محاضرات فی اصول الفقه المجلد الثالث

اشارة

سرشناسه:خویی ، ابوالقاسم ، 1371 - 1278

عنوان و نام پدیدآور:محاضرات فی اصول الفقه / تقریر ابوالقاسم الخوئی / تالیف محمداسحاق الفیاض

مشخصات نشر:قم : جماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه قم ، موسسه النشر الاسلامی ، 1419ق . = 1377.

فروست:(جماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه قم ، موسسه النشر اسلامی 633)

شابک:964-470-058-9 11000ریال

یادداشت:عربی

یادداشت:چاپ های قبلی کتاب حاضر دار الهادی للمطبوعات و موسسه انصاریان بوده است

یادداشت:ج . 1421 4ق . = 14000 :1379 ریال

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:فیاض ، محمداسحاق ، 1934 - ، گردآورنده

شناسه افزوده:جامعه مدرسین حوزه علمیه قم . دفتر انتشارات اسلامی

رده بندی کنگره:BP159/8 /خ 9م 3 1377

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی: م 79-3305

ص :1

ص:2

ص:3

تتمة بحث الأوامر

ص:2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:3

محاضرات فی اصول الفقه

تقریر ابوالقاسم الخوئی

تالیف محمداسحاق الفیاض

ص:4

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

مسألة الضد

اشارة

هل الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده؟! یقع الکلام فی هذه المسألة من جهات:

الأولی-قد تقدم منا فی بحث مقدمة الواجب ان البحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدمته لا یختص بما إذا کان الوجوب مدلولا لفظیاً، فان ملاک البحث یعم مطلق الوجوب سواء أ کان مستفاداً من اللفظ أو الإجماع أو العقل،و لذلک قلنا انها من المسائل الأصولیة العقلیة،لا من مباحث الألفاظ.

و هکذا الشأن فی مسألتنا هذه فان جهة البحث فیها-فی الحقیقة-ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و حرمة ضده.

و من الواضح ان البحث عن تلک الجهة لا یختص بما إذا کان الوجوب مدلولا لدلیل لفظی،بل یعم الجمیع،ضرورة ان ما هو المهم فی المقام هو البحث عن ثبوت تلک الملازمة و عدمه،و لا یفرق فیه بین أن یکون الوجوب مستفاداً من اللفظ أو من غیره،و ان کان عنوان البحث فی المسألة-قدیماً و حدیثاً-یوهم اختصاص محل النزاع بما إذا کان الوجوب مدلولاً لفظیاً،إلا ان ذلک من جهة الغلبة، و ان الوجوب فی الغالب یستفاد من دلیل لفظی،لا من جهة اختصاص محل النزاع بذلک،کما هو واضح.

ص:5

و لأجل ذلک تکون المسألة من المسائل الأصولیة العقلیة لا من مباحث الألفاظ،لعدم صلتها بتلک المباحث أصلا،کما انه لا صلة لغیرها من المسائل العقلیة بها.

الثانیة-هل هذه المسألة من المسائل الأصولیة أو الفقهیة أو المبادئ الأحکامیة؟قالوا فی ذلک وجوه:

1-انها من المسائل الفقهیة،بدعوی ان البحث فیها عن ثبوت الحرمة لضد الواجب،و عدم ثبوت الحرمة له،و هذا بحث فقهی لا أصولی.

و یدفعه:ما ذکرناه-فی أول بحث الأصول-من ان هذا التوهم قد ابتنی علی کون البحث بحثاً عن حرمة الضد ابتداء،لتکون المسألة فقهیة،إلا ان الأمر لیس کذلک،فان البحث فیها عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و حرمة ضده، و عدم ثبوتها،و من الواضح ان البحث عن هذه الناحیة لیس بحثاً فقهیاً له صلة بأحوال فعل المکلف و عوارضه بلا واسطة.

2-انها من المبادئ الأحکامیة:

و یدفعه:أیضا ما ذکرناه فی بحث مقدمة الواجب من أن المبادئ لا تخلو من التصوریة و التصدیقیة و لا ثالث لهما،و المبادئ التصوریة هی لحاظ ذات الموضوع أو المحمول و ذاتیاته.و من الواضح أن البحث عن مسألة الضد لا یرجع إلی ذلک.و المبادئ التصدیقیة هی المقدمة التی یتوقف علیها تشکیل القیاس،و منها المسائل الأصولیة،فانها مبادئ تصدیقیة بالإضافة إلی المسائل الفقهیة،لوقوعها فی کبری قیاساتها التی تستنتج منها تلک المسائل و الأحکام.و لا نعقل المبادئ الأحکامیة فی مقابل المبادئ التصوریة و التصدیقیة.

3-و الصحیح:انها من المسائل الأصولیة العقلیة.

أما کونها من المسائل الأصولیة:فلما قدمناه فی أول بحث الأصول من أن المسائل الأصولیة ترتکز علی رکیزتین:

ص:6

الأولی-ان تکون استفادة الأحکام الشرعیة من الأدلة من باب الاستنباط و التوسیط،لا من باب التطبیق،أی تطبیق مضامینها بأنفسها علی مصادیقها، کتطبیق الطبیعی علی افراده،و الکلی علی مصادیقه.

الثانیة-أن یکون وقوعها فی طریق الحکم بنفسها من دون حاجة إلی ضم کبری أصولیة أخری،فکل مسألة إذا ارتکزت علی هاتین الرکیزتین فهی من المسائل الأصولیة،و إلا فلا.

و علی هذا الأساس نمیز کل مسألة ترد علینا انها أصولیة،أو فقهیة،أو غیرها،و حیث أن هاتین الرکیزتین قد توفرتا فی مسألتنا هذه فهی من المسائل الأصولیة لا محالة،إذ انها واقعة فی طریق استفادة الحکم الشرعی من باب الاستنباط و التوسیط بنفسها،بلا توسط کبری أصولیة أخری.

و توهم خروج هذه المسألة عن علم الأصول،لعدم توفر الرکیزة الثانیة فیها، إذ لا یترتب أثر شرعی علی نفس ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و حرمة ضده، لتکون المسألة أصولیة،و اما حرمة الضد فهی و ان ثبتت من ناحیة ثبوت تلک الملازمة،إلا انها حرمة غیریة فلا تصلح لأن تکون ثمرة للمسألة الأصولیة.

نعم هذا التوهم مندفع:

بما ذکرناه-فی أول علم الأصول-من انه یکفی لکون المسألة أصولیة ترتب نتیجة فقهیة علی أحد طرفیها،و ان لم تترتب علی طرفها الآخر،بداهة ان ذلک لو لم یکن کافیاً فی اتصاف المسألة بکونها أصولیة،للزم خروج کثیر من المسائل الأصولیة عن علم الأصول،حتی مسألة حجیة خبر الواحد،فانه علی القول بعدم حجیته لا یترتب علیها أثر شرعی أصلاً،و مسألتنا هذه تکون کذلک،فانه تترتب علیها نتیجة فقهیة علی القول بعدم ثبوت الملازمة،و هی صحة الضد العبادی،و اما الحکم بفساده علی القول الآخر فهو یتوقف علی استلزام النهی

ص:7

الغیری،کما یستلزمه النهی النفسیّ،و سنتعرض إلی ذلک إن شاء اللّه تعالی بشکل واضح.

فالنتیجة الکلیة هی:أن الملاک فی کون المسألة أصولیة وقوعها فی طریق الاستنباط بنفسها،و لو باعتبار أحد طرفیها،فی مقابل ما لیس له هذا الشأن، و هذه الخاصة کمسائل سائر العلوم.

و اما کونها عقلیة:فلان الحاکم بالملازمة المزبورة إنما هو العقل،و لا صلة لها بدلالة اللفظ أبداً.

الثالثة-ان المراد من الاقتضاء فی عنوان المسألة لیس ما هو ظاهره،بل الأعم منه و من الاقتضاء بنحو الجزئیة و العینیة،لیعم جمیع الأقوال،فان منها قول بان الأمر بالشیء عین النهی عن ضده.و منها:قول بان النهی عن الضد جزء من الأمر بشیء.و منها:قول بان الأمر بالشیء یستلزم النهی عن ضده کما هو ظاهر لفظ الاقتضاء،فالتعمیم لأجل أن لا یتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخیر.

الرابعة-ان المراد بالضد فی محل البحث مطلق ما یعاند الشیء و ینافیه،سواء أ کان أمراً وجودیاً کالأضداد الخاصة،أو الجامع بینها،و قد یعبر عن هذا الجامع بالضد العام أیضاً،أم کان أمراً عدمیاً،کالترک الّذی هو المسمی عندهم بالضد العام، فان من الأقوال فی المسألة قول بان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام و هو الترک.

و بعد بیان ذلک نقول:

ان الکلام یقع فی مقامین:

الأول:فی الضد الخاصّ.

و الثانی:فی الضد العام.

اما الکلام فی المقام الأول:فقد استدل جماعة علی اقتضاء الأمر بالشیء

ص:8

النهی عن ضده،سواء أ کان المراد به أحد الأضداد الخاصة أو الجامع بینها بوجهین:

الأول-ان ترک أحد الضدین مقدمة للضد الآخر،و مقدمة الواجب واجبة،فإذا کان الترک واجباً فالفعل لا محالة یکون محرماً،و هذا معنی النهی عنه أقول:هذا الدلیل مرکب من مقدمتین:إحداهما صغری القیاس و الثانیة کبراه،فلا بد من درس کل واحدة واحدة منهما.

اما المقدمة الأولی فبیانها:ان العلة التامة مرکبة من أجزاء ثلاثة:(1)المقتضی و هو الّذی بذاته یقتضی التأثیر فی مقتضاه.(2)الشرط و هو الّذی یصحح فاعلیة المقتضی.(3)عدم المانع و هو الّذی له دخل فی فعلیة تأثیر المقتضی.و من الواضح ان العلة التامة لا تتحقق بدون شیء من هذه المواد الثلاث،فبانتفاء واحدة منها تنتفی العلة التامة لا محالة.

و نتیجة ذلک:هی ان عدم المانع من المقدمات التی لها دخل فی وجود المعلول،و یستحیل تحققه بدون انتفائه.و یترتب علی ذلک ان ترک أحد الضدین مقدمة لوجود الضد الآخر،لأن کلا منهما مانع عن الآخر،و إلا لم یکن بینهما تمانع و تضاد،فإذا کان کل منهما مانع عن الآخر فلا محالة یکون عدمه مقدمة له،إذ کون عدم المانع من المقدمات مما لا یحتاج إلی مئونة بیان،و إقامة برهان.

و اما المقدمة الثانیة:فهی أن مقدمة الواجب واجبة،و قد تقدم الکلام فیها.

فالنتیجة-من ضم المقدمة الأولی إلی هذه المقدمة-هی:ان ترک الضد بما انه مقدمة للضد الواجب-کما هو المفروض فی المقام-یکون واجباً،و إذا کان ترکه واجباً ففعله حرام لا محالة-مثلا-ترک الصلاة بما انه مقدمة للإزالة الواجبة فیکون واجباً،و إذا کان واجباً ففعلها-الّذی هو ضد الإزالة-یکون حراماً.و هذا معنی ان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضد.

و لکن کلتا المقدمتین قابلة المناقشة:

ص:9

أما المقدمة الأولی:فقد أنکرها جماعة من المحققین منهم شیخنا الأستاذ (قدس سره)و قال:باستحالة المقدمیة،و أفاد فی وجهها أمرین:

الأول:ان المعلول و ان کان مترتباً علی تمام اجزاء علته التامة،إلا ان تأثیر کل واحد منها فیه یغایر تأثیر الآخر فیه،فان تأثیر المقتضی فیه بمعنی ترشحه منه،و یکون منه الأثر و الوجود،کالنار بالإضافة إلی الإحراق،فان الإحراق یترشح من النار،و انها فاعل ما منه الوجود و الأثر،لا المحاذاة-مثلا- أو بقیة الشرائط.و اما تأثیر الشرط فیه بمعنی انه مصحح لفاعلیة المقتضی و تأثیره أثره،فان النار لا تؤثر فی الإحراق بدون المماسة و المحاذاة و ما شاکلهما،فتلک الشرائط مصححة لفاعلیة النار،و تأثیرها فیه.لا ان الشرط بنفسه مؤثر فیه.

و من هنا إذا انتفی الشرط لم یؤثر المقتضی.

أو فقل:ان الشرط فی طرف القابل متمم قابلیته،و فی طرف الفاعل مصحح فاعلیته،فلا شأن له ما عدا ذلک.و اما عدم المانع فدخله باعتبار ان وجوده یزاحم المقتضی فی تأثیره،کالرطوبة الموجودة فی الحطب،فان دخل عدمها فی الاحتراق باعتبار ان وجودها مانع عن تأثیر النار فی الإحراق.و هذا معنی دخل عدم المانع فی وجود المعلول،و إلا فلا یعقل أن یکون العدم بما هو من اجزاء العلة التامة، بداهة استحالة أن یکون العدم دخیلا فی الوجود و مؤثراً فیه.

و من ذلک البیان یظهر طولیة اجزاء العلة التامة،فان مانعیة المانع متأخرة رتبة عن وجود المقتضی،و عن وجود جمیع الشرائط،کما ان شرطیة الشرط متأخرة رتبة عن وجود المقتضی،فان دخل الشرط فی المعلول إنما هو فی مرتبة وجود مقتضیة،لیکون مصححاً لفاعلیته،لما عرفت-آنفاً-من أن الشرط فی نفسه لا یکون مؤثراً فیه.و دخل عدم المانع إنما یکون فی ظرف تحقق المقتضی مع بقیة الشرائط،لیکون وجوده مزاحماً له فی تأثیره،و یمنعه عن ذلک.

و علی ضوء ذلک قد اتضح استحالة اتصاف المانع بالمانعیة إلا فی ظرف

ص:10

وجود المقتضی مع سائر الشرائط،کما انه یستحیل اتصاف الشرط بالشرطیة إلا فیما إذا کان المقتضی موجوداً.-مثلا-الرطوبة فی الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعیة إلا فی ظرف وجود النار و مماستها مع ذلک الجسم،لیکون عدم الاحتراق مستنداً إلی وجود المانع،و اما إذا لم تکن النار موجودة،أو کانت و لم تکن مماسة مع ذلک الجسم فلا یمکن أن یستند عدم الاحتراق إلی وجود المانع.

و لنأخذ مثالا لتوضیح ذلک:إذا فرضنا ان النار موجودة و الجسم القابل للاحتراق مماس لها،و مع ذلک لم یحترق،إذاً نفتش عن سبب ذلک و ما هو،و بعد الفحص یتبین لنا ان سببه الرطوبة الموجودة فی ذلک الجسم و هی التی توجب عدم قابلیته للاحتراق،و تأثیر النار فیه،فیکون عدمه مستنداً إلی وجود المانع.

و کذا إذا فرض ان الید الضاربة قویة و السیف حاد،و مع ذلک لا أثر للقطع فی الخارج،فلا محالة عدم قبول الجسم للانقطاع و التأثر بالسیف من جهة المانع، و هو صلابة ذلک الجسم لوجود المقتضی المقارن مع شرطه.

و أما إذا فرض ان النار موجودة،و لکن الجسم القابل للاحتراق لم یکن مماساً لها،أو ان الید الضاربة کانت قویة و لکن السیف لم یکن حاداً،فعدم المعلول عندئذ لا محالة یستند إلی عدم الشرط،لا إلی وجود المانع،فالمانع فی هذه اللحظة یستحیل ان یتصف بالمانعیة فعلا،فان أثره المنع عن فعلیة تأثیر المقتضی،و لا أثر له فی ظرف عدم تحقق الشرط.

و کذلک إذا لم تکن النار موجودة،أو کانت الید الضاربة ضعیفة جداً أو مشلولة،فعدم المعلول عندئذ لا محالة یستند إلی عدم مقتضیة،لا إلی عدم المماسة،أو الرطوبة،أو إلی عدم حدة السیف،أو صلابة الجسم کل ذلک لم یکن.

و هذا من الواضحات خصوصاً عند المراجعة إلی الوجدان،فان الإنسان إذا لم یشته أکل طعام فعدم تحققه یستند إلی عدم المقتضی،و إذا اشتهاه و لکن

ص:11

لم یجد الطعام فعدم الأکل یستند إلی عدم الشرط،و إذا کانت الشروط متوفرة و لکنه منع عن الأکل مانع،فعدمه یستند إلی وجود المانع،و هکذا.

و بعد بیان ذلک نقول:انه یستحیل أن یکون وجود أحد الضدین مانعاً عن وجود الضد الآخر،لما سبق من أن المانع إنما یتصف بالمانعیة فی لحظة تحقق المقتضی مع بقیة الشرائط.

و من الواضح البین ان عند وجود أحد الضدین یستحیل ثبوت المقتضی للضد الآخر،لیکون عدمه مستنداً إلی وجود ضده،لا إلی عدم مقتضیة.

و الوجه فی ذلک هو ان المضادة و المنافرة بین الضدین و المعلولین تستلزم المضادة و المنافرة بین مقتضییهما،فکما یستحیل اجتماع الضدین فی الخارج،فکذلک یستحیل اجتماع مقتضییهما فیه،لأن اقتضاء المحال محال.

أو فقل:ان عدم الضد إنما یستند إلی وجود الضد الآخر فی فرض ثبوت المقتضی له،و هذا غیر معقول کیف فان لازم ذلک هو أن یمکن وجوده فی عرض وجود ذلک الضد،و المفروض انه محال،فالمقتضی له أیضاً محال،بداهة ان استحالة اقتضاء المحال من الواضحات الأولیة،و إلا فما فرض انه محال لم یکن محالا.و هذا خلف.

و لنأخذ مثالاً لذلک:ان وجود السواد مثلا فی موضوع لو کان مانعاً عن تحقق البیاض فیه فلا بد أن یکون ذلک فی ظرف ثبوت المقتضی له،لیکون عدمه (البیاض)مستنداً إلی وجود المانع،و هو وجود السواد،لا إلی عدم مقتضیة.

و ثبوت المقتضی له محال و إلا لکان وجوده(البیاض)فی عرض وجود الضد الآخر(السواد)ممکناً،و حیث انه محال فیستحیل ثبوت المقتضی له،لأن اقتضاء المحال محال.

و علیه فإذا کان المقتضی لأحدهما موجوداً فلا محالة یکون المقتضی للآخر معدوماً،إذاً یکون عدمه دائماً مستنداً إلی عدم مقتضیة،لا إلی وجود المانع.

ص:12

هذا بالإضافة إلی إرادة شخص واحد فی غایة الوضوح،بداهة استحالة تحقق إرادة کل من الضدین فی آن واحد من شخص واحد،فلا یمکن تحقق إرادة کل من الصلاة و الإزالة فی نفس المکلف،فان أراد الإزالة لم یمکن تحقق إرادة الصلاة،و ان أراد الصلاة لم یمکن تحقق إرادة الإزالة فترک کل واحدة منهما عند الاشتغال بالأخری مستند إلی عدم المقتضی له،لا إلی وجود المانع مع ثبوت المقتضی.

و اما بالإضافة إلی إرادة شخصین للضدین فالأمر أیضاً کذلک،لأن إحدی الإرادتین لا محالة تکون مغلوبة للإرادة الأخری،لاستحالة تأثیر کلتیهما معاً، و عندئذ تسقط الإرادة المغلوبة عن صفة الاقتضاء،لاستحالة اقتضاء المحال و غیر المقدور،لفرض ان متعلقها خارج عن القدرة فلا تکون متصفة بهذه الصفة،فیکون وجودها و عدمها سیان.

و قد تحصل من ذلک:ان المانع بالمعنی الّذی ذکرناه-و هو ما یتوقف علی عدمه وجود المعلول فی الخارج-ما کان مزاحماً للمقتضی فی تأثیره أثره،و مانعاً عنه عند وجدانه الشرائط،و هذا المعنی مفقود فی الضدین کما مر.

فالنتیجة اذن:انه لا وجه لدعوی توقف أحد الضدین علی عدم الآخر إلا تخیل ان المنافاة و المعاندة بینهما تقتضی التوقف المزبور.و لکنه خیال فاسد، ضرورة ان ذلک لو تم لکان تحقق کل من النقیضین متوقفاً علی عدم الآخر أیضاً لوجود الملاک فیه،و هو المعاندة و المنافاة،مع ان بطلان ذلک من الواضحات فلا یحتاج إلی مئونة بیان و إقامة برهان.

و نلخص ما أفاده-قده-فی عدة نقاط:

الأولی-ان مانعیة المانع فی مرتبة متأخرة عن مرتبة وجود المقتضی و وجود الشرط،فیکون استناد عدم المعلول إلی وجود المانع فی ظرف ثبوت المقتضی مع بقیة الشرائط،و إلا فالمانع لا یکون مانعاً کما سبق.

ص:13

الثانیة-ان وجود کل من الضدین بما انه یستحیل فی عرض الآخر و یمتنع تحققه فی الخارج،فثبوت المقتضی له فی عرض ثبوت المقتضی للآخر أیضاً محال،لأن اقتضاء المحال محال کما عرفت.

الثالثة-ان المعاندة و المنافاة بین الضدین لو کانت مقتضیة للتوقف المذکور لکانت مقتضیة له بالإضافة إلی النقیضین أیضا،و بطلانه غنی عن البیان.

و لنأخذ الآن بدرس هذه النقاط:

اما النقطة الأولی فهی فی غایة الصحة و المتانة علی البیان المتقدم.

و اما النقطة الثانیة:فللمناقشة فیها مجال واسع و ذلک:لأنه لا مانع من ثبوت المقتضی لکل من الضدین فی نفسه،مع قطع النّظر عن الآخر،و لا استحالة فیه أصلا.

و الوجه فی ذلک هو:ان کلا من المقتضیین إنما یقتضی أثره فی نفسه مع عدم ملاحظة الآخر،فمقتضی البیاض مثلا إنما یقتضیه فی نفسه سواء أ کان هناک مقتض للسواد أم لم یکن،کما ان مقتضی السواد إنما یقتضیه کذلک،و إمکان هذا واضح،و لا نری فیه استحالة،فان المستحیل انما هو ثبوت المقتضی لکل من الضدین بقید التقارن و الاجتماع لا فی نفسه،أو اقتضاء شیء واحد بذاته لأمرین متنافیین فی الوجود،و هذا مصداق قولنا اقتضاء المحال محال،لا فیما إذا کان هناک مقتضیان کان کل واحد منهما یقتضی فی نفسه شیئاً مخصوصاً و أثراً خاصاً مع قطع النّظر عن ملاحظة الآخر.

و البرهان علی ذلک انه لو لا ما ذکرناه من إمکان ثبوت المقتضی لکل منهما فی نفسه لم یمکن استناد عدم المعلول إلی وجود مانعه أصلا،لأن أثر المانع کالرطوبة-مثلا-لا یخلو من أن یکون مضاداً للمعلول-و هو الإحراق-و ان لا یکون مضاداً له،فعلی الفرض الأول یستحیل ثبوت المقتضی للمعلول و الممنوع لیکون عدمه مستنداً إلی وجود مانعه،لفرض وجود ضده و هو أثر المانع،و قد

ص:14

سبق ان عند وجود أحد الضدین یستحیل ثبوت المقتضی للآخر،فیکون عدمه من جهة عدم المقتضی،لا من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضی له.و علی الفرض الثانی فلا مقتضی لکونه مانعاً منه،بداهة ان مانعیة المانع من جهة مضادة أثره للممنوع،فإذا فرض عدم مضادته له فلا موجب لکونه مانعاً أصلا.

و قد تبین لحد الآن انه لا مانع من أن یکون أحد الضدین مانعاً عن الآخر لیستند عدمه إلیه،لا إلی عدم مقتضیة،لفرض إمکان ثبوته فی نفسه،بحیث لو لا وجود الضد الآخر لکان یؤثر أثره،و لکن وجوده یزاحمه فی تأثیره و یمنعه عن ذلک،مثلا إذا فرض وجود مقتض لحرکة شیء إلی طرف المشرق و وجد مقتض لحرکته إلی طرف المغرب فکل من المقتضیین انما یقتضی الحرکة فی نفسه إلی کل من الجانبین،مع عدم ملاحظة الآخر،فعندئذ کان تأثیر کل واحد منهما فی الحرکة إلی الجانب الخاصّ متوقفاً علی عدم المانع منه،فإذا وجدت إحدی الحرکتین دون الأخری فلا محالة یکون عدم هذه مستنداً إلی وجود الحرکة الأولی لا إلی عدم مقتضیها،فان المقتضی لها موجود علی الفرض،و لو لا المانع لکان یؤثر أثره و لکن المانع هو«وجود تلک الحرکة»یزاحمه فی تأثیره.

علی الجملة فلا ریب فی إمکان ثبوت المقتضیین فی حد ذاتهما،حتی إذا کانا فی موضوع واحد أو محل واحد،کإرادتین من شخص واحد،أو سببین فی موضوع واحد،فضلا عما إذا کان فی موضوعین أو محلین،کإرادتین من شخصین،أو سببین فی موضوعین إذ لا مانع من ان یکون فی شخص واحد مقتض للقیام من جهة، و مقتض للجلوس من جهة أخری،و کلا المقتضیین موجود فی حد ذاتهما،مع الغض عن الآخر،فعندئذ إذا وجد أحد الفعلین دون الآخر فعدم هذا لا محالة یکون مستنداً إلی وجود ذاک،لا إلی عدم مقتضیة،لفرض ان المقتضی له موجود، و هو یؤثر أثره لو لا مزاحمة المانع له.

و نتیجة ما ذکرناه هی:ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من أن أحد

ص:15

الضدین إذا کان موجوداً یستحیل ثبوت المقتضی له-لا یتم،و منشأ ذلک غفلنه-قده-عن نقطة واحدة هی تخیل ان المقام من موارد الکبری المتسالم علیها و هی ان اقتضاء المحال محال،مع ان الأمر لیس کذلک،فان المقام أجنبی عنه فان اقتضاء المحال إنما یتحقق فی أحد موردین:

الأول-ما إذا کان هناک شیء واحد یقتضی بذاته امرین متنافیین فی الوجود.

الثانی-ما إذا فرض هناک ثبوت المقتضی لکل من الضدین بقید الاجتماع و التقارن،و من الواضح انه لا صلة لکلا الموردین بالمقام،و هو ما إذا کان هناک مقتضیان کان کل واحد منهما یقتضی شیئاً مخصوصاً،و أثراً خاصاً فی نفسه،بلا ربط له بالآخر.و هذا هو مراد القائلین ب«ان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده»فانهم بعد ما تسالموا علی الکبری-و هی وجوب مقدمة الواجب-قد نقحوا الصغری-و هی-کون عدم أحد الضدین مقدمة للضد الآخر-بالشکل الّذی بیناه ثم أخذوا النتیجة بضم الصغری إلی الکبری و هی حرمة الضد.

و اما النقطة الثالثة:فیرد علیها ان المعاندة و المنافرة بین الضدین لو سلم اقتضاؤها للتوقف المزبور فلا یسلم اقتضاؤها له بین النقیضین إذ لا یعقل التوقف بین النقیض و عدم نقیضه بداهة أن عدم الوجود عین العدم البدیل له فکیف یعقل توقف ذلک العدم علی عدم الوجود،لأنه من توقف الشیء علی نفسه و هو محال، -مثلا-عدم الإنسان عین العدم البدیل له فلا یکاد یمکن توقف العدم البدیل له علی عدمه،بداهة ان توقف شیء علی شیء یقتضی المغایرة و الاثنینیة بینهما فی الوجود،فضلا عن المغایرة فی المفهوم.و من الظاهر انه لا مغایرة بین عدم الإنسان-مثلا-و العدم البدیل له لا خارجاً و لا مفهوماً.

نعم المغایرة المفهومیة بین عدم العدم و الوجود ثابتة لکنه لا تغایر بینهما فی الخارج-مثلا-الإنسان مغایر مفهوماً مع عدم نقیضه و هو العدم البدیل له

ص:16

و لکنهما متحدان عیناً و خارجاً فان عدم عدم الإنسان عین الإنسان فی الخارج، إذاً لا معنی لتوقف تحقق أحد النقیضین علی عدم الآخر.

و هذا بخلاف الضدین،فانه لمکان المغایرة بینهما مفهوماً و خارجاً لا یکون توقف أحدهما علی عدم الآخر من توقف الشیء علی نفسه.

فما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من ان المعاندة و المنافرة بین الضدین لو اقتضت توقف أحدهما علی عدم الآخر لثبت ذلک فی النقیضین أیضا-لا یرجع إلی معنی محصل أصلا.

الوجه الثانی-ان عدم أحد الضدین لو فرض ثبوت المقتضی له أیضا یستند عدمه إلی وجود مقتضی الآخر،لا إلی وجود نفسه:

بیان ذلک:ان الصور المتصورة فی المقام ثلاثة لا رابع لها.

الأولی-ان یکون المقتضی لکل من الضدین موجوداً.

الثانیة-ان لا یکون المقتضی لشیء منهما موجوداً«عکس الأولی».

الثالثة-أن یکون المقتضی لأحدهما موجوداً دون المقتضی للآخر.

اما الصورتان الأخیرتان فالامر فیهما واضح،فان عدم ما لا مقتضی له مستند إلی عدم مقتضیة،لا إلی وجود الضد الآخر.

و إنما الکلام فی الصورة الأولی-فنقول:ان المقتضیین الموجودین فی عرض واحد لا یخلو ان من أن یکونا متساویین فی القوة،و ان یکون أحدهما أقوی من الآخر.

اما علی الأول:فلا یوجد شیء من الضدین لاستحالة تأثیر کل منهما أثره معاً،و تأثیر أحدهما المعین فیه دون الآخر ترجیح من دون مرجح،أو خلف أن فرض له مرجح.و من ذلک یعلم ان المانع من وجود الضد مع فرض ثبوت مقتضیة إنما هو وجود المقتضی للضد الآخر،لا نفس وجود الضد.و فی هذا الفرض بما ان کلا من المقتضیین یزاحم الآخر فی تأثیره،و یمنعه عن ذلک،فان

ص:17

تأثیر کل منهما منوط بعدم المانع عنه،و وجود مقتضی الضد الآخر مانع،فلا محالة یکون عدم کل من الضدین مستنداً إلی وجود المقتضی للآخر لا إلی نفسه.

و اما علی الثانی-فیؤثر القوی فی مقتضاه،و یکون مانعاً عن تأثیر المقتضی الضعیف،و الضعیف لا یمکن أن یکون مانعاً من القوی.

بیان ذلک ان القوی لمکان قوته یزاحم الضعیف و یمنعه من التأثیر فی مقتضاه،فنفس وجوده موجب لفقد شرط من شرائطه و هو عدم المزاحم،فانه شرط تأثیره و مصحح فاعلیته،فیکون عدم القوی شرطاً لتأثیر الضعیف، و وجوده مانعاً منه.

و علی هدی ذلک یعلم ان عدم تمامیة علیة الضعیف مستند إلی تمامیة علیة القوی و وجوده،و بما ان الضعیف لا یمکن أن یزاحم القوی فی تأثیره یکون تام الاقتضاء و الفاعلیة،فهو بصفته کذلک یزاحم الضعیف و یمنعه عن تأثیره فی معلوله،فعدم مزاحمة الضعیف-بالتالی-منته إلی ضعف فی نفسه بالإضافة إلی المقتضی الآخر،إذ لو کان قویاً مثله لزاحمه فی تأثیره لا محالة،فعدم قابلیته لأن یزاحم الآخر و قابلیة الآخر لأن یزاحمه لأجل عدم قوته بالإضافة إلیه و ان کان قویاً فی نفسه و تام الفاعلیة و الاقتضاء مع قطع النّظر عن مزاحمة الآخر له،و لذا لو لم یکن القوی فی البین لأثر الضعیف فی مقتضاه،ففی هذا الفرض یستند عدم الضد إلی وجود المقتضی القوی للضد الآخر،لا إلی نفس وجوده،و لا إلی عدم مقتضی نفسه،فانه موجود علی الفرض،و لکن المانع منعه عن تأثیره و هو وجود المقتضی القوی.

و علی الجملة:ففی ما إذا کان المقتضیان متفاوتین بالقوة و الضعف،فیستحیل ان یؤثر الضعیف فی مقتضاه،لأن تأثیر کل مقتض مشروط بعدم المانع المزاحم له،و القوی لمکان قوته مزاحم له و مع ذلک لو أثر الضعیف دون القوی للزم انفکاک المعلول عن علته التامة،و صدوره عن علته الناقصة،فان علیة القوی

ص:18

-کما عرفت-تامة فلا حالة منتظرة فیه أصلا،إذ الضعیف لمکان ضعفه لا یمکن أن یزاحمه،و علیة الضعیف ناقصة لوجود المانع المزاحم له،إذاً یستند عدم الضد الّذی یقتضیه السبب الضعیف إلی وجود السبب القوی،فانه مانع عن تأثیر الضعیف و مزاحم له،و إلا فالمقتضی له موجود.و قد سبق ان عدم المعلول إنما یستند إلی وجود المانع فی ظرف تحقق المقتضی و بقیة الشرائط.

و لنأخذ لذلک مثالین:

الأول-ما إذا فرض ثبوت المقتضی لکل من الضدین فی محل واحد، کإرادة الضدین من شخص واحد و کانت إرادته بالإضافة إلی أحدهما أقوی من إرادته بالإضافة إلی الآخر،کما لو کان هناک غریقان و قد تعلقت إرادته بإنقاذ کل واحد منهما فی نفسه،و لکن إرادته بالإضافة إلی إنقاذ أحدهما أقوی من إرادته بالإضافة إلی إنقاذ الآخر،من جهة ان أحدهما عالم و الآخر جاهل أو کان أحدهما صدیقه و الآخر أجنبیاً عنه،و غیر ذلک من الخصوصیات و العناوین الموجبة لکثرة الشفقة و المحبة بالإضافة إلی إنقاذ أحدهما دون الآخر،ففی مثل ذلک لا محالة یکون المؤثر هو الإرادة القویة دون الإرادة الضعیفة،فانها لمکان ضعفها تزاحمها الإرادة القویة،و تمنعها عن تأثیرها فی مقتضاها،و تلک لمکان قوتها لا تزاحم بها،إذاً عدم تحقق مقتضی الإرادة الضعیفة غیر مستند إلی وجود الضد الآخر،و لا إلی عدم مقتضیة،فان مقتضیة و هو الإرادة الضعیفة موجود علی الفرض،بل هو مستند إلی وجود المانع و المزاحم له،و هو الإرادة القویة.

الثانی-ما إذا فرض ثبوت المقتضی لکل من الضدین فی محلین و موضوعین، کما إذا کان کل منهما متعلقاً لإرادة شخص،و لکن کانت إرادة أحدهما أقوی من إرادة الآخر کما إذا أراد أحد الشخصین-مثلا-حرکة جسم إلی جانب و أراد الآخر حرکة ذلک الجسم إلی جانب آخر،و هکذا ففی مثل ذلک أیضا یکون المؤثر هو الإرادة الغالبة دون الإرادة المغلوبة،فعدم أثرها أیضاً غیر مستند إلی

ص:19

وجود أثر تلک الإرادة،بل هو مستند إلی مزاحمتها بها لمکان ضعفها و عدم مزاحمة تلک بها لمکان قوتها.

فالنتیجة-اذن-لا یمکن فرض وجود صورة یستند عدم الضد فی تلک الصورة إلی وجود الضد الآخر،لا إلی وجود سببه،أو عدم مقتضی نفسه.

أقول:هذا الوجه فی غایة المتانة و الاستقامة،و لا مناص من الالتزام به و لا سیما بذلک الشکل الّذی بیناه.

و ذکر المحقق صاحب الکفایة(قده)وجهاً ثالثاً لاستحالة مقدمیة عدم الضد للضد الآخر.و إلیک نصه:

«و ذلک لأن المعاندة و المنافرة بین الشیئین لا تقتضی إلا عدم اجتماعهما فی التحقق،و حیث لا منافاة أصلا بین أحد العینین و ما هو نقیض الآخر و بدیله، بل بینهما کمال الملاءمة کان أحد العینین مع نقیض الآخر و ما هو بدیله فی مرتبة واحدة،من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدم أحدهما علی الآخر کما لا یخفی، فکما ان قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر کذلک فی المتضادین».

أقول:توضیح ما أفاده-قده-ان المنافرة و المعاندة بین الضدین کما تقتضی استحالة اجتماعهما فی التحقق و الوجود فی زمن واحد کذلک تقتضی استحالة اجتماعهما فی مرتبة واحدة،فإذا استحال اجتماعهما فی مرتبة واحدة کان عدم أحدهما فی تلک المرتبة ضروریاً و إلا فلا بد أن یکون وجوده فیها کذلک،لاستحالة ارتفاع النقیضین عن الرتبة-مثلا-البیاض و السواد متضادان و قضیة مضادة أحدهما مع الآخر و معاندتهما استحالة اجتماعهما فی الوجود فی موضوع،و فی آن واحد،أو رتبة واحدة،فکما ان استحالة اجتماعهما فی زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما فی ذلک الزمان،کذلک استحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة تستلزم ضرورة عدم واحد منهما فی تلک الرتبة لاستحالة ارتفاع النقیضین عن المرتبة

ص:20

أیضاً بان لا یکون وجوده فی تلک المرتبة و لا عدمه.

و من ذلک یعلم ان مراده-قده-من انه لا منافاة بین وجود أحد الضدین و عدم الآخر،بل بینهما کمال الملاءمة ما ذکرناه من ان المضادة بین شیئین لا تقتضی إلا استحالة اجتماعهما فی التحقق و الوجود فی آن واحد أو رتبة واحدة،و إذا استحال تحققهما فی مرتبة فلا محالة یکون عدم أحدهما فی تلک المرتبة واجباً-مثلا- عدم البیاض فی مرتبة وجود السواد و کذلک عدم السواد فی مرتبة وجود البیاض ضروری،کیف و لو لم یکن عدم البیاض فی تلک المرتبة یلزم أحد محذورین:اما ارتفاع النقیضین عن تلک المرتبة لو لم یکن وجود البیاض أیضاً فی تلک المرتبة، أو اجتماع الضدین فیها إذا کان البیاض موجوداً فیها،و لیس غرضه من ذلک نفی المقدمیة و التوقف بمجرد کمال الملاءمة بینهما لیرد علیه ما أورده شیخنا المحقق(قده) من أن کمال الملاءمة بینهما لا یدل علیه.فان بین العلة و المعلول کمال الملاءمة و مع ذلک لا یکونان متحدین فی الرتبة.

کما ان غرضه(قده)من قوله:«کما ان قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر کذلک فی المتضادین»هو ما ذکرناه،و لیس غرضه من ذلک الاستدلال علی نفی التوقف و المقدمیة بقیاس المساواة،بدعوی:

ان عدم أحد الضدین فی مرتبة وجوده لأنهما نقیضان و النقیضان فی رتبة واحدة و بما ان وجود أحد الضدین فی مرتبة وجود الآخر لأن ذلک مقتضی التضاد بینهما کان عدم أحد الضدین فی مرتبة وجود الآخر.

و ذلک لما ذکرناه غیر مرة من ان التقدم و التأخر و التقارن بین شیئین تارة تلاحظ بالإضافة إلی الزمان،و معنی ذلک ان الملاک فی تقدم شیء علی شیء آخر أو تأخره عنه أو تقارنه معه هو نفس الزمان لا غیره.و تارة أخری تلاحظ بالإضافة إلی الرتبة مع تقارنهما بحسب الزمان،و حینئذ فالملاک فیه شیء آخر غیر الزمان.

ص:21

اما إذا کان التقدم و التأخر بین شیئین أو التقارن بینهما بالزمان فکل ما هو متحد مع المتقدم فی الزمان متقدم علی المتأخر بعین الملاک الموجود فی المتقدم، و هو کونه فی الزمان المتقدم و کل ما هو متحد مع المتأخر فی الزمان متأخر عن المتقدم بعین الملاک الموجود فی المتأخر،و هو کونه فی الزمان المتأخر.و کل ما هو متحد مع المقارن فی الزمان مقارن لتحقق ملاک التقارن فیه،و هذا من الواضحات فلا یحتاج إلی مئونة بیان.

و اما إذا کان التقدم و التأخر بینهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر لیس کذلک،فان ما هو متحد مع المتقدم فی الرتبة لا یلزم أن یکون متقدماً علی المتأخر و کذا ما هو متحد مع المتأخر فیها أو المقارن لا یلزم أن یکون متأخراً،أو مقارناً-مثلا-العلة متقدمة علی المعلول رتبة،و ما هو متحد معها فی الرتبة -و هو العدم البدیل لها-لا یکون متقدماً علیه،و المعلول متأخر عن العلة رتبة -و ما هو متحد معه و هو عدمه البدیل له-لا یکون متأخراً عنها.

و الوجه فی ذلک هو:ان التقدم أو التأخر بالرتبة و الطبع لا یکون جزافاً، بل لا بد أن یکون ناشئاً من ملاک مقتض له،فکل ما کان فیه الملاک الموجب لتقدمه أو تأخره فهو،و إلا فلا یعقل فیه التقدم أو التأخر أصلا،فهذا الملاک تارة یختص بوجود الشیء فلا یمکن الالتزام بالتقدم أو التأخر فی عدمه،و تارة أخری یختص بعدمه،فلا یعقل الالتزام به فی وجوده،فانه تابع لوجود الملاک،ففی کل مورد لا یوجد فیه الملاک لا یمکن فیه التقدم أو التأخر،بل لا بد فیه من الالتزام بالاتحاد و المعیة فی الرتبة،فان ملاک المعیة انتفاء ملاک التقدم و التأخر،لا انها ناشئة من ملاک وجودی.

و علی ضوء ذلک نقول:ان تقدم العلة علی المعلول بملاک ترشح وجود المعلول من وجود العلة،کما ان تقدم الشرط علی المشروط بملاک توقف وجوده علی وجوده،و تقدم عدم المانع علی الممنوع بملاک توقف وجوده علیه،و اما عدم

ص:22

العلة فلا یکون متقدماً علی وجود المعلول،لعدم ملاک التقدم فیه،کما ان عدم المعلول لا یکون متأخراً عن وجود العلة مع انه فی مرتبة وجود المعلول،لعدم تحقق ملاک التأخر فیه،و کذا لا یکون عدم الشرط متقدماً علی المشروط،و لا عدم المشروط متأخراً عن وجود الشرط،لاختصاص ملاک التقدم و التأخر بوجود الشرط و وجود المشروط دون وجود أحدهما و عدم الآخر.

و علی الجملة:فما کان مع المتقدم فی الرتبة کالعلة و الشرط لیس له تقدم علی المعلول و المشروط،إذ التقدم بالعلیة شأن العلة دون غیرها،و التقدم بالشرطیة شأن الشرط دون غیره،فان التقدم بالعلیة أو الشرطیة أو نحوها الثابت لشیء لا یسری إلی نقیضه المتحد معه فی الرتبة.و لذا قلنا انه لا تقدم لعدم العلة علی المعلول و لا للعلة علی عدم المعلول،مع انه لا شبهة فی تقدم العلة علی المعلول.و السر فیه -ما عرفت-من ان التقدم و التأخر الرتبیین تابعان للملاک،فکل ما لا یکون فیه الملاک لا یعقل فیه التقدم و التأخر أصلا،بل لا مناص فیه من الحکم بالمعیة و الاتحاد فی الرتبة.

و من ذلک یظهر الحال فی الضدین،إذ یمکن أن یکون عدم أحدهما متقدماً علی وجود الآخر بملاک موجب له،و لا یکون ما هو متحد معه فی الرتبة متقدماً علیه،فمجرد اتحاد الضدین و النقیضین فی الرتبة لا یأبی ان یکون عدم الضد متقدماً علی الضد الآخر،مع عدم تقدم ما هو فی مرتبته علیه،لاختصاص ملاک التقدم بعدم کل منهما بالإضافة إلی وجود الآخر،دون عدم کل منهما بالإضافة إلی وجوده،و دون وجود کل منهما بالإضافة إلی وجود الآخر.

و لأجل ذلک کان ما هو متحد مع العلة فی الرتبة-و هو عدمها-متحداً مع المعلول فی الرتبة،و کان ما هو متحد مع المعلول فی الرتبة و هو عدمه متحداً مع العلة فی الرتبة،مع ان العلة متقدمة علی المعلول رتبة.

ثم ان ما ذکره فی النقیضین-من أن قضیة المنافاة بینهما لا تقتضی تقدم

ص:23

أحدهما فی ثبوت الآخر-لا بد من فرضه فی طرف واحد منهما،و هو طرف الوجود دون کلا الطرفین،و ذلک لأن وجود الشیء یغایر عدم نقیضه-أعنی به عدم العدم-مفهوماً،و اما عدم الشیء فهو بنفسه نقیض الشیء،و لا یغایره بوجه کی یقال ان ارتفاع الوجود یلائم نقیضه من دون أن یکون بینهما تأخر و تقدم.مثلا وجود الإنسان یغایر عدم نقیضه(عدم الإنسان)مفهوماً،فان مفهوم عدم العدم غیر مفهوم الوجود،و ان کان فی الخارج عینه.فإذاً یمکن ان یقال:ان الشیء کالإنسان متحد فی الرتبة مع عدم نقیضه.و اما عدم الإنسان فلا یغایر عدم نقیضه(وجود الإنسان)حتی مفهوماً،فان نقیضه هو الإنسان،و عدم نقیضه هو عدم الإنسان.إذاً فلا معنی لأن یقال:ان عدم الإنسان متحد فی الرتبة مع عدم الإنسان.

فالنتیجة لحد الآن قد أصبحت ان التمسک بقیاس المساواة إنما یصح فی التقدم الزمانی،فان ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم لا محالة دون ما إذا کان التقدم فی الرتبة.

و قد عرفت ان غرض المحقق-صاحب الکفایة(قده)-لیس التمسک بقیاس المساواة لإثبات نفی المقدمیة و التقدم لعدم أحد الضدین للضد الآخر لیرد علیه ما بیناه،بل غرضه ما ذکرناه سابقاً.هذا غایة توجیه لما أفاده(قده) فی المقام.

و قد ظهر من ضوء بیاننا هذا امران:

الأول-بطلان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من التمسک لإثبات کون عدم أحد الضدین فی مرتبة الضد الآخر،بقیاس المساواة.و قد تقدم بیانه مع جوابه مفصلا فلا حاجة إلی الإعادة.

الثانی-بطلان ما أفاده شیخنا المحقق(قده)من أن المعیة فی الرتبة کالتقدم أو التأخر الرتبی لا بد أن تکون ناشئة من ملاک وجودی،فلا یکفی فیها انتفاء ملاک

ص:24

التقدم أو التأخر.

و الوجه فی ذلک ما عرفت من أن التقدم أو التأخر لا بد ان یکون ناشئاً من ملاک وجودی موجب له،و اما المعیة فی الرتبة فلا.

و السر فی ذلک ان کل شیء إذا قیس علی غیره و لم یکن بینهما ملاک التقدم و التأخر فهو فی رتبته لا محالة،إذ لا نعنی بالمعیة فی الرتبة إلا عدم تحقق موجب التقدم و التأخر بینهما،ضرورة انها لا تحتاج إلی ملاک آخر غیر عدم وجود ملاک التقدم و التأخر،فکل ما لم یکن متقدماً علی شیء و لا متأخراً عنه فی الرتبة،کان متحداً معه فی الرتبة لا محالة.

و بعد بیان هذا نقول:انه یمکن المناقشة فیما أفاده المحقق صاحب الکفایة (قدس سره)أیضا و الوجه فی ذلک هو ان ما أفاده(قده)مبتن علی أصل فاسد و هو ان استحالة اجتماع الضدین أو النقیضین إنما تکون مع وحدة الرتبة،و اما مع تعددها فلا استحالة أبداً،أو فقل:انه کما یعتبر فی التناقض أو التضاد وحدة الزمان،کذلک یعتبر فیه وحدة الرتبة،و مع اختلافها فلا تناقض و لا تضاد.

و لکن هذا الأصل بمکان من الفساد و ذلک لأن التضاد من صفات الوجود الخارجی فالمضادة و المعاندة بین السواد و البیاض أو بین الحرکة و السکون-مثلا- إنما هی فی ظرف الخارج بداهة انه مع قطع النّظر عن وجودهما فی الخارج لا مضادة و لا معاندة بینهما أبداً.

و علی الجملة:فالمضادة و المماثلة و المناقضة جمیعاً من الصفات التی تعرض الموجودات الخارجیة،لا الرتب العقلیة،ضرورة ان الوجود و العدم انما یستحیل اجتماعهما فی الخارج،و کذا السواد و البیاض،و الحرکة و السکون،و کل ما یکون من هذا القبیل،و لذا لو فرضنا ان الضدین کانا مختلفین فی الرتبة عقلا کان اجتماعهما خارجا فی موضوع واحد محالا،فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما فی الوجود الخارجی فی آن واحد و فی موضوع فارد،سواء أ کانا مختلفین بحسب الرتبة أم

ص:25

کانا متحدین فیها،إذ العبرة إنما هی بالمقارنة الزمانیة،و من المعلوم ان المختلفین بحسب الرتبة قد یقترنان بحسب الزمان کالعلة و المعلول.

و علیه فلا یتم ما فی الکفایة من ان المعاندة و المنافرة بین الضدین تقتضی استحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة أیضا،فإذا استحال اجتماعهما فیها فلا محالة یکون عدم أحدهما فی تلک المرتبة ضروریاً،و إلا لزم اما ارتفاع الضدین أو اجتماعهما،و کلاهما محال.

و الوجه فیه ما عرفت من ان المعاندة و المنافرة بین الضدین إنما هی بلحاظ وجودیهما فی الخارج و إلا فلا معاندة و لا مضادة بینهما أبداً،فإذاً لا مانع من أن یکون عدم أحدهما متقدماً علی الآخر بالرتبة،و لا یلزم علیه المحذور المذکور أصلا،و اما عدم تقدم أحد الضدین علی الآخر فلیس من ناحیة المضادة بینهما، لیقال ان قضیتها اتحادهما فی الرتبة،بل من ناحیة انتفاء ملاک التقدم و التأخر.

و من هنا لم یعدوا من الوحدات المعتبرة فی التناقض أو التضاد وحدة الرتبة و هذا منهم شاهد علی عدم اعتبارها فیه.

و ذکر المحقق صاحب الکفایة(قده)وجهاً رابعاً لاستحالة کون عدم أحد الضدین مقدمة للضد الآخر بأنه مستلزم للدور،فان التمانع بینهما لو کان موجباً لتوقف وجود کل منهما علی عدم الآخر من باب توقف المعلول علی عدم مانعه لاقتضی ذلک توقف عدم کل منهما علی وجود الضد الآخر من باب توقف عدم الشیء علی وجود مانعه،فیلزم حینئذ توقف وجود کل منهما علی عدم الآخر و توقف عدم کل منهما علی وجود الآخر.و هذا محال.

و قد أورد علیه کما فی الکفایة بان توقف وجود أحد الضدین علی عدم الآخر فعلی،فان وجود السواد فی محل متوقف فعلا علی عدم تحقق البیاض فیه و اما توقف عدم الضد علی وجود الآخر فهو شأنی،لا فعلی فلا دور.

و الوجه فی ذلک هو ان وجود الضد فی الخارج لا محالة یکون بوجود علته

ص:26

التامة من المقتضی و الشرط و عدم المانع،و من الواضح ان توقف وجود المعلول علی جمیع اجزاء علته و منها عدم المانع فعلی،لأن للجمیع دخلا فعلا فی تحققه و وجوده فی الخارج،و هذا معنی ان توقف وجود الضد علی عدم الآخر فعلی، فانه من توقف وجود المعلول علی عدم مانعه فی ظرف تحقق المقتضی و الشرط.

و اما عدم الضد فلا یتوقف علی وجود الضد الآخر فعلا،لأن عدمه یستند إلی عدم المقتضی له لا إلی وجود المانع فی ظرف تحقق المقتضی مع بقیة الشرائط،لیکون توقفه علیه فعلیاً،بل یحتمل استحالة تحقق المقتضی له أصلا، لأجل احتمال ان یکون وقوع أحد الضدین فی الخارج و عدم وقوع الآخر فیه منتهیاً إلی تعلق الإرادة الأزلیة بالأول و عدم تعلقها بالثانی،فانها علة العلل و جمیع الأسباب الممکنة لا بد أن تنتهی إلی سبب واجب و هو الإرادة الأزلیة فیکون عدم الضد عندئذ دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی،لا إلی وجود المانع،لیلزم الدور.

و ما قیل:-من أن هذا إنما یتم فیما إذا کان الضدان منتهیین إلی إرادة شخص واحد فان إرادة الضدین من شخص واحد محال سواء أ کانت الإرادتان منتهیتین إلی الإرادة الأزلیة أم لم تنتهیا إلیها،فإذا أراد أحدهما فلا محالة یکون عدم الآخر مستنداً إلی عدم الإرادة و المقتضی لا إلی وجود المانع.و اما إذا کان کل منهما متعلقاً لإرادة شخص فلا محالة یکون عدم أحدهما مستنداً إلی وجود المانع،لا إلی عدم ثبوت المقتضی له،لفرض ان المقتضی له موجود و هو الإرادة،فان إرادة الضدین من شخصین لیست بمحال-مدفوع بان عدم الضد هنا أیضا مستند إلی قصور فی المقتضی،لا إلی وجود الضد الآخر مع تمامیته،فان الإرادة الضعیفة مع مزاحمتها بالإرادة القویة لا تؤثر.لخروج متعلقها عن تحت القدرة،فلا یکون المغلوب منهما فی إرادته قادراً علی إیجاد متعلقها.

و ان شئت فقل:ان الفعلین المتضادین اما ان یلاحظا بالإضافة إلی شخص واحد أو بالإضافة إلی شخصین،فعلی الأول کان عدم ما لم یوجد منهما مستنداً إلی

ص:27

عدم تعلق الإرادة به فعدمه لعدم مقتضیة لا لوجود المانع،و علی الثانی یستند عدمه إلی عدم الشرط أعنی به عدم القدرة علی الإیجاد مع تعلق الإرادة القویة بخلافه.و هذا التقریب ألخص و امتن،فانه لا یتوقف علی انتهاء أفعال العباد إلی الإرادة الأزلیة حتی یرد علیه ان افعال العباد غیر منتهیة إلی إرادة اللّه تعالی أولاً، و لیست إرادته سبحانه أزلیة ثانیاً،کما تقدم الکلام فیه مفصلا فی بحث الطلب و الإرادة.

و حاصل الاعتراض علی ما ذکره المحقق صاحب الکفایة(قده)-من أن وجود أحد الضدین إذا توقف علی عدم الآخر لزم الدور،فان عدم الآخر أیضاً متوقف علی وجود الأول توقف عدم الشیء علی وجود مانعه-هو ان عدم أحد الضدین لا یستند إلی وجود الآخر أبداً بل یستند إلی عدم المقتضی أو عدم الشرط فالتوقف من طرف الوجود فعلی و اما من طرف العدم فلا توقف إلا علی فرض محال و هو ان یفرض وجود المقتضی للوجود مع جمیع شرائطه،هذا غایة ما یمکن ان یقال فی دفع غائلة استلزام الدور.

و لکنه یرد علیه ما أفاده فی الکفایة و حاصله ان المورد إذا سلم إمکان استناد عدم أحد الضدین إلی وجود الآخر و ان لم یتحقق ذلک خارجاً فمحذور الدور یبقی علی حاله لا محالة إذ کیف یمکن ان یکون ما هو من اجزاء العلة لشیء معلولاً له بعینه.و اما إذا لم یسلم ذلک و ذهب إلی استحالة استناد عدم أحد الضدین إلی وجود الآخر کما هو مقتضی التقریب المتقدم فمعناه إنکار توقف أحد الضدین علی عدم الآخر،فانه إذا استحال ان یکون شیء مانعاً عن ضده فکیف یمکن أن یقال ان ضده یتوقف علی عدمه توقف الشیء علی عدم مانعه.

و بعبارة واضحة ان المدعی انما هو توقف أحد الضدین علی عدم الآخر توقف الشیء علی عدم مانعه،فإذا فرض انه لا یمکن أن یکون مانعاً فکیف یمکن ان یکون عدمه موقوفاً علیه.

ص:28

ثم ان المحقق الخوانساری(قده)قد فصل بین الضد الموجود و الضد المعدوم و ربما نسب هذا التفصیل إلی شیخنا العلامة الأنصاری(قده)أیضاً بدعوی ان وجود الضد إنما یتوقف علی عدم الضد الآخر إذا کان موجوداً،لا مطلقاً بمعنی ان المحل إذا کان مشغولا بأحد الضدین فوجود الضد الآخر فی هذا المحل یتوقف علی ارتفاع ذلک الضد،و اما إذا لم یکن مشغولا به فلا یتوقف وجوده علی عدمه و نتیجة ذلک هی ان عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر دون عدم الضد المعدوم.

بیان ذلک:ان المحل اما أن یکون خالیاً من کل من الضدین،و اما أن یکون مشغولا بأحدهما دون الآخر،فعلی الأولی:فالمحل قابل لکل منهما بما هو مع قطع النّظر عن الآخر،و قابلیة المحل لذلک فعلیة فلا تتوقف علی شیء، فعندئذ إذا وجد المقتضی لأحدهما فلا محالة یکون موجوداً من دون توقفه علی عدم وجود الآخر-مثلا-إذا کان الجسم خالیاً من کل من السواد و البیاض فقابلیته لعروض کل منهما علیه عندئذ فعلیة،فإذا وجد مقتضی السواد فیه فلا محالة یکون السواد موجوداً،من دون أن یکون لعدم البیاض دخل فی وجوده أصلا..

فالنتیجة:ان وجود الضد فی هذا الفرض لا یتوقف علی عدم الضد الآخر و علی الثانی-فالمحل المشغول بالضد لا یقبل ضداً آخر فی عرضه،بداهة ان المحل غیر قابل بالذات لعروض کلا الضدین معاً.نعم یقبل الضد الآخر بدلا عنه،و علیه فلا محالة یتوقف وجود الضد الآخر علی ارتفاع الضد الموجود، ضرورة ان الجسم الأسود لا یقبل البیاض کما ان الجسم الأبیض لا یقبل السواد، فوجود البیاض لا محالة-یتوقف علی خلو الجسم من السواد لیقبل البیاض، و کذا وجود السواد یتوقف علی خلوه من البیاض،لیکون قابلا لعروض السواد،و هذا بخلاف الضد الموجود فانه لا یتوقف علی شیء عدا ثبوت مقتضیة.

ص:29

أقول:ان مرد هذا التفصیل إلی ان الأشیاء محتاجة إلی العلة و السبب فی حدوثها لا فی بقائها،فهی فی بقائها مستغنیة.

بیان ذلک ان الحادث إذا کان فی بقائه غیر محتاج إلی المؤثر کان وجود الحادث المستغنی عن العلة مانعاً عن حدوث ضده فلا محالة یتوقف حدوث ضده علی ارتفاعه.و اما إذا کان الحادث محتاجاً فی بقائه إلی المؤثر فان لم یکن لضده مقتض فعدمه یستند إلی عدم مقتضیة،و ان کان له مقتض و لم یکن شرطه متحققاً فعدمه یستند إلی عدم شرطه،و ان کان شرطه أیضا موجوداً و مع ذلک کان معدوماً فهو مستند إلی وجود مقتضی البقاء المانع من تأثیر مقتضی ضده،اذن لا فرق بین الضد الموجود و غیر الموجود فی أن وجود الشیء لا یتوقف علی عدم ضده، بل یتوقف علی عدم مقتضی ضده إذا کان مقتضی الشیء و شرطه موجوداً فی الخارج.

إذا عرفت ذلک فلنأخذ بدرس هذه النقطة(استغناء البقاء عن المؤثر)مرة فی الأفعال الاختیاریة،و مرة أخری فی الموجودات التکوینیة.

اما فی الأفعال الاختیاریة التی هی محل الخلاف فی المسألة فهی بدیهیة البطلان و لو سلمنا انها صحیحة فی الموجودات التکوینیة.و الوجه فی ذلک ما ذکرناه فی بحث الطلب و الإرادة من ان الفعل الاختیاری مسبوق باعمال القدرة و الاختیار و هو -فعل اختیاری للنفس-و لیس من مقولة الصفات،و واسطة بین الإرادة و الأفعال الخارجیة،فالفعل فی کل آن یحتاج إلیه،و یستحیل بقاؤه بعد انعدامه و انتفائه.

أو فقل:ان الفعل إذا کان تابعاً لاعمال قدرة الفاعل فلا محالة کان الفاعل إذا أعمل قدرته فیه تحقق فی الخارج،و ان لم یعملها فیه استحال تحققه،و کذا ان استمر علی إعمال القدرة فیه استمر وجوده،و ان لم یستمر علیه استحال استمراره،و هذا واضح.

و علی الجملة لا فرق بین حدوث الفعل الاختیاری و بقائه فی الحاجة إلی السبب و العلة(و هو إعمال القدرة)فان سر الحاجة و هو إمکانه الوجودیّ و فقره الذاتی

ص:30

کامن فی صمیم ذاته و وجوده،مع ان البقاء هو الحدوث،غایة الأمر انه حدوث ثان و وجود آخر فی مقابل الوجود الأول،و الحدوث هو الوجود الأول غیر مسبوق بمثله،و علیه فإذا تحقق فعل فی الخارج من الفاعل المختار کالتکلم-مثلا- الّذی هو مضاد للسکوت،أو الحرکة التی هی مضادة للسکون،أو الصلاة التی هی منافیة للإزالة،فهذا الفعل کما انه فی الآن الأول بحاجة إلی إعمال القدرة فیه و الاختیار،کذلک بحاجة إلیه فی الآن الثانی و الثالث و هکذا،فلا یمکن ان نتصور استغناءه فی بقائه عن الفاعل بالاختیار.

و علی هذا الضوء لا فرق بین الضد الموجود و المعدوم،إذ کما ان تحقق کل منهما فی الزمان الأول کان متوقفاً علی وجود مقتضیة(الاختیار و إعمال القدرة) کذلک تحققه فی الزمان الثانی کان متوقفاً علیه.و قد أشرنا آنفاً ان نسبة بقاء الضد الموجود فی الآن الثانی کنسبة حدوث الضد المعدوم فیه فی الحاجة إلی المقتضی و فاعل ما منه الوجود،فکما ان الأول لا یتوقف علی عدم الثانی فکذلک الثانی لا یتوقف علی عدم الأول.

أو فقل:ان کل فعل اختیاری ینحل إلی أفعال متعددة بتعدد الآنات و الأزمان فیکون فی کل آن فعل صادر بالإرادة و الاختیار،فلو انتفی الاختیار فی زمان یستحیل بقاء الفعل فیه،و لذلک لا فرق بین الدفع و الرفع عقلا إلا بالاعتبار هو ان الدفع مانع عن الوجود الأول و الرفع مانع عن الوجود الثانی، فکلاهما فی الحقیقة دفع،و مثال ذلک ما إذا أراد المکلف فعل الإزالة دون الصلاة،فکما ان تحقق کل واحدة منهما فی الزمن الأول کان منوطاً باختیاره و إعمال القدرة فیه،فکذلک تحقق کل منهما فی الزمن الثانی کان منوطاً باختیاره و إعمال القدرة فیه،فهما من هذه الناحیة علی نسبة واحدة.

فالنتیجة:ان احتیاج الأفعال الاختیاریة إلی الإرادة و الاختیار من الواضحات الأولیة فلا یحتاج إلی مئونة بیان و إقامة برهان.

ص:31

و أما فی الموجودات التکوینیة فالامر أیضاً کذلک،إذ لا شبهة فی حاجة الأشیاء إلی علل و أسباب فیستحیل ان توجد بدونها.

و سر حاجة تلک الأشیاء بصورة عامة إلی العلة و خضوعها لها هو ان الحاجة کامنة فی ذوات تلک الأشیاء،لا فی أمر خارج عنها،فان کل ممکن فی ذاته مفتقر إلی الغیر و متعلق به،سواء أ کان موجوداً فی الخارج أم لم یکن،ضرورة ان فقرها کامن فی نفس وجوده،و إذا کان الأمر کذلک فلا فرق بین الحدوث و البقاء فی الحاجة إلی العلة،فان سر الحاجة و هو إمکان الوجود لا ینفک عنه،کیف فان ذاته عین الفقر و الإمکان،لا انه ذات لها الفقر.

و علی أساس ذلک فکما ان الأشیاء فی حدوثها فی أمس الحاجة إلی سبب و علة،فکذلک فی بقائها،فلا یمکن أن نتصور وجوداً متحرراً عن تلک الحاجة أو فقل:ان النقطة التی تنبثق منها حاجة الأشیاء إلی مبدأ الإیجاد لیست هی حدوثها،لأن هذه النظریة تستلزم تحدید حاجة الممکن إلی العلة من ناحیتین:

المبدأ و المنتهی.

اما من ناحیة المبدأ فلأنها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث و هی الأشیاء الحادثة بعد العدم،و اما إذا فرض ان للممکن وجوداً مستمراً بصورة أزلیة لم تکن فیه حاجة إلی المبدأ،و هذا لا یطابق مع الواقع،إذ الممکن یستحیل وجوده من دون علة و سبب،و إلا انقلب الممکن واجباً و هذا خلف. و اما من ناحیة المنتهی فلأن الأشیاء علی ضوء هذه النظریة تستغنی فی بقائها عن المؤثر،و من الواضح انها نظریة خاطئة لا تطابق الواقع،کیف فان حاجة الأشیاء إلی ذلک المبدأ کامنة فی صمیم وجودها کما عرفت.

تلخص ان هذه النظریة بما انها تستلزم هذین الخطأین فی المبدأ،و توجب تحدیده فی نطاق خاص و إطار مخصوص فلا یمکن الالتزام بها.

و الصحیح أن منشأ حاجة الأشیاء إلی المبدأ و خضوعها له خضوعاً ذاتیاً

ص:32

هو إمکانها الوجودیّ و فقرها الواقعی.

و علی ضوء هذا البیان قد اتضح انه لا فرق بین الضد الموجود و الضد المعدوم فکما ان الضد المعدوم یحتاج فی حدوثه إلی سبب و علة،کذلک الضد الموجود یحتاج فی وجوده فی الآن الثانی و الثالث،و هکذا إلی سبب و علة و لا یستغنی عنه فی لحظة من لحظات وجوده،و نسبة حاجة الضد الموجود فی بقائه إلی السبب و العلة، و الضد المعدوم فی حدوثه إلی ذلک علی حد سواء.

أو فقل:ان المحل کما انه فی نفسه قابل لکل من الضدین حدوثاً،فان قابلیته لذلک ذاتیة،کما ان عدم قابلیته لقبول کلیهما من ذاتیاته،فوجود کل منهما و عروضه لذلک المحل منوط بتحقق علته،فعلة أی منهما وجدت کان موجوداً لا محالة.کذلک حال المحل فی الآن الثانی،فانه قابل لکل منهما بعین تلک النسبة فان بقاء الضد الموجود أو حدوث الضد الثانی منوط بوجود علته،فکما ان وجود الضد المعدوم فی هذا الآن منوط بتحقق علته کذلک بقاء الضد الموجود فنسبة تحقق علة وجود ذلک الضد،و تحقق علة وجود الضد الموجود فی ذلک الآن علی حد سواء،و علیه فعلة وجود أی منهما وجدت فی تلک الحال کان موجوداً لا محالة بلا فرق بین الضد الموجود و المعدوم.

و قد تبین مما مر:ان المعلول یرتبط بالعلة ارتباطاً ذاتیاً و یستحیل انفکاک أحدهما عن الآخر،فلا یعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة،کما لا یمکن أن تبقی العلة و المعلول غیر باق.و قد عبر عن ذلک بالتعاصر بین العلة و المعلول زماناً.

و قد یناقش فی ذلک الارتباط:بأنه مخالف لظواهر عدة من الموجودات الکونیة التی هی باقیة بعد انتفاء علتها،فهی تکشف عن عدم صحة قانون التعاصر،و انه لا مانع من بقاء المعلول و استمرار وجوده بعد انتفاء علته.

و ذلک کالعمارات التی بناها البناءون و آلاف من العمال فانها بعد انتهاء عملیة العمارة و البناء تبقی سنین متطاولة.و کالجسور و الطرق و وسائل النقل المادیة و المکائن

ص:33

و المصانع و ما شاکلها مما شاده المهندسون و الفنانون فی شتی میادین العلم،فانها بعد أن انتهت عملیتها بید هؤلاء الفنانین و العمال تبقی إلی أمد بعید من دون علة مباشرة لها.

و کالجبال و الأحجار و الأشجار و نحوها من الموجودات الطبیعیة علی سطح الأرض فانها باقیة و لم تکن فی بقائها بحاجة إلی علة مباشرة لها.

و الخلاصة:ان المناقش قد عارض قانون التعاصر بظواهر تلک الأمثلة التی تکشف بظاهرها عن ان المعلول لا یحتاج فی استمرار وجوده و بقائه إلی علة، بل هو باق مع انتفاء علته.

و الجواب عن تلک المناقشة:انها قد نشأت عن عدم فهم معنی العلیة فهما صحیحاً کاملا.و قد تقدم بیان ذلک،و قلنا هناک ان حاجة الأشیاء إلی مبدأ و سبب کامنة فی صمیم ذاتها و لا یمکن أن تملک حریتها بعد حدوثها.

و الوجه فی ذلک هو:ان علة تلک الأشیاء و الظواهر حدوثاً غیر علتها بقاء.و بما ان المناقش لم ینظر إلی علة تلک الظواهر لا حدوثاً و لا بقاء نظرة عمیقة صحیحة وقع فی هذا الخطأ،لأن ما هو معلول للمهندسین و البناءین و آلاف العمال فی بناء العمارات و الدور و صنع الطرق و الجسور و الوسائل المادیة الأخری من المکائن و السیارات و غیرها إنما هو نفس عملیة صنعها و تصمیمها نتیجة عدة من الحرکات و الجهود التی یقوم بها العمال و نتیجة تجمیع المواد الخام من الحدید و الخشب و الآجر و غیرها من المواد لتصنیع السیارات و تعمیر العمارات و ترکیب سائر الآلات، و هذه الحرکات هی المعلولة للعمال و الصادرة عنهم و لذا تنقطع تلک الحرکات بمجرد اضراب العمال عن العمل و کف أیدیهم عنها.

و اما بقاء تلک الظواهر و الأشیاء علی وضعها الخاصّ فهو معلول لخصائص تلک المواد الطبیعیة و حیویتها،و قوة الجاذبیة العامة التی تفرض علیها المحافظة علی وضعها.نظیر اتصال الحدید بما فیه القوة الکهربائیة فانها تجذب الحدید بقوة

ص:34

جاذبیة طبیعیة تجره إلیها آناً فآناً بحیث لو سلبت منه تلک القوة لا نقطع منه الجذب لا محالة.

و من ذلک تظهر حال بقیة الأمثلة،فان بقاء الجبال علی وضعها الخاصّ و موضعها المخصوص،و کذا الأحجار و الأشجار و المیاه و ما شاکلها لخصائص طبیعیة کامنة فی صمیم موادها،و القوة الجاذبیة العامة التی تفرض علی جمیع الأشیاء الکونیة.و قد صارت عمومیة تلک القوة فی یومنا هذا من الواضحات.و قد أودعها اللّه سبحانه و تعالی فی صمیم هذه الکرة الأرضیة للتحفظ علی الکرة و ما علیها علی وضعها و نظامها الخاصّ فی حین انها تتحرک فی هذا الفضاء الکونی بسرعة هائلة.

و علی الجملة:فبقاء تلک الظواهر،و الموجودات الممکنة و استمرار وجودها فی الخارج معلول لخصائص تلک المواد الطبیعیة المحافظة علی هذه الظاهرة من ناحیة،و القوة الجاذبة من ناحیة أخری.

فبالنتیجة المحافظ علی الموجودات الطبیعیة علی وضعها الخاصّ و موضعها المخصوص هی خصائصها و الجاذبیة التی تخضع تلک الظواهر لها،و لا تملک حریتها حدوثاً و بقاء،إذاً فلا وجه لتوهم ان تلک الظواهر فی بقائها و استمرار وجودها مالکة لحریتها و لا تخضع لمبدإ و سبب.

و نتیجة ذلک نقطتان متقابلتان:

الأولی-بطلان نظریة ان سر الحاجة إلی العلة هو الحدوث لأن تلک النظریة مبنیة علی أساس علی عدم فهم معنی العلیة فهما صحیحاً و تحدید حاجة الأشیاء إلی العلة فی إطار خاص و نطاق مخصوص لا یطابق مع الواقع.

الثانیة-صحة نظریة ان سر الحاجة إلی العلة هو إمکان الوجود،فان تلک النظریة قد ارتکزت علی أساس فهم معنی العلیة فهما صحیحاً مطابقاً للواقع و ان حاجة الأشیاء إلی المبدأ کامنة فی صمیم وجودها فلا یمکن أن نتصور وجوداً متحرراً عن ذلک المبدأ.

ص:35

و قد تلخص:ان الأشیاء-بشتی ألوانها و اشکالها-خاضعة للمبدإ الأول خضوعاً ذاتیاً.و هذا لا ینافی ان یکون تکوینها و إیجادها بمشیئة اللّه تعالی و إعمال قدرته کما فصلنا الحدیث-من هذه الناحیة-فی بحث الطلب و الإرادة.و قد وضعنا هناک الحجر الأساسی للفرق بین زاویة الأفعال الاختیاریة و زاویة المعالیل الطبیعیة.

ثم انا لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا صحة نظریة ان منشأ الحاجة هو الحدوث فی الموجودات التکوینیة و انها تملک حریتها فی البقاء و لا تخضع لمبدإ،إلا انها بدیهیة البطلان فی الأفعال الاختیاریة التی هی محل الکلام فی المسألة،ضرورة ان الفعل الاختیاری یستحیل بقاؤه بعد ارتفاع الإرادة و الاختیار إذاً لا وجه للتفصیل بین الضد الموجود و المعدوم.

و یجدر بنا ان نختم الحدیث عن مقدمیة عدم الضد للضد الآخر و عدم مقدمیته و قد عرفت استحالة مقدمیته.هذا بحسب الصغری.

و اما الکبری و هی وجوب مقدمة الواجب.فقد تقدم الکلام فیها،و قلنا هناک انه لا دلیل علی ثبوت الملازمة بین إیجاب شیء و إیجاب مقدمته،و ما ذکروه من الأدلة علی ذلک قد ناقشناها واحداً بعد واحد،بل ذکرنا هناک-مضافاً إلی ان الوجدان حاکم بعدم ثبوت الملازمة بینهما-ان إیجاب المقدمة شرعاً لغو محض فلا یترتب علیه أثر أصلا.

الوجه الثانی-قد استدل بعضهم علی ان الأمر بشیء یقتضی النهی عن ضده بان وجود الضد ملازم لترک الضد الآخر،و المتلازمان لا یمکن اختلافهما فی الحکم بان یکون أحدهما واجباً و الآخر محرماً،و علیه فإذا کان أحد الضدین واجباً فلا محالة یکون ترک الآخر أیضا واجباً،و إلا لکان المتلازمان مختلفین فی الحکم و هو غیر جائز.

أقول:هذا الدلیل أیضا مرکب من مقدمتین:

الأولی-صغری القیاس،و هی ثبوت الملازمة بین وجود شیء و عدم ضده.

ص:36

الثانیة-کبراه و هی عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم.

اما المقدمة الأولی فلا إشکال فیها.

و اما المقدمة الثانیة فقد ذکروا ان المتلازمین لا بد ان یکونا متوافقین فی الحکم فإذا کانت الإزالة-مثلا-واجبة فترک الصلاة الّذی هو ملازم لفعل الإزالة لا محالة یکون واجباً لأنه یمتنع أن یکون محرماً لاستلزامه التکلیف بالمحال،و لا فرق فی ذلک بین الضدین اللذین لا ثالث لهما کالحرکة و السکون و ما شاکلهما، و الضدین الذین لهما ثالث کالسواد و البیاض و القیام و الجلوس و نحوهما،غایة الأمر انه علی الفرض الأول کان الاستلزام من الطرفین،فکما ان وجود کل منهما یستلزم عدم الآخر کذلک عدم کل منهما یستلزم وجود الآخر.و اما علی الفرض الثانی فوجود کل واحد منهما یستلزم عدم الآخر دون العکس إذ یمکن انتفاؤهما معاً.و ذلک لأن ملاک دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضده هو استلزام وجود ذلک الشیء لعدم ضده،و هو أمر یشترک فیه جمیع الأضداد.و اما استلزام عدم الشیء لوجود ضده فهو و ان کان مختصاً بالضدین الذین لا ثالث لهما إلا انه أجنبی عن ملاک الدلالة تماماً.

و علی ذلک یظهر انه لا وجه لما یراه شیخنا الأستاذ(قده)من التفرقة بین ما إذا لم یکن للضدین ثالث،و ما إذا کان لهما ثالث فسلم الدلالة فی الفرض الأول دون الثانی،فان ملاک الدلالة-کما عرفت-واحد،إذاً فالتفصیل فی غیر موضعه کما سنتعرض إلی ذلک إن شاء اللّه تعالی.

و الجواب عن ذلک ان الّذی لا یمکن الالتزام به هو کون المتلازمین مختلفین فی الحکم،بان یکون أحدهما متعلقاً للأمر،و الآخر متعلقاً للنهی،لاستلزام ذلک التکلیف بما لا یطاق،فلا یمکن أن یأمر الشارع باستقبال القبلة-مثلا-فی بلدنا هذا أو ما یقربه من البلاد فی الطول و العرض،و ینهی عن استدبار الجدی، لأن هذا تکلیف بغیر المقدور،بل لا یمکن النهی التنزیهی عنه لکونه لغواً فلا

ص:37

یترتب علیه أی أثر بعد فرض وجوب الاستقبال.و اما لزوم کونهما محکومین بحکم واحد و متوافقین فیه فلا موجب له أصلا فان المحذور المتقدم-و هو:لزوم التکلیف بما لا یطاق-کما یندفع بالالتزام بکونهما متوافقین فی الحکم کذلک یندفع بکون أحدهما غیر محکوم بحکم من الأحکام.و علیه فلا مقتضی لدفع المحذور بالفرض الأول دون الفرض الثانی،فان الالتزام بالتوافق فی الحکم یحتاج إلی دلیل یدل علیه،و لا دلیل فی المقام،بل قام الدلیل علی خلافه،و ذلک لأن الشارع إذا أمر بأحد المتلازمین فالامر بالملازم الآخر لغو فإذا أمر باستقبال القبلة-مثلا- فالامر باستدبار الجدی.أو کون الیمین علی طرف المغرب و الیسار علی طرف المشرق بلا فائدة،فان تلک الأمور من ملازمات وجود المأمور به فی الخارج، سواء أ کانت متعلقة للأمر أم لم تکن،و ما کان کذلک فلا یمکن تعلق الأمر به.

نعم لو توقف ترک الحرام خارجاً علی الإتیان بفعل ما للملازمة بین ترک هذا الفعل و الوقوع فی الحرام وجب الإتیان به عقلا.و اما شرعاً فلا،لعدم الدلیل علی سرایة الحکم من متعلقه إلی ملازماته الخارجیة.و نظیر ذلک ما تقدم فی بحث مقدمة الواجب من ان الإتیان بالمقدمة إذا کان علة تامة للوقوع فی الحرام من دون أن یتوسط بین المقدمة و ذیها إرادة و اختیار للفاعل،وجب ترکها عقلا لا شرعاً لعدم الدلیل علی حرمة تلک المقدمة لا حرمة نفسیة و لا حرمة غیریة.

اما الحرمة النفسیّة فلان المتصف بها إنما هو المسبب،لأنه مقدور للمکلف بواسطة القدرة علی مقدمته،و من الظاهر انه لا فرق فی المقدور بین کونه بلا واسطة أو معها.و وجوب وجوده و ضرورته من قبل الإتیان بمقدمته لا یضر بتعلق التکلیف به لأنه وجوب بالاختیار،فلا ینافی الاختیار.إذاً لا وجه لصرف النهی المتعلق بالمعلول إلی علته کما عن شیخنا الأستاذ(قده)بدعوی ان العلة مقدورة دون المعلول،ضرورة ان المقدور بالواسطة مقدور و المعلول و ان

ص:38

لم یکن مقدوراً ابتداء،إلا انه مقدور بواسطة القدرة علی علته و هذا یکفی فی صحة تعلق النهی به.

و أما الحرمة الغیریة فقد تقدم انه لا دلیل علیها لأن ثبوتها یبتنی علی ثبوت الملازمة.و قد سبق ان الملازمة لم تثبت.

و بتعبیر آخر:لا شبهة فی ان مراد القائل بان المتلازمین لا بد أن یکونا متوافقین فی الحکم:لیس توافقهما فی الإرادة بمعنی الشوق المؤکد،و لا بمعنی إعمال القدرة،فان الإرادة بالمعنی الأول من الصفات النفسانیّة،و لیست من سنخ الأحکام فی شیء.و بالمعنی الثانی و هو إعمال القدرة فی شیء یستحیل أن یتعلق بفعل الغیر لأنه لیس واقعاً تحت اختیار المولی و إرادته،بل مراده من ذلک ان اعتبار المولی أحد المتلازمین فی ذمة المکلف و إبرازه فی الخارج بمبرز یستلزم اعتبار الآخر فی ذمته أیضاً.

و لکن من الواضح جداً:انه لا ملازمة بین الاعتبارین أصلا مضافاً إلی ما عرفت من ان الاعتبار الثانی لغو.

و علی ضوء هذا البیان قد ظهر ان الأمر کذلک فی النقیضین،و المتقابلین بتقابل العدم و الملکة،کالتکلم و السکوت،فان اعتبار الشارع الفعل علی ذمة المکلف لا یستلزم النهی عن نقیضه،و اعتبار عدمه،کما ان اعتبار الملکة فی ذمة المکلف لا یستلزم النهی عن عدمها،فالامر بالإزالة-مثلا-کما لا یستلزم النهی عن الصلاة المضادة لها،کذلک لا یستلزم النهی عن نقیضها و هو العدم البدیل لها، ضرورة ان المتفاهم منه عرفاً لیس إلا وجوب الإزالة فی الخارج،لا حرمة ترکها و لذلک قلنا ان کل حکم شرعی متعلق بشیء لا ینحل إلی حکمین:أحدهما متعلق به، و الآخر بنقیضه.

أو فقل:ان النهی عن أحد النقیضین مع الأمر بالنقیض الآخر لغو فلا یترتب علیه أثر.

ص:39

و بذلک یظهر فساد ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من الالتزام بان الأمر بأحد النقیضین یستلزم النهی عن الآخر باللزوم البین بالمعنی الأخص.و الأمر بأحد المتقابلین بتقابل العدم و الملکة کالتکلم و السکوت-مثلا-یستلزم النهی عن الآخر باللزوم البین بالمعنی الأخص أیضاً،بل الأمر بأحد الضدین الذین لا ثالث لهما کالحرکة و السکون یستلزم النهی عن الضد الآخر و لکن باللزوم البین بالمعنی الأعم.

و وجه الظهور هو،ما قد سبق من انه لا دلالة علی الملازمة فی شیء من تلک الموارد حتی باللزوم البین بالمعنی الأعم،فضلا عن البین بالمعنی الأخص،و ان الأمر لا یدل إلا علی اعتبار متعلقه فی ذمة المکلف،و لا یدل علی النهی عن ترکه،بل قد عرفت ان النهی عنه لغو.

أضف إلی ذلک ما ذکرناه-سابقاً-من ان ملاک الدلالة فی المقام هو استلزام فعل الضد لترک الضد الآخر،و هو امر مشترک فیه بین الجمیع،فلا یختص بالنقیضین و لا بالمتقابلین بتقابل العدم و الملکة و لا بالضدین الذین لا ثالث لهما،بل یعم الضدین الذین لهما ثالث أیضاً،لأن فعل أحدهما یستلزم ترک الآخر لا محالة.و اما استلزام ترک الشیء لفعل ضده فهو أجنبی عن ملاک الدلالة تماماً.

فالنتیجة ان ما هو ملاک الدلالة علی تقدیر تسلیمه یشترک فیه الجمیع،و لا یختص بغیر الضدین الذین لهما ثالث فما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من التفرقة لا یرجع إلی معنی محصل.

شبهة الکعبی بانتفاء المباح

و هذه الشبهة ترتکز علی رکیزتین:

الأولی-ان ترک الحرام فی الخارج یتوقف علی فعل من الأفعال الوجودیة لاستحالة خلو المکلف من فعل ما،و کون من الأکوان الاختیاریة،و علیه فإذا

ص:40

لم یشتغل بغیر الحرام وقع فی الحرام لا محالة إذا کان الاشتغال بغیر الحرام واجباً مقدمة لترک الحرام.

الثانیة-ان الفعل الاختیاری یحتاج فی حدوثه و بقائه إلی المؤثر،فلا یستغنی الحادث فی بقائه عن المؤثر کما لا یستغنی عنه فی حدوثه،فالنتیجة علی ضوء هاتین الرکیزتین هی أن ترک الحرام حدوثاً و بقاء متوقف علی إیجاد غیره من الأفعال الاختیاریة فی الخارج.و بما ان إیجاده مقدمة لترک الحرام فیکون واجباً بوجوب مقدمی،إذاً لا یمکن فرض مباح فی الخارج.و هذا معنی القول بانتفاء المباح و انحصار الأفعال بالواجب و الحرام.

و یرد علیه:ان الرکیزة الثانیة و إن کانت فی غایة الصحة و المتانة کما سبق إلا ان الأولی منهما واضحة البطلان.و الوجه فی ذلک هو:ان ما ذکره الکعبی فی هذه الرکیزة اما مبتن علی مانعیة وجود أحد الضدین عن الضد الآخر بدعوی ان فعل الحرام بما انه مضاد لغیره من الأفعال الوجودیة فلا محالة یتوقف ترکه علی فعل ما من تلک الأفعال من باب توقف عدم الشیء علی وجود مانعه.و اما مبتن علی دعوی الملازمة بین حرمة شیء و وجوب ضده.

و لکن کلا الأمرین واضح الفساد.

اما الأمر الأول فقد تقدمت استحالة مانعیة وجود أحد الضدین عن الضد الآخر بصورة مفصلة،فلا یکون عدم الضد مستنداً إلی وجود ضده،بل هو اما مستند إلی عدم مقتضیة،أو إلی وجود المقتضی للضد الآخر.و علی هذا فلا یکون ترک الحرام متوقفاً علی فعل ما غیر الحرام من الأفعال الوجودیة،بل یکفی فی عدمه عدم إرادته و عدم الداعی إلیه،أو إرادة إیجاد فعل آخر.و کیف کان فلا یتوقف ترک الحرام علی أحد تلک الأفعال،علی ان الکبری أیضا غیر ثابتة،و هی وجوب مقدمة الواجب کما سبق.

و اما الأمر الثانی-فلما عرفت من انه لا دلیل علی سرایة الحکم من أحد

ص:41

المتلازمین إلی الملازم الآخر.

نعم ربما یمکن أن یعلم المکلف بأنه لو لم یأت بفعل ما غیر الحرام لوقع فی الحرام باختیاره و إرادته،فحینئذ و ان وجب الإتیان به فراراً عن الوقوع فی الحرام إلا ان وجوبه عقلی لا شرعی کما تقدم،اذن فما أفاده الکعبی من انحصار الأفعال الاختیاریة بالواجب و الحرام لا یرجع إلی معنی محصل.هذا تمام کلامنا فی الضد الخاصّ.

و نتیجة جمیع ما ذکرناه عدة نقاط:

الأولی-ان هذه المسألة من المسائل الأصولیة العقلیة و لیست من المسائل الفقهیة،و لا من المبادئ کما تقدم.

الثانیة-ان العلة التامة مرکبة من أجزاء ثلاثة و هذه الأجزاء تختلف من ناحیة استناد وجود المعلول إلیها و استناد عدمه إلی تلک الاجزاء،فان وجوده مستند إلی الجمیع فی مرتبة واحدة فلا یمکن أن یستند إلی بعضها دون بعضها الآخر، و هذا بخلاف عدمه،فانه عند عدم المقتضی أو الشرط لا یستند إلی وجود المانع کما عرفت.

الثالثة-ان کبری کون عدم المانع من المقدمات مسلمة إلا أن عدم أحد الضدین لیس مقدمة لوجود الضد الآخر،لما تقدم من استحالة مانعیة وجود أحد الضدین للضد الآخر بالوجهین السابقین»الدور و التفتیش عن حال المقتضیات و عدم إمکان فرض صورة یستند عدم الضد فی تلک الصورة إلی وجود الضد الآخر» الرابعة-ان المانع إنما یکون متصفاً بالمانعیة عند ثبوت المقتضی مع بقیة الشرائط،لیزاحم المقتضی فی تأثیره.و هذا معنی دخل عدمه فی وجود المعلول.

الخامسة-إمکان ثبوت المقتضی لکل من الضدین فی نفسه مع قطع النّظر عن الآخر و قد عرفت ان هذا غیر داخل فی الکبری المتسالم علیها،و هی ان اقتضاء المحال محال خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث انه قد أصر علی استحالة

ص:42

ثبوت المقتضی لکل منهما،و ان ذلک من مصادیق تلک الکبری،و لکن قد سبق ان الأمر لیس کذلک فان تلک الکبری إنما تتحقق فی أحد موردین:

1-(اقتضاء شیء واحد بذاته امرین متنافیین فی الوجود).2-(فرض ثبوت المقتضی لکل من الضدین بقید الاجتماع و التقارن)و المقام لیس منهما فی شیء.

السادسة-ان التقدم أو التأخر الرتبی یحتاج إلی ملاک وجودی کامن فی صمیم ذات الشیء لا فی أمر خارج عنه،دون المعیة فی الرتبة،فانه یکفی فی تحققها عدم تحقق ملاک التقدم أو التأخر خلافاً لشیخنا المحقق(قده)حیث قال:ان المعیة فی الرتبة أیضا تحتاج إلی ملاک وجودی.و قد تقدم فساده فلاحظ.

السابعة-انه لا مقتضی لکون المتلازمین متوافقین فی الحکم،بل قد سبق ان ذلک لغو فلا یترتب علیه أثر شرعی أصلا.نعم الّذی لا یمکن هو اختلافهما فی الحکم کما مر.

الثامنة-ان قیاس المساواة إنما ینتج فی المتقدم و المتأخر بالزمان،فان ما کان متحداً مع المتقدم أو المتأخر زماناً متقدم أو متأخر لا محالة،لا فی المتقدم و المتأخر بالرتبة و الطبع.و سر ذلک ان ملاک التقدم و التأخر فی الأولین أمر خارج عن مقتضی ذاتهما و هو وقوعهما فی الزمان المتقدم و المتأخر،و مع قطع النّظر عن ذلک فلا یقتضی أحدهما بذاته التقدم علی شیء آخر و لا الآخر التأخر،فان المتقدم و المتأخر بالذات نفس اجزاء الزمان و ما یشبهها کالحرکة و نحوها،و الحوادث الأخر إنما تتصف بهما بالعرض لا بالذات.و نتیجة ذلک هی ان کل ما کان واقعاً فی الزمان المتقدم واجد لملاک التقدم،و کل ما کان واقعاً فی الزمان المتأخر واجد لملاک التأخر،و کل ما کان واقعاً فی الزمان المقارن واجد لملاک التقارن من دون اختصاص بحادث دون آخر.و ملاک التقدم و التأخر فی الأخیرین أمر راجع إلی مقتضی ذاتهما فکل ما کان فی صمیم ذاته من الوجود أو العدم اقتضاء التقدم علی شیء أو التأخر متقدم علیه أو متأخر لا محالة،و کل ما لم یکن فیه اقتضاء کذلک

ص:43

فلا یعقل فیه التقدم أو التأخر و لو کان فی رتبة ما فیه الاقتضاء.

التاسعة-بطلان التفصیل بین الضد المعدوم و الضد الموجود بتوقف وجود الأول علی ارتفاع الثانی دون العکس.و قد عرفت ان منشأ هذا التفصیل توهم استغناء الباقی عن المؤثر.و قد تقدم الکلام فیه مفصلا فراجع.

العاشرة-بطلان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من تسلیم الدلالة علی الملازمة بین الأمر بشیء و النهی عن ضده فی النقیضین،و المتقابلین بتقابل العدم و الملکة،بل فی الضدین الذین لا ثالث لهما.و قد عرفت عدم الدلالة فی الجمیع.

الحادیة عشرة-قد تقدم انه علی تقدیر تسلیم الملازمة فیما إذا لم یکن للضدین ثالث فلا بد من تسلیمها فیما إذا کان لهما ثالث أیضاً،لأن ملاک الدلالة کما مر هو (استلزام فعل الشیء لترک ضده)أمر یشترک فیه جمیع الأضداد،فلا وجه للتفصیل بینهما،کما عن شیخنا الأستاذ(قده).

الثانیة عشرة-ان،ذهب إلیه الکعبی من القول بانتفاء المباح لا یرجع إلی معنی محصل کما سبق.

الضد العام

و اما الکلام فی المقام الثانی و هو الضد العام فقد اختلفت کلماتهم فی کیفیة دلالة الأمر بالشیء علی النهی عنه بعد الفراغ عن أصل الدلالة-إلی ثلاثة أقوال:

الأول-ان الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام فالامر بالصلاة-مثلا- عین النهی عن ترکها،فقولنا صل عین قولنا:لا تترک الصلاة.

الثانی-ان الأمر بالشیء یدل علی النهی عنه بالتضمن بدعوی انه مرکب من طلب الفعل و المنع من الترک،فالمنع من الترک مأخوذ فی مفهوم الأمر فیکون دالا علیه بالتضمن.

الثالث-ان الأمر بالشیء یقتضی النهی عنه بالدلالة الالتزامیة باللزوم البین

ص:44

بالمعنی الأخص،أو البین بالمعنی الأعم.

اما القول الأول:فان أرید من العینیة فی مقام الإثبات و الدلالة-أعنی بها ان الأمر بشیء و النهی عن ترکه یدلان علی معنی واحد و إنما الاختلاف بینهما فی التعبیر فقط-فهذا مما لا إشکال فیه إذ من الواضح انه لا مانع من أبرار معنی واحد بعبارات متعددة و ألفاظ مختلفة فیبرزه تارة بلفظ و أخری بلفظ آخر،و هکذا -مثلا-یمکن إبراز کون الصلاة علی ذمة المکلف مرة بکلمة«صل»و مرة أخری بکلمة لا تترک الصلاة بان یکون المقصود من کلتا الکلمتین أبرار وجوبها و ثبوتها فی ذمة المکلف،لا ان المقصود من الکلمة الأولی إبراز وجوب فعلها و من الکلمة الثانیة إبراز حرمة ترکها لئلا تکون إحدی الکلمتین عین الأخری فی الدلالة و الکشف.و هذا هو المقصود من الروایات الناهیة عن ترک الصلاة.و لیس المراد من النهی فیها النهی الحقیقی الناشئ من مفسدة إلزامیة فی متعلقه،و لذلک لم یتوهم أحد حرمة ترک الصلاة و ان تارکها یستحق عقابین عقاباً لترکه الواجب، و عقاباً لارتکابه الحرام.

و هذا التعبیر-أعنی به التعبیر عن طلب شیء بالنهی عن ترکه-امر متعارف فی الروایات فی باب الواجبات و المستحبات و فی کلمات الفقهاء(رض)فتری انهم یعبرون عن الاحتیاط الواجب بقولهم لا یترک الاحتیاط.و علیه فمعنی ان الأمر بالشیء عین النهی عن ضده هو انهما متحدان فی جهة الدلالة و الحکایة عن المعنی، فی مقابل ما إذا کانا متغایرین فی تلک الجهة.

و علی ضوء ذلک صح ان یقال:ان الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام بحسب المعنی و الدلالة علیه.فان أرید من العینیة:العینیة بهذا المعنی فهی صحیحة، و لا بأس بها،و لکن الظاهر ان العینیة بذلک المعنی لیست مراداً للقائل بها کما لا یخفی.

و ان أرید بها العینیة فی مقام الثبوت و الواقع-أعنی بها کون الأمر بشیء

ص:45

عین النهی عن ترکه فی ذلک المقام و بالعکس-فیرد علیه انه ان أرید من النهی عن الترک طلب ترکه المنطبق علی الفعل إذ قد یراد من النهی عن الشیء طلب ترکه کما هو الحال فی تروک الإحرام و الصوم،حیث یراد من النهی عن الأکل و الشرب و مجامعة النساء،و الارتماس فی الماء،و لمس المرأة،و لبس المخیط للرجال.و التکحل و النّظر إلی المرأة،و المجادلة،و غیرها مما یعتبر عدمه فی صحة الإحرام طلب ترک هذه الأمور فان هذا النهی لم ینشأ عن مبغوضیة تلک الأمور.و قیام مفسدة إلزامیة بها،بل نشأ عن محبوبیة ترکها،و قیام مصلحة إلزامیة به.و علیه لم یکن مثل هذا النهی نهیاً حقیقیاً ناشئاً عن مفسدة ملزمة فی متعلقه،بل هو فی الواقع أمر،و لکن أبرز بصورة النهی فی الخارج-ان أرید ذلک فلا معنی له أصلا، و ذلک:لأن ترک الترک و ان کان مغایراً للفعل مفهوماً إلا انه عینه مصداقاً و خارجاً،لأنه عنوان انتزاعی له،و لیس له ما بإزاء فی الخارج ما عداه.

أو فقل:ان فی عالم التحقق و الوجود أحد شیئین لا ثالث لهما،أحدهما الوجود،و الثانی العدم البدیل له.و اما عدم العدم فهو لا یتجاوز حد الفرض و التقدیر:و لیس له واقع فی قبالهما و إلا لأمکن أن یکون فی الواقع إعدام غیر متناهیة فان لکل شیء عدما،و لعدمه عدم،و هکذا إلی أن یذهب إلی ما لا نهایة له.نعم انه عنوان انتزاعی منطبق علی الوجود،و علیه فالقول بان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده فی قوة القول بان الأمر بالشیء یقتضی الأمر بذلک الشیء،و هو قول لا معنی له أصلا.

فالنتیجة:انه لا یمکن أن یراد من النهی عن الترک طلب ترکه لاستلزام ذلک النزاع فی أن الأمر بالشیء یقتضی نفسه،و هذا النزاع لا محصل له أبداً.

و ان أرید بالنهی عن الترک النهی الحقیقی الناشئ عن مبغوضیة متعلقه، و قیام مفسدة ملزمة به فالنهی بهذا المعنی و ان کان أمراً معقولا فی نفسه إلا انه لا یمکن ان یراد فیما نحن فیه،و ذلک لاستحالة ان یکون بغض الترک متحداً مع

ص:46

حب الفعل أو جزئه و ذلک لاستحالة اتحاد الصفتین المتضادتین فی الخارج.

و بعبارة واضحة:انه لا شبهة فی أن الأمر الحقیقی یباین النهی الحقیقی تبایناً ذاتیاً،فلا اشتراک بینهما لا فی ناحیة المبدأ و لا فی ناحیة الاعتبار و لا فی ناحیة المنتهی.اما من ناحیة المبدأ فلان الأمر تابع للمصلحة الإلزامیة فی متعلقه و النهی تابع للمفسدة الإلزامیة فیه.و اما من ناحیة الاعتبار فلما ذکرناه غیر مرة من ان حقیقة الأمر لیست إلا اعتبار المولی الفعل علی ذمة المکلف،و إبرازه فی الخارج بمبرز کصیغة الأمر أو نحوها.و حقیقة النهی لیست إلا اعتبار المولی حرمة الفعل علیه،و جعله محروماً عنه،و إبرازه فی الخارج بمبرز من صیغة النهی أو ما شاکلها.و من الواضح ان أحد الاعتبارین أجنبی عن الاعتبار الآخر بالکلیة.و اما من ناحیة المنتهی فلان الأمر یمتثل بإتیان متعلقه و النهی یمتثل بترک متعلقه.

و علی هذا الضوء فکیف یمکن القول بان الأمر عین النهی فهل هو عینه فی ناحیة المبدأ أو فی ناحیة المنتهی أو فی ناحیة الاعتبار کل ذلک غیر معقول.

فالنتیجة اذن هی ان القول بالعینیة قول لا محصل له.

و من ذلک یظهر بطلان القول الثانی أیضا،و هو القول بان النهی جزء من الأمر فان القول بالجزئیة أیضا غیر معقول ضرورة انه کما لا یمکن أن یکون النهی متحداً مع الأمر فی المراحل المتقدمة کذلک لا یمکن أن یکون جزؤه فی تلک المراحل و ما قیل:فی تعریف الوجوب من انه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترک لا یخلو عن ضرب مسامحة و لعل الغرض منه الإشارة إلی مفهوم الوجوب فی مقام تقریبه إلی الأذهان لا انه تعریف له علی التحقیق و إلا فمن الواضح جداً ان المنع من الترک لم یؤخذ فی حقیقة الوجوب بأی معنی من المعانی الّذی فرضناه سواء أ کان إرادة نفسانیة،أم کان حکما عقلیاً،أو مجعولا شرعیاً فانه علی الأول من الاعراض و هی من البسائط الخارجیة،و علی الثانی فهو من الأمور

ص:47

الانتزاعیة العقلیة،بمعنی ان العقل یحکم باللزوم عند اعتبار المولی فعلا ما علی ذمة المکلف مع عدم نصبه قرینة علی الترخیص فی ترکه.و من الظاهر انه أشدّ بساطة من الاعراض فلا یعقل له جنس و لا فصل،و علی الثالث فهو من المجعولات الشرعیة.و من الواضح انها فی غایة البساطة و لا یعقل لها جنس و فصل.نعم المنع من الترک لازم للوجوب لا انه جزؤه.

و علی تقدیر کون الوجوب مرکباً فلا یعقل ان یکون مرکباً من المنع من الترک لما عرفت من ان بغض الترک کما لا یمکن أن یکون عین حب الفعل کذلک لا یمکن أن یکون جزؤه.

و قد تحصل من ذلک ان النزاع فی عینیة أمر بشیء للنهی عن ضده أو جزئیته له لا یرجع إلی النزاع فی معنی معقول.

و اما القول الثالث:و هو القول بان الأمر بشیء یستلزم النهی عن ضده العام فقد ذهب إلیه جماعة و لکنهم اختلفوا فی ان الاقتضاء هل هو علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص بان یکون نفس تصور الوجوب کافیاً فی تصور المنع من الترک،من دون حاجة إلی أمر زائد،أو انه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأعم علی قولین؟فقد قرب شیخنا الأستاذ(قده)القول الأول،و قال:انه لا یبعد أن نکون دلالته علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص،و علی تقدیر التنزل عن ذلک فالدلالة الالتزامیة بنحو اللزوم البین بالمعنی الأعم مما لا إشکال فیه و لا کلام.

و التحقیق هو:عدم الاقتضاء.و الوجه فی ذلک هو ان دعوی استلزام الأمر بشیء النهی عن ترکه باللزوم البین بالمعنی الأخص واضحة الفساد،ضرورة ان الآمر ربما یأمر بشیء و یغفل عن ترکه و لا یلتفت إلیه أصلا،لیکون کارهاً له فلو کانت الدلالة علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص لم یتصور غفلة الآمر عن الترک و عدم التفاته إلیه فی مورد من الموارد،و من هنا قد اعترف هو(قده)أیضاً ببداهة إمکان غفلة الآمر بشیء عن ترک ترکه فضلا عن ان یتعلق به طلبه،و هذا منه

ص:48

یناقض ما أفاده من نفی البعد عن اللزوم البین بالمعنی الأخص.

و اما دعوی الدلالة الالتزامیة باللزوم البین بالمعنی الأعم فهی أیضا لا یمکن تصدیقها.و ذلک لعدم الدلیل علیها لا من العقل و لا من الشرع.

اما من ناحیة العقل فلأنه لا یحکم بالملازمة بین اعتبار الشارع وجوب شیء و اعتباره حرمة ترکه،فان کلا من الوجوب و الحرمة یحتاج إلی اعتبار مستقل و التفکیک بینهما فی مقام الاعتبار بمکان من الإمکان،و کذا لا یحکم العقل بالملازمة بین إرادة شیء و کراهة نقیضه،إذ قد یرید الإنسان شیئاً غافلا عن ترکه و غیر ملتفت إلیه،فکیف یکون کارهاً له.

و ان شئت فقل:ان القائل باستلزام وجوب شیء لحرمة ترکه اما ان یدعی الحرمة النفسیّة،أو یدعی الحرمة الغیریة،و کلتا الدعویین فاسدة:اما الدعوی الأولی فلان الحرمة النفسیّة انما تنشأ من مفسدة إلزامیة فی متعلقها.و من الواضح انه لا مفسدة فی ترک الواجب فترکه ترک ما فیه المصلحة،لا فعل ما فیه المفسدة.

فلو سلمنا وجود المفسدة فی ترک الواجب أحیاناً فلا کلیة لذلک بالبداهة،إذن لا مجال لدعوی الملازمة بین وجوب شیء و حرمة ترکه،بل الوجدان حاکم بعدم ثبوتها.و اما الدعوی الثانیة:فلعدم ملاک الحرمة الغیریة فیه أولا،لانتفاء المقدمیة،و کونها لغواً ثانیاً،لعدم ترتب أثر علیها من العقاب أو نحوه.و علیه فلا موضوع لدعوی الملازمة أصلا.

و اما من ناحیة الشرع فلان ما دل علی وجوب شیء لا یدل علی حرمة ترکه.

بداهة ان الحکم الواحد و هو الوجوب فی المقام لا ینحل إلی حکمین أحدهما یتعلق بالفعل و الآخر بالترک،لیکون تارکه مستحقاً لعقابین من جهة ترکه الواجب و ارتکابه الحرام،و من هنا قلنا انه لا مفسدة فی ترک الواجب لیکون ترکه محرماً، کما انه لا مصلحة فی ترک الحرام لیکون واجباً.

و علی الجملة فمن الواضح جداً ان الأمر بشیء لا یدل إلا علی اعتباره فی ذمة

ص:49

المکلف بلا دلالة له علی اعتبار حرمة ترکه،فالأمر بالصلاة-مثلاً-لا یدل إلا علی اعتبار فعلها فی ذمة المکلف،دون حرمة ترکها،و هکذا.و اما إطلاق المبغوض علی ترک الواجب فهو بضرب من العنایة و المسامحة،کما ان إطلاق المحبوب علی ترک الحرام کذلک.

و قد تحصل من ذلک بشکل واضح انه لا ملازمة بین اعتبار شیء فی ذمة المکلف و اعتبار حرمة نقیضه لا عقلا و لا شرعاً.

و نتیجة مجموع ما ذکرناه نقطتان:الأولی-ان الأمر بشیء لا یقتضی النهی عن ضده العام لا بنحو العینیة أو الجزئیة و لا بنحو اللزوم.الثانیة-ان القولین الأولین لا یرجعان إلی معنی معقول،دون القول الأخیر.هذا تمام کلامنا فی الضد العام.

الکلام فی ثمرة المسألة

اشارة

قد اشتهر بین الأصحاب ان الثمرة تظهر فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسع کالصلاة-مثلا-و واجب مضیق کالإزالة أو بین واجبین مضیقین أحدهما أهم من الآخر،فعلی القول بعدم اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضده یقع الواجب الموسع أو غیر الأهم صحیحاً،إذ لا مقتضی لفساده أصلا،فان المقتضی له إنما هو تعلق النهی به و لا نهی علی الفرض،اذن یبقی الواجب علی حاله من المحبوبیة و الملاک.و اما علی القول بالاقتضاء فیقع فاسداً إذا کان عبادة بضم کبری المسألة الآتیة و هی:ان النهی فی العبادات یوجب الفساد.

و قد أورد علی هذه الثمرة بإیرادین متقابلین:

أحدهما-ما عن الشیخ البهائی(قده)من بطلان العبادة مطلقاً حتی علی القول بعدم الاقتضاء و ذلک لما یراه(قده)من اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا،و علی هذا فلا محالة تفسد عند المزاحمة بالواجب الأهم أو المضیق،سواء

ص:50

فیه القول بالاقتضاء و عدمه،ضرورة ان الأمر بشیء لو لم یقتض النهی عن ضده فلا شبهة فی انه یقتضی عدم الأمر به،لاستحالة تعلق الأمر بالضدین معاً،فإذا کانت العبادة المضادة غیر مأمور بها فعلا فلا محالة تقع فاسدة،لفرض ان صحة العبادة مشروطة بکونها مأموراً بها،و بما انه لا أمر فی المقام علی الفرض فلا صحة لها لانتفائها بانتفاء شرطها.

ثانیهما-ما عن جماعة منهم شیخنا الأستاذ(قده)من صحة العبادة مطلقاً حتی علی القول باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضده.و الوجه فی ذلک هو ان صحتها علی القول بعدم الاقتضاء واضحة،لعدم المقتضی للفساد أصلا بناء علی ما هو الصحیح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر،بل المعتبر فیها هو إضافتها إلی المولی بنحو من أنحاء الإضافة.و اما علی القول بالاقتضاء فالعبادة کالصلاة-مثلا- و ان کانت منهیاً عنها إلا ان هذا النهی بما انه نهی غیری نشأ عن مقدمیة ترکها أو عن ملازمته لفعل المأمور به فی الخارج و لم ینشأ عن مفسدة فی متعلقه فلا یکون موجباً للفساد.و من هنا قالوا:ان مخالفة الأمر و النهی المقدمیین لا توجب بعداً و سر ذلک ما سبق من أن النهی الغیری المقدمی لا یکشف عن وجود مفسدة فی متعلقه و کونه مبغوضاً للمولی لئلا یمکن التقرب به،فان المبعد لا یمکن التقرب به.

و علی ضوء ذلک فالعبادة باقیة علی ما کانت علیه من المصلحة و المحبوبیة الذاتیّة الصالحة للتقرب بها،و النهی المتعلق بها-بما انه غیری-لا یمنع عن التقرب بها و علی الجملة فبناء علی ما هو الصحیح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر و کفایة قصد الملاک فصحتها عندئذ تدور مدار تحقق الملاک بلا فرق بین القول بالاقتضاء و القول بعدمه،و بما انها واجدة للملاک علی کلا القولین فهی تقع صحیحة،اذن فلا ثمرة.

أقول:اما الإیراد الأول-فیردّه:ما ذکرناه فی بحث التعبدی و التوصلی

ص:51

مفصلا،و سنتعرض لذلک فیما بعد إن شاء اللّه تعالی أیضاً من ان المعتبر فی صحة العبادة هو قصد القربة بأی وجه تحقق لا خصوص قصد الأمر،لعدم دلیل خاص یدل علیه،اذن لا فرق بنظر العقل فی حصول التقرب بین وجود الأمر و عدمه إذا کان الفعل واجداً للملاک و قصد التقرب به.

و اما الإیراد الثانی-فیظهر حاله مما سنبینه إن شاء اللّه تعالی.

فنقول:تحقیق الحال فی الثمرة المزبورة یستدعی الکلام فی مقامین:

الأول-فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسع کالصلاة-مثلا-و واجب مضیق کالإزالة.الثانی-فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجبین مضیقین أحدهما أهم من الآخر کما إذا وقعت المزاحمة بین الصلاة فی آخر الوقت و الإزالة بحیث لو اشتغل بالإزالة فاتته الصلاة.

اما الکلام فی المقام الأول-فقد اختار المحقق الثانی(قده)و تبعه جماعة من المحققین تحقق الثمرة فیه،فعلی القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة و علی القول بعدمه تقع صحیحة.

بیان ذلک انا قد ذکرنا فی بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الافراد ان الصحیح هو تعلقها بالطبائع الملغاة عنها جمیع الخصوصیات و التشخصات دون الافراد،و علی هذا فالمأمور به هو الطبیعة المطلقة،و مقتضی إطلاق الأمر بها ترخیص المکلف فی تطبیق تلک الطبیعة علی أی فرد من افرادها شاء تطبیقها علیه من الافراد العرضیة و الطولیة،و لکن هذا إنما یکون فیما إذا لم یکن هناک مانع عن التطبیق،و اما إذا کان مانع عنه کما إذا کان بعض افرادها منهیاً عنه فلا محالة یقید إطلاق الأمر المتعلق بالطبیعة بغیر هذا الفرد المنهی عنه،لاستحالة انطباق الواجب علی الحرام.

و یترتب علی ذلک انه بناء علی القول باقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضده کان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهیاً عنه فیقید به إطلاق الأمر به،کما هو

ص:52

الحال فی بقیة موارد النهی عن العبادات،لاستحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب،و نتیجة ذلک التقیید هی وقوعه فاسداً بناءً علی عدم کفایة اشتماله علی الملاک فی الصحة.

أو فقل:ان الأمر بالشیء لو کان مقتضیاً للنهی عن ضده کان الفرد المزاحم منهیاً عنه لا محالة،و علیه فلا یجوز تطبیق الطبیعة المأمور بها علیه،و بضمیمة المسألة الآتیة و هی ان النهی فی العبادات یوجب الفساد یقع فاسداً.

و اما بناء علی القول بعدم الاقتضاء فغایة ما یقتضیه الأمر بالواجب المضیق هو عدم الأمر بالفرد المزاحم،لاستحالة الأمر بالضدین معاً،و هذا لا یقتضی فساده.

و الوجه فی ذلک ما عرفت من ان متعلق الوجوب صرف وجود الطبیعة و خصوصیة الافراد جمیعاً خارجة عن حیز الأمر،و المفروض ان القدرة علی صرف الوجود منها تحصل بالقدرة علی بعض وجوداتها و افرادها و ان لم یکن بعضها الآخر مقدوراً.و من الواضح ان التکلیف غیر مشروط بالقدرة علی جمیع افرادها العرضیة و الطولیة،ضرورة انه لیست طبیعة تکون مقدورة کذلک، و علیه فعدم القدرة علی فرد خاص من الطبیعة المأمور بها و هو الفرد المزاحم بالأهم لا ینافی تعلق الأمر بها،فان المطلوب هو صرف وجودها و هو یتحقق بإیجاد فرد منها فی الخارج،فالقدرة علی إیجاد فرد واحد منها کاف فی تعلق الأمر بها.

و علی هذا الضوء یصح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالطبیعة المأمور بها لانطباق تلک الطبیعة علیه کانطباقها علی بقیة الافراد،ضرورة انه لا فرق بینه و بین غیره من الافراد من هذه الجهة أصلا.

و بتعبیر آخر:انه لا موجب لتقیید إطلاق المأمور به علی هذا القول بغیر الفرد المزاحم للواجب المضیق،فان الموجب لذلک إنما هو تعلق النهی به، و حیث لا نهی علی الفرض فلا موجب له أصلا،و عندئذ فغایة ما یقتضیه الأمر

ص:53

بالواجب المضیق هو عدم الأمر به،و من الواضح انه غیر مانع من انطباق الطبیعة المأمور بها علیه،إذ الافراد جمیعاً فی عدم تعلق الأمر بها و عدم اتصافها بالواجب علی نسبة واحدة،و لا فرق فی ذلک بین الفرد المزاحم للواجب المضیق و غیره،فان متعلق الأمر الطبیعة الجامعة بین الافراد بلا دخل شیء من الخصوصیات و التشخصات فیه،و لذا لا یسری الوجوب منها إلی تلک الافراد.

هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان ضابط الامتثال انطباق الطبیعة المأمور بها علی الفرد المأتی به فی الخارج.

فالنتیجة-علی ضوء هاتین الناحیتین-هی صحة الإتیان بالفرد المزاحم لاشتراکه مع بقیة الافراد فی کلتا الناحیتین.

نعم یمتاز عنها فی ناحیة ثالثة و هی ان الفرد المزاحم غیر مقدور شرعاً و هو فی حکم غیر المقدور عقلاً،إلا انها لا تمنع عن الصحة و حصول الامتثال به، لأن الصحة تدور مدار الناحیتین الأولیین،و هذه الناحیة أجنبیة عما هو ملاک الصحة،ضرورة ان المکلف لو عصی الأمر بالواجب المضیق و أتی بهذا الفرد المزاحم لوقع صحیحاً،لانطباق المأمور به علیه.

و ان شئت فقل:ان ما کان مزاحماً للواجب المضیق و ان کان غیر مقدور شرعاً إلا انه لیس بمأمور به،و ما کان مأموراً به و مقدوراً للمکلف و هو صرف وجود الطبیعة بین المبدأ و المنتهی غیر مزاحم له.و علی ذلک الأساس صح الإتیان بالفرد المزاحم،فان الانطباق قهری و الاجزاء عقلی.

و نتیجة ما أفاده المحقق الثانی(قده)هی ان الفرد المزاحم بناء علی القول بالاقتضاء حیث انه کان منهیاً عنه فلا ینطبق علیه المأمور به،و علیه فلا اجزاء لدورانه مدار الانطباق.و بناء علی القول بعدم الاقتضاء حیث انه لیس بمنهی عنه ینطبق علیه المأمور به فیکون مجزیاً.

و قد أورد علی هذا التفصیل شیخنا الأستاذ(قده)بان ذلک انما یتم بناء

ص:54

علی ان یکون منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،إذ علی هذا الأصل یمکن ان یقال ان العقل لا یحکم بأزید من اعتبار القدرة علی الواجب فی الجملة و لو بالقدرة علی فرد منه،فإذا کان المکلف قادراً علی الواجب و لو بالقدرة علی فرد واحد منه لا یکون التکلیف به قبیحاً،و بما ان الواجب الموسع فی مفروض الکلام مقدور من جهة القدرة علی غیر المزاحم للواجب المضیق من الافراد،فلا یکون التکلیف به قبیحاً.

و علیه فعلی القول بالاقتضاء بما أن الفرد المزاحم منهی عنه لا ینطبق علیه المأمور به فلا یکون مجزیاً.و علی القول بعدم الاقتضاء حیث انه لیس بمنهی عنه ینطبق علیه المأمور به فیکون مجزیاً.اذن ما ذکره المحقق الثانی(قده)من التفصیل متین.

و اما إذا کان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف اقتضاء نفس التکلیف ذلک -کما هو الصحیح-لا حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،فلا یتم ما ذکره،و لا یمکن تصحیح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلاً.فهاهنا دعویان:الأولی-ان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف اقتضاء نفس التکلیف ذلک لا حکم العقل.

الثانیة-ان التفصیل المزبور لا یتم علی هذا الأصل.

اما الدعوی الأولی-فلان الغرض من التکلیف جعل الداعی للمکلف نحو الفعل.و من الواضح ان هذا المعنی بنفسه یستلزم کون متعلقه مقدوراً،لاستحالة جعل الداعی نحو الممتنع عقلا أو شرعاً،فإذا کان التکلیف بنفسه مقتضیاً لاعتبار القدرة فی متعلقه فلا تصل النوبة إلی حکم العقل بذلک،ضرورة ان الاستناد إلی أمر ذاتی فی مرتبة سابقة علی الاستناد إلی أمر عرضی.و ان شئت فقل:إن الغرض من البعث انبعاث المکلف نحو الفعل.و من الواضح امتناع الانبعاث نحو الممتنع،و حصول الداعی له إلی إیجاده،فإذا امتنع الانبعاث و الداعویة امتنع جعل التکلیف لا محالة.

ص:55

و اما الدعوی الثانیة-فهی مترتبة علی الدعوی الأولی،و ذلک لأن التکلیف إذا کان بنفسه مقتضیاً لاعتبار القدرة فی متعلقه فلا محالة ینحصر متعلقه بخصوص الافراد المقدورة،فتخرج الافراد غیر المقدورة عن متعلقه.

و علی الجملة:فنتیجة اقتضاء نفس التکلیف ذلک-أی اعتبار القدرة-هی ان متعلقه حصة خاصة من الطبیعة،و هی الحصة المقدورة.و اما الحصة غیر المقدورة خارجة عن متعلقه و ان کانت من حصة نفس الطبیعة،إلا انها لیست من حصتها بما هی مأمور بها،و متعلقة للتکلیف.و علی ذلک فالفرد المزاحم بما انه غیر مقدور شرعاً-و هو فی حکم غیر المقدور عقلا-خارج عن حیز الأمر و لا یکون مصداقاً للطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها،فان انطباق الطبیعة المأمور بها علیه یتوقف علی عدم تقییدها بالقدرة.و حیث انها کانت مقیدة بها-علی الفرض-امتنع انطباقها علی ذلک الفرد،لیحصل به الامتثال.أو فقل:ان الطبیعة إذا کانت مقیدة بالقدرة لا تنطبق علی الفرد الفاقد لها،بداهة عدم إمکان انطباق الحصة المقدورة علی افراد الحصة غیر المقدورة،فان کل طبیعة تنطبق علی افرادها،و لا تنطبق علی افراد غیرها.

و علی هذا الضوء فلو بنینا علی اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا، لیکون الإتیان بها بداعی ذلک الأمر،و عدم کفایة قصد الملاک فلا مناص من الالتزام بفساد الفرد المزاحم علی کلا القولین.اما علی القول بالاقتضاء فلأنه متعلق للنهی.و اما علی القول بعدم الاقتضاء فلتقیید الطبیعة المأمور بها بالقدرة المانع من انطباقها علیه.

و قد تحصل من مجموع ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)نقطتان:

الأولی-عدم تمامیة ما ذکره المحقق الثانی(قده)من التفصیل بین القول بالاقتضاء و القول بعدمه.

ص:56

الثانیة-انه لا بد من الالتزام بتفصیل آخر،و هو ان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف ان کان حکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز،فما أفاده المحقق الثانی(قده)صحیح،و لا مناص من الالتزام به،و ان کان اقتضاء نفس التکلیف ذلک،و ان البعث بذاته یقتضی ان یکون متعلقه مقدوراً سواء أ کان للعقل حکم فی هذا الباب أم لم یکن،فلا یتم ما أفاده المحقق الثانی(قده)إذ لا ثمرة عندئذ،فان الفرد المزاحم للواجب المضیق محکوم بالفساد مطلقاً،حتی علی القول بعدم الاقتضاء کما عرفت.

هذا کله بناء علی القول باشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا،و عدم کفایة قصد الملاک.

و اما إذا بنینا علی کفایة الاشتمال علی الملاک فی الصحة فلا بد من الالتزام بصحة الفرد المزاحم علی کلا القولین لأنه تام الملاک حتی بناء علی القول بکونه منهیاً عنه،و ذلک لأن النهی المانع عن صحة العبادة و التقرب بها إنما هو النهی النفسیّ،فانه یکشف عن وجود مفسدة فی متعلقه موجبة لاضمحلال ما فیه من المصلحة الصالحة للتقرب بفعل یکون مشتملا علیها،دون النهی الغیری،فانه لا یکشف عن وجود مفسدة فی متعلقه،لیکشف عن عدم تمامیة ملاک الأمر.

أو فقل:ان النهی النفسیّ بما انه ینشأ من مفسدة فی متعلقه فیکون مانعاً عن التقرب به لا محالة،و النهی الغیری بما انه لم ینشأ من مفسدة فی متعلقه بل ینشأ من أمر آخر،فلا محالة لا یکون مانعاً عن التقرب،لأن متعلقه باق علی ما کان علیه من الملاک الصالح للتقرب به،هذا من ناحیة. و من ناحیة أخری قد ذکرنا فی بحث التعبدی و التوصلی ان قصد الملاک کاف فی صحة العبادة،و ان صحتها لا تتوقف علی قصد الأمر بخصوصه،لعدم دلیل یدل علی اعتبار أزید من قصد التقرب بالعمل فی وقوعه عبادة،و هو إضافته إلی المولی بنحو من أنحاء الإضافة و اما تطبیق ذلک علی قصد الأمر أو غیره من الدواعی القربیة فانما هو بحکم العقل

ص:57

و من الواضح انه لا فرق بنظر العقل فی حصول التقرب بین قصد الأمر و قصد الملاک،فهما من هذه الناحیة علی نسبة واحدة.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی صحة الفرد المزاحم مطلقاً حتی علی القول بالاقتضاء.

و قد تحصل من ذلک ان ما أفاده المحقق الثانی(قده)من التفصیل بین القولین کما لا یتم علی القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر-کما عرفت-کذلک لا یتم علی القول بکفایة قصد الملاک،فان الصغری-و هی کون الفرد المزاحم تام الملاک- ثابتة،و الکبری-و هی کفایة قصد الملاک-محرزة فالنتیجة من ضم الصغری إلی الکبری هی:صحة الفرد المزاحم حتی بناء علی کونه منهیاً عنه.

و نلخص ما أفاده(قده)فی عدة نقاط:

الأولی-فساد ما اختاره المحقق الثانی(قده)من التفصیل بین القولین مطلقاً،أی سواء القول فیه باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر،و عدم کفایة قصد الملاک،أو القول بعدم اشتراط صحتها بذلک،و کفایة قصد الملاک کما مر.

الثانیة-ان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف انما هو اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار لا حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،ضرورة ان الاستناد إلی أمر ذاتی سابق علی الاستناد إلی أمر عرضی.

الثالثة-ان الفرد المزاحم-هنا-تام الملاک،و ان قصد الملاک کاف فی صحة العبادة.

الرابعة-ان المانع من صحة العبادة،و التقرب بها إنما هو النهی النفسیّ لا النهی الغیری،لأن النهی الغیری لا ینشأ من مفسدة فی متعلقه لیکون کاشفاً عن عدم تمامیة ملاک الأمر.

و لنأخذ الآن بدرس هذه النقاط:

اما النقطة الأولی فیرد علیها:ان ما أفاده(قده)من الفصیل بین القول

ص:58

بان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز، و القول بان منشأ اعتباره اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار فیسلم ما ذکره المحقق الثانی(قده)علی الأول دون الثانی-لا یرجع إلی معنی محصل،بناء علی ما اختاره(قده)من استحالة الواجب المعلق،و تعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه.

بیان ذلک ان الأمر فی الواجب الموسع و ان تعلق بالطبیعة،و بصرف الوجود منها،إلا انه أیضا مشروط بالقدرة علیها.و من الواضح ان القدرة علیها لا یمکن إلا بان یکون بعض وجوداتها،و افرادها-و لو کان واحداً منها- مقدوراً للمکلف.و اما لو کان جمیع افرادها و وجوداتها غیر مقدور له،و لو کان ذلک فی زمان واحد،دون بقیة الأزمنة،فلا یمکن تعلق التکلیف بنفس الطبیعة، و بصرف وجودها فی ذلک الزمان الّذی فرضنا ان الطبیعة غیر مقدورة فیه بجمیع افرادها،إلا علی القول بصحة الواجب المعلق،و حیث ان الواجب الموسع فی ظرف مزاحمته مع الواجب المضیق غیر مقدور بجمیع افراده فلا یعقل تعلق الطلب به عندئذ،لیکون انطباقه علی الفرد المزاحم فی الخارج قهریاً و إجزاؤه عن المأمور به عقلیاً إلا بناء علی صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه،و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف حکم العقل بقبح تکلیف العاجز و ان یکون منشأه اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار.

و بتعبیر ثان-انه بناء علی اشتراط صحة العبادة بوجود الأمر فعلا، و الإغماض عما سنتعرض له من صحة تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب فان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)إنما یتم بناء علی إمکان تعلق الوجوب بأمر متأخر علی نحو الواجب المعلق،إذ علی ذلک لا مانع من تعلق الأمر بالعبادة الموسعة فی حال مزاحمتها بالواجب المضیق علی نحو یکون الوجوب فعلیاً،و الواجب امراً استقبالیاً،لاستحالة تعلق الأمر بها علی نحو یکون الواجب أیضاً حالیاً،لأنها

ص:59

فی تلک الحال غیر مقدورة للمکلف بجمیع افرادها.

و اما بناء علی وجهة نظره(قده)من استحالة الواجب المعلق و عدم إمکان تعلق الطلب بأمر استقبالی مقدور فی ظرفه فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم مطلقاً،حتی علی القول بان منشأ اعتبار القدرة هو الحکم العقلی المزبور و ذلک لعدم إمکان طلب صرف وجود الطبیعة المأمور بها المزاحمة بالواجب المضیق عندئذ،لیکون انطباقه علی ما أتی به المکلف فی الخارج قهریاً، و الاجزاء عقلیاً. فالنتیجة ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من التفصیل بین القول بان منشأ اعتبار القدرة فی صحة التکلیف هو حکم العقل و القول بان منشأه اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار،فعلی الفرض الأول تظهر الثمرة فی المسألة،دون الفرض الثانی:غیر تام علی مسلکه(قده)و اما علی مسلک من یری صحة الواجب المعلق فلا بأس به.نعم إذا کان للواجب افراد عرضیة،و کان بعض افراده مزاحماً بواجب مضیق دون جمیعها لتم ما أفاده(قده)إذ حینئذ یصح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر المتعلق بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی بعض أفرادها،بناء علی القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حکم العقل بقبح خطاب العاجز،کما إذا وقعت المزاحمة بین بعض الافراد العرضیة للصلاة-مثلا-و إنقاذ الغریق کما فی مواضع التخییر بین القصر و الإتمام،فانه قد یفرض ان الصلاة تماماً مزاحمة مع الإنقاذ، لعدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال دون الصلاة قصراً فیما إذا تمکن المکلف من الجمع بینها و بین الإنقاذ،ففی هذا الفرض و ان کان اللازم علی المکلف الإتیان بالصلاة قصراً،لئلا یفوت منه الواجب المضیق،و لا یجوز له اختیار فرد آخر منها فی مقام الامتثال-و هو الصلاة تماماً-لأن اختیاره یوجب تفویت الواجب الأهم،و لکن إذا عصی الواجب الأهم و اختار ذلک الفرد فلا مناص من الالتزام بصحته،لانطباق الطبیعة المأمور بها و هی طبیعی الصلاة الجامع بین

ص:60

القصر و التمام علیه،لفرض کون تلک الطبیعة مقدورة بالقدرة علی فرد منها، فإذا کانت مقدورة فلا مانع من تعلق الأمر بها بناء علی ان منشأ اعتبار القدرة هو حکم العقل.اذن صح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالطبیعة.نعم بناء علی القول بان منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار لم یمکن الحکم بصحة الفرد المزاحم،لعدم انطباق الطبیعة المأمور بها علیه،إذ علی هذا القول -کما عرفت-یکون المأمور به حصة خاصة من الطبیعة،و هی الحصة المقدورة.

و من الواضح انها لا تنطبق علی الفرد المزاحم.

و قد تلخص ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من التفصیل و-ان تم علی هذا الفرض-إلا ان ذلک الفرض خارج عن مورد کلام المحقق الثانی(قده)الّذی کان محلا للکلام فی المقام،و هو(ما إذا کان الواجب ذا افراد طولیة،و کان بعضها مزاحماً بواجب مضیق).

ثم لو تنزلنا عن ذلک،و سلمنا ان شیخنا الأستاذ(قده)من القائلین بالواجب المعلق،و یری جواز تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه،إلا انه مع ذلک لا یتم ما أفاده،بیان ذلک ان المطلق المتعلق للطلب لا یخلو من أن یکون شمولیاً و ان یکون بدلیاً،و المطلق الشمولی و ان کان خارجاً عن محل الکلام فی المقام-حیث ان محل الکلام فی المطلق البدلی-إلا انا نتعرض له لشیء من التوضیح للمقام فنقول:إن المطلق إذا کان شمولیاً فلا محالة ینحل الحکم المتعلق به بانحلال افراده،فیثبت لکل واحد منها حکم مستقل مغایر للحکم الثابت لفرد آخر.و هذا واضح.

و علیه فإذا کان بعض افراده مزاحماً بواجب مضیق فلا محالة یسقط حکمه من جهة المزاحمة،لکونه غیر مقدور للمکلف شرعاً،و ما کان کذلک یستحیل تعلق الطلب به،و لا یفرق فی ذلک بین القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حکم العقل،و القول بان منشأه اقتضاء نفس التکلیف ذلک،فان الممنوع شرعاً کالممتنع

ص:61

عقلا،إذن لا یمکن الحکم بصحة ذلک الفرد المزاحم مع قطع النّظر عما سیجیء من صحة تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب.

و اما إذا کان بدلیاً کما هو محل الکلام فی المقام فبناء علی ما هو الصحیح من أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الافراد فمتعلق الأمر هو صرف وجود الطبیعة الجامع بین الحدین،أو فقل:الجامع بین الافراد العرضیة و الطولیة بلا دخل شیء من الخصوصیات و التشخصات الخارجیة فیه.

و من هنا قد ذکرنا غیر مرة ان معنی الإطلاق هو رفض القیود و عدم دخل شیء منها فی متعلق الحکم واقعاً لا الجمع بینها و دخل الجمیع فیه.و من الواضح جداً ان وجوب شیء کذلک لا ینافی وجوب شیء آخر فی عرضه،ضرورة انه لا منافاة بین وجوب الصلاة-مثلا-فی مجموع وقتها-و هو ما بین الزوال و المغرب-و بین وجوب الإزالة أو إنقاذ الغریق أو نحو ذلک فی ذلک الوقت،إذ المفروض ان المطلوب إنما هو صرف وجود الصلاة فی مجموع هذه الأزمنة لا فی جمیعها،و من المعلوم انه یکفی فی کونه مقدوراً للمکلف القدرة علی فرد واحد منها،و إذا کان مقدوراً صح تعلق الطلب به سواء أ کان هناک واجب آخر فی تلک الأزمنة أم لم یکن،فان وجوب واجب آخر إنما ینافی وجوب الصلاة إذا کان وجوبها فی جمیع تلک الأزمنة لا فی مجموعها،و المفروض انها لیست بواجبة فی کل من تلک الأزمنة لینافی وجوبها وجوب واجب آخر،بل هی واجبة فی المجموع،و علیه فلا ینافیه وجوب شیء آخر فی زمان خاص.

نعم وجوب واجب آخر ینافی ترخیص انطباق صرف وجود الطبیعة علی الفرد فی ذلک الزمان،و لا یفرق فی ذلک بین القول بان منشأ اعتبار القدرة فی فعلیة التکلیف هو حکم العقل،أو اقتضاء نفس التکلیف ذلک،إذ علی کلا القولین لو عصی المکلف الأمر بالواجب المضیق و أتی بالفرد المزاحم به صح لانطباق المأمور به علیه.

ص:62

و السر فی ذلک ان التکلیف بنفسه لا یقتضی أزید من ان یکون متعلقه مقدوراً و لو بالقدرة علی فرد منه لئلا یکون البعث نحوه لغواً و ممتنعاً،لأن الغرض منه جعل الداعی له لیحرک عضلاته نحو الفعل بالإرادة و الاختیار.و من الواضح ان جعل الداعی إلی إیجاد الطبیعة المقدورة و لو بالقدرة علی فرد منها بمکان من الوضوح.

و بتعبیر آخر:ان الشارع لم یأخذ القدرة فی متعلق أمره علی الفرض،بل هو مطلق من هذه الجهة غایة ما فی الباب ان التکلیف المتعلق به یقتضی ان یکون مقدوراً من جهة ان الغرض منه جعل الداعی إلی إیجاده،و جعل الداعی نحو الممتنع عقلا أو شرعاً ممتنع.و من الواضح ان ذلک لا یقتضی أزید من إمکان حصول الداعی المکلف،و هو یحصل من التکلیف المتعلق بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی فرد منها،لتمکنه من إیجادها فی الخارج،و لا یکون ذلک التکلیف لغواً و ممتنعاً عندئذٍ،فإذا فرض ان الصلاة-مثلاً-مقدورة فی مجموع وقتها و ان لم تکن مقدورة فی جمیعها فلا یکون البعث نحوها و طلب صرف وجودها فی مجموع هذا الوقت لغواً.

و علیه فلا مقتضی للالتزام بان متعلقه حصة خاصة من الطبیعة و هی الحصة المقدورة،فان المقتضی له لیس إلا توهم ان الغرض من التکلیف حیث انه جعل الداعی فجعل الداعی نحو الممتنع غیر معقول،و لکنه غفلة عن الفارق بین جعل الداعی نحو الممتنع،و جعل الداعی نحو الجامع بین الممتنع و الممکن،و الّذی لا یمکن جعل الداعی نحوه هو الأول دون الثانی،فان جعل الداعی نحوه من الوضوح بمکان.

فالنتیجة علی ضوء هذا البیان انه یصح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر بالطبیعة من دون فرق بین القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حکم العقل، أو اقتضاء نفس التکلیف ذلک.

ص:63

و لو تنزلنا عن ذلک أیضا و سلمنا الفرق بین القولین فمع هذا لا یتم ما أفاده بناء علی ما اختاره(قده)من ان التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل العدم و الملکة،فکل ما لم یکن المورد قابلا للتقیید لم یکن قابلا للإطلاق،فإذا کان التقیید مستحیلاً فی مورد کان الإطلاق أیضاً مستحیلاً فیه،لأن استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر.

و فیما نحن فیه بما ان تقیید الطبیعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحیل فإطلاقها بالإضافة إلیه أیضاً مستحیل حتی علی القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حکم العقل،و بالنتیجة لا یمکن الحکم بصحة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به،لیکون الإتیان به بداعی أمره حتی علی القول بصحة الواجب المعلق.

نعم بناء علی ما حققناه فی بحث التعبدی و التوصلی من ان التقابل بینهما لیس من تقابل العدم و الملکة،بل من تقابل التضاد،و لذلک قلنا ان استحالة تقیید متعلق الحکم أو موضوعه بقید خاص تستلزم کون الإطلاق أو التقیید بخلاف ذلک القید ضروریاً یصح الإتیان به بداعی الأمر بالطبیعة بناء علی جواز تعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه،کما هو المفروض،و قد ذکرنا هناک ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من ان التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل العدم و الملکة لا یمکن تصدیقه بوجه.و قد فصلنا الحدیث من هذه الناحیة هناک فلا نعید فی المقام.

فالنتیجة لحد الآن قد أصبحت ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من التفصیل بین اعتبار القدرة عقلاً و اعتبارها باقتضاء نفس التکلیف فی المقام لا یرجع إلی معنی صحیح.

فالصحیح هو ما ذهب إلیه المحقق الثانی(قده)من تحقق الثمرة بین القولین فی المسألة و هی صحة العبادة بناء علی القول بعدم الاقتضاء،و فسادها بناء علی القول

ص:64

بالاقتضاء،مع قطع النّظر عما سیجیء إن شاء اللّه تعالی من صحة تعلق الأمر بالضدین بناء علی القول بالترتب.

و لکن الّذی یرد هنا هو أن مقامنا هذا أی(التزاحم بین الإتیان بواجب موسع و واجب مضیق)غیر داخل فی کبری مسألة التزاحم بین الحکمین أصلا.

و الوجه فی ذلک هو ان التنافی بین الحکمین اما أن یکون فی مقام الجعل و الإنشاء فلا یمکن جعل کلیهما معا،و اما أن یکون فی مقام الامتثال و الفعلیة،مع کمال الملاءمة بینهما بحسب مقام الجعل و لا ثالث لهما.و منشأ الأول اما العلم الإجمالی بکذب أحدهما فی الواقع مع عدم التنافی بینهما ذاتاً،أو ثبوت التنافی بینهما بالذات و الحقیقة علی وجه التناقض أو التضاد،و لذا قالوا:التعارض تنافی مدلولی الدلیلین بحسب مقام الإثبات و الدلالة علی وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.و منشأ الثانی عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال و الفعلیة،فان صرف قدرته علی امتثال أحدهما عجز عن الثانی فینتفی بانتفاء موضوعه و هو القدرة،و لذا قالوا:التزاحم تنافی الحکمین بحسب مقام الفعلیة و الامتثال، مع عدم المنافاة بینهما بحسب مقام الجعل و الإنشاء.

و اما إذا لم یکن بین حکمین تناف لا بحسب مقام الجعل،و لا بحسب مقام الفعلیة و الامتثال لم یکونا داخلین لا فی باب التعارض،و لا فی باب التزاحم لانتفاء ملاک کلا البابین فیهما،و مقامنا من هذا القبیل،ضرورة انه لا تنافی بین واجب موسع و واجب مضیق أبداً لا فی مقام الجعل کما هو واضح،و لا فی مقام الامتثال لتمکن المکلف من امتثال کلا الواجبین معاً من دون ایة منافاة و مزاحمة فی البین،فیقدر علی إتیان الصلاة و الإزالة معاً،أو الصلاة و إنقاذ الغریق من دون مزاحمة بینهما أصلا.

و سر ذلک ان ما هو مزاحم للواجب المضیق أو الأهم لیس بمأمور به و ما هو مأمور به و هو الطبیعی الجامع بین المبدأ و المنتهی لیس بمزاحم له.و هذا ظاهر.

ص:65

ثم انه لا یخفی ان ما ذکرناه من انه لا تزاحم بین الواجب الموسع و المضیق لا ینافی ما ذکره المحقق الثانی(قده)من الثمرة بین القولین فی المسألة،فان دخول المقام تحت کبری التزاحم،و عدم دخوله تحت تلک الکبری أجنبیان عن ظهور تلک الثمرة تماماً کما لا یخفی.

و اما النقطة الثانیة:و هی اقتضاء نفس التکلیف اعتبار القدرة فی متعلقه فهی مبنیة علی ما هو المشهور من ان المنشأ بصیغة الأمر أو ما شاکلها إنما هو الطلب و البعث نحو الفعل الإرادی،و الطلب و البعث التشریعیین عبارة عن تحریک عضلات العبد نحو الفعل بإرادته و اختیاره،و جعل الداعی له لأن یفعل فی الخارج و یوجده و من الضروری ان جعل الداعی انما یمکن فی خصوص الفعل الاختیاری،اذن نفس التکلیف مقتض لاعتبار القدرة فی متعلقه بلا حاجة إلی حکم العقل فی ذلک.

أقول:قد ذکرنا فی بحث صیغة الأمر،و کذا فی بحث الإنشاء و الاخبار ان ما هو المشهور من ان الإنشاء إیجاد المعنی باللفظ لا أساس له أصلا.

و الوجه فی ذلک ما ذکرناه هناک و ملخصه:ان المراد بإیجاد المعنی باللفظ لیس الإیجاد التکوینی بالضرورة،فان اللفظ غیر واقع فی سلسلة علل الموجودات التکوینیة،بداهة انها توجد بأسبابها و عللها الخاصة،و اللفظ لیس من جملتها، و کذا لیس المراد منه الإیجاد الاعتباری،فان الاعتبار خفیف المئونة فیوجد فی نفس المعتبر بمجرد اعتباره،سواء أ کان هناک لفظ تکلم به المعتبر أم لم یکن، فلا یتوقف وجوده الاعتباری علی اللفظ أبداً،اذن لا یرجع الإنشاء بهذا المعنی إلی محصل.

فالتحقیق هو:ما ذکرناه سابقاً من ان حقیقة التکلیف عبارة عن اعتبار المولی کون الفعل علی ذمة المکلف،و أبراره فی الخارج بمبرز ما من صیغة الأمر أو ما شاکلها،و لا نتصور للتکلیف معنی غیر ذلک،کما انا لا نتصور للإنشاء معنی ما عدا إبراز ذلک الأمر الاعتباری.

ص:66

و علی الجملة فإذا حللنا الأمر بالصلاة-مثلاً-أو غیرها نری انه لیس فی الواقع إلا اعتبار الشارع کون الصلاة علی ذمة المکلف،و إبراز ذلک بمبرز فی الخارج ککلمة(صل)أو نحوها،و لا نتصور شیئاً آخر غیر هذین الأمرین-1-(اعتبار الفعل علی ذمة المکلف)-2-(إبراز ذلک بمبرز فی الخارج)نسمیه بالطلب تارة و بالبعث أخری و بالوجوب ثالثة.

و من هنا قلنا ان الصیغة لا تدل علی الوجوب و إنما هی تدل علی إبراز الأمر الاعتباری القائم بالنفس،و لکن العقل ینتزع منه الوجوب،و لزوم الامتثال بمقتضی قانون العبودیة و المولویة ما لم تنصب قرینة علی الترخیص فی الترک، فالوجوب انما هو بحکم العقل و من لوازم إبراز شیء علی ذمة المکلف إذا لم تکن قرینة علی الترخیص،و اما الطلب فقد ذکرنا انه عبارة عن التصدی لتحصیل شیء فی الخارج،فلا یقال طالب الضالة إلا لمن تصدی لتحصیلها فی الخارج.

و علی ضوء ذلک فصیغة الأمر أو ما شاکلها من أحد مصادیق هذا الطلب، لا انه مدلول لها،فان الآمر یتصدی بها لتحصیل مطلوبه فی الخارج فهی من أظهر مصادیق الطلب.

و علی هدی ذلک البیان قد ظهر انه لا مقتضی لاختصاص الفعل بالحصة المقدورة،فان اعتبار المولی الفعل علی عهدة المکلف و ذمته لا یقتضی ذلک بوجه ضرورة انه لا مانع من اعتبار الجامع بین المقدور و غیر المقدور علی عهدته أصلا، و إبراز المولی ذلک الأمر الاعتباری النفسانیّ بمبرز فی الخارج أیضاً لا یقتضی ذلک، بداهة انه لیس إلا مجرد إبراز و إظهار اعتبار کون المادة علی ذمة المکلف،و هو أجنبی تماماً عن اشتراط التکلیف بالقدرة و عدم اشتراطه بها.

فالنتیجة انه لا مقتضی من قبل نفس التکلیف لاعتبار القدرة فی متعلقه أبداً و اما العقل فقد ذکرنا انه لا یقتضی اعتبار القدرة إلا فی ظرف الامتثال،و علیه فإذا لم یکن المکلف قادراً حین جعل التکلیف و صار قادراً فی ظرف الامتثال صح

ص:67

التکلیف و لم یکن قبیحاً عنده،فان ملاک حکم العقل-باعتبار القدرة فی ظرف الامتثال و فی موضوع حکمه و هو لزوم إطاعة المولی و امتثال أمره و نهیه بمقتضی قانون العبودیة و المولویة-إنما هو قبح توجیه التکلیف إلی العاجز عنه فی مرحلة الامتثال،فالعبرة إنما هی بالقدرة فی تلک المرحلة سواء أ کان قبلها قادراً أم لم یکن فوجود القدرة قبل تلک المرحلة و عدمه علی نسبة واحدة بالقیاس إلی حکم العقل.و هذا ظاهر.

و نتیجة مجموع ما ذکرناه امران:

الأول-ان القدرة لیست شرطاً للتکلیف و مأخوذة فی متعلقه لا باقتضاء نفسه و لا بحکم العقل.

الثانی-انها شرط لحکم العقل بلزوم الامتثال و الإطاعة و مأخوذة فی موضوع حکمه،اذن فلا مقتضی لاختصاص الفعل بالحصة الاختیاریة أصلا.

قد یتوهم ان تعلق التکلیف بالجامع بین المقدور و غیره و ان لم یکن مستحیلاً و لکنه لغو محض إذ المکلف لا ینبعث إلا نحو المقدور و لا یتمکن إلا من إیجاده، إذن ما هی فائدة تعلقه بالجامع.

و یرده ما ذکرناه هناک من ان فائدته سقوط التکلیف عن المکلف بتحقق فرد منه فی الخارج بغیر اختیاره و إرادته،لانطباق الجامع علیه و حصول الغرض القائم بمطلق وجوده به،و لا یفرق بینه و بین الفرد الصادر منه باختیاره و إرادته فی حصول الغرض و سقوط التکلیف،لأن مناط ذلک انطباق الطبیعی المأمور به علی الفرد الخارجی و هو مشترک فیه بین الفرد الصادر منه بالاختیار و الصادر منه بغیره.

و قد تبین لحد الآن انه لا مانع من تعلق التکلیف بالجامع بین الحصة المقدورة و غیرها أصلا.

ص:68

أضف إلی ذلک ما تقدم آنفاً من انا لو سلمنا ان منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار لم یکن مقتض لاختصاص المتعلق بخصوص الحصة الاختیاریة-کما سبق ذلک بصورة مفصلة-فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما النقطة الثالثة-و هی ان الفرد المزاحم للواجب المضیق تام الملاک مطلقاً حتی علی القول بالاقتضاء. و ان قصد الملاک یکفی فی وقوع الشیء عبادة.فهی تتوقف علی إثبات هاتین المقدمتین:إحداهما کبری القیاس،و الأخری صغراه.

اما المقدمة الأولی-و هی کبری القیاس-فلا إشکال فیها،و ذلک لما حققناه فی بحث التعبدی و التوصلی من ان المعتبر فی صحة العبادة هو قصد القربة بأی وجه تحقق،سواء أتحقق فی ضمن قصد الأمر،أو قصد الملاک،أو غیر ذلک من الدواعی القربیة.و لا دلیل علی اعتبار قصد الأمر خاصة،بل قام الدلیل علی خلافه،کما فصلنا الحدیث من هذه الناحیة هناک.

و اما المقدمة الثانیة-و هی صغری القیاس فقد استدل علیها بوجوه:

الأول-ما عن المحقق صاحب الکفایة(قده)من دعوی القطع بان الفرد المزاحم تام الملاک،و لا قصور فیه أصلا،و قال فی بیان ذلک ما ملخصه:

ان الفرد المزاحم للواجب المضیق أو الأهم و ان کان خارجاً عن الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها إلا انه لما کان وافیاً بغرضها-کالباقی من افرادها-کان عقلا مثله فی الإتیان به بداعی الأمر بالطبیعة فی مقام الامتثال بلا تفاوت فی نظر العقل بینه و بین بقیة الافراد من هذه الجهة أصلا.نعم انه یفترق عن البقیة فی انه خارج عن الطبیعة المأمور بها بما هی کذلک،و البقیة داخلة فیها.و هذا لیس لقصور فیه،لیکون خروجه عنها من باب التخصیص،و عدم الملاک،بل لعدم إمکان تعلق الأمر بما یعمه عقلا.و علی کل حال فالعقل لا یری تفاوتاً بینه و بین غیره من الافراد فی الوفاء بغرض الطبیعة أصلا و انه کالبقیة تام الملاک،و لا قصور فیه أبداً.

ص:69

و غیر خفی:انا قد ذکرنا غیر مرة انه لا طریق لنا إلی إحراز ملاکات الأحکام الواقعیة،و جهات المصالح و المفاسد فی متعلقاتها،مع قطع النّظر عن ثبوت تلک الأحکام.نعم فی لحظة ثبوتها نستکشف اشتمال متعلقاتها علی الملاک بناء علی ما هو الصحیح من تبعیة الأحکام لما فی متعلقاتها من المصالح و المفاسد الواقعیتین.و اما إذا سقطت تلک الأحکام فلا یمکننا إحراز ان متعلقاتها باقیة علی ما کانت علیه من الاشتمال علی الملاک،إذ کما نحتمل أن یکون سقوطها من جهة المانع مع ثبوت المقتضی لها نحتمل أن یکون من جهة انتفاء المقتضی و عدم ثبوته،فلا ترجیح لأحد الاحتمالین علی الآخر.

و علی الجملة فالعلم بوجود مصلحة فی فعل أو مفسدة تابع لتعلق الأمر أو النهی به،فمع قطع النّظر عنه لا یمکن العلم بان فیه مصلحة أو مفسدة.و من هنا قلنا:إن الملازمة بین إدراک العقل مصلحة ملزمة،غیر مزاحمة فی فعل أو مفسدة کذلک،و حکم الشارع بوجوبه أو حرمته،و ان کانت تامة بحسب الکبری بناء علی وجهة مذهب العدلیة کما هو الصحیح،إلا ان الصغری لها غیر متحققة فی الخارج،لعدم وجود طریق للعقل إلی إدراک الملاکات الواقعیة،فضلا عن انها غیر مزاحمة،و علیه فإذا سقط الأمر أو النهی عنه فلا یمکن الجزم ببقاء الملاک فیه،و ان سقوط الأمر أو النهی من جهة وجود المانع لا لأجل انتفاء المقتضی،بل کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون سقوطه من جهة انتفاء المقتضی.

و سر ذلک هو ان العلم بالملاک معلول للعلم بوجود الأمر،فهو یتبعه فی السعة و الضیق إذ لا یمکن أن تکون دائرة المعلول أوسع من دائرة علته.

و علی ذلک الأساس فلا یمکن إحراز ان الفرد المزاحم مشتمل علی الملاک، فان الطریق إلی إحرازه هو انطباق الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها علیه فإذا لم تنطبق الطبیعة علیه کما هو المفروض لم یمکن إحراز وجود الملاک فیه لیکون عدم الانطباق مستنداً إلی عدم إمکان تعلق الأمر بها علی نحو تعمه لا لقصور فیه،إذ

ص:70

من الواضح جداً انه کما یحتمل ان یکون عدم الانطباق من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضی له یحتمل أن یکون من جهة عدم المقتضی و انتفائه لاحتمال اختصاص الملاک و المقتضی بالافراد غیر المزاحمة للواجب المضیق أو الأهم،و لا دلیل علی ترجیح الاحتمال الأول علی الثانی.اذن لا دلیل علی ان الفرد المزاحم تام الملاک و لا قصور من ناحیته أصلا.

و ان شئت فقل:ان اشتمال الفرد المزاحم علی الملاک لیس امراً وجدانیاً و بدیهیاً لئلا یخفی علی أحد و لا یکون قابلا للشک و التردید.و علیه فدعوی القطع باشتماله علی الملاک بدعوی حکم العقل بعدم الفرق بینه و بین غیره من الافراد فی الوفاء بغرض الطبیعة المأمور بها فی غیر محلها،ضرورة ان العقل حاکم بالفرق و ان الفرد المزاحم لیس کغیره من الافراد الباقیة تحت الطبیعة المأمور بها.

و علی الجملة حکم العقل بان فعلا ما مشتمل علی الملاک منوط بأحد أمرین لا ثالث لهما،الأول-ما إذا کان الشیء بنفسه متعلقاً للأمر،فان تعلق الأمر به یکشف عن وجود ملاک فیه لا محالة.الثانی-ما إذا کان مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به.فانه یکشف عن انه واف بغرض المأمور به و واجد لملاکه،و اما إذا لم یکن هذا و لا ذاک فلا ملاک لحکمه أصلا.و الفرد المزاحم فی المقام کذلک -علی الفرض-فانه لیس متعلقاً للأمر و لا مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به.

اذن فلا یحکم العقل بان فیه ملاکا و انه واف بغرض المأمور به کبقیة الافراد بل هو حاکم بضرورة التفاوت بینهما فی مقام الامتثال و الإطاعة کما هو واضح.

الثانی-ما عن جماعة من المتأخرین منهم شیخنا الأستاذ(قده)من ان سقوط اللفظ عن الحجیة بالإضافة إلی مدلوله المطابقی لا یستلزم سقوطه عنها بالإضافة إلی مدلوله الالتزامی،إذ الضرورة تتقدر بقدرها،و هی تقتضی سقوط الدلالة المطابقیة فحسب.اذن فلا موجب لرفع الید عن الدلالة الالتزامیة.

و بعبارة واضحة:ان الدلالة الالتزامیة و ان کانت تابعة للدلالة المطابقیة فی

ص:71

مقام الثبوت و الإثبات،إلا انها لیست تابعة لها فی الحجیة.و الوجه فی ذلک هو ان ظهور اللفظ فی معناه المطابقی غیر ظهوره فی معناه الالتزامی،و کل واحد من الظهورین حجة فی نفسه بمقتضی أدلة الحجیة،و لا یجوز رفع الید عن حجیة کل واحد منهما بلا موجب و مقتض،و علیه فإذا سقط ظهور اللفظ فی معناه المطابقی عن الحجیة من جهة قیام دلیل أقوی علی خلافه فلا وجه لرفع الید عن ظهوره فی معناه الالتزامی لعدم المانع منه أصلا.و نظیر ذلک ما ذکرناه من انه إذا ورد عام مجموعی کقولنا:أکرم عشرة من العلماء،ثم ورد دلیل خاص کقولنا:

لا تکرم أربعة منهم،فلا شبهة فی تخصیص الدلیل الأول بالثانی بالإضافة إلی هؤلاء الأربعة،و رفع الید عن ظهوره بالإضافة إلی وجوب إکرام المجموع،و لکنه مع ذلک لا ترفع الید عن وجوب إکرام الباقی،مع ان الدلالة التضمنیة کالدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة فی مقام الثبوت و الإثبات.

و السر فیه:ان ظهور اللفظ فی معناه المطابقی کما یغایر ظهوره فی معناه الالتزامی کذلک یغایر ظهوره فی معناه التضمنی،و کل واحد من هذه الظواهر قد ثبت اعتبارها بمقتضی أدلة الحجیة،و عندئذ فإذا سقط ظهور اللفظ فی معناه المطابقی عن الحجیة من جهة وجود مانع یختص به لا یلزم منه سقوط ظهوره عن الحجیة بالإضافة إلی مدلوله الالتزامی أو التضمنی،لعدم مانع بالقیاس إلیه،اذن کان رفع الید عنه عند سقوط الدلالة المطابقیة عن الحجیة بلا موجب،و هو غیر جائز.

و علی الجملة بعد ما فرضنا ان کل من تلک الظواهر حجة فی نفسه فرفع الید عن کل واحد منها منوط بقیام حجة أقوی علی خلافه،و لذلک کان الساقط فی المثال المزبور خصوص الدلالة المطابقیة من جهة قیام حجیة أقوی علی خلافها، دون الدلالة التضمنیة.

و بعد ذلک نقول:بما ان الأمر-فی المقام-قد تعلق بفعل غیر مقید بحصة خاصة-و هی الحصة المقدورة-فهو کما یدل علی وجوبه مطلقاً کذلک یدل علی کونه

ص:72

ذا ملاک کذلک،بناء علی تبعیة الأحکام لما فی متعلقاتها من المصالح و المفاسد الواقعیتین غایة الأمر:ان دلالته علی وجوبه دلالة بالمطابقة،و علی کونه ذا ملاک دلالة بالالتزام.و هذه الدلالة بناء علی مسلک العدلیة لازمة لدلالة کل دلیل دل علی وجوب شیء أو حرمته أو کراهة شیء أو استحبابه،و علیه فإذا تعلق الأمر بفعل غیر مقید بالقدرة فی مقام الإثبات کشف ذلک عن وجوبه بالدلالة المطابقیة،و عن کونه ذا ملاک بالدلالة الالتزامیة،فإذا سقطت الدلالة المطابقیة عن الحجیة لحکم العقل باعتبار القدرة فی فعلیة التکلیف لم تسقط الدلالة الالتزامیة عن الحجیة.

أو فقل:ان اللازم و ان کان تابعاً للملزوم فی مقام الثبوت و الإثبات،إلا انه لیس تابعاً له فی مقام الحجیة.و الوجه فیه هو ان الإخبار عن الملزوم ینحل إلی إخبارین:أحدهما اخبار عن الملزوم،و الآخر اخبار عن اللازم،و دلیل الاعتبار یدل علی اعتبار کلیهما معاً،و عندئذ إذا سقط الاخبار عن الملزوم عن الحجیة من جهة قیام دلیل أقوی علی خلافه فلا وجه لرفع الید عن الإخبار عن اللازم،لعدم المانع له أصلا.و فیما نحن فیه و ان کان کشف الأمر عن وجود ملاک فی فعل تابعاً لکشفه عن وجوبه فی مقام الإثبات و الدلالة،إلا انه لیس تابعاً له فی مقام الحجیة،فان حکم العقل باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف،أو اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار إنما یصلح للتقیید بالقیاس إلی الدلالة المطابقیة فیوجب رفع الید عنها دون الدلالة الالتزامیة،و لا موجب لرفع الید عن إطلاقها أصلا.إذ المفروض ان کل واحد من الظهورین حجة فی نفسه،فرفع الید عن أحدهما لمانع لا یوجب رفع الید عن الآخر،فان رفع الید عنه بلا مقتض و سبب.

و نتیجة ذلک عدة أمور:الأول-ان الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً لا بقاء.الثانی-ان الملاک قائم بالجامع بین الحصة المقدورة و غیرها،و لازم ذلک صحة الفرد المزاحم،فان الصغری-و هی کونه تام الملاک-

ص:73

محرزة،و الکبری-و هی کفایة قصد الملاک فی وقوع الشیء عبادة-ثابتة،فالنتیجة من ضم أحدهما إلی الأخری هی ذلک.الثالث-اختصاص الوجوب بخصوص الحصة المقدورة من جهة حکم العقل باعتبار القدرة فی متعلقه،أو من جهة اقتضاء نفس التکلیف ذلک.الرابع-ان الملاک تابع للإرادة الإنشائیة المتعلقة بفعل،دون الإرادة الجدیة،فانها قد تخالف الأولی-کما فی المقام-فان الإرادة الإنشائیة تعلقت بالجامع،و الإرادة الجدیة تعلقت بحصة خاصة منه،و هی الحصة المقدورة.

و الجواب عن ذلک نقضاً و حلاً،اما نقضاً فبعدة من الموارد:

الأول-ما إذا قامت البینة علی ملاقاة الثوب-مثلا-ثم علمنا من الخارج بکذب البینة،أو عدم ملاقاة الثوب للبول،و لکن احتملنا نجاسته من جهة أخری،کملاقاته للدم-مثلا-أو نحوه،فحینئذ هل یمکن الحکم بنجاسة الثوب من جهة البینة المذکورة،بدعوی ان الاخبار عن ملاقاة الثوب للبول اخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامیة،لأن نجاسته لازمة لملاقاته للبول،و بعد سقوط البینة عن الحجیة بالإضافة إلی الدلالة المطابقیة من جهة مانع لا موجب لسقوطها بالإضافة إلی الدلالة الالتزامیة،لعدم المانع عنها أصلا،و لا نظن ان یلتزم بذلک أحد حتی من یدعی بان سقوط الدلالة المطابقیة عن الحجیة لا یستلزم سقوط الدلالة الالتزامیة عنها،و هذا واضح جداً.

الثانی-ما إذا کانت الدار-مثلا-تحت ید زید،و ادعاها عمرو و بکر، و أخبرت بینة علی انها لعمرو،و أخری علی انها لبکر فتساقطت البینتان من جهة المعارضة بالإضافة إلی مدلولهما المطابقی،فلم یمکن الأخذ بهما و لا بإحداهما فهل یمکن عندئذ الأخذ بالبینتین فی مدلولهما الالتزامی،و هو عدم کون الدار لزید بدعوی ان التعارض بینهما إنما کان فی مدلولهما المطابقی لا فی مدلولهما الالتزامی، و بعد سقوطهما عن الحجیة فی مدلولهما المطابقی لم یکن موجب لرفع الید عنهما فی

ص:74

مدلولهما الالتزامی،و هو ان الدار لیست لزید،فلا بد ان یعامل معها معاملة مجهول المالک،و لا نظن ان یلتزم به متفقه فضلا عن الفقیه.

الثالث-ما إذا شهد واحد علی ان الدار فی المثال المزبور لعمرو،و شهد آخر علی انها لبکر.و المفروض ان شهادة کل واحد منهما لیست بحجة فی مدلولها المطابقی،مع قطع النّظر عن معارضة إحداهما مع الأخری،لتوقف حجیة شهادة الواحد علی ضم الیمین،ففی مثل هذا الفرض هل یمکن الأخذ بمدلولهما الالتزامی،و هو عدم کون هذه الدار لزید لکونهما متوافقین فیه فلا حاجة إلی ضم الیمین فی الحکم بان الدار لیست لزید؟کلا.

الرابع-ما إذا قامت البینة علی ان الدار التی فی ید عمرو لزید،و لکن زیداً قد أقر بأنها لیست له فلا محالة تسقط البینة من جهة الإقرار،فانه مقدم علیها،و بعد سقوط البینة عن الحجیة بالإضافة إلی الدلالة المطابقیة من جهة قیام الإقرار علی خلافها،فهل یمکن الأخذ بها بالإضافة إلی الدلالة الالتزامیة،و الحکم بعدم کون الدار لعمرو؟کلا.

و قد تلخص من ذلک انه لا یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیة فی شیء من تلک الموارد و ما شاکلها بعد سقوط الدلالة المطابقیة فیها.

و اما حلاّ:فلأن الدلالة الالتزامیة ترتکز علی رکیزتین من ضم إحداهما إلی الأخری یتشکل للقیاس علی نحو الشکل الأول:الأولی-ثبوت الملزوم.الثانیة-ثبوت الملازمة بینه و بین شیء،و من ضم الصغری إلی الکبری تحصل النتیجة،و هی ثبوت اللازم.و اما إذا لم تثبت الصغری أو الکبری، أو کلتاهما فلا یمکن إثبات اللازم،و فی المقام بما ان المدلول الالتزامی لازم للمدلول المطابقی فثبوته یتوقف علی ثبوت الملازمة و ثبوت المدلول المطابقی،فإذا لم یثبت المدلول المطابقی أو ثبت و لکن لم تثبت الملازمة فلا یثبت المدلول الالتزامی لا محالة و لا یفرق فی ذلک بین حدوثه و بقائه أصلا.

ص:75

و بعبارة أخری:ان ظهور الکلام فی مدلوله الالتزامی و ان کان مغایراً لظهوره فی مدلوله المطابقی،إلا أن ظهوره فی ثبوت المدلول الالتزامی لیس علی نحو الإطلاق،بل هو ظاهر فی ثبوت حصة خاصة منه،و هی الحصة الملازمة للمدلول المطابق-مثلا-الاخبار عن ملاقاة الثوب للبول و ان کان اخباراً عن نجاسته أیضاً إلا انه لیس اخباراً عن نجاسته علی الإطلاق بأی سبب کان،بل اخبار عن حصة خاصة من النجاسة،و هی الحصة الملازمة لملاقاة البول،بمعنی انه اخبار عن نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول فی مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو نحوه،فإذا قیل ان هذا الثوب نجس یراد به انه نجس بالنجاسة البولیة،و عندئذ إذا ظهر کذب البینة فی اخبارها بملاقاة الثوب للبول فلا محالة یعلم بکذبها فی اخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاته للبول.و اما نجاسته بسبب آخر و ان کانت محتملة إلا انها نجاسة أخری أجنبیة عن مفاد البینة تماماً.و علیه فکیف یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیة بعد سقوط الدلالة المطابقیة.

و من ذلک یظهر حال بقیة الأمثلة و سائر الموارد.و منها ما نحن فیه،فان ما دل علی وجوب فعل غیر مقید بالقدرة و ان کان دالا علی کونه ذا ملاک ملزم کذلک،إلا ان دلالته علی کونه ذا ملاک لیست علی نحو الإطلاق،حتی مع قطع النّظر عن دلالته علی وجوبه،بل هی بتبع دلالته علی وجوب ذلک،فیکون دالا علی حصة خاصة من الملاک،و هی الحصة الملازمة لذلک الوجوب فی مقام الإثبات و الکشف،و لا یدل علی قیام الملاک فیه علی الإطلاق.و علیه فإذا سقطت دلالته علی الوجوب من جهة مانع فلا تبقی دلالته علی الملاک المسببة عن دلالته علی الوجوب،اذن لا علم لنا بوجود الملاک فیه،فان العلم بالملاک کان بتبع العلم بالوجوب.و إذا سقط الوجوب فقد سقط العلم بالوجوب لا محالة،فانه مسبب عنه،و لا یعقل بقاء المسبب بلا سبب و علة.و لا یفرق فی ذلک بین سقوط الوجوب رأساً و بین سقوط إطلاقه.

و سره ما عرفت من ان الاخبار عن وجوب شیء اخبار عن وجود حصة

ص:76

خاصة من الملاک فیه،و هی الحصة الملازمة لوجوبه،لا عن مطلق وجوده فیه.

و لا یمکن ان یکون الاخبار عنه بصورة أوسع من الاخبار عن الوجوب،فانه خلاف المفروض،إذ المفروض انه لازم له فی مقام الإثبات،فیدور العلم به سعة و ضیقاً مدار سعة العلم بالوجوب و ضیقه،و علی ذلک فإذا قید الوجوب بحصة خاصة من الفعل و هی الحصة المقدورة-مثلا-فلا یکشف عن الملاک إلا فی خصوص تلک الحصة،دون الأعم منها و من غیرها.هذا واضح جداً.

لعل القائل بان سقوط الدلالة المطابقیة لا یستلزم سقوط الدلالة الالتزامیة تخیل ان ثبوت المدلول الالتزامی بعد ثبوت المدلول المطابقی یکون علی نحو السعة و الإطلاق،و لازم ذلک هو انه لا یسقط بسقوط المدلول المطابقی إلا ان ذلک غفلة منه،فان المفروض ان من أخبر بثبوت المدلول المطابقی فقد أخبر بثبوت حصة خاصة منه و هی الحصة الملازمة له لا بثبوته علی الإطلاق.

هذا مضافاً إلی ان هذا الکلام أی عدم سقوط الدلالة الالتزامیة بسقوط الدلالة المطابقیة فی المقام مبتن علی ان یکون إحراز الملاک فی فعل تابعاً للإرادة الإنشائیة المتعلقة به،دون الإرادة الجدیة.و فساد هذا بمکان من الوضوح، ضرورة ان ثبوت الملاک علی مذهب العدلیة إنما هو فی متعلق الإرادة الجدیة، فسعة الملاک فی مقام الإثبات تدور مدار سعة الإرادة الجدیة و لا أثر للإرادة الاستعمالیة فی ذلک أصلاً.

و علی الجملة فالوجوب انما یکشف عن الملاک کشف المعلول عن علته بمقدار ما تعلق به واقعاً،و المفروض ان ما تعلق به الوجوب هنا هو خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها.

کما انه لا وجه لقیاس الدلالة الالتزامیة بالدلالة التضمنیة،لما ذکرناه فی بحث العام و الخاصّ من ان الدلالة التضمنیة لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقیة، و لذا قلنا بعدم الفرق فی جواز التمسک بالعامّ بین کونه استغراقیاً أو مجموعیاً،

ص:77

فلو قال المولی أکرم هذه العشرة و کان الوجوب وجوباً واحداً ثم علمنا من الخارج بخروج واحد من هذه العشرة،و شککنا فی خروج غیره فنرجع إلی العموم و نحکم بعدم الخروج. و الوجه فی ذلک ان الدلالة علی وجوب إکرام هذا المجموع تنحل فی الواقع إلی دلالات ضمنیة باعتبار کل جزء منه،فإذا سقط بعض تلک الدلالات الضمنیة فلا موجب لسقوط البقیة.أو فقل ان الحکم فی العموم المجموعی و ان کان واحداً إلا ان ذلک الحکم الواحد إنما انقطع بالإضافة إلی جزء واحد،و خروج سائر الاجزاء یحتاج إلی دلیل،و هذا بخلاف الدلالة الالتزامیة فان المدلول الالتزامی بما انه لازم للمدلول المطابقی فلا یعقل بقاؤه بعد سقوطه کما عرفت.

و اما بناء العقلاء و ان جری فی باب الظهورات علی ان التعبد بالملزوم یقتضی التعبد باللازم و لو مع عدم التفات المتکلم إلی الملازمة بینهما،و عدم قصده الحکایة عنه،إلا انه من الواضح ان هذا البناء أی البناء علی ثبوت اللازم إنما هو فی ظرف ثبوت الملزوم،و اما إذا سقط الملزوم من جهة مانع فلا بناء للعقلاء علی ثبوت اللازم،بداهة ان بناءهم علی التعبد بثبوته متفرع علی التعبد بثبوت الملزوم، لا علی نحو الإطلاق و السعة.

و ان شئت فقل:انه لا ریب فی عدم سقوط بعض الدلالات الضمنیة عن الحجیة بسقوط بعضها الآخر عنها-مثلا-إذا أخبرت بینة علی ان زیداً مدیون من عمرو عشرة دراهم،و لکن عمراًً قد اعترف بأنه لیس مدیوناً بالعشرة، بل هو مدیون بخمسة فلا إشکال فی حجیة.البینة بالإضافة إلی الخمسة.أو قامت بینة علی نجاسة الإناءین،و لکن علمنا من الخارج بطهارة أحدهما من جهة إصابة المطر أو نحوه فائضاً لا إشکال فی حجیتها بالإضافة إلی نجاسة الإناء الآخر.

و سر ذلک هو انه لا ملازمة و لا تبعیة بین المدالیل الضمنیة بعضها بالإضافة إلی بعضها الآخر،ضرورة ان أحدها لیس معلولا للآخر و لا علة له و لا معلولان

ص:78

لعله ثالثة فی الواقع.و علی هذا الضوء لا محالة لا تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان أدلة الحجیة لیست قاصرة عن إثبات حجیة البینة أو ما شاکلها بالإضافة إلی الباقی.فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هو ان سقوط بعض الدلالات الضمنیة عن الحجة لا یوجب سقوط بعضها الآخر،لعدم الملازمة و التبعیة بینها کما مر.نعم الملازمة بینها فی مقام الإبراز،فان الجمیع کما عرفت یبرز بمبرز واحد.

و هذه هی النقطة الرئیسیة للفرق بین الدلالة التضمنیة و الدلالة الالتزامیة.

أو فقل:ان الدلالة الالتزامیة فی نقطة مقابلة للدلالة التضمنیة من ناحیة مقام الثبوت و الحجیة.اما من ناحیة مقام الثبوت فلان المدلول الالتزامی لا یخلو فی الواقع من ان یکون لازماً للمدلول المطابقی أو ملازماً له أو ملزوماً له،و لأجل ذلک تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر تبعاً.و اما من ناحیة الحجیة فلما سبق من أدلة الحجیة انما تدل علی حجیة الدلالة الالتزامیة تبعاً لدلالتها علی حجیة الدلالة المطابقیة.

الثالث-ما عن شیخنا الأستاذ(قده)من ان الفرد المزاحم تام الملاک حتی علی القول بکونه منهیاً عنه.و الوجه فی ذلک هو ان النهی المانع عن التقرب بالعبادة هو الّذی ینشأ من مفسدة فی متعلقه و هو النهی النفسیّ.و اما النهی الغیری فبما انه لا ینشأ من مفسدة فی متعلقه لا یکشف عن عدم وجود الملاک فی متعلقه، فبضم هذا إلی کبری کفایة قصد الملاک فی صحة العبادة کما تقدمت تستنتج صحة الفرد المزاحم.

ثم أورد(قده)علی نفسه بان الحکم بصحة الفرد المزاحم من جهة الملاک لا یجتمع مع القول بان منشأ اعتبار القدرة هو اقتضاء نفس التکلیف ذلک کما هو الصحیح إذ علی هذا یکون اعتبار القدرة فیه شرعیاً و دخیلاً فی ملاک الحکم فیرتفع الملاک بارتفاع القدرة لا محالة.

ص:79

نعم تم ذلک بناء علی ان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،إذ حینئذ یمکن ان یقال ان إطلاق متعلقه شرعاً کاشف عن کونه ذا ملاک مطلقاً حتی فی حال عدم القدرة علیه.

توضیح ذلک:ان القدرة مرة تؤخذ فی متعلق التکلیف لفظاً و أخری تؤخذ باقتضاء نفس التکلیف ذلک،فعلی الأول لا فرق بین أن تکون دلالة اللفظ علی اعتبار القدرة فیه بالمطابقة-کما فی آیة الحج-فانها تدل علی اعتبار القدرة فیه مطابقة،أو بالالتزام-کما فی آیة الوضوء-فانها تدل علی تقیید وجوب الوضوء بالتمکن من استعمال الماء عقلا و شرعاً التزاماً من جهة أخذ عدم وجدان الماء فی موضوع وجوب التیمم مطابقة،و التفصیل قاطع للشرکة لا محالة،فانه علی کلا التقدیرین کان تقیید الواجب بالقدرة مستفاداً من الدلیل اللفظی.و نتیجة ذلک ان القدرة دخیلة فی ملاک الحکم واقعاً،ضرورة انه لا معنی لأخذ قید فی متعلق الحکم فی مقام الإثبات إذا لم یکن له دخل فیه فی مقام الثبوت.

و علی ذلک یبتنی انه لا یمکن تصحیح الوضوء أو الغسل بالملاک،أو بالالتزام بالترتب فی موارد الأمر بالتیمم،لعدم الملاک للوضوء أو الغسل فی تلک الموارد لیمکن الحکم بصحته من جهة الملاک أو من جهة الالتزام بالترتب،و ثبوت الأمر بالمهم عند عصیان الأمر بالأهم فإذا کان هذا هو الحال فیما إذا کانت القدرة مأخوذة فی لسان الدلیل بإحدی الدلالتین،کان الأمر کذلک فیما إذا کان اعتبار القدرة باقتضاء نفس التکلیف ذلک،إذ من الواضح جداً انه حینئذ یتعین المأمور به فی الحصة المقدورة بمقتضی دلالة نفس الدلیل فالقدرة تکون دخیلة فی ملاک الحکم فینتفی بانتفائها.

ثم قال(قده)و لو سلمنا فیما نحن فیه عدم القطع بالتقیید شرعاً الکاشف عن دخل القدرة فی الملاک،إلا انا نحتمل ذلک بالبداهة،و لا دافع لذلک الاحتمال من جهة انها لو کانت دخیلة فیه واقعاً لجاز للمتکلم ان یکتفی فی بیانه بنفس إیقاع

ص:80

الطلب علی ما کان فیه الملاک،فیکون المقام داخلا فی کبری احتفاف الکلام بما یصلح للقرینیة و معه لا ینعقد له ظهور فی سعة الملاک.

ثم قال(قده):و لو تنزلنا عن ذلک أیضاً و سلمنا عدم صلاحیته لکونه قرینة علی التقیید،إلا ان إطلاق المتعلق إنما یکشف عن عدم دخل قید فی الملاک إذا لزم نقض الغرض من عدم التقیید فی مقام الإثبات مع دخل القید فیه فی مقام الثبوت، و اما إذا لم یلزم منه نقض الغرض فلا یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن عدم دخل القید فیه ثبوتاً و علیه فبما ان ما یحتمل دخله فی الملاک هو القدرة،و لا یمکن المکلف من إیجاد غیر المقدور فی الخارج لیترتب علیه نقض الغرض علی تقدیر دخل القدرة فی الملاک واقعاً لا یمکن التمسک بالإطلاق لدفع الاحتمال المزبور.

و من الواضح ان ذلک الاحتمال مانع عن الحکم بصحة الفرد المزاحم و التقرب به.

و أجاب(قده)عن ذلک بما ملخصه:ان القدرة إذا کانت مأخوذة فی متعلق التکلیف لفظاً-کما فی آیتی الحج و الوضوء-فالامر کما ذکر و لا مناص عنه.

و اما إذا لم تکن مأخوذة فیه لفظاً و کان متعلق التکلیف غیر مقید بالقدرة فی مرتبة سابقة علی تعلق التکلیف به،بل کان اعتبار القدرة فیه فی مرتبة تعلق التکلیف به و عروضه علیه سواء أ کان منشأه حکم العقل بقبح تکلیف العاجز أو کان اقتضاء نفس التکلیف ذلک فلا مانع من التمسک بإطلاق المتعلق لإثبات کونه واجداً للملاک،فان التقیید الناشئ من قبل حکم العقل أو من قبل اقتضاء نفس التکلیف بما انه فی مرتبة متأخرة و هی مرتبة تعلق التکلیف به و عروضه فلا یعقل أن یکون تقییداً فی مرتبة سابقة و هی مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض التکلیف علیه التی هی عبارة أخری عن مرتبة وجدانه للملاک،لاستحالة أخذ ما هو متأخر رتبة فی ما هو متقدم کذلک.

و من هنا قلنا ان کل ما یتأتی من قبل الأمر لا یمکن أخذه فی متعلقه.و علیه فحیث ان المتعلق فی مرتبة سابقة علی تعلق الطلب به مطلق،فإطلاقه فی تلک

ص:81

المرتبة یکشف عن عدم دخل القدرة فی الملاک و انه قائم بمطلق وجوده و إلا لکان علی المولی تقییده بها فی تلک المرتبة،فمن الإطلاق فی مقام الإثبات یکشف الإطلاق فی مقام الثبوت.

و من ذلک یظهر ان اقتضاء التکلیف لاعتبار القدرة فی متعلقه یستحیل أن یکون بیاناً و مقیداً لإطلاقه فی مرتبة سابقة علیه،اذن فلا یدخل المقام تحت کبری احتفاف الکلام بما یصلح لکونه قرینة لیدعی الإجمال.

و اما الإشکال الأخیر و هو ان التمسک بالإطلاق لا یمکن لدفع احتمال دخل القدرة فی الملاک لعدم لزوم نقض الغرض من عدم البیان علی تقدیر دخلها فیه واقعاً فیرده:

أولا-ان هذا لو تم فانما یتم إذا کان الشک فی اعتبار القدرة التکوینیة فی الملاک،فان صدور غیر المقدور حیث انه مستحیل فلا یلزم نقض الغرض من عدم البیان،و اما إذا کان الشک فی اعتبار القدرة و لو کانت شرعیة فی متعلق الحکم کما هو المفروض فیلزم نقض الغرض من عدم البیان علی تقدیر دخلها فی الملاک واقعاً،فان المکلف قادر تکویناً علی ان یأتی بفرد الواجب الموسع عند مزاحمته للواجب المضیق،فمن عدم التقیید فی مقام الإثبات یستکشف عدمه فی مقام الثبوت،اذن لا مانع من التمسک بالإطلاق لإثبات ان الفرد المزاحم واجد للملاک.

و ثانیاً-ان نقض الغرض لیس من إحدی مقدمات التمسک بالإطلاق،فان من مقدماته أن یکون المتکلم فی مقام بیان تمام ماله دخل فی مراده،و مع هذا الفرض إذا لم ینصب قرینة علی التقیید فی مقام الإثبات یستکشف منه الإطلاق فی مقام الثبوت لا محالة،و إلا لزم الخلف و عدم کونه فی مقام البیان،و لا یفرق فی ذلک بین ان یلزم من عدم البیان نقض الغرض أم لا فلا یکون نقض الغرض من إحدی مقدمات الحکمة.

ص:82

و نلخص ما أفاده(قده)فی عدة خطوط:

الأول-ان متعلق التکلیف إذا کان مقیداً بالقدرة لفظاً فالتقیید یکشف عن دخل القدرة فی الملاک واقعاً،ضرورة انه لا معنی لأخذ قید فی متعلق التکلیف إثباتاً إذا لم یکن دخیلا فی ملاکه ثبوتاً.

الثانی-انه علی هذا لا یمکن تصحیح الوضوء أو الغسل بالملاک أو الترتب فی موارد الأمر بالتیمم لعدم الملاک له فی تلک الموارد.

الثالث-ان التقیید الناشئ من قبل حکم العقل باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف أو باقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار حیث انه کان فی مرتبة متأخرة عن وجدان المتعلق للملاک فلا یوجب تقیید المتعلق فی مرتبة وجدانه الملاک، اذن من عدم تقیید المتعلق فی تلک المرتبة إثباتاً یستکشف منه إطلاقه ثبوتاً،و عدم دخل القدرة فی الملاک واقعاً.

الرابع-ان المتکلم لا یمکن ان یعتمد فی تقیید متعلق حکمه بالقدرة باقتضاء نفس التکلیف ذلک،أو حکم العقل باعتبارها فیه فلا یکون المقام داخلا فی کبری احتفاف الکلام بما یصلح لکونه قرینة علی الخلاف.

الخامس-ان لزوم نقض الغرض من عدم البیان لیس من إحدی المقدمات التی یتوقف التمسک بالإطلاق علیها.

و لنأخذ بدرس هذه الخطوط:

اما الخطّ الأول-فهو فی غایة الصحة و المتانة.

و اما الخطّ الثانی-فالامر و ان کان کما أفاده(قده)بالإضافة إلی الملاک،إذ انه ینتفی بانتفاء القدرة علی الفرض فلا یمکن تصحیح العبادة عندئذ بوجدانها الملاک،إلا ان الأمر لیس کما أفاده بالإضافة إلی الترتب،إذ لا مانع من الالتزام به فی أمثال المقام،و سنتعرض فیما بعد إن شاء اللّه تعالی انه لا فرق فی صحة الترتب بین کون القدرة مأخوذة فی متعلق التکلیف شرعاً و کونها معتبرة فیه

ص:83

عقلا،إذ کما یجری الترتب علی الثانی کذلک یجری علی الأول،فلو کانت وظیفة المکلف التیمم فی مورد کما فی موارد ضیق الوقت أو نحوه،و لکن خالف أمر التیمم و عصاه فتوضأ أو اغتسل فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب،و سیأتی الکلام فی ذلک بصورة مفصلة.

و اما الخطّ الثالث-فان کان غرضه(قده)من إطلاق المتعلق استکشاف مراد المتکلم من ظاهر کلامه فلا شبهة فی انه یتوقف علی ان یکون المتکلم فی مقام البیان من هذه الجهة.و من الواضح ان المتکلم لیس فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه،بل هو فی مقام بیان ما تعلق به حکمه فحسب،بل الغالب فی الموالی العرفیة غفلتهم عن ذلک فضلا عن کونهم فی مقام البیان بالقیاس إلی تلک الجهة، اذن لا یمکن التمسک بالإطلاق لإثبات کون الفرد المزاحم تام الملاک،لعدم تمامیة مقدمات الحکمة.

ثم لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ان المولی فی مقام البیان من هذه الجهة أی (ما یقوم به ملاک حکمه)فائضاً لا یمکن التمسک بإطلاق کلامه.و ذلک لأن فی الکلام إذا کان ما یصلح لکونه قرینة فلا ینعقد له ظهور و فی المقام بما ان حکم العقل باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف أو اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار صالح للقرینیة فلا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق،لاحتمال ان المتکلم قد اعتمد فی التقیید بذلک.

و علی الجملة فیحتمل ان یکون الملاک فی الواقع قائماً بخصوص الحصة المقدورة لا بالجامع بینها و بین غیرها،و عدم تقیید المتکلم متعلق حکمه بها فی مقام الإثبات، لاحتمال انه قد اعتمد فی بیان ذلک علی اقتضاء نفس التکلیف ذلک أو علی الحکم العقلی المزبور.

و ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)-من ان اقتضاء الطلب لاعتبار القدرة فی متعلقه أو حکم العقل بذلک یستحیل ان یکون بیاناً و مقیداً لإطلاق متعلقه فی مرتبة

ص:84

سابقة علیه،اذن لا معنی لدعوی الإجمال و ان المقام داخل فی کبری احتفاف الکلام بما یصلح لکونه قرینة علی التقیید-لا یمکن تصدیقه بوجه.

و الوجه فی ذلک هو ان انقسام الفعل إلی مقدور و غیره انقسام أولی فلا یتوقف علی وجود الأمر و تحققه فی الخارج.و علی هذا فلا یخلو الأمر من ان یکون متعلق التکلیف خصوص الحصة المقدورة أو الجامع بینها و بین غیر المقدورة إذ الإهمال غیر معقول فی الواقع،و علیه فإذا فرضنا ان الثابت علی ذمة المکلف خصوص الحصة المقدورة،فإبراز ذلک فی الخارج کما یمکن ان یکون بأخذ القدرة فی متعلق التکلیف لفظاً أو بقیام قرینة من الخارج علی ذلک،یمکن ان یکون إبرازه باقتضاء نفس التکلیف ذلک أو الحکم العقلی المزبور،بداهة انا لا نری أی مانع من إبرازه بأحدهما،و لا یلزم منه المحذور الّذی توهم فی المقام،فانه لا شأن لاقتضاء نفس التکلیف أو حکم العقل عندئذ إلا مجرد إبراز و إظهار ما اعتبره المولی علی ذمة المکلف،و من الواضح جداً انه لا محذور فی ان یکون الإبراز بمبرز متأخر عن المبرز(بالفتح)بل ان الأمر کذلک دائماً.

و بتعبیر آخر:انه بناء علی وجهة نظره(قده)من ان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هو اقتضاء نفس التکلیف ذلک الاعتبار لا مانع من ان یعتمد المتکلم فی مقام بیان تقیید المأمور به بالقدرة علی ذلک بان یجعل هذا بیاناً لما اعتبره فی ذمة المکلف و هو الحصة المقدورة و کاشفاً عنه،فإذا کان اقتضاء نفس التکلیف أو حکم العقل صالحاً لأن یکون قرینة علی التقیید یدخل المقام حینئذ فی کبری احتفاف الکلام بما یصلح لکونه قرینة،فلا ینعقد له ظهور فی الإطلاق.

علی ان الکاشف عن الملاک فی فعل،إنما هو تعلق إرادة المولی به واقعاً و جداً و المفروض فی المقام ان الإرادة الجدیة متعلقة بالمقید لا بالمطلق اذن کیف یمکن القول باشتمال المطلق علی الملاک کما تقدم.

و اما بناء علی وجهة نظرنا من ان القدرة لم تعتبر فی متعلق التکلیف لا من جهة

ص:85

حکم العقل و لا من جهة اقتضاء نفس التکلیف ذلک فانک قد عرفت ان التکلیف بنفسه لا یقتضی ذلک أصلا،و اما العقل فهو لا یحکم بأزید من اعتبار القدرة فی موضوع حکمه و هو لزوم الامتثال و وجوبه،لا فی موضوع حکم الشرع و متعلقه،فلا مقتضی لاعتبار القدرة فی متعلق الطلب أصلا. و علی هذا الضوء فالصحیح هو الجواب الأول من ان المتکلم غالباً،بل دائماً لیس فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه حتی یمکن التمسک بالإطلاق فیما إذا شک فی فرد انه واجد للملاک أم لا؟و مع قطع النّظر عن ذلک و فرض ان المتکلم فی مقام البیان حتی من هذه الجهة فلا مانع من التمسک بالإطلاق إذ قد عرفت انه لا حکم للعقل و لا اقتضاء للتکلیف لاعتبار القدرة فی متعلقه لیکونا صالحین للبیان و مانعین عن ظهور اللفظ فی الإطلاق.

و علی کل حال فما أفاده(قده)لا یرجع إلی معنی محصل علی وجهة مذهبه.

و اما إذا کان غرضه(قده)من التمسک بالإطلاق کشف الملاک من باب کشف المعلول عن علته،سواء أ کان المولی فی مقام البیان من هذه الجهة أم لا، کما هو صریح کلامه(قده)حیث قال:ان هذا الکشف عقلی لا یدور مدار کون المولی فی مقام البیان و عدمه فیرده:ما ذکرناه عند الجواب عن المحقق صاحب الکفایة(قده)من ان تعلق الحکم بشیء و ان کان کاشفاً عن وجود الملاک فیه بناء علی مذهب العدلیة من تبعیة الأحکام لما فی متعلقاتها من المصالح و المفاسد الواقعیتین،إلا ان ذلک فی ظرف تحققه و وجوده،و اما إذا سقط ذلک الحکم فلا یمکن استکشاف الملاک فیه علی تفصیل تقدم هناک فلا حاجة إلی الإعادة.

و نزیدک هنا إلی ذلک ان متعلق الحکم علی مسلکه(قده)خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها و من غیرها.و علیه فلا یعقل ان یکون الحکم کاشفاً عن وجود الملاک فی الأعم منها،بداهة ان المعلول انما یکشف عن وجود علته بمقدار سعته

ص:86

دون الزائد-مثلا-الحرارة الناشئة من النار إنما تکشف عنها خاصة،لا عن مطلق سببها.و قد تقدم ان الکاشف عن وجود ملاک فی فعل هو کونه متعلقاً لإرادة المولی واقعاً و جداً،و لا أثر لتعلق الإرادة الإنشائیة به أصلا،اذن ما أفاده (قدس سره)من ان هذا الکشف عقلی لا یدور مدار کون المولی فی مقام البیان لا یرجع إلی معنی صحیح،فان کشف الحکم عن الملاک بمقدار ما تعلق به دون الزائد،و هذا واضح.

فالنتیجة من جمیع ما ذکرناه انه لا یتم شیء من هذه الوجوه،و علیه فلا یمکن تصحیح الفرد المزاحم بالملاک.

و اما الخطّ الرابع-فقد ظهر فساده مما ذکرناه فانه علی مسلک شیخنا الأستاذ(قده)صالح لأن یکون قرینة علی التقیید،و علیه فیکون مانعاً عن التمسک بالإطلاق کما عرفت.نعم علی مسلکنا لا یکون مانعاً عنه فلو کان المولی فی مقام البیان من تلک الناحیة فلا مانع من التمسک بإطلاق کلامه لإثبات ان الفرد المشکوک فیه واجد للملاک.

و اما الخطّ الخامس-فالامر کما أفاده(قده)فان لزوم نقض الغرض لا دخل له فی مقدمات الحکمة،فانها تتألف من ثلاث مقدمات لا رابع لها.إحداها- ان یرد الحکم علی المقسم و الجامع،لا علی حصة خاصة منه.و ثانیتها-أن یکون المتکلم فی مقام البیان.و ثالثتها-ان لا ینصب المتکلم قرینة علی التقیید،فإذا تمت هذه المقدمات جاز التمسک بالإطلاق،و لا یتوقف علی شیء آخر زائداً علیها فانه لو کان مراد المتکلم فی الواقع هو المقید و مع ذلک لم ینصب قرینة علیه مع فرض کونه فی مقام البیان لزم الخلف و عدم کونه فی مقام البیان،اذن لزوم نقض الغرض من عدم البیان أو عدم لزومه مما لا دخل له فی التمسک بالإطلاق و عدم التمسک به أصلا.هذا تمام الکلام فی النقطة الثالثة.

و اما النقطة الرابعة-و هی ان النهی الغیری لا یکون مانعاً عن صحة العبادة

ص:87

فهی فی غایة الصحة و المتانة.و الوجه فی ذلک هو ان المانع عن التقرب بالعبادة و صحتها انما هو النهی النفسیّ باعتبار انه ینشأ عن مفسدة فی متعلقه و مبغوضیة فیه.و من الواضح ان المبغوض لا یکون مقرباً،و اما النهی الغیری فبما انه ینشأ عن أمر خارج عن ذات متعلقه و هو کون ترکه فی المقام مقدمة لواجب مضیق أو ملازماً له فی الخارج فلا یکون مانعاً عن صحة العبادة و التقرب بها،لأن متعلقه باق علی ما کان علیه من المحبوبیة و لم تعرض علیه أیة حزازة و منقصة من قبل النهی المتعلق به.

فعلی ضوء ذلک لا مانع من صحة الإتیان بالفرد المزاحم و التقرب به بداعی الأمر المتعلق بالواجب الموسع،فان الواجب هو صرف وجود الطبیعة بین المبدأ و المنتهی و هو غیر مزاحم بواجب آخر،و ما هو مزاحم به غیر واجب،اذن یصح الإتیان به بداعی أمره کما هو الحال علی القول بعدم الاقتضاء.

و نتیجة ذلک هی:عدم ظهور الثمرة بین القولین فی هذا المقام أی فیما إذا کان التزاحم بین الإتیان بالواجب الموسع و وجوب الواجب المضیق.

ثم انا لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ان النهی الغیری کالنهی النفسیّ مانع عن صحة العبادة و التقرب بها فمع هذا یمکن تصحیحها بما سیجیء من إمکان الأمر بالضدین علی نحو الترتب.

و نتائج الأبحاث المتقدمة لحد الآن عدة نقاط:

الأولی-ان ما ذکره شیخنا البهائی(قده)من اشتراط صحة العبادة بتحقق الأمر بها فعلا لا یمکن المساعدة علیه بوجه کما عرفت.

الثانیة-ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من التفصیل فی منشأ اعتبار القدرة بین حکم العقل بذلک من باب قبح تکلیف العاجز،و بین اقتضاء نفس التکلیف ذلک فقد عرفت انه لا یمکن تصدیقه بوجه.

الثالثة-انه بناء علی القول بان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هو اقتضاء

ص:88

نفس التکلیف ذلک فقد عرفت انه لا یقتضی أزید من کون متعلقه مقدوراً فی الجملة فی مقابل ما لا یکون مقدوراً أصلا.

الرابعة-قد سبق ان التکلیف بنفسه لا یقتضی اعتبار القدرة فی متعلقه، و لا العقل یحکم بذلک،و انما یحکم باعتبار القدرة فی مقام الامتثال فحسب.

الخامسة-بطلان ما أفاده المحقق صاحب الکفایة(قده)من دعوی القطع باشتمال الفرد المزاحم علی الملاک.

السادسة-بطلان ما هو المشهور من ان الدلالة الالتزامیة لا تتبع الدلالة المطابقیة فی الحجیة،فلا تسقط بسقوطها.

السابعة-ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)-من ان التقیید الناشئ من قبل اقتضاء نفس التکلیف لاعتبار القدرة فی متعلقه،أو حکم العقل بذلک بما أنه یکون فی مرتبة لاحقة و هی مرتبة تعلق التکلیف به و عروضه علیه فلا یعقل أن یکون مقیداً لإطلاق المتعلق فی مرتبة سابقة و هی مرتبة اقتضائه للتکلیف-فاسد صغری و کبری،اما الصغری فلان التقیید غیر ثابت لما سبق من ان التکلیف لا یقتضی اعتبار القدرة فی متعلقه،و العقل لا یحکم إلا باعتبارها فی مقام الامتثال و الإطاعة دون مقام التکلیف.و اما الکبری فقد تقدم انه لا مانع من اعتماد المتکلم فی تقیید المتعلق علی اقتضاء نفس التکلیف ذلک أو حکم العقل به.

الثامنة-ان الحاکم لا یکون فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه،و انما یکون فی مقام بیان ما تعلق به حکمه.

التاسعة-ان تعلق الإرادة الإنشائیة بشیء لا یکشف عن وجود الملاک فیه و انما الکاشف عنه تعلق الإرادة الجدیدة به.

العاشرة-ان الدلالة التضمنیة لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقیة کما سبق.

الحادیة عشرة-ان النهی الغیری لا یکون مانعاً عن صحة العبادة و التقرب بها الثانیة عشرة-ان الثمرة لا تتحقق بین القولین فی مزاحمة الواجب الموسع

ص:89

بالواجب المضیق.هذا تمام کلامنا فی المقام الأول.

و اما الکلام فی المقام الثانی و هو ما إذا کان التزاحم بین واجبین مضیقین أحدهما أهم من الآخر فلا یمکن تصحیح الواجب المهم بالأمر لاستحالة تعلق الأمر به فعلا مع فعلیة الأمر بالأهم علی الفرض،فانه من التکلیف بالمحال و هو محال.

و بذلک یمتاز هذا المقام عن المقام الأول حیث ان فی المقام الأول کان الأمر المتعلق بالواجب الموسع و المضیق کلاهما فعلیاً،و لم یکن تناف بین الأمرین أصلا، و انما التنافی کان بین الإتیان بفرد من الواجب الموسع و الواجب المضیق.و من هنا قلنا انه یصح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلق بالطبیعة الجامعة بین الافراد العرضیة و الطولیة حتی علی القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر المتعلق بها فعلا.

و قد تحصل من ذلک ان النقطة الرئیسیة للفرق بین المقامین هی ما ذکرناه من ان تعلق الأمر فعلا بکلا الواجبین فی المقام الأول کان ممکناً،و لکنه لا یمکن فی هذا المقام.

و علی ضوء تلک النقطة لا یمکن تصحیح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بالأمر الفعلی.

و من هنا لا یتأتی فی هذا المقام ما أفاده المحقق الثانی(قده)من التفصیل بین القولین،فانه مبتن علی إمکان تعلق الأمر فعلا بالضد العبادی علی القول بعدم الاقتضاء.و قد عرفت عدم إمکان تعلقه فی هذا المقام مطلقاً.

و علی الجملة فالمقام الثانی یمتاز عن المقام الأول فی نقطة،و یشترک معها فی نقطة أخری.اما نقطة الامتیاز فقد عرفت.و اما نقطة الاشتراک فهی انهما یشترکان فی تصحیح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بوجهین آخرین:

هما القول باشتمالها علی الملاک،و القول بصحة الأمر بالضدین علی نحو الترتب.

اما لوجه الأول فقد تقدم الکلام فیه فی المقام الأول مفصلا و قلنا انه

ص:90

لا یمکن إحراز ان الفرد المزاحم تام الملاک،و ما ذکروه من الوجوه لإثبات اشتماله علی الملاک قد عرفت فساد جمیعها بصورة مفصلة فلا حاجة إلی الإعادة مرة أخری و اما الوجه الثانی الّذی یمکن تصحیح العبادة المزاحمة بالواجب الأهم به هو الالتزام بجواز الأمر بالضدین علی نحو الترتب،و تفصیله علی الوجه التالی:

مسألة الترتب

اشارة

قبل بیان المسألة نذکر أموراً:

الأول-ان البحث عن هذه المسألة انما تترتب علیه ثمرة لو لم یمکن تصحیح العبادة المضادة للواجب الأهم بالوجهین المتقدمین 1-(الملاک)2-(و الأمر) و إلا فلا تترتب علی البحث عنها أیة ثمرة.و قد ظهر مما تقدم انه لا یمکن تصحیح العبادة بالملاک،لا فی المقام الأول و هو ما إذا وقعت المزاحمة بین الإتیان بالواجب الموسع،و وجوب المضیق،و لا فی المقام الثانی و هو ما إذا وقعت المزاحمة بین واجبین مضیقین،لأن الکبری و هی کفایة قصد الملاک فی وقوع الشیء عبادة و ان کانت ثابتة،إلا ان الصغری و هی اشتمال تلک العبادة علی الملاک غیر محرزة.

و اما تصحیحها بالأمر المتعلق بالطبیعة و ان کان ممکناً فی المقام الأول کما سبق،بل قد عرفت انه غیر داخل فی کبری باب التزاحم أصلا،إلا انه غیر ممکن فی المقام الثانی،و ذلک لما عرفت من امتناع تعلق الأمر بها فعلا مع فعلیة الأمر بالأهم علی الفرض،اذن للبحث عن مسألة الترتب فی المقام الثانی و إمکان تعلق الأمر بالمهم.

علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم ثمرة مهمة جداً.

الثانی-ان الواجبین المتزاحمین یتصوران علی صور:

الأولی-ان الواجبین الممتنع اجتماعهما فی زمان واحد قد یکونان موسعین کالصلاة الیومیة و صلاة الآیات فی سعة وقتهما،أو الصلاة الأدائیة مع القضاء علی القول بالمواسعة،و نحو ذلک.

ص:91

الثانیة-ان یکون أحدهما موسعا و الآخر مضیقا،و ذلک کصلاة الظهر-مثلا- و إزالة النجاسة عن المسجد،أو ما شاکل ذلک.

الثالثة-ان یکون کلاهما مضیقین و ذلک کالإزالة و الصلاة فی آخر وقتها، بحیث لو اشتغل بالإزالة لفاتته الصلاة.

اما الصورة الأولی فلا شبهة فی انها غیر داخلة فی کبری باب التزاحم،لتمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال من دون ایة منافاة و مزاحمة،و یکون الأمر فی کل واحد منهما فعلیا بلا تناف،و من هنا لم یقع إشکال فی ذلک من أحد فیما نعلم.

و اما الصورة الثانیة-فقد ذهب شیخنا الأستاذ(قده)إلی انها داخلة فی مسألة التزاحم.و غیر خفی ان هذا منه(قده)مبنی علی ما حققه فی بحث التعبدی و التوصلی من ان التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل العدم و الملکة،فکل مورد لا یکون قابلا للتقیید لا یکون قابلا للإطلاق،فإذا کان التقیید مستحیلا فی مورد کان الإطلاق أیضاً مستحیلا فیه،لأن استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر و بما ان فیما نحن فیه تقیید إطلاق الواجب الموسع بخصوص الفرد المزاحم مستحیل فإطلاقه بالإضافة إلیه أیضاً مستحیل.

و یترتب علی ذلک وقوع المزاحمة بین إطلاق الواجب الموسع و خطاب الواجب المضیق فلا یمکن الجمع بینهما،إذ علی تقدیر فعلیة خطاب الواجب المضیق یستحیل إطلاق الواجب الموسع بالإضافة إلی الفرد المزاحم،اذن لا بد اما ان ترفع الید عن إطلاق الموسع و التحفظ علی فعلیة خطاب المضیق،و اما ان ترفع الید عن خطاب المضیق و التحفظ علی إطلاق الموسع.

فالنتیجة ان هذا القسم داخل فی محل النزاع-کالقسم الثالث-غایة الأمر ان التزاحم فی القسم الثالث بین نفس الخطابین و التکلیفین،و فی هذا القسم بین إطلاق أحدهما و خطاب الآخر.و علی هذا فان أثبتنا الأمر بالضدین علی نحو الترتب

ص:92

نحکم بصحة الفرد المزاحم،و إلا فلا.نعم بناء علی ما ذکره(قده)من اشتماله علی الملاک صح الإتیان به من هذه الناحیة أیضا من غیر حاجة إلی الالتزام بصحة الترتب.

و اما بناء علی ما حققناه فی ذلک البحث-من أن التقابل بین الإطلاق و التقیید لیس من تقابل العدم و الملکة،بل هو من تقابل التضاد.و من هنا قلنا ان استحالة تقیید متعلق الحکم أو موضوعه بقید خاص تستلزم کون الإطلاق أو التقیید بخلاف ذلک القید ضروریاً-فتلک الصورة خارجة عن محل النزاع و غیر داخلة فی کبری باب التزاحم.

و الوجه فی ذلک ما ذکرناه غیر مرة من ان معنی الإطلاق هو رفض القیود و عدم دخل شیء منها فی متعلق الحکم واقعاً،لا الجمع بینها و دخل الجمیع فیه، و علیه فمعنی إطلاق الواجب الموسع هو ان الواجب صرف وجوده الجامع بین المبدأ و المنتهی،و عدم دخل شیء من خصوصیات و تشخصات افراده فیه،فالفرد غیر المزاحم کالفرد المزاحم فی عدم دخله فی متعلق الوجوب و ملاکه أصلا، فهما من هذه الجهة علی نسبة واحدة.

أو فقل:ان متعلق الحکم فی الواقع اما مطلق بمعنی عدم دخل شیء من الخصوصیات فیه واقعاً من الخصوصیات المنوعة أو المصنفة أو المشخصة أو مقید بإحداها فلا ثالث،لاستحالة الإهمال فی الواقعیات،فالملتفت إلی هذه الخصوصیات و الانقسامات اما ان یلاحظه مطلقاً بالإضافة إلیها أو مقیداً بها،لأن الإهمال فی الواقع غیر معقول،فلا یعقل أن یکون فی الواقع لا مطلقاً و لا مقیداً.و علی هذا فمعنی إطلاق الواجب المزبور هو عدم دخل شیء من تلک الخصوصیات فیه،بحیث لو تمکن المکلف من إیجاده فی الخارج عاریاً عن جمیع الخصوصیات و المشخصات المزبورة لکان مجزیاً،لأنه أتی بالمأمور به فی الخارج،و هذا معنی الإطلاق کما ذکرناه فی بحث تعلق الأوامر بالطبائع.و نتیجة ذلک هی ان الواجب الموسع مطلق بالإضافة

ص:93

إلی الفرد المزاحم،کما هو مطلق بالإضافة إلی غیره من الافراد.

و علی ذلک الأساس فلا تنافی بین إطلاق الموسع و فعلیة خطاب المضیق.

و من هنا ذکرنا سابقاً انه لا منافاة بین وجوب الصلاة-مثلا-فی مجموع وقتها و هو ما بین الزوال و المغرب و بین وجوب واجب آخر کإنقاذ الغریق أو إزالة النجاسة عن المسجد فی بعض ذلک الوقت،إذ المفروض ان الوجوب تعلق بصرف وجود الصلاة فی مجموع هذه الأزمنة لا فی کل زمان من تلک الأزمنة لینافی وجوب واجب آخر فی بعضها،فبالنتیجة انه لا مضادة و لا ممانعة بین إطلاق الموسع و وجوب المضیق أصلا،و لذلک صح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلق بصرف وجود الواجب،فلا حاجة عندئذ إلی القول بالترتب أصلا،فاذن لا وجه لدخول هذا القسم فی محل الکلام و النزاع.و قد تقدم الحدیث من هذه الناحیة بصورة أوضح من ذلک فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما الصورة الثالثة-و هی ما إذا کان التزاحم بین واجبین مضیقین أحدهما أهم من الآخر،فهی القدر المتیقن من مورد النزاع و الکلام بین الأصحاب کما هو ظاهر.

الثالث-ان مسألة الترتب من المسائل العقلیة فان البحث فیها عن الإمکان و الاستحالة بمعنی ان الأمر بالضدین علی نحو الترتب هل هو ممکن أم لا؟و من الواضح جداً ان الحاکم بالاستحالة و الإمکان هو العقل لا غیره،و لا دخل للفظ فی ذلک أبداً.

الرابع-ان إمکان تعلق الأمر بالضدین علی طریق الترتب کاف لوقوعه فی الخارج فلا یحتاج وقوعه إلی دلیل آخر.و الوجه فی ذلک هو ان تعلق الأمر بالمتزاحمین فعلا علی وجه الإطلاق غیر معقول،لأنه تکلیف بما لا یطاق و هو محال،ضرورة استحالة الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد و الصلاة معاً فی آخر الوقت،بحیث لا یقدر المکلف إلا علی إتیان إحداهما.و لکن هذا المحذور أی

ص:94

لزوم التکلیف بالمحال کما یندفع برفع الید عن أصل الأمر بالواجب المهم سواء أتی بالأهم أم لا کذلک یندفع برفع الید عن إطلاق الأمر به،اذن یدور الأمر بین ان ترفع الید عن أصل الأمر بالمهم علی تقدیر امتثال الأمر بالأهم،و علی تقدیر عصیانه،و ان ترفع الید عن إطلاقه-لا عن أصله-یعنی علی تقدیر الامتثال لا علی تقدیر العصیان.و من الواضح جداً ان المحذور فی کل مورد إذا کان قابلا للدفع برفع الید عن إطلاق الأمر فلا موجب لرفع الید عن أصله،فانه بلا مقتض و هو غیر جائز.و فی المقام بما ان المحذور المزبور یندفع برفع الید عن إطلاق الأمر بالمهم فلا مقتضی لرفع الید عن أصله أصلا،إذ الضرورة تتقدر بقدرها و هی لا تقتضی أزید من رفع الید عن إطلاقه.و علیه فالالتزام بسقوط الأمر عنه رأساً بلا مقتض و سبب و هو غیر ممکن.

و بتعبیر ثان ان المکلف لا یخلو من ان یکون عاصیاً للأمر بالأهم أو مطیعاً له و لا ثالث،و سقوط الأمر بالمهم علی الفرض الثانی و هو فرض إطاعة الأمر بالأهم واضح و إلا لزم المحذور المتقدم.و اما سقوطه علی الفرض الأول و هو فرض عصیان الأمر بالأهم و عدم الإتیان بمتعلقه فهو بلا سبب یقتضیه،فان محذور لزوم التکلیف بما لا یطاق یندفع بالالتزام بالسقوط علی فرض الإطاعة و الامتثال، فلا وجه للالتزام بسقوطه علی الإطلاق.

و علی الجملة-ان وقوع الترتب بعد الالتزام بإمکانه لا یحتاج إلی دلیل.فإذا بنینا علی إمکانه فهو کاف فی وقوعه،فمحط البحث فی المسألة إنما هو عن جهة إمکان الترتب و استحالته.

الخامس-ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان الترتب لا یجری فیما إذا کان أحد التکلیفین مشروطاً بالقدرة عقلا،و التکلیف الآخر مشروطاً بالقدرة شرعاً.

و قال فی وجه ذلک:ان التکلیف المتعلق بالمهم المترتب علی عصیان التکلف بالأهم یتوقف علی کون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاک.و الطریق إلی إحراز

ص:95

اشتماله علی الملاک و الکاشف عنه إنما هو إطلاق المتعلق،فإذا فرضنا ان المتعلق مقید بالقدرة شرعاً سواء أ کان التقیید مستفاداً من قرینة متصلة أو منفصلة أو کان مأخوذاً فی لسان الدلیل لفظاً لم یبق للتکلیف بالمهم محل و مجال أصلا.و رتب(قده) علی ذلک انه لا یمکن تصحیح الوضوء فی موارد الأمر بالتیمم لا بالملاک و لا بالترتب،و ذلک لأن الأمر بالوضوء فی الآیة المبارکة مقید بالقدرة من استعمال الماء شرعاً،و هذا التقیید قد استفید من تقیید وجوب التیمم فیها بعدم وجدان الماء فان التفصیل فی الآیة المبارکة و تقیید وجوب التیمم بعدم الوجدان یقطع الشرکة و یدل علی ان وجوب الوضوء أو الغسل مقید بوجدان الماء. ثم ان المراد من الوجدان من جهة القرینة الداخلیة و الخارجیة التمکن من استعمال الماء عقلا و شرعاً.

اما القرینة الداخلیة فهی ذکر المریض فی الآیة المبارکة.و من المعلوم ان المرض لیس من الأسباب التی تقتضی عدم وجود الماء و فقدانه و لیس حاله کحال السفر فان السفر و لا سیما إذا کان فی البوادی و لا سیما فی الأزمنة السابقة من أسباب عدم الماء غالباً،و هذا بخلاف المرض فان الغالب ان الماء یوجد عند المریض و لکنه لا یتمکن من استعماله عقلا أو شرعاً.

و اما القرینة الخارجیة فهی عدة من الروایات الدالة علی جواز التیمم فی موارد الخوف من استعمال الماء أو من تحصیله.و المفروض فی تلک الموارد وجود الماء خارجاً و تمکن المکلف من استعماله عقلا،اذن المراد من وجدان الماء وجوده الخاصّ و هو الّذی یقدر المکلف علی صرفه فی الوضوء أو الغسل عقلا و شرعاً.

فالنتیجة علی ضوء ذلک هی ان تقیید وجوب التیمم بعدم التمکن من استعمال الماء عقلا و شرعاً یقتضی التزاماً تقیید وجوب الوضوء أو الغسل بالتمکن من استعماله کذلک،و لأجل ذلک التزم(قده)بأنه لا یمکن الحکم بصحة الوضوء فی مواضع الأمر بالتیمم کما إذا کان عند المکلف ماء و لکنه لا یکفی للوضوء و لرفع عطش

ص:96

نفسه أو من هو مشرف علی الهلاک معاً،ففی مثل ذلک یجب علیه التیمم و صرف الماء فی رفع عطش نفسه،أو من هو مشرف علی الهلاک.أو إذا دار أمره بین ان یصرفه فی الوضوء أو الغسل و ان یصرفه فی تطهیر الثوب أو البدن بان لا یکون عنده ثوب طاهر فیدور الأمر بین ان یصلی فی الثوب أو البدن الطاهر مع الطهارة الترابیة،و ان یصلی فی الثوب أو البدن المتنجس مع الطهارة المائیة و غیر ذلک.

ففی هذه الفروع و ما شاکلها لا یمکن تصحیح الوضوء أو الغسل بالملاک أو الترتب.

اما بالملاک فواضح،ضرورة انه لا ملاک لوجوب الوضوء أو الغسل فی شیء من هذه الموارد،لفرض ان القدرة مأخوذة فی متعلقه شرعاً و دخیلة فی ملاکه واقعاً و مع انتفاء القدرة ینتفی الملاک لا محالة.و اما بالترتب فلان الوضوء إذا لم یکن فیه ملاک عند مزاحمته مع الواجب المشروط بالقدرة عقلا فعصیان ذلک الواجب لا یحدث فیه مصلحة و ملاکا،و علی هذا فیمتنع تعلق الأمر به لاستحالة تعلق الأمر بشیء بلا ملاک و لو کان علی نحو الترتب،بداهة انه لا فرق فی استحالة تعلق الأمر بشیء بلا ملاک بین ان یکون ابتداء و ان یکون علی نحو الترتب.

ثم قال(قدس سره)و من هنا ان شیخنا العلامة الأنصاری و السید العلامة المیرزا الکبیر الشیرازی(قدهما)لم یفتیا بصحة الوضوء فی تلک الموارد مع انهما یریان صحة الترتب.

نعم قد أفتی السید العلامة الطباطبائی(قده)فی العروة بصحة هذا الوضوء فی مفروض الکلام و لکن هذا غفلة منه(قده)عن حقیقة الحال.

أقول:للنظر فیما أفاده(قده)مجال واسع.و الوجه فی ذلک هو انه لا بد من التفصیل بین المثالین المذکورین فما کان من قبیل المثال الأول فلا مانع من الالتزام بالترتب فیه،و ما کان من قبیل المثال الثانی فلا.و ذلک لا من ناحیة ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)بل من ناحیة أخری ستظهر لک إن شاء اللّه.

اما المثال الأول و ما شاکله فلان المانع منه لیس إلا توهم انه لا ملاک

ص:97

للوضوء أو الغسل فی هذه الموارد.و علیه فلا یمکن تعلق الأمر به و لو علی نحو الترتب لاستحالة وجود الأمر بلا ملاک،و لکنه یندفع بان القول بجواز تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب لا یتوقف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم،إذ لا یمکن إحرازه فیه إلا بتعلق الأمر به فلو توقف تعلق الأمر به علی إحرازه لدار،و لا یفرق فی ذلک بین ان یکون الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلا و ان یکون مشروطاً بها شرعاً،و ذلک لما تقدم من انه لا یمکن إحراز الملاک إلا من ناحیة الأمر،فلو تم هذا التوهم لکان مقتضاه عدم جریان الترتب مطلقاً حتی فی الواجب المشروط بالقدرة عقلا.

اذن الصحیح هو عدم الفرق فی صحة الترتب و إمکانه بین ان یکون الواجب مشروطاً بالقدرة عقلا أو مشروطا بها شرعاً.و الوجه فی ذلک هو ان مبدأ إمکان الترتب نقطة واحدة و هی ان تعلق الأمر بالمهم علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم لا یقتضی طلب الجمع بین الضدین لیکون محالا،بل یقتضی الجمع بین الطلبین فی زمان واحد و لا مانع منه أصلا إذا کان المطلوب فی أحدهما مطلقاً و فی الآخر مقیداً بعدم الإتیان به،و مترتباً علیه علی نحو لو تمکن المکلف من الجمع بینهما فی الخارج و إیجادهما معاً فیه لم یقعا علی صفة المطلوبیة،و لذا لو أتی بهما بقصد الأمر و المطلوبیة لکان ذلک تشریعاً و محرماً و سیجیء الکلام من هذه الجهة إن شاء اللّه تعالی بصورة مفصلة.

و علی ضوء ذلک لا یفرق بین ما إذا کانت القدرة مأخوذة فی المهم عقلا و ما إذا کانت مأخوذة فیه شرعاً،فان ملاک صحة الترتب-و هو عدم التنافی بین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم إذا کانا طولیین-مشترک فیه بین التقدیرین،فإذا لم یکن الأمر بالأهم مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلا و لا شرعاً إذا کان فی طوله فلا مانع من الالتزام بتعلق الأمر به علی نحو الترتب،و لو کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیة.

ص:98

و علیه یترتب ان المکلف إذا لم یصرف الماء فی واجب أهم و عصی امره فلا مانع من تعلق الأمر بالوضوء أو الغسل لتحقق موضوعه فی الخارج،و هو کونه واجداً للماء و متمکناً من استعماله عقلا و شرعاً.اما عقلا فهو واضح و اما شرعاً فلان الأمر بالأهم علی تقدیر عصیانه لا یکون مانعاً.

أو فقل:ان مقتضی إطلاق الآیة المبارکة أو نحوها ان الوضوء أو الغسل واجب سواء أ کان هناک واجب آخر أم لا غایة الأمر انه إذا کان هناک واجب آخر یزاحمه یسقط إطلاق وجوبه لا أصله،إذ أن منشأ التزاحم هو إطلاقه،فالساقط هو دون أصل وجوبه الّذی هو مشروط بعدم الإتیان بالأهم و مترتب علیه لعدم التنافی بینه و بین وجوب الأهم کما عرفت،و علیه فلا موجب لسقوطه أصلا.

و قد تحصل من ذلک ان دعوی عدم جریان الترتب فیما إذا کانت القدرة مأخوذة فی الواجب المهم شرعاً تبتنی علی الالتزام بأمرین:

الأول-دعوی ان الترتب یتوقف علی ان یکون المهم واجداً للملاک مطلقاً، حتی فی حال المزاحمة،أعنی بها حال وجود الأمر بالأهم.و من المعلوم ان هذا إنما یحرز فیما إذا کانت القدرة المعتبرة فی المهم عقلیة و اما إذا کانت شرعیة فبانتفاء القدرة-کما فی موارد الأمر بالأهم-ینتفی ملاک الأمر بالمهم لا محالة،و معه لا یجری الترتب.

الثانی-دعوی ان الأمر بالأهم مانع عن الأمر بالمهم و معجز عنه شرعاً حتی فی حال عصیانه و عدم الإتیان بمتعلقه.

و لکن قد عرفت فساد کلتا الدعویین:

اما الدعوی الأولی فلما سبق من ان الترتب لا یتوقف علی إحراز الملاک فی المهم فانک قد عرفت انه لا یمکن إحرازه فیه مع سقوط الأمر حتی فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فیه عقلیة فضلا عما إذا کانت شرعیة،فبالنتیجة انه لا فرق فی جریان الترتب بین ما کانت القدرة معتبرة فیه عقلا و ما کانت معتبرة شرعاً فلو کان

ص:99

الترتب متوقفاً علی إحراز الملاک فی المهم لم یمکن الالتزام به علی کلا التقدیرین.

و اما الدعوی الثانیة فقد عرفت انه لا تنافی بین الأمرین أصلا،إذا کان الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الإتیان بالأهم و عصیان امره،بل بینهما کمال الملاءمة فلو کان بین الأمرین تناف فی هذا الفرض أعنی فرض الترتب فلا یمکن الالتزام به مطلقاً حتی فیما إذا کان اعتبار القدرة فیه عقلیا.

فقد تبین من مجموع ما ذکرناه ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)لا یمکن المساعدة علیه.هذا تمام کلامنا فی المثال الأول و ما شاکله.

و اما المثال الثانی و ما یشبهه و هو ما إذا دار الأمر بین صرف الماء فی الوضوء أو الغسل و صرفه فی تطهیر الثوب أو البدن،کما إذا کان بدنه أو ثوبه نجساً و لم یکن عنده من الماء بمقدار یکفی لکلا الأمرین من رفع الحدث و الخبث معاً فلا یجری فیه الترتب،و لکن لا من ناحیة ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من ان التزاحم لا یجری فیما إذا کان أحد الواجبین مشروطا بالقدرة شرعاً و الآخر مشروطاً بها عقلا،و بما ان وجوب الوضوء فی المقام مشروط بالقدرة شرعاً و وجوب إزالة الخبث عن البدن أو الثوب مشروط بها عقلا فلا تزاحم بینهما،لعدم ملاک للوضوء فی أمثال هذه الموارد،و ذلک لما تقدم من ان ما أفاده(قده)غیر تام، بل من جهة ان هذا و غیره من الأمثلة غیر داخل فی کبری التزاحم،و لا یجری علیه شیء من أحکامه،و سنتعرض له فیما بعد إن شاء اللّه تعالی بشکل واضح.

و ملخصه ان التزاحم إنما یجری بین واجبین نفسیین کالصلاة و الإزالة مثلاً أو ما شاکلهما.و اما بین اجزاء واجب واحد فلا یعقل فیه التزاحم،لأن الجمیع واجب بوجوب واحد و ذلک الوجوب الواحد یسقط بتعذر واحد من تلک الاجزاء لا محالة،فإذا تعذر أحد جزئیه یسقط الوجوب عن الکل بمقتضی القاعدة الأولیة،اذن ثبوت الوجوب للباقی یحتاج إلی دلیل،و قد دل الدلیل فی باب الصلاة علی عدم السقوط و وجوب الإتیان بالباقی،و عندئذ یعلم إجمالا بجعل أحد

ص:100

هذین الجزءین أو الشرطین فی الواقع،اذن یقع التعارض بین دلیلی الجزءین أو الشرطین،إذ لم یعلم أن أیهما مجعول فی الواقع فلا مجال لتوهم جریان أحکام التزاحم حینئذ أصلا.

ثم انه لا یخفی ان ما نسب-شیخنا الأستاذ(قده)إلی السید العلامة الطباطبائی(قده)فی العروة من انه قد حکم بصحة الوضوء فی هذا الفرع-لا واقع له فان السید قد حکم ببطلان الوضوء فی هذا الفرع حیث قال:«و الأولی أن یرفع الخبث أولا ثم یتیمم لیتحقق کونه فاقداً للماء حال التیمم و إذا توضأ أو اغتسل و الحال هذا بطل لأنه مأمور بالتیمم،و لا أمر بالوضوء أو الغسل».

و قد تلخص انه لا یمکن تصحیح الوضوء أو الغسل من ناحیة الأمر الضمنی فی المثال لعدم جریان قاعدة الترتب بالإضافة إلیه.و لا من ناحیة الملاک لعدم إمکان إحرازه.

نعم یمکن تصحیحه بوجه آخر و هو:ان الوضوء أو الغسل بما انه عبادة فی نفسها و متعلق لأمر نفسی استحبابی سواء أ کان مقدمة لواجب کالصلاة، أو نحوها أم لم یکن،و لذلک قلنا انه یعتبر فی صحته قصد القربة.و علی ذلک فلا مانع من الالتزام بتعلق امره الاستحبابی النفسیّ به من جهة الترتب،و سیجیء -فیما بعد إن شاء اللّه تعالی-انه لا فرق فی جریان الترتب علی القول بإمکانه بین الأمر الوجوبیّ و الأمر الاستحبابی فکما أن الترتب یجری فی مزاحمة واجب مع واجب أهم،فکذلک یجری فی مزاحمة مستحب مع واجب،غایة الأمر ان إطلاق الأمر الاستحبابی قد سقط حین المزاحمة و لکن لا مانع من الالتزام بثبوت أصله علی تقدیر عدم الإتیان بالواجب و مخالفة أمره،إذ لا تنافی بین الأمرین حینئذ فرفع الید عن أصل الأمر الاستحبابی بلا موجب.

و نتیجة ذلک هی:ان ملاک صحة الترتب و إمکانه-و هو عدم التنافی بین الأمرین و ان الساقط هو إطلاق الخطاب دون أصله-مشترک فیه بین الأمر الوجوبیّ

ص:101

و الاستحبابی.و من هنا ذکرنا فی حاشیة العروة ان الأقوی صحة الوضوء أو الغسل فی هذا الفرع و ما یشبهه.

و بعد بیان ذلک نقول:ان مسألة الترتب لیست من المسائل المعنونة فی کلمات الأصحاب إلی زمان الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(قده)و هو أول من تعرض لهذه المسألة،و لکن المسألة فی زماننا هذا قد أصبحت معرکة للآراء بین المحققین من الأصحاب فمنهم من ذهب إلی صحة تلک المسألة و إمکانها،کالسید الکبیر العلامة المیرزا الشیرازی(قده)و أکثر تلامذته.و منهم من ذهب إلی استحالتها کشیخنا العلامة الأنصاری.و المحقق صاحب الکفایة(قدهما)فالمتحصل من ذلک هو ان المسألة ذات قولین:

أحدهما-إمکان الترتب و تعلق الأمر بالمهم علی تقدیر عصیان الأهم.

و ثانیهما-استحالة ذلک و عدم إمکان تعلق الأمر به علی هذا التقدیر.

و الصحیح هو القول الأول.

أدلة إمکان الترتب

الوجدان:

ان کل من رجع إلی وجدانه و شهد صفحة نفسه مع الإغماض عن أیة شبهة ترد علیها لا یری مانعاً من تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب،فلو کان هذا محالا کاجتماع الضدین أو النقیضین و ما شاکلهما لم یصدّق الوجدان و لا العقل إمکانه الدلیل الإنی:

لا إشکال فی وقوع ترتب أحد الحکمین علی عصیان الحکم الآخر فی موارد الخطابات العرفیة،و فی جملة من المسائل الفقهیة.و من الواضح-جداً-ان وقوع شیء أکبر برهان علی إمکانه،و أدل دلیل علیه،و لیس شیء أدل من ذلک،ضرورة

ص:102

ان المحال لا یقع فی الخارج،فلو کان هذا محالا استحال وقوعه خارجاً،فمن وقوعه یکشف إمکانه و عدم استحالته بالضرورة.

اما فی موارد الخطابات العرفیة فهو فی غایة الکثرة.منها ما هو المتعارف فی الخارج من ان الأب یأمر ابنه بالذهاب إلی المدرسة،و علی تقدیر عصیانه یأمره بالجلوس فی الدار-مثلا-و الکتابة فیها،أو بشیء آخر.فالأمر بالجلوس مترتب علی عصیان الأمر بالذهاب.و کذلک المولی یأمر عبده بشیء و علی تقدیر عصیانه،و عدم إتیانه به یأمره بأحد أضداده،و هکذا.

و علی الجملة:فالامر بالضدین علی نحو الترتب من الموالی العرفیة بالإضافة إلی عبیدهم،و من الآباء بالإضافة إلی أبنائهم مما لا شبهة فی وقوعه خارجاً،بل وقوع ذلک فی إنظارهم من الواضحات الأولیة،فلا یحتاج إلی إقامة برهان و مئونة استدلال.

و اما فی المسائل الفقهیة ففروع کثیرة لا یمکن للفقیه إنکار شیء منها،نذکر جملة منها فی المقام:

الأول-ما إذا وجبت الإقامة علی المسافر فی بلد مخصوص،و علی هذا فان قصد الإقامة فی ذلک البلد وجب علیه الصوم لا محالة،إذا کان قصد الإقامة قبل الزوال و لم یأت بمفطر قبله.و اما إذا خالف ذلک و ترک قصد الإقامة فیه فلا إشکال فی وجوب الإفطار و حرمة الصوم علیه.و هذا هو عین الترتب الّذی نحن بصدد إثباته،إذ لا نعنی به إلا ان یکون هناک خطابان فعلیان متعلقان بالضدین علی نحو الترتب،بان یکون أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً بعصیانه،و فیما نحن فیه کذلک،فان وجوب الإفطار و حرمة الصوم مترتب علی عصیان الأمر بقصد الإقامة الّذی هو مضاد له أی الإفطار،و لا یمکن لأحد ان یلتزم فی هذا الفرض بعدم جواز الإفطار و وجوب الصوم علیه،فانه فی المعنی إنکار لضروری من الضروریات الفقهیة.

ص:103

الثانی-ترتب وجوب تقصیر الصلاة علی عصیان الأمر بقصد الإقامة و ترکه فی الخارج،و لا یفرق فی ترتب وجوبه علیه بین ان یکون ترک قصد الإقامة قبل الزوال أو بعده،و بذلک تمتاز الصلاة عن الصوم کما عرفت. الثالث-ما إذا حرمت الإقامة علی المسافر فی مکان مخصوص،فعندئذ کما انه مکلف بترک الإقامة-فی هذا المکان-و هدم موضوع وجوب الصوم کذلک هو مکلف بالصوم علی تقدیر قصد الإقامة و عصیان الخطاب التحریمی،فالخطاب التحریمی المتعلق بقصد الإقامة خطاب مطلق و غیر مشروط بشیء،و الوجوب المتعلق بالصوم وجوب مشروط بعصیان ذلک الخطاب،و علیه فلو عصی المکلف ذلک الخطاب و قصد الإقامة فیه فلا مناص من الالتزام بوجوب الصوم علیه.و من الواضح-جداً-ان القول بوجوبه لا یمکن إلا بناء علی صحة الترتب،فلو لم نقل بترتب وجوب الصوم علی عصیان الخطاب بترک الإقامة فلازمه الالتزام بعدم وجوبه علیه،و هو خلاف الضرورة.

الرابع-ترتب وجوب إتمام الصلاة علی عصیان حرمة قصد الإقامة، و الکلام فیه یظهر مما تقدم.

فالنتیجة:فعلیة کلا الحکمین فی هذه الفروعات و ما شاکلها،غایة الأمر ان أحدهما مطلق و الآخر مشروط بعصیانه و عدم الإتیان بمتعلقه،اذن الالتزام بتلک الفروعات-بعینه-هو التزام بالترتب لا محالة.

نعم فیما إذا حدث الأمر بشیء بعد سقوط الأمر بضده-کما فی موارد الأمر بالقضاء-فهو خارج عن محل الکلام،فان محل الکلام فیما إذا کان کلا الحکمین فعلیاً فی زمان واحد،غایة ما فی الباب کان أحدهما مطلقاً،و الآخر مشروطاً.

و اما تعلق الأمر بشیء بعد سقوط الأمر بضده بحیث لا یجتمعان فی زمان واحد فلا کلام فی صحته و جوازه،و الأمر المتعلق بقضاء الصلاة و نحوها بالإضافة إلی الأمر بأدائها من هذا القبیل،فلا یجتمعان فی زمان واحد.أو فقل:ان ما هو

ص:104

محل الکلام هو تقارن الأمرین زماناً،و تقدم أحدهما علی الآخر رتبة،ففرض تعلق الخطاب بالمهم بعد سقوط الخطاب عن الأهم خارج عن مورد النزاع تماماً فیکون نظیر تعلق الأمر بالطهارة الترابیة بعد سقوط الأمر عن الطهارة المائیة.

الدلیل اللمی:

ان بیان إمکان الترتب و تعیین مورد البحث یتوقف علی التکلم فی جهات:

الجهة الأولی-فی بیان أمور:

الأول-ان الواجب الأهم إذا کان آنیاً غیر قابل للدوام و البقاء و ذلک کإنقاذ الغریق-مثلا-أو الحریق أو ما یشبهه-ففی مثل ذلک لا یتوقف تعلق التکلیف بالمهم علی القول بجواز الترتب و إمکانه،ضرورة انه بعد عصیان المکلف الأمر بالأهم فی الآن الأول القابل لإیجاد الأهم فیه،و سقوط امره فی الآن الثانی بسقوط موضوعه،لا مانع من فعلیة الأمر بالمهم علی الفرض،إذ المفروض ان المانع منه هو فعلیة الأمر بالأهم و بعد سقوطه عن الفعلیة لا مانع من فعلیة الأمر بالمهم أصلا،فحینئذ یصح الإتیان بالمهم،و لو بنینا علی استحالة الترتب لما عرفت من ان جواز تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات.

و من ذلک یعلم ان هذا الفرض خارج عن محل الکلام و مورد النزاع،فان ما هو مورد النزاع و الکلام-بین الاعلام و المحققین-هو ما لا یمکن إثبات فعلیة الأمر بالمهم الأبناء علی القول بالترتب،و مع قطع النّظر عنه یستحیل فعلیة امره و الحکم بصحته.

نعم فی الآن الأول-و هو الآن القابل لتحقق الأهم فیه خارجاً-لا یمکن تعلق الأمر بالمهم فعلا،و الحکم بصحته بناء علی القول باستحالة الترتب و اما فی الآن الثانی-هو الآن الساقط فیه الأمر بالأهم-فلا مانع من تعلق الأمر به و وقوعه صحیحاً.و اما بناء علی إمکانه فالالتزام بترتب الأمر بالمهم علی عصیان الأمر بالأهم إنما یجدی فی خصوص الآن الأول،دون بقیة الآنات،

ص:105

إذ لا تتوقف فعلیة امره فیها علی القول بجواز الترتب کما عرفت.نعم إذا کان الواجب المهم أیضاً آنیاً فحینئذ یدخل ذلک فی محل الکلام إذ فعلیة الأمر بالمهم -عندئذ-و الحکم بصحته تتوقف علی القول بالترتب.و اما علی القول بعدمه فلا یمکن إثبات الأمر به،اما فی الآن الأول فلمزاحمته بالأهم،و اما فی الآن الثانی فلانتفائه بانتفاء موضوعه.

فالنتیجة من ذلک:ان الواجب الأهم إذا کان آنیاً-دون الواجب المهم- فحیث ان إثبات الأمر بالمهم بمکان من الوضوح مع قطع النّظر عن صحة الترتب و عدم صحته،و لا یتوقف إثبات الأمر به علی القول بجوازه فهو خارج عن محل الکلام،فان ما کان محلا للکلام هو ما إذا لم یمکن إثبات الأمر به مع قطع النّظر عنه.

الثانی-ان کلا من الواجب الأهم و المهم إذا کان آنیاً-بمعنی أن یکون فی الآن الأول قابلا للتحقق و الوقوع فی الخارج،و لکنه فی الآن الثانی یسقط بسقوط موضوعه-فهو داخل فی محل الکلام و لا یمکن إثبات الأمر بالمهم فیه الا علی القول بصحة الترتب.

الثالث-ان الواجب الأهم و المهم إذا کان کلاهما تدریجیاً کالصلاة و الإزالة -مثلا-عند ما تقع المزاحمة بینهما فلا إشکال فی انه داخل فی محل الکلام و علیه فان قلنا-بان الشرط لفعلیة الأمر بالمهم هو معصیة الأمر بالأهم آنا ما-بمعنی ان معصیة الأهم فی الآن الأول کافیة لفعلیة الأمر بالمهم فی جمیع أزمنة امتثاله-فلا تتوقف فعلیته فی الآن الثانی علی استمرار معصیته الأمر بالأهم إلی ذلک الآن، بل لو تبدلت معصیته بالإطاعة فی الزمن الثانی کان الأمر بالمهم باقیاً علی فعلیته لفرض تحقق شرطه،و هو معصیة الأمر بالأهم فی الآن الأول-فهو مستلزم لطلب الجمع بین الضدین لا محالة،و لعل هذا هو مورد نظر المنکرین للترتب،کما یظهر ذلک من بعض موارد الکفایة.

ص:106

لکن ذلک لیس مراد القائلین بالترتب أصلا،فان محذور طلب الجمع بین الضدین علی هذا الوجه باق بحاله،و ذلک لأن المفروض ان الأمر بالأهم فی الآن الثانی باق علی فعلیته من جهة فعلیة موضوعه،و هو قدرة المکلف علی امتثاله بان یرفع الید عن المهم و یمتثل الأمر بالأهم،هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان الأمر بالمهم أیضا فعلی فی ذلک الآن،و لیست فعلیته مشروطة بعصیان الأمر بالأهم فیه لفرض ان شرطها-و هو عصیانه فی الآن الأول- قد تحقق فی الخارج،و لم تتوقف فعلیته فی الآن الثانی و الثالث،و هکذا علی استمرار عصیانه کذلک،فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی ان کلا من الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فعلی فی الآن الثانی و فی عرض الآخر.و علیه فیلزم محذور طلب الجمع بین الضدین.

و اما إذا قلنا بان شرط فعلیة الأمر بالمهم عصیان الأمر بالأهم فی جمیع أزمنة امتثاله،بمعنی ان فعلیته تدور مدار عصیانه حدوثاً و بقاء فلا یکفی عصیانه آناً ما، لبقاء امره إلی الجزء الأخیر منه،ففعلیة الأمر بالصلاة-مثلا-عند مزاحمتها بالإزالة مشروطة ببقاء عصیان امر الإزالة و استمراره إلی آخر أزمنة امتثال الصلاة و بانتفائه فی أی وقت کان ینتفی الأمر بالصلاة،ضرورة ان بقاء امر المهم منوط ببقاء موضوعه،و المفروض ان موضوعه هو عصیان الأمر بالأهم،و لا بد من فرض بقائه إلی آخر أزمنة امتثال المهم فی تعلق الأمر به فعلا،فان تعلق الأمر به کذلک فی أول أزمنة امتثاله منوط ببقاء عصیان الأمر بالأهم إلی الجزء الأخیر من المهم،فان هذا نتیجة تقیید إطلاق الأمر بالمهم بعصیان الأهم.و کون المهم واجباً ارتباطیاً،و علی هذا فلیس هنا طلب للجمع بین الضدین أصلا کما سیأتی توضیحه و هذا بناء علی وجهة نظرنا من إمکان الشرط المتأخر،و کذا إمکان تعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه علی نحو الواجب المعلق کما حققناهما فی محلهما لا إشکال فیه،إذ لا مانع حینئذ من ان یکون العصیان المتأخر شرطاً للوجوب

ص:107

المتقدم بمعنی ان فعلیة وجوب المهم فی أول أزمنة امتثاله تکون مشروطة ببقاء عصیان الأهم إلی آخر زمان الإتیان بالمهم،و بانتفائه یستکشف عدم فعلیة وجوب المهم من الأول،و من هنا قلنا انه لا مناص من الالتزام بالشرط المتأخر فی الواجبات التدریجیة کالصلاة و نحوها،فان وجوب أول جزء منها مشروط ببقاء القدرة علی الجزء الأخیر منها فی ظرفه،و إلا فلا یکون من الأول واجباً،و هذا ثمرة اشتراط وجوب تلک الواجبات بالقدرة فی ظرف الامتثال من ناحیة،و ارتباطیتها من ناحیة أخری.

و اما بناء علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)من استحالة الشرط المتأخر و کذا الواجب المعلق فیشکل الأمر فی المقام،و من هنا قد تفصی عن هذه المشکلة بما أجاب به عن الإشکال فی اشتراط القدرة فی الواجبات التدریجیة،و قال ان المقام داخل فی تلک الکبری-أی اشتراط التکلیف بالقدرة-و من إحدی صغریاتها فان اشتراط التکلیف بالمهم بعصیان تکلیف الأهم انما هو لأجل انه غیر مقدور إلا فی هذا الفرض،و لذا لا نحتاج فی اشتراط تکلیف المهم بعصیان تکلیف الأهم إلی دلیل خاص،فالدلیل علیه هو حکم العقل باشتراط التکلیف بالقدرة،فانه یوجب اشتراط خطاب المهم بعصیان خطاب الأهم،لکون المهم غیر مقدور شرعاً -و هو فی حکم غیر المقدور عقلا-إلا عند تحقق هذا الشرط.و حاصل ما أجاب به(قده)ان الشرط هو القدرة علی الجزء الأول من اجزاء الواجب التدریجی المتعقبة بالقدرة علی بقیة الاجزاء فشرط وجوب الصلاة-مثلا-انما هو القدرة علی التکبیرة المتعقبة بالقدرة علی بقیة اجزائها.

و من الواضح ان عنوان التعقب عنوان حاصل بالفعل،و بذلک یدفع محذور الالتزام بالشرط المتأخر،و علیه یکون شرط فعلیة وجوب المهم عصیان الأهم فی الآن الأول متعقباً بعصیانه فی بقیة الآنات.و المفروض ان عصیانه فی آن أول امتثال المهم المتعقب بعصیانه فی بقیة أزمنة امتثال المهم موجود بالفعل

ص:108

فیکون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر.و من المعلوم ان اشتراط المهم بعصیان الأهم لیس إلا من ناحیة عدم قدرة المکلف علی امتثاله فی غیر هذه الصورة (عصیان الأهم).

و لکن قد ذکرنا فی بحث الواجب المشروط ان ما أفاده(قده)لا یمکن المساعدة علیه بوجه،و ذکرنا هناک انه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر أصلا،و انه لا محصل لجعل عنوان التعقب شرطاً لعدم الدلیل علیه.و قد فصلنا الحدیث عن ذلک هناک،فلا حاجة إلی الإعادة.

و من ذلک یظهر ان الواجب المهم بعد حصول شرط وجوبه لا یصیر مطلقاً فانه یبتنی علی أن یکون شرطه هو عصیان الأهم فی الآن الأول فحسب،کما عرفت و اما علی ما ذکرناه من ان شرطه هو عصیانه فی جمیع أزمنة امتثال المهم فلا وجه لتوهم انه بعد تحقق شرطه یصیر مطلقاً أصلا.

و قد تحصل من ذلک امران:

الأول-ان الواجب الأهم إذا کان آنیاً و المهم تدریجیاً فهو خارج عن محل الکلام و البحث کما مر آنفاً.

الثانی-ان شرط فعلیة الأمر بالمهم عصیان الأهم علی نحو الاستمرار و الدوام لا عصیانه آناً ما،لما عرفت من انه لا یدفع محذور طلب الجمع بین الضدین.

الجهة الثانیة-انه لا یفرق فی القول بإمکان الترتب و جوازه،و القول باستحالته و عدم جوازه بین ان یکون زمان فعلیة الخطاب متحداً مع زمان الامتثال و العصیان،و ان یکون سابقاً علیه-بناء علی ما هو الصحیح من إمکان الواجب المعلق-و ان کان الغالب هو الأول،بل قد ذکرنا فی محله ان الثانی و ان کان ممکناً إلا ان وقوعه فی الخارج یحتاج إلی دلیل و قیام قرینة علیه،و إلا فهو خلاف الظهور العرفی،فان مقتضی ظهور الخطاب هو ان زمان فعلیته متحد مع زمان الواجب-و هو زمان امتثاله و عصیانه-و لکن الغرض من ذلک الإشارة إلی ان

ص:109

القول بإمکان الترتب لا یتوقف علی القول بإنکار الواجب المعلق،فان ملاک استحالة الواجب المعلق و إمکانه أجنبی عما هو ملاک استحالة الترتب و إمکانه، فکما یجری علی القول باستحالة الواجب المعلق فکذلک یجری علی القول بإمکانه.

و توضیح ذلک:انه لا إشکال فی تقدم زمان الاعتبار و الجعل علی زمان المعتبر و المجعول غالباً،لما ذکرناه غیر مرة من ان جعل الأحکام جمیعاً علی نحو القضایا الحقیقیة فلا یتوقف علی وجود موضوعها فی الخارج،فیصح الجعل و الاعتبار سواء أ کان موضوعها موجوداً فی الخارج أم لم یکن.و اما زمان المعتبر -و هو زمان فعلیة تلک الأحکام بفعلیة موضوعاتها فی الخارج-فبناء علی استحالة الواجب المعلق فهو دائماً متحد مع زمان الواجب الّذی هو ظرف تحقق الامتثال و العصیان،و علی هذا فزمان فعلیة التکلیف بالمهم و زمان امتثاله و زمان عصیانه واحد،هذا من ناحیة،و من ناحیة أخری ان زمان فعلیة التکلیف بالأهم و زمان امتثاله و زمان عصیانه واحد.

فالنتیجة علی ضوء ذلک ان زمان فعلیة التکلیف بالمهم و زمان فعلیة التکلیف بالأهم واحد،إذ زمان فعلیة التکلیف بالمهم متحد مع زمان عصیان الأهم،لفرض ان عصیانه شرط لفعلیته و موضوع لها،فیستحیل ان یکون زمان فعلیته متقدماً علی زمان عصیانه أو متأخراً عنه.و المفروض أن زمان عصیانه متحد مع زمان فعلیة خطابه،فینتج ذلک ان زمان فعلیة خطاب المهم متحد مع زمان فعلیة خطاب الأهم،لأن ما مع المقارن بالزمان مقارن أیضاً لا محالة کما سبق.

و علی هذا الضوء تترتب ضرورة تقارن فعلیة خطاب المهم مع خطاب الأهم و اجتماعهما فی زمان واحد.نعم تتقدم فعلیة الخطاب علی عصیانه أو امتثاله رتبة کتقدم عصیان الأهم علی فعلیة خطاب المهم.و اما خطاب الأهم فلیس بمتقدم علی خطاب المهم رتبة،کما انه لیس بمتقدم زماناً.

و الوجه فی ذلک واضح فان تقدم الأمر علی عصیانه أو امتثاله بملاک انه

ص:110

علة له،و تقدم عصیان الأهم علی فعلیة الأمر بالمهم بملاک انه شرط له،و لا ملاک لتقدم خطاب الأهم علی خطاب المهم أصلا،فما هو المعروف من ان الأمر بالمهم فی طول الأمر بالأهم لیس المراد منه التقدم و التأخر بحسب الرتبة کما توهم،بل المراد منه مجرد ترتب الأمر بالمهم علی عصیان الأمر بالأهم.

و دعوی ان الأمر بالمهم متأخر عن عصیان الأمر بالأهم و هو متأخر عن الأمر به فیتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتین:مدفوعة بما ذکرناه سابقاً من ان التقدم أو التأخر بالرتبة و الطبع منوط بملاک کامن فی صمیم ذات المتقدم أو المتأخر و لیس امراً خارجاً عن ذاته،و لذا یختص هذا التقدم أو التأخر بما فیه ملاکهما،فلا یسری منه إلی ما هو متحد معه فی الرتبة فضلا عن غیره،و لذا قلنا بتقدم العلة علی المعلول،لوجود ملاک التقدم فیها.و اما عدمها فلا یتقدم علیه مع انه فی مرتبتها،و علی هذا الضوء ففیما نحن فیه و ان کان الأمر بالأهم مقدماً علی عصیانه-بملاک انه علة له-إلا انه لا یوجب تقدمه علی الأمر بالمهم لانتفاء ملاکه.

أو فقل:ان تأخر الأمر بالمهم عن عصیان الأمر بالأهم المتأخر عن نفس الأمر به لا یوجب تأخره عن نفس الأمر بالأهم.و قد فصلنا الحدیث من هذه الناحیة فی أول بحث الضد فلاحظ هذا بناء علی القول باستحالة الواجب المعلق.

و اما بناء علی إمکان الواجب المعلق کما هو الصحیح فلا مانع من أن یکون زمان الوجوب مقدماً علی زمان الواجب-الّذی هو ظرف امتثاله و عصیانه-و قد حققنا ذلک فی بحث الواجب المعلق و المشروط بصورة مفصلة،و قلنا هناک انه لا یلزم أی محذور من الالتزام بتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور فی ظرفه،کما انه لا یلزم من الالتزام بالشرط المتأخر أصلا.

ثم انه لا یفرق فیما ذکرناه من إمکان الترتب بین القول بإمکان الواجب المعلق و الشرط المتأخر و القول باستحالتهما،و لا یتوقف القول بإمکان الترتب

ص:111

علی القول باستحالتهما بتخیل انه لو قلنا بإمکان الواجب المعلق أو الشرط المتأخر لکان لازم ذلک إمکان فعلیة تکلیف المهم قبل تحقق عصیان الأهم علی نحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلق،و هذا غیر معقول،لأن طلب الضدین فی آن واحد محال فلا یکون ممکناً،و لکنه خیال فاسد. و الوجه فی ذلک هو ان ملاک استحالة الترتب لیس اجتماع الخطابین أی خطاب الأهم و خطاب المهم فی زمان واحد،لأن اجتماعهما علی کلا المذهبین فی زمان واحد و مقارنتهما فیه مما لا بد منه،ضرورة ان حدوث التکلیف بالمهم بعد سقوط التکلیف بالأهم خلاف مفروض الخطاب الترتبی،و خارج عن محل الکلام،إذ لا إشکال فی جواز ذلک و صحته،فان محل الکلام هو ما إذا کان الأمران متقارنین زماناً،و مع إثبات ان الجمع بین الأمرین فی زمان واحد مع ترتب أحدهما علی عصیان الآخر لا یرجع إلی طلب الجمع بین الضدین،فلا مانع منه أصلا،و هذا هو ملاک القول بإمکان الترتب و صحته،کما ان ملاک القول بامتناعه و استحالته تخیل ان الجمع بین الخطابین فی زمان واحد یستلزم طلب الجمع بین الضدین و هو محال.

و علی هذا الأساس فکل من ملاک إمکان الترتب و استحالته أجنبی عن ملاک إمکان الواجب المعلق و الشرط المتأخر و استحالتهما تماماً،إذ ملاک إمکان الترتب و امتناعه یدوران مدار النقطة المزبورة،و هی ان الجمع بین الطلبین فی زمان واحد هل یستلزم طلب الجمع بین الضدین أم لا؟فالقائل باستحالة الترتب یدعی الأول،و القائل بإمکانه یدعی الثانی،فتلک النقطة هی محط البحث و الأنظار بین الأصحاب فی المقام.و ملاک إمکان الواجب المعلق و الشرط المتأخر و ملاک استحالتهما یدوران مدار ما ذکرناه من الأساس هناک فلا حاجة إلی الإعادة.

و قد تحصل من ذلک ان القول بإمکان الترتب لا یتوقف علی القول باستحالة الواجب المعلق أو الشرط المتأخر.و علیه فلا فرق فیما ذکرناه من إمکان الترتب

ص:112

و ان الجمع بین الأمرین فی زمان واحد لا یرجع إلی طلب الجمع بین الضدین بین وجهة نظرنا فی هاتین المسألتین(الواجب المعلق و الشرط المتأخر)و بین وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)فیهما أصلا.

فالغرض من هذه الجهة دفع ما توهم من ابتناء القول بإمکان الترتب علی القول باستحالة الواجب المعلق أو الشرط المتأخر.

الجهة الثالثة-لا إشکال فی إطلاق الواجب بالإضافة إلی وجوده و عدمه -بمعنی تعلق الطلب بالماهیة المعراة عن الوجود و العدم-بداهة ان الطلب المتعلق بالفعل لا یعقل تقیید متعلقه بالوجود أو العدم،إذ علی الأول یلزم طلب الحاصل و علی الثانی الخلف،أو طلب الجمع بین النقیضین،و کذا الحال فی الطلب المتعلق بالترک،فانه لا یمکن تقییده بالترک المفروض تحققه،لاستلزامه طلب الحاصل و لا تقییده بالوجود،لأنه خلف أو طلب الجمع بین النقیضین.

فالنتیجة:ان تقیید متعلق الأمر بوجوده فی الخارج أو بعدمه محال،فإذا استحال تقییده بالحصة المفروضة الوجود أو المفروضة العدم فلا محالة یکون متعلقه هو الجامع بینهما،و لازم ذلک هو ثبوت الأمر فی حال وجوده و حال عدمه و فی حال عصیانه و امتثاله.و هذا واضح لا کلام فیه،و انما الکلام و الإشکال فی ان ثبوت الأمر فی هذه الأحوال هل هو بالإطلاق أم لا؟ فعلی مسلک شیخنا الأستاذ(قده)لیس بالإطلاق لما یراه(قده)من ان التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل العدم و الملکة،فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر،و حیث ان التقیید فی المقام محال کما عرفت فالإطلاق أیضاً محال اذن لا إطلاق لمتعلق الأمر بالإضافة إلی تقدیری وجوده و عدمه لا بالإطلاق و التقیید اللحاظیین،و لا بنتیجة الإطلاق أو التقیید.اما الأول فکما مر.

و اما الثانی فلان استحالة التقیید و الإطلاق فی المقام لیست من ناحیة استحالة لحاظیهما لیمکن التوصل إلیهما بجعل آخر،و یسمی ذلک بنتیجة الإطلاق

ص:113

و نتیجة التقیید،بل من ناحیة ان التقیید هنا مستلزم لتحصیل الحاصل أو طلب الجمع بین النقیضین،و الإطلاق مستلزم للجمع بین کلا المحذورین المزبورین.

و من الواضح البین ان کل هذه الأمور محال فی حد ذاته،لا من ناحیة عدم إمکان الجعل بجعل واحد،و عدم إمکان اللحاظ بلحاظ فارد،و لکن مع هذا کان الحکم موجوداً فی کلتا الحالتین(الوجود و العدم).

و الوجه فیه هو انه لا موجب لسقوط التکلیف بالأهم فی المقام ما عدا العجز عن امتثاله،و المفروض ان المکلف غیر عاجز عنه،ضرورة ان فعل الشیء لا یصیر ممتنعاً حال ترکه و کذا ترکه حال فعله،إذ ترجیح أحد طرفی الممکن علی الآخر لا یوجب العجز و سلب القدرة عن الطرف الآخر بالبداهة.و علی هذا فالأهم مقدور للمکلف حال ترکه،کما ان ترکه مقدور حال فعله،و کذا هو مقدور حال فعل المهم.

و الأصل فی جمیع ذلک هو ان ترجیح أحد الطرفین علی الآخر أو ترجیح فعل المهم فی المقام علی فعل الأهم باختیار المکلف و إرادته،فلا یعقل ان یکون ذلک موجباً لامتناع الطرف الآخر،و إلا فلا یکون الشیء من الأول مقدوراً.

و هذا خلف.و نتیجة ذلک هی ان الأمر بالأهم ثابت حال عصیانه و حال الإتیان بالمهم،و هذا معنی اجتماع الأمرین فی زمان واحد.هذا علی مسلک شیخنا الأستاذ(قده).

و اما بناء علی وجهة نظرنا من ان التقابل بینهما لیس من تقابل العدم و الملکة بل من تقابل التضاد و ان استحالة أحدهما تستلزم ضرورة تحقق الآخر و وجوبه لا استحالته،فثبوته بالإطلاق.

و الوجه فیه ما ذکرناه غیر مرة من ان الإهمال فی الواقع و مقام الثبوت غیر معقول،فمتعلق الحکم فی الواقع اما هو ملحوظ علی وجه الإطلاق بالإضافة إلی جمیع القیود حتی القیود الثانویة-و معنی الإطلاق عدم دخل شیء من تلک القیود فیه

ص:114

واقعاً،لا ان جمیعها داخلیة فیه-و اما هو ملحوظ علی وجه التقیید و لا ثالث لهما و علیه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر لانتفاء ثالث بینهما،و فی المقام بما ان تقیید متعلق الأمر بتقدیری الفعل فی الخارج أو الترک محال،فلا محالة کان إطلاقه بالإضافة إلیه واجباً.

و علی هذا یترتب ان الأمر المتعلق بالأهم مطلق بالإضافة إلی حالتی وجوده و عدمه،فعندئذ إذا کان الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأهم و ترکه فی الخارج فلا محالة عند ترکه یجتمع الأمران،اما الأمر بالأهم فمن جهة الإطلاق کما عرفت، و اما الأمر بالمهم فلتحقق شرطه-و هو ترک الأهم و عصیان امره-و لکن مع ذلک.فلیس مقتضی الأمرین طلب الجمع بین الضدین فی زمن واحد،لأن أحدهما فی طول الآخر لا فی عرضه.و علیه فلا یمکن ان یقع متعلقهما علی صفة المطلوبیة و لو تمکن المکلف من إیجادهما فی الخارج.

أو فقل:ان طلب الجمع بین فعلین فی الخارج یتصور علی صور أربع، و ما نحن فیه لیس من شیء منها.

الأولی-ما إذا کان هناک أمر واحد تعلق بالجمع بین فعلین علی نحو یرتبط کل منهما بالآخر ثبوتاً و سقوطاً کما إذا تعلق الأمر بالجمع بین الکتابة و الجلوس-مثلا- الثانیة-ما إذا تعلق أمران بفعلین علی نحو یکون متعلق کل من الأمرین مقیداً بحال امتثال الأمر بالآخر کما إذا أمر المولی بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر بالصوم و بالعکس.

الثالثة-ان یکون متعلق أحد الخطابین مقیداً بحال امتثال الآخر دون العکس.

الرابعة-ما إذا تعلق امران بفعلین علی وجه الإطلاق بان یکون کل منهما مطلقاً بالإضافة إلی حال امتثال الآخر،و الإتیان بمتعلقه کما هو الحال فی الأمر المتعلق بالصوم و الصلاة،فان وجوب کل منهما مطلق بالإضافة إلی الإتیان بالآخر.

ص:115

هذه هی الصور التی یکون المطلوب فیها الجمع،غایة الأمر ان الجمع فی الصورة الأولی بعنوانه متعلق للأمر و الطلب.و اما فی الصور الثلاثة الأخیرة فالجمع بعنوانه لیس متعلقاً للطلب،بل الأمر فیها یرجع إلی طلب واقع الجمع و حقیقته بالذات،کما فی الصورتین الأولیین و بالعرض کما فی الصورة الأخیرة،فان الجمع فی تلک الصورة أعنی بها الصورة الأخیرة لیس بمطلوب لا بعنوانه و لا بواقعه حقیقة، و انما هو مطلوب بالعرض-بمعنی ان عند تحقق امتثال أحدهما کان الإتیان بالآخر أیضاً مطلوباً-و هذا نتیجة إطلاق الخطابین.

و علی کل حال فالقول بالترتب و اجتماع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم فی زمان واحد لا یستلزم القول بطلب الجمع بینهما-أصلا-اما الجمع بمعنی تعلق طلب واحد به کما فی الصورة الأولی فواضح.و اما الجمع بالمعنی الموجود فی بقیة الصور فائضاً کذلک،لأن تعلق طلبین بفعلین فی زمان واحد انما یقتضیان الجمع بینهما فیما إذا کان امتثال کل منهما مقیداً بتحقق امتثال الآخر،أو کان امتثال أحدهما خاصة مقیداً بذلک دون الآخر،أو کان کل واحد منهما مطلقاً من هذه الجهة کما عرفت فی الصور الثلاثة المتقدمة.

و اما إذا فرضنا ان أحد الأمرین مشروط بعدم الإتیان بمتعلق الآخر و عصیانه کما فیما نحن فیه فیستحیل ان تکون نتیجة اجتماع الأمرین و فعلیتهما فی زمن واحد طلب الجمع،بداهة ان فعلیة الأمر بالمهم مشروط بعدم الإتیان بالأهم و فی ظرف ترکه.و هذا فی طرف النقیض مع طلب الجمع تماماً و معاندة رأساً.و من هنا قلنا انه لا یمکن وقوع الفعلین معاً(الأهم و المهم)علی صفة المطلوبیة و ان فرضنا ان المکلف متمکن من الجمع بینهما فی الخارج.

و سر ذلک هو ان الأمر بالمهم إذا فرض اشتراطه بعصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه فلا یمکن فعلیة امره بدون تحقق شرطه و هو ترک الأهم،و فی ظرف وجوده،و إلا لزم أحد محذورین،اما اجتماع النقیضین،أو الخلف،و کلاهما

ص:116

مستحیل و ذلک لأن الأمر بالمهم تتوقف فعلیته علی فعلیة موضوعه و هو ترک الأهم و عدم الإتیان به.و علیه فإذا فرض فعلیة الأمر بالمهم فی ظرف وجود الأهم،فعندئذ لا بد اما من فرض عدم الأهم عند وجوده فلزم اجتماع النقیضین،و اما من فرض ان عدم الأهم لیس بشرط،و هذا خلف.

و نتیجة ذلک هی استحالة فعلیة الأمر بالمهم فی ظرف وجود الأهم و تحققه فی الخارج لاستلزامها أحد المحالین المزبورین.

و علی هذا الضوء یستحیل استلزام فعلیة الأمرین المترتب أحدهما علی عدم الإتیان بالآخر و عصیان امره لطلب الجمع بین متعلقیهما.

و قد تحصل من ذلک ان المقام فی طرف النقیض مع الصور المتقدمة،إذ فعلیة الأمرین فیها تقتضی الجمع بین متعلقیهما کما عرفت،و فعلیة الأمرین فی المقام تقتضی التفریق بین متعلقیهما،و عدم إمکان کون کلیهما معاً مطلوباً.

ثم انه لا یخفی ان هذه الجهة و ان لم تکن کثیرة الدخل فی إمکان القول بالترتب و جوازه،إلا ان الغرض من التعرض لها لدفع ما ربما یتخیل ان الأمر بالأهم لو کان مطلقاً بالإضافة إلی حالتی عصیانه و امتثاله و فعله و ترکه فی الخارج لم یمکن القول بالترتب،إذ مقتضی إطلاقه هو ان امره فی حال عصیانه باق،فإذا کان باقیاً فلا محالة یدعو إلی إیجاد متعلقه فی الخارج،و المفروض ان هذا الحال هو حال فعلیة الأمر بالمهم،لفرض تحقق شرطها-و هو عصیان الأهم.إذن یلزم من ذلک طلب الجمع بین الضدین.و هذا محال.

و لکن من بیان تلک الجهة قد ظهر فساد هذا الخیال.و ذلک لأن محل الکلام فی إمکان الترتب و استحالته فیما إذا کان الأمر بالأهم ثابتاً حال عصیانه و ترک متعلقه،و إلا فلیس من محل الکلام فی شیء-کما تقدم-هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان اجتماع امرین متعلقین بالضدین فی زمن واحد شیء،و طلب الجمع بینهما شیء آخر،و لا ملازمة بین أحد الأمرین و الآخر أصلا.

ص:117

نعم لو کان تعلق امرین بهما فی عرض واحد و علی وجه الإطلاق لکان ذلک مستلزماً لطلب الجمع بینهما لا محالة.و لکن أین هذا من تعلق امرین بهما علی نحو الترتب بان یکون أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً بعصیان الأول و عدم الإتیان بمتعلقه،لأنک عرفت ان اجتماع الأمرین کذلک لا یستلزم طلب الجمع بین متعلقیهما بل هو فی طرف النقیض معه و ینافیه و یعانده،لا انه یقتضیه کما مر.

و علی الجملة فالغرض من بیان هذه الجهة الإشارة إلی هذین الأمرین أعنی بهما دفع الخیال المزبور و انه لا مجال له أصلا.و امتیاز المقام عن الصور المتقدمة و ان فعلیة الأمرین فی تلک الصور تستلزم طلب الجمع لا فی المقام کما عرفت.

الجهة الرابعة-(و هی الجهة الرئیسیة لأساس الترتب و تشیید کیانه)قد ذکرنا غیر مرة ان الخطابات الشرعیة بشتی اشکالها لا تتعرض لحال موضوعاتها وضعاً و رفعاً و إنما هی تتعرض لحال متعلقاتها علی تقدیر وجود موضوعاتها-مثلا- خطاب الحج کما فی الآیة المبارکة لا یکون متعرضاً لحال الاستطاعة،و لا یکون ناظراً إلیها وجوداً و عدماً،و إنما یکون متعرضاً لحال الحج باقتضاء وجوده علی تقدیر وجود الاستطاعة و تحققها فی الخارج بأسبابها المقتضیة له،فلا نظر له إلی إیجادها،و لا إلی عدم إیجادها-أصلا-و لا إلی انها موجودة أو غیر موجودة.

و کذا خطاب الصلاة،و خطاب الزکاة و ما شاکلهما،فان کلا منها لا یکون متعرضاً لحال موضوعه،لا وضعاً و لا رفعاً،و لا یکون مقتضیاً لوجوده و لا لعدمه،و إنما هو متعرض لحال متعلقه باقتضاء إیجاده فی الخارج علی تقدیر وجود موضوعه.

و السر فی ذلک هو ان جعل الأحکام الشرعیة إنما هو علی نحو القضایا الحقیقیة و معنی القضیة الحقیقیة هو ان ثبوت المحمول فیها و وجوده علی تقدیر وجود الموضوع و ثبوته،و نسبة المحمول فیها إلی الموضوع وضعاً و رفعاً نسبة لا اقتضائیة

ص:118

فلا یقتضی المحمول وجود موضوعه و لا یقتضی عدمه،فمتی تحقق الموضوع تحقق المحمول و إلا فلا.

و من هنا قلنا ان القضیة الحقیقیة ترجع إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع و تالیها ثبوت المحمول له.و من الواضحات الأولیة ان الجزاء لا یقتضی وجود الشرط و لا عدمه،و لذلک لو کان أحد الدلیلین ناظراً إلی موضوع الدلیل الآخر وضعاً أو رفعاً فلا ینافی ما هو مقتضی ذاک الدلیل أبداً،لأنه بالإضافة إلی موضوعه لا اقتضاء،فلا یزاحم ما یقتضی وضعه أو رفعه،و لذا لا تنافی بین الدلیل الحاکم و المحکوم و الوارد و المورود.

و علی ذلک الأساس نقول ان عصیان الأمر بالأهم-فی محل الکلام-و ترک متعلقه بما انه مأخوذ فی موضوع الأمر بالمهم فهو لا یکون متعرضاً لحاله وضعاً و رفعاً،لما عرفت من ان الحکم یستحیل ان یستدعی وجود موضوعه أو عدمه، و إنما هو یستدعی إیجاد متعلقه علی تقدیر وجود موضوعه فی الخارج،هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان الأمر بالأهم محفوظ فی ظرف عصیانه إما من جهة الإطلاق-کما ذکرناه-أو من جهة ان الأمر یقتضی الإتیان بمتعلقه و إیجاده فی الخارج،و هذا عبارة أخری عن اقتضاء هدم موضوع الأمر بالمهم و رفعه،و هو عصیانه و عدم الإتیان بمتعلقه.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی عدم التنافی بین هذین الأمرین أبداً.

اما بین ذاتیهما فواضح،ضرورة انه لا تنافی بین ذات الأمر بالمهم مع قطع النّظر عن اقتضائه و ذات الأمر بالأهم کذلک.و قد ذکرنا فی غیر مورد انه لا تضاد و لا تماثل بین نفس الأحکام بما هی أحکام،إذ حقیقتها لیست إلا اعتبار المولی.و من المعلوم انه لا مضادة بین اعتبار و اعتبار آخر،و لا مماثلة بینهما کما سیجیء ذلک بشکل واضح فی الفرق بین مسألة التزاحم و التعارض.

و اما بینهما باعتبار اقتضائهما فالامر أیضا کذلک لأن الأمر بالمهم إنما یقتضی

ص:119

إیجاد متعلقه فی الخارج،علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم من دون تعرض لحال عصیانه وضعاً أو رفعاً،وجوداً أو عدماً.و الأمر بالأهم یقتضی هدم عصیانه الّذی هو موضوع للأمر بالمهم،و من الضروری انه لا تنافی بین مقتضی(بالفتح) الأمرین کذلک،کیف فان ما کانت فعلیة أصل اقتضائه(الأمر بالمهم)منوطة بعدم تأثیر الآخر(الأمر بالأهم)و عدم العمل بمقتضاه،فیستحیل ان یزاحمه فی تأثیره و یمنعه عنه لأنه فی ظرف تأثیره و العمل بمقتضاه لیس بفعلی لیکون مزاحماً له،و فی ظرف عدم العمل به و ان کان فعلیاً إلا انک قد عرفت انه غیر ناظر إلی حال موضوعه(العصیان)أصلا لیزاحمه.

و ان شئت فقل:ان المقتضیین فی محل الکلام(خطاب الأهم و خطاب المهم)إنما یکونان متنافیین إذا کان اقتضاء کل واحد منهما لإیجاد متعلقه علی وجه الإطلاق،و فی عرض الآخر بان یکون الغرض من کل منهما فعلیة مقتضاه من دون ترتب فی البین،إذ عندئذ یستحیل تأثیرهما معاً و فعلیة مقتضاهما،لأنه طلب للجمع بین الضدین و المتنافیین،و استحالة ذلک من الواضحات.و اما إذا کان اقتضاء أحدهما مترتباً علی عدم اقتضاء الآخر و منوطا بعدم تحقق مقتضاه فلا تنافی بین اقتضائهما أبداً بل بینهما کمال الملاءمة،فان اقتضاء خطاب المهم انما هو فی ظرف عدم تحقق مقتضی(بالفتح)خطاب الأهم،و عدم فعلیته.و اما فی ظرف تحققه و فعلیته فلا اقتضاء له لعدم تحقق شرطه،اذن کیف یکونان مقتضیین لأمرین متنافیین و الجمع بین الضدین.

و لنأخذ لتوضیح ذلک مثالا و هو:ما إذا وقعت المزاحمة بین الأمر بالإزالة -مثلا-و الصلاة فی آخر الوقت بحیث لو اشتغل المکلف بالإزالة لفاتته الصلاة، فعندئذ الأمر بالإزالة إنما ینافی الأمر بالصلاة،إذا کانت دعوته إلی إیجاد الإزالة و اقتضائه له علی وجه الإطلاق،و فی عرض اقتضاء الأمر بالصلاة و دعوته بان یکون الغرض منه فعلیة مقتضاه مطلقا،لا علی تقدیر دون آخر،و علیه فیلزم

ص:120

طلب الجمع بین الضدین لفرض اقتضاء کل منهما لإیجاد مقتضاه فی عرض اقتضاء الآخر له.

و اما إذا فرضنا ان اقتضاء الأمر بالإزالة کان مترتبا علی ترک الصلاة و عصیان امرها،کما هو محل الکلام،فلا یعقل ان یکون مزاحما لمقتضی الأمر بالصلاة.

و السر فی ذلک هو انه لا تنافی و لا تضاد بالذات بین نفس اقتضاء الأمر بالمهم و اقتضاء الأمر بالأهم،مع قطع النّظر عن التضاد و التنافی بین مقتضاهما و عدم إمکان الجمع بینهما فی الخارج،فالتنافی بین اقتضائهما انما هو من جهة التنافی و التضاد بین مقتضاهما،و علی هذا فلا یمکن تعلق الطلبین بهما فی عرض واحد و علی وجه الإطلاق،لاستلزام ذلک طلب الجمع بین الضدین،و هو تکلیف بالمحال و اما إذا کان طلب أحدهما مترتبا علی عدم الإتیان بالآخر و فی ظرف عدمه فلا یلزم التکلیف بالمحال،فان الإزالة عند الإتیان بالصلاة و امتثال امرها لیست بمطلوبة واقعا لیلزم من ذلک طلب الجمع،و عند ترکها-فهی و ان کانت مطلوبة-إلا ان مطلوبیتها لما کانت مقیدة بترک الصلاة فی الخارج،و عدم العمل بمقتضی امرها فی کل آن فلا تنافی مطلوبیة الصلاة،و لا یلزم من تعلق الأمرین بهما عندئذ طلب الجمع،کیف و ان الأمر بالإزالة حیث کان معلقا علی تقدیر عدم العمل بمقتضی امر الصلاة من دون تعرضه لحال هذا التقدیر و اقتضائه وضعه-لما عرفت من ان الحکم لا یقتضی وجود موضوعه-فلا یکون مانعا عن فعلیة مقتضی(بالفتح)الأمر بالصلاة الّذی هو ناظر إلی ذلک التقدیر،و یقتضی هدمه،اذن لا مانع من اجتماع الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی زمان واحد لعدم التنافی بینهما،لا بالذات-کما مر- و لا باعتبار اقتضائهما،لأن التنافی بینهما بهذا الاعتبار انما هو من جهة ان القدرة الواحدة لا تفی بهما معاً،و من الواضح انها إنما لا تفی فیما إذا کان کلاهما مطلوباً فی عرض واحد لا علی النحو الترتب بمعنی ان المهم مطلوب فی ظرف ترک الأهم إذ لا شبهة حینئذ فی وفاء القدرة بهما علی هذا النحو کما عرفت.

ص:121

و قد تحصل مما ذکرناه ان فعلیة تعلق الأمرین بهما و اجتماعهما فی زمان واحد انما تستدعی طلب الجمع بینهما علی أحد تقدیرین لا ثالث لهما: الأول-ان یکون الأمر بالمهم فی عرض الأمر بالأهم و علی وجه الإطلاق، فعندئذ لا محالة یلزم طلب الجمع بینهما.

الثانی-ان یکون الأمر بالمهم فی فرض تقییده بترک الأهم ناظراً إلی حال ترکه و مقتضیاً لوضعه و تحققه فی الخارج،فحینئذ یلزم طلب الجمع لفرض ان الأمر بالأهم یقتضی هدمه و رفعه.و من الواضح جداً أنا لا نعقل لزوم طلب الجمع بینهما فیما عدا هاتین الصورتین،هذا من جانب.و من جانب آخر ان مفروض کلامنا-هاهنا-لیس من قبیل الصورة الأولی-کما هو ظاهر-و لا من قبیل الصورة الثانیة،لما عرفت من ان ترک الأهم بما انه مأخوذ فی موضوع الأمر بالمهم، فیستحیل ان یقتضی وجوده ففرض اقتضائه وجوده و تحققه فرض عدم کونه مأخوذاً فی موضوعه،و هذا خلف.

فالنتیجة علی ضوء هذین الجانبین هی عدم لزوم طلب الجمع فی مفروض الکلام و اما التنافی بین الأمرین باعتبار مبدئهما فهو أیضا غیر متحقق،بداهة انه لا تنافی و لا تزاحم بین تحقق ملاک فی الواجب المهم علی تقدیر ترک الواجب الأهم و عصیانه،و تحقق ملاک فی الواجب الأهم علی وجه الإطلاق،بل لا تنافی بین الملاکین فیما إذا کان ثبوته فی المهم أیضا علی وجه الإطلاق مع قطع النّظر عن تأثیرهما فی جعل الحکم فعلا.

و من هنا یظهر انه لا تنافی بین إرادة المهم علی تقدیر عدم امتثال الأهم، و إرادة الأهم علی نحو الإطلاق.

و النکتة فی جمیع ذلک هی:ان التزاحم بین هذه الأمور جمیعاً إنما نشأ من مبدأ واحد و هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بین الضدین فی مقام الامتثال.و من المعلوم ان التنافی إنما هو فیما إذا کان کل منهما مراداً للمولی و مطلوباً له فی عرض

ص:122

الآخر.و اما إذا کانت مطلوبیة أحدهما مقیدة بعدم الإتیان بالآخر فلا تنافی بین طلبیهما فی زمان واحد،و لا بین إرادتیهما،لتمکن المکلف-عندئذ-من الإتیان بالأهم و الإتیان بالمهم علی تقدیر ترک الأهم عقلا و شرعاً.

فالقائل باستحالة الترتب انما قال بها من جهة غفلته عن هذه النکتة و تخیله:

ان فعلیة طلب المهم و فعلیة طلب الأهم فی زمان واحد تستلزمان طلب الجمع بینهما، إذ المفروض ان کل واحد منهما فی هذا الزمان یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج،و هذا معنی طلب الجمع،و لکنه غفل عن ان مجرد فعلیة اقتضائهما لذلک لا یستلزم طلب الجمع،و انما یستلزم ذلک فیما إذا کان اقتضاء کل منهما علی وجه الإطلاق و فی عرض الآخر،و اما إذا کان اقتضاء طلب المهم مقیداً بترک الأهم من دون اقتضائه لترکه فلا یستلزم طلب الجمع بل مقتضاهما التفریق فی مقام الامتثال کما عرفت.

و خلاصة ما ذکرناه فی المقام بعد تحلیل مسألة الترتب تحلیلا علمیاً عمیقاً هو ان المانع من طلب الضدین معاً لیس إلا عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال.و من الواضح ان ذلک المانع انما هو فیما إذا کان طلبهما فی عرض واحد و علی وجه الإطلاق.و اما إذا کان طلب أحدهما مقیداً بترک الآخر من دون تعرضه لحال ترکه أصلا-کما هو المفروض-فلا مانع عندئذ أصلا لفرض ان المکلف قادر علی الإتیان بالأهم،و علی الإتیان بالمهم فی ظرف ترک الأهم،و الجمع بینهما غیر مطلوب علی الفرض،اذن لا مانع من تعلق الطلبین بهما علی هذا النحو و التقدیر،و لا یلزم منه طلب المحال.و الغفلة عن هذه النقطة الأساسیة أوجبت تخیل ان تعلق الأمرین بالضدین فی زمان واحد مستحیل و لو کان علی نحو الترتب.

أو فقل:ان منشأ استحالة طلب الجمع بین الضدین هو ان القدرة الواحدة لا تفی للجمع بینهما فی زمان واحد.و اما إذا کان طلب أحدهما مشروطاً بعدم الإتیان بالآخر فالقدرة الواحدة تفی بهما،ضرورة انه مع إعمال القدرة فی فعل الأهم و صرفها فی امتثاله لا امر بالمهم أصلا لعدم تحقق شرطه،و اما مع عدم إعمالها فیه فلا مانع

ص:123

من إعمالها فی فعل المهم و لا مانع عندئذ من فعلیة امره مع فعلیة الأمر بالأهم و لا یلزم من فعلیة کلا الأمرین فی زمان واحد طلب المحال و غیر المقدور أصلا.

و نظیر ما ذکرناه من الترتب موجود فی الأمور التکوینیة أیضاً،و هو ما إذا کان هناک مقتضیان أحدهما یقتضی تحریک جسم عن مکان،و الآخر یقتضی بیاضه علی تقدیر حصوله فی ذلک المکان،من دون نظر له إلی حال هذا التقدیر و اقتضائه حصوله فیه أصلا،أو کما إذا کان مقتض یقتضی وجود رمانة-مثلا-فی ید أحد و لکنه علی تقدیر وقوعه من یده فی الخارج کان مقتض آخر یقتضی وجودها فی ید شخص آخر،فالمقتضی لأخذه موجود-علی تقدیر سقوطه من ید الأول- دون أن یکون فیه اقتضاء لسقوطه،و نحو ذلک،فکما لا تعقل المزاحمة بین المقتضیین التکوینیین فی هذین المثالین و ما شاکلهما،فکذلک لا تعقل المزاحمة بین المقتضیین التشریعیین فی محل البحث.

و السر فی ذلک لیس إلا ما ذکرناه من النقطة الأساسیة.هذا تمام الکلام فی الدلیل اللمی.

نتائج الجهات المتقدمة:

نتیجة الجهة الأولی هی:ان عصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه فی الآن الأول غیر کاف لفعلیة الأمر بالمهم علی الإطلاق،و إلی آخر أزمنة امتثاله،بل فعلیته مشروطة فی کل آن و زمن بعصیانه فی ذلک الآن و الزمن،فلو کان عصیانه فی الآن الأول کافیا لفعلیة امره مطلقا لزم محذور طلب الجمع بین الضدین فی الآن الثانی و الثالث و هکذا،کما سبق.

و نتیجة الجهة الثانیة هی:ان القول بالترتب لا یتوقف علی القول باستحالة الواجب المعلق و الشرط المتأخر،فان ملاک إمکان الترتب و استحالته غیر ملاک إمکان الواجب المعلق و الشرط المتأخر و استحالتهما،هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان زمان فعلیة الأمر بالأهم و زمان امتثاله و زمان عصیانه واحد،کما ان زمان

ص:124

فعلیته و زمان فعلیة الأمر بالمهم واحد،و لیس الأمر بالأهم ساقطاً فی زمان فعلیة الأمر بالمهم.بان حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم،فان ذلک خارج عن محل الکلام فی المقام،و لا إشکال فی جوازه.و ما هو محل الکلام هو ما إذا کان کلا الأمرین فعلیاً کما تقدم.

و نتیجة الجهة الثالثة هی:ان انحفاظ الأمر بالأهم فی زمان الأمر بالمهم -و هو زمان عصیان الأمر بالأهم-بالإطلاق علی وجهة نظرنا،و من جهة اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدیر علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)و علی کل منهما لا یلزم من انحفاظه فی ذلک الزمان طلب الجمع بین الضدین فان ملاک طلب الجمع انما هو إطلاق الخطابین و کون کل منهما فی عرض الآخر،لا ترتب أحدهما علی عصیان الآخر،فانه یناقض طلب الجمع و ینافیه،کما تقدم بشکل واضح.

و نتیجة الجهة الرابعة هی:ان خطاب المهم-بما انه مشروط بعصیان خطاب الأهم و ترک متعلقه-لا نظر له إلی عصیانه رفعاً و وضعاً،لما عرفت من ان الحکم یستحیل ان یقتضی وجود موضوعه أو عدمه،و خطاب الأهم بما انه محفوظ فی هذا الحال فهو یقتضی هدم عصیانه و رفعه باعتبار اقتضائه إیجاد متعلقه فی الخارج.

و من الواضح ان الجمع بین ما لا اقتضاء فیه و ما فیه الاقتضاء لا یستلزم طلب الجمع بل هو فی طرف النقیض مع طلب الجمع،و لذا لو تمکن المکلف من الإتیان بهما فی الخارج فلا یقعان علی صفة المطلوبیة،بل الواقع علی هذه الصفة خصوص الأهم دون المهم،و المفروض ان المکلف قادر علی الإتیان بالمهم فی ظرف ترک الأهم،فإذا کان قادراً فلا مانع من تعلق التکلیف به علی هذا التقدیر،فان المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة،و حیث لم یکن المطلوب هو الجمع فلا مانع أصلا.

و علی ضوء هذه النتائج تترتب نتیجة حتمیة،و هی إمکان الترتب،و انه لا مناص من الالتزام به،بل نقول ان من انضمام تلک النتائج بعضها مع بعضها الآخر و ملاحظة المجموع بصورة موضوعیة یستنتج ان مسألة إمکان الترتب من

ص:125

الواضحات الأولیة،و انها غیر قابلة للإنکار،بحیث ان تصورها-بعد ملاحظة ما ذکرناه-یلازم تصدیقها کما أفاده شیخنا الأستاذ(قده).

ثم انه-لا یخفی-ان ما ذکرناه من إمکان تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب و عدم لزوم طلب الجمع بینهما فیما إذا کان خطاب المهم مشروطاً بعصیان خطاب الأهم و ترک متعلقه-انما هو من جهة ان هذا التقیید هادم لموضوع طلب الجمع و مناقض له،لا من جهة ان العصیان امر اختیاری و تعلیق طلب الجمع علی امر اختیاری لا مانع منه،بداهة ان طلب الجمع محال مطلقاً و لو کان معلقاً علی امر یمکن رفعه،و عدم إیجاده فی الخارج،فلا فرق فی استحالة طلب إیجاد الضدین معاً أو النقیضین بین ان یکون مطلقاً،و ان یکون معلقاً علی امر اختیاری کأن یقول الآمر إذا صعدت السطح-مثلا-فاجمع بین الضدین أو النقیضین،أو إذا سافرت فاجمع بینهما إلی غیر ذلک،فان استحالة طلب المحال و قبحه-و لو مشروطاً بشرط یکون وجوده و عدمه تحت اختیار المکلف-من الضروریات الأولیة و اما-ما نسب إلی السید العلامة المیرزا الکبیر الشیرازی(قده)من انه اعترف بان الترتب و ان استلزم طلب الجمع،إلا انه لا محذور فیه بعد ما کان عصیان الأهم الّذی هو مأخوذ فی موضوع المهم تحت اختیار المکلف،لتمکنه من الفرار عن هذا المحذور بترک العصیان،و الإتیان بالأهم-فلا یخلو ما فی هذه النسبة،ضرورة ان صدور مثل هذا الکلام عنه(قده)فی غایة البعد،فانه من عمدة مؤسسی الترتب فی الجملة،فکیف یعترف بهذا المحذور؟ و من هنا قال شیخنا الأستاذ(قده)ان هذه النسبة لیست مطابقة للواقع، بل یستحیل صدور ذلک منه(قده)و لعله تعرض لمناسبة ان العصیان امر اختیاری فتوهم المتوهم منه انه أراد به تصحیح الترتب،و الأمر کما أفاده(قده).

هذا تمام کلامنا فی أدلة الترتب.

بقی هنا شیء تعرض له شیخنا الأستاذ(قده)لتوضیح محل البحث فی المقام

ص:126

و لا بأس بعطف الکلام علیه.

فنقول:قد ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان الأمرین المتعلقین بفعلین إذا کان أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً علی قسمین:

الأول-ان لا یکون أحد الخطابین المجتمعین فی الزمان ناظراً إلی رفع موضوع الخطاب الآخر و هدمه.

الثانی-ان یکون أحدهما ناظراً إلی رفع موضوع الآخر.

اما القسم الأول:فالشرط الّذی یترتب علیه الخطاب و الأمر لا یخلو من ان یکون اختیاریاً کالسفر و الحضر و قصد الإقامة و ما شاکل ذلک،و ان یکون غیر اختیاری کزوال الشمس و غروبها و کسوفها و خسوف القمر و ما یشبهها،و علی کلا التقدیرین فعند تحقق الشرط یصیر کلا الخطابین فعلیاً،و حینئذ فان کان کل منهما مشروطاً بعدم الإتیان بمتعلق الآخر،أو کان أحدهما مشروطاً بذلک دون الآخر فلا شبهة فی استحالة وقوع متعلقیهما فی الخارج علی صفة المطلوبیة،و تعلق الطلب بالجمع بینهما،و ذلک علی ضوء ما بیناه من ان اجتماع الأمرین-کذلک- لا یرجع إلی طلب الجمع بل یناقضه.

و اما إذا کانا مطلقین من هذه الناحیة فعندئذ ان لم یکن بین متعلقیهما تضاد فی الوجود الخارجی،و تمکن المکلف من إیقاعهما فی الخارج،و إیجادهما فیه فلا إشکال فی وجوبه.و اما ان کانت بینهما مضادة فی عالم الوجود فیدخلان فی کبری باب التزاحم و تجری علیهما أحکامه من تقیید إطلاق کل واحد منهما بعدم الإتیان بالآخر إذا لم یکن فی البین أهم،و إلا یتعین تقیید إطلاق خطاب المهم بعدم الإتیان بالأهم دون العکس،و لا یلزم فیه محذور طلب الجمع و نحوه کما سبق.

و لا یفرق فی ذلک بین ان یکون الشرط المزبور اختیاریاً أو غیر اختیاری، و ذلک لما عرفت من ان الحکم لا یقتضی وجود شرطه فی الخارج.إذن کونه اختیاریا لا أثر له من هذه الناحیة.

ص:127

و اما القسم الثانی-و هو ما إذا کان أحد الخطابین ناظراً إلی رفع موضوع الخطاب الآخر-فهو علی نحوین:

أحدهما-ما إذا کان أحد الخطابین رافعا لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله إتیانه فی الخارج.

ثانیهما-ما إذا کان رافعا له بصرف وجوده و تحققه فی الخارج.

اما النحو الأول فهو من محل الکلام-هنا-جوازاً و امتناعا،باعتبار أن توجه خطابین کذلک إلی شخص واحد فی زمان واحد هل یستلزم طلب الجمع بین متعلقیهما فی الخارج کما تخیله المنکرون للترتب،أو لا یستلزم ذلک کما هو الصحیح؟ و قد تقدم الکلام فی هذا النحو من الخطابین ضمن عدة من الفروعات الفقهیة بصورة مفصلة،فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما النحو الثانی و هو ما إذا کان الخطاب بصرف وجوده رافعا لموضوع الآخر،فهو خارج عن محل البحث و الکلام،و ذلک لامتناع اجتماع الخطابین -حینئذ-فی زمان واحد،إذا المفروض انه بمجرد تحقق أحد الخطابین یرتفع الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه،فلا یمکن فرض اجتماعهما فی زمان واحد، بداهة ان فعلیة الحکم تتوقف علی فعلیة موضوعه،و من الواضح انها مستحیلة فی فرض وجود الرافع لموضوعه،فیکون المقام نظیر الأمارات القائمة فی موارد الأصول،فانها رافعة لموضوعها،و لا یبقی مجال لجریانها بعد ورودها.و قد عرفت أن محل البحث-هنا-هو ما إذا کان الخطابان مجتمعین فی زمان واحد،و اما إذا لم یکونا مجتمعین فیه فلا یکونان داخلین فی محل البحث و قد ذکر(قده)لذلک فروع کثیرة:

1-مسألة الحج:ببیان ان موضوعها-و هو الاستطاعة-یرتفع بصرف تحقق خطاب آخر و هو الخطاب بأداء الدین-مثلا-فانه بمحض وجوده رافع لموضوع الخطاب بالحج،و معه لا یکون المکلف مستطیعا إذا لم یکن المال الموجود عنده وافیا

ص:128

بأداء الدین و مصارف الحج معا،نعم هو واف بالمصارف وحدها،فلو لم یکن مدیوناً لکان مستطیعاً،و کان الحج واجباً علیه و لکن دینه مانع عن وجوبه، و رافع لموضوعه،و علیه فلو لم یؤد دینه و عصی امره،و حج فلا یکون حجه من حجة الإسلام،و لا یکون مجزئاً لعدم جریان الترتب فی ذلک.

و علی الجملة فهذا خارج عن محل الکلام فی المقام،لعدم إمکان اجتماع الخطاب بأداء الدین و الخطاب بالحج فی زمان واحد،ففی زمان تحقق الخطاب بأداء الدین یرتفع موضوع الخطاب بالحج.و المفروض ان الخطاب بأداء الدین فی زمان عصیانه و ترک متعلقه أیضاً موجود،لما سبق مفصلا من ان التکلیف ثابت فی حال عصیانه أیضاً.و علی هذا فلا یمکن فرض وجود الخطاب بالحج مترتباً علی عصیان الأمر بأداء الدین.هذا بناء علی ما هو المعروف من تفسیر الاستطاعة بالتمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعاً.

و اما-بناء علی تفسیرها بالتمکن من الزاد و الراحلة و أمن الطریق-کما فی الروایة-و هو الصحیح-فالتکلیفان متزاحمان و لا مانع من اجتماعهما علی نحو الترتب،فانه عند عصیان الأمر بأداء الدین متمکن من الزاد و الراحلة،و عندئذ فلا مانع من وجوب الحج علیه،بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب و جوازه 2-ان الخطاب بإخراج الخمس فی بعض الموارد بصرف وجوده و تحققه رافع لموضوع وجوب الزکاة،و مانع عنه،و ذلک کما إذا فرضنا ان شخصاً ملک عشرین شاة فی أول المحرم-مثلا-ثم ملک عشرین شاة أخری فی آخره،فإذا مضی علی الطائفة الأولی حول کامل تعلق الخطاب بإخراج الخمس منها،و هو أربعة من تلک الشیاه.و من المعلوم ان هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن وجوب الزکاة،و رافع لموضوعه و هو بلوغها حد النصاب-أعنی به أربعین شاة-فان هذه الأربعة عندئذ صارت ملکا للإمام علیه السلام و السادة،فلم یبق فی ملک المالک إلا ست و ثلاثون شاة،و هی غیر بالغة حد النصاب الّذی هو موضوع

ص:129

لوجوب إخراج الزکاة.أو إذا فرضنا انه ملک أربعین شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح،فعندئذ لا محالة بمجرد إکمال سنة التجارة،و قبل تمامیة حول الزکاة تعلق الخطاب بإخراج الخمس منها،الموجب لخروجها عن کونها ملکا طلقاً له بمشارکة الإمام علیه السلام و السادة إیاه فی ذلک المال-أعنی به الشیاه-و من الواضح انها بذلک تخرج عن موضوع وجوب الزکاة،إذ لم یبق فی ملکه الطلق بعد خروج ثمان منها إلا اثنتان و ثلاثون شاة،و هی لا تبلغ حد النصاب،ففی هذا المثال -و ما شاکله-لا یمکن القول بالترتب،إذ الخطاب بإخراج الخمس بصرف تحققه و فعلیته مانع عن وجوب الزکاة و رافع لموضوعه لا بامتثاله و إتیانه فی الخارج، لیمکن الالتزام بوجوب الزکاة فی ظرف عصیان الخطاب بالخمس و عدم امتثاله. و علی الجملة ففعلیة الخطاب بإخراج الزکاة إنما هی بفعلیة موضوعه،و هو بلوغ المال النصاب،و هذا المال و ان کان فی نفسه داخلا فی النصاب مع قطع النّظر عن وجوب إخراج الخمس منه،إلا ان وجوب ذلک مخرج له عن کونه ملکا تاماً له بمشارکة الإمام علیه السلام و السادة إیاه فی ذلک المال،فبذلک یخرج عن موضوع وجوب الزکاة.و اما الباقی فی ملکه فلیس یبلغ حد النصاب،هذا بناء علی ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من ان الرافع لموضوع وجوب الزکاة فی مثل هذا المورد صرف تحقق الخطاب بإخراج الخمس و فعلیته.

و اما بناء علی ما حققناه فی محله فالامر لیس کما أفاده(قده)و الوجه فی ذلک هو ان الترتب و ان کان غیر جار بین هذین الخطابین و ما شاکلهما،و لکن لا من ناحیة ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)بل لأجل ما ذکرناه من ان الرافع لموضوع وجوب الزکاة إنما هو تعلق الخمس بالربح،و کون غیر المالک شریکا معه فی خمس هذا المال،و بذلک یخرج عن کونه ملکا طلقاً له بمشارکة غیره إیاه فی ذلک، فعندئذ یخرج عن موضوع وجوب الزکاة لفرض عدم بلوغ الباقی فی ملکه حد النصاب.هذا من جهة.و من جهة أخری ان المفروض-کما حقق فی محله-ان

ص:130

الخمس إنما تعلق بالربح من حین وجوده،و لا یتوقف تعلقه به علی إکمال سنة التجارة،غایة الأمر ان الشارع قد رخص المالک فی التصرف فی الأرباح إلی حین إکمال السنة،و هذا مجرد ترخیص فی التصرف من قبل الشارع فی المال المشترک بینه و بین غیره،فلا ینافی کون خمسها ملکا للغیر.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الجهتین هی ان موضوع وجوب الزکاة یرتفع من حین تعلق الخمس بها،و هو أول زمان تحققها و حصولها فی الخارج،سواء أ تحقق الخطاب بإخراج الخمس فی ذلک الزمان أم لم یتحقق،فانه لا دخل لتحقق الخطاب و فعلیته فی ذلک أبداً-مثلا-فی المثالین المتقدمین بمجرد ان المالک ملک أربعین شاة أثناء سنة التجارة،أو عشرین شاة تعلق بها الخمس الموجب لخروجها عن کونها ملکاً طلقاً له بمشارکة غیره إیاه فیها،فبذلک تخرج عن موضوع وجوب الزکاة، ضرورة انه بعد صیرورة أربع منها فی المثال الأول،و ثمان منها فی المثال الثانی ملکا لغیر المالک لم یبق فی ملکه ما یبلغ حد النصاب،فیرتفع الموضوع من زمان حصول ذلک الربح و هو زمان ملک المالک أربعین أو عشرین شاة،و لا یتوقف ارتفاعه علی وجود الخطاب و تحققه أصلا،بداهة ان الموجب لارتفاعه انما هو صیرورة خمس تلک الأرباح ملکا لغیر المالک،فانه یمنع عن بلوغها حد النصاب،لا وجود الخطاب،إذ الإلزام بالإخراج إنما یتحقق بعد مضی الحول و تمام السنة.نعم یستحب الإخراج من زمان الربح،لا انه واجب.

3-ما إذا تعلق الخطاب بإخراج شیء زکاة،فانه فی بعض الموارد بنفسه و بصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس،و رافع لموضوعه،و ذلک کثیراً ما یتفق فی الغلات الأربع،کما إذا ملک المکلف أثناء سنة التجارة من الغلات مقداراً یبلغ حد النصاب فوجب علیه إخراج زکاته،و هی مقدار عشر هذا المال-مثلا-فیخرج بذلک هذا العشر عن فاضل المئونة الّذی هو موضوع وجوب الخمس.

ص:131

أو فقل:ان تعلق الخطاب بإخراج الزکاة عن ذلک المال یخرجه عن کونه ملکا طلقاً له بمشارکة الفقیر إیاه فی عشر ذلک،و علیه فلا یکون عشره من فاضل مئونته لیتعلق به الخمس.و لا یفرق فی عدم تعلق الخمس به بین ان یخرجه و یعطی للفقیر أم لا،فلا یمکن اجتماع هذین الخطابین فی زمان واحد لیمکن تصحیح وجوب الخمس بالترتب.هذا بناء علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده).

و اما بناء علی وجهة نظرنا فقد ظهر مما تقدم ان الرافع للموضوع فی أمثال هذا المورد لیس الخطاب بصرف وجوده و تحققه،بل الرافع له-هنا-هو نفس تعلق الزکاة بعین هذا المال الموجب لخروجه عن کونه ملکا تاماً له بمشارکة الفقیر إیاه فی ذلک المال،فبذلک یخرج عشره عن فاضل المئونة من جهة انه صار ملکا لغیره.و من الواضح-جداً-انه لا دخل فی ذلک لوجود الخطاب بإخراج الزکاة و عدم وجوده أصلا،و هذا بمکان من الوضوح.

4-ما إذا کان المکلف مدیوناً بدین صرفه فی مئونة سنته فالخطاب- بأدائه بصرف تحققه و فی نفسه-بخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المئونة ان کان دینه مستوعباً لتمام الربح کما إذا کان مائة دینار،و ربحه أیضاً کذلک و ان لم یکن مستوعباً لتمامه،کما إذا کان دینه خمسین دیناراً و ربحه فی تلک السنة مائة دینار،فیخرج عن الربح بمقدار الدین عن فاضل المئونة،فلا یتعلق به الخمس دون الزائد.و علی هذا لو عصی الأمر بأداء الدین و لم یؤد دینه فلا یجب علیه إخراج الخمس عنه بمقدار دینه،هذا بناء علی مسلک شیخنا الأستاذ(قده).

و الصحیح ان الرافع لموضوع وجوب الخمس-هنا-انما هو نفس وجوب الدین،إذ معه لا یتحقق له-فی هذه السنة-ربح لیتعلق به الخمس،لا الخطاب بأدائه،فانه لا دخل له فی ذلک أصلا.و لذا لو فرض انه لم یکن خطاب بأدائه لمانع من الموانع لم یتعلق به الخمس أیضاً لعدم الموضوع له،و هو الفاضل عن مئونة السنة.هذا إذا کان دینه من جهة الصرف فی المئونة.و اما إذا کان دینه

ص:132

من غیر تلک الجهة،کما إذا کان من ناحیة الضمان أو نحوه،فهل هو أیضاً رافع لموضوع وجوب الخمس أم لا،ففیه کلام و إشکال،و تمام الکلام فی باب الخمس إن شاء اللّه تعالی.

و قد تحصل مما ذکرناه ان هذه الفروعات و ما شاکلها جمیعاً خارجة عن محل الکلام فی المسألة،و لا یجری الترتب فی شیء منها،و لکن لا من ناحیة ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من ان عدم جریانه من جهة ان أحد الخطابین رافع لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده و تحققه،فلا یمکن اجتماعهما فی زمان واحد،بل لما ذکرناه من ان الرافع له شیء آخر،و هو المانع عن اجتماعهما فی زمان واحد،و لا دخل لوجود الخطاب و عدمه فی ذلک أبداً.

نعم-ما ذکره(قده)بالإضافة إلی الأمارات و انها رافعة لموضوع الأصول و انه لا یبقی مجال لجریانها بعد ورودها-صحیح،بل لا یختص هذا بالأمارات و الأصول،فیعم جمیع موارد الحکومة و الورود إذ لا یبقی موضوع لدلیل المحکوم و المورود بعد ورود دلیل الحاکم و الوارد.و لکن قیاس هذه الفروعات بتلک الموارد قیاس مع الفارق.

و نتائج أبحاث الترتب-إلی هنا-عدة نقاط:

الأولی ان البحث عن الترتب انما یکون ذا ثمرة إذا لم یمکن تصحیح العبادة المزاحمة لواجب أهم بالأمر،و لا بالملاک،و إلا فلا تترتب علی البحث عنه ثمرة کما عرفت.

الثانیة-ان البحث عن هذه المسألة بحث عقلی لا یرتبط بعالم اللفظ أبداً.

الثالثة-ان ما کان محلا للبحث هو ما إذا کان الواجبان المتزاحمان مضیقین، أحدهما أهم من الآخر.و اما إذا کانا موسعین،أو کان أحدهما موسعاً و الآخر مضیقاً فقد سبق ان هاتین الصورتین خارجتان عن محل البحث و الکلام.نعم ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان الصورة الأخیرة داخلة فی محل الکلام.و لکن قد عرفت ان ما ذکره إنما یتم علی مسلکه(قده)لا مطلقاً،کما تقدم تفصیلا.

ص:133

الرابعة-ان إمکان الترتب کاف لوقوعه فلا یحتاج وقوعه إلی دلیل فالبحث فیه متمحض فی جهة إمکانه.

الخامسة-ان الترتب لا یجری فی اجزاء واجب واحد و شرائطه،فإذا دار الأمر بین القیام فی الرکعة الأولی من الصلاة و القیام فی الرکعة الثانیة-مثلا- فلا یجری الترتب فیه،لعدم کونهما من المتزاحمین لیترتب علیهما أحکامهما،و منها الترتب.نعم ذکر جماعة منهم شیخنا الأستاذ(قده)ان التزاحم یجری بینهما کما یجری بین واجبین نفسیین،و لکن قد عرفت فساد ذلک.

السادسة-انه لا یتوقف ثبوت الأمر بالمهم علی نحو الترتب علی إحراز الملاک فیه،خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث قد أنکر جریانه فیما لم یحرز کونه واجداً للملاک،و قلنا ان الترتب لا یتوقف علی ذلک.و الأصل فیه ما تقدم من انه لا یمکن إحراز الملاک فی شیء مع قطع النّظر عن تعلق الأمر به،من دون فرق فی ذلک بین اعتبار القدرة فی موضوع التکلیف عقلا أو شرعاً.

السابعة-انه لا فرق فی جریان الترتب بین ما إذا کانت القدرة معتبرة فی موضوع التکلیف بالمهم عقلا و ما إذا کانت معتبرة فیه شرعاً کما فی الوضوء خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث منع عن جریان الترتب فی الثانی بدعوی ان نفس التکلیف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء،لا امتثاله،و لکن قد عرفت فساده و ان نفس التکلیف بالأهم لا یکون رافعاً لموضوعه،لفرض ان التصرف فی الماء الموجود عنده مباح و لیس بحرام غایة الأمر یجب صرفه فی واجب أهم کحفظ النّفس المحترمة أو نحوه،و لکن المکلف عصی و لم یصرفه فیه،اذن یکون المکلف واجداً للماء و لا مانع من صرفه فی الوضوء لا عقلا کما هو واضح،و لا شرعاً لأن التصرف فی هذا الماء مباح له علی الفرض،و العصیان انما هو من جهة ترک ذلک الواجب،لا من جهة التصرف فیه،و علیه فعلی القول بإمکان الترتب لا مانع من الالتزام به فی مثل المقام.نعم لو کان التصرف فی الماء فی نفسه حراماً

ص:134

فلا یمکن تصحیح الوضوء بالترتب،لأن نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه، لا امتثالها.

الثامنة-ان ما دل علی إمکان الترتب أمور ثلاثة:الوجدان،الدلیل الإنیّ الدلیل اللمی.

التاسعة-ان الترتب قد وقع فی عدة من الفروعات الفقهیة و لا مناص من الالتزام به فی تلک الفروعات،کما تقدمت جملة منها فلاحظها.

العاشرة-ان الواجب الأهم إذا کان آنیاً غیر قابل للدوام و البقاء،و کان الواجب المهم تدریجیاً قابلا لذلک فلا یتوقف ثبوت الأمر بالمهم علی القول بإمکان الترتب،و لذا قلنا ان هذا الفرض خارج عن محل الکلام،فان ما کان محلا للکلام هو ما إذا لم یمکن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النّظر عن القول بالترتب.

الحادیة عشرة-ان محل الکلام هو ما إذا کان کل من الواجب الأهم و المهم تدریجیاً أو کان کلاهما آنیاً.

الثانیة عشرة-ان شرط فعلیة الأمر بالمهم هو عصیان الأمر بالأهم مستمراً إلی آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم علی نحو الشرط المتأخر،لا صرف وجود عصیانه فی الآن الأول،و ان تبدل بالإطاعة فی الآن الثانی،فان هذا لا یدفع محذور طلب الجمع بین الضدین فی الآن الثانی و الثالث کما تقدم.

الثالثة العشرة-ان زمان المعتبر و المجعول-و هو زمان فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه-دائماً متحد مع زمان الواجب،و هو زمان عصیانه و امتثاله بناء علی القول باستحالة الواجب المعلق و الشرط المتأخر،و اما بناء علی القول بإمکانهما -کما هو الصحیح-فلا مانع من ان یکون زمان المعتبر مقدماً علی زمان الواجب کما سبق.

الرابعة عشرة-انه لا فرق فی القول بإمکان الترتب و استحالته بین القول

ص:135

بإمکان الواجب المعلق و الشرط المتأخر و القول باستحالتهما،فان ملاک الإمکان و الاستحالة فی الترتب شیء و هناک شیء آخر کما عرفت.

الخامسة عشرة-ان الأمر بالأهم ثابت حال عصیانه و امتثاله،کما انه ثابت حال الأمر بالمهم علی ما تقدم.

السادسة عشرة-ان ثبوت الأمر بالأهم فی حالی عصیانه و امتثاله انما هو بالإطلاق علی وجهة نظرنا و من جهة ثبوت المؤثر حال تأثیره علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده).

السابعة عشرة-ان اجتماع الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی زمان واحد لا یستلزم طلب الجمع،بل هو یناقضه و یعانده بملاک تقیید مطلوبیة المهم بترک الأهم،و قد تقدم ان اقتضاء اجتماع الأمرین للجمع بین متعلقیهما فی الخارج یتصور فی صور،و ما نحن فیه لیس بشیء منها.

الثامنة عشرة-ان النقطة التی ینطلق منها إمکان الترتب بل ضرورته هی انه لا تنافی بین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی ذاتهما،مع قطع النّظر عن اقتضائهما للإتیان بمتعلقیهما،فالمنافاة إنما هی بین متعلقیهما من ناحیة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما.و من الواضح ان هذه المنافاة ترتفع بتقیید فعلیة الأمر بالمهم بترک الأهم و عصیان امره،مع عدم اقتضائه لعصیانه و ترکه،لما عرفت من استحالة اقتضاء الحکم لوجود موضوعه فی الخارج،و علی ضوء ذلک فلا منافاة بین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم أصلا لا بالذات،کما عرفت و لا باعتبار اقتضائهما لمتعلقیهما،فان متعلق الأمر بالأهم مطلوب علی الإطلاق و لیس فی عرضه مطلوب آخر،لیزاحمه و علی تقدیر ترکه و عدم الإتیان به،فالمهم-حینئذ-مطلوب،و المفروض انه فی هذا الظرف مقدور للمکلف عقلا و شرعاً،فإذا کان کذلک فلا مانع من تعلق الأمر به،و لیس فیه تکلیف بالمحال و الجمع أبداً،و مجرد ثبوت الأمر بالأهم فی هذا الحال لا ینافیه لا ذاتاً و لا اقتضاء،و لعل المنکرین للترتب

ص:136

لم ینظروا إلی هذه النقطة نظرة عمیقة صحیحة،بل نظروا إلیها نظرة سطحیة، و تخیلوا ان اجتماع الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی زمان واحد غیر معقول.و کیف ما کان فإمکان الترتب علی ضوء بیاننا هذا قد أصبح امراً ضروریاً،فلا مناص من الالتزام به أصلا.

التاسعة عشرة-انه لا تنافی و لا تزاحم بین الملاک القائم بالمهم فی ظرف ترک الأهم و عصیان امره،و الملاک القائم بالأهم علی وجه الإطلاق،کما انه لا تنافی بین إرادة المهم فی هذا الظرف و إرادة الأهم علی الإطلاق کما عرفت.

العشرون-ان الخطاب الناظر إلی موضوع خطاب آخر علی قسمین أحدهما ما کان رافعاً لموضوعه بصرف وجوده و تحققه،و قد مثل شیخنا الأستاذ(قده) لذلک بفروع کثیرة و لکن قد عرفت ان الرافع الموضوع فی تلک الفروعات لیس هو صرف وجود الخطاب بل الرافع له شیء آخر کما عرفت.و ثانیهما ما کان رافعاً له بامتثاله و الإتیان بمتعلقه و قد تقدم ان القسم الأول خارج عن محل الکلام،و لا یمکن فیه فرض الترتب،و القسم الثانی داخل فیه.

أدلة استحالة الترتب و نقدها

الأول-ما أفاده المحقق صاحب الکفایة(قده)و إلیک نصه:

قلت ما هو ملاک استحالة طلب الضدین فی عرض واحد آتٍ فی طلبهما کذلک فانه و ان لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما إلا انه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما،بداهة فعلیة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة و عدم سقوطه بعد بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها مع فعلیة الأمر بغیره أیضاً،لتحقق ما هو شرط فعلیته فرضاً.لا یقال نعم و لکنه بسوء اختیار المکلف حیث یعصی

ص:137

فیما بعد بالاختیار،فلولاه لما کان متوجهاً إلیه إلا الطلب بالأهم،و لا برهان علی علی امتناع الاجتماع إذا کان بسوء الاختیار.فانه یقال استحالة طلب الضدین لیست إلا لأجل استحالة طلب المحال و استحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلی محالیته لا تختص بحال دون حال،و إلا لصح فیما علق علی امر اختیاری فی عرض واحد بلا حاجة فی تصحیحه إلی الترتب،مع انه محال بلا ریب و لا إشکال.

ان قلت فرق بین الاجتماع فی عرض واحد و الاجتماع کذلک،فان الطلب فی کل منهما فی الأول یطارد الآخر،بخلافه فی الثانی،فان الطلب بغیر الأهم لا یطارد طلب الأهم،فانه یکون علی تقدیر عدم الإتیان بالأهم،فلا یکاد یرید غیره علی تقدیر إتیانه و عدم عصیان امره.

قلت لیت شعری کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهم و هل یکون طرده له إلا من جهة فعلیته و مضادة متعلقه له،و عدم إرادة غیر الأهم علی تقدیر الإتیان به لا یوجب عدم طرده،لطلبه مع تحققه علی تقدیر عدم الإتیان به و عصیان امره،فیلزم اجتماعهما علی هذا التقدیر مع ما هما علیه من المطاردة من جهة المضادة بین المتعلقین مع انه یکفی الطرد من طرف الأهم،فانه علی هذا الحال یکون طارداً لطلب الضد -کما کان فی غیر هذا الحال-فلا یکون له معه أصلا بمجال.

أقول:ملخص ما أفاده(قده)هو ان اجتماع الأمر بالمهم و الأمر بالأهم فی زمان واحد کما هو المفروض فی محل الکلام یقتضی الجمع بینهما فی ذلک الزمان، لما عرفت من ان نسبة الحکم إلی متعلقه نسبة المقتضی إلی مقتضاه فی الخارج، و علی هذا فکما ان الأمر بالأهم یقتضی إیجاد متعلقه فی الزمان المزبور،فکذلک الأمر بالمهم یقتضی إیجاده فیه،لفرض کونه فعلیاً فی ذلک الزمان إذ لا معنی لفعلیة الأمر فی زمان إلا اقتضائه إیجاد متعلقه فیه خارجاً و دعوته إلیه فعلا، و علی هذا فلا محالة یلزم من اجتماعهما فی زمان واحد المطاردة بینهما فی ذلک الزمان من جهة مضادة متعلقیهما فی الوجود مع ان الأمر بالمهم لو لم یقتض طرد الأهم

ص:138

فالامر به لا محالة یقتضی طرد الأمر بالمهم،و هذا یکفی فی استحالة طلبه.

و غیر خفی ان صدور هذا الکلام منه(قده)غریب.

و الوجه فی ذلک هو انه لا یعقل ان یکون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم، بداهة ان طرده له یبتنی علی أحد تقدیرین لا ثالث لهما.

أحدهما-ان یکون الأمر بالمهم مطلقاً و فی عرض الأمر بالأهم، فحینئذ لا محالة تقع المطاردة بینهما من ناحیة مضادة متعلقیهما،و عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما.

الثانی-ان یکون الأمر به علی تقدیر تقییده بعصیان الأهم مقتضیاً لعصیانه و ترکه فی الخارج فعندئذ تقع المطاردة و المزاحمة بین الأمرین لا محالة باعتبار ان الأمر بالمهم یقتضی عصیان الأهم و ترک متعلقه،و الأمر بالأهم یقتضی هدم عصیانه و رفعه.

و لکن کلا التقدیرین خلاف مفروض الکلام.

اما الأول فواضح لما عرفت من ان محل الکلام فیما إذا کان الأمر بالمهم مقیداً بحال ترک الأهم و عصیان امره فلا یکون مطلقاً.

و اما الثانی فلما تقدم من ان الحکم یستحیل ان یقتضی وجود موضوعه فی الخارج،و ناظراً إلیه رفعاً و وضعاً.

و علی ضوء هذا فالامر بالمهم بما-انه لا یکون مطلقاً،و لا یکون متعرضاً لحال موضوعه و هو عصیان الأهم،بل هو ثابت علی تقدیر تحقق موضوعه و وجوده-فیستحیل ان یکون طارداً للأمر بالأهم و منافیاً له،فانه لا اقتضاء له بالإضافة إلی حالتی وجوده و عدمه.و من الواضح جداً ان ما لا اقتضاء فیه لا یزاحم ما فیه الاقتضاء.

أو فقل:ان اقتضاء الأمر بالمهم لإتیان متعلقه انما هو علی تقدیر ترک الأهم و عصیان امره،و اقتضائه علی هذا التقدیر لا ینافی اقتضاء الأمر بالأهم

ص:139

أصلا،و لا یکون الإتیان بمتعلقه فی هذا الحال مزاحماً بأی شیء،غایة ما فی الباب ان المکلف من جهة سوء سریرته عصی الأمر بالأهم،و لم یعمل بمقتضاه فلا یکون عصیانه مستنداً إلی مزاحمة الأمر بالمهم،کیف فان الأمر به قد تحقق فی فرض عصیانه و تقدیر وجوده فلا یعقل ان یکون عصیانه مستنداً إلیه،بل هو مستند إلی اختیار المکلف إیاه،و عند ذلک أی اختیار المکلف عصیانه و ترک متعلقه یتحقق الأمر بالمهم.و علیه فلا یمکن ان یکون مثل هذا الأمر طارداً و مزاحما له،فالطرد من جانب الأمر بالمهم غیر معقول،فاذن المطاردة من الجانبین غیر متحققة.

و اما الطرد من جانب الأمر بالأهم فحسب فهو أیضاً غیر متحقق،و الوجه فی ذلک هو ان الأمر بالأهم انما یطارد الأمر بالمهم فیما إذا فرض کونه ناظراً إلی متعلقه و مستدعیاً لهدمه،فحینئذ لا محالة یکون طاردا له باعتبار انه یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج،و ذاک یقتضی هدمه،و بما انه أهم فیطارده،و لکن الفرض انه غیر ناظر إلیه،و انما هو ناظر إلی موضوعه و مقتض لرفعه.

و علی هذا فلا تنافی بینهما أصلا لیکون الأمر بالأهم طارداً للأمر بالمهم، إذ المفروض ان الأمر بالمهم لا یقتضی وجود موضوعه فی الخارج و غیر متعرض لحاله أصلا لا وجوداً و لا عدماً،و معه کیف یکون الأمر بالأهم طارداً له، بداهة ان الطرد لا یتصور إلا فی مورد المزاحمة،و لا مزاحمة بین ما لا اقتضاء فیه بالإضافة إلی شیء أصلا و ما فیه اقتضاء بالإضافة إلیه! و قد تحصل من ذلک ان ما أفاده المحقق صاحب الکفایة(قده)فی المقام لا یرجع إلی معنی معقول.

نعم ما أفاده(قده)من ان استحالة طلب المحال لا تختص بحال دون حال متین جداً کما تعرضنا آنفاً إلا انه أجنبی عن محل الکلام بالکلیة.

الثانی أیضاً ما ذکره المحقق صاحب الکفایة(قده)و إلیک لفظه.

ثم انه لا أظن ان یلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق فی

ص:140

صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین،ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد و لذا کان سیدنا الأستاذ(قده)لا یلتزم به علی ما هو ببالی و کنا نورد به علی الترتب و کان بصدد تصحیحه».

أقول:توضیح ما أفاده(قده)هو ان غرضه من ذلک بیان نفی القول بالترتب بطریق الإن بتقریب انا لو سلمنا انه لا یلزم من فعلیة خطاب المهم و خطاب الأهم فی زمان واحد علی نحو الترتب طلب الجمع بین متعلقیهما فی الخارج، بل قلنا ان ترتب أحد الخطابین علی عصیان الخطاب الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه یناقض طلب الجمع و یعانده،إلا انه لا یمکن الالتزام بما هو لازم للقول بالترتب و هو تعدد العقاب عند ترک المکلف امتثال کلا الواجبین معاً-أعنی الواجب الأهم و المهم-ضرورة ان العقاب علی ما لا یقدر علیه المکلف قبیح بحکم العقل،و بما ان المفروض فی المقام استحالة الجمع بین متعلقیهما خارجاً من جهة مضادتهما فکیف یمکن العقاب علی ترکهما أ لیس هذا من العقاب علی ترک ما هو خارج عن قدرة المکلف و اختیاره؟! و علی هذا فلا مناص من الالتزام بعدم تعدد العقاب و ان تارک الأهم و المهم معاً یستحق عقاباً واحداً-و هو العقاب علی ترک الأهم-دون ترک المهم و هو یلازم إنکار الترتب و عدم تعلق امر مولوی إلزامیّ بالمهم،و ان کان فی الخارج أمر إنشائی فهو إرشاد إلی کونه واجداً للملاک و المحبوبیة فی هذه الحال،ضرورة انه لا معنی للالتزام بوجود الأمر المولوی الإلزامی و عدم ترتب استحقاق العقاب علی مخالفته،لاستحالة تفکیک الأثر عن المؤثر.

أو فقل:ان القائل بالترتب لا یخلو من أحد أمرین:اما ان یلتزم بتعدد العقاب.و اما ان لا یلتزم به.فالأوّل یستلزم العقاب علی امر غیر مقدور و هو محال و الثانی یستلزم إنکار الترتب.فبالنتیجة انه لا یمکن القول بالترتب أصلا،بل لا مناص من الالتزام باستحالته من جهة استحالة ما یترتب علیه.

ص:141

و غیر خفی ما فیه من الخلط بین ان یکون العقاب علی ترک الجمع بین الواجبین -أعنی بهما الواجب الأهم و المهم-و ان یکون العقاب علی الجمع فی الترک بمعنی انه یعاقب علی ترک کل منهما فی حال ترک الآخر،فان المستحیل انما هو العقاب علی الأول،حیث ان الجمع بینهما من جهة تضادهما فی الخارج غیر ممکن و خارج عن قدرة المکلف و اختیاره،فالعقاب علی ترکه لا محالة یکون عقاباً علی امر غیر مقدور و هو محال،إلا ان القائل بالترتب لا یقول باستحقاق العقاب علی ذلک لیقال انه محال،فان القائل به إنما یقول باستحقاق العقاب علی الفرض الثانی -و هو الجمع بین ترکی الأهم و المهم خارجاً-و هو مقدور للمکلف،فلا یکون العقاب علیه عقاباً علی غیر مقدور.

و الوجه فی ذلک هو ان الأمر فی المقام لم یتعلق بالجمع بینهما،لیقال باستحالة العقاب علی ترکه من جهة استحالة طلب الجمع بینهما،بل الأمر تعلق بذات کل واحد منهما مع قطع النّظر عن الآخر،و لا یرتبط أحدهما بالآخر فی مقام الجعل و التعلق،غایة الأمر قد وقعت المزاحمة بینهما فی مقام الامتثال و الفعلیة،و بما ان المکلف لا یقدر علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال قیدنا فعلیة الأمر بالمهم بعصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه.

و نتیجة ذلک هی ان الأهم مطلوب علی وجه الإطلاق و المهم مطلوب فی ظرف ترک الأهم و عصیانه.و قد سبق ان ذلک یناقض طلب الجمع و یعانده، لا انه یستلزمه.

و علی هذا فکل منهما مقدور للمکلف علی نحو الترتب،فانه عند إعمال قدرته فی فعل الأهم و امتثاله،لا امر بالمهم،و المفروض انه فی هذا الحال قادر علی فعل الأهم تکویناً و تشریعاً،و عندئذ لا یکون العقاب علی ترکه و عصیان امره عقاباً علی ما لا یقدر.

و اما مع عدم إعمالها فیه فلا مانع من إعمالها فی فعل المهم،و حینئذ لو ترکه

ص:142

و عصی أمره فلا مانع من العقاب علیه،إذ المفروض انه مقدور فی هذا الحال، و هذا معنی الجمع بین ترکی الواجبین و العصیانین(ترک المهم عند ترک الأهم و عصیانه عند عصیانه)و حیث انه باختیار المکلف فیستحق عقابین.عقاباً علی ترک الواجب الأهم و عقاباً علی ترک الواجب المهم.

و من ذلک یستبین ان الالتزام بجواز الترتب یستلزم الالتزام بجواز تعدد العقاب،و لا یلزم من الالتزام به(الترتب)کون العقاب عند مخالفة الأمرین من العقاب علی امر مستحیل،ضرورة ان معنی إمکان الترتب هو جواز تعلق الأمر بالأهم علی وجه الإطلاق،و بالمهم مقیداً بعصیان الأهم،لفرض انهما علی هذا النحو مقدور للمکلف،فإذا کانا مقدورین فلا محالة یستحق عقابین علی ترکهما فی الخارج و عصیان الأمرین المتعلقین بهما،و لا یکون ذلک من العقاب علی المحال، فان المحال و ما لا یقدر علیه المکلف انما هو الجمع بین الضدین فی الخارج،لا الجمع بین ترکیهما علی نحو الترتب،فانه بمکان من الوضوح،بداهة ان الإنسان قادر علی ترک القیام-مثلا-عند ترکه الجلوس أو بالعکس،و قادر علی ترک إیجاد السواد-مثلا-عند ترکه إیجاد البیاض و هکذا،و ما لا یتمکن منه و لا یقدر علیه انما هو الجمع بین فعلیهما خارجاً،فلا یقدر علی إیجاد القیام عند وجود الجلوس، أو إیجاد السواد عند وجود البیاض،و هکذا.و سنبین إن شاء اللّه تعالی عند الفرق بین باب التزاحم و التعارض ان التزاحم یختص بالضدین الذین لهما ثالث.و اما الضدین الذین لا ثالث لهما فلا یمکن وقوع التزاحم بینهما،بل هما یدخلان فی کبری باب التعارض.

و علیه فمن الواضح جداً ان ترک کل من الضدین لهما ثالث عند ترک الآخر مقدور،فلا مانع من العقاب علیه.

أو فقل:ان استحقاق العقاب علی عصیان الأهم و ترکه مورد تسالم من الکل،و انما الکلام فی استحقاق العقاب علی ترک المهم مضافاً إلی استحقاق العقاب

ص:143

علی ترک الأهم.و من الضروری ان المهم فی ظرف عصیان الأهم مقدور عقلا و شرعاً،و إنما لا یکون مقدوراً فی صورة واحدة و هی صورة الإتیان بالأهم -لا مطلقاً-و علیه فلا یکون العقاب علی ترکه محالا.

و الغفلة عن هذا أوجبت تخیل انه علی تقدیر القول بإمکان الترتب لا یمکن الالتزام بما هو لازمه من استحقاق عقوبتین فی صورة مخالفة الأمرین،لأنه عقاب علی ما لا یقدر علیه المکلف(و هو الجمع بین الضدین)غافلا عن ان القول بإمکان الترتب یرتکز علی أساس یناقض طلب الجمع و یعانده.و علیه فکیف یمکن ان یقال ان القول بإمکانه یستلزم کون العقاب علی ترکه(الجمع)لیقال انه محال، فلا یمکن الالتزام به،بل القول به یستلزم کون العقاب علی عصیان الأهم علی وجه الإطلاق،و علی عصیان المهم فی ظرف عصیان الأهم-لا مطلقاً-و المفروض ان کلا العصیانین علی هذا الشکل مقدور للمکلف،فیستحق عقابین علیهما،و لا یکون ذلک من العقاب علی غیر المقدور.

نعم لو کان القول بالترتب مستلزماً لطلب الجمع لکان العقاب علی مخالفته قبیحاً،إلا انه علی هذا لا یمکن الالتزام بأصل الترتب لتصل النوبة إلی التکلم عن إمکان الالتزام بما هو لازمه و عدم إمکانه به.

فالنتیجة قد أصبحت ان القول بإمکان الترتب یستلزم ضرورة الالتزام بتعدد العقاب فی صورة مخالفة الأمرین،و لا یکون ذلک من العقاب علی غیر المقدور.

فما أفاده(قده)من ان القائل بالترتب لا یمکن ان یلتزم بما هو لازم له-و هو تعدد العقاب-لا یرجع إلی معنی معقول أصلا و منشأه غفلته(قده)عن تصور حقیقة الترتب،و ما هو أساس إمکانه و جوازه،و الا لم یقع فی هذا الاشتباه فان تعدد العقاب فیما نحن فیه نظیر تعدده فی الواجبات الکفائیة،فان صدور واجب واحد من جمیع المکلفین و ان کان مستحیلا،إلا ان ترکه عند ترک الباقین مقدور له فلا مانع من العقاب علیه.

ص:144

بل یمکن ان یقال ان تعدد العقاب فی صورة مخالفة المکلف و ترکه الواجب الأهم و المهم معاً من المرتکزات فی الأذهان-مثلا-إذا فرض وقوع المزاحمة بین صلاة الفریضة فی آخر الوقت و صلاة الآیات بحیث لو اشتغل المکلف بصلاة الآیات لفاتته فریضة الوقت،فعندئذ لو عصی المکلف الأمر بالصلاة و لم یأت بها فلا محالة یدور امره بین ان یأتی بصلاة الآیات و ان یترکها.و من الواضح جداً انه إذا ترکها فی هذا الحال فتشهد المرتکزات العرفیة علی انه یستحق العقوبة علیه أیضاً،فان المانع بنظرهم عن الإتیان بها هو الإتیان بفریضة الوقت.و اما إذا ترک الفریضة فلا یجوز له ان یشتغل بفعل آخر و یترک الآیات.و بذلک نستکشف إمکان الترتب و إلا لم یکن هذا المعنی مرتکزاً فی أذهانهم.

الثالث-ان القول بالترتب بما انه یبتنی علی فعلیة کلا الأمرین فی زمان واحد-أعنی بهما الأمر بالأهم و الأمر بالمهم-فلا محالة یستلزم طلب الجمع و المحال، ضرورة انه لا معنی لکون الأمرین فعلیین فی زمان واحد إلا اقتضائهما إیجاد متعلقیهما فی ذلک الزمان،و هذا معنی طلب الجمع و التکلیف بالمحال.و من الظاهر ان مثل هذا التکلیف لا یمکن جعله.

و الوجه فی ذلک هو ان الغرض الداعی إلی جعل التکلیف و اعتباره علی ذمة المکلف سواء أ کان التکلیف وجوبیاً أو تحریمیاً جعل الداعی له،لیحرک عضلاته نحو الفعل و ینبعث منه.

و من الواضح البین ان جعل الداعی له و إیجاده فی نفسه لتحریک عضلاته إنما یمکن فیما إذا کان الفعل فی نفسه ممکناً،و لا یلزم من فرض وقوعه فی الخارج أولا وقوعه فیه محال،فإذا کان الفعل ممکناً بالإمکان الوقوعی أمکن حصول الانبعاث له أو الانزجار من بعث المولی المتعلق به.أو زجره عنه.و اما إذا کان الفعل ممتنعاً و خارجا عن قدرة المکلف و اختیاره فلا یمکن حصول الانبعاث أو الانزجار له من بعثه أو زجره،فإذا لم یمکن حصوله استحال البعث أو الزجر

ص:145

فان الغرض منه کما عرفت إمکان داعویته،فإذا استحالت استحال جعله،لکون جعله عندئذ لغواً صرفاً فلا یصدر من الحکیم،لاستحالة تکلیف العاجز.

و تترتب علی هذا استحالة فعلیة کلا الأمرین المزبورین فی زمان واحد کما هو مبنی الترتب.و ذلک لأن معنی فعلیتهما فی زمان واحد هو ان کلیهما یدعو فعلا إلی إیجاد متعلقیهما فی الخارج فی ذلک الزمان،و إلا فلا معنی لکونهما فعلیین،و الحال انک قد عرفت استحالة جعل الداعی بجعل التکلیف نحو المحال و ما لا یقدر علیه المکلف،و بما ان الجمع بین متعلقیهما فی الخارج فی زمان واحد محال فلا یمکن ان یکون کلاهما داعیاً فی ذلک الزمان،لاستحالة حصول الداعی للمکلف و انبعاثه عنهما فی زمان واحد،اذن یستحیل جعل کلیهما فی هذا الحال،لما مر من ان استحالة داعویة التکلیف تستلزم استحالة جعله.

فالنتیجة استحالة القول بالترتب و ان المجعول فی الواقع هو الأمر بالأهم دون الأمر بالمهم.

و الجواب عنه یظهر مما تقدم و ملخصه:هو انه لا یلزم من اجتماع الأمرین فی زمان واحد طلب الجمع،لیستحیل داعویة کل منهما لإیجاد متعلقه فی هذا الزمان.

و الوجه فیه هو ان الأمر بالمهم بما انه کان مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه خارجاً فلا نظر له إلی عصیانه رفعاً و وضعاً،لما عرفت من ان الحکم یستحیل ان یقتضی وجود موضوعه أو عدمه،و الأمر بالأهم بما انه کان محفوظاً فی هذا الحال فهو یقتضی هدم عصیانه و رفعه باعتبار اقتضائه إیجاد متعلقه فی الخارج.

و من الواضح ان الجمع بین ما لا اقتضاء فیه و ما فیه الاقتضاء لا یستلزم طلب الجمع بل هو فی طرف النقیض معه.

و من هنا قلنا انه لو تمکن المکلف من الجمع بینهما خارجاً فلا یقعان علی صفة

ص:146

المطلوبیة،بل الواقع علی هذه الصفة خصوص الواجب الأهم دون المهم،و بما ان المفروض قدرة المکلف علی الإتیان بالمهم فی ظرف ترک الأهم فلا مانع من تعلق التکلیف به علی هذا التقدیر و حصول الانبعاث منه،ضرورة ان المانع عن ذلک إنما هو عدم قدرة المکلف علیه،و حیث ان المطلوب لم یکن عند اجتماع الطلبین هو الجمع بین متعلقیهما و حصول الانبعاث منهما معاً فلا مانع منه أبداً.

و قد ذکرنا ان طلب الجمع انما یلزم علی أحد تقادیر لا رابع لها.

الأول ان یکون کلا الخطابین علی وجه الإطلاق.

الثانی ان خطاب المهم علی تقدیر اشتراطه بعصیان خطاب الأهم یکون ناظراً إلی حال عصیانه وضعاً و رفعاً.

الثالث ان الخطاب بالمهم مشروط بإتیان الأهم بان یکونا مطلوبین علی نحو الاجتماع فی آن واحد.

و من المعلوم ان ما نحن فیه لیس من شیء منها.

اما انه لیس من قبیل الأول فواضح،لفرض ان الأمر بالمهم مقید بعصیان الأمر بالأهم و عدم الإتیان بمتعلقه خارجاً.

و اما انه لیس من قبیل الثانی،فلما عرفت غیر مرة من ان الحکم یستحیل ان یقتضی وجود موضوعه فی الخارج و یکون ناظراً إلی حاله وضعاً أو رفعاً.

و اما انه لیس من قبیل الثالث فظاهر،بل هو فی طرف النقیض معه إذ المفروض فی المقام ان الأمر بالمهم مقید بعدم الإتیان بالأهم علی عکس ذلک تماماً.

فالنتیجة علی ضوء ذلک ان مقتضی(بالفتح)مثل هذین الخطابین یستحیل ان یکون هو الجمع بین متعلقیهما،بداهة ان مقتضی(بالفتح)أحدهما رافع لموضوع الآخر و هادم له،اذن لا یلزم من اجتماع الخطابین فی زمان واحد طلب الجمع،لیقال باستحالة ذلک و عدم إمکان الانبعاث عنهما.

نعم هو جمع بین الطلبین،لا طلب للجمع بین الضدین.و بذلک ظهر ان انبعاث

ص:147

المکلف عن کلا الأمرین فی عرض واحد و ان کان لا یمکن،إلا ان انبعاثه عنهما علی نحو الترتب لا مانع منه أصلا،فانه عند انبعاثه عن الأمر بالأهم لا بعث بالإضافة إلی المهم لیزاحمه فی ذلک و یقتضی انبعاث المکلف نحوه،و علی تقدیر عدم انبعاثه عنه باختیاره و إرادته لا مانع من انبعاثه عن الأمر بالمهم،بداهة ان المهم مقدور للمکلف فی هذا الحال عقلا و شرعاً،فإذا کان مقدوراً فلا مانع من تعلق الأمر به الموجب لانبعاث المکلف عنه نحو إیجاده.فهذا الوجه أیضاً لا یرجع إلی معنی محصل. و قد أجاب عنه شیخنا الأستاذ(قده)بما ملخصه:ان الأمر بالأهم و الأمر بالمهم و ان کانا فعلیین حال العصیان معاً إلا أن اختلافهما فی الرتبة أوجب عدم لزوم طلب الجمع من فعلیتهما،لما عرفت من ان الأمر بالأهم فی رتبة یقتضی هدم موضوع الأمر بالمهم و عدمه،و اما هو فلا یقتضی وضع موضوعه،و انما یقتضی إیجاد متعلقه فی الخارج علی تقدیر وجود موضوعه،و حیث انه لم یکن بین الأمرین اتحاد فی الرتبة یستحیل ان تقتضی فعلیتهما طلب الجمع بین متعلقیهما.

و من هنا قال:ان ما أفاده الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(قده)من ان الأمر بالمهم مشروط بالعزم علی عصیان الأمر بالأهم غیر صحیح،فانه علی هذا لا یکون الأمر بالأهم رافعاً لموضوع الأمر بالمهم و هادماً له تشریعاً،فان الأمر بالأهم إنما یقتضی عدم عصیانه،لا عدم العزم علی عصیانه.

فالنتیجة ان ما أفاده(قده)-هنا-امران:

الأول-ان ملاک عدم لزوم طلب الجمع بین الضدین من اجتماع الأمرین فی زمان واحد إنما هو اختلافهما فی الرتبة.

الثانی-ان ما أفاده الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(قده)غیر صحیح.

و لنأخذ بالمناقشة فی کلا الأمرین:

اما الأمر الأول فیرده:أولا-ما ذکرناه مراراً من ان الأحکام الشرعیة

ص:148

ثابتة للموجودات الزمانیة،و لا أثر لاختلافها فی الرتبة و علی هذا فلا أثر لتقدم الأمر بالأهم علی الأمر بالمهم رتبة بعد ما کانا متقارنین زماناً،بل القول بالاستحالة أو الإمکان یبتنی علی ان قضیة اجتماع الأمرین فی زمان هل هی طلب الجمع بین متعلقیهما فی الخارج أم لا،و لا یفرق فی ذلک بین کونهما مختلفین فی الرتبة أم لا، ضرورة ان اختلافهما فی الرتبة لا یوجب اختلافهما فی الزمان فان من الواضح أن المحال إنما هو طلب الجمع بین الضدین فی الخارج،لا فی الرتبة،لما عرفت من ان التضاد و التماثل و التناقض و ما شاکلها جمیعاً من صفات الموجودات الخارجیة فلا تتصف الأشیاء بتلک الصفات مع قطع النّظر عن وجوداتها فی الخارج.

و من هنا قلنا انه لا مضادة و لا مناقضة فی المرتبة أصلا.و من هنا جاز اجتماع الضدین أو النقیضین فی رتبة واحدة،کما جاز ارتفاعهما عنها.اما الأول فلما حققناه من ان النقیضین،و کذا الضدین فی مرتبة واحدة،و هذا معنی اجتماعهما فی المرتبة.و اما الثانی فلان النقیضین قد ارتفعا من الماهیات من حیث هی،فانها بما هی لا موجودة و لا معدومة.

فالنتیجة هی انه لا یمکن القول بان-ملاک عدم لزوم طلب الجمع من فعلیة الأمر بالأهم و الأمر بالمهم معاً-هو اختلافهما فی الرتبة.

فالصحیح فی الجواب هو ما تقدم من ان الملاک الرئیسی لعدم لزوم طلب الجمع بین الضدین من اجتماع الأمرین هو تقیید الأمر بالمهم بعدم الإتیان بالأهم و عصیانه و عدم تعرضه لحاله-أصلا-کما تقدم ذلک بشکل واضح.

و ثانیاً-ما سبق من ان الأمر بالأهم لا یتقدم علی الأمر بالمهم رتبة،فان تقدم شیء علی آخر بالرتبة یحتاج إلی ملاک کامن فی صمیم ذات المتقدم،فلا یتعدی منه إلی ما هو فی مرتبته فضلا عن غیره.و من الواضح انه لا ملاک لتقدم الأمر بالأهم علی الأمر بالمهم.

و دعوی ان الأمر بالأهم مقدم علی عصیانه و عدم امتثاله الّذی أخذ فی

ص:149

موضوع الأمر بالمهم،و المفروض ان الموضوع مقدم علی الحکم رتبة،فلازم ذلک تقدم الأمر بالأهم علی الأمر بالمهم برتبتین-یدفعها ما أشرنا إلیه من ان التقدم أو التأخر بالرتبة یحتاج إلی ملاک راجع إلی ذات الشیء و طبعه،و تقدم الأمر بالأهم علی عصیانه بملاک لا یقتضی تقدمه علی ما هو متأخر عن العصیان رتبة کما لا یقتضی تقدمه علی ما هو فی مرتبته بعد ما کان الجمیع متحدة فی الزمان، و موجودات فی زمان واحد.و من هنا قلنا أن العلة مقدمة علی المعلول دون عدمه، مع انه فی مرتبته.

و اما الأمر الثانی فیظهر فساده مما ذکرناه من ان ملاک استحالة الترتب و إمکانه هو لزوم طلب الجمع بین الضدین من اجتماع الأمرین فی زمان واحد، و عدم لزومه،و لا یفرق فی ذلک بین ان یکون الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم أو بالعزم علیه،فانه کما یقتضی هدم تقدیر عصیانه یقتضی هدم تقدیر العزم علیه أیضاً،فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.و علی الجملة فملاک جواز الترتب علی تقدیر اشتراط الأمر بالمهم بعصیان الأمر بالأهم موجود بعینه فی صورة اشتراطه بالعزم علی عصیانه.

نعم الّذی یرد علیه هو ان العزم لیس بشرط.و الوجه فیه هو ان هذا الاشتراط قد ثبت بحکم العقل.و من الواضح ان العقل لا یحکم إلا بثبوت الأمر بالمهم فی ظرف عصیان الأمر بالأهم خارجاً و عدم الإتیان بمتعلقه.

و ان شئت فقل:ان مقتضی المزاحمة بین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم هو سقوط إطلاق الأمر بالمهم حال العجز و عدم القدرة علی امتثاله،و بقاؤه فی حال القدرة علی امتثاله،لعدم موجب لسقوطه حینئذ،و مقتضی ذلک هو اشتراط الأمر بالمهم بنفس العصیان الخارجی،لا بالعزم علی عصیانه.

الرابع-ان العصیان الّذی هو شرط لفعلیة الأمر بالمهم ان کان شرطاً بوجوده الخارجی علی نحو الشرط المقارن فهو هادم لأساس الترتب،إذا الترتب عند القائل به مبتن علی وجود کلا الأمرین-أعنی بهما الأمر بالأهم و الأمر بالمهم-فی زمان واحد

ص:150

و لکن فی الفرض المزبور یسقط الأمر بالأهم،فان الأمر کما یسقط بالامتثال و الإتیان بمتعلقه خارجاً،کذلک یسقط بالعصیان و عدم الإتیان به فی الخارج.

و علی هذا فلا یمکن فرض اجتماع الأمرین فی زمان واحد،فان فی زمان فعلیة الأمر بالمهم قد سقط الأمر بالأهم من جهة العصیان،و فی زمان ثبوت الأمر بالأهم لا امر بالمهم.لعدم تحقق شرطه.و قد تقدم ان تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الکلام و لا إشکال فی جوازه،فان محل الکلام هو ما إذا کان کلا الأمرین فعلیاً فی زمن واحد،و هذا غیر معقول،مع فرض کون معصیة الأمر بالأهم علة لسقوطه،إذ عندئذ لا ثبوت له حال العصیان لیجتمع مع الأمر بالمهم فی ذلک الحال.

و اما إذا کان العصیان شرطاً علی نحو الشرط المتأخر،أو کان وجوده الانتزاعی-و هو کون المکلف متصفاً بأنه یعصی فیما بعد-شرطاً فی فعلیة الأمر بالمهم فلا محالة یلزم منه طلب الجمع بین الضدین،و ذلک لأن الأمر بالمهم یصیر فعلیاً فی زمان عدم سقوط الأمر بالأهم،إذ المفروض ان العصیان شرط متأخر،أو ان الشرط فی الحقیقة هو عنوان تعقبه بالعصیان المتأخر،و علی کل حال فالامر المتعلق به فعلی،کما ان الأمر بالأهم فعلی،و هو لم یسقط بعد،لأن مسقطه-و هو العصیان علی الفرض-لم یتحقق،فاذن یتوجه إلی المکلف تکلیفان فعلیان فی زمان واحد،و لا محالة یقتضی کل منهما لإیجاد متعلقه فی الخارج فی ذلک الزمان، ضرورة انه لا معنی لفعلیة تکلیف إلا اقتضائه إیجاد متعلقه خارجاً و دعوته إلیه فعلا،و فی المقام بما ان کلا من الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فعلی فی زمن واحد فلا محالة یدعو کل منهما إلی إیجاد متعلقه فی ذاک الزمن.و هذا معنی لزوم طلب الجمع بین الضدین.

و صفوة هذا الوجه هی ان العصیان ان کان شرطاً بوجوده الخارجی علی نحو الشرط المقارن فلا یمکن عندئذ فرض اجتماع الأمر بالمهم و الأمر بالأهم فی زمان

ص:151

واحد،لأن یتحقق العصیان خارجاً و ان صار الأمر بالمهم فعلیاً،إلا انه فی هذا الزمان یسقط الأمر بالأهم،فزمان ثبوت أحدهما هو زمان سقوط الآخر فلا یمکن فرض اجتماعهما فی زمان واحد.

و قد تقدم ان هذا خارج عن محل الکلام فی المسألة و لا إشکال فی جوازه، فان ما کان محلا للکلام هو ما إذا کان الأمران مجتمعین فی زمان واحد.و اما ان کان شرطاً بنحو الشرط المتأخر،أو کان الشرط فی الحقیقة هو عنوانه(العصیان) الانتزاعی المنتزع منه باعتبار وجوده فی زمان متأخر،فحینئذ و ان کان الأمران مجتمعین فی زمان واحد،إلا ان لازم اجتماعهما فیه هو طلب الجمع بین إیجاد متعلقیهما فی الخارج،بداهة انه لا معنی لتعلق التکلیف بشیء إلا اقتضائه إیجاده خارجاً، و بما انهما متضادان علی الفرض فیلزم طلب الجمع بینهما،و هو محال.

فالنتیجة عدم إمکان القول بالترتب:

و الجواب عن هذا الوجه علی ضوء ما بیناه واضح.

و تفصیل ذلک ان-ما ذکر من ان العصیان إذا کان شرطاً متأخراً،أو کان الشرط عنوانا انتزاعیا من العصیان المتأخر فی ظرفه فهو یستلزم طلب الجمع،بین الضدین لفرض اجتماع الأمرین فی زمان واحد-فیرده:

أولا-ان العصیان لیس بوجوده المتأخر،و لا بعنوانه الانتزاعی شرطا بان یکون الأمر بالمهم فعلیاً لمن یعصی فی زمان متأخر،لما سنبین إن شاء اللّه من ان العصیان شرط بوجوده الخارجی.و علیه فما لم یتحقق العصیان فی الخارج لم یصر الأمر بالمهم فعلیاً.

و ثانیاً-قد تقدم ان اجتماع الأمرین فی زمان واحد علی نحو الترتب لا یستلزم طلب الجمع،بل هو فی طرف النقیض مع طلب الجمع،و معاندة رأساً.

و الأصل فی ذلک ما سبق من ان طلب الجمع بین الضدین إنما یلزم علی أحد التقادیر المتقدمة،و قد مضی الکلام فیها بشکل واضح فلا حاجة إلی الإعادة

ص:152

و قلنا ان ما نحن فیه لیس من شیء من تلک التقادیر.

و مما یشهد علی ما ذکرنا انه إذا فرض فعلان فی حد ذاتهما ممکنی الجمع کقراءة القرآن و الدخول فی المسجد-مثلا-فمع ترتب الأمر بأحدهما علی عدم الإتیان بالآخر لا یقعان علی صفة المطلوبیة عند جمع المکلف بینهما خارجاً،بداهة ان مطلوبیة أحدهما إذا کانت مقیدة بعدم الإتیان بالآخر فیستحیل وقوعهما معا فی الخارج علی صفة المطلوبیة.و هذا برهان قطعی علی عدم مطلوبیة الجمع.

و دعوی-ان عدم وقوعهما علی صفة المطلوبیة معا-هنا-انما هو من جهة عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما،فلو تمکن من ذلک فلا محالة یقعان علی صفة المطلوبیة-مدفوعة بان وقوعهما علی هذه الصفة مع فرض بقاء تقیید الأمر بالمهم بعدم الإتیان بالأهم و عصیان امره فی هذا الحال غیر معقول،بل الإتیان بالمهم عندئذ بقصد الأمر تشریع و محرم.و اما-مع فرض ارتفاع التقیید فی هذا الحال-کما هو الصحیح-لأن التقیید من جهة المزاحمة بین التکلیفین و عدم تمکن المکلف من الجمع بین متعلقیهما فی مقام الامتثال،و اما مع فرض عدم المزاحمة و تمکن المکلف من الجمع بینهما فی تلک المرحلة فلا تقیید فی البین،و لا حکم للعقل به،لأنه انما یحکم به فی صورة المزاحمة لا مطلقا-فهو خارج عن محل الکلام، فان محل الکلام هو ما إذا لم یتمکن المکلف من الجمع بینهما،فانه یوجب تقیید الواجب للمهم بعدم الإتیان بالأهم بحکم العقل،و فی هذا الفرض لا یمکن وقوعهما علی صفة المطلوبیة کما سبق.

و اما-ما ذکر من ان العصیان إذا کان شرطا بوجوده الخارجی علی نحو الشرط المقارن فلا یمکن فرض اجتماع الأمرین(الأمر بالأهم و الأمر بالمهم)فی زمان واحد-فهو یبتنی علی نقطة فاسدة و هی توهم ان العصیان مهما تحقق و وجد فی الخارج فهو مسقط للأمر،و لکن الشأن لیس کذلک.

و الوجه فیه هو ان إذا حللنا مسألة سقوط الأمر تحلیلا علمیا نری ان الموجب

ص:153

لسقوطه امران لا ثالث لهما:

الأول-امتثاله و الإتیان بمتعلقه فی الخارج هذا باعتبار ان ذلک موجب لحصول الغرض منه.و قد ذکرنا غیر مرة ان الأمر معلول للغرض الداعی له حدوثا و بقاء،فمع تحقق الغرض فی الخارج لا یعقل بقاء الأمر،و إلا لزم بقاء الأمر بلا غرض و هو-کبقاء المعلول بلا علة-محال.فالنتیجة ان الامتثال و الإتیان بمتعلقه خارجا انما یوجب سقوط الأمر باعتبار حصول الغرض بذلک و انتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه(المأمور به)فی الخارج،لا ان الامتثال فی نفسه یقتضی سقوط الأمر و عدمه،بداهة ان الامتثال معلول للأمر فلا یعقل ان یکون معدما له،لاستحالة ان یکون وجود المعلول خارجا علة لعدم وجود علته و وجود المقتضی(بالفتح)علة لعدم مقتضیة.

و علی الجملة فامتثال الأمر و الإتیان بمتعلقه خارجا بما انه یوجب حصول الغرض یکون مسقطاً له لا محالة،فان أمد اقتضائه لإیجاد متعلقه خارجاً ینتهی بوجوده و تحققه فی الخارج،و بعده لا اقتضاء له أبداً.

الثانی-امتناع الامتثال و عدم تمکن المکلف منه،فانه یوجب سقوط الأمر لا محالة،لقبح توجیه التکلیف نحو العاجز.و لا یفرق فی ذلک بین ان یکون عدم تمکن المکلف من ناحیة ضیق الوقت أو من ناحیة مانع آخر.

فالنتیجة قد أصبحت ان الأمر بما انه تابع للغرض الداعی له حدوثاً و بقاء فمع تحقق هذا الغرض و وجوده لا یعقل بقاء الأمر،و إلا لزم بقاء المعلول بلا علة کما انه مع امتناع حصول هذا الغرض فی الخارج من جهة عدم تمکن المکلف من تحصیله،لعجزه عن الامتثال و الإتیان بالمأمور به لا یعقل بقاء الأمر.و اما إذا لم یکن هذا و لا ذاک فلا یعقل سقوط الأمر،بداهة انه لا یسقط بلا سبب و موجب.

و اما العصیان بما هو عصیان فلا یعقل ان یکون مسقطاً للأمر،و ذلک لما

ص:154

تقدم من ان ثبوت الأمر فی حال العصیان و الامتثال امر ضروری لا مناص من الالتزام به،و إلا فلا معنی للامتثال و العصیان،ضرورة ان الأمر لو سقط فی حال الامتثال أو العصیان فلا امر عندئذ لیمتثله المکلف أو یعصیه.

نعم لو استمر العصیان إلی زمان لا یتمکن المکلف بعده من الامتثال لسقط الأمر لا محالة،و لکن لا من جهة العصیان بما هو،بل من جهة عدم قدرة المکلف علیه و عدم تمکنه منه،کما ان الامتثال إذا استمر إلی آخر جزء من الواجب لسقط الأمر من جهة حصول الغرض به.

و سر ذلک هو ما عرفت من انه لا موجب لسقوط التکلیف إلا أحد الأمرین المزبورین أعنی بهما عجز المکلف عن امتثاله،و حصول الغرض منه.

و اما إذا کان المکلف متمکناً من الامتثال،و لکنه عصی و لم یأت به فی الآن الأول فمن الواضح ان مجرد ترکه فی ذلک الآن و عدم الإتیان به فیه لا یوجب سقوطه مع تمکنه منه فی الآن الثانی.

و علی ضوء هذا یترتب ان التکلیف بالأهم فی محل الکلام لا یسقط بعصیانه فی الآن الأول مع تمکن المکلف من امتثاله فی الآن الثانی.و الوجه فی ذلک هو انه لا موجب لسقوط الأمر بالأهم فی المقام ما عدا عجز المکلف عن امتثاله و الإتیان بمتعلقه،و المفروض ان المکلف غیر عاجز عنه،ضرورة ان فعل الشیء لا یصیر ممتنعاً حال ترکه و کذا ترکه حال فعله،إذ ترجیح أحد طرفی الممکن علی الآخر لا یوجب العجز و سلب القدرة عن الطرف بالبداهة.و علی ذلک فالأهم مقدور للمکلف حال ترکه،کما کان مقدوراً حال فعله،و کذا هو مقدور حال فعل المهم.

و الأصل فی هذا هو ان ترجیح أحد طرفی الممکن علی الآخر أو ترجیح فعل المهم فی المقام علی فعل الأهم باختیار المکلف و إرادته فلا یعقل ان یکون ذلک موجباً لامتناع الطرف الآخر،و إلا لم یکن الشیء من الأول مقدوراً.و هذا خلف

ص:155

و نتیجة ذلک هی ان الأمر بالأهم ثابت حال عصیانه و حال الإتیان بالمهم، غایة الأمر ثبوته فی هذا الحال علی وجهة نظرنا بالإطلاق،حیث قد ذکرنا غیر مرة ان الإهمال فی الواقع غیر معقول،فمتعلق الحکم فی الواقع اما هو ملحوظ علی وجه الإطلاق بالإضافة إلی جمیع الخصوصیات حتی الخصوصیات الثانویة، و اما هو ملحوظ علی وجه التقیید بشیء منها و لا ثالث لهما.و علیه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر،و حیث ان فی المقام التقیید بالوجود و العدم محال، فالإطلاق واجب،و علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)من جهة انحفاظ المؤثر فی ظرف تأثیره و اقتضائه هدم عصیانه.

و علی هذا فالأمر بالأهم لا یسقط فی ظرف عصیانه،فاذن یجتمع الأمران فی زمان واحد-و هو زمان عصیان الأهم-اما الأمر بالمهم فلتحقق شرطه،و اما الأمر بالأهم فلعدم سقوطه بالعصیان.

نعم لو کان الواجب الأهم آنیاً لسقط الأمر به بالعصیان فی الآن الأول، و لکن لا من ناحیة ان العصیان مسقط له،بل من ناحیة عدم تمکن المکلف من امتثاله و الإتیان بمتعلقه خارجاً فی الآن الثانی،لانتفائه بانتفاء موضوعه فی ذلک الآن،و بعده لا یبقی مجال و موضوع للامتثال.و قد تقدم ذلک سابقاً بشکل واضح،و قلنا هناک ان هذا الفرض خارج عن محل الکلام،فان ما کان محلا للکلام-هنا-هو ما لا یمکن إثبات الأمر بالمهم إلا بناء علی القول بالترتب، و مع الإغماض عنه یستحیل إثبات الأمر به،و فی هذا الفرض لا مانع من ذلک، فان المانع منه هو فعلیة الأمر بالأهم،و بعد سقوطه عن الفعلیة لا مانع من فعلیة الأمر بالمهم أصلا،و حیث ان المفروض-هنا-سقوط الأمر بالأهم فی الآن الثانی بسقوط موضوعه(و هو القدرة)فلا محذور فی تعلق الأمر بالمهم فی ذلک الآن أصلا.

نعم إذا کان الواجب المهم أیضاً آنیاً فیدخل فی محل النزاع و لا یمکن إثبات

ص:156

الأمر به عندئذ إلا بناء علی القول بالترتب کما سبق.

و من هذا القبیل ما إذا کان الواجب الأهم مضیقاً علی نحو لو عصاه المکلف فی جزء من وقته لفاته،و لا یتمکن بعده من الإتیان به و امتثاله لسقوطه بسقوط موضوعه،ضرورة انه بعد مضی مقدار من الزمان الّذی لا یتمکن المکلف بعده من الإتیان به یسقط امره،لأجل امتناع تحصیل ملاکه و غرضه، لا لأجل مجرد عدم الفعل فی الآن الأول و عصیانه فیه،و مثال ذلک هو ما إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الصوم-مثلا-و وجوب واجب آخر،فإذا ترک الصوم فی جزء من الزمان فهو لا یتمکن من امتثال امره بعد ذلک فیسقط وجوبه لا محالة.

و لعل المنکر للترتب تخیل أولا:ان محل النزاع خصوص هذا الفرض،و تخیل ثانیاً:ان سقوط الأمر فیه مستند إلی العصیان فی الآن الأول لا إلی شیء آخر، و ثالثاً:ان الأمر غیر ثابت فی حال العصیان.فهاهنا دعاوی ثلاث:

الأولی-ان محل البحث فی مسألة الترتب انما هو فی أمثال هذا الفرض.

الثانیة-ان سقوط الأمر فیه مستند إلی عدم الفعل فی الآن الأول و عصیان الأمر فیه،لا إلی شیء آخر.

الثالثة-ان الأمر ساقط فی حال العصیان.

و لکن جمیع هذه الدعاوی باطلة.

اما الدعوی الأولی فالأمر علی عکسها-أعنی به ان هذا الفرض و ما یشبهه خارج عن محل الکلام فی المقام-و الوجه فی ذلک هو ما عرفت من ان محل الکلام هو ما إذا لم یمکن إثبات الأمر بالمهم إلا بناء علی القول بالترتب،و فی هذا الفرض یمکن إثبات الأمر به مع قطع النّظر عنه،إذ المانع عن تعلق الأمر به هو فعلیة الأمر بالأهم،و بعد سقوطه عن الفعلیة لا مانع من تعلقه به أصلا،و بما ان المفروض هنا سقوطه فی الآن الثانی فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم فیه،لما تقدم من ان صحة تعلق الأمر به بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات الأولیة،

ص:157

و لیس من محل النزاع فی شیء.

و قد تحصل من ذلک ان الواجب الأهم إذ کان موقتاً علی نحو یکون وقته مساویاً لفعله فهو خارج عن محل البحث،لسقوط وجوبه فی الآن الثانی بمجرد ترکه خارجاً و عدم الإتیان به فی الآن الأول. و اما الدعوی الثانیة فلما عرفت من ان العصیان بنفسه لا یمکن ان یکون مسقطاً للأمر.و قد سبق ان المسقط له أحد الأمرین المزبورین لا ثالث لهما هما:1-امتثاله الموجب لحصول الغرض و الملاک الداعی له.2-و عجز المکلف عنه الموجب لامتناع حصوله.و اما مجرد ترک امتثاله فی الآن الأول و عصیانه فیه مع تمکنه منه فی الآن الثانی فلا یوجب سقوطه،ضرورة ان سقوطه عندئذ من دون موجب و علة و هو محال.

و اما الدعوی الثالثة فلما تقدم من ان الأمر ثابت فی حال العصیان،ضرورة انه لو لم یکن ثابتاً فی آن العصیان فلا معنی لمخالفة المکلف و عصیانه إیاه،فانه لا أمر فی هذا الآن لیعصیه.و قد سبق ان ثبوته بالإطلاق علی وجهة نظرنا.

و من جهة اقتضائه هدم عصیانه علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده).

و قد تحصل من مجموع ما ذکرناه هنا عدة أمور:

الأول-ان الواجب الأهم-إذا کان آنیاً أو کان علی نحو یسقط امره بمجرد عدم إتیانه فی الآن الأول و عصیانه فیه بسقوط موضوعه-و هو القدرة-و کان الواجب المهم تدریجیاً-فهو خارج عن محل البحث،لعدم توقف إثبات الأمر بالمهم علی القول بالترتب کما مر.

الثانی-ان العصیان بأی نحو فرض لا یعقل ان یکون مسقطاً للأمر نعم قد یوجب سقوطه من جهة سقوط موضوعه و عدم تمکن المکلف من امتثاله بعده.

الثالث-ان المسقط للأمر بقانون انه تابع للغرض و الملاک الداعی له حدوثاً و بقاء إنما هو أحد الأمرین المتقدمین(حصول الملاک و الغرض فی الخارج بالامتثال،

ص:158

امتناع حصوله و تحققه فیه لعجز المکلف عنه).

الرابع-ان الامتثال لا یقتضی بذاته سقوط الأمر،بل اقتضاؤه ذلک باعتبار حصول غرضه و انتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه فی الخارج.

الخامس-ان الشرط لفعلیة الأمر بالمهم هو عصیان الأمر بالأهم بوجوده الخارجی علی نحو الشرط المقارن بمعنی انه ما لم یتحقق فی الخارج لم یصر الأمر بالمهم فعلیاً.

السادس-ان الأمر بالأهم و الأمر بالمهم و ان اجتمعا علی هذا فی زمان واحد،إلا ان مقتضاهما لیس هو طلب الجمع بین متعلقیهما بل هو طلب التفریق بینهما.کما حققناه بصورة مفصلة.

فالنتیجة علی ضوء هذه الأمور هی بطلان الدلیل المزبور و انه لا مجال له أبداً.

إلی هنا قد تبین بطلان جمیع أدلة استحالة الترتب و انه لا یمکن تصدیق شیء منها.

هذا تمام کلامنا فی بحث الترتب جوازاً و امتناعا إمکاناً و استحالة.

بقی الکلام فی أمور:

الأول-قد ذکرنا فی آخر بحث البراءة و الاشتغال ان حدیث لا تعاد لا یختص بالناسی،بل یعم الجاهل القاصر أیضاً،و لذلک قلنا بعدم وجوب الإعادة أو القضاء عند انکشاف الخلاف،خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث قد استظهر اختصاصه بالناسی فلا یعم الجاهل.و قد ذکرنا هناک ان ما ذکره(قده) فی وجه ذلک غیر تام.و تمام الکلام فی بحث البراءة و الاشتغال إن شاء اللّه تعالی و اما الجاهل المقصر فقد تسالم الأصحاب قدیماً و حدیثاً علی عدم صحة عباداته، و استحقاقه العقاب علی ترک الواقع و مخالفته،و وجوب الإعادة و القضاء علیه عند

ص:159

انکشاف الخلاف و ظهوره،و لکن استثنی من ذلک مسألتان.

الأولی-مسألة الجهر و الخفت.

الثانیة-مسألة القصر و التمام حیث ذهب المشهور إلی صحة الصلاة جهراً فی موضع الإخفات و بالعکس،و صحة الصلاة تماماً فی موضع القصر،و کذلک القصر فی موضع التمام للمقیم عشرة أیام-لا مطلقاً-علی المختار،کل ذلک فی فرض الجهل و لو عن تقصیر.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان المشهور قد التزموا فی تلک الموارد باستحقاق العقاب علی مخالفة الواقع و ترکه فمن صلی جهراً فی موضع الإخفات أو بالعکس،أو صلی تماماً فی موضع القصر استحق العقاب علی ترک الواقع،مع الحکم بصحة ما أتی به.

و من هنا وقع الإشکال فی الجمع بین هاتین الناحیتین و انه کیف یمکن الحکم بصحة المأتی به خارجاً و انه مجزئ عن الواقع،و عدم وجوب الإعادة مع بقاء الوقت و الحکم باستحقاق العقاب.

ثم انه لا یخفی ان المسألتین بحسب الفتاوی و النصوص مما لا إشکال فیهما أصلا.

اما بحسب الفتاوی فقد تسالم الأصحاب علیهما.

و اما بحسب النصوص فقد وردت فیهما نصوص صحیحة قد دلت علی ذلک.

و انما الکلام و الإشکال فی الجمع بین الناحیتین المزبورتین فی مقام الثبوت و الواقع،و قد تفصی عن ذلک بوجهین:

الأول-ما أفاده الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(قده)من الالتزام بالترتب فی المقام.بتقریب ان الواجب علی المکلف ابتداء هو الصلاة جهراً-مثلا-و علی تقدیر ترکه و عصیان امره فالواجب هو الصلاة إخفاتاً أو بالعکس،أو ان الواجب علیه ابتداء هو الصلاة قصراً،و علی تقدیر ترکه فالواجب هو الصلاة تماماً،و بذلک دفع الإشکال المزبور و انه لا منافاة عندئذ بین الحکم بصحة العبادة المأتی بها جهراً

ص:160

أو إخفاتاً و انها مجزئة عن الواقع،و صحة العقاب علی ترک الآخر.

و قد أورد علیه شیخنا العلامة الأنصاری(قده)بقوله(انا لا نعقل الترتب) و اکتفی بذلک و لم یبین وجهه.

و أورد علیه شیخنا الأستاذ(قده)بان قوله هذا مناقض لما ذهب إلیه فی تعارض الخبرین بناء علی السببیة من الالتزام بالترتب هناک.

و إلیک نصّ کلامه:ان الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة و عدم تساقطهما لیس لأجل شمول العموم اللفظی لأحدهما علی البدل من حیث هذا المفهوم المنتزع،لأن ذلک غیر ممکن کما تقدم وجهه فی بیان الشبهة،لکن لما کان امتثال التکلیف بالعمل بکل واحد منهما کسائر التکالیف الشرعیة و العرفیة مشروطاً بالقدرة،و المفروض ان کل واحد منهما مقدور فی حال ترک الآخر و غیر مقدور مع إیجاد الآخر فکل منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه و یتعین فعله،و مع إیجاد الآخر یجوز ترکه و لا یعاقب علیه،فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلة وجوب الامتثال و العمل بکل منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة،و هذا مما یحکم به بداهة العقل،کما فی کل واجبین اجتمعا علی المکلف و لا مانع من تعیین کل منهما علی المکلف بمقتضی دلیله إلا تعین الآخر علیه کذلک.

و السر فی ذلک انا لو حکمنا بسقوط کلیهما مع إمکان أحدهما علی البدل لم یکن وجوب کل واحد منهما ثابتاً بمجرد الإمکان.و لزم کون وجوب کل منهما مشروطاً بعدم وجود الآخر،و هذا خلاف ما فرضنا من عدم تقیید کل منهما فی مقام الامتثال بأزید من الإمکان،سواء کان وجوب کل منهما بأمر أو کان بأمر واحد یشمل الواجبین،و لیس التخییر فی القسم الأول لاستعمال الأمر فی التخییر و الحاصل إذا انه امر الشارع بشیء واحد استقل العقل بوجوب إطاعته فی ذلک الأمر بشرط عدم المانع العقلی و الشرعی،و إذا امر بشیئین و أنفق امتناع إیجادهما فی الخارج استقل بوجوب إطاعته فی أحدهما لا بعینه،لأنها ممکنة فیقبح ترکها،

ص:161

لکن هذا کله علی تقدیر ان یکون العمل بالخبر من باب السببیة بان یکون قیام الخبر علی وجوب شیء واقعاً سبباً شرعیاً لوجوبه ظاهراً علی المکلف،فیصیر المتعارضان من قبیل السببین المتزاحمین،فیلغی أحدهما مع وجود وصف السببیة فیه لاعمال الآخر کما فی کل واجبین متزاحمین».

أقول:ما أورده شیخنا الأستاذ(قده)من المناقضة بین کلام الشیخ(ره) -فی المقام-و ما ذکره فی بحث التعادل و الترجیح متین جداً،فان کلامه-هناک- الّذی نقلناه بألفاظه-هنا-ظاهر بل صریح فی التزامه بالترتب،إذ لا معنی له إلا الالتزام بوجوب أحد الواجبین المتزاحمین عند ترک الآخر بأن یرفع الید عن إطلاق کل واحد منهما عند الإتیان بالآخر،لا عن أصله إذا کانا متساویین،و عن إطلاق واحد منهما إذا کان أحدهما أهم من الآخر.

و من الواضح جداً انه لا فرق فی القول بالترتب بین ان یکون من طرف واحد کما تقدم الکلام فیه مفصلا،و ان یکون من الطرفین کما إذا کان کلاهما متساویین،فانه عند ذلک بما ان المکلف لا یقدر علی الجمع بینهما فی الخارج فلا مانع من ان یکون الأمر بکل منهما مشروطاً بعدم الإتیان بالآخر فهما(الترتب من طرف واحد،و من الطرفین)یشترکان فی ملاک إمکان الترتب و استحالته،فان ملاک الإمکان هو ان اجتماع الأمرین کذلک فی زمان واحد لا یستلزم طلب الجمع و ملاک الاستحالة هو ان اجتماعهما کذلک یستلزم طلبه،و المفروض ان الأمرین مجتمعان فی زمان واحد،لما عرفت من ان الأمر ثابت حالتی وجود متعلقه و عدمه فلا یسقط بمجرد ترکه کما انه لا یسقط بصرف الاشتغال بالآخر.نعم یسقط بعد الإتیان به،لفرض ان وجوب کل منهما مشروط بعدم الإتیان بالآخر فلا محالة لا وجوب بعد الإتیان به،و علی کل حال فهو(قده)قد التزم بالترتب فی تعارض الخبرین بناء علی السببیة غافلا عن کون هذا ترتباً مستحیلا فی نظره.

و من هنا قلنا ان مسألة إمکان الترتب مسألة ارتکازیة وجدانیة و لا مناص

ص:162

من الالتزام بها و لذا قد یلتزم بها المنکر لها بشکل آخر و ببیان ثان غافلا عن کونه ترتباً مع انه هو فی الواقع و بحسب التحلیل.

و اما شیخنا الأستاذ(قده)فقد أورد علی ما أفاده الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(قده)فی المسألة(صحة الجهر فی موضع الإخفات و بالعکس جهلا)من ناحیة أخری،و نحن و ان تعرضنا المسألة فی آخر بحث البراءة و الاشتغال و دفعنا الإشکال عنها من دون حاجة إلی الالتزام بالترتب فیها،إلا ان الکلام هنا یقع فی الوجوه التی ذکرها شیخنا الأستاذ(قده)فی وجه عدم جریان الترتب فیها و انها لیست من صغریات کبری مسألة الترتب.بیانها:

الأول-ان محل الکلام فی جریان الترتب و عدم جریانه انما هو فیما إذا کان التضاد بین متعلقی الحکمین اتفاقیاً.و الوجه فی ذلک هو ان التضاد بین المتعلقین انما یوجب التزاحم بین الحکمین فیما إذا کان من باب الاتفاق کالصلاة و إزالة النجاسة عن المسجد و إنقاذ الغریقین و ما شاکلهما بالإضافة إلی من لا یقدر علی الجمع بینهما فی عالم الوجود،و لذا لا تزاحم و لا تضاد بینهما بالإضافة إلی من یقدر علی الجمع بینهما فیه.و اما إذا کان التضاد بینهما دائمیاً بحیث لا یتمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الوجود أصلا کالقیام و الجلوس و السواد و البیاض و ما شابههما فلا یمکن جعل الحکمین لهما معاً،لأن ذلک لغو صرف فلا یصدر من الحکیم.

نعم یمکن جعلهما علی نحو التخییر إلا انه خارج عن محل الکلام و علیه فلا محالة یدخلان فی باب التعارض،لتنافیهما بحسب مقام الجعل.

و علی هذا الأساس فحیث ان التضاد بین الجهر و الإخفات دائمی فلا محالة کان دلیل وجوب کل منهما معارضاً لدلیل وجوب الآخر،فبذلک یخرجان عن باب التزاحم الّذی هو الموضوع لبحث الترتب.

و یمکن المناقشة فیما أفاده(قده)و ذلک لأن ما ذکره-من ان التضاد بین المتعلقین إذا کان دائمیاً فیدخلان فی باب التعارض-و ان کان متیناً جداً،إلا ان

ص:163

ذلک لا یمنع عن جریان بحث الترتب فیهما إمکاناً و استحالة،فان ملاک إمکانه هو ان تعلق الأمرین بالضدین علی نحو الترتب لا یرجع إلی طلب الجمع بینهما فی الخارج و ملاک استحالته هو ان ذلک یرجع إلی طلب الجمع بینهما فیه.و من الواضح جداً انه لا یفرق فی ذلک بین ان یکون التضاد بینهما اتفاقیاً أو دائمیاً،ضرورة ان مرجع ذلک ان کان إلی طلب الجمع فهو محال علی کلا التقدیرین من دون فرق بینهما أصلا،و ان لم یکن إلی طلب الجمع فهو جائز کذلک،إذ علی هذا کما یجوز تعلق الأمر بالصلاة و الإزالة-مثلا-علی نحو الترتب،کذلک یجوز تعلق الأمر بالقیام و القعود-مثلا-علی هذا النحو.

و علی الجملة فالمحال إنما هو طلب الجمع،فکما یستحیل طلب الجمع بین القیام و القعود خارجاً فکذلک یستحیل طلب الجمع بین الصلاة و الإزالة،و اما طلبهما علی نحو الترتب الّذی هو مناقض لطلب الجمع و معاند له فلا مانع منه أصلا.

فالنتیجة من ذلک هی ان الترتب کما یجری بین الخطابین فی مقام الفعلیة و المزاحمة بتقیید فعلیة خطاب المهم بعصیان خطاب الأهم و ترک متعلقه،کذلک یجری بینهما فی مقام الجعل و المعارضة بتقیید جعل أحد الحکمین المتعارضین بعصیان الحکم الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه علی نحو القضیة الحقیقیة،و فی مسألتنا هذه لا مانع من جعل وجوب الجهر فی موضع الخفت و بالعکس علی نحو الترتب-بان یکون الواجب علی المکلف ابتداء هو الإخفات-مثلا-و علی تقدیر عصیانه و ترکه جهلا یکون الواجب علیه هو الجهر أو بالعکس،و کذا الحال فی موضع القصر و التمام،فان المجعول ابتداء علی المسافر هو وجوب القصر،و علی تقدیر ترکه و عدم الإتیان به جهلا یکون المجعول علیه هو وجوب التمام،و لا مانع من ان یؤخذ فی موضوع أحد الخطابین عصیان الخطاب الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه فی مقام الجعل أصلا.

نعم الترتب فی مقام الجعل فی هاتین المسألتین یمتاز عن الترتب فی مقام الفعلیة و الامتثال فی نقطتین:

ص:164

الأولی-ان المأخوذ فی موضوع الخطابین فیهما عدم الإتیان بالآخر فی حال الجهل-لا مطلقاً-و لذا لو لم یأت المکلف بالصلاة جهراً فی صورة العلم و العمد أو الصلاة قصراً فلم تجب علیه الصلاة إخفاتاً أو الصلاة تماماً بالترتب،فیختص القول بالترتب فیهما بحال الجهل.

الثانیة-ان وقوع الترتب فی مقام الجعل یحتاج إلی دلیل،فلا یکفی إمکانه لوقوعه.و هذا بخلاف الترتب فی مقام التزاحم و الامتثال،فان إمکانه یستغنی عن إقامة الدلیل علی وقوعه فیکون الوقوع علی طبق القاعدة،لما عرفت سابقاً من انه بناء علی إمکان الترتب-کما هو المفروض-فالساقط انما هو إطلاق خطاب المهم دون أصله،لأن سقوط أصله بلا موجب و سبب،إذا الموجب له انما هو وقوع التزاحم بینه و بین خطاب الأهم،و المفروض ان التزاحم یرتفع برفع الید عن إطلاق خطاب المهم.و علیه فلا بد من الاقتصار علی ما یرتفع به التزاحم المزبور.و اما الزائد علیه فیستحیل سقوطه.

و علی هذا یترتب بقاء خطاب المهم فی ظرف عصیان خطاب الأهم و عدم الإتیان بمتعلقه.و هذا معنی ان وقوعه لا یحتاج إلی دلیل،بل نفس ما دل علی وجوب المهم کاف.

و لکن للشیخ الکبیر(قده)ان یدعی ان الدلیل قد دل علی وقوعه فی المسألتین المزبورتین و هو الروایات الصحاح الدالة علی صحة الجهر فی موضع الخفت و بالعکس،و صحة التمام فی موضع القصر.و علیه فیتم ما أفاده(قده)ثبوتاً و إثباتاً،و لا یرد علیه ما أورده شیخنا الأستاذ(قده)فانه لم یدع الترتب فی مقام التزاحم و الفعلیة،لیرد علیه ما أورده،بل هو یدعی الترتب فی مقام الجعل،و قد عرفت انه بمکان من الوضوح،غایة الأمر أن وقوعه یحتاج إلی دلیل،و قد عرفت الدلیل علیه-و هو الروایات المزبورة-فاذن یتم ما أفاده.

الثانی-ما أفاده(قده)من ان مورد بحث الترتب هو ما إذا کان خطاب المهم

ص:165

مترتباً علی عصیان الخطاب بالأهم و ترک متعلقه.و من الواضح ان هذا إنما یعقل فیما إذا لم یکن المهم ضروری الوجود فی الخارج عند عصیان الأهم و عدم الإتیان به و إلا فلا یعقل تعلق الأمر به فی هذا الحال،ضرورة استحالة تعلق الطلب بما هو ضروری الوجود فی الخارج،کما انه یستحیل تعلقه بما هو ممتنع الوجود فیه، و بذلک یظهر ان مورد البحث فی المسألة انما هو فی الضدین الذین لهما ثالث کالصلاة و الإزالة-مثلا-و القیام و القعود و السواد و البیاض و ما شاکلهما،فان وجود أحدهما لا یکون ضروریاً عند عصیان الآخر و ترکه.و اما الضدان اللذان لا ثالث لهما کالحرکة و السکون و ما شابههما فلا یعقل جریان الترتب فیهما،لأن وجود أحدهما عند عصیان الآخر و ترکه ضروری فلا یکون قابلا لأن یتعلق به الخطاب الترتبی،بداهة ان طلبه عندئذ یکون من قبیل طلب الحاصل.

و علی الجملة فإذا کان وجود الشیء ضروریاً علی تقدیر ترک الآخر کوجود الحرکة-مثلا-علی تقدیر ترک السکون أو بالعکس لاستحال تعلق الأمر به علی هذا التقدیر،لأن قبل تحقق ذلک التقدیر یستحیل کون الأمر المتعلق به فعلیاً،لاستحالة فعلیة الحکم بدون فعلیة موضوعه و تحققه،و بعد تحققه یکون طلبه طلباً لإیجاد الموجود و هو محال.فقد تحصل ان طلب أحد الضدین الذین لا ثالث لهما علی تقدیر ترک الآخر طلب لما هو مفروض الوجود فی الخارج،و هو مستحیل،کما انه یستحیل طلب الشیء علی فرض وجوده أو عدمه فیه علی ما سبق.

و بعد ذلک نقول:ان الجهر و الإخفات فی القراءة بما-انهما من الضدین الذین لا ثالث لهما،و کذا القصر و التمام،فان المکلف فی حال القراءة لا یخلو من الجهر أو الإخفات،و کذا فی حال الصلاة لا یخلو من القصر أو التمام،و لا ثالث فی البین-فلا یعقل جریان الترتب فیهما،لفرض ان وجود أحدهما علی تقدیر ترک الآخر ضروری.و علیه فیستحیل تعلق الأمر بأحدهما فی ظرف ترک الآخر،لأنه طلب الحاصل،فلا یمکن ان یقال:ان الإخفات

ص:166

مأمور به علی تقدیر ترک الجهر أو بالعکس،أو التمام مأمور به علی تقدیر ترک القصر.

فالنتیجة من ذلک هی ان هاتین المسألتین خارجتان عن موضوع الترتب رأساً.

و غیر خفی ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من الکبری و هی اختصاص القول بجواز الترتب بما إذا کان للواجبین المتضادین ثالث فی غایة المتانة و الصحة.

و الوجه فیه ما عرفت فی ضمن کلامه من ان وجود أحدهما إذا کان ضروریاً عند ترک الآخر فلا یعقل تعلق الأمر به فی هذا الحال،إلا ان تلک الکبری لا تنطبق علی المسألتین المزبورتین و انهما لیستا من صغریاتها و مصادیقها،و ذلک لأن جعل محل الکلام فی المسألتین من الضدین الذین لا ثالث لهما غیر مطابق للواقع،و مبنی علی تخیل ان المأمور به هو نفس الجهر و الإخفات فی هذه المسألة،و القصر و التمام فی تلک المسألة.و علیه فالمکلف فی حال القراءة-لا محالة-لا یخلو من الجهر أو الإخفات،کما انه فی حال الصلاة لا یخلو من القصر أو التمام.و لکنه غفلة عن الواقع،و ذلک لأن المأمور به فی المسألة الأولی انما هو القراءة الجهریة أو الإخفاتیة،و فی المسألة الثانیة انما هو الصلاة قصراً أو الصلاة تماماً.و من الواضح جداً انهما من الضدین الذین لهما ثالث،ضرورة ان القراءة الجهریة لیست ضروریة الوجود عند ترک القراءة الإخفاتیة أو بالعکس،کما ان الصلاة تماماً لیست ضروریة الوجود عند ترک الصلاة قصراً،إذ المکلف عند ترک القراءة جهراً یمکن ان یأتی بها إخفاتاً و یمکن ان لا یأتی بها أصلا،کما انه عند ترک الصلاة قصراً یمکن ان یأتی بالصلاة تماماً و یمکن ان لا یأتی بها أبداً.و علی هذا فلا مانع من تعلق الأمر بهما علی نحو الترتب بأن یکون الأمر بإحداهما مشروطاً بعصیان الأمر بالأخری و عدم الإتیان بمتعلقه.

نعم لا واسطة بین الجهر و الإخفات فی ظرف وجود القراءة،کما انه لا واسطة بین القصر و التمام فی فرض وجود الصلاة،فان الصلاة إذا تحققت فلا محالة

ص:167

لا تخلو من کونها قصراً أو تماماً و لا ثالث لهما،کما ان القراءة إذا تحققت فلا تخلو من کونها جهریة أو إخفاتیة.و لکن هذا لیس من محل الکلام فی شیء ضرورة ان المأمور به-کما عرفت-لیس هو الجهر أو الإخفات بما هو،و القصر أو التمام کذلک،بل المأمور به هو القراءة الجهریة و القراءة الإخفاتیة،و الصلاة قصراً و الصلاة تماماً.و قد عرفت ان بینهما واسطة فلا یکون وجود إحداهما ضروریاً عند ترک الأخری.بل یمکن ان یقال ان ما ذکره(قده)لو تم فانما یتم بالإضافة إلی مسألة الجهر و الخفت.و اما بالنسبة إلی الإتمام و التقصیر فالواسطة موجودة،فان معنی التقصیر هو الإتیان بالتسلیمة فی الرکعة الثانیة،و معنی الإتمام هو التسلیم فی الرکعة الرابعة،و یمکن المکلف ترک کلا الأمرین کما هو واضح. و قد تحصل من ذلک ان المسألتین داخلتان فی موضوع بحث الترتب.فما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من انهما من الضدین الذین لیس لهما ثالث مبنی علی غفلته عما ذکرناه،و تخیل ان المأمور به هو نفس الجهر و الإخفات.

الثالث-ما ذکره(قده)من ان الخطاب المترتب علی عصیان خطاب آخر انما یکون فعلیاً عند تحقق امرین:

الأول-تنجز الخطاب المترتب علیه من ناحیة وصوله إلی المکلف صغری و کبری.و قد ذکرنا فی محله ان التکلیف ما لم یصل إلی المکلف بحسب الصغری و الکبری لا یکون محرکا له و موجباً لاستحقاق العقاب علی مخالفته.

الثانی-عصیانه الّذی هو الموضوع للخطاب المترتب.و قد ذکرنا غیر مرة ان فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه،و یستحیل ان یکون الحکم فعلیاً بدون فعلیة موضوعه و تحققه فی الخارج،و حیث ان المفروض فیما نحن فیه توقف صحة الصلاة مع القراءة الجهریة-مثلا-علی الجهل بوجوب الإخفات فلا یمکن تحقق العصیان للتکلیف بالإخفات و وجوبه،لیتحقق موضوع وجوب الجهر،لأن التکلیف الواقعی

ص:168

لا یتنجز مع الجهل به،و بدون التنجز لا یتحقق العصیان الّذی أخذ فی موضوع وجوب الجهر.

و علی هذا فلا یتحقق شیء من الأمرین المزبورین،و بدون ذلک یستحیل فعلیة الخطاب المترتب،فإذا استحالت فعلیته استحال جعله أیضاً،لما ذکرناه من ان الغرض من جعل التکلیف-سواء أ کان وجوبیاً أم تحریمیاً-انما هو إیجاد الداعی للمکلف نحو الفعل أو الترک.و من الواضح انه انما یکون داعیاً فیما إذا أمکن إحرازه صغری و کبری و اما إذا لم یمکن إحرازه کذلک فیستحیل أن یکون داعیاً.

و من هنا قد ذکرنا فی بحث البراءة ان التکلیف إذا لم یصل إلی المکلف صغری فلا یکون محرکا له بمجرد وصوله کبری،کما إذا علم بحرمة شرب الخمر-مثلا-فی الشریعة المقدسة،و لکن لم یعلم ان هذا المائع المعین خمر فلا یکون مثل هذا العلم داعیاً إلی ترک شرب هذا المائع،و کذا الحال فیما إذا کان التکلیف و أصلا صغری، و لکنه لم یصل کبری،کما إذا علم ان هذا المائع المعین خمر،و لکن لم یعلم حرمة شربه فلا یکون مجرد العلم بکونه خمراً مؤثراً فی ترکه.

و من ذلک قلنا انه لا فرق فی جریان البراءة بین الشبهات الحکمیة و الموضوعیة فکما انها تجری فی الأولی،فکذلک تجری فی الثانیة،لأن ملاک الجریان فیهما واحد-و هو عدم العلم بالتکلیف الفعلی-غایة الأمر ان جریانها فی الأولی مشروط بالفحص فلا تجری قبله،دون الثانیة،و فی المقام بما انه لا یمکن إحراز موضوع الخطاب المترتب-و هو عصیان الخطاب المترتب علیه-فلا یمکن جعله،لأنه لغو فلا یصدر من الحکیم.

ثم أورد علی نفسه بان المفروض فی محل الکلام هو ان الجهل بالخطاب المترتب علیه ناشئ عن التقصیر فلا یکون مانعاً عن تنجز الخطاب المزبور، و حصول عصیانه الّذی أخذ فی موضوع الخطاب المترتب،فان المانع عن ذلک انما هو الجهل عن قصور.

ص:169

و أجاب عنه بان الخطاب الواقعی لا یکون منجزاً و قابلا للدعوة فی ظرف الجهل من دون فرق فیه بین کون الجهل عن قصور أو عن تقصیر،و اما استحقاق العقاب فانما هو علی مخالفة الواقع فی ظرف وجوب الاحتیاط أو التعلم.و الوجه فیه ما ذکرناه فی محله من ان وجوب الاحتیاط أو التعلم إنما هو من باب تتمیم الجعل الأول فالعقاب علی مخالفة الواقع هو بعینه العقاب علی مخالفة إیجاب الاحتیاط أو التعلم و بالعکس.و علی هذا یترتب ان استحقاق العقاب علی تقدیر مخالفة الحکم الواقعی فی موارد وجوب الاحتیاط أو التعلم لا یصحح إحراز العصیان،فان إحرازه یتوقف علی وصول الحکم الواقعی بنفسه بالوجدان أو بطریق معتبر من أمارة أو أصل محرز.و من الواضح انه ما لم یحرز العصیان لا وجداناً و لا تعبداً لا یکون الحکم المترتب علیه محرزاً أیضاً.

و بتعبیر آخر:ان تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب یبتنی علی أخذ عصیان الأمر المترتب علیه فی موضوع الأمر المترتب،و هذا فی محل الکلام غیر معقول فلا یمکن أخذ عصیان الأمر بالإخفات-مثلا-فی موضوع الأمر بالجهر.

و الوجه فی ذلک هو ان المکلف بالقراءة الإخفاتیة لا یخلو من ان یکون عالماً بوجوب الإخفات علیه،أو یکون جاهلا به و لا ثالث لهما،اما الفرض الأول فهو خارج عن محل الکلام،إذا المفروض فیه توقف صحة الجهر علی الجهل بوجوب الإخفات،فلا یقع صحیحاً فی صورة العلم بوجوبه بالضرورة.و اما علی الفرض الثانی فعصیان وجوب الإخفات و ان کان متحققاً فی الواقع،إلا انه یستحیل جعله موضوعاً لوجوب الجهر فی ظرف الجهل،لاستحالة جعل حکم علی موضوع لا یمکن إحرازه أصلا،فان المکلف إذا علم بعصیانه وجوب الإخفات ینقلب الموضوع فیصیر الواجب علیه عندئذ هو الجهر دون الإخفات،و إذا کان جاهلا به فلا یصل.و علیه فکیف یمکن أخذه فی موضوع وجوب الجهر.

و ان شئت فقل:ان فعلیة الخطاب المترتب تتوقف علی توفیر شروط:

ص:170

الأول-ان یکون الخطاب المترتب علیه فعلیاً و منجزاً.

الثانی-کون المکلف عاصیاً له و غیر آت به فی الخارج.

الثالث-کونه عالماً بعصیانه،فعند توفر هذه الشروط الثلاثة یمکن القول بالترتب و بفعلیة الخطاب المترتب،و إلا فلا یمکن القول به أبداً،فالموارد التی تجری فیها أصالة البراءة عن التکلیف المجهول کما فی الشبهات البدویة تنتفی فیها الشروط الثلاثة معاً ضرورة انه مع جریان البراءة لا یتنجز التکلیف الواقعی و مع عدم تنجزه فلا عصیان فضلا عن العلم به.و علیه فلا یمکن القول بالخطاب الترتبی فی تلک الموارد،کما انه-فی الموارد التی لا تجری فیها أصالة البراءة من جهة وصول التکلیف الواقعی بطریقه و ذلک کموارد الشبهات قبل الفحص،و الموارد التی اهتم الشارع بها یمتنع جعل خطاب مترتب علی عصیان التکلیف الواقعی فی تلک الموارد فان التکلیف الواقعی فیها و ان کان فعلیاً و منجزاً إلا أن مجرد ذلک لا یجدی فی صحة الخطاب بنحو الترتب،لانتفاء الشرطین الأخیرین فیها،أعنی بهما تحقق العصیان،و العلم به.

و الوجه فیه ما عرفت من ان العصیان فی تلک الموارد حقیقة انما هو بالنسبة إلی الخطاب الطریقی(و هو وجوب الاحتیاط أو التعلم)الواصل عند المصادفة للواقع دون الخطاب الواقعی المجهول.و کما ان فی موارد العلم الإجمالی التی کان التکلیف فیها معلوماً إجمالا و واصلا به،و فعلیته و عصیانه کانا متحققین واقعاً علی تقدیر تحقق المخالفة و مصادفة الاحتمال للواقع فمع ذلک لا یمکن الالتزام بالترتب فیها،و جعل خطاب مترتب علی عصیان التکلیف الواقعی،و ذلک لأن الشرط الأخیر الّذی اعتبر فی صحة الخطاب الترتبی-أعنی به العلم بتحقق العصیان الموجب لوصول الخطاب المترتب و تنجزه علی المکلف-منتف فی هذا الفرض.و الحاصل ان المکلف ان لم یکن محرزاً للعصیان المترتب علیه خطاب آخر لم یتنجز علیه ذلک الخطاب،لعدم إحراز موضوعه-و هو العصیان-و ان کان محرزاً له فجعل

ص:171

الخطاب المترتب فی مورده و ان کان صحیحاً و لا مانع منه أصلا الا انه خلاف مفروض الکلام فی المقام،فان مفروض الکلام هو جعل خطاب آخر مترتباً علی العصیان الواقعی للخطاب الأول فی ظرف جهل المکلف به-لا مطلقاً-و من الواضح ان کل خطاب یستحیل وصوله إلی المکلف صغری أو کبری یستحیل جعله من المولی الحکیم.

و علی ذلک یتفرع استحالة أخذ النسیان فی موضوع خطاب،فان المکلف ان التفت إلی نسیانه انقلب الموضوع و خرج عن عنوان الناسی،و ان لم یلتفت إلیه لم یحرز التکلیف المترتب علیه فلا یمکن جعل مثل هذا التکلیف الّذی لا یعقل وصوله إلی المکلف أبداً.هذا ملخص ما أفاده(قده)فی المقام مع شیء من التوضیح.

أقول:ما ذکره(قده)ینحل إلی عدة نقاط:

الأولی-ان فعلیة الخطاب المترتب علی عصیان الخطاب الآخر ترتکز علی رکائز ثلاث:1-فعلیة ذلک الخطاب و تنجزه.2-عصیانه.3-العلم بعصیانه، و الا فتستحیل فعلیة الخطاب المترتب علی ذلک.

و علی ضوء تلک النقطة تترتب أمور:

الأول-عدم إمکان جریان الترتب فی محل الکلام و فی مسألة القصر و التمام لعدم توفر الرکیزة الثانیة و الثالثة فیهما-و هما تحقق العصیان فی الواقع و العلم به- و العصیان و ان کان متحققاً فی کلتا المسألتین،الا انه حقیقة انما هو بالإضافة إلی الخطاب الطریقی الواصل عند المصادفة مع الواقع-و هو وجوب التعلم-لا علی مخالفة الخطاب الواقعی المجهول.

الثانی-عدم إمکان جریانه فی الشبهات البدویة التی تجری فیها أصالة البراءة عن التکلیف المجهول،لعدم توفر شیء من الرکائز المزبورة فی تلک الشبهات کما هو واضح.

الثالث-انه لا یمکن جعل خطاب مترتب علی عصیان خطاب آخر فی

ص:172

موارد الشبهات قبل الفحص،أو الموارد المهمة التی یجب الاحتیاط فیها،لانتفاء الرکیزة الثانیة و الثالثة فیهما-أعنی بهما تحقق العصیان،و العلم به-و ذلک لما عرفت من ان العصیان حقیقة انما هو بالنسبة إلی الخطاب الطریقی الواصل عند مطابقته للواقع،دون الخطاب الواقعی المجهول.

الرابع-عدم إمکان جریانه فی موارد العلم الإجمالی،لعدم توفر الرکیزة الثالثة فی تلک الموارد،و ان کانت الرکیزة الأولی و الثانیة متوفرتین فیها،فان التکلیف المعلوم بالإجمال و أصل إلی المکلف بالعلم الإجمالی،و عصیانه متحقق علی تقدیر تحقق المصادفة للواقع،و ذلک لأن العلم بتحقق العصیان الموجب لوصول التکلیف المترتب،و تنجزه علی المکلف منتف فی هذا الفرض.

الثانیة-ان العقاب فیما نحن فیه و فی الشبهات قبل الفحص و فی الموارد المهمة انما یکون علی مخالفة الوجوب الطریقی کوجوب التعلم أو الاحتیاط المستلزمة لمخالفة الواقع.و من هنا قلنا ان العصیان حقیقة انما هو بالنسبة إلی الخطاب الطریقی الواصل عند المصادفة مع الواقع،دون الخطاب الواقعی المجهول.

الثالثة-انه لا یمکن أخذ النسیان بشیء فی موضوع حکم،لاستحالة کونه و أصلا إلی المکلف،و ذلک لأن المکلف ان التفت إلی نسیانه خرج عن موضوع الناسی و صار ذاکراً،و ان لم یلتفت إلیه لم یحرز التکلیف المترتب علیه فلا یمکن جعل مثل هذا الحکم الّذی لا یمکن وصوله إلی المکلف صغری و کبری أبداً.

و لنأخذ بدراسة هذه النقاط:

اما النقطة الأولی فبناء علی ما أفاده(قده)من ان المأخوذ فی موضوع الخطاب المترتب هو عصیان الخطاب المترتب علیه فهی فی غایة الصحة و المتانة، ضرورة انه علی أساس تلک النقطة لا یمکن القول بالترتب فی شیء من الموارد المزبورة-کما عرفت-اما فیما نحن فیه و ما شاکله فلانتفاء الرکیزة الثالثة-و هی إحراز عصیان الخطاب المترتب علیه-لوضوح ان الأمر بالقراءة الجهریة إذا کان

ص:173

مشروطاً بعصیان الأمر بالقراءة الإخفاتیة و بالعکس،و مع ذلک کانت صحة کل واحدة منهما مشروطة بحال الجهل بوجوب الأخری لم یمکن إحراز ذلک العصیان بما هو مأخوذ فی الموضوع و إلا لانقلب الموضوع.و اما فی الموارد الثلاثة الأخیرة فائضاً الأمر کذلک من جهة انتفاء تلک الرکیزة فیها بعینها.

نعم ما أفاده(قده)من انتفاء الرکیزة الثانیة فی ما عدا المورد الأخیر بدعوی ان استحقاق العقاب علی عصیان الخطاب الطریقی الواصل عند المصادفة للواقع،لا علی التکلیف الواقعی المجهول لا یمکن المساعدة علیه،لما سنبین فی النقطة الآتیة ان شاء اللّه تعالی.و لکن الالتزام بتلک النقطة و هی لزوم تقیید فعلیة الخطاب المترتب بعنوان عصیان الخطاب المترتب علیه بلا ملزم و سبب،بل الأمر علی خلاف ذلک.فهاهنا دعویان:

الأولی-انه لا ملزم للتقیید بخصوص العصیان.

الثانیة-انه لا بد من الالتزام بالتقیید بغیره.

اما الدعوی الأولی فلان صحة القول بجواز الترتب لا تتوقف علی ذلک أصلا فان الترتب کما یمکن تصحیحه بتقیید الأمر بالمهم بعصیان الأمر بالأهم،کذلک یمکن تقییده بعدم الإتیان بمتعلقه.فلا فرق بینهما من هذه الجهة أصلا،اذن الالتزام بکون الشرط هو خصوص الأول دون الثانی بلا موجب و سبب.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان صحة الترتب(أی تعلق الأمر بالمهم علی نحو الترتب) لم ترد فی آیة أو روایة،لیقال ان الموضوع المأخوذ فیها هو عصیان الأمر بالأهم، لا ترک متعلقه فی الخارج.

و علی هذا فلا مانع من ان یکون الأمر بالقراءة الإخفاتیة-مثلا-مترتباً علی ترک القراءة الجهریة و بالعکس،و الأمر بالصلاة تماماً مترتباً علی ترک الصلاة قصراً،فان الترک قابل للإحراز من دون لزوم محذور انقلاب الموضوع.

ص:174

فالنتیجة انه لا مانع من الالتزام بالترتب فی هاتین المسألتین،فان المانع منه لیس إلا توهم ان الشرط خصوص العصیان و لکن قد عرفت بطلانه،و ان إمکان الترتب لا یتوقف علی ذلک،فان مناط إمکانه هو عدم لزوم طلب الجمع بین الضدین من اجتماع الأمرین فی زمان واحد.و من الواضح انه لا یفرق فی ذلک بین ان یکون الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم أو بترک متعلقه فی الخارج.

و اما الدعوی الثانیة فلان الملاک الرئیسی لإمکان الترتب و جوازه هو ان الواجب المهم فی ظرف عدم الإتیان بالواجب الأهم و ترکه فی الخارج مقدور للمکلف عقلا و شرعاً،فإذا کان مقدوراً فی هذا الحال فلا یکون تعلق الأمر به علی هذا التقدیر قبیحاً،فان القبیح انما هو التکلیف بالمحال و بغیر المقدور،و هذا لیس من التکلیف بغیر المقدور.

و نتیجة ذلک هی ان شرط تعلق الأمر بالمهم هو عدم الإتیان بالأهم و ترکه خارجاً،لا عصیانه،ضرورة ان إمکان الترتب ینبثق من هذا الاشتراط سواء أ کان ترک الأهم معصیة أم لم یکن،و سواء أعلم المکلف بانطباق عنوان العصیان علیه أم لم یعلم فان کل ذلک لا دخل له فی إمکان الأمر بالمهم مع فعلیة الأمر بالأهم أصلا،و لذا لو فرضنا فی مورد لم یکن ترک الأهم معصیة لعدم کون الأمر وجوبیاً لم یکن مانع من الالتزام بالترتب فیه.

و من هنا قلنا بجریان الترتب فی الأوامر الاستحبابیة و عدم اختصاصه بالأوامر الإلزامیة.

و علی الجملة فتعلق الأمر بالمهم علی الإطلاق فی مقابل الأمر بالأهم قبیح، لاستلزام ذلک طلب الجمع.و کذا تعلقه به فی حال الإتیان بالأهم قبیح،لعین المحذور المزبور.و اما تعلقه به فی حال عدم الإتیان به و ترک امتثاله فی الخارج فلا قبح فیه،و لازم ذلک هو کون الشرط لتعلق الأمر بالمهم ترک الأهم واقعاً و عدم الإتیان به خارجاً کان ترکه معصیة أم لم یکن،کان المکلف محرزاً لانطباق

ص:175

عنوان المعصیة علیه أم لم یحرز.

و اما العصیان بما هو مع قطع النّظر عن ترکه و عدم الإتیان به واقعاً فلا یصلح ان یکون شرطاً له و مصححاً لتعلقه به.و اما مع انضمامه به فهو کالحجر فی جنب الإنسان،فان المصحح له واقعاً إنما هو ترکه خارجاً،بداهة انه أساس إمکان الترتب و نقطة دائرة إمکانه،لما عرفت من استحالة تعلق الأمر به فی غیر تلک الحال.

و اما ما تکرر فی کلماتنا من أن فعلیة الأمر بالمهم مشروطة بعصیان الأمر بالأهم فمن جهة انه عنوان یمکن الإشارة به إلی ما هو شرط فی الواقع-و هو ترک الأهم-غالباً،لا من ناحیة انه شرط واقعاً و له موضوعیة فی المقام،إذن فما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)هنا لا یرجع بالتحلیل العلمی إلی معنی صحیح أبداً.

و علی هذا الأساس لا مانع من الالتزام بالترتب فی هاتین المسألتین و دفع الإشکال المتقدم به.غایة الأمر ان الترتب فیهما حیث انه علی خلاف القاعدة فیحتاج وقوعه إلی دلیل و الدلیل موجود هنا و هو الروایات الصحیحة الواردة فیهما و ذلک لا ینافی دفع الإشکال بشکل آخر کما سیأتی بیانه إن شاء اللّه تعالی.و علی ضوء ما حققناه قد تبین انه لا أصل للرکیزة الثانیة و الثالثة(و هما عصیان الأمر بالأهم،و العلم بعصیانه)و لا دخل لهما فی صحة الترتب أصلا.

نعم الّذی ترتکز علیه صحة الترتب و جوازه هو ترک الإتیان بما تعلق الخطاب المترتب علیه بما هو ترک،و إحراز ذلک الترتب فی الخارج.

و علی هذا الأساس لا بد من التفصیل بین الموارد الثلاثة المتقدمة أعنی بها الشبهات البدویة و الشبهات قبل الفحص و الموارد المهمة و موارد العلم الإجمالی بالالتزام بجریان الترتب فیما عدا الأولی،و عدم جریانه فیها.فهاهنا دعویان:

الأولی-عدم جریان الترتب فی موارد الشبهات البدویة.

الثانیة-جریانه فی ما عداها.

ص:176

اما الدعوی الأولی فهی فی غایة الصحة و المتانة.و الوجه فی ذلک واضح و هو ان التکلیف الواقعی فی الشبهات البدویة علی تقدیر ثبوته غیر صالح لأن یکون مزاحماً لحکم من الأحکام،و مع هذا الحال لا موضوع للبحث عن الترتب.

و اما الدعوی الثانیة فلان التکلیف الواقعی فی جمیع تلک الموارد من جهة وصوله إلی المکلف بطریقه أو بعلم إجمالی صالح لأن یکون مزاحماً لتکلیف آخر مضاد له.و علیه فلا مانع من الالتزام بالترتب فیها باعتبار ان التکلیف الواقعی بعد تنجزه لا محالة یقتضی لزوم الإتیان بتلک المشتبهات فی موارد الشبهات الوجوبیة و وجوب الاجتناب عنها فی موارد الشبهات التحریمیة و عندئذ لو کان هناک واجب آخر یزاحم لزوم الإتیان بها أو وجوب الاجتناب عنها فلا مانع من الالتزام بوجوبه عند ترک ذلک.و هذا واضح.

و اما النقطة الثانیة فلا یمکن القول بها.و الوجه فی ذلک هو ان العقاب لیس علی مخالفة الوجوب الطریقی الواصل المصادف للواقع،ضرورة ان مخالفة الوجوب الطریقی بما هو لا توجب العقاب و فی صورة المصادفة للواقع لیس العقاب علی مخالفته،بل انما هو علی مخالفة الواقع،فانه بعد تنجزه بوجوب الاحتیاط أو التعلم فلا محالة توجب مخالفته استحقاق العقاب.

و علی الجملة فوجوب الاحتیاط أو التعلم لیس وجوباً نفسیاً علی الفرض، لنستلزم مخالفته العقوبة بل هو وجوب طریقی شأنه إحراز الواقع و تنجزه و بعده لا محالة یکون العقاب علی مخالفة الواقع بما هو لا علی مخالفته،و ضم مخالفته إلی مخالفة الواقع بالإضافة إلی استحقاق العقاب کالحجر فی جنب الإنسان،ضرورة انه لا دخل له فی العقاب أصلا.

نعم ما أفاده(قده)من ان العقاب لا یمکن ان یکون علی الواقع المجهول بما هو متین،إلا ان ذلک لا یوجب ان لا یمکن العقاب علیه بعد إحرازه و تنجز من جهة وجوب الاحتیاط أو التعلم أیضاً.فما أفاده(قده)هنا لا یلائم مذهبه

ص:177

من ان وجوب التعلم و الاحتیاط طریقی لا نفسی.

و اما النقطة الثالثة و هی استحالة أخذ النسیان فی موضوع الحکم فهی فی غایة الجودة و الاستقامة.و قد تعرضنا لها فی الدورة السابقة فی آخر بحث البراءة و الاشتغال بصورة مفصلة فلا حاجة إلی الإعادة هنا،و یأتی الکلام فیها فی محلها إن شاء اللّه تعالی. الوجه الثانی-ما ذکره المحقق صاحب الکفایة(قده)و إلیک نصّ کلامه:

قلت:إنما حکم بالصحّة لأجل اشتمالها علی مصلحة تامة لازمة الاستیفاء فی نفسها مهمة فی حد ذاتها و ان کانت دون مصلحة الجهر و القصر،و انما لم یؤمر بها لأجل انه امر بما کانت واجدة لتلک المصلحة علی النحو الأکمل و الأتم.و اما الحکم باستحقاق العقوبة مع التمکن من الإعادة،فانها بلا فائدة،إذ مع استیفاء تلک المصلحة لا یبقی مجال لاستیفاء المصلحة التی کانت فی المأمور بها،و لذا لو أتی بها فی موضع الآخر جهلا مع تمکنه من التعلم فقد قصر،و لو علم بعده و قد وسع الوقت.فانقدح انه لا یتمکن من صلاة القصر صحیحة بعد فعل صلاة الإتمام،و لا من الجهر کذلک بعد فعل صلاة الإخفات،و ان کان الوقت باقیاً.

ان قلت علی هذا یکون کل منهما فی موضع الآخر سبباً لتفویت الواجب فعلا،و ما هو سبب لتفویت الواجب کذلک حرام،و حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا کلام.قلت لیس سبباً لذلک غایته انه یکون مضاداً له.و قد حققنا فی محله ان الضد و عدم ضده متلازمان لیس بینهما توقف أصلا.لا یقال علی هذا فلو صلی تماماً أو صلی إخفاتاً فی موضع القصر و الجهر مع العلم بوجوبهما فی موضعهما لکانت صلاته صحیحة،و ان عوقب علی مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر،فانه یقال لا بأس بالقول به لو دل دلیل علی انها تکون مشتملة و لو مع العلم،لاحتمال اختصاص ان یکون کذلک فی صورة الجهل،و لا بعد أصلا فی اختلاف الحال فیها باختلاف حالتی العلم بوجوب شیء و الجهل به کما لا یخفی.

ص:178

أقول:ملخص ما أفاده(قده)هو ان الحکم بصحة الصلاة جهراً فی موضع الإخفات و بالعکس و صحة الصلاة تماماً فی موضع القصر یبتنی علی أساس اشتمالهما علی المصلحة الملزمة فی نفسها،و بعد استیفائها لا یبقی مجال لاستیفاء المصلحة الأخری التی هی أهم من المصلحة الأولی لتضاد المصلحتین و عدم إمکان الجمع بینهما فی الخارج.ثم ان اشتمالهما علی تلک المصلحة الملزمة یختص بحالة الجهل بوجوب الواجب الواقعی.و اما فی صورة العلم به فلا مصلحة لهما أبداً،و لا بعد فی ذلک، ضرورة ان الأشیاء تختلف من حیث وجدانها المصلحة أو عدم وجدانها لها باختلاف الحالات و الأزمان.و هذا واضح.و یتفرع علی ذلک عدم وجوب الإعادة و لو مع بقاء الوقت و تمکن المکلف منها،لعدم مشروعیتها بعد استیفاء المصلحة المزبورة فی ضمن الصلاة تماماً و الصلاة جهراً-مثلا-و قد حققنا فی محله ان عدم الضد لیس مقدمة للضد الآخر لیکون فعله منهیاً عنه فیکون فاسداً.و اما الحکم باستحقاقه العقوبة مع تمکنه من الإعادة فی الوقت فمن ناحیة تقصیره، و عدم فائدة الإعادة.

و قد أجبنا عن ذلک فی آخر بحث البراءة و الاشتغال و ملخصه:ان المضادة بین الأفعال الخارجیة و ان کانت معقولة و واقعة فی الخارج بالبداهة کالمضادة بین القیام و القعود و الحرکة و السکون و ما شاکلهما.و اما المضادة بین الملاکات الواقعیة القائمة بالافعال الخارجیة بما هی مع قطع النّظر عن التضاد بین تلک الأفعال ففی غایة البعد،بل تکاد تلحق بالمحال،ضرورة انه لا یعقل التضاد بین المصلحتین مع إمکان الجمع بین الفعلین،فإذا فرضنا ان فی کل من صلاتی الجهر و الإخفات مصلحة تامة،أو فی کل من صلاتی التمام و القصر مصلحة کذلک،و کان المکلف متمکناً من الجمع بینهما خارجاً فلا نعقل التضاد بین المصلحتین بحیث لا یتمکن المکلف من الجمع بینهما خارجاً و استیفائهما معاً.فما أفاده(قده)من التضاد بین المصلحتین و عدم إمکان استیفائهما معاً لا نعقل له معنی محصلا أصلا.

ص:179

أضف إلی ذلک ان المصلحتین المفروضتین القائمة إحداهما بطبیعی الصلاة و الأخری بخصوص القصر أو الإخفات-مثلا-لا تخلوان من ان تکونا ارتباطیتین أو تکونا استقلالیتین و لا ثالث لهما.

فعلی الأول لا یمکن الحکم بصحة الصلاة تماماً فی موضع القصر و الصلاة جهراً فی موضع الخفت و بالعکس،لفرض ان المصلحتین ارتباطیتان،و مع عدم حصول المصلحة الثانیة لا یکفی حصول الأولی.

و علی الثانی یلزم تعدد الواجب بان یکون القصر-مثلا-أو الجهر أو الإخفات واجباً فی واجب،و هو طبیعی الصلاة مع قطع النّظر عن ایة خصوصیة من هذه الخصوصیات باعتبار کونها مشتملة علی مصلحة إلزامیة فی حال الجهل بتلک الخصوصیات.و لازم ذلک هو تعدد العقاب عند ترک الصلاة علی الإطلاق و عدم الإتیان بها أبداً لا تماماً و لا قصراً لا جهراً و لا إخفاتاً،و هو خلاف الضرورة کما لا یخفی.

فالصحیح هو ما ذکرناه فی محله و حاصله انه لا یمکن المساعدة علی ما هو المشهور بین الأصحاب من الجمع بین الحکم بصحة الجهر فی موضع الخفت و بالعکس و صحة التمام فی موضع القصر،و بین الحکم باستحقاق العقاب علی ترک الواجب الواقعی.

و الوجه فی ذلک هو ان الجاهل بوجوب القصر و الإخفات-مثلا-لو صلی قصراً أو إخفاتاً و تحقق منه قصد القربة فی حال الإتیان به فلا یخلو الأمر من ان یحکم بفساد صلاته هذه و وجوب الإعادة علیه عند انکشاف الحال و ارتفاع الجهل أو یحکم بصحتها و عدم وجوب الإعادة علیه و لا ثالث فی البین.

اما علی الأول فلا شبهة فی ان مقتضاه هو ان الصلاة تماماً أو جهراً هو الواجب علی المکلف تعییناً فی الواقع عند جهل المکلف بالحال،و علی هذا فلا معنی لاستحقاق العقاب علی ترک القصر أو الإخفات،ضرورة ان القصر أو الإخفات

ص:180

لا یکون واجباً فی هذا الحال علی الفرض،لیستحق العقاب علی ترکه و دعوی الإجماع علیه فی هذا الفرض من الغرائب کما لا یخفی.علی ان استحقاق العقاب لیس من الأحکام الشرعیة،لیمکن دعوی الإجماع علیه.هذا مع ان کلمات کثیر من الأصحاب خالیة عن ذلک.

و اما علی الثانی فلا شبهة فی ان الحکم فی الواقع حینئذ یکون هو التخییر بین الجهر و الإخفات و القصر و التمام،و لازم ذلک ان یکون الإتیان بالقصر أو الإخفات مجزیاً کما هو شأن کل واجب تخییری،و علی هذا فلا موضوع لاستحقاق العقاب بعد الإتیان بأحد طرفی التخییر،و ان لم یکن المکلف حال العمل ملتفتاً إلیه،ضرورة ان الالتفات إلیه لیس من أحد شرائط صحة الإتیان بأحد طرفیه.

و قد تحصل مما ذکرناه امران:

الأول-انه یمکن دفع الإشکال المزبور عن المسألتین المتقدمتین بوجهین:

أحدهما-الالتزام بالترتب فی مقام الجعل،و قد عرفت انه لا مانع منه أصلا،غایة الأمر ان وقوعه فی الخارج یحتاج إلی دلیل،و قد دل الدلیل علی وقوعه فیهما.

ثانیهما-ما ذکرناه لحد الآن من انه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا کما عرفت.

الثانی-ان نقطة الامتیاز بین هذین الجوابین هی ان الجواب الأول ناظر إلی انه لا مانع من الجمع بین الأمرین المزبورین أعنی بهما صحة التمام فی موضع القصر و الجهر فی موضع الخفت أو بالعکس،و استحقاق العقاب علی مخالفة الواقع فانه بناء علی القول بصحة الترتب فیهما لا إشکال فی الالتزام بالجمع بین هذین الأمرین،بل هو لازم ضروری للقول بالترتب،کما عرفت الکلام فیه بصورة مفصلة.و الجواب الثانی ناظر إلی انه مع الحکم بصحة التمام فی موضع القصر و الجهر فی موضع الخفت و بالعکس کما هو صریح صحیحة زرارة لا یمکن الحکم

ص:181

باستحقاق العقاب علی مخالفة الواقع،لما عرفت من انه مع قطع النّظر عن الترتب فالحکم بالصحّة یبتنی علی أحد التقدیرین المتقدمین هما:کون التمام أو الجهر-مثلا- واجباً تعیینیاً فی ظرف الجهل و کونه أحد فردی الواجب التخییری.و علی کلا التقدیرین لا مجال لاستحقاق العقاب أصلا.هذا تمام الکلام فی الأمر الأول.

الثانی-ان الترتب کما یجری بین الواجبین المضیقین أحدهما أهم من الآخر کما سبق فهل یجری بین الواجبین أحدهما موسع و الآخر مضیق أم لا؟ قد اختار شیخنا الأستاذ(قده)جریانه فیهما،ببیان ان الواجب المهم إذا کان موسعاً له افراد کثیرة،و کان بعض افراده مزاحماً للأهم دون بعضها الآخر فبناء علی ما ذکرناه من ان اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف من جهة اقتضاء نفس التکلیف ذلک فلا محالة یتقید المأمور به بالحصة الخاصة و هی الحصة المقدورة فیخرج غیر المقدور من الافراد عن إطلاقه.و علیه فلا محالة یتوقف شمول الإطلاق للفرد المزاحم علی القول بإمکان الترتب و جوازه،فان قلنا به یدخل فی الإطلاق عند عصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه،و إلا فهو خارج عنه مطلقاً.

نعم یمکن الحکم بصحته حینئذ من جهة اشتماله علی الملاک و اما بناء علی ما ذکره المحقق الثانی(قده)من ان اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف إنما هو من ناحیة حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،فلا نحتاج فی الحکم بصحة الفرد المزاحم إلی القول بالترتب و الالتزام به،بل یمکن القول بها و لو قلنا باستحالة الترتب.و الوجه فی ذلک هو ان الطبیعة المأمور بها بما انها مقدورة للمکلف و لو بالقدرة علی بعض افرادها-کما هو المفروض-فلا مانع من تعلق الأمر بها علی إطلاقها.

و علیه فیصح الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر المتعلق بالطبیعة إذ الانطباق قهری و الاجزاء عقلی.

أقول:الکلام فی ذلک مرة یقع من ناحیة ان منشأ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف هل هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز أو اقتضاء نفس التکلیف ذلک.

ص:182

و مرة أخری یقع من ناحیة ان المهم إذا کان موسعاً و کان بعض افراده مزاحماً بالأهم،أ یمکن إثبات صحته بالترتب أم لا؟ اما الکلام فی الناحیة الأولی فقد ذکرنا ان القدرة لم تؤخذ فی متعلق التکلیف أصلا،لا من جهة حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،و لا من جهة اقتضاء نفس التکلیف ذلک،و انما هی معتبرة فی ظرف الامتثال و الإطاعة ضرورة ان العقل لا یحکم بأزید من اعتبارها فی تلک المرحلة و قد تقدم الکلام فی ذلک بصورة مفصلة و قد أوضحنا هناک بطلان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من وجوه فلاحظ و اما الکلام فی الناحیة الثانیة فجریان الترتب فیه یبتنی علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)من ان استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق،و بما ان تقیید المهم فی المقام بخصوص الفرد المزاحم محال فإطلاقه بالإضافة إلیه أیضاً محال.

و علیه فلا یمکن الحکم بصحته من جهة الإطلاق،فلا محالة تبتنی صحته علی القول بالترتب مع قطع النّظر عن کفایة الملاک غایة الأمر ان الترتب هنا انما هو فی إطلاق الواجب المهم بمعنی ان إطلاقه مترتب علی ترک الواجب الأهم،و هذا بخلاف الترتب فی غیر المقام،فان هناک أصل الخطاب بالمهم مترتب علی ترک امتثال الخطاب بالأهم،لا إطلاقه.و علی کل حال فالترتب فی المقام مبتن علی مسلکه(قده).

و لکن قد ذکرنا غیر مرة ان التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل التضاد فاستحالة أحدهما فی مورد لا یستلزم استحالة الآخر و علیه فلا یتوقف الحکم بصحته علی القول بجواز الترتب»ضرورة انه عندئذ یمکن الإتیان به بداعی امتثال الأمر المتعلق بالطبیعة.

و علی الجملة فجریان الترتب فیما إذا کان الواجب المهم موسعاً و الأهم مضیقاً یرتکز علی أحد امرین:

الأول-دعوی اقتضاء نفس التکلیف اعتبار القدرة فی متعلقه و انه یوجب تقییده بحصة خاصة و هی الحصة المقدورة.

ص:183

الثانی-دعوی ان استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق.

و لکن قد عرفت فساد کلتا الدعویین فی غیر موضع هذا مضافاً إلی ان الدعوی الأولی-علی تقدیر تسلیمها فی نفسها-لا توجب تقیید المتعلق بخصوص تلک الحصة،کما تقدم الکلام فی ذلک بشکل واضح فلا نعید.

فالصحیح فی المقام ان یقال-کما ذکرناه سابقاً-ان هذه الصورة أعنی بها ما إذا کان المهم موسعاً و الأهم مضیقاً-خارجة عن کبری مسألة التزاحم لنمکن المکلف فیها علی الفرض من الجمع بین التکلیفین فی مقام الامتثال،و معه لا مزاحمة بینهما أصلا.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان البحث عن إمکان ترتب أحد الحکمین علی عدم الإتیان بمتعلق الحکم الآخر و استحالة ذلک انما هو فی فرض التزاحم بینهما،و إلا فلم یکن للبحث عنه موضوع أصلا،کما هو واضح.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی ان الصورة المزبورة خارجة عن موضوع بحث الترتب،فان موضوع بحثه هو ما إذا لم یمکن إثبات صحة المهم الأبناء علی القول بالترتب،و فی المقام یمکن إثبات صحته بدون الالتزام به،بل و لو قلنا باستحالته کما عرفت غیر مرة.

الثالث-ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان المکلف قد یکون عالماً بخطاب الأهم قبل الشروع فی امتثال خطاب المهم،و قد یکون عالماً به بعد الشروع فیه.اما علی الفرض الأول فیدور الحکم بصحة الإتیان بالمهم و امتثال خطابه مدار القول بإمکان الترتب،کما ان الحکم بفساده یدور مدار القول بامتناعه کما سبق.و اما علی الفرض الثانی و هو ما إذا کان المکلف عالماً بخطاب الأهم بعد الشروع فیه،فان کان الواجب المهم مما لا یحرم قطعه فحکمه حکم الفرض الأول بلا کلام.و اما ان کان مما یحرم قطعه،کما إذا دخل فی المسجد و شرع فی الصلاة ثم علم بتنجسه،فعندئذ لا یتوقف بقاء الأمر بالمهم-و هو الصلاة فی مفروض المثال-علی القول بالترتب فیمکن

ص:184

الحکم بصحتها من دون الالتزام به أصلا.

و الوجه فی ذلک هو أن إزالة النجاسة عن المسجد و ان کانت أهم من الصلاة باعتبار انها فوریة دون الصلاة،إلا ان المکلف إذا شرع فیها و حرم علیه قطعها علی الفرض لم یکن عندئذ موجب لتقدیم الأمر بالإزالة علی الأمر بالصلاة.و علیه فلا یتحقق عصیان لخطابها،لیکون الأمر بإتمامها متوقفاً علی جواز الترتب.

و سر ذلک هو ان الدلیل علی وجوب الإزالة إنما هو الإجماع،و لیس دلیلا لفظیاً لیکون له إطلاق أو عموم یشمل هذه الصورة أیضاً.و علی هذا فلا بدّ من الاقتصار علی المقدار المتیقن منه،و المقدار المتیقن منه غیر تلک الصورة،فلا یشملها،اذن یبقی الأمر بالإتمام بلا مزاحم.و علی الجملة فالإجماع بما انه دلیل لبی فالقدر المتیقن منه غیر هذا الفرض،فلا یشمل ذلک.

نعم إذا کان هناک واجب آخر أهم من إتمام الصلاة کحفظ النّفس المحترمة أو ما شاکله توقف الأمر بإتمام الصلاة عندئذ علی القول بالترتب أیضاً،ضرورة ان الأمر بالإتمام من جهة مزاحمته بالأهم قد سقط یقیناً،فثبوته له حینئذ لا محالة یتوقف علی عصیان الأمر بالأهم و عدم الإتیان بمتعلقه خارجاً.

و غیر خفی ان ما أفاده(قده)إنما یتم لو کان مدرک حرمة قطع الصلاة هو الروایات الدالة علی ان تحلیلها هو التسلیم،فان مقتضی إطلاق تلک الروایات هو حرمة قطعها و الخروج عنها بغیر التسلیم مطلقاً و لو کانت مزاحمة مع الإزالة، و لکن قد ذکرنا فی بحث الفقه ان شیء من هذه الروایات لا یدل علی حرمة قطع الصلاة،غایة ما فی الباب انها تدل علی ان التسلیم هو الجزء الأخیر،و ان الصلاة تختتم به کما تفتتح بالتکبیرة،و اما ان قطعها یجوز أو لا یجوز فهی أجنبیة عن هذا تماماً.

و من هنا قلنا انه لا دلیل علی حرمة قطع الصلاة أصلا ما عدا دعوی الإجماع علی ذلک کما فی کلمات غیر واحد.و لکن قد ذکرنا ان الإجماع لم یتم،فان

ص:185

المحصل منه غیر ثابت،و المنقول منه غیر معتبر،علی انه یحتمل ان یکون مدرکه تلک الروایات أو غیرها،و مع هذا کیف یمکن ان یکون کاشفاً عن قول المعصوم علیه السلام .

و لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ثبوت الإجماع فالقدر المتیقن منه هو ما إذا لم تکن الصلاة مزاحمة مع الإزالة.و اما فی صورة المزاحمة فلا علم لنا بثبوته،و ذلک لعدم تعرض کثیر من الفقهاء لتلک الصورة.و علیه فلا موجب لتقدیم وجوب إتمام الصلاة علی وجوب الإزالة.

و علی الجملة بما ان الدلیل علی کل من الطرفین هو الإجماع فهو لا یشمل الصورة المزبورة فاذن لا دلیل علی وجوب الإزالة فی تلک الصورة،و لا علی وجوب الإتمام،و حیث لا أهمیة فی البین فمقتضی القاعدة هو التخییر بین قطع الصلاة و الاشتغال بالإزالة و بین إتمامها.و تمام الکلام فی محله.

الرابع-هل یمکن الحکم بصحة الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب أم لم یمکن؟ أقول:تحقیق الکلام فی هذه المسألة یستدعی البحث عنها فی جهات:

الأولی-الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب.

الثانیة-الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب.

الثالثة-الوضوء أو الغسل فی الدار المغصوبة أو فی الفضاء المغصوب.

اما الجهة الأولی فلا شبهة فی فساد الوضوء أو الغسل.و الوجه فیه ظاهر و هو ان المنهی عنه یستحیل أن یکون مصداقاً للمأمور به،و حیث ان الوضوء أو الغسل فی هذا الماء بنفسه تصرف فی مال الغیر و مصداق للغصب فیستحیل أن ینطبق علیه المأمور به،و لا یدخل ذلک فی کبری مسألة التزاحم أبداً کما هو ظاهر اما الجهة الثانیة فلو قلنا انه یصدق علی الوضوء أو الغسل من إناء المغصوب أو الذهب أو الفضة انه نحو تصرف فیه بناء علی عدم جواز استعمال الآنیتین

ص:186

-مطلقاً-فلا إشکال فی فساده أیضاً،لما عرفت من ان المحرم یستحیل ان یکون مصداقاً للمأمور به،و بما ان الوضوء أو الغسل علی هذا بنفسه محرم فیمتنع ان ینطبق الواجب علیه.و هذا واضح.و اما بناء علی ما هو الصحیح من ان المأمور به فی مثل هذه الموارد غیر متحد مع المنهی عنه،فان المأمور به هو صب الماء علی الرّأس و البدن أو علی الوجه و الیدین،و المنهی عنه هو أخذ الماء من تلک الأوانی فلا مانع من الحکم بصحة الوضوء أو الغسل،و ذلک لعدم سرایة الحکم من متعلقه إلی مقارناته و لوازمه الاتفاقیة.

و ان شئت فقل:ان متعلق النهی هو أخذ الماء منها،فانه نحو استعمال لها و هو محرم علی الفرض،و اما صبه علی الوجه و الیدین-مثلا-بعد أخذه منها فلیس باستعمال لها،لیکون محرماً نعم هو مترتب علیه و قد ذکرنا فی بحث مقدمة الواجب ان حرمة المقدمة لا نمنع عن إیجاب ذیها إذا لم تکن منحصرة،و اما إذا کانت منحصرة فتقع المزاحمة بینهما،فاذن المرجع هو قواعد باب التزاحم.

و لکن المشهور بین الأصحاب قدیماً و حدیثاً هو التفصیل بین ما إذا کان الماء منحصراً فیها و ما إذا لم یکن فذهبوا إلی فساد الوضوء أو الغسل فی الصورة الأولی و إلی صحته فی الصورة الثانیة.

اما الصورة الأولی فقد ذکروا ان أخذ الماء منها بما انه کان محرماً شرعاً فالمکلف وقتئذ فاقد للماء،لما ذکرناه غیر مرة من ان المستفاد من الآیة المبارکة بقرینة داخلیة و خارجیة هو ان المراد من وجدان الماء فیها وجوده الخاصّ،و هو ما إذا تمکن المکلف من استعماله عقلا و شرعاً،و فی المقام و ان تمکن من استعماله عقلا و تکویناً،و لکنه لا یتمکن منه شرعاً و الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی.

فاذن وظیفته هی التیمم.

اما الصورة الثانیة فلأن الوضوء أو الغسل مشروع فی حقه،لفرض انه واجد للماء،غایة الأمر انه قد ارتکب مقدمة محرمة و هی-أخذ الماء من الأوانی-

ص:187

و هذا لا یمنع عن صحة وضوئه أو غسله بعد ما کان الماء الموجود فی یده مباحاً.

و هذا ظاهر. أقول:التحقیق علی ما هو الصحیح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهی عنه خارجاً صحة الوضوء أو الغسل علی کلا التقدیرین.

و بیان ذلک یقتضی دراسة نواحی عدیدة:

الأولی-صورة انحصار الماء بأحد الأوانی المزبورة،مع عدم تمکن المکلف من تفریغ الماء منها فی إناء آخر علی نحو لا یصدق علیه الاستعمال.

الثانیة-ما إذا تمکن المکلف من تفریغه فی إناء آخر من دون ان یصدق علیه الاستعمال.

الثالثة-صورة عدم انحصار الماء فیها،و وجود ماء آخر عنده یکفی لوضوئه أو غسله.

اما الکلام فی الناحیة الأولی فیقع فی موردین:

الأول-ما إذا أخذ المکلف الماء من هذه الأوانی دفعة واحدة بمقدار یفی لوضوئه أو غسله.

الثانی-ما إذا أخذ الماء منها غرفة غرفة.

اما الأول-فالظاهر انه لا إشکال فی صحة الوضوء أو الغسل به ضرورة ان المکلف بعد أخذ الماء منها صار واجداً للماء وجداناً و متمکناً من استعماله عقلا و شرعاً،و لا نری فی استعمال هذا الماء فی الوضوء أو الغسل أی مانع،هذا نظیر ما إذا توقف التمکن من استعمال الماء علی التصرف فی أرض مغصوبة،و لکن المکلف بسوء اختیاره تصرف فیها و وصل إلی الماء و بعد وصوله إلیه لا إشکال فی انه واجد للماء و وظیفته عندئذ هی الوضوء أو الغسل،دون التیمم و ان کان قبل التصرف فیها أو قبل الأخذ-هنا-هو فاقد للماء و کانت وظیفته التیمم دون غیره و لکن بعد التصرف فیها أو بعد الأخذ منها انقلب الموضوع و صار الفاقد واجداً

ص:188

للماء.و هذا لعله من الواضحات.

و اما الثانی-فلأن بطلان الوضوء أو الغسل علی هذا یبتنی علی اعتبار القدرة الفعلیة علی مجموع العمل المرکب من اجزاء تدریجیة کالصلاة و الصوم و الوضوء و الغسل و ما شاکلها من الابتداء و قبل الشروع فیه،و لم نکتف بالقدرة التدریجیة علی شکل تدریجیة اجزائه بان تتجدد القدرة عند کل جزء منها،و یکون تجددها عند الاجزاء اللاحقة شرطاً لوجوب الاجزاء السابقة علی نحو الشرط المتأخر.

و علی هذا فلا یمکن تصحیح الوضوء أو الغسل بأخذ الماء منها غرفة غرفة،ضرورة ان المکلف قبل الشروع فی التوضؤ أو الاغتسال لم یکن واجدا للماء بمقدار یکفی لوضوئه أو غسله،فوقتئذ لو عصی و أخذ الماء منها غرفة غرفة و توضأ أو اغتسل به فیکون وضوؤه أو غسله باطلا.لعدم ثبوت مشروعیته.

و هذه النظریة و ان قویناها سابقاً،و لکنها نظریة خاطئة.بیان ذلک:انه لا مجال لتلک النظریة بناء علی ما حققناه من إمکان الشرط المتأخر و انه لا مناص من الالتزام به فی الواجبات المرکبة من الاجزاء الطولیة.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری قد حققنا ضرورة إمکان الترتب و انه لا مناص من التصدیق به.و من ناحیة ثالثة قد ذکرنا غیر مرة ان القدرة التی هی شرط للتکلیف إنما هی القدرة فی ظرف العمل و الامتثال و من الواضح ان العقل لا یحکم بأزید من اعتبار القدرة عند الإتیان بکل جزء و لا دلیل علی اعتبارها من الابتداء.

فالنتیجة علی ضوء هذه النواحی هی صحة الوضوء أو الغسل بالماء المأخوذ منها بالاغتراف،فان القدرة تتجدد عند کل جزء من اجزائه بالعصیان و بارتکاب المحرم،حیث ان المکلف بعد ارتکابه و اغترافه الماء من الأوانی المغصوبة أو الذهب و الفضة یقدر علی الوضوء-مثلا-بمقدار غسل الوجه،و بما انه یعلم بارتکابه المحرم ثانیاً و ثالثاً إلی ان یتم الوضوء أو الغسل یعلم بطرو التمکن علیه من غسل سائر الأعضاء،فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً علی

ص:189

عصیانه،بناء علی ما ذکرناه من صحة الترتب و جوازه،و ان وجود القدرة فی ظرف الإتیان بالاجزاء اللاحقة شرط لوجوب الاجزاء السابقة علی نحو الشرط المتأخر.

و من المعلوم انه لا فرق فی ذلک بین ان القدرة تبقی من الابتداء،أو تحدث فی ظرف الإتیان بها،و قد عرفت انه لا دلیل علی اعتبار القدرة بأزید من ذلک.

و بتعبیر واضح انه لا ینبغی الإشکال فی کفایة القدرة بالتدریج علی الواجبات المرکبة علی شکل تدرج اجزائها بان تحدث القدرة علی کل جزء منها فی ظرفه -مثلا-إذا فرض أن عند المکلف ماء قلیلا لا یفی إلا بغسل وجهه فقط،و لکنه یعلم بنزول المطر من جهة اخبار معصوم علیه السلام -مثلا-أو قرینة قطعیة أخری فلا إشکال فی صحة غسله وجهه بقصد الوضوء لتمکنه عندئذ من غسل بقیة الأعضاء بعد غسل وجهه،أو لو کان عنده ثلج یذوب شیئاً فشیئاً،و لیس عنده إناء لیجمعه فیه ففی مثل ذلک یتمکن من الوضوء أو الغسل بأخذ الماء غرفة غرفة و علی نحو التدریج،فلا تکون وظیفته التیمم،لأنه واجد للماء و قادر علی استعماله فی الوضوء أو الغسل عقلا و شرعاً،بداهة انه لا یعتبر فی صحة الوضوء أو الغسل ان یکون عنده ماء بمقدار یفی به من الابتداء و قبل الشروع فیه،إذ هو عمل تدریجی لا یعتبر فی صحته و تعلق الأمر به إلا القدرة علیه،سواء أ کانت موجودة من الأول أو وجدت تدریجاً،فانه لا دخل لشیء من الخصوصیّتین فی فعلیة التکلیف بنظر العقل.

و نظیر هذا ما إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار غرفة واحدة دون الزائد،و لکنه لو أخذ ذلک الماء فیخرج بذاک المقدار ثانیاً.و هکذا،فلا إشکال فی وجوب الوضوء علیه أو الغسل.

و من هذا القبیل ما إذا کان الماء لغیر المکلف و لم یرض بالتصرف فیه إلا بالاخذ منه بمقدار غرفة واحدة،و لکنه یعلم أنه یبدو له و یرضی بعد غسل وجهه

ص:190

به-مثلا-بالأخذ منه غرفة ثانیة و ثالثة.و هکذا إلی ان یتم وضوءه أو غسله فانه یجب علیه الوضوء أو الغسل حینئذ بلا إشکال.

و قد تحصل من ذلک انه لا شبهة فی وجوب الوضوء أو الغسل فی أمثال تلک الموارد،و لا یشرع فی حقه التیمم،لکونه واجداً للماء و متمکناً من استعماله عقلا و شرعاً،ضرورة انه لا نعنی بوجدان الماء إلا کونه متمکناً من استعماله من زمان الشروع فی الوضوء أو الغسل إلی زمان انتهائه،و لا أثر لوجدان الماء من الابتداء بالإضافة إلی الاجزاء التالیة و انما الأثر لوجدانه حین الإتیان بها و غسلها کما هو واضح.هذا من جانب.

و من جانب آخر انک قد عرفت ان الترتب امر ممکن،بل لا مناص من الالتزام به.

و علی ضوء هذین الجانبین فالنتیجة هی صحة الوضوء أو الغسل من الأوانی المغصوبة أو الذهب و الفضة بقانون الترتب،و ان الأمر بالوضوء أو الغسل مترتب علی عصیان المکلف النهی عن التصرف فیها،إذ المانع من الأمر به إنما هو حرمة التصرف فی تلک الأوانی،و اما بعد ارتکابه المحرم باغترافه منها یتمکن من الوضوء أو الغسل بمقدار غسل الوجه أو الرّأس فحسب،و لکنه علم بطرو العصیان باغترافه ثانیاً و ثالثاً إلی ان یتمکن من غسل بقیة الأعضاء،و ان فرض انه لم یتوضأ أو لم یغتسل به خارجاً،فحینئذ لا مناص من الالتزام بالأمر به مترتباً علی عصیانه،لکونه واجداً للماء و متمکناً من استعماله عقلا و شرعاً،و قد عرفت انه لا فرق بین الوجدان الفعلی و الوجدان التدریجی،فکلاهما بالإضافة إلی وجوب الغسل أو الوضوء علی نسبة واحدة،کما انه لا فرق فی الالتزام بالترتب بین ان تطول مدة المعصیة و ارتکاب المحرم و ان تقصر،و بین ان تکون المعاصی متعددة و ان تکون واحدة،ضرورة ان کل ذلک لا دخل له فیما هو ملاک إمکان الترتب و استحالته،فان ملاک إمکانه کما سبق هو انه لا یلزم-من طلب المهم علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم و ترک متعلقه-طلب الجمع.و من الواضح جداً انه

ص:191

لا یفرق فی هذا بین العصیان الفعلی و العصیان التدریجی،کما ان ملاک استحالته هو لزوم طلب الجمع من ذلک،و لا یفرق فیه بین معصیة واحدة فعلیة و معاصی عدیدة تدریجیة،کما هو واضح.

و مثل المقام ما إذا وقعت المزاحمة بین الصلاة الفریضة فی آخر الوقت و صلاة الآیات،فان الأمر بصلاة الآیات حینئذ مترتب علی عصیان الفریضة و ترکها فی مقدار من الزمان الّذی یتمکن المکلف من الإتیان بصلاة الآیات و لا یکفی عصیانها فی الآن الأول،لفرض وجوبها فی جمیع آیات صلاة الآیات،فالمکلف بعد عصیانها فی الآن الأول و ان تمکن من جزء منها،إلا انه لا یتمکن من بقیة اجزائها،و لکنه حیث علم بأنه یعصی الأمر بالفریضة فی الآن الثانی و الثالث..

و هکذا علم بطرو التمکن علیه من الإتیان بها بعد الإتیان بالجزء الأول.

و مثله أیضاً ما إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الإزالة عن المسجد و وجوب الصلاة،فان الأمر بالصلاة عندئذ منوط بعصیان الأمر بالإزالة فی الآیات التی یقدر المکلف فیها علی الإتیان بالصلاة تماماً،و لا یکفی عصیانها آنا ما،و لکن المکلف حیث علم بعد عصیانه فی الآن الأول بأنه یعصیه فی الآن الثانی و الثالث..

و هکذا علم بعروض التمکن من الإتیان بها تدریجاً،و قد عرفت ان القدرة التدریجیة کافیة فی مقام الامتثال،و لا تعتبر القدرة الفعلیة.و علیه فلا مانع من الالتزام بوجوبها من ناحیة الترتب،بل لا مناص من ذلک.

و قد تبین لحد الآن ان تدریجیة وجود القدرة مرة من ناحیة تدریجیة وجود مقتضیة و تحققه فی الخارج.و مرة أخری من ناحیة تدریجیة ارتفاع مانعه.و مرة ثالثة من ناحیة تدریجیة عصیان الأمر بالأهم.

و مثال الأول ما مر من انه إذا کان عند المکلف ثلج فیذوب شیئاً فشیئاً و لم یکن عنده إناء لیجمع ماءه فیه ثم یتوضأ أو یغتسل به فلا یقدر علی جمعه إلا بمقدار یسع کفه.أو إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار یسعه کفه دون الزائد،

ص:192

و لکنه إذا أخذ ذلک الماء یخرج منها بهذا المقدار ثانیاً.و هکذا.أو إذا کان عنده مقدار من الماء لا یفی لوضوئه أو غسله،و لکنه یعلم بنزول المطر بعد صرفه فی غسل الوجه أو الرّأس من جهة اخبار المعصوم علیه السلام به أو من طریق آخر ففی هذه الموارد و ما شاکلها جمیعاً لا شبهة فی وجوب الوضوء أو الغسل،بناء علی کفایة القدرة التدریجیة،کما هو الصحیح.و قد تقدم ان العقل مستقل بکفایتها و ان حکم العقل بذلک لم یدع مجالا لتوهم اعتبار القدرة الفعلیة فی مقام الامتثال،لتکون نتیجته سقوط وجوب الوضوء أو الغسل فی تلک الموارد،و انتقال الوظیفة إلی التیمم.

و مثال الثانی ما إذا کان الماء ملکا لغیره و لم یرض بالتصرف فیه إلا بالأخذ منه بمقدار غرفة لا یفی إلا لغسل الوجه فحسب،و لکنه یعلم بأنه یرضی بعد غسل وجهه بالاخذ منه ثانیاً و ثالثاً.و هکذا کما عرفت.أو إذا کان هناک مانع آخر لا یتمکن معه من الوضوء أو الغسل إلا تدریجاً،ففی کل ذلک لا مناص من الالتزام بوجوب الوضوء أو الغسل.کما تقدم بصورة واضحة.

و مثال الثالث ما إذا کان الماء فی الأوانی المغصوبة أو الذهب و الفضة، و لم یتمکن المکلف من تفریغه فی إناء آخر،کما هو مفروض الکلام-هنا-أو ما ذکرناه من الأمثلة المتقدمة،فوقتئذ لو عصی المکلف و ارتکب المحرم بالاغتراف من تلک الأوانی،فلا محالة یتمکن من الوضوء بمقدار غسل الوجه أو من الغسل بمقدار غسل الرّأس-مثلا-و لکنه لما علم بأنه یعصی و یغترف منها ثانیاً و ثالثاً، و هکذا علم بأنه قادر علی الوضوء أو الغسل بالتدریج.و علیه فلا مناص من الحکم بوجوبه بناء علی الأساسین المتقدمین هما:کفایة القدرة التدریجیة فی مقام الامتثال، و الالتزام بإمکان الترتب و جوازه.

و من ذلک یظهر ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من بطلان الوضوء أو الغسل فی هذا الفرض لا یمکن المساعدة علیه.و الوجه فی ذلک هو ان ما ذکره(قده)

ص:193

مبنی علی ما أسسه من ابتناء جریان الترتب علی کون العمل واجداً للملاک حین الأمر به،و بما ان الوضوء أو الغسل فی ما نحن فیه غیر واجد له،فان وجدانه یتوقف علی کون المکلف واجداً للماء من الأول،و المفروض عدمه-هنا-إذ کونه واجداً له موقوف علی جواز تصرفه فی الأوانی،و بما انه محرم و ممنوع شرعاً،و الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی فلم یکن واجداً للماء و متمکناً من استعماله عقلا و شرعاً.

و لکن قد عرفت فساد ما أفاده(قده)و ان جریان الترتب فی مورد لا یتوقف علی ذلک.و قد أوضحناه بصورة مفصلة فلا نعید.هذا من ناحیة الملاک.و اما من ناحیة عدم کون المکلف واجداً للماء فائضاً یظهر فساده مما ذکرناه الآن من انه لا فرق بین کون المکلف واجداً للماء بالفعل و کونه واجداً له بالتدریج،فالترتب کما یجری فی الأول کذلک یجری فی الثانی من دون فرق بینهما من هذه الجهة أبداً کما عرفت بشکل واضح.

فالنتیجة قد أصبحت ان النقطة الرئیسة لصحة الوضوء أو الغسل فی أمثال المقام هی کفایة القدرة علی العمل فی مقام الامتثال بالتدریج،و عدم اعتبارها من الابتداء.

و علی ضوء هذه النقطة لا مناص من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب.

و اما الکلام فی الناحیة الثانیة(و هی صورة تمکن المکلف من تفریغ الماء فی ظرف آخر)فلا شبهة فی صحة الوضوء أو الغسل حینئذ،و ذلک لأنه واجد للماء و متمکن من استعماله عقلا و شرعاً.و علیه فالامر بالطهارة المائیة فی حقه فعلی، ضرورة انه مع تمکنه من التفریغ بدون ان یصدق علیه الاستعمال بوجه قادر علیها، و عندئذ تتعین وظیفته بمقتضی الآیة المبارکة و غیرها من روایات الباب فی الوضوء أو الغسل،و لا یشرع فی حقه التیمم.

ثم انه لو عصی و أخذ الماء من الأوانی بالاغتراف فهل یمکن الحکم بصحة

ص:194

وضوئه أو غسله مع قطع النّظر عن القول بالترتب و کفایة القدرة التدریجیة أم لا؟ وجهان و الصحیح هو الأول،و ذلک لأنه قادر علیه فعلا،و المفروض ان مشروعیته لا تتوقف علی القول بالترتب،غایة الأمر انه بسوء اختیاره قد ارتکب مقدمة محرمة.و من الواضح ان ارتکابها لا یضر بصحته أبداً.

فالنتیجة هی صحة الوضوء أو الغسل فی هذه الصورة مطلقاً قلنا بالترتب أم لم نقل،قلنا بفساد الوضوء أو الغسل فی الصورة الأولی أم لم نقل.

و اما الکلام فی الناحیة الثالثة(و هی صورة عدم انحصار الماء فی الأوانی المزبورة)فائضاً لا شبهة فی صحة الوضوء أو الغسل بالاغتراف سواء فیه القول بالترتب و عدمه،و سواء فیه القول باعتبار القدرة الفعلیة و عدم اعتبارها،و ذلک لفرض ان المکلف متمکن من الطهارة المائیة بالفعل،و لا یتوقف مشروعیتها علی القول بالترتب،غایة الأمر انه بسوء اختیاره قد ارتکب فعلا محرماً.و قد عرفت انه لا یضر بصحة وضوئه أو غسله،بعد ما کان الماء الموجود فی یده مباحاً علی الفرض.

فقد تحصل مما ذکرناه ان الوضوء أو الغسل صحیح فی جمیع تلک النواحی و الصور.

و قد تبین مما قدمناه لحد الآن امران:

الأول-ان الوضوء أو الغسل من الأوانی إذا کان ارتماسیاً فلا إشکال فی فساده،و ذلک لأنه بنفسه تصرف فیها،و هو محرم علی الفرض.و من الواضح جداً ان المحرم لا یقع مصداقاً للواجب،و لا یفرق فی ذلک بین صورتی انحصار الماء فیها و عدمه،و صورة التمکن من التفریغ فی إناء آخر و عدم التمکن منه،فان التوضؤ أو الاغتسال إذا کان فی نفسه محرماً فلا یمکن التقرب به و لا یقع مصداقاً للواجب.و هذا ظاهر.

الثانی-انه قد ظهر فساد ما أفاده السید العلامة الطباطبائی(قده)فی العروة

ص:195

فی بحث الأوانی و إلیک نصّ کلامه:«لا یجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقاً و الوضوء و الغسل منها مع العلم باطل مع الانحصار،بل مطلقاً»و قال:فی مسألة أخری(13)ما لفظه هذا إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل فی إحدی الآنیتین،فان أمکن تفریغه فی ظرف آخر وجب و إلا سقط وجوب الوضوء أو الغسل و وجب التیمم،و ان توضأ أو اغتسل منهما بطل.سواء أخذ الماء منهما بید أو صب علی محل الوضوء بهما أو ارتمس فیهما،و ان کان له ماء اخر أو أمکن التفریغ فی ظرف آخر،و مع ذلک توضأ أو اغتسل منهما،فالأقوی أیضاً البطلان» فالنتیجة انه(قده)قد حکم ببطلان الوضوء و الغسل فی جمیع تلک الصور و النواحی من دون فرق بین صورتی الانحصار و عدمه و إمکان التفریغ فی إناء آخر و عدم إمکانه.

أقول ما أفاده(قده)فی المقام لا یمکن المساعدة علیه بوجه،و ذلک لما عرفت من الحکم بصحة الوضوء أو الغسل فی صورة انحصار الماء فی تلک الأوانی مع عدم التمکن من التفریغ فی إناء آخر فضلا عن صورة عدم الانحصار أو التمکن من التفریغ.و علی ذلک فمن المحتمل قویاً ان یکون نظر السید(قده)فی هذا إلی ان المأمور به فی هذه الموارد متحد مع المنهی عنه بمعنی ان الوضوء أو الغسل من الأوانی و لو بالاغتراف بنفسه تصرف فیها فیکون منهیاً عنه.و علیه فلا یمکن ان یقع مصداقاً للمأمور به،و لأجل ذلک حکم بالبطلان مطلقاً.

و لکن مما ذکرناه ظهر فساده.و الوجه فیه ان الوضوء أو الغسل بعد أخذ الماء منها بالاغتراف لیس تصرفاً فیها بشیء،ضرورة ان ما هو التصرف فی الآنیة إنما هو تناول الماء منها و أخذه،و اما التصرفات الواقعة بعده فلا یصدق علی شیء منها عرفاً انه تصرف فیها لوضوح ان صبه علی الأرض أو استعماله فی الطهارة الخبثیة أو سقیه للحیوان أو إعطاءه لشخص آخر أو غیر ذلک جمیعاً تصرفات خارجیة،فلیس شیء منها تصرفاً فی الآنیة،لیکون مشمولا للروایات الناهیة عن

ص:196

استعمالها،و من المعلوم ان التوضؤ أو الاغتسال به أیضاً من هذه التصرفات فلا تشمله الروایات.

و علی الجملة فالذی هو استعمال للآنیة إنما هو تناول الماء منها و أخذه،و اما التصرف فی الماء بعد أخذه و استعماله بنحو من أنحاء الاستعمال سواء أ کان فی الوضوء أو الغسل أو کان فی غیره فلا شبهة فی انه لیس باستعمال للآنیة قطعاً، بداهة انه استعمال للماء حقیقة و لیس باستعمال لها بوجه.و هذا واضح جداً.

و من هنا ذهب کثیر من الفقهاء إلی صحة الوضوء أو الغسل فی صورة عدم انحصار الماء فیها-کما عرفت-و من المعلوم انه إذا کان بنفسه تصرفا فیها و مصداقاً للمحرم لم یکن وجه للقول بالصحّة أبداً،بناء علی حرمة التصرف فیها مطلقاً کما هو مختارهم،لاستحالة کون المحرم مصداقاً للمأمور به.

فالنتیجة ان ما أفاده السید(قده)فی المقام لا یرجع إلی أساس صحیح.

بقی الکلام فی امر و هو ان ما ذکرناه حول أوانی الذهب و الفضة یبتنی علی وجهة نظر المشهور من حرمة استعمال الآنیتین مطلقاً من دون اختصاصها بالأکل و الشرب و علیه فحالهما حال الأوانی المغصوبة.

و اما بناء علی القول بعدم حرمة سائر الاستعمالات من الوضوء و الغسل و إزالة النجاسات و غیرها مما یعد عرفاً استعمالا لهما فلا إشکال عندئذ فی صحة الوضوء أو الغسل من الآنیتین مطلقاً و لو کان ارتماسیاً.

و قد ذکرنا فی بحث الفقه ان القول بذلک لا یخلو عن وجه.

و الوجه فی ذلک ملخصاً ان جمیع ما استدلوا به علی حرمة غیر الأکل و الشرب من الاستعمالات یرجع إلی وجوه ثلاثة:و کلها قابل للمناقشة.

الأول-الإجماع کما ادعاه غیر واحد منهم.و یرده مضافاً إلی انه لم یثبت فی نفسه لاقتصار جماعة علی خصوص الأکل و الشرب و عدم تعرضهم لغیرهما انه إجماع منقول لم یقم دلیل علی اعتباره کما ذکرناه فی محله.علی انه محتمل المدرک

ص:197

لو لم یکن معلوماً.و علیه فلا أثر له.

الثانی-روایة موسی بن بکر عن أبی الحسن علیه السلام آنیة الذهب و الفضة متاع الذین لا یوقنون بتقریب ان المتاع ما ینتفع به،فالروایة تدل علی حرمة الانتفاع من الآنیتین و انه خاص لغیر الموقنین،و مقتضی إطلاقها حرمة جمیع استعمالاتهما حیث ان استعمال الشیء انتفاع به. و غیر خفی ان الروایة ضعیفة سنداً و دلالة اما سنداً فلأنها ضعیفة بسهل ابن زیاد و موسی بن بکر علی طریق الکافی.و بموسی بن بکر علی طریق آخر رواها عنه البرقی.و اما دلالة فمع إمکان المناقشة فی أصل دلالتها علی الحرمة باعتبار ان مجرد اختصاص الانتفاع بهما لغیر الموقنین لا یدل علی حرمة الانتفاع لهم ان مناسبة الحکم و الموضوع تقتضی ان الانتفاع من کل متاع بحسب ما یناسبه فالانتفاع بالکتاب انما هو بمطالعته،و الانتفاع بالفرش انما هو بفرشه، و باللباس بلبسه.و هکذا.و من الواضح جداً ان الانتفاع بالآنیتین ظاهر فی استعمالهما فی الأکل و الشرب فلا یشمل غیرهما،لکون الأوانی معدة لذلک، اذن فالروایة ظاهرة فی حرمة الأکل و الشرب منهما فلا تشمل سائر الانتفاعات و الاستعمالات.

الثالث-ما ورد من النهی عن أوانی الذهب و الفضة و هی روایات کثیرة:

منها-صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام انه نهی عن آنیة الذهب و الفضة.

و منها-صحیحة محمد بن إسماعیل بن بزیع قال سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب و الفضة فکرههما.

و منها-صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام انه کره آنیة الذهب و الفضة و الآنیة المفضضة.بتقریب انه لا معنی لتعلق النهی و الکراهة بالأعیان و للذوات نعم الکراهة بمعنی الصفة النفسانیّة المعبر عنها بالکراهة التکوینیة الحقیقیة و ان أمکن تعلقها بالذوات بما هی بان یکون الشیء مبغوضاً بذاته،کما انه قد یکون محبوباً

ص:198

کذلک،إلا ان الکراهة بالمعنی الشرعی لا معنی لتعلقها بها أبداً،و من المعلوم انه لم یرد من الکراهة فی هاتین الصحیحتین الکراهة التکوینیة،ضرورة ان الظاهر منهما هو ان الإمام علیه السلام فی مقام بیان الحکم الشرعی،لا فی مقام إظهار کراهته الشخصیة.

و هذا واضح و علیه فلا بد من تقدیر فعل من الأفعال فیها،لیکون هو المتعلق للنهی و الکراهة،و بما انه لا قرینة علی التخصیص ببعض منها دون بعضها الآخر فلا محالة یکون المقدر هو مطلق الانتفاعات و الاستعمالات.

و لکن قد ظهر الجواب عنه بما تقدم من ان المقدر فی کل مورد بحسب ما یناسب ذلک المورد.و من هنا ذکروا ان المقدر فی مثل النهی عن الأمهات هو النکاح،فانه المناسب للمقام و الأثر الظاهر من النساء،کما ان المقدر فی مثل النهی عن المیتة و الدم و ما شاکلهما هو الأکل.و هکذا.

و فیما نحن فیه بما ان الأثر الظاهر من الإناء هو استعماله فی الأکل و الشرب فلا محالة ینصرف النهی عنه إلی النهی عن الأکل و الشرب فلا یشمل غیرهما.

و علی الجملة فالنهی فی أمثال هذه الموارد بمناسبة الحکم و الموضوع منصرف إلی النهی عن الأثر الظاهر من الشیء،فلا یعم مطلق اثره.

و نتیجة ذلک هی ان المقدر فی تلک الصحاح بمقتضی الفهم العرفی هو خصوص الأکل و الشرب دون مطلق الاستعمال و الانتفاع،فاذن لا دلیل علی حرمة استعمال الآنیتین فی غیر الأکل و الشرب،و علیه فلا مانع من الوضوء أو الغسل بهما مطلقاً و لو کان ارتماسیاً،کما انه لا مانع من غیره.و تمام الکلام فی ذلک فی بحث الفقه.

و قد تحصل مما ذکرناه امران:الأول-الوضوء أو الغسل الترتیبی من الأوانی المغصوبة أو الذهب و الفضة صحیح مطلقاً،سواء أ کان الماء منحصراً فیها أم لم یکن،و سواء أتمکن المکلف من التفریغ فی إناء آخر أم لم یتمکن و سواء أخذ الماء منها دفعة واحدة أم بالتدریج.الثانی-ان الوضوء أو الغسل

ص:199

الارتماسی باطل علی جمیع هذه التقادیر و الفروض.

و اما الجهة الثالثة فیقع الکلام فیها فی مقامین:الأول-فی الوضوء أو الغسل فی الأرض المغصوبة.الثانی-فی الفضاء المغصوب.

اما المقام الأول فالکلام فیه یقع فی موردین:الأول-ما إذا فرض انحصار الماء فی مکان مغصوب بحیث ان المکلف لا یتمکن من الوضوء أو الغسل إلا فی ذلک المکان.الثانی-ما إذا فرض عدم انحصار الماء فیه.

اما المورد الأول فالظاهر انه لا إشکال فی صحة الوضوء أو الغسل علی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فی مثل المقام الّذی لم یتحد فیه المأمور به مع المنهی عنه خارجاً،حیث ان المأمور به هو الغسلتان و المسحتان-مثلا-و المنهی عنه هو السکون فی الدار،و هو من مقولة الأین فیستحیل ان ینطبق علی المأمور به نعم هما امران متلازمان فی الخارج.و قد ذکرنا غیر مرة انه لا دلیل علی سرایة الحکم من متعلقه إلی ملازماته الوجودیة،بل قد عرفت الدلیل علی عدمها.هذا من جانب.

و من جانب آخر ان وظیفته ابتداء و ان کانت هی التیمم،و لو صلی معه فلا إشکال فی صحة صلاته باعتبار انه لم یتمکن من الوضوء أو الغسل شرعاً و ان تمکن تکویناً.و قد ذکرنا غیر مرة ان مشروعیة الوضوء أو الغسل منوطة بالتمکن من استعمال الماء عقلا و شرعاً،و لا یکفی مجرد التمکن منه عقلا إذا کان ممنوعاً من قبل الشرع،و فی المقام بما ان الوضوء أو الغسل یتوقف علی ارتکاب محرم و هو التصرف فی مال الغیر فلا یتمکن المکلف منه،اذن فوظیفته التیمم، لکونه فاقداً للماء و لکنه لو عصی و دخل فی الدار المغصوبة فتوضأ أو اغتسل به فلا إشکال فی صحته بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب.

و اما المورد الثانی فلا شبهة فی صحة الوضوء أو الغسل و لو قلنا بالفساد فی المورد الأول،و لا تتوقف صحته علی القول بالترتب،لفرض انه مأمور بالطهارة

ص:200

المائیة،لتمکنه منها غایة الأمر ان المکلف بسوء اختیاره قد ارتکب المحرم بدخوله فی المکان المزبور و توضأ أو اغتسل فیه و من الواضح ان ارتکاب محرم مقدمة للوضوء أو الغسل أو فی أثنائه إذا لم یکن متحداً معه لا یوجب.فساده هذا کله فیما إذا لم یکن الفضاء مغصوباً بل کان مباحاً أو مملوکا للمتوضئ.

و اما المقام الثانی(و هو الوضوء أو الغسل فی الفضاء المغصوب)فالظاهر بطلان الوضوء فحسب،دون الغسل اما الوضوء فمن جهة المسح حیث یعتبر فیه إمرار الید و هو نحو تصرف فی ملک الغیر فیکون محرماً.و من الواضح جداً ان المحرم لا یقع مصداقاً للواجب،و لا یفرق فی ذلک بین صورتی انحصار الماء و عدمه،کما هو ظاهر.نعم لو أوقع المسح فی غیر الفضاء المغصوب لصح وضوؤه علی الأقوی و ان کان الأحوط ترکه.

و من هنا استشکلنا فی صحة التیمم فی الفضاء المغصوب من جهة ان المعتبر فیه إمرار الید و هو نحو تصرف فیه.و لا یفرق فی هذا بین وجود المندوحة و عدمها.

و اما الغسل فحیث انه لا یعتبر فیه إمرار الید فلا یکون تصرفاً فیه،و ان کان الأحوط ترکه أیضاً.

و نلخص نتائج الأبحاث المقدمة فی عدة نقاط:

1-قد سبق انه یمکن تصحیح الجهر فی موضع الخفت و بالعکس و الإتمام فی موضع القصر بالالتزام بالترتب فی مقام الجعل،و لا یرد علیه شیء مما أورده شیخنا الأستاذ(قده).

2-قد تقدم ان التضاد الدائمی بین متعلقی الحکمین و ان کان یوجب دخولهما فی باب التعارض دون باب التزاحم،کما هو واضح،إلا انه لا یمنع من الالتزام بالترتب بینهما فی مقام الجعل بان یکون جعل أحدهما مترتباً علی عدم الإتیان بمتعلق الآخر،غایة الأمر ان وقوع الترتب فی هذا المقام یحتاج إلی دلیل،و الدلیل موجود فی المسألتین کما عرفت.

ص:201

3-ان المأمور به لیس خصوص الجهر و الخفت فی فرض وجود القراءة، و القصر و التمام فی فرض وجود الصلاة،لیکونا من الضدین الذین لا ثالث لهما، بل المأمور به هو القراءة الجهریة و الإخفاتیة فی المسألة الأولی،و الصلاة قصراً و تماماً فی المسألة الثانیة.و علیه فیکونان من الضدین لهما ثالث،علی ان القصر و التمام لا یکونان من الضدین لا ثالث لهما حتی فی فرض وجود الصلاة.

4-انه لا ملزم لکون الشرط لفعلیة الخطاب المترتب عصیان الخطاب المترتب علیه،بل قد عرفت ان الشرط فی الحقیقة و الواقع هو ترک امتثاله و عدم الإتیان بمتعلقه،فانه نقطة انطلاق إمکان الترتب لا غیره.و علی هذا الأساس فلا یلزم المحذور المتقدم.

5-قد ظهر ان الترتب کما یجری فی المقام یجری فی موارد العلم الإجمالی، و الشبهات قبل الفحص،و الموارد المهمة بناء علی وجوب الاحتیاط فیها.نعم لا یجری فی خصوص موارد الشبهات البدویة التی تجری أصالة البراءة فیها.

6-ان جریان الترتب فی مورد یرتکز علی رکائز ثلاث:1-وصول الخطاب المترتب علیه إلی المکلف صغری و کبری.2-عدم الإتیان بمتعلقه فی الخارج 3-إحراز ذلک.

7-ان مخالفة الخطاب الطریقی بما هو لا توجب العقاب،و العقاب فی صورة مصادفته للواقع انما هو علی مخالفة الواقع لا علی مخالفته.

8-قد ذکرنا وجهاً آخر أیضاً لدفع الإشکال عن المسألتین و هو انه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا،فان الواجب فی الواقع اما هو خصوص الجهر-مثلا-عند الجهل بوجوب الخفت فی المسألة الأولی،و خصوص التمام عند الجهل بوجوب القصر فی المسألة الثانیة،و اما هو أحد فردی الواجب التخییری.

و علی کلا التقدیرین لا معنی للعقاب.

9-انا لا نعقل التضاد بین الملاکین مع عدم المضادة بین الفعلین.

ص:202

10-ان الترتب لا یجری بین الواجبین أحدهما موسع و الآخر مضیق،فان البحث عن الترتب إمکاناً و امتناعا یتفرع علی تحقق التزاحم بین الحکمین،فإذا فرض انه لا مزاحمة بینهما و تمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال فلا موضوع له و ما نحن فیه کذلک،فان المکلف متمکن من الجمع بینهما من دون ایة منافاة.

11-ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان المکلف إذا التفت إلی تنجس المسجد -مثلا-أثناء الصلاة فلا یتوقف الحکم بصحتها علی القول بالترتب،و هذا بخلاف ما إذا علم بتنجسه قبل الشروع بها،أو کان الواجب مما لا یحرم قطعه،و وجهه هو ان دلیل وجوب الإزالة لبی فلا یشمل هذه الصورة و لکن قد عرفت فساد ذلک و ان دلیل حرمة قطع الصلاة علی تقدیر تسلیمها أیضاً لبی،و الروایات لا تدل علی ذلک.

12-انه لا إشکال فی صحة الوضوء أو الغسل من الأوانی المغصوبة أو أوانی الذهب و الفضة فیما إذا أخذ الماء منها دفعة واحدة بمقدار یکفی له،لأن المکلف بعد الأخذ واجد للماء و متمکن من استعماله عقلا و شرعاً.

13-ان المأمور به-هنا-غیر متحد مع المنهی عنه فان المأمور به هو الغسلتان و المسحتان-مثلا-و المنهی عنه هو أخذ الماء من الآنیة.

14-قد تقدم انه لا دلیل علی اعتبار القدرة الفعلیة فی ابتداء العمل و عند الشروع فی الامتثال،بل تکفی القدرة علی نحو التدریج،و لا یحکم العقل بأزید من ذلک،و لا یفرق فی هذا بین ان تکون تدریجیة القدرة من ناحیة تدریجیة مقتضیها،أو من ناحیة تدریجیة ارتفاع مانعها،أو من ناحیة تدریجیة ارتکاب معصیة المولی.

15-صحة الوضوء أو الغسل الترتیبی من الأوانی مطلقاً و علی جمیع الصور المتقدمة من صورة انحصار الماء و عدمه،و صورة إمکان التفریغ فی إناء آخر و عدم إمکانه بناء علی ما حققناه من صحة الترتب.

ص:203

16-ان ما ذکرناه من النزاع مبتن علی ما هو المشهور من حرمة استعمال الآنیتین مطلقاً.و اما بناء علی عدم حرمة استعمالهما فی غیر الأکل و الشرب کما لا یخلو عن وجه فلا موضوع لهذا النزاع أصلا.

17-ان صحة الوضوء أو الغسل فی الدار المغصوبة مبنیة علی ما هو الصحیح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهی عنه خارجاً،و عدم سرایة الحکم من متعلقه إلی ملازماته الاتفاقیة،اذن لا مانع من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب،و لا فرق فی ذلک بین صورتی انحصار الماء و عدمه کما هو واضح.

18-فساد الوضوء فی الفضاء الغصبی علی الأقوی من جهة حرمة المسح بلا فرق بین صورتی الانحصار و عدمه.

بیان التزاحم و التعارض و نقطة امتیاز

أحدهما عن الآخر

هاهنا جهات من البحث:

الأولی-بیان حقیقة التزاحم و واقعه الموضوعی.

الثانیة-بیان حقیقة التعارض و أساسه.

الثالثة-بیان النقطة الرئیسیة للفرق بین البابین.

الرابعة-بیان مرجحات باب التعارض من جانب،و ما تقتضیه القاعدة فیه من جانب آخر.

الخامسة-بیان مرجحات باب التزاحم،و ما تقتضیه القاعدة عند فقدانها.

و اما الجهة الأولی فالتزاحم علی نوعین:

الأول-التزاحم بین الملاکات الواقعیة بان تکون-مثلا-فی فعل جهة

ص:204

مصلحة تقتضی إیجابه،و جهة مفسدة تقتضی تحریمه،أو کانت فیه جهة تقتضی استحبابه و جهة أخری تقتضی کراهته.و هکذا،ففی هذه الموارد و ما شاکلها لا محالة تقع المزاحمة بین المصلحة و المفسدة،أو کانت مصلحة فی فعل و مصلحة أخری فی فعل آخر مضاد له.و هکذا.

و من الواضح جداً ان الأمر فی هذا النوع من التزاحم بید المولی حیث ان علیه ان یلاحظ الجهات الواقعیة و الملاکات النّفس الأمریة الکامنة فی الأفعال الاختیاریة للعباد،و یقدم ما هو الأقوی و الأهم من تلک الملاکات علی غیره التی لم تکن بهذه المرتبة من القوة و الأهمیة،و یجعل الحکم علی طبق الأهم دون غیره.

و من الضروری ان هذا لیس من وظیفة العبد بشیء،فان وظیفته العبودیة و امتثال الأحکام التی جعلت من قبل المولی و وصلت إلیه و الخروج عن عهدة تلک الأحکام و تحصیل الأمن من ناحیتها من دون ملاحظته جهات المصالح و المفاسد فی متعلقاتها أصلا،بل إذا فرضنا ان العبد علم-بان المولی قد اشتبه علیه الأمر کما یتفق ذلک فی الموالی العرفیة فجعل الوجوب-مثلا-یزعم ان فی الفعل مصلحة،مع انه لا مصلحة فیه،أو علم ان فیه مفسدة-لم یکن له بمقتضی وظیفة العبودیة مخالفة ذلک التکلیف المجعول و ترک امتثاله معتذراً بأنه لا مقتضی للوجوب أو ان فیه مقتضی الحرمة،فان کل ذلک لا یسمع منه و یستحق العقاب علی مخالفته،کما ان من وظیفة الرعایا الالتزام بالقوانین المجعولة فی الحکومات،فلو ان أحداً خالف قانوناً من تلک القوانین اعتذاراً بأنه لا مصلحة فی جعله أو ان فیه مفسدة فلا یسمع هذا الاعتذار منه و یعاقب علی مخالفة ذلک.

فالنتیجة هی:ان وظیفة المولی جعل الأحکام علی طبق جهات المصالح و المفاسد الواقعیتین،و ترجیح بعض تلک الجهات علی بعضها الآخر فی مقام المزاحمة، غایة الأمر انه إذا کان المولی مولی حقیقیاً یجعل الحکم علی وفق ما هو الأقوی من تلک الجهات فی الواقع و نفس الأمر،و إذا کان عرفیاً یجعل الحکم علی طبق ما هو الأقوی بنظره،لعدم إحاطته بجهات الواقع تماماً،و وظیفة العبد الانقیاد

ص:205

و الإطاعة و امتثال الأحکام سواء أعلم بوجود مصلحة فی متعلقاتها أم لم یعلم، ضرورة ان کل ذلک لا یکون عذراً له فی ترک الامتثال،بل یعد هذا منه تدخلا فی وظیفة المولی و هو قبیح.

علی انه لیس للعبد طریق إلی إحراز جهات المصالح و المفاسد فی متعلقات الأحکام الشرعیة مع قطع النّظر عن ثبوتها،لیراعی ما هو الأقوی منها.نعم قد یستکشف من أهمیة الحکم أهمیة ملاکه فیرجح علی غیره،و لکن هذا أجنبی عما نحن فیه و هو وقوع المزاحمة بین الملاکات و الجهات الواقعیة،فاذن لیست لتلک الکبری صغری فی الأحکام الشرعیة أصلا.

و قد تحصل من ذلک امران:

الأول-ان هذا النوع من التزاحم لیس فی مقابل التعارض،فان ما هو فی مقابله التزاحم فی الأحکام الفعلیة بعضها ببعض،دون التزاحم فی الملاکات،و لذا لا تترتب علی البحث عنه ایة ثمرة.

الثانی-ان وقوع التزاحم بین الملاکات یرتکز علی وجهة نظر مذهب العدلیة من تبعیة الأحکام لجهات المصالح و المفاسد فی متعلقاتها،أو فی نفسها.و اما علی وجهة مذهب الأشعری المنکر للقول بالتبعیة مطلقاً فلا موضوع له.

النوع الثانی-تزاحم الأحکام بعضها مع بعض فی مقام الامتثال و الفعلیة، و منشأه عدم قدرة المکلف علی امتثال کلا التکلیفین معاً،و یکون امتثال کل واحد منهما متوقفاً علی مخالفة الآخر،فانه إذا صرف قدرته علی امتثاله یعجز عن امتثال الآخر،فیکون الآخر منتفیاً بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-مثلا إذا فرضنا ان إنقاذ الغریق أو نحوه متوقف علی التصرف فی مال الغیر،أو کان هناک غریقان، و لکن المکلف لا یقدر علی إنقاذ کلیهما معاً فعندئذ لو اختار امتثال أحدهما یعجز عن امتثال الثانی فینتفی بانتفاء موضوعه.

ص:206

و بعبارة واضحة قد تعرضنا فی غیر موضع أن لکل حکم مرتبتین و لا ثالث لهما.

الأولی-مرتبة الجعل و الإنشاء و هی جعله لموضوعه علی نحو القضیة الحقیقیة من دون تعرضه لحال موضوعه وجوداً و عدماً.و من هنا قلنا ان کل قضیة حقیقیة ترجع إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع و تالیها ثبوت المحمول له.و من الواضح جداً ان التالی لا یکون ناظراً إلی حال الشرط وجوداً و لا عدماً،بل هو ثابت علی تقدیر تحققه فی الخارج،و کذا الحکم لا یکون ناظراً إلی حال موضوعه أصلا،بل هو ثابت علی فرض تحققه،و هذا معنی کون الموضوع مأخوذاً فی القضیة الحقیقیة علی نحو فرض وجوده.

الثانیة-مرتبة فعلیة الحکم و هی تتحقق بفعلیة موضوعه فی الخارج و وجوده ضرورة ان فعلیة الحکم تدور مدار فعلیة موضوعه و تحققه.و من هنا قلنا ان نسبة الحکم إلی موضوعه نسبة المعلول إلی علته،فکما ان فعلیة المعلول تدور مدار فعلیة علته،فکذلک فعلیة الحکم تتبع فعلیة موضوعه.

فالنتیجة علی ضوء هذا البیان ان فی موارد التزاحم لا تنافی بین الحکمین بحسب مرتبة الجعل أصلا،بداهة انه لا تنافی بین جعل وجوب إنقاذ الغریق للقادر علی نحو القضیة الحقیقیة و حرمة التصرف فی مال الغیر کذلک،کیف فان عدم التنافی بین الدلیل الدال علی وجوب الإنقاذ و الدلیل الدال علی حرمة التصرف فی مال الغیر من الواضحات الأولیة،و کذا لا تنافی بین جعل وجوب الصلاة للقادر و وجوب الإزالة له.و هکذا،فالتنافی فی مورد التزاحم إنما هو فی مرتبة فعلیة الأحکام و زمن امتثالها،ضرورة أن فعلیة کل من حکمین متزاحمین تأبی عن فعلیة الآخر،لاستحالة فعلیة کلیهما معاً.

و سره ان القدرة الواحدة لا تفی إلا بإعمالها فی أحدهما،فلا تکفی للجمع بینهما فی مقام الإتیان و الامتثال.و علیه فلا محالة کان اختیار کل واحد منهما فی

ص:207

هذا المقام یوجب عجزه عن الآخر فیکون الحکم الآخر منتفیاً بانتفاء موضوعه -و هو القدرة-من دون تصرف فی دلیله أصلا. و الوجه فی ذلک ما ذکرناه غیر مرة من ان الخطابات الشرعیة تستحیل ان تتعرض لحال موضوعاتها نفیاً و إثباتاً،و انما هی متعرضة لبیان الأحکام علی تقدیر ثبوت موضوعاتها فی الخارج.و من هنا قلنا ان الخطابات الشرعیة من قبیل القضایا الحقیقیة،و مفادها مفاد تلک القضایا،مثلا الأدلة الدالة علی ثبوت الأحکام للحائض أو النفساء أو المستطیع أو ما شاکل ذلک لا یتکفل شیء منها لبیان حالها وجوداً أو عدماً و إنما هی متکفلة لبیان الأحکام لها علی تقدیر تحققها فی الخارج، و لذا ذکرنا ان کل دلیل إذا کان ناظراً إلی موضوع دلیل آخر نفیاً أو إثباتاً حقیقة أو حکما لا یکون أی تناف بینه و بین ذلک الدلیل،و ذلک کما فی موارد الورود و الحکومة،ضرورة ان مفاده ثبوت الحکم علی تقدیر تحقق موضوعه خارجاً.

و من الواضح ان نفی الحکم بانتفاء موضوعه لا یکون من رفع الید عن دلیله الدال علیه،فانه إنما یکون فی مورد التعارض حیث ان فیه نفی الحکم عن الموضوع الثابت،کما سیأتی بیانه إن شاء اللّه تعالی.و مقامنا من قبیل الأول، فان التکلیف حیث انه مشروط بالقدرة یستحیل ان یکون ناظراً إلی حالها وجوداً أو عدماً،بل هو ناظر إلی حال متعلقه و مقتض لوجوده ان کان التکلیف وجوبیاً و البعد عنه ان کان تحریمیاً،و علیه فکون المکلف قادراً فی الخارج أو غیر قادر أجنبی عن مفاد الدلیل الدال علیه،فلا یکون انتفاؤه بانتفاء القدرة من رفع الید عن دلیله و منافیاً له،ضرورة ان ما لا اقتضاء له بالإضافة إلی وجود القدرة و عدمها لا یکون منافیاً لما هو مقتض لعدمها،کما هو واضح.

نعم لو کان هناک دلیل دل علی انتفائه مع ثبوت موضوعه لکان منافیاً له و موجباً لرفع الید عما دل علیه،إذ هذا مقتض لثبوته،و ذاک مقتض لعدمه فلا یمکن ان یجتمعا فی موضوع واحد،و لکنهما عندئذ صارا من المتعارضین

ص:208

فلا یکونان من المتزاحمین،و محل کلامنا فعلا فی الثانی لا فی الأول.

و صفوة القول فی ذلک هی:انا قد ذکرنا غیر مرة انه لا مضادة و لا منافاة بین الأحکام بأنفسها،لأنها أمور اعتباریة فلا شأن لها ما عدا اعتبار من بیده الاعتبار و لا واقع موضوعی لها غیر ذلک.و من المعلوم انه لا تعقل المضادة و المنافاة بین الأمور الاعتباریة بعضها ببعض ذاتاً و حقیقة.و من هنا قلنا ان التنافی و التضاد بین الأحکام اما ان یکون من ناحیة مبدئها،و اما ان یکون من ناحیة منتهاها و لا ثالث لهما.

اما التنافی من ناحیة المبدأ فیبتنی علی وجهة نظر مذهب العدلیة من تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد فی متعلقاتها أو فی نفسها،و حیث ان المصلحة و المفسدة متضادتان فلا یمکن اجتماعهما فی شیء واحد.

و اما التنافی من ناحیة المنتهی فلعدم تمکن المکلف من امتثال الوجوب و الحرمة معاً-مثلا-فی شیء واحد،و کذا عدم تمکنه من امتثال وجوبین أو تحریمین متعلقین بالضدین الذین لا ثالث لهما.و هکذا،و لا یفرق فی هذه الناحیة بین مذهب العدلیة و غیره.

و علی هذا الأساس فإذا کان بین حکمین تناف من ناحیة المبدأ أو المنتهی بالذات کالوجوب و الحرمة لشیء واحد،أو بالعرض کما إذا علم إجمالا بکذب أحدهما فلا محالة یقع التعارض بین دلیلیهما.

و اما إذا لم یکن بینهما تناف لا من ناحیة المبدأ و لا من ناحیة المنتهی کوجوب صلاة الفریضة و وجوب إزالة النجاسة عن المسجد-مثلا-فلا مانع من جعل کلیهما معاً أصلا،بداهة انه لا تنافی بین جعل وجوب الصلاة للقادر و جعل وجوب إزالة النجاسة عن المسجد،غایة الأمر انه قد یتفق لبعض افراد المکلفین انه لا یتمکن من الجمع بینهما فی مقام الامتثال.و علیه فلا محالة لا یکون أحدهما فعلیاً، لما عرفت من ان فعلیة الحکم تتبع فعلیة موضوعه-و هو القدرة-فی مفروض المقام

ص:209

و حیث ان فعلیة القدرة بالإضافة إلی کلا الحکمین ممتنعة علی الفرض امتنعت فعلیة کلیهما معاً.

و من البدیهی ان هذا المقدار من التنافی لا یمنع من جعلهما علی نحو القضیة الحقیقیة،لوضوح انه لو کان مانعاً فانما یکون من جهة انه یوجب کون جعلهما لغواً و من الواضح انه لا یوجب ذلک باعتبار انه تناف اتفاقی فی مادة شخص ما، و الموجب له إنما هو التنافی الدائمی و بالإضافة إلی جمیع المکلفین،کما هو الحال فی الضدین الذین لیس لهما ثالث،حیث لا یمکن للشارع إیجابهما معاً،فانه لغو محض،و صدوره من الحکیم محال،بل الحال کذلک فی مطلق الضدین و لو کان بینهما ثالث کالقیام و القعود و السواد و البیاض و ما شاکلهما،فانه لا یمکن للشارع إیجاب کلیهما معاً فی زمان واحد،و ذلک لعدم تمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال أبداً من جهة ان التنافی بینهما أبدی،لا اتفاقی.و علیه فإیجابهما لغو محض فلا یصدر من الحکیم.

و من هنا قد ذکرنا سابقاً ان التضاد بین الفعلین إذا کان دائمیاً کان دلیل وجوب أحدهما معارضاً لدلیل وجوب الآخر لا محالة،فالملاک الرئیس للدخول فی باب التزاحم هو ان یکون التضاد بینهما اتفاقیاً بمعنی انه کان فی مورد دون آخر، و بالإضافة إلی مکلف دون مکلف آخر.و قد مر ان مثل هذا التنافی و التضاد لا یکون مانعاً عن الجعل أبداً.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری ان المنشأ الأساسی لهذا التنافی و التضاد انما هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال و الإطاعة اتفاقاً بعد ما کان قادراً علی إتیان کل واحد من الفعلین فی نفسه مع قطع النّظر عن الآخر،و لکنه لم یقدر علی الجمع بینهما فی الخارج صدفة،لا من ناحیة المضادة بینهما دائماً،بل من ناحیة ان القدرة الواحدة لا تفیء لامتثال کلیهما معاً.و علیه فلا محالة کان إعمالها فی امتثال هذا موجبا لانتفاء فعلیة ذاک بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-لا انه یوجب انتفاءه

ص:210

مع بقاء موضوعه کما هو الحال فی موارد المعارضة بین الدلیلین،و قد ذکرنا غیر مرة ان الحکم یستحیل ان یقتضی وجود موضوعه،فلا هذا یقتضی وجود القدرة و لا ذاک،لتقع المصادمة بین اقتضائهما إیجاد القدرة،بل کل واحد منهما بالإضافة إلی إیجادها و تحققها فی الخارج لا اقتضاء.و علیه فبما ان المکلف قادر علی امتثال کل واحد منهما فی نفسه مع قطع النّظر عن الآخر فلا محالة یقتضی کل منهما إعمال القدرة فی امتثاله،و حیث ان المکلف لا یقدر علی امتثال کلیهما معاً فتقع المزاحمة بین اقتضاء هذا لامتثاله و اقتضاء ذاک.

و قد تحصل مما ذکرناه ان المنشأ الأساسی لوقوع التزاحم بین تکلیفین نقطتان:

الأولی-جعل الشارع کلا التکلیفین معاً و فی عرض واحد،و لازم ذلک هو اقتضاء کل منهما لامتثاله فی عرض اقتضاء الآخر له.

الثانیة-عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال،فإذا تحققت هاتان النقطتان تحققت المزاحمة بینهما لا محالة،و اما إذا انتفت إحداهما،کما إذا لم یجعل الشارع إلا أحدهما دون الآخر،أو کان المکلف قادراً علی امتثال کلیهما معاً فلا مزاحمة أصلا.

و علی أساس هذا البیان قد ظهر أمور:

الأول-ان المزاحمة بین التکلیفین إنما تکون بالإضافة إلی من لم یقدر علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال و اما مع القدرة علیه فلا مزاحمة بینهما أبدا بل کلا التکلیفین یکون فعلیاً من دون ایة منافاة بینهما.

الثانی-ان التزاحم بین الحکمین انما هو فی مرتبة متأخرة عن مرتبة جعلهما و هی مرتبة الامتثال و حکم العقل لزومه.و من هنا قلنا ان فی باب التزاحم لا تنافی فی مقام الجعل أصلا.

الثالث-ان ارتفاع أحد الحکمین فی باب التزاحم و عدم فعلیته مستند إلی ارتفاع موضوعه و عدم فعلیته،لا إلی شیء آخر مع بقاء موضوعه،لیقع التنافی بینه و بین ذاک الشیء،و لأجل ذلک یجری التزاحم بین الحکمین المستفادین من آیتین

ص:211

أو سنتین قطعیتین،و کذلک الحکم المستفاد من روایة و الحکم المستفاد من آیة من الکتاب أو سنة قطعیة،بل لا مناص من تقدیم الروایة علی الکتاب أو السنة القطعیة فی مقام المزاحمة إذا کانت واجدة لإحدی مرجحات بابها.

لحد الآن قد تبین ان النقطة الرئیسة التی ینبثق منها التزاحم بین الحکمین بعد الفراغ من جعلهما إنما هی عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال و الفعلیة،و اما مع التمکن فلا مزاحمة أصلا.

و لکن لشیخنا الأستاذ-قده-فی المقام کلام،و هو ان التزاحم قد ینشأ من عدم قدرة المکلف علی الجمع بین الحکمین فی مقام الامتثال کما هو الغالب.و قد ینشأ من جهة أخری غیر ذلک.

اما الأول فقد قسمه-قده-علی خمسة أقسام:

الأول-ما إذا کان عدم القدرة اتفاقیاً کما هو الحال فی التزاحم بین وجوب إنقاذ غریق و إنقاذ غریق آخر فیما إذا لم یقدر المکلف علی إنقاذ کلیهما معاً.

الثانی-ما إذا کان التزاحم من جهة وقوع التضاد بین الواجبین اتفاقاً،لما عرفت من ان التضاد بینهما إذا کان دائمیاً فیقع التعارض بین دلیلیهما فتکون المصادمة عندئذ فی مقام الجعل لا فی مقام الامتثال و الفعلیة.

الثالث-موارد اجتماع الأمر و النهی فیما إذا کانت هناک ماهیتان اتحدتا فی الخارج بنحو من الاتحاد کالصلاة و الغصب-مثلا-بناء علی ما هو الصحیح من عدم سرایة الحکم من الطبیعة إلی مشخصاتها فوقتئذ تقع المزاحمة بینهما،و هذا بخلاف ما إذا کانت هناک ماهیة واحدة کإکرام العالم الفاسق المنطبق علیه إکرام العالم المحکوم بالوجوب،و إکرام الفاسق المحکوم بالحرمة،فان مورد الاجتماع علی هذا یدخل فی باب التعارض دون التزاحم.و کذا إذا کانت هناک ماهیتان متعددتان بناء علی سرایة الحکم من إحداهما إلی الأخری،و سیأتی بیان ذلک تماماً فی بحث اجتماع الأمر و النهی إن شاء اللّه تعالی.

ص:212

الرابع-ما إذا کان الحرام مقدمة لواجب کما إذا توقف إنقاذ الغریق-مثلا- أو نحوه علی التصرف فی مال الغیر،هذا فیما إذا لم یکن التوقف دائمیاً،و إلا فیدخل فی باب التعارض،کما هو واضح.

الخامس-موارد التلازم الاتفاقی فیما إذا کان أحد المتلازمین محکوماً بالوجوب و الآخر محکوما بالحرمة،و مثال ذلک استقبال القبلة و استدبار الجدی لمن سکن فی العراق و ما شاکله من البلاد،فانه لا تلازم بینهما بالذات،فالتلازم انما یتفق بینهما لخصوص أهل العراق أو ما سامته من النقاط.و اما إذا کان التلازم دائمیاً فیدخل فی باب التعارض.

و اما الثانی(و هو ما إذا کان التزاحم ناشئاً من شیء آخر لا من عدم قدرة المکلف)فقد مثل بما إذا کان المکلف مالکا من الإبل بمقدار النصاب الخامس (و هو خمس و عشرون إبلا)الّذی یجب فیه خمس شیاة،ثم بعد مضی ستة أشهر ملک ناقة أخری فتحقق النصاب السادس الّذی یجب فیه بنت مخاض،و علی هذا فمقتضی أدلة وجوب الزکاة هو وجوب خمس شیاة بعد انقضاء سنة النصاب الخامس و وجوب بنت مخاض بعد تمامیة حول النصاب السادس،و المکلف قادر علی دفع کلیهما معاً،و لم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال،بل هی ناشئة من ناحیة قیام الدلیل من الخارج علی ان المال الواحد لا یزکی فی السنة الواحدة مرتین.

و للمناقشة فیما أفاده(قده)-هنا-مجال.اما ما ذکره من ان التزاحم الناشئ من ناحیة عدم قدرة المکلف فینقسم إلی خمسة أقسام فیرد علیه:

أولا-انه لا أثر لهذا التقسیم أصلا،و لا تترتب علیه أیة ثمرة فیکون نظیر تقسیم ان التزاحم قد یکون بین وجوبین،و قد یکون بین تحریمین،و قد یکون بین وجوب و تحریم.و هکذا،فلو کان مثل هذه الاعتبارات موجباً للقسمة لازدادت الأقسام بکثیر کما لا یخفی.

ص:213

و ثانیاً-ان أصل تقسیمه إلی تلک الأقسام لا یخلو عن إشکال.و الوجه فی ذلک هو ان القسم الثانی(و هو ما إذا کان التزاحم ناشئاً عن التضاد بین الواجبین اتفاقاً)داخل فی القسم الأول(و هو ما إذا کان التزاحم فیه ناشئاً عن عدم القدرة اتفاقا)ضرورة ان المضادة بین فعلین من باب الاتفاق لا یمکن تحققها إلا من ناحیة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الإتیان و الامتثال.و علیه فلا معنی لجعله قسما ثانیا من التزاحم فی قبال القسم الأول،بل هو هو بعینه.

و اما ما ذکره-قده-من ان المضادة بین الفعلین إذا کانت دائمیة فتقع المعارضة بین دلیلی حکمیهما ففی غایة الصحة و المتانة فی الضدین الذین لا ثالث لهما کالحرکة و السکون و ما شاکلهما،ضرورة انه لا یعقل تعلق الأمر بهما حتی علی نحو الترتب،کما تقدم.و اما فی الضدین الذین لهما ثالث کالقیام و القعود و السواد و البیاض و نحوهما فالأمر لیس کما أفاده.و ذلک لأن المعارضة فی الحقیقة لیست بین نفس دلیلیهما،کما هو الحال فی الضدین الذین لا ثالث لهما،و إنما هی بین إطلاق کل منهما و ثبوت الآخر.و علیه فلا موجب إلا لرفع الید عن إطلاق کل منهما بتقییده عند الإتیان بمتعلق الآخر،لوضوح انه لا معارضة بین أصل ثبوت الخطاب بهذا فی الجملة و ثبوت الخطاب بذاک کذلک،و إنما تکون المعارضة بین إطلاق هذا و وجود الآخر و بالعکس،و هی لا توجب إلا رفع الید عن إطلاق کل منهما لا عن أصله، فیکون إطلاق کل واحد منهما مترتبا علی عدم الإتیان بالآخر.

و نتیجة ذلک هو الالتزام بالترتب من الجانبین أو الالتزام بالوجوب التخییری إلا فیما إذا علم بکذب أحدهما و عدم صدوره فی الواقع،فعندئذ تقع المعارضة بینهما، فیرجع إلی قواعد باب التعارض.

و اما موارد اجتماع الأمر و النهی فان قلنا بالامتناع اما لدعوی سرایة النهی من متعلقه إلی متعلق الأمر،و اما لدعوی ان الترکیب بینهما اتحادی فهی من صغریات مسألة التعارض دون التزاحم.و علیه فلا معنی للقول بالترتب فیها

ص:214

أصلا،و ان قلنا بالجواز و تعدد الجمع،فان کانت هناک مندوحة و تمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال فلا تزاحم بینهما أصلا،کما تقدم،و ان لم تکن هناک مندوحة فتقع المزاحمة بینهما لا محالة.

و لکن عندئذ یدخل هذا القسم فی القسم الخامس،و لا یکون قسما آخر فی قباله،بل هو من أحد مصادیقه،و سیأتی بیان کل واحد من هذه الأقسام بصورة مفصلة إن شاء اللّه تعالی،و الغرض من التعرض هنا الإشارة إلی عدم صحة هذا التقسیم،و ان منشأ التزاحم فی جمیع تلک الأقسام نقطة واحدة و هی عدم قدرة المکلف علی الجمع بین متعلقی الحکمین فی ظرف الامتثال و الإطاعة،کما اعترف-قده- بذلک.و من الواضح انه لا یفرق فی هذا بین ان یکون التزاحم بین واجبین متضادین من باب الاتفاق أو بین واجب و حرام سواء أ کانا متلازمین أو کان أحدهما متوقفا علی الآخر،فان الجمیع بالإضافة إلی تلک النقطة علی نسبة واحدة.

و اما ما ذکره-قده-من ان التزاحم قد لا ینشأ من جهة عدم قدرة المکلف بل من جهة أخری کالمثال المتقدم فهو غریب منه-قده-و ذلک لأن المثال المذکور و ما شاکله داخل فی باب التعارض،و لیس من باب التزاحم فی شیء.

و الوجه فیه هو ان ما دل علی ان المال الواحد لا یزکی فی السنة الواحدة مرتین یوجب العلم الإجمالی بکذب أحد الدلیلین أعنی بهما ما دل علی وجوب خمس شیاة علی من ملک النصاب الخامس و مضی علیه الحول،و ما دل علی وجوب بنت مخاض علی من ملک النصاب السادس و مضی علیه الحول،و ان کان لا تنافی بینهما بالذات و مع قطع النّظر عما دل علی ان المال الواحد لا یزکی مرتین فی عام واحد،فیکون نظیر ما دل علی وجوب صلاة الجمعة فی یوم الجمعة،و ما دل علی وجوب الظهر فیه فانه لا تنافی بین دلیلیهما بالذات أصلا،لتمکن المکلف من الجمع بینهما و لکن العلم الخارجی بعدم وجوب ستة صلوات فی یوم واحد أوجب التنافی بینهما،اذن فلا بد من الرجوع إلی قواعد باب المعارضة،و لا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة

ص:215

أبداً،و لذا لو لم یکن ذلک الدلیل الخارجی لقلنا بوجوب کلیهما معا من دون ایة منافاة و مزاحمة فی البین. و لکن العجب من شیخنا الأستاذ-قده-کیف غفل عن ذلک و ادخل المقام فی باب المزاحمة.

و نتیجة ما ذکرناه لحد الآن هی ان التزاحم بین تکلیفین فی مقام الامتثال لا یعقل إلا من ناحیة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی ذلک المقام و علیه فالتزاحم منحصر فی قسم واحد و لا ثانی له.

إلی هنا قد تم بصورة واضحة بیان کل من التزاحم فی الملاکات بعضها ببعض، و التزاحم فی الأحکام.و علی ضوء ذلک البیان قد ظهر انه لا اشتراک بینهما أصلا لنحتاج إلی بیان نقطة امتیاز أحدهما عن الآخر.

و اما الجهة الثانیة(و هی بیان حقیقة التعارض و أساسه الموضوعی)فقد ذکرنا ان التعارض هو تنافی مدلولی الدلیلین فی مقام الإثبات علی وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.

و الأول-کما إذا دل دلیل علی وجوب شیء و دل دلیل آخر علی عدم وجوبه أو علی حرمته،أو دل دلیل علی طهارة شیء و دل دلیل آخر علی نجاسته.و هکذا و أمثلة ذلک فی الروایات و النصوص الواردة فی أبواب الفقه بشتی أنواعها کثیرة جداً،بل هی خارجة عن حدود الإحصاء عادة.

و الثانی-کما إذا دل دلیل علی وجوب شیء و دل دلیل آخر علی وجوب شیء آخر أو علی حرمته من دون تناف و مضادة بینهما أبداً فی مقام الجعل و التشریع لإمکان ثبوت کلیهما معاً فی ذلک المقام.و لکن علمنا من الخارج بکذب أحدهما و عدم مطابقته للواقع من جهة قیام الإجماع أو الضرورة أو نحوها علی ذلک،و هذا العلم الخارجی أوجب التنافی و التعارض بینهما فی مقام الإثبات،و عدم إمکان الجمع بین ثبوت مدلولیهما فی مقام الثبوت و الواقع،و مثال هذا ما لو دل دلیل علی

ص:216

وجوب الجمعة فی یوم الجمعة تعییناً و دل دلیل آخر علی وجوب الظهر فیها کذلک، فانه لا تنافی و لا تضاد بین مدلولی هذین الدلیلین أصلا بالذات و الحقیقة،لمکان وجوب کلتا الصلاتین معاً فی یوم الجمعة،و لا یلزم منه أی محذور من التضاد أو التناقض،و لکن بما انا علمنا بعدم وجوب ستة صلوات فی یوم واحد یقع التعارض بین الدلیلین فی مقام الإثبات،فیدل کل واحد منهما بالدلالة الالتزامیة علی نفی مدلول الآخر.

و من هذا القبیل التنافی بین ما دل علی ان الواجب علی من سافر أربعة فراسخ غیر قاصد للرجوع فی یومه هو الصلاة تماماً،و ما دل علی ان الواجب علیه الصلاة قصراً،حیث لا تنافی بین مدلولیهما بالذات و الحقیقة،و لا مانع من الجمع بینهما فی نفسه،و التنافی بینهما إنما نشأ من العلم الخارجی بکذب أحدهما فی الواقع و عدم ثبوته فیه من جهة عدم وجوب ستة صلوات فی یوم واحد،و لأجل ذلک یدل کل من الدلیلین بالدلالة الالتزامیة علی نفی مدلول الدلیل الآخر.

و قد تحصل من ذلک ان النقطة الرئیسیة التی هی مبدأ انبثاق التعارض بین الدلیلین بشتی اشکاله أی سواء أ کان بالذات و الحقیقة أو کان بالعرض و المجاز و سواء أ کان علی وجه التباین أو العموم من وجه هی ان ثبوت مدلول کل منهما فی مقام الجعل یقتضی رفع الید عن مدلول الآخر و موجب لانتفائه فی ذلک المقام مع بقاء موضوعه بحاله،لا بانتفائه،و من هنا یرجع جمیع أقسام التعارض إلی التناقض حقیقة و واقعاً بمعنی ان ثبوت مدلول کل واحد منهما یستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر اما بالمطابقة،و اما بالالتزام.

و علی الجملة فملاک التعارض و التنافی بین الدلیلین هو ما ذکرناه غیر مرة من ان کل دلیل متکفل لثبوت الحکم علی فرض وجود موضوعه فی الخارج بنحو القضیة الحقیقیة.هذا من جانب.و من جانب آخر انک قد عرفت فی غیر موضع ان نسبة الحکم إلی الموضوع فی عالم التشریع کنسبة المعلول إلی العلة التامة فی

ص:217

عالم التکوین،فکما یستحیل انفکاک المعلول عن علته التامة،فکذلک یستحیل انفکاک الحکم عن موضوعه.

فالنتیجة علی ضوء هذین الجانبین هی انه إذا کان هناک دلیل آخر یدل علی نفی هذا الحکم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه،فلا محالة یقع التعارض و التکاذب بینه و بین دلیله فی مقام الإثبات و الدلالة،فان دلیله یقتضی ثبوته لموضوعه علی تقدیر وجوده فی الخارج،و ذاک یقتضی نفیه عن ذلک الموضوع علی هذا التقدیر.و من الواضح جداً ان الجمع بینهما غیر ممکن لاستحالة الجمع بین الوجود و العدم فی شیء واحد،و النفی و الإثبات فی موضوع فارد.

و صفوة القول:ان التنافی بین الحکمین فی مقام الجعل و الواقع بالذات أو بالعرض یوجب التنافی و التعارض بین دلیلیهما فی مقام الإثبات و الدلالة و لأجل ذلک کان کل منهما فی هذا المقام یکذب الآخر فلا یمکن تصدیق کلیهما معاً و الأخذ بهما، فلا محالة یوجب الأخذ بأحدهما رفع الید عن الآخر و بالعکس-مثلا-الأخذ بالدلیل الدال علی وجوب القصر-مثلا-فی المسألة المزبورة،أو علی وجوب الجمعة فی یوم الجمعة لا محالة موجب لرفع الید عن الدلیل الدال علی وجوب التمام،أو علی وجوب الظهر،و الأخذ بالدلیل الدال علی جواز الجمع بین فاطمیتین کما هو المشهور یوجب لا محالة رفع الید عن الدلیل الدال علی عدم جواز الجمع بینهما.و هکذا.

و من ذلک یظهر ان التعارض بین الدلیلین لا یتوقف علی تحقق موضوعهما فی الخارج بل ثبوت کل منهما بنحو القضیة الحقیقیة یستلزم عدم ثبوت الآخر کذلک و کذبه فی الواقع و مقام الجعل سواء أتحقق موضوعهما فی الخارج أم لم یتحقق،فان ملاک التعارض و أساسه الموضوعی کما عرفت هو عدم إمکان جعل کلا الحکمین معاً و ثبوته فی مرحلة الجعل و التشریع اما ذاتاً أو من ناحیة العلم الخارجی،بل قد یحتمل عدم ثبوت کلیهما معاً کما لا یخفی،و کیف کان فعلی هذا الأساس ثبوت کل منهما علی نحو القضیة الحقیقیة یستلزم لا محالة عدم ثبوت الآخر کذلک.

ص:218

و قد تحصل مما ذکرناه ان منشأ التعارض أحد أمرین و لا ثالث لها:

الأول-المناقضة أو المضادة بین نفس مدلولی الدلیلین،و هذا هو الکثیر فی الأدلة و الروایات الواردة فی أبواب الفقه.

الثانی-العلم الخارجی بوحدة الحکم فی الواقع و مقام الجعل و عدم مطابقة أحدهما للواقع.

و اما الجهة الثالثة(و هی نقطة امتیاز کبری باب التزاحم عن کبری باب التعارض)فقد اتضح حالها من بیان حقیقة التزاحم و التعارض.و ملخصه:ان النقطة الأساسیة فی کل من البابین تخالف ما هو النقطة الأساسیة فی الآخر.

اما فی باب التزاحم فهی عدم قدرة المکلف علی الجمع بین الحکمین المتزاحمین فی مقام الامتثال بلا ایة منافاة و مضادة بینهما فی مقام الجعل أصلا،فالتنافی بینهما إنما هو فی مرحلة الفعلیة و الامتثال،فان المکلف ان صرف قدرته فی امتثال هذا عجز عن امتثال ذاک،و ان عکس فبالعکس.

و یتفرع علی تلک النقطة امران:

الأول-اختصاص التزاحم بینهما بالإضافة إلی من کان عاجزاً عن امتثالهما معاً،و اما من کان قادراً علی امتثالهما فلا مزاحمة بینهما بالإضافة إلیه أبداً،فالمزاحمة فی مادة العاجز دون مادة القادر.و هذا واضح.

الثانی-ان انتفاء الحکم فی باب المزاحمة انما هو بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-لا انتفاؤه مع بقاء موضوعه بحاله.

و اما فی باب التعارض فهی التنافی و التعاند بین الحکمین فی مقام الجعل و الثبوت،و عدم إمکان جعل کلیهما معاً،اما بالذات و الحقیقة،و اما من ناحیة العلم الإجمالی بعدم جعل أحدهما فی الواقع.

و نتیجة تلک النقطة امران:

الأول-عدم اختصاص التعارض بمکلف دون آخر و بزمان دون زمان،

ص:219

بداهة ان استحالة اجتماع النقیضین أو الضدین لا تختص بشخص دون آخر،و بزمان دون زمان آخر،و بحالة دون حالة أخری،و المفروض ان جعل کلا الحکمین معاً مستلزم للتناقض أو التضاد و هو محال.

الثانی-ان انتفاء الحکم فی باب التعارض لیس بانتفاء موضوعه،و إنما هو بانتفاء نفسه مع ثبوت موضوعه بحاله.

فتحصل مما ذکرناه ان المناط فی کل من البابین أجنبی عما هو المناط فی الباب الآخر فلا جامع بین البابین أبداً.

و علی هذا الأساس فالقول بان الأصل عند الشک هل هو التعارض أو التزاحم لا مجال له أصلا.و من هنا ذکر شیخنا الأستاذ-قده-ان هذا القول یشبه القول بان الأصل فی الأشیاء هل هی الطهارة أو البطلان فی البیع الفضولی.

ثم انه لا یخفی ان ما ذکرناه من افتراق التزاحم و التعارض لا یبتنی علی وجهة نظر مذهب دون آخر،بل تعم جمیع المذاهب و الآراء سواء فیها القول بتبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد فی متعلقاتها أو فی أنفسها،و القول بعدم التبعیة مطلقاً،کما هو مذهب الأشعری.و الوجه فی ذلک ما عرفت من ان مسألة التزاحم ترتکز علی رکیزة واحدة و هی عدم تمکن المکلف من الجمع بین التکلیفین المتوجهین إلیه فی ظرف الامتثال.و من الواضح انه لا یفرق فیه بین ان یکون لهما ملاک فی مورد المزاحمة أم لا؟ضرورة انه لا دخل لمسألة تبعیة الأحکام للملاکات بمسألتنا هذه و لا صلة لإحداهما بالأخری أبداً.و مسألة التعارض أیضاً ترتکز علی رکیزة و هی تنافی الحکمین فی مقام الجعل و الواقع.و من الواضح انها أجنبیة عن کون أحدهما ذا ملاک فی مورد المعارضة أو لم یکن،بداهة انه لا دخل لوجود الملاک فی أحدهما لوقوع التعارض بینهما.و هذا واضح جداً.

فما أفاده المحقق صاحب الکفایة-قده-من ابتناء مسألة التزاحم علی ان یکون المقتضی لکلا الحکمین موجوداً فی مورد المزاحمة،و مسألة التعارض علی

ص:220

ان یکون المقتضی لأحدهما موجوداً فی مورد المعارضة لا یرجع إلی أصل صحیح و سیأتی تفصیله بشکل واضح فی مسألة اجتماع الأمر و النهی إن شاء اللّه تعالی.

و أما الجهة الرابعة فیقع الکلام فیها فی موردین:

الأول-فیما تقتضیه القاعدة فی المتعارضین.

الثانی-فی مرجحاتهما.

أما المورد الأول-فقد ذکرنا فی بحث التعادل و الترجیح ان مقتضی القاعدة سقوط المتعارضین عن الحجیة و فرضهما کأن لم یکونا.و الوجه فی ذلک هو ان دلیل الاعتبار لا یشمل کلیهما معاً لاستحالة التعبد بالمتناقضین أو الضدین،فشموله لأحدهما المعین و ان لم یکن مانعاً فی نفسه،الا انه معارض لشموله للآخر،حیث ان نسبته إلی کلیهما علی حد سواء و علیه فالحکم بشموله لهذا دون ذاک ترجیح بلا مرجح،و أحدهما لا بعینه لیس فرداً ثالثاً،فاذن یسقطان معاً فیرجع إلی العموم أو الإطلاق ان کان،و الا فإلی أصل عملی.و تمام الکلام فی ذلک بصورة مشروحة فی بحث التعادل و الترجیح إن شاء اللّه تعالی.

و أما المورد الثانی-فقد ذکرنا فی بحث التعادل و الترجیح ان مرجحات باب التعارض تنحصر بموافقة الکتاب أو السنة،و بمخالفة العامة،و لیس غیرهما بمرجح هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان الترجیح بهما یختص بالخبرین المتعارضین فلا یعم غیرهما من آیتین متعارضتین أو ظاهرین متعارضین أو إجماعین متعارضین،بل لا یعم فیما إذا کان أحد المتعارضین خبراً و الاخر إجماعا مثلا.

فالنتیجة ان هاهنا دعاوی ثلاث:

الأولی-انحصار المرجح بخصوص موافقة الکتاب أو السنة،و مخالفة العامة.

الثانیة-ان غیرهما من صفات الراوی و نحوها لیس بمرجح.

الثالثة-أن الترجیح بهما یختصر بالخبرین المتعارضین فلا یعم غیرهما.

أما الدعوی الأولی فلأنهما قد وردتا فی صحیحة قطب الراوندی عن الصادق علیه السلام

ص:221

إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه فما وافق کتاب اللّه فخذوه و ما خالف کتاب اللّه فذروه،فان لم تجدوه فی کتاب اللّه فاعرضوهما علی اخبار العامة،فما وافق اخبارهم فذروه و ما خالف اخبارهم فخذوه»و قد ذکرنا هناک ان موافقة الکتاب و السنة،و مخالفة العامة من المرجحات،و لیستا فی مقام تمییز الحجة عن اللاحجة. کما تخیل المحقق صاحب الکفایة(قده)بدعوی ان ما ورد من الروایات من ان الخبر المخالف للکتاب زخرف و باطل أو لم نقله أو اضربوه علی الجدار و نحو ذلک من التعبیرات دال علی انه لیس بحجة،و کذا الحال فی الخبر الموافق للقوم،فان الوثوق و الاطمئنان بصدور الخبر المخالف للقوم یوجب الاطمئنان بان الخبر الموافق لهم اما غیر صادر أو صدر تقیة.

و لکن قد ذکرنا هناک ان المراد بالمخالفة فی تلک الروایات ما کان علی نحو التباین أو العموم من وجه،فمثل هذا المخالف لم یمکن صدوره عن الأئمة علیهم السلام و اما المخالف علی نحو العموم المطلق فلا إشکال فی صدوره عنهم علیهم السلام، کیف و قد خصص به فی کثیر من الموارد عمومات الکتاب و السنة.و من الواضح جداً ان المراد من المخالفة فی روایات الترجیح لیس المخالفة علی النحو الأول،بل المراد منها المخالفة علی النحو الثانی،و الا لم یکن بیانها مناسباً لمقام الترجیح،إذ المفروض انه علیه السلام کان فی مقام بیان المرجح لأحد الخبرین المتعارضین علی الآخر لا فی مقام تمییز الحجة عن اللا حجة.

و مما یؤید ذلک انه لو کان المراد من المخالفة فی تلک الطائفة هو المخالفة علی النحو الأول لم یکن الخبر المشهور المخالف للکتاب أو السنة حجة فی نفسه،و معه کیف یحکم علیه السلام بتقدیمه علی الخبر الشاذ الموافق للکتاب أو السنة کما هو مقتضی إطلاق المقبولة.و من ذلک یعلم ان هذه الطائفة لیست فی مقام تمییز الحجة عن اللا حجة،و الا لم یکن معنی لتقدیم الخبر المشهور المخالف علی الشاذ الموافق،بل هی فی مقام بیان المرجح لأحد المتعارضین علی الآخر.

ص:222

و أما ما ذکره من ان الخبر الموافق للقوم لا یکون حجة مع وجود الخبر المخالف لهم فهو من الغرائب،ضرورة ان مجرد وجود الخبر المخالف لهم لا یوجب کون الموافق غیر حجة،لأن الأحکام الموافقة لهم فی نفسها کثیرة جداً.و علیه فیحتمل ان یکون الخبر الموافق لهم هو الحکم الواقعی دون المخالف،و هذا واضح.

و أما الدعوی الثانیة فلأن الترجیح بغیرهما لم یرد فی دلیل معتبر،و علی تقدیر وروده فی دلیل معتبر لیس من جملة المرجحات-هنا-بیان ذلک:أما الشهرة لم تذکر فیما عدا المرفوعة و المقبولة اما المرفوعة فهی ضعیفة سنداً،بل غیر موجودة فی الکتب المعتبرة،و لذا ناقش فی سندها صاحب الحدائق-قده-الّذی ادعی القطع بصدور الروایات الموجودة فی الکتب الأربعة،و غیرها من الکتب المعتبرة و أما المقبولة فهی و ان کان الأصحاب یتلقونها بالقبول،الا انها أیضا ضعیفة سنداً بعمر ابن حنظلة حیث لم تثبت وثاقته،و مع الغض عن سندها فالمذکور فیها هو الأخذ بالمجمع علیه.و من المعلوم ان المراد منه هو الخبر الّذی أجمع الأصحاب علی روایته عن المعصومین علیهم السلام،و صدوره منهم.و علی هذا فالمراد منه هو الخبر القطعی الصدور،فاذن تقدیمه علی الشاذ لیس من باب الترجیح،کما هو ظاهر.

و من هنا یظهر حال صفات الراوی کالأعدلیة و الأفقهیة و الأوثقیة و نحوها أیضاً،فان الترجیح بها لم یذکر فی غیر المقبولة و المرفوعة من الاخبار العلاجیة.

أما المرفوعة فقد عرفت حالها.و أما المقبولة فمع الغض عن سندها لم تجعل الترجیح بالصفات من مرجحات الروایتین،و انما جعلت الترجیح بها من مرجحات الحکمین حیث قال علیه السلام الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما إلخ.

و أما الدعوی الثالثة فلان موضوع الترجیح فی الاخبار العلاجیة خصوص الخبرین المتعارضین،فالتعدی منهما إلی غیرهما یحتاج إلی دلیل،و حیث لا دلیل علیه فلا بد من الاقتصار علیهما،فان الدلیل الخارجی مفقود علی الفرض،و روایات الترجیح لا إطلاق فیها و لا عموم،فاذن لا یمکن رفع الید عن مقتضی الأصل

ص:223

الأولی فی غیرهما. و یأتی الکلام فی جمیع ذلک فی بحث التعادل و الترجیح إن شاء اللّه تعالی بصورة مفصلة،و الغرض من التعرض هنا بهذا المقدار الإشارة إلی ان مسألة التعارض کما تمتاز عن مسألة التزاحم بذاتها کذلک تمتاز عنها بمرجحاتها.

و اما الجهة الخامسة فیقع الکلام فیها فی نقطتین:

الأولی-ما هو مقتضی القاعدة فی مسألة التزاحم.

الثانیة-ما هو مرجحاتها.

أما النقطة الأولی،فمقتضی القاعدة فیها التخییر مع قطع النّظر عن مرجحات تلک المسألة.و الوجه فیه واضح و هو ان المانع عن الإتیان بالمتزاحمین انما هو عدم قدرة المکلف علی امتثالهما معاً،و أما من ناحیة أخری فلا مانع أصلا.و علیه فیما ان المکلف قادر علی إتیان أحدهما عند ترک الآخر یتعین علیه بحکم العقل،ضرورة انه لم یعتبر فی الامتثال ما عدا قدرة المکلف علیه فی ظرفه،و حیث انه قادر علی امتثال أحدهما فلا یکون معذوراً فی ترکه.

أو فقل ان فعلیة کلا التکلیفین فی باب المزاحمة مستحیلة،و فعلیة أحدهما بفعلیة موضوعه و هو قدرة المکلف علی امتثاله ضروریة،فاذن یجب بحکم العقل امتثال هذا التکلیف الفعلی،فإذا فرض عدم الترجیح لأحدهما علی الآخر یحکم العقل بالتخییر بینهما،و انه مخیر فی إعمال قدرته فی امتثال هذا و امتثال ذاک.

أما النقطة الثانیة،فقد ذکروا لها مرجحات:

المرجح الأول- ما ذکره شیخنا الأستاذ-قده-و هو کون أحد الواجبین مما لا بدل له و الآخر مما له بدل،فیقدم الأول علی الثانی فی مقام المزاحمة،و هذا یتحقق فی أحد موضعین:

أحدهما ما إذا کان لأحد الواجبین بدل فی عرضه دون الآخر،کما إذا کان أحدهما واجباً تخییریاً،و الآخر واجباً تعینیاً،ففی مثل ذلک إذا وقعت المزاحمة بین الواجب التعیینی و بعض افراد للواجب التخییری،قدم الواجب التعیینی علی

ص:224

التخییری.و الوجه فی ذلک واضح و هو ان وجوب الواجب التخییری لا یقتضی لزوم الإتیان بخصوص الفرد المزاحم،و انما یقتضی لزوم الإتیان بالجامع بینه و بین غیره،و المفروض ان وجوب الواجب التعیینی یقتضی الإتیان بخصوص ذلک الفرد المزاحم.و من المعلوم ان ما لا اقتضاء فیه لا یمکن ان یزاحم ما فیه الاقتضاء.

فالنتیجة ان فی مقام المزاحمة بین التکلیفین یقدم ما لیس له البدل علی ماله البدل.

ثانیهما ما إذا کان لأحد الواجبین بدل فی طوله دون الواجب الآخر.و قد مثل لذلک بما إذا وقع التزاحم بین الأمر بالوضوء أو الغسل و الأمر بتطهیر البدن للصلاة،و حیث ان للوضوء أو الغسل بدلا و هو التیمم فلا یمکن مزاحمة أمره مع امر تطهیر البدن فیقدم الأمر بالطهارة الخبثیة علی الأمر بالطهارة الحدثیة،و ان کان الثانی أهم من الأول.و ذلک لما عرفت من ان ما لا اقتضاء فیه لا یمکن ان یزاحم ما فیه الاقتضاء.

و ذکر قده فرعا آخر أیضا لهذه الکبری و هو:ما إذا دار الأمر بین إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة و إدراک رکعة واحدة مع الطهارة المائیة،کما إذا صار الوقت ضیقاً بحیث لو توضأ أو اغتسل لم یدرک من الرکعات الا رکعة واحدة.و اما إذا تیمم بدلا عن الوضوء أو الغسل فیدرک تمام الرکعات فی الوقت،ففی مثل ذلک یقدم إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة علی إدراک رکعة مع الطهارة المائیة،لأن للصلاة مع الطهارة المائیة بدلا و هو الصلاة مع الطهارة الترابیة،و اما للصلاة فی الوقت فحیث انه لا بدل لها فتقدم علی الصلاة مع الطهارة المائیة فی مقام المزاحمة،لأن ماله البدل لا یصلح ان یزاحم مالا بدل له.

و قد یشکل فی المقام بان لإدراک تمام الرکعات فی الوقت أیضاً بدل و هو إدراک رکعة واحدة فیه بمقتضی الروایات الدالة علی ان من إدراک رکعة واحدة فی الوقت فقد أدرک تمام الصلاة،فاذن یدور الأمر بین واجبین لکل منهما بدل فلا وجه

ص:225

لتقدیم الأمر بالصلاة فی الوقت علی الأمر بالصلاة مع الطهارة المائیة. و أجاب-قده-عن هذا الإشکال بان بدلیة إدراک الرکعة الواحدة عن تمام الصلاة فی الوقت انما هی فی فرض عجز المکلف عن إدراک تمام الصلاة فیه،لا مطلقاً و المفروض ان المکلف قادر علی إدراک تمامها فیه.و علیه فلا موجب لسقوط الأمر بإتیان تمام الصلاة فی وقتها،فإذا لم یسقط فلا محالة یسقط الأمر بالصلاة مع الطهارة المائیة،لعجز المکلف عنها تشریعاً و ان لم یکن عاجزاً تکویناً و هذا کاف فی الانتقال إلی بدلها و هو الصلاة مع الطهارة الترابیة،لما ذکرناه غیر مرة من ان الأمر بالطهارة المائیة مشروط بالتمکن من استعمال الماء عقلا و شرعا،و لا یکفی التمکن العقلی فحسب.

و ملخص ما ذکرناه هو انه قدس سره طبق الکبری الکلیة و هی ان ما لا بدل له یقدم علی ماله بدل فی مقام المزاحمة علی فروع ثلاثة:

الأول-ان الواجب التخییری إذا زاحم ببعض افراده الواجب التعیینی فیقدم التعیینی علیه و ان کان الواجب التخییری أهم منه،کما إذا کان لشخص عشرة دنانیر و دار امرها بین ان یصرفها فی مئونة من تجب علیه مئونته و بین ان یصرفها فی کفارة شهر رمضان،و حیث ان لکفارة شهر رمضان بدلا و هو صوم شهرین متتابعین أو عتق رقبة مؤمنة فلا یمکن مزاحمة وجوبها لوجوب المئونة،فیقدم صرفها فی المئونة علی صرفها فی الکفارة،لأن وجوب الکفارة لا یقتضی لزوم الإتیان بخصوص فردها المزاحم،و هذا بخلاف وجوب المئونة،فانه یقتضی لزوم الإتیان بخصوص ذلک الفرد.

الثانی-ما إذا کان عند المکلف مقدار من الماء لا یکفی للوضوء و تطهیر البدن معاً فعندئذ یدور امره بین ان یصرفه فی الوضوء و یصلی مع البدن المتنجس و ان یصرفه فی تطهیر البدن و یصلی مع التیمم،و بما ان للوضوء بدلا و هو التیمم فیتعین صرفه فی إزالة الخبث عن البدن،لأن ماله بدل لا یصلح لأن یزاحم ما لا بدل له.

ص:226

الثالث-ما إذا دار الأمر بین إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة و إدراک رکعة واحدة مع الطهارة المائیة و بما ان للطهارة المائیة بدلا و هو الطهارة الترابیة،و لا بدل للوقت فیتعین تقدیم الوقت علی الطهارة المائیة فیصلی فی الوقت مع الطهارة الترابیة.

أقول الکلام فیما ذکره-قده-یقع فی مقامین:الأول-فی أصل الکبری التی ذکرها-قده-الثانی-فی الفروع التی ذکرها و انها هل تکون من صغریات تلک الکبری أم لا.

اما المقام الأول،فلا إشکال فی أصل ثبوت الکبری و ان ما لیس له بدل یقدم علی ماله بدل فیما إذا دار الأمر بینهما.و الوجه فیه ما عرفت من ان ما لا اقتضاء له لا یمکن ان یزاحم ما فیه الاقتضاء،و کیف کان فالکبری مسلمة.

و اما المقام الثانی فیقع الکلام فیه فی موارد:الأول فی الفرع الأول.الثانی فی الفرع الثانی.الثالث فی الفرع الثالث.

اما المورد الأول،فقد تبین مما قدمناه ان هذا الفرع و ما شاکله لیس داخلا تحت کبری مسألة التزاحم،لتجری علیه أحکامه.و ذلک لما عرفت من ان التزاحم بین التکلیفین الفعلیین لا یعقل الا من جهة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال،فلو کان المکلف قادراً علیه فلا مزاحمة بینهما أبدا،و المفروض-فیما نحن فیه-قدرة المکلف علی امتثال الواجب التعیینی و التخییری معاً من دون أیة مزاحمة نعم خصوص الفرد المزاحم للواجب التعیینی و ان کان غیر مقدور للمکلف الا انه لیس بواجب علی الفرض،و ما هو واجب-و هو الجامع بینه و بین غیره من الافراد مقدور له و لو من جهة القدرة علی بعض افراده.

أو فقل:ان ما هو مزاحم للواجب التعیینی لیس بواجب،و ما هو واجب لیس بمزاحم له.و من هنا قلنا انه لا تزاحم بین الواجب الموسع و المضیق کالصلاة و الإزالة مثلا.

ص:227

و الأصل فی جمیع ذلک هو ما ذکرناه من ان التزاحم لا ینشأ إلا من ناحیة عدم تمکن المکلف من امتثال کلا التکلیفین معاً،و اما إذا کان متمکناً منه فلا تزاحم و لا تنافی بینهما أبداً.

و علی هذا الأساس فالفرع المزبور أو ما شاکله لیس من صغریات باب المزاحمة،لتنطبق علیه الکبری المتقدمة.فما أفاده-قده-من تطبیق تلک الکبری علیه فی غیر محله،لعدم کونه صغری لها.

و اما المورد الثانی فیمکن المناقشة فیه من وجهین:

الأول-ان التزاحم لا یعقل ان یکون بین وجوب صرف الماء فی الوضوء أو الغسل بما هو و وجوب صرفه فی تطهیر البدن أو الثوب کذلک،و ذلک لما ذکرناه غیر مرة من ان الأوامر المتعلقة بالاجزاء و الشرائط جمیعاً أوامر إرشادیة فترشد إلی جزئیتها و شرطیتها،و لیست بأوامر نفسیة.و من الواضح جداً ان المزاحمة لا تعقل بین الأوامر الإرشادیة بما هی،لأن مخالفتها لا توجب العقاب،و موافقتها لا توجب الثواب،بل لا تجب موافقتها بما هی لتقع المزاحمة بین موافقة هذا و موافقة ذاک فی مقام الامتثال،و انما تعقل بین واجبین أو واجب و حرام نفسیین بحیث کان المکلف متمکناً من امتثال کل منهما فی نفسه مع قطع النّظر عن الآخر الا انه لم یتمکن من الجمع بینهما فی الامتثال.

و علی هذا فالمزاحمة هنا لو سلمت فانما هی فی الحقیقة بین الصلاة مع الطهارة الحدثیة و الصلاة مع الطهارة الخبثیة،فالتعبیر عن ذلک بوقوع المزاحمة بین الطهارة الحدثیة و الطهارة الخبثیة لا یخلو عن مسامحة واضحة،ضرورة انه لا شأن لهما ما عدا کونهما من قیود الصلاة فلا معنی لوقوع المزاحمة بینهما فی نفسهما مع قطع النّظر عن وجوب الصلاة.

و علی الجملة فالمزاحمة بین اجزاء و شرائط الصلاة مثلا بعضها ببعض مع قطع النّظر عن وجوبها مما لا تعقل،ضرورة انه لا وجوب لها مع قطع النّظر عن وجوب

ص:228

الصلاة.و علی هذا فلا معنی لوقوع المزاحمة بین وجوب صرف الماء فی الوضوء أو الغسل مثلا و وجوب صرفه فی تطهیر البدن أو الثوب مع الغض عن وجوب الصلاة لعدم کونهما فی هذا الحال واجبین،لتقع المزاحمة بینهما،و اما مع ملاحظة وجوبها فالتزاحم بین وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة و وجوب الصلاة مع طهارة البدن أو الثوب،فإذا کان الأمر کذلک فلا وجه لتقدیم الثانیة علی الأولی بدعوی ان ما لیس له بدل یقدم علی ماله بدل.و ذلک لفرض ان لکل واحدة منهما بدلا،فکما ان للصلاة مع الطهارة المائیة بدلا و هو الصلاة مع الطهارة الترابیة فکذلک للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب بدل و هو الصلاة مع البدن أو الثوب النجس علی المختار و عاریا علی المشهور،فاذن لا یکون هذا الفرع أو ما شاکله من صغریات الکبری المتقدمة،و لا تنطبق تلک الکبری علیه.

نعم لو کان التزاحم بین وجوب صرف الماء فی الوضوء أو الغسل و وجوب صرفه فی تطهیر البدن أو الثوب مع قطع النّظر عن وجوب الصلاة لکان من صغریات تلک الکبری و لکنک عرفت أن التزاحم بینهما غیر معقول.

الثانی-ان التزاحم کما ذکرناه فی غیر موضع انما یجری بین واجبین نفسیین کالصلاة و الإزالة مثلا أو بین واجب و حرام،و اما بین اجزاء و شرائط وجب واحد فلا یعقل جریان التزاحم فیه.

و الوجه فی ذلک هو ان جمیع تلک الاجزاء و الشرائط واجب بوجوب واحد علی سبیل الارتباط ثبوتاً و سقوطا،غایة الأمر ان الاجزاء بنفسها متعلقة لذلک الوجوب،و الشرائط باعتبار تقیدها بمعنی ان الوجوب تعلق بالاجزاء متقیدة بتلک الشرائط.و من الواضح جداً ان ذلک الوجوب الواحد یسقط بتعذر واحد من تلک الاجزاء أو الشرائط بقانون ان الأمر بالمرکب یسقط لا محالة بتعذر واحد من اجزائه أو شرائطه،لاستحالة تعلق الوجوب به فی ظرف تعذر أحد أجزائه أو قیوده،لأنه تکلیف بالمحال فلا یصدر من الحکیم.

ص:229

و علی هذا فمقتضی القاعدة سقوط الوجوب عن المرکب کالصلاة و ما شاکلها عند تعذر جزء أو شرط منه،کما هو مقتضی کون اجزائه ارتباطیة،فاذن ثبوت الوجوب للباقی یحتاج إلی دلیل،و قد دل الدلیل فی خصوص باب الصلاة علی عدم السقوط و وجوب الإتیان بالباقی،فعندئذ بما ان فیما نحن فیه قد تعذر أحد قیدی الصلاة(هما الطهارة الحدثیة و الطهارة الخبثیة)فمقتضی القاعدة الأولیة سقوط وجوبها،فیحتاج وجوب الباقی إلی دلیل،و الدلیل موجود هنا،و هو ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،بل یکفینا لإثبات عدم سقوطها فی المقام الروایات الخاصة الدالة علی وجوب الإتیان بها فی الثوب أو البدن المتنجس أو عاریا،و ما دل علی لزوم الإتیان بالطهارة الترابیة مع تعذر الطهارة المائیة.

و علیه فیعلم إجمالا یجعل أحد هذین الشرطین فی الواقع دون الآخر،اذن لا محالة یقع التعارض بین دلیلیهما،إذ لم یعلم ان أیهما مجعول فی هذا الحال فی مقام الثبوت و الواقع،فما دل علی شرطیة الطهارة الحدثیة فی هذا الحال لا محالة معارض بما دل علی شرطیة الطهارة الخبثیة.و علیه فلا بد من الرجوع إلی مرجحات باب التعارض ان لم یکن التعارض بینهما بالإطلاق،و إلا فیسقطان معاً،فلا تصل النوبة إلی الترجیح،فاذن ما معنی وقوع المزاحمة بینهما،بداهة ان المزاحمة بین تکلیف و تکلیف آخر فرع ثبوتهما فی الواقع و مقام الجعل من دون أی تناف فی البین لتقع المزاحمة بین امتثال هذا و امتثال ذاک.

و علی الجملة فالامر المتعلق بالصلاة الواجدة لجمیع الاجزاء و الشرائط قد سقط لا محالة بتعذر واحد من شرطیها(هما الطهارة الحدثیة و الطهارة الخبثیة)بمقتضی القاعدة الأولیة،غایة ما فی الباب قد دل دلیل من الخارج علی وجوب الباقی من الاجزاء و الشرائط.و من الواضح جداً ان هذا الوجوب غیر الوجوب الأولی المتعلق بالواحد و التمام،فانه قد سقط من ناحیة تعذر المرکب.و من المعلوم ان جزئیة الاجزاء و شرطیة الشرائط قد سقطتا بتبع سقوطه لا محالة،ضرورة استحالة

ص:230

بقاء الأمر الانتزاعی فی ظرف سقوط منشأه.

و علیه فالجزئیة و الشرطیة للاجزاء و الشرائط الباقیتین لا محالة مجعولتان بجعل ثانوی و بدلیل خارجی الدال علی وجوب الباقی و عدم سقوطه.و یعلم من ذلک-طبعا-ان المجعول فی المقام شرطیة أحد الأمرین فی الواقع اما شرطیة الطهارة الحدثیة،و اما شرطیة الطهارة الخبثیة،فشرطیة کلتیهما غیر معقولة لفرض عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما،فلا یمکن ان یتعلق الأمر بالمرکب منهما،فلا محالة یکون المجعول شرطیة إحداهما لا محالة و نتیجة ذلک ان المورد غیر داخل فی کبری التزاحم.

و خلاصة ما ذکرناه هی ان الکبری المتقدمة و ان کانت مسلمة،إلا انها لا تنطبق علی هذا الفرع و ما یشبهه،بل قد عرفت انه غیر داخل فی کبری مسألة التزاحم فضلا عن تلک الکبری.

و اما المورد الثالث(و هو ما إذا دار الأمر بین إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة و إدراک رکعة واحدة مع الطهارة المائیة)فیرد علیه بعینه ما أوردناه علی المورد الثانی من الوجهین.

اما أولا فلما عرفت من انه کما ان للصلاة مع الطهارة المائیة بدلا و هو الصلاة مع الطهارة الترابیة فکذلک لإدراک تمام الصلاة فی الوقت بدل و هو إدراک رکعة واحدة منها فی الوقت،فاذن لا تنطبق الکبری المزبورة علیه.

و أما ثانیاً فلما عرفت من أن التزاحم لا یجری بین اجزاء واجب واحد أو شرائطه فإذا تعذر علی المکلف الجمع بین الطهارة المائیة و الوقت فمقتضی القاعدة الأولیة سقوط الأمر بالصلاة،فلو کنا نحن و الحال هذه لم نقل بوجوب الباقی من الاجزاء و الشرائط،و لکن الدلیل الخارجی قد دلنا علی وجوب الباقی و عدم سقوط الصلاة بحال.

و من ذلک یعلم إجمالا یجعل جزئیة أحدهما فی الواقع و حیث انه مردد بین

ص:231

الطهارة المائیة و الوقت فتقع المعارضة بین دلیلیهما فالنتیجة ان هذا الفرع أیضا لیس من صغریات الکبری المتقدمة.

و قد تحصل مما ذکرناه ان ما ذکره-قده-من الفروع الثلاثة لیس شیء منها صغری للکبری التی ذکرها،و هی تقدیم ما لیس له بدل علی ماله بدل و لا تنطبق تلک الکبری علی شیء منها.

نعم النتیجة فی الفرع الأخیر بعینها هی النتیجة التی ذکرها-قده-و هی تقدیم ما لا بدل له علی ماله بدل-و لکن بملاک آخر،لا بالملاک الّذی أفاده.

بیان ذلک هو ان اللّه تعالی جعل فی کتابه العزیز للصلوات الخمس أوقاتاً خاصة بحسب المبدأ و المنتهی بقوله:«و أقیموا الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل»و قد وردت فی الروایات ان وقت صلاتی الظهرین من دلوک الشمس إلی غروبها،و وقت العشاءین من الغروب إلی غسق اللیل،و وقت صلاة الصبح من أول الفجر إلی طلوع الشمس،فهذه هی أوقات الصلوات الخمس،و لا یرضی الشارع بتأخیرها عنها آنا ما،بل هی غیر مشروعة فی ما عدا تلک الأوقات،الا فیما إذا قام دلیل خاص علی المشروعیة کما فی القضاء أو نحوه.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری انه تعالی قد جعل الطهارة من الحدث شرطاً مقوماً لها بقوله:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم و أیدیکم إلی المرافق و ان کنتم جنباً فاطهروا و ان کنتم مرضی أو علی سفر أو جاء أحد منکم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتیمموا صعیداً طیباً»فجعل فی هذه الآیة المبارکة الطهارة من الحدث شرطاً للصلاة،و قد ذکرنا انها من أرکان الصلاة و بانتفائها تنتفی،و لذا ورد ان الصلاة علی ثلاثة أثلاث ثلث منها الرکوع و ثلث منها السجود و ثلث منها الطهور.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی ان الطهارة شرط لتلک الصلوات التی عینت لها أوقات معینة،و انه یجب علی المکلف الإتیان بها فی تلک الأوقات مع الطهارة المائیة ان کان واجداً للماء،و مع الطهارة الترابیة ان کان فاقداً لها و قد ذکرنا

ص:232

غیر مرة ان المراد من وجدان الماء وجوده الخاصّ،و هو ما إذا تمکن المکلف من استعماله عقلا و شرعا،و ذلک بقرینة داخلیة و خارجیة.

أما القرینة الداخلیة فهی ذکر المریض فی الآیة المبارکة،فان الماء غالباً موجود عنده،و لکنه لا یتمکن من استعماله عقلا أو شرعا.

و أما القرینة الخارجیة فهی عدة من الروایات الدالة علی ذلک.و علی هذا فان تمکن المکلف من استعمال الماء عقلا و شرعا فهو واجد له،و وظیفة الواجد الوضوء أو الغسل،و ان لم یتمکن من استعماله عقلا أو شرعا فهو فاقد له،و وظیفة الفاقد التیمم،فالآیة المبارکة فی مقام بیان ان المکلف علی نوعین:الواجد و الفاقد و لا ثالث لهما.و من الواضح ان التقسیم قاطع للشرکة.

و علیه فإذا ضممنا ما یستفاد من هذه الآیة المبارکة بضمیمة القرائن الداخلیة و الخارجیة إلی ما یستفاد من الآیة الأولی بضمیمة الروایات الواردة فیها من ان لکل صلاة وقتاً خاصاً تجب فی ذلک الوقت الخاصّ لا فیما عداه،فالنتیجة هی ان المکلف إذا تمکن فی ذلک الوقت من استعمال الماء عقلا و شرعا فهو واجد له و وظیفته عندئذ الوضوء أو الغسل،و ان لم یتمکن فیه من استعماله عقلا أو شرعا فهو فاقد له،و وظیفته حینئذ التیمم.

و من هنا قلنا ان المراد من عدم الوجدان فی الآیة المبارکة عدم الوجدان بالإضافة إلی الصلاة التی قام المکلف إلی إتیانها،لا مطلقاً فلو لم یتمکن المکلف من إیقاع الصلاة فی وقتها مع الطهارة المائیة فهو غیر واجد بالإضافة إلی الصلاة،و ان کان واجداً بالإضافة إلی غیرها.و علی هذا بما ان فیما نحن فیه لا یتمکن المکلف من إیقاع الصلاة فی وقتها مع الطهارة المائیة من جهة ضیق الوقت یتعین علیه إیقاعها فیه مع الطهارة الترابیة.

و هذه النتیجة نتیجة ضم هذه الآیة أعنی بها آیة الوضوء إلی الآیة الأولی،مع ملاحظة القرائن و النصوص الواردة فی أطرافهما.

ص:233

و علی هذا الأساس تبین انه إذا دار الأمر بین إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة و إدراک رکعة واحدة مع الطهارة المائیة فیقدم الأول علی الثانی.

و الوجه فیه ما عرفت من ان المستفاد من الآیتین المبارکتین بعد ضم إحداهما إلی الأخری مع ملاحظة القرائن و الروایات الواردة فی المقام هو ان الواجب علی المکلف إیقاع تمام الصلاة فی الوقت مع الطهارة المائیة فی فرض وجدان الماء،و مع الطهارة الترابیة فی فرض فقد انه،و لا یجوز تأخیرها عن وقتها أصلا،فلو أخرها عنه و لو بمقدار رکعة واحدة لبطلت لا محالة،بل إتیانها عندئذ بقصد الأمر تشریع و محرم،ضرورة سقوط الأمر المتعلق بها فی الوقت،فیحتاج وجوبها فی هذا الحال إلی امر آخر.و علی هذا فإذا فرضنا ان الوضوء أو الغسل موجب لتفویت الوقت أو تفویت مقدار منه بحیث لا یقدر علی إدراک تمام الصلاة فی مقدار آخر منه فلا یجوز و لا یکون مشروعا.و علیه فلا محالة تنتقل وظیفته إلی التیمم،لعدم تمکنه وقتئذ من الوضوء أو الغسل شرعا،و ان تمکن عقلا،هذا بحسب ما تقتضیه القاعدة الأولیة.

و اما بحسب النصوص فان جملة منها و ان دلت علی ان إدراک رکعة واحدة من الصلاة فی الوقت بمنزلة إدراک تمام الرکعات،الا ان الظاهر منها-بمقتضی الفهم العرفی-اختصاص ذلک بمن لم یتمکن من إتیان تمامها فی الوقت،و اضطر إلی التأخیر إلی زمان لا یبقی من الوقت الا بمقدار إدراک رکعة واحدة،فالشارع جعل لمثله إدراک رکعة واحدة بمنزلة إدراک تمام الرکعات إرفاقا و توسعة له،و أما من تمکن من إدراک تمام الرکعات فی الوقت،و لکنه أخر باختیاره و إرادته إلی ان ضاق الوقت بحیث لم یبق منه إلا بمقدار إتیان رکعة واحدة فیه فلا یکون مشمولا لتلک الروایات،ضرورة انها لم تکن فی مقام بیان الترخیص و التوسعة للمکلفین فی تأخیر صلواتهم إلی ان لا یسع الوقت الا بمقدار رکعة واحدة منها.

ص:234

و علی الجملة فلا شبهة فی ظهور الروایات فی اختصاص هذا الحکم بغیر المتمکن من أداء تمام الصلاة فی الوقت،و ان الشارع جعل هذا توسعة له،و ان إدراکه رکعة واحدة فی الوقت بمنزلة إدراکه تمام الرکعات فیه،بل یمکن استظهار ذلک أعنی الاختصاص بالمضطر و بغیر المتمکن من نفس التعبیر بکلمة«أدرک»حیث انه یظهر من موارد استعمالات هذه الکلمة انها تستعمل فیما إذا لم یتمکن الإنسان منه ابتداء،ثم بعد الفحص و الطلب تمکن منه،کما إذا طالب أحد غریمه ثم وجده فیقال انه أدرک غریمه،و اما إذا لم یطالبه،و لکنه صادفه من باب الاتفاق فلا یقال انه أدرکه،بل یقال انه صادف غریمه،أو إذا نظر فی مسألة علمیة-مثلا-و بعد النّظر و الدقة وصل إلی ما هو المقصود منها فیقال انه أدرک المقصود.و اما إذا خطر بباله صدفة و من دون تفکر و نظر فلا یقال انه أدرکه..و هکذا.

و فی المقام قوله علیه السلام-من أدرک رکعة واحدة من الغداة فی الوقت فقد أدرک تمام الرکعات-ظاهر فی اختصاص الحکم بغیر المتمکن،و أما من تمکن من إدراک تمام الرکعات فی الوقت،و لکنه أخرها باختیاره و إرادته إلی زمان لا یسع الوقت الا بمقدار رکعة واحدة فلا یصدق علیه انه أدرک رکعة واحدة فی الوقت لیکون مشمولا للروایة،لما عرفت من ان کلمة أدرک بحسب موارد استعمالها انما تستعمل فی وجدان شیء بالاجتهاد و الطلب فلا تصدق علی وجدانه صدقة و من باب الاتفاق.و کیف ما کان فلا إشکال فی ظهور الروایات فیما ذکرناه،و هی و ان کانت اثنتان منها ضعیفة الا ان واحدة منها موثقة[1]و هی کافیة لإثبات المسألة.

ص:235

و علی أساس هذا البیان قد ظهر ان هذه الروایات أجنبیة عن مقامنا تماماً و لا یدل شیء منها علی تقدیم إدراک رکعة مع الطهارة المائیة علی إدراک تمام الرکعات مع الطهارة الترابیة.

و الوجه فی ذلک ما عرفت الآن من اختصاص موضوع تلک الروایات بخصوص المضطر و غیر المتمکن من إدراک تمام الرکعات فی الوقت.هذا من جانب.

و من جانب آخر قد تقدم ان المستفاد من الآیتین المتقدمتین بضمیمة الروایات و النصوص الواردة فی المسألة هو ان المکلف ان تمکن فی الوقت من الطهارة المائیة فوظیفته الطهارة المائیة و ان لم یتمکن منها فوظیفته الطهارة الترابیة.

فالنتیجة علی هدی هذین الجانبین هی ان المکلف ان لم یتمکن من إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة المائیة لضیقه و تمکن من إدراک تمامها مع الطهارة الترابیة کان المتعین هو الثانی،و الروایات المزبورة کما عرفت مختصة بالمضطر و غیر المتمکن من إدراک التمام،و المفروض فی المقام انه متمکن من إدراکه،غایة الأمر مع الطهارة الترابیة دون المائیة.

و من الواضح جداً انه لا یفرق فی التمکن من الصلاة فی الوقت بین ان یکون مع الطهارة المائیة و ان یکون مع الطهارة الترابیة،و علی کلا التقدیرین فلا یکون مشمولا لتلک الروایات لاختصاصها کما مر بغیر المتمکن مطلقاً و لو مع

ص:236

الطهارة الترابیة،کما هو مقتضی إطلاقها،فاذن لا دوران فی المقام لنرجع إلی المرجح،و نقدم ما لیس له بدل علی ما له بدل.

فما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-من دوران الأمر بین إدراک رکعة واحدة فی الوقت مع الطهارة المائیة،و إدراک تمام الرکعات فیه مع الطهارة الترابیة لا موضوع له أصلا.

و نتیجة ما ذکرناه لحد الآن هی ان ما ذکره-قده-من الفروع الثلاثة لیس شیء منها صغری للکبری المتقدمة و هی تقدیم ما لیس له بدل علی ماله بدل.

ثم ان من الغریب ما عن بعض المحدثین فی المقام من الحکم بسقوط الصلاة فی هذا الفرض بدعوی انه فاقد للطهورین اما الطهارة المائیة من الوضوء أو الغسل فلا یتمکن منها،لأنها توجب تفویت الصلاة عن الوقت و هو غیر جائز،و اما الطهارة الترابیة فغیر مشروعة،لأن مشروعیتها منوطة بفقدان الماء و عدم وجدانه، و المفروض-هنا-ان المکلف واجد للماء،اذن تسقط الصلاة عنه باعتبار انه فاقد الطهورین.

و وجه غرابته ما ذکرناه فی غیر مورد من ان المراد من الوجدان لیس وجوده الخارجی،بل المراد منه من جهة القرائن الداخلیة و الخارجیة وجوده الخاصّ، و هو ما تمکن المکلف من استعماله فی الوضوء أو الغسل عقلا و شرعا،و فی المقام بما انه لا یتمکن من استعماله شرعا،لأجل انه یوجب تفویت الوقت و هو غیر جائز فلا محالة تنتقل وظیفته إلی التیمم.

و علی الجملة فقد تقدم ان المکلف مأمور بالصلاة فی أوقاتها بمقتضی الآیات و الروایات و ان تلک الصلاة مشروطة بالطهارة المائیة فی فرض التمکن منها عقلا و شرعا،و بالطهارة الترابیة فی فرض فقدان الماء و عدم التمکن من استعماله عقلا أو شرعا و فیما نحن فیه بما ان المکلف لا یتمکن-من جهة المحافظة علی الصلاة فی وقتها- من الطهارة المائیة،فتجب علیه الطهارة الترابیة،ضرورة ان مشروعیة الطهارة

ص:237

الترابیة انما هی من جهة المحافظة علی الوقت،و إلا لتمکن المکلف من استعمال الماء فی زمان لا محالة.

و علیه فلا معنی لما ذکر من کونه واجداً للماء فلا یکون مأموراً بالتیمم.هذا تمام الکلام فی دوران الأمر بین جزءین أو شرطین أو شرط و جزء لواجب واحد و اما إذا دار الأمر بین جزء أو شرط و واجب آخر کما إذا کان عند المکلف ماء لا یکفی الوضوء و لرفع عطش نفسه أو من هو مشرف علی الهلاک معاً،ففی مثل ذلک و ان وقعت المزاحمة بین وجوب صرف هذا الماء فی الوضوء أو الغسل و وجوب صرفه فی واجب آخر،إلا ان تقدیم صرفه فی واجب آخر کرفع العطش أو نحوه علی صرفه فی الوضوء أو الغسل لیس من جهة ما ذکره شیخنا الأستاذ-قده-من تقدیم ما لیس له بدل علی ماله بدل،و بما ان الوضوء أو الغسل له بدل و هو التیمم فیقدم علیه الواجب الآخر،بل من ناحیة ما ذکرناه غیر مرة من ان المراد من الوجدان فی الآیة المبارکة المأخوذ فی موضوع وجوب الوضوء أو الغسل لیس مطلق وجوده فی الخارج،بل المراد منه بمعونة القرائن الخارجیة و الداخلیة وجوده الخاصّ و هو ما تمکن المکلف من استعماله عقلا و شرعا،و لا یکفی التمکن العقلی فحسب.

و علی هذا فبما ان المکلف مأمور بصرف هذا الماء فی واجب آخر لم یعتبر فیه شیء ما عدا القدرة علیه تکویناً فلا محالة یکون عاجزاً عن صرفه فی الوضوء أو الغسل،فاذن تنتقل وظیفته إلی التیمم.

فالنتیجة ان وجه تقدیم وجوب صرف الماء فی واجب آخر علی وجوب صرفه فی الوضوء أو الغسل ما ذکرناه من ان المکلف فی هذا الحال غیر واجد للماء و وظیفته حینئذ بمقتضی الآیة المبارکة هی التیمم لا غیره،لا ما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-.

و قد تلخص مما ذکرناه ان هذا الفرع أیضا لیس من صغریات الکبری المتقدمة.

ص:238

المرجح الثانی.

ما إذا کان أحد الواجبین المتزاحمین مشروطاً بالقدرة شرعا و الآخر عقلا فیقدم ما کان مشروطاً بالقدرة عقلا علی ما کان مشروطاً بالقدرة شرعا.و بیان ذلک ان الحکمین المتزاحمین لا یخلوان من ان یکون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعا دون الآخر،و ان یکون کلاهما مشروطاً بالقدرة شرعا أو عقلا،فهذه أقسام ثلاثة:

اما القسم الأول و هو ما کانت القدرة مأخوذة فی أحدهما شرعا دون الآخر فقد ذکر شیخنا الأستاذ-قده-ان الواجب المشروط بالقدرة عقلا یقدم علی الواجب المشروط بها شرعا.

و أفاد فی وجه ذلک ان ملاک الواجب المشروط بالقدرة عقلا حیث انه تام لا قصور فیه أصلا فلا مانع من إیجابه بالفعل،فإذا کان وجوبه فعلیاً فلا محالة یکون موجباً لعجز المکلف عن الإتیان بالواجب الآخر و مانعاً عن ثبوت الملاک له لتوقفه علی القدرة علیه عقلا و شرعا علی الفرض و هذا بخلاف الواجب المشروط بالقدرة عقلا فان ثبوت الملاک له لا یتوقف علی شیء ما عدا القدرة علیه عقلا و المفروض انها موجودة فاذن لیس لوجوبه بالفعل ایة حالة منتظرة أصلا.

و علی الجملة فالواجب المشروط بالقدرة شرعا یتوقف وجوبه فعلا علی تمامیة ملاکه،و المفروض انها تتوقف علی عدم فعلیة الواجب الآخر و مع فعلیة ذاک الواجب لا ملاک له،لعدم القدرة علیه عندئذ شرعا،و المفروض ان القدرة الشرعیة دخیلة فی ملاکه،اذن لا وجوب له فعلا،لیکون مزاحماً مع الواجب المشروط بالقدرة عقلا.

و من ذلک یتقدم الواجب المشروط بالقدرة عقلا فی مقام المزاحمة علی الواجب المشروط بالقدرة شرعا،و لو کان أهم منه لما عرفت من عدم تمامیة ملاکه و عدم تحقق موضوعه،و هو القدرة شرعا،مع فعلیة وجوب ذلک الواجب.و من الواضح انه لا یفرق فیه بین ان یکون الواجب المشروط بالقدرة شرعا أهم منه أولا

ص:239

کما انه لا فرق بین ان یکون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدما علیه،فان ملاک التقدم فی جمیع هذه الصور واحد،و هو ان وجوب الواجب المشروط بالقدرة عقلا بصرف تحققه و وجوده رافع لموضوع وجوب الواجب الآخر،و معه لا ملاک له أصلا.

و من هنا أنکر-قده-جریان الترتب فی أمثال هذه الموارد.

أقول:قد حققنا سابقاً انه لا مانع من جریان الترتب فی أمثال هذه الموارد و ما أفاده-قده-من عدم الجریان فیها لا أصل له أبداً،و لذا قلنا هناک انه لا فرق فی جریانه بین ان تکون القدرة المأخوذة فی الواجب عقلیة أو شرعیة،کما تقدم ذلک بشکل واضح،فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما ما ذکره-قده-هنا من ان الواجب المأخوذ فیه القدرة عقلا یتقدم علی الواجب المأخوذ فیه القدرة شرعا فی مقام المزاحمة و ان کان صحیحاً و لا مناص من الالتزام به،الا ان ما أفاده-قده-فی وجه ذلک غیر تام،و هو ان ملاک الواجب المشروط بالقدرة عقلا تام،و لا قصور فیه،فاذن لا مانع من إیجابه فعلا،و ملاک الواجب المشروط بالقدرة شرعا غیر تام،فلا یمکن إیجابه فعلا.

و وجه عدم تمامیته هو ما ذکرناه غیر مرة من انه لا طریق لنا إلی إحراز ملاکات الأحکام أصلا مع قطع النّظر عن ثبوتها.و علیه فلا طریق لنا إلی استکشاف ان الواجب المأخوذ فیه القدرة عقلا واجد للملاک فی مقام المزاحمة،و الواجب المأخوذ فیه القدرة شرعا فاقد له،لینتج من ذلک ان وجوب الأول فعلی دون الثانی.

أضف إلی هذا ان تقدیم أحد المتزاحمین علی الآخر بمرجح لا یرتکز بوجهة نظر مذهب دون آخر،بل یعم جمیع المذاهب و الآراء،ضرورة عدم اختصاص البحث فی مسألة التزاحم بوجهة نظر مذهب العدلیة من تبعیة الأحکام للملاکات الواقعیة،بل یعم البحث عنها وجهة نظر جمیع المذاهب حتی مذهب

ص:240

الأشعری المنکر لتبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد الواقعیتین.و علی هذا فلا وجه لما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-من جعل التقدیم مبنیاً علی وجهة نظر مذهبنا.

اما ان أصل الحکم بالتقدیم فی هذه الموارد صحیح فلأجل انه لا مانع من فعلیة وجوب ما هو المشروط بالقدرة عقلا فی مقام المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة شرعا،لفرض انه غیر مشروط بشیء ما عدا القدرة التکوینیة علیه،و هی موجودة،و هذا بخلاف وجوب ما هو المشروط بالقدرة شرعا،فان المانع من فعلیة وجوبه موجود،و هو فعلیة وجوب ذاک الواجب،لفرض انها توجب عجز المکلف عن الإتیان به فی الخارج.و علیه فلا یکون قادراً علیه،و مع انتفاء القدرة ینتفی الوجوب لا محالة،لاستحالة بقاء الحکم مع انتفاء موضوعه.هذا هو وجه التقدیم فی تلک الموارد،و تری انه لا یبتنی علی وجهة نظر مذهب دون آخر.

و لا یفرق فیه بین ان یکون الواجب المشروط بالقدرة شرعا أهم منه أو لا یکون أهم کما انه لا یفرق بین ان یکون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً علیه،فان ملاک التقدیم فی الجمیع واحد،و هو ان وجوب الإتیان بالواجب الآخر فعلا-أو وجوب التحفظ علیه فی ظرفه کذلک لئلا یفوت-مانع عنه و موجب لعجز المکلف عن امتثاله تشریعاً.

و أما القسم الثانی و هو ما إذا کان کل من الواجبین مشروطاً بالقدرة شرعا، فلا یخلو من أن یکون أحدهما أسبق من الآخر زماناً أم لا.

اما الأول فیقدم فیه ما کان الأسبق من الآخر زماناً فی الفعلیة و تحقق موضوعه فی الخارج.و ذلک لأن ما کان متقدماً بالزمان علی غیره صار فعلیاً بفعلیة موضوعه خارجا و هو القدرة علیه تکویناً و تشریعاً،اما تکویناً فظاهر و اما تشریعاً فلأجل ان الرافع للقدرة الشرعیة فی المقام لیس الا وجود خطاب إلزامیّ فعلی فی عرضه یقتضی الإتیان بمتعلقه،فانه یوجب عجز المکلف عن امتثاله تشریعاً فینتفی بانتفاء موضوعه و المفروض عدم وجود خطاب کذلک،فاذن لا مانع من فعلیته أصلا،و مثاله ما إذا وقع

ص:241

التزاحم بین القیام فی صلاة الصبح-مثلا-و القیام فی صلاة الظهر بان لا یقدر المکلف علی الجمع بینهما فی الخارج،فلو صلی صلاة الصبح قائماً فلا یقدر علی القیام فی صلاة الظهر،و ان ترک القیام فی صلاة الصبح فیقدر علیه فی صلاة الظهر،ففی مثل ذلک لا إشکال فی وجوب تقدیم القیام فی صلاة الصبح علی القیام فی صلاة الظهر،و لا یجوز ترکه فیها تحفظاً علی القدرة علیه فی صلاة الظهر.

و الوجه فیه واضح و هو ان وجوب صلاة الصبح مع القیام فعلی علیه بفعلیة موضوعه و هو قدرته علی إتیانها قائماً عقلا و شرعا و عدم مانع فی البین،لأن وجوب صلاة الظهر قائماً فی ظرفه لیس بفعلی فی هذا الحین،لیکون مانعاً منه فانه انما یصیر فعلیاً بعد دخول الوقت.و من الواضح جداً انه لا یجوز ترک الواجب الفعلی مقدمة لحفظ القدرة علی إتیان الواجب فی ظرفه.

فالنتیجة انه کلما وقع التزاحم بین واجبین طولیین بان یکون أحدهما متقدماً علی الآخر زماناً فلا إشکال فی تقدیم السابق علی اللاحق،و لا یفرق فیه بین ان یکون الواجب اللاحق أهم من السابق أم لا،فان الملاک فی الجمیع واحد،و هو ان الواجب اللاحق حیث انه لا یکون فعلیا فی هذا الحال فلا یکون مانعاً عن فعلیة وجوب السابق.و علیه فلا یجوز ترک صلاة الصبح فی وقتها قائماً مقدمة لحفظ القدرة علی صلاة الظهر کذلک.و هذا واضح.

و لکن ذکر شیخنا الأستاذ-قده-ان هذا المرجح انما یکون مرجحاً فیما إذا لم یکن هناک جهة أخری توجب تقدیم أحد الواجبین علی الآخر و لو کان متأخراً عنه زمانا،و مثل لذلک بما إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه،فان النذر و ان کان سابقاً بحسب الزمان علی أشهر الحج،کمن نذر فی شهر رمضان-مثلا-المبیت لیلة عرفة عند مشهد الحسین علیه السلام و بعد ذلک عرضت له الاستطاعة،فانه مع ذلک یقدم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر.

و أفاد فی وجه ذلک ان وجوب الوفاء فی أمثال هذه الموارد مع اشتراطه

ص:242

بالقدرة شرعا مشروط بعدم استلزامه تحلیل الحرام أیضا،و الوفاء بالنذر هنا حیث انه یستلزم ترک الواجب فی نفسه،مع قطع النّظر عن تعلق النذر به فلا تشمله أدلة وجوب الوفاء به،فاذن ینحل النذر بذلک،و یصیر وجوب الحج فعلیاً رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر و ملاکه.

ثم أورد علی نفسه بان وجوب الوفاء بالنذر غیر مشروط بالقدرة شرعا.

و علیه فلا وجه لتقدیم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعا فی لسان الدلیل علیه و لو سلمنا ان وجوب الوفاء أیضا مشروط بها،الا انه لا وجه لتقدیم وجوب الحج علی وجوبه،لفرض ان کل واحد منهما صالح لأن یکون رافعاً لموضوع الآخر فی حد نفسه،و لکن النذر من جهة تقدمه زماناً یکون رافعاً للاستطاعة.

و أجاب عن الإشکال الأول بان وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعة و ضیقاً.و من المعلوم ان النذر تعلق بالفعل المقدور،ضرورة ان حقیقته عبارة عن الالتزام بشیء للّه تعالی.و من الطبیعی ان العاقل الملتفت لا یلتزم بشیء خارج عن اختیاره و قدرته،فنفس تعلق الالتزام بفعل یقتضی اعتبار القدرة فیه،نظیر ما ذکرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة فی متعلقه.و من هنا قلنا ان متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم.و علیه فلا محالة یکون متعلق النذر فیما نحن فیه حصة خاصة و هی الحصة المقدورة،دون الأعم منها و من غیرها،و هذا عین اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف شرعا الکاشف عن اختصاص الملاک بخصوص الحصة المقدورة،لا الجامع بینها و بین غیر المقدورة.

و أجاب عن الإشکال الثانی(و هو دعوی کون النذر رافعاً للاستطاعة) بوجهین:

الأول-ان صحة النذر و ما شاکله مشروطة بکون متعلقه راجحاً فی نفسه فی ظرف العمل،و الا فلا ینعقد،و بما ان فی المقام متعلقه لیس براجح فی ظرف العمل فلا ینعقد،لیزاحم وجوب الحج.

ص:243

الثانی-انا لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر فی ظرف العمل فی صحته و انعقاده و شمول أدلة وجوب الوفاء له،و قلنا بکفایة رجحان متعلقه حین النذر،و ان لم یکن راجحاً حین العمل،فمع ذلک لا یمکن الحکم بصحته فی المقام لاشتراط صحته بعدم کون متعلقه مخالفاً للکتاب أو السنة،و موجباً لترک الواجب أو فعل الحرام،و بما ان متعلقه فی مفروض الکلام یوجب فی نفسه ترک الواجب باعتبار استلزامه ترک الحج فلا یمکن الحکم بصحته و وجوب الوفاء به و علیه فیقدم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر أو ما شاکله.

و علی الجملة فلا مانع من فعلیة وجوب الحج علی الفرض غیر وجوب الوفاء بالنذر،و حیث انه مشروط بعدم کون متعلقه فی نفسه محللا للحرام فلا یکون فعلیاً فی مفروض المقام،لیکون مانعاً عن فعلیة وجوب الحج و مزاحما له.و علی هذا فلا محالة یکون وجوب الحج فعلیا و رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر و ملاکه، و أما وجوب الوفاء به فلا یعقل ان یکون رافعاً لملاک الحج،ضرورة ان فعلیته تتوقف علی عدم التکلیف بالحج،لئلا یلزم منه تحلیل الحرام،فلو کان عدم التکلیف بالحج من ناحیة فعلیة وجوب النذر لزم الدور.

و هذا الّذی ذکرناه یجری فی کل ما کان وجوبه مشروطا بعدم کونه محللا للحرام،کموارد الشرط و الحلف،و الیمین،و ما شابهها،فعند مزاحمته مع ما هو غیر مشروط به یقدم غیر المشروط به،و لو فرض انه أیضا مشروط بالقدرة شرعا.

ثم قال-قده-و اما ما عن السید-قده-فی العروة من ان المعتبر هو ان یکون متعلق النذر راجحاً فی طرف العمل و لو بلحاظ تعلق النذر به،و بذلک صحح جواز نذر الصوم فی السفر و الإحرام قبل المیقات فیظهر فساده مما قدمناه من ان المعتبر فی صحة النذر و انعقاده هو کون متعلقه راجحا و غیر موجب لتحلیل الحرام فی نفسه مع قطع النّظر عن تعلق النذر به،الا لأمکن تحلیل جمیع المحرمات بالنذر

ص:244

و هذا ضروری البطلان.

نلخص نتیجة ما أفاده-قده-فی عدة نقاط:

الأولی-تسلیم ان التزاحم بین وجوب الوفاء بالنذر و وجوب فریضة الحج انما هو من صغریات التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطا بالقدرة شرعا،و لیس من صغریات الکبری المتقدمة،و هی المزاحمة بین واجبین یکون أحدهما مشروطا بالقدرة عقلا و الآخر مشروطاً بها شرعا.

الثانیة-تسلیم انه داخل فی کبری تزاحم واجبین یکون أحدهما أسبق زماناً من الآخر.

الثالثة-ان الأسبق زمانا انما یکون مرجحا و موجبا لتقدیمه علی الآخر فیما إذا لم تکن هناک جهة أخری تقتضی تقدیم الآخر علیه،کما هو الحال فیما إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر،فان النذر و ان کان متقدما علی الحج زمانا،کما إذا کان قبل أشهر الحج،الا ان الوفاء به بما انه یستلزم ترک الواجب فلا ینعقد،لیزاحم وجوب الحج.

الرابعة-ان وجوب الوفاء بالنذر أو ما یشبهه مشروط بکون متعلقه راجحاً فی ظرف العمل،و بما ان متعلق النذر فی مفروض المقام لیس براجح فی ظرف العمل،لاستلزامه تحلیل الحرام و هو ترک الحج،فلا یکون مشمولا لأدلة وجوب الوفاء،و لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا کفایة الرجحان حین النذر و ان لم یکن راجحاً حین العمل،فمع ذلک لا یمکن الحکم بصحته،لفرض اشتراط انعقاده بان لا یکون متعلقه فی نفسه محللا للحرام،و بما انه فی المقام موجب له فلا ینعقد.

الخامسة-ان اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا انما هو باقتضاء نفس الالتزام النذری فانه یقتضی کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة،نظیر ما ذکرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة فی متعلقه،و هذا عین اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف شرعا.

ص:245

السادسة-ان لازم ما ذکره السید-قده-فی العروة هو جواز تحلیل المحرمات بالنذر.و هذا باطل قطعا.

و لنأخذ بالمناقشة فی عدة من هذه النقاط:

أما النقطة الأولی،فیرد علیها ان المقام غیر داخل فی کبری تزاحم الواجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا.و الوجه فیه هو ان ذلک یبتنی علی ما هو المعروف و المشهور بین الأصحاب من تفسیر الاستطاعة بالتمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعا،کما هو المناسب لمعناها لغة،فعندئذ لا محالة یکون المقام داخلا فی تلک الکبری،و اما بناء علی ما هو الصحیح من تفسیرها بان یکون عنده الزاد و الراحلة مع أمن الطریق کما فی الروایات[1]فلا یکون داخلا فیها،ضرورة ان

ص:246

وجوب الحج علی هذا لیس مشروطاً بالقدرة شرعا،بل هو مشروط بوجدان الزاد و الراحلة و أمن الطریق،فعند وجود هذه الأمور و اجتماعها یجب الحج،کان هناک واجب اخر فی عرضه أم لم یکن.

ص:247

و علی هذا الأساس فلا یکون وجوب الوفاء بالنذر أو ما یشبهه مانعاً عن وجوب الحج و رافعاً لموضوعه،فان موضوعه-و هو وجدان الزاد و الراحلة مع أمن الطریق-موجود بالوجدان،بل الأمر بالعکس،فان وجوب الحج علی هذا مانع عن وجوب الوفاء بالنذر و رافع لموضوعه،حیث ان وجوب الوفاء به منوط بکون متعلقه مقدوراً للمکلف عقلا و شرعا.و من الواضح ان وجوب الحج علیه معجز مولوی عن الوفاء به فلا یکون معه قادراً علیه،فاذن ینتفی وجوب الوفاء به بانتفاء موضوعه.

.

ص:248

و نتیجة ذلک هی:ان التزاحم بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر لیس داخلا فی الکبری المزبورة(التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا)بل هو داخل فی الکبری الأولی و هی التزاحم بین واجبین یکون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعا و الآخر مشروطا بالقدرة عقلا،و ذلک لما عرفت الآن من ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا فحسب،و لا یعتبر فی وجوبه ما عدا تحقق الأمور المزبورة،و وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلا و شرعا.

و قد تقدم انه فی مقام وقوع المزاحمة بینهما یتقدم ما کانت القدرة المأخوذة فیه عقلیة علی ما کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیة،فان الأول یوجب عجز المکلف عن امتثال الثانی،فیکون منتفیا بانتفاء موضوعه،و لا یوجب الثانی عجزه عن امتثال الأول،لأن المانع من فعلیته انما هو عجزه التکوینی،و المفروض انه لا یوجب ذلک.

فما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-من ان التزاحم بینهما من صغری التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا لا یمکن المساعدة علیه.

و اما النقطة الثانیة فیرد علیها ان مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن کبری مسألة التزاحم بین واجبین یکون أحدهما متقدما زماناً علی الآخر،و لیس خروجها عن تلک الکبری خروجا حکمیاً کما عن شیخنا الأستاذ-قده-بل خروجها عنها خروج موضوعی بمعنی انها حقیقة لیست من صغریات تلک الکبری،و هی لا تنطبق علیها أبداً.

و الوجه فی ذلک هو ان النذر و ان فرض تقدمه علی حصول الاستطاعة زماناً،الا ان العبرة انما هی بتقدم زمان أحد الواجبین علی زمان الآخر کتقدم زمان صلاة الفجر علی زمان صلاتی الظهرین-مثلا-و هکذا،و لا عبرة بتقدم زمان أحد الوجوبین علی زمان الآخر.

و علی الجملة انا لو تنزلنا عما ذکرناه و سلمنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة

ص:249

شرعا بناء علی تفسیر الاستطاعة بالتمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعا کما هو المشهور،فمع ذلک لیست المزاحمة بینه و بین وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه داخلة فی الکبری المتقدمة،لما عرفت من عدم تقدم زمان الوفاء بالنذر علی زمان الحج و ان فرض تقدم سبب وجوبه علی سبب وجوب الآخر،فانه لا عبرة به و العبرة انما هی بتقدم أحد الواجبین علی الآخر زماناً،و المفروض انهما فی عرض واحد فلا تقدم لأحدهما علی الآخر أصلا.و علیه فلا یبقی مجال لتوهم تقدم وجوب الوفاء بالنذر علی وجوب الحج بملاک تقدم الواجب السابق علی الواجب اللاحق.

فما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-من ان المقام داخل فی الکبری المزبورة فیما إذا فرض تقدم النذر بحسب الزمان علی أشهر الحج لا یرجع إلی أصل صحیح،لما عرفت من انه غیر داخل فی تلک الکبری حتی علی هذا الفرض و التقدیر،من جهة ان العبرة انما هی بتقدم زمان أحد الواجبین علی زمان الآخر،و لا عبرة بتقدم سبب أحدهما علی سبب الآخر أصلا،کما مر.

و لا یفرق فی ذلک بین القول باستحالة الواجب المعلق کما هو مختار شیخنا الأستاذ-قده-و القول بإمکانه و صحته،کما هو المختار عندنا،فانه علی کلا القولین لا تقدم لأحد الواجبین علی الآخر بحسب الزمان،غایة ما فی الباب علی القول بالاستحالة فکما لا وجوب فعلا للوفاء بالنذر قبل تحقق لیلة عرفة فکذلک لا وجوب فعلا للحج قبل تحقق وقته و مجیئه،فاذن عدم تقدم أحدهما علی الآخر زماناً واضح و علی القول بالإمکان،فکما ان وجوب الوفاء بالنذر فعلی قبل مجیء وقت الواجب فکذلک وجوب الحج فعلی قبل وقته،فالوجوبان عرضیان و کل منهما قابل لرفع موضوع الآخر.و دعوی-ان وجوب الوفاء بالنذر علی هذا سابق علی وجوب الحج باعتبار ان سببه مقدم علی سببه-مدفوعة بأنه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول الاستطاعة بعد فرض انه مزاحم بوجوب الحج بقاء،بل قد عرفت انه لا مزاحمة بین الواجبین الا فی زمانهما و هو زمان الامتثال و العمل لا فی زمان وجوبهما کما هو ظاهر.

ص:250

و بعد ذلک نقول:انه لا بد من تقدیم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه فی مقام المزاحمة،و ذلک لوجهین:

الأول-ان وجوب النذر أو ما شابهه لو کان مانعاً عن وجوب الحج و رافعاً لموضوعه لأمکن لکل مکلف رفع وجوبه عن نفسه بإیجاب شیء ما علیه بنذر أو نحوه فی لیلة عرفة المنافی للإتیان بالحج کمن نذر ان یصلی رکعتین من النافلة-مثلا- فی لیلة عرفة فی المسجد الفلانی،کمسجد الکوفة أو نحوه،أو نذر ان یقرأ سورة -مثلا-فی لیلة عرفة فیه أو فی مکان آخر-مثلا-و هکذا.و من الواضح جداً ان بطلان هذا من الضروریات فلا یحتاج إلی بیان و إقامة برهان،کیف فان لازم ذلک هو ان لا یجب الحج علی أحد من المسلمین،إذ لکل منهم ان یمنع وجوبه و یرفع موضوعه بنذر أو شبهه یکون منافیاً و مضاداً له،و هذا مما قامت ضرورة الدین علی خلافه،کما هو ظاهر.

الثانی-أنه قد ثبت فی محله ان صحة النذر و ما شاکله مشروطة بکون متعلقه راجحاً فلو نذر ترک واجب أو فعل حرام لم یصح،بل لو نذر ترک مستحب أو فعل مکروه کان کذلک،فضلا عن ان ینذر ترک واجب أو فعل محرم.

و من هنا لو نذرت المرأة علی ان تصوم غداً ثم رأت الدم فلا ینعقد نذرها و لا یجب علیها الصوم فی الغد بمقتضی وجوب الوفاء بالنذر،لعدم رجحانه فی هذه الحالة.

و علی الجملة فلا شبهة فی اعتبار رجحان متعلقه فی نفسه فی انعقاده،کزیارة الحسین علیه السلام ،و الصلاة فی المسجد-مثلا-و ما شاکلهما.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری یعتبر فی صحته و انعقاده أیضا ان لا یکون محللا للحرام بمعنی ان الوفاء به لا یستلزم ترک واجب أو فعل محرم.و الحاصل انه لا إشکال فی فساد النذر أو الشرط المخالف للکتاب أو السنة و ما یکون محللا للحرام،و قد دلت علی ذلک عدة من الروایات،و یترتب علی هذا ان النذر فی مفروض المقام بما ان

ص:251

متعلقه فی نفسه محلل للحرام،لاستلزامه ترک الواجب و هو الحج فلا ینعقد،لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم کون متعلقه کذلک.و علیه فلا مناص من تقدیم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر.

أو فقل:انه لا مانع من فعلیة وجوب الحج-هنا-علی الفرض ما عدا وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه،و حیث انه مشروط بعدم کون متعلقه فی نفسه مستلزماً لترک واجب أو فعل حرام فلا محالة لا یکون فعلیاً فی هذا الفرض أی فرض مزاحمته مع وجوب الحج-لیکون مانعاً عن فعلیة وجوبه،لاستلزام الوفاء به ترک الواجب و هو الحج.و علیه فلا محالة یکون وجوب الحج فعلیاً و رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر،کما هو واضح.

و علی هذا الأساس نستنتج من ذلک کبری کلیة و هی ان کل واجب لم یکن وجوبه مشروطاً بعدم کون متعلقه فی نفسه محللا للحرام یتقدم فی مقام المزاحمة علی واجب کان وجوبه مشروطاً بذلک کالواجبات الإلهیة التی لیست بمجعولة فی الشریعة المقدسة ابتداء،بل هی مجعولة بعناوین ثانویة کالنذر و العهد و الحلف و الشرط فی ضمن عقد و ما شاکل ذلک،فان وجوب الوفاء بتلک الواجبات جمیعاً مشروط بعدم کونها مخالفة للکتاب أو السنة و محللة للحرام،فتؤخذ هذه القیود العدمیة فی موضوع وجوب الوفاء بها.

و علی ذلک یترتب ان تلک الواجبات لا تصلح ان تزاحم الواجبات التی هی مجعولة فی الشریعة المقدسة ابتداء،کالصلاة و الصوم و الحج و ما شابه ذلک،لعدم أخذ تلک القیود العدمیة فی موضوع وجوبها.و علیه ففی مقام المزاحمة لا موضوع لتلک الواجبات.فینتفی وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.

فالنتیجة ان عدم مزاحمة تلک الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها فی هذه الموارد-أعنی بها موارد مخالفة الکتاب أو السنة و تحلیل الحرام فی نفسها-لانتفاء موضوعها،لا لوجود مانع فی البین.و من هنا قلنا ان أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة

ص:252

إلی الأحکام الأولیة،و دالة علی نفوذ تلک الواجبات و وجوب الوفاء بها فیما إذا لم تکن مخالفة لشیء من تلک الأحکام.و اما فی صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها کما عرفت.و تمام الکلام فی ذلک فی محله.

و أما النقطة الثالثة(و هی ان الأسبق زماناً انما یکون مرجحاً فیما إذا لم تکن هناک جهة أخری تقتضی تقدیم الآخر علیه)فهی فی غایة الوضوح،لأن کل مرجح و ان کان یستدعی تقدیم صاحبه علی غیره الا ان استدعاءه لیس علی نحو العلة التامة،بل هو علی نحو الاقتضاء،فلو کان هناک مانع من تقدیمه أو کانت هناک جهة أخری تقتضی تقدیم غیره علیه فلا أثر له.

و علی الجملة فلا شبهة فی ان أسبقیة أحد الواجبین زماناً علی الواجب الآخر من المرجحات فی مقام المزاحمة،و لکن من المعلوم انها انما تقتضی التقدیم فیما إذا لم یکن هناک مانع عن اقتضائها ذلک،أو لم تکن هناک جهة أخری أقوی منها تقتضی تقدیم الواجب اللاحق علی السابق.و هذا ظاهر.

و اما النقطة الرابعة(و هی أن صحة النذر مشروطة بکون متعلقه راجحا فی ظرف العمل و لا یکون محللا للحرام)فهی تامة بالإضافة إلی ناحیة،و غیر تامة بالإضافة إلی ناحیة أخری.

اما بالإضافة إلی ناحیة ان الوفاء بالنذر فی ظرفه مستلزم لترک الواجب و هو الحج فهی تامة،لما عرفت من ان صحة النذر و أشباهه مشروطة بعدم کون الوفاء به محللا للحرام،و حیث انه فی مفروض الکلام موجب لذلک فلا یکون منعقداً.

و اما بالإضافة إلی ناحیة ان متعلقه لیس براجح فی نفسه فی ظرف العمل لاستلزامه ترک الواجب فهی غیر تامة،ضرورة ان المعتبر فی صحته هو رجحان متعلقه فی نفسه،و المفروض انه کذلک فی المقام،و مجرد کونه مضاداً لواجب فعلی لا یوجب مرجوحیته،الا بناء علی القول بان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده.و قد تقدم فساد هذا القول بشکل واضح،و قلنا هناک ان الأمر بشیء

ص:253

لا یقتضی النهی عن ضده بوجه،علی انه نهی غیری لا ینافی الرجحان الذاتی، کما هو واضح.

و اما النقطة الخامسة(و هی ان نفس الالتزام النذری یقتضی کون متعلقه حصة خاصة و هی الحصة المقدورة نظیر اقتضاء نفس التکالیف ذلک)فقد ظهر فسادها مما تقدم.و ملخصه:ان ذلک لا یتم حتی علی مسلک المشهور من ان حقیقة التکلیف عبارة عن البعث أو الزجر إلی الفعل أو عنه فضلا عما حققناه من ان حقیقته عبارة عن اعتبار فعل علی ذمة المکلف،أو اعتبار تحریمه و بعد المکلف عنه و إبرازه فی الخارج بمبرز،و لا نعقل لغیر ذلک معنی محصلا للتکلیف.

و من الطبیعی ان اعتبار شیء علی الذّمّة لا یقتضی اشتراطه بالقدرة لا عقلا و لا شرعا.و من هنا قلنا ان القدرة لم تؤخذ فی متعلق التکلیف لا من ناحیة العقل و لا من ناحیة الشرع،فالقدرة انما هی معتبرة فی مقام الامتثال فحسب،و لا یحکم العقل باعتبارها بأزید من ذلک و قد سبق الکلام فی ذلک بصورة مفصلة فلا حاجة إلی الإعادة.

و من ذلک یظهر الکلام فیما نحن فیه و ذلک لأن حقیقة النذر أو ما شابهه بالتحلیل لیست الا عبارة عن اعتبار الناذر الفعل علی ذمته للّه تعالی،و قد عرفت ان اعتبار شیء علی الذّمّة لا یقتضی اعتبار القدرة فی متعلقه لا عقلا و لا شرعا، ضرورة انه لا مانع من اعتبار الجامع بین المقدور و غیره علی الذّمّة أصلا،فاذن لا یقتضی تعلق النذر بشیء اعتبار القدرة فیه عقلا و شرعا،فما أفاده-قده-من اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا من هذه الناحیة غیر تام.

علی ان ما أفاده-قده-هنا-من اختصاص الملاک بخصوص الفعل المقدور مناقض لما أفاده سابقاً.

و ملخص ما أفاده هناک هو ان القدرة مرة مأخوذة فی متعلق الطلب لفظاً کما فی آیتی الحج و الوضوء و ما شاکلهما،فالتقیید فی مثل ذلک لا محالة یکشف عن

ص:254

دخل القدرة فی الملاک واقعاً،ضرورة انها لو لم تکن دخیلة فیه فی مقام الثبوت و الواقع لم یکن معنی لأخذها فی متعلقه فی مقام الإثبات و الدلالة. و علی ذلک یترتب انه بانتفاء القدرة ینتفی الملاک،لاختصاصه بخصوص الحصة المقدورة دون الأعم و علیه فلا یمکن تصحیح الوضوء بالملاک فی موارد الأمر بالتیمم.و مرة أخری لم تؤخذ فی متعلقه فی مرتبة سابقة علی الطلب،بل کان اعتبارها فیه من ناحیة تعلق الطلب به سواء أ کان باقتضاء نفس الطلب ذلک أو من جهة حکم العقل بقبح تکلیف العاجز،فالتقیید فی مثل ذلک بما انه کان فی مرتبة لاحقة و هی مرتبة عروض الطلب فیستحیل ان یکون تقییداً فی مرتبة سابقة علی تلک المرتبة و هی مرتبة معروضه.

أو فقل:ان الطبیعة التی یتعلق بها الطلب و ان کانت مقیدة بالقدرة علیها حال تعلقه بها الا انها مطلقة فی مرتبة سابقة علیه.و من الواضح ان إطلاقها فی تلک المرتبة یکشف عن عدم دخل القدرة فی الملاک،و انها بإطلاقها واجدة للملاک التام،و إلا لکان علی المولی تقییدها فی تلک المرتبة،أذن فمن الإطلاق فی مقام الإثبات یستکشف الإطلاق فی مقام الثبوت.

أقول:هذا البیان بعینه یجری فیما نحن فیه،فان-متعلق النذر فی مرتبة سابقة علی عروض النذر علیه،و وجوب الوفاء به-مطلق،و التقیید انما هو فی مرتبة لاحقة،و هی مرتبة عروض النذر علیه و وجوب الوفاء به،و قد عرفت ان مثل هذا التقیید لا یکشف عن دخل القدرة فی المتعلق،ضرورة انه لا یصلح ان یکون بیاناً و مقیداً للإطلاق فی مرتبة سابقة علیه،اذن ذات الفعل الّذی هو معروض الالتزام النذری واجد للملاک علی إطلاقه،و المفروض عدم الدلیل علی تقییده فی تلک المرتبة بخصوص الحصة الخاصة و هی الحصة المقدورة.

و علی الجملة فما أفاده-قده-هنا من ان اعتبار القدرة فی متعلق النذر باقتضاء نفس الالتزام به یلازم اعتبار القدرة فی متعلق الوجوب شرعا الکاشف عن

ص:255

اختصاص الملاک بالفعل المقدور،و هو لا یلائم ما ذکره هناک من التفرقة بین اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف شرعا و اعتبارها فیه باقتضاء نفس التکلیف أو من جهة حکم العقل به من باب قبح تکلیف العاجز،کما عرفت. فالصحیح فی المقام ان یقال:ان الدلیل علی اشتراط وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه بالقدرة شرعا هو ما دل علی تقییده بعدم کونه مخالفاً للکتاب أو السنة مرة و بعدم کونه محللا للحرام مرة أخری.

و نتیجة ذلک انها لا تنعقد إذا کان الوفاء بها مستلزما لترک واجب أو فعل محرم،لانطباق عنوان محلل الحرام علیه من الواضح ان هذا عین اعتبار القدرة فی متعلقه شرعا،و قد تبین لحد الآن ان الصحیح فی وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا هو ما ذکرناه،لا ما ذکره شیخنا الأستاذ-قده-کما مر.

و اما النقطة السادسة(و هی ان الاکتفاء فی صحة النذر برجحان متعلقه فی مقام العمل و لو باعتبار تعلق النذر به یستلزم جواز تحلیل المحرمات بالنذر)فیردها ان ما ذکره السید-قده-فی العروة لا یستلزم ما أفاده،و الوجه فیه هو انه لا إشکال فی اعتبار رجحان متعلق النذر فی صحته،و انه لا بد ان یکون راجحاً و لو من جهة تعلق النذر به.هذا من جانب.

و من جانب آخر انه لا یمکن ان یقتضی وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه،ضرورة استحالة اقتضاء الحکم لوجود شرطه و تحقق موضوعه فی الخارج فالنتیجة علی ذلک هی ان رجحان متعلق النذر مرة یکون باقتضاء ذاته مع قطع النّظر عن عروض أی عنوان علیه،و مرة أخری یکون بعروض عنوان خارجی طارئ علیه،و لا یکون ذلک الا باقتضاء دلیل خارجی و لا ثالث لهما،بمعنی ان الشیء إذا لم یکن فی نفسه راجحاً،فصحة تعلق النذر به تحتاج إلی دلیل من الخارج یدل علی صحة النذر الکاشفة عن طروء الرجحان علیه،فان دل دلیل علی صحته کما هو الحال فی الإحرام قبل المیقات و الصوم فی السفر حیث قد قام الدلیل

ص:256

من الخارج علی صحة نذرهما،مع انهما لیسا براجحین فی نفسهما فنلتزم بها،و إلا فلا.و مراد السید-قده-من الرجحان الجائی من قبل النذر هو ما ذکرناه من قیام الدلیل الخارجی علی صحة النذر الکاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوی و هو عنوان تعلق النذر به،و لیس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء بالنذر، لیلزم منه جواز تحلیل المحرمات،لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب الوفاء بالنذر ذلک أعنی رجحان متعلقه.

فما أورده شیخنا الأستاذ-قده-علی السید(ره)انما یتم لو کان مراده من الرجحان الناشئ من قبل النذر الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.

و علی هذا البیان قد ظهر ان ما ذکره السید-قده-فی العروة لا یستلزم جواز تحلیل المحرمات بالنذر،ضرورة ان ما أفاده-قده-أجنبی عن ذلک تماماً و خاص بما إذا قام دلیل علی صحة النذر.

و ان شئت فقل ان إطلاق أدلة المحرمات کافیة لإثبات عدم الرجحان و المفروض ان دلیل وجوب الوفاء بالنذر لا یقتضی رجحان متعلقه کما عرفت.

و من الواضح جداً انه لا مزاحمة بین ما فیه الاقتضاء و ما لا اقتضاء فیه أبدا.

نعم إذا قام دلیل علی صحة تعلق النذر بفرد ما من افراد المحرمات،فلا مناص من الالتزام بصحته و انعقاده،و تقیید إطلاق دلیل التحریم بغیر هذا الفرد،و لا یفرق فیه بین القول باعتبار رجحان متعلقه فی نفسه،و القول بکفایة الرجحان الناشئ من تعلق النذر به،ضرورة انه علی کلا القولین لا مناص من الالتزام بالصحّة،غایة الأمر علی القول الأول یلزم ان یکون الدلیل المزبور مخصصاً لأدلة اشتراط صحة النذر بکون متعلقه راجحاً فی نفسه دون القول الثانی،و لکن لا تترتب علی ذلک أیة ثمرة عملیة.

و قد تحصل مما ذکرناه عدة أمور:

الأول-ان وجوب الحج لیس مشروطاً بالقدرة شرعا فانه یبتنی علی تفسیر

ص:257

الاستطاعة بالتمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعا و لکنک عرفت انه تفسیر خاطئ بالنظر إلی الروایات الواردة فی تفسیرها و بیان المراد منها،حیث انها قد فسرت فی تلک الروایات بالتمکن من الزاد و الراحلة و أمن الطریق،و فی بعضها و ان زاد صحة البدن أیضا و لکن من المعلوم انها لیست شرط الوجوب مطلقاً،بل هی شرط له علی نحو المباشرة.

و نتیجة ذلک هی انه عند وجود الزاد و الراحلة و أمن الطریق یجب الحج سواء أ کان هناک واجب آخر أم لم یکن.

و علی هذا الأساس فلا مجال لتوهم ان وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا،فان منشأ هذا التوهم لیس الا التفسیر المزبور،و قد عرفت انه تفسیر غیر مطابق.

للواقع.فاذن یتقدم وجوب الحج علی وجوب الوفاء بالنذر فی مقام المزاحمة،و ان فرض ان وجوب الوفاء بالنذر سابق علیه زماناً،لما مضی من ان الواجب المشروط بالقدرة عقلا یتقدم فی مقام المزاحمة علی الواجب المشروط بالقدرة شرعا مطلقاً أی سواء أ کان فی عرضه أو سابقاً علیه بحسب الزمان أو متأخراً عنه،أما وجه تقدیمه فی الصورتین الأولیین فواضح لفرض ان التکلیف به بما انه فعلی یکون معجزاً مولویاً بالإضافة إلی الآخر و موجباً لانتفائه بانتفاء موضوعه،دون العکس.

و اما فی الصورة الأخیرة فلان المفروض ان ملاکه حیث انه تام فی ظرفه فلا یجوز تفویته،إذ لا فرق فی نظر العقل بین تفویت الواجب الفعلی و تفویت الملاک الملزم فی ظرفه،فکما ان الأول قبیح عنده فکذلک الثانی.و علیه فیجب التحفظ علی ملاکه و عدم تفویته،و بما ان الإتیان بالواجب الآخر موجب لتفویته فلا یجوز،و هذا معنی عدم قدرة المکلف علی إتیانه شرعا.

الثانی-انه لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا بناء علی صحة التفسیر المزبور،فائضاً لا وجه لتقدیم وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه علیه،و ذلک لما عرفت من عدم دخول ذلک فی کبری تزاحم الواجبین کان أحدهما

ص:258

أسبق زماناً من الآخر فان العبرة بذلک انما هی بتقدیم أحد الواجبین علی الآخر زماناً کما مر،و لا عبرة بتقدیم سبب وجوب أحدهما علی سبب وجوب الآخر أو بتقدیم حدوث وجوب أحدهما علی حدوث وجوب الآخر بعد کونه مزاحماً به بقاء.

الثالث-انه لو تنزلنا عن ذلک أیضاً و سلمنا ان وجوب الوفاء بالنذر و ما شاکله مقدم علی وجوب الحج زماناً فمع ذلک لا وجه لتقدیمه علیه،و ذلک لما عرفت من الوجهین المتقدمین،و نتیجتهما هی ان حصول الاستطاعة فی زمن متأخر کاشف عن بطلان النذر من الأول و عدم انعقاده.

و من ذلک البیان قد ظهر فساد ما ذهب إلیه جماعة منهم صاحب الجواهر -قده-من تقدیم وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه علی وجوب الحج بملاک ان النذر مقدم علیه زماناً،فیکون رافعاً للاستطاعة،و لا عکس.

أو فقل ان وجوب الوفاء به مطلق و وجوب الحج مشروط فلا یمکن ان یزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق.و وجه فساده ما عرفت من منع ذلک صغری و کبری،فلا حاجة إلی الإعادة.

ثم انه من الغریب ما صدر عن السید الطباطبائی-قده-فی العروة فی المسألة(30)من مسائل الحج و إلیک نصّ کلامه:«إذا نذر قبل حصول الاستطاعة ان یزور الحسین علیه السلام فی کل عرفة،ثم حصلت لم یجب علیه الحج،بل و کذا لو نذر ان جاء مسافره ان یعطی الفقیر کذا مقداراً فحصل له ما یکفیه لأحدهما بعد حصول المعلق علیه،بل و کذا لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان یصرف مقدار مائة لیرة-مثلا-فی الزیارة أو التعزیة أو نحو ذلک،فان هذا کله مانع عن تعلق وجوب الحج به و کذا إذا کان علیه واجب مطلق فوری قبل حصول الاستطاعة،و لم یمکن الجمع بینه و بین الحج،ثم حصلت الاستطاعة،و ان لم یکن ذلک الواجب أهم من الحج،لأن العذر الشرعی کالعقلی فی المنع من الوجوب.و أما لو حصلت الاستطاعة أولا،ثم حصل واجب فوری آخر لا یمکن الجمع بینه و بین

ص:259

الحج یکون من باب المزاحمة،فیقدم الأهم منهما،فلو کان مثل إنقاذ الغریق قدم علی الحج،و حینئذ فان بقیت الاستطاعة إلی العام القابل وجب الحج فیه و الا فلا الا ان یکون الحج قد استقر علیه سابقاً،فأنه یجب علیه و لو متسکعا».

ثم قال:فی مسألة أخری ما لفظه:«النذر المعلق علی أمر قسمان تارة یکون التعلیق علی وجه الشرطیة،کما إذا قال ان جاء مسافری فلله علی ان أزور الحسین علیه السلام فی عرفة،و تارة یکون علی نحو الواجب المعلق کان یقول للّه علی ان أزور الحسین علیه السلام فی عرفة عند مجیء مسافری،فعلی الأول یجب حج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجیء مسافره،و علی الثانی لا یجب،فیکون حکمه حکم النذر المنجز فی انه لو حصلت الاستطاعة و کان العمل بالنذر منافیاً لها لم یجب الحج سواء حصل المعلق علیه قبلها أو بعدها،و کذا لو حصلا معاً لا یجب الحج من دون فرق بین الصورتین.و السر فی ذلک ان وجوب الحج مشروط و النذر مطلق فوجوبه یمنع عن تحقق الاستطاعة».

أقول:نتیجة ما ذکره-قده-أمور:

الأول-ان وجوب الوفاء بالنذر یتقدم علی وجوب الحج مطلقا إذا کان النذر قبل حصول الاستطاعة،و کان منجزاً ثم حصلت الاستطاعة،لأن وجوب الوفاء بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج و هو الاستطاعة،فلا یکون المکلف معه قادراً علی أداء فریضة الحج شرعا.

الثانی-انه إذا کان هناک واجب مطلق فوری قبل تحقق الاستطاعة،ثم تحققت و لم یتمکن المکلف من الجمع بینه و بین الحج قدم ذلک الواجب علی الحج و ان لم یکن أهم منه.

الثالث-ان یکون وجوب الحج مزاحماً بواجب فوری بعد حصول الاستطاعة ففی مثل ذلک یقدم الأهم،فلو کان مثل إنقاذ الفریق قدم علی الحج.

الرابع-ان النذر المعلق إذا کان علی نحو الواجب المشروط فلا یکون مانعاً

ص:260

عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط،و ان کان علی نحو الواجب المعلق،بان یکون الوجوب حالیاً و الواجب استقبالیا،فیکون مانعا عن وجوب الحج،و لو کان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق علیه فی الخارج.

و لکن للمناقشة فی هذه الأمور مجالا:

اما الأمر الأول،فقد ظهر فساده مما قدمناه بصورة مفصلة فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما الأمر الثانی،فان الواجب المطلق الفوری الثابت علی ذمة المکلف لا یخلو من ان یکون مشروطا بالقدرة عقلا،أو یکون مشروطا بها شرعا.

فعلی الفرض الأول فان کان أهم من الواجب الآخر-و هو الحج فی مفروض المثال-فلا إشکال فی تقدیمه علیه مطلقاً أی سواء أ کان سابقا علیه زمانا أم مقارنا معه أم متأخراً عنه.و الوجه فیه ما سیأتی بیانه إن شاء اللّه من ان الواجب الأهم یتقدم فی مقام المزاحمة علی المهم مطلقا،و لو کان متأخراً عنه.و علی هذا فلا أثر لفرض کون ذلک الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده،کما عن السید-قده- بل لا أثر لفرض کونه قبل زمان الواجب الآخر و هو الحج-هنا-أو بعده،فانه یتقدم علیه فی مقام المزاحمة علی جمیع هذه التقادیر و الفروض،و ان کان بالعکس بان یکون وجوب الحج أهم من ذلک الواجب الآخر فلا إشکال فی تقدیمه علیه بلا فرق بین کونه متقدما علیه زمانا أو مقارنا معه أو متأخراً عنه.و الوجه فی ذلک ما ذکرناه من ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا لا شرعا من جهة ما عرفت من ان الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد و الراحلة مع أمن الطریق و لیست عبارة عما هو المشهور من التمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعا لتکون نتیجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعیة.و علی هذا لا یفرق بین فرض کون وجوب ذلک الواجب قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت أو بعده،و سیجیء بیان ذلک من هذه الجهة بصورة مفصلة.

ص:261

و اما إذا کان الواجبان متساویین بان لا یکون أحدهما أهم من الآخر و لا محتمل الأهمیة،فتخیر المکلف بین صرف قدرته فی امتثال هذا و صرفها فی امتثال ذاک علی ما سنبین إن شاء اللّه تعالی.

و علی الفرض الثانی(و هو ما إذا کان الواجب المطلق مشروطا بالقدرة شرعا) لا إشکال فی تقدیم فریضة الحج علیه و لو کانت الاستطاعة متأخرة عنه زماناً. و ذلک لما عرفت من ان الواجب المشروط بالقدرة شرعا لا یصلح ان یزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلا،و بما انا قد ذکرنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا فیتقدم علیه مطلقا،و لو کان متأخراً عنه.

و من ذلک یظهر حال الأمر الثالث أیضا فلا حاجة إلی البیان.

فما أفاده السید(قده)من التفرقة بین کون الواجب المطلق الفوری ثابتا فی الذّمّة قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت و کونه ثابتا فیها بعد حصولها،و أنه علی الأول یتقدم علی الحج مطلقا،و علی الثانی لا بد من ملاحظة الأهمیة فی البین-لا یرجع إلی معنی صحیح،لما عرفت من انه لا عبرة بالتقدم أو التأخر الزمانی أصلا.

و اما الأمر الرابع،فیظهر فساده مما تقدم من ان النذر مطلقا أی سواء أ کان علی نحو الواجب المشروط أم علی نحو الواجب المعلق،بان یکون الوجوب حالیا و الواجب استقبالیا،فلا یکون مانعا عن وجوب الحج،بل قد عرفت ان وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر و رافع لموضوعه.

و قد تبین لحد الآن ان ما هو المشهور بین الأصحاب-من تقدیم وجوب الوفاء بالنذر و أشباهه علی وجوب الحج إذا کان النذر قبل حصول الاستطاعة باعتبار ان وجوبه مطلق و وجوب الحج مشروط،فهو رافع لموضوعه و مانع عن حصول شرطه-لا أصل له،و لا یرجع إلی معنی محصل أصلا.

و اما القسم الثانی(و هو ما إذا کان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعا عرضیین)فهل یلاحظ فیه الترجیح فیقدم الأهم علی غیره أم لا؟ثم علی فرض

ص:262

عدم ملاحظة الترجیح بینهما،و عدم تقدیم الأهم علی غیره فهل التخییر الثابت بینهما عقلی أو شرعی،فهنا مقامان:

الأول-ان کبری مسألة تقدیم الأهم علی غیره هل تنطبق علی المقام(و هو ما إذا کان التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطا بالقدرة شرعا)أم لا؟ الثانی-ان الحاکم بالتخییر بینهما فی صورة تساویهما أو من جهة انه لا وجه لتقدیم الأهم علی غیره هل هو الشرع أو العقل؟.

اما المقام الأول،فقد ذهب شیخنا الأستاذ-قده-إلی انه لا وجه لتقدیم الأهم علی غیره.و قد أفاد فی وجه ذلک ان الأهمیة انما تکون سبباً للتقدیم فیما إذا کان کل من الواجبین واجداً للملاک التام فعلا،و اما فی مثل مقامنا هذا حیث یکون کل من الواجبین مشروطا بالقدرة شرعا فیستحیل ان یکون کل منهما واجداً للملاک بالفعل،لفرض ان القدرة دخیلة فیه،و المفروض-هنا-انه لا قدرة للمکلف علی امتثال کلیهما معا،و القدرة انما هی علی امتثال أحدهما دون الآخر.

و علیه فیکون الملاک فی أحدهما لا فی غیره.و من الظاهر أن أهمیة طرف لا تکشف عن وجود الملاک فیه دون الطرف الآخر،ضرورة انا کما نحتمل ان یکون الملاک فیه،کذلک نحتمل ان یکون فی الطرف الآخر،و مجرد کونه أهم علی فرض وجود الملاک فیه لا یکون دلیلا علی تحققه و وجوده فیه واقعا و حقیقة،دون ذلک الطرف و بتعبیر ثان:حیث أن المفروض اشتراط کل من الواجبین بالقدرة شرعا و ان لها دخلا فی الملاک.و لا ملاک بدونها،فلا محالة یکون کل منهما صالحا لأن یکون رافعا لملاک الآخر من جهة عدم القدرة علیه بحکم الشارع،من دون فرق فیه بین ان یکون الملاکان متساویین أو یکون أحدهما أهم من الآخر علی فرض وجوده و تحققه.و علی هذا فأهمیة طرف لا تکشف عن وجود الملاک فیه،دون الطرف الآخر فی مقام المزاحمة،و ذلک لصلاحیة کل منهما لأن یکون رافعاً لملاک الآخر و لو کان أحدهما أهم من الآخر،و مجرد کون الملاک فی طرف أهم علی

ص:263

تقدیر وجوده لا یوجب کونه واجداً له دون الآخر،فاذن لا وجه لتقدیمه علیه فی مقام التزاحم.

و أما المقام الثانی فقد اختار-قده-ان التخییر الثابت فیه تخییر شرعی، لا عقلی،غایة الأمر انه قد کشف عنه العقل.و الوجه فی ذلک واضح و هو ان کلا من الواجبین واجد للملاک فی ظرف القدرة علیه عقلا و شرعا،و اما إذا وقع التزاحم بینهما فیکون أحدهما لا بعینه واجداً للملاک،دون الآخر.

أو فقل ان فی فرض التزاحم بما ان أحدهما لا بعینه مقدور للمکلف عقلا و شرعا،لعدم المانع منه لا من قبل العقل و لا من قبل الشرع،فلا محالة یکون واجداً للملاک الإلزامی فإذا کان واجداً له فلا مناص من الالتزام بإیجابه،بداهة انه لا یجوز للمولی الحکیم ان یرفع الید عن التکلیف به مع فرض کونه واجداً للملاک بمجرد عجز المکلف عن امتثال کلیهما معا.و علیه فلا مناص من الالتزام بوجوب واحد منهما لا معینا،لاستقلال العقل بقبح ترخیص المولی فی تفویت الملاک الملزم.و نتیجة إیجابه هی التخییر شرعا-أعنی به وجوب هذا أو ذاک.

و خلاصة ما أفاده-قده-نقطتان:

الأولی-ان أهمیة أحد الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطا بالقدرة شرعا لیست من المرجحات فالوظیفة هی التخییر بینهما مطلقاً.

الثانیة-ان التخییر الثابت بینهما شرعی لا عقلی.

و لکن کلتا النقطتین خاطئة:

اما النقطة الأولی،فیردها ان مناط تقدیم الأهم علی المهم فی محل الکلام و ترجیحه علیه فی مقام المزاحمة لا یکون بملاک انه واجد للملاک دون غیره،لیقال بعدم إحرازه فیه فی هذا المقام،بل هو بمناط آخر.

بیانه:ان المانع عن تقدیم الأهم علی المهم فی المقام لا یخلو من ان یکون عقلیا أو شرعیا فلا ثالث لهما.و اما المانع العقلی(و هو عدم القدرة علیه تکوینا)فغیر

ص:264

موجود بالضرورة،إذ المفروض انه مقدور تکوینا و وجدانا،و هذا واضح.

و اما المانع الشرعی(و هو أمر الشارع بصرف القدرة فی غیره الموجب للعجز عن صرفها فیه)فائضا کذلک،ضرورة انه لا نعنی به إلا أمر الشارع بإتیان شیء لا یقدر المکلف معه علی الإتیان بالأهم فی الخارج و مقام الامتثال،فمثل هذا الأمر لا محالة یکون مانعا عن فعلیة الأمر بالأهم،و لکن المفروض-هنا-عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة فی غیر الأهم لیکون مانعا عن فعلیة أمره.فاذن لا مانع من الأخذ بالأهم و تقدیمه علی المهم أصلا.

و علی الجملة فالمهم و ان کان مقدوراً-عقلا-الا انه من ناحیة مزاحمته مع الأهم غیر مقدور شرعا،و قد عرفت ان القدرة الشرعیة دخیلة فی متعلقه،فلا یکون الأمر به فعلیا بدون تلک القدرة،فإذا لم یکن الأمر المتعلق به فعلیا فلا مانع من فعلیة الأمر بالأهم.

و مما ذکرناه ظهر انه یمکن إحراز الملاک فی الأهم،و کونه واجدا له دون المهم و الوجه فی ذلک ان الأهم مقدور للمکلف عقلا و شرعا،اما عقلا فواضح،و اما شرعا فائضا کذلک،ضرورة انه لا مانع منه ما عدا تخیل ان الأمر بالمهم مانع،و قد عرفت ان هذا خیال لم یطابق الواقع،و ذلک لاستحالة کون الأمر بالمهم فی حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعلیا،ضرورة عدم قدرة المکلف فی تلک الحال علی امتثاله بحکم الشرع،حیث انه یوجب تفویت واجب أهم منه.و من المعلوم انه لا یجوز امتثال ما یوجب تفویت ما هو أهم منه بنظر الشرع.و نتیجة ذلک هی انه لا مانع من کون الواجب الأهم واجداً للملاک الملزم فی هذا الحال لا عقلا و لا شرعا.

و علیه فما أفاده شیخنا الأستاذ-قده-من أن وجود الملاک فی کل منهما مشکوک فیه،لصلاحیة کل واحد منهما لأن یکون رافعا لملاک الآخر من دون فرق بین تساوی الملاکین و کون أحدهما أهم من الآخر لا یمکن المساعدة علیه بوجه،و ذلک لما عرفت من الضابط لتقدیم الأهم علی المهم فی المقام من ناحیة و کونه واجداً للملاک

ص:265

من ناحیة أخری،و ان کانت الناحیة الأولی مترتبة علی الناحیة الثانیة،کما هو واضح.هذا تمام الکلام فیما إذا کان أحدهما معلوم الأهمیة. و اما إذا کان محتمل الأهمیة فهل یتقدم فی مقام المزاحمة علی الطرف الآخر الّذی لا تحتمل أهمیته أصلا-کما هو الحال فیما إذا کان کل منهما مشروطا بالقدرة عقلا أم لا؟وجهان:الظاهر انه لا مانع من التقدیم.و الوجه فی ذلک هو ان المکلف بعد ما لا یتمکن من امتثال کلا الواجبین معا،و یتمکن من امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة یدور أمره بین امتثال أحدهما تخییراً،و امتثال خصوص ما تحتمل أهمیته.و علیه فیدخل المقام فی کبری دوران الأمر بین التعیین و التخییر فی غیر مقام الامتثال و الحجیة و ان کان الصحیح هو جریان البراءة عن التعیین،الا ان فی هذین المقامین لا مناص من الاشتغال و الالتزام بالتعیین،و ذلک لأن حصول البراءة بامتثال ما تحتمل أهمیته معلوم،اما من جهة التعیین أو التخییر،و اما حصولها بامتثال ما لا تحتمل أهمیته فغیر معلوم.و من الواضح جداً ان العقل لا یکتفی فی مقام الامتثال بالشک فیه بعد الیقین بالتکلیف بل یلزم بتحصیل الیقین بالبراءة عنه،بقاعدة ان الاشتغال الیقینیّ یقتضی الفراغ الیقینیّ،و کذا الحال فی مقام الحجیة فان حجیة ما یحتمل تعیینه معلومة و لا مناص من الالتزام به،و حجیة ما لا یحتمل تعیینه مشکوکة.و قد حققنا ان الشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها فعلا،و هذا هو السر فی افتراق هذین المقامین عن غیرهما.

و نتیجة ما ذکرناه لحد الآن هی ان الأهم و کذا محتمل الأهمیة من المرجحات فی المقام،کما انهما من المرجحات فی الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطا بالقدرة عقلا فحسب.

و اما النقطة الثانیة،فیردها ان المفروض قدرة المکلف علی امتثال کل من الواجبین المتزاحمین فی نفسه،و فی ظرف ترک الآخر عقلا و شرعا.هذا من

ص:266

ناحیة.و من ناحیة أخری ان الشارع لم یأمر بخصوص أحدهما المعین،لأنه ترجیح من دون مرجح.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا مانع من أمر الشارع بکلیهما طولا و علی نحو الترتب،بان یکون تعلق الأمر بکل منهما مشروطاً بعدم الإتیان بالآخر و مترتباً علیه،بل لا مناص من الالتزام بذلک.و الوجه فیه هو ان الأمر فی المقام یدور بین ان یرفع الید عن إطلاق کل من دلیلیهما بتقیید الأمر فی کل منهما بعدم الإتیان بمتعلق الآخر،و ان یرفع الید عن أصل وجوب کل منهما رأساً.

و من المعلوم ان المتعین هو الأول دون الثانی،ضرورة ان رفع الید عن أصل الأمر بهما بلا سبب،إذ انه لا یقتضی أزید من رفع الید عن إطلاق کل منهما مع التحفظ علی أصله.

و نتیجة ذلک هی الالتزام بالترتب من الجانبین:بمعنی ان تعلق الأمر بکل من الفعلین مشروط بعدم الإتیان بمتعلق الآخر،و لا مانع من ذلک أصلا لا عقلا کما هو واضح،إذ المفروض ان کل منهما مقدور عقلا فی ظرف ترک امتثال الآخر و الإتیان بمتعلقه،و لا شرعا لفرض انه لیس هناک أی مانع شرعی عن تعلق الأمر بکل واحد منهما فی نفسه،و فی ظرف ترک الآخر،إذ المفروض ان کلا من الفعلین فی ذاته و مع قطع النّظر عن الآخر سائغ،و معه لا مانع من تعلق الأمر بهما کذلک و به نستکشف وجود الملاک فی کل منهما فی نفسه،و عند ترک الآخر.

و علی الجملة فقد ذکرنا سابقاً انه لا فرق فی جریان الترتب بین ما یکون کل من الواجبین مشروطا بالقدرة عقلا،و ما یکون مشروطا بها شرعا،فکما انه یجری فی الأول،فکذلک یجری فی الثانی من دون فرق بینهما من هذه الجهة.

و دعوی-ان جریان الترتب فی مورد یتوقف علی إحراز الملاک فیه،و هو فی المقام لا یمکن،لفرض دخل القدرة الشرعیة فیه-مدفوعة بما ذکرناه هناک من ان جریان الترتب لا یتوقف علیه،ضرورة ان إحرازه لا یمکن إلا بعد إثبات

ص:267

الأمر،فلو توقف إثبات الأمر علی إحرازه لدار،کما قدمناه بشکل واضح.

فتحصل انه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا.و قد تقدم انه لا فرق فی إمکان الترتب و استحالته بین أن یکون من جانب واحد أو من جانبین.و اما عدم التزام شیخنا الأستاذ-قده-به فی المقام مع انه من القائلین به مطلقا من دون فرق بین أن یکون من طرف أو من طرفین فمن جهة ما بنی-قده-علی أصل فاسد،و هو أن الترتب لا یجری فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیة-کما عرفت.

و علی هذا الأساس یترتب ان التخییر بینهما تخییر عقلی،کالتخییر بین الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطا بالقدرة عقلا،فان المکلف بعد ما لا یتمکن من امتثال کلا التکلیفین معا فلا محالة یکون مخیراً بین امتثال هذا و امتثال ذاک بحکم العقل،فلا موضوع عندئذ للتخییر الشرعی أصلا.و تظهر الثمرة فی المقام بین کون التخییر شرعیا،و کونه عقلیا فیما إذا کان المکلف تارکا لامتثال کلا الواجبین معاً،فانه علی الأول یستحق عقابا واحداً،لوحدة التکلیف علی الفرض.و علی الثانی یستحق عقابین،لما عرفت من ان لازم القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التکلیف.و قد ذکرنا انه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب،بل لا مناص عنه،و انه لا یکون عقاباً علی ترک ما لیس بالاختیار،فان تعدد العقاب من جهة الجمع بین الترکین،لا من جهة ترک الجمع بینهما،و قد مر بیان ذلک بصورة واضحة فلا حاجة إلی الإعادة.

و اما القسم الثالث(و هو ما إذا کان کل من الواجبین مشروطا بالقدرة عقلا) فیقع الکلام فیه فی مقامین:

الأول-فیما إذا کان أحد التکلیفین أهم من الآخر،أو محتمل الأهمیة.

الثانی-فیما إذا کانا متساویین.

أما المقام الأول فلا إشکال فی تقدیم الأهم علی المهم سواء أ کان الأهم مقارنا مع المهم زمانا أو سابقاً علیه أو متأخراً عنه.أما فی الأولیین فواضح،و ذلک

ص:268

لأن التکلیف بالأهم یصلح ان یکون معجزاً مولویاً للمکلف بالإضافة إلی الطرف الآخر و هو المهم،و اما التکلیف بالمهم فلا یصلح أن یکون کذلک،فتکون نسبته إلی الأهم کنسبة المستحب إلی الواجب،فکما ان المستحب لا یصلح ان یزاحم الواجب فی مقام الامتثال،فکذلک المهم لا یصلح ان یزاحم الأهم.

أو فقل:ان التزاحم سواء أ کان بین التکلیفین أم بین الإطلاقین فلا محالة یوجب سقوط أحدهما دون الآخر،إذ سقوط کلیهما غیر محتمل،ضرورة انه بلا موجب.و علیه فیدور الأمر بین سقوط المهم دون الأهم،و بالعکس،و من الواضح جداً ان الثانی غیر معقول،لأنه ترجیح المرجوح علی الراجح،فاذن یتعین الأول،و هذا معنی تقدیم الأهم علی المهم،و أمثلة ذلک فی الشرع و العرف کثیرة:منها-ما إذا دار الأمر بین حفظ بیضة الإسلام-مثلا-و واجب آخر، فلا إشکال فی تقدیم الأول علی الثانی فی مقام الامتثال.و منها-ما إذا دار الأمر بین حفظ نفس مؤمن-مثلا-و حفظ ماله أو نحوه فلا ینبغی الشک فی تقدیم الأول علی الثانی،لکونه أهم منه،و هکذا.و أما فی الصورة الأخیرة فالامر أیضاً کذلک.و الوجه فیه هو ان الأهم و ان کان متأخراً عن المهم زماناً،إلا ان ملاکه بما انه تام فی ظرفه و أهم من غیره،فلا محالة وجب حفظ القدرة علیه فی وقته،لئلا یفوت،ضرورة ان العقل کما یستقل بقبح تفویت الواجب الفعلی، کذلک یستقل بقبح تفویت الملاک الملزم فی ظرفه و علی،هذا حیث ان الإتیان بالمهم فعلا یوجب تفویت ملاک الأهم فی ظرفه فلا یجوز،فیکون حکم العقل بوجوب حفظ القدرة علیه فی زمانه معجزاً للمکلف بالإضافة إلی امتثال المهم بالفعل.

و بتعبیر ثان ان الحاکم بالترجیح فی باب المزاحمة حیث انه کان هو العقل لا غیره،فمن الواضح جداً انه مستقل بتقدیم الأهم علی المهم فی مقام الامتثال -مطلقاً-و لو کان الأهم متأخراً عنه زماناً،کما فی مفروض المقام،فانه یحکم بلزوم حفظ القدرة علی امتثاله فی ظرفه،لئلا یلزم منه تفویت الملاک الملزم فیه،و لا یحکم

ص:269

بلزوم الإتیان بالمهم فعلا،بل یحکم بعدم جواز الإتیان به،لاستلزامه تفویت ما هو الأهم منه،و مثاله ما إذا دار الأمر بین حفظ مال الإنسان-مثلا-فعلا، و حفظ نفسه فی زمان متأخر،بان لا یقدر علی حفظ کلیهما معاً،فلو صرف قدرته فی حفظ ماله فعلا فلا یقدر علی حفظ نفسه و لو عکس فبالعکس،کما إذا فرض أن الحاکم حکم بمصادرة أمواله فعلا،و هو و ان کان قادراً علی حفظ ماله بالشفاعة عنده،إلا انه یعلم بأنه یحکم بعد بضع ساعات بقتل نفسه،فلو توسط عنده فعلا لحفظ ماله،فلا یقبل توسطه فیما بعد لحفظ نفسه،لفرض انه لا یقبل توسطه فی الیوم الآمرة واحدة،فاذن یدور امره بین ان یحفظ نفسه فی زمان متأخر و یرفع یده عن حفظ ماله فعلا،و ان یحفظ ماله فعلا و یرفع یده عن حفظ نفسه فیما بعد،ففی مثل ذلک لا إشکال فی حکم العقل بترجیح الأول علی الثانی، و تقدیمه علیه،و کذا إذا دار الأمر بین امتثال واجب فعلی آخر و حفظ نفس محترمة فی زمان متأخر بان لا یقدر المکلف علی امتثال الأول و حفظ الثانیة معاً،فانه لا إشکال فی وجوب حفظ القدرة علی الواجب المتأخر،و هو حفظ النّفس المحترمة و رفع الید عن وجوب الواجب الفعلی.و هکذا.

ثم انه لا یخفی ان ما ذکرناه من تقدیم الواجب الأهم علی المهم فیما إذا کان متأخراً عنه زمانا بناء علی وجهة نظرنا من إمکان الواجب المعلق واضح،حیث ان الوجوب فعلی علی الفرض و الواجب أمر متأخر.و من المعلوم ان فعلیة الوجوب تکشف عن کون الواجب فی ظرفه واجداً للملاک الملزم.و قد عرفت انه لا فرق فی نظر العقل بین تفویت الواجب الفعلی و تفویت الملاک الإلزامیّ،فکما انه یحکم بقبح الأول،فکذلک یحکم بقبح الثانی.

و علی ذلک فان لم یکن ملاک الواجب المتأخر فی ظرفه أهم من ملاک الواجب الفعلی،و کانا متساویین فیحکم العقل بالتخییر بینهما،و عدم ترجیح الواجب الفعلی علی المتأخر،لعدم العبرة بالسبق الزمانی فی المقام أصلا.

ص:270

و ما ذکرناه سابقاً-من ان ما هو أسبق زماناً یتقدم علی غیره-انما هو فیما إذا کان التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا فیما إذا کان مشروطاً بها عقلا.و نقطة الفرق بینهما هی انه علی الأول بما ان کلا منهما مشروط بالقدرة شرعاً،ففی فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زماناً علی الآخر،حیث ان ملاکه تام بالفعل من ناحیة انه مقدور للمکلف عقلا و شرعاً، و معه لا عذر له فی ترکه أصلا.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری انه لا یجب احتفاظ القدرة علی الواجب المتأخر،لفرض ان القدرة دخیلة فی ملاکه، فیستحیل أن یقتضی احتفاظها.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا بد من الإتیان بالمتقدم زماناً دون المتأخر.و من الواضح ان الإتیان به یوجب عجزه عنه،فیکون التکلیف به منتفیاً بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و علی الثانی بما ان کلا منهما مشروط بالقدرة عقلا، فلا یکون سبق أحدهما زماناً علی الآخر فی فرض المزاحمة من المرجحات،لما عرفت من أن ملاک الواجب المتأخر حیث انه تام فی ظرفه-کما هو المفروض-فلا محالة یقتضی الاحتفاظ علیه فی ظرفه فی مقابل افتضاء الواجب الفعلی.

و اما بناء علی وجهة نظر شیخنا الأستاذ-قده-من استحالة الواجب التعلیقی و عدم إمکانه فتقدیم الأهم علی المهم إذا کان متأخراً عنه زماناً یرتکز علی إحراز الملاک فیه فی ظرفه من دلیل خارجی،فان علم من الخارج اشتماله علی الملاک،کما إذا دار الأمر بین امتثال واجب فعلی کحفظ مال المولی-مثلا-و واجب متأخر کحفظ نفسه أو حفظ بیضة الإسلام،أو ما شاکل ذلک من الواجبات التی قد اهتم الشارع بها غایة الاهتمام علی نحو الإطلاق من دون اختصاص بوقت دون آخر، فلا إشکال فی تقدیم الأهم علی المهم،و ان کان متأخراً عنه زماناً،لتمامیة ملاکه الإلزامی فی وقته.و قد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة علیه فی ظرفه و عدم جواز صرفها فی الواجب الفعلی،ففی أمثال هذه الموارد لا فرق بین نظریتنا

ص:271

و نظریة شیخنا الأستاذ-قده-ضرورة انه لا أثر لفعلیة الوجوب ما عدا کشفه عن اشتماله(أی الواجب المتأخر)علی الملاک فی ظرفه،و إذا علمنا بتحقق الملاک فیه و اشتماله علیه فلا أثر لفعلیة الوجوب و عدمها.و اما إذا-لم یعلم من الخارج بوجود الملاک فیه،کما إذا لم تکن قرینة خارجیة تدل علیه،و المفروض انه لیس هنا قرینة داخلیة أیضا،و هی ثبوت الوجوب،فلا یمکن عندئذ استکشاف الملاک فی شیء،لما ذکرناه غیر مرة من انه لا طریق لنا إلی إحراز الملاک فی فعل مع قطع النّظر عن ثبوت الحکم له-فلا وجه لتقدیمه علی الواجب الفعلی،ضرورة انه مع عدم إحراز الملاک فیه فی ظرفه لا یحکم العقل باحتفاظ القدرة علیه،و بدون حکمه فلا مانع من امتثال الواجب الفعلی أصلا،ففی مثل تلک الموارد تفترق نظریتنا عن نظریة شیخنا الأستاذ-قده-فعلی نظریتنا بما ان الوجوب فعلی،و الواجب أمر متأخر فهو لا محالة یکشف عن وجود الملاک فیه و کونه تاماً،و إلا لم یعقل کون وجوبه فعلیاً.و علی نظریته-قده-حیث انه لا وجوب فعلا فلا کاشف عن کونه واجداً للملاک فی وقته.و علیه فلا وجه لتقدیمه علی المهم و هو الواجب الفعلی.

و قد تحصل مما ذکرناه ان تقدیم الأهم علی المهم إذا کان متأخراً عنه زماناً منوط-علی نظریة شیخنا الأستاذ-قده-بإحراز الملاک فیه من الخارج،و إلا فلا یمکن الحکم بالتقدیم أصلا،بل یتعین العکس کما لا یخفی،و کیف کان فعلی فرض کونه مشتملا علی الملاک فی ظرفه یتقدم علی المهم لا محالة،و لو کان متأخرا عنه زماناً،و کلامنا فی المقام علی نحو الفرض و التقدیر،و الکبری الکلیة من دون نظر إلی مصادیقها و افرادها.

هذا،و لکن شیخنا الأستاذ-قده-هنا قد مثل لذلک أی لتزاحم الواجبین الطولیین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا بما إذا لم یکن المکلف متمکناً من القیام فی جزءین طولیین من الصلاة.و لا یخفی ما فی هذا المثال.

ص:272

اما أولا فلما ذکرناه غیر مرة من ان التزاحم لا یجری فی اجزاء واجب واحد أو شرائطه.

و اما ثانیاً:فلأنه مناف لما ذکره-قده-من اشتراط اجزاء الصلاة بالقدرة شرعاً.و علیه فلا مناص من تقدیم ما هو أسبق زماناً علی غیره،و لو کان ذلک الغیر أهم منه،کما عرفت.

فالنتیجة قد أصبحت لحد الآن ان الواجب الأهم یتقدم فی مقام المزاحمة علی المهم مطلقاً،و لو کان متأخراً عنه زماناً فیما إذا کان مشروطاً بالقدرة عقلا، سواء أ کان المهم أیضاً کذلک أم لا. نعم إذا کان الأهم مشروطاً بالقدرة شرعاً فلا یتقدم علی المهم فی فرض تأخره عنه زماناً،بل یتقدم المهم علیه،و لو کان مشروطاً بها شرعاً.

و اما إذا کان أحد الواجبین المتزاحمین محتمل الأهمیة دون الآخر فهل یکون مرجحاً لتقدیمه علیه أم لا؟فقد ذکر شیخنا الأستاذ-قده-انه بناء علی القول بالتخییر الشرعی فی المتساویین یکون المقام داخلا فی کبری مسألة دوران الأمر بین التعیین و التخییر الشرعیین التی ذکرناها فی مسألة دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین،فان قلنا فی تلک المسألة بالاشتغال و التعیین فلا بد ان نقول به فی هذه المسألة أیضاً،و ان قلنا هناک بالبراءة و التخییر فلا بد ان نقول به فی المقام أیضاً،و علی الجملة فمسألتنا هذه من صغریات کبری تلک المسألة،فیبتنی الحکم فیها علی الحکم فی تلک من البراءة أو الاشتغال.

و اما بناء علی القول بالتخییر العقلی فی المتساویین فقد ذکر-قده-انه لا إشکال فی تقدیم ما تحتمل أهمیته علی غیره،و الوجه فی ذلک هو ان التکلیفین المتزاحمین إذا کانا متساویین فلا إشکال فی سقوط إطلاقیهما و حکم العقل بالتخییر بینهما بمعنی حکمه بثبوت کل واحد منهما مترتباً علی ترک الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب و جوازه من دون فرق بین ان یکون

ص:273

من جانب واحد أو من جانبین،کما فی مثل المقام،ضرورة ان العقل لا یجوز رفع الید عن أصل التکلیفین معاً،فانه بلا موجب و مقتض.و من الواضح انه لا یجوز رفع الید عن التکلیف بلا سبب یقتضی رفعه،فالمقتضی(و هو المزاحمة)فی المقام لا یقتضی إلا رفع الید عن ثبوت کل منهما علی تقدیر الإتیان بالآخر،لا مطلقاً، و هذا عبارة أخری عن ثبوت کل منهما علی تقدیر ترک الآخر.

و یترتب علی ذلک ان المکلف مخیر بین امتثال هذا و امتثال ذاک.

و اما إذا کان أحدهما محتمل الأهمیة دون الآخر ففی مثل ذلک لا شبهة فی أن الإتیان بالطرف المحتمل أهمیته یوجب القطع بسقوط التکلیف عن الطرف الآخر،و ذلک لأن ما أتی به علی تقدیر کونه أهم فی الواقع و نفس الأمر فهو الواجب،دون غیره،و علی تقدیر کونه مساویاً له فهو مصداق للواجب لا محالة.

و ان شئت قلت انه بناء علی التخییر العقلی عند تزاحم الواجبین المتساویین و الالتزام بالترتب من الجانبین إذا علم أهمیة أحدهما دون الآخر،فقد علمنا بسقوط الإطلاق عن الآخر،و باشتراطه بعدم الإتیان بمتعلق الأول،و اما ما یحتمل أهمیته فلم یحرز سقوط إطلاقه فلا بد من الأخذ به.

و هذا هو أساس تقدیم محتمل الأهمیة علی غیره فی مقام المزاحمة.إلی هنا قد ثم بیان ما أفاده-قده-مع توضیح منا.

و نناقش ما أفاده-قده-من ناحیتین:

الأولی-انه لا تظهر الثمرة فیما نحن فیه بین القول بالتخییر الشرعی فی المتساویین،و القول بالتخییر العقلی فیهما علی وجهة نظره-قده-فی مسألة دوران الأمر بین التعیین و التخییر الشرعیین حیث انه-قده-قد التزم فی تلک المسألة بالاحتیاط،و عدم جواز الرجوع إلی البراءة علی ما نطق به کلامه فی مسألة الأقل و الأکثر الارتباطیین،و بما أن مسألتنا هذه علی الفرض الأول داخلة فی کبری تلک المسألة فلا مناص له من الالتزام بالاحتیاط فیها،و لزوم الأخذ بالطرف

ص:274

المحتمل أهمیته،و علیه فالنتیجة علی هذا القول بعینها هی النتیجة علی القول بالتخییر العقلی،و هی تعین الأخذ بالطرف المحتمل أهمیته،دون الطرف الآخر،فاذن لا فرق بین القولین من هذه الناحیة أصلا.

الثانیة-ان المقام علی القول المزبور أعنی القول بالتخییر الشرعی فی المتساویین و ان کان داخلا فی کبری دوران الأمر بین التعیین و التخییر الشرعیین إلا ان التعیین و التخییر فی خصوص المقام حیث انهما کانا فی مقام التزاحم و الامتثال فلا مناص من الالتزام بعدم جریان البراءة عن التعیین و وجوب الأخذ به،و ان قلنا بجریان البراءة فی تلک الکبری،کما فصلنا الکلام من هذه الناحیة فی بحث الأقل و الأکثر الارتباطیین.

و توضیح ذلک هو ان مسألة دوران الأمر بین التعیین و التخییر تنقسم إلی ثلاثة أقسام:

الأول-ما إذا دار الأمر بین التعیین و التخییر فی مقام جعل الحجیة و إنشائها فی مرحلة التشریع و الاعتبار،کما لو شککنا فی ان حجیة فتوی الأعلم هل هی تعینیة أو ان المکلف مخیر بین الأخذ به و الأخذ بفتوی غیر الأعلم.

الثانی-ما إذا دار الأمر بین التعیین و التخییر فی مقام الامتثال و الفعلیة من جهة التزاحم.

الثالث-ما إذا دار الأمر بین التعیین و التخییر فی مقام الجعل و التشریع،فلا یعلم ان التکلیف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصیة فیه أو مجعول لحصة خاصة منه، کما لو شککنا فی أن وجوب صلاة الجمعة فی یوم الجمعة هل هو تعیینی أو تخییری.

و بعد ذلک نقول انا قد ذکرنا فی غیر مورد ان البراءة لا تجری فی القسمین الأولین،و لا بد فیهما من الالتزام بوجوب الاحتیاط.و اما فی القسم الأخیر فالصحیح هو جریان البراءة فیه،فهاهنا دعویان:

الأولی-عدم جریان أصالة البراءة فی القسمین الأولین.

ص:275

الثانیة-جریان البراءة فی القسم الأخیر. اما الدعوی الأولی،فقد ذکرنا غیر مرة ان الشک فی حجیة شیء فی مقام الجعل و التشریع مساوق للقطع بعدم حجیته فعلا ضرورة انه مع هذا الشک لا یمکن ترتیب آثار الحجة علیه و هی اسناد مؤداه إلی الشارع،و الاستناد إلیه فی مقام الجعل،للقطع بعدم جواز ذلک،لأنه تشریع محرم.و من المعلوم انا لا نعنی بالحجیة الفعلیة إلا ترتیب تلک الآثار علیها،و علیه فإذا دار الأمر بین حجیة شیء کفتوی الأعلم مثلا تعییناً،و حجیته تخییراً فلا مناص من الأخذ به،و طرح الطرف الآخر للقطع بحجیته و اعتباره فعلا اما تعییناً أو تخییراً،و الشک فی حجیة الآخر کفتوی غیر الأعلم و اعتباره.و قد عرفت أن الشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها،و هذا واضح.

و کذا الحال فی مقام الامتثال،فانه إذا دار الأمر بین امتثال شیء تعییناً أو تخییراً،فلا مناص من التعیین و الأخذ بالطرف المحتمل تعیینه،ضرورة ان الإتیان به یوجب القطع بالأمن من العقاب و الیقین بالبراءة،و ذلک لأنه علی تقدیر کونه أهم من الآخر فهو الواجب،و علی تقدیر کونه مساویاً له فهو مصداق للواجب واحد فردیه.و من المعلوم ان الإتیان به کاف فی مقام الامتثال،و هذا بخلاف الطرف الّذی لا تحتمل أهمیته أصلا،فان الإتیان به لا یوجب القطع بالبراءة و الأمن من العقاب،لاحتمال أن لا یکون واجباً فی الواقع-أصلا-و انحصار الوجوب بالطرف الأول.و من الواضح جداً ان العقل یستقل فی مرحلة الامتثال بلزوم تحصیل الیقین بالبراءة و الأمن من العقوبة بقانون ان الاشتغال الیقینیّ یقتضی البراءة الیقینیة،و بما ان المفروض فی مسألة دوران الأمر بین التعیین و التخییر فی مقام الامتثال اشتغال ذمة المکلف بالواجب.فیجب علیه بحکم العقل تحصیل بالبراءة عنه و الأمن من العقوبة،و حیث انه لا یمکن الا بإتیان الطرف المحتمل أهمیته،فلا محالة ألزمه العقل بالأخذ به و إتیانه،و هذا معنی حکم العقل

ص:276

بالتعیین و عدم جواز الرجوع إلی البراءة فی مسألة التعیین و التخییر فی مرحلة الامتثال و الفعلیة.

و بتعبیر واضح ان دوران الأمر بین التعیین و التخییر-فی مقام الامتثال و الفعلیة-منحصر بباب التزاحم بین التکلیفین لا غیر،و من الواضح ان المزاحمة- بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب-لا تقتضی إلا سقوط إطلاق أحدهما إذا کان فی البین ترجیح،و سقوط إطلاق کلیهما إذا لم یکن ترجیح فی البین.

و علی هذا الأساس انه إذا کان أحد التکلیفین المتزاحمین معلوم الأهمیة فلا إشکال فی تقدیمه علی الآخر،کما سبق و اما إذا کان أحدهما محتمل الأهمیة دون الآخر فیدور أمر المکلف بین الإتیان به و الإتیان بالطرف الآخر،و لکنه إذا أتی به مأمون من العقاب،و معذور فی ترک الآخر.و ذلک لأن جواز الإتیان بهذا الطرف معلوم علی کل تقدیر،أی سواء أ کان أهم فی الواقع أم کان مساویاً له، و بالطرف الآخر غیر معلوم.و من الواضح جداً ان العقل یلزم بامتثال هذا الطرف و إتیانه،لأنه یوجب الأمن من العقاب علی تقدیر مخالفة الواقع، و حصول القطع بالبراءة،دون الإتیان بذاک الطرف،لاحتمال انه غیر واجب فی الواقع،و انحصار الوجوب بالطرف المزبور،و معه لا یکون الإتیان به موجباً لحصول القطع بالبراءة.و قد عرفت ان همّ العقل فی مقام الامتثال تحصیل الأمن من العقوبة و القطع بالفراغ.

و نظیر المقام ما إذا شک فی البراءة من جهة الشک فی القدرة علی الامتثال، کما إذا شک فی وجوب النفقة من جهة الشک فی وجود المال عنده،و انه قادر علی دفعها أم لا،فلا یمکن له أن یرجع إلی أصالة البراءة عن وجوبها.و ذلک لأن المفروض ان ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة.و من الواضح ان الاشتغال الیقینیّ یقتضی الفراغ الیقینیّ فاذن لا یمکن حصول البراءة إلا بالفحص و الاستعلام عن وجود المال عنده.

ص:277

و الوجه فیه هو ان مجرد احتمال کونه عاجزاً عن امتثال التکلیف الثابت علی ذمته لا یکون عذراً له فی ترکه و عدم امتثاله عند العقل ما لم یحرز عجزه عنه و عدم قدرته علیه،ضرورة ان ترک امتثال التکلیف لا بد ان یستند إلی مؤمن،و من المعلوم ان مجرد احتمال العجز لا یکون مؤمناً،فاذن لا مناص من الأخذ بالاحتیاط.

فقد تحصل مما ذکرناه انه بناء علی وجهة نظرنا أیضاً لا تظهر الثمرة بین القول بالتخییر الشرعی فی المتساویین،و القول بالتخییر العقلی فیهما،فعلی کلا القولین لا مناص من الاحتیاط و الأخذ بالطرف المحتمل أهمیته،غایة الأمر بناء علی التخییر العقلی سقوط أحد الإطلاقین معلوم و سقوط الآخر مشکوک فیه،و مع الشک لا بد من الأخذ به،و بناء علی التخییر الشرعی سقوط أحد التکلیفین معلوم و سقوط الآخر مشکوک فیه و ما لم یثبت سقوطه لا یعذر من مخالفته،و لکن النتیجة واحدة و اما الدعوی الثانیة(و هی جریان البراءة فی القسم الأخیر من الأقسام المتقدمة)فلان الشک فیه یرجع إلی الشک فی کیفیة جعل التکلیف،و انه تعلق بالجامع أو بخصوص فرد خاص،کما لو شککنا فی أن وجوب کفارة الإفطار العمدی فی شهر رمضان متعلق بالجامع بین صوم شهرین متتابعین و إطعام ستین مسکیناً،أو متعلق بخصوص صوم شهرین،و حیث ان مرجع ذلک إلی الشک فی إطلاق التکلیف،و عدم أخذ خصوصیة فی متعلقه،و تقییده بأخذ خصوصیة فیه،و الإطلاق و التقیید علی ما ذکرناه و ان کانا متقابلین بتقابل التضاد،إلا ان التقیید بما أن فیه کلفة زائدة فهی مدفوعة بأصالة البراءة عقلا و نقلا.و هذا بخلاف الإطلاق،حیث انه لیس فیه أیة کلفة لتدفع بأصالة البراءة،فاذن ینحل العلم الإجمالی بجریان الأصل فی أحد طرفیه دون الآخر.و تفصیل الکلام فی ذلک فی بحث البراءة و الاشتغال.

و الغرض من التعرض هنا الإشارة إلی عدم صحة ما أفاده شیخنا الأستاذ-قده- من الأخذ بالاحتیاط فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر مطلقاً.

ص:278

و اما المقام الثانی(و هو ما إذا کان الواجبان المتزاحمان متساویین و لم تحتمل أهمیة أحدهما علی الآخر أصلا،أو احتملت أهمیة کل منهما بالإضافة إلی الآخر) فلا مناص من الالتزام بالتخییر فیه،ضرورة انه لا یجوز رفع الید عن کلیهما معاً فهذا لا کلام فیه،و إنما الکلام فی ان هذا التخییر عقلی أو شرعی.

و قد اختار شیخنا الأستاذ-قده-فی المقام ان التخییر عقلی علی عکس ما اختاره فی المسألة المتقدمة،و هی ما إذا کان کل من الواجبین المتزاحمین مشروطاً بالقدرة شرعاً.

و غیر خفی أن کون التخییر فی المقام عقلیاً أو شرعیاً یرتکز علی القول بإمکان الترتب و استحالته.

فعلی الفرض الأول لا بد من القول بکون التخییر عقلیاً.

و الوجه فی ذلک واضح،و هو ان لازم هذا الفرض ثبوت کل من التکلیفین المتزاحمین علی نحو الترتب و الاشتراط،بمعنی ان فعلیة کل منهما مشروطة بترک امتثال الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه خارجاً،فان معنی الترتب من الجانبین یرجع إلی تقیید إطلاق کل من التکلیفین بعدم امتثال الآخر.

و من المعلوم ان هذا التقیید لیس أمراً حادثاً بحکم العقل فعلا،بل هو نتیجة اشتراط التکالیف بالقدرة عقلا من الأول،فان ذلک الاشتراط یقتضی هذا التقیید من الجانبین إذا کانا متساویین،و من جانب واحد إذا کان أحدهما واجداً للترجیح،و لیس معنی التخییر-هنا-تبدیل الوجوب التعیینی بالتخییری،لیقال انه غیر معقول،ضرورة انه باق علی حاله،غایة الأمر ان المزاحمة تقتضی رفع الید عن إطلاقه،لا عن أصله،فان الضرورة تتقدر بقدرها،بل معناه هو تخییر المکلف فی إعمال قدرته فی امتثال هذا أو ذاک،و هذا نتیجة عدم قدرته علی امتثال کلیهما معاً من جانب،و عدم الترجیح لأحدهما علی الآخر من جانب ثان، و عدم جواز رفع الید عنهما معاً من جانب ثالث.

ص:279

و علی الفرض الثانی لا مناص من الحکم بکون التخییر شرعیاً.

و الوجه فیه هو ان لازم هذا الفرض سقوط کلا التکلیفین المتزاحمین معاً، فلا هذا ثابت،و لا ذاک،و لکن حیث انا نعلم من الخارج ان الشارع لم یرفع الید عن کلیهما معاً،لأن الموجب لذلک لیس إلا عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال.و من الواضح جداً ان هذا لا یوجب ذلک،فان الضرورة تتقدر بقدرها،و هی لا تقتضی إلا رفع الید عن أحدهما دون الآخر،لکونه مقدوراً له عقلا و شرعاً،و بذلک نستکشف ان الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة، و الا لزم ان یفوت غرضه،و هو قبیح من الحکیم،و هذا معنی کون التخییر شرعیاً إلی هنا قد تبین ان التکلیفین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا فان کانا عرضیین و کان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمیة فلا إشکال فی تقدیمه علیه.و اما إذا کانا متساویین من جمیع الجهات فلا إشکال فی التخییر،کما مر.

و اما ان کانا طولیین فان کان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمیة فائضاً یتقدم علیه علی تفصیل قد تقدم فلاحظ.هذا کله فیما إذا کانت القدرة المعتبرة فی الواجب المتأخر قدرة مطلقة،کما هو المفروض لا قدرة خاصة.

و اما إذا کانت القدرة المعتبرة فیه قدرة خاصة و هی القدرة فی ظرف العمل لا مطلقاً،کما لو نذر أحد صوم یومی الخمیس و الجمعة،ثم علم بأنه لا یقدر علی صوم کلا الیومین معا،ففی مثل ذلک لا إشکال فی لزوم تقدیم ما هو أسبق زمانا علی الآخر،فیقدم فی المثال صوم یوم الخمیس علی صوم یوم الجمعة،لکونه مقدما علیه زمانا،و کذا الحال فیما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی صلاة الظهر و ترکه فی صلاة العصر،أو بین ترک القیام فی صلاة المغرب و ترکه فی صلاة العشاء،بأن لا یقدر المکلف علی الإتیان بکلتا الصلاتین مع القیام،فیقدم ما هو أسبق زماناً علی الآخر.

و الوجه فی ذلک واضح و هو أن المکلف حیث انه کان قادراً علی الصوم یوم

ص:280

الخمیس،و القیام فی صلاة الظهر أو المغرب،فلا عذر له فی ترکه أصلا،لفرض ان وجوبهما فعلی،و لا مانع من فعلیته أصلا،ضرورة ان المانع-هنا-لیس إلا التکلیف بالصوم أو القیام فی ظرف متأخر.و من المعلوم انه لا یصلح ان یکون مانعاً،لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة علی امتثاله فی ظرفه،لما عرفت من ان القدرة المعتبرة فیه إنما هی القدرة فی ظرف العمل،لا-مطلقاً-فاذن کما لا یجب حفظ القدرة قبل مجیء وقته،کذلک لا یجب تحصیلها.

فعلی هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقدیم المتقدم زماناً علی الآخر، و لا عذر له فی ترک امتثاله باحتفاظ القدرة علی امتثال الواجب المتأخر أبداً، لعدم المقتضی له لذلک أصلا،ففی الأمثلة المزبورة لا بد من الإتیان بالصوم یوم الخمیس،و بالقیام فی صلاة الظهر أو المغرب،و لا یجوز الاحتفاظ بالقدرة بترکهما علی الصوم یوم الجمعة،و القیام فی صلاة العصر أو العشاء.و من المعلوم انه بعد الإتیان بالواجب المتقدم یعجز المکلف عن امتثال الواجب المتأخر،فینتفی عندئذ بانتفاء موضوعه-و هو القدرة فی ظرفه-.

و من هذا القبیل ما إذا دار الأمر بین ترک الصوم فی العشرة الأولی من شهر رمضان و ترکه فی العشرة الثانیة،کما إذا فرضنا ان شخصاً لا یتمکن من الصوم فی کلتا العشرتین معاً،و لکنه قادر علیه فی إحداهما دون الأخری،فانه لا بد من تقدیم الصوم فی العشرة الأولی علی الصوم فی العشرة الثانیة،فان وجوب الصوم فی العشرة الأولی فعلی بفعلیة موضوعه،و لا حالة منتظرة له أبداً،و هذا بخلاف وجوبه فی العشرة الثانیة،فانه غیر فعلی من جهة عدم فعلیة موضوعه.و علیه فلا عذر له فی ترکه فی الأولی باحتفاظ القدرة علیه فی الثانیة،ضرورة ان القدرة المعتبرة علی الصوم فی کل یوم فی ظرفه،فان کان المکلف قادراً علی الصوم فی الیوم الأول أو الثانی فهو مکلف به،و إلا فلا تکلیف به أصلا،و لا یجوز له الاحتفاظ بالقدرة بترک الصوم فی الیوم الأول علی الصوم فی الیوم الثانی،بل لا بد له من

ص:281

الإتیان به فی الیوم الأول،فان تمکن منه بعده فی الیوم الثانی أیضاً فهو،و إلا فینتفی بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و کذا الحال فی المثال المزبور،فانه لا بد من الإتیان بالصوم فی العشرة الأولی فان تمکن بعده من الإتیان به فی العشرة الثانیة أیضاً فهو،و إلا فینتفی التکلیف به بانتفاء موضوعه-و هو القدرة فی ظرفه-و لا یجوز له حفظ القدرة علی الصوم فی الثانیة بترکه فی الأولی،و لو فعل ذلک کان معاقباً علیه،لأنه ترک التکلیف الفعلی من دون عذر،و حینئذ(أی حین ترکه فی الأولی)وجب علیه فی الثانیة لا محالة،لقدرته علیه فعلا،و لا عذر له فی ترکه -أصلا-فلو ترکه کان معاقبا علیه أیضا.

فالنتیجة انه لو ترک الصوم فی العشرة الأولی و الثانیة معاً یستحق عقابین، و هذا لیس عقاباً علی ما هو خارج عن الاختیار و القدرة،لیکون قبیحاً من الحکیم فان استحقاقهما إنما هو علی الجمع بین ترکه فی الأولی و ترکه فی الثانیة،و هو مقدور له بالوجدان،و لا یکون العقاب علیه من العقاب علی ما لیس بالاختیار.

نظیر ما ذکرناه فی بحث الترتب من أن المکلف عند ترک الأهم و المهم معاً یستحق عقابین،و قلنا هناک ان هذا لا یکون عقاباً علی ما لیس بالاختیار،لأنه علی الجمع بین الترکین،و هو مقدور له بالبداهة،لا علی ترک الجمع بینهما،لیکون غیر مقدور کما تقدم.و فیما نحن فیه تعدد العقاب عند ترک کلا الواجبین من جهة الجمع بین الترکین،لا من جهة ترک الجمع بینهما،لیکون عقاباً علی غیر مقدور.

و هذا واضح.

و قد تحصل مما ذکرناه انه لا مسوغ للمکلف فی أن یترک الصوم فی العشرة الأولی،و یحفظ قدرته علیه فی العشرة الثانیة أو الأخیرة،بل لا بد له من الإتیان به فی الأولی،و معه یعجز عن الإتیان به فی الثانیة.

و من ذلک یظهر الحال فیما إذا دار الأمر بین ترک الطهارة المائیة فی الظهرین،و ترکها فی العشاءین،کما إذا کان عنده مقدار من الماء لا یکفی بکلتیهما

ص:282

معاً،فلو صرفه فی الوضوء أو الغسل للظهرین فلا یبقی للعشاءین،و ان احتفظ به للعشاءین فلا یتمکن من الإتیان بالظهرین مع الوضوء أو الغسل.

و الوجه فیه واضح و هو ان المکلف واجد للماء فعلا بالإضافة إلی صلاتی الظهرین.و قد ذکرنا ان المراد من وجدان الماء فی الآیة المبارکة هو الوجدان بالإضافة إلی الصلاة المکلف بها فعلا-لا مطلقاً-کما ان المراد من عدم الوجدان فیها ذلک،و المفروض-هنا-أن المکلف واجد للماء بالإضافة إلی صلاتی الظهرین المکلف بهما فعلا،فیکون مشمولا لقوله تعالی:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم إلی آخر الآیة».هذا من جانب.

و من جانب آخر ان الوجدان المعتبر فی توجه التکلیف بالصلاة هو الوجدان فی وقتها،فلا أثر للوجدان قبله،و لا یکون الوجدان قبل الوقت موجباً لتوجه التکلیف بالصلاة إلیه فعلا،ضرورة انه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.

فالنتیجة علی ضوء هذین الجانبین هی انه مکلف بصلاتی الظهرین مع الطهارة المائیة لکونه واجداً للماء،و وظیفة الواجد هی الطهارة المائیة،لا غیرها، و لا یکون مکلفاً بالعشاءین فعلا،لعدم دخول وقتهما،فانه لا أثر لوجدانه الماء بالإضافة إلیهما،و المفروض انه بعد الإتیان بالظهرین یصیر فاقداً للماء، و وظیفة الفاقد هی الطهارة الترابیة،دون غیرها.و علی هذا فلا مسوغ لترک صلاتی الظهرین مع الطهارة المائیة و الإتیان بهما مع الطهارة الترابیة،لیحتفظ بالماء لصلاتی العشاءین،لما عرفت من عدم المقتضی للحفظ أصلا،بل المقتضی لصرفه فی الوضوء أو الغسل للظهرین موجود،و هو فعلیة التکلیف بهما مع الطهارة المائیة.

و کذا الحال فی بقیة الاجزاء و الشرائط،فلو دار الأمر بین ترک جزء أو شرط کالقیام أو نحوه فی صلاة الظهر-مثلا-و ترکه فی صلاة المغرب فالأمر کما تقدم، بمعنی ان وظیفته الفعلیة تقتضی الإتیان بصلاة الظهر قائماً،و لا یجوز له ترک القیام فیها بحفظ القدرة علیه لصلاة المغرب،بل فی الحقیقة لا مزاحمة فی

ص:283

البین،ضرورة ان المزاحمة إنما تعقل بین التکلیفین الفعلیین،لیکون لکل منهما اقتضاء للإتیان بمتعلقه فی الخارج،و اما إذا کان أحدهما فعلیاً دون الآخر فلا اقتضاء لما لا یکون فعلیا.و من المعلوم أن ما لا اقتضاء فیه لا یعقل أن یزاحم ما فیه الاقتضاء،هذا کله فیما إذا کان أحد الواجبین المزبورین فعلیا دون الواجب الآخر.

و اما إذا کان وجوب کلیهما فعلیاً کصلاتی الظهرین-مثلا-أو العشاءین بعد دخول وقتهما،فهل الأمر أیضاً کذلک أم لا وجهان:

الصحیح هو الوجه الأول:

بیان ذلک هو انا إذا فرضنا ان الأمر یدور بین الطهارة المائیة-مثلا-فی صلاة الظهر،و الطهارة المائیة فی صلاة العصر،أو بین الطهارة المائیة فی صلاة المغرب،و الطهارة المائیة فی صلاة العشاء،بان لا یتمکن المکلف من الجمع بین هاتین الصلاتین مع الطهارة المائیة،ففی مثل ذلک لا مناص من الالتزام بتقدیم صلاة الظهر مع الطهارة المائیة علی صلاة العصر،أو المغرب علی العشاء،و لا تجوز المحافظة علیها لصلاة العصر أو العشاء بترکها فی صلاة الظهر أو المغرب.

و الوجه فیه هو ان وظیفة المکلف فعلا هی الإتیان بصلاة الظهر فحسب لفرض انه لیس مأموراً بإتیان صلاة العصر قبل الإتیان بالظهر لاعتبار الترتیب بینهما هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری المفروض انه فی هذا الحال واجد للماء و متمکن من استعماله عقلا و شرعاً.و من الواضح ان وظیفته عندئذ بمقتضی الآیة المبارکة هی الوضوء أو الغسل،و لا یشرع فی حقه التیمم.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا أثر لکون المکلف واجداً للماء فعلا بالإضافة إلی صلاة العصر،لما ذکرناه من أن المستفاد من الآیة المبارکة بضمیمة الروایات ان المراد بوجدان الماء هو وجدانه بالإضافة إلی الصلاة المأمور بها فعلا،و المفروض ان فیما نحن فیه المأمور به فعلا هو صلاة الظهر دون العصر،

ص:284

ضرورة انه لا یجب الإتیان به قبل الظهر،فاذن هو واجد للماء بالإضافة إلی الظهر و من المعلوم ان وظیفة الواجد هی الوضوء أو الغسل،دون التیمم،و قد ذکرنا ان تقسیم المکلف إلی الواجد و الفاقد فی الآیة المبارکة قاطع للشرکة،فلا یکون الواجد شریکاً مع الفاقد فی شیء،و بالعکس.و علیه فیجب صرف الماء فی الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر و معه لا محالة یکون فاقداً له بالإضافة إلی العصر.و من الواضح ان وظیفة الفاقد هی التیمم لا غیره.

بل لا مزاحمة فی الحقیقة بین الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائیة و الأمر بصلاة العصر معها،ضرورة أنه لا مقتضی من قبل الأمر بصلاة العصر حتی یستدعی احتفاظ الماء لها فی ظرفها،لیزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف هذا الماء فعلا فی الوضوء أو الغسل.و من الواضح جداً انه لا مزاحمة بین ما فیه الاقتضاء و ما لا اقتضاء فیه.

و علی الجملة فلا یخلو الأمر من أن المکلف اما أن یصلی الظهر مع الطهارة المائیة،أو یصلی مع الطهارة الترابیة،أو لا یصلی أصلا،و لا رابع لها.فعلی الأول لا محالة یکون المکلف فاقداً للماء بالإضافة إلی صلاة العصر،فوظیفته التیمم.و علی الثانی بما ان صلاته باطلة،لأن وظیفته کانت الطهارة المائیة، لکونه واجداً للماء علی الفرض فلا تکون الطهارة الترابیة مشروعة له،فلا یجوز له الإتیان بالعصر مع الطهارة المائیة،لعدم جواز الإتیان به قبل الإتیان بالظهر، و المفروض ان الأمر بالظهر باق علی حاله.و علیه بما انه لا یکون مکلفاً فعلا بالعصر،فلا یکون مانع من قبله من صرف الماء فی الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر.و من هنا یظهر حال الصورة الأخیرة کما هو واضح.و کذا حال بقیة الاجزاء و الشرائط.

و قد تحصل مما ذکرناه انه لا مزاحمة حقیقة فی أمثال هذه الموارد أصلا.

هذا کله فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فی الواجب المتأخر القدرة الخاصة و هی

ص:285

القدرة فی ظرف العمل. و أما إذا کانت القدرة المأخوذة فیه القدرة المطلقة،بان استکشفنا من القرائن الداخلیة أو الخارجیة انه واجد للملاک الملزم فی ظرفه بمجرد القدرة علیه و لو آناً ما ففی مثل ذلک قد عرفت انه لا وجه لتقدیم ما هو أسبق زماناً علی الآخر،بل لا بد من ملاحظة الأهمیة فی البین.

و الوجه فی ذلک هو ان العقل کما یحکم بصرف القدرة فی امتثال الواجب المتقدم،کذلک یحکم باحتفاظها للواجب المتأخر،ضرورة انه لا فرق فی نظر العقل بین تفویت الواجب الفعلی و تفویت الملاک الملزم فی ظرفه،فکما انه یحکم بقبح الأول فکذلک یحکم بقبح الثانی،و علیه فلا أثر لسبق الزمانی-هنا-أصلا، فاذن ان کان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمیة فیقدم علیه بلا فرق بین کونه متقدماً علیه زماناً أو متأخراً عنه،و بلا فرق بین القول بإمکان الترتب و القول باستحالته،و إلا فیحکم العقل بالتخییر بینهما،کما تقدم بشکل واضح.

و لکن لشیخنا الأستاذ(قده)فی المقام کلام و هو ان التزاحم إذا کان بین واجبین طولیین متساویین فی الملاک،کما إذا دار الأمر بین القیام فی الرکعة الأولی من الصلاة و القیام فی الرکعة الثانیة أو بین ترک واجب متوقف علی ارتکاب محرم مساو معه فی الملاک فلا مناص من الالتزام بتقدیم ما هو أسبق زماناً علی الآخر.

و قد أفاد فی وجه ذلک ما توضیحه:هو ان الواجبین المتزاحمین إذا کانا عرضیین ففی صورة التساوی و عدم کون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من الالتزام بالتخییر،ضرورة انه لا وجه فی هذا الفرض لتقدیم أحدهما علی الآخر أصلا.و اما إذا کانا طولیین،فان کانا متساویین فلا بد من تقدیم الواجب المتقدم علی المتأخر زماناً و ذلک لأن التکلیف بالمتقدم فعلی و لا موجب لسقوطه أصلا، لأن سقوط کل من التکلیفین المتزاحمین إنما هو بصرف القدرة فی امتثال الآخر کما ان ثبوت کل منهما إنما هو عند ترک امتثال الآخر و عدم صرف القدرة فیه،بناء علی ما هو الصحیح من إمکان الترتب و جوازه،و عدم الفرق فیه بین ان یکون من

ص:286

طرف أو من طرفین،و بما ان التکلیف بالواجب المتأخر متأخر خارجاً،لفرض ان متعلقه متأخر عن متعلق التکلیف بالمتقدم،فلا یکون له مسقط فی عرضه،ضرورة ان امتثاله فی ظرفه لا یکون مسقطاً له،کما ان ترک امتثاله فیه لا یعقل أن یکون شرطاً لثبوته له،إلا بناء علی إمکان الشرط المتأخر و المفروض انه(قده)یری استحالته و عدم إمکانه.

و علی الجملة ففی زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة فی امتثاله أصلا،لفرض عدم إمکان صرف القدرة فی امتثال الواجب المتأخر فعلا، و المفروض ان المسقط لوجوبه لیس إلا امتثاله خارجاً،کما عرفت،و حیث انه لا یمکن بالفعل فلا مسقط له أصلا إلا أن یکون امتثاله فی ظرفه شرطاً لسقوطه علی نحو الشرط المتأخر،و لکنک عرفت انه یری استحالة ذلک،فاذن یتعین امتثال المتقدم بحکم العقل.

و من هنا یظهر انه لا یمکن الالتزام بالترتب من الطرفین فی مثل الفرض، و ذلک لأن معنی الترتب من الطرفین هو ان ثبوت التکلیف بکل منهما مشروط بترک امتثال الآخر خارجاً و عدم الإتیان بمتعلقه،و هذا لا یعقل فی مثل المقام، ضرورة ان ثبوت التکلیف بالمتقدم لا یعقل ان یکون مشروطاً بترک امتثال التکلیف بالمتأخر فی ظرفه إلا علی نحو الشرط المتأخر،و هو محال علی وجهة نظره(قده).

نعم إذا کان المتأخر أقوی ملاکا من المتقدم فلا بد من تقدیمه علیه.

و الوجه فی ذلک هو ان التزاحم-فی الحقیقة عندئذ-إنما هو بین التکلیف بالمتقدم و وجوب حفظ القدرة فعلا علی امتثال التکلیف بالمتأخر،و بما ان ملاک المتأخر أهم من ملاک الواجب الفعلی،فلا محالة یکون وجوب حفظ القدرة علیه أهم من وجوب الواجب الفعلی،فیتقدم علیه فی مقام المزاحمة.

فالنتیجة المستفادة من مجموع ما أفاده(قده)-هنا-هی ان التزاحم لا یعقل

ص:287

بین تکلیفین طولیین،إلا إذا کان المتأخر أهم من المتقدم،لتقع المزاحمة بین وجوب حفظ القدرة علیه فعلا و وجوب الواجب المتقدم،و اما إذا کانا متساویین،أو کان المتقدم أهم من المتأخر فلا تزاحم بینهما أبداً،بل یتعین امتثال الواجب المتقدم بحکم العقل،دون الواجب المتأخر،و لأجل ذلک لا یجری الترتب بینهما کما عرفت.

و لنأخذ بالمناقشة فی ما أفاده-قده-و هی انا قد حققنا سابقاً أن کون أحد الخطابین مشروطاً بترک امتثال الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه لم یرد فی لسان دلیل من الأدلة،لنقتصر علی مقدار مدلوله و نأخذ بظاهره،بل هو من ناحیة حکم العقل بعدم إمکان تعلق الخطاب الفعلی بأمرین متضادین إلا علی هذا الفرض و التقدیر، ضرورة استحالة تعلقه بکل منهما فعلا و فی عرض الآخر.

و الوجه فی ذلک هو ان العقل مستقل بلزوم تحفظ خطاب المولی بالمقدار الممکن،و عدم جواز رفع الید لا عن أصله،و لا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة.و هذا ظاهر.

و علی أساس ذلک بما ان فی مقام المزاحمة بین التکلیفین لا یتمکن المکلف من التحفظ علی کلیهما معاً فلا مناص من الالتزام برفع الید عن أحدهما و الأخذ بالآخر إذا کان ذلک الآخر واجداً للترجیح،فان هذا غایة ما یمکنه.و أما إذا لم یکن واجداً له فلا مناص من الالتزام بالتخییر،بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب و جوازه.هذا من ناحیة.

و من ناحیة أخری قد تقدم منا غیر مرة انه لا فرق فی نظر العقل بین تفویت الواجب الفعلی و تفویت الملاک الملزم فی ظرفه،فکما انه یحکم بقبح الأول، فکذلک یحکم بقبح الثانی.

و من ناحیة ثالثة قد حققنا فی بحث الواجب المطلق و المشروط انه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر،بل لا مناص عنه فی المرکبات التدریجیة کالصلاة

ص:288

و ما شاکلها،کما نقدم هناک.

فالنتیجة علی ضوء هذه النواحی الثلاث هی ان فی صورة کون التکلیفین المتزاحمین متساویین لا مناص من القول بالتخییر-مطلقاً-من دون فرق بین ان یکونا عرضیین أو طولیین.

و السر فی ذلک ما عرفت من ان القول بالتخییر-هنا-عقلا یرتکز علی القول بالترتب.و قد ذکرنا انه لا فرق فیه بین أن یکون من طرف واحد،کما إذا کان أحدهما أهم من الآخر،و ان یکون من طرفین،کما إذا کانا متساویین.و قد سبق ان معنی الترتب-عند التحلیل-عبارة عن تقیید إطلاق التکلیف بأحدهما بترک امتثال التکلیف بالآخر،و عدم الإتیان بمتعلقه خارجاً فی فرص کون أحدهما أهم من الآخر،و تقیید إطلاق التکلیف بکل منهما بترک امتثال الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه فی فرض کونهما متساویین.و من المعلوم ان هذا التقیید و الاشتراط لیس ناشئاً فعلا بحکم الشرع أو العقل،بل هو نتیجة اشتراط التکالیف من الأول بالقدرة.و من هنا قلنا ان هذا التخییر لیس معناه تبدیل الوجوب التعیینی بالتخییری بل کل منهما باق علی وجوبه التعیینی،غایة الأمر نرفع الید عن إطلاق وجوب کل منهما بتقییده بعدم الإتیان بمتعلق الآخر،بل معناه اختیار المکلف فی إعمال قدرته فی امتثال هذا أو ذاک باعتبار ان القدرة الواحدة لا تفی بامتثال کلیهما معاً، و لا یفرق فی ذلک بین کونهما عرضیین أو طولیین،غایة الأمر علی الثانی لا بد من الالتزام بجواز الشرط المتأخر،حیث ان شرطیة عدم الإتیان بالواجب المتأخر-فی فی ظرفه لفعلیة وجوب المتقدم-لا تعقل إلا علی هذا القول،و لکن قد تقدم ان الصحیح هو جوازه،و انه لا مانع منه أصلا،بل لا مناص من الالتزام به فی بعض الموارد،کما مر بشکل واضح.و علیه فلا فرق بین کونهما عرضیین أو طولیین، فعلی کلا التقدیرین لا بد من الالتزام بالترتب،و بثبوت کلا التکلیفین علی شکل اشتراط ثبوت کل منهما بعدم الإتیان بمتعلق الآخر فی ظرفه.

ص:289

و قد تحصل مما ذکرناه انه لا مانع من الالتزام بالترتب فی المتزاحمین الطولیین لا من ناحیة الالتزام بالترتب من الطرفین،و لا من ناحیة ابتنائه علی جواز الشرط المتأخر،و لا من ناحیة حکم العقل.

اما الأول فقد ذکرنا انه لا فرق فی إمکان الترتب بین ان یکون من طرف واحد،کما فی الأهم و المهم أو من طرفین کما فی المتساویین.

و اما الثانی فقد حققنا جواز الشرط المتأخر و إمکانه.

و اما الثالث فقد عرفت انه لا فرق عند العقل بین تفویت الملاک الملزم فی ظرفه،و تفویت الواجب الفعلی.

فما عن شیخنا الأستاذ-قده-من عدم جریان الترتب بینهما لا یرجع إلی معنی صحیح أصلا.

کما ان ما أفاده(قده)من المانع و هو ان سقوط کل من التکلیفین المتزاحمین حیث انه کان بامتثال الآخر فلا یعقل أن یکون امتثال التکلیف بالمتأخر-من جهة تأخره خارجاً-مسقطاً للتکلیف بالمتقدم،فائضاً لا یرجع إلی معنی محصل.

و الوجه فیه اما أولا فلأنه لا مانع من ان یکون امتثال التکلیف بالمتأخر فی ظرفه شرطاً لسقوطه علی نحو الشرط المتأخر،بناء علی ما حققناه من إمکانه و جوازه.و اما ثانیاً-فلان المسقط له لیس هو امتثال الآخر بما هو،لما قدمناه سابقاً من ان المسقط للتکلیف أحد أمرین لا ثالث لهما.

الأول-امتثاله فی الخارج الموجب لحصول غرضه،فانه بعد حصول الغرض الداعی له خارجاً لا یعقل بقاؤه،و لذا قلنا ان المسقط فی الحقیقة إنما هو حصول الغرض و تحققه فی الخارج،لا الامتثال نفسه کما تقدم.

الثانی-انتفاء القدرة و عجز المکلف عن امتثاله،و معه لا محالة یسقط التکلیف، بداهة استحالة توجیهه نحو العاجز.و من المعلوم ان المسقط فیما نحن فیه لیس هو الأول علی الفرض،بل المسقط له إنما هو الثانی،کما هو المفروض،باعتبار أن

ص:290

المکلف ان أعمل قدرته فی امتثال الواجب الفعلی عجز عن امتثال الواجب المتأخر فی ظرفه،فینتفی بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و ان حفظ قدرته علی امتثال المتأخر عجز عن امتثال المتقدم لا محالة،ضرورة ان القدرة الواحدة لا تفی لامتثال کلیهما معاً.و مثال ذلک:ما إذا توقف امتثال واجب علی ارتکاب محرم کالتصرف فی مال الغیر-مثلا-فانه ان صرف قدرته فی ترک الحرام عجز عن امتثال الواجب فی ظرفه کإنقاذ الغریق-مثلا-أو نحوه،و ان حفظ قدرته لامتثاله فی ظرفه بارتکاب الحرام عجز عن ترکه.و من الواضح ان مع العجز عنه تسقط حرمته لا محالة، و لا یفرق فی سقوط حرمته بین ان یمتثل المکلف الواجب المتأخر خارجاً أم لا، ضرورة ان المسقط للتکلیف بالمتقدم لیس هو امتثال المتأخر فی الخارج،بل المسقط له فی الحقیقة-کما عرفت-عدم تمکن المکلف من امتثاله.

و علیه فما أفاده شیخنا الأستاذ-(قده)من ان سقوط کل من التکلیفین المتزاحمین لا یکون إلا بامتثال الآخر،و حیث ان امتثال التکلیف بالمتأخر متأخر خارجاً فلا یعقل ان یکون مسقطاً للتکلیف بالمتقدم-لا یرجع إلی معنی صحیح،لما عرفت من ان المسقط له لیس هو امتثال التکلیف بالمتأخر،لیقال انه حیث لا یکون فی عرضه فلا یکون مسقطاً له،بل المسقط له ما مر،و هو عدم تمکن المکلف من امتثاله.

فالنتیجة لحد الآن قد أصبحت انه لا فرق فی نظر العقل بین أن یکون المتزاحمان المتساویان عرضیین أو طولیین،إذ أنه علی کلا التقدیرین یستقل العقل بالتخییر بینهما علی بیان تقدم بصورة واضحة.

ثم ان ما مثل لذلک شیخنا الأستاذ-قده-بما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی الرکعة الأولی من الصلاة و ترکه فی الرکعة الثانیة فقد ظهرت المناقشة فیه مما تقدم من انه لا تعقل المزاحمة بین جزءین أو شرطین أو جزء أو شرط لواجب واحد، و سیجیء الکلام فی ذلک بصورة مفصلة.

ص:291

ثم ان شیخنا الأستاذ-قده-قد طبق کبری مسألة التزاحم علی جملة من الفروع و قد تقدم الکلام فی بعضها:

الأول-ما إذا دار الأمر بین سقوط الطهور فی الصلاة و سقوط قید من قیودها الاخر،فیسقط ذلک القید و ان کان وقتاً،لکون الطهور رکناً لها،و أهم من بقیة القیود،و لذا ورد انه لا صلاة إلا بطهور.

الثانی-ما إذا دار الأمر بین خصوص الطهارة المائیة و غیرها من القیود فیقدم غیرها علیها.و قد ذکر فی وجه ذلک ان أجزاء الصلاة و شرائطها و ان کانت مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضی ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،إلا ان الطهارة المائیة خاصة ممتازة عن بقیة القیود من الاجزاء و الشرائط،من جهة جعل الشارع البدل لها و هو الطهارة الترابیة،فبذلک تتأخر رتبتها عن الجمیع،فیقدم علیها کل قید من قیود الصلاة فی مقام المزاحمة.

الثالث-ما إذا دار الأمر بین وقوع رکعة من الصلاة فی خارج الوقت و سقوط أی قید من قیودها الاخر غیر الطهور یسقط ذلک القید،لکون إدراک الوقت أهم الرابع-ما إذا دار الأمر بین إدراک تمام الرکعات فی الوقت و إدراک قید آخر،و لا یتمکن من الجمع بینهما،فیقدم إدراک ذلک القید علی إدراک تمام الرکعات فیه،و استثنی من ذلک خصوص السورة و قال.انها تسقط عند الدوران المزبور،لقیام الدلیل علی سقوطها بالاستعجال.

الخامس-ما إذا دار الأمر بین سقوط الاجزاء و سقوط الشرائط،فتسقط الشرائط،و علل ذلک بأنها متأخرة رتبة عن الاجزاء،لأنها إنما أخذت قیوداً فیها.و من الواضح ان القید متأخر رتبة عن المقید.

السادس-ما إذا دار الأمر بین سقوط أصل الشرط و سقوط قیده،کما لو دار الأمر بین سقوط أصل الساتر عن الصلاة و سقوط قیده،و هو کونه طاهراً، یسقط قیده،لتأخره عنه رتبة.

ص:292

السابع-ما إذا دار الأمر بین سقوط قید مأخوذ فی الرکن و سقوط قید مأخوذ فی غیره من الاجزاء أو الشرائط کما لو دار الأمر بین ترک الطمأنینة-مثلا- فی الرکن و ترکها فی غیره من الذّکر أو القراءة أو نحو ذلک یتعین سقوط الثانی.

الثامن-ما إذا دار الأمر بین سقوط القیام المتصل بالرکوع و سقوط القیام حال القراءة،یتعین سقوط القیام فیها باعتبار ان القیام قبل الرکوع بنفسه رکن و مقوم له،فلا محالة یتقدم علی القیام فی حال القراءة.و من هنا یتقدم القیام قبل الرکوع علی القیام حال التکبیرة أیضا،فان القیام حالها شرط،و فی الرکوع مقوم.

التاسع-ما إذا دار الأمر بین سقوط أحد الواجبین الطولیین سقط المتأخر و ان لم یکن الملاک فیه أهم.و من ثم یتقدم القیام فی التکبیرة علی القیام فی القراءة هذا مضافاً إلی کونه شرطاً فی الرکن،دون القیام فی القراءة.و قد عرفت انه فی مقام دوران الأمر بین سقوط شرط الرکن و سقوط شرط غیره،یتعین سقوط شرط غیره.

العاشر-ما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی الصلاة و ترک الرکوع و السجود فیها،و تعرض لهذا الفرع السید(قده)فی العروة فی موضعین:الأول فی مبحث المکان.و الثانی فی مبحث القیام،و حکم(قده)فی کلا الموضعین بالتخییر بینهما.

و لکن شیخنا الأستاذ(قده)قد حکم فی حاشیته علی العروة فی أحد الموضعین بتقدیم القیام علی الرکوع و السجود،و فی الآخر بتقدیم الرکوع و السجود علی القیام،علی عکس الأول.و نظره(قده)فی الأول إلی تقدیم ما هو أسبق زماناً علی غیره.و فی الثانی إلی تقدیم الأهم علی غیره.و علی کل حال فبین کلامیه فی الموضعین تناقض واضح.

و غیر خفی ان ما أفاده(قده)من الترجیح فی هذه الفروعات جمیعاً یرتکز علی أساس إجراء قواعد التزاحم فیها من الترجیح بالأسبقیة فی بعضها،و بالأهمیة فی

ص:293

بعضها الآخر،و بالتقدم الرتبی فی ثالث.

و لنا أن نأخذ بالمناقشة فیما ذکره(قده)من ناحیتین.

الأولی-ان هذه الفروعات و ما شاکلها أجنبیة عن مسألة التزاحم تماماً، و لا یجری فیها شیء من أحکامها و قواعدها.

الثانیة-انه علی تقدیر تسلیم جریان قواعد التزاحم فی تلک الفروعات فان ما أفاده(قده)فیها من الترجیح لا یتم علی إطلاقه.

اما الناحیة الأولی فقد أشرنا إلیها إجمالا فیما سبق،و نقدم لکم هنا بصورة مفصلة.

بیان ذلک:أنه قد تقدم ان التزاحم هو تنافی الحکمین فی مقام الامتثال و الفعلیة بعد الفراغ عن جعل کلیهما معاً علی نحو القضیة الحقیقیة.و من هنا قلنا انه لا تنافی بینهما أبداً فی مقام الجعل و التشریع،ضرورة انه لا تنافی بین جعل وجوب إنقاذ الغریق-مثلا-للقادر و جعل حرمة التصرف فی مال الغیر له..و هکذا،بل بینهما کمال الملاءمة فی هذا المقام.هذا من جانب.

و من جانب آخر ان التعارض هو تنافی الحکمین فی مقام الجعل و التشریع بحیث لا یمکن جعل کلیهما معاً علی نحو القضیة الحقیقیة،فثبوت کل منهما علی هذا النحو یکذب الآخر بالمطابقة أو بالالتزام علی بیان قد سبق بشکل واضح.

و من جانب ثالث ان الأمر المتعلق بالمرکب کالصلاة و ما شاکلها-بصفة انه امر واحد شخصی لا محالة-ینبسط علی اجزاء ذلک المرکب و تقیداته بقیودات خارجیة،فیأخذ کل جزء منه حصة من ذلک الأمر الواحد الشخصی،فیکون مأموراً به بالأمر الضمنی النفسیّ.و من المعلوم ان الأمر الضمنی المتعلق بجزء مربوط بالذات بالأمر الضمنی المتعلق بجزء آخر.و هکذا،ضرورة ان الأوامر الضمنیة المتعلقة بالاجزاء هی عین ذلک الأمر النفسیّ الاستقلالی المتعلق بالمجموع المرکب من تلک الاجزاء بالتحلیل العقلی.و علی هذا فلا یعقل سقوط بعض تلک

ص:294

الأوامر عن بعض تلک الاجزاء و بقاء بعضها الآخر،لفرض ان هذه الأوامر عین الأمر النفسیّ،غایة الأمر العقل یحلله إلی أوامر متعددة ضمنیة،و یجعله حصة حصة،فتتعلق بکل جزء من اجزاء متعلقه حصة منه و من الواضح جداً انه لا یعقل بقاء تلک الحصة بدون بقاء الأمر النفسیّ و لا سقوطها بدون سقوطه، و هذا معنی ارتباطیة تلک الاجزاء بعضها ببعضها الآخر ثبوتاً و سقوطاً فی الواقع و نفس الأمر.

فالنتیجة علی ضوء هذه الجوانب الثلاث هی ان فی الفروعات المزبورة أو ما شاکلها لا یعقل أن یکون التزاحم بین امرین نفسیین،ضرورة انه لیس فیها إلا امر نفسی واحد متعلق بالمجموع المرکب.و کذا لا یعقل ان یکون التزاحم بین امرین إرشادیین،لما عرفت من انه لا شأن للأمر الإرشادی ما عدا الإرشاد إلی الجزئیة أو الشرطیة،و لذا لا تجب موافقته،و لا تحرم مخالفته بحکم العقل.

و من المعلوم ان المزاحمة إنما تعقل بین امرین یقتضی کل منهما امتثاله و الإتیان بمتعلقه خارجاً لتقع المزاحمة بینهما فی مقام الامتثال و الإطاعة،و المفروض انه لا اقتضاء للأمر الإرشادی بالإضافة إلی ذلک أصلا،لتعقل المزاحمة بینهما.

و الّذی یمکن ان یتوهم فی أمثال هذه المقامات هو وقوع المزاحمة بین امرین ضمنیین.ببیان ان کلا منهما یقتضی الإتیان بمتعلقه،فعندئذ لو کان المکلف قادراً علی امتثال کلیهما و الإتیان بمتعلقیهما خارجاً فلا مزاحمة فی البین أصلا،و اما إذا فرضنا انه لا یقدر إلا علی امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة تقع المزاحمة بینهما کما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی الصلاة-مثلا-و ترک الرکوع فیها أو بین ترک القیام فی حال التکبیرة و ترکه فی حال القراءة،أو بین ترک الطهارة الحدثیة و ترک الطهارة الخبثیة،و ما شابه ذلک،ففی أمثال هذه الموارد التی لا یکون المکلف قادراً علی الجمع بینهما فی الخارج لا محالة تقع المزاحمة بین الأمر الضمنی المتعلق بالقیام و الأمر الضمنی المتعلق بالرکوع،أو الأمر الضمنی المتعلق بتقیید الصلاة

ص:295

بالطهارة الحدثیة و الأمر الضمنی المتعلق بتقییدها بالطهارة الخبثیة.و هکذا.

و الوجه فی ذلک هو ان ملاک التزاحم بین أمرین نفسیین کالأمر بالصلاة -مثلا-فی ضیق الوقت و الأمر بالإزالة(و هو عدم قدرة المکلف علی امتثال کلیهما معاً فلو صرف قدرته فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الثانی،فینتفی بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و لو انعکس فبالعکس)بعینه موجود بین امرین ضمنیین، کالأمر بالقیام-مثلا-و الأمر بالرکوع،أو ما شاکلهما،فان المفروض-هنا- هو ان المکلف لا یقدر علی امتثال کلیهما معاً،فلا یتمکن من الجمع بین القیام و الرکوع فی الصلاة،فلو صرف قدرته فی امتثال الأول عجز عن امتثال الآخر،فینتفی عندئذ بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و ان صرف فیه عجز عن الأول..و هکذا.

و علیه فیرجع إلی قواعد باب التزاحم،فان کان أحدهما أهم من الآخر قدم علیه،و کذا إذا کان أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلا و الآخر مشروطاً بها شرعاً،فان ما کان مشروطاً بالقدرة عقلا یتقدم علی غیره،أو إذا کان کلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،و لکن کان أحدهما أسبق من الآخر زماناً تقدم الأسبق علی غیره،و اما إذا کان متساویین من تمام الجهات و لم یکن ترجیح فی البین، و لا احتماله فالعقل یحکم بالتخییر بینهما بمعنی تقیید إطلاق الأمر بکل منهما بعدم الإتیان بالآخر،کما عرفت فی التزاحم بین الواجبین النفسیین إذا کانا متساویین من جمیع الجهات.

و علی الجملة فجمیع ما ذکرناه فی التزاحم بین الأمرین النفسیین یجری فی المقام من دون تفاوت أصلا إلا فی نقطة واحدة،و هی ان التزاحم هناک بین امرین نفسیین،و هنا بین امرین ضمنیین.و من المعلوم ان الاختلاف فی هذه النقطة لا یوجب التفاوت بینهما فی جریان أحکام التزاحم و مرجحاته و قواعد بابه أصلا.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توجیه القول بجریان التزاحم فی أجزاء و شرائط واجب واحد.کما عن شیخنا الأستاذ(قده)و غیره.

ص:296

و غیر خفی ان هذا البیان و ان کان فی غایة الصحة و الاستقامة بالإضافة إلی حکمین نفسیین:وجوبیین کانا أو تحریمیین أو کان أحدهما وجوبیاً و الآخر تحریمیاً کما تقدم الکلام فی التزاحم بینهما بصورة مفصلة فلا نعید،إلا انه لا یتم بالإضافة إلی حکمین ضمنیین،و ذلک لأن تمامیته بالإضافة إلیهما تبتنی علی نقطة واحدة،و هی ان الأمر المتعلق بالمرکب لا یسقط بتعذر بعض اجزائه أو شرائطه،فحینئذ لو دار الأمر بین ترک جزء کالقیام فی الصلاة-مثلا-و ترک جزء آخر کالرکوع فیها، أو نحوهما فلا محالة تقع المزاحمة بینهما،لفرض أن الأمر بالصلاة باق،و لم یسقط بتعذر أحد هذین الجزءین،و المفروض ان کلا منهما مقدور فی نفسه و فی ظرف عدم الإتیان بالآخر،فاذن لا مانع-بناء علی ما حققناه-من صحة الترتب الالتزام بثبوت الأمر الضمنی النفسیّ لکل منهما فی نفسه و عند عدم الإتیان بالآخر و هذا التقیید نتیجة امرین:

الأول-وقوع المزاحمة بین هذا الأمر الضمنی و ذاک فی مقام الامتثال.

الثانی-الالتزام بالترتب بینهما من الجانبین.

و لکن عرفت ان هذه النقطة خاطئة جداً و غیر مطابقة للواقع قطعاً، ضرورة انه لا یعقل بقاء الأمر المتعلق بالمرکب مع تعذر بعض اجزائه أو شرائطه کما سبق بشکل واضح.و علی هذا الأساس فإذا تعذر أحد اجزائه أو شرائطه معیناً کان أو غیر معین-أعنی به ما إذا دار الأمر بین ترک هذا و ذاک-فلا محالة یسقط الأمر المتعلق به،بداهة استحالة بقائه لاستلزامه التکلیف بالمحال،و هو غیر معقول.

و بتعبیر آخر:ان فرض بقاء الأمر الأول بحاله یستلزم التکلیف بالمحال، و فرض بقاء الأوامر الضمنیة المتعلقة بالاجزاء و الشرائط الباقیتین و ان الساقط إنما هو الأمر الضمنی المتعلق بخصوص المتعذر منهما خلف،و ذلک لفرض ان تلک الأوامر أوامر ضمنیة کل منها مرتبط مع الآخر ارتباطاً ذاتیاً،فلا یعقل بقاء

ص:297

بعض منها و سقوط بعضها الآخر،و إلا لکانت أوامر استقلالیة،لا ضمنیة.

و هذا خلف-کما عرفت-فاذن مقتضی القاعدة سقوط الأمر عن المرکب بتعذر أحد أجزائه أو قیوده.و علیه فلا أمر لا بالمرکب،و لا باجزائه،فلا موضوع للتزاحم و لا التعارض،فانتفاؤهما بانتفاء موضوعهما،و لذا لو کنا نحن و القاعدة الأولیة لم نقل بوجوب الباقی،فان الأمر المتعلق بالمجموع المرکب منه قد سقط یقیناً،و إثبات امر آخر متعلق بالفاقد یحتاج إلی دلیل،ففی کل مورد ثبت دلیل علی وجوبه فنأخذ به،و إلا فمقتضی القاعدة عدم وجوبه.

و لکن قد یتوهم فی المقام انه و ان لم یمکن الالتزام بالتزاحم بین واجبین ضمنیین کجزءین أو شرطین أو جزء و شرط،فیما إذا تعلق الأمر بالمرکب من الأجزاء بعناوینها الأولیة کما عرفت إلا انه لا مانع من الالتزام به فیما إذا تعلق الأمر بالمرکب من الاجزاء بعنوانها المقدورة،ببیان انه إذا تعذر أحد اجزائه لا یسقط الأمر عن الاجزاء الباقیة،لفرض ان جزئیته تختص بحال القدرة و فی حال التعذر لا یکون جزء واقعاً،و إذا لم یکن جزء کذلک فی هذا الحال فلا محالة لا یکون تعذره موجباً لسقوط الأمر عن الباقی.

و علی هذا فان کان المتعذر أحد أجزاء ذلک المرکب معیناً سقط الأمر عنه خاصة،دون الباقی،لفرض اختصاص جزئیته بحال القدرة،و فی هذا الحال لا یکون جزء واقعاً،و ان کان المتعذر مردداً بین اثنین منها،ففی مثله لا محالة تقع المزاحمة بین الأمر الضمنی المتعلق بهذا و الأمر الضمنی المتعلق بذاک،بتقریب ان ملاک التزاحم-و هو تنافی الحکمین فی مقام الامتثال و الفعلیة بعد الفراغ عن ثبوتهما بحسب مقام الجعل بلا منافاة-موجود بعینه هنا،لفرض انه لا تنافی بین الأمر الضمنی المتعلق بهذا الجزء و الأمر الضمنی المتعلق بالآخر بحسب مقام الجعل فهذا مجعول له بعنوان کونه مقدوراً و ذاک مجعول له بهذا العنوان،من دون ایة منافاة فی البین،غایة الأمر من جهة عدم قدرة المکلف علی امتثال کلیهما معاً وقع التنافی و التزاحم بینهما،فلو صرف قدرته فی امتثال هذا عجز عن الآخر،فینتفی

ص:298

بانتفاء موضوعه-و هو القدرة-و أن عکس فبالعکس.

و علی الجملة فیجری فیه جمیع ما یجری فی التزاحم بین الواجبین النفسیین علی القول بإمکان الترتب،و استحالته حرفاً بحرف من دون فرق بینهما من هذه الناحیة أصلا.

و لکنه توهم خاطئ و لم یطابق الواقع.و الوجه فی ذلک هو انه لا شبهة فی ان الأمر المتعلق بالمجموع المرکب من الجزء المتعذر یسقط بتعذره لا محالة،ضرورة انه لا یعقل بقاؤه،کما إذا فرضنا ان للمرکب عشرة اجزاء-مثلا-و تعلق الأمر بها بعنوان کونها مقدورة،فعندئذ إذا فرض سقوط أحد اجزائه و تعذره فلا إشکال فی سقوط الأمر المتعلق بمجموع العشرة،بداهة استحالة بقائه،لاستلزامه التکلیف بالمحال و بغیر المقدور،و اما الأمر المتعلق بالتسع الباقیة فهو أمر آخر لا الأمر الأول،لفرض انه متعلق بالمرکب من عشرة أجزاء،لا بالمرکب من التسعة،و هذا واضح.و اما إذا تعذر أحد جزءین منها لا بعینه بان تردد الأمر بین کون المتعذر هذا أو ذاک فائضاً لا شبهة فی سقوط الأمر المتعلق بالمجموع، لفرض عدم قدرة المکلف علیه،و معه یستحیل بقاء أمره،لاستلزامه التکلیف بغیر المقدور.

و علیه فلا محالة نشک فی ان المجعول الأولی فی هذا الحال أی شیء هل هو جزئیة هذا أو جزئیة ذاک،أو أنه جزئیة الجامع بینهما بلا خصوصیة لهذا و لا لذاک فاذن لا محالة یدخل المقام فی باب التعارض،فیرجع إلی أحکامه و قواعده.

و بتعبیر واضح:انه لا شبهة فی سقوط الأمر المتعلق بالمجموع المرکب من عشرة اجزاء-مثلا-بتعذر جزئه و سقوطه و استحالة بقائه-کما عرفت-و لا فرق فی ذلک بین أن یکون المتعذر معیناً أو غیر معین،کما هو واضح و من المعلوم ان بسقوطه(الأمر)یسقط جمیع الأوامر الضمنیة المتعلقة باجزائه،لفرض أن تلک الأوامر عین ذلک الأمر المتعلق بالمجموع،فلا یعقل بقاؤها مع سقوطه.

ص:299

و تخیل ان الساقط فی هذا الفرض إنما هو خصوص الأمر الضمنی المتعلق بالجزء المتعذر،دون البقیة خیال فاسد جداً،ضرورة ان الأمر المتعلق بالمجموع لا یخلو من ان یکون باقیاً فی هذا الحال أو ساقطاً.فعلی الفرض الأول لا یعقل سقوطه،لفرض انه حصة منه،فمع بقائه لا محالة هو باق.و علی الفرض الثانی سقط الأمر الضمنی عن الجمیع،لا عن خصوص المتعذر،لما عرفت من حدیث العینیة،و هذا معنی ارتباطیة الأوامر الضمنیة بعضها مع بعض الآخر ارتباطة ذاتیة.

و لکن حیث قد عرفت استحالة الفرض الأول فی هذا الحال،فلا محالة یتعین الالتزام بالفرض الثانی.نعم ثبت الأمر للباقی بعد سقوطه عن المجموع بمقتضی اختصاص جزئیة المتعذر بحال القدرة،فان قضیة ذلک سقوط جزئیته فی حال التعذر واقعاً،و لازمه ثبوت الأمر للباقی،و بما ان الباقی فی هذا الفرض مردد بین المرکب من هذا أو ذاک فلا محالة لا نعلم ان المجعول جزئیة هذا له أو ذاک أو جزئیة الجامع بینهما،بعد عدم إمکان کون المجعول جزئیة کلیهما معاً،فاذن لا محالة تقع المعارضة بین دلیلیهما فیرجع إلی قواعد بابها،فان کان أحدهما عاماً و الآخر مطلقاً،فیقدم العام علی المطلق،و ان کان کلاهما عاماً فیرجع إلی مرجحات باب التعارض،و ان کان کلاهما مطلقاً فیسقطان معاً،فیرجع إلی الأصل العملی و مقتضاه عدم اعتبار خصوصیة هذا و ذاک،فتکون النتیجة جزئیة الجامع.

و بهذا البیان قد ظهر انه لا فرق بین المقام و بین ما إذا تعلق الأمر بالمرکب من الاجزاء بعناوینها الأولیة،إلا فی نقطة واحدة،و هی ان فی مثل المقام لا یحتاج ثبوت الأمر للباقی إلی دلیل خارجی یدل علیه،کلا تسقط الصلاة بحال أو نحوه، بل الأمر به ثابت من الابتداء بمعنی ان الشارع قد أوجب کل مرتبة من مراتب هذا المرکب عند تعذر مرتبة أخری منه.

و یدل علی هذا فی المقام تقیید جزئیة کل من اجزائه بحال القدرة،و لازم ذلک هو عدم جزئیته فی حال العجز واقعاً،و ثبوت الأمر للباقی.

ص:300

و اما فی غیر المقام و محل الفرض یحتاج ثبوت الأمر للباقی إلی دلیل من الخارج،و إلا فمقتضی القاعدة عدم وجوبه،بعد سقوط الأمر عن المجموع بتعذر جزئه.

و لکن بعد ما دل الدلیل من الخارج علی وجوبه،فلا فرق بینه و بین ما نحن فیه،فکما ان فیه إذا دار الأمر بین سقوط جزء و جزء آخر فیدخل فی باب التعارض،لفرض ان المجعول فی هذا الحال لیس إلا وجوب أحدهما،و لا یعقل أن یکون وجوب کلیهما معاً،لاستلزامه التکلیف بالمحال.و من المعلوم انه لا موضوع للتزاحم فی مثله،کما هو واضح.فکذلک فیما نحن فیه إذا دار الأمر بین سقوط جزء و جزء آخر فیدخل فی هذا الباب و ذلک لأنا نعلم إجمالا فی هذا الحال بوجوب أحدهما،لفرض تعلق الأمر الآخر بالباقی و سقوط الأمر الأول عن المجموع-کما عرفت-و معه لا محالة نشک فی ان المجعول وجوب خصوص هذا أو ذاک،أو وجوب الجامع بینهما بعد عدم إمکان وجوب کلیهما معاً،فعندئذ لا محالة تقع المعارضة بین دلیلیهما،و معه لا موضوع للتزاحم أصلا.

و لعل منشأ تخیل ان هذا من باب التزاحم الغفلة عن تحلیل نقطة واحدة و هی تعلق الأمر بالباقی من الابتداء،من دون حاجة إلی التماس دلیل خارجی علیه، فان عدم تحلیلها أوجب تخیل ان الأوامر الضمنیة المتعلقة باجزاء مثل هذا المرکب لم تسقط بسقوط جزء منه،غایة الأمر ان تعذره أوجب سقوط خصوص الأمر الضمنی المتعلق به لا بغیره،و علیه فان کان الجزء المتعذر معیناً سقط الأمر عنه خاصة،و ان کان مردداً بین هذا و ذاک سقط امر أحدهما بسقوط موضوعه-و هو القدرة-دون الآخر بعد ثبوت کلیهما معاً فی مقام الجعل،من دون أی تناف بینهما فیه.و من المعلوم انا لا نعنی بالتزاحم إلا هذا،غایة الأمر علی القول بالترتب الساقط هو إطلاق الخطاب،و علی القول بعدمه الساقط أصله.

و وجه الغفلة عن ذلک هو ما عرفت من ان الأمر و ان تعلق بالباقی من الأول

ص:301

إلا انه امر آخر بالتحلیل،ضرورة ان الأمر الأول المتعلق بالمجموع المرکب قد سقط یقیناً من جهة تعذر جزء منه،و لا یعقل بقاؤه فی هذا الحال-کما مر-و مع سقوطه لا محالة تسقط الأوامر الضمنیة المتعلقة باجزائه.و علیه فلا محالة نشک فی هذا الفرض و ما شاکله فی ان الأمر المجعول ثانیاً للباقی هل هو مجعول للمرکب من هذا أو ذاک یعنی ان الشارع فی هذا الحال جعل هذا جزء أو ذاک فیکون الشک فی أصل المجعول فی هذا الحال.و من المعلوم انه لا یعقل فیه التزاحم،و لا موضوع له،ضرورة انه إنما یعقل فیما إذا کان أصل المجعول لکل منهما معلوماً،و کان التنافی بینهما فی مقام الامتثال،لا فی مثل المقام،کما لا یخفی.

فقد أصبحت النتیجة بوضوح انه لا فرق فی عدم جریان التزاحم بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط من واجب واحد بین ان یکون الأمر متعلقاً به بعنوان کون اجزائه مقدورة،و ان یکون متعلقاً به علی نحو الإطلاق بلا تقیید بحالة خاصة دون أخری.

نعم فرق بینهما فی نقطة أجنبیة عما هو ملاک التزاحم و التعارض بالکلیة و هی ان ثبوت الأمر بالباقی هنا مقتضی نفس تخصیص جزئیة أجزائه بحال القدرة -کما عرفت-و هناک یحتاج إلی دلیل خارجی یدل علیه و إلا فلا وجوب له،نعم قد ثبت فی خصوص باب الصلاة وجوب الباقی بدلیل و هو ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،بل الضرورة قاضیة بعدم جواز ترک الصلاة فی حال،إلا لفاقد الطهورین علی ما قویناه،و مع قطع النّظر عن ذلک تکفینا الروایات الخاصة الدالة علی وجوب الإتیان بالصلاة جالساً إذا لم یتمکن من القیام،و علی وجوب الإتیان بها بغیر الاستقبال إلی القبلة إذا لم یتمکن منه،و علی وجوب الإتیان فی الثوب النجس أو عاریاً علی الخلاف فی المسألة،و غیر ذلک،فهذه الروایات قد دلت علی وجوب الإتیان بالباقی و انه لا یسقط،و الساقط إنما هو الأمر المتعلق بالمجموع المرکب من الجزء أو القید المتعذر،فلو لم یتمکن المصلی من القیام-مثلا-وجبت

ص:302

علیه الصلاة جالساً بمقتضی النص الخاصّ،و کذا لو لم یتمکن من الجلوس وجبت علیه الصلاة مضطجعاً.و هکذا.

و علی الجملة فمع قطع النّظر عما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال تکفینا فی المقام هذه الروایات الخاصة الدالة علی وجوب الباقی و عدم سقوطه بتعذر جزء أو شرط،و لکن عرفت ان هذه القاعدة أی قاعدة عدم سقوط الباقی بالتعذر تختص بخصوص باب الصلاة،فلا تعم غیرها،و لذا لو لم یتمکن المکلف من الصوم فی تمام آنات الیوم لم یجب علیه الإمساک فی الآنات الباقیة من هذا الیوم،کما لو اضطر الصائم إلی الإفطار فی بعض الیوم فلا یجب علیه الإمساک فی الباقی.

و علی ضوء هذا الأصل فإذا تعذر أحد أجزاء الصلاة أو شرائطه و کان المتعذر متعیناً،کما إذا لم یتمکن المصلی من القیام-مثلا-أو القراءة أو ما شاکل ذلک فلا إشکال فی وجوب الإتیان بالباقی.و اما إذا کان المتعذر مردداً بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط فلا محالة یقع التعارض بین دلیلیهما،للعلم الإجمالی بجعل أحدهما فی الواقع دون الآخر،لفرض انتفاء القدرة الا علی أحدهما،فاذن لا بد من النّظر إلی أدلتهما و إعمال قواعد التعارض بینهما.

فنقول:ان الدلیلین الدالین علیهما لا یخلو أن من أن یکون أحدهما لبیاً و الآخر لفظیاً،و ان یکون کلاهما لبیاً،أو کلاهما لفظیاً،و علی الثالث فائضاً لا یخلو ان من أن تکون دلالة أحدهما بالإطلاق و الآخر بالعموم،و ان تکون دلالة کلیهما بالعموم،أو بالإطلاق.

أما القسم الأول و هو ما إذا کان الدلیل علی أحدهما لبیاً و علی الآخر لفظیاً فلا إشکال فی مقام المعارضة بینهما فی تقدیم الدلیل اللفظی علی اللبی.و الوجه فی ذلک واضح و هو ان الدلیل اللبی کالإجماع أو نحوه حیث انه لا عموم و لا إطلاق له فلا بد فیه من الاقتصار علی القدر المتیقن،و هو غیر مورد المعارضة مع الدلیل اللفظی فلا نعلم بتحققه فی هذا المورد،و ذلک کما إذا دار الأمر بین القیام-مثلا-فی الصلاة

ص:303

و الاستقرار فیها فان الدلیل علی اعتبار الاستقرار لبی و هو الإجماع فیجب الاقتصار فیه علی المقدار المتیقن.

و نتیجته هی انه لا إجماع علی اعتبار الاستقرار فی الصلاة فی هذا الحال و الدلیل علی اعتبار القیام بما انه لفظی،و هو قوله علیه السلام فی صحیحة أبی حمزة:

(الصحیح یصلی قائماً و قعوداً،و المریض یصلی جالساً...إلخ و قوله علیه السلام:فی صحیحة زرارة فی حدیث(و قم منتصباً فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم قال:من لم یقم صلبه فلا صلاة له)و نحوهما من الروایات الدالة علی ذلک فیجب الأخذ بإطلاقه.

و نتیجته:هی وجوب الإتیان بالصلاة قائماً فی هذا الحال بدون الاستقرار و الطمأنینة،لما عرفت من عدم الدلیل علی اعتباره فی هذه الحالة.

و علی الجملة فإذا دار الأمر بین ان یصلی قائماً بدون الطمأنینة و الاستقرار، و ان یصلی جالساً معها،فیما ان الدلیل الدال علی اعتبار الطمأنینة لبی فلا إشکال فی تقدیم القیام علیها،فیحکم بوجوب الصلاة قائماً بدون الطمأنینة و من هنا حکم السید(قده)فی العروة بتقدیم القیام علیها إذا دار الأمر بینهما و لعل نظره(قده) إلی ما ذکرناه.

و اما القسم الثانی و هو ما إذا کان کلا الدلیلین لبیاً فلا یشمل مورد المعارضة.

و ذلک لما مر من ان الدلیل إذا کان لبیاً فلا بد من الاقتصار فی مورده علی المقدار المتیقن منه.و من المعلوم ان المقدار المتیقن منه غیر هذا المورد،ضرورة انا لم نحرز تحققه فیه لو لم نحرز عدمه.و علیه فمورد المعارضة لا یکون مشمولا لهذا و لا لذاک،فوقتئذ لو کنا نحن و هذا الحال و لم یکن دلیل من الخارج علی عدم سقوط کلیهما معاً فنرجع إلی البراءة عن وجوب کل منهما،فلا یکون هذا واجباً و لا ذاک.

و أما إذا کان دلیل من الخارج علی ذلک،کما هو کذلک،حیث انا نعلم بوجوب أحدهما فی الواقع،فعندئذ مرة یدور الأمر بین الأقل و الأکثر بمعنی ان الجزء هو الجامع بینهما أو مع خصوصیة هذا أو ذاک،و مرة أخری یدور الأمر بین المتباینین

ص:304

بمعنی انا نعلم ان الجزء أحدهما بالخصوص فی الواقع و نفس الأمر لا الجامع،و لکن دار الأمر بین کون الجزء هذا و ذاک.

فعلی الأول ندفع اعتبار خصوصیة هذا و خصوصیة ذاک بالبراءة،فنحکم بان الجزء هو الجامع بینهما،فتکون النتیجة هی التخییر شرعاً یعنی ان الشارع فی هذا الحال جعل أحدهما جزء مع إلغاء خصوصیة کل منهما.

و علی الثانی فمقتضی القاعدة هو الاحتیاط للعلم الإجمالی بجزئیة أحدهما بخصوصه فی الواقع،و أصالة عدم جزئیة هذا معارضة بأصالة عدم جزئیة ذاک، فیتساقطان،فاذن یکون العلم الإجمالی موجباً للاحتیاط علی تقدیر إمکانه،و إلا فالوظیفة هی التخییر بین إتیان هذا أو ذاک.

و اما القسم الثالث و هو ما إذا کانت دلالة أحدهما علی ذلک بالإطلاق و الآخر بالعموم فیقدم ما کانت دلالته بالعموم علی ما کانت دلالته بالإطلاق.و ذلک لأن دلالة العام تنجیزیة،فلا تتوقف علی ایة مقدمة خارجیة،و دلالة المطلق تعلیقیة، فتتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة،منها عدم البیان له.و من الواضح جداً أن العام یصلح ان یکون بیاناً للمطلق،و معه لا تتم مقدمات الحکمة،لیؤخذ بإطلاقه.

و علی الجملة فقد ذکرنا أن مسألة دوران الأمر بین العام و المطلق خارجة عن کبری مسألة التعارض،لعدم التنافی بین مدلولیهما فی مقام الإثبات علی الفرض، ضرورة ان العرف لا یری التنافی بینهما أصلا،و یری العام صالحاً للقرینیة علی تقیید المطلق،و لا یفرق فی ذلک بین کون العام متصلا بالکلام أو منفصلا عنه،غایة الأمر انه علی الأول مانع عن ظهور المطلق فی الإطلاق،و علی الثانی مانع عن حجیة ظهوره.

و اما القسم الرابع و هو ما إذا کانت دلالة کل منهما بالعموم،فلا بد فیه من الرجوع إلی المرجحات السندیة من موافقة الکتاب و مخالفة العامة علی ما ذکرنا من انحصار الترجیح بهما،لوقوع المعارضة بینهما،فلا یمکن الجمع الدلالی بتقدیم أحدهما

ص:305

علی الآخر.و هذا واضح.

و اما القسم الخامس و هو ما إذا کانت دلالة کل منهما بالإطلاق،کما هو الغالب فی أدلة الاجزاء و الشرائط،فیسقط کلا الإطلاقین معاً إلا إذا کان أحدهما من الکتاب و الآخر من غیره فیقدم إطلاق الکتاب علیه فیما إذا کانت النسبة بینهما عموم من وجه کما لا یخفی و اما إذا لم یکن أحدهما من الکتاب أو کان کلاهما منه فیسقطان،و ذلک لما ذکرناه من ان التعارض بین الدلیلین إذا کان بالإطلاق، فمقتضی القاعدة سقوط إطلاق کلیهما و الرجوع إلی الأصل العملی إذا لم یکن هناک أصل لفظی من عموم أو إطلاق،و لیس المرجع فی مثله المرجحات السندیة.و ذلک لعدم تمامیة جریان مقدمات الحکمة فی کل منهما فی هذا الحال،فلا موجب لترجیح أحدهما علی الآخر إذا کان واجداً للترجیح،و مقتضی الأصل العملی فی المقام هو التخییر،حیث انا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما من الخارج،فیکون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصیة هذا و خصوصیة ذاک.

و نتیجة ذلک هی جزئیة الجامع بینهما من دون اعتبار ایة خصوصیة.

و قد تحصل مما ذکرناه ان الرجوع إلی مرجحات باب التعارض منحصر فی خصوص القسم الرابع فحسب،اما فی الأقسام الباقیة فلا یرجع فی شیء منها إلی تلک المرجحات أبداً.هذا کله إذا کان الأمر دائراً بین جزءین أو شرطین مختلفین فی النوع.

و اما إذا کان الأمر دائراً بین فردین من نوع واحد،کما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی الرکعة الأولی و ترکه فی الرکعة الثانیة،أو دار الأمر بین ترک القراءة فی الرکعة الأولی و ترکها فی الثانیة،و هکذا،ففی أمثال هذه الموارد الدلیل علی وجوب ذلک و ان کان واحداً فی مقام الإثبات و الإبراز،إلا انه فی الواقع ینحل بانحلال افراد هذا النوع،فیثبت لکل منها وجوب.و علیه فلا محالة تقع المعارضة بین وجوب هذا الفرد و وجوب ذاک الفرد-بمعنی استحالة جعل وجوب کلیهما معاً فی هذا الحال-ففی هذین المثالین تقع المعارضة بین وجوب القیام فی الرکعة

ص:306

الأولی و وجوبه فی الثانیة،و بین وجوب القراءة فی الأولی و وجوبها فی الثانیة.

و هکذا،للعلم الإجمالی بجعل أحدهما فی الواقع،و استحالة جعل کلیهما معاً.و من الواضح انا لا نعنی بالتعارض إلا التنافی بین الحکمین بحسب مقام الجعل،و هو موجود فی أمثال تلک الموارد.

و علی هذا فمقتضی القاعدة هنا التخییر بمعنی جعل الشارع أحدهما جزء،إذ احتمال اعتبار خصوصیة کل منهما مدفوع بأصالة البراءة،فان اعتبارها یحتاج إلی مئونة زائدة،و مقتضی الأصل عدمها،فاذن النتیجة هی جزئیة الجامع بینهما، لا خصوص هذا و لا ذاک،هذا کله حسب ما تقتضیه القاعدة فی دوران الأمر بین فردین طولیین من نوع واحد.

و اما بحسب الأدلة الخاصة فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القیام تعینه فی الرکعة الأولی و هو قوله علیه السلام فی صحیحة جمیل بن دراج إذا قوی فلیقم فانه ظاهر فی وجوب القیام مع القدرة علیه فعلا،و ان المسقط له لیس إلا العجز الفعلی، و المفروض ان المکلف قادر علیه فعلا فی الرکعة الأولی،فإذا کان قادراً علیه کذلک یتعین بمقتضی قوله علیه السلام إذا قوی فلیقم.و من المعلوم انه إذا قام فی الأولی عجز عنه فی الثانیة فیسقط بسقوط موضوعه،و هو القدرة،و اما غیر القیام کالقراءة و الرکوع و السجود و نحوها فلا یظهر من أدلتها وجوب الإتیان بها فی الرکعة الأولی فی مثل هذه الموارد-أعنی موارد دوران الأمر بین ترک هذه الاجزاء فی الأولی و ترکها فی الثانیة-لعدم ظهورها فی وجوب تلک الأمور مع القدرة علیها فعلا بل هی ظاهرة فی وجوبها مع القدرة علیها فی تمام الصلاة.و علیه فلا فرق بین القدرة علیها فی الرکعة الأولی و القدرة علیها فی الرکعة الثانیة أصلا و لا تجب صرف القدرة فیها فی الأولی بل له التحفظ بها علیها فی الثانیة،فاذن المرجع فیها هو ما ذکرناه من التخییر باعتبار ان الدلیل کما عرفت لا یمکن ان یشمل کلیهما معاً،لفرض عدم القدرة علیهما، کذلک.هذا من جانب.و من جانب آخر انا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما و نرفع

ص:307

اعتبار خصوصیة کل منهما بالبراءة.

فالنتیجة علی ضوء هذین الجانبین هی التخییر لا محالة و وجوب الجامع بینهما، لا خصوص هذا و لا ذاک.

و علی ما ذکرناه من الضابط فی باب الاجزاء و الشرائط یظهر حال جمیع الفروع المتقدمة التی ذکرها شیخنا الأستاذ(قده)و کذا حال عدة من الفروع التی تعرضها السید(قده)فی العروة.

و علی أساس ذلک تمتاز نظریتنا عن نظریة شیخنا الأستاذ(قده)فی هذه الفروعات.

و النقطة الرئیسیة للامتیاز بین النظریتین هی انا لو قلنا بانطباق کبری باب التزاحم علی تلک الفروعات،فلا بد عندئذ من الالتزام بمرجحاتها و مراعاة قوانینها کتقدیم الأهم أو محتمل الأهمیة علی غیره،و تقدیم ما هو أسبق زماناً علی المتأخر، و ما هو مشروط بالقدرة عقلا علی ما کان مشروطاً بها شرعاً.و هکذا.و هذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق کبری باب التعارض علیها،فانه علی هذا لا أثر لشیء من تلک المرجحات أصلا ضرورة ان الأهمیة أو الأسبقیة لا تکون من المرجحات فی باب التعارض.و وجهه واضح و هو ان الأهمیة أو الأسبقیة إنما تکون مرجحة علی تقدیر ثبوتها،و فی فرض تحقق موضوعها.و من المعلوم أن فی باب التعارض أصل الثبوت غیر محرز فان أهمیة أحد المتعارضین علی فرض ثبوته فی الواقع، و کونه مجعولا فیه.و من الواضح جداً انها لا تقتضی ثبوته.

و من هنا قد ذکرنا ان کبری مسألة التعارض کما تمتاز عن کبری مسألة التزاحم بذاتها،کذلک تمتاز عنها بمرجحاتها،فلا تشترکان فی شیء أصلا.و علیه فالمرجع باب الاجزاء و الشرائط هو ما ذکرناه،و لا أثر للسبق الزمانی و الأهمیة فیها أبداً و علی هدی تلک النقطة تظهر الثمرة بین القول بالتزاحم و القول بالتعارض فی عدة موارد و فروع.

ص:308

منها-ما إذا دار الأمر بین ترک الرکوع فی الرکعة الأولی و ترکه فی الثانیة فعلی القول الأول یتعین تقدیم الرکوع-مثلا-فی الرکعة الأولی علی الرکوع فی الثانیة من جهة انطباق کبری تقدیم ما هو أسبق زماناً علی غیره هنا،فلو ترک الرکوع فی الأولی و أتی به فی الثانیة بطلت صلاته و علی القول الثانی فالامر فیه التخییر،کما عرفت.و علیه فیجوز للمکلف ان یأتی بالرکوع فی الأولی و یترک فی الثانیة و بالعکس،فتکون صلاته علی کلا التقدیرین صحیحة.و کذا الحال فیما إذا دار الأمر بین ترک القراءة فی الرکعة الأولی و ترکها فی الثانیة.و هکذا.

و منها-ما إذا دار الأمر فی الصلاة بین ترک القیام و ترک الرکوع،فعلی الأول یمکن الحکم بتقدیم القیام نظراً إلی سبقه زماناً،و یمکن الحکم بالعکس نظراً إلی کون الرکوع أهم منه و قد فعل شیخنا الأستاذ(قده)ذلک فی هذا الفرع کما تقدم، و علی الثانی فالامر فیه التخییر باعتبار ان التعارض بین دلیلیهما بالإطلاق،فیسقط کلا الإطلاقین،فیرجع إلی أصالة عدم اعتبار خصوص هذا و ذاک،فتکون نتیجة ذلک التخییر أعنی وجوب أحدهما لا بعینه.

و منها-ما إذا دار الأمر بین ترک الطمأنینة فی الرکن کالرکوع و السجود و ما شاکلهما،و ترکها فی غیره کالأذکار و القراءة و نحوهما،فعلی الأول یتعین سقوط قید غیر الرکن،لکون قیده أهم منه،فیتقدم الأهم فی باب المزاحمة.و علی الثانی فلا وجه للتقدیم أصلا،لما عرفت من أن الدلیل علی اعتبار الطمأنینة هو الإجماع و من المعلوم انه لا إجماع فی هذا الحال.و علیه فترجع إلی أصالة البراءة عن اعتبار خصوصیة هذا و خصوصیة ذاک،فتکون النتیجة هی التخییر.

و منها-ما إذا دار الأمر بین القیام المتصل بالرکوع و القیام فی حال القراءة فبناء علی الأول لا بد من تقدیم القیام المتصل بالرکوع علی القیام فی حال القراءة، لکونه أهم منه،اما من جهة انه بنفسه رکن أو هو مقوم للرکن کالرکوع،و لذا حکم شیخنا الأستاذ(قده)بتقدیمه علیه فی الفروعات المتقدمة.و بناء علی الثانی فلا وجه

ص:309

للتقدیم أصلا،بل الأمر فی مثله العکس،و ذلک لما أشرنا إلیه من ان المستفاد من صحیحة جمیل بن دراج المتقدمة وجوب القیام عند تمکن المکلف منه فعلا و المفروض ان المکلف فی مثل المقام قادر فعلا علی القیام فی حال القراءة،فإذا کان الأمر کذلک یتعین علیه،و لا یجوز له ترکه باختیاره و إرادته.

فما ذکره(قده)من الکبریات التی بنی فیها علی إعمال قواعد باب التزاحم و مرجحاته لا یرجع إلی معنی محصل أصلا،و قد عرفت ان تلک الکبریات جمیعاً داخلة فی باب التعارض فالمرجع فیها هو قواعد ذلک الباب،و لأجل ذلک تختلف نظریتنا فیها عن نظریة شیخنا الأستاذ(قده)تماماً،و ان کانت النتیجة فی بعضها واحدة علی کلتا النظریتین،و ذلک کما إذا دار الأمر بین ترک الطهور فی الصلاة و ترک جزء أو قید آخر فلا إشکال فی تقدیم الطهور علی غیره علی کلا المسلکین.

اما علی مسلک من ابتنی ذلک علی باب التزاحم فواضح،لکون الطهور أهم من غیره و من هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده.و هذا واضح.و اما علی مسلک من ابتنی ذلک علی باب التعارض فائضاً کذلک و الوجه فیه ما ذکرناه غیر مرة من أن الطهور مقوم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه و لذا ورد فی الروایة ان الصلاة ثلاثة أثلاث:ثلث منها الرکوع،و ثلث منها السجود،و ثلث منها الطهور،و قد ذکرنا فی محله ان الرکوع و السجود بعرضهما العریض رکنا الصلاة و ثلثاها لا بخصوص مرتبتهما العالیة کما انا ذکرنا أن المراد من الطهور الّذی هو رکن للصلاة الجامع بین الطهارة المائیة و الترابیة.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری أن الصلاة لا تسقط بحال فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط مرتبة أخری منها.و هکذا،للنصوص الدالة علی ذلک کما عرفت،فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا بد فی مقام دوران الأمر بین الطهور و غیره من تقدیم الطهور،ضرورة انه فی فرض العکس-أی تقدیم غیره علیه-لا صلاة لتجب مع ذلک القید بل اذن لا تعارض و لا دوران فی البین أصلا ضرورة ان التعارض بین دلیلی الجزءین أو الشرطین أو الشرط و الجزء انما یتصور

ص:310

مع فرض وجود الموضوع و هو حقیقة الصلاة لیکون وجوبها ثانیاً بدلیل خاص موجباً للتعارض بینهما،و أما إذا فرض دوران الأمر بین ما هو مقوم لحقیقة الصلاة و غیره فیتعین تقدیم الأول و صرف القدرة فیه و لا یمکن العکس،بداهة انه یلزم من وجوب هذا القید عدمه إذ معنی تقدیمه هو انه واجب فی ضمن الصلاة،و المفروض ان تقدیمه علیه مستلزم لانتفاء الصلاة و من المعلوم ان کل ما یلزم من وجوده عدمه فهو محال،و هذا لا من ناحیة أهمیة الطهور،لیقال انه لا عبرة بها فی باب التعارض أصلا،بل هو من ناحیة ان تقدیم غیره علیه یوجب انتفاء حقیقة الصلاة،فلا صلاة عندئذ لتجب.

و بتعبیر آخر ان دوران الأمر بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط علی کلا القولین أی القول بالتعارض و القول بالتزاحم إنما هو فی فرض تحقق حقیقة الصلاة و صدقها بان لا یکون انتفاء شیء منهما موجباً لانتفاء الصلاة،فعندئذ یقع الکلام فی تقدیم أحدهما علی الآخر،فبناء علی القول بالتزاحم یرجع إلی قواعده و أحکامه و بناء علی القول بالتعارض یرجع إلی مرجحاته و قواعده.و اما إذا فرضنا دوران الأمر بین ما هو مقوم لحقیقة الصلاة و غیره فلا إشکال فی تقدیم الأول علی الثانی و عدم الاعتناء به،ضرورة ان مرجع هذا إلی دوران الأمر بین سقوط أصل الصلاة و سقوط جزئها أو قیدها.و من المعلوم انه لا معنی لهذا الدوران أصلا،حیث انه لا یعقل سقوط أصل الصلاة و بقاء القید علی وجوبه،لفرض ان وجوبه ضمنی لا استقلالی و قد تحصل من ذلک کبری کلیة و هی انه لا معنی لوقوع التزاحم أو التعارض بین ما هو مقوم لحقیقة الصلاة و بین غیره من الاجزاء أو الشرائط.هذا بناء علی ما قویناه من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورین و غیرهما من الأرکان.و أما بناء علی عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظریة التزاحم فی أمثال هذه الموارد عن نظریة التعارض،إذ علی الأول لا بد من تقدیم الطهور علی غیره فی مقام وقوع المزاحمة بینهما لأهمیته.و اما علی الثانی(و هو نظریة التعارض)فلا وجه لتقدیمه علی غیره

ص:311

من هذه الناحیة أصلا،لما عرفت من انه لا عبرة بالأهمیة فی باب التعارض أبداً، فاذن لا بد من الرجوع إلی أدلتهما،فان کان الدلیل الدال علی أحدهما عاماً و الآخر مطلقاً،فیقدم العام علی المطلق،کما عرفت و ان کان کلاهما عاماً،فیقع التعارض بینهما فیرجع إلی مرجحاته،و ان کان کلاهما مطلقاً فیسقط کلا الإطلاقین،و یرجع إلی الأصل العملی و هو أصالة عدم اعتبار خصوصیة هذا و خصوصیة ذاک و نتیجته التخییر کما سبق.

و کذا الحال فیما إذا دار الأمر بین ترک القیام فی الرکعة الأولی و ترکه فی الثانیة،فان النتیجة فی هذا الفرع أیضا واحدة علی کلا القولین،و هی تقدیم القیام فی الرکعة الأولی علی القیام فی الثانیة،و لکن علی القول بالتزاحم بملاک انه أسبق زماناً من الآخر،و قد عرفت ان ما هو أسبق زماناً یتقدم علی غیره،فیما إذا کان کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،کما هو کذلک فی المقام،و علی القول بالتعارض فمن ناحیة النص المتقدم.هذا تمام کلامنا فی الناحیة الأولی.

و اما الناحیة الثانیة(و هی ما ذکره(قده)من الترجیح للتقدیم فی هذه الفروعات)فائضاً لا تتم علی إطلاقها علی فرض تسلیم أن تلک الفروعات من صغریات باب التزاحم.

و بیان ذلک یحتاج إلی درس کل واحد من هذه الفروعات علی حده.

أما الفرع الأول(و هو ما إذا دار الأمر بین ترک الطهور فی الصلاة و ترک قید آخر من قیودها)فقد ذکر(قده)انه یسقط قید آخر و لو کان وقتاً.

و غیر خفی انه لا بد من فرض هذا الفرع فی غیر الأرکان من الأجزاء أو الشرائط،ضرورة انه فی فرض دوران الأمر بین سقوط الطهور و سقوط رکن آخر بعرضه العریض،کالرکوع أو السجود أو التکبیرة لا صلاة،لتصل النوبة إلی أنها واجبة مع هذا أو ذاک،لفرض انها تنتفی بانتفاء رکن منها،فاذن لا موضوع للتزاحم و لا التعارض.

ص:312

نعم یمکن دوران الأمر بین سقوطه و سقوط مرتبة منها،فان حاله حال دوران الأمر بینه و بین سقوط بقیة الأجزاء و الشرائط،کما هو واضح.

و من هنا یظهر انه لا یعقل التزاحم بین الطهور و الوقت أیضاً،ضرورة انتفاء الصلاة بانتفاء کل منهما فلا موضوع عندئذ للتزاحم لیرجح أحدهما علی الآخر.

فما أفاده(قده)من انه یسقط ذلک القید و ان کان وقتاً لا یرجع إلی معنی محصل لفرض ان الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة عندئذ لتجب مع الطهور.

و بعد ذلک نقول:انه لا إشکال فی تقدیم الطهور علی غیره من الاجزاء و الشرائط،و لیس وجهه مجرد کونه أهم،بل وجهه ما ذکرناه من أن الطهور بما أنه مقوم لحقیقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بینه و بین غیره،ضرورة ان مرجع ذلک إلی دوران الأمر بین ترک نفس الصلاة و ترک قیدها.و من الواضح جداً انه لا معنی لهذا الدوران أصلا.و من هنا قلنا أن التزاحم بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط إنما یعقل فیما إذا لم یکن أحدهما مقوماً لحقیقة الصلاة و إلا فلا موضوع له لتصل النوبة إلی ملاحظة المرجح لتقدیم أحدهما علی الآخر،و لا یشمله ما دل علی أن الصلاة لا تسقط بحال من روایة أو إجماع قطعی،ضرورة ان هذا العمل لیس بصلاة.

و أما الفرع الثانی(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط الطهارة المائیة و سقوط قید آخر)فقد ذکر(قده)انه یسقط الطهارة المائیة و أفاد فی وجه ذلک أن أجزاء الصلاة و شرائطها و ان کانت مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،إلا أن الطهارة المائیة خاصة تمتاز عن بقیة الاجزاء و الشرائط من ناحیة جعل الشارع لها بدلا،دون غیرها،فبذلک تتأخر رتبتها عن الجمیع.

و نأخذ بالمناقشة علیه و ملخصها:هو ان ثبوت البدل شرعاً لا یختص بخصوص الطهارة المائیة،فکما ان لها بدل و هو الطهارة الترابیة،فکذلک لبقیة الاجزاء و الشرائط.

و الوجه فی ذلک هو أن الصلاة إنما هی مأمور بها بعرضها العریض،لا بمرتبتها

ص:313

الخاصة و هی المرتبة العلیا المعبر عنها بصلاة المختار و علی هذا فکما ان المکلف لو لم یتمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة تنتقل وظیفته إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة فکذلک لو لم یتمکن من الصلاة فی الثوب أو البدن الطاهر،أو مع الرکوع و السجود، أو فی تمام الوقت،أو مع قراءة فاتحة الکتاب،أو غیر ذلک فتنتقل وظیفته إلی الصلاة فی بدل هذه الأمور،و هو فی المثال الأول الصلاة عاریاً علی المشهور،و فی الثوب النجس علی المختار.و فی الثانی الصلاة مع الإیماء و الإشارة.و فی الثالث إدراک رکعة واحدة من الصلاة فی الوقت،فانه بدل لإدراک تمام الرکعات فیه.

و فی الرابع الصلاة مع التکبیرة و التسبیح.و هکذا.

و علی الجملة فیما ان الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضی الروایات العامة و الخاصة فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة أخری.و هکذا.

و نتیجة هذا لا محالة عدم الفرق بین الطهارة المائیة و غیرها من الأجزاء و الشرائط لفرض انه قد ثبت لکل منها بدل بدلیل خاص،ک(ما دل علی وجوب الصلاة مع الإیماء عند تعذر الرکوع و السجود،أو مع الرکوع قاعداً عند تعذر الرکوع قائماً،و ما دل علی وجوبها قاعداً عند تعذر القیام،و ما دل علی وجوبها مع التکبیرة و التسبیح عند تعذر القراءة،و ما دل علی وجوبها مع إدراک رکعة منها فی الوقت عند تعذر إدراک تمام رکعاتها فیه..و هکذا هذا من ناحیة،و من ناحیة أخری المفروض ان اجزاء الصلاة و شرائطها مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا وجه لتقدیم غیر الطهارة المائیة من الاجزاء و الشرائط علیها فی مقام المزاحمة،لا من ناحیة أن لها بدل،و لا من ناحیة اشتراطها بالقدرة شرعاً،لما عرفت من ان البقیة جمیعاً تشترک معها فی هاتین الناحیتین علی نسبة واحدة.

و قد تحصل مما ذکرناه ان ما أفاده(قده)من الکبری الکلیة و هی تقدیم ما لیس له بدل علی ماله بدل و ان کان تاماً إلا انه لا ینطبق علی المقام.

ص:314

و یجب علینا أن ندرس هذا الفرع من جهات:

الأولی-فیما إذا دار الأمر بین سقوط الطهارة المائیة و سقوط خصوص السورة فی الصلاة.

الثانیة-فیما إذا دار الأمر بین سقوطها و سقوط الأرکان.

الثالثة-فیما إذا دار الأمر بین سقوطها و سقوط بقیة الاجزاء أو الشرائط.

اما الجهة الأولی فالظاهر انه لا شبهة فی تقدیم الطهارة المائیة علی السورة.

و ذلک لما دل علی انها تسقط بالاستعجال و الخوف،و هو صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال:«سألته عن الّذی لا یقرأ بفاتحة الکتاب فی صلاته قال لا صلاة إلا ان یقرأ بها فی جهر أو إخفات قلت أیما أحب إلیک إذا کان خائفاً أو مستعجلا یقرأ سورة أو فاتحة الکتاب قال فاتحة الکتاب،فانها تدل علی سقوطها بالاستعجال و الخوف من ناحیة فوت جزء أو شرط آخر،فان موردها و ان کان خصوص دوران الأمر بینها و بین فاتحة الکتاب،إلا انه من الواضح جداً عدم خصوصیة لها،فاذن لا یفرق بینها و بین غیرها من الاجزاء و الشرائط منها الطهارة المائیة.ضرورة ان العبرة انما هی بتحقق الخوف و الاستعجال.

و قد تحصل من ذلک ان هذا التقدیم لا یستند إلی إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض،بل هو مستند إلی النص المتقدم.

و اما الجهة الثانیة فلا شبهة فی تقدیم الأرکان علی الطهارة المائیة بلا فرق بین وجهة نظرنا و وجهة نظر شیخنا الأستاذ(قده)فی أمثال المقام.و ذلک لأن ملاک التقدیم هنا امر آخر،لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض،لیختلف باختلاف النظرین.

بیان ذلک علی وجه الإجمال هو أن الصلاة-کما حققناه فی محله-اسم للأرکان خاصة،و أما بقیة الاجزاء و الشرائط فهی خارجة عن حقیقتها،فلذا لا تنتفی بانتفائها،کما تنتفی بانتفاء الأرکان.و علیه فإذا ضممنا هذا إلی قوله تعالی:«إذا قمتم إلی

ص:315

إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم.).بضمیمة ان الصلاة لا تسقط بحال.

فالنتیجة هی ان الصلاة المفروغ عنها فی الخارج التی هی عبارة عن الأرکان قد أمر الشارع فی هذه الآیة الکریمة بإتیانها مع الطهارة المائیة فی فرض وجدان الماء،و مع الطهارة الترابیة فی فرض فقدانه.

و علی الجملة فالصلاة حیث أنها کانت اسماً للأرکان،و البقیة قیود خارجیة قد اعتبرت فیها فی ظرف متأخر،و ان قلنا انها عند وجودها داخلة فی المسمی،إلا ان دخولها فیه لیس بمعنی دخلها فیه بحیث ینتفی بانتفائها،بل بمعنی أن المسمی قد أخذ لا بشرط بالإضافة إلی الزیادة،فلا محالة لا تنتفی بانتفائها.

و علی ذلک فإذا ضممنا هذا إلی ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،و إلی أدلة الاجزاء و الشرائط منها هذه الآیة المبارکة،فالنتیجة هی ان الإتیان بالأرکان واجب علی کل تقدیر و انها لا تسقط مطلقاً أی سواء أ کان المکلف متمکناً من البقیة أم لم یکن متمکناً،ضرورة ان فی صورة العکس أی تقدیم الاجزاء أو الشرائط علی الأرکان فلا یصدق علی العمل المأتی به صلاة لیتمسک بما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،فاذن لا موضوع للتعارض و لا التزاحم هنا،کما هو واضح.هذا کله فیما إذا دار الأمر بین ترک رکن بعرضه العریض و ترک الطهارة المائیة أو غیرها من القیود.

و أما إذا دار الأمر بین سقوط مرتبة من الرکن و سقوط الطهارة المائیة فهل الأمر کما تقدم أم لا وجهان:

الظاهر هو الوجه الثانی،و ذلک لأن ما ذکرناه فی وجه تقدیم الرکن علیها لا یجری فی هذا الفرض.و الوجه فیه ما حققناه فی بحث الصحیح و الأعم من أن لفظة الصلاة موضوعة للأرکان بغرضها العریض،لا لخصوص المرتبة العلیا منها.

و علی هذا یترتب ان الصلاة لا تنتفی بانتفاء تلک المرتبة،و انما تنتفی بانتفاء جمیع مراتبها،فاذن یکون المراد من الصلاة فی الآیة المبارکة و هی قوله تعالی:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم و أیدیکم.).»هو الأرکان بعرضها العریض،

ص:316

لا خصوص مرتبة منها،غایة الأمر یجب الإتیان بالمرتبة العلیا فی فرض التمکن منها عقلا و شرعاً،و المرتبة الأخری دونها فی فرض عدم التمکن من الأولی..

و هکذا،و کذا الحال فی الطهور حیث انه یجب علی المکلف الطهارة المائیة فی فرض وجدان الماء،و الطهارة الترابیة فی فرض فقدانه.

و علی ضوء هذا فالآیة الکریمة تدل علی ان الصلاة المفروغ عنها فی الخارج (و هی الجامع بین مراتبها)واجبة علی المکلف مع الوضوء أو الغسل فی فرض کونه واجداً للماء،و مع التیمم فی فرض کونه فاقداً له.و لا تدل علی وجوب کل مرتبة من مراتبها کذلک،فإذا دار الأمر بین الإتیان بالمرتبة العالیة منها مع الطهارة الترابیة،و المرتبة الدانیة منها مع الطهارة المائیة،فالآیة لا تدل علی وجوب الإتیان بالأولی دون الثانیة أصلا،بل و لا اشعار فی الآیة بذلک،لفرض ان الصلاة لا تنتفی بانتفاء تلک المرتبة.و قد عرفت ان الآیة تدل علی وجوب الصلاة و هی الجامع بین هذه المراتب بالکیفیة المزبورة،فعندئذ الحکم بوجوب تلک المرتبة و مشروعیتها فی هذا الحال و سقوط الطهارة المائیة یحتاج إلی دلیل آخر، و لا یمکن إثبات مشروعیتها بالآیة المبارکة،لاستلزامه الدور،فان مشروعیتها فی هذا الحال تتوقف علی دلالة الآیة،و هی تتوقف علی مشروعیتها فی هذا الحال.

و علی الجملة فلو دار الأمر بین سقوط رکن و سقوط مرتبة من رکن آخر فلا إشکال فی سقوط المرتبة،بل لا دوران فی الحقیقة بمقتضی الآیة الکریمة، لفرض ان اعتبار الأرکان بعرضها العریض مفروغ عنه دون اعتبار کل مرتبة من مراتبها،و لذا قلنا ان الأرکان مشروطة بالقدرة عقلا دون کل مرتبة منها،فانها مشروطة بالقدرة شرعاً.و هذا واضح.

و أما إذا دار الأمر بین سقوط مرتبة من رکن و سقوط مرتبة من رکن آخر-کما فی مفروض الکلام-فلا دلالة للآیة علی تقدیم بعضها علی بعضها الآخر أبداً،ضرورة ان دلالتها فی محل الکلام تبتنی علی نقطة واحدة،و هی أن

ص:317

تکون الداخل فی مسمی الصلاة المرتبة العلیا من الأرکان مع الطهور الجامع بین المائیة و الترابیة فحسب،و علی هذا فإذا دار الأمر بین سقوط تلک المرتبة و سقوط الطهارة المائیة تسقط الطهارة المائیة،لفرض ان اعتبارها عندئذ متفرع علی ثبوتها،لا فی عرضها،لدلالة الآیة الکریمة وقتئذ علی وجوب الإتیان بها مع الطهارة المائیة فی فرض وجدان الماء،و مع الطهارة الترابیة فی فرض فقدانه،إلا انک عرفت أن تلک النقطة خاطئة و غیر مطابقة للواقع و ان الصلاة موضوعة للجامع بین مراتبها لا غیر و علیه ففی مسألتنا هذه و ما شاکلها علی وجهة نظر من یری انها داخلة فی کبری باب التعارض،فلا بد من الرجوع إلی قواعد ذلک الباب علی ما تقدم بصورة مفصلة و علی وجهة نظر من یری انها داخلة فی کبری باب التزاحم،فلا بد من الرجوع إلی مرجحات و قواعد ذلک الباب،کالسبق الزمانی و الأهمیة و نحوهما.

اما الأول(و هو السبق الزمانی)فان کان موجوداً بان یکون أحدهما سابقاً علی الآخر زماناً فلا مانع من الترجیح به،و ذلک لما ذکرناه من أن السبق الزمانی مرجح فی الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،و المفروض ان کل مرتبة من مراتب الأرکان مشروطة بالقدرة شرعاً،و ان کانت الأرکان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلا،فاذن یقدم ما هو الأسبق زماناً علی الأخری.

و اما الثانی(و هو الأهمیة)فالظاهر انه مفقود فی المقام،و ذلک لأنا لم نحرز ان المرتبة العالیة من الرکوع مثلا أهم من المرتبة العالیة من الطهور و بالعکس،کما هو واضح،نعم احتمال کون المرتبة العالیة منه أهم منها موجود،و لا مناص عنه، و لا سیما بالإضافة إلی المرتبة العالیة من الرکوع و السجود،و ذلک لأنا نستکشف من جعل الشارع التراب أحد الطهورین ان المصلحة القائمة بالطهارة الترابیة لیست أدون بکثیر من المصلحة القائمة بالطهارة المائیة،و هذا بخلاف المرتبة الدانیة من الرکوع و السجود،و هی الإیماء،فان المصلحة الموجودة فیه أدون بکثیر من المصلحة الموجودة فیهما،کما لا یخفی.و علیه فلا بد من تقدیمها علی الطهارة المائیة،لما تقدم مفصلا من ان

ص:318

محتمل الأهمیة من المرجحات،فلا مناص من تقدیمه علی الآخر فی مقام المزاحمة.

و أما الثالث-و هو ان المشروط بالقدرة عقلا یتقدم علی المشروط بها شرعاً-فهو مفقود فی المقام،لما عرفت من ان کلتیهما مشروطة بالقدرة شرعاً.

و نتیجة ما ذکرناه عدة نقاط:

الأولی-انه لا یعقل دوران الأمر بین سقوط رکن و سقوط رکن آخر، لانتفاء الصلاة عندئذ علی کل تقدیر.

الثانیة-انه إذا دار الأمر بین ترک رکن و ترک مرتبة من رکن آخر فلا إشکال فی تعین ترک المرتبة،بل قد عرفت انه لا دوران فی مثله و لا موضوع للتعارض و لا التزاحم،فیقدم الرکن علی مرتبة من الرکن الآخر بمقتضی لا تسقط الصلاة بحال،و بمقتضی الآیة الکریمة کما سبق.

الثالثة-ان فی فرض دوران الأمر بین سقوط مرتبة من رکن کالرکوع أو السجود،و سقوط مرتبة من آخر،کالطهور لا تدل الآیة،و لا تسقط الصلاة بحال علی سقوط الثانیة دون الأولی،بل لا بد فیه من الرجوع إلی قواعد باب التعارض أو التزاحم علی ما عرفت.

و اما الجهة الثالثة(و هی ما إذا دار الأمر بین الطهارة المائیة و بقیة الاجزاء أو الشرائط)فالصحیح انه لا وجه لتقدیم سائر الاجزاء أو الشرائط علی الطهارة المائیة،و ذلک لأن ما ذکرناه فی وجه تقدیم الأرکان علیها لا یجری هنا.و الوجه فیه ما تقدم من ان الصلاة اسم للأرکان خاصة و وجوب تلک الأرکان مفروغ عنه فی الخارج مطلقاً أی سواء أ کان المکلف متمکناً من بقیة الأجزاء أو الشرائط أم لم یتمکن من ذلک،لفرض ان اعتبار البقیة متفرع علی ثبوتها و فی ظرف متأخر عنها،لا مطلقاً،کما هو الحال فیها.

و من هنا قلنا ان المراد من الصلاة فی الآیة الکریمة هو الأرکان،فانها حقیقة الصلاة و مسماها کانت معها بقیة الاجزاء أو الشرائط أم لم نکن،و کذا المراد من

ص:319

الصلاة فی قوله علیه السلام لا تسقط الصلاة بحال،و لذلک ذکرنا ان الآیة تدل علی وجوب الإتیان بها مطلقاً،سواء أ کانت معها البقیة أم لم تکن.

و علی هذا الأصل فلا تدل الآیة علی تقدیم سائر الاجزاء أو الشرائط علی الطهارة المائیة أصلا،لفرض انها غیر دخیلة فی المسمی من ناحیة،و عدم تفرع اعتبار الطهارة المائیة علی اعتبارها من ناحیة أخری،بل هو فی عرض اعتبار تلک.

و دعوی ان المراد من الصلاة فی الآیة المبارکة بضمیمة ما استفدنا من أدلة اعتبار الاجزاء و الشرائط هو الواجدة للجمیع،لا خصوص الأرکان.هذا من جانب.و من جانب آخر انا قد ذکرنا فی بحث الصحیح و الأعم ان البقیة عند وجودها داخلة فی المسمی،و عدمها لا یضر به علی تفصیل هناک.فالنتیجة علی ضوء هذین الجانبین هی ان الآیة تدل علی وجوب الإتیان بالصلاة الواجدة لجمیع الاجزاء و الشرائط مع الطهارة المائیة فی فرض وجدان الماء،و مع الطهارة الترابیة فی فرض فقدانه،و هذا معنی دلالتها علی تقدیم البقیة علیها.

مدفوعة بان اعتبارها فی هذا الحال و دخولها فی المسمی أول الکلام، ضرورة ان اعتبارها یتوقف علی دخولها فیه،و المفروض ان دخولها فیه یتوقف علی اعتبارها فی هذا الحال،فاذن لا دلالة للآیة-بضمیمة قوله علیه السلام لا تسقط الصلاة بحال-علی تقدیم بقیة الاجزاء أو الشرائط علی الطهارة المائیة.و علیه فلا بد من الرجوع إلی قواعد باب التعارض فی المقام بناء علی دخوله فی هذا الباب،و إلی قواعد باب التزاحم بناء علی دخوله فیه،و الثانی هو مختاره(قده)هنا.

اما الأول فقد تقدم ضابطه فلا نعید.

و أما الثانی و هو بناء علی دخوله فی باب التزاحم فتقدیم سائر الاجزاء أو الشرائط علیها یبتنی علی أحد أمور:

الأول-دعوی أن للطهارة المائیة بدلا دون غیرها،فیقدم ما لیس له بدل علی ما له بدل.و لکن قد عرفت فساد تلک الدعوی بشکل واضح.

ص:320

الثانی-دعوی ان الطهارة المائیة مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضی الآیة الکریمة دون البقیة،و قد تقدم ان ما هو مشروط بالقدرة عقلا یتقدم علی ما هو مشروط بها شرعاً.و یردها ما ذکرناه من ان أجزاء الصلاة و شرائطها جمیعاً مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،فلا فرق من هذه الناحیة بین الطهارة المائیة و غیرها أصلا.

الثالث-دعوی أن بقیة الاجزاء و الشرائط أهم من الطهارة المائیة.و فیه انه لا طریق لنا إلی إحراز کونها أهم منها أصلا.

و قد تحصل من ذلک انه لا وجه لتقدیم بقیة الاجزاء أو الشرائط علی الطهارة المائیة أبداً فی موارد عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما،بل یمکن القول بتقدیم الطهارة المائیة علی غیرها من الاجزاء،أو باعتبار انها سابقة علیها زماناً، کما إذا فرض دوران الأمر بین ترک الوضوء أو الغسل فعلا و سقوط جزء فی ظرفه بان لا یتمکن المکلف من الجمع بینهما،فلا مانع من الحکم بتقدیم الوضوء أو الغسل علیه،لفرض ان التکلیف بالإضافة إلیه فعلی،و لا مانع منه أصلا.و قد تقدم ان الأسبق زماناً یتقدم علی غیره فیما إذا کان کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،و ما نحن فیه کذلک.فما أفاده(قده)من انه یقدم علی الطهارة المائیة کل قید من قیود الصلاة لا یمکن المساعدة علیه.

و أما الفرع الثالث(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط إدراک رکعة من الوقت و سقوط قید آخر غیر الطهور)فقد ذکر(قده)أنه یسقط ذلک القید.

أقول:اما استثناء الطهور من ذلک و ان کان صحیحاً و لا مناص عنه،إلا انه لا معنی للاقتصار علیه،بل لا بد من استثناء جمیع الأرکان من ذلک،لما تقدم من انه فی فرض دوران الأمر بین سقوط رکن رأساً و سقوط رکن آخر کذلک تسقط الصلاة یقیناً،لفرض انها تنتفی بانتفاء کل منهما،فاذن لا موضوع للتمسک ب(لا تسقط الصلاة بحال،و الإجماع القطعی علی ذلک،ضرورة انه لا صلاة فی هذا الحال

ص:321

لیقال انها لا تسقط،و علیه فإذا دار الأمر بین سقوط إدراک رکعة من الوقت و سقوط الطهور رأساً تسقط الصلاة عندئذ لا محالة،لفرض انها کما تسقط بسقوط الطهور،کذلک تسقط بعدم إدراک رکعة فی الوقت.هذا إذا کان غرضه من الاستثناء ذلک.

و اما إذا کان غرضه منه هو ان الطهور یقدم علی الوقت فی هذا الحال أعنی ما إذا دار الأمر بین سقوط إدراک رکعة فی الوقت و سقوط الطهور رأساً فقد عرفت فساده الآن،و هو ما مر من انه لا صلاة فی هذا الحال لیقال بتقدیمه علیه، لفرض أنها تنتفی بانتفاء کل منهما.و اما وجوبها فی خارج الوقت فهو بدلیل آخر أجنبی عن الأمر فی الوقت.

و اما تقدیم إدراک رکعة من الوقت علی غیره من الاجزاء أو الشرائط فواضح لما عرفت من انه إذا دار الأمر بین سقوط رکن و سقوط قید آخر یسقط ذلک القید و حیث ان الوقت من الأرکان فإذا دار الأمر بین سقوطه و سقوط غیره یسقط غیره لا محالة.

و بتعبیر أوضح هو انا إذا ضممنا ما یستفاد من قوله تعالی:«أقم الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل»بضمیمة الروایات الواردة فی تفسیرها،و ما یستفاد من الروایات الدالة علی ان الصلاة لا تسقط بحال إلی قوله تعالی:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا...إلخ»فالنتیجة هی وجوب الإتیان بالأرکان(التی هی حقیقة الصلاة)فی الوقت مطلقاً أی سواء أ کان المکلف متمکناً من الإتیان بالبقیة فیه أم لم یتمکن من ذلک،فلا یمکن ان تزاحم بقیة الاجزاء و الشرائط الأرکان فی الوقت،لا فی تمامه و لا فی جزئه،ضرورة ان فی صورة العکس أعنی تقدیم البقیة علی الوقت لا صلاة، لنتمسک بدلیل لا تسقط الصلاة بحال أو نحوه.و من هنا قلنا انه لا موضوع للتعارض أو التزاحم فی مثل هذا الفرض،و ان التقدیم فیه لا یکون مبتنیاً علی کون هذه الموارد من موارد التزاحم أو التعارض،بل هو بملاک آخر لا بملاک

ص:322

إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض و لذا لا بد من الالتزام بهذا التقدیم علی کل من القولین.

و بذلک یظهر ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)فی المقام من جعل التقدیم فیه مبتنیاً علی إعمال قواعد التزاحم غیر صحیح.

و اما الفرع الرابع(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط إدراک تمام الرکعات فی الوقت و سقوط قید آخر)فقد ذکر(قده)انه یسقط إدراک تمام الرکعات فی الوقت،إلا السورة،فانها تسقط بالاستعجال و الخوف.

أقول:الأمر بالإضافة إلی السورة کذلک،لما عرفت من ان دلیلها من الأول مقید بغیر صورة الاستعجال و الخوف،فلا تکون واجبة فی هذه الصورة.

هذا لو قلنا بوجوبها و إلا فهی خارجة عن محل الکلام رأسا.و اما بالإضافة إلی غیرها من الاجزاء أو الشرائط فلا یمکن المساعدة علیه.و الوجه فی ذلک ما أشرنا إلیه من أن الرکن هو الوقت الّذی یسع لفعل الأرکان خاصة،و انه مقوم لحقیقة الصلاة فتنتفی الصلاة بانتفائه،و أما الزائد علیه الّذی یسع لبقیة الاجزاء و الشرائط فلیس برکن.و قد استفدنا ذلک من ضم هذه الآیة أعنی قوله تعالی:«أقم الصلاة...

إلخ إلی قوله تعالی«إذا قمتم إلی الصلاة...إلخ»بضمیمة ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال.

و علی ذلک فإذا دار الأمر بین سقوط تمام الوقت الّذی یسع للأرکان و سقوط جزء أو شرط آخر فالحال فیه کما تقدم،یعنی انه یسقط ذلک الجزء أو الشرط لا محالة،سواء أقلنا بالتعارض فی أمثال المورد أم بالتزاحم.

و اما إذا دار الأمر بین سقوط بعض ذلک الوقت و سقوط قید آخر،فائضاً یسقط ذلک القید.

و الوجه فی ذلک هو انا إذا ضممنا ما یستفاد من قوله تعالی:«أقم الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل»إلی قوله تعالی:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا...إلخ

ص:323

و إلی أدلة بقیة الاجزاء و الشرائط مع أدلة بدلیتها،بضمیمة ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال فالنتیجة هی وجوب الإتیان بالصلاة فی الوقت المحدد لها،و انها لا تسقط سواء أ کان المکلف متمکناً من الإتیان ببقیة الاجزاء و الشرائط فیه أم لم یتمکن من ذلک،غایة الأمر مع التمکن منها یجب الإتیان بها فیه أیضاً، و إلا فتسقط-مثلا-مع التمکن من الطهارة المائیة یجب الإتیان بالصلاة فی الوقت المزبور معها،و مع عدم التمکن منها و لو من جهة ضیق الوقت یجب الإتیان بها فیه مع الطهارة الترابیة،و کذا مع التمکن من طهارة الثوب أو البدن یجب الإتیان بالصلاة فی وقتها معها،و مع عدم التمکن منها و لو من ناحیة ضیق الوقت یجب الإتیان بها فیه عاریاً أو فی الثوب المتنجس علی الخلاف فی المسألة.

و علی الجملة فقد استفدنا من ضم بعض تلک الأدلة إلی بعضها الآخر علی الشکل المتقدم ان وجوب الإتیان بالصلاة التی هی عبارة عن الأرکان فی الوقت المعین لها امر مفروغ عنه و انه لا یسقط،کان المکلف متمکناً من الإتیان بالبقیة فیه أم لم یتمکن،فلا یمکن أن تزاحم البقیة وقت الأرکان لا تمامه کما عرفت و لا بعضه.

و اما ما ورد فی موثقة عمار من أن من صلی رکعة فی الوقت فلیتم و قد جازت صلاته،فلا یدل إلا علی بدلیة إدراک رکعة فی الوقت عن إدراک تمام الرکعات فیه،فیما إذا لم یتمکن المکلف من إدراک التمام فیه أصلا بمعنی انه لا یتمکن منه لا مع الطهارة المائیة،و لا مع الطهارة الترابیة،و لا مع طهارة البدن أو الثوب، و لا مع نجاسته أو عاریاً.و اما من تمکن من إدراک التمام فیه فی الثوب النجس أو عاریاً،أو مع الطهارة الترابیة فلا یکون مشمولا للحدیث.و من هنا قلنا أن الحدیث یختص بالمضطر و بمن لم یتمکن من إدراک تمامها فی الوقت أصلا،فالشارع جعل له إدراک رکعة واحدة فی الوقت بمنزلة إدراک تمام الرکعات فیه إرفاقاً و توسعة له فلا یشمل المختار و المتمکن من إدراک تمام الرکعات فیه کما فیما نحن فیه نعم لو أخر الصلاة باختیاره إلی ان ضاق الوقت بحیث لم یبق منه إلا بمقدار إتیان رکعة واحدة

ص:324

فیه فیشمله الحدیث بإطلاقه،و ان کان عاص من جهة تأخیر مقدار الصلاة عن الوقت،ضرورة انه لم یکن فی مقام بیان التوسعة و الترخیص للمکلفین فی تأخیر صلواتهم اختیاراً إلی ان لا یبقی من الوقت إلا بمقدار إدراک رکعة واحدة فیه،و جعل إدراک تلک الرکعة الواحدة بمنزلة إدراک تمام الرکعات.و قد ذکرنا ان الحدیث ظاهر فی هذا المعنی بمقتضی الفهم العرفی.

فالنتیجة من ذلک هی ان الموثقة لا تدل علی بدلیة إدراک رکعة واحدة فی الوقت عن إدراک تمام الرکعات فیه علی الإطلاق،بل تدل علی بدلیة ذلک عنه لخصوص المضطر و غیر المتمکن مطلقاً،و بما ان فی المقام یتمکن المکلف من إدراک التمام فیه،فلا یکون مشمولا لها،فاذن یتعین ما ذکرناه و هو تقدیم إدراک تمام الرکعات فی الوقت علی بقیة الأجزاء أو الشرائط فی موارد عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما،و لا یفرق فی ذلک بین القول بالتعارض فی هذه الموارد و القول بالتزاحم فیها،لفرض ان هذا التقدیم غیر مستند إلی إعمال قواعد هذا الباب أو ذاک، بل هو بملاک آخر کما عرفت،و لا یفرق فیه بین القولین أصلا.فما أفاده(قده) من انه یسقط إدراک تمام الرکعات فی الوقت دون القید الآخر لا یمکن المساعدة علیه.

ثم انه لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ان الأدلة المتقدمة لا تدل علی ما ذکرناه و انه لا یستفاد من مجموعها ذلک،فاذن علی القول بالتعارض فی تلک الموارد تقع المعارضة بین الدلیل الدال علی وجوب إدراک تمام الرکعات فی الوقت و الدلیل الدال علی وجوب ذلک القید المزاحم له،فیرجع إلی قواعد بابها.

و لکن قد ذکرنا فی محله ان التعارض إذا کان بین إطلاق الکتاب و إطلاق غیره فیقدم إطلاق الکتاب علیه،و ذلک لما استظهرناه من شمول الروایات الدالة علی طرح الأخبار المخالفة للکتاب أو السنة ما إذا کانت المخالفة بین إطلاقه و إطلاق غیره علی نحو العموم و الخصوص من وجه،فلا تختص الروایات بالمخالفة بینهما علی

ص:325

وجه التباین،أو المخالفة بین العامین منهما علی نحو العموم و الخصوص من وجه بل تعم المخالفة بینهما علی نحو الإطلاق بان یکون إطلاق أحدهما مخالفاً لإطلاق الآخر.

و بما ان فیما نحن فیه تقع المعارضة بین إطلاق الکتاب و هو قوله تعالی:«أقم الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل»و إطلاق غیره و هو أدلة سائر الاجزاء أو الشرائط، فیقدم إطلاق الکتاب علیه.

فالنتیجة هی تقدیم إدراک تمام الرکعات فی الوقت علی إدراک جزء أو شرط آخر و علی القول بالتزاحم فیها تقع المزاحمة بینهما أی بین وجوب هذا و وجوب ذاک فیرجع إلی مرجحاته من الأهمیة و الأسبقیة و نحوهما،اما الأهمیة فالظاهر انه لا طریق لنا إلی إحراز ان وجوب إدراک تمام الرکعات فی الوقت أهم من إدراک هذا القید،لما عرفت من انه إذا دار الأمر بین سقوط جزء أو شرط و سقوط المرتبة الاختیاریة من الرکن،فلا یمکن الحکم بتقدیم تلک المرتبة علیه،بدعوی کونها أهم منه،ضرورة انه لا طریق لنا إلی إحراز ذلک،و لا دلیل علی کونها أهم منه، و الأهم إنما هو طبیعی الرکن الجامع بین جمیع المراتب،لا کل مرتبة منه،و فی المقام الرکن هو طبیعی الوقت الجامع بین البعض و التمام،و اما تمامه فهو مرتبته الاختیاریة،فلا دلیل علی کون تلک المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر،و الأهم إنما هو الجامع بینها و بین غیرها من المراتب،و اما الأسبقیة فلا مانع من الترجیح بها فی أمثال المقام،و ذلک لما تقدم من أن الأسبق زماناً یتقدم علی غیره،فیما إذا کان التزاحم بین واجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،و المفروض ان ما نحن فیه کذلک،فاذن لو دار الأمر بین إدراک جزء سابق کفاتحة الکتاب-مثلا- و إدراک الرکعة الأخیرة فی الوقت بان لا یتمکن المکلف من الجمع بینهما،فلو أتی بفاتحة الکتاب فلا یتمکن من إدراک تلک الرکعة فی الوقت،ففی مثله لا مانع من تقدیم فاتحة الکتاب علیه من جهة سبقها زماناً.و قد عرفت ان الأسبق زماناً یتقدم علی غیره فی مقام المزاحمة فی أمثال المقام أیضاً،و کذا إذا دار الأمر بین تطهیر البدن

ص:326

أو الثوب-مثلا-و إدراک الرکعة الأخیرة فی الوقت أو بین الطهارة المائیة و إدراک تلک الرکعة فیه،بحیث لو غسل ثوبه أو بدنه أو لو توضأ أو اغتسل فلا یتمکن من إدراکها فی الوقت،فیقدم الصلاة فی البدن أو الثوب الطاهر علیه،لما عرفت من ان الأسبق زماناً یتقدم علی غیره،و کذا الصلاة مع الطهارة المائیة.

نعم إذا لم یکن القید المزاحم له سابقاً علیه زماناً،کما لو دار الأمر بین التسبیحات الأربع و الأذکار الواجبة فی الرکعة الأخیرة،و بین إدراک تلک الرکعة فی الوقت،بحیث لو أتی بالأولی فقد فات عنه وقتها،و لا یتمکن من إدراکها فیه،ففی مثله لا وجه لتقدیمها علیه،کما هو واضح،فاذن ما أفاده(قده)من سقوط إدراک تمام الرکعات فی الوقت دون القید المزاحم له لا یتم علی إطلاقه -کما عرفت-.

و أما الفرع الخامس(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط الاجزاء و سقوط الشرائط)فقد ذکره(قده)أنه تسقط الشرائط لتأخر رتبتها عن الاجزاء.

أقول:ان الشرط بمعنی ما تقید الواجب به و ان کان متأخراً عنه رتبة، ضرورة ان تقید شیء بشیء فرع ثبوته،إلا أنا قد ذکرنا غیر مرة انه لا أثر للتقدم أو التأخر الرتبی فی باب الأحکام الشرعیة أصلا،فانها تتعلق بالموجودات الزمانیة لا بالرتب العقلیة،بل لو تعلقت بها فائضاً لا یکون الأسبق رتبة کالأسبق زماناً مقدماً علی غیره فی مقام المزاحمة لأن ملاک تقدیم الأسبق علی غیره و هو کون التکلیف المتعلق به فعلیاً دون التکلیف المتعلق بغیره غیر موجود هنا،لفرض ان التکلیف المتعلق بالمتقدم و المتأخر الرتبیین کلیهما فعلی فی زمان واحد،فلا موجب عندئذ لتقدیم أحدهما علی الآخر،کما هو واضح.و اما اعتبار شیء شرطاً فلا یکون متأخراً عن اعتبار شیء جزء و متفرعاً علی ثبوته.

نعم اعتبار الجمیع متأخر عن اعتبار الأرکان و متفرع علی ثبوته،کما سبق.

و أما اعتبار الشرطیة بالإضافة إلی اعتبار الجزئیة فلا تقدم و لا تأخر منهما،بل هما

ص:327

فی عرض واحد.

و السر فیه ما تقدم من ان الصلاة اسم للأرکان،و البقیة من الاجزاء و الشرائط قد اعتبرت فیها بأدلتها الخاصة فی ظرف متأخر عنها،و لذا لا تسقط الأرکان بسقوطها،و لیست حال الشرائط بالإضافة إلی الاجزاء کحالها بالإضافة إلی الأرکان،و من هنا تسقط الشرائط بسقوط الأرکان،و لا تسقط بسقوط سائر الاجزاء.

فما ذکره(قده)من کون الشرائط متأخرة عن الاجزاء یبتنی علی نقطة واحدة،و هی کون الصلاة اسماً لجمیع الأجزاء فقط،و الشرائط جمیعاً خارجة عنها و قد اعتبرت فیها،فعندئذ لا محالة یکون اعتبارها فی ظرف متأخر عن اعتبار تلک و متفرعاً علیه،إلا انک عرفت ان تلک النقطة خاطئة و غیر مطابقة للواقع،و ان الصلاة موضوعة للأرکان فقط،و البقیة جمیعاً خارجة عن حقیقتها و معتبرة فیها بدلیل خارجی،من دون فرق فی ذلک بین الأجزاء و الشرائط أصلا،فلا یکون اعتبارها متفرعاً علی اعتبار الاجزاء،بل هو فی عرض اعتبارها،غایة الأمر اعتبار الاجزاء فی الأرکان بنحو الجزئیة و اعتبارها فیها بنحو القیدیة،فاذن لا وجه لما أفاده(قده)من تقدیم الاجزاء علی الشرائط أصلا،بل لا بد علی هذا القول أی القول بالتزاحم من الرجوع إلی مرجحاته من الأهمیة و الأسبقیة،فما کان أهم یتقدم علی غیره،فلا فرق بین کونه جزء أو شرطاً،و کذا ما کان سابقاً زماناً یتقدم علی غیره و لو کان شرطاً-مثلا-الطهارة المائیة من جهة السبق الزمانی تتقدم علی فاتحة الکتاب-مثلا-أو علی الرکوع الاختیاری أو نحو ذلک فی موارد عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما،و کذا طهارة البدن أو الثوب تتقدم علیها بعین ذلک المرجح و الملاک.و أما علی القول بالتعارض فیها فان کان التعارض بین دلیلی الجزء و الشرط بالعموم،فیرجع إلی مرجحات الباب من موافقة الکتاب أو السنة و مخالفة العامة،إلا إذا کان أحدهما من الکتاب أو السنة،فیقدم علی الآخر،

ص:328

و أما إذا کان التعارض بینهما بالإطلاق کما هو الغالب،فان کان أحدهما من الکتاب أو السنة و الآخر من غیره،فیقدم الأول علی الثانی علی بیان تقدم،و إلا فیسقط کلا الإطلاقین معاً فیرجع إلی الأصل العملی،و مقتضاه عدم اعتبار خصوصیة هذا و خصوصیة ذاک،فالنتیجة هی اعتبار أحدهما.و قد سبق الکلام من هذه الناحیة بشکل واضح فلاحظ.

و أما الفرع السادس(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط أصل الشرط و سقوط قیده،کما إذا دار الأمر بین سقوط أصل الساتر فی الصلاة و سقوط قیده و هو الطهارة)فقد ذکر(قده)انه یسقط قیده،لتأخر رتبته.

أقول:ینبغی لنا ان نستعرض هذا المورد و ما شاکله علی نحو ضابط کلی.

بیان ذلک هو ان القید سواء أ کان قیداً للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختیاریة من الرکن أو له بتمام مراتبه لا یخلو من ان یکون مقوماً للمقید بحیث ینتفی بانتفائه، و أن یکون غیر مقوم له،مثال الأول القیام المتصل بالرکوع،فانه مقوم للمرتبة الاختیاریة منه،مثال الثانی اعتبار الطهارة فی الستر و الطمأنینة فی الرکوع و السجود و الأذکار و القراءة و ما شاکل ذلک،فان شیئاً منها لا ینتفی بانتفاء هذا القید،فلا ینتفی الستر بانتفاء الطهارة،و لا الرکوع و السجود بانتفاء الطمأنینة،و هکذا.

و بعد ذلک نقول:

أما القسم الأول فلا شبهة فی أن انتفائه یوجب انتفاء المقید،فلا وجه لدعوی کون الساقط هو خصوص القید،ضرورة أنه مقوم له،فکیف یعقل بقائه مع انتفائه،کما هو واضح.و علیه فإذا کان المتعذر هو خصوص هذا القید کالقیام المتصل بالرکوع-مثلا-فلا محالة یسقط المقید به.و أما إذا کان الأمر دائرا بین سقوطه و سقوط جزء أو شرط آخر أو قید مقوم له،فتجری فیه الأقسام المتقدمة بعینها،لفرض ان الأمر فی هذه الصور فی الحقیقة دائر بین سقوط جزء و جزء آخر أو شرط کذلک.و هکذا،فلا حاجة إلی الإعادة.

ص:329

و اما القسم الثانی(و هو ما إذا کان القید غیر مقوم)فلا وجه لسقوط المقید أصلا.و الوجه فی ذلک واضح،و هو ان معنی لا تسقط الصلاة بحال هو ان الاجزاء و الشرائط المقدورة للمکلف لا تسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر فیجب علیه الإتیان بهما،و المفروض ان المقید فی محل الکلام مقدور له،فلا یسقط بمقتضی ما ذکرناه،و الساقط إنما هو قیده،لتعذره.

و علی الجملة فمقتضی القاعدة و ان کان السقوط،إلا انه بعد ما دل الدلیل علی ان الصلاة لا تسقط بحال،فلا وجه لسقوطه أصلا،ضرورة ان المستفاد منه هو ان الاجزاء و الشرائط الباقیة المقدورة لا تسقط بتعذر قید من قیودهما.

و علیه ففی الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلا،و الساقط إنما هو قیده،و هو کونه طاهراً.و هذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر،لا ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من التعلیل بکون قیده متأخراً عنه رتبة،و ذلک لما عرفت من أنه لا أثر للتأخر الرتبی و لا لتقدمه أصلا،و لا سیما فی المقام کما سبق بشکل واضح فلا نعید،و کیف کان فلا إشکال فی عدم السقوط.و من هنا قوینا فی هذا الفرع وجوب الصلاة فی الثوب المتنجس لا عاریاً،علی خلاف المشهور،هذا مضافاً إلی انه مقتضی النصوص الواردة فی المقام.و تمام الکلام فی محله.

و اما الفرع السابع و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط قید اعتبر فی الرکن، و سقوط قید اعتبر فی غیره،کما إذا دار الأمر بین سقوط الطمأنینة فی المرتبة الاختیاریة من الرکن و سقوطها فی الأذکار أو القراءة،أو دار الأمر بین سقوط القیام حال التکبیرة و سقوطه حال القراءة،و هکذا فقد ذکر(قده)انه یسقط قید غیر الرکن.

أقول:قد ظهر فساده مما تقدم.و بیان وجه الظهور هو انه علی القول بالتعارض فی أمثال هذه الموارد یرجع إلی قواعده،و بما انه لا ترجیح فی البین فالمتعین هو التخییر فی المقام و قیدیة الجامع،لدفع اعتبار خصوصیة کل منهما

ص:330

بأصالة البراءة.و علی القول بالتزاحم فیها المرجع هو مرجحاته من الأهمیة و الأسبقیة،و الأهمیة مفقودة فی المقام،ضرورة ان وجوب الطمأنینة فی المرتبة الاختیاریة من الرکن لیس أهم من وجوبها فی الأذکار أو القراءة و ما شاکل ذلک، لما عرفت من ان نفس تلک المرتبة لیست أهم من تلک الاجزاء،فضلا عن قیدها غیر المقوم لها،فان الأهم إنما هو الرکن بعرضه العریض،لا بکل مرتبته،مع انه لو سلمنا ان تلک المرتبة أهم منها،إلا ان ذلک لا یلازم ان یکون قیدها المزبور أهم من قید تلک الاجزاء،کما هو واضح.و اما الأسبقیة فان کانت موجودة فلا بأس بالترجیح بها فی هذه الموارد.و علیه فتتقدم الطمأنینة فی حال القراءة علی الطمأنینة فی حال الرکوع من جهة سبقها علیها زماناً،و کذا یتقدم القیام حال التکبیرة علی القیام حال القراءة،بل قد ذکرنا ان تقدیم القیام فی الجزء السابق علی القیام فی الجزء اللاحق مقتضی النص الخاصّ-کما سبق-فلا یحتاج إلی إعمال قواعد باب التزاحم و مرجحاته.

و اما الفرع الثامن(و هو ما إذا دار الأمر بین سقوط القیام المتصل بالرکوع و سقوط القیام حال القراءة)فقد ذکر(قده)انه یسقط القیام حال القراءة،و علل ذلک بکون القیام قبل الرکوع بنفسه رکناً،و مقوماً للرکوع،فیتقدم علی القیام فیها لا محالة و لذا ذکر انه یقدم القیام قبل الرکوع علی القیام فی حال التکبیرة،فانه فیها شرط،و فی الرکوع مقوم.

أقول:ما أفاده(قده)بناء علی وجهة نظره من ان القیام المتصل بالرکوع رکن بنفسه متین جداً بمعنی انه لا بد تقدیمه علی غیره،لفرض انه لیس له مرتبة أخری لینتقل الأمر من مرتبته الاختیاریة إلی تلک المرتبة،بل هو بعنوانه رکن و قد ذکرنا انه إذا دار الأمر بین سقوط رکن رأساً و سقوط قید آخر مهما کان لونه یسقط ذلک القید لا محالة،ضرورة ان فی صورة العکس لا صلاة،لیدل علی عدم سقوطها روایة أو إجماع.

ص:331

و لکن هذا المبنی فاسد جداً و قد حققنا فی محله ان القیام المتصل بالرکوع لیس برکن،و ان الأرکان منحصرة بالرکوع و السجود و الطهور و التکبیرة و الوقت و علیه فمجرد کونه مقوماً للمرتبة الاختیاریة من الرکن،لا یکون موجباً لتقدیمه علی غیره أصلا،اما علی القول بالتعارض بین دلیله و دلیل غیره فواضح،ضرورة انه علی هذا لا بد من الرجوع إلی قواعد باب التعارض و أحکامه علی الشکل الّذی تقدم.و اما علی القول بالتزاحم فلا نحرز ان القیام المتصل بالرکوع أهم من القیام حال القراءة أو القیام حال التکبیرة،لیحکم بتقدیمه علیه،بل الأمر علی هذا القول بالعکس،لما ذکرناه من ان الأسبق زماناً فی أمثال هذه الموارد مرجح،و بما ان القیام حال التکبیرة أو القیام حال القراءة أسبق زماناً من القیام المتصل بالرکوع،فیتقدم علیه لا محالة،بل قد عرفت أن ذلک مقتضی النص الخاصّ،فلا یحتاج إلی إعمال مرجح أصلا.

نلخص نتائج بحث التزاحم و التعارض فی عدة نقاط:

الأولی-ان الفرق بین التزاحم فی الملاکات و التزاحم فی الأحکام من وجهین:

الأول-ان الترجیح فی التزاحم بین الملاکات بید المولی،و لیس من وظیفة العبد فی شیء،و لو علم بأهمیة الملاک فی أحد فعلین دون آخر،فان وظیفته امتثال الحکم المجعول من قبل المولی،هذا مضافاً إلی انه لا طریق له إلی الملاک.و أما الترجیح فی التزاحم بین الأحکام فهو من وظیفة العبد لا غیر.

الثانی-ان مقتضی القاعدة فی التزاحم بین الأحکام التخییر.و أما فی التزاحم بین الملاکات فلا یعقل فیه التخییر،ضرورة انه لا معنی لتخییر المولی بین جعل الحکم علی طبق هذا و جعل الحکم علی طبق ذاک،لفرض ان الملاکین متزاحمان فلا یصلح شیء منهما لأن یکون منشأ لجعل حکم شرعی،فان الملاک المزاحم لا یصلح لذلک.

الثانیة-ان التنافی بین الحکمین المتزاحمین إنما هو فی مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی الخارج اتفاقاً،و لا تنافی بینهما بالذات

ص:332

أبداً لا من ناحیة المبدأ و لا من ناحیة المنتهی،و هذا بخلاف باب التعارض، فان التنافی بین الحکمین فی هذا الباب بالذات،و قد ذکرنا ان ملاک أحد البابین أجنبی عن ملاک الباب الآخر بالکلیة.

الثالثة-ان ملاک التعارض و التزاحم لا یختص بوجهة نظر مذهب العدلیة، بل یعم جمیع المذاهب و الآراء کما تقدم.

الرابعة-أن منشأ التزاحم بین الحکمین بجمیع اشکاله إنما هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال.و اما ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من ان التزاحم بین الحکمین قد ینشأ من جهة أخری،لا من ناحیة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما،فقد تقدم انه غیر داخل فی باب التزاحم أصلا بل هو داخل فی باب التعارض الخامسة-ان مقتضی القاعدة فی مسألة التعارض هو تساقط الدلیلین المتعارضین عن الحجیة و الاعتبار.

السادسة-ان مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الکتاب أو السنة و بمخالفة العامة،و لیس غیرهما بمرجح.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان الترجیح بهما یختص بالخبرین المتعارضین فلا یعم غیرهما.و من ناحیة ثالثة ان المراد بالمخالفة للکتاب أو السنة فی روایات الترجیح لیس المخالفة علی وجه التباین أو العموم من وجه،ضرورة أن المخالفة علی هذا الشکل لم تصدر عنهم علیهم السلام أبداً،بل المراد منها المخالفة علی نحو العموم و الخصوص المطلق.

السابعة-ان مقتضی القاعدة فی التزاحم بین الحکمین هو التخییر،غایة الأمر علی القول بجواز الترتب التخییر عقلی،فانه نتیجة اشتراط التکلیف من الأول بالقدرة و لیس أمراً حادثاً،و علی القول بعد جوازه التخییر شرعی بمعنی ان الشارع قد حکم بوجوب أحدهما فی هذا الحال کما سبق.

الثامنة-قد ذکر شیخنا الأستاذ(قده)ان ما لا بدل له یتقدم علی ماله بدل فی مقام المزاحمة،و طبق هذه الکبری علی فروع ثلاثة:(1)-ان الواجب التخییری

ص:333

إذا زاحم ببعض افراده الواجب التعیینی فیقدم التعیینی علیه،و ان کان الواجب التخییری أهم منه.(2)-ما إذا دار الأمر بین صرف الماء فی تطهیر البدن أو فی الوضوء أو الغسل،و بما ان للثانی بدل فیقدم الأول علیه.(3)-ما إذا دار الأمر بین إدراک رکعة فی الوقت مع الطهارة المائیة و إدراک تمام الرکعات فیه مع الطهارة الترابیة فیقدم الثانی علی الأول،باعتبار ان له بدل.

و لکن ناقشنا فی جمیع هذه الفروع،و انه لیس شیء منها داخلا فی تلک الکبری.اما الأول فهو لیس من باب التزاحم فی شیء،لقدرة المکلف علی امتثال کلا التکلیفین معاً،و معه لا مزاحمة بینهما أصلا.و اما الثانی فلفرض ان لکل منهما بدلا،فکما ان للصلاة مع الطهارة المائیة بدلا،فکذلک للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب.هذا مضافاً إلی ما ذکرناه من انه لا یعقل التزاحم بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط لواجب واحد،کما تقدم.و اما الثالث فیرد علیه بعینه ما أوردناه من الإیرادین علی الفرع الثانی،و لکن مع ذلک یمکن الحکم بتقدیم إدراک تمام الرکعات فی الوقت مع الطهارة الترابیة علی إدراک رکعة واحدة مع الطهارة المائیة بملاک آخر،و هو انا إذا ضممنا ما یستفاد من قوله تعالی:«أقم الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل»بضمیمة الروایات الواردة فی تفسیره إلی قوله تعالی:«إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم...إلخ.فالنتیجة هی ان المکلف إذا تمکن فی الوقت من استعمال الماء فوظیفته الوضوء أو الغسل،و ان لم یتمکن من استعماله فوظیفته التیمم و إتیان الصلاة به،کما سبق.و قد تحصل من ذلک ان ما أفاده(قده)من الکبری،و هی تقدیم ما لیس له بدل علی ماله بدل متین جداً إلا انها لا تنطبق علی شیء من تلک الفروعات.

التاسعة-ان الواجبین المتزاحمین إذا کان أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً و الآخر مشروطاً بها عقلا،فیتقدم ما هو المشروط بالقدرة عقلا علی ما هو المشروط بها شرعاً،من دون فرق بین أن یکون متقدماً علیه زماناً أو متقارناً معه

ص:334

أو متأخراً عنه.

العاشرة-ان شیخنا الأستاذ(قده)قد أنکر جریان الترتب فیما إذا کان أحد المتزاحمین مشروطاً بالقدرة عقلا و الآخر مشروطاً بها شرعاً،بعد ما سلم تقدیم الأول علی الثانی.و قد ذکرنا ان ما أفاده(قده)یرتکز علی أصل خاطئ،و هو توهم ان الترتب إنما یجری فیما إذا أحرز ان فی کل من المتزاحمین ملاک فی هذا الحال و فی مثل المقام بما انه لا یمکن إحراز ان ما هو مشروط بالقدرة شرعاً واجد للملاک، فلا یمکن إثبات الأمر له بالترتب.و لکنه توهم فاسد.و الوجه فیه هو ان جریان الترتب فی مورد لا یتوقف علی إحراز الملاک فیه،لعدم الطریق إلیه أصلا مع قطع النّظر عن تعلق الأمر به،بل ملاک جریانه هو انه لا یلزم من اجتماع الأمرین علی نحو الترتب فی زمان واحد طلب الضدین،و علیه فالمتعین هو رفع الید عن إطلاق کلیهما فی فرض التساوی،و عن إطلاق أحدهما فی فرض کون الآخر أهم.

الحادیة عشرة-ان الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً یتقدم ما هو أسبق زماناً علی غیره.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری ان السبق الزمانی إنما یکون من المرجحات فیهما خاصة،لا فیما إذا کان مشروطاً بالقدرة عقلا،فانه لا أثر للسبق الزمانی فیه أصلا.

الثانیة عشرة-ان التزاحم بین وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر لا یکون من صغریات التزاحم بین الواجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،فان کونه من صغریات تلک الکبری یبتنی علی تفسیر الاستطاعة بالتمکن من أداء فریضة الحج عقلا و شرعاً کما هو المشهور،و لکن قد ذکرنا ان هذا التفسیر خاطئ بحسب الروایات،فان الاستطاعة قد فسرت فیها بالزاد الکافی لحجه و لقوت عیاله إلی زمان الرجوع،و الراحلة مع أمن الطریق.

الثالثة عشرة-ان وجوب النذر لا یکون مقدماً علی وجوب الحج زماناً سواء أقلنا بإمکان الوجوب التعلیقی أو استحالته،و المقدم إنما هو سببه و لا عبرة

ص:335

به،فاذن لا وجه لتقدیم وجوب النذر علی وجوب الحج،و إن قلنا بکونه مشروطاً بالقدرة شرعاً.

الرابعة عشرة-ان اشتراط وجوب النذر و ما شاکله بالقدرة شرعاً مستفاد من نفس الروایات الدالة علی عدم نفوذ ذلک فیما إذا کان مخالفاً للکتاب أو السنة.

الخامسة عشرة-ان الواجبات المجعولة فی الشریعة المقدسة بالعناوین الثانویة کالنذر و الشرط فی ضمن عقد و العهد و الیمین و ما شابه ذلک لا تصلح ان تزاحم الواجبات المجعولة فیها بالعناوین الأولیة کالصلاة و الصوم و الحج و ما شاکل ذلک.

السادسة عشرة-ان الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً إذا کانا عرضیین فیجری فیهما ما یجری فی المتزاحمین العرضیین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا من جریان الترتب فیهما و الترجیح بالأهمیة أو محتملها و کون التخییر بینهما عقلیاً لا شرعیاً.

السابعة عشرة-ان الواجبین المتزاحمین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا فان کان أحدهما أهم من الآخر فلا إشکال فی تقدیمه علی غیره و ان کان متأخراً عنه زماناً،و کذا إذا کان محتمل الأهمیة من جهة ان إطلاق الطرف الآخر ساقط یقیناً،و اما إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشکوک فیه،فنأخذ به و ان کانا متساویین فالحکم فیهما التخییر بمعنی تقیید وجوب کل منهما بعدم الإتیان بمتعلق الآخر.و اما بناء علی عدم إمکان الترتب فیدخل المقام فی دوران الأمر بین التخییر و التعیین فی مقام الامتثال.و قد ذکرنا ان المرجع فیه التعیین.نعم إذا کان الشک فیهما فی مقام الجعل بان کان المجعول غیر معلوم فتجری أصالة البراءة عن احتمال التعیین.

الثامنة عشرة-ان إحراز کون الواجب المتأخر ذو ملاک ملزم فی ظرفه بناء علی وجهة نظرنا من إمکان الواجب التعلیقی واضح،فان ثبوت الوجوب فعلا کاشف عنه لا محالة.و اما بناء علی عدم إمکانه،فان علم من الخارج انه واجد للملاک

ص:336

الملزم فی ظرفه فهو و إلا فلا نحکم بتقدیمه علی الواجب الفعلی،لعدم إحراز انه ذو ملاک ملزم فی زمانه.

التاسعة عشرة-ان القدرة المعتبرة فی الواجب المتأخر ان کانت قدرة خاصة و هی القدرة فی ظرف العمل فلا وجه لتقدیمه علی الواجب الفعلی و ان کان أهم منه بل الأمر بالعکس،لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له فی ظرفه.و قد رتبنا علی تلک الکبری عدة من الفروع التی تقدمت.

العشرون-انه لا فرق فی جریان الترتب بین الواجبین العرضیین،و الواجبین الطولیین فهما من هذه الناحیة علی نسبة واحدة خلافا لشیخنا الأستاذ(قده)حیث قد أنکر جریانه فی الواجبین الطولیین.

الواحدة و العشرون-ان موارد عدم قدرة المکلف علی الجمع بین جزءین أو شرطین أو جزء و شرط داخلة فی کبری باب التعارض فیرجع إلی قواعد ذلک الباب.

الثانیة و العشرون-ان إطلاق الکتاب یتقدم علی إطلاق غیره فی مقام المعارضة إذا لم یکن إطلاق غیره قطعیاً،کما إذا کان الدلیل الدال علی أحد الجزءین أو الشرطین إطلاقاً من الکتاب،و الدلیل الدال علی الآخر إطلاقاً من غیره،فیتقدم الأول علی الثانی فی هذه الموارد أعنی موارد عدم تمکن المکلف من الجمع بینهما بناء علی القول بالتعارض فیها دون القول بالتزاحم.

الثالثة و العشرون-ان موارد عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما تتصور علی صور:

1-عدم تمکنه من الجمع بین رکنین،فیدور الأمر بین سقوط هذا الرکن و سقوط الرکن الآخر.و قد عرفت ان المتعین فی هذه الصورة سقوط الصلاة، و لا موضوع لما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال.

2-عدم تمکنه من الجمع بین رکن بتمام مراتبه و بین مرتبة اختیاریة لآخر

ص:337

و قد سبق ان المتعین فی هذه الصورة سقوط تلک المرتبة.

3-عدم تمکنه من الجمع بین مرتبة اختیاریة لرکن و مرتبة اختیاریة لآخر.

و قد تقدم انه تقع المعارضة بین دلیلیهما،فالمرجع هو قواعد بابها.

4-عدم تمکنه من الجمع بین المرتبة الاختیاریة من الرکن و بین سائر الاجزاء أو الشرائط.و قد عرفت ان فی هذه الصورة أیضاً تقع المعارضة بین دلیلیهما،فلا بد من الرجوع إلی مرجحاتها علی تفصیل قد تقدم.

5-عدم تمکنه من الجمع بین رکن بعرضه العریض و بین بقیة الاجزاء أو الشرائط و قد سبق ان فی هذه الصورة لا بد من تقدیم الرکن علیها من جهة ما دل علی ان الصلاة لا تسقط بحال.

6-عدم تمکنه من الجمع بین الجزء و الشرط و قد عرفت ان الصحیح فی هذه الصورة أیضا وقوع المعارضة بین دلیلیهما،لا تقدم الجزء علی الشرط.

الرابعة و العشرون-انه إذا تعذر قید شرط أو جزء،فان کان مقوماً له فسقوطه لا محالة یوجب سقوط ذلک الشرط أو الجزء،و ان لم یکن مقوماً له فسقوطه لا یوجب سقوط ذلک أصلا،فاذن الساقط هو خصوص القید دون المقید.

الخامسة و العشرون-ان ما ذکره شیخنا الأستاذ(قده)من تطبیق کبری باب التزاحم علی تلک الفروعات غیر تام.و علی تقدیر التنزل و تسلیمه فما أفاده(قده) من المرجحات لتقدیم بعض الاجزاء أو الشرائط علی بعضها الآخر لا یتم علی إطلاقه،کما سبق بصورة مفصلة.

تذییل:و هو ان شیخنا الأستاذ(قده)قد قسم التزاحم إلی سبعة أقسام:

الأول-التزاحم بین الحکمین من غیر ناحیة عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما فی مقام الامتثال.و قد تقدم الکلام فیه مفصلا.و قلنا هناک انه لیس من التزاحم فی شیء،بل هو من التعارض فلاحظ.

الثانی-التزاحم فی الملاکات بعضها مع بعضها الآخر،کان یکون فی الفعل

ص:338

جهة مصلحة تقتضی إیجابه.وجهة مفسدة تقتضی حرمته،و هکذا.و قد سبق الکلام فیه أیضاً.و ذکرنا هناک أن هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الکلام بالکلیة،و ان الأمر فیه بید المولی.و علیه ان یلاحظ الجهات الواقعیة و الملاکات النّفس الأمریة الکامنة فی الأفعال الاختیاریة للعباد،فیجعل الحکم علی طبق ما هو الأقوی و الأهم منها دون غیره،و اما إذا لم یکن أحدهما أقوی من الآخر بل کانا متساویین.فلیس الحکم فی هذه الصورة التخییر.کما هو الحال فی التزاحم بین الأحکام بعضها مع بعضها الآخر.ضرورة ان التخییر فیها غیر معقول فلا معنی لتخییر المولی بین جعل الحکم علی طبق هذا و جعله علی طبق ذاک.فان جعله علی طبق کلیهما غیر معقول.و علی وفق أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح،مع انه بلا مقتض،فاذن یسقطان معاً،لأن الملاک المزاحم بالملاک الآخر لا أثر له أصلا،فعندئذ یمکن للمولی ان یجعل له الإباحة،و کیف کان فهذا التزاحم خارج عما نحن فیه،و لذا لا یمکن البحث عن جریان الترتب فیه و عدم جریانه،کما ان فی فرض التساوی بینهما لیس الحکم فیه التخییر مع انه مقتضی القاعدة فی التزاحم بین حکمین مجعولین،و فی فرض عدم التساوی الترجیح یکون بید المولی دون العبد، و هذا بخلاف التزاحم المبحوث عنه-هنا-.

الثالث-التزاحم الناشئ من عدم قدرة المکلف اتفاقاً،کما هو الحال فی التزاحم بین وجوب إنقاذ غریق و إنقاذ غریق آخر،فیما إذا لم یکن المکلف قادراً علی امتثال کلیهما معاً.

الرابع-التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بین الواجبین اتفاقاً،فان المضادة بینهما إذا کانت دائمیة فتقع المعارضة بین دلیلیهما،لوقوع المصادمة عندئذ فی مرحلة الجعل،لا فی مرحلة الامتثال و الفعلیة.

الخامس-التزاحم فی موارد اجتماع الأمر و النهی فیما إذا کانت هناک ماهیتان متعددتان،و لم نقل بسرایة الحکم من إحداهما إلی الأخری،بناء علی ما هو الصحیح

ص:339

من عدم سرایة الحکم من الطبیعة إلی مشخصاتها الخارجیة،فتقع المزاحمة بینهما، و هذا بخلاف ما إذا کانت هناک ماهیة واحدة،أو کانت ماهیتان متعددتان،و لکن قلنا بالسرایة،فعندئذ تقع المعارضة بین دلیلیهما.

السادس-التزاحم فی موارد التلازم الاتفاقی بین الفعلین،کما إذا کان أحدهما محکوماً بالوجوب و الآخر محکوماً بالحرمة،کاستقبال القبلة و استدبار الجدی لمن سکن العراق و ما والاه من البلاد لا مطلقاً،فإذا کان أحدهما محکوماً بالوجوب و الآخر محکوماً بالحرمة تقع المزاحمة بینهما،و هذا بخلاف ما إذا کان التلازم بینهما دائمیاً،فانه عندئذ یدخل فی باب التعارض.

السابع-التزاحم بین الحرام و الواجب فیما إذا کان الحرام مقدمة له،کما إذا توقف إنقاذ الغریق-مثلا-علی التصرف فی مال الغیر،هذا فیما إذا لم یکن التوقف دائمیاً،و إلا فیدخل فی باب التعارض.

و لکن قد أشرنا فیما تقدم ان تقسیمه(قده)التزاحم فی موارد عدم قدرة المکلف علی الجمع بین المتزاحمین إلی هذه الأقسام غیر صحیح.

اما أولا فلأنه لا أثر لهذا التقسیم أصلا،و لا تترتب علیه ایة ثمرة،و إلا لأمکن تقسیمه إلی أزید من ذلک کما سبق.

و أما ثانیاً-فلان أصل هذا التقسیم غیر صحیح.و ذلک لأن القسم الثانی و هو ما إذا کان التزاحم ناشئاً عن المضادة بین الواجبین اتفاقاً داخل فی القسم الأول.و هو ما إذا کان التزاحم فیه ناشئاً عن عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما اتفاقاً،بداهة ان التضاد بین فعلین من باب الاتفاق غیر معقول إلا من ناحیة عدم قدرة المکلف علیهما معاً،و لذا لا مضادة بینهما بالإضافة إلی من کان قادراً علیهما کذلک،فاذن لا معنی لجعله قسما آخر فی مقابل القسم الأول.

و اما ما ذکره(قده)من ان المضادة بین الفعلین إذا کانت دائمیة فتقع المعارضة بین دلیل حکمیهما،فهو إنما یتم فی الضدین الذین لا ثالث لهما و أما الضدین

ص:340

الذین لهما ثالث فلا یتم.و قد تقدم ذلک بشکل واضح فلا نعید.

و أما القسم الثالث و هو التزاحم فی موارد اجتماع الأمر و النهی علی القول بالجواز مع فرض عدم المندوحة فی البین فهو داخل فی القسم الرابع،و هو ما إذا کان التزاحم من جهة التلازم الاتفاقی بین الفعلین فی الخارج،ضرورة ان التزاحم فی موارد الاجتماع علی هذا القول أیضا من ناحیة التلازم بین متعلق الأمر و متعلق النهی فی الوجود الخارجی،فاذن لا معنی لجعله قسما علی حدة.

و نتیجة ما ذکرناه هی ان الصحیح تقسیم التزاحم إلی ثلاثة أقسام:

الأول-ما إذا کان التزاحم ناشئاً من عدم قدرة المکلف اتفاقاً.

الثانی-ما إذا کان الحرام مقدمة لواجب.

الثالث-ما إذا کان ناشئاً من التلازم الاتفاقی بین فعلین فی الخارج.

اما القسم الأول-فقد تقدم الکلام فیه بصورة مفصلة.

بقی شیء قد تعرض له شیخنا الأستاذ(قده)و هو ان التزاحم إذا کان بین واجبین طولیین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا،فان لم یکن الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذکر(قده)انه یتقدم الواجب المتقدم علی المتأخر، فلا وجه للتخییر أصلا،و لکن قد ذکرنا سابقاً انه لا وجه لما أفاده(قده) هنا بل المتعین فیه التخییر،فان المتقدم زماناً إنما یکون مرجحاً إذا کان کل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا فیما إذا کان مشروطا بها عقلا،فانه لا فرق فیه بین ان یکون التزاحم بین واجبین عرضیین أو طولیین أصلا،و اما إذا کان الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذکر(قده)أن فی هذه الصورة تقع المزاحمة بین وجوب الواجب المتقدم و وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر فی ظرفه،و بما ان الثانی أهم من الأول فیتقدم علیه،و هذا ظاهر.

و إنما الکلام و الإشکال فی انه هل یمکن الالتزام بالترتب فی هذا الفرض أعنی جواز تعلق الأمر بالواجب المتقدم مترتباً علی عصیان الأمر المتعلق بالواجب

ص:341

المتأخر أم لا وجهان بل قولان:

فقد اختار(قده)القول الثانی.و أفاد فی وجه ذلک هو ان القول بإمکان الترتب هنا یبتنی علی جواز الشرط المتأخر،بان یکون العصیان المتأخر شرطاً لتعلق الأمر بالمتقدم.و قد ذکرنا استحالته و انه غیر معقول.و دعوی-انه لا مانع من الالتزام بکون الشرط هو عنوان التعقب،کما التزمنا بذلک فی اشتراط التکلیف بالقدرة فی الواجبات التدریجیة کالصلاة و ما شاکلها.و علیه فلا یلزم الالتزام بالشرط المتأخر-یدفعها بان جعل عنوان التعقب شرطا یحتاج إلی قیام دلیل علیه، و لا دلیل فی المقام.و اما فی الواجبات التدریجیة فقد دل الدلیل علی ذلک.

الثانی-ان العمدة فی جواز تعلق الأمر بالضدین علی نحو الترتب هی ان الواجب المهم مقدور للمکلف فی ظرف عصیان الأمر بالواجب الأهم،و قابل لتعلق التکلیف به عندئذ،من دون ان یستلزم ذلک محذور طلب الجمع کما عرفت،نعم المهم إنما لا یکون مقدوراً فی ظرف امتثال الأمر بالأهم،و هذا لا یضر بعد ما کان مقدوراً فی ظرف عصیانه.و هذا الوجه غیر جار فیما نحن فیه،ضرورة أن عصیان الواجب المتأخر فی ظرفه لا یوجب قدرة المکلف علی الواجب المتقدم و جواز صرفها فی امتثاله،و المفروض ان الخطاب بحفظ القدرة علی الواجب المتأخر فعلی من ناحیة، و أهم من ناحیة أخری.و من المعلوم انه مع هذا الحال مانع من صرف القدرة فی الواجب المتقدم،و لا یکون المکلف فی هذا الحال قادراً علیه،لأنه معجز عنه، فلا یعقل تعلق الأمر به عندئذ،لاستلزامه طلب المحال،لفرض أنه مأمور فعلا بحفظ القدرة فی هذا الحال،فلو کان مع ذلک مأموراً بإتیان الواجب المتقدم، للزم المحذور المزبور.

و علی الجملة فملاک إمکان الترتب و هو کون المهم مقدوراً فی ظرف عصیان الأهم غیر موجود،هنا،و ذلک لأنه فی ظرف تحقق عصیان الواجب المتأخر و وجوده ینتفی الواجب المتقدم بانتفاء موضوعه،فلا یعقل کونه مقدوراً عندئذ

ص:342

ضرورة ان القدرة لا تتعلق بأمر متقدم منصرم زمانه،و اما فی ظرف الواجب المتقدم و قبل مجیء زمان عصیان الواجب المتأخر فهو مأمور بحفظ القدرة له فعلا، و معه أی-مع حفظ القدرة-لا یکون الواجب المتقدم مقدوراً،لیکون قابلا لتعلق الأمر به.

و تخیل-ان الشرط إنما هو العزم و البناء علی عصیان المتأخر فی ظرفه،لا نفس العصیان و علیه فلا یلزم المحذور المزبور-فاسد،و ذلک لأن الشرط لو کان هو العزم و البناء علی العصیان لا نفسه،للزم طلب الجمع بین الضدین،لفرض ان کلا الأمرین فی هذا الآن فعلی،اما الأمر بالأهم فلفرض عدم تحقق عصیانه بعد، فلا موجب لسقوطه،و اما الأمر بالمهم فلفرض تحقق شرطه و هو العزم و البناء علی العصیان.

فقد تحصل مما ذکرناه انه کما لا یمکن ان یکون عصیان الواجب المتأخر فی ظرفه شرطا،کذلک لا یمکن ان یکون العزم علیه شرطاً.

الثالث-ان توهم کون الشرط لتعلق الأمر بالمتقدم إنما هو عصیان الأمر بحفظ القدرة للمتأخر،أو العزم علی عصیانه،و علی هذا فلا محذور فی البین، و أن المحذور إنما هو علی أساس کون الشرط له عصیان الأمر بالمتأخر لا أصل له أبداً.

و الوجه فیه اما کون العزم علی عصیانه فقد عرفت ان شرطیته تستلزم طلب الجمع بین الضدین،و لا یعقل ان یکون شرطا،لأنه خلاف مفروض القول بالترتب.و أما عصیانه المتحقق باعمال القدرة فی غیر الأهم فشرطیته غیر معقولة، و ذلک لأن المکلف فی ظرف ترک التحفظ بقدرته للواجب المتأخر،لا یخلو أمره من ان یصرفها فی المهم أو ان یصرفها فی فعل آخر،ضرورة ان عصیان الأمر به لا یتحقق إلا بصرفها فی أحدهما. و علیه فیستحیل اشتراط الأمر بالمهم به علی کلا التقدیرین.

ص:343

اما علی الأول(و هو اشتراطه بالعصیان المتحقق بفعل المهم)فلأنه یستلزم اشتراط الأمر بالشیء بوجوده و تحققه فی الخارج،و هو محال،لأنه طلب الحاصل و أما علی الثانی(و هو اشتراطه بالعصیان المتحقق بفعل آخر)فلأنه یستلزم تعلق الأمر بالمحال،لأن فی فرض صرف المکلف قدرته فی فعل آخر یستحیل له الإتیان بالمهم،لفرض انه لیس له إلا قدرة واحدة،فلو صرف تلک القدرة فی غیره،فلا محالة لا یقدر علیه،مع انه لا معنی لاشتراط الأمر بالمهم بصرف القدرة فیما هو أجنبی عن الأهم و المهم معاً.

و نتیجة ما ذکرناه هی انه لا یمکن الترتب فی أمثال هذا المورد،بل یتعین حفظ القدرة للواجب المتأخر.

و للمناقشة فیما أفاده(قده)مجال واسع.

اما ما أفاده أولا من ان القول بالترتب هنا یرتکز علی القول بجواز الشرط المتأخر، و هو محال فیرده ما حققناه فی بحث الواجب المطلق و المشروط من انه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر،و انه بمکان من الإمکان،غایة الأمر ان وقوعه فی الخارج یحتاج إلی دلیل و المفروض أن الدلیل علیه فی المقام موجود،و هو ان العقل مستقل بلزوم التحفظ بخطاب المولی بالمقدار الممکن،و لا یجوز رفع الید عنه بوجه من الوجوه أی لا عن أصله و لا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة.و علیه فإذا وقعت المزاحمة بین التکلیفین لا یتمکن المکلف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال،لا مناص له من الالتزام بالاخذ بأحدهما معیناً،إذا کان واجداً للترجیح،کما إذا کان أهم، و رفع الید عن الآخر،و لکن حینئذ یدور الأمر بین أن یرفع الید عن أصله أو عن إطلاقه،و بما انا قد حققنا إمکان الترتب،و قد ذکرنا ان معناه عند التحلیل عبارة عن تقیید إطلاق الأمر بالمهم بترک امتثال الأمر بالأهم،و عدم الإتیان بمتعلقه فی الخارج،و قد قلنا ان هذا التقیید لیس تقییداً حادثاً بحکم العقل،بل هو نتیجة اشتراط التکلیف بالقدرة،فلا محالة یکون المرفوع هو إطلاقه

ص:344

لا أصله،ضرورة ان رفع الید عند عندئذ بلا موجب و مقتض،و هو غیر جائز، و هذا معنی الدلیل علی وقوع هذا الشرط.

أو فقل ان اشتراط التکلیف بالمتقدم بعصیان الواجب المتأخر،و عدم الإتیان بمتعلقه علی نحو الشرط المتأخر أمر ممکن فی نفسه،و لکن وقوعه فی الخارج یحتاج إلی دلیل،و الدلیل علی وقوعه فی المقام هو نفس البناء علی إمکان الترتب و جوازه،لما عرفت من ان حقیقة الترتب ذلک الاشتراط و التقیید، و لا نعنی به غیر ذلک.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری قد ذکرنا ان إمکان الترتب یکفی لوقوعه،فلا یحتاج وقوعه فی الخارج إلی دلیل خاص. و علیه فیلتزم بوقوع ذلک الاشتراط لا محالة،و هذا واضح.

و لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا استحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام بکون الشرط هو عنوان التعقب،و ذلک لأنه إذا بنینا علی إمکان الترتب و ان الساقط إنما هو إطلاق الخطاب دون أصله،فلا بد من التحفظ علیه بحکم العقل بشکل من الإشکال،فإذا فرض انه لم یمکن تقیید إطلاقه بعصیان التکلیف بالمتأخر فلا مناص من الالتزام بتقییده بعنوان التعقب،أو بالغرم علی عصیانه فما ذکره (قده)من ان اشتراط التکلیف به یحتاج إلی دلیل خاص لا یرجع إلی معنی محصل، ضرورة انه بعد البناء علی أن الساقط هو إطلاق الخطاب لا أصله من ناحیة، و عدم إمکان اشتراطه و تقییده بعصیان التکلیف بالمتأخر من ناحیة أخری،لم یکن مناص من الالتزام بتقییده بعنوان التعقب أو العزم علی عصیانه،لأنه المقدار الممکن.و من المعلوم ان هذا لا یحتاج إلی دلیل خاص فی المقام.

و بکلمة أخری انا قد ذکرنا سابقاً ان کون أحد الخطابین مشروطاً بترک امتثال الآخر و عدم الإتیان بمتعلقه فی الخارج لم یرد فی لسان دلیل من الأدلة، لنقتصر علی مقدار مدلوله،و نأخذ بظاهره،بل هو من ناحیة حکم العقل بعدم إمکان تعلق الخطاب الفعلی بأمرین متضادین،إلا علی هذا الفرض و التقدیر،

ص:345

ضرورة استحالة تعلقه بکل منهما مطلقاً و فی عرض الآخر.و علیه فإذا لم یمکن تقیید إطلاق الخطاب بالمهم بترک امتثال خطاب الأهم و عصیانه من جهة استلزامه جواز الشرط المتأخر-و هو ممتنع علی الفرض-یستقل العقل بتقییده بالعزم علیه أو بعنوان التعقب بعین هذا الملاک و هو ان الساقط إطلاقه دون أصله،ضرورة أن هذا یقتضی تقییده بشیء ما،و لا فرق بین أن یکون التقیید بهذا أو بذاک بنظر العقل أبداً،فاذن لا موجب لرفع الید عن أصل الأمر بالمهم،ضرورة انه بلا مقتض، بل لا بد من تقییده بشیء کالعزم علی المعصیة،أو عنوان التعقب بها أو نحو ذلک.

و اما ما ذکره(قده)من ان شرطیة العزم تستلزم طلب الجمع بین الضدین فلا یمکن المساعدة علیه.و الوجه فیه هو ان ذلک یبتنی علی نقطة واحدة و هی ان یکون العزم بحدوثه شرطاً لفعلیة الأمر بالمهم،فوقتئذ لا محالة یلزم طلب الجمع بینهما ضرورة ان بعد حدوثه یصیر الأمر بالمهم فعلیاً و مطلقاً،کالأمر بالأهم فیقتضی کل منهما إیجاد متعلقه فی الخارج فی عرض الآخر و علی نحو الإطلاق، و هو معنی طلب الجمع،إلا ان تلک النقطة خاطئة جداً و غیر مطابقة للواقع.و ذلک لأن الشرط لیس هو حدوث العزم آنا ما،بل الشرط هو العزم علی المعصیة علی نحو الدوام و الاستمرار،بمعنی ان حدوثه شرط لحدوث الأمر بالمهم و بقاءه شرط لبقائه.

و بکلمة أخری انه لا فرق بین کون الأمر بالمهم مشروطاً بالعزم علی العصیان أو بنفس العصیان من هذه الناحیة أصلا،لما ذکرناه سابقاً من ان الشرط لفعلیة الأمر بالمهم لیس حدوث العصیان آنا ما،و إلا لزم المحذور المزبور و هو طلب الجمع بین الضدین فی الآن الثانی و الثالث.و هکذا،لفرض ان الأمر بالمهم فی هذا الآن و لو مع ارتفاع العصیان فیه باق علی حاله،و المفروض ان الأمر بالأهم أیضا موجود فی هذا الآن فاذن یجتمع الأمر بالمهم و الأمر بالأهم فی زمان واحد علی نحو الإطلاق،و هو غیر معقول،فاذن لا فرق بین کون الشرط هو العزم علی

ص:346

عصیان الأمر بالأهم أو نفس عصیانه فی النقطة المزبورة،فان الالتزام بتلک النقطة فی شرطیة کلا الأمرین یستلزم محذور طلب الجمع،من دون فرق بینهما من هذه الناحیة أبداً.

و لکن العجب من شیخنا الأستاذ(قده)انه کیف التزم بتلک النقطة فی شرطیة العزم،و لأجلها قال بعدم إمکان کونه شرطاً لاستلزامه المحذور المذکور غافلا عن ان الالتزام بهذه النقطة فی شرطیة نفس العصیان أیضاً یستلزم ذلک،فلا فرق بینهما من هذه الجهة أصلا.

و لکن بما ان تلک النقطة خاطئة کما عرفت فلا مانع من الالتزام بکون العزم شرطاً علی الشکل المتقدم،و لا یلزم معه طلب الجمع،و ذلک لما تقدم بصورة مفصلة من ان الأمر بالمهم بما انه مشروط بعصیان الأمر بالأهم أو بالعزم علی عصیانه،فلا یلزم من اجتماعهما فی زمان واحد طلب الجمع،بل هو مناف و مضاد له،کما سبق.

و اما ما أفاده(قده)ثانیاً من ان الترتب إنما یجری فیما إذا کان المهم مقدوراً فی ظرف عصیان الأمر بالأهم و عدم الإتیان بمتعلقه،و فی المقام بما ان الأمر لیس کذلک،فلا یمکن الالتزام بالترتب فیه،فقد ظهر فساده مما ذکرناه من انه لا مانع من الالتزام بکون عصیان الواجب المتأخر فی ظرفه شرطاً لوجوب الواجب المتقدم علی نحو الشرط المتأخر،بناء علی ما حققناه من إمکانه،غایة الأمر وقوعه فی الخارج یحتاج إلی دلیل،و فی المقام الدلیل علی وقوعه موجود،و هو عدم جواز رفع الید عن أصل التکلیف ما دام یمکن التحفظ علیه بنحو من الأنحاء،و هنا یمکن التحفظ علیه علی نحو الالتزام بالشرط المتأخر.

و دعوی ان المعتبر فی جریان الترتب ان یکون المهم مقدوراً فی ظرف عصیان الواجب الأهم،و فی المقام بما انه لا یکون مقدوراً فی ظرف عصیانه، فلا یجری فیه الترتب.

ص:347

مدفوعة بان المهم و ان لم یکن مقدوراً فی ظرف عصیان الأهم،ضرورة استحالة تعلق القدرة بأمر متقدم منصرم زمانه،إلا انه مقدور فی ظرفه عقلا و شرعاً.اما عقلا فواضح.و اما شرعاً فلفرض انه فی نفسه أمر سائغ و مشروع و علیه فلا مانع من تعلق الأمر به علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم فی ظرفه.

و تخیل ان وجوب حفظ القدرة له معجز عن الإتیان بالمهم،فلا یکون معه قادراً علیه شرعاً فاسد جداً،و ذلک لأن وجوب حفظ القدرة له لو کان مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم و موجباً لخروجه عن القدرة،لکان وجوب الأهم فیما إذا کان فی عرض المهم أیضاً کذلک،ضرورة ان الأمر بالأهم لا یسقط بمجرد عصیانه، و لذا قلنا ان لازم القول بالترتب هو اجتماع الأمر بالأهم و الأمر بالمهم فی زمان واحد.و علیه فإذا فرض ان وجوب حفظ القدرة للواجب الأهم فیما إذا کان متأخراً عن المهم زماناً مانع عن تعلق الأمر بالمهم و معجز عنه شرعاً.لکان وجوب الأهم فیما إذا کان مقارناً معه زماناً أولی بالمنع و التعجیز عنه،مع أنه(قده)قد التزم بالترتب فی هذا الفرض أعنی ما إذا کان الواجب الأهم مقارناً مع المهم زماناً، و بذلک نعلم ان الأمر بالأهم فی ظرف عصیانه لا یکون مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم و لا یوجب عجز المکلف عنه شرعاً.

و السر فی ذلک واضح و هو ان الأمر بالأهم إنما یمنع عن تعلق الأمر بالمهم إذا کان فی عرضه و علی الإطلاق،لا فیما إذا کان فی طوله و علی نحو الترتب،لما عرفت من عدم التنافی بین مقتضی الأمرین کذلک.و علیه فلا یکون الأمر بالأهم معجزاً مولویاً عن الإتیان بالمهم علی الشکل المزبور،لیکون مانعاً عن تعلق الأمر به فما أفاده(قده)من ان العمدة فی القول بجواز الترتب هو کون المهم مقدوراً فی ظرف عصیان الأمر بالأهم،ان أراد بذلک ان الأمر بالأهم قد سقط فی هذا الظرف و علیه فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم،فهو خلاف فرض القول بالترتب فان لازم هذا القول کما عرفت هو اجتماع کلا الأمرین فی زمان واحد،و عدم

ص:348

سقوط الأمر بالأهم بالعصیان،لما تقدم من ان الأمر به مطلق بالإضافة إلی حالتی امتثاله و عصیانه،و حالتی الإتیان بالمهم و عدم إتیانه،فالالتزام بسقوط الأمر بالأهم فی ظرف عصیانه و الإتیان بالمهم مناف للالتزام بالقول بالترتب،ضرورة ان تعلق الأمر بالمهم فی ظرف سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الکلام فی جواز الترتب و عدم جوازه،کما تقدم ذلک بصورة مفصلة،فلاحظ.و ان أراد ان الأمر بالأهم باق فی هذا الحال کما هو المفروض و مع ذلک لا مانع من تعلق الأمر بالمهم علی نحو الترتب،و ان الأمر بالأهم لا یکون مانعاً منه،و لا یوجب عجز المکلف عنه،فنقول ان وجوب حفظ القدرة أیضا کذلک،بمعنی انه لا یکون مانعاً منه،لفرض انه لا تنافی بین الأمر بالمهم و وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم فی ظرفه علی هذا التقدیر-أی علی تقدیر عصیانه و عدم الإتیان بمتعلقه فی زمانه.نعم لو کان الأمر به فی عرضه و علی نحو الإطلاق لکان مانعاً منه و غیر جائز قطعاً.

فالنتیجة علی ضوء ما ذکرناه قد أصبحت ان ما أفاده شیخنا الأستاذ(قده) لا یرجع بالتحلیل العلمی إلی معنی محصل أصلا.

و ثانیاً لو تنزلنا عن ذلک و سلمنا ان الشرط المتأخر غیر جائز،إلا انه لا مانع من الالتزام بکون الشرط لتعلق الأمر بالمهم هو عنوان تعقبه بعصیان الأهم فی ظرفه،أو بالعزم علی عصیانه،ضرورة انه لا موجب لرفع الید عن إطلاق دلیله(دلیل وجوب المهم)بالإضافة إلی هذا الحال-أعنی حال تعقبه بعصیان الأهم أو بالعزم علیه-فاللازم إنما هو رفع الید عن إطلاقه بمقدار تقتضیه الضرورة و من المعلوم انها لا تقتضی أزید من رفع الید عن إطلاقه بالإضافة إلی حال امتثال الواجب الأهم فی ظرفه لا مطلقاً.

فالنتیجة هی لزوم التحفظ علی أصل الدلیل و الخطاب و رفع الید عن إطلاقه، فان إطلاقه منشأ التزاحم دون أصله،فرفع الید عنه بلا موجب،و هو غیر جائز.

ص:349

و اما ما ذکره ثالثاً من ان الأمر بالمهم لا یمکن ان یکون مشروطاً بعصیان الأمر بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم،لأن ترک التحفظ علی القدرة له اما بصرفها فی الواجب المهم،أو بصرفها فی شیء آخر،فعلی الأول،یلزم اشتراط وجوب الشیء بوجوده فی الخارج،و هو محال،و علی الثانی یلزم التکلیف بالمحال ضرورة ان مع صرف القدرة فی غیر المهم یستحیل المهم.

فیرد علیه ان ما أفاده(قده)إنما یتم بناء علی الالتزام بنقطة واحدة،و هی ان یکون ترک التحفظ علی القدرة للواجب المتأخر عین صرفها فی الواجب المتقدم المهم،أو صرفها فی شیء آخر،فعندئذ یلزم المحذور الّذی أفاده(قده)إلا ان تلک النقطة خاطئة جداً و بعیدة عن الواقع بمراحل،و ذلک ضرورة ان ترک التحفظ علی القدرة لیس عین فعل المهم أو فعل آخر،فان معنی التحفظ هو إبقاء القدرة علی حالها و عدم إعمالها فی شیء،و هو ملازم هنا لترک المهم و عدم الإتیان به فی الخارج و معنی ترک التحفظ بها عدم إبقائها علی حالها و هو ملازم فی المقام لفعل المهم أو لفعل آخر،لا انه عینه،کما هو واضح.

و علیه فلا یلزم من اشتراط وجوب المهم بترک التحفظ اشتراط وجوب الشیء بوجوده و تحققه،لیقال انه محال،بل الحال هنا عندئذ کالحال فی بقیة موارد التزاحم.-مثلا-إذا وقعت المزاحمة بین وجوب الصلاة فی آخر الوقت و وجوب الإزالة،فکما ان ترک الصلاة فی الخارج ملازم اما لفعل الإزالة فیه أو لفعل غیرها،فکذلک ترک التحفظ علی القدرة ملازم فی الخارج اما لفعل المهم أو لفعل غیره،فکما انه لا مانع من اشتراط وجوب الإزالة بترک الصلاة،فکذلک لا مانع من اشتراط وجوب المهم بترک التحفظ.

فما أفاده شیخنا الأستاذ(قده)من ان عصیان وجوب حفظ القدرة اما ان یتحقق بصرف القدرة فی المهم أو بصرفها فی فعل آخر،و علی کلا التقدیرین لا یعقل اشتراط الأمر بالمهم به لا یرجع إلی معنی صحیح،و ذلک لأن عصیانه

ص:350

یتحقق بترکه،أی بترک التحفظ،غایة الأمر انه فی الخارج ملازم اما لفعل المهم أو لفعل غیره،کما هو الحال فی بقیة موارد التزاحم من دون فرق بینهما من هذه الناحیة أصلا،لا ان عصیانه عین فعل المهم فی الخارج أو عین فعل آخر،لئلا یمکن اشتراط وجوبه به،و هذا لعله من الواضحات الأولیة،فاذن لا مانع من الاشتراط المزبور من ناحیة ما أفاده(قده).

و لکن یمکن منعه من ناحیة أخری،و هی ان وجوب حفظ القدرة لیس وجوباً شرعیاً مولویاً،بل وجوبه وجوب عقلی.و علیه فلا معنی لوقوع المزاحمة بینه و بین وجوب المهم،ضرورة انه لا شأن للوجوب العقلی،الا إدراکه حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم،فاذن لا محالة تکون المزاحمة بین وجوب المهم و وجوب الأهم فی ظرفه،و معه یکون وجوب المهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم و عدم الإتیان بمتعلقه فی الخارج،و لا معنی لاشتراط وجوبه بعصیان وجوب حفظ القدرة،لما عرفت من ان وجوبه عقلی و لا واقع موضوعی له ما عدا إدراک العقل،و لا یکون فی مخالفته عصیان.

نعم لو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام بکون وجوبه مشروطاً بترک حفظ القدرة خارجاً،کما انه لا مانع من الالتزام بکونه مشروطاً بعنوان التعقب أو العزم علی العصیان.

و اما القسم الثانی-و هو ما إذا وقعت المزاحمة بین حرمة المقدمة و وجوب ذیها فقد تقدم الکلام فیه فی بحث مقدمة الواجب بصورة مفصلة،فلا حاجة إلی الإعادة فلاحظ.

و اما القسم الثالث-و هو ما إذا وقعت المزاحمة بین فعلین متلازمین فی الخارج اتفاقاً،کما إذا کان أحدهما محکوماً بالوجوب و الآخر محکوماً بالحرمة،کاستقبال القبلة و استدبار الجدی لمن سکن العراق و ما والاه من البلاد لا مطلقاً،فلا بد فیه أیضا من الرجوع إلی قواعد و مرجحات بابها،فان کان أحدهما أهم من الآخر

ص:351

فیقدم علیه و ان کانا متساویین فیحکم بالتخییر بینهما،و لا إشکال فیه من هذه الناحیة أصلا،و إنما الکلام فیه من ناحیة أخری،و هی انه هل یمکن الالتزام بالترتب فیه أم لا؟ فنقول:انه لا یمکن الالتزام به أصلا.و الوجه فی ذلک واضح،و هو انه لا یعقل ان تکون حرمة استدبار الجدی مشروطة بعصیان الأمر باستقبال القبلة و عدم الإتیان بمتعلقه،ضرورة ان ترک استدبار الجدی فی هذا الحال قهری و معه لا معنی للنهی عنه،فانه لغو محض و طلب للحاصل،فلا یصدر من الحکیم، و کذا لا یعقل ان یکون وجوب استقبال القبلة مشروطاً بعصیان النهی عن استدبار الجدی و الإتیان بمتعلقه،بداهة انه ضروری الوجود عند عصیان النهی عن الاستدبار،و معه لا یمکن تعلق الأمر به،لأنه لغو و طلب للحاصل.

فالنتیجة هی انه لا یمکن الالتزام بالترتب فی خصوص هذا الصنف من المتلازمین لا من جانب واحد و لا من جانبین،و هذا واضح.

بقی هنا شیء،و هو ان شیخنا الأستاذ(قده)قد أنکر جریان الترتب فی موارد اجتماع الأمر و النهی بناء علی القول بالجواز و وقوع المزاحمة بینهما.و بیان ذلک هو انه لو قلنا بان الترکیب بینها اتحادی کما اختاره المحقق صاحب الکفایة(قده) بدعوی ان تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون فتدخل المسألة فی کبری باب التعارض،فلا بد من الرجوع إلی قواعد ذلک الباب،و اما ان قلنا بان الترکیب بینهما انضمامی بان تکون هناک ماهیتان متعددتان ذاتاً و حقیقة،و لکن بنینا علی سرایة الحکم من إحداهما إلی الأخری،فائضاً تدخل فی ذلک الباب،و تقع المعارضة بین دلیلیهما فلا بد من الرجوع إلی قواعدها.و أما إذا بنینا علی عدم السرایة کما هو الصحیح،فعندئذ ان کانت هناک مندوحة فلا تزاحم أیضا،لفرض قدرة المکلف علی امتثال کلا الحکمین معاً،و أما إذا لم تکن مندوحة فی البین فتقع المزاحمة بینهما، فاذن لا بد من الرجوع إلی مرجحات و قواعد بابها.و هذا لا کلام فیه،و إنما

ص:352

الکلام فی ناحیة أخری،و هی انه هل یمکن الالتزام بالترتب فیه أم لا؟ فقد ذکر شیخنا الأستاذ(قده)انه لا یمکن الالتزام بالترتب فیه ببیان ان عصیان النهی فی مورد الاجتماع أما ان یکون بإتیان فعل مضاد للمأمور به فی الخارج و هو الصلاة-مثلا-کان یشتغل بالأکل أو الشرب أو ما شاکل ذلک،و اما ان یکون بنفس الإتیان بالصلاة،و علی کلا التقدیرین لا یمکن أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً به،اما علی التقدیر الأول فلأنه یلزم ان یکون الأمر بأحد الضدین مشروطاً بوجود الضد الآخر،و هذا غیر معقول،لأن مردّه إلی طلب الجمع بین الضدین فی الخارج،لفرض انه امر بإیجاد ضد علی تقدیر وجود ضد آخر.و اما علی التقدیر الثانی،فلأنه یلزم ان یکون الأمر بالشیء مشروطاً بوجوده فی الخارج،و هو غیر معقول،لأنه طلب الحاصل.کما لا یخفی.

و لکن للمناقشة فیما أفاده(قده)مجال واسع.و هی ان المنهی عنه فی المقام إنما هو الکون فی الأرض المغصوبة،لأنه تصرف فی مال الغیر حقیقة و مصداق للغصب.و من الواضح جداً انه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة علی عصیان النهی عنه،کان یقول المولی لا تکن فی أرض الغیر و ان کنت فیها فتجب علیک الصلاة،فیکون الأمر بالصلاة معلقاً علی عصیان النهی عن الکون فیها، و لا یلزم من اشتراط امرها بعصیانه أحد المحذورین المذکورین،أعنی بهما لزوم طلب الجمع بین الضدین،و اشتراط الأمر بالشیء بوجوده و تحققه فی الخارج.

و الوجه فی ذلک هو ان لزوم المحذور الأول یبتنی علی رکیزة واحدة و هی ان یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بتحقق أحد الأفعال الخاصة فیها کالأکل و النوم و الشرب و ما شاکل ذلک،فان اشتراط امرها به لا محالة یستلزم المحذور المزبور و هو طلب الجمع بین الضدین،ضرورة ان مرد هذا الاشتراط إلی تعلق الأمر بالصلاة علی تقدیر تحقق أحد تلک الأفعال الخاصة المضادة لها،إلا ان تلک الرکیزة خاطئة جداً و لیس لها واقع موضوعی،و ذلک لما عرفت من ان الأمر

ص:353

بالصلاة مشروط بالکون فی الأرض المغصوبة،لا بأحد تلک الأفعال الخاصة الوجودیة.و لذا لو فرض خلو المکلف عن جمیع تلک الأفعال الخاصة،فمع ذلک کونه فیها تصرف فی مال الغیر و مصداق للغصب و علی ضوء هذا الأصل فلا مانع من تعلق الأمر بالصلاة علی تقدیر تحقق عصیان النهی عن الکون فیها،فإذا تحقق تحقق الأمر بها لا محالة.

و بعبارة أخری المفروض ان المکلف قادر علی الصلاة عند کونه فی الأرض المغصوبة و ان فرض کونه فی ضمن أحد الأفعال المزبورة،لفرض انه قادر علی ترکه و الاشتغال بالصلاة،و مع القدرة علیها لا مانع من الأمر بها.

و من ذلک یظهر الفرق بین اشتراط الأمر بالصلاة بالکون فی الأرض المغصوبة و اشتراطه بأحد الأفعال الخاصة الوجودیة فیها کالأکل و الشرب و ما شاکلهما،و هو ان الأمر بالصلاة لو کان مشروطاً بأحد تلک الأفعال الخاصة المضادة لها فلا محالة یلزم محذور طلب الجمع بین الضدین،و ذلک لفرض ان الأمر بالصلاة عندئذ تابع لتحقق ذلک الفعل المضاد لها فی الخارج حدوثاً و بقاء بمعنی ان حدوثه موجب لحدوث الأمر بها و بقاءه موجب لبقاء الأمر بها.و علیه فلا محالة یلزم طلب الجمع بین الضدین،و هذا بخلاف ما إذا کان مشروطاً بالکون فیها لفرض انه لیس مضاداً لها،فانه کما یتحقق فی ضمنها کذلک یتحقق فی ضمن غیرها من الأفعال الوجودیة،فاذن لا یلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به المحذور المتقدم.

و سره ما أشرنا إلیه من انه إذا تحقق الکون فی الأرض المغصوبة تحقق الأمر بها،و مع تحقق الأمر بها لا محالة یجب إتیانها و ترک غیرها من الأفعال الخاصة، و ذلک لفرض ان فعلیة امرها تدور مدار تحقق الکون فیها حدوثاً و بقاء.

و لکن العجب من شیخنا الأستاذ(قده)فانه کیف غفل عن هذه النقطة و قال ان اشتراط الأمر بالصلاة بعصیان النهی عن الکون فی الأرض المغصوبة المتحقق فی ضمن أحد الأفعال الخاصة یرجع إلی طلب الجمع بین الضدین،مع انه

ص:354

فرق واضح بین اشتراط الأمر بها بعصیان النهی عن الکون فیها،و اشتراط الأمر بها بعصیان النهی عن أحد تلک الأفعال الوجودیة،فان الأول لا یستلزم طلب الجمع دون الثانی،کما هو واضح.

و أما لزوم المحذور الثانی،فهو یبتنی علی ان یکون الکون فی الأرض المغصوبة عین الصلاة خارجاً و متحداً معها،و هذا خلاف مفروض الکلام،فانه فیما إذا کان لکل منهما وجود مستقل،غایة الأمر أن وجود أحدهما و هو الصلاة فی الخارج ملازم لوجود الآخر فیه و هو الغصب،و لأجل ذلک تقع المزاحمة بینهما و قد تقدم ان مورد الاجتماع علی القول بالاتحاد داخل فی کبری باب التعارض دون التزاحم.و اما علی القول بالجواز و تعدد المجمع فحیث ان الکون و الصلاة فی مورد الاجتماع من المتلازمین الذین لهما ثالث فلا مانع من أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً بعصیان النهی عن الکون فیها،ضرورة ان المکلف عند الکون فیها قادر علی إتیان الصلاة.هذا من ناحیة.و من ناحیة أخری المفروض ان الصلاة سائغة فی نفسها و لیست مبغوضة و مصداقاً للمحرم.

فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی انه لا مانع من تعلق الأمر بالصلاة مترتباً علی عصیان النهی عن الکون فیها بناء علی ما حققناه من إمکان الترتب و انه لا مناص من الالتزام به.و اما محذور اشتراط الأمر بالشیء بتحققه و وجوده فی الخارج إنما یلزم فی المقام بناء علی ان یکون الأمر بالصلاة فیها مشروطاً بالصلاة فیها و هو من الفساد بمکان من الوضوح.نعم لو فرض ان الکون فی الأرض المغصوبة ملازم للصلاة خارجاً،بحیث لا یمکن تحققه فیها بدونها أصلا،لکان مرد اشتراط الأمر بالصلاة بعصیان النهی عنه إلی ذلک لا محالة،إلا انه فرض خاطئ جداً و غیر مطابق للواقع قطعاً.

ثم انه لو تنزلنا عن ذلک و فرضنا عدم إمکان الترتب من هذا الطرف أعنی ترتب الأمر بالصلاة علی عصیان النهی عن الکون فی الأرض المغصوبة،إلا أنه

ص:355

لا مانع من الالتزام به من الطرف الآخر،و هو ترتب حرمة الکون فیها علی عصیان الأمر بالصلاة و عدم الإتیان بمتعلقه فی الخارج،فیما إذا کان أهم منها أو مساویاً لها،ضرورة انه لا یلزم من الالتزام بالترتب فی هذا الطرف أی محذور توهم لزومه من الالتزام به فی ذاک الطرف.و هذا واضح.

فالنتیجة قد أصبحت مما ذکرناه انه لا مانع من الالتزام بالترتب فی موارد الاجتماع علی القول بالجواز بناء علی وقوع التزاحم بین الحکمین.و لکن قد ذکرنا ان هذا لیس قسما آخر للتزاحم بل هو داخل فی التزاحم بین الفعلین المتلازمین اتفاقاً نلخص نتیجة ما ذکرناه فی عدة نقاط:

الأولی-ان تقسیم التزاحم إلی سبعة أقسام کما عن شیخنا الأستاذ غیر صحیح الثانیة-ان الصحیح تقسیمه إلی ثلاثة أقسام کما تقدم منا.

الثالثة-لا فرق فی جریان الترتب بین الواجبین یکون کل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا ان یکونا عرضیین أو طولیین،و علی التقدیر الثانی لا یفرق بین ان یکون الواجب المتأخر أهم من المتقدم أو یکون مساویاً له،خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث قد منع عن جریان الترتب فیهما مطلقاً،و قد استدل علی ذلک بوجوه،و قد تقدمت المناقشة فی جمیع تلک الوجوه،فلاحظ.

الرابعة-ان الترتب لا یجری فی المتلازمین یکون أحدهما محکوماً بالحرمة و الآخر محکوماً بالوجوب و کانا مما لا ثالث لهما،کاستقبال القبلة و استدبار الجدی لمن سکن العراق و ما سامته من البلاد.

الخامسة-ان الترتب یجری فی المتلازمین یکون بینهما ثالث کما فی موارد اجتماع الأمر و النهی علی القول بالجواز،مع فرض عدم وجود مندوحة فی البین، خلافاً لشیخنا الأستاذ(قده)حیث قد أنکر جریان الترتب فیهما کما سبق هذا آخر ما أوردناه فی بحث الضد.

إلی هنا قد تم بعون اللّه تعالی و توفیقه الجزء الثالث من کتاب(محاضرات فی أصول الفقه)و ستتلوه الاجزاء التالیة إن شاء اللّه تعالی.

ص:356

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.