنه بالمجاز وأنواعه المختلفة التی تتسع لکثیر من الأغراض والمعانی الدقیقة البلیغة.

ص: 553

بحث نفیس لابن جنی (1) ، عنوانه : «باب فی اللغة المأخوذة قیاسا»

هذا موضع کأن فی ظاهره تعجرفا ، وهو مع ذلک تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلا عن صدور الأشیاخ ، وهو أکثر من أن أحصیه فی هذا الموضع لک ، لکنی أنبهک علی کثیر من ذلک ، لتکثر التعجب ممن تعجب منه ، أو یستبعد الأخذ به.

وذلک أنک لا تجد مختصرا من العربیة إلا وهذا المعنی منه فی عدة مواضع ، ألا تری أنهم یقولون فی وصایا الجمع : إن ما کان من الکلام علی فعل فتکسیره علی : أفعل ؛ ککلب وأکلب ، وکعب وأکعب ، وفرخ وأفرخ ... ، وما کان علی غیر ذلک من أبنیة الثلاثی فتکسیره فی القلة علی أفعال : نحو جبل وأجبال ، وعنق وأعناق ، وإبل وآبال ، وعجز وأعجاز ، وربع وأرباع ، وضلع وأضلاع ، وکبد وأکباد ، وقفل وأقفال ، وحمل وأحمال و... ؛ فلیت شعری هل قالوا هذا لیعرف وحده ، أو لیعرف هو ویقاس علیه غیره؟ ألا تراک لو لم تسمع تکسیر واحد من هذه الأمثلة ، بل سمعته منفردا أکنت تحتشم من تکسیره علی ما کسّر علیه نظیره؟ لا ، بل کنت تحمله علیه للوصیة التی تقدمت لک فی بابه ، وذلک کأن یحتاج إلی تکسیر : «الرّجز» الذی هو العذاب ، فکنت قائلا - لا محالة - «أرجاز» ؛ قیاسا علی : «أحمال». وإن لم تسمع «أرجازا» فی هذا المعنی. وکذلک لو احتجت إلی تفسیر عجر ، من قولهم : «وظیف عجر (2)» لقلت : «أعجار» ؛ قیاسا علی یقظ (3) وأیقاظ ، وإن لم تسمع «أعجارا». وکذلک لو احتجت إلی تکسیر : «شیع» ، بأن توقعه علی

ص: 554


1- من کتابه : «الخصائص» - ج 1 ص 439.
2- الوظیف : الجزء الدقیق من ساق الإبل والخیل ، وغیرها. والعجر هنا : الصلب.
3- جاء فی القاموس : الیقظة - محرکة - نقیض النوم. وقد یقظ - مثل : کرم ، وفرح - یقاظة ، ویقظا محرکة. وقد استیقظ ... ورجل یقظ - علی وزن : ندس ، وکتف - والندّس : بفتح النون ، مع سکون الدال ، أوضمها ، أو کسرها - الرجل السریع الاستماع للصوت الخفی.

النوع ، لقلت «أشیاع» ، وإن لم تسمع ذلک ، لکنک سمعت : «نطع وأنطاع» ، و «ضلع وأضلاع» ، وکذلک لو احتجت إلی تکسیر : «دمثر (1)» لقلت : «دماثر» ؛ قیاسا علی : «سبطر وسباطر».

وکذلک قولهم : إن کان الماضی علی «فعل» فالمضارع منه علی یفعل : فلو أنک علی هذا سمعت ماضیا علی فعل ، لقلت فی مضارعه یفعل ، وإن لم تسمع ذلک ، کأن یسمع سامع ضؤل ، ولا یسمع مضارعه ؛ فإنه یقول فیه یضؤل ، وإن لم یسمع ذلک ، ولا یحتاج أن یتوقف إلی أن یسمعه ، لأنه لو کان محتاجا إلی ذلک لما کان لهذه الحدود والقوانین التی وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنی یفاد ، ولا غرض ینتحیه الاعتماد ، ولکان القوم قد جاءوا بجمیع المواضی والمضارعات ، وأسماء الفاعلین ، والمفعولین ، والمصادر ، وأسماء الأزمنة ، والأمکنة ، والأحادیّ والثنائی ، والجموع والتکابیر ، والتصاغیر (2) ، ولما أقنعهم أن یقولوا : إذا کان الماضی کذا وجب أن یکون المضارع کذا ، واسم فاعله کذا ، واسم مفعوله کذا ، واسم مکانه کذا ، واسم زمانه کذا ؛ ولا قالوا : إذا کان المکبر کذا فتصغیره کذا ، وإذا کان الواحد کذا فتکسیره کذا - دون أن یستوفوا کل شیء من ذلک ، فیوردوه لفظا منصوصا معینا ، لا مقیسا ولا مستنبطا کغیره من اللغة ؛ التی لا تؤخذ قیاسا ولا تنبیها ؛ نحو : دار ، وباب ، وبستان ، وحجر ، وضبع ، وثعلب ، وخزز ، لکن القوم بحکمتهم وزنوا کلام العرب فوجدوه ضربین : أحدهما ما لا بد من تقبله کهیئته لا بوصیة فیه ، ولا تنبیه علیه ؛ نحو : حجر ، ودار ، وما تقدم ؛ ومنه ما وجدوه یتدارک بالقیاس ، وتخف الکلفة فی علمه علی الناس ، فقننوه وفصلوه ، إذ قدروا علی تدارکه من هذا الوجه القریب ، المغنی عن المذهب الحزن (3) البعید. وعلی ذلک قدم الناس فی أول المقصور والممدود ما یتدارک بالقیاس والأمارات ، ثم أتبعوه ما لا بد له من السماع والروایات ، فقالوا : المقصور من حاله کذا ، ومن صفته کذا ؛ والممدود من أمره کذا ، ومن سببه کذا. وقالوا :

ص: 555


1- الجمل الکثیر اللحم.
2- أی : کان واجبا علیهم أن ینصوا علی کل کلمة من هذه الجزئیات إذا کانت القواعد لا تغنی - کما قد یتوهم بعض الغافلین -.
3- الصلب الصعب من الأرض ؛ کالحجارة والصخور.

ومن المؤنث الذی فیه علامات التأنیث کذا ، وأوصافه کذا ، ثم لما أنجزوا ذلک قالوا : ومن المؤنث الذی روی روایة کذا وکذا ، فهذا من الوضوح علی مالا خفاء به.

فلما رأی القوم کثیرا من اللغة مقیسا منقادا وسموه بمواسمه ، وغنوا بذلک عن الإطالة والإسهاب فیما ینوب عنه الاختصار والإیجاز ، ثم لما تجاوزوا ذلک إلی ما لا بد من إیراده ، ونص ألفاظه التزموا وألزموا کلفته ؛ إذ لم یجدوا منها بدّا ، ولا عنها مصرفا.

ومعاذ الله أن ندعی أن جمیع اللغة تستدرک بالأدلة وقیاسا ، لکن ما أمکن ذلک فیه قلنا به ، ونبهنا علیه ، کما فعله من قبلنا ، ممن نحن له متبعون ، وعلی مثله وأوضاعه حاذون. فأما هجنة الطبع ، وکدورة الفکر ، وجمود النفس ، وخیس (1) الخاطر ، وضیق المضطرب ، فنحمد الله علی أن حماناه ، ونسأله سبحانه أن یبارک لنا فیما آتاناه ، ویستعملنا به فیما یدنی منه ، ویوجب الزلفة لدیه ، بمنه) اه.

* * *

هذا البحث النفیس لابن جنّی یذکرنا بما له من آراء جلیلة أخری ، یتصل منها بموضوعنا قوله (2) :

(حکی لنا أبو علی عن ابن الأعرابی ، أظنه قال : یقال : درهمت الخبّازی ، أی : صارت کالدّرهم ، فاشتق من الدرهم ، وهو اسم أعجمی. وحکی أبو زید : رجل مدرهم ، ولم یقولوا منه «درهم» إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فی الکفّ (3) ، ولهذا أشباه ...» اه.

ثم قال بعد ذلک (4) :

ص: 556


1- الخیس : الخطأ ، أو الضلال.
2- فی کتابه : «الخصائص» - ج 1 ص 362 - باب : «أن ما قیس علی کلام العرب فهو من کلام العرب».
3- یرید : أنه میسور ، کأنه فی ید من یریده ، لا یتعب فی البحث عنه ، ولا فی معرفة أنه مسموع ، أو غیر مسموع ، بل یستعمله من غیر تردد ولا رجوع إلی مراجع لغویة.
4- فی ص 367 من الفصل نفسه.

«لیس کل ما یجوز فی القیاس یخرج به سماع ؛ فإذا حذا إنسان علی مثلهم ، وأمّ مذهبهم ، لم یجب أن یورد فی ذلک سماعا ، ولا أن یرویه روایة ...».

وکذلک قوله (1) : «إذا ثبت أمر المصدر الذی هو الأصل لم یتخالج شک فی الفعل الذی هو الفرع. قال لی أبو علیّ بالشام : إذا صحت الصفة فالفعل فی الکف. وإذا کان هذا حکم الصفة کان فی المصدر أجدر ؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ؛ ألا تری أن فی الصفة نحو : مررت بإبل مائة ، وبرجل أبی عشرة أهلة ...». اه.

ص: 557


1- ج ص 127 باب : «تعارض السماع والقیاس» ...

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.