سرشناسه : حسن، عباس
عنوان و نام پدیدآور : النحو الوافی مع ربطه بالا سالیب الرفیعه و الحیاه اللغویه المتجدده/ تالیف عباس حسن.
مشخصات نشر : تهران : ناصرخسرو، 1422ق.= 1380.
مشخصات ظاهری : 4 ج.
مندرجات : ج. 1. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 2. القسم الموجز للطلبه الجامعات. و المفصل للاساتذه و المتخصصین .-- ج. 3. القسم الموجز للطلبه الدداسات النحویه و الصرفیه بالجامعات و المفصل للاساتذه و المتخصصین مشتمل علی ضوابط و الاحکام التی قررتها الجامع اللغویه و موتمراتها الرسمیه .-- ج. 4. القسم الموجز للطلبه الدراسات النحویه بالجامعات و المفصل للاسائذه و المتخصصین
موضوع : زبان عربی -- نحو
رده بندی کنگره : PJ6151/ح 45ن 31380
رده بندی دیویی : 492/75
شماره کتابشناسی ملی : م 68-685
توضیح : «النحو الوافی»، تألیف عباس حسن، از جمله آثار معاصر در موضوع علم نحو است که به شیوه ای آموزشی، در چهار مجلد به زبان عربی تألیف شده است.کتاب، مشتمل بر یک مقدمه و چهار جزء است. ابواب کتاب، بنا بر ترتیبی که ابن مالک در «الفیه» انتخاب کرده و بسیاری از نحویون پس از او اختیار کرده اند، مرتب شده است.
نویسنده در تألیف کتاب، به شیوه آموزشی معینی ملتزم نبوده و به تناسب از شیوه های استنباطی، القائی و محاوره ای استفاده کرده است.همچنین در پاورقی پس از بیان قاعده و شرح آن، ابیاتی از الفیه را که مرتبت با بحث بوده نقل کرده و به طور خلاصه توضیح داده است.
در مواردی که بین یک مبحث از صفحات پیشین یا پسین رابطه ای با مسئله مورد بحث بوده، به صفحه آن بحث اشاره شده است.
ص: 1
مقدمة الکتاب ، ودستور تألیفه.
بیان هامّ.
1
الحمد لله علی ما أنعم ، والشکر علی ما أولی ، والصلاة علی أنبیائه ورسله ؛ دعاة الهدی ، ومصابیح الرشاد. وبعد.
فهذا کتاب جدید فی النحو. والنحو - کما وصفته من قبل - (1) دعامة العلوم العربیة ، وقانونها الأعلی ؛ منه تستمد العون ، وتستلهم القصد ، وترجع إلیه فی جلیل مسائلها ، وفروع تشریعها ؛ ولن تجد علما منها یستقل بنفسه عن النحو. أو یستغنی عن معونته ، أو یسیر بغیر نوره وهداه.
وهذه العلوم النقلیة - علی عظیم شأنها - لا سبیل إلی استخلاص حقائقها ، والنفاذ إلی أسرارها ، بغیر هذا العلم الخطیر ؛ فهل ندرک کلام الله تعالی ، ونفهم دقائق التفسیر ، وأحادیث الرسول علیه السّلام ، وأصول العقائد ، وأدلة الأحکام ، وما یتبع ذلک من مسائل فقهیة ، وبحوث شرعیة مختلفة قد ترقی بصاحبها إلی مراتب الإمامة ، وتسمو به إلی منازل المجتهدین - إلا بإلهام النحو وإرشاده؟ ولأمر ما قالوا : (إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة علی أنه شرط فی رتبة الاجتهاد ، وأن المجتهد لو جمع کل العلوم لم یبلغ رتبة الاجتهاد حتی یعلم النحو ، فیعرف به ال معانی التی لا سبیل لمعرفتها بغیره. فرتبة الاجتهاد متوقفة علیه ، لا تتم إلا به (2) ...) وهذه اللغة التی نتخذها - معاشر المستعربین - أداة طیّعة للتفاهم ، ونسخرها مرکبا ذلولا للإبانة عن أغراضنا ، والکشف عما فی نفوسنا ، ما الذی هیأها لنا ، وأقدرنا علی استخدامها قدرة الأولین من العرب علیها. ومکّن لنا من نظمها ونثرها تمکنهم منها ، وأطلق لساننا فی العصور المختلفة صحیحا فصیحا کما أطلق لسانهم ، وأجری کلامنا فی حدود مضبوطة سلیمة کالتی یجری فیها کلامهم ، وإن کان ذلک منهم طبیعة ، ومنا تطبعا؟ .
إنه النحو ؛ وسیلة المستعرب ، وسلاح اللغوی ، وعماد البلاغیّ ، وأداة المشرّع والمجتهد ، والمدخل إلی العلوم العربیة والإسلامیة جمیعا.
فلیس عجیبا أن یصفه الأعلام السابقون بأنه : خ خ میزان العربیة ، والقانون الذی تحکم به فی کل صورة من صورها (1) وأن یفرغ له العباقرة من أسلافنا ؛ یجمعون أصوله ، ویثبتون قواعده ، ویرفعون بنیانه شامخا ، رکینا ، فی إخلاص نادر ، وصبر لا ینفد. ولقد کان الزمان یجری علیهم بما یجری علی غیرهم ؛ من مرض ، وضعف ، وفقر ؛ فلا یقدر علی انتزاعهم مما هم فیه ، کما کان یقدر علی سواهم ، ولا ینجح فی إغرائهم بمباهج الحیاة کما کان ینجح فی إغراء ضعاف العزائم ، ومرضی النفوس ، من طلاب المغانم ، ورواد المطامع. ولقد یترقبهم أولیاؤهم وأهلوهم الساعات الطوال ، بل قد یترصدهم الموت ؛ فلا یقع علیهم إلا فی حلقة درس ، أو قاعة بحث ، أو جلسة تألیف ، أو میدان مناظرة ، أو رحلة مخطرة فی طلب النحو. وهو حین یظفر بهم لا ینتزع علمهم معهم ؛ ولا یذهب بآثارهم بذهاب أرواحهم ؛ إذ کانوا یعدون لهذا الیوم عدته من قبل ؛ فیدونون بحوثهم ، ویسجلون قواعدهم ، ویختارون خلفاء من تلامیذهم ؛ یهیئونهم لهذا الأمر العظیم. ویشرفون علی تنشئتهم ، وتعهد مواهبهم ؛ إشراف الأستاذ البارع القدیر علی التلمیذ الوفیّ الأمین. حتی إذا جاء أجلهم ودّعوا الدنیا بنفس مطمئنة ، واثقة أن میدان الإنشاء والتعمیر النحوی لم یخل من فرسانه ، وأنهم خلّفوا وراءهم خلفا صالحا یسیر علی الدرب ، ویحتذی المثال. وربما کان أسعد حظّا وأوفر نجحا من سابقیه ، وأسرع إدراکا لما لم یدرکه الأوائل.
علی هذا النهج الرفیع تعاقبت طوائف النحاة ، وتوالت زمرهم فی میدانه ، وتلقی الرایة نابغ عن نابغ ، وألمعیّ فی إثر ألمعیّ ، وتسابقوا مخلصین دائبین. فرادی وزرافات ، فی إقامة صرحه ، وتشیید أرکانه ، فأقاموه سامق البناء ، وطید الدعامة ، مکین الأساس. حتی وصل إلی أهل العصور الحدیثة التی یسمونها : عصور النهضة ، راسخا ، قویّا ؛ من فرط ما اعتنی به الأسلاف ، ووجهوا إلیه من بالغ الرعایة ؛ فاستحقوا منا عظیم التقدیر ، وخالد الثناء. وحملوا کثیرا من علماء
ص: 2
اللغة الأجانب علی الاعتراف بفضلهم ، والإشادة ببراعتهم (1) ...
هذه کلمة حق یقتضینا الإنصاف أن نسجلها ؛ لننسب الفضل لروّاده ، وإلا کنّا من عصبة الجاحدین ، الجاهلین ، أو المغرورین.
2
ولیس من شک أن التراث النحوی الذی ترکه أسلافنا نفیس غایة النفاسة ، وأن الجهد الناجح الذی بذلوه فیه خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم یهیأ للکثیر من العلوم المختلفة فی عصورها القدیمة والحدیثة ، ولا یقدر علی احتمال بعضه حشود من الثرثارین العاجزین ، الذین یوارون عجزهم وقصورهم - علم الله - بغمز النحو بغیر حق ، وطعن أئمته الأفذاذ.
بید أن النحو - کسائر العلوم - تنشأ ضعیفة. ثم تأخذ طریقها إلی النمو ، والقوة والاستکمال بخطا وئیدة أو سریعة ؛ علی حسب ما یحیط بها من صروف وشئون. ثم یتناولها الزمان بأحداثه ؛ فیدفعها إلی التقدم ، والنمو ، والتشکل بما یلائم البیئة ، فتظل الحاجة إلیها شدیدة ، والرغبة فیها قویة. وقد یعوّقها ویحول بینها وبین التطور ، فیضعف المیل إلیها ، وتفتر الرغبة فیها. وقد یشتط فی مقاومتها ؛ فیرمی بها إلی الوراء ، فتصبح فی عداد المهملات ، أو تکاد.
وقد خضع النحو العربی لهذا الناموس الطبیعی (2) ؛ فولد فی القرن الأول الهجری ضعیفا ، وحسبا وئیدا أول القرن الثانی ، وشب - بالرغم من شوائب خالطته - وبلغ الفتاء آخر ذلک القرن ، وسنوات من الثالث ، فلمع من أئمته نجوم زاهرة ؛ کعبد الله بن أبی إسحاق ، والخلیل ، وأبی زید ، وسیبویه ، والکسائی ، والفراء ، ونظرائهم من الأعلام ، ثم توالت أخلافهم ، علی تفاوت فی المنهج ، وتخالف فی المادة ، إلی عصر النهضة الحدیثة التی یجری اسمها علی الألسنة الیوم ، ویتخذون
ص: 3
مطلع القرن التاسع عشر مبدأ لها. فمن هذا المبدأ ألح الوهن والضعف ، علی النحو ، وتمالأت علیه الأحداث ؛ فأظهرت من عیبه ما کان مستورا ، وأثقلت من حمله ما کان خفّا ، وزاحمته العلوم العصریة فقهرته ، وخلفته وراءها مبهورا. ونظر الناس إلیه فإذا هو فی الساقة من علوم الحیاة ، وإذا أوقاتهم لا تتسع للکثیر بل للقلیل مما حواه ، وإذا شوائبه التی برزت بعد کمون ، ووضحت بعد خفاء - تزهدهم فیه ، وتزیدهم نفارا منه ، وإذا النفار والزهد یکران علی العیوب ؛ فیحیلان الضئیل منها ضخما ، والقلیل کثیرا ، والموهوم واقعا. وإذا معاهد العلم الحدیث تزورّ عنه ، وتجهر بعجزها عن استیعابه ، واستغنائها عن أکثره ، وتقنع منه بالیسیر أو ما دون الیسیر ؛ فیستکین ویخنع.
والحق أن النحو منذ نشأته داخلته - کما قلنا - شوائب ؛ نمت علی مر اللیالی ، وتغلغلت برعایة الصروف ، وغفلة الحراس ؛ فشوهت جماله ، وأضعفت شأنه ، وانتهت به إلی ما نری.
فلم یبق بد أن تمتد إلیه الأیدی البارّة القویة ، متمالئة فی تخلیصه مما شابه ، متعاونة علی إنقاذه مما أصابه. وأن تبادر إلیه النفوس الوفیة للغتها وتراثها ؛ المعتزة بحاضرها وماضیها ؛ فتبذل فی سبیل إنهاضه ، وحیاطته ، وإعلاء شأنه - ما لا غایة بعده لمستزید.
ومن کریم الاستجابة أن رأینا فی عصرنا هذا - طوائف من تلک النفوس البارّة الوفیة سارعت إلی النجدة ؛ کلّ بما استطاع ، وبما هو میسر له ؛ فمنهم من ذلل للناشئة لغته ، أو اختصر قاعدته ، أو أوضح طریقة تدریسه ، أو أراحهم من مصنوع العلل ، وضارّ الخلاف ، أو جمع بین مزیتین أو أکثر من هذه المزایا الجلیلة الشأن. لکنا - علی الرغم من ذلک - لم نر من تصدی للشوائب کلها أو أکثرها ؛ ینتزعها من مکانها ، ویجهز علیها ما وسعته القدرة ، ومکنته الوسیلة ؛ فیریح المعلمین والمتعلمین من أوزارها. وهذا ما حاولته جاهدا مخلصا قدر استطاعتی ، فقد مددت یدی لهذه المهمة الجلیلة ، وتقدمت لها رابط الجأش ، وجمعت لها أشهر مراجعها الأصیلة ، ومظانها الوافیة الوثیقة ، وضممت إلیها ما ظهر فی عصرنا من کتب ، وأطلت الوقوف عند هذه وتلک ؛ أدیم النظر ، وأجیل
ص: 4
الفکر ، وأعتصر أطیب ما فیهما حتی انتهیت إلی خطة جدیدة ؛ تجمع مزایاهما ، وتسلم من شوائبهما ، وقمت علی تحقیقها فی هذا الکتاب متأنیا صبورا. ولا أدری مبلغ توفیقی. ولکن الذی أدریه أنی لم أدخر جهدا ، ولا إخلاصا.
إن تلک الشوائب کثیرة ، ومن حق النحو علینا - ونحن بصدد إخراج کتاب جدید فیه - أن نعرضها هنا ، ونسجل سماتها ، ونفصل ما اتخذناه لتدارک أمرها. وهذا کله - وأکثر منه - قد عرضنا له فی رسالة سابقة نشرناها منذ سنوات بعنوان : «رأی فی بعض الأصول اللغویة والنحویة» ، ثم أتممناها بمقالات عشر ؛ نشرت تباعا فی مجلة رسالة الإسلام ، خلال سنتی 1957 و 1958 م وجاوزت صفحاتها المائة. وقد جعلت من هذه وتلک ، ولمحات غیرهما ، مقدمة لهذا الکتاب ستنشر مستقلة ؛ بسبب طولها ، وکثرة ما اشتملت علیه - فی رسالة عنوانها : «مقدمة کتاب النحو الوافی» وهی الیوم فی طریقها للنشر (1)
علی أن هذا لا یعفینی من الإشارة العابرة إلی الدستور الذی قام علیه الکتاب ، والغرض الذی رمیت من تألیفه ، مستعینا بخبرة طویلة ناجعة ، وتجربة صادقة فی تعلم النحو ؛ طالبا مستوعبا ، ثم تعلیمه فی مختلف المعاهد الحکومیة مدرسا ، فأستاذا ورئیسا لقسم النحو والصرف والعروض بکلیة دار العلوم ، بجامعة القاهرة ، سنوات طوالا.
3
وأظهر مواد ذلک الدستور ما یأتی :
1 - تجمیع مادة النحو کله فی کتاب واحد ذی أجزاء أربعة کبار ، تحوی صفحاتها وما تضمنته من مسائل کل ما تفرق فی أمهات الکتب ، وتغنی عنها. علی أن یقسم کل جزء قسمین ، تقسیما فنیّا بارعا. أحدهما موجز دقیق یناسب طلاب الدراسات النحویة ، بالجامعات - دون غیرهم - غایة المناسبة ، ویوفیهم ما یحتاجون إلیه غایة التوفیة الحکیمة التی تسایر مناهجهم الرسمیة ، ومکانه أول المسائل ، وصدرها. ویلیه الآخر (2) - بعد نهایة کل مسألة - بعنوان مستقل هو :
ص: 5
«زیادة وتفصیل» ؛ ویلائم الأساتذة والمتخصصین أکمل الملاءمة وأتمها ، فتبتدئ «المسألة» - وبجانبها رقم خاص بها - بتقدیم المادة النحویة الصالحة للطالب الجامعیّ ، الموائمة لقدرته ومقرّره الرسمیّ ، ودرجته فی التحصیل والفهم ، مع توخّی الدقة والإحکام فیما یقدم له ، نوعا ومقدارا. فإذا استوفی نصیبه المحمود انتقلت إلی بسط یتطلع إلیه المتخصص ، وزیادة یتطلبها المستکمل. کل ذلک فی إحکام وحسن تقدیر ، بغیر تکرار ، ولا تداخل بین القسمین ، أو اضطراب. وبهذا التقسم والتنسیق یجد هؤلاء وهؤلاء حاجتهم میسرة ، موائمة ، قریبة التناول ؛ لا یکدّون فی استخلاصها ولا یجهدون فی السعی وراءها فی متاهات الکتب القدیمة ؛ وقد یبلغون أو لا یبلغون.
2 - العنایة أکمل العنایة بلغة الکتاب وضوحا ، وإشراقا ، وإحکاما ، واسترسالا ؛ فلا تعقید ، ولا غموض ، ولا حشو ، ولا فضول ، ولا توقف لمناقشة لفظ ، أو إرسال اعتراض ، أو الإجابة عنه ؛ ولا حرص علی أسالیب القدامی وتعبیراتهم. إلا حین تسایرنا فی البیان الأوفی ، والجلاء الأکمل.
أما الاصطلاحات العلمیة المأثورة فلم أفکر فی تغییرها ، إیمانا واقتناعا بما سجله العلماء قدیما وحدیثا من ضرر هذا التغییر الفردیّ ، ووفاء بما اشترطوه فی تغییر «المصطلاحات» ، أن یکون بإجماع المختصین ، المشتغلین بالعلم الذی یحویها.
3 - اختیار الأمثلة ناصعة ، بارعة فی أداء مهمتها ؛ من توضیح القاعدة ، وکشف غامضها فی سهولة ویسر ، واقتراب ، لهذا ترکت کثیرا من الشواهد القدیمة ، المترددة بین أغلب المراجع النحویة ؛ لأنها ملیئة بالألفاظ اللغویة الصعبة ، وبالمعانی البعیدة التی تتطلب الیوم من المتعلم عناء وجهدا لا یطیقهما ، ولا یتسع وقته لشیء منهما ، فإن خلت من هذا العیب ، وتجملت بالوضوح والطرافة فقد نستبقیها.
والحق أن کثیرا من تلک الشواهد یحتل المکانة العلیا من سمو التعبیر ، وجمال الأداء ، وروعة الأسلوب. وفتنة المعنی. لکنها اختیرت فی عصور تباین عصرنا ، ولدواع تخالف ما نحن فیه ؛ فقد کانت وسائل العیش حینذاک میسرة ، والمطالب
ص: 6
قلیلة ، والقصد استنباط قاعدة ، أو تأیید مذهب. وکان طالب العلم حافظا القرآن. مستظهرا الکثیر من الأحادیث والنصوص الأدبیة ، متفرغا للعلوم العربیة والشرعیة أو کالمتفرغ. أما الیوم فالحال غیر الحال ، ووسائل العیش صعبة ، والمطالب کثیرة ؛ فطالب العلم (1) یمر بهذه العلوم مرّا سریعا عابرا قبل الدراسة الجامعیة ، فإن قدّر له الدخول فی الجامعة ، انقطعت صلته بتلک العلوم ، ولم یجد بینها وبین مناهجه الدراسیة سببا ، إلا إن کان متفرغا للدراسات اللغویة ؛ فیزاولها وحصیلته منها ضئیلة ، لا تمکنه من فهم دقائقها ، ولا ترغبه فی مزید ، وغایته المستقبلة لا ترتبط - فی الغالب - ارتباطا وثیقا بالضلاعة فی هذه العلوم ، والتمکن منها ؛ فمن الإساءة إلیه وإلی اللغة أن نستمسک بالشواهد الموروثة ، ونقیمها حجازا یصعب التغلب علیه ، وإدراک ما وراءه من کریم الغایات. نعم إنها نماذج من الأدب الرائع ؛ ولکن یجب ألا ننسی الغایة إزاء الروعة ، أو نغفل القصد أمام المظهر ، وإلا فقدنا الاثنین معا ، وفی دروس النصوص الأدبیة ، وفی القراءة الحرة ، والاطلاع علی مناهل الأدب الصفو - متسع للأدباء والمتأدبین ؛ یشبع رغبتهم ، من غیر أن یضیع علیهم ما یبغون من دراسة النحو دراسة نافعة ، لا تطغی علی وقت رصدته النظم التعلیمیة الحدیثة لغیرها ، ولا تنتهب جهدا وقفته الحیاة المعاصرة علی سواها.
وإن بعض معلمی الیوم ممّن یقومون بالتدریس لکبار المتعلمین - لیسرف فی اتخاذ تلک الشواهد مجالا لما یسمیه : «التطبیق النحوی» ، ومادة مهیأة لدروسه. ولیس هذا من وکدی. ولا وکد من احتشد للمهمة الکبری ، مهمة : «النحو الأصیل» التی تتلخص فی إعداد مادته إعدادا وافیا شاملا ، وعرضها عرضا حدیثا شائقا ، وکتابتها کتابة مشرقة بهیة ، مع استصفاء أصولها النافعة. واستخلاص قواعدها وفروعها مما ران علیها ، وارتفعت بسببه صیحات الشکوی. ودعوات الإصلاح ، وتهیئتها لتلائم طبقات کثیرة ، وأجیالا متعاقبة فی بلدان متباینة. کل هذا بل بعض هذا - لا یسایر ذلک خ خ التطبیق التعلیمی ؛ فإنه مدرسیّ موضعی متغیر لا یتسم بسمة العموم. أو ما یشبه العموم ، ولا یثبت علی حال.
ص: 7
علی أن هذا الفریق الذی اختار تلک الشواهد میدانا لتطبیقه قد فاته ما أشرنا إلیه من حاجتها إلی طویل الوقت ، وکبیر الجهد فی تیسیر صعوباتها اللغویة التی أوضحناها. وطلاب الیوم - خاصة - أشد احتیاجا لذلک الوقت والجهد ، کی یبذلوهما فی تحصیل ما یتطلبه مستقبلهم الغامض. کما فاته أن خیر التطبیق لکبار الطلاب ما لیس محدد المجال ، مصنوع الغرض ، متکلف الأداء ، کالشواهد التی نحن بصددها. وإن مناقشة لنص أدبی کامل ، أو صفحة من کتاب مستقیم الأسلوب ، أو مقال أدبی - لهی أجدی فی التطبیق ، وأوسع إفادة فی النواحی اللغویة المتعددة ، وأعمق أثرا فی علومها وآدابها - من أکثر تلک الشواهد المبتورة المعقدة. فلیتنا نلتفت لهذا ، وندرک قیمته العملیة ، فنحرص علی مراعاته ، ونستمسک باتباعه مع کبار المتعلمین ، ولعل هؤلاء الکبار أنفسهم یدرکونه ویعملون به ، فیحقق لهم ما یبتغون.
علی أن لتلک الشواهد خطرا آخر ؛ هی أنها - فی کثیر من اتجاهاتها - قد تمثل لهجات عربیة متعارضة ، وتقوم دلیلا علی لغات قدیمة متباینة ، وتساق لتأیید آراء متناقضة ؛ فهی معوان علی البلبلة اللغویة ، ووسیلة للحیرة والشک فی ضبط قواعدها ، وباب للفوضی فی التعبیر. وتلک أمور یشکو منها أنصار اللغة ، والمخلصون لها.
وعلی الرغم من هذا قد نسجل - أحیانا مع الحیطة والحذر - بعض الشواهد الغریبة ، أو الشاذة ، وبعض الآراء الضعیفة ، لا لمحاکاتها ، ولا للأخذ بها - ولکن لیتنبه لها المتخصصون ، فیستطیعوا فهم النصوص القدیمة الواردة بها حین تصادفهم ، ولا تصیبهم أمامها حیرة ، أو توقف فی فهمها.
4 - الفرار من العلل الزائفة (1) ، وتعدد الآراء الضارة فی المسألة الواحدة ، فلهما من سوء الأثر وقبیح المغبة ما لا یخفی. وحسبنا من التعلیل : أن یقال : المطابقة للکلام العربی الناصع ، ومن الآراء أن یقال : مسایرة فصیح اللغة وأفصحها. والقرآن الکریم - بقراءاته الثابتة الواردة عن الثقات - فی
ص: 8
مکان الصدارة من هذا ؛ لا نقبل فی أسلوبه تأولا ولا تمحلا ، ثم الکلام العربی الذائع. والأفصح والفصیح هما الباعثان لنا علی أن نردف بعض الأحکام النحویة بأن الخیر فی اتباع رأی دون آخر ، وأن الأفضل إیثاره علی سواه ... أو غیر هذا من العبارات الدالة علی الترجیح. وإنما کان الخیر وتمام الفضل فی إیثاره ؛ لأنه یجمع الناطقین بلغة العرب علی أنصع الأسالیب وأسماها ، ویوحد بیانهم ، ویریحهم من خلف المذاهب ، وبلبلة اللهجات ، فی وقت نتلقی فیه اللغة تعلما وکسبا ، لا فطرة ومحاکاة أصیلة ، ونقتطع لها من حیاتنا التعلیمیة المزدحمة المرهقة - الأیّام القلیلة ، والساعات المحدودة ؛ فمن الحکمة والسداد أن نقصر تلک الأیام والساعات علی ما هو أحسن وأسمی. ولن نلجأ إلی تعلیل آخر ، أو تردید خلاف فی الآراء إلا حیث یکون من وراء ذلک نفع محقق ، وفائدة وثیقة ، وتوسعة محمودة ، دون تعصب لبصریّ أو لکوفیّ ، أو بغدادی ، أو أندلسی ... أو غیر هؤلاء ... ودون فتح باب الفوضی فی التعبیر ، أو الاضطراب فی الفهم ، أو البلبلة فی الأداء والاستنباط.
ومن مظاهر النفع الاستعانة «بالتعلیل» ، وبتعدد المذاهب فی تیسیر مفید ، أو فی تشریع لغویّ مأمون ، أو تبصیر المتخصصین - وحدهم - ببعض اللغات واللهجات التی تعینهم علی فهم النصوص القدیمة الواردة بها ، لا لمحاکاتها - فأکثرها لا یوائمنا الیوم کما سبق - ولکن لیدرکوها ، ویفسروا بعض الظواهر اللغویة الغامضة ، ولا یقفوا أمام تفسیرها حائرین مضطربین. وقد بسطنا القول فی هذا کله ، وفی أسبابه ، ونتائجه - فی المقدمة التی أشرنا إلیها.
5 - تدوین أسماء المراجع أحیانا فی بعض مسائل قد تتطلب الرجوع إلیها ؛ استجلاء لحقیقة ، أو إزالة لوهم. وفی ذلک التدوین نفع آخر ؛ هو : تعریف الطلاب بتلک المراجع ، وتردید أسمائها علیهم ، وتوجیههم إلی الانتفاع بها ، والإیحاء بأن الرجوع إلی مثلها قد یقتضیه تحصیل العلم ، وتحقیق مسائله.
6 - عدم التزام طریقة تربویة معینة فی التألیف ، فقد تکون الطریقة استنباطیة ، وقد تکون إلقائیة ، وقد تکون حوارا ، أو غیر ذلک مما یقتضیه صادق الخبرة ، وملاءمة الموضوع. وإذا عرفنا أن الکتاب لکبار الطلاب ، وللأساتذة المتخصصین ، وأن موضوعاته کثیرة متباینة - أدرکنا الحکمة فی اختلاف الطرائق
ص: 9
باختلاف تلک الموضوعات وقرّائها. علی أن تکون الطریقة محکومة بحسن الاختیار ، وصدق التقدیر ، وضمان النجح من أیسر السبل وأقربها. ومهما اختلفت فلن تکون من طرائق القدماء التی أساسها : المتن ، فالشرح ، فالحاشیة ، فالتقریر ... فما یصاحب هذا من جدل ، ونقاش ، وکثرة خلاف ، وتباین تعلیل ... وما إلی ذلک مما دعت إلیه حاجات عصور خلت ، ودواعی حقب انقضت ، ولم یبق من تلک الحاجات والدواعی ما یغرینا بالتمسک به ، أو بتجدید عهده.
علی أن بحوثهم وطرائقهم تنطوی - والحق یقال - علی ذخائر غالیة ، وتضم فی ثنایاها کنوزا نفیسة. إلا أن استخلاص تلک الذخائر والکنوز مما یغشیها الیوم عسیر أی عسیر علی جمهرة الراغبین - کما أسلفنا.
7 - تسجیل أبیات : «ابن مالک» کما تضمنتها «ألفیته» ، المشهورة ، وتدوین کل بیت فی أنسب مکان من الهامش ، بعد القاعدة وشرحها ، مع الدقة التامة فی نقله ، وإیضاح المراد منه ؛ فی إیجاز مناسب ، وحرص علی ترتیب الأبیات ، إلا إن خالفت فی ترتیبها تسلسل المسائل وتماسکها المنطقی النحوی الذی ارتضیناه. فعندئذ نوفق بین الأمرین ؛ ترتیب الناظم : وما یقتضیه التسلسل المنطقی التعلیمی ؛ فننقل البیت من مکانه فی «الألفیة» ، ونضعه فی المکان الذی نراه مناسبا ، ونضع علی یساره الرقم الدال علی ترتیبه بین أبیات الباب کما رتبها الناظم ، ولا نکتفی بهذا ؛ فحین نصل إلی شرح المسألة المتصلة بالبیت الذی قبله ، ونفرغ منها ومن ذکر البیت الخاص بها ؛ تأییدا لها - نعود فنذکر البیت الذی نقلناه من مکانه ، ونضعه فی مکانه الأصلی الذی ارتضاه الناظم ، ونشیر إلی أن هذا البیت قد سبق ذکره وشرحه فی مکانه الأنسب من صفحة کذا ...
وقد دعانا إلی تسجیل أبیات : «ابن مالک» - فی الهامش - ما نعلمه من تمسک بعض المعاهد والکلیات الجامعیة بها ، وإقبال طوائف من الطلاب علی تفهمها ، والتشدد فی دراستها واستظهارهم کثیرا منها للانتفاع بها حین یریدون. وقد تخیرنا لها مکانا فی ذیل الصفحات ، یقربها من راغبیها ، ویبعدها من الزاهدین فیها. 8 - الإشارة إلی صفحة سابقة أو لاحقة ، وتدوین رقمها إذا اشتملت علی ماله صلة وثیقة بالمسألة المعروضة ؛ کی یتیسر لمن شاء أن یجمع شتاتها فی
ص: 10
سهولة ویسر ، ویضم - بغیر عناء - فروعها وما تفرق منها فی مناسبات وموضوعات مختلفة.
ولا نکتفی بذکر الرقم الخاص بالصفحة ، وإنما نذکره ونذکر بعده رقم المسألة. ونرمز للمسألة بالحرف الهجائی الأول من حروفها ، وهو : «م» اختصارا.
والسبب فی الجمع بینهما أن رقم الصفحة عرضة للتغییر بتغیر طبعات الکتاب أما رقم المسألة فثابت لا یتغیر وإن تعددت الطبعات ، فالإحالة علیه إحالة علی شیء موجود دائما ؛ فیتحقق الغرض من الرجوع إلیه.
9 - ترتیب أبواب الکتاب علی النسق الذی ارتضاه ابن مالک فی : «ألفیته» وارتضاه کثیرون ممن جاءوا بعده ، لأنه الترتیب الشائع الیوم ، وهو فوق شیوعه - أکثر ملاءمة فی طریقته ، وأوفر إفادة فی التحصیل والتعلیم ، ویشیع بعده الترتیب القائم علی جمع الأبواب الخاصة بالأسماء متعاقبة ، یلیها الخاصة بالأفعال ثم الحروف ... کما فعل الزمخشری فی مفصله. وتبعه علیه شراحه. وهذه طریقة حمیدة أیضا. ولکنها تفید المتخصصین دون سواهم من الراغبین فی المعرفة العامة أوّلا فأولا ؛ فالمبتدأ یلازمه الخبر أو ما یقوم مقامه ، وقد یکون الخبر جملة فعلیة ، أو شبه جملة ، والفاعل لا بد له من فعل أو ما یقوم مقامه. والمفعول لا بد له من الاثنین ... فکیف یتعلم الراغب أحکام المبتدأ وحده ، أو الخبر وحده ، أو الفعل أو الفاعل کذلک؟
وهناک أنواع أخری من الترتیب لکل منها مزایاه التی نراها لا تعدل مزیة الترتیب الذی اخترناه. ولا تناسب عصرنا القائم.
والله أرجو مخلصا أن یجعل الکتاب نافعا لغة القرآن ، عونا لطلابها ، محققا الغایة النبیلة التی دعت لتألیفه ، والقصد الکریم من إعداده.
المؤلف
ص: 11
ص: 12
الکلام ، وما یتألف منه.
الکلمة - الکلام (أو : الجملة) - الکلم - القول.
ما المراد من هذه الألفاظ الاصطلاحیة فی عرف النحویین؟
حروف الهجاء تسعة وعشرون حرفا ، (وهی : أ(1) - ب - ت - ث - ج ...) وکل واحد منها رمز مجرد ؛ لا یدل إلا علی نفسه ، ما دام مستقلا لا یتصل بحرف آخر. فإذا اتصل بحرف أو أکثر ، نشأ من هذا الاتصال ما یسمی : «الکلمة». فاتصال الفاء بالمیم - مثلا - یوجد کلمة : «فم» ، واتصال العین بالیاء فالنون ، یوجد کلمة : «عین» ، واتصال المیم بالنون فالزای فاللام ، یحدث کلمة : «منزل» ... وهکذا تنشأ الکلمات الثنائیة ، والثلاثیة ، والرباعیة - وغیرها (2) - من انضمام بعض حروف الهجاء إلی بعض(3).
وکل کلمة من هذه الکلمات التی نشأت بالطریقة السالفة تدل علی معنی ؛ لکنه معنی جزئی ؛ (أی : مفرد) ؛ فکلمة : «فم» حین نسمعها ، لا نفهم منها أکثر من أنها اسم شیء معین. أما حصول أمر من هذا الشیء ، أو عدم حصوله ... ، أما تکوینه ، أو وصفه ، أو دلالته علی زمان أو مکان ، أو معنی آخر - فلا نفهمه من کلمة : «فم» وحدها. وکذلک الشأن فی کلمة : «عین» ، و «منزل» وغیرهما من باقی الکلمات المفردة.
ص: 13
ولکن الأمر یتغیر حین نقول : «الفم مفید» - «العین نافعة» - «المنزل واسع النواحی» ، فإن المعنی هنا یصیر غیر جزئی ؛ (أی : غیر مفرد) ؛ لأن السامع یفهم منه فائدة وافیة إلی حدّ کبیر ، بسبب تعدد الکلمات ، وما یتبعه من تعدد المعانی الجزئیة ، وتماسکها ، واتصال بعضها ببعض اتصالا ینشأ عنه معنی مرکب. فلا سبیل للوصول إلی المعنی المرکب إلا من طریق واحد ؛ هو : اجتماع المعانی الجزئیة بعضها إلی بعض ، بسبب اجتماع الألفاظ المفردة.
ومن المعنی المرکب تحدث تلک الفائدة التی : «یستطیع المتکلم أن یسکت بعدها ، ویستطیع السامع أن یکتفی بها». وهذه الفائدة - وأشباهها - وإن شئت فقل : هذا المعنی المرکب ، هو الذی یهتم به النحاة ، ویسمونه بأسماء مختلفة ، المراد منها واحد ؛ فهو : «المعنی المرکب» ، أو : «المعنی التام» ، أو : «المعنی المفید» أو : «المعنی الذی یحسن السکوت علیه» ...
یریدون : أن المتکلم یری المعنی قد أدی الغرض المقصود فیستحسن الصمت ، أو : أن السامع یکتفی به ؛ فلا یستزید من الکلام. بخلاف المعنی الجزئی ، فإن المتکلم لا یقتصر علیه فی کلامه ؛ لعلمه أنه لا یعطی السامع الفائدة التی ینتظرها من الکلام. أو : لا یکتفی السامع بما فهمه من المعنی الجزئی ، وإنما یطلب المزید. فکلاهما إذا سمع کلمة منفردة مثل : باب ، أو : ریحان ، أو : سماء ، أو : سواها ... لا یقنع بها.
لذلک لا یقال عن الکلمة الواحدة إنها تامة الفائدة ، برغم أن لها معنی جزئیّا لا تسمی «کلمة» بدونه ؛ لأن الفائدة التامة لا تکون بمعنی جزئی واحد.
مما تقدم نعلم أن الکلمة هی : (اللفظة الواحدة التی تترکب من بعض الحروف الهجائیة ، وتدل علی معنی جزئی ؛ أی : «مفرد»). فإن لم تدل علی معنی عربی وضعت لأدائه فلیست کلمة ، وإنما هی مجرد صوت.
ص: 14
هو : «ما ترکب من کلمتین أو أکثر ، وله معنی مفید مستقل» (1). مثل : أقبل ضیف. فاز طالب نبیه. لن یهمل عاقل واجبا ...
فلا بد فی الکلام من أمرین معا ؛ هما : «الترکیب» ، و «الإفادة المستقلة» فلو قلنا : «أقبل» فقط ، أو : «فاز» فقط ، لم یکن هذا کلاما ؛ لأنه غیر مرکب. ولو قلنا : أقبل صباحا ... أو : فاز فی یوم الخمیس ... أو : لن یهمل واجبه ... ، لم یکن هذا کلاما أیضا ؛ لأنه - علی رغم ترکیبه - غیر مفید فائدة یکتفی بها المتکلم أو السامع ...
ولیس من اللازم فی الترکیب المفید أن تکون الکلمتان ظاهرتین فی النطق ؛ بل یکفی أن تکون إحداهما ظاهرة ، والأخری مستترة ؛ کأن تقول للضیف : تفضل. فهذا کلام مرکب من کلمتین ؛ إحداهما ظاهرة ، وهی : تفضل (2) ، والأخری مستترة ، وهی : أنت (3). ومثل : «تفضل» : «أسافر» ... أو :
ص: 15
«نشکر» أو : «تخرج» ... وکثیر غیرها مما یعد فی الواقع کلاما ، وإن کان ظاهره أنه مفرد.
هو : ما ترکب من ثلاث کلمات فأکثر ؛ سواء أکان لها معنی مفید ، أم لم یکن لها معنی مفید. فالکلم المفید مثل : النیل ثروة مصر - القطن محصول أساسی فی بلادنا. وغیر المفید مثل : إن تکثر الصناعات ...
هو کل لفظ نطق به الإنسان ؛ سواء أکان لفظا مفردا أم مرکبا ، وسواء أکان ترکیبه مفیدا أم غیر مفید. فهو ینطبق علی : «الکلمة» کما ینطبق علی : «الکلام» وعلی : «الکلم». فکل نوع من هذه الثلاثة یدخل فی نطاق : «القول» ویصح أن یسمی : «قولا» علی الصحیح ، وقد سبقت الأمثلة. کما ینطبق أیضا علی کل ترکیب آخر یشتمل علی کلمتین لا تتم بهما الفائدة ؛ مثل : إن مصر ... - أو : قد حضر ... أو : هل أنت. أو : کتاب علیّ (1) ... فکل ترکیب من هذه التراکیب لا یصح أن یسمی : «کلمة» ؛ لأنه لیس لفظا مفردا ، ولا یصح أن یسمی : «کلاما» ؛ لأنه لیس مفیدا. ولا : «کلما» ؛ لأنه لیس مؤلفا من ثلاث کلمات ؛ وإنما یسمی : «قولا».
ویقول أهل اللغة : إن «الکلمة» واحد : «الکلم». ولکنها قد تستعمل أحیانا (2) بمعنی : «الکلام» ؛ فتقول : حضرت حفل تکریم الأوائل ؛ فسمعت «کلمة» رائعة لرئیس الحفل ، و «کلمة» أخری لأحد الحاضرین ، و «کلمة» ثالثة من أحد الأوائل یشکر المحتفلین. ومثل : اسمع منی «کلمة» غالیة ؛ وهی :
أحسن إلی الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
ص: 16
فالمراد بالکلمة فی کل ما سبق هو : «الکلام» ، وهو استعمال فصیح ، یشیع علی ألسنة الأدباء وغیرهم.
وللکلمة ثلاثة أقسام ، اسم. وفعل ، وحرف (1).
ص: 17
تعود النحاة - بعد الکلام علی الأنواع الأربعة السابقة - أن یوازنوا بینها موازنة أساسها : «علم المنطق» ویطیلوا فیها الجدل المرهق ، مع أن الموضوع فی غنی عن الموازنة ؛ لبعد صلتها «بالنحو». وبالرغم من هذا سنلخص کلامهم ... (وقد یکون الخیر فی الاستغناء عنه).
(ا) یقولون : إن موازنة الأنواع السابقة بعضها ببعض ؛ لمعرفة أوسعها شمولا ، وأکثرها أفرادا - تدل علی أن : «القول» هو الأوسع والأکثر ؛ لأنه ینطبق علیها جمیعا ، وعلی کل فرد من أفرادها. أما غیره فلا ینطبق إلا علی أفراده الخاصة به ، دون أفراد نوع آخر ؛ فکل ما یصدق علیه أنه : «کلمة» أو : «کلام» أو : «کلم» - یصدق علیه أنه : «قول» ، ویعدّ من أفراد : «القول» ، ولا عکس.
هذا إلی أن القول یشمل نوعا آخر غیر تلک الأنواع ، وینطبق وحده علی أفراد ذلک النوع ؛ وهو : کل ترکیب اشتمل علی کلمتین من غیر إفادة تامة منهما ؛ مثل : «إن حضر» ... «لیس حامد» - «لیت مصر» ... - «سیارة رجل» ... فمثل هذا لا یصح أن یسمی : «کلمة» ، ولا «کلاما» ، ولا «کلما» ومن هنا یقول النحاة : إن القول أعم من کل نوع من الأنواع الثلاثة عموما مطلقا ، وأن کل نوع أخص منه خصوصا مطلقا ... یریدون بالعموم : أن «القول» یشمل من الأنواع أکثر من غیره. ویریدون «بالإطلاق» : أن ذلک الشمول عام فی کل الأحوال ، بغیر تقیید بحالة معینة ؛ فکلما وجد نوع وجد أن «القول» ؛ یشمله وینطبق علی کل فرد من أفراده - دائما -
وأما أن کل نوع أخص - وأن ذاک الخصوص مطلق - فلأن کل نوع من الثلاثة لا یشمل عددا من الأفراد المختلفة بقدر ما یشمله «القول» ولا ما یزید علیه. وأن هذا شأنه فی کل الأحوال بغیر تقیید ، کما یتضح مما یأتی :
کتب : کلمة ، ویصح أن تسمی : «قولا.» وکذلک کل کلمة أخری. کتب علی : کلام ، ویصح أن یسمی : «قولا.» وکذلک کل جملة مفیدة مستقلة بمعناها ، مکونة من کلمتین. - أو أکثر کما سیجیء - قد کتب صباحا : کلم ، ویصح أن یسمی : «قولا.» وکذلک کل ترکیب یشتمل علی ثلاث کلمات فأکثر ، من غیر أن یفید.
ص: 18
کتب علی صباحا : کلم أیضا. ویصح أن یسمی : خ خ کلاما ، أو : قولا. وکذلک کل ترکیب یشتمل علی ثلاث کلمات فأکثر مع الإفادة المستقلة. کتاب علی : یسمی : «قولا.» فقط .. وکذلک کل ترکیب یشتمل علی کلمتین فقط من غیر إفادة.
فالقول منطبق علی کل نوع ، وصادق علی کل فرد من أفراد ذلک النوع ومن غیره. وقد یوضح هذا کلمة أخری مثل : ؛ «معدن» ؛ فإن «المعدن» أنواع کثیرة ؛ منها الذهب ، والفضة ، والنحاس ... فکلمة ؛ «معدن» أعم من کل کلمة من تلک الکلمات عموما مطلقا ، وکل نوع أخص منه خصوصا مطلقا ؛ لأن کلمة «معدن» بالنسبة للذهب - مثلا - تشمله. وتشمل نوعا أو أکثر غیره - کالفضة -. أما الذهب فمقصور علی نوعه الخاص. فالمعدن عام ؛ لأنه یشمل نوعین أو أکثر. والذهب خاص ؛ لأنه لا یشمل إلا نوعا واحدا. و «المعدن» عام عموما مطلقا ؛ لأنه ینطبق دائما علی کل فرد من أفراد نوعیه أو أنواعه وذلک فی کل الحالات.
* * *
(ب) ثم تأتی الموازنة بین «الکلم» و «الکلام» فتدل علی أمرین :
أحدهما : أن «الکلم» و «الکلام» یشترکان معا فی بعض الأنواع التی یصدق علی کل منها أنه : «کلم» وأنه : «کلام» - ؛ فیصح أن نسمیه بهذا أو ذاک ؛ کالعبارات التی تتکون من ثلاث کلمات مفیدة ؛ فإنها نوع صالح لأن یسمی : «کلاما» أو : «کلما». وکالعبارات التی تتکون من أربع کلمات مفیدة ؛ فإنها نوع صالح لأن یسمی : «کلاما» أو : «کلما» وهکذا کل جملة اشتملت علی أکثر من ذلک مع الإفادة المستقلة.
ثانیهما : أن کلا منهما قد یشتمل علی أنواع لا یشتمل علیها الآخر فیصیر أعم من نظیره أنواعا ، وأوسع أفرادا ؛ مثال ذلک : أن «الکلم» وحده یصدق علی کل ترکیب یحوی ثلاث کلمات أو أکثر ، سواء أکانت مفیدة ، مثل : (أنت خیر مرشد) أم غیر مفیدة ، مثل : (لما حضر فی یوم الخمیس) فهو من هذه الناحیة أعم وأشمل من الکلام ؛ لأن الکلام لا ینطبق إلا علی المفید ، فیکون - بسبب هذا - أقل أنواعا وأفرادا ؛ فهو أخص.
لکن «الکلام» - من جهة أخری - ینطبق علی نوع لا ینطبق علیه «الکلم» کالنوع الذی یترکب من کلمتین مفیدتین ؛ مثل : «أنت عالم» وهذا یجعل
ص: 19
الکلام أعم. وأشمل من نظیره ، ویجعل الکلم أخص.
فخلاصة الموازنة بین الاثنین : أنهما یشترکان حینا فی نوع (أی : فی عدد من الأفراد) ، ثم یختص کل واحد منهما بعد ذلک بنوع آخر ینفرد به دون نظیره ؛ فیصیر به أعم وأشمل. فکل منهما أعم وأشمل حینا ، وأخص وأضیق حینا آخر. ویعبر العلماء عن هذا بقولهم : «إن بینهما العموم من وجه ، والخصوص من وجه.» أو : «بینهما العموم والخصوص الوجهی».
یریدون من هذا : أنهما یجتمعان حینا فی بعض الحالات ، وینفرد کل منهما فی الوقت نفسه ببعض حالات أخری یکون فیها أعم من نظیره ، ونظیره أعم منه أیضا ؛ فکلاهما أعم وأخص معا. وإن شئت فقل : إن بینهما العموم من وجه والخصوص من وجه (أی ؛ الوجهی) فیجتمعان فی مثل قد غاب علی ... وینفرد الکلام بمثل : حضر محمود ... وینفرد الکلم بمثل : إن جاء رجل ... فالکلم أعم من جهة المعنی ؛ لأنه یشمل المفید وغیر المفید ، وأخص من جهة اللفظ ؛ لعدم اشتماله علی اللفظ المرکب من کلمتین.
والکلام أعم من جهة اللفظ ؛ لأنه یشمل المرکب من کلمتین فأکثر. وأخص من جهة المعنی ؛ لانه لا یطلق علی غیر المفید.
* * *
(ح) أما موازنة الکلمة بغیرها فتدل علی أنها أخص الأنواع جمیعا.
* * *
شیء آخر یعرض له النحاة بمناسبة : «کلم». یقولون :
إننا حین نسمع کلمة : رجال ، أو : کتب ، أو : أقلام ، أو : غیرها من جموع التکسیر نفهم أمرین :
أولهما : أن هذه الکلمة تدل علی جماعة لا تقل عن ثلاثة ، وقد تزید. ثانیهما : أن لهذا الجمع مفردا نعرفه من اللغة ؛ هو : رجل ، کتاب ، قلم ... وکذلک حین نسمع لفظ : «کلم» نفهم أمرین :
أولهما : أنه یدل علی جماعة من الکلمات ، لا تقل عن ثلاث ، وقد تزید ؛ (لأن «الکلم» فی الأصل یترکب من ثلاث کلمات أو أکثر ؛ فهو من هذه الجهة یشبه الجمع فی الدلالة العددیة ؛ فکلاهما یدل علی ثلاث أو أکثر).
ثانیهما : أن «للکلم» مفردا نعرفه ونصل إلیه بزیادة تاء للتأنیث فی آخره ؛
ص: 20
فیصیر بزیادتها - وموافقة اللغة - دالا علی الواحد ، بعد أن کان دالا علی الجمع ، فتکون : «کلمة» هی مفرد : «الکلم» ؛ مع أنهما متشابهان فی الحروف ، وفی ضبطها ، ولا یختلفان فی شیء ؛ إلا فی زیادة التاء فی آخر : «الکلمة» - بموافقة اللغة -. وهو بسبب هذا یختلف عن الجموع ؛ فلیس بین الجموع ما ینقلب مفردا وینقص معناه من الجمع إلی الواحد من أجل اتصال تاء التأنیث بآخره. ولذلک لا یسمونه جمعا ، وإنما یسمونه : «اسم جنس (1) جمعیّا (2)». ویقولون فی تعریفه : «إنه لفظ معناه معنی الجمع ، وإذا زیدت علی آخره تاء التأنیث - غالبا - صار مفردا». أو هو : «ما یفرق بینه وبین واحده بزیادة تاء التأنیث - غالبا - فی آخره». ومن أمثلته : تفاح وتفاحة - عنب وعنبة - تمر وتمرة - شجر وشجرة - وهذا هو النوع (3) الغالب ، کما أشرنا.
وهناک نوع یفرق بینه وبین مفرده بالیاء المشددة ، مثل : عرب وعربیّ ، جند وجندی ، روم ورومی ، ترک وترکیّ.
وقد یفرق بینه وبین واحده بالتاء فی جمعه ، لا فی مفرده ؛ مثل کمأة ، وکمء» (4).
ص: 21
ولهم فی اسم الجنس الجمعیّ - من ناحیة أنه جمع تکسیر ، أو أنه قسم مستقل بنفسه - آراء متضاربة ومجادلات عنیفة ؛ لا خیر فیها ، وإنما الخیر فی الأخذ بالرأی القائل : إنه جمع تکسیر (1). وهو رأی فیه سداد ، وتیسیر ، ولن یترتب علی الأخذ به مخالفة أصل من أصول اللغة ، أو خروج علی قاعدة من قواعدها ، وأحکامها السلیمة.
هذا من جهة الجمع أو عدمه. بقی الکلام فی المراد من : «اسم الجنس» والمعنی الدقیق له. وفیما یلی إشارة موجزة إلیهما (2) :
إن کلمة مثل کلمة : «حدید» تدل علی معنی خاص ؛ هو : تلک المادة المعروفة ، وذلک العنصر المفهوم لنا. فمن أین جاء لنا فهمه؟ وکیف وصل العقل إلی انتزاع المعنی وإقراره فی باطنه؟
رأینا قطعة من الحدید أول مرة ، ثم قطعة أخری بعد ذلک ، ثم ثالثة ، فرابعة ، فخامسة ، ... ولم نکن نعرف الحدید ، ولا اسمه ، ثم استعملنا تلک القطع فی شئوننا ، وعرفنا بالاستعمال المتکرر بعض خواصها الأساسیة ؛ وإذا رأینا بعد ذلک قطعا من صنفها فإننا نعرفها ، ولا تکون غریبة علی عقولنا ، ونشعر بحاجة إلی اسم نسمی به هذا الصنف ...
فإذا رأینا بعد ذلک قطعة من جنس آخر (أی : من صنف آخر) کالذهب ، ولم نکن استعملناه فی شئوننا - وعرفنا بالاستعمال بعض خواصها الذاتیة ؛ فلا شک أننا سنحتاج إلی اسم یمیز هذا الجنس من سابقه ، بحیث إذا سمعنا الاسم ندرک منه المراد ، ونتصور معناه تصورا عقلیّا من غیر حاجة إلی رؤیة تلک القطع والنماذج ؛ فوضعنا للجنس الأول اسما هو : «الحدید» ، ووضعنا للجنس الثانی اسما یخالفه هو : «الذهب». فالحدید اسم لذلک الجنس (الصنف المعروف) ، وکذلک «الذهب» ، وغیرهما من أسماء الأجناس ... وصرنا بعد ذلک حین نسمع کلمة : «الذهب» أو «الحدید» ندرک المراد منها إدراکا عقلیا بحتا ، فیقفز إلی ذهننا مباشرة مدلولها الخاص ، من غیر ربط - فی الغالب (3) - بینها وبین شیء آخر
ص: 22
من عنصرها ، ومادتها ، أو من غیرهما. وهذا الفهم هو ما یعبر عنه : بأنه «إدراک الماهیة المجردة» أی : «إدراک حقیقة الشیء الذهنیة ، وصورته المرسومة فی العقل وحده». یریدون بذلک : المعنی الذی یفهم من الکلمة فهما عقلیّا مجردا - فی الغالب - أی : بعیدا عن عالم الحسّ ، وعن تخیل النماذج والصور المختلفة المصنوعة منه ، أو غیر المصنوعة ، والتی تساعد فی إیضاح المراد منه (1).
ومثل کلمة : ال «حدید» غیرها من أسماء الأجناس - کما أسلفنا - ومنها : فضة ، رجل ، خشب. طائر ...
ثم إن هذا الجنس (أو : الماهیة المجردة ، والحقیقة الذهنیة البحتة) ثلاثة أنواع ، لکل منها اسم : الأول : اسم الجنس الجمعی (2) ، وقد سبق.
الثانی : اسم الجنس الإفرادی ؛ وهو الذی یصدق علی القلیل والکثیر من الماهیة (أی : من الحقیقة الذهنیة) من غیر اعتبار للقلة أو الکثرة. (مثل : هواء ، ضوء ، دم ، ماء) فکل واحد من هذه وأشباهها یسمی بهذا الاسم ؛ سواء أکان قلیلا أم کثیرا.
والثالث : اسم الجنس الآحادی ؛ وهو : الذی یدل علی الماهیة (أی الحقیقة الذهنیة) ممثلة فی فرد غیر معین من أفرادها ، ولا یمکن تصورها فی العقل إلا بتخیل ذلک الفرد غیر المعهود ، واستحضار صورة له فی الذهن ؛ مثل : أسامة للأسد (3).
* * *
ملاحظة : یردد النحاة وغیرهم من المشتغلین بالعلوم والفنون المختلفة کلمة : «القاعدة» ویذکرونها فی المناسبات المختلفة ، فما تعریفها؟
قالوا : «القاعدة - وجمعها : قواعد - هی فی اللغة : الأساس. وفی الاصطلاح : حکم کلّیّ ینطبق علی جمیع أجزائه وأفراده ؛ لتعرف أحکامها منه).
وعلی الرغم من شیوع هذا التعریف فی مراجعهم ومطولاتهم - عارض بعض النحاة فی کلمة : «حکم» مفضلا علیها کلمة «قضیة» کلیّة بحجة أن القاعدة فی مثل قولنا : «کل فاعل مرفوع» تشمل «المحکوم به» ، و «المحکوم علیه» ،
ص: 23
و «الحکم» ، فلا بدّ أن تشمل أمورا ثلاثة ، ولا تقتصر علی «الحکم».
وقد دفع الاعتراض : بأن الاقتصار علی «الحکم» فی ذلک التعریف الشائع ، مقبول ؛ لأنه نوع من المجاز ، إذ فیه إطلاق الجزء - وهو الحکم - علی القضیة الکلیّة التی هی اسم یجمع المحکوم به ، والمحکوم علیه ، والحکم (1).
ص: 24
الکلام علی أقسام الکلمة الثلاثة : الاسم ، والفعل ، والحرف.
کلمة تدل بذاتها (1) علی شیء محسوس ، - مثل : نحاس ، بیت ، جمل ، نخلة ، عصفورة ، محمد ... - أو شیء غیر محسوس ، یعرف بالعقل ؛ (مثل : شجاعة ، مروءة ، شرف ، نبل ، نبوغ ...) وهو فی الحالتین لا یقترن بزمن (2).
علاماته : أهمها خمسة ، إذا وجدت واحدة منها کانت دلیلا علی أن الکلمة «اسم».
العلامة الأولی : الجر ؛ فإذا رأینا کلمة مجرورة لداع من الدواعی النحویة ، عرفنا أنها اسم ؛ مثل : کنت فی زیادة صدیق کریم. فکلمة : «زیارة» اسم ؛ لأنها مجرورة بحرف الجر «فی» ، وکلمة : «صدیق» اسم ؛ لأنها مجرورة ؛ إذ هی «مضاف إلیه» ، وکلمة : «کریم» اسم ؛ لأنها مجرورة بالتبعیة لما قبلها ؛ فهی نعت لها.
العلامة الثانیة : التنوین ؛ فمن الکلمات ما یقتضی أن یکون فی آخره ضمتان ، أو فتحتان ، أو کسرتان ؛ مثل : جاء حامد - رأیت حامدا -
ص: 25
ذهبت إلی حامد. طار عصفور جمیل - شاهدت عصفورا جمیلا - استمعت إلی عصفور جمیل ... وهذه الکلمات لا تکون إلا أسماء.
وکان الأصل أن تکتب هی وأشباهها کما یکتبها علماء «العروض» هکذا : حامدن - حامدن حامدن. عصفورن جمیلن ... عصفورن جمیلن ... عصفورن جمیلن ... أی : بزیادة نون ساکنة فی آخر الکلمة ؛ تحدث رنینا خاصّا ؛ وتنغیما عند النطق بها. ولهذا یسمونها : «التنوین» أی : التصویت والترنیم ؛ لأنها سببه. ولکنهم عدلوا عن هذا الأصل (1) ، ووضعوا مکان «النون» (2) رمزا مختصرا یغنی عنها ، ویدل - عند النطق به - علی ما کانت تدل غلیه ؛ وهذا الرّمز هو : الضمة الثانیة ، والفتحة الثانیة ، والکسرة الثانیة ... علی حسب الجمل ... ویسمونه : «التنوین» ، کما کانوا یسمون النون السالفة ، واستغنوا بهذا الرمز المختصر عن «النون» ؛ فحذفوها فی الکتابة ، ولکنها لا تزال ملحوظة ینطق بها عند وصل بعض الکلام ببعض ، دون الوقف.
ومما تقدم نعلم : أن التنوین نون ساکنة ، زائدة (3). تلحق آخر الأسماء لفظا ، لا خطا ولا وقفا (4). العلامة الثالثة : أن تکون الکلمة مناداة ، مثل : یا محمد ، ساعد الضعیف. یا فاطمة ، أکرمی أهلک. فنحن ننادی محمدا ، وفاطمة. وکل کلمة ننادیها اسم ، ونداؤها علامة اسمیتها (5).
ص: 26
العلامة الرابعة : أن تکون الکلمة مبدوءة (بأل) (1) مثل : العدل أساس الملک.
العلامة الخامسة : أن تکون الکلمة منسوبا إلیها - أی : إلی مدلولها - حصول شیء ، أو عدم حصوله ، أو مطلوبا منها إحداثه ، مثل : علیّ سافر. محمود لم یسافر. سافر یا سعید. فقد تحدثنا عن خ خ علیّ بشیء نسبناه إلیه. هو : السفر ، وتحدثنا عن خ خ محمود بشیء نسبناه إلیه ؛ هو عدم السفر ، وطلبنا من خ خ سعید السفر. فالحکم بالسفر ، أو بعدمه ، أو بغیرهما ، من کل ما تتم به الفائدة الأساسیة یسمی : إسنادا ، وکذلک الحکم بطلب شیء من إنسان أو غیره ... فالإسناد هو : «إثبات شیء لشیء ، أو نفیه عنه ، أو طلبه منه». هذا ، واللفظ الذی نسب إلی صاحبه فعل شیء أو عدمه أو طلب منه ذلک ، یسمی : «مسندا إلیه» ، أی : منسوبا إلیه الفعل ، أو الترک ، أو طلب منه الأداء. أما الشیء الذی حصل ووقع ، أو لم یحصل ولم یقع ، أو طلب حصوله - فیسمی : «مسندا» ، ولا یکون المسند إلیه إلا اسما. والإسناد هو العلامة (2) التی دلت علی أن المسند إلیه اسم (3).
ص: 27
(ا) تعددت علامات الاسم ، لأن الأسماء متعددة الأنواع ؛ فما یصلح علامة لبعض منها ، لا یصلح لبعض آخر ، کالجر ، فإنه لا یصلح علامة لضمائر الرفع ، کالتاء - ولا یصلح لبعض الظروف ؛ مثل : قطّ : وعوض. وکالتنوین ؛ فإنه یصلح لکثیر من الأسماء المعربة المنصرفة ، ولا یصلح لکثیر من المبنیات. وکالنداء فإنه یصلح وحده للأسماء الملازمة للنداء ؛ مثل : یا فل (أی : یا فلان) ، ویا مکرمان للکریم الجواد ، وغیرهما مما لا یکون إلا منادی. وهکذا اقتضی الأمر تعدد العلامات بتعدد أنواع الأسماء ...
(ب) للاسم علامات أخری ؛ أهمها :
1 - أن یکون مضافا ؛ مثل : تطرب نفسی لسماع الغناء. وقراءة کتب الأدب.
2 - أن یعود علیه الضمیر (1) ، مثل : جاء المحسن. ففی «المحسن» ضمیر. فما مرجعه؟ لا مرجع له إلا «أل» (2) ؛ لأن المعنی : «جاء الذی هو محسن» ولهذا قالوا «أل» هنا : اسم موصول. وکذلک قد فاز المخلص ، وأفلح الأمین.
3 - أن یکون مجموعا. مثل : مفاتیح الحضارة بید علماء ، وهبوا أنفسهم للعلم. فکون الاسم جمعا خاصة من خواص الأسماء.
4 - أن یکون مصغرا ؛ «لأن التصغیر من خواص الأسماء کذلک» مثل : حسین أصغر من أخیه الحسن.
5 - أن یبدل منه اسم صریح ؛ مثل : کیف علیّ؟ أصحیح أم مریض؟ فکلمة : «صحیح» اسم واضح الاسمیة ، وهو بدل من کلمة : «کیف» فدلّ علی أن «کیف» اسم.
ص: 28
6 - أن یکون لفظه موافقا لوزن اسم آخر ، لا خلاف فی اسمیته ؛ کنزال (1) فإنه موافق فی اللفظ لوزن : «حذام» اسم امرأة ، وهو وزن لا خلاف فی أنه مقصور علی الأسماء. ولو لا هذه العلامة لصعب الحکم علی «نزال» بالاسمیة ؛ لصعوبة الاهتداء إلی علامة أخری.
7 - أن یکون معناه موافقا لمعنی لفظ آخر ثابت الاسمیة ؛ مثل : قطّ. عوض. حیث ... فالأولی ظرف یدل علی الزمن الماضی (2) ، والثانیة ظرف یدل علی الزمن المستقبل (3) ، والثالثة بمعنی المکان - فی الأغلب - وبهذه العلامة أمکن الحکم علی الکلمات الثلاث بالاسمیة ؛ إذ یصعب وجود علامة أخری.
(ج) سبق أن من علامات الاسم الإسناد : وقد وضحناه. وبقی أن نقول : إذا أسندت إلی کلمة قاصدا منها لفظها ، وکان لفظها مبنیا - کما لو رأیت کلمة مکتوبة ؛ مثل : «قطف» أو : «من» «أو : ربّ» ، وأردت أن تقول عن لفظها المکتوب ؛ إنه جمیل ، وهو لفظ مبنی فی أصله کما تری - فإنه یجوز أحد أمرین.
أولهما : أن تحکیها بحالة لفظها ، وهو الأکثر ؛ فیکون إعرابها مقدرا ، منع من ظهور علامته حکایة اللفظ علی ما کان علیه أولا ؛ من حرکة ، أو سکون ، فلا یدخل علی آخر الکلمة تغییر (4).
ثانیهما : أن تعربها علی حسب العوامل إعرابا ظاهرا مع التنوین ؛ فتقول : قطف جمیلة - بالرفع والتنوین فی هذا المثال - إلا إن کان فی آخر الکلمة ما یمنع ظهور الحرکة ؛ کوجود ألف مثلا ، کقولک : «علی» حرف جر ، فإنها تعرب بحرکة مقدرة ، وتنون ، ما لم یمنع من تنوینها مانع ؛ کالإضافة (5) ...
وإذا کانت الکلمة ثنائیة. وثانیها حرف لین ، ضاعفته. فتقول فی «لو» : لوّ. وفی کلمة «فی» : فیّ. وفی کلمة «ما» : «ماء». بقلب الألف الثانیة الحادثة من التضعیف همزة ، لامتناع اجتماع ألفین.
ص: 29
ویری بعض النحاة : أن الحرف الثانی الصحیح من الکلمة الثنائیة لا یضاعف إلا إذا صارت الکلمة علما لشیء آخر غیر لفظها ، کأن تسمی شیئا : «بل» أو : «قد» أو : «هل» ... أما إذا بقیت علی معناها الأصلی وقصد إعرابها فلا یضاعف ثانیها ؛ سواء أکان صحیحا مثل : «قد» أم لینا مثل : «لو» (1) ...
- الاسم ثلاثة أقسام :
ظاهر ، مثل کلمة : «محمد» فی : «محمد عاقل» ، ومضمر (2) ، أی : غیر ظاهر فی الکلام ، مع أنه موجود مستتر ، مثل الفاعل فی قولنا : أکرم صدیقک (3) ؛
ص: 30
فإن الفاعل مستتر وجوبا تقدیره : «أنت» ، ومبهم» ، لا یتضح المراد منه ولا یتحدد معناه إلا بشیء آخر ، وهو اسم الإشارة ؛ مثل : هذا نافع ، واسم الموصول ؛ مثل : الذی بنی الهرم مهندس بارع (1).
ص: 31
التنوین الذی یعتبره النحاة علامة علی أن الکلمة اسم - أنواع ؛ أشهرها أربعة ؛ هی : تنوین الأمکنیّة - تنوین التنکیر - تنوین التعویض - تنوین المقابلة ، ولهم فی کل نوع آراء مختلفة ، سنستخلص الرأی السلیم منها :
ولتوضیحه نقول : إن الأسماء أربعة أقسام :
(ا) قسم تتغیر حرکة آخره باختلاف موقعه من الجمل ، ویدخله التنوین فی آخره ؛ مثل : علیّ ، شجرة ، عصفور ، ... تقول : جاء علیّ ، برفع آخره وتنوینه ... رأیت علیّا ؛ بنصب آخره وتنوینه. ذهبت إلی علیّ ، بجر آخره وتنوینه ... وکذلک باقی الأسماء السابقة وما یشبهها. وهذا القسم من الأسماء یسمی : «المعرب المنصرف» (1).
(ب) قسم تتغیر حرکة آخره باختلاف موقعه من الجمل ، ولکنه لا ینوّن ؛ مثل : أحمد ، فاطمة ، عثمان ... تقول : جاء أحمد ، رأیت أحمد ، ذهبت إلی أحمد ... وکذلک باقی الأسماء السالفة ، وما أشبهها : فإنها لا تنون ، مهما اختلفت العوامل (2). وهذا القسم یسمی : «المعرب غیر المنصرف». وله باب
ص: 32
خاص یتضمن أسباب منع الاسم من الصرف (1) ...
(ح) قسم لا تتغیر حرکة آخره بتغیر التراکیب (2). لکن قد یدخله التنوین أحیانا لغرض. وإلیک الإیضاح.
ص: 33
من الأسماء القدیمة : خالویه ، نفطویه ، عمرویه ، سیبویه. وغیرها من أعلام الأشخاص المبنیة علی الکسر - غالبا - المختومة بکلمة : «ویه». فإذا أردت أن تتحدث عن واحد من هذه الأعلام ، وکان معینا معهودا بینک وبین من تخاطبه ، معروفا بهذا الاسم ، لا تختلط صورته فی الذهن بصورة غیره - فإنک تنطق باسمه من غیر تنوین ، وأنت بهذا تتکلم عنه کما تتکلم عن الأعلام الأخری المعربة التی یدل الواحد منها علی فرد خاص بعینه ؛ مثل : محمد ، أو : صالح ، أو : محمود ، أو : غیرهم (1) ...
أما إذا أتیت بالتنوین فی آخر الکلمة فإن المراد یتغیر ؛ إذ تصیر کمن یتحدث عن شخص غیر معین ، لا یتمیز من غیره المشارکین له فی الاسم ، فکأنک تتحدث عن رجل أیّ رجل مسمی بهذا الاسم.
ومن الأمثلة أیضا ما لیس بعلم ، مثل : صه (2) ، إیه (3) ، غاق (4).
وهذه الکلمات المبنیة وأشباهها تکون منونة حینا ، وغیر منونة حینا آخر (5) ، کأن تسمع شخصا یتحدث فی أمر معین لا یرضیک ؛ فتقول له : صه ، (بسکون الهاء من غیر تنوینها). فکأنک تقول له : اسکت عن الکلام فی هذا الأمر الخاص ، ولک أن تتکلم فی أمر آخر إن شئت. أما إذا قلت له : صه (بالتنوین) فمرادک : اترک الکلام مطلقا فی جمیع الموضوعات ؛ لا فی موضوع معین.
ولو قلت له : «إیه» (بالکسر من غیر التنوین) لکان المقصود : زدنی من الحدیث المعین الذی تتکلم فیه الآن. ولا تترکه. أما إذا قلت : «إیه» بالتنوین فإن المراد یکون : زدنی من حدیث أیّ حدیث ؛ سواء أکان ما نحن فیه أم غیره.
ص: 34
کذلک : صاح الغراب غاق (بغیر تنوین) فالمراد أنه یصیح صیاحا خاصّا ، فیه تنغیم ، أو حزن ، أو فزع ، أو إطالة ... أما بالتنوین فمعناه مجرد صیاح.
فعدم التنوین فی الکلمات المبنیة السابقة - وأشباهها - هو الدلیل علی أنک ترید شیئا واحدا معینا ، واضحا فی ذهنک ، معهودا لک ولمخاطبک ؛ سواء أکان ذلک الشیء شخصا أم غیر شخص ، والتنوین هو الرمز الدال علی أنک ترید شیئا غیر معین بذاته ، وإنما هو مختلط بین نظائره المماثلة له ، ولا یتجه ذهنک إلی واحد منها دون غیره. ویسمون الکلمة التی من النوع الأول الخالی من التنوین : «معرفة» (1) ، لأن مدلولها معروف معین. والکلمة التی من النوع الثانی المنوّن : «نکرة» ؛ لأن معناها منکر - أی : شائع - غیر معین وغیر محدد. ویسمون التنوین الذی یدخلها : «تنوین التنکیر» أی : التنوین الذی یدل فی الکلمة المبنیة علی الشیوع وعدم التعیین ؛ ولا یدخل إلا الأسماء المبنیة. فهو : «العلامة التی تدل بوجودها علی أن الکلمة المبنیة نکرة ، وتدل بحذفها علی أنها معرفة».
(د) قسم لا تتغیر حرکة آخره ولا یدخله التنوین ؛ مثل : هؤلاء ... حیث ... کم ... تقول : جاء هؤلاء ، أبصرت هؤلاء ، انتفعت بهؤلاء ... (بالکسر فی کل الحالات ، بغیر تنوین ، فهو مبنی ، وغیر منون).
من التقسیم السابق نعلم أن بعض الأسماء معرب ، وبعضها مبنی ، وأن کل واحد منهما قد یکون منونا ، وقد یکون غیر منون.
والقسم الأول : «ا» وحده هو الذی یجتمع فیه الإعراب والتنوین معا. والنحاة یقررون أن الأصل فی الأسماء أن تکون معربة (2) ومنونة ، وأن الأصل فی الحروف وأکثر الأفعال أن تکون مبنیة وغیر منونة ؛ فکلما ابتعد الاسم عن
ص: 35
مشابهة الحرف والفعل فی البناء وعدم التنوین (1) کان أکثر أصالة فی الاسمیة ، وأشدّ تمکنا.
وبتطبیق هذا علی الأقسام الأربعة السالفة یتبین أن القسم الأول أقواها جمیعا فی الاسمیة ، وأعلاها فی درجتها ؛ لأنه لا یشبههما فی شیء ؛ فهو معرب ؛ أما الحروف وأکثر الأفعال فمبنیة. وهو منون ؛ والتنوین لا یدخل الأفعال ولا الحروف. ثم یلیه فی القوة والأصالة ؛ القسم الثانی : «ب» ؛ لأنه معرب ، والحروف وأکثر الأفعال مبنیة - کما سبق - لکنه یشبه الأفعال والحروف فی عدم التنوین. ثم یلیه القسم الثالث : «ح» وهو أضعف من القسمین السابقین ؛ لبنائه الدائم. ولعدم تنوینه أحیانا. أما الرابع : «د» فهو أضعف الأقسام کلها ، لأنه مبنی دائما ، ولا ینون مطلقا. فاجتمع فی القسم الأول العاملان الدالان علی التباعد وعدم المشابهة ، أما القسم الثانی فلیس فیه إلا عامل واحد ؛ لهذا یسمی القسم الأول : «المتمکن الأمکن» ، أی : القویّ فی الاسمیة ، الذی هو أقوی أصالة فیها ، وأثبت مکانة من غیره. ویسمی التنوین الذی یلحقه : تنوین «الأمکنیة» أو : «الصرف» ویقولون فی تعریفه - «إنه التنوین الذی یلحق آخر الأسماء المعربة المنصرفة ؛ لیدل علی خفتها (2) ، وعلی أنها أمکن ، وأقوی فی الاسمیة من غیرها» کما یسمی القسم الثانی : «المتمکن» فقط. وما عداهما فغیر متمکن.
* * *
، أو العوض
من الدواعی ما یقتضی حذف حرف من کلمة ، أو حذف کلمة کاملة ، أو حذف جملة بتمامها أو أکثر ؛ فیحل التنوین محل المحذوف ، ویکون عوضا عنه. فمن أمثلة - حذف الحرف (2) ما یأتی :
الفعل الثلاثی
بعض المشتقات منه
(اسم الفاعل)
وضع المشتق فی جملة بعد
جمعه جمع تکسیر
الحرف المحذوف
بقی
باقیة
النقود بواق. سأزید علی بواق لا أحزن لمواض
مضی
ماضیة
اللیالی مواض بحوادثها. لا أحزن لمواض
هو الحرف الأخیر من الجمع ،
باکیة
العیون بواک. أسفت لبواک علی ما فات
وهذا الحرف الأخیر أصله الحرف الثالث
ساقیة
هذه سواق. شرب الزرع من من سواق فباضة
الأصلی من الفعل الماضی
نسمی
نامیة
الز روع نوام. سوف أحرص علی نوام من الز روع
رنا (بمعنی نظر)
رانیة
العیون وأن للزهر. عجبت من روان للزهر
فهنا بعض أفعال ثلاثیة ، أصلیة الحروف ، أی : لا یحذف منها حرف فی المشتقات المختلفة إلا لداع قویّ ، لکن الحرف الأخیر من تلک الأفعال قد حذف فی جمع التکسیر ، وحل مکانه التنوین ؛ عوضا عنه ، فالتنوین المشاهد فی آخر کل جمع مما سبق إنما هو تعویض عن الحرف المحذوف. وعند الإعراب نقول : الکلمة مرفوعة بالضمة علی الیاء المحذوفة. ومجرورة بفتحة نیابة عن الکسرة
ص: 37
فوق الیاء المحذوفة. والتنوین الظاهر فی الحالتین عوض عن الیاء المحذوفة (1).
أما حذف کلمة ومجیء التنوین عوضا عنها فیکثر بحذف المضاف إلیه بعد لفظة : «کل» ، أو «بعض (2)» - وما فی حکمهما - ومن أمثلته :
ص: 38
قسمت المال بین المستحقین ؛ فأعطیت کلّا نصیبه ، أی : کل مستحق.
حضرت الضیوف فصافحت کلّا منهم. أی : کل ضیف.
تعجبنی الصحف الیومیة غیر بعض. أی : بعض الصحف.
اعتدل الجو أیام الشتاء إلا بعضا. أی : بعض أیام.
وأما حذف جملة ، أو أکثر ، ومجیء التنوین عوضا عنها فإنه یکثر بعد کلمة «إذ» (1) المضافة ، المسبوقة بکلمة «حین» أو «ساعة» وما أشبههما من ظروف الزمان التی تضاف إلی : «إذ». ویتضح من الأمثلة الآتیة :
جاء الصدیق ، وکنت (حین إذ جاء الصدیق) غائبا - جاء الصدیق وکنت «حینئذ» غائبا.
أکرمتنی ؛ فأثنیت علیک (حین إذ أکرمتنی) - أکرمتنی فأثنیت علیک «حینئذ».
سابقت ، وکان زملاؤک (ساعة إذ سابقت) یرجون لک الفوز - سابقت وکان زملاؤک «ساعتئذ» یرجون لک الفوز.
مشیت فی الحدیقة. وقطفت الزهر. وکنت (ساعة إذ مشیت) وقطفت قریبا منک ، أو : وکنت «ساعتئذ» قریبا منک.
سافر محمود فی القطار ، وجلس یقرأ الصحف. وتکلم مع جاره ، وکنت معه وقت «إذ سافر» ، وجلس یقرأ ویتکلم.
سافر محمود فی القطار ، وجلس یقرأ الصحف ، وتکلم مع جاره. وکنت معه «وقتئذ» ...
ومنه قوله تعالی : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ، یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)
فقد حذفت - فی الأمثلة السالفة جملة أو أکثر بعد : (إذ) مباشرة ،. وجاء التنوین عوضا عن المحذوف. ولما کانت الذال ساکنة ، وکذلک التنوین - حرکنا الذال
ص: 39
بالکسر ؛ لیمکن النطق والتغلب علی اجتماع الساکنین ، ووصلنا کلمة : «إذ» فی الکتابة بما قبلها ، عملا بقواعد رسم الحروف (الإملاء).
مما سبق نعلم أن تنوین العوض هو : ما یجیء بدلا من حرف أصلی حذف ، أو من کلمة ، أو جملة ، أو أکثر ؛ لیحل محل المحذوف ، ویغنی عنه.
ومما یجب التنبه له أن هذا التنوین قسم مستقل ، أثره الخاص هو : «التعویض» فلا یدل بنفسه علی إعراب ولا بناء. ولهذا یدخل فی آخر الأسماء المتمکنة وغیر المتمکنة : أی : یدخل فی آخر الأسماء المعربة والمبنیة.
* * *
إن التنوین حین یلحق آخر الاسم یکون دلیلا علی أن ذلک الاسم قد تمّ ، واستکمل حروفه ، کما فی نحو : محمد مسافر ، أمین مهذب ، حلیم عالم.
لکن أین یذهب التنوین حین تجمع تلک الکلمات جمع مذکر سالما فنقول : المحمدون (1) مسافرون ، الأمینون مهذبون ، الحلیمون عالمون؟ لم لم یبق فی الجمع لیدل علی ما کان یدل علیه فی المفرد؟
یری النحاة أنه قد اختفی ، وحلت محله النون التی فی آخر الجمع. ولما کانت غیر موجودة إلا فی جمع المذکر السالم ، دون الجمع المختوم بالألف والتاء الزائدتین. (جمع المؤنث السالم وملحقاته) - وکلاهما جمع سلامة - کان من الإنصاف أن یزاد التنوین فی الثانی ، لیکون مقابلا للنون فی جمع المذکر السالم ، ویتم التعادل بین الاثنین من هذه الناحیة (2). ویسمونه لذلک ، تنوین المقابلة ؛ ویقولون فی تعریفه :
ص: 40
إنه اللاحق لجمع المؤنث السالم ؛ لیکون فی مقابلة النون فی جمع المذکر السالم.
إلی هنا انته الکلام علی أنواع التنوین الخاصة بالاسم وحده.
وهناک أنواع أخری لیست من علاماته ؛ لأنها مشترکة بینه وبین الفعل ، والحرف ؛ فلا داعی لإثباتها هنا. ولا سیما إذا عرفنا أنها تکاد تکون مقصورة علی الشعر دون النثر. فموضوعها المناسب لها هو : «علم الشعر» المسمی : «علم العروض والقوافی».
ص: 41
(ا) التنوین ساکن ، إلا إن جاء بعده حرف ساکن أیضا ؛ فیتحرک التنوین بالکسر (1) ، وقد یجوز تحریکه بالضم (2) ، مثل : «وقف خطیب استمعت خطبته (خطیبن استمعت خطبته) ، وصاح قائلا افهموا ، (قائلن افهموا). فقد وقعت السین ساکنة ، بعد التنوین ، وکذلک الفاء ؛ فتحرک التنوین بالکسر أو بالضم ، وکلاهما جائز ، والکسر أکثر إلا حین یکون بعد التنوین حرف ساکن بعده حرف مضموم لزوما (3) ؛ مثل : «أقبل عالم اخرج لاستقباله» - فالخاء الساکنة بعد التنوین ولیها حرف مضموم حتما ؛ فیکون الأحسن تحریک التنوین بالضم ، فتقول : «عالمن اخرج» ؛ لثقل الانتقال من الکسر إلی الضم فی النطق. ومثله : «هذه ورقة اکتب فیها». فالکاف الساکنة بعد التنوین جاء بعدها التاء المضمومة ، فکان من الأوفق تحریک التنوین بالضم ؛ لیکون الانتقال من الضم إلی الضم ، وهو أخف فی النطق من الانتقال من الکسر إلی الضمّ. تقول : «هذه ورقتن اکتب فیها». ومن العرب من یجیز حذف التنوین إذا ولیه ساکن. وهذا أسهل اللغات کلها ؛ فیقول : «وقف خطیب اسمع خطبته» ؛ وصاح «قائل افهموا» و «أقبل عالم اخرج لاستقباله» وحبذا الاقتصار علیه بشرط التنبه إلی أن الکلمات التی حذف منها لیست ممنوعة من الصرف (4).
وبهذه المناسبة نقول :
إن هناک مواضع یحذف فیها التنوین وجوبا ، منها :
1 - وجود «أل» ، فی صدر الکلمة المنونة ؛ مثل : جاء رجل ، بالتنوین من غیر «أل» ، وبحذفه وجوبا معها ؛ مثل : جاء الرجل.
2 - أن تضاف الکلمة المنونة ؛ مثل : جاء رجل المروءة.
ص: 42
3 - أن تکون الکلمة المنونة شبیهة بالمضاف (1) ؛ مثل : لا مال لمحمود ، بشرط أن یکون الجار والمجرور صفة ؛ وخبر «لا» النافیة للجنس محذوفا. أی : لا مال لمحمود حاضر. فکأنک تقول : «لا مال محمود حاضر» فتفترض إضافة ملحوظة ، مقدرة ، لغرض یتصل بالمعنی المراد. وقد تفترض أن اللام زائدة ؛ کأنها غیر موجودة بین المضاف والمضاف إلیه وأن الکلام یحوی إضافة ظاهرة .. ومن المستحسن عدم الالتجاء لهذا ، قدر الاستطاعة.
أما إن کان الجار والمجرور هما الخبر فلیس هناک تنوین محذوف. وإنما فتحة بناء فی آخر کلمة : «مال» التی هی اسم «لا» النافیة للجنس.
4 - أن تکون الکلمة ممنوعة من الصرف ؛ مثل : اشتهر «سحبان» بالفصاحة لم أسمع «سحبان» ... ولکن قرأت خطب «سحبان» ...
5 - الوقف علی الکلمة المنونة فی حالة الرفع أو الجر. ومعنی الوقف انتهاء الکلام عند النطق بآخرها. مثل : هذا أمر عجیب - فکّرت فی أمر عجیب ... فإن کانت منصوبة فإن التنوین ینقلب ألفا فی اللغة المشهورة. مثل : شاهدت أمرا ، عند الوقوف علی کلمة : «أمرا» المنونة. وشاهدت أمرا «عجیبا» ؛ عند الوقوف علی کلمة : «عجیبا» المنونة.
6 - أن یکون الاسم المنون علما (2) ، مفردا ، موصوفا ، مباشرة - أی من غیر فاصل - بکلمة : «ابن» أو : «ابنة» وکلتاهما مفردة ، مضافة إلی علم آخر مفرد ، أو غیر مفرد. ولا بد أن تکون البنوة حقیقیة. ولا یشترط فی واحد من العلمین
ص: 43
التذکیر. فمجموع الشروط سبع ؛ إذا تحققت مجتمعة حذف التنوین نطقا وکتابة ، وحذفت همزة الوصل وألفها من «ابن وابنة» کتابة ونطقا ، بشرط ألا تکون إحداهما أول السطر ، ولا خاضعة لضرورة شعریة تقضی بإثباتها ؛ فمثال الحذف : هذا محمد بن هاشم. وهذه هند (1) بنة محمود. وإن اختل شرط من الشروط السبعة لم یحذف التنوین ، ولا ألف «ابن وابنة».
ص: 44
، وأقسامه ، وعلامة کل قسم.
(ا) فهم الطالب. سافر الرحالة. رجع الغائب.
کل کلمة من الکلمات : «فهم» «سافر» «رجع» ، ... تدل بنفسها مباشرة (من غیر حاجة إلی کلمة أخری) ... علی أمرین.
أولهما : معنی ندرکه بالعقل ؛ وهو : الفهم ، أو : السفر ، أو الرجوع ، ویسمی : «الحدث» ،
وثانیهما : زمن حصل فیه ذلک المعنی (أی : ذلک الحدث) وانته قبل النطق بتلک الکلمة ؛ فهو زمن قد فات ، وانقضی قبل الکلام.
(ب) وإذا غیرنا صیغة تلک الکلمات فقلنا : «یفهم». «یسافر». «یرجع» ... دلت الکلمة فی صیغتها الجدیدة علی الأمرین أیضا ؛ المعنی (الحدث) والزمن. ولکن الزمن هنا لم یکن قد فات وانقضی ؛ وإنما هو زمن صالح للحال (1) ، والاستقبال.
(ح) وإذا غیرنا الصیغة مرة أخری فقلنا : «افهم» ، «سافر» ، «ارجع» ... دلت کل واحدة علی الأمرین ؛ المعنی (الحدث) وهو : طلب الفهم ، أو : طلب السفر ، أو : طلب الرجوع. والزمن الذی یتحقق فیه الطلب. والزمن هنا مقصور علی المستقبل وحده ؛ لأن الشیء الذی یطلبه إنسان من آخر لا یحصل ولا یقع إلا بعد الطلب وانتهاء الکلام ؛ أی : لا یقع إلا فی المستقبل ... فکل واحدة من تلک الکلمات وأشباهها تسمی : «فعلا». فالفعل :
کلمة تدل علی أمرین معا ؛ هما : معنی (أی : حدث) وزمن یقترن به (2)
ص: 45
وأقسامه ثلاثة (1) : ماض ، وهو : کلمة تدل علی مجموع أمرین ؛ معنی ، وزمن فات قبل النطق بها. ومن أمثلته قوله تعالی : (تَبارَکَ الَّذِی جَعَلَ فِی السَّماءِ بُرُوجاً ، وَجَعَلَ فِیها سِراجاً ؛ وَقَمَراً مُنِیراً).
ومضارع ، وهو : «کلمة تدل علی أمرین معا : معنی ، وزمن صالح للحال والاستقبال. کقوله تعالی : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، وَمَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ یَتْبَعُها أَذیً ،) ولا بد أن یکون مبدوءا بالهمزة ، أو النون ، أو التاء ، أو الیاء (2) ... وتسمّی هذه الأحرف : «أحرف المضارعة». وفتحها واجب ، إلا فی المضارع الرباعیّ فتضمّ ، وکذا فی : المضارع المبنی للمجهول. أما المضارع : «إخال» فالأفصح کسر همزته لا فتحها.
وأمر ، وهو : کلمة تدل بنفسها علی أمرین مجتمعین : معنی ، وهذا المعنی مطلوب تحقیقه فی زمن مستقبل : کقوله تعالی : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ،) ولا بد فی فعل الأمر أن یدل بنفسه مباشرة علی الطلب من غیر زیادة علی صیغته ؛ فمثل «لتخرج» ، لیس فعل أمر ؛ بل هو فعل مضارع ، مع أنه یدل علی طلب شیء لیحصل فی المستقبل ؛ لأن الدلالة علی الطلب جاءت من لام الأمر التی فی أوله ، لا من صیغة الفعل نفسها (3).
وقد اجتمعت الأفعال الثلاثة فی قوله تعالی : (وَلا تُطِعِ الْکافِرِینَ وَالْمُنافِقِینَ ،
ص: 46
وَدَعْ أَذاهُمْ ، وَتَوَکَّلْ عَلَی اللهِ ، وَکَفی بِاللهِ وَکِیلاً ،) وقول الشاعر :
أحسن إلی الناس تستعبد قلوبهمو
فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولکل قسم من هذه الثلاثة علامات خاصة تمیزه من غیره ؛ فعلامة الماضی : أن یقبل فی آخره إحدی التاءین ؛ «تاء التأنیث الساکنة» (1) مثل : أقبلت سعاد. وصافحت أباها ، أو : «التاء المتحرکة» التی تکون فاعلا ؛ مثل : کلمتک کلاما فرحت به ، (وتکون مبنیة علی الضم للمتکلم ، وعلی الفتح للمخاطب المذکر ، وعلی الکسر للمخاطبة).
ولیس من اللازم أن تکون إحدی التاءین ظاهرة فی آخر الفعل الماضی ؛ بل یکفی أن یکون صالحا لقبولها ، وإن لم تظهر فعلا. مثل : أقبل الطائر ؛ فنزل فوق الشجرة ؛ فکلمة : «أقبل» و «نزل» فعل ماض ، لأنه - مع خلوه من إحدی التاءین - صالح لقبول واحدة منهما : فتقول : أقبلت ... نزلت ... فإن دلت الکلمة علی ما یدل علیه الفعل الماضی ولکنها لم تقبل علامته فلیست بفعل ماض ، وإنما هی : «اسم فعل ماض» (2). مثل : هیهات انتصار الباطل ، بمعنی : بعد جدّا ... ومثل : شتّان المنصف والباغی ؛ بمعنی : افترقا جدّا. أو : هی اسم مشتق بمعنی الماضی ؛ مثل : أنت مکرم أمس ضیفک.
ومما تقدم نعلم أن کلمتی : «نعم» (وهی : کلمة للمدح) «وبئس» (وهی : کلمة للذم) فعلان ماضیان (3) ؛ لقبولهما تاء التأنیث الساکنة ؛ تقول : نعمت شهادة الحق ، وبئست شهادة الزور ، کما نعرف أن «لیس» و «عسی» فعلان ماضیان ؛ لقبولهما التاءین.
ص: 47
(ا) تاء التأنیث التی تلحق الفعل للدلالة علی أن فاعله مؤنث إن کانت ساکنة لحقت بآخر الماضی ، وإن کانت متحرکة اتصلت بأول المضارع ، مثل : هند تصلی وتشکر ربها. أما تاء التأنیث التی تلحق الأسماء فتکون متحرکة ؛ مثل : الکلمة الطیبة کالشجرة الطیبة. عظیمة النفع. وقد تتصل التاء بآخر الحروف ؛ مثل ، (ربّ ، وثمّ ، ولا ...) تقول : ربّت (1) کلمة فتحت باب شقاق ، ثمّت جلبت لصاحبها بلاء ؛ فیندم ولات حین ندم.
(ب) هناک أفعال ماضیة لا تقبل إحدی التاءین بحسب استعمالاتها الحالیة ، لا بحسب حالتها التی قبل هذا ؛ مثل : «أفعل» للتعجب ، و «حبذا» (2) للمدح. ومثل : (عدا ، وخلا ، وحاشا) ، من أفعال الاستثناء. والسبب أن تلک الأفعال حین استعمالها فی الموضوعات المذکورة تصیر أفعالا جامدة ، تلازم حالة واحدة لا تتغیر ؛ کالأمثال العربیة التی تلازم حالة واحدة ، لا یطرأ علی حروفها تغییر بالزیادة ، أو النقص ، أو تغییر الضبط ؛ لهذا لا یمکن زیادة التاء فی آخرها ما دامت تؤدی هذه المعانی ، ولکنها بحسب أصلها السابق علی هذا تقبل التاء.
(ح) یقول النحاة : إن تاء التأنیث الساکنة تظل ساکنة إذا ولیها متحرک ، مثل : حضرت زینب. فإن جاء بعدها ساکن کسرت - غالبا - مراعاة للأصل فی التخلص من التقاء الساکنین ؛ مثل : کتبت البنت المتعلمة. إلا إذا کان الساکن ألف اثنتین فتفتح. مثل : البنتان قالتا إنا فی الحدیقة.
هذا ، وقد عرفنا - فی ص 42 - حکم التنوین إذا جاء بعده حرف ساکن. وبقی حکم عام ؛ هو أن کل حرف ساکن صحیح فی آخر الکلمة فإنه یحرک بالکسر إذا جاء بعده - مباشرة - ساکن آخر ؛ نحو : خذ العفو ، ولا تظلم الناس. إلا فی موضعین ، أحدهما : أن تکون الکلمة الأولی هی : «من» والثانیة : «أل» فإن الساکن الأول یحرک بالفتح ؛ مثل : أنفق من المال الحلال.
ص: 48
والآخر : أن تکون الکلمة الأولی منتهیة بمیم الجمع ؛ فإنه یحرک بالضم ؛ مثل : لکم الخیر.
فإن کان آخر الکلمة الأولی حرف مدّ (1) ، أو واو جماعة ، أو یاء مخاطبة ، حذف نطقا. لا کتابة ؛ للتخلص من التقاء الساکنین ؛ مثل : نحن عرفنا العلوم النافعة - الطلاب سألوا المولی أن یوفقهم - اسألی المولی الهدایة.
ویجوز تلاقی الساکنین فی الوقف ، وعند سرد بعض الألفاظ ، نحو : کاف - لام - جیم - (راجع هذا بمناسبة أخری فی ج 4 عند الکلام علی ما تختص به نون التوکید) ، أما فی غیرهما فیجوز بشرطین :
أحدهما : أن یکون الساکن الأول حرف مدّ (2) ، یلیه حرف مدغم فی نظیره ، (أی : حرف مشدد).
والآخر : أن یکونا فی کلمة واحدة. مثل عامة ، خاصة ، الضّالین ، الصّادون عن الخیر. وهذا متفق علیه. ویری آخرون أن مثله ما هو فی حکم الکلمة الواحدة. علی الوجه المشروح فی مکانه. المناسب من ج 4 ص 139 م 143 باب : نون التوکید. وللمسألة بقیة هامة فی «ح» من ص 88 و 162 و 255.
(د) عرفنا (3) أن کل فعل لا بد أن یدل - فی الغالب - علی شیئین ؛ معنی «حدث» وزمن. فالماضی له أربع حالات من ناحیة الزمن (4) :
الأولی : (وهی الأصل الغالب) أن یتعین معناه فی زمن فات وانقضی - أی : قبل الکلام - سواء أکان انقضاؤه قریبا من وقت الکلام أم بعیدا. وهذا هو الماضی لفظا ومعنی. ولکن إذا سبقته : «قد» (5) - وهی لا تسبقه إلا فی الکلام
ص: 49
المثبت - دلت علی أن انقضاء زمنه قریب من الحال ؛ فمثل : «خرج الصاحبان» یحتمل الماضی القریب والبعید ، بخلاف : «قد خرج الصاحبان ؛ فإن ذلک الاحتمال یمتنع ، ویصیر زمن الماضی قریبا من الحال ؛ بسبب وجود : قد ، وإذا وجدت قبله «ما» النافیة کان معناه منفیا ، وکان زمنه قریبا من الحال ؛ کأن یقول قائل : قد سافر علیّ ، فتجیب : ما سافر علیّ ؛ فکلمة : «قد» أفادته فی الجملة الأولی المثبتة قربا من الزمن الحالی ، وجاءت کلمة : «ما» النافیة فنفت المعنی ، وأفادته القرب من الزمن الحالیّ أیضا ، ولا سیما مع القرینة الحالیة السابقة (1). وکذلک یکون زمنه ماضیا قریبا من الحال إذا کان فعلا ماضیا من أفعال «المقاربة» ؛ (مثل : «کاد») فإن زمنه ماض قریب من الحال ؛ بل شدید القرب من الحال ، لیسایر المعنی المراد - کما سیجیء فی باب أفعال المقاربة -.
الثانیة : أن یتعین معناه فی زمن الحال (أی : وقت الکلام). وذلک إذا قصد به الإنشاء ؛ فیکون ماضی اللفظ دون المعنی ؛ مثل : بعت. واشتریت. ووهبت ، وغیرها من ألفاظ العقود التی یراد بکل لفظ منها إحداث معنی فی الحال. یقارنه فی الوجود الزمنی ، ویحصل معه فی وقت واحد. أو کان من الأفعال الدالة علی «الشروع». مثل : «طفق وشرع» وغیرهما مما سیجیء الکلام علیه فی باب : «أفعال المقاربة»
ص: 50
الثالثة : أن یتعین معناه فی زمن مستقبل (أی : بعد الکلام) ؛ فیکون ماضی اللفظ دون المعنی - کالذی سبق - وذلک إن اقتضی طلبا ؛ نحو : ساعدک الله ، ورفعک الله مکانا علیّا ، وأمثال هذا من عبارات الدعاء.
ومما یفید الطلب : عزمت علیک إلا سافرت ، أو : عزمت علیک لمّا (1) سافرت ؛ بمعنی : أقسمت علیک ترک کل شیء إلا السفر فی المستقبل.
أو تضمن وعدا ؛ مثل : (إِنَّا أَعْطَیْناکَ الْکَوْثَرَ). فالإعطاء سیکون فی المستقبل ؛ لأن الکوثر فی الجنة ، ولم یجیء وقت دخولها.
أو عطف علی ما علم استقباله ، مثل قوله تعالی : (یَقْدُمُ قَوْمَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ، وقوله تعالی : (یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ ...)
أو تضمن رجاء یقع فی المستقبل ، مثل : خ خ عسی وأخواتها من أفعال الرجاء الآتیة فی باب : خ خ أفعال المقاربة ، نحو : «عسی الله أن یأتی بالفتح ...».
أو یکون قبله نفی بکلمة : «لا» المسبوقة بقسم ، مثل : والله لا زرت الخائن ، ولا أکرمت الأثیم.
أو یکون قبله نفی بکلمة «إن» المسبوقة بقسم ، مثل قوله تعالی : (خ خ إِنَّ اللهَ یُمْسِکُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَکَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.) «أی : ما یمسکهما!» (2) ...
أو یکون فعل شرط جازم ، أو جوابه ؛ مثل : إن غاب علی غاب محمود ، لأن جمیع أدوات الشرط الجازمة تجعل زمن الماضی الواقع فعل شرط أو جواب شرط مستقبلا خالصا .... فالفعل الماضی فی کل الحالات السالفة ماضی اللفظ دون المعنی.
الرابعة : أن یصلح معناه لزمن یحتمل المضی والاستقبال ، ویتعین لأحدهما بقرینة وذلک إذا وقع بعد همزة التسویة ؛ نحو : سواء علیّ أقمت أم قعدت.
ص: 51
فهو یحتمل أنک ترید ما وقع فعلا من قیام أو قعود فی زمن فات ، أو ما سیقع فی المستقبل.
ولا فرق فی التسویة بین أن توجد معها «أم» التی للمعادلة ، کما مثل ، وألا توجد ؛ مثل : سواء علیّ أیّ وقت جئتنی. فإن کان الفعل بعد «أم» المعادلة مضارعا مقرونا «بلم» تعین الزمن للمضی بسببها ؛ مثل : سواء علیهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ؛ لأن الثانی ماض معنی ؛ فوجب أن یکون الأول ماضی الزمن کذلک ؛ لأنه معادل له. أو وقع بعد أداة تحضیض ؛ مثل : هلّا ساعدت المحتاج. فإن أردت التوبیخ کان للمضی ، وإن أردت الحث علی المساعدة کان للمستقبل.
أو بعد : «کلّما» ، نحو قوله تعالی : (کُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها کَذَّبُوهُ) فهذا للمضی ؛ لوجود قرینة تدل علی ذلک ، وهی الأخبار القاطعة بحصوله. وقوله تعالی عن أهل النار : (کُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَیْرَها ؛ لِیَذُوقُوا الْعَذابَ). فهذا للمستقبل ؛ لقرینة تدل علی ذلک ؛ وهی أن یوم القیامة لم یجیء.
أو بعد حیث ، نحو : ادخل الهرم من حیث دخل بانیه. فهذا للمضی ؛ لأن الاستقبال یناقض صحة المعنی ؛ إذ لا یعقل أن یدخل بانیه فی المستقبل وقد مات منذ آلاف السنین ... بخلاف : حیث سرت راقب الطریق لتأمن الخطر ؛ فهو للمستقبل.
أو وقع صلة ؛ مثل : الذی أسس القاهرة هو : المعز لدین الله ؛ فهذا للمضی. بخلاف : سیفرح الطلاب عقب ظهور النیتجة غدا بنجاحهم إلا الذی رسب. فهذا للاستقبال لوجود کلمة : «غدا».
أو وقع صفة لنکرة عامة ، نحو : رب عطاء بذلته للمحتاج فانشرحت نفسی. فهذا للمضی ، - لوجود : ربّ (1) - بخلاف قوله علیه السّلام : «نضّر الله امرأ سمع مقالتی فوعاها. فأدّاها کما سمعها». فهذا للاستقبال أی : یسمع ؛ لأنه ترغیب لمن أدرک الرسول فی أن یحفظ ما یسمعه منه ویؤدیه ...
«ملاحظة» : قد یراد من الزمن فی الفعل : «کان» الدوام والاستمرار الذی یعم الأزمنة الثلاثة ، بشرط وجود قرینة تدل علی هذا الشمول ؛ نحو : کان الله غفورا رحیما (2) ...
هذا تفصیل حالات الزمن فی الفعل الماضی.
ص: 52
وأما علامات المضارع فمنها : أن ینصب بناصب ، أو یجزم بجازم ، مثل : لم أقصّر فی أداء الواجب ... ولن أتأخر عن معاونة البائس.
ومنها : قبوله «السین» ، أو : «سوف» (1) فی أوله ، مثل : سأزورک ، أو : سوف أزورک .. و.. (2) ، ومثل قول الشاعر :
سیکثر المال یوما بعد قلّته
ویکتسی العود بعد الیبس بالورق
فإن دلت الکلمة علی ما یدل علیه الفعل المضارع ولکنها لم تقبل علامته فلیست بمضارع ؛ وإنما هی : خ خ اسم فعل مضارع ؛ مثل : «آه» ، بمعنی : أتوجع شدة الوجع ، «وأف» بمعنی : أتضجر کثیرا. و «ویک» ماذا تفعل؟ بمعنی أعجب لک کثیرا!! ماذا تفعل؟ أو : هی اسم مشتق بمعنی المضارع ؛ مثل الطائرة مسافرة الآن أو غدا.
ص: 53
(ا) للمضارع من ناحیة الزمن أربع حالات ؛ لا تتعین حالة منها إلا بشرط ألا تعارضها قرینة تعینها لحالة أخری.
الأولی : أن یصلح للحال والاستقبال إذا لم توجد قرینة تقیده بأحدهما. وتقصره علیه. وحین یصلح للحال والاستقبال یکون اعتباره للحال أرجح ؛ لأن الزمن الماضی له صیغة خاصة تدل علیه ، وللمستقبل صیغة خاصة أیضا ، (هی : الأمر) ، ولیس للحال صیغة تخصّه ، فجعلت دلالته علی الحال أرجح ، عند تجرده من القرائن ؛ جبرا لما فاته من الاختصاص بصیغة مقصورة علیه (کما یقولون). هذا إلی أن اللفظ إن کان صالحا للزمن الأقرب والزمن الأبعد ؛ فالأقرب أولی ، والحال أقرب من المستقبل ؛ فهو أحقّ بالاتجاه إلیه.
فإن کان المضارع من أفعال المقاربة ، مثل : «یکاد» فإنه یکون للزمن المستقبل ، مع شدة قربه من الحال.
الثانیة : أن یتعین زمنه للحال ، وذلک إذا اقترن بکلمة تفید ذلک ؛ مثل : کلمة : الآن ، أو : الساعة ، أو : حالا ، أو : آنفا (1).
أو : وقع خبرا لفعل من أفعال الشروع ؛ مثل : «طفق» ، و «شرع» ، وأخواتهما (2) ؛ لیسایر زمنه معناها.
أو : نفی بالفعل : «لیس» (3) أو بما یشبهها فی المعنی والعمل ؛ مثل الحرف : خ خ إن أو : خ خ ما (4) ... فکل واحد من هذه العوامل التی تعمل عملها یشبهها أیضا فی نفی الزمن الحالی عند الإطلاق (5) ...
ص: 54
مثل : لیس یقوم محمد (1) - ، إن یخرج حلیم - ما یقوم علیّ - أو دخل علیه لام ابتداء ، مثل : إنّ الرجل الحقّ لیحسن عمله.
أو : وقع مع مرفوعه فی موضع نصب علی الحال - فیکون زمنه حالا بالنسبة لزمن عامله ، فی الغالب - ، مثل : أقبل الأخ یضحک. وإذا دخلت «ما المصدریة الظرفیة» علی المضارع کان زمن المصدر (2) المؤول للحال فی الغالب. الثالثة : أن یتعین زمنه للاستقبال ؛ وذلک إذا اقترن بظرف من ظروف المستقبل ؛ مثل «إذا ...» ، سواء أکان الظرف معمولا للمضارع ، أم کان المضارع معمولا للظرف - بأن یکون الظرف مضافا ، والجملة من الفعل المضارع وفاعله هی المضاف إلیه فی محل جر - ؛ مثل : أزورک إذا تزورنی ؛ فالفعلان المضارعان هنا للمستقبل ، والأول منهما هو العامل الذی عمل النصب فی الظرف.
«إذا» (3) و «إذا» مضاف ، وجملة المضارع مع فاعله بعدها فی محل جر مضاف إلیه ، فیکون المضارع الثانی مع فاعله معمولا للظرف. وکذلک یتعین للمستقبل إذا کان مسندا إلی شیء متوقع حصوله فی المستقبل ، مثل : یدخل الشهداء الجنة مع السابقین ؛ إذ لا یعقل أن یکون زمن المضارع للحال ، ومعناه - وهو دخول الجنة - فی المستقبل ؛ لما یترتب علیه من سبق الفعل للفاعل فی الوجود والوقوع ، وهو محال.
أو : سبقته : «هل» (4) ، نحو : هل تقاطع مجالس السوء؟
وکذلک إذا اقتضی طلبا ؛ سواء أکان الطلب یفهم منه وحده ، أم کان بمساعدة أداة أخری ؛ فالأول کقوله تعالی : (وَالْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ). فالله یطلب من الوالدات إرضاع أولادهن ، وهذا لا یکون إلا فی المستقبل ، ومثال الثانی قوله تعالی : (لِیُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ، وقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ..) ، فإن طلب الإنفاق فی : «لینفق» وطلب عدم «المؤاخذة» فی : «لا تؤاخذنا» ، مفهوم من المضارع ، بمساعدة «اللام» و «لا». وزمن المعنی فی الفعلین هو المستقبل. إذ لا یمکن تحقیق ما تطلبه من غیرک وإنفاذه إلا فی المستقبل.
ص: 55
أو : اقتضی وعدا أو وعیدا ، کقوله تعالی : (یُعَذِّبُ مَنْ یَشاءُ ، وَیَغْفِرُ لِمَنْ یَشاءُ) - لما سبق - ، وقول الشاعر :
من یشعل الحرب لا یأمن عواقبها
قد تحرق النار یوما موقد النار
أو : صحب أداة توکید ؛ مثل : «نون التوکید» الخفیفة أو الثقیلة ؛ لأن التوکید یلیق بما لم یحصل ، ویناسب ما لم یقع ؛ نحو : أتکرمن صدیقک؟ وهل تساعدنّ البائس؟
أو : لام القسم عند فریق من النحاة ؛ لأنها فی معنی التوکید ؛ مثل : «والله لعلی عملک تحاسب». ومثلها : «لا» النافیة غیر العاملة عمل : «لیس» عند ذلک الفریق ؛ مثل : لا أترک الصدیق فی مواقف الشدة (1).
ویفهم من کل ما سبق أن الجوازم جمیعها - ما عدا «لم ، ولما» - - تخلصه للاستقبال
أو : أداة رجاء ؛ مثل : لعل الغائب یحضر. أو : أداة شرط وجزاء ، سواء أکانت جازمة ؛ نحو قوله تعالی : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ یَنْصُرْکُمْ ....) أم غیر جازمة ، ومنها «لو» (2) و «کیف» الشّرطیتان (3) ، مثل : ولو یؤاخذ الله الناس بظلمهم لأسرع فی إهلاکهم. ومثل : کیف تصنع أصنع.
أو : «حرف نصب» سواء أکان ظاهرا أم مقدرا. وقد اجتمعا فی قوله تعالی : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
أو : «حرف تنفیس» ، وهو : «السین» و «سوف» ، وکلاهما لا یدخل إلا علی المضارع المثبت ، ویفیده التنفیس ؛ أی : تخلیص المضارع المثبت من الزمن الضیق ، وهو : خ خ زمن الحال ؛ - لأنه محدود - ، إلی الزمن
ص: 56
الواسع غیر المحدود ، وهو : خ خ الاستقبال ، وهما فی هذا سواء ، وردا معا فی معنی واحد ، کقوله تعالی : (کَلَّا سَیَعْلَمُونَ ثُمَّ کَلَّا سَیَعْلَمُونَ) ، وقول الشاعر :
وإنّا سوف نقهر من یعادی
بحدّ البیض تلتهب التهابا
وقول الآخر :
وما حالة إلا سیصرف حالها
إلی حالة أخری ، وسوف تزول
إلا أن «سوف» تستعمل أحیانا أکثر من «السین» حین یکون الزمن المستقبل أوسع امتدادا ؛ فتکون دالة علی : «التّسویف» ثم هی تختص بقبول اللام : کقوله تعالی : (وَلَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی) ، کما تختص بجواز الفصل بینها وبین المضارع الذی تدخل علیه بفعل آخر من أفعال الإلغاء ؛ نحو :
وما أدری ، وسوف - إخال - أدری
أقوم آل حصن أم نساء
والأمران ممتنعان فی «السین» لدی جمهرة النحاة (1) ...
کما أن «السین» تختص بمعنی لا تؤدیه «سوف» ، فالعرب إذا أرادت تکرار الفعل وتأکیده وعدم التنفیس فیه (أی : عدم جعله للمستقبل البعید) أدخلت علیه السین (2) ، ومنه قول الشاعر :
سأشکر عمرا ما تراخت منیتی
أیادی لم تمنن وإن هی جلّت
الرابعة : أن ینصرف زمنه للمضی ؛ وذلک إذا سبقته «لم» (3) ، أو : «لما».
الجازمتین. مثل : قوله تعالی عن نفسه : (لَمْ یَلِدْ ، وَلَمْ یُولَدْ ، وَلَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ ،) وقول الشاعر :
لم یمت من له أثر
وحیاة من السیر
فزمن المضارع هنا ماض. ومثل : لما یحضر ضیفنا. أما فی مثل :
إذا أنت لم تحم القدیم بحادث
من المجد لم ینفعک ما کان من قبل
فزمن المضارعین هنا ماض ، بسبب وقوعهما بعد «لم» قبل مجیء «إذا» الشرطیّة ، ثم صار مستقبلا محضا بعد مجیئها - طبقا لما سلف (4) -.
ص: 57
أو : «إذ» ؛ نحو : أطربنی کلامک ؛ إذ تقول للغنیّ : تصدق ، بمعنی : قلت.
أو : «ربما» (1) ، نحو : فاتنی القطار فتألمت ؛ فأدرکنی صدیق بسیارته ، فوصلنا قبل القطار ؛ فالحمد لله ؛ ربما أکره الأمر وفیه خیری ونفعی ، أی : ربما کرهت. أو : «قد» التی تفید التقلیل بقرینة ؛ کأن تقول لمن حملک علی السفر کرها : قد أسافر مکرها ؛ فماذا علیک لو ترکتنی بعیدا عن المشقة التی صادفتها؟ بخلاف «قد» التی للتکثیر.
أو : وقع المضارع مع مرفوعه خبرا فی باب «کان» وأخواتها الناسخة ، إذا وقع الناسخ فی هذا الباب بصیغة الماضی ، ولم توجد قرینة تصرف زمنه عن المضی إلی زمن آخر ؛ مثل : کان سائق السیارة یترفق برکابها حتی وصلوا ... أی : ترفق. ولا یدخل فی هذا ما عرفناه من النواسخ التی تدل علی خ خ الحال فقط ؛ کأفعال الشروع - مثل : طفق ، وشرع - أو التی تدل علی خ خ الاستقبال فقط ؛ کأفعال الرجاء. وسیجیء البیان فی الباب الخاص بهما وهو : باب خ خ أفعال المقاربة.
* * *
ملاحظة : إذا عطف فعل مضارع (2) علی نظیره فإن الفعل المعطوف یتبع حکم الفعل المعطوف علیه فی أمور ، یتصل منها بموضوعنا : «الزمن» فیکون المعطوف مثله ؛ إما للحال فقط ، أو للمستقبل فقط ، أو للماضی فقط ، أو صالحا للحال والاستقبال ... فکل ذلک یجری فی المضارع المعطوف ؛ تبعا لنظیره المعطوف علیه حتما ؛ لوجوب اتحاد الفعلین المتعاطفین فی الزمان (3). فإذا قلت : أسمع الآن کلامک ؛ وأبصرک ، کان زمن الفعل «أبصر» للحال ، کزمن المعطوف
ص: 58
علیه ؛ وهو أسمع ؛ لوجود کلمة : «الآن» ، التی تقصره علی الحال.
وإذا قلت : إن یعتدل الجو أطرب ، وأخرج للریاضة - فإن الفعل : «أخرج» للمستقبل فقط ؛ لعطفه علی : «أطرب» المقصور علی المستقبل ، لأنه جواب شرط جازم ؛ وزمن الجواب مستقبل ، کما عرفنا.
وإذا قلت ؛ لم تتأخر عن میعادک ، وتؤلم صاحبک .. فإن الفعل : «تؤلم» هو للماضی فقط ، تبعا للمعطوف علیه : «تتأخر» ، الذی جعلته «لم» للزمن الماضی وحده. وإذا قلت : یکتب حامد ویتحرک ، فالفعل المضارع «یتحرک» صالح للحال والاستقبال ، تبعا للفعل : یکتب.
علی أن ما سبق لیس مقصورا علی عطف المضارع علی نظیره ، وإنما یشمل عطف المضارع علی الماضی ؛ کقوله تعالی : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)(1) أی : فأصبحت. وقد یکون المعطوف علیه تابعا فی زمنه للمعطوف ، بسبب قرینة تدعو لذلک ؛ کقول الشاعر :
ولقد أمرّ علی اللئیم یسبّنی
فمضیت ، ثمّت قلت : لا یعنینی
أی : مررت (2).
ص: 59
وأما علامة الأمر فهی : أن یدل بصیغته (1) علی طلب شیء ، مع قبوله یاء المخاطبة. فلا بد من الأمرین معا ؛ أی : أن علامته مزدوجة ؛ مثل : ساعد من یحتاج للمساعدة ، وتکلم بالحق ، واحرص علی إنجاز عملک. وتقول : ساعدی .. وتکلمی ... واحرصی ... ومن الأمثلة قوله تعالی للرسول الکریم : (خذ العفو (2) ، وأمر بالعرف (3) ، وأعرض عن الجاهلین) - وتقول : خذی ... - وأمری ... - وأعرضی ...
ومن فعل الأمر کلمة : «هات» و : «تعال» لقبولهما علامته. تقول : هاتی یا شاعرة ما نظمت ، وتعالی نقرؤه.
فإن دلت الکلمة علی ما یدل علیه فعل الأمر ولکنها لم تقبل علامته فلیست بفعل أمر ؛ وإنما هی : خ خ اسم فعل أمر ؛ مثل : «صه» ، بمعنی : اسکت. و «مه» بمعنی : اترک ما أنت فیه الآن ، و «نزال» بمعنی : انزل. و «حیّهل» بمعنی : أقبل علینا.
وهناک علامتان مشترکتان (4) بین المضارع والأمر.
الأولی : نون التوکید خفیفة وثقیلة ، فی نحو ؛ والله لأجتهدن. واجتهدنّ یا صدیقی ... بتشدید النون أو تخفیفها فی کل فعل.
الثانیة : یاء المخاطبة ، مثل : أنت یا زمیلتی تحسنین أداء الواجب ، ومؤاساة المحتاجین ؛ فداومی علی ذلک. فقد اتصلت یاء المخاطبة بآخر المضارع ؛ وهو : «تحسنین» وآخر الأمر ؛ وهو : داومی ...
ص: 60
زمن الأمر مستقبل (1) فی أکثر حالاته ؛ لأنه مطلوب به حصول ما لم یحصل ، أو دوام ما هو حاصل. فمثال الأول : سافر زمن الصیف إلی الشواطیء (2). ومثال الثانی قوله تعالی : (یا أَیُّهَا النَّبِیُّ اتَّقِ اللهَ ...) لأن النبی لا یترک التقوی مطلقا. فإذا أمر بها کان المراد الاستمرار علیها.
وقد یکون الزمن فی الأمر للماضی إذا أرید من الأمر الخبر ، کأن یصف جندی بعد الحرب موقعة شارک فیها ، ؛ فیقول : صرعت کثیرا من الأعداء. فتجیبه : «اقتل ولا لوم علیک ... وافتک بهم ؛ فإن الله معک» ... فالأمر هنا بمعنی : قتلت وفتکت ... والمعوّل علیه فی ذلک هو : القرائن ، فلها الاعتبار الأول دائما فی هذه المسألة ، وغیرها.
ص: 61
من ، فی ، علی ، لم ، إن ، إنّ ، حتی ...
لا تدل کلمة من الکلمات السابقة علی معنی ، أیّ معنی ، ما دامت منفردة بنفسها. لکن إذا وضعت فی کلام ظهر لها معنی لم یکن من قبل ، مثال ذلک : (سافرت «من» القاهرة) ... فهذه جملة ؛ المراد منها : الإخبار بوقوع سفری ،
ص: 62
وأنه یبتدیء من القاهرة. فکأنی أقول : سافرت ، وکانت نقطة البدء فی السفر هی : «القاهرة» ، فکلمة : «من» أفادت الآن معنی جدیدا ظهر علی ما بعدها وهذا المعنی هو : خ خ الابتداء ، لم یفهم ولم یحدد إلا بوضعها فی جملة ؛ فلهذه الجملة الفضل فی إظهار معنی : «من».
ولو قلت : سافرت من القاهرة «إلی» العراق - لصار معنی هذه الجملة : الإخبار بسفری الذی ابتداؤه القاهرة ، ونهایته العراق. فکلمة : «إلی» أفادت معنی ظهر هنا علی ما بعدها ؛ وهذا المعنی هو : خ خ الانتهاء. ولم یظهر وهی منفردة ، وإنما ظهر بعد وضعها فی جملة ؛ کانت السبب فی إظهاره.
وکذلک : حضرت من البیت إلی النهر ؛ فقد أفادت الجملة کلها الإخبار بحضوری ، وأن أول هذا الحضور وابتداءه : «البیت» ، وأن نهایته وآخره : «النهر». فأفادت : «إلی» الانتهاء ، وصبّته علی ما بعدها. وهذا الانتهاء لم یفهم منها إلا بسبب الترکیب الذی وضعت فیه.
ولو قلت : الطلبة فی الغرفة - لکان المعنی ؛ أن الطلبة تحویهم الغرفة ؛ کما یحوی الإناء بعض الأشیاء ، وکما یحوی الظرف المظروف ، أی : کما یحوی الوعاء أو الغلاف ما یوضع فی داخله. فمعنی کلمة : «فی» هو خ خ الظرف ، أو : خ خ الظرفیة ، وهذا المعنی لم یفهم من لفظة : «فی» وحدها ، وإنما عرف منها بعد أن احتواها الترکیب ، فظهر علی ما بعدها ... وهکذا بقیة أحرف الجر ، وغیرها من أکثر الأنواع الأخری المختلفة ؛ کحروف النفی ، والاستفهام ، وسواها ... فالحرف : «کلمة لا تدل علی معنی فی نفسها ، وإنما تدل علی معنی فی غیرها فقط - بعد وضعها فی جملة - دلالة خالیة من الزمن» (1).
ص: 63
من کل ما سبق نعلم : أن الاسم وحده - من غیر کلمة أخری معه - ، یدل علی معنی جزئی فی نفسه ، دلالة لا تقترن بزمن. وأن الفعل وحده یدل علی معنی جزئی مقترن بزمن. وأن الحرف وحده لا یدل علی شیء منهما ما دام منفردا ، فإذا دخل جملة دل علی معنی فی غیره ، ولم یدل علی زمن (1).
ص: 64
(ا) عند ما ینکشف معنی الحرف الأصلی بسبب وضعه فی جملة ، ویظهر المراد منه ، فإن ذلک المعنی ینصبّ علی ما بعد الحرف ، ویترکز فیه ؛ سواء أکان ما بعد الحرف الأصلی مفردا أم جملة ، فالابتداء فی : «من» ، والانتهاء فی : «إلی» ، یتحقق فی الکلمة التی جاءت بعد کل منهما ، وکذلک الظرفیة ، والاستعلاء ... وإذا قلنا : ما جاء أحد ... - هل غاب أحد؟ فإن النفی والاستفهام ینصبّان علی کل مضمون الجملة التی بعده ... وهکذا ...
أمّا الحروف الزائدة - ومنها بعض حروف الجر ؛ کالباء - فإنها تفید توکید المعنی فی الجملة کلها ، لأن زیادة الحرف تعتبر بمنزلة إعادة الجملة کلها ، وتفید ما یفیده تکرارها بدونه (1) سواء أکان الحرف الزائد فی أولها ، أم فی وسطها ، أم فی آخرها ؛ مثل : بحسبک الأدب ، وأصلها : حسبک الأدب ، أی : یکفیک ، أو : کافیک ، فالباء داخلة علی المبتدأ ، کدخولها علیه وهو ضمیر فی نحو : کیف بک؟ (وأصلها ... کیف أنت؟) (2) وکدخولها علیه بعد «إذا الفجائیة» فی نحو : رجع المسافر ؛ فإذا بالأصدقاء فی استقباله.
وکدخولها علی الفاعل فی مثل : کفی بالله شهیدا ، وأصلها : کفی الله شهیدا. وعلی الخبر فی مثل : الأدب بحسبک ... فالباء مع تقدمها أو توسطها أو تأخرها قد أکدت معنی الجملة کلها.
هذا ، والحرف الزائد قد یعمل ؛ کباء الجر ، أو لا یعمل مثل : «ما» الزائدة ، فی مثل : إذا ما المجد نادانا أجبنا ... وهناک الشبیه بالزائد یعمل ، وینحصر فی بعض حروف الجر ؛ کربّ ، ولعلّ ، الجارتین ... و «لو لا» علی اعتبارها جارّة. وحرف الجر الزائد والشبیه به لا یتعلقان (3) ، إلا أن الزائد «کالباء» یزاد لتوکید المعنی الموجود. أمّا «رب» فتفید معنی التقلیل أو التکثیر ، «ولعل» تفید الرجاء ... فهما - کغیرهما من الشبیه بالزائد - یفیدان معنی جدیدا یطرأ علی الجملة ؛ لا تقویة المعنی الموجود قبل مجیئهما. وکذا «لو لا» فإنها تفید الامتناع ؛ وهو معنی جدید یطرأ علی الجملة.
ص: 65
(ب) الحروف نوعان ، نوع یسمی «العامل» ؛ لأنه یعمل الجر ، أو النصب ، أو الجزم ؛ کحروف الجر ، وحروف النصب ، وحروف الجزم ، - ونوع آخر یسمی : «المهمل» ؛ لأنه لا یعمل شیئا مما سبق ، مثل بعض أدوات الاستفهام والجواب. ، ومنها : هل - نعم - لا ... ومثل : التنوین (1)
وبعض النحاة یسمی حروف الجر : «حروف الإضافة» لأنها تضیف إلی الأسماء معانی (2) الأفعال وشبهها من کل ما تتعلق به تلک الحروف.
(ح) الحروف إما آحادیة ، أو ثنائیة ، أو ثلاثیة ؛ کبعض حروف الجرّ (الباء - فی - إلی ...)
وإما رباعیة ؛ مثل : «لعلّ» ولا تزید علی خمسة ؛ مثل : «لکنّ» فی الرأی الأصح الذی یعتبرها غیر مرکبة ، وأنها مشددة النون ، ثابته الألف بعد اللام نطقا - کما سبق (3) -
ص: 66
معنی المصطلحات السابقة
(ا) طلع الهلال شاهد الناس الهلال فرح القوم بالهلال.
(ب) یکثر الندی شتاء. یمتص النبات الندی. یرتوی بعض النبات بالندی.
(ح) زاد هؤلاء علما. سمعت هؤلاء یتکلمون. أصغیت إلی هؤلاء.
نلحظ فی أمثلة القسم الأول (ا) أن کلمة : «الهلال» قد اختلفت العلامة التی فی آخرها ؛ فمرة کانت تلک العلامة ضمة ، ومرة کانت فتحة ، ومرة کانت کسرة ، فما سبب هذا الاختلاف؟
سببه وجود داع متغیر فی کل جملة ، یحتاج إلی کلمة : «الهلال» ؛ لتؤدی معنی معینا فی الجملة. وهذا المعنی یختلف باختلاف الدواعی فی الجمل ، ویرمز إلیه فی کل حالة بعلامة خاصة فی آخر الکلمة ، ففی الجملة الأولی کانت کلمة : «الهلال» مرفوعة ؛ لوجود الداعی الذی یحتاج إلیها ، وهو الفعل : «طلع» فإنه یتطلب فاعلا. والفاعل یرمز له بعلامة فی آخره ، هی : الضمة - مثلا - فیکون مرفوعا.
وفی الجملة الثانیة کانت کلمة : «الهلال» منصوبة ؛ لوجود داع من نوع آخر ؛ هو الفعل : «شاهد» ؛ فإنه لا یحتاج إلی فاعل ، لوجود فاعله معه - وهو کلمة : الناس - ولکنه یحتاج إلی بیان الشیء الذی وقع علیه فعل الفاعل ، وهو ما یسمی فی النحو : «المفعول به» ؛ والمفعول به یرمز إلیه بعلامة خاصة فی آخره هی : «الفتحة» ، - مثلا - فیکون منصوبا.
وفی الجملة الثالثة کانت کلمة «الهلال» مجرورة ، لوجود داع یخالف السابقین ، وهو : الباء ، فإنها تحتاج إلی تلک الکلمة لتکون مجرورة بها ، فیزداد الفعل بهما وضوحا ، وعلامة جرها الکسرة هنا.
ص: 67
فنحن نری أن الدواعی تغیرت فی الجمل الثلاث السالفة علی حسب المعانی المطلوبة ، من فاعلیة ، ومفعولیة ، وتکملة أخری للفعل ... وتبعها فی کل حالة تغیّر العلامة التی فی آخر کلمة : «الهلال». فتغیر العلامة علی الوجه السالف یسمی : «الإعراب» ، والداعی الذی أوجده یسمی : «العامل» (1).
ص: 68
فالإعراب : (هو تغیّر العلامة التی فی آخر اللفظ ، بسبب تغیر العوامل الداخلة علیه ، وما یقتضیه کل عامل) (1).
وفائدته : أنه رمز إلی معنی معین دون غیره - کالفاعلیة ، والمفعولیة ، وغیرهما - ولولاه لاختلطت المعانی ، والتبست ، ولم یفترق بعضها من بعض. وهو - مع هذه المزیة الکبری - موجز غایة الإیجاز ، لا یعادله فی إیجازه واختصاره شیء آخر یدلّ دلالته علی المعنی المعین الذی یرمز له (2). وهذه مزیة أخری.
والمعرب : هو اللفظ الذی یدخله الإعراب (3) (أی ، التّغیر الذی وصفناه) والعامل هو : ما یؤثر فی اللفظ تأثیرا ینشأ عنه علامة إعرابیة ترمز إلی معنی خاص ؛ کالفاعلیة ، أو المفعولیة ، أو غیرهما. ولا فرق بین أن تکون تلک العلامة ظاهرة کأمثلة : «ا» أو مقدرة. کأمثلة : «ب» فإن الدلیل علی إعرابها وهی مفردة أن علامة آخرها تتغیر عند التثنیة والجمع ، فتقول : تراکم النّدیان ، وامتص النبات النّدیین ، وارتوی من الندیین (4).
ص: 69
أما أمثلة القسم الثالث «ح» ففیها کلمة : «هؤلاء» لم تتغیر علامة آخرها بتغیر العوامل ؛ بل بقیت ثابتة فی الجمل کلها. فهذا الثبات وعدم التغیر یسمی : بناء ؛ وهو : «لزوم آخر اللفظ علامة واحدة فی کل أحواله ، مهما تغیرت العوامل».
والمبنی هو : اللفظ الذی دخله البناء.
هذا ، وقد عرفنا (1) أن المعرب المنصرف (أی : المنون) ، یسمی : «متمکنا أمکن» ، وأن غیر المنصرف یسمی : «متمکنا» فقط ، وأن المبنی یسمی : «غیر متمکن». ولا توصف الکلمة بإعراب أو بناء إلا بعد إدخالها فی جملة (2).
ص: 70
(1) من الأسماء ، والأفعال ، والحروف.
(أی : من أقسام الکلمة الثلاثة)
أولا : الحروف کلها مبنیة ؛ لأن الحرف وحده لا یؤدی معنی فی نفسه ، وإنما یدل علی معنی فی غیره ، بعد وضعه فی جملة - کما سبق (2) -. وإذا لا ینسب إلیه أنه فعل فعلا ، أو وقع علیه فعل ؛ فلا یکون بنفسه فاعلا ، ولا مفعولا به ، ولا متمما وحده للمعنی (أی : لا یکون مسندا إلیه ولا مسندا ، ولا شیئا یتصل بذلک). لعدم الفائدة من الإسناد فی کل حالة (3) ،
ونتیجة ما سبق أنه لا یدخله الإعراب ؛ لعدم حاجته إلیه ؛ لأن الحاجة إلی الإعراب توجد حیث توجد المعانی الترکیبیة الأساسیة ، والحرف وحده لا یؤدی معنی قط. ولکنه إذا وضع فی ترکیب فإنه یؤدی فی غیره بعض المعانی الجزئیة (الفردیة) بالطریقة المفصّلة التی أشرنا إلیها عند الکلام علیه ؛ کالابتداء ، والتبعیض ، وغیرهما مما تؤدیه کلمة : «من». أو الظرفیة ، والسببیة ، وغیرهما مما تؤدیه کلمة : «فی» - فهذه المعانی الجزئیة تعتور الحرف ، وتتعاقب علیه ، ولکن لا یکون التمییز بینها بالإعراب ، وإنما یکون بالقرائن المعنویة التی تتضمنها الجملة.
* * *
ثانیا : الأسماء یناسبها الإعراب وهو أصل فیها ، لأن الاسم یدل بذاته علی معنی مستقل به - کما سبق (4) - فهو یدل علی مسمی ؛ (أی : علی شیء محسوس أو معقول ، سمیناه بذلک الاسم) وهذا المسمی قد یسند إلیه فعل ، فیکون فاعلا له ، وقد یقع علیه فعل ، فیکون - مفعولا به. وقد یتحمل معنی آخر
ص: 71
غیر الفاعلیة والمفعولیة ، ویدل علیه بنفسه ... وکل واحد من تلک المعانی یقتضی علامة خاصة به فی آخر الکلمة ، ورمزا معینا یدل علیه وحده ، ویمیزه من المعانی الأخری ؛ فلا بد أن تتغیر العلامة فی آخر الاسم ؛ تبعا لتغیر المعانی والأسباب ، وأن یستحق ما نسمیه : «الإعراب» للدلالة علی تلک المعانی المتباینة ، التی تتوالی علیه بتوالی العوامل المختلفة - کما شرحنا من قبل (1) -.
وقلیل من الأسماء مبنیّ (2). وأشهر المبنی منها عشرة أنواع (لکل نوع أحکامه التفصیلیة فی بابه) وهی :
1- الضمائر ، سواء أکان الضمیر موضوعا علی حرف هجائی واحد ، أم علی حرفین ، أم علی أکثر ، مثل : انتصرت ؛ ففرحنا ، ونحن بک معجبون.
2 ، 3- أسماء الشرط ، وأسماء الاستفهام ؛ بشرط ألا یکون أحدهما مضافا لمفرد ؛ مثل : أین توجد أکرمک. أین أراک؟ بخلاف : أیّ خیر تعمله ینفعک. أیّ یوم تسافر فیه؟ لإضافة «أیّ» الشرطیة والاستفهامیة فی المثالین لمفرد ، فهما معه معربتان (3).
4- أسماء الإشارة التی لیست مثناة ؛ نحو : هذا کریم ، وتلک محسنة. بخلاف : «هذان کریمان ، وهاتان محسنتان». فهما معربان عند التثنیة ؛ علی الصحیح.
5- أسماء الموصول غیر المثناة ، والأسماء الأخری التی تحتاج بعدها - وجوبا - إلی جملة أو شبهها ؛ تکمل معناها ، ولا تستغنی عنها بحال. فمثال الموصول : جاء الذی یقول الحق. وسافر الذی عندک ، أو الذی فی ضیافتک.
ومن الأسماء الأخری التی لیست موصولة ولکنها تحتاج - وجوبا - بعدها إلی جملة : «إذا» الشرطیة الظرفیة ؛ نحو : إذا تعلمت ارتفع شأنک ، فلو قلت : جاء الذی ... فقط ، أو : إذا ... فقط ، لم یتم المعنی ، ولم تحصل الفائدة.
ص: 72
بخلاف جاء اللذان غابا ، وحضرت اللتان سافرتا. فالموصول معرب - علی الصحیح - لأنه مثنی.
6- الأسماء التی تسمی : «أسماء الأفعال» (1) وهی : التی تنوب عن الفعل فی معناه وفی عمله وزمنه ، ولا تدخل علیها عوامل تؤثر فیها. مثل : هیهات القمر : بمعنی بعد جدّا ، وأفّ من المهمل ، بمعنی أتضجّر جدا ، وآمین یا رب ، بمعنی : استجب. فقد دلت کل کلمة من الثلاث علی معنی الفعل ، ولا یمکن أن یدخل علیها عامل قبلها یؤثر فیها بالرفع ، أو النصب ، أو الجر ... بخلاف : سیرا تحت رایة الوطن ، سماعا نصیحة الوالد ، إکراما للضیف. فإن هذه الکلمات [سیرا ، وسماعا ، وإکراما ، وأشباهها] تؤدی معنی فعلها تماما ، ولکن العوامل قد تدخل علیها فتؤثر فیها ؛ فتقول : سرنی سیرک تحت رایة الوطن ، مدحت سیرک تحت رایة الوطن. طربت لسیرک ... وکذا الباقی ؛ ولذلک کانت معربة.
7- الأسماء المرکبة ؛ ومنها بعض الأعداد ؛ مثل : أحد عشر ... إلی تسعة عشر ؛ فإنها مبنیة دائما علی فتح الجزأین. ما عدا اثنی عشر ، واثنتی عشرة ؛ فإنهما یعربان إعراب المثنی (2).
8- اسم «لا» النافیة للجنس (3) - أحیانا - فی نحو : لا نافع مکروه.
9- المنادی ؛ إذا کان : مفردا ، علما ، أو نکرة مقصودة ، مثل : یا حامد ، ساعد زمیلک ، ویا زمیل اشکر صدیقک.
10- بعض متفرقات أخری ؛ مثل : «کم» ، وبعض الظروف ؛ مثل : «حیث» والعلم المختوم بکلمة : «ویه» ، وما کان علی وزن «فعال» - فی رأی قویّ - مثل : حذام ، وقطام ... (وکلاهما اسم امرأة). وکذلک أسماء الأصوات المحکیة مثل : «قاق» ، و «غاق» ، فی نحو : صاحت الدجاجة قاق ، ونعب الغراب غاق (4) ...
ص: 73
ملاحظة : یجب الإعراب والتنوین فی کل اسم أصله مفرد مبنیّ ، ثم سمی به ، کما لو سمینا رجلا بکلمة : «أمس» المبنیة علی الکسر فی لغة الحجازیین - أو بکلمة «غاق» التی هی فی أصلها اسم لصوت الغراب (1) ...
* * *
ثالثا : الأفعال. منها المبنی دائما ، وهو : الماضی والأمر. ومنها المبنی حینا والمعرب أحیانا وهو : المضارع.
وأحوال بناء الماضی ثلاثة :
1- یبنی علی الفتح فی آخره إذا لم یتصل به شیء ، مثل : صافح ، محمد ضیفه ، ورحّب به. وکذلک یبنی علی الفتح إذا اتصلت به تاء التأنیث الساکنة ، أو ألف الاثنین ، مثل : قالت فاطمة الحق. والشاهدان قالا ما عرفا.
والفتح فی الأمثلة السابقة ظاهر. وقد یکون مقدرا إذا کان الماضی معتل الآخر بالألف ، مثل : دعا العابد ربه.
2- یبنی علی السکون فی آخره إذا اتصلت به «التاء» المتحرکة التی هی ضمیر «فاعل» ، أو : «نا» التی هی ضمیر فاعل ، أو «نون النسوة» التی هی کذلک. مثل أکرمت الصدیق ، وفرحت به. ومثل : خرجنا فی رحلة طیبة رکبنا فیها السیارة ، أما الطالبات فقد رکبن القطار.
3- یبنی علی الضم فی آخره إذا اتصلت به واو الجماعة ، مثل الرجال خرجوا لأعمالهم.
وأحوال بناء الأمر أربعة :
1- یبنی علی السکون فی آخره إذا لم یتصل به شیء ؛ مثل : اعمل لدنیاک ولآخرتک. وصاحب أهل المروءات. أو : اتصلت به نون النسوة ، مثل : اسمعن یا زمیلاتی (2) ...
ص: 74
2- یبنی علی فتح آخره إذا اتصلت به نون التوکید الخفیفة ؛ مثل : صاحبن کریم الأخلاق. أو الثقیلة ؛ مثل : اهجرنّ السفیه (1) ...
3- یبنی علی حذف حرف العلة إن کان آخره معتلا ؛ مثل : اسع فی الخیر دائما ، وادع الناس إلیه ، واقض بینهم بالحق. [فاسع : فعل أمر مبنی علی حذف الألف ، لأن أصله : «اسعی» (2). وادع : فعل أمر مبنی علی حذف الواو ؛ لأن أصله : «ادعو». واقض : فعل أمر ، مبنی علی حذف الیاء لأن أصله : «اقضی]». وعند تأکید فعل الأمر بالنون یبقی حرف العلة الواو ، أو الیاء ، ویتعین بناء الأمر علی الفتحة الظاهرة علی الحرفین السالفین ، فإن کان حرف العلة ألفا وجب قلبها یاء تظهر علیها فتحة البناء ؛ لأن الأمر یکون مبنیا علی هذه الفتحة ؛ نحو : اسعین فی الخیر ، وادعون له ، واقضین بالحق.
4- یبنی علی حذف النون إذا اتصل بآخره ألف الاثنین ؛ مثل : اخرجا ، أو واو جماعة ، مثل : اخرجوا ، أو یاء مخاطبة ؛ مثل : اخرجی. فکل واحد من هذه الثلاثة فعل أمر ، مبنی علی حذف النون ، والضمیر فاعل (وهو ألف الاثنین ، أو واو الجماعة ، أو یاء المخاطبة). ومن الأمثلة قوله تعالی لموسی وفرعون : (اذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی ،) وقوله : (فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) - وقول الشاعر :
یا دار عبلة بالجواء تکلمی
وعمی (3) صباحا - دار
عبلة - واسلمی
وأما المضارع فیکون معربا إذا لم یتصل آخره بنون التوکید ، أو نون النسوة. ومن الأمثلة - (إِنَّ اللهَ لا یَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ) إن تخلص فی عملک تنفع وطنک. فإن اتصل بآخره اتصالا مباشرا نون التوکید الخفیفة أو الثقیلة بنی علی الفتح (4) مثل : والله لأقومن بالواجب. ولأعملنّ ما فیه الخیر ، وقول الشاعر :
ص: 75
لا تأخذنّ من الأمور بظاهر
إن الظّواهر تخدع الرّاءینا
فإن کان الاتصال غیر مباشر ؛ بأن فصل بین نون التوکید والمضارع فاصل ظاهر ؛ کألف الاثنین ، أو مقدر ؛ کواو الجماعة ، أو یاء المخاطبة - فإنه یکون معربا ... فمثال ألف الاثنین (ولا تکون إلا ظاهرة) ماذا تعرف عن الصانعین ، أیقومانّ بعملهما؟ ومثال واو الجماعة المقدرة : هؤلاء الصانعون أیقومنّ بعملهم؟ ومثال یاء المخاطبة المقدرة : أتقومنّ بعملک یا سمیرة؟
وإن اتصلت به نون النسوة فإنه یبنی علی السکون (1) ؛ مثل : إن الأمهات یبذلن ما یقدرن علیه لراحة الأبناء. ولا یکون اتصالها به إلا مباشرا (2).
فللمضارع حالتان ؛ الأولی : الإعراب ؛ بشرط ألا یتصل بآخره - مباشرة - نون التوکید الخفیفة أو الثقیلة ، أو نون النسوة.
والثانیة : البناء : إما علی الفتح إذا اتصلت بآخره - مباشرة - نون التوکید. وإما علی السکون إذا اتصلت بآخره نون النسوة (3).
وإذا کان المضارع مبنیا لاتصاله بإحدی النونین وسبقه ناصب أو جازم وجب أن یکون مبنیّا فی محل نصب أو جزم ، أی أنه یکون مبنیا فی اللفظ ، معربا فی المحل. ولهذا أثر إعرابیّ یجب مراعاته. ففی التوابع - مثلا - کالعطف ، إذا عطف مضارع علی المضارع المبنی المسبوق بناصب أو جازم وجب فی المضارع المعطوف
ص: 76
صورۀ
ص: 77
ص: 78
أن یتبع محل المعطوف علیه فی النصب أو الجزم. وکذلک المضارع المبنی إن کان معطوفا علیه ؛ فإنه یکون مبنیّا فی محل رفع - فی الرأی المشهور (1) الذی سبقت الإشارة إلیه
ص: 79
(ا) الإعراب المحلیّ والتقدیریّ.
یتردد علی ألسنة المعربین أن یقولوا فی المبنیات ، وفی کثیر من الجمل المحکیة وغیر المحکیة ، إنه فی محل کذا - من رفع ، أو نصب ، أو جر ، أو جزم ... فما معنی أنه فی محل معیّن؟ فمثلا : یقولون فی «جاء هؤلاء» ... إن کلمة : «هؤلاء» مبنیة علی الکسر فی محل رفع فاعل - وفی : «قرأت الصحف من قبل» ... إن کلمة : «قبل» مبنیة علی الضم فی محل جر ... وفی : «رأیت ضیفا یبتسم» ، إن الجملة المضارعیة فی محل نصب صفة ... وهکذا.
المراد من أن الکلمة أو الجملة فی محل کذا ، هو أننا لو وضعنا مکانها اسما معربا لکان مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا. وفی بعض الحالات لو وضعنا مکانها مضارعا معربا لکان منصوبا أو مجزوما. فهی قد حلّت محل ذلک اللفظ المعرب ، وشغلت مکانه ، وحکمه الإعرابی الذی لا یظهر علی لفظها.
أما التقدیری فقد سبق (1) أنه العلامة الإعرابیة التی لا تظهر علی الحرف الأخیر من اللفظ المعرب ؛ بسبب أن ذلک الحرف الأخیر حرف علة لا تظهر علیه الحرکة الإعرابیة ، کالألف فی مثل : إن الهدی هدی الله ، واستجب لداعی الهدی.
ونتیجة لما سبق یکون الإعراب المحلی منصبّا علی الکلمة المبنیة کلها ، أو علی الجملة کلها ، ولیس علی الحرف الأخیر منهما. وأن التقدیری منصب علی الحرف الأخیر من الکلمة.
وهناک رأی آخر لا یجعل الإعراب المحلی مقصورا علی المبنی وبعض الجمل - کرأی الأکثریة - وإنما یدخل فیه أیضا بعض الأسماء المعربة صحیحة الآخر بشرط ألا یظهر فی آخر الکلمة المعربة علامتان مختلفتان للإعراب ، ومن أمثلته عنده : ما جاءنی من کتاب ، فکلمة «کتاب» مجرورة بالحرف : «من» الزائد. وهی فی محل رفع فاعل للفعل : «جاء». وقد تحقق الشرط فلم یجتمع فی آخرها علامتان ظاهرتان للإعراب. وأصحاب الرأی الأول یدخلون هذا النوع فی التقدیری
ص: 80
فیقولون فی إعرابه : مجرور لفظا مرفوع تقدیرا (1) ... والخلاف لفظیّ. ولعل الأخذ بالرأی الثانی أنفع ، لأنه أعمّ.
ویدخل فی الإعراب المحلی عدة أشیاء. أظهرها المبنیات کلها ، والجمل التی لها محل من الإعراب ، محکیة وغیر محکیة ، والمصادر المنسبکة ، وکذا الأسماء المجرورة بحرف جرّ زائد فی رأی سلف. - وکما سیجیء فی ج 2 ص 350 م 89 - والمنادی المستغاث (ج 4)
هذا ولا یمکن إغفال الإعراب المحلی والتقدیری ، ولا إهمال شأنهما ، إذ یستحیل ضبط توابعهما - مثلا - بغیر معرفة الحرکة المقدرة أو المحکیة (2) بل یستحیل توجیه الکلام علی أنه فاعل أو مفعول ، أو مبتدأ ، أو : مضارع مرفوع - وما یترتب علی ذلک التوجیه من معنی إلا بعد معرفة حرکة کل منهما. وستجیء إشارة لبعض ما سبق فی ص 178 وللإعراب المحلی فی ص 281 وأیضا فی ج 2 ص 35 م 89.
(ب) تلمس النحاة أسبابا للبناء والإعراب ، أکثرها غیر مقبول. وسنشیر إلیه ، داعین إلی نبذه.
قالوا فی علة بناء الفعل : إن الفعل لا تتعاقب علیه معان مختلفة ، تفتقر فی تمییزها إلی إعراب ، ولا تتوالی علیه العوامل المختلفة التی تقتضی ذلک. فالفعل - وحده - لا یؤدی معنی الفاعلیة ، ولا المفعولیة ، ولا غیرهما مما اختص به الاسم وکان سببا فی إعرابه - کما سبق (3) ، إلا المضارع فإنه قد یؤدی معنی زائدا علی معناه الأصلی ، بسبب دخول بعض العوامل. فحین نقول ؛ لا تهمل عملک ، وتجلس فی البیت (بجزم : تجلس) یکون المعنی الجدید : النهی عن الجلوس أیضا ، (بسبب مجیء الواو التی هی لعطف الفعل علی الفعل هنا). وحین نقول : لا تهمل عملک ، وتجلس فی البیت (بنصب : تجلس) یکون المعنی الجدید : النهی عن اجتماع الأمرین معا ، وهما الإهمال والجلوس. فالنهی منصب علیهما معا ، بحیث لا یجوز عملهما فی وقت واحد ؛ فلا مانع أن یقع أحدهما وحده بغیر الآخر ، ولا مانع من عمل کل منهما فی وقت یخالف وقت الآخر - (والواو هنا للمعیة وهی التی اقتضت ذلک).
ص: 81
وإذا قلت : لا تهمل القراءة ، وتجلس (برفع : تجلس) ، فالنهی منصب علی القراءة وحدها ، أما الجلوس فمباح. (فالواو هنا : للاستئناف ، وهی تفید ذلک المعنی.) فالمضارع قد تغیرت علامة آخره علی حسب تغیر المعانی المختلفة ، والعوامل التی تعاقبت علیه ، فأشبه الاسم من هذه الجهة ، فأعرب مثله.
أما بناؤه مع نون التوکید ، ونون النسوة فلأنهما من خصائص الأفعال ، فوجود إحداهما فیه أبعده من مشابهة الاسم المقتضیة للإعراب ، فعاد إلی الأصل الأول فی الأفعال ؛ وهو البناء ؛ لأن الأصل فیها البناء - کما سبق - وأما الإعراب فی المضارع أحیانا ، فأمر عارض ، ولیس بأصیل.
هکذا یقولون! ولیس بمقبول ، فهل یقبل أن سبب بناء الحرف هو دلالته فی الجملة علی معنی فی غیره ، وعدم دلالته وهو مستقل علی ذلک المعنی الترکیبیّ ؛ فلا حاجة له بالإعراب ؛ لأن وظیفة الإعراب تمییز المعانی الترکیبیة بعضها من بعض؟ إذا لم التفرقة فنقول إن کلمة : «ابتداء» وحدها التی تفهم من الحرف : «من» هی اسم ، وکلمة : «من» نفسها هی حرف ، مع أنها تفید عند وضعها فی الجملة معنی الابتداء ، فکلاهما یتوقف فهمه علی أمرین ؛ ؛ شیء کان هو المبتدئ ، وشیء آخر کان المبتدأ منه؟
هل السبب ما سطروه من دلیل جدلیّ مرهق ، هو : أن معانی الأسماء تتوقف علی أمور کلیة معلومة لکل فرد بداهة ، فکأنها مستقلة ؛ مستغنیة عن غیرها؟ فلفظة : «ابتداء» عندهم معناها مطلق ابتداء شیء من شیء آخر ، بغیر تخصیص ، ولا تعیین ، ولا تحدید. وشیء هذا شأنه یمکن أن یعرفه کل أحد ، ویدرکه بالبداهة کل عقل. بخلاف معنی الابتداء فی لفظة : «من» حین نقول مثلا : سرت من القاهرة ، فإن الابتداء هنا خاص مقید بأنه ابتداء «سیر» لا ابتداء قراءة : ، أو أکل ، أو کتابة ، أو سفر. أو ... وأنه ابتداء «سیر» من مکان معین ؛ هو : القاهرة. فلیس الابتداء فی هذا المثال معنی مطلقا کما فی سابقه ، ولیس فهمه ممکنا إلا بعد إدراک أمرین مخصوصین ؛ یتوقف فهمه علیهما ، ولا یعرفان إلا بالتصریح باسمهما ، هما : السیر والقاهرة. أی : أن المعنی إن لوحظ فی ذاته مجردا من کل قید ، کان مستقلا ، وکان التعبیر عنه من اختصاص الاسم ، «کالابتداء» ، وإن لوحظ حاله بین أمرین ، کان غیر
ص: 82
مستقل ، وکان التعبیر عنه مقصورا علی الحرف (1) ...
فهل نقبل هذه العلل المصنوعة الغامضة؟ وهل عرف العرب الأوائل الفصحاء قلیلا أو کثیرا منها؟ وهل وازنوا واستخدموا القیاس والمنطق وعرفوهما فی جاهلیتهم؟ ثم یعود النحاة فیقولون : إن بعض الأسماء قد یبنی لمشابهته الحرف ، مثل : «من» و «أین» و «کیف» وغیرها من أسماء الاستفهام ... ومثل «من» ، و «ما» وغیرهما من أدوات الشرط والتعلیق ... فأسماء الاستفهام إن دلت علی معنی فی نفسها فإنها تدل فی الوقت ذاته علی معنی ثان فیما بعدها ؛ فکلمة : «من» الاستفهامیة ، اسم ؛ فهی تدل بمجردها وذاتها علی مسمّی خاص بها ، إنسانا غالبا ، أو غیر إنسان - وتدل علی الاستفهام من خارجها ، بسبب افتراض أن همزة الاستفهام معها تقدیرا ... فکأنک إذا قلت : من عندک؟ تفترض أن الأصل أمن عندک؟ وأنهما فی تقدیرک کلمتان : «الهمزة» ، وهی حرف معنی ، و «من» الدالة علی المسمی بها ، أی : علی الذات الخاصة التی تدل علیها : «من» فلما کانت «من» لا تستعمل هنا إلا مع الاستفهام المقدر ، استغنی وجوبا عن همزة الاستفهام لفظا ، للزومها کلمة : «من» معنی ، وصارت «من» نائبة عنها حتما ؛ ولذلک بنیت ؛ فدلالتها علی الاسمیة هی دلالة «لفظیة» ، مرجعها لفظها ، ودلالتها علی الاستفهام جاءت من خارج لفظها (2). ولا یجوز إظهار الهمزة فی الکلام کما تظهر کلمة : «فی» مع الظروف جوازا ؛ لأن الأمر مختلف ؛ إذ الظرف لیس متضمنا معنی : «فی» بالطریقة السالفة ، فیستحق البناء کما بنیت «من» الاستفهامیة ، وإنما کلمة : «فی» محذوفة من الکلام جوازا لأجل التخفیف ؛ فهی فی حکم المنطوق به ؛ ولذلک یجوز إظهارها. بخلاف الهمزة (3).
وکذلک کلمة : «أین» تدل وهی مجردة علی معنی فی نفسها ، هو : المکان ، وتدل أیضا علی الاستفهام فیما بعدها ، وهو معنی آخر جاءها من خارجها ؛ بسبب تقدیر همزة الاستفهام معها ، ثم الاستغناء عن الهمزة وجوبا ؛ لوجود ما یتضمن معناها.
ص: 83
وکلمة : «کیف» : تدل علی معنی فی نفسها ، وهو : الحال ، وتدل علی معنی فیما بعدها ، وهو : الاستفهام ، علی الوجه السالف ، وکذلک أسماء الشرط ... فإن کلمة : «من» تدل علی العاقل - غالبا - بنفسها ، وکلمة : «ما» تدل - غالبا - علی غیر العاقل بنفسها ، وهما تدلان علی التعلیق والجزاء فیما بعدهما ؛ فکأن کل کلمة من أسماء الاستفهام ، وأسماء الشرط ، ونحوها - تقوم مقام کلمتین فی وقت واحد ، إحداهما : اسم یدل علی مسمی ، والأخری : حرف یدل علی معنی فی غیره ، وهذا الحرف یجب حذفه لفظا ، لوجود الاسم الذی یتضمنه تقدیرا (1) ویؤدی معناه تماما. ومن هنا نشأ التشابه بین نوع من الأسماء والحروف - فی خیال بعض النحاة - فاستحق ذلک النوع من الأسماء البناء ؛ لعدم تمکنه فی الاسمیة تمکنا یبعده من مشابهة الحرف.
ولا یکتفون بذلک بل یسترسلون فی خلق علل یثبتون بها أن الأصل فی البناء السکون ، وأن العدول عن السکون إلی الحرکة إنما هو لسبب ، وأن الحرکة تکون ضمة ، أو فتحة ، أو کسرة ، لسبب آخر ، بل لأسباب!! فما هذا الکلام (2)؟ وما جدواه لدارسی النحو؟ أیعرفه العرب الخلّص أصحاب اللغة ، أو یخطر ببالهم؟
علینا أن نترک هذا کله فی غیر تردد ، وأن نقنع بأن العلة الحقیقیة فی الإعراب والبناء لیست إلا محاکاة العرب فیما أعربوه أو بنوه. من غیر جدل زائف ، ولا منطق متعسف ، وأن الفیصل فیهما راجع (کما قال بعض السابقین (3)) إلی أمر واحد ؛ هو : «السماع عن العرب الأوائل» ، واتباع طریقتهم التی نقلت عنهم ، دون الالتفات إلی شیء من تلک العلل ، التی لا تثبت علی التمحیص. وعلی هذا
ص: 84
لا یصح الأخذ بما قاله النحاة (1) من أن الاسم یبنی إذا شابه الحرف مشابهة قویة (2) فی أحد أمور أربعة :
بأن یکون الاسم موضوعا أصالة علی حرف واحد ، أو علی حرفین ثانیهما لین ، مثل : التاء ، ونا ، فی : جئتنا ، وهما ضمیران مبنیان ؛ لأنهما یشبهان الحرف الموضوع علی مقطع واحد ، کباء الجر ، وواو العطف ، وغیرهما ، من الحروف الفردیة المقطع ، أو ثنائیة المقطع ، مثل ، قد ، هل ، لم.
ولو صح هذا ، لسألناهم عن سبب بناء الضمائر الأخری التی تزید علی حرفین ، مثل : نحن ، وإیّا .... وسألنا عن سبب إعراب أب ، وأخ ، وید ، ودم ، ونحوها مما هو علی حرفین؟ نعم أجابوا عن ذلک بإجابات ، ولکنها مصنوعة ، صادفتها اعتراضات أخری ، ثم إجابات ....
بأن یتضمن الاسم بعد وضعه فی جملة ، معنی جزئیّا غیر مستقل ، زیادة علی معناه المستقل الذی یؤدیه فی حالة انفراده ، وعدم وضعه فی جملة.
وکان الأحق بتأدیة هذا المعنی الجزئی عندهم : الحرف. ومعنی هذا : أن الاسم قد خلف الحرف فعلا ، وحل محله فی إفادة معناه ، وصرف النظر عن الحرف نهائیّا فلا یصح ذکره ، ولا اعتبار أنه ملاحظ ؛ فلیس حذفه للاقتصار کحذف : «فی» التی یتضمنها أنواع من الظروف ، أو حذف کلمة : «من» التی یتضمنها أنواع من التمییز ، فإن هذا التضمن فی الظرف والتمییز لا یقتضی البناء - کما یقولون -. أما التضمن الذی یقتضی البناء عندهم ، فهو التضمن اللازم ، الذی یتوقف علیه المعنی الذی قصد عند التضمن. فیخرج الظرف والتمییز. وتدخل أسماء الشرط والاستفهام ، مثل : متی تحضر أکرمک - ومتی تسافر؟
فکلمة : «متی» فی المثال الأول تشبه الحرف «إن» فی التعلیق والجزاء ، وهی فی المثال الثانی تشبه همزة الاستفهام ، فکلتاهما اسم من جهة ، ومتضمنة معنی
ص: 85
الحرف من جهة أخری ، فمتی الشرطیة وحدها تدل علی مجرد تعلیق مطلق ، ولکنها بعد وضعها فی الجملة دلت علی معنی فی الجملة التی بعدها ، وهو تعلیق شیء معین بشیء آخر معین : أی : توقف وقوع الإکرام علی وقوع الحضور ، فحصول الأمر الثانی المعین : مرتبط بحصول الأول المعین.
وهی وحدها فی الاستفهام تدل علی مجرد الاستفهام والسؤال ، من غیر دلالة علی الشیء الذی تسأل عنه ، أو عن صاحبه ، أو غیر ذلک. لکنها بعد وضعها فی الجملة دلت علی معنی جزئی جدید ؛ فوق المعنی السابق : هو أن السؤال متجه إلی معنی محدد. هو الحضور ، ومتجه إلی المخاطب أیضا.
وکذلک اسم الإشارة ، مثل کلمة : هذا ؛ فإنها وهی منفردة ، تدل علی مطلق الإشارة ، من غیر دلالة علی مشار إلیه أو نوعه ؛ أهو محسوس أم غیر محسوس؟ حیوان أم غیر حیوان؟
لکن إذا قلنا : هذا محمد ، فإن الإشارة صارت مقیدة بانضمام معنی جدید إلیها ؛ هو الدلالة علی ذات محسوسة لإنسان (1).
فإن صح ما یقولونه من هذه التعلیلات ، فلماذا أعربت : «أیّ» الشرطیة ، «وأیّ» الاستفهامیة ، وأسماء الإشارة المثناة ؛ مثل : هذان عالمان ، وهاتان حدیقتان؟ نعم ؛ لهذا عندهم إجابة ، وعلیها اعتراض ، ثم إجابة ، ثم اعتراض ...
بأن یکون الاسم عاملا فی غیره ، ولا یدخل علیه عامل - مطلقا - یؤثر فیه فهو کالحرف : فی أنه عامل غیر معمول ، کأسماء الأفعال ، مثل : هیهات القمر ، وبله المسیء ، فهیهات : اسم فعل ماض ، بمعنی بعد جدّا ، وفاعله القمر ، وبله : اسم فعل أمر ، بمعنی : اترک ، وفاعله ضمیر ، تقدیره : أنت ، والمسیء :مفعول به ، وکلاهما قد عمل الرفع فی الفاعل ، کما أن «بله» عملت النصب فی المفعول ، ولا یدخل علی واحد من اسمی الفعل عامل یؤثر فیه.
ص: 86
وذلک بأن یفتقر الاسم افتقارا لازما إلی جملة بعده ، أو ما یقوم مقامها - کالوصف فی صلة «أل» - أو إلی شبه جملة ؛ کالاسم الموصول ، فإنه یحتاج بعده إلی جملة أو ما یقوم مقامها ، أو شبهها ، تسمی : جملة الصلة ؛ لتکمل المعنی ، فأشبه الحرف فی هذا ؛ لأن الحرف ، موضوع - غالبا - لتأدیة معانی الأفعال وشبهها إلی الأسماء فلا یظهر معناه إلا بوضعه فی جملة ، فهو محتاج إلیها دائما. فاسم الموصول یشبهه من هذه الناحیة : فی أنه لا یستغنی مطلقا عن جملة بعده ، أو ما ینوب عنها ، أو شبهها ، یتم بها المعنی.
فإن صح هذا فلم أعربت ... «أی» الموصولة - أحیانا - ، و «اللذان» ، و «اللتان»؟ أجابوا : أن السبب هو ما سبق فی نظائرها ؛ من الإضافة فی کلمة : «أی». والتثنیة فیما عداها. والإضافة والتثنیة من خصائص الأسماء ، فضعف شبه تلک الکلمات بالحروف ، فلم تبن. وعلی هذه الإجابة اعتراض ، فإجابة ، فاعتراض ...
فما هذا العناء فیما لا یؤیده الواقع ، ولا تساعفه الحقیقة؟ وأی نفع فیما ذکر من أسباب البناء وأصله ، ومن سبب ترک السکون فیه إلی الحرکة ، وسبب اختیار حرکة معینة لبعض المبنیات دون حرکة أخری ...
زاده بعضهم (1) ، ومثّل له بکلمة «حاشا» الاسمیة قائلا : إنها مبنیة لشبهها «حاشا» الحرفیة فی اللفظ. وکذا بکلمة «علی» الاسمیة ، و «کلّا» بمعنی «حقّا». و «قد» الاسمیة. وقیل إن الشبه اللفظی مجوّز للبناء ، لا محتم له. وعلی هذا یجوز فی الأسماء السابقة أن تکون معربة تقدیرا کإعراب الفتی. ما عدا «قد» فإنها تعرب لفظا - کما سبق - وهناک أنواع أخری من الشبه لا قیمة لها.
إن الخیر فی إهمال کل هذا ، وعدم الإشارة إلیه فی مجال الدراسة والتعلیم ، والاستغناء عنه بسرد المواضع التی یکون فیها الاسم مبنیّا وجوبا ، وهو العشرة الماضیة (2) ومبنی جوازا فی مواضع أخری ستذکره فی مواطنها.
ص: 87
ح - اشترطوا فی إعراب المضارع - کما سبق - ألا تتصل به اتصالا مباشرا نون التوکید ، أو نون الإناث (1) ؛ فالمضارع معرب فی مثل : «هل تقومانّ؟ وهل تقومنّ؟ وهل تقومنّ»؟ لأن نون التوکید لم تتصل به اتصالا مباشرا ، ولم تلتصق بآخره ، لوجود الفاصل اللفظی الظاهر ، وهو : ألف الاثنین ، أو المقدر ، وهو واو الجماعة ، أو یاء المخاطبة ؛ فأصل تقومانّ : تقوماننّ. فاجتمعت ثلاث نونات فی آخر الفعل. وتوالی ثلاثة أحرف هجائیة من نوع واحد ، وکلها لیس أصلیا ، وإنما هو من حروف الزیادة (2) - أمر مخالف للأصول اللغویة ، فحذفت نون الرفع ؛ لوجود ما یدل علیها ، وهو أن الفعل مرفوع لم یسبقه ناصب أو جازم یقتضی حذفها ، ولم تحذف نون التوکید المشددة ، لأنها جاءت لغرض بلاغی یقتضیها ، وهو توکید الکلام وتقویته. ولم تحذف إحدی النونین المدغمتین لأن هذا الغرض البلاغی یقتضی التشدید لا التخفیف (3). فلما حذفت النون الأولی من الثلاث ، وهی نون الرفع ، کسرت المشددة ، وصار الکلام ؛ «تقومانّ» (4).
وأصل «تقومنّ» هو : «تقوموننّ» حذفت النون الأولی للسبب السالف ، فصار «تقومونّ» ؛ فالتقی ساکنان ... واو الجماعة والنون الأولی المدغمة فی نظیرتها ؛
ص: 88
فحذفت الواو للتخلص من التقاء الساکنین (1). وإنما وقع الحذف علیها لوجود علامة قبلها تدل علیها ؛ وهی : «الضمة» ولم تحذف النون ، مراعاة للغرض البلاغی السابق ؛ ولعدم وجود ما یدل علیها عند حذفها.
ومثل ذلک یقال فی : «تقومنّ» فأصلها : «تقومیننّ» حذفت النون الأولی ، وبقیت نون التوکید المشددة ، فصار اللفظ أنت تقومینّ ؛ فالتقی. ساکنان : یاء المخاطبة والنون الأولی المدغمة فی نظیرتها. فحذفت الیاء للتخلص من التقاء الساکنین ، ولوجود کسرة قبلها تدل علیها ، ولم تحذف النون للحاجة إلیها ، فصار اللفظ تقومنّ ... فعند إعراب «تقومنّ ... السابقة ، أو تقومنّ ... نقول : فعل مضارع
ص: 89
مرفوع وعلامة رفعه النون المقدرة (1) لتوالی النونات ، والضمیر المحذوف لالتقاء الساکنین (واو الجماعة ، أو : یاء المخاطبة) فاعل ، مبنی علی السکون فی محل رفع.
وعند إعراب «تقومانّ» نقول فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه النون المقدرة لتوالی النونات. والنون المشددة للتوکید. ومثل هذا فی قوله تعالی : (لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِکُمْ وَأَنْفُسِکُمْ ...) فأصل ... تبلونّ : تبلووننّ ؛ تحرکت الواو الأولی وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت ألفا ، ثم حذفت الألف لالتقائها ساکنة مع واو الجماعة ، ثم حذفت نون الرفع لتوالی النونات ، فالتقی ساکنان : واو الجماعة والنون الأولی من نونی التوکید ، فحرکت واو الجماعة بحرکة تناسبها - وهی الضمة - للتخلص من اجتماع الساکنین. ولم تحذف الواو لعدم وجود علامة قبلها تدل علیها ، ولم تحذف نون التوکید أو تخفف لوجود داع بلاغیّ یقتضی بقاءها مشددة ، فلم یبق إلا تحریک الواو بالضمة ، التی تناسبها.
وکذلک «ترینّ» فی قوله تعالی یخاطب مریم : (فَإِمَّا تَرَیِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِی إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنْسِیًّا) أصلها : ترأییننّ ، نقلت حرکة الهمزة إلی الراء بعد حذف السکون ، وحذفت الهمزة تخفیفا (2) ، فصارت الکلمة : ترییننّ ، ثم حذفت النون الأولی للجازم وهو : «إن» الشرطیة المدغمة فی «ما» الزائدة ؛ فصارت : تریینّ ، والیاء الأولی متحرکة وقبلها فتحة ، فانقلبت
ص: 90
ألفا ، فصارت الکلمة : «تراینّ» فالتقی ساکنان الألف وتلک الیاء الأولی (1) ؛ حذفت الألف لالتقاء الساکنین ، فصارت «ترینّ» فالتقت یاء المخاطبة ساکنة مع النون الأولی من النون المشددة ، فحرکت الیاء بالکسرة ، إذ لا یجوز حذفها لعدم وجود کسرة قبلها تدل علیها ، ولا یجوز حذف النون الأولی من المشددة ؛ لأن المقام یتطلبها مشددة ؛ فلم یبق إلا تحریک الیاء بالکسرة التی تناسبها ؛ فصارت : ترینّ. وبمناسبة ما سبق من تحریک واو الجماعة وجوبا نذکر قاعدة لغویة عامة تتصل بواو الجماعة ؛ هی : أنها فی غیر الموضع السابق تضمّ - فی الأغلب - إذا کان ما قبلها مفتوحا وما بعدها ساکنا ، نحو : الصالحون سعوا الیوم فی الخیر ، ولن یسعوا الغداة فی سوء ؛ فارضوا الخطة التی رسموها.
و - وجود التوکید فی المثالین الأولین (تقومنّ ، وتقومنّ) قد یوهم أنها متصلة بآخر المضارع اتصالا مباشرا یقتضی بناءه ؛ لکن الحقیقة غیر ذلک ؛ فهو معرب ، واتصال النون به ظاهری ؛ لا عبرة به ؛ لأنه فی الحقیقة مفصول منها بفاصل مقدر (أی : خفی غیر ظاهر) هو ؛ واو الجماعة المحذوفة ، أو یاء المخاطبة المحذوفة ، وکلاهما محذوف لعلة ، والمحذوف لعلة کالثابت - کما أشاروا (2) - لهذا یکون المضارع فی المثالین السالفین معربا ؛ لا مبنیّا ؛ لأن نون التوکید مفصولة منه حقیقة وتقدیرا. أما فی بقیة الأمثلة (تقومانّ - تبلونّ - ترینّ) فالنون لم تتصل أیضا بآخره ؛ لوجود الفاصل المنطوق به ، الحاجز بینهما ، ونعنی به : الضمیر (ألف الاثنین - واو الجماعة - یاء المخاطبة). فالمضارع هنا معرب أیضا ؛ لأن نون التوکید لم تتصل بآخره اتصالا مباشرا. وهذا شأن المضارع دائما ؛ یظل محتفظا بإعرابه ، علی الرغم من وجود نون التوکید بعده إذا لم تکن متصلة بآخره اتصالا مباشرا ؛ بحیث لا یفصل بینهما فاصل لفظی ، مذکور أو مقدر.
ولهذا ضابط صحیح مطرّد ؛ هو أن المضارع إذا کان مرفوعا بالضمة قبل مجیء نون التوکید ؛ فإنه یبنی بعد مجیئها ؛ لأن الاتصال یکون مباشرا. وإن کان مرفوعا بالنون قبل مجیئها فإنه لا یبنی ؛ لوجود الفاصل الظاهر أو المقدر وهو : الضمیر.
ص: 91
ه - قلنا إن الماضی یبنی علی السکون فی آخره إذا اتصلت به التاء المتحرکة التی هی ضمیر «فاعل» ، أو «نا» التی هی فاعل کذلک ، أو نون النسوة وهی ضمیر فاعل أیضا ، کما یبنی علی الضم فی آخره إذا اتصل به واو الجماعة. لکن کثیر من النحاة یقول إن هذا السکون عرضیّ طارئ ؛ جاء لیمنع الثقل الناشئ من توالی أربع حروف متحرکة فی کلمتین ، هما أشبه بکلمة واحدة ، (أی : فی الفعل وفاعله التاء ، أو نا ، أو نون النسوة) ، فلیس السکون فی رأیهم مجلوبا من أثر عامل دخل علی الفعل ؛ فاحتاج المعنی لجلبه. لهذا یقولون فی إعرابه : بنی علی فتح مقدر ، منع من ظهوره السکون العارض ... وکذلک یقولون فی الضمة التی قبل واو الجماعة ؛ إنها عرضیة طارئة ؛ لمناسبة الواو فقط ، وإن الفعل بنی علی فتح مقدر منع من ظهوره الضمة العارضة ... إلخ.
ولا داعی لهذا التقدیر والإعنات. فمن التیسیر الذی لا ضرر فیه الأخذ بالرأی القائل بأنه بنی علی السکون مباشرة فی الحالة الأولی ، وعلی الضم فی الحالة الثانیة.
و - لیس من المبنی الأسماء المقصورة ؛ مثل : الفتی ، الهدی ، المصطفی ، ولا الأسماء المنقوصة ؛ مثل : الهادی ، الداعی ، المنادی ؛ لأن ثبات آخرها علی حال واحدة إنما هو ظاهری بسبب اعتلاله ؛ ولکنه فی التقدیر متغیر ؛ فهی معربة تقدیرا ؛ بدلیل أنها تثنی وتجمع فیتغیر آخرها ؛ فنقول فی الرفع : الفتیان ، والفتون. وفی النصب والحر : الفتیین والفتین. وکذلک : الهادیان ، والهادیین والهادون والهادین ... وکذا الباقی.
أما بناء اسم لا - أحیانا - وبعض أنواع المنادی فهو بناء عارض لا أصیل ؛ یزول بزوال سببه وهو وجود : «لا» و «النداء» ، فمتی زال السبب زال البناء العارض. بخلاف المبنی الأصیل ؛ فإن بناءه دائم ...
ص: 92
أنواع (1) البناء والإعراب ، وعلامات کل منهما (2)
للبناء أنواع أصلیة ، وأخری فرعیة تنوب عنها. فالأصلیة أربعة :
1- السکون (3) وهو أخفها. یدخل أقسام الکلمة الثلاثة ؛ فیکون فی الاسم ؛ مثل : کم ، ومن. ویکون فی الحرف مثل : قد ، وهل. ویکون فی الفعل بأنواعه الثلاثة ؛ فی الماضی المتصل بضمیر رفع متحرک ، أو بنون النسوة ، مثل : حضرت (بفتح التاء ، وضمها ، وکسرها) حضرنا - النسوة حضرن. وفی الأمر المجرد صحیح الآخر ؛ مثل : اجلس واکتب ... وفی المضارع المتصل بنون النسوة : مثل : الطالبات یتعلمن ویعملن ...
2- الفتح ، ویدخل أقسام الکلمة الثلاثة ، فیکون فی الاسم ؛ مثل : کیف وأین. ویکون فی الحرف ؛ مثل : سوف ، وثمّ. ویکون فی الفعل بأنواعه الثلاثة ؛ فی الماضی المجرد ؛ مثل : کتب ، نصر ، دعا. والفتح فی : «دعا» وأمثالها - مما هو معتل الآخر بالألف - یکون مقدرا.
وفی المضارع والأمر عند وجود نون التوکید فی آخرهما ؛ مثل : والله لأسافرن فی طلب العلم. سافرن - یا زمیل - فی طلب العلم.
3- الضم ، ویدخل الاسم والحرف ، دون الفعل ، فمثال الاسم : حیث ، والضم فیه ظاهر. وقد یکون مقدرا فی مثل : «سیبویه» عند النداء : تقول : یا سیبویه ؛ فهو مبنی علی الکسر لفظا ، وعلی الضم تقدیرا (4) فی محل نصب فی الحالتین. ومثال الحرف : «منذ» (علی اعتبارها حرف جر).
آما الضم فی آخر الفعل فی مثل : الأبطال حضروا فلیس بأصلیّ ، وإنما هو ضم عارض لمناسبة الواو - کما سبق - (5).
ص: 93
4- الکسر. ویدخل الاسم والحرف ، دون الفعل أیضا ؛ فمثال الاسم : هؤلاء. ومثال الحرف : باء الجر فی «بک» ...
والعلامات الفرعیة التی تنوب عن الأصلیة أشهرها خمس :
1- ینوب عن السکون حذف حرف العلة من آخر فعل الأمر المعتل الآخر ؛ مثل الفعل : اخش ، وارم ، واسم ؛ فی نحو : اصفح عن المعتذر لک ، واخش أن یقاطعک ، وارم من ذلک إلی کسب مودته ، واسم بنفسک عن الصغائر.
وینوب عن السکون أیضا حذف النون فی فعل الأمر ، المسند لألف الاثنین ، أو واو الجماعة ، أو یاء المخاطبة ، مثل : اکتبا - ، اکتبوا ، اکتبی.
2- وینوب عن الفتح الکسرة فی جمع المؤنث المبنی ، الواقع اسم «لا» النافیة للجنس. نحو : لا مهملات هنا (وفی هذا نیابة حرکة بناء عن حرکة أخری).
وینوب عن الفتح أیضا الیاء فی المثنی المبنیّ ، وفی جمع المذکر المبنیّ ، إذا وقع أحدهما اسم : «لا» النافیة للجنس ، نحو : لا غائبین. ولا غائبین هنا (هذه نیابة حرف عن حرکة بناء).
3- وینوب عن الضم الألف فی المثنی ؛ إذا کان منادی مفردا (1) علما ، نحو : یا محمدان ، أو کان نکرة مقصودة ؛ مثل : یا واقفان اجلسا ؛ لاثنین معینین (وهذه نیابة حرف عن حرکة بناء).
وتنوب الواو عن الضمة فی جمع المذکر المبنی إذا کان منادی مفردا علما. نحو ؛ یا محمدون (وهذه نیابة حرف عن حرکة بناء أیضا).
ومما تقدم نعلم أن الکسر فی البناء لا ینوب عنه شیء ؛ وأن السکون ینوب عنه شیئان ، وکذلک الفتح ، والضم. کما نعلم أن الضم والکسر یکونان فی الاسم والحرف ، ولا یکونان فی الفعل. وفی الجدول التالی تلخیص لکل ما تقدم :
ص: 94
صورۀ
إلی هنا انته الکلام علی علامات البناء الأصلیة والفرعیة (1).
ص: 95
ب - وللإعراب أنواع أربعة :
1- الرفع ؛ ویدخل الاسم ، والفعل المضارع ؛ مثل : سعید یقوم ، ومثل الخبر والمضارع فی قول الشاعر یمدح خبیرا حکیما :
یزن الأمور ؛ کأنما هو صیرف
یزن النّضار بدقّة وحساب
2- النصب ؛ ویدخل الاسم ، والفعل المضارع ؛ مثل ؛ إن سعیدا لن یقبل الهوان.
3- الجر ؛ ویدخل الاسم فقط ، مثل : بالله أستعین.
4- الجزم ؛ ویدخل الفعل المضارع فقط ؛ مثل : لم أتأخر عن إجابة الصارخ ، وقول الشاعر :
إذا لم یعش حرّا بموطنه الفتی
فسمّ الفتی میتا ، وموطنه قبرا
فالرفع والنصب یدخلان الأسماء والأفعال ؛ والجر مختص بالاسم ؛ والجزم مختص بالمضارع.
ولهذه الأنواع الأربعة علامات أصلیة ، وعلامات فرعیة تنوب عنها :
فالعلامات الأصلیة أربعة هی : الضمة فی حالة الرفع ، والفتحة فی حالة النصب ، والکسرة فی حالة الجرّ ، والسکون (أی : عدم وجود حرکة) فی حالة الجزم ؛ فتقول فی الکلمة المرفوعة (فی مثل : سعید یقوم) : مرفوعة ، وعلامة رفعها الضمة ؛ وفی الکلمة المنصوبة (فی مثل : إن علیّا لن یسافر) : منصوبة ، وعلامة نصبها الفتحة : وفی المجرورة : علامة جرها الکسرة ، وفی المجزومة : علامة جزمها السکون (1) ...
ص: 96
أما العلامات الفرعیة التی تنوب عن تلک العلامات الأصلیة فهی عشر ؛ ینوب فی بعضها حرکة فرعیة عن حرکة أصلیة ، وینوب فی بعض آخر حرف عن حرکة أصلیة. وینوب فی بعض ثالث حذف حرف عن السکون ؛ (فیحذف حرف العلة من آخر المضارع المجزوم ، وکذلک تحذف نون الأفعال الخمسة من آخر المضارع المجزوم).
والمواضع التی تقع النیابة فیها سبعة ، تسمی أبواب الإعراب بالنیابة ، وهی :
ا - الأسماء الستة. ب - المثنی. ح - جمع المذکر السالم.
د - جمع المؤنث السالم. ه - الاسم الذی لا ینصرف.
و - الأفعال الخمسة. ز - الفعل المضارع المعتل الآخر.
وتتلخص الفروع العشرة النائبة عن الأصول فیما یأتی :
1- ینوب عن الضمة ثلاثة أحرف ، هی : الواو ، والألف ، والنون.
2- ینوب عن الفتحة أربعة ، هی : الکسرة ، والألف ، والیاء ، وحذف النون.
3- ینوب عن الکسرة حرفان ، هما : الفتحة ؛ والیاء.
4- ینوب عن السکون حذف حرف ، إما حرف علة فی آخر المضارع المعتل المجزوم ، أو حذف النون من آخره إن کان من الأفعال الخمسة المجزومة.
وفیما یلی تفصیل الأحکام الخاصة بکل واحد.
ص: 97
ما السبب فی أن للبناء علامات خاصة ، وللإعراب أخری؟
قال شارح المفصّل (1) ما نصه :
«اعلم أن سیبویه وجماعة من البصریین قد فصلوا بین حرکات الإعراب وسکونه ، وبین ألقاب حرکات البناء وسکونه ، وإن کانت فی الصورة واللفظ شیئا واحدا ، فجعلوا الفتح المطلق لقبا للمبنی علی الفتح ، والضم لقبا للمبنی علی الضم ، وکذلک الکسر ، والوقف (2).
«وجعلوا النصب لقبا للمفتوح بعامل ، وکذلک الرفع ، والجر ، والجزم ، ولا یقال لشیء من ذلک مضموم مطلقا ، - أو مفتوح ، أو مکسور ، أو ساکن - فلا بد من تقیید ، لئلا یدخل (المعرب) فی حیز المبنیات. أرادوا بالمخالفة بین ألقابها إبانة الفرق بینهما ؛ فإذا قالوا هذا الاسم مرفوع علم أنه بعامل یجوز زواله ، وحدوث عامل آخر یحدث خلاف عمله ، فکان فی ذلک فائدة وإیجاز ، لأن قولک : مرفوع ، یکفی عن أن یقال له : مضموم ضمة تزول ، أو ضمة بعامل. وربما خالف فی ذلک بعض النحاة وسمّی ضمة البناء رفعا ، وکذلک الفتح والکسر والوقف. والوجه هو هو الأول ، لما ذکرناه من القیاس ، ووجه الحکمة.» اه
ص: 98
هی : أب ، أخ ، حم (2) ، فم ، هن (3) ، ذو ... بمعنی صاحب (4). فکل واحد من هذه الستة یرفع بالواو نیابة عن الضمة ، وینصب بالألف نیابة عن الفتحة ، ویجر بالیاء نیابة عن الکسرة ، مثل : اشتهر أبوک بالفضل ، أکرم الناس أباک ، استمع إلی نصیحة أبیک .... ومثل قول الشاعر :
أخوک الّذی إن تدعه لملمّة
یجبک وإن تغضب إلی السّیف یغضب
فتقول : إنّ أخاک الّذی ... - تمسّک بأخیک الذی ... ومثل هذا یقال فی سائر الأسماء الستة.
لکن یشترط لإعراب هذه الأسماء کلها بالحروف السابقة ، أربعة شروط عامة ، وشرط خاص بکلمة : «فم» ، وآخر خاص بکلمة : «ذو».
فأما الشرط العامة فهی :
ا - أن تکون مفردة ، فلو کانت مثناة أو مجموعة ، أعربت إعراب المثنی أو الجمع ، نحو : جاء أبوان ، رأیت أبوین ، ذهبت إلی أبوین. جاء آباء ، رأیت آباء ، ذهبت إلی آباء .......
ب - أن تکون مکبّرة (5) ؛ فإن کانت مصغرة أعربت بالحرکات الثلاث الأصلیة فی جمیع الأحوال ، مثل : هذا أبیّک العالم .... إن أبیّک عالم ... اقتد بأبیّک ...... إلخ.
ص: 99
ح - أن تکون مضافة ؛ فإن لم تضف أعربت بالحرکات الأصلیة ، مثل : تعهد أب ولده ... أحبّ الولد أبا. اعتن بأب. وقد اجتمع فی البیت الآتی إعرابها بالحروف وبالحرکات ، وهو :
أبونا أب لو کان للناس کلهم
أبا واحدا أغناهمو بالمناقب
د - أن تکون إضافتها لغیر یاء المتکلم ؛ فإن أضیفت وکانت إضافتها إلی یاء المتکلم (1) ، فإنها تعرب بحرکات أصلیة مقدرة قبل الیاء ، مثل : أبی یحب الحق ، إن أبی یحب الحق ، اقتدیت بأبی فی ذلک. فکلمة : «أب» فی الأمثلة الثلاثة مرفوعة بضمة مقدرة قبل الیاء ، أو منصوبة بفتحة مقدرة قبل الیاء ، أو مجرورة بکسرة مقدرة أیضا (2). وکذلک باقی الأسماء الستة. إلّا «ذو» فإنها لا تضاف لیاء المتکلم ولا لغیرها من الضمائر المختلفة.
أما الشرط الخاص بکلمة : «فم» ، فهو حذف «المیم» من آخرها ، والاقتصار علی الفاء وحدها. مثل : ینطق «فوک» الحکمة. (أی ؛ فمک) : إن «فاک» عذب القول. تجری کلمة الحق علی «فیک». فإن لم تحذف من آخره المیم أعرب «الفم» بالحرکات الثلاث الأصلیة ، سواء أکان مضافا أم غیر مضاف ، وعدم إضافته فی هذه الحالة أکثر. نحو : هذا «فم» ینطق بالحکمة - إن «فما» ینطق بالحکمة یجب أن یسمع - فی کل «فم» أداة بیان.
وأما الشرط الخاص بکلمة : «ذو» بمعنی : صاحب فهو أن تکون إضافتها لاسم ظاهر دال علی الجنس (3) ، مثل : والدی ذو فضل ، وصدیقی
ص: 100
وما سبق هو أشهر اللغات وأسهلها فی الأسماء الستة ، ولذلک کان أحقها بالاتباع ، وأنسبها للمحاکاة ، دون غیره. إلا کلمة : «هن» فإن الأکثر فیها مراعاة النقص فی آخرها ، ثم إعرابها بالحرکات الأصلیة بعد ذلک. والمراد بمراعاة النقص فی آخرها أن أصلها «هنو» ، علی ثلاثة أحرف ، ثم نقصت منها الواو ؛ بحذفها للتخفیف ، سماعا عن العرب ، وصارت الحرکات الأصلیة تجری علی النون ، وکأنها الحرف الأخیر فی الکلمة. فعند الإضافة لا تردّ الواو المحذوفة کما - ترد فی الغالب - عند إضافة الکلمات التی حذفت من آخرها ، فحکم کلمة : «هن» فی حالة الإضافة کحکمها فی عدمها ، تقول : هذا «هن» ، أهملت «هنا» - لم ألتفت إلی «هن». وتقول : «هن» (1) المال قلیل النفع. إن «هن» المال قلیل النفع. لم أنتفع «بهن» المال. لکن یجوز فیها بقلة ، الإعراب بالحروف ، تقول: هذا هنو المال ، وأخذت هنا المال ، ولم أنظر إلی هنی المال.
وإذا کان الإعراب بالحروف بشروطه السابقة هو أشهر اللغات وأسهلها فی الأسماء الستة إلا کلمة : «هن» فإن هناک لغة أخری تلیه فی الشهرة والقوة ؛ هی : «القصر» فی ثلاثة أسماء ؛ «أب» ، و «أخ» ، و «حم» ، دون «ذو» و «هن» و «فم» (2) ... ومعنی القصر : إثبات ألف (3) فی آخر کل من الثلاثة الأولی فی جمیع أحوالها ، مع
ص: 102
إعرابها بحرکات مقدرة علی الألف رفعا ونصبا وجرّا ؛ مثل : أباک کریم ، إن أباک کریم ، أثنیت علی أباک. فکلمة : «أبا» قد لزمتها الألف فی أحوالها الثلاث ، کما تلزم فی آخر الاسم المعرب المقصور ، وهی مرفوعة بضمة مقدرة علی الألف ، أو منصوبة بفتحة مقدرة علیها ، أو مجرورة بکسرة مقدرة علیها ، فهی فی هذا الإعراب کالمقصور.
وهناک لغة ثالثة تأتی بعد هذه فی القوة والذیوع ، وهی لغة النقص السابقة ؛ فتدخل. فی : «أب» و «أخ» و «حم» ، کما دخلت فی : «هن» ، ولا تدخل فی : «ذو» ولا «فم» إذا کان بغیر المیم. تقول کان أبک مخلصا. إن أبک مخلص ، سررت من أبک لإخلاصه ... وکذا الباقی. فأب مرفوعة بضمة ظاهرة علی الباء ، أو منصوبة بفتحة ظاهرة ، أو مجرورة بکسرة ظاهرة (1). ومثل هذا یقال فی «أخ» و «حم» کما قیل : فی «أب» وفی «هن».
ومما سبق نعلم أن الأسماء الستة لها ثلاث حالات من حیث علامات الإعراب ، وقوة کل علامة.
الأولی : الإعراب بالحروف ، وهو الأشهر ، والأقوی إلا فی کلمة : «هن» فالأحسن فیها النقص ؛ کما سبق.
الثانیة : القصر ، وهو فی المنزلة الثانیة من الشهرة والقوة بعد الإعراب بالحروف ، ویدخل ثلاثة أسماء ، ولا یدخل «ذو» ولا «فم» محذوف المیم ؛ لأن هذین الاسمین ملازمان للإعراب بالحرف. ولا یدخل : «هن» (2).
ص: 103
الثالثة : النقص ، وهو فی المنزلة الأخیرة ، یدخل أربعة أسماء ، ولا یدخل «ذو» ولا «فم» محذوف المیم. لأن هذین الاسمین. ملازمان للإعراب بالحروف کما سبق.
فمن الأسماء الستة ما فیه لغة واحدة وهو «ذو» و «فم» بغیر میم.
وما فیه لغتان ، وهو «هن».
وما فیه ثلاث لغات وهو أب ، أخ ، حم (1).
ص: 104
ا - بالرغم من تلک اللغات التی وردت عن العرب ، یجدر بنا أن نقتصر علی اللغة الأولی التی هی أشهر تلک اللغات وأفصحها ، وأن نهمل ما عداها ؛ حرصا علی التیسیر ، ومنعا للفوضی والاضطراب الناشئین من استخدام لغات ولهجات متعددة. وقد یقال : ما الفائدة من عرض تلک اللغات إذا؟
إن فائدتها هی لبعض الدارسین المتخصصین : وأشباههم ؛ إذ تعینهم علی فهم النصوص القدیمة ، المتضمنة تلک اللهجات التی لا تروق الیوم محاکاتها ، ولا القیاس علیها ، ولا ترک الأشهر الأفصح من أجلها.
ب - جری العرف علی التسمیة ببعض الأسماء الستة السالفة ، مثل : أبو بکر - أبو الفضل - ذی النون - ذی یزن ..... فإذا سمی باسم مضاف من تلک الأسماء الستة المستوفیة للشروط جاز فی العلم المنقول منها أحد أمرین :
أولهما : إعرابه بالحروف ، کما کان یعرب أوّلا قبل نقله إلی العلمیة. کما یصح إعرابه بغیر الحروف من الأوجه الإعرابیة الأخری التی تجری علی تلک الأسماء بالشروط والقیود التی سبقت عند الکلام علیها ، أی : أن کل ما یصح فی الأسماء الستة المستوفیة للشروط قبل التسمیة بها یصح إجراؤه علیها بعد التسمیة.
ثانیهما : وهو الأنسب أن یلتزم العلم صورة واحدة فی جمیع الأسالیب ، مهما اختلفت العوامل الإعرابیة ، وهذه الصورة هی التی سمی بها ، واشتهر ، فیقال - مثلا - کان أبو بکر رفیق الرسول علیه السّلام فی الهجرة - إنّ أبو بکر من أعظم الصحابة رضوان الله علیهم - أثنی الرسول علیه السّلام علی أبو بکر خیر الثناء ... فکلمة : «أبو» ونظائرها من کل علم مضاف صدره من الأسماء الستة یلتزم حالة واحدة لا یتغیر فیها آخره ، ویکون معها معربا بعلامة مقدرة ، سواء أکانت العلامة حرفا أم حرکة علی حسب اللغات المختلفة(1) ...
ص: 105
ح - إذا أعرب أحد الأسماء الستة بالحروف ، وأضیف إلی اسم أوله ساکن (مثل : جاء أبو المکارم ، ورأیت أبا المکارم ، وقصدت إلی أبی المکارم) فإن حرف الإعراب وهو : الواو ، أو الألف ، أو الیاء - یحذف فی النطق ، لا فی الکتابة. وحذفه لالتقاء الساکنین ؛ فهو محذوف لعلة ، فکأنه موجود. فعند الإعراب نقول : «أبو» مرفوع بواو مقدرة نطقا ، و «أبا» منصوب بألف مقدرة نطقا ، و «أبی» مجرور بیاء مقدرة نطقا ؛ فیکون هذا من نوع الإعراب التقدیری بحسب مراعاة النطق. أما بحسب مراعاة المکتوب فلا تقدیر (1).
د - من الأسالیب العربیة الفصیحة : «لا أبا له» (2) ... فما إعراب کلمة : «أبا» إذا وقعت بعدها اللام الجارة لضمیر الغائب ، أو غیره»؟
یری بعض النحاة أنها اسم «لا» منصوبة بالألف ، ومضافة إلی الضمیر الذی بعدها ، واللام التی بینهما زائدة. ومع أنها زائدة هی التی جرّت الضمیر دون المضاف ، فالمضاف فی هذا المثال وأشباهه لا یعمل فی المضاف إلیه. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر : «لا».
وفی هذا الإعراب خروج علی القواعد العامة التی تقضی بأن المضاف یعمل فی المضاف إلیه. وفیه أیضا أن اسم «لا» النافیة للجنس وقع معرفة ؛ لإضافته إلی الضمیر ، مع أن اسم «لا» المفرد لا یکون معرفة ... و... و...
وقد أجابوا عن هذا إجابة ضعیفة ؛ حیث قالوا : إن کلمة «أبا» ذات اعتبارین ؛ فهی بحسب الظاهر غیر مضافة لوجود الفاصل بینهما ، فهی باقیة علی التنکیر ، ولیست معرفة ؛ والإضافة غیر محضة وإذا لا مانع من أن تکون اسم «لا» النافیة للجنس. وکان حقها
ص: 106
البناء علی الفتح ؛ لکنها لم تبن للاعتبار الثانی ؛ وهو مراعاة الحقیقة الواقعة التی تقضی بأنها مضافة ؛ فنصبت بالألف لهذا ، وصارت معربة لا مبنیة.
وکل هذا کلام ضعیف ، ویزداد ضعفه وضوحا حین نراه لا یصلح فی بعض الحالات ، ولا یصدق علیها ، کالتی فی قولهم : «لا أبالی» فقد وقعت کلمة : «أبا» فی الأسلوب معربة بالحرف فإن اعتبرناها مضافة فی الحقیقة لیاء المتکلم لم یصح إعرابها بالحرف ، لأن المضاف من الأسماء الستة لیاء المتکلم لا یصح إعرابه بالحرف. وإن اعتبرناها غیر مضافة أصلا مراعاة للظاهر - بسبب وجود حرف اللام الفاصل - لم یصح إعرابها بالحرف أیضا ، فهی علی کلا الاعتبارین لا تعرب بالحرف.
وأحسن رأی من النواحی المختلفة هو اعتبار کلمة : «أبا» اسم «لا» ، وغیر مضافة ، بل مبنیة علی الألف علی لغة من یلزم الأسماء الستة الألف دائما فی جمیع الحالات ، وأنها خالیة من التنوین بسبب هذا البناء.
ویری بعض النحاة إعرابا آخر هو بناء کلمة «أبا» علی فتح مقدر علی آخرها منع من ظهوره التعذر ، باعتبار هذه الألف أصلیة من بنیة الکلمة کالألف التی فی آخر کلمة «هذا» فکلاهما عنده حرف أصلی تقدر علیه علامات البناء ، ولا یعتبره حرفا زائدا جیء به لیکون علامة إعراب.
(راجع حاشیة الخضری ، ج 1 أول باب «لا» النافیة للجنس)
والخلاف شکلی ، لا أثر له. وهو یقوم علی اعتبار الألف الأخیرة زائدة ، أو أصلیة. وسیجیء لهذه المسألة إشارة أخری فی باب «لا».
ص: 107
ا - أضاء نجم. راقب الفلکیّ نجما. اهتدیت بنجم.
ب - أضاء نجمان. راقب الفلکیّ نجمین. اهتدیت بنجمین.
تدل کلمة : «نجم» فی الأمثلة الأولی (ا) علی أنه واحد ، وحین زدنا فی آخرها الألف والنون ، أو الیاء المفتوح ما قبلها ، وبعدها النون المکسورة - دلت دلالة عددیة علی اثنین ؛ کما فی أمثلة «ب» واستغنینا بزیادة الحرفین عن أن نقول. أضاء نجم ونجم. راقب الفلکی نجما ونجما. اهتدیت بنجم ونجم. أی : أننا اکتفینا بهذه الزیادة بدلا من عطف کلمة علی نظیرتها الموافقة لها تمام الموافقة فی الحروف والحرکات ، والمعنی العامّ. فکلمة : «نجمان» وما أشبهها تسمی : «مثنی» ، وهو :
«اسم یدل علی اثنین (1) ، متفقین ، فی الحروف والحرکات ، والمعنی ؛ بسبب زیادة فی آخره (2) تغنی عن العاطف (3) والمعطوف». وهذه الزیادة هی الألف وبعدها نون مکسورة (4) ، أو الیاء وقبلها فتحة وبعدها نون مکسورة.
ص: 108
فلیس من المثنی ما یأتی :
1- ما یدل علی مفرد ؛ مثل : نجم ، ورجلان (1).
2- ما یدل علی جمع ؛ مثل : نجوم ، وصنوان (2) ، أو علی اسم جمع ؛ مثل : قوم ، ورهط.
3- ما یدل علی اثنین (3) ، ولکنهما مختلفان فی لفظیهما ، مثل : الأبوین ؛ للأب والأم. أو : مختلفان فی حرکات أحرفهما ؛ کالعمر بن : لعمر بن الخطاب ، وعمرو بن هشام ، المعروف : «بأبی جهل». أو مختلفان فی المعنی دون الحروف وحرکاتها ؛ کالعینین ؛ ترید بإحداهما العین الباصرة ، وبالأخری البئر (4)
ص: 109
فلا یسمی شیء من هذا کله مثنی حقیقة ، وإنما هو ملحق بالمثنی (1).
4- ما یدل علی اثنین متفقین فی المعنی والحروف وحرکاتها ولکن من طریق العطف بالواو ، لا من طریق الزیادة السالفة ؛ مثل : أضاء نجم ونجم.
5- ما یدل علی شیئین. ولکن من طریق الوضع اللغویّ ، لا من طریق تلک الزیادة ، مثل : شفع (ضد فرد ، ووتر). ومثل زوج وزکا ، وهما بمعنی شفع. فکل واحدة من هذه الکلمات تدل دلالة لغویة علی قسمین متماثلین متساویین تماما (وهی القسمة الزوجیة ضد الفردیة). فهی تدل علی التثنیة ضمنا ، ولکن من غیر أن یکون فی آخرها الزیادة السالفة.
ص: 110
ومثلها : «کلا» فإنها تدل علی شیئین متساویین أو غیر متساویین ، ولکن من غیر زیادة فی آخرها ، فهذه ملحقة بالمثنی.
6- ما یدل علی اثنین ، وفی آخره زیادة ، ولکنها لا تغنی عن العاطف والمعطوف ؛ مثل : کلتا ، اثنان ، اثنتان أو : ثنتان ؛ فلیس لواحدة من هذه الکلمات مفرد مسموع عن العرب ، علی الرغم من وجود زیادة فی آخرها (1) ، ولهذا تعد ملحقة بالمثنی ، ولیست مثنی حقیقة.
حکم المثنی : أنه یرفع بالألف نیابة عن الضمة. وبعدها نون مکسورة (2) ؛ مثل : یتحرک الکوکبان. وینصب بالیاء نیابة عن الفتحة. وهذه الیاء قبلها فتحة وبعدها نون مکسورة ؛ مثل : شاهدت الکوکبین. ویجر بالیاء نیابة عن الکسرة وقبلها فتحة. وبعدها نون مکسورة ، مثل : فرحت بالکوکبین.
هذا هو أشهر الآراء فی إعرابه وإعراب ملحقاته (3) ، (ومنها کلا ، وکلتا ، واثنان ، واثنتان ، أو : ثنتان) (4). إلا أن کلا وکلتا لا تعربان بهذه الحروف إلا إذا أضیفتا للضمیر ؛ الدال علی التثنیة سواء أکانتا للتوکید ، أم لغیره ،
ص: 111
فإن کانتا للتوکید وجب أن یسبقهما المؤکّد الذی یطابقه الضمیر ، نحو أکرم الوالدین ؛ فإن کلیهما صاحب الفضل الأکبر علیک ... وعاون الجدّتین ، فإن کلتیهما أحبّ الناس لک. فالکلمتان لیستا للتوکید ، وهما معربتان کالمثنی منصوبتان بالیاء ،
ونحو : جاء الفارسان کلاهما ، غابت السیدتان کلتاهما ؛ «فکلا» و «کلتا» توکید مرفوع بالألف ؛ لأنه ملحق بالمثنی ، وهو مضاف و «هما» مضاف إلیه ، مبنی علی السکون فی محل جر. ونحو : صافحت الفارسین کلیهما ، والمحسنتین کلتیهما ، وأثنیت علی الفارسین کلیهما ، والسیدتین کلتیهما (فکلا وکلتا توکید منصوب أو مجرور بالیاء مضاف ، والضمیر مضاف إلیه ، مبنی علی السکون فی محل جر (1) ...
فلو أضیفت کلا أو کلتا لاسم ظاهر (2) لم تعرب کالمثنی ، ولم تکن للتوکید ، - وأعربت - کالمقصور - علی حسب الجملة ، بحرکات مقدرة علی الألف ، فی جمیع الأحوال : (رفعا ، ونصبا ، وجرّا) ، مثل : سبق کلا المجتهدین ، وفازت کلتا لماهرتین ، فکلا وکلتا : فاعل مرفوع بضمة مقدرة علی الألف. ومثل : هنأت کلا المجتهدین ، وکلتا الماهرتین ؛ فکلا وکلتا مفعول به ، منصوب بفتحة مقدرة علی الألف. وسألت عن کلا المجتهدین ، وعن کلتا الماهرتین ، فکلا وکلتا مجرورة ، وعلامة جرها الکسرة المقدرة علی الألف.
مما تقدم نعلم :
ا - أن کلا وکلتا إذا أضیفتا للضمیر تعربان کالمثنی - أی ، : بالحروف المعروفة فی إعرابه - ؛ سواء أکانتا للتوکید (3) أم لغیره ، ولا بد أن یکون الضمیر للتثنیة
ب - وأنهما عند الإضافة للظاهر ، لا تکونان کالمثنی ، بل تعربان علی حسب
ص: 112
الجملة (فاعلا أو مفعولا ، أو مبتدأ ، أو خبرا ... إلخ) ، وبحرکات مقدرة علی الألف دائما ، کإعراب المقصور (1).
ص: 113
ا - عرفنا (1) أنه لا یجوز إعراب : «کلا وکلتا» إعراب المثنی إلا بشرط إضافتهما للضمیر الدال علی التثنیة.
لکن یجب التنبه إلی أن تحقق هذا الشرط یوجب إعرابهما إعراب المثنی من غیر أن یوجب إعرابهما توکیدا ؛ فقد یتحتم عند تحققه إعرابهما توکیدا فقط ، وقد یمتنع إعرابهما توکیدا ویتحتم إعرابهما شیئا آخر غیره ، وقد یجوز فی إعرابهما الأمران ؛ التوکید وغیره ، فالحالات ثلاث عند تحققه. ففی مثل : أقبل الضیفان کلاهما ، وأجادت الفتاتان کلتاهما ... یتعین التوکید وحده.
وفی مثل : النجمان کلاهما مضیء ، والشاعرتان کلتاهما نابغة - یمتنع التوکید ویتحتم هنا إعرابهما مبتدأین ، وما بعدهما خبر لهما ، والجملة من المبتدأ الثانی وخبره خبر للمبتدأ الأول ؛ (وهو : النجمان ، والشاعرتان). ولا یصح إعراب «کلا وکلتا» فی هذا المثال توکیدا ؛ لکیلا یکون المبتدأ (النجمان - الشاعرتان) مثنی ، خبره مفرد ، إذ یصیر الکلام : النجمان مضیء ، الشاعرتان نابغة ؛ وهذا لا یصح (2).
وفی مثل : النجمان - کلاهما - مضیئان ، والشاعرتان - کلتاهما - نابغتان ... یجوز فیهما أن یکونا للتوکید. وما بعدهما خبر للمبتدأ. ویجوز فی کل منهما أن یکون مبتدأ ثانیا خبره ما بعده ، والجملة من المبتدأ الثانی وخبره خبر للمبتدأ الأول.
ب - إعراب المثنی وملحقاته بالحروف هو أشهر المذاهب وأقواها ، کما أسلفنا. ویجب الاقتصار علیه فی عصرنا ؛ منعا للفوضی والاضطراب فی الاستعمال الکلامی والکتابی ، وأما اللغات الأخری فلا یسوغ استعمالها الیوم ، وإنما تذکر للمتخصصین ؛ لیسترشدوا بها فی فهم بعض النصوص اللغویة الواردة عن العرب بتلک اللغات واللهجات. ومن أشهرها :
1- إلزام المثنی وملحقاته (غیر : کلا وکلتا) الألف فی جمیع أحواله ، مع إعرابه بحرکات مقدرة علیها ؛ تقول عندی کتابان نافعان ، اشتریت کتابان نافعان ، قرأت فی کتابان نافعان ، فیکون المثنی مرفوعا بضمة مقدرة علی الألف ،
ص: 114
ومنصوبا بفتحة مقدرة علیها ، ومجرورا بکسرة مقدرة کذلک ؛ فهو یعرب إعراب المقصور ، والنون للتثنیة فی کل الحالات.
2- إلزام المثنی الألف والنون فی جمیع أحواله مع إعرابه بحرکات ظاهرة علی النون. کأنه اسم مفرد ، تقول عندی کتابان نافعان ، واشتریت کتابانا نافعانا ، وقرأت فی کتابان نافعان ، ویحذف التنوین إذا وجد ما یقتضی ذلک ؛ کوجود «أل» فی أول المثنی. أو إضافته. وکذلک لمنع الصرف إذا وجد مانع من الصرف ... فیرفع معه بالضمة من غیر تنوین ، وینصب ویجر بالفتحة من غیر تنوین أیضا.
أما «کلا ، وکلتا» ففیهما مذاهب أیضا ؛ أشهرها وأحقها بالاتباع ما سبق فیهما ؛ وهو إعرابهما بالحروف ، بشرط إضافتهما إلی ضمیر دالّ علی التثنیة - علما بأنهما لا تضافان مطلقا - إلی ضمیر للمفرد ، نحو : کلای وکلتای ، ولا إلی ضمیر للجمع ، نحو : کلاهم ، وکلتاهم - ، ولا یضافان إلی الظاهر أیضا ، وإلا أعربا معه کالمقصور.
وهناک من یعربهما إعراب المقصور فی جمیع أحوالهما ، أی : بحرکات مقدرة علی الألف دائما. ومنهم من یعربهما إعراب المثنی فی جمیع أحوالهما ، ولو کانت إضافتهما إلی اسم ظاهر مثنی. ولا حاجة الیوم إلی غیر اللغة المشهورة.
هذا ، ولفظهما مفرد ، مع أن معناهما مثنی ؛ فیجوز فی الضمیر العائد علیهما مباشرة ، وفی الإشارة ، وفی الخبر ، ونحوه - أن یکون مفردا ، وأن یکون مثنی ، تقول : کلا الرجلین سافر ، أو سافرا ، وکلا الطالبین أدیب ، أو أدیبان ، وکلتا الفتاتین سافرت ، أو سافرتا ، وکلتاهما أدیبة ، أو أدیبتان ، والأکثر مراعاة اللفظ. کقول الشاعر :
لا تحسبنّ الموت موت البلی
وإنما الموت سؤال الرجال
کلاهما موت ، ولکن ذا
أفظع من ذاک ، لذل السؤال
هذا ویتعین الإفراد ومراعاة اللفظ فی مثل : کلانا سعید بأخیه ؛ من کل حالة یکون المعنی فیها قائما علی المبادلة والتنقل بین الاثنین فینسب فیها إلی کل واحد منهما ما ینسب إلی الآخر ، دون الاکتفاء بذکر المعنی المجرد من دلالة المبادلة والتنقل بینهما کالمثال السابق ، وکقولنا : کلانا حریص علی المودة ، کلانا محب لبلاده (1) ... بقیت مسألة تتعلق بالإعراب فی مثل : محمد وعلیّ کلاهما قائم ، أو کلاهما قائمان ، فکلمة : «کلاهما» ، فی المثال الأول مبتدأ حتما ، و «قائم» خبره
ص: 115
والجملة خبر الأول ، ولا یصح إعراب «کلا» للتوکید ، لما یترتب علی ذلک من إعراب کلمة «قائم» خبر المبتدأ ، وهذا غیر جائز ؛ إذ لا یقال : محمد وعلی قائم ؛ لعدم المطابقة اللفظیة. أما فی المثال الثانی فیصح إعرابها مبتدأ أو توکیدا - کما سبق فی فی «ا».
ح - جری الاستعمال قدیما وحدیثا علی تسمیة فرد من الناس وغیرهم باسم ، لفظه مثنی ولکن معناه مفرد ، بقصد بلاغی ؛ کالمدح ، أو الذم ، أو التملیح ... - کما سبق فی رقم 4 من هامش ص 111 - مثل : «حمدان» تثنیة : «حمد» ، و «بدران» تثنیة «بدر» و «مروان» ، تثنیة : «مرو» ؛ وهی : الحجارة البیض الصلبة ، و «شعبان» تثنیة «شعب» و «جبران» تثنیة «جبر» ، ومثل : محمدین ، وحسنین والبحرین (اسم إقلیم عربیّ علی خلیج العرب ...) فهذه الکلمات وأشباهها ملحقة بالمثنی ، ولیست مثنی حقیقیّا. وفی إعرابها وجهان :
أحدهما : حذف علامتی التثنیة من آخرها ، وإعرابها بعد ذلک بالحروف ؛ کباقی أنواع المثنی الحقیقی ؛ فتقول سافر بدران (1) ، یجب الناس بدرین ، وتحدثوا عن بدرین.
والآخر : إلزامها الألف والنون ، - مثل عمران - وإعرابها إعراب ما لا ینصرف بحرکات ظاهرة فوق النون ؛ فترفع بالضمة من غیر تنوین ، وتنصب وتجر بالفتحة من غیر تنوین (2) أیضا.
ولعل الخیر فی إباحة وجه ثالث یحسن الاصطلاح علی إباحته وإن کنت لم أره لأحد من قدامی النحاة ؛ فإنهم قصروه علی جمع المذکر السالم ، هو
ص: 116
إبقاء العلم علی حاله - من الألف والنون ، أو الیاء والنون - مع إعرابه کالاسم المفرد بحرکات إعرابیة مناسبة علی آخره ، وهذا الوجه وحده أولی بالاتباع ، إذ لا یؤدی إلی اللبس ، لأنه الموافق للواقع ، ولیس فی أصول اللغة ما یمنعه بل إن کثیرا من المعاملات الجاریة فی عصرنا توجب الاقتصار علیه ، فالمصارف (1) لا تعترف إلا بالعلم المحکیّ ، أی : المطابق للمکتوب نصّا فی شهادة المیلاد ، وفی الشهادة الرسمیة المحفوظة عندها المماثلة لما فی شهادة المیلاد ولا تقضی لصاحبه أمرا مصرفیا إلا إذا تطابق إمضاؤه (توقیعه) واسمه المسجل فی تلک الشهادة تطابقا کاملا فی الحروف وفی ضبطها ، فمن اسمه : «حسنین» أو : بدران ... یجب أن یظل علی هذه الصورة کاملة فی جمیع الاستعمالات عندها ، مهما اختلفت العوامل التی تقتضی رفعه ، أو نصبه ، أو جرّه.
فلو قیل : حسنان ، أو : بدرین ؛ تبعا للعوامل الإعرابیّة لکان کل علم من هذه الأعلام دالّا فی عرف المصرف علی شخص آخر مغایر للشخص الذی یدل علیه العلم الأول ، وأن لکل منهما ذاتا وحقوقا ینفرد بها ، ولا ینالها الآخر ، ولن یوافق المصرف مطلقا علی أنّ الاسمین لشخص واحد ، ولا علی أن الخلاف یتجه للإعراب وحده دون الاختلاف فی الذات. ومثل المصارف کثیر من الجهات الحکومیة ؛ کالبرید ، وأنواع الرخص ، والسجلات الرسمیة المختلفة ...
أما الوجه الأول فقد یوهم أنه مثنی. ولا یأمن اللبس فیه إلا الخبیر الذی یعرف أنه مفرد ؛ ویدرک أن العلم المثنی لا یتجرد من «أل» إلا عند إضافته ، أو ندائه ، کما سیجیء ، وهذا غیر مضاف ؛ بل إنه قد یضاف (2) فیزداد اللبس قوة. ولا یخلو الثانی من لبس ، أیضا.
د - اشترط جمهور النحاة فیما یراد تثنیته قیاسا ثمانیة (3) شروط :
ص: 117
1- أن یکون معربا. فأما هذان ، وهاتان ، واللذان ، واللتان ، فقد وردت عن العرب هکذا معربة - مع أن مفرداتها مبنیة ؛ فلا یقاس علیها.
2- أن یکون مفردا ؛ فلا یثنی جمع المذکر السالم. ولا جمع المؤنث السالم ؛ لتعارض معنی التثنیة وعلامتها ، مع معنی الجمعین (1) وعلامتهما. أما جمع التکسیر واسم الجمع فقد یثنی کل منهما أحیانا ؛ نحو : «جمالین ، ورکبین» فی تثنیة : «جمال» و «رکب» ؛ بقصد الدلالة فی التثنیة علی التنویع ، ووجود مجموعتین متمیزتین بأمر من الأمور. وکذلک یثنی اسم الجنس - غالبا - للدلالة السابقة - نحو ، ماءین ، ولبنین. وأکثر النحاة یمنع تثنیة جمع التکسیر ویقصرونه علی السماع کما فی المثالین السالفین - وستجیء الإشارة لهذا فی ص 146. أما التفصیل فمکانه : «باب جمع التکسیر» من الجزء الرابع ، ص 505 م 174.
وأما المثنی فلا یثنی ، ولا یجمع ؛ لکیلا یجتمع إعرابان بعلاماتهما علی کلمة واحدة. وهذا هو الرأی السائغ الذی یحسن الاقتصار علیه.
لکن لو سمی بالمثنی ، وأرید تثنیة هذا المسمّی لم یصح تثنیته مباشرة ، وإنما یصح بطریقة غیر مباشرة ، بأن نأتی قبل المثنی بالکلمة الخاصة التی یتوصل بها لتثنیته ؛ وهی «ذو» مختومة ، بعلامة التثنیة للمذکر والمؤنث فی حالات الإعراب المختلفة ؛ فیقال للمذکر فی حالة الرفع : «ذوا» ... وفی حالتی النصب والجر : «ذوی ...» مثل : نبغ ذوا حمدان ، وأکرمت ذوی حمدان ، واستمعت إلی ذوی حمدان. فکلمة : «ذوا وذوی» تعرب علی حسب حاجة الجملة ، کإعراب المثنی وهما «مضافان» ، والمثنی المسمی به هو : «المضاف» إلیه دائما ویحتفظ بکل حروفه ، ثم تجری علیه أحکام المضاف إلیه ؛ من الجرّ ، وغیره.
ویقال للمؤنث فی حالة الرفع : «ذاتا» ، أو : ذواتا ، وفی حالة الجر : «ذاتی ...» أو «ذواتی ...» .. وتعرب هذه الألفاظ علی حسب حاجة الجملة کإعراب المثنی. وهی «مضافة» والمسمی به هو «المضاف إلیه» الذی یخضع للحکم السالف (2).
3- أن یکون نکرة ؛ أما العلم فلا یثنی ؛ لأن الأصل فیه أن یکون مسماه
ص: 118
شخصا واحدا معینا ، ولا یثنی إلا عند اشتراک عدة أفراد فی اسم واحد (1) ، وهذا معنی قول النحویین : «لا یثنی العلم إلا بعد قصد تنکیره» ، وحینئذ تزاد علیه : «أل» بعد التثنیة ؛ لتعید له التعریف ، أو : یسبقه حرف من حروف النداء - مثل : «یا» ؛ لإفادة التعیین والتخصیص أیضا ، بسبب القصد المتجه لشخصین معینین (2) ؛ نحو : یا محمدان ، أو إضافة إلی معرفة ، مثل : حضر محمداک. فلا بد مع تثنیة العلم من شیء مما سبق یجلب له النعرف. ؛ لأن العلم یدل علی واحد معین. کصالح ، وأمین ، ومحمود (3) ، والتثنیة تدل علی وقوع مشارکة بینه وبین آخر ، فلا یبقی العلم مقصورا علی ما کان علیه من الدلالة علی واحد بعینه ، بل یشترک معه غیره عند التثنیة ، وفی هذه المشارکة نوع من الشیوع ، یناقض التعیین والتحدید الذی یدل علیه العلم المفرد (4). هذا إلی أن العلم المفرد قد صار بعد التثنیة إلی لفظ لم تقع (5) به التسمیة أولا ...
4- غیر مرکب (6) ؛ فلا یثنی بنفسه المرکب الإسنادی (وهو المکون من مبتدأ وخبر ؛ مثل «علی مسافر» علم علی شخص ، أو من فعل وفاعل ، مثل : «فتح الله - علم علی شخص أیضا). وإنما یثنی من طریق غیر مباشر ؛ فنأتی بکلمة : «ذو» للمذکر ، و «ذات» للمؤنث ؛ لتوصل معنی التثنیة إلیه. وهی ترفع بالألف ، وتنصب وتجر بالیاء ، وتکون مضافة إلی المرکب فی الأحوال الثلاثة ، تقول : جاء ذوا «محمد مسافر» ، وذاتا ... ، أو : ذواتا «هند مسافرة» (7) ، وشاهدت ذوی «محمد مسافر» وذاتی ... ، أو : ذواتی «هند مسافرة» : ونظرت إلی
ص: 119
ذوی «محمد مسافر» وذاتی ... أو : ذواتی «هند مسافرة». والمرکب الإسنادی فی کل هذه الحالات مضاف إلیه ، مجرور بکسرة مقدرة ، منع من ظهورها حرکة الحکایة.
کذلک المرکب المزجی : کحضرموت ، اسم بلد عربی ، و «بعلبک» اسم بلد لبنانی ، واسم معبد هناک. أیضا. و «سیبویه» اسم إمام النحاة. فإنه لا یثنی بنفسه مباشرة (1) ؛ وإنما یثنی بمساعدة : «ذو ، وذات» بعد تثنیتهما وإضافتهما ؛ تقول : هناک «ذوا» بعلبک ، وذاتا أو : ذواتا بعلبک ، وزرت «ذوی» بعلبک ، وذاتی ، أو ذواتی بعلبک ، ونزلت بذوی بعلبک ، وبذاتی أو : ذواتی بعلبک ، وهکذا ... ومثله المرکب العددی ؛ کأحد عشر ، وثلاثة عشر.
ومن العرب من یعرب المرکب المزجی بالحرف کالمثنی الحقیقی ؛ فیقول : بعلبکان» و «بعلبکیّن» ، والأخذ بهذا الرأی أسهل وأخف ، لدخوله مع غیره فی القاعدة العامة لإعراب المثنی ؛ فیحسن الاقتصار علیه. وفیهم من یجیز تثنیة صدره وحده معربا بالحروف ، ویستغنی عن عجزه نهائیا ؛ فیقول فی حالة الرفع «حضران» فی «حضرموت» ، و «بعلان» فی «بعلبک» ، و «سیبان» فی «سیبویه» وفی حالة النصب والجر یأتی بالیاء مکان الألف. ولکن هذا الرأی یوقع فی لبس وإبهام وخلط بین المرکب المزجی وغیره ، فیحسن إهماله فی استعمالنا. «أما المرکب الإضافی کعبد الله» و «عبد العزیز» و «عبد الحمید» ، فلا خلاف فی تتثنیة صدره المضاف ، مع إعرابه بالحروف ، وترک المضاف إلیه علی حاله تقول : هما عبدا الله ، وهما عبدا العزیز ، وسمعت عبدی الله : وعبدی العزیز ، وأصغیت إلی عبدی الله ... إلخ.
أما إذا کان المرکب وصفیّا «أی : مکونا من صفة وموصوف ؛ مثل : الرجل الفاضل» - فیثنی الصدر والعجز معا ، ویعربان بالحروف ؛ فتقول : جاء الرجلان الفاضلان ، ورأیت الرجلین الفاضلین ، ومررت بالرجلین الفاضلین وبالرغم من أن هذا هو الرأی الشائع فإنه یوقع فی لبس کبیر ؛ إذ لا یظهر معه أنه مثنی ، مفرده مرکب وصفی. ولهذا کان من المستحسن تثنیته بالطریقة غیر المباشرة ،
ص: 120
وهی زیادة «ذوا» ، وذوی ، قبله ، وذاتا ، أو ذواتا ... وذاتی ، أو ذواتی ... وبهذا تکون طریقة تثنیته هی طریقة جمعه الآتیة (1) ...
5- أن یکون له موافق فی اللفظ موافقة تامة فی الحروف وعددها وضبطها ؛ فلا یثنی مفردان بینهما خلاف فی شیء من ذلک «إلا ما ورد عن العرب ملاحظا فیه «التغلیب» کما وضحنا (2).
6- أن یکون له موافق فی المعنی ، فلا یثنی لفظان مشترکان فی الحروف ، ولکنهما مختلفان فی المعنی حقیقة أو مجازا ، مثل : «عین» للباصرة «وعین» للجاریة ، فلا یقال : هاتان عینان ، ترید بواحدة معنی غیر الذی تریده من الأخری.
7- وجود ثان له فی الکون ، فلا تثنی کلمة : شمس ، ولا قمر ، عند القدامی ؛ لأن کلا منهما لا ثانی له فی الکون فی زعمهم. أما الیوم فقد ثبت وجود شموس وأقمار لا عداد لها ؛ فوجب إهمال هذا الشرط قطعا. إذ لا یوجد فی المخلوقات شیء لا نظیر له.
8- عدم الاستغناء عن تثنیته بغیره ، فلا تثنی - فی الرأی الغالب - کلمتا : «بعض» و «سواء» - مثلا - استغناء عنهما بتثنیة جزء ، وسیّ ، فنقول : «جزءان وسیّان» ، ولا تثنی کلمة : «أجمع وجمعاء» فی التوکید ؛ استغناء بکلا وکلتا فیه. کما لا یثنی العدد الذی یمکن الاستغناء عن تثنیته بعدد آخر ، مثل : ثلاثة وأربعة ؛ استغناء بستة وثمانیة (3). ولذلک تثنی مائة وألف ، لعدم وجود ما یغنی عن تثنیتهما. وقد جمعوا الشروط السالفة کلها فی بیتین ؛ هما :
شرط المثنی أن یکون معربا
ومفردا ، منکرا ، ما رکّبا
موافقا فی اللفظ والمعنی ، له
مماثل ، لم یغن عنه غیره
وزاد بعضهم شرطا آخر هو : أن یکون فی تثنیته فائدة ؛ فلا یثنی : «کل»
ص: 121
ولا یجمع ؛ لعدم الفائدة من ذلک. وکذلک الأسماء التی لا تستعمل إلا بعد نفی عام ، وتقتصر فی الاستعمال علیه ؛ مثل : أحد (1) ، وعریب ، تقول : ما فی الدار أحد ، وما رأیت عریبا ... (أی : أحدا)
د - عرفنا أن المثنی یغنی عن المتعاطفین (أی : المعطوف والمعطوف علیه) وأن ما یدل علی اثنین من طریق العطف لا یسمی مثنی ؛ مثل : نجم ونجم ؛ ومن هنا لا یجوز إهمال التثنیة استغناء بالعطف بالواو ، إلا لغرض بلاغی ، کإرادة التکثیر فی مثل : أخذت منی ألفا وألفا ، أو بیان عدد المرات ، وما تحتویه المرة الواحدة ؛ مثل : أرسلت لک الدنانیر ، ثلاثة وثلاثة. ثم أرسلت لک کتابا وکتابا (2) ... أو : وجود فاصل ظاهر بین المعطوف والمعطوف علیه ، مثل : قرأت کتابا صغیرا ، وکتابا کبیرا ، أو فاصل مقدر ؛ کأن یکون لک أخ غائب اسمه : علیّ ، وصدیق غائب اسمه : علیّ ، أیضا ، ثم تفاجأ برؤیتهما معا ، فتقول : علیّ وعلیّ فی وقت واحد!! کأنک تقول : علیّ أخی وعلی صدیقی أراهما الآن!!
هذا إن کان العطف بالواو ، فإن کان بغیرها فلا تغنی التثنیة - غالبا - لأن العطف بغیر الواو یؤدی معانی تضیع بالتثنیة ، کالترتیب فی الفاء ، تقول داخل زائر فزائر ، بدلا من دخل زائران ، وهکذا (3).
ه - مما ینطبق علیه تعریف المثنی ، الضمیر فی أنتما قائمان ؛ فهو دال علی اثنین ، ویغنی عن أنت وأنت ، بما فی آخره من الزیادة الخاصة به ، وهی «ما» ولکنه فی الحقیقة لا یعد مثنی ، ولا ملحقا به ، لسببین :
أولهما : أنه مبنی ، وشرط المثنی أن یکون معربا - کما عرفنا.
وثانیهما : أن الزیادة التی فی آخره لیست هی الزیادة المشروطة فی المثنی.
و - من الملحق بالمثنی : «اثنان» و «اثنتان» (وفیها لغة أخری : ثنتان) وهما ملحقان به ، فی کل أحوالهما ؛ أی : سواء أکانا منفردین عن الإضافة مثل : جاء اثنان ، جاءت اثنتان ... أم مرکبین مع العشرة ؛ مثل : انقضی اثنا عشر یوما ، واثنتا عشرة لیلة (فتعرب اثنا واثنتا علی حسب الجملة إعراب المثنی. أما
ص: 122
کلمة : «عشر» وکذا «عشرة» فاسم مبنی علی الفتح لا محل له ؛ لأنه بدل من نون المثنی الحرفیة (1). أم مضافین إلی ظاهر ، نحو جاءنی اثنا کتبک ، وثنتا رسائلک ، أم أضیفا إلی ضمیر ، نحو غاب اثناکما ، وحضرت ثنتاکما ، لکن الصحیح عند إضافتهما للظاهر أو للضمیر أن یراد بالمضاف إلیه شیء غیر المراد من اثنا وثنتا أی : غیر المراد من المضاف ؛ فلا یقال حضر اثنا محمود وصالح ، ولا حضر اثناکما ، إذا کان مدلول المضاف إلیه فی الحالتین هو مدلول «اثنا» ، أی : مدلول المضاف ، لأنه فی هذه الحالة یؤدی ما تؤدیه «اثنان» : و «اثنتان» ومعناه هو معناهما ؛ فالإضافة لا فائدة منها ؛ إذ هی - کما سبق (2) - من إضافة الشیء إلی نفسه ؛ فلا حاجة إلیها ، بخلاف ما لو قلنا : جاء اثنا المنزل ، إذا کان المراد صاحبیه ، وجاءت ثنتا المنزل ، إذا کان المراد صاحبتیه ، وجاء اثناکما ، وجاءت اثنتاکما ، والقصد : خادمتا کما ، أو سیارتاکما ... وجاء اثناه واثنتاه ، واثناکم واثنتاکم ... فإن المراد من المضاف هنا غیر المراد من المضاف إلیه ، وکذلک ما یکون الضمیر فیه للمفرد أو الجمع ، نحو : اثناک واثناکم ... وهکذا فلا بد فی المضاف إلیه (سواء أکان اسما ظاهرا أم ضمیرا) أن یدل علی غیر الذی یدل علیه المضاف ؛ وهو ؛ الکلمتان : اثنان واثنتان ، وقد سبقت الإشارة لهذا (3) ...
ز - إذا أضیف المثنی حذفت نونه ؛ فمثل : سافر الوالدان. من غیر إضافة المثنی ، تقول إذا أضفته : سافر والدا علیّ. فإذا أضیف المثنی المرفوع - فقط - إلی کلمة أولها ساکن ؛ مثل : جاءنی صاحبا الرجل ، ومکرما الضیف ... فإن علامة التثنیة - وهی الألف - تحذف فی النطق حتما لا فی الکتابة. لکن ما ذا نقول فی إعرابه؟ أهو مرفوع بالألف الظاهرة فی الخط ، أم مرفوع بالألف المقدرة وهی التی حذفت لالتقاء الساکنین (لأنها ساکنة وما بعدها ساکن) والمحذوف لعلة کالثابت؟ یرجح النحاة أن نقول : إنه مرفوع بالألف المقدرة لأنهم هنا یقدمون النطق علی الکتابة ویعدون هذه الحالة فی عداد حالات الإعراب التقدیری ، ونری أنه لا داعی للأخذ بهذا الآن (4).
ص: 123
ح - هناک مفردات محذوفة الآخر ، مثل : أخ ، وید. أصلهما : أخو ، ویدی. فإذا أرید تثنیة هذا النوع فقد یرجع المحذوف حتما أو لا یرجع ، ومما لا یرجع ما حذفت لامه وجاءت همزة الوصل فی أوله عوضا عن لامه المحذوفة ، کالتی فی کلمة «اسم» وکذلک ما لا ترد لامه عند إضافته علی حسب القاعدة التالیة :
جاء فی شرح المفصل ج 4 ص 151. ما ملخصه :
اعلم أن المحذوف الآخر (أی : محذوف اللام) علی ضربین ؛ ضرب یرد إلیه الحرف الساقط فی التثنیة ، وضرب لا یرد إلیه. فمتی کانت اللام المحذوفة ترجع فی الإضافة فإنها ترد إلیه - فی الفصیح - عند التثنیة. وإذا لم یرجع الحرف المحذوف عند الإضافة لم یرجع عند التثنیة ؛ فمثال الأول : أخ وأب ؛ تقول فی تثنیتهما : هذان أخوان ، وأبوان ، ورأیت أخوین وأبوین ، ومررت بأخوین وأبوین ؛ لأنک تقول فی الإضافة ؛ هذا أبوک وأخوک ، ورأیت أباک وأخاک ، وذهبت إلی أبیک وأخیک. فتری اللام قد رجعت فی الإضافة (1) ؛ فکذلک فی التثنیة ...
ومثال الثانی یدودم ؛ فإنک تقول فی التثنیة : «یدان» و «دمان» فلا ترد الذاهب ؛ لأنک لا ترده فی الإضافة. اه. وهذا خیر ما یتبع. أما غیره فضعیف لا نلجأ إلیه اختیارا(2).
ط - بقیت أحکام تختص بالمثنی ونونه ، وستجیء فی ص 141 وما بعدها ،
ی - سیجیء فی ج 4 ص 457 م 171 باب خاص بطریقة التثنیة. وأهمها : تثنیة المقصور ، والمنقوص ، والممدود ...
ص: 124
ا - فاز علیّ. هنّأت علیّا. أسرعت إلی علیّ.
ب - فاز العلیون. هنّأت العلیین. أسرعت إلی العلیین.
نفهم من کلمة : «علیّ» فی القسم الأولی أنه شخص واحد ، ثم زدنا علیها الواو والنون المفتوحة ، أو الیاء المکسور ما قبلها ، وبعدها النون المفتوحة ، فصارت تدل علی أکثر من اثنین ، کما فی القسم الثانی : «ب». وبسبب هذه الزیادة استغنینا عن أن نقول : فاز علیّ وعلیّ وعلیّ ... و... و... أی : أن زیادة حرفی الهجاء المذکورین أغنت عن عطف کلمتین متماثلتین أو أکثر علی نظیرة سابقة ، مع اشتراک المعطوف والمعطوف علیه فی المعنی والحروف والحرکات. فکلمة «العلیون» وما یشبهها تسمی : «جمع مذکر سالما» (1) وهو :
«ما یدل علی أکثر من اثنین (2) ؛ بسبب زیادة معینة فی آخره ، أغنت عن
ص: 125
عطف المفردات المتماثلة فی المعنی والحروف والحرکات بعضها علی بعض».
فلیس من جمع المذکر ما یأتی :
1- ما یدل علی مفرد ؛ مثل : محمود ، أو (محمدین) علما علی شخص واحد.
2- ما یدل علی مثنی ، ومنه : المحمودان ... ، أو علی جمع تکسیر ؛ کأحامد ، جمع أحمد ، أو علی جمع مؤنث سالم ، کفاطمات ؛ لخلو هذین الجمعین من الزیادة الخاصة بجمع المذکر السّالم ، ومن الدلالة المعنویة التی یختص بتأدیتها.
3- ما یدل دلالة جمع المذکر ولکن من طریق العطف بالواو ؛ نحو : جاء محمود ، ومحمود ، ومحمود (1).
4- ما یدل دلالة جمع المذکر ، ولکن من طریق الوضع اللغوی وحده ؛ لا من طریق زیادة الحرفین فی آخره ؛ مثل : کلمة : «قوم» إذا کانت بمعنی : الرجال ، فقط.
5- ما یدل علی أکثر من اثنین ، ولکن مع اختلاف فی معنی المفرد ؛ مثل : الصالحون محبوبون ؛ ترید ؛ رجلین یسمی کل منهما : «صالحا» ومعهما ثالث لیس اسمه «صالحا» ، ولکنه تقیّ ، معروف بالصلاح ؛ فأنت تذکره مع الآخرین علی اعتبار أنه صالح فی سلوکه لا علی أنه شریک لهما فی التسمیة.
وقد یکون الاختلاف فی بعض حروف المفرد أو کلها ؛ فلا یصح أن یکون «السعیدون» جمعا لسعد ، وسعید ، وساعد (أسماء رجال) ، ولا جمعا لمحمود وصالح وفهیم ، کذلک.
ص: 126
وقد یکون الاختلاف فی حرکات الحروف (1) ، فلا یصح : العمرون قرشیون إذا کان المراد : عمر بن الخطاب ، وعمر بن أبی ربیعة ، وعمرو بن هشام ... (المعروف بأبی جهل).
حکمه : حکم جمع المذکر السالم الرفع بالواو نیابة عن الضمة ، وبعدها النون المفتوحة ، مثل : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) والنصب والجر بالیاء المکسور ما قبلها وبعدها النون المفتوحة ، مثل : صادقت المؤمنین ، وأثنیت علی المؤمنین.
* * *
نوعا جمع المذکر السالم :
الاسم الذی یجمع جمع مذکر سالما نوعان : أحدهما «العلم» والآخر : «الصفة»(2).
ا - فإن کان علما فلا بد أن تتحقق فیه الشروط الآتیة (3) :
1- أن یکون علما (4) لمذکر ، عاقل ، خالیا من تاء التأنیث الزائدة (5) ، ومن الترکیب ، ومن علامة تثنیة أو جمع.
ص: 127
فإن لم یکن علما لم یجمع هذا الجمع ، فلا یقال فی رجل : رجلون (1) ، ولا فی غلام ؛ غلامون ...
وإن کان علما لکنه لمؤنث ، لم یجمع أیضا ؛ فلا یقال فی زینب : زینبون ، ولا فی سعاد : سعادون. والعبرة فی التأنیث أو عدمه لیست بلفظه ، وإنما بمعناه ، وبما یدل علیه ، فکلمة : سعاد ، أو زینب ، إن کانت علما لمذکر ، واشتهرت بذلک - فإنها تجمع جمع مذکر سالما ، وکلمة : حامد أو حلیم ... إن کانت علما معروفا لمؤنث لم تجمع هذا الجمع.
وإن کان علما لمذکر لکنه غیر عاقل (2) لم یجمع أیضا ، مثل : «هلال» وهو علم علی : حصان ، و «نسیم» علم علی : زورق ...
وکذلک إن کان علما لمذکر عاقل ، ولکنه مشتمل علی تاء التأنیث الزائدة مثل : حمزة ، وجمعة ، وخلیفة ، ومعاویة ، وعطیة ... ، فإنه لا یجمع جمع مذکر (3) ، ولا یصح هنا ملاحظة المعنی ؛ لوجود علامة التأنیث فی اللفظ ؛ فیقع بینها وبین علامة جمع المذکر التناقض والتعارض بحسب الظاهر ، کما لا یصح أن تحذف ؛ لأن حذفها یوقع فی لبس ؛ إذ لا ندری أکانت الکلمة مؤنثة اللفظ قبل الجمع أم لا؟ لهذا اشترطوا خلو المفرد من تاء التأنیث الزائدة کما قلنا ...
وکذلک إن کان مرکبا ترکیب إسناد ، مثل : فتح الله - رام الله - رزق الله ... ؛ فإنه لا یجمع مباشرة باتفاق ؛ وإنما یجمع بطریقة غیر مباشرة ،
ص: 128
بأن تسبقه کلمة : «ذو» مجموعة ویبقی هو علی حاله لا یدخله تغییر مطلقا ، فی حروفه ، وحرکاته ، مهما تغیرت الأسالیب فیقال : «ذوو کذا» رفعا ، «وذوی» نصبا وجرّا ؛ فتغنی عن جمعه کما سیجیء (1) ...
أو : مرکبا ترکیب مزج ، کخالویه ، وسیبویه ، وسعد یکرب ، أو : ترکیب عدد ؛ کأحد عشر ، وثلاثة عشر ، وأربعة عشر ... والمشهور فی هذه المرکبین عدم جمعهما جمعا مباشرا ؛ فیستعان بکلمة : «ذو» مجموعة علی : (ذوو ، وذوی) ؛ فتغنی عن جمعهما ، کما سیجیء أیضا (2) ...
أما المرکب الإضافی کعبد الرحمن وعبد العزیز فیجمع صدره المضاف ؛ ویبقی العجز (وهو المضاف إلیه) علی حاله من الجر (3) تقول : اشتهر عبدو الرحمن ، وصافحت عبدی الرحمن ، وسلمت علی عبدی الرحمن.
ولا یجمع ما آخره علامة تثنیة ، أو علامة جمع مذکر ؛ مثل : المحمدان أو المحمدین (علما علی شخص) والمحمدون أو المحمدین علما کذلک (4).
ب - وإن کان صفة (أی : اسما مشتقّا) فلا بد أن تتحقق فیه الشروط الآتیة : أن تکون الصفة لمذکر ، عاقل ، خالیة من تاء التأنیث ، لیست علی وزن أفعل (5) (الذی مؤنثه فعلاء) ، ولا علی وزن فعلان (الذی مؤنثه فعلی) ، ولا علی وزن صیغة تستعمل للمذکر والمؤنث.
ص: 129
فإن کانت الصفة خاصة بالمؤنث ، لم تجمع جمع مذکر سالما ؛ منعا للتناقض بین ما یدل علیه المفرد ، وما یدل علیه جمع المذکر ، مثل : «مرضع» فلا یقال : مرضعون ، وکذلک إن کانت لمذکر ، ولکنه غیر عاقل (1) ؛ مثل : صاهل ، صفة «للحصان» أو : ناعب ، صفة للغراب ، فلا یقال : صاهلون ولا ناعبون ، أو : کانت مشتملة علی تاء تدل علی التأنیث ؛ نحو : قائمة ؛ فلا یصح : قائمتون (2).
وکذلک ما کان علی وزن : «أفعل» (الذی مؤنثه ، فعلاء) نحو أخضر ؛ فإن مؤنثه : خضراء ، وأبیض ، فإن مؤنثه : بیضاء ، فلا یقال أخضرون ، ولا أبیضون ، علی الأصحّ (3). ومثله ما کان علی وزن فعلان (الذی مؤنثه فعلی) ، مثل سکران وسکری (4). وکذلک ما کان علی صیغة تستعمل للمذکر والمؤنث ، کصیغة ، مفعال کمهذار (5) ، ومفعل ؛ کمغشم (6). وفعول (7) ؛ مثل : صبور وشکور ،
ص: 130
وفعیل (1) ؛ مثل : کسیر وقطیع ؛ إذ لا یتأتی أن یکون المفرد صالحا للمذکر والمؤنث معا وجمعه لا یکون إلا للمذکر ؛ فیقع اللبس والخلط بسبب هذا.
إلی هنا انتهت الشروط الواجبة فیما یجمع أصالة (2) جمع مذکر سالما.
ص: 131
ا - اشترطوا (1) فی العلم أن یکون خالیا من تاء التأنیث الزائدة - إلا عند الکوفیین - والمراد بها : التی لیست عوضا عن فاء الکلمة ؛ أو عن لام الکلمة ، لأنها عوض عن أصل فهی کالأصیلة. فالأولی مثل : عدة ، أصلها : وعد ، حذفت الواو ، وعوض عنها تاء التأنیث ، والثانیة مثل : مئة. وأصلها : مئو ؛ حذفت الواو وعوض عنها تاء التأنیث.
فإن کانت عوضا عن أصل وجعل اللفظ اسما لمسمی (أی : صار علما) فإنه یجمع قیاسا بعد حذفها. ویکون من الجموع الحقیقیة ؛ تقول : «عدون» لجمع مذکر ، ومثلها : مئون ؛ أما إذا لم یجعل علما ، فإنه یصح جمعه إن کان محذوف اللام ، مثل : الجیش مئون ، ولکنه یعد من ملحقات جمع المذکر السالم.
أما ألف التأنیث المقصورة أو الممدودة فلا یشترط خلوه منها ، فلو سمینا رجلا بسلمی ، أو : صحراء ، حذفت فی جمع المذکر السالم الألف المقصورة ، وقلبت همزة الممدود واوا ، فیقال : السّلمون والصحراوون (أعلام رجال).
ب - لا یجمع المرکب الإسنادی جمع مذکر سالما إلا بطریقة غیر مباشرة ؛ - - کما سبق (2) - وذلک بأن نأتی قبله بکلمة : «ذوو» أو : «ذوی» (وهما جمع : «ذو» و «ذی») فنقول : غاب ذوو فتح الله ، وأکرمنا ذوی فتح الله ، وسلمنا علی ذوی فتح الله (3). وهذا باتفاق.
أما المرکب المزجی فأشهر الآراء أنه لا یجمع إلا بالطریقة السابقة غیر المباشرة (4). وهناک رأی آخر یجیز جمعه مباشرة - وکذلک تثنیته - ، فیقال : جاء خالویهون ، وشاهدت خالویهین ، وقصدت إلی خالویهین. ومثله سیبویه ، ومعد یکرب (اسم رجل) وغیرهما من باقی المرکبات المزجیة ، وهذا الرأی أسهل الآراء. وأجدرها بالقبول ، لدخوله فی الحکم العام لجمع المذکر السالم (5) وبعده من اللّبس. کما سیجیء فی : «ج».
ص: 132
وأما المرکب التقییدی ؛ وهو : المرکب من صفة وموصوف مثل : محمد الفاضل ، أو من غیرهما ؛ مما لا یعدّ فی المرکبات السابقة - فالأشهر أن یقال فی جمعه : ذوو «محمد الفاضل» ، فلا یجمع مباشرة ، وإنما یتوصل إلی جمعه بکلمة (ذوو) رفعا و (ذوی) نصبا وجرّا.
وقد سبق (1) أن قلنا إن المرکب الإضافی یجمع صدره دون عجزه. وهذا صحیح إن کان المضاف وحده هو المتعدد ، دون المضاف إلیه ؛ کما نقول فی «عبد الله» عند الجمع : عبدو الله. أما إن تعدد أفراد المضاف وأفراد المضاف إلیه معا (کعبد السید والمضاف والمضاف إلیه مصریان مثلا - ، وعبد السید والمضاف والمضاف إلیه شامیان - مثلا - ، وعبد السید لعراقیین) ، فالواجب جمع المضاف والمضاف إلیه معا جمع مذکر سالما ؛ فنقول : عبدو السیّدین ، أو جمع تکسیر ، فتقول : عبید السادة.
ح - سبق (2) أنه یشترط فی الاسم الذی یجمع جمع مذکر سالما ، ما یشترط فی الاسم المراد تثنیته ؛ ومن شروطه : أن یکون معربا ... فلو کان مبنیّا لزوما مثل : هؤلاء ، أو : حذام (علی أنها أعلام رجال) لم یجز جمعه مباشرة ، وإنما یجمع بطریق الاستعانة بکلمة : (ذوو) رفعا و «ذوی» نصبا وجرا.
ولما کانت کلمة «سیبویه» و «خالویه» وأشباهها هی من الکلمات المبنیة لزوما - کان حقها ألا تجمع جمع مذکر سالما إلا بالاستعانة بکلمة : «ذوو» ، و «ذوی». لکنهما من ناحیة أخری یدخلان فی قسم المرکب المزجی وقد آثرنا - فی الصفحة السابقة - الرأی الذی یبیح جمعه مباشرة جمع مذکر سالما.
د - سیجیء - فی ج 4 ص 457 م 171 - باب خاص بطریقة جمع الاسم جمع مذکر سالما ، وأهمها طریقة جمع : المقصور ، والممدود ، والمنقوص جمع مذکر سالما.
ص: 133
ألحق النحاة بجمع المذکر فی إعرابه أنواعا أشهرها : خمسة ؛ فقد کلّ نوع منها بعض الشروط ، فصار شاذا ملحقا بهذا الجمع ، ولیس جمعا حقیقیّا ، وکل الأنواع الخمسة سماعیّ ؛ لا یقاس علیه ؛ - لشذوذه - وإنما یذکر هنا لفهم ما ورد منه فی النصوص القدیمة.
أولها : کلمات مسموعة تدل علی معنی الجمع ، ولیس لها مفرد من لفظها ، ولکن لها مفرد من معناها ، مثل کلمة : «أولو» فی قولنا : «المخترعون أولو فضل» ، أی : أصحاب فضل ؛ فهی مرفوعة بالواو نیابة عن الضمة ، لأنها ملحقة بجمع المذکر السالم ؛ إذ لا مفرد لها من لفظها ، ولها مفرد من معناها ، وهو : صاحب. وهی منصوبة ومجرورة بالیاء نیابة عن الفتحة أو الکسرة فی قولنا : کان المخترعون «أولی» فضل. وانتفعت من «أولی» الفضل. ومثل هذه الکلمة بسمی : اس جمع (1).
ومن الکلمات المسموعة : أیضا کلمة : (عالمون). ومفردها : عالم ، وهو ما سوی الله ، من کل مجموع متجانس من المخلوقات ، کعالم الحیوان ، وعالم النبات ، وعالم الجماد ؛ وعالم المال ، وعالم الطائرات ... إلخ.
وکلمة : «عالم» تشمل المذکر والمؤنث والعاقل وغیره. فی حین أن کلمة : «عالمون» لا تدل إلا علی المذکر العاقل ، فهی تدل علی معنی خاص بالنسبة لما یندرج تحت کلمة «عالم» (2) ، والخاص لا یکون جمعا للعام ؛ لهذا کان
ص: 134
«عالمون» إما اسم جمع لکلمة : «عالم» ولیس جمعا له ؛ وإمّا جمعا له غیر أصیل ولکن بتغلیب المذکر العاقل علی غیره. وفی هذه الحالة لا تکون جمع مذکر سالما حقیقة ؛ لأن اللفظة لیست علما ولا صفة ، وإنما تلحق به کغیرها مما فقد بعض الشروط.
ثانیها : من الکلمات المسموعة ، ما لا واحد له من لفظه ولا من معناه ، وهی : عشرون (1) ، وثلاثون ، وأربعون ، وخمسون ، وستون ، وسبعون ، وثمانون ، وتسعون ، وهذه الکلمات تسمی : «العقود العددیة» وکلها أسماء جموع أیضا.
ثالثها : کلمات مسموعة أیضا ؛ ولکن لها مفرد من لفظها. وهذا المفرد لا یسلم من التغییر عند جمعه ، فلا یبقی علی حالته التی کان علیها قبل الجمع ؛ ولذلک یسمونها ، جموع تکسیر (2) ، ویلحقونها بجمع المذکر فی إعرابها بالحروف ؛ مثل : بنون ، وإحرّون ، وأرضون ، وذوو ، وسنون وبابه (3). فکلمة : «بنون» : مفردها. «ابن» حذفت منه الهمزة عند الجمع ، وتحرکت الباء ؛ وکلمة : «إحرّون» «مفردها : «حرّة» (4) ، زیدت الهمزة فی جمعها. «وأرضون» (بفتح الراء) لا مفرد لها إلا : أرض (بسکونها) ؛ فتغیرت حرکة الراء عند الجمع من سکون إلی فتح. هذا إلی أن المفرد مؤنث ، وغیر عاقل. و «ذوو» فی الجمع مفتوحة الذال ، مع أن مفردها : «ذو» مضموم الذال. «وسنون» مکسورة السین فی
ص: 135
الجمع ، مفتوحتها فی المفرد ، وهو : «سنة» ، فضلا عن أنها لمؤنث غیر عاقل أیضا ، - وأصلها «سنة» أو «سنو» ، بدلیل جمعهما علی «سنهات» و «سنوات» - ثم حذفت لام الکلمة ، (وهی الحرف الأخیر منها) ، وعوض عنه تاء التأنیث المربوطة ، ولم ترجع الواو عند الجمع. -
ومن الکلمات الملحقة بهذا الجمع سماعا (1) ، والتی تدخل فی باب «سنة» کلمة : عضة ، وجمعها : عضون (بکسر العین فیهما). وأصل الأولی : «عضه ، بمعنی : کذب وافتراء. أو : عضو. بمعنی : تفریق. یقال فلان کلامه عضه ، أی : کذب ، وعمله عضو بین الأخوان ، أی : تفریق وتشتیت ؛ فلام الکلمة هاء ، أو واو. ومثلها «عزة» ، جمعها : عزون (بالکسر فیهما). والعزة : الفرقة من الناس ، وأصلها عزی ؛ یقال : هذه عزة تطلب العلم ... وأنتم عزون فی میدان العلم. وأیضا : «ثبة» بالضم ، وجمعها : ثبون ، بضم أول الجمع أو کسره. والشّبة «الجماعة» ، وأصلها ثبو ، أو : ثبی ، یقال : الطلاب مختلفون : ثبة مقیمة. وثبة مسافرة ، وهم ثبون (2).
وعلی ضوء ما سبق نعرف السبب فی تسمیة تلک الکلمات المسموعة بجمع التکسیر ، لأن تعریفه وحده هو الذی ینطبق علیها ، دون غیره من جمعی التصحیح ؛ إذ هو «ما تغیّر فیه بناء الواحد» وقد تغیر بناء واحدها (3).
ص: 136
رابعها : کلمات مسموعة لم تستوف بعض الشروط الأخری الخاصة بجمع المذکر ؛ فألحقوها به ، ولم یعتبروها جمعا حقیقیّا. ومن هذه الکلمات ، «أهل». فقد قالوا فیها : أهلون. مثل :
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولا بد یوما أن ترد الودائع
فجمعوها مع أنها لیست علما ولا صفة. ومنها : «عالمون» ؛ لیست علما ، ولا صفة أیضا. وقد تکلمنا عنها من وجهة أخری فیما سبق. ومنها : «وابل» ؛ بمعنی : مطر غزیر. یقال : غمر الوابلون الحقول. فجمعوها ، مع أنها لیست علما ولا صفة ، ولا تدل علی عاقل ...
خامسها : کلمات من هذا الجمع المستوفی للشروط ، أو مما ألحق به ، ولکن سمی بها (1) ، وصارت أعلاما. فمن أمثلة الأول المستوفی للشروط «حمدون». «وعبدون». و «خلدون» و «زیدون» أعلام أشخاص معروفة قدیما وحدیثا.
ص: 137
ومثال الثانی : «علّیّون». (اسم لأعالی الجنة) المفرد : علّیّ. بمعنی المکان العالی ، أو علیّة ، بمعنی : الغرفة العالیة. وهو ملحق بالجمع ، لأن مفرده غیر عاقل.
سادسها : کل اسم من غیر الأنواع السابقة یکون لفظه کلفظ الجمع فی اشتمال آخره علی واو ونون ، أو یاء ونون ، لا فرق فی هذا بین أن یکون نکرة ؛ مثل : «یاسمین» و «زیتون» أو علما مثل : «صفّین» و «نصیبین» و «فلسطین» (1)
ص: 138
ا - بمناسبة النوع الخامس نشیر إلی أن التسمیة بجمع المذکر السالم معروفة قدیما وحدیثا (1). کالتسمیة بغیره من أنواع المفردات ، والمثنیات ، والجموع. فإذا سمّی به ففیه عدة إعرابات ، یرتبها النحاة الترتیب التالی ، بحسب شهرتها وقوتها :
1- أن یعرب بالحروف کجمع المذکر السالم ، مع أنه علم علی واحد ؛ فیبقی حاله بعد التسمیة به کحاله قبلها. تقول فی رجل اسمه سعدون : جاء سعدون. وأکرمت سعدین ، وأصغیت إلی سعدین. وفی هذه الحالة لا تدخله «أل» التی للتعریف ، لأنه معرفة بالعلمیة.
2- أن یلزم آخره الیاء والنون رفعا ، ونصبا ، وجرّا ، ویعرب بحرکات ظاهرة علی النون مع تنوینها (2) - غالبا - تقول فی رجل اسمه محمدین : هذا محمدین ، ورأیت محمدینا ، وقصدت إلی محمدین ، فکلمة : «محمدین» : إما مرفوعة بالضمة الظاهرة ، أو : منصوبة بالفتحة الظاهرة ، أو : مجرورة بالکسرة الظاهرة ، مع التنوین (3) (غالبا فی کل حالة) (4) (فإعرابها - کما یقول النحاة - کإعراب : غسلین (5) وحین). وتلک النون لا تسقط فی الإضافة ؛ لأنها لیست نون جمع ، والأخذ بهذا الإعراب - فی رأینا - أحسن ؛ فی العلم المختوم بالیاء والنون. والاقتصار علیه أولی ؛ لیسره ومطابقته للواقع الحقیقی ، فهو بعید. عن کل لبس ؛ إذ لا یتوهم الماء معه أن الکلمة جمع مذکر حقیقی ؛ وإنما یدرک حین یسمعها أنها علم علی مفرد. وهناک سبب هام یقتضی الاقتصار علی هذا الرأی فی العلم المختوم بالیاء والنون هو : «المعاملات الرسمیة» الجاریة فی عصرنا علی الوجه المببن عند الکلام علی التسمیة بالمثنی (6) ...
ص: 139
والقصد من سرد الآراء التی تخالف هذا الأحسن والأیسر فهم النصوص القدیمة الواردة بها ، دون أن نبیح الیوم استعمالها ؛ ومن الإساءة للغتنا أن نفتح الأبواب المؤدیة إلی البلبلة والاضطراب فیما ننشئه من کلام ، وإلی التعسیر من غیر داع ، فیما نمارسه من شئون الحیاة.
ومن العرب من یجری حکم : «غسلین وحین» منونا - فی الغالب - أو غیر منون علی «سنین» وبابه کله. وإن لم یکن علما. ومنهم من یجریه منونا علی جمیع أنواع المذکر السالم وملحقاته کما سبق.
3- أن یلزم آخره الواو والنون فی کل الحالات ، ویعرب بحرکات ظاهرة علی النون من غیر تنوین (1) فیکون نظیر : «هارون» فی المفردات الممنوعة من الصرف.
4- أن یلزم آخره الواو والنون ، فی کل الحالات ویعرب بحرکات ظاهرة علی النون ، مع تنوینها (2) فیکون نظیر «عربون» (3) من المفردات.
ونری أن الاقتصار علی هذا الإعراب - أو علی سابقه - أحسن فی العلم المختوم بالواو والنون ؛ مثل : زیدون ؛ لما سبق فی نظیره المختوم بالیاء والنون.
5- أن یلزم آخره الواو والنون المفتوحة فی جمیع الحالات ، ویعرب بحرکات مقدرة علی الواو.
ب - إذا سمّی بجمع المذکر ، أو بما ألحق به (کالأعلام الواردة فی النوع الخامس (4) ، ومنها : حمدون ، خلدون ، عبدون ، زیدون ...) ، وأرید جمع هذا العلم جمع مذکر سالما ، لم یصح جمعه مباشرة - کما عرفنا - وإنما یصح جمعه من طریق غیر مباشر ، وذلک بالاستعانة بالکلمة الخاصة التی یجب أن تسبق هذا العلم ، وتلحقها علامة الجمع رفعا ، ونصبا ، وجرّا ، وهذه الکلمة هی : «ذو» دون غیرها ، وتصیر فی الرفع : «ذوو» ، وفی النصب والجر : «ذوی» وه «مضافة «، والعلم بعدها هو» المضاف «إلیه دائما ، وفیه الإعرابات السابقة فیقال : جاءنی ذوو حمدون ، وصافحت ذوی حمدون ، وأصغیت إلی ذوی حمدون ... فکلمة : «ذوو» و «ذوی» تعرب علی حسب حاجة الجملة ، وترفع بالواو ، وتنصب وتجر
ص: 140
بالیاء وتلک الکلمة هی التی توصل لجمع المسمی به. أما الطریقة إلی تثنیة هذا الجمع فهی الطریقة التی تقدمت فی التثنیة (1) ، ویستعان فیها بکلمة : «ذو» أیضا
ح - سبقت الإشارة (2) إلی أن النون مفتوحة فی جمع المذکر السالم وملحقاته (3) فی أحواله الإعرابیة المختلفة ؛ أی : فی حالة رفعه بالواو ، أو نصبه أو جره بالیاء ، ولا علاقة لهذه النون بإعرابه. ومن العرب من یکسرها ، ولکن لا داعی للأخذ بهذه اللغة ، منعا للخلط والتشتیت من غیر فائدة.
أما نون المثنی وجمیع ملحقاته (4) فالأشهر فیها أن تکون مکسورة فی الأحوال الإعرابیة المختلفة. وقلیل من العرب یفتحها ، ومنهم من یضمها بعد الألف ، ویکسرها بعد الیاء ، فی حالتی النصب والجر ، ولا داعی للعدول عن الرأی الأشهر فی الاستعمال ، للسبب السالف (5).
د - لنون المثنی والجمع وملحقاتهما أثر کبیر فی سلامة المعنی ، وإزالة اللبس ؛ ففی قولنا : سافر خلیلان : موسی ومصطفی - نفهم أن موسی ومصطفی هما الخلیلان ، وأنهما اللذان سافرا ، بخلاف ما لو قلنا : سافر خلیلا موسی ومصطفی ؛ بغیر النون فإننا قد نفهم الکلام علی الإضافة (إضافة : خلیلا إلی موسی) ویتبع هذا أن الخلیلین هما اللذان سافرا ، دون موسی ومصطفی. وفرق بین المعنیین.
ومثل هذا أن نقول فی الجمع : مررت ببنین أبطال ؛ فالأبطال هم البنون ؛ والبنون هم الأبطال ، فلو حذفت النون لکان الکلام : مررت ببنی أبطال ، وجاز أن نفهم الکلام علی الإضافة ؛ إضافة البنین إلی أبطال ؛ فیتغیر المعنی.
وکذلک تمنع توهم الإفراد فی مثل : جاءنی هذان ، ورحبت بالداعین للخیر ؛ فلو لم توجد النون لکان الکلام : جاءنی هذا ، ورحبت بالداعی للخیر ؛ وظاهره أنه
ص: 141
للمفرد ، وهو غیر المراد قطعا.
وتحذف نون المثنی والجمع للإضافة - کما أشرنا - فی الأمثلة السابقة ؛ وهو حذف لازم ؛ کحذفها وجوبا مع «اثنین» و «اثنتین» عند ترکیبهما مع عشر ، أو : عشرة ... ؛ فتحل کلمة : «عشر ، أو : عشرة» مکان النون بعد حذفها ، نحو : «اثنا عشر» و «اثنتا عشرة» ؛ فتعرب : «اثنا» و «اثنتا» إعراب المثنی ، وکلمة «عشر أو : عشرة» اسم مبنی (1) علی الفتح لا محل له من الإعراب ، لوقوعه موقع نون المثنی التی هی حرف. - کما سبق (2).
وقد تحذف جوازا للتخفیف ؛ إذا کانت فی آخر اسم مشتق (أی : وصف) فی أوله «أل» الموصولة ، و «خیرا» ، قد نصب بعده مفعوله مثل : ما أنتما المهملا واجبا ، - وما أنتم المانعو خیرا ؛ ومنه قراءة من قرأ : «والمقیمی الصلاة» (بنصب کلمات : «الواجب» ، وخیرا ، و «الصلاة» ؛ علی أنها مفعول به لاسم الفاعل الذی قبل کل منها) (3). ویجیز سیبویه وآخرون حذف نون ما دل علی تثنیة أو جمع من أسماء الموصول ؛ نحو : اللذان ، واللتان ، والذین.
وقد تحذف نون الجمع جوازا إذا وقع بعدها لام ساکنة ، کقراءة من قرأ : (غیر معجزی الله). بنصب کلمة «الله» علی أنها مفعول به (أصله : معجزین الله) ، وقراءة : «وإنکم لذائقو العذاب» بنصب کلمة : «العذاب» علی أنها مفعول به أیضا ، وأصلها : «وإنکم لذائقون العذاب».
وأقل من هذا أن تحذف من غیر وقوع اللام الساکنة بعدها ؛ کقراءة من قرأ : «وما هم بضارّی به من أحد» وأصلها : «بضارین به».
وقد تحذف النون جوازا لشبه الإضافة فی نحو : لا غلامی لمحمد ، ولا مکرمی للجاهل ، إذا قدرنا الجار والمجرور صفة ، والخبر محذوفا (4).
ص: 142
حارسا الحقل وأقبل زارعا الحدیقة - فإن علامة التثنیة (وهی الألف) تحذف نطقا ، لا خطّا. ویرجح النحاة فی إعرابه أن یقال : إنه مرفوع بألف مقدرة ...
وکذلک الشأن فی جمع المذکر ؛ فإنه إذا أضیف حذفت نونه للإضافة ؛ فإن کانت إضافته إلی کلمة أولها ساکن حذفت واوه رفعا ، ویاؤه نصبا ، وجرّا ؛ فی النطق ، لا فی الکتابة ؛ تقول : جاء عالمو المدینة ، وکرمت عالمی المدینة ، وسعیت إلی عالمی المدینة (1).
لکن ما إعرابه؟ أیکون مرفوعا بالواو الظاهرة فی الکتابة ، أم بالواو المقدرة المحذوفة فی النطق لالتقاء الساکنین ؛ فهی محذوفة لعلة ، فکأنها موجودة؟
وکذلک فی حالة النصب والجر ؛ أیکون منصوبا ومجرورا بالیاء المذکورة أم المقدرة؟ یرتضی النحاة أنه معرب فی جمیع حالاته بالحرف المقدر ؛ لأنهم هنا یقدمون النطق علی الکتابة ، ویعدون هذه الحالة کحالة المثنی فی أنها من مواضع الإعراب التقدیری (2) ، لا الإعراب اللفظی.
ونقول هنا ما سبق أن قلناه فی المثنی : وهو أنه لا داعی الیوم للأخذ بهذا الرأی ، ولن یترتب علی إهماله ضرر ؛ لأن الخلاف شکلی لا قیمة له. ولکن الإعراب التقدیری هنا لا یخلو من تکلف ، وقد یؤدی إلی اللبس.
کذلک تقدر الواو رفعا - فقط - فی جمع المذکر السالم إذا أضیف إلی یاء المتکلم ؛ نحو : جاء صاحبیّ. وأصلها : صاحبون لی ؛ حذفت اللام للتخفیف ، والنون للإضافة ؛ فصارت الکلمة صاحبوی. اجتمعت الواو والیاء ، وسبقت إحداهما بالسکون ، قلبت الواو یاء ؛ فصارت الکلمة : صاحبیّ ، ثم حرکت الباء بالکسرة ؛ لتناسب الیاء ؛ فصارت الکلمة : صاحبیّ. ومثلها جاء خادمیّ ومساعدیّ ، إذ یرتضی النحاة فی إعرابها : «خادمیّ» ، فاعل مرفوع بالواو المقدرة المنقلبة یاء المدغمة فی یاء المتکلم. و «خادم» مضاف ویاء المتکلم مضاف إلیه ؛ مبنیة علی الفتح فی محل جر. وکذلک الباقی وما أشبهه.
ویقول فریق آخر : إن إعراب کلمة : «صاحبیّ» وأشباهها هو إعراب
ص: 143
وکذلک فی. لبّیک (1) وسعدیک (2) ... وأشباههما عند من یری أن الکاف حرف للخطاب ، ولیست باسم.
وقد یحذفان للضرورة فی الشعر :
هذا ، وعلی الرغم من أن حذفهما جائز فی المواضع التی ذکرناها - فمن المستحسن الفرار منه قدر الاستطاعة ؛ منعا للغموض واللبس ، وضبطا للتعبیر فی سهولة ، ووضوح ، واتفاق یلائم حالة الناس الیوم. أما المواضع التی یجب فیها حذفهما فلا مفر من مراعاتها.
ه - الأصل (3) فی المثنی أن یدل علی اثنین حقیقة. لکن قد یکون اللفظ ظاهره التثنیة ومعناه الجمع بشرط وجود قرینة ؛ فیکون ملحقا بالمثنی فی الإعراب فقط ، ولیس مثنی حقیقة ؛ لفقد شرط التثنیة ؛ ومن ذلک : «ارجع البصر کرّتین» أی : کرّات ؛ لأن المراد التکثیر ، والتکثیر لا یتحقق بکرتین ، وإنما یتحقق بکرّات. ومثله : حنانیک ... وهذا النوع یجوز فیه التجرید من علاتی التثنیة اکتفاء بالعطف ، مثل : أتعبتنا الأسفار ؛ خمس وخمس ، وذهاب وذهاب ورجوع ورجوع ومنه قول الشاعر :
تخدی (4) بنا نجب أفنی
عرائکها
خمس وخمس وتأویب وتأویب
وقد یغنی التکرار عن العطف (5) ؛ کقوله تعالی : (صَفًّا صَفًّا) ، وقوله : (دَکًّا دَکًّا).
و - سبق (6) أن قلنا إن المثنی المرفوع إذا أضیف إلی کلمة أولها ساکن ؛ مثل : غاب
ص: 144
لفظی ، لا تقدیری ؛ لوجود ذات الواو ، ولکن فی صورة یاء. وتغیر صورتها لعلة تصریفیة لا یقتضی أن نقول إنها مقدرة. والخلاف بین هذین الرأیین لا قیمة له ؛ لأنه خلاف لفظی ، شکلی ، لا یترتب علیه شیء عملی ؛ فلا مانع من اتباع أحد الرأیین. والأول أفضل لموافقته لبعض حالات خاصة أخری.
ز - جسم الإنسان - وغیره - ذو أعضاء ، وأجزاء ، وأشیاء أخری تتصل به ، منها : ما یلازمه ویتصل به دائما ، فلا ینفصل عنه فی وقت ، ثم یعود إلیه فی وقت آخر ؛ کالرأس ؛ والأنف ، والظهر ، والبطن ، والقلب ... ومنها : ما یتصل به حینا ، وینفصل عنه حینا ، ویعود إلیه بعد ذلک ؛ کالثوب ، والأدوات الجسمیة الأخری وأشباهها ... فإذا کان فی الجسم شیء واحد لا یتعدد ، ولا ینفصل عنه ، کالرأس ؛ والقلب - ضممت إلیه مثله جاز فیه ثلاثة أوجه :
أوّلها : الجمع : وهو الأکثر. نحو : ما أحسن رءوسکما. ومنه قوله تعالی : (إِنْ تَتُوبا إِلَی اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُما) وإنما عبروا بالجمع مع أن المراد التثنیة ، لأن التثنیة فی الحقیقة جمع لغوی (1) ؛ ولأنه مما لا یقع فیه لبس ، ولا إشکال ؛ فمن المعلوم ألا یکون للإنسان إلا رأس واحد ، أو قلب واحد ...
ثانیها : التثنیة علی الأصل وظاهر اللفظ ؛ نحو : ما أحسن رأسیکما ، وأطیب قلبیکما.
ثالثها : الإفراد ؛ نحو ؛ ما أحسن رأسکما ، وأطیب قلبکما. وهذا جائز لوضوح المعنی ، إذ کل فرد له شیء واحد من هذا النوع ، فلا یشکل ، ولا یوقع فی لبس. فجیء باللفظ المفرد ، للخفة.
أما ما یکون فی الجسد منه أکثر من واحد ؛ کالید ، والرجل ؛ فإنک إذا ضممته إلی مثله لم یکن فیه إلا التثنیة ؛ نحو : ما أکرم یدیکما ، وما أسرع رجلیکما. أما قوله تعالی : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما ...) فإنه جمع ؛ لأن المراد الأیمان : (جمع یمین ، أی : الید الیمنی) (2).
وأما ما یتصل بالجسم وینفصل عنه من نحو : ثوب ، وغلام فلا یجوز
ص: 145
فیه إلا التثنیة إذا ضممت منه واحدا إلی مثله ؛ نحو أعجبت بثوبیکما ... وسلمت علی غلامیکما ... إذا کان لکل واحد ثوب وغلام. ولا یجوز الجمع فی مثل هذا ؛ منعا للإیهام واللبس ؛ إذ لو جمع لأوهم أن لکل واحد أثوابا وغلمانا. وهو غیر المراد (1). وکذلک لا یجوز الإفراد ؛ للسبب السالف.
ح - سبق الکلام علی منع تثنیة جمع المذکر وجمعه بطریقة مباشرة فیهما ، وإباحة ذلک عند التسمیة به (2) ... فهل یجوز تثنیة جمع التکسیر ، وجمعه؟ فریق قال : إن جمعه مقصور علی السماع (3). أما تثنیته فملخص الرأی (4) فیها عنده أن القیاس یأبی تثنیة الجمع ، وذلک أن الغرض من الجمع الدلالة علی الکثرة العددیة ، والتثنیة تدل علی القلة ؛ فهما متدافعان ، ولا یجوز اجتماعهما فی کلمة واحدة. وقد جاء شیء من ذلک - عن العرب - علی تأویل الإفراد ؛ قالوا : إبلان ، وغنمان. وجمالان. ذهبوا بذلک إلی القطیع الواحد ، وضموا إلیه مثله فثنوه ... وما دام القیاس یأباه فالأحسن الاقتصار فیه علی السماع (5).
وفریق آخر - کما سیجیء (6) - یمیل إلی إباحة الجمع فیما یدل علی القلة ، دون ما یدل علی الکثرة.
والأفضل الأخذ بالرأی القائل إن الحاجة الشدیدة قد تدعو أحیانا إلی جمع الجمع ، کما تدعو إلی تثنیته ؛ فکما یقال فی جماعتین من الجمال : جمالان - کذلک یقال فی جماعات منها : جمالات. وإذا أرید تکسیر جمع التکسیر روعی فیه ما نصوا علیه فی بابه(7).
ص: 146
1- حضرت سیدة. سمعت سیدة. قرأت مقالة سیدة.
حضرت سیدات. سمعت سیدات. قرأت مقالات لسیدات.
2- فارت هند. أکرم الوالد هندا. هذه مدرسة هند.
فارت الهندات. أکرم الوالد الهندات. هذه مدرسة الهندات.
3- عطیة طالب ماهر. إن عطیة طالب ماهر. لعطیة نشاط ظاهر.
العطیات طالبون ماهرون. إن العطیات طالبون مهرة. للعطیات نشاط.
اتسعت السّرادقات. ملأ الناس السرادقات. جلس القوم فی السرادقات.
فی الأمثلة السابقة کلمات مفردة ، تدل کل کلمة منها علی شیء واحد مؤنث ، أو مذکر ، (مثل : سیدة ، هند ، عطیة ، سرادق ...).
وحین زدنا فی آخرها الألف والتاء المفتوحة (2) صارت تدل علی جمع مؤنث ؛ مثل : سیدات ، هندات ، عطیات ، سرادقات ، واستغنینا بهذه الزیادة عن العطف بالواو (3) ؛ أی : عن أن نقول : سیدة ؛ وسیدة ؛ وسیدة ... أو هند ، وهند ، وهند ... إلخ. فهذه الکلمات تسمی : الجمع بالألف والتاء الزائدتین ، أو : جمع المؤنث السالم ؛ کما هو المشهور (4). وهو : ما دل علی أکثر من اثنین (5) بسبب زیادة
ص: 147
معینة فی آخره ، أغنت عن عطف المفردات المتشابهة فی المعنی ، والحروف ، والحرکات ، بعضها علی بعض. وتلک الزیادة هی «الألف والتاء» فی آخره.
ومفرد هذا الجمع قد یکون مؤنثا لفظیّا ومعنویّا (1) معا ؛ مثل : سیدة ، وسعدی (2) ولمیاء. والجمع ؛ سیدات ، وسعدیات ، ولمیاوات.
وقد یکون مفرده مؤنثا معنویا (3) فقط ؛ بأن یکون خالیا من علامة التأنیث مع دلالته علی مؤنث حقیقی ؛ مثل : هند ، وسعاد. والجمع : هندات ، وسعادات.
وقد یکون مفرده مؤنثا لفظیّا فقط ؛ بأن یکون لفظه مشتملا علی علامة تأنیث ، مع أن المراد منه مذکر. مثل : عطیة ، اسم رجل ، وجمعه : عطیات ، وشبکة ، اسم رجل ، وجمعه : شبکات ... وقد یکون مفرده مذکرا ؛ کسرادق وسرادقات. وحکم هذا الجمع : أنه یرفع بالضمة ، وینصب بالکسرة نیابة عن الفتحة ،
ص: 148
ویجر بالکسرة ، کما فی الأمثلة السابقة (1) ، وأشباهها. کل هذا بشرط أن تکون الألف والتاء زائدتین معا ؛ فإن کانت الألف زائدة والتاء أصلیة ؛ - مثل : بیت وأبیات ، وقوت وأقوات ، وصوت وأصوات ، ووقت وأوقات ... - لم یکن جمع مؤنث سالما ، ولم ینصب بالکسرة ؛ وإنما هو جمع تکسیر ، ینصب بالفتحة. وکذلک إن کانت ألفه أصلیة والتاء زائدة ، - مثل : سعاة (2) : جمع ساع ، ورماة : جمع رام ، ودعاة : جمع داع ، وأشباهها - ؛ فإنه یدخل فی جموع التکسیر التی تنصب بالفتحة.
ألحق بهذا الجمع نوعان ، أولهما : کلمات لها معنی جمع المؤنث ولکن لا مفرد لها من لفظها ؛ وإنما لها مفرد من معناها ، فهی اسم جمع (3) ، مثل «أولات» ومفردها : «ذات» ، بمعنی صاحبة ، فمعنی کلمة : «أولات» هو : صاحبات. تقول : الأمهات
ص: 149
أولات فضل ، عرفت أولات فضل ، احترمت أولات فضل.
وکلمة : «أولات» مضافة (1) دائما ؛ ولهذا ترفع بالضمة من غیر تنوین ، وتنصب وتجر بالکسرة من غیر تنوین أیضا ؛ ومثلها : «اللّات» (اسم موصول لجمع الإناث) ، عند من یلحقها بجمع المؤنث (2) ، ولا یبنیها علی الکسر ، کالإعراب المشهور ، یقول : جاءت اللات تعلمن ، ورأیت اللات تعلمن ، وفرحت باللات تعلمن ؛ فاللات عنده اسم جمع لکلمة : (التی).
ثانیهما : ما سمی به من هذا الجمع (3) وملحقاته ، وصار علما لمذکر أو مؤنث بسبب التسمیة ؛ مثل : سعادات ، وزینبات ، وعنایات ، ونعمات ، وأشباهها مما صار علما علی رجل أو امرأة. ومثل : عرفات ؛ (اسم مکان بقرب مکة) ، وأذرعات (اسم قریة بالشام). وغیر ذلک ، مما لفظه لفظ جمع المؤنث ، ولکن معناه مفرد مذکر أو مؤنث. مثل : سافرت سعادات ، ورأیت سعادات ، واعترفت لسعادات بالفضل. فهذا النوع یعرب بالضمة رفعا ، وبالکسرة نصبا وجرّا ، مع التنوین (4) فی کل الحالات ؛ مراعاة لناحیته الفظیة الشکلیة التی جاءت علی صورة جمع المؤنث السالم ، مع أن مدلولها مفرد.
وبعض العرب یحذف التنوین ، وبعضهم یعربه بالضمة رفعا من غیر تنوین ،
ص: 150
وینصبه ویجره بالفتحة من غیر تنوین فی الحالتین ، أی : یعربه إعراب ما لا ینصرف مراعاة لمفرده ، بشرط أن یکون هذا المفرد مؤنثا فیقول : هذه عرفات ، زرت عرفات ، ووقفت بعرفات. وإذا أراد الوقوف علی آخره وقف بالتاء المفتوحة (1) ، فهذه ثلاثة آراء قد یکون أفضلها الأخیر (2) فیحسن الاقتصار علیه فی استعمالنا.
ص: 151
(ا) هذا الجمع ینقاس فی ستة أشیاء :
أولها : کل ما فی آخره التاء الزائدة (1) مطلقا ؛ أی : سواء أکان علما ، مثل : فاطمة ، أم غیر علم ، مثل : زراعة - تجارة. مؤنثا لفظا ومعنی. مثل : حلیمة ، رقیة ، من أعلام النساء ، أم مؤنثا لفظا فقط مثل : عطیة ، حمزة ، معاویة ، من أعلام الرجال. وسواء أکانت التاء للتأنیث کالأمثلة السابقة ، أم للعوض عن أصل ، نحو : عدة ، وثبة ، تقول : فی جمعهما : عدات - ئبات (2) ؛ وقد تکون التاء للمبالغة ، نحو علّامة وعلّامات.
ویستثنی مما فیه التاء کلمات منها : امرأة ، وأمة ، وشاة ، وشفة ، وقلة (3) وأمّة ، وملّة (4).
هذا ، ویجب حذف التاء من آخر کل مفرد ، مؤنث ، عند جمعه جمع تأنیث سالما ، لکیلا تتلاقی مع التاء التی فی آخر الجمع. فإن کان الاسم بعد حذفها مختوما بألف لازمة ، أو بهمزة قبلها ألف زائدة - نحو : فتاة ... ، وهناءة ... - روعی فی جمع هذین الاسمین ما یراعی فی جمع المقصور والممدود - مع ملاحظة ما فی رقم 6 من هامش ص 170 ، وکذا «و» فی ص 172 - (وسیجیء الباب الخاص بتثنیتهما ، ج 4 ص 457 م 171).
ثانیها : ما فی آخره ألف التأنیث المقصورة أو الممدودة (سواء أکان علما ، أم غیر علم ، لمؤنث أم لمذکر ؛ فمثال المقصورة : «سعدی» وهی علم مؤنث ، «وفضلی» ، وهی غیر علم ، وإنما هی صفة لمؤنث ، «ودنیا» إذا کانت علما لمذکر. ومثال الممدودة : «زهراء» ، وهی علم لمؤنث ، و «حسناء» وهی غیر علم وإنما هی صفة لمؤنث ، و «زکریاء» علم لمذکر.
ص: 152
ویستثنی من هذا القسم - عند غیر الکوفیین کما سبق (1) - : فعلی ؛ مؤنث «فعلان» ، مثل «سکری» مؤنث «سکران» ، «وفعلاء» مؤنث : «أفعل» مثل : «خضراء وسوداء» ، وکلتاهما صفة لمؤنث (2) ، ولیست بعلم.
ثالثهما : کل علم لمؤنث حقیقی (3) ولیس فیه علامة تأنیث ، کزینب ، ونوال ، وإحسان ، إلا ما کان مثل : «حذام» عند من یبنیه فی جمیع أحواله. - کما سبق (4) -.
رابعا : مصغر المذکر الذی لا یعقل ، مثل : «نهیرات» ، تصغیر : «نهر» و «جبیلات» ؛ تصغیر «جبل» و «معیدنات» ، تصغیر : «معدن». خامسها : وصف المذکر غیر العاقل ؛ مثل ؛ هذه بساتین جمیلات (5) ، زرتها أیاما معدودات.
سادسها : کل خماسیّ لم یسمع له عن العرب جمع تکسیر (6) ؛ مثل : سرادقات وقیصومات - وحمّامات - وکتّانات. واصطبلات - وقطمیرات ... فی جمع : سرادق ، وقیصوم (7) ، وحمّام ، وکتّان ، واصطبل ، وقطمیر (8).
وما عدا تلک الأنواع الستة مقصور علی السماع ؛ مثل : شمالات.
وإلی ما سبق یشیر بعضهم بقوله عن جمع المؤنث السالم ، وما یقاس فیه وما لا یقاس:
وقسه فی ذی التّا ، ونحو ذکری
ودرهم مصغّر ، وصحرا
وزینب ، ووصف غیر العاقل
وغیر ذا مسلم للناقل
یرید أنه مقیس فی کل ما هو مختوم بالتاء ؛ مثل : رحمة ونعمة ، أو ألف
ص: 153
التأنیث المقصورة ؛ مثل : ذکری ، أو الممدودة ؛ مثل : صحراء. وفی مصغر غیر العاقل ؛ نحو : دریهم ، فی تصغیر : درهم. وفی وصف غیر العاقل ، نحو : هذه بساتین جمیلات. أما غیر هذه الخمسة فمقصور علی سماع عن العرب فمن نقل عنهم شیئا أخذنا بما نقل ، وسلمنا به. وقد ترک السادس وهو الخماسیّ الذی لم یسمع له جمع تکسیر.
(ب) إذا کان المفرد اسما ، مؤنثا ، ثلاثیّا ، صحیح العین ، ساکنها ، غیر مضعفها ، مختوما بالتاء أو غیر مختوم بها - وأردنا جمعه جمع مؤنث سالما فإنه یراعی فی جمعه ما یأتی(1) :
1 - إن کانت «فاء» الکلمة مفتوحة وجب تحریک العین الساکنة بالفتح فی الجمع أیضا ؛ تبعا للفاء. تقول فی جمع : ظرف ، وبدر ، ونهلة ، وسعدة ، ... (وکلها أسماء إناث) ظرفات ، وبدرات ، ونهلات ، وسعدات. بفتح الثانی فی کلّ.
2 - وإن کانت فاء الکلمة مضمومة ، جاز فی العین ثلاثة أشیاء : الضم ، أو الفتح ، أو السکون ؛ تقول فی جمع ، لطف ، وحسن ، وشهرة ، وزهرة (وکلها أسماء إناث) ، لطفات ، وحسنات ، ، وسهدات ، وزهرات ، بضم الثانی فی کلّ ، أو فتحه ، أو تسکینه.
إلا إن کانت «لام» المفرد یاء فلا تضم العین فی الجمع ، مثل : غنیة (2) ، فلا یقال : غنیات (3). وإنما یقال : غنیات ، أو : غنیات ؛ بفتح النون ، أو سکونها.
3 - وإن کانت فاء الکلمة مکسورة جاز فی العین ثلاثة أشیاء ؛ الکسر ، أو الفتح ، أو السکون. تقول فی جمع : سحر ، وهند ، وحکمة ، ونعمة (أسماء إناث) : سحرات ، هندات ، حکمات ، نعمات. بفتح الثانی فی کلّ ، أو کسره ، أو تسکینه ، إلا إذا کان المفرد المؤنث مکسور الفاء ولامه واو
ص: 154
مثل : ، ذروة ، فلا یجوز فی العین إتباعها للفاء للفاء فی الکسر ؛ فلا یقال : ذروات (1) وإنما یقال ذروات (2) أو ذروات بفتح العین أو تسکینها.
ولا بد فی المفرد الذی تجری علیه الأحکام السالفة أن یشتمل علی الشروط الستة التی سردناها. فإن فقد شرط لم یجز إتباع حرکة العین لحرکة الفاء ؛ ومن ذلک أن تکون الکلمة صفة لا اسما ، مثل : «ضخمة». فلا یقال فیها : ضخمات ، بفتح الخاء. أو تکون اسما غیر مؤنث مثل : سعد ، علم ، رجل ، فإنه لا یجمع جمع جمع مؤنث ، ولا تتحرک عینه. أو تکون غیر ثلاثیة ، مثل : «زلزل» و «عنیزة» (لجاریتین) ، فلا یتغیر شیء من حرکات حروفهما عند الجمع. أو تکون غیر صحیحة العین ؛ مثل «خود» (3) ، «وقینة» (4) فلا یتغیر شیء من حرکات حروفهما عند الجمع ، أو تکون مضعفة العین ، مثل : جنّة وجنات ؛ فلا یتغیر شیء من حرکات حروفها فی الجمع.
وقد وردت جموع مخالفة لبعض الشروط السالفة ؛ فلا نقیس علیها ؛ لأنها لغة نادرة ؛ أو قلیلة لبعض العرب ، أو دفعت إلیها ضرورة شعریة. ولهذا البحث مزید إبانة وتفصیل فی موضعه الخاص من باب : «تثنیة المقصور والممدود وجمعهما» ، فی الجزء الرابع (5) ...
(ج) إذا کان المفرد مرکبا إضافیّا وأرید (6) تثنیته أو جمعه جمع مؤنث سالما فإن صدره هو الذی یثنی ویجمع ، ویبقی عجزه علی حاله ، مثل : سیدة الحسن (علم امرأة) یقال فی تثنیته وفی جمعه : سیدتا الحسن ، وسیدات الحسن ، وهذا إن لم یکن صدره المضاف کلمة «ذو» ، أو : کلمة : «ابن» ، أو : «أخ» ونحوهما ... من أسماء ما لا یعقل من الأجناس ، - ومنها : ذو القعدة ، وذو الحجة
ص: 155
وابن لبون ، وابن آوی ، وابن عرس (1) ... - فإن کان المضاف أحدها وأرید جمعه فالغالب أن یجمع جمع مؤنث سالما فیقال مثلا : ذوات القعدة ، وذوات الحجّة ، وبنات آوی ، وبنات عرس ... ولا فرق فی ذلک بین اسم الجنس غیر العلم الجنسی کابن لبون ، وعلم الجنس کابن آوی. والفرق بینهما أن ثانی الجزأین من علم الجنس لا یقبل : «آل» بخلاف اسم الجنس - کما سیجیء فی ج 4 (2) ...
وإن کان مرکبا إسنادیّا مثل : زاد الجمال (علم امرأة) بقی علی حاله تماما ؛ وأتینا قبله بکلمة : «ذاتا» فی التثنیة (3) ؛ و «ذوات» فی الجمع المؤنث ، تقول : جاءت ذاتا (4) زاد الجمال ، وذوات زاد الجمال. ویجری الإعراب علی ذات» و «ذوات» ؛ دون العلم المرکب إسنادیّا ؛ فإنه یبقی علی حاله تماما ، ویعرب مضافا إلیه ، مجرورا بکسرة مقدرة ، منع من ظهورها : الحکایة.
وکذلک نأتی - فی أشهر الآراء (5) - بهذه الکلمات المساعدة التی توصل إلی التثنیة إن کان مرکبا ترکیب مزج مثل : شهرزاد ، اسم امرأة.
د - المفرد الذی لا یصح جمعه جمع مذکر سالما ، لا یصح فی مؤنثه أن یجمع جمع مؤنث سالما. وقد سبق بیان هذا وما فیه (6).
ه - إذا سمی بجمع المؤنث ، أو ملحقاته ، - مثل : سعادات ، عنایات ... - وأرید تثنیة هذا المسمی لم یصح تثنیته إلا من طریق غیر مباشر بأن نأتی قبله بالکلمة الخاصة التی توصلنا لهذا الغرض ؛ وهی کلمة : «ذاتا (7)» ... رفعا ، و «ذاتی» ... نصبا وجرا. وتعرب کل واحدة منهما علی حسب حاجة الجملة إعراب المثنی فترفع بالألف ، وتنصب وتجر بالیاء. وهی «المضاف» ، والمسمی به بعدها «مضاف» إلیه. وإذا أرید جمع المسمی به جمعا مؤنثا وجب الإتیان قبله بکلمة «ذوات» المضافة ؛ والمسمی هو المضاف إلیه.
ص: 156
1 - تعلم محمود ،. نافس الطلاب محمودا - فاض الثناء علی محمود
أو مصطفی أو مصطفی. أو مصطفی.
2 - تعلم أحمد نافس الطلاب أحمد. فاض الثناء علی أحمد.
3 - تعلمت لیلی. نافست الطالبات لیلی. فاض الثناء علی لیلی.
4 - صالح أفضل من غیره. عرفت أفضل من غیره. سلمت علی أفضل من غیره
صالح أفضل الزملاء. عرفت أفضل الزملاء - سلمت علی أفضل الزملاء.
5 - صالح هو الأفضل. عرفت الأفضل. یتساءل الطلاب عن الأفضل
من الأسماء المعربة نوع یعرب بالحرکات الظاهرة ، أو المقدرة ، فیرفع بالضمة ، وینصب بالفتحة ، ویجر بالکسرة ؛ مع وجود التنوین فی الحالات الثلاث (1) ؛ وهذا النوع المعرب یسمی : «الاسم المنصرف» (2) ، أی : الاسم المنون. کأمثلة القسم الأول.
ومن الأسماء المعربة نوع آخر یرفع بالضمة ، وینصب بالفتحة ، ویجر بالفتحة أیضا ، نیابة عن الکسرة ، ولکن من غیر تنوین - غالبا - فی الحالات الثلاث ؛ وهذا النوع المعرب یسمی : «الاسم الذی لا ینصرف ؛ أی : لا ینون». ولا فرق فی هذا النوع بین أن تکون حرکة آخره ظاهرة ، کأمثلة القسم الثانی ، أو مقدرة کأمثلة القسم الثالث.
والاختلاف بین صورتی المعرب المنصرف وغیر المنصرف ، ینحصر فی أمرین ؛ أولهما : أن المنصرف یعرب بالحرکات الأصلیة الظاهرة ، أو المقدرة رفعا ، ونصبا ،
ص: 157
وجرّا ؛ فالضمة للرفع ، والفتحة للنصب ، والکسرة للجر.
ثانیهما : أنه ینون فی جمیع حالاته ، إلا إن وجد مانع آخر یمنع التنوین (1). أما الاسم الذی ینصرف فتتلخص حرکات آخره الظاهرة ، أو المقدرة فی أنه یرفع بضمة واحدة من غیر تنوین ، وینصب بفتحة واحدة من غیر تنوین ، ویجر بفتحة واحدة أیضا من غیر تنوین (2) ؛ فهو یختلف عن سابقه فی الأمرین ، - فی عدم التنوین ، وفی الجر بالفتحة نیابة عن الکسرة - وإنما یتحقق الاختلاف بشرط ألا یکون مضافا أو مبدوءا (بأل). فإن کان مضافا مثل کلمة : «أفضل» فی القسم الرابع ، أو مبدوءا (بأل) مثل کلمة : «الأفضل» فی القسم الخامس ، وجب جره بالکسرة دون الفتحة ، مع حذف التنوین فی الحالتین أیضا ؛ لأن التنوین لا یوجد فی الاسم المضاف ، أو المبدوء (بأل) مهما کان نوعها (3).
هذا وللاسم الذی لا ینصرف باب خاص - سیجیء فی الجزء الرابع - تبیّن فیه أسباب المنع من الصرف ، وتوضح أحکامه ، ونقتصر هنا علی ما یناسب موضوع الإعراب ، تارکین غیره لذلک الباب.
ص: 158
(ا) سبقت الإشارة - فی جمع المؤنث السالم ، (ص 150) - إلی أن هذا الجمع وملحقاته عند التسمیة به یصح إعرابه إعراب ما لا ینصرف ، کما یصح إعرابه إعراب جمع المؤنث السالم ، مراعاة لأصله وصورته. والإعراب الأول أحسن ، لما سبق هناک.
ب - من المبینات ما یکون ممنوعا من الصرف لانطباق سبب المنع علیه ؛ مثل : سیبویه ؛ فإنه علم (1) مبنی علی الکسر وجوبا فی کل حالاته - فی الرأیّ الشائع -. فعند اعتباره ممنوعا من الصرف للعلمیة مع الترکیب المزجی نقول فی إعرابه فی حالة الرفع : إنه مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها حرکة بنائه الأصلی علی الکسر. أو إنه مبنی علی الکسر فی محل رفع (2).
ونقول فی حالة نصبه : إنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها حرکة بنائه الأصلی علی الکسر ، أو : إنه مبنی علی الکسر فی محل نصب (3).
ونقول فی حالة جره إنه مجرور بفتحة مقدرة. منع من ظهورها حرکة بنائه الأصلی علی الکسر. ولا مانع أن نقول هنا أیضا : إنه مبنی علی الکسر فی محل جر. ولکن النحاة یفضلون - بحق - فی حالة الجر الأعراب الأول ، لأنه یوافق الحکم العام للاسم الذی لا ینصرف.
(ح) بعض القبائل العربیة یستعمل کلمة : «أم» بدلا من «أل» فیقول : امقمر یستمدّ امضوء من امشمش ، أی : (القمر یستمد الضوء من الشمس) وعلی هذه اللغة لا یمنع الاسم عندهم من الصرف إذا بدیء بکلمة : (أم) المستعملة بدلا من : «أل»(4).
ص: 159
ا - العاقل یتکلم بعد تفکیر. لن یتکلم العاقل متسرعا. لم یتکلم عاقل فیما لا یعنیه.
ب
1- أنتما تتکلمان بخیر (1). أنتما لن تتکلما إلا بخیر. أنتما لم تتکلما إلا بالخیر
2- الحکیمان یتکلمان بخیر. الحکیمان لن یتکلما. الحکیمان لم إلا بخیر یتکلما إلا بالخیر.
3- أنتم تساعدون المحتاج. أنتم لن تساعدوا المحتال. أنتم لم تساعدوا المحتال.
4- الأغنیاء یشارکون فی النفع. الأغنیاء لن یتأخروا - الأغنیاء لم یشارکوا فی عن المساعدة. إساءة.
5- أنت - یا فاطمة - أنت لن تعملی بتوان. أنت لم تعملی بتوان.
تعملین بجد.
إذا کان المضارع صحیح الآخر ، وغیر مختوم بضمیر بارز (2) ، فإنه یعرب بالحرکات الأصلیة الظاهرة (الضمة فی حالة الرفع ، والفتحة فی حالة النصب إذا سبقه ناصب ، والسکون فی حالة الجزم إذا سبقه جازم). کأمثلة القسم «ا».
أما إذا اتصل بآخره ألف اثنین (وله معها صورتان. إحداهما أن یکون مبدوءا بتاء المخاطب ، والأخری أن یکون مبدوءا بیاء الغائب ، کأمثلة 1 ، 2 من القسم «ب».) أو اتصل بآخره واو الجماعة ، (وله معها صورتان کذلک : أن یکون مبدوءا بتاء المخاطب أو یاء الغائب ، کأمثلة 3 و 4 من «ب») أو اتصل آخره بیاء الخاطبة ، (کأمثلة القسم الخامس من «ب») - فإنه فی هذه الصورة الخمس التی یسمیها
ص: 160
النحاة الأفعال الخمسة - یرفع بثبوت النون (1) فی حالة الرفع ، نیابة عن الضمة ، وینصب فی حالة النصب بحذفها نیابة عن الفتحة ، ویجزم فی حالة الجزم بحذفها أیضا نیابة عن السکون. (أمثلة ، 2 ، 3 ، 4 ، 5).
وهذا معنی قولهم : الأفعال الخمسة هی : «کل مضارع اتصل بآخره ألف اثنین ، أو واو جماعة ، أو یاء مخاطبة».
وحکمها : أنها ترفع بثبوت النون ، وتنصب وتجزم بحذفها. مع ملاحظة أن تلک النون عند ظهورها تکون مکسورة (2) بعد ألف الاثنین ، مفتوحة فی باقی الصور (3).
«ملاحظة» : إذا کان المضارع معتل الآخر بغیر إسناد لضمیر رفع بارز - فحکمه سیجیء فی مکانه الخاص (4). فإن کان مسندا لضمیر رفع بارز وجب أن تلحقه تغیرات مختلفة ؛ بیانها وتفصیل أحکامها فی الباب المعدّ لذلک (5) ، وهو باب : إسناد المضارع والأمر إلی ضمائر الرفع البارزة ؛ بتوکید ، وغیر توکید ،
ص: 161
2 - إذا قلت : النساء لن یعفون عن المسیء ؛ فالنون هنا نون النسوة ، ولیست نون الرفع التی تلحق بآخر الأفعال الخمسة. کما أن الواو واو أصلیة ، لأنها لام الفعل ؛ إذ أصله : «عفا» «یعفو» تقول : النساء یعفون ؛ «یعفو» فعل مضارع مبنی علی السکون الذی علی الواو. لاتصاله بنون النسوة ، ونون النسوة فاعل مبنی علی الفتح فی محل رفع. وتقول «النساء لن یعفون» : «یعفو» : فعل مضارع ، مبنی علی السکون لانصاله بنون النسوة ؛ فی محل نصب بلن ، والنون فاعل ... وفی النساء لم یعفون : «یعفو» فعل مضارع مبنی علی السکون لاتصاله بنون النسوة ، فی محل جزم ب «لم» ، ونون النسوة فاعل ...
بخلاف قولک : الرجال یعفون ؛ فإن النون هنا علامة للرفع ، والواو ضمیر الجمع ، فاعل ، مبنی علی السکون فی محل رفع. وأصله : الرجال یعفوون (علی وزن : یفعلون) ؛ استثقلت الضمة علی الواو الأولی (التی هی حرف علة ، ولام الفعل أیضا) فحذفت الضمة ؛ فالتقی ساکنان ، هما : الواوان. حذفت الواو الأولی ؛ لأنها حرف علة ، ولم تحذف الواو الثانیة : لأنها کلمة تامة. إذ هی ضمیر ، فاعل ، یحتاج إلیه الفعل ، فصار الکلام : «الرجال یعفون» علی وزن : «یفعون» ، وعند وجود ناصب أو جازم تحذف النون ، نقول : الرجال لن یعفوا (علی وزن یفعوا) ومنه قوله تعالی : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوی) والرجال لم یعفوا ، فحذفت نون الرفع ؛ لوجود أحدهما ، بخلاف نون النسوة ، فإنها لا تحذف - کما سبق.
(ب) عرفنا أن نون الرفع تحذف وجوبا للناصب أو الحازم ؛ کحذفها فی قوله تعالی (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وقول الشاعر المصری (1) :
لا تقربوا النیل إن لم تعملوا عملا
فماؤه العذب لم یخلق لکسلان
وقد تحذف لغیر ناصب أو جازم ، وجوبا أو جوازا ؛ فتحذف وجوبا إذا جاء بعدها نون التوکید الثقیلة ؛ مثل : أنتما - یا صاحبای - لا تقصرانّ فی الواجب ، وأنتم - یا رجال - لا تهملنّ فی العمل ، وأنت - یا قادرة - لا تتأخرنّ
ص: 162
عن معاونة البائس ، فحذفت نون الرفع فی الجمیع ؛ لتوالی الأمثال (أی : لتوالی ثلاثة أحرف متماثلة زائدة ؛ هی : النونات الثلاث ...) (1) وحذفت معها أیضا واو الجماعة ، ویاء المخاطبة دون ألف الاثنین (2) ، ولکن عند إعراب المضارع المرفوع نقول : مرفوع بالنون المقدرة ، کما سبق بیان سببه وتفصیله (3).
وتحذف جوازا عند اتصالها بنون الوقایة (4) ، مثل : الصدیقان یکرماننی ، أو : یکرمانی ، والأصدقاء یکرموننی ، أو : یکرمونی ، وأنت تکرمینی ، أو : تکرمینی.
وکما یجوز حذفها وبقاؤها بغیر إدغام عند وجود نون الوقایة یجوز إدغامها فیها ؛ فتصیر نونا مشددة ، تقول : الصدیقان یکرمانّی ، والأصدقاء یکرمونّی (5) وأنت تکرمینّی(6).
فتلخص من هذا أن نون الأفعال الخمسة لها ثلاثة أحوال عند اتصالها بنون الوقایة : الحذف ، أو الإدغام فی نون الوقایة ، أو الفک مع إبقاء النونین (7).
وهناک لغة تحذف نون الرفع (أی : نون الأفعال الخمسة) فی غیر ما سبق ؛ وبها جاء الحدیث الشریف «لا تدخلوا الجنة حتی تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتی تحابّوا (8)» ، أی : لا تدخلون الجنة حتی تؤمنوا. ولا تؤمنون حتی تتحابوا. وقوله أیضا : «کما تکونوا یولّی علیکم» فی بعض الآراء ، ولیس من السائغ اتباع هذه اللغة فی عصرنا ، ولا محاکاتها ، وإنما ذکرناها لنفهم ما ورد بها فی النصوص القدیمة.
ص: 163
(ح) یجوز (1) أن تقول : «هما تفعلان» و «هما یفعلان» عند الکلام علی مؤنثتین غائبتین ؛ ففی الحالة الأولی تؤنث مراعیا أنک تقول فی المفردة : هی تفعل ؛ بوجود التاء أول المضارع. فکأن الأصل - مثلا - زینب تفعل ؛ لأن الضمیر بمنزلة الظاهر المؤنث الذی بمعناه. فإذا قلت : «هما تفعلان» فقد أدخلت فی اعتبارک الحالة السابقة. وإذا قلت : «هما یفعلان» فقد أدخلت فی اعتبارک مراعاة لفظ الضمیر الحالی الذی للمثنی الغائب ، والأول أکثر وأشهر ، وفیه بعد عن اللّبس ، فوق ما فیه من مسایرة لقاعدة هامة ؛ هی : أن الفعل یجب تأنیثه إذا کان مسندا لضمیر یعود علی مؤنث (2) ...
ص: 164
لیس فی الأفعال ما یدخله الإعراب إلا الفعل المضارع أحیانا ، وهو قسمان :
(ا) مضارع صحیح الآخر : مثل : یشکر ، یرتفع ، ینزل ... وهذا یعرب بحرکات ظاهرة علی آخره فی کل أحواله : (رفعا ، ونصبا ، وجزما) ؛ تقول : یشکر المرء من أعانه ، لن یرتفع شأن الخائن ، لم ینزل مطر فی الصحراء .... ، «فیشکر». مرفوع بالضمة الظاهرة ، و «یرتفع» : منصوب بالفتحة الظاهرة ، و «ینزل» مجزوم بالسکون الظاهر ، أما الجر فلا یدخل الأفعال ، کما هو معلوم.
(ب) مضارع معتل الآخر (2) ، وهو ثلاثة أنواع :
1 - معتل الآخر بالألف ، مثل : یخشی ، یرضی ، یرقی. وحکمه : أنه تقدر علی آخره الضمة فی حالة الرفع ، مثل : یخشی الصالح ربه ، فیخشی : مضارع مرفوع بضمة مقدره علی الألف.
وکذلک تقدر الفتحة علی آخره فی حالة النصب ؛ مثل : لن یرضی العاقل بالأذی ؛ فیرضی : مضارع منصوب بفتحة مقدرة علی الألف. وسبب التقدیر فی الرفع والنصب تعذر ظهور الحرکة علی الألف واستحالتها.
أما فی حالة الجزم فتحذف الألف. وتبقی الفتحة قبلها دلیلا علیها ؛ مثل : لم یرق العاجز ، فکلمة یرق : فعل مضارع مجزوم ، وعلامة جزمه حذف الألف. ومثله المضارع «یلق» فی قول الشاعر :
إذا کنت فی کلّ الأمور معاتبا
صدیقک لم تلق الذی لا تعاتبه
2 - معتل الآخر بالواو ، مثل : یسمو ، یصفو ، یبدو. وحکمه : أنه یرفع
ص: 165
بالضمة المقدرة (1) ، مثل : یسمو العالم ، فیسمو : مضارع مرفوع بضمة مقدرة علی الواو. ولکنه ینصب بفتحة ظاهرة علی الواو ، مثل لن یصفو الماء إلا بالتنقیة. ویجزم بحذف الواو ، وتبقی الضمة قبلها دلیلا علیها ، مثل لم یبد النجم وراء السحب نهارا. فالفعل : یبد ، مضارع مجزوم ، وعلامة جزمه حذف الواو.
3 - معتل الآخر بالیاء ؛ مثل : یمشی ، یبنی ، ومثل یغضی فی أول البیت (2) التالی:
یغضی حیاء ، ویغضی من مهابته
فلا یکلّم إلا حین یبتسم
وحکمه کسابقه ، یرفع بضمة مقدرة ؛ مثل : یمشی الحازم فی الطریق المأمون ؛ وینصب بفتحة ظاهرة علی الیاء ؛ مثل : لن یبغی أخ علی أخیه. ویجزم بحذف الیاء ؛ وتبقی الکسرة قبلها دلیلا علیها ، مثل لم یبن المجد إلا العصامیون. ومن أمثلة حذف الألف والیاء من آخر المضارع المجزوم قول الشاعر :
فمن یلق خیرا یحمد الناس أمره
ومن یغو (3) لا یعدم علی
الغیّ لائما
وملخص ما سبق فی أنواع الفعل المضارع الثلاثة المعتلة الآخر ؛ أنها متفقة فی حالتی الرفع والجزم ، مختلفة فی حالة النصب فقط. فجمیعها یرفع بضمة مقدرة ، ویجزم بحذف حرف العلة ، مع بقاء الحرکة التی تناسبه ؛ لتدل علیه ، (وهی الفتحة قبل الألف ، والضمة قبل الواو ، والکسرة قبل الیاء) أمّا فی حالة النصب فتقدر الفتحة علی الألف ، وتظهر علی الواو والیاء (4).
ص: 166
(ا) هناک لغة تجیز إبقاء حرف العلة فی آخر المضارع المجزوم ؛ فیکون مجزوما ؛ وعلامة جزمه السکون المقدر علی حرف العلة. وهذه لغة تذکر لمجرد العلم بها ؛ لاستخدامها فی فهم النصوص القدیمة ، الواردة بها ، لا لتطبیقها فی استعمالنا.
(ب) عرفنا أن المضارع المعتل الآخر یحذف آخره عند الجزم. وهذا بشرط أن یکون حرف العلة أصیلا فی مکانه ، کالأمثلة السابقة ؛ فلا یکون مبدلا من الهمزة. مثل : یقرا الرجل ، أی : یقرأ. ومثل : یوضو وجه علیّ ؛ بمعنی ؛ یحسن ویضیء. وأصله یوضؤ ، ومثل : یقری الضیف السّلام ؛ بمعنی : یلقیه ، وأصله : یقرئ ؛ فلو کان مبدلا من الهمزة کالکلمات السالفة - لکان خیر ما یقال هو : أن المضارع مجزوم بسکون مقدر علی الهمزة المنقلبة ألفا ، أو واوا ، أو یاء ، فی تلک الأمثلة وأشباهها ، ولا یحذف حرف العلة.
ومن الأمثلة أیضا : «یبرا» المریض و «یبرو» ، أی : یشفی ؛ وأصلهما : «یبرأ» و «یبرؤ» ؛ بالهمز فیهما. و «یبری» الله المریض. أی : یشفیه ؛ وأصله. یبرئه. ومثل یملا الساقی الإناء ، أی : یملأ. «ویمتلی» الإناء : أی : یمتلیء ، و «یبطو» القطار ؛ أی : یبطؤ ؛ فلا داعی للتفصیل الذی یقوله النحاة ، من أن إبدال حرف العلة من الهمزة ، إن کان بعد دخول الجازم ، فهو إبدال قیاسی ، «لسکون الهمزة بسببه. فیکون الجازم قد عمل عمله فیها ؛ وهو : الجزم ؛ ومتی سکنت الهمزة ، کان إبدالها من جنس حرکة ما قبلها قیاسیا ؛ فتقلب ألفا أو واوا ، أو یاء ، علی حسب تلک الحرکة ، ولا تحذف هذه الحروف ؛ إذ لا داعی لحذفها ، بعد أن أدّی الجازم عمله ، وفی هذه الحالة تعرب الکلمة مجزومة بسکون مقدر (1) علی الهمزة المنقلبة المختفیة ... أما إن کان الإبدال من الهمزة قبل الجزم ، فهو إبدال شاذ ، والأفصح عدم حذف حرف العلة أیضا ، ویکون الفعل مجزوما
ص: 167
بسکون مقدر علی الهمزة المنقلبة المختفیة کسابقه. ولا یحذف حرف العلة - مع أن الجازم حین وروده علی الفعل لم یکن أمامه الهمزة ، لیؤثر فیها - لأن حرف العلة هذا عارض ، ولیس أصیلا ، ولا اعتداد بالعارض عندهم (1) ؛
فالفرق بین الحالتین أن الأولی لا یحذف فیها حرف العلة باتفاق ، لما بینوه ؛ وأن الثانیة فیها خلاف ، ولکن الأشهر عدم الحذف أیضا.
وإذا کان الأمر علی ما وصفنا فما المانع أن یکون الحکم الفاصل هو عدم الحذف دائما ، لنستریح من تعدد الآراء ، واختلاف الحجج ، من غیر أثر واضح؟ هذا هو الأفضل.
ص: 168
من الأسماء المعربة (1) نوع صحیح الآخر ، مثل : سعاد ، صالح ، جمل ، شجرة ، قمر ، سماء ... وهذا النوع یعرب فی أحواله الثلاثة بحرکات ظاهرة علی آخره ؛ تقول : صالح محسن ، وإن صالحا محسن ، وحبذا الإحسان من صالح .. وکذا بقیة الأمثلة مع مراعاة الأحکام التی شرحناها فی المسائل المختلفة السابقة.
ومنها نوع معتل الآخر جار مجری الصحیح ، وهو ما آخره یاء أو واو وکلا الحرفین متحرک قبله ساکن ، وقد یکون الحرفان مشددین أو مخففین ؛ نحو : مرمیّ - - مغزوّ - ظبی - دلو ... وحکم آخره من الناحیة الإعرابیة کحکم صحیح الآخر ، فهو شبیه به فی الحکم
ومن هذا الشبیه أیضا المختوم بیاء مشددة للنسب ، ونحوه ، بشرط ألا یکون تشدیده بسبب إدغام یاءین : ومن الأمثلة : عبقریّ - کرسی - شافعیّ ، فخرج نحو : خلیلیّ - صاحبیّ - بنیّ - کاتبیّ - (کما فی ج 4 ص 45 م 131).
ومنها نوع معتل الآخر (2) لا یشبه الصحیح : ومن أمثلته (الرضا ، العلا ،
ص: 169
الهدی ، الحمی ...) وأیضا (الهادی ، الداعی ، المنادی ، المرتجی ...) وأیضا (أدکو (1) طوکیو (2) ، سمندو (3) قمندو (4) ...) وهذا النوع المعتل ثلاثة أقسام علی حسب حرف العلة الذی فی آخره :
أولها ؛ المقصور (5) : وهو : الاسم المعرب الذی فی آخره ألف (6) لازمة (7). وحکمه: أن یعرب بحرکات مقدرة علی هذه الألف فی جمیع صوره ؛ رفعا ؛ ونصبا ، وجرّا ؛ إذ لا یمکن أن تظهر الفتحة أو الضمة أو الکسرة علی الألف. ومن أمثلته «إنّ الهدی هدی الله». «اتّبع سبیل الهدی». فکلمة : «الهدی» الأولی ، اسم
ص: 170
«إن» ؛ منصوبة بفتحة مقدرة علی الألف ؛ وکلمة : «هدی» الثانیة خبر «إن» ، مرفوعة بضمة مقدرة علی الألف أیضا. وکلمة : «هدی» الثالثة مضاف إلیه ، مجرورة بکسرة مقدرة علی الألف (1).
ومن أمثلته : رضا الله أسمی الغایات. وإن رضا الناس غایة لا تدرک ، احرص علی رضا الله ... فکلمة : «رضا» مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة بحرکة مقدرة علی الألف ... وهکذا کل الأسماء المقصورة (2).
ولیس من المقصور ما یأتی :
(ا) الأفعال المختومة بألف لازمة ، مثل : دعا ، سعی ، یخشی ، ارتقی. وإنما هی نوع من الأفعال التی تسمی ناقصة. (ویراد بهذه التسمیة هنا : أنها معتلة الآخر).
(ب) الحروف المختومة بألف لازمة ، مثل : إلی ، علی ... لأن هذه کتلک لیست أسماء.
(ح) الأسماء المبنیّة المختومة بهذه الألف ؛ مثل : «ذا» و «تا» من أسماء الإشارة. ومثل «إذا» الظرفیة و «ما» الموصولة ، وغیرها من الأسماء المبنیة.
(د) الأسماء المعربة التی فی آخرها واو ، أو یاء ، مثل : «أدکو» ، «الهادی» ، لأنها لیست معتلة الآخر بالألف.
(ه) المثنی فی حالة الرفع مثل : سافر الوالدان ، والأسماء الستة فی حالة النصب ، مثل : رأیت أباک ؛ لأن الألف فیهما غیر لازمة ، إذ تتغیر وتجیء مکانها
ص: 171
الیاء مع المثنی فی حالة نصبه وجره ؛ مثل : أکرمت الوالدین ، وأصغیت إلی الوالدین. وتجیء مکانها الواو أو الیاء مع الأسماء الستة فی حالة رفعها وجرها ؛ مثل : أبوک کریم ، استمع إلی أبیک.
(و) أشرنا (1) إلی أن المقصور إذا زیدت بعد ألفه تاء التأنیث - نحو : فتاة ، مباراة ، مستدعاة - یفقد اسمه وحکمه بسبب هذه التاء ، ولا یسمی مقصورا ، لأنه لا یکون مقصورا إلا بشرط انتهائه بألف تقع علیها الحرکات الإعرابیة مقدرة. ولا یتحقق هذا الشرط إذا وقعت بعد ألفه تاء التأنیث ، إذ تکون هی خاتمة أحرفه ، وعلیها تقع الحرکات الإعرابیة ظاهرة لا مقدرة ؛ ولذا تبقی عند تثنیته للدلالة علی تأنیثه ، وتحذف عند جمعه ، ویراعی فی الاسم بعد حذفها ما یراعی فی جمع المقصور (2) - ویجب التّنبه للفرق الواسع بین تاء التأنیث السّالفة والهاء الواقعة ضمیرا بعد ألف المقصور فی مثل : «من أطاع هواه أعطی العدو مناه ؛ فهذه الهاء کلمة مستقلة تماما.
* * *
ثانیها : المنقوص ؛ وهو : الاسم المعرب الذی آخره یاء لازمة (3) ، غیر مشددة ، قبلها کسرة ، مثل : العالی ، الباقی ، المرتقی ، المستعلی ...
وحکمه : أن یرفع بضمة مقدرة علی الیاء فی حالة الرفع ، وینصب بفتحة ظاهرة علی الیاء فی حالة النصب ، ویجر بکسرة مقدرة علیها فی حالة الجر ؛ مثل : الخلق العالی سلاح لصاحبه ، إن الخلق العالی سلاح لصاحبه ، تمسّک بالخلق العالی. فکلمة : «العالی» فی الأمثلة الثلاثة نعت (صفة) ، ولکنه مرفوع فی المثال الأول بضمة مقدرة ، ومنصوب فی المثال الثانی بالفتحة الظاهرة ، ومجرور فی المثال الثالث بالکسرة المقدرة. ومثله : الباقی للمرء عمله الصالح. إن الباقی للمرء عمله الصالح. حافظ علی الباقی من مآثر قومک. فکلمة : «الباقی» فی المثال الأول مبتدأ مرفوعة بضمة مقدرة ، وهی فی المثال الثانی اسم «إن» منصوبة بالفتحة الظاهرة ، وهی فی
ص: 172
الثالث مجرورة بکسرة مقدرة ، وهکذا ، فالمنقوص یرفع ویجر بحرکة (1) مقدرة علی الیاء ؛ وینصب بفتحة ظاهرة علیها ، کما رأینا.
والمنقوص الذی تقدر الضمة والکسرة علی یائه وتظهر علیها الفتحة یجب إثبات یائه إن کان غیر منون - لسبب یمنع التنوین ؛ کإضافته ، أو اقترانه بأل ، أو تثنیته ، أو جمعه جمع مؤنث سالما (2) - فإن کان منونا لخلوه مما یمنع التنوین ؛ وجب حذف الیاء دون التنوین فی حالتی الرفع والجر ، مع تقدیر الضمة والکسرة علیها ، ویجب بقاء الیاء والتنوین فی حالة النصب ؛ نحو : خیر ما یحمد به المرء خلق عال - إن خلقا عالیا یتحلّی به المرء خیر له من الثروة والجاه - لا یحرص العاقل علی شیء قدر حرصه علی خلق عال یشتهر به. فیرفع بضمة مقدرة علی الیاء المحذوفة ، وینصب بفتحة ظاهرة علی الیاء الثابتة مع التنوین ، ویجر بکسرة مقدرة علی الیاء المحذوفة. وإنما حذفت الیاء لالتقائها ساکنة مع التنوین فی حالتی الرفع والجر ؛ إذ الأصل : (عالین) فی الرفع ، و (عالین) فی الجر ، استثقلت الضمة والکسرة علی الیاء ، فحذفتا ، فالتقی ساکنان ، الیاء والتنوین ، حذفت الیاء لالنقاء الساکنین ، فصارت الکلمة : عال ، فی حالتی الرفع والجر - کما سلف -. ومن أمثلة حذف الیاء من المنون المرفوع قول الشاعر یمدح کریما :
فهو مدن للجود - وهو بغیض -
وهو مقص للمال ، وهو حبیب
«ملاحظة» : إذا کانت لام المنقوص محذوفة بغیر تعویض همزة الوصل عنها (مثل : شج) فإنها ترجع أولا ترجع فی التثنیة وفی جمع المؤنث السالم طبقا للضابط الذی سبق (فی رقم 3 من هامش ص 102 وفی «ح» من ص 123 و 124).
ولیس من المنقوص ما یأتی :
(ا) الفعل بجمیع أنواعه ، ولا سیما المختوم بیاء لازمة ، مثل ینوی محمد التنقل ، ویجری وراء رزقه ، وکذلک الحرف ؛ ولا سیما المختوم بیاء لازمة ؛ مثل : فی.
ص: 173
(ب) الاسم الذی فی آخره یاء مشددة ؛ مثل : کرسیّ.
(ح) الاسم المختوم بیاء ولکنه مبنی ؛ مثل : الذی ، التی ... ذی (اسم إشارة).
(د) الاسم المعرب الذی آخر یاء ولکنها غیر ملازمة له فی کل حالاته ؛ کالأسماء الستة فی حالة جرها بالیاء ؛ مثل : أحسن إلی أخیک ؛ وکذلک المثنی وجمع المذکر السّالم فی حالة نصبهما وجرهما ؛ مثل : أکرم الوالدین ، واعتن بالوالدین ، وصافح الزائرین ، وأسرع إلی الزائرین ؛ فإن الیاء فی الأسماء الخمسة لا تثبت ؛ بل تتغیر ویحل محلها الواو رفعا ، والألف نصبا. کما أن الیاء فی المثنی وجمع المذکر تتغیر ، ویحل محلها الألف فی حالة رفع المثنی ، والواو فی حالة رفع جمع المذکر ...
(ه) الاسم المعرب الذی آخره یاء لازمة ، ولکن لیس قبلها کسرة ؛ مثل : ظبی وکرسی ؛ فالیاء فی الأولی قبلها سکون ظاهر علی حرف صحیح ، وفی الثانیة قبلها سکون ظاهر علی حرف معتل (1).
* * *
ثالثها : الاسم المعرب الذی آخره الحقیقی واو ساکنة لازمة قبلها ضمة. وهذا نوع لا تعرفه اللغة العربیة الأصیلة ؛ ولم یسمع عن العرب ، إلا فی بضع کلمات نقلوها عن غیرهم من الأجانب ، منها : «سمندو (2)» ، «قمندو (3)» ، لکن لا مانع من تسمیة بعض الأشخاص وغیرهم بأسماء مختومة بتلک الواو ؛ کتسمیة شخص أرسطو ، أو خوفو ، أو سنفرو (4) ، أو : یدعو ، أو : یسمو ، وتسمیة بلد : (أدفو ، وأدکو (5)) ، أرکنو (6) ، طوکیو (7) ، کنغو (8).
ص: 174
ولما کان هذا النوع غیر عربی فی أصله ، ونادرا فی استعمال العرب ، أهمله النحاة ، فلم یضعوا له اسما ، ولا حکما - فیما نعرف (1) ... - ولعل الحکم الذی یناسبه فی رأینا هو أن یعرب بحرکات مقدرة علی آخره فی جمیع حالاته (2) فیرفع بالضمة المقدرة علی الواو ، وینصب بالفتحة المقدرة علیها ، ویجر بالفتحة المقدرة علیها بدلا من الکسرة (3) ، تقول : کان «سنفرو» ملکا مصریّا قدیما ، إن «سنفرو» أحد الفراعین ، هل عرفت شیئا عن سنفرو؟. وهذا الحکم یسری علی الکلمات القلیلة التی أخذها العرب عن غیرهم ، کما یسری علی الأسماء التی لم یأخذوها ، وکذلک المستحدثة بعدهم للأشخاص والبلاد وغیرها (4) ...
ولیس من النوع الثالث ما یأتی :
(ا) الفعل الذی آخره واو ، مثل : یدعو ، یسمو ، یعلو ، لأن هذه لیست أسماء.
(ب) الاسم الذی لیس معربا ، مثل : هو ... وذو ، بمعنی الذی (نحو جاء ذو قام) (5) ...
(ح) الاسم المعرب الذی آخره واو ، ولکنها لیست فی الآخر الحقیقی بل فی الآخر العارض ؛ مثل : یا «ثمو» ویا «محمو» فی ترخیم کلمتی : «ثمود» و «محمود» حین النداء ؛ فإن الآخر الحقیقی هو الدّال ، لا الواو.
ص: 175
(د) الاسم المعرب الذی آخره واو ، ولکنها لیست لازمة ؛ کالأسماء الخمسة فی حالة الرفع ، مثل : سعد أخوک (1) ... فإن هذه الواو تتغیر فی حالة النصب ، وتحل محلها الألف ؛ کما تتغیر فی حالة الجر وتحل محلها الیاء.
(ه) الاسم المعرب الذی آخره واو لازمة ، ولکن لیس قبلها ضمة ؛ مثل : حلو ، خطو ، صحو ، دلو ، صفو ، فإنه من المعتل الجاری مجری الصحیح (2) فی إعرابه بحرکات ظاهرة علی آخره رفعا ونصبا وجرا (3).
«ملاحظة» سیجیء فی ج 4 ص 457 م 171 باب خاص بطریقة تثنیة المقصور والمنقوص والممدود وجمعها جمع مذکر سالما وجمع مؤنث سالما.
ص: 176
(ا) عرفنا أن المنقوص تقدر علی آخره الضمة ، والکسرة ، وتظهر الفتحة ؛ مثل : أجبت داعی الحق. لکن إذا وقع المنقوص صدر مرکب مزجی (1) ، فإنه قد یجوز - عند بعض القبائل - فی هذا الصدر أن یعرب إعراب المضاف ، ویعرب ما بعده (وهو : العجز) مضافا إلیه ، ممنوعا من الصرف أو غیر ممنوع علی حسب حالته وما یستحقه. وفی هذه الحالة لا تظهر الفتحة علی یاء المنقوص - فی الأشهر (2) - ومن أمثلته عرفت «داعی سلم» ، أو : «معدی کرب» ، أو «صافی هناء» (أسماء أشخاص) ودخلت «سواقی خیل» ، أو : «مرامی سفر» أو «قالی قلا» (أسماء بلاد) فالصدر یعرب إعراب المنقوص من غیر أن تظهر علیه الفتحة فی حالة النصب. وهذا هو نوع المنقوص الذی لا تظهر علی یائه الفتحة فی حالة نصبه (3) ... ومع أن هذا هو المشهور - قدیما فی تلک اللغة - فالمناسب لنا الیوم ألا نلجأ إلی الإضافة ؛ لأن ترک الیاء فی حالة النصب بدون فتحة ظاهرة قد یدعو للحیرة والإیهام بغیر داع ، فالخیر ألّا نعربه إعراب المتضایفین ، وإنما الخیر أن نستعمله الاستعمال المشهور فی المرکب المزجیّ ؛ بأن یکون الإعراب علی آخر العجز وحده ، مع ترک الصدر علی حاله ، فلا نعربه إعراب المضاف مع المضاف إلیه لأن الإعراب علی آخر العجز وحده یدل علی أن اللفظ مرکب مزجیّ.
ومن العرب من یجیز فتح هذه الیاء کغیرها من المنقوص ، کما أن منهم من یسکن یاء المنقوص دائما. ولکن من المستحسن عدم الأخذ بهذین الرأیین ؛ للدواعی القویة التی نرددها ، والتی نردفها بأننا حین نذکر عدة آراء مختلفة نذکرها لا لنحاکیها ، - فالمحاکاة الیوم للأشهر وحده - وإنما نذکرها للمتخصصین ؛ لیستعینوا بها علی فهم النصوص القدیمة التی تشتمل علیها ، إلا إذا أشرنا إلی جواز استعمالها لسبب قوی.
ص: 177
وإذا ختم صدر المرکب المزجی بواو ، وأرید إضافة الصدر إلی العجز - اتباعا للرأی السالف - فإن الحرکات کلها تقدر علی الواو ؛ مثل : «نهرو هند» (1) و «مجدو ملوک» (2) والحکمة فی عدم ظهور الفتحة هو الحرص علی بقاء الاسم علی حالته الأصلیة ؛ لیبقی دالا علی صاحبه ، دلالة العلم ، لا دلالة المضاف والمضاف إلیه ، لأن الإضافة هنا ظاهریة شکلیة فقط. ولم أر من یجیز الإعراب علی آخر العجز وحده ، مع ترک الصدر علی حاله ، ولا من عرض حکما لهذا النوع من المعتل - کما أسلفنا (3) - لکن حمله علی نظیره المرکب المزجیّ المختوم صدره بالیاء قد یبیح هذا ، بل یجعله أفضل ؛ إذ یدل علی أن اللفظ مرکب مزجیّ ، مضاف فلا یقع فیه لبس.
(ب) إذا أضیفت کلمة «لدی» (4) للضّمیر فإن ألفها تقلب یاء ، مثل : زاد الخیر لدیک ، فکلمة : «لدی» ظرف منصوب بفتحة مقدرة. لکن أهذه الفتحة مقدرة علی الیاء الظاهرة ، أم مقدرة علی الألف التی کانت فی الأصل ، وانقلبت یاء؟ یفضل النحاة أن یقولوا منصوب بفتحة مقدرة علی الألف التی صارت یاء ، وذلک لسببین :
أولهما : أن الألف هی الاصل ، فلها الاعتبار الأول.
ثانیهما : أن الیاء فی آخر المعربات تظهر علیها الفتحة فی الأغلب ، فإذا جعلنا الفتحة مقدرة علی الألف ، بقیت القاعدة السابقة سلیمة مطردة ، بخلاف ما لو جعلناها مقدرة علی الیاء فیکون التقدیر مخالفا للأعم الأغلب ، من ظهور الفتحة مباشرة علی الیاء (5).
* * *
(ح) فهمنا من المسائل السابقة (6) ، معنی الإعراب الظاهر ، والإعراب المقدر (أی : التقدیری) ، فی الأسماء والأفعال المضارعة. وسواء أکانت علامة الإعراب
ص: 178
ظاهرة أم مقدرة - لا بد أن تلاحظ فی التوابع ، فیکون التابع مماثلا فی علامة إعرابه للمتبوع(1).
وبقی أن نشیر هنا إلی أن الإعراب التقدیری لا ینحصر فی تلک المواضع التی سبق الکلام علیها فی المضارع المعتل الآخر ، وفی الاسم المعتل الآخر ؛ لهذا کان من المستحسن أن نجمع هنا ما تفرق من مواضع الإعراب المقدر (2) (التقدیری) التی سبقت ، والتی لم تسبق ، وأن نرکزها فی موضع واحد ، لیسهل الرجوع إلیها.
فمن هذه المواضع ما تقدر فیه الحرکات (الأصلیة أو الفرعیة (3)) ، ومنها ما تقدر فیه الحروف النائبة عن الحرکات الأصلیة. (فالحروف تقدر کالحرکات). وإلیک البیان :
أولا - أشهر المواضع التی تقدر فیها الحرکات الأصلیة :
1 - تقدر الحرکات الثلاث (أی : الضمة ، والفتحة ، والکسرة) علی آخر الاسم المقصور ، - مثل المصطفی - فی کل حالاته الثلاث : الرفع ، والنصب ، والجر ، - کما سبق فی ص 170 - وکذلک علی آخر الاسم المعتل بالواو ، کما فی ص 175.
2 - تقدر حرکتان فقط هما : الضمة ، والکسرة ، علی آخر الاسم المنقوص ، فی حالة الرفع والجر ؛ کما سبق فی ص 172.
3 - تقدر الحرکات الثلاث علی آخر الاسم ، إذا سکن للوقف ، مثل جاء محمد. رأیت محمد (4) ، قصدت إلی محمد (بإعراب «محمد» مرفوعة ، أو منصوبة أو مجرورة ، بحرکة مقدرة ، منع من ظهورها السکون العارض للوقف). ومثل هذا یقال فی الفعل المضارع صحیح الآخر ، رفعا ، ونصبا ؛ مثل : علی یأکل ، علیّ لن یأکل ، : فالفعل
ص: 179
(یأکل) مرفوع ، أو منصوب ، بحرکة مقدرة ، منع من ظهورها السکون العارض للوقف (1). ومن التیسیر فی الإعراب واختصار الکلام ، أن نقول فی إعراب «محمد» إنه : مرفوع أو منصوب ، أو مجرور بالحرکة الأصلیة ، وضبط بالسکون للوقف ؛ وکذلک نقول فی المضارع إنه : مرفوع ، أو منصوب بالحرکة الأصلیة ، وألزم السکون للوقف. ومثل هذا نقوله فی بقیة المواضع الآتیة :
4 - تقدر الحرکات الثلاث جوازا علی الحرف الأخیر من الکلمة ، إذا کان مما یدغم فی الحرف الأول من الکلمة التالیة ؛ مثال ذلک فی الاسم قراءة من قرأ : «وقتل داوود جالوت» بإدغام الدال فی الجیم ؛ ومثاله فی الفعل : یکتب بکر ، بإدغام الباءین فی بعض اللغات. ومن التیسیر لما سبق ، أن نقول : «داوود» ، و «یکتب» مرفوع ، وجاءه السکون العارض لأجل الإدغام.
5 - تقدر الحرکات الثلاث جوازا علی الحرف الأخیر من الکلمة ، إذا سکن للتخفیف (2) ؛ کتسکین الحروف الآتیة فی الکلام ، نثره ونظمه ، وفی بعض القراءات القرآنیة. فقد سکنت الهمزة المکسورة فی قوله تعالی : (فَتُوبُوا إِلی بارِئِکُمْ) وسکنت التاء المضمومة فی قوله تعالی : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) وسکنت السین المضمومة فی قوله تعالی : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ).
وسکنت الهمزة المکسورة فی آخر کلمة السیّیء من قوله تعالی فی المشرکین : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِیرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ، اسْتِکْباراً فِی الْأَرْضِ وَمَکْرَ السَّیِّئِ ، وَلا یَحِیقُ الْمَکْرُ السَّیِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).
وسکنت الراء المضمومة فی قوله تعالی : (إِنَّ اللهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها) وکذلک سکنت الراء المضمومة فی قوله تعالی : (وَما یُشْعِرُکُمْ أَنَّها إِذا
ص: 180
جاءَتْ لا یُؤْمِنُونَ) ومن التیسیر أن نقول فی کل کلمة من الکلمات السابقة وأشباهها : إنها مرفوعة ، أو منصوبة ، أو مجرورة ، بالعلامة الأصلیة وسکّنت للتخفیف.
6 - تقدر الحرکات الثلاث جوازا علی الحرف الأخیر من الکلمة ، إذا أهملنا حرکته الأصلیة ، وجعلناها مما ثلة لحرکة الحرف الذی یجیء بعده ، کقراءة من قرأ : «الحمدِ لله رب العالمین» ، بکسر الدال ، تبعا لحرکة اللام التی جاءت بعدها ، وتسمی هذه الحرکة حرکة الإتباع ؛ لأننا أتبعنا السابق للّاحق فیها ، ومن الممکن مراعاة التیسیر السابق.
7 - تقدر الحرکات الثلاث علی آخر العلم المحکی (1) من غیر تغییر فی حالة من أحواله ؛ رفعا ونصبا وجرّا ، کالعلم المرکب ترکیب إستاد ؛ مثل : «فتح الله» ، «نصر الله» ، «علیّ شاعر» (وکل هذه أعلام أشخاص). تقول : جاء «فتح الله». شاهدت «فتح الله» ذهبت إلی «فتح الله» ؛ فتبقی حرکة الکلمتین کما هی فی الأصل ، مع إعرابهما معا فی الحالة الأولی فاعلا مرفوعا بضمة مقدرة للحکایة ، وهی غیر هذه الضمة الظاهرة ... وإعرابهما فی الحالة الثانیة مفعولا به منصوبا بفتحة مقدرة ، منع من ظهورها ضمة الحکایة ، وفی الحالة الثالثة مجرورا ، وعلامة جره کسرة مقدرة علی آخره ، منع من ظهورها حرکة الحکایة. وکذا البقیة.
8 - تقدر الحرکات الثلاث علی آخر الاسم المضاف لیاء المتکلم (2) ،
ص: 181
مثل : هذا کتابی ، قرأت کتابی ، وانتفعت بکتابی. فکلمة : «کتاب» الأولی خبر مرفوع بضمة مقدرة ؛ منع من ظهورها الکسرة التی جاءت لمناسبة یاء المتکلم. «کتاب» مضاف ، و «یاء المتکلم» مضاف إلیه ، مبنی علی السکون فی محل جر. وکلمة : «کتاب» الثانیة. مفعول منصوب بفتحة مقدرة علی آخره ، منع
ص: 182
من ظهورها الکسرة التی جاءت لمناسبة یاء المتکلم ، و «یاء المتکلم» مضاف إلیه مبنی علی السکون فی محل جر. وکلمة : کتاب» الثالثة مجرورة بالیاء ، وعلامة جرها کسرة مقدرة منع من ظهورها الکسرة الظاهرة ، التی جاءت لمناسبة یاء المتکلم ، ویاء المتکلم مضاف إلیه ...
وبعض النحاة لا یوافق علی أن الکسرة فی حالة الجر مقدرة ، وإنما هی الکسرة الظاهرة وهو إعراب أحسن ، إذ لا داعی للتعقید والإعنات والتطویل ، ویجدر الأخذ بهذا وحده.
ولما کانت یاء المتکلم قد تنقلب ألفا أحیانا ، فتقول ، فی یا «صاحبی» ؛ و «صدیقی» : یا «صاحبا» ویا «صدیقا ... کانت کلمة : «صاحب» و «صدیق» منادی منصوب بفتحة مقدرة ، منع من ظهورها الفتحة التی جاءت لمناسبة الألف ، التی أصلها یاء المتکلم. وصاحب ، وصدیق : مضاف ، ویاء المتکلم المنقلبة ألفا : مضاف إلیه ، مبنی علی السکون فی محل جر. ومن الممکن فی هذه الحالة مراعاة التیسیر بأن نعرب کلمة «صاحب» و «صدیق» منادی منصوب بالفتحة الظاهرة ، مضاف ، ویاء المتکلم المنقلبة ألفا : مضاف إلیه ... وهو إعراب محمود ؛ لخلوه من الإطانة التی فی سابقه.
9 - یقدر السکون علی الحرف الأخیر من الفعل ، إذا تحرک للتخلص من التقاء الساکنین ؛ مثل ؛ لم یکن المحسن لیتأخر عن المعاونة. فقد تحرکت النون بالکسر ، مع أن الفعل مجزوم بلم ، لأن هذه النون الساکنة قد جاء بعدها کلمة أولها حرف ساکن ، وهو اللام ، فالتقی ساکنان لا یجوز التقاؤهما ، فتخلصنا من التقائهما بتحریک النون بالکسر ، کالشائع فی مثل هذه الحالة ؛ فکلمة : «یکن» مضارع مجزوم ب «لم» ، وعلامة جزمه سکون مقدر ، بسبب الکسرة التی جاءت للتخلص من الساکنین ... ومن الممکن مراعاة التیسیر هنا بأن نقول ، مجزوم وحرک بالکسر للتخلص من الساکنین.
10 - یقدر السکون علی الحرف الأخیر من الفعل ، إذا کان مجزوما مدغما فی حرف مماثل له ، نحو : لم یمدّ العزیز یده ، ولم یفرّ الشجاع. فکل من کلمة : «یمد» ، و «یفر» مجزوم الآخر ، وعلامة جزمه السکون المقدر ، منع من ظهوره
ص: 183
الفتحة التی جاءت للتخلص من الساکنین (1). ویمکن التیسیر بالاختصار هنا.
11 - کذلک یقدر السکون علی الحرف الأخیر من الفعل الذی حرک لمراعاة القافیة ، مثل قول الشاعر :
ومهما تکن عند امریء من خلیقة
وإن خالها تخفی علی الناس تعلم
فکلمة «تعلم» مضارع مجزوم فی جواب الشرط ، وعلامة جزمه السکون المقدر ، الذی منع من ظهوره الکسرة التی جاءت لمراعاة القافیة ؛ ذلک أن کل الأبیات التی قبل هذا البیت مختومة بمیم مکسورة ، فلم یکن بد من کسر آخر الفعل لمراعاة القافیة. ولا مانع من التیسیر بالاختصار ، بل إنه حسن کحسنه فی کل المواضع التی سبقت.
إلی هنا انته أظهر المواضع التی تقدر فیها الحرکات الإعرابیة.
* * *
ثانیا - أشهر المواضع التی تقدر فیها الحروف النائبة عن الحرکات الأصلیة هی : 1 - تقدر الحروف التی تعرب بها الأسماء الستة ، إذا جاء بعد تلک الحروف ساکن ، مثل : جاء أبو الفضل ؛ وذلک لحذفها فی النطق فقط - کما تقدم فی «ح» من ص 106 ؛ - أما فی الخط فلا بد من کتابتها. فإن روعی المکتوب فلا تقدیر. والأفضل فی النطق أن نقف - عند الإعراب - علی آخر کلمة : «أبو» فتظهر الواو ؛ فلا یکون هناک تقدیر فی الحالتین ، ونستریح من التشعیب فی القاعدة الواحدة. 2 - تقدر ألف المثنی المضاف إذا جاء بعدها ساکن ، مثل : ظهر نجما الشرق ، وذلک لحذفها فی النطق دون الکتابة - کما سبق (2) أما عند إعراب المکتوب فلا تقدیر. وهنا یقال ما قیل فی الحالة السابقة.
3 - تقدر واو جمع المذکر السّالم ویاؤه إذا کان مضافا ، وجاء بعدهما ساکن ؛ مراعاة لحذفهما فی النطق : مثل : تیقظ عاملو الحقل مبکرین ، ورأیت عاملی الحقل فی نشاط (3). ولا تقدیر عند إعراب المکتوب. وهنا یقال ما قیل فی الحالة الأولی. وشرط التقدیر أن یکون جمع المذکر غیر مقصور ؛ فإن کان مقصورا
ص: 184
لم تحذف الواو ولا الیاء ، لأن ما قبلهما مفتوح دائما ، فلا توجد علامة مناسبة قبلهما ، تدل علی الحرف المحذوف ، ولهذا یتحرکان (1) فقط ؛ مثل : سافر مصطفو الفصل فی رحلة ؛ (جمع ؛ مصطفی) ، استقبلت مصطفی الفصل (2).
4 - تقدر واو جمع المذکر المضاف إلی یاء المتکلم فی حالة الرفع ؛ مراعاة لحذفها فی النطق ، مثل جاء صاحبیّ ؛ (وقد سبق) (3).
5 - تقدر النون فی الأفعال الخمسة عند تأکیدها ، مثل : لا تکتبنّ فالمضارع مسند إلی واو الجماعة المحذوفة ... وقد سبق التفصیل فی ص 88 وما بعدها.
(ح) قال تعالی : (إِنَّهُ مَنْ یَتَّقِ وَیَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ) فکلمة «من» هنا شرطیة ، والفعل «یتّق» ؛ مضارع مجزوم ؛ لأنه فعل الشرط ، وعلامة جزمه حذف الیاء ؛ «ویصبر» : مضارع مجزوم ، لأنه معطوف علیه ، وقرأ بعض القراء : (إنه من یتّقی ویصبر) بإثبات الیاء فی آخر : «یتقی» ، وإسکان الراء فی آخر «یصبر» ، مع عدم الوقف علیها (4). فإثبات الیاء إنما هو علی اعتبار «من» شرطیة و «یتقی» مضارع فعل الشرط مجزوم بحذف السکون المقدر علی الیاء تبعا لتلک اللغة ، التی لا تحذف حرف العلّة للجازم ، وإنما تبقیه ، وتحذف الحرکة المقدرة علیه فقط : و «یصبر» مضارع مجزوم معطوف علیه. ویصح أن یکون «من» اسم موصول والفعل «یتقی» مضارع مرفوع بضمة مقدرة علی الیاء ، و «یصبر» مضارع معطوف علیه مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها السکون العارض لأجل التخفیف ، أو لأجل نیة الوقف فی حالة الوصل (5) (أی : وصل : «یصبر» عند القراءة ، بالکلام الذی بعدها ، وعدم الوقف علیها). وهناک آراء أخری نری الخیر فی إهمالها.
ص: 185
ا - فی الحدیقة رجل - تکلم طالب - قرأت کتابا - مصر یخترقها نهر.
ب - أنا فی الحدیقة - تکلم محمود - هذا کتاب - مصر یخترقها نهر النیل.
لکلمة. «رجل» - فی الترکیب الأول ، وأشباهها - معنی یدرکه العقل سریعا ، ویفهم المراد منه بمجرد سماعها ، أو رؤیتها مکتوبة ، لکن هذا المعنی العقلی المحض والمدلول الذهنی المجرد غیر معین ؛ ولا محدّد فی العالم الواقعی ، عالم المحسوسات والمشاهد ، وهو الذی یسمونه : العالم الخارجی عن العقل والذهن.
والسبب : أن ذلک المعنی الذهنی المجرد ؛ أی : «المعنی العقلی المحض» إنما ینطبق فی عالم الحس والواقع علی فرد واحد ،. ولکنه فرد له نظائر کثیرة تشابهه فی حقیقته (1) ، وتماثله فی صفاته الأساسیة ؛ فکأنه فرد واحد متکرر الصور والنماذج المتشابهة التی ینطبق علی کل منها معنی : «رجل» ومدلوله ؛ فإن معناه یصدق علی : محمد ، وصالح ، وفهیم .... ، وآلاف غیرهم. فهو خال من التحدید الذی یجعل المدلول مقصورا علی فرد متمیّز من غیره ، مستقل بنفسه ؛ لا یختلط وسط أفراد أخری تماثله. وهذا معنی قولهم : «مبهم الدّلالة» ؛ أی : أنه ینطبق علی فرد شائع بین أفراد کثیرة من نوعه ، تشابهه فی حقیقته ، یصح أن یطلق علی کل منها اسم : «رجل»
ص: 186
ویستحیل فی عالم الحس تعیین أحدها ، وتخصیصه وحده بهذا الاسم.
لکن إذا قلت : «أنا فی الحدیقة» ، فإن الشیوع یزول ؛ والإبهام یختفی ؛ بسبب تحدید المدلول ، وحصره فی واحد معین ؛ هو : المتکلم ؛ فلا ینصرف الذهن إلی غیره ، ولا یمکن أن ینسب الوجود فی الحدیقة لسواه.
وإذا قلنا : تکلّم طالب ؛ فإن کلمة : «طالب» اسم ، له معنی عقلی ، ومدلول ذهنی. ولکن مدلوله الخارجی «أی : الذی فی عالم الحس والواقع ؛ خارجا عن العقل والذهن وبعیدا منهما» ، غیر محصور فی فرد خاص یمکن تعیینه وتمییزه من أشباهه ؛ وإنما ینطبق علی : حامد ، وحلیم ، وسعد ، وسعید ... وآلاف غیرهم ممن یصدق علی کل واحد منهم أنه : «طالب» : ویشترک مع غیره فی هذا الاسم فهو اسم یدل علی فرد ، ولکنه فرد شائع بین أشباه کثیرة ، متماثلة فی تلک الحقیقة
ص: 187
التی أشرنا إلیها ، والتی یقال لکل فرد منها إنه : «طالب» فمعناه مبهم ؛ ودلالته شائعة ، کما سبق.
لکن إذا قلنا : «تکلم» محمود ؛ فإن الشیوع والإبهام یزولان ؛ بسبب کلمة : (محمود) التی تدل علی فرد بعینه ؛ والتی تمنع الاشتراک (1) التام فی معناها ومدلولها.
ومثل هذا یقال فی : «قرأت کتابا» ؛ فإن لفظ : «کتاب» اسم شائع الدّلالة ، غامض التعیین ؛ إذ لا یدل علی کتاب خاص یتجه الفکر إلیه مباشرة دون غیره من الکتب ؛ فهو یصدق علی کتاب حساب ، وکتاب هندسة ، وکتاب أدب ، وکتاب لغة ... ، کما یصدق علی کتاب محمود ، وکتاب فاطمة ، وغیرهما ... لکن إذا قلنا : «هذا کتاب» تعیّن الکتاب المراد ، وتحدد المطلوب ، بسبب الإشارة إلیه. وأنه هو المقصود دون غیره من آلاف الکتب.
وکذلک یقال فی المثال الأخیر : «مصر یخترقها نهر». فأی نهر هو؟ قد یکون نهر النیل ، أو دجلة ، أو الفرات ، أو غیرها من مئات الأنهار التی یصدق علی کل منها أنه : «نهر» ؛ لأن الاسم غامض الدلالة ؛ لانطباقه علی کل فرد من أمثاله فإذا قلنا : «مصر یخترقها نهر النیل» ؛ زال الشیوع ، واختفی الغموض ؛ بسبب الکلمة التی جاءت بعد ذلک ؛ وهی : «النیل».
فکلمة : رجل ، وطالب وکتاب ، ونهر ، وأشباهها ، تسمی : نکرة ، وهی : «اسم یدل علی شیء واحد ، ولکنه غیر معین» ؛ بسبب شیوعه بین أفراد کثیرة من نوعه تشابهه فی حقیقته ، ویصدق علی کل منها اسمه. وهذا معنی قولهم «النکرة شیء شائع بین أفراد جنسه» (2). ومن أمثلتها غیر ما سبق الکلمات التی تحتها خط : سمعت عصفورا - رکبت سفینة کتبت رسالة قطفت زهرة (3) ...
أما لفظ «أنا» و «محمود» ، و «هذا» ، و «نهر» ، «والنیل» وأمثال ما فی : «ب»
ص: 188
فیسمی : معرفة ؛ وهی : «اسم یدل علی شیء واحد معین» ، لأنه متمیز بأوصاف وعلامات لا یشارکه فیها غیره من نوعه. ومن أمثلتها غیر ما سبق : سمعت تغرید «عصفوری» - «هذه» سفینة رکبتها ، کتبت «الرسالة» ...
وللنکرة علامة تعرف بها ؛ هی : أنها تقبل دخول : «أل» التی تؤثر فیها فتفیدها التعریف ، أی : التعیین وإزالة ما کان فیها من الإبهام والشیوع. وبهذه العلامة ندرک أن کل کلمة من الکلمات السابقة وهی : رجل ، طالب ، کتاب ...) ، نکرة ، لأنها تقبل دخول «أل» التی تکسبها التعریف. تقول : الرجل شجاع ، الطالب نافع ، الکتاب نفیس ... وقد صارت هذه الکلمات معارف بعد دخول : «أل».
وربما کانت الکلمة فی ذاتها لا تصلح لدخول «أل» علیها مباشرة ، وإنما تدخل علی کلمة أخری بمعناها ، بحیث تصلح کل واحدة منهما أن تحل محل الأخری ؛ فلا یتغیر شیء من معنی الجملة : مثل : کلمة «ذو» ، فإنها بمعنی : «صاحب» ، تقول : أنت رجل ذو خلق کریم ، والمحسن إنسان ذو قلب رحیم ، فکلمة : «ذو» نکرة لا شک فی تنکیرها ؛ مع أنها لا تقبل «أل» التی تفیدها التعریف. ولکنها بمعنی کلمة أخری تقبل «أل» ، وهی کلمة : «صاحب» (1) التی یصح أن تحل محل کلمة : «ذو».
ومن هنا کانت «ذو» نکرة ؛ لأنها - وإن کانت لا تقبل «أل» - یصح أن تحل محل کلمة ؛ «صاحب» التی تقبل «أل» ، وتقع فی الجملة مکانها ، من غیر أن یترتب علی ذلک إخلال بالمعنی (2).
ص: 189
فعلامة النکرة - کما سبق - أن تقبل بنفسها «أل» التی تفیدها التعریف ، أو تقع موقع کلمة أخری تقبل : «أل» المذکورة (1).
وبدیه أن هذه العلامة لا تدخل المعرفة ، ولا توجد فیها ؛ لأن «أل» تفید التعریف ، کما أشرنا ، والمعرفة لیست فی حاجة إلیه ؛ فقد اکتسبته بوسیلة أخری سنعرفها. فإن ظهرت «أل» فی بعض المعارف فلیست «أل» التی تفید التعریف ، وإنما هی نوع آخر ؛ جاء لغرض غیر التعریف ، سیذکر فی مکانه (2).
1 - الضمیر ، مثل : أنا ، وأنت ، وهو ...
2 - العلم ، مثل : محمد ، وزینب ...
3 - اسم الإشارة : مثل : هذا ، وهذه ، وهؤلاء ...
4 - اسم الموصول ، مثل : الذی ، والتی ...
5 - المبدوء بأل المعرّفة (أی : التی تفید التعریف) ، مثل : الکتاب ، والقلم ، والمدرسة إذا کانت هذه أشیاء معینة ...
6 - المضاف إلی معرفة ؛ مثل : بیتی قریب من بیتک وکذلک نهر النیل فی أمثلة «ب» ... وهذا بشرط أن یکون المضاف قابلا للتعریف ؛ فلا یکون من الألفاظ المتوغلة فی الإیهام (3) التی لا تتعرف بإضافة ، أو غیرها ، کلفظ غیر ، ومثل - فی
ص: 190
أغلب أحوالهما -.
7 - النکرة المقصودة من بین أنواع المنادی (1). مثل : یا شرطیّ ، أو : یا حارس ؛ إذا کنت تنادی واحدا معینا (2) ، تتجه إلیه بالنداء ، وتقصده دون غیره ؛ ذلک أن کلمة : «شرطیّ» وحدها. أو کلمة : «حارس» وحدها ، نکرة ؛ لا تدل علی معین. ولکنها تصیر معرفة عند النداء ؛ بسبب القصد - أی : التوجه - الذی یفید التعیین. وتخصیص واحد بعینه ، دون غیره (3).
ص: 191
إن الجملة بنوعیها (1) ، وشبه الجملة بنوعیه ، إذا وقع شیء منهما بعد النکرة المحضة (2) فإنه یعرب صفة ، وبعد المعرفة المحضة (3) یعرب حالا (4) ؛ فمثال الجملة الفعلیة بعد النکرة المحضة : حضر غنی «یحسن إلی المحتاج». ومثال الجملة الاسمیة حضر غنی «إحسانه غامر». ومثال الظرف : رأیت طائرا «فوق» الغصن. ومثال الجار مع المجرور : رأیت بلبلا «فی قفصه».
ومثال الجملة الفعلیة بعد المعرفة المحضة : أقبل خالد «یضحک». ومثال الاسمیة : أقبل خالد «وجهه مشرق». ومثال الظرف : أبصرت طائرتنا «فوق» السحاب. ومثال الجار مع المجرور : أبصرت طائرتنا «فی وسط» السحاب.
ص: 192
أما إذا کانت النکرة غیر محضة ، أو المعرفة غیر محضة ، فإنه یجوز فیما بعدهما من جمل وشبه جمل أن یعرب «صفة» أو «حالا» ؛ تقول فی الأمثلة السابقة بعد غیر المحضة : حضر غنی کریم «یحسن إلی المحتاج» ، وحضر غنی کریم «إحسانه غامر» ، ورأیت طائرا جمیلا «فوق» الغصن ، ورأیت بلبلا شجیّا «فی قفصه» ...
ومثال الجملة الفعلیة بعد المعرفة غیر المحضة : یروقنی الزهر یفوح عطره ، بإدخال «أل الجنسیة» علی الاسم. ومثال الاسمیة بعدها : یروقنی الزهر عطره فوّاح. ومثال الظرف : یروقنی الثمر فوق الأغصان. ومثال الجار مع مجروره : یسرنی الطیر علی الأغصان ، فوجود «أل» الجنسیة» فی أول الاسم جعله صالحا للحکم علیه بأنه معرفة أو نکرة ، علی حسب الاعتبار الذی یوجّه لهذا أو لذاک (1).
ص: 193
ا - یجوز اعتبار شبه الجملة بنوعیه (الظروف والجار مع مجروره) صفة بعد المعرفة المحضة علی تقدیر متعلقة معرفة. وقد نص علی هذا الصبان - ج 1 أول باب النکرة والمعرفة - حیث قال : «أسلفنا عن الدمامینی جواز کون الظرف (ویراد به فی مثل هذا التعبیر : شبه الجملة بنوعیه) بعد المعرفة المحضة صفة ، بتقدیر متعلقه معرفة). ا ه. أی : أن المتعلق المعرفة سیکون هو الصفة لمطابقته الموصوف فی التعریف. ولا مانع أن یکون شبه الجملة نفسه هو الصفة إذا استغنینا به عن المتعلّق تیسیرا وتسهیلا - طبقا لما سیجیء فی رقم 1 من هامش ص 347 وما بعدها وفی هامش ص 431 بالإیضاح والشرط المسجلین هناک
وإذا کان شبه الجملة بعد المعرفة المحضة صالحا لأن یکون صفة علی الوجه السالف ، وهو صالح أیضا لأن یکون حالا بعدها کصلاحه للوصفیة والحالیة أیضا بعد النکرة غیر المحضة - أمکن وضع قاعدة عامة أساسیة هی : «شبه الجملة یصلح دائما أن یکون حالا أو صفة بعد المعرفة المحضة وغیر المحضة ، وکذلک بعد النکرة بشرط أن تکون غیر محضة - أو یقال : إذا وقع شبه الجملة بعد معرفة أو نکرة فإنه یصلح أن یکون حالا ، أو صفة : إلا فی صورة واحدة هی أن تکون النکرة محضة ؛ فیتعین أن یکون یعدها صفة لیس غیر.
ومما هو جدیر بالملاحظة أن جواز الأمرین فیما سبق مشروط بعدم وجود قرینة توجب أحدهما دون الآخر ، حرصا علی سلامة المعنی. فإن وجدت القرینة وجب الخضوع لما تقتضیه ، کالشأن معها فی سائر المسائل. وإن لم توجد فالحکم بجواز الأمرین سائغ (1)
ب - من الأسماء ما هو نکرة فی اللفظ ، معرفة فی المعنی ؛ مثل : کان سفری إلی الشام عاما «أول». أی : فی العام الذی قبل العام الذی نحن فیه. ومنه کان وصولی هنا «أول» من أمسس. أی : فی الیوم الذی قبل أمس. فمدلول کلمة : «أول» - فی الأسلوب العربی السابق - لا إبهام فیه ولا شیوع ؛ ولکنه لا یستعمل فیه إلا نکرة ؛ محاکاة للأسالیب الفصیحة الناردة وتجری علیه أحکام النّکرة ، کأن یکون موصوفة نکرة (2) ...
ص: 194
ومن الأسماء ما هو معرفة فی اللفظ ، نکرة فی المعنی ، مثل : «أسامة» «أی : أسد» : فهو علم جنس علی الحیوان المفترس المعروف ، وهو من هذه الجهة التی یراعی فیها لفظه ، شبیه بالعلم : «حمزة» - وغیره من الأعلام الشخصیة - فی أنه لا یضاف ، ولا تدخله «أل» ، ویجب منعه من الصرف ، ویوصف بالمعرفة دون النکرة ، ویقع مبتدأ ، وصاحب حال (1) ... ولکنه من جهة أخری معنویة غیر معین الدلالة ؛ إذ مدلوله شائع بین أفراد جنسه ، مبهم : فهو مثل کلمة : «أسد» فی الدلالة (2).
ح - ومن الأسماء صنف مسموع یصلح للحالین بصورته المسموعة عن العرب مثل کلمة : «واحد» فی قولهم : «واحد أمّه». ومثل کلمة : عبد ، فی قولهم : «عبد بطنه» ؛ فکل واحدة منهما یصح اعتبارها معرفة ؛ لإضافتها للمعرفة ، ویصح اعتبارها نکرة منصوبة علی الحال عند النصب. ومثلهما : المبدوء «بأل» الجنسیة (3) ؛ مثل : الإنسان أسیر الإحسان ، فهو من ناحیة المظهر اللفظی معرفة ؛ لوجود «أل» الجنسیة. ومن جهة المعنی نکرة ، لشیوعه ؛ ولأن معناه عام مبهم ؛ فکأنک تقول : کل إنسان ... وکل إحسان ... ؛ فلا تعیین ، ولا تحدید ، فهو صالح للاعتبارین کما سبق ، وستجیء إشارة لهذا فی باب الحال ج 2 ص 311 م 84؟ وفی باب النعت ج 3 ص 380 م 114 (4)؟
ص: 195
(1) تعریفه ؛ اسم جامد یدل علی : متکلم ، أو مخاطب ، أو غائب. فالمتکلم مثل : أنا (2) ، ونحن ، والتاء ، والیاء ، ونا ، فی نحو : أنا عرفت واجبی - نحن عرفنا واجبنا ... وأدّیناه کاملا. والمخاطب مثل : أنت ... أنتما ، أنتم ، أنتن ، والکاف وفروعها فی نحو : إن أباک قد صانک ... والغائب (3) مثل : هی ، هو ، هما ، هم ، هن ، والهاء فی مثل : یصون الحر وطنه بحیاته (4) ... وکذا فروعها ...
ص: 196
ویسمی ضمیر المتکلم والمخاطب : «ضمیر حضور» ؛ لأن صاحبه لا بد أن یکون حاضرا وقت النطق به (1).
والضمیر بأنواعه الثلاثة لا یثنی ، ولا یجمع. إنما یدل بذاته علی المفرد ، المذکر أو المؤنث - أو علی المثنی بنوعیه المذکر والمؤنث معا ، أو علی الجمع المذکر ، أو المؤنث ، کما یتضح من الأمثلة السالفة. ومع دلالته علی التثنیة أو الجمع فإنه لا یسمی مثنی ، ولا جمعا.
أقسامه : ینقسم الضمیر إلی عدة أقسام بحسب اعتبارات مختلفة :
(ا) ینقسم بحسب مدلوله إلی ما یکون للتکلم فقط ، وللخطاب. فقط ، وللغیبة کذلک. - وقد سبقت الأمثلة - ولما یصلح للخطاب حینا ، وللغیبة حینا آخر ؛ وهو ألف الاثنین ، وواو الجماعة ، ونون النهوة. فمثال ألف الاثنین : اکتبا یا صادقان ، والصادقان کتبا. ومثال واو الجماعة : اکتبوا یا صادقون ، والصادقون کتبوا. ومثال نون النسوة : اکتبن یا طالبات. الطالبات کتبن (2) ...
(ب) وینقسم بحسب ظهوره فی الکلام وعدم ظهوره إلی : بارز ومستتر ؛ فالبارز : هو الذی له صورة ظاهرة فی الترکیب ، نطقا وکتابة ، نحو : أنا رأیتک
ص: 197
فی الحدیقة. فکل من کلمة : أنا ، والتاء ، والکاف - ضمیر بارز.
والمستتر (1) ، ما یکون خفیّا غیر ظاهر فی النطق والکتابة ؛ مثل : ساعد غیرک یساعدک ؛ فالفاعل لکل من الفعلین ضمیر مستتر تقدیره فی الأول : «أنت» وفی الثانی : «هو».
والبارز قسمان ، أولهما : المتصل ؛ وهو : «الذی یقع فی آخر الکلمة ، ولا یمکن أن یکون فی صدرها ولا فی صدر جملتها» ؛ إذ لا یمکن النطق به وحده ، بسبب أنه لا یستقل بنفسه عن عامله ؛ فلا یصح أن یتقدم علی ذلک العامل مع بقائه علی إعرابه السابق قبل أن یتقدم ، کما لا یصح أن یفصل بینهما - فی حالة الاختیار - فاصل من حرف عطف ، أو أداة استثناء ؛ کإلا ، أو غیرهما (2).
ومن أمثلة الضمائر المتصلة بآخر الأفعال ؛ التاء المتحرکة ، وألف الاثنین ، وواو الجماعة ، ونون النسوة ، وذلک کله فی مثل : سمعت النصح ، والرجلان سمعا ، والعقلاء سمعوا ، والفاضلات سمعن. فلیس واحد من هذه الضمائر بممکن أن یستقل بنفسه فیقع أول الکلمة قبل عامله ، ولا یتأخر عنه مع وجود
ص: 198
فاصل بینهما (1).
ثانیهما : المنفصل ؛ وهو الذی یمکن أن یقع فی أول جملته ، ویبتدیء الکلام به ؛ فهو یستقل بنفسه عن عامله ؛ فیسبق العامل ، أو یتأخر عنه مفصولا بفاصل ؛ مثل ؛ أنا ، ونحن ؛ وإیاک ... فی مثل : أنا نصیر المخلصین. ونحن أنصارهم ، وإیاک قصدت ، وما النصر إلا أنا ، وما المخلصون إلا نحن.
هذا ، والضمائر کلها مبنیة (2) الألفاظ ؛ سواء فی هذا ما ذکرناه وما سنذکره بعد.
وینقسم المتصل بحسب مواقعه من الإعراب إلی ثلاثة أنواع :
أولها : نوع یکون فی محل رفع فقط ؛ وهو خمسة ضمائر : التاء المتحرکة للمتکلم ؛ نحو : صدقت. وکذلک فروعها (3). وألف الاثنین : نحو : المتعلمان صدقا ،
ص: 199
وواو الجماعة ، نحو : المتعلمون صدقوا (1). ونون النسوة ؛ نحو : الفتیات صدقن ، ویاء المخاطبة ، نحو : اصدقی یا متعلمة (2).
ثانیها : نوع مشترک بین محل النصب ومحل الجر ، إذ لا یوجد ضمیر متصل خاص بمحل النصب ؛ ولا ضمیر متصل خاص بمحل الجر. وهذا النوع المشترک بینهما ثلاثة ضمائر (3) ؛ یاء المتکلم ، وکاف المخاطب بنوعیه ؛ وهاء الغائب بنوعیه.
ص: 200
فأما یاء المتکلم فمثل : ربی أکرمنی (فالیاء الأولی فی محل جر ، لأنها مضاف إلیه. والیاء الثانیة فی محل نصب ، لأنها مفعول به).
وأما کاف المخاطب فیهما فمثل : لا ینفعک إلا عملک ، (فالکاف الأولی فی محل نصب ، لأنها مفعول به ؛ والکاف الثانیة فی محل جر ، لأنها مضاف إلیه) (1).
وأما هاء الغائب (2) بنوعیه المذکر والمؤنث فمثل : من یتفرغ لعمله یحسنه.
ص: 201
أو ؛ من تتفرغ لعملها تحسنه (فالهاء الأولی فی المثالین فی محل جر ، لأنها مضاف إلیه ، والثانیة فی محل نصب ؛ لأنها مفعول به).
ثالثها : نوع مشترک بین الثلاثة : وهو ؛ (نا) نحو : (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسینا أو أخطأنا) فالأولی فی محل جر ، لأنها مضاف إلیه ؛ والثانیة فی محل نصب ، لأنها مفعول به (1) - کما سبق - والثالثة والرابعة فی محل رفع ؛ لأنها فاعل (2).
ومما سبق نعلم أن للرفع ضمائر متصلة تختص به ، ولیس للنصب وحده أو الجر وحده شیء خاص به.
ص: 202
روی أبو علیّ القالی فی کتابه : «ذیل الأمالی والنوادر» ص 105 عن بعض الأعراب قول شاعرهم :
فها أنا للعشاق یا عزّ قائد
وبی تضرب الأمثال فی الشرق والغرب
والشائع (1) دخول : «ها» التی للتنبیه علی ضمیر الرفع المنفصل الذی خبره اسم إشارة ؛ نحو : «هأنذا» المقیم علی طلب العلوم. وغیر الشائع دخولها علیه إذا کان خبره غیر اسم إشارة ، نحو : هأنا ساهر علی صالح الوطن. وهو - مع قلته - جائز ، لورود نصوص فصیحة متعددة تکفی للقیاس علیها. منها قول عمر بن الخطاب یوم «أحد» حین وقف أبو سفیان بعد المعرکة یسأل : أین فلان ، وفلان ... من کبار المسلمین؟. فأجابه عمر. هذا رسول الله علیه السّلام ، وهذا أبو بکر ، وهأنا عمر ... (2) ومنها بیت لمجنون لیلی (3) ، ونصّه :
وعروة مات موتا مستریحا
وهأنا میّت فی کل یوم
کما روی صاحب الأمالی (4) أیضا البیت التالی لعوف بن محلّم ، ونصّه :
ولوعا ؛ فشطّت غربة دار زینب
فهأنا أبکی والفؤاد جریح
وقول سحیم من شعراء صدر الإسلام :
لو کان یبغی الفداء قلت له
هأنا دون الحبیب یا وجع
ویترتب علی الحکم الشائع ما صرحوا به من جواز الفصل بین : «ها» التی للتنبیه واسم الإشارة بضمیر المشار إلیه مثل : هأنذا أسمع النصح ، وهأنتذا تعمل الخیر ، وهأنتم أولاء تصنعون ما یفید. وقد یقع الفصل بغیر الضمیر قلیلا - مع جوازه - کالقسم بالله فی مثل : ها - والله - ذا رجل محب لوطنه ، و «إن» الشرطیة فی مثل : ها إن ذی حسنة تتکرّر یضاعف ثوابها. وقد تعاد «ها» التنبیه بعد الفاصل للتقویة ... ، نحو : هأنتم هؤلاء تخلصون.
ص: 203
وینقسم المنفصل بحسب مواقعه من الإعراب إلی قسمین : أولهما ؛ ما یختص بمحل الرفع ، وثانیهما ما یختص بمحل النصب (1).
فأما الذی یختص بمحل الرفع [فاثنا عشر] ، موزعة بین المتکلم ، والمخاطب ، والغائب ، علی الوجه الآتی :
(ا) للمتکلم ضمیران ، «أنا» للمتکلم وحده ، و «نحن» للمتکلم المعظّم نفسه ، أو معه غیره. (و «أنا» هو الأصل و «نحن» هو الفرع) (2).
(ب) للمخاطب خمسة ؛ أولها ؛ وهو الأصل : «أنت» ، للمفرد المذکر ، ثم الفروع : «أنت» للمخاطبة المؤنثة ، «وأنتما» للمذکر المثنی المخاطب ، أو المؤنث المثنی المخاطب ، «وأنتم» لجماعة الذکور المخاطبین ، «وأنتن» لجماعة الإناث المخاطبات.
(ج) للغائب خمسة ؛ أولها وأصلها : «هو» للمفرد الغائب. ثم فروعه : «هی» (3) ، للمفردة الغائبة ، و «هما» للمثنی الغائب : و «هم» لجمع الذکور الغائبین ، و «هن» لجمع الإناث الغائبات (4) ؛
فمجموع الضمائر المنفصلة المرفوعة اثنا عشر علی التوزیع السالف (5).
ص: 204
وأما الضمائر التی تختص بمحل النصب فاثنا عشر ضمیرا أیضا ، کل منها مبدوء بکلمة : إیّا (1).
فللمتکلم : «إیای» ، وهو الأصل ، وفرعه : «إیانا» للمتکلم المعظّم نفسه ، أو معه غیره.
وللمخاطب المفرد : «إیاک» ، وهو الأصل ، وفروعه : «إیاک» ، للمخاطبة ، و «إیاکما» ، للمثنی المخاطب ، مؤنثا ، أو مذکرا ، و «إیاکم» ؛ لجمع الذکور المخاطبین ، و «إیاکن» لجمع الإناث المخاطبات.
وللغائب : «إیاه» للمفرد الغائب ، وفروعه : «إیاها» للمفردة الغائبة ، و «إیاهما» للمثنی الغائب بنوعیه ، و «إیاهم» لجمع الذکور الغائبین ، و «إیاهن» لجمع الإناث الغائبات.
فللمتکلم اثنان ، وللمخاطب خمسة ، وللغائب خمسة. ولیس هناک ضمائر منفصلة تختص بمحل الجر.
هذا وجمیع الضمائر المنفصلة تشارک نظائرها المتصلة فی الدلالة علی التّکلم ، أو الخطاب ، أو الغیبة ، فلکل ضمیر منفصل نظیر آخر متصل یماثله فی معناه : فالضمیر «أنا» یماثل التاء ، والضمیر «نحن» یماثل «نا» ، وهکذا.
* * *
وینقسم المستتر إلی قسمین :
أولهما : المستتر وجوبا ، وهو الذی لا یمکن أن یحل محله اسم ظاهر (2) ، ولا ضمیر منفصل ؛ مثل : إنی أفرح حین نشترک فی عمل نافع. فالفعل المضارع : «أفرح» ، فاعله ضمیر مستتر وجوبا ، تقدیره : أنا. ولا یمکن أن یخلفه اسم
ص: 205
ظاهر ولا ضمیر منفصل ، إذ لا نقول : أفرح محمد - مثلا - ولا أفرح أنا ، علی اعتبار «أنا» فاعلا ، بل یجب اعتبارها توکیدا للفاعل المستتر الذی یشابهها فی اللفظ والمعنی. کذلک الفعل المضارع : «نشترک» فاعله مستتر وجوبا تقدیره : «نحن» ولا یمکن أن یحل مکانه اسم ظاهر ولا ضمیر منفصل ؛ إذ لا نقول : «نشترک محمد» ولا نقول : «نشترک نحن» علی اعتبار کلمة : «نحن» فاعلا ؛ لأنها لو کانت فاعلا لوجب استتارها حتما. ولکنها تعرب توکیدا لضمیر مستتر یشابهها فی اللفظ والمعنی.
وثانیهما : المستتر جوازا ، وهو الذی یمکن أن یحل محله الاسم الظاهر أو الضمیر البارز ؛ مثل : الطائر تحرّک. النهر یتدفق. فالفاعل فیهما ضمیر مستتر جوازا تقدیره : هو ، إذ من الممکن أن نقول : الطائر تحرک جناحه ، والنهر یتدفق ماؤه : بإعراب کلمتی «جناح» و «ماء» فاعلا للعامل الموجود وهو : «تحرک» و «یتدفق». ومن الممکن کذلک أن نقول : الطائر ما تحرک إلا هو ، والنهر ما یتدفق إلا هو ... بإعراب الضمیر البارز : «هو» فاعلا للعامل الموجود. والمستتر بنوعیه لا یکون إلا مرفوعا متصلا کما سبق.
مواضع الضمیر المرفوع المستتر وجوبا. أشهر هذه المواضع تسعة (1) :
1 - أن یکون فاعلا لفعل الأمر المخاطب به الواحد المذکر ، مثل : أسرع لإنقاذ الصارخ ، وبادر إلیه. بخلاف الأمر المخاطب به الواحدة ، نحو : قومی ، أو للمثنی ؛ نحو : قوما ، أو الجمع ، نحو : قوموا ، وقمن. فإن هذه الضمائر تعرب
ص: 206
فاعلا أیضا ، ولکنها ضمائر بارزة.
2 - أن یکون فاعلا للفعل المضارع المبدوء بتاء الخطاب للواحد ؛ مثل : یا بنیّ ، أتعرف متی تتکلم ومتی تسکت؟ بخلاف المبدوء بتاء الخطاب للواحدة ؛ مثل : تتعلمین یا زمیلة ، أو للمثنی بنوعیه ، مثل : أنتما تتعلمان ، أو للجمع بنوعیه مثل : أنتم تتعلمون وأنتن تتعلمن ؛ فإن هذه ضمائر رفع بارزة ، وبخلاف المبدوء بتاء الغائبة ، فإنه مستتر جوازا ؛ مثل : الأخت تقرأ (1).
3 - أن یکون فاعلا للفعل المضارع المبدوء بهمزة المتکلم ؛ مثل : أحسن اختیار الوقت الذی أعمل فیه ، وقول الشاعر :
لا أذود الطیر عن شجر
قد بلوت المرّ من ثمره
4 - أن یکون فاعلا للفعل المضارع المبدوء بالنون ؛ مثل نحب الخیر ، ونکره الأذی.
5 - أن یکون فاعلا للأفعال الماضیة التی تفید الاستثناء ؛ مثل : خلا - عدا - حاشا. تقول : حضر السیاح خلا واحدا - أو : عدا واحدا - أو : حاشا واحدا. ففاعل خلا وعدا وحاشا ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : هو (2) ...
6 - أن یکون اسما مرفوعا لأدوات الاستثناء الناسخة ؛ (وهی : لیس ، ولا یکون) تقول : انقضی الأسبوع لیس یوما. انقضی العام لا یکون شهرا. فکلمة «یوما» و «شهرا» خبر للناسخ ، وهی المستثنی أیضا. أما اسم الناسخ فضمیر مستتر وجوبا تقدیره : هو.
7 - أن یکون فاعلا لفعل التعجب الماضی ؛ وهو : «أفعل» ؛ مثل : ما أحسن
ص: 207
الشجاعة. «فأحسن» فعل ماض للتعجب ، وفاعله ضمیر مستتر وجوبا تقدیره ؛ هو. «یعود علی : ما».
8 - أن یکون فاعلا لاسم فعل مضارع ، أو اسم فعل أمر ، مثل : أفّ من الکذب ، (بمعنی : أتضجر جدا). وآمین. (بمعنی : استجب.)
9 - أو فاعلا للمصدر النائب عن فعله الأمر ؛ مثل ؛ قیاما للزائر. فقیاما : مصدر ، وفاعله مستتر وجوبا ، تقدیره : «أنت» ؛ لأنه بمعنی : قم.
فهذه تسعة مواضع (1) ، هی أشهر المواضع التی یستتر فیها الضمیر وجوبا ، ولا یکون إلا مرفوعا متصلا - کما أشرنا من قبل. - أما الضمیر المستتر فی غیر تلک المواضع فاستتاره جائز ، لا واجب.
ص: 208
(ا) یعرب الضمیر المرفوع المستتر جوازا إمّا فاعلا إذا کان فعله لغائب أو غائبة ؛ کالأمثلة السابقة ، وإما فاعلا لاسم فعل ماض ؛ مثل : البحر هیهات. بمعنی : بعد جدّا ، أی : هو.
ومن أمثلة ذلک أیضا : شتان الصحة والضعف ، بمعنی : افترق الحال بینهما جدّا. فالصحة فاعل. وتقول الصحة والضعف شتان. أی : هما ، فالفاعل ضمیر ، تقدیره : هما. وتقول هیهات البحر هیهات. وشتان الصحة والضعف شتان. ففاعل «هیهات» الثانیة ضمیر مستتر جوازا تقدیره : «هو» یعود علی البحر ، بشرط أن تکون الجملة المکونة من : «هیهات» الثانیة وفاعلها توکیدا للجملة التی قبلها ، فیکون الکلام من توکید الجمل بعضها ببعض. أما لو جعلنا لفظة : «هیهات» الثانیة وحدها توکیدا للأولی فإنها لا تحتاج إلی الفاعل (1) ، ویکون الکلام من نوع توکید اسم الفعل وحده بنظیره. واسم الفعل ؛ کالفعل إذا وقع أحدهما - وحده بدون فاعل - توکیدا لفظیّا فإنه لا یحتاج لفاعل (2) ، وکذلک یقال فی : «شتان» فی الحالتین.
(ب) وإما مرفوعا لأحد المشتقات المحضة : (کاسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة ، نحو : علی نافع ، أو مکرم ، أو فرح) ؛ ففی کل واحدة من هذه الصفات المشتقة ضمیر مستتر جوازا ، تقدیره : «هو» (3) ویکون الضمیر المرفوع بها فاعلا ، إلا مع اسم المفعول ، فیکون نائب فاعل.
أما المشتقات غیر المحضة (وهی التی غلبت علیها الاسمیة المجردة من الوصف بأن صارت اسما خالصا لشیء) فإنها لا تتحمل ضمیرا ؛ کالأبطح ، والأجرع أسماء أماکن ، ومثلهما : الأبیض ، والأرحب ، والمسعود ، والعالی ، أسماء قصور ، والمفتاح ، والملعقة ، والملعب ...
ومن المشتقات المحضة : «أفعل التفضیل» (4). والغالب فیه أنه یرفع الضمیر
ص: 209
المستتر ، ولا یرفع الظاهر - قیاسا - إلا فی المسألة التی یسمیها النحاة مسألة : «الکحل» وقد یرفعه نادرا - لا یقاس علیه - فی مثل : مررت برجل أفضل منه أبوه باعراب کلمة : «أبو» فاعلا (1). وکذلک یرفع الضمیر البارز نادرا فی لغة من یقول : مررت برجل أفضل منه أنت ، بإعراب «أنت» فاعلا ، حملا لها علی الفاعل الظاهر فی مسألة «الکحل». ولو أعرب «أنت» مبتدأ ، خبره : أفضل ، لجاز ولم یکن أفعل التفضیل رافعا للضمیر.
بناء علی ما تقدم لو لاحظنا أنه لا یرفع الظاهر إلا قلیلا ولا الضمیر البارز إلا نادرا فإن الضمیر المستتر فیه یکون من نوع المستتر وجوبا مع الإغضاء عن تلک القلة والندرة ، وإن لاحظنا الواقع من غیر نظر للقلة والندرة قلنا : إنه مستتر جوازا.
* * *
تلخیص ما سبق من أنواع الضمائر :
(ا) ینقسم الضمیر باعتبار مدلوله إلی ثلاثة أقسام : متکلم ، ومخاطب وغائب.
(ب) ینقسم الضمیر باعتبار ظهوره فی الکلام وعدم ظهوره إلی قسمین بارز ، ومستتر.
ینقسم الضمیر البارز إلی قسمین : منفصل. ومتصل.
- ا - ینقسم الضمیر البارز المنفصل باعتبار محله الإعرابی إلی :
1 - بارز منفصل فی محل رفع ، وهو : اثنا عشر ضمیرا ، للمتکلم اثنان ، هما : «أنا» وفرعه «نحن». وللمخاطب : «أنت» وفروعه الأربعة. وللغائب : «هو» وفروعه الأربعة.
2 - بارز منفصل فی محل نصب ، وهو اثنا عشر ضمیرا ؛ للمتکلم اثنان «إیای» وفرعه «إیانا». وللمخاطب «إیاک» وفروعه الأربعة. وللغائب «إیاه» وفروعه الأربعة.
ولا یوجد ضمیر بارز منفصل فی محل جر.
(ب) ینقسم الضمیر البارز المتصل باعتبار محله الإعرابی إلی ما یأتی :
1 - بارز متصل فی محل رفع ؛ وهو خمسة : التاء المتحرکة - ألف الاثنین -
ص: 210
واو الجماعة - یاء المخاطبة - نون النسوة.
2 - بارز متصل صالح لأن یکون فی محل نصب حینا ، وفی محل جر حینا آخر ، وهو ثلاثة : یاء المتکلم ، والکاف ، والهاء.
3 - بارز متصل ، صالح لأن یکون فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، هو : «نا».
ولا یوجد ضمیر بارز متصل فی محل نصب فقط ، أو فی محل جر فقط.
(ا) مستتر وجوبا وله جملة مواضع ، أشهرها : تسعة (1).
(ب) مستتر جوازا وله مواضع غیر السالفة.
* * *
ویتضمن الرسم الآتی کل ما سبق.
صورۀ
تقسیم آخر للضمیر بحسب محله الإعرابی :
ینقسم إلی خمسة أقسام. 1 - مرفوع متصل. 2 - مرفوع منفصل.
3 - منصوب متصل. 4 - منصوب منفصل. 5 - مجرور ، ولا یکون إلا متصلا.
ص: 211
، والضمیر المرکب
الغرض من الضمیر - کما عرفنا - الدلالة علی المتکلم ، أو المخاطب ، أو الغائب ، مع الدلالة علی الإفراد ، أو التثنیة ، أو الجمع ، والتذکیر ، أو التأنیث فی کل حالة.
غیر أن بعض الضمائر یقوم بهذه الدلالة مستقلا بنفسه ، معتمدا علی تکوینه وصیغته الخاصة به ، غیر محتاج إلی زیادة تلازم آخره ، لتساعده فی أداء مهمته ، فصیغته مفردة (بسیطة) وذلک کالیاء ، والتاء ، والهاء ، فی نحو : إنی أکرمت من أکرمت. فالیاء وحدها تدل علی المتکلم المفرد ، وکذلک التاء فی : «أکرمت» الأولی. أما التاء الثانیة فتدل علی المخاطب المفرد ، المذکر أو المؤنث علی حسب ضبطها ، وأما الهاء فتدل علی المفرد المذکر الغائب.
فکل ضمیر من الثلاثة - وأشباهها - کلمة واحدة ، انفردت بتحقیق الغرض منها ، وهو التکلم ، أو الخطاب ، أو الغیبة ، مع التذکیر أو التأنیث ، ومع الإفراد ، دون الاستعانة بلفظ یلازم آخرها.
ومثلها : «نحن» فی : نحن نسارع للخیرات - فإنها لفظة واحدة فی تکوینها ، وصیغة مستقلة بنفسها فی أداء الغرض منها ؛ وهو : «التکلم مع الدلالة علی الجمع ، أو علی تعظیم المفرد ، ولم یتصل آخرها اتصالا مباشرا بما یساعدها علی ذلک الغرض.
وبعضا آخر من الضمائر یقوم بتلک الدلالة ؛ ولکن من غیر أن یستقل بنفسه فی أدائها ، بل یحتاج لزیادة لازمة تتصل بآخره : لتساعده علی أداء المراد ؛ فصیغته مرکبة ، وتکوینه لیس مقصورا علی کلمة واحدة. وذلک مثل الضمیر : «إیا» فإنه لا یدل علی شیء مما سبق إلا بعد أن تلحقه زیادة فی آخره ؛ تقول : یای - إیاک - إیاکما - إیاکم - إیاکن ... ولو لا هذه الزیادة ما أدی مهمته ، ومثله : أنت ، نقول : أنتما ، أنتم ، أنتن ... وهکذا.
ص: 212
بنوعیه : المستتر والبارز
قلنا : إن الضمائر کلها مبنیة ؛ فعند إعرابها لا بد أن نلاحظ أمرین :
أولهما : موقع الضمیر من الجملة ، أهو فی محل رفع ؛ کأن یکون مبتدأ فی مثل : أنت أمین ، أم فی محل نصب ، کأن یکون مفعولا به فی مثل : زارک الصدیق ، أم فی محل جر ؛ کأن یکون مضافا إلیه فی مثل : کتابی مثل کتابک؟
ثانیهما : حالة آخر الضمیر ؛ أساکنة هی ؛ مثل : أنا ، أم متحرکة مثل : التاء فی : أحسنت؟.
فإذا عرفنا هذین الأمرین أمکن إعراب الضمیر بعد ذلک ؛ فإذا کان الضمیر مبنیّا علی السکون فقد یکون فی محل رفع ؛ لأنه مبتدأ فی مثل : أنا مسافر ، أو لأنه فاعل فی مثل : «نا» من «سافرنا» وقد یکون فی محل نصب ؛ لأنه مفعول به. مثل : «نا» فی حامد «أکرمنا». وقد یکون فی محل جر فی مثل : «نا» من أقبل علینا ... وهکذا باقی مواضع الرفع ، والنصب ، والجر.
وإذا کان الضمیر متحرکا فإنه یبنی علی نوع حرکة آخره ؛ فیبنی علی الضم ، أو الفتح ، أو الکسر ، علی حسب تلک الحرکة. ویکون معها فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب موقعه من الجملة - کما سبق - ، أهو مبتدأ ، أم فاعل ، أم مفعول ، أم مضاف إلیه ، أم غیر ذلک ، فکلمة : «نحن» فی مثل : نحن أصدقاء ، مبنیة علی الضم فی محل رفع ؛ لأنها مبتدأ. والکاف فی مثل : أکرمک الوالد ، مبنیة علی الفتح فی محل نصب ، لأنها مفعول به. والهاء فی مثل : محمد قصدت إلیه ؛ مبنیة علی الکسر فی محل جر ... وهکذا یقال فی کل ضمیر یتکون من لفظة واحدة لا یتصل بآخرها زیادة ، کالتی أشرنا إلیها من قبل.
فإن کان الضمیر غیر مقتصر علی نفسه بل فی آخره تلک الزیادة (1) اللّازمة مثل : (إیاک - إیاکما - إیاکم - إیاکن - أنت - أنتما - أنتم - أنتن) فإن
ص: 213
الأنسب الیوم إدماج الضمیر والزیادة الحتمیة معا عند الإعراب ، وعدّهما بمنزلة کلمة واحدة ، بحیث لا نعتبر أن الضمیر فی «إیاکما» و «أنتما» هو کلمة : «إیا» وحدها ، «وأن» وحدها .... وأن الکاف ، أو التاء ، حرف خطاب مبنی علی الفتح لا محل له من الإعراب ، وما بعدها حرف دال علی التثنیة ، أو علی جمع المذکر ، أو جمع المؤنث. فمن المستحسن رفض هذا التجزیء رفضا قاطعا ، وأن نتبع النحاة الداعین إلی اعتبار کلمة : «إیا» مع ما یصحبها لزوما هما معا : «الضمیر» ، وأنهما فی الإعراب کلمة واحدة. وکذلک : «أنتما» وباقی الفروع. وهذا الرأی الحسن یناسبنا الیوم ؛ لما فیه من تیسیر وتخفیف ، واختصار ، ولیس فیه ما یسیء إلی سلامة اللغة وفصاحتها ؛ فنقول فی کل من : أنت - أنتما - أنتم - أنتن - إیاک - إیاکما - إیاکم - إیاکنّ ، ونظائرها - إن الکلمة کلها بملحقاتها ضمیر مبنی علی کذا فی محل کذا (1).
ص: 214
- ا - وقوع الکاف حرف خطاب :
قد یتعین أن تکون «الکاف» حرف خطاب مبنیّا ؛ فلا محل له من الإعراب (1).
أی : أنها لا تکون ضمیرا. وذلک فیما یأتی :
1- فی مثل : أرأیتک الحدیقة ، هل طاب ثمرها مبکرا؟ أرأیتک الزراعة ؛ أتغنی عن الصناعة؟ ومعنی «أرأیتک» : أخبرنی ، الحدیقة ... أخبرنی الزراعة ... وإلیک الإیضاح :
کاف الخطاب الحرفیة قد تتصل بآخر الفعل : «رأی» فیصیر «رأیت» بشرط أن تسبقه همزة الاستفهام ، وأن یجیء بعد الکاف اسم منصوب ، ثم جملة استفهامیة. وهو فعل ماض ، فاعله التاء المتصلة بآخره ، المبنیة علی الفتح دائما (2) ، فی محل رفع. لأنها فاعل. وتقع بعدها «الکاف» حرف خطاب ؛ یتصرف وجوبا علی حسب المخاطبین (3) ، ولا تتصرف التاء ... فنقول للمخاطبة : أرأیتک ، وللمثنی بنوعیه : أرأیتکما» ، وللجمع المذکر : أرأیتکم ، وللجمع المؤنث : أرأیتکن. ومعنی «أرأیتک : أخبرنی» ، کما سبق. وهی إما منقولة من : رأیت ، بمعنی : «عرفت» أو بمعنی : أبصرت ، فتحتاج لمفعول واحد فی الحالتین ، وإما منقولة من : «رأیت» بمعنی : علمت ؛ فتحتاج إلی مفعولین. وسواء أکانت منقولة من هذه أم من تلک فإنها فی أصلها جملة خبریة بمعنی ما تقدم ، ثم صارت بعد النقل وبعد أن لازمتها همزة الاستفهام جملة إنشائیة. طلبیة ، لها معنی جدید ؛ هو ؛ أخبرنی ، أی : طلب الاستخبار ، وهو : طلب معرفة الخبر. وعلی أساس هذین الاعتبارین یکون إعراب ما یأتی بعدها ؛ فإن لاحظنا أن أصلها : عرفت ، أو أبصرت - کان الاسم المنصوب بعدها مفعولا به لها ، وتکون الجملة الاستفهامیة بعدها مستأنفة. وعلی اعتبار أن أصلها : «علمت» یکون ذلک الاسم المنصوب بعدها مفعولا به أول ، وتکون جملة الاستفهام التی بعده فی محل نصب ، تغنی عن المفعول الثانی. وإن لاحظنا حالتها الحاضرة ، وأنها الآن جملة إنشائیة طلبیة ؛ بمعنی «أخبرنی» ،
ص: 215
ولم نلتفت إلی الأصل الأول - فإن الاسم المنصوب بعدها یکون منصوبا علی نزع الخافض (1) ، والجملة الاستفهامیة بعده مستأنفة ؛ فکأنک تقول فی الأمثلة السابقة وأشباهها : أخبرنی عن الحدیقة ؛ هل طاب ثمرها مبکرا؟ أخبرنی عن الزراعة ؛ أتغنی عن الصناعة؟
وجدیر بالتنویه أن الاستعمال السابق لا یکون إلا حین نطلب معرفة شیء له حالة عجیبة ؛ وأن یکون بالصورة المنقولة عن فصحاء العرب ؛ فیبدأ الأسلوب - کما قلنا - بهمزة الاستفهام ؛ یتلوها جملة : «رأیتک» ؛ فاسم منصوب ؛ فجملة استفهامیة تبین الحالة العجیبة التی هی موضع الاستخبار. فلا بد أن یشتمل الأسلوب علی هذه الأمور الأربعة ، مرتبة علی حسب ما ذکرنا. غیر أن الاستفهام فی الجملة المتأخرة قد یکون ظاهرا کما مثل ؛ وقد یکون مقدرا هو وجملته ؛ کما فی قوله تعالی : (أَرَأَیْتَکَ هذَا الَّذِی کَرَّمْتَ عَلَیَّ ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ...) إلخ ، فالتقدیر : «أرأیتک هذا الذی کرمت علیّ ، لم کرمته علی؟.
وقد یحذف الاسم المنصوب الذی بعد : «أرأیتک» إذا کان مفهوما ، نحو قوله تعالی : (قُلْ أَرَأَیْتَکُمْ إِنْ أَتاکُمْ عَذابُ اللهِ) أی : قل أرأیتکم المعارضین إن أتاکم عذاب الله.
هذا إن قصد الاستخبار والتعجب - أما إن بقی الفعل «رأی» من «رأیت» علی أصله اللغوی الأول بمعنی : «عرفت» أو بمعنی : «أبصرت» أو بمعنی : «علمت» وجاءت قبله همزة الاستفهام فی الحالتین فإن التاء اللاحقة به تتصرف ، وتعرب فاعلا ، وتعرب الکاف المتصلة به ضمیرا مفعولا به ، وتتصرف علی حسب حال المخاطب ؛ فتقول : «أرأیتک ذاهبا ، أرأیتک ذاهبة» أرأیتکما ذاهبین ، أرأیتکم ذاهبین ، أرأیتکن ذاهبات - فتکون «الکاف» وحدها ، أو هی وما اتصلت به من علامة تثنیة أو جمع - ضمیرا مفعولا به أول ، والاسم المنصوب بعد ذلک هو المفعول الثانی. هذا إذا کانت. «رأی» بمعنی : «علم» التی تنصب مفعولین. أما إذا کانت «رأی» تنصب مفعولا واحدا فالضمیر هو مفعولها ، والاسم المنصوب بعده حال.
ص: 216
وسیجیء فی أول الجزء الثانی (1) تفصیل الکلام علی الفعل : «رأی» من ناحیة معناه وتعدیته إلی مفعول أو أکثر.
2 - فی اسم الفعل الذی یقوم معنی وعملا مقام فعل لا ینصب مفعولا به ، مثل : حیّهل ؛ بمعنی : أقبل. والنّجاء. بمعنی : أسرع ، وروید ، بمعنی تمهل ... ؛ فقد ورد عن العرب قولهم : حیّهلک ، والنّجاءک ، ورویدک ، فالکاف هنا حرف خطاب ؛ ولا یصح أن یکون ضمیرا مفعولا لاسم الفعل ؛ لأن أسماء الأفعال هذه لا تنصب مفعولا به ؛ لأنها تقوم معنی وعملا مقام أفعال لا تنصب مفعولا به. وکذلک لا یصح أن تکون الکاف ضمیرا فی محل جر مضافا إلیه ؛ لأن أسماء الأفعال مبنیة ، فلا یکون واحد منها مضافا (2).
3 - فی بعض أفعال مسموعة عن العرب یجب الاقتصار علیها ؛ مثل : «أبصر» فی : أبنصرک محمدا ، بمعنی : أبصر محمدا. ولا یمکن أن تکون الکاف هنا مفعولا به ؛ لأن هذا الفعل لا ینصب إلّا مفعولا واحدا ؛ وقد نصبه ؛ ونعنی به : «محمدا» ولأن فعل الأمر لا ینصب ضمیرا للمخاطب الذی یتجه إلیه الأمر. ومثل : «لیس» فی لستک محمدا مسافرا.
ومثل : نعم وبئس فی : نعمک الرجل محمود ، وبئسک الرجل سلیم ؛ وذلک لأن الفعل : «نعم» «وبئس» لا ینصب مفعولا به.
ومثل : حسب فی قولهم : جئت ، وما حسبتک أن تجیء ؛ لأن الکاف لو أعربت ضمیرا لکانت المفعول الأول «لحسب» ، ولکان المفعول الثانی هو المصدر المؤول (أن تجیء) ویترتب علی ذلک أن یکون المصدر المؤول خبرا عن الکاف ، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر (لأن مفعولی : حسب ؛ أصلهما المبتدأ والخبر) وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبرا عن الکاف ترتب علیه الإخبار بالمعنی عن الجثة ؛ وهو ممنوع عندهم فی أغلب الحالات(3).
4 - بعض حروف مسموعة یجب الاقتصار علیها ؛ مثل : کلّا ، بلی ، تقول : کلّاک ، أنت لا تخالف الوعد؟. ویسألک سائل : ألست صاحب فضل
ص: 217
علیک؟ فتجیب : بلاک. أی : بلی لک. (أنا موافق لک فی أنک صاحب فضل).
* * *
(ب) کیف نعرب الضمیر الواقع بعد : «لو لا» إذا کان من غیر ضمائر الرفع؟ وکیف نعرب الضمیر الواقع بعد : «عسی» إذا کان من فیر ضمائر الرفع أیضا؟ أشرنا فی رقم 2 من ص 211 إلی أن «یاء» المتکلم ، و «کاف» الخطاب ، و «هاء» الغالب ، ضمائر مشترکة بین محلی النصب والجر ، ولا تکون فی محل رفع. فما إعراب کل منها إذا وقع بعد کلمة : «لو لا» الامتناعیة التی لا یقع بعدها إلا المبتدأ ؛ مثل : لولای ما حضرت - لولاک لسافرت. -. الطائرة سریعة ؛ لولاها لتأخرت ، وفضل الطیران عظیم ؛ لولاه لاحتملنا مشقات عظیمة ... فما إعراب هذا الضمیر الواقع بعد : «لو لا» فی الأمثلة السابقة وأشباهها؟
نعید ما سبق (1) ، وهو أن أیسر وأوضح ما یقال فی الضمائر الثلاثة أنها - وإن کانت لا تقع فی محل رفع - تصلح بعد «لو لا» خاصة أن تقع فی محل رفع ، فیعرب کل ضمیر منها مبتدأ مبنیّا علی الحرکة التی فی آخره فی محل رفع ، وخبره محذوف. وهذا الرأی فوق یسره ووضوحه یؤدی إلی النتیجة التی ترمی إلیها الآراء الأخری ، من غیر تعقید - وفی مقدمتها رأی : سیبویه الذی یجعل : «لو لا» فی هذه الأمثلة وأشباهها حرف جر شبیه بالزائد ، وما بعدها مجرور بها لفظا مرفوع محلا ؛ لأنه مبتدأ ، ونکتقی بالإشارة إلی تعدد الآراء من غیر تعرض لتفاصیلها المرهقة المدونة فی المطولات. وکذلک قلنا فیما مضی (2) : إذا وقع ضمیر من تلک الثلاثة بعد «عسی» التی للرجاء ، والتی هی من أخوات کان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر ، نحو : عسای أن أدرک المراد ، أو : عسانی ، أو : عساک أن توفق فی عمل الخیر. وعساه أن یرشد إلی الصواب ... فخیر ما یقال فی إعرابها : أن «عسی» حرف رجاء ؛ بمعنی : «لعل» تنصب الاسم وترفع الخبر ، ولیست فعلا من أخوات کان. وهذا أیسر وأوضح من باقی الآراء الأخری الملتویة.
ص: 218
ح - ضمیر الفصل :
من أنواع الضمیر نوع یسمی : «ضمیر الفصل» (1). وهو من الضمائر السابقة ، ولکن له أحکام خاصة ینفرد بها دون سواه. وإلیک أمثلة توضحه.
1 - «الشجاع الناطق بالحق یبغی رضا الله». ما المعنی الأساسی الذی نریده من هذا الکلام ، بحیث لا یمکن الاستغناء عنه؟ أهو : الشجاع یبغی رضا الله؟ فتکون جملة : «یبغی رضا الله» رکنا أساسیّا فی الکلام ؛ لأنها خبر ، لا یتحقق المعنی الأصلی إلا بوجودها ، وانضمامها إلی المبتدأ ، کلمة : «الشجاع» وما عداهما فلیس أساسیّا ، وإنما هو زیادة تخدم المعنی الأصلی وتکمله (فتعرب الناطق : صفة) ... أم المعنی الأساسی هو : «الشجاع ، الناطق الحق»؟ فکأننا نتحدث عن الشجاع ونعرفه بأنه : الناطق بالحق ؛ فتکون کلمة : «الناطق» ، هی الأساسیة والضروریة التی یتوقف علیها المعنی المطلوب ، لأنها خبر لا یستقیم المعنی الأصلی ولا یتمّ بدونه ، وما جاء بعدها فهو زیادة تکمیلیة ؛ تخدم المعنی الأصلی من غیر أن یتوقف وجوده علیها ، ومن الممکن الاستغناء عنها.
الأمران جائزان ، علی الرغم من الفارق المعنوی بینهما. ولا سبیل لتفضیل أحدهما علی الآخر ؛ لعدم وجود قرینة توجه لهذا دون ذاک.
لکن إذا قلنا : الشجاع - هو - الناطق بالحق ، یبغی رضا الله. فإن الأمر یتغیر ؛ بسبب وجود الضمیر : «هو» : فیتعین المعنی الثانی وحده ، ویمتنع الأول ، ویزول الاحتمال الذی کان قائما قبل مجیء الضمیر.
2 - «إن الزعیم الذی ترفعه أعماله تمجده أمته». ما المعنی الأساسی فی هذا الکلام؟ أهو تعریف الزعیم بأنه : «الذی ترفعه أعماله»؟ فیکون هذا التعریف رکنا أصیلا فی الکلام ، لا یمکن الاستغناء عنه بحال ، وما بعده متمم له ، وزیادة طارئة علیه ، یمکن الاستغناء عنها ، وتعرب «الذی» اسم موصول خبر «إن» ... أم هو القول بأن : «الزعیم تمجده أمته»؟ فتکون هذه الجملة الفعلیة هی عصب الکلام ، لا یقوم المعنی إلا بها ، «لأنها خبر» ولا یتحقق المراد إلا بوجودها مع کلمة الزعیم ، وما عداها فزیادة طارئة لا أصیلة (وتعرب کلمة : «الذی» اسم موصول ، صفة)؟
ص: 219
الأمران متساویان ؛ یصح الأخذ بأحدهما أو بالآخر بغیر ترجیح. لکن إذا قلنا : «إن الزعیم - هو - الذی ترفعه أعماله» امتنع الاحتمال الثانی ، وتعین المعنی الأول بسبب وجود الضمیر الدال علی أن ما بعده هو الجزء الأساسی المتمم للکلام ، وأن الغرض الأهم هو الإخبار عن الزعیم بأنه : ترفعه أعماله. وما عدا ذلک فزیادة فرعیة غیر أصیلة فی تأدیة المراد. (فتکون کلمة : «الذی» هی الخبر ولیست صفة).
3 - «لیس المحسن المنافق بإحسانه ، یخفی أمره علی الناس». فما المعنی الأصیل فی هذا الکلام؟ أهو القول أن المحسن لا یخفی أمره علی الناس فیکون نفی «الخفاء» هو الغرض الأساسی ، وما عداه زیادة عرضیة (وتعرب کلمة : «المنافق» صفة)؟
أم القول بأنه : (لیس المحسن ، المنافق بإحسانه)؟ فمن کان منافقا بإحسانه فلن یسمی : محسنا. فقد نفینا صفة الإحسان عن المنافقین ، فتکون کلمة «المنافق» جزءا أصیلا فی تأدیة المعنی ؛ (لأنها خبر لیس) وما عداها تکملة طارئة.
الأمران جائزان ، إلا إذا قلنا لیس المحسن - هو - المنافق ؛ فیتعین المعنی الثانی وحده لوجود الضمیر : «هو» ، القاطع فی أن ما بعده هو الأصیل وهو الأساسی ؛ لأنه خبر.
4 - یقول النحاة فی تعریف الکلام : «الکلام اللفظ المرکب المفید ...» أتکون کلمة : «اللفظ» أساسیة فی المعنی المراد ؛ لأنها خبر ، أم غیر أساسیة ؛ لأنها بدل من الکلام ، وما بعدها هو الأساسی؟ الأمران متساویان. فإذا أتینا بکلمة - هو - تعین أن تکون کلمة «اللفظ» خبرا لا بدلا.
فالضمیر - هو - وأشباهه یسمی : «ضمیر الفصل» ؛ لأنه یفصل فی الأمر حین الشک ؛ فیرفع الإبهام ، ویزیل اللبس ؛ بسبب دلالته علی أن الاسم بعده خبر لما قبله ؛ من مبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ ، ولیس صفة ، ولا بدلا ، ولا غیرهما من التوابع والمکملات التی لیست أصیلة فی المعنی الأساسی ، کما یدل علی أن الاسم السابق مستغن عنها ، لا عن الخبر. وفوق ذلک کله یفید فی الکلام معنی الحصر والتخصیص (أی : القصر المعروف فی البلاغة).
تلک هی مهمة ضمیر الفصل - لکنه قد یقع أحیانا بین مالا یحتمل شکّا
ص: 220
ولا لبسا ؛ فیکون الغرض منه مجرد تقویة الاسم السابق ، وتأکید معناه بالحصر. والغالب أن یکون ذلک الاسم السابق ضمیرا ؛ کقوله تعالی : (وَکُنَّا نَحْنُ الْوارِثِینَ) وقوله : (کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ) ، وقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْکَ مالاً وَوَلَداً فَعَسی رَبِّی أَنْ یُؤْتِیَنِ ...) ففی المثال الأول قد توسط ضمیر الفصل (نحن) بین کلمتی «نا» و «الوارثین» ، مع أن کلمة : «الوارثین» خبر کان منصوبة بالیاء ولا یصح أن تکون صفة ، إذ لا یوجد موصوف غیر «نا» التی هی ضمیر ، والضمیر لا یوصف. وفی المثال الثانی توسط ضمیر الفصل (أنت) بین «التا» و «الرقیب» ، مع أن کلمة : «الرقیب» منصوبة ؛ لأنها خبر «کان» ولا تصح أن تکون صفة للتاء ، لأن الضمیر لا یوصف کما قلنا ، وکذلک الشأن فی المثال الثالث الذی توسط فیه ضمیر الفصل «أنا» بین «الیاء» (1) وکلمة : «أقل» التی هی المفعول الثانی للفعل : «تری» ولا یصح أن تکون صفة للیاء ، لأن الضمیر لا یوصف. و. و. وهکذا وقع ضمیر الفصل قبل مالا یصلح صفة ، بل قبل مالا یصلح صفة ، ولا تابعا من التوابع أو المکملات.
وإذا کان البصریون یسمونه : «ضمیر الفصل» فالکوفیون یسمونه بأسماء أخری تتردد أحیانا فی کتب النحو : فبعضهم یسمیه : «عمادا» ؛ لأنه یعتمد علیه فی الاهتداء إلی الفائدة. وبیان أن الثانی خبر لا تابع. وبعضهم یسمیه : «دعامة» ؛ لأنه یدعم الأول ، أی : یؤکده ، ویقویه ؛ بتوضیح المراد منه ، وتخصیصه وتحقیق أمره بتعیین الخبر له ، وإبعاد الصفة ، وباقی التوابع وغیرها ؛ إذ تعیین الخبر یوضح المبتدأ ویبین أمره ، لأن الخبر هو المبتدأ فی المعنی.
یشترط فیه ستة شروط : (اثنان فیه مباشرة. واثنان فی الاسم الذی قبله ، واثنان فی الاسم الذی بعده) فیشترط فیه مباشرة :
1- أن یکون ضمیرا منفصلا مرفوعا.
2- أن یکون مطابقا للاسم السابق فی المعنی ، وفی التکلم ، والخطاب ،
ص: 221
والغیبة ، وفی الإفراد ، والتثنیة والجمع ،. وفی التذکیر ، والتأنیث ، کالأمثلة السابقة ، ومثل : «العلم هو الکفیل بالرقی ، یصعد بالفرد إلی أسمی الدرجات. والأخلاق هی الحارسة من الزلل ، تصون المرء من الخطل» - «النّیران هما المضیئان فوق کوکبنا ، یسبحان فی الفضاء» - «العلماء هم الأبطال یحتملون فی سبیل العلم ما لا یحتمله سواهم» - «الأمهات هن البانیات مجد الوطن یقمن الأساس ویرفعن البناء» ... وهکذا. فلا یجوز : کان محمود أنت الکریم ، ولا ظننت محمودا أنت الکریم : لأن الضمیر «أنت» لیس معناه معنی الاسم السابق «محمود» ، ولا یدل علیه ؛ فلا یکون فیه التأکید المقصود من ضمیر الفصل ، ولا یحقق الغرض. وکذلک لا یجوز کان المحمودان أنت الکریمان. ولا إن هندا هو المؤدبة ، وأمثال هذا مما لا مطابقة فیه ... ویشترط فی الاسم الذی قبله :
1- أن یکون معرفة.
2- وأن یکون مبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ ؛ کاسم «کان» وأخواتها ؛ واسم «إن» وأخواتها ، ومعمول «ظننت» وأخواتها. کالأمثلة السابقة ، ومثل : «الوالد هو العامل علی خیر أسرته یراقبها ، والأم هی الساهرة علی رعایة أفرادها لا تغفل» - «کان الله هو المنتقم من الطغاة لا یهملهم» - «إن الصناعة هی العماد الأقوی فی العصر الحدیث تنمو عندنا» - «وما تفعلوا من خیر تجدوه عند الله هو خیرا وأعظم أجرا».
وسبب اشتراط هذا الشرط أن اللبس یکثر بین الخبر والصفة ؛ لتشابههما فی المعنی ؛ إذ الخبر صفة فی المعنی - بالرغم من اختلاف کل منهما فی وظیفته وإعرابه ، وأن الخبر أساسی فی الجملة دون الصفة -. فالإتیان بضمیر الفصل یزیل اللبس الواقع علی الکلمة ، ویجعلها خبرا ، ولیست صفة ، لأن الصفة والموصوف لا یفصل بینهما فاصل إلا نادرا. نعم قد یقع اللبس بین الخبر وبعض التوابع الأخری غیر الصفة ، ولکنه قلیل ، أما مع الصفة فکثیر.
ویشترط فی الاسم الذی بعده :
1- أن یکون خبرا لمبتدأ ، أو لما أصله مبتدأ.
2- أن یکون معرفة ، أو ما یقاربها فی التعریف «وهو : : أفعل التفضیل
ص: 222
المجرد من أل والإضافة. وبعده : من» فلا بد أن یتوسط بین معرفتین ، أو بین معرفة وما یقاربها. ومن أمثلة ذلک غیر ما تقدم.
1- العالم هو العامل بعلمه ؛ ینفع نفسه وغیره.
2- إن الثروة هی المکتسبة بأشرف الوسائل ؛ لا تعرف دنسا ، ولا تقرب خسة.
3- ما زالت الکرامة هی الواقیة من الضعة ، تدفع صاحبها إلی المحامد ، وتجنبه مواقف الذل.
ومن أمثلة توسطه بین معرفة وما یقاربها :
1- النبیل هو أسرع من غیره لداعی المروءة ، یلبی من یناد.
2- الشمس هی أکبر من باقی مجموعتها ؛ لا تغیب.
3- الموت فی الحرب أکرم من الاستسلام ، والاستسلام هو أقبح من الهزیمة ، لا یمحی عاره.
فلا یصح کان رجل هو سباقا ؛ لعدم وجود المعرفتین معا. ولا کان رجل هو السباق ؛ لعدم وجود المعرفة السابقة ؛ ولا کان محمد هو سباقا ؛ لعدم وجود المعرفة الثانیة ، أو ما یقاربها.
أما اشتراط أن یکون ما بعده معرفة فلأن لفظ ضمیر الفصل لفظ المعرفة ، وفیه تأکید ؛ فوجب أن یکون المدلول السابق الذی یؤکده هذا الضمیر معرفة ، کما أن التأکید کذلک ، ووجب أن یکون ما بعده معرفة أیضا ؛ لأنه لا یقع بعده - غالبا - إلا ما یصح وقوعه نعتا للاسم السابق. ونعت المعرفة لا یکون إلا معرفة. ولکل ما سبق وجب أن یکون بین معرفتین. أما ما قارب المعرفة - وهو أفعل التفضیل المشار إلیه - فإنه یشابه المعرفة فی أنه مع «من» لا یجوز إضافته ، ولا یجوز دخول «أل» علیه ؛ فأشبه العلم من نحو : محمد ، وصالح ، وهند ، فی أنه - فی الغالب - لا یضاف ، ولا تدخل علیه أل. هذا إلی أن وجود (من) بعده یفیده تخصیصا ، ویکسبه شیئا من التعیین والتحدید یقربه من المعرفة. هکذا قالوا ، ولا داعی لشیء من هذا ؛ لأن السبب الحقیقی هو استعمال العرب لیس غیر ، ومجیء کلامهم مشتملا علی ضمیر الفصل بین المعرفة وما شابهها.
ص: 223
انسب الآراء وأیسرها هو الرأی الذی یتضمن الأمرین التالیین :
1- أنه فی الحقیقة لیس ضمیرا «بالرغم من دلالته علی التکلم ، أو الخطاب ، أو الغیبة» ؛ وإنما هو حرف خالص الحرفیة ؛ لا یعمل شیئا ؛ فهو مثل «کاف» الخطاب فی أسماء الإشارة ، وفی بعض کلمات أخری ؛ نحو : ذلک ، وتلک ، والنجاءک «وقد سبقت الإشارة إلیها فی هذا الباب (1)» فمن الأنسب أیضا تسمیته : «حرف الفصل» ، ولا یحسن تسمیته «ضمیر الفصل» إلا مجازا : بمراعاة شکله ، وصورته الحالیة ، وأصله قبل أن یکون لمجرد الفصل.
2- أن الاسم الذی بعده یعرب علی حسب حاجة الجملة قبله ، من غیر نظر ولا اعتبار لحرف الفصل الموجود ؛ فیجری الإعراب علی ما قبل حرف الفصل وما بعده من غیر التفات إلیه ؛ فکأنه غیر موجود ؛ لأنه حرف مهمل لا یعمل ، والحرف لا یکون مبتدأ ولا خبرا ، ولا غیرهما من أحوال الأسماء. وإذا کان غیر عامل لم یؤثر فی غیره.
لکن هناک حالة واحدة یکون فیها اسما ، ویجب إعرابه وتسمیته فیها : ضمیر الفصل ؛ وهی نحو : «کان السّباق هو علیّ» (برفع کلمة : السبّاق ، وکلمة : علیّ).
لا مفر من اعتبار : «هو» ضمیرا مبتدأ مبنیّا علی الفتح فی محل رفع وخبره کلمة : «علیّ» المرفوعة ، والجملة من المبتدأ والخبر فی محل نصب خبر : «کان». وبغیر هذا الاعتبار لا نجد خبرا منصوبا لکان. ومثل هذا یقال فی کل جملة أخری لا یمکن أن یتصل فیها الاسم الثانی بالأول بصلة إعرابیة إلا من طریق اعتبار الفاصل بینهما ضمیرا مبتدأ علی نحو ما تقدم.
وإن اتباع ذلک الرأی الأنسب والأیسر لا یمنع من اتباع غیره -. لکنه یریحنا من تقسیم مرهق ، وتفصیل عنیف یردده أصحاب الآراء ، والجدل ، متمسکین بأنه ضمیر ، وأنه اسم إلا فی حالات قلیلة ، من غیر أن یکون لآرائهم مزیة تنفرد بها دون سواها ، وسنعرض بعض تفریعاتهم لیأخذ بها من یشاء ، ولنستعین بها علی فهم الأوجه الإعرابیة الواردة فی صور قدیمة مأثورة مشتملة علی ذلک الضمیر.
ص: 224
إنهم یقولون إن ضمیر الفصل اسم ؛ فلا بد له - کباقی الأسماء - من محل إعرابی ، إلا إذا تعذر الأمر ؛ فیکون اسما لا محل له من الإعراب کالحرف ، أو هو حرف. ویرتبون علی هذا الأصل فروعا کثیرة معقدة ، ویزیدها تعقیدا کثرة الخلاف فیها ، وإلیک بعض هذه التفریعات. (ونحن فی غنی عن أوضحها وغیر الأوضح بما اقترحناه من التیسیر المفید) :
1- «العقل هو الحارس» : إذا کان الاسم الواقع بعد ضمیر الفصل مرفوعا جاز فی الضمیر أن یکون مبتدأ خبره الاسم المتأخر عنه : «الحارس» والجملة منهما معا خبر المبتدأ الأول (العقل).
ویجوز عندهم إعراب آخر : أن یکون ضمیر الفصل اسما لا محل له من الإعراب - أو حرفا - فکأنه غیر موجود فی الکلام ، فیعرب ما بعده علی حسب حاجة الجملة من غیر اعتبار لوجود ذلک الضمیر ؛ فتکون کلمة : «حارس» هنا مرفوعة خبر المبتدأ. وهم یفضلون الإعراب الأول ؛ لکیلا یقع الضمیر مهملا لا محل له من الإعراب من غیر ضرورة.
ومثل ذلک یقال مع إن وأخواتها ؛ مثل : إن محمدا هو الحارس ، لأن الاسم الذی بعد الضمیر مرفوع.
2- «کان محمد هو الحارس» «ظننت محمدا هو الحارس». إذا وقع ضمیر الفصل بعد اسم ظاهر مرفوع ، وبعده اسم منصوب - لم یجز فی الضمیر عندهم إلا اعتباره اسما مهملا ، لا محل له من الإعراب ، کالحرف ، أو هو حرف وما بعده خبر کان أو مفعول ثان للفعل : «ظننت» أو أخواتهما. أما إذا کانت کلمة : «الحارس» وأشباههما مرفوعة (لأنه یجوز فیها الرفع) فالضمیر عندئذ مبتدا ، وما بعده خبر له ، والجملة منهما فی محل نصب خبر : «کان» ، أو مفعولا ثانیا للفعل : «ظننت» ، أو لأخواتهما (1).
3- «کنت أنت المخلص». إذا توسط ضمیر الفصل بین اسمین ، السابق
ص: 225
منهما ضمیر متصل مرفوع ، والمتأخر اسم منصوب - جاز فی ضمیر الفصل أن یکون اسما لا محل له من الإعراب ، کالحرف أو هو حرف ، وما بعده یعرب علی حسب حاجة ما قبله ، فهو هنا منصوب خبر کان. وجاز فی ضمیر الفصل أن یکون توکیدا لفظیّا للتاء (لأن الضمیر المنفصل المرفوع یؤکد کل ضمیر متصل کما سبق) وتکون کلمة : «المخلص» خبرا لکان منصوبا.
4- إذا کانت کلمة «المخلص» فی المثال السابق مرفوعة ولیست منصوبة وجب فی ضمیر الفصل أن یکون مبتدأ خبره کلمة : «المخلص» ، والجملة منهما فی محل نصب خبر «کان». ومثل هذا یقال فی کل ما یشبه الفروع السابقة.
وهناک فروع وأحوال أخری متعددة ، نکتفی بالإشارة إلیها ، إذ لا فائدة من حصرها هنا بعد أن اخترنا رأیا سهلا یریحنا من عنائها. فمن شاء أن یطلع علیها فلیرجع إلیها فی المطولات (1).
* * *
(د) ضمیر الشأن ، أو : ضمیر القصة ، أو ضمیر الأمر ، أو ضمیر الحدیث ... أو ضمیر (2) المجهول ...
من الضمائر نوع آخر له اسم من الأسماء السالفة ، وأحکام محدودة ؛ والاسم أول أشهر فالذی یلیه. وبیانه :
العرب الفصحاء - ومن یحاکیهم الیوم - إذا أرادوا أن یذکروا جملة اسمیة ، أو فعلیة ، تشتمل علی معنی هام ، أو غرض فخم ؛ یستحق توجیه الأسماع والنفوس إلیه - لم یذکروها مباشرة ، خالیة مما یدل علی تلک الأهمیة والمکانة ؛ وإنما یقدمون لها بضمیر یسبقها ؛ لیکون الضمیر - بما فیه من إبهام (3) وترکیز ، وبخاصة إذا لم یسبقه مرجعه - مثیرا للشوق ، والتطلع إلی ما یزیل إبهامه ، باعشا للرغبة فیما یبسط ترکیزه ؛ فتجیء الجملة بعده ؛ والنفس متشوقة لها ، مقبلة علیها ، فی حرص ورغبة. فتقدیم الضمیر لیس إلا تمهیدا لهذه الجملة الهامة. لکنه یتضمن معناها تماما ، ومدلوله هو مدلولها ؛ فهو بمثابة رمز لها ، ولمحة أو إشارة موجّهة إلیها.
ص: 226
ومن أمثلة ذلک :
1 - أن یتحدث فریق من الأصدقاء عن غنی افتقر ، فیقول أحدهم : وارحمتاه!! لم یبق من ماله شیء ؛ فیقول الثانی : حسبه أن أنفقه فی سبیل الخیر. ویقول الثالث : من کان یظن أن هذه القناطیر تنفد من غیر أن یدخر منها شیئا یصونه من ذل الفاقة ، وجحیم البؤس؟ فیقول الرابع متأوها : یا رفاقی ، «هو : الزمان غدار ، وهی : الأیام خائنة».
فالغرض الذی یرمی إلیه الرابع من کلامه : بیان غدر الزمان ، وخیانة الأیام. أو : تقلب الزمان. وهو غرض هام ؛ لما یتضمن من عبرة وموعظة والتماس عذر للصدیق. وقد أراد أن یدل علی أهمیته ، ویوجه النفس إلیه ؛ فمهد له بالضمیر ؛ «هو» و «هی» من غیر أن یسبقه شیء یصلح مرجعا ؛ فیثیر الضمیر بإبهامه هذا ، وغموضه ، شوق النفس ، وتطلعها إلی ما یجیء بعده. وتتجه بشغف إلی ما سیذکر. ولن یزیل غموض الضمیر ویوضح المراد منه إلا الجملة التی بعده ؛ فهی التی تفسره ؛ وتجلیه. فهو رمز لها ؛ أو کنایة عنها ، وهی المفسرة للرمز ، المبینة لمدلول الکنایة.
والرمز ومفسره ، والکنایة ومدلولها - من حیث المعنی شیء واحد (ولذلک یعرب الضمیر هنا مبتدأ ، وتعرب الجملة خبرا عنه من غیر رابط ؛ لا تحادهما فی المعنی). ومثل ما سبق نقول فی بیت الشاعر :
هو : الدّهر میلاد ، فشغل ، فمأتم
فذکر کما أبقی الصّدی ذاهب الصوت
2 - أن تسیر فی حدیقة ، فاتنة ، بهیجة ؛ فتستهویک ؛ فتقول : «إنه - الزهر ساحر» «إنها - الریاحین رائعة» ، أو : «إنه - یسحرنی الزهر» «إنها - تروعنی الریاحین». فقد کان فی نفسک معنی هام ، وخاطر جلیل - هو : «سحر الزهر» ، أو : «روعة الریاحین». فأردت التعبیر عنه بجملة اسمیة أو فعلیة ، ولکنک لم تذکر الجملة إلا بعد أن قدمت لها بالضمیر (إنه ... إنها ...) لما فی الضمیر - ولا سیما الذی لم یسبقه مرجعه - من إبهام وإیحاء مرکزین ؛ یثیران فی النفس شوقا وتطلعا إلی استیضاح المبهم ، وتفصیل المرکّز. وهذا عمل الجملة بعده ، فإنها تزیل إبهامه ، وتفسر إیحاءه ، وتبسط ترکیزه : فتقبل علیها النفس ، متشوقة ، متفتحة.
3 - یشتد البرد فی إحدی اللیالی ، وتعصف الریح ؛ فیقول أحد الناس : هذا برد قارس ، لم أشهده قبل الیوم فی بلادنا ، فیقول آخر : لقد شهدت مثله
ص: 227
کثیرا ، ولکن عصف الریح لم أشهده. ویجادلهما ثالث ، فیقول : «هو : نظام الکون ثابت» و «إنه ؛ الجو خاضع لقوانین الطبیعة» و «إنها ؛ الطبیعة ثابتة القوانین» فالضمیر (هو ... والهاء ... وها) رمز وإیحاء إلی الجملة الهامة التالیة التی هی المدلول الذی یرمی إلیه ، والغرض الذی یتضمنه. فکلاهما فی المعنی سواء.
فکل ضمیر من الضمائر التی مرت فی الأمثلة السابقة - ونظائرها - یسمی : «ضمیر الشأن» عند البصریین ؛ ویسمیه الکوفیون : «الضمیر المجهول» : لأنه لم یتقدمه مرجع یعود إلیه. وهو : «ضمیر یکون فی صدر جملة بعده تفسر دلالته ، وتوضح المراد منه ، ومعناها معناه».
وإنما سمی ضمیر الشأن لأنه یرمز للشأن ، أی : للحال المراد الکلام عنها ، والتی سیدور الحدیث فیها بعده مباشرة. وهذه التسمیة أشهر تسمیاته ، کما یسمی : «ضمیر القصة» ، لأنه یشیر إلی القصة «أی : المسألة التی سیتناولها الکلام.» ویسمی أیضا : ضمیر الأمر ، وضمیر الحدیث ؛ لأنه یرمز إلی الأمر الهام الذی یجیء بعده ، والذی هو موضوع الکلام والحدیث المتأخر عنه.
ولهذا الضمیر أحکام ، أهمها ستة ، وهی احکام یخالف بها القواعد والأصول العامة ؛ ولذلک لا یلجأ إلیه النحاة إذا أمکن اعتباره فی سیاق جملته نوعا آخر من الضمیر (1).
أولها : أنه لا بد أن یکون مبتدأ ، أو أصله مبتدأ ، ثم دخل علیه ناسخ ، کالأمثلة السابقة. ومثل : (قُلْ هُوَ : اللهُ أَحَدٌ) ، فقد وقع فی الآیة مبتدأ.أو مثل قول الشاعر :
وما هو من یأسو الکلوم (2)
ویتّقی
به نائبات الدهر - کالدائم البخل
ص: 228
فقد وقع اسما ل «ما» الحجازیة. ومثل قول الشاعر :
علمته «الحقّ لا یخفی علی أحد»
فکن محقّا تنل ما شئت من ظفر
ثانیها : أنه لا بد له من جملة تفسره ، وتوضح مدلوله ، وتکون خبرا له - الآن أو بحسب أصله (1) - مع التصریح بجزأیها ؛ فلا یصح تفسیره بمفرد ، بخلاف غیره من الضمائر ، ولا یصج حذف أحد طرفی الجملة ، أو تقدیره.
ثالثها : أن تکون الجملة المفسّرة له متأخرة عنه وجوبا ومرجعه یعود علی مضمونها (2) فلا یجوز تقدیمها کلها ، ولا شیء منها علیه ؛ لأن المفسّر لا یجیء قبل المفسّر (أی : أن المفسّر لا یجیء قبل الشیء الذی یحتاج للتفسیر).
رابعها : أن یکون للمفرد ؛ فلا یکون للمثنی ، ولا للجمع مطلقا. والکثیر فیه أن یکون للمفرد المذکر ، مرادا به الشأن ، أو : الحال ، أو : الأمر. ویجوز أن یکون بلفظ المفردة المؤنثة عند إرادة القصة ، أو : المسألة ؛ وخاصة إذا کان فی الجملة بعده مؤنث عمدة (3) ؛ کقوله تعالی : (فَإِذا هِیَ ؛ شاخِصَةٌ)(4) أَبْصارُ الَّذِینَ کَفَرُوا» ، وکقوله تعالی : (فَإِنَّها ؛ لا تَعْمَی الْأَبْصارُ ، وَلکِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ) ومثل : «هی ؛ الأعمال بالنیات» و «هی ؛ الأم مدرسة».
خامسها : أنه لا یکون له تابع ؛ من عطف ، أو توکید ، أو بدل ، أما النعت فهو فیه کغیره من أنواع الضمیر ؛ لا یکون لها نعت ، ولا تکون نعتا لغیرها.
ص: 229
سادسها : أنه إذا کان منصوبا - بسبب وقوعه مفعولا به لفعل ناسخ ینصب مفعولین أصلهما المبتدأ والخبر - وجب إبرازه واتصاله بعامله ؛ مثل : ظننته ؛ «الصدیق نافع» - حسبته «قام أخوک» ، فالهاء ضمیر الشأن ، فی موضع نصب ، لأنها المفعول الأول لظننت. والجملة بعدها فی محل نصب ، هی المفعول الثانی.
أما إذا کان مرفوعا متصلا فإنه یستتر فی الفعل ، ویسنکنّ فیه ؛ مثل : لیس خلق الله مثله. ففی «لیس» ضمیر مستتر حتما ؛ لأن «لیس» و «خلق» فعلان ؛ والفعل لا یعمل فی الفعل مباشرة ؛ فلا بد من اسم یرتفع بلیس (1) فلذلک کان فیها الضمیر المستتر (2). ومثله : کان علی عادل. وکان أنت خیر من محمد. ففی «کان» فی الحالتین ضمیر مستتر تقدیره : «هو» ، أی : الحال والشأن ویعرب اسما لها. والجملة بعدها خبر ، ومفسرة له. وهکذا ... ومنه قول الشاعر :
إذا متّ کان الناس صنفان ؛ شامت
وآخر مثن (3). بالذی کنت
أصنع
ومثله :
هی الشفاء لدائی لو ظفرت بها
ولیس منها (شفاء الداء مبذول)
ففی «کان» و «لیس» ضمیر الشأن ، تقدیره : «هو» ، یفسره (الناس صنفان) و (شفاء الداء مبذول) (4).
* * *
(ه) مرجع الضمیر (5) :
الضمائر کلها لا تخلو من إبهام وغموض (6) - کما عرفنا - سواء أکانت
ص: 230
للمتکلم ، أم للمخاطب ، أم للغائب ؛ فلا بد لها من شیء یزیل إبهامها ، ویفسر غموضها. فأما ضمیر المتکلم والمخاطب فیفسرهما وجود صاحبهما وقت الکلام ؛ فهو حاضر یتکلم بنفسه ، أو حاضر یکلمه غیره مباشرة. وأما ضمیر الغائب فصاحبه غیر معروف ؛ لأنه غیر حاضر ولا مشاهد ؛ فلا بد لهذا الضمیر من شیء یفسره ، ویوضح المراد منه. والأصل فی هذا الشیء المفسّر الموضّح أن یکون - فی غیر ضمیر الشأن - متقدما علی الضمیر ، ومذکورا قبله (1)
ص: 231
لیبین معناه أولا ، ویکشف المقصود منه ، ثم یجیء بعده الضمیر مطابقا له ؛ - فیما یحتاج للمطابقة ؛ کالتأنیث والإفراد وفروعهما .. - فیکون خالیا من الإبهام والغموض. ویسمی ذلک المفسر الموضّح : «مرجع الضمیر».
فالأصل فی مرجع الضمیر أن یکون سابقا علی الضمیر وجوبا. وقد یهمل هذا الأصل لحکمة بلاغیة ستجیء (1). ولهذا التقدم صورتان.
الأول : التقدم اللفظی أو الحقیقی ؛ وذلک بأن یکون متقدما بلفظه وبرتبته (2). معا ؛ مثل : الکتاب قرأته ، واستوعبت مسائله. والأخری : التقدم المعنوی ویشمل عدة صور ؛ منها :
1- أن یکون متقدما برتبته مع تأخیر لفظه الصریح ، مثل نسق حدیقته المهندس. فالحدیقة مفعول به ، وفی آخرها الضمیر ، وقد تقدمت ومعها الضمیر علی الفاعل مع أن رتبة الفاعل أسبق.
2- أن یکون متقدما بلفظه ضمنا ، لا صراحة ، ویتحقق ذلک بوجود لفظ آخر یتضمن معنی المرجع الصریح ، ویرشد إلیه ؛ ویشترک معه فی ناحیة من نواحی مادة الاشتقاق. مثل قوله : تعالی : (اعْدِلُوا ؛ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی) فإن مرجع الضمیر : «هو» مفهوم من «اعدلوا» ؛ لأن الفعل یتضمنه ، ویحتویه ، ویدل علیه ، ولکن من غیر تصریح کامل بلفظه ؛ إنه «العدل» المفهوم ضمنا من قوله : «اعدلوا» واللفظان : «اعدلوا» و «العدل» مشترکان فی المعنی العام. وفی ناحیة من أصل الاشتقاق. ومثل هذا : «من صدق فهو خیر له. ومن کذب فهو شر علیه» فمرجع الضمیر فی الجملة الأولی «الصدق» ، وهذا المرجع مفهوم من الفعل : «صدق». کما أن مرجع الضمیر فی الجملة الثانیة هو : «الکذب» ، وهو مفهوم من الفعل : «کذب» وکلا الفعلین قد اشتمل علی المرجع ضمنا لا صراحة ، لاشتراکهما مع المرجع الصریح فی معناه وفی
ص: 232
ناحیة من أصل الاشتقاق ... ومن ذلک أن تقول للصانع : أتقن ؛ فهو سبب الخیر والشهرة. أی : الإتقان ، وتقول للجندی : اصبر ؛ فهو سبب النصر ، أی : الصبر (1).
3- أن یسبقه لفظ لیس مرجعا بنفسه ولکنه نظیر للمرجع (أی : مثیله وشریکه فیما یدور بشأنه الکلام) ، مثل : لا ینجح الطالب إلا بعمله ، ولا ترسب إلا بعملها. ومثل قوله تعالی : (وَما یُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا یُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِی کِتابٍ ... ،) أی : من عمر معمّر آخر.
4- أن یسبقه شیء معنوی (أی : شیء غیر لفظی) یدل علیه ، کأن تجلس فی قطار ، ومعک أمتعة السفر ، ثم تقول : یجب أن یتحرک فی میعاده. فالضمیر «هو» - فاعل المضارع : یجب - والضمیر «الهاء» لم یسبقهما مرجع لفظی ، وإنما سبقهما فی النفس ما یدل علی أنه القطار. وقد فهم من الحالة المحیطة بک ، المناسبة لکلامک ، وهذه الحالة التی تدل علی المرجع من غیر ألفاظ تسمی : «القرینة المعنویة» أو «المقام» (2).
ومثل هذا أیضا أن تقول لمن ینظر إلی مجلة حسنة الشکل : إنها جمیلة وقراءتها نافعة. فالضمیر «ها» راجع إلی المجلة ، مع أن هذا المرجع لم یذکر بلفظ صریح ، أو ضمنی ، أو غیرهما من الألفاظ ، ولکنه عرف من القرینة الدالة علیه. ومثله أن تتجه إلی الشرق صباحا فتقول : أشرقت ، أو تتجه إلی الغرب آخر النهار فتقول : غربت ، أو : توارت بالحجاب ، ترید الشمس فی
ص: 233
الحالتین ، من غیر أن تذکر لفظا یدل علیها. ومثله : أن تقف أمام آثار مصریة فاتنة ، فتقول : ما أبرعهم فی الفنون. ترید قدماء المصریین ... وهکذا.
* * *
(و) عود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة :
عرفنا المواضع التی یکون مرجع الضمیر فیها لفظا متقدما ، ومعنویّا کذلک. غیر أن هناک حالات یجب فیها عود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة ؛ لحکمة بلاغیة (1). وتسمی : «مواضع التقدم الحکمی» (2) وأهمها ستة :
1 - فاعل نعم وبئس وأخواتهما ، إذا کان ضمیرا ، مستترا ، مفردا ، بعده نکرة تفسره ؛ أی : تزیل إبهامه ، وتبین المراد منه ؛ (لأنه لم یسبق له مرجع ولذا تعرب تمییزا) ؛ نحو : نعم رجلا صدیقنا. فنعم فعل ماض ، فاعله ضمیر مستتر تقدیره : هو یعود علی «رجلا» (3).
2 - الضمیر المجرور بلفظ : «رب». ولا بد أن یکون مفردا ، مذکرا ، وبعده نکرة تفسره (أی : تزیل إبهامه الناشیء (4) من عدم تقدم مرجع له (5) ، وتوضح
ص: 234
المقصود منه ، ولذا تعرب تمییزا) نحو : ربه صدیقا ؛ یعین علی الشدائد. فالضمیر «الهاء» عائد علی «صدیق». وإنما دخلت «ربّ» علی هذا الضمیر - مع أنها لا تدخل إلا علی النکرات - لأن إبهامه بسبب عدم تقدم مرجعه مع احتیاجه إلی ما یفسره ویبینه ، جعله شبیها بالنکرة.
3 - الضمیر المرفوع بأول المتنازعین ؛ مثل : یحاربون ولا یجبن العرب. فالضمیر فی : «یحاربون» (وهو الواو) عائد علی متأخر (وهو العرب). (وأصل الکلام : یحارب ولا یجبن العرب) : فکل من الفعلین یحتاج إلی کلمة : «العرب» لتکون فاعلا له وحده ، ولا یمکن أن یکون الفاعل الظاهر مشترکا بین فعلین. فجعلناه فاعلا للثانی ، وجعلنا ضمیره فاعلا للأول (1).
4 - الضمیر الذی یبدل منه اسم ظاهر لیفسره ؛ مثل : سأکرّمه ... السّبّاق فکلمة : «السّبّاق» - بدل من الهاء ، وجاءت بعدها لتفسرها. ومثل : احتفلنا بقدومه ... الغائب. فالغائب بدل من الهاء ؛ لتوضحها.
5 - الضمیر الواقع مبتدأ ، وخبره اسم ظاهر بمعناه ، یوضحه ، ویفسر حقیقته ؛ فکأنهما شیء واحد من حیث المعنی. مثل : هو النجم القطبی (2) ؛ أتعرف فائدته ؛ فکلمة «هو» مبتدأ ، خبره کلمة النجم المتأخرة عنه.
6 - ضمیر الشأن (3) ، والقصة ، مثل : إنه ؛ المجد أمنیة العظماء - إنها رابطة العروبة قویة لا تنفصم. فالضمیر فی «إنه» و «إنها» ضمیر الشأن أو القصة .... ومن کل ما سبق نعلم أن ضمیر الغائب لا بد أن یکون له مرجع ؛ وهذا المرجع
ص: 235
- إن کان لفظیّا أو معنویّا - یتقدم علیه وجوبا. وإن کان حکمیّا یتأخر عنه وجوبا.
* * *
(ز) تعدد مرجع الضمیر :
الأصل فی مرجع ضمیر الغائب (أی : مفسّره) أن یکون مرجعا واحدا ، فإن تعدد الأصل فی ما یصلح لذلک ، واقتضی المقام الاقتصار علی واحد تعین أن یکون المرجع الواحد هو : الأقرب فی الکلام إلی الضمیر. نحو : حضر محمد وضیف ؛ فأکرمته. فمرجع الضمیر هو «الضیف» ، لأنه الأقرب فی الکلام إلیه ، ولا یمکن عودته علی المرجعین السابقین معا ؛ لأنه مفرد ، وهما فی حکم المثنی ؛ فالمطابقة الواجبة مفقودة - وسیجیء الکلام علیها - ونحو : قرأت المجلة ورسالة ؛ بعثت بها إلی صدیق. فمرجع الضمیر هو : «الرسالة» ، لأنها الأقرب ، وللسبب السالف أیضا ، وهو : فقد المطابقة. وإنما یعود الضمیر علی الأقرب فی غیر صورتین ؛ إحداهما : أن یوجد دلیل یدل علی أن المرجع لیس هو الأقرب ؛ مثل : حضرت سعاد وضیف فأکرمتها.
والثانیة : أن یکون لأقرب مضافا إلیه ؛ فیعود الضمیر علی المضاف (1) ، بشرط ألا یکون کلمة «کلّ» ، أو «جمیع» ، مثل : زارنی والد الصدیق فأکرمته. أی : أکرمت الوالد. إلا إن وجد دلیل یدل علی أن المقصود بالضمیر هو المضاف إلیه لا المضاف ؛ فیجب الأخذ بالدلیل ؛ مثل : عرفت مضمون الرسالة ثم طویتها ؛ لأن تأنیث الضمیر دلیل علی أن مرجعه هو المضاف إلیه المؤنث ، لا المضاف ، ومثله قرأت عنوان الکتاب ثم طویته ، أی : «الکتاب» ؛ لأنه الذی یطوی. وحصدت قمح الحقل ثم سقیته ؛ لأن الحقل هو الذی یسقی ، لا القمح المحصود. وأقبل خادم خی فأمره بالرجوع إلی السوق ؛ لشراء بعض الحاجات ؛ لأن الخادم لا یأمر ، وإنما یؤمر. وکذلک إن کان المضاف هو کلمة : «کل» أو «جمیع» فالأغلب عودته علی المضاف إلیه (2).
وإذا تعدد المرجع من غیر تفاوت فی القوة - وهو التفاوت الذی یکون بین المعارف فی درجة التعریف ، وشهرته - وأمکن عود الضمیر إلی مرجع واحد فقط ، وإلی
ص: 236
أکثر ؛ من غیر أن یقتضی الأمر الاقتصار علی واحد ، نحو : جاء الأقارب والأصدقاء وأکرمتهم - فالأحسن عود الضمیر علی الجمیع ، لا علی الأقرب وحده. ومما تجدر الإشارة إلیه فی هذا الموضع - وفی غیره ، من سائر مسائل اللغة - أن الذی یجب الأخذ به أوّلا ، والاعتماد علیه ؛ إنما هو الدلیل الذی یعین مرجع الضمیر ویحدده ؛ فالدلیل - أی : القرینة - لها وحدها القول الفصل فی الإیضاح هنا ، وفی جمیع المواضع اللغویة الأخری.
وإذا کان للضّمیر مرجعان أو أکثر مع التفاوت فی القوة - وجب أن یعود علی الأقوی. طبقا للبیان المفضّل الذی سیجیء فی رقم 9 من ص 241.
* * *
(ح) التطابق (1) بین الضمیر ومرجعه (2) :
عرفنا أن ضمیر الغائب لا بد له من مرجع. وبقی أن نعرف أن التطابق واجب بین ضمیر الغائب ومرجعه. علی الوجه الآتی : - وهذا یراعی فی التطابق المطلوب فی صور کثیرة ؛ کالتی بین المبتدأ وخبره (3) ، والنعت ومنعوته ، والحال وصاحبها ... ونحو هذا مما یقتضی المطابقة -.
1 - إن کان المرجع مفردا مذکرا أو مؤنثا وجب - فی الرأی الأصح - أن یکون ضمیر الغائب مطابقا له فی ذلک ، نحو : النائم تیقظ ، أی : «هو». والغائب حضر أبوه ، کذلک. والغریبة عادت سالمة ، أی : «هی». والطالبة أقبل والدها ... فضمیر الغائب قد طابق مرجعه فی الأمثلة السابقة ؛ إفرادا وتذکیرا وتأنیثا.
وکذلک إن کان المرجع مثنی فی الحالتین.
2 - إن کان المرجع جمع مذکر سالما وجب فی الرأی الأغلب - أن یکون
ص: 237
ضمیره واو جماعة ؛ مثل : المخلصون انتصروا. ولا یصح أن یکون غیر ذلک ، کما لا یصح - فی الأفصح - أن یتصل بالفعل وشبهه علامة تأنیث ؛ فلا یقال المخلصون فازت ، ولا المخلصون تفوز ، ولا فائزة ، أی : «هی» ؛ بضمیر المفردة المؤنثة علی إرادة معنی : «الجماعة» من المخلصین. فکل هذا غیر جائز فی الرأی الأعلی. الذی یحسن الاقتصار علیه.
3 - إن کان المرجع جمع مؤنث سالما لا یعقل فالأفضل أن یکون ضمیره مفردا مؤنثا ؛ مثل : الشجرات ارتفعت. أی : «هی». والشجرات سقیتها ... وهذا أولی من قولنا : الشجرات ارتفعن ، والشجرات سقیتهن ، بنون الجمع المؤنث مع صحة مجیئها.
وإن کان المرجع جمع مؤنث للعاقل فالأفضل أن یکون ضمیره نون جمع المؤنث (أی : نون النسوة) فی جمیع حالاته (أی : سواء أکان المرجع جمع مؤنث سالما مثل : الطالبات حضرن ، وأکرمهن العلماء ، أم جمع تکسیر للمؤنث ؛ مثل : الغوانی تعلمن ؛ فزادهن العلم جلالا) (1) وکل هذا أولی من قولنا : الطالبات حضرت ، وأکرمها العلماء ، والغوانی تعلمت ؛ وزادها العلم جلالا. حیث یکون الضمیر مفردا مؤنثا ، مع صحة مجیئه بدلا من نون النسوة.
4 - إن کان المرجع جمع تکسیر مفرده مذکر عاقل - جاز أن یکون ضمیره واو جماعة ؛ مراعاة للفظ الجمع ، وأن یکون مفردا مؤنثا ، مع وجود تاء التأنیث فی الفعل وشبهه ؛ نحو : الرجال حضروا ، أو : الرجال حضرت ، أو الرجال حاضرة. ویکون التأنیث علی إرادة معنی الجماعة.
فإن کان مفرده مذکرا غیر عاقل ، أو مؤنثا غیر عاقل ، جاز فی الضمیر أن یکون مفردا مؤنثا ، وأن یکون «نون النسوة» الدالة علی جمع الإناث. نحو :
ص: 238
«الکتب نفعت» أو : نفعن ، والزروع أثمرت ، أو : أثمرن ، واللیالی ذهبت ؛ أو : ذهبن.
ومع أن الأمرین - فی صورتی المفرد غیر العاقل - جائزان فإن الأسالیب الفصحی تؤثر الضمیر المفرد المؤنث إذا کان جمع التکسیر دالّا علی الکثرة وتأتی بنون النسوة إذا کان دالّا علی القلة (1) ؛ فیقال : قضیت بالقاهرة أیاما خلت ؛ من شهرنا. إذا کان المنقضی هو : الأکثر. أو : خلون ، إذا کان المنقضی هو الأقل. ویقولون : هذه أقلام تکسرت ، وعندی أقلام سلمن إذا کان عدد المکسور هو الأکثر.
5 - إن کان المرجع اسم جمع (2) غیر خاص بالنساء ؛ مثل : «رکب وقوم» جاز أن یکون ضمیره واو الجماعة ؛ وأن یکون مفردا مذکرا. تقول : الرکب سافروا ، أو : الرکب سافر ، أو : الرکب مسافر - القوم غابوا ، أو : القوم غاب ، أو : القوم غائب. فإن کان خاصّا بالنساء - مثل : نسوة ، نساء - جری علیه حکم المرجع حین یکون جمع مؤنث للعاقل. - وقد سبق فی رقم 3 -
6 - وإن کان المرجع اسم جنس جمعیّا جاز فی ضمیره أن یکون مفردا مذکرا أو مؤنثا (3) ، نحو قوله تعالی : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أی : «هو». وقوله تعالی : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِیَةٍ) ، أی : هی.
7 - إن کان مرجع الضمیر متقدما ، ولکنه یختلف فی التذکیر أو التأنیث مع ما بعده مما یتصل به اتصالا إعرابیّا وثیقا - جاز فی الضمیر التذکیر أو التأنیث ، مراعاة للمتقدم أو للمتأخر (4) ، مثل : الحدیقة ناضرة الزرع ، وهی منظر فاتن ، أو : وهو منظر فاتن ، ومثل : الزرع رعایته مفیدة ، وهو باب من أبواب الغنی ، أو : وهی باب من أبواب الغنی. وأسماء الإشارة تشارک الضمیر فی هذا الحکم
ص: 239
(کما سیجیء فی بابها (1). وفی باب (2) المبتدأ ...) نحو : الصناعة غنی وهذه مطلب حیویّ أصیل. أو : وهذا ...
8 - إذا کان المرجع : «کم» جاز أن یرجع إلیها الضمیر مراعی فیه لفظها ، أو مراعی فیه معناها (3).
بیان ذلک : أن لفظ : «کم» اسم مفرد مذکر ، ولکن یعبّر به عن العدد الکثیر ، أو القلیل ، المذکر ، أو المؤنث : فلفظها من ناحیة أنه مفرد مذکر - قد یخالف أحیانا معناها الذی یکون مثنی مؤنثا ، أو مذکرا ، وجمعا کذلک بحالتیه. فإذا عاد الضمیر إلی : «کم» من جملة بعدها جاز أن یراعی فیه ناحیتها اللفظیة ؛ فیکون مثلها مفردا مذکرا ، وجاز أن یراعی فیه ناحیتها المعنویة إن دلّت علی غیر المفرد المذکر ؛ فیکون مثنی ، أو جمعا ، مؤنثا ، أو مذکرا فیهما. تقول : کم صدیق قدم للزیارة! بإفزاد الضمیر وتذکیره ، مراعاة للفظ «کم». وتقول ؛ کم صدیق قدما ، أو : قدموا ؛ بتثنیة الضمیر ، أو جمعه ؛ مراعاة لما یقتضیه المعنی. وکذلک تقول : کم طالبة نجح ، بمراعاة لفظ : «کم» ، أو : کم طالبة نجحت ونجحتا ، ونجحن ؛ بمراعاة المعنی.
وهناک کلمات أخری تشبه «کم» فی الحکم السابق ، منها : «کلا» و «کلتا». وقد سبق الکلام علیهما من هذه الناحیة (4). ومنها «من» ، و «ما» و «کلّ» و «أیّ». وکذلک کلمة : «بعض» فی صور معینة. تقول : من سافر فإنه یفرح ، ومن سافرا ... ، ومن سافروا ... ، ومن سافرت ، ومن سافرتا ... ومن سافرن ... وکذلک : ما تفعل من خیر یصادفک جزاؤه - ... ما تفعلا ... ما تفعلوا ... ما تفعلی ... ما تفعلن ...
کل رجل سافر ، کل رجلین سافر ، أو : سافرا ، کل الرجال سافر ، أو : سافروا. کل متعلمة سافرت ، أو : سافر ، کل متعلمتین سافر ، أو : سافرتا. کل المتعلمات سافر ، أو : سافرن. ومن مراعاة الجمع قول جریر :
ص: 240
وکلّ قوم لهم رأی ومختبر
ولیس فی تغلب رأی ولا خبر
أیّ رجل حضر. أیّ رجلین حضر ، أو : حضرا ... أیّ الرجال حضر ، أو : حضروا ، أیّ کاتبة حضر ، أو حضرت ، أیّ کاتبتین حضر ، أو حضرتا ، أیّ الکاتبات حضر ، أو : حضرن.
بعض الناس غاب ، أو : غابت ، أو ، غابا ، أو غابتا ، أو : غابوا - أو : غبن. وهکذا باقی الصور الأخری التی تدخل تحت الحکم السالف وینطبق علیها (1).
وکذلک یجوز اعتبار اللفظ أو المعنی فی المحکیّ بالقول ، ففی حکایة من قال : «أنا قائم» یصح : قال محمود أنا قائم ، رعایة للفظ المحکی ، کما یصحّ : «قال : محمود هو قائم» ؛ رعایة للمعنی وحال الحکایة ؛ لأن محمودا غائب وقت الحکایة. وکذا لو خاطبنا شخصا بمثل : أنت بطل ، وأردنا الحکایة فیصح : «قلنا لفلان أنت بطل» ، کما یصح : «قلنا لفلان هو بطل» (2).
ومع أن مطابقة الضمیر للفظ المرجع أو لمعناه جائزة ، وقیاسیة فی الحالات السابقة - فإن السیاق أو المقام قد یجعل أحدهما أنسب من الآخر أحیانا. والأمر فی هذا متروک لتقدیر المتکلم الخبیر ، وحسن تصرفه علی حسب المناسبات التی قد تدعوه لإیثار اللفظ أو المعنی عند المطابقة علی الرغم من صحة الآخر.
«ملاحظة» : بمناسبة الکلام علی مطابقة الضمیر للفظ المرجع أو لمعناه ، نشیر إلی ما سیجیء فی ص 314 وهامشها من صور هامة - غیر التی سبقت - یجوز فیها الأمران ، أو یتعین أحدهما دون الآخر ... أو ...
أما المطابقة بین المبتدأ وخبره فتجیء فی ص 410 م 34 - کما أشرنا فی رقم 1 من هامش ص 237 -.
9 - إذا کان للضمیر مرجعان أو أکثر مع التفاوت فی القوة ، عاد علی الأقوی (3). والمرد بالتفاوت فی القوة التفاوت الذی یکون بین المعارف فی درجة التعریف
ص: 241
وشهرته ؛ وهی التی أشرنا إلیها عند بدء الکلام علی المعرفة والنکرة. فالضمیر أعرف (1) من العلم ، والعلم أعرف من الإشارة ... وهکذا (2). بل إن الضمائر متفاوتة أیضا ؛ فضمیر المتکلم أعرف من ضمیر المخاطب. وضمیر المخاطب أعرف من ضمیر الغائب ...
فإذا صلح للضمیر مرجعان ؛ أحدهما ضمیر متکلم ، والآخر ضمیر مخاطب - قدّم المتکلم - فی الرّأی الأصح - ؛ مثل : أنا وأنت سافرنا ؛ ولا یقال : أنا وأنت سافرتما ؛ إلا قلیلا ، لا یحسن الالتجاء إلیه فی عصرنا. وإذا کان أحد المرجعین للمخاطب والآخر للغائب قدّم المخاطب ، نحو : أنت وهو ذهبتما ؛ ولا یقال : أنت وهو ذهبا ، إلا قلیلا یحسن البعد عنه.
وإذا کان أحدهما ضمیرا والآخر علما أو معرفة أخری روعی الضمیر ، نحو : أنا وعلی أکلنا ؛ ولا یقال - فی الرأی الأفضل - أکلا ، وتقول : أنا الذی سافرت ، وهو أفضل من : أنا الذی سافر ... وتتجه إلی الله فتقول : أنت الذی فی رحمتک أطمع ، وهو أفضل من : أنت الذی فی رحمته أطمع ، وهکذا (3). ولا داعی لترک الأفضل إلی غیره وإن کان جائزا هنا ؛ لأن الأفضل متفق علیه ؛ وفی الأخذ به مزیة التعبیر الموحّد الذی نحرص علیه لمزایاه ، إلا إن اقتضی غیره داع قویّ.
10- الغالب فی الضمیر بعد : «أو» التی للشک أو للإبهام أن یکون مفردا ؛ مثل : شاهدت المرّیخ أو القمر یتحرک. أما بعد «أو» التنویعیة (التی لبیان الأنواع والأقسام) ، فالمطابقة ، کقوله تعالی : (... إِنْ یَکُنْ غَنِیًّا أَوْ فَقِیراً فَاللهُ أَوْلی بِهِما)(4) ...).
وبهذه المناسبة نذکر أن للضمیر العائد علی المعطوف والمعطوف علیه معا ،
ص: 242
أو علی أحدهما ، أحکاما هامّة لا یمکن الاستغناء عن معرفتها ، وکلها مختص بالمطابقة وعدمها ، وهی موضحة تفصیلا فی باب العطف (ج 3 ص 525 م 122).
* * *
(ط) اختلاف نوع الضمیر مع مرجعه :
قد یختلف نوع الضمیر مع مرجعه فی مثل : أنا عالم فائدة التعاون ، وأنا مؤمن بحمید آثاره ، فالضمیر فی کلمتی : «عالم ومؤمن» مستتر یتحتم أن یکون تقدیره : «هو» فما مرجعه؟
یجیب النحاة : إن أصل الجملة : أنا رجل عالم فائدة التعاون ، وأنا رجل مؤمن بحمید آثاره ، فالضمیر للغائب وهو عائد هنا علی محذوف حتما ، ولا یصح عودته علی الضمیر «أنا» المتقدم ، کما لا یصح أن یکون الضمیر المستتر تقدیره : «أنا» بدلا من : «هو» ؛ لأن اسم الفاعل لا یعود ضمیره إلا علی الغائب (1) ، وهذا یقتضی أن یکون الضمیر المستتر للغائب أیضا.
وقد یختلف الضمیر مع مرجعه إذا کان الضمیر هو العائد فی الجملة الواقعة صلة. طبقا للتفصیل الذی سیجیء فی باب اسم الموصول ولا سیما الذی فی «ب» ص 343.
ص: 243
تقدم (1) أن للرفع ضمائر تختص به ؛ بعضها متصل ؛ کالتاء المتحرکة ؛ و «نا» فی مثل : سعیت إلی الخیر ، وسعینا. وبعضها منفصل ، ولکنه یؤدی ما یؤدیه المتصل من الدلالة علی التکلم ، أو الخطاب ، أو الغیبة ؛ مثل : «أنا» ؛ فإنها ضمیر منفصل یدل علی التکلم ، کما تدل علیه تلک «التاء» ، ومثل : «نحن» ؛ فإنها ضمیر منفصل یدل علی المتکلم المعظم نفسه ، أو جماعة المتکلمین ؛ کما یدل علیه : «نا» ، تقول : أنا أمین علی السر ، ونحن أمناء علیه ... وللنصب کذلک ضمائر تختص به ، منها المتصل ، کالکاف فی مثل : صانک الله من الأذی ، ومنها المنفصل الذی یؤدی معناه ؛ مثل : إیاک ، فی : نحو : إیاک صان الله ، ومنه : (إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ) أما الجر فلیس له ضمائر تختص به - کما عرفنا -. لکن هناک ضمائر متصلة مشترکة بینه وبین غیره. کالکاف ، والهاء ... إلی غیر ذلک مما سبق إیضاحه وتفصیله ، ولا سیما ما یدل علی أن الضمیر مع اختصاره وقلة حروفه یؤدی ما یؤدیه الاسم الظاهر ، بأکثر.
ونزید الآن أن الکلام إذا احتاج إلی نوع من الضمیر - کالضمیر المرفوع ، أو المنصوب - وکان منه المتصل والمنفصل ، وجب اختیار الضمیر المتصل ، وتفضیله علی المنفصل الذی یفید فائدته ؛ ویدل دلالته ؛ لأن المتصل أکثر اختصارا فی تکوینه وصیغته ، فهو أوضح وأیسر فی تحقیق مهمة الضمیر ، فنقول : بذلت طاقتی فی تأیید الحقّ ، وبذلنا طاقتنا فیه ، ولا تقول : بذل «أنا.» ، ولا بذل «نحن». وتقول : کرّمک الأصدقاء ؛ ولا تقول : کرّم «إیاک» الأصدقاء. وتقول فرحت بک ، ولا تقول : فرح أنا بأنت.
فالأصل العام الذی یجب مراعاته عند الحاجة للضمیر هو : اختیار المتصل
ص: 244
ما دام ذلک فی الاستطاعة ، ولا یجوز العدول عنه إلی المنفصل ، إلا لسبب (1). هذا هو الأصل العام الواجب اتباعه فی أکثر الحالات (2).
غیر أن هناک حالتین یجوز فیهما مجیء الضمیر «منفصلا» مع إمکان الإتیان به «متصلا».
الحالة الأولی : أن یکون الفعل - أو ما یشبهه (3) - قد نصب مفعولین (4) ضمیرین ، أولهما أعرف من الثانی ؛ فیصح فی الثانی أن یکون متصلا وأن یکون منفصلا. نحو : الکتاب أعطیتنیه ، أو : أعطیتنی إیاه ، والقلم أعطیتکه ، أو : أعطیتک إیاه. فالفعل : «أعطی» هو من الأفعال التی تنصب مفعولین ، وقد نصبهما فی المثالین ، وکانا ضمیرین ؛ یاء المتکلم ، وهاء الغائب فی المثال الأول ، وکاف المخاطب وهاء الغائب فی المثال الثانی. والضمیر الأول فی المثالین أعرف (5) من الثانی فیهما ؛ فصحّ فی الثانی الاتصال والانفصال. ومثل ذلک. أن تقول : الخیر سلنیه (6) وسلنی إیاه. والخیر سألتکه ، وسألتک إیاه.
وبهذه المناسبة نشیر إلی حکم هامّ یتصل بما نحن فیه ، هو : أنه إذا اجتمع ضمیران ، منصوبان ، متصلان ، وأحدهما أخصّ من الآخر (أی : أعرف منه ، وأقوی درجة فی التعریف). فالأرجح تقدیم الأخصّ منهما. تقول : المال أعطیتکه ، وأعطیتنیه ، فتقدم الکاف علی الهاء فی المثال الأول ؛ لأن الکاف للمخاطب ، والهاء للغائب ، والمخاطب أخصّ من الغائب. وکذلک تقدم الیاء فی المثال الثانی علی الهاء أیضا ؛ لأن الیاء للمتکلم وهو أخصّ من الغائب. ومن
ص: 245
غیر الأرجح أن تقول أعطیتهوک (1) وأعطیتهونی (2). فإن کان أحد الضمیرین مفصولا جاز تقدیم الأخص وغیر الأخص عند أمن اللبس ؛ تقول : الکتاب أعطیتکه أو أعطیته إیاک ، وأعطیتنیه أو أعطیته إیای. بخلاف : الأخ أعطیتک إیاه ، فلا یجوز تقدیم الغائب ؛ خشیة اللبس ، لعدم معرفة الآخذ والمأخوذ منهما ؛ فیجب هنا تقدیم الأخص ؛ لیکون تقدیمه دلیلا علی أنه الآخذ. فکأنه فی المعنی فاعل ، والأصل فی الفاعل أن یتقدم (3).
وقد اشترطنا فی الحالة الأولی أن یکون الضمیران منصوبین ، وأولهما أعرف من الثانی.
(ا) فإن لم یکن الضمیران منصوبین ؛ بأن کان أولهما مرفوعا والثانی منصوبا - وجب وصل الثانی بعامله إن کان عامله فعلا (4) ؛ نحو : النظام أحببته.
(ب) وإن کان أولهما منصوبا والثانی مرفوعا - وجب فصل المرفوع ؛ إذ لا یمکن وصله بعامله مع قیام حاجز بینهما ؛ وهو الضمیر المنصوب. نحو : ما سمعک إلا أنا.
(ح) وإن کانا منصوبین ، وثانیهما أعرف - وجب فصل الثانی ، مثل : المال سلبه إیاک اللص. وکذلک إن کان مساویا للأول فی درجة التعریف بأن وقع کل منهما للمتکلم ؛ مثل : ترکتنی لنفسی ؛ فأعطیتنی إیای ، أو :
ص: 246
للخطاب ، مثل : أعطیتک إیاک ، أو للغائب مع اتفاق لفظمها ؛ مثل ؛ أعطیته إیاه (1) ، ولا یجوز اتصال الثانی ؛ فلا تقول أعطیتنینی ، ولا أعطیتکک ، ولا أعطیتهوه ، إلا إن کانا لغائبین واختلف لفظهما ؛ فیجوز وصل الثانی. نقول : سأل أخی عن القلم والکتاب فأعطیتهماه ، ومنحتهماه (2) ، أو أعطیتهما إیاه ، ومنحتهما إیاه (3) ...
الحالة الثانیة : أن یکون الضمیر الثانی منصوبا بکان أو إحدی أخواتها (4) (لأنه خبر لها) فیجوز فیه الوصل والفصل ؛ نحو ؛ الصدیق «کنته» أو : کنت إیاه ، والغائب لیسه محمد (5) أو لیس محمد إیاه (6).
ص: 247
عرفنا أن الغرض من الضمیر هو الدلالة علی المراد مع الاختصار ، ولذا وجب اختیار المتصل دون المنفصل الذی یؤدی معناه ؛ کلما أمکن ذلک. إلا فی حالتین سبق الکلام عنهما (1). وهما اختیاریتان ؛ یجوز فیهما الاتصال والانفصال.
لکن هناک حالات أخری یتعذر فیها مجیء الضمیر متصلا ؛ فیجیء منفصلا وجوبا. وتسمی حالات الانفصال الواجب. وأشهرها :
1 - ضرورة الشعر ؛ مثل قول الشاعر یتحدث عن قومه :
وما أصاحب من قوم فأذکرهم
إلا یزیدهم حبّا إلیّ هم (2)
2 - تقدیم الضمیر علی عامله لداع بلاغی ، کالحصر (القصر) والضمیر المتصل لا یمکن أن یتقدم بنفسه علی عامله ؛ فیحل محلّه المنفصل الذی بمعناه. ففی مثل : نسبحک ، ونخافک یا رب العالمین - لا نستطیع عند الحصر أن نقدم الکاف وحدها ، لذلک نأتی بضمیر منصوب بمعناها ، وهو : «إیاک» فنقول : إیاک نسبح ، وإیاک نخاف.
3 - الرغبة فی الفصل بین الضمیر المتصل وعامله بکلمة «إلا» ، لإفادة الحصر. وهذا الفصل لا یتحقق إلا إذا أتینا بالضمیر منفصلا ؛ مثل : ربّنا ما نعبد
ص: 248
إلا إیاک ، ولا نهاب إلا إیاک.
وقد یکون الحصر بغیر «إلا» فلا یقع الفصل بکلمة توجب الانفصال ، ولکن ینفصل الضمیر ؛ مثال ذلک ، الحصر بإنما (1) فی قول الشاعر :
أنا الذائد الحامی الذّمار وإنما
یدافع عن أحسابهم أنا ، أو : مثلی
ومن أمثلة الفصل للقصر : إن الأبطال نحن ، «فنحن» ضمیر منفصل خبر إن ، ولا یمکن اتصاله بعامله (إن) ؛ وذلک لأن خبرها لا یتقدم علی اسمها.
4 - أن یکون عامله اللفظی محذوفا ؛ مثل : إیاک والکذب. فأصل : «إیاک» هو : أحذّرک ، أو : أخوّفک. حذف الفعل وحده ، وبقی الضمیر «الکاف» وهو ضمیر متصل لا یستقل بنفسه ؛ فحذفناه ، وأتینا مکانه بضمیر منفصل یؤدی معناه ، ویستقل بنفسه ، وهو : إیاک. وقد سبق (2) بیان إعرابه ، کما سبق (3) أنه وفروعه کثیر الاستعمال فی أسلوب : «التحذیر» بصوره المتعددة التی ستجیء فی بابه الخاص - ج 4 ص 97 م 140 -.
5 - أن یکون عامله معنویّا ؛ مثل : أنا صدیق وفیّ ، وأنت أخ کریم. فالضمیر : «أنا» ، و «أنت» ، مبتدأ مرفوع بالابتداء. والابتداء عامل معنوی ، لا وجود له فی اللفظ ؛ فلا یمکن وصل الضمیر به.
6 - أن یکون عامله حرف نفی ، مثل : الخائن غادر ؛ فما هو أهلا للصداقة. فالضمیر «هو» اسم «ما» الحجازیة ، وهی العاملة فیه الرفع ؛ ولکنها من الحروف التی لا یتصل بآخرها الضمیر ولا غیره (4) :
7 - أن یکون الضمیر تابعا لکلمة تفصل بینه وبین عامله ؛ مثل : نحن نکرم العلماء وإیاکم : فالضمیر : «إیاکم» معطوف ؛ فهو تابع یتأخر عن متبوعه ، والمعطوف علیه : «العلماء» هو المتبوع الذی یجب تقدمه علیه. وقد فصل المتبوع
ص: 249
بین الضمیر : «إیاکم» وعامله : «نکرم». ومثله قوله تعالی : (یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِیَّاکُمْ) وقول القائل فی مدح عمر (1) رضی الله عنه :
مبرّأ من عیوب الناس کلّهم
فالله یرعی أبا حفص وإیّانا
8 - أن یقع الضمیر بعد واو المصاحبة (وتسمی : واو المعیة) مثل : حضر الرفاق ، وسأسافر وإیاهم إلی بعض الأقالیم.
9 - أن یکون فاعلا لمصدر مضاف إلی مفعوله (فیفصل المفعول به بین الضمیر الفاعل وعامله). مثل : بمساعدتکم نحن انتصرتم (2) ؛ فکلمة : «مساعدة» مصدر مضاف إلی مفعوله «الکاف». وفاعله کلمة : «نحن».
10 - أن یکون مفعولا به لمصدر مضاف إلی فاعله ؛ مثل : سررت من إکرام العقلاء إیاک.
11 - أن یقع بعد إما ، مثل کتب : إما أنت ، وإما هو.
12 - أن یقع بعد اللام الفارقة (3) ، مثل :
إن وجدت الصدیق حقّا لإیا
ک ، فمرنی ؛ فلن أزال مطیعا
13 - أن یکون منادی - عند من یجیز نداء الضمیر - مثل : یا أنت. یا إیاک.
14 - أن یکون الضمیر منصوبا وقبله ضمیر منصوب ، والناصب لهما عامل
ص: 250
واحد مع اتحاد رتبتی الضمیر ؛ مثل : علمتنی إیای (1) ، علمتک إیاک ، وعلمته إیاه.
15 - أن یکون الضمیر مرفوعا بمشتق جار علی غیر من هو له ، مثل : محمد علیّ مکرمه هو (2).
ص: 251
من الضمائر المتصلة : «یاء المتکلم» ، وتسمی - أحیانا - : «یاء النفس» وهی مشترکة بین محلی النصب والجر ؛ مثل : زرتنی فی حدیقتی. فإن کانت فی محل نصب فناصبها إما فعل أو اسم فعل ، أو حرف ناسخ ؛ - مثل : «إن» أو إحدی أخواتها - وإن کانت فی محل جر فقد تکون مجرورة بحرف جر ، أو تکون مجرورة بالإضافة ، لأنها مضاف إلیه.
(ا) فإن کانت منصوبة بفعل ، أو باسم فعل ، أو بما الحق بهما - عند کثیر من النحاة (2) - وهو الحرف : «لیت» (وهذا حرف ناسخ من أخوات إنّ) وجب أن یسبقها مباشرة نون مکسورة تسمی : «نون الوقایة» (3). فمثال الفعل : ساعدنی أخی ، وهو یساعدنی عند الحاجة ، فساعدنی فما أقدرک علی المساعدة الکریمة. فقد توسطت نون الوقایة بین الفعل ویاء المتکلم ، ولا فرق بین أن یکون الفعل ماضیا ، أو مضارعا ، أو أمرا. ولا بین أن یکون متصرفا ، أو جامدا. ومثال اسم الفعل : «دراک» ، و «تراک» ، و «علیک» بمعنی : أدرک ، واترک ، والزم. فیجب عند مجیء یاء المتکلم أن نقول : دراکنی ، وتراکنی ، وعلیکنی. بمعنی أدرکنی ؛ واترکنی ، والزمنی. ومثال لیت : لیتنی أزور أنحاء الدنیا - لیتنی أستطیع معاونة البائسین جمیعا.
هذا حکم نون الوقایة فی الأحوال السابقة. وقد حذفت سماعا من آخر بعض الأفعال ، ومن آخر «ولیت» حذفا نادرا لا یقاس علیه : مثل ، هنا رجل لیسی ؛ أی : غیری. ولیتی أعاون کل محتاج ؛ بمعنی لیتنی. وقد تحذف فیهما للضرورة ، مثل قول الشاعر :
ص: 252
عددت قومی کعدید (1)
الطّیس (2)
إذ ذهب القوم الکرام لیسی
وقول الآخر :
کمنیة جابر إذ قال لیتی
أصادفه (3) ، وأفقد کلّ
مالی
وإن کانت منصوبة بالحرف «لعل» جاز الأمران ، والأکثر حذف النون نحو : لعلی أدرک آمالی ، ولعلنی أبلغ ما أرید.
وإن کانت منصوبة بحرف ناسخ آخر (غیر : لیت ، ولعلّ) جاز الأمران علی السواء ، تقول : إننی مخلص ؛ وإنی وفیّ. لکننی لا أخلص للغادر. أو : لکنی لا أخلص للغادر. وتقول .. سررت من أننی سباق للخیر ، أو : من أنی سباق ... : وهکذا الباقی من الأحرف الناسخة الناصبة ...
(ب) وإن کانت یاء المتکلم مجرورة بحرف جر فإن کان حرف الجر «من» أو «عن» وجب الإتیان بنون الوقایة ، وحذفها شاذ أو ضرورة ؛ تقول منّی الصفح ، ومنّی الإحسان ، وعنّی یصدر الخیر والإکرام ، بخلاف «منی» ، و «عنی».
وإن کان حرف الجر غیرهما وجب حذف النون مثل : لی فیک أمل ، وبی نزوع إلی رؤیتک ، وفیّ میل لتکریمک (4).
(ح) وإن کانت الیاء مجرورة بالإضافة. والمضاف هو کلمة ساکنة الآخر ؛ مثل : «لدن» (بمعنی : عند) ، أو : کلمة «قد» ، أو : «قط» (وکلاهما بمعنی : حسب ، أی : کاف) (5) فالأصح إثبات النون ؛ مثل : قد
ص: 253
بلغت من لدنّی عذرا. ومثل ، قدنی من مواصلة العمل المرهق ، وقطنی من إهمال الریاضة المفیدة. ویجوز بقلة حذف النون فی الثلاثة ؛ تقول : لدنی ، قدی - قطی ؛ وهو حذف لا یحسن (1) بالرغم من جوازه.
فإن کان المضاف کلمة أخری غیر الثلاث السابقة وجب حذف النون ، مثل : هذا کتابی أحمله معی حینا ، وحینا أدعه فی بیتی فوق مکتبی.
* * *
یستخلص مما تقدم أن إثبات نون الوقایة وعدم إثباتها مرتبط بحالات یاء المتکلم المنصوبة محلا ، أو المجرورة محلا. وبنوع العامل الذی عمل فیها النصب ، أو الجر :
1- فإن کانت هذه الیاء منصوبة ، وناصبها فعل ، أو اسم فعل - وجب إثبات نون الوقایة قبلها.
2- وإن کانت هذه الیاء منصوبة وناصبها حرف ناسخ هو : «لیت» وجب إثبات النون. فإن کان الحرف الناسخ هو : «لعل» جاز الأمران ، والأفصح الإثبات ، وإن کان غیرهما جاز الأمران علی السواء.
3- وإن کانت الیاء مجرورة بحرف وعامل الجر هو : «من» ، أو : «عن» وجب إثبات النون. وإن کان حرفا آخر غیرهما وجب الاستغناء عنها بحذفها.
4- وإن کانت مجرورة بالإضافة والمضاف أحد الکلمات الثلاث : لدن - قد - قطّ - جاز الأمران ، ولکن الأفصح إثبات النون. وفی غیر هذه الثلاثة یجب الحذف.
ص: 254
(ا) عرفنا مما سبق أن نون الوقایة واجبة فی آخر الأفعال الناصبة لیاء المتکلم. ومن تلک الأفعال المضارع ، سواء أکان فی آخره نون الرفع ؛ (وهی : نون الأفعال الخمسة) أم کان مجردا منها ؛ مثل : أنت تعرفنی صادق الوعد ، وأنتم تعرفوننی کذلک. ولم تعرفونی مخلفا. فإذا اجتمعت نون الأفعال الخمسة ونون الوقایة جاز أحد الأمور الثلاثة الآتیة :
1 - ترک النونین (نون الرفع ونون الوقایة) علی حالهما من غیر إدغام (1) ؛ تقول أنتما تشارکاننی فیما یفید - أنتم تشارکوننی فیما یفید - أنت تشارکیننی فیما یفید ، وهکذا ...
2 - إدغام النونین (2) ، تقول فی الأمثلة السابقة : أنتما تشارکانّی ... ، وأنتم تشارکنّی ، وأنت تشارکنی (3) ...
3 - حذف إحدی النونین ؛ تخفیفا ، وترک الأخری : تقول : أنتما تشارکانی وأنتم تشارکونی ... ، وأنت تشارکینی ؛ بنون واحدة فی کل ذلک (4).
(ب) هناک بعض أمثلة مسموعة ، وردت فیها نون الوقایة فی آخر اسم الفاعل ، واسم التفضیل ؛ فمن الأول قوله علیه السّلام للیهود : هل أنتم صادقونی؟ ولو حذف
ص: 255
النون لقال صادقیّ (1). ومثله قول الشاعر :
ولیس الموافینی (2) - لیرفد (3) -
خائبا
فإنّ له أضعاف ما کان أمّلا
وقوله :
ولیس بمعیینی - وفی الناس ممتع -
صدیق إذا أعیا علیّ صدیق
ولو حذفت النون لقیل : الموافیّ والمعییّ ، ومثال اسم التفضیل قوله علیه السّلام : غیر الدجّال أخوفنی علیکم (4). وروی : أخوفی علیکم (أی : غیر الدجال أخوف الأمور التی أخافها علیکم ...)
والشائع أن هذه الأمثلة لا یقاس علیها ؛ لقلتها لکن الرأی السدید : أنه یجوز أحیانا إذا وجد داع (5).
(ح) إذا کان الفعل مختوما بنون النسوة لم یغیر ذلک من لزوم نون الوقایة قبل یاء المتکلم ؛ مثل : النساء أخبرننی الخبر ، هن یخبرننی. أخبرننی یا نسوة.
ص: 256
(ا) (محمود - إبراهیم) (فاطمة - أمینة) (مکة - بیروت) (بردی - دجلة).
(ب) رجل - شجرة - إنسان - حیوان - معدن ...
(ح) أسامة (للأسد). ثعالة (للثعلب). شیوة (للعقرب) ذؤالة (للذئب) ...
کل کلمة فی القسم الأول : (ا) تدل بنفسها مباشرة (1) علی شیء واحد ، معیّن بشکله الخاص ، وأوصافه المحسوسة التی ینفرد بها ، وتمیزه من باقی أفراد نوعه. فکلمة : «محمود» تدل بذاتها علی فرد واحد له صورة معینة ، ووصف حسیّ ینطبق علیه وحده دون غیره من أفراد النوع الإنسانی. وکذلک إبراهیم ، وفاطمة وأمینة ، وغیرها.
وکلمة : مکة ، أو : بیروت ، أو : أشباههما من البلاد - تدل علی شیء واحد محسوس ؛ هو : بلد معین ، له خصائصه ، وأوصافه الحسیة التی لا تنطبق علی سواه ، ولا تحمل إلی الذهن صورة غیره. وکذلک الشأن فی بردی ، ودجلة وغیرهما من الأنهار المعینة.
فکل کلمة من الکلمات السالفة إنما تدل بلفظها وبحروفها الخاصة بها علی معنی واحد ، معین ، ینطبق علی فرد واحد «أی : تدل علی مسمی بعینه» وهی لا تحتاج فی دلالتها علیه إلی معونة لفظیة أو معنویة تأتیها من غیرها ، بل تعتمد علی نفسها فی إبراز تلک الدلالة.
أما کلمات القسم الثانی فتدل الواحدة منها علی معنی معین ، ولکنه معنی غیر مقصور علی فرد واحد ینحصر فیه ؛ وإنما ینطبق علی أفراد کثیرة مشترکة معه فی النوع ، فهو صالح لکل منها ، لا یختص بواحد دون آخر ، أی : أنه شائع بینها ، کما سبق أن قلنا فی النکرة (2). فکلمة : رجل أو شجرة ... أو غیرهما
ص: 257
من سائر النکرات تدل علی مدلول واحد ، لفرد واحد ، ولکن هذا الفرد شائع ، له نظائر وأشباه کثیرة قد تبلغ الآلاف ... ، ویصلح کل منها أن یکون هو المقصود ، ولیس بعضها أولی من بعض فی ذلک ، فإذا أردنا لهذه الکلمة أن تدل علی مدلول واحد معین لا ینطبق علی غیره وجب أن نضم إلیها زیادة لفظیة أو معنویة تجعل مدلولها مرکزا فیه وحده بغیر شیوع ، کأن تقول : رأیت رجلا فی النادی ، فصافحت الرجل. أو هذا رجل ، أو : أعجبنی هذا. مشیرا إلی شیء حسی أو معنوی معروف متمیّز ، أو : أکرمت الذی زارک. فوجود «أل» فی کلمة «الرجل» بالطریقة السالفة جعلتها تدل علی معین. ووجود الإشارة الحسیة أو المعنویة جعلت کلمة : «هذا» تدل علی معین. ووجود صلة الموصول - وهی لفظیة - جعلت کلمة : «الذی» تدل علی معین. ووجود قرینة التکلم أو الخطاب جعلت ضمیرهما یدل علی معین. وهکذا ؛ فلو لا الزیادة التی انضمت إلی کل واحدة ما حصل التعیین والتخصیص ... ومن هنا یتضح الفرق بین کلمات القسم الأول التی هی نوع من المعرفة یسمی : «العلم الشخصی» (1) أو «علم الشخص» وکلمات القسم الثانی التی هی نکرة قبل وجود الزیادة التی انضمت إلیها. ثم صارت بعدها نوعا من أنواع المعرفة. فکلمات القسم الأول تستمد من ذاتها وحدها التعیین والتحدید ، بخلاف الثانیة. وهذا معنی قولهم فی تعریف العلم :
«إنه اللفظ الذی یدل علی تعیین مسماه تعیینا مطلقا» ، أی : غیر مقیّد بقرینة تکلم ، أو خطاب ، أو غیبة ، أو إشارة حسیة ، أو معنویة ، أو زیادة لفظیة ؛ کالصلة ... او غیر ذلک من القرائن اللفظیة أو المعنویة التی توضح مدلوله ، وتحدد المراد منه. فهو غنی بنفسه عن القرینة ، لأنه علم (2) مقصور علی مسماه ، وشارة خاصة به وافیة فی الدلالة علیه. وکل کلمة من کلمات القسم الثانی
ص: 258
وأشباهها تسمی نکرة (1).
ص: 259
ص: 260
أما أمثلة القسم الثالث فهی لنوع آخر یختلف فی دلالته عن النوعین السابقین ؛ یسمی : (علم الجنس) (1).
ولتوضیحه نقول ؛ إذا دخلت حدیقة الحیوان فرأیت الأسد ، ومنظره الرائع المهیب ، وشاهدت ما یغطی عنقه ، وینسدل علی کتفیه ؛ من شعر غزیر ، کثیف ، یسمی : اللّبد ، وما ینبت فوق فمه من شعر طویل ؛ کأنه الشارب ؛ فسمیت الأسد بعد ذلک : «صاحب اللّبد» أو «أبو الشوارب» ، فهذه التسمیة تحمل الذهن عند إطلاقها وعند سماعها علی تخیل صورة للأسد حتما ، وعلی تذکر مثال له ، من غیر أن تکون تلک الصورة أو المثال مقصورة علی الأسد الذی کان فی الحدیقة ؛ بل تنطبق علیه وعلی غیره من أمثاله. فهذا الاسم الذی وضعته للصورة هو علم یدل علیها ؛ وعلی کل صورة مثلها من أفراد صنفها. أی : أنه شارة
ص: 261
ورمز لتلک الصورة التی لا تمثل فردا بعینه ، وإنما تمثل الصنف کله ، أی : تمثل ما یسمونه : «الجنس» کله ؛ فتنطبق علی کل فرد من أفراد ذلک الجنس ؛ وهذا معنی قولهم : «إنه علم للجنس» ، أو : «علم الجنس» ، ومثل هذا یقال یقال عن کلمة : «أسامة». فقد أطلقت أول مرة علی أسد معین لداع دعا إلی هذه التسمیة. فإذا قیلت بعد ذلک لم یفهم العقل معناها فهما مجردا من غیر تخیل صورة فرد - أیّ فرد - من ذلک الحیوان المفترس ، بل لا بد أن یحصل مع الفهم تخیل صورة تمثل أسدا غیر معین ، أی : لا بد مع الإدراک من ذلک التخیل الذی یعید إلی الذهن صورة تمثل المراد ، وینطبق علیها الاسم ، فهذا الاسم هو الذی یسمی : علما للجنس کله ، أو : علم الجنس.
ومثل هذا أن تری الفیل وخرطومه فتسمیه : (أبو الخرطوم) فهذا علم للفیل ینطبق علی الفرد الذی أمامک ، وعلی کل نظیر له ، فهو علم لواحد غیر معین من الأفیال. فإذا کان اسم الجنس هو اسم یدل علی الحقیقة الذهنیة المجردة أی : الخالیة من استرجاع الخیال لصورة فرد منها - کما سبق (1) - فإن علم الجنس یدل علی تلک الحقیقة ، مرکزة فی صورة کاملة ویقترن بها ، و؛ یستعیدها الخیال لفرد غیر معین من أفراد ذلک الجنس فهی تصدق علی کل فرد. فکأن هذا العلم موضوع لکل فرد من أفراد تلک الحقیقة الذهنیة العقلیة. ولذا قالوا فی تعریف علم الجنس ، إنه : اسم موضوع للصورة التی یتخیلها العقل فی داخله لفرد شائع من أفراد الحقیقة الذهنیة. ومن أمثلته أیضا - غیر ما سبق فی «ج» : «ابن دأیة» ؛ للغراب و «بنت الأرض» : للحصاة ، «وابنة الیم» ؛ للسفینة ...
ص: 262
له عدة أقسام باعتبارات مختلفة :
(ا) فینقسم باعتبار تشخص (1) معناه وعدم تشخصه إلی علم شخص ، وإلی علم جنس (2).
(ب) وینقسم باعتبار لفظه إلی علم مفرد ، وعلم مرکب.
(ح) وینقسم باعتبار أصالته فی العلمیة وعدم أصالته إلی مرتجل ، ومنقول.
(د) وینقسم باعتبار دلالته علی معنی زائد علی العلمیة أو عدم دلالته - إلی اسم ، وکنیة ، ولقب.
تلک هی أشهر أقسامه (3) ، ولکل منها أحواله الخاصة التی نفصلها فیما یلی :
التقسیم الأول :
یتضمن انقسام العلم باعتبار تشخص معناه وعدم تشخصه إلی علم شخص ، وعلم جنس.
علم الشخص :
«هو ، اللفظ الذی یدل علی تعیین مسماه تعیینا مطلقا» وقد شرحنا هذا شرحا وافیا (4) ، وأوضحنا المراد من «الإطلاق».
وله حکم معنوی وأحکام لفظیة. فأما حکمه المعنوی : فالدلالة علی فرد مشخص معین (5) - فی الغالب - ویکون هذا الفرد من بین ما یأتی من الأنواع :
ص: 263
1 - أفراد الناس ، مثل علی ، وسمیر ، وشریف ، ونبیلة ، وغیرهم من أفراد الأجناس التی لها عقل ، وقدرة الفهم ، کالملائکة ، والجن ، مثل : جبریل ، وإبلیس ... 2 - أفراد الحیوانات الألیفة التی یکون للواحد منها علم خاص به ، مثل : «برق» ، علم لحصان ، و «بارع» علم لکلب ، و «فصیح» علم علی بلبل و «مکحول» علم علی دیک ...
3 - أشیاء أخری لها صلة وثیقة بحیاة الناس وأعمالهم : کأسماء البلاد ، والقبائل ، والمصانع ، والبواخر ، والطائرات ، والنجوم ، والعلوم ، والکتب ، وغیرها من کل ماله ارتباط قویّ بمعایش الناس ، وله اسم خاص به لا یطلق علی غیره ... مثل : مصر ، دمشق ، حلب (أسماء بلاد). ومثل : تمیم ، طیّ ، غطفان ، ... (أسماء قبائل عربیة قدیمة). ومثل : زامر ، وألبا ، وفرد (أسماء مصانع مسماة بأسماء أصحابها). ومثل : محروسة - عنایة - قاصد خیر ... (أسماء بواخر). وغیر ذلک مما یشبهها من کل مدرسة ، أو معبد ، أو ملجأ ، أو طائرة ، أو مؤسسة ... بشرط أن یکون لکل منها اسم خاص یعرف به ، ولا یشارکه فیه سواه. وهذه الأشیاء المعینة المحددة التی تدل علیها الأعلام تسمی : «المدلولات» ، أو : «الحکم المعنوی» لعلم الشخص (1).
وأما أحکامه اللفظیة فکلها أثر من آثار أنه معرفة ؛ فلذا لا یضاف ، ولا یعرّف بأل ، لعدم حاجته لشیء من ذلک (2). وهو یقع مبتدأ ؛ مثل :
ص: 264
محمود نابه ، ویقع صاحب حال متأخرة عنه ومتقدمة ؛ مثل : جاء حامد مبتسما ؛
ص: 265
لأن الغالب فی المبتدأ وصاحب الحال أن یکونا معرفتین - ویمنع من الصرف إن وجد مع العلمیة سبب آخر للمنع ، کالتأنیث فی مثل : أصغیت إلی فاطمة. ویکون نعته معرفة مثله ، ولا یصح أن یکون نکرة.
* * *
اسم موضوع للصورة الخیالیة التی فی داخل العقل ، والتی تدل علی فرد شائع
ص: 266
من أفراد الحقیقة الذهنیة (1).
حکمه المعنوی : أکثر ما یتجه إلیه معناه هو : الدلالة علی واحد غیر معین ؛ نشأنه فی هذه الدلالة کشأن النکرة. ولکن هذا الواحد الشائع یکون من بین الأشیاء الآتیة المسموعة عن العرب :
1 - حیوانات غیر ألیفة ؛ کالوحوش ، والحشرات السامة ؛ وجوارح الطیور ، ومنها : (أبو الحارث وأسامة) وهما : للأسد ، (وأبو جعدة وذؤالة) وهما : للذئب. (وشبوة وأمّ عریط) ، وهما : للعقرب (وثعالة ، وأبو الحصین) ، وهما : للثعلب.
2 - بعض حیوانات ألیفة (2) ؛ ومنها : هیّان بن بیّان ؛ للإنسان المجهول نسبه وذاته. ومثله : طامر بن طامر ، وأبو المضاء ، للفرس. وأبو أیوب ، للجمل وأبو صابر ، للحمار ، وبنت طبق ، للسلحفاة (3). وأبو الدّغفاء ، للأحمق ، من غیر تعیین شخص بذاته.
3 - أمور معنویة (4) (أی ؛ لیست محسوسة ؛ فهی تخالف النوعین السابقین) مثل : أم صبور ، علم للأمر الصعب الشدید. ومثل : سبحان ، علم للتسیج ، وأم قشعم ، علم للموت ، وکیسان ، علم للغدر ، ویسار (علی وزن : فعال ، وهو وزن للمؤنث هنا) علم للمیسرة ، أی : الیسر. وفجار ؛ علم للفجرة. (أی : الفجور ، وهو المیل عن الحق) وبرّة ؛ علم للمبرة. (أی : البرّ).
هی الأحکام اللفظیة الخاصة بقسیمه : «علم الشخص» ؛ فهما متشابهان فیها ؛ فلا یجوز (5) فی علم الجنس أن یضاف ، ولا أن تدخل علیه «أل»
ص: 267
المعرّفة ؛ فلا تقول : أسامة الحدیقة فی قفص ، ولا الأسامة فی قفص. وهو یقع مبتدأ ؛ مثل أسامة مفترس ؛ ویکون صاحب حال متأخرة (1) عنه ؛ مثل : زأر أسامة غاضبا. ویمنع من الصرف إن وجدت علة أخری مع العلمیة ، کالتأنیث فی مثل : أسامة ملک الوحوش ؛ فتمتنع کلمة : «أسامة» من الصرف للعلمیة والتأنیث (2) ویجب أن یکون نعته معرفة مثل : أسامة القویّ ملک الوحوش. ولا یصح أن یکون نکرة (3). - فی الرأی الصحیح.
وفیما سبق من الأحکام المعنویة واللفظیة بیان وتفسیر لقول النحاة : حکم علم الجنس أنه نکرة معنی ، معرفة لفظا.
ص: 268
1 - استعمل العرب علم الجنس فی أمور معنویة - کما سبق (1) - غیر أن بعض تلک الأمور قد استعملوه حینا علم جنس ؛ فتجری علیه الأحکام اللفظیة الخاصة بعلم الجنس ؛ فهو معرفة من هذه الجهة ، وحینا استعملوه کالنکرة تماما ؛ فلا یلاحظ فیه تعیین مطلقا. والطریق إلی معرفة هذا النوع هو السماع المحض عن العرب. ومن أمثلته : فینة (بمعنی ؛ وقت) و «بکرة» و «غدوة» وهما بمعنی أول النهار ، و «عشیة» بمعنی آخر النهار. فهذه الکلمات تستعمل بغیر تنوین ؛ فتکون معرفة ؛ مثل : قضینا فینة فی الحدیقة أی : الفینة المعینة من یوم معین. وتقول ؛ فلان یتعهدنا بکرة : أی : البکرة المحددة الوقت والیوم.
وکذا. «غدوة وعشیة» بغیر تنوین ؛ ترید بکل منهما وقتها ویومها المحددین. فأنت تقصد الأوقات المعینة التی تبینها هذه الأسماء السابقة (2).
أما إذا قلتها بالتنوین فلست ترید واحدة ، معینة ، محددة فی یوم محدد - وإنما ترید «فینة» أیّ فینة ، من یوم أی یوم ، و «بکرة» أیّ بکرة أیضا ، وهکذا الباقی ...
وفی الأثر المروی : (للمؤمن ذنب یعتاده الفینة بعد الفینة) فدخول أل دلیل علی أن الکلمة قبلها کانت نکرة. ویترتب علی هذا الاختلاف فی المراد الاختلاف فی الأحکام اللفظیة التی عرفناها ، والتی تطبق علی الکلمات باعتبارها علم جنس ، ولا تطبق علیها باعتبارها نکرات ، ولا یعرف هذا فی النوعین الآخرین من علم الجنس ؛ فهما معرفتان ، وحکمهما من جهة اللفظ حکم علم الجنس.
ص: 269
التقسیم الثانی :
وهو یتضمن انقسام العلم باعتبار لفظه إلی علم مفرد ، وعلم مرکب. فالمفرد : ما تکوّن من کلمة واحدة ، مثل : صالح ، مأمون ، حلیمة ، (أعلام أشخاص). والمرکب : ما تکون من کلمتین أو أکثر. وهو ثلاثة أقسام :أولها : المرکب الإضافی : ویترکب من مضاف ومضاف إلیه ؛ مثل : عبد العزیز ، وسعد الله ، وعزّ الأهل ...
وثانیها : المرکب الإسنادی (1) : ویترکب إما من جملة فعلیة ؛ - أی : من فعل مع فاعله أو مع نائب فاعله - ، مثل : (فتح الله) و (جاد الحقّ) و (سرّ من رأی) وإما من جملة اسمیة ؛ أی : من مبتدأ مع خبره مثل : (الخیر نازل) و (السید فاهم) و (رأس مملوء) وکلها أسماء أشخاص معاصرین ، إلا (سرّ من رأی) فإنها اسم مدینة عراقیة.
وثالثها : المرکب المزجیّ : وهو ما ترکب من کلمتین امتزجتا (أی : اختلطتا ؛ بأن اتصلت الثانیة بنهایة الأولی.) حتی صارتا کالکلمة الواحدة (2) ؛ من جهة
ص: 270
أن الإعراب أو البناء یکون علی آخر الثانیة وحدها - غالبا - أمّا آخر الأولی فیبقی علی حاله قبل الترکیب (1). ومن أمثلته : بر سعید (اسم مدینة مصریة) رامهرمز ، وطبرستان ، وجردستان ؛ من أسماء البلاد الفارسیة (2) ومثل : نیویرک ، وقالیقلا (3) ، وجردنستی (4) وبعلبکّ (5) وسیبویه (6) ، وبرزویه (7) ونفطویه (8) ، وخالویه (9) ، ومثل (10) : (السّلاحدار ، والخازندار ، والبندقدار). فالعلم إما مفرد ، وإما مرکب ترکیب إضافة ، أو ترکیب إسناد ، أو مزج (11).
التقسیم الثالث :
هو یتضمن انقسام العلم باعتبار أصالته فی العلمیة وعدم أصالته ، إلی مرتجل ، ومنقول. فالمرتجل : ما وضع من أول أمره علما ، ولم یستعمل قبل ذلک فی غیر العلمیة. ومثاله : الأعلام التی اخترعها العرب أول مرة لمسمیات
ص: 271
عندهم ؛ ومنها : أدد (علم رجل) وسعاد (1) (علم امرأة) وفقعس علم للأب الأول لقبیلة عربیة معروفة. ومثل : الأعلام التی یخترعها الناس لمسمیات خاصة عندهم ، من غیر أن یکون لها عند العرب الخلّص وجود سابق ، مثل : «جین» ، علم علی بلد. و «رسح» علم علی جبل. «وبحن» علم علی شجرة معینة. وغیر ذلک من الأعلام التی یبتکرونها فی عصر من العصور ، علی حسب رغبتهم وأذواقهم (2) ویریدون بالمنقول - وهو الأکثر - أحد شیئین :
أولهما : العلم الذی لم یستعمل لفظه أول الأمر علما مطلقا ؛ وإنما استعمل أوّلا فی شیء غیر العلمیة ، ثم نقل بعده إلی العلمیة ؛ مثل : حامد ، محمود فاضل ، أمین ... ؛ فقد کانت قبل العلمیة تؤدی معنی آخر ، ثم انتقلت منه إلی العلمیة.
وثانیهما : العلم الذی استعمل أول أمره علما لفرد فی نوع ، ثم صار علما لفرد فی نوع آخر یخالف الأول ؛ مثل : «سعاد» علم امرأة ؛ ثم صار علم قریة ، لا علم امرأة.
1 - والنقل قد یکون من اسم منفرد اللفظ ؛ فیشمل : ما هو منقول من معنی من المعانی العقلیة الخالصة التی یسمّون کلّا منها : (الحدث المجرد) مثل : فضل ، وسعود ، ومجد ، وهیبة ؛ أعلام أشخاص - وما هو منقول من اسم عین ، أی : من ذات مجسّمة محسوسة ؛ مثل : غزال ، وقمحة ، وزیتون وفیل ... أعلام أشخاص ... وما هو منقول من اسم مشتق ؛ مثل : صالح ، ونبیل ، ومحمد ، ومفتاح.
ص: 272
2 - وقد یکون النقل من الفعل وحده (1) ؛ من غیر أن یکون معه فاعل ظاهر ، أو ضمیر مستتر ، أو بارز ، ومن غیر أن یلاحظ الفاعل أو یقدّر بوجه من الوجوه ؛ فیشمل المنقول من فعل ماض مثل : شمّر ، وجاد وصفا ، (أسماء أشخاص). أو : من فعل مضارع ؛ مثل : یزید (2) ، وتمیس (3) ، وتعز (4) وتغلب (5) ، ویشکر (6). أو : من فعل أمر ، مثل : سالم ، وسامح (7).
3 - وقد یکون النقل من جملة ، إما اسمیة ؛ مثل : «علیّ أسد» ، و «ما شاء الله» (8)
ص: 273
و «نحن هنا» اسم کتاب ... ، وإما جملة فعلیة ، مثل : فتح الله ، زاد الخیر ، وأطرقا (اسم بلد. وصحراء ببلاد العرب) والنقل هنا من جملة فعلیة ؛ لظهور الفاعل الضمیر البارز.
4 - وقد یکون النقل من حرف ؛ کتسمیة شخص بکلمة : «ربّ» ، أو : إن ... وقد یکون من حرفین ، مثل : ربما ، إنما.
5 - وقد یکون من حرف واسم مثل : بهناء ، ومثل : الحارث (اسم قبیلة عربیة).
6 - أو حرف وفعل مثل : الیزید (1) ...
ص: 274
إذا کان العلم منقولا من لفظ مبدوء بهمزة وصل فإن همزته بعد النقل تصیر همزة قطع - کما أشرنا (1) - نحو : «إستقبال» علم امرأة ، و «أل» علم علی الأداة الخاصة بالتعریف أو غیره ، بشرط أن تکتب منفردة مقصودا بها ذاتها ؛ فنقول : «أل» کلمة ثنائیة ، و «أل» فی اللغة أنواع من حیث المدلول ... ، ومثل : یوم الإثنین ، بکتابة همزة : «إثنین» لأنها علم علی ذلک الیوم (2) ... ومثل : «أسکت» علم علی صحراء ...
ص: 275
التقسیم الرابع :
وهو یتضمن انقسام العلم باعتبار دلالته علی معنی زائد علی العلمیة أو عدم دلالته ، إلی : اسم ، ولقب ، وکنیة. فأما الاسم هنا (1) فهو : علم یدل علی ذات معینة مشخّصة ، دون زیادة غرض آخر من مدح ، أو ذمّ ... ، مثل : سعید ، کامل ؛ مریم ، بشینة ، وأشباهها ؛ من کل ما یکون القصد منه أمر واحد ؛ هو : مجرد الدلالة علی ذات المسمی وتعیینها وحدها ، دون غیرها ، ودون إفادة شیء یتصل بها ؛ کمدح أو ذم.
وأما اللقب فهو : علم یدل علی ذات معیّنة مشخصة ، مع الإشعار - بمدح أو ذمّ ؛ إشعارا مقصودا بلفظ صریح (2) ؛ مثل : (بسّام ، الرشید ، جمیلة) (السفاح ، صخر ، عرجاء).
ص: 276
وأما الکنیة فهی علم مرکب ترکیبا إضافیّا (1) ، بشرط أن یکون صدره (وهو المضاف) کلمة من الکلمات الآتیة : (أب ، أمّ) ، (ابن ، بنت) (أخ ، أخت) (عمّ ، عمة) (خال ، خالة) ، مثل : الأعلام الآتیة : (أبو بکر ، أبو الولید) (أم کلثوم ، أمّ هانئ) ، (ابن مریم ، بنت الصدیق) (أخو قیس ، أخت الأنصار) ، وهکذا (2) ... ولیس منه : أب لمحمد ، وأم لهند ، وغیرهما من کل مالا إضافة فیه علی الوجه السابق.
وکل قسم من الأقسام الثلاثة السالفة قد یکون مرتجلا أو منقولا ، مفردا أو مرکبا ، إلا الکنیة فإنها لا تکون إلا مرکبة.
* * *
الأحکام الخالصة بالتقسیمات السالفة ، وتترکز فی النواحی الأربعة
الآتیة :
أولها : الأحکام الخاصة بإعراب العلم المفرد ، والعلم المرکب.
ثانیها : الأحکام الخاصة بالترتیب بین الاسم ، والکنیة ، واللقب ، إذا اجتمع من هذه الأعلام اثنان ، أو ثلاثة.
ثالثها : الأحکام الخاصة بإعراب ما یجتمع منها.
رابعها : الأحکام المعنویة وبقیة الأحکام اللفظیة الأخری التی تتصل بعلم الشخص وعلم الجنس.
ص: 277
(ا) فأما العلم المفرد ، کحامد ، وسعید ، وسمیرة ، وعبلة ... فإنه یخضع فی إعرابه وضبط آخره لحاجة الجملة المشتملة علیه ؛ فقد یکون مبتدأ ، أو : خبرا ، أو فاعلا ... أو مفعولا ، أو مجرورا بالإضافة ، أو بالحرف ، أو غیر ذلک ؛ فیرفع ، أو ینصب ، أو یجر علی حسب ما تقتضیه الجملة. تقول : حامد أدیب ، إن حامدا أدیب. أعجبت بأدب حامد ؛ فتضبط کلمة : «حامد» بالضبط المناسب لموقعها (1) کالشأن فی کل الأسماء المنفردة.
وأما العلم المرکب : فإن کان ترکیبه إضافیا ، کعبد الله - أعرب صدره وهو المضاف - کإعراب المفرد السابق (أی : علی حسب حاجة الجملة ؛ فیکون مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو مفعولا ، أو غیر ذلک.) ویبقی المضاف إلیه علی حالته ؛ وهی الجر دائما. تقول : عبد الله شاعر ، فاز عبد الله ، صاحبت عبد الله ، سارعت إلی عبد الله ؛ فالمضاف - وهو کلمة : عبد - تغیرت حرکة آخره بتغیر حاجة الجمل ، وبقی المضاف إلیه مجرورا لم یتغیر.
وإن کان ترکیبه إسنادیّا (مثل : فتح الله ... - الخیر نازل) بقی علی حاله قبل التسمیة ؛ فلا یدخله تغییر مطلقا ، لا فی ترتیب حروفه ، ولا فی ضبطها ثم یجری علیه ما یجری علی المفرد فیعرب علی حسب حاجة الجملة التی تحتویه ؛ فیکون مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا ، ومفعولا ، وغیر ذلک علی حسب ما تقتضیه تلک الجملة. إلا أن آخره یظل علی حاله ملتزما حرکته الأولی قبل العلمیة فی جمیع تلک الحالات مهما تغیرت الجمل ؛ فکأنه کلمة واحدة تلازمها علامة واحدة للإعراب ، لا تتغیر فی الرفع ، ولا فی النصب ، ولا فی الجر ، تقول : «فتح الله» نشیط. جاء «فتح الله». صاحبت «فتح الله» رضیت عن «فتح الله». فالعلم : (فتح الله) فی الجملة الأولی : مبتدأ ، مرفوع ، وعلامة رفعه ضمة مقدرة علی آخره للحکایة (2).
ص: 278
وفی المثال الثانی : فاعل مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة علی آخره للحکایة ، وفی الثالث : مفعول به ، منصوب ، وعلامة نصبه فتحة مقدرة للحکایة ، وفی الرابع : مجرور ، وعلامة جره کسرة مقدرة للحکایة ؛ فهو لا یتأثر بالعوامل تأثرا ظاهرا ، وإنما یتأثر بها تأثرا تقدیریا.
ویقال فی المثال الثانی : «الخیر نازل» حضر. إن «الخیر نازل» حضر ، سلّم علی «الخیر نازل» ، وهکذا فی کل مثال آخر من أمثلة المرکب الإسنادی ، وملحقاته (1) فإنه یکون معربا تقدیرا لأجل الحکایة (2).
وإن کان ترکیبه مزجیّا غیر مختوم بکلمة : (ویه) ، مثل : رامهرمز ونیویرک ... فإنه یعتبر کالکلمة الواحدة ؛ فیعامل من ناحیة الإعراب معاملة المفرد ، فیکون علی حسب جملته ؛ مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو مفعولا ، ... أو غیر ذلک ؛ لکنه یرفع بالضمة من غیر تنوین ، وینصب ویجر بالفتحة فی الحالتین من غیر تنوین (3). تقول : رامهرمز جمیلة ، إن رامهرمز جمیلة ، سمعت
ص: 279
برامهرمز ، فتتغیر حرکة الحرف الأخیر وحده تبعا لحالة الإعراب ، ویبقی غیره علی حالته الأولی.
فإن کان ترکیبه مزجیّا مختوما بکلمة : «ویه» (مثل : حمدویه - خالویه) کان کسابقه خاضعا لحاجة الجملة ؛ فیکون مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو : مفعولا ... إلخ ، إلا أن آخره فی کل هذه الأحوال یکون مبنیّا علی الکسر - فی المشهور - تقول : خالویه - عالم جلیل - وإن خالویه عالم جلیل - ولخالویه شهرة فائقة ... فقد وقعت کلمة : «خالویه» مبتدأ ، واسما لإن ، ومجرورة باللام ، ولم تتغیر حالة آخرها بتغیر الجمل ؛ بل لزمت البناء علی الکسر ؛ فهی مبتدأ مبنیة علی الکسر فی محل رفع. وهی اسم إنّ مبنیة علی الکسر فی محل نصب ، وهی مجرورة باللام مبنیة علی الکسر فی محل جرّ (1) ... وهکذا فی الأحوال التی تشابه ما سردناه.
ص: 280
من أنواع المرکب المزجی ما یستعمل غیر علم ؛ کالمرکب العددی ، أی : الأعداد المرکبة ، وهی ؛ أحد عشر ، وتسعة عشر ، وما بینهما. فکل واحد منها مبنی دائما علی فتح الجزأین فی جمیع أحواله ، وفی کل التراکیب. ویقال فی إعرابه : مبنی علی فتح الجزأین فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب حالة الجملة. ما عدا اثنی عشر ، واثنتی عشرة ؛ فإنهما یعربان إعراب المثنی. فاثنا واثنتا ترفعان بالألف فی حالة الرفع ، وتنصبان وتجران بالیاء فی حالتی النصب والجر. أما کلمة : «عشر ، وعشرة» فهی اسم مبنی علی الفتح لا محل له ، لأنها بدل من حرف النون فی المثنی. ویقال هذا فی إعرابهما - کما سبق (1) - وسیجیء تفصیل الکلام علی هذا فی الباب الخاص بالعدد ، بالجزء الرابع.
وکالظروف المرکبة ، مثل : (صباح مساء) فی مثل : (والدی یسأل عنا صباح مساء) أی : دائما. وکالأحوال المرکبة فی مثل : «أنت جارنا بیت بیت» ، أی : ملاصقا ، وهذه الأعداد ، والظروف ، والأحوال - مبنیة علی فتح الجزأین فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب حالتها من الجملة ؛ تقول فی الأعداد : جاء أحد عشر رجلا ، وأبصرت أحد عشر رجلا ، ونظرت إلی أحد عشر رجلا. وتقول : أنا أسأل عنک «صباح مساء» أی : دائما. فهو ظرف مبنی علی فتح الجزأین فی محل نصب. وتقول : أخی جاری «بیت بیت» فهو مبنی علی فتح الجزأین فی محل نصب ، حال ، فیکون اللفظ المرکب مبنیّا علی فتح الجزأین فی محل رفع ؛ لأنه فاعل - مثلا ، أو شیء آخر یکون مرفوعا - ، وفی محل نصب لأنه مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو : شیء آخر منصوب ، وفی محل جر ؛ لأنه مجرور. فآخر کل کلمة من الکلمتین یلزم حرکة واحدة لا تتغیر ؛ هی الفتحة. وحکم هذا المرکب هو البناء علی الفتح ؛ فهو شبیه بالمرکب المزجی المختوم بکلمة (ویه) حیث یلزم آخره حرکة واحدة هی البناء أیضا ، ولکن علی الکسر - علی المشهور - فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب حالة الجملة. وهذا الإعراب فی الأمثلة
ص: 281
السابقة نوع مما یسمونه الإعراب : «المحلّی» (1) حیث یکون للکلمة حالة لفظیة ظاهرة ، حلت محل أخری غیر ظاهرة ، ولکنها ملحوظة برغم عدم ظهورها ؛ فتراعی فی التوابع وغیرها ، وهو غیر «الإعراب التقدیری» الذی سبق الکلام علیه (2).
وما ذکرنا من حکم المرکب المزجی بأنواعه المختلفة هو الذی یحسن الأخذ به ، والاقتصار علیه وحده فی استعمالنا ؛ لأنه أشهر الآراء وأقواها ... والاقتصار علیه یمنع الفوضی فی ضبط الکلمات ، ویریحنا من جدل أهل المذاهب المختلفة. وعلی الرغم من هذا سنذکر بعض الآراء الأخری ، لا لاستعمالها ؛ ولکن لیستعین بها من یشاء فی فهم النصوص القدیمة التی وردت بها ، واشتملت علیها.
فمن تلک الآراء أن المرکب المزجی غیر المختوم بکلمة : (ویه) یجوز فیه البناء علی الفتح فی جمیع حالاته. نقول : هذه بعلبکّ. إن بعلبکّ جمیلة. لم أسکن فی بعلبکّ ، فتکون مبنیة علی الفتح دائما فی محل رفع ، أو نصب ، أو جرّ.
ومنها : أنه یجوز إعرابه إعراب المتضافین (3) ؛ فیکون صدره - وهو المضاف - معربا علی حسب حالة الجملة ، ویکون عجزه - وهو المضاف إلیه - مجرورا أبدا ؛ تقول ؛ هذه بعل بک. إن بعل بکّ جمیلة. لم أسکن فی بعل بک.
وفی هذه الحالة - وحدها - یحسن فی الکتابة فصل المضاف من المضاف إلیه ، وعدم وصلهما خطّا. بخلاف أکثر الحالات الأخری. کما أن المضاف فی هذه الحالة إن کان معتل الآخر فإنه یظل ساکنا دائما ، ولا تظهر علیه الحرکة ؛ بل تقدر ؛ مثل : عرفت «معدی کرب» ، فکلمة «معدی» مفعول منصوب بفتحة مقدرة علی الیاء ؛ مع أن الفتحة تظهر علی الیاء دائما ، ولکنها لا تظهر هنا ، لثقلها مع الترکیب - کما سبق البیان (4) -.
ص: 282
أما المرکب المزجی المختوم بکلمة : (ویه) فقد أجازوا فیه حالة أخری غیر البناء علی الکسر ، هی إعرابه کالممنوع من الصرف ، فیرفع بالضمة ، وینصب ویجر بالفتحة ، من غیر تنوین فی الحالات الثلاث ؛ مثل : سیبویه إمام نحویّ کبیر ، عرفت سیبویه ، وتعلمت من سیبویه.
ص: 283
(ب) أما الترتیب بین قسمین (1) فیلاحظ فیه ما یأتی :
1 - لا ترتیب بین الاسم والکنیة ، فیجوز تقدیم أحدهما وتأخیر الآخر ، مثل : أبو الحسن علیّ بطل ، أو : علیّ أبو الحسن بطل.
2 - لا ترتیب بین اللقب والکنیة ؛ فیجوز تقدیم أحدهما وتأخیر الآخر ؛ مثل : الصّدّیق أبو بکر أول الخلفاء الراشدین ، أو : أبو بکر الصدیق أول الخلفاء الراشدین.
3 - یجب الترتیب بین الاسم واللقب ؛ بحیث یتقدم الاسم ویتأخر اللقب (2).
مثل : عمر الفاروق هو الخلیفة الثانی من الخلفاء الراشدین ، وهذا الترتیب واجب إن لم یکن اللقب أشهر من الاسم ؛ فإن کان أشهر جاز (3) الأمران ؛ مثل : المسیح (4) عیسی بن مریم رسول کریم ، أو : عیسی بن مریم المسیح رسول کریم. ذلک أن «المسیح» أشهر من «عیسی». ومثل : السفّاح عبد الله أول خلفاء العباسیین ، أو : عبد الله السفاح ... ومن أجل ذلک کثر تقدیم ألقاب الخلفاء والملوک علی أسمائهم.
ومما سبق نعلم أن الترتیب عند اجتماع قسمین (5) غیر واجب إلا فی حالة واحدة (6) هی حالة اجتماع الاسم واللقب ؛ فیجب تأخیر اللقب عنه بشرط ألا یکون أشهر من الاسم ؛ فإن کان أشهر جاز الأمران.
ص: 284
(ح) أما إعراب قسمین عند اجتماعها فیتّبع فیه ما یأتی :
1 - إن کان القسمان مفردین (1) مثل : «علیّ سعید» جاز اعتبارهما متضابفین (2) فیکون الأول هو المضاف ، ویضبط ویعرب علی حسب حاجة الجملة. ویکون الثانی هو المضاف إلیه ، وهو مجرور دائما ؛ تقول : غاب علیّ سعید ، عرفت علیّ سعید ، وسألت عن علیّ سعید (3) ، وجاز عدم إضافتهما فیعرب الأول ویضبط علی حسب حالة الجملة ویکون الثانی ثابعا له (4) فی جمیع حرکات الإعراب ؛ فتکون کلمة : «سعید» مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة تبعا للکلمة
ص: 285
الأولی ؛ وهی علیّ. ولا دخل للکنیة هنا لأن الکنیة مرکبة ترکیبا إضافیّا ، فتدخل فی الأحوال الثلاثة الآتیة الخاصة بالمرکب الإضافی ، ولا تدخل فی المفرد الذی نحن بصدده - کما أشرنا من قبل -.
2 - وإن کان القسمان ، مرکبین معا ترکیب إضافة ؛ مثل : «عبد العزیز سعد الله» فإن المضاف الأول ، وهو : «عبد» یضبط ویعرب علی حسب حاجة الجملة ، ویکون المضاف الثانی ، وهو : «سعد» تابعا له (1) فی حرکات إعرابه.
3 - وإن کان الأول هو المفرد والثانی هو المرکب ترکیب إضافة ؛ مثل : «علی زین العابدین» - أعرب المفرد علی حسب حالة الجملة ، وجاء المضاف الذی بعده تابعا له فی حرکته ؛ تقول : علیّ زین العابدین شریف. إن علیّا زین العابدین شریف. وما ذا تعرف عن علیّ زین العابدین؟
ویجوز شیء آخر ؛ أن یکون الأول المفرد مضافا ؛ یضبط ویعرب علی حسب حاجة الجملة ، وأن یکون المضاف إلیه هو صدر الثانی ؛ تقول : علیّ زین العابدین شریف ، إن علیّ زین العابدین شریف. ماذا تعرف عن علیّ زین العابدین ؛ فتکون کلمة : «علیّ» معربة علی حسب العوامل ، ومضافة. وتکون کلمة : «زین» مضافة إلیها مجرورة.
4- إن کان الأول هو المضاف والثانی هو المفرد ؛ مثل : زین العابدین علیّ - فإن صدر الأول ؛ أی : المضاف ، یضبط ویعرب علی حسب حاجة الجملة ، ویعرب المفرد تابعا له ، تقول : زین العابدین علیّ شریف ، إن زین العابدین علیّا شریف ، عطفت علی زین العابدین علیّ.
أما المرکب المزجی وملحقاته ، والمرکب الإسنادیّ فلا یعتد بترکیبهما فی هذا الشأن وإنما یعتبر کل منهما بمنزلة المفرد عند اجتماعه بقسم آخر وتجری علیه أحکام المفرد السابقة (2).
ص: 286
وإلی هنا ینته الکلام علی الترتیب والإعراب (1) بین قسمین عند اجتماعهما. أما إذا اجتمعت الأقسام الثلاثة : (الاسم ، والکنیة ، واللقب) فیراعی فی الترتیب بینها ما سبق إیضاحه ؛ حیث یجوز تقدیم بعضها علی بعض. إلا اللقب فلا یجوز تقدیمه - فی أکثر حالاته - علی الاسم (2) ؛ ففی مثل : عمر بن الخطاب الفاروق - یجوز أن تقدم أو تؤخر ما شئت من الاسم ، أو : الکنیة ، أو اللقب. إلا صورة واحدة لا تجوز ؛ وهی : تقدیم کلمة «الفاروق» علی «عمر».
ص: 287
وکذلک یراعی فی الإعراب بین الأول والثانی ما سبق أیضا. أما الثالث فیکون تابعا للأول فی حرکاته (1).
* * *
د - هذا ، وما یخص الأقسام السالفة من الأحکام المعنویة وباقی الأحکام اللفظیة الأخری فقد سبق الکلام علیها (2).
ص: 288
تعریفه : اسم یعین مدلوله تعیینا مقرونا بإشارة حسیة إلیه ؛ کأن تری عصفورا فتقول وأنت تشیر إلیه : «ذا» رشیق ؛ فکلمة : «ذا» تتضمن أمرین معا ، هما : المعنی المراد منها : (أی : المدلول) ، وهو : : جسم العصفور ، والإشارة إلی ذلک الجسم فی الوقت نفسه. والأمران مقترنان ؛ یقعان فی وقت واحد (2) ؛ لا ینفصل أحدهما من الآخر.
والغالب أن یکون المشار إلیه (وهو : المدلول) شیئا محسوسا (3) کالمثال
السابق.
وکأن تشیر بأحد أصابعک إلی کتاب ، أو قلم ؛ أو سیارة ، وتقول : ذا کتاب - ذا قلم - ذی سیارة. وقد یکون شیئا معنویّا ، کأن تتحدث عن رأی ، أو : مسألة فی نفسک ، وتقول : ذی مسألة تتطلب التفکیر - ذا رأی أبادر بتحقیقه ...
تنقسم أسماء الإشارة بحسب المشار إلیه إلی قسمین ؛ قسم یجب أن یلاحظ فیه المشار إلیه من ناحیة أنه مفرد ، أو مثنی ، أو جمع (4) ... ، مع مراعاة التذکیر ، والتأنیث ، والعقل (5) ، وعدمه فی کل ذلک (6). وقسم یجب أن یلاحظ فیه المشار إلیه أیضا ، ولکن من ناحیة قربه ، أو بعده ، أو توسطه بین القرب والبعد (7).
ص: 289
فالقسم الأول خمسة أنواع :
(ا) ما یشار به للمفرد المذکر مطلقا ؛ (أی : عاقلا أو غیر عاقل) : وأشهر أسمائه «ذا» (1). نحو : ذا طیار ماهر - ذا بلبل صدّاح (2).
(ب) ما یشار به للمفردة (3) المؤنثة - عاقلة وغیر عاقلة - وهو عشرة ألفاظ ؛ خمسة مبدوءة بالذال هی : ذی - ذه - ذه - بکسر الهاء مع اختلاس (4) کسرتها - ذه - بکسر الهاء مع إشباع الکسرة (5) نوعا - ذات (6).
وخمسة مبدوءة بالتاء ، هی : تی - تا - ته - ته ، بکسر الهاء مع اختلاس الکسرة - ته (7) - بکسر الهاء مع إشباع الکسرة نوعا. تقول : ذی الفتاة
ص: 290
شاعرة ... تی الفتاة محسنة ... وکذا الباقی منهما (1).
(ح) ما یشار به للمثنی المذکر مطلقا - أی : عاقلا وغیر عاقل - ، وهو لفظة واحدة : «ذان» رفعا ، وتصیر : «ذین» نصبا وجرّا (2). تقول : ذان عالمان ، إنّ ذین عالمان ، سلمت علی ذین ، فیعرب کالمثنی ، أی : «ذان» : مبتدأ مرفوع بالألف. «ذین» : اسم : «إنّ» منصوب بالیاء. «ذین» ، مجرور بعلی ، وعلامة جره الیاء أیضا.
(د) ما یشار به إلی المثنی المؤنث مطلقا ، وهو لفظة واحدة : «تان» رفعا «وتصیر : تین» نصبا وجرّا ؛ تقول : تان محسنتان ؛ إن تین محسنتان ، فرحت بتین المحسنتین. «تان» مبتدأ مرفوع بالألف. «تین» اسم : «إن» منصوب بالیاء. «تین» مجرور بالباء ، وعلامة جره الیاء.
(ه) ما یشار به للجمع مطلقا (مذکرا ومؤنثا ، عاقلا وغیر عاقل) هو لفظة واحدة : «أولاء» (3). ممدودة فی الأکثر ، أو : أولی مقصورة ؛ مثل : أولئک الصناع نافعون. ومثل : «إن السمع والبصر والفؤاد کلّ أولئک کان عنه مسئولا» (4).
ص: 291
أما القسم الثانی من أسماء الإشارة ، وهو الذی یلاحظ فیه المشار إلیه من ناحیة قربه ، أو بعده ، أو توسطه بین القرب والبعد ؛ فإنه ثلاثة أنواع :
(ا) الأسماء التی تستعمل فی حالة قربه. هی : کل الأسماء السابقة الموضوعة للمفرد ، والمفردة ، والمثنی والجمع ، بنوعیهما ، من غیر اختلاف فی الحرکات أو الحروف ، ومن غیر زیادة شیء فی آخرها.
(ب) الأسماء التی تستعمل فی حالة توسطه للدلالة علی أن المشار إلیه متوسط الموقع بین القرب والبعد ، هی : بعض الأسماء السابقة بشرط أن یزاد فی آخر اسم الإشارة الحرف الدال علی التوسط ، وهذا الحرف هو : «کاف الخطاب الحرفیة (1). فإنها وحدها - بغیر اتصال لام البعد بها - هی الخاصة بذلک. وهی تلحق الآخر من بعض أسماء الإشارة ، دون بعض آخر ؛ فتلحق آخر أسماء الإشارة التی للمفرد المذکر ، والتی للمثنی ، والتی للجمع بنوعیهما ؛ نحو : ذاک المکافح محبوب - ذانک المکافحان محبوبان - تانک الطبیبتان رحیمتان - أولئک المقاومون للظلم أبطال ، أو : أولاک (بمد کلمة : «أولاء» وقصرها).
ص: 292
وکذلک تلحق ثلاثة من أسماء الإشارة الخاصة بالمفرده المؤنثة ، هی : (تی - تا - ذی) ؛ نحو : تیک الدار واسعة ... ولا تلحق آخر السبعة الأخری التی للمفردة المؤنثة ، فباستبعاد هذه السبعة تکون بقیة أسماء الإشارة التی للقرب صالحة للتوسط أیضا
«ملاحظة» : هذه الکاف تلحق اسم إشارة للمکان وهو یعتبر فی الوقت نفسه ظرفا من ظروف المکان ؛ ونعنی به الظرف : «هنا» - وسیجیء أیضا إیضاحه قریبا (1) - ؛ نحو : هناک فی أطراف الحدیقة دوح ظلیل.
ولا تلحق آخر اسم الإشارة إذا کان مبدوءا بحرف التنبیه : «ها» وبینهما فاصل ؛ کالضمیر فی مثل : هأنذا محب للانصاف ؛ فلا یقال فی الأفصح : هأنذاک - کما سیجیء (2) -.
وخلاصة ما تقدم أن الأسماء التی للمتوسط هی الأسماء السابقة التی للقرب. ولکن بشرط زیادة «کاف» الخطاب الحرفیة فی آخر الاسم للدلالة علی التوسط ؛ تقول : ذاک الطائر مغرد ... ، تیک الغرفة واسعة ... وبشرط أن کاف الخطاب الحرفیة لا تدخل فی اسماء الإشارة الخاصة بالمفردة المؤنثة إلا فی ثلاثة : «تی» و «تا» و «ذی» ولا تدخل فی السبعة الأخری - علی الصحیح -. وهذا هو الموضع الثانی الذی لا تدخله تلک الکاف(3).
(ح) الأسماء التی تستعمل فی حالة بعده.
لا سبیل للدلالة علی أن المشار إلیه بعید إلا بزیادة حرفین فی آخر اسم الإشارة ، هما : لام فی آخره تسمی : «لام البعد» یلیها «کاف الخطاب» الحرفیة حتما ، ولا توجد «لام البعد بغیرها. وهذه اللام تزاد فی آخر بعض الأسماء دون بعض : فتزاد مع «الکاف» فی آخر أسماء الإشارة التی للمفرد ؛ نحو : ذلک الکتاب لا ریب فیه. وفی آخر ثلاثة من الأسماء التی لإشارة المفردة (وهی الثلاثة التی تدخلها «کاف» الخطاب الحرفیة دون السبعة الأخری التی لا تدخلها) ؛ نحو : تلک الصحاری میادین أعمال ناجحة. وتزاد فی آخر کلمة : «أولی» المقصورة التی هی اسم إشارة للجمع
ص: 293
مطلقا ، نحو : أولا لک المغتربون فی طلب العلم جنود مخلصون ، دون «أولاء» الممدودة التی اسم الإشارة للجمع - فی الرأی الأرجح - فلا یقال : أولاء لک (1) المغتربون مخلصو ...
ولا تزاد فی اسم الإشارة الذی للمثنی المؤنث أو المذکر. ولا فی اسم الإشارة المبدوء بحرف التنبیه : «ها» ، والمختوم ب «کاف» الخطاب الحرفیة ؛ فلا یصح فی مثل : «هذاک وهاتاک» أن یقال : هذا لک ، ولا هاتا لک ... علی اعتبار «اللام» فیهما للبعد ، و «الکاف» حرف خطاب.
ومما سبق یتبین أنه لا یجوز زیادة لام البعد وحدها بغیر «کاف» الخطاب الحرفیة بعدها ، ولهذا یمتنع زیادة «لام البعد : فی آخر الأسماء الخالیة من تلک «الکاف» إما لأن «الکاف» لا تدخلها مطلقا ؛ کالأسماء السبعة التی لإشارة المفردة ، وإما لأنها تدخلها ولکن اسم الإشارة خال منها عند الرغبة فی إلحاق لام البعد بآخرها. وإن شئت فقل : إن أسماء الإشارة التی تستعمل فی حالة البعد لا بد أن یزداد فی آخرها حرفان معا : لام تسمی : لام البعد (2) ، وحرف الخطاب (الکاف) بعدها ؛ نحو : ذلک السّبّاح بارع. وهذه اللام لا توجد وحدها بغیر کاف الخطاب ؛ فیجوز إلحاقها بآخر أسماء الإشارة التی للمفرد والمفردة بشرط وجود تلک الکاف. ویمتنع إلحاقها بأسماء الإشارة التی لا تدخلها الکاف مطلقا (3) ، أو التی تدخلها ، ولکنها غیر موجودة فیها عند الرغبة فی إلحاق اللام. وکذلک یصح إلحاق هذه اللام بکلمة «أولی» المقصورة ، دون الممدودة ، - علی الأرجح - ودون المثنی بنوعیه أیضا.
ویصح أن تدخل : «ها» التی هی حرف تنبیه (4) علی اسم الإشارة الخالی من کاف الخطاب ؛ مثل : هذا ، هذه ، هذان ، هؤلاء ... وقد تجتمع مع الکاف بشرط عدم الفاصل - کالضمیر - بین «ها» واسم الإشارة. ؛ نحو هذاک - هاتاک ... لکنهما إذا اجتمعا لم یصح مجیء لام البعد معهما ، فلا یجوز
ص: 294
هذا لک (1). وهذا موضع آخر من المواضع التی تمتنع فیها لام البعد (2).
وتمتنع الکاف إن فصل بین «ها» التنبیه واسم الإشارة فاصل (3) ؛ کالضمیر فی نحو : هأنذا (4) مخلص. فلا یصح الإتیان بالکاف بعد اسم الإشارة وهذا هو الموضع الثانی الذی لا تدخله کاف الخطاب (5) ، وإذا لا تدخله لام البعد أیضا.
بقی من أسماء الإشارة التی من القسم الثانی کلمتان : هنا ، و : «ثمّ» وکلتاهما تفید الإشارة مع الظرفیة (6) التی لا تتصرف (7). فأما : «هنا» فهی اسم إشارة إلی المکان القریب ، مثل : «هنا العلم والأدب». وقد یزاد فی أولها حرف التنبیه : «ها» نحو : هاهنا الأبطال ؛ فهی فی الحالتین سواء.
وبسبب دلالتها علی المکان مع الإشارة دخلت فی عداد ظروف المکان أیضا ، فهی اسم إشارة وظرف مکان معا وهی ظرف مکان لا یتصرف ، فلا تقع فاعلا ، ولا مفعولا ، ولا مبتدأ ، ولا غیر هذا مما لا یکون ظرف مکان. ولا تخرج عن الظرفیة إلا لشبه الظرفیة (8). وهو معها الجر بالحرف «من» أو «إلی» ، نحو : سرت من هنا إلی هناک.
ص: 295
فإذا زاد علی آخرها الکاف المفتوحة للخطاب (1) وحدها أو مع «ها» التنبیه صارت مع الظرفیة اسم إشارة للمکان المتوسط ؛ مثل : هناک ، أو : «ها هناک» فی الحدیقة الفواکه. وإن اتصل بآخرها کاف الخطاب المفتوحة واللام صارت مع الظرفیة اسم إشارة للمکان البعید ؛ مثل : هنالک فی الصعید أبدع الآثار. وفی هذه الصورة تمتنع «ها» التنبیه ، لأن «ها» التنبیه لا تجتمع مع لام البعد - کما أشرنا -.
وقد یدخل علی صیغتها بعض تغییر ، فتصیر اسم إشارة للمکان البعید ؛ من ذلک : هنّا ، هنّا ، هنّت - هنّت ... فهذه لغات فیها ، وکلها تفید مع الظرفیة الإشارة للمکان البعید.
وأما الأخری : «ثمّ» فاسم إشارة إلی المکان البعید ؛ مثل : تأمل النجوم فثم الجلال والعظمة. وهی (2) کسابقتها ظرف مکان لا یتصرف ، إلا أن «ثمّ» للبعید خاصة ، ولا تلحقها «ها» التنبیه ، ولا کاف الخطاب ، وهما اللذان قد یلحقان نظیرتها. وقد تلحقها - دون نظیرتها - تاء التأنیث المضبوطة - غالبا - بالفتح ؛ فیقال ثمّة (3).
ص: 296
ومما تقدم نعلم أن المکان باعتباره وعاء ، أی : ظرفا - یقع فیه أمر من الأمور ومعنی من المعانی - قد اختص وحده باسمین من أسماء الإشارة ؛ فلا یشار إلیه باعتباره وعاء وظرفا إلا بواحد منهما. ومن أجل هذا کانا فی محل نصب علی الظرفیة (1) لا یفارقها أحدهما إلا إلی الجر بمن أو إلی. أما بقیة أسماء الإشارة فتصلح لکل مشار إلیه ، مکانا أو غیر مکان. إلا أن المشار إلیه إذا کان مکانا فإنه لا یعتبر ظرفا ؛ مثل هذا مکان طیب ، وتلک بقعة جمیلة ، فکل واحدة من کلمتی : «مکان». و «بقعة» مشار إلیه ، دال علی المکان ، ولکنه لا یسمی ظرفا.
وفی الجدول الآتی بیان أسماء الإشارة فی الأنواع الخمسة السابقة (2) ؛ وهی التی یلاحظ فیها المشار إلیه من ناحیة إفراده ، وتثنیته ؛ وجمعه ، مع التذکیر ، والتأنیث ، العقل ، وعدمه ، فی کل حالة ، وکذلک مع القرب ، والتوسط ، والبعد :
ص: 297
صورۀ
ص: 298
صورۀ
ص: 299
عند اختیار اسم من أسماء الإشارة لا بد أن نعرف أولا : حالة المشار إلیه من ناحیة : (إفراده ، أو : تثنیته ، أو : جمعه) و (تذکیره ، أو تأنیثه) (عقله ، وعدم عقله) ثم نعرف ثانیا : حالته من ناحیة : (قربه ، أو توسطه ، أو بعده).
(ا) فإذا عرفنا حالته من النواحی الأولی تخیرنا له من أسماء الإشارة ما یناسب ؛ فالمشار إلیه إن کان مفردا مذکرا - عاقلا أو غیر عاقل - کرجل وباب ، نختار له : «ذا» ، مثل : ذا رجل أدیب ، ذا باب محکم. فکلمة «ذا» اسم إشارة ، مبنی علی السکون فی محل رفع ، لأنها مبتدأ فی هذه الجملة ، وقد تکون فی محل نصب أو جرّ فی جملة أخری ، فمثال محلها المنصوب : نجح العلماء فی إرسال القذائف إلی القمر ؛ فنزلت علی سطحه ، وإن ذا من عجائب العلم. وقول الشاعر :
أیها الناس ، إن ذا العصر عصر ال
علم ، والجدّ فی العلا ، والجهاد
ومثال محلها المجرور قول الآخر :
ولست بإمّعة (1) فی الرجال
أسائل عن ذا ، وذا ، ما الخبر؟
فهی مبنیة دائما. ولکنها فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب موقعها من الجمل.
وإن کان المشار إلیه مفردة ، مؤنثة عاقلة أو غیر عاقلة - مثل : فتاة وحدیقة - فاسم الإشارة المناسب لها هو : «ذی» أو إحدی أخواتها مثل : ذی غرفة بدیعة - ذی فتاة ماهرة ... وهی اسم إشارة مبنیة دائما علی السکون فی محل رفع ، لأنها مبتدأ ، هنا ، أما فی جملة أخری فمبنیة أیضا ، ولکن فی محل رفع ، أو نصب ، أو جرّ ، علی حسب موقعها من الجملة.
وإن کان المشار إلیه مثنی مذکرا - للعاقل أو غیره - مثل : فارسین - وقلمین -
ص: 300
فاسم الإشارة المناسب له : «ذان» رفعا ، و «ذین» نصبا وجرا ؛ فیعرب (1) کالمثنی ؛ تقول : ذان فارسان ، حاکیت ذین الفارسین ، اقتدیت بذین الفارسین - ذان قلمان جمیلان ، اشتریت ذین القلمین ، کتبت بذین القلمین ؛ فاسم الإشارة هنا معرب مرفوع بالألف فی حالة الرفع ، ومنصوب ومجرور بالیاء فی حالتی النصب والجر. وکذا فی کل جملة تشبه هذه.
فإن کان المشار إلیه مثنی مؤنثا - للعاقل أو غیره - (ومنه : فصیحتان ، وردتان ...). فاسم الإشارة الذی یناسبه هو : «تان» رفعا ، و «تین» نصبا وجرّا ، فیعرب إعراب المثنی ؛ تقول : تان فصیحتان ، إن تین فصیحتان ، أصغیت إلی تین الفصیحتین. وتان وردتان - شممت تین الوردتین ، حرصت علی تین الوردتین ؛ فاسم الإشارة (2) هنا کسابقه - معرب إعراب المثنی. وکذا فی کل جملة أخری.
وإن کان جمعا للعاقل أو غیره مثل : الطلاب - الأبواب - أتینا باسم الإشارة المناسب ؛ وهو «أولاء» ممدودة أو مقصورة ، تقول : أولاء الطلاب نابهون ، أولاء الأبواب مفتحة. واسم الإشارة هنا ممدود مبنی علی الکسر فی محل رفع ؛ لأنه مبتدأ. أما فی جملة أخری فیکون مبنیّا أیضا ولکنه فی محل رفع ، أو نصب. أو جر علی حسب موقعه من الجملة التی یکون فیها. ومثله : «أرلی» المقصورة. إلا أنها فی جمیع أحوالها مبنیة علی السکون فی محل رفع أو نصب أو جر علی حسب موقعها من الجملة.
وإن کان المشار إلیه مکانا أتینا بکلمة : «هنا» وهی إشارة وظرف مکان معا
ص: 301
فهی مبنیة علی السکون - أو غیره علی حسب لغاتها - فی محل نصب (1) ؛ لأنها ظرف غیر متصرف - کما سلف - تقول ؛ هنا موطن العلم ؛ أی : فی هذا المکان. وقد یکون قبلها «ها» التی للتنبیه وحدها ، نحو : ها هنا ، أو هی والکاف المفتوحة نحو : ها هناک. وقد یلحقها الکاف واللام معا بشرط عدم وجود «ها» التی للتنبیه.
ومثلها. «ثمّ» فهی اسم إشارة للبعد وظرف مکان معا - ولا یتصرف - ، مبنیة علی الفتح فی محل نصب (2) تقول : ثمّ مقر السماحة. أی : هناک. ویجوز أن تلحقها تاء التأنیث المفتوحة فتقول : ثمّة میدان للتسابق الأدبی. ولما کانت «ثمّ» تفید البعد بنفسها لم یکن هنا داع لأن تلحقها الکاف ولا اللام.
ومما تقدم نعلم :
أن کل مشار إلیه له اسم إشارة یناسبه ؛ وکل اسم إشارة مقصور علی مشار إلیه بعینه ، وأن جمیع أسماء الإشارة مبنیة ؛ إما علی السکون أو غیره ، ولکنها فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر علی حسب تصرفها ، وموقعها من الجملة. ولیس فیها معرب إلا کلمتان ؛ هما : «ذان» للمذکر المثنی «وتان» للمؤنث المثنی ؛ فیعربان إعراب المثنی ؛ فیرفعان بالألف ، وینصبان ویجران بالیاء ، ومع أنهما معربان ، فإنهما لا یضافان - کما سبق (3) - فشأنهما فی ذلک کشأن المبنی من أسماء الإشارة ؛ لا یجوز إضافة شیء منه مطلقا.
(ب) وإذا عرفنا حالته فی ناحیة قربه أو بعده أو توسطه لم یتغیر شیء من طریقة إعراب الأسماء السابقة. فإن وجد فی آخر واحد منها کاف الخطاب الدالة علی التوسط (نحو ذاک ... هناک) قیل فیها : «الکاف» حرف خطاب ، مبنی لا محل له من الإعراب. وإن وجد معها لام البعد أحیانا ، مثل : «ذلک» - وهذه
ص: 302
اللام لا توجد منفردة عن الکاف - کما أشرنا (1) - قیل فیها : اللام حرف للبعد ، مبنی علی الکسر فی نحو : ذلک ، وعلی السکون فی نحو : تلک ... لا محل لها من الإعراب. وإن وجد فی أول اسم الإشارة «ها» التی للتنبیه ؛ مثل : «هذا» قیل فیها : حرف تنبیه مبنی علی السکون لا محل له. (مع ملاحظة أن الکاف بعد کلمة : «هنا» حرف خطاب لا یتصرف مطلقا فهو مبنی علی الفتح دائما ، أما بعد غیرها فیجوز أن تتصرف(2).
ص: 303
(ا) للمناسبة هنا وللأهمیة نلخص ما ذکرناه وأیدناه بالنصوص المسموعة الصحیحة فی ص 203 وهو أنه : یجوز الفصل بین : «ها» التی للتنبیه واسم الإشارة بضمیر المشار إلیه ؛ مثل : هأنذا أسمع النصح ، وهأنت ذا تعمل الخیر ، وهأنتم أولاء تصنعون ما یفید ... وقد یکون الفصل بغیر الضمیر قلیلا ؛ کالقسم بالله ؛ نحو : ها - والله - ذا الرجل محب لوطنه. وکذلک «إن» الشرطیة - مثل ها - إن - ذی حسنة تتکرر یضاعف ثوابها ... وقد تعاد «ها» التنبیه بعد الفصل ، لتوکید التنبیه وتقویته ؛ مثل : ها أنتم هؤلاء تحبون العمل النافع.
والشائع هو دخول : : «ها» التی للتنبیه علی ضمیر الرفع المنفصل الذی خبره اسم إشارة ، نحو : هأنذا المقیم علی طلب العلوم. ومن غیر الشائع - مع صحته طبقا للبیان والأمثلة المتعددة التی فی ص 203 - دخولها إذا کان خبره غیر اسم إشارة ، نحو : هأنا ساهر علی صالح الوطن.
ویستأنس لهذا أیضا - وإن کان فی غنی عنه لکنه فی معرض التخصیص - بما جاء فی الصبان والخضری معا فی باب الحال عند الکلام علی العامل المضمن معنی الفعل ، کتلک ، ولیت ، وکأن ، وحرف التنبیه ... حیث قالا فی التمثیل لحرف التنبیه : (هأنت زید راکبا ...) ا. ه وهذا لمجرد الاستئناس فقط فقد سقت الأمثلة الفصحة الواردة عمن یستشهد بکلامه من العرب.
«ملاحظة» یتعین أن یکون اسم الإشارة المبدوء بکلمة : «ها» التی للتنبیه مبتدأ فی مثل : هذا أخی. لأن «ها» التنبیهیة لها الصدارة (1) بشرط أن تنصل باسم الإشارة مباشرة لا یفصل بینهما ضمیر ، فإن فصل الضمیر بینهما فی مثل : «هأنذا» فالضمیر هو المبتدأ ، واسم الإشارة هو الخبر. ویجوز : «هذا أنا» ولکن الأول
ص: 304
أحسن وأسمی فی الأسالیب الأدبیة العالیة - کما ستجیء الإشارة لهذا فی رقم 8 من ص 454 ، وتکملتها فی رقم 3 من هامش ص 455.
(ب) عرفنا (1) أن کلمة «هنا» اسم إشارة للمکان القریب ، وظرف مکان معا. وقد تقع : «هناک» و «هنالک» و «هنّا» المشددة - أسماء إشارة للزمان ؛ فتنصب علی الظرفیة الزمانیة ؛ مثل قول الشاعر :
وإذا الأمور تشابهت وتعاظمت
فهناک یعترفون أین المفزع
أی : فی وقت تشابه الأمور. وکقوله تعالی عن المشرکین (2) : (یَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ...) إلی أن قال : (هُنالِکَ تَبْلُوا کُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) ، أی : فی یوم حشرهم.
وکقول الشاعر :
«حنّت نوار ولات هنّا حنّت
وبدا الذی کانت نوار أجنت».
أی : ولات فی هذا الوقت حنین (3).
(ح) یطلق النحاة علی أسماء الإشارة وأسماء الموصول اسما خاصّا ؛ هو «المبهمات» ، لوقوعها علی کل شیء ؛ من حیوان ، أو نبات ، أو جماد ، وعدم دلالتها علی شیء معین ، مفصّل مستقل إلا بأمر خارج عن لفظها ؛ فالموصول لا یزول إبهامه إلا بالصلة ، نحو : رجع الذی غاب ، کما سیجیء (4). واسم. الإشارة لا یزول إبهامه إلا بما یصاحب لفظه من إشارة حسیة کما عرفنا. ولذلک یکثر بعده مجیء النعت ، أو البدل ، أو عطف البیان ؛ لإزالة إبهامه ، ومنع اللبس عنه ؛ تقول ؛ جاء هذا الفضل. جاء هذا الرجل (5).
ص: 305
الموصول قسمان : اسمی ، وحرفی. وسنبدأ بالأول (1).
تعریفه : نقدم له بالأمثلة الآتیة :
(ا) فرح الذی ... - سمعت الذی ... - أصغیت إلی الذی ...
(ب) فرح الذی (حضر والده) - سمعت الذی (صوته مرتفع) - أصغیت إلی الذی (فوق المنبر).
(ح) وقفت التی ... - احترمت التی ... - لم أشهد التی ...
(د) وقفت التی (تخطب) - احترمت التی (خطبتها رائعة) - لم أشهد التی (أمام المذیاع).
فی کل جملة من جمل القسم الأول : «ا» کلمة : «الذی» فما معناها؟ وما المراد منها؟ إنها اسم مسماه ومدلوله غیر واضح : فلا ندری أهو : سعد ، أم علی أم ، سمیر ، أم غیرهم من الرجال؟ ولا نعرف أهو حیوان آخر؟ أم نبات ، أم جماد؟ وما عسی أن یکون بین أفراد الحیوان ، أو النبات ، أو الجماد؟ إذا هو اسم غامض المعنی (2) ، مبهم (3) الدلالة. ولهذا الغموض والإبهام أثرهما فی غموض المعنی الکلیّ للجملة وإبهامه.
ص: 306
لکن حین أتینا بعد ذلک الاسم المبهم الغامض بجملة اسمیة ، أو فعلیة تشتمل علی ضمیر یعود علیه ، أو بشبه جملة (1) - رأینا المعنی قد اتضح ، وزال الغموض والإبهام عنه ، کما فی القسم الثانی «ب».
وکذلک الشأن فی قسم «ج» حیث اشتملت کل جملة فیه علی اسم غامض مبهم هو : «التی» ؛ وقد امتد الغموض منه إلی المعنی الکلی للجملة ؛ فجعله غامضا. لکن هذا العیب اختفی حین أتینا بعد الاسم : (التی) بجملة مشتملة علی ضمیر یعود علیه ، أو بشبه جملة ؛ فزال عنه الإبهام أولا ، وعن الجملة تبعا له ، کما فی القسم «د».
فکلمة «الذی» و «التی» وأشباههما تسمی : «اسم موصول». وهو : اسم مبهم یحتاج - دائما (2) - فی تعیین مدلوله ، وإیضاح الماد منه - إلی أحد شیئین بعده ؛ إما : جملة (3) وإما شبهها ، ولا بد فی الجملة من ضمیر یعود علیه ، أو ما یغنی عن الضمیر.
ألفاظ الموصول الاسمی :
ألفاظه قسمان : مختص ، وعام (ویسمی : مشترکا).
ص: 307
فالمختص : ما کان نصّا فی الدلالة علی بعض الأنواع دون بعض ، مقصورا علیها وحدها ، فلنوع المفرد المذکر ألفاظ خاصة به ، ولنوع المفردة المؤنثة ألفاظ خاصة بها ، وکذلک للمثنی بنوعیه ، وللجمع بنوعیه.
والعام أو المشترک : ما لیس نصّا فی الدلالة علی بعض هذه الأنواع دون بعض ، ولیس مقصورا علی بعضها ؛ وإنما یصلح للأنواع کلها.
وأشهر الألفاظ الخاصة ثمانیة ، موزعة علی الأنواع الآتیة :
اللفظ المختص
النوع الذی یستعمل فیه
1 - الذی (1) .....
ویختص بالمفرد المذکر ؛ سواء أکان عاقلا ، أم غیر
عاقل ؛ تقول : الذی کتب الرسالة منشئ - الذی یتلألأ فی السماء نجم.
وکلمة : «الذی» مبنیة علی السکون دائما فی کل
أحوالها. غیر أنها تکون فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب موقعها من
الجملة.
2 - التی (2) .....
وتختص بالمفردة المؤنثة ، عاقلة کانت أم غیر عاقلة
؛ تقول : التی رسمت الصورة بارعة - التی أنارت الکون شمس کبیرة.
وکلمة «التی» مبنیة علی السکون دائما فی کل أحوالها
؛ وتکون فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب موقعها من الجملة.
3 - اللّذان .....
واللّذین (3)
ویختص بالمثنی المذکر ؛ عاقلا أو غیر عاقل.
ففی حالة الرفع تحذف الیاء من الاسم المفرد وهو : «الذی»
ونجیء بعلامتی التثنیة (الألف والنون المکسورة). وفی حالة النصب والجر نحذف
الیاء أیضا من ذلک المفرد ، ونجیء بعلامتی التثنیة ؛ وهی : الیاء المفتوح ما
قبلها والنون المکسورة بعدها ؛ نحو : نجا اللذان استعدا.
ص: 308
اللفظ المختص
النوع الذی یستعمل فیه
عاونت اللّذین استعدا ، قصدت إلی اللّذین استعدا.
ونحو : العلم والمال هما اللذان یبنیان الأمم - إن اللّذین شاهدتهما صدیقان
کریمان - بادرت إلی اللّذین شاهدتهما.
والأحسن أن تکون «اللذان» و «اللتان» معربتان إعراب
المثنی ، وأن تکون نونهما مکسورة من غیر تشدید فی جمیع أحوالها (1) -
رفعا ونصبا ، وجرا
ص: 309
اللفظ المختص
النوع الذی یستعمل فیه
4 - اللتان - اللتین
ویختص بالمثنی المؤنث ؛ عاقلا : وغیر عاقل.
وینطبق علیه کل ما سبق فی : «اللذان» ؛ من حیث حذف
یاء المفرد ، وزیادة علامتی التثنیة وإعرابه إعراب المثنی ، ومن حیث تشدید النون
وعدم تشدیدها ؛ تقول ؛ اللتان تحسنان عملهما تفوزان - أعرف اللتین فازتا - أکبرت
شأن اللتین فازتا ...
5 - الألی (1) ، مقصورة او
: الألاء. ممددوة
للعقلاء من جمعی المذکر والمؤنث ، تقول : سرنی
الألی هاجروا فی طلب العلم ، أو الألاء .... وراقتنی «الألی» ، خدمن بلادهن
بإخلاص ... أو : الألاء. ومن أمثلتها لجمع المذکر قول الشاعر یمدح :
هم الألی وهبوا للمجد أنفسهم فما یبالون مالاقوا
إذا حمدوا ...
والألی بالقصر مبنیة علی السکون. أما الممدودة فمبنیة علی الکسر ، وکلاهما فی
محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب الجملة.
6 - الّذین (2)
للجمع المذکر العاقل ؛ تقول : الذین ینقادون للغضب
یلاقون شر العواقب.
وکلمة : «الذین» لا تتغیر حالتها رفعا ولا نصبا ولا
جرّا ؛ لأنها اسم مبنی علی الفتح دائما فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر علی حسب
موقعها من الجملة. وهذا الرأی وحده هو الأولی بالاتباع (3).
ص: 310
اللفظ المختص
النوع الذی یستعمل فیه
7 ، 8 - الّلات ، أو : الّلاتی.
والّلاء ، أو : اللائی
وتختص بجمع المؤنث للعاقلة وغیر العاقلة ، تقول :
الّلات سبقن فی المیدان العملی کثیرات ، ومنهن اللّاء اشتهرن بالاختراع ... أو
اللاتی أو : اللائی. وامتلأ البحر بالسفن اللات تشقه طولا وعرضا ، وهی محملة
بالبضائع المتنوعة اللاء تنتقل بین أطراف المعمورة ... أو اللاتی أو : اللائی (1).
(واللات واللاء مبنیتان علی الکسر. أما اللاتی
واللائی فمبنیتان علی السکون). وکلها فی محل رفع ، أو : نصب ، أو : جرّ ، علی
حسب موقعها من الجملة
وإلی هنا انته الکلام علی المشهور من الألفاظ المختصة الثمانیة. ویلاحظ أن کل واحد منها مبدوء «بأل» الزائدة لزوما ؛ فلا یمکن الاستغناء عنها (2) وأنها جمیعا مبنیة ما عدا ألفاظ التثنیة ؛ فیحسن إعرابها.
ص: 311
أما ألفاظ القسم العام (وهو المشترک) فأشهرها : ستة ، لا یقتصر واحد منها علی نوع مما سبق فی القسم الخاص ؛ وإنما یصلح لجمیع الأقسام من غیر أن تتغیر صیغته اللفظیة (1). فکل اسم من الموصولات المشترکة ثابت علی صورته ، لا یتغیر مهما تغیرت الأنواع التی یدل علیها ؛ لأنه مبنی ، وبناؤه علی السکون ، إلا لفظة : «أیّ» فإنها قد تبنی ، وقد تعرب ، - کما سیجیء فی ص 327 -
ولما کان کل اسم من هذه الأسماء المشترکة صالحا للأنواع المختلفة کان الذی یوضح مدلوله ویمیز نوع المدلول هو ما یجیء بعده من الضمیر ، أو غیره من القرائن التی تزیل أثر الاشتراک (2).
وإلیک الألفاظ الستة ، ونواحی استعمالها :
(ا) من (3) : أکثر استعمالها فی العقلاء ، نحو : خیر إخوانک من واساک ، وخیر منه من کفاک شرّه. وقول الشاعر :
ولا خیر فیمن لا یوطّن نفسه
علی نائبات الدهر حین تنوب
وتکون للمفرد بنوعیه ، والمثنی والجمع بنوعیهما : تقول : غاب من کتب ، ومن کتبت - ومن کتبا ، ومن کتبتا ، ومن کتبوا ، ومن کتبن.
وقد تستعمل فی غیر العقلاء فی الأحوال الآتیة :
(ا) إذا کان الکلام یدور فی شیء له أنواع متعددة ، مفصلة بکلمة :
ص: 312
«من» وفی تلک الأنواع العاقل وغیره ، مثل : الحیوانات کثیرة مختلفة ؛ فیها من ینطق بفصیح الکلام ؛ کالإنسان ، ومن یغرد بصوت عذب ؛ کالبلبل ، ومن یصیح بصوت منکر ؛ کالبومة ....
(ب) إذا وقع من غیر العاقل أمر (1) لا یکون إلا من العقلاء ، فعندئذ نشبهه بهم ، وننزله منزلتهم (2) فی استعمال : «من». کأن تسمع البلبل یشدو بلحن شجیّ واضح التنغیم ، فتقول : أطربنی «من» یغنی فی عشه بأطیب الأناشید. وکأن تری القمر یشرف علیک کإنسان ینظر إلیک : فتقول : إن من یطل علینا من برجه العالی بین الکواکب والنجوم یصغی إلی مناجاتی وهمسی ... وکالغریب الذی یقول للطیور المسافرة : هل فیکن من یحمل سلامی إلی أهلی وخلّانی ...
(ح) أن یکون مضمون الکلام متجها إلی شیء یشمل العاقل وغیره ، ولکنک تراعی أهمیة العاقل ؛ فتغلبه علی سواه. مثل : أیها الکون العجیب ، من فیک ینکر قدرة الله الحکیم؟
ص: 313
کلمة : «من» سواء أکانت موصولة أم غیر موصولة ؛ من الکلمات المفردة المذکرة من ناحیة لفظها ، ولکنها من ناحیة معناها قد تکون غیر ذلک. ومن هنا یصح أن یعود الضمیر علیها مفردا مذکرا (1) ، مراعاة للفظها - وهو الأکثر (2) -. ویجوز فیه مراعاة المعنی المراد وهو کثیر (3) ؛ فمن الأول قوله تعالی : (وَمِنْهُمْ مَنْ یُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا یُؤْمِنُ بِهِ)
ص: 314
ففاعل «یؤمن» مفرد مذکر ؛ مراعاة للفظ «من». ومن الثانی قوله تعالی : (وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیْکَ) وقول الفرزدق :
تعال ، فإن عاهدتنی لا تخوننی
نکن مثل من - یا ذئب - یصطحبان
فالفاعل فی الآیة واو الجماعة ، وفی البیت ألف الاثنین وکلاهما ضمیر عائد إلی «من» مراعاة لمعناها :
وقد اجتمع الأمران فی قوله تعالی : (بَلی مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، وَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ ، وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ.) فالضمائر فی الشطر الأول من الآیة مفردة مذکرة ؛ مراعاة للفظ : «من». بخلافها فی الشطر الثانی فإنها للجمع ؛ مراعاة لمعنی : «من» وقوله تعالی : (وَمَنْ یَقْنُتْ مِنْکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَیْنِ ...)
ففاعل الفعل : «یقنت» ؛ ضمیر مفرد ، مذکر ؛ مراعاة للفظ : «من» أما الضمائر بعده فللجمع المؤنث : أو للمفردة ؛ مراعاة لمعنی : «من».
ص: 315
2 - «ما» وأکثر استعمالها فی غیر العاقل (1) ، وتکون للمفرد بنوعیه ، والمثنی والجمع بنوعیهما (2) ؛ تقول : أعجبنی ما رسمه «علیّ» وما رسمته «فاطمة» - وما رسماه - وما رسمتاه - وما رسموه - وما رسمنه. وقد تکون للعاقل فی مواضع :
(ا) إذا اختلط العاقل بغیره ، وقصد تغلیب غیر العاقل لکثرته : نحو قوله تعالی : (یُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الْأَرْضِ) وقول الشاعر :
إذا لم أجد فی بلدة ما أریده
فعندی لأخری عزمة ورکاب
(ب) أن یلاحظ فی التعبیر أمران مقترنان ؛ هما : ذات العاقل ، وبعض صفاته ، معا ؛ نحو أکرم ما شئت من المجاهدین والأحرار. فکأنک تقول : أکرم من الرجال من کانت ذاته موصوفة بالجهاد ، أو بالحرّیة ؛ فأنت ترید أمرین مجتمعین : الذات ، ووصفا آخر معها ، ولا ترید أحدهما وحده. ومثل : صاحب ما ترید من الطلاب ؛ العالم ، والمخلص ، والصالح. ترید أن تقول : صاحب من کانت ذاته موصوفة بالعلم ؛ ومن کانت ذاته موصوفة بالإخلاص ، ومن کانت ذاته موصوفة بالصلاح. فالمقصود أمران : الذات ومعها شیء آخر من الأوصاف الطارئة علیها.
(ح) المبهم أمره ؛ کأن تری من بعد شبحا لا تدری أهو إنسان أم غیر إنسان ؛ فتقول : إنی لا أتبین ما أراه ، أو لا أدرک حقیقة ما أراه ... وکذلک لو علمت أنه إنسان ولکنک لا تدری أمؤنث هو أم مذکر؟ ومنه قوله تعالی علی لسان مریم : (إِنِّی نَذَرْتُ لَکَ ما فِی بَطْنِی مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّی ...)
ص: 316
(ا) تصلح (من) و (ما) للأمور الخمسة الآتیة :
1 - اسم موصول : مثل : قوله تعالی : (ما عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ ، وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ.)
وقول الشاعر :
إن شرّ الناس من یبسم لی
حین ألقاه ، وإن غبت شتم
2 - اسم استفهام ، مثل : من عندک؟ ما معک من المال؟
3 - اسم شرط ، مثل : من یعمل سوءا یجز به - وما تصنع من خیر تجد جزاءه خیرا.
4 - نکرة موصوفة ، مثل : رب من نصحته استفاد من نصحک (أی : ربّ إنسان نصحته استفاد ...) ورب من معجب بک ساعدک. ورب ما کرهته تحقق فیه نفعک (أی : رب شیء کرهته) وربّ ما مکروه أفاد (1) ... ومن هذا قول الشاعر :
الصّدق أرفع ما اعتزّ الرّجال به
وخیر ما عوّد ابنا فی الحیاة أب
والغالب : فی «من» إذا کانت نکرة موصوفة أن تصلح لأن یحل محلها کلمة : «إنسان» ، ولا بد أن یقع بعدها صفة ، فإن لم یقع بعدها صفة فهی نکرة غیر موصوفة ، وتسمی : تامة. وتکون أیضا - بمعنی : إنسان.
کما أن الغالب فی «ما» التی هی نکرة موصوفة أن تصلح لأن یحل محلها کلمة : «شیء» ولا بد أن یقع بعدها صفة لها. وإن لم یقع بعدها صفة فهی نکرة غیر موصوفة ، بمعنی : شیء ، أیضا ، وتسمی : تامة.
5 - نکرة تامة (أی : غیر موصوفة) - وهی التی سبقت الإشارة إلیها - مثل.
رب من زارنا الیوم. ربّ ما غرّد مساء. أی : ربّ إنسان زارنا ، ورب شیء غرّد. فالجملة الفعلیة - فی المثالین فی محل رفع ، خبر.
ص: 317
(ب) تختص «ما» دون «من» بمعان أخری ؛ منها السبعة الآتیة :
1 - التعجب ؛ مثل : ما أحسن الدین والدنیا إذا اجتمعا.
2 - النفی ؛ مثل : ما الخائن صدیق ، أو : صدیقا. وقول العرب : ما ذهب من مالک ما وعظک (1).
3 - أن تکون کافة ؛ وهی التی تدخل علی العامل فتکفّه (أی : تمنعه عن العمل ، وتترکه معطلا) کأن تدخل علی حرف جر ، أو علی ناسخ ، أو نحوهما ، فلا یعمل ؛ مثل : ربما رجل زارنا نفعناه - ربما یود المهمل لو کان سبّاقا. إنما الأمم الأخلاق. ویجب فی الکتابة وصل «رب» بکلمة : «ما» الکافة ؛ لأن الذی یفصل هو «ما» النکرة الموصوفة ؛ کما سبق.
4 - أن تکون زائدة (أی : یمکن حذفها فلا یتأثر المعنی) وتقع کثیرا بعد : «إذا» الشرطیة ؛ مثل : إذا ما المجد نادانا أجبنا ... أو بعد غیرها مثل : قوله تعالی : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقوله : «مما (2) خطیئاتهم أغرقوا ... 5 - مصدریة ظرفیة (أی : تسبک مع ما بعدها بظرف ومصدر معا کما سیجیء البیان آخر هذا الباب) (3) ، مثل : الصانع یربح ما أجاد صناعته. أی : مدة إجادته صناعته. وقول الشاعر یفتخر :
تری الناس ما سرنا یسیرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلی الناس وقّفوا
أی : مدة سیرنا.
6 - أن تکون مصدریة غیر ظرفیة (أی : تسبک مع ما بعدها بمصدر فقط کما سیجیء فی آخر الباب) (4). مثل : کوفئ المخلصون بما أخلصوا ، أی : بإخلاصهم. 7 - أن تکون مهیئّة. (وهی التی تدخل علی کلمة غیر شرطیة. فتهیئها وتعدها لمعنی الشرط وعمله) کدخول «ما» علی «حیث» ، فی مثل : حیثما تصدق تجد لک أنصارا.
8 - أن تکون مغیّرة ... (وهی التی تدخل علی أداة شرطیة ؛ فتغیرها إلی
ص: 318
غیر الشرط ، کدخول «ما» علی «لو» فی مثل : «لوما» تحافظ علی المیعاد. فقد تغیرت «لو» بسبب : «ما» ، وانتقلت هنا من الشرط إلی التحضیض.
9 - أن تقع صفة ، مثل : لأمر ما غاب القائد. فالمراد ؛ لأمر أیّ أمر. وهذه قد یعبر عنها : «بالإبهامیة». ویتفرع علی الإبهام إما الحقارة ؛ نحو : أعط فلانا شیئا ما. ترید شیئا تافها حقیرا ، وإما التفخیم ؛ نحو : لأمر ما ، هرب الحارس ، ترید لأمر عظیم هرب ... وإما النوعیة ؛ نحو : عاون علیّا معاونة ما. ترید : نوعا من المعاونة.
ویقول بعض المحققین من النحاة : إنها فی کل المواضع السابقة الخاصة بالصفة لیست صفة ؛ وإنما هی زائدة ؛ تفید التنبیه ؛ وتقویة المعنی ، ویری أن هذا أولی. وحجته : أنه لیس فی کلامهم نکرة جامدة وقعت نعتا إلا وبعدها کلمة تماثل الموصوف تماما ؛ نحو : مررت برجل أیّ رجل ، وأکلنا فاکهة أیّ فاکهة. فالحکم عندهم علی «ما» المذکورة بالاسمیة واقتضاء الوصفیة - حکم بما لا نظیر له ؛ فیجب اجتنابه ؛ کما یقولون.
وهذا الخلاف شکلی ، لا قیمة له. والرأیان سیان ، وما دامت تؤدی غرضا معینا. فلا أهمیة بعد ذلک لجعلها حرفا زائدا - وهو الأسهل - أو اسما یعرب صفة.
ص: 319
3 - ... «أل» وتکون للعاقل وغیره (1) ؛ مفردا وغیر مفرد ؛ نحو : جاءنی الکاتب ، أو : الکاتبة ؛ أو : الکاتبان ، أو الکاتبتان ، أو : الکاتبون ، أو : الکاتبات. ولا تکون موصولة إلا إذا دخلت علی صفة صریحة (2) ؛ فتکون
ص: 320
الصفة مع مرفوعها هنا من قسم شبه الجملة الواقع صلة ؛ کما مثل ، ونحو : إن العاقل الأریب (1) یحتال للأمر حتی یفوز به ، والعاجز الضعیف یتوانی ویتردد حتی یفلت منه.
هذا ، ومع أن «أل» اسم موصول ، وتعتبر کلمة مستقلة - فإن الإعراب لا یظهر علیها ؛ وإنما یظهر علی الصفة الصریحة المتصلة بها (2) ، التی تعرب مع مرفوعها صلة لها.
4 - «ذو» وتکون للعاقل وغیره ؛ مفردا وغیر مفرد (3) ؛ نحو : زارنی ذو تعلّم
ص: 321
وذو تعلمت. وذو تعلّما. وذو تعلمتا ، وذو تعلموا ، وذو تعلّمن (1). وهی مبنیة علی السکون المقدر علی الواو ، فی محل رفع ، أو نصب ، أو جرّ. علی حسب موقعها من جملتها
5 - «ذا». وتکون للعاقل وغیره. مفردا وغیر مفرد (2) ؛ نحو : ماذا رأیته؟ ماذا رأیتها؟ ماذا رأیتهما؟ ماذا رأیتهم؟. ماذا رأیتهن؟. ویصح وضع : «من» مکان : «ما» فی کل ما سبق ، ومنه قول الشاعر :
من ذا یعیرک عینه تبکی بها
أرأیت عینا للبکاء تعار؟
وقول الآخر (3) :
من ذا نواصل إن صرمت حبالنا
أو من نحدّث بعدک الأسرارا
فکلمة : «ما» أو : «من» اسم استفهام مبتدأ. مبنی علی السکون فی محل رفع. و «ذا» اسم موصول بمعنی : الذی - أو غیره - خبر ، مبنی علی السکون فی محل رفع. ولا تکون ذا موصولة إلا بثلاثة شروط :
أولها : أن تکون مسبوقة بکلمة : «ما» أو : کلمة : «من» الاستفهامیتین ؛ کما فی الأمثلة السابقة. فلا یصح : ذا رأیته ، ولا ذا قابلته ... ویغلب أن تکون للعاقل إذا وقعت : بعد «من» ولغیر العاقل إذا وقعت بعد : «ما».
ثانیها : أن تکون کلمة «من» أو «ما» مستقلة بلفظها وبمعناها - وهو الاستفهام غالبا (4) - ، وبإعرابها ؛ فلا ترکّب مع «ذا» ترکیبا یجعلهما معا کلمة واحدة فی إعرابها (وإن کانت ذات جزأین) وفی معناها أیضا - وهو الاستفهام غالبا (5) - کما فی نحو : ماذا السدیم؟ ماذا عطارد؟ من ذا الأول؟ من ذا النائم؟ فکلمة :
ص: 322
«ماذا» کلها - اسم استفهام ومثلها کلمة : «من ذا» (1).
وفی حالة الترکیب التی وصفناها تسمی : «ذا» ملغاة إلغاء حکمیا (2) لأن وجودها المستقل قد ألغی - أی : زال - بسبب الترکیب مع «ما» أو «من» الاستفهامیتین ، وصارت جزءا من کلمة استفهامیة بعد أن کانت وحدها کلمة مستقلة تعرب اسم موصول.
ثالثها : ألا تکون «ذا» اسم إشارة ، فلا تصلح أن تکون اسم موصول ؛ لعدم وجود صلة بعدها ، وذلک بسبب دخولها علی مفرد ؛ نحو : ماذا المعدن؟ ماذا الکتاب؟ من ذا الشاعر؟ من ذا الأسبق (3)؟
ترید : ما هذا المعدن؟ ما هذا الکتاب؟ من هذا الشاعر؟ من هذا الأسبق؟
ص: 323
(ا) عرفنا أن «ذا» قد ترکب مع «ما» أو «من» الاستفهامیتین ، فینشأ من الترکیب کلمة واحدة فی إعرابها - وإن کانت ذات جزأین - وفی معناها وهو الاستفهام غالبا ، مثل : ماذا الوادی الجدید؟ من ذا المنشئ لمدینة القاهرة؟ وتسمی «ذا» : الملغاة إلغاء حکمیّا ؛ لا حقیقیّا ؛ لأنها من حیث الحقیقة والواقع موجودة فعلا. ولکن من حیث اندماجها فی غیرها ، وعدم استقلالها بکیانها ، وبإعراب خاص بها - تعدّ غیر موجودة.
أما إلغاؤها الحقیقی فیکون باعتبارها کلمة مستقلة بنفسها ، زائدة ، یجوز حذفها وإبقاؤها. ویترتب علی تعیین نوع الإلغاء بعض أحکام ؛ منها :
أن کلمة : «ذا» فی الإلغاء الحقیقی لا یکون لها محل من الإعراب ، فلا تکون فاعلا ، ولا مفعولا ، ولا مبتدأ ، ولا غیر ذلک ؛ لأنها لا تتأثر بالعوامل ؛ ولا تؤثر فی غیرها - شأن الأسماء الزائدة عند من یجیز زیادتها ، وهم الکوفیون وتبعهم ابن مالک - بخلافها فی الإلغاء الحکمی ؛ فإنها تکون جزءا أخیرا من کلمة ، وهذه الکلمة کلها - بجزأیها - مبنیة علی السکون دائما فی محل رفع - أو نصب ، أو : جر ، علی حسب موقعها من الجملة ، (مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا ، ومفعولا ... إلخ). ومما تصلح فیه لنوعی الإلغاء قول الشاعر :
من ذا الّذی ما ساء ق
طّ ومن له الحسنی فقط
وفی الإلغاء الحقیقی یجب تقدیم «من» و «ما» الاستفهامیتین فی أول جملتهما حتما ، کالأمثلة السابقة ؛ لأن الاستفهام الأصیل له الصدارة فی جملته. بخلاف الإلغاء الحکمی ، فیجوز معه الأمران : إمّا تقدیم الاستفهام بکامل حروفه فی جزأیه علی عامله ، وإما تأخیره عنه ، فلا یکون للاستفهام وجوب الصدارة ؛ وفی هذه الصورة یعرب معمولا متأخرا لعامل متقدم علیه ؛ تقول : ماذا صنعت ، أو صنعت ما ذا؟ (1) ...
ص: 324
وفی الإلغاء الحقیقی تحذف ألف «ما» الاستفهامیة فی حالة الجر مثل : عمّ «ذا» سألت؟ تطبیقا للقاعدة المعروفة ؛ (وهی : حذف ألف «ما» الاستفهامیة عند جرها). بخلاف الإلغاء الحکمی لأن أداة الاستفهام فیه هی «ماذا» ولیست «ما».
(ب) لا یقتصر إلغاء «ذا» علی ترکیبها مع «ما» أو «من» الاستفهامیتین فذلک هو الغالب - کما قلنا (1) - ؛ فقد یقع الإلغاء بترکیبها مع «ما» أو «من» الموصولتین ، أو النکرتین الموصوفتین ؛ فتنشأ کلمة واحدة هی : «ماذا» أو : «من ذا» فنعربها اسم موصول ، أو نکرة موصوفة. فالأولی مثل قول الشاعر :
دعی ما ذا علمت سأتقیه
ولکن بالمغیّب خبّرینی
فماذا ، کلها اسم موصول مفعول «دعی». وصلته جملة : «علمت» لا محل لها. ویری «الفارسی» وأصحابه أن «ماذا» نکرة موصوفة. مفعول «دعی» ولیست موصولة : لأن «ماذا» کلمة واحدة ، ولکنها مرکبة من شطرین ؛ والترکیب کثیر فی أسماء الأجناس - ومنها النکرة الموصوفة - ، قلیل فی أسماء الموصول ، وتکون جملة : «علمت» فی محل نصب صفة النکرة. أی : دعی شیئا علمته.
مما تقدم نعلم أننا إذا أردنا إعراب مثل : «ماذا رأیته فی المعرض»؟ أو : «من ذا رأیته؟» جاز لنا أن نجعل «ماذا» و «من ذا» بشطریهما کلمة واحدة ، اسم استفهام مبتدأ. وأن نجعل «ما» أو «من» استفهام مبتدأ و «ذا» زائدة لا محل لها من الإعراب. ویجوز أن تکون «ذا» فی الحالتین السالفتیین اسم موصول بمعنی الذی ، خبر. ویجوز فی أمثلة أخری أن تکون «ماذا» و «من ذا» بشطریهما موصولتین أو نکرتین موصوفتیین علی حسب ما أوضحنا ... و... و...
ویظهر أثر الإلغاء وعدمه فی توابع الاستفهام ؛ کالبدل منه ؛ وفی الجواب عنه. ففی مثل : ماذا أکلت؟ أتفاحا أم برتقالا؟ بنصب کلمة ؛ «تفاح» یکون النصب دلیلا علی أن الإلغاء هنا حکمی (2) ؛ لأن «ماذا» مفعول مقدم «لأکلت». أما لو قلنا : ماذا أکلت؟ أتفاح أم برتقال؟ فإن کلمة «التفاح»
ص: 325
المرفوعة یصح أن تکون بدلا من «ذا» الواقعة خبرا عن کلمة : «ما» فلا یکون هنا إلغاء.
وکالمثال السابق فی صحة الرفع والنصب کلمّة : «نحب» فی قول الشاعر :
ألا تسألان المرء ما ذا یحاول؟
أنحب فیقضی ، أم ضلال وباطل؟
ومثله من ذا أکرمت؟ أمحمدا أم محمودا؟ ، بنصب الاسمین أو برفعهما علی الاعتبارین السالفین.
أما الجواب عن الاستفهام ففی مثل : ماذا کتبت فی الرسالة؟ فتجیب : خیرا ، أو : خیر. فالنصب علی البدلیة من «ماذا» التی هی مفعول به مقدم لکتبت ، ویکون فی الکلام إلغاء. والرفع علی البدلیة من کلمة «ذا» بمعنی «الذی» علی اعتبارها خبر «ما» فلا یکون فی الکلام إلغاء. ومنه قوله تعالی : (یَسْئَلُونَکَ : ما ذا یُنْفِقُونَ؟ قُلِ : الْعَفْوَ) - أی : الزیادة - بالنصب وبالرفع وقوله تعالی : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّکُمْ؟. قالُوا : خَیْراً ،) أو خیر.
(ح) فی نحو قوله تعالی : (مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضاعِفَهُ لَهُ ...) یصح فی کلمة : «ذا» الإلغاء الحقیقی أو الحکمی. وفی الحالتین تکون کلمة : «الذی» خبرا. ویصح أن تکون «ذا» اسم موصول بمعنی «الذی» خبر «من». وتکون کلمة : «الذی» الموجودة توکیدا لفظیّا لکلمة : «ذا» التی هی اسم موصول بمعناها.
«ملاحظة» : یصح فی بعض الصور التی سبقت (فی : ا وب وج) إعرابات أخری لا حاجة إلیها هنا.
ص: 326
6 - «أیّ» وتکون للعاقل وغیره. مفردا ، وغیر مفرد ؛ تقول ؛ یسرنی أیّ هو نافع. یسرنی أیّ هی نافعة. یسرنی أیّ هما نافعان. یسرنی أیّ هما نافعتان. یسرنی أیّ هم نافعون. یسرنی أیّ هن نافعات.
وتختلف «أیّ» فی أمر البناء والإعراب ؛ عن باقی أخواتها من الموصولات المشترکة ، فأخواتها جمیعا مبنیة ، أما هی فتبنی فی حالة واحدة ، وتعرب فی غیرها. فتبنی إذا أضیفت (1) وکانت صلتها جملة اسمیة ، (2) صدرها - وهو المبتدأ - ضمیر محذوف ؛ نحو : یعجبنی أیّهم مغامر. سأعرف أیّهم مغامر. سأتحدث عن أیّهم مغامر. والأصل : أیهم هو مغامر. فإن لم یتحقق شرط من شروط بنائها وجب إعرابها. ولهذا تعرب فی الحالات الآتیة.
(ا) إذا کانت مضافة ، وصلتها جملة اسمیة ، بشرط أن یکون صدر هذه الجملة (وهو ؛ المبتدأ) ضمیرا (3) مذکورا ؛ نحو : سیزورنی أیّهم (هو أشجع) - سأصافح أیّهم (هو أشجع) - وسأقبل علی أیّهم (هو أشجع).
(ب) إذا کانت غیر مضافة وصلتها جملة اسمیة ذکر فی الکلام صدرها الضمیر ، مثل : سیفوز أیّ (هو مخلص) - سنکرم أیّا (هو مخلص) - سنحتفی بأیّ (هو مخلص).
(ح) إذا کانت غیر مضافة ، وصلتها جملة اسمیة لم یذکر صدرها الضمیر ؛ نحو : سیسبق أیّ خبیر ، وسوف نذکر بالخیر أیّا محسن ، ونعنی بأیّ بارع (4).
ص: 327
(د) وتعرب أیضا إن کان صدر صلتها اسما ظاهرا ؛ نحو : تزور أیّهم (محمد مکرمه). أو : فعلا ظاهرا ، نحو : سوف أثنی علی أیّهم یتسامی بنفسه ، أو فعلا مقدرا ، نحو : سأغضب علی أیّهم عندک (1).
ص: 328
یسوقنا الکلام علی «أیّ» إلی سرد أنواعها المختلفة (1). وهی ستة - کلها معربة إلا «أیّ» التی تکون وصلة للنداء ، وإلا واحدة من حالات «أیّ» الموصولة ، وقد سبقت.
1 - موصولة. والمستحسن أن یکون عاملها مستقبلا ، ومتقدما علیها. ویجب أن تضاف لفظا ومعنی ، معا ، أو معنی فقط - بأن یحذف المضاف إلیه بقرینة ، طبقا للبیان الذی فی باب الإضافة (2) - ، وأن تعرب أو تبنی ، علی حسب ما شرحنا. وإذا أضیفت فإضافتها إلی المعرفة أقوی وأفضل. ویحسن الاقتصار علی هذا الرأی. وتجب مراعاة لفظها فی الضمیر العائد إلیها ، وفی کل ما یتعلق بالمطابقة.
2 - أن تکون اسم شرط معربة ؛ فتضاف إما للنکرة مطلقا (3) ؛ نحو : أیّ حکیم تصادق أصادق ، وأیّ رفاق تصاحب أصاحب .... وإما لمعرفة بشرط أن تکون المعرفة دالة علی متعدّد صراحة أو تقدیرا أو عطفا بالواو (4) ؛ فمثال التّعدد الصریح : أیّ الأشراف تسایر أسایر. ومثال التعدد المقدّر - وهو الذی یلحظ فیه ما یکون فی الفرد الواحد من أجزاء متعددة (5) ، مثل : أیّ محمد تستحسن أستحسن. ترید : أیّ أجزاء محمد تستحسن أستحسن. ومثل التعدد بالعطف بالواو : أیی وأیک یتکلم یحسن الکلام ، بمعنی : أینّا ...
وإضافتها واجبة لفظا ومعنی معا ، أو معنی فقط ، لحذف المضاف إلیه بقرینة - طبقا لما سیجیء فی باب الإضافة (6).
3 - أن تکون اسم استفهام ، معربة ، فتضاف إما للنکرة مطلقا (7) ؛ نحو : أیّ کتاب تقرؤه؟ وأیّ صحف تفضلها؟ ... وإما لمعرفة بشرط أن تکون المعرفة دالة علی متعدد صریح ، أو مقدر ، أو عطفا علیها بالواو معرفة مفردة (8) ؛ نحو : أیّ
ص: 329
الرجال أحق بالتکریم؟ ونحو : أیّ علیّ أجمل؟ ترید : أیّ أجزاء علیّ أجمل؟ ونحو : أبی وأیک فارس الأحزاب؟.
وإضافة «أیّ» الاستفهامیة واجبة لفظا ومعنی معا ، أو معنی فقط ؛ بحذف المضاف إلیه ؛ لقرینة ، کما سیجیء فی ج 3 - باب الإضافة.
4 - أن تکون اسما معربا ، نعتا یدل علی بلوغ المنعوت الغایة الکبری فی مدح أو ذم ، ویشترط أن یکون المنعوت نکرة - فی الغالب (1) - وأن تکون «أیّ» مضافة لفظا ومعنی إلی نکرة مذکورة بعدها ، مشارکة للمنعوت فی لفظه ومعناه ، نحو : استمعت إلی عالم أیّ عالم. فإذا أضیفت إلی نکرة وکانت هذه النکرة اسما مشتقّا کان المدح المقصود أو الذم هو المعنی المفهوم من المشتق ؛ أی : المعنی المجرد الذی یدل علیه هذا المشتق ؛ فإذا قلنا : رأینا فارسا ، أیّ فارس ... فالمعنی المقصود من المدح ، هو : «الفروسیة» المفهومة من المشتق (فارس) وإذا قلنا : احترسنا من خائن أیّ خائن ... فالمعنی المراد من الذم هو «الخیانة» المفهومة من المشتق (خائن). أما إذا أضیفت إلی نکرة غیر مشتقة فإن المدح أو الذم یشمل جمیع الأوصاف التی یصح أن توصف بها هذه النکرة ؛ فمن یقول لآخر : إنی مسرور بک ؛ فقد رأیتک رجلا أیّ رجل ، ... فکأنما یقول : رأیتک رجلا جمع کل الصفات التی یمدح بها الرجل. ومن یقول عن امرأة أساءت إلیه : إنها امأة أیّ امرأة .. فإنما یقصد أنها جمعت کل الصفات التی تذم بها المرأة.
والأغلب فی النکرة التی هی المضاف ، والتی لیست مصدرا - لأن المصدر قد یحذف وتنوب عنه صفته - أن تکون مذکورة فی الکلام ، ومن الشاذ الذی لا یقاس علیه ورود السماع بحذفها فی قول القائل : إذا حارب الحجاج أیّ منافق ... یرید : منافقا أیّ منافق.
ص: 330
ویقول النحاة : «إن هذا فی غایة الندور» (1) فلا یصح محاکاته ، ثم یزیدون التعلیل : أن الغرض من الوصف «بأیّ» هو المبالغة فی المدح أو الذم ، والحذف مناف لهذا فمن المحتم عندهم ذکر الموصوف ، الذی لیس بمصدر ، وإضافتها لفظا ومعنی معا.
5 - أن تکون حالا بعد المعرفة ، دالة علی بلوغ صاحبها الغایة الکبری فی مدح أو ذم. ویشترط أن تکون مضافة لنکرة مذکورة بعدها ؛ نحو : أصغیت إلی علیّ أیّ خطیب ، فلا بد من إضافتها لفظا ومعنی معا.
6 - أن تکون وصلة لنداء ما فیه «أل» ، نحو : یأیها الإنسان ما غرّک بربک الکریم. وهذه مبنیة قطعا.
* * *
ولکل نوع من الأنواع السابقة أحکام هامة - لفظیة ومعنویة - مفصلة فی الأبواب الخاصة به ، ولا سیما بابی «الإضافة والنداء» غیر أن الذی عرضناه الآن للمناسبة العابرة هو أحکام موجزة ، عرفنا منها : أن «أیّا» الشرطیة والاستفهامیة یضافان إلی النکرة تارة کما یضافان إلی المعرفة تارة أخری. ولکن بشرط.
کما عرفنا أن کلمة : «أی» الواقعة نعتا ، أو حالا تضاف للنکرة دون المعرفة فی الأغلب (2) نحو : فرحت برسالة أیّ رسالة. انتصر محمود أیّ قائد. وأما التی هی وصلة لنداء ما فیه «أل» فلا تضاف مطلقا ، وهی مبنیة. وکذلک «أی» الموصولة فإنها مبنیة فی إحدی حالاتها التی أوضحناها. أما بقیة أنواع «أی» ؛ من شرطیة ، واستفهامیة ، ... و... فمعربة.
ولما کانت «أی» الشرطیة والاستفهامیة تضاف للنکرة حینا وللمعرفة حینا آخر علی الوجه السالف - کانت عند إضافتها للنکرة بمنزلة کلمة : «کل» المراد منها المضاف إلیه کاملا ؛ فیراعی فیما یحتاج معها للمطابقة - کالخبر ، والضمیر ... عود الضمیر علیها مراعاة المعنی - غالبا - فیطابق المضاف إلیه ، تذکیرا ، وتأنیثا ؛ وإفرادا ، وتثنیة ، وجمعا ؛ تقول ؛ أی غلام حضر؟ أی غلامین
ص: 331
حضرا؟ أی غلمان حضروا؟ أی فتاة سافرت؟ أی فتاتین سافرتا؟ أی فتیات سافرن؟
أما عند إضافتها إلی معرفة فتکون بمنزلة کلمة : «بعض» ، المراد منها بعض أجزاء المضاف إلیه ؛ فیراعی فی عود الضمیر علیها وفی کل ما یحتاج للمطابقة معها أن یکون مطابقا للفظ المضاف ، وهو : «أی» فیکون مفردا ، مذکرا کلفظها. وهذا هو الغالب : فنقول : أی الغلامین حضر؟ ... أی الغلمان حضر؟ وهکذا الباقی (1). کما تقول ذلک عند الإتیان بلفظ : «کل وبعض» ...
ویری بعض النحاة أنه لا مانع فیهما من مراعاة اللفظ أو مراعاة المعنی ، فیجوز عنده الأمران. وفی هذا تیسیر محمود لا یمنع من الأخذ به مانع ، فنستریح من التقسیم وآثاره إلا أن الأول أفصح وأقوی.
ص: 332
وإلی هنا انته الکلام علی الألفاظ الستة العامة (أی : المشترکة).
ویتلخص کل ما سبق من الألفاظ المختصة والمشترکة فی الجدول الآتی :
* * *
اللفظ المختص
النوع الذی یصلح له
حکمه من ناحیة الاعراب والبناء
1 – الذی ....
المفرد المذکر مطلقا (أی : عاقلا ، وغیر عاقل)
مبنی علی السکون فی محل ...
علی حسب جملته.
2 – الذی ....
المفردة المؤنثة ، مطلقا
مبنی علی السکون فی محل ...
علی حسب جملته
3 – اللذان - الذین
المثنی المذکر ، مطلقا
الأحسن أن یعرب إعراب المثنی
4 – اللتان – اللتین
المثنی المؤنث مطلقا
الأحسان أن یعرب اعراب المثنی
5 – الألتی أو : الألاء
الجمع المذکر والمؤنث مطلقا
مبنی علی السکون فی محل ...
علی حسب جملته
6 – الذین
الجمع المذکر العاقل
مبنی علی الفتح فی محل ...
علی حسب جملته.
7 – اللات ، اللاتی واللأء – اللأئی
الجمع المؤنث بنوعیه
اللات. واللاء مبنیتان علی الکسر فی محل ... علی
حسب الجملة.
واللاتی وللأئی مبنیتان علی السکون فی محل ... علی
حسب الجملة.
فللمفرد المذکر لفظة واحدة ، وکذلک لمثناه ، وکذلک جمعه ، فالمجموع ثلاثة ألفاظ.
وللمفردة المؤنثة لفظة واحدة ، وکذلک مثناها. أما جمعها فله لفظتان مختومتان بالیاء ، أو غیر مختومتین. فهذه أربعة.
وللجمع بنوعیه لفظة واحدة ، تستعمل مقصورة أو ممدودة. فمجموع الألفاظ کلها ثمانیة.
ص: 333
، (أی : المشترکة)اللفظ العام
النوع الذی یصلح له
حکمه من ناحیة الاعراب والبناء
1 – من ....
أکثر استعماله فی العقلاء أفرادا ، وتثنیة ، وجمعا وقد
یستعمل فی غیرهم أیانا
مبنی علی السکون فی محل ... علی حسب الجملة.
2 – ما ....
أکثر استعماله فی غیر العقلاء إفرادا ، وتثنیة ،
وجمعاً. وقد یستعمل فی غیرهم
مبنی علی السکون فی محل ... علی حسب الجملة.
3 – أل (1) ....
یستعمل فی جمیع الأنواع ، ویشترط فی صلته أن تکون
صفة صریحة : (اسم فاعل أو : اسم مفعول فقط) (2)
مبنی علی السکون. ولکن یحسن إعرابه ، وألا یظهر
الإعراب علیه ، وانما یکون علی الصفة الصریحة المتصلة به. باعتبارها بمنزلة کلمة
واحدة – کما شرحنا – (3)
4 – ذو ....
یستعمل فی جمیع الأنواع
مبنی علی السکون فی محل ... علی حسب الجملة.
5 – ذا ....
یستعمل فی جمیع الأنواع بثلاثة شروط
مبنی علی السکون فی محل علی حسب الجملة.
6 – أیّ ....
یستعمل فی جمیع الأنواع
مبنی علی الضم فی حالة واحدة ویعرب فی غیرها.
ص: 334
(ا) جمیع الأسماء الموصولة المختصة مبنیة ، إلا اسمین للمثنی ؛ هما : «اللذان» «واللتان». وما عدا هذین الاسمین یلاحظ فی إعرابه موقعه من الجملة ، أفاعل هو ، أم مفعول به ... ، أم مبتدأ ، أم خبر ... أم غیر ذلک؟ فإذا عرفنا موقعه ، وحاجة الجملة إلیه - نظرنا بعد ذلک إلی آخره ؛ أساکن هو أم متحرک؟ فإذا اهتدینا إلی الأمرین ؛ (موقعه من الجملة ، وحالة آخره) قلنا فی إعرابه : اسم موصول مبنی علی السکون ، أو علی حرکة کذا ، فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب الجملة ؛ «فالذی» مبنیة علی السکون دائما ، ولکنها فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر علی حسب موقعها من الجملة ؛ ففی مثل : سافر الذی یرغب فی السیاحة ، مبنیة علی السکون فی محل رفع ، لأنها فاعل. وفی مثل : ودعت الذی سافر - مبنیة علی السکون فی محل نصب ؛ لأنها مفعول به. وفی مثل : أشرت علی الذی سافر بما ینفعه - مبنیة علی السکون فی محل جر بعلی.
ومثل هذا یقال فی باقی الأسماء الموصولة المختصة ؛ سواء منها ما کان مبنیّا علی السکون أیضا ؛ وهو : «التی» ، و «أولی» مقصورة ، واللاتی ، واللائی. أو مبنیّا علی الکسر ؛ وهو : «أولاء» ، و «اللات» و «اللاء «. أو مبنیّا علی الفتح وهو : «الذین (1)».
أما الاسمان الخاصّان بالتثنیة ؛ وهما : «اللّذان» و «اللّتان» ، رفعا. و «اللّذین» و «اللّتین» ، نصبا وجرا ، فالأحسن - کما سبق - أن یکونا معربین کالمثنی ؛ فیرفعان بالألف ، وینصبان ویجران بالیاء.
(ب) وجمیع الأسماء الموصولة العامة (أی : المشترکة) مبنیة کذلک ؛ إلا (أیّ) ؛ فإنها تکون مبنیة فی حالة ، وتکون معربة فی غیرها ، علی حسب ما أوضحنا. والأساس الذی نتبعه فی الموصولات العامة هو الأساس الذی بیناه فی الموصولات المختصة ؛ بأن ننظر أوّلا إلی موقع اسم الموصول المشترک من جملته ؛ أمبتدأ هو ، أم خبر ، أم فاعل ، أم مفعول ... أو ...؟ فإذا عرفنا موقعه
ص: 335
نظرنا إلی آخره ؛ أساکن هو أم متحرک؟ فإذا أدرکنا الأمرین قلنا عنه : إنه مبنی علی السکون أو علی حرکة «کذا» فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر. لأنه مبتدأ ، أو خبر ، أو فاعل ، أو مفعول به ، أو مضاف إلیه ... أو ... أو ...
فکلمة «من» مبنیة علی السکون دائما ، ولکن فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، ففهی فی مثل ، قعد «من» حضر - مبنیة علی السکون فی محل رفع ؛ لأنها فاعل. وهی فی مثل : آنست «من» حضر - مبنیة علی السکون فی محل نصب ؛ لأنها مفعول به. وهی فی مثل : سعدت «بمن» حضر - مبنیة علی السکون فی محل جر ؛ لأنها مجرورة بالیاء.
وهکذا یقال فی : «ما» و : «ذو» وفی : «ذا» الواقعة بعد «ما» أو «من» الاستفهامیتین (1).
أما «أل» الموصولة (2) فالأحسن ألا نطبق علیها الأساس السابق ؛ فلا ندخل فی اعتبارنا أنها مبنیة ، ولا ننظر إلی آخرها ؛ وهو اللام - وإنما ننظر معها إلی الصفة الصریحة التی بعدها ، ونجری علی الصفة وحدها حرکات الإعراب ؛ ففی مثل : إن الناصح الأمین خیر معوان فی ساعات الشدة ، یلجأ إلیه المکروب فینقذه بصائب رأیه - نقول : «الناصح» اسم إن منصوب ، «الأمین» صفة منصوبة. «المکروب» فاعل مرفوع (3).
ص: 336
الموصولات کلها - سواء أکانت اسمیة أم حرفیة - مبهمة (1) المدلول ، غامضة ، المعنی ، کما عرفنا. فلا بد لها من شیء یزیل إبهامها وغموضها ، وهو ما یسمی : «الصلة». فالصلة هی التی تعین مدلول الموصول ، وتفصّل مجمله ، وتجعله واضح المعنی ، کامل الإفادة. ومن أجل هذا کله لا یستغنی عنها موصول اسمی ، أو حرفی. وهی التی تعرّف الموصول الاسمی. - فی الصحیح -
الصلة نوعان : جملة (اسمیة أو : فعلیة) وشبه جملة. والجملة هی الأصل (2).
فأما النوع الأول - وهو الجملة بقسمیها - فمن أمثلتها قول الشاعر یصف إساءة أحد أقاربه :
ویسعی إذا أبنی لیهدم صالحی
ولیس الذی یبنی کمن شأنه الهدم
ولا یتحقق الغرض منها إلا بشروط ، أهمها :
1 - أن تکون خبریة (3) لفظا ومعنی ، ولیست للتعجب ؛ نحو ؛ اقرأ الکتاب
ص: 337
الذی «یفیدک». بخلاف : اقرأ الکتاب الذی «حافظ علیه» لأن جملة ؛ «حافظ علیه» ، إنشائیة ، ولیست خبریة. وبخلاف : مات الذی «غفر الله له» لأن جملة : «غفر الله له» خبریة فی اللفظ دون المعنی ؛ إذ معناها طلب الدعاء للمیت بالغفران ؛ وطلب الدعاء إنشاء ، لا خبر. وبخلاف : هنا الذی «ما أفضله» ؛ لأن الجملة التعجبیة إنشائیة - فی رأی کثیر من النحاة - برغم أنها کانت خبریة قبل استعمالها فی التعجب. ویلحق بالخبریة - هنا - الإنشائیة التی فعلها : «عسی».
وقد یصح فی : «أن» - وهی من الموصولات الحرفیة - وقوع صلتها جملة طلبیة : نحو : کتبت لأخی بأن داوم. علی أداء واجبک. وهذا مقصور علی «أن» (1) دون غیرها من الموصولات الاسمیة والحرفیة.
2 - أن یکون معناها معهودا مفصلا للمخاطب (2) ، أو بمنزلة المعهود المفصّل.
ص: 338
فالأولی مثل : أکرمت الذی قابلک صباحا ؛ إذا کان بینک وبین المخاطب عهد فی شخص معین. ولا یصح غاب الذی تکلم ، إذا لم تقصد شخصا معینا عند السامع.
والثانیة : هی الواقعة فی معرض التفخیم ، أو معرض التهویل ؛ مثل : یا له من قائد انتصر بعد أن أبدی من الشجاعة ما أبدی!! ویا لها من معرکة قتل فیها من الأعداء من قتل!!. أی : أبدی من الشجاعة الشیء الکثیر المحمود. وقتل فی المعرکة الکثیر الذی لا یکاد یعد. ومثل هذا قوله تعالی : (فَأَوْحی إِلی عَبْدِهِ ما أَوْحی.) أی : الکثیر من العلم والحکمة ... وقوله تعالی : (فَغَشِیَهُمْ مِنَ الْیَمِّ ما غَشِیَهُمْ.) أی ؛ الهول الکثیر ، والبلاء العظیم.
والمعول علیه فی ذلک کله هو الغرض من الموصول ؛ فإن کان الغرض منه أمرا معهودا للمخاطب جاءت صلته معهودة مفصلة. وإن أرید به التعظیم أو التهویل جاءت مبهمة بمنزلة المفصلة.
3 - أن تکون مشتملة علی ضمیر یعود علی اسم الموصول - غالبا (1) - ویطابقه ؛ إما فی اللفظ (2) والمعنی معا. وإما فی أحدهما فقط علی التفصیل الذی سنعرفه. وهذا الضمیر یسمی : «العائد ، أو : الرابط» لأنه یعود - غالبا - علی الموصول ، ویربطه بالصلة. ولا یکون إلا فی الموصولات الاسمیة دون الحرفیة (3) ، ویجب أن تکون مطابقته تامة ؛ بأن یوافق لفظ الموصول ومعناه. وهذا حین یکون الموصول اسما مختصّا ؛ فیطابقه الضمیر فی الإفراد ، والتأنیث ، وفروعهما ؛ نحو : سعد الذی أخلص ، واللذان أخلصا ، والذین أخلصوا. والتی أخلصت ، واللتان أخلصتا ، واللاتی أخلصن. ومن هذا قول الشاعر :
أمنزلتی منیّ. سلام علیکما
هل الأزمن اللّاتی مضین رواجع
أما إن کان الاسم الموصول عامّا (أی : مشترکا) فلا یحب فی الضمیر
ص: 339
مطابقته مطابقة تامة : لأن اسم الموصول العام : لفظه مفرد مذکر دائما ، کما أسلفنا (مثل : من - ما - ذو ...) ولکن معناه قد یکون مقصودا به. المفردة ، أو المثنی ، أو الجمع. بنوعیهما ، ولهذا یجوز فی العائد (أی : الرابط). عند أمن اللبس ، وفی «غیر أل» : مراعاة اللفظ ، وهو الأکثر ، ومراعاة المعنی وهو کثیر (1) أیضا - بالتفصیل الذی عرفناه - تقول شقی من أسرف ... فیکون الضمیر مفردا مذکرا فی الحالات کلها ؛ مراعاة للفظ «من» ، ولو کان المراد المفردة ، أو المثنی ، أو الجمع بنوعیهما. وإن شئت راعیت المعنی ، فأتیت بالرابط مطابقا له ؛ فقلت : من أسرفت. من أسرفتا - من أسرفوا - من أسرفن. فالمطابقة فی اللفظ أو فی المعنی جائزة فی العائد علی اسم الموصول المشترک. إلا إن کان اسم الموصول المشترک «أل» فتجب المطابقة فی المعنی وحده ؛ لخفاء موصولیتها بغیر المطابقة - کما سبق عند الکلام علیها.
وقد یغنی (2) عن الضمیر فی الربط اسم ظاهر یحل مکان ذلک الضمیر ، ویکون بمعنی الموصول ؛ نحو : اشکر علیّا الذی نفعک علم علیّ ، أی : علمه. ونحو قول الشاعر العربی :
فیا ربّ لیلی أنت فی کلّ موطن
وأنت الّذی فی رحمة الله أطمع
أی : فی رحمته أطمع (3).
ص: 340
(ا) هناک شروط أخری فی جملة الصلة ؛ أهمها :
1 - أن تتأخر وجوبا عن الموصول (1) ؛ فلا یجوز تقدیمها ، ولا تقدیم شیء منها علیه.
2 - أن تقع بعد الموصول مباشرة ؛ فلا یفصل بینهما فاصل أجنبی ؛ (أی : لیس من جملة الصلة نفسها). وألا یفصل بین أجزاء الصلة فاصل أجنبی أیضا ؛ ففی مثل : اقرأ الکتاب الذی یفیدک فی عملک ، وأرشد إلیه غیرک ... ، لا یصح اقرأ الکتاب الذی - غیرک - یفیدک فی عملک ، وأرشد إلیه ، لوجود فاصل أجنبی بین الموصول وصلته ، وهو کلمة : «غیر» التی هی من جملة أخری غیر جملة الصلة. ولا یصح اقرأ الکتاب الذی یفیدک - غیرک - فی عملک ، وأرشد إلیه ، لوجود فاصل أجنبی لم یفصل بین الموصول وصلته ؛ وإنما تخلل جملة الصلة ، وفصل بین أجزائها مع أنه لیس منها ... وهکذا.
لکن هناک أشیاء یجوز الفصل بها بین الموصولات الاسمیة وصلتها إلا «أل» فلا یجوز الفصل بینها وبین صلتها مطلقا. وکذلک یجوز الفصل بها بین الموصول الحرفی «ما» وصلته - فی رأی قویّ - دون غیره من باقی الموصولات الحرفیة.
فأما الأشیاء التی یجوز أن تفصل بین هذه الأنواع من الموصولات وصلتها فهی : جملة القسم ؛ نحو غاب الذی «والله» قهر الأعداء (2). أو جملة النداء بشرط أن یسبقها ضمیر المخاطب ؛ نحو : أنت الذی - یا حامد - تتعهد الحدیقة ، أو بالجملة المعترضة ؛ نحو : والدی الذی - أطال الله عمره - یرعی شئونی ، أو بجملة الحال ، نحو : قدم الذی - وهو مبتسم - یحسن الصنیع.
وکذلک یجوز تقدیم بعض أجزاء الصلة الواحدة علی بعض بحیث یفصل المتقدم بین الموصول وصلته ، أو بین أجزاء الصلة ، إلا المفعول به ؛ فلا یصح تقدیمه علی عامله إن کان الموصول حرفیا غیر : «ما» (3) تقول : تفتح الورد الذی - العیون - یسرّ
ص: 341
ببهائه. أو تفتح الورد الذی - ببهائه - یسرّ العیون. ترید فیهما : تفتح الورد الذی یسر العیون ببهائه.
والفصل بتلک الأشیاء علی الوجه الذی شرحناه - جائز فی الموصولات الاسمیة إلا «أل» ، غیر جائز فی الموصولات الحرفیة (1) إلا «ما» ؛ کما قلنا ؛ فیصح أن تقول : فرحت بما الکتابة أحسنت ، أی : بما أحسنت الکتابة. (بإحسانک الکتابة).
ولما کان الفصل بین الموصول وصلته غیر جائز إلا علی الوجه السالف امتنع مجیء تابع للموصول قبل مجیء صلته ؛ فلا یکون له قبلها نعت ، ولا عطف بیان ، أو نسق ولا توکید ، ولا بدل ، وکذلک لا یخبر عنه قبل مجیء الصلة وإتمامها. لأن الخبر أجنبی عن الصلة ، وکذلک لا یستثنی من الموصول ؛ فلا یصح : (رجع الذی - غیر الضار - ینفع الناس) ؛ ولا یصح : (یحترم العقلاء الذی محمدا - یفید غیره) ، ولا : (نظرت إلی الذی - والحصن - سکنته) ، ولا : (رأیت التی - نفسها فی الحقل) ، ولا : (جاء الذین - الذی فاز - فازوا). ولا : (الذی سباح ماهر - عبر النیل) ولا : (وقف الذین - إلا محمودا - فی الغرفة) ترید : رجع الذی ینفع الناس غیر الضار. ویحترم العقلاء الذی (أی : محمدا) یفید غیره. ونظرت إلی الذی سکنته والحصن ، ورأیت التی فی الحقل نفسها. وجاء الذی فاز. والذی عبر النیل سباح ماهر - ووقف الذین فی الغرفة إلا محمودا.
ویفهم من الشرط السابق شیء آخر. هو : أنه لا یجوز تقدم الصلة ولا شیء من مکملاتها علی الموصول ، وهذا صحیح ، إلا أن یکون المکمل ظرفا ،
ص: 342
أو جارّا مع مجروره - فیجوز التقدیم عند أمن اللبس (1) نحو : أمامنا الذی قرأته رسالة کریمة. أی : الذی قرأته أمامنا رسالة کریمة. ومثل : الغزالة هی - فی حدیقتک - التی دخلت. أی : الغزالة هی التی دخلت فی حدیقتک.
3 - ألا تستدعی کلاما قبلها ؛ فلا یصح : کتب الذی لکنه غائب ، ولا : تصدّق الذی حتی ما له قلیل ؛ إذ «لکن» لا یتحقق الغرض منها (وهو : الاستدراک) إلا بکلام مفید سابق علیها ، وکذلک : «حتی» لا بد أن یتقدمها کلام مفید تکون غایة له.
4 - ألا تکون معلومة لکل فرد ؛ فلا یصح شاهدت الذی فمه فی وجهه ، ولا حضر من رأسه فوق عنقه (2).
(ب) إذا کان اسم الموصول خبرا عن مبتدأ ، هو ضمیر متکلم أو مخاطب ، جاز أن یراعی فی الضمیر الرابط مطابقته للمبتدأ فی التّکلم أو الخطاب ، وجاز مطابقته لاسم الموصول فی الغیبة ؛ تقول : أنا الذی حضرت ، أو : أنا الذی حضر. وأنت الذی برعت فی الفن ، أو : أنت الذی برع فی الفن ؛ فالتاء فی الصورة الأولی یراد بها المبتدأ : (أنا) ولا تعود علی اسم الموصول. وهو فی هذه الحالة یعرب خبرا ؛ ولا یحتاج لرابط یعود علیه من الصلة ؛ اکتفاء واستغناء بالتاء المراد بها المبتدأ ؛ فیکون المبتدأ والخبر هنا کالشیء الواحد. أما فی الصورة الثانیة فالضمیر فی الصلة للغائب فیعود علی اسم الموصول. ومثل ذلک یقال فی
ص: 343
الحالتین اللتین وقع فیهما المبتدأ ضمیر المخاطب ، وخبره اسم موصول. کما یقال أیضا فی حالة ثالثة ؛ هی : أن یکون المبتدأ ضمیر متکلم أو مخاطب ، وله خبر موصوف باسم موصول ؛ فیجوز فی الرابط أن یکون للتکلّم أو للخطاب ؛ مراعاة للمبتدأ ، ویجوز فیه أن یکون للغیبة ؛ مراعاة لاسم الموصول. تقول : أنا الرجل الذی عاونت الضعیف ، أو أنا الرجل الذی عاون الضعیف - وأنت الرجل الذی سبقت فی میدان الفنون ، أو : أنت الرجل الذی سبق فی میدان الفنون (1).
وإنما یجوز الأمران فی الحالات السابقة ونظائرها بشرطین :
أولهما : ألا یکون المبتدأ الضمیر مشبها بالخبر فی تلک الأمثلة ؛ فإن کان مشبّها بالخبر لم یجز فی الربط إلا الغیبة ؛ نحو : أنا فی الشجاعة الذی هزم الرومان فی الشام. وأنت فی القدرة الذی بنی الهرم الأکبر ؛ ترید ؛ أنا فی الشجاعة کالذی هزم الرومان فی الشام ، وأنت فی القدرة کالذی بنی الهرم الأکبر. فالمبتدأ فی المثالین مقصود به التشبیه ، لوجود قرینة تدل علی ذلک ؛ هی : أن المتکلم والمخاطب یعیشان فی عصرنا ، ولم یدرکا العصور القدیمة.
وثانیهما : ألا یکون اسم الموصول تابعا للمنادی : «أیّ» ، أو : أیّة ، فی مثل : یأیّها الذی نصرت الضعیف ستسعد ، ویأیتها التی نصرت الحق ستفوزین فلا یصح أن تشتمل الصلة علی ضمیر خطاب فی رأی بعض النحاة ، دون بعض آخر. وملخص المسألة - کما سیجیء فی ج 4 ص 36 م 30 باب أحکام تابع المنادی - هو أنه لا بد من وصف ؛ «أی وأیّة» ، عند ندائهما بواحد من أشیاء معینة محددة ، منها : اسم الموصول المبدوء «بأل» وقد اشترط الهمع (ج 1 ص 175) أن یکون الموصول مبدوءا بأل ، وأن تکون صلته خالیة من الخطاب ، فلا یقال یأیها الذی قمت. فی حین نقل الصبان (ج 3 أول باب تابع المنادی) - صحة ذلک قائلا ما نصه : (ویجوز یأیها الذی قام ، ویأیها الذی قمت) ، والظاهر أن الذی منعه الهمع لیس بالممنوع ، ولکنه غیر الأفصح الشائع فی الکلام المأثور ؛ بدلیل ما قرره النحاة ونقله الصبّان فی الموضع المشار إلیه ونصّه : (الضمیر فی تابع
ص: 344
المنادی یجوز أن یکون بلفظ الغیبة ؛ نظرا إلی کون لفظ المنادی اسما ظاهرا ، والاسم الظاهر من قبیل الغیبة ، وبلفظ الخطاب نظرا إلی کون المنادی مخاطبا ، فعلمت أنه یجوز أیضا : یا زید نفسه أو نفسک. قاله الدمامینی. ثم قال : ویجوز یأیها الذی قام ، ویأیها الذی قمت) اه کلام الصبان نصا.
وکل ما سبق تقریره فی العائد من حیث التکلم أو الخطاب أو الغیبة یثبت لکل ضمیر قد یجیء بعده ویکون بمعناه ؛ نحو : أنا الذی عاهدتک علی الوفاء ما عشت. أو أنا الذی عاهدک علی الوفاء ما عاش (1) ، وقد یختلفان کما فی قول الشاعر :
نحن الذین بایعوا محمدا
علی الجهاد ما بقینا أبدا
هذا ، وبالرغم من جواز المطابقة وعدمها فی الصور السابقة - فإن مطابقة الرابط لضمیر المتکلم أفصح ، وأوضح ؛ فهی أولی من مراعاة الموصول الغائب ، وکذلک مطابقته للمخاطب أولی من اسم الموصول الغائب ؛ وزیادة الإیضاح غرض لغویّ هامّ لا یعدل عنه إلا لداع آخر أهم.
وسیجیء فی باب أحکام تابع المنادی (فی الجزء الرابع) أن الضمیر المصاحب لتابع المنادی یصح فیه أن یکون للغائب أو للمخاطب ، وأن هذا الحکم عام یسری علی توابع المنادی المنصوب اللفظ وغیر المنصوب ، إلا صورة واحدة مستثناة وقع فیها الخلاف. وتطبیقا لذلک الحکم العام نقول : یا عربا کلکم ، أو : کلهم ... ویا هارون نفسک ، أو : نفسه ، خذ بید أخیک - یا هذا الذی قمت أو قام أسرع إلی الصارخ.
أما الصورة المستثناة التی وقع فیها الخلاف فهی التی یکون فیها المنادی لفظ. (أیّ ، أو : أیة) والتابع اسم موصول ، فلا یجوز عند فریق من النحاة أن تشتمل صلته علی ما یدل علی خطاب ؛ فلا یصح : یأیها الذی حضرت ، ویصح عند غیره - کما سلف -
ح - یجیز الکوفیون جزم المضارع الواقع فی جملة بعد جملة الصلة ، بشرط أن تکون الجملة الفعلیة المشتملة علی هذا المضارع مترتبة علی جملة الصلة کترتب
ص: 345
الجملة الجوابیة علی الجملة الشرطیة حین توجد أداة الشرط التی تحتاج للجملتین ، فکأن الموصول بمنزلة أداة الشرط ، والجملتان بعده بمنزلة جملة الشرط وجملة الجواب. ففی مثل : من یزورنی أزوره ... یجیزون ؛ من یزورنی أزره ؛ بجزم المضارع : «أزر» علی الاعتبار السالف. لکن حجتهم هنا ضعیفة ، والسماع القوی لا یؤیدهم ، ولهذا یجب إهمال رأیهم ، والاکتفاء من معرفته بفهم المسموع الوارد ، دون محاکاته - کما سیجیء فی الجوازم (1).
ص: 346
وأما النوع الثانی وهو : «شبه الجملة» فی باب الموصول فثلاثة أشیاء (1) : الظرف - والجار مع المجرور - والصفة (2) الصریحة. ویشترط فی الظرف والجار مع المجرور أن یکونا تامّین ، أی : یحصل بالوصل بکل منهما فائدة (3) ؛ تزیل إبهام الموصول ، وتوضح معناه من غیر حاجة لذکر متعلقهما ؛ نحو : تکلم الذی
ص: 347
عندک ، وسکت الذی فی الحجرة. فکل من الظرف : (عند) والجار مع المجرور : (فی الحجرة) ، تام. وکلاهما یتعلق حتما (1) بفعل لا بشیء
ص: 348
آخر ، وهذا الفعل محذوف وجوبا - لأنه کون عامّ (1) - تقدیره : استقرّ ، أو حلّ ، أو نزل ... وفاعله ضمیر مستتر یعود علی اسم الموصول ، ویربط بینه وبین الصلة. فالأصل فی المثالین السابقین : تکلم الذی استقر عندک ، وسکت الذی استقر فی الحجرة. وهکذا ...
«ملاحظة» ؛ إذا وقع الظرف نفسه صلة «أل» - بأن دخلت علیه مباشرة ، کصنیع بعض القبائل العربیة فی مثل قولهم : سررت من الکتاب المعک ؛ یریدون : الذی معک - فإنّ تعلق الظرف فی هذه الحالة لا یکون إلّا بصفة صریحة ، تقدیرها : «الکائن» ، أو : نحو هذا التقدیر. لأن صلة : «أل» لا بد أن تکون صفة صریحة ، ولا یصح التعلق بفعل - کما سنعرف (2) - ...
أما الصفة (3) الصریحة فالمراد بها : الاسم المشتق الذی یشبه الفعل فی التجدد
ص: 349
والحدوث (1) ، شبها صریحا ؛ أی : قویّا خالصا (بحیث یمکن أن یحل الفعل محله) ولم تغلب علیه الاسمیة الخالصة. وهذا ینطبق علی اسم الفاعل - ومثله صیغ المبالغة - واسم المفعول ؛ لأنهما - باتفاق - یفیدان التجدد والحدوث ؛ مثل قارئ ، فاهم : ، زرّاع ، مقروء ، مفهوم (2) ... ، وتکون الصفة الصریحة مع فروعها صلة «أل» خاصة ؛ فلا یقعان صلة لغیرها ، ولا تکون «أل» اسم موصول مع غیرهما علی الأشهر (3). تقول : انتفع القارئ - سما الفاهم - اغتنی
ص: 350
الزّراع ، المقروء قلیل ، ولکن المفهوم کثیر ... ومثل المرتجی والخائب فی قول الشاعر :
الصدق یألفه الکریم المرتجی
والکذب یألفه الدنیء الخائب
ولما کانت الصفة المشبهة الصریحة مع مرفوعها (1) هی التی تقع صلة «أل» وتتصل بها اتصالا مباشرا ولا ینفصلان حتی کأنهما کلمة واحدة - کان المستحسن إجراء الإعراب بحرکاته المختلفة علی آخر هذه الصفة الصریحة دون ملاحظة «أل» ؛ فهو یتخطاها ؛ برغم أنها اسم موصول (2) مستقل ، وأن صلته هی شبه الجملة المکون من الصفة الصریحة مع مرفوعها. فالصفة وحدها هی التی تجری علیها أحکام الإعراب ، ولکنها مع مرفوعها صلة لا محل لها. والأخذ بهذا الإعراب (3) أیسر وأبعد من التعقید الضارب فی الآراء الأخری.
فإن غلبت الاسمیة علی الصفة صارت اسما جامد ، ولم تکن «أل» الداخلة علیها اسم موصول ، مثل الأعلام : المنصور ، والهادی ، والمأمول ، والمتوکل ... من أسماء
ص: 351
الخلفاء العباسیین ؛ ومثل : الحاجب ؛ لما فوق العین. والقاهرة ، والمنصورة ، والمعمورة ، من أسماء البلاد المصریة (1).
ص: 352
یقتضی المقام أن نعرض لمسائل هامة تتصل بما نحن فیه. منها : تعدد الموصول ، والصلة - حذفها - حذف الموصول - اقتران الفاء بخبر اسم الموصول ، والتفریعات المتصلة بذلک - حذف العائد (ولهذا بحث مستقل فی 357).
وإلیک الکلام فی هذه المسائل.
(ا) تعدد الموصول والصلة :
1 - قد یتعدد الموصول (1) من غیر أن تتعدد الصلة ؛ فیکتفی موصولان أو أکثر بصلة واحدة. ویشترط فی هذه الحالة أن یکون معنی الصلة أمرا مشترکا بین هذه الموصولات المتعددة ، لا یصح أن ینفرد به أحدها ، دون الآخر ، وأن یکون الرابط مطابقا لها باعتبار تعددها. مثل : فاز بالمنحة «الذی» «والتی» أجادا ، وأخفق «الذین واللاتی» أهملوا. ففی المثال الأول وقعت الجملة الفعلیة : (أجادا) صلة لاسمی الموصول : «الذی» و «التی». ولا یصح أن تکون صلة لأحدهما بغیر الآخر ؛ لاشتراکهما معا فی معناها ؛ ولأن الرابط مثنی لا یطابق أحدهما وحده ، وإنما لوحظ فیه أمرهما معا (2). وکذلک الشأن فی المثال الآخر.
2 - قد تتعدد الموصولات وتتعدد معها الصلة ؛ فیکون لکل موصول صلته ؛ إما مذکورة فی الکلام ، وإما محذوفة (3). جوازا ، وتدل علیها صلة أخری مذکورة ، بشرط أن تکون المذکورة صالحة لواحد دون غیره ؛ فلا تصلح لکل موصول
ص: 353
من تلک الموصولات المتعددة ؛ نحو : عدت «الذی» و «التی» مرضت. وسارعت بتکریم «اللائی» و «الذین» أخلصوا للعلم. فالصلة فی کل مثال صالحة لأحد الموصولین فقط ؛ بسبب عدم المطابقة فی الرابط ؛ فکانت صلة لواحد ، ودلیلا علی صلة الآخر المحذوفة جوازا. فأصل الکلام عدت الذی مرض ، والتی مرضت. وسارعت بتکریم اللائی أخلصن ، والذین أخلصوا. وهذا نوع من حذف الصلة جوازا ، لقرینة لفظیة تدل علیها(1) ...
وقد تحذف الصلة لوجود قرینة لفظیة أیضا ولکن من غیر أن یتعدد الموصول ؛ مثل : من رأیته فی المکتبة؟ فتجیب : محمد الذی ... أو : سعاد التی ...
وقد تحذف الصلة من غیر أن یکون فی الکلام قرینة لفظیة تدل علیها وإنما تکون هناک قرینة معنویة یوضحها المقام ؛ کالفخر ، والتعظیم ، والتحقیر ، والتهویل ... فمن أمثلة الفخر أن یسأل القائد المهزوم البادی علیه وعلی کلامه أثر الهزیمة ، قائدا هزمه : من أنت؟ فیجیبه المنتصر : أنا الذی ... أی : أنا الذی هزمتک. فقد فهمت الصلة من قرینة خارجیة ، لا علاقة لها بألفاظ الجملة. ومثل : أن یسأل الطالب المتخلف زمیله الفائز السابق بازدراء : من أنت؟ فیجیب الفائز : أنا الذی ... أی : أنا الذی فزت ، وسبقتک ، وسبقت غیرک ... ومنه قول الشاعر یفاخر :
نحن الألی ... فاجمع جمو
عک ثمّ وجّههم إلینا
أی : نحن الذین اشتهروا بالشجاعة ، والبطولة ، وعدم المبالاة بالأعداء.
ومن التحقیر أن یتحدث الناس عن لص فتاک ، أوقعت به حیلة فتاة صغیرة وغلام ، حتی اشتهر أمرهما. ثم یراهما اللص ؛ فیقول له أحد الناس : انظر إلی التی والذی ... أی : التی أوقعت بک. والذی أوقع بک ...
وقد وردت أسالیب قلیلة مسموعة عند العرب ، التزموا فیها حذف الصلة ؛
ص: 354
کقولهم : عند استعظام شیء وتهویله : «بعد اللّتیا (1) والّتی ، یریدون بعد اللتیا کلّفتنا ما لا نطیق ، والتی حملتنا مالا نقدر علیه - أدرکنا ما نرید.
مما تقدم نعلم أن حذف الصلة فی غیر الأسالیب المسموعة جائز عند وجود قرینة لفظیة ، أو معنویة ؛ سواء أکانت الموصولات متعددة ، أم غیر متعددة بشرط ألا یکون الباقی بعد حذفها صالحا لأن یکون صلة.
3 - یجوز حذف الموصول الاسمی غیر «أل» إذا کان معطوفا علی مثله ، بشرط ألا یوقع حذفه - فی لبس ؛ کقول زعیم عربیّ : «أیها العرب ، نحن نعلم ما تفیض به صدور أعدائنا ؛ من حقد علینا ، وبغض لنا ، وأن فریقا منهم یدبر المؤامرات سرّا ، وفریقا یملأ الحواضر إرجافا (2) ، وفریقا یعد العدة للهجوم علینا ، وإشعال الحرب فی بلادنا ، ألا فلیعلموا أن من یدبّر المؤامرات ، ویطلق الإشاعات. ویحشد الجیوش للقتال - کمن یطرق حدیدا باردا. بل کمن یضرب رأسه فی صخرة عاتیة ، لیحطمها ؛ فلن : یخدشها وسیحطم رأسه».
فالمعنی یقتضی تقدیر أسماء موصولة - محذوفة - ؛ وإلا فسد ؛ فهو یرید أن یقول : من یدبّر المؤمرات ، ومن یطلق الإشاعات ، ومن یحشد الجیوش ... ذلک لأنهم طوائف متعددة ، ولن یظهر التعدد إلا بتقدیر «من». ولولاها لأوهم الکلام أن تلک الأمور کلها منسوبة لفریق واحد ؛ وهی نسبة فاسدة. ولهذا یجب عند الإعراب مراعاة ذلک المحذوف ، کأنه مذکور ، ومثله قول حسان فی أعداء الرسول علیه السّلام :
فمن یهجو رسول الله منکم
ویمدحه وینصره سواء
فالتقدیر ؛ من یهجو رسول الله ، ومن یمدحه : ومن ینصره سواء. ولو لا هذا التقدیر لکان ظاهر الکلام أن الهجاء والمدح والنصر - کل أولئک من فریق واحد. ومن هذا قوله تعالی (3) : (قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِی أُنْزِلَ إِلَیْنا وَأُنْزِلَ إِلَیْکُمْ) ، أی : والذی أنزل إلیکم ، لأن المنزل إلی المسلمین لیس هو المنزّل إلی غیرهم من أهل الکتاب.
ص: 355
أما الموصول الحرفی فلا یجوز حذفه. إلا «أن» فیجوز حذفها ؛ مثل قوله تعالی : (یُرِیدُ اللهُ لِیُبَیِّنَ لَکُمْ) وقد یجب. ولهذا الحذف - بنوعیه - تفصیلات موضعها الکلام علی «أن» الناصبة (1).
ب - قد یقترن الخبر الذی مبتدؤه اسم موصول بالفاء وجوبا أو جوازا ، أو الذی مبتدؤه متصل باسم الموصول بنوع من الاتصال علی الوجه الذی یجیء بیانه وتفصیله فی مکانه المناسب من باب المبتدأ والخبر تحت عنوان : مواضع اقتران الخبر بالفاء ص 484 م 41 وما بعدها. ومنها نعلم مواضع زیادة «الفاء» فی صلة الموصول بنوعیه بسبب إبهامه وعمومه.
ص: 356
(أی : العائد)
لا بد لکل موصول من صلة. فإن کان اسمیّا وجب أن تشتمل صلته علی رابط ؛ هو : الضمیر ، أو ما یقوم مقامه ، کما أسلفنا.
وهذا الضمیر الرابط قد یکون مرفوعا ؛ مثل «هو» فی نحو : خیر الأصدقاء من هو عون فی الشدائد ... ، أو منصوبا ، مثل «ها» فی نحو : ما أعجب الآثار التی ترکها قدماؤنا ، أو مجرورا ؛ مثل : «هم» فی نحو : أصغیت إلی الذین أصغیت إلیهم.
والرابط فی کل هذه الصور - وأشباهها - یجوز ذکره فی الصلة کما یجوز حذفه ، بعد تحقق شرط عام ، هو : وضوح المعنی بدونه ، وأمن اللبس (ومن أهمّ مظاهر أمن اللبس ألا یکون الباقی بعد حذفه صالحا صلة) (1). غیر أن هناک شروطا خاصة أخری تختلف باختلاف نوع الضمیر یجب تحققها قبل حذفه ، سواء أکان اسم الموصول هو «أیّ» أم غیرها. وفیما یلی التفصیل :
(ا) إن کان الضمیر الرابط مرفوعا لم یجز حذفه إلا بشرطین : أن تکون الصلة جملة اسمیة ، المبتدأ فیها هو الرابط ، وأن یکون خبره مفردا (2). کأن یسألک سائل.
ص: 357
کیف نفرّق بین ماء النهر وماء البحر؟ فتجیب : الأنهار التی عذبة الماء ، والبحار التی ملحیّة الماء. ترید : الأنهار ، التی هی عذبة الماء ، والبحار التی هی ملحیة الماء. ومثل : أن یسأل : ما أوضح فارق بین النجم والکوکب؟ فتقول : النجم الذی مضیء بنفسه ، والکوکب الذی مستمد نوره من غیره. أی : النجم الذی هو مضیء بنفسه ... والکوکب الذی هو مستمد ...
فإذا استوفی الضمیر المرفوع الشرطین الخاصّین ومعهما الشرط العام جاز حذفه (1) ، والأحسن عند الحذف أن تکون صلته طویلة (أی : لیست مقصورة علیه وعلی خبره المفرد ، وإنما یکون لها مکملات ؛ کالمضاف إلیه ، أو المفعول ، أو الحال ، أو النعت ، أو غیر ذلک ...) ، نحو : نزل المطر الذی مصدر میاه الأنهار ، ونحو : برعت مصانعنا التی الرجاء العظیم. أو التی رجاؤنا فی الغنی قریبا ... ونحو : اشتد الإقبال علی التعلیم الذی کفیل بإنهاض الفرد والأمة ... ویجوز أن
ص: 358
نقول : نزل المطر الذی حیاة ، وبرعت مصانعنا التی الأمل ، واشتد الإقبال علی التعلیم الذی سعادة.
والأسالیب العالیة لا تجنح کثیرا إلی حذف العائد المرفوع ؛ فإن جنحت إلیه اختارت - فی الغالب - طویل الصلة (1).
(ب) إن کان الرابط ضمیرا منصوبا لم یجز حذفه إلا بثلاثة شروط خاصة - غیر الشرط العام - هی : أن یکون ضمیرا متصلا (2) ، وأن یکون ناصبه فعلا تامّا ، أو وصفا تامّا ، وأن یکون هذا الوصف لغیر صلة : «أل» (3) التی یعود علیها الضمیر ؛ مثل : رکبت القطار الذی رکبت ، أی : رکبته ، وقرأت الصحیفة التی قرأت ، أی : قرأتها وقول الشاعر یصف مدینة :
بها ما شئت من دین ودنیا
وجیران تناهوا فی الکمال
أی : ما شئته : وقول الآخر :
ومن ینفق الساعات فی جمع ماله
مخافة فقر فالذی فعل الفقر
أی : فعله ... ومثل : اشکر الله علی ما هو مولیک ، واحمده علی ما أنت المعطی. أی : مولیکه (والأصل : مولیک إیاه) ، والمعطاه (4).
ومثل : الذی أنا معیرک - کتاب. والذی أنت المسلوب - المال. أی : الذی أنا معیرکه کتاب ، والذی أنت المسلوبه - المال (5).
ص: 359
فإن فقد شرط لم یصح الحذف (1).
(ح) وإن کان الرابط ضمیرا مجرورا - والشرط العام متحقق - فإما أن یکون مجرورا بالإضافة ، أو بحرف جر ؛ فالمجرور بالإضافة یجوز حذفه إن کان المضاف اسم فاعل ، أو اسم مفعول (2). وکلاهما للحال أو الاستقبال (3) ؛ مثل :
ص: 360
یفرح الذی أنا مکرم الآن أو غدا ، (أی : مکرمه). ویرضینی ما أنا معطی الآن أو غدا (أی : معطاه (1)) ومثلهما : جادت مصنوعاتنا ، فالبس منها ما أنت لابس غدا (2) ، واطلب منها ما أنت طالب بعد حین ، (أی : لابسه ... وطالبه) - إن یسلبنی اللص بعض المال أتألم لما أنا مسلوب (أی : مسلوبه).
والمجرور بالحرف یجوز حذفه بشرط أن یکون اسم الموصول مجرورا بحرف یشبه ذلک الحرف (3) فی لفظه ، ومعناه ، ومتعلّقه (4). وإذا حذف الرابط حذف معه الحرف الذی یجره ؛ مثل : سلّمت علی الذی سلّمت ، (أی : سلّمت علیه وانتهیت إلی ما انتهیت. (أی : إلی ما انتهیت إلیه.)
وقد یکون حرف الجر غیر داخل علی اسم الموصول وإنما علی موصوف باسم الموصول. نحو : مشیت علی البساط الذی مشیت ؛ أی : علیه ، وسرت فی الحدیقة التی سرت ؛ أی : فیها (5).
ص: 361
تلک حالة حذف العائد المجرور ، وهی کثیرة فی الأسالیب العالیة (1).
ص: 362
ا - قد یستغنی الموصول عن العائد کما فی بعض الصور التی سلفت (1).
ب - الکلام فی : «ولا سیما (2) ، وأخواتها» معناها ، وإعرابها فی جملتها. یتضح معنی «ولا سیما» من الأمثلة التالیة :
المعادن أساس الصناعة ؛ ولا سیما الحدید. - تجود الزروع بمصر ؛ ولا سیما القطن - نحتقر الأشرار ؛ ولا سیما الکذّاب ...
فالمثال الأول یتضمن : أن الصناعة تقوم علی أساس ؛ هو : المعادن ؛ کالنحاس ، والرصاص ، والفضة ... وکالحدید أیضا. فالحدید یشارکها فی وصفها بأنها : «أساس». ولکنه یختلف عنها فی أن نصیبه من هذا الوصف أکثر وأوفر من نصیب کل معدن آخر.
وفی المثال الثانی حکم بالجودة علی ما ینبت فی مصر ، من قمح ، وذرة وقصب ، و... ومن قطن أیضا ؛ فهو یشارکها فی الاتصاف بالجودة ؛ ولکنه یخالفها فی أن نصیبه من هذه الجودة أوفی وأکبر من نصیب کل واحد من تلک الزروع.
وفی المثال الثالث نحکم بالاحتقار علی الأشرار ؛ ومنهم اللص ، والقاتل ، والمنافق ... ومنهم الکذاب - أیضا - فهو شریکهم فی ذلک الحکم ، وینطبق علیه الوصف مثلهم. ولکن نصیبه منه أکبر وأکثر من نصیب کل فرد منهم.
مما سبق نعرف أن الغرض من الإتیان بلفظ : (ولا سیما) هو : إفادة أن ما بعدها وما قبلها مشترکان قی أمر واحد ، ولکن نصیب ما بعدها أکثر وأوفر من نصیب ما قبلها. ولذا یقول النحاة : إن «لا سیّ» ، معناها : لا مثل (3) ... یریدون : أن ما بعدها لیس مماثلا لما قبلها فی المقدار الذی یخصه من الأمر المشترک
ص: 363
بینهما ؛ وإنما یزید علیه فی ذلک المقدار ؛ سواء أکان الأمر محمودا ، أم مذموما (1).
أما إعرابها فی جملتها وإعراب الاسم الذی بعدها فقد یکفی جمهرة المتعلمین علمها أن : «ولا سیّما» لا تتغیر حرکة حروفها مهما اختلفت الأسالیب ، وأن الاسم الذی بعدها یجوز فیه الأوجه الثلاثة : «الرفع ، والنصب ، والجر» سواء أکان نکرة أم معرفة (2). وأن فیها عدة لغات صحیحة (3) لا یمنع من استعمال إحداها مانع. ولکن أکثرها فی الاستعمال الأدبی هو : (ولا سیّما) ؛ فیحسن الاقتصار علیه ؛ لما فی ذلک من المسایرة للأسالیب الأدبیة العالیة التی تکسب اللفظ قوة فی غالب الأحیان ، وفی هذا القدر کفایة لمن یبتغی الوصول إلی معرفة الطریقة القویمة فی استعمالها ، من غیر أن یتحمل العناء فی تفهم الإعرابات المختلفة. أما من یرغب فی هذا فإلیه البیان :
الاسم الواقع بعد : (ولا سیما) إما أن یکون نکرة ، وإما أن یکون معرفة ؛ فإن کان نکرة جاز فیه الأوجه الثلاثة کما سبق ، تقول :
1 - اقتنیت طرائف کثیرة ، ولا سیّما : أقلام ، أو أقلاما ، أو أقلام.
2 - اشتریت طیورا بدیعة ، ولا سیما ؛ عصفور ، أو : عصفورا ، أو : عصفور.
3 - قصرت ودی علی المخلصین ؛ ولا سیّما واحد ، أو واحدا ، أو : واحد.
وإن کان الاسم الواقع بعدها معرفة فالصواب جواز الأوجه الثلاثة أیضا ، کما فی الأمثلة التالیة :
1 - أتمتع برؤیة الأزهار ، ولا سیما : الورد ، أو : الورد ، أو : الورد.
2 - شاهدت آثارا رائعة ، ولا سیما : الهرم ، أو : الهرم ، أو : الهرم.
3 - ما أجمل الکواکب فی لیل الصیف : ولا سیما : القمر ، أو : القمر أو : القمر.
ص: 364
وفیما یلی الإعراب تفصیلا :
الکلمة
إعرابها فی حالة الرفع
فی حالة النصب
فی حالة الجر
و
للاستئناف (1) ...
«و» کالسابق ...
«و» کالسابق
لا
نافیة للجنس ، حرف لا محل لها من الإعراب.
«لا» کالسابق ...
«لا» کالسابق
سیّما
سیّ :
سیّ : اسم لا مبنی (2)
علی الفتح فی محل نصب
(سیّ) اسم «لا» منصوب لأنه مضاف فی هذه الصورة «ما»
زائدة (أفلام) : مضاف إلیه مجرور
اسمها منصوب ، لأنه مضاف - «ما» اسم موصول (3) ،
مبنی علی السکون فی محل جر مضاف إلیه. (ویحتاج لصلة)
«ما» زائدة حرف مبنی علی السکون لا محل له من
الإعراب
أقلام
خبر لمبتدأ محذوف وجوبا (4)
تقدیره : «هو» والجملة من المبتدأ والخبر لا محل لها من الإعراب صلة الموصول
وخبر «لا» محذوف ، تقدیره مثلا : موجود ؛ ...
أفلاما : تمییز (5) منصوب أما
خبر «لا» فمحذوف تقدیره : موجود ... أو ما یشبه هذه الکلمة
وخبر لا محذوف ، تقدیره:
موجود ، أو ما یشبهها
ص: 365
ولا سیما کلمة : عصفور وکلمة : واحد ...
کالذی سبق فی نظائرها تماما.
یجری علیهما الإعراب السابق فی کلمة : «أقلام» رفعا ، ونصبا ، وجرّا.
وإعراب المعرفة فی حالتی الرفع والجر کإعراب النکرة فیهما. أما فی حالة النصب فتعرب النکرة تمییزا کما أوضحنا ، وتعرب المعرفة مفعولا به. ففی مثل : أتمتع برؤیة الأزهار ولا سیما الورد - یصح أن یکون الإعراب کما یلی :
الواو للاستئناف. (لا) نافیة للجنس. (سیّ) اسمها منصوب ومضاف. (ما) نکرة تامة بمعنی : شیء ، وهی مضاف إلیه. مبنیة علی السکون فی محل جر. وخبر لا محذوف تقدیره : موجود مثلا - و (الورد) مفعول به لفعل محذوف تقدیره : أخص : أو : أعنی ... والفاعل مستتر وجوبا تقدیره : أنا. ومثل هذا یقال فی کلمة : الهرم ، والقمر ، وأشباههما.
وقد تقع الحال المفردة أو الجملة بعد : (ولا سیما) نحو : أخاف الأسد ، ولا سیما غاضبا ، أو : وهو غاضب ... وقد تقع الجملة الشرطیة بعدها ، وغیر الشرطیة ، أیضا ؛ نحو : النمر غادر ، ولا سیما إن أبصر عدوه (1).
أما أخوات : «ولا سیما» (2) فقد نقل الرواة منها : «لا مثل ما» و «لا سوی ما ...» - فهذان یشارکان : «لا سیما» فی معناها ، وفی أحکامها الإعرابیة التی فصّلناها فیما سبق.
ص: 366
ومنها : «لا تر ما ...» و «لو تر ما ...» وهما بمعناها ، ولکنهما یخالفانها فی الإعراب ، وفی ضبط الاسم بعدهما ، فهذان فعلان لا بد من رفع الاسم الذی یلیهما. ولا یمکن اعتبار «ما» زائدة وجر الاسم بعدها بالإضافة ؛ لأن الأفعال لا تضاف. والأحسن أن تکون : «ما» موصولة وهی مفعول للفعل : «تر» وفاعله ضمیر مستتر ، تقدیره : أنت. والاسم بعدها مرفوع - وهذا هو الوارد سماعا - علی اعتباره خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة.
وإنما کان الفعل مجزوما بعد : «لا» - لأنها للنهی. والتقدیر فی مثل : «قام القوم لا تر ما علیّ» ... ، هو : لا تبصر أیها المخاطب الشخص الذی هو علیّ فإنه فی القیام أولی منهم.
أو تکون : «لا» للنفی ، وحذفت الیاء من آخر الفعل سماعا وشذوذا ، وکذلک بعد «لو» سماعا. والتقدیر : لو تبصر الذی هو علیّ لرأیته أولی بالقیام. والجدیر بنا أن نقتصر فی استعمالنا علی «ولا سیما» لشیوعها قدیما وحدیثا.
ص: 367
عرفنا أن الموصولات قسمان ؛ اسمیة وقد سبق الکلام علیها ، وحرفیة وهی خمسة (1) : «أن» ، (مفتوحة الهمزة ، ساکنة النون أصالة (2).) و «أنّ» الناسخة (المشددة النون ؛ أو الساکنة النون للتخفیف) و «ما» ، و «کی» ، و «لو». وکلا القسمین لا بد له من صلة متأخرة عنه ، لا یصح أن تتقدم علیه هی أو شیء منها - ، - کما أوضحنا -. أما الفصل بین الموصول الحرفی ، أو الاسمیّ ، وصلته ، وکذا الفصل بین أجزاء الصلة فقد سبق الکلام علیه (3) (وهو بحث هام).
ولکن بین الموصول الاسمی والحرفی فروق ، أهمها ستة :
الأول : أن الموصولات الاسمیة - غیر أیّ - لا بد أن تکون مبنیة (4) فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، علی حسب موقعها من الجملة ؛ وذلک شأن کل الأسماء المبنیة. بخلاف الموصولات الحرفیة ، فإنها مبنیة أیضا ؛ ولکن لا محل لها من الإعراب ؛ - شأن کل الحروف - فلا تکون فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ؛ مهما اختلفت الأسالیب.
الثانی : أن صلة الموصول الاسمی لا بد أن تشتمل علی العائد ؛ أما صلة الحرفی فلا تشتمل علیه مطلقا.
الثالث : أنّ الموصول الحرفیّ لا بد أن یسبک مع صلته سبکا ینشأ عنه مصدر یقال له : «المصدر المسبوک» أو «المصدر المؤول» ، یعرب علی حسب حاجة الجملة - کما سنبینه بعد (5) -. ولهذا تسمی الموصولات الحرفیة : «حروف السبک» وتنفرد به دون الموصولات الاسمیة.
ص: 368
الرابع : أن بعض الموصول الحرفیّ (وهو الحرف المصدری) لا یوصل بفعل جامد - کما سیجیء (1) - مثل : «لو» ، وکذلک : «ما» المصدریة ، إلّا مع أفعال الاستثناء الجامدة الثلاثة ؛ وهی : (خلا - عدا - وکذا : حاشا ، فی رأی) فهذه الثلاثة مستثناة من الحکم السالف ، أو لأنها متصرفة بحسب أصلها فجمودها عارض طارئ لا أصیل. والمصدر المؤول معها مؤول بالمشتق ، ... أی : مجاوزین (2). الخامس : أن الموصول الاسمی - غیر «أل» یجوز حذفه علی الوجه الذی قدّمناه (3) ، أما الحرفیّ فلا یحذف منه إلا : «أن» الناصبة للمضارع ، فتحذف جوازا أو وجوبا ، طبقا لما هو مبین عند الکلام علیها فی النواصب (ج 4) وهی فی حالتی حذفها تسبک مع صلتها کما تسبک فی حالة وجودها(4) .....
السادس : أن الموصول الحرفی «أن» یصح - فی الرأی المشهور - وقوع صلته جملة طلبیة ، دون سائر الموصولات الاسمیة والحرفیة (5).
وفیما یلی شیء من التفصیل الخاص بالموصولات الحرفیة الخمسة :
(ا) أن. - ساکنة النون أصالة - ولا تکون صلتها إلا جملة فعلیة ، فعلها کامل التصرف ؛ سواء أکان ماضیا ؛ نحو : عجبت من أن تأخر القادم. أم مضارعا ؛ نحو : من الشجاعة أن یقول المرء الحقّ فی وجه الأقویاء ، وقول الشاعر :
إنّ من أقبح المعایب عارا
أن یمنّ الفتی بما یسدیه
أم أمرا (6) ، نحو : أنصح
لک أن
بادر إلی ما یرفع شأنک ،
وهی فی کل الحالات تؤول مع صلتها بمصدر یستغنی به عنهما ، ویعرب علی حسب حاجة الجملة ، فیکون مبتدأ ، أو فاعلا أو مفعولا به ، أو غیر ذلک ، طبقا لتلک الحاجة وقد
ص: 369
یسد مسد المفعولین أیضا. ولکنها لا تنصب إلا المضارع (1) ، وتخلص زمنه للاستقبال المحض ولا تنفصل منه بفاصل .. (2). ولا تغیر زمن الماضی ولا تکون للحال فدلالتها الزمنیة إما للماضی وإما للمستقبل (3) ...
ولیس من هذا النوع ما یقع بعده جملة اسمیة (4) مسبوقة بما یدل علی یقین ، نحو : علمت «أن» ؛ محمد لقائم ، أو جملة فعلیة فعلها جامد : نحو : أعتقد أن لیس الظالم بمستریح النفس ، فإنّ هذین من النوع الثانی (الذی تکون فیه «أن» مخففة من «أنّ» المشددة النون) (5) ...
ص: 370
(ب) «أنّ» المشددة النون. وتتکون صلتها من اسمها وخبرها ؛ نحو : سرّنی أنّ الجو معتدل ، ویستغنی عن الثلاثة بعد صوغ المصدر المنسبک بطریقته الصحیحة. ومثلها : (أن) المخففة النون الناسخة (1) ؛ حیث تتکون صلتها من اسمها وخبرها. ولکن اسمها لا یکون - فی الأفصح - إلا ضمیرا محذوفا ، وخبرها جملة ؛ نحو : أیقنت أن علیّ لمسافر (2) ؛ (ومنه المثالان السالفان فی الکلام علی «أن»). ویستغنی عن الثلاثة بعد صوغ المصدر المؤول بطریقته الصحیحة ، ویعرب المصدر فی النوعین علی حسب الجملة ؛ فیکون فاعلا ، أو مبتدأ ، أو مفعولا به ، أو غیر ذلک ... وقد یسدّ مسد المفعولین إن وجد فی الجملة ما یحتاج لهما.
(ح) «کی» (3). وصلتها لا تکون إلا جملة مضارعیة (وتنصب المضارع) نحو : أحسنت العمل لکی أفوز بخیر النتائج. ومنها ومن صلتها معها یسبک المصدر المؤول الذی یستغنی به عنهما ، ویعرب علی حسب حاجة الجملة ، وحاجتها لا تکون هنا إلا لمجرور باللام دائما ...
(د) «ما» ، وتکون مصدریة ظرفیة (4) ؛ نحو : سأصاحبک ما دمت مخلصا ، أی : مدة دوامک مخلصا ، وسألازمک ما أنصفت ، أی : مدة إنصافک. وقول الشاعر :
ص: 371
المرء ما عاش ممدود له أمل
لا تنته العین حتی ینته الأثر (1)
ومصدریة غیر ظرفیة (2) ، مثل : : فزعت مما أهمل الرجل ؛ أی : من إهمال الرجل ... ودهشت مما ترک العمل ، أی : من ترکه العمل. وقول العرب : «أنجز حرّ ما وعد (3) ،
وکلاهما تکون صلته فعلیة ماضویة (4) ؛ کالأمثلة السابقة ، أو مضارعیة (5) ؛ نحو : لا أجلس فی الحدیقة ما لم تجلس فیها. أی : مدة عدم جلوسک فیها. وإنی أبتهج بما تکرم الأخوان ، أی : بإکرامک الإخوان ومثل قول الشاعر :
ص: 372
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غیم حمی الشمس ؛ لم یمطر ولم یسر
أو جملة اسمیة (1) ؛ نحو : أزورک ما الوقت مناسب ، ویرضینی ما العمل نافع ؛ أی : أزورک مدة مناسبة الوقت ، ویرضینی نفع العمل. ولکن الأکثر فی المصدریة الظرفیة أن توصل بالجملة الماضویة ، أو بالمضارعیة المنفیة بلم ؛ کالأمثلة السابقة. ویقلّ وصلها بالمضارعیة التی لیست منفیة بلم ؛ مثل : لا أصیح ما تنام ، أی : لا أصیح مدة نومک.
ومن الحرف المصدری «ما» وصلته ینشأ المصدر المؤول الذی یستغنی به عنهما.
ویصح الفصل - مع قلته - بین «ما» المصدریة بنوعیها ، وما دخلت علیه (2) دون غیرها من الموصولات الحرفیة.
(ه) «لو» (3) ، وتوصل بالجملة الماضویة ، نحو : وددت لو رأیتک معی فی النزهة. وبالمضارعیة : نحو : أود لو أشارکک فی عمل نافع (4) ، ولا توصل بجملة فعلیة أمریة. ولا بد أن یکون الفعل الماضی أو المضارع تام التصرف. ومنها ومن صلتها یسبک المصدر المؤول الذی یستغنی به عنهما.
ص: 373
(ا) من حروف السّبک - عند فریق کبیر من النحاة - «همزة التسویة» وهی التی تقع بعد کلام مشتمل علی لفظة : «سواء» ، ویلی الهمزة جملتان ، ثانیتهما مصدرة بکلمة : «أم» الخاصة بتلک الهمزة. ومن الأمثلة قوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، لا یُؤْمِنُونَ ،) فالهمزة مسبوکة مع الجملة التی بعدها مباشرة بمصدر مؤول یعرب هنا فاعلا ، والتقدیر : إن الذین کفروا سواء - بمعنی : متساو - إنذارک وعدمه علیهم ؛ فهم یعربون کلمة : «سواء» خبر : «إن» «والمصدر المؤول» فاعل لکلمة : سواء ، التی هی بمعنی اسم الفاعل : «متساو». وقیل إن الجملة تسبک هنا بمصدر من غیر سابک ؛ کما سبکوه فی المثل العربی : «تسمع بالمعیدی خیر من أن تراه» ؛ برفع المضارع «تسمع» فی إحدی الروایات ؛ فقالوا فی سبکه : سماعک بالمعیدی ... من غیر تقدیر «أن» قبل السبک ، وکما یقدرون فی کل ظرف زمان أضیف إلی جملة بعده ، کالذی فی قوله تعالی : (وَیَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَتَرَی الْأَرْضَ بارِزَةً ... ،) فقد قالوا : التقدیر : «ویوم تسییر الجبال» - من غیر وجود حرف سابک (1) ...
(ب) کیف یصاغ المصدر المنسبک من حرف مصدری مع صلته؟
للوصول إلی المصدر المؤول نتبع الخطوات الأربع التالیة إن کان الحرف المصدری هو : «أن» ، أو : «أنّ» ، کما فی الأمثلة المعروضة ، أما إن کان غیرهما فیجری علیه ما جری علی هذین تماما ، وفیما یلی البیان :
ص: 374
1 - نستخرج المصدر الصریح لخبر «أنّ» فی الجمل
المشتملة علی «أنّ» ، أو للفعل الذی بعد «أن» الناصبة فی الجمل المشتملة علی
الفعل ؛ فنجده فی الأمثلة المعروضة : «کثرة» - «نهضة» - «نفع».
شاع (أنّ الفواکه کثیرة فی بلادنا) شاع (أن تکثر ،
الفواکه) فی بلادنا
عرفت (أن الصناعة ناهضة) بمصر عرفت (أن تنهض
الصناعة) بمصر
2 - نضبط ذلک المصدر الصریح علی حسب حاجة الجملة
هکذا : «کثرة» .. (مرفوعة فی القسم الأول) ، «نهضة» ..
(منصوبة القسم الثانی) ، «نفع» (مجرورة فی القسم
الثالث) ؛ لأن الأول محتاج لفاعل. والثانی محتاج لمفعول به ، والثالث محتاج إلی
مجرور.
آمنت ب (أن الإذاعة نافعة) آمنت ب (أن تنفع الإذاعة)
3 - نذکر بعده اسم «أنّ» فی الجمل التی کانت مشتملة
علی «أنّ». و : نذکر الفاعل فی الجمل التی کانت مشتملة علی «أن» الناصبة والفعل
؛ فیکون : کثرة الفواکه ، نهضة الصناعة ، نفع الإذاعة.
4 - نضبط ذلک الاسم الذی وضعناه بعد المصدر الصریح
- بالجر ، ونعربه مضافا إلیه ؛ فتکون الجمل بعد السبک : شاع کثرة الفواکه - عرفت
نهضة الصناعة بمصر - آمنت بنفع الإذاعة!.
وبإتمام الخطوة الرابعة تتم عملیة سبک المصدر
المؤول ؛ وتظهر الجملة فی شکلها الجدید ؛ فتغنی عن «أنّ» و «أن» وعن صلتهما
السابقة.
وعند السبک لا ندخل تغییرا فی الباقی من الجملة إلا علی اسم «إنّ» أو فاعل الفعل بالطریقة التی أوضحناها. أما ما عداهما مما لم یحذف فیبقی علی حالته الأولی.
ومثل هذا یتبع حین یکون الحرف المصدری هو : «أن» المخففة من الثقیلة أو : «لو» ، أو : «کی» ، أو : «ما».
ص: 375
وقد یقتضی الأمر فی بعض الأمثلة عملا زائدا علی ما سبق ؛ ففی مثل : سرنی أن تسبق ... تنته الجملة بعد إجراء الخطوات الأربع السابقة إلی : سرنی (سبق أنت) فیقع فاعل الفعل المضارع «مضافا إلیه» بعد استخراج المصدر الصریح - کما قدمنا - ولما کان هذا الفاعل (الذی صار مضافا إلیه) ضمیرا مرفوعا دائما ، ولا یمکن أن یکون مجرورا - وجب أن نضع بدله ضمیرا بمعناه ؛ یصلح أن یکون مجرورا ، هو : کاف المخاطب ، فنقول ، سرنی سبقک ... وهکذا ... یجری التغییر والتبدیل علی کل ضمیر آخر لا یصلح للجرّ کالذی فی قول الشاعر :
ومن نکد الدنیا علی الحرّ أن یری
عدوّا له ما من صداقته بدّ
حیث یکون المصدر المؤول المضاف : (رؤیة هو) ، ثم یقع التبدیل المشار فیصیر : رؤیته ... مسألة أخری ؛ قلنا فی تحقیق الخطوة الأولی : إننا نأتی بمصدر صریح لخبر الناسخ (أنّ) أو بمصدر الفعل الذی دخلت علیه «أن» ... فإن کان خبر الحرف المصدری : (أن) اسما جامدا ؛ نحو : عرفت أنک أسد ، أو ظرفا ، أو جارا مع مجروره ؛ نحو : عرفت أنک فوق الطیارة ، أو عرفت أنک فی البیت - فإننا نأتی فی الجامد بلفظ مصدر عام هو : «الکون» ، مثبتا ، أو : قبله کلمة : «عدم» التی تفید النفی ، إن کان الکلام منفیا ، ویحل لفظ «الکون» محل المصدر الصریح المطلوب ویقوم مقامه ، ویتم باقی الخطوات ؛ فنقول : عرفت کونک أسدا. ونأتی بالاستقرار أو الوجود فی الظرف والجار مع المجرور ؛ أی : عرفت استقرارک فوق الطیارة ، أو فی الدار.
ویصح فی الجامد شیء آخر هو : أن نزید علی آخره یاء مشددة مع التاء فتکون هذه الزیادة مفیدة للمصدریة ، وتجعله بمنزلة المصدر الصریح ، فنقول ؛ عرفت أسدیّتک ، کما نقول : فروسیّتک ووطنیّتک ، وهو ما یسمی المصدر الصناعی (1) ...
وإن کان الفعل الذی فی الجملة جامدا لیس له مصدر صریح : مثل «عسی» فی قولنا : (شاع أن یتحقق الأمل ، وأن عسی الکرب أن یزول) ففی هذه الحالة یؤخذ المصدر الصریح من معنی الفعل الجامد : «عسی» (ومعناها
ص: 376
الرجاء) أو مما بعده ویضاف إلی ما یناسبه ؛ فنقول : شاع تحقق الأمل ، ورجاء زوال الکرب.
وإذا کان الفعل بنوعیه الجامد وغیر الجامد - للنفی مثل قوله تعالی : (وَأَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعی) أتینا بما یفید النفی ؛ ککلمة : «عدم» فنقول : وعدم کون شیء للإنسان إلا سعیه.
وهکذا نحتال للوصول إلی المصدر الصریح مثبتا أو منفیّا ، علی حسب ما یقتضیه الکلام : بحیث لا یفسد المعنی ، ولا یختل ولا یتغیر ما کان علیه قبل السّبک من نفی أو إثبات.
* * *
(ج) لماذا نلجأ فی الاستعمال إلی الحرف المصدری وصلته ، ثم نؤولهما بمصدر - ولا نلجأ ابتداء إلی المصدر الصریح؟ لم نقول - مثلا - : یحسن أن تأکل ، ولا نقول : یحسن أکلک؟
إن الداعی للعدول عن المصدر الصریح إلی المؤول أمور هامة تتعلق بالمعنی أو بالضوابط النحویة. فمن الأولی :
1 - الدلالة علی زمان الفعل ؛ سواء أکان ماضیا نحو : الشائع ان حضرت ، أم مستقبلا ؛ نحو : الشائع أن تحضر. فلو قلنا - أول الأمر - الشائع حضورک ، لم ندر زمن الحضور ؛ أمضی ، أم لم یمض؟ - کما سیجیء فی «د» -
2 - الدلالة علی أن الحکم مقصور علی المعنی المجرد للفعل ؛ من غیر نظر لوصف یلابسه ، أو لشیء آخر یتصل به ؛ نحو : أعجبنی أن أکلت ، أی مجرد أکلک لذاته ؛ لا لاعتبار أمر خارج عنه ؛ ککثرته ، أو قلته ، أو : بطئه ، أو سرعته ، أو حسن طریقته ، أو قبحها ... ولو قلنا : أعجبنی أکلک ... لکان محتملا لبعض تلک الأشیاء والحالات.
3 - الدلالة علی أن حصول الفعل جائز لا واجب ، نحو : ظهر أن یسافر إبراهیم. فالسفر هنا جائز. ولو قلنا : ظهر سفر إبراهیم لساغ أن یسبق إلی بعض الأذهان أن هذا الأمر واجب.
4 - الحرص علی إظهار الفعل مبنیا للمجهول ؛ تحقیقا للغرض من حذف فاعله. وذلک عند إرادة التعجب من الثلاثی المبنی للمجهول ؛ ففی مثل : عرف الحق ، یقال : ما
ص: 377
أحسن ما عرف الحق. وکذلک فی حالات أخری من التعجب یجیء بیانها فی بابه - ح 3 -
ومن الثانیة الفروق الآتیة بین المصدر المؤول والمصدر الصریح :
1 - أنه لا یصح وقوع المصدر المؤول من «أن» والفعل مفعولا مطلقا مؤکدا للفعل ؛ فلا یقال : فرحت أن أفرح. فی حین یصح أن یؤکّد الفعل بالمصدر الصریح ؛ مثل : فرحت فرحا.
2 - لا یصح أن یوصف المصدر المؤول ؛ فلا یقال : یعجبنی أن تمشی الهادئ ، ترید : یعجبنی مشیک الهادئ. مع أن الصریح یوصف.
3 - قد یسد المصدر المؤول من «أن» والفعل مسد الاسم والخبر فی مثل : عسی أن یقوم الرجل ؛ علی اعتبار «عسی» ناقصة (1) ، والمصدر المؤول من «أن» والمضارع وفاعله یسد مسد اسمها وخبرها معا. ولیس کذلک الصریح.
4 - قد یسد المصدر المؤول من «أن» والفعل مسد المفعولین فیما یحتاج إلی مفعولین ؛ مثل : «حسب» فی قوله تعالی : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا ..) ولیس کذلک الصریح. ومثل هذا یقال فی : «أنّ» و «أن» الناسختین - أی :المشدّدة والمخففة - مثل قول الشاعر :
فإنک کاللیل الذی هو مدرکی
وإن خلت أن المنتأی (2)
عنک واسع
5 - یصح أن یقع المصدر المؤول خبرا عن الجثة من غیر تأویل فی نحو : علیّ إما أن یقول الحق وإما أن یسکت ؛ لاشتماله علی الفعل والفاعل والنسبة بینهما بخلاف المصدر الصریح.
* * *
(د) من المعلوم (3) أن المصدر الصریح (مثل ، أکل - شرب - قیام - قعود) لا یدل علی زمن مطلقا ، وکذلک المصدر المؤول الذی یکون نتیجة سبک الحرف المصدری وصلته ؛ فإنه - وقد صار مصدرا - لا یدل بنفسه علی زمن
ص: 378
مطلقا. ولکن تبقی الدلالة علی الزمن ملحوظة ، ومستفادة من العبارة الأصلیة التی سبک منها ؛ فکأنه یحمل فی طیه الزمن الذی کان فی تلک العبارة قبل السبک. أما هو فلا یدل بذاته المجردة علی زمن. وبالرغم من هذا لا یمکن معه إغفال الزمن السابق علی السبک ، وخاصة بعد أن عرفنا أن ذلک الزمن قد یکون سببا من أسباب اختیار المصدر المؤول دون الصریح ؛ ففی نحو : شاع أن نهض العرب فی کل مکان - نقول : «شاع نهوض العرب فی کل مکان» ، فیکون زمن النهوض ماضیا علی حسب الزمن الذی فی الأصل قبل التأویل ، لا علی حسب المصدر المؤول ذاته ؛ فإنه مجرد من الزمن. أما فی مثل : «الشائع أن ینهض العرب فی کل مکان» فیکون المصدر المؤول هو : «الشائع نهوض العرب» ، أیضا فیکون زمن النهوض هنا مستقبلا ؛ مراعاة للزمن الذی فی العبارة الأولی. لهذا کان المصدر المؤول من «أن» وصلتها ملاحظا فیه الزمن الماضی أو المستقبل علی حسب نوع الفعل الذی دخل فی السبک ؛ أماض هو فیلاحظ المضی بعد التأویل؟ أم مضارع فیلاحظ الزمن بعد التأویل مستقبلا؟ ولا یکون للحال ، لأن المضارع المنصوب «بأن» یتخلص للاستقبال ، ولا یکون للحال (1). ومثلها : «لو» المصدریة فإنها بمعناها تخلص زمنه للاستقبال وإن کانت لا تنصبه - کما تقدم عند الکلام علیها (2) - وکذا : «ما» المصدریة فإنها لا تنصبه ، وإذا دخلت علی جملة مضارعیة کان المصدر المنسبک منها ومن صلتها للحال - غالبا - وقد تکون لغیره (3).
أما «کی» فالمصدر المنسبک منها ومن صلتها مستقبل الزمن ، وذلک علی
ص: 379
أساس أنها لا تدخل إلا علی المضارع فتنصبه - وتخلصه للزمن المستقبل فقط ، وذلک شأن النواصب کلها - فیلاحظ الاستقبال فی المصدر المؤول منها ومن صلتها.
وأما «أنّ» (المشددة النون) فالمصدر المنسبک منها ومن صلتها یکون علی حسب دلالة الصلة ؛ فقد یکون مستقبلا إذا کان خبرها دالا علی ذلک ؛ کالمضارع الخاص بالاستقبال لوجود قرینة ، فی مثل ؛ أعرف أن محمدا یسافر غدا ؛ وهی کلمة ؛ «غد» وقد یکون دالا علی الحال لوجود قرینة ؛ فی مثل : أعرف أن عالما یقرأ الآن ؛ وهی کلمة : «الآن» وقد یکون دالا علی الماضی نحو شاع أن العدو انهزم. وقد یکون خالیا من الدلالة الزمنیة فی مثل : المحمود أن الجو معتدل والمعروف أن الصدق فضیلة.
ص: 380
1 - زارنی صدیق - زارنی صدیق ؛ فأکرمت الصدیق.
2 - اشتریت کتابا - اشتریت کتابا ؛ فقرأت الکتاب.
3 - تنزهت فی زورق - تنزهت فی زورق ؛ فتهادی الزورق بی.
کلمة : «صدیق» فی المثال الأول مبهمة : لأنها لا تدل علی صدیق معین معهود ؛ فقد یکون محمدا ، أو : علیّا ، أو : محمودا ، أو : غیرهم من الأشخاص الکثیرة التی یصدق علی کل واحد منهم أنه : «صدیق» ، فهی نکرة. لکن حین أدخلنا علیها «أل» دلت علی أن صدیقا معینا - هو الذی سبق ذکره - قد زارنی دون غیره من باقی الأصدقاء.
ومثلها کلمة : «کتاب» فی المثال الثانی ، فإنها مبهمة لا تدل علی کتاب معیّن ؛ بل تنطبق علی عشرات ومئات من الکتب ؛ فهی نکرة ؛ والنکرة لا تدل علی معین - کما عرفنا - لکن حین أدخلنا علیها : «أل» وقلنا : «الکتاب» صارت تدل علی أن کتابا معینا - هو الذی سبق ذکره - قد اشتریته. ومثل هذا یقال فی کلمة : «زورق» ؛ فإنها نکرة لا تدل علی زورق معروف.
وحین أدخلنا علیها «أل» صارت تدل علی واحد معین تنزهت فیه. فکل کلمة من الکلمات الثلاث وأشباهها کانت فی أول أمرها نکرة ، ثم صارت بعد ذلک معرفة ؛ بسبب دخول : «أل» علیها. لهذا قال النحاة : إن «أل» التی من الطراز السابق أداة من أدوات التعریف ؛ إذا دخلت علی النکرة
ص: 381
جعلتها (1) معرفة ؛ کالأمثلة السابقة ونظائرها.
ولیس مما یناسبنا الیوم أن نذکر آراء القدماء فی کلمة «أل» التی هی حرف للتعریف ؛ أهی کلها التی تعرّف ، أم اللام وحدها ، أم الهمزة وحدها ...؟ فإن هذا التردید لا طائل وراءه بعد أن اشتهر الرأی القائل بأنهما معا (2). ولکن الذی یناسبنا تردیده هو ما یقولونه من أن کلمة «أل» عدة أقسام (3) منها :
ص: 382
الموصولة وهی اسم - فی الرأی الأرجح - وقد سبق الکلام علیها فی الموصولات (1). ومنها المعرّفة ، ومنها الزائدة. وفیما یلی بیان هذین القسمین.
(ا) «أل» المعرّفة ؛ (أی : التی تفید التعریف).
وهی نوعان ؛ نوع یسمی : «أل» العهدیة (أی : التی للعهد) ونوع یسمی : «أل» الجنسیة ، وکلاهما حرف (2).
فأما «العهدیة (3)» فهی التی تدخل علی النکرة فتفیدها درجة من التعریف تجعل مدلولها فردا معینا بعد أن کان مبهما شائعا. وسبب هذا التعریف والتعیین یرجع لواحد مما یأتی :
1 - أن النکرة تذکر فی الکلام مرتین بلفظ واحد (4) ، تکون فی الأولی مجردة من «أل» العهدیة ، وفی الثانیة مقرونة «بأل» العهدیة التی تربط بین النکرتین ، وتحدد المراد من الثانیة : بأن تحصره فی فرد واحد هو الذی تدل علیه النکرة الأولی (5). کالأمثلة الأولی ، ونحو : نزل مطر ؛ فأنعش المطر زروعنا. أقبلت سیارة ، فرکبت
ص: 383
السیارة. وقوله تعالی : (کَما أَرْسَلْنا إِلی فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ). فکل کلمة من الثلاث : (مطر - سیارة - رسول) وأشباهها قد ذکرت مرتین ؛ أولاهما بغیر «أل» فبقیت علی تنکیرها ، وثانیتهما مقرونة بأل العهدیة التی وظیفتها الربط بین النکرتین ربطا معنویّا یجعل معنی الثانیة فردا محدودا محصورا فیما دخلت علیه وحده ، والذی معناه ومدلوله هو النکرة السابقة ذاتها. وهذا التحدید والحصر هو الذی جعل الثانیة معرفة ؛ لأنها صارت معهودة عهدا ذکریّا ، أی : معلومة المراد والدلالة ؛ بسبب ذکر لفظها فی الکلام السابق ذکرا أدی إلی تعیین الغرض وتحدیده بعد ذلک ، وأن المراد فی الثانیة فرد معین (1) ؛ هو السابق ، وهذا هو ما یسمی : «بالعهد الذّکری».
2 - وقد یکون السبب فی تعریف النکرة المقترنة بأل العهدیة هو أن «أل» تحدد المراد من تلک النکرة ، وتحصره فی فرد معین تحدیدا أساسه علم سابق فی زمن انته قبل الکلام ، ومعرفة قدیمة فی عهد مضی قبل النطق ، ولیس أساسه ألفاظا مذکورة فی الکلام الحالی. وذلک العلم السابق ترمز إلیه «أل» العهدیة وتدل علیه ، وکأنها عنوانه. مثال ذلک ؛ أن یسأل طالب زمیله : ما أخبار الکلیة؟ هل کتبت المحاضرة؟ أذاهب إلی البیت؟ فلا شک أنه یسأل عن کلیة معهودة لهما من قبل ، وعن محاضرة وبیت معهودین لهما کذلک. ولا شیء من ألفاظ السؤال الحالیة تشیر إلی المراد إلا : «أل» ؛ فإنها هی التی توجه الذهن إلی المطلوب. وهذا هو ما یسمی : «العهد الذهنی» أو : «العهد العلمی».
3 - وقد یکون السبب فی تعریف تلک النکرة حصول مدلولها وتحققه فی وقت الکلام ، بأن یبتدئ الکلام خلال وقوع المدلول وفی أثنائه ؛ کأن تقول : (الیوم یحضر والدی). - (یبدأ عملی الساعة) - (البرد شدید اللیلة) ... ترید من «الیوم» و «الساعة» و «اللیلة» ؛ ما یشمل الوقت الحاضر الذی أنت فیه خلال الکلام. ومثل ذلک : أن تری الصائد یحمل بندقیته فتقول له : الطائر. أی : أصب الطائر الحاضر وقت الکلام. وأن تری کاتبا یحمل بین أصابعه قلما فتقول له : الورقة. أی : خذ الورقة الحاضرة الآن. وهذا هو «العهد الحضوری» (2).
ص: 384
فأنواع العهد ثلاثة : «ذکریّ» ، و «ذهنیّ أو علمیّ» ، و «حضوری». وللثلاثة رمز مشترک یدخل علی کل نوع منها هو : «أل». وتسمی : «أل» التی للعهد ، أو : «أل» العهدیة (1). فإذا دخلت علی النکرة جعلتها تدل علی فرد معین دلالة تقترب من دلالة العلم الشخصی بذاته لا برمز آخر (2). ولهذا کانت «أل» العهدیة تفید النکرة درجة من التعریف تقربها من درجة العلم الشخصی ، وإن لم تبلغ مرتبته وقوته ؛ وإنما تجعلها فی المرتبة التی تلیه مباشرة.
* * *
وأما : «أل الجنسیة» فهی الداخلة علی نکرة تفید معنی الجنس المحض من غیر أن تفید العهد (3). ومثالها ؛ النجم مضیء بذاته ، والکوکب یستمد الضوء من غیره ... فالنجم ، والکوکب ، والضوء ، معارف بسبب دخول «أل» علی کل منها ، وکانت قبل دخولها نکرات (وشأن النکرات کشأن اسم الجنس (4) ، لا تدل علی واحد معین) ولیس فی الکلام ما یدل علی العهد.
ولدخول «أل» هذه علی الأجناس سمیت : «أل» «الجنسیة». وهی أنواع من ناحیة دلالتها المعنویة ، ومن ناحیة إفادة التعریف.
ص: 385
1 - فمنها التی تدخل علی واحد من الجنس فتجعله یفید الشمول والإحاطة بجمیع أفراده إحاطة حقیقیة ؛ لا مجازا ولا مبالغة (1) ، بحیث یصح أن یحل محلها لفظة «کل» فلا یتغیر المعنی ؛ نحو : النهر عذب ، النبات حی ، الإنسان مفکر ، المعدن نافع ... فلو قلنا : کل نهر عذب ، کل نبات حی ، کل إنسان مفکر ، کل معدن نافع ... بحذف «أل» فی الأمثلة کلها ووضع کلمة : «کلّ» مکانها - لبقی المعنی (2) علی حالته الأولی.
وما تدخل علیه «أل» من هذا النوع یکون لفظه معرفة ؛ تجری علیه أحکام المعرفة (3) ، ویکون معناه معنی النکرة المسبوقة بکلمة : کل ؛ فیشمل کل فرد من أفراد مدلولها ، مثل کلمة «الملک» فی قول الشاعر :
إذا الملک الجبّار صعّر خدّه (4)
مشینا إلیه بالسیوف نعاتبه
2 - ومنها التی تدخل علی واحد من الجنس ، فتجعله یفید الإحاطة والشمول ؛ لا بجمیع الأفراد ، ولکن بصفة واحدة من الصفات الشائعة بین تلک الأفراد ؛ وذلک علی سبیل المجاز والمبالغة ؛ لا علی سبیل الحقیقة الواقعة ؛ نحو : أنت الرجل علما ، وصالح هو الإنسان لطفا ، وعلیّ هو الفتی شجاعة. ترید : أنت کل الرجال من ناحیة العلم ، أی : بمنزلتهم جمیعا من هذه الناحیة ، فإنک جمعت من العلم ما تفرق بینهم ؛ ویعدّ موزعا علیهم بجانب علمک الأکمل المجتمع فیک ؛ فأنت تحیط بهذه الصفة (صفة العلم) إحاطة شاملة لم تتهیأ إلا للرجال کلهم مجتمعین. وکذلک صالح من ناحیة الأدب ؛ فهو فیه بمنزلة الناس کلهم ؛ نال منه ما نالوه مجتمعین. وکذلک علی ؛ بمنزلة الفتیان کلهم فی الشجاعة ؛
ص: 386
أدرک وحده من هذه الصفة ما توزع بینهم ، ولم یبلغوا مبلغه إلا مجتمعین. وکل هذا علی سبیل المبالغة والادعاء (1).
وحکم ما تدخل علیه «أل» من هذا النوع کحکم سابقه لفظا ومعنی.
3 - ومنها التی لا تفید نوعا من نوعی الإحاطة والشمول السابقین ؛ وإنما تفید أن الجنس یراد منه حقیقته القائمة فی الذهن ، ومادته التی تکوّن منها فی العقل بغیر نظر إلی ما ینطبق علیه من أفراد قلیلة أو کثیرة ، ومن غیر اعتبار لعددها. وقد یکون بین تلک الأفراد ما لا یصدق علیه الحکم. ، نحو : الحدید أصلب من الذهب ، الذهب أنفس من النحاس. ترید : أن حقیقة الحدید (أی : مادته وطبیعته) أصلب من حقیقة الذهب (أی : من مادته وعنصره) من غیر نظر لشیء معین من هذا أو ذاک ؛ کمفتاح من حدید ، أو خاتم من ذهب ؛ فقد توجد أداة من نوع الذهب هی أصلب من أداة مصنوعة من أحد أنواع الحدید ؛ فلا یمنع هذا من صدق الحکم السالف الذی ینص علی أن الحدید فی حقیقته أصلب من الذهب فی حقیقته من غیر نظر إلی أفراد کل منهما - کما سبق - إذ أنک لا ترید أن کل قطعة من الأول أصلب من نظیرتها فی الثانی ؛ لأن الواقع یخالفه ومثل هذا أن تقول : الرجل أقوی من المرأة ، أی : أن حقیقة الرجل وجنسه من حیث عنصره المتمیز - لا من حیث أفراده - أقوی من حقیقة المرأة وجنسها من حیث هی کذلک ، من غیر أن ترید أن کل واحد من الرجال أقوی من کل واحدة من النساء ، لأنک لو أردت هذا لخالفک الواقع. وهکذا یقال فی : الذهب أنفس من النحاس ، وفی : الصوف أغلی من القطن ، وفی : الفحم أشد نارا من الخشب ... وفی الماء ، والتراب ، والهواء ، والجماد ، والنبات. تقول : الماء سائل : أی : أن عنصره وطبیعته من حیث هی مادة تجعله فی عداد السوائل ، من غیر نظر فی ذلک إلی أنواعه ، أو أفراده ، أو شیء آخر منه ؛ فتلک حقیقته ؛ أی : مادته الأصلیة التی قام علیها. وتقول : التراب غذاء النبات ، أی : أن عنصره وطبیعته کذلک ؛ فهی حقیقته الذاتیة ، وماهیته التی عرف بها من حیث
ص: 387
هی. وتقول : الهواء لازم للأحیاء ؛ أی : أن عنصره ومادته وحقیقته کذلک ... وهکذا.
وتسمی «أل» الداخلة علی هذا النوع «أل» التی للحقیقة ، أو : للطبیعة ، أو للماهیة (1) فلا علاقة لها بالإحاطة بالأفراد ، أو بصفاتهم ، أو بعدم الإحاطة.
وتفید ما دخلت علیه نوعا من التعریف یجعله فی درجة علم الجنس (2) لفظا ومعنی.
فمعانی «أل الجنسیة» إما إفادة الإحاطة والشمول بکل أفراد الجنس حقیقة ، لا مجازا ، وإما إفادة الإحاطة والشمول لا بأفراد الجنس ؛ وإنما بصفة من صفاته وخصائصه علی سبیل المبالغة والادعاء (3) والمجاز ، وإما بیان الحقیقة الذاتیة ، دون غیرها.
ص: 388
هی التی تدخل علی المعرفة أو النکرة فلا تغیر من تعریفها أو تنکیرها (1). وربما أفادتها شیئا آخر ، - کما سیجیء -. فمثال دخولها علی المعرفة : المأمون بن الرشید من أشهر خلفاء بنی العباس. فالکلمات «مأمون» ، و «رشید» و «عباس» ، معارف بالعلمیة قبل دخول «أل». فلما دخلت علیها لم تفدها تعریفا جدیدا. ومثال دخولها علی النکرة ما سمع من قولهم : «ادخلوا الأول فالأول ...» وأشباهها. فکلمة «أول» نکرة لأنها حال (2) ولم تخرجها «أل» عن التنکیر.
و «أل الزائدة» نوعان ، کلاهما حرف ؛ (3) نوع تکون فیه زائدة لازمة وهی التی اقترنت باسم معرفة کبعض الأعلام منذ استعماله علما ؛ فلم یوجد خالیا منها منذ علمیته ... (4) ولا تفارقه بعد ذلک مطلقا. (برغم زیادتها) کبعض أعلام مسموعة عن العرب لم یستعملوها بغیر «أل» ؛ مثل : السموءل (5) ، والیسع (6) ، واللات (7) والعزّی (8). وکبعض الظروف المبدوءة بأل ، مثل : «الآن» (9) للزمن الحاضر ، وبعض
ص: 389
أسماء الموصولات المصدرة بها ، کالتی ، والذی ، والذین ، واللاتی ... ومن الزائدة اللازمة «أل» التی للغلبة ، وسیجیء بیانها (1) ...
ونوع تکون فیه زائدة عارضة (أی : غیر لازمة) فتوجد حینا وحینا لا توجد ؛ وهذا النوع ضربان : ضرب اضطراری یلجأ إلیه الشعراء وحدهم عند الضرورة ؛ لیحافظوا علی وزن الشعر وأصوله ؛ کقول القائل :
ولقد جنیتک (2) أکمؤا
وعساقلا
ولقد نهیتک عن بنات الأوبر (3)
فقد أدخل الشاعر «أل» علی کلمة : «أوبر» مضطرا ؛ مع أن العرب حین تستعملها علم جنس تجردها من «أل» ؛ فتقول : بنات أوبر. ومثل قول الشاعر :
رأیتک لمّا أن عرفت وجوهنا
صددت وطبت النفس یا قیس عن عمر (4)
فقد أدخل الشاعر «أل» علی کلمة : «النفس» التی هی تمییز ، والتمییز - علی المشهور - لا تدخله «أل» ، وکان الأصل أن یقول : طبت نفسا. ولکن الضرورة (5) الشعریة قهرته (6).
وضرب اختیاری یلجأ إلیه الشاعر وغیر الشاعر لغرض یرید أن یحققه هو : لمح الأصل ؛ وبیانه : أن أکثر الأعلام منقول عن معنی سابق کان یؤدیه قبل
ص: 390
أن یصیر علما ، ثم انتقل إلی العلمیة ، وترک معناه السابق ؛ مثل : عادل ، ومنصور ، وحسن ؛ فقد کان المعنی السابق لها - وهی مشتقات - : ذات فعلت العدل. أو وقع علیها النصر ، أو اتصفت بالحسن ، ولا دخل للعلمیة بواحد منها ... ثم صار کل واحد بعد ذلک علما یدل علی مسمّی معین ، ولا یدل علی شیء من المعنی السابق ؛ فکلمة : عادل ، أو : منصور ، أو : حسن ، أو : ما شابهها - قد انقطعت صلتها بمعناها السابق بمجرد نقلها منه إلی الاستعمال الثانی.
وهو : العلمیة ، وصارت بعد العلمیة اسما جامدا لا ینظر إلی أصله المشتق.
فإذا أردنا ألا تنقطع تلک الصلة المعنویة ، وأن تبقی الکلمة المنقولة مشتملة علی الأمرین معا ، وهما : معناها الأصلی السابق ، ودلالتها الجدیدة وهی : العلمیة ، فإننا نزید فی أولها : «أل» لتکون رمزا دالا علی المعنی القدیم تلمیحا ؛ فوق دلالته علی المعنی الجدید ، وهو : العلمیة مع الجمود ؛ فنقول : العادل ، والمنصور ، والحسن ، فتدل علی العلمیة بذاتها وبمادتها واعتبارها جامدة ، وتدل علی المعنی القدیم «بأل» التی تشیر وتلمح إلیه. ولهذا تسمی : «أل التی للمح الأصل». ومن هنا دخلت فی کثیر من الأعلام المنقولة الصالحة لدخولها ؛ لتشیر إلی معانیها القدیمة التی تحوی المدح أو الذم ، والتفاؤل ، أو التشاؤم ؛ نحو ؛ الکامل ، المتوکل ، السعید ؛ الضحاک ، الخاسر ، الغراب ، الخلیع ، المحروق ... وغیر ذلک من الأعلام المنقولة قدیما وحدیثا (1).
والنقل قد یکون من اسم معنوی جامد ؛ کالمصادر فی مثل : الفضل ، والصلاح والعرفان ... وقد یکون من اسم عین جامد ؛ کالصخر ، والحجر ، والنعمان (2) ، والعظم ... وقد یکون من کلمات مشتقة فی أصلها کالهادی ، والحارث ، والمبارک والمستنصر ، ویهمل هذا الاشتقاق بعد العلمیة فتعدّ من الجامد - کما سبق - فالأعلام السابقة یجوز أن تدخلها «أل» عند إرادة الجمع بین لمح الأصل والعلمیة ، کما یجوز حذفها عند الرغبة فی الاقتصار علی العلمیة وحدها. والأعلام فی الحالتین جامدة.
ص: 391
أما من ناحیة التعریف والتنکیر فوجود «أل» التی للمح الأصل وحذفها سیان.
- کما تقدم (1) -.
والأعلام کلها صالحة لدخول «أل» هذه ، إلا العلم المرتجل (2) ؛ کسعاد ، وأدد ، وإلا العلم المنقول الذی لا یقبل «أل» بحسب أصوله ؛ إما لأنه علی وزن فعل من الأفعال ؛ والفعل لا یقبلها ؛ مثل : یحین ، یزید ، تعز ، یشکر ، شمّر ... ، وإما لأنه مضاف ؛ والمضاف لا تدخله «أل» ؛ نحو : عبد الرءوف ، وسعد الدین ، وأبو العینین.
من کل ما سبق نعلم أن أشهر أنواع «أل» هو : الموصولة ، والمعرفة بأقسامها ، والزائدة بأقسامها.
* * *
ص: 392
(1) المعارف متفاوتة فی درجة التعریف - کما سبق (2) - ؛ فبعضها أقوی من بعض وعلم الشخص أقوی من المعرف «بأل» العهدیة ، وأقوی من المضاف لمعرفة. غیر أن کل واحد من هذین قد یصل فی قوة التعریف إلی درجة علم الشخص ، ویصیر مثله فی الأحکام الخاصة به ، ولبیان ذلک نقول :
إن کلّا من المعرف «بأل» العهدیة والمضاف قد یکون ذا أفراد متعددة ؛ فالکتاب - مثلا - ینطبق علی عشرات ، ومئات وألوف من الکتب (3) ، وکذلک النجم ، والمنزل ، والقلم ... وکتاب سعد ، یصدق علی کل کتاب من کتبه المتعددة ، ومثله : قلم عمرو ، وثوب عثمان ...
غیر أن فردا واحدا من أفراد المعرف «بأل» أو المضاف قد یشتهر اشتهارا بالغا دون غیره من باقی الأفراد ؛ فلا یخطر علی البال سواه عند الذکر ؛ بسبب شهرته التی غطت علی الأفراد الأخری ، وحجبت الذهن عنها. ومن أمثلة ذلک : المصحف ، الرسول ، السّنّة ، ابن عباس (4) ، ابن عمر ، ابن مسعود ؛ فالمراد الیوم من المصحف : کتاب الله وقرآنه الکریم ... ومن الرسول : النبی محمد
ص: 393
علیه السّلام ، ومن السنة : ما ثبت عنه من قول ، أو فعل ، أو تقریر (1). کما أن المراد من : ابن عباس هو : عبد الله ، بن عباس ، بن عبد المطلب (2) ... دون باقی أبناء العباس. وکذلک المراد من : ابن عمر ، هو : عبد الله بن عمر بن الخطاب ، دون إخوته من أولاد عمر. وکذلک المراد من : ابن مسعود ، هو : عبد الله بن مسعود أیضا دون إخوته. وکانت تلک الکلمات فی الأصل قبل اشتهارها ، معرفة ؛ لاشتمالها علی نوع من التعریف ، ولکنها لا تبلغ فیه درجة العلم الشخصیّ ؛ إذ لیست أعلاما شخصیة. فلا تدل علی واحد بعینه ؛ إذ الأصل فی کلمة : «المصحف» أن تنطبق علی کل غلاف یحوی صحفا. وفی کلمة : «الرسول» أن تنطبق علی کل إنسان أرسل من جهة إلی جهة معینة. وفی کلمة : «السنة» أن تنطبق علی کل طریقة مرسومة ، وفی کلمة : «ابن فلان» أن تنطبق علی کل ابن من أبناء ذلک الرجل. لکن اشتهرت کل کلمة مما سبق - بعد التعریف - فی فرد ، واقتصرت علیه ؛ بحیث إذا أطلقت لا تنصرف لغیره ؛ فقوی التعریف فیها ، وارتفع إلی درجة أرقی من الأولی ؛ تسمی : درجة العلم بالغلبة (أی : التغلب بالشهرة) وهی درجة تلحقه بالعلم الشخصی (3) فی کل أحکامه. فمظهر الکلمة أنها معرفة «بأل» أو بالإضافة ، ولکن حقیقتها أنها معرفة بعلمیة الغلبة. وهی فی درجة علم الشخص - کما قلنا - وتلغی معها الدرجة القدیمة. ومن أمثلة العلم بالغلبة : المدینة (4) ، العقبة (5) ، الهرم (6) ... مجلس
ص: 394
الأمن (1) ، جمعیة الأمم (2) ، إمام النحاة (3) ... وغیرها مما هو علم بالغلبة (4) : کالنابغة ، أو الأعشی ، أو الأخطل ... وأصل النابغة : الرجل العظیم ، وأصل الأعشی : من لا یبصر لیلا ، وأصل الأخطل : الهجّاء ، ثم غلب علی کل ما سبق الاستعمال فی العلمیة وحدها.
و «أل» فی الأعلام السابقة - ونظائرها - قسم من «أل» الزائدة اللازمة - کما أشرنا - (5) ولکنه قسم مستقل ، یسمی : «أل» التی للغلبة ، وبالرغم من من أنها زائدة ، ولازمة لا تفارق الاسم الذی دلت علیه - فإنها تحذف وجوبا عند ندائه ، أو إضافته ؛ مثل : یا رسول الله قد بلغت رسالتک. هذا مصحف عثمان ؛ یا نابغة ، أسمعنا من طرائفک ... فشأنها فی الحالتین المذکورتین من جهة الحذف وعدمه شأن «أل» المعرفة (6) - فی الرأی الأرجح -
أما العلم بالغلبة إذا کان مضافا ، فإن إضافته تلازمه ولا تفارقه فی نداء ، ولا فی غیره : تقول فی النداء : یابن عمر قد أحسنت ، ویا بن عباس قد
ص: 395
أفدت الناس بفقهک ، ویا بن مسعود قد حققت لنا کثیرا من أحادیث الرسول ...
وإذا اقتضی الأمر إضافته (1)
فإنه یضاف مع بقائه الإضافة
الأولی (2) ، تقول : أنت ابن عمرنا العادل ، وهذا ابن عباسنا زعیم الفتوی.
ص: 396
إذا أرید تعریف العدد «بأل» فإما أن یکون مضافا (1) ، أو مرکبا (2) ، أو مفردا (3) ، أو معطوفا (4). فإذا کان العدد مضافا وأردنا تعریفه «بأل» فالأحسن إدخالها علی المضاف إلیه وحده - أی : علی المعدود - ؛ نحو : عندی ثلاثة الأقلام ، وأربع الصحف ، ومائة الورقة ، وألف (5) القرش. وعندئذ یکتسب المضاف التعریف من المضاف إلیه فی هذه الإضافة المحضة (6). والکوفیون یجیزون إدخال «أل» علیهما معا ویحتجون بشواهد متعددة ، تجعل مذهبهم مقبولا ، وإن کان غیر فصیح (7) ...
ص: 397
وإذا کان العدد مرکبا فالأحسن إدخالها علی الجزء الأول منه ؛ نحو : قرأت الأحد عشر کتابا ، وسمعت الخمس عشرة أنشودة ...
وإذا کان مفردا - أی : أنه من العقود - دخلت علیه مباشرة ؛ نحو : فی حدیقتنا العشرون کرسیّا ، والثلاثون شجرة ، والأربعون زهرة ...
وإذا کان معطوفا فالأحسن دخولها علی الاسمین لتعریفهما معا ؛ نحو : أنفقت الواحد والعشرین درهما ، وکتبت الخمسة والعشرین سطرا ...
وإذا کان المضاف إلیه - وهو المعدود - معرفا «بأل» فإن المضاف یکتسب منه التعریف فی الإضافة المحضة کما سبق ، سواء أکانا متصلین لا فاصل بینهما ، نحو : هذه ثلاثة الأبواب ، ومائة الیوم ، وألف الکتاب (1) - أم فصل بینهما اسم واحد ؛ نحو : هذه ثلاث قطع الأبواب ، وخمسمائة الألف - أم اسمان ، نحو : هذه ثلاث قطع خشب الأبواب ، وخمسمائة ألف الدرهم - أم ثلاثة أسماء ؛ نحو : هذه ثلاث قطع خشب صنوبر الأبواب ، وخمسمائة ألف درهم الرجل - أم أربعة ، نحو : هذه ثلاث قطع خشب صنوبر صناعة الأبواب ، وخمسمائة ألف درهم صاحب البیوت ... ویسری التعریف من المضاف إلیه الأخیر إلی ما قبله مباشرة ، فالذی قبله ... وهکذا حتی یصل إلی المضاف الأول ، فیکون معرفة کالمضاف إلیه ، وما بینهما. وهذا حکم کل إضافة محضة ؛ طالت بسبب الفواصل المضافة أم قصرت ، فإنک تعرّف الاسم الأخیر ؛ فیسری تعریفه إلی ما قبله ، فالذی قبله ، ... وهکذا حتی یصل إلی المضاف الأول (2). غیر أن کثرة الإضافات المتوالیة معیبة من الناحیة البلاغیة ؛ فلا نلجأ إلیها جهد استطاعتنا.
* * *
ص: 398
بقی من أنواع المعارف السبع نوعان ، سبق الکلام علیهما (1) بما ملخصه :
ا - أن النکرة التی تضاف لمعرفة - مثل : قلمی شبیه بقلمک - قد تکتسب منها التعریف ، وتصیر فی درجتها. أی : أن المضاف قد یکتسب التعریف من المضاف إلیه ، ویرقی فی التعریف إلی درجته. إلا إذا کانت النکرة مضافة إلی الضمیر فإنها تکتسب منه التعریف ، ولکنها ترقی فی التعریف إلی درجة : «العلم» - فی الرأی الصحیح - لا إلی درجة الضمیر.
وإنما یکتسب المضاف من المضاف إلیه التعریف علی الوجه السالف إذا کان المضاف لفظا غیر متوغل فی الإبهام ؛ فإن کان متوغلا فیه لم یکتسب التعریف - فی أکثر حالات استعماله - بإضافة ، أو غیرها ؛ کالأسماء : مثل - غیر - حسب (2) ...
ب - أن من أنواع المنادی نوعا واحدا یکتسب التعریف بالنداء ، وهذا النوع الوحید ، هو : «النکرة المقصودة ، مثل : یا شرطی ، أو یا حارس ... إذا کنت تنادی واحدا منهما معینا تقصده دون غیره. ذلک أن کلمة : «شرطیّ» وحدها ، أو : کلمة ، «حارس» وحدها نکرة ، لا تدل فی أصلها قبل النداء علی فرد معین» ، ولکنها تصیر معرفة بعد النداء ، بسبب القصد الذی یفید التعیین ، وتخصیص واحد بعینه ، دون غیره.
ودرجة هذا المنادی فی التعریف هی درجة اسم الإشارة ؛ لأن تعریف کل منهما یتم بالقصد الذی یعینه المشار إلیه فی اسم الإشارة والتخاطب فی المنادی النکرة المقصودة - کما سبقت الإشارة فی هامش رقم 1 من ص 142.
ص: 399
(ا) الشموس متعددة - الأقمار کثیرة - المحیطات خمس.
(ب) أمرتفع البناء - ما حسن الظلم - ما مکرم الجبان.
فی القسم الأول : (ا) کلمات تحتها خط ، کل واحدة منها اسم ، مرفوع ، فی أول الجملة ، خال من عامل (1) لفظی أصیل ، وبعده کلمة تتمم المعنی الأساسی للجملة : (أی : تتضمن الحکم بأمر من الأمور لا یمکن
ص: 400
أن تستغنی الجملة عنه فی إتمام معناها الأساسی ، کالحکم علی الشموس بالتعدد ؛ وعلی الأقمار بالکثرة ، وعلی المحیطات بأنها خمس ...) ذلک الاسم یسمی : «مبتدأ» والکلمة الأخری تسمی : «خبر» المبتدأ.
وفی القسم (ب) أمثلة لمبتدأ أیضا ، ولکنه غیر محکوم علیه بأمر ؛ لأنه وصف (1) یحتاج (2) إلی فاعل بعده ، أو نائب فاعل ؛ یتمم الجملة ، ویکمل معناها الأساسی ؛ مثل : کلمتی : «البناء» «والظلم» فإنهما فاعلان للوصف (3) ومثل کلمة : «الجبان» ؛ فإنها نائب فاعل له (4). وقد استغنی الوصف بمرفوعه عن الخبر.
مما سبق نعرف أن المبتدأ : اسم مرفوع فی أول جملته (5) ، مجرد من العوامل اللفظیة الأصلیة ، محکوم علیه بأمر. وقد یکون وصفا مستغنیا بمرفوعه فی الإفادة وإتمام الجملة. والخبر هو : اللفظ الذی یکمل المعنی مع المبتدأ (6) ، ویتمم (7)
ص: 401
ص: 402
معناها الأساسی. (بشرط أن یکون المبتدأ غیر وصف). ومن هنا کان المبتدأ نوعین ؛ نوعا یحتاج إلی خبر حتما - وقد یتحتم أیضا أن یکون هذا الخبر جملة أو شبهها کما سیأتی (1) - ، ونوعا لا یحتاج إلی خبر (2) ، وإنما یحتاج إلی مرفوع بعده یعرب فاعلا أو نائب فاعل (3). ولا بد فی هذا النوع أن یکون وصفا (4) منکّرا (5) ، وأن یکون رافعا لاسم بعده (6) یتمم المعنی (7) ؛ فإن لم یتمم المعنی لم یعرب الوصف مبتدأ مستغنیا بمرفوعه بالصورة السالفة ؛ ففی مثل : ما حاضر والده علیّ - لا یتم المعنی بالاقتصار علی الوصف مع مرفوعه ؛ أی : ما حاضر والده. وفی هذه الحالة یعرب الوصف (وهو کلمة : «حاضر»)
ص: 403
إعرابا آخر ؛ کأن نجعله خبرا مقدما ، و «والده» فاعله ، و (علی) مبتدأ (1) مؤخر ...
والأکثر فی الوصف الواقع مبتدأ أن یعتمد علی نفی ، أو استفهام ؛ بأن یسبقه شیء منهما کالأمثلة السالفة فی «ب» (2) ویجوز - بقلة - ألا یسبقه شیء منهما ؛ نحو : نافع أعمال المخلصین ، وخالد سیر الشهداء.
ولا فرق بین أن یکون المبتدأ اسما صریحا ؛ کالأمثلة السالفة - وأن یکون اسما بالتأویل ؛ نحو «أن تقتصد» أنفع لک ، «وأن تجنتب» الغضب أقرب للسلامة. أی : اقتصادک ... واجتنابک (3) ، وکقول الشاعر :
فما حسن أن یعذر (4)
المرء نفسه
ولیس له من سائر الناس عاذر
هذا ، والمبتدأ مع خبره أو مع مرفوعه الذی یستغنی به عن الخبر نوع من الجملة الاسمیة (5).
ص: 404
(ا) عرفنا أن العوامل الأصلیة لا تدخل علی المبتدأ ، أما غیر الأصلیة (وهی الزائدة وشبه الزائدة) فقد تدخل ؛ فمثال الزائدة «من» فی قوله تعالی : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَیْرُ)(1) اللهِ) ، ومثال شبه الزائدة : «ربّ» فی مثل : ربّ قادم غریب أفادنا. فکلمة : «من» حرف جر زائد ؛ دخل علی المبتدأ ؛ فجرّه فی اللفظ ، دون المحل. ولذلک نقول فی إعرابه : إنه مبتدأ مجرور بمن فی محل رفع (2).
وکذلک کلمة : «قادم» فإنها مبتدأ مجرور فی اللفظ بحرف الجر الشبیه بالزائد ، وهو : «ربّ» - فی محل رفع (3).
ص: 405
(ب) الوصف الذی له مرفوع یستغنی به عن الخبر هو الوصف المشتق الجاری مجری فعله فی کثیر من الأمور ، وأوضحها : المشارکة فی الحروف الأصلیة ، وحرکاتها وسکناتها ، وفی عمله ومعناه ... کاسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشتبهة ، وکذا اسم التفضیل ؛ فإنه قد یرفع الظاهر فی مثل : ما رأیت ورقة أحسن فی سطورها الخطّ منه فی ورقة محمود. فیقال هنا عند وقوعه مبتدأ : هل أحسن فی سطور هذه الورقة الخطّ منه فی سطور غیرها؟
ویلحق بالوصف ما أوّل به ؛ من کل جامد تضمن معناه ؛ مثل : أأسد الرجلان؟
بمعنی أشجاع الرجلان؟. والمنسوب ؛ نحو : أعربیّ الشاعران. أی : أمنسوب الشاعران للعرب؟ و «ذو» بمعنی صاحب ؛ نحو : أذو علم القادمان؟ بمعنی : أصاحب علم القادمان؟ والمصغر ؛ نحو : أصخیر المرتفعان ؛ لأنه بمعنی : صخر صغیر. فکل هذه الأنواع المؤولة تجری مجری المشتق فی أن لها مرفوعا فی بعض الأحیان (1) تستغنی به عن الخبر(2)
(ح) قلنا إن الوصف یسبقه فی الأکثر نفی ، أو استفهام ؛ فالنفی قد یکون بالحرف ؛ نحو : ما غائب الشاهدان ، أو بالفعل ؛ نحو : لیس محبوب الغادرون (3).
ص: 406
أو بالاسم ؛ نحو : غیر نافع (1) مال حرام. وغیرها من أدوات النفی التی تدخل علی الأسماء. بخلاف ما لا یدخل علیها ؛ مثل : لم ، ولمّا ، ولن ، فإنها أدوات نفی مختصة بالمضارع. وقد یکون النفی لفظیا ؛ لوجود لفظه کما سبق ، أو معنویا فی نحو : إنما قائم الحاضرون ، لأنه فی قوة : ما قائم إلا الحاضرون. وإذا نقض النفی بإلا لم یتغیر الحکم السابق ؛ نحو : ما قائم إلا الحاضرون.
وکذلک الاستفهام قد یکون بالحرف نحو : أحافظ الصدیقان العهد؟ هل عالم أنتما الخبر؟ أو بالاسم ؛ نحو : کیف جالس الضیوف؟ ومن مکرم الآباء! ومتی قادم السائحون؟.
وقد یکون الاستفهام مقدرا یدل علیه دلیل ؛ نحو : واقف الرجلان أم قاعدان؟ فوجود «أم» دلیل علی أنها مسبوقة باستفهام ؛ شأن «أم» التی لطلب التعیین. (وکلمة «کیف» حال من الفاعل وهو «ضیوف». مبنیة علی الفتح فی محل نصب (2). و «من» مفعول به لکلمة : مکرم ، مبنی علی السکون فی محل نصب. و «متی» ظرف لکلمة «قادم» مبنی علی السکون فی محل نصب).
(د) سبق أن المبتدأ الذی یستغنی بمرفوعه عن الخبر مقصور علی نوع معین من المشتقات (أی : من الوصف) ؛ وعلی الجامد المؤول بالمشتق وقد سبقت أمثلته. ومن أمثلته أیضا بعض أسالیب سماعیة وقع فیها المبتدأ اسما جامدا لیس له خبر ؛ وإنما له اسم مرفوع یغنی عن الخبر ؛ وذلک لتأول الجامد بالمشتق ،
ص: 407
کقولهم : لا نولک أن تفعل کذا ... یریدون : ما متناولک أن تفعل ... أی : لیس متناولک هذا الفعل ، فلیس هو الذی تتناوله. والمراد لا ینبغی ولا یلیق بک تناوله. فکلمة : «نول» جامدة ؛ لأنها مصدر بمعنی : التناول ، ولکنها مؤولة بالمشتق ؛ إذ معناها : متناول ، فهی بمعنی اسم المفعول ، وتعرب مبتدأ ، بمعنی : متناول ، والمصدر المؤول من أن والفعل والفاعل : (أن تفعل) فی محل رفع نائب فاعل لها. ولا مانع من أن تکون کلمة «نول» مبتدأ والمصدر المؤول فی محل رفع خبره. وبهذا لا تحتاج إلی تأویل.
وکذلک وردت أسالیب أخری قلیلة (لا یجوز القیاس علیها) وقع فیها المبتدأ وصفا لا خبر له ، ولا مرفوع یغنی عن الخبر ، منها ؛ أقل رجل یقول ذلک. والمراد ؛ قلّ رجل یقول ذلک (1) ؛ أی : صغر شأنه وحقر. فقیل إن المبتدأ لا یحتاج هنا إلی خبر ، وجملة : (یقول ذلک) صفة «لرجل» النکرة ؛ لأن حاجة النکرة إلی الصفة أشد من حاجة المبتدأ إلی الخبر ؛ فتفضّل الصفة علی الخبر ؛ فتغنی عنه. وقیل السبب هو : أن المبتدأ لیس مبتدأ فی المعنی ؛ إذ الکلام لیس مقصودا به التفضیل ؛ وإنما المعنی : قلّ رجل یقول ذلک ؛ فهو مبتدأ فی ظاهره ، فعل فی معناه وحقیقته ؛ فیکتفی بالمضاف إلیه الذی هو فاعل فی الأصل ، ویستغنی به عن الخبر. وقیل : إنه مبتدأ والجملة هی الخبر ؛ والأخذ بهذا الرأی وحده أوفق ؛ لمسایرته الأصل العام الذی یقضی بأن للمبتدأ خبرا ، أو مرفوعا یغنی عنه. علی أن هذا الأسلوب سماعی لا یجوز القیاس علیه ، فذکره لیفهمه من یراه فی النصوص المسموعة ؛ فیقتصر علیها فی الاستعمال.
ه - أشرنا فی (رقم 2 من هامش ص 403) إلی المبتدأ الذی لا یحتاج لخبر إن کان هذا المبتدأ وصفا ناسخا یعمل ؛ کالمثال الذی فی رقم 1 من هامش ص 511 کما أشرنا فی رقم 3 من هامش ص 406 إلی الناسخ الذی یحتاج لخبر منصوب فیستغنی عنه بمرفوع.
و - إذا کان الخبر هو الذی یتمم الفائدة مع المبتدأ - علی الوجه المشروح
ص: 408
فیما تقدم (1) فأین الخبر فی مثل : فلان - وإن کثر ماله - لکنه بخیل؟ وهذا تعبیر یتردد علی ألسنة بعض السابقین من المولدین الذین لا یستشهد بکلامهم ، ومثله : فلان - وإن کثر ماله - إلا أنه بخیل. وکلا التعبیرین ظاهر القبح والفساد بالرغم مما حاوله بعض متأخری النحاة - کما نقل الصبان (2) - من تأویله تأویلا غیر مستساغ ، لیصحح الأول علی أحد اعتبارین :
أولهما : أن جملة الاستدراک هی الخبر ، بشرط اعتبار المبتدأ مقیدا بالقید المستفاد من الجملة الشرطیة التی بعده ، فکأن المراد : فلان مع کثرة ماله بخیل ... أو فلان الکثیر المال بخیل ، والتکلف المعیب ظاهر فی هذا.
ثانیهما : أن یکون الخبر محذوفا والاستدراک منه ، أی : فلان دائب العمل وإن کثر ماله لکنه بخیل. وهذا الوجه المعیب ینطبق علی المثال الثانی أیضا (3).
ص: 409
المبتدأ الوصف مع مرفوعه ، وعدم تطابقه ...
إذا کان المبتدأ وصفا متقدما (2) فله مع مرفوعه حالتان ؛ إحداهما : أن یتطابقا فی الإفراد ، والتثنیة ، والجمع ، والأخری : ألا یتطابقا.
(ا) فإن تطابقا فی الإفراد مع تقدم الوصف (مثل : أحاضر القلم؟ - ما مهزوم الحقّ) جاز أن یعرب الوصف المتقدم مبتدأ والاسم المرفوع به فاعلا ، أو نائب فاعل ، علی حسب نوع الوصف (3) ، وجاز أن یعرب الوصف خبرا مقدما. والاسم المرفوع بعده مبتدأ مؤخرا. ففی المثال الأول یجوز أن تکون کلمة : «حاضر» مبتدأ ، وکلمة : «القلم» فاعل أغنی عن الخبر. ویجوز أن تکون کلمة : «حاضر» خبرا مقدما. والقلم مبتدأ مؤخرا.
وفی المثال الثانی یصح أن تکون کلمة : مهزوم ؛ مبتدأ «والحق» نائب فاعل أغنی عن الخبر. کما یجوز أن تکون کلمة : «مهزوم» خبرا مقدما و «الحق» مبتدأ مؤخرا.
والمطابقة فی الإفراد علی الوجه السابق الذی یبیح الإعرابین المذکورین تقتضی المطابقة فی التذکیر والتأنیث حتما ؛ فإن اختلفت فی مثل : «أمغرد فی الحدیقة عصفورة»؟ وجب إعراب الوصف مبتدأ ، والاسم المرفوع بعده فاعله أو نائب فاعل علی حسب نوع الوصف (4) ، ولا یصح إعراب الوصف خبرا مقدما
ص: 410
والاسم المرفوع مبتدأ مؤخرا ؛ وذلک لعدم تطابقهما فی التأنیث ؛ إذ لا یصح أن نقول : أعصفورة مغرد فی الحدیقة.
ومما یجوز فیه الأمران أیضا : أن یکون الوصف أحد الألفاظ التی یصح استعمالها بصورة واحدة فی الإفراد والتأنیث وفروعهما من غیر أن تتغیر صیغتها ؛ مثل کلمة : «عدو (1)» ، فیصح : اللص عدو - اللصان عدو - اللصوص عدو - اللصة عدو - اللصتان عدو - اللصات عدو ... فمثل هذه الکلمة التی یصح فیها أن تلزم صورة واحدة فی جمیع الأسالیب یجوز فیها إذا وقعت مبتدأ وبعدها اسم مرفوع : (مثل : أعدو اللص - أعدو اللصان - أعدو اللصوص - ....) أن یکون هذا الاسم المرفوع بها فاعلا لها أو نائب فاعل ، علی حسب نوع الوصف. کما یجوز أن یکون الوصف خبرا مقدما والمرفوع بعده مبتدأ مؤخرا. فهذه مسألة أخری یجوز فیها الأمران (2). ومثلها المصدر الذی یصح أن یستعمل بلفظ واحد فی استعمالاته المختلفة ؛ مثل : أحاضر عدل - أحاضران عدل - أحاضرون عدل ... و...
وإن تطابقا فی التثنیة أو الجمع (مثل : ما السابحان المحمدان - ما السابحون المحمدون) ، فالأحسن - فی رأی جمهرة النحاة (3) - أن یعرب الوصف خبرا مقدما والاسم المرفوع بعده مبتدأ مؤخرا (4).
ص: 411
(ب) وإن لم یتطابقا فإن کان الوصف مفردا ومرفوعه مثنی أو جمعا (مثل : أعالم المحمدان؟ أمحبوب المحمدون؟) صح الترکیب فی هذه الصورة الخالیة من المطابقة ، ووجب إعراب الوصف مبتدأ ، وإعراب مرفوعه فاعلا أو نائب فاعل - علی حسب حاجة الوصف - أغنی عن الخبر ، ولا یجوز أن یکون مرفوعه مبتدأ لئلا یترتب علی ذلک أن یکون المبتدأ مثنی أو جمعا والخبر مفردا ؛ وهذا لا یجوز ویتساوی فی هذا الحکم أن یکون مرفوع الوصف اسما ظاهرا. وضمیرا بارزا (1) ...
أما فی غیر هذه الصورة فلا یصح الترکیب ؛ ویکون الأسلوب فاسدا. فمن الصور الفاسدة : أن یکون الوصف مثنی والاسم المرفوع مفردا ؛ مثل : ما قائمان محمد ، أو یکون الوصف مثنی والاسم المرفوع جمعا ؛ نحو : أقائمان المحمدون؟. أو یکون الوصف جمعا ، والاسم المرفوع مفردا ، مثل : أحاضرون محمد؟ أو یکون الوصف جمعا والاسم المرفوع مثنی ؛ نحو : أحاضرون
ص: 412
الرجلان ... وهکذا کل صورة تخلو من المطابقة الصحیحة.
من کل ما تقدم یمکن تلخیص الحالات الإعرابیة الخاصة بالمبتدأ الوصف فی ثلاث(1):
الأولی : وجوب إعرابه مبتدأ یرفع فاعلا ، أو نائبه - إذا لم یطابق ما بعده. وهذه الحالة مقصورة علی أن یکون الوصف المتقدم مفردا ، والاسم المرفوع بعده مثنی أو جمعا ؛ نحو : أسابح المحمودان؟ - أسابح المحمودون؟
الثانیة : وجوب إعرابه خبرا (2) مقدما والاسم المرفوع بعده مبتدأ مؤخرا ، وذلک عند تطابقهما فی التثنیة أو فی الجمع ؛ نحو : أنائمان الرجلان؟ أنائمون الرجال؟
الثالثة : جواز الأمرین إن تطابقا فی الإفراد ، وما یقتضیه. (3) مثل أقاریء الجندیّ؟ وفی بعض مسائل سبقت الإشارة إلیها (4).
ص: 413
(ا) هناک أنواع أخری من المطابقة الواجبة ، أو الجائزة ، أو الممنوعة فیجب أن یکون الخبر مطابقا للمبتدأ فی الإفراد ، والتذکیر ، وفروعهما (1) ؛ بشرط أن یکون الخبر مشتقّا لا یستوی فیه التذکیر والتأنیث ، وأن یکون جاریا علی مبتدئه. ومن الأمثلة : محمود غائب ، المحمودان غائبان ، المحمودون غائبون. فاطمة غائبة. الفاطمتان غائبتان ، الفاطمات غائبات ... فلا تطابق فی مثل : زینب إنسان ، ولا مثل : أتعرف الدنیا خداعة؟ وهی إقبال وإدبار ؛ لعدم اشتقاق الخبر. ولا فی : هذا جریح ؛ لأن الخبر وصف یستوی فیه المذکر والمؤنث (وسیجیء فی باب التأنیث من الجزء الرابع تفصیل هذه المسألة) ولا فی : سعاد کریم أبوها ؛ لأن الخبر جار علی غیر مبتدئه.
وإذا کان المبتدأ جمعا لما لا یعقل جاز فی خبره أن یکون مفردا مؤنثا ، أو جمعا سالما مؤنثا ، أو جمع تکسیر للمؤنث ، أو جمع تکسیر للمذکر ؛ مراعاة لمفرده المذکر غیر العاقل - إن لم یمنع من الجموع السالفة مانع آخر - نحو : العقوبات رادعة ، أو رادعات ، أو روادع - البیوت عالیة ، أو عالیات ، أو عوال ، أو : أعال ، جمع أعلی.
فإن کان المبتدا جمع مؤنث للعاقل جاز فی خبره أن یکون مفردا مؤنثا ، أو جمع مؤنث سالما ، أو جمع تکسیر للمؤنث ؛ نحو المتعلمات نافعة ، أو نافعات ، أو نوافع. وقد سبق لهذا - ولحالات أخری - بیان عند الکلام علی تطابق الضمیر ومرجعه (2).
وقد یذکّر المبتدأ لمراعاة الخبر ؛ کقوله تعالی : (فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ)
ص: 414
والإشارة المثناة راجعة إلی الید والعصا قبل هذه الآیة (1) ، وهما مؤنثتان ، ولکن المبتدأ هنا مذکر لتذکیر الخبر ، ومثله قوله تعالی : (فَلَمَّا رَأَی الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّی هذا أَکْبَرُ ...) فاسم الإشارة : (هذا) مذکر ، مع أن المشار إلیه - وهو : الشمس - مؤنث ، فحق الإشارة إلیها أن تکون باسم إشارة للمؤنث مثل : «هذه». قال الزمخشری : «فإن قلت : ما وجه التذکیر؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر ، لکونهما عبارة عن شیء واحد ؛ کقولهم : «ما جاءت حاجتک»؟ (2) أی : ما صارت حاجتک؟ - ومن کانت أمّک؟ ... - ومثل هذا ینطبق علی الآیة السابقة وهی : (هذا ربی). علی أن التذکیر فی هذه الآیة واجب ، لصیانة «الرب» عن شبهة التأنیث لو قیل : «هذه ربی». ألا تراهم قالوا فی صفة «الله» : «علّام» ، ولم یقولوا : «علّامة» - وإن کان «العلّامة» أبلغ - ؛ احترازا من علامة التأنیث. اه ببعض اختصار
ومن تأنیث المبتدأ المذکر مراعاة لتأنیث الخبر قراءة من قرأ قوله تعالی : (ثُمَّ لَمْ تَکُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما کُنَّا مُشْرِکِینَ) بالتاء فی أول المضارع : «تکن» لتأنیث اسم الناسخ ؛ وهذا الاسم هو المصدر المنسبک المتأخر ، وهو فی أصله مذکر ، ولکنه أنّث موافقه للخبر المتقدم ، وبسبب تأنیث هذا الخبر أنّث الفعل «تکن».
وإذا کان الخبر دالّا علی تقسیم أو تنویع جاز عدم مطابقته للمبتدأ فی الإفراد وفروعه ؛ نحو : الصدیق صدیقان ، مقیم علی الود والولاء ، وتارک لهما ، والإخاء إخاءان ، خالص لله ، أو لمغنم عاجل. وکقولهم : المال أنواع ؛ محمود الکسب ، محمود الإنفاق ؛ وهذا خیرها. وخبیث الثمرة خبیث المصرف ؛ وهذا شرّها ، وما اجتمع له أحد العیبین وإحدی المزیتین ؛ وهو بمنزلة بین المنزلتین السالفتین.
وقد تختلف المطابقة بین المبتدأ المتعدد الأفراد والخبر المفرد إذا کان المبتدأ متعدد الأفراد حقیقة ، ولکنه ینزّل منزلة المفرد ؛ بقصد التشبیه ، أو المبالغة ، أو نحوهما ؛ سواء أکان بمنزلة المفرد المذکر أم المؤنث ، وقد اجتمعا فی قولهم :
ص: 415
المقاتلون فی سبیل الله رجل واحد وقلب واحد ، وهم ید علی من سواهم ، وقولهم : التجارب مرشد حکیم ، والمنتفعون بإرشاده قلعة ترتدّدونها الشدائد ، ومن أمثلة التعدّد الحقیقی أیضا ، قول الشاعر :
المجد والشّرف الرّفیع صحیفة
جعلت لها الأخلاق کالعنوان
وقد یختلفان تذکیرا وتأنیثا ، ولکن مع إفراد المبتدأ وعدم تعدده وسبب الاختلاف - کسابقه - المبالغة ، أو التشبیه ونحوهما ؛ مثل : الشدة مرب حازم ، والتجربة معلم نافع ، واللص هیابة ، والمؤرخ نسّابة. وقد یختلفان کذلک إذا کان المبتدأ اسم جنس جمعیّا علی الوجه الذی سبق تفصیله (1)
ومن الخبر الذی یجوز فیه التذکیر والتأنیث کلمتا : «أحد. وإحدی» المضافتین ، إذا کان المضاف إلیه لفظا یخالف المبتدأ فی التذکیر أو التأنیث ؛ فیجوز فی الکلمتین موافقة المبتدأ ، أو الخبر ، مثل : المال أحد السعادتین ، أو : إحدی السعادتین ، بتذکیر «أحد» مراعاة للمبتدأ المذکر (المال) وبالتأنیث مراعاة للمضاف إلیه المؤنث ، وهو کلمة : السعادتین. ومثل : الکتابة أحد اللسانین ، أو إحدی اللسانین ، بالتأنیث أو التذکیر ، طبقا لما سلف (2).
وقد یکون الخبر مؤنثا والمبتدأ مذکرا مضافا إلی مؤنث ؛ فیستفید التأنیث من المضاف إلیه ، أو العکس ؛ (بأن یکون الخبر مذکرا والمبتدأ مؤنثا مضافا إلی مذکر ؛ فیستفید منه التذکیر). ویشترط فی الحالتین أمران (3)
ا - أن یکون المبتدأ المضاف صالحا للحذف ، وللاستغناء عنه بالخبر من غیر أن یفسد المعنی.
ب - وأن یکون المبتدأ المضاف کلّا للمضاف إلیه ، أو جزءا منه ، أو مثل الجزء ... و...
ومن أمثلة اکتساب المضاف من المضاف إلیه التأنیث قول الشاعر :
وما حبّ الدیار شغفن قلبی
ولکن حبّ من سکن الدیارا
ص: 416
ومن أمثلة اکتساب المضاف التذکیر من المضاف إلیه قولهم : رؤیة الفکر عواقب الأمور مانع له من التسرع
وهناک حالات هامة من المطابقة وأحکامها المختلفة أشرنا إلیها فیما سبق (1).
ح - الغالب أن البدل یرتبط به ما بعده ، ویعتمد علیه ، فیطابقه فی حالتی التذکیر والتأنیث وغیرهما ، نحو : إن الغزال عینه جمیلة ، وإنّ الفتاة جفنها فاتر ، بنصب کلمتی «عین» و «جفن» - وهما بدلان - وتأنیث خبر «إن» فی المثال الأول ، وتذکیره فی الثانی. ولو لا أن الملاحظ هو البدل - وأنه بمنزلة المبدل منه - لوجب التذکیر فی الأول ، والتأنیث فی الثانی. ولا مانع من العدول عن البدل فیما سبق إلی المبتدأ فی الکلمتین ، ولعله الأحسن ؛ لبعده عن اللبس الناشئ من البدل. ولا بد عند مراعاة الغالب من عدم وجود قرینة تمنع منه ، وتدل علی غیره. ومن غیر الغالب قول الشاعر :
إن السیوف غدوّها ورواحها
ترکت هوازن مثل قرن الأعضب (2)
فقد جاء الفعل «ترک» مؤنثا مراعاة لاسم : «إن» ، لا للبدل (3) ...
ص: 417
وبمناسبة الکلام علی المبتدأ والخبر وأنهما مرفوعان ، بحث النحاة - کعادتهم - عن العامل الذی یوجد الضمة فی کل منهما. ولما لم یجدوا قبل المبتدأ عاملا لفظیّا یوجدها ، قالوا إن العامل معنوی ؛ هو ؛ وجود المبتدأ فی أول الجملة ؛ لا یسبقه لفظ آخر ؛ وسموا هذا العامل المعنوی : الابتداء. فالمبتدأ عندهم مرفوع بالابتداء. أما الخبر فعامل الرفع فیه هو : المبتدأ ؛ أی : أن الخبر مرفوع بالمبتدأ. هذا رأی من عدة آراء لا أثر لها فی ضبط کل منهما ، ولا فی وضوح معناهما ، ومعنی الکلام. فالخیر فی إهمالها ، وتناسیها ، والاقتصار علی معرفة أن المبتدأ مرفوع ، والخبر مرفوع کذلک (1).
ص: 418
عرفنا أن الخبر جزء أساسیّ فی الجملة ؛ یکملها مع المبتدأ الذی لیس بوصف (1) ویتمم معناها. وهو ثلاثة أقسام : مفرد ، وجملة. وشبه جملة (2).
القسم الأول : الخبر المفرد :
وهو ما کان کلمة واحدة ، أو بمنزلة الواحدة (3) (أی : لیس جملة ، ولا شبه جملة) وهو إما جامد (4) ، فلا یرفع ضمیرا مستترا (5) فیه ، ولا بارزا ، ولا اسما ظاهرا ؛ مثل : کلمتی : «کرة» و «نهر» فی قولنا : الشمس کرة ، الفرات نهر ، ومثل کلمتی «إقبال» «وإدبار» فی قول الشاعر یصف ناقته التی فقدت ولیدها :
ص: 419
ترتع (1) ما رتعت ،
حتّی إذا ادّکرت (2)
فإنما هی إقبال وإدبار (3)
فالخبر فی الأمثلة السابقة فارغ من الضمیر المستتر ، وغیر رافع لضمیر بارز أو لاسم ظاهر بعده.
وإما مشتق (4) (وصف) فیرفع ضمیرا مستترا وجوبا ، أو یرفع ضمیرا بارزا ، أو : اسما ظاهرا بعده ؛ مثل : الهرم مرتفع - الآثار غالیة. أی : مرتفع هو. وعالیة هی (5) ، فقد تحمل المشتق ضمیرا مستترا وجوبا یعود علی المبتدأ ؛ لیربط الخبربه ارتباطا معنویا. ومثل : ما راغب أنتم فی الظلم؟ فقد رفع الوصف ضمیرا بارزا بعده. ومثل : الورد فاتن ألوانه ، ساحر أنواعه. فکل من الوصفین : (فاتن ، وساحر) قد وقع خبرا ، ورفع بعده اسما ظاهرا. فلا بد فی الخبر المشتق من أن یرفع ضمیرا مستترا وجوبا ، أو ضمیرا بارزا (6) أو یرفع اسما ظاهرا بعده.
ص: 420
ومن المشتق (الوصف) ما یعرب علی حسب الظاهر خبرا للمبتدأ ، مع أن معناه فی الواقع لا ینصبّ علی ذلک المبتدأ ، ولا ینسب إلیه مباشرة : مثل : البنت الأب مکرمته هی. «فالبنت» مبتدأ أول. و «الأب» : مبتدأ ثان. «مکرمة» خبر المبتدأ الثانی ، مع أن معنی هذا الخبر منصبّ علی المبتدأ الأول وحده ، لأن البنت هی المکرمة ؛ أی : المنسوب لها الإکرام ، دون المبتدأ الثانی.
ومثل : الشفیق الأمّ مساعدها ، هو. فکلمة «الشفیق» : مبتدأ أول ، و «الأم» مبتدأ ثان. و «مساعد» : خبر المبتدأ الثانی. مع أن معنی هذا الخبر - وهو : مساعد - واقع علی الأول ، ولا حق به دون المبتدأ الثانی ... ، وهکذا کل وصف وقع خبرا عن مبتدأ غریب عن معنی ذلک الخبر ، وعن مدلوله. وهذا الخبر یقول عنه النحاة : «إنه جار علی غیر صاحبه. أو : جار علی غیر من هو له».
ولما کان هذا الخبر مشتقّا کان لا بد أن یرفع ضمیرا أو اسما ظاهرا. غیر أن الضمیر هنا یجوز إبرازه ، کما یجوز استتاره ، بشرط أن یکون المبتدأ المنسوب إلیه الخبر والمحکوم علیه حقیقة ، واضحا لا یشتبه بغیره عند الاستتار ؛ أی : بشرط أمن اللبس ، کما فی الأمثلة السابقة.
وهناک أمثلة للوصف الواقع خبرا یصلح فیها أن یکون جاریا علی من هو له وعلی غیر من هو له ، فیقع اللبس فی المراد : نحو : (الفارس الحصان متعبه) فکلمة : «الفارس» مبتدأ ، و «الحصان» مبتدأ ثان «ومتعب» خبر الثانی وفیه ضمیر مستتر ، والجملة منهما خبر الأول. فما المراد من هذا المثال؟ أترید الحکم علی الحصان بأنه یتعب الفارس ؛ فیکون الخبر جاریا علی من هو له ، أم نرید الحکم علی الفارس بأنه یتعب الحصان ؛ فیکون الخبر جاریا علی غیر من هو له؟ الأمران محتملان مع اختلافهما فی المعنی. وهذه هی حالة اللبس ، حیث لا قرینة ترجح أحدهما علی الآخر. فإن کان المراد هو المعنی الأول الذی یقتضی جریان الخبر علی من هو له وجب استتار الضمیر مراعاة للأصل السابق ؛ لیکون استتاره دلیلا علی ذلک المعنی ؛ فنقول : «الفارس الحصان متعبه». وإن کان المراد هو المعنی الثانی الذی یقتضی
ص: 421
جریان الخبر علی غیر من هو له وجب إبراز الضمیر منفصلا ؛ لیکون إبرازه دلیلا علی جریانه علی غیر من هو له ؛ فنقول (الفارس الحصان متعبه هو) (1). فالضمیر : «هو» عائد علی الفارس ، المنسوب إلیه «أنه متعب» ، والمحکوم علیه بذلک الحکم. والضمیر : «الهاء» المتصل بالخبر. وهو الهاء فی آخر کلمة : «متعبه» عائد إلی المبتدأ الثانی).
ومثل : الکلب الثعلب مخیفه. «الکلب» ؛ مبتدأ ؛ أول. «الثعلب» : مبتدأ ثان ، «مخیف» : خبر الثانی ، وهو مضاف ، والهاء مضاف إلیه. فما المراد؟ قد نرید الحکم علی الثعلب بأنه یخیف الکلب ؛ فیکون الخبر جاریا علی صاحبه ، ویجب استتار الضمیر ؛ مراعاة للأصل السابق ؛ لیکون استتاره دلیلا علی جریانه علی صاحبه. وقد نرید المعنی الثانی ؛ وهو جریانه علی غیر صاحبه ؛ فیجب إبراز الضمیر منفصلا ؛ لیکون إبرازه شارة علی هذا المعنی ؛ فنقول : الکلب الثعلب مخیفه هو. ویکون الضمیر البارز عائدا علی «الکلب» وهو المحکوم علیه حقیقة بالخبر ؛ أی : بأنه المخیف. أما الضمیر الثانی (وهو الهاء المتصلة بالخبر) فعائدة علی المبتدأ الثانی (2).
وخلاصة ما تقدم :
1 - أن الخبر الجامد لا یتحمل الضمیر إلا عند التأویل الذی یقتضیه السیاق (3) ؛ وأما المشتق فیتحمله.
ص: 422
2 - إذا جری الخبر المشتق علی غیر من هو له وکان اللبس مأمونا جاز استتار الضمیر وجاز إبرازه.
3 - وإن لم یؤمن اللبس وجب إبرازه (1).
هذا ، ومن المستحسن عدم محاکاة الأسالیب المشتملة علی النوع الأخیر ، وعدم صیاغة نظائر لها ؛ منعا لاحتمال ألا یفهم المراد منها ؛ بالرغم من کثرة ورودها فی الکلام العربی الأصیل ، کما یستحسن إهمال الرأی الذی یوجب إبراز الضمیر فی حالة أمن اللبس ، لمجافاته الأصول اللغة العامة.
* * *
القسم الثانی الخبر الجملة (2) :
الجملة : کلمتان أساسیتان لا بد منهما للحصول علی معنی مفید ؛ کالفعل مع فاعله أو نائب فاعله ؛ فی مثل : فرح الفائز ، وأکرم النابغ. وتسمی هذه الجملة : «فعلیة» ؛ لأنها مبدوءة - أصالة - بفعل. وکالمبتدأ مع خبره ، أو ما یغنی عن الخبر فی مثل : المال فاتن. وهل الفاتن مال؟ وتسمی هذه الجملة : «اسمیة» «لأنها مبدوءة» أصالة (3) باسم ؛ فالجملة إما «اسمیة» ، وإما «فعلیة» وکل واحدة منهما قد تقع خبرا (4) ؛ فتکون هنا فی محل رفع (5) ؛ نحو : الصیف
ص: 423
یشتد حره. الشتاء یقسو برده. الربیع جوّه معتدل. الخریف جوه متقلب. وقد اجتمعت الجملتان فی قول الشاعر :
البغی یصرع أهله
والظلم مرتعه وخیم (1)
ویشترط فی الجملة الواقعة خبرا أن تشتمل علی رابط (2) یربطها بالمبتدأ ، إلا إن کانت بمعناه ، کما سیجیء (3). وهذا الرابط - کالضمیر فی الجمل السالفة - ضروری ؛ ولولاه لکانت جملة الخبر أجنبیة عن المبتدأ ، وصار الکلام مفککا لا معنی له ؛ لانقطاع الصلة بین أجزائه ؛ فلا یصح أن نقول : محمد یذهب علیّ ، وفاطمة یجیء القطار ... لفساد الترکیب ، واختلال المعنی بفقد الرابط. والروابط أنواع کثیرة منها :
1 - الضمیر الراجع إلی المبتدأ ، وهو أصل الروابط وأقواها (وغیره خلف عنه) ، سواء أکان ظاهرا ؛ مثل : الزارع «فضله کبیر» أم مستتر (أی : مقدر) مثل : الأرض ، تتحرک» ، وقولهم : مخالفة الناصح الأمین تورث الحسرة ، وتعقب الندامة ، أم محذوفا (4) للعلم به مع ملاحظته ونیته ؛ مثل :
ص: 424
الفاکهة «أقه بعشرة قروش» أی : أقة منها. وحجارة الهرم «حجر بوزن عشرة» أی : حجر منها. والورق «اللون لون اللبن». اللون منه. والثوب «الرائحة رائحة الزهر» أی : الرائحة منه.
ویشترط فی الضمیر أن یکون مطابقا للمبتدأ السابق فی التذکیر ، والتأنیث والإفراد ، والتثنیة ، والجمع (1).
2 - الإشارة إلی المبتدأ السابق ؛ نحو : الحریة «تلک» أمنیّة الأبطال ، والإصلاح «ذلک» مقصد المخلصین (2). ومنه قوله تعالی : (وَالَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَاسْتَکْبَرُوا عَنْها أُولئِکَ أَصْحابُ النَّارِ ...)
3 - إعادة المبتدأ السابق ؛ بقصد التفخیم ، أو التهویل ، أو التحقیر. والإعادة قد تکون بلفظه ومعناه معا ؛ نحو : الحریة ما الحریة (3)؟ والحرب ما الحرب؟ والسارق من السارق؟ وقد تکون بمعناه فقط ؛ نحو : السیف ما المهند؟ والأسد ما الغضنفر؟ وعلیّ من أبو الحسین؟ بشرط أن یکون أبو الحسین کنیة علیّ. والمراد بهما شخص واحد.
4 - أن یکون فی الجملة الواقعة خبرا ما یدل علی عموم یشمل المبتدأ السابق وغیره ؛ نحو : أما جبن المحارب فلا جبن فی بلادنا ، وأما هربه فلا هرب عندنا. والعربیّ نعم البطل ... فعدم الجبن أمر عام یشمل جبن المحارب وغیر المحارب ، وکذلک
ص: 425
عدم الهرب فی بلادنا یشمله ویشمل غیره ... والبطل الممدوح بکلمة : «نعم» یشمل العربی وغیره.
5 - أن یقع بعد جملة الخبر الخالیة من الرابط جملة أخری معطوفة علیها بالواو ، أو الفاء ، أو ثم ، مع اشتمال المعطوفة علی ضمیر یعود علی المبتدأ السابق ؛ فیکتفی فی الجملتین بالضمیر الذی فی الثانیة (1) فمثال الواو : الزارع نبت الزرع وتعهده - الطالب بدأت الدراسة واستعد لها (2) ... ومثال الفاء : الصانع تیسرت أسباب الصناعة فأقبل غیر متردد ، والعامل کثرت میادین العمل فوجد الرزق مکفولا (3). ومثال ثمّ : القمر طلعت الشمس ثم اختفی نوره ، والنجوم انقضی النهار ثم أشرق ضوءها.
6 - أن یقع بعد جملة الخبر الخالیة من الرابط أداة شرط حذف جوابه لدلالة الخبر علیه ، وبقی فعل الشرط مشتملا علی ضمیر یعود علی المبتدأ ؛ مثل الوالد یترک الأولاد الصیاح إن حضر - الضیف یقف الحاضرون إن قدم.
تلک أشهر الروابط. ویجوز أن تستغنی جملة الخبر عن الرابط إن کانت هی نفس المبتدأ فی المعنی (4) ؛ بحیث یتضمن أحدهما المعنی الذی یتضمنه الآخر تماما (5) ؛ کأن یقول رجل لزمیله ؛ ما رأیک فی التجارة؟ فیجیب : رأیی. «التجارة
ص: 426
غنی» (1). فالجملة الواقعة خبرا مطابقة فی معناها للمبتدأ فی معناه ومدلوله ؛ فکلاهما مساو للآخر فی المضمون ؛ فالرأی هو : «التجارة غنی» و «التجارة غنی» هی : «الرأی». ومن أمثلة ذلک : أن یتکلم متکلم فیسأله الآخر ما ذا تقول؟ فیجیب : قولی «الذلیل مهین» (2). کلامی «الکرامة تأبی المهانة» فجملة الخبر فی کل مثال هی نفس المبتدأ السابق فی المعنی ، والمبتدأ السابق فی کل مثال یتضمن معنی الجملة الواقعة خبرا ، فکلاهما یتضمن معنی الآخر ، ودلالته (3).
ص: 427
(ا) اشترطنا (1) فی جملة الخبر وجود رابط ، - بالتفصیل الذی أوضحناه - ویشترط فیها أیضا أن تکون غیر ندائیة ؛ فلا یصح : محمد (یا هذا ...). وأن تکون غیر مبدوءة بکلمة «لکن» : أو «حتی» : أو «بل» ؛ لأن کل واحدة من هذه الکلمات تقتضی کلاما مفیدا قبلها ، فالاستدراک بکلمة : «لکن» (2) لا یکون إلا بعد کلام سابق. وکذلک الغایة بکلمة : «حتی» والإضراب بکلمة : «بل» (3).
ویجوز فی جملة الخبر أن تکون قسمیة (4) ؛ نحو : القوی والله لیهزمن عدوه ، وأن تکون إنشائیة ؛ سواء أکانت إنشائیة طلبیة ؛ نحو : الحدیقة نسقها ، أم غیر طلبیة مثل : الصدیق لعله قادم. العادل نعم الوالی ، والظالم بئس الحاکم.
(ب) فی الأسالیب التی یکون فیها الخبر جملة معناها هو معنی المبتدأ مثل : (لامی : «الجو معتدل») (حدیثی : «یجیء الفیضان صیفا»). (قولی : «نشر التعلیم ضروری») ، (خطبتی : «التوحد قوة»). (مقامی : «احذروا الخائنین») ... یجوز إعرابان :
أولهما : أن تعرب الجملة الاسمیة أو الفعلیة مجزأة علی حقیقتها جزأین (مبتدأ : وخبرا ، أو فعلا وفاعلا) ثم یکون مجموع الجزأین فی محل رفع خبر
ص: 428
المبتدأ السابق ؛ ففی مثل : (کلامی : الجو معتدل) نقول : «کلام» مبتدأ مضاف ، والیاء مضاف إلیه مبنی علی السکون فی محل جرّ ، «الجو» مبتدأ ثان. «معتدل» خبره ، والجملة من الجزأین فی محل رفع خبر المبتدأ الأول. وفی مثل : (حدیثی : یزداد الفیضان صیفا) نقول : «یزداد» مضارع مرفوع. «الفیضان» فاعل مرفوع «صیفا» ظرف منصوب ، والجملة من الجزأین (الفعل والفاعل) فی محل رفع خبر المبتدأ. فلکل جزء من أجزاء الجملة وجود مستقل ، وإعراب خاص به وحده ؛ ثم یکون مجموع الجزأین معا هو خبر المبتدأ السابق.
ثانیهما : أن ننظر إلی تلک التی کانت فی الأصل جملة نظرتنا إلی شیء واحد لیس مجزأ ، ولیس له کلمات مفردة ؛ فکأنه کتلة واحدة لیس لها أجزاء ، أو أنه کلمة واحدة مهما تعددت الکلمات ، فهی من قبیل المرکب الإسنادی الذی ننطق فیه بالألفاظ علی حسب ضبطها الأصلیّ - قبل أن تکون خبرا أو شیئا آخر - ؛ من غیر تغییر شیء من حروفها أو ضبطها. ثم نقول عنها کلها الآن : إنها خبر مرفوع بضمة مقدرة علی آخره لأجل الحکایة ؛ (وهی - کما سبق (1) تردید اللفظ الأصلی وترجیعه علی حسب هیئته الأولی - غالبا - ؛ حروفا وضبطا). ویکون الخبر فی هذه الحالة من قبیل الخبر المفرد. لا الجملة ؛ فنقول فی إعراب : (کلامی : «الجوّ معتدل» «کلام» مبتدأ مضاف. والیاء مضاف إلیه. «الجوّ معتدل» کلها خبر مرفوع بضمة مقدرة. علی آخره (2) ، منع من ظهورها حرکة الحکایة). ونقول فی مثل : (حدیثی «یظهر الفیضان صیفا») حدیث» مبتدأ مضاف ... الیاء مضاف إلیه ... «یظهر الفیضان صیفا» کلها خبر مرفوع بضمة مقدرة علی آخره ؛ منع من ظهورها حرکة «الحکایة» ... وهکذا.
وقد یقع العکس کثیرا ؛ فیکون المبتدأ جملة بحسب أصلها (3) ، ولکنها
ص: 429
صارت محکیة. والخبر مفرد یتضمن معناها ، کأن یقول قائل : أرید أن تدلنی علی آیة قرآنیة ، وعلی مثل قدیم ، وعلی حکمة مأثورة. فتجیب : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ یَتْبَعُها أَذیً) آیة قرآنیة. (إن أخاک من واساک) مثل قدیم. (ربّ عیش أهون منه الحمام) حکمة من حکم المتنبی. فالآیة کلها من أولها إلی آخرها مبتدأ مرفوع ، بضمة مقدرة منع من ظهورها حرکة الحکایة. وکلمة : «آیة» هی الخبر. وکذلک (إن أخاک من واساک) کلها من أولها إلی آخرها مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة علی آخره ، منع من ظهورها حرکة الحکایة ، والخبر کلمة : «مثل» وکذا یقال فی : «رب عیش أهون منه الحمام».
وکما تتکون الجملة المحکیة من مبتدأ وخبره تتکون من فعل وفاعله ، ومن غیر ذلک. والمهم فی الألفاظ المحکیة أن تکون دائما بصورة واحدة فی جمیع الحالات الإعرابیة ، ولکنها مع ذلک فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر ؛ علی حسب موقعها الإعرابیّ.
ح - أشرنا (1) إلی أنواع من المبتدأ تحتاج إلی خبر حتما وإلی وجوب أن یکون هذا الخبر جملة - ویلحق بها نوع یجب أن یکون خبره شبه جملة (جارّا مع مجروره) - وأشهر تلک الأنواع المحتاجة لجملة : أسماء الشرط الواقعة مبتدا (2) ، وکذا : ضمیر الشّان (3) ، و «کأیّن (4) الخبریة الشبیهة بکم الخبریة ، والمخصوص بالمدح والذم إذا تقدّم ، والمنصوب علی الاختصاص ؛ فإنه یجب فیه أن یتقدم علیه اسم بمعناه یعرب مبتدأ ، ویعرب الاسم المنصوب علی الاختصاص مفعولا به لفعل محذوف تقدیره : أخصّ - مثلا - والجملة خبر عن ذلک المبتدأ. ویجب أن یکون خبر «ما» التعجبیة جملة ، وکذلک خبر المبتدأ الملازم للابتداء سماعا ؛ نحو : طوبی للمؤمن ؛ فإن خبره لا یکون إلا جارا مع مجروره وهما شبهیان بالجملة ... - ومثله وقولهم فی المدح : لله درّ فلان ... وغیر هذین مما سیجیء (5).
ص: 430
القسم الثالث - الخبر شبه الجملة :
یرید النحاة بشبه الجملة هنا أمران (1) ؛ أحدهما : الظرف بنوعیه الزمانیّ والمکانیّ ، والآخر : حرف الجر مع مجروره. فالخبر قد یکون ظرف زمان ؛ نحو : الرحلة «یوم» الخمیس. والرجوع «لیلة» السبت. وقد یکون ظرف مکان ؛ نحو : «الحدیقة «أمام» البیت ، والنهر «وراءه» ؛ فکلمة «یوم». و «لیلة» وما یشبههما ظرف زمان ، منصوب ، فی محل رفع (2) ؛ لأنه خبر المبتدأ. وکلمة
ص: 431
«أمام» و «وراء» وما یشبههما - ظرف مکان منصوب فی محل رفع ؛ لأنه خبر
ص: 432
المبتدأ. وقد یکون الخبر جارّا مع مجروره ؛ نحو ، النشاط فی السباحة. السکّر من القصب ؛ فالجار مع المجرور فی محل رفع خبر المبتدأ. ومنه قول الشاعر :
للعید یوم من الأیام منتظر
والناس فی کل یوم منک فی عید
ویشترط فی الظرف الواقع خبرا ، وفی الجار مع المجرور کذلک - أن یکون تامّا ، أی : یحصل بالإخبار به فائدة بمجرد ذکره. ویکمل به المعنی المطلوب
ص: 433
من غیر خفاء ولا لبس ، کالأمثلة السابقة. فلا یصلح للخبر منهما ما کان ناقصا ؛ مثل : محمود الیوم .. أو حامد بک ؛ لعدم الفائدة. أما حیث تحصل الفائدة فیصح وقوعهما خبرا ؛ ویکون کل منهما هو الخبر مباشرة ؛ أی : أن شبه الجملة نفسه یکون الخبر (1) - فی الرأی المختار.
بقیت مسألة تتعلق ببیان نوع الظرف التام الذی یصلح أن یکون خبرا. فأما ظرف المکان فیصلح - فی الغالب - أن یقع خبرا عن المبتدأ المعنی وعن المبتدأ الجثة (2) ؛ فمثال الأول ؛ العلم عندک - الحق معک. ومثال الثانی : الکتاب أمامک - الشجرة خلفک. ولا بد فی ظرف المکان أن یکون خاصّا (3) لکی یتحقق شرط الإفادة ؛ کالأمثلة السالفة ؛ فلا یصح أن یکون عامّا ؛ مثل : العلم مکانا ، أو الکتب مکانا ؛ لعدم الإفادة.
وأما ظرف الزمان فیصلح أن یقع خبرا عن المبتدأ المعنی فقط ، بشرط أن تتحقق الإفادة ؛ کأن یکون الزمان خاصّا (4) ، لا عامّا ؛ مثل : السفر صباحا ، والراحة لیلا. بخلاف : السفر زمانا ، الفضل دهرا ، الأدب حینا ، لعدم الإفادة.
ص: 434
وهو لا یصلح أن یکون خبرا عن الجثة إلا قلیلا ؛ وذلک حین یفید أیضا ؛ فلا یصح : الشجرة یوما - البیت غدا ؛ لعدم الإفادة. ویصح : القطن صیفا. القمح شتاء ، لتحقق الفائدة ؛ إذ المراد : ظهور القطن صیفا. وظهور القمح شتاء. ومنه قولهم : الهلال اللیلة. والرطب شهری ربیع.
ومجمل الأمر أن ظرف المکان یصلح - فی الغالب - خبرا للمبتدأ بنوعیه : المعنی والجثة ، وأن ظرف الزمان یصلح فی الغالب خبرا للمبتدأ المعنی دون الجثة ، إلا إن أفاد ؛ وهذه الإفادة تحقق فی الظرف بنوعیه حین یکون خاصّا لا عامّا. فالمعول علیه فی الإخبار بالظرف هو الإفادة (1).
ص: 435
ا - من الألفاظ الملازمة للابتداء (1) کلمة : «طوبی (2) ، وهذه الکلمة لا یکون» خبرها إلا الجار مع مجروره ، - کما سبق (3) - نحو طوبی : للصّالح.
ب - شبه الجملة لا بد أن یتعلق بعامله علی الوجه الذی شرحناه (4). فإن لم یوجد فی الکلام عامل یصح التعلق به صح أن یکون تعلقه بالإسناد نفسه (أی : بالنسبة الواقعة بین رکنی الجملة) ، کقول ابن مالک فی باب «الاستثناء» من ألفیته. خاصا بالأداتین «خلا وعدا» :
وحیث جرّا فهما حرفان
فالظرف : «حیث» متعلق بالنسبة (أی : بالإسناد) المأخوذة من قوله : «فهما حرفان» ، أی : تثبت حرفیتهما حیث جرّا.
أما وجود الفاء هنا فله بیان أوضحناه عند إعادة الکلام فی هذه المسألة فی الجزء الثانی : (بابی الظرف وحروف الجر).
(ح) قلنا : إن ظرف الزمان لا یقع خبرا عن الذات (الجثة) إلا بشرط أن یفید (5) ، وهذه الإفادة تتحقق بأحد الثلاثة الآتیة :
الأولی : أن یتخصص ظرف الزمان إما بنعت ؛ مثل : نحن فی یوم طیب ، أو : نحن فی أسبوع سعید. وإما بإضافة ؛ مثل : نحن فی شهر شوال ... وإما بعلمیة مثل : نحن فی رمضان ؛ ویجب جر الظرف الزمانی فی هذه الصور الثلاث بفی ؛ ویکون الجار مع المجرور فی محل رفع خبرا. ولا یسمی فی حالة جره - أو رفعه - ظرفا. کما سیجیء.
ص: 436
الثانیة : أن یکون المبتدأ الذات مما یتجدد ؛ بأن یظهر فی بعض الأوقات دون بعض ؛ فله مواسم معینة یظهر فیها ثم ینقطع ، ثم یظهر ... وهکذا ... فیکون شبیها بالمعنی ، مثل : البرتقال شهور الشتاء ، والبطیخ شهور الصیف. الهلال اللیلة. وفی هذه الحالة یجوز نصب ظرف الزمان ، أو جره بفی. وهو فی الحالتین فی محل رفع خبر.
الثالثة : أن یکون المبتدأ الذات صالحا لتقدیر مضاف قبله تدل علیه القرائن ؛ بحیث یکون ذلک المضاف أمرا معنویّا مناسبا ؛ کأن یلازم المرء بیته یوما للراحة ، فیعرض علیه صدیقه الخروج لنزهة بحریة ، فیعتذر قائلا : البیت الیوم ، والبحر غدا.أی : ملازمة البیت الیوم ، ونزهة البحر غدا. ومثله : الکتاب الساعة ، والحدیقة عصرا. أی : قراءة الکتاب الساعة ، ومتعة الحدیقة عصرا ... وفی هذه الصورة یکون الظرف منصوبا فی محل رفع خبرا.
والحالات الثلاث (1) السابقة قیاسیّة ؛ یصح محاکاتها ؛ وصوغ الأسالیب الحدیثة علی مقتضاها.
لکن کیف نعرب الظرف الزمانی فی غیر تلک الأحوال الثلاثة؟ وکیف نعرب المکانی؟ وکیف نضبطهما؟
إن الأصل فی الظرف أن یکون منصوبا مباشرة ، أو فی محل نصب (2) :
1 - فإن کان الظرف للزمان ووقع خبرا عن معنی لیس للزمان - جاز رفعه ، ونصبه ، وجره بفی ، ویکون المرفوع هو الخبر مباشرة ، ویکون المنصوب ، أو المجرور مع حرف الجر ، فی محل رفع ، هو : الخبر. تقول : الصوم شهر ، أو : شهرا ، أو فی شهر. والراحة یوم ، أو یوما ، أو فی یوم. والأکل ساعة ، أو ساعة ، أو فی ساعة. (أی : زمن الصوم ... وزمن الراحة ... وزمن الأکل) لکن
ص: 437
الأحسن الرفع مباشرة إن کان الزمان نکرة والمبتدأ المعنی یعم ذلک الزمان کله أو أکثره ؛ نحو : الصوم یوم ، والسهر لیلة.
2 - إن کان الظرف زمانیّا من أسماء الشهور ووقع خبرا عن مبتدأ هو معنی وزمان ، تعین رفع الخبر ، مثل : أول السنة المحرم ، وشهر الصوم رمضان.
3 - وإن لم یکن هذا الخبر الظرف من أسماء الشهور. ولکنّ المبتدأ یتضمن عملا - جاز الرفع والنصب ؛ مثل : الجمعة الیوم ، أو السبت الیوم ، أو العید الیوم ، لتضمنها (1) معنی الجمع ، والقطع ، والعود. ومنه : الیوم یومک ؛ لتضمنه معنی : شأنک الذی تذکر به. فإن لم یتضمن عملا ؛ کالأحد.
والاثنین ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخمیس - کان الرفع أحسن.
4 - وإن کان الظرف للزمان ، ووقع خبرا للمبتدأ الذات فی الحالات التی یصح وقوعه خبرا فیها ؛ لإفادته ، وقد سبقت فی «ا» - فحکمه کما سبق هناک.
5 - وإن کان الظرف للمکان ، ووقع خبرا عن ذات ، أو معنی. وکان متصرفا (2) - جاز رفعه ونصبه ؛ مثل : الکبار جانب ، أو : جانبا ، والأطفال جانب ، أو جانبا. (برفع کلمة : «جانب». أو : نصبها) والرجل أمامک ، والدار خلفک (برفع أمام ، وخلف ، أو نصبهما) ومثل : العلم ناحیة والعمل ناحیة ، برفع کلمة : «ناحیة» أو نصبها.
ص: 438
فإن کان غیر متصرف مثل «فوق» وجب نصبه (1) ؛ نحو : الکتاب فوق المکتب.
6 - إذا قلت : ظهرک خلفک ، جاز رفع الظرف المکانی : «خلف» ونصبه. أما الرفع فلأن الخلف فی المعنی هو : الظهر. فالخبر هو اسم محض معناه معنی المبتدأ ، وأما النصب فعلی الظرفیة الواقعة خبرا. وکذلک ما یشبه ما سبق من الظروف المکانیة ، نحو : نعلک أسفل رجلک ، والرکب أسفل منک. وقد سبق أن الظرف المکانیّ المخبر به إذا کان غیر متصرف ، یجب نصبه ؛ مثل : رأسک فوقک ، ورجلاک تحتک ؛ لأن «فوق» و «تحت» ظرفین للمکان غیر متصرفین.
7 - إذا کان الظرف الزمانی غیر متصرف : مثل : «ضحوة» یراد بها ضحوة معینة لیوم معین - وجب النصب ؛ مثل : العمل ضحوة.
8 - إذا کان الظرف بنوعیه متصرفا ، محدود المقدار ، ووقع خبرا عن المبتدأ الذات - جاز فی الظرف الرفع ، والنصب ، بشرط أن یکون المبتدأ الذات علی نیة تقدیر مضاف قبله ، یدل علی البعد والمسافة ، مثل : المدرسة منی میل أو میلا.
المدینة منی یوم أو یوما ، أی : بعد المدرسة ... وبعد المدینة ... ، إذا قلت هذا - مثلا - قبل ابتداء السیر. فإن کان المقصود أن المدرسة أو المدینة من أشیاء تبعد عما سرنا میلا تعین النصب علی الظرفیة ، وکان الخبر هو الجار والمجرور : «منی» بخلاف الرفع فإنه علی تقدیر : بعد مکانها منی میل ، مثلا ...
9 - من الأسالیب الواردة عن العرب : حامد وحده. یریدون : أنه فی موضع التفرد ، وفی مکان التوحد ؛ فیجوز إعراب : «وحد» ظرفا منصوبا فی محل رفع خبر (2).
«ملاحظة» : إذا ترک الظرف النصب علی الظرفیة ، إلی الرفع أو إلی الجر فإنه لا یکون ظرفا ، ولا یسمی بهذا الاسم.
ص: 439
إذا قلنا : الطیار شجاع - الوطنی مخلص - العربیّ کریم ... حکمنا علی الطیار بالشجاعة ، وعلی الوطنی بالإخلاص ، وعلی العربی بالکرم. أی : حکمنا علی المبتدأ بحکم معین ؛ هو : الخبر. فالمبتدأ فی هذه الجمل الاسمیة - و - نظائرها محکوم علیه دائما بالخبر ، والمحکوم علیه لا بد أن یکون معلوما ، ولو إلی حدّ مّا ، وإلا کان الحکم لغوا لا قیمة له ؛ لصدوره علی مجهول (1) ، وصارت الجملة غیر مفیدة إفادة تامة ، مثل : زارع فی القریة ... صانع فی المصنع ... ید متحرکة ... جسم مسرع ... وغیرها مما لا یفید الإفادة الحقیقیة المطلوبة ؛ بسبب عدم تعیین المبتدأ ، أو عدم تخصیصه. أی : بسبب تنکیره تنکیرا تامّا ؛ لهذا امتنع أن یکون المبتدأ نکرة (2) إذا کان غیر وصف ، لأنها شائعة مجهولة فی الغالب. فلا یتحقّق معها الغرض من الکلام ؛ وهو : الإفادة المطلوبة ، فإن هذه الإفادة هی السبب أیضا فی اختیار المعرفة لأن تکون هی المبتدأ حین یکون أحد رکنی الجملة معرفة والآخر نکرة (3) ؛ مثل : شجرة المتحرکة. لکن إذا أفادت النکرة الفائدة المطلوبة صح وقوعها مبتدأ.
وقد أوصل النحاة مواضع النکرة المفیدة حین تقع مبتدأ إلی نحو أربعین موضعا. ولا حاجة بنا إلی احتمال العناء فی سردها ، واستقصاء مواضعها ، ما دام الأساس الذی تقوم علیه هو : «الإفادة» فعلی هذا الأساس وحده یرجع الحکم علی صحة الابتداء بالنکرة ، أو عدم صحته ، من غیر داع لحصر المواضع أو
ص: 440
عدّها (1) هذا إلی أن تلک المواضع الکثیرة یمکن تجمیعها وترکیزها فی نحو أحد عشر تغنی عن العشرات التی سردوها. وإلیک الأحد عشر.
1 - أن تدلّ النکرة علی مدح ، أو ذم ، أو تهویل ؛ مثل : (بطل فی المعرکة. خطیب علی المنبر) - (جبان مدبر. جاسوس مقبل) - (بلاء فی الحرب ، جحیم فی الموقعة).
2 - أن تدل علی تنویع وتقسیم ؛ مثل رأیت الأزهار ، فبعض أبیض ، وبعض أحمر ، وبعض أصفر ... عرفت فصل الخریف متقلبا ؛ فیوم بارد ، ویوم حارّ ، ویوم معتدل. وقول الشاعر :
فیوم علینا ، ویوم لنا
ویوم نساء ، ویوم نسرّ
3 - أن تدل علی عموم ؛ نحو : کلّ محاسب علی عمله. وکلّ مسئول عما یصدر منه ؛ فمن (2) یعمل مثقال ذرّة خیرا یره. ومن یعمل مثقال ذرة شرّا یره.
4 - أن تکون مسبوقة بنفی ، أو استفهام ؛ مثل : ما عمل بضائع ، ولا سعی بمغمور. فمن (3) منکر هذا؟ وقول من طالت غربته :
وهل داء أمرّ من التّنائی؟
وهل برء أتمّ من التّلاقی؟
5 - أن تکون النکرة متأخرة ، وقبلها خبرها ؛ بشرط أن یکون مختصّا (4) ؛
ص: 441
سواء أکان ظرفا ، أم جارّا مع مجروره أم جملة ، ؛ مثل : عند العزیز إباء ، وفی الحرّ ترفع وقول الشاعر :
وللحلم أوقات ، وللجهل (1)
مثلها
ولکنّ أوقاتی إلی الحلم أقرب
ومثل : نفعک بره والد ، وصانک حنانها أمّ.
6 - أن تکون مخصّصة بنعت (2) ، أو بإضافة ، أو غیرهما مما یفید التخصیص ؛ نحو : نوم مبکر أفضل من سهر ، ویقظة البکور أنفع من نوم الضحا ، وقول العرب : أحسن الولاة من سعدت به رعیته ، وأشقاهم من شقیت به ، وشر البلاد بلاد لا عدل فیها ، ولا أمان ، وقولهم : ویل للشّجیّ من الخلیّ (3).
7 - أن تکون دعاء ؛ نحو : سلام علی الخائف - شفاء للمریض - عون للبائس ؛ بشرط أن یکون القصد من النکرة فی کل جملة هو الدعاء.
8 - أن تکون جوابا ؛ مثل : ما الذی فی الحقیبة؟ فتجیب : کتاب فی الحقیبة.
9 - أن تکون فی أول جملة الحال ، سواء سبقتها واو الحال ، مثل : قطعت الصحراء ، ودلیل یهدینی ، ورکبت البحر لیلا وإبرة ترشد الملاحین. أم لم تسبقها ؛ نحو کلّ یوم أذهب للتعلم ، کتب فی یدی.
10 - أن تقع بعد الفاء الداخلة علی جواب الشرط ؛ وهی التی تسمی : فاء
ص: 442
الجزاء ؛ مثل : مطالب الحیاة کثیرة ؛ إن تیسّر بعض فبعض لا یتیسّر ، والآمال لا تنفد ؛ إن تحقق واحد فواحد یتجدد.
11 - أن یدخل علیها ناسخ - أیّ ناسخ - وفی هذه الحالة لا تکون مبتدأ ، وإنما تصیر اسما للناسخ ، ومن ثم یصحّ فی أسماء النواسخ أن تکون فی أصلها معارف أو نکرات - کقولهم : کان إحسان رعایة الضعیف ، وإنّ یدا أن تذکروا الغائب (1) ...
ص: 443
(ا) قلنا إن مسوغات الابتداء بالنکرة کثیرة ؛ أوصلها النحاة إلی أربعین ، بل أکثر. وبالرغم من کثرتها بقیت نکرات أخری قد تعرب مبتدأ ، مع أنها لا تدخل تحت مسوغ مما ذکروه ؛ نحو : «مذ» و «منذ» فهما نکرتان فی اللفظ ؛ فی نحو : ما رأیته «مذ» أو «منذ» یومان ، وإن کان بعض النحاة یعتبرهما معرفتین معنی ؛ إذ المعنی : أمد انقطاع الرؤیة یومان مثلا (1) ..
علی أن تلک الکثرة من المسوغات قد فتحت الباب أمام کل نکرة لتدخل منه إلی الابتداء ، حتی صار من العسیر الحکم علی نکرة ، أیّ نکرة ، بأنها لا تصلح أن تکون مبتدأ. کما صار الرأی القائل : «إن المبتدأ لا یکون نکرة إلا إن أفادت» - رأیا لا جدید فیه ؛ لدخوله تحت أصل لغوی عام : هو : «ما یستحدث معنی أو یزید فی غیره لا یطعن فی وجوده ، ولا یستغنی عنه ، وما لا فائدة منه لا خیر فی ذکره».
وتأییدا لکلامنا وتوفیة للبحث - نذکر أهم تلک المسوغات ؛ لیؤمن المتردد أنها أبواب مفتوحة تتسرب منها النکرات کلها إلی الابتداء. وقد سبق منها أحدی عشر. وفیما یلی الباقی مع الاقتصار علی ما یغنی عن غیره ، وما یمکن إدماج غیره فیه. (2)
12 - أن تکون النکرة عاملة ؛ سواء أکانت مصدرا ؛ نحو : إطعام مسکینا طاعة ، أم وصفا عاملا (3) ، نحو : متقن عمله یشتهر اسمه. ومن العمل أن تکون مضافة ؛ لأن المضاف یعمل الجر فی المضاف إلیه ؛ مثل : کلمة خیر تأسر النفس ...
13 - أن تکون النکرة أداة شرط ؛ نحو ؛ من یعمل خیرا یجد خیرا.
ص: 444
14 - أن یکون فیها معنی التعجب - کما سبق (1) - ؛ نحو : ما أبرع جنود المظلات.
15 - أن تکون محصورة ؛ نحو : إنما رجل مسافر.
16 - أن تکون فی معنی المحصور - بشرط وجود قرینة تهیّیء لذلک - نحو : حادث دعاک للسفر المفاجئ ، أی : ما دعاک للسفر المفاجئ إلا حادث. ویصح فی هذا المثال أن یکون من قسم النکرة الموصوفة بصفة غیر ملحوظة ، ولا مذکورة ... أی : حادث خطیر دعاک إلی السفر.
17 - أن تکون معطوفة علی معرفة ؛ نحو : محمود وخادم مسافران.
18 - أن تکون معطوفة علی موصوف ، نحو : ضیف کریم وصدیق (2) حاضران.
19 - أن یکون معطوفا علیها موصوف ، نحو : رجل وسیارة جمیلة أمام البیت.
20 - أن تکون مبهمة قصدا ، لغرض یریده المتکلم ؛ نحو : زائرة عندنا.
21 - أن تکون بعد لو لا ؛ نحو : لو لا صبر وإیمان لقتل الحزین نفسه.
22 - أن تکون مسبوقة بلام الابتداء ؛ نحو : لرجل نافع (3).
ص: 445
ص: 446
23 - أن تکون مسبوقة بکلمة : «کم» الخبریة ؛ نحو : کم صدیق زرته (1) فی العطلة فأفادنی کثیرا.
24 - أن تکون مسبوقة بإذا الفجائیة ؛ نحو : غادرت البیت فإذا مطر.
25 - أن یکون مرادا بها حقیقة الشیء وذاته الأصلیة ، نحو : حدید خیر من نحاس (2).
ص: 447
للخبر من ناحیة تأخّره عن المبتدأ وتقدمه ثلاث حالات ، أن یتأخر وجوبا ، وأن یتقدم وجوبا ، وأن یجوز تأخره وتقدمه.
فأما تأخره وتقدمه جوازا فهو الأصل الغالب ؛ نحو : السحاب بخار متکاثف - البرق شرارة کهربیة - الکتاب صدیق أمین - قول الشاعر :
أفی کل عام غربة ونزوح
أما للنّوی من ونیة فتریح
ففی هذه الأمثلة وأشباهها یصح تقدیم الخبر وتأخیره (1) ...
أما تأخره وجوبا ؛ ففی مواضع أشهرها :
1 - أن یکون المبتدأ والخبر معا متساویین (2) أو متقاربین فی درجة تعریفهما أو تنکیرهما ، بحیث یصلح کل منهما أن یکون مبتدأ ؛ نحو : أخی شریکی -
ص: 448
أستاذی رائدی فی العلم - مکافح أمین جندی مجهول - أجمل من حریر أجمل من قطن ...
ففی هذه الأمثلة وأشباهها یجب تأخیر الخبر ؛ لأن تقدیمه یوقع فی لبس ؛ إذ لا توجد قرینة (1) تعینه ، وتمیزه من المبتدأ ؛ فیختلط المحکوم به بالمحکوم علیه ؛ ویفسد المعنی (2) تبعا لذلک. فإن وجدت قرینة معنویة أو لفظیة تدل علی أن المتقدم هو الخبر ولیس المبتدأ جاز التقدیم ؛ فمثال «المعنویة» : أبی أخی فی الشفقة والحنان ... فکلمة : «أب» خبر مقدم ؛ ولیست مبتدأ ؛ لأن المراد : أخی کأؤ ... ، أی : الحکم علی الأخ بأنه کالأب فی الشفقة والحنان ، ولا یعقل العکس. فالمحکوم علیه هو : «الأخ» ؛ فهو المبتدأ ، والمحکوم به هو : «الأب الذی یشابهه الأخ. فالأب هو الخبر ولو تقدم ؛ لأن القرینة المعنویة تمیزه وتجعله هو الخبر ؛ فصح التقدیم لوجودها.
ومثل : الجامعة فی التعلیم البیت. «فالجامعة» خبر مقدم ، «والبیت» مبتدأ مؤخر ؛ فهو المحکوم علیه بأنه مشابه للجامعة ؛ إذ لا یعقل العکس. ومثل : نور الشمس نور الکهربا. ضوء القمر ضوء الشموع ... الأسد فی الغضب القطّ فی الثورة. الجبل الهرم فی الضخامة. هذا العالم فی براعته هذا الطالب فی
ص: 449
تعلمه ... وهکذا ... ومثال القرینة «اللفظیة» : حاضر رجل أدیب. فکلمة «حاضر» هی الخبر ؛ لأنها نکرة محضة (1) والنکرة التی بعدها (وهی : رجل) نکرة غیر محضة ؛ لأنها مخصصة بالصفة بعدها ؛ فهی أحق بأن تکون المبتدأ بسبب تخصصها (2).
2 - أن یکون الخبر جملة فعلیة. فاعلها ضمیر مستتر یعود علی المبتدأ : نحو : الکواکب «تتحرک» ، فالجملة الفعلیة المکونة من الفعل المضارع وفاعله. خبر المبتدأ. فلو تقدم الخبر وقلنا : تتحرک الکواکب - لکانت «الکواکب» فاعلا ، مع أننا نریدها مبتدأ ، ولیس فی الکلام ما یکشف اللبس. بخلاف ما لو کان الفاعل اسما ظاهرا أو ضمیرا بارزا ، نحو : تتحرک کواکبها السماء - قد أضاءا النجمان ... ؛ فتعرب الجملة الفعلیة هنا ؛ (تتحرک کواکبها) خبرا متقدما ؛ لاشتمالها علی ضمیر یعود علی المبتدأ «السماء» فرجوع الضمیر إلی کلمة : «السماء» دلیل علی أنها متأخرة فی الترتیب اللفظی فقط ، دون الترتیب الإعرابی (وهذا یسمی : الرتبة (3)) ؛ لأن الضمیر لا یعود علی متأخر لفظا ورتبة إلا فی مواضع (4) لیس منها هذا الموضع. فکلمة : «السماء» متأخرة فی اللفظ. لکنها متقدمة فی الرتبة. وأصل الکلام : السماء تتحرک کواکبها ؛ فکلمة : «السماء» مبتدأ. وحاز تقدیم الخبر علیها مع أنه جملة فعلیة لأن اللبس مأمون ؛ إذ فاعلها اسم ظاهر. ولیس ضمیرا مستترا یعود علی ذلک المبتدأ (5) ...
وتعرب الجملة الفعلیة الثانیة خبرا مقدما ، والنجمان مبتدأ. ولا لبس فیه ، لأن وجود الضمیر البارز (وهو ألف الاثنین) وإعرابه فاعلا - فی اللغات الشائعة
ص: 450
عند العرب - أوجب أن یکون «النجمان» مبتدأ ، لا غیر ؛ إذ لا یوجد ما یحتاج إلی فاعل ، ومن ثمّ کان اللبس مأمونا (1) ...
وکما یقع اللبس بین المبتدأ والفاعل الضمیر المستتر علی الوجه السابق ، یقع بین المبتدأ ونائب الفاعل إذا کان ضمیرا مستترا أیضا ؛ نحو : البیت أقیم. وکذلک بین المبتدأ وفاعل اسم الفعل. إذا کان الفاعل ضمیرا مستترا ؛ نحو : القمر هیهات. وقد یلتبس المبتدأ لو تأخر بالتوکید ؛ نحو : أنا سافرت ؛ فلو تأخر المبتدأ الضمیر لکان توکیدا للتاء. فبسبب اللبس یمتنع التقدیم فی کل ما سبق (2) ...
3 - أن یکون الخبر محصورا فیه المبتدأ (3) بإنما ، أو إلا ؛ مثل : إنما البحتریّ شاعر - إنما المتنبی حکیم - ما النیل إلا حیاة مصر - ما الصناعة إلا ثروة. فلا یجوز تقدیم الخبر ؛ کی لا یزول الحصر ، فلا یتحقق المعنی علی الوجه المراد.
4 - أن یکون الخبر لمبتدأ دخلت علیه لام الابتداء (4) ؛ نحو : لعلم مع تعب خیر من جهل مع راحة ؛ لأن لام الابتداء لها الصدارة فی جملتها ؛ فیجب تقدیمها مع ما دخلت علیه ؛ وهو المبتدأ.
5 - أن یکون المبتدأ اسما مستحقّا للصدارة فی جملته ؛ إما بنفسه مباشرة ،
ص: 451
کاسماء الاستفهام ، وأسماء الشرط ، وما التعجبیة ، وکم الخبریة (1) ... ؛ مثل : من القادم؟ وأیّ شریف تصاحبه أصاحبه - ما أطیب خلقک!! کم صدیق عرفت فیه الذکاء!! وإما بغیره ؛ کالمضاف إلی واحد مما سبق ؛ فالمضاف إلی اسم استفهام نحو : صاحب من القادم؟ والمضاف إلی اسم شرط نحو : غلام أیّ رجل شریف تعاونه أعاونه. والمضاف إلی کم الخبریة نحو : خادم کم صدیق عرفت فیه الذکاء (2).
ص: 452
(ا) هنا مواضع أخری یجب فیها تأخیر الخبر ؛ أشهرها ما یأتی :
1 - ما ورد مسموعا من مثل : راکب الناقة طلیحان (1). (أی : متعبان ؛ أصابهما الإعیاء والإرهاق ، وأصله : راکب الناقة والناقة طلیحان ؛ من کل مبتدأ مضاف ، أخبر عنه بخبر مطابق فی التثنیة أو الجمع للمضاف مع المضاف إلیه من غیر عطف شیء ظاهر علی المبتدا ؛ کالمثال السابق. ونحو : مهندس البیت جمیلان - ونحو : خادم الطفلین لاعبون ؛ أی : مهندس البیت والبیت جمیلان ، وخادم الطفلین والطفلان لاعبون. فالمعطوف علی المبتدأ محذوف لوضوح المعنی. والخبر هنا واجب التأخیر. لکن أیجوز القیاس علی تلک الأسالیب التی حذف فیها حرف العطف والمعطوف علی المبتدأ ؛ لوضوح المعنی؟ الأحسن الأخذ بالرأی القائل بجوازه بشرط وجود قرینة واضحة تدل علی المحذوف : لأن هذا الرأی یطابق الأصول اللغویة العامة التی تقضی بجواز الحذف عند قیام قرینة جلیة تدل علی المحذوف ، وتمنع خفاء المعنی ؛ کما رددنا هذا کثیرا (2) ...
2 - أن یکون الخبر مقرونا بالفاء (3) ؛ نحو : الذی ینصحنی فمخلص. فإن تقدم الخبر وجب حذف الفاء.
3 - أن یکون الخبر مقترنا بالباء الزائدة ؛ نحو : ما شریف بکاذب.
4 - أن یکون الخبر طلبا ؛ نحو : المحتاج عاونه ، والبائس لا تؤلمه.
5 - أن یکون الخبر عن «مذ» أو «منذ» ، بجعلهما مبتدأین معرفتین فی المعنی ؛ نحو : ما سافرت مذ أو منذ شهران ؛ (إذ المعنی : زمن انقطاع الرؤیة شهران (4).
6 - ضمیر الشأن الواقع مبتدأ ؛ نحو : قل (هو : الله أحد).
7 - المبتدأ المخبر عنه بجملة هی عینه فی المعنی نحو : (کلامی : «السفر مفید») (قولی : «العمل نافع»).
8 - اسم الإشارة المبدوء بکلمة : «ها» التنبیه ، فی جملة اسمیة ؛ نحو : هذا أخی. وهذا رأی کثیر من النحاة ، ومن المیسور رفضه بالأدلة التی
ص: 453
سبقت (1) والتی تجعل تقدیم المبتدا هنا مستحسنا ، لا واجبا. وإنما یتعین - عند أصحاب ذلک الرأی - أن یکون اسم الإشارة فی الجملة الاسمیة هو : المبتدأ ولا یکون خبرا ، بحجة أن : «ها» التنبیه تتطلب الصدارة ، بشرط أن تتصل باسم الإشارة مباشرة ، لا یفصل بینهما ضمیر ، فإن فصل بینهما الضمیر فی مثل ؛ «هأنذا» فالضمیر هو المبتدأ واسم الإشارة هو الخبر. ویجوز : هذا أنا. ولکن الأول أحسن وأولی ؛ لکثرة الأسالیب الأدبیة الواردة به (2).
9 - المبتدأ الذی للدعاء ؛ نحو : سلام علیکم ، وویل للأعداء.
10 - المبتدأ الذی له خبر متعدد یؤدی مع تعدده معنی واحدا ؛ مثل : الفتی نحیف سمین - الرمان حلو حامض ؛ لأنه لا یجوز تقدیم الخبر المتعدد الذی یؤدی معنی واحدا ، ولا تقدیم واحد مما تعدد (3).
11 - المبتدأ التّالی : أمّا : نحو : أما صالح فعالم ؛ لأن الفاء لا تقع بعد «أما» مباشرة. ولأن الخبر الذی تدخل علیه لا یتقدم علی المبتدا - کما سلف -
12 - المبتدأ المفصول من خبره بضمیر الفصل ، نحو : الشجاع هو الناطق بالحق غیر هیاب :
13 - المبتدأ إذا کان ضمیر تکلم أو خطاب ، وقد أخبر عنه بالذی وفروعه مع وجود بعده الضمیر مطابقا للتکلم ، أو الخطاب ؛ نحو : أنا الذی أساعد الضعیف. أنتما اللذان تساعدان الضعیف.
14 - ویجب تقدیم المبتدأ وتأخیر الحبر فی باب الإخبار عن : «الذی» ، نحو : الذی صافحته محمد.
15 - المبتدأ إذا کان ضمیر متکلم أو مخاطب ، وقد أخبر عنه بنکرة معرفة بأل ، بعدها ضمیر مطابق للمبتدأ فی التکلم والخطاب ، نحو : أنا السیف أمزق الضلال ، أنت الجندی تدافع عن الوطن.
16 - إذا کان المبتدا اسم موصول وجب تأخیر الخبر عنه وعن الصلة معا (4).
ملاحظة : یجب تقدیم کل اسم أو فعل سبقته أداة عرض ، أو تمن ، أو رجاء ، أو نفی ، أو طلب.
ص: 454
17 - ویجب تأخیر الخبر ، إذا کان جملة فعلیة ماضویة والمبتدأ «ما» التعجبیة ؛ نحو : ما أقدر الله أن یدنی المتباعدین (1).
(ب) أثار النحاة والبلاغیون جدلا مرهقا حول بعض الحالات التی یکون فیها المبتدأ والخبر متساویین فی التعریف والتنکیر ، أو متقاربین فیهما ؛ من غیر لبس فی المعنی. ویدور الجدل حول معرفة الأحق منهما بأن یکون المبتدا. وإذا ظهر الأحق فهل یجوز الإغضاء عن أحقیته بجعله خبرا وجعل الخبر مبتدأ؟ وقد سبق (2) بیان المراد من التساوی والتقارب فی التعریف والتنکیر.
بالرغم من جدلهم المرهق (3) ؛ فإن الجواب السدید یتلخص فی أن المعوّل علیه فی جواز تقدیم المبتدأ علی الخبر لیس التساوی أو التقارب فی درجة التعریف والتنکیر ؛ وإنما المعول علیه وحده هو وجود قرینة تدل علی أن هذا هو المحکوم علیه ، (أی : أنه المبتدأ) ، وذلک هو المحکوم به ، أی : الخبر ، علی حسب المعنی ؛ بحیث یتمیز کل من الآخر ، دون خلط أو اشتباه. فمتی وجدت القرینة التی تمنع الخلط واللبس جاز تقدیم أحدهما وتأخیر الآخر علی حسب الدواعی (4). وإن لم توجد القرینة وجب تأخیر الخبر حتما من غیر أن یکون للتساوی أو التقارب دخل فی الحالتین. فلا بد من مراعاة حال السامعین من ناحیة قدرتهم علی إدراک أن هذا محکوم علیه فیکون مبتدأ ، وأن ذاک محکوم به فیکون خبرا. فإذا وقع فی وهم المتکلم أن التمییز غیر ممکن ، وأن اللبس محتمل - وجب إزالته ؛ إما بالقرینة التی تبعده وتبدده ، وإما بالتزام الترتیب ؛ فیتقدم المبتدأ ویتأخر الخبر ؛ لیکون هذا التقدم دلیلا علی أنه المبتدأ ، ووسیلة إلی تعینه ؛ لموافقته للأصل الغالب فی المبتدأ.
ص: 455
تقدیم الخبر وجوبا
(وهی الحالة الثالثة له)
؛ أهمها :
1 - أن یکون المبتدأ نکرة محضة ، ولا مسوغ للابتداء به إلا تقدم الخبر المختص ؛ ظرفا کان ، أو حارّا مع مجروره (1) ؛ أو جملة ؛ فمثال شبه الجملة : عندک کتاب - علی المکتب قلم ... فإن کان للمبتدأ مسوغ آخر جاز تقدیم الخبر وتأخیره ؛ نحو : عندک کتاب جمیل - علی المکتب قلم نفیس ؛ ویجوز : کتاب جمیل عندک ، وقلم نفیس علی المکتب. ومثال الجملة : قصدک ولده محتاج. فلا یجوز تقدیم المبتدأ ؛ وهو : «محتاج» ؛ لأنه نکرة محضة ، ولأن المبتدأ النکرة إذا تأخر عنه خبره الجملة أو شبه الجملة فقد یتوهم السامع أن المتأخر صفة ، لا خبر (2).
3 - أن یکون المبتدأ مشتملا علی ضمیر یعود علی جزء (3) من الخبر ؛ نحو :فی الحدیقة صاحبها. فکلمة : «صاحب» مبتدأ ، خبره الجار مع المجرور السابقین ؛ (فی الحدیقة). وفی المبتدأ ضمیر یعود علی الحدیقة التی هی جزء من الخبر. ولهذا وجب تقدیم الخبر ؛ فلا یصح : صاحبها فی الحدیقة ؛ لکیلا یعود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة ؛ وهو ممنوع هنا. ومثل ذلک : «فی القطار رکّابه» فکلمة : «رکاب» مبتدأ خبره الجار مع المجرور السابقین. وفی المبتدأ ضمیر یعود علی : «القطار» وهو جزء من الخبر. ویجب تقدیم الخبر ؛ فلا یصح :
ص: 456
رکّابه فی القطار ؛ لئلا یعود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة ؛ وهو ممنوع هنا کما قلنا. وهکذا ...
3 - أن یکون للخبر الصدارة فی جملته ؛ فلا یصح تأخیره. ومما له الصدارة أسماء الاستفهام ؛ نحو : أین العصفور؟ فکلمة : «أین» اسم استفهام ، مبنی علی الفتح فی محل رفع ، خبر مقدم ، و «العصفور» مبتدأ مؤخر. ونحو : متی السفر؟ فکلمة : «متی» اسم استفهام مبنی علی السکون فی محل رفع خبر مقدم ، و «السفر» مبتدأ مؤخر. ومثل هذا : کیف الحال؟ من القادم؟ ...
وکذلک الخبر الذی لیس اسم استفهام بنفسه ولکنه مضاف إلی اسم استفهام ؛ نحو ؛ ملک من السیارة؟ ؛ وصاحب أیّ اختراع أنت؟
ومما له الصدارة «مذ ومنذ» عند إعرابهما ظرفین خبرین متقدمین فی مثل : ما رأیت زمیلی مذ أو منذ یومان. ولو أعربناهما مبتدأین لوجب تقدیمهما أیضا (1).
4 - أن یکون الخبر محصورا (2) فی المبتدأ بإلا أو إنما ؛ نحو : ما فی البیت إلا الأهل ، إنما فی البیت الأهل ؛ فلا یجوز تأخیر الخبر وتقدیم المبتدأ ، لکیلا یختل الحصر المطلوب ، ویختلف المراد (3).
ص: 457
(ا) من المواضع التی یجب فیها تقدیم الخبر :
1 - أن یکون لفظة «کم» الخبریة (1) ؛ نحو : کم یوم غبابک!! أو أن یکون مضافا إلیها ، نحو : صاحب کم کتاب أنت!!
2 - أن یکون قد ورد عن العرب متقدما فی مثل من أمثالهم ؛ نحو : فی کل واد بنو سعد ؛ لأن الأمثال الواردة لا یصح أن یدخلها تغییر مطلقا ، (لا فی حروفها ، ولا فی ضبطها ، ولا فی ترتیب کلماتها). - کما سیجیء فی ص 471 -
3 - أن یکون المبتدأ مقرونا بفاء الجزاء ؛ نحو : أمّا عندک فالخیر.
4 - أن یکون الخبر اسم إشارة ظرفا للمکان ؛ نحو : هنا (2) وثمّ فی مثل : هنا النبوغ ؛ وثمّ العلم والأدب.
5 - أن یکون تأخیر الخبر مؤدیا إلی خفاء المراد من الجملة ، أو مؤدیا إلی الوقوع فی لبس ؛ فمثال الأول : لله درک (3) ، عالما ، فالمراد منها : التعجب. ولو تأخر الخبر وقلنا : درک لله - لم یتضح التعجب المقصود. ومثال الثانی : عندی أنک بارع ، من کل مبتدأ یکون مصدرا مسبوکا من «أنّ» (مفتوحة الهمزة مشدودة النون) ومعمولیها : وهی «أنّ» التی تفید التوکید. فلو قلنا : أنک بارع عندی - لکان التأخیر سببا فی احتمال اللبس فی الخط بین «أنّ» المفتوحة الهمزة المشددة النون و «إنّ» المکسورة الهمزة المشددة النون ، وسببا فی احتمال لبس آخر أقوی ، بین «أنّ» المفتوحة الهمزة المشددة التی معناها التوکید ، والتی تسبک مع معمولیها بمصدر مفرد - و «أن» التی بمعنی «لعل» ، وهذه مع معمولیها جملة فلا تسبک معهما بمصدر مفرد ، وفرق کبیر فی الإعراب بین المفرد والجملة ، وفی
ص: 458
المعنی بین التوکید ، والترجی أو الظن ... فقد صار اللبس محتملا لفظا وکتابة ومعنی بسبب تأخیر الخبر ، ولو تقدم لامتنع اللبس ، إذ الحکم الثابت «لإن» المکسورة الهمزة المؤکّدة ، و «أنّ» المفتوحة الهمزة التی بمعنی «لعل» أن کلا منهما مع معمولیه جملة ، وأن کلا منهما لا یجوز تقدیم معمول خبره علیه ؛ سواء أکان المعمول ظرفا أم غیر ظرف (1). ولهذا یسهل الاهتداء إلی إعراب الظرف فی المثال السابق ، وأشباهه ، وأنه خبر ولیس معمولا للخبر متقدما علیه ؛ إذ لو لم نعربه خبرا واعتبرنا الحرف : «أنّ» توکید (وهی المفتوحة الهمزة ، المشددة النون) لکان المصدر المؤول منها ومن معمولیها مبتدأ ، ولا نجد له خبرا ؛ وهذا لا یصح. ولو اعتبرناها بصورتها هذه بمعنی : «لعل» لم یصح تعلیق الظرف المتقدم بخبرها إذ لا یجوز تقدیم شیء من معمولات خبرها علیها - کما قلنا -. وکذلک لو اعتبرناها «إن» المکسورة الهمزة ، المشددة النون ، للتوکید. فلم یبق بدّ من إعراب ذلک الظرف خبرا متقدما. فتقدمه - أو غیره من المعمولات - یحتم أمرین :
(ا) تعیین نوع «أنّ» التی بعده ؛ فتکون للتوکید ، مفتوحة الهمزة مشددة النون.
(ب) أنه خبر متقدم ولیس معمولا لخبرها.
کما أن تأخیره یوجب أمرین :
(ا) اعتبار «أن» (مفتوحة الهمزة ، مشددة النون) بمعنی «لعل» أو کسر همزتها مع تشدید نونها لتکون للتوکید.
(ب) إعرابه فی الصورتین معمولا للخبر ولیس خبرا.
ولا شک أن کل اعتبار من الاعتبارات السالفة یؤدی إلی معنی یخالف الآخر.
هذا وإنما یکون تقدیم خبر «أنّ» واجبا علی الوجه الذی شرحناه بشرط عدم وجود «أما» الشرطیة. فإن وجدت جاز تأخیر الخبر (2). إذ المشددة المکسورة الهمزة. وکذا التی بمعنی : «لعل» لا یقعان بعدها (3) ...
وغایة القول : أنه یجب تقدیم الخبر فی کل موضع یؤدی فیه تأخیره إلی لبس ، أو خفاء فی المعنی أو فساد فیه.
ص: 459
یحذف کل منهما جوازا أو وجوبا فی مواضع معینة ؛ فیجوز حذف أحدهما إن دل علیه دلیل ، ولم یتأثر المعنی بحذفه (1) ؛ فمثال حذف المبتدأ جوازا أن یقال : أین الأخ؟ فیجاب : فی المکتبة. فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف تقدیره : «الأخ». وأصل الکلام : «الأخ فی المکتبة». حذف المبتدأ جوازا ؛ لوجود ما یدل علیه ، مع عدم تأثر المعنی بحذفه. ومن الأمثلة أیضا أن یقال : کیف الحال؟ فیجاب ... «حسن». فکلمة : «حسن» خبر لمبتدأ محذوف تقدیره : «الحال». وأصل الجملة : «الحال حسن» حذف المبتدأ جوازا ؛ لوجود ما یدل علیه ، مع عدم تأثر المعنی بحذفه ... وهکذا (2).
ومثال حذف الخبر جوازا أن یقال : من فی الحقل؟ فیجاب : «علیّ». فکلمة «علی» مبتدأ مرفوع ، والخبر محذوف تقدیره : «فی الحقل». وأصل الکلام. «علیّ فی الحقل». حذف الخبر جوازا لوجود ما یدل علیه ، مع عدم تأثر المعنی بحذفه. ومثله : ماذا معک؟ فیقال : «القلم» ، فکلمة : «القلم» مبتدأ مرفوع ،
ص: 460
والخبر محذوف تقدیره : «معی». وأصل الکلام : «القلم معی» ، ومثل : خرجت فإذا الوالد (1).
وقد یحذف المبتدأ والخبر معا بالشرط السابق ؛ نحو : المحسنون کثیر ؛ فمن یساعد محتاجا فهو محسن ، ومن یساعف مستغیثا فهو محسن ، ومن یشهد شهادة الحق ... أی : من یشهد شهادة الحق فهو محسن. فجملة : (هو محسن) مبتدأ وخبر وقد حذفا معا. جوازا (2). ومن ذلک : من یخلص فی أداء واجبه فهو عظیم ، ومن ینفع وطنه فهو عظیم ، ومن یخدم الإنسانیة ... أی : فهو عظیم (3).
ص: 461
ص: 462
ذاک هو الحذف الجائز (1) ، أما الواجب فللمبتدأ مواضع ، وللخبر أخری. وفیما یلی البیان :
مواضع حذف المبتدأ وجوبا ، أشهرها أربعة :
(ا) المبتدأ الذی خبره فی الأصل نعت ثم ترک أصله وصار خبرا. بیان هذا : أن بعض الکلمات یکون نعتا خاصّا بالمدح کالذی فی نحو : ذهبت إلی الصدیق الأدیب ، أو بالذم کالذی فی ، نحو : ابتعدت عن الرجل السفیه ، أو : بالترحم (2) کالذی فی نحو : ترفق بالضعیف البائس. فکلمة «الأدیب» و «السفیه» و «البائس» نعت مفرد (3) ، تابع للمنعوت فی حرکة الإعراب ، مجرور فی الأمثلة السابقة.
لکن یجوز إبعاده عن الجرّ إلی الرفع أو النصب بشروط (4). وعندئذ لا یسمی
ص: 463
ولا یعرب فی حالته الجدید «نعتا» (1) وإنما یکون فی حالة الرفع خبرا لمبتدأ محذوف وجوبا تقدیره : هو - مثلا - فیکون المراد : ذهبت إلی الصدیق ؛ «هو الأدیب» ابتعدت عن الرجل ؛ «هو السفیه. ترفق بالضعیف «هو البائس».
ویکون فی حالة النصب مفعولا به لفعل محذوف وجوبا مع فاعله ، تقدیره : «أمدح» ، أو : «أذم» ، أو : «أرحم» ، علی حسب معنی الجملة. والفاعل فی هذه الأمثلة ضمیر مستتر وجوبا تقدیره : أنا. فالمراد : أمدح الأدیب ... أذم السفیه ... أرحم البائس.
ومن الأمثلة : أصغیت إلی الغناء الشجیّ (2) ، فزعت من رؤیة القاتل الفتاک ، أشفقت علی الطفل الیتیم. فکلمة «الشجیّ» نعت مفرد مجرور ؛ تبعا للمنعوت. وتفید المدح. وکلمة : «الفتاک» نعت مفرد مجرور ؛ تبعا للمنعوت ، وتفید الذم. وکذلک : «الیتیم» ، إلا أنها تفید الترحم. فتلک الکلمات الثلاث وأشباهها - من کل نعت مفرد مجرور یفید المدح ، أو الذم ، أو الترحم - قد یجوز إبعادها عن الجر ، إلی الرفع أو : النصب ؛ فلا تعرب نعتا مفردا مجرورا ؛ وإنما تعرب فی حالة الرفع خبرا لمبتدأ محذوف وجوبا تقدیره : «هو» ویکون المراد : «هو الشجی». «هو الفتاک». «هو الیتیم» کما تعرب فی حالة النصب مفعولا به لفعل محذوف وجوبا مع فاعله ، تقدیره : أمدح ... أو : أذم ... أو : أرحم ... ، علی حسب الجملة ؛ فالمراد : أمدح الشجیّ ... أذمّ الفتاک ... أرحم الیتیم(3).
ص: 464
وإذا کان النعت مرفوعا فی الأصل جاز قطعه إلی النصب ، ذا کان منصوبا جاز قطعه إلی الرّفع وإذا کان مجرور جاز قطعه للرفع أو النصب ، والذی یتصل بموضوعنا هو : النعت المقطوع إلی الرفع حیث یعرب بعد القطع خبرا لمبتدأ محذوف وجوبا ولا یجب الحذف إلا بشرظ أن یکون أصل النعت للمدح ، أو الذم ، أو الترحم ، دون غیرها - کما سبق -.
2 - المخصوص بالمدح أو الذم.
وبیانه : أن فی اللغة أسالیب للمدح ، وأخری للذم ، وکلاهما یؤلّف بطریقة معینة ، وصور مختلفة ، مشروحة فی أبوابها (1) النحویة. فمن أسالیب المدح : أن تقول فی مدح زارع اسمه حلیم : «نعم الزارع حلیم». وفی ذم صانع اسمه سلیم : «بئس الصانع سلیم» ... فالممدوح هو «حلیم» ویسمی : «المخصوص بالمدح» والمذموم هو : «سلیم» ویسمی : «المخصوص بالذم». ومثلهما : «نعم الوفی
ص: 465
حامد» أو : «بئس المختلف وعده زهیر». فالممدوح هو : «حامد» ، ویسمی ، «المخصوص بالمدح» والمذموم هو : «زهیر» ویسمی : «المخصوص بالذم» فالمخصوص - فی الحالتین - یقع بعد جملة فعلیة ، مکونة من فعل خاصّ - یدل علی المدح ، أو علی الذم ، - وفاعله. وقد یتقدم المخصوص علیهما ؛ فنقول : «حلیم نعم الزارع» ... «سلیم بئس الصانع». وله صور وإعرابات مختلفة ؛ یعنینا منها الآن إعرابه إذا وقع متأخّرا ؛ فیجوز إعرابه خبرا ، مرفوعا ، لمبتدأ محذوف وجوبا تقدیره : «هو» (1) فیکون أصل الکلام : «نعم الزارع هو حلیم». «بئس الصانع هو سلیم».
3 - أن یکون الخبر صریحا فی القسم (الحلف). وصراحته تتحقق بأن یکون معلوما فی عرف المتکلم والسامع أنه یمین ؛ نحو : فی ذمتی لأسافرن. - بحیاتی لأخدمن العدالة. ترید : فی ذمتی یمین (2) ، أو عهد ، أو میثاق ... بحیاتی یمین ، أو عهد ، أو میثاق ...
4 - أن یکون الخبر مصدرا یؤدی معنی فعله ، ویغنی عن التلفظ بذلک الفعل - فی أسالیب معینة ، محدّدة الغرض ؛ محاکاة للعرب فی ذلک - ؛ کأن یدور بینک وبین طبیب ، أو مهندس ، أو زارع ... کلام فی عمله ، فیقول عنه : «عمل لذیذ». أی : عملی عمل لذیذ. وهذه الجملة فی معنی جملة أخری (3) فعلیة ، هی : «أعمل عملا لذیذا». فکلمة : «عملا» مصدر ، ویعرب مفعولا مطلقا للفعل الحالی : (أعمل) وقد حذف الفعل وجوبا ؛ للاستغناء عنه بالمصدر الذی یؤدی معناه ، وللتمهید لإحلال جملة اسمیة محلّ هذه الجملة
ص: 466
الفعلیة ... (1) وصار المصدر مرفوعا بعد أن کان منصوبا ؛ لیکون خبرا لمبتدأ محذوف ؛ فتنشأ جملة اسمیة تؤدی المعنی الأول تأدیة أقوی وأبرع من السابقة (2). ومن الأمثلة أن یقول السباح وقد قطع أمیالا : «سباحة شاقة» أی : سباحتی سباحة شاقة. وهذه الجملة فی معنی : أسبح سباحة شاقة. فکلمة : «سباحة» مصدر منصوب ، لأنه مفعول مطلق للفعل : «أسبح» ، ثم حذف الفعل وجوبا ؛ استغناء عنه بوجود المصدر الذی یؤدی معناه ؛ ثم رفع المصدر لیکون خبرا لمبتدأ محذوف ؛ فتنشأ جملة اسمیة جدیدة ، تکون أقوی وأبرع فی تأدیة المعنی من الجملة الفعلیة الأولی.
ومن الأمثلة أیضا أن یقول السعید : شکر کثیر. حمد وافر ... وأن یقول المریض أو المکدود : صبر جمیل -. أمل طیب ... وأن یقول الولد لوالده الذی یطلب شیئا : سمع وطاعة ... أی : أمری وحالی سمع وطاعة (3).
ص: 467
(ا) هناک مواضع أخری - غیر الأربعة السالفة - یجب فیها حذف المبتدأ ؛ منها :
1 - الاسم المرفوع بعد «لا سیما» ؛ فی مثل : أحب الشعراء ، ولا سیما «شوقیّ» بإعراب «شوقیّ» خبرا لمبتدأ محذوف وجوبا تقدیره : هو (1).
2 - بعد المصدر النائب عن فعل الأمر : من مثل : «سقیا لک» (2) ... و «رعیا لک» ... ومثلهما فی قول الشاعر :
نبّئت نعمی علی الهجران عاتبة
سقیا ورعیا لذاک العاتب الزاری
وغیرهما من کل مصدر ینوب عن فعل الأمر نیابة تغنی عن لفظه ومعناه ، وبعد المصدر ضمیر مجرور لمخاطب. فأصل : «سقیا لک» «اسق یا رب» ... «الدعاء لک یا فلان». وأصل «رعیا لک» «ارع یا رب» ... «الدعاء لک یا فلان» ، فالمصدر نائب عن لفظ فعل الأمر وعن معناه ، وبعده المخاطب المجرور. والجار مع المجرور خبر لمبتدأ محذوف. ولا یصح أن یکون هذا الجار مع مجروره متعلقا بالمصدر : (سقیا ورعیا) ، لأن هذا التعلق مخالف للأصول العامة
ص: 468
فی تکوین الجملة (1).
ص: 469
3 - بعد ألفاظ مسموعة عن العرب مثل : (من أنت؟. محمد) وهو أسلوب یقال حین یتحدث شخص حقیر بالسوء عن شخص عظیم اسمه : محمد ... والتقدیر : من أنت؟ مذکورک محمد ... أو : مذمومک محمدّ. أی : من أنت؟ وما قیمتک بالنسبة للشخص الذی تذکره بالسوء ؛ وهو محمد؟. فالمثل یتضمن تحقیرا للمغتاب ، وتعظیما لمحمد. فمحمد خبر لمبتدأ محذوف تقدیره : مذکورک ... أو مذمومک (أی : الشخص الذی تذکره فی حدیثک أو تذمه فیه). ولما کان هذا الأسلوب قد ورد بغیر مبتدأ صار من الواجب التزامه
ص: 470
والإبقاء علیه بغیر زیادة أو نقص ؛ لأنه بمنزلة المثل ؛ والأمثال لا تتغیر مطلقا (1). وقد ورد ذلک الأسلوب بالنصب أیضا : (من أنت؟ محمدا). التقدیر : (من أنت؟ تذکر محمدا ، أو تذم محمدا) ؛ فتکون الکلمة المنصوبة مفعولا به لفعل محذوف.
ومن الأسالیب المسموعة أن یقال : «لا سواء» عند الموازنة بین شیئین. والتقدیر : لا هما سواء ، أو : هذان لا سواء ؛ بمعنی : لا یستویان. فکلمة : «سواء» خبر مبتدأ محذوف وجوبا تقدیره : «هما» أو : «هذان».
ویری فریق من النحاة أن الحذف فی المسألتین جائز لا واجب. والأخذ بهذا الرأی أنسب فیما نصوغه من أسالیبنا. أما الوارد المسموع عن العرب نصّا علی أنه مثل من أمثالهم فیجب إبقاؤه کما ورد عنهم.
ص: 471
مواضع حذف الخبر وجوبا ، أشهرها خمسة :
1 - أن یقع الخبر کونا عامّا (1) والمبتدأ بعد «لولا (2) الامتناعیة» ، نحو : لو لا عدل الحاکم لقتل الناس بعضهم بعضا. ولو لا العلم لشقی العالم. ولو لا الحضارة ما سعد البشر ... أی : لو لا العدل موجود ... لو لا العلم موجود ... لو لا الحضارة موجودة ... فالخبر محذوف قبل جواب : «لو لا» ...
ومن هذه الأمثلة وأشباهها یتضح أن الخبر یحذف وجوبا بشرطین : وقوعه کونا عامّا ، ووجود لو لا الامتناعیة قبل المبتدأ. فإن لم یتحقق أحد الشرطین أو هما معا تغیر الحکم ؛ فإن لم توجد «لو لا» فإنّ حکم الخبر من ناحیة الحذف وعدمه کحکم غیره من الأخبار کلها ؛ وقد سبق الکلام علیها. وإن لم یقع کونا - عامّا بأن کان خاصّا - وجب ذکره ؛ نحو : لو لا السفینة واسعة ما حملت مئات الرکاب. لو لا الطیار بارع ما نجامن العاصفة ؛ فکلمة : «واسعة» وکلمة : «بارع» - خبر من نوع الکون الخاص الذی لا دلیل یدل علیه عند حذفه ، فیجب ذکره ؛ فإن دل علیه دلیل جاز فیه الحذف والذکر ؛ نحو : الصحراء قحلة لعدم وجود الماء بها ؛ فلولا الماء معدوم لأنبتت - دخل اللص الحدیقة لغیاب حارسها ؛ فلولا الحارس غائب لخاف اللص. - اضطرب البحر من شدة الهواء. فلولا الهواء شدید ما اضطرب. فکل من : «معدوم» و «غائب» و «شدید» قد وقع خبرا ، وهو کون خاص ، فیجوز ذکره وحذفه ؛ لوجود ما یدل علیه عند الحذف (3).
2 - أن یکون لفظ المبتدأ نصّا فی القسم (4) ، نحو : لعمر الله (5) لأجیدنّ عملی - لأمانة الله لن أهمل واجبی - لحیاة أبی لا أنصر الظالم - لأیمن الله لأسرعنّ للملهوف ... فالخبر محذوف فی الأمثلة کلها قبل جواب القسم. وأصل
ص: 472
الکلام لعمر الله قسمی ... لأمانة الله قسمی ... لحیاة أبی قسمی ...
لأیمن الله قسمی (1) ... ومن الأمثلة قول الشاعر :
لعمرک ما الأیام إلا معارة (2)
فما اسطعت (3) من معروفها
فتزوّد
فالمبتدأ فی کل مثال کلمة صریحة الدلالة علی القسم ، غلب استعمالها فیه فی عرف السامع لها ، ولذلک حذف خبرها ؛ (وهو : قسمی) لأنها تدل علیه ، وتغنی عنه ، ولا یصح أن یکون المحذوف فی الأمثلة السابقة هو المبتدأ.
وهناک سبب آخر قوی یحتم أن یکون المحذوف هو الخبر ؛ ذلک السبب وجود لام الابتداء فی أول کل اسم ؛ إذ یدل وجودها علی أن المذکور هو المبتدأ دون الخبر ؛ لأن الغالب علیها أن تدخل علی المبتدأ لا علی الخبر ؛ لیکون لها الصدارة الحقیقیة. فإن لم یکن المبتدأ نصّا فی الیمین ، أو لم توجد لام الابتداء - لم یکن حذف الخبر واجبا ، وإنما یکون جائزا ، نحو : عهد الله قسمی لا أرتکب ذنبا. أمر الدین قسمی لا أفعل إساءة ؛ بإثبات الخبر أو حذفه.
3 - أن یقع الخبر بعد المعطوف بواو تدل دلالة واضحة علی أمرین مجتمعین ، هما : العطف ، والمعیة (4) ؛ نحو : الطالب وکتابه ...
ولبیان هذا نسوق المثال الآتی : إذا أقمت فی بلد تراقب أهله ؛ فرأیت الفلاح یلازم حقله ، والصانع یلازم مصنعه ، والتاجر متجره ، والملّاح سفینته ، والطالب معهده ، وکل واحد من أهلها یتفرغ لشأنه ، لا یکاد یترکه. ثم أردت أن تصفهم. فقد تقول : شاهدت أهل البلد عاکفین علی أعمالهم ، منصرفین لشئونهم ؛ (الفلاح وحقله) - (الصانع ومصنعه) - (التاجر ومتجره) - (الملاح وسفینته) - (الطالب ومعهده) - (کل رجل وحرفته) (5). فما معنی کل جملة من
ص: 473
هذه الجمل؟ معناها (الفلاح وحقله متلازمان) - (الصانع ومصنعه متلازمان) وهکذا الباقی ...
وإذا تأملت ترکیب واحدة منها (مثل : الفلاح وحقله) عرفت أنها مرکبة من مبتدأ ؛ هو : «الفلاح». بعده واو تفید أمرین (1) معا ، هما : العطف ، والمعیة ، وبعد هذه الواو یجیء المعطوف علی المبتدأ ، ویشارکه فی الخبر ، ثم یجیء بعده الخبر. لکن أین الخبر الواقع بعد المعطوف؟ إن الخبر محذوف نفهمه من الجملة ؛ وهو کلمة : «متلازمان» أو : «متصاحبان» أو : «مقترنان» أو : ما یدل علی الملازمة والمصاحبة التی توحی بها الواو التی بمعنی : «مع» وتدلّ علیها فی وضوح ظاهر للسامع. ومثل هذا یقال فی الأمثلة الأخری. فإن لم تکن الواو نصّا فی المعیة لم یکن حذف الخبر واجبا ؛ وإنما یکون جائزا عند قیام دلیل یدل علیه ؛ نحو : الرجل وجاره مقترنان ، أو : الرّجل وجاره ، فقط ؛ لأن الاقتصار علی المتعاطفین یفید الاشتراک والاصطحاب. أما جواز ذکر المحذوف فلأن الواو هنا لیست نصّا فی المعیة ، إذ الجار لا یلازم جاره ، ولا یکون معه فی الأوقات کلها ، أو أکثرها.
4 - الخبر الذی بعده حال تدل علیه ، وتسد مسده ، من غیر أن تصلح فی المعنی لأن تکون هی الخبر ؛ نحو : «قراءتی النشید مکتوبا». وذلک فی کل خبر لمبتدإ ، مصدر ، وبعد هذا المصدر معموله ، ثم حال ، تدل علی الخبر المحذوف وجوبا ، وتغنی عنه ، ولا تصلح (2) فی المعنی أن تکون خبرا لهذا المبتدأ ... (3) ؛ کالمثال
ص: 474
السالف. فکلمة «قراءة» مبتدأ ، وهی مصدر مضاف ، والیاء مضاف إلیه ، «النشید» مفعول به للمصدر ، فهو المعمول للمصدر - «مکتوبا» حال منصوب ولا تصلح أن تکون خبرا لهذا المبتدأ ؛ إذ لا یقال : قراءتی مکتوب. وإنما الخبر ظرف محذوف مع جملة فعلیة أضیف لها ، والتقدیر ؛ قراءتی النشید إذا کان مکتوبا ، أو إذ کان مکتوبا (1) وقد حذف الخبر الظرف بمتعلّقه ، ومعه المضاف إلیه ؛ لوجود ما یدل علیه ، ویسد مسده فی المعنی ؛ وهو ؛ الحال التی صاحبها الضمیر ، الفاعل ، المحذوف مع فعله.
ومثله : مساعدتی الرجل محتاجا ، أی : إذا کان أو إذ کان محتاجا. «فمحتاجا» حال لا تصلح من جهة المعنی أن تکون خبرا لهذا المبتدأ ، إذ لا یقال : مساعدتی محتاج (وصاحب هذه الحال هو الضمیر الفاعل المحذوف مع فعله). و «الرجل» مفعول به للمصدر - فهو معموله - ومثل هذا یقال فی شربی الدواء سائلا ، وأکلی الطعام ناضجا - .. و...
فإن کانت الحال صالحة لوقوعها خبرا للمبتدأ المذکور وجب رفعها لتکون هی الخبر ؛ فلا یصح إکرامی الضیف عظیما ، بل یتعین أن نقول : إکرامی الضیف عظیم ... بالرفع علی الخبر (2) ...
ص: 475
هذا ، وتتلخص جمیع مواضع حذف الخبر - التی سبقت - فی العلم بالمحذوف لوجود ما یدل علیه ، أو ما یغنی عنه فی المعنی لا فی الإعراب.
5 - حذفه من بعض أسالیب مسموعة عن العرب ؛ منها : حسبک ینم الناس (1).
ص: 476
«ملاحظة» : بقیت حالة سبقت الإشارة إلیها (1) ، وهی التی یکون فیها المبتدأ متقدما - مباشرة - علی أداة شرطیة ، فإن اقترن ما بعدهما بالفاء ، أو صلح لمباشرة الأداة الشرطیة - کان هو الجواب للأداة الشرطیة - فی الرأی الأرجح - وکان خبر المبتدأ محذوفا وجوبا ؛ نحو : الطفل إن یتعلم فهو نافع ، - الصانع إن یتقن صناعته یستفد مالا وجاها.
فدخول «الفاء» علی الجملة الاسمیة دلیل علی أن هذه الجملة جواب للشرط ، ولیست خبرا ؛ لکثرة دخول الفاء علی الجملة الجوابیة دون الخبریة. ، وجزم المضارع : «یستفد» دلیل علی أنه جواب الشرط وعلی صلاحه لمباشرة الأداة ، وأن الجملة المضارعیة لیست خبرا (2) ...
فإن لم یقترن ما بعدهما بالفاء ، أو لم یصلح لمباشرة الأداة ، کان خبرا ، والجواب محذوفا ؛ نحو : الطفل إن یتعلم هو نافع - الصانع إن یهمل صناعته لیس یستفید.
ص: 477
لا فرق فی المصدر الواقع مبتدأ بین أن یکون صریحا کالأمثلة السابقة وأن یکون مؤولا ؛ مثل : أن أقرأ النشید مکتوبا. أن أساعد الرجل محتاجا. وکذلک لا فرق فی الحال بین المفردة کالتی سبقت ، والظرف ، نحو : قراءتی النشید مع الکتابة - أکلی الطعام مع النضج - ، والجملة الاسمیة نحو : قراءتی النشید وهو مکتوب ، أو : الفعلیة مضارعیة وغیر مضارعیة ؛ نحو : مساعدتی الرجل یحتاج ، أو : مساعدتی الرجل وقد احتاج.
ولیس من اللازم أن یکون المبتدأ نفسه هو المصدر فقد یکون المبتدأ أفعل تفضیل مضافا إلی المصدر - الصریح ، أو المؤول - الذی وصفناه ، نحو : أحسن قراءتی النشید مکتوبا. أکمل مساعدتی الرجل محتاجا. أحسن ما أقرأ النشید مکتوبا - أکمل ما أساعد الرجل محتاجا.
(ب) من الأسالیب الصحیحة محمد والفرس یباریها ، أو : محمد وهند تسابقه ... ونحو هذا من کل أسلوب یشتمل علی مبتدأ ، بعده معطوف بواو العطف ، ثم یجیء بعد ذلک المعطوف شیء ینسب حصوله للمعطوف ، أو المعطوف علیه ، ویقع أثره المعنوی علی الآخر الذی لم ینسب له الحصول ، ففی المثال الأول نری المبتدأ هو : «محمد» ، وبعده المعطوف بالواو هو : «الفرس» ، وبعده الفعل «یباری» الذی ینسب حصوله للمبتدأ «محمد» ، ولکن یقع أثره علی الفرس ، فکأنک تقول : محمد یباری الفرس ... وفی المثال الثانی : المبتدأ هو «محمد» أیضا ، وبعده المعطوف بواو العطف ؛ وهو : «هند» والفعل الذی بعده هو : «تسابق» وینسب حصوله للمعطوف «هند» ، ولکن یقع أثره المعنوی علی المبتدأ ؛ فکأنک تقول : هند تسابق محمدا ... فأین خبر المبتدأ فی المثالین السابقین وأشباههما؟
خیر الآراء فی ذلک أن الخبر محذوف ، والتقدیر والفرس یباریها - مسرعان ... محمد وهند تسابقه متنافسان ... ویجوز أن تکون الواو واو الحال والجملة بعدها حال أغنت عن الخبر (1) ...
ص: 478
والأول أحسن ؛ لاعتبارین ؛
«أولهما» : مطابقته لقاعدة عامة ؛ هی : أن الأصل فی المبتدأ أن یکون له خبر أصیل ، لا شیء آخر - کالحال - یسدّ مسدّه ، وأن هذا الخبر الأصیل یصح حذفه لدلیل.
«ثانیهما» : أنه یصلح لکل التراکیب التی تتصل بموضوعنا. ومن هذه التراکیب ما یکون فیه المبتدأ غیر مستوف للشروط التی تجعله یستغنی بالحال عن الخبر کالمثالین المعروضین هنا ، وأشباههما .... (1)
ص: 479
یکثر أن یکون للمبتدأ الواحد خبران أو أکثر (2) ؛ مثل : المتنبی شاعر ، حکیم. فکلمة «المتنبی» مبتدأ ، و «شاعر» خبر ، و «حکیم» خبر ثان. وکذلک : «شوقیّ» شاعر ، ناثر ، حکیم ؛ فکلمه «شوقیّ» مبتدأ و «شاعر» خبر ، و «ناثر» خبر ثان ، و «حکیم» خبر ثالث. وهکذا یتعدد الخبر.
غیر أن هذا التعدد ثلاثة أنواع :
أولها : أن یتعدد الخبر لفظا ومعنی ، بحیث یکون کل واحد مخالفا للآخر فی هذین الأمرین ؛ نحو : بلدنا زراعیّ ، صناعیّ - صحیفتنا علمیة ، أدبیة ، سیاسیة ... فکلمة «بلد» مبتدأ ، بعده خبران ، مختلفان ، لفظا ومعنی ، وکل معنی مقصود لذاته. وکلمة «صحیفة» مبتدأ ، وبعدها ثلاثة أخبار ؛ کل واحد منها علی ما وصفنا. ونحو قوله تعالی : (وَهُوَ الْغَفُورُ ، الْوَدُودُ ، ذُو الْعَرْشِ ، الْمَجِیدُ ، فَعَّالٌ لِما یُرِیدُ.)
وحکم هذا النوع أنه یجوز فیه عطف الخبر الثانی (3) وما بعده علی الخبر الأول ، فیصح فی الأمثلة السابقة أن نقول : بلدنا زراعیّ وصناعیّ - صحیفتنا علمیة ، وأدبیة ، وسیاسیة ... - معهدنا علمیّ ، وأدبیّ ، وریاضیّ ، وثقافیّ ... بإثبات حرف العطف أو حذفه فی کل الأمثلة ؛ فعند إثباته یعرب ما بعده معطوفا علی الخبر الأول (4) دائما. ومع أنّ ما بعد الخبر الأول هو خبر فی المعنی والتقدیر فإننا
ص: 480
لا نسمیه عند الإعراب (1) خبرا. أما عند حذف العطف فیسمی اللفظ المتعدد : خبرا ، ویعرب خبرا.
ثانیها : أن یتعدد الخبر فی اللفظ فقط وتشترک الألفاظ المتعددة فی تأدیة معنی واحد ، هو المعنی المقصود ، وذلک بأن تکون الألفاظ مختلفة ؛ لکل منها معنی خاص یخالف معنی الآخر -. ولکنه معنی غیر مقصود لذاته ؛ وإنما المعنی المقصود لا یتحقق إلا بأن تنضم هذه المعانی المتخالفة ، بعضها إلی بعض ، لتؤدی وهی مجتمعة معنی جدیدا لا ینشأ إلا من مجموعها ، کأن تری رجلا لیس بالقصیر ولا الطویل. فتقول : (الرجل طویل قصیر) ترید أنه «متوسط» فکل من کلمتی : «طویل» و «فصیر» لها معنی خاص یخالف الآخر ، ولکنه لیس مقصودا لذاته ؛ وإنما المقصود منه أن ینضم إلی المعنی الآخر لینشأ عن انضمامهما معنی جدید ، هو : «متوسط» وهو المعنی المراد ، الذی لا یفهم من إحدی الکلمتین منفردة ؛ وإنما یفهم منهما معا ؛ برغم أن کل واحدة منهما تسمی : خبرا (2) ، وتعرب خبرا ، ولها معنی خاص ، ولکنه غیر مقصود ، کما قلنا. ومثل : الطفل سمین نحیف ، أی : معتدل. ومثل : الفاکهة حلوة مرة ، أی : متغیرة الطعم ، أو متوسطة ، بین الحلاوة والمرارة ، وهکذا ...
ولهذا النوع ضابط یمیزه ؛ هو : أن المعنی المراد یتحقق ویصلح حین نجعل الألفاظ المتخالفة کتلة واحدة هی الخبر ، ویفسد إذا جعلنا بعضها هو الخبر دون بعض.
علی أننا عند الإعراب لا بد أن نعرب کل واحد خبرا ، ونسمیه خبرا ، - کما قلنا - ونعلم أنه (3) یشتمل علی ضمیر مستتر یعود علی المبتدأ ، وهو غیر الضمیر المستتر الذی یحویه المعنی الجدید الناشیء من المعانی الفردیة غیر المقصودة.
ص: 481
وحکم هذا النوع أنه لا یجوز فیه العطف ؛ لأن الخبرین أو الأخبار شیء واحد من جهة المعنی ، والعطف یشعر بغیر ذلک (1). کما لا یجوز أن یفصل فیه بین الخبرین أو الأخبار فاصل أجنبی ، ولا أن یتأخر (2) المبتدأ عن تلک الأخبار أو یتوسط فیها.
ثالثها : أن یتعدد الخبر فی لفظه ومعناه ولکن تعدده فی هذه الحالة یکون تابعا لتعدد المبتدأ فی نفسه حقیقة أو حکما. ویوصف المبتدأ بأنه متعدد فی نفسه حقیقة حین یکون ذا فردین أو أفراد ، أی : حین یکون مثنی أو جمعا ؛ نحو : الصدیقان مهندس ، وطبیب. ونحو : السباقون غلام ، وشاب ، وکهل. ففی المثال الأول تعددت أفراد الخبر فکانت فردین ، یستقل کل منهما عن الآخر ؛ تبعا لتعدد أفراد المبتدأ المثنی ؛ إذ یشمل فردین. وفی المثال الثانی تعددت أفراد الخبر فکانت ثلاثة أفراد - علی الأقل - تبعا للأفراد المقصودة من المبتدأ الجمع. فالمبتدأ المثنی فی المثال السابق فی قوة مبتدأین لکل منهما خبر ، والمبتدأ الجمع فی قوة ثلاث مبتدءات لکل منها خبر ... وهکذا.
ویوصف المبتدأ بأنه متعدد حکما حین یکون منفردا (أی : شیئا واحدا) ولکنه ذو أجزاء وأقسام ؛ نحو : جسم الإنسان رأس ، وجذع ، وأطراف. ونحو : البیت غرفة للضیوف ، وغرفة للأکل ، وغرفة للقراءة ، وغرف للنوم. ونحو : حدیقة الحیوان جزء للوحوش ، وجزء للطیور ، وجزء للقردة ... و... و...
والفرق بین هذا النوع وسابقه أن المبتدأ فی النوع السابق لا بد أن یکون ذا فردین أو أفراد ، وکل فرد له کیان مستقل کامل ، یترکب من أجزاء متعددة. أما فی هذا النوع فالمبتدأ فرد واحد ، لکن له أجزاء ، ومن هذه الأجزاء مجتمعة یتکون الفرد الواحد.
وحکم هذا النوع أنه یجب فیه عطف الخبر الثانی والثالث وما بعدهما ، علی الأول (3) ؛ بشرط أن یکون حرف العطف الواو ، ومتی عطف الخبر زال عنه اسم
ص: 482
الخبر ، وسمی عند الإعراب معطوفا (1).
هذا وتعدد الخبر لیس مقصورا علی نوع الخبر المفرد ؛ بل یکون فیه (نحو : المجلات طبیة ، هندسیة ، زراعیة ، تجاریة ، ...) ویکون فی الجملة ؛ (نحو : العصفور یغرد ، یتحرک ؛ یطیر ، یتلفت - الصیف نهاره طویل ، لیله قصیر). وفی شبه الجملة ؛ (نحو : الطائر أمامک ؛ قربک.) وقد یکون مختلطا ؛ (نحو : هو أسد یزأر). فکلمة : «أسد» خبر. وکذلک جملة : «یزأر» ، (ونحو : الأسد یکشر عن أنیابه ، غاضب ، عابس). فجملة ؛ (یکشر ...) خبر ، وکذلک کلمة : غاضب ، وکلمة : عابس.
- ا - وقد تکون واجبة العطف.
- ب - وقد تکون ممتنعة العطف.
- ح - وقد یجوز فیها العطف وعدمه.
ص: 483
(ا) من الأخبار المتعددة ما لا یصلح أن یکون نعتا للخبر الأول ؛ نحو : المجلات طبیة ، هندسیة ، زراعیة ؛ لأن المعنی یفسد مع النعت ، إذ یؤدی إلی أن الطیة صفتها هندسیة ، زراعیة ؛ وهو غیر المقصود. ومثل : الأسد یکشر عن نابه ، غاضب ؛ إذ لا یوجد فی الکلام ما یصلح أن یکون منعوتا. وکثیر من الأخبار المتعددة یصلح أن یکون نعتا للخبر الأول ؛ مثل : هو أسد یزأر ؛ فجملة : «یزأر» تصلح أن تکون فی محل رفع خبرا ثانیا ، أو نعتا للخبر الأول. ومثلها : الحطیئة شاعر مخضرم (1) ، هجّاء. فیجوز فی کل من «مخضرم» و «هجاء» أن تکون خبرا ، وأن تکون نعتا لکلمة : «شاعر».
ونحو : ولّادة [الأندلسیة] أمیرة شاعرة ، کاتبة ، موسیقیة ؛ فیجوز فی کل واحدة من الکلمات الثلاث الأخیرة أن تکون خبرا بعد الخبر الأول ، وأن تکون نعتا للخبر الأول.
ومن الألفاظ ما یجب أن یکون نعتا ولا یصلح خبرا ؛ وذلک حین یمنع مانع معنوی أو لغویّ ، نحو : حامد رجل صالح ، أو علیّ رجل یفعل الخیر ؛ لأن الخبر لا بد أن یتمم الفائدة الأساسیة - کما عرفنا - ولم یتممها هنا لعدم إفادة الإخبار بالأول إلا مع النعت ؛ لأن رجولته مستفادة من اسمه ، لا من الخبر وهذا من نوع الخبر الذی یتمم الفائدة بتابعه (2) ... ولذلک کان الأحسن فی قوله تعالی : (کُونُوا قِرَدَةً خاسِئِینَ) أن تکون کلمة : «خاسئین» خبرا ثانیا ، لا نعتا ؛ لان جمع المذکر السالم لا یکون نعتا لغیر العاقل إلا بتأول لا داعی له هنا ...
ومثل قول النحاة : الفاعل ، اسم ، مرفوع ، متأخر عن فعله ، دال علی من فعل ذلک الفعل ، أو قام به ... فیجب أن یکون الخبر هو کلمة : «اسم» فقط ، وما بعده صفات له ، ولیست أخبارا ؛ لأن الخبر یجب أن یتم به المعنی الأساسی
ص: 484
مع المبتدأ ، وهنا لا یتم بواحد مما جاء بعد الخبر الأول ، إذ الفاعل لا یتم معناه ولا تتضح حقیقته بأنه مرفوع فقط ، أو متأخر فقط ... أو ... فقط. وإنما یتم معناه وتتضح حقیقته بأنه اسم موصوف بصفات معینة ؛ مجتمعة هی : الرفع ، مع التأخیر ، مع الدلالة ... فکلمة : «اسم» هی التی تعرب وحدها خبرا ؛ لأنها مع تلک القیود التی نسمیها نعوتا - تکمل المعنی مع المبتدأ ، وتتمم الفائدة. ومثل هذا یقال فی تعریف المبتدأ ، وتعریف الخبر ، والمفعول ، وکل تعریف من التعریفات العلمیة المشتملة علی ألفاظ وقیود تصلح أن تکون أخبارا أو نعوتا لو لا المانع السابق.
(ب) قد یتعدد المبتدأ. وأکثر ما یکون ذلک فی صورتین : یحسن عدم القیاس علیهما فی الأسالیب الأدبیة والعلمیة التی تقتضی وضوحا ودقة ؛ لأنهما صورتان فیهما تکلف ظاهر ، وثقل جلیّ. وقیل إنهما موضوعتان (1) فلا یصح القیاس علیهما.
الأولی : صالح ، محمود ، هند ، مکرمته من أجله. حیث تعددت المبتدءات متوالیة ، مع خلو کل منها من إضافته لضمیر ما قبله. ثم جاءت الروابط کلها متوالیة بعد خبر المبتدأ الأخیر. ولإرجاع کل ضمیر إلی المبتدأ الذی یناسبه نتبع ما یأتی :
1 - أن یکون أول خبر لآخر مبتدأ ، ویکون الضمیر البارز فی هذا الخبر راجعا إلی أقرب مبتدأ قبل ذلک المبتدأ الذی أخبر عنه بأول خبر.
2 - ثم یکون الضمیر البارز الثانی للمبتدأ الذی قبل ذلک. وهکذا ... فترتب الضمائر مع المبتدءات ترتیبا عکسیّا. ففی المثال السابق نعرب کلمة «مکرمته» خبرا عن «هند» ، والضمیر الذی فی آخر : «مکرمته» وهو الهاء یعود إلی : «محمود» ، والضمیر الذی فی آخر : «أجله» ، وهو : الهاء أیضا یعود إلی : «صالح» ، ویکون المراد : محمود هند مکرمته من أجل صالح ، أو ؛ هند
ص: 485
مکرمة محمود من أجل صالح. وذلک بوضع الاسم الظاهر مکان الضمیر العائد إلیه.
الثانیة : فی مثل محمد ، عمه ، خاله ، أخوه قائم ، حیث تعددت المبتدءات وکان الأول منها مجردا من إضافته للضمیر. أما کل مبتدأ آخر فمضاف إلی ضمیر المبتدأ الذی قبله. فمعنی الجملة السابقة ، أخو خال عم محمد - قائم - فنضع مکان کل ضمیر الاسم الظاهر الذی یفسر ذلک الضمیر العائد علیه.
وفی الأمثلة السابقة للصورتین ما ینهض دلیلا علی أن استعمال هذه الأسالیب معیب ، والفرار منها مطلوب.
ص: 486
الخبر مرتبط بالمبتدأ ارتباطا معنویّا قویّا (1). ویزیده قوة بعض الروابط اللفظیة ؛ کالضمیر العائد علیه من الخبر ، وکغیره مما عرفناه ، ولهذا کان الغالب علیه أن یخلو من الفاء التی تستخدم للربط (2) فی بعض الأسالیب الأخری. فمن أمثلة الخبر الخالیة من الفاء : العمل وسیلة الغنی - النظافة وقایة من المرض - التجارة باب للثروة ...
ومن الألفاظ التی لیست خبرا ولکنها تحتاج - أحیانا - إلی الفاء الرابطة بینها وبین ما سبقها : جواب اسم الشرط (3) المبهم (4) الدال علی العموم ؛ (لکونه لا یختص بفرد معین ؛ وإنما هو شائع) ؛ مثل : من یعمل خیرا فجزاؤه خیر. فکلمة «من» اسم شرط ، یدل علی العموم ، وبعده فعل الشرط مستقبل الزمن ؛ وهو (5) : (یعمل) ، ثم یلیه جملة اسمیة هی جواب الشرط ، أی : نتیجته المترتبة علیه ، التی یتوقف حصولها فی المستقبل أو عدم حصولها علی وقوعه أو عدم وقوعه ، وهی : «جزاؤه خیر». وقد اقترنت هذه الجملة الاسمیة بالفاء ؛ فربطت بینها وبین جملة الشرط. ودل هذا الارتباط علی اتصال بین الجملتین ، وأن الثانیة منهما نتیجة للأولی. ولو لا الفاء الرابطة لکان الکلام جملا مفککة ، لا یظهر بینها اتصال. ومثل هذا کل أسماء الشرط الأخری الدالة علی الإبهام والعموم ، والتی لها جملة شرطیة ، تلیها جملة جواب مقرون بالفاء ...
ص: 487
والخبر - مفردا أو غیر مفرد - قد یقترن بالفاء وجوبا فی صورة واحدة ، وجوازا فی غیرها (1) ، إذا کان شبیها بهذا الجواب الشرطی ، بأن یکون نتیجة لکلام قبله ، مستقبل الزمن ، وفی صدر هذا الکلام مبتدأ یدل علی العموم والإبهام ؛ نحو : الذی یصادقنی فمحترم : «فالذی» اسم موصول مبتدأ ، وهو یدل علی الإبهام والعموم ، وبعده «یصادفنی» کلام مستقبل المعنی (2) ، له نتیجة مترتبة علی حصوله وتحققه ، هی الخبر : (محترم) وقد دخلت الفاء علی هذا الخبر ؛ لشبهه بجواب الشرط فی الأمور الثلاثة السالفة التی هی : (وجود مبتدأ دال علی الإبهام والعموم ، کما یدل اسم الشرط المبتدأ علی الإبهام والعموم) و (وجود کلام بعد المبتدأ مستقبل المعنی ؛ کوجود جملة الشرط بعد أداة الشرط) و (ترتّب الخبر علی الکلام السابق علیه ؛ کترتب جواب الشرط علی جملة الشرط - وهذا مهم).
ومن الأمثلة : رجل یکرمنی فمحبوب - من یزورنی فمسرور ... وهکذا کل خبر تحققت فیه الأمور الثلاثة ؛ سواء أکان خبرا مفردا ، أم جملة ، أم شبه جملة. فالقاعدة العامة فی اقتران الخبر بالفاء هی : مشابهته لجواب الشرط فی فی تلک الأمور الثلاثة ، مع خلو الکلام من أداة شرط بعد المبتدأ ، لکبلا یلتبس الخبر بجواب الشرط.
وقد تتبع النحاة مواضع المشابهة فوجدوها تترکز فی موضعین لا تکاد تخرج عنهما ، مع خلو کل موضع من أداة شرط بعد المبتدأ.
الأول : کل اسم موصول عامّ وقعت صلته جملة فعلیة مستقبلة المعنی ، أو وقعت ظرفا ، أو جارّا مع مجروره بشرط أن یکون شبه الجملة بنوعیه متعلقا
ص: 488
بمضارع مستقبل الزمن (1).
الثانی ؛ کل نکرة عامة ، وصفت بجملة فعلیة ، مستقبلة المعنی ، أو بظرف ، أو بجار مع مجروره علی الوجه السالف الذی یقضی بتعلیق شبه الجملة بمضارع مستقبل الزمن.
وإذا اقترن الخبر بالفاء وجب تأخیره عن المبتدا ؛ کالأمثلة التی أوضحناها ، فإن تقدم وجب حذف الفاء (2).
ص: 489
لم یکتف النحاة بالترکیز الذی أشرنا إلیه وإنما عرضوا للتفصیل ، وعدّ المواضع المختلفة التی تقع فیها المشابهة - بشرط استیفاء کل منها الشروط الثلاثة السالفة ، مبالغة منهم فی الإبانة والإیضاح. وإلیک بیانها بعد التنبیه إلی أن کثیرا منها مع صحته لا تستسیغه أسالیبنا الحدیثة العالیة. فخیر لنا ألا نستعمله قدر الاستطاعة ، وأن نعرف هذه المواضع لنفهم بها کلام السابقین.
1 - خبر المبتدأ الواقع بعد «أمّا» الشرطیة. نحو : أما الوالد فرحیم. وهذا الموضع یجب فیه اقتران الخبر بالفاء دون باقی المواضع (1) ؛ فیجوز فیها الاقتران وعدمه ، والاقتران أکثر.
2 - أن یکون المبتدأ اسم موصول صلته جملة فعلیة زمنها مستقبل ، تصلح أن تکون جملة للشرط (2) : نحو : الذی یستریض فنشیط.
3 - أن یکون المبتدأ اسم موصول صلته ظرف ؛ نحو : الذی عندک فأدیب.
ولا بد أن یکون شبه الجملة فی هذه الصورة وفیما یلیها متعلقا بمضارع مستقبل الزمن کما سلف (3)
4 - أن یکون المبتدأ اسم موصول صلته جار مع مجروره ، نحو الذی فی الجامعة فرجل.
5 - أن یکون المبتدأ نکرة عامة بعدها جملة فعلیة زمنها مستقبل ، صفة (4) لها ؛ نحو : رجل یقول الحق فشجاع.
6 - أن یکون المبتدأ نکرة عامة ، بعدها ظرف ، صفة لها ؛ نحو : طالب مع الأستاذ فمستفید.
ص: 490
7 - أن یکون المبتدأ نکرة عامة ، بعدها جار ومجرور ، صفة لها ؛ نحو : طالب فی المعمل فمنتفع.
8 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی موصول صلته جملة فعلیة مستقبلة الزمن ، تصلح أن تکون جملة للشرط ؛ نحو : کتاب الذی یتعلم فمصون.
9 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی موصول صلته ظرف ؛ نحو قلم الذی أمامک فجید.
10 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی موصول صلته جار مع مجروره ؛ نحو : مرشدة التی فی البیت فخبیرة.
11 - أن یکون المبتدأ لفظ «کل» (أو ما بمعناها ؛ مثل جمیع) مضافا إلی نکرة موصوفة بجملة (1) فعلیة بعدها ، نحو : کل رجل یهمل فصغیر.
12 - أن یکون المبتدأ لفظ «کل» (أو ما بمعناها) ، مضافا إلی نکرة موصوفة بظرف ، نحو : کل وطنی أمام الوطن فمخلص. وقول الشاعر :
کلّ سعی سوی (2) الذی یورث
الفو
ز فعقباه حسرة وخسار
13 - أن یکون المبتدأ لفظ «کل» (أو ما بمعناها) مضافا إلی نکرة موصوفة بجار ومجرور ؛ نحو : کل فتاة فی العمل فنافعة.
14 - أن یکون المبتدأ موصوفا باسم موصول صلته جملة فعلیة مستقبلة الزمن تصلح للشرط ، نحو : الزمیل الذی یعاونک فریاضی.
15 - أن یکون المبتدأ موصوفا باسم موصول صلته ظرف : نحو : الزائرة التی معک فمثالیّة.
16 - أن یکون المبتدأ موصوفا باسم موصول صلته جار مع مجروره ؛ نحو : الرائد الذی فی الرحلة فأمین.
17 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی اسم موصوف بموصول صلته جملة (3) فعلیة ؛ نحو : خادم الرجل الذی یزرع فنافع.
ص: 491
18 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی اسم موصوف بموصول صلته ظرف ؛ نحو : کاتب الرسالة التی معک فقدیر.
19 - أن یکون المبتدأ مضافا إلی اسم موصوف بموصول صلته جار مع مجروره ؛ نحو : مؤلف الکتب التی فی الحقیبة فعظیم.
وفی جمیع الأمثلة السابقة یجوز أن یکون الخبر مفردا ، أو جملة ، أو شبه جملة. ولا بد من خلو الجملة بعد المبتدأ من أداة شرط - کما سبق.
تلک هی أشهر الصور التی یقترن فیها الخبر بالفاء - وجوبا فی واحدة. وجوازا فی الباقی - لغرض هام ، هو : النص علی مراد المتکلم من ترتب الخبر علی الکلام الذی قبله ، وإبانة أن الخبر نتیجة مترتبة علی ما سبقه.
ولو فقد شرط من الثلاثة التی بیناها لامتنع دخول الفاء علی الخبر ؛ فمثال فقد العموم : سعیک الذی تبذله فی الخیر محمود. ومثال فقد الاستقبال. الذی زارنی أمس مشکور. ومثال الجملة الفعلیة الواقعة صلة أو صفة وهی غیر صالحة لأن تقع شرطیة لاشتمالها علی ما ، أو : لن ، أو : قد ، أو ... أو : إلخ. الذی لن یزورنی مسیء ... ومثل هذا یقال فی الصفة أو الصلة التی لم تستوف الشروط.
وقد تدخل الفاء جوازا - ولکن بقلة - فی الخبر الذی مبتدؤه کلمة «کل» إما مضافة لغیر موصوف أصلا ؛ نحو : کل نعمة فمن الله ، وقول الشاعر (1) :
وکلّ الحادثات وإن تناهت
فمقرون بها الفرج القریب
وإمّا مضافة لموصوف لکن غیر ما سبق (2) نحو : کل أمر مفرح أو مؤلم فنتیجة لعمل صاحبه.
وإذا کان المبتدأ «أل» الموصولة وصلتها (3) صفة صریحة مستقبلة الزمن - جاز الإتیان بالفاء فی الخبر نحو : الصانع والصانعة فنافعان. المخترع والمخترعة فمفیدان. ومنه قوله تعالی : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما ...) وفریق من النحاة منع دخول الفاء فیما سبق ، وأوّل الآیة. وهذا رأی لا یصح الأخذ به مع وجود آیة کریمة تعارضه ، کما لا یصح تأویل الآیة لتوافقه. فالصحیح دخولها علی الخبر ولو کان أمرا أو نهیّا.
ص: 492
بقی أن نعرف أن المبتدأ الذی یشبه اسم الشرط فیما سبق إذا دخل علیه ناسخ - غیر إنّ ، وأنّ ، ولکنّ - فإن الناسخ یمنع دخول الفاء علی خبره. أما إنّ ، وأنّ ، ولکنّ ، فلا تمنع ؛ فیجوز معها دخول الفاء : مثل قوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ یَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) وقوله تعالی : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وقول الشاعر :
فو الله ما فارقتکم قالیا (1)
لکم
ولکنّ ما یقضی فسوف یکون
وإذا عطفت علی المبتدأ الذی خبره من الأنواع السابقة المقرونة بالفاء ، أو علی ما یتصل به من صلة ، أو صفة ، ونحوها - وجب تأخیر المعطوف عن الخبر ؛ إذ لا یجوز الفصل بینه وبین مبتدئه بالمعطوف ، ففی مثل : الذی عندک فمؤدب ، لا یصح أن یقال : الذی عندک والخادم فمؤدب ، أو فمؤدبان ، وهکذا ...
ص: 493
کان وأخواتها (1) ...
معنی الناسخ : الجملة الاسمیة فی مثل «الریاحین متعة» - تتکون من اسمین مرفوعین ، یسمی أولهما : المبتدأ ، وله الصدارة فی جملته - غالبا -. ویسمی الثانی : خبرا کما هو معروف. ولکن قد یدخل علیهما ألفاظ معینة تغیر اسمهما ، وحرکة إعرابهما ، ومکان المبتدأ من الصدارة فی جملته ، ومن هذه الألفاظ : کان ، إنّ ... ظنّ ... مثل : کان العامل أمینا ، وقول الشاعر :
وإذا کانت النفوس کبارا
تعبت فی مرادها الأجسام
فیصیر المبتدأ اسم «کان» مرفوعا ولیس له الصدارة ، ویصیر خبره خبر کان منصوبا (2). ومثل ؛ إنّ العامل أمین ؛ فیصیر المبتدأ اسم «إن» منصوبا ، ولیس له الصدارة ، ویصیر خبره خبر «إن» مرفوعا. ونقول : ظننت العامل أمینا فیصیر المبتدأ والخبر مفعولین منصوبین للفعل : «ظننت» ولیس للمبتدأ الصدارة. وتسمی الکلمات التی تدخل علی المبتدأ والخبر فتغیر اسمهما وحرکة إعرابهما ومکان المبتدأ : «النواسخ» ، أو : نواسخ الابتداء ؛ لأنها تحدث نسخا ، أی : تغییرا
ص: 494
علی الوجه الذی شرحناه (1) ولا مانع من دخولها علی المبتدأ النکرة (2) ... فیصیر اسما لها ؛ إذ لا یشترط فی اسمها أن یکون معرفة فی الأصل.
ومما سبق یتبین أن النواسخ بحسب التغییر (3) الذی تحدثه ثلاثة أنواع : نوع یرفع اسمه وینصب خبره - فلا یرفع فاعلا ، ولا ینصب مفعولا - مثل : «کان
ص: 495
وأخواتها» ، ونوع ینصب اسمه ویرفع خبره ؛ مثل : «إن وأخواتها» ، ونوع ینصب الاثنین ولا یستغنی عن الفاعل ؛ مثل : «ظن وأخواتها». ولکل نوع أحواله وأحکامه المفصلة فی بابه الخاص. وکلامنا الآن علی : «کان» وأخواتها من الأفعال الناسخة التی تعمل عملها (1) ، وتسمی أیضا : الأفعال الناقصة (2).
وفیما یلی بیان أشهرها ، وشروط عمله ، ومعنی کل فعل :
إنها ثلاثة عشر فعلا (3) ؛ کان - ظل - بات - أصبح - أضحی - أمسی - صار - لیس - زال - برح - فتئ - انفک - دام. وکل هذه الأفعال تشترک فی أمور عامة ، أهمها :
أنها لا تعمل إلا بشرط أن یتأخر اسمها عنها (4) ، وأن یکون خبرها غیر إنشائی ؛ فلا یصح : کان الضعیف عاونه (5). وأن یکون الاسم والخبر مذکورین معا ،
ص: 496
ولا یصح - مطلقا - حذفهما معا ، ولا حذف أحدهما. إلا «لیس» ، فیجوز حذف خبرها ، وإلا «کان» فیجوز فی أسلوبها أنواع من الحذف. وسیجیء البیان عند الکلام علیهما.
وألا یتقدم الخبر علیها إذا کان اسما متضمنا معنی الاستفهام ؛ وهی مسبوقة بأحد حرفی النفی : «ما» أو : «إن» ؛ فلا یقال : أین ما یکون الصدیق؟ ولا أین إن یکون الصدیق؟ ولا أین ما زال العمل؟ لأنّ «ما» و «إن» النافیتین لهما الصدارة فی کل جملة یدخلان علیها ؛ فلا یصح أن یسبقهما شیء من تلک الجملة ، وإلا کان الأسلوب فاسدا(1) ...
وأن صیغتها حین تکون بلفظ الماضی ، وخبرها جملة فعلیة مضارعیة - لا بد أن یماثلها زمن هذا المضارع ؛ فینقلب ماضیا (2) - عند عدم وجود مانع - ؛ ففی مثل : أصبح العصفور یغرد - یکون زمن المضارع «یغرد» ماضیا ، مع أن الفعل مضارع ، ولکنه - هو وکل الأفعال المضارعة - یتابع زمن الفعل الماضی الناسخ ، بشرط عدم المانع الذی یعینه لغیره - کما أشرنا -.
وأن أخبارها لا تکون جملة فعلیة ماضویة ، ما عدا «کان» فإنها تمتاز بصحة الإخبار عنها بالجملة الماضویة (3) ...
ص: 497
أما فی غیر الأمور المشترکة السالفة فلکل فعل معناه الخاص مع معمولیه (1) وشروطه الخاصة التی سنعرضها فیما یلی :
کان : نفهم معناها من مثل : کان الطفل جاریا ؛ فهذه الجملة یراد منها إفادة السامع أن الطفل موصوف بشیء ؛ هو : «الجری» ، وأن الجری فی زمن ماض ؛ بدلیل الفعل : «کان».
ولو قلنا : یکون الطفل جاریا - لکان المراد إفادة السامع أن الطفل موصوف بشیء ؛ هو : «الجری» ، وأن الجری فی زمن حالی أو مستقبل ، بدلیل الفعل المضارع : «یکون».
ولو قلنا : کن جاریا - لکان المراد إفادة السامع أن المخاطب موصوف بتوجه طلب معین إلیه ؛ هو ؛ مباشرة الجری ، أی : مطالبته بالجری فی المستقبل ؛ بدلیل فعل الأمر : «کن».
مما سبق نفهم المراد من قول النحاة : «کان» مع معمولیها تفید مجرد اتصاف اسمها بمعنی خبرها اتصافا مجردا (2) فی زمن یناسب صیغتها. فإن کانت صیغتها فعلا ماضیا فالزمن ماض ، بشرط ألّا یوجد ما یجعله لغیر الماضی. ، وإن کانت صیغتها فعلا مضارعا فالزمن صالح للحال والاستقبال (3) بشرط لا یوجد ما یجعله لغیرهما ، وإن کانت صیغتها فعل أمر فالزمن مستقبل ؛ إن لم یوجد ما یجعله لغیره -.
وقد تستعمل «کان» الناسخة بمعنی : «صار» (4) فتأخذ أحکامها ، وتعمل
ص: 498
عملها بشروطه ؛ مثل : جمد الماء فکان ثلجا - احترق الخشب فکان ترابا (1).
وقد تستعمل بمعنی : «بقی علی حاله ، واستمر شأنه من غیر انقطاع ولا تقیّد بزمن (2)» نحو : کان الله غفورا رحیما.
وقد تستعمل تامة (3) ، وتکثر فی معنی : حصل وظهر (أیّ : وجد) فتکتفی بفاعلها ؛ نحو : أشرقت الشمس فکان النور ، وکان الدفء ، وکان الأمن. أی : حصل وظهر.
وما تقدم من الأحکام للفعل الماضی : «کان» یثبت لباقی أخواته المشتقات ؛ کالمضارع ، والأمر ، واسم الفاعل. و. و..
هذا ، وتضم الکاف من الفعل الماضی : «کان» عند اتصاله بضمائر الرفع المتحرکة ؛ کالتاء ، ونون النسوة ، طبقا للبیان الذی سلف مفصلا (4).
وبقی من أحکام «کان» أربعة أخری سیجیء الکلام علیها مفصلا فی موضعه من آخر هذا الباب ؛ وهی : أنها تقع زائدة (5) ، وأن الحذف یتناولها کما یتناول أحد معمولیها (6) ، أو هما معا ، وأن نون مضارعها قد تحذف (7) ، وأن خبرها قد ینفی. وهذا الأخیر یجیء الکلام علیه مع باقی الأخبار الأخری المنفیة (8).
ص: 499
(ا) إذا وجد نفی قبل «کان» الماضیة والمضارعة وکان خبرها جملة مقترنة «بإلا» الاستثنائیة الملغاة - جاز أن یقترن بالواو ؛ کقول الشاعر :
ما کان من بشر إلا ومیتته
محتومة ؛ لکن الآجال تختلف
لأن النفی قد نقض هنا ب «إلا». والنفی ونقضه شرطان - علی الصحیح - لزیادة الواو فی الجملة الواقعة خبر : «کان» أو مضارعها - کما تقدم -.
وهذه الواو تسمی «الواو الداخلة علی خبر الناسخ» وتدخل أیضا فی خبر «لیس بالشرط السالف کما سیجیء (1). وقد سمعت (2) قلیلا فی خبر غیرهما من النواسخ. ولا یصح القیاس علی هذا القلیل.
وبرغم أن وجودها جائز فی غیر القیل مما ذکرناه. فإن الخیر - کما یری کثیر من النحاة - فی العدول عنها ؛ حرصا علی الدقة فی التعبیر ، وبعدا عن اللبس الذی قد ینشأ بین هذه الواو والواو الأخری التی للحال - أو غیره -. ولکل منهما معنی یخالف معنی الأخری (3). والبراعة تقتضی الإبانة التامة. وتجنب أسباب اللبس والاشتباه ؛ نزولا علی حکم البلاغة.
ص: 500
(ب) من الأسالیب الأدبیة الشائعة : «کائنا ما کان» ، و «کائنا من کان» ؛ فی مثل : سأفعل ما یقضی به الواجب ؛ کائنا ما کان. وسأحقق الغرض الکریم کائنا ما کان ... أی : سأفعل ذلک مهما جدّ وکان ذلک الواجب ؛ وذلک الغرض. ومثل : سأرد الظالم : «کائنا من کان» - سأکرم النابغ «کائنا من کان» ... أی : سأفعل ذلک مهما کان الإنسان الظالم ، أو النابغ.
أما إعرابه فمتعدد الأوجه : وأیسر ما یقال وأنسبه هو : «کائنا» حال منصوب ، واسمه (1) ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی الشیء السابق ، و «ما» أو «من» نکرة موصوفة مبنیة علی السکون فی محل نصب خبر «کائن».
و «کان» فعل ماض تام ، وفاعله ضمیر مستتر یعود علی «ما» أو «من» والجملة من الفعل والفاعل فی محل نصب صفة «ما» أو «من». والتقدیر النحویّ : سأفعل ذلک کائنا شیئا کان. أو : کائنا إنسانا کان. أی : سأفعل ذلک کائنا أیّ شیء وجد أو أیّ إنسان وجد.
ومن الأسالیب المرددة فی کلام القدامی الفصحاء - برغم غرابتها الیوم - قولهم : «ربما اشتدت وقدة الشمس علی المسافر فی الفلاة ؛ فکان مما یغطیّ رأسه وذراعیه ، وربما ثارت الرمال ؛ فکان مما یحجب عینیه ومنخریة ...» یریدون : فکان ربما یغطی رأسه - وکان ربما یحجب عینیه ومنخریه ، أی : یغطیهما (2) ...
ص: 501
ص: 502
ظل : تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی خبرها طول النهار ، فی زمن یناسب صیغتها (1). نحو : ظل الجو معتدلا
وتستعمل کثیرا بمعنی : «صار» عند وجود قرینة ؛ فتعمل بشروطها (2) ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثی ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ،) أی : صار (3). وقد تستعمل تامة فی نحو : ظل الحر ؛ بمعنی : دام وطال ...
شروط عملها : لا یشترط لها وللمشتقات أخواتها سوی الشروط العامة التی سلفت.
أصبح : تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی خبرها صباحا ، فی زمن یناسب صیغتها. مثل أصبح الساهر متعبا. وتستعمل کثیرا بمعنی : «صار» فتعمل بشروطها (4) ؛ مثل : أصبح النّفط دعامة الصناعة ؛ وإنما کانت بمعنی : «صار» فی هذا المثال وأشباهه لأن المراد لیس مقصورا علی وقت الصبح. وإنما المراد التحول من حالة قدیمة إلی أخری جدیدة لیست خاصة بالصباح.
وقد تستعمل - بکثرة - تامة فی نحو : أیها الساری (5) قد أصبحت. أی : دخلت فی وقت الصباح (6). وشروط عملها هی الشروط العامة ؛ فهی مثل : «ظل».
أضحی : تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی خبرها وقت الضحا ، فی زمن یناسب صیغتها ... مثل : أضحی الزارع منکبّا علی زراعته. وتستعمل کثیرا بمعنی : «صار» فتعمل بشروطها (7) فی مثل : أضحی المیدان الصناعی مطلوبا. وإنما کانت بمعنی : «صار» لأن المعنی لیس علی التقید بوقت الضحا أو غیره - وإنما علی التحول والانتقال من حالة إلی أخری.
وقد تستعمل تامة فی مثل : أضحی النائم ؛ أی : دخل فی وقت الضحا.
شروط عملها : هی الشروط العامة التی سبقت ؛ فهی مثل : «ظل».
ص: 503
أمسی : تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی خبرها ، مساء فی زمن یناسب صیغتها ؛ مثل : أمسی المجاهد قریرا. وتکون کثیرا بمعنی : «صا» فتعمل بشروطها ؛ مثل : اقتحم العلم الفضاء المجهول : فأمسی معلوما ؛ أی : صار معلوما ؛ لأن المراد لیس التقید بوقت المساء ، وإنما المراد التحول والانتقال. وتستعمل تامة فی مثل : أمسی الحارس. أی : دخل فی وقت المساء (1).
شروط عملها هی الشروط العامة : کظل :
بات : تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی خبرها طول اللیل ؛ فی زمن یناسب صیغتها ؛ مثل : «بات القادم نائما ، وقول الشاعر.
أبیت نجیّا للهموم کأنّما
خلال فراشی جمرة تتوهّج
وتکون تامة ، فی مثل : بات الطائر ؛ بمعنی : نزل لیقضی اللیل فی بعض الأمکنة.
صار : تفید مع معمولیها تحوّل اسمها ، وتغیّره من حالة إلی حالة أخری ینطبق علیها معنی الخبر ؛ مثل : صارت الشجرة بابا. أی : تحولت الشجرة (وهی اسم : صار) من حالتها الأولی إلی حالة جدیدة ، سمیت فیها باسم جدید ، هو :«باب» (وهو ؛ الخبر) ، ومثل : صار الماء بخارا ؛ فقد تحول الماء (وهو : اسم : صار) ، من حالته الأولی إلی حالة جدیدة یسمی فیها : «بخارا» وهو الخبر. وتستعمل تامة فی مثل : صار الأمر إلیک ؛ بمعنی ؛ انتقل إلیک. وفی مثل : إلی الله تصیر الأمور ، أی : ترجع ...
شروط عملها : یشترط فیها وفی الأفعال التی بمعناها :
1- الشروط العامة.
2- ألا یکون خبرها جملة فعلیة فعلها ماض ، فلا یصح صار الجالس وقف ، ولا صار المتکلم سکت (2).
ص: 504
ویشترک مع صار فی المعنی. والعمل ، والشروط ، أفعال أخری - غیر التی سبقت - أشهرها أحد عشر ، کل منها یصح أن تحل «صار» محله ، واستعماله قیاسیّ مثلها.
1 - آض ، مثل : آض الطفل غلاما. وآض الغلام شابّا : بمعنی : «صار» فیهما.
2 - رجع ، مثل : قوله علیه السّلام : «لا ترجعوا بعدی کفارا یضرب بعضکم رقاب بعض».
3 - عاد ، مثل :
عاد البلد الزراعی صناعیّا.
4 - استحال ، مثل : استحال الخشب فحما.
5 - قعد ، مثل : قعدت المرأة مکافحة فی المیادین المختلفة. 6 - حار ، مثل :
وما المرء إلا کالشّهاب وضوئه
یحور رمادا بعد إذ هو ساطع
7 - ارتد ، مثل قوله تعالی : (أَلْقاهُ عَلی وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِیراً.)
8 - تحول ، مثل : تحول القطن نسیجا ، وتحول النسیج ثوبا رائعا.
9 - غدا : مثل غدا العمل الحرّ مرموقا. وقول الشاعر :
إذا غدا ملک باللهو مشتغلا
فاحکم علی ملکه بالویل والحرب (1)
10 - راح : مثل : راح المرء مقدّرا بما یحسنه.
11 - جاء ، فی مثل : ما جاءت حاجتک؟ فقد ورد هذا الأسلوب فی الأسالیب الصحیحة المأثورة بنصب کلمة : «حاجة» ، ومعناه : ما صارت حاجتک.؟ والمراد : أیّ حاجة صارت حاجتک؟ وإنّما نصبت کلمة «حاجة» لأنها خبر «جاء» التی بمعنی : صار ، واسمها ضمیر یعود علی «ما» الاستفهامیة التی تعرب مبتدأ مبنیة علی السکون فی محل رفع ، والجملة من «جاء ومعمولیها» فی محل رفع خبرها (2).
ص: 505
وقد سبق بیان الأفعال الأخری الناسحة التی یکثر استعمالها بمعنی : «صار» وبشروطها (وهی : کان - ظل - أصبح - أضحی - أمسی).
لیس : تفید مع معمولیها نفی اتصاف اسمها بمعنی خبرها فی الزمن الحالیّ (1) نحو : لیس القطار مقبلا. فالمراد نفی القدوم عن القطار الآن. ولا تکون للنفی فی الزمن الحالی إلا عند الإطلاق ، أی : عند عدم وجود قرینة تدل علی أن النفی واقع فی الزمن الماضی ، أو فی المستقبل : فإن وجدت قرینة تدل علی أنه واقع فی أحدهما وجب الأخذ بها ؛ نحو : لیس الغریب مسافرا أمس ، أو : لیس سافر (2) الغریب ، أو : زرعت الحقول لیس حقلا ... (3) فوجود کلمة : «أمس» ، أو. وجود الفعل الماضی (4) بعدها ، أو قبلها - دلیل علی أن النفی للماضی ... أما فی نحو : لیس الغریب مسافرا غدا ، أو قوله تعالی فی عذاب الکافرین یوم القیامة : (أَلا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ لَیْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ،) فیکون النفی متجها للمستقبل ؛ لوجود قرینة لفظیة فی المثال ؛ وهی کلمة : «غد» الدالة علیه ولوجود قرینة عقلیة فی الآیة تدل علیه أیضا ، هی : أن یوم القیامة لم یأت حتی الآن. وقد یکون المراد منها نفی الحکم نفیا مجردا من الزمن ؛ کقول العرب : لیس لکذوب مروءة ، ولا لحسود راحة ، ولا لسیئ الخلق سؤدد.
ص: 506
شروط عملها ؛ وأحکامها :
1- هی الشروط العامة.
2- لا تستعمل تامة.
3- لا یجوز تقدم خبرها علیها فی الرأی الأرجح (1).
4- یجوز حذف خبرها ، إذا کان نکرة عامة ؛ نحو : لیس أحد. أی : لیس احد موجودا ، أو نحو ذلک .... ویجوز جره بالباء الزائدة ، بشرط ألا تکون أداة استثناء (2) ؛ وبشرط ألا ینتقض النفی بإلا ؛ نحو : لیس الغضب بمحمود العاقبة. وقول الشاعر :
ولیس بمغن فی المودة شافع
إذا لم یکن بین الضلوع شفیع
فإن نقض النفی بإلا لم یصح جر الخبر بالباء الزائدة ؛ فلا یجوز لیس الغثی إلا بغنی النفس ... (3)
5- لا یصح وقوع «إن» الزائدة بعدها (4) ...
وبقی من أحکام «لیس» حکم یتعلق بخبرها المنفی ، سیجیء الکلام علیه مع بقیة الأخبار المنفیة (5) ...
ص: 507
(ا) أشرنا فیما سبق (1) إلی أنه یجوز فی خبر «لیس» ما جاز فی خبر «کان» الماضیة والمضارعة المسبوقة بالنفی ، من اقترانه بالواو حین یکون جملة موجبة (2) ، بسبب اقترانها بکلمة : «إلا» ؛ کقول الشاعر :
لیس شیء إلّا وفیه إذا ما
قابلته عین البصیر اعتبار
وتسمی هذه الواو : خ خ الواو الداخلة علی خبر الناسخ کما - عرفنا.
ونقول هنا ما قلناه فی «کان» : من أن الأحسن العدول عن زیادتها ، برغم أن وجودها جائز ؛ حرصا علی دقة التعبیر ، وبعدا عن اللبس الذی قد ینشأ بین هذه الواو والأخری التی للحال أو لغیره ... فلکل واحدة موضع تستعمل فیه ومعنی تؤدیه ، وترکها یریحنا مما قال بعض النحاة الأقدمین من تأویل للنصوص المشتملة علیها ، وتکلف لا داعی له.
(ب) لا تقع «إن» الزائدة بعد «لیس» (3) - کما أشرنا فی الصفحة السالفة - فلا یصح أن یقال : لیس إن الکذوب محترما ، مع أنه یجوز زیادتها بعد «ما» النافیة المهملة التی معناها معنی «لیس» ، مثل : ما إن الضعف محمود. أما وقوعها بعد «ما» الحجازیة فیبطل عملها (4).
(ح) قد یقع بعد خبر «لیس» و «ما» معطوف مشتق ، له أحکام مختلفة تجیء فی «ب» من ص 554.
ص: 508
زال : تدل بذاتها وصیغتها علی النفی ، وعدم وجود الشیء ؛ من غیر أن تحتاج فی هذه الدلالة للفظ آخر ؛ فإذا وجد قبلها نفی أو شبهه (وهو النهی والدعاء) انقلب معناها للإثبات (1) ؛ مثل : ما زال العدو ناقما. أی : بقی واستمر ناقما. وفی هذه الحالة تفید مع معمولیها اتصاف اسمها بمعنی الخبر اتصافا مستمرّا لا ینقطع ، أو مستمرّا إلی وقت الکلام ، ثم ینقطع بعده بوقت طویل أو قصیر ؛ کل ذلک علی حسب المعنی. فمثال المستمر الدائم : ما زال الله رحیما بعباده - ما زال الفیل کبیر الأذنین ... ومثال الثانی : لا یزال الحارس واقفا. لا یزال الخطیب متکلما.
ومثالها مع النهی : لا تزل (2) بعیدا عن الطغیان. ومع الدعاء (وأدواته هنا : «لا» ، أو : «لن») لا زال الخیر منهمرا علیک فی قابل أیامک - لا یزال التوفیق رائدک فی کل ما تقدم علیه - لن تزال عنایة الله تحرسک فیما یصادفک من مکاید ... ، بشرط أن یکون القصد من کل ذلک الدعاء للمخاطب ...
ولا تستعمل زال تامة (3) ... ویشبهها فی الدلالة علی النفی بذاتها ، وصیغتها ، وفی اشتراط أداة نفی قبلها ، أو شبهه للعمل - أخوات لها فی هذا ، هی : (فتئ - برح - انفک (4) وسیأتی الکلام علی الثلاثة).
شروط إعمالها :
1 - یشترط فیها الشروط العامة.
ص: 509
2 - أن یسبقها نفی (1) أو نهی أو دعاء ؛ کالأمثلة التی سبقت. ولا فرق فی النفی بین أن یکون ظاهرا ؛ مثل : لا زال الغنی ثمرة الجدّ ، وأن یکون مقدرا لا یظهر فی الکلام ، ولکن المعنی یکشف عنه ، والسیاق یرشد إلیه ؛ مثل : تالله یزال الشحیح محروما متعة الحیاة حتی یموت. أی : تالله لا یزال. وحذف النفی قیاسی بشرط أن یکون بالحرف : «لا» وأن یکون الفعل مضارعا فی جواب قسم (2).
3 - ألا یکون خبرها جملة فعلیة ماضویة ؛ فلا یصح : ما زال المسافر غاب : لأن زال تفید مع معمولیها استمرار المعنی إلی وقت الکلام ثم ینقطع بعده - کما سبق - أولا ینقطع. والخبر إذا وقع جملة فعلیة ماضویة کان منافیا هذا ، ومعارضا له : لدلالته علی الماضی وحده دون اتصال بالحال أو المستقبل (3).
4 - ألا یقع خبرها بعد : «إلا» ؛ فلا یصح ما زال النجم إلا بعیدا : لأن النفی نقض وزال بسبب : «إلا».
5 - أن یکون مضارعها هو : «یزال» التی لیس لها مصدر مستعمل. أما : «زال» التی مضارعها : «یزیل» ومصدرها «زیل» - فلیست من الأفعال الناسخة ، وإنما هی فعل تام ، متعد ، إلی مفعول به ، ومعناها : میز وفصل. تقول «زال» التاجر بضاعته زیلا : أی : میّزها وفصلها من غیرها. وکذلک : «زال»
ص: 510
التی مضارعها : «یزول» ومصدرها : «الزوال» فإنها لیست من النواسخ ؛ وإنما هی فعل لازم ، معناه : هلک وفنی ... مثل : زال سلطان الطغاة زوالا ؛ بمعنی : هلک وفنی هلاکا ، وفناء. وقد یکون معناها : انتقل من مکانه ، مثل : زال الحجر ؛ أی : انتقل من موضعه ...
وسیجیء آخر هذا الباب حکم خاص بخبرها المنفی ، وخبر أخواتها عند الکلام علی الأخبار المنفیة عامة (1).
فتئ : تشترک مع «زال» فی کل أحکامها ، أی : فی معناها ، وفی شروطها. إلا الأخیر ؛ - لاختلاف المضارع فیهما وإلا وقوع : «فتیء» تامة فی بعض الأسالیب - دون زال - ومنها : فتئ الصانع عن شیء. بمعنی : نسیه.
برح : تشترک مع «زال» فی کل أحکامها ، أی : فی معناها ، وفی شروطها. إلا الأخیر ؛ لاختلاف المضارع فیهما ؛ وإلا وقوع «برح» تامة ؛ مثل قوله تعالی : (وَإِذْ قالَ مُوسی لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ ... ،) أی : لا أذهب ، ولا أنتقل.
انفکّ : تشترک مع «زال» فی کل أحکامها إلا فی الشرط الأخیر ؛ لاختلاف المضارع فیها. وإلا استعمال : «انفک» تامة. بمعنی : انفصل ؛ مثل : فککت حلقات السلسلة فانفکت ، أی : انفصلت ...
دام : تفید مع معمولیها استمرار المعنی الذی قبلها مدة محددة ؛ هی مدة ثبوت معنی خبرها لاسمها ؛ نحو : یفید الأکل ما دام المرء جائعا : ویضر ما دام المرء ممتلئا. ففائدة الأکل تدوم بدوام وقت معین ، محدد ، هو : وقت جوع المرء. والضرر یدوم کذلک بدوام وقت معین ، محدود ، هو : وقت الامتلاء ، ولا بد فی دوام ذلک الوقت المحدد من أن یستمر ویمتد إلی زمن الکلام.
شروط إعمالها :
1 - یشترط فیها الشروط العامة.
2 - أن تکون بلفظ الماضی (2) - فی الرأی الأرجح - وقبلها ما المصدریة الظرفیة (3). وإذا أسندت لضمیر رفع متحرک وجب ضم الدال ، وحذف الألف
ص: 511
3 - أن یسبقهما معا کلام تتصل به اتصالا معنویا ، بشرط أن یکون جملة فعلیة مضارعیة (1).
4 - ألا یکون خبرها جملة فعلیة ماضویة ؛ لأن دام مع معمولیها تفید استمرار المعنی إلی وقت الکلام ، والجملة الماضویة تفید انقطاعه فیقع التنافی (2).
5 - ألا یتقدم خبرها علیها وعلی «ما» ؛ لأن «ما» المصدریة الظرفیة لا یسبقها شیء من صلتها التی تسبک معها بمصدر. أما توسطه بینها وبین «ما» فجائز.
ص: 512
ومما سبق نعلم أن جمیع أفعال هذا الباب تستعمل ناقصة وتامة إلا ثلاثة أفعال تلتزم النقص ؛ وهی : فتئ - زال - لیس - کما نعلم أن کل فعل ناقص (ناسخ) لا یعمل إلا بشروط مفصّلة ؛ فلا یکفی الاقتصار علی ما یذکره کثیر من النحاة من تقسیم هذه الأفعال الناسخة ثلاثة أقسام مجملة ؛ بحسب ما یلزم لها من شروط أولا یلزم ، حیث یقولون :
(ا) قسم یعمل بدون شرط وهو ثمانیة أفعال :
کان - أصبح - أضحی - أمسی - ظل - بات - صار - لیس.
(ب) قسم یعمل بشرط أن یسبقه نفی ، أو شبه نفی ، وهو أربعة أفعال : زال - برح - فتئ - انفک.
(ح) قسم یعمل بشرط أن یسبقه «ما» المصدریة الظرفیة وهو فعل واحد : «دام» ... لأن هذا التقسیم غیر سلم ، لاعتباره القسم الأول غیر محتاج إلی شروط ، ولأنه ترک فی القسمین الأخیرین شروطا هامة لا یصح إهمالها. وقد عرفنا تفصیلها (1).
بقی أن نعود إلی مسألة أشرنا إلیها من قبل ؛ هی : أن النسخ لیس مقصورا علی الأفعال الماضیة وحدها ، بل یشملها ویشمل ما قد یکون معها من مشتقات إن وجدت ؛ فتعمل بالشروط التی للماضی.
وتفصیل هذا أن الأفعال الناسخة ثلاثة أقسام :
(ا) قسم جامد ، أی : لا یتصرف مطلقا ، ولا یوجد منه غیر الماضی ،
ص: 513
وهو فعلان : «لیس بالاتفاق ، و «دام» (1) فی أشهرها الآراء.
(ب) قسم یتصرف تصرفا شبه کامل ؛ فله الماضی ، والمضارع ، والأمر ، والمصدر ، واسم الفاعل ، دون اسم المفعول وباقی المشتقات ؛ فإنها لم ترد فی استعمال الفصحاء. ؛ وهو سبعة : (کان - أصبح - أضحی - أمسی - بات - ظل - صار) فمن أمثلة «کان» للماضی : کان الوفاء شیمة الحر ، وللمضارع : یکون الکلام عنوان صاحبه ، وللأمر : کونوا أنصار الله. وللمصدر قول العرب : کونک شریفا مع الفقر خیر من کونک دنیئا مع الغنی. وقول الشاعر :
ببذل وحلم ساد فی قومه الفتی
وکونک إیّاه علیک یسیر
ولاسم الفاعل :
وما کلّ - من یبدی البشاشة کائنا
أخاک إذا لم تلفه لک منجدا
وهکذا. وبقیة الأفعال السبعة مثل «کان» فی هذا التصرف الشبیه بالکامل والذی یسمونه أحیانا : «الکامل نسبیّا».
(ح) قسم یتصرف تصرفا ناقصا ؛ وهو الأربعة المسبوقة بالنفی ، أو شبهه. (أی : زال - برح - فتئ - انفک) فهذه الأربعة لیس لها إلا الماضی ، والمضارع ، واسم الفاعل ؛ مثل : لا زالت الأمطار مورد الأنهار. ولا تزال الأنهار عماد الحیاة. ولیس النیل زائلا (2) عماد الزراعة فی بلادنا (3).
ص: 514
الترتیب - فی هذا الباب - واجب بین الناسخ واسمه ؛ فلا یجوز تقدیم الاسم علی عامله (1). أما الخبر فإن کان جملة خالیة من ضمیر یعود علی اسم الناسخ ، فالأحسن تأخیره عن الناسخ واسمه ؛ ذلک لأن تقدمه - فی هذه الصورة - علی الناسخ أو توسطه بین الناسخ واسمه ، غیر معروف فی الکلام العربی الفصیح (2).
ویجب تأخیره عنهما إن کان جملة مشتملة علی ضمیر یعود علی اسم الناسخ ؛ کالضمیر الذی فی الجملة الفعلیة : «توسعه» من قول أعرابی ینصح صدیقه : «دع ما یسبق إلی القلوب إنکاره ، وإن کان عندک - اعتذاره (3) فلیس من حکی عنک نکرا (4) توسعه فیک عذرا (5)».
وأما الخبر الذی لیس جملة (وهو المفرد وشبه الجملة) فله ست حالات :
الأولی : وجوب التأخر عن الاسم ، وذلک :
1 - حین یترتب علی التقدیم لبس لا یمکن معه تمییز أحدهما من الآخر (6) نحو : کان شریکی أخی - صار أستاذی رفیقی فی العمل - باتت أختی طبیبتی ... فلو تقدم الخبر لأوقع فی لبس لا یظهر معه الاسم من الخبر. والفرق بینهما کبیر ؛ لأن أحدهما محکوم علیه ؛ وهو : الاسم ، والآخر محکوم به ، وهو : الخبر.
2 - حین یکون الخبر واقعا فیه الحصر ؛ کأن یکون مقرونا بإلا المسبوقة بالنفی ؛ نحو : ما کان التاریخ إلا هادیا. أو «بإنما» ؛ مثل : إنما کان التاریخ
ص: 515
هادیا ؛ لأن المحصور فیه : «بإلا» یجب اتصاله بها متأخرا عنها ، والمحصور فیه : «بإنما» یجب تأخیره. فلو تقدم المتأخر فی الصورتین تغیر المقصود ، وفات الغرض الهام من الحصر.
الثانیة : وجوب التقدم علی الاسم فقط ، (فیتوسط الخبر بینه وبین العامل الناسخ) وذلک حین یکون الاسم مضافا إلی ضمیر یعود علی شیء متصل بالخبر ؛ مع وجود ما یمنع تقدم الاسم علی الأداة ؛ مثل یعجبنی أن یکون للعمل أهله (1) فلا یصح : (یعجبنی أن یکون أهله للعمل) ؛ لما فی هذا من عود الضمیر علی متأخر لفظا ورتبة ، وهو ممنوع فی مثل هذا.
الثالثة : وجوب التقدم علی العامل الناسخ وذلک حین یکون الخبر اسما واجب الصدارة ؛ کأسماء الاستفهام و «کم» الخبریة ... نحو : أین کان الغائب؟ وقول الشاعر :
وقد کان ذکری (2) للفراق
یروعنی
فکیف أکون الیوم؟ وهو یقین
وکم مرة کانت زیارة المعالم المشهورة!! ویشترط فی هذه الحالة ألا یکون العامل الناسخ مسبوقا بشیء آخر له الصّدارة مثل : «ما» النافیة ... لأن الخبر الذی له الصدارة لا یدخل علی ماله الصدارة (3) ، فلا یصح : أین ما کان الغائب؟ ولا : أین ما زال البستانی؟ وکذلک لا یصح أن یکون العامل الناسخ «لیس» ؛ لأنّ خبرها لا یجوز أن یسبقها فی الرأی الأرجح (4).
ص: 516
الرابعة : وجوب التوسط بین العامل الناسخ واسمه ، أو التأخر عنهما معا ؛ وذلک حین یکون العامل مسبوقا بأداة لها الصدارة ، ولا یجوز أن یفصل بینها وبین العامل الناسخ فاصل. ومن أمثلته : الاستفهام «بهل» فی : هل أصبح المریض صحیحا؟ فیجب تأخره کهذا المثال ، أو توسطه فنقول : هل أصبح صحیحا المریض.
الخامسة : وجوب التوسط بین الناسخ واسمه ، أو التقدم علیهما ، وذلک :
1 - حین یکون الاسم مضافا لضمیر یعود علی شیء متصل بالخبر ؛ فمثال التوسط : أمسی (فی البستان) حارسه ، وبات (مع الحارس) أخوه (1). ومثال التقدم علیهما (2) : فی البستان أمسی حارسه ، ومع الحارس بات أخوه. فقد توسط الخبر أو تقدم ؛ لکیلا یعود الضمیر الذی فی الاسم علی شیء متأخر لفظا ورتبة ، وهو لا یجوز هنا.
2 - حین یکون الاسم واقعا فیه الحصر کأن یکون مقرونا بإلا المسبوقة بالنفی ؛ فمثال التوسط ؛ ما کان حاضرا إلا علی ، ومثال التقدم علی العامل ما حاضرا (3) کان إلا علی : لأن تقدیم المحصور فیه یفسد الحصر.
السادسة : جواز الأمور الثلاثة (التأخر ، والتقدم علی العامل ، والتوسط بینه وبین الاسم) فی غیر ما سبق ؛ نحو : کان الخطیب مؤثرا. أو کان مؤثرا الخطیب ، أو مؤثرا کان الخطیب. ومثله : کان خلق المرء سلاحه ، ویجوز : کان
ص: 517
سلاحه خلق المرء (1) ، کما یجوز : سلاحه کان خلق المرء.
فأحوال الخبر الستة تتلخص فیما یأتی إذا کان غیر جملة :
1 - وجوب تأخیره عن الناسخ واسمه معا.
2 - وجوب تقدیمه علیهما معا.
3 - وجوب توسطه بینهما.
4 - وجوب تقدیمه علی العامل الناسخ أو التوسط بینه وبین الاسم.
5 - وجوب توسطه ، أو تأخره.
6 - جواز تأخره ، أو تقدمه ، أو توسطه.
وتلک الأحوال والأحکام تنطبق علی جمیع أخبار النواسخ فی هذا الباب إلا الأفعال التی یشترط لإعمالها أن یسبقها نفی ، أو شبهه ، وإلا «دام» التی یشترط لإعمالها أن یسبقها «ما» المصدریة الظرفیة ، وإلا «لیس» کما سبقت الإشارة إلیها. فهذه ثلاثة أشیاء لکل واحد منها صور ممنوعة ، وإلیک البیان.
فأما الأفعال التی یشترط أن یسبقها نفی أو شبهه فتنطبق علیها الأحکام السابقة إلا حالة واحدة هی وجود النافی «ما» ، فلا یجوز تقدیم الخبر علیه ؛ لأن «ما» النافیة لها الصدارة کما سبق (2) ؛ فلا یصح : متکلما ما زال محمود ، ولکن یصح تقدمه علی العامل الناسخ وحده دون حرف النفی : «ما» فیصح : ما متکلما زال محمود. کما یصح تقدمه علی حروف النفی الأخری ؛ (مثل. لا ، ولم ، ولن ...) أما بقیة الصور الأخری من التقدیم والتأخیر فشأن هذه الأفعال التی لا تعمل إلا بسبق نفی أو شبهه ، کشأن غیرها.
وأما «دام» فتنطبق علیها الأحوال والأحکام السابقة إلا حالة واحدة لا تجوز ؛ وهی تقدم الخبر علیها وعلی «ما» المصدریة الظرفیة ، ففی مثل : «سأبقی فی
ص: 518
البیت ما دام المطر منهمرا» لا یصح أن یقال : (سأبقی فی البیت منهمرا ما دام المطر) ؛ لأن «ما» المصدریة الظرفیة لا یصح أن یتقدم علیها شیء من الجملة التی بعدها (وهی الجملة التی تقع صلة لها) لکن یجوز أن یتقدم الخبر علی «دام» وحدها فیتوسط بینها وبین «ما» المذکورة (1) ؛ ففی المثال السابق یصح أن نقول : سأبقی فی البیت ما منهمرا دام المطر. وفی مثل ؛ اقرأ فی الکتاب ما دامت النفس راغبة ؛ لا یصح أن نقول : اقرأ فی الکتاب راغبة ما دامت النفس ، ویصح أن نقول ، اقرأ فی الکتاب ما راغبة دامت النفس ... وهکذا (2).
وأما «لیس» فتنطبق علیها جمیع الأحوال والأحکام السابقة أیضا (3) إلا حالة واحدة وقع فیها الخلاف بین النحاة وهی الحالة التی یتقدم فیها الخبر علیها ؛ ففریق منع ، وفریق أجاز (4) والاقتصار علی المنع أولی.
ص: 519
ص: 520
(ا) عرفنا مما تقدم حکم الخبر المفرد وشبه الجملة ، من حیث تقدمه وحده علی عامله الناسخ ، أو توسطه بینه وبین اسمه ، أو تأخره عنهما ، وبقی للموضوع بقیة تتصل بتقدیم معمول هذا النوع من الأخبار علی عامل الخبر ؛ وهی أن الخبر یمتنع تقدیمه وحده علی الناسخ إذا کان الخبر قد رفع اسما ظاهرا ؛ ففی مثل : «کان الرجل نبیلا مقصده» و «بات المغنی ساحرا صوته» لا یصح : «نبیلا کان الرجل مقصده» - ولا ساحرا بات المغنی صوته (1) ؛ لأنه لا یجوز تقدیم الخبر وحده دون معموله المرفوع - کما قلنا - فإن تقدم مع معموله المرفوع جاز ؛ فیصح : «نبیلا مقصده کان الرجل». «ساحرا صوته بات المغنی» فإن کان معمول الخبر منصوبا نحو : «أضحی الرجل راکبا الطیارة» جاز تقدیم الخبر وحده علی العامل الناسخ لکن مع قبح (2). نحو : الطیارة أضحی الرجل راکبا.
وإن کان المعمول ظرفا أو جارّا مع مجروره جاز تقدیم الخبر وحده بغیر قبح ، ففی مثل ؛ ظل الفتی عاملا یوما ، وأمسی قریر العین فی بیته - یقال : یوما ظل الفتی عاملا ، وفی بیته أمسی قریر العین.
(ب) یتصل بمسألة تقدیم معمول الخبر مسألة توسط هذا المعمول بین الناسخ واسمه ، ففی مثل : کان القادم راکبا سیارة : وکان المسافر راکبا سفینة ... نعرب کلمة : «سیارة» وکلمة : «سفینة» - وأمثالهما - مفعولا به لخبر : «کان» فکل واحدة منهما معمولة لذلک الخبر ، ولیست معمولة للفعل «کان». فهل یجوز تقدیم ذلک المعمول وحده علی الاسم بحیث یتوسط بینه وبین کان ؛ فنقول : کان سیارة القادم راکبا؟ وکان سفینة المسافر راکبا؟ لا یجوز ذلک ، لأنه مخالف للنهج العام الذی تسیر علیه الجملة العربیة فی نظام تکوینها المأثور ، وطریقة ترتیب
ص: 521
کلماتها. وذلک النهج یقتضی ألا یقع بعد العامل - مباشرة معمول لغیره (1) ، مثل :أقبل القطار یحمل الرکاب ، نعرب کلمة : «الرکاب» مفعولا به للفعل : «یحمل» وهذا الفعل هو ، عاملها ؛ فهی وثیقة الصلة به ، ولیست أجنبیة منه ، فلا یصح أن نقدمها ونضعها بعد عامل آخر ؛ هو : «أقبل» لأنها أجنبیة عنه ؛ فلو قلنا : أقبل الرکاب القطار یحمل - لکان هذا الأسلوب بعیدا عن الصواب ؛ مخالفته النسق الصحیح الوارد فی ترکیب الجملة ؛ وهو النسق الذی تدل علیه تلک القاعدة العامة التی أشرنا إلیها ، والتی ملخصها : «أنه لا یجوز أن یلی العامل - مباشرة - معمول لعامل آخر». أو : «لا یصح أن یلی العامل - مباشرة - معمول أجنبی عنه».
ولا فرق فی المعمول المتقدم بین أن یکون معمولا لخبر «کان» ، أو لغیرها من النواسخ ، وغیر النواسخ ، ولا بین أن یکون المعمول مفعولا أو غیر مفعول ... إلا الظرف والجار مع مجروره ، فإنه یجوز أن یلی عاملا آخر غیر عامله. والقاعدة - کما أسلفنا - لا تختص بعامل ، ولا تقتصر علی معمول ، وهی مستمدة من الأسالیب الکثیرة الفصیحة وعلی أساسها بنی الحکم السابق.
هذا إذا تقدم المعمول وحده بدون الخبر کالأمثلة السابقة ، أو تقدم ومعه الخبر ، وکان المعمول هو السابق علی الخبر ؛ ففی مثل : کان الطالب قارئا الکتاب ، لا یصح أن یقال : کان الکتاب الطالب قارئا. أما لو تقدما معا وکان الخبر هو السابق فالأحسن الأخذ بالرأی الذی یبیحه ؛ لمسایرته الأسالیب الفصیحة المأثورة (2) فیصح أن نقول : کان قارئا الکتاب الطالب.
غیر أن هناک حالة واحدة یصح فیها تقدیم معمول الخبر وحده ، أو مع الخبر ، متقدما علیه ، أو متأخرا عنه ؛ هی - کما سبق - : أن یکون المعمول شبه جملة (أی : ظرفا ، أو : جارا مع مجروره) ، نحو : بات الطیر نائما علی الأشجار ؛ وأصبح الطّلّ مترا کما فوق الغصون ، فیصح أن یقال :
ص: 522
بات علی الأشجار الطیر نائما - وأصبح فوق الغصون الطّلّ مترا کما ... وهکذا (1). وقد وردت أمثلة قلیلة مسموعة تقدم فیها معمول الخبر وحده ، مع أنه لیس شبه جملة ؛ فتناولها النحاة بالتأویل والتکلف لإدخالها تحت قاعدة عامة تصونها من مخالفة القاعدة السابقة. والأحسن إغفال ما قالوه ، - إذ لا یرتاح العقل إلیه (2) - والحکم علی تلک الأمثلة القلیلة بالشذوذ ؛ فلا یصح القیاس علیها.
ص: 523
«کان» ثلاثة أنواع : تامة ، وناقصة ، وقد عرفناهما - وزائدة ، وقعت فی کثیر من الأسالیب المأثورة بلفظ الماضی ، مع توسطها بین شیئین متلازمین (1) ؛ کالمبتدأ والخبر فی مثل : القطار - کان - قادم. أو الفعل والفاعل فی مثل : لم یتکلم - کان - غیرک ، أو الموصول وصلته فی مثل : أقبل الذی - کان - عرفته ، أو الصفة والموصوف فی مثل : قصدت لزیادة صدیق - کان - مریض ، أو المعطوف والمعطوف علیه فی مثل : الصدیق مخلص فی الشدة - کان - والرخاء ، أو حرف الجر ومجروره فی مثل : القلم علی - کان - المکتب ، أو بین «ما» التعجبیة وفعل التعجب (2) فی مثل : ما - کان - أطیب کلامک ، وما - کان - أکرم فعلک ... وقول الشاعر :
ما کان أسعد من أجابک آخذا
بهداک ، مجتنبا هوی وعنادا
وقد وردت زیادتها بلفظ المضارع قلیلا مع توسطه بین شیئین متلازمین فی مثل ؛ أنت - تکون - رجل نابه الشأن ... غیر أن هذه القلة لم تدخل فی اعتبار النحاة ؛ فقد اشترطوا للحکم بزیادة : «کان» شرطین ؛ أن تکون بصیغة الماضی ، وأن تکون متوسطة بین شیئین متلازمین ، علی الوجه السالف.
لکن إذا وقعت : «کان» زائدة ، فما معنی زیادتها؟ وکیف نعربها؟ وأ قیاسیه تلک الزیادة ، أم الأمر مقصور فیها علی السماع؟
أما معنی زیادتها فأمران ؛ أولهما ؛ أنها غیر عاملة ، فلا تحتاج إلی معمول من فاعل ، أو مفعول أو اسم وخبر ، أو غیرهما ؛ إذ لیس لها عمل (3) ؛ ولیست
ص: 524
معمولة لغیرها. وهذا شأن کل فعل زائد.
وثانیهما : أن الکلام یستغنی عنها ، فلا ینقص معناه بحذفها ، ولا یخفی المراد منه ، وکل فائدتها أنها تمنح المعنی الموجود قوة ، وتوکیدا ؛ فلیس من شأنها أن تحدث معنی جدیدا ، ولا أن تزید فی المعنی الموجود شیئا إلا النقویة. فحین نقول : الوالد عطوف ، فإننا نرید من هذه الجملة نسبة العطف والحنان إلی الوالد ، وإلصاقهما بذاته : فلو قلنا ؛ والله الوالد عطوف. أو ، إن الولد عطوف ... لم یزد المعنی شیئا ، ولم ینقص ؛ ولکنه استفاد قوة وتمکنا ؛ بسبب القسم ، أو : «إنّ» وأشباههما. ومثل هذا یحصل من زیادة «کان» حین نقول : الوالد - - کان - عطوف. وفرق کبیر بین کلمة تنشئ معنی جدیدا ، أو تزید فی المعنی القائم. وکلمة أخری لا تنشئ معنی جدیدا ولا تزید فی المعنی الموجود ، ولکنها تقتصر علی تأکیده وتقویته. لهذا تجردت کلمة : «کان» عند زیادتها من الحدث الذی یکون فی الفعل ؛ فلا تحتاج إلی فاعل ، ولا إلی اسم ، وخبر ، ولا لشیء آخر مطلقا ؛ لأن الذی یحتاج لذلک إنما هو الفعل الذی له حدث ، ومنه : «کان» التامة أو الناقصة. أما الزائدة فمخالفة لهما فی ذلک ؛ فهی مقصورة علی نفسها حین تکون بصیغة الماضی.
والراجح أنها تدل علی الزمن الماضی إذا کانت بصیغته. ولا سیما إذا توسطت بین «ما» التعجبیة وفعل التعجب ؛ فی مثل : ما - کان - أحسن صنیعک. وما - کان - أرقّ حدیثک ؛ فإنها فی هذه الصورة تدل علی الزمن الماضی (1). إذ المراد أن الحسن والرقة کانا فیما مضی (2) ولا تدل علی غیره ، ولا تحتاج لفاعل. ولا لشیء آخر ، کما لا یحتاج إلیها عامل لیؤثر فیها.
أما قیاسیة استعمالها أو الاقتصار فیها علی السماع فالأنسب الأخذ بالرأی
ص: 525
القائل بقیاسیتها فی التعجب وحده ، دون غیره من باقی الحالات ؛ منعا للخلط ، وفرارا من سوء الاستعمال (1) ، وهذان عیبان یتوقاهما الحریص علی لغته ، الخبیر بأسرارها.
وقد وردت زیادة بعض أخواتها ، کأصبح ، وأمسی ، فی قولهم : الدنیا ما أصبح (2) أبردها ، وما أمسی - أدفأها. یریدون : ما أبردها وما أدفاها ... والأمر فی هذا وأشباهه مقصور علی السماع لا محالة.
ص: 526
، وهل یقع ذلک فی غیرها؟
لیس بین «کان» وأخواتها ما یجوز حذفه وحده ، أو مع أحد معمولیه ، أو معمولیه معا - إلا : «لیس» «وکان». فأما «لیس» فیجوز حذف خبرها علی الوجه الذی شرحناه عند الکلام علیها (1).
وأما «کان» فقد اختصت - وحدها - من بین أخواتها بأنها تعمل وهی مذکورة أحیانا ، أو محذوفة أحیانا أخری. والأصل أن تذکر مع معمولیها لیقوم کل واحد من الثلاثة بنصیبه فی تکوین الجملة وتأدیة المعنی المراد. لکن قد یطرأ علی هذا الأصل ما یقتضی العدول عنه ، لأسباب بلاغیة تدعو إلی حذف واحد أو أکثر. وصور الحذف أربعة ؛ حذف «کان» وحدها ، أو حذفها مع اسمها فقط ، أو حذفها مع خبرها فقط ، أو حذفها مع معمولیها. وهذه الصور الأربع شائعة فی الکلام الفصیح شیوعا متفاوتا یبیح لنا محاکاته ، والقیاس علیه. (ومن تلک الصور صورتان تحذف : «کان» فیهما وجوبا ، لوجود عوض عنها ؛ کما سنعلم).
وبقی حذف خبرها وحده أو اسمها وحده ، وکلاهما وهذا ممنوع فی الرأی الأصح عند جمهرة النحاة.
1 - فأما حذفها وحدها دون معمولیها أو أحدهما فبعد «أن» المصدریة فی کل موضع أرید فیه تعلیل شیء بشیء ؛ مثل. «أمّا أنت غنیّا فتصدّق» ؛ فأصل هذه الجملة فیما یتخیلون لتوضیحها (2) : تصدّق ؛ لأن (3) کنت غنیّا.
ص: 527
ثم حذفت اللام الجارة ، تخفیفا ؛ لأن هذا جائز وقیاسی قبل «أن» (1) ؛ فصارت الجملة : تصدق أن کنت غنیّا. ثم تقدمت «أن» وما دخلت علیه (أی : تقدمت العلة علی المعلول) فصارت الجملة : «أن کنت غنیّا تصدّق». ثم حذفت : «کان» وأتینا بکلمة : «ما» عوضا عنها ، وأدغمناها فی «أن» ؛ فصارت : «أمّا». والحذف هنا واجب ، لوجود العوض عن «کان». وبقی اسم «کان» بعد حذفها ؛ وهو : تاء المخاطب. ولما کانت التاء ضمیرا للرفع متصلا ؛ لا یمکن أن یستقل بنفسه - أتینا بدله بضمیر منفصل ، للرفع ، یقوم مقامه ، ویؤدی معناه ؛ وهو : «أنت» فصارت الجملة : أما أنت غنیّا فتصدق. ثم زیدت : «الفاء» فی المعلول (2) ؛ فصارت الجملة : أما أنت غنیا فتصدق. ومثلها : أما أنت قویّا فاعمل بجدّ. وأما أنت شابّا فحافظ علی شبابک بالحکمة (3) ...
ویجب عند محاکاة هذا الأسلوب - اتباع طریقته فی ترکیب الجملة ، وترتیبها ، ولا سیما مراعاة الخطاب (4).
2 - وأما حذفها مع اسمها دون خبرها فجائز وکثیر بعد «إن» و «لو» الشرطیتین ، فمثاله بعد «إن» : المرء محاسب علی عمله ؛ إن خیرا یکن الجزاء خیرا ، وإن شرّا یکن الجزاء شرّا (5) ؛ فالأصل : المرء محاسب علی عمله ؛ إن کان العمل خیرا یکن الجزاء خیرا ، وإن کان العمل شرّا یکن الجزاء شرا ؛ فقد حذفت «کان» مع اسمها.
ص: 528
ومثال حذفهما «لو» الشرطیة : تعود الریاضة ولو ساعة فی الیوم ، واحذر الإرهاق ولو برهة قصیرة. فالأصل : تعود الریاضة ولو کانت الریاضة ساعة فی الیوم ، واحذر الإرهاق ، ولو کان الإرهاق برهة قصیرة ... فحذفت «کان» مع اسمها وبقی الخبر (1).
3 - وأما حذفها مع خبرها دون اسمها فجائز - مع قلته ، بالنسبة للحالة السالفة - بعد : «إن» و «لو» الشرطیتین أیضا ؛ فمثاله بعد «إن» (2) : المرء محاسب علی عمله ؛ إن خیر فخیر (3) وإن شرّ فشرّ. الأصل : المرء محاسب علی عمله ؛ إن کان فی عمله خیر فجزاؤه خیر ، وإن کان فی عمله شرّ فجزاؤه شر ... ومثاله بعد «لو» : أطعم المسکین ولو رغیف. أی : ولو کان فی بیتکم رغیف ، أو : ولو یکون عندکم رغیف.
4 - وأما حذفها مع معمولیها فواجب بعد «إن الشرطیة» أیضا ، ولکن فی أسلوب معین ، مثل : «اذهب إلی الریف صیفا ، إمّا لا». والأصل : «اذهب إلی الریف صیفا إن کنت لا تذهب إلی غیره». حذفت «کان» وهی فعل الشرط ، مع اسمها ، ومع خبرها ، دون حرف النفی الذی قبله ، وأتینا بکلمة : «ما» عوضا عن «کان» وحدها (4) ؛ وبسبب العوض کان حذفها واجبا ؛ فلا تجتمع مع کلمة : «ما». وأدغمت فیها النون من «إن» الشرطیة ؛ فصار الکلام :
ص: 529
«إمّا (1) لا». وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله علیه ، وتقدیره : «فافعل هذا».
ومثل ما سبق أن تقول لآخر : «ساعد المحتاج ببعض المال» ؛ فیجیب : «لیس عندی ما یزید علی حاجتی». فتقول : «ساعده بالمعاملة الکریمة إما لا». فأصل الکلام : ساعده بالمعاملة الکریمة إن کنت لا تملک غیرها ... وجری علی الجملة من الحذف والتقدیر ما جری علی سابقتها ، مما یفترضونه للتیسیر والإیضاح کما بیناه ...
وحذف «کان» هنا واجب کما سلف ؛ لوجود عوض عنها ؛ فهو الموضع الثانی من موضعی الحذف الواجب بسبب العوض ، ولا یصح الجمع بین العوض ، والمعوّض عنه - والموضع الأول بعد «أن» المصدریة السابقة - أما فی غیرهما فالحذف جائز.
ومن الأمثلة الشائعة لحذف کان مع معمولیها - بعد «إن» من غیر تعویض ؛ قولک لآخر : أتسافر وإن کان البرد شدیدا؟ فیجیب : نعم ، وإن ... أی : أسافر وإن کان البرد شدیدا. ومثله : أتعطی السائل وإن کان أجنبیّا؟ فتجیب : وإن ... أی : أنا أعطیه ، وإن کان أجنبیّا (2).
ص: 530
ومما سبق نعلم : أنّ «کان» تحذف جوازا فی حالتین ، ووجوبا فی حالتین أخریین ، تجیء «ما» عوضا عنها فی کل منهما ، ولا یجوز إرجاع «کان» مع وجود العوض عنها فی حالتی حذفها وجوبا. أما فی الحالتین الجائزتین فحذفها وإرجاعها سواء.
(ا) ورد فی الکلام القدیم حذف کان مع اسمها بعد : «لدن» : کأن یسألک سائل : متی کان الاجتماع؟ فتجیب : یوم الخمیس من لدن عصرا إلی المغرب. أی ؛ من زمن کان الوقت عصرا إلی المغرب ... وهذا حذف لا یقاس علیه. وإنما عرضناه هنا لیفهم حین یرد فی کلام القدماء.
(ب) قد وردت کان وحدها محذوفة فی کلام قدیم مع بقاء اسمها وخبرها ومنه :
أزمان «قومی» والجماعة کالذی
لزم الرّحالة أن تمیل ممیلا
أی : أزمان کان قومی مع الجماعة. فکلمة : «قوم» اسم «کان» المحذوفة و «الجماعة» مفعول معه ، و «کالذی» خبرها. والسبب فی تقدیر «کان» أن المفعول معه لا یقع - فی الأکثر - إلا بعد جملة مشتملة علی لفظ الفعل وحروفه ، أو علی معناه دون حروفه (1).
ص: 531
«کان»
إذا دخل جازم علی الفعل المضارع من : «کان» فإنه : یجزمه ، وتحذف الواو التی قبل النون (1). نحو : لم أکن من أعوان الشر ، ولم تکن من أنصاره ، وکقول علیّ : لا تکن عبد غیرک ، وقد جعلک الله حرّا. وأصل الفعل بعد الجازم : لم أکون - لم تکون - لا تکون فهو مجزوم بالسکون علی النون ؛ فالتقی ساکنان ؛ الواو والنون ؛ فحذفت الواو - وجوبا - للتخلص من التقائهما ؛ فصار الفعل ؛ لم أکن - لم تکن - لا تکن ... ومثل هذا یقال فی الفعل : «یکن» من قول القائل :
إذا لم یکن فیکنّ ظلّ ولا جنی
فأبعد کنّ الله من شجرات
ویجوز بعد ذلک حذف النون : تخفیفا ؛ فنقول : لم أک - لم تک ، وکقول الشاعر :
فإن أک مظلوما فعبد ظلمته
وإن تک ذا عتبی فمثلک یعتب (2)
وهذا الحذف جائز کما قلنا ؛ سواء أوقع بعدها حرف هجائی ساکن (3) ؛ نحو : لم أک الذی ینکر المعروف ، ولم تک الصاحب الجاحد - أم وقع بعدها حرف هجائی متحرک ، نحو : لم أک ذا منّ ، ولم تک مصابا به. إلّا إن کان الحرف المتحرک ضمیرا متصلا فیمتنع حذف النون ؛ نحو : الشبح المقبل علینا یوحی بأنه صدیقی الغائب ؛ فإن یکنه فسوف نسعد بلقائه ، وإن لم یکنه فسوف نأسف. أی : إن یکن إیاه ... وإن لم یکن إیاه (4).
ص: 532
وتسری الأحکام السالفة علی المضارع الذی ماضیه «کان» الناقصة ، کالأمثلة التی سبقت ، والذی ماضیه «کان» التامة ؛ نحو : صفا الجو ، واعتدل ، فلم تکن سحب ، ولم یکن برد ... بإثبات النون أو حذفها. أی : لم توجد سحب ... و (1) ...
وبهذه المناسبة نشیر إلی أمرین :
أولهما : ما تقتضیه القواعد اللغویة من حذف «الألف» من عین الفعل : «کان» ، ومن حذف «الواو» من عین مضارعه وأمره ، بشرط أن تکون الأفعال الثلاثة ساکنة الآخر ؛ کقوله تعالی : (کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.) وقوله تعالی : (إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ) وقوله تعالی (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ ، وَکُنْ مِنَ الشَّاکِرِینَ.) وقول الشاعر :
إذا کنت ذا رأی فکن ذا عزیمة
فإنّ فساد الرأی أن تتردّدا
ثانیهما : وجوب ضم الکاف من الماضی عند إسناده لضمیر رفع متحرک (2) ، کما فی بعض الأمثلة السالفة ، وتطبیقا للبیان الذی سبق من قبل (3).
ص: 533
فی هذا الباب وحکم زیادة «باء الجر» فیها وفی الأسماء
إذا دخلت أداة نفی علی فعل من أفعال هذا الباب (غیر «لیس» ، و «زال» وأخواتها الثلاثة) فإن النفی یقع علی الخبر ؛ فتزول نسبته الراجعة إلی الاسم ؛ ففی مثل : ما کان السارق خائفا - وقع النفی علی الخوف ، وسلبت نسبته الراجعة إلی السارق ؛ فإذا أردنا إثبات هذا الخبر ، وجعل نسبته موجبة مع وجود أداة النفی (1) - أتینا قبله بکلمة : «إلّا» فنقول : ما کان السارق إلا خائفا ؛ لأنها تنقض معنی النفی ، وتزیل أثره عن الخبر متی اقترنت به. وفی مثل قول الشاعر :
لم یک معروفک برقا خلّبا (2)
إن خیر البرق ما الغیث معه
وقع نفی خلابة البرق علی المعروف. فإذا أرید إثباتها قیل : لم یک معروفک إلا برقا خلّبا. کل هذا بشرط ألا یکون الخبر من الکلمات التی ینحصر استعمالها فی الکلام المنفی وحده ، مثل : یعیج (3) ؛ فإن کان منها لم یجز اقترانه بکلمة : «إلا» ؛ ففی مثل : ما کان المریض یعیج بالدواء ، لا یقال : ما کان المریض إلا یعیج بالدواء. وفی : ما کان مثلک أحدا (4) ، لا یقال : ما کان مثلک إلا أحدا.
فإن کان الفعل الناسخ هو : «لیس» (وهی معدودة من أدوات النفی) (5) فالحکم لا یتغیر (من ناحیة أن المنفی بها هو الخبر ، وأنه إذا قصد إیجابه وبقاء نسبته إلی الاسم وضعنا قبله : «إلا» ، وأنه إذا کان من الألفاظ التی لا تستعمل إلا فی
ص: 534
کلام منفی لم یجز اقترانه بإلا). ومن الأمثلة : لیس الخطیب عاجزا ؛ فقد انصب النفی علی «العجز» وزالت نسبته الراجعة إلی الخطیب. فإذا أردنا إبطال النفی عن الخبر ، ومنع أثره فی معناه - أتینا قبله بکلمة : «إلا» فقلنا : لیس الخطیب إلا عاجزا ، لأنها تنقض النفی ، وتوقف أثره ؛ فیصیر المراد معها هو الحکم علی الخطیب بالعجز ، وهو حکم یناقض السابق. أما فی مثل : لیس المریض یعیج بالدواء ، فلا یصح اقتران الخبر بإلا ؛ فلا یقال : لیس المریض إلا یعیج بالدواء. فشأن «لیس» کشأن «کان» المسبوقة بالنفی ؛ حیث لا یصح أن یقال فیها : ما کان المریض إلا یعیج بالدواء ؛ کما سبق.
فإن کان الفعل الناسخ هو : «زال» أو إحدی أخواتها الثلاث ، (وکلها لا بد أن یسبقه (1) نفی ، أو شبهه) - فخبرها مثبت غیر منفی ؛ لأن کل واحدة منها تفید النفی وقبلها نفی ، ونفی النفی إثبات ؛ فمثل : ما زال المال قوة ، فیه إثبات لاستمرار القوة للمال ، وحکم موجب بنسبتها إلیه ، یمتد من الماضی إلی وقت الکلام ؛ فالنفی : فی کلمة : «زال» وأخواتها مسلوب ومنقوض بالنفی الذی قبلها مباشرة. والمعنی فی جملتها موجب ، وخبرها مثبت ، کما قلنا - فلا یقترن بکلمة «إلا» ؛ فلا یصح ما زال المال إلا قوة ؛ فشأنه شأن خبر : «کان» الخالیة من نفی قبلها ؛ فکلا الخبرین موجب (مثبت).
وإذا کان خبر الناسخ منفیّا علی الوجه السالف جاز أن یدخل علیه حرف الجر الزائد : «الباء» نحو : لیس الحلم ببلادة (2) ، وما کان الحلیم ببلید یحتمل المهانة ، أی : لیس الحلم بلادة ، وما کان الحلیم بلیدا ؛ یحتمل المهانة. فزیدت «باء الجر» فی أول الخبر المنفی فی المثالین - وأشباههما - لغرض معنوی ؛ هو : توکید النفی وتقویته (3).
ص: 535
ولیست زیادتها مقصورة علی أخبار بعض النواسخ دون بعض ، وإنما هی جائزة فی جمیع تلک الأخبار ؛ بشرط أن تکون منفیة (1) ، فلا یصح زیادتها فی خبر : «زال» وأخواتها الثلاث ؛ لأن الخبر فیها موجب (أی : مثبت) کما عرفنا.
ومع أن زیادتها مباحة بالشرط السالف فإنها متفاوتة فی الکثرة بین تلک الأخبار فتکثر فی خبر : «لیس» ، نحو قوله تعالی : (أَلَیْسَ اللهُ بِعَزِیزٍ ذِی انْتِقامٍ؟) وقول الشاعر :
ولست بهیّاب لمن لا یهابنی
ولست أری للمرء مالا یری لیا
ثم فی خبر : «ما» الحجازیة ؛ نحو قوله تعالی : (وَما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ) وقوله : (وما ربک بغافل عما یعمل الظالمون) ثم فی خبر «کان».
وإذا تقدم الخبر فتوسط بین الناسخ واسمه جاز إدخال ؛ «باء» الجر الزائدة علی الاسم المتأخر ؛ ففی نحو : لیس الشجاع متهورا - یصح أن یقال : لیس متهورا بالشجاع. وفی نحو : ما کان الجود إسرافا - یصح أن یقال : ما کان إسرافا بالجود.
ومن المستحسن ألا نلجأ لهذه الزیادة فی اسم الناسخ إلا حیث یتضح أمرها ، وتشتد الحاجة إلیها.
ص: 536
من الحروف نوع یشبه الفعل : «لیس» فی معناه ، وهو : النفی (1) ، وفی عمله ؛ وهو : النسخ (2) فیرفع الاسم وینصب الخبر. وبهذه المشابهة یعد من أخوات : «لیس». مع أنها فعل وهو حرف ، کما یعد من أخوات : «کان» لمشابهته إیاها فی العمل فقط. وأشهر هذه الحروف أربعة : ما - لا - لات - إن.
فأما الحرف الأول : «ما» فبعض العرب - کالحجازیین - یعمله ، وبعض آخر - کبنی تمیم - یهمله (3). وهو یفید عند الفریقین نفی المعنی فی الزمن الحالی عند الإطلاق (4). تقول : ما الشجاع خوافا ، أو ما الشجاع خواف ؛ بالإعمال أو الإهمال. ومثل هذا فی قول الشاعر :
وما الحسن فی وجه الفتی شرفا له
إذا لم یکن فی فعله والخلائق
وقول الآخر :
لعمرک ما الإسراف فیّ طبیعة
ولکنّ طبع البخل عندی کالموت
لکن الذی یحسن الأخذ به فی عصرنا هو الإعمال ، لأنه اللغة العالیة ، لغة القرآن ، وأکثر العرب ، ولا داعی للأخذ باللغة الأخری ؛ منعا للبلبلة ، وتعدد
ص: 537
الآراء من غیر فائدة (1) ...
وتشتهر العاملة باسم : «ما الحجازیة». ویشترط لإعمالها خمسة شروط مجتمعة(2) :
(ا) ألا تقع بعدها کلمة : «إن» الزائدة (3) ؛ فیصح الإعمال فی مثل : ما الحق مغلوبا ، ولا یصح فی مثل : ما إن الحق مغلوب (4).
(ب) ألا ینتقض نفیها عن الخبر بسبب وقوع «إلا» بعدها (5) ؛ فتعمل فی مثل : ما الجو منحرفا ، ولا تعمل فی مثل : ما الجو إلا منحرف ؛ وقول الشاعر :
إذا کانت النعمی تکدّر بالأذی
فما هی إلا محنة وعذاب
لأن الخبر مثبت هنا بسبب «إلا» التی أبطلت النفی عنه ، ولا یضر نقضه عن المعمول ؛ نحو : ما أنت متکلما إلا بصواب.
(ح) التزام الترتیب بین اسمها وخبرها الذی لیس شبه جملة ، فلا یصح تقدیم الخبر الذی لیس شبه جملة علی الاسم ؛ ولهذا تعمل فی مثل : ما المعدن حجرا ، وتهمل فی مثل : ما حجر المعدن ؛ لتقدم خبرها علی اسمها. فإن کان الخبر شبه جملة جاز إعمالها وإهمالها عند تقدمه ومخالفته الترتیب ؛ مثل : ما للسرور «دواما ،» وقول الشاعر :
ص: 538
وما للمرء خیر فی حیاة
إذا ما عدّ من سقط المتاع (1)
بالإعمال أو الإهمال فی کل ذلک ؛ فعند الإهمال یکون شبه الجملة فی محل نصب ؛ خبر «ما» ، وعند الإهمال یکون فی محل رفع ؛ خبر المبتدأ (2).
(د) ألا یتقدم معمول الخبر علی الاسم ، بشرط أن یکون ذلک المعمول المتقدم غیر شبه جملة ؛ ففی مثل : ما العاقل مصاحبا الأحمق - لا یصح الإعمال مع تقدم کلمة : «الأحمق» علی الاسم ؛ لأنها معمول للخبر ، ولیست شبه جملة ، فیجب الإهمال فتقول : ما ، الأحمق - العاقل مصاحب ، فإن کان المعمول المتقدم شبه جملة جاز الإعمال والإهمال ، نحو : ما فی الشرّ أنت راغبا وما عندک فضل ضائعا ، ویجوز ... راغب ، وضائع (3).
(ه) ألا تتکرر «ما» ، فلا عمل لها فی مثل : «ما» «ما» الحرّ مقیم علی الضیم ؛ لأن کلمة : «ما» الأولی للنفی ، وکلمة «ما» الثانیة للنفی أیضا ؛ فهی قد نفت معنی الأولی ، ونفی النفی إثبات (4) فتبتعد «ما» الأولی عن النفی ، وینقلب معنی الجملة إلی إثبات ، وهو غیر المراد (5).
ص: 539
(ا) إن کان حرف العطف مما یقتضی أن یکون المعطوف موجبا (أی : مثبتا) مثل : «لکن» و «بل» - وجب رفع المعطوف (1) ؛ مثل : ما الفضل مجهولا لکن معروف ؛ وما الإحسان منکورا بل مشکور ؛ فیجب الرفع فی کلمتی : «معروف» و «مشکور» وأشباههما ؛ محاکاة لنظائرهما فی الکلام الفصیح المأثور (2). وتعرب کلا منهما خبرا لمبتدأ محذوف ؛ فکأن أصل الکلام. ما الفضل مجهولا لکن هو معروف. وما الإحسان منکورا بل هو مشکور. ویتعین فی هذه الحالة إعراب کل واحدة من «لکن» و «بل» حرف ابتداء ،
ص: 540
ولا یصح إعرابها حرف عطف ، لما یترتب علی ذلک من أن یکون المعطوف جملة علی حسب التقدیر السابق ، ولا یصح أن یکون المعطوف بهما جملة.
ولو جعلنا المعطوف بهما مفردا ولم نلاحظ التقدیر السابق لوجب أن یکون منصوبا ومنفیّا ، تبعا للخبر المعطوف علیه ؛ لأن المعطوف المفرد یشابه المعطوف علیه فی حرکات الإعراب ، وفی النفی ، والإثبات ، والعامل فیهما واحد ، وهنا یقع التعارض بین المعطوف علیه والمعطوف ؛ فالأول منفی «بما» ومعمول لها. والثانی معمول لها أیضا وموجب ؛ لوقوعه بعد : «لکن» أو : «بل». المسبوقین بنفی. و «ما» لا تعمل فی الموجب ، ومن هنا یجیء التعارض أیضا ؛ وهو یقضی بمنع العطف ولو کان عطف مفرد علی مفرد (1) ، ویقضی بالرفع. والأحسن أن یکون رفعه خبرا لمبتدأ محذوف.
ومما تقدم نعلم أن الکلام فی حالة : «ا» لا یشتمل علی عطف مطلقا ؛ فلا عاطف ، ولا معطوف علیه ، ولا حرف عطف (2).
(ب) أما إن کان حرف العطف لا یقتضی أن یکون المعطوف موجبا وإنما یقتضی أن یشابه المعطوف علیه فی حرکات إعرابه ، ونفیه ، وإثباته : کالواو والفاء ... فإنه یجوز فی هذه الحالة نصب المعطوف ورفعه ، مثل : ما أنت قاسیا وعنیفا علی الضعیف ، أو : «عنیف» بنصب کلمة : «عنیفا» ؛ لأنها معطوفة علی خبر «ما» المنصوب. وبرفعها لأنها معطوفة علی خبر «ما» باعتبار
ص: 541
أصله الأول قبل مجیء «ما» ؛ فقد کان خبرا مرفوعا للمبتدأ (1). ویحسن الاقتصار علی الأول ؛ لیکون الأسلوب متّسقا مؤتلفا ... (2)
وتلخیص ما تقدم فی : «ا وب» هو : أن رفع المعطوف جائز مع کل عاطف وأما نصبه فمقصور علی بعض حروف العطف دون بعض آخر یقتضی إیجاب المعطوف مثل : لکن وبل ... (3)
ص: 542
(ا) إنما عرض النحاة للعطف علی خبر «ما» دون العطف علی أخبار غیرها من النواسخ الأخری التی لا یشترط فیها عدم نقض النفی ، لأن «ما» یشترط فی عملها ألا ینتقض نفی خبرها. فإن انتقض لم تعمل کما سبق. والحرفان («لکن» ، و «بل») من حروف العطف ، ینقض کل منهما النفی عن المعطوف بعده. ویجعله موجبا ، مع أن المعطوف علیه منفی. ولما کان المعطوف علی خبر «ما» بمنزلة خبرها - وجب أن یکون ذلک المعطوف منفیّا کالخبر المعطوف علیه ؛ لکی تعمل فیه «ما» النصب. غیر أن المعطوف هنا موجب لوقوعه بعد «لکن» ، أو «بل» فالنفی منقوض عنه ، وصار موجبا. ولهذا لم یصح نصبه ، لأنه بمنزلة الخبر - کما قلنا - و «ما» لا تعمل فی الموجب.
وقیاسا علی ما سبق (1) یجری هذا الحکم علی کل ناسخ آخر ، (مثل : إن - لا ، وسیجیء الکلام علیهما) مما یشترط فی إعماله ألا ینتقض النفی عن خبره فعند العطف علی خبره ینطبق علیه الحکم السالف.
(ب) أنسب الآراء ، أنه لا یجوز حذف «ما» الحجازیة وحدها ، أو مع أحد معمولیها ، أو معهما. کما لا یجوز حذف معمولیها ولا أحدهما.
(ح) إذا دخلت همزة الاستفهام علی «ما» الحجازیة لم تغیر شیئا من أحکامها السابقة.
* * *
ص: 543
وأما الحرف الثانی - : «لا» فهو للنفی (1). وفریق من العرب - کالحجازیین - یعمله عمل : «لیس» ویجعل النفی به منصبّا مثلها علی الزمن الحالی عند عدم قرینة تدل علی زمن غیره. وفریق آخر - کالتمیمیین - یهمله. تقول : لا معروف ضائعا ، أو : لا معروف «ضائع» ، بالإعمال أو الإهمال. والمهم عند إعمالها هو فهم معناها ، وإدراک أثرها المعنوی فی الجملة ، لیحسن استخدامها علی الوجه الصحیح (2) وفیما یلی الإیضاح.
(ا) لا رجل غائبا - تشتمل هذه الجملة علی کلمة : «لا» النافیة وبعدها اسم مفرد مرفوع ، وبعده اسم منصوب. فما الذی تفیده هذه الجملة؟
تفید هذه الجملة التی یکون فیها اسم : «لا» مفردا - أی : غیر مثنی وغیر مجموع - احتمال أمرین : نفی الخبر (وهو : الغیاب) عن رجل واحد ، ونفی الغیاب عن جنس الرجل کله ؛ فردا فردا ؛ فلا غیاب لواحد أو أکثر.
ولو قلنا : لا رجلان غائبین ، ولا رجال غائبین - لکان الأمر محتملا نفی الغیاب عن اثنین فقط ، أو عن جماعة فقط ، ومحتملا أیضا نفی الغیاب عن جنس الرجل کله ؛ فردا فردا ؛ بحیث لا یخلو واحد من الحکم علیه بعدم الغیاب.
(ب) لا طائر موجودا - تفید هذه الجملة التی یکون فیها اسم «لا» مفردا أی : غیر مثنی وغیر مجموع - ما أفادته التی قبلها من احتمال أمرین ؛ نفی وجود طائر واحد ، ونفی وجود جنس الطائر کله ؛ فردا فردا ؛ فلا وجود لطائر واحد ، ولا أکثر. ولو قلنا : لا طائران موجودین ، ولا طیور موجودة - لکان النفی
ص: 544
إمّا واقعا علی طائرین فقط ، وإما واقعا علی جماعة فقط ، وإما علی الجنس کله واحدا واحدا ؛ بحیث لا یخلو طائر من الحکم علیه بعدم الوجود.
مما سبق نعلم أن : «لا» النافیة التی تعمل عمل : «کان» لا تدل علی نفی الجنس کله فرد فردا دلالة قاطعة لا تحتمل معها أمرا آخر ؛ وإنما تدل - دائما - علی احتمال أمرین (1) ، فإن کان اسمها مفردا دلت علی نفی الخبر عن فرد واحد ، أو علی نفیه عن کل فرد من الأفراد. وإن کان اسمها مثنی أو جمعا دلت أیضا علی احتمال أمرین ؛ إمّا نفی الخبر عن المثنی فقط ، أو عن الجمع فقط ، وإمّا نفیه عن کل فرد من أفراد الجنس. فدلالتها علی نفی الخبر تحتمل هذا ، وتحتمل ذاک فی کل حالة. ولیست نصّا (2) فی أمر واحد.
ومن أجل أنها تحتمل نفی الخبر عن الفرد الواحد إذا کان اسمها مفردا سمیت : «لا» التی لنفی الواحد ، أو : «لا» التی لنفی الوحدة ، أی : الواحد أیضا.
والذین یعملونها یشترطون لذلک شروطا خمسة (3).
أولها : أن یکون اسمها وخبرها نکرتین ؛ مثل : لا مال باقیا مع التبذیر.
فإن کان أحدهما معرفة أو کلاهما - لم تعمل (4).
ثانیهما : عدم الفصل بینها وبین اسمها وهذا یستلزم الترتیب بین معمونیها ،
ص: 545
فیجب تأخیر الخبر ، وکذلک تأخیر معموله عن الاسم ، کی لا یفصل بینها وبین اسمها فاصل ؛ نحو : لا حصن واقیا الظالم (1).
ثالثها : ألا ینتقض النفی بإلا ؛ تقول ؛ لا سعی إلا مثمر ، ولا یصح نصب الخبر(2).
رابعها : عدم تکرارها ؛ فلا تعمل فی مثل : لا ، لا مسرع سبّاق. إذا کانت «لا» الثانیة لإفادة نفی جدید (3).
خامسها : ألا تکون نصّا فی نفی الجنس (4) - کما شرحنا - وإلا عملت عمل : «إنّ» :
تلک هی الشروط الحتمیة لعمل «لا» وهی نفسها شروط لعمل «ما» مع زیادة شرطین فی عمل «لا» وهما : أن یکون اسمها وخبرها نکرتین ، وألا تکون نصّا فی نفی الجنس (5).
وحذف خبرها کثیر فی جید الکلام ؛ ومنه أن تقول للمریض ؛ لا بأس ؛ أی : لا بأس علیک. وفلان ودیع لا شکّ. أی : لا شکّ فی ذلک ، أو فی وداعته ...
«ملاحظة» : لا یتغیر شیء من الأحکام السالفة إذا دخلت همزة الاستفهام علی «لا» سواء أکان الاستفهام باقیا علی حقیقته ، أم خرج إلی معنی آخر
ص: 546
کالتوبیخ .. أو الإنکار ... ، مثل : ألا إحسان للفقیر من هذا الرجل الغنی (1) ...
* * *
أما الحرف الثالث : «إن» فهو لنفی الزمن الحالی عند الإطلاق ، وإعماله وإهماله سیّان (2). ولکن الذین یعملونه یشترطون الشروط الخاصة بإعمال «ما» (3) النافیة إلا الشرط الخاص بعدم وقوع «إن» الزائدة بعدها ؛ إذ لا تقع «إن» الزائدة بعد «إن» النافیة أیضا ؛ نحو : إن الذهب رخیصا (بمعنی : ما الذهب رخیصا) أو : إن الذهب رخیص. ففی المثال الأول تعرب «إن» حرف نفی ناسخ بمعنی : ما ، وبعدها اسمها وخبرها. وفی المثال الثانی : «إن» حرف نفی مهمل ، وبعدها مبتدأ مرفوع ، ثم خبره المرفوع (4). ومن أمثلة إعمالها ، قول الشاعر :
إن المرء میتا بانقضاء حیاته
ولکن بأن یبغی علیه فیخذلا
وهی فی حالتی إعمالها وإهمالها لنفی الزمن الحالی ، ما لم تقم قرینة علی غیره. - کما تقدم -
* * *
وأما الحرف الرابع : «لات (5)» فهو لنفی الزمن الحالی عند الإطلاق
ص: 547
ویشترط لعملها (1) :
(ا) الشروط الخاصة بعمل «ما» (2) إلا الشرط الخاص بعدم وقوع : «إن» الزائدة بعدها ؛ إذ لا تقع «إن» الزائدة بعد : «لات».
(ب) ثلاثة شروط أخری ؛ هی : أن یکون اسمها وخبرها کلمتین دالتین علی الزمان (3) ، وأن یحذف أحدهما دائما ، والغالب أنه الاسم. وأن یکون المذکور منهما نکرة ؛ مثل : سهوت عن میعادک ، ولات حین سهو. أی : ولات الحین (4) حین سهو. وإعرابها : «لا» نافیة ؛ تعمل عمل : «لیس». التاء للتأنیث اللفظی (5) واسمها محذوف تقدیره : الحین ، أو : الوقت ، أو : الزمن ... «حین» خبرها ، منصوب بالفتحة الظاهرة ، مضاف. «السهو» مضاف إلیه مجرور. ومثل : تسرعت فی الإجابة ، ولات حین تسرّع. أی : ولیس الحین حین تسرّع ، أو لیس الوقت وقت تسرع. والإعراب کالسابق.
ص: 548
(ا) وردت «لات» فی بعض الکلام العربی القدیم مهملة لا عمل لها ؛ فهی متجردة للنفی المحض. ومنه قول الشاعر :
ترک الناس لنا أکنافهم
وتولّوا ، لات لم یغن الفرار
فهی هنا حرف نفی ، مؤکد بحرف نفی آخر من معناه ، هو : «لم» وهذا الاستعمال مقصور علی السماع لا یجوز الیوم محاکاته. وإنما عرضناه لنفهم نظائره فی الکلام القدیم حین تمر بنا ، ومنه قول القائل :
لهفی علیک للهفة من خائف
یبغی جوارک حین لات مجیر
فهی حرف نفی مهمل. «ومجیر» فاعل لفعل محذوف أو مبتدأ خبره محذوف
(ب) حکم العطف علی خبر : «لات» نفسه کحکم العطف علی خبر «ما». وقد تقدم (فی ص 540 و 543) فیتعین الرفع إن کان حرف العطف یقتضی إیجاب ما بعده ، (مثل : لکن وبل) ، تقول : سئمت ولات حین سآمة ، بل حین صبر ، أو لکن حین صبر. فإن کان حرف العطف لا یقتضی إیجاب ما بعده (کالواو) جاز النصب والرفع ، تقول : رغبت فی الراحة أیاما ، ولات حین راحة ، وحین استجمام ، بنصب کلمة «حین» المعطوفة أو رفعها.
(ح) من أسماء الإشارة : «هنّا» وهی فی أصلها ظرف مکان کما عرفنا فی باب أسماء الإشارة (1). وقد وقعت فی الکلام العربی القدیم بعد کلمة : «لات» کقول القائل : (حنّت نوار ولات هنّا حنّت) (2) ... وخیر ما یقال فی إعرابها : إن «لات» حرف نفی مهمل (أی : لا عمل له) و «هنا» اسم إشارة للمکان ، منصوب علی الظرفیة ، خبر مقدم «حنت» حن : فعل ماض ، قبله «أن» مقدرة. والتاء للتأنیث ، والفاعل مستتر تقدیره : هی. والمصدر المؤول من الفعل والفاعل و «أن» المقدرة قبل «حنت» فی محل رفع مبتدأ مؤخر. وخبره اسم الإشارة الظرف المتقدم. (هنّا). وهذا أسلوب یحسن الوقوف فیه عند السماع ، والبعد عن محاکاته.
ص: 549
تقدم أن «باء» الجر تزاد فی مواضع (1) ، منها : أخبار الأفعال الناسخة إذا کانت تلک الأخبار منفیة ؛ (فلا تزاد فی أخبار «ما زال» وأخواتها الثلاثة ؛ لأن أخبارها موجبة) وأن الغرض من تلک الزیادة هو تأکید النفی وتقویته ، کما عرفنا.
ومن تلک المواضع : خبر «لیس» (2) ؛ ویکثر فیه زیادة الباء ؛ نحو : لیس الحازم بمتواکل. فالباء زائدة ، «ومتواکل» مجرورة بها فی محل نصب خبر «لیس». ومنها. «ما» العاملة والمهملة ، فیکثر فی خبرها المنفی زیادة الباء ؛ نحو : ما العربی ببخیل ، وما العربی بهیاب الشدائد. وأصل الکلام ما العربی بخیلا. ما العربی هیابا ، فالباء حرف جر زائد ، وما بعدها مجرور فی محل نصب خبر : «ما» إن کانت عاملة ، أو فی محل رفع خبر المبتدأ ، إن کانت : «ما» مهملة (3). ومن الأمثلة ، قوله تعالی : (وَما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ ،) وقول الشاعر :
أقصر - فؤادی - فما الذکری بنافعة
ولا بشافعة فی ردّ ما کانا
ص: 550
وقد تزاد أحیانا بعد خبر : «لا» (1) ، نحو : لا جاه بخالد. ولا سلطان بباق. وأصل الکلام : لا جاه خالدا ، ولا سلطان باقیا. (والإعراب کالسابق) ...
وقد تقدم (2) أنها تزاد فی خبر المضارع من «کان» (3) ، بشرط أن یکون منفیّا بحرف النفی : «لم» ؛ نحو : کلمتنی فلم أکن بمشغول عنک ، ولم أکن بمنصرف عن حدیثک. أی : لم أکن مشغولا عنک ، ولم أکن منصرفا عن حدیثک. فالباء حرف جر زائد ، وما بعدها مجرور بها فی محل نصب : خبر «أکن» ، وأنها قد تزاد أیضا فی المفعول الثانی من مفعولی : «ظن وأخواتها» ، نحو : ما ظننت المؤمن بجبان.
أما زیادتها فی بقیة الأفعال والحروف الناسخة ، أو فی خبر المبتدأ ، أو فی غیر ما سبق - فمقصور علی السماع (4).
ص: 551
یتردد فی مواطن مختلفة من کتب النحو ما یسمی ؛ «العطف علی التوهم» ؛ وهو نوع یجب الفرار من محاکاته (1) - قدر الاستطاعة - ولتوضیحه نسوق المثالین التالیین :
(ا) «لیس المؤمن متأخرا عن إغاثة الملهوف». فکلمة : «متأخرا» خبر «لیس» ، وهو منصوب. ویجوز - کما عرفنا (2) - أن تزاد باء الجر فی أول الخبر ؛ فنقول : «لیس المؤمن بمتأخر عن إغاثة الملهوف». ؛ فتکون کلمة : «متأخر» فی الظاهر مجرورة بالباء الزائدة ، لکنها فی التقدیر فی محل نصب ، لأنها خبر «لیس».
فإذا عطفنا علی الخبر المجرور بالباء الزائدة کلمة أخری. بأن قلنا : لیس المؤمن بمتأخر وقاعد عن إغاثة الملهوف - فإنه یجوز فی المعطوف - وهو کلمة : «قاعد» مثلا - الجر تبعا للمعطوف علیه المجرور فی اللفظ ، کما یجوز نصبه ، تبعا للمعطوف علیه المنصوب محلا ، لأنه خبر «لیس». فالمعطوف فی المثال السابق یجوز نصبه تبعا لمحل الخبر. کما یجوز جره تبعا للفظ الخبر المجرور بالباء الزائدة المذکورة فی الجملة ، والتی یجوز زیادتها فی مثل هذا الخبر.
لکن إذا خلا الخبر منها فکیف نضبط المعطوف علیه؟ أیجوز النصب والجر مع عدم وجودها کما کانا جائزین عند وجودها؟ یقول أکثر النحاة : نعم. ففی المثال السابق یصح أن نقول : لیس المؤمن متأخرا وقاعدا عن إغاثة الملهوف. أو : لیس المؤمن متأخرا وقاعد ... بنصب کلمة : «قاعد» أو جرها ؛ فالنصب لأنها معطوفة علی الخبر المنصوب مباشرة ؛ ولا عیب فی هذا. والجر لأنها معطوفة علی خبر منصوب فی التقدیر ؛ علی تخیل وتوهم أنه مجرور بالباء الزائدة ؛ فکأن المتکلم قد تخیل وجود الباء الزائدة مع أنها غیر موجودة بالفعل. وتوهم أنها
ص: 552
ظاهرة فی أول الخبر ؛ مع أن توهمه غیر صحیح. ومن العجب أن یتوهم ویتخیل ما لا وجود له ، ویبنی علیه آثارا. وهذا أمر یجب الفرار منه - کما قلنا - ؛ لما فیه من البعد ، والعدول عن الطریقة المستقیمة الواضحة إلی أخری ملتویة ، لا خیر فیها. فإن قهرتنا بعض الأسالیب القدیمة علی الالتجاء إلیه وجب أن نقتصر علیه فی الوارد ، ونحصر أمره فی المسموع من تلک الأسالیب ، دون أن نتوسع فیها بالمحاکاة والقیاس ، إذ لا ضرورة تلجئنا إلی محاکاتها. وهذا الرأی السدید لبعض النحاة الأقدمین (1) تستریح النفس إلیه وحده ، ولا فرق فیه بین العطف علی خبر «لیس» أو «ما» أو غیرهما من الأخبار التی تزاد فی أولها الباء جوازا (2) ...
مثال آخر :
ما المحسن منانا بإحسانه. کلمة : «منانا» - خبر «ما» منصوبة ، ویجوز أن تزاد «باء» الجر فی خبر : «ما» الحجازیة علی الوجه المشروح فی زیادتها - فیقال : ما المحسن بمنان بإحسانه. فتکون کلمة : «منان» مجرورة فی الظاهر بالباء الزائدة ، ومنصوبة المحل ، لأنها خبر «ما» ؛ فإذا عطفنا علی هذا الخبر المجرور کلمة أخری (3) ، جاز فی المعطوف إما الجر تبعا للخبر المجرور لفظه ، وإما النصب أیضا تبعا للخبر المنصوب محله ؛ فیقال ما المحسن بمنان وذاکر إحسانه أو : «ذاکرا» إحسانه ؛ بجر کلمة : «ذاکرا» ، أو نصبها.
فإذا لم تکن «باء» الجر الزائدة مذکورة فی أول الخبر فکیف نضبط
ص: 553
المعطوف؟ یقول أکثر النحاة : إن العسطف عند عدم وجود باء الجر الزائدة فی الخبر کالعطف مع وجودها ، فیجوز النصب فی المعطوف تبعا للنصب اللفظی فی الخبر المعطوف علیه ؛ کما یجوز الجر فی المعطوف تبعا لتوهمهم الجر فی الخبر المعطوف علیه ، وافتراضهم أن ذلک الخبر مجرور بالباء الزائدة ؛ مع أنها غیر موجودة ، فی الکلام.
وهو توهم لا یصح الالتفات إلیه الیوم ، ولا الأخذ بما یرتبونه علیه ... لما أوضحناه. ویتساوی فی هذا خبر «لیس» وخبر «ما» وغیرهما من الأخبار التی یجوز فی أولها زیادة باء الجر ؛ کما قلنا.
(ب) إذا وقع بعد خبر «لیس» أو خبر «ما» - مشتق معطوف ، فکیف نضبطه؟ لهذا صور یعنینا منها ما (1) یأتی :
أولا : أن یکون المشتق المعطوف علی خبرها وصفا (2) عاملا وبعده اسم مرفوع ، سببیّ (3) له ، نحو : «لیس المستعمر أمینا ، ولا صادقا وعده» أو : «ما المستعمر أمینا ولا صادقا وعده». فیجوز فی الوصف المعطوف وهو کلمة : «صادق» ما یجوز فیه لو کان غیر رافع اسما بعده ؛ وعلی هذا یصح فی کلمة : «صادق» النصب بعطفها علی الخبر المنصوب مباشرة وهو کلمة : «أمینا» کما یصح فیها الجر عطفا علی الخبر المجرور علی حسب توهم النحاة أن الخبر مجرور بباء زائدة غیر ظاهرة فی اللفظ ... وهو توهم وتخیل سبق رفضه فی : «ا» أما الاسم السببی المرفوع بعد الوصف المعطوف فیعرب فی الحالة السالفة فاعلا (4) له (وقد یعرب أحیانا نائب فاعل فی جملة أخری إذا کان الوصف الرافع له اسم مفعول). وفی المثال السابق بصورتیه یلتزم الوصف الإفراد فلا یثنی ولا یجمع - فی رأی أکثر النحاة - ...
ویصح أن یکون الوصف مرفوعا مبتدأ - لا معطوفا - وأن یکون السببی بعده مرفوعا به یغنی عن الخبر (سواء أکان المرفوع فاعلا أو نائب فاعل) ، وفی هذه الصورة یلتزم الوصف الإفراد أیضا. ویکون الوصف مع مرفوعه معطوفا علی الجملة قبله (5).
ص: 554
ویصح أن یکون السببی مبتدأ متأخرا والوصف خبرا مرفوعا متقدما - لا معطوفا وفی هذه الحالة یتطابقان ؛ إفرادا وتثنیة وجمعا ، وتذکیرا ، وتأنیثا ؛ نحو : لیس علیّ مهملا ولا مقصر أخوه - لیس علی مهملا ولا مقصران أخواه - لیس علی مهملا ولا مقصرون إخوانه (1) ... - وکذلک لو کان الناسخ «ما» بدلا من «لیس» ، ثانیا : أن یکون المعطوف وصفا أیضا وقبله : «لیس» ومعمولاها ولکن بعده اسم أجنبی. فیعطف الأجنبی علی اسمها ، ویرفع مثله. ویعطف الوصف علی خبرها ، وینصب مثله ، تقول لیس محمود حاضرا ، ولا غائبا (2) حامد ، فکلمة : «حامد» معطوفة علی الاسم : «محمود» مرفوعة مثله. وکلمة «غائبا» معطوفة علی الخبر «حاضر» منصوبة مثله.
فإن کان خبر «لیس» مجرورا بالباء الزائدة جاز أیضا جر الوصف ؛ تقول : لیس محمود بحاضر ، ولا غائب حامد ؛ بجر کلمة : «غائب» لأنها معطوفة علی الخبر المجرور لفظه بالیاء الزائدة ؛ ویجوز فی الحالتین السالفتین رفع الأجنبی علی أنه مبتدأ ، خبره الوصف المتقدم ؛ فیتطابقان. وتکون الجملة الثانیة معطوفة علی الأولی ثالثا : أن یکون المعطوف وصفا قبله «ما» ومعمولاها ؛ وبعده اسم أجنبی ؛ فیجب رفع الوصف الواقع بعد خبرها ؛ سواء أکان خبرها منصوبا ، أم مجرورا بالباء الزائدة ؛ نحو : ما محمود حاضرا ولا غائب حامد (3). أو : ما محمود بحاضر ولا غائب حامد.
ص: 555
أفعال المقاربة - معناها :
فی جملة مثل : «الماء یغلی» ، یفهم السامع بسبب وجود الفعل المضارع : أن الماء فی حالة غلیان الآن (1) ، أو : أنه سیکون کذلک فی المستقبل (2). فإذا قلنا : «کاد الماء یغلی» - اختلف المعنی تماما ؛ إذ نفهم أمرین ، أن الماء اقترب من الغلیان اقترابا کبیرا ، وأنه لم یغل بالفعل ، أی : أنه فی حالة إن استمرت زمنا قلیلا فسیغلی. والسبب فی اختلاف المعنی الثانی عن الأول هو وجود الفعل : «کاد» فی الجملة الثانیة ، وأنه ماض (3).
وکذلک الشأن : فی : «القطار یتأخر» إذ نفهم من الجملة أن القطار یباشر التأخر الآن ، أو فی المستقبل. فإذا قلنا : «کاد القطار یتأخر ...» تغیّر المعنی ، وفهمنا أمرین ؛ أنه اقترب من التأخر جدّا ، وأنه - بالرغم من ذلک - لم یتأخر فی الواقع. أی : أنه فی حالة ، إن طال زمنها قلیلا یقع فی التأخر. والسبب فی اختلاف المعنی الثانی عن الأول وجود الفعل الماضی : «کاد».
ومثل ما سبق : «الکأس تتدفق ماء» فالمعنی : أن الماء یفیض منها الآن. أو مستقبلا. فإذا قلنا : «کادت الکأس تفیض ماء» تغیر المعنی ، وانحصر فی أنها اقتربت کثیرا من التدفق ، وأنها لم تتدفق بالفعل ، وهذا التغیر بسبب وجود الفعل الماضی : «کاد».
ص: 556
من الأمثلة السابقة - وأشباهها - یتبین أن الفعل : الماضی «کاد» یؤدی فی جملته معنی خاصّا ، هو الدلالة علی التقارب بین زمن وقوع الخبر والاسم (1) ، تقاربا کبیرا مجردا ؛ (أی : لا ملابسة (2) فیه ، ولا اتصال). ومن أجل ذلک سمیت «کاد» (3) فعل : «مقاربة». ولها إخوة تشارکها فی تأدیة هذا المعنی. ومن أشهر أخواتها - کرب - أوشک (4) - مثل : کرب اللیل ینقضی - أوشک الصبح یقبل ، بمعنی : «کاد» فیهما. وکلها بمعنی : «قرب».
عملها :
أفعال المقاربة أفعال ناقصة (أی : ناسخة) ترفع المبتدأ اسما لها ، وتنصب الخبر ، فلا ترفع فاعلا ، ولا تنصب مفعولا ما دامت ناسخة (5) ، فهی من أخوات «کان». غیر أن الخبر فی أفعال المقاربة لا بد أن یشتمل علی :
1- فعل مضارع (6) ، ومرفوعه (من فاعل ، أو نائبه ...) ضمیر فی الغالب.
2- وأن یکون هذا المضارع مسبوقا بأن المصدریة (7) مع الفعل :
ص: 557
«أوشک» وغیر مسبوق بها مع الفعل : «کاد» أو : «کرب» ، نحو : أوشک المطر أن ینقطع ، وکاد الجو یعتدل ، وکرب الهواء یطیب. ویجوز - قلیلا - العکس ، فیتجرد خبر : «أوشک» ، من «أن» ویقترن بها خبر «کاد» و «کرب» ، ولکن الأول هو الشائع فی الأسالیب العالیة التی یحسن الاقتصار علی محاکاتها. ومن النادر أن یکون الخبر غیر جملة مضارعیة. ولا یصح محاکاة هذا النادر ، بل یجب الوقوف فیه عند المسموع (1).
وعمل أفعال المقاربة لیس مقصورا علی الماضی منها : بل ینطبق علیه وعلی المشتقات الأخری ، وهی محدودة ؛ أشهرها ثلاثة ؛ مضارع للفعل : «کاد» ، ومضارع للفعل : «أوشک» ، واسم فاعل له ، نحو : یکاد العلم یکشف أسرار الکواکب - یوشک القمر أن یتکشف للعلماء - أنت موشک أن تنته إلی خیر.
والأکثر أن تستعمل «کاد» و «کرب» ناسختین (2). أما «أوشک» فیجوز
ص: 558
أن تقع تامة ؛ بشرط أن تسند إلی «أن» والفعل المضارع الذی فاعله (أو مرفوعه) ضمیر مستتر : نحو : القویّ أوشک أن یتعب ؛ فالمصدر المؤول من «أن» والفعل المضارع وفاعله فی محل رفع فاعل «أوشک» التامة (1). ومثله قول الشاعر :
إذا المجد الرفیع تواکلته (2)
بناة السّوء أوشک أن یضیعا (3)
وهی فی حالة تمامها تلزم صورة واحدة لا تتغیر ، مهما تغیر الاسم السابق علیها فلا یتصل بآخرها ضمیر رفع مستتر أو بارز : تقول : القویان أوشک أن یتعبا. الأقویاء أوشک أن یتعبوا. القویة أوشک أن تتعب. القویتان أوشک أن تتعبا. القویات أوشک أن یتعین ... بخلاف ما لو کانت ناقصة ؛ فیجب أن یتصل بآخرها ضمیر رفع یطابق الاسم السابق فی التذکیر ، والتأنیث ، وفی الإفراد ، وفروعه : فتقول فی الأمثلة السابقة : (أوشک) - (أوشکا) - (أوشکوا) - (أوشکت) - (أوشکتا) - (أوشکن) فإن وقع بعد المضارع اسم مرفوع ظاهر نحو : أوشک أن یفوز القویّ - جاز فی أوشک أن تکون تامة ، وأن تکون ناقصة (4).
* * *
ص: 559
(ا) «کاد» کغیرها من الأفعال فی أن معناها ومعنی خبرها منفی إذا سبقها نفی ، ومثبت إذا لم یسبقها نفی ، خلافا لبعض النحاة ؛ فمثل : «کاد الصبی یقع» معناه : قارب الصبی الوقوع. فمقاربة الوقوع ثابتة. ولکن الوقوع نفسه لم یتحقق. وإذا قلنا : ما کاد الصبی یقع. فمعناه : لم یقارب الوقوع فمقاربة الوقوع منتفیة. والوقوع نفسه منفی من باب أولی ، ومثل هذا یقال فی بیت المعرّی :
إذا انصرفت نفسی عن الشیء لم تکد
إلیه بوجه - آخر الدهر - تقبل (1)
(ب) تعد أفعال المقاربة من أخوات «کان» الناسخة کما عرفنا. ولکن أفعال المقاربة تخالفها فیما یأتی :
1 - خبرها لا بد أن یکون مصدرا مؤولا من جملة مضارعیة - فی الأصح - مسبوقة بأن أو غیر مسبوقة ، علی التفصیل السابق ، وفاعل المضارع لا بد
أن یکون - فی الأرجح - ضمیرا یعود علی اسمها : وقد ورد رفعه السببیّ (2) فی حالات قلیلة ، لا یحسن القیاس علیها ، مثل : کاد الطلل تکلمنی أحجاره.
2 - خبرها لا یجوز أن یتقدم علیها.
3 - إذا کان الخبر مقترنا «بأن» لم یجز - فی الأشهر (3) - أن یتوسط بینها
ص: 560
وبین اسمها ، أما غیر المقترن فیجوز کما فی خبر کان.
4 - یجوز حذف الخبر إن علم ، نحو : من تأنی أصاب أو کاد ، ومن عجل أخطأ أو کاد ، وهو کثیر فی خبر «کاد» قلیل فی خبر «کان» ومع قلته جائز بالتفصیل الذی سبق فی موضعه (1) ...
5 - لا یقع فعل من أفعال المقاربة زائدا.
(ح) یری بعض النحاة أن «أوشک» لیست من أفعال المقاربة ، وإنما هی من أفعال الرجاء التی سیجیء الکلام علیها فی هذا الباب (2). مستشهدا ببعض أمثلة مأثورة تؤیده. ولا داعی للأخذ برأیه الیوم ، بعد أن شاع اتباع الرأی الآخر الذی یخالفه ، وتؤیده أیضا شواهد فصیحة قدیمة ، تسایرها أسالیبنا الحدیثة. وإنما ذکرنا الرأی الأول لیستعین به المتخصصون علی فهم النصوص القدیمة.
ص: 561
- معناها
ما معنی کلمة : «شرع» و «أخذ» فی مثل : شرع المغنّی یجرّب صوته ، ویصلح عوده ، وأخذ یوائم بین رنات هذا ، ونغمات ذاک؟
معنی : «شرع» أنه ابتدأ فعلا فی التجربة ودخل فیها ، وباشرها ، وکذلک معنی کلمة «أخذ» فهی تفید أنه ابتدأ فعلا فی المواءمة والتوفیق بین الاثنین. وکذلک فی مثل : أعدّ الطعام : فشرع المدعوون یتوجهون إلی غرفته ، وأخذ کل منهم یجلس فی المکان المهیأ له ... أی : ابتدءوا فی الذهاب إلی الغرفة ، وباشروا الانتقال إلیها فعلا ، کما ابتدءوا فی الجلوس ومارسوه. ومرجع هذا الفهم إلی الفعل : «شرع» ، «وأخذ» ، فکلاهما یدل علی ما سبق ، ولهذا یسمیه النحاة : «فعل شروع» یریدون : أنه الفعل الذی یدل علی أول الدخول فی الشیء (1) ، وبدء التلبس به ، وبمباشرته.
وأشهر أفعال الشروع : شرع - أنشأ - طفق - أخذ - علق - هبّ - قام - هلهل - جعل (2) ...
هذه الأفعال جامدة لأنها مقصورة علی الماضی (3) ، إلا «طفق» (4) و «جعل» فلهما مضارعان. وعملها الدائم هو رفع المبتدأ ونصب الخبر بشرط أن یکون المبتدا مما یدخل علیه النواسخ (5) ، فلا ترفع فاعلا ولا تنصب مفعولا ما دامت ناسخة ؛ فهی من أخوات «کان» الناقصة. ولا تکون تامة حین إفادتها معنی : «الشروع» - کما أوضحناه - إلا أنّ خبر أفعال الشروع لا بد أن یکون :
ص: 562
1- جملة مضارعیة فاعلها (أو : مرفوعها) ضمیر.
2- المصارع فیها غیر مسبوق «بأن» المصدریة ، کالأمثلة السابقة.
3- لا یجوز فی هذه الأفعال تقدم الخبر علیها ، کما لا یجوز توسطه بینها وبین الاسم (1).
4- ویجوز حذف خبرها إن دل علیه دلیل.
* * *
- معناها :
یتضح معناها من مثل : اشتد الغلاء ؛ فعسی الله أن یخفف حدّته - زاد شوق الغریب إلی أهله ، فعسی الأیام أن تقرب بینهم - تطلّع الرحالة إلی کشف المجاهل ؛ فعسی الحکومة أن تهیئ له الوسائل ...
ففی المثال الأول : رجاء وأمل فی الله أن یخفف شدة الغلاء. وفی الثانی : رجاء وأمل أن تقرب الأیام بین الغریب وأهله. وفی الثالث کذلک : أن تعدّ الحکومة للرحالة الوسائل ... ففی کل مثال رجاء وأمل فی تحقیق شیء مطلوب یفهم من الفعل المضارع مع مرفوعه ، والکلمة التی تدل علی الرجاء والأمل هی : «عسی». ولهذا تعد من أفعال الرجاء التی یدل کل فعل منها علی : «ترقب الخبر ، والأمل فی تحققه ووقوعه». (والخبر المرتقب هنا هو : ما یتضمنه المضارع مع مرفوعه ، کما سبق). ومن أشهرها : عسی - حری - اخلولق.
عملها :
هی أفعال ماضیة فی لفظها (3) ، جامدة (4) ، الصیغة والأغلب أنها ترفع الاسم وتنصب الخبر - إن کانا صالحین لدخول النواسخ - فهی من الأفعال الناقصة
ص: 563
(أی : الناسخة) أخوات «کان». وخبرها - فی الأفصح - مضارع مسبوق : بأن (1) ، وفاعله ضمیر ، لکن یجوز فی خبر «عسی» أن یکون مضارعه غیر مسبوق بأن ، نحو : عسی الأمن یدوم. کما یجوز أن یکون فاعل هذا المضارع سببیّا ، أی : اسما ظاهرا مضافا لضمیر اسمها ؛ نحو : عسی الوطن یدوم عزّه.
المکتوب بالأخر هو :
حکمها (2) :
یجب تقدیم هذه الأفعال علی معمولیها. کما یجب - فی رأی دون (3) آخر - تأخیر الخبر المقرون بأن عن الأسم. ویجوز حذف الخبر لدلیل وقد تقدم أن والأغلب فی استعمال هذه الأفعال أن تکون ناقصة. لکن یجوز فی «عسی» «واخلولق» أن تکونا تامتین ، بشرط إسنادهما إلی «أن» والمضارع الذی مرفوعه ضمیر یعود علی اسم سابق. دون إسنادهما إلی ضمیر مستتر أو بارز ؛ فلا بد لتمامهما أن یکون فاعلهما مصدرا مؤولا من «أن» وما دخلت علیه من جملة مضارعیة ، ولا یصح أن یکون ضمیرا ، نحو : الرجل عسی أن یکون. ونحو : الزرع اخلولق أن یتفتح ، فالمصدر المؤول فی المثالین فاعل (4) وفی هذه الحالة لا یکون فی «عسی» و «اخلولق» ضمیر مستتر. (وهذا التمام خاص بهما وبأوشک من أفعال المقاربة ، کما سبق). وفی حالة التمام تلزم «عسی» وأختها حالة واحدة لا تتغیر مهما تغیر الاسم السابق - لأن فاعلهما مذکور بعدهما - ... نقول : الرجل عسی أن یقوم - الرجلان عسی أن یقوما - الرجال عسی أن یقوموا ... وهکذا.
أما عند النقص فی : «عسی» و «اخلولق» ، فلا بد أن یتصل بآخرهما ضمیر مطابق للاسم السابق فتکونا ناقصتین. فإن لم یتصل بهما ضمیر ، وأسندتا إلی : «أن» والمضارع الذی فاعله ضمیر ، فهما تامتان ، - کما سلف -
ص: 564
والمصدر المؤول فاعلهما. ففی حالة النقص نقول : الرجل عسی أن یقوم - الرجلان عسیا أن یقوما - الرجال عسوا أن یقوموا. البنت عست أن تقوم. البنتان عستا أن تقوما - النساء عسین أن یقمن ... و...
فإن کان فاعل المضارع (أو مرفوعه) اسما ظاهرا جاز فی کل منهما أن تکون تامة ، وأن تکون ناقصة ؛ فعند التمام یکون المصدر المؤول من «أن» والمضارع مع مرفوعه الظاهر - فاعلا للناسخ ، وعند النقص لا یکون الاسم الظاهر المتأخر مرفوعا للمضارع ، بل یصیر هو اسم الناسخ ویکون الخبر هو : المصدر المؤول من «أن» والمضارع مع مرفوعه (1) الفاعل أو ما یغنی عن الفاعل.
ص: 565
وکل هذا یصح فی : «اخلولق» أیضا (1).
ص: 566
إذا وقعت «عسی» ومثلها : «اخلولق» و «أوشک» بعد اسم ظاهر مرفوع (1) ولیس بعدها فی الجملة اسم ظاهر ولا ضمیر بارز ؛ مثل : الصدیق عسی أن یحضر.
جاز أمران :
ا - أن تخلو «عسی» من ضمیر مستتر فیها أو بارز ، فتکون تامة. فاعلها هو المصدر المؤول بعدها من «أن» والمضارع مع مرفوعه المستتر ، والجملة من «عسی» ومرفوعها فی محل رفع خبر المبتدأ الذی قبلها وهو : (الصدیق). ونحو : المحمدان عسی أن یتقدما. المحمدون عسی أن یتقدموا. البنات عسی أن یتقدمن.
ب - وجاز أن تکون ناقصة ، فتشتمل علی ضمیر مستتر أو بارز هو اسمها یعود علی المبتدأ السابق علیها ویطابقه فی التذکیر والتأنیث ، وفی الإفراد وفروعه ، وخبرها هو المصدر المؤول من «أن» والمضارع مع مرفوعه المستتر أو البارز. والجملة منها ومن اسمها وخبرها فی محل رفع خبر المبتدأ الذی قبلها (2) ؛ مثل : محمد عسی أن یحضر - المحمدان عسیا أن یحضرا - المحمدون عسوا أن یحضروا - النساء عسین أن یحضرن ... - کما تقدم -.
أما إذا تأخر ذلک الاسم المرفوع بحیث یقع بعد المضارع المسبوق بأن المصدریة کما فی المثال : عسی أن یحضر الوالد - فیجوز أربعة أوجه (3).
الأول - أن یکون الاسم المتأخر مبتدأ (وهو مع تأخره فی اللفظ متقدم فی الرتبة). «عسی» فعل ماض تام ، وفاعله هو المصدر المؤول من «أن» ومن المضارع مع مرفوعه المستتر ، والجملة من «عسی» وفاعلها فی محل رفع خبر المبتدأ المتأخر.
الثانی : أن یکون الاسم المتأخر مبتدأ مع تأخره. «عسی» فعل ماض ناقص ، اسمها ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی المبتدأ ، المتأخر فی اللفظ ، المتقدم فی الرتبة ، ویطابقه ؛ وخبرها هو المصدر المؤول من «أن» والمضارع
ص: 567
مع مرفوعه المستتر. والجملة من «عسی» واسمها وخبرها فی محل رفع خبر المبتدأ المتأخر.
الثالث : أن تکون «عسی» تامة وفاعلها هو المصدر المؤول بعدها من «أن» والفعل المضارع مع مرفوعه ، ومرفوعه هو الاسم الظاهر بعده. (الوالد).
الرابع : أن تکون «عسی» ناقصة واسمها هو : الاسم الظاهر المتأخر (الوالد).
وخبرها هو المصدر المؤول من أن والفعل المضارع ومرفوعه المستتر.
وتشترک «اخلولق» و «أوشک» مع «عسی» فی کل ما سبق من الحالات (1) ...
(ب) سبق أنه (2) لا یجوز فی أفعال الرجاء أن یتقدم خبرها علیها ، کما لا یجوز (3) - فی رأی - أن یتوسط بینها وبین اسمها إن کان المضارع مقترنا «بأن». ویجوز حذف خبرها للعلم به.
والأکثر فی «عسی» أن تکون للرجاء. وقد تکون للإشفاق (أی : الخوف من وقوع أمر مکروه) مثل قوله تعالی : (وَعَسی أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ) - کما سبق فی رقم 2 من هامش ص 563 وکما یجیء فی رقم 1 من هامش ص 575.
(ح) إذا أسند الفعل : «عسی» لضمیر رفع لمتکلم أو لمخاطب جاز فتح السین وکسرها ؛ نحو : عسیت (4) أن أسلم من المرض ، وعسیت أن تفوز بالغنی ، وعسیتما ... وعسیتم ... وعسین ... والفتح أشهر (5).
(د) فی مثل : عسانی أزورک - عساک تزورنی ، عساه یزورنا من کل ترکیب وقع فیه بعد «عسی» الضمیر : «الیاء» أو «الکاف» أو «الهاء» وهی ضمائر لیست للرفع - تکون : «عسی» حرفا للرجاء (6) ، بمعنی : «لعل» وتعمل
ص: 568
عملها ، وهذا أیسر الآراء کما سبق (1). ویجوز اعتبار «عسی» من أخوات «کان» وهذا الضمیر فی محل رفع اسمها. ولا یکون کذلک فی غیر هذا الموضع والأفضل الإعراب الأول ، والاقتصار علیه أحسن.
(ه) فی مثل : عسی أن یتلطف الطبیب مع المریض - یوجب النحاة إعراب کلمة : «الطبیب» فاعلا للفعل : «یتلطف». ولا یجیزون أن تکون مبتدأ متأخرا ، ولا اسما لعسی الناقصة ، ولا غیر ذلک (2). وحجتهم فی المنع أن إعرابها بغیر الفاعلیة للفعل : «یتلطف» یؤدی إلی وجود کلمة أجنبیة فی وسط صلة «أن» فمن الخطأ إعراب أن «مصدریة» «یتلطف» مضارع منصوب بها ، وفاعله ضمیر مستتر تقدیره : «هو» یعود علی «الطبیب» المتأخر فی اللفظ ؛ دون الرتبة ؛ وعلة الخطا أن کلمة : «الطبیب» سواء أکانت مبتدأ متأخرا ، أم اسما لعسی ، قد وقعت غریبة بین أجزاء صلة «أن» لأنها لیست من تلک الصلة ، وفصلت بین تلک الأجزاء. ولا یجوز الفصل بأجنبی فی تلک الصلة. ومثل هذا قالوا : فی إعراب کلمة : «ربّ» ، فی قوله تعالی : (عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً) مع إعراب : «مقاما» ظرف.
و - من الاستعمالات الصحیحة وقوع اللفظ : «حری» اسما منونا مع ملازمته الإفراد والتذکیر فی جمیع حالاته ؛ نحو : الصانع حری أن یکرم - الصانعان حری أن یکرما - الصانعون حری أن یکرموا - الصانعة حری أن تکرم - الصانعتان حری أن تکرما - الصانعات حری أن یکرمن ... ولفظ : «حری» فی کل الاستعمالات السابقة مصدر معناه : جدیر وحقیق ؛ فهو مصدر بمعنی الوصف ، والأحسن أن یکون مصدرا لفعل تام متصرف لیس من «أفعال الرجاء» هو الفعل : حری - یحری - حری. وقد یجیء من هذا الفعل التام المتصرف وصف مشتق علی : «حریّ» (وزان : غنیّ) ، وعلی : حر (وزان : صد بمعنی : ظمآن) وهذان الوصفان هما صفتان مشبهتان ولا یلتزمان صیغة واحدة ، وإنما تلحقهما علامة التثنیة والجمع ، والتذکیر والتأنیث فیقال : المکافح حریّ أو حر أن یفوز - المکافحان حریّان ، أو حریان أن یفوزا - المکافحون حریّون أو حریون أن یفوزوا - المکافحة حریّة أو حریة ... المکافحتان حرّیتان أو حریتان ... المکافحات حریّات أو حریات ...
ص: 569
وکل واحد من هذه السبعة یدخل علی المبتدأ والخبر بأنواعهما وأحوالهما ؛ فیتناولهما بالتغییر فی اسمهما ، وفی شیء من ضبط آخرهما ؛ إذ یصیر المبتدأ منصوبا ، ویسمی : اسم الناسخ ، ویبقی الخبر مرفوعا ، ویسمی ؛ خبر الناسخ ، کالأمثلة المذکورة (1).
ولکل واحد من تلک الحروف معنی خاص یغلب فیه ؛ فالغالب فی : «إنّ» و «أنّ» : التوکید (2) ، وفی : «لکنّ» الاستدراک (3) ولا بد أن
ص: 571
ص: 573
(1) :
ا - یشترط لعملها ألا تتصل بها : «ما» الزائدة. فإن اتصلت بها «ما» الزائدة (2) - وتسمّی : «ما» الکافّة - منعتها من العمل ، وأباحت دخولها علی الجمل الفعلیة بعد أن کانت مختصة بالاسمیة. إلا : «لیت» فیجوز إهمالها وإعمالها (3) عند اتصالها بکلمة «ما» السالفة ؛ فیجب الإهمال فی مثل : إنما الأمین صدیق (4) ، ولکنما الخائن عدوّ ، وفی مثل قول الشاعر یصف حصانا ببیاض وجهه ، وسواد ظهره :
وکأنما انفجر الصباح بوجهه
حسنا ، أو احتبس الظلام بمتنه (5)
ویجوز الأمران مع : «لیت» مثل : لیتما علیّ حاضر ، أو : لیتما علیا حاضر ، وهی فی الحالتین مختصة بالجمل الاسمیة.
ص: 575
ب - یشترط فی اسمها شروط ، أهمها :
ألا یکون من الکلمات التی تلازم استعمالا واحدا ، وضبطا واحدا لا یتغیر ؛ کالکلمات التی تلازم الرفع علی الابتداء ، فلا تخرج عنه إلی غیره ؛ ککلمة : «طوبی» وأشباهها (1) - فی مثل : طوبی للمجاهد فی سبیل الله. - فإنها لا تکون إلا مبتدأ.
وألا یکون من الکلمات الملازمة للصدارة فی جملتها ، إما بنفسها مباشرة ؛ کأسماء الشرط ، و : «کم» ... ، وإما بسبب غیرها (2) ؛ کالمضاف إلی ما یجب تصدیره ؛ مثل : صاحب من أنت؟ فکلاهما لا یصلح اسما.
والسبب : هو أن هذه الحروف الناسخة ملازمة للصدارة فی جملتها (ما عدا «أنّ» (3) فإذا کان اسم واحد منها ملازما للصدارة وقع بینهما التعارض. ولهذا کان من شروط إعمالها - أیضا - أن یتأخر اسمها وخبرها عنها.
وألا یکون اسمها فی الأصل مبتدأ واجب الحذف ؛ کالمبتدأ الذی خبره فی الأصل نعت ، ثم انقطع عن النعت إلی الخبر (4) ؛ نحو : عرفت محمودا
ص: 576
العالم (1).
ح - ویشترط فی خبرها ألا یکون إنشائیّا (2) ، (إلا الإنشاء المشتمل علی : «نعم» و «بئس» وأخواتهما من أفعال المدح والذم) فلا یصح : إن المریض ساعده. ولیت البائس لا تهنه ... ویصح : إن الأمین نعم الرجل ، وإن الخائن بئس الإنسان.
وکذلک یشترط فی خبرها إذا کان مفردا أو جملة - أن یتأخر عن اسمها ، فیجب مراعاة الترتیب بینهما ؛ بتقدیم الاسم وتأخیر الخبر ، نحو : إن الحقّ غلّاب - إن العظائم کفؤها العظماء - إن کبار النفوس ینفرون من صغائر الأمور ، وقول الشاعر :
إن الأمین - إذا استعان بخائن -
کان الأمین شریکه فی المأثم
فلو تقدم هذا الخبر لم تعمل ، بل لم یکن الأسلوب صحیحا. وهذا الشرط یقتضی عدم تقدمه علی الناسخ من باب أولی.
أما إذا کان الخبر غیر مفرد وغیر جملة ، بأن کان شبه جملة : (ظرفا أو جارا مع مجروره). فیجوز أن یتقدم علی الاسم فقط ، فیتوسط بینه وبین الناسخ عند عدم وجود مانع : نحو ؛ إن فی السماء عبرة (3) ، وإن فی دراستها عجائب. وقول الشاعر :
إنّ من الحلم ذلّا أنت عارفه
والحلم عن قدرة فضل من الکرم
ص: 577
ومثل : إن هنا رفاقا کراما ، وإن معنا إخوانا أبرارا. وقولهم فی وصف رجل : کان والله سمحا سهلا ، کأنّ بینه وبین القلوب نسبا ، أو : بینه وبین الحیاة سببا. فإن وجد مانع لم یجز تقدمه ؛ کوجود لام الابتداء فی نحو : إن الشجاعة لفی قول الحق : حیث لا یجوز تقدیمه وفیه لام الابتداء (1) ...
وهناک حالة یجب فیها تقدیمه ؛ هی : أن یکون فی الاسم ضمیر یعود علی شیء فی الخبر الجار والمجرور ؛ مثل : إن فی الحقل رجاله ، وإن فی المصنع عماله. فاسم الناسخ (رجال وعمال) مشتمل علی ضمیر یعود علی بعض الخبر (2) ؛ (أی : علی الحقل ، والمصنع) ، ولو تأخر الخبر لعاد ذلک الضمیر علی متأخر فی اللفظ وفی الرتبة معا ؛ وهو ممنوع هنا (3).
ومما تقدم نعلم أن للخبر - فی هذا الباب - ثلاثة أحوال من ناحیة تقدیمه ، أو تأخیره علی الاسم.
ص: 578
الأولی : وجوب تأخیره إذا لم یکن شبه جملة. وکذلک إن کان شبه جملة جارا مع مجروره ، ولا یعود علی المجرور ضمیر من الاسم.
الثانیة : وجوب تقدیمه إذا کان شبه جملة ، جارا مع مجروره ، وکان الاسم مشتملا علی ضمیر یعود علی المجرور (أی : علی بعض الخبر الجار مع مجروره).
الثالثة : جواز الأمرین إذا کان شبه جملة ، - غیر ما سلف - ولم یمنع من التقدم مانع.
أما معمول الخبر (مثل : إن المتعلم قارئ کتابک ، وإنه منتفع بعلمک ،) فلا یجوز تقدمه علی الحرف الناسخ ، لکن یجوز تقدمه علی الخبر مطلقا (أی : سواء أکان المعمول شبه جملة ، أم غیر شبهها ، فتقول : إن المتعلم - کتابک - «قارئ ، وإنه - بعلمک - منتفع. ففی الجملة الأولی تقدم المعمول : «کتابک» ولیس بشبه جملة ؛ وفی الثانیة تقدم المعمول شبه الجملة ، وهو الجار والمجرور : «بعلم».
کما یصح تقدیم معمول الخبر علی الاسم والتوسط بینه وبین الناسخ فی حالة واحدة ، هی : أن یکون المعمول شبه جملة ؛ نحو : إن فی المهد الطفل نائم - إن بیننا الودّ راسخ.
ویؤخذ من کل ما سبق : أنه لا یجوز أن یفصل بین الحرف الناسخ واسمه فاصل إلا الخبر شبه الجملة الذی یصح تقدیمه ، أو معمول لخبر إذا کان المعمول شبه جملة أیضا الجملة کذلک ، کما لا یجوز أن یتقدم علی الحرف الناسخ اسمه ، أو خبره ، أو معمول أحدهما.
ص: 579
ا - قد یحذف الحرف الناسخ مع معمولیه أو أحدهما ، ویظل ملحوظا تتجه إلیه النیة ؛ کأنه موجود. وأکثر ما یکون الحذف فی إنّ (المکسورة الهمزة المشدّدة النون) ، ومنه قول تعالی : (أَیْنَ شُرَکائِیَ الَّذِینَ کُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) بناء علی أن التقدیر : تزعمون أنهم شرکائی. وقد تحذف مع الخبر ویبقی الاسم ، وقد تحذف وحدها ویبقی اسمها وخبرها ، وقد یحذف أحدهما فقط (1) ، وکل ذلک مع ملاحظة المحذوف ولا یصح شیء مما سبق إلا إذا قامت قرینة تدل علی المحذوف مع عدم تأثر المعنی بالحذف ، وهذه قاعدة لغویة عامة أشرنا إلیها من قبل (2)) ؛ هی جواز حذف ما لا یتأثر المعنی بحذفه. بشرط أن تقوم قرینة تدل علیه).
وقد یجب حذف خبر «إن» إذا سدّ مسده واو المعیة ، نحو : إنک وخیرا ، أی : إنک مع خیر ، أو سد مسده الحال ، نحو : قول الشاعر :
إنّ اختیارک ما تبغیه ذا ثقة
بالله مستظهرا بالحزم والجدّ
أو مصدرا مکررا ؛ نحو : إن الفائدة سیرا سیرا.
وتختص : «لیت» بالاستغناء عن معمولیها ، وبأحکام أخری سبقت شروطها وتفصیلاتها فی رقم 1 من هامش ص 574.
ب - الأنسب الأخذ بالرأی القائل بجواز تعدد الخبر فی هذا الباب علی الوجه الذی سبق إیضاحه فی تعدد خبر المبتدأ ص 480 ؛ لأن التعدد هنا وهناک أمر تشتد إلیه حاجة المعنی أحیانا.
ح - من العرب من ینصب بهذه الحروف المعمولین ؛ کما تنطق الشواهد الواردة به. لکن لا یصح القیاس علیها فی عصرنا ؛ منعا لفوضی التعبیر والإبانة ، وإنما نذکر رأیهم - کعادتنا فی نظائره - لیعرفه المتخصصون فیکشفوا به ، فی غیر حیرة ولا اضطراب - ما یصادفهم من شواهد قدیمة وردت مطابقة له مع ابتعادهم عن محاکاتها.
ص: 580
لهمزة «إنّ» ثلاثة أحوال ، وجوب الفتح ، ووجوب الکسر ، وجواز الأمرین.
یجب فتحها فی موضع واحد ، هو : أن تقع مع معمولیها جزءا من جملة مفتقرة إلی اسم مرفوع ، أو منصوب ، أو مجرور ، ولا سبیل للحصول علی ذلک الاسم إلا من طریق مصدر منسبک من «أنّ» مع معمولیها. ففی مثل : شاع أن المعادن کثیرة فی بلادنا. سرنی أنک بارّ بأهلک - لا نجد فاعلا للفعل : «شاع» ولا للفعل : «سرّ» مع حاجة کل فعل للفاعل ، ولا وسیلة للوصول إلیه إلا بسبک مصدر مؤول من : «أنّ» مع معمولیها ؛ فیکون التقدیر : شاع کثرة المعادن فی بلادنا - سرنی برّک بأهلک (1) وکذلک الفعل : «زاد» فی قول القائل :
لقد زادنی حبّا لنفسی أننی
بغیض إلیّ کل امرئ غیر طائل (2)
وفی مثل : عرفت أن المدن مزدحمة - سمعت أن البحار ممتلئة بالأحیاء ... نجد الفعل : «عرف» محتاجا لمفعول به ، وکذلک الفعل : «سمع». فأین المفعولان؟ لا نتوصل إلیهما إلا بسبک مصدر مؤول من : «أن» مع معمولیها ؛ فیکون التقدیر : عرفت ازدحام المدن - سمعت امتلاء البحار بالأحیاء.
وفی مثل : تألمت من أن الصدیق مریض - فرحت بأن العربیّ مخلص للعروبة ... ، نجد حرف الجر : «من» لیس له مجرور ، وکذلک حرف الجر : «الباء» وهذا غیر جائز فی العربیة. فلا مفر من أن یکون المصدر المنسبک من «أنّ» مع معمولیها فی الجملة الأولی هو المجرور بالحرف : «من» وفی الجملة الثانیة هو المجرور «بالباء». والتقدیر : تألمت من مرض الصدیق - وفرحت
ص: 581
بإخلاص العربیّ للعروبة ... وهکذا کل جملة أخری تتطلب اسما لها ، ولا سبیل لإیجاده إلا من طریق مصدر منسبک من «أنّ» مع معمولیها.
ومن الأمثلة غیر ما سبق : «حقا ، أنک متعلم رفع لقدرک» - «المعروف أن التعلم نافع». فالمصدر المؤول فی الجملة الأولی مبتدأ ، والتقدیر : تعلمک رفع لقدرک ، أما فی الجملة الثانیة فهو خبر ، والتقدیر : المعروف نفع التعلم.
ومثله المصدر المؤول بعد : «لو لا» حیث یجب فتح همزة «أنّ» نحو : لو لا أنک مخلص لقاطعتک. والتقدیر : لو لا إخلاصک حاصل لقاطعتک.
ومما سبق نعلم أن المصدر المؤول یجیء لإکمال النقص ، فیکون فاعلا ، أو نائبه ، أو مفعولا به (1) ، أو مبتدأ ، أو خبرا (2). وقد یکون غیر ذلک (3).
کما نفهم المراد من قول النحاة : یجب فتح همزة : «أن» إذا تحتم تقدیرها مع معمولیها بمصدر یقع فی محل رفع ، أو نصب ، أو جر (4).
ص: 582
ا - «أنّ» - مفتوحة الهمزة ، مشددة النون - معناها التوکید - کما شرحنا (1) - وهی مع اسمها وخبرها تؤول بمصدر معمول لعامل محتاج له ، فمن الواجب أن یکون الفعل - وغیره مما هی معمولة له - مطابقا لها فی المعنی ؛ بأن یکون من الألفاظ الدالة علی العلم والیقین (2) ؛ لکیلا یقع التعارض والتناقض بینهما (أی : بین ما یدل علیه العامل ، وما یدل علیه المعمول) وهذا هو ما حرت علیه الأسالیب الفصیحة حیث یتقدمها ما یدل علی الیقین والقطع : مثل : اعتقدت ، علمت ، ووثقت ، تیقنت ، اعتقادی ... ولا یقع قبلها شیء من ألفاظ الطمع ، والإشفاق ، والرجاء ... مثل : أردت ، اشتهیت ، وددت ... وغیرها من الألفاظ التی یجوز أن یوجد ما بعدها أو لا یوجد ؛ والتی لا یقع بعدها إلا «أن» الناصبة للمضارع. وهذه لا تأکید فیها ولا شبه تأکید ؛ فتقول أرجو أن تحسن إلی الضعیف ، وأرغب أن تعاون المحتاج. وکالتی فی الآیة الکریمة : (وَالَّذِی أَطْمَعُ أَنْ یَغْفِرَ لِی خَطِیئَتِی یَوْمَ الدِّینِ.)
وما ذکرناه فی «أنّ» المشدّدة یسری علی : «أنّ» المفتوحة الهمزة المخففة من الثقیلة ؛ فکلاهما فی الحکم سواء ، نحو قوله تعالی : (عَلِمَ أَنْ سَیَکُونُ مِنْکُمْ مَرْضی.)
ومن الألفاظ ما لا یدل علی الیقین ولا علی الطمع والإشفاق ولکن یقع بعده «أن» المشددة والمخففة الناسختان کما یقع بعده «أن» التی تنصب الفعل المضارع.
وذلک النوع من الألفاظ هو ما یدل علی الظن ؛ مثل : ظننت ، وحسبت ، وخلت.
ومعنی الظن : أن یتعارض الدلیلان ، ویرجح أحدهما الآخر. وقد یقوی الترجیح فیستعمل اللفظ بمعنی الیقین ؛ نحو قوله تعالی : (الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ،) وقد یضعف حتی یصیر مشکوکا فی وجوده : کأفعال الرجاء والطمع وألفاظهما الأخری (3) ...
ب - لا تکون «أنّ» (المفتوحة الهمزة. المشدة النون) مستقلة بنفسها مع معمولیها : فلا بد أن تکون معهما جزءا من جملة أخری (4) ... غیر أنه لا یجوز
ص: 583
أن یقع المصدر المؤول من : «أن ومعمولیها» اسما لأختها المکسورة الهمزة (1). فإذا أرید ذلک وجب الفصل بینهما بالخبر ، فیتقدم بشرط أن یکون شبه جملة (2). نحو : إن عندی أن التجربة خیر مرشد. إن فی الکتب السماویة أن الرسل هداة للناس ... وقد سبق أنه یجوز وقوع «أنّ» مع معمولیها اسما للأحرف الناسخة - ومنها : أن - (أی : أن یکون المصدر المؤول اسما للحرف الناسخ) بشرط أن یتقدم علیه الخبر شبه الجملة.
ح - أشرنا - فی ص 181 - إلی بعض مواضع المصدر المؤول من «أنّ ومعمولیها». وقد یقع فاعلا لفعل ظاهر کما رأینا أو مقدر ؛ نحو : اسمع ما أنّ الخطیب یخطب. أی : ما ثبت أن الخطیب یخطب ، (مدة ثبوت خطبته) وذلک لأن «ما» المصدریة الظرفیة لا تدخل - فی أشهر الآراء - علی الجملة الاسمیة المبدوءة بحرف مصدری (3). ومثلها العبارة المأثورة : «لا أکلم الظالم ما أنّ فی السماء نجما. أی : ما ثبت أن فی السماء نجما ...»
ومن الفعل المقدر أیضا أن یقع ذلک المصدر المؤول بعد : «لو» الشرطیة ؛ نحو : لو أنک حضرت لأکرمتک. فالمصدر المؤول فاعل محذوف ، والتقدیر : لو ثبت حضورک ... لأن «لو» شرطیة لا تدخل إلا علی الفعل فی الرأی المشهور. والأخذ به أولی من الرأی القائل : إن المصدر المؤول مبتدأ خبره محذوف وجوبا ، أو مبتدأ لا یحتاج إلی خبر. لأن فیهما تکلفا وبعدا (4).
وقد یقع ذلک المصدر نائب فاعل ، نحو قوله تعالی : (قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ... ،) وقد یقع خبرا عن مبتدأ الآن ، کالأمثلة
ص: 584
السالفة ، أو بحسب الأصل : نحو : کان عندی أنک مقیم. لکن یشترط فی المبتدأ الذی یقع خبره هذا المصدر المؤول ، ثلاثة شروط :
1 - أن یکون اسم معنی ؛ نحو : الإنصاف أنک تسوّی بین أصحاب الحقوق ؛ فلا یصح : الأسد أنه ملک الوحوش ، بفتح الهمزة. بل یجب کسرها - کما سیجیء (1) -.
2 - وأن یکون غیر قول (2) ؛ فلا یجب الفتح فی مثل : قولی : أن البطالة مهلکة.
3 - وأن یکون محتاجا للخبر المؤول من «أنّ» ومعمولیها لیکمل معه المعنی الأساسی للجملة ، من غیر أن یکون المبتدأ داخلا فی معنی الخبر ؛ (أی : من غیر أن یکون معنی الخبر صادقا علیه) ، نحو : اعتقادی أنک نزیه. فکلمة : اعتقادی. مبتدأ یحتاج إلی خبر یتمم المعنی الأساسی. فجاء المصدر المؤول لیتممه. والتقدیر : «اعتقادی نزاهتک» ، فالخبر هنا یختلف فی معناه عن المبتدأ اختلافا واضحا. فإن کان المصدر المؤول من : «أن مع معمولیها» لیس هو محط الفائدة الأصلیة ، (أی : لیس المقصود بتکملة المعنی الأساسی ؛ کأن یکون معناه منطبقا علی المبتدأ وصادقا علیه) فإنه لا یعرب خبرا ، بل الخبر غیره. کما فی المثال السابق وهو : «اعتقادی أنک نزیه» إذا لم یکن القصد الإخبار بنزاهته والحکم علیه بها ، وإنما القصد الإخبار بأن ذلک الاعتقاد حاصل واقع ؛ فیکون المصدر المؤول مفعولا به للمبتدأ ، والخبر محذوف ؛ والتقدیر - مثلا - اعتقادی نزاهتک حاصل أو ثابت ... ، والمصدر المؤول فی هذا المثال ینطبق علی المبتدأ ، ویصدق علیه ؛ لأن النزاهة هنا هی : الاعتقاد ، والاعتقاد هو النزاهة ... و...
وقد یقع المصدر المؤول مفعولا لأجله ؛ نحو : زرتک أنی أحبک ، أو مفعولا معه ، نحو : یسرنی قعودک هنا ، وأنک تحدثنا. أو مستثنی ؛ نحو : ترضینی أحوالک ، إلا أنک تخلف المیعاد. ویقع مضافا إلیه بشرط أن یکون المضاف مما یضاف إلی المفرد ، لا إلی الجملة ؛ مثل : سرنی عملک غیر أن خطک ردیء. أی : غیر رداءة خطک. فإن کان المضاف مما یضاف إلی الجملة وحدها وجب کسر الهمزة ؛ مثل : حضرت حیث إنک دعوتنی ، بکسر همزة : «إن»
ص: 585
مراعاة للرأی الذی یحتم إضافة «حیث» للجمل ، دون الرأی الآخر الذی یبیح إضافتها لغیر الجملة.
ومثل المواضع السابقة ما عطف علیها ؛ نحو قوله تعالی : (..... اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ ، وَأَنِّی فَضَّلْتُکُمْ ...) فالمصدر المؤول وهو «تفضیلی» معطوف علی المفعول به : «نعمة» ، وکذلک ما أبدل منها ؛ نحو قوله تعالی : (وَإِذْ یَعِدُکُمُ اللهُ إِحْدَی الطَّائِفَتَیْنِ ، أَنَّها لَکُمْ ... ،) فالمصدر المؤول ، وهو : استقرارها وکونها ... بدل من إحدی. وهکذا ...
ولا یکون هذا المصدر المؤول مفعولا مطلقا ، ولا ظرفا ، ولا حالا ، ولا تمییزا ولا یسد مسد «مفعول به» أصله خبر عن ذات (1) ، نحو : ظننت القادم إنه عالم. فلو فتحت الهمزة لکان المصدر المؤول من : «أنه عالم» ؛ مفعولا ثانیا للفعل : «ظننت» مع أن أصل هذا المفعول خبر عن کلمة : «القادم» فیکون التقدیر «القادم علم» فیقع المعنی خبرا عن الجثة (2) ، وهذا مرفوض هنا إلا بتأویل لا یستساغ مع أنّ.
د - من الأسالیب الفصیحة : «أحقّا أنّ جیرتنا استقلّوا (3) ... یریدون ؛ أفی حق أن جیرتنا استقلوا. فکلمة : «حقّا» ظرف زمان (4) - فی الشائع - ، والمصدر المنسبک من «أنّ» مع معمولیها مبتدأ مؤخر. ولهذا وجب فتح همزة «أن». أی : أفی حق استقلال جیرتنا.
ویصح أن تکون کلمة ؛ «حقّا» ، مفعولا مطلقا لفعل محذوف تقدیره : حقّ (بمعنی : ثبت) والمصدر المنسبک فاعله ، أی : أحق حقّا استقلال جیرتنا؟ وأحیانا یقولون : «أما أنّ جیرتنا استقلوا». فکلمة : «أما» (بتخفیف المیم) (5) بمعنی : حقّا ، ویجب فتح همزة «أن» بعدها.
ص: 586
وخیر ما ارتضوه فی إعرابها : أنها مرکبة من کلمتین ؛ فالهمزة للاستفهام. «ما» ظرف ، بمعنی : شیء. ویراد بذلک الشیء : «حق» فالمعنی : «أحقّا» وکلمة : «أما» مبنیة علی السکون فی محل نصب ، وهی خبر مقدم ، والمصدر المؤول مبتدأ مؤخر (1).
ه - قد یسدّ المصدر المؤول من أنّ ومعمولیها مسد المفعولین إن لم یوجد سواه ، نحو : ظننت أن بعض الکواکب صالح للسکنی. وکذلک فی کل موضع تحتاج فیه الجملة إلی ما یکمل نقصها فلا تجد غیره ، مع عدم مانع یمنع منه ...
و - أشرنا من قبل (2) إلی وقوع : «أنّ» المفتوحة الهمزة المشددة النون - للترجی ، فتشارک «لعل» فی تأدیة هذا المعنی وتحتاج إلی جملة اسمیة بعدها ؛ فترفع المبتدأ وتنصب الخبر ولا بد أن یکون لها الصدارة فی جملتها. ولا یصح أن تسبک مع ما بعدها بمصدر مؤول ؛ فهی تخالف «أنّ» المفتوحة الهمزة ، المشددة النون التی معناها التوکید فی أمور : فی المعنی ، وفی وجوب الصدارة ، وفی منع السبک بمصدر مؤول.
ص: 587
یجب کسر همزة : «إن» فی کل موضع لا یصح أن تسبک فیه مع معمولیها بمصدر ؛ فیجب الکسر فیما یأتی :
1- أن تکون فی أول جملتها حقیقة ، نحو : (إِنَّا فَتَحْنا لَکَ فَتْحاً مُبِیناً ،) وقول الشاعر یمدح محسنا :
یخفی صنائعه ، والله یظهرها
إن الجمیل إذا أخفیته ظهرا
وتعتبر فی أول جملتها حکما إذا وقعت بعد حرف من حروف الاستفتاح (1) ؛ مثل : ألا ، وأما (2) ، نحو : ألا إن إنکار المعروف لؤم - أما إن الرشوة جریمة من الراشی والمرتشی. ومثلهما الواو التی للاستئناف ، کقول الشاعر :
وإنی شقیّ باللئام ولا تری
شقیّا بهم إلا کریم الشمائل
وکذلک کل واو أخری تقع بعدها جملة تامة.
فإن سبقها شیء من جملتها وجب الفتح ، نحو : عندی أن الدّین وقایة من الشرور.
2- أن تقع فی جملة الصلة ، بحیث لا یسبقها (3) شیء منها ؛ نحو : أحترم الذی (إنه عزیز النفس عندی.) ، وکذلک فی أول جملة الصفة التی موصوفها اسم ذات (4) ؛ نحو : أحبّ رجلا (إنه مفید). وفی : أول جملة الحال أیضا ؛ نحو : أجلّ الرجل (إنه یعتمد علی نفسه) وأکبره (وإنه بعید من الدنایا).
3- أن تقع فی صدر جملة جواب القسم وفی خبرها اللام ؛ سواء أکانت جملة القسم اسمیة ؛ نحو : لعمرک إن الحذر لمطلوب ، أم کانت فعلیة فعلها
ص: 588
مذکور ؛ نحو : أحلف بالله إن العدل لمحبوب. أو غیر مذکور ، نحو : والله إن الظلم لوخیم العاقبة.
فإن لم تقع فی خبرها اللام لم یجب (1) کسر الهمزة إلا إذا کانت جملة القسم جملة فعلیة فعلها محذوف ؛ نحو : والله إن السیاحة مفیدة.
یتضح مما سلف أن الکسر واجب فی کل الحالات التی تظهر فیها اللام فی خبر «إنّ». وکذلک فی الحالة التی تحذف فیها تلک اللام من الخبر بشرط أن تکون جملة القسم فعلیة ، قد حذف فعلها.
4- أن تقع فی صدر جملة محکیّة بالقول (لأن المحکیّ بالقول لا یکون إلا جملة ، - فی الأغلب - بشرط ألا یکون القول بمعنی الظن) (2). فتکسر وجوبا فی مثل : قال علیه السّلام : (إن الدّین یسر). ویقول الحکماء : «إن المبالغة فی التشدد مدعاة للنفور» ، (فقل للمتشددین : «إن الاعتدال خیر») ، وکذلک فی الشطر الثانی من بیت الشاعر :
تعیّرنا أنّا قلیل عدیدنا
فقلت لها : إنّ الکرام قلیل
فإن وجد القول ولم تکن محکیة به بل کانت معمولة لغیره لم تکسر ، نحو : أیها العالم ، أخصّک القول ؛ أنک فاضل ؛ أی : لأنک فاضل ؛ فالمصدر المؤول معمول للام الجر ، لا للقول. وکذلک لا تکسر إن کان القول بمعنی : الظن ، بقرینة تدل علی هذا المعنی فیعمل عمله فی نصب مفعولین. - نحو : أتقول المراصد أن الجو بارد فی الأسبوع المقبل؟ أی : أتظن (3) (فتفتح مع أنها مع معمولیها معمولة للقول ؛ لأن القول هنا بمعنی «الظن» ینصب مفعولین فیکون المصدر المؤول منها ومن معمولیها فی محل نصب یسدّ مسدّ المفعولین) ...
5- أن تقع بعد فعل من أفعال القلوب (4) وقد علّق عن العمل ، بسبب
ص: 589
وجود لام الابتداء فی خبرها ؛ نحو : علمت إن الإسراف لطریق الفقر. فإن لم یکن فی خبرها اللام (1) فتحت أو کسرت : نحو : علمت إن الریاء بلاء - بفتح الهمزة ، أو کسرها (2).
6- أن تقع خبرا عن مبتدأ اسم ذات ؛ نحو : الشجرة إنها مثمرة (3) وقد یدخل علی هذا المبتدأ ناسخ ؛ ومنه قوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ، وَالَّذِینَ هادُوا)(4) ، وَالصَّابِئِینَ (5) ، وَالنَّصاری ، وَالْمَجُوسَ (6) ، وَالَّذِینَ أَشْرَکُوا - إِنَ (7) اللهَ یَفْصِلُ بَیْنَهُمْ (8) ...»
ص: 590
ا - یعدّ بعض النحاة مواضع أخری للکسر ، منها : أن تقع «إنّ» بعد کلمة «کلّا» التی تفید الاستفتاح ؛ نحو : قوله تعالی : (کَلَّا ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی ...)
أو یقع فی خبرها اللام من غیر وجود فعل للتعلیق ؛ نحو : إن ربک لسریع العقاب.
أو تقع بعد «حتی» التی تفید الابتداء نحو : یتحرک الهواء ، حتی إن الغصون تتراقص - تفیض الصحراء بالخیر ، حتی إنها تجود بالمعادن الکثیرة.
والتوابع لشیء من ذلک ؛ نحو : إن النشاط محمود وإن الخمول داء ... والحق أن هذه المواضع ینطبق علیها الحکم الأول ، وهو أنها واقعة فی صدر جملتها ؛ فلا یمنع من الحکم لها بالصداره أن یکون لجملتها نوع اتصال معنوی - لا إعرابیّ - بجملة قبلها ؛ کمثال : «حتی» السابق ... «وکلّا» ، فی بعض الأحیان. أما اتصالها الإعرابیّ فیمنع کسرها إن کان ما قبلها محتاجا إلی المصدر المؤول منها مع معمولیها احتیاجا لا مناص منه ، کما سبق.
ص: 591
(أی : فتح همزة «إنّ» وکسرها.) وذلک فی مواضع ، أشهرها :
1- أن تقع بعد کلمة : «إذا» الدالة علی المفاجأة (1) ، نحو : استیقظت فإذا إن الشمس طالعة ، وفتحت النافذة ، فإذا إن المطر نازل. فالکسر علی اعتبار : «إذا» حرف - تبعا للرأی الأسهل - مع وقوع «إن» فی صدر جملتها الاسمیة المصرّح بطرفیها ؛ بأن یذکر بعدها اسمها وخبرها. والفتح علی اعتبار «إذا» حرف أیضا والمصدر المؤول من «أنّ» مع معمولیها فی محل رفع مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدیر : استیقظت فإذا طلوع الشمس حاضر ، وفتحت النافذة فإذا نزول المطر حاضر ... ویجوز اعتبار «إذا» الفجائیة ظرف زمان أو مکان أیضا ، خبرا مقدما. والمصدر المنسبک من «أنّ» ومعمولیها مبتدأ مؤخر ، والتقدیر ففی المکان أو فی الوقت طلوع الشمس ، أو نزول المطر ...
2- أن تقع فی صدر جملة القسم ، ولیس فی خبرها اللام ؛ بشرط أن تکون جملة القسم اسمیة ؛ نحو : لعمرک إن الریاء فاضح أهله ، أو فعلیة فعلها مذکور ؛ نحو : أقسم بالله أن الباغی هالک ببغیه. بفتح الهمزة وکسرها فیهما ، (فإن کان فعل القسم محذوفا فالکسر واجب - کما سبق (2) - ؛ نحو : بالله إن الزکاة طهارة للنفس). فالکسر بعد جملة القسم الاسمیة فی المثال الأول هو علی اعتبار : «إنّ» فی صدر جملة ؛ لأنها مع معمولیها جملة الجواب لا محل لها من الإعراب. والفتح هو علی اعتبار المصدر المؤول منصوب علی نزع الخافض ، وشبه الجملة سد مسد جواب (3) القسم ، لا محل له. والتقدیر : لعمرک قسمی علی فضیحة الریاء أهله. وکذلک فی المثال الثانی بعد فعل القسم المذکور ، فالکسر علی اعتبار «إن»
ص: 592
مع معمولیها جملة الجواب لا محل لها ، والفتح علی اعتبار المصدر المؤول مجرورا بحرف جرّ محذوف (1) ؛ والتقدیر : أقسم بالله علی هلاک الباغی ببغیه. ویکون الجار مع المجرور قد سد مسد جملة الجواب ؛ وأغنی عنه - کما سبق -.
3- أن تقع بعد فعل من أفعال القلوب ، ولیس فی خبرها اللام ، - طبقا لما تقدم بیانه (2) - ؛ نحو : علمت أن الدّین عاصم من الزلل.
4- أن تقع بعد فاء الجزاء (3) ، نحو : من یرض عن الجریمة فإنه شریک فی الإساءة. فکسر الهمزة علی اعتبار «إنّ» مع معمولیها جملة فی محل جزم جواب أداة الشرط : «من». وفتح الهمزة علی اعتبار المصدر المؤول من أن ومعمولیها فی محل رفع مبتدأ ، خبره محذوف ، أو خبر مبتدؤه محذوف. والتقدیر : من یرض علی الجریمة فشرکته فی الإساءة حاصلة ، أو : فالثابت شرکته فی الإساءة ...
ص: 593
5- أن تقع بعد مبتدأ هو قول ، أو فی معنی القول (1) ، وخبرها قول ، أو فی معناه أیضا ، والقائل واحد ، نحو : قولی : «إنی معترف بالفضل لأصحابه ، وکلامی : إنی شاکر صنیع الأصدقاء». فقولی - وهو المبتدأ - مساو فی مدلوله لخبر «إن» وهو : معترف بالفضل ، وخبر «إن» مساویه فی المدلول کذلک ؛ فهما فی المراد متساویان ، وقائلهما واحد ، وهو : المتکلم.
کذلک : «کلامی» ، مبتدأ ؛ معناه معنی خبر «إن» : (شاکر صنیع الأصدقاء) وخبر «إن» معناه معنی المبتدأ ؛ فالمراد منهما واحد ، وقائلهما واحد. وهمزة «إنّ» فیهما یجوز کسرها عند قصد الحکایة ؛ أی : تردید الألفاظ ذاتها فتکون «إن» مع معمولیها جملة. وقعت خبرا. ومع أنها محکیة بالقول نصا تعرب فی محل رفع خبر المبتدأ ، ویجوز فتح الهمزة ذا لم تقصد «الحکایة» ؛ وأنما یکون المقصود هو التعبیر عن المعنی المصدریّ من غیر تقید مطلقا بنصّ العبارة الأولی المعینة ، ولا بتردید الجملة السابقة بألفاظها الخاصة فیکون المصدر المؤول من أن مع معمولیها فی محل رفع خبر المبتدأ ، والتقدیر : قولی ، اعترافی بالفضل لأصحابه ، وکلامی ، شکری صنیع الأصدقاء.
فإن لم یکن المبتدأ قولا أو ما فی معناه وجب الفتح ، نحو : عملی أنی أزرع الحقل. والمصدر المنسبک خبر المبتدأ. ویجب الکسر إن لم یکن خبر «إن» قولا أو ما فی معناه ، مثل کلمة : «مستریح» فی نحو : قولی إنی مستریح. أو لم یکن قائل المبتدأ وخبر «إن» واحدا ؛ فلا یتساوی مدلول المبتدا والخبر ، ولا یتوافقان. ؛ نحو : کلامی إن المریض یصرخ. ففی هاتین الحالتین یجب کسر الهمزة ، وتکون «إنّ» مع معمولیها جملة فی محل رفع خبر المبتدأ (2) ...
ص: 594
ا - سرد بعض النحاة مواضع أخری یجوز فیها الأمران ، ومن الممکن الاستغناء عن أکثرها ؛ لفهمها مما سبق. فمما سردوه.
1- أن تقع «أنّ» مع معمولیها معطونة علی مفرد لا یفسد المعنی بالعطف علیه. نحو : سرّنی نبوغک ، وإنک عالی المنزلة. فیجوز فتح همزة : «أنّ» فیکون المصدر المؤول معطوفا علی نبوغ ، والتقدیر : سرنی نبوغک وعلو منزلتک. والمعنی هنا لا یفسد بالعطف. ویجوز کسر الهمزة فتکون «إن» فی صدر جملة مستقلة. ومثال ما یفسد فیه المعنی بالعطف فلا یصح فتح الهمزة : لی بیت ، وإن أخی کثیر الزروع. فلو فتحت الهمزة لکان المصدر المؤول معطوفا علی «بیت» والتقدیر : لی بیت وکثرة زروع أخی ، وهو معنی فاسد ، لأنه غیر المراد إذا کان المتکلم لا یملک شیئا من تلک الزروع. ومثله ما نقله النحاة : «إن لی مالا. وإن عمرا فاضل» إذ یترتب علیه أن یکون المعنی : إن لی مالا وفضل عمرو. وهو معنی غیر المقصود.
2- أن تقع بعد «حتی» ، فتکسر بعد «حتی» الابتدائیة - کما سبق (1) - فی مثل : تتحرک الریح حتی إن الغصون تتراقص ... لوقوعها فی صدر جملة. وتفتح إذا وقعت بعد «حتی» العاطفة ، أو الجارة ، نحو : عرفت أمورک حتی أنک مسابق ، أی : حتی مسابقتک ، بالنصب علی العطف ، أو بالجر والأداة فیهما : «حتی».
3- أن تقع بعد «أما» (المخففة المیم) ، نحو : أما إنک فصیح ، فتکسر إن کانت «أما» حرف استفتاح وتفتح إن کانت بمعنی : «حقّا» - کما سبق (2) -.
4- أن تقع بعد. لا جرم ، نحو : لا جرم أن الله ینتقم للمظلوم (3).
ص: 595
5- أن تقع فی موضع التعلیل ، نحو قوله : (إنا کنا ندعوه من قبل ، إنه هو البر الرحیم) قرئ بفتح الهمزة ، علی تقدیر لام التعلیل ؛ أی : لأنه هو البر الرحیم. وقریء بکسر الهمزة علی اعتبار : «إن» فی صدر جملة جدیدة. ومثه قوله تعالی : (وَصَلِّ عَلَیْهِمْ. إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ.) فالفتح علی تقدیر لام التعلیل ، أی : لأن صلاتک سکن لهم ، والکسر علی اعتبار : «إنّ» فی صدر جملة جدیدة ...
6- وقوعها بعد «أی» المفسرة ؛ نحو : سرنی ابتداعک المفید ، أی : أنک تبتکر شیئا جدیدا نافعا.
7- أن تقع بعد حیث الظرفیة ، نحو : أزورک حیث إنک مقیم فی بلدک بفتح الهمزة وبکسرها ، فالفتح علی اعتبار الظرف : «حیث» داخله علی الفرد المضاف إلیه وهو المصدر الأول. والکسر علی اعتبارها داخلة علی المضاف إلیه الجملة ، وهذا هو الأفصح ؛ إذ الأغلب فی «حیث» أن تضاف للجملة.
ص: 596
، فائدتها ، ومواضعها
حین نقول : أصل الماس فحم ، أو : بعض الحیوانات برّیّ بحریّ - قد یشک السامع فی صدق الکلام ، أو ینکره ؛ فنلجأ إلی الوسائل التی ترشد إلیها اللغة لتقویة معنی الجملة ، وتأکید مضمونها ، وإزالة الشک عنها أو الإنکار. ومن هذه الوسائل تکرار الجملة. لکن التکرار قد تنفر منه النفس أحیانا. فنعدل عنه إلی وسائل أخری لها مزیة التکرار فی تأکید معنی الجملة ، کالقسم ، أو : «إنّ» فنقول : والله أصل الماس فحم. إن بعض الحیوانات برّی بحریّ. أو :لام الابتداء وتدخل علی المبتدأ کثیرا (ولهذا سمیت : لام الابتداء) ، نحو : لرجل فقیر یعمل ، أنفع لبلاده من غنی لا یعمل. لید کاسبة خیر من ید عاطلة. وتدخل علی غیره ، کخبر «إنّ» ، نحو : إنّ أبطال السّلام لخیر من أبطال الحرب. وهکذا باقی الوسائل التی تؤکد مضمون الجملة ، وتقوی معناها.
وهذه اللام مفتوحة ، وفائدتها : توکید مضمون الجملة المثبتة ، وإزالة الشک عن معناها المثبت ؛ بالتفصیل الذی أوضحناه فیما سبق (2) ، وأوضحنا معه آثارها النحویة ، والمعنویة.
ولها مواضع تدخلها جوازا ، وأشهرها ما یأتی :
1- المبتدأ ، کالأمثلة السابقة. وکقول الشاعر :
وللبین خیر من مقام علی أذی
وللموت خیر من حیاة علی ذلّ
2- الخبر المتقدم علی المبتدأ ؛ نحو : لصادق أنت.
3- خبر إنّ (المکسورة الهمزة ، المشددة النون) - دون أخبار أخواتها فی فی الرأی الأصح ؛ نحو : إن الشتاء لفصل النشاط (3) ، وإنه لموسم السیاحة فی بلادنا
ص: 597
وقول الشاعر :
إنّا - علی البعاد والتّفرّق -
لنلتقی بالفکر إن لم نلتق (1)
ولکن یشترط فی خبر «إنّ» الذی تتصدره لام الابتداء ما یأتی :
أن یکون متأخرا عن الاسم ، فلا یجوز دخولها فی مثل : إن فیک إنصافا ، وإن عندک میلا للحق ؛ وذلک لتقدم الخبر (2).
وأن یکون مثبتا ؛ فلا یصح : إن العمل لما طال بالأمس. أو : إن العمل لما نفعه قلیل. بل یجب حذفها قبل «ما» النافیة وغیرها من أدوات النفی (3) الداخلة علی خبر «إن».
ألا یکون جملة فعلیة فعلها ماض ، متصرف. غیر مقرون بکلمة : «قد (4)» ؛ فلا یصح : «إن الطیارة لأسرعت ... (5)» بل یجب حذف لام الابتداء. فإن
ص: 598
کان الخبر جملة فعلیة فعلها ماض غیر متصرف جاز - فی غیر لیس - دخول اللام وعدم دخولها ؛ نحو : إن القطار لنعم وسیلة السفر ، أو نعم وسیلة السفر ... وإن إسراع السائق لبئس العمل ، أو بئس العمل. بإدخال اللام علی «نعم» ، و «بئس» أو عدم إدخالها ...
وکذلک یجوز إن کان الفعل ماضیا متصرفا ، ولکنه مقرون بکلمة : «قد» فتصحبها اللام أو لا تصحبها ؛ نحو : إن العلم لقد رفع صاحبه ، أو : رفع ... أما إن کان الخبر جملة فعلیة فعلها مضارع مثبت (1) فیجوز دخول اللام علی المضارع المثبت سواء أکان متصرفا أم غیر متصرف تصرفا (2) کاملا ، إلا فی حالة واحدة وقع فیها الخلاف ؛ هی التی یکون فیها مبدوءا بالسین ، أو سوف. فلا یصح - فی الرأی الأحق - أن تقول : «إن الطائرة لستحضر ، أو : لسوف تحضر» بل یجب حذف اللام من هذا المضارع (3) المبدوء بالسین ، أو سوف
ص: 599
ومن أمثلة (1) دخولها قوله تعالی فی أهل الدیانات المختلفة : (وَإِنَّ رَبَّکَ لَیَحْکُمُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ فِیما کانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ ،) وقوله علیه السّلام : «إن العجب (2) لیأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب).
وإن کان الخبر جمیلة اسمیة جاز دخول اللام علی مبتدئها - وهو الأنسب - أو علی خبره ؛ نحو : إنّ الکهربا لأثرها عمیق فی حیاتنا ... أو : إنّ الکهربا أثرها لعمیق فی حیاتنا.
4- معمول خبر «إنّ» بشرطین : أن یکون هذا المعمول متوسطا بین اسمها وخبرها (3) أو غیرهما من الکلمات الأخری التی دخلت علیها «إنّ» ، وأن یکون الخبر خالیا من لام الابتداء ، ولکنه صالح لقبولها. ففی مثل : إن الشدائد مظهرة أبطالا ، وإن المحن صاقلة نفوسا ، یصح تقدیم معمول الخبر مقرونا بلام الابتداء ؛ فنقول : إن الشدائد - لأبطالا - مظهرة ، وإن المحن - لنفوسا - صاقلة. فإن تأخر المعمول لم یجز إدخال اللام علیه ؛ کما فی المثالین السابقین قبل تقدیمه.
وکذلک لا یجوز إدخالها علیه إن کان الخبر مشتملا علیها ، ففی مثل : إن العزیز لیرفض هوانا - لا یصح : إنّ العزیز لهوانا لیرفض (4).
ص: 600
وکذلک لا یجوز إدخالها علیه إن کان الخبر الخالی منها غیر صالح لها ؛ کأن یکون جملة فعلیة ، فعلها ماض ، متصرف ، غیر مقرون بکلمة «قد» ؛ ففی مثل : إنّ الحرّ رضی کفاحا - لا یصح أن نقول : إن الحرّ لکفاحا رضی.
5- ضمیر الفصل (1) ؛ نحو : إن العظمة لهی الترفع عن الدنایا ، وإن العظیم لهو البعید عن الأدناس. وإذا دخلت علی ضمیر الفصل لم تدخل علی الخبر.
6- اسم «إن» بشرط أن یتأخر ویتقدم علیه الخبر (2) شبه الجملة ؛ مثل : إن أمامک لمستقبلا سعیدا ، وإن فی العمل الحرّ لمجالا واسعا ، وقول الشاعر یخاطب زوجته :
إن من شیمتی لبذل تلادی (3)
دون عرضی. فإن رضیت فکونی (4)
وإذا دخلت علی الاسم المتأخر لم تدخل علی الخبر (5).
ص: 601
«إن» وأخواتها ،
وحکمه إذا توسط بین المعمولین
إن الأقمار دائرت فی الفضاء ، والشموس.
إنّ الشعر محمود فی مواطن - والنثر.
إنّ الإهمال مفسد للأعمال - والجهل.
إنّ الحدید دعامة الصناعة - والنّفط
کیف نضبط الأسماء التی تحتها خط ، وهی : (الشموس - النثر
- الجهل - النّفط ...) وأشباهها من کل اسم تأخر عن «إن» ومعمولیها ، وکان معطوفا
علی اسمها (1) ........
یجوز أمران ، النصب والرفع. ویکفی معرفة هذا الحکم من غیر تعلیل (2). وبالرغم من جواز الأمرین فالنصب هو الأوضح والأنسب (3) ؛ لموافقته الظاهریة لاسم «إنّ» ، أی : للمعطوف علیه ؛ فلا عناء معه ولا شبهة.
فإن تأخر خبر «إنّ» وتوسط ذلک المعطوف بینه وبین اسمها - فالأحسن اتباع الرأی القائل بجواز الأمرین أیضا ، وبعدم وجوب النصب (4). ومع عدم وجوبه فهو الأوضح والأنسب ؛ کما سبق.
ص: 602
وفیما یلی بعض الأمثلة :
إن القاهرة ودمشق حاضرتان عظیمتان إن مکة والمدینة
بلدان مکرّمان إنّ العدالة والنصفة کفیلتان بالأمن والرخاء إن الظلم والاستبداد
مؤذنان بخراب العمران
من التیسیر الحسن إجازة النصب والرفع فی کل کلمة من
: (دمشق - المدینة - النصفة - الاستبداد ...) وأشباهها ، مع الاقتصار ، علی
معرفة هذا الحکم دون تعلیله
فیکون الحکم فی الحالتین واحدا والقاعدة مطردة (1) ، سواء أکان المعطوف متقدما علی الخبر متوسطا بینه وبین الاسم ، کهذه الأمثلة ، أم متأخرا عنهما معا ، کالأمثلة الأولی.
ص: 603
ص: 604
ص: 605
ص: 606
ص: 607
هذا (1) ، وکل ما قیل فی حکم المعطوف بعد استکمال «إن» خبرها ، وقبل استکمالها - یقال أیضا بعد حرفین من أخواتها ، هما : أنّ (المفتوحة الهمزة ، المشددة النون) و «لکنّ» المشددة النون ، سواء أکان العطف قبل استکمالهما الخبر أم بعده ، فالحروف الثلاثة الناسخة : (إنّ - أنّ - لکنّ) مشترکة فی الحکم السالف. تقول : علمت أنّ طائرة مسافرة وسیارة ، أو علمت أن طائرة وسیارة مسافرتان ، ینصب کلمة : «سیارة» ورفعها ، مع تقدمها علی الخبر وحده ، أو تأخرها عنه. کما تقول الفواکه کثیرة فی بلادنا ، لکنّ التفاح قلیل. والبرقوق. أو لکنّ التفاح والبرقوق قلیلان ، بنصب کلمة : «البرقوق» أو رفعها مع التقدم علی الخبر وحده أو التأخر عنه.
أما «لیت» و «لعل» و «کأن» فلا یجوز معها فی المعطوف إلا النصب ؛ سواء أوقع بعد استکمالها الخبر أم قبل استکمالها. مثل : لیت الأخ حاضر والصدیق ، أو لیت الأخ والصدیق حاضران ؛ بنصب کلمة : «الصدیق» فی الحالتین. ومثل : لعل العلاج مفید والدواء ، أو : لعل العلاج والدواء مفیدان. بنصب کلمة : «الدواء» فیهما. ومثل : لیت الصحة دائمة والثروة ، أو : لیت الصحة «والثروة» دائمتان. بنصب کلمة : الثروة فیهما (2).
ص: 608
ونستخلص مما تقدم :
ا - أن المعطوف علی اسم من أسماء هذه الحروف الناسخة یجوز فیه النصب مطلقا ، (أی : سواء أکان الحرف الناسخ هو : «إن» أم غیره من أخواته ؛ وسواء أکان العطف بعد استکماله الخبر أم قبل استکماله ومجیئه) إلا «لا» الجنسیة فللعطف علی اسمها أحکام خاصة تجیء فی بابها (1).
ب - امتیاز : إنّ ، وأنّ ، ولکنّ - دون أخواتها - بجواز شیء آخر هو صحة رفع المعطوف علی اسمها ؛ سواء أکان المعطوف متوسطا بین الاسم والخبر أم متأخرا عن الخبر.
ص: 609
(1) : (إنّ ، أنّ ، کأنّ ، لکنّ)
فأما «إنّ» (المکسورة الهمزة ، المشددة النون) فیجوز فیها التخفیف بحذف النون الثانیة المفتوحة ، وإبقاء الأولی ساکنة. وعندئذ تصلح «إن» للدخول علی الجمل الاسمیة والفعلیة ، بعد أن کانت مع التشدید مختصة بالنوع الأول.
(ا) فإن خففت ودخلت علی جملة اسمیة جاز إبقاء معناها وعملها وسائر أحکامها التی کانت لها قبل التخفیف (2) ، وجاز إبقاء معناها دون عملها فتصیر مهملة ملغاة. مثل : إن جریرا لشاعر أمویّ کبیر ، أو : إن جریر لشاعر أموی کبیر. ومثل : إن أبا حنیفة لإمام عظیم ، أو : إن أبو حنیفة لإمام عظیم. بنصب کلمتی. جریرا و «أبا» علی الإعمال ، وبرفعهما علی الإهمال ... وإهمالها أکثر فی کلام العرب ، ویحسن - الیوم - الاقتصار علیه.
وإذا أهملت - مع دخولها علی جملة اسمیة - وجب مراعاة ما یأتی :
1- أن یکون اسمها قبل إهمالها - اسما ظاهرا لا ضمیرا ؛ مثل : إنّ بغداد لبلد تاریخی مشهور.
2- أن تشتمل الجملة التی بعدها علی لام الابتداء ؛ لتکون رمزا للتخفیف ، ودالة علی أنها لیست النافیة ، ولذا قد تسمی : اللام الفارقة (3) ؛ لأنها تفرق بین المخففة والنافیة ؛ مثل : إن تونس لرجالها عرب. ویجوز ترکها والاستغناء عنها متی وجدت قرینة واضحة تقوم مقامها فی تبیین نوع «إن» ، وأنها المخففة.
ص: 610
ولیست النافیة ، لکن عدم ترکها أفضل (1). ولا فرق فی القرینة بین أن تکون لفظیة فی أو معنویة ، والمعنویة أقوی. ومن القرائن اللفظیة أن یکون الخبر فیها منفیّا مثل : إن المجاملة لن تضرّ صاحبها. فکلمة «إن» مخففة ، ولیست نافیة ؛ لأن إدخال النفی علی النفی لإبطال الأول قلیل فی الکلام الفصیح : إذ یمکن مجیء الکلام مثبتا من أول الأمر ، من غیر حاجة إلی نفی النفی المؤدی للإثبات بعد تطویل. ومثال القرینة المعنویة : إن العاقل یتبع سبیل الرشاد. إن المحسن یکون محبوبا. إن الاستقامة تجلب الغنی ؛ إذ المعنی یفسد علی اعتبار «إن» للنفی فی هذه الأمثلة .. ومن هذا النوع قول الشاعر :
أنا ابن أباة الضّیم من آل مالک
وإن مالک کانت کرام المعادن
فلو کانت «إن» للنفی لکان عجز البیت ذمّا فی قبیلة مالک ، مع أن صدره لمدحها (2).
(3) أن یکون الخبر من النوع الذی یصلح لدخول اللام علیه وقد سبق 3 بیانه.
ص: 611
(ب) وإن خفّفت ودخلت علی جملة فعلیة وجب الإهمال (1) ، وأن یکون الفعل بعدها ناسخا (2) ؛ مثل : الحریة عزة ، وإن کانت لأمنیة النفوس الکبیرة ، وقول أعرابیّ لأحد الفتیان : رحم الله أباک ، إن کان لیملأ العین جمالا ، والأذن بیانا ، ومثل : إن یکاد الذلیل لیألف الهوان. ومثل : إن وجدنا المنافق لأبعد من إکبار الناس وتقدیرهم (3).
ص: 612
ا - من الأمثلة العربیة المسموعة : إن یزینک لنفسک ، وإن یشینک لهیه. وقد سبق (1) ، ومنها إن قنّعت کاتبک لسوطا (2). وقول الشاعر :
شلّت (3) یمینک إن
قتلت لمسلما
حلّت علیک عقوبة المتعمد
وهی أمثلة یستشهد بها النحاة علی وقوع الأفعال غیر الناسخة بعد «إنّ» إذا خففت. ولا داعی لمحاکاة هذه الأمثلة القلیلة. وحسبنا أن نتبین معناها ، والغرض الذی نستعملها فیه ، دون القیاس علیها من هذه الناحیة.
ب - بمناسبة تخفیف «إنّ» یعرض النحاة للقواءات التی فی قوله تعالی : (وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ ،) وتوجیه کل قراءة. وإلیک بعض ذلک.
1- (وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ) بتشدید النون ، وتخفیف «ما» ، فیکون الإعراب : «کلّا» اسم إن. «لما» ؛ اللام لام ابتداء ، «ما» زائدة ؛ لتفصل بین اللامین. (لَیُوَفِّیَنَّهُمْ) اللام للابتداء ؛ لتوکید الأولی ، والجملة بعدها خبر «إنّ».
ویصح إعراب آخر : «کلّا» اسم إن المشددة. «لما» اللام لام الابتداء.
«ما» : اسم موصول خبر «إنّ» مبنی علی السکون فی محل رفع. (لَیُوَفِّیَنَّهُمْ) اللام للقسم ، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب جواب قسم محذوف ؛ وجملة القسم وجوابه صلة «ما» ، والتقدیر : «لما والله لنوفّینّهم (4)». وجملة القسم وإن کانت إنشائیة - هی لمجرد التأکید. والصلة فی الحقیقة جوابه. أی : (وإنّ کلا للّذین والله لیوفینهم) لهذا لا یقال إن جملة القسم هنا إنشائیة مع أن جملة الصلة لا تکون إلا خبریة (5).
ص: 613
2- (وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ) بتخفیف «إن» و «ما» مع إعمال «إن» کأصلها. والإعراب لا یختلف عما سبق ؛ فیصح هنا ما صح هناک.
3- (وإن کل لما لیوفینهم ...) بتخفیف «إن» و «ما». فکلمة «إن» مهملة. کل : مبتدأ. وما بعد ذلک یصح فیه الأوجه السالفة فی الصورة الأولی مع ملاحظة أن الأخبار هنا تکون للمبتدأ.
4- (وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ) بتخفیف «إن» وتشدید «لمّا» والإعراب یجری علی علی اعتبار «إن» حرف نفی ، و «لما» أداة استثناء بمعنی : «إلا» و «کلّا» مفعول به لفعل تقدیره : أری - مثلا - محذوف ، و (لَیُوَفِّیَنَّهُمْ) اللام للقسم ، والجملة ، بعدها جوابه ؛ أی : ما أری کلّا إلا والله لیوفینهم.
5- (وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ) بتشدید «إنّ» و «لمّا» والأحسن اعتبار «لما» حرف جزم ، والمجزوم محذوف ، والتقدیر : (وإن کلا لما یوفوا أعمالهم) .. (لَیُوَفِّیَنَّهُمْ) اللام للقسم ، والجملة بعدها جوابه ، والقسم وجوابه کلام مستأنف.
وعلی ضوء ما تقدم نعرب قوله تعالی : (وَإِنْ کُلٌّ لَمَّا جَمِیعٌ لَدَیْنا مُحْضَرُونَ) فعند تشدید «لما» تکون بمعنی «إلا» ، و «إن» المخففة حرف نفی. «کل» مبتدأ ، جمیع : خبره ، «محضرون» نعت للخبر ، مرفوع بالواو ، «لدی» ظرف متعلق به ، مضاف ، «نا» مضاف إلیه مبنی علی السکون فی محل جر. وعند تخفیف «ما» یکون الإعراب ، کما یأتی :
«إن» مهملة «کل» مبتدأ. «لما» اللام لام الابتداء ، «ما» زائدة ، «جمیع» مبتدأ ثان (1) «محضرون» خبر الثانی ، والثانی وخبره خبر الأول. «لدینا» «لدی» ظرف متعلق بکلمة «محضرون». «نا» مضاف إلی الظرف. ویجوز فی هذه الآیة وسابقتها إعرابات وتوجیهات أخری (2).
* * *
ص: 614
وأما «أنّ» (مفتوحة الهمزة ، مشددة النون) فیجوز فیها التخفیف بحذف النون الثانیة المفتوحة ، وترک الأولی ساکنة ؛ نحو : أیقنت أن «(علیّ شجاع).
ویتحتم اعتبار «أن» مخفّفة من الثقیلة متی وجدت علامة مما یأتی :
1 - أن تقع بعد ما یدل علی الیقین (1) والقطع ، مثل : أیقن ، تیقّن ، جزم ، علم ، اعترف التی بمعنی : علم ، أو : أقرّ ، اعتقادی ، لا شکّ ... وغیرها من الأفعال أو الألفاظ التی تفید الیقین (2) ؛ نحو. أیقنت أن عدل من الله کلّ جزائه. وقول الشاعر :
أأنت أخی ما لم تکن لی حاجة؟
فإن عرضت أیقنت أن لا أخالیا
2 - أن تدخل علی فعل جامد ، أو ربّ ، أو حرف تنفیس ؛ نحو : اعتقادی أن لیس لشفقة الوالدین مثیل ؛ وقول الشاعر :
وإنی رأیت الشمس زادت محبة
إلی الناس أن لیست علیهم بسرمد
ومثل :
أجدّک ما تدرین أن ربّ لیلة
کأن دجاها من قرونک ینشر
وقول الناصح لسامعیه :
فإن عصیتم مقال الیوم فاعترفوا
أن سوف تلقون خزیا ظاهر العار
3 - أن یقع بعدها فعل دعاء ، نحو أطال الله عمرک ، وأن هیّأ لک المستقبل السعید.
4 - أن تکون داخلة علی جملة اسمیة مسبوقة بجزء أساسی من جملة - لا بجمله کاملة - بحیث یکون المصدر المؤول من : «أن» المخففة والجملة الاسمیة التی
ص: 615
دخلت علیها - مکملا أساسیا للجزء السابق. کقوله تعالی : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ.) فالمصدر المؤول خبر المبتدأ : «آخر» (1).
وقول الشاعر :
کفی حزنا أن لا حیاة هنیئة
ولا عمل یرضی به الله - صالح
فالمصدر المؤول فاعل : «کفی» (2).
ویترتب علی التخفیف أربعة أحکام ، یوجب أکثر النحاة مراعاتها :
أولها : إبقاء معنی : «أنّ» وعملها علی حالهما الذی کان قبل التخفیف.
ثانیها : أن یکون اسمها ضمیرا (3) محذوفا ، ویغلب أن یکون ضمیر شأن (4) محذوف کالمثال السابق ؛ وهو : أیقنت أن (علیّ شجاع) (5).
ثالثها : أن یکون خبرها جملة ؛ سواء أکانت اسمیة أم فعلیة ؛ نحو : علمت أن حاتم أشهر کرام العرب ، وأیقنت أن قد أشبهه کثیرون.
رابعها : وجود فاصل - فی الأغلب - بینها وبین خبرها إذا کان جملة (6) فعلیة ، فعلها متصرف ، لا یقصد به الدعاء. والفاصل أنواع.
(ا) إما «قد» (7) نحو : ثبت أن قد ازدهرت الصناعة فی بلادنا ، ونحو قول الشاعر :
شهدت بأن قد خطّ ما هو کائن
وأنّک تمحو ما تشاء وتشبت
(ب) وإما أحد حرفی التنفیس (8) مثل : أنت تعلم أن سأکون نصیر الحق.
ص: 616
قول الشاعر :
وإذا رأیت (1) من الهلال
نموّه
أیقنت أن سیصیر بدرا کاملا
وقول الآخر :
واعلم - فعلم المرء ینفعه -
أن سوف یأتی کل ما قدرا
(ح) وإما حرف نفی من الحروف الثلاثة التی استعملها العرب فی هذا الموضع ؛ وهی (2) : (لا - لن - لم). نحو : أیقنت أن لا (3) یغدر الشریف. وأن لن یحید عن الحق. ووثقت أن لم ینصر الله المبطلین. ومن الأمثلة قوله تعالی : (وحسبوا (4) أن لا تکون فتنة) فی قراءة من رفع «تکون». وقوله : (أَیَحْسَبُ أَنْ لَنْ یَقْدِرَ عَلَیْهِ أَحَدٌ ،) وقوله تعالی : (أَیَحْسَبُ أَنْ لَمْ یَرَهُ أَحَدٌ.)
(د) وإما «لو» والنص علیها فی کتب النحاة قلیل مع أنها کثیرة فی المسموع ؛ نحو : أوقن أن لو أخلصنا لبلادنا لم یطمع الأعداء فینا.
ومما تقدم (5) نعلم أن الفصل غیر واجب (6) فی الحالات الأخری التی منها :
(ا) أن یکون الخبر جملة اسمیة نحو قوله تعالی : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ)(7) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ» ، ونحو : الثابت أن انتقام من الله یحلّ بالباغی. إلا عند إرادة النفی نحو : عقیدتی أن لا کاذب محترم ؛ ومنه : أشهد أن لا إله إلا الله.
ص: 617
(ب) أن یکون الخبر جملة فعلیة فعلها جامد ؛ نحو قوله تعالی : (وَأَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعی) ونحو : وثقت أن لیس للکرامة مکان فی نفوس الأدنیاء.
(ح) أن یکون الخبر جملة فعلیة ؛ فعلها متصرف ، ولکن قصد به الدعاء (1) کالذی رواه أعرابی عن أخیه الواقف یدعو : أسأل ربی التوفیق لما یرضیه ، ودوام العافیة علیّ - ونظر إلیّ وصاح - : وأن کتب الله لک الأمن والسلامة ما حییت ، وأن أسبغ علیک نعمه ظاهرة وباطنة فی تابل أیامک ، وأن أهلک کلّ
باغ یتصدّی لإیذائک.
وفی الرسم التالی بیان للصور السالفة :
صورۀ
ص: 618
ورد فی بعض النصوص القدیمة - اسم «أن» المخففة من الثقیلة ضمیرا بارزا ، لا ضمیرا محذوفا. ومعه الخبر جملة فعلیة أو مفرد. من ذلک قول الشاعر یخاطب زوجته :
فلو أنک فی یوم الرّخاء سألتنی
طلاقک ، لم أبخل وأنت صدیق
فقد وقعت «الکاف» اسم : «أن» وخبرها جملة : سألتنی. ومثل قول الآخر :
لقد علم الضیف والمرملون (1)
إذا اغبرّ أفق (2) وهبّت شمالا (3)
بأنک ربیع (4) وغیث مریع
وأنک هناک تکون الثّالا (5)
ففی البیت الثانی تکررت «أن» المخففة مرتین ، واسمها ضمیر «بارز» فیهما ، وخبر الأولی مفرد ، وهو کلمة : «ربیع» ، وخبر الثانیة جملة فعلیة هی : «تکون الثمال». وقد وصفت هذه الأمثلة الشعریة بأنها شاذة ، أو بأنها لضرورة الشعر ، کما وصفت نظائرها النثریة بأنها شاذة. فالواجب أن نقتصر علی الکثیر الشائع الذی سردنا قواعده وضوابطه ، منعا للاضطراب فی التعبیر ، دون محاکاة هذه الشواهد التی تخالفها ، والتی نقلناها ، لیعرفها المتخصصون فیستعینوا بها علی فهم ما قد یکون لها من نظائر قدیمة. دون أن یحاکوها.
* * *
ص: 619
وأما «کأنّ» فیجوز تخفیف نونها المشددة (بحذف الثانیة المفتوحة ، وإبقاء الأولی ساکنة) ویترتب علی التخفیف أمور ؛ منها :
(ا) أن معناها لا یتغیر ، وإعمالها واجب.
(ب) أن اسمها - فی الأغلب - یکون ضمیرا للشأن ، أو لغیر الشأن ؛ فمثال الأول. کأن عصفور سهم فی السرعة (1) ، أی : کأنه (الحال والشأن) عصفور سهم. ومثال الثانی : یدقّ البرد (2) النافذة ، وکأن حجر ، أی : کأنه حجر (3). ولو قلنا : یدق البرد النافذة وکأن «حجر» صغیر یدق - لجاز الاعتباران (4) وقد اجتمعت المشددة والمخففة فی قوله تعالی یصف المضلّل عن سبیله : (وَإِذا تُتْلی عَلَیْهِ آیاتُنا وَلَّی مُسْتَکْبِراً کَأَنْ لَمْ یَسْمَعْها ؛ کَأَنَّ فِی أُذُنَیْهِ وَقْراً)(5).
(ح) أن خبرها لا بد أن یکون جملة إذا وقع اسمها ضمیر شأن (6). فإن کانت اسمیة فلا حاجة لفاصل بینها وبین «کأن» مثل : کأن سّبّاح فی سباحته سمکة فی انسیابها. وإن کانت فعلیة (7) ، فالأحسن الفصل بالحرف : «قد» قبل الماضی المثبت ، وبالحرف : «لم» قبل المضارع المنفی ، نحو : کأن قد هوی الغریق فی البحر ؛ کصخرة هوت فی الماء ، وکأن لم یکن بین الغرق والنجاة وسیلة للإنقاذ.
ص: 620
وأما «لکنّ» فیجوز تخفیف نونها المشددة (فتحذف الثانیة المفتوحة ، وتبقی الأولی ساکنة).
ویترتب علی التخفیف وجوب إهمالها ، وزوال اختصاصها بالجملة الاسمیة ؛ فتدخل علی الاسمیة ، وعلی الفعلیة ، وعلی المفرد ، ویبقی لها معناها بعد التخفیف وهو : الاستدراک (1). ومن الأمثلة قول الشاعر :
ولست أجازی المعتدی باعتدائه
ولکن بصفح (2) القادر
المتحلم
وأما «لعل» فلا یجوز تخفیف لامها المشددة (3).
ص: 621
النافیة للجنس
نسوق بعض الأمثلة لإیضاح معناها :
حین نقول : لا کتاب فی الحقیبة ؛ بإدخال : «لا» علی جملة اسمیة - فی أصلها - ، ورفع کلمة : «کتاب» - التی للمفرد) یکون معنی الترکیب محتملا أمرین :
أحدهما : نفی وجود کتاب واحد فی الحقیبة ، مع جواز وجود کتابین أو أکثر فیها.
والآخر : نفی وجود کتاب واحد ، وما زاد علی الواحد ؛ فلیس بها شیء من الکتب مطلقا. فالترکیب محتمل للأمرین ، ولا دلیل فیه یعین أحدهما ، ویمنع الاحتمال.
وکذلک حین نقول : لا مصباح مکسورا ، (بإدخال : «لا» علی جملة اسمیة - فی أصلها - ورفع کلمة : «مصباح» التی للمفرد) فإن الترکیب یحتمل أمرین :
أحدهما : نفی وجود مصباح واحد مکسور ، ولا مانع من وجود مصباحین مکسورین ؛ أو أکثر.
والآخر : نفی وجود مصباح واحد مکسور وما زاد علی الواحد أیضا. فلا وجود لشیء من جنس المصابیح المکسورة. فالترکیب یحتمل نفی الواحد المکسور فقط ، کما یحتمل نفی الواحد وما زاد علیه.
ومثل هذا یقال فی : لا سیارة موجودة ، بإدخال «لا» علی جملة اسمیة الأصل ، ورفع کلمة : «سیارة» - التی للمفردة) حیث یحتمل الترکیب الأمرین : نفی وجود سیارة واحدة ، دون نفی سیارتین وأکثر ، ونفی وجود شیء من جنس السیارات مطلقا ، فلا وجود لواحدة منها ؛ ولا لأکثر.
مما سبق نعلم : أن ، «لا» فی تلک الأمثلة - وأشباهها - تدل علی نفی
ص: 622
یحتمل وقوعه علی فرد واحد فقط ، أو علی فرد واحد وما زاد علیه. ولمّا کان النفی بها صالحا لوقوعه علی الفرد الواحد سماها النحاة : «لا» - التی لنفی الوحدة (أی : الواحد) وهی إحدی الحروف الناسخة (1) التی تعمل عمل «کان» الناقصة.
فإذا أردنا أن تدل الأمثلة السابقة وأشباهها علی النفی الصریح (2) العام (3) وجب أن نضبط تلک الألفاظ ضبطا آخر ؛ یؤدی إلی هذا الغرض ؛ فنقول : لا کتاب فی الحقیبة ؛ - لا مصباح مکسور - لا سیارة موجودة ، فضبط تلک الکلمات المفردة بهذا الضبط الجدید - وهو بناء الاسم علی الفتح ، ورفع الخبر ، کما سیجیء - یجعل النفی فی کل جملة صریحا فی غرض واحد ؛ لا احتمال معه لغیره ، کما یجعله عامّا ؛ ینصبّ علی کل فرد ؛ فیقع علی الواحد ، وعلی الاثنین ، وعلی الثلاثة ، وما فوقها ، ولا یسمح لفرد أو أکثر بالخروج من دائرته.
ومثل هذا یقال فی نحو : لا مهملا عمله فائز - لا راغبا فی المجد مقصّر ... ونحوهما مما یقع فیه الاسم منصوبا بعد : «لا» ولیس مرفوعا ، والخبر هو المرفوع - علی الوجه الذی سنشرحه - فهی تنفی الحکم عن کل فرد من أفراد جنس الشیء الذی دخلت علیه نفیا صریحّا وعاما ؛ کما قلنا : وهذا مراد النحاة بقولهم فی معناها :
«إنها تدل علی نفی الحکم عن جنس اسمها نصّا (4)». أو : «إنها لاستغراق (5) حکم النفی لجنس اسمها کله نصّا.» ویسمونها لذلک ؛ «لا» - النافیة للجنس (6)». أی : التی قصد بها التنصیص علی استغراق النفی لأفراد الجنس
ص: 623
کله. تمییزا لها من : «لا» التی لنفی الوحدة ؛ فلیست نصّا فی نفی الحکم عن أفراد الجنس کله ؛ وإنما تحتمل نفیه عن الواحد فقط ، وعن الجنس (1) کله ؛ علی ما عرفنا.
ص: 624
«لا» النافیة للجنس حرف ناسخ من أخوات : «إنّ» (1) ینصب الاسم : ویرفع الخبر. ولکنها لا تعمل هذا العمل إلا باجتماع شروط ستة :
أولها : أن تکون نافیة. فإن لم تکن نافیة لم تعمل (2) مطلقا.
ثانیها : أن یکون الحکم المنفی بها شاملا جنس اسمها کله ، (أی : منصبّا علی کل فرد من أفراد ذلک الجنس). فإن لم یکن کذلک لم تعمل عمل «إنّ (3)» ، : نحو : لا کتاب واحد کافیا .... إذ أن کلمة : «واحد» قد دلت دلالة قاطعة علی أن النفی لیس شاملا أفراد الجنس کله. وإنما هو مقصور علی فرد واحد.
ثالثها : أن یکون المقصود بها نفی الحکم عن الجنس نصّا - لا احتمالا - فإن لم یکن علی سبیل التنصیص لم تعمل عمل «إنّ» (4) کالأمثلة السالفة أول البحث.
رابعها : ألا تتوسط بین عامل ومعموله (5) (بأن تکون مسبوقة بعامل قبلها یحتاج لمعمول بعدها) کحرف الجر فی مثل : حضرت بلا تأخیر (6) وقول الشاعر :
متارکة السّفیه بلا جواب
أشدّ علی السّفیه من الجواب
ص: 625
خامسها : أن یکون اسمها وخبرها نکرتین (1) فإن لم یکونا کذلک لم تعمل : مطلقا (2) ولا تعد من أحوات «إنّ» ولا «لیس» ؛ کالتی فی قول الشاعر :
لا القوم قومی ، ولا الأعوان أعوانی
إذا ونا (3) یوم تحصیل
العلا وانی
سادسها : عدم وجود ناصل بینها وبین اسمها. فإن وجد فاصل أهملت (أی : لم تعمل شیئا) وتکررت ؛ نحو : لا فی النبوغ حظ لکسلان ، ولا نصیب (4). وهذا الشرط یستلزم الترتیب بین معمولیها (5) فلا یجوز أن یتقدم
ص: 626
الخبر - ولو کان شبه جملة - علی الاسم. فإن تقدم مثل : لا لهازل هیبة ولا توقیر - لم تعمل مطلقا.
وکذلک لا یجوز تقدم معمول الخبر علی الاسم ؛ ففی مثل : لا جندیّ تارک میدانه ... لا تعمل حین نقول ، لا میدانه جندیّ تارک.
فإذا استوفت شروطها وجب إعمالها (1) : (إن اقتضی المعنی ذلک ؛ سواء أکانت واحدة ، أم متکررة - علی التفصیل الذی سنعرفه).
* * *
حکم اسم «لا» المفردة ؛ (أی : المنفردة التی لم تتکرر). لهذا الاسم حالتان :
الأولی : أن یکون مضافا (2) أو شبیها بالمضاف (3). وحکمه وجوب إعرابه ، مع نصبه بالفتحة ، أو بما ینوب عنها. فمن أمثلة المضاف :
لا قول زور نافع ......
کلمة : (قول) اسم «لا» ، منصوبة بالفتحة ، لأنها
اسم مفرد : ومضاف.
لا أنصار خیر متنافرون ......
کلمة : (أنصار) اسم «لا» ، منصوبة بالفتحة لأنها
جمع تکسیر ، ومضاف.
لا ذا أدب نمام .....
کلمة : (ذا) اسم «لا» ، منصوبة بالألف نیابة عن
الفتحة ؛ لأنها من الأسماء الستة ، مضافة.
لا نصیحتی إخلاص أنفع من نصح الوالدین
کلمة : (نصیحتی ...) اسم «لا» ، منصوبة بالیاء
نیابة عن الفتحة ؛ لأنها ، مثنی مضاف.
لا خائنی وطن سالمون ....
کلمة : خائنی ...) اسم «لا» ، منصوبة بالیاء نیابة
عن الفتحة ، لأنها جمع مذکر ؛ مضاف
لا مهملات عمل مکرمات ..... کلمة : (مهملات) اسم «لا» ، منصوبة بالکسرة نیابة عن الفتحة : لأنها جمع مؤنث سالم مضاف.
ص: 627
ومن أمثلة الشبیه بالمضاف :
لا مرتفعا قدره مغمور ...
کلمة (مرتفعا) اسم «لا» منصوبة بالفتحة
لا بائعا دینه بدنیاه رابح ...
" (بائعا) """
لا خمسة وعشرین غائبون ...
" (خمسة) """
لا ساعیا وراء الرزق محروم ...
" (ساعیا) """
لا قاعدا عن الجهاد معذور ...
" (قاعدا) """
لا سائقین طیارة غافلان ..."
(سائقین) "" بالیاء ؛ لأنها مثنی
لا حارسین باللیل نائمون
..." (حارسین) """ لأنها جمع
مذکر
لا راغبات فی الشهرة مستریحات
" (راغبات) "" بالکسرة ؛ لأنها جمع
مؤنث سالم
ومن الأمثلة السالفة یتضح الإعراب مع النصب بالفتحة مباشرة فی المفرد (1) وفی جمع التکسیر ، (ومثله : اسم الجمع ، کقوم ، ورهط (2). إذا کانا من الحالة الأولی المذکورة) ، وبما ینوب عن الفتحة وهو : الألف ، فی الأسماء الستة ، والیاء فی المثنی وجمع المذکر السالم ، والکسرة فی جمع المؤنث السالم.
الثانیة : أن یکون مفردا (ویراد بالمفرد هنا : ما لیس مضافا ولا شبیها بالمضاف ، واو کان مثنی ، أو مجموعا) وحکمه : وجوب بنائه علی الفتح (3)
ص: 628
أو ما ینوب عنه (1) فیبنی علی الفتح مباشرة إن کان مفردا أو جمع تکسیر أو اسم جمع ؛ مثل : لا عالم متکبر - لا علماء متکبرون - لا قوم للسفیه.
ویبنی علی الیاء نیابة عن الفتة إن کان مثنی أو جمع مذکر سالما ؛ نحو : لا صدیقین متنافران - لا حاسدین متعاونون.
ص: 629
ویبنی علی الکسرة نیابة علی الفتحة إن کان جمع مؤنث سالما ، نحو : لا والدات قاسیات.
ومع أنه مبنی فی الحالات السالفة ، هو فی محل نصب دائما. أی : مبنی لفظا منصوب محلا (1).
ص: 630
(ا) سبق (فی ص 626) أن من شروط إعمالها : تنکیر معمولیها. وقد وردت أمثلة فصیحة وقعت فیها عاملة مع أن اسمها معرفة. من ذلک قوله علیه السّلام : إذا هلک کسری فلا کسری بعده ، وإذا هلک قیصر فلا قیصر بعده. ومن ذلک قولهم : قضیة ولا أبا حسن (1) لها. وقولهم : لا أمیّة (2) فی البلاد ، وقولهم : لا هیثم (3) اللیلة للمطیّ. وقولهم : یبکی علی زید ولا زید مثله ... وغیر هذا من الأمثلة المسموعة. وقد تناولها النحاة بالتأویل (4) کی یخضعوها لشرط التنکیر. وهو تأویل لا داعی لتکلفه مع ورود تلک الأمثلة الصریحة ، الدالة علی أن فریقا من العرب لا یلتزم التنکیر. فعلینا أن نتقبل تلک النصوص بحالها الظاهر دون محاکاتها ، ونقتصر فی استعمالنا علی اللغة الشائعة المشهورة التی تشترط الشروط التی عرفناها ؛ توحیدا لأداة التفاهم ، ومنعا للتشعیب بین المتخاطبین بلغة واحدة.
ب - قلنا إن حکم اسم «لا» المفرد هو البناء علی الفتحة ، أو ما ینوب عن الفتحة. وقد یصح بناؤه علی الضمة العارضة فی حالة واحدة ، هی أن یکون الاسم کلمة :
«غیر» - ونظیراتها - فتکون کلمة : «غیر» مبنیة علی الضمة الطارئة فی محل نصب ،
ص: 631
بشرط أن تکون مضافة مسبوقة بکلمة : «لا - أو : لیس» - وبشرط أن یکون المضاف إلیه محذوفا قدنوی معناه علی الوجه المفصّل فی مکانه من باب الإضافة (1) نحو : قطعت ثلاثة أمیال لا غیر - أو لیس غیر - أی : لا غیرها ، أو لیس غیرها مقطوعا.
والنحاة یقولون فی إعراب هذا : إنه مبنی علی فتح مقدر ، منع من ظهوره الضم العارض للبناء أیضا - فی محل نصب. وفی هذا تکلف وتطویل یدعوهم إلیه رغبتهم فی إخضاع هذا النوع لحکم المفرد بحیث یکون الحکم (وهو البناء علی الفتح فی محل نصب) عاما مطردا. لکن لا داعی لهذا التکلف ، إذ لا مانع من أن یقال : إنه مبنی علی الضمّ - مباشرة - فی محل نصب ، کما فی الصبان والخضری ، عند کلامها علی أحکام : «غیر» فی باب الإضافة وستجیء فی الموضع الذی أشرنا إلیه.
ص: 632
مرجوّ (1). - مثلا - والجملة الاسمیة الثانیة معطوفة علی الجملة الاسمیة الأولی ، فعندنا جملتان
ونقول فی المثال الثانی : لا تقدم ولا رقیّ مع الجهالة ؛ فتکون کلمة : «رقیّ» اسم ، «لا» الثانیة علی الاعتبار السابق ، ولکن خبرها وخبر الأولی هو الظرف : «مع» فإنه یصلح خبرا لهما.
ونقول فی الثالث : لا نهر فی الصحراء ولا بحر. فیجری علی هذا المثال ما جری علی الثانی.
ثانیها : الإعراب (2) مع نصبه بالفتحة أو ما ینوب عنها. فنقول فی المثال الأول : لا خیر مرجوّ من الشریر ، ولا نفعا ، بإعرابه منصوبا. وهذا علی اعتبار : «لا» الثانیة زائدة لتوکید النفی ؛ فلا عمل لها. وکلمة. «نفعا» معطوفة بحرف العطف علی محل اسم «لا» الأولی ؛ لأن محله النصب. (فهو مبنی فی اللفظ ، لکنه منصوب المحل ، کما سبق) (3).
ونقول فی المثال الثانی : لا تقدم ولا رقیّا مع الجهالة. علی الاعتبار السابق أیضا ؛ فتکون «لا» المکررة زائدة لتوکید النفی ، «رقیا» معطوفة علی محل اسم «لا» الأولی. وخبر «الأولی» هو الظرف : «مع».
ونقول فی المثال الثالث : لا نهر فی الصحراء ولا بحرا ؛ کما قلنا فی الأول تماما.
ثالثها : الإعراب مع رفعه (4) بالضمة ، أو بما ینوب عنها ؛ فنقول فی المثال لأول : لا خیر مرجوّ من الشریر ، ولا نفع. برفع کلمة : «نفع» علی اعتبار «لا» الثانیة زائدة لتوکید النفی ؛ فلا عمل لها. و «نفع» مبتدأ مرفوع ، خبره محذوف ، والجملة الاسمیة الثانیة معطوفة علی الجملة الاسمیة الأولی.
ویصح اعتبار «لا» الثانیة عاملة عمل «لیس» وکلمة : «نفع» اسمها
ص: 634
مرفوع ، والخبر محذوف ، والجملة من «لا» الثانیة ومعمولیها معطوفة علی الجملة الأولی.
ویصح اعتبار «لا» الثانیة زائدة لتوکید النفی ، وکلمة : «نفع» معطوفة علی «لا» الأولی مع اسمها (1) ، لأنهما بمنزلة المبتدأ المرفوع : فالمعطوف علیهما معا یکون مرفوعا أیضا.
ویجری علی المثالین الأخیرین ما جری علی المثال الأول ؛ حیث یصح فی کلمتی رقیّ ، و «بحر» الرفع علی أحد الاعتبارات الثلاثة السابقة.
«ملاحظة» : إذا تکررت «لا» وکل واحدة مستوفیة الشروط ، مفردة الاسم ؛ وکانت الأولی لنفی الوحدة (أی : عاملة عمل لیس) جاز فی اسم المکررة بعد عاطف ، أمران : أن یکون معربا مرفوعا بالضمة أو بما ینوب عنها ، وأن یکون مبنیّا علی الفتح أو ما ینوب عن الفتحة ؛ مثل : لا قویّ ولا ضعیف أمام القانون. أو : لا قویّ ولا ضعیف أمام القانون.
(ا) فالرفع - فی هذا المثال - إما علی اعتبار «لا» المکررة زائدة لتوکید النفی ، والاسم بعدها معطوف علی اسم الأولی ؛ فالمعطوف مرفوع کالمعطوف علیه ، والخبر عنهما هو الظرف : (أمام). وإما علی اعتبار «لا» المکررة زائدة للنفی أیضا ، والاسم بعدها مبتدأ (2) ، وإما علی اعتبار «لا» المکررة عاملة عمل «لیس» والمرفوع بعدها اسمها (3).
وإنما جاز الرفع علی هذین الاعتبارین ، ولم یجز النصب لأن النصب إنما یجری علی اعتبار أن «لا» المکررة زائدة ، والاسم الذی بعدها معطوف علی محل اسم الأولی ، المبنی لفظا المنصوب محلا ، ولما کان اسم الأولی هنا مرفوعا ، ولیس مبنیّا علی الفتح
ص: 635
لفظا. کان غیر منصوب محلا ؛ فلا یجوز العطف علی محله (1).
ب - والبناء علی علی الفتح علی اعتبار «لا» المکررة نافیة للجنس ، إلی هنا انته الکلام علی أحکام اسم «لا» المکررة حین یکون مفردا بعد کل واحدة. وهی أحکام تسری علی اسم «لا» المکررة (2) مرة أو أکثر ، بشرط
ص: 636
استیفاء کل واحدة شروط العمل ، وإفراد اسمها ؛ کما عرفنا (1).
* * *
حکم المعطوف علی اسم «لا» بغیر تکرارها (2) :
إذا لم تتکرر : «لا» الجنسیة وعطف علی اسمها جاز فی المعطوف النکرة الرفع أو النصب فی جمیع الحالات (أی : سواء أکان مفردا أم غیر مفرد ، وسواء أکان اسمها - وهو المعطوف علیه - ، مفردا أم غیر مفرد ، ومن أمثلة ذلک :
ص: 637
(ا) لا کتاب وقلم فی الحقیبة. أو : لا کتاب وقلما فی الحقیبة. فیجوز فی المعطوف أمران :
الرفع علی اعتبار أن کلمة : «قلم» ، معطوفة علی «لا» مع اسمها ، وهما بمنزلة المبتدأ المرفوع ، فالمعطوف علیهما مرفوع أیضا. أو : علی الاسم وحده باعتباره مبتدأ فی الأصل - وهذا أحسن -
والنصب علی اعتبار أن کلمة : «قلم» معطوفة علی محل اسم «لا» المبنی ، لأنه مبنی فی اللفظ لکنه منصوب المحل ، فیجوز العطف علیه بمراعاة محله ، لا لفظه (لأن البناء لا یراعی فی التوابع ، کما سبق) (1).
(ب) لا کتاب هندسة وقلم رصاص فی الحقیبة ، یجوز فی المعطوف الأمران : الرفع علی الاعتبار السالف ، والنصب علی العطف علی لفظ اسم «لا» المنصوب.
(ح) لا کتاب حساب وقلم أو قلما فی الحقیبة. یجوز فی المعطوف الأمران الرفع والنصب علی الاعتبارین السالفین فی : «ب».
(د) لا کتاب وقلم رصاص ، فی الحقیبة. یجوز فی المعطوف الأمران : الرفع أو النصب علی الاعتبارین السالفین فی : «ا».
فإن کان المعطوف معرفة لم یجز فیه إلا الرفع علی اعتباره مبتدأ (2) ...
وعلی ضوء الصور والأسالیب السالفة - إفرادا وترکیبا - تضبط الصور الأخری التی لم نعرضها هنا. ویجب مراعاة الخبر بدقة ، لیظهر المعنی ، ولیمکن تمییز نوع العطف إن وجد (3).
* * *
حکم المعطوف علی اسم «لا» المکررة :
یتبع المعطوف علیه ، (أی : یتبع اسمها) فی إعرابه رفعا ونصبا دون أن یتبعه فی البناء کما عرفنا.
ص: 638
لا تاجر خداع ناجح
لا سیارة مسرعة مأمونة
لا کتابة ، ردیئة ممدوحة
کیف نضبط الکلمات التی تحتها خط وهی : (خدّاع - مسرعة
- ردیئة)
وأشباعها من کل کلمة وقعت نعتا ، مفردا ، لاسم : «لا»
النافیة للجنس ، المفرد ولم یفصل بین النعت والمنعوت فاصل (1)؟
یجوز فی ضبط هذا النعت أحد أمور ثلاثة :
(ا) بناؤه علی الفتح أو بما ینوب عن الفتحة ؛ کالشأن فی اسم : لا (2) ، فنقول : لا تاجر خداع ناجح - لا سیارة مسرعة مأمونة - لا کتابة ردیئة ممدوحة.
(ب) إعرابه منصوبا بالفتحة ، أو بما ینوب عنها ؛ مراعاة لمحل اسم «لا». فنقول : لا تاجر خداعا ناجح - لا سیارة مسرعة مأمونة - لا کتابة ردیئة ممدوحة.
(ح) إعرابه مرفوعا بالضمة أو بما ینوب عنها. علی اعتباره نعتا لکلمة : «لا» مع اسسها ؛ وهما معا بمنزلة المبتدأ المرفوع ؛ فنعتهما مرفوع کذلک. أو لاسمها وحده (3) تقول :
ص: 639
لا تاجر خداع ناجح - لا سیارة مسرعة مأمونة - لا کتابة ردیئة ممدوحة (1). فإن اختل شرط من الشروط السالفة لم یصح بناء النعت علی الفتح ، وصحّ أن یکون مرفوعا أو منصوبا. فإذا کان النعت غیر مفرد ، مثل : لا تاجر خدّاع الناس ناجح ، لا یجوز أن یکون النعت (وهو : خداع) مبنیّا علی الفتح (2) ویجوز أن یکون مرفوعا أو منصوبا علی الاعتبار الذی أوضحناه سالفا (فی : «ب وج») وإن کان المنعوت غیر مفرد ، مثل : لا تاجر خشب خداع ناجح ، لم یجز البناء علی الفتح أیضا (3) ، وجاز الرفع أو النصب کسابقه.
وکذلک الحکم إن وجد فاصل بین النعت والمنعوت ؛ مثل لا تاجر وصانع خدّاعان ناجحان. فلا یجوز بناء کلمة ، «خداعان» بل یجب رفعها أو نصبها. ومما یلاحظ أن المنعوت إذا کان غیر مفرد بأن کان مضافا أو شبیها بالمضاف) فإنه سیجیء بعده ما یفصل بینه وبین النعت حتما.
ص: 640
البدل النکرة (وهو الصالح لدخول : «لا») کالنعت المفصول ، نحو ؛ لا أحد ، رجلا ، وامرأة فیها. بالنصب أو الرفع ، ولا یجوز بناؤه علی توهم ترکبه مع المبدل منه ، لأن البدل علی نیة تکرار العامل : «لا» ، فیقع بین البدل والمبدل منه فاصل مقدر یمنع من ذلک الترکیب الوهمی. وأجازه بعضهم لأن هذا الفاصل - وهو «لا» - یقتضی الفتح (1).
فإن کان البدل معرفة وجب رفعه (2) ، نحو لا أحد محمد وعلیّ فیها. وکذا یقال فی عطف البیان.
وأما التوکید فالأفضل فی اللفظیّ منه أن یکون جاریا علی لفظ المؤکّد من ناحیة خلوه من التنوین. ویجوز رفعه أو نصبه. وأما المعنوی فیمتنع هنا تبعا للرأی الشائع القائل : إنه لا یتبع نکرة ؛ لأن ألفاظه معارف. أما علی الرأی القائل إنه یتبعها فیتعین رفعه ، لعدم دخول «لا» علی المعرفة (3).
ص: 641
(ا) دخول همزة الاستفهام علی «لا» النافیة للجنس (1).
إذا دخلت همزة الاستفهام علی : «لا» النافیة للجنس صار الأسلوب إنشائیّا ، ولم یتغیر شیء من الأحکام السالفة کلها. - وهذا أوضح الآراء وأیسرها - یتساوی معه أن تکون «لا» مفردة ، ومکررة ، وأن یکون الاسم مفردا وغیر مفرد ، منعوتا وغیر منعوت ، معطوفا وغیر معطوف ... إلی غیر ذلک من سائر الأحکام التی أوضحناها.
ولا فرق فیما سبق بین أن تکون الهمزة للاستفهام الصریح عن النفی المحض (أی : دون قصد توبیخ أو غیره ...) ؛ نحو : ألا رجل حاضرا (2)؟ أو للاستفهام المقصود به التوبیخ (3) ؛ نحو : ألا إحسان منک وأنت غنی؟. أو للاستفهام المقصود به التمنی (4) ؛ نحو ألا مال (5) فأساعد - المحتاج (6)؟
ص: 642
(ا) من الأسالیب الصحیحة فی التمنی : «ألا ماء ماء باردا». فکلمة «ماء» الثانیة نعت (1) للأولی : فهو مبنی علی الفتح ، لأنه بمنزلة المرکب المزجیّ مع اسم «لا» ویجوز نصبه ، ولکن یمتنع رفعه عند سیبویه ومن معه - علی مراعاة محل (لا) مع اسمها ، وأنهما بمنزلة المبتدأ ، ویجوز عند المازنی ومن وافقه.
وعلی هذا ، تکون «ألا» التی : للتمنی محتفظة عند بعض النحاة - بجمیع الأحکام الخاصة التی کانت لکلمة : «لا» قبل دخول الهمزة. وقبل أن یصبرا کلمة واحدة للتمنی. وإذا لم یکن خبرها مذکورا فهو محذوف. ویخالف فی هذا فریق آخر کسیبویه فیری أنها حین تکون للتمنی - لا تعمل إلا فی الاسم ؛ فلا خبر لها ؛ لأنها صارت بمنزلة : أتمنی. فقولک : «ألا ماء» ، کلام تام عنده ؛ حملا علی معناه ، وهو : أتمنی ماء. فلا خبر لها لفظا ولا تقدیرا ، واسمها هنا یکون بمنزلة المفعول به. ولا یجوز إلغاء عملها فی الاسم ، کما لا یجوز الوصف ولا العطف بالرفع مراعاة للابتداء ؛ کما أشرنا. ولا یقع هذا الخلاف فی النعوت الأخری. التی سبق حکمها - فی ص 639 والرأی الأول - مع عیبه - أفضل ؛ لأنه مطرد یسایر القواعد العامة ؛ فلا داعی للأخذ بالرأی الثانی.
ویتعین تنوین کلمة : «باردا» ، لأن العرب لم ترکب أربعة أشیاء (2) ترکیبا مزجیا ، ولا یصح إعراب کلمة : «ماء» الثانیة توکیدا ولا بدلا ؛ إذ یکون مقیدا بالنعت الآتی بعده ، والأول مطلق ؛ فلیس مرادفا له حتی یؤکده ، ولا مساویا له حتی یبدل منه بدل مطابقة.
لکن جوز بعضهم التوکید فی قوله تعالی : «(لنسفعن بالناصیة ناصیة کاذبة) فکذا هنا. وجوز بعضهم أن یکون عطف بیان ؛ لأنه یجیز أنّ یکون أوضح من متبوعه (3).
ص: 643
(ب) قد ترد کلمة : «ألا» للاستفتاح والتنبیه (بقصد توجیه الذهن إلی کلام هام مؤکد عند المتکلم ؛ یجیء بعدها). وهی کلمة واحدة. لا عمل لها ، فتدخل علی الجملة الاسمیة والفعلیة ؛ نحو : (أَلا إِنَّ أَوْلِیاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ) وقوله : (أَلا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ لَیْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) فقد دخلت علی «لیس» کما تجیء وهی کلمة واحدة للعرض (1) ، والتحضیض ؛ فتختص بالجملة الفعلیة ؛ فمثال العرض : ألا تشارکنی فی الرحلة الجمیلة. ومثال التحضیض ألا تقاوم أعداء الوطن.
ح - یجری علی خبر «لا» ما یجری علی سائر الأخبار ، من جواز الحذف - وکثرته - إن دلّ دلیل. ولیس من اللازم لجواز الحذف أن یکون الخبر هنا شبه جملة فقد یکون شبه جملة کقول الشاعر :
إذا کان إصلاحی لجسمی - واجبا
فإصلاح نفسی لا محالة أوجب
ای : لا محالة فی ذلک. وقول الآخر :
لا یصلح الناس فوضی لا سراة لهم
ولا سراة (2) إذا جهّالهم
سادوا
أی : ولا سراة لهم إذا جهّالهم سادوا. وقد یکون جملة ؛ کان یقال : هل من جاهل یصلح للسیادة؟ فیجاب : لا جاهل. أی : لا جاهل یصلح للسیادة ... وقد یکون مفردا کالأمثلة الآتیة بعد :
والدلیل علی الحذف قد یکون مقالیا ؛ کأن یقال : من المسافر؟ فیجاب : لا أحد. أی : لا أحد مسافر. وقد یکون الدّلیل مفهوما من المقام والحالة الملابسة ؛ کأن یقال للمریض : لا بأس ، أی : لا بأس علیک. وللسارق : لا نجاة ، أی : لا نجاة لک. وبغیر الدلیل لا یصحّ الحذف (3) ...
ومن الأسالیب التی حذف فیها الخبر : «لا سیما» وقد سبق الکلام علیها. فی ص 363 -
ص: 644
ومنها : لا إله إلا الله (1) ؛ ومنها : لا ضیر (2). ومنها : لا ضرر ولا ضرار (3).
ومنها : لا فوت (4) ...
وقد یحذف الاسم لدلیل ، نحو : لا علیک. أی : لا بأس علیک.
د - بمناسبة الکلام علی : «لا» یتعرض بعض النحاة لتفصیل الکلام علی الأسلوب الذی یشتمل علی : «لا جرم» واعتبار «لا» زائدة. أو غیر زائدة. وقد سبق تفصیل هذا فی رقم 4 من ص 595.
ه - إن جاء بعد «لا» جملة اسمیة صدرها معرفة ، أو صدرها نکرة لم تعمل فیها - بسبب وجود فاصل ، مثلا - أو جاء بعدها فعل ماض لفظا ومعنی (5) لغیر الدعاء - وجب تکرارها فی أشهر الاستعمالات. فمثال الاسمیة التی صدرها معرفة قوله تعالی : (لَا الشَّمْسُ یَنْبَغِی لَها أَنْ تُدْرِکَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّیْلُ سابِقُ النَّهارِ)(6)
ص: 645
ومثال النکرة التی لم تعمل فیها قوله تعالی : (لا فِیها غَوْلٌ)(1) وَلا هُمْ عَنْها یُنْزَفُونَ(2) ...)
ولم تعمل هنا لوجود فاصل. ومثال الماضی قوله تعالی : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّی ...) وفی الحدیث : إن المنبتّ (3) لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقی.
(و) إذا وقعت کلمة «إلّا» بعد «لا» جاز فی الاسم المذکور بعد «إلا» الرفع والنصب. نحو : لا إله إلا الله ، - بالرفع أو النصب ، ولا سیف إلا ذو الفقار. أو ذا الفقار فالنصب علی الاستثناء ، والخبر محذوف قبل «إلّا». والرفع علی البدل ؛ إما من محل «لا» مع اسمها ؛ وإما علی البدل من الضمیر المستتر فی الخبر المحذوف ، وإما من محل اسم «لا» بحسب أصله الأول ؛ فقد کان مبتدأ ، وقد أوضحنا هذا قریبا (4).
(ز) إذا لم تعمل : «لا» بسبب دخولها علی معرفة ، أو لوجود فاصل بینها وبین اسمها - فالواجب عند الجمهور تکرارها - کما تقدم -.
ویلزم تکرارها مع اقترانها (5) بالواو العاطفة إذا ولیها مفرد منفی بها وقع خبرا أو نعتا ، أو حالا ؛ نحو : علیّ لا قائم ولا قاعد ، ومررت برجل لا قائم ولا قاعد ، ونظرت إلیه لا قائما ولا قاعدا.
وتتکرر أیضا إذا دخلت علی الماضی لفظا ومعنی ، وکان لغیر الدعاء - کما سلف - ، نحو : محمود لا قام ولا قعد. وقد یغنی عن تکرارها حرف نفی آخر ؛ وهذا قلیل ؛ مثل لا أنت أبدیت رأیک ولم تظهر غرضک. ومنه وقول الشاعر : (... فلا هو أبداها ولم یتجمجم (6)) ولم تتکرر فی نحو : لا نولک أن تفعل کذا ... لأنه بمعنی : لا ینبغی (7) ...
ص: 646
فلم یبق شیء لا تتکرر فیه وجوبا سوی المضارع ؛ نحو : حامد لا یقوم (1) ...
ص: 647