المباحث الاصولیه (محمد اسحاق فیاض کابلی) المجلد 3

اشارة

سرشناسه:فیاض، محمداسحاق، 1934 - م

عنوان و نام پدیدآور: المباحث الاصولیه/ تالیف محمداسحاق الفیاض.

مشخصات نشر:قم: دفتر آیه الله العظمی الشیخ محمداسحق الفیاض(دام ظله)

مشخصات ظاهری:15 ج.

شابک:دوره 964-06-9191-7 : ؛ ج.1 964-06-9188-7 : ؛ ج. 2 964-06-9189-5 : ؛ ج. 3 964-06-9190-9 : ؛ ج. 12 978-600-90462-1-8 : ؛ ج.14 978-964-8238-59-4 : ؛ ج.15 978-964-8238-93-8 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم: 1382.

یادداشت:ج. 1- 3 ( چاپ دوم: 1385) .

یادداشت:ج. 12 (چاپ اول: 1389).

یادداشت:ج.15 (چاپ اول: 1395).

یادداشت:جلد دوازدهم کتاب حاضر توسط انتشارات عزیزی منتشر خواهد شد.

یادداشت:جلد چهاردهم و پانزدهم کتاب توسط انتشارات صاحب الامر (عج) منتشر شده است.

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج.15. التعارض و الترجیح

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:دفتر آیت الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

رده بندی کنگره:BP159/8/ف 9م 2 1300 ی

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 82-18593

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

المباحث الاصولیه

تالیف محمداسحاق الفیاض

ص :4

مبحث الأوامر

اشارة

یقع الکلام هنا فی مقامات:

المقام الأول فی تعیین مدلول مادة الأمر سعةً وضیقاً.

المقام الثانی فی تعیین مدلول صیغة الأمر کذلک.

المقام الثالث فی منشأ دلالة الأمر مادةً وهیئةً علی الوجوب وکیفیة تفسیر هذه الدلالة وتحدید منشأها.

المقام الرابع فی أن الطلب مغایر للارادة أو لا؟

المقام الأول: فی تعیین مدلول مادة الأمر سعةً و ضیقاً

اشارة

أما الکلام فی المقام الأول فیقع فی عدة جهات:

الجهة الاُولی: معانی المادة الامر

قد ذکر لمادة الأمر عدة معان، منها الطلب ومنها الفعل ومنها الشأن ومنها الغرض ومنها الحادثة ومنها الواقعة ومنها الفعل العجیب ومنها الشیء وهکذا(1).

ولا شک فی أن أکثر هذه المعانی لیس معنی الأمر، وإنما یستفاد فی موارد استعماله من دال آخر، کما فی قوله تعالی: (وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا )(2) ، فان الفعل العجیب إنما هو مستفاد من دال آخر فی الآیة، لا من کلمة الأمر، وکذا قوله عز وجل: (أَ تَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ )(3) ، ومن هذا القبیل استفادة الغرض من کلمة اللام فی قولنا جئتک لأمر کذا، وکذلک الحال بالنسبة إلی الحادثة والواقعة والفعل

-

.

ص:5


1- (1) - انظر هداید المسترشدین: 129 (نشر مؤسسة آل البیت علیهم السلام)
2- (2) - سورة هود: 94.
3- (3) - سورة هود: 73.

والشأن، فیکون کل ذلک من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، لأن احتمال أن لفظ الأمر موضوع بازاء مفاهیم هذه الألفاظ بالحمل الأولی غیر محتمل، لأمرین:

الأول: عدم تبادر هذه المفاهیم من لفظ الأمر عند اطلاقه.

الثانی: إن لازم ذلک أن یکون لفظ الأمر مرادفاً مع ألفاظ هذه المعانی وهو کماتری، واحتمال أنه موضوع بازاء واقع مفاهیمها بالحمل الشایع فأیضاً غیر محتمل، لأنه لو کان موضوعاً بازاء واقعها، لزم أن یکون بالوضع العام والموضوع له الخاص، ونتیجة ذلک اجمال لفظ الأمر وعدم دلالته علی شیء من مصادیق تلک المعانی إلا بقرینة معینة، وهذا خلاف الوجدان، لأن المتبادر منه عند الاطلاق هو الطلب اذا لم تکن هناک قرینة علی الخلاف.

فالنتیجة، أن الأمر لم یوضع بإزاء هذه المعانی لا بالحمل الأولی الذاتی ولا بالحمل الشائع الصناعی.

والخلاصة، أن من یدعی أن هذه المعانی من معانی الأمر، إن أراد أن الأمر موضوع بإزائها بالحمل الأولی الذاتی، فیرد علیه ما عرفتم، وإن أراد أنه موضوع بإزائها بالحمل الشائع، فقد مرّ أنه باطل.

الجهة الثانیة: اشتراک مادة الامر لفظا بین الطلب و الشیء

هل یمکن أن یکون الأمر مشترکاً لفظیاً بین الطلب والشیء، فیه قولان:

القول الأول: إنه مشترک لفظی بین المعنیین.

القول الثانی: إنه مشترک معنوی بینهما.

أما القول الأول، فقد اختار جماعة من المحققین منهم المحقق صاحب

ص:6

الکفایة (قدس سره)(1) وقد استدلوا علیه بأمرین:

الأول: اختلاف الأمر بمعنی الطلب عن الأمر بمعنی الشیء فی صیغة الجمع. فإن الأول یجمع علی الأوامر والثانی علی الأمور.

وهذا شاهد علی اختلافهما فی المعنی بالحمل الأولی، ضرورة أن المعنی لوکان واحداً فمن المستبعد جداً اختلافهما فی الجمع، إذ لایحتمل تعدد الجمع بلحاظ تعدد المصادیق واختلافها فإنه غیر معهود فی اللغة.

الثانی: أن الأمر بمعنی الطلب من المشتقات وقابل للتصریف والاشتقاق، والأمر بمعنی الشیء من الجوامد وغیر قابل للصرف، ومن الواضح أن اشتراکهما فی معنی واحد غیر معقول(2). وغیر خفی أن هذین الأمرین وإن کانا یدلان علی اختلافهما فی المعنی، إلا أنهما لا یدلان علی أن الأمر مرادف للشیء فی المعنی ومساوق له فی المفهوم، فلوکان الأمر مشترکاً لفظیاً بین الطلب والشیء، کان یساوق مفهوم الشیء بعرضه العریض، مع أن الأمر لیس کذلک، ضرورة أنه یصح اطلاق الشیء علی الأعیان بینما لا یصح اطلاق الأمر علیها، ومن هنا صح أن یقال زید شیء ولم یصح أن یقال زید أمر، واذا رأی شخص فرساً عجیباً صح أن یقال رأیت شیئاً عجیباً ولم یصح أن یقال رأیت أمراً عجیباً.

فالنتیجة أن الأمر لایمکن أن یکون مساوقاً للشیء بعرضه العریض، ومن هنا اختلف المحققون فی المعنی الآخر للأمر، فذهب المحقق النائینی (قدس سره) إلی أنه الواقعة والحادثة مطلقاً أو الواقعة والحادثة الخطیرة المهمّة(3). والمحقق

-

.

.

ص:7


1- (1) - کفایة الاُصول: 62. طبع مؤسسة آل البیت (علیهم السلام)
2- (2) - انظر محاضرات فی اصول الفقه 7:2
3- (3) - أجود التقریرات 131:1.

الأصبهانی (قدس سره) إلی أنه الفعل والحدث(1) وبعض الأعاظم إلی أنه أعمّ من الواقعة والحادثة المهمة والفعل والحدث ومع ذلک لایکون مساوقاً للشیء. وقد استدل علی أنه أعم من الحادثة المهمة بأنه لاتناقض فی قولنا کلام فلان أمر غیر مهم أو الواقعة الفلانیة أمر غیر خطیر وهکذا، کما أنه استدل علی أنه أعم من الفعل بقوله اجتماع النقیضین أمر محال أو شریک الباری أمر محال وهکذا، وعدم اشتراک زید فی المجلس الفلانی أمر عجیب، مع أن المحال لیس واقعة أو فعلا، فلا یصحّ أن یقال اجتماع النقیضین فعل مستحیل أو واقعة مستحیلة وکذلک العدم(2). وغیر خفی أن ذلک بالنسبة إلی المحال بالذات وإن کان صحیحاً، ولکنه لایصح بالنسبة إلی العدم مطلقاً لأن العدم الخاص قد یتصف بالحادثة والواقعة المهمة وغیر المهمة، فیصح أن یقال إن عدم حضور الشخص الفلانی مثلا فی الجلسة الکذائیة حدث مهم أو واقعة تاریخیة وهکذا هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد ظهر مما ذکرناه أن الأمر لایکون مساوقاً للحادثة والواقعة المهمة ولا للحدث والفعل، ومن ناحیة ثالثة الظاهر أن النسبة بین الأمر والشیء عموم من وجه، فإن الشیء یصدق علی الأعیان دون الأمر بینما الأمر یصدق علی الفعل التکوینی المضاف إلی الفاعل دون الشیء کقوله تعالی: (أَ تَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ )(3) فإنه لایصح أن یقال أتعجبین من شیء الله، ومثله قوله تعالی: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی )(4) إذ لایصح أن یقال قل الروح من شیء ربّی، ومن هذا القبیل أیضاً قوله تعالی: (لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ )(5) ، فانه لایصح

-

ص:8


1- (1) - نهایة الدرایة 250:1. طبع مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).
2- (2) - بحوث فی علم الاُصول 12:2.
3- (3) - سورة هود (11):73.
4- (4) - سورة الأسراء (17):85.
5- (5) - سورة الأعراف (7):54.

اطلاق الشیء بدل الأمر. ومنه قولنا أمر فلان مستقیم فانه لایصح أن یقال شیء فلان مستقیم.

إلی هنا قد تبین أن الأمر مشترک لفظی بین الأمر بالمعنی الحدثی وهو حصة خاصة من الطلب والأمر بالمعنی الجامد الجامع بین الحادثة والواقعة الخطیرة وغیرها والفعل.

الجهة الثالثة: اشتراک مادة الامر معنی بین الطلب و غیره

هل یمکن أن یکون الأمر مشترکاً معنویاً بین الطلب ومعنی آخر، فیه قولان: فذهب المحقق الأصبهانی والمحقق النائینی (قدس سرهما) إلی القول الأول.

أما المحقق الأصبهانی (قدس سره) فقد حاول إلی توحید معنی الأمر بالتقریب التالی، فانه (قدس سره) بعدما بنی علی أن معنی الآخر للأمر هو الفعل، قال أن مرد الأمر بالآخرة إلی معنی واحد وهو الفعل فی مقابل الصفات والأعیان، واطلاق الطلب علی الفعل باعتبار أنه مورد للطلب التشریعی والتکوینی، بینما الصفات والأعیان لاتصلح أن تکون مورداً لهما ومعرضاً لذلک، فالأمر یطلق بمعناه المصدری المبنی للمفعول علی الأفعال کاطلاق المطلب والمطالب علی الأفعال الواقعة فی معرض الطلب، کما یقال رأیت الیوم مطلباً عجیباً، یراد منه فعل عجیب، والحاصل أن نفس موردیة الفعل ومعرضیته لتعلق الطلب والارادة به تصحح اطلاق المطلب والمقصد والأمر علیه وإن لم یکن هناک قصد ولاطلب متعلق به(1). وملخص ما أفاده (قدس سره) أن المعنی الآخر للأمر هو الفعل واستعمال الأمر فیه یرجع بالآخرة إلی استعماله فی الطلب بنحو من العنایة وهو المطلب والمقصد، فالجامع بین المعنیین هو المطلب الذی یصدق علی الفعل، باعتبار أنه فی معرض الطلب والارادة.

ویرد علیه أولا: مضافاً إلی أن هذا التأویل والتصرف بحاجة إلی عنایة زائدة

-

ص:9


1- (1) - نهایة الدرایة 252:1.

إنه بدون مبرر، لأن هذا المعنی المؤل لیس معنی الأمر جزماً، ضرورة أن المتبادر والمنسبق من الأمر عرفاً لیس هو المطلب ومعرضیة الفعل للطلب والارادة، فلا یکون موضوعاً بإزائه حتی یکون مشترکاً معنویاً.

وثانیاً: أن الأمر یستعمل فیما لایمکن أن یتعلق به الطلب والارادة کما فی مثل قولنا اجتماع النقیضین أمر مستحیل وشریک الباری أمر محال، فانه لا یعقل معرضیة اجتماع النقیضین وشریک الباری للطلب والارادة.

والخلاصة، أنه لا شبهة فی صحة استعمال الأمر فیما یستحیل أن یکون مطلوباً ومراداً کالأشیاء غیر الاختیاریة التی لایمکن أن تکون فی معرض الطلب والارادة هذا، اضافة إلی أن تعدد الجمع دلیل علی تعدد المعنی کما مرّ.

وأما المحقق النائینی (قدس سره) فقد حاول إلی توحید معنی الأمر بتقریب آخر وهوأن الطلب لیس معنی الأمر برأسه فی قبال معنی الواقعة والحادثة، بل هو مصداق من مصادیقها، فإذن الأمر موضوع لمعنی واحد کمفهوم الواقعة أو الحادثة وهو ینطبق علی الطلب کما ینطبق علی غیره. فاذن لایکون الطلب من معنی الأمر بل هو مصداق من مصادیق معناه(1).

ویرد علیه أولا: أن الطلب معناه لغة وعرفاً هو السعی والتصدی وراء المقصود لا الواقعة والحادثة، فان کان ذلک بشکل مباشر کطالب الضالة وطالب الماء، باعتبار أنه یسعی ویتصدی بنفسه وراء ضالته وبشکل مباشر فهو طلب تکوینی، وإن کان بتحریک غیره فهو طلب تشریعی، فمفهوم الطلب واحد وهو السعی والتصدی وراء المقصود والمطلوب، وهذا المفهوم الواحد کما ینطبق علی السعی والتصدی التکوینی الخارجی، کذلک ینطبق علی السعی والتصدی

-

ص:10


1- (1) - أجود التقریرات: 131.

التشریعی الاعتباری المتمثل فی أمر المولی، فالأمر مصداق للطلب، فان الآمر یسعی ویتصدی لتحریک غیره وراء الشیء المقصود والمطلوب بأمره المتجه إلیه.

وثانیاً: أن المتبادر من الأمر والمنسبق منه حصة خاصّة من الطلب مباشرة لا الواقعة المهمة، وهذا دلیل علی أنه معناه الموضوع له لا أنه من مصادیقه.

وثالثاً: أن الطلب معنی حدثی قابل للتصریف والاشتقاق، وأما الواقعة فهی معنی جامد، ومن الواضح أن الجامع الذاتی بین المعنی الحدثی والمعنی الجامد غیر متصور.

ورابعاً: أن اختلافهما فی الجمع أظهر شاهد علی عدم وحدة معنی الأمر، إذ لوکان المعنی واحداً فلایمکن أن یکون تعدد الجمع واختلافه بلحاظ اختلاف مصادیقه، لأن ذلک غیر معهود فی اللغة.

وخامساً: أن اطلاق الأمر علی الطلب لوکان باعتبار أنه مصداق للواقعة، لم یکن فرق بین الطلب التشریعی والطلب التکوینی، فکما أن الأول مصداق للواقعة فکذلک الثانی، مع أن الأمر لایصدق علی الطلب التکوینی، فإذا طلب شخص مالا من آخر، فلا یقال أنه أمره به.

فالنتیجة، أن ما أفاده المحقق النائینی (قدس سره) من أن معنی الأمر معنی واحد وهو الواقعة والحادثة والاختلاف إنما هو فی مصادیقه، مما لا یمکن المساعدة علیه.

فالصحیح، ما ذکرناه من أن الأمر مشترک لفظی بین المعنی الحدثی وهو حصة خاصة من الطلب وبین المعنی الجامد الذی ینطبق علی الفعل والحادثة والواقعة والشأن والغرض والمحال والعدم وهکذا، وهو معنی موسع وإن لم یکن مرادفاً للشیء ولیس مشترکاً معنویاً.

ص:11

الجهة الرابعة: دلالة مادة الامر علی الوجوب

لا شبهة فی أن المتبادر والمنسبق عرفاً من مادة الأمر إذا کانت صادرة من المولی هو الطلب الحتمی اللزومی، والنکتة فی ذلک أن مولویة المولی ولا سیما إذا کانت ذاتیة کمولویة الله - سبحانه عزّ وجل - مساوقة للزوم والوجوب، فاذا صدر أمر من مولی ولم تکن قرینة متصلة علی الاستحباب دل علی الوجوب بلا شبهة، ومن هنا لم یستشکل فقیه فی دلالة الأمر الوارد فی لسان الشارع علی الوجوب عند عدم القرینة علی الاستحباب.

فالنتیجة، أنه لا شبهة فی دلالة الأمر علی الوجوب. نعم، هناک کلام فی کیفیة تفسیر هذه الدلالة وتحدید منشأها وسوف یأتی البحث عن ذلک فی ضمن البحوث القادمة.

المقام الثانی: معنی صیغة الامر

اشارة

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو تعیین مدلول صیغة الأمر سعةً وضیقاً، فقد تقدم فی ضمن البحوث السالفة أن صیغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبیة بین المادة والمخاطب وتدل علیها فی وعاء الطلب والانشاء وبذلک تمتاز علی اختیها الماضی والمضارع، باعتبار أنهما تدلان علی النسبة فی وعاء التحقق والاخبار، کما أنها تمتاز عن مادة الأمر فی أن مدلولها معنی حرفی وهو النسبة المذکورة، بینما یکون مدلول المادة معنی اسمی وهو مفهوم الطلب الخاص هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری، أنه لا شبهة فی أن المتبادر من صیغة الأمر والمنسبق منها ارتکازاً عرفاً وفطرة إذا کان فی نصوص الکتاب والسنة عند عدم القرینة علی الاستحباب هو طلب المادة من المخاطب بنحو الحتم واللزوم، وهذا التبادر کاشف عرفاً عن أن صیغة الأمر موضوعة للوجوب بالمعنی الحرفی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری، قد تبین أن المدلول الوضعی التصوری لمادة الأمر الطلب

ص:12

الخاص بالمعنی الاسمی، وبصیغة الأمر النسبة الطلبیة الخاصة بالمعنی الحرفی لا ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، فهنا دعویان:

الاُولی: أن المدلول الوضعی للأمر مادة وهیئة هو الطلب الخاص، غایة الأمر أنه علی الأول معنی اسمی، وعلی الثانی معنی حرفی، ونتیجة کلا المعنیین واحدة وهی الوجوب.

الثانیة: أن المدلول الوضعی له لیس هو قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی.

أما الدعوی الاُولی فقد عرفت وجهها وهو تبادر الطلب المولوی منه المساوق للوجوب عرفاً عند الاطلاق وعدم القرینة علی الاستحباب بدون فرق فی ذلک بین مادة الأمر وهیئته.

وإن شئت قلت أن الأمر مادة وهیئة متقوم ذاتاً بصدوره من المولی بعنوان المولویة، وهذا معنی اعتبار العلو فی صدق الأمر وعدم کفایة الاستعلاء فقط، ومن هنا لا یصدق الأمر علی طلب المستعلی إذا لم یکن عالیاً واقعاً إلاّ بالعنایة والمجاز، وحینئذ فاذا صدر أمر من المولی کان المتبادر منه الوجوب.

وأما الدعوی الثانیة التی اختارها السید الاُستاذ (قدس سره) فهی ترتکز علی مقدمتین:

الاُولی: مبنیة علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع، حیث إنه فی ذلک الباب قد اختار أن الوضع هو التعهد(1) ، فلذلک التزم بأن الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة، وإن الأمر موضوع مادة وهیئة للدلالة علی قصد ابراز الأمر

-

ص:13


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 44:1 و 45.

الاعتباری النفسانی.

الثانیة: أن الانشاء لیس عبارة عن ایجاد المعنی باللفظ، وذلک لأنه إن ارید بالایجاد، الایجاد التکوینی، فهو غیر معقول، بداهة أنه تابع لسلسلة علله التکوینیة واللفظ لیس داخلا فی تلک السلسلة. وإن ارید به الایجاد الاعتباری، فهو بید المعتبر وجوداً وعدماً، سواءً کان هناک لفظ یتلفظ به أم لا، ومن هنا قال (قدس سره): إن الانشاء عبارة عن ابراز الأمر الاعتباری النفسانی(1). وعلی هذا فالأمر مادة وهیئة موضوع للدلالة علی قصد ابرازه فی الخارج، فاذا اعتبر المولی فعلا علی ذمة المکلف کان ابرازه فی الخارج بمبرز ما من مادة الأمر أو هیئته أو ما یقوم مقامها انشاء، ولکن کلتا المقدمتین غیر صحیحة.

أما المقدمة الأولی فقد تقدم الکلام فیها فی باب الوضع وقلنا هناک بأن حقیقة الوضع لیست هی التعهد والالتزام النفسانی، بل هی تخصیص اللفظ بالمعنی اعتباراً وخارجاً بشکل جاد ومؤکد علی تفصیل قد مر هناک(2) ، ومن أجل ذلک قلنا فی باب الوضع أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لا تصدیقیة، وعلیه فلایمکن القول بأن الأمر موضوع مادة وهیئة للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، فانه مبنی علی مسلک التعهد وهو غیر صحیح، وتمام البحث فی ذلک قد سبق فی باب الوضع.

وأما المقدمة الثانیة فهی مبنیة علی تفسیر الایجاد فی کلام المشهور (الانشاء ایجاد المعنی باللفظ) بالایجاد التصدیقی، فمن أجل ذلک أورد علیه بأن ما هو المشهور فی تفسیر الانشاء من ایجاد المعنی باللفظ اما غیر معقول إن ارید بالایجاد

-

.

ص:14


1- (1) - المصدر المتقدم: 88
2- (2) - راجع الأجزاء السابقة.

الایجاد التکوینی، أو غیر صحیح إن ارید به الایجاد الاعتباری(1).

ولکن من الواضح أن هذا التفسیر منه (قدس سره) خاطیء جداً، فانه لا ینسجم مع المسلک المشهور فی باب الوضع، فان الدلالة الوضعیة علی المشهور دلالة تصوریة لا تصدیقیة، وعلی هذا فحیث أن إیجاد المعنی فی کلام المشهور مدلول اللفظ کالصیغ الانشائیة أو ما یقوم مقامها، فلا محالة یکون المراد منه الایجاد التصوری دون التصدیقی، إذ لا یعقل أن یکون المدلول الوضعی علی المشهور مدلولا تصدیقیاً أو مقیداً بقید تصدیقی، فاذن لا یمکن أن یکون المراد من الایجاد فی کلامهم الایجاد التصدیقی، وإلاّ لزم خلف فرض کون المدلول الوضعی عندهم مدلولا تصوریاً لا تصدیقیاً، وعلیه فلا أصل للتفسیر المذکور. هذا من ناحیة،

ومن ناحیة أخری أنه لا بأس بتفسیر المشهور الانشاء بایجاد المعنی باللفظ أو ما یقوم مقامه فی الجملة، وذلک لأن معنی إیجادیة المعنی الانشائی أنه سنخ معنی یوجد مصداقه بنفس أداة الانشاء فی وعائه المناسب له، فالأمر مادة وهیئة موضوع للطلب الخاص المساوق للوجوب عند عدم القرینة علی الخلاف، فاذا صدر من المولی فی مورد فقد أوجد فرداً من هذا الطلب الخاص فیه بنفس هذا الأمر فی وعاء الانشاء والطلب، مثلا معنی النکاح سنخ معنی یوجد مصداقه بنفس صیغة النکاح کقولک أنکحت وزوّجت وما شاکل ذلک معقباً بالقبول فی وعاء الانشاء، وکذلک الحال فی معنی البیع والشراء ونحوهما.

وإن شئت قلت أن صیغة الانشاء مستعملة فی معناها الموضوع له الفانی فی مصداق له یوجد بنفس هذه الصیغة فی وعائه المناسب، مثلا جملة بعت موضوعة لتملیک عین بعوض، فاذا استعمل البائع هذه الجملة فی مقام البیع وقال

-

ص:15


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 88:1.

بعت هذا الفرس مثلا بکذا، فقد أوجد فرداً من تملیک عین بعوض فی عالم الانشاء بنفس هذه الصیغة، وجملة أنکحت موضوعة لزوجیة المرأة للرجل، فاذا استعمل العاقد هذه الجملة وقال أنکحت المرأة المعلومة من الرجل المعلوم فقد أوجد فرداً من الزوجیة والعلاقة بینهما فی عالم الانشاء بنفس هذه الجملة، وصیغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبیة، فاذا صدرت من المولی بعنوان المولویة فقد أوجد فرداً ومصداقاً من تلک النسبة بها فی عالم الطلب والبعث، ومعنی هذا لیس استعمال الجملة الانشائیة فی الفرد والمصداق، بل هی مستعملة فی معناها الموضوع له فانیاً فی مصداق یوجد بنفس الجملة فی عالم التصور واللحاظ. وهذا هو معنی إیجادیة المعنی الانشائی، ومن ذلک یظهر أن الصحیح فی تفسیر الانشاء أن یقال، أنه إیجاد مصداق المعنی باللفظ أو ما یقوم مقامه فی الوعاء المناسب له، باعتبار أن اللفظ لا یعقل أن یکون علة وسبباً لوجود معناه فی وعائه، بداهة أن المعنی لابد أن یکون ثابتاً فیه لکی یکون اللفظ موضوعاً بازائه ودالا علیه، مثلا جملة بعت موضوعة لتملیک عین بعوض وتدل علیه فانیاً فی مصداقه الذی وجد بنفس الجملة تصوراً وتصدیقاً، حیث أن شأن کل مفهوم هو الفناء فی مصداقه والمرآة له فی موطنه حتی فی مرحلة التصور.

والخلاصة: أن الانشاء إیجاد مصداق المعنی باللفظ أو ما یقوم مقامه فی عالم التصور دون ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه متمثل فی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج، فان تفسیره بذلک بلا مبرر حتی علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع، فان لازم هذا المسلک کون المدلول الوضعی مدلولا تصدیقیاً، وإما کونه قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج فهو لایقتضی ذلک. اذ کما یمکن أن یکون مدلولها ذلک یمکن أن یکون مدلولها إیجاد مصداق المعنی فی عالم التصدیق، بل الثانی هو المتفاهم العرفی من الجمل الانشائیة بمعنی أن المتبادر منها

ص:16

عرفاً هو إیجاد مصداق المعنی باللفظ أو ما یقوم مقامه، غایة الأمر بناء علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع أن هذا الایجاد إیجاد تصدیقی لاتصوری.

نتائج البحث

إلی هنا قد وصلنا إلی النتائج التالیة:

الاُولی: أن أکثر المعانی التی ذکرت لمادة الأمر لیس معنی لها جزماً، إذ احتمال أنها موضوعة بازائها بالحمل الأولی الذاتی أو الشایع الصناعی غیر محتمل کما تقدم.

الثانیة: أنها مشترکة بین معنیین:

أحدهما: الطلب الخاص الذی هو معنی حدثی قابل للتصریف والاشتقاق.

ثانیهما: المعنی الجامد الذی هو غیر قابل للتصریف، وهذا المعنی الجامد لیس مرادفاً للشیء لأنه یصدق علی الأعیان دون الأمر، فإذن تفسیره بالشیء غیر صحیح، بل الظاهر أن النسبة بینهما عموم من وجه، فإن الشیء یصدق علی الأعیان دون الأمر والأمر یصدق علی الفعل المضاف إلی الفاعل مطلقاً دون الشیء علی ما مرّ تفصیله آنفاً.

الثالثة: أن ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن المعنی الآخر للأمر هو الواقعة المهمة غیر تام، إذ الأمر یصدق علی الشیء غیر المهم بدون تهافت وعلی المحال، کقولنا: «شریک الباری أمر محال» مع عدم صدق الواقعة المهمة علیه، کما أن ما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أن المعنی الآخر له الفعل غیر تام، لأنه أعم منه لصدقه علی المحال بینما لا یصدق الفعل علیه هذا، والظاهر أنه معنی عام ینطبق علی الواقعة المهمة وغیرها وعلی الفعل والشأن والفعل العجیب والمحال والعدم وهکذا.

ص:17

الرابعة: أن محاولة المحقق النائینی والمحقق الأصبهانی (قدس سرهما) إلی ارجاع المعنیین المذکورین إلی معنی واحد لا ترجع إلی معنی صحیح کما تقدم.

الخامسة: أن معنی الطلب لغة وعرفاً هو السعی وراء المقصود، غایة الأمر إن کان ذلک بشکل مباشر کطالب الضالة فهو طلب تکوینی، وإن کان بتحریک غیره فهو طلب تشریعی.

السادسة: أنه لا شبهة فی أن المتبادر عرفاً من مادة الأمر هو الطلب الخاص بالمعنی الاسمی المساوق للوجوب إذا لم تکن قرینة علی الخلاف.

السابعة: أن صیغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبیة بین المادة والمخاطب وتدل علیها فی وعاء الطلب وبذلک تمتاز عن أختیها الماضی والمضارع، وهذه النسبة الطلبیة مساوقة للوجوب إذا لم تکن هناک قرینة علی الخلاف.

الثامنة: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الأمر مادة وهیئة موضوع للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی غیر تام، لأنه مبنی علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع، وقد مرّ عدم صحة هذا المسلک.

المقام الثالث: کیفیة دلالة الأمر مادة و هیئة علی الوجوب

اشارة

وأما الکلام فی المقام الثالث فبعد ما عرفت من دلالة الأمر مادة وهیئة علی الوجوب، وقع الخلاف بین الاُصولیین فی کیفیة تفسیر هذه الدلالة وتحدید منشأها علی أقوال.

القول الأول: أن منشأ هذه الدلالة الوضع.

القول الثانی: أن منشأها الاطلاق ومقدمات الحکمة.

القول الثالث: أن منشأها حکم العقل.

أن منشأ هذه الدلالة الوضع

أما القول الأول: فلا شبهة فی دلالة مادة الأمر علی الوجوب اذا وردت من

ص:18

قبل الشرع عند عدم القرینة علی الخلاف، وهذه الدلالة مستندة إلی نفس اللفظ لا إلی جهة خارجة عنه کالاطلاق بمقدمات الحکمة أو حکم العقل. والوجه فی ذلک ما عرفت من أن المتبادر والمنسبق منه عرفاً ارتکازاً وفطرة هو الطلب اللزومی، ولا یتوقف هذا التبادر والانسباق علی شیء غیر صدوره من المولی وعدم القرینة علی الخلاف، وهذا معنی کون دلالة الأمر علی الوجوب إنما هی بالوضع لا بالاطلاق ومقدمات الحکمة ولا بحکم العقل.

وأما صیغة الأمر فقد تقدم أنها موضوعة للدلالة علی النسبة الطلبیة بین المادة والمخاطب وتدل علی تلک النسبة فی وعائها، فاذا استخدمها المولی فی مقام البعث والطلب بعنوان المولویة صدق علیها عنوان الأمر، فاذا صدق علیها ذلک کان المتبادر منها عرفاً وارتکازاً هو نسبة إیجاد المادة إلی المخاطب بنحو اللزوم والوجوب، ولا تتوقف هذه الدلالة علی شیء ماعدا صدورها من المولی وعدم نصب قرینة علی الترخیص فی الترک، فالنتیجة أن منشأ دلالة الأمر مادة وهیئة علی الوجوب انما هو الوضع لا غیره.

رای المحقق العراقی

أما القول الثانی: وهو أن منشأ دلالة الأمر مادة وهیئة علی الوجوب انما هو الاطلاق ومقدمات الحکمة فقد اختاره المحقق العراقی (قدس سره)(1) وله فی المقام دعویان:

الاُولی: أن الأمر لا یدل علی الوجوب بالوضع.

الثانیة: أنه یدل علیه بالاطلاق ومقدمات الحکمة.

أما الدعوی الاُولی فقد أفاد (قدس سره) فی وجهها، أنه لا شبهة فی صدق الأمر حقیقة علی الطلب الصادر من المولی وإن کان ندبیّاً، فلو کان الأمر حقیقة فی

-

ص:19


1- (1) - مقالات الاُصول 208:1 و 222.

الوجوب وموضوعاً بازائه لم یصح اطلاقه علی الطلب الندبی إلاّ بالعنایة والمجاز، وعلیه فصحة اطلاق الأمر علی الطلب الندبی حقیقة قرینة واضحة علی أن الأمر موضوع للطلب الجامع بین الوجوب والندب، ویؤید ذلک تقسیم الطلب إلیهما(1).

ویرد علیه أنه مصادرة واضحة، فان صحة اطلاق الأمر حقیقة علی الطلب الندبی منوط بکون الأمر موضوعاً للجامع بین الوجوب والندب، وأما اذا کان موضوعاً للوجوب فقط فیکون اطلاقه علی الطلب الندبی مجازاً، ومن الواضح أن اطلاق الأمر علی الطلب الندبی حقیقه لیس أمراً مسلماً لکی یجعل ذلک قرینة علی أنه لا یدل علی الوجوب ولم یوضع بازائه.

فالنتیجة: أنه لا یمکن اثبات وضع الأمر للجامع بصحة اطلاقه علی الطلب الندبی حقیقة لأنه دوری، علی أساس أن صحة اطلاقه کذلک متوقفة علی وضعه للجامع وإلا لم یصح إلاّ بالعنایة والمجاز، فلوکان وضعه للجامع متوقفاً علیها لدار. وأما صحة التقسیم فهی لاتصلح أن تکون مؤیدة، لأنها لا تدل علی أکثر من استعمال الأمر فی الجامع وهو أعم من الحقیقة.

وأما الدعوی الثانیة وهی أن دلالة الأمر علی الوجوب إنما هی بالاطلاق ومقدمات الحکمة، فیمکن تقریب ذلک بعدة وجوه:

الأول: أن الطلب الوجوبی طلب تام وکامل، وحیث أن کمال الشیء عین الشیء لا أنه أمر زائد علیه، فلا یحتاج بیانه فی المقام إلی مؤونة زائدة، وهذا بخلاف الطلب الندبی فانه طلب ناقص وضعیف، والنقص والضعف أمر عدمی

-

ص:20


1- (1) - نهایة الأفکار 160:1.

فلایمکن أن یکون عین الطلب، وحینئذ فلا محالة یکون أمراً زائداً علیه، فبیانه بحاجة إلی مؤونة زائدة ولا یکفی اطلاق الأمر، وعلی هذا فاذا ورد أمر من المولی بشیء وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی الندب کان مقتضی اطلاقه الوجوب، والخلاصة أن الطلب الندبی بما أنه مشتمل علی خصوصیة زائدة فارادته من الأمر بحاجة إلی قرینة تدل علیها ولا یکفی اطلاق الأمر فی ذلک، فانه لا یدل إلا علی ذات المقید، وهذا بخلاف الطلب الوجوبی، فحیث إنه غیر مشتمل علی خصوصیة زائدة فارادته من الأمر لا تتوقف علی قرینة تدل علیها بل یکفی نفس اطلاق الأمر(1).

ولنأخذ بالمناقشة فیه، بتقریب أنه إن أراد بالطلب الشدید الوجوب وبالطلب الضعیف الندب، فیرد علیه أن الوجوب والاستحباب لا تتصفان بالشدة والضعف، علی أساس أنهما من الأمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها خارجاً، ومن الواضح أن صفتی الشدة والضعف من الصفات الحقیقیة الطارئة علی الموجودات الخارجیة الواقعیة کعروضها علی البیاض والسواد ونحوهما.

وبکلمة، أن الأحکام الشرعیة فی أنفسها امور اعتباریة لا واقع موضوعی لها فی الخارج غیر اعتبار من بیده الاعتبار، ولهذا لیست داخلة تحت أنه مقولة من المقولات الواقعیة، ولا یعقل اتصافها بالصفات الحقیقیة التی تعرض علی المقولات الحقیقیة فی الخارج، وعلی هذا فلا موضوع لما ذکره (قدس سره) من أن اطلاق الأمر بمقدمات الحکمة یعین الطلب المساوق للوجوب وهو الطلب الضعیف دون الطلب المساوق للاستحباب وهو الطلب الضعیف، ومع الاغماض عن ذلک

-

ص:21


1- (1) - مقالات الاُصول 208:1. نهایة الأفکار 162:1 وانظر هدایة المسترشدین: 141.

وتسلیم أن الوجوب هو الطلب الشدید والاستحباب هو الطلب الضعیف، إلا أن نتیجة ذلک لیست ما أفاده (قدس سره) لا بنظر العرف ولا العقل، أما بنظر العرف فکما أن صفة الضعف خصوصیة زائدة علی ذات الشیء فکذلک صفة الشدة، ومن هنا تکون المرتبة الشدیدة من الشیء بنظر العرف مباینة للمرتبة الضعیفة منه، لا أنه فی المرتبة الضعیفة مشتمل علی أمر زائد دون المرتبة الشدیدة، وعلی هذا فالطلب الشدید والطلب الضعیف مرتبتان من الطلب کل منهما متخصصة بخصوصیة زائدة علی ذات الطلب، وإرادة کل منهما بحاجة إلی قرینة والاطلاق لا یفی إلاّ لارادة الجامع دون الزائد علیه. وأما بالنظر الدقی العقلی، فکما أن المرتبة الشدیدة عین الطبیعی الجامع فی الخارج، فکذلک المرتبة الضعیفة، مثلا البیاض ذات مراتب متفاوتة من المرتبة الشدیدة إلی المرتبة الضعیفة، ومن الواضح أن کل مرتبة من هذه المراتب عین البیاض خارجاً لا أنها مرکبة منه ومن غیره، بلا فرق فی ذلک بین المرتبة الشدیدة والمرتبة الضعیفة. أو فقل، أن مفهوم الشدة والضعف بالحمل الأولی الذاتی وإن کان مبایناً للبیاض، إلا أن الکلام لیس فی ذلک، بل فی واقعها بالحمل الشایع، ومن المعلوم أن واقعهما بهذا الحمل عین البیاض خارجاً بلا فرق فی ذلک بین المرتبة الشدیدة والمرتبة الضعیفة، فان المرتبة الضعیفة من البیاض لیست مرکبة منه ومن الأمر العدمی.

وحیث أن المتبع فی باب الألفاظ إنما هو نظر العرف، فلایمکن التمسّک باطلاق الأمر الوارد فی الکتاب والسنة لتعیین الوجوب وإرادته دون الاستحباب، لأن إرادة کل منهما بحاجة إالی قرینة، واطلاق الأمر لایفی إلا لإرادة الجامع دون خصوصیة زائدة، بل لایمکن التمسک به بنظر العقل أیضاً لأن الاطلاق لایدل إلا علی الجامع وخصوصیة الشدة والضعف وإن کانت عین الجامع بنظر العقل لازائدة علیه، إلاّ أن هذه العینیة إنما هی فی عالم الخارج لا فی عالم المفهوم،

ص:22

والمفروض أن الاطلاق لایدل علی الجامع الموجود فی الخارج، بل لو دلّ علی ذلک فتعیین أنه الحصة الشدیدة أو الضعیفة بحاجة إلی دال آخر.

وإن أراد (قدس سره) بالطلب الشدید أو الضعیف ملاک الحکم فی مرحلة المبادی، بتقریب أن الأمر مادة وهیئة یدل علی الطلب بالمطابقة وعلی ملاکه بالالتزام المتمثل فی إرادة المولی الناشئة عن المصلحة والمحبوبیة فی الواقع. وهذا الملاک قد یکون شدیداً کما فی الواجبات وقد یکون ضعیفاً کما فی المستحبات، وحیث أن شدة الملاک من سنخه ولیست شیئاً زائداً علیه وضعفه أمر زائد علیه، فاذا صدر أمر من المولی وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی ضعف الملاک وعدم شدته، فلا مانع حینئذ من التمسک باطلاقه لاثبات الارادة الشدیدة.

فیرد علیه أولا: أنه لا یمکن التمسک باطلاق الأمر بالنسبة إلی مدلوله الالتزامی إذا لم یکن له اطلاق بالنسبة إلی مدلوله المطابقی، لما تقدم من أن کلا من الوجوب والاستحباب لایتصف بالشدة والضعف، وعلی تقدیر الاتصاف، فکل من الصفتین أمر زائد علی ذات الطلب لاخصوص صفة الضعف، فاذن إرادة کل منهما بحاجة إلی قرینة وبدونها، فالکلام مجمل فلا یدل علی الوجوب ولا علی الاستحباب، فاذا لم یکن له اطلاق بالنسبة إلی المدلول المطابقی وهو الوجوب لم یکن له اطلاق بالنسبة إلی المدلول الالتزامی أیضاً وهو الملاک، لأن الدلالة الالتزامیة تتبع الدلالة المطابقیة حدوثاً وبقاءً واطلاقاً وتقییداً.

فاذن لایمکن التمسک باطلاق الأمر لاثبات ملاک الوجوب.

وثانیاً: مامرّ من أنه لا فرق بین الشدة والضعف لا بنظر العقل ولا بنظر العرف، أما بنظر العقل فکما أن الارادة الشدیدة بحدها حقیقة الارادة لا أنها إرادة وشیء زائد علیها فکذلک الارادة الضعیفة، فانها بحدها حقیقة الارادة لا

ص:23

أنها إرادة وعدم، وکذلک الحال فی المصلحة والمفسدة والمحبوبیة والمبغوضیة.

وأما بنظر العرف فقد مرّ، أن کلا من صفتی الشدة والضعف خصوصیة زائدة علی الطبیعی الجامع، لا أن صفة الضعف خصوصیة زائدة دون صفة الشدة فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وبکلمة، أن ملاک الوجوب یختلف عن ملاک الاستحباب، وهذا الاختلاف لا یخلو من أن یکون فی الکم أو فی الکم والکیف معاً أو فی الکیف فقط ولا رابع فی البین، أما إذا کان فی الکم کما إذا افترضنا أن المصلحة فی فعل إذا بلغت من جهة الزیادة عشر درجات مثلا فهی ملاک الوجوب وإذا کانت أقل منها فهی ملاک الاستحباب، وعلی هذا فملاک کل منهما متخصص بخصوصیة فلا یمکن اثباتها باطلاق الأمر، لأنه لایفی إلا لاثبات الجامع دون تخصصه بخصوصیة خاصة، فانه بحاجة إلی دال آخر، وأما إذا کان الاختلاف فی الکم والکیف معاً فالأمر فیه أیضاً کذلک، وأما إذا کان فی الکیف فقط یعنی فی الشدة والضعف فقد عرفت أنه لا فرق بینهما لابنظر العرف ولا بنظر العقل.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف أن ما أفاده المحقق العراقی (قدس سره) من دلالة الأمر علی الوجوب بالاطلاق ومقدمات الحکمة لایمکن المساعدة علیه بوجه.

الثانی: أنه لا شبهة فی أن کل من یطلب فعلا عن غیره فی اطار الأمر، فالظاهر من حاله أنه إنما یطلبه من أجل إیجاده فی الخارج، وعلیه فلابد أن یکون طلبه إیاه بحد ذاته مما لا قصور فیه للتوسل به إلی إیجاده، ومن المعلوم أن ذلک الطلب هو الطلب اللزومی فانه لا قصور فیه من هذه الناحیة، وعلی هذا فلوکان هناک مایقتضی قصور طلبه عن التأثیر التام فی إیجاد المطلوب والزامه به، إما فی الملاک أو لوجود مانع لکان علیه أن ینصب قرینه علی ذلک، فاذا لم

ص:24

ینصب قرینة کان مقتضی اطلاق الأمر أنه لا قصور فیه، فیکون عدم نصب القرینة علی الاستحباب قرینة علی الوجوب(1).

والجواب أولا: ما عرفت من أن الأمر یدل مادة وهیئة علی الوجوب بالوضع، ولا تتوقف هذه الدلالة علی ما ذکره (قدس سره) من المقدمة، وهی ظهور حال الأمر فی أن أمره تام فی التوسل به إلی إیجاد المطلوب ومساوق لسد تمام أبواب العدم للانبعاث والتحرک نحو إیجاده فی الخارج.

وثانیاً: أن هذا الوجه فی نفسه غیر تام، لأنه مبنی علی أحد أمرین:

الأول: الغلبة بدعوی أن الغالب فیمن یأمر بشیء ویطلبه من غیره فانما یطلبه من أجل إیجاده فی الخارج واندفاعه إلیه وتأثیره فیه تأثیراً تاماً.

الثانی: أن اطلاق الأمر الصادر من المولی ینصرف إلی إرادة الفرد التام والکامل وهو الوجوب، فان کماله وتمامیته منشأ لهذا الظهور والانصراف، ولکن کلا الأمرین ممنوع.

أما الأمر الأول، فیرد علیه أولا: منع الغلبة لأن الأوامر الاستحبابیة الواردة فی الشریعة المقدسة لولم تکن أکثر من الأوامر الوجوبیة، فلا شبهة فی أن الأوامر الوجوبیة لیست بأکثر منها بمرتبة تؤدی کثرتها إلی تکوین هذه القاعدة وهی قاعدة الغلبة.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم کثرة الأوامر الوجوبیة بهذه المرتبة، إلا أن هذه القاعدة قاعدة ظنیة فلاتکون حجة.

وعلی الجملة فلولم یکن الأمر فی نفسه ظاهراً فی الوجوب، لم یمکن حمله علیه

-

ص:25


1- (1) - نهایة الأفکار 163:1 ومقالات الاُصول 208:1.

علی أساس الغلبة التی لاقیمة لها شرعاً.

وأما الثانی فقد مر، أن الوجوب والاستحباب فی أنفسهما لایتصفان بالشدة والضعف والکمال والنقض، وإنما یتصفان بهما بلحاظ مبادئهما، علی أساس أنها روح الحکم وحقیقته. هذا إضافة إلی أن التمامیة والشدة لاتصلح أن تکون منشأً للانصراف، لأن منشأ الانصراف إنما هو کثرة الاستعمال دون الکمال والتمام، فاذا فرض أن الامر موضوع للجامع بین الوجوب والاستحباب، فانصرافه إلی الوجوب عند الاطلاق منوط بکثرة استعماله فیه لابتمامیته ولو بلحاظ مبدئه.

فالنتیجة، أن کلا الأمرین لایصلح أن یکون منشأً لظهور الأمر فی الوجوب.

الثالث: أن الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع عدم الترخیص فی الترک، والاستحباب عبارة عن طلب الفعل مع الترخیص فی الترک، فهما یشترکان فی الجامع وهو الطلب المتعلق بالفعل ویمتازان فی القید، فان الوجوب مقید بقید عدمی والاستحباب مقید بقید وجودی، فاذا کانت للجامع حصتان وکان الممیز لإحداهما أمراً عدمیاً وللاُخری أمراً وجودیاً، فمقتضی اطلاق الدلیل تعین الحصة الاُولی دون الثانیة، باعتبار أنها مقیدة بقید عدمی فلایحتاج بیانها إلی مؤونة زائدة ودلیل آخر، بل یکفی فی ذلک عدم نصب قرینة علی إرادة الثانیة، وعلی ذلک فاذا ورد أمر بشیء من قبل المولی ولم تکن قرینة علی الترخیص فهو محمول علی الوجوب(1).

والخلاصة: أن الاستحباب بما أنه مقید بقید وجودی فبیانه بحاجة إلی مؤونه زائدة وقرینة لکی تدل علی قیده الوجودی، والوجوب بما أنه مقید بقید عدمی فبیانه لایحتاج إلی مؤونة زائدة لأن القید العدمی لایحتاج إلی بیان مستقل.

-

ص:26


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 21:2.

والجواب أولا: أن الوجوب لیس مرکباً من الأمر الوجودی والأمر العدمی بل هو أمر بسیط. نعم، أن لازمه عدم الترخیص فی الترک لا أنه جزئه.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه مرکب، إلا أنه مرکب من طلب الفعل والمنع عن الترک، فیکون القید وجودیاً لا عدمیاً، وعلیه فلا فرق بین الوجوب والاستحباب من هذه الناحیة.

وقد یستدل علی ذلک بأن صیغة الأمر تدل علی الارسال والدفع بنحو المعنی الحرفی، ولما کان الارسال والدفع مساوقاً لسد تمام أبواب العدم للتحرک والاندفاع، فمقتضی إصالة التطابق بین المدلول التصوری والمدلول التصدیقی أن الطلب والحکم المبرز بالصیغة سنخ حکم یشتمل علی سد تمام أبواب العدم.

ویمکن المناقشة فیه بأن هذا التقریب لایختص بصیغة الأمر بل یجری فی مادته أیضاً، لأن مادة الأمر وإن لم توضع للنسبة الارسالیة والطلبیة، باعتبار أن معناها معنی اسمی ولیس بحرفی، إلا أنها موضوعة للطلب بالمعنی الاسمی، ولکن الدفع والتحرک والارسال لازم للطلب المذکور، فاذن تدل المادة علی الطلب بالمطابقة وعلی الدفع والارسال بالالتزام وهو مساوق لسد تمام أبواب العدم للتحرک والاندفاع، وحیث أن أصالة التطابق لاتختص بالمدلول المطابقی بل تجری فی المدلول الالتزامی أیضاً، فیکون الطلب والحکم المبرز بالمادة سنخ حکم یشتمل علی سد تمام أبواب العدم.

هذا إضافة إلی أن ما فرض فی هذا التقریب من أن الدفع والارسال مساوق لسد تمام أبواب العدم للاندفاع والتحرک قابل للمناقشة، لأن الدفع والارسال جامع بین حصة مساوقة للوجوب وحصة مساوقة للاستحباب، فما هو مساوق لسد تمام أبواب العدم هو الحصة الاُولی دون الجامع، فاذن تمامیة هذا التقریب

ص:27

تتوقف علی تمامیة أحد الوجوه المتقدمة، وحیث أنها جمیعاً غیر تامة فلایتم ذلک أیضاً، تحصل مما ذکرناه أن ما اختاره المحقق العراقی (قدس سره) من أن دلالة الأمر علی الوجوب مادة وهیئة إنما هی بالاطلاق ومقدمات الحکمة لا بالوضع لایتم.

رای المحقق النائینی و السید الاستاذ

وأما القول الثالث وهو أن الأمر لایدل علی الوجوب لا بالوضع ولا بالاطلاق ومقدمات الحکمة وإنما هو مستفاد من حکم العقل، فقد اختاره المحقق النائینی (قدس سره) وتبعه فیه السید الاُستاذ (قدس سره).

أما المحقق النائینی (قدس سره) فقد أفاد فی وجهه أن صیغة الأمر موضوعة لایقاع المادة علی المخاطب ومستعملة فیه فی جمیع الموارد أعم من موارد الوجوب والاستحباب، ولکن العقل یحکم فیما إذا صدرت من المولی ولم تکن مقرونة بالقرینة علی الترخیص فی الترک بلزوم الامتثال قضاء لحق المولویة وأداءً لوظیفة العبودیة وتحصیلا للأمن من العقوبة، ولایصلح الاعتذار عن الترک بمجرد احتمال کون المصلحة غیر لزومیة طالما لم تکن قرینة علی ذلک لامتصلة ولا منفصلة(1).

وأما السید الاُستاذ (قدس سره) فقد قرب ذلک بما یلی:

أن الأمر موضوع مادة وهیئة للدلالة علی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، وحینئذ فاذا أمر المولی بشیء فان نصب قرینة علی الترخیص فی الترک فهو، وإلاّ فالعقل یحکم بوجوب امتثاله والاتیان به فی الخارج قضاء لحق المولویة وتحصیلا للامن من العقوبة، علی أساس أن احتمال المولویة مساوق لاحتمال العقوبة إذا لم تکن قرینة علی الأمن منها، ولا نقصد بالوجوب إلا ادراک العقل لابدیة الخروج عن عهدته، فیما إذا لم یحرز لامن الداخل ولا من الخارج مایدل

-

ص:28


1- (1) - أجود التقریرات 144:1.

علی جواز ترکه(1).

ولنأخذ بالنقد علیه إما أولا: فلما تقدم من أن الأمر یدل مادة وهیئة علی الوجوب بالوضع ویکون هو المتبادر والمنسبق منه عند الاطلاق ارتکازاً وفطرة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن الأمر لم یوضع لا مادة ولا هیئة للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج، لأن ذلک مبنیّ علی مسلک التعهد فی باب الوضع، وقد تقدم نقد هذا المسلک بما لا مزید علیه.

وثانیاً: أنه إن ارید من حکم العقل بالوجوب ادراکه ذلک نظریاً فهو لایمکن، ضرورة أنه لاطریق للعقل إلی الأحکام الشرعیة وما لها من الملاکات والمبادیء، فلولا النصوص الشرعیة من الکتاب والسنة لم یکن بامکان العقل ادراک شیء من الأحکام الشرعیة من طریق ادراک مبادئها.

وإن ارید من ذلک أن العقل ینتزع الوجوب من اعتبار المولی الفعل علی ذمة المکلف، بتقریب أن الأمر الصادر من الشارع یدل علی اعتباره الفعل علی ذمته ولا یدل علی أکثر من ذلک، ولکن العقل ینتزع الوجوب منه مالم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک.

فیرد علیه أولا: ما عرفت من أن الأمر لم یوضع للدلالة علی ابراز اعتبار الفعل علی ذمة المکلف.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه موضوع لذلک، إلا أن حکم العقل بالوجوب وانتزاعه منه منوط باحراز ملاکه فی مرحلة المبادیء ولا طریق

-

ص:29


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 14:2، 131.

للعقل إلی احرازه فیها والوصول إلیه، والحاصل أن الأمر لا یدل إلا علی الجامع بین الوجوب والاستحباب، فاذن حکم العقل بالوجوب بما أنه لایمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکون مبنیاً علی احراز ملاکه، والمفروض أنه لیس بامکانه ذلک وبالتالی لیس بامکانه الحکم بالوجوب، وإن ارید من ذلک الحکم العقلی العملی بمعنی أن حکم العقل بالوجوب فی المقام یکون من تبعات حکمه بحسن الطاعة ووجوبها وقبح المعصیة وحرمتها، علی أساس أن الحاکم فی هذا الباب هو العقل دون الشرع، فیرد علیه أن الحاکم فی باب الطاعة وإن کان العقل تطبیقاً لکبری قاعدة الحسن والقبح العقلیین علی المقام، ولکن من الواضح أن العقل لایحکم بوجوب الطاعة وقبح المعصیة إلا بعد احراز موضوعه فی المرتبة السابقة وهو الوجوب والحرمة، ومالم یحرز لم یحکم بلزوم الامتثال والطاعة، وأما إذا لم یکن موضوعه محرزاً کما فی المقام إذ المفروض فیه أن الأمر الصادر من المولی بشیء لایدل علی وجوبه لا وضعاً ولا اطلاقاً، ففی مثل ذلک لایمکن أن یحکم العقل بوجوب الامتثال أداءً لوظیفة العبودیة وتحصیلا للامن من العقوبة، ضرورة أنه منوط باحراز الوجوب فی المرتبة السابقة ولو بالأصل العملی، ومع عدم احرازه لا موضوع له، فاذن کیف یعقل أن یکون الوجوب بحکم العقل مع أنه متوقف علی احرازه مسبقاً.

وبکلمة، أن العقل العملی وهو حکمه بالحسن والقبح یتبع ملاکه وموضوعه ویدور مداره وجوداً وعدماً، وحیث إن حکم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصیة من صغریات العقل العملی، فمن الواضح أنه لایحکم بذلک إلا بعد احراز موضوعه فی المرتبة السابقة وهو الوجوب والحرمة، فما فی کلام المحقق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهما) من أن المولی إذا أمر بشیء ولم ینصب قرینة علی الترخیص فی الترک، حکم العقل بلزوم امتثاله تحصیلا للأمن من العقوبة لایرجع إلی معنی

ص:30

صحیح، لأن الأمر علی الغرض لایدل علی الوجوب لا بالوضع ولا بالاطلاق، وعلیه فیکون الوجوب مشکوکاً ومع الشک فیه یرجع إلی أصالة البراءة، ومع هذه الأصالة لایعقل حکم العقل بلزوم الامتثال لأنه منوط باحتمال العقاب وهو منفی بها.

ودعوی أن منشأ حکم العقل بوجوب الامتثال هو أن احتمال المولویة مساوق لاحتمال العقوبة إذا لم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک.

مدفوعة، بأن احتمال المولویة إنما یکون مساوقاً لاحتمال العقوبة إذا کان فی الشبهة الحکمیة قبل الفحص، فان العقل یحکم فیها بلزوم الامتثال دفعاً لاحتمال العقاب، وأما إذا کان فی الشبهة الحکمیة بعد الفحص فلایحکم العقل فیها بلزوم الامتثال، بناء علی ماهو الصحیح من أن الأصل الأولی فیها قاعدة قبح العقاب بلا بیان دون قاعدة الاشتغال وحق الطاعة، هذا إضافة إلی أن القرینة علی الترخیص فیها موجودة وهی أدلة البراءة الشرعیة.

فالنتیجة، أنه لایمکن أن تکون دلالة الأمر علی الوجوب مادةً وهیئة بحکم العقل لا بالعقل النظری ولا بالعقل العملی.

مناقشات صاحب البحوث

ثم أن بعض المحققین (قدس سره) قد أورد علی هذا القول باشکالات اخری:

الأول: أن لازم هذا القول الالتزام بعدم الوجوب فیما إذا کان الأمر مقروناً بعام یدل علی الترخیص الشامل لمورده، بتقریب أن حکم العقل بالوجوب معلق علی عدم الترخیص فی الترک، ومع الترخیص فیه لا موضوع لحکمه، مثال ذلک إذا ورد فی دلیل أکرم العالم العادل ثم ورد فی دلیل آخر لابأس بترک إکرام العالم، فان بناء الفقهاء فی مثل ذلک الموافق للارتکاز العرفی هو الجمع بینهما بحمل العام علی الخاص والالتزام بوجوب إکرام العالم العادل، فان ذلک من أحد

ص:31

موارد الجمع العرفی بین الأدلة، واعتبار التعارض بین العام والخاص من التعارض غیر المستقر، علی أساس أن الدلیل الخاص بمقتضی الارتکاز العرفی الفطری قرینة علی تحدید المراد الجدی من العام، هذا بناء علی المشهور من أن مفاد الأمر الوجوب مادة وهیئة، وأما بناء علی ما ذکره السید الاُستاذ والمحقق النائینی (قدس سرهما) من عدم دلالة الأمر علی الوجوب فلا تنافی بین الجملتین المذکورتین هما العام والخاص لکی تکون الجملة الاُولی قرینة علی تخصیص الثانیة، باعتبار أن الأمر فی الاُولی لایدل إلاّ علی الطلب فقط وهو لا ینافی الترخیص فی الترک فی الثانیة، بل المتعین علی هذا المسلک أن تکون الجملة الثانیة (العام) رافعة لموضوع حکم العقل بالوجوب فی الجملة الاُولی، علی أساس أن حکمه بالوجوب معلق علی عدم ورود الترخیص فی الترک من المولی، والمفروض فی المقام قد ورد الترخیص فی الترک فی إطار العام، مع أنه لیس بامکان أحد من الفقهاء الالتزام بهذا اللازم حتی المحقق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهما)(1).

ولکن یمکن المناقشة فی هذا الاشکال بتقریب أن حکم العقل بوجوب امتثال الأمر الوارد من المولی وإن کان معلقاً علی عدم ورود الترخیص فی الترک من قبل المولی، إلا أن ذلک إنما هو فیما إذا کان الترخیص فیه وارداً من قبله فی إطار القرینة، بحیث یری العرف عدم امکان حمل الأمر علی الوجوب معها، فان مثل هذا الترخیص یمنع عن حکم العقل بوجوب الامتثال تأمیناً للعقوبة بارتفاع موضوعه، وأما إذا لم یکن الترخیص فی الترک فی إطار القرینة بأن یکون فی إطار الدلیل العام کما فی مثل المثال، فالظاهر أنه لا یمنع عن حکم العقل بالوجوب ولزوم الامتثال دفعاً لاحتمال العقاب، لأن الظاهر أنه غیر معلق علی الترخیص

-

ص:32


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 19:2.

فی الترک مطلقاً وإن کان فی ضمن دلیل عام، لأنه کما لایمنع عن دلالة الأمر علی الوجوب بالاطلاق ومقدمات الحکمة، کذلک لایمنع عن حکم العقل بالوجوب ولزوم الامتثال والخروج عن العهدة، فانه منوط بعدم ورود الترخیص فی الترک من قبل المولی فی إطار القرینة لامطلقاً، ولهذا لا یری العرف تنافیاً بین حکم العقل بوجوب إکرام العالم العادل فی المثال وبین الترخیص فی ترک إکرام العالم مطلقاً.

وبکلمة، أنه لاتنافی بین المدلول اللفظی للعام والمدلول اللفظی للخاص علی هذا المسلک، لأن المدلول اللفظی الخاص هو طلب الفعل الجامع بین الوجوب والاستحباب والمدلول اللفظی للعام هو الترخیص فی ترکه ولاتنافی بینما، فإن التنافی إنما هو بینه وبین الوجوب، وموضوع حکم العقل بالوجوب ولزوم الامتثال والخروج عن العهدة تأمیناً للعقوبة هو طلب الفعل من المولی وعدم نصب قرینة علی الترخیص، فاذا تحقق الأمران تحقق موضوع حکم العقل، وحیث أن الترخیص فی الترک فی إطار الدلیل العام لیس ترخیصاً فی إطار القرینة عرفاً، فلایکون عدمه جزء موضوع حکم العقل، وعلی هذا فالترخیص فی ضمن الدلیل العام کما أنه لایمنع عن دلالة الأمر علی الوجوب بالوضع ولا بأطلاق مقدمات الحکمة، کذلک لایمنع عن حکم العقل بالوجوب ولزوم الامتثال.

الثانی: أن حکم العقل بالوجوب ولزوم الطاعة لایخلو من أن یکون معلقاً علی عدم الترخیص المتصل فی الترک أو علی الأعم منه ومن المنفصل فی الواقع أو علی عدم احراز الترخیص فیه، والکل لایمکن.

أما الأول: فلأن لازمه أنه إذا ورد أمر من المولی ولم ینصب قرینة متصلة علی

ص:33

الترخیص فی الترک تم موضوع حکم العقل بالوجوب ولزوم الاطاعة، ومعه یکون الترخیص بالمنفصل منافیاً له فیمتنع وهو واضح البطلان، ضرورة أن القرائن المنفصلة علی عدم الوجوب فی النصوص الشرعیة من الکتاب والسنة لاتکون أقل شأناً من القرائن المتصلة علی ذلک، فاذن کیف یمکن الحکم بامتناعها.

وأما الثانی: فلأن لازمه عدم امکان احراز الوجوب عقلا عند الشک فی وجود القرینة المنفصلة علی الترخیص فی الترک فی الواقع مع القطع بعدم وجود القرینة المتصلة علی ذلک، باعتبار أن حکم العقل بالوجوب معلق علی عدم الترخیص فی الترک من قبل المولی ولو منفصلا، ومع الشک فیه لامحالة یشک فی حکم العقل بالوجوب.

وأما الثالث: وهو کون حکم العقل معلقاً علی عدم احراز الترخیص فی الترک فهو خروج عن محل الکلام، لأن محل الکلام فی الوجوب الواقعی الذی هو مشترک بین العالم والجاهل لا فی الوجوب المنجز المختص بالعالم، هذا.

ویمکن المناقشة فیه أیضاً وذلک لأن حکم العقل بالوجوب وإن کان لایمکن تعلیقه علی عدم الترخیص بالمتصل ولا علی الأعم منه ومن عدم الترخیص بالمنفصل فی الواقع للمحذور المتقدم، إلا أنه لا مانع من تعلیقه علی عدم احراز الترخیص فی الترک، لوضوح أن حکم العقل بلزوم الطاعة والخروج عن العهدة تأمیناً للعقوبة معلق علی عدم احراز الترخیص فیه من قبل المولی، لأن هذا الحکم العقلی لیس حکماً واقعیاً مشترکاً بین العالم والجاهل، بل هو حکم عقلی عملی متمثل فی ادراک العقل لزوم طاعة المولی فی الأوامر الواردة من قبله إذا لم یحرز قرینة علی الترخیص فی الترک، لما مر من أن المراد من حکم العقل

ص:34

بالوجوب حکم العقل العملی لا النظری کی یکون الوجوب وجوباً واقعیاً مشترکاً بین العالم والجاهل.

الثالث: إذا نسخ الوجوب وقع النزاع بین الفقهاء فی أن الثابت بعد نسخ الوجوب هل هو الجواز أو الاستحباب؟

والجواب: أن المشهور هو الجواز دون الاستحباب، مع أنه علی هذا المسلک یتعیّن ثبوت الاستحباب، لأن الناسخ انما یرفع حکم العقل بالوجوب ولایرفع مدلول الأمر وهو الطلب فیثبت الاستحباب.

والجواب: أن هذا لیس نقضاً علی اصحاب هذا المسلک، فان التزام المشهور بعدم ثبوت الاستحباب مبنی علی مسلکهم من دلالة الأمر علی الوجوب بالوضع، فان الدلیل الناسخ حینئذ یرفع الوجوب الذی هو مدلول الأمر وبعد ارتفاعه فلا دلیل علی الاستحباب، وأما علی ضوء هذا المسلک فلا مانع من الالتزام بثبوت الاستحباب بعد ارتفاع حکم العقل بالوجوب بالنسخ ولا محذور فیه أصلا.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الصحیح فی المسألة القول الأول وهو القول بأن الأمر مادة وهیئة موضوع للدلالة علی الوجوب دون القول الثانی والثالث.

وهناک ثمرات فقهیة تظهر بین الأقوال الثلاثة فی المسألة فی عدید من المسائل المبحوث عنها فی الاُصول ویأتی الکلام فیها فی مواردها.

نتائج البحث

نتیجة البحث فی المسألة عدّة نقاط:

الاُولی: أن فی کیفیة تفسیر دلالة الأمر علی الوجوب مادة وهیئة وتحدید

ص:35

منشأها أقوالا:

الأول: أن منشأها الوضع.

الثانی: أن منشأها الاطلاق ومقدمات الحکمة.

الثالث: أن منشأها العقل.

الثانیة: أن الصحیح من هذه الأقوال، القول الأول لمکان التبادر الکاشف عن الوضع.

الثالثة: أن المحقق العراقی (قدس سره) قد اختار القول الثانی بتقریبات مختلفة، ولکن تقدم موسعاً عدم صحة جمیع تلک التقریبات وعدم امکان الاستدلال بشیء منها.

الرابعة: أن المحقق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهما) قد إختارا القول الثالث، بتقریب أن الأمر موضوع مادة وهیئة للدلالة علی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی أو لایقاع المادة علی المخاطب، ولا یدل علی الوجوب لا بالوضع ولا بالاطلاق ومقدمات الحکمة، ولکن العقل یحکم بلزوم الامتثال والخروج عن العهدة إذا لم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک هذا، وقد تقدم أنه لایمکن تخریج هذا القول صناعیاً، لأن العقل النظری لاطریق له إلی ادراک الاحکام الشرعیة من جهة عدم الطریق له إلی ملاکاتها فی مرحلة المبادی، وأما العقل العملی فحکمه بلزوم الامتثال منوط باحراز موضوعه فی المرتبة السابقة وهو الوجوب والحرمة، وبدون احرازه فلا حکم له، والمفروض فی المقام عدم احراز موضوعه.

الخامسة: أن ما أورده بعض المحققین (قدس سره) من الاشکالات علی ما هو لازم هذا

ص:36

القول فقد تقدم المناقشة فیه.

المقام الرابع: اتحاد الطلب و الارادة

اشارة

وأما الکلام فی المقام الرابع وهو أن الطلب متحد مع الارادة أو مغایر لها.

ففیه قولان:

القول الأول: اتحاد الطلب مع الارادة.

القول الثانی: مغایرة الطلب مع الارادة.

رای المحقق الخراسانی

أما القول الأول فقد اختاره المحقق الخراسانی (قدس سره) وقد أفاد فی وجه ذلک ما ملخصه: إن لفظی الطلب والارادة موضوعان بازاء مفهوم واحد جامع بین فردین فی الخارج أی خارج افق الذهن، أحدهما الفرد الحقیقی الخارجی وهو الارادة الحقیقیة والطلب الحقیقی والآخر الفرد الانشائی وهو الارادة الانشائیة والطلب الانشائی. فتکون الارادة الحقیقیة عین الطلب الحقیقی وبالعکس، والارادة الانشائیة عین الطلب الانشائی وبالعکس، ولیس المراد من اتحاد الطلب مع الارادة اتحاد الطلب الانشائی مع الارادة الحقیقیة والارادة الانشائیة مع الطلب الحقیقی، لأن المغایرة بینهما من الواضحات، ثم أحال (قدس سره) ما ذکره فی المقام إلی الوجدان بدون أن یقیم برهاناً علیه(1).

ولنأخذ بالنقد علیه، لا شبهة فی أن مفهوم الطلب مغایر لمفهوم الارادة، لأن المتبادر والمنسبق عرفاً من لفظ الطلب هو السعی والتحرک وراء المقصود والمطلوب والتصدی عملا نحو تحصیله، غایة الأمر إن کان السعی بنحو المباشر کطالب الضالة وطالب العلم فهو طلب تکوینی، وإن کان بتحریک غیره فهو طلب تشریعی. وهذا بخلاف الارادة فانها مستعملة فی معنیین:

-

ص:37


1- (1) - کفایة الاُصول طبع مؤسسة آل البیت (علیهم السلام) 64-65.

أحدهما: المشیئة والاختیار.

الثانی: الشوق المؤکد فی النفس الذی یبلغ مرتبة الارادة ولا تکون متحدة مع الطلب فی شیء من المعنیین، فانها بمعناها الأول وإن کانت من مقولة الفعل إلاّ أنها بهذا المعنی من مبادیء الطلب الذی هو عنوان للفعل الخارجی، وأما بمعناها الثانی فهی من مقولة الکیف النفسانی ولا ینطبق علیها عنوان الطلب، فلا یقال لمن أراد تحصیل العلم أنه طالب العلم أو تحصیل ضالته أنه طالب الضالة، وعلی ضوء ذلک فالطلب مباین للارادة مفهوماً ومصداقاً فلا یکون متحداً معها لا بالحمل الأولی الذاتی ولا بالحمل الشایع الصناعی.

فالنتیجة، أنهما لیسا من الألفاظ المترادفة جزماً، وأما الارادة الانشائیة فهی فی الحقیقة لیست بارادة فی مقابل الارادة الحقیقیة، بداهة أنه لیس فی النفس ارادتان أحدهما الارادة الحقیقیة والاُخری الارادة الانشائیة، بل المراد منها الأمر الانشائی من المولی المسبوق بالارادة الحقیقیة، وقد تقدم آنفاً أن السعی والتحرک قدیکون تکوینیاً وقد یکون تشریعیاً، فالطلب التشریعی الانشائی هو الارادة الانشائیة، وعلیه فالارادة الانشائیة عین الطلب الانشائی، بمعنی أنهما شیء واحد وهو الأمر التشریعی الذی قد یعبر عنه بالارادة التشریعیة وقد یعبر عنه بالطلب التشریعی، کما أن مفهوم الطلب بالحمل الأولی وهو السعی والتصدی وراء المقصود جامع بین الطلب التشریعی والارادة التشریعیة والطلب التکوینی، لما مرّ من أن السعی والتصدی إن کان بنحو المباشر فهو طلب تکوینی وإن کان بتحریک غیره فهو طلب تشریعی.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل الخارجی أو الذهنی ولیس منشأ بالأمر لا بمادته ولا بهیئته، وعلی هذا فلیس

ص:38

للطلب الانشائی واقع موضوعی(1) لایتم، وذلک لما عرفت من أن مفهوم الطلب بالحمل الأولی وإن کان غیر قابل للانشاء إلا أن مصداقه بالحمل الشایع إذا کان تشریعیاً فهو قابل للانشاء، ومن هنا قلنا أن الأمر موضوع مادة وهیئة للطلب المولوی التشریعی المساوق للوجوب علی تفصیل تقدم، فلذلک یکون الأمر مصداقاً للطلب. نعم، ما ذکره (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل ولیس منشأ مبنی علی مسلکه (قدس سره) فی باب الانشاء من أنه عبارة عن ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما ولیس عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ، وعلیه فیکون مدلول الأمر مادة وهیئة عبارة عن ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج ولیس مدلوله انشاء الطلب، نعم یکون الطلب عنواناً لذلک الأمر الاعتباری المبرز فی الخارج بمبرز ما(2) هذا، ولکن قد تقدم عدم صحة هذا المسلک.

فالصحیح هو ماذکرناه من أن الأمر موضوع مادة وهیئة للطلب المولوی المساوق للوجوب إذا لم تکن قرینة علی الخلاف.

فالنتیجة، أن الطلب الحقیقی مباین للارادة الحقیقیة مفهوماً وواقعاً، وأما الارادة الانشائیة فلا معنی لها غیر الطلب الانشائی کما مرّ.

-

.

ص:39


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 16:2
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 88:1.

بحوث و نظریات

اشارة

1 - نظریة الأشاعرة: الکلام النفسی ونقدها.

2 - نظریة الفلاسفة: إرادته تعالی عین ذاته ونقدها.

3 - نظریة الأشاعرة: مسألة الجبر ونقدها.

4 - نظریة الفلاسفة: مسألة الجبر ونقدها.

5 - نظریة المعتزلة: مسألة التفویض ونقدها.

6 - نظریة الامامیة: مسألة الأمر بین الأمرین.

7 - الآراء والنظریات: حول مسألة العقاب والجزاء.

نظریة الأشاعرة: الکلام النفسی ونقدها...

نظریة الأشاعرة
اشارة

الکلام النفسی ونقدها

یقع الکلام هنا فی مرحلتین:

الاُولی: فی تعیین المراد من الکلام النفسی عندهم.

الثانیة: فی تفنید هذه النظریة.

أما الکلام فی المرحلة الاُولی، فلم یظهر من الأشاعرة تصریح ونص بالاتفاق علی أن الکلام النفسی الذی هو عندهم من الصفات الذاتیة العلیا کالعلم والقدرة ونحوهما وقائم بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف وقدیم هو

ص:40

الطلب، فان تعبیراتهم فی المسألة مختلفة من مورد إلی مورد آخر، فقد یعبر عنه فی کلماتهم بالأمر وقد یعبر عنه بالخبر وقد یعبر عنه بصیغة الخبر وقد یعبر عنه بالطلب هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أنهم لا ینکرون الکلام اللفظی لله تعالی، بل یقولون به ولهذا قد صرحوا بأن ما قالته المعتزلة لا ننکره نحن، بل نقوله ونسمیه کلاماً لفظیاً ونعترف بحدوثه وعدم قیامه بذاته تعالی، ولکنا نثبت أمراً وراء ذلک وهو المعنی القائم بالنفس الذی یعبر عنه بالألفاظ ونقول هو الکلام حقیقة وهو قدیم قائم بذاته تعالی وأنه غیر العبارات، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمکنة والأقوام ولا یختلف ذلک المعنی النفسی، کما لا ینحصر الدلالة علیه بالألفاظ، إذ قد یدل علیه بالاشارة والکتابة(1).

ومن هنا یظهر أن القول بالکلام النفسی لایتوقف علی القول بأن الطلب مغایر للارادة، بل لو قلنا باتحاده معها فمع ذلک لا مانع من القول بالکلام النفسی، فانه عند القائلین به مدلول للکلام اللفظی ویتعدد بتعدّده وقائم بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف وقدیم وأنه غیر الارادة والعلم والقدرة وغیر الطلب، لأن قیام الطلب بذاته تعالی قیام الفعل بالفاعل، وقیام الکلام النفسی بذاته سبحانه قیام الصفة بالموصوف، کما أن القول بتغایر الطلب مع الارادة لا یستلزم القول بالکلام النفسی، فان الطلب کما مر فعل اختیاری فلا یعقل أن یکون هو الکلام النفسی.

فالنتیجة، أن مسألة أن الطلب متحد مع الارادة أو مغایر لها لا ترتبط بمسألة

-

ص:41


1- (1) - شرح المواقف (للشریف الجرجانی) 93:8.

الکلام النفسی لا اثباتاً ولا نفیاً، فانه فی تلک المسألة سواء فیه القول بالاتحاد أم التغایر فلابد فی هذه المسألة من النظر إلی أدلتها، ومن هنا یظهر أن محاولة المحقق الخراسانی (قدس سره) بأن القول باتحاد الطلب مع الارادة یستلزم بطلان القول بالکلام النفسی(1) مما لا أساس لها، فانها مبنیة علی أن الطلب لولم یکن متحداً مع الارادة لکان هو الکلام النفسی، ولکن عرفت أنه لا واقع موضوعی له، فان الکلام النفسی علی ما ذکره الاشاعرة من المواصفات والممیزات لا ینطبق علی الطلب لا الطلب الحقیقی ولا الطلب الانشائی، لأن کلیهما أمر حادث مسبوق بالعدم وقیامه بالذات قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف، ثم أن الأشاعرة قد استدلوا علی الکلام النفسی بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذکره فی شرح المواقف من أن الکلام النفسی وراء الکلام اللفظی وهو المعنی القائم بالنفس الذی یعبر عنه باللفظ أو غیره کالاشارة أو الکتابة وهو کلام حقیقة وقدیم قائم بذاته تعالی وهو غیر العبارات، حیث إن العبارات تختلف باختلاف الأزمنة والأمکنة والاقوام ولا یختلف ذلک المعنی النفسی أبداً باختلافها الذی هو الخبر وهو غیر العلم، حیث إن الرجل قد یخبر عما لا یعلمه بل یعلم خلافه أو یشک فیه، فان الخبر هنا موجود دون العلم وهو الأمر غیر الارادة، لأن الشخص قد یأمر بما لا یرید کالمختبر لعبده، فان الأمر هنا موجود دون الارادة، وفی هذه الصورة الموجود واقعاً هو صیغة الأمر، إذ لا طلب فیها کما لا إرادة قطعاً، فاذن المعنی النفسی الذی یعبر عنه بصیغة الخبر والأمر صفة ثالثة مغایرة للعلم والارادة قائمة بالنفس وهی قدیمة لامتناع قیام الحادث بذاته تعالی. ومن الغریب جداً ما نسب إلی الحنابلة فی شرح

-

ص:42


1- (1) - کفایة الاُصول: 65. مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

المواقف ما نصه(1).

قالت الحنابلة: کلامه تعالی حرف وصوت یقومان بذاته وأنه قدیم وقد بالغوا فیه بنص جهلا والجلد والغلاف قدیمان فضلا عن المصحف(2).

وهذا الدلیل یتضمن عدة ممیزات للکلام النفسی، منها أنه مدلول للکلام اللفظی ومنها أنه قائم بالنفس قیام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل ومنها أنه غیر العلم وغیر الارادة ومنها أنه قدیم لا حادث، ولکن فی هذا الدلیل اشکالین:

الأول: أنه لا یمکن أن تتوفر هذه الممیزات جمیعاً فی مدلول الکلام اللفظی، بیان ذلک أن الخطابات القرآنیة تنقسم إلی مجموعتین:

المجموعة الاُولی: الخطابات الانشائیة التی تتضمن اموراً انشائیة إیجادیة.

المجموعة الثانیة: الخطابات الاخباریة التی تتضمن الاخبار عن الوقائع والحوادث.

أما الخطابات الانشائیة فلا یعقل أن یکون مدلولها من سنخ الکلام النفسی لعدم توفر ممیزاته فیه، فانه وإن کان مدلولا للکلام اللفظی إلا أنه حادث مسبوق بالعدم ولیس بقدیم وقائم بالنفس قیام الفعل بالفاعل، باعتبار أنه فعل اختیاری للشارع لا قیام الصفة بالموصوف. نعم، أنه غیر العلم وغیر الارادة فالعلم والارادة من المبادی له.

فالنتیجة، أن مدلول هذه الخطابات الانشائیة حیث أنه أمر حادث مسبوق بالعدم لا قدیم وقائم بذاته تعالی قیام الفعل بالفاعل لا قیام الصفة بالموصوف،

-

.

ص:43


1- (1) - شرح المواقف (للشریف الجرجانی) 93:8
2- (2) - المصدر المتقدم: 92.

فلایمکن أن یکون کلاماً نفسیاً لعدم توفر ممیزاته فیه ککونه قدیماً وصفة، وأما الخطابات الاخباریة فلان مدلولها أیضاً لا یعقل أن یکون من سنخ الکلام النفسی، لأنه متمثل فی ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، ومن الواضح أن ممیزات الکلام النفسی لا تتوفر فیه، منها کونه صفة لله تعالی لیکون قیامه بذاته سبحانه قیام الصفة بالموصوف، ضرورة انه لیس صفة له تعالی حتی یکون قیامه بذاته کذلک، وأما الأخبار فهو فعله تعالی وقیامه به قیام الفعل بالفاعل.

فالنتیجة، أن مدلول الخطابات القرآنیة من الانشائیة والاخباریة لا یمکن أن یکون من سنخ الکلام النفسی.

الثانی: أن ما ذکر فی هذا الدلیل من أن الکلام النفسی غیر العلم، معللا بأن الرجل قد یخبر عما لا یعلمه أو یعلم خلافه، فان الکلام النفسی هنا موجود دون العلم غریب جداً، وذلک لانه لیس فی هذا المورد إلا تصورالمخبریة بتصور ساذج مثلا یتصور موت زید من دون أن یعلم به أو یعلم أنه حیّ لامیت ثم یخبر عن موته فی الخارج، فإذن لیس هنا إلا تصور موته، وحینئذ فان ارید بالکلام النفسی هذاالتصورالساذج فی افق الذهن وأنه غیر العلم والارادة، فیرد علیه أولا: أن الکلام النفسی مدلول للکلام اللفظی وأنه سنخ معنی قائم بالنفس قیام الصفة بالموصوف وقدیم، وهو بهذه الممیزات لاینطبق علی الصورة الساذجة التی لاواقع لها غیر وجودها فی الذهن، فانها لیست مدلولا للکلام اللفظی ولا قدیمة.

وثانیاً: أن الکلام النفسی بهذا المعنی غیر متصور فی ذاته، إذ لا یعقل قیام التصور الساذج بذاته تعالی وتقدس، لأنه عبارة عن انطباع صورة الشیء فی افق الذهن ولا موضوع له بالنسبة إلی ذاته المقدسة، هذا إضافة إلی أن علمه تعالی بالأشیاء حضوری فلا یتوقف علی مقدمة اخری.

ص:44

وثالثاً: أن تصور الأشیاء أی قیام صورها بالنفس من الصفات لها ومن مقولة الکیف النفسانی، والفرض أن الکلام النفسی لیس من إحدی الصفات المعروفة فی النفس والملکات الموجودة فیها سواءً کانت من مقولة العلم أم لا.

ورابعاً: أن الکلام النفسی لایمکن أن یکون عبارة عن التصور الساذج، لأنه أمر وجدانی ضروری فلا موضوع للبحث عن ثبوته والمطالبة بالدلیل علیه.

وإن ارید بالکلام النفسی الخبر فیرد علیه أولا: أن قیام الخبر بالمخبر قیام الفعل بالفاعل لا قیام الصفة بالموصوف، والفرض أن قیام الکلام النفسی بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف لاالفعل بالفاعل. وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه صفة للمخبر وقیامه به قیام الصفة بالموصوف إلا أنه صفة حادثة لا قدیمة، والمفروض أن من ممیّزات الکلام النفسی کونه قدیماً فلهذا لا ینطبق علی الخبر.

والخلاصة: أن الکلام النفسی بما له من الممیزات والمقومات لا ینطبق علی الخبر لا لفظاً ولا معنیً ولا صورة، اما لفظاً فلأنه من مقولة الکیف المسموع ولیس موجوداً فی النفس ولا قدیماً ولهذا لا ینطبق علیه الکلام النفسی.

وأما معنیً فلأن صورته فی الذهن تصوراً وتصدیقاً من مقولة العلم والمفروض أن الکلام النفسی غیر العلم، واما بلحاظ وجوده وراء الذهن فقد تقدم أنه لیس من سنخ الکلام النفسی.

وأما صورة فلان صورة الکلام اللفظی فی الذهن لیست مدلولا له والمفروض أن الکلام النفسی مدلول للکلام اللفظی.

وأما قول الشاعر أن الکلام لفی الفؤاد وإنما - جعل اللسان علی الفؤاد دلیلا،

ص:45

فهو لا یدل علی أن صورة الکلام فی افق الذهن کلام نفسی، حیث لا تتوفر فیها ممیزاته لمکان أنها من مقولة العلم من جهة وحادثة لا قدیمة من جهة اخری ولم تکن مدلولا للکلام اللفظی من جهة ثالثة.

الوجه الثانی: أن الله تعالی قد وصف نفسه بالتکلم فی کتابة الکریم بقوله عزّ وجلّ: (کَلَّمَ اللّهُ مُوسی تَکْلِیماً )(1) وحیث أن التکلم صفة له تعالی کالعلم والقدرة والإرادة وما شاکلها فلا محالة یکون قائماً بذاته کسائر صفاته، وعلیه فلابد من الالتزام بکون التکلم قدیماً لاستحالة قیام الحادث بذاته تعالی کقیام الحال بالمحل والصفة بالموصوف والعرض بالمعروض هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الکلام اللفظی حیث أنه مؤلف من حروف وأجزاء متدرجة متصرمة فی الوجود فلا محالة یکون حادثاً مسبوقاً بالعدم ولا یعقل أن یکون قدیماً، وعلیه فلایمکن أن یکون المراد من الکلام فی الآیة الشریفة الکلام اللفظی وإلاّ لزم کون ذاته تعالی محلا للحوادث، فإذن لا محالة یکون المراد منه الکلام النفسی وهو قدیم ولا یلزم من قیامه بذاته تعالی قیام الحادث بها، فالنتیجة أن کلامه تعالی نفسی لا لفظی(2).

والجواب: أن هذا الوجه مبنی علی الخلط بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة بتخیل أن جمیع صفاته تعالی قدیمة وقائمة بذاته قیام الصفة بالموصوف، بیان ذلک أن صفاته تعالی علی نوعین:

الأول: الصفات الذاتیة کالعلم والقدرة والحیاة وما یؤول إلیها، فان هذه الصفات عین ذاته تعالی فی الخارج ولا اثنینیة فیه ولا مغایرة، فان قیامها بها

-

ص:46


1- (1) - سورة النساء (4):164.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 25:2.

قیام عینی وهو من أظهر وأعلی مراتب القیام لا قیام الصفة بالموصوف فی الخارج أو قیام الحال بالمحل فیه، ومن هنا ورد فی بعض الروایات أن الله تعالی وجود کله وعلم کله وقدرة کله وحیاة کله، وهذا معنی قول أمیرالمؤمنین (علیه السلام) فی نهج البلاغة(1) کمال الاخلاص نفی الصفات عنه لشهادة کل صفة أنها غیر الموصوف.

الثانی: الصفات الفعلیة کالخلق والرزق والرحمة وماشاکلها فان هذه الصفات لیست عین ذاته تعالی وتقدس، حیث أن قیامها بها لیس قیاماً عینیاً کالصفات الذاتیة بل قیامها بها قیام الفعل بالفاعل، علی أساس أن مبادیء هذه الصفات أفعاله تعالی فلهذا تنفک عن ذاته المقدسة، ولیس کقیام الحال بالمحل وإلاّ لزم کون ذاته محلا للحوادث وهذا مستحیل.

ومن هنا یظهر الفرق بین الصفات الفعلیة والصفات الذاتیة العلیا، فان الصفات الفعلیة غیر ذاته تعالی خارجاً ووجوداً ولهذا لا مانع من فرض خلوّ ذاته عنها، بینما الصفات الذاتیة عین ذاته تعالی خارجاً ووجوداً ولهذا یستحیل فرض خلوّ ذاته عنها، هذا هو جوهر الفرق بینهما ثبوتاً، ونتیجة ذلک اثباتاً هی صحة دخول أداة النفی والشرط والاستفهام والتمنی والترجی وما شاکلها علی الصفات الفعلیة دون الصفات الذاتیة العلیا، فلا یصح أن یقال أن الله تعالی لم یکن عالماً بشیء ثم صار عالماً به أو لم یکن قادراً علیه ثم صار قادراً، بینما یصحّ أن یقال أن الله تعالی لم یکن خالقاً للشیء الفلانی ثم خلقه وهکذا.

وعلی ضوء هذا الضابط العام للفرق بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة قد ظهر أن التکلم من الصفات الفعلیة دون الذاتیة، ومن هنا یصح أن یقال أن الله

-

ص:47


1- (1) - نهج البلاغة 15:1. (الشیخ محمد عبده - دار المعرفة. بیروت. لبنان).

تعالی کلّم موسی (علیه السلام) ولم یکلم عیسی (علیه السلام) وأنه قائم بذاته سبحانه قیام الفعل بالفاعل لا الحال بالمحل وحادث مسبوق بالعدم، فلهذا لا تتوفر فیه ممیّزات الکلام النفسی.

هذا إضافة إلی أن المراد من المتکلم فی الآیة الشریفة هو التکلم بالکلام اللفظی، فإنه تعالی کلم موسی (علیه السلام) بکلام لفظی لا معنوی لأنه عندهم مدلول للکلام اللفظی، فاذن لا مجال للاستدلال بالآیة الشریفة علی وجود الکلام النفسی، إلا أن یراد من الکلام فی الآیة المبارکة مدلوله الذی هو کلام نفسی عندهم، ولکن بما أنه لا تتوفر فیه ممیزاته فلایکون کلاماً نفسیاً، وذلک لأنه إن ارید به مدلوله بالحمل الأولی الذاتی فهو مضافاً إلی أنه أمر حادث مسبوق بالعدم لیس قائماً بذاته تعالی لا قیام الصفة بالموصوف ولا قیام الفعل بالفاعل لأنه مفهوم محض وثابت فی عالم المفهومیة فحسب، وإن ارید به واقعه بالحمل الشائع فهو وإن کان قائماً بذاته تعالی ولکنه من قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف.

فالنتیجة، أن الآیة الشریفة لا تدل علی أن کلامه تعالی کلام نفسی أصلا.

الوجه الثالث: لا شبهة فی أن الله تعالی متکلم وقد دلت علی ذلک عدة من الآیات، ولازم ذلک قیام مبدأ المشتق وهو المتکلم بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف لا قیام الفعل بالفاعل وإلاّ لم یصح اطلاق المتکلم علیه، ومن هنا لا یصح اطلاق النائم والمائت والقائم والمتحرک والساکن والذائق وماشابه ذلک علیه تعالی مع أن مبادیء هذه الأوصاف قائمة بذاته قیام الفعل بالفاعل، وإن شئت قلت أن هذه الهیئات الاشتقاقیة وأوصافها لا تصدق علی من قام علیه المبدأ قیام الفعل بالفاعل وإنما تصدق علی من قام علیه المبدأ قیام الصفة

ص:48

بالموصوف، وحیث أن الکلام اللفظی له تعالی حادث ویکون قیامه بذاته سبحانه قیام الفعل بالفاعل لا قیام الصفة بالموصوف فهو لا یصلح أن یکون مصححاً لمتکلمیته تعالی فی مقابل سائر صفاته، فإذن لا مناص من الالتزام بکون کلامه تعالی نفسیاً وقائماً بذاته سبحانه قیام الصفة بالموصوف کسائر صفاته(1).

والجواب عن ذلک نقضاً وحلا، اما نقضاً فلأنه لا شبهة فی أن الله تعالی متکلم بکلام لفظی وقد نصت علی ذلک عدة من الآیات منه قوله تعالی: (إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ )(2) ، فإن قوله کن فیکون کلامه سبحانه وتعالی ولیس بامکان الأشاعرة إنکار ذلک، کیف فانهم معترفون بالکلام اللفظی، فإذن ما هو المبرر لهم فی صحة اطلاق المتکلم بالکلام اللفظی علیه تعالی هو المبرر لنا.

وأما حلا فهویتوقف علی بیان مقدمة وهی ما تقدم موسعاً فی بحث المشتق، أن قیام المبدأ بالذات قد یکون حلولیاً وصفیاً وقد یکون صدوریاً إیجادیاً وقد یکون ذاتیاً من الذاتی باب البرهان أو الکلیات الخمس وقد یکون عینیاً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن خصوصیة الحلولیة والوصفیة والصدوریة والایجادیة إنما جائت من قبل المبادیء دون الأوصاف والهیئات الاشتقاقیة، فان هذه الخصوصیات غیر مأخوذة فی مدالیلها، لأن الهیئة الاشتقاقیة تدل علی تلبس الذات بالمبدأ وقیامه بها، وإما کون هذا القیام والتلبّس حلولیاً أو صدوریاً، فالهیئة لا تدل علیه وإنما ذلک یکون من خصوصیة المادة، فهیئة القائم تدل علی

-

.

ص:49


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 28:2
2- (2) - سورة یس (36):82.

تلبس الذات بالقیام واما کون هذا التلبس حلولیاً فهو من جهة أرضیة المادة، فإنها موضوعة لمعنی یقتضی أن یکون قیامه بالذات علی نحو الحلول والتوصیف، فإذن قیام المبدأ بالذات بطبعه یقتضی تارة کونه حلولیاً وصفیاً واُخری صدوریاً إیجادیاً.

ومن ناحیة ثالثة أن المبدأ القائم بالذات إذا کان بنحو الحلول کان منشأً لانتزاع عنوان وصفی اشتقاقی خاص وهو یدل علی قیامه بها کذلک، وذلک کالقائم والنائم والمتحرک والمائت والساکن والجالس وماشاکل ذلک، فان هذه الأوصاف الاشتقاقیة تنتزع من قیام مبادئها بالذات قیام حلولی وصفی أی قیام الصفة بالموصوف والحال بالمحل، فمن أجل ذلک تدل علی تلبّسها بها حلولیاً، وأما دلالتها علی الحلول والوصف فإنما هی بلحاظ خصوصیة مبادئها کما عرفت، ولهذا لا تصدق هذه العناوین والأوصاف الاشتقاقیة علی الذوات التی تکون مبادئها قائمة بها بنحو الصدور والایجاد یعنی قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف لما مرّ من أنها منتزعة من قیام مبادئها بها قیام حلولی، ومن هنا لا تصدق تلک الأوصاف الاشتقاقیة علی الله تعالی مع أن مبادئها قائمة بذاته المقدسة بنحو الصدور والایجاد أی قیام الفعل بالفاعل، وأما إذا کان بنحو الصدور والایجاد فهو منشأ لانتزاع عنوان اشتقاقی خاص وذلک کالضارب والناصر والقاتل والخالق والرازق وما شابه ذلک، فان هذه العناوین الاشتقاقیة إن کانت تدل علی تلبس الذات بالمبدأ بنحو الصدور والإیجاد أی بنحو قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف، ولکن خصوصیة الصدوریة إنما جائت من قبل مبادئها لا من قبل الهیئات نفسها، ومن هنا لا تصدق تلک العناوین علی الذات القائمة بها تلک المبادیء بنحو الحلول.

ص:50

إلی هنا قد تبین أنه یصح اطلاق النائم والمائت والقائم والمتحرک والساکن وغیرها علی من حل فیه المبدأ وقام به قیام الحال بالمحل والصفة بالموصوف، ولا یصح اطلاقها علی من صدر منه المبدأ کاطلاق المائت والنائم علی فاعل النوم أو الموت، وهذا بخلاف مثل القاتل والضارب ونحوهما فانه لا یصح اطلاقها علی من حلّ فیه المبدأ وإنما یصحّ علی من صدر منه المبدأ یعنی الفاعل، وهذا الفرق لخصوصیة فی المبدأ لا فی الهیئة، وبعد ذلک نقول أنه لا شبهة فی أن المتکلم من الصفات الفعلیة دون الذاتیة، فان المبدأ فیه قائم بالذات بنحو الصدور أی قیام الفعل بالفاعل، وقد مرّ أن هذه الخصوصیة إنما جائت من قبل المبدأ لا الهیئة، وعلی هذا الأساس فهیئة المتکلم منتزعة من قیام التکلم بالذات بنحو الایجاد والصدور وهی تدلّ علی ذلک، واما خصوصیة أنه بنحو الصدور أو الحلول فهی من خصوصیة المبدأ، وعلیه فحیث أن مبدأ المتکلم یقتضی أن یکون قیامه بالذات بنحو الصّدور والإیجاد فهو منشأ لانتزاع هذا العنوان لا قیامه بها بنحو الحلول، هذا هو الفرق بین الهیئات الاشتقاقیة مثل القاتل والضارب والناصر والخالق والرازق والمتکلم وماشابه ذلک والهیئات الاشتقاقیة مثل المائت والنائم والمتحرک والساکن والقائم والجالس وماشاکل ذلک هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أن الأشاعرة قد اخطأوا فی نقطتین:

الاُولی: فی عدم الفرق بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة، حیث جعلوا جمیع صفاته تعالی من الصفات الذاتیة بلا فرق بین صفة وصفة.

الثانیة: فی التزامهم بأن تمام صفاته تعالی قدیمة زائدة علی ذاته المقدسة وقائمة بها قیام الصفة بالموصوف، لاستحالة کونها حادثة وإلا لزم کون ذاته محلا للحوادث.

ص:51

أما فی النقطة الاُولی، فلأن الفرق بین الصفات الذاتیة العلیا والصفات الفعلیة واضح، فإن الاُولی عین ذاته تعالی فی الخارج ولا یمکن فرض خلوّ ذاته عنها وإلاّ لزم أن تکون ذاته فی مرتبة ذاته عاجزة وغیر عالمة وبحاجة إلیها وهو کماتری، بینما الثانیة عین فعله تعالی فی الخارج یمکن فرض خلوّ ذاته عنها، ولذلک لا تدخل علی الاُولی أدوات النفی ولا الشرط ولا التمنی والترجی وهکذا وتدخل علی الثانیة، ولعل منشأ التزامهم بالکلام النفسی هو خلطهم بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة بتخیل أن قیام جمیع صفاته تعالی بذاته من قیام الصفة بالموصوف وإنها جمیعاً قدیمة لا حادثة، فإن ذلک یؤدی إلی التزامهم بأن کلامهم تعالی نفسی لا لفظی، باعتبار أن کلامه اللفظی أمر حادث مسبوق بالعدم ویکون قیامه بذاته تعالی من قیام الفعل بالفاعل.

فالنتیجة، أن الکلام النفسی علی ما ذکر له من الممیزات والمواصفات فی کلماتهم یشبه الخیال.

أما النقطة الثانیة، فمن البدیهی أنه لا یعقل أن تکون صفاته الذاتیة العلیا زائدة علی ذاته المقدسة، إذ أنها لو کانت کذلک فلا تخلو من أن تکون وجودات مستقلة منفصلة عن الذات أو متصلة ومرتبطة بها وکلتاهما غیر معقولة، أما الاُولی فلأن لازمها خلوّ ذاته تعالی عن العلم والقدرة والحیاة وهذا مستحیل. وأما الثانیة، فاتصالها إما بنحو الترکیب أو بنحو العینیة، أما الأول فهو لا یمکن لأن لازمه افتقار ذاته تعالی إلی تلک الصفات وبالعکس، باعتبار أن کل جزء من المرکب بحاجة إلی جزء آخر فی عملیة الترکیب، ومن الواضح أن هذه العملیة بحاجة إلی فاعل أسبق وهکذا وهو کماتری، وأما الثانی فهوالمطلوب ولکنه خلاف ما بنوا علیهم فی المسألة.

ص:52

لحد الآن قد تبین أن الأشاعرة کما أنهم فی خطأ واضح فی الخلط بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة وعدم الفرق بینهما کذلک فی خطأ فی جعل صفاته تعالی جمیعاً زائدة علی ذاته وقدیمة.

الفرق بین اسم الفاعل المتعدی و اللازم

بقی هنا اشکال وهو التسائل عن نکتة الفرق بین هیئة النائم والمائت والقائم والمتحرک والساکن وماشابهها وبین هیئة القاتل والضارب والناصر والمانع والخالق والرازق وما شاکلها، علی أساس أن المجموعة الاُولی من الأوصاف الاشتقاقیة مستعملة فی من حل فیه المبدأ دون من صدر عنه وأوجده، مثلا هیئة مائت یصح استعمالها - فیمن حلَّ فیه الموت ولا یصح فیمن صدر عنه الموت وأوجده، بینما المجموعة الثانیة من تلک الأوصاف علی عکس الاُولی تماماً، ولهذا یصح استعمال هیئة الضارب مثلا فیمن صدر عنه الضرب ولا یصح استعمالها فیمن حل فیه الضرب مع أن المبدأ فی کلتا المجموعتین عرض وله نسبتان نسبة إلی الفاعل ونسبة إلی المحل، مثلا کما أن للموت نسبتین: نسبة إلی الفاعل ونسبة إلی المحل کذلک للضرب نسبتین: نسبة إلی الفاعل ونسبة إلی المحل ولیست نسبة النوم والموت والعلم إلی محلها أولی من نسبتها إلی فاعلها، ونسبة القتل والضرب والخلق إلی فاعلها أولی من نسبتها إلی محلها لأن کلتا النسبتین علی حدّ سواء، والخلاصة أن هیئة النائم والمائت ونحوهما تشترک مع هیئة القاتل والضارت ونحوهما فی زنة الفاعل، ولکن مع هذا صحّ استعمال الاُولی فیمن حلّ فیه المبدأ ولم یصحّ فی موجده، بینما الثانیة علی عکس ذلک تماماً، حیث أنه یصحّ استعمالها فیمن حلّ فیه المبدأ ولم یصح فیمن أوجده، فإذن ما هو نکتة الفرق بینهما؟

وقد قام السید الاُستاذ (قدس سره) بمحاولتین لتبریر هذا الفرق:

المحاولة الاُولی: أن ذلک الفرق بین هذه المبادیء سماعی ولیس بقیاسی

ص:53

بحیث إذا صحّ الاطلاق بهذا الاعتبار فی مورد صح اطلاقه فی غیره من الموارد أیضاً بذلک الاعتبار ولیس لذلک ضابط کلیّ. وحیث أن المجموعة الاُولی مستعملة فیمن حل فیه المبدأ دون من صدر عنه، والمجموعة الثانیة علی عکس ذلک، فلابد من الاقتصار علی هذا وعدم التعدّی عنه وهذه المحاولة فی نفسها لابأس بها، حیث أنه لیس بوسعنا تبریر هذا الفرق بین هذه الأوصاف الاشتقاقیة المشترکة فی الصیغة والزنة إلا بالسماع، فان صحة اطلاق القابض والباسط ونحوهما علی موجد القبض والبسط دون ما حل فیه، وعدم صحة اطلاق المائت والنائم ونحوهما علی موجد الموت والنوم وصحته علی من حل فیه لا یمکن تبریره إلا بالسماع والوصول من اللغة کذلک.

المحاولة الثانیة: أن منشأ هذا الاختلاف، اختلاف نوعی الفعل هما المتعدی واللازم، بیان ذلک أن الفعل إذا کان متعدیاً کضرب وقتل وبسط ونحو ذلک فبطبیعة الحال یکون قیام المبدأ علی الذات فی اسم فاعله صدوریاً کالضارب والقاتل والباسط والقابض والخالق والرازق والمتکلم وهکذا وأنها تدل علی تلبس الذات بالمبدأ بنحو الصدور والایجاد، غایة الأمر أن خصوصیة الصدوریة إنما جائت من قبل المبدأ فیه لا الهیئة.

نتائج البحث... وأما اذا کان الفعل لازماً کمات ونام وعلم وسکن وماشاکل ذلک فبطبیعة الحال یکون قیام المبدأ بالذات فی اسم فاعله حلولیاً کالمائت والنائم والعالم والساکن ونحو ذلک وإنها تدل علی تلبس الذات بالمبدأ بنحو الحلول، غایة الأمر أن خصوصیة الحلولیة إنما جائت من قبل المبدأ فیه أی فی الفعل اللازم، فإذن هذا الاختلاف یکون علی القاعدة، وعلی ذلک فیصحّ اطلاق المتکلم علیه سبحانه وتعالی ولا یصح اطلاقه علی الهواء، کما لا یصح اطلاق الضارب علی

ص:54

من وقع علیه الضرب والقاتل علی من وقع علیه القتل وهکذا(1).

نتائج البحث

نذکر نتائج البحث فی عدة نقاط:

الاُولی: أن الطلب مغایرللارادة، فان مفهوم الطلب السعی وراءالمقصود وهو قدیکون تکوینیاً وقدیکون تشریعیاً، ومفهوم الارادة الشوق المؤکّد فی النفس وقد یراد منها المشیئة والاختیار، وعلی کل حال فهی مباینة للطلب مفهوماً ومصداقاً، فما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) من اتحاد الطلب مع الارادة واقعاً و حقیقة، فلا یرجع إلی معنی محصل، نعم الطلب التشریعی عین الارادة التشریعیة.

الثانیة: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الطلب عنوان للفعل الخارجی أو الذهنی ولیس منشأً بالأمر لا مادةً ولا هیئةً، مبنی علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع وهو التعهد، وأما علی المبنی الصحیح هناک فالأمر موضوع مادةً وهیئةً للطلب المولوی المساوق للوجوب کما مرّ.

الثالثة: أن تفسیر الأشاعرة للکلام النفسی بما له من الممیزات ککونه مدلولا للکلام اللفظی وقائماً بذاته سبحانه وتعالی قیام الصفة بالموصوف کالعلم والقدرة والارادة وأنه قدیم وغیر العلم والارادة لایرجع إلی معنی محصل، بل هو أشبه شیء بالخیال.

الرابعة: أن القول بالکلام النفسی لایتوقف علی القول بتغایر الطلب مع الإرادة کما یظهر من صاحب الکفایة (قدس سره)، وذلک لأن الطلب علی هذا القول لا یخلو من أن یکون تکوینیاً أو تشریعیاً، وعلی کلا التقدیرین فهو لیس بکلام نفسی. أما علی الأول فهو قائم بالطالب قیام الفعل بالفاعل لا قیام الصفة

-

ص:55


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 30:2.

بالموصوف والمفروض أن الکلام النفسی صفة لا فعل. وأما علی الثانی فهو فعل اعتباری لا واقع موضوعی له إلاّ فی عالم الاعتبار، وأمر حادث وقائم بالمعتبر قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف.

الخامسة: أن الأشاعرة قد استدلوا علی الکلام النفسی بوجوه:

الوجه الأول: أنهم ذکروا عدة ممیزات للکلام النفسی وانه بهذه الممیزات لاینطبق علی الکلام اللفظی، منها أنه مدلول للکلام اللفظی ومنها أنه قدیم لا حادث ومنها أنه قائم بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل ومنها أنه غیر العلم والإرادة.

ولکن قد تقدم أنه بتلک الممیزات لاینطبق علی مدلول الخطابات القرآنیة من الاخباریة والانشائیة لعدم توفرها فیه.

الوجه الثانی: أن الله تعالی قد وصف نفسه بالتکلم فی کتابه الکریم وهذا یدل علی أنه صفة له تعالی لا فعل.

ولکن تقدم أنه مبنی علی الخلط بین الصفات الذاتیة والصفات الفعلیة، والتکلم من الصفات الفعلیة ولا یمکن أن یکون من الصفات الذاتیة.

نظریة الفلاسفة: الارادة من الصفات الذاتیة ونقدها... الوجه الثالث: أن عدة من الآیات قد نصّت علی أن الله تعالی متکلم، ولازم ذلک أن یکون قیام التکلم بذاته تعالی قیام الصفة بالموصوف لا الفعل بالفاعل وإلاّ لم یصح اطلاق المتکلم علیه، ومن هنا لا یصح اطلاق مثل النائم والمائت ونحوهما علیه تعالی مع أن مبدئه قائم بذاته تعالی قیام الفعل بالفاعل.

والجواب: أن منشأ هذا الفرق اما السماع أو الفرق بین الفعل المتعدی والفعل اللازم کما تقدم.

ص:56

نظریة الفلاسفة
اشارة

الارادة من الصفات الذاتیة ونقدها

رای الفلاسفة و المحقق الخراسانی

قد تسأل أن ارادته تعالی وتقدس هل هی من الصفات الذاتیة کالعلم والقدرة ونحوهما أو من الصفات الفعلیة کالخلق والرزق وغیرهما؟ فیه قولان: المعروف والمشهور بین الفلاسفة هو القول الأول(1) ، وقد اختاره جماعة من الاُصولیین أیضاً منهم المحقق الخراسانی (قدس سره) والمحقق الأصبهانی (قدس سرهما).

أما المحقق الخراسانی (قدس سره) فقد ذکر فی وجه ذلک أن ارادته تعالی التکوینیة عبارة عن العلم بالنظام الکامل التام ولیست شیئاً آخر(2) ، فلذلک بنی علی أنها من الصفات الذاتیة هذا، ولکن لایمکن المساعدة علی ما ذکره (قدس سره)، وذلک لأنه ان أراد بهذا التفسیر أن الارادة علم مفهوماً وبالحمل الأولی.

فیرد علیه أولا: أن مفهوم الارادة لیس هو العلم بالنظام الکامل التام، بداهة أن مفهوم الارادة غیر مفهوم العلم ولیس لفظ الارادة ولفظ العلم من اللفظین المترادفین کالانسان والبشر. فالنتیجة أن تفسیر الارادة بالعلم تفسیر خاطیء جداً.

وثانیاً: أن ذلک یستلزم خلف الفرض، لأن لازم ما أفاده (قدس سره) أن الارادة لیست صفة اخری فی قبال العلم، لأن ملاک تعدد الصفات الذاتیة العلیا تعدد مفاهیمها فی مرحلة المفهوم وتباینها فی هذه المرحلة، فان مفهوم القدرة غیر

-

.

ص:57


1- (1) - کما فی الحکمة المتعالیة فی الأسفار الأربعة 341:6. (السفر الثالث، الموقف الرابع، الفصل 7)
2- (2) - کفایة الاُصول: 67.

مفهوم العلم ومفهوم الحیاة، وهکذا وأما مطابقها فی الخارج فهو واحد بالذات وهو ذاته الأحدیة، لأن جمیع صفاته الذاتیة العلیا عین ذاته خارجاً والتغایر إنما هو فی المفاهیم فحسب، وعلیه فلو کانت الارادة عین العلم مفهوماً وخارجاً فهی لیست صفة اخری فی مقابل العلم بل هی صفة العلم، وقد یعبر عنها بالارادة، وإن أراد بذلک أنها عین العلم خارجاً وعیناً. فیرد علیه أن ذلک مجرد دعوی منه فی المسألة ولم یأت ببرهان علیه، وسوف نشیر إلی قیام دلیل علی أنها من الصفات الفعلیة دون الذاتیة، وإن أراد بذلک أن الارادة قسم من العلم الأزلی وهو علمه تعالی بالنظام الکامل التام کالسمیع والبصیر فان الأول علمه تعالی بالمسموعات والثانی علمه تعالی بالمبصرات.

فیرد علیه أولا: أن لازم ذلک أن الارادة لیست صفة ذاتیة مستقلة فی مقابل العلم والقدرة والحیاة بل هی قسم من العلم وهو العلم بالنظام الکلّی کالسمیع والبصیر، وهذا خلف.

وثانیاً: أن ذلک بحاجة إلی دلیل واقامة برهان ولا یکفی مجرد الدعوی والمفروض أنه (قدس سره) لم یأت ببرهان علی ذلک.

فالنتیجة أن ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) لایرجع إلی معنی صحیح.

رای المحقق الأصبهانی

وأما المحقق الأصبهانی (قدس سره) فقد أفاد فی وجة ذلک ما نصه: لا ریب فی أن مفاهیم صفاته تعالی الذاتیة متخالفة لا متوافقة مترادفة وإن کان مطابقها فی الخارج واحداً بالذات ومن جمیع الجهات، مثلا مفهوم العلم غیر مفهوم الذات ومفهوم بقیة الصفات وإن کان مطابق الجمیع ذاته بذاته لا شیء آخر منضّماً إلی ذاته فانه تعالی صرف الوجود وصرف القدرة وصرف العلم وصرف الحیاة وصرف الارادة، ولذا قالوا وجود کله وقدرة کله وعلم کله وحیاة کله وارادة

ص:58

کله، مع أن مفهوم الارادة مغایر لمفهوم العلم ومفهوم الذات وسائر الصفات، ولیس مفهوم الارادة العلم بالنظام الأصلح الکامل التام کما فسرها بذلک المحقق صاحب الکفایة (قدس سره)، ضرورة أن رجوع صفة ذاتیة إلی ذاته تعالی وتقدس وإلی صفة اخری کذلک إنما هو فی المصداق لا فی المفهوم، لما عرفت من أن مفهوم کل واحد منها غیر مفهوم الآخر، ومن هنا قال الأکابر من الفلاسفة أن مفهوم الارادة هو الابتهاج والرضا أو ما یقاربهما معنی لا العلم بالصلاح والنظام ویعبر عنه بالشوق الأکید فینا، والسر فی التعبیر عن الارادة فینا بالشوق المؤکد وبصرف الابتهاج والرضا فیه تعالی هوانا لمکان امکاننا ناقصون فی الفاعلیة وفاعلیتنا لکل شیء بالقوة، فلذا نحتاج فی الخروج من القوة إلی الفعل إلی مقدمات زائدة علی ذواتنا من تصور الفعل والتصدیق بفائدته والشوق الأکید، فیکون الجمیع محرکاً للقوة الفاعلة المحرکة للعضلات وهذا بخلاف الواجب تعالی، فانه لتقدّسه عن شوائب الامکان وجهات القوة والنقصان فاعل بنفس ذاته العلیمة المریدة، وحیث أنه صرف الوجود وصرف الخیر مبتهج بذاته أتم الابتهاج وذاته مرضی لذاته أتم الرضا، وینبعث من هذا الابتهاج الذاتی وهو الارادة الذاتیة ابتهاج فی مرحلة الفعل، فان من أحب شیئاً أحب اثاره وهذه المحبة الفعلیة هی الارادة فی مرحلة الفعل وهی التی وردت الاخبار عن الأئمة الاطهار (علیهم السلام)(1). ما أفاده (قدس سره) فی هذا النص امور:

الأول: أن مفهوم الارادة بالحمل الأولی الذاتی هو الرضا والابتهاج وهو غیر مفهوم العلم، فان مفهومه انکشاف الواقع فلا یصحّ تفسیر أحدهما بالآخر وإن کان مطابقهما واحداً بالذات وهو ذاته تعالی.

-

ص:59


1- (1) - نهایة الدرایة 278:1.

الثانی: أن الابتهاج والرضا فی مرحلة الذات هو الارادة الذاتیة التی هی من الصفات العلیا الکمالیة کالعلم والقدرة ونحوهما، وفی مرحلة الفعل هو الارادة الفعلیة التی هی من آثار ارادته الذاتیة.

الثالث: أن الارادة فی الانسان هی الشوق الأکید المحرّک للقوة العاملة للعضلات نحو المراد، وتحققها فی النفس یتوقف علی مقدمات کالتصور والتصدیق بالفائدة ونحوهما، بینما الارادة فی ذاته تعالی لا تتوقف علی أیة مقدمة خارجة عن ذاته المقدسة کعلمه وقدرته ونحوهما.

ولنأخذ بالنظر إلی هذه الاُمور:

أما الأول: فلأنه (قدس سره) إن أراد بهذا التفسیر تفسیرها بمعناها العرفی اللغوی، ففیه أنه لیس معناها لا لغة ولا عرفاً، فان الارادة مستعملة فی أحد معنیین:

الأول: الشوق المؤکد فی النفس. والثانی: المشیئة والاختیار.

وإن أراد (قدس سره) به بیان حقیقة الارادة فإنها من الصفات الذاتیة العلیا کالعلم والقدرة والحیاة ونحوها، فیرد علیه أن ما أفاده (قدس سره) من البیان فی هذا النص لایتضمّن أی برهان علی أن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة کالعلم والقدرة ولا اشارة إلی ذلک، وإنما هو بیان وتقریراً اختاره (قدس سره) من دون الاشارة إلی تبریره وسببه، فلذلک لابد من النظر إلی ما هو المبرر لاختیار الفلاسفة وجماعة من الاُصولیین لهذه النظریة مع أن المستفاد من الکتاب والسنة إن إرادته به تعالی فعله کسائر أفعاله، اما من الکتاب فقوله تعالی: (إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ )(1) ، فإنه ناص فی أن ارادته تعالی هی أمره التکوینی ویعبر عنه بمشیئته

-

ص:60


1- (1) - سورة یس (36):82.

تعالی أیضاً، واما من السنة فهی روایات کثیرة تنصّ بمختلف الألسنة فی أن ارادته فعله تعالی(1) وفی بعضها نفی الارادة الأزلیة الذاتیة(2) وفی بعضها الآخر إن من یقول بأن الله لم یزل مریداً شائیاً فلیس بموحد(3) ، وهکذا.

ولکن علی الرغم من ذلک فقد اختار هؤلاء الجماعة تبعاً للفلاسفة ان ارادته تعالی عین ذاته المقدسة کالعلم والقدرة وإنها هی الابتهاج والرضا فی مرتبة ذاته تعالی، ولکن هذا الاختیار فی مقابل الکتاب والسنة لایمکن أن یکون جزافاً وبدون نکتة مبررة لذلک، وتلک النکتة التی دعتهم إلی اختیار هذه النظریة متمثلة فی أمور:

الأول: أن اختیار الفعل مرتبطة بکونه مسبوقاً بالارادة بنحو ارتباط المعلول بالعلة وإلا کان الفعل تسریاً لا ارادیاً اختیاریاً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری ان الارادة فی الانسان هی الشوق الأکید فی النفس، فإنه إذا بلغ مرتبة الارادة ترتب علیها تحریک القوة العاملة المحرکة للعضلات قهراً نحو الفعل فی الخارج وإیجاده فیه، فالارادة حصة خاصة من الشوق المؤکد فی النفس وهی ماترتب علیها أثرها (وهو تحریک العضلات) ترتب المعلول علی العلة.

وأما فی الواجب تعالی فهی عین ذاته خارجاً کالعلم والقدرة ونحوهما ولایمکن أن تکون عین فعله الخارجی الاختیاری، لأن اختیاریة فعله تعالی مرتبطة بکونه مسبوقاً بالارادة، فکیف یعقل أن یکون عین الارادة، فلذلک لابد

-

.

.

ص:61


1- (1) - الکافی 109:1 ح 3، باب الارادة انهامن صفات الفعل. بحار الأنوار 137:4 ح 4، باب القدرة والارادة
2- (2) - الکافی، الباب المتقدم، ح 1. بحار الأنوار، الباب المتقدم، ح 16
3- (3) - التوحید للصدوق - علیه الرحمة - ص 338، ح 5 باب المشیئة والارادة. بحار الأنوار، الباب المتقدم، ح 18.

من الالتزام بکون ارادته تعالی عین ذاته حتی تکون أفعاله الاختیاریة مسبوقة بها وإلا کانت قسریّة لا ارادیة اختیاریة.

الثانی: أن مبدأ العلیة مبدأ عام فی الکون وإنه من القضایا الأولیة الفطریة، وسرّ حاجة الشیء إلی هذا المبدأ امکانه الوجودی وفقره الذاتی، وعلی هذا الأساس فامکان الفعل الاختیاری عین ارتباطه الوجودی بعلّته وفقره الذاتی إلیها وهی الارادة ولایمکن فرض تحقّقه ووجوده بدونها وإلا لزم خروجه واستغنائه عن مبدأ العلیة وهو کماتری هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری ان ارادته تعالی وتقدس حیث أنها عین ذاته، فنتیجة ذلک أن ذاته المریدة هی العلة التامة للأشیاء وتکوینها خارجاً، باعتبار أن فاعلیته تعالی لما کانت منزهة عن جمیع شوائب الامکان وکافة جهات النقصان والقوة فهی فعلیة من کل الجهات ومساوقة لسد تمام أبواب العدم، فإذا کانت فاعلیته فی مرتبة ذاته تامة ومطلقة فیستحیل انفکاک الأشیاء عنها کاستحالة انفکاک المعلول عن العلة التامة، أو فقل أنه تعالی فاعل بنفس ذاته العلیمة المریدة، فلذلک تکون فاعلیته من أتم مراتب الفاعلیة، باعتبار أنه صرف الوجود وصرف الارادة ومنزه عن جمیع شوائب النقص والامکان. وأما فی الانسان فارادته التی هی مرتبة خاصة من الشوق المؤکّد علة تامة لفعله فی الخارج، لأنها إذا تحقّقت ترتب علیها تحریک العضلات قهراً نحو إیجاد الفعل، وحینئذ فیستحیل انفکاکه عنها کاستحالة انفکاک المعلول عن العلة التامة.

الثالث: أنه لا یوجد هناک شیء آخر بدیلا عن الارادة یصلح أن یکون علة للفعل، اما العلم فهو لا یصلح أن یکون علة لوجود المعلوم فی الخارج لأنه کاشف عنه وکذلک القدرة، فاذن بطبیعة الحال أن ما یصلح أن یکون علة للفعل

ص:62

هو الارادة، فلذلک التزموا بأن ملاک اختیاریة الفعل هو کونه مسبوقاً بها ومعلولا لها وإلاّ کان قسریا لا ارادیاً.

ولنا تعلیق علی هذه النظریة وهو أن الکلام فی المسألة لیس فی الاصطلاحات الفارغة وأن الفعل إرادی أو لیس بارادی، وإنما الکلام فی واقع الحال فیها، ومن الطبیعی أن الفعل واقعاً لایمکن أن یکون اختیاریاً إذا کان معلولا للارادة، وذلک لأن الارادة بتمام مقدماتها ومبادئها غیر اختیاریة، وهذه المقدمات والمبادیء معلولة لوجود عللها فی الواقع وناشئة بالضرورة منها إلی أن تنتهی السلسلة إلی الواجب بالذات، وعلیه فلا محالة یکون حال الفعل الصادر من الانسان بالارادة کحال ید المرتعش واصفرار وجه الخائف عند الخوف الناشیء بالضرورة من عوامل مؤثرة فی النفس واضطرابها الناشئة بالضرورة من عللها الطبیعیة إلی أن تنتهی إلی الواجب بالذات، فإذن کیف یکون هذا الفعل اختیاریاً، فان الاختیار ینافی الوجوب لأن الوجوب مساوق للاضطرار المقابل للاختیار، وعلی هذا فلا فرق بین الفعل الصادر من الانسان بالارادة وبین حرکة ید المرتعش وحرکة الامعاء عند الخوف إلا فی التسمیة والاصطلاح، فیسمی الأول بالفعل الاختیاری الارادی، والثانی بالفعل الاضطراری القسری، وأما بحسب الواقع فلا فرق بینهما اصلا إذ کما أن عند تحقق الخوف تحقق حرکة الامعاء قهراً شاء أو لم یشأ، کذلک عند تحقق الارادة فی النفس تحقق الفعل فی الخارج قهراً شاء أو لم یشأ.

والخلاصة، أن قاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد تحکم علی فعل الانسان باعتبار أنه ممکن، ونتیجة هذا أنه غیر مختار فی أفعاله لمکان أنها تصدر منه بالضرورة والضرورة تنافی الاختیار ولا تجتمع معه، ولازم ذلک قبح

ص:63

محاسبة العبد علی أفعاله والعقاب علیه فانه کعقاب المرتعش علی حرکة یده، بل یلزم من ذلک لغویة التکلیف نهائیاً بمعنی أن ارسال الرسل وإنزال الکتب وتبلیغ الأحکام لغو وبلا فائدة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الارادة فی نفسها لا تصلح أن تکون علة تامة للفعل، وذلک لأن وجدان کل فرد تدرک بالضرورة أن الارادة مهما بلغت من القوة والشدة فی النفس کماً وکیفاً لم تترتب علیها حرکة العضلات قهراً وبالضرورة کحرکة ید المرتعش أو اصفرار وجه الخائف عند الخوف، وهذا غیر قابل للمناقشة هذا من جهة، ومن جهة ثانیة قد تتحرک العضلات نحو الفعل وإیجاده فی الخارج رغم عدم وجود الارادة فی النفس بل قد یکون الموجود فیها الکراهة بدیلة عنها، ونتیجة هاتین الجهتین أن صدور الفعل من الانسان لایمکن أن یتبع وجود الارادة فی النفس کتبعیة المعلول لوجود العلة، ومن هنا فالصحیح فی المسألة هو ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره)(1) وأوضحه السید الاُستاذ (قدس سره)(2) من أن هناک شیئاً آخر غیر الارادة والفعل مرتبط به وهو السلطنة والاختیار، فان سلطنة الانسان وإختیاره علی أفعاله أمر وجدانی تدرکه الفطرة السلیمة وهی تکفی لتحقق الفعل فی الخارج کانت هناک إرادة فی النفس أم لا، ولایمکن فرض احتیاجها فی ذلک إلی ضمّ مقدمة اخری إلیها وإلا لتخرج السلطنة عن کونها سلطنة وهو خلف.

وبکلمة، أن إسناد وجود الفعل إلی السلطنة وصدوره منها لیس معناه تخصیص مبدأ العلیة بغیر الفعل الاختیاری وتحدیده، بداهة أنه لایمکن تحدیده،

ص:64


1- (1) - أجود التقریرات 137:1.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 53:2-59.

لأن هذا المبدأ کنظام عام للکون من القضایا الفطریة الأولیة المبرهنة باستحالة استغناء الممکن فی وجوده عن العلة، والا لم یستقم علم ولا نظام فی الکون ولا یمکن اثبات المبدأ للعالم. نعم، قاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد، لیست کقاعدة عامة للکون، فان الفطرة السلیمة إنما تحکم بوجوب وجود المعلول بوجود علته إذا کان من سنخ وجودها وموجوداً بوجودها فی مرتبتها بنحو الأتم، ومن هنا یکون وجوداً لمعلول من مراتب وجود العلة النازلة، وأما الفعل الاختیاری فهو وإن کان ممکناً وبحاجة إلی علة إلا أن وجوده لما لم یکن من سنخ وجود علته وهی السلطنة، فلا تحکم الفطرة السلیمة الوجدانیة بوجوب وجوده بوجودها بل هو ظل علی امکانه، لأن نسبة السلطنة إلیه وجوداً وعدماً نسبة واحدة فلا ترجیح لأحدهما علی الآخر، وبذلک یختلف الفعل الاختیاری عن المعلول الطبیعی، فان المعلول الطبیعی بما أنّ وجوده من سنخ وجود علته فیجب وجوده بوجودها، والفعل الاختیاری بما أن وجوده لیس من سنخ وجود علته فلا یجب وجوده بوجودها، فلهذا لا یکون الفعل الاختیاری من صغریات قاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد. فالنتیجة أن الفعل یصدر من الانسان بالسلطنة والاختیار وهی علة تامة له، ومع ذلک لا یخرج الفعل عن اختیار الانسان وسلطانه وإلا لزم الخلف هذا فی الانسان، وأما فی الواجب تعالی فلنا دعویان:

الاُولی: أن ارادته تعالی من الصفات الفعلیة دون الذاتیة.

الثانیة: علی تقدیر تسلیم أنها من الصفات الذاتیة ومع ذلک لایمکن أن تکون علة تامة لفعله.

أما الدعوی الاُولی فلا یمکن لنا اثبات أن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة

ص:65

کالعلم والقدرة دون الصفات الفعلیة ولا برهان علی ذلک ولا تحکم به الفطرة السلیمة، وأما التزام الفلاسفة بذلک فهو مبنی علی نقطة خاطئة قد تقدمت الاشارة إلیها، فإذن لا مبرر للالتزام بأن الارادة من صفات الذات کالعلم والقدرة، وأما تفسیر صاحب الکفایة (قدس سره) الارادة بالعلم بالنظام الأتم فقد مرّ أنه تفسیر خاطیء لأن مفهوم الارادة غیر مفهوم العلم. وأما تفسیر المحقق الأصبهانی (قدس سره) الارادة بالرضا والابتهاج(1) فأیضاً کذلک، لأنه إن أراد بذلک مفهوم الرضا بالحمل الأولی الذاتی، فیرد علیه أن مفهوم الارادة غیر مفهوم الرضا ولا تکون الارادة مع الرضا من اللفظین المترادفین، وإن أراد به واقع الرضا بالحمل الشایع، فیرد علیه أن الرضا بالحمل الشایع من صفات الفعل لا الذات، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن هناک شاهدین علی أن ارادته تعالی من الصفات الفعلیة دون الذاتیة.

الشاهد الأول: الکتاب والسنة، أما الکتاب فقوله تعالی:(إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ) (2) ، فانه ناص فی أن ارادته تعالی فعله وأمره التکوینی، ودعوی أن الآیة الشریفة بنفسها لاتنفی الارادة الذاتیة وإن کانت صحیحة إلا أنک عرفت أنه لا دلیل علیها وبضم ذلک إلی الآیة الشریفة. فالنتیجة، أن ارادته تعالی فعلیة لا ذاتیة.

وأما السنة فهناک روایات کثیرة قد صرحت بأن ارادته تعالی مشیئته وهی فعله، وفی بعضها قد صرح بنفی الارادة الذاتیة له تعالی وسوف نشیر إلی تلک

ص:66


1- (1) - نهایة الدرایة 246:1 و 279.
2- (2) - سورة یس (36):82.

الروایات.

الشاهد الثانی: ما أشرنا إلیه آنفاً من الفرق بین الصفات الذاتیة العلیا وبین الصفات الفعلیة ثبوتاً واثباتاً.

أما ثبوتاً فلا یمکن فرض خلوّ ذاته المقدسة عن الصفات العلیا الذاتیة کالعلم والقدرة ونحوهما وإلا لزم أن تکون ذاته تعالی فی مرتبة ذاته غیر عالمة وغیر قادرة وبحاجة إلی العلم والقدرة والحیاة وهذا مستحیل، بداهة أن ذاته المقدسة فی مرتبة ذاته عین العلم والقدرة والحیاة وغنّیة بالذات ولهذا یکون تصورها للذات الواجبة ملازماً للتصدیق بثبوتها لها عیناً، بینما یمکن فرض خلو ذاته المقدسة عن الصفات الفعلیة کالخلق والرزق ونحوهما والارادة من هذا القبیل، إذ لایلزم من فرض خلو ذاته فی مرتبة ذاته عن الارادة أی محذوره لازم من فرض خلوها فی تلک المرتبة من العلم والقدرة والحیاة.

وأما اثباتاً فلما تقدم من أن أدوات النفی والشرط والتمنی والترجی وما شاکل ذلک لا تدخل علی الصفات الذاتیة، بینما تلک الأدوات تدخل علی الصفات الفعلیة، وحیث أنه یصح دخولها علی الارادة، فهو دلیل علی أنها من الصفات الفعلیة، فاذن لا مجال للشک فی أن إرادته تعالی فعلیة لا ذاتیة.

وأما الدعوی الثانیة: فلو سلمنا أن ارادته تعالی ذاتیة کالعلم والقدرة، فمع ذلک لایمکن أن تکون علة لفعله بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد، لأن نتیجة ذلک أن لا یکون الواجب تعالی مختاراً فی فعله، باعتبار أنه ناشیء بالضرورة من ارادته الواجبة بالذات والضرورة تنافی الاختیار، ومعنی ذلک نفی القدرة والسلطنة عن الله تعالی علی أفعاله وبالتالی أنه لا فرق من هذه الناحیة بین أن یکون مبدأ الکون هو الله تعالی أو المادة العمیاء وهو کماتری،

ص:67

ومجرد الاصطلاحات والتعبیرات الفارغة بأن الله تعالی فاعل بالارادة والاختیار والمادة فاعلة بالایجاب والقسر، لا قیمة لها ولا تغیر الواقع عما هو علیه، فمن أجل هذه النقطة وحکم الفطرة السلیمة بأن فعله تعالی صادر من ذاته المقدسة باختیاره وسلطنته المطلقة التامة لا بإرادته وإن قلنا فرضاً أنها ذاتیة، وقد مرّ أن ارتباط الفعل الاختیاری بالسلطنة غیر ارتباط المعلول الطبیعی لعلته التامة، فان الأول لا یجب وجوده بوجود السلطنة بل یبقی علی حدّ امکانه، وأما الثانی فهو یجب وجوده بوجود علته.

ومن هنا قلنا أن ارتباط الأول بها لا یکون من صغریات قاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد، باعتبار أن نسبة السلطنة إلی الفعل وجوداً وعدماً نسبة واحدة، ومع ذلک تکفی لتحقق أحد الطرفین بدون الحاجة إلی ضمّ مقدمة اخری إلیها وإلا لتخرج السلطنة عن کونها سلطنة وهو خلف، وقد یعبر عن السلطنة بالاختیار تارة وبالمشیئة اخری، وسیأتی هذا البحث بمزید من التوضیح قادماً.

معنی حدیث «خلق الله المشیئة بنفسها...»

بقی هنا شیء هو أنه قد ورد فی صحیحة عمر بن اذنیه قوله (علیه السلام): «خلق الله المشیئة بنفسها ثم خلق الأشیاء بالمشیئة»(1).

یقع الکلام فی المراد من المشیئة المخلوقة بنفسها، فهل المراد منها السلطنة والاختیار أو الارادة فیه قولان:

تفسیر المحقق الأصبهانی

فذهب المحقق الأصبهانی (قدس سره) إلی القول الأول بدعوی أن المشیئة علی نوعین:

ص:68


1- (1) - الکافی 110:1، ح 4، باب الارادة أنها من صفات الفعل. التوحید للصدوق - علیه الرحمة - ص 148، ح 19، باب الذات وصفات الفعل.

مشیئة ذاتیة وهی عین ذاته المقدسة کبقیة صفاته الذاتیة فالمشیئة الواجبة عین الواجب تعالی، ومشیئة فعلیة وهی عین الوجود الاطلاقی المنبسط علی الماهیات، والمراد من المشیئة فی هذه الروایة وغیرها هو المشیئة الفعلیة التی هی عین الوجود المنبسط والوجود الاطلاقی، وعلی هذا فمعنی الحدیث الشریف هو أن موجودیة الوجود المنبسط بنفسها لا بوجود آخر، وأما موجودیة سائر الاشیاء فی النظام الجملی التسلسلی فانما هی بالوجود المنبسط وهو فعله الأول الاطلاقی(1).

وغیر خفی أن هذا التفسیر منه (قدس سره) مبنی علی نظریة الفلاسفة القائلة بتوحید الفعل علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بین ذاته المریدة بین الأشیاء، وحیث أن هذا المبدأ غیر متوفر بین ذاته المقدسة المریدة بین الأشیاء بکافة أشکالها المادیة، فلذلک التزموا بالنظام الجملی الطولی وأن الصادر الأول منه تعالی هو الوجود الصرف المعبر عنه تارة بالوجود المنبسط واُخری بالوجود الاطلاقی الذی لا قید له. وفیه أنه لا أساس لما أفاده (قدس سره) من التفسیر لانه مبنی علی أن تکون لله تعالی إرادتان:

إرادة ذاتیة وهی العلة التامة للأشیاء وفعلیة، ولکن قد تقدم أنه لا یمکن أن تکون ارادته ذاتیة، وعلی تقدیر تسلیم أنها ذاتیة فلایمکن أن تکون علة لفعله تعالی کما مر، بل العلة له سلطنته المطلقة التامة علی الأشیاء بنسبة واحدة بالنسبة إلی کلا طرفیها من الوجود والعدم، ومن هنا یظهر أن نظریة الفلاسفة التی ترتکز علی علیة ذاته المقدسة المریدة التامة من جمیع الجهات علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول، تستلزم نفی القدرة الأزلیة عن الله

ص:69


1- (1) - انظر نهایة الدرایة 287:1 - تعلیقة منه (قدس سره).

تعالی وضرورة صدور الفعل منه واضطراره إلیه واقعاً، وحینئذ فالتعبیر عن أنه تعالی مختار فی أفعاله لا مضطر وانه فاعل بالارادة لا بالایجاب والضرورة مجرد اصطلاحات متداولة بینهم وتعبیرات فارغة بدون المحتوی هذا، فالصحیح هو القول الأول وأن المراد من المشیئیة المخلوقة بنفسها هو السلطنة المطلقة للذات الواجبة، والمراد من خلقها بنفسها أنها ثابتة کذلک باعتبار أنها من آثار قدرته تعالی الذاتیة، فاذن یکون معنی الحدیث الشریف خلق الله المشیئة بنفسها أی اثبت سلطنته المطلقة وأحکمها بنفسها لا بسلطنة اخری، والمراد من الاثبات، الاثبات الأزلی، ثم اثبت سائر الأشیاء بها یعنی أظهرها وأوجدها، وسیأتی مزید من البحث عنها فی ضمن البحوث الآتیة.

نتیجة هذا البحث أمور:

الأول: أن الفلاسفة وجماعة من الاُصولیین منهم صاحب الکفایة والمحقق الأصبهانی (قدس سرهما) ذهبوا إلی أن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة کالعلم والقدرة، أما صاحب الکفایة (قدس سره) فقد فسّر الارادة بالعلم بالنظام الأکمل والأتم، ولکن تقدم أن هذا التفسیر خاطیء جداً لأن مفهوم الارادة غیر مفهوم العلم، وإلاّ فلازم ذلک أن تکون الارادة والعلم صفة واحدة لا صفتین، لأن تعدد الصفات الذاتیة إنما هو بتعدد مفاهیمها وإلاّ فهی فی الواقع الخارجی شیء واحد ولا تعدد فیه.

وأما المحقق الأصبهانی (قدس سره) فقد فسّرها بالابتهاج والرضا، ولکن قد مرّ عدم صحة هذا التفسیر أیضاً.

الثانی: أن منشأ التزام هؤلاء بأن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة هو أن فعله ممکن والممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد، وحینئذ فلابدّ له من علة، وذاته المقدسة فی نفسه لاتصلح أن تکون علة وکذلک علمه وقدرته، وما یصلح

ص:70

أن یکون علة له هو ارادته تعالی، وهذه الارادة لابد من أن تکون عین ذاته تعالی وتقدّس، إذ لوکانت عین فعله فهی بحاجة إلی علة، فلذلک التزموا بأن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة. ولکن قد تقدم أن فعله تعالی لا یمکن أن یکون معلولا لارادته حتی ولو قلنا بأنّها من الصفات الذاتیة.

الثالث: الصحیح أن ارادته تعالی من الصفات الفعلیة لا الذاتیة، اما أولا: فلأنه لایوجد فی کلمات القائلین بأنها من الصفات الذاتیة برهان علی ذلک، وإنما التزموا بذلک من جهة ما أشرنا إلیه من النکتة وبعد بطلان تلک النکتة وعدم الأصل لها فلا موجب للالتزام بأنها من الصفات الذاتیة. وثانیاً: أن الخصائص والممیزات للصفات الذاتیة العلیا غیر متوفرة فیها، وانما المتوفر فیها الخصائص والممیزات للصفات الفعلیة ثبوتاً واثباتاً علی تفصیل تقدم. وثالثاً: أن الروایات الکثیرة تنص علی أن ارادته تعالی من الصفات الفعلیة لا الذاتیة. ورابعاً: أن فعل الانسان لایمکن أن یکون معلولا لارادته التی هی عبارة عن الشوق المؤکد فی اُفق نفسه وإلا لزم أن لایکون مختاراً فی أفعاله، باعتبار أن الارادة بتمام مبادئها غیر اختیاریة ومعلولة لعللها وناشئة بالضرورة منها إلی أن تنتهی السلسلة إلی الواجب بالذات، ونتیجة ذلک قبح العقاب بل لغویة التکلیف نهائیاً.

الرابع: أن المراد من المشیئة الواردة فی الآیات والروایات منها صحیحة عمر بن اذینه: «خلق الله المشیئة بنفسها ثم خلق الأشیاء بالمشیئة»، هو سلطنته المطلقة التامة علی الأشیاء، والمراد من خلقها بنفسها أنها ثابتة کذلک بلحاظ أنها من آثار القدرة الذاتیة کما مرّ، ولیس المراد منها الوجود المنبسط علی الماهیّات، بل لایمکن أن یکون المراد منها ذلک لأنه مبنی علی مبدأ التناسب والسنخیة بین ذاته المقدسة وبین فعله، وقد تقدم أن هذا البناء مستحیل.

ص:71

نظریة الأشاعرة
اشارة

مسألة الجبر ونقدها

رای الاشاعرة

المعروف والمشهور فی الألسنة أن الأشاعرة یقولون بأن العبد فی ید الله تعالی کالمیت فی ید الغسّال، فکما أنه لا حول ولا قوة للمیت أصلا وإنما الحول والقوة تماماً للغسال فکذلک لا حول ولا قوة للعبد وأن الحول والقوة کله لله تعالی وتقدّس وقد استدل علی هذه النظریة بوجوه:

نظریة الأشاعرة: مسألة الجبر ونقدها... الوجه الأول: أن الفعل ممکن والممکن متساوی الطرفین فلا یقتضی وجوده ولا عدمه فتحقق أحد الطرفین دون الطرف الآخر بحاجة إلی مرجح، بداهة أنه لو تحقق بدون وجود المرجح لکان من الصدفة وهی مستحیلة، حیث أن لازم ذلک سد باب اثبات الصّانع باعتبار أن کل شیء ینطوی علی امکان الوجود وامکان العدم بصورة متعادلة، فإذا وجد من دون علة فهو صدفة وهی تمنع عن اثبات المبدأ الأول، إذ لو امکن وجود شیء فی الخارج بدون علة لم یمکن اثباته، فلذلک لایمکن وجود فعل فی الخارج بدون وجود مرجح فیه وعلیه فتنقل الکلام إلی ذلک المرجح، فان کان ممکناً فوجوده بحاجة إلی مرجح آخر وهکذا إلی أن یذهب إلی مالا نهایة له، وبما أن ذلک مستحیل فلابد أن ینتهی إلی مرجح واجب بالذات، ولازم ذلک خروج الفعل عن اختیار الانسان، لأن وجوده مستند فی نهایة المطاف إلی الواجب بالذات، فلایکون صدوره منه بالاختیار بل هو بمثابة الآلة بدون حول ولا قوة له.

والجواب: أن هذا الوجه مبنی علی أن صدور الفعل من الانسان منوط بوجود مرجح خارج عن اختیاره لقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم

ص:72

یوجد. ولکن هذا البناء غیر صحیح لأن المرجح المتوهم له فی المقام هو ارادة الانسان فی النفس، وحیث أن هذه الارادة بتمام مقدماتها ومبادئها غیر اختیاریة وناشئة بالضرورة من عللها الواقعیة إلی أن تنتهی إلی الواجب بالذات، فمن أجل ذلک یکون الانسان غیر مختار فی أفعاله لأن الضرورة تنافی الاختیار.

ولکن قد تقدم أن الارادة بمعنی الشوق المؤکد فی النفس مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة کماً وکیفاً لعوامل داخلیة أو خارجیة لم توجب ضرورة انبعاث النفس نحو تحریک القوة العاملة للعضلات خارجاً وترتبه علیها ترتب المعلول علی العلة التامة قهراً، وهذا أمر فطری وجدانی وغیر قابل للبحث والنقاش، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الارادة لو کانت علة تامة للفعل فلازمه أن یکون الانسان غیر مختار فی أفعاله، لأن ضرورتها بالارادة بقاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد تنافی الاختیار، ونتیجة هذا قبح المحاسبة والعقوبة علیها بل لغویة التکلیف نهائیاً کما مرّ.

ومن ناحیة ثالثة أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بأن فعل الانسان مرتبط بسلطنته وقدرته کانت هناک ارادة فی النفس أم لا، وقد تقدم أن نسبة السلطنة إلی الفعل وجوداً وعدماً علی حد سواء. فالفعل لایخرج عن حد الامکان والتعادل بالسلطنة علیه، وهذه السلطنة رغم أن نسبتها إلی کل من وجود الفعل وعدمه علی حد الامکان لا الضرورة، تکفی لتحقق أحد الطرفین بدون الحاجة لها إلی ضم مقدمة زائدة إلیها وإلاّ لزم خلف فرض السلطنة علیه، ومن هنا قلنا أن ارتباط الفعل الاختیاری بالسلطنة بما أنه فی حد الامکان، فلا یکون مصداقاً لقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد.

ص:73

فالنتیجة علی ضوء هذه النواحی أن الانسان مختار فی أفعاله وإنها تحت سلطانه وقدرته بدون حاجة إلی مقدمة زائدة وهذا لا ینافی کون مبادیء الفعل من الحیاة والقدرة والعلم بیده تعالی وتحت سلطانه المطلق، وذلک لأن الانسان مختار طالما فیه الحیاة والقدرة والعلم. وهذا یکفی فی حکم العقل بحسن التکلیف والحساب والعقاب.

وإن شئت قلت أن أفعال العباد لیست معلولة للارادة وخاضعة لها بل هی خاضعة لسلطنة العباد وقدرتهم علیها مباشرة کانت هناک ارادة أم لا، وأما مبادیء هذه الأفعال فهی خاضعة لسلطنة الله تعالی وقدرته، ونتیجة ذلک أن صدور الفعل من العبد بحاجة إلی مقدمتین:

الاُولی: بید العبد وهی سلطنته وقدرته علیه.

الثانیة: بیده تعالی وتقدس، والمقدمة الاُولی تمتاز عن الثانیة بأمرین: أحدهما أنها فی طول الثانیة ومتفرعة علیها. ثانیهما: أن مقدمیة الاُولی بنحو المباشر والثانیة بالواسطة، وهذا هو معنی الأمر بین الأمرین کما سوف نشیر إلیه تفصیلا(1).

الوجه الثانی: أن فعل العبد ممکن ولیس بواجب ولا ممتنع، ومعنی امکانه أن وجوده وعدمه متعادلان ولاترجیح لأحدهما علی الآخر، فاذا کان ممکناً کان مقدوراً لله تعالی، ولاشیء مما هو مقدور لله تعالی بواقع بقدرة العبد، لاستحالة اجتماع قدرتین مؤثرتین علی مقدور واحد، فاذن لا محالة یقع بقدرة الله عز وجل دون العبد(2).

-

ص:74


1- (1) - عند البحث عن نظریة الامامیة.
2- (2) - انظر شرح المواقف (للشریف الجرجانی) 148:8.

والجواب: أن هذه الوجه مبنی علی الخلط بین المقدور بالمباشرة والمقدور بالواسطة، فان فعل العبد وإن کان مقدوراً لله تعالی إلا أنه مقدور بواسطة قدرته سبحانه علی مبادئه ومقدماته لا علیه مباشرة لاستحالة تعلق سلطنته به بنحو المباشر، وعلی هذا فقدرة العبد علی الفعل مشروط ببقاء حیاته وقدرته وعلمه به بنحو القضیة الشرطیة، فانه طالما تکون المبادیء موجودة فی العبد فهو قادر علی الفعل وصادر منه باختیاره وسلطنته. فاذن مایکون متعلقاً لقدرة العبد وسلطنته مباشرة وهو فعله، یستحیل أن یکون متعلقاً لقدرة الله تعالی وسلطنته کذلک، وما یکون متعلقاً لقدرته سبحانه وسلطنته مباشرة وهو مبادیء الفعل، یستحیل أن یکون متعلقاً لقدرة العبد وسلطنته کذلک.

فالنتیجة: أنه لا یلزم من قدرة العبد علی فعله وکونه تحت سلطنته واختیاره اجتماع قدرتین مؤثرتین فیه، وبکلمة أن ما فی هذا الوجه من الصغری والکبری یعنی أن فعل العبد ممکن وکل ممکن مقدور لله تعالی وإن کان صحیحاً، ضرورة أن الممکنات بکافة أنواعها وأشکالها مقدورة له تعالی، إلا أن ما رتّبه علی تلک الکبری من أنه لاشیء مما هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد، معللا بامتناع اجتماع قدرتین مؤثرتین علی مقدور واحد، خاطیء جداً ولا واقع موضوعی له، وذلک لأن أفعال العباد رغم کونها مقدورة لله تعالی من ناحیة أن مبادئها بیده سبحانه وتعالی، مقدورة للعباد أیضاً وواقعة تحت اختیارهم وسلطانهم مباشرة. ونتیجة ذلک أن الأفعال مقدورة لله عزّ وجل بالواسطة وللعبد بالمباشرة ولا تنافی بینهما أصلا، فاذن لایرجع هذا الوجه إلی معنی محصّل.

الوجه الثالث: ما نسب إلی أبی الحسن الأشعری علی ما فی شرح المواقف وحاصل هذا الوجه، أن فعل العبد صادر منه فی الخارج بقدرة الله تعالی ولیس

ص:75

لقدرته تأثیر فیه، غایة الأمر أن سنة الله قد جرت علی إیجاد القدرة والاختیار فی العبد وإیجاد فعله مقارناً لهما إذا لم یکن هناک مانع فی البین، فیکون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً واحداثاً من دون تأثیر قدرة العبد وإرادته فیه، نعم أنه مکسوب له والمراد به مقارنته لقدرته وإرادته وکونه محلا له(1).

والجواب: أنه إرید بوقوع فعل العبد بقدرة الله وحدها وقوعه بها مباشرة، فقد عرفت أنه مستحیل لاستحالة تعلق مشیئة الله تعالی وسلطنته بفعل العبد کذلک، لأن المحل غیر قابل لذلک، وإن ارید به أن مبادیه من الحیاة والقدرة ونحوهما واقعة بقدرته سبحانه وتعالی وحدها فهو صحیح. ولکنه لایمنع عن کون الفعل تحت قدرة العبد وسلطنته مباشرة، إذ من الواضح أن وقوع المبادیء بقدرته تعالی لایستلزم ضرورة وقوع الفعل من العبد فی الخارج وصدوره منه، بداهة أن تلک المبادیء موجودة فی العبد مع أن الفعل قد یصدر منه، وقد لایصدر فلا ملازمة بین وجودها ووقوع الفعل منه بل هو منوط باختیار العبد وسلطنته وهی تکفی لتحققه بدون الحاجة إلی ضم مقدمة خارجیة إلیها.

وبکلمة أن وقوع الفعل من العبد یتوقف علی مقدمتین طولیتین:

الاُولی: حیاة العبد وقدرته وعلمه.

الثانیة: اختیار العبد وسلطنته علیه مباشرة، وبانتفاء کل واحدة منهما یستحیل وقوع الفعل فی الخارج، فالمقدمة الاُولی تحت قدرة الله وسلطنته المطلقة التامة والمقدمة الثانیة بید العبد، فاذا کانت المقدمة الاُولی متحققة فوقوع الفعل فی الخارج باختیار العبد ومشیئته بدون التوقف علی أی مقدمة اخری.

-

ص:76


1- (1) - شرح المواقف للشریف الجرجانی ص 145-146.

وأما ما فی هذا الوجه من أن عادة الله قد جرت علی إیجاد القدرة والاختیار فی العبد، فاذا لم یکن هناک مانع من إیجاد فعله فأوجده مقارناً لهما فیکون فعله مخلوقاً لله سبحانه احداثاً وابداعاً.

فان ارید بذلک إیجاده تعالی فعل العبد مباشرة من دون دخل لقدرة العبد واختیاره فیه فقد مرّ أنه مستحیل، لأن الفعل الصادر من العبد غیر قابل لتعلق قدرته تعالی واختیاره به مباشرة.

وإن ارید به إیجاده بالواسطة بمعنی أن مبادیء هذا الفعل ومقدماته الأولیة بیده تعالی وتحت سلطانه فهو صحیح ولذلک یصح اسناده إلیه تعالی، باعتبار أن المقدور بالواسطة مقدور، ولکن فعلیة وقوعه فی الخارج بید العبد مباشرة وباختیاره، فانه إذا شاء تحقق بدون التوقف علی مقدمة اخری، لا أن وقوعه فیه مقارن لقدرته بدون التأثیر لها فیه، فانه خلاف الوجدان والفطرة السلیمة.

ومن هنا یظهر أن سنة الله قدجرت علی ذلک لا علی مجرد التقارن الذی لا تقبله الفطرة والوجدان، والنکتة فی ذلک أن سنة الله تعالی جاریة فی الکون علی النظام العلیّ الطولی الساری فی الکائنات برمتها لحاجتها الکامنة فی صمیم ذواتها ووجوداتها التی هی فی الحقیقة عین الفقر والربط إلی أن تنتهی هذه السلسلة إلی الواجب بالذات الذی هو مبدأ الکل فالکل ینال منه.

تفصیل ذلک أن الکائنات بکافة أنواعها وأشکالها خاضعة للقوانین الطبیعیة والنظم الخاصة التی أودعها الله تعالی فی کمون ذواتها وصمیم طبایعها ضمن اطار معین محدد وهی مبدأ التناسب والسنخیة، والسر فی ذلک أن العلل تملک معالیلها فی صمیم کیانها وکمون وجودها بنحو الأتمّ والأکمل ولیست المعالیل موجودة مستقلة فی قبال وجود عللها بل هی تتولد منها وتکون من مراتب وجودها

ص:77

النازلة، مثلا النار تملک الحرارة فی صمیم کیانها وتتولد منها فالکائنات برمّتها خاضعة لهذا المبدأ ویستحیل أن تتخلف فی سیرها وحرکتها عنه، منها الانسان، والمراد من سنة الله الجاریة فی الکون کنظام عام هو مبدأ العلة الساری فی الکائنات تماماً علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة، فإنها لکل مراتبها الطولیة وحلقاتها التصاعدیة بعللها ومعلولاتها عین الفقر والتعلق لاذات له الفقر والتعلق إلی أن تنتهی السلسلة إلی الواجب بالذات فانه مبدأ الکل، وعلی ضوء هذا الأساس فلایمکن القول بأن ترتب المعالیل علی عللها بمجرد جریان عادة الله تعالی بذلک بدون علاقة وارتباط بینهما، لأن مرد هذا القول إلی انکار مبدأ العلیة الذی هو نظام عام للکون وبالتالی الالتزام بالصدفة وانکار المبدأ للعالم، لأن الترابط بین الأشیاء کامن فی صمیم کیانها ووجودها علی أساس مبدأ العلیة القائل بأن کل حادثة ترتبط فی وجودها بأسبابها وشروطها الخاصة علی أساس قانون التناسب والسنخیة، ویرفض هذا المبدأ الصدفة والاتفاق کما یرفض الضرورة الذاتیة للحوادث، ویقول أن العالم مرتبط ارتباطاً وثیقاً کاملا بعضه مع بعضه الآخر، ویجعل کل جزء منه موضعه من الکون الذی تحتمه شروط وجوده، ولایمکن أن یکون هذا الارتباط مستنداً إلی العادة التی تحصل بالتکرار، فان لازمه أن لا یکون ناشئاً من صمیم ذوات الأشیاء بل لعامل خارجی عرضی وهو قد یتخلف هذا، إضافة إلی أنه لا یمکن تطبیق العادة علی المعلول الأول.

فالنتیجة أن ما ذکر فی هذا الوجه لایرجع إلی معنی محصّل.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الوجوه التی استدل بها علی نظریة الأشاعرة لایرجع شیء منها إلی معنی محصّل ومعقول، ومن هنا

ص:78

لایحتمل أنهم کانوا منکرین اختیار العبد وسلطنته علی أفعاله عملیاً بحکم الفطرة السلیمة وإنما کانوا منکرین ذلک نظریاً فحسب علی أساس عدم توصلهم فکریاً إلی مغزی نظریة الأمر بین الأمرین.

ص:79

نظریة الفلاسفة
اشارة

مسألة الجبر و نقدها

قد استدلّ علی هذه النظریة بعدّة وجوه:

الدلیل الاول للجبر

الوجه الأول: المعروف والمشهور بین الفلاسفة قدیماً وحدیثاً أن الأفعال الاختیاریة برمّتها وبتمام أنواعها معلولة للارادة وخاضعة لها وجوداً وعدماً فانها إذا بلغت حدها استحال تخلفها عنها وإن لم تبلغ استحال وجودها لاستحاله وجود المعلول بدون وجود العلة، وتبعهم فی ذلک جماعة من الاُصولیین منهم المحقق صاحب الکفایة(1) و المحقق الأصبهانی (قدس سرهما)(2) ، ونتیجة ذلک أن الارادة إذا بلغت حدها التام وجب صدور الفعل من الفاعل فی الخارج واستحال تخلفه عنه لاستحالة تخلّف المعلول عن العلة التامة، وإلی هذا أشار المحقق الأصبهانی (قدس سره) بقوله: الارادة مالم تبلغ حدّاً یستحیل تخلف المراد عنها، لایمکن وجود الفعل لأن معناه صدور المعلول بلا علة تامة، وإذا بلغت ذلک الحد امتنع تخلفه عنها، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته التامّة.

وقال صدر المتألهین إن إرادتک مادامت متساویة النسبة إلی وجود المراد وعدمه لم تکن صالحة لأحد ذینک الطرفین علی الآخر، وأما إذا صارت حد الوجوب لزم منه وقوع الفعل(3).

-

.

.

ص:80


1- (1) - الفوائد (للمحقق الخراسانی (قدس سره): 290، وکفایة الاُصول: 65 و 67
2- (2) - نهایة الدرایة 285:1
3- (3) - الحکمة المتعالیة فی الأسفار الأربعة 317:6.

والخلاصة: أن کلمات الفلاسفة متفقة علی أن الارادة علة تامة للفعل بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد، ولنأخذ بنقد هذه النظریة علی ضوء دراسة نقطتین:

الاُولی: أن الارادة مهما بلغت لایمکن أن تکون علة تامة للفعل.

الثانیة: أن الأفعال الاختیاریة بکافة أنواعها مرتبطة بسلطنة الفاعل وقدرته لا بارادته بلافرق فی ذلک بین فعله تعالی وفعل العبد.

أما النقطة الاُولی: فهی مدروسة حسّاً ووجداناً.

أما الأول فلان من المحسوس والمشاهد خارجاً فی مختلف الموارد والمناسبات أن الفعل یصدر من الانسان بدون وجود إرادة فی افق نفسه أو کانت ولکنها لم تبلغ حدها التام بل قد یکون صدوره منه مع أن الموجود فی نفسه الکراهة دون الارادة، فان کل ذلک یکشف کشفاً جزمیاً عن أن وجود الفعل فی الخارج وصدوره من الانسان غیر منوط بالارادة اناطة المعلول بالعلة التامة.

وأما الثانی فلان الفطرة السلیمة الوجدانیة لکل فرد حاکمة بأن ارادته مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لعوامل نفسیة داخلیة أو خارجیة فلا تترتب علیها حرکة العضلات قهراً ترتب المعلول علی العلة التامة، بل أمرها بیده وجوداً وعدماً وتحت قدرته وسلطنته، ولا تخرج بسبب وجود الارادة فی نفسه عن حد الامکان والتعادل إلی حد الوجوب والضرورة لکی تخرج بذلک عن تحت قدرته.

وإن شئت قلت أن کل فرد إذا راجع وجدانه وفطرته السلیمة فی أعماق نفسه وصمیم کیانه حتی الأشعری، یدرک الفرق بین حرکة ید المرتعش وحرکة ید

ص:81

غیره وبین حرکة النبض وحرکة الأصابع وبین حرکة الدم فی العروق وحرکة الید یمنة ویسرة وبین حرکة الامعاء عند الخوف وحرکة الرجل خطوة فخطوة وهکذا، ومن الطبیعی أنه لیس بامکان أی فرد انکار الفرق بین هذه الحرکات فانه بمثابة انکار أبده البدیهیات کالواحد نصف الأثنین والکل أعظم من الجزء وماشاکلهما، فلوکانت الارادة علة تامة بحدها وکانت حرکة العضلات معلولة لها فبطبیعة الحال کان حالها حال حرکة ید المرتعش وحرکة الدم فی العروق وحرکة الأمعاء عند الخوف وهکذا، علی أساس أن الارادة بتمام مقدماتها ومبادئها غیر اختیاریة وناشئة بالضرورة من عللها بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد إلی أن تنتهی السلسلة إلی الذات الواجبة، ونتیجة ذلک أن حرکة العضلات من الانسان واجبة عند الارادة کحرکة البدن عند الخوف، فکما أن الحرکة الثانیة قهریة وخارجة عن اختیار الانسان وقدرته ومترتبة علی صفة الخوف، فکذلک الحرکة الاُولی فانها خارجة عن قدرة الانسان ومترتبة علی صفة الارادة قهراً، فاذن لا فرق فی الحقیقة بین حرکة العضلات المترتبة علی صفة الارادة ترتب المعلول علی العلة التامة وبین حرکة البدن المترتبة علی صفة الخوف وماشاکلها إلا فی مجرد الاصطلاح والتسمیة بأن تسمی الطائفة الاُولی بالأفعال الاختیاریة والثانیة بالأفعال الاضطراریة، ومن الواضح أن هذه التسمیة لاتعالج مشکلة الفرق بین الطائفتین وهی حسن المحاسبة والعقوبة علی الطائفة الاُولی وقبحها علی الطائفة الثانیة رغم أن کلتا الطائفتین غیر اختیاریة ومترتبة علی علتها ترتب المعلول علی العلة التامة، فإذن کیف تکون المحاسبة والعقوبة علی الطائفة الاُولی حسنة بحکم العقل رغم أنها علی الأمر الخارج عن الاختیار وهی قبیحة لا حسنة، بل عدم اختیاریتها یؤدی إلی مشکلة أعمق من ذلک وهی لغویة التکلیف نهائیاً، فالنتیجة أن هذا الفرق لایصحح جعل التکلیف

ص:82

بارسال الرسل وانزال الکتب لأنه لغو.

ومن الغریب هنا ما صرح به المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أن انتهاء الفعل إلی ارادة الباری تعالی من جهة انتهاء إرادة العبد إلی إرادته تعالی بلحاظ امکانها المقتضی للانتهاء إلی الواجب بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده بالغیر لم یوجد لا یضر بالفاعلیة(1).

وجه الغرابة أن ارادة العبد إذا کانت علة تامة لفعله وهی غیر اختیاریة بتمام مقدماتها وناشئة بالضرورة من عللها المنتهیة فی نهایة المطاف إلی ارادة الباری عزّ وجل فکیف لایضر ذلک بفاعلیته واختیاره، فان الارادة إذا تحققت فی نفس العبد بحدها، کان تحقق الفعل منه ضروریاً لتحقق المعلول عند وجود علته التامة واستحالة تخلفه عنه ومع هذا لا یعقل أن یکون العبد فاعلا ومختاراً، فان نسبته إلی فعله کنسبة المرتعش إلی حرکة یده.

والخلاصة: أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بالفرق بین الأفعال الاختیاریة التی تصدر عن الانسان وبین الأفعال المترتبة علی صفة الخوف ونحوها کارتعاش البدن واصفرار الوجه وحرکة الأمعاء ونحو ذلک، فلوکانت الارادة علة تامة لوجود الأفعال وکان ترتبها علیها ترتب المعلول علی العلة التامة، لم یکن فرق بین الأفعال المترتبة علی صفة الارادة والأفعال المترتبة علی صفة الخوف إلا بالتسمیة من دون أن یکون لها واقع موضوعی، مع أن الفرق بینهما من الواضحات الأولیة، ولهذا تتصف الطائفة الاُولی من الأفعال بالحسن والقبح دون الطائفة الثانیة، ومن الواضح أن هذا الفرق یرتکز علی نقطة موضوعیة وهی اختیاریة الطائفة الاُولی دون الطائفة الثانیة لا علی مجرد

-

ص:83


1- (1) - نهایة الدرایة 289:1. (تعلیقة منه (قدس سره).

الاصطلاح بتسمیة الاُولی بالأفعال الاختیاریة والثانیة بالأفعال الاضطراریة، تحصل أن الارادة لا تعقل أن تکون علة تامة للفعل مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة، ومن هنا یظهر أن هذه النظریة مخالفة للضرورة وجداناً وفطرة، ولعل السبب الذی دعا أصحابها إلی الالتزام بها رغم مخالفتها للوجدان السلیم ومکابرتها للعقل الفطری واستلزامها للتوالی الفاسدة منها کون بعث الرسل وانزال الکتب لغواً، هو التزامهم بصورة موضوعیة بعموم قاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد من ناحیة وعدم وجدانهم فی الصفات النفسانیة صفة تصلح أن تکون علة للفعل غیر الارادة من ناحیة اخری. وسوف یأتی درس کلتا الناحیتین ضمن درس النقطة الثانیة.

وأما النقطة الثانیة فقد تقدم الاشارة إلی أن الفعل الاختیاری مرتبط بالسلطنة والقدرة للانسان وخاضع لها لا بالارادة، فلنا دعویان:

الاُولی: أن الأفعال الاختیاریة لاتخضع للارادة ولا تدور مدارها وجوداً وعدماً.

الثانیة: أنها تخضع للسلطنة والقدرة.

أما الدعوی الاُولی، فقد تقدم الکلام فیها موسعاً وقلنا هناک أن الفعل لایخضع للارادة وجوداً ولا عدماً مهما کانت وبلغت فراجع.

وأما الدعوی الثانیة، فلأن خضوع الفعل للسلطنة والقدرة للانسان لایوجب خروجه عن حد التعادل بین الوجود والعدم وهو حد الامکان إلی ضرورة الوجود أو العدم، بیان ذلک یتطلب درس عدة نقاط:

الاُولی: أن فعل الانسان لایمکن أن یکون خاضعاً لنظام عام کامن فی صمیم

ص:84

ذاته وهو مبدأ التناسب والسنخیة حتی یکون سیره الوجودی علی ضوء هذا النظام والمبدأ وجوبیاً بقاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد، والوجه فی ذلک هو أن خضوع الفعل الاختیاری للسلطنة والقدرة وارتباطه بها لیس علی حد خضوع المعلول الطبیعی بعلته وارتباطه بها، فان الأول بما أنه لیس علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة فلایوجب خروج الفعل عن حد الامکان والتعادل بین الوجود والعدم إلی حد الضرورة لأحد الطرفین.

وأما الثانی فبما أنه علی أساس هذا المبدأ، فلامحالة یوجب خروجه عن حد الامکان والتعادل إلی حد الضرورة بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد، وعلی ضوء هذا الأساس فالفعل الاختیاری لیس من مصادیق هذه القاعدة، باعتبار أن وجوده لیس من سنخ وجود السلطنة لکی یجب بوجودها، وبذلک تختلف الأفعال الاختیاریة عن المعلولات الطبیعیة.

الثانیة: أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بأن الانسان یملک السلطنة والقدرة علی أفعاله وإنها تصدر منه بها، کانت هناک إرادة أم لا، کما أنها تحکم بأنها تکفی لتحقق الفعل فی الخارج رغم أن نسبتها إلی الوجود والعدم علی حد سواء، علی أساس أنها لولم تکن کافیة فی ذلک بأن تحتاج إلی ضمّ مقدمة اخری إلیها، لزم أن لا یکون الفعل تحت قدرته وسلطنته وهو خلف.

وبکلمة، أن نفس الانسان بالوجدان والفطرة السلیمة تملک السلطنة علی قواها الداخلیة والخارجیة وأنها تخضع لها فی أفعالها، ومن هنا فرق بین الأفعال التی تصدر منها قهراً والأفعال التی تصدر منها بسلطنة النفس ومشیئتها، فان الثانیة اختیاریة دون الاُولی وسیأتی الاشارة إلی ذلک فی مسألة الأمر بین الأمرین.

ص:85

الثالثة: أن خضوع الفعل الاختیاری للسلطنة وارتباطه بها لیس معناه تخصیص مبدأ العلیة بغیره وتحدیده، بل معناه أن الفعل الاختیاری معلول لسلطنة الانسان وقدرته لا لارادته، غایة الأمر أن نحو ارتباطه بها وخضوعه لها یختلف عن نحو ارتباط المعلول الطبیعی بعلته التامة وخضوعه لها، فان ارتباطه بها إنما هو علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بینما ارتباط الفعل بسلطنة الفاعل لیس علی هذا الأساس کما مرّ، بل علی أساس امکانه الوجودی وفقره الذاتی، لأن سرّ حاجة الأشیاء إلی هذا المبدأ کنظام عام للکون کامن فی صمیم کیانها ووجودها، بمعنی أن کیانها ووجودها کیان ارتباطی ووجود تعلقی ولایملک المعلول وجوداً حقیقیاً وراء ارتباطه بعلته، لأنه عین الربط والتعلق بها، ولا فرق فی ذلک بین الفعل الاختیاری والمعلول الطبیعی، فکما أن سرّ حاجة المعلول الطبیعی کامن فی صمیم کیانه ووجوده وأنه عین التعلق والربط بعلته لاشیء له الربط، فکذلک سر حاجة الفعل إلی العلة کامن فی صمیم ذاته ووجوده وأنه عین التعلق بعلته وهی سلطنة الفاعل واختیاره، فلافرق بینهما فی هذه النقطة، وإنما الفرق بینهما فی نقطة اخری وهی أنه یکفی فی ارتباط الفعل بسلطنة الفاعل وخضوعه لها امکانه الوجودی وفقره الذاتی، ولهذا لایخرج الفعل عن حدّ الامکان والتعادل بین الوجود والعدم بوجود سلطنة الفاعل وقدرته، وعلی ضوء هذه النقطة یکون الفعل اختیاریاً رغم کونه مرتبطاً بها وخاضعاً لها علی أساس أن ربطه بها وخضوعه لها لایخرجه عن حد الامکان والتعادل إلی حد الوجوب لکی ینافی الاختیار، ومع ذلک تکفی السلطنة لتحقق أحد الطرفین بدون الحاجة إلی ضمّ مقدمة اخری إلیها وإلاّ لم یکن الفعل مرتبطاً بالسلطنة ومعلولا لها فحسب وهو خلف، ومن هنا تختلف الأفعال الاختیاریة عن المعلولات الطبیعیة رغم أن کلتیهما خاضعة لمبدء العلیة.

ص:86

الرابعة: أن إقامة البرهان علی السلطنة والقدرة للانسان علی أفعاله وإن کانت صعبة إلاّ أنه لا حاجة إلیها بعدما کانت المسألة فطریة وجدانیة، لأن الوجدان السلیم والعقل الفطری حاکم بسلطنة الانسان علی أفعاله وتصرفاته بمختلف أنواعها وأشکالها، ومن هنا لایختلف اثنان من العقلاء فی أن تلک التصرفات والأفعال مورد للحسن والقبح والحساب والعقاب والمدح والذم، ولهذا یفرقون بین الأفعال الاضطراریة وهی الأفعال التی تصدر من الانسان بغیر اختیار کحرکة ید المرتعش واصفرار وجه الخائف عند الخوف أو ارتعاش یدیه أو حرکة أمعائه وما شاکل ذلک، وبین الأفعال الاختیاریة التی تصدر منه بسلطنته وقدرته، فان الاُولی لاتکون مورداً للحساب والعقاب والمدح والذم والحسن والقبح دون الثانیة، وهذا الفرق غیر قابل للانکار، فان انکاره إنکار للوجدان والفطرة السلیمة.

والخلاصة: أن سلطنة الانسان علی أفعاله وتصرفاته صفة وجدانیة فی النفس کسائر صفاتها الوجدانیة کالحب والبغض والخوف وما شاکل ذلک، فلذا لامجال للبحث عن أن الانسان مالک لهذه الصفة أو لا، فانه کالبحث عن أنه مالک لصفة الحب والبعض ونحوهما. ویؤکد ذلک أن الانسان کثیر مایرجح أحد طرفی الفعل علی الآخر بلا مرجح، فلوکان صدور الفعل من الانسان منوطاً بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد، استحال صدور الفعل منه بلا مرجح یوجب وجوب وجوده مع أن امکان صدوره منه بدون أی مرجح أمر وجدانی، کما إذا کان عنده إناءان من الماء متساویان من جمیع الجهات بدون أی مرجح لأحدهما علی الآخر، فانه لامحالة اختار أحدهما ولایبقی عطشاناً، فلوکان صدور الفعل متوقفاً علی وجود مرجح بقاعدة الوجوب بالعلة لبقی عطشاناً وهو کماتری، ومنه ما إذا کان أمام الهارب طریقان بدون ترجیح

ص:87

لأحدهما علی الآخر فلا محالة اختار أحدهما ولا یبقی واقفاً أمامهما، فلو کان الفعل متوقف علی وجود مرجح لبقی واقفاً وهو خلاف الضرورة وهکذا.

وإن شئت قلت: أن المرجح إن کان بنحو الوجوب لصدور الفعل من الفاعل فهو مضافاً إلی أنه خلاف الوجدان، خلف فرض کونه تحت اختیاره وسلطنته، وإن لم یکن کذلک فوجوده وعدمه علی حد سواء، وحینئذ فوجود الفعل لا محالة مستند إلی السلطنة فحسب لا إلیها مع ضمیمة شیء آخر وإلاّ لزم الخلف.

رای مدرسة المحقق النائینی فی حقیقة الاختیار و الارادة

الخامسة: أن مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) قد أصرت علی أن الاختیار فعل نفسانی وراء الفعل الخارجی ویعبر عنه تارة بالمشیئة واُخری باعمال القدرة وثالثة بالاختیار، وقیامه بالنفس قیام الفعل بالفاعل لا قیام الصفة بالموصوف والحال بالمحل، فالفعل الخارجی مرتبط بالاختیار واعمال القدرة من النفس. وهذا الفعل النفسانی لیس معلولا للارادة بل هو فعل النفس وتحت سلطانها وقدرتها مباشرة کانت هناک إرادة أم لم تکن، ولذلک کان بامکان النفس بعد الارادة أن تقوم باعمال قدرتها نحو الفعل فی الخارج وأن لا تقوم باعمالها، فلیست بعدها مقهورة ومضطرة إلی التحرک، ولا فرق فی سلطنة النفس علی الفعل بین وجود الارادة فیها وعدم وجودها، فإنها إن شائت الفعل فعلت وإن لم تشأ لم تفعل سواءاً کانت إرادة فیها أم لا، وعلی هذا فکلا الفعلین اختیاری، أما فعل النفس فهو بالذات لا باختیار آخر وإلاّ لزم التسلسل، وأما الفعل الخارجی فهو اختیاری بالاختیار ووجوب وجوده به لا ینافی الاختیار لأنه وجوب نشأ من الفعل الأول وهو الاختیار واعمال القدرة، والوجوب إذا کان فی طول الاختیار فلا ینافی الاختیار وما نحن فیه کذلک، فلهذا یکون خارجاً عن قاعدة

ص:88

أن الشیء مالم یجب لم یوجد(1).

وغیر خفی، أن ما أفاده المدرسة من أن الأفعال الاختیاریة خارجة عن قاعدة أن الشیء مالم یجب وجوده لم یوجد وإن کان صحیحاً ولا مناص عنه، إلاّ أن فی تبریر ذلک بالالتزام بالفعل النفسانی المسمی بالاختیار واعمال القدرة وراء الفعل الخارجی نظر، وتحقیق ذلک یتطلب الکلام فی مقامین:

قول السید الاستاذ بوجود افعال للنفس کالبناء و الاعتقاد

المقام الأول: هل یوجد فی النفس فعل یصدر منها مباشرة فی وعائها وراء وعاء الخارج فیه قولان، فذهب جماعة منهم السید الاُستاذ (قدس سره) أن للنفس أفعالا فی افقها وعالمها وراء الأفعال الخارجیة منها البناء القلبی، فان لها أن تبنی علی شیء ولها أن لا تبنی علیه، فانه فعل النفس مباشرة لا انه صادر منها بواسطة إحدی قواها، ومنها قصد إقامة عشرة أیام فی بلد فان لها أن تقصد الاقامة فیه عشرة أیام ولها أن لا تقصدها فهو تحت یدها وسلطنتها مباشرة.

ومنها، عقد القلب وقد دل علیه قوله تعالی: (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(2). فأثبت سبحانه أن عقد القلب علی شیء غیر الیقین به، فان الکفار کانوا متیقنین بالرسالة والنبوة بمقتضی الآیة الکریمة ولکنهم لم یکونوا عاقدین بها، وکیف کان فلا شبهة فی أن للنفس أفعالا فی افقها تصدر منها باختیارها واعمال سلطنتها وقدرتها(3) ، وعلی هذا فلا مانع من الالتزام بأن الاختیار فعل نفسانی فی وعاء النفس وقائم بها فیه قیام الفعل بالفاعل لا الصفة بالموصوف والعرض بالمعروض، وموجود فیه وراء وجود الفعل فی الخارج، وهذا الفعل

-

.

ص:89


1- (1) - لاحظ أجود التقریرات 135:1-139. ومحاضرات فی اصول الفقه 59:2.
2- (2) - سورة النمل (27):14
3- (3) - محاضرات فی اصول الفقه 63:2.

النفسانی هو العلة للفعل الخارجی لأنه مرتبط به وخاضع له وجوداً وعدماً خضوع المعلول للعلة، وأما وجوب وجوده به فانه لا ینافی اختیاره، لأن الوجوب إذا کان معلولا للاختیار وکان فی طوله فلا ینافیه.

ولنا تعلیق علی ذلک، اما ما أفاده (قدس سره) من أن البناء فعل للنفس فی وعائها وقائم بها فیه قیام الفعل بالفاعل لا قیام العرض بالمعروض فلا یمکن المساعدة علیه، وذلک لأن البناء لا یخلو إما أن یکون فی مورد القطع بشیء أو الظن به أو الشک فیه.

أما فی المورد الأول، فهو لا ینفک عن القطع وإنه لازم قهری له، فإنه إن کان القطع بوجود شیء فلا یمکن البناء علی عدمه وإن کان القطع بعدمه فلا یمکن البناء علی وجوده.

وأما فی المورد الثانی، فهو لا ینفک عن الظن کذلک.

وأما فی المورد الثالث: فلا یتصور فیه البناء إلاّ شکاً واحتمالا، فبالنتیجة أنه لازم قهری للشک بمعنی أنه لا یمکن البناء علی أحد طرفی الشک جزماً أو ظنّاً، وعلی هذا فلا یمکن القول بأن البناء فعل نفسانی فی وعاء النفس وتحت اختیارها وجوداً وعدماً بل هو لازم قهری لمبادیه وخارج عن اختیارها.

وأما قصد إقامة عشرة أیام فی بلد فهو لازم قهری للعلم بها ولا ینفک عنه، فإذا علم المسافر بأنه یبقی فی هذا البلد عشرة أیام جزماً کان لا محالة قاصداً إقامة العشرة فیه، إذ لیس بإمکانه أن لا یقصد ذلک أو یقصد خلافها.

فالنتیجة: أن القصد لیس شیئاً زائداً علی العلم حتی یکون فعلا للنفس وبیدها وجوداً وعدماً بل هو لازم قهری له ولا ینفک عنه، ومن هنا لا یکون

ص:90

قصد الاقامة شرطاً زائداً علی العلم بها.

وأما عقد القلب فهو أیضاً کذلک، لانه لازم قهری للیقین بشیء ولا ینفک عنه، ضرورة أنه لا معنی لعقد القلب علی عدم وجوده مع الیقین به، واما الآیة الشریفة فهی لا تدل علی أنه فعل النفس وشیء زائد علی الیقین، لأن الظاهر من الجحود فی الآیة الانکار القولی والعملی لا القلبی، إذ مع الیقین بالرسالة والنبوة کیف یمکن انکارها قلباً والعقد فی النفس علی خلافه، إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن البناء والقصد وعقد القلب من أفعال النفس وتحت اختیارها وسلطنتها مباشرة وجوداً وعدماً لایرجع بالتحلیل الوجدانی إلی معنی صحیح، لما عرفت من أنها بشهادة الوجدان من اللوازم القهریة للعلم ونحوه فی افق النفس ولیست تحت اختیارها وقائمة بها قیام الفعل بالفاعل.

وأما الاختیار فأیضاً لایمکن القول بأنه فعل نفسانی وراء الفعل الخارجی، بل إنه عنوان انتزاعی منتزع من وجود الفعل فی الخارج ولیس له واقع موضوعی، بیان ذلک أن الاختیار واعمال القدرة وتأثیر النفس کل ذلک مفاهیم انتزاعیة منتزعة من اضافة الفعل الخارجی إلی الفاعل ولیس لها حقیقة واقعیة فی عالم النفس قائمة بها قیام الفعل بالفاعل وراء الفعل فی عالم الخارج، باعتبار أن الاختیار عین الخیار خارجاً والاعمال عین العمل فیه والتأثیر عین الأثر والاختلاف بینهما بالاعتبار، فانه باعتبار إضافته إلی الفاعل اختیار واعمال وتأثیر، وباعتبار إضافته إلی المحل خیار وعمل وأثر کالایجاد والوجود لأنهما شیء واحد، فالایجاد باعتبار إضافته إلی الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلی المحل، فمنشأ انتزاع تلک المفاهیم هو إضافة الفعل الخارجی إلی الفاعل، هذا

ص:91

مضافاً إلی أن الوجدان السلیم یشهد بأن الاختیار لیس فعلا للنفس فی وعائها وموجوداً فیه وراء وجود الفعل فی وعاء الخارج، لأنه لایری فی النفس أفعالا لها کان أمرها بیدها وجوداً وعدماً ماعدا الصفات المعروفة المشهورة فیها کالعلم والقدرة والسخاوة والشجاعة والحب والبغض وماشاکلها من الصفات الحمیدة والملکات الفاضلة التی هی نسبتها إلی النفس نسبة الصفة إلی الموصوف والعرض إلی المعروض، وعلی الجملة فحرکة العضلات نحو الفعل فی الخارج تصدر من النفس مباشرة بقدرتها وسلطنتها علیها لا بتوسط فعل لها فی افقها وراء وجود تلک الحرکة فی الخارج وهو المسمی بالاختیار واعمال القدرة، ضرورة أن اعمال القدرة نحو الحرکة عین إیجادها فی الخارج، لا أن النفس أوجدت أولا فعلا فی وعائها ثم بتوسطه أوجدت الفعل فی الخارج، فإنه خلاف الوجدان والبرهان.

فالنتیجة، أن الاختیار واعمال القدرة والمشیئة کل ذلک من العناوین الانتزاعیة منتزعة من إضافة الفعل الخارجی إلی الفاعل، لا انها أفعال للنفس تصدر منها فی أفقها مباشرة وراء الأفعال الخارجیة، وعلیه فما ذکره مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) من أن الاختیار فعل نفسانی وراء الفعل الخارجی غیر تام ومخالف للوجدان والبرهان.

المقام الثانی: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الاختیار فعل نفسانی، فهل هو یصلح أن یکون علة للفعل الخارجی فیه وجهان، الظاهر أنه لا یصلح لذلک، والنکتة فیه أن الاختیار لوکان علة فالعلة بما أنها فعل طبیعی فلا محالة یکون تأثیرها فی معلولها، علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بقاعدة أن الممکن مالم یجب وجوده لم یوجد، وهذه القاعدة لاتنطبق علی الفعل الصادر من

ص:92

الفاعل بالمباشرة، باعتبار أن نسبة سلطنته إلیه وجوداً وعدماً نسبة واحدة فلا تقتضی وجوبه، وأما الفعل المعلول له فیکون حاله حال سائر المعلولات الطبیعیة بالنسبة إلی عللها کذلک ولایمکن خروج هذا الفعل عن القاعدة، وعلی هذا فحیث أن الفعل الخارجی صادر من النفس بتوسط الفعل النفسانی وهو الاختیار، والفعل النفسانی صادر منها بقدرتها وسلطنتها مباشرة، فبطبیعة الحال یکون الخارج عن القاعدة هو الفعل النفسانی باعتبار أن نسبة سلطنة النفس إلیه وجوداً وعدماً علی حد سواء، فلا تبرر وجوبه دون الفعل الخارجی، فإنه حیث کان معلولا للواسطة وهی الفعل النفسانی وصادراً منها مباشرة دون النفس، فلایمکن ذلک إلا علی ضوء القاعدة المذکورة، فإذن بطبیعة الحال لایمکن فرض وجوده وتحققه فی الخارج إلا بالوجوب والضرورة بالعلة، بداهة أنه مادام فی حد الامکان والتعادل بین الوجود والعدم لایمکن وجوده وتحققه فیه، لأن الامکان لایکفی لتحقق أحد الطرفین وإلا لزم انقلاب الممکن واجباً وهو کماتری، ومقتضی ذلک أن الفعل الخارجی بما أنه ولید الفعل النفسانی مباشرة فلایمکن ذلک إلاّ علی أساس القاعدة ومبدأ التناسب، والمفروض أنه لا تناسب بینهما ذاتاً ووجوداً، لأن الفعل الخارجی لا یکون من سنخ الفعل النفسانی وجوداً حتی یعقل أن یکون معلولا له ومتولداً منه تولد المعلول عن علته، لاستحالة تأثیر کل شیء فی کل شیء طالما لم تکن بینهما سنخیة.

ومن ذلک یظهر أن ما التزم به مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) من أن القاعدة وهی أن الممکن مالم یجب لم یوجد لا تنطبق علی الفعل الخارجی(1) غیر تام، لأن المستثنی من هذه القاعدة موضوعاً الفعل الاختیاری الصادر من الفاعل بقدرته

-

ص:93


1- (1) - أجود التقریرات 139:1. ومحاضرات فی اصول الفقه 58:2.

وسلطنته مباشرة، وهذا لا ینطبق إلا علی الفعل النفسانی وهو الاختیار، باعتبار أن نسبة سلطنة النفس إلیه وجوداً وعدماً نسبة واحدة فلاتوجب خروجه عن حد الامکان والتعادل إلی حد الضرورة ولا ینطبق ذلک علی الفعل الخارجی، علی أساس مامرّ من أنه معلول له ومتولد منه، ومن الواضح أن التولد منه لایمکن إلا علی ضوء قاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد، وعلیه فما التزم به مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) من الجمع بین خروج الفعل الخارجی عن القاعدة وعدم انطباقها علیه وبین صدوره بتوسط الفعل النفسانی لا بالمباشرة فی الحقیقة یرجع إلی الجمع بین أمرین متنافیین، فان صدور الفعل الخارجی إن کان بتوسط الفعل النفسانی کان معلولا له ومتولداً منه، وحینئذ فلایمکن خروجه عن القاعدة کما مرّ، فان الخارج عنها عندئذ هو الفعل النفسانی وإن کان صدوره بدون توسطه وبنحو المباشر من سلطنة النفس کان خارجاً عن القاعدة، فإذن الجمع بین خروجه عن القاعدة وصدوره بتوسط الفعل النفسانی جمع بین أمرین متناقضین، هذا إضافة إلی أن الفعل الخارجی لایمکن أن یکون معلولا للفعل النفسانی ومتولداً منه لعدم التناسب بینهما وجوداً، وبدونه لا یعقل أن یکون الفعل النفسانی مؤثراً فیه وإلا لزم امکان تأثیر کل شیء فی کل شیء، تحصل مما ذکرناه أن هناک إشکالین علی مدرسة المحقق النائینی:

الأول: أنهم جمعوا بین خروج الفعل الخارجی عن القاعدة وصدوره بتوسط الفعل النفسانی، وهذا لا یمکن کما مرّ.

الثانی: أنه لا یمکن أن یکون الفعل الخارجی خاضعاً للفعل النفسانی خضوع المعلول للعلة التامة لعدم العلاقة بینهما ذاتاً ووجوداً کما عرفت، وعلی ضوء هذا الأساس فلو قلنا بالفعل النفسانی وراء الفعل الخارجی فلابد من الالتزام

ص:94

باستقلال کل منهما فی الصدور عن النفس، فکما أن الفعل النفسانی یصدر منه بسلطنتها وقدرتها علیه مباشرة، فکذلک الفعل الخارجی، وعلی هذا الفرض فکلا الفعلین خارج عن القاعدة المذکورة.

نتائج البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الأول: أنه لا یمکن الالتزام بوجود الفعل النفسانی فی وعاء النفس وقائم بها قیام الفعل بالفاعل فی قبال وجود الفعل الخارجی إذ مضافاً إلی أنه لابرهان علیه مخالف للوجدان أیضاً.

الثانیة: أن دفع شبهة الجبر لا یتوقف علی الألتزام بالفعل النفسانی المسمّی بالاختیار، حیث أن بامکان النفس إیجاد الفعل الخارجی بسلطنتها وقدرتها علیه مباشرة بدون الحاجة إلی توسط الفعل النفسانی.

الثالثة: أن ما ذکرته مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) من عدم انطباق قاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد علی الفعل الخارجی، لاینسجم مع التزامهم بأن الفعل الخارجی خاضع للفعل النفسانی لا لسلطنة الفاعل مباشرة، وعلی هذا فلایمکن خروج الفعل الخارجی عن القاعدة المذکورة لأن الخارج منها هو الفعل الخاضع لسلطنة الفاعل مباشرة دون أثرها ومعلولها، فإذن لازم ما أفادته مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) عدم انطباق القاعدة علی الفعل النفسانی فحسب وهو الاختیار دون الفعل الخارجی، أو فقل أنه لا فرق بین کون الفعل الخارجی ولید صفة الارادة وکونه ولید الاختیار الذی هو فعل نفسانی، فإنه علی کلا التقدیرین خاضع لقاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد، غایة الأمر أن الفعل علی الأول غیر اختیاری باعتبار أن صفة الارادة قهریة بتمام مبادئها وعلی الثانی اختیاری، فان وجوب وجوده بالاختیار وفی طوله، والوجوب بالاختیار لا ینافی الاختیار،

ص:95

فمن أوجد النار فقد وجدت الحرارة بالضرورة، وهذه الضرورة بما أنها بالاختیار فلا تنافی الاختیار.

الرابعة: أن الفعل الخارجی لایمکن أن یکون معلولا للفعل النفسانی وخاضعاً له لعدم التناسب والسنخیة بینهما، فإذن لایمکن أن یکون الفعل الخارجی ولید الفعل النفسانی.

الخامسة: أنه علی تقدیر الالتزام بالفعل النفسانی فلابد من الالتزام بأن الفعل الخارجی فی عرض الفعل النفسانی لا أنه فی طوله.

السادسة: ما تقدم من أن الاختیار واعمال القدرة وتأثیر النفس فی کل ذلک عنوان انتزاعی منتزع من اضافة الفعل الخارجی إلی سلطنة الفاعل کالایجاد والوجود ولا واقع موضوعی لها فی وعاء النفس فی قبال الفعل فی وعاء الخارج.

ثم أن المحقق الأصبهانی (قدس سره) قد علّق علی مدرسة المحقق النائینی فی المسألة بوجوه:

الوجه الأول: أنه لیس للنفس بما هی وبقطع النظر عن قواها الباطنة والظاهرة فعل، فان فاعلیة النفس بموجودات عالم النفس إذا کانت فی مرتبة القوة العاقلة الإیجاد النوری العقلانی وفی مرتبة القوة الواهمة الغرض والتقدیر وفی مرتبة القوة المتخیلة الوجود الخیالی وفی مرتبة القوة الباصرة الأبصار وفی مرتبة السامعة الأسماع وهکذا.

ومن الواضح أن الایجاد النوری المناسب للقوة العاقلة أجنبی عن الاختیار الذی جعلته مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) أمراً آخر مما لابد منه فی کل فعل اختیاری، بداهة أن النفس بعد حصول الشوق الأکید لیس لها إلا الهیجان

ص:96

بالقبض والبسط فی مرتبة القوة العضلانیة(1).

ما أفاده (قدس سره) فی هذا الوجه نقطتان:

الاُولی: أنه لیس للنفس فعل فی وعائها بنحو المباشر وبقطع النظر عن قواها الباطنة والظاهرة فی قبال وجود الفعل فی الخارج.

الثانیة: أن المؤثر فی حرکة العضلات هو هیجان النفس بالقبض والبسط وهو معلول للارادة، أما النقطة الاُولی فقد مرّ أنها فی محلها، إذ مضافاً إلی أنه لا برهان علی أن النفس فعلا فی وعائها وراء وجود الفعل فی الخارج مخالف للوجدان أیضاً.

وأما النقطة الثانیة، فیرد علیها ما تقدم من أن الارادة مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لاتصلح أن تکون علة تامة للفعل فی الخارج، بداهة أنه خاضع لسلطنة النفس کانت هناک إرادة أم لم تکن، وقد سبق أن ذلک وإن لم یکن برهانیاً إلا أنه وجدانی علی تفصیل قد مرّ.

فالنتیجة، أن هذه النقطة خاطئة جداً ولا واقع موضوعی لها.

الوجه الثانی: أن هذا الفعل النفسانی المسمّی بالاختیار إذا حصل فی النفس فان ترتب علیه حرکة العضلات ترتب المعلول علی العلة قهراً کان حاله حال صفة الارادة، فإذن ما المانع عن کون صفة الارادة علة تامة للفعل دون الفعل النفسانی وکونه وجوباً بالاختیار مثل کونه وجوباً بالارادة، وإن لم تترتب علیه الحرکة فلا یصلح أن یکون علة لها.

والجواب عن ذلک واضح، وهو أن الوجوب إذا کان بالاختیار فلاینافی

-

ص:97


1- (1) - نهایة الدرایة 286:1.

الاختیار باعتبار أنه فی طول الاختیار وما نحن فیه من هذا القبیل، وأما الوجوب بالارادة فهو ینافی الاختیار باعتبار أن الارادة بتمام مبادئها غیر اختیاریة وناشئة بالضرورة من عللها المنتهیة إلی إرادة الباری عزّ وجلّ والضرورة تنافی الاختیار، فإذن کیف یکون الوجوب بالاختیار مثل الوجوب بالارادة، وبکلمة أن الوجوب بالاختیار یختلف عن الوجوب بالارادة، فان الوجوب بالاختیار مردّه إلی الوجوب بشرط المحمول أی بشرط الوجود، ومن الطبیعی أن مثل هذا الوجوب لاینافی الاختیار، حیث إنه معلول له فکیف یعقل أن یکون منافیاً له، فیکون المقام نظیر المسبب المترتب علی السبب الاختیاری وهذا بخلاف الوجوب بالارادة، فانه ینافی الاختیار باعتبار أن الارادة بتمام مبادئها غیر اختیاریة کما مرّ.

الوجه الثالث: أن الاختیار الذی هو فعل نفسانی لا یخلو من أن لا ینفک عن الصفات الموجودة فی النفس کالعلم والقدرة والارادة أو ینفک عنها، فعلی الأول فهو فعل قهری لا اختیاری لأن مبادیة قهریة. وعلی الثانی فالصفات المذکورة بضمیمة النفس الموجودة فی جمیع الأحوال علة ناقصة للاختیار، ومن الواضح أن المعلول لا یوجد إلا بعلته التامّة، وتوهم الفرق بین الفعل الاختیاری وغیره من حیث کفایة وجود المرجح فی الأول دون الثانی من الغرائب، فإنه لا فرق بین ممکن وممکن فی الحاجة إلی العلة التامة ولا فرق بین معلول ومعول فی الحاجة إلی العلة التامة، فإن الامکان مساوق للافتقار إلیها بل هو عین الافتقار والارتباط.

والجواب أن الممکن وإن کان یستحیل أن یوجد فی الخارج بدون علة ولا فرق فی ذلک بین ممکن وممکن، لما مر من أن سر حاجة الممکن إلی العلة کامن فی صمیم ذاته وکیان وجوده ولکن تأثیر العلة فی المعلول یختلف، فإن کان المعلول

ص:98

من الحوادث الطبیعیة کان تأثیرها فیه یقوم علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بقاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد، وإن کان من الأفعال الاختیاریة کان تأثیرها فیه علی أساس سلطنتها علیه، وقد تقدم أن نسبة السلطنة إلی الفعل وجوداً وعدماً علی حد سواء، ولهذا لا یخرج الفعل من جهة ارتباطه بها وخضوعه لها عن حد الامکان والتعادل بین الوجود والعدم إلی حد الوجوب ومع ذلک تکفی تلک السلطنة فی إیجاده وتحققه فی الخارج بدون حاجة لها إلی ضم مقدمة تلک السلطنة فی إیجاده وتحققه فی الخارج بدون حاجة لها إلی ضم مقدمة اخری إلیها وإلا لزم خلف فرض کونه تحت السلطنة، ولهذا لا تنطبق قاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد علی الفعل الاختیاری، فالنتیجة أنه علی تقدیر تسلیم مقالة مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) فلا یرد علیها هذا الاشکال.

الوجه الرابع: أن الفعل المسمی بالاختیاری إن کان ملاکاً لاختیاریة الأفعال علی أساس أن ترتبها علی صفة الارادة مانع عن استناد الفعل إلی الفاعل لکان الأمر فی الباری تعالی أیضاً کذلک، لأن صدور الفعل منه بارادته مانع عن استناده إلیه، باعتبار أن المناط فی عدم اختیاریة الفعل عدم اختیاریة الارادة، سواءاً کان بالذات کما فی إرادته تعالی وتقدس، علی أساس أنها عین ذاته المقدسة أم کان بالغیر کما فی إرادة غیره تعالی، فإن عدم اختیاریتها من جهة انتهائها إلی إرادة الباری عزّ وجلّ، ولکن لا یمکن أن یکون صدور الفعل من الواجب تعالی بتوسط الاختیار، وذلک لأن الاختیار لا یخلو من أن یکون عین ذات الواجب المقدسة أو غیره فکلاهما مستحیل، اما علی الأول فلان الاختیار فعل والفعل یستحیل أن یکون عین فاعله وعلیه فلایمکن أن یکون الاختیار عین ذاته الواجبة، وأما علی الثانی فهو لا یخلو من أن یکون قدیماً أو حادثاً، فعلی الأول یلزم تعدد القدما وهو باطل، وعلی الثانی یلزم أن یکون ذاته المقدسة

ص:99

محلا للحوادث وهو مستحیل.

فالنتیجة، أن الکل محال فلذلک لایمکن أن یکون الفعل المسمی بالاختیار ملاکاً لاختیاریة الأفعال فی الواجب تعالی ولا فی غیره.

والجواب: أن صفة الارادة لاتصلح أن تکون علة تامة للفعل لا فی الواجب تعالی ولا فی غیره، أما فی الواجب تعالی فقد تقدم أن إرادته لیست من الصفات الذاتیة کالعلم والقدرة ونحوهما بل هی من الصفات الفعلیة کالخلق والرزق وغیرهما، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنها من الصفات الذاتیة إلاّ أنها لا یمکن أن تکون علة تامة لفعله تعالی بأن یکون فعله خاضعاً لها وجوداً وعدماً کخضوع المعلول للعلة، وذلک لأن لازم هذا أن فاعلیته تعالی غیر اختیاریة، لأن ضرورة الفعل بضرورة الارادة تنافی الاختیار علی تفصیل قد سبق هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن ملاک اختیاریة الفعل ارتباطه بسلطنة الفاعل وخضوعه لها بلا فرق فی ذلک بین الباری عزّ وجلّ وبین غیره، وقد مرّ أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بثبوت هذه السلطنة والقدرة للفاعل علی أفعاله، هذا إضافة إلی أن إثبات القدرة والسلطنة لله سبحانه وتعالی برهانی أیضاً، وکیف کان فلا شبهة فی ارتباط الفعل الاختیاری بسلطنة الفاعل وقدرته وخضوعه لها وجوداً وعدماً لا بارادته، وقد سبق أن نحو ارتباطه بها لیس کنحو ارتباط المعلول الطبیعی بالعلة الطبیعیة، ولهذا لاتنطبق علیه قاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد.

ومن ناحیة ثالثة ما ذکرناه آنفاً من أن الفعل الاختیاری مرتبط بسلطنة الفاعل وقدرته مباشرة لا بالفعل النفسانی المسمی بالاختیار، لما عرفت من أنه

ص:100

لا برهان علیه مضافاً إلی أن وجوده فی النفس وراء وجود الفعل فی الخارج خلاف الوجدان أیضاً، ومن هنا یظهر أنه کان ینبغی للمحقق الأصبهانی (قدس سره) أن یعلق علی مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) بذلک لا بما ذکره من أن الاختیار إما عین ذات الواجب تعالی أو غیره والکل مستحیل، وذلک لأنه لا مانع من کون الاختیار فعلا له تعالی قائماً به قیام الفعل بالفاعل صدوراً، إذ لا مانع من ذلک ولا یلزم منه محذور، فإن المحذور إنما یلزم إذا کان قیامه به قیام الصفة بالموصوف والحال بالمحل والمفروض أن الأمر لیس کذلک، والنکتة فیه أن الاختیار الذی هو عبارة عن إعمال القدرة یوجد بقدرته تعالی وسلطنته مباشرة ثم الفعل الخارجی بتوسطه، لا أنه موجود فی مرتبة ذاته المقدسة بقطع النظر عن الفعل الخارجی لکی یکون قیامه بذاته فی هذه المرتبة قیام الحال بالمحل، فما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) مبنی علی أن یکون الاختیار ثابتاً فی مرتبة ذاته تعالی، فعندئذ کان لما أفاده (قدس سره) من التشقیق مجال ولکن الأمر لیس کذلک، لأنه ثابت فی مرتبة فعله، فإذا کان ثابتاً فی هذه المرتبة فلا محالة کان قیامه بذاته المقدسة قیام الفعل بالفاعل کقیام سائر أفعاله، غایة الأمر أنه یوجد بقدرته وسلطنته مباشرة لا باختیار آخر واعمال قدرة اخری، ثم یوجد الفعل الخارجی بتوسطه کما هو الحال فی الانسان.

لحد الآن تبین أن ما أفاده المحقق الأصبهانی (قدس سره) من التعلیقات علی مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) فی المسألة لایتم شیء منها، فالصحیح هو ما ذکرناه من التعلیق علیها.

الدلیل الثانی للجبر

الوجه الثانی: أن أفعال العباد لا تخلو من أن تکون متعلقة لارادة الله سبحانه وتعالی أو لا تکون متعلقة لها ولا ثالث لهما، فعلی الأول لابد من وقوعها

ص:101

فی الخارج لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالی، وعلی الثانی یستحیل وقوعها فی الخارج لأن وقوع الممکن بدون إرادته تعالی مستحیل، حیث لا مؤثر فی الوجود إلاّ الله، ونتیجة ذلک أن العبد مقهور فی إرادته ولا اختیار له أصلا(1).

والجواب: عن ذلک قد ظهر مما تقدم من أن فعله تعالی إنما یصدر منه بسلطنته وقدرته علیه لا بارادته، هذا إضافة إلی أن ارادته تعالی لیست بذاتیة بل هی فعلیة وعبارة عن مشیئته تعالی، والمشیئة لیست فعلا مستقلا وراء الفعل الخارجی بل هی نفس اعمال السلطنة والقدرة، وقد تقدم أن الاعمال عین العمل فی الخارج والفرق بینهما إنما هو بالاعتبار، ومن الواضح أن سلطنته تعالی إنما تتعلق بأفعاله سبحانه مباشرة، منها مبادیء فعل العبد وهی الحیاة والعلم والقدرة ونحو ذلک، واما فعل العبد فلا یعقل أن یکون متعلقاً بسلطنته تعالی مباشرة لأنه غیر قابل لأن یکون متعلقاً کذلک لها. نعم مبادیء الفعل متعلقة لها وتصدر منها مباشرة، وإما نفس الفعل فهی تصدر من العبد کذلک شریطة وجود المبادیء فیه، وما فی هذا الوجه من أن أفعال العباد لولم تکن متعلقة لارادته تعالی استحال وقوعها فی الخارج، حیث لامؤثر فی الوجود إلا الله تعالی لایرجع إلی معنی محصل، لأنه إن ارید بذلک أنها لیست متعلقة لارادته تعالی مطلقاً حتی مبادئها، فیرد علیه أنه خلاف الضرورة، وإن ارید بذلک أن نفس الأفعال إذا لم تکن متعلقة لها لم تقع فی الخارج، فیرد علیه ما عرفت من استحالة وقوعها متعلقة لارادته تعالی وسلطنته مباشرة من ناحیة، ووقوعها فی الخارج بسلطنة العبد من ناحیة اخری، وهذا لاینافی أن لا یکون المؤثر فی الوجود إلا

-

ص:102


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 71:2.

الله تعالی، فإن معنی ذلک أن کل شیء لایوجد فی الخارج إلا بقدرة الله وسلطنته، غایة الأمر قد یوجد بلا واسطة وقد یوجد مع الواسطة کأفعال العباد، فإنها توجد بقدرته تعالی وسلطنته مع الواسطة وهی حیاة العباد وقدرتهم وعلمهم وما شاکل ذلک، ولولا وجود هذه الواسطة استحال تحقق الفعل من العبد فی الخارج، ومن هنا قلنا أن وقوع الفعل منه وتحققه اختیاراً مشروط ببقاء مبادیه فیه.

نعم لو ارید من أنه لا مؤثر فی الوجود إلا الله التأثیر بدون الواسطة، فهو غیر صحیح ولا یعقل أن یکون المراد منه ذلک، فهذا الوجه لایرجع إلی معنی معقول.

الدلیل الثالث للجبر

الوجه الثالث: أن الله تعالی عالم بأفعال العبد بکافة خصوصیاتها من کمّها وکیفها وأینها ومتاها ووضعها ونحو ذلک، ومن الطبیعی أنه لابد من وقوعها منه فی الخارج علی طبق علمه سبحانه وتعالی لا علی طبق اختیار العبد وإلا لزم تخلفه عنها وهو مستحیل، ثم إن الاستدلال بهذا الوجه تارة یکون مبنیاً علی أن أفعال العباد لولم یجب وقوعها فی الخارج علی طبق علمه تعالی بها لکان علمه جهلا تعالی الله عن ذلک علواً کبیراً. وعلیه فلابد من الالتزام بوقوعها خارجاً فی إطار علمه سبحانه وتعالی ولا یمکن التخلف عنه، ومن الواضح أن العباد لو کانوا مختارین فی أفعالهم لوقع التخلف فی غیر مورد وهو محال، وقد صرح بذلک صدر المتألّهین بقوله ومما یدل علی ما ذکرناه من أنه لیس من شرط کون الذات مریداً وقادراً إمکان أن لا یفعل، حیث أن الله تعالی إذا علم أنه یفعل الفعل الفلانی فی الوقت الفلانی فذلک الفعل لولم یقع لکان علمه جهلا وذلک محال والمؤدی إلی المحال محال، فعدم وقوع ذلک الفعل محال، فوقوعه واجب

ص:103

لاستحالة خروجه من طرفی النقیضین(1).

واُخری یکون مبنیاً علی أن علمه تعالی علة لمعلومه خارجاً، بتقریب أن إضافته إلیه إضافة اشراقیة لا إضافة محمولیة، ومعنی الاضافة الاشراقیة أن المضاف إلیه یوجد بنفس الاضافة، وعلی هذا فالمعلوم بعلمه تعالی یوجد بنفس علمه، وهذا بخلاف الاضافة المحمولیة فانها تتوقف علی وجود المضاف إلیه فی المرتبة السابقة علیها، بیان ذلک أن أفعال العباد بما أنها حادثة من الحوادث المسبوقة بالعدم، فلایمکن أن تقع طرفاً لعلمه الذاتی مباشرة وإلا لکانت أزلیة، وعلی ذلک فلا مناص من الالتزام بأن أفعال العباد جزء من سلسلة الأشیاء الطبیعیة الطولیة بعللها ومعلولاتها وحلقاته التصاعدیة، علی أساس مبدأ العلیة الذی هو نظام عام للکون، وأفعال العباد بما أنها جزء من هذه السلسلة فلا محالة تسیر وتتحرک قهراً بنظامها الخاص ولا صلة لها حینئذ باختیار العبد هذا، ویمکن التعلیق علی کلا الوجهین:

أما الوجه الأول فلأن حقیقة العلم هی انکشاف الأشیاء بما لها من الخصوصیات فی الواقع لدی العالم ولا فرق فی ذلک بین علمه تعالی وعلم غیره، غایة الأمر أن علمه سبحانه بالاشیاء حضوری بمعنی أن الأشیاء بواقعها وحقیقتها حاضرة عنده تعالی، وأما علم غیره بها فهو حصولی بمعنی أن الأشیاء حاضرة عنده بصورها لا بواقعها الموضوعی هذا هو علمه الفعلی، وأما علمه الذاتی بالأشیاء قبل خلقها ووجودها فهو خارج عن حدود تصورنا وادراکنا، ضرورة أنه لیس بامکاننا تصوّر علمه الذاتی الذی هو عین ذاته المقدسة وإلا لکان بالامکان تصور ذاته المقدسة أیضاً، وعلی الجملة فلا یمکن تصور کیفیة

-

ص:104


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 72:2.

تعلق علمه الذاتی الأزلی بالأشیاء قبل وجودها، لأنه لا یمکن أن یکون تعلقه بها بنحو العلم الحصولی فإنه غیر متصور فی الواجب تعالی، کما لا یمکن أن یکون بنحو الحضور لأنه فرع وجود تلک الأشیاء، وأما تعلقه بها بکیفیة اخری فهو خارج عن دائرة تصورنا، وهذا لا ینافی التصدیق بأنه تعالی عالم بالأشیاء بالعلم الأزلی وإن علمه هذا عین ذاته المقدسة.

فإذا کانت حقیقة العلم انکشاف الأشیاء علی ما هی علیه فی الواقع، استحال أن یکون مؤثراً فی وقوعها فی الخارج، لأن وقوعها خاضع لعللها فی الواقع والعلم تعلق بوقوعها فیه ولیداً من عللها. وعلی هذا فعلمه تعالی بصدور الفعل من العبد بسلطنته واختیاره فی المستقبل لا یوجب ضرورة صدوره منه لکی یکون خارجاً عن اختیاره وجداناً وبرهاناً.

أما الأول فلأن کل عالم إذا رجع إلی وجدانه یدرک أن العلم لا یغیر الواقع ولا یؤثر فیه بل هو مجرد انکشاف عما هو علیه فی الواقع.

وأما الثانی فلأن علمه تعالی تعلق بصدور الفعل من العبد بسلطنته وإعمال قدرته، وعلیه فلابد أن یصدر منه کذلک وإلاّ لکان علمه جهلا أعاذنا الله من ذلک. هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن علمه تعالی بوقوع الفعل من العبد فی الخارج لیس من إحدی مقدماته ومبادیه لأن مقدماته ومبادیه عبارة عن حیاة العبد وقدرته وعلمه بالحال، فالعبد مختار فی فعله شریطة وجود هذه المبادیء والمقدمات فیه.

وأما الوجه الثانی فلأنه مبنی علی نظریة الفلاسفة من أن ذاته العلیمة علة تامة لتکوین الأشیاء وإیجادها بکافة سلسلتها الطولیة العرضیة وحلقاتها

ص:105

التصاعدیة من الوجود المنبسط الذی هو صرف الوجود إلی الوجود المندمج بالماهیة، وحیث أن إضافة العلة إلی معلولها إضافة اشراقیة فإضافة ذاته العلیمة إلی معلوماتها أیضاً کذلک أی إضافة اشراقیة لا محمولیة، وهذا معنی أن علمه تعالی علة لمعلومه.

ولکن قد تقدم الاشارة إلی بطلان هذه النظریة ولا یمکن الالتزام بها من جهة أنها تستبطن الجبر فی أفعال الباری عزّ وجلّ ونفی القدرة والسلطنة عنه تعالی فی الواقع وهو کماتری، وإن کان أصحاب النظریة مصرین علی أن ضرورة الفعل الناشئة من ضرورة الارادة لا تنافی الاختیار سواء کانت ضرورتها بالغیر کما فی الانسان أم بالذات کما فی الباری عزّ وجلّ، بل تؤکده، لأن الملاک فی الاختیاریة إنما هو بصدق القضیة الشرطیة القائلة بأنه لو أراد السفر لسافر ولو شاء الصلاة لصلّی وهکذا، فإن ضرورة السفر عند الارادة تؤکد الملازمة بین التالی والمقدم فی القضیة الشرطیة، علی أساس أن صدقها یدور مدارها وجوداً وعدماً، وإلیه یرجع ما ذکره المحقق صاحب الکفایة (قدس سره) من أن الفعل الاختیاری مایکون صادراً عن الارادة بمبادئها لا ما یکون صادراً عن إرادة صادرة عن اختیار(1).

نتیجة هذا البحث... وهذا الکلام منهم غریب جداً، أما بالنسبة إلی إرادة الباری عزّ وجلّ فلا یمکن تشکیل القضیة الشرطیة فیها، لما ذکرناه سابقاً من أن أداة الشرط کأداة النفی والتمنی والترجی والاستفهام لا تدخل علی الصفات الذاتیة العلیا، وحیث أن الارادة عندهم من الصفات الذاتیة فلا یمکن دخول أداة الشرط علیها لکی تشکل قضیة شرطیة یکون مقدمها الارادة الأزلیة وتالیها الفعل هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الارادة إذا کانت غیر اختیاریة سواءاً کانت بالغیر کما

-

ص:106


1- (1) - کفایة الاُصول: 68. (مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

فی إرادة الانسان أم بالذات کما فی إرادة الواجب تعالی فکیف لا تنافی الاختیار، بداهة أن ضرورة الفعل لا تجتمع مع الاختیار، فحرکة الأصابع إذا کانت ناشئة بالضرورة من الارادة فی النفس الناشئة بالضرورة من عللها إلی أن تنتهی إلی إرادة الواجب تعالی کانت حالها تماماً حال حرکة ید المرتعش الناشئة بالضرورة من المرض المؤثر فیها الناشیء من عوامله إلی أن تنتهی إلی إرادة الواجب بالذات، فکما أن حرکة ید المرتعش غیر اختیاریة، فکذلک حرکة الأصابع، فإن کلتیهما ناشئة من عللها الخارجة عن اختیار الانسان، وحینئذ فإن أراد بذلک أن ملاک اختیاریة الفعل هو کونه مسبوقاً بالارادة وإن کانت الارادة غیر اختیاریة، وملاک عدم اختیاریة الفعل هو کونه غیر مسبوقاً بها، ففیه أن ذلک الفرق یرجع إلی مجرد الاصطلاح بدون أن یکون له واقع موضوعی، ومن الواضح أنه لایجدی فیما هو المطلوب فی المسألة وهو حسن المحاسبة والعقوبة علی الأفعال الاختیاریة وقبحهما علی الأفعال الاضطراریة کحرکة ید المرتعش واصفرار وجه الخائف عند الخوف، فلوکان الفعل الاختیاری المسبوق بالارادة کالفعل الاضطراری خارجاً عن اختیار الانسان وسلطنته کانت المحاسبة والعقوبة علیه قبیحة لا انها حسنة.

فالنتیجة: أن ذاته العلیمة لایمکن أن تکون علة للأشیاء المعلومة.

نتائج البحث

نستعرض نتائج البحث فی نقاط:

الاُولی: أن استدلال الأشاعرة علی الجبر وعدم کون العبد مختاراً فی فعله بأن الفعل ممکن والممکن متساوی الطرفین، فترجیح أحدهما علی الآخر بحاجة إلی علة بقاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد، وعلیه فلا حول ولا قوة للعبد لا یرجع إلی معنی محصل، لأن الوجدان السلیم یحکم بسلطنة الانسان وقدرته علی

ص:107

فعله طالما أنه حی وقادر وملتفت.

الثانیة: أن ما ذکر من أن فعل العبد ممکن والممکن مقدور لله تعالی ولا شیء مما هو مقدور له تعالی بواقع تحت قدرة العبد لایرجع إلی معنی محصل، لأن فعل العبد مقدور له تعالی بالواسطة ومع ذلک واقع بقدرة العبد مباشرة ولا تنافی بین الأمرین أصلا.

الثالثة: أن ما قیل من أن عادة الله قد جرت علی إیجاد فعل العبد عند قدرته واختیاره إبداعاً وإحداثاً بدون التأثیر لقدرته فیه، لا یرجع إلی معنی معقول علی ما تقدم تفصیله.

الرابعة: أن کلمات الفلاسفة متفقة علی أن ملاک اختیاریة الفعل هو ارتباطه بالارادة وخضوعه لها بنحو خضوع المعلول بالعلة التامة.

ولکن قد تقدم أن الارادة مهما کانت لایمکن أن تکون علة تامة للفعل وإلا فلا یکون الانسان مختاراً فی أفعاله، علی أساس أن الارادة بما أنها بتمام مقدماتها غیر اختیاریة وناشئة بالضرورة من عللها المنتهیة إلی الذات الواجبة، فکیف یعقل أن تکون الأفعال المترتبة علیها اختیاریة، ضرورة أنه لا فرق حینئذ بین حرکة ید المرتعش وحرکة الأصابع، فإن الکل مترتب علی عامل غیر اختیاری ترتب المعلول علی العلة التامة، وعلیه فلا فرق بینهما إلا فی مجرد الاصطلاح وهو لا یجدی فی صحة المحاسبة والعقاب وصحة التکلیف، فإن کل ذلک إنما هو علی الفعل الاختیاری واقعاً لا اصطلاحاً الذی لا یکون اختیاریاً واقعاً.

الخامسة: الصحیح أن الارادة مهما بلغت لا تصلح أن تکون علة تامة للفعل بأن یکون الفعل خاضعاً لها وجوداً وعدماً لأمرین:

ص:108

الأول: أن ذلک خلاف الوجدان والفطرة السلیمة، حیث أن الفعل کثیراً ما کان یصدر من الانسان فی الخارج سواءاً کانت هناک إرادة فی نفسه أم لا.

الثانی: أن الفعل یحکم بقبح المحاسبة والعقاب علیه لأنها من محاسبة العاجز وهی قبیحة، هذا إضافة إلی أن لازم ذلک لغویة التکلیف نهائیاً کما تقدم.

السادسة: أن ملاک اختیاریة الفعل هو ارتباطه لسلطنة الفاعل وخضوعه لها وهذا الارتباط یختلف عن ارتباط المعلول الطبیعی بعلته التامة لأنه قائم علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بقاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد، بینما لا یکون ارتباط الفعل بالسلطنة قائماً علی أساس هذا المبدأ، فلذلک لا تنطبق علیه قاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد علی تفصیل تقدم.

السابعة: أن مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) قد التزموا فی المسألة بالفعل النفسانی المسمی بالاختیار واعمال القدرة وراء الفعل الخارجی، بدعوی أنه مرتبط به وخاضع له خضوع المعلول للعلة، ووجوب وجوده به لا ینافی الاختیار، باعتبار أنه وجوب بشرط المحمول من جهة وفی طوله من جهة اخری.

ولکن تقدم أن الالتزام بوجود الفعل النفسانی المسمّی بالاختیار فی وعاء النفس وراء الفعل الخارجی مخالف للوجدان والبرهان.

أما الأول فلان الوجدان یشهد بأنه لیس فی النفس سوی الصفات المعروفة والمشهورة ولوازمها القهریة.

وأما الثانی: فلأن الظاهر أن الاختیار واعمال القدرة وتأثیر النفس کل ذلک من العناوین الانتزاعیة التی هی منتزعة من إضافة الفعل إلی الفاعل، لأن الاعمال عین العمل فی الخارج والاختیار عین الخیار فیه والتأثیر عین الأثر

ص:109

کالایجاد والوجود، لا أن الاختیار فعل فی النفس وموجود فیها وراء وجود الفعل فی الخارج.

الثامنة: أن المحقق الأصبهانی (قدس سره) حیث قد التزم بأن الفعل خاضع للارادة خضوع المعلول للعلة التامة ویدور مدارها وجوداً وعدماً تبعاً للفلاسفة، فلذلک حاول نقد مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) بوجوه، وقد تقدم هذه الوجوه ونقدها وعدم ورود شیء منها علی المدرسة، فالصحیح فی نقدها ما ذکرناه.

التاسعة: أن ما ذکر من أن أفعال العباد لا تخلو من أن تکون متعلقة لارادته تعالی أو لا، فعلی الأول لابد من وقوعها لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالی، وعلی الثانی یستحیل وقوعها فی الخارج، علی أساس أنه لا مؤثر فی الوجود إلاّ الله، لایرجع إلی معنی محصل، لأن أفعال العباد لایمکن أن تقع متعلقة لارادته تعالی مباشرة، فالواقع تحت إرادته وسلطنته هو مبادیء تلک الأفعال، ومن الواضح أن ذلک لایستلزم ضرورة وقوعها من العباد فی الخارج، وأما أنه لا مؤثر فی الوجود إلا الله فهو صحیح إذا ارید من التأثیر أعم من أن یکون مع الواسطة أو بدونها، وأما إذا ارید منه خصوص ما یکون بلا واسطة فهو غیر صحیح.

العاشرة: أن الظاهر من الفلاسفة أمران:

الأول: أن علمه تعالی بوقوع أفعال العباد زماناً ومکاناً لایمکن أن یتخلف عنه وإلاّ لزم علمه تعالی جهلا تعالی الله عن ذلک علواً کبیراً، وقد صرّح بذلک صدر المتألّهین.

الثانی: أن اضافة علمه تعالی إلی معلومه اضافة اشراقیة لا محمولیة، ومردّ ذلک إلی أن علمه تعالی علة لایجاد معلومه فی الخارج، وعلیه فلایمکن أن یکون

ص:110

العبد مختاراً فی فعله.

ولکن قد تقدم نقد کلا الأمرین:

أما الأول فلأن حقیقة العلم هی انکشاف الأشیاء علی ما هی علیه فی الواقع ولا یعقل أن یکون مؤثراً فیها وإلا لزم تخلف العلم عن معلومه وهو مستحیل.

وأما الثانی فلما عرفت من أن معنی العلم هو انکشاف الواقع علی ما هو علیه لا أنه علة لایجاد معلومه فیه، إلا أن یکون المراد من ذلک إضافة الذات العلیمة إلی الأشیاء المعلومة وإضافة الذات إلیها عند الفلاسفة إضافة اشراقیة، ولکن قد مرّ أنه لا یمکن أن تکون ذاته تعالی علة تامة للأشیاء، وإلاّ لزم الجبر والقهر فی أفعاله سبحانه وهو کماتری.

الدلیل الرابع للجبر

الوجه الرابع: أن الذات الواجبة والحقیقة الالهیة بوحدتها وأحدیّتها علة تامة للأشیاء بسلسلتها الوجودیة الطولیة وحلقاتها التصاعدیة التی ینبثق بعضها من بعض، فإنها برمّتها تتولد من الذات الواجبة کتولد الشعاع من الشمس والضوء من النور علی أساس مبدأ التناسب، وحیث أن أفعال العباد جزء من تلک السلسلة والحلقات فلا محالة توجد بوجودها علی ضوء أن کل حلقة متأخرة من تلک الحلقات معلولة لحلقة سابقة مباشرة إلی أن تنتهی إلی حلقة مستقلة فی وجودها وهی الواجبة بالذات، ونتیجة ذلک أن الحلقات المتصاعدة جمیعاً متعلقات ومربوطات بالذات الواجبة التی هی الحلقة الاُولی والسبب الأعلی للعالم منها أفعال العباد، فلذلک لا حول ولا قدرة لهم علیها.

والجواب: أولا: أن الذات الواجبة لایمکن أن تکون علة تامة للأشیاء بالتفسیر الفلسفی وإلاّ لکانت الأشیاء واجبة بوجود ذاته المقدسة، ومن الواضح أن الوجوب ینافی الاختیار بل أن لازم ذلک نفی القدرة والسلطنة عن الباری

ص:111

والخالق للعالم وهو کما تری.

وثانیاً: أنه لا یمکن تفسیر اختلاف الأشیاء بمظاهرها وحرکاتها وتنوعها من الماء والتراب والنار والحدید والأزوت والرصاص والذهب والفضة والخشب وغیر ذلک علی أساس مبدأ واحد للعالم بالتفسیر الفلسفی، لأن العلة التامة إذا کانت واحدة فلابد أن یکون معلولها أیضاً کذلک بمقتضی مبدأ التناسب، غایة الأمر إن کانت وحدتها شخصیة فوحدة معلولها أیضاً کذلک، وإن کانت نوعیة فکذلک، بداهة أنه لایمکن أن تکون دائرة المعلول أوسع من دائرة العلة أو أضیق، کیف فإن المعلول عین الربط والتعلق بالعلة وولید منها وکامن فی صمیم کیانها ووجودها، ولهذا یکون من مراتب وجودها النازلة ولیس شیئاً منفصلا عنها.

وعلی ضوء هذا الأساس فإذا کان مبدأ العالم واحداً استحال أن تختلف آثاره ومظاهره وتتنوع أفعاله بقاعدة أن الواحد لا یصدر منه إلاّ الواحد، وحیث أن ذاته المقدسة واحدة من جمیع الجهات والحیثیات فیستحیل أن تصدر منها أفعال متباینة ومتنوعة فی طول سلسلة وجودها وحلقاتها التصاعدیة، علی أساس إنها برمتها متولدة من الذات الواجبة بالمباشرة أم بالواسطة.

فالنتیجة: أنه لا یمکن تفسیر اختلاف الأشیاء فی الآثار والاحکام والتنوع علی ضوء تفسیر الفلاسفة علیة ذاته المقدسة للأشیاء، وهو أنها جامعة لجمیع تلک الأشیاء بنحو الأتمّ والأشد بلا حدود لها فی مرتبة ذاته، ثم تتولد منها وتتکثر علی ضوء القانون القائل بأن العلل المتصاعدة فی الحساب الفلسفی التی ینبثق بعضها عن بعض یجب أن یکون لها بدایة أی علة أولی لم تنبثق عن علة سابقة، إذ لا یمکن أن یذهب تسلسل العلل إلی ما لا نهایة له، لأن کل معلول

ص:112

لیس إلا نحو من التعلیق والارتباط بعلته، فالموجودات المعلولة جمیعاً ارتباطات وتعلقات فلا یعقل استقلالها فی الوجود، ومن الواضح أن تلک الارتباطات والتعلقات بحاجة إلی حقیقة مستقلة فی الوجود ولم تنبثق عن علة سابقة وهی الذات الواجبة وإلاّ استحال وجودها.

وبکلمة أوضح أنه یمکن التعلیق علی هذه النظریة بعدة امور:

الأول: أنه لا یمکن تفسیر علیة ذاته المقدسة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی وهو العلیة علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بینها ذاتاً، لأن لازم ذلک نفی القدرة والسلطنة عن الباری عزّ وجلّ والخالق للعالم.

الثانی: ما مرّ الآن من أنه لایمکن تفسیر اختلاف الأشیاء فی التنوع والآثار علی ضوء مبدأ واحد للعالم وهو الذات الواجبة بالمفهوم الفلسفی.

الثالث: أن العلة إذا کانت قدیمة أزلیة فلابدّ أن یکون المعلول أیضاً کذلک علی أساس أن المعلول بکیانه ووجوده مرتبط بالعلة ارتباطاً ذاتیاً فیستحیل أن یوجد بعد زوال العلة أو یبقی بعد ارتفاعها، ویترتب علی ذلک ضرورة قدم العالم بقدم علته وهی الذات الواجبة، بداهة أنه لا یمکن أن تکون العلة قدیمة والمعلول حادثاً مسبوقاً بالعدم، لاستحالة ارتباط الحادث بالقدیم ارتباطاً ذاتیاً، وحیث أنه لا شبهة فی حدوث العالم وتجدده، ومعه کیف یمکن أن تکون علته قدیمة ثابتة والمعلول حادثاً متغیراً، لوضوح أن العلة إذا کانت قدیمة وثابتة فالمعلول أیضاً لابد أن یکون کذلک، وإلاّ فلا یکون معلولا لها، ومن هنا وقع الفلاسفة فی عویصة مشکلة صلة الحادث بالقدیم ذاتاً وتأثیر القدیم فیه.

ص:113

محاولة الفلاسفة لدفع هذه الاُمور:

أما الأمر الأول فلأن هذه النظریة نتیجة حتمیة لمجموعة من القواعد العقلیة الضروریة.

الاُولی: قاعدة أن لکل شیء سبباً وعلة.

الثانیة: قاعدة التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول.

الثالثة: قاعدة أن الشیء مالم یجب وجوده لم یوجد.

الرابعة: قاعدة التعاصر بین العلة والمعلول.

بیان ذلک أن ذاته المقدسة هی سبب العالم ککل وعلته تطبیقاً للقاعدة الاُولی وهذه القاعدة من أولیات ما یدرکه البشر فی حیاته الاعتیادیة وأنها کنظام عام للکون موجودة فی صمیم طبیعة الانسان بصورة فطریة وهو الباعث الذی یبعث الانسان فطرة إلی تبریر وجود الأشیاء باستکشاف أسبابها وعللها، وقد یوجد ذلک عند الحیوانات أیضاً ولهذا لایکون هذا المبدأ قابلا للتخصیص، لأنه لیس من القواعد الشرعیة حتی یکون قابلا له بل هو من القواعد العقلیة الفطریة، ومن هنا لولا مبدأ العلیّة وقوانینها الصارمة لم یمکن اثبات أی نظریة من النظریات العلمیة وقوانینها ولم یصح الاستدلال بأی دلیل کان فی مختلف مجالات المعرفة البشریة، کما لم یمکن اثبات موضوعیة الاحساس والتجربة إلا به، وعلی هذا فلابد من أن تکون علیة الذات الواجبة للأشیاء علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة تطبیقاً للقاعدة الثانیة، وإلاّ فلایمکن أن تکون الأشیاء خاضعة لها خضوع المعلول للعلة، فإذا کان ارتباط الأشیاء بالذات الواجبة علی أساس هذا المبدأ فلا محالة یجب وجودها بوجود العلة تطبیقاً للقاعدة الثالثة، وحیث إن

ص:114

حاجة الأشیاء إلی العلة کامن فی صمیم کیانها ووجودها بلا فرق فیها بین الوجود الحدوثی والوجود البقائی تطبیقاً للقاعدة الرابعة.

تحصل أن علیة الذات الواجبة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی نتیجة حتمیة لتلک القواعد العقلیة الضروریة هذا.

والواقع أن فی عرض هذه القواعد وتطبیقها جمیعاً علی مبدئیّة الذات الواجبة للعالم خطأ، توضیح ذلک أنه لا ریب فی أن الله تعالی هو مبدأ العالم ککل والکل ینال منه ولکن مبدئیّته للعالم لیست علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة کما فسرها الفلاسفة بذلک بل بسلطنته المطلقة علی العالم، لأن فاعلیته تعالی للأشیاء إنما هی بها لا بعلیّة ذاته الواجبة أو إرادته بالمفهوم الفلسفی، وقد تقدم أن نسبة السلطنة إلی طرفی الأشیاء علی حد سواء ولا تخرج الأشیاء بها عن حد الامکان والتعادل بین الوجود والعدم إلی حدّ الضرورة وتوجد بها بدون الحاجة إلی ضمّ مقدمة خارجیة إلیها، وعلی هذا فالقاعدة الاُولی وإن کانت لا نتطبق علی سلطنة الباری عزّ وجلّ لأنها لیست علة بالمفهوم الفلسفی إلا أنه لا وجه لتخصیص القاعدة بذلک، فإن المراد منها استحالة وجود الشیء بلا سبب سواءاً کان ذلک السبب العلة بالمفهوم الفلسفی أم کان السلطنة للفاعل کما تقدم، ومن هنا یظهر أن القاعدة الثانیة لا تنطبق علی سلطنة الباری عزّ وجلّ لعدم التناسب بینها وبین الأشیاء الصادرة منها ذاتاً، وإن شئت قلت أن سلسلة الوجود وحلقاته التصاعدیة لابد أن تبدأ حتماً بالواجب بالذات وإلاّ لتذهب إلی مالا نهایة لها وبالتالی لا وجود لها وهو خلف، وعلیه فالحلقة الاُولی متمثلة فی الواجب بالذات والحلقة الثانیة تصدر منه مباشرة بالسلطنة والاختیار لا بالوجوب والضرورة وبدون مناسبة بینهما ذاتاً، ولهذا لا یکون خضوع الأشیاء لسطنة

ص:115

الباری عزّ وجلّ کخضوع المعلول للعلة التامة بالمفهوم الفلسفی، ومن هنا لا یکون تأثیر السلطنة فی الأشیاء وجوداً وعدماً مبنیاً علی القاعدة الثانیة، کما أن صدورها منها لیس مبنیاً علی القاعدة الثالثة، فإن ضرورتها بالسلطنة إنما هی من الضرورة بشرط المحمول أی بشرط الوجود لا الضرورة بالعلة کما هو مقتضی هذه القاعدة، فلذلک لا تنطبق القاعدتان علیها.

وأما القاعدة الرابعة، فهی تنطبق علی المقام، لأن الأشیاء فی حدوثها وبقائها بحاجة إلی الافاضة والامداد من الله تعالی بسلطنته وقدرته آناً فآناً، فلو انقطعت الافاضة علیها انعدمت، هذا کله بالنسبة إلی الحلقة الثانیة من الحلقات التصاعدیة للوجود.

وأما الحلقة الثالثة فعلتها المباشرة هی الحلقة الثانیة، وحیث أنها من الأشیاء الطبیعیة التکوینیة فلا محالة تکون علیتها لها انما هی بالمفهوم الفلسفی، فلذلک تنطبق علیها جمیع القواعد المذکورة، وعلی هذا الأساس فالأفعال الاختیاریة تختلف عن الحوادث الطبیعیة، فإن الأفعال الاختیاریة خاضعة لسلطنة الفاعل وجوداً وعدماً لا علی أساس مبدأ التناسب الذاتی بینهما بل علی أساس أن السلطنة علی الفعل وحدها تکفی لتحقق احد الطرفین بدون الحاجة لها إلی ضم مقدمة خارجیة إلیها، بینما الحوادث الطبیعیة التی هی علل لآثارها ومعلولات لأسبابها فی الحلقة السابقة خاضعة لمبدء التناسب والسنخیة، فالنتیجة أن السلطنة علة للفعل لا بالمفهوم الفلسفی.

إلی هنا قد تبیّن أنه لا شبهة فی بطلان هذه النظریة، فإنه مضافاً إلی استلزامها نفی القدرة والسلطنة عن الباری عزّ وجلّ أنها مخالفة للوجدان والبرهان. أما الأول فلأن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بأن أفعاله تعالی خاضعة للسلطنة

ص:116

والقدرة لا لعلیة ذاته الواجبة أو إرادته بالمفهوم الفلسفی. وأما الثانی فقد ثبت فی محله بالأدلة الصارمة القدرة لله تعالی علی الأشیاء والسلطنة علیها التامة.

وأما الأمر الثانی فلأنهم حاولوا لتبریر اختلاف الأشیاء فی التنوع والاثار بأن الصادر من الله تعالی مباشرة هو الوجود المنبسط، وقد یعبر عنه بالوجود الاطلاقی أیضاً لا الأشیاء بأنواعها المختلفة، لکی یقال أن صدورها منه تعالی مستحیل، لأنه من صدور الکثیر عن الواحد، وأما صدور الوجود المنبسط عنه فهو من صدور الواحد عن الواحد علی أساس أنه من مراتب وجوده تعالی النازلة ومن سنخه، وأما التکثر والاختلاف بین الأشیاء فهو ناشیء من انبساط هذا الوجود الاطلاقی علی الماهیات فی عالم المادة التی هی عبارة عن حدودها وفوارق بعضها عن بعض آخر، ومن الواضح أن تلک الحدود والفوارق امور عدمیة لا واقع موضوعی لها فلا تکشف عن اختلاف علتها، ولهذا لو الغیت هذه الفوارق والحدود فلا امتیاز بینها أصلا بل هی الوجود المنبسط، ولذلک قیل أن الوحدة فی عین الکثرة وبالعکس، فان وحدة الوجود المنبسط فی عین الکثرة لأنه ینطوی علی جمیع الوجودات الخاصة بنحو الأتمّ والأشدّ أی بدون حدودها وفوارقها، والکثرة فی عین الوحدة لأن الوجودات الخاصة إذا الغیت جمیع حدودها وفوارقها فهی عین الوجود المنبسط هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الوجودات الخاصة بما أنها مختلفة بحدودها فلذلک تختلف آثارها وتتباین أفعالها وتتنوع مظاهرها، وهذا الاختلاف حیث أنه ناشیء من اختلاف فوارقها وحدودها التی هی امور عدمیّة فلا یکشف عن اختلاف علتها، وإن شئت قلت أن منشأ الاختلاف بین الأشیاء إنما هو ضعف الوجود، فان حیثیة الوجود حیثیة طرد العدم، وکلما کان الوجود أشد وأوسع

ص:117

کانت حیثیة طرد عدمه کذلک، وکلما کان أضعف کانت حیثیة طرد عدمه کذلک علی عکس الماهیة، فان سعة سنخ الماهیة من جهة الضعف والابهام وسعة سنخ الوجود الحقیقی من فرط الشدة والفعلیة، ولهذا کلما کان الضعف والابهام فی المعنی أکثر کان الاطلاق والشمول فیه أوفر وکلما کان الوجود أشد وأقوی کان الاطلاق والسعة فیه أکثر وأتم.

وغیر خفی أن هذه المحاولة غیر تامة، اما أولا فلأنها مبنیة علی علیة ذاته الواجبة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی، ولکن قد تقدم أنه لا یمکن أن تکون ذاته تعالی علة تامة للأشیاء بهذا المفهوم لاستلزام ذلک نفی القدرة والسلطنة عن الباری عزّ وجلّ، هذا إضافة إلی أن علیتها کذلک مخالفة للوجدان والبرهان کما مرّ.

وثانیاً أن الوجود المنبسط الذی لا حدود له فی السعة فلا یعقل أن تصدر منه وجودات خاصّة المتنوعة والمختلفة التی لها حدود وفوارق معیّنة، لأن ذلک من صدور الکثیر عن الواحد وهو محال، ضرورة أن العلة إذا کانت واحدة وغیر محدودة فلابد أن یکون معلولها أیضاً کذلک، وإلاّ فلا یکون معلولا لها. هذا إضافة إلی أن منشأ اختلافها لو کان أمراً عدمیاً فلا یمکن أن تختلف آثارها وتتباین أفعالها، لأن الحقیقة الواحدة لا محالة تکون آثارها واحدة، وإلاّ لزم صدور الکثیر من الواحد وهو مستحیل، بداهة أن اختلاف الأشیاء فی الآثار والأنواع کاشف حتماً عن اختلافها بالذات والحقیقة لا بالاعتبار.

إلی هنا قد تبین أن الالتزام بالنظام الجملی التسلسلی للوجود بالتفسیر الفلسفی مبتن علی الالتزام بعلیة ذاته المقدسة بالمفهوم الفلسفی، وحیث أن التالی باطل جزماً کما عرفت فالمقدم مثل هذا، ولکن السید الاُستاذ (قدس سره) قد علّق علی

ص:118

هذا النظام الجملی التسلسلی للوجود بأمرین آخرین:

الأول: أنه علی ضوء هذه النظریة وهی أن ذاته الأزلیة علة تامة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی لایمکن اثبات علة أولی للعالم التی لم تنبثق عن علة سابقة، والنکتة فی ذلک أن سلسلة العلل والحلقات المتصاعدة التی ینبثق بعضها من بعض لا تخلو من أن تتصاعد تلک الحلقات وتذهب إلی مالا نهایة لها أو لها نهایة، فعلی الأول هو التسلسل الباطل، ضرورة أن هذه الحلقات جمیعاً معلولات وارتباطات فتحتاج فی وجودها وتحققها إلی علة ذاتیة واجبة الوجود حتی تنبثق منها وإلاّ استحال تحققها، وعلی الثانی یلزم وجود المعلول بدون علة، وذلک لأن السلسلة إذا کانت لها نهایة فلا محالة تکون مسبوقة بالعدم، ومن الطبیعی أن ما یکون مسبوقاً بالعدم ممکن فلا یصلح أن یکون علة للعالم، مبدأ له هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لا علة له، فالنتیجة علی ضوئهما هی وجود الممکن بلا علة وسبب وهو محال، کیف أن فی ذلک القضاء الحاسم علی مبدأ العلیة، فإذن علی القائلین بهذه النظریة أن یلتزموا بأحد أمرین إما بالقضاء علی مبدأ العلیة أو بالتسلسل وکلاهما محال(1).

ولکن للمناقشة فی هذا التعلیق مجالا، بتقریب أن التزام الفلاسفة بسلسلة طولیة وحلقات تصاعدیة للوجود بالتفسیر الخاص إنما هو علی أساس أنه لا یمکن تبریر تفسیر اختلاف الأشیاء وتنوعها فی المظاهر والآثار إلا بذلک، وعلی هذا فهذه السلسلة التی ینبثق کل حلقة متأخرة منها عن حلقة سابقة، فلابد أن تنتهی إلی حلقة واجبة بالذات التی لا تنبثق عن علة سابقة وإلا لتذهب إلی مالا

-

ص:119


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 75:2.

نهایة لها وهو باطل، والمراد من انتهاء السلسلة انتهائها إلی الواجب بالذات الذی هو مبدأ العالم والسبب الأعلی له فالانتهاء صفة للسلسلة، باعتبار أنها برمتها منتهیة إلی الذات الواجبة، وأما الذات الواجبة التی هی مبدأ السلسلة فلا انتهاء لها ولا حد، فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن هذه السلسلة إما أنه لا بدایة لها أو أن لها بدایة وحدّ، فعلی الأول باطلة وعلی الثانی مسبوقة بالعدم، مبنی علی الخلط بین أن تکون السلسلة بنفسها منتهیة ومحدودة وبین أن تکون منتهیة إلی الواجب بالذات. والأول محال لأن السلسلة برمتها ممکنة فیتسحیل أن توجد بنفسها. والثانی واجب لأنها بوصف کونها ممکنة لابد أن تکون منتهیة إلی الواجب بالذات، فالسلسلة الممکنة لابد أن تبدأ حتماً من الواجب بالذات باعتبار أنها عین التعلق والربط به، وأما الواجب بالذات فهو لا نهایة له ولا بدایة.

والثانی أن لازم هذه النظریة انتفاء العلة بانتفاء شیء من تلک السلسلة، بتقریب أن هذه السلسلة والحلقات التصاعدیة جمیعاً معلولات لعلة واحدة وارتباطات وتعلقات بها ذاتاً وحقیقة وإنها برمّتها کامنة فی کیانها ووجودها وتنبثق منها، فیستحیل أن تتخلف عنها کما یستحیل أن تختلف، وعلی ضوء هذا الأساس فإذا انتفی شیء من تلک السلسلة فبطبیعة الحال یکشف عن انتفاء العلة، ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علته وتخلفه عنها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لا شبهة فی انتفاء الاعراض فی هذا الکون، ومن الطبیعی أن انتفائها إنما هو من ناحیة انتفاء علتها وإلاّ فلا یعقل انتفائها، فالتحلیل العلمی فی ذلک یؤدی فی نهایة المطاف إلی انتفاء علة العلل، وعلی هذا فلا یمکن تفسیر انتفاء بعض الأشیاء فی هذا الکون تفسیراً یلائم مع هذه النظریة.

ص:120

والجواب: أولا: أن العرض کالجوهر فلا یطرأ علیه الفناء بعد الوجود، وذلک لأن وجود العرض وجود تدریجی فی موضوع محقق فی الخارج وهو الجوهر وانه عین التحرک والتطور فیه سواءاً کان من مقولة الکم أم الکیف أم الوضع أو الأین وهکذا، مثلا شتلة الشجر فإنها فی تحرک وتطور مستمر من مرحلة إلی مرحلة أرقی ومن النقص إلی الکمال کمّاً وکیفاً وایناً ووضعاً إلی أن تصبح شجرة کاملة، مثلا النطفة فی تطور وتحرک دائم من القوة إلی الفعل من النقص إلی الکمال إلی أن تصبح انساناً کاملا مفکراً، فوجود العرض وجود تدریجی ومتقوم بالتدرج والتطور من درجة إلی اخری، وهذا الوجود التدریجی وجود واحد فی طول الخط بین المبدأ والمنتهی وقوام هذا الوجود بالتدرج والتطور، ولهذا لا یمکن اجتماع جزئین منه فی عرض واحد وزمن فارد، وعلی هذا فالعرض کالکم والکیف والأین والوضع وغیر ذلک موجود فی طول الخط بالتدرج.

وبکلمة، أن حقیقة الحرکة سیر تدریجی للوجود وتطور للشیء فی الدرجات التی تتسع امکاناته، ولهذا حدد المفهوم الفلسفی للحرکة بأنها خروج الشیء من القوة إلی الفعل تدریجاً ولیست عبارة عن فناء الشیء فناء مطلقاً ووجود شیء آخر جدید وإنما هی تطور الشیء فی درجات الوجود، فیجب إذن أن تحتوی کل حرکة علی وجود واحد مستمر منذ أن تنطلق إلی أن تتوقف، وهذا الوجود هو الذی یتحرک بمعنی أنه یتدرج ویتطور بصورة مستمرة، وکل درجة تعبر عن مرحلة من مراحل ذلک الوجود الواحد، وهذه المراحل انما توجد بالحرکة، ومن هنا لایملک الشیء المتحرک قبل الحرکة تلک المراحل من الوجود التی توجد بالحرکة وإلا لم توجد حرکة بل هو فی لحظة الانطلاق إلی الحرکة لا یتمثل إلا فی قوی وامکانات وتستنفد تلک الامکانات والقوی تدریجاً

ص:121

ومرحلة بعد مرحلة ودرجة بعد درجة، بأن تستبدل فی کل مرحلة من مراحل الحرکة ودرجة من درجاتها القوة بالفعلیّة والامکان بالوجود، فحقیقة الحرکة خروج الشیء من القوة إلی الفعلیة، وفی کل مرحلة من مراحلها تتشابک فیها القوة والفعلیة لأنها مرکبة فی کل دور من أدوارها ومرحلة من مراحلها من قوة وفعل وامکان ووجود وهما متشابکان فی جمیع الأدوار والمراحل لها، فالوجود فی کل مرحلة من مراحل حرکته التکاملیة یحتوی علی درجة معینة من الحرکة فی هذه المرحلة بالفعل وعلی درجة معینة أرقی منها بالقوة، مثلا النطفة تحتوی علی درجة معینة من الحرکة بالفعل وعلی درجة معینة أرقی منها بالقوة وهی المضغة فإنها فی اللحظة التی تتکیف فیها بتلک المرحلة تتجه سیراً نحو المرحلة الأرقی والأکمل، وهکذا إلی أن تنفد جمیع طاقاتها وامکاناتها فتقف، وبذلک یظهر جلیاً أن الحرکة لا تنطوی علی التناقض فإن اجتماع القوة والفعلیة فی کل مرحلة من مراحلها لا یکون من الاجتماع بین المتناقضین، فإنه إنما یکون من الاجتماع بینهما إذا کان الوجود فی کل مرحلة من مراحل الحرکة یحتوی علی القوة والفعلیة بالنسبة إلی نفس هذه المرحلة، فإن هذا لا یمکن لأن مردّ ذلک إلی أن هذه المرحلة تحتوی علی فعلیة الحرکة وفی نفس الوقت لا تحتوی علیها بل علی امکانها، وأما إذا کان احتوائه علی الفعلیة بلحاظ نفس هذه المرحلة التی یتکیف فی هذه اللحظة بها وعلی القوة بلحاظ المرحلة الآتیة وهی المرحلة الأرقی منها فلا تناقض، کیف فان الحرکة فی کل مرحلة ودرجة مرکبة من قوة وفعل ولا یمکن أن توجد ماهیة الحرکة من دون هذین العنصرین.

إلی هنا قد تبین أن الحرکة وجود مستمر متقوم بالتدرج والتطور ولیست فناء الشیء فناء مطلقاً ووجود شیء آخر جدید، وعلی ضوء هذا الأساس فلا یعقل طرو الفناء علی العرض بعد وجوده لأنه متقوم بالحرکة والتدرج فی الوجود ولا

ص:122

یتصور فیه الفناء هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الحرکة العرضیة فی ظواهر الأشیاء کحرکة الکم والکیف ونحوهما لا محالة تکشف عن وجود حرکة أعمق وهی الحرکة الکامنة فی صمیم کیان هذه الأشیاء ووجودها، علی أساس أن الحرکة العرضیة بحاجة إلی علة مباشرة لها لاستحالة أن توجد الحرکة بنفسها وبدون وجود محرک لها، ومن الواضح أن علتها المباشرة لابد أن تکون أمراً متجدداً ومتطوراً وغیر ثابت علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول، ضرورة أن المعلول إذا کان متجدداً ومتطوراً فهو یکشف عن أن علته المباشرة کذلک، إذ لو کانت علته المباشرة ثابتة استحال أن یکون معلولها أمراً متجدداً ومتطوراً، وعلی هذا فلا محالة تکشف الحرکة العرضیة فی ظواهر الأشیاء عن وجود حرکة فی عمق ذاتها وصمیم طبیعتها وکیانها وهی الحرکة الجوهریة التی هی العلة المباشرة لها، فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من طرو الفناء علی العرض دون الجوهر غیر تام، لأن الفناء لوکان طارئاً علی العرض بعد وجوده لکان کاشفاً عن طروه علی الجوهر، باعتبار أن الحرکة الجوهریة هی العلة المباشرة للحرکة العرضیة، فمع عدم طرو الفناء علی الجوهر بعد وجوده استحال طروه علی العرض لاستحالة فناء المعلول بدون فناء العلة، وقد مرّ أن الحرکة لیست فناء الشیء فناءً مطلقاً ووجود شیء آخر جدید بل هی وجود تدریجی وذات درجات ومراتب، والوجود التدریجی بتمام مراتبه ودرجاته علی طول الخط وجود واحد وحقیقة فاردة.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن معنی الحرکة هو فناء الشیء فناءاً مطلقاً ووجود شیء آخر جدید فی کل مرحلة من مراحلها ودور من أدوارها،

ص:123

ولکن حینئذ کما أن العرض یفنی فناءً مطلقاً بعد وجوده وینعدم کذلک الجوهر، وعلیه ففناء العرض کاشف عن فناء الجوهر لا عن انتفاء المبدأ الأول، والسبب الأعلی للعالم وهو الذات الواجبة وفناء الجوهر نتیجة حتمیة لطبیعة العالم المادی التجدیدیة لا من أجل حدوث العلة وتجددها، نعم یبقی هنا إشکال صلة الحادث المتجدد بالقدیم الثابت وسوف نشیر إلیه، فالنتیجة أن ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من الاشکال غیر تام، فالصحیح هو ما ذکرناه فی المسألة.

وأما الأمر الثالث فقد ذکر الفلاسفة أن العلة إذا کانت قدیمة وأزلیّة فلابد أن یکون معلولها أیضاً کذلک بمقتضی مبدأ التناسب والسنخیة بینهما ذاتاً وکون المعلول ولید العلة ولیس شیئاً منفصلا عنها، وحیث أن الصادر من الذات الواجبة مباشرة هو الوجود المنبسط فهو قدیم أزلی ولیس حادثاً مسبوقاً بالعدم، فإذن لا مناص من الالتزام بقدم العالم.

والجواب عن ذلک قد ظهر مما تقدم، اما أولا: فلأنه مبنی علی أنّ ذاته الواجبة علة تامة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی، ولکن قد سبق موسعاً خطأ هذه النظریة وعدم امکان الالتزام بها، لأنها مضافاً إلی کونها مخالفة للوجدان والبرهان، تستلزم نفی القدرة والسلطنة عن الخالق للعالم وهو لا یمکن.

وثانیاً: أنه لایدفع الاشکال عن العالم المادی إذ لا شبهة فی حدوث هذا العالم وتغیّره وتجدّده بصورة مستمرة، وعلیه فلا یعقل أن تکون علته قدیمة ثابتة لاستحالة صدور الحادث المتغیر المتجدد کذلک عن القدیم الثابت هذا، وقد أجاب عن هذا الاشکال صدر المتألّهین(1).

-

ص:124


1- (1) - الحکمة المتعالیة فی الأسفار الأربعة 68:3.

وقبل أن نستعرض جوابه نذکر مقدمة وهی أن الحرکة بمفهومها الفلسفی خروج الشیء من القوة إلی الفعل تدریجاً، ولیست عبارة عن فناء الشیء فناءً مطلقاً ووجود شیء آخر جدید، لأنها تطور الشیء فی درجات الوجود الواحد باعتبار أن کل حرکة تنطوی علی وجود واحد مستمر فی التطور والتدرج من مرحلة إلی مرحلة اخری، وکل مرحلة من مراحله تعبر عن درجة من وجوده ویستبدل فی کل مرحلة من مراحل الحرکة الامکان بالوجود والقوة بالفعلیة، فلذلک تکون القوة والفعلیة متشابکتین فی جمیع أدوار الحرکة ومراحلها طالما لم تستنفد جمیع امکاناتها، فإذا استنفدت ولم تبق فی الشیء طاقة علی درجة جدیدة انتهی عمر الحرکة.

والخلاصة أن الحرکة فی کل مرحلة ذات لونین هما:

الامکان والواقع والقوة والفعلیة، فإنها إذا وصلت إلی مرحلة ودرجة فالحرکة بالنسبة إلی هذه المرحلة فعلیة وواقعیة وبالنسبة إلی المرحلة الثانیة بالقوة والامکان، فالشیء المتحرک فی کل مرحلة یملک الحرکة بالفعل والواقع فیها وبالقوة والامکان بالنسبة إلی المرحلة الثانیة، فلهذا لا تناقض فیها.

وبعد ذلک نقول أن صدر المتألّهین قد وضع نظریة الحرکة بصورة أعمق وأدق وهی النظریة القائلة: بأن الحرکة کامنة فی صمیم طبیعة الأشیاء وکیان وجودها، فإنها بذاتها وذاتیاتها فی تطور وتدرج دائم ومستمر ولا تقتصر الحرکة فی ظواهر الأشیاء وسطحها العرضی فحسب بل هی تتبع الحرکة فی عمقها وکیانها الوجودی وهی الحرکة الجوهریة، وذلک لأن الحرکة العرضیة القائمة بظواهر الأشیاء کالحرکة الأینیة والکمیة والکیفیة وغیرها لما کان معناها التجدد والتطور فلابد أن تکون علّتها المباشرة أمراً متجدداً، بداهة أنه لا یعقل

ص:125

أن تکون العلة ثابتة والمعلول متجدداً وبالعکس، وعلی هذا فلابد أن تکون علة الحرکة العرضیة متجددة متطورة طبقاً لتجددها وتطورها، فلوکانت ثابتة ومستقرة فکل ما یتولد منها یکون ثابتاً ومستقراً، وحینئذ فتعود الحرکة سکوناً وهذا خلف، وبذلک نستکشف أن العلة المباشرة لهذه الحرکة السطحیة فی ظواهر الأشیاء موجودة فی صمیم طبیعتها وکیانها وهی القوة المتحرکة المتطورة التی یعبر عنها بالقوة الجوهریة، فان هذه القوة بسبب تطورها وتجددها علة مباشرة للحرکة العرضیة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن صدر المتألّهین قد بنی حل مشکلة صلة الحادث بالقدیم علی نظریة الحرکة الجوهریة التی وضعها بتقریب، أن السبب المباشر لتطور وجود العرض وتجدّده من مرحلة إلی مرحلة اخری ومن درجة إلی درجة ثانیة هو تطور وجود الجوهر وتجدده بنحو دائم ومستمر، فإذن لا تمس الحرکة ظواهر الأشیاء السطحیة بل هی فی أعماقها وجوهر ذاتها وکیانها وهی الحرکة الجوهریة التی هی العلة المباشرة لها من الداخل ولیست علتها من الخارج، وعلیه فحدوث العالم المادی مستند إلی طبیعته التجددیة بالذات لا إلی علة خارجیة قدیمة ورائه لکی یقال أنه لا یمکن ارتباط الحادث بالقدیم وصلته به.

ولکن هذه المحاولة من صدر المتألهین لا تدفع المشکلة، وذلک لأن الحرکة الجوهریة کالحرکة العرضیة بحاجة إلی علة فلا یمکن أن توجد بنفسها وبدون علة خارجیة، وذلک لأن المادة المتحرکة المتجددة بصورة مستمرة لایمکن أن تکون هی علة للحرکة وسبباً لها، لأن معنی ذلک انها علة لنفسها باعتبار ان وجود المادة بنفسه وجود تدریجی وتطوری لا أنه شیء ثابت تصدر منه الحرکة وإلا استحال صدور الحرکة منه، لأن العلة إذا کانت ثابتة فکل ما یصدر منها

ص:126

فهو ثابت، ولا یعقل أن یصدر منها أمر متجدد متحرک وإلا لم تکن ثابتة وهذا خلف، والنکتة فی ذلک أن الحرکة متقومة بأمرین:

1 - المتحرک، وهو الموضوع 2 - المحرک، وهو العلة، ولایمکن أن یکون شیء واحد من جهة واحدة موضوعاً للحرکة وعلة لها معاً وفی آن واحد، لأن تعدد المتحرک والمحرک أمر ضروری لما مرّ من أن الحرکة تطور وتکامل تدریجی للشیء الناقص، ومن الضروری أنه لا یمکن للشیء الناقص أن یطور نفسه بنفسه ویکمل وجوده تدریجاً بصورة ذاتیة، فإن معنی ذلک فی الحقیقة وجود الممکن بنفسه وبدون علة وسبب، وهذا کما تری بعد استحالة تطوره بالذات من جهة الصراع الداخل کما توهم، فإذن لا یعقل أن تکون علة الحرکة التطوریة للمادة التی هی فی صمیم ذاتها وجوهرها نفس المادة لأنها بنفسها حرکة وتطور، ولایمکن أن تکون الحرکة الجوهریة المادیة علة لنفسها وتوجد بصورة ذاتیة وبدون سبب، وعلیه فلا محالة تکون علة الحرکة الجوهریة وراء المادة المتحرکة وهی الواجب بالذات، فإنه یمدها بالتطور الدائم المستمر ویفیض علیها بالحرکة التکاملیة بالتدرج، فإذن تبقی مشکلة صلة الحادث بالقدیم علی حالها.

وبکلمة، أن الحرکة العامة الکامنة فی طبیعة الأشیاء بنفسها تبرهن علی ضرورة وجود علة وراء حدود المادة، وذلک لأن الحرکة کیفیة وجود الطبیعة، فوجود الطبیعة عبارة اخری عن حرکتها وتدرجها من مرحلة إلی مرحلة اخری من درجة إلی درجة أرقی وخروجها المستمر من القوة إلی الفعلیة والامکان

ص:127

إلی الوجود، وأما توهم الاستغناء الذاتی للحرکة بتناقضاتها الداخلیة التی تنبثق الحرکة عن الصراع بینها فلا أصل له، بداهة أنه لا تناقض ولا صراع فی الحرکة التی هی عبارة عن خروج الشیء من القوة إلی الفعلیة ومن الامکان إلی الوجود ولایجتمع فی کل مرحلة من مراحل الحرکة إلا الامکان والوجود والقوة والفعلیة ولا تناقض بینهما، ولا یجتمع علی الفرض فی کل مرحلة من مراحلها الوجود والعدم معاً حتی یکون بینهما تناقض، فإذن لابد أن تکون العلة شیئاً خارج حدود الطبیعة، لأن أی شیء فی الطبیعة فوجوده حرکة وتدرج، إذ لا ثبات فی عالم الطبیعة بموجب قانون الحرکة العامة فی عالم المادة، وعلی هذا فالحرکة الجوهریة التی هی حرکة عامة کامنة فی صمیم طبیعة الأشیاء فی عالم المادة برمّتها بما أنه لا یمکن أن توجد بذاتها، فلا محالة تکون علّتها وراء عالمها وهی الواجب بالذات، فإنه یمدّها تدریجاً ویفیض علیها الحرکة مرحلة بعد مرحلة، فإذن لایمکن حل مشکلة الحادث بالقدیم بالحرکة الجوهریة إلا علی القول بأنها ذاتیة وهو باطل بالضرورة، بداهة أن العلة إذا کانت قدیمة ثابتة استحال أن یکون المعلول حادثاً متجدداً علی ضوء نظریة الفلاسفة القائلة بأن ذاته الواجبة علة تامة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی، ولکن تقدم بطلان هذه النظریة وجداناً وبرهاناً وعدم امکان الالتزام بها لما یترتّب علیه من المحذور المتقدم.

ومن هنا فالصحیح هو ما أشرنا إلیه سابقاً من أن مبدئیة الله تعالی للعالم ککل وخالقیته له إنما هی علی أساس قدرته وسلطنته المطلقة علی الأشیاء برمّتها، لا علی أساس علیة ذاته الواجبة لها بالمفهوم الفلسفی، وتحکم بذلک الفطرة السلیمة الوجدانیة من ناحیة والأدلة القاطعة من ناحیة اخری کما حقق فی محله، وعلی هذا فکل فعل صادر منه تعالی بسلطنته واختیاره لا بالضرورة والوجوب، وقد سبق أن نسبة السلطنة إلی الطرفین من الفعل نسبة واحدة ولایخرج الفعل بسببها عن حد الامکان والتعادل إلی حد الضرورة والوجوب، فلذلک یکون صدور الأفعال المتباینة والأشیاء المتنوعة المختلفة من ذاته تعالی وتقدس بقدرته وسلطنته علی القاعدة، إذ لا مانع من أن تختلف آثاره وتتباین أفعاله طالما لم یکن

ص:128

صدورها منه مبنیاً علی مبدأ التناسب والضرورة.

ومن ذلک یظهر أنه لا یمکن تفسیر اختلاف الأشیاء فی الآثار والأنواع تفسیراً موضوعیاً إلاّ علی ضوء هذه النظریة.

لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الأفعال الاختیاریة تمتاز عن الحوادث الطبیعیة فی نقطة وهی أن الأفعال الاختیاریة تصدر من الفاعل باختیاره وسلطنته لا بالضرورة والوجوب لأن الضرورة تنافی الاختیار، بینما الحوادث الطبیعیة تصدر من عللها بالضرورة والوجوب بمقتضی مبدأ التناسب.

تکمیل

قد تسأل هل تصلح المادة الأصیلة للعالم أن تکون علة فاعلیة والسبب الأعلی له؟

والجواب: النفی بصورة قاطعة وذلک لعدة نقاط:

النقطة الاُولی: أنه قد ثبت علمیاً أن المادة الأصیلة للعالم حقیقة واحدة، فإن التجارب العلمیة قد أثبتت أن المادة تحول إلی طاقة والطاقة إلی مادة، ونتیجة ذلک أن صفة المادة لیست بذاتیة بل هی عرضیة کسائر صفات الأشیاء کصفة الماء والتراب والحدید والرصاص وهکذا. وعلی ضوء هذا الأساس فالمادة الأصیلة للعالم سواءاً کانت بصفة المادة أم بالقوة حقیقة واحدة مشترکة بین جمیع الأشیاء بأنواعها المختلفة وأشکالها المتعددة، وأثر ذلک حتماً أنه لا یمکن أن تختلف آثارها وتتباین أفعالها وحرکاتها، إذ من المستحیل أن تتولد من حقیقة واحدة آثاراً مختلفة وأنواعاً متباینة، ضرورة استحالة صدور الکثیر من الواحد

ص:129

وإلا لامکن تأثیر کل شیء فی کل شیء، ومعنی هذا انهیار مبدأ العلیة وفیه القضاء الحاسم علی جمیع العلوم الطبیعیة بمختلف أشکالها.

وبکلمة، أن المادة الأصیلة موجودة فی التراب والماء والحدید والأزوت والرصاص والذهب والفضة وهکذا، علی أساس أن تلک الأشیاء المتنوعة جمیعاً بالتحلیل العلمی ترجع إلی مادة واحدة وتلک المادة الواحدة موجودة فی کل واحد من هذه الأشیاء بعنوانه الخاص، فإذن کیف یمکن تفسیر اختلافاتها وتباینها مع أن مبدئها وهو المادة واحد بالسنخ فیجب أن یکون أثره أیضاً واحداً کذلک، فاختلاف الأشیاء فی التنوع والآثار برهان قطعی علی أن المادة الأصیلة الواحدة لا تکون سبباً وعلة لها، بداهة أن الحقیقة الواحدة لا تختلف آثارها ولا تتباین أفعالها علی أساس قاعدة فلسفیة فطریة وهی أن الواحد لا یصدر منه إلا الواحد.

النقطة الثانیة: أن الشیء المتحرک منذ بدایة تحرکه وتطوره یملک طاقات وامکانات فی صمیم طبیعته وکیان وجوده وبالحرکة تستنفد تلک الطاقات والامکانات تدریجاً وتستبدل فی کل مرحلة من مراحل الحرکة الطاقة والقوة بالفعل والامکان بالوجود إلی أن تستنفد الطاقات والامکانات نهائیاً، فتوقف الحرکة باعتبار أن الحرکة تنطوی علی وجود واحد مستمر علی طول الخط من المبدأ إلی المنتهی ومنذ أن تنطلق إلی أن تتوقف، وکل مرحلة تمثل درجة من درجات هذا الوجود الواحد.

وعلی هذا فکون وجود المادة ذات درجات ومراحل متفاوتة من القضایا الأولیة کوجود البیاض مثلا، فإنه ذات مراتب ودرجات متفاوتة وهکذا، ومن الطبیعی أن المرتبة الاُولی من المادة لا یمکن أن تکون علة وسبباً للمرتبة الأعلی

ص:130

بصورة ذاتیة، لأن الحرکة تطور وتکامل تدریجی للشیء الناقص، ومن البدیهی أن الشیء الناقص لایمکن أن یطور نفسه بنفسه ویکمل وجوده تدریجاً ودینامیکیاً أی ذاتیاً وهذا معناه وجود الممکن بنفسه وبدون حاجة إلی علة وسبب وهو مستحیل، لأن حقیقة الحرکة هی خروج الشیء من القوة إلی الفعلیة، ومن الواضح أن خروج الشیء من القوة إلی الفعلیة ومن الامکان إلی الوجود بحاجة إلی علة، ولایمکن أن تکون تلک العلة داخلیة وهی الصراع بین التناقضات، ضرورة أنه لیست فی الحرکة تناقضات وأضداد لتنشأ الحرکة من الصراع بینها، بل فیها تشابک بین القوة والفعلیة فی جمیع أدوارها ومراحلها ولا تناقض ولا تضاد بینهما، فإن فعلیة الحرکة بالنسبة إلی درجة وقوتها وامکانها بالنسبة إلی درجة ثانیة بالتدریج، حیث أن الشیء المتحرک فی کل مرحلة یملک درجة خاصة منها بالفعل ودرجة اخری بالقوة والامکان وهکذا، فإذن لا موضوع للقول بأن علة حرکة المادة وتطورها داخلیة ذاتیة وهی الصراع بین المتناقضات والاضداد، وعلیه فلا محالة تکون علّتها خارج حدودها المادیة وهی تمدّها تدریجاً وتفیض علیها الحرکة التکاملیة، حیث لا یوجد فی عالم المادة شیء ثابت، إذ أی شیء فیه فوجوده حرکة وتدرج بموجب قانون الحرکة العامة، هذا إضافة إلی أن الشیء الثابت لا یمکن أن یکون علة الشیء المتحرک، وبکلمة واضحة أن هناک ثلاث قضایا أولیة:

الاُولی: قضیة أن لکل شیء علة وسبباً.

الثانیة: قضیة أن المعلول لایمکن أن یکون أکبر من العلة لا کماً ولا کیفاً.

الثالثة: قضیة أن فاقد الشیء لایکون معطیاً.

أما القضیة الاُولی فإنها من أولیات ما یدرکه البشر فی حیاته الاعتیادیة

ص:131

فطرة. وأما القضیة الثانیة فلأن الزیادة علی العلة سواءاً کانت کیفیة أم کمیة فلا یعقل أن تکون معلولة لها، لأن المعلول عین التعلق والربط بالعلة وولیدها وجوداً ولهذا یکون وجوده من حدود وجودها، فلذلک تکون هذه القضیة من تبعات القضیة الاُولی. وأما القضیة الثالثة فمردها إلی وجود الشیء بدون علة وسبب وهو مستحیل.

وعلی هذا فعدم صلاحیة المادة الأصیلة المتطورة لعلیة العالم نتیجة حتمیة لهذه القضایا الأولیة المرتبطة بعضها ببعض ذاتاً، فإن تطور المادة وتجددها بصورة مستمرة من النقص إلی الکمال بحاجة إلی علة ولایمکن أن تکون علتها داخلیة وهی الصراع بین المتناقضات والاضداد فی الحرکة لما عرفت من أنه لیست فی الحرکة متناقضات وأضداد أصلا، وإلاّ فلا یعقل وجود الحرکة، ضرورة أن وجودها مبنی علی أساس مبدأ عدم التناقض بین القوة والفعل فی کل مرحلة من مراحلها ودور من أدوارها، إذلو کانت الحرکة مبنیة علی أساس مبدأ التناقض وجوازه لم توجد حرکة، لأن الحرکة تنطوی علی التطور والتجدد فی مراتب الشیء ودرجاته، فلو کانت تلک المراتب والدرجات المتناقضة موجودة بالفعل ولم یکن بینها صراع فلا حرکة، حیث لا تطور ولا تجدد بل هی جمود وثبات، فإذن کیف یعقل أن یکون منشأ الحرکة الصراع بین المتناقضات.

والحاصل أن المتناقضات لو جازت فلا صراع بینها حتی یکون منشأً للحرکة، وإذا استحالت فلا موضوع له لأن الصراع إنما یتصور فی درجة واحدة لا فی درجتین هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الناقص کما لا یمکن أن یطور نفسه بنفسه ویکمل وجوده بصورة ذاتیة من الداخل کما عرفت، کذلک لایمکن أن یکون الناقص بما

ص:132

هو علة للکامل تطبیقاً للقضیة الثانیة والثالثة بل الاُولی أیضاً، فإذن وجود المبدأ للعالم خارج حدوده المادی أمر حتمی، فإنه یمدها تدریجاً ویفیض علیها الحرکة مرحلة بعد المرحلة ودرجة بعد الدرجة، ومن هنا یکون تعدد المتحرک والمحرک ضروریاً، بداهة أنه لا یمکن أن یکون شیء واحد من جهة واحدة موضوعاً للحرکة وعلة لها فی وقت واحد، وإلا لزم کون الناقص متطوراً نفسه بنفسه ویکمل وجوده تدریجاً بصورة ذاتیة وهذا محال کما عرفت.

النقطة الثالثة: أن المادة قابلة للتجزئة والانفصال مهما کانت کما حقّق ذلک فی الفلسفة العلیا، وعلیه فالاتصال مقوم لوحدتها ونتیجة ذلک أن وحدات العالم المادی مرکبة من مادة وصورة، وعلی هذا الأساس فالمادة لا یعقل أن تکون السبب الأعلی للعالم، بداهة أن السبب الأعلی له لابد أن یکون واجب الوجود بالذات وغنیاً فی کیانه ووجوده عن أی شیء آخر، والمادة بما أنها مرکبة من جزئین فتحقق کل جزء منها یتوقف علی تحقق الجزء الآخر، فلایمکن أن توجد المادة بدون صورة والصورة بدون مادة، لأن عملیة الترکیب بینهما لایمکن أن تکون بصورة ذاتیة وبدون علة، فلا محالة تحتاج إلی سبب العملیة وموجدها ورائها.

والخلاصة: أن المادة فی کیانها ووجودها بحاجة إلی تحقق جزئیها معاً وکل منهما فی وجوده بحاجة إلی الآخر، فإذن لابد من أن یکون هناک عامل ثالث ورائهما هو الموجد للترکیب بینها والمفیض علیهما هذا، ونکتفی بهذا القدر فی بیان التکملة ونترک التفاصیل فی المسألة وجوانب اخری فیها إلی محلها، لحد الآن قد تبیّن أن القول بأن المادة الأصیلة هی السبب الأعلی للعالم لا یخرج عن مجرد تخیل وأفکار ذاتیة لا واقع موضوعی لها ولا یبتنی علی أی أساس علمی ولا فلسفی

ص:133

ومنشأه عدم الوعی لمعنی الحرکة والتدرج.

فالنتیجة، أن مبدأ العالم ککل والسبب الأعلی له ماوراء حدوده المادی وهو یمدّه ویفیض علیه بصورة مستمرة وهو غنی بالذات وخالق العالم بالقدرة والسلطنة وهو فاعل بالاختیار لا بالضرورة والوجوب وتفصیل کل ذلک تقدم.

ص:134

نظریة المعتزلة
اشارة

مسألة التفویض ونقدها

ذهب المعتزلة إلی أن العبد مفوض من قبل الله تعالی فی أفعاله وحرکاته تفویضاً مطلقاً وأن له السلطنة المطلقة علی أفعاله بدون دخل لارادته تعالی فیها ومستقل فی إیجادها ولا یحتاج إلی الاستعانة بغیره لا فیها ولا فی بقاء مبادیها، وهذه النظریة مبنیة علی نظریة أن سرّ حاجة الشیء إلی العلة إنما هو حدوثه فإنه بحاجة إلیها، فإذا حدث فلا یحتاج فی بقائه واستمراره إلی علة ویملک بعده استقلاله ووجوده متحرراً عنها، ومن هنا لو کان الشیء موجوداً بصورة مستمرة ودائمة ولم یکن حادثاً بعد العدم فلا توجد فیه حاجة إلی العلة هذا، وغیر خفی أن هذه النظریة قد اسرفت فی تحدید مبدأ العلیة کما أن نظریة الأشاعرة قد افرطت فی تعمیم هذا المبدأ بنفی القدرة والسلطنة عن العبد نهائیاً، أو فقل أن نظریة المعتزلة أسرفت فی تحدید قدرة الخالق والباری عزّ وجلّ وسلطنته علی الأشیاء وتخصیصها بحدوثها فحسب، ونظریة الأشاعرة أفرطت فی تعمیمها حتی علی أفعال العباد وأنها تحت سلطنته المطلقة وجوداً وعدماً بدون دخل للعبد فیها أصلا.

ولکن کلتا النظرتین باطلة، أما نظریة الأشاعرة فقد تقدم الکلام فیها موسعاً ولا حاجة إلی الاعادة.

نظریة المعتزلة: التفویض

وأما نظریة المعتزلة فهی مبنیة علی أن سرحاجة الأشیاء إلی العلة انما هو کامن فی حدوثها فإذا حدثت استغنت عن العلة بقاء واستمراراً، وعلی هذا فالانسان بعد خلقه وإیجاده فلا یحتاج فی بقائه إلی خالقه، فإذن بطبیعة الحال

ص:135

تکون أفعاله تحت قدرته وسلطنته مستقلا باعتبار أنه بقاءً واجب الوجود وغنی عن کل شیء، ومن الواضح أن مرد هذا إلی تحدید قدرته تعالی وسلطنته بحدوث الأشیاء بعد العدم دون الأعم منه ومن البقاء.

وهذه النقطة خاطئة جداً لأن سرحاجة الأشیاء إلی العلة هو امکانها الوجودی الذی هو کامن فی صمیم کیانها وکنه حقیقتها، ومعنی ذلک أنها عین الحاجة إلی العلة والتعلق بها لا شیء له الحاجة والتعلق وإلا لیذهب إلی مالا نهایة له، والنکتة فی ذلک أن المعلول بالمفهوم الفلسفی یتولد من العلة وینبثق منها ذاتاً علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة، ولهذا لا یملک المعلول وجوداً مستقلا حراً وراء ارتباطه بالعلة، بداهة أنه لو کان یملک وجوداً کذلک وراء ارتباطه وتعلقه بها فلا یعقل أن یکون متولداً ومنبثقاً عنها ذاتاً، ومن هنا یختلف ارتباط المعلول بالعلة عن سائر ألوان الارتباط کارتباط القلم بالکاتب وارتباط اللوح بالرسام وارتباط الکتاب بالقاریء وهکذا، فإن الارتباط فی هذه الموارد یعرض علی شیئین کان کل منهما یملک وجوداً بصورة مستقلة عن الآخر فی المرتبة السابقة، ولهذا یکون الارتباط بینهما عرضیاً، وهذا بخلاف الارتباط بین العلة والمعلول فإنه ذاتی وکامن فی صمیم کیانه ووجوده ولا یملک حقیقة وراء ارتباطه بالعلة، وإلا فلا یعقل أن یکون معلولا لها وولیدها.

وبکلمة، أن الشیء إذا کان یملک وجوداً بصورة مستقلة استحال أن یکون خاضعاً لمبدء العلیة، فإن الخاضع له انما هو الشیء الذی لا یملک الوجود کذلک، وعلی هذا فالشیء الممکن لا یملک حقیقة ووجوداً متحرراً مستقلا عن العلة وإلا لکان واجباً لا ممکناً، وإنما یملک حقیقة تعلقیة ارتباطیة بها ذاتاً، وعلی هذا فلا فرق بین الحدوث والبقاء فی الحاجة إلی العلة والارتباط بها، إذ کما أن

ص:136

وجوده الحدوثی وجود تعلقی وارتباطی کذلک وجوده البقائی، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلا هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الحقائق الخارجیة بحرکاتها المتصاعدة جمیعاً حقائق ارتباطیة تعلقیة علی طول الخط لا حقائق مستقلة وإلا لکانت واجبة مستغنیة عن العلة لاممکنة وبحاجة إلیها وإلا لم تکن مستقلة ومتحررة عنها، وهذه الحقائق الارتباطیة بحلقاتها المتصاعدة التی ینبثق بعضها من بعض لابد أن تکون لها بدایة أی علة لم تنبثق عن علة سابقة، علی أساس أن کل حلقة منها معلولة لحلقة سابقة علیها وهکذا، والفرض أن المعلول عین الربط والتعلق بعلته وطالما لم تنته الحلقات المتصاعدة إلی علة مستقلة فی وجودها وغنیة بالذات ومتحررة عن العلة، لم تتحقق تلک الحلقات لأنها جمیعاً بعللها ومعلولاتها ارتباطات وتعلقات، فلابد أن تنتهی إلی سبب أعمق وراء حدودها المادیة، إذ لایمکن فرض شیء بینهما یکون متحرراً عن مبدأ العلیة، وذلک السبب الأعمق هو الله تعالی، غایة الأمر أن الحلقة الاُولی تصدر منه تعالی بقدرته وسلطنته بالاختیار لا بالضرورة والوجوب، ولهذا قلنا أن قاعدة أن الممکن مالم یجب لم یوجد لا تنطبق علی الأفعال الاختیاریة التی تصدر من الفاعل بقدرته وسلطنته مباشرة کما تقدم ذلک مفصلا. وأما الحلقة الثانیة فهی تصدر من الحلقة الاُولی علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة وهکذا، ولذلک تنطبق علیها القاعدة المذکورة وانها مالم تجب لم توجد.

والخلاصة: أن نظریة الحدوث نظریة خاطئة جداً وناشئة عن عدم الوعی الصحیح لمبدء العلیة کنظام عام للکون والخطأ فی فهم سرحاجة الممکن إلی العلة بتخیل أنه حدوثه، مع أن من الواضح أن سر حاجته إلیها کامن فی صمیم کیانه

ص:137

الوجودی وهو أنه عین الفقر والحاجة لا أنه شیء له الفقر والحاجة، فإذا کان کیانه الوجودی کیان ارتباطی وتعلقی ومتقید ومرتبط بالعلة وغیر متحرر عنها، فلا فرق فی ذلک بین حدوثه وبقائه، بداهة أنه لا یعقل أن یکون متقیداً بالعلة حدوثاً ومتحرراً عنها بقاءً، فإن معناه أنه واجب الوجود بقاء، ولازم ذلک أن الوجود الأول المسبوق بالعدم وجود الممکن، والوجود الثانی المسبوق به وجود الواجب وهو کماتری، إذ لایعقل أن یکون الوجود الأول متقیداً بالعلة وغیر متحرر عنها، والوجود الثانی متحرراً ومستقلا عنها، وإلا لم یکن بقاء لوجوده الأول لعدم کونه من سنخه وهذا خلف.

وعلی هذا فلا یکون العبد مستقلا فی فعله، لأن سلطنته علیه مشروطه ببقاء مبادئه من الحیاة والقدرة والعلم، والمفروض أن بقاء تلک المبادیء کحدوثها بیده تعالی وهو یمدها بصورة مستمرة ویفیض علیها کذلک، فإذا انقطعت الافاضة علیها فی أی لحظة انتهت تلک المبادی وانهارت فی نفس اللحظة، ولذلک لا استقلال للعبد فی فعله.

والحاصل أن صدور الفعل من العبد یتوقف علی مقدمتین:

مناقشة کلامیة لهذا القانون... الاُولی: توفر مبادیه الأولیة من الحیاة والقدرة والعلم.

الثانیة: سلطنة العبد علیه.

أما المقدمة الاُولی فهی خارجة عن اختیار العبد وقدرته، وإنما هی بیده تعالی وهو یمدها ویفیض علیها.

أما المقدمة الثانیة: بیده واختیاره مباشرة، وهذا معنی أن العبد غیر مستقل فی فعله ولا هو خارج عن اختیاره نهائیاً بل أمر بین الأمرین، یعنی لا جبر

ص:138

ولا تفویض.

تنبیه.. قانون التعاصر بین العلة و المعلول

وهو أن المعلول لما کان مرتبطاً بالعلة ارتباطاً ذاتیاً، نستطیع أن نفهم مدی ضرورة حاجة المعلول إلی العلة وارتباطه وتعلقه بها ذاتاً، فلا یعقل وجوده بعد زوال العلة کما لا یعقل بقاؤه بعد ارتفاعها ویعبر عن ذلک بقانون التعاصر بین العلة والمعلول.

مناقشة کلامیة لهذا القانون

وهی متمثلة فی مناقشتین:

الاُولی: أن سرّ حاجة الأشیاء إلی العلة هو حدوثها، فإذا حدثت لم یکن وجودها بعد ذلک مفتقراً إلی علة، ولکن قد تقدم بطلان هذه النظریة بشکل موسع، فلا حاجة إلی الاعادة.

الثانیة: أن قانون التعاصر بین العلة والمعلول لا یتّفق مع ظواهر جملة من الأشیاء فی الکون، فإن وجوداتها بعد حدوثها مستمرة مع زوال علته ومتحررة عنها کالبنایات الشاهقة التی شادها البنائون وآلاف من العمال والفنیین فإنها تبقی قائمة بعد انتهاء عملیة البناء مئات السنین، ومن هذا القبیل الصنایع المیکانیکیة کالسیارات والطائرات والسفن ونحوها فإنها تظل ثابتة بعد عملیة التصنیع سنین متمادیة.

وبکلمة، أن ظواهر الأشیاء التی شادها المهندسون وذوی الخبرة والفن وأیادی آلاف من العمال کالبنایات بأشکالها المختلفة والصنایع والمعامل والمکائن والجسور والطرق والأنفاق وما شاکلها فی شتی میادین الطبیعة تبقی قائمة بعد

ص:139

انتهاء عللها الفاعلیة مئات السنین. فالنتیجة، أن هذه الظاهرة تبرهن أن المعلول یبقی بعد زوال العلة وانه یملک حریته بعد حدوثه، فإذن لا أصل لقانون التعاصر بین العلة والمعلول.

والجواب: أن هذه المناقشة مبنیة علی الخلط بین علة حدوث هذه الأشیاء وعلة بقائها، ومنشأ هذا الخلط هو أن الرجل المناقش لم یدرک معنی العلیة وضرورة حاجة المعلول إلیها بشکل دقیق ولم یمیز بین العلة وغیرها، وتخیل أن هذه الأشیاء فی حدوثها بحاجة إلیها، وأما فی بقائها فهی متحررة عنها ومستقلة ومالکة لحریتها عن التقید بها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن علة حدوث تلک الأشیاء وتحققها هی نفس العملیة التی یقوم بها المهندسون والفنانون وآلاف من أیادی العمالة بالترکیب والتصنیع وتجمیع المواد الخام الأولیة من الآجر والحدید والخشب والسمنت والجص وغیر ذلک، وهی عبارة عن عدة من الحرکات والتحریکات یقوم بها العمال وهذه الحرکات معلولة للعمال ولایمکن استغنائها عنهم فی وجودها، بل تنقطع حتماً فی الوقت الذی ینصرف العمال فیه عن العمل، وهذا معنی أن المعلول لایمکن أن یبقی بعد زوال العلة فیکون حدوث هذه الأشیاء نتیجة عمل العمال وحرکات أیدیهم التی هی معلولة لسلطنتهم واختیارهم.

والخلاصة: أن عرض الرجل المناقش هذه الظواهر کأمثلة لتحرر المعلول بعد حدوثه عن علته نشأ من عدم التمییز بین العلة وغیرها، فإنا إذا أدرکنا العلة الواقعیة فی هذه الأشیاء والظواهر نستطیع أن نمیز بین علة حدوثها وعلة بقائها، فإن علة حدوثها ما هو المعلول للعمال المشتغلین المتمثل فی عدة من الحرکات والتحریکات کما عرفت.

ص:140

وأما علة بقائها علی وضعها الذی حصل لموادها علی أثر العملیة فهی کامنة فی صمیم موادها وهی الخصائص الحیویة الذاتیة الموجودة فی تلک المواد من ناحیة، والقوی الجاذبیة العامة التی تفرض علیها المحافظة علی وضعها وموضعها من ناحیة اخری، فإن نسبة القوة الجاذبیة إلیها بمالها من الخصائص الحیویة نسبة الطاقة الکهربائیة إلی الحدید، فکما أن الطاقة الکهربائیة تجرّه إلیها وتمنعه من الانفصال عنها وسقوطه، فکذلک القوة الجاذبیة العامة فإنها تفرض علی المادة المحافظة علی وضعها وموضعها وتمنعها من التفکیک والانهیار والسقوط فی الفضاء الهائل فعلة بقائها مجموع من الخصائص الحیویة الذاتیة فی صمیم موادها الأساسیة من الداخل، والقوة الجاذبیة العامة التی تفرض علیها المحافظة علی وضعها وموضعها من الخارج، ولا یمکن استغناء هذه الأشیاء والظواهر عنهما فی لحظة علی أساس أنها عین التعلق والارتباط بها، غایة الأمر أن علة حدوثها عمل العمال وأهل الفن وعلة بقائها الخصائص الحیویة الذاتیة فی داخلها والقوة الجاذبة العامة فی خارجها، وعلی هذا فبقاء هذه الأشیاء لاینافی قانون التعاصر بین العلة والمعلول.

ومن هنا یظهر سرّ بقاء الکرة الأرضیة بما فیها من الجبال والبحار والأنهار وغیرها من الکرات الهائلة التی تسبح فی الفضاء الکونی اللا متناهی، فإن بقاء هذه الکرات التی تتحرک فی الفضاء بسرعة هائلة علی وضعها الطبیعی وموضعها ومداراتها معلول لأمرین:

الأول: وجود الخصائص الحیویة الذاتیة فی صمیم عناصرها ووحداتها الأساسیة.

الثانی: القوة الجاذبة العامة التی تفرض علیها المحافظة علی وضعها الطبیعی

ص:141

ومواضعها، فمجموع هذین الأمرین هو العلة المباشرة لبقائها، مثلا الکرة الأرضیة التی تتحرک بسرعة فائقة فی مدار حول الشمس من ناحیة وحول نفسها من ناحیة اخری، معلولة لهذا الأمرین مباشرة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الخصائص الحیویة الذاتیة فی الأشیاء کلما کانت أشد وأقوی کان الترکیب والانسجام بین عناصرها ووحداتها کذلک، وبمرور الزمان تنقص تلک الخصائص الحیویة تدریجاً فی البنایات والصناعات وغیرهما وفی المقابل تظهر فیها علائم التفکک والانهیار إلی أن وصل النقص درجة الصفر، فإذا وصل هذه الدرجة انهار الانسجام والترکیب بین عناصرها وموادها تماماً.

إلی هنا قد ظهر أمران:

الأول: أن الممکن مساوق للفقر والحاجة لا أنه شیء له الحاجة والفقر، لأن حاجته کامنة فی صمیم کیانه ووجوده لا فی حدوثه فحسب وهو الوجود الأول المسبوق بالعدم.

الثانی: أن علة الحدوث فی هذه الظواهر غیر علة البقاء لا انها حرة فی بقائها ومستقلة کما زعم ذلک الرجل المناقش، وقد مرّ أن هذا الزعم ناشیء من عدم التمییز بین العلة وغیرها.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف أن نظریة المعتزلة کنظریة الأشاعرة نظریة خاطئة جداً ولا واقع موضوعی لها ونشأت من الخطأ فی فهم معنی العلیة کنظام عام للکون ومغزی حاجة الأشیاء إلیها، ومن هنا قد ورد فی جملة من الروایات ذم هذه الطائفة باعتبار أنهم یقولون بتعدد الآلهة بعدد أفراد البشر.

ص:142

نتیجة البحث عدة نقاط:

الاُولی: أن الذات الواجبة لاتصلح أن تکون علة تامة للأشیاء بالمفهوم الفلسفی، لأن النتیجة الحتمیة لهذه النظریة امور لایمکن الالتزام بشیء منها:

الأول: نفی القدرة والسلطنة عن الباری عزّ وجلّ والخالق للعالم.

الثانی: أنه لا یمکن تفسیر اختلاف الأشیاء فی الآثار والأنواع علی ضوء هذه النظریة الفلسفیة، علی أساس أن الحقیقة الواحدة لایمکن أن تختلف آثارها وتتباین أفعالها.

الثالث: أن یکون العالم قدیماً أزلیاً علی أساس قدم علته وأزلیتها، إذ لا یمکن أن تکون العلة قدیمة أزلیة والمعلول حادثاً أو تکون العلة ثابتة والمعلول متجدداً.

الثانیة: أن تبریر اختلاف الأشیاء بأن الصادر من الذات الواجبة هو الوجود المنبسط مباشرة ولکن الصادر من الوجود المنبسط هو الوجودات الخاصة التی لها حدود وفوارق، والاختلاف والتکثیر انما نشأ من حدودها وفوارقها وهی امور عدمیة فلا تحتاج إلی علة، ولهذا لو ألغیت عنها هذه الحدود والفوارق فهی نفس الوجود المنبسط.

ولکن هذا التبریر غیر صحیح، أما أولا فلأنه مبنی علی علیة ذاته تعالی للأشیاء بالمفهوم الفلسفی، وقد تقدم أن هذا التفسیر خاطیء جداً ولا واقع موضوعی له.

وثانیاً أن الوجود المنبسط الذی لا حدود له فی السعة فلا یعقل أن یصدر منه وجودات محدودة، لأن العلة إذا کانت غیر محدودة فلابد أن یکون معلولها أیضاً

ص:143

کذلک وإلاّ فلا یکون معلولا لها.

الثالثة: أن ما أورده السید الاُستاذ (قدس سره) من المناقشة علی هذه النظریة من جهتین غیر تام علی تفصیل تقدم.

الرابعة: أن صدر المتألّهین حاول لدفع مشکلة صلة الحادث بالقدیم بوضع نظریة خاصة وهی نظریة الحرکة الجوهریة وانها کامنة فی أعماق طبیعة الأشیاء وصمیم ذواتها وهی العلة المباشرة للحرکة العرضیة، وعلیه فیکون حدوث عالم المادة نتیجة حتمیة لطبیعته التجددیة والتطوریة لا لأجل حدوث علته.

ولکن هذه المحاولة لاتدفع المشکلة أساساً وإنما تدفع عن خصوص الحرکة العرضیة وأن علتها المباشرة هی الحرکة الجوهریة التی هی أعماق طبیعة الاشیاء وصمیم کیانها، وأما نفس الحرکة الجوهریة، فلایمکن أن توجد ذاتیة وبدون أن یکون لها علة فی خارج حدودها المادیة کما تقدم تفصیل ذلک.

الخامسة: أن مبدئیة الله تعالی للعالم انما هی علی أساس قدرته وسلطنته المطلقة علی الأشیاء لا علی أساس علیة ذاته الواجبة بالمفهوم الفلسفی، لما تقدم من أن هذه النظریة مضافاً إلی کونها مخالفة للوجدان والبرهان أن فیها محذوراً یکاد یکون الالتزام به کفراً.

وأما فاعلیته تعالی للأشیاء بقدرته وسلطنته المطلقة فهی مطابقة للفطرة السلیمة الوجدانیة والبراهین العقلیة وأنها عین الاختیار لا أنها تنافی الاختیار، فإن المنافی له إنما هو فاعلیته للأشیاء بالضرورة والوجوب.

السادسة: أنه لا یمکن تفسیر اختلاف الأشیاء فی الآثار والأنواع إلا علی ضوء ما ذکرناه من أن فاعلیته تعالی إنما هی بسلطنته المطلقة علی الأشیاء،

ص:144

وحینئذ فلا مانع من أن تختلف آثاره کاملا وتتباین أفعاله علی تفصیل تقدم.

السابعة: أن زعم المادیین بأن المادة الأصیلة للأشیاء هی العلة الفاعلة للعالم ناشیء من عدم وعیهم لمفهوم الحرکة للمادة وتخیلهم أنها ناجمة عن الصراع بین التناقضات فیها لا عن علة فی خارج حدودها المادیة، ولکن تقدم أنه لیست فی الحرکة تناقضات ولا اضداد بل تشابک بین القوة والفعل ولا تناقض، ولهذا قلنا أن الحرکة مبنیة علی مبدأ عدم التناقض لا أنها مبنیة علی مبدأ التناقض، وإلا لم توجد حرکة وهذا خلف علی تفصیل قد مرّ.

الثامنة: أن نظریة المعتزلة القائلة بأن العبد مفوض فی أفعاله وحرکاته وأنه سلطان مطلق لاترجع إلی معنی معقول، علی أساس أنها مبنیة علی نظریة أن سرّ حاجة الأشیاء إلی العلة إنما هو کامن فی حدوثها وهو الوجود المسبوق بالعدم، وأما فی بقائها فهی حرة وتملک وجودها واستقلالها متحرراً عن العلة، ولکن قد تقدم أن هذه النظریة مبینة علی عدم فهم معنی مبدأ العلیة للأشیاء لنظام عام للکون وضرورة حاجة المعلول إلیها وارتباطه بها ارتباطاً ذاتیاً.

التاسعة: أن سرحاجة الأشیاء إلی العلة کامن فی صمیم کیانها ووجودها لا فی حدوثها، وعلیه فلا فرق بین الوجود الأول المسبوق بالعدم والوجود الثانی المسبوق بالوجود الأول، باعتبار أن وجودها نفس الحاجة والفقر وعین التعلق والربط بالعلة، ونتیجة ذلک أن مبادیء الفعل بیده تعالی حدوثاً وبقاءاً، وأما السلطنة علی الفعل مباشرة فهی بید العبد وهذا هو معنی الأمر بین الأمرین.

العاشرة: أن المعتزلة قد اسرفت فی تحدید قدرة الله تعالی وسلطنته علی الأشیاء بحدوثها فحسب، وأما فی بقائها فهی حرة وغیر متقیدة بقدرته تعالی وسلطنته وخارجة عنها فی مقابل الأشاعرة، فإنها قد افرطت فی تعمیم قدرة الله

ص:145

تعالی وسلطنته حتی علی أفعال العباده.

الحادیة عشرة: قد یناقش بأن ظواهر جملة من الأشیاء لا تنسجم مع قانون التعاصر بین العلة والمعلول، وذلک کالبنایات والصناعات ونحوهما فإنها تبقی قائمة بعد انتهاء العملیة وزوال العلة، وهذا معنی أنها فی بقائها حرة ومالکة لاستقلالها ووجودها متحرراً عن العلة، هذا. وقد تقدم أن منشأ ذلک عدم التمییز بین العلة وغیرها وتخیل أنها فی بقائها لایحتاج إلی علة، ولکنا إذا أدرکنا العلة الحقیقیة لتلک الأشیاء وأنها لاتستغنی عن العلة فی لحظة نستطیع أن نمیز بین ما هو العلة لحدوثها وما هو العلة لبقائها، فإن ما هو العلة لحدوثها حرکات أیدی العمال وما هو العلة لبقائها الخصائص الحیویة الذاتیة فی موادها ووحداتها الأساسیة من ناحیة، والقوی الجاذبة العامة التی تفرض علیها المحافظة علی وضعها وموضعها من ناحیة اخری.

ص:146

نظریة الامامیة
اشارة

مسألة الأمر بین الأمرین

أن طائفة الامامیة بعد رفض نظریة الأشاعرة فی أفعال العباد ونقدها صریحاً وبیان خطأها وأنها أفرطت فی تعمیم قدرة الله تعالی وسلطنته علی أفعال العباد وجعلتهم مجرد وسیلة وآلة لصدور الأفعال منهم بدون حول ولا قوة لهم فی ذلک علی تفصیل تقدم من ناحیة، ورفض نظریة المعتزلة فیها ونقدها صریحاً وبیان خطأها فی فهم معنی العلیة وسرحاجة الأشیاء إلیها واسرافها فی تحدید قدرة الله تعالی وسلطنته علی الأشیاء علی ما تقدم تفصیله من ناحیة اخری. قد اختارت نظریة ثالثة فی أفعال العباد وهی نظریة الوسط الأمر بین الأمرین لا افراط فیها ولا تفریط.

وهذه النظریة هی نظریة صحیحة علی أساس مطابقتها لواقع مبدأ العلیة کنظام عام للکون من جهة وللروایات الواردة من الأئمة الأطهار(1) (علیهم السلام) من جهة اخری، فیقع الکلام هنا فی مقامین:

الأول فی مطابقة هذه النظریة لقانون مبدأ العلیة.

الثانی فی مطابقتها للروایات الواصلة من المعصومین (علیهم السلام).

أما الکلام فی المقام الأول فقد تبین من البحوث السابقة أن هذه النظریة تنسجم مع مبدأ العلیة فی الأشیاء وسرحاجتها إلیه، وذاک لما تقدم من أن

-

ص:147


1- (1) - انظر الأحادیث فی باب نفی الظلم والجور عنه تعالی وابطال الجبر والتفویض فی المجلد الخامس من بحار الأنوار ص 4. وأیضاً الباب التالی فیه.

سرحاجة الممکن إلی العلة لیس کامناً فی حدوثه وهو الوجود المسبوق بالعدم ویکون فی بقائه حراً ومالکاً لاستقلاله ووجوده متحرراً عنها، بل هو کامن فی صمیم کیانه ووجوده، حیث أنه عین الحاجة والفقر لا شیء له الحاجة والفقر وإلا لننقل الکلام إلی ذلک الشیء وهکذا فیلزم التسلسل، فإذا کان الممکن عین الفقر والتعلق بالعلة فلا فرق حینئذ بین الوجود الأول والوجود الثانی، لفرض أن الوجود هو عین الفقر والتعلق ولا یعقل أن یکون الوجود الثانی منه واجباً ومتحرراً عن العلة وإلا لم یکن بقاءً للممکن لأن الواجب لیس بقاء، له ولازم ذلک انقلاب الممکن إلی الواجب بنفسه وهو مستحیل، وأیضاً لازم هذا عدم عروض الزوال علیه بعد وجوده لأنه بعد تحرره عن العلة غنی بالذات، فإذا کان کذلک فلا یعرض علیه الفناء والانهیار والتفکک، لأن عروض ذلک إنما هو من جهة انتفاء العلة المباشرة من جهة وقطع الافاضة من المبدأ الأول من جهة اخری، فإذا کان متحرراً عن العلة المباشرة وغنیاً بالذات عن إفاضة المبدأ الأول فبطبیعة الحال لم یعرض علیه الزوال والانهیار، وهذا خلاف الوجدان والمشاهد.

فالنتیجة، أن حاجة الممکن إلی العلة انما هی فی وجوده باعتبار أنه نفس التعلق بالعلة والارتباط بها ذاتاً، وعلیه فلا یعقل الفرق بین الوجود المسبوق بالعدم والوجود المسبوق بالوجود، وعلی ضوء هذا الأساس فمبادیء فعل العبد المتمثلة فی الحیاة والقدرة والعلم والشعور وغیر ذلک بیده تعالی حدوثاً وبقاءً وخارجة عن قدرة العبد واختیاره، فإنه تعالی یمدها ویفیض علیها بصورة مستمرة وفی أی لحظة انقطعت الافاضة علیها انهارت وانعدمت.

وبکلمة، أن العلة المباشرة لمبادی الفعل کامنة فی صمیم طبیعة الانسان وهی

ص:148

متمثلة فی العظم واللحم والشحم والدم والمخ والعصب وما شاکل ذلک، وهی معلولة مباشرة لعلة ثانیة وهی المواد الغذائیة المحللة فی جهاز الهضم الذی هو أعظم معمل کیمیائی دقة ونظاماً، فإنه یحلل الأغذیة المختلفة بأسالیب مدهشة ویوزع المواد الغذائیة الصالحة علی بلایین الخلایا الحیة التی یأتلف منها جسم الانسان وهی معلولة لحلقة ثالثة وهکذا إلی أن تنتهی السلسلة والحلقات إلی الحلقة الواجبة بالذات التی لم تنبثق من حلقة سابقة وهی الذات الأزلیة ومبدأ تلک الحلقات، فإنها لابد أن تبدأ بها وإلاّ فلا توجد، فإذن لابد من وجود علة واجبة بالذات فی خارج حدود السلسلة المادیة لکی یمدها ویفیض علیها بشکل دائم ومستمر، باعتبار أنها عین التعلق والارتباط بها، فإذا انقطعت الافاضة فی لحظة انتهت السلسلة وانهارت فی نفس اللحظة.

والخلاصة: أن مبادیء الفعل بیده تعالی وتحت سلطنته المطلقة حدوثاً وبقاءً هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أن معنی ذلک لیس أن الانسان مسلوب القدرة والسلطنة وأنه لا حول ولا قوة له بل له سلطنة علی فعله شریطة وجود المبادی فیه، وقد تقدم أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بثبوت السلطنة والاختیار له علی الفعل وجوداً وعدماً، بداهة أن کل الانسان یری بالوجدان هذه السلطنة والاختیار وأن له أن یفعل وله أن یترک، ولهذا تکون نسبتها إلی الطرفین من الفعل نسبة واحدة ولا یخرج الفعل بسبب وجودها فی النفس عن حد الامکان والتعادل بین الوجود والعدم إلی حد الضرورة والوجوب، کما أنه لا یری وجداناً فی نفسه عامل آخر یجبره علی الفعل أو الترک ویبعثه علی صدوره منه بالضرورة والوجوب، وذلک لأن الصفات الموجودة فی النفس غیر الارادة، فهی لا تصلح أن تکون علة تامة للفعل بالمفهوم الفلسفی، وأما الارادة فجماعة من الاُصولیین تبعاً للفلاسفة وإن ذهبت إلی أنها علة تامة له، ولکن قد تقدم فی

ص:149

ضمن البحوث السالفة موسعاً أن الارادة مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة فی نفس الانسان لاتوجب صدور الفعل منه قهراً ولاتجعله مسلوب الاختیار والسلطنة کالعلة الطبیعیة، بداهة أن فطرة الانسان الوجدانیة تحکم بأنه مختار رغم أن إرادته فی نفسه بلغت ذروته من القوة وأنه مسیطر علی نفسه وعضلاته ولا تتحرک نحو المراد قهراً وبدون اختیاره وسلطنته، وهذا أمر وجدانی غیر قابل للانکار والنقاش.

هذا إضافة إلی أن الفعل الاختیاری لوکان معلولا للارادة وخاضعاً لها فمعناه أنه یدور مدارها وجوداً وعدماً لاستحالة انفکاک المعلول عن العلة من جهة واستحالة وجوده بدونها من جهة اخری، مع أن ضرورة الوجدان عدم توقف صدور الفعل من الانسان علی وجود الارادة فی النفس، لوضوح أنه یصدر منه فعل کانت هناک إرادة أم لا، بل بامکانه إیجاد الفعل فی الخارج مع وجود الکراهة فی نفسه کل ذلک أمر وجدانی فطری هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن الارادة لوکانت علة تامة للفعل بالمفهوم الفلسفی لکان لازم ذلک لغویة التکلیف نهائیاً وبالتالی هدم کافة الشرایع، لأن الفعل إذا کان صدوره من الانسان ضروریاً بضرورة علته کان التکلیف به لغواً، وتفصیل هذه المسائل جمیعاً قد تقدم فی ضمن البحوث السالفة، کما تقدم الاشارة إلی سبب التزام الفلاسفة بهذه النظریة المخالفة للوجدان والفطرة وما فیها من المحذور.

ویؤکد هذه الفطرة والوجدان بشکل قاطع تشریع الشرائع وتکلیف الناس بها والحساب والعقاب علیها الهیاً وقضیة حسن العدل وقبح الظلم عقلائیاً، فلوکان صدور الفعل من الانسان بالضرورة والوجوب بقاعدة أن الشیء مالم یجب لم یوجد، فحینئذ حاله حال الفاعل المضطر، فإذا کان حاله حال الفاعل

ص:150

المذکور فی ضرورة صدور الفعل منه لکان تشریع الشرائع الهیاً وعقلائیاً لغواً محضاً، ومن الواضح أن صدور اللغو من الله تعالی مستحیل، فالنتیجة أن نفس تشریع الشرایع دلیل قطعی علی أن صدور الفعل من الانسان إنما هو بالسلطنة والاختیار لا بالضرورة والوجوب، وکذلک حکم العقلاء بحسن العدل وقبح الظلم شاهد قطعی علی أن الانسان مختار فی فعله لا أنه مضطر.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن مبادیء الفعل بیده تعالی حدوثاً وبقاءً وهو یمدها ویفیض علیها تدریجاً، باعتبار آنهالیست شیئاً وراء ارتباطها بقدرته تعالی وسلطنته، وفی أی لحظة انقطع هذا الارتباط بانقطاع الافاضة تنتهی تلک المبادیء وتنعدم وتوقف العبد عن الفعل فی نفس اللحظة، وهذه المبادیء هی المقدمة الاُولی لفعل الانسان، وأما المقدمة الثانیة له المباشرة فهی سلطنة الانسان علی الفعل واختیاره، فإنه یوجد باختیاره وسلطنته طالما تتوفر تلک المبادیء فیه، وبانتفاء کل من المقدمتین ینتفی الفعل هذا من جهة، ومن جهة اخری أن نظریة الأمر بین الأمرین نتیجة حتمیة لهاتین المقدمتین وهما من القضایا الضروریة الفطریة.

أما المقدمة الاُولی فلانها ترتکز علی مبدأ العلیة بمعناه الواقعی ومغزی ضرورة حاجة الممکن إلی هذا المبدأ، وقد تقدم أن مبدأ العلیة من أولیات ما یدرکه البشر فطرة فی حیاته الاعتیادیة کنظام عام للکون، کما أنه تقدم أن مغزی حاجة الممکن إلیه کامن فی صمیم جوهر ذاته وکیانه الوجودی، وهذا یعنی أنه لیس له وجود وراء ارتباطه بالعلة ارتباطاً ذاتیاً وإلاّ لکان مستقلا، فلا یعقل أن یکون معلولا لعلة، ولا فرق فی ذلک بین المعلول لعلة طبیعیة والمعلول لسلطنة الفاعل واختیاره، فإنه فی کلا الموردین لیس له وجود وراء تعلقه وارتباطه

ص:151

بالعلة ذاتاً، فکما أن هذا الارتباط ینعدم ویرتفع بارتفاع العلة الطبیعیة، ولا یعقل بقاؤه بعد زوالها، فکذلک یرتفع وینعدم بارتفاع السلطنة والاختیار عنه، ولا یعقل بقاؤه بعد زوالها، مثلا حرکات أیدی العامل معلولة لسلطنته واختیاره وتنقطع هذه الحرکات حتماً بصرف کف العامل عن العمل ورفع یده عنه، وهذا معنی ارتباط المعلول بالعلة ذاتاً بلا فرق بین العلة الطبیعیة وسلطنة الفاعل واختیاره، ونتیجة ذلک حتماً أن مبادیء الفعل الأولیة مرتبطة ذاتاً فی نهایة المطاف بالذات الواجبة وهی تمدها وتفیض علیها.

وأما المقدمة الثانیة فقد تقدم أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بثبوت السلطنة والاختیار للانسان علی حرکات عضلاته بشتی أشکالها وأنواعها وأنها جمیعاً تحت سلطنته ولا یفلت شیء منها من یده کانت هناک ارادة أم لا، ومن هنا لا یشک أحد وجداناً وفطرة أنه فرق بین حرکة الأصابع وحرکة ید المرتعش وحرکة الانسان یمیناً ویساراً وحرکة الدم فی العروق أو حرکة الأمعاء عند الخوف، فلو کانت حرکة الأصابع معلولة بالضرورة للارادة والارادة معلولة بالضرورة لمبادئها وهی معلولة بالضرورة لعللها إلی أن ینتهی الأمر إلی الواجب بالذات، کان حالها حال حرکة ید المرتعش ولا فرق بینهما، فإن حرکة ید المرتعش ناشئة بالضرورة من المرض وهو ناشیء بالضرورة من علله إلی أن ینتهی الأمر إلی الواجب بالذات، فلذلک لایمکن أن یکون الفعل معلولا للارادة بالمفهوم الفلسفی وقد تقدم تفصیل کل ذلک.

وعلی هذا فنظریة الأمر بین الأمرین نتیجة حتمیة لهاتین المقدمتین الضروریتین. ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن نظریة الأمر بین الأمرین فی غایة العمق والدقة ولیس بوسع کل أحد الوصول إلیها لولا الروایات

ص:152

الواردة من الأئمة الأطهار (علیهم السلام) التی یرشد إلی هذه النظریة وتنفی نظریتی الجبر والتفویض، ومع قطع النظر عن تلک الروایات فلا محالة یقع الانسان فی أحد جانبی الافراط أو التفریط کما وقع الأشاعرة والمعتزلة فیه(1). لایمکن المساعدة علیه، لما عرفت موسعاً من أن هذه النظریة نتیجة حتمیة للمقدمتین المذکورتین وهما من القضایا الضروریة الفطریة، فإذن لا غموض ولا ابهام فی هذه النظریة، ومن هنا لولا الروایات فی المسألة فأیضاً لا مناص من الالتزام بها من جهة أنها کما عرفت موافقة للواجدان السلیم والبرهان القاطع فلا تحتاج إلی مؤونة زائدة ومقدمة عمیقة.

وأما نظریتی الأشاعرة والمعتزلة فهما نظریتان خاطئتان فلا واقع موضوعی لهما، أما الاُولی فقد اخطأت فی تفسیر مبدأ العلیة بالافراط فی تعمیمه.

وأما الثانیة فقد أخطأت فی تفسیره أیضاً ولکن بالاسراف فی تحدیده، فلذلک تبتنی کلتا النظریتین علی عدم فهم معنی العلیة فهما صحیحاً واقعیاً ومدی ضرورة حاجة الممکن إلیها، ثم ان من نتائح هذه النظریة صحة اسناد فعل العبد إلیه تعالی حقیقة باعتبار المقدمة الاُولی کصحة اسناده إلیه باعتبار المقدمة الثانیة المباشرة، ومن نتائجها أیضاً التحفظ بها علی مبدأ العدالة فی أفعاله تعالی الذی یقوم علی أساس حسن العدل وقبح الظلم بدون افراط وتفریط فیه کما عن الأشاعرة والمعتزلة، فإن الأشاعرة قد اسرفت فی تحدیده کماً بانکار الحسن والقبح العقلیین، والمعتزلة قد افرطت فی تحدید موضوعه بأن جعلت موضوعه الفعل الصادر من العبد الغنی عن غیره فی بقائه.

ومن هنا یظهر أنه لا وجه لتوهم أن ظواهر جملة من الآیات موافقة لنظریة

-

ص:153


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 83:2.

الأشاعرة، منها قوله تعالی:(یُضِلُّ اللّهُ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ) (1) ، فإن الآیة الشریفة قد اسندت الضلالة والهدایة إلی الله تعالی مع أنهما من أفعال العباد وتصدران منهم مباشرة، وهذا لیس إلا من جهة أن العباد مجرد وسیلة وآلة لإیجادها بدون أن یکون لهم حول ولا قوة.

والجواب: أن اسناد الضلالة والهدایة إلیه تعالی یکون علی القاعدة باعتبار المقدمة الاُولی کما عرفت، وهذا لیس معناه انه لا یصح اسنادهما إلی العبد، فإنه کما یصح اسنادهما إلیه تعالی کذلک یصح إلی العبد، لما مرّ من أنه لیس مجرد آلة لاصدارها بدون حول ولا قوة له، بل له سلطنة علی الفعل مباشرة طالما تتوفر فیه المقدمة الاُولی، وتقدم أن اسناد الفعل إلی کل منهما علی نحو الحقیقة.

ومنها قوله تعالی:(قُلْ لا أَمْلِکُ لِنَفْسِی نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللّهُ) (2) بتقریب أنه یدل بوضوح علی أن الانسان لا یملک شیئاً من النفع أو الضر لنفسه إلا ما شاء الله تعالی، فإذا شاءه تعالی تحقق سواء شاء العبد أم لم یشأه، وهذا معنی أنه لا حول له ولا قوة.

والجواب أن الآیة لا تدل علی أنه لا حول للعبد ولا قوة له، بل تدل علی أن حوله وقوته علی الفعل معلق علی مشیئة الله تعالی وجود مبادئه فیه، لما تقدم من أن مشیئة الله تعالی لا تتعلق بفعل العبد مباشرة وانما تتعلق بالافاضة علی مبادئه من حیاته وقدرته وعلمه وما شاکل ذلک، ودعوی أن مشیئته تعالی کما لا تتعلق بفعل العبد مباشرة کذلک لا تتعلق بمبادئه أیضاً بل تعلقها بکل منهما بالواسطة، مدفوعة بأن هذه الدعوی وإن کانت صحیحة من جهة أن تعلق المشیئة بکل

-

ص:154


1- (1) - سورة المدّثر (74):31.
2- (2) - سورة الأعراف (7):188.

منهما بالواسطة إلا أنها خاطئة من جهة اخری، وهی أنه فرق فی الواسطة التی تکون بین المبادی ومشیئة الله تعالی والواسطة التی تکون بین فعل العبد ومشیئته، فإن الاُولی علة طبیعیة والثانیة علة فاعلیة، فإن کانت الواسطة من قبیل الاُولی فهی کالمعنی الحرفی، فإن الأثر فی نهایة المطاف تماماً مستند إلی العلة الاُولی وهی الذات الواجبة، وکل الوسائط الطبیعیة بمثابة الآلة بدون حول ولا قوة لها أصلا، فالحول والقوة تماماً للمبدء الأول علی أساس أن جمیع السلسلة متعلقة ومرتبطة به ذاتاً، وإن کانت من قبیل الثانیة فلیست کالمعنی الحرفی بل هی فاعلة للفعل بقدرته وسلطنته بالاختیار طالما تتوفر فیها المبادیء، فالمبدأ الأول هو یمد المبادیء ویفیض علیها، فمادام یفیض علیها فالعبد مستقل فی إیجاد الفعل فی الخارج واصداره باختیاره وسلطنته، وهذا هو الفرق بین الواسطة فی الموردین.

فالنتیجة، أن معنی الآیة الشریفة هو أن العبد یملک الفعل کالضر أو النفع إذا شاء الله تعالی حیاته وقدرته وعلمه وغیرها، ولیس معناها أنه تعالی إذا شاء الضر أو النفع فالعبد یملکه، لأنه تعالی إذا شاءه تحقق فلا یکون العبد حینئذ مالکاً له، ولا معنی للتعلیق عندئذ، ومنها قوله تعالی:(وَ لا تَقُولَنَّ لِشَیْ ءٍ إِنِّی فاعِلٌ ذلِکَ غَداً * إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ) (1).

والجواب عن هذه الآیة الشریفة هو الجواب عن الآیة السابقة، فإن مفادها هو أن فاعلیة العبد منوطة بما إذا شاء الله تعالی حیاته وقدرته وعلمه وما شاکلها، وهذا هو مذهب الأمر بین الأمرین، ومن هذا القبیل قوله تعالی:(وَ ما -

ص:155


1- (1) - سورة الکهف (18):23 و 24.

تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ )(1).

فالنتیجة، أن هذه الآیات وغیرها لاتدل علی نظریة الأشاعرة أصلا بل تدل علی نظریة الامامیة وهی نظریة الأمر بین الأمرین، وعلی ضوئها کما یصح اسناد الفعل إلی العبد کذلک یصح اسناده إلیه تعالی، والآیات فی مقام بیان صحة اسناد فعل العبد إلیه تعالی، ولا تکون فی مقام نفی اسناده إلی العبد لکی یکون مدلولها القول بالجبر، تحصل مما ذکرناه أن نظریة الأمر بین الأمرین لیست نظریة غامضة بالغة فی الدقة والعمق بحیث لایمکن الوصول إلیها من خلال القواعد العامة إلا بارشاد من الأئمة الأطهار (علیهم السلام)، بل هی نظریة واضحة المعالم والمبادی باعتبار أنها کما مرّ تبتنی علی مبدأ العلیة بمفهومه الفلسفی ومدی حاجة الممکن إلیه من ناحیة، وسلطنة العبد علی الفعل عند توفر مبادئه فیه من ناحیة اخری.

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو الروایات الواردة فی المسألة عن الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وهی کثیرة ولا یبعد بلوغها من الکثرة حد التواتر إجمالا.

منها صحیحة یونس بن عبدالرحمن عن عدّة عن الصادق (علیه السلام) قال: قال له رجل جعلت فداک أجبر الله العباد علی المعاصی، قال: الله اعدل من أن یجبرهم علی المعاصی ثم یعذبهم علیها، فقال له جعلت فداک، ففوض الله إلی العباد، قال فقال: لو فوض إلیهم لم یحصرهم بالأمر والنهی، فقال له جلعت فداک فبینهما منزلة، قال فقال: نعم أوسع مما بین السماء والأرض(2).

ومنها، صحیحته الاُخری عن غیر واحد عن أبی جعفر (علیه السلام) وأبی عبدالله (علیه السلام)

-

ص:156


1- (1) - سورة الدهر (الانسان) (76):30.
2- (2) - الکافی 159:1 ح 11، باب الجبر والقدر والأمر بین الأمرین.

قالا: أن الله أرحم بخلقه من أن یجبر خلقه علی الذنوب ثم یعذبهم علیها والله أعزّ من أن یرید أمراً فلایکون، قال: فسئلا هل بین الجبر والقدر منزلة ثالثة، قالا: نعم، أوسع مما بین السماء والأرض(1).

ومنها صحیحة هشام وغیره قالوا: قال أبوعبدالله الصادق (علیه السلام): أنّا لا نقول جبراً ولا تفویضاً(2).

ومنها غیرها من الروایات.

والخلاصة، أن الروایات الواردة من الأئمة الأطهار (علیهم السلام) یدل علی بطلان نظریتی الجبر والتفویض وصحة نظریة الأمر بین الأمرین بصیغ مختلفة، منها أنه لا جبر ولا تفویض بل أمر بین الأمرین.

ومنها، أن الله تعالی أرحم وأعدل من أن یجبر العباد علی المعاصی ثم یعذبهم.

ومنها، أن القائل بالجبر والتفویض کافر.

ومنها، أن بین الجبر والقدر منزلة ثالثة.

ومنها، أن المزاعم بأن الخیر والشرّ بغیر مشیئة الله فقد أخرج الله من سلطانه والمزاعم بأن المعاصی بغیر قدرة الله، فقد کذب علی الله إلی غیر ذلک(3).

فالنتیجة، أن المجموع تؤکد نظریة الأمر بین الأمرین.

-

ص:157


1- (1) - الکافی 159:1 ح 9 باب الجبر والقدر والأمر بین الأمرین.
2- (2) - الأمالی للصدوق - علیه الرحمة -: 353، ح 431.
3- (3) - لاحظ بحار الأنوار 2:5، باب الظلم والجور عنه تعالی و... ح 27، 82، 14، 85، وروایات اخری فی الباب.
نتیجة المسألة عدة نقاط:

الاُولی: أن مبدأ العلیة بالمفهوم الصحیح ومدی ضرورة حاجة الممکن إلیه یقتضی حتماً أن مبادیء الفعل من حیاة العبد وقدرته وعلمه وغیرها بیده تعالی حدوثاً وبقاءً وهو یمدها ویفیض علیها فی کل لحظة، علی أساس أنها لیست شیئاً وراء ارتباطها بالمبدء الأول ذاتاً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بسلطنة العبد علی الفعل عند توفر تلک المبادیء فیه ویؤکدها ثبوت الشرائع السماویة من الاسلامیة وغیرها من قبل الله عزّ وجلّ والنظام من قبل العقلاء علی أساس الحسن والقبح العقلیین، وعلیه فتکون نظریة الأمر بین الأمرین نتیجة حتمیة لهاتین الناحیتین مطابقة للفطرة السلیمة الوجدانیة والبرهان العقلی.

الثانیة: أن نظریة الأشاعرة تقضی علی مبدأ العدالة فی الحساب والعقاب والحسن والقبح العقلیین بل علی أصل الشریعة وعدم الفائدة فی تشریعها إذا لم یکن العبد مختاراً فی أفعاله لانها لغو، وأما نظریة المعتزلة فهی تقضی علی عموم مبدأ العلیة کنظام عام للکون وتحدیده بحدوث الأشیاء، فلذلک تکون کلتا النظریتین مخالفة للضرورة الوجدانیة والبرهان السلیم.

الثالثة: توهم أن ظواهر جملة من الآیات المبارکة تنسجم مع نظریة الأشاعرة فقد تقدم أنه لا أصل له، فإنها لا تدل علی هذه النظریة بل لا أشعار فیها فضلا عن الدلالة، بل فیها دلالة علی نظریة الأمر بین الأمرین، لأن مفادها أن العبد لا یقدر علی الفعل إلا إذا شاء الله تعالی حیاته وقدرته وعلمه من المبادیء، فإنه فی هذه الحالة قادر علیه علی أساس أن قدرته وسلطنته علی الفعل منوطة بتوفر تلک المبادیء فیه لا مطلقاً.

ص:158

الرابعة: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن نظریة الأمر بین الأمرین نظریة غامضة وبالغة فی الدقة والعمق بدرجة لا یمکن الوصول إلیها بدون الارشاة والتنبیه من الأئمة الأطهار (علیهم السلام) لایمکن المساعدة علیه، لما عرفت من أن هذه النظریة موافقة للفطرة والوجدان فلا یحتاج الالتزام بها إلی مؤونة زائدة کالروایات.

الخامسة: أن الروایات الکثیرة التی لا یبعد بلوغها حد التواتر إجمالا تؤکد صحة هذه النظریة وبطلان نظریتی الأشاعرة والمعتزلة.

ص:159

نظریات العلماء والفلاسفة
اشارة

حول مسألة العقاب

لا اشکال فی صحة المحاسبة والعقاب وحسنهما علی ضوء نظریة الامامیة والمعتزلة، وانما الاشکال فی صحتهما علی نظریة الأشاعرة، علی أساس أن العقاب علی ضوئها عقاب علی أمر غیر اختیاری، باعتبار أن الفعل صادر من العبد قهراً وبالضرورة لا بالاختیار، وعقابه علیه من العقاب علی أمر غیر اختیاری وهو قبیح عقلا.

وقد حاول جماعة من الفلاسفة لدفع هذا الاشکال بعدة محاولات:

توجیه صدر المتألّهین

المحاولة الاُولی: ما ذکره صدر المتألّهین وحاصل ما ذکره أن العقاب والثواب من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء الالهی، فإن کانت تلک الأفعال من الأفعال القبیحة کان العقاب من لوازمها ولا یعقل انفکاکه عنها، وإن کانت من الأفعال الحسنة کان الثواب من لوازمها، لأن العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة کالأغذیة الردیئة، فکما أن الأغذیة الردیئة أسباب للأمراض الجسمانیة، فکذلک العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانیة والروحانیة، ونسبتها إلی العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة نسبة المسببات إلی الأسباب(1).

والجواب: أن هذه المحاولة لا تخلو من أن تکون مبنیة علی تجسم الأعمال فی

-

ص:160


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 100:2.انظر الحکمة المتعالیة فی الأسفار الأربعة 303:9-304.

الآخرة أو علی أن العقوبة من الآثار واللوازم الذاتیة للأعمال الباطلة والعقائد الفاسدة فی هذه الدنیا والمثوبة من الآثار واللوازم الذاتیة للأعمال الحسنة والعقائد الصحیحة ولا ثالث لهما. ولکن کلا التفسیرین باطل.

أما الأول فإن ارید بتجسّم الأعمال أنها تتحوّل فی الآخرة إلی الصور المخوفة والحیوانات المؤذیة وکذلک العقائد الفاسدة.

فیرد علیه أن هذا التحول إن کان بنحو الاقتضاء، ففعلیته بیده تعالی وأنه سبحانه یخلق الصور المخوفة لأعماله فی الآخرة ویفیض علیها تلک الصور أو یخلق الحیوانات المؤذیة لکل عمل بما یناسبه، وحینئذ فالعقاب من معاقب خارجی وبیده واختیاره ولا اشکال من هذه الناحیة، لأنه موافق لظواهر الآیات والروایات، إلا أن هناک مشکلة اخری وهی أن أفعال العبادات إذا کانت بقضاء الله وقدره وخارجة عن دائرة اختیارهم وسلطنتهم فکیف یمکن عقابهم وحسابهم علیها، لأنه من عقاب العاجز والمضطر وهو قبیح بحکم العقل الفطری، ولو أنکرنا الحسن والقبح العقلیین، فحینئذ وإن لم تبق مشکلة قبح المحاسبة والعقاب، إلا أن هناک مشکلة اخری أعمق منها وهی لغویة التکلیف نهائیاً وعدم الفائدة فی ارسال الرسل وانزال الکتب.

وإن کان بنحو الفعلیة فهو مخالف للضرورة عقلا وکتاباً وسنة، أما عقلا فلأنه مستقل بأن العقاب والثواب بید الله تعالی، لأن العبد یستحق العقوبة عند المخالفة والمثوبة عند الموافقة وله أن یعاقبه وله أن یعفو عنه، ولیس العقاب من جهة تحول الأعمال القبیحة إلی الصور المخوفة فی الآخرة قهراً، وأما کتاباً فهو ناص فی أن العقاب والثواب بیده تعالی وتحت سلطنته واختیاره، کما أن المغفرة والرحمة بیده سبحانه وکذلک سنة، هذا اضافة إلی أن لازم ذلک بطلان الشفاعة ولغویة

ص:161

التوبة والدعاء وطلب المغفرة والرحمة، فإذن هذه المحاولة فی الحقیقة تکذیب للکتاب والسنة، فلذلک لایمکن الالتزام بها.

وأما علی التفسیر الثانی فإن کان العقاب من آثار ولوازم الأعمال القبیحة بنحو الاقتضاء.

فیرد علیه أولا أن العبد کیف یستحق العقاب علی فعل خارج عن اختیاره، وثانیاً أن فعلیة هذا العقاب فی الآخرة إذا کانت بیده تعالی کما هو المفروض، استحال صدورها منه لمکان قبح عقاب العاجز عقلا، وإن کان بنحو الفعلیة والعلة التامة فهو خلاف الضرورة عقلا وشرعاً، أما الأول فلما عرفت من أن العقل مستقل بأن العقاب علی مخالفة التکلیف کالتکلیف بیده تعالی وتحت قدرته وسلطنته المطلقة ولا یتصور أنه تعالی غیر قادر علی العفو والمغفرة آنفاً، ثم أن هذه المحاولة وإن کانت تدفع مشکلة قبح العقاب علی الأمر غیر الاختیاری، لأن العقاب علیه انما یکون قبیحاً إذا کان من معاقب خارجی، وأما إذا کان من لوازم الأفعال القبیحة ذاتاً أو من جهة تجسم تلک الأعمال فی الآخرة عذاباً قهراً فلا موضوع لاتصافه بالقبح، لأن موضوعه الفعل الاختیاری دون ما کان خارجاً عن الاختیار، إلا أنک عرفت أن القول بأن العقاب من لوازم الأعمال والعقائد الفاسدة ذاتاً أو من جهة تجسم تلک الأعمال والعقائد الفاسدة فی الآخرة قهراً خلاف الضرورة عقلا کتاباً وسنة، وأما الثانی فلأن ذلک فی الحقیقة تکذیب للکتاب والسنة کما تقدم.

توجیه الحسن البصری

المحاولة الثانیة: ما عن أبی الحسن البصری رئیس الأشاعرة والمجبرة من أن الثواب والعقاب لیسا علی فعل العبد الصادر منه فی الخارج لیقال أنه خارج عن اختیاره ولا یستحق العقاب علیه، بل إنما هو علی اکتساب العبد وکسبه

ص:162

بمقتضی الآیة الکریمة:(الْیَوْمَ تُجْزی کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْیَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسابِ) (1).

وغیر خفی أن هذه المحاولة لاترجع إلی معنی محصل أصلا، وذلک لأنه إن أراد بالکسب والاکتساب کون العبد محلا ومعروضاً له وهو عارض علیه کالجسم الذی هو محل ومعروض للسواد مثلا تارة وللبیاض اخری.

فیرد علیه، أنه لا یعالج مشکلة العقاب علی أمر غیر اختیاری، ضرورة أن کونه محلا له ککون الجسم محلا للسواد أو البیاض أمر خارج عن اختیاره.

هذا إضافة إلی أن عنوان الاکتساب عنوان انتزاعی منتزع من العمل الخارجی ولا واقع موضوعی له غیر وجوده فی عالم الذهن فلا یصلح أن یکون ملاکاً لاستحقاق العقوبة، فإن ملاک استحقاقها إنما هو العمل الخارجی الذی یتحقق به تفویت حق المولی والتمرد والعصیان علیه، وإن أراد به واقع الاکتساب وهو الفعل الحرام الصادر منه فی الخارج.

فیرد علیه، أن الفعل الحرام إن کان صادراً منه بالاختیار، فحینئذ وإن لم یکن عقابه قبیحاً عقلا، إلا أنه یناقض التزامه بالجبر فیه وعدم صدوره منه بالاختیار، وإن کان صادراً منه بغیر الاختیار فلایمکن العقاب علیه، لأنه من العقاب علی أمر خارج عن الاختیار وهو قبیح عقلا. هذا إضافة إلی أن هذه المحاولة لو تمت فإنما تتم فی خصوص ما إذا کان قیام الفعل بالفاعل من قیام الحال بالمحل کالکسب والاکتساب لا مطلقاً.

والخلاصة، أن عنوان الکسب والاکتساب عنوان طاریء علی العبد قهراً

-

ص:163


1- (1) - سورة غافر (40):17.

ومنشأه صدور الفعل منه فی الخارج کذلک، فإذن استحقاق العقاب علیه لا یحل مشکلة قبح العقاب علی أمر خارج عن الاختیار هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الکسب والاکتساب لیس شیئاً آخر فی الخارج وراء فعله فیه، فإذن لا معنی لاستحقاق العقاب علیه دون الفعل الخارجی. ومن هنا یظهر أن المراد من الکسب فی الآیة الشریفة واقعه الموضوعی وهو الفعل الخارجی لا عنوانه الذهنی الانتزاعی.

توجیه الباقلانی

المحاولة الثالثة: ما ذکره الباقلانی من أن الثواب والعقاب إنما هو علی عنوان الطاعة والمعصیة، بدعوی أن الفعل الخارجی وإن کان یصدر من العبد بغیر اختیاره إلا أن جعله معنوناً بعنوان الطاعة أو المعصیة بیده واختیاره، فإذن لایکون العقاب علیها عقاباً علی أمر خارج عن الاختیار حتی یکون قبیحاً عقلا(1).

والجواب: أن هذه المحاولة غریبة جداً، لأن صدور الفعل من العبد إذا کان غیر اختیاری فکیف یکون اتصافه بالطاعة أو المعصیة اختیاریاً وبیده، ضرورة أن اتصافه بها وکونه مصداقاً لها بعد تحققه فی الخارج قهری، غایة الأمر إن کان الفعل اختیاریاً وبیده کان اتصافه بها أیضاً بیده لکن بالواسطة لا بالمباشرة، وإن لم یکن الفعل بیده واختیاره لم یکن اتصافه بها أیضاً بیده لا بالمباشرة ولا بالواسطة، فمن أجل ذلک لاترجع هذه المحاولة إلی معنی معقول.

توجیه الرابع

المحاولة الرابعة: أن عقاب العبد وحسابه عند الأشاعرة مبنی علی أفکار الحسن والقبح العقلیین ومع الانکار لا تبقی مشکلة من هذه الناحیة، لأن العقل

-

ص:164


1- (1) - راجع محاضرات فی اصول الفقه 102:2.

لایحکم بقبح هذه المحاسبة والعقاب(1).

والجواب: أن قضیتی حسن العدل وقبح الظلم عقلا من أولیات ما یدرکه الانسان فی حیاته الاعتیادیة فطرة ولا یتوقف علی أیة مقدمة خارجیة، بداهة أنه لیس بإمکان أی فرد أن یسمح لنفسه الاقرار بعدم قبح الظلم مع الاعتراف بکونه ظلماً، إذ لا یمکن أن یعارض الشخص فطرته.

وعلی ضوء ذلک فإذا فرض أن العبد مسلوب الاختیار ولا حول له ولا قوة وکان یصدر الفعل منه بالضرورة وبدون الاختیار، فلا محالة یکون عقابه علیه ظلم لأنه من عقاب العاجز.

ومن هنا لا فرق علی مسلک الأشعری بین حرکة الأصابع وحرکة ید المرتعش، فکما أن حرکة ید المرتعش حرکة قهریة ضروریة الناشئة بالضرورة من علّتها المرض وهی ناشئة بالضرورة من عللها فی المرتبة السابقة وهکذا إلی أن ینتهی الأمر إلی الواجب بالذات، فکذلک حرکة الأصابع فإنها ناشئة بالضرورة من الارادة، والارادة ناشئة بالضرورة من مبادئها غیر الاختیاریة وهی ناشئة بالضرورة من عللها وهکذا إلی أن ینتهی الأمر إلی الارادة الأزلیة، فلو جاز العقاب علی حرکة الأصابع رغم أنها غیر اختیاریة، جاز عقاب المرتعش علی حرکة یده أیضاً وهو کماتری، لأنه ظلم ومن أظهر أفراده.

ودعوی الأشاعرة بأن الحسن ما حسنه الشارع والقبیح ما قبحه الشارع بمعنی أن کل ما یأمر به الشارع فهو حسن، علی أساس أن أمر الشارع به لایمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة وتلک النکتة هی اشتماله علی

-

ص:165


1- (1) - المصدر المتقدم.

مصلحة تقتضی حسنه، وکل ما ینهی الشارع عنه فهو قبیح لأنه یکشف بنفس البیان عن اشتماله علی مفسدة تقتضی قبحه، والعقل بما أنه لا طریق له إلی الواقع وادراک مصلحة أو مفسدة فی فعل، فلهذا لیس بامکانه أن یحکم بحسنه أو قبحه.

مدفوعة، بأنها مبنیة علی الخلط بین العقل النظری والعقل العملی، فإن مالا طریق له إلی الواقع وادراک ملاکات الاحکام فیه واستکشافها هو العقل النظری، ومحل الکلام فی المقام إنما هو فی العقل العملی، ومدرکات هذا العقل غیر قابلة للانکار وهی متمثلة فیما ینبغی فعله ومالا ینیغی ولکل منهما أفراد فی الخارج، فالصدق فی نفسه حسن یقتضی أن یکون هو الصادر من الانسان، وقد تقع التزاحم بینه وبین ما یقتضی قبحه، کما إذا لزم من الصدق الخیانه أو الضرر بالغیر، فعندئذ یتزاحم اقتضاء الصدق للحسن مع اقتضاء الخیانة أو الضرر للقبح، وفی هذه الحالة قد یقع اختلاف بین العقلاء فی الترجیح، وقد یکون الشیء حسنه بنحو العلة التامة کحفظ بیضة الاسلام وفی مثله لا یتصور التزاحم بین المقتضیات. والکذب فی نفسه قبیح یقتضی أن لا یصدر من الانسان، وقد یقع التزاحم فیما إذا لزم من الکذب حفظ مال المؤمن، فإن اقتضاء الکذب للقبح مزاحم مع اقتضاء حفظ مال المؤمن للحسن، وفی هذه الحالة قد یقع الاختلاف بین العقلاء فی الترجیح، وقد یکون قبح الشیء بنحو العلة التامة کالمحاربة للدین، فإنها علة تامة للقبح ومن أظهر مصادیق الظلم ولا یمکن طرو عنوان حسن علیها لکی یقع التزاحم بینهما. نعم، کل ما ینطبق علیه عنوان الظلم لا یکون علة تامة للقبح، لأن الظلم عنوان قد أخذ مشیراً إلی واقع مالا ینبغی فعله، فیصدق علی الکذب باعتبار أنه قبیح فی نفسه وعلی سلب ذی حق عن حقه وعلی التعدی والعدوان بالآخر بدون مبرر وهکذا کل ذلک یکون بنحو

ص:166

الاقتضاء، وقد یقع التزاحم بین المقتضیات، أجل طالما یصدق علیه عنوان الظلم فهو قبیح، ولکن معنی هذا أنه ما دام موضوعه ثابتاً فی المرتبة السابقة وبدون مزاحم فهو ظلم وقبیح، فیکون الظلم بشرط ثبوت الموضوع لا مطلقاً.

هذا إضافة إلی أنه مع انکار الحسن والقبح العقلیین وإن کان لا تبقی مشکلة قبح محاسبة العبد وعقابه حتی تدعو الحاجة إلی حلها، ولکن تبقی هناک مشکلة اخری أعمق من الاُولی وهی أن العبد إذا کان عاجزاً ولا حول ولا قوة له وکان الفعل یصدر منه قهراً وبدون الاختیار، فالتکلیف لا محالة یکون لغواً ولا یمکن صدوره من المولی الحکیم.

والخلاصة: أن انکار التحسین والتقبیح العقلیین انکاراً للقضایا الأولیة الفطریة وهو لایمکن، ومن هنا فالتصدیق بأن الأشاعرة منکرون مدرکات العقل العملی واقعاً لایمکن، لأن الشخص لایعقل أن یعارض فطرته هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن انکار الحسن والقبح العقلیین تهدیم للنظام العقلائی الذی بنی العقلاء ذلک النظام علی ضوء مدرکات العقل العملی لحفظ معاشهم الاعتیادیة الاجتماعیة والفردیة والمادیة والمعنویة تحقیقاً للعدالة فی المجتمع والمحافظة علی حقوق الناس والمنع من التعدی والافراط والتفریط فیها. ومع انکار تلک المدرکات ینتفی النظام بانتفاء موضوعه، وأما ما ذکره جماعة منهم السید الاُستاذ (قدس سره) من أن انکار الحسن والقبح العقلیین یستلزم سد باب اثبات النبوة، لأن اثباتها مبنی علی قبح اعطاء المعجزة بید الکاذب، باعتبار أنه تغریر بالناس ونحو من الکذب علیهم وهو قبیح علی الله تعالی، فإذا أنکرنا قبح ذلک،

ص:167

فلا یمکن اثبات صدق مدعی النبوة(1).

فیمکن المناقشة فیه وهی أن دلالة المعجزة علی صدق مدعی النبوة لو کانت متوقفة علی هذه المقدمة العقلیة وهی قبح اعطائها بید الکاذب لم یمکن اثبات صدقه بها، وذلک لأن المعجزة لا تخلو إما أن تدل علی نبوة من جرت علی یدیه بقطع النظر عن المقدمة العقلیة وهی قبح اعطاء المعجزة بید الکاذب، لأنه تغریر بالناس أو لا تدل علیها إلا بضم هذه المقدمة، فعلی الأول لا حاجة إلی هذه المقدمة فی اثبات النبوة، وعلی الثانی فلا یمکن أن تدل علی النبوة، لأن اثباتها بها حینئذ یکون دوریاً، وذلک لأن فعلیة دلالة المعجزة علی نبوة من یدعیها تتوقف علی قبح اعطائها بید الکاذب، وقبح الاعطاء بیده یتوقف علی فعلیة دلالة المعجزة علیها وإلاّ لم یکن الاعطاء قبیحاً. فلذلک لایمکن أن تتوقف دلالة المعجزة علی نبوة من یدعیها علی ضمّ المقدمة العقلیة المذکورة.

وبکلمة، أن الاستدلال علی نبوة من جرت المعجزة علی یدیه لا یمکن أن یتوقف علی ضم قضیة قبح جریانها علی یدی الکاذب وإلاّ لزم الدور، وذلک لأن فعلیة دلالة المعجزة علی صدق المدعی تتوقف علی القضیة المذکورة وهی قبح اعطاء المعجزة بید الکاذب، لأنه تغریر بالناس ودعوة لهم إلی متابعته. والمفروض أن قبح اعطائها بیده یتوقف علی فعلیة دلالتها علی الصدق، لوضوح أن المعجزة لولم تدل علی ذلک فعلا لم یکن اعطائها بید الکاذب قبیحاً وتغریراً بالناس، لفرض أنها لا تدل علی أنه نبی حتی یکون تغریراً لهم وقبیحاً وهذا هو الدور، فلهذا لا یمکن أن یتوقف الاستدلال علی نبوة من یدعیها بالمعجزة علی المقدمة العقلیة المذکورة، فإذن انکار الحسن والقبح العقلیین لایستلزم سد باب

-

ص:168


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 104:2.

اثبات النبوة بالمعجزة.

نعم، هنا طریق آخر لامکان الاستدلال بالقضیة العقلیة المذکورة بدون لزوم محذور، وهو أن هذه القضیة وهی قبح اعطاء المعجزة بید الکاذب ودعوة الناس إلی متابعته أمر مرتکز ثابت فی أعماق نفوس الناس فطرة، فلهذا إذا رأوا معجزة بید من یدعی النبوة وعلموا بأنها معجزة من الله تعالی فی یده حصل لهم الیقین بصدقه أتوماتیکیاً وفطرة بدون التوقف علی أی مقدمة خارجیة، ولکن هذا الیقین وجدانی لا برهانی وبامکانهم حینئذ أن یبرهنوا ذلک بقبح اعطاء المعجزة بید الکاذب، بتقریب أن دلالتها علی صدق مدعی النبوة عرفاً قرینة علی أنه لا یجوز اعطائها بید الکاذب، إذ لو جاز لم تدل، فدلالتها بحسب الفهم العرفی الارتکازی إذا ضمّت إلی کبری قبح اعطاء المعجزة بید الکاذب تشکل برهاناً علی النبوة.

والخلاصة، أن دلالة المعجزة علی اثبات نبوة مدعیها لا تتوقف علی القضیة العقلیة المذکورة، لأنها فی طول دلالة المعجزة ومتوقفة علیها ومتفرعة، ولا فرق فی ذلک بین النبوة العامة والخاصة، فإن المعجزة تدل علیها بنفسها وبقطع النظر عن قضیة قبح اعطائها بید الکاذب وإن کانت تلک القضیة ثابتة ارتکازاً وفطرة، ولهذا تؤکد دلالة المعجزة وتبرهنها وتجعلها دلیلا فنیاً.

ودعوی أن عادة الله تعالی قد جرت علی جریان المعجزة علی ید مدّعی النبوة عن صدق لا عن کذب، خاطئة جداً ولا واقع موضوعی لها، وذلک لأنه إن ارید بها سنته الجاریة فی التکوینیات والتشریعیات، ففیه أنها جاریة علی طبق المصالح والحکم التی لا تبدیل فیها ولا تغییر، وعلی هذا فسنة الله وحکمته قد جرت علی اعطاء المعجزة بید الصادق فی دعوة النبوة ولا تبدیل فیها.

ص:169

توجیه الاشاعرة

المحاولة الخامسة: من الأشاعرة بعد انکار التحسین والتقبیح العقلیین قالوا أن القبیح ما قبحه الشارع والحسن ما حسنه الشارع، ومع قطع النظر عن ذلک لا یحکم العقل بحسن الأشیاء ولا قبحها، وقد أقاموا علی ذلک دلیلین:

الأول: أن فعله تعالی لا یتصف بالظلم، والسبب فی ذلک أن الظلم عبارة عن التصرف فی ملک الغیر بدون اذنه، وحیث أن العالم بعرضه العریض ملک لله تعالی وتحت تصرفه وسلطانه ولا شریک له فیه، فبطبیعة الحال أی تصرف یصدر منه تعالی فهو فی ملکه فلا یکون مصداقاً للظلم، وعلی هذا فلا یکون عقاب العبید علی الأفعال غیر الاختیاریة ظلماً حتی یکون قبیحاً، بل له تعالی أن یدخل عبداً من عباده الصالحین فی النار وشقیاً من الأشقیاء فی الجنة، فإن ذلک لا یکون قبیحاً منه لأنه تصرف فی ملکه، وکیف کان فإنه تعالی لا یسأل عما یفعل وهم یسئلون عما یفعلون.

والخلاصة: أن انتفاء الظلم فی أفعاله تعالی بانتفاء موضوعه، وعلی هذا المعنی یحمل الآیات النافیة للظلم عن ساحته تعالی وتقدس کقوله سبحانه:(وَ ما رَبُّکَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِیدِ) (1).

الثانی: أن الله سبحانه وتعالی هو الحاکم علی الاطلاق فلا یتصور حاکم فوقه، وعلیه فلیس بامکان العبد أن یحکم علی الله تعالی وکونه محکوماً بحکم عبده، ولا معنی لأن یقال أنه لا یجوز لله تعالی الظلم بحکم العقل، لأن مردّ ذلک إلی تعیین الوظیفة له تعالی من قبل العبد وهو غیر معقول.

وللمناقشة فی کلا الدلیلین مجال واسع.

-

ص:170


1- (1) - سورة فصّلت (41):46.

أما الدلیل الأول فهو ساقط جداً، وذلک لأن مدرکات العقل العملی وهی الحسن والقبح، فقد عرفت أنها من أولیات ما یدرکه البشر فی حیاته الاعتیادیة فطرة، مثلا قبح ما یصدق علیه عنوان الظلم وحسن ما یصدق علیه عنوان العدل فی الجملة من القضایا الفطریة الأولیة وغیر قابلة للانکار ومتمثلة فیما ینبغی فعله واقعاً وما لا ینبغی کذلک، والأول حسن فی نفسه من فاعله وینبغی أن یصدر منه سواءاً کان فی ملکه أم لا، والثانی قبیح منه کذلک وینبغی أن لا یصدر منه سواءاً کان فی ملکه أم فی ملک غیره، مثلا من قصر فی حفظ نفسه مثلا وأدی إلی هلاکه أو ما یتلو تلوه، کان یصدق علیه أنه ظلم نفسه رغم أنه تصرف فی ملکه، وکذا لو عاقب المولی عبده المطیع، کان یعدّ ذلک ظلماً منه تعالی وهکذا، لأن الظلم سلب ذی الحق عن حقه.

والخلاصة: أن العقل العملی کما یحکم بأن مؤاخذة المولی عبده علی الفعل الصادر منه قهراً وبغیر الاختیار ظلم فی حقه وإن کان التصرّف تصرفاً فی ملکه وفی دائرة سلطنته، کذلک یحکم بأن مؤاخذة المطیع واثابة العاصی ظلم.

وأما الثانی فلأنه مبنی علی الخلط بین حکم العقل العملی وحکم العقل النظری، وذلک لأن الله تعالی لا یعقل أن یکون محکوماً بحکم العقل العملی، وأما العقل النظری فلأن شأنه ادراک ماهو واقع وثابت فی لوح الواقع الذی هو أوسع من لوح الوجود علی ما هو علیه فیه کاستحالة اجتماع النقیضین والضدّین والدور والتسلسل ومبدأ العلیة وسر خضوع الأشیاء لهذا المبدأ وهکذا، ومن هنا لا یقتضی الدرک فی العقل النظری سلوکاً خاصاً وموقفاً معیناً عملا کما هو الحال فی المدرک بالعقل العملی، فإنه یدرک حسن الشیء أی ما ینبغی فعله وقبح آخر أی مالا ینبغی فعله، والمدرک فی کل منهما یقتضی سلوکاً خاصاً وموقفاً

ص:171

معیناً، وعلی هذا فالعقل النظری کما یدرک هذه الأشیاء الواقعیة وغیرها لوجوده تعالی وصفاته الذاتیة العلیا وغیرها، کذلک یدرک أن صدور الظلم منه تعالی قبیح فی الواقع وصدور البدل منه حسن، فإن الذی لایمکن هو ادراک العقل العملی ما ینبغی لله تعالی فعله ومالا ینبغی، فإنه تعیین الوظیفة له تعالی ومرجعه إلی استحقاق المدح علی الأول والذم علی الثانی وهو کماتری. ومن هنا لا شبهة فی أن العقل یدرک أن المحاسبة والعقاب علی فعل غیر اختیاری ظلم وقبیح کمحاسبة المرتعش وعقابه علی حرکة یده أو محاسبة الشخص وعقابه علی حرکة امعائها عند الخوف وهکذا.

توجیه المحقق الخراسانی

المحاولة السادسة: ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) من أن العقاب یتبع الکفر والعصیان التابعان للاختیار الناشیء عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما، فان السعید سعید فی بطن أمه والشقی شقی فی بطن أمه والناس معادن کمعادن الذهب والفضة کما فی الخبر. والذاتی لا یعلل، فانقطع السؤال أنه لما جعل السعید سعیداً والشقی شقیاً، فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک، وإنما أوجدهما الله تعالی (قلم اینجا رسید وسر بشکست)(1) هذا، وذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أن ما ذکره فی هذه المحاولة مبنی علی أن العقاب لیس من معاقب خارجی حتی یلزم المحذور المتقدم وهو العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، بل هو من لوازم الأعمال السیئة التی لا تنفک عنها، لأن نسبة العمل إلی العقاب کنسبة الثمر إلی البذر، ومن الطبیعی أن البذر إذا کان صحیحاً کان نتاجه صحیحاً، وإذا کان فاسداً کان نتاجه فاسداً هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أن تلک الأعمال تصدر من الانسان بالارادة، والارادة بتمام مقدماتها غیر

-

ص:172


1- (1) - کفایة الاُصول: 67. (مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

اختیاریة وینتهی فی نهایة المطاف إلی الشقاوة الذاتیة للانسان والذاتی لا یعلل، فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین هی أن العقاب من آثار ولوازم الأعمال المذکورة، فإذن لا اشکال من ناحیة العقاب، باعتبار أنه من آثار ولوازم تلک الأعمال ذاتاً لا من معاقب خارجی لکی یکون قبیحاً، ولا من ناحیة الأعمال لأنها تنتهی بالآخرة إلی الذات والذاتی لا یعلل.

ثم علق (قدس سره) علی ذلک بأمرین:

الأول: أن هذه النظریة مخالفة صریحة للکتاب والسنة، حیث أن لازمها عدم امکان العفو من الله تعالی عن العقاب بأسباب العفو کالتوبة والشفاعة ونحوهما لاستحالة انفکاک اللازم عن الملزوم، وأیضاً لازمها لغویة طلب المغفرة والرحمة من الله سبحانه، والکل مخالف لنصوص الکتاب والسنة، فإنها قد صرحت بالعفو والغفران بالتوبة والشفاعة والحث علی طلب الغفران والرضوان منه سبحانه، کما أنها قد صرحت بأن العقاب والحساب وعدمهما بیده تعالی، فله أن یعاقب وله أن یغفر حسب ما یراه من المؤهلات والمقتضیات لکل منهما، فإذن تکون نتیجة هذه النظریة تکذیب الکتاب والسنة فی نهایة المطاف وهو کماتری.

الثانی: أن تلک النظریة لا تعالج مشکلة العقاب علی أمر غیر اختیاری، فتبقی تلک المشکلة علی حالها بل هی تؤکدها کما هو ظاهر(1). هذا،

ولکن یمکن النظر فی هذاالتعلیق، وذلک لأن کلامه (قدس سره) وإن کان قابلا للحمل علی ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) إلا أنه لاظهور له فیه إذکما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون نظره إلی أن تبعیة العقاب للکفر والعصیان إنما هی بنحوالاقتضاء وهذا

-

ص:173


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 108:2.

لاینافی کون العقاب بیده تعالی، فإذن لا موجب لحمل کلامه علی الاحتمال الأول.

تفصیل ذلک أن ما أفاده (قدس سره) یرجع إلی عدة نقاط:

الاُولی: أن الارادة التکوینیة علة تامة للفعل فی الخارج وإنه خاضع لها وجوداً و عدماً کخضوع المعلول للعلة التامة.

الثانیة: أن الارادة بتمام مقدماتها غیر اختیاریة وهی ناشئة بالضرورة من عللها إلی أن ینتهی الأمر إلی الواجب بالذات.

الثالثة: أن ارادته تعالی من الصفات الذاتیة العلیا کالعلم والقدرة ونحوهما.

الرابعة: أن السعادة والشقاوة صفتان ذاتیتان للانسان.

الخامسة: أن منشأ العقاب والدخول فی النار والثواب والدخول فی الجنة انما هو الشقاوة والسعادة الذاتیتین.

أما النقطة الاُولی والثانیة والثالثة فقد تقدم الکلام فیها موسعاً فی ضمن البحوث السالفة فلاحظ ولا حاجة إلی الاعادة.

وأما النقطة الرابعة، فإن أراد بالذاتی، الذاتی فی باب الکلیات أعنی الجنس والفصل فهو واضح الفساد، بداهة أن السعادة والشقاوة لیستا من الجنس والفصل للانسان وإلا لکانت حقیقة الانسان السعید غیر حقیقة الانسان الشقی وهو کماتری، فإذن لا محالة یکون المراد من الذاتی، الذاتی باب البرهان وهو لازم ذات الانسان، وعلی هذا فإن ارید بالذاتی، الذاتی بمعنی العلة التامة وهذا یعنی أن الشقاوة علة تامة لاختیار الکفر والعصیان، والسعادة علة تامة لاختیار الایمان والطاعة.

فیرد علیه أنه مخالف للوجدان والبرهان من ناحیة والکتاب والسنة من

ص:174

ناحیة اخری.

أما الأول فمضافاً إلی ما تقدم فی ضمن البحوث السابقة بصورة موسعة نقد نظریة الجبر واثبات نظریة الاختیار وهی نظریة الأمر بین الأمرین، أن الشقاوة والسعادة لو کانتا کذلک، لزم هدم أساس کافة الشرایع والأدیان السماویة وأصبح کون بعث الرسل وانزال الکتب لغواً ولا تترتب علیه أی فائدة، وأیضاً لزم هدم مدرکات العقل العملی کالحسن والقبح التی قد التزم بها العقلاء فی حفظ نظم حیاتهم المادیة والمعنویة الاجتماعیة والفردیة وابقاء نوعهم.

فالنتیجة، أنه لایمکن الالتزام بأن الشقاوة علة تامة للکفر، والأعمال القبیحة والسعادة علة تامة للایمان والأعمال الحسنة.

وأما الثانی، فلأن الفطرة السلیمة الوجدانیة تحکم بسلطنة الانسان علی أفعاله واختیاره وأنه لیس فی کمون جوهر الانسان وحقیقة ما یجبره علی اختیار الکفر والعصیان قهراً وبشکل أتوماتیکی أو الایمان والاطاعة کذلک هذا، اضافة إلی أنا نری فی الخارج حساً انساناً کان شقیاً فی أول عمره ثم صار سعیداً فی آخره أو بالعکس، وفی ذلک القضاء الحاسم علی هذه الدعوی، إذ لو کانت الشقاوة والسعادة ذاتیتین للانسان فیستحیل أن یصبح الانسان الشقی سعیداً وبالعکس، لاستحالة انفکاک اللازم عن الملزوم طالما الملزوم ثابتاً، أما الکتاب فمضافاً إلی أنه بنفسه شاهد صدق علی بطلان هذه الفرضیة، فقد دلت عدة من الآیات الکریمة علی نظریة الاختیار وهی الأمر بین الأمرین وبطلان نظریة الجبر، وأن الأعمال الصادرة من الانسان تصدر بالاختیار لا بالقهر والجبر کما تقدم. فلو کانت الشقاوة ذاتیة بمعنی العلة التامة، لکان الانسان مجبوراً ومقهوراً فی أفعاله السیئة وکان صدورها منه بالضرورة والوجوب لا بالاختیار، وکذا

ص:175

الحال فی السعادة.

وأما السنة فقد تقدم أن الروایات الکثیرة التی لایبعد بلوغها حد التواتر اجمالا ناصة علی خطأ نظریتی الجبر والتفویض من ناحیة، واثبات نظریة الأمر بین الأمرین من ناحیة اخری، ومن الطبیعی أن فی هذه الروایات القضاء المبرم علی بطلان هذه الفرضیة وعدم واقع موضوعی لها، وأضف إلی ذلک أن هاتین الصفتین لوکانتا ذاتیتین بالمعنی المذکور لکان أوامر الدعاء وطلب التوفیق فی طاعة الله والغفران من الذنوب وحسن العاقبة والسعادة وما شاکلها ملغیة وبلا فائدة وکانت مجرد لقلقة اللسان فحسب وهذا کماتری، فإذن فی نفس هذه الأوامر شهادة صدق علی بطلان هذه الفرضیة.

فالنتیجة، أنه لا یمکن أن تکون صفتی الشقاوة والسعادة ذاتیتین للانسان بمعنی العلة التامة.

وإن أراد بالذاتی، الذاتی بمعنی الاقتضاء، فهو وإن کان أمراً ممکناً فی نفسه ولیس فی الذاتی بهذا المعنی ما یخالف الشرائع السماویة ولا النظم العقلائیة کما أنه لیس علی خلافه حکم العقل ولا الوجدان والضرورة، إلا أن المستفاد من بعض الروایات أنهما لیستا بذاتیتین بهذا المعنی أیضاً، وذلک لما ورد فیها من أن الشقی یطلب من الله تعالی أن یجعله سعیداً، فلو کانت الشقاوة صفة ذاتیة للانسان ولازمة له، فلا یعقل تغییرها وتبدیلها بصفة السعادة، وتدل علی أنهما لیستا من الصفات الذاتیة أیضاً صحیحة ابن أبی عمیر الآتیة.

ودعوی، أن قوله (علیه السلام) فی صحیحة الکنانی (الشقی، شقی فی بطن امه،

ص:176

والسعید سعید فی بطن امه)(1) وقوله (علیه السلام): «الناس معادن کمعادن الذهب والفضة»(2). یدلان علی أن السعادة والشقاوة صفتان ذاتیتان للانسان.

مدفوعة، بأنا لو کنا نحن وهذه الصحیحة ولم تکن قرینة خارجیة علی الخلاف فهی ظاهرة فی أنهما صفتان ذاتیتان، غایة الأمر حیث لایمکن کونهما ذاتیتین بنحو العلة التامة فبطبیعة الحال تکونا ذاتیتین بنحو الاقتضاء، إلا أن القرینة الخارجیة تمنع عن الأخذ بظاهرها، لأنها حاکمة علیها ومفسرة لها، وهی صحیحة ابن أبی عمیر (قال: سألت أباالحسن موسی بن جعفر (علیه السلام) عن معنی قول رسول الله (صلی الله علیه وآله): الشقی من شقی فی بطن امه، السعید من سعد فی بطن امه، فقال الشقی من علم الله (علمه الله) وهو فی بطن امه أنه سیعمل أعمال الأشقیاء والسعید من علم الله (علمه الله) وهو فی بطن امه أنه سیعمل أعمال السعداء)(3).

فإنها تحدد المراد من قول رسول الله (صلی الله علیه وآله) وتفسیره، وتدل علی أن الشقاوة والسعادة لیستا من الصفات الذاتیة بل هما من الصفات العرضیة التی تعرض علی الانسان بسبب مزاولة الأعمال السیئة أو الحسنة فی الخارج، فإن مزاولة الأعمال السیئة منشأ لعروض صفة الشقاوة علیه ومزاولة الأعمال الحسنة منشأ لعروض صفة السعادة علیه کسائر الملکات النفسانیة الحمیدة والخبیثة، فإنها تحصل فی نفس الانسان وتعرض علیها بسبب المزاولة والاستمرار علی الأعمال الحسنة أو السیئة، لوضوح أنها لیست من الصفات الذاتیة للانسان منذ وجوده

-

ص:177


1- (1) - الأمالی للصدوق - علیه الرحمة -: 576، ح 788.وفیه: (الشقی من شقی فی بطن امه والسعید من وعظ بغیره).
2- (2) - بحار الأنوار 61 و 65، ح 51 وص 106، باب حقیقة النفس والروح وأحوالهما.
3- (3) - التوحید للصدوق - علیه الرحمة -: 356، ح 3، باب السعادة والشقاوة.

علی سطح الکرة أو انعقاده فی الرحم.

فالنتیجة، أن الشقاوة والسعادة صفتان عارضتان علی الانسان المنتزعتان من الأعمال الخارجیة ولیستا من الصفات الذاتیة لا بنحو العلة التامة ولا بنحو الاقتضاء.

وبکلمة واضحة أن الانسان منذ تکونه فی بطن امه أو وجوده علی سطح هذا الکوکب لا توجد لدیه أیة صفة من الصفات النفسانیة والملکات الحمیدة والرذیلة والقوی العقلانیة والشهوانیة ما عدی حیاته الحیوانیة، وتحصل هذه الصفات والملکات والقوی له بالتدریح بمرور الأیام وطول الزمان فی حیاته الاعتیادیة، ومن الطبیعی أن صفتی الشقاوة والسعادة لوکانتا ذاتیتین له، لکان الانسان واجداً لهما منذ تولده علی سطح الکرة أو تکونه فی الرحم وهو کما تری، ومن هنا لایصح اطلاق الشقی علیه منذ تولده ووجوده وکذلک السعید. وعلی هذا الضوء فلا مناص من الالتزام بأنهما کسائر الملکات النفسانیة تحصل لنفس الانسان من مزاولة الأعمال الخارجیة، مثلا تحصل صفة الشقاوة لها من مزاولة الأعمال السیئة وصفة السعادة من مزاولة الأعمال الحسنة ولیس لهما واقع موضوعی غیر ذلک.

وبذلک یتبین أنه لابد من حمل الصحیحة علی ذلک بقرینة هذا البیان التحلیلی وبقطع النظر عما ورد فی تفسیرها وبیان المراد منها، ودعوی أن المراد بصفة الشقاوة هو الملکات الخبیثة ونقصد بها القوی الشهوانیة وقد یعبر عنها بجنود الشیطان، علی أساس أنها تبعث الانسان وتحرکه نحو اختیار الکفر والعصیان علی سبیل الاقتضاء، والمراد بصفة السعادة هو الملکات الحمیدة ونقصد بها القوی العقلانیة وقد یعبر عنها بجنود الرحمان، علی أساس أنها تبعث الانسان

ص:178

وتدعوه إلی اختیار الایمان والاطاعة.

مدفوعة، بأن هاتین القوتین المتعارضتین وإن کانتا موجودتین فی کل انسان بعد مضی برهة من عمره لامنذ تولده ووجوده، إلا أن المراد من صفتی الشقاوة والسعادة لیس هاتین القوتین المتحاربتین، وإلا لزم کل انسان شقیاً وسعیداً معاً وفی آن واحد وهو باطل جزماً. بداهة أنه لا یصدق علی الشقی عنوان السعید وبالعکس. نعم، أن القوی الشیطانیة منشأ للشقاوة والقوی الرحمانیة منشأ للسعادة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن صفتی الشقاوة والسعادة لیستا من الصفات الذاتیة للانسان لا بنحو العلة التامة ولا بنحو الاقتضاء.

وأما الروایة الثانیة وهی أن الناس معادن کمعادن الذهب والفضة فهی لاتدل علی أنهما صفتان ذاتیتان للانسان، لوضوح أنها غیر ناظرة إلیهما لا تصریحاً ولا تلویحاً، بل هی ناظرة إلی مطلب آخر وهو أن أفراد الانسان مختلفة فی القیم الانسانیة کاختلاف الذهب والفضة، فکما أن الذهب والفضة مختلفان فی جوهر ذاتهما اختلافاً فاحشاً فکذلک أفراد الانسان، فإنها مختلفة فی القیم الانسانیة والکمالات النفسانیة اختلافاً کبیراً کاختلاف الذهب والفضة، فانسان من حیث الکمالات النفسانیة والاخلاق الحسنة کالذهب عند المجتمع وانسان کالفضة عندهم، فالنتیجة أن الروایة بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة ناظرة إلی اختلاف أفراد الناس فی الکمالات النفسانیة والأخلاق الحمیدة کاختلاف الذهب والفضة ولا نظر لها إلی أن صفتی الشقاوة والسعادة من الصفات الذاتیة للانسان.

وأما النقطة الخامسة: فقد ظهر خطأها من ناحیتین:

ص:179

الاُولی: أن الشقاوة لیست صفة ذاتیة للانسان لکی ینتهی أمر العقاب علی الکفر والعصیان إلیها فی نهایة المطاف.

الثانیة: قد تقدم أنه لا یعقل أن تکون تلک الصفة علة تامة لاختیار الکفر والعصیان.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف أن ما أفاده المحقق الخراسانی (قدس سره) من المحاولة کحل مشکلة العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، لایرجع بحسب ظاهره إلی معنی صحیح ومعقول.

توجیه المحقق الأصبهانی

المحاولة السابعة: ما عن المحقق الأصبهانی (قدس سره) وهی ترجع إلی أجوبة ثلاثة(1):

الأول: أن العقوبة والمثوبة لیستا من معاقب ومثیب خارجی، بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ونتائج الملکات الرذیلة وآثار الملکات الفاضلة، ومثل تلک العقوبة علی النفس لخطیئتها کالمرض العارض علی البدن لنهمه والمرض الروحانی کالمرض الجسمانی والأدویة العقلائیة کالأدویة الجسمانیة، ولا استحالة فی استلزام الملکات النفسانیة الرذیلة للآلام الجسمانیة والروحانیة فی تلک النشأة أی نشأة الاُخرویة، کما أنها تستلزم فی هذه النشأة الدنیویة، ضرورة أن تصور المنافرات کما یوجب الآلام النفسانیة کذلک یوجب الآلام الجسمانیة، فإذن لا مانع من حدوث منافرات روحانیة وجسمانیة بواسطة الملکات الخبیثة النفسانیة.

فالنتیجة، أن العقاب لیس من معاقب خارجی حتی یقال کیف یمکن صدور

-

ص:180


1- (1) - نهایة الدرایة 297:1. (مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

العقاب من الحکیم المختار علی ما لا یکون بالآخرة بالاختیار، وفی الآیات والروایات تصریحات وتلویحات إلی ذلک، فقد تکرر فی القرآن الکریم:(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، وقوله (علیه السلام): «إنما هی أعمالکم ترد إلیکم»(2).

الثانی: أن المثوبة والعقوبة من مثیب ومعاقب خارجی کما دل علی ذلک ظاهر الکتاب والسنة، وتصحیحهما بعد صحة التکلیف بذلک المقدار من الاختیار فی غایة السهولة، إذ کما أن المولی العرفی یؤاخذ عبده علی مخالفة أمره کذلک المولی الحقیقی، لوضوح أن الفعل لو کان بمجرد استناده إلی الواجب تعالی غیر اختیاری وغیر مصحح للمؤاخذة لم تصح مؤاخذة المولی العرفی أیضاً، وإذا کان فی حد ذاته قابلا للمؤاخذة علیه، فکون المؤاخذة ممن انتهت إلیه سلسلة الارادة والاختیار لا یوجب انقلاب الفعل عما هو علیه من القابلیة للمؤاخذة ممن خولف أمره ونهیه.

الثالث: أن الحکم باستحقاق العقاب لیس من أجل حکم العقلاء به حتی یرد علینا اشکال الانتهاء إلی مالا بالاختیار، بل نقول بأن الفعل الناشیء عن هذا المقدار من الاختیار مادة لصورة اخرویة والتعبیر بالاستحقاق بملاحظة أن إفاضة تلک الصورة المؤلمة المحرقة التی تطلع علی الأفئدة منه تعالی بتوسط ملائکة العذاب، فلا ینافی القول باللزوم مع ظهور الآیات والروایات فی العقوبة من معاقب خارجی.

ولنا تعلیق علی هذه الأجوبة جمیعاً.

-

ص:181


1- (1) - سورة التحریم (66):7.
2- (2) - بحار الأنوار 90:3، باب 4، ضمن توحید المفضّل، ج 10، ص 454، باب 26، نوادر الاحتجاجات والمناظرات من علمائنا - رضوان الله علیهم - فی زمن الغیبة.

أما التعلیق علی الجواب الأول فهو بعینه التعلیق علی المحاولة الاُولی من صدر المتألّهین فی المسألة حرفاً بحرف فراجع ولا نعید.

وأما استشهاده (قدس سره) بالآیات والروایات علی ذلک فهو غریب جداً، لما تقدم من أن الآیات والروایات قد صرحتا بأن العقاب من معاقب خارجی وبید المولی أو اختیاره، لا أنه من لوازم الأعمال الغیر المنفکة عنها، وأما قوله تعالی:(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، فلا یدل علی ذلک بل لا أشعار فیه فضلا عن الدلالة، لأن مفاده جزاء الناس بأعماله، وأما کونه من آثارها ولوازمها التی لا تتخلف عنها، فهو لا یدل علیه بوجه.

وأما قوله (علیه السلام): «إنما هی أعمالکم ترد إلیکم»، فهو وإن کان ظاهراً فی تجسم الأعمال إلا أنه مع ذلک یحتمل قویاً أن یکون المراد ما یرد إلیکم جزاء الأعمال لأنفسها، وکیف کان سواءاً أفیه القول بتجسم الأعمال فی الآخرة أم لا، فالروایة لا تدل علی أن العقاب لیس من معاقب خارجی، إذ لا تنافی بین القول بتجسم الأعمال وکونه بیده تعالی واختیاره.

وأما علی الجواب الثانی فلأن الارادة لایمکن أن تکون علة تامة للفعل لأنها بتمام مبادئها غیر اختیاریة، فلو کانت علة تامة للفعل فبطبیعة الحال یکون ترتبه علیها قهریاً وبغیر الاختیار، فإذن کیف یمکن العقاب علیه، ومن الواضح أنه لایکفی فی اختیاریة الفعل مجرد کونه مسبوقاً بالارادة، فإن تسمیة ذلک بالفعل الاختیاری إن کانت مجرّد اصطلاح فلا مشاحة فیه، إلا أنه لا یحل المشکلة وهی قبح العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، وإن کانت بلحاظ أن ذلک یکفی فی کون الفعل اختیاریاً فی مقابل الفعل الصادر بدون الارادة، فیرد علیه أن ذلک

-

ص:182


1- (1) - سورة التحریم (66):7.

کیف یکفی رغم أن الارادة التی هی علة تامة له بتمام مبادئها غیر اختیاریة، إذ علی هذا لا فرق بین حرکة الأصابع وحرکة ید المرتعش، فکما أن الثانیة ضروریة بضرورة علتها وهی المرض فکذلک الاُولی، فإنها ضروریة بضرورة علتها وهی الارادة فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، مع أن الحساب والعقاب علی الثانیة قبیح دون الاُولی، وهذا لیس إلا من جهة الفرق بینهما وجداناً وفطرة، وقد مرّ فی ضمن البحوث السالفة أن الارادة لایمکن أن تکون علة تامة للفعل، فإنه مضافاً إلی أن ذلک خلاف الوجدان والفطرة السلیمة، یترتب علیها محذور لایمکن الالتزام به علی تفصیل هناک.

وأما علی الجواب الثالث، فلأنه مبتن علی تجسم الأعمال فی الآخرة وهو ان کان محتملا نظراً إلی ما یظهر من بعض الروایات بل الآیات(1) أیضاً، إلا أن مدی التجسم لیس ما ذکره (قدس سره) وهو أن الأعمال الدنیویة مادة لصورة اخرویة المفاضة من واهب الصور بنحو اللزوم بحیث یستحیل تخلفها عنها، بداهة أن التجسم بهذا المعنی مخالف صریح لنصوص الکتاب والسنة التی هی ناصة أن الحساب والعقاب بیده تعالی وأن له أن یعاقب وله أن یعفو.

والخلاصة: أن هذا الجواب وإن کان یدفع مشکلة قبح العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، باعتبار أنه انما یتصف بالقبح إذا کان من معاقب خارجی لا ما إذا کان صورة اخرویة لازمة للأعمال، إلا أنه مضافاً إلی کونه مخالفاً للکتاب والسنة لا یعالج مشکلة لزوم لغویة التکلیف. إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن ما أفاده المحقق الأصبهانی (قدس سره) من الأجوبة لعلاج مشکلة العقاب والحساب علی نظریة الأشاعرة والفلاسفة لا یتم شیء منها ولا

-

ص:183


1- (1) - کما فی الآیتین 7 و 8 من سورة الزلزلة.

یمکن علاج هذه المشکلة بها. إلی هنا قد تبین أنه لا یمکن حل مشکلة العقاب إلا علی ضوء مذهب الامامیة ومذهب المعتزلة، وحیث أن الثانی باطل فلابد أن یکون حلّها علی طبق مذهب الامامیة.

نتیجة المسألة عدة نقاط:

الاُولی: أن صدر المتألّهین قد حاول لعلاج مشکلة قبح العقاب علی الأمر الخارج عن الاختیار بأنه من آثار الأفعال القبیحة، اما علی القول بتجسم تلک الأعمال بالصور المخوفة فی الآخرة أو علی القول بأنه من لوازمها ولیس من معاقب خارجی، وهذه المحاولة وإن کانت تدفع مشکلة قبح العقاب علی أمر خارج من الاختیار، فإن العقاب إنما یتّصف بالقبح إذا کان من معاقب خارجی لا مطلقاً، ولکن تبقی أصل المشکلة وهی أن أفعال العباد إذا کانت غیر اختیاریة وکان صدورها بقضاء الله وقدره، لزم لغویة التکلیف بارسال الرسل وإنزال الکتب.

الثانیة: أن أبی الحسن البصری قد حاول لعلاج تلک المشکلة بأن العقاب والثواب لیسا علی فعل العبد الصادر منه فی الخارج بغیر اختیار بل علی کسب العبد واکتسابه.

ولکن هذه المحاولة لا ترجع إلی معنی محصل، لأنه إن ارید بالکسب والاکتساب العنوان الطاریء علی العبد، فیرد علیه مضافاً إلی عدم واقع موضوعی له فی الخارج انه طاریء علیه قهراً، باعتبار أن منشأه الفعل الخارجی وهو صادر منه کذلک وبغیر الاختیار، فإذن یکون العقاب علیه عقاب علی أمر خارج عن الاختیار، وإن ارید به واقعه الخارجی، فیرد علیه إن واقعه هو الفعل الصادر منه فی الخارج والمفروض أنه غیر اختیاری.

ص:184

الثالثة: أن الثواب والعقاب إنما هی علی الطاعة والمعصیة لا علی الفعل الخارجی حتی یکون العقاب علیه من العقاب علی أمر خارج عن الاختیار وهو لا یمکن.

وهذه المحاولة غریبة جداً لأن عنوان الطاعة والمعصیة عنوان انتزاعی منتزع من العمل الخارجی، فإنه إن کان مطابقاً للشرع انتزع عنوان الطاعة وإن کان مخالفاً له انتزع عنوان المعصیة، وعلی هذا فمنشأ العقاب هو العمل الخارجی المنطبق علیه عنوان المعصیة، لا عنوان المعصیة فحسب لأنه لا واقع له فی الخارج، کما أن منشأ الثواب هو العقل الخارجی المنطبق علیه عنوان الطاعة لا عنوان الطاعة فحسب لأنه لا واقع له، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن العقاب إنما هو علی عنوان المعصیة إلا أنه لا یحل مشکلة قبح العقاب علی أمر خارج عن الاختیار، لفرض أنه غیر اختیاری کمنشأ انتزاعه وهو الفعل.

الرابعة: أن عقاب العبد علی الفعل الصادر منه بغیر الاختیار إنما هو علی أساس انکار الحسن والقبح العقلیین وعلی هذا الأساس فلا تبقی مشکلة من ناحیة قبح المحاسبة والعقاب. نعم، تبقی هنا مشکلة اخری وهی مشکلة لغویة التکلیف رأساً، ولکن هذه المحاولة خاطئة جداً ولا واقع موضوعی لها، بداهة أن مدرکات العقل العملی کالحسن والقبح غیر قابلة للانکار لأنها من القضایا الفطریة الأولیة، کیف فإن قبح الظلم من أولیات ما یدرکه الانسان فی حیاته الاعتیادیة فطرة.

الخامسة: أن القول بأن انکار الحسن والقبح العقلیین یستلزم سد باب اثبات النبوة بالمعجزة، لأنه یتوقف علی قبح اعطائها بید الکاذب لا یتم، إذ لا یمکن الاستدلال بهذه القضیة العقلیة وهی قبح جریان المعجزة علی یدی الکاذب

ص:185

لتحصیل الیقین بالنبوة لاستلزامه الدور کما مرّ تفصیله.

نعم، أن هذه القضیة العقلیة بما أنها قضیة ارتکازیة ثابتة فی أعماق نفوس الناس فطرة، فإنهم إذ رأوا معجزة من الله تعالی بید من یدعی النبوة حصل لهم الیقین بالصدق أتوماتیکیاً وفطرة لا برهانیاً، ولکن بامکانهم أن یبرهنوا هذا الیقین الحاصل بالصدق وجداناً وفطرة بالکبری المذکورة وهی قبح جریان المعجزة علی یدی الکاذب.

السادسة: أن ما ذکره الأشاعرة من أن أفعاله تعالی لا تتّصف بالظلم علی أساس أنها تصرف فی ملکه، والظلم إنما هو التصرف فی ملک الغیر وهو غیر متصور فی أفعاله تعالی، وأیضاً لیس للعبد أن یعین الوظیفة لله عزّ وجلّ بأن یحکم بأنه لا یجوز له تعالی الظلم.

لایرجع إلی معنی محصل، امّا بالنسبة إلی الأمر الأول فلان معنی الظلم سلب ذی الحق عن حقه، وکل فعل ینطبق علیه هذا العنوان فهو ظلم سواءاً کان فی ملکه أم فی ملک غیره کان فعله تعالی أم فعل غیره، لوضوح أنه لا ملازمة بین کون التصرف فی ملک غیره وکونه ظلماً، کما أنه لا ملازمة بین کون التصرف فی ملکه وکونه عدلا، وأما بالنسبة إلی الأمر الثانی، فلأنه مبنی علی الخلط بین العقل العملی والعقل النظری، فإنه تعالی لا یکون محکوماً بالعقل العملی کاستحقاق المدح والذم علی ما ینبغی وما لاینبغی، وأما العقل النظری فلأنه کما یدرک وجوده تعالی وصفاته کذلک یدرک أن صدور الظلم منه لا یمکن.

السابعة: أن المحقق الخراسانی (قدس سره) قد حاول لحل مشکلة قبح عقاب العاجز، بأن العقاب یتبع الکفر والعصیان التابعان لمقدماتهما الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما والذاتی لا یعلل، وهذه المحاولة خاطئة جداً ولا واقع

ص:186

موضوعی لها أصلا ولایمکن الأخذ بها علی تفصیل وتحلیل تقدم.

الثامنة: أن المحقق الأصبهانی (قدس سره) قد عالج هذه المشکلة بوجوه ثلاثة، ولکن تقدم بشکل موسع عدم تمامیة شیء من تلک الوجوه.

التاسعة: قد تبین مما تقدم أنه لا یمکن حل مشکلة قبح محاسبة العبد وعقابه علی ضوء نظریة الأشاعرة والفلاسفة، والمحاولات التی تقدمت لحل هذه المشکلة وعلاجها فقد مرّ عدم تمامیة شیء منها.

ص:187

الجمل المشترکة

اشارة

الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الانشاء کفعل الماضی والمضارع، فقد تستعمل فی مقام الانشاء المعاملی کبعت واشتریت وأنکحت وما شاکلها، وقد تستعمل فی مقام انشاء الطلب کأعاد ویعید واغتسل ویغتسل وهکذا، والأول خارج عن محلّ الکلام فی المقام، ومحل الکلام فیه إنما هو فی الثانی هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن هذه الجمل المشترکة فی مقام انشاء الطلب هل هی مستعملة فی معنی آخر مباین لمعناها فی موارد الاخبار بتعدّد الوضع أو بتعدد الدال والمدلول أو من جهة قیام القرینة علی ذلک أو أنها مستعملة فی نفس معناها فی مقام الاخبار، وعلی جمیع التقادیر فیقع الکلام علی مرحلتین:

الاُولی: فی تفسیر دلالتها علی الطلب المولوی.

الثانیة: فی دلالتها علی الوجوب.

کیفیة دلالتها علی الطلب
اشارة

أما الکلام فی المرحلة الاُولی فیقع فی مقامین:

الأول: علی مسلک السید الاُستاذ (قدس سره) فی باب الوضع القائل بأن الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة.

الثانی: علی مسلک القائل بأن الدلالة الوضعیة فی باب الوضع دلالة تصوریة لا تصدیقیة.

رای سید الاستاذ

أما الکلام فی المقام الأول فقد ذکر السید الاُستاذ (قدس سره): أنه لا شبهة فی تعدد المعنی بتعدد الوضع، لأن المعنی الموضوع له فی هذه الجمل فی مقام الطلب

ص:188

والانشاء غیر معناها الموضوع له فی مقام الاخبار والحکایة، فإن المتکلم قد تعهد بأنه متی ما قصد ابراز الطلب الانشائی تکلم بها کجملة انشائیة، کما أنه تعهد بأنه متی ما قصد الحکایة والاخبار عن الواقع تکلم بها کجملة خبریة، ولا یمکن إنحفاظ معناها الخبری فی موارد الانشاء، إذ لو أمکن ذلک لصحّ استعمال أی جملة خبریة فی مقام الطلب والانشاء حتی الجملة الاسمیة وهو کما تری.

وعلی الجملة فلا یعقل انحفاظ قصد الحکایة والاخبار عن الواقع الذی هو معناها الخبری فی موارد استعمالها فی الطلب والانشاء، ولابد فی تلک الموارد من انسلاخها عن معناها الخبری واتخاذها مدلولا جدیداً أو هو ابراز الطلب المولوی الاعتباری، وغیر خفی أنه بناء علی هذا المسلک لا مناص من الالتزام بتعدد المعنی من جهة تعدد الوضع، ولکن تقدم مفصلا أن المبنی غیر صحیح.

رای محقق الخراسانی

وأما الکلام فی المقام الثانی ففیه وجوه:

الأول: ما أفاده المحقق الخراسانی (قدس سره) وحاصله، أن الجمل المشترکة موضوعة لمعنی واحد ولا فرق بینهما اخباراً وانشاءاً فیه، والفرق انما هو فی الداعی، فإن کان الداعی علی استعمالها فی معناها الموضوع له ایجاده وانشائه الطلبی فی وعائه فهی انشائیة، وإن کان عن ثبوته ووقوعه فی الخارج فهی خبریة(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب، أنه إن ارید من الداعی ارادة إیجاد مدلولها الوضعی فی وعاء الطلب فی موارد استعماله فی مقام الانشاء وارادة الحکایة عن ثبوته فی وعاء التحقق والخارج فی موارد استعمالها فی مقام الاخبار، فیرد علیه

ص:189


1- (1) - کفایة الاُصول: 71. (مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

أن لازم ذلک هو أن اتصاف الجملة المشترکة بالخبریة تارة وبالانشائیة تارة اخری، إنما هو بلحاظ المدلول التصدیقی لها دون المدلول الوضعی، حیث أنه لا اختلاف بینهما انشاءاً واخباراً فیه، لأنها بلحاظه لا انشائیة ولا اخباریة، وإنما تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصدیقی وهذا غیر صحیح، وسوف نشیر إلی أن الفرق بینهما اخباراً وانشاءاً انما هو فی المدلول الوضعی التصوری، لأن المتفاهم العرفی منها فی مقام الاخبار غیر المتفاهم العرفی منها فی مقام الانشاء، هذا إضافة إلی أن معنی الانشاء والاخبار لوکان واحداً بالذات والحقیقة وکان الاختلاف بینهما من ناحیة الداعی فحسب، کان لازم ذلک صحة استعمال الجملة الاسمیة فی مقام الطلب کصحة استعمال الجملة الفعلیة فیه وهو کما تری، وإن ارید من الداعی تقیید العلقة الوضعیة فی کل منهما بحالة خاصة بأن یقیدها فی الجمل الانشائیة بما إذا قصد المتکلم إیجاد المعنی فی الخارج وفی الجمل الخبریة بما إذا قصد الحکایة عنه. کما فسره بذلک السید الاُستاذ (قدس سره)(1) ، فیرد علیه أن هذا التفسیر لا ینسجم مع مسلکه (قدس سره) من أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لا تصدیقیة(2). هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن ما ذکره (قدس سره) مبنی علی عدم امکان أخذ خصوصیة الاخباریة والانشائیة فی المعنی الموضوع له والمستعمل فیه، وسوف نشیر إلی أنه لا مانع من أخذها فیه، فإذن یکون الفرق بینهما فی المدلول الوضعی التصوری.

الثانی: أن الجملة المشترکة فی موارد الاخبار تختلف عنها فی موارد الانشاء بالمدلول الوضعی التصوری علی أثر تعدد الوضع، بأن تکون الجملة فی موارد

ص:190


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 85:1 و 89.
2- (2) - کفایة الاُصول: 16. (مؤسسة آل البیت (علیهم السلام).

الاخبار موضوعة بإزاء النسبة التی تلحظ فانیة باللحاظ التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی الخارج، وفی موارد الانشاء موضوعة بإزاء نفس النسبة ولکنها تلحظ فانیة باللحاظ التصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس هذه الجملة فی وعائه المناسب، وعلیه فخصوصیة الحکایة والایجادیة بالمعنی المذکور مأخوذة فی المدلول التصوری لکل منهما، فإذن خبریة الجملة وانشائیّتها انما هی بلحاظ المدلول التصوری لا التصدیقی فحسب، ویمکن المناقشة فیه بتقریب أن الالتزام بتعدد الوضع فی الجملة المشترکة بعید جداً، لأنها جملة واحدة مادةً وهیئةً ولایمکن الالتزام بتعدد الوضع فیها، ولا سیما بناءً علی ما هو الصحیح من أن وضع الهیئات نوعی، وقد یدعی أن الجملة مستعملة دائماً فی الاخبار عن وقوع شیء حقیقة فی الخارج وإن کانت فی مقام الانشاء، غایة الأمر أنها إذا کانت فی هذا المقام کانت اخباراً بالمطابقة عن وقوع شیء حقیقة فی الخارج لکن لا مطلقاً لیکون کذباً، بل فی حق انسان یکون فی مقام الامتثال وتطبیق عمله مع الشریعة فیکون ملازماً لا محالة مع کون الشیء مطلوباً للشارع هذا.

ولکن هذه الدعوی خلاف ظاهر الجملة إذا کانت فی مقام الانشاء، لوضوح أن المتفاهم العرفی من جملة من تکلم فی صلاته اعادها لیس هو الاخبار بالمطابقة عن وقوع الاعادة من المصلی حقیقة فی الخارج لکن لا مطلقاً حتی یکون کذباً، بل فی حق انسان یکون فی مقام الامتثال والطاعة، بل لا أشعار فیها علی ذلک فضلا عن الدلالة والظهور، وقد أشرنا إلی أن المتفاهم منها عرفاً وارتکازاً هو طلب الاعادة من المصلی وحملها علی أنها اخبار بالمطابقة بحاجة إلی قرینة، علی أساس ظهورها فی الطلب المولوی بقرینة أن المولی فی مقام الانشاء وتقیید الموضوع کالمصلی بما یکون فی مقام الاطاعة والامتثال بحاجة أیضاً إلی قرینة، ودعوی أن الأمر إذا دار بین رفع الید عن أصل ظهور الجملة فی الاخبار أو تقیید

ص:191

موضوعها، قدم الثانی علی الأول، مدفوعة بأنه لا ظهور للجملة إذا کانت فی مقام الانشاء والطلب من المولی لکی یدور الأمر بینهما، فإذن کون المولی فی مقام الطلب والانشاء بنفسه قرینة علی ظهور الجملة فی النسبة الطلبیة المولویة.

الثالث: أن الجملة المشترکة موضوعة بوضع واحد بإزاء معنی اخباری وهو المعنی الفانی فی واقع مفروع عنه بالنظر التصوری، فهی بلحاظ وضعها جملة خبریة لا مشترکة ولکنها فی مقام الانشاء استعملت فیه بداعی طلب إیقاعه فی الخارج، فیکون الاختلاف بینهما فی المدلول التصدیقی، فإنه فی مقام الاخبار قصد الحکایة وفی مقام الانشاء طلب إیقاع ما یری بالنظر التصوری مفروغ عنه تحققه، وفیه أن هذا الوجه خلاف الظاهر، فإن الظاهر منها عرفاً فی مقام الانشاء هو الطلب الانشائی المولوی مباشرة فی مرحلة التصور، وهو بالتحلیل فی هذه المرحلة عبارة عن الطلب المولوی الفانی باللحاظ التصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس هذه الجملة، لا أن المتبادر منها عرفاً النسبة الفانیة بالنظر التصوری فی مصداق یری تحققه مفروغ عنه فی الخارج، وسوف نشیر إلی أنها فی مقام الانشاء تختلف عنها فی مقام الاخبار فی المدلول التصوری والتصدیقی معاً.

الرابع: أن الجملة المذکورة موضوعة بازاء ذات النسبة المناسبة لکلا النحوین من اللحاظ التصوری الحکائی والایجادی، فتدل علیه بنحو تعدد الدال والمدلول، بأن تدل بنفسها علی ذات النسبة وبخصوصیتها علی الایجادیة والاخباریة، وهذا الوجه وإن کان غیر بعید فی نفسه بأن تکون الجملة موضوعة لذات النسبة المناسبة لکلا النحوین من الایجادیة والحکائیة بالنظر التصوری، فتدل علی النسبة الایجادیة بتعدد الدال والمدلول وعلی النسبة الحکائیة کذلک وهذا فی نفسه لا مانع منه، ولکن الظاهر عرفاً من الجملة أنها تدل علی النسبة

ص:192

الحکائیة الفانیة بالنظر التصوری فی مصداق یری مفروغ عنه تحققه فی الخارج واستعمالها فی انشاء الطلب بحاجة إلی قرینة تدل علیه کما سوف نشیر إلیه.

الخامس: أن الجملة الخبریة فی موارد استعمالها فی الانشاء استعملت فی مدلولها الخبری مباشرة وفی الانشاء بالواسطة، وهذا یعنی أنها تدل علی الاخبار عن ثبوت النسبة فی الخارج بالمطابقة وعلی ثبوت ملزومه ومقتضیه بالالتزام علی أساس الکنایة، فإن جملة من تکلم فی صلاته یعیدها تدل علی الاخبار عن وقوع الاعادة فی الخارج کنایة عن الاخبار عن ملزوم الاعادة وهو طلبها خارجاً، باعتبار أن المدلول المطابقی فی باب الکنایة قنطرة للمدلول الالتزامی مثل زید کثیر الرماد، فإنه اخبار عن کثرة رماده کنایة عن الاخبار عن ملزومها وهو جوده وسخاه هذا.

والجواب: أنه لایمکن حمل الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الانشاء علی الکنایة، لوضوح أن مثل جملة من تکلم فی صلاته أعادها ظاهرة فی النسبة الطلبیة المولویة مباشرة، لا أنها تدل علی الاخبار عن وقوع الاعادة فی الخارج کنایة عن الاخبار عن ملزوم الاعادة وهو طلب الاعادة، فإنه لا اشعار فیها علی الکنایة فضلا عن الدلالة والظهور.

هذا إضافة إلی أن الکنایة انما تصحّ فیما إذا کانت بین اللازم والملزوم ملازمة عرفاً کما هو الحال بین کثرة رماد زید وبین جوده، وأما فی المقام فلا ملازمة بین وقوع الفعل فی الخارج وبین طلب إیقاعه فیه، فإذا لم تکن ملازمة بینهما عرفاً فلا تصح الکنایة وهی الانتقال من المدلول المطابقی إلی المدلول الالتزامی، والخلاصة أنه إذا لم تکن ملازمة عرفاً بین الجملة المکنیة بها والجملة المکنیة لکی ینتقل الذهن من تصور الاُولی إلی تصور الثانیة لم تصح الکنایة، وحیث إن

ص:193

فی المقام لا ملازمة عرفاً بین وقوع الفعل فی الخارج وبین طلب إیقاعه فیه لکی ینتقل الذهن من الأول إلی الثانی وکون المولی فی مقام الانشاء ولا یکون قرینة علی الکنایة، بل هو قرینة علی استعمال الجملة فی النسبة الطلبیة المولویة مباشرة، فلذلک لا یصح هذا الوجه.

الرأی المختار

السادس: أنه لا اشکال فی اختلاف المدلول التصدیقی لهذه الجملة فی موردی الاخبار والانشاء، فإنه علی الأول قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی وعاء الخارج، وعلی الثانی قصد إیجاد النسبة الطلبیة المولویة فی وعاء الطلب، وأما المدلول التصوری لکل منهما فأیضاً کذلک، وذلک لأمرین:

الأول: أنه لا مانع من أخذ الاخباریة والانشائیة فی المدلول التصوری وکونهما من خصوصیاته وشؤونه، بأن یکون المدلول التصوری للجملة الخبریة هو النسبة التی تلحظ حاکیة وفانیة بالنظر التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی وعاء الخارج والتحقق، والمدلول التصوری لها إذا استعملت فی مقام الانشاء هو النسبة الطلبیة المولویة الفانیة بالنظر التصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس الجملة.

الثانی: أن کل جملة ظاهرة فی أن مدلولها التصدیقی مطابق لمدلولها التصوری فعدم المطابقة بحاجة إلی قرینة، لوضوح أن تکوین المدلول التصدیقی لکل جملة لا یکون جزافاً بل هو بلحاظ تطابقه وتناسبه مع

ص:194

المدلول التصوری، غایة الأمر أنه فی المرحلة الاُولی متعلق للتصور وفی المرحلة الثانیة متعلق للتصدیق، إلا إذا قامت قرینة علی أن تکوینه بصورة اخری غیر صورة المدلول التصوری، کما إذا کان المدلول التصوری عاماً والمدلول التصدیقی خاصاً لمکان القرینة. وعلی هذا الأساس فحیث أن المدلول التصدیقی لهذه الجملة فی مقام الانشاء لا یطابق مع المدلول التصوری لها فی مقام الاخبار من ناحیة، وامکان أخذ الانشائیة فی المدلول التصوری لها فی مقام الانشاء من ناحیة اخری، وعدم قیام قرینة من الخارج علی أن المدلول التصدیقی لها فی هذا المقام غیر المدلول التصوری لها فیه من ناحیة ثالثة. فالنتیجة، علی ضوء هذه النواحی هی أن هذه الجملة فی مقام الانشاء والطلب تختلف عنها فی مقام الاخبار والحکایة فی المدلول التصوری والتصدیقی معاً.

ولا یخفی أن هذا الوجه هو الظاهر من هذه الجملة عرفاً، فإنها إن کانت فی مقام الاخبار کان المتبادر منها تصوراً وتصدیقاً غیر ما هو المتبادر منها کذلک إذا کانت فی مقام الانشاء، ولهذا کان المتبادر عرفاً من جملة من تکلم فی صلاته متعمداً أعادها، هو النسبة الطلبیة المولویة فی وعاء الطلب والانشاء فی مرحلة التصور والتصدیق. ثم أن اختلاف المدلول التصوری فیها فی المقامین وتعدّده هل هو مستند إلی تعدد الوضع أو إلی تعدد الدال والمدلول أو إلی الحقیقة والمجاز، فیه وجوه:

الظاهر هو الثالث، وذلک لأن تعدد الوضع فی المقام بعید جداً، لأن الجملة حیث إنها واحدة هیئة ومادة فلا یحتمل تعدد الوضع فیها ولاسیما بناء علی ما هو الصحیح من أن وضع الهیئة نوعی لا شخصی، وأما تعدد الدال والمدلول فهو وإن کان ممکناً فی نفسه إلا أنه خلاف الظاهر من الجملة، فإن الظاهر منها انها حقیقة فی مقام الاخبار ومجاز فی مقام الانشاء لا أنها حقیقة فی کلا المقامین بتعدد الدال والمدلول، فإذن بطبیعة الحال یکون التعدد مستنداً إلی الحقیقة والمجاز، فإن استعمال هذه الجملة فی مقام الاخبار استعمال فی معناها الموضوع له ویکون حقیقة، فإن معناها الموضوع له هو النسبة التی تلحظ باللحاظ التصوری فانیة

ص:195

فی مصداق مفروغ عنه تحققه فی الخارج، فإذا استعملت فی هذا المعنی کان حقیقیاً، وأما إذا استعملت فی معنی آخر وهو النسبة الطلبیة المولویة فی وعاء الطلب والانشاء فیکون مجازاً، لأنه استعمال فی غیر معناها الموضوع له، والقرینة علی ذلک کون المتکلم فی مقام الانشاء والطلب. فالنتیجة، أن هذا الوجه هو أظهر الوجوه وأصحّها، هذا تمام کلامنا فی المرحلة الاُولی.

کیفیة دلالتها علی الوجوب

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة، فیقع فی دلالة هذه الجملة علی الوجوب، اما علی مسلک التعهد وهو مبنی السید الاُستاذ (قدس سره)(1) ، فحال هذه الجملة فی مقام الانشاء حال صیغة الأمر، فکما أن صیغة الأمر موضوعة للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج، فکذلک هذه الجملة فانها موضوعة للدلالة علی ذلک، وعلیه فلا یکون الوجوب مدلولا وضعیاً لها کما فی صیغة الأمر، بل الوجوب انما هو بحکم العقل إذا لم تکن هناک قرینة علی الترخیص.

ولکن قد تقدّم بطلان هذا المسلک، وأما علی المسلک الثانی وهو أن المدلول الوضعی مدلول تصوری لا تصدیقی، فعلی الوجه الأول وهو مختار المحقق الخراسانی (قدس سره)(2) هل هناک نکتة خاصّة فیه تعین دلالتها علی الوجوب وتؤکدها، الظاهر أنه لیست فیه نکتة خاصة کذلک بل حالها حال صیغة الأمر، فکما أن الصیغة تدل علی الوجوب من جهة دلالتها علی الطلب المولوی فکذلک هذه الجملة فی مقام الانشاء، فإن نکتة دلالتها علی الوجوب هی دلالتها علی الطلب المولوی، فإذن لیست دلالتها علی الوجوب من جهة نکتة خاصة فیها بل علی أساس نکتة عامة وهی دلالتها علی الطلب المولوی هذا.

ص:196


1- (1) - انظر محاضرات فی اصول الفقه 44:1.
2- (2) - لاحظ کفایة الاُصول: 71.

وأما ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) من أن دلالة الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الانشاء علی الوجوب أقوی وآکد من دلالة الأمر علیه هیئة ومادة من جهة أنها مشتملة علی نکتة خاصة وعنایة تؤکد ارادة الوجوب منها وتعیّنه دون الأمر، وتلک النکتة هی دلالة الجملة علی الحکایة والاخبار عن وقوع المطلوب وتحققه فی الخارج، ومن الواضح أن طلب المولی الفعل من المکلف بلسان الاخبار عن وقوعه فی الخارج یدل علی مدی اهتمام المولی بوقوعه فیه، وهذه النکتة غیر متوفرة فی الأمر لا مادة ولا هیئة فلا یمکن المساعدة علیه، وذلک لما مرّ من أنه (قدس سره) قد بنی علی أن الاخباریة والانشائیة من خصوصیات الاستعمال وشؤونه دون المعنی الموضوع له والمستعمل فیه، فالجملة بلحاظ معناها الموضوع له لا تتصف بالخبریة ولا الانشائیة وإنما تتصف بالخبریة إذا استعملها المتکلم فی معناها الموضوع له بداعی الحکایة والاخبار عن ثبوته فی الواقع أو نفیه فیه، کما أنها تتصف بالانشائیة إذا استعملها فیه بداعی الانشاء والطلب، ولیس فی استعمالها بداعی الانشاء والطلب ما ذکره (قدس سره) من النکتة وهو طلب الفعل بلسان الاخبار عن وقوعه فی الخارج بل طلب الفعل ابتداءً.

فالنتیجة، أن ما ذکره (قدس سره) من النکتة فی وجه اقوائیة دلالة الجملة علی الوجوب من دلالة الصیغة علیه وهی دلالتها علی الحکایة والاخبار عن وقوع شیء فی الخارج بداعی طلب إیقاعه، لا ینسجم مع مسلکه (قدس سره) فی باب الانشاء والاخبار کما عرفت.

وأما علی الوجه الثانی فلا تتضمن الجملة فی مقام الانشاء أی نکتة زائدة علی دلالتها علی الطلب المولوی، باعتبار أنها فی مقام الانشاء یختلف عنها فی مقام الاخبار فی المدلول الوضعی والتصدیقی معاً، لأنها تدل علی الطلب المولوی فی

ص:197

هذا المقام ابتداءً تصوراً وتصدیقاً لا أنها تدل علی ذلک بلسان الاخبار عن وقوع شیء فی الخارج لکی تکون دلالتها علی الوجوب آکد وأقوی من دلالة الأمر.

وأما علی الوجه الثالث، فهی تشتمل علی نکتة خاصة زائدة علی دلالتها علی الطلب المولوی، وبها تکون دلالتها علی الوجوب آکد وأقوی من دلالة الصیغة علیه، وهی أن المدلول الوضعی التصوری فی الجملة واحد فی کلا المقامین وهو النسبة التی تلحظ باللحاظ التصوری فانیة فی مصداق تری تحققه فی الخارج، فالمرآتیة مأخوذة فی مدلولها الوضعی ولا اختلاف بینهما فیه وإنما الاختلاف بینهما فی المدلول التصدیقی، فإنه فی مقام الاخبار قصد الحکایة عن وقوع شیء فی الخارج وفی مقام الانشاء قصد طلب إیقاعه فیه، ومن الواضح أن طلب إیقاعه فیه لا محالة إما أن یکون بعنایة افتراض تحققه فیه، باعتبار أن مدلولها الوضعی التصوری ذلک أو بعنایة الحکایة عن تحققه فیه لا مطلقاً حتی یکون کذباً بل من العبد الذی یکون مطیعاً ومنقاداً.

والخلاصة: أن المدلول الوضعی للجملة فی کلا المقامین واحد وهو الشیء الفانی فی مصداق یری بالنظر التصوری تحققه فی الخارج، وحیث إنها فی مقام الانشاء مستعملة فی نفس هذا المدلول، فعندئذ بطبیعة الحال تکون طلب ایقاعه فی الخارج وانشائه فیه من العبد اما بافتراض المولی تحققه فیه منه بحیث یجعل طلب ایقاعه ملازماً لوقوعه فیه، أو یکون ذلک من العبد الذی یکون فی مقام الامتثال والطاعة لا مطلقاً، وعلی کلا التقدیرین فالجملة تدل علی مدی اهتمام المولی بوقوع الفعل المطلوب فی الخارج، فلذلک تکون دلالتها علی الوجوب آکد وأقوی من دلالة الأمر علی الوجوب مادة وهیئة، ولکن تقدم أن هذا الوجه غیر تام.

ص:198

وأما علی الوجه الرابع، فلا تشتمل الجملة علی أی نکتة زائدة علی دلالتها علی الطلب المولوی کما هو ظاهر، فإذن حالها حال صیغة الأمر فی الدلالة علی الوجوب بدون مزیّة لها.

وأما علی الوجه الخامس، فالجملة تتضمن نکتة اخری تؤکد دلالتها علی الوجوب، وهی أن المولی علی ضوء هذا الوجه طلب الفعل من العبد بلسان الاخبار عن وقوعه فی الخارج، وهذا الاسلوب من التعبیر المسمّی بالکنایة لدی العرف العام ابلغ من التصریح وآکد فی اثبات المطلوب، فمن أجل هذه النکتة تکون دلالة الجملة علی الوجوب آکد وأقوی من دلالة الصیغة علیه، ولکن تقدم أن هذا الوجه غیر صحیح.

وأما علی الوجه السادس، فلا تشتمل الجملة علی نکتة اخری تؤکد دلالتها علی الوجوب فإذن تکون حالها حال صیغة الأمر، فکما أنها تدل علی الوجوب علی أساس دلالتها علی النسبة الطلبیة المولویة فکذلک الجملة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الجملة الخبریة المستعملة فی مقام انشاء الطلب تختلف باختلاف هذه الوجوه، فعلی الوجه الأول والثانی والرابع والسادس فحالها حال صیغة الأمر، فلا تتضمن نکتة زائدة علی النکتة العامة وهی دلالتها علی النسبة الطلبیة المولویة، فإذن دلالتها علی الوجوب انما هی علی أساس تلک النکتة العامة لصیغة الأمر. وأما علی الوجه الثالث والخامس فهی تتضمن نکتة اخری تؤکد دلالتها علی الوجوب، فلهذا تکون دلالتها فی ضوء هذین الوجهین علی الوجوب آکد وأقوی من دلالة الصیغة علیها.

ص:199

هنا مناقشتان:

الاُولی: أن مدلول هذه الجملة المستعملة فی مقام الانشاء هو النسبة الطلبیة المولویة ودلالتها علی الوجوب متوقفة علی کون النسبة المذکورة ناشئة عن مصلحة لزومیة فی الفعل ولا قرینة فیها علی ذلک، وحینئذ فکما یحتمل ذلک کونها ناشئة عن مصلحة غیر لزومیة فلذلک لا تدل علی الوجوب.

والجواب: أولا: بالنقض بصیغة الأمر باعتبار، أن مدلولها أیضاً هی النسبة الطلبیة المولویة إلا أن یقال بعدم دلالتها علی الوجوب أیضاً.

وثانیاً: أن هذه المناقشة لو تمت فإنما تتم بناء علی تفسیر الجملة بالوجه الأول أو الثانی أو الرابع أو السادس، ولا تتم بناء علی تفسیرها بالوجه الثالث أو الخامس، فإن اشتمالها علی النکتة الزائدة فی ضوء هذین الوجهین قرینة علی دلالتها علی الوجوب، لأن تلک النکتة وهی طلب المولی الفعل بلسان الاخبار عن وقوعه فی الخارج وتحققه فیه لا تنسجم مع الندب، باعتبار أنها تدل علی مدی اهتمام المولی بوقوعه فیه ولا یرضی إلا بذلک.

وثالثاً: أنها لا تتم مطلقاً وعلی ضوء جمیع تفاسیرها، وذلک لأن دلالة الجملة علی أصل الوجوب مستندة إلی نکتة عامة هی مشترکة بین تمام هذه الوجوه والتفاسیر وهی دلالتها علی النسبة الطلبیة المولویة، وقد تقدم أن المولویة مساوقة للوجوب، فإذا قال المولی من تکلم فی صلاته متعمداً أعادها، کان ظاهراً عرفاً وارتکازاً فی الوجوب، فإرادة الندب بحاجة إلی قرینة کما هو الحال فی صیغة الأمر ومادته.

ص:200

المناقشة الثانیة ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره)(1) من أنه لو صحّ استعمال الجملة الخبریة فی مدلولها الوضعی التصوری بداعی الانشاء والطلب، لکان لازم ذلک صحة استعمال کل جملة خبریة فی مقام الانشاء ولوکانت اسمیة کزید قائم وزید معید صلاته وهکذا، لتوفر النکتة المذکورة فیها وهی استعمالها فی مدلولها الوضعی الحکائی بداعی انشاء الطلب مع أنه من أفحش الاغلاط، بل ولا الفعل الماضی إلا إذا کان جزاءً لجملة شرطیة کما فی مثل جملة إذا تکلم فی صلاته متعمّداً أعاد صلاته، مع أن لازم النکتة المذکورة صحة استعمال الفعل الماضی فی مقام الانشاء مطلقاً.

والجواب أن منشأ صحة استعمال الجملة الخبریة فی مقام الانشاء والطلب لیس النکتة المذکورة، بل منشأها أن معنی فعل المضارع مناسب للطلب الحقیقی، فإن معناه وقوع الفعل فی الآن أو فی المستقبل وهو مناسب لطلب ایقاعه فی الخارج دون معنی الجملة الاسمیة کزید قائم مثلا ومعنی فعل الماضی، فإنهما لاینسجمان مع طلب إیقاعهما فیه، وأما النکتة المذکورة فهی لا تمنع عن إرادة الطلب الانشائی من الفعل المضارع بعد ثبوت المقتضی له، واما فی الجملة الاسمیة وفعل الماضی فلا مقتضی لارادته منهما، نعم یصح استعمال فعل الماضی فی مقام انشاء الطلب فی موردین:

الأول: ما إذا کان فعل الماضی جزاءً للجملة الشرطیة.

الثانی: ما إذا وقع فی الطلب بدون کونه جزاءً للشرط کما فی قولک: «رحمک الله» أو «غفر الله لک» أو «عافاک الله» وهکذا، وصحة استعماله فی هذین الموردین إنما هی من جهة انسلاخه عن معناه الموضوع له، ولهذا لا یصح

-

ص:201


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 137:2، ولاحظ ج 89:1.

استعماله فیه فی غیر هذین الموردین.

والخلاصة: أنه لا شبهة فی صحة استعمال فعل المضارع فی مقام إنشاء الطلب فی کل لغة، والنکتة فی ذلک ما عرفت من أن مدلوله مناسب للطلب الحقیقی دون فعل الماضی إلا فی الموردین المذکورین.

نتائج هذا البحث...

نتائج هذا البحث عدة نقاط:

الاُولی: أن فی الجملة الفعلیة المشترکة بین الأخبار والانشاء مسلکان:

أحدهما، مسلک التعهد. والآخر، مسلک غیر التعهد.

أما علی الأول، فلا شبهة فی تعدد الوضع بلحاظ حالتی الاخبار والانشاء، فإن الجملة فی مقام الاخبار موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت شیء فی الواقع، وفی مقام الانشاء موضوعة للدلالة علی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی. فیکون لکل واحدة منهما مدلول وضعی مستقل بوضع کذلک.

وأما علی الثانی، فهل الجملة المستعملة فی مقام الانشاء والطلب مستعملة فی نفس المعنی فی مقام الاخبار أو مستعملة فی معنی آخر حقیقة أو مجازاً أو من باب تعدد الدال والمدلول، ففیه وجوه من التفسیر تقدمت.

الثانیة: أن المحقق صاحب الکفایة (قدس سره) ذکر أن خصوصیة الاخبار والانشاء خارجة عن حریم المعنی الموضوع له والمستعمل فیه وهو واحد فیهما والاختلاف بینهما إنما هو فی الداعی، فإنه قد یکون الانشاء وقد یکون الاخبار، ولکن قد تقدم أن ما ذکره (قدس سره) غیر صحیح.

الثالثة: أن ما قیل من أن الجملة فی مقام الانشاء تختلف عنها فی مقام الاخبار

ص:202

فی المدلول الوضعی التصوری، فإنها فی مقام الاخبار موضوعة بإزاء النسبة الفانیة باللحاظ التصوری فی مصداق مفروغ عنه تحققه فی الخارج، وفی مقام الانشاء موضوعة بإزاء النسبة الفانیة باللحاظ التصوری فی مصداق یری تحققه بنفس الجملة.

ولکن تقدم أنه لا یمکن الالتزام بتعدد الوضع ولاسیما بناء علی ما هو الصحیح من أن وضع الهیئة نوعی لا شخصی.

الرابعة: أن ما ذکر من أن الجملة فی کلا المقامین مستعملة فی معنی واحد وهو النسبة الفانیة باللحاظ التصوری فی مصداق مفروغ عنه تحققه فی الخارج والاختلاف إنما هو فی المدلول التصدیقی، فإن المدلول التصدیقی لها فی مقام الاخبار غیر المدلول التصدیقی لها فی مقام الانشاء غیر تام، لما تقدم من أن ذلک خلاف الظاهر، فإن الظاهر هو اختلافهما فی المدلول التصوری والتصدیقی معاً.

الخامسة: أن ما قیل من أن استعمال الجملة فی مقام انشاء الطلب من باب الکنایة، فإنها تدل علی الاخبار عن ثبوت النسبة وتحققها فی الواقع بالمطابقة وعلی ثبوت ملزومها بالالتزام وهو طلب ایقاعها فی الخارج، فلایمکن المساعدة علیه، لوضوح أن الجملة فی مقام الانشاء غیر ظاهرة فی الکنایة، فلا یمکن حملها علیها بدون قرینة ولا قرینة علی ذلک.

السادسة: الظاهر أن الجملة فی مقام الانشاء تختلف عنها فی مقام الاخبار فی المدلول التصوری والتصدیقی معاً، غایة الأمر أن استعمالها فی مقام الانشاء مجاز لا حقیقة، لأن تعدد الوضع فیها غیر محتمل علی تفصیل قد مرّ.

السابعة: أن منشأ دلالة الجملة فی مقام انشاء الطلب علی الوجوب هو النکتة العامة وهی دلالتها علی النسبة الطلبیة المولویة، علی أساس أن المولویة مساوقة

ص:203

للوجوب کما هو الحال فی دلالة صیغة الأمر علی الوجوب فلا فرق بینهما من هذه الناحیة. نعم، أنها علی الوجه الثالث والخامس مشتملة علی نکتة اخری تؤکد دلالتها علی الوجوب، فتکون آکد وأقوی من دلالة الصیغة علیه وقد تقدم تفصیله.

الثامنة: أن مدلول فعل المضارع مناسب للطلب الحقیقی وهو طلب ایقاعه فی الخارج، فلهذا یکون استعماله فی مقام انشاء الطلب علی القاعدة فلا یحتاج إلی مؤونة زائدة، وهذا بخلاف ایقاعه فی الخارج، فلهذا لا یصحّ استعماله فی مقام انشاء الطلب إلا فی موردین:

الأول: ما إذا استعمل جزاءً للشرط.

الثانی: ما إذا استعمل فی مقام الدعاء.

وکذلک الجملة الاسمیة، فإن مدلولها لا یناسب الطلب الحقیقی وهو طلب إیقاع مدلولها فی الخارج، ومن هنا یصح استعمال فعل المضارع فی انشاء الطلب مع الحفاظ علی مدلوله الوضعی کما هو الحال فی الوجه الثالث والخامس، فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه إذا صحّ استعمال فعل المضارع فی مقام انشاء الطلب، صح استعمال کل جملة فی هذا المقام حتی الجملة الاسمیة وفعل الماضی مع أن الأمر لیس کذلک غیر تام، لما عرفت من الفرق بینهما.

ص:204

التعبدی والتوصلی

معانی التعبدی و التوصلی

ونقصد بالواجب التعبدی هنا ما یتوقف امتثاله والخروج عن عهدته علی الاتیان به، بقصد القربة والاخلاص، وفی مقابلة الواجب التوصلی، هو ما لا یتوقف امتثاله والخروج عن عهدته علی ذلک.

هذا هو التعبدی والتوصلی بالمعنی الخاص المبحوث عنه فی المقام.

وقد یطلق التوصلی فی مقابل التعبدی علی عدة معان اخری:

الأول: الواجب التوصلی بمعنی ما یسقط عن ذمة الانسان سواءً کان بفعله مباشرة أم تسبیباً أم کان بفعل الغیر تبرعاً، ویقابله الواجب التعبّدی بمعنی مالا یسقط إلاّ بفعل المکلف مباشرة.

الثانی: الواجب التوصلی بمعنی ما یسقط عن المکلف وإن کان بالحصة غیر الاختیاریة وهی الحصة الصادر عنه قهراً واضطراراً، وفی مقابله الواجب التعبدی بمعنی مالا یسقط إلا بالحصة الاختیاریة.

الثالث: الواجب التوصلی بمعنی ما یسقط ولو فی ضمن حصة محرمة، ویقابله الواجب التعبدی وهو مالا یسقط إلا فی ضمن حصة لاینطبق علیها عنوان محرم، وعلی هذا فیقع الکلام فی أصالة التعبدیة والتوصلیة فی أربع مراحل:

المرحلة الاُولی: ما إذا شک فی اعتبار قید المباشرة فی سقوط الواجب وعدم اعتباره، وهل مقتضی الأصالة فیه الاعتبار والتعبد به.

المرحلة الثانیة: ما إذا شک فی اعتبار الاختیار فی سقوط الواجب وعدم

ص:205

اعتباره، وهل مقتضی الأصالة فیه أیضاً الاعتبار والتعبد به.

المرحلة الثالثة: ما إذا شک فی سقوط الواجب بالاتیان به فی ضمن فرد ینطبق علیه عنوان محرم، وهل مقتضی الأصالة فیه السقوط.

المرحلة الرابعة: ما إذا شک فی اعتبار قصد القربة فیه وعدم اعتباره، وهل مقتضی الأصالة فیه التعبدیة أو التوصلیة.

سقوط الواجب بفعل الغیر
اشارة

أما الکلام فی المرحلة الاُولی فیقع فی مقامین:

الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

الثانی: فی مقتضی الأصل العملی.

الاصل اللفظی فی المسالة

أما الکلام فی المقام الأول، فهل مقتضی اطلاق الأمر المتوجه إلی فرد أو جماعة عدم اعتبار قید المباشرة وأنه یسقط بفعل الغیر أیضاً أو اعتبار هذا القید وعدم سقوطه بفعل الغیر.

والجواب أن فیه قولین:

الأول: أن المعروف والمشهور بین الأصحاب هو أن مقتضی الاطلاق عدم اعتبار قید المباشرة وأنه یسقط بفعل الغیر سواءً کان بالتبرع أم بالتسبیب.

الثانی: ما اختاره المحقق النائینی (قدس سره)(1) وتبعه فیه السید الاُستاذ (قدس سره)(2) ، من أن مقتضی الاطلاق اعتبار قید المباشرة وعدم سقوط الواجب بفعل الغیر، وقد أفاد السید الاُستاذ (قدس سره) فی وجه ذلک بأن التکلیف هنا یتصور ثبوتاً علی أحد أنحاء.

-

ص:206


1- (1) - أجود التقریرات 147:1-150.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 142:2.

الأول: أن یکون متعلقه الجامع بین فعل المکلف وفعل غیره.

وأورد علیه بأنه لا اطلاق للمادة بالنسبة إلی فعل الغیر فإنه خارج عن اختیاره المکلف وقدرته، فلایکون مشمولا لاطلاق المادة وهی الواجب، فالشک فی السقوط یرجع إلی الشک فی اطلاق الوجوب الذی هو مفاد الهیئة، ومقتضی اطلاق الهیئة عدم سقوط الوجوب عن المکلف بفعل الغیر، بل ذکر (قدس سره) أن هذا الوجه غیر معقول، لأن فعل الغیر بما أنه خارج عن اختیار المکلف وقدرته، فلایعقل تعلق التکلیف بالجامع بینه وبین فعل نفسه لأنه لغو.

وللمناقشة فیه مجال وذلک، لأنه لا مانع من تعلق التکلیف بالجامع بین المقدور وغیر المقدور، وقد صرح هو (قدس سره) بذلک فی غیر مورد، باعتبار أن الجامع بین المقدور وغیره مقدور ولا مانع من تعلق التکلیف به ولا موجب للالتزام بأنه متعلق بخصوص الحصة الاختیاریة، فما ذکره (قدس سره) من أن الاهمال فی الواقع غیر معقول، فیدور الأمر بین الاطلاق وهو تعلق التکلیف والجامع والتقیید وهو تعلق التکلیف بحصة خاصة، وحیث أن الأول لا یعقل فیتعین الثانی غریب، فإنه مصادرة لأن التکلیف بالجامع بین الحصة المقدورة وغیر المقدورة ممکن لأنه مقدور ولا مانع من تعلق التکلیف به. نعم، الذی لایمکن هو تعلق التکلیف بالجمع بینهما لأنه من التکلیف بغیر المقدور وهو لایمکن، أو فقل أنه فرق بین تعلق التکلیف بصرف وجود الجامع وبین تعلقه بمطلق وجوده أی بوجوده فی ضمن کل من الحصتین، فإن الأول لا مانع منه والثانی مستحیل، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف بحکم العقل أو بمقتضی الخطاب، فإن الخطاب لا یقتضی أکثر من کون متعلقه مقدوراً، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور، مقدور، هذا کله بحسب مقام الثبوت.

ص:207

وأما فی مقام الاثبات، فقد ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أنه علی تقدیر تسلیم اطلاق المأمور به فی مقام الثبوت وسعة دائرته فیه لفعل الغیر، إلا أن اطلاق الدلیل فی مقام الاثبات لایکون کاشفاً عنه، لأن الأمر عندئذ یدور بین التعیین والتخییر ومقتضی الاطلاق التعیین، لأن التخییر فی المقام الراجع إلی جعل فعل الغیر عدلا لفعل المکلف نفسه یحتاج إلی عنایة زائدة وقرینة.

ویمکن المناقشة فیه، أن الأمر فی المقام لایدور بین التعیین والتخییر بهذا المعنی بل الأمر یدور بین اطلاق المادة لفعل الغیر وتقییدها بخصوص فعل المکلف، علی اساس أن المادة بعنوانها تشمل فعل الغیر وتنطبق علیه، إلاّ أن الکلام فی أن هناک قرینة علی تقییدها بخصوص فعل المکلف أو لا، فإذا لم تکن قرینة علی ذلک فلا مانع من تعلق الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود فی مقام الاثبات الکاشف عن الاطلاق فی مقام الثبوت، فإذن مقتضی الاطلاق فیما إذا شک فی سعة دائرة الواجب وضیقها هو السعة هذا.

وذهب بعض المحققین (قدس سره) إلی أن هناک قرینة علی تقیید اطلاق المادة بخصوص فعل المکلف، بتقریب أن نسبة المادة إلی الفاعل (وهی النسبة الصدوریة) متعلقة للأمر المتوجه إلی فاعلها، فإذا کان صدور الفعل من الفاعل متعلقاً للأمر ومورداً له فلا ینطبق الواجب علی فعل الغیر، باعتبار أنه لایصدر ولا یکون مستنداً إلیه ولو بالتسبیب.

والخلاصة: أن النسبة الصدوریة المأخوذة فی متعلق الأمر لا تحقق بتحقق الفعل من الغیر بدون استناده إلی المکلف(1).

-

ص:208


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 65:2.

ویمکن المناقشة فیه بأن طبیعی الفعل الذی تعلق به الأمر یصدق علی فعل الغیر کما یصدق علی فعل المکلف بنفسه، وأما أن صدوره وإیجاده منه فی الخارج قید للواجب ودخیل فی الملاک القائم به فهو یختلف باختلاف الموارد ولیس لذلک ضابط کلی، فإن مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة تارة یقتضی أن النسبة الصدوریة مأخوذة فی متعلق الأمر کالمعنی الاسمی وبنحو الموضوعیة واُخری تقتضی أنها مأخوذة فیه کالمعنی الحرفی وبنحو الطریقیة بدون دخل لها فی الواجب وملاکه، مثلا إذا أمر المولی بانفاق الفقراء موجهاً أمره إلی فرد خاص أو جماعة مخصوصة، کان المتفاهم العرفی منه بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة أن النسبة الصدوریة ملحوظة فی الانفاق کالمعنی الحرفی وبنحو الطریقیة بدون دخل لها فی الواجب وملاکه، باعتبار أن الغرض الداعی إلی الأمر مرتب علی الانفاق علیهم من أی مصدر کان، فإذا قام فرد خاص أو جماعة اخری بالانفاق علی هؤلاء حصل الغرض فیسقط الأمر، وهذا یکشف عن أن الواجب هو الجامع لا خصوص فعل المکلف.

وإن شئت قلت: أنه لا مانع من تعلق الأمر بالجامع بین فعل المکلف نفسه وفعل الغیر ثبوتاً کما مرّ، وأما اثباتاً فهو یختلف باختلاف الموارد ولیس لذلک ضابط کلی، فلابد فی کل مورد من ملاحظة مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة فی ذلک المورد، فإنها قد تقتضی الاطلاق وعدم الموضوعیة لحیثیة الصدور من الفاعل وقد تقتضی التقیید والموضوعیة للحیثیة المذکورة، وعلیه فما ذکره بعض المحققین (قدس سره) من أن النسبة الصدوریة مأخوذة فی متعلق الأمر بنحو الموضوعیة والقیدیة(1) لا یتم مطلقاً، بل هو یختلف باختلاف الموارد کما عرفت،

-

ص:209


1- (1) - المصدر المتقدم.

هذا کله إذا کان قیام الفعل المتعلق للأمر بالمکلف قیام صدور.

وأما إذا کان قیامه به قیام حلول بأن یکون الفعل عنواناً للمکلف کالصلاة والصیام والقیام والجلوس والحرکة والسکون وما شاکلها، فلا شبهة فی ظهور الأمر المتعلق به فی اعتبار قید المباشرة، فإذا أمر المولی بالصلاة بقوله صل، ظاهر فی خصوص الحصة الصادرة منه مباشرة وقائمة به، ولا یکفی مجرد الاستناد إلیه وإن کان بالتسبیب.

الثانی: أن یکون متعلق التکلیف الجامع بین فعل المکلف نفسه وبین استنابته لغیره، ونتیجة ذلک هی أن المکلف مخیر بین الاتیان بالفعل مباشرة وبین استنابة الآخر هذا.

وقد علق (قدس سره) علی هذا الوجه بأن الجامع المذکور لایمکن أن یکون متعلقاً للتکلیف، فإن لازم تعلقه به سقوطه بنفس الاستنابة باعتبار أنها أحد فردی الواجب وهو خلف الفرض، فإن المفروض أن المسقط للتکلیف إنما هو الاتیان به خارجاً ولا یعقل أن تکون الاستنابة بنفسها مسقطة، وإلا یکفی مجرد الاجارة فی ذلک بدون الاتیان بالعمل المستأجر علیه خارجاً وهو کما تری(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب، أن الجامع بین فعل المکلف نفسه وبین الاستنابة للغیر الملحوظة بالمعنی الاسمی وإن کان لا یصلح أن یکون متعلقاً للتکلیف وإلا لکانت نفس الاستنابة مسقطة له وهذا کما تری، ولکن لا مانع من أن یکون الجامع بین فعل المکلف مباشرة وفعله بالتسبیب متعلقاً للتکلیف بأن تکون الاستنابة ملحوظة بالمعنی الحرفی، هذا بحسب مقام الثبوت. وأما اثباتاً فإن کان

-

ص:210


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 143:2.

للدلیل اطلاق فمقتضاه أن الواجب هو الجامع بین فعل المکلف مباشرة وفعله تسبیباً، هذا إذا کان قیام الفعل الواجب بالمکلف قیام صدور، وأما إذا کان قیامه به قیام حلول، فیکون دلیل الأمر به ظاهراً فی اعتبار قید المباشرة.

والخلاصة: أن قیام الفعل المأمور به بالمکلف إن کان قیام صدور کان مقتضی اطلاق الأمر به عدم اعتبار قید المباشرة وانه متعلق بالجامع بین العقل المباشری والتسبیبی، وإن کان قیامه به قیام حلول کان مقتضی اطلاق الأمر به اعتبار قید المباشرة، وعلی هذا فمقتضی الاطلاق علی الأول سقوط الواجب بفعل الغیر تسبیباً، وعلی الثانی عدم سقوطه به.

الثالث: ما إذا فرض کون الشک فی اطلاق الوجوب وتقییده خاصة، وأما الواجب فهو خصوص فعل المکلف ولو بلحاظ أن فعل الغیر خارج عن اختیاره فلا یکون مشمولا لاطلاق المادة، فإذن لا منشأ للشک فی سقوط الواجب إلا الشک فی تقیید الوجوب أی مفاد الهیئة بعدم فعل الغیر، فمع الشک فیه مقتضی اطلاق الهیئة عدم السقوط.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الشک فی سقوط الواجب إن کان من جهة الشک فی أن فعل الغیر مسقط، فقد مر أن ذلک یختلف باختلاف الموارد ولیس له ضابط کلی، وإن کان من جهة الشک فی أن فعل الغیر إذا کان بالتسبیب هل هو مسقط، فقد سبق أن مقتضی اطلاق المادة السقوط إذا کان الفعل صدوریاً وعدم السقوط إذا کان حلولیاً، وإن کان من جهة الشک فی اطلاق الوجوب وتقییده، فقد عرفت أن مقتضی اطلاق الهیئة عدم السقوط.

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو مقتضی الأصل العملی فی موارد الشک فی سقوط الواجب بفعل الغیر وعدم سقوطه، فیقع تارة فیما إذا کان الشک فی

ص:211

السقوط من جهة الشک فی سعة دائرة الواجب وضیقها واُخری فیما إذا کان الشک فیه من جهة الشک فی سعة دائرة الوجوب وضیقها.

أما الأول فالمرجع فیه أصالة البرائة، لأن الشک إذا کان فی اطلاق الواجب أو تقییده سواءً کان تقییده بقید المباشرة أم بقید الاستناد إلی المکلف وإن کان بالتسبیب، فیکون داخلا فی کبری مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین والمرجع فیها أصالة البرائة، باعتبار أن الشک فیه إنما هو فی شرطیة قید المباشرة أو الاستناد.

الاصل العملی فی المسالة

وأما الثانی فهل مقتضی الأصل العملی فیه السقوط أو عدمه، فیه وجهان:

فذهب السید الاُستاذ (قدس سره) إلی الثانی وهو عدم السقوط وأنه من موارد أصالة الاشتغال، بتقریب أن المکلف یعلم بثبوت التکلیف واشتغال ذمته به ویشک فی سقوطه بفعل الغیر وهو مورد لأصالة الاشتغال، وأفاد فی توضیح ذلک أن الشک فی اطلاق التکلیف واشتراطه قد یکون مع عدم احراز فعلیة التکلیف کما إذا لم یکن ما یحتمل شرطیته متحققاً من الأول، ففی مثل ذلک یکون الشک فی أصل ثبوت التکلیف وتوجهه إلیه، کما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلا بالرجل دون المرأة أو بالحر دون العبد وهکذا، والمرجع فیه أصالة البرائة. وقد یکون مع احراز فعلیة التکلیف، کما إذا کان ما یحتمل شرطیته له متحققاً من الأول ثم ارتفع وزال فیشک فی بقائه فعلا وسقوطه عنه، وهذا مورد لقاعدة الاشتغال دون البرائة، لأنه شک فی السقوط بعد الیقین بالثبوت، ومقامنا من هذا القبیل، مثلا إذا علم الولی باشتغال ذمته بتکلیف المیت فعلا ولکن کان یشک فی سقوطه عنها بفعل الغیر، فلا محالة یرجع إلی قاعدة الاشتغال. وعلیه فإذا توجه تکلیف إلی شخص وصار فعلیاً فی حقه فسقوطه

ص:212

عنه بحاجة إلی العلم بالمسقط، ومع الشک فیه یحکم العقل بالاشتغال وتحصل الفراغ الیقینی، فالضابط العام هو أن کل مورد یکون الشک فی سقوط التکلیف بعد العلم بثبوته فهو مورد للقاعدة المذکورة، ومن هنا ذکر (قدس سره) أن المکلف إذا شک فی سقوط التکلیف عن ذمته من جهة الشک فی قدرته علی امتثاله واحتمال العجز بعد فرض وصوله إلیه وتنجزه، کما إذا شک فی وجود أداء الدین علیه بعد اشتغال ذمته به من جهة الشک فی تمکنه من الأداء وقدرته علیه مع فرض مطالبة الدائن إیاه به، فإنه مورد قاعدة الاشتغال ووجوب الفحص عن قدرته.

لحد الآن قد تبین أن الشک فی السقوط إذا کان من جهة الشک فی سعة دائرة الواجب وضیقها، فیدخل فی کبری مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین والمرجع فیها أصالة البرائة، وإذا کان من جهة الشک فی سعة دائرة الوجوب وضیقها، فیدخل فی موارد الشک فی السقوط بعد الیقین بالثبوت والمرجع فیه قاعدة الاشتغال هذا.

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أن الشک فی سقوط التکلیف عن الذمة وفراغها عنه بعد ثبوته فیها واشتغالها به وتنجزه وإن کان مورداً لقاعدة الاشتغال إلاّ أن الکلام فی انطباق هذه الکبری علی المقام، والتحقیق عدم الانطباق لأن الشک فی سقوط وجوب عن المکلف بفعل الغیر لامحالة یرجع إلی الشک فی اشتراطه بعدم فعل الغیر، فإذا فعل انتفی الوجوب بانتفاء شرطه، وحینئذ فیکون الشک فی أصل ثبوته وتوجهه إلیه، لاحتمال أنه مشروط من الأول بعدم قیامه به وهو مورد لأصالة البرائة.

وبکلمة واضحة: أن شک المکلف فی سقوط الوجوب عنه بفعل الغیر لا محالة یرجع إلی الشک فی أحد أمرین:

ص:213

الأول: الشک فی اشتراطه بعدم فعل الغیر.

الثانی: الشک فی أن فعل الغیر محصل للغرض والملاک القائم بالواجب، أما علی الاحتمال الأول فیرجع الشک فی السقوط بفعل الغیر إلی الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه بعدمه، ومرد هذا إلی الشک فی أصل ثبوت الوجوب علیه، فإنه إن کان مطلقاً فهو ثابت فی ذمته ولم یسقط به، وإن کان مشروطاً فهو غیر ثابت فیکون من دوران الأمر بین التعیین والتخییر ومقتضی الأصل فیه البرائة عن التعیین، مثلا إذا سلم أحد علی شخص وأجاب عنه ثالث، ویشک المسلم علیه فی أن الوجوب قد سقط عنه بجواب ثالث، فیرجع هذا الشک إلی الشک فی الاطلاق والتقیید، فإن وجوب الجواب إن کان مطلقاً لم یسقط عنه وإن کان مقیداً سقط، ونتیجة ذلک هی أنه شاک فی ثبوت الوجوب علیه تعییناً وهو مورد لقاعدة البرائة دون الاشتغال.

ومن هذا القبیل ما إذا علم الابن الأکبر بأن مافات من الصلوات عن أبیه المیت واجب علیه، وحینئذ فإذا قام غیره بالاتیان بها عن أبیه تبرعاً وشک الابن فی سقوطها عنه بذلک، فیرجع هذا الشک إلی الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه بعدم فعل الغیر، فعلی الأول لایسقط وعلی الثانی یسقط، بمعنی عدم ثبوته علیه من الأول لأنه مشروط بشرط ومع انتفائه فلا ثبوت له، فإذن هو شاک فی ثبوته والمرجع فیه أصالة البرائة.

ومن هذا القبیل أیضاً ما إذا علم المدین بأداء الدین علیه کما إذا کان مطالباً به وشک فی قدرته علی الأداء، فیرجع هذا الشک إلی الشک فی الوجوب من جهة الشک فی القدرة وهو مورد لأصالة البرائة خلافاً للمشهور، فإنهم بنوا علی أن مورد الشک فی القدرة من موارد قاعدة الاشتغال، قد یقال کما قیل أنه لا ریب فی

ص:214

ثبوت التکلیف فی الموارد المذکورة وما شاکلها والشک إنما هو فی سقوطه بفعل الغیر، ومن الواضح أن هذا من موارد قاعدة الاشتغال دون البرائة.

والجواب: أن الأمر لیس کذلک، فإن الشک فی المقام حیث یرجع إلی الشک فی أن التکلیف مجعول فی الشریعة المقدسة مطلقاً أو مشروطة بعدم فعل الغیر، فیکون من موارد الشک فی الثبوت، فإنه علی الأول لا یسقط بفعل الغیر وعلی الثانی یسقط به، علی أساس أن المشروط ینتفی بانتفاء شرطه من الأول، ونتیجة ذلک هی أنه شاک فی ثبوته علیه وهو مورد لقاعدة البرائة، ودعوی أنه مجعول فی الشریعة المقدسة مطلقاً ولکن بقائه مشروط بعدم فعل الغیر.

مدفوعة، بأن عدم فعل الغیر لولم یکن مأخوذاً شرطاً فی مرحلة الجعل من قبل المولی، استحال أن یکون دخیلا فی بقائه فی مرحلة الفعلیة، بداهة أن کل ما یکون مأخوذاً من القیود الوجودیة أو العدمیة مفروض الوجود فی تلک المرحلة فهو من شروط فعلیة الحکم وتدور مدارها وجوداً وعدماً حدوثاً وبقاءً، وعلی هذا فالمولی حیث کان یعلم أن عدم فعل الغیر إما أنه دخیل فی الحکم جعلا وملاکاً أو غیر دخیل فیه، فعلی الأول لا محالة یکون مأخوذاً فی مرحلة الجعل کسائر الشروط، وعلی الثانی فلا یمکن أن یکون مأخوذاً فیها، فإذا جعل المولی وجوب قضاء مافات من الأب علی ابنه الأکبر بعد موته، کان یعلم بأن عدم قیام الغیر بالصلاة عنه دخیل فی وجوب القضاء علیه حکماً وملاکاً أو لا یکون دخیلا فیه کذلک، فعلی الأول یکون مأخوذاً مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، فإذا فعل ارتفع الحکم بارتفاع شرطه، وعلی الثانی فلایؤخذ، إذ لا یعقل أن یکون دخیلا فی فعلیّة الحکم.

فالنتیجة، أنه لایمکن أن یکون الشیء دخیلا فی فعلیة الحکم من دون أن

ص:215

یکون مأخوذاً فی مرحلة الجعل کشرط له.

وأما الاحتمال الثانی، وهو أن فعل الغیر مفوت للملاک بحیث لا یتمکن المکلف من تحصیله بعد ذلک بدون أن یکون وافیاً بالغرض فهو غیر محتمل ولا مبرر له أصلا، هذا إضافة إلی انا لو سلمنا ذلک فعندئذ یکون الشک فی التکلیف من جهة الشک فی القدرة علی الاتیان بمتعلقه، والمرجع فیه علی المشهور وإن کان أصالة الاشتغال إلا أن الصحیح فیه أصالة البرائة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن الشک فی سقوط الواجب بفعل الغیر إن کان من جهة الشک فی سعة وضیق دائرة الواجب فالمورد یکون من موارد أصالة البرائة، لأنه داخل فی کبری مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، وإن کان من جهة الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه بعدم فعل الغیر، فقد مرّ أن السید الاُستاذ (قدس سره) قد بنی علی أن المورد من موارد أصالة الاشتغال، لأن الشک فی السقوط بعد العلم بالثبوت، ولکن تقدم أن الأمر لیس کذلک بل هو أیضاً من موارد أصالة البرائة، لأن مرجع الشک فی الاطلاق والاشتراط إلی الشک فی التعیین والتخییر والمرجع فیه أصالة البرائة عن التعیین.

سقوط الواجب بالفرد غیر الاختیاری
اشارة

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة، وهی ما إذا شک فی سقوط الواجب عن ذمة المکلف إذا صدر منه بغیر اختیاره، فیقع فی مقامین:

المقام الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

المقام الثانی: فی مقتضی الأصل العملی.

الاصل اللفظی فی المسالة

أما المقام الأول، فهل مقتضی اطلاق الدلیل السقوط، فیه قولان فذهب

ص:216

المحقق النائینی (قدس سره) إلی القول الثانی وقد استدل علی ذلک بوجهین(1):

الوجه الأول: أن الأمر یقتضی بنفسه کون متعلقه خصوص الحصة الاختیاریة، لأن الغرض من الأمر الصادر من المولی إلی العبد هو بعثه إلی الأتیان بالمأمور به وإیجاد الداعی فی نفسه للتحریک نحوه، ومن الطبیعی أن هذا یستلزم کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة وإلاّ لکان طلبه لغواً، وعلی هذا فبطبیعة الحال یکون المطلوب من الأمر المتعلق بالفعل خصوص حصة خاصّة منه وهی الحصة المقدورة لکی یحرک المکلف نحو الاتیان به فی الخارج وامتثاله مع استحالة ایجاد الداعویة والمحرکیة نحو غیر المقدور، ومن الواضح أن توجیه المحرکیة والداعویة نحو المادة قرینة متصلة مانعة عن انعقاد ظهورها فی الاطلاق، فإذن یکون الواجب خصوص الحصة الاختیاریة دون الجامع بینها وبین الحصة غیر الاختیاریة، وحینئذ فإذا شک المکلف فی سقوط الواجب عنه بالحصة غیر الاختیاریة، فمقتضی اطلاق الهیئة عدم تحقق الامتثال إلا بالحصة الاختیاریة.

والخلاصة: أن المادة فی نفسها غیر ظاهرة فی الحصة الاختیاریة لا وضعاً ولا انصرافاً، وتقییدها بها انما هو من جهة أن الغرض من الأمر المتعلق بها هو الداعویة والمحرکیة نحوها، وهو یقتضی نفسه هذا التقیید ویمنع عن ظهورها فی الاطلاق، وأما الهیئة فهی باقیة علی اطلاقها فلا مانع من التمسک به عند الشک هذا.

ویمکن الجواب عن ذلک بأمرین:

الأول: أن الحاکم باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف العقل (لا الخطاب

-

ص:217


1- (1) - أجود التقریرات 154:1.

الشرعی) علی أساس قبح تکلیف العاجز فی المرتبة السابقة علی الخطاب، ولولا حکم العقل بذلک لم یقتض الخطاب کون متعلقه مقدوراً، فإن استحالة الداعویة والمحرکیة نحو غیر المقدور انما هو بملاک أن تکلیف العاجز قبیح لا مطلقاً علی تفصیل فی محله.

الثانی: أن اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف سواءاً کان بحکم العقل أم بمقتضی الخطاب الشرعی انما هو من جهة أن التکلیف بغیر المقدور لغو، ومن الطبیعی أن ذلک لا یقتضی إلا استحالة تعلّق التکلیف بغیر المقدور خاصة، وأما تعلقه بخصوص الحصة المقدورة فحسب، فلا ضرورة لوضوح أن غایة ما یقتضی ذلک کون متعلقه مقدوراً، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور، مقدور فلا مانع من تعلقه به، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون اعتبار القدرة بحکم العقل أو بمقتضی الخطاب.

ودعوی، أن الغرض من الأمر بشیء هو البعث والتحریک نحوه وهو قرینة متصلة لتقیید المادة بخصوص الحصة المقدورة ویمنع عن ظهورها فی الاطلاق.

مدفوعة، بأن البعث والتحریک نحو شیء لایکون قرینة علی أکثر من کون ذلک الشیء مقدوراً، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور، ولا یکون قرینة علی تقییده بخصوص الحصة المقدورة، وذلک لأن المحال انما هو البعث والتحریک نحو غیر المقدور لا الجامع بینه وبین المقدور حتی یکون قرینة علی التقیید، حیث أن الغرض من الأمر بشیء هو بعث المکلف وتحریکه نحو إیجاده فی الخارج وهو یتطلب کونه مقدوراً وإلا لکان الأمر به لغواً، ومن الواضح أنه یکفی فی الخروج عن اللغویة تعلقه بالجامع بین الحصة المقدورة وغیر المقدورة باعتبار أنه مقدور، واما تعلقه بخصوص الحصة المقدورة فهو بلا مبرر

ص:218

وبحاجة إلی عنایة زائدة.

والخلاصة: أن البعث والتحریک لا یصلح أن یکون قرینة علی تقیید اطلاق المادة والمنع عن انعقاد ظهورها فی الاطلاق لا متصلة ولا منفصلة لعدم التنافی بین الأمرین هما اطلاق المادة والبعث والتحریک نحوه باعتبار أن الجامع مقدوراً، فإذن الخطاب الشرعی کالحکم العقلی، فکما أنه لا یصلح أن یکون قرینة علی تقیید المادة والمنع عن انعقاد ظهورها فی الاطلاق فکذلک الخطاب الشرعی.

وعلی ضوء هذا الأساس فلا مانع من التمسک باطلاق المادة عند الشک فی سقوط الواجب بالحصة غیر الاختیاریة ومقتضی اطلاقها السقوط. نعم، لو قلنا بعدم اطلاق المادة فالمرجع هو اطلاق الهیئة ومقتضاه عدم السقوط بها.

بقی هنا أمران:

الأول: أنه لا مانع من التمسک باطلاق المادة بناءً علی ما قویناه من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب أو من تقابل التضاد کما قواه السید الاُستاذ (قدس سره)، وحینئذ فإذا لم تکن هناک قرینة علی تقیید المادة بالحصة الاختیاریة فلا مانع من التمسک باطلاقها، وأما بناء علی ما اختاره المحقق النائینی (قدس سره) من أن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، فقد ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أنه لا یمکن اطلاق المادة لأن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، وحیث أن تقیید المادة بالحصة غیر المقدورة مستحیل فاطلاقها أیضاً کذلک(1).

-

ص:219


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 150:2.

وفیه، أن هذا الاشکال فی غیر محله، لأن المقصود فی المقام هو تقیید المادة بالحصة الاختیاریة فی مقابل اطلاقها للحصة غیر الاختیاریة، والمفروض امکان کل من هذا التقیید والاطلاق معاً، أو فقل أن محل الکلام فی المقام انما هو فی تقیید المادة بالحصة الاختیاریة فی مقابل اطلاقها لا فی تقییدها بالحصة غیر الاختیاریة لکی یقال أنه غیر ممکن.

الثانی: أن السید الاُستاذ (قدس سره) قد ذکر أنه لا مانع من تعلق التکلیف بالجامع بین المقدور وغیر المقدور شریطة أن یکون غیر المقدور ممکن التحقق فی الخارج، وأما إذا کان تحققه مستحیلا فیه فلا یمکن تعلق التکلیف به لأنه لغو(1).

ویمکن المناقشة فیه، لأن ما ذکره (قدس سره) من اللغویّة مبنی علی أن یکون التکلیف متعلقاً بمطلق وجود المانع، فعندئذ لا محالة یکون لغواً، ولکن الأمر لیس کذلک، ضرورة أن متعلق التکلیف هو صرف وجود الجامع لا مطلق وجوده، ومن الواضح أنه لا مانع من تعلقه به وإن کان تحقق بعض أفراده من المکلف مستحیلا فی الخارج، فإنه لا یمنع عن تعلق التکلیف بالجامع بنحو صرف الوجود الذی یتحقق بأول وجوده ولا یکون لغواً، ومن هنا لو فرض وجوده فی الخارج ولو بفعل الغیر کان بامکان المکلف الاکتفاء به.

وبکلمة، أن الحاکم باعتبار القدرة أما العقل أو الخطاب الشرعی. أما الأول، فلما مر من أن حکمه باعتبار القدرة فی متعلق التکلیف انما هو علی أساس قبح تکلیف العاجز، والمفروض أن تعلق التکلیف بالجامع بین المقدور وغیر المقدور لیس من تکلیف العاجز لأن الجامع مقدور، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون غیر

-

ص:220


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 149:2.

المقدور مستحیل الوقوع فی الخارج أو لا، ومن الضروری أن العقل کما لا یحکم بأن متعلق التکلیف لابد أن یکون خصوص الحصة المقدورة کذلک لا یحکم بأن الجامع لابد أن یکون بین الحصة المقدورة وغیر المقدورة، شریطة أن تکون الحصة غیر المقدورة ممکنة التحقق فی الخارج من المکلف لا مطلقاً.

وأما الثانی، فلما عرفت من أن الخطاب لا یقتضی علی أساس البعث والتحریک أکثر من کون متعلقه مقدوراً، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور وإن کان غیر المقدور مستحیل الوقوع فی الخارج، فإن المعیار إنما هو بکون الجامع بنحو صرف الوجود مقدوراً، فإذا کان الجامع مقدوراً کذلک، کفی ذلک فی خروج الخطاب عن اللغویة وإن کان وقوع بعض أفراده فی الخارج محالا.

فالنتیجة، أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من تخصیص الحصة غیر المقدورة بکونها ممکنة التحقق فی الخارج لا یتم، لا من جهة اللغویة ولا من جهة الدلیل علی اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنه لا مانع من التمسک باطلاق المادة عند الشک فی سقوط الواجب بالحصة غیر الاختیاریة ومقتضاه السقوط وکون الواجب توصلیاً بهذا المعنی، نعم لولم یکن للمادة اطلاق فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة ومقتضاه عدم السقوط.

الوجه الثانی: أن الحسن الفعلی للواجب لا یکفی فی صحته بل یعتبر فیها الحسن الفاعلی(1) أیضاً، بمعنی أن یکون صدوره من الفاعل حسناً، ومن هنا

-

ص:221


1- (1) - أجود التقریرات 153:1.

التزم (قدس سره) ببطلان الصلاة فی الدار المغصوبة حتی علی القول بالجواز، نظراً إلی أن صدور الصلاة من المصلی فیها لیس حسناً حتی یستحق فاعله المدح علیه وإن کانت الصلاة فی نفسها حسنة.

وفی المقام بما أن الواجب قد صدر من المکلف بغیر اختیار والتفات فلا یتّصف بالحسن الفاعلی ولا یستحق فاعله المدح علیه فیکون فاقداً لشرط الصحة، فلا یمکن الحکم بها من جهة عدم انطباق المأمور به علیه، ومن الواضح أن اعتبار هذا الشرط قرینة علی أن الواجب حصة خاصة وهی الحصة المقدورة دون الجامع بینها وبین الحصة غیر المقدورة، وحینئذ فإذا شک فی سقوط الوجوب عن الواجب بوجود الحصة غیر المقدورة، فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة والحکم بعدم السقوط.

فالنتیجة، أن الساقط علی هذا انما هو اطلاق المادة علی أساس أنه یعتبر فیها مضافاً إلی الحسن الفعلی الحسن الفاعلی أیضاً، ولازم ذلک أن المأمور به حصة خاصة منها وهی الحصة الاختیاریة باعتبار أن صدورها من الفاعل حسن، وأما الهیئة فهی تظل علی اطلاقها ولا مانع من التمسک به عند الشک فی سقوط الواجب بغیره.

والجواب أولا: أنه لا دلیل علی اعتبار الحسن الفاعلی زائداً علی اعتبار الحسن الفعلی، فإن المعتبر فی اتصاف الفعل بالوجوب هو کونه حسناً من جهة اشتماله علی المصلحة الملزمة التی تدعو المولی إلی إیجابه، وأما الحسن الفاعلی وهو کون صدوره من الفاعل حسناً فلا دلیل علی اعتباره.

وثانیاً: أنه إن ارید بالحسن الفاعلی إیقاع العمل بنحو یستحق فاعله المدح والثواب، فیرد علیه أن لازم ذلک اعتبار قصد القربة فیه زائداً علی الاختیار،

ص:222

لأن الفاعل لا یستحق الثواب والمدح إلا بالاتیان به بقصد القربة، فلو أتی به بدون ذلک لم یستحق المدح والثواب، ونتیجة ذلک أن کل واجب فی الشریعة المقدسة واجب تعبدی وهو کما تری.

وإن ارید به إیقاع العمل فی ضمن فرد سایغ لافی ضمن فرد محرم، فسیأتی الکلام فیه فی المرحلة الثالثة، هذا تمام الکلام فی المقام الأول.

الاصل العملی فی المسالة

وأما الکلام فی المقام الثانی، فیقع فی مقتضی الأصل العملی وهل مقتضاه أصالة البرائة أو الاشتغال، فیه قولان:

فذهب جماعة منهم السید الاُستاذ (قدس سره) إلی التفصیل فی المسألة، فإن الشک فی سقوط الواجب عن ذمة المکلف بالحصة غیر الاختیاریة إن کان من جهة الشک فی سعة وضیق دائرة الواجب، فالمرجع أصالة البرائة عن الضیق وهو تعین خصوص الحصة الاختیاریة، باعتبار أن المقام علی هذا یدخل فی مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر. وإن کان من جهة الشک فی سقوط الوجوب بالحصة غیر الاختیاریة، فالمرجع أصالة الاشتغال دون أصالة البرائة، باعتبار أن الشک فیه إنما هو فی السقوط بعد الثبوت لا فی الثبوب فحسب حتی یکون مورداً لأصالة البرائة. هذا،

ولکن الصحیح فی المسألة أصالة البراءة مطلقاً، وذلک لأن منشأ الشک فی السقوط إن کان الشک فی سعة الواجب وضیقه فالأمر واضح، وإن کان منشأه الشک فی سقوط الوجوب عن الواجب بالحصة غیر الاختیاریة، کان یرجع إلی الشک فی اشتراطه بعدم تحققها فی الخارج أو اطلاقه، فعلی الأول یسقط بتحققها فیه ویکشف عن عدم ثبوته من الأول دون الثانی هذا من الشک فی الثبوت، لأن المکلف حینئذ شاک فی أنه ثابت علیه من الأول أو لا، من جهة أنه لا یدری أن

ص:223

ثبوته کان من الأول مطلقاً أو مشروطاً.

فالنتیجة، أنه لا فرق بین أن یکون الشک فی سقوط الواجب بالحصة غیر الاختیاریة لفعل المکلف نفسه من جهة الشک فی سعة وضیق دائرة الواجب و من جهة الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه بعدمها، فعلی کلا التقدیرین تکون المرجع أصالة البرائة علی أساس أن مرد الشک فی کلا الفرضین إلی الشک فی الثبوت لا السقوط بعد الثبوت، فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن المرجع فی الفرض الثانی قاعدة الاشتغال دون البرائة غیر تام.

سقوط الواجب بالفرد المحرم
اشارة

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة، وهی ما إذا شک فی سقوط الواجب بالفرد المحرم، فیقع فی مقامین أیضاً.

المقام الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

المقام الثانی: فی مقتضی الأصل العملی.

الاصل اللفظی فی المسالة

أما المقام الأول، فیقع الکلام فیه فی موردین:

الأول: فیما إذا کان الحرام مصداقاً للواجب فی الخارج.

الثانی: ما إذا کان الحرام ملازماً للواجب فیه.

أما المورد الأول: فهل یتصور فیه الاطلاق فی مقام الثبوت، بأن یکون الواجب هو الجامع البدلی بین الحصة المحللة والحصة المحرمة أو لا، فیه قولان فذهب جماعة إلی القول الثانی، بدعوی استحالة کون الحرام مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب.

وذهب بعض آخر إلی القول الأول، بدعوی أن الأمر تعلق بعنوان کالصلاة مثلا والنهی تعلق بعنوان آخر کالغضب، وحیث أن دلیل الأمر ظاهر فی جواز

ص:224

تطبیق الجامع علی کل فرد من أفراده حتی الأفراد المحرمة بقطع النظر عن حرمتها، فهو ینافی ظهور النهی فی حرمتها علی القول بالامتناع فی مسألة اجتماع الأمر والنهی ووحدة المجمع وجوداً وماهیة، وحینئذ فیسقط الظهوران من جهة المعارضة فیبقی احتمال تعلق الوجوب بالجامع البدلی ثبوتاً.

ودعوی، أن الحرام لا یمکن أن یکون مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب، فلذلک لا یحتمل تعلق الوجوب بالجامع ثبوتاً.

مدفوعة، بأن هذه الدعوی صحیحة إذا علم أن الداعی للأمر بالجامع هو محبوبیته فحسب، وأما إذا احتمل أن یکون هناک داع آخر له یتحقق ذلک الداعی بصرف وجوده فی الخارج ولوکان فی ضمن فرد محرم مع هذا الاحتمال، احتمل تعلق الوجوب بالجامع ثبوتاً، ونتیجة کلا القولین عدم ثبوت الاطلاق للمادة، غایة الأمر أنه علی القول الأول غیر ممکن ثبوتاً وعلی القول الثانی قد یسقط من جهة المعارضة، وعندئذ فلا مانع من التمسّک باطلاق الهیئة ومقتضاه عدم سقوط الوجوب بالاتیان بالحصة المحرمة.

وأما المورد الثانی وهو ما إذا لم یکن الواجب متحداً مع الحرام ولکن ملازم له وجوداً، فلا مانع من اطلاق المادة بالنسبة إلی جمیع أفرادها حتی الأفراد الملازمة للحرام وجوداً وانطباقها علیها کما هو الحال علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیة فی مسألة الاجتماع، وعلی هذا فإذا شک فی الاجزاء بالنسبة إلی الأفراد الملازمة للحرام فی الخارج وجوداً، فلا مانع من التمسک باطلاق المادة لاثبات الاجزاء.

ص:225

ولکن المحقق النائینی (قدس سره) منع عن الاجزاء فی مورد الاجتماع(1) حتی علی القول بالجواز وتعدد المجمع وعدم انطباق الواجب علی الحرام، علی أساس أنه (قدس سره) اشترط فی صحة الواجب الحسن الفاعلی مضافاً إلی حسنه الفعلی، وعلی هذا فلا یمکن الحکم بصحة الواجب، لأن الفعل وإن کان مصداقاً للواجب دون الحرام والحرام ملازم له وجوداً ولا ینفک وجوده عن وجوده، ولکن حیث إن الواجب والحرام موجودان فی الخارج بفاعلیة واحدة من المکلف لا بفاعلیتین، فلایکون له حسن فاعلی، فلذلک لا یکون مجزیاً وصحیحاً.

واشکل علیه السید الاُستاذ (قدس سره)(2) بأنه لا دلیل علی اعتبار الحسن الفاعلی فی صحة الواجب، والمعتبر فیها إنما هو الحسن الفعلی، لما مرّ من أن الحسن الفاعلی لا یتحقق إلا بالاتیان بالواجب بقصد القربة، ولازم ذلک أن کل واجب فی الشریعة المقدسة مشروط بقصد القربة ولا یوجد واجب توصلی فیها وهو کما تری، ومن هنا ذکر (قدس سره) أنه لا مانع حینئذ من التمسک باطلاق المادة لاثبات الاجزاء هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنه علی القول باعتبار الحسن الفاعلی فی صحة الواجب، هل یمکن التمسّک باطلاق المادة أو لا؟

والجواب: أنه ممکن، لأن فعل الواجب والحرام إذا کان متعدداً کانت فاعلیتهما أیضاً متعددة، لأن فاعلیة الواجب غیر فاعلیة الحرام، ضرورة أن تعدد الوجود یستلزم تعدد الإیجاد وإن کانتا متلازمتین فی الخارج، فإذن تتصف فاعلیة الواجب بالحسن وفاعلیة الحرام بالقبح، والمفروض عدم سرایة الحکم من أحد المتلازمین إلی الملازم الآخر، مثلا فاعلیة المصلی للصلاة فی الأرض

-

ص:226


1- (1) - أجود التقریرات 155:1.
2- (2) - المتقدم. وانظر محاضرات فی اصول الفقه 150:2-151.

المغصوبة علی القول بالجواز وتعدد المجمع فی الخارج وجوداً وماهیة غیر فاعلیته لفعل الحرام فیها، لأن تعدد الفعل یستلزم تعدد الفاعل، فالجهة التی فی المصلی فاعلة للصلاة غیر الجهة التی فیه فاعلة للحرام، وحیث إن قبح فاعلیة الحرام لا یسری إلی فاعلیة الواجب فهی تبقی علی حسنها، وحینئذ فلا مانع من التمسک باطلاق المادة.

والخلاصة: أنه علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیة فالاطلاق للمادة، وحینئذ فیمکن التمسک باطلاق الهیئة لاثبات عدم الاجزاء، وأما علی القول بالجواز وتعدد المجمع وجوداً وماهیة، فیکون للمادة اطلاق ولا مانع من التمسک به حتی علی القول باعتبار الحسن الفاعلی فی صحة الواجب مضافاً إلی حسنه الفعلی.

الاصل العملی فی المسالة

وأما الکلام فی المقام الثانی، فیقع فی مقتضی الأصل العملی، والکلام فیه تارة یقع علی القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهیةً واُخری علی القول بالجواز، أما علی القول بالامتناع، فان قلنا بأن تعلق الوجوب بالجامع بین الفرد الحلال والحرام مستحیل، باعتبار أن الحرام لایمکن أن یکون مصداقاً للواجب، فحینئذ یکون الشک فی سقوط الوجوب بالفرد المحرم لا فی انطباق الواجب علیه.

وقد تقدم أن مرجع هذا الشک إلی الشک فی الاطلاق والاشتراط وهو مورد لأصالة البرائة، لامن جهة کونه من صغریات مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین بل من جهة أنه شک فی الثبوت فی مرحلة الجعل.

فلنا دعویان:

ص:227

الاُولی: أن المقام غیر داخل فی تلک المسألة.

الثانیة: أن جریان أصالة البرائة فیه من جهة اخری.

أما الدعوی الاُولی، فلأن أمر الواجب فی المقام لایدور بین السعة والضیق والأقل والأکثر، لأن أمره معلوم وهو الحصة غیر المحرمة ولا شک فیه، والشک إنما هو فی اطلاق الوجوب المتعلق بها واشتراطه بمعنی انه ان کان مطلقاً لم یسقط بالحصة المحرمة، وإن کان مشروطاً سقط بها.

وأما الدعوی الثانیة، فلما تقدم من أن الشک فی الاطلاق والاشتراط بعدم الاتیان بالحصة المحرمة یرجع إلی الشک فی أصل الثبوت وهو مورد لأصالة البرائة، وإن قلنا بأن تعلق الوجوب بالجامع بینهما ممکن ثبوتاً ولکن اطلاق الدلیل فی مقام الاثبات قد سقط بالمعارضة، فحینئذ یرجع الشک فی السقوط إلی الشک فی اطلاق الواجب وانطباقه علی الفرد المحرم وتقییده وعدم انطباقه علیه، فیدخل المقام عندئذ فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

هذا کله علی القول بالامتناع، وأما علی القول بالجواز، فقد تقدم أنه لا مانع من اطلاق المادة وانطباقها علی تمام أفرادها حتی الأفراد الملازمة للحرام وجوداً، وحینئذ فیدخل المقام فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین والمرجع فیه أصالة البرائة.

فالنتیجة أن مقتضی الأصل العملی البرائة علی کلا القولین فی المسألة.

نستعرض نتائج البحث فی عدة نقاط:

الاُولی: أن الواجب التوصلی فی مقابل الواجب التعبدی بالمعنی الأخص وهو ما یعتبر فیه قصد القربة، وقد یطلق التوصلی فی مقابل التعبدی علی

ص:228

معان اخری.

1 - التعبدی ما یتعبر فیه قید المباشرة، والتوصلی مالا یعتبر فیه ذلک.

2 - التعبدی ما یعتبر فیه الاختیار، والتوصلی ما لا یعتبر فیه ذلک.

3 - التعبدی ما یعتبر فیه أن لا یکون فی ضمن فرد محرّم، والتوصلی ما لایعتبر فیه ذلک.

الثانیة: أن ماذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من استحالة تعلق التکلیف بالجامع بین فعل المکلف نفسه وفعل الغیر لایمکن الأخذ به، إذ لا مانع من تعلق التکلیف بالجامع بینهما ثبوتاً، علی أساس أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور، مقدور.

الثالثة: أن السید الاُستاذ (قدس سره) قد ذکر أنه علی تقدیر تسلیم اطلاق المادة ثبوتاً إلا أن الاطلاق فی مقام الاثبات لایکون کاشفاً عنه، لأن الأمر فی المقام یدور بین التعیین والتخییر، ومقتضی الاطلاق التعیین، فالتخییر بحاجة إلی قرینة، وما ذکره (قدس سره) لایمکن المساعدة علیه، لأن الأمر لایدور فی المقام بین التعیین والتخییر، بل یدور بین اطلاق المادة لفعل الغیر وتقییدها بخصوص فعل المکلف نفسه، فإذا لم یثبت التقیید فلا مانع من التمسک بالاطلاق.

الرابعة: ذکر بعض المحققین (قدس سره) أن القرینة علی التقیید فی المقام موجودة وهی نسبة المادة إلی الفاعل بنسبة صدوریة، فإن الظاهر من الأمر المتعلق بالفعل المتوجه إلی شخص، أن المطلوب هو صدوره منه، ومعنی ذلک أن النسبة الصدوریة مأخوذة فی متعلق الأمر، فإذن یکون الواجب حصة خاصة دون الأعم، ولکن تقدم أنه لیس لذلک ضابط کلی بل هو یختلف باختلاف الموارد بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة، فإنها قد تقتضی أن النسبة المذکورة

ص:229

مأخوذة بنحو الموضوعیة والمعنی الاسمی، وقد تقتضی أنها مأخوذة بنحو الطریقیة والمعنی الحرفی بلا خصوصیة لها، هذا إذا کان قیام الفعل بالفاعل قیام صدور، وأما إذا کان قیامه به قیام حلولی ووصفی، فلا شبهة فی ظهور الأمر فی أنها مأخوذة فی متعلقه بنحو الموضوعیة.

الخامسة: أنه لا مانع ثبوتاً من أن یکون متعلق التکلیف الجامع بین فعل المکلف مباشرة وفعله بالتسبیب، وأما فی مقام الاثبات، فإن کان هناک اطلاق، فمقتضاه أن الواجب هو الجامع بین الفعل المباشری والتسبیبی إذا کان قیامه بالفاعل قیام صدور، وأما إذا کان قیام حلول، فمقتضی الدلیل اعتبار قید المباشرة.

السادسة: أن الشک فی سقوط الواجب بفعل الغیر إن کان من جهة الشک فی سعة دائرة الواجب وضیقها، فالمرجع فیه قاعدة البرائة، وإن کان الشک فی سقوطه به من جهة الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه، فقد ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أن المرجع فیه قاعدة الاشتغال، لأنه من الشک فی السقوط بعد الثبوت، ولکن الصحیح فیه أیضاً قاعدة البرائة کما تقدم تفصیله.

السابعة: أنّ ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن متعلق الأمر خصوص الحصة الاختیاریة دون الجامع، بدعوی أنّ الغرض من الأمر بما أنه البعث والتحریک، فیتطلب ذلک کون متعلقه خصوص الحصة المقدورة غیر تام، أما أولا فلأنّ الحاکم بذلک إنما هو العقل دون الخطاب الشرعی، وثانیاً علی تقدیر تسلیم أن الخطاب الشرعی یقتضی ذلک، ولکن من الواضح أنه لا یقتضی أکثر من کون متعلقه مقدوراً، والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور، ولا یقتضی کونه خصوص الحصة المقدورة، فإنه بلا مبرر، وعلی هذا فلا مانع من

ص:230

التمسک باطلاق المادة عند الشک فی سقوط الواجب بالحصة غیر الاختیاریة.

الثامنة: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من تعلّق الأمر بالجامع بین المقدور وغیر المقدور، شریطة أن یکون غیر المقدور ممکن التحقق فی الخارج، وأما إذا کان تحققه مستحیلا فیه، فلایمکن تعلق التکلیف به لأنه لغو، قابل للمناقشة، فإن المعیار فی صحة التکلیف کون متعلقه مقدوراً والمفروض أن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور وإن کان غیر المقدور مما یستحیل وقوعه فی الخارج علی تفصیل تقدم.

التاسعة: أنه لا مانع من التمسک باطلاق المادة ومقتضاه سقوط الواجب بالحصة غیر الاختیاریة، وأما إذا لم یکن للمادة اطلاق، فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة ومقتضاه عدم السقوط.

العاشرة: أنّ ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من اعتبار الحسن الفاعلی زائداً علی الحسن الفعلی فی صحة الواجب غیر تام، إذ لا دلیل علی اعتباره زائداً علی اعتبار الحسن الفعلی، هذا إضافة إلی أن لازم إیقاع الواجب بنحو یستحق فاعله المدح والثواب اعتبار قصد القربة فیه وهو کما تری.

الحادیة عشر: أنه علی القول بالامتناع، لا اطلاق للمادة بالنسبة إلی الحصة المحرمة إما ذاتاً أو عرضاً بأن سقط من جهة المعارضة، وعندئذ فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة، وأما علی القول بالجواز فلا مانع من إطلاقها، وحینئذ فإذا شک فی الاجزاء بالاتیان بالفرد الملازم للحرام فی الخارج، فلا مانع من التمسک به لاثبات الاجزاء.

الثانیة عشر: أنّ تعلق الوجوب بالجامع بین الفرد الحلال والحرام علی القول بالامتناع إن کان مستحیلا، فالشک یکون فی سقوط الوجوب بالفرد الحرام لا

ص:231

فی انطباق الواجب علیه، ومرجع هذا الشک إلی الشک فی اطلاق الوجوب واشتراطه، وقد تقدم أنه مورد لأصالة البرائة، وإن کان ممکناً ثبوتاً ولکنه قد سقط من جهة المعارضة فی مقام الاثبات، فحینئذ یرجع الشک فی السقوط إلی الشک فی اطلاق الواجب وانطباقه علی الفرد المحرم وعدم انطباقه علیه، فیکون داخلا فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. وأما علی القول بالجواز، فلا مانع من اطلاق المادة والتمسک به عند الشک کما مرّ.

سقوط الواجب بغیر قصد القربة
اشارة

وأما الکلام فی المرحلة الرابعة: وهی ما إذا شک فی اعتبار قصد القربة فیه وعدم اعتباره، فما اعتبر فیه قصد القربة فهو واجب تعبّدی، ومالم یعتبر فیه ذلک فهو واجب توصلی، فیقع فی عدة جهات:

الجهة الاُولی: فی الفارق بینهما وهل هو فی المتعلق أو الملاک أو الأمر.

الجهة الثانیة: فی مقتضی الأصل اللفظی فی موارد الشک فی کون الواجب تعبدیاً أو توصلیاً.

الجهة الثالثة: فی مقتضی الأصل العملی فی موارد الشک فی التعبدیة والتوصلیة.

الفارق بین الواجب التعبدی و التوصلی

أما الکلام فی الجهة الاُولی ففیها أقوال:

الأول: أنّ الواجب التعبدی یختلف عن الواجب التوصلی فی المتعلّق، فإن الأمر فی الأول متعلق بالفعل مع قصد القربة جزءاً أو شرطاً، وفی الثانی متعلق بذات الفعل، وعلیه فیکون الواجب التعبدی حصة خاصة من الفعل وهی الحصة المقیّدة بقصد القربة، بینما الواجب التوصلی ذات الفعل.

الثانی: أن الفرق بینهما فی الملاک لا فی المتعلق، فإنه فی کلیهما ذات الفعل،

ص:232

والأمر فی الواجب التعبدی والتوصلی معاً متعلق بها، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وإنما الفرق بینهما فی أنّ الغرض من الأمر التوصلی مترتب علی الاتیان بذات الفعل، فیسقط بمجرد الاتیان به، بینما الغرض من الأمر التعبدی لایترتب إلا علی الاتیان به بقصد القربة.

الثالث: أن عبادیة الواجب التعبدی إنما هی بالأمر الثانی، فإن الواجب إذا کان توصلیاً، فلا یوجد فیه إلا أمر واحد متعلق بذات الفعل، وأما إذا کان تعبدیاً، فلابد فیه من أمران:

أحدهما. متعلق بذات الفعل، والآخر متعلق بالاتیان به بقصد امتثال الأمر الأول. الفارق الأول بین الواجب التعبدی والتوصلی فی المتعلق.

الفارق الأول بین الواجب التعبدی و التوصلی

أمّا الکلام فی الفارق الأول فیقع فی مقامین:

الأول: فی إمکان أخذ خصوص قصد امتثال الأمر فی متعلق نفسه.

الثانی: فی إمکان أخذ سائر الدواعی القریبة فی متعلقه.

رای المحقق النائینی

أما الکلام فی المقام الأول، فالمشهور بین المحققین من الاُصولیین عدم امکان اخذه فیه، وقد استدل علی ذلک بعدّة وجوه:

الأول: ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن کلّ قید فی القضیة أخذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، فمعناه أن الحکم فیها معلق علی وجوده وتحققه فی الخارج، فمالم یتحقق فلا حکم فیه، ومن هنا لا یکون المکلف ملزماً بإیجاده، لأن معنی أخذه مفروض الوجود فی مقام الجعل أنه لا حکم ولا ملاک قبل وجوده، فإذن لا مبرر لالزام المکلف بإیجاده، لأن معنی أخذه مفروض الوجود أنه قید للوجوب، ومعنی الزام المکلف بإیجاده أنه قید اختیاری للواجب وبین

ص:233

الأمرین بون بعید، فلذلک ترجع القضیة الحقیقیة التی أخذ موضوعها مفروض الوجود إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت الحکم له، باعتبار أن الموضوع فیها قد أخذ فی موضوع الفرض والتقدیر، فلهذا یکون بمثابة الشرط، والحکم المجعول له بمثابة الجزاء والتالی، وأمثلة ذلک کثیرة فی القیود الاختیاریة وغیر الاختیاریة.

أما الاُولی فمنها الاستطاعة التی هی موضوع لوجوب حجة الاسلام، فإنها قد اخذت فی الآیة الشریفة مفروضة الوجود فی الخارج، ومعنی ذلک أنها قید للحکم فی مرحلة الجعل ولاتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وحینئذ فإذا وجدت الاستطاعة فی مادة شخص فی الخارج صار وجوب الحج فعلیاً علیه بفعلیة موضوعه وهو الاستطاعة.

ومنها، السفر فإنه موضوع لوجوب القصر ومأخوذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، لأنه قید للحکم فی هذه المرحلة، ولاتصاف القصر بالملاک فی مرحلة المبادیء.

ومنها، قصد إقامة عشرة أیام فی مکان، فإنه موضوع لوجوب التمام علی المسافر والصیام فی شهر رمضان، لأنه قید للوجوب فی مقام الجعل وللاتصاف بالملاک فی مرحلة المبادیء.

ومنها، العقود والایقاعات التی هی موضوعات للاحکام الوضعیة المأخوذة مفروضة الوجود فی مرحلة الجعل وهکذا، ومعنی ذلک أنه لاحکم قبل وجود الموضوع وإلا لزم الخلف، وأما القیود غیر الاختیاریة، فمنها العقل والبلوغ والوقت وما شاکل ذلک، ثم أن القید إن کان اختیاریاً، فإن کان دخیلا فی اتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، فلابد من أخذه مفروض الوجود فی مرحلة

ص:234

الجعل کالاستطاعة ونحوها، فیکون من قیود الوجوب، سواءاً کان دخیلا فی ترتب الملاک علی وجود الفعل فی الخارج أیضاً أم لا، غایة الأمر إن کان دخیلا فیه فیکون قیداً للواجب أیضاً، وإن کان دخیلا فی ترتب الملاک علی وجود الفعل فی الخارج فقط، فلابد من أخذه قیداً للواجب کذلک، لأن الوجوب حینئذ مطلق وغیر مقید به فلهذا یجب تحصیله فی الخارج، وإن کان غیر اختیاری، فلابد من أخذه مفروض الوجود وإن کان قیداً للواجب، لأن قید الواجب إذا کان غیر اختیاری، فهو قید للوجوب أیضاً، إذ لا یمکن أن یکون الوجوب مطلقاً، وإلا لزم التکلیف بغیر المقدور، باعتبار أن الواجب مقید بقید غیر اختیاری.

وعلی ضوء هذا الأساس، فإذا فرضنا أن قصد الأمر مأخوذ فی متعلقه جزءاً وقیداً، فیکون القصد متعلقاً للأمر، وأما الأمر الذی هو متعلق المتعلق، فیکون موضوعاً له، والمفروض أن الموضوع فی القضیة الحقیقیة مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج، مثلا إذا أمر المولی بالصلاة المقیّدة بقصد الأمر، کان الأمر مأخوذاً مفروض الوجود فی المرتبة السابقة علی الأمر بالصلاة، ومن الواضح أنه لا یمکن فرض وجود الأمر فی الواقع قبل وجود نفسه، فإن لازم ذلک اتحاد الحکم والموضوع فی مرتبة الجعل والانشاء وتوقف وجوده علی وجود نفسه فی مرتبة الفعلیة، باعتبار أن الموضوع هو نفس الأمر، فبطبیعة الحال تتوقف فعلیّته علی فعلیة نفسه.

والخلاصة أن الموضوع فی مرتبة الجعل والمجعول متقدم علی الحکم کذلک، فلا یعقل اتحاده معه وکونه موضوعاً لنفسه(1).

ص:235


1- (1) - أجود التقریرات 161:1-162.

وقد أورد علی ذلک المحقق العراقی (قدس سره) وملخصه: أن ما یؤخذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل إنما هو قیود الوجوب لا قیود الواجب، علی أساس أن تحصیل قیود الواجب کالطهارة فی الصلاة واستقبال القبلة ونحوهما واجب علی المکلف، لأن الأمر المتعلق بالصلاة یتعلق بها مقیدة بتلک القیود، فکما یجب الاتیان بالصلاة بمالها من الاجزاء، فکذلک یجب الاتیان بها بمالها من القیود، وهذا بخلاف موضوع الحکم، فإنه حیث کان قد أخذ مفروض الوجود فی الخارج، فلا یجب علی المکلف تحصیله ولوکان أمراً اختیاریاً، لعدم المقتضی له وهو الوجوب(1).

وغیر خفی ما فی هذا الایراد، فإنه مبنی علی الخطأ فی فهم مقصود المحقق النائینی (قدس سره) من هذا الوجه، فإن مقصوده من الموضوع المأخوذ مفروض الوجود فی المقام هو نفس الأمر لا قصده، لأنه متعلق به والموضوع متعلق المتعلق لا نفس المتعلق، وحیث أن متعلق المتعلق فی المقام هو الأمر فهو الموضوع، فإذن لابد من أخذه مفروض الوجود علی نهج القضیة الشرطیة، باعتبار أنه غیر مقدور، ومن هنا لوکان قیداً للواجب، فلابد أن یکون قیداً للوجوب أیضاً وإلاّ لزم التکلیف بغیر المقدور، فیعود المحذور حینئذ وهو اتحاد الحکم والموضوع فی مرتبة الجعل والفعلیة معاً.

وأجاب السید الاُستاذ (قدس سره) عن هذا الوجه بتقریب، أن أخذ القید مفروض الوجود فی مقام الجعل لایمکن أن یکون جزافاً وبدون مبرر، والمبرّر لذلک أحد أمرین:

الأول: اثباتی.

ص:236


1- (1) - مقالات الاُصول 237:1.

و الثانی: ثبوتی.

أما الأول: فهو أن یکون الدلیل ظاهراً عرفاً فی أن القید فی لسانه مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج کما فی قوله تعالی: (وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً )(1). فإنه ظاهر فی أن قید الاستطاعة قد قدر وجوده خارجاً فی المرتبة السابقة علی جعل الوجوب، فلا وجوب قبل وجوده رغم أنه مقدور للمکلّف، ومن هذا القبیل وجوب الوفاء بالعقد والنذر والعهد والیمین وما شاکل ذلک، فإنها جمیعاً مأخوذة مفروضة الوجود فی الخارج بمقتضی ظهور الأدلة.

وأما الثانی: حکم العقل فإنه إنما یحکم بذلک إذا کان القید قیداً للواجب وکان غیر اختیاری کالوقت کما فی قوله تعالی: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ )(2) ، فإنه یدل علی أن الوقت قید للصلاة، و حیث أنه غیر اختیاری فالعقل یحکم بأنه قید للوجوب أیضاً، وحینئذ فلابد من أخذه مفروض الوجود وإلا لزم التکلیف بغیر المقدور، إذ لو کان وجوب الصلاة مطلقاً وغیر مقید بدخول الوقت، فمعناه أن وجوبها فعلی قبل الوقت وهو یلزم المکلف بالاتیان بها قبل دخول وقتها وهو غیر مقدور.

والخلاصة: أن کل قید اخذ فی لسان الدلیل فی مقام الجعل، فهو ظاهر فی أنه قید للحکم والملاک معاً ومأخوذ مفروغ عنه فی الخارج، سواءاً کان قیداً للواجب أیضاً أم لا، وکل قید لم یؤخذ فی لسان الدلیل مفروغ عنه وکان غیر اختیاری کقوله صلِّ فی الزوال، فالعقل یحکم بأنه لابد من أخذه مفروض الوجود وإلاّ لزم التکلیف بغیر المقدور، فإذن أخذ القید مفروض

ص:237


1- (1) - سورة آل عمران (3):97.
2- (2) - سورة الاسراء (17):78.

الوجود یقوم علی أساس أحد هذین الأمرین ولا ثالث لهما، وأما إذا لم یکن فی مورد شیء منها، فلا موجب لأخذه مفروض الوجود أصلا ولا مانع من الالتزام بکون التکلیف فعلیاً قبل وجوده فی الخارج.

ومن هنا التزم (قدس سره) بفعلیة الخطابات التحریمیة قبل وجودات موضوعاتها فی الخارج بتمام قیودها وشروطها فیما إذا کان المکلف قادراً علی إیجادها فیه، مثلا حرمة شرب الخمر فعلیة وإن لم توجد الخمر فی الخارج إذا کان المکلف قادراً علی إیجادها فیه بإیجاد مقدماتها، والنکتة فی ذلک ما تقدم من أن الموجب لأخذ القید مفروض الوجود خارجاً أحد الأمرین:

الأول: الظهور العرفی الارتکازی فی مقام الاثبات.

الثانی: حکم العقل فی مقام الثبوت.

وکلاهما منتف فی أمثال المقام، أما الأول فلأن العرف لایفهم من مثل خطاب لاتشرب الخمر، أن الخمر قد اخذت مفروضة الوجود فی الخارج، بحیث أن فعلیة حرمتها تتوقف علی وجودها فیه، بل یفهم منه أن حرمتها فعلیة إذا کان المکلف قادراً علی شربها ولو بإیجادها فیه.

فالنتیجة، أن المناط فی فعلیة الخطابات التحریمیة إنما هو فعلیة قدرة المکلف علی متعلقاتها إیجاداً وترکاً ولو بواسطة القدرة علی موضوعاتها کذلک، وأما فی المقام فالقید فیه نفس الأمر وهو وإن کان خارجاً عن الاختیار إلاّ أن مجرد ذلک لا یوجب أخذه مفروض الوجود طالما لم یتوفّر فیه أحد الملاکین المتقدمین.

أما الملاک الأول، وهو الظهور العرفی فهو واضح حیث لا موضوع له فی

ص:238

المقام، لأن الکلام هنا لیس فی مقام الاثبات، وإنما هو فی امکان أخذ قصد الأمر فی متعلق نفسه وعدم امکانه ثبوتاً.

وأما الملاک الثانی، فلأن الأمر وإن کان قیداً غیر اختیاری باعتبار أنه فعل اختیاری للمولی وخارج عن قدرة المکلف، إلاّ أن حکم العقل بأخذه مفروض الوجود لایمکن أن یکون جزافاً وبدون نکتة مبررة لذلک، والنکتة فیه أنه لولم یؤخذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل، لزم التکلیف بغیر المقدور، فمن أجل هذه النکتة یحکم العقل بأنه قید للوجوب أیضاً ومأخوذ مفروض الوجود، وهذه النکتة غیر متوفرة فی المقام، إذ لا یلزم من عدم أخذ الأمر مفروض الوجود فیه محذور التکلیف بما لایطاق، والسبب فیه أن الأمر الذی هو متعلق للقصد یتحقق ویوجد بنفس خطاب انشائه وجعله، وإذا تحقق الأمر ووجد کان بامکان المکلف الاتیان بالمأمور به بقصد ذلک الأمر، ومن الواضح أنه یکفی فی صحة التکلیف، کون المکلف قادراً علی الاتیان بالواجب فی ظرف الامتثال وإن کان عاجزاً وغیر قادر فی مرحلة الجعل، وعلی هذا فالمکلف وإن لم یکن قادراً علی الصلاة بداعی أمرها قبل انشائه وجعله، ولکنه قادر علی الاتیان بها کذلک بعد الأمر وانشائه، وهذه القدرة تکفی فی صحة التکلیف والعقل لا یحکم بأکثر منها، فإذن لا موجب لأخذه مفروض الوجود(1).

والتحقیق فی المقام أن یقال أن هناک نقاطاً لابد من النظر فیها:

الاُولی: فی بیان الفرق بین قید الوجوب وقید الواجب.

الثانیة: هل الأمر کما أفاده (قدس سره) فی الخطابات التحریمیة أو لا.

ص:239


1- (1) - لاحظ محاضرات فی اصول الفقه 158:2-161.

الثالثة: أنّ ما ذکره (قدس سره) هل یصلح أن یکون رداً علی ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من استحالة أخذ قصد الأمر فی متعلقه.

أما الکلام فی النقطة الاُولی: فکل قید یکون دخیلا فی اتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء فهو قید للحکم فی مرحلة الجعل، ونتیجة ذلک أنه لا ملاک للفعل بدون ذلک القید، وکل قید یکون دخیلا فی ترتب الملاک علی وجود الفعل فی الخارج فهو قید للواجب، هذا بحسب مقام الثبوت، وأما فی مقام الاثبات فکل قید اخذ فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل، فإن کان الدلیل ظاهراً عرفاً فی أنه مأخوذ مفروض الوجود فهو قید للوجوب، أی الهیئة ودخیل فی الملالک، وإن کان ظاهراً عرفاً فی أنه دخیل فی ترتب الملاک علی وجود الفعل فی الخارج فهو قید للواجب، وقد تقدم أن قید الواجب إذا لم یکن اختیاریاً، فلابد أن یکون قیداً للوجوب أیضاً وإلاّ لزم التکلیف بغیر المقدور.

وأما إذا لم یعلم أن القید المأخوذ فی لسان الدلیل هل هو راجع إلی مدلول الهیئة أو المادة، فسیأتی الکلام فیه ضمن البحوث القادمة بعونه تعالی.

وأما الکلام فی النقطة الثانیة: فالخطابات التحریمیة علی قسمین:

أحدهما ما لایکون له موضوع فی الخارج کالکذب حتی تتوقف حرمته علی وجوده فیه، نعم قدرة المکلف علی الکذب موضوع له وتتوقف فعلیة حرمته علی فعلیة القدرة، فإنه إن کان عاجزاً عنه فعلا لم تکن حرمته فعلیة.

والآخر ما یکون له موضوع فی الخارج کحرمة شرب الخمر والتصرّف فی مال الغیر وغیبة المؤمن وهکذا، وهل تتوقف فعلیة حرمة هذه الأفعال علی فعلیة موضوعاتها فی الخارج فیه قولان، الظاهر هو القول الأول، أما حرمة

ص:240

التصرف فی مال الغیر، فلا شبهة فی أن فعلیتها متوقفة علی وجود مال الغیر فی الخارج وإلا لکان جعلها لغواً، ومن هذا القبیل حرمة غیبة المؤمن وما شاکلها، فإنها متوقفة علی فرض وجود المؤمن فیه وإلا فلا حرمة، وأما حرمة شرب الخمر والنجس أو ما شاکل ذلک، فلا یبعد القول بأنها أیضاً منوطة بوجود موضوعها فیه وهو وجود الخمر أو النجس أو ما شاکله، لأن من یدعی أن المتبادر من قوله لا تشرب الخمر هو حرمة شرب مائع فرض أنه خمر علی نهج القضیة الشرطیة غیر بعید.

والخلاصة أن دعوی کون المتفاهم العرفی من مثل قضیة لا تشرب النجس هو حرمة شرب مایع إذا کان نجساً علی نهج القضیة الشرطیة غیر بعیدة.

وأما الکلام فی النقطة الثالثة: فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن المکلف وإن کان غیر قادر علی قصد الأمر قبل صدوره من المولی، إلا أنه بعد صدوره قادر علیه فهو صحیح، لأن مردّه إلی أنه حیث لا أمر بالصلاة قبل صدوره من المولی، فلا یتمکن المکلف من الاتیان بها بقصد أمرها، وأما بعد صدوره منه وتعلقه بها یکون المکلف متمکناً من ذلک، ومن الواضح أن الفعل لا یحکم إلا باشتراط التکلیف بالقدرة فی ظرف الامتثال، أو فقل أن حکم العقل باعتبار القدرة علی الاتیان بالواجب بقصد الأمر، إنما هو علی تقدیر تعلقه به لا مطلقاً، ومن الطبیعی أنه بعد تعلقه به کان قصده مقدوراً، وعلی هذا فلا مانع من جعل التکلیف علی العاجز فی ظرف الجعل إذا قدر علی العمل فی ظرف الامتثال، بل لا مانع منه إذا کان جعل التکلیف رافعاً لعجزه کما فی المقام، لأن المکلف قبل تعلق الأمر به وجعله لم یکن قادراً علی قصد الأمر وبعد تعلقه به وجعله یکون قادراً علیه، فإذن لا محذور فی أخذ قصد الأمر فی متعلق نفسه، وهنا اشکالان:

ص:241

الاشکال الأول: أن الأمر وحده لا یکفی فی القدرة علی قصد الأمر، بل مضافاً إلی ذلک لابد من وصوله ولو بأدنی مرتبة الوصول وهو احتمال وجوده، إذ لولم یصل الأمر ولو بأدنی مرتبته لما تأتّی من المکلف قصد الأمر إلاّ بنحو التشریع المحرم ووصول الأمر غیر اختیاری ولو فی بعض الحالات، ولا یکون مجرد ثبوت الأمر متکفّلا لوصوله ولا سیّما وإن الخطابات مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة، ولابد من أخذ وصول الأمر قیداً فی الأمر وشرطاً مفروغاً عنه وهو لایمکن، لاستحالة أخذ وصول الحکم فی موضوع شخصه لاستلزامه الدور وتوقف الشیء علی نفسه.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن المأخوذ فی متعلق الأمر لو کان قصده بوجوده الواقعی فهو غیر مقدور إلاّ تشریعاً، ولو کان المأخوذ فیه قصده بوجوده الواصل ولو بأدنی مرتبته فهو غیر ممکن، فما هو ممکن أخذه فیه فإنه غیر مقدور، وما هو مقدور فإنه غیر ممکن أخذه فیه(1).

ویمکن المناقشة فیه، بأن هذا الاشکال مبنی علی أن الجهل بالحکم مانع عن اطلاقه، ووصوله قید وشرط له، فلابد حینئذ من أخذه مفروض الوجود وإلاّ لزم التکلیف بالمحال، ضرورة أن التکلیف لو کان مطلقاً ولم یکن مقیداً ومشروطاً بالوصول، لزم کون تکلیفه بقصد الأمر تکلیفاً بغیر المقدور، لفرض أنه غیر قادر علیه قبل وصوله ولو بأدنی مرتبته إلا بنحو التشریع المحرم، ولکن هذا البناء غیر صحیح، لما تقدم من أن أخذ القید مفروض الوجود منوط بأحد الأمرین المذکورین وکلاهما مفقود فی المقام، أمّا الأول وهو الظهور العرفی للدلیل فلا موضوع له فیه، وأما الثانی وهو حکم العقل بأنه لولم یؤخذ مفروض

ص:242


1- (1) - انظر بحوث فی علم الاُصول 79:2.

الوجود، لزم التکلیف بغیر المقدور فلا موضوع له أیضاً، أما أولا فلان وصول التکلیف غالباً یکون اختیاریاً، وعلیه فاطلاقه لا یوجب التکلیف بغیر المقدور، وثانیاً علی تقدیر تسلیم أنه غیر اختیاری إلا أنه لیس قیداً للحکم ومأخوذاً مفروض الوجود لکی یقال إنه مستحیل، إذ لا مانع من إطلاق التکلیف بالنسبة إلی الجاهل، ولا یلزم من ذلک التکلیف بغیر المقدور، لأنه وإن کان فعلیاً بفعلیة موضوعه، إلا أنه غیر منجز، لأن تنجزه منوط بالوصول، حیث إنه شرط له لا أنه شرط لفعلیته کما هو الحال فی سائر موارد الجهل بالتکلیف، وعلی هذا فالمکلف وإن کان غیر قادر علی قصد الأمر قبل تحققه وانشائه، إلا أنه قادر علیه بعده واقعاً، غایة الأمر قد یکون المکلف جاهلا بقدرته علیه، وبکلمة أن العجز المانع عن اطلاق التکلیف ومحرکیّته هو العجز التکوینی، وأما العجز الناشیء من عدم اطلاق التکلیف والناجم منه الذی یرتفع بجعله واقعاً الواصل بوصوله، فهو لا یمنع عن اطلاقه، فإن العجز الذی یرتفع فی طول جعل التکلیف واقعاً وحقیقة، فکیف یکون مانعاً من اطلاقه، غایة الأمر أنه طالما لم یکن واصلا إلیه ولو بأدنی مرتبته لم یکن منجزاً ومحرکاً فعلا، إذ لا ملازمة بین فعلیة التکلیف بفعلیة موضوعه وکونه محرکاً فعلا، لأن محرکیته کذلک منوطة بتنجزه بالوصول وإلا لم یکن محرکاً.

الاشکال الثانی: إن قصد الأمر لا یتأتّی إلاّ من قبل الأمر، فکیف یعقل أن یؤخذ فی متعلقه بحیث یتوقف علیه الأمر، فإذن یلزم التهافت فی الرتبة، فإن قصد الأمر بملاک أنه مأخوذ فی متعلق الأمر فیکون أسبق منه رتبة، وبملاک أنه متوقف علیه فیکون متأخراً منه کذلک، وهذا هو معنی التهافت فی الرتبة، ولایمکن التخلص عن هذا الاشکال بأن قصد الأمر متوقف علی الأمر الخارجی والأمر الخارجی لا یتوقف علی قصد الأمر فی الخارج حتی یلزم التهافت، بل هو

ص:243

یتوقف علی قصد الأمر فی الذهن، فإذن لا تهافت(1). وذلک لأن المولی إنما یأمر بالعنوان لا بما هو موجود فی الذهن بل بما هو فإن فی المعنون ومرآة له فی الخارج، فهو یری من خلال العنوان المعنون، علی أساس أن الأثر مترتب علیه لا علی العنوان بما هو موجود فی الذهن، وعلی هذا فیقع التهافت فی نظره، لأنه من جهة یری الأمر فی رتبة متقدمة علی قصده لکونه عارضاً علیه وله تقرر وثبوت قبل تعلق القصد به من منظاره، ومن ناحیة اخری یری أنه عارض علی قصد الأمر ومتأخر عنه رتبة، وهذه النظرة وإن لم یکن لها واقع موضوعی، إلا أن الآمر یأمر بهذه النظرة التی یری بها واقع قصد الأمر شیئاً مفروغاً عنه ومتقدماً علی الأمر الطاریء علیه مع أنه لا یعقل أن یراه الآمر کذلک، لأنه متقوم وجوداً بالأمر الصادر منه، فکیف یراه مفروغاً عنه ومتقدماً علیه.

والجواب: أن الآمر کان یعلم بأنه لا أمر فی الواقع قبل أن یصدر منه، وإنما هو مجرد مفهوم الأمر فی عالم الذهن بدون أن یکون له واقع مفروغ عنه فی الخارج، ولهذا لا یری الآمر به شیئاً فی الخارج لکی یکون فانیاً فیه وحاکیاً عنه، إذ لا یعقل أن ینظر الآمر إلی قصد الأمر فانیاً فی مصداقه فی الخارج ومعنونه فیه، لأنه کان یعلم بأنه لا مصداق له فیه، وإنما هو مجرد عنوان فی عالم الذهن، فإذا صدر منه أمر وتعلق بذلک العنوان تحقق مصداقه فی الخارج، وحینئذ فیصبح المکلف قادراً علی الاتیان بالواجب بقصد الأمر الواقعی، وعلی ذلک فلا تهافت فی نظر الآمر.

وبکلمة، أن الأمر حیث إنه اعتبار صرف، فلا محالة یکون متعلقه الأمر الذهنی، إذ لا یمکن تعلقه بالأمر الخارجی مباشرة وإلاّ فلازمه أن یکون الأمر

ص:244


1- (1) - لاحظ بحوث فی علم الاُصول 73:2-75.

خارجیاً وهو خلف، فإذن لا محالة یکون متعلقه بنحو المباشر هو المفهوم الذهنی، ولکن بملاک أنه مرآة لما فی الخارج وفان فیه بنحو المعنی الحرفی، باعتبار أن الأمر مترتب علی الواقع الخارجی لا علی المفهوم الذهنی، وأما إذا لم یکن للشیء واقع خارجی قبل تعلق الأمر به وإنما یوجد ویتحقق واقعه ومصداقه الخارجی حین تعلق الأمر به بنفسه، فلا مانع من تعلق الأمر به، غایة الأمر أن الآمر یتصوره فانیاً فی واقع سوف یتحقق ویوجد فی الخارج ولا مانع من ذلک، فإن مرده إلی أن الأمر لم یتعلق به بما هو موجود فی عالم الذهن بنحو المعنی الاسمی، بل تعلق بما هو مرآة بنحو المعنی الحرفی شاناً لمصداق سوف یتحقق بنفس تحقق هذا الأمر العارض علی قصده فی افق الذهن، فإذن لا محذور لا من ناحیة عدم القدرة لأنها موجودة فی ظرف الامتثال، ولامن ناحیة التهافت فی مرحلة الجعل فی نظر الآمر.

وعلیه فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من الاشکال علی المحقق النائینی (قدس سره) من أنه لا مبرر لأخذ الأمر مفروض الوجود وقیداً للوجوب فی مرحلة الجعل هو الصحیح، وذلک لأن المبرر لأخذه کذلک إنما هو لزوم التکلیف بغیر المقدور، وهو غیر لازم فی المقام، حیث أن القدرة المعتبرة علی الواجب بحکم العقل، إنما هی القدرة فی ظرف الامتثال وإن کان عاجزاً فی ظرف الجعل، وبما أن المکلف فی المقام قادر علی قصد الأمر بعد تعلّقه بالواجب، فلا اشکال من هذه الناحیة.

الوجه الثانی: ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) أیضاً، ویمکن تقریب ذلک بطریقین:

الأول: أن قصد امتثال الأمر لوکان مأخوذاً فی متعلقه لزم تقدم الشیء علی نفسه، فإنه باعتبار أخذه فی متعلق التکلیف یکون فی مرتبة الاجزاء والشرائط، وباعتبار أنه متعلق بهما فیکون متأخراً عنهما رتبة، ونتیجة ذلک هی التهافت فی

ص:245

الرتبة وتأخّره عن نفسه.

الثانی: أن قصد امتثال الأمر لوکان مأخوذاً فی متعلق الأمر لزم الدور، لأن کل أمر مشروط بالقدرة علی متعلقه فیکون متأخراً عنها تأخر المشروط عن الشرط، والقدرة متوقفة علی المتعلق من باب توقف العارض علی المعروض، فإذن لو فرض أنه أخذ فی متعلقه قصد امتثال الأمر، کان الأمر متوقفاً علی نفسه، لأن الأمر متوقف علی القدرة وهی متوقفة علی الأمر، بلحاظ أنه جزء المتعلق، فالنتیجة أن الأمر متوقف علی نفسه(1).

والجواب: أما عن التقریب الأول فهو مبنی علی أن یکون المأخوذ فی متعلق الأمر قصد امتثال الأمر خارجاً، فإنه حیث کان متأخراً عن إجزاء المأمور به وقیوده، فلا یمکن أخذه جزءاً وقیداً له، للزوم محذور تقدم الشیء علی نفسه، ولکن من الواضح أن المأخوذ فیه إنما هو قصد الأمر بوجوده العنوانی فی عالم الذهن لا بوجوده الواقعی وعلیه فلا محذور، لأن المتأخر عن الاجزاء والشرائط إنما هو واقع قصد الأمر لا عنوانه، فإذن لا یلزم من أخذه فیه محذور تقدم الشیء علی نفسه، لأن ما هو متأخر عن الاجزاء رتبة هو واقع قصد الأمر وهو غیر مأخوذ فیه لا جزءاً ولا قیداً، وما هو مأخوذ فیه کذلک وهو عنوان قصد الأمر فی عالم الذهن غیر متأخر عنها فی الرتبة، فلا محذور حینئذ.

وإن شئت قلت کما أن قصد الأمر مأخوذ فی المأمور به بوجوده العنوانی الفانی کذلک سائر الاجزاء. إذ لا یمکن أن تکون تلک الاجزاء متعلقة للأمر بوجوداتها الواقعیة، لأنها مسقطه للأمر، فکیف یعقل أن تکون متعلقه له، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وإنما الفرق بینهما من ناحیة اخری وهی أن لسائر الاجزاء

ص:246


1- (1) - لاحظ أجود التقریرات 162:1 وفوائد الاُصول 149:1.

ما بإزاء فی الخارج دون قصد الأمر، فإنه لا واقع له فی الخارج إلا بعد تحقق الأمر وانشائه، فإذا أراد المولی أن یأمر بالصلاة مثلا، فلا محالة یتصور الصلاة بمالها من الاجزاء والشرائط بعنوانها الفانی فی الخارج ثم یأمر بها بهذا العنوان الفانی مباشرة لا بوجودها الواقعی لأنه مسقط للأمر.

فالنتیجة أنه لا مانع من أخذ قصد امتثال الأمر بوجوده العنوانی فی متعلق الأمر، وإنما المانع هو أخذه بوجوده الواقعی فیه، غایة الأمر أنه إذا کان مأخوذاً فیه بوجوده العنوانی، فلا مصداق له خارجاً فعلا، ویتحقق بعد تحقق الأمر وجعله.

وأما التقریب الثانی فهو مبنی علی اعتبار القدرة الفعلیة علی متعلق الأمر وهی مفقودة فی المقام، لأنها متوقفة علی الأمر به حتی یکون المکلف قادراً علی قصده، ولکن لا دلیل علی هذا البناء، لأن الدلیل علی اعتبار القدرة إنما هو حکم العقل وهو لا یحکم باعتبار القدرة إلا فی ظرف الامتثال وتعلق الأمر به، أو فقل أن العقل لا یحکم بأکثر من اعتبار القدرة التعلیقیة أی القدرة لو تعلق به الأمر لا القدرة الفعلیة، والقدرة التعلیقیة حاصلة فی المقام.

رای المحقق الخراسانی

الوجه الثالث: ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره)(1) وحاصل ما ذکره یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: أن قصد الأمر بالطبع متأخر رتبة عن الأمر، إذ لا یعقل وجوده إلا بعد افتراض وجود أمر فی المرتبة السابقة، فلوکان قصده مأخوذاً فی متعلقه، لزم کونه متقدماً علی الأمر رتبة، علی أساس أن متعلق الأمر أسبق منه کذلک،

ص:247


1- (1) - کفایة الاُصول: 72-73.

بملاک أن الأمر ومتعلقه موجودان بوجودین، أحدهما عارض وهو الأمر، والآخر معروض وهو المتعلق، أو طبعاً بملاک أنهما موجودان بوجود واحد کما فی المقام، فإن قصد الأمر المأخوذ فی المتعلق متحد وجوداً مع قصد الأمر المتعلق به ولکنه طبعاً متأخر عنه رتبة کتأخر الانسان عن الحیوان والناطق، فإذن یلزم التهافت فی الرتبة وتقدم الشیء علی نفسه، فلذلک لایمکن أخذه فیه.

الثانیة: أن لازم أخذه فی متعلق الأمر عدم التمکن من الامتثال، لأن الفعل وحده غیر متعلق للأمر، فلا یعقل أن یأتی به بقصد الأمر، ضرورة أن الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به وهو المرکب من ذات الفعل مع قصد الأمر، مثلا إذا کان الأمر متعلقاً بالصلاة مع قصد الأمر، فمعناه أن ذات الصلاة لم تکن متعلقة للأمر، وعلیه فلایمکن الاتیان بها بقصد الأمر إلاّ تشریعاً، لفرض أنه لا أمر لها، فإذن یلزم من أخذه فی متعلق الأمر عدم القدرة علی الامتثال.

والجواب أما عن النقطة الاُولی، فقد ظهر جوابها مما تقدم وملخّصه: إنه مبنی علی الخلط بین کون المأخوذ فی متعلق الأمر القصد بوجوده الواقعی وبین کون المأخوذ فیه القصد بوجوده العنوانی، وتخیل أن المأخوذ فیه هو الأول، فلهذا استشکل بلزوم الدور وتقدم الشیء علی نفسه، ولکن قد ظهر مما مرّ أن المأخوذ فیه القصد بوجوده العنوانی وهو لا یتوقف علی وجود الأمر فی الخارج فلا یلزم الدور.

وأما عن النقطة الثانیة، فقد یقال کما قیل أن الواجب إذا کان مرکباً من جزئین، فالأمر المتعلق به ینحل إلی أمرین ضمنیین بانحلال أجزائه، فیتعلق بکل جزء منه أمر ضمنی(1) ، وعلی هذا فإذا کانت العبادة مرکبة من الفعل وقصد

ص:248


1- (1) - انظر محاضرات فی اصول الفقه 166:2.

الأمر کالصلاة مثلا، کان الأمر المتعلق بها ینحل إلی أمر ضمنی متعلق بذات الفعل وأمر ضمنی متعلق بقصد الأمر، فإذا أتی المکلف بالفعل بقصد أمره الضمنی فقد تحقق الواجب بکلا جزئیه معاً، أما ذات الفعل فظاهر، وأما الجزء الآخر وهو قصد امتثال الأمر فقد تحقق بنفس قصد امتثال الأمر الضمنی المتعلق بذات الفعل، حیث إنه لا واقع موضوعی له غیر وجوده فی عالم الذهن، فإذا قصد المکلف امتثال الأمر الضمنی المتعلق به فقد تحقق ذلک الجزء فی الخارج أیضاً وسقط أمره، معللا بأن الأمر الضمنی المتعلق به توصلی دون الأمر الضمنی المتعلق بذات الفعل، فإنه تعبدی، ولا مانع من أن یکون الواجب مرکباً من جزئین: أحدهما تعبدی والآخر توصّلی، هذا.

وهنا اشکالان:

الاشکال الأول: أن المأخوذ فی متعلق الأمر هو قصد الأمر الاستقلالی دون قصد الأمر الضمنی، وعلیه فإذا أتی المکلف بذات الفعل بقصد أمره الضمنی لم یأت بالجزء الثانی من المأمور به وهو قصد الأمر الاستقلالی فلا یجزی.

والجواب: أن هذا الاشکال مبنی علی أن قصد امتثال الأمر الضمنی فی مقابل قصد امتثال الأمر الاستقلالی، فلهذا لا یجزی الأول عن الثانی.

ولکن هذا البناء خاطیء جداً ولا واقع موضوعی له، إذ لا یمکن أن یکون الأمر الضمنی داعیاً ومحرکاً إلاّ بداعویة الأمر الاستقلالی، بداهة أنه لا وجود له إلا بوجوده، ومن هنا یکون المکلف حین الاتیان بکل جزء جزء من الواجب یقصد امتثال الأمر الاستقلالی، علی أساس أنه المحرّک والداعی إلی الاتیان به مرتبطاً بجزئه الآخر من البدایة إلی النهایة، ومن الواضح أن الجزء المرتبط بالأجزاء الاُخری ثبوتاً وسقوطاً متعلق للأمر الاستقلالی، والمفروض أن

ص:249

المکلف لم ینو الاتیان بالجزء بحده بدون أن یکون ملحوقاً بالجزء السابق ومسبوقاً بالجزء اللاحق، لأنه لیس جزء الواجب حتی یکون متعلقاً للأمر، فإن جزء الواجب حصة خاصة منه وهی الحصة الملحوقة بالجزء السابق والمسبوقة بالجزء اللاحق، وهذه الحصة بهذا الوصف متعلقة للأمر الاستقلالی، والاتیان بها یکون بداعی ذلک الأمر، وعلی هذا فاتیان المکلف بذات الفعل بقصد الأمر لا محالة یکون بقصد الأمر الاستقلالی لا الأمر الضمنی إذ لا قیمة له فی مقابله، فإذن کما یتحقق بذلک الجزء الأول من الواجب وهو الفعل الخارجی کذلک یتحقق به الجزء الثانی منه أیضاً وهو قصد امتثال الأمر الاستقلالی، فالنتیجة أنه لا محذور فی أخذ قصد الأمر الاستقلالی فی متعلق نفسه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن قصد الأمر الاستقلالی لایمکن أخذه فی متعلقه(1) غیر تام، فهنا دعویان:

الاُولی: أنه لا مانع من أخذ قصد الأمر الاستقلالی فی متعلق نفسه.

الثانیة: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه لایمکن أخذه فی متعلقه غیر تام.

أما الدعوی الاُولی، فقد ظهر مما مرّ أنها ممکنة ثبوتاً واثباتاً، أما الأول فلانه لا مانع من تصویر واجب مرکب من ذات الفعل وقصد الأمر الاستقلالی ثبوتاً.

وأما اثباتاً فلأن الأمر وإن تعلق بالمجموع المرکب منهما إلاّ أنک عرفت أن الاتیان بکل جزء جزء من الواجب إنما هو بداعی الأمر الاستقلالی لا الأمر الضمنی، وعلیه فالفعل وإن کان جزء الواجب، إلا أن الاتیان به لا محالة یکون بقصد الأمر الاستقلالی، فإذا أتی به کذلک فقد تحقق الواجب بکلا جزئیه معاً.

ص:250


1- (1) - لاحظ محاضرات فی اصول الفقه 168:2.

وأما الدعوی الثانیة، فقد أفاد السید الاُستاذ (قدس سره) فی تقریبها أنه لا یعقل أن یکون الواجب مرکباً من الفعل الخارجی وقصد الأمر الاستقلالی، لأن الفعل الخارجی مع فرض کونه جزء الواجب، لایعقل أن یکون متعلقاً للأمر الاستقلالی، بداهة أن الأمر المتعلق بالواجب المذکور ینحل إلی أمرین ضمنیین، أحدهما متعلق بذات الفعل والآخر بقصد الأمر، ففرض تعلق الأمر الاستقلالی بذات الفعل خلف. وعلیه فلایمکن الاتیان بذات الفعل بقصد الأمر الاستقلالی إلاّ تشریعاً(1).

ولکن للمناقشة فی هذا التقریب مجالا، وذلک لأن الأمر المتعلق بذات الفعل وإن کان حصة من الأمر الاستقلالی، إلاّ أنها إنما تدعو إلی الاتیان بذات الفعل مرتبطة بسائر حصص ذلک الأمر ذاتاً لا مطلقاً، ومن الواضح أن الأمر الاستقلالی هو هذه الحصة المرتبطة بسائر الحصص، واما الحصة بحدّها الخاص وبقطع النظر عن غیرها فلا أثر لها، ولذلک یکون المحرک والداعی إلی الاتیان بکل جزء هو الأمر الاستقلالی.

أو فقل أن الحصة بنفسها لا أثر لها ولا تصلح للداعویة، وأما أنها مرتبطة بسائر الحصص فهی حقیقة الأمر الاستقلالی، هذا إضافة إلی أنه لیس للأمر الضمنی عند التحلل معنی محصل وواقع غیر الأمر الاستقلالی، لوضوح أن الأمر المتعلق بالمرکب أمر واحد جعلا ومجعولا ولا واقع موضوعی له ماعدا وجوده فی عالم الاعتبار بل هو بسیط غایة البساطة، فلا یتصوّر انحلاله إلی أوامر ضمنیة، فإن هذا الانحلال لا یخلو من أن یکون شرعیاً أو قهریاً، أما الأول فلان المفروض أن المجعول والمعتبر من قبل المولی أمر واحد لا أوامر متعددة بعدد

ص:251


1- (1) - المصدر المتقدم.

أجزائه، وإلا لزم أن یکون کل جزء منها واجباً مستقلا وهو خلف.

وأما الثانی، فلأن الانحلال القهری فی الاُمور الاعتباریة غیر متصور، فإذن لا واقع موضوعی للأمر الضمنی حتی یکون داعیاً ومحرکاً. نعم أن هذا الانحلال بتحلیل من العقل یتبع انحلال متعلقه لا بالأصالة بل انما هو موجود فی عالم التحلیل والافتراض العقلی لا فی عالم الواقع، إذ فیه لا انحلال لا فی الحکم ولا فی المتعلق فلهذا لا أثر له.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من أن یکون الواجب الواحد مرکباً من جزئین یکون أحدهما تعبدیاً والآخر توصلیا(1) لایمکن المساعدة علیه، وذلک لما عرفتم من أن الأمر المتعلق بالمجموع المرکب منهما أمر واحد جعلا ومجعولا، فلا یعقل إنحلاله إلی أمرین ضمنیین حتی یمکن القول بأن أحدهما عبادی والآخر توصلی، فالسالبة بانتفاء الموضوع، ودعوی أن العقل یحلله تبعاً لانحلال متعلقه إلی حصتین أو أکثر، فهی وإن کانت صحیحة، إلاّ أنه بتحلیل من العقل الذی لا واقع موضوعی له فی الخارج، فان الحکم المجعول من قبل الشارع واحد جعلا ومجعولا وهو کاشف عن أن ملاکه فی مرحلة المبادیء أیضاً واحد، وعلی هذا فالحصة التحلیلیة لیست مجعولة من قبل الشارع، فإن المجعول من قبله حکم واحد، وحیث إن حقیقة الحکم اعتبار صرف وقائم بالشارع قیام الفعل بالفاعل، فلا یعقل فیه الانحلال والتجزئة ولا یمکن أن یعقل أن تکون الحصة المتعلقة بذات الفعل تعبدیة والحصة المتعلقة بقصد الأمر توصلیة مع أنها بالتحلیل لا بالجعل، ومن هنا لاتکون هذه الحصة موضوعاً للأثر ولا تصلح أن تکون مقربة ولا تتصف بالتعبدیة أو التوصلیة.

ص:252


1- (1) - انظر محاضرات فی اصول الفقه 165:2.

هذا، إضافة إلی انا لو سلمنا الانحلال إلاّ أنه لا شأن للأمر الضمنی فی مقابل الأمر الاستقلالی، فلا یمکن أن یکون أحد أمرین ضمنیین تعبدیاً والآخر توصلیاً، إذ معنی ذلک أن الأمر الاستقلالی تعبدی وتوصلی معاً، بلحاظ أن تعبدیة الأمر الضمنی إنما هی بتعبدیة الأمر الاستقلالی وتوصلّیته إنما هی بتوصلیته هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الواجب المرکب من ذات الفعل وقصد امتثال الأمر، مرکب من جزء عبادی وهو ذات الفعل وجزء توصلی وهو قصد امتثال الأمر، لا یمکن المساعدة علیه، وذلک لأن کلا الجزئین عبادی، غایة الأمر أن عبادیة الجزء الأول بالعرض وعبادیة الجزء الثانی بالذات، لأن قصد امتثال أمر المولی وإطاعته بنفسه من العناوین المقربة، فلا یتوقف التقرب به إلی مقرب آخر، فإذا أتی المکلف بالصلاة بقصد امتثال أمرها، فالصلاة مقربة بملاک أن الاتیان بها بقصد امتثال أمرها والاطاعة، وأما قصد الامتثال والاطاعة فهو مقرب بنفسه، فلا یتوقف التقرب به إلی قصد إمتثال أمره.

الاشکال الثانی: أن الأمر الضمنی الذی تعلق بذات الفعل کالصلاة مثلا لا یخلو عن أن یکون متعلقاً بالصلاة المطلقة أو المقیّدة أو المهملة والکل لایمکن، أما الأول فهو خلف فرض کون الأمر الضمنی المتعلق بها ارتباطی، فلوکان متعلقاً بها مطلقة فمعناه أنه مستقل لا ضمنی، وأما الثانی فیستلزم التسلسل، لأن المقید ینحل إلی ذات والقید، فننقل الکلام حینئذ إلی الأمر الضمنی المتعلق بذات المقید، ونقول هل هو تعلق بذات المقید مطلقة أو مقیّدة، والأول خلف والثانی یستلزم التسلسل، لأن المقید ینحل إلی ذات والقید، فننقل الکلام إلی الأمر

ص:253

الضمنی المتعلق بذات المقید وهکذا یذهب إلی مالا نهایة له.

وأما الثالث، فلأن المهملة فی قوة الجزئیة، وعلی هذا فلا یمکن احراز انطباق الصلاة الواجبة المهملة علی کل فرد من أفرادها فی الخارج لکی یتمکن المکلّف من الاتیان بکل فرد منها بقصد الأمر بذات الصلاة، لعدم احراز انطباقها علیه باعتبار إهمالها(1).

والجواب: أن الفرض الأول والثانی باطل وغیر محتمل، وأما الفرض الثالث فهو المتعین، وذلک لأن الماهیة المهملة غیر القضیة المهملة، فإن ماهو فی قوة الجزئیة هو القضیة المهملة، وأما الماهیة المهملة فهی متمثلة فی ماهیة یکون النظر فیها مقصوراً علی ذاتها وذاتیاتها بدون أن تلحظ معها أیة خصوصیة من الخصوصیات الذهنیة أو الخارجیة حتی خصوصیة المقسمیة، فلهذا تسمی بالماهیة المهملة، باعتبار أنها مهملة من جمیع الخصوصیات وهی تنطبق علی جمیع أفرادها وحصصها فی الخارج بأی خصوصیة کانت، هذا إضافة إلی ما ذکرناه من أنه لا معنی لداعویة الأمر الضمنی إلا داعویة الأمر الاستقلالی، بلحاظ أنه لا واقع موضوعی له، نعم أنه جزء تحلیلی عقلی بالعرض بتبع متعلقه لا بالأصالة ولا أثر له.

ومن هنا یظهر أن ذات الفعل متعلقة للأمر مرتبطة بقصد أمرها، بمعنی أن الجزء حصة خاصة من ذات الفعل وهی الحصة المرتبطة، وحینئذ فیجوز له الاتیان بها بقصد امتثال الأمر الاستقلالی کما هو الحال فی کل جزء من أجزاء الواجب کالصلاة مثلا، فإن المصلی کان یأتی بالتکبیرة بقصد امتثال الأمر الصلاتی وهکذا سائر أجزائها، باعتبار أنها واجبة فی ضمن وجوب غیرها من

ص:254


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 76:2.

الاجزاء ومأمور بها فی ضمن الأمر بغیرها.

فالنتیجة أن المأخوذ فی متعلق الأمر هو قصد امتثال الأمر الاستقلالی لا قصد امتثال الأمر الضمنی، فیکون المتعلق مرکباً من الجزء الخارجی وهو الجزء الذی له مصداق فی الخارج کالصلاة والجزء الذهنی وهو قصد الأمر الاستقلالی، فإذا أتی المکلف بالجزء الخارجی بقصد أمره فقد تحقق کلا الجزئین، أما الجزء الخارجی فواضح، وأما الجزء الذهنی فلأنه تحقق بقصد امتثال أمره، باعتبار أنه نفس قصد امتثال الأمر الاستقلالی کما مرّ.

رای المحقق الأصبهانی

الوجه الرابع: ما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أن لازم تقیید المأمور به بقصد امتثال الأمر هو تعلق الأمر بالمجموع المرکب من ذات الفعل وقصد امتثال الأمر، فإذن بطبیعة الحال کان الأمر یحرّک العبد نحو المجموع کسائر الأوامر المتعلقة بالمرکبات وهذا فی المقام غیر معقول، لأن قصد الصلاة الذی نشأ من قبل الأمر بها هو بنفسه قصد الامتثال الذی هو الجزء الثانی للمأمور به، فلا یعقل تعلق هذا القصد بهذا الجزء، لأن معنی ذلک تعلق القصد بنفسه وهو محال، لأنه من داعویة الأمر لداعویة نفسه ومحرکیّته لمحرکیة نفسه وهی کعلیة الشیء لعلیة نفسه مستحیلة(1).

والجواب: أن هذا المحذور مبنی علی أن یکون المأخوذ فی متعلق الأمر قصد امتثال الأمر الخارجی، ولکن مر أن المأخوذ فیه قصد امتثال الأمر بوجوده العنوانی، وحینئذ فالمأمور به مرکب من جزئین، جزءاً خارجیاً وهو ذات الصلاة مثلا، وجزءاً ذهنیاً وهو قصد الامتثال، والأمر تعلق بالمجموع المرکب منهما ویدعو العبد نحو المجموع، وحینئذ فإذا أتی العبد بالصلاة بقصد امتثال

ص:255


1- (1) - نهایة الدرایة 325:1.

أمرها النفسی الاستقلالی فقد أتی بکلا الجزئین معاً، فإذن لا یلزم انضباط قصد الأمر علی نفسه حتی یکون محالا، بل یلزم انبساط قصد الأمر الواقعی علی قصد الأمر الذهنی ولا محذور فیه.

الوجه الخامس: أن لازم أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلقه عدم أخذه فیه، وذلک لأن قصد الأمر إذا کان مأخوذاً فی متعلقه، فمعناه أن الأمر تعلق بالمجموع المرکب من ذات الفعل وقصد الأمر، والمفروض أن هذا الأمر عین ذلک الأمر الذی أخذ قصده فی متعلقه، ومتعلق ذاک الأمر هو ذات الفعل علی الفرض، فإذن یلزم من أخذه فیه عدم أخذه، وإن شئت قلت أن الأمر المتعلق بالصلاة مثلا مع داعی الأمر لا یدعو إلاّ إلی الاتیان بالصلاة بداعی أمرها، وهذا معنی عدم أخذه فیها لا إلی الاتیان بالصلاة مع داعی الأمر بداعی الأمر، وهذا معنی أنه یلزم من فرض أخذه فی متعلقه عدم أخذه فیه. وما یلزم من فرض وجوده عدمه فوجوده محال(1).

والجواب: أن هذا الوجه أیضاً مبنی علی أن یکون قصد الأمر مأخوذاً فی متعلقه بوجوده الواقعی، فعندئذ یلزم من أخذه فیه عدم أخذه، لأن معنی أخذه فیه أن الأمر تعلق بالمجموع المرکب من ذات الفعل وقصد الأمر، وحیث أنه لا یدعو إلا إلی الاتیان بذات الفعل بداع الأمر، فیکون معناه عدم أخذه فیه، لأن معنی الأخذ هو أنه یدعو إلی الاتیان بذات الفعل مع داع الأمر بداع الأمر، والفرض أنه لا یقتضی ذلک، ولکن قد تقدم أن المأخوذ فیه قصد الأمر بوجوده العنوانی الذهنی، والأمر تعلق بالمجموع المرکب منه ومن الجزء الخارجی، وهو یدعو إلی الاتیان بهما خارجاً، فإذا قام المکلف وأتی بالجزء الخارجی بقصد

ص:256


1- (1) - نهایة الدرایة 327:1.

امتثال الأمر فقد أتی بکلا الجزئین معاً بدون لزوم أی محذور، غایة الأمر أن الجزء الذهنی قد تحقق بنفس الاتیان بالجزء الخارجی بقصد امتثال الأمر.

الوجه السادس: أن قصد امتثال الأمر لو کان مأخوذاً فی متعلقه، فإن کان الأمر المتعلق به محرکاً نحو الاتیان بذات الفعل دون ذلک الجزء، لکان معناه عدم تعلق الأمر به وهو خلف، وإن کان محرکاً نحوه مباشرة وهو محرک نحو الاتیان بذات الفعل کذلک فی طوله، باعتبار أن قصد الاتیان بذات الفعل لایمکن أن یکون فی عرض قصد قصده، ضرورة أن حصول المقصود لا یعقل أن یکون فی عرض قصده، وإلاّ لزم طلب الحاصل فهو خلاف الوجدان والضرورة، لأن کل مکلف فی مقام الامتثال لا یقصد إمتثال الأمر المتعلق بذات الفعل مباشرة، ولا یکون فی نفسه قصد آخر متعلق بهذا القصد، هذا إضافة إلی أن لازم ذلک أن الأمر المتعلق بالمجموع المرکب ینحل إلی أمرین ضمنیین:

أحدهما متعلق بذات الفعل والآخر متعلق به ویکون محرکاً وداعیاً نحوه، وهو یکون محرکاً وداعیاً نحو ذات الفعل فی طول تحریک الأول، ولکن تقدم أنه لا واقع للانحلال، فإن الأمر الواحد جعلا ومجعولا غیر قابل لذلک.

فالنتیجة، أنه لا یمکن أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلقه.

والجواب: أنه لا مانع من أخذ قصد الأمر بوجوده العنوانی فی متعلق الأمر، بأن یکون الأمر متعلقاً بالصلاة مثلا مع قصد الأمر الذهنی وهو لا یتوقف علی وجود الأمر فی الخارج، فإذا تعلق الأمر بها کان محرکاً نحو المجموع، فإذا أتی بها کذلک قد انطبق علیها الواجب بکلا جزئیه هما ذات الصلاة وقصد امتثال الأمر ولا یلزم المحذور الأول من ذلک، لأن الأمر المتعلق بالصلاة بقصد امتثال الأمر یکون محرکاً وداعیاً إلی الاتیان بها کذلک لا أنه محرک إلی الاتیان بذاتها فقط،

ص:257

والمفروض أن المکلف متمکن من ذلک بعد تحقق الأمر وصدوره من المولی، ومن هنا لولم یؤخذ قصد امتثال الأمر فی متعلقه لم یجب علی المکلف الاتیان بالصلاة بقصد الأمر والامتثال.

وأما المحذور الثانی، فمضافاً إلی أنه خلاف الوجدان والضرورة فلا یلزم ذلک من أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلقه، لما عرفت من أن أخذه فیه لا یقتضی أکثر من الاتیان بالفعل بقصد امتثال الأمر مباشرة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنه لا مانع من أخذ قصد امتثال الأمر بوجوده الذهنی العنوانی فی متعلقه، لا من ناحیة القدرة علیه، لما تقدم من أن الحاکم بشرطیة القدرة إنما هو العقل وهو لا یحکم بأکثر من شرطیة القدرة اللولائیة وهی القدرة لو تعلق الأمر به وهی موجودة بعد تحقق الأمر وانشائه، ولا من ناحیة أن مالا یتأتی إلا من قبل الأمر، فلایمکن أخذه فی متعلقه لاستلزامه الدور، لأن هذا المحذور إنما یلزم إذا کان المأخوذ فیه قصد امتثال الأمر بوجوده الواقعی، فعندئذ یلزم الدور لأنه یتوقف علی وجود الأمر فی الخارج من باب توقف العارض علی المعروض، والأمر یتوقف علیه من باب توقف الحکم علی متعلقه، وأما إذا کان المأخوذ فیه قصد امتثال الأمر بوجوده العنوانی فلا دور، لأن المتأخر حینئذ غیر المتقدم، ولا من ناحیة أن الأمر لوکان متعلقاً بالفعل مع قصد امتثاله، لکان المکلف عاجزاً عن الاتیان بذات الفعل بقصد امتثال الأمر، لفرض عدم تعلقه بها، وإنما تعلق بالمجموع المرکب منهما فلا یدعو إلا إلیه، وذلک لما مرّ من أن المکلف فی مقام الامتثال والطاعة کان یأتی بکل جزء جزء من المأمور به بداع الأمر الاستقلالی لا الأمر الضمنی، باعتبار أنه لا داعویة له إلا بداعویة الأمر الاستقلالی، هذا إضافة إلی أنه لا واقع له حتی یکون

ص:258

داعیاً کما تقدم، ولا من ناحیة أن الأمر بما أنه موضوع فلابد أن یؤخذ مفروض الوجود، فحینئذ یلزم الدور والتهافت فی المرتبة، فإن فعلیة الأمر تتوقف علی فعلیة موضوعه فی المرتبة السابقة، فلو توقفت فعلیة موضوعه علی فعلیته لزم الدور وتقدم الشیء علی نفسه. وذلک لما تقدم من أنه لا مبرّر لأخذه مفروض الوجود، أما المبرر الاثباتی وهو ظهور الدلیل فلا وجود له، وأما المبرر الثبوتی وهو لزوم التکلیف بغیر المقدور لولم یؤخذ مفروض الوجود فهو غیر لازم، لأن الحاکم باعتبار القدرة علی متعلق التکلیف العقل وهو لا یحکم بشرطیة أکثر من القدرة اللولائیة أی القدرة لو تعلق الأمر به والمفروض أنها موجودة، ولا من ناحیة أن وجود الأمر وحده لا یکفی فی القدرة علی قصد امتثال الأمر، بل إضافة إلی ذلک لابد من وصوله ولو احتمالا، وإلاّ فلایتمکن المکلف من قصد الأمر إلا بنحو التشریع المحرم، فعندئذ لابد من أخذه قیداً للأمر وشرطاً مفروغاً عنه فی الخارج وعلیه فیلزم محذور الدور، وذلک لما تقدم من أن العجز الناجم من الجهل بالحکم لا یمنع عن اطلاقه، علی أساس أنه عجز اعتقادی لا واقعی، وإنما یمنع عن تنجزه، لأن الوصول شرط له لا لفعلیته، ولا من ناحیة أن الأمر إنما یأمر بالعنوان الذهنی بما أنه فإن فی المعنون فی الخارج وحاک عنه ویری من خلال العنوان المعنون فیه ولهذا اشتاق إلیه، وهذا لا یمکن فی المقام، إذ لیس للعنوان الذهنی فیه معنون فی الخارج حتی یراه الآمر فانیاً فیه، وذلک لما تقدم من أنه لا مانع من أن یأمر الآمر بالعنوان الذهنی الذی لا مصداق له فی الخارج فی المرتبة السابقة وقطع النظر عن هذا الأمر ویتحقق بتحققه، وهذا یکفی فی اشتیاق المولی إلی الأمر به لا بملاک أنه موجود فی الخارج، بل للاشارة إلی أن مصداقه سوف یتحقق ویحصل به غرضه، ولامن ناحیة أن قصد امتثال الأمر لو کان مأخوذاً فی متعلقه، لزم داعویة الشیء لداعویة نفسه، وذلک لما مرّ من أن هذا المحذور مبتن

ص:259

علی أمرین:

الأول: أن یکون قصد امتثال الأمر فی عرض الجزء الاخر وهو ذات الفعل.

الثانی: أن یکون المأخوذ قصد امتثال الأمر بوجوده الواقعی، وکلا الأمرین غیر صحیح.

أما الأول، فلأنه فی طول الجزء الآخر لا فی عرضه، لأن الأمر تعلق بالفعل بقصد أمره وهو لا یقتضی الاتیان به بقصد قصد أمره، وإنما یقتضی الاتیان به بقصد أمره.

وأما الثانی، فلأن المأخوذ فیه هو قصد امتثال الأمر بوجوده العنوانی لا الواقعی وهو مرآة لأن یکون الأمر الواقعی داعیاً إلی الاتیان بالمأمور به لا داعیاً إلی نفسه لکی یلزم داعویة الشیء لداعوته نفسه.

هذا کله بالنسبة إلی أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلق نفسه، وأما لو بنینا علی استحالة ذلک وعدم امکانه، فهل هناک طریق آخر لذلک؟

تصویر العراقی بطریق الحصة التوام

والجواب: أن هناک محاولتین:

المحاولة الاُولی: ما ذکره المحقق العراقی (قدس سره) وحاصل هذه المحاولة(1) أن المستحیل إنما هو أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلقه جزءاً وقیداً، بأن یکون الأمر متعلقاً بالمرکب من ذات الفعل وقصد الأمر أو المقید به، وأما إذا لم یؤخذ قصد الامتثال فیه لا جزءاً ولا قیداً، بأن یکون الأمر متعلقاً بالحصة التوأم مع قصد الأمر بحیث یکون القید والتقیّد کلاهما خارجاً عن متعلق الأمر، فلا یلزم شیء من المحاذیر المتقدمة، لأن الأمر حینئذ تعلق بذات الفعل وهو المحرک إلی الاتیان

ص:260


1- (1) انظر نهایة الأفکار 192:1.

بها مع قصد أمرها بدون لزوم أی محذور من الدور وتوقف الشیء علی نفسه وداعویة الأمر لداعویة نفسه، فإن کل ذلک منوط بکون الأمر متعلقاً بالمرکب من قصد الأمر أو المقیّد به.

ولنا تعلیق علی هذه المحاولة بأمرین:

الأول: أن قصد الأمر إذا لم یکن جزءاً للمأمور به ولا قیداً له، لم یوجب تحصّصه بحصّة خاصة وهی الحصة المقیدة بقصد الأمر أو المرکبة معه، ضرورة أن مجرد المقارنة الخارجیة بین طبیعی المأمور به وقصد الأمر زماناً لا یوجب تحصّصه طالما لم تکن المقارنة مقومة للمأمور به، لوضوح أنه لا یعقل تشخص الطبیعی و تحصصه بحصة خاصة إلا بالقید بحیث یکون التقید داخلا فیه.

وعلی الجملة فموضوع الحکم أو متعلقه إن لوحظ لا بشرط فهو المفهوم المطلق، وإن لوحظ مقیداً بقید خاص، فالتقید فیه قد أحدث مفهوماً جدیداً وهو الحصة المباین للمفهوم الأول وهو المطلق، فالحصة معلولة حدوثاً للقید بنحو یکون التقید داخلا والقید خارجاً، ومن الواضح أن مجرد مقارنة شیء بآخر زماناً وکونه توأماً معه خارجاً بدون کونها متقوّمة بالتقید به، لا یحدث مفهوماً جدیداً له وهو الحصة المباین لمفهومه الأول وهو المطلق.

وعلیه فما ذکره (قدس سره) من أن الأمر متعلق بالحصة التوأم مع قصد الأمر لا یرجع إلی معنی محصل، لأن قصد الأمر إذا لم یکن قیداً لطبیعی الفعل ولا جزءاً له، فلا یعقل أن یوجب حدوث مفهوم جدید له وهو مفهوم الحصة، علی أساس أن حدوثه منوط بکون قصد الأمر قیداً أو جزءاً مأخوذاً فیه، فإذن الجمع بین کون متعلق الأمر الحصة مع عدم کون قصد الأمر جزءاً أوقیداً مأخوذاً فیه جمع بین المتناقضین.

ص:261

وبکلمة، أنه لا تعقل الحصة التوأم مع خروج القید والتقید معاً، فإن معنی هذا أن متعلق الأمر طبیعی الفعل من دون تقیّده بقید، نعم تعقل الحصة التوأم فی الأعیان الخارجیة لا فی المفاهیم والطبائع القابلة للتقیید بقیود والتحصیص بحصص.

الثانی: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم تصور حدوث الحصة مع عدم کون قصد الأمر قیداً وجزءاً لذات الفعل، إلا أن الالتزام بذلک لایدفع محذور الدور، لأن الأمر متوقف علی تحقق الحصة فی المرتبة السابقة من باب توقف الحکم علی متعلقه، وتحقق الحصة متوقف علی وجود الأمر من باب توقف المعلول علی العلة.

فالنتیجة أنه لا أساس لهذه المحاولة ولا ترجع إلی معنی محصل.

المحاولة الثانیة: أن أخذ قصد الأمر فی متعلقه مباشرة وإن کان غیر ممکن، إلا أنه بالامکان أخذه فیه بواسطة أخذ عنوان ملازم له کعنوان عدم صدور الفعل بداع دنیوی أو نفسانی، فإنه ملازم لصدوره بداع دینی، باعتبار أن صدور الفعل الاختیاری من الفاعل لابد أن یکون بداع من الدواعی وإلا لم یکن اختیاریاً، وعلی هذا فإذا لم یصدر الفعل عن الفاعل بداع دنیوی أو نفسانی، فلا محالة یصدر منه بداع دینی(1).

وقد علق علیه المحقق النائینی (قدس سره) بأمرین:

الأول: أن وجود عنوان ملازم لقصد الامتثال والقربة دائماً فی الخارج مجرد فرض لا واقع موضوعی له(2).

ص:262


1- (1) انظر أجود التقریرات 165:1.
2- (2) أجود التقریرات 166:1.

فالنتیجة، أنه لایوجد عنوان ملازم له دائماً فی الخارج، بحیث لایمکن الانفکاک بینهما فیه.

والجواب عنه یظهر مما مرّ من أن عنوان عدم صدور الفعل الاختیاری عن الفاعل بداع دنیوی أو نفسانی لا مستقلا ولا منضماً ملازم لصدوره منه بداع دینی کداعی الامتثال لا محالة، علی أساس أن الفعل الاختیاری لایمکن أن یصدر من الانسان بلاداع من الدواعی الدنیویة أو الأخرویة.

الثانی: أنه علی تقدیر تسلیم وجود عنوان ملازم له خارجاً، فالمتلازمان وإن استحال التفکیک بینهما فی الخارج إلا أنه لا مانع من فرض التفکیک بینهما، فتارة یفرض التفکیک بین هذا العنوان الملازم وبین الصلاة مع قصد القربة، واُخری یفرض التفکیک بینه وبین قصد القربة دون ذات الصلاة، ولازم ذلک هو الحکم ببطلان الصلاة فی الفرض الأول، علی أساس أنها فاقدة لجزئها وهو العنوان الملازم المأخوذ فیها وإن کانت واجدة لقصد القربة، وهذا کماتری، وبصحتها فی الفرض الثانی، باعتبار أنها واحدة لتمام أجزائها وقیودها وإن کانت فاقدة لقصد القربة، بأعتبار أنه لیس جزءاً وقیداً لها، وهذا خلف فرض کونها عبادة، وغیر خفی ما فی هذا التعلیق من الغرابة، فإنه بعد تسلیم التلازم بین العنوان المذکور وقصد الامتثال واستحالة التفکیک بینهما خارجاً، فلا معنی لافتراض التفکیک لأنه لا یترتب علیه أی أثر، ومن الواضح أن استحالته خارجاً تکفی للتوصل إلی النتیجة المطلوبة فی العبادات وهی اتیانها بقصد القربة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن أخذ العنوان الملازم لقصد الامتثال لیس بملاک الموضوعیة وبنحو المعنی الاسمی، بأن یکون من أحد أجزاء المأمور به، بل بملاک

ص:263

الطریقیة والوسیلة وبنحو المعنی الحرفی للاشارة به إلی اعتبار قصد الامتثال فیه، حیث إنه لایمکن اعتباره فیه بنحو المباشر، فلهذا یلتجیء المولی إلی اعتباره بالواسطة، ومن هنا یظهر أن الحکم بالبطلان فی الفرض الأول والصحة فی الفرض الثانی فی غیر محله، لأنه مبنی علی الخلط بین کون العنوان الملازم جزءاً حقیقیاً للمأمور به وبین کونه عنواناً ملازماً للجزء الحقیقی له، فما ذکره (قدس سره) فی الفرضین المذکورین مبنی علی هذا الخلط، فلذلک یکون الأمر فیهما علی العکس تماماً هو الحکم بالصحة فی الفرض الأول والبطلان فی الفرض الثانی.

ومن ناحیة ثالثة أن هذه المحاولة لا تدفع محذور الدور وتقدم الشیء علی نفسه وکذلک داعویة الأمر لداعویة نفسه، ولا فرق فی لزوم هذین المحذورین بین کون قصد امتثال الأمر مأخوذاً فی متعلق نفسه مباشرة أو بواسطة عنوان آخر ملازم له، لأن ما یدعو إلی الاتیان بالفعل بداعی امتثال أمره هو نفس ذلک الأمر، إذ لیس هنا أمران لکی یکون قصد امتثال أحدهما مأخوذاً فی متعلق الآخر، لأن الأمر إذا تعلق بالفعل مقیداً بداع غیر دنیوی أو نفسانی، فلا محالة یدعو إلی الاتیان به بداعی امتثال أمره، وهذا من داعویة الأمر إلی داعویة نفسه.

أخذ سائر الدواعی القریبة فی متعلق الامر

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو أخذ سائر الدواعی القریبة فی متعلق الأمر کقصد المحبوبیة أو المصلحة، فالظاهر أنه لا مانع منه ثبوتاً ولا یلزم منذ المحذور المتقدم، کداعویة الشیء لداعویة نفسه أو الدور، ولکن لا یمکن ذلک إثباتاً، لأن لازم أخذهما فی متعلق الأمر أن صحة العبادة متوقفة علی الاتیان بها بقصد المحبوبیة و المصلحة، فإذا أتی بها بداعی أمرها لم تصح، لأن المأتی به حینئذ یکون فاقداً للقید المعتبر فی المأمور به وهو قصد المحبوبیة أو المصلحة، فإذا

ص:264

فرضنا أن المأخوذ فی الصلاة هو قصدها، فلازم ذلک أن المصلی إذا أتی بها بقصد أمرها لا بقصد محبوبیتها لم تصح، لأنه لم یأت بالصلاة المأمور بها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الاتیان بالفعل بداع الملاک الکامن فیه إن کان بعنوان أنه داع للمولی إلی الأمر به والارادة له، فهو من الدواع القربیة وموجب لاضافة العمل إلیه، وإن کان بعنوان أنه فائدة مترتبة علی الفعل ویعود إلی العبد، فلا یکون من العناوین المقربة، إلا أن یقال أن الاتیان بالفعل بهذا العنوان أیضاً محبوب لله تعالی، ولکن حینئذ تکون مقربیته من جهة المحبوبیة لا من جهة الملاک والفائدة.

والخلاصة، أن کل عنوان یکون حسنه علة لحسن الفعل، فهو یصلح أن یکون مقرباً بنفسه، وکل عنوان یکون حسنه متفرعاً علی حسن الفعل فی المرتبة السابقة، فهو لا یصلح أن یکون مقرباً بنفسه إلا بمقربیة الفعل کعنوان الشکر والخضوع والثواب والفرار من العقاب وغیر ذلک، فإن حسن هذه العناوین متفرع علی أن یکون الفعل فی المرتبة السابقة حسناً ومصداقاً للشکر والخضوع وموجباً للثواب، والجامع أن یکون مرتبطاً بالمولی بنحو من أنحاء الارتباط.

ومن ناحیة ثالثة، أن المأخوذ فی العبادات هو الجامع بین الدواعی القریبة، یعنی إضافة الفعل إلی المولی سبحانه، سواءً کانت بقصد الأمر أو المحبوبیة أو المصلحة أو غیر ذلک، ولاخصوصیة لشیء من هذه الدواعی، فإن المعیار هو الاتیان بالفعل بقصد التقرب إلیه تعالی، والمعتبر فیه أمران:

الأول: أن یکون الفعل صالحاً للتقرب فی نفسه.

الثانی: أن یؤتی به بداعی التقرب أی مضافاً إلی المولی.

ص:265

ومن ناحیة رابعة أن هنا اشکالین:

أحدهما من المحقق النائینی (قدس سره) وحاصل هذا الاشکال، أن الدواعی القریبة حیث إنها جمیعاً تکون فی عرض واحد ومشترک فی جامع واحد وهو إضافة العمل إلی الله سبحانه وتعالی کما یستفاد ذلک من قوله (علیه السلام): «وکان عمله بنیّة صالحة یقصد بها ربّه»(1) ، فلا یمکن أخذها فی العبادة، لأنها لو اخذت فیها لکانت فی عرضها، باعتبار أنها حینئذ تکون من أجزائها وقیودها ومتعلقة للأرادة، مع أن تلک الدواعی أیاً منها کان فهو فی مرتبة سابقة علی الارادة، لأنها تنشأ منها وهی محرکة للمکلف نحو إرادة الفعل والاتیان به، فلهذا لایمکن أخذها فی العبادات بأن تکون فی عرضها متعلقة للارادة، لأن معنی ذلک أنها متأخرة عن الارادة مع أنها متقدمة علیها رتبة لأنها علة لها، فلو اخذت فی متعلق الأمر لزم تقدم الشیء علی نفسه وهو محال، فإذا لم یمکن وقوعها حیّز الارادة التکوینیة لم یمکن وقوعها حیز الارادة التشریعیة أیضاً، لأن متعلقها بعینه هو متعلق الارادة التکوینیة، فإذا امتنع تعلق الارادة التکوینیة بشیء امتنع تعلق الارادة التشریعیة به أیضاً، وذلک لأن امتناع تعلق الارادة التکوینیة بشیء إما من جهة خروج ذلک الشیء عن القدرة أو من جهة أنه لا مقتضی فیه لارادته، وعلی کلا التقدیرین لایمکن تعلق الارادة التشریعیة به أیضاً بنفس الملاک.

والخلاصة: أن تلک الدواعی حیث أنها کانت علة لحدوث الارادة فی النفس تکون متقدمة علیها رتبة، فلو فرضنا أنها متعلقة للارادة کالفعل وتوجد بها،

ص:266


1- (1) الوسائل 107:1، ب (24) من أبواب مقدمة العبادات، ح 3. بتصرف.

لزم کون الارادة متقدمة علیها رتبة، وهذا من تقدم الشیء علی نفسه(1).

والجواب أولا بالنقض، فإن لازم ذلک عدم امکان أخذها فی متعلق الأمر حتی بالأمر الثانی لنفس المحذور المذکور، مع أنه (قدس سره) یری إمکان أخذها فیه بالأمر الثانی(2).

وثانیاً أن هذا الاشکال مبنی علی الخلط بین الفعل الخارجی والفعل الذهنی، وما هو معلول للارادة هو الفعل فی افق الخارج، وما هو متعلق لها هو الفعل فی افق النفس، لأن الارادة من الصفات النفسانیة، فلایمکن أن تتعلق إلا بالفعل فی افق النفس مباشرة، وأما الفعل فی افق الخارج فهو لیس متعلقاً لها کذلک، لأنه بوجوده الخارجی یوجب انتهاء مفعول الارادة بانتهاء أمدها، لأن أمدها إنما هو بوجود الفعل المراد بها خارجاً، فإذا وجد انتهت ولا ارادة بعد ذلک، فإذن کیف یکون الفعل بوجوده الخارجی متعلقاً لها، کما أنه لایمکن أن یکون متعلقاً للأمر بوجوده الخارجی لأنه مسقط له، فکیف یعقل أن یکون متعلقاً له، فإذن لا محالة یکون متعلق الارادة هو الفعل بوجوده النفسی الفانی کما أنه متعلق الأمر وهو المنشأ لوجودها فی النفس، لأن تصور الفعل بماله من الفائدة والتصدیق بها سبب لحدوث الارادة فیها. نعم، أنها فی هذه المرتبة تدعو إلی إیجاد الفعل المراد بها فی الخارج، فما هو متأخر عنها هو الفعل بوجوده الخارجی وماهو متعلق الارادة ومتقدم علیها رتبة هو الفعل بوجوده الذهنی، باعتبار أنه منشأً لها.

وبکلمة، أنه لا یمکن أن یکون متعلق الارادة الفعل الخارجی، بداهة أن الفعل بوجوده الخارجی کما مرّ موجب لانتهاء مفعول الارادة، فلا إرادة فی

ص:267


1- (1) انظر أجود التقریرات 163:1-165.
2- (2) لاحظ أجود التقریرات 173:1.

النفس بعد وجوده فی الخارج، إذ لا یعقل بقاء الارادة بعد تحقق المراد، وإلا لزم الخلف.

فإذن لا محالة یکون متعلق الارادة والأمر هو الفعل بوجوده الذهنی الفانی، والفرض أنه متقدم علی الارادة والأمر معاً، فما هو متأخر عنهما هو الفعل بوجوده الخارجی، هذا إضافة إلی أن ما هو منشأ الارادة محبوبیة الفعل أو اشتماله علی الملاک، وما هو متعلق هذه الارادة ومعلولها هو إیجاد الفعل بقصد المحبوبیة أو الاشتمال علی الملاک فی الخارج.

ومن هنا یظهر أن ما أجاب به السید الاُستاذ (قدس سره) من أن هناک فردان من الارادة والاختیار. أحدهما متعلق بالفعل بوجوده الذهنی والآخر متعلق بالفعل بوجوده الخارجی، لایمکن المساعدة علیه(1) ، لما عرفت من أنه لایمکن تعلق الارادة بالفعل الخارجی.

وثالثاً أن الاشکال لو تمّ فإنما یتم فی الارادة الشخصیة، حیث أنها لا تعقل أن تکون سبباً لما تنبعث منه، فإن معنی ذلک أنها متقدمة علیه رتبة، ومعنی أنها منبعثة منه أنها متأخرة عنه رتبة، ولازم ذلک تقدمها علی نفسها وهو کما تری.

وأما إذا فرضنا أن هناک فردین من الارادة:

الأول منبعث من الدواع المذکورة ومتعلق بالفعل المحبوب مثلا.

والثانی علة لها ولم ینبعث عنها، وإنما إنبعث من سبب آخر کالخوف من العقاب والطمع فی الثواب ومتعلق بإیجاد الفعل بهذه الدواعی، فإذن لا محذور.

فالنتیجة، أنه لا مانع من أخذ سائر الدواع القریبة فی العبادات.

-

ص:268


1- (1) - انظر محاضرات فی اصول الفقه 183:2.

الاشکال الثانی، أن قصد المصلحة فی متعلق الأمر کالصلاة مثلا یتوقف علی ترتبها علی ذات الصلاة بقطع النظر عن اعتبار قصد المصلحة فیها، والمفروض أنه لو کان مأخوذاً فیها لکان دخیلا فی ترتبها علیها فإذن یلزم الدور، وذلک لأن قصد المصلحة فی متعلق الأمر یتوقف علی وجودها فیه وترتبها علیه، والمفروض أنه یتوقف علی قصدها(1).

والجواب: أن هذا الاشکال أیضاً مبنی علی الخلط بین المصلحة بوجودها الذهنی والمصلحة بوجودها الخارجی، فإن ما یتوقف علیه القصد هو المصلحة بوجودها الذهنی والفرض أنها بهذا الوجود لا تتوقف علی القصد، وما یتوقف علیه هو المصلحة بوجودها الخارجی، فإذن لا دور، فإن ما یتوقف علیه القصد غیر ما یتوقف علی القصد، وإن شئت قلت أن المأخوذ فی متعلق الأمر قصد مفهوم المصلحة وعنوانها الفانی الذی لا موطن له إلا الذهن، فإن المولی إذا تصور الصلاة مثلا بما لها من الأجزاء والشروط منها قصد مصلحتها وأمر بها، کان أمره متعلقاً بالأجزاء بوجوداتها الذهنیة الفانیة لا بوجوداتها الخارجیة لأنها مسقط للأمر فکیف یعقل تعلق الأمر بها، و علی هذا فالقصد یتوقف علی المصلحة بوجودها الذهنی وهی لا تتوقف علی القصد، فإن المتوقف علیه هو المصلحة بوجودها الخارجی وترتبها علیها، غایة الأمر أن هذا الجزء وهو قصد المصلحة یتحقق بنفس قصد المکلف حین الامتثال والاتیان بالمأمور به، ولا مانع من أن یکون الواجب مرکباً من جزئین طولیین، أحدهما جزء خارجی له ما بإزاء فی الخارج والآخر جزء ذهنی ولیس له ما بإزاء فیه، وإنما یتحقق ویوجد بنفس قصد المکلف حین الامتثال ولا محذور فیه، حیث لا یلزم منه قصد قصد

-

ص:269


1- (1) - انظر أجود التقریرات 163:1.

المصلحة، حتی یقال أنه بمثابة داعویة الشیء لداعویة نفسه.

فالنتیجة، أنه لا مانع من أخذ قصد المصلحة فی متعلق الأمر.

وبذلک کله یتضح أنه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، سواءً کان بمعنی قصد الأمر أم کان بمعنی قصد المحبوبیة أو المصلحة أو غیرها من الدواعی القریبة، والجامع أن المعتبر فی صحة العبادة هو إضافتها إلی المولی سبحانه وتعالی وهی المأخوذة فیه لاخصوص هذا أو ذاک.

هذا تمام الکلام فی الفارق الأول بین الواجب التوصلی والواجب العبادی.

الفارق الثانی بین الواجب التعبدی والتوصلی

تعدد الأمر ووحدته

أما الکلام فیه، فقد ذکر جماعة من الاُصولیین أن عبادیة العبادة إنما هی بتعدد الأمر، بیان ذلک أن الواجب إذا کان توصلیاً فلایوجد فیه إلا أمر واحد متعلق بذات الفعل، وأما إذا کان تعبدیاً فیوجد فیه أمران: أحدهما تعلق بذات الفعل والآخر بالاتیان به بقصد الأمر الأول، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنهم اختلفوا فی تفسیر تعدد الأمر فیها علی وجوه:

الوجه الأول: أن أحد الأمرین متعلق بذات الفعل مطلقاً، والأمر الثانی متعلق بالاتیان بها بقصد امتثال الامر الأول وهما مستقلان جعلا ومجعولا.

رأی المحقق الخراسانی

وقد أورد علیه فی الکفایة(1) بما حاصله أن المکلف إذا أتی بذات الفعل بدون

-

ص:270


1- (1) - کفایة الاُصول: 74.

قصد القربة، فهل یسقط الأمر الأول بذلک أو لا؟

أما علی الأول فلا موضوع لامتثال الأمر الثانی، لأن موضوعه هو الاتیان بذات الفعل بداع الأمر الأول، فإذا سقط الأمر الأول بمجرد الاتیان بمتعلقه بدون قصد امتثال أمره، کشف ذلک عن کون الأمر الثانی لغواً، لأن مدلوله کون الأمر الأول تعبدیاً، فإذا فرض أنه لیس بتعبدی کان وجود الأمر الثانی کعدمه فلا أثر له، وأما علی الثانی فلأن عدم سقوطه یکشف عن عدم حصول الغرض الداعی إلی جعله، وأن سقوطه متوقف علی حصوله له ویدور مداره وجوداً وعدماً، فإذا علم بذلک فالعقل مستقل بالاتیان به بقصد امتثال أمره لتحصیل الغرض، ولاحاجة حینئذ إلی الأمر الثانی فأنه لغو ولا یترتب علیه أی أثر.

فالنتیجة، کما أنه لا یمکن أخذ قصد الأمر فی متعلقه بأمر واحد کذلک لایمکن ذلک بأمرین، ومن هنا اختار (قدس سره) أن اعتبار قصد القربة إنما هو بحکم العقل لا بحکم الشرع جزءاً أو قیداً.

مناقشة المحقق الأصبهانی

ولکن المحقق الأصبهانی (قدس سره) قد استشکل فی کلا الشقین من کلامه (قدس سره).

أما الشق الأول فقد أفاد بما إلیک نصه:

لنا الالتزام بهذا الشق، ولکن نقول بأن موافقة الأمر الأول لیست علة تامة لحصول الغرض، بل یمکن إعادة المأتی به لتحصیل الغرض المترتب علی الفعل بداع الأمر.

توضیحه أن ذات الفعل مثلا لها مصلحة ملزمة وللصلاة المأتی بها بداعی أمرها مصلحة ملزمة اخری أو تلک المصلحة بالنحو الأوفی، بحیث یکون بحدّها لازمة الاستیفاء، وسیجیء إن شاء الله فی المباحث الآتیة أن الامتثال لیس

ص:271

عنده (قدس سره) علة تامة لحصول الغرض، کی لاتمکن الاعادة وتبدیل الامتثال بامتثال آخر، غایة الأمر أن تبدیل الامتثال ربما یکون لتحصیل غرض أوفی فیندب الاعادة، واُخری یکون لتحصیل المصلحة الملزمة القائمة بالمأتی به بداع الامتثال فتجب الاعادة، فموافقة الأمر الأول قابلة لاسقاط الأمر لو اقتصر علیه، لکن حیث أن المصلحة القائمة بالمأتی به بداعی الامتثال لازمة الاستیفاء وکانت قابلة للاستیفاء لبقاء الأمر الأول علی حاله حیث لم تکن موافقته علة تامة لسقوطه، فلذا یجب إعادة المأتی به بداعی الأمر الأول فیحصل الغرضان.

وأما توهم أنه یسقط الأمر الأول وکذا الثانی، لکنه حیث إن الغرض باق فیحدث أمران آخران إلی أن یحصل الغرض، وإلا فبقاء الأمر بعد حصول متعلقه طلب الحاصل.

فمندفع بأن الغرض إن کان علة للأمر، فبقاء المعلول ببقاء علته بدیهی، وإلاّ لا یوجب حدوثه أولا فضلا عن علیته لحدوثه ثانیاً وثالثاً، ولا یلزم منه طلب الحاصل، لأن مقتضاه لیس الموجود الخارجی کی یکون طلبه طلب الحاصل، کما لا یلزم منه اخصّیة الغرض لما سیجیء إن شاء الله تعالی(1).

وفی کلامه عدة نقاط:

الاُولی: أن مجرد موافقة الأمر الأول لیست علة تامة لحصول الغرض، فیمکن إعادة المأتی به مرة اخری بداعی الأمر لتحصیل الغرض.

الثانیة: أن الامتثال عند صاحب الکفایة (قدس سره) لیس علة تامة لحصول الغرض، ولهذا بنی علی جواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر، وإلا لم یکن امتثال

-

ص:272


1- (1) - نهایة الدرایة 332:1.

الثانی مشروعاً.

الثالثة: أن الاتیان بذات الفعل بدون قصد الامتثال وإن کان موافقاً للأمر الأول، إلا أنه لا یوجب سقوطه من جهة عدم حصول الغرض المترتب علی الفعل بداع الامتثال، فیبقی کلا الأمرین معاً، ولهذا لابد من الاتیان بالفعل بداعی الامتثال لکی یحصل الغرض ویسقط الأمران معاً.

الرابعة: أن سقوط الأمر الأول من جهة أن بقائه طلب الحاصل وکذا الثانی، وحدوث أمرین آخرین إلی أن یحصل الغرض غیر صحیح، لأن الغرض إن کان علة تامة للأمر، فلا یعقل سقوطه مع بقاء الغرض، لأن بقاء المعلول ببقاء علته أمر بدیهی.

وللنظر فی هذه النقاط مجال:

أما النقطة الاُولی، فلا شبهة فی أن الاتیان بمتعلق الأمر بکامل أجزائه وشروطه علة تامة لسقوطه، فلا یعقل بقاء شخص ذلک الأمر بعد تحقق متعلقه فی الخارج وإلاّ لزم طلب الحاصل وهو محال، وأما الأمر بإیجاده فی ضمن فرد آخر من الطبیعی غیر الفرد الواقع فی الخارج، فهو وإن کان ممکناً، إلا أنه أمر آخر دون الأمر الأول.

وأما ما ذکره (قدس سره) فی مقام تحلیل ذلک ثبوتاً من أنه یمکن أن تکون ذات الصلاة مشتملة علی مصلحة ملزمة والصلاة المقیدة بداعی أمرها مشتملة علی مصلحة ملزمة اخری أو علی تلک المصلحة بالنحو الأوفی، بحیث تکون بحدها لازمة الاستیفاء فهو مقطوع البطلان، لأنه لایتعدی عن مجرد تصور فی عالم الذهن، ضرورة أن ذات الصلاة لوکانت مشتملة علی مصلحة ملزمة والصلاة المقیدة بداعی أمرها مشتملة علی مصلحة ملزمة اخری، لزم کون الوجوب والواجب

ص:273

متعدداً، بأن تکون ذات الصلاة واجبة بوجوب مستقل جعلا ومجعولا والحصة المقیدة بقصد الأمر واجبة بوجوب آخر کذلک وهذا کماتری.

وأما النقطة الثانیة، فلا یقاس المقام بجواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر، فإن جواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر إنما ثبت بالنص الخاص فی مورد خاص وهو أن من صلی منفرداً یجوز أن یعید صلاته جماعة، إماماً کان أم مأموماً(1) ، وکذلک من صلی جماعة إماماً أو مأموماً، یجوز له أن یعیدها فی جماعة اخری إماماً(2) ، ومن الواضح أنه لایمکن التعدی عن هذا المورد إلی سائر الموارد، علی أساس أن الحکم یکون علی خلاف القاعدة.

هذا إضافة إلی أنه لا شبهة فی سقوط الأمر الأول بالامتثال، والتبدیل إنما یکون بأمر آخر لا بالأمر الأول وهو استحبابی لا وجوبی.

وأما النقطة الثالثة، فیظهر حالها مما مرّ من أنه لا شبهة فی سقوط الأمر المتعلق بشیء بالاتیان به ولا یعقل بقاؤه شخصیاً وإلا لزم طلب الحاصل وهو مستحیل، فما فی هذه النقطة من أن الاتیان بذات الفعل لا یوجب سقوط الأمر الأول غریب جداً، نعم حیث أن الغرض باق وهو حقیقة الحکم وروحه، فیوجب حدوث أمر ثان متوجه إلیه بالنسبة إلی فرد آخر غیر الفرد المأتی به.

والخلاصة: أن الأمر الأول متعلق بذات الطبیعة وهو لایقتضی إلا الاتیان بها فحسب، والأمر الثانی بما أنه تعلق بالاتیان بها بداع أمرها، فحینئذ إذا أتی المکلف بذات الطبیعة المأمور بها لابداعی أمرها، فقد وافق الأمر الأول وخالف الأمر الثانی، ومن هنا لا مناص من سقوط الأمر الأول بعد تحقق متعلقه

-

ص:274


1- (1) انظر الوسائل 40:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
2- (2) - المصدر المتقدم.

ووجوده فی الخارج، فإذا سقط الأمر الأول سقط الأمر الثانی أیضاً بسقوط موضوعه، وحیث إن الغرض باق فهو یوجب حدوث أمرین آخرین للوصول إلی هذا الغرض وحصوله.

ومن هنا یظهر حال النقطة الرابعة، وجه الظهور ما عرفت من أن الاتیان بذات الفعل بما أنه موافق للأمر الأول، فلا محالة یوجب سقوطه، فإذا سقط الأمر الثانی أیضاً بسقوط موضوعه، وحیث إن الغرض باق وغیر حاصل، فلا محالة یوجب جعل أمرین آخرین لتحصیل هذا الغرض کما مرّ.

وغیر خفی أن ما ذکره (قدس سره) من النقاط مبنی علی أن کلا من الأمرین أمر مولوی

مستقل جعلا ومجعولا، غایة الأمر أن متعلق الأمر الأول الطبیعیة المطلقة ومتعلق الأمر الثانی الطبیعیة المقیدة بقصد امتثال الأمر الأول، هذا کله بالنسبة إلی الشق الأول مما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره)، وأما الشق الثانی منه فقد ذکر (قدس سره) أن لنا الالتزام به، ومع هذا لا یکون الأمر الثانی لغواً، وقد أفاد فی وجه ذلک کلاماً طویلا(1) ملخصة نقطتان:

الاُولی: أن الفرق بین الجزء والشرط هو أن الجزء دخیل فی أصل الغرض الداعی للمولی إلی الأمر به والشرط دخیل فی فعلیته لا فی أصله، مثلا أجزاء الصلاة دخیلة فی تکوین أصل المصلحة القائمة بها، وأما شرائطها کقصد القربة والطهارة والستر والاستقبال وغیر ذلک فهی دخیلة فی ترتب تلک المصلحة علی الأجزاء فعلا، ومن هنا لا تکون الشرائط فی مرتبة الأجزاء ولا یعقل تعلق الارادة بالأجزاء وشروطها فی عرض واحد، فللمولی الأمر بالأجزاء والأمر بالشرائط مستقلا، وأما عدم سقوط الأمر بالاتیان بالأجزاء مع عدم الاتیان

-

ص:275


1- (1) - نهایة الدرایة 333:1-335.

بشرائطها، فهو من لوازم الاشتراط وتقیید الأجزاء بها بلا فرق فی ذلک بین قصد القربة وغیره.

الثانیة: أن الأمر الثانی رغم عدم سقوط الأمر الأول بالاتیان بذات الفعل لا یکون لغواً، فإنه إنما یکون لغواً إذا کان العقل مستقلا باعتبار قصد القربة فی متعلق الأمر الأول، والمفروض أن العقل لا یحکم بذلک، ضرورة أنه لایکون مشرعاً، وأما حکمه باتیان ما یحتمل دخله فی الغرض فهو معلّق بعدم تمکن المولی من البیان، والمفروض فی المقام تمکنه منه بالأمر الثانی، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون بالأمر الأول أو الثانی، فعلی کلا التقدیرین لا مجال لحکم العقل.

وللنظر فی کلتا النقطتین مجال.

أما النقطة الاُولی، فیرد علیها أن إجزاء المأمور به کالصلاة مثلا غیر مؤثرة ودخیلة بنفسها فی إتصافها بالمصلحة وقیامها بها، فإن ما هو مؤثر فی اتصاف تلک الأجزاء بها إنما هو شروط الأمر کالبلوغ والعقل والاستطاعة والوقت وهکذا، فإنها شروط الحکم فی مرحلة الجعل وشروط الاتصاف فی مرحلة المبادیء، فإذن لا تکون الأجزاء بنفسها مؤثرة ودخیلة فی ذلک بدون شروط وجوبها، فإن اتصافها بها إنما هو عند تحقق تلک الشروط وتوفرها، وأما شروط نفسها وهی شروط الواجب کالطهارة والستر واستقبال القبلة ونحوها فهی دخیلة فی فعلیة ترتبها علی تلک الأجزاء عند تحققها فی الخارج، علی أساس أن فعلیتها کاملة منوطة بفعلیة تلک الشروط کذلک، باعتبار أن تقیدها بها جزء للمأمور به.

والخلاصة: أن المؤثر والدخیل فی أصل المصلحة بمعنی اتصاف اجزاء المأمور به بها فی مرحلة المبادیء إنما هو شروط الوجوب، وأما ترتب تلک المصلحة

ص:276

علیها خارجاً فهو منوط بوجود تلک الأجزاء کاملة فی الخارج، ومن الواضح أن وجودها کذلک فیه منوط بوجود تلک الشروط وفعلیتها خارجاً، وهذا هو معنی أن شروط الواجب دخیلة ومؤثرة فی فعلیة الملاک، وعلی هذا المأمور به حصة خاصة من الأجزاء لا طبیعتها وهی الأجزاء المقیدة بتلک الشروط والقیود، بحیث یکون التقید داخلا والقید خارجاً، ومن الطبیعی أن تلک الحصة التی هی المأمور بها متعلقة لارادة واحدة کما أنها متعلقة لأمر واحد، فما ذکره (قدس سره) من أنه لا یعقل تعلق الارادة بذات الأجزاء وشرائطها فی عرض واحد وکذلک الأمر لا یتم، لأنه إن ارید بالشرائط التقییدات، فیرد علیه أنها داخلة فی المأمور به وتکون من أجزائه، ومن الواضح أن تعلق الارادة بجمیع أجزاء المأمور به فی عرض واحد، باعتبار أن متعلق الارادة حصة خاصة من الأجزاء، وإن ارید بها ذوات الشرائط والقیود، فهی وإن لم تکن مرادة بإرادة المأمور به ولا مرادة بإرادة اخری فی عرض إرادة المأمور به، إلا أن ذلک إنما هو من جهة أنها لیست مرادة بالأصالة والذات، وإنما هی مرادة بالتبع والغرض من جهة أن تحصیل الغرض والملاک من المأمور به متوقف علیها.

ومن هنا فالأمر المتعلق بها أمر ارشادی لا مولوی، فیکون ارشاداً إلی أنها من قیود المأمور به وشروطه ولا ملاک فیها ذاتاً، والأمر المتعلق بها ناجم من الملاک القائم بالمأمور به کما أن الارادة المتعلقة بها ناجمة عن الملاک فیه، فإنها کالأمر تبعیة لاذاتیة.

وعلی هذا فالأمر الثانی لایمکن أن یکون أمراً مولویاً، بل هو ارشاد إلی أن متعلق الأمر الأول حصة خاصة وهی الحصة المقیدة بقصد الأمر، فإذن عدم سقوط الأمر الأول بالاتیان بذات الفعل یکون علی القاعدة، لأنه لم یأت بالمأمور

ص:277

به وما أتی به لیس مصداقاً له.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن الأمر الثانی ناش من نفس الملاک الناشیء منه الأمر الأول، علی أساس أن الملاک قائم بالحصة الخاصة من الفعل وهی الحصة المقیدة بقصد القربة، فإن تلک الحصة هی المطلوبة للمولی فی الواقع ومشتملة علی الملاک، وحیث إن هذا التقیید لا یمکن بالأمر الأول، فبإمکان المولی أن یأمر بهذا التقیید ثانیاً، فیکون مفاد الأمر الثانی الارشاد إلی أن متعلق الأمر الأول لیس هو طبیعی الفعل مطلقاً بل حصة خاصة منه وهی تلک الحصة، فإذن یکون الأمر الثانی المتعلق بالاتیان بالفعل بقصد أمره الأول ارشاداً إلی شرطیة قصد القربة کالأمر بالاتیان بالصلاة مع الستر أو الطهارة، فإنه ارشاد إلی شرطیة الستر والطهارة فیها، فلهذا یکون الأمران بمثابة أمر واحد روحاً وملاکاً.

وأما النقطة الثانیة، فیظهر حالها مما مرّ، وجه الظهور هو أن عدم سقوط الأمر الأول بالاتیان بذات الفعل بدون قصد أمره یکون علی القاعدة، باعتبار أن المأمور به بالأمر الأول لیس هو طبیعی الفعل المطلق بل حصة خاصة منه وهی الحصة المقیدة بقصد القربة، والدال علی هذا التقیید هو الأمر الثانی، فحینئذ إن أتی المکلف بالحصة المذکورة فقد وافق الأمر الأول وسقط ولا یعقل بقاؤه، وإن أتی بذات الفعل بدون قصد القربة لم یأت بالمأمور به حتی یسقط أمره لأن ما أتی به لیس مصداقاً للمأمور به، وحینئذ فالعقل یحکم بلزوم الاعادة، بملاک أنه لم یأت بالمأمور به لا أنه یحکم بوجوب الاتیان بملاک احتمال أنه دخیل فی الملاک والغرض، إذ لا شک فی المقام فی شیء، لأن الأمر الثانی یدل علی أن متعلق الأمر الأول حصة خاصة، فطالما لم یأت المکلف بهذه الحصة لم یسقط الأمر عنها کما

ص:278

هو الحال فی سائر الموارد، فإذا أتی المکلف بالصلاة بدون الطهارة لم یأت بالصلاة المأمور بها، وحینئذ فلا محالة یحکم العقل بوجوب الاعادة من باب أنه لم یأت بالمأمور به، ومع ذلک لا یکون الأمر الثانی لغواً، لأن مفاده تعیین المأمور به وانه حصة خاصة، وبعد التعیین یکون الحاکم بالامتثال والاتیان هو العقل، علی أساس استقلاله بوجوب الطاعة وقبح المعصیة، ومن هنا یظهر أنه لایمکن أن یکون الأمر الثانی أمراً مولویاً مستقلا جعلا ومجعولا وملاکاً عن الأمر الأول، إلاّ بناء علی افتراض أن ذات الفعل مشتملة علی مصلحة ملزمة وحصة منه وهی المقیدة بقصد أمرها، مشتملة علی مصلحة ملزمة اخری، ولکن لازم هذا الافتراض تعدد الواجب وهو کماتری، فلذلک لابد أن یکون الأمر الثانی أمراً شرطیاً ومفاده الارشاد إلی شرطیة قصد القربة للواجب بالأمر الأول وتقییده به بعد ما لایمکن ذلک بالأمر الأول، وبیان شروط الواجب وقیوده نوعاً یکون بالأوامر الشرطیة التی یکون مفادها الارشاد إلی شرطیتها وتقید الواجب بها کالأمر بالصلاة مثلا مع الطهارة أو الستر أو الاستقبال أو ما شاکلها، ولا فرق فی ذلک بین ما یمکن أخذه فی متعلق الأمر الأول کالطهارة والستر والاستقبال ونحوها وبین مالا یمکن أخذه فیه کقصد القربة، وعلی هذا فمتعلق الأمر الأول لیس ذات الطبیعة بل حصة خاصة منها وهی الحصة المقیدة بقصد امتثال الأمر، وبذلک یظهر أن ما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) من أن الأمر الثانی لغو عند عدم سقوط الأمر الأول بالاتیان بذات الفعل، مبنی علی أن یکون الأمر الثانی أمراً مولویاً، وأما إذا کان ارشاداً إلی تقیید المأمور به فی الأمر الأول کما هو کذلک، فلا موضوع لهذا الاشکال.

فالنتیجة، أن تفسیر تعدد الأمر بتعددهما واقعاً أی جعلا ومجعولا وملاکاً فی غیر محله، لأن لازم ذلک تعدد المأمور به واقعاً وهو خلف فرض کون المأمور به

ص:279

فی المقام واحداً، بل المراد من الأمر الثانی بیان أن المأمور به فی الأمر الأول مقید بقصد الأمر بعد ما لایمکن هذا التقیید بالأمر الأول.

رأی المحقق النائینی

الوجه الثانی ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن الأمر الأول متعلق بالطبیعة المهملة من حیث التقیید والاطلاق، علی أساس مسلکه (قدس سره) من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فاستحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، وحیث إن تقیید الطبیعة المأمور بها بقصد الأمر مستحیل، فإطلاقها أیضاً کذلک، وحیث إنه لایمکن أن تکون الطبیعة المأموربها مهملة فی الواقع لاستحالة الاهمال فیه، فإذن لابد للمولی من رفع هذا الابهام والاهمال بالأمر الثانی الذی هو متمّم للأمر الأول اطلاقاً أو تقییداً.

وبکلمة، أن استحالة تقیید الطبیعة المأمور بها بقصد الأمر تستلزم استحالة الاطلاق، علی أساس أن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، وحیث إن الاهمال فی الواقع مستحیل، فلابد للمولی من رفع هذا الاهمال بجعل الأمر الثانی المتمّم للجعل الأول(1).

وغیر خفی أنه لیس للأمر الثانی المسمی بمتمّم الجعل شأن فی مقابل الأمر الأول، بل هو بیان لحدوده اطلاقاً أو تقییداً وناجم من نفس ملاکه، ومن هنا لا یلزم أن یکون متمّم الجعل بلسان الأمر، بل یمکن أن یکون بلسان الاخبار، فإن المعیار إنما هو برفع الاهمال عن الأمر الأول اطلاقاً أو تقییداً بأی لسان کان هذا من ناحیة.

مناقشة السید الاستاذ

ومن ناحیة اخری قد أورد السید الاُستاذ (قدس سره) علی هذا التفسیر بوجهین:

-

ص:280


1- (1) - انظر أجود التقریرات 172:1-174.

الأول: أن التقابل بین الاطلاق والتقیید لیس من تقابل العدم والملکة، بل هو من تقابل التضاد، وعلیه فاستحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق وبالعکس لا استحالته(1) ، وسوف یأتی تفصیل ذلک فی ضمن البحوث القادمة، ولکن هذا الاشکال مبنائی، هذا مضافاً إلی أن المبنی غیر صحیح، فإن الصحیح هو أن التقابل بینهما من تقابل الایجاب والسلب لا العدم والملکة ولا التضاد وستأتی الاشارة إلیه.

الثانی: أن الاهمال فی الأمر الأول غیر معقول حتی تدعو الحاجة إلی رفعه بجعل الأمر الثانی المتمم للأمر الأول، وقد أفاد فی وجه ذلک أن الشارع حیث إنه عالم بتمام خصوصیات الطبیعة المأمور بها من الخصوصیات الأولیة والثانویة، فبطبیعة الحال إذا جعل الحکم لها، فلا محالة إما أن یکون مطلقاً بالنسبة إلی تلک الخصوصیات والقیودات، سواءً کانت من القیودات الأولیة أو الثانویة أو مقیداً ببعضها دون بعضها الآخر ولا ثالث فی البین، بداهة أنه لا یعقل أن یکون الجاعل مردداً فی حکمه المجعول ولا یدری أنه جعله علی الطبیعی أو الحصة الخاصة، مثلا إذا أمر المولی بالصلاة فلا محالة کان یعلم بتمام قیوداتها الأولیة کالطهارة والستر والاستقبال وما شاکل ذلک، والثانویة کقصد امتثال الأمر وقصد الوجه ونحوهما، وحینئذ فالامر المجعول لها بطبیعة الحال لا یخلو إما أن یکون مجعولا لها مطلقاً بالنسبة إلی جمیع قیوداتها الأولیة والثانویة أو مقیداً بها ولا ثالث فی البین، فإذا استحال تقییدها بالقیودات الثانویة تعین اطلاقها بالنسبة إلیها، ولا یعقل أن یکون مردداً فی أن الحکم المجعول لها من قبله مطلق أو مقید بأن یکون جاهلا بذلک، بداهة أن ذلک غیر معقول من الجاعل العالم

-

ص:281


1- (1) - راجع محاضرات فی اصول الفقه 173:2-174 و 188.

بالواقع بتمام خصوصیاته، فلهذا لا موضوع لمتمم الجعل اطلاقاً أو تقییداً فی خطابات الکتاب والسنة.

مناقشة صاحب البحوث

وقد أورد بعض المحققین (قدس سره) علی السید الاُستاذ (قدس سره) بأن هذا الاشکال مبنی علی تفسیر الاهمال فی کلام المحقق النائینی (قدس سره) بالاهمال الوجودی أی المردّد بین المطلق والمقید، ولکن هذا التفسیر غیر صحیح، فإن المراد من الاهمال فی کلامه الاهمال المفهومی لا الوجودی; فإن متعلق الأمر مدلول اسم الجنس وهو ذات الطبیعة المهملة الجامعة بین الطبیعة المطلقة والمقیدة، باعتبار أن الاطلاق والتقیید حیثیتان زائدتان علی ذات الطبیعة المهملة، وحینئذ فإذا استحال کل من الاطلاق والتقیید اللحاظین فی متعلق الجعل الأول، اضطر المولی أن یجعل أمره علی ذات الطبیعة المهملة ویتصدی لرفع الاهمال بأمر ثان اطلاقاً أو تقییداً ویکون متمماً للجعل الأول(1). هذا،

ویمکن المناقشة فیه بأن حمل اشکال السید الاُستاذ (قدس سره) علی أنه مبنی علی تفسیر الاهمال فی کلام المحقق النائینی (قدس سره) بالاهمال الوجودی أی المردد بین المطلق والمقید فی الخارج فی غیر محله، لوضوح أن اشکاله (قدس سره) متجه إلی التزامه بالاهمال فی متعلق الأمر وهو طبیعی الفعل بالنسبة إلی القیودات الثانویة منها قصد الأمر، باعتبار أنه إذا استحال تقییده بها استحال اطلاقه، وهذا معنی أنه مهمل، وحاصل الاشکال أنه غیر معقول من الشارع الحکیم، باعتبار أنه عالم بالواقع فیعلم أن حکمه المجعول إما مطلق فی الواقع ومقام الثبوت أو مقید فیه ولا ثالث فی البین، فالنتیجة أنه لا یمکن أن یکون اشکال السید الاُستاذ (قدس سره) مبنیاً علی تفسیر الاهمال فی کلام المحقق النائینی (قدس سره) بالاهمال الوجودی وهو الفرد المردد

-

ص:282


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 91:2.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لایمکن حمل کلام المحقق النائینی (قدس سره) علی أن مراده من إهمال متعلق الأمر الطبیعة المهملة الجامعة بین المطلقة والمقیدة العاریة عن جمیع الخصوصیات حتی خصوصیة المقسمیة، لأن هذه الطبیعیة مساوقة للطبیعة المطلقة ذاتاً وتنطبق علی جمیع أفرادها النوعیة والصنفیة والشخصیة أو أنها مساوقة للطبیعة المقیدة، علی أساس أنها فی قوة المقیدة، وعلی هذا فلا اهمال فی متعلق الأمر حتی یتصدی لرفعه بمتمم الجعل، فالالتجاء إلی تتمیمه اطلاقاً أو تقییداً ثبوتاً قرینة علی أن مراده (قدس سره) من الاهمال لیس تعلق الأمر بالطبیعة المهملة، وإلا فلا حاجة إلی المتمم هذا، ولا یبعد أن یکون مراده (قدس سره) أنه مع اشتماله التقیید واستحالة الاطلاق لا یمکن کشف مراد المولی فی الواقع اثباتاً وأنه مهمل فی هذا المقام لا ثبوتاً، فالحاجة إلی المتمم لاحراز مراده اطلاقاً أو تقییداً فی مقام الاثبات.

الفارق الثالث بین الواجب التعبدی والتوصلی

فی الملاک

وأما الکلام فیه، فقد جاء فی الکفایة أنه لا فرق بین الواجب التوصلی والواجب التعبدی لا فی الأمر ولا فی المتعلق وإنما الفرق بینهما فی الملاک، حیث إن الأمر التوصلی یسقط بمجرد الاتیان بمتعلقه وهو ذات الفعل لحصول الغرض به، بینما الأمر التعبدی لایسقط بذلک إلا مع قصد القربة، لأن الغرض منه لا یحصل إلا به، والأمر یدور مداره ثبوتاً وسقوطاً لا مدار الاتیان بمتعلقه.

ص:283

والخلاصة: أنه لا فرق بین الأمر المتعلق بالواجب التعبدی والأمر المتعلق بالواجب التوصلی کما أنه لا فرق بینهما فی نفس الواجب، وإنما الفرق بینهما فی الغرض الداعی إلی الأمر، فإنه لایترتب فی الواجب التعبدی علی الاتیان به بدون قصد القربة، بینما هو مترتب فی الواجب التوصلی علی الاتیان به مطلقاً، ومن هنا یکون الحاکم باعتباره فی العبادات هو العقل دون الشرع، علی أساس أن الغرض منها لا یحصل بدونه فلایسقط أمرها أیضاً، فإنه یدور مدار حصول الغرض وعدم حصوله، فإن حصل سقط وإلا فلا وإن تحقق متعلقه فی الخارج، فالنتیجة أن ما أفاده (قدس سره) یتضمن عدة نقاط.

الاُولی: أن أخذ قصد الأمر فی متعلقه لا یمکن لا بالأمر الأول ولا بالأمر الثانی، وأما أخذ سائر الدواعی القریبة فیه وإن کان بمکان من الامکان إلا أنه مقطوع العدم کما تقدم.

الثانیة: أنه لا فرق بین الواجب التعبدی والواجب التوصلی لا فی المتعلق ولا فی الأمر، وإنما الفرق بینهما فی الغرض المترتب علیهما، فإن حصوله فی الواجب التعبدی یتوقف علی قصد القربة دون الواجب التوصلی.

الثالثة: أن الحاکم باعتبار قصد القربة فی الواجب التعبدی العقل دون الشرع، وللمناقشة فی هذه النقاط مجال واسع(1).

أما النقطة الاُولی، فقد تقدم الکلام فیها وقلنا هناک أن أخذ قصد الأمر فی متعلقه بمکان من الامکان فلا حاجة إلی الاعادة.

وأما النقطة الثانیة، فقد ظهر مما سبق أن الفرق بین الواجب التعبّدی

-

ص:284


1- (1) - کفایة الاُصول: 72-74.

والواجب التوصلی إنما هو فی المتعلق، فإنه فی الأول حصة خاصة من الفعل وهی الحصة المقیدة بقصد القربة، وفی الثانی ذات الفعل هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لولم یکن فرق بینهما فی المتعلق فلابد من الالتزام بسقوط الأمر عند الاتیان بمتعلقه، بداهة أنه لا یعقل بقاء الأمر بعد تحقق متعلقه فی الخارج، وإلا لزم طلب الحاصل وهو محال.

وإن شئت قلت أن الأمر المتعلق بطبیعی الفعل لا محالة یسقط بتحققه فی الخارج، علی أساس أن المطلوب منه صرف وجوده وهو یتحقق بأول الوجود. وعلیه فلا یعقل بقاء الأمر المتعلق به وإلا لزم طلب الحاصل، وأما إفتراض أمر آخر فهو وإن کان معقولا إلا أن متعلقه الوجود الثانی، فإنه إذا تغیر تغیر الأمر أیضاً فلا یعقل بقاء الأمر الأول.

فالنتیجة، أن ما أفاده (قدس سره) من أن سقوط الأمر یدور مدار حصول الغرض دون تحقق متعلقه فلایمکن المساعدة علیه، لأن بقائه بعد تحقق متعلقه غیر معقول وإلا لزم طلب الحاصل، نعم إذا لم یحصل الغرض منه کان ذلک کاشفاً عن بقاء طبیعی الأمر لا شخصه.

فالنتیجة أن الفرق بین الواجب التعبدی والتوصلی إنما هو فی المتعلق.

وأما النقطة الثالثة، فإن أراد بها أن العقل یدرک دخل قصد القربة فی ملاک الواجب العبادی وأنه لا یترتب علیه فی الخارج إلا مع قصد القربة، فیرد علیه أنه مبنی علی أن یکون للعقل طریق إلی ملاکات الأحکام الشرعیة وإحرازها وهذا مقطوع البطلان ومخالف للوجدان، ضرورة أنه لا طریق له إلیها، وعلی ذلک فلیس بامکان العقل الحکم بأن قصد القربة معتبر فی العبادات ودخیل فی

ص:285

ملاکها، وإن أراد (قدس سره) بها أن قصد القربة معتبر فی استحقاق المثوبة وبدونه فلا مثوبة، ففیه أن الأمر وإن کان کذلک إلا أن محل الکلام لیس فی ذلک وإنما هو فی اعتباره فی صحة المأمور به وعدم حصول الغرض منه بدونه، وقد عرفت أنه لیس بامکان العقل الحکم بذلک. وإن أراد (قدس سره) بها أن العقل یحکم بذلک فی موارد الشک فی دخله فی حصول الغرض علی أساس قاعدة الاشتغال، بتقریب أن المقام لیس من موارد قاعدة البرائة، اما البرائة العقلیة فلأن الشک هنا لیس فی الواجب قلة وکثرة، لأن الواجب معلوم بتمام أجزائه وشروطه والشک انما هو فی حصول الغرض بمجرد الاتیان به بدون قصد القربة، فیکون المقام من قبیل الشک فی المحصل والمرجع فیه قاعدة الاشتغال، وأما البرائة الشرعیة فلأن الشک هنا لیس فی جزئیه شیء لواجب أو شرطیة آخر شرعاً لکی نرجع إلیها، بل الشک فی المقام انما هو فی حصول الغرض بالاتیان بالواجب بکامل أجزائه وشروطه بدون قصد القربة، فیکون کالشک فی المحصل والمرجع فیه قاعدة الاشتغال.

نتائج هذا البحث... فیرد علیه أولا، أنه لا طریق لنا إلی الملاک والغرض فی الواقع إلا من ناحیة الأمر، فإذا کان الأمر متعلقاً بفعل کان کاشفاً عن وجود الملاک فیه، وفی المقام بما أنه تعلق بذات الفعل بدون تقییده بقصد القربة فهو یکشف عن وجود مصلحة فیه، وعلی هذا فلوشک فی تحقق الغرض من جهة احتمال أن قصد القربة دخیل فیه، کان علی المولی بیان ذلک ولو بجملة خبریة، فإن أخذه فی متعلق الأمر لایمکن، وأما بیان اعتباره ودخله فی الملاک بطریق آخر فهو بمکان من الامکان، ومع ذلک فإذا لم یقم بیان علیه من قبل المولی، فلا مانع من الرجوع إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل لا مانع من الرجوع إلی البرائة الشرعیة أیضاً.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف أن ما اختاره المحقق الخراسانی (قدس سره) فی المقام لایرجع

ص:286

إلی معنی صحیح.

نتائج البحث نلخصها فی عدة نقاط:

الاُولی: أن فی الفرق بین الواجب التعبدی والواجب التوصلی ثلاثة أقوال:

الأول: أن الفرق بینهما فی المتعلق.

الثانی: أن الفرق بینهما فی الملاک.

الثالث: أن الفرق بینهما فی الأمر.

الثانیة: أن المشهور بین المحققین من الاُصولیین استحالة أخذ قصد الأمر فی متعلق نفسه، وقد استدل علی ذلک بوجوه.

الثالثة: أن ما أفاده المحقق النائینی (قدس سره) من أنه لوکان مأخوذاً فی متعلق نفسه، فلابد من أخذ الأمر الذی هو متعلق القصد مفروض الوجود فی الخارج، ولازم ذلک اتحاد الحکم والموضوع جعلا ومجعولا.

فجوابه: أن متعلق المتعلق وإن کان هو الأمر، إلا أن أخذه مفروض الوجود فی الخارج مبنی علی نکتتین:

الاُولی: إثباتیة وهی متمثلة فی الظهور العرفی للدلیل علی ذلک.

والاُخری: ثبوتیة وهی متمثلة فی حکم العقل بذلک، بملاک أنه لولم یؤخذ مفروض الوجود لزم التکلیف بغیر المقدور، وکلتا النکتتین غیر متوفرة فی المقام، فلهذا لا مقتضی لأخذه مفروض الوجود علی تفصیل تقدم.

الرابعة: أن ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الخطابات التحریمیة غیر ظاهرة فی أنها مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة للموضوع المفروض الوجود فی

ص:287

الخارج، قد تقدم تفصیله.

الخامسة: أن تحقق الأمر وحده یکفی فی القدرة واقعاً علی قصد امتثاله، غایة الأمر أن المکلف قد یکون جاهلا بقدرته علیه من جهة جهله بالأمر، وهذا الجهل لا یمنع عن اطلاق التکلیف وإنما یمنع عن تنجزه.

السادسة: أن أخذ قصد الأمر فی متعلقه بوجوده العنوانی فی افق الذهن لایستلزم التهافت بنظر الآمر، حیث إنه یعلم بعدم واقع له مفروغ عنه فی الخارج، ولکن مع ذلک له أن یأخذه فی متعلقه بملاک أن مصداقه سوف یتحقق ویفی بالغرض لا بملاک أنه موجود فی الذهن بنحو المعنی الاسمی علی تفصیل هناک.

السابعة: أن ما أفاده المحقق النائینی (قدس سره) تارة بأن أخذ قصد الأمر فی متعلقه یستلزم تقدم الشیء علی نفسه، لأنه بلحاظ أخذه فی المتعلق یکون فی مرتبة الأجزاء وبلحاظ تعلقه بها یکون فی مرتبة متأخرة عنها، واُخری بأن أخذه فیه یستلزم الدور، لأن الأمر مشروط بالقدرة علی متعلقه ومتوقف علیها وهی متوقفة علی متعلقها، فلو أخذ قصد الأمر فیه لزم توقف الشیء علی نفسه غیر تام.

أما الأول فهو مبنی علی أن یکون المأخوذ فی المتعلق قصد الأمر بوجوده الواقعی، ولکن قد مرّ أن المأخوذ فیه قصد الأمر بوجوده العنوانی وهو لا یکون متأخراً عن الأجزاء، فإذن ماهو متأخر عن الاجزاء غیر ماهو فی مرتبتها.

وأما الثانی فلان القدرة المعتبرة بحکم العقل إنما هی القدرة التعلیقیة أی لو تعلق الأمر به، لا القدرة المطلقة والقدرة التعلیقیة موجودة.

ص:288

الثامنة: أن ما أفاده المحقق الخراسانی (قدس سره) تارة بأن قصد الأمر متأخر رتبة عن نفس الأمر، وعلیه فلوکان قصده مأخوذاً فی متعلقه لزم تقدمه علی الأمر بالرتبة، واُخری بأن لازم أخذه فی متعلق الأمر عدم التمکن من الامتثال، لأن ذات الفعل لم تکن متعلقة للأمر فلایمکن الاتیان بها بقصد الأمر إلاّ تشریعاً غیر تام.

أما الأول: فلأن المتأخر عن الأمر هو قصده بوجوده الواقعی لا بوجوده العنوانی، والمأخوذ فی المتعلق هو القصد بوجوده العنوانی وهو لا یتوقف علی الأمر فی الخارج حتی یلزم تقدم الشیء علی نفسه.

وأما الثانی: فلأن الاتیان بالجزء مستقلا بداعی الأمر غیر ممکن لأنه لا أمر به، وأما الاتیان به ملحوقاً بجزء ومسبوقاً بآخر بداعی الأمر فلا شبهة فیه، وفی المقام إذا أتی المکلف بالصلاة مثلا بقصد الأمر فقد أتی بالواجب بکلا جزئیه وسقط الأمر المتعلق بالمجموع، وقد تقدم تفصیل ذلک.

التاسعة: أن ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) فی الجواب عن الثانی، بأن الأمر المتعلق بالمجموع المرکب من الفعل وقصد الأمر ینحل إلی أمرین ضمنیین:

أحدهما متعلق بذات الفعل، والآخر متعلق بقصد الأمر، وحینئذ فیتمکن المکلف من الاتیان بذات الفعل بقصد امتثال أمرها الضمنی الذی هو المأخوذ فی المتعلق دون الأمر الاستقلالی، فإن أخذه فیه لایمکن غیر تام. وذلک لأن الأمر الضمنی لایمکن أن یکون داعیاً إلاّ بداعویة الأمر الاستقلالی، ولهذا کان یأتی المکلف بکل جزء جزء من الواجب بداعی الأمر الاستقلالی المتعلق به مرتبطاً بسائر الأجزاء، وعلی هذا فبإمکان المکلف الاتیان بذات الفعل بقصد امتثال الأمر الاستقلالی المتعلق بها مع قصد الأمر.

ص:289

هذا إضافة إلی أنه لا واقع موضوعی للأمر الضمنی إلا بتحلیل من العقل بالعرض لا بالذات فلا أثر له، وحینئذ فلا مانع من أن یکون قصد الأمر الاستقلالی مأخوذاً فی متعلقه، ولایلزم منه محذور کما تقدم تفصیله.

العاشرة: أن ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من کون الواجب مرکباً من جزئین: أحدهما یکون تعبدیاً، والآخر توصلیاً وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن الأمر الضمنی المتعلق بذات الفعل فهو أمر تعبّدی، والأمر الضمنی المتعلق بقصد الأمر فهو أمر توصلی.

لا یمکن المساعدة علیه، إذ مضافاً إلی أن الأمر الضمنی لایمکن أن یکون داعیاً إلا بداعویة الأمر الاستقلالی، أنه لا واقع له إلا بتحلیل من العقل، فإذن لا مجال للبحث عن أنه مقرب أو لا.

الحادیة عشر: أنه لا مانع ثبوتاً وإثباتاً من أخذ قصد الأمر الاستقلالی فی متعلقه، بأن یکون الواجب مرکباً من ذات الفعل وقصد الأمر الاستقلالی، وفی مقام الاثبات یتعلق الأمر بالمجموع المرکب منهما، وحینئذ فإذا قام المکلف بالاتیان بذات الفعل بقصد امتثال الأمر الاستقلالی المتعلق بها مرتبطة بالجزء الآخر وهو قصد الأمر بوجوده العنوانی، فقد أتی بکلا الجزئین معاً علی تفصیل قد سبق.

الثانیة عشر: أن ما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أنه یلزم من أخذ قصد الأمر فی متعلقه داعویة الأمر لداعویة نفسه، وهذا کعلیة الشیء لنفسه مستحیلة، مبنی علی الخلط بین کون المأخوذ فیه واقع قصد الأمر وبین کون المأخوذ فیه عنوانه الذهنی، والمحذور المذکور إنما یلزم لو کان المأخوذ فیه الأول دون الثانی، والمفروض أن المأخوذ فیه هو الثانی دون الأول، فإذن لا محذور کما

ص:290

أن ما ذکره (قدس سره) من أنه یلزم من أخذ قصد الأمر فی متعلقه عدم أخذه فیه، مبنی علی هذا الخلط علی تفصیل قد مرّ.

الثالثة عشر: أن المحقق العراقی (قدس سره) قد ذکر أن المستحیل إنما هو أخذ قصد الأمر فی متعلقه جزءً وقیداً، وأما إذا لم یکن مأخوذاً فیه کذلک بأن یکون متعلقه الحصة التوأم معه بدون کونه جزءً وقیداً له، فلا محذور فیه ولا مانع منه، ولکن تقدم أن الحصة التوأم لا ترجع إلی معنی محصل، لأن قصد الأمر إذا لم یکن قیداً لمتعلق الأمر لم یوجب تحصصه بحصة خاصة، فإذن یلزم من إفتراض کون الأمر متعلقاً بالحصة عدم کونه متعلقاً بها وهذا خلف.

الرابعة عشر: أن أخذ قصد الأمر فی متعلقه مباشرة وإن کان مستحیلا، إلا أنه لا مانع من أخذه فیه بواسطة عنوان ملازم له کعنوان عدم صدور الفعل بداع دنیوی أو نفسانی، فإنه ملازم لصدوره بداع إلهی، ولا یرد علیه ما علقه المحقق النائینی (قدس سره) وقد تقدم تفصیله، نعم یرد علیه ما ذکرناه من أنه لایفید ولا یدفع محذور الدور وداعویة الشیء لداعویة نفسه علی ما مرّ.

الخامسة عشر: أن أخذ سائر الدواعی القریبة فی متعلق الأمر کقصد المحبوبیة أو المصلحة أو نحوها وإن کان بمکان من الامکان، إلا أن أخذها فیه بالخصوص غیر محتمل، إذ لازم ذلک عدم صحة الاتیان بالعبادة بقصد أمرها وهو کما تری.

السادسة عشر: الظاهر أن المأخوذ فی متعلق الأمر هو الجامع بین قصد الأمر وقصد المحبوبیة والمصلحة وغیرها من الدواعی القربیة.

السابعة عشر: أن المحقق النائینی (قدس سره) قد ذکر أنه لایمکن أخذ سائر الدواعی القربیة فی متعلق الأمر أیضاً، بنکته أنها منشأ وسبب لارادة العبادة، فلو کانت

ص:291

مأخوذة منها لکانت فی عرضها متعلقة للارادة ومعلولة لها، وحینئذ فیلزم کونهامتأخرة عن نفسها وهو محال.

ولکن قد تقدم أن ما ذکره (قدس سره) من النکتة مبنی علی الخلط بین الفعل بوجوده الخارجی والفعل بوجوده الذهنی، لأن ما هو متعلق الارادة ومنشأ وجودها فی افق النفس هو تصور الفعل بما له من الفائدة والتصدیق بها، وما هو معلول لها هو الفعل بوجوده الخارجی.

الثامنة عشر: أن ما قیل من أنه لایمکن أخذ قصد المصلحة فی متعلق الأمر کالصلاة مثلا، لأنه یتوقف علی اشتمال الصلاة علی المصلحة فی المرتبة السابقة وترتبها علیها، والمفروض أنه لوکان مأخوذاً فیها کان دخیلا فی ترتبها علیها، فإذن یلزم الدور، مدفوع بأنه مبنی علی الخلط بین المصلحة بوجودها الذهنی والمصلحة بوجودها الخارجی علی تفصیل تقدم.

التاسعة عشر: أن عبادیة الواجب العبادی إنما هی بتعدد الأمر طولا، فالأمر الأول تعلق بذات الفعل والأمر الثانی تعلق بالاتیان به بداع الأمر الأول، وبذلک یفترق عن الواجب التوصلی.

العشرون: أن صاحب الکفایة (قدس سره) قد أشکل بأنه لایمکن أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر حتی بالأمر الثانی، معللا بأن المکلف إذا أتی بذات الفعل، فإن سقط الأمرالأول سقط الأمرالثانی أیضاً بسقوط موضوعه، وإن لم یسقط فالعقل مستقل بلزوم الاتیان بها بقصدالامتثال، فیکون الأمرالثانی لغواً علی کل تقدیر.

الأصل اللفظی والعملی فی موارد الشک... وأورد المحقق الأصبهانی (قدس سره) علیه، بأنه لا مانع من الالتزام بکلا شقی من کلامه، وقد أفاد وجه ذلک فی مقالة طویلة تقدمت، وتقدم منا نقدها.

ص:292

الحادیة والعشرون: أن الأمر الثانی لایمکن أن یکون أمراً مولویاً مستقلا جعلا ومجعولا عن الأمر الأول، وإلا لزم تعدد المأمور به وهو خلف، بل هو أمر ارشادی، فیکون مفاده الارشاد إلی شرطیة قصد القربة واعتباره فی متعلق الأمر الأول وأنه حصة خاصة من الفعل، وهی الحصة المقیدة بقصد القربة لا ذات الفعل.

الثانیة والعشرون: أن ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن الأمر الأول متعلق بالطبیعة المهملة من حیث التقیید والاطلاق، والأمر الثانی متمم له اطلاقاً أو تقییداً، مبنی علی مسلکه (قدس سره) من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الاخر، وحیث إن التقیید فی المقام مستحیل فالاطلاق أیضاً کذلک، فلهذا یحتاج إلی المتمم، ولکن حیث إن المسلک غیر تام، فلا یتم ما أفاده (قدس سره).

الثالثة والعشرون: أن ما جاء فی الکفایة من أنه لا فرق بین الواجب التعبدی والواجب التوصلی لا فی الأمر ولا فی المتعلق وإنما الفرق بینهما فی الغرض، فإنه فی الواجب التعبدی لا یترتب إلا علی الاتیان به بقصد القربة، بینما فی الواجب التوصلی یترتب علیه بدونه غیر تام، والصحیح أن الفرق بینهما فی المتعلق، فإنه حصة خاصة فی الواجب التعبدی وهی الحصة المقیدة بقصد القربة، وذات الفعل فی الواجب التوصلی.

ص:293

الأصل اللفظی والعملی فی موارد الشک
اشارة

أما الکلام فی الجهة الثانیة، فتارة یقع فی مقتضی الأصل اللفظی علی القول باستحالة أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، واُخری علی القول بامکان أخذه فیه.

وهنا أقوال اخری تفصیلیة فی المسألة ستأتی الاشارة إلیها، فها هنا مقامان:

المقام الأول: فی نقطة التقابل بین الاطلاق والتقیید وماهی حقیقة هذه النقطة.

المقام الثانی: فی امکان التمسّک بالاطلاق وعدم امکانه، أو التفصیل فی المسألة بین الأقوال فیها.

نقطة التقابل بین الاطلاق والتقیید

أما الکلام فی المقام الأول ففیه بحوث:

البحث الأول: أن فیه آراءً:

الرأی الأول: أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة.

الرأی الثانی: أن التقابل بینهما من تقابل التضاد.

الرأی الثالث: أن التقابل بینهما من تقابل الإیجاب والسلب.

رأی المحقق النائینی

أما الرأی الأول، فقد اختاره المحقق النائینی (قدس سره) وقد أفاد فی وجه ذلک، أن الاطلاق لیس عبارة عن عدم التقیید مطلقاً، بل هو عبارة عن عدم تقیید خاص وهو عدم التقیید فی مورد القابل کالعمی والبصر، فإن العمی عدم البصر لا مطلقاً، بل عدم البصر فی محل قابل للبصر، ولهذا لا یصح اطلاق العمی علی

ص:294

الجدار، باعتبار أنه غیر قابل للاتصاف بهذا الوصف، ومن هنا تستلزم استحالة التقیید استحالة الاطلاق، وفی مثل ذلک لایمکن التمسک بالاطلاق فی مقام الاثبات للکشف عن الاطلاق فی مقام الثبوت، إذ لا اطلاق فیه بلحاظ أن فی کل مورد استحال التقیید فیه ثبوتاً استحال الاطلاق فیه کذلک، فلا یصل الدور حینئذ إلی مقام الاثبات.

بیان ذلک أن الماهیة المهملة قابلة للتقیید ذاتاً بالقیودات الأولیة الذاتیة والعرضیة وهی القیودات التی تعرض علیها بعنوانها الأولی وبقطع النظر عن أی جهة خارجیة ثانویة، کما أنها قابلة للاطلاق کذلک بالنسبة إلیها بدون التوقف علی مؤونة زائدة کماهیة الانسان، فإنها قابلة للتقیید بالقیودات الأولیة التی تطرأ علیها فی المرتبة السابقة، کما أنها قابلة للاطلاق بالنسبة إلیها بدون التوقف علی أی مؤونه لحاظیة، ومنها ماهیة الصلاة مثلا فإنها قابلة للتقیید والاطلاق معاً بالنسبة إلی قیوداتها الأولیة التی تعرض علیها فی المرتبة السابقة وبقطع النظر عن تعلق الأمر بها، هذا کله بالنسبة إلی القیودات الأولیة الذاتیة والعرضیة التی تطرأ علی الماهیة فی المرتبة السابقة وبقطع النظر عن طرد عنوان ثانوی علیها.

وأما بالنسبة إلی القیودات الثانویة التی تطرأ علی الماهیة بعد اتصافها بعنوان ثانوی کالقیودات التی تعرض علی الصلاة مثلا بعد تعلق الأمر بها کقصد القربة وقصد التمییز ونحوهما التی تتولد بواسطة تعلق الأمر بها ومعلولة له ولا وجود لها قبل ذلک، فحیث إنه لایمکن تقییدها بها لایمکن اطلاقها أیضاً، علی أساس أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، بملاک أن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة(1) ، فالنتیجة أنه علی هذا القول لایمکن التمسک بالاطلاق فی مقام

-

ص:295


1- (1) - أجود التقریرات 416:2.

الاثبات للکشف عنه فی مقام الثبوت لأنه تابع له، فإذا لم یمکن ثبوتاً لم یمکن اثباتاً أیضاً.

رأی السید الاستاذ

وأما الرأی الثانی، فقد اختاره السید الاُستاذ (قدس سره) وقال فی تفسیر ذلک، أن الاطلاق عبارة عن رفض القیود والغائها ولحاظ عدمها فی موضوع الحکم أو متعلقه، والتقیید عبارة عن لحاظ قید من القیود فیه، فالاطلاق علی هذا أمر وجودی کالتقیید، وعلیه فلا محالة یکون التقابل بینهما من تقابل التضاد لا العدم والملکة، وقد أفاد فی وجه ذلک أن الخصوصیات والانقسامات الطارئة علی موضوع الحکم و متعلقه سواءاً کانت من الخصوصیات النوعیة أو الصنفیة أو الشخصیة، فلا تخلو من أن یکون لها دخل فی الحکم والغرض أو لایکون لها دخل فی ذلک ولا ثالث لهما، وعلی الأول فبطبیعة الحال یتصور المولی موضوع الحکم أو متعلقه مع تلک الخصوصیة التی لها دخل فیه، وهذا هو معنی التقیید، وعلی الثانی یتصور الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم تلک الخصوصیات التی لیس لها دخل فیه ورفضها عنه. وهذا هو معنی الاطلاق، ومن الطببعی أن النسبة بین اللحاظ الأول واللحاظ الثانی نسبة التضاد، فلا یمکن اجتماعها فی شیء واحد من جهة واحدة.

وبکلمة، أن الغرض لایخلو من أن یکون قائماً بالطبیعی الجامع بین کافة خصوصیاته أو قائماً بحصة خاصة منه ولا ثالث لهما، فعلی الأول لابد من لحاظه بنحو الاطلاق والسریان رافضاً عنه جمیع القیود والخصوصیات الطارئة علیه، وعلی الثانی لابد من لحاظه مقیداً بقید خاص وهو الحصة ولا ثالث فی البین، فإن مرد الثالث وهو لحاظه بلا رفض القیود وبلا لحاظ تقیده بقید خاص إلی الاهمال فی الواقع وهو من المولی الملتفت مستحیل، وعلیه فالموضوع أو المتعلق

ص:296

فی الواقع إما مطلق أو مقید هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الاطلاق والتقیید علی ضوء هذا البیان أمران وجودیان، فإذن بطبیعة الحال یکون التقابل بینهما من تقابل الضدّین(1).

ونتیجة هذا الرأی أن استحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق علی عکس نتیجة الرأی الأول.

الرأی المختار

وأما الرأی الثالث: فیظهر اختیاره من جماعة وهو الصحیح، والنکتة فی ذلک أن انطباق الطبیعة علی تمام أفرادها من العرضیة والطولیة وسریانها إلیها بمختلف أشکالها وأصنافها ذاتی وقهری ولا یتوقف علی أی عنایة زائدة غیر عدم لحاظ القید فیها الذی هو نقیض لحاظ القید، فلذلک یکون التقابل بینهما من تقابل الایجاب والسلب لا العدم والملکة ولا التضاد.

بیان ذلک أن الماهیة المطلقة کماهیة لابشرط التی هی فی مقابل الماهیة بشرط لا وبشرط شیء قابلة للانطباق علی کافة أفرادها من النوعیة والصنفیة والشخصیة، ومن الطبیعی أن هذه القابلیة ذاتیة لا لحاظیة، علی أساس أنها بذاتها وذاتیاتها محفوظة فیها ولا تتوقف علی أی مقدمة خارجیة وعنایة زائدة، ولا یمکن المنع عن هذا الانطباق وسلخه عن الماهیة، لأنه من سلخ الشیء عن ذاته وذاتیاته، نعم إذا لوحظ قید معها فتصبح ماهیة مقیدة وزال الاطلاق عنها بزوال موضوعه، باعتبار أنه بلحاظ القید یوجد فی عالم الذهن مفهوم جدید وماهیة اخری مباینة للماهیة الاُولی وهی الماهیة المقیدة فی مقابل الماهیة المطلقة، مثلا ماهیة الانسان مع عدم لحاظ قید تنطبق علی تمام أفرادها من الانسان العالم

-

ص:297


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 173:2.

والجاهل والعادل والفاسق والغنی والفقیر وهکذا، وهذا الانطباق کما مر ذاتی ولا یتوقف علی أی شیء آخر غیر عدم لحاظ القید الذی هو نقیض لحاظ القید، وعلی هذا فیکفی فی کون موضوع الحکم أو متعلقه ماهیة مطلقة عدم لحاظ القید معه، باعتبار أنه صالح ذاتاً للانطباق علی تمام أفراده کما عرفت، ولا تنتفی هذه الصلاحیة الذاتیة عنه إلا بلحاظ القید، فإن لوحظ انتفت بانتفاء موضوعها وتحدث ماهیة جدیدة. لحد الآن قد تبین بوضوح أن الاطلاق فی مقابل التقیید عبارة عن عدم لحاظ القید فی موضوع الحکم أو متعلقه الذی هو نقیض لحاظ القید فیه، فلذلک یکون التقابل بینهما من تقابل الایجاب والسلب، لا أنه عبارة عن عدم لحاظ القید فی موضوع قابل للتقیید، بداهة أن هذه القابلیة غیر معتبرة فی صلاحیة الماهیة للانطباق علی تمام أفرادها وسریانها إلیها، لأنها ذاتیة ولایمکن دخالة شیء آخر فیها وإناطتها بأمر خارج، لاستحالة أن تکون معلولة لعلة أجنبیة، وإلاّ لزم أحد محذورین، إما تفکیک الشیء عن أفراده الذی هو محفوظ فیها بذاته وذاتیاته أو الخلف أی ما فرض أنه ذاتی فلیس بذاتی، وکلاهما مستحیل، وحیث إنه یکفی فی هذا الاطلاق عدم لحاظ القید، فلا فرق بین أن یکون عدم لحاظ القید من جهة عدم إمکان تقییدها به أو من جهة عدم دخله فی الغرض والملاک، فالنتیجة أنه لایمکن أن یکون التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن الاطلاق کما لایمکن أن یکون عبارة عن عدم خاص، کذلک لایمکن أن یکون عبارة عن أمر وجودی أیضاً وهو لحاظ عدم القید ورفضه، بداهة أن ذلک غیر دخیل فی اطلاق الماهیة وصلاحیتها للانطباق علی کل مایمکن أن یکون فرداً لها لما عرفت من أنها ذاتیة، فلا تتوقف علی أی شیء غیر عدم لحاظ القید دون لحاظ عدم القید ورفضه.

ص:298

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: أن الرأی القائل بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب، هو الرأی الصحیح الموافق للطبع الأولی والوجدان العقلی.

الثانیة: أن الرأی القائل بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فقد عرفت أنه غیر سدید ولا واقع موضوعی له.

الثالثة: أن الرأی القائل بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل التضاد مبنی علی الخلط بین الاطلاق الذاتی والاطلاق اللحاظی، والکلام إنما هو فی الأول، فإنه یسری إلی أفراده طبعاً وذاتاً وبدون أی مؤونه زائدة دون الثانی، فأنه لا وجود له إلا فی عالم اللحاظ ولا ینطبق مع هذا القید علی ما فی الخارج، إلا أن یقال أن اللحاظ مرآة إلی الواقع ولا موضوعیة له لکی یمنع عن الانطباق، ولکن حینئذ لا حاجة إلیه لعدم توقف الانطباق علیه کما تقدم.

البحث الثانی: أن السید الاُستاذ (قدس سره) اشکل علی ما اختاره المحقق النائینی (قدس سره) بوجهین:

الأول: أن استحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقیید بخلافه، لا أنه تستلزم استحالة الاطلاق، وقد أفاد فی وجه ذلک أن الاهمال فی الواقع مستحیل، لأن الغرض الداعی إلی جعل الحکم علی شیء لا یخلو من أن یقوم بطبیعی ذلک الشیء الجامع بین خصوصیاته من دون دخل شیء منها فیه أو بحصة خاصة منه ولا ثالث لهما، فعلی الأول لا محالة یلاحظ تلک الحصة الخاصة منه، وعلی کلا التقدیرین فلا اهمال فی الواقع، لأن الحکم علی الأول مطلق وعلی الثانی مقید، ولا فرق فی ذلک بین الانقسامات الأولیة والثانویة، بداهة أن المولی الملتفت إلی انقسام الصلاة خارجاً إلی الصلاة مع قصد القربة

ص:299

والصلاة بدونه، لا محالة إما أن یعتبرها علی ذمة المکلف بنحو الاطلاق أو یعتبرها مقیدة بقصد القربة ولا یتصور ثالث، لأن مرد الثالث إلی الاهمال بالإضافة إلی هذه الخصوصیة وهو غیر معقول، کیف فإن مردّه إلی عدم علم المولی بمتعلق حکمه أو موضوعه سعة وضیقاً وهو کماتری.

وعلی هذا فإذا افترضنا استحالة تقییدها بقصد القربة فی الواقع، فالاطلاق ضروری أو التقیید بخلافه، وبذلک یظهر أن التقابل بین الاطلاق والتقیید لایمکن أن یکون من تقابل العدم والملکه.

الثانی: أنا لو سلمنا أن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، إلا أن ما ذکره (قدس سره) من أن استحالة التقیید تستلزم إستحالة الاطلاق، غیر تام نقضاً وحلا.

أما نقضاً فمجموعة من الموارد، منها أن الانسان جاهل بکنه ذاته تعالی ولیس بامکانه الاحاطة به، لاستحالة احاطة الممکن بالواجب بالذات، فإذا استحال علم الانسان بذاته تعالی کان جهله بها ضروریاً، مع أن التقابل بین الجهل والعلم من تقابل العدم والملکة، فلوکانت استحالة العلم شیء تستلزم استحالة الجهل به، لزم استحالة جهل الانسان بکنه ذاته سبحانه وهو کما تری.

ومنها، أن استحالة قدرة الانسان علی الطیران فی السماء مثلا تستلزم ضرورة عجزه عنه لا استحالته، مع أن التقابل بین القدرة والعجز من تقابل العدم والملکة.

ومنها، أن استحالة استطاعة الانسان علی حفظ جمیع الکتب الموجودة فی هذه المکتبة تستلزم ضرورة عجزه عن ذلک لا استحالته، مع أن التقابل بین الاستطاعة والعجز من تقابل العدم والملکة ومنها غیر ذلک.

ص:300

وأما حلا، فلأن قابلیة المورد التی هی معتبرة بین العدم والملکة لا یلزم أن تکون شخصیة وموجودة فی کل مورد، بحیث لولم تکن فی مورد لم یکن التقابل بینهما فیه من تقابل العدم والملکة، بل أنها قد تکون شخصیة وقد تکون نوعیة وقد تکون جنسیة، ومن هنا ذکر الفلاسفة أن القابلیة المعتبرة بین الاعدام والملکات لیست شخصیة فی کل مورد، بل الأعم منه ومن الصنفیة والنوعیة والجنسیة حسب اختلاف الموارد والمقامات، فلا یعتبر فی صدق العدم المقابل للملکه علی مورد أن یکون ذلک المورد بخصوصه قابلا للاتصاف بالملکة، فإنه کما یکفی ذلک یکفی فی صدقه أن یکون صنف هذا المورد أو نوعه أو جنسه قابلا للاتصاف بها.

والخلاصة: أن کون التقابل بین العلم والجهل والقدرة والعجز ونحوهما من تقابل العدم والملکة إنما هو بلحاظ قابلیة المحل نوعاً لا شخصاً، وعلی هذا فالتقابل بین الاطلاق والتقیید وإن کان من تقابل العدم والملکة، إلا أنه لا یلزم أن یکون ذلک بلحاظ قابلیة شخص المحل لکی تستلزم استحالة التقیید استحالة الاطلاق فی کل مورد، إذ یمکن أن یکون ذلک بلحاظ قابلیة نوع المحل(1) هذا، وللنظر فی کلا التعلیقین مجال.

أما التعلیق الأول فهو مبنائی، فإن من یقول بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فلا مناص له من الالتزام بأن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، ولکن هل یکون لازم ذلک إهمال الواقع بمعنی عدم علم الحاکم بموضوع حکمها ومتعلقه سعة أو ضیقاً، أو بمعنی إهمال المأمور به من حیث الاطلاق والتقیید بلحاظ عدم امکان ذلک بالدلیل الأول مع علم الحاکم

-

ص:301


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 175:2-176.

بمراده سعة أو ضیقاً فی الواقع، ولکن لیس بامکانه بیانه تقییداً أو اطلاقاً بالدلیل الأول، فلهذا التجأ إلی بیانه کذلک بالدلیل الثانی وهو متمم الجعل فیه وجهان:

الظاهر أن مراد المحقق النائینی (قدس سره) الثانی، إذ لا یحتمل أن یکون مراده (قدس سره) من إهمال الواقع جهل الحاکم بالحکم المجعول سعةً وضیقاً، بداهة أن ذلک غیر معقول بالنسبة إلی المولی الحکیم العالم بالواقع بتمام خصوصیاته، سواءً أکانت من الخصوصیات الأولیة أم الثانویة، أما الأولیة فهی التی تقسم الطبیعة المأمور بها إلیها فی المرتبة السابقة علی الأمر وبقطع النظر عن تعلقه بها، وذلک کالصلاة بالنسبة إلی الطهارة من الحدث والخبث واستقبال القبلة والقیام والاستقرار وما شاکل ذلک.

وأما الثانویة، فهی التی تقسم الطبیعة المأمور بها إلیها فی المرتبة المتأخرة عن الأمر وبعد تعلقه بها، وذلک کالصلاة بالنسبة إلی قصد القربة وقصد التمییز، وعلی هذا فالمولی فی مقام جعل الوجوب علی الصلاة، فلا محالة یلاحظ جمیع خصوصیاتها الأولیة والثانویة، فما هو منها دخیل فی ترتب الملاک علی الصلاة خارجاً یقید الصلاة به، بلا فرق بین أن یکون ذلک من القیودات الأولیة أو الثانویة کقصد القربة، فإنه إذا کان دخیلا فی ترتب الملاک علی الصلاة فلا محالة یقید الصلاة به کتقییدها بغیره من القیودات التی لها دخل فی ذلک، فیکون المأمور به حصة خاصة من الصلاة وهی الصلاة المقیدة بقصد القربة، وإن لم یکن دخیلا فیه فالمأمور به هو الصلاة المطلقة من هذه الناحیة، غایة الأمر علی القول بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة لایمکن هذا التقیید بدلیل الأمر الأول، وعلی المولی حینئذ بیانه بدلیل آخر ولوکان بجلمة خبریة تقییداً أو اطلاقاً. ودعوی أن الصلاة لایمکن أن تکون مقسماً للقیودات الثانویة

ص:302

إلا بعد تعلق الأمر بها وفی المرتبة المتأخرة عنه، حیث لایمکن لحاظ تلک القیودات فیها قبل وجود الأمر بها حتی یمکن أن تکون مقیدة بها أو مطلقة، وأما تحقق تلک القیودات فی المرتبة المتأخرة عن الأمر وبعد تعلقه بها، فحیث إنه کان بعد تحدید متعلقه تقییداً أو اطلاقاً فی المرتبة السابقة، فلا یمکن تقییده بها أو اطلاقه وإلا لزم الخلف، والحاصل أن تقسیم الصلاة إلی الحصة المقیدة بقصد القربة وإلی غیرها یتوقف علی تعلق الأمر بها، وإلا فلا موضوع لهذا التقسیم.

مدفوعة بأنها مبتنیة علی الخلط بین مقسمیة الصلاة للحصص فی الخارج بقطع النظر عن تعلق الأمر بها وبین مقسمیتها فی عالم المفهوم للحصص فیه، فالحصص الخارجیة تتوقف علی تعلق الأمر بها وفی المرتبة المتأخرة عنه، وأما الحصص الذهنیة التی هی حصص لها فی عالم المفهوم، فلا تتوقف علی وجود الأمر بها ولا تکون فی المرتبة المتأخرة عنه، فإذن لا مانع من تصور المولی فی مقام جعل الحکم لشیء کالصلاة مثلا جمیع قیوداته من الأولیة والثانویة، ولا یتوقف هذا التصور علی وجود الأمر فی المرتبة السابقة وتعلقه به خارجاً، وإنما یتوقف علی وجود الأمر فی الذهن.

وإن شئت قلت أن المأخوذ فی متعلق الأمر هو قصد الأمر بوجوده الذهنی وهو متقدم علی الأمر بوجوده الواقعی الجعلی، وعلیه فلا مانع من کون الصلاة مقسماً للحصص الثانویة بلحاظ وجوداتها الذهنیة، لأنها بهذا اللحاظ لا تتوقف علی الأمر بوجوده الواقعی الجعلی، وإنما تتوقف علی الأمر بوجوده الذهنی اللحاظی الفانی، فما هو فی طول الأمر وجود القسمین فی الخارج، وما هو مقدم علی الأمر وجود القسمین فی عالم الذهن والمفهوم.

فالنتیجة، أن مقسمیة الصلاة إنما تلحظ بالنسبة إلی خصوصیاتها وقیوداتها

ص:303

فی مقام الجعل والاعتبار فی عالم التصور واللحاظ وهو عالم الذهن، ومن الواضح أن مقسمیتها بالنسبة إلی حصصها وقیوداتها فی هذا العالم علی حد سواء، بلا فرق بین أن تکون تلک الحصص والقیودات من الحصص والقیودات الأولیة أو الثانویة، لأن الأولیة والثانویة إنما تلحظان بلحاظ وجوداتهما فی الخارج، وأما بلحاظ وجوداتهما فی الذهن، فلا الأولیة ولا الثانویة بل هما فی عرض واحد.

وأما التعلیق الثانی، فلأن قابلیة المحل معتبرة بین العدم والملکة، لأن المحل إذا کان قابلا للاتصاف بالملکة کان قابلا للاتصاف بعدمها، فیکون التقابل فیهما من تقابل العدم والملکة، وعلی هذا فکل محل قابل للاتصاف بالعلم فهو قابل للاتصاف بالجهل أیضاً، ویکون التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، وأما إذا لم یکن المحل قابلا للاتصاف بالملکة کالعلم، لم یکن قابلا للاتصاف بالعدم المقابل للملکة أیضاً کالحیوان مثلا، فإنه غیر قابل للاتصاف بالعلم، فإذا استحال اتصافه به، استحال اتصافه بالجهل وهو عدم العلم الخاص المقابل للملکة، لاعدم اتصافه به الذی هو نقیض الاتصاف فإنه ضروری، ومن هذا القبیل ما إذا استحال علم الانسان بکنه ذاته تعالی وتقدس، استحال اتصافه بالجهل وهو عدم العلم الخاص المقابل للملکة، من جهة أن المورد غیر قابل للاتصاف بالعلم ولا للاتصاف بعدمه الخاص من باب السالبة بانتفاء الموضوع، ومن هنا یکون عدم الاتصاف به ضروریاً لأنه نقیض الاتصاف، ففی کل مورد یکون المحل قابلا فهو قابل للاتصاف بکلیهما معاً وإلا فهو غیر قابل للاتصاف بکلیهما کذلک، وهذا معنی أن استحالة أحدهما یستلزم استحالة الآخر.

والخلاصة: أن امتناع العلم بکنه ذاته سبحانه وتعالی وامتناع قدرة الانسان علی الطیران فی السماء وهکذا، یستلزم إمتناع الاتصاف بالعدم الخاص وهو

ص:304

العدم المقابل للملکة لا عدم الاتصاف بالعلم أو القدرة الذی هو نقیض الاتصاف فإنه ضروری، وعلیه فالجهل بمعنی الاتصاف بعدم العلم ممتنع من باب أنه لا موضوع له، وأما الجهل بمعنی عدم الاتصاف بالعلم الذی هو نقیض الاتصاف فهو ضروری، وکذلک الحال فی العجز فإنه بمعنی الاتصاف بعدم القدرة ممتنع لعدم کون المورد قابلا له، وأما بمعنی عدم الاتصاف بها فهو واجب، باعتبار أنه نقیض الاتصاف، ومن هنا یظهر حال مسألة الاطلاق والتقیید أیضاً، لأن فی کل مورد إذا أمکن فیه تقیید متعلق الأمر بقید أمکن فیه اطلاقه أیضاً، وفی کل مورد إذا لم یمکن فیه تقییده بقید کقصد القربة، لم یمکن فیه اطلاقه أیضاً بمعنی الاتصاف بعدم القید، لأن المورد غیر قابل له، لا بمعنی عدم الاتصاف بالقید فإنه ضروری، وعلیه فإذا استحال تقیید الصلاة بقصد القربة، استحال اطلاقها أیضاً بمعنی الاتصاف بعدم قصد القربة، واما بمعنی عدم الاتصاف فهو ضروری، اما إستحالة الأول فمن جهة عدم قابلیة المحل لا للاتصاف بالملکه ولا للاتصاف بعدمها المقابل لها، وأما ضرورة الثانی فمن جهة أن استحالة أحد النقیضین تستلزم ضرورة الآخر، فالنتیجة أن استحالة الملکة فی کل مورد تستلزم استحالة العدم المقابل لها فیه لا ضروریة.

هذا إضافة إلی أن مسألة الاطلاق والتقیید منوطة بنکتة واقعیة وهی انطباق الطبیعة علی أفرادها وسریانها إلیها، وقد تقدم أن هذا الانطباق ذاتی فلا یحتاج إلی مقدمة خارجیة حتی لحاظ عدم القید ورفضه، نعم إذا کان الاطلاق لحاظیاً کما هو مختار السید الاُستاذ (قدس سره)، فهو یتوقف علی هذا اللحاظ ومتقوّم به.

والخلاصة: أنه بناء علی ما قویناه من أن اطلاق الطبیعة وسریانها إلی أفرادها ذاتی، فیکفی فیه عدم لحاظ القید معها الذی هو نقیض لحاظ القید،

ص:305

فلذلک یکون التقابل بینهما من تقابل الایجاب والسلب، وأما بناء علی مسلک السید الاُستاذ (قدس سره) من أن اطلاقها لحاظی فیتوقف علی لحاظ زائد علی الطبیعة، فلذلک یکونان معاً أمرین وجودیین ویکون التقابل بینهما من تقابل الضدین، ولا یتصور أن یتوقف سریان الطبیعة إلی أفرادها وانطباقها علیها علی قابلیتها وشأنیتها للاتصاف بالقید لکی تقبل الاتصاف بالعدم الذی هو معنی الاطلاق علی المسلک القائل بأن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة.

وأما تفسیر الاطلاق بالجمع بین القیود فهو لا یرجع إلی معنی محصل.

البحث الثالث: أنه قد فسرت استحالة الاطلاق فی المقام بتقسیرین:

الأول: أن یکون المراد منها استحالة شمول الخطاب للمقید الذی کان یستحیل تقیید الحکم به.

الثانی: أن یکون المراد منها استحالة نفی التقیید به وشمول الخطاب لصورة فقدان القید.

أما التفسیر الأول، فهو فی غیر محله، لأنه لابد من النظر فیه إلی ملاک الاستحالة، فإن کان قائماً بنفس ثبوت الحکم، فعندئذ لا فرق بین ثبوته للمقید وثبوته للمطلق، فکما أن الأول مستحیل فکذلک الثانی بنفس الملاک، وذلک کثبوت الحکم علی العاجز، فإن ملاک الاستحالة قائم بنفس ثبوت الحکم له سواءاً کان بالتقیید به أم کان بالاطلاق، وإن کان ملاک الاستحالة قائماً بعملیة التقیید فحسب، فلا مانع من الاطلاق ولا موجب لاستحالته حینئذ أصلا، وذلک کتقیید خطابات الکتاب والسنة العامة بالکفار فإنه لایمکن، وأما اطلاقها بنحو یشمل الکفار فلا مانع منه، ومن هذا القبیل تقیید تلک الخطابات بطائفة خاصة فإنه لا یمکن، وأما اطلاقها بنحو یشمل تلک الطائفة فلا مانع منه وهکذا.

ص:306

والخلاصة: أن ملاک الاستحالة إن کان فی ثبوت الحکم علی المقید سواءاً کان بالتقیید أم بالاطلاق، فکلاهما مستحیل بملاک واحد وفی عرض واحد، وإن کان ملاک الاستحالة قائماً بنفس عملیة التقیید فحسب فلا مانع من الاطلاق.

ومن هنا لو کانت استحالة تقیید المأمور به کالصلاة مثلا بقصد الأمر من جهة محذور الدور، وهو أن الأمر بالصلاة متوقف علی قصده من باب توقف الحکم علی متعلقه، والقصد متوقف علی الأمر من باب توقف العرض علی معروضه، فلا مانع من اطلاقها وشمولها لکلتا الحصتین معاً هما الصلاة مع قصد الأمر والصلاة بدون قصده، لأن الأمر حینئذ لما کان متعلقاً بالطبیعی الجامع بینهما فلا یتوقف علی قصده، باعتبار أنه غیر مأخوذ فی متعلقه، نعم لو کان ملاک استحالة تقیید المأمور به بقصد الأمر داعویة الأمر لداعویة نفسه، فاطلاقه أیضاً مستحیل بنفس هذا الملاک، إذ معنی اطلاقه علی هذا التفسیر هو شموله للحصة المقیدة بقصد الأمر، ومن الواضح أنه لا یمکن شموله لها بنفس ذلک المحذور لا بملاک أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق.

فالنتیجة، أن ملاک الاستحالة إن کان فی عملیة التقیید فحسب فلا مانع من الاطلاق، وإن کان فی عملیة الاطلاق أیضاً فکلاهما مستحیل.

وأما التفسیر الثانی لاستحالة الاطلاق الذی هو مراد المحقق النائینی (قدس سره)، فقد أفاد فی وجه ذلک أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فاستحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، فإذا فرض أن تقیید المأمور به بقصد القربة مستحیل، فاطلاقه لنفی هذا التقیید وشموله لصورة فقدان القید أیضاً مستحیل(1).

-

ص:307


1- (1) - أجود التقریرات 156:1 و 160.

وللنظر فیه مجال، أما أولا فلما تقدم من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب لا العدم والملکة، وعلیه فاستحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق لا استحالته، علی أساس أن ارتفاع النقیضین کاجتماعهما مستحیل. وثانیاً لو تنزلنا عن ذلک وسلمنا أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، إلا أن استحالة التقیید إنما تستلزم استحالة الاطلاق بمعنی الاتصاف بعدم قصد القربة، باعتبار أنه متوقف علی قابلیة المحل وهو غیر قابل له ذاتاً، لا استحالة الاطلاق بمعنی عدم الاتصاف به الذی هو نقیض الاتصاف فإنه ضروری، علی أساس أن استحالة أحد النقیضین تستلزم ضرورة الآخر. وهذا الاطلاق یکفی لنفی التعبد به عند الشک فیها. هذا تمام الکلام فی المقام الأول.

التمسک بالاطلاق اللفظی لاثبات التوصلیة

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو امکان التمسک بالاطلاق اللفظی عند الشک فی تعبدیة الواجب وتوصلیته، فیختلف الحال فیه باختلاف الآراء فی المسألة وهی کما یلی.

الرأی الأول: أن أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر ممکن.

الرأی الثانی: أنه مستحیل.

الرأی الثالث: التفصیل بین الأمر الأول والأمر الثانی واستحالة أخذه فی متعلق الأمر الأول وامکان أخذه فی متعلق الأمر الثانی.

الرأی الرابع: التفصیل بین قصد الأمر وبین سائر الدواعی القریبة أو بینه وبین الجامع.

أما علی الرأی الأول، فلا مانع من التمسک بالاطلاق إذا کان لنفی تعبدیة

ص:308

الواجب واثبات أنه توصلی، باعتبار أن حال قصد القربة حینئذ حال سائر قیود الواجب الشرعیة، فکما أنه إذا شک فی اعتبار قید من تلک القیود فلا مانع من التمسک باطلاق دلیل الواجب لنفی اعتباره، فکذلک إذا شک فی اعتبار قصد القربة.

وأما علی الرأی الثانی، فعلی القول بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فاستحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، فإذن الاطلاق مستحیل ثبوتاً کالتقیید، فإذا کان مستحیلا ثبوتاً فلا اطلاق فی مقام الاثبات، لأنه تابع للاطلاق فی مقام الثبوت وکاشف عنه، ولا یعقل وجود الکاشف بدون المکشوف فی الواقع والحاکی بدون وجود المحکی فیه.

وأما علی الرأی القائل بأن استحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق، کما إذا کان التقابل بینهما من تقابل التضاد أو الایجاب والسلب، فهل یمکن التمسک بالاطلاق فی مقام الاثبات؟ الظاهر أنه لایمکن، لأن الاطلاق فی مقام الاثبات إنما یکون کاشفاً عن الاطلاق فی مقام الثبوت بمعونة مقدمات الحکمة منها عدم ذکر القید، ومن الواضح أن عدم ذکر القید فی مقام الاثبات إنما یکون کاشفاً عرفاً عن عدم اعتباره فی مقام الثبوت إذا کان التقیید به ممکناً فیه، وأما إذا لم یمکن فلا یکون عدم ذکره کاشفاً عن عدم دخله فی الغرض، لاحتمال أن یکون دخیلا فیه ثبوتاً بأن یکون مراد المولی جداً هو المقید فی الواقع، ولکنه لایتمکن من تقییده به، وعلی الجملة فدلالة مقدمات الحکمة إنما هی من جهة ظهور حال المتکلم، ومن المعلوم أن عدم ذکر القید فی مقام الاثبات إنما یکون کاشفاً عن عدم اعتباره ودخله فی الغرض إذا کان بامکان المتکلم التقیید به، وأما إذا لم یکن بامکانه ذلک، فلا یدل عدم ذکره فیه علی عدم اعتباره فی الواقع وعدم دخله فی الغرض

ص:309

ولا ظهور له فیه، إذ یحتمل أن یکون له دخل فیه فی الواقع، ولکن عدم التقیید به لعله کان من جهة عدم تمکنه منه ثبوتاً لامن جهة عدم اعتباره ودخله فی الغرض، وعلی هذا فلا تتم مقدمات الحکمة، وبدون تمامیتها فلایمکن التمسک بالاطلاق فی مقام الاثبات لنفی التعبدیة واثبات التوصلیة عند الشک فیهما.

فالنتیجة، أنه علی القول باستحالة أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر کالصلاة مثلا، فعلی القول بأن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب أو التضاد، فالاطلاق وإن کان ضروریاً ثبوتاً إلا أنه لایمکن التمسک بالاطلاق فی مقام الاثبات للکشف عن أن الاطلاق فی مقام الثبوت واف بالغرض، لاحتمال أن الغرض متعلق بالمقید فیه. ولکن المولی لایتمکن من التقیید، فإذن لا یکشف عدم ذکر القید فی مقام الاثبات عن عدم اعتباره فی مقام الثبوت، ولو سلمنا أن استحالة التقیید لاتستلزم ضرورة الاطلاق ولا استحالته بل هو ممکن ثبوتاً، فهل یمکن التمسک بالاطلاق فی مقام الاثبات لاحرازه فی مقام الثبوت، الظاهر أنه لایمکن بنفس مامر من الملاک وهو عدم تمامیة مقدمات الحکمة، فإن من مقدماتها عدم ذکر القید فی مقام الاثبات الکاشف عن عدم اعتباره فی مقام الثبوت، وأما فی المقام فلا یکشف عرفاً عن عدم اعتباره فی مقام الثبوت وعدم دخله فی الغرض، إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون من جهة عدم التمکن من التقیید به لا من جهة أنه غیر دخیل فی الغرض، فلذلک لا یکون الاطلاق فی مقام الاثبات کاشفاً عن الاطلاق فی مقام الثبوت.

وأما علی الرأی الثالث، القائل بأن أخذ قصد القربة ممکن فی متعلق الأمر الثانی دون متعلق الأمر الأول، فلا شبهة فی أنه لا یمکن التمسک باطلاق الأمر الأول فی مقام الاثبات، لأنه فی مقام الثبوت اما مهمل أو مطلق، أما علی الأول

ص:310

فواضح، لأن الاطلاق فی مقام الاثبات کاشف عن الاطلاق فی مقام الثبوت وتابع له، فإذا لم یکن اطلاق فی مقام الثبوت فلا معنی للاطلاق فی مقام الاثبات.

وأما علی الثانی، فلما عرفت من أن التقیید فی مقام الثبوت إذا کان مستحیلا، فلا یکشف الاطلاق فی مقام الاثبات عن عدم دخله فی الغرض لاحتمال أنه دخیل فیه، ولکن عدم ذکر القید فی مقام الاثبات لعله کان من جهة عدم التمکن من التقیید به ثبوتاً لا من جهة عدم اعتباره.

وأما الأمر الثانی، فإن کان قید قصد القربة مأخوذاً فی لسانه فهو یدل علی أن الواجب تعبدی، وإن لم یکن مأخوذاً فیه إثباتاً مع التمکن من التقیید به ثبوتاً، لا مانع من التمسک باطلاقه لاثبات أن الواجب توصلی لا تعبدی.

وأما علی الرأی الرابع، فلا مانع من التمسک بالاطلاق إذا کان الشک فی تقیید متعلق الأمر بقصد المحبوبیة أو المصلحة أو جامع قصد القربة وهو إضافة الفعل إلی المولی، لأن الاطلاق فی مقام الاثبات کاشف عنه فی مقام الثبوت ونتیجة ذلک عدم تقیید المأموربه، به.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنه لا مانع من التمسک بالاطلاق اللفظی علی الرأی الأول مطلقاً، وعلی الرأی الثالث فیما إذا کان للأمر الثانی اطلاق، وعلی الرأی الرابع فیما إذا شک فی أخذ سائر الدواعی القریبة فی متعلق الأمر أو الجامع، وأما علی الرأی الثانی فلا یمکن التمسک بالاطلاق مطلقاً کما تقدم.

التمسک بالاطلاق المقامی لاثبات التوصلیة

هذا تمام الکلام فی الاطلاق اللفظی، وأما الاطلاق المقامی الذی هو ناش من سکوت المتکلم فی مقام البیان، فلا مانع من التمسک به إذا کان، کما إذا أمر المولی عبده بالذهاب إلی السوق وشراء أشیاء معینة، فإن سکوته عن شراء غیرها

ص:311

رغم ظهور حاله فی أنه فی مقام بیان تمام مراده، یدل علی أنه لم یرد غیرها، وهذا الظهور الناشیء من السکوت فی مقام البیان حجة وإن کان من أضعف مراتب الظهور، وفی المقام إذا أمر المولی بالتکبیرة والقراءة والرکوع والسجود والتشهد والتسلیم فی الوقت المعین مستقبل القبلة مع الطهارة من الحدث والخبث والقیام وهکذا وسکت عن قصد القربة ونحوه فیها رغم کونه فی مقام البیان، یدل سکوته علی عدم دخل غیر هذه الأجزاء والشروط فی غرضه وإلا لبیّن، ولا فرق فیه بین أن یکون بیان ذلک بالأمر أو بغیره ولو بجملة خبریّة.

وهنا وجه آخر لاثبات قصد القربة فی متعلق الأمر، وهو أنه لوکان معتبراً ودخیلا فی الغرض والملاک کان علی المولی بیانه ولو بجملة خبریّة، باعتبار أنه لاطریق إلیه إلا من قبل الشرع، فعدم البیان من قبل المولی یدل علی عدم اعتباره ودخله فی الغرض، والمقصود من هذا الوجه عدم بیان المولی دخالة قصد القربة فی الغرض فی شیء من خطابه، ومن هنا یظهر أن ما أورد علی هذا الوجه بأنه لا یثبت الاطلاق المقامی فی شخص خطاب لم یذکر فیه دخالة قصد القربة فی الغرض فهو غیر وجیه، لأن المقصود من هذا الوجه لیس إثبات الاطلاق المقامی لکل خطاب شخصی للمولی مع احتمال أنه یذکر دخالته فی خطاباته الاُخری، بل المقصود منه أن المولی إذا لم یذکر دخالة قصد القربة فی الغرض فی شیء من خطاباته وبیاناته، کان عدم ذکرها قرینة عرفاً علی عدم دخالته فی الغرض.

القول بأصالة التعبدیة

إلی هنا قد تبیّن أن مقتضی اطلاق الخطاب سواءً کان لفظیاً أم مقامیاً هو نفی التعبدیة واثبات التوصلیة عند الشک فیهما هذا، ولکن هناک جماعة ذهبوا إلی أن مقتضی الأصل الأول التعبدیة، فالتوصلیة بحاجة إلی دلیل، وقد استدلوا علی

ص:312

ذلک بوجوه:

الوجه الأول: بقوله تعالی: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ )(1) ، بدعوی أن الآیة الشریفة تدل علی حصر الأوامر بالأوامر العبادیة، علی أساس إختصاص العبودیة والاخلاص بالعبادات، فإذن کون الواجب توصلیاً بحاجة إلی دلیل.

والجواب: أن الآیة الشریفة لا تدل علی أن قصد القربة معتبر فی الواجبات الالهیة جزاءً وشرطاً، لأن مدلولها أن الغرض من الأوامر الصادرة من المولی الحکیم العبادة وإلا طاعة علی أساس أنها حق ذاتی له تعالی، والنکتة فی ذلک أن مفاد الآیة إرشاد إلی ما استقل به العقل وهو حکمه بوجوب عبادته تعالی وطاعته فی أوامره مخلصاً، ومن هنا لولا الآیة الشریفة کان العقل مستقلا بذلک تطبیقاً لحق عبودیته الذاتیة، هذا إضافة إلی أن من المحتمل قویاً أن تکون الآیة فی مقام حصر المعبود بالله تعالی فی مقابل عبادة الأصنام والأوثان، ولعل سیاق الآیة شاهد علی ذلک.

فالنتیجة، أن الآیة الشریفة أجنبیة عن الدلالة علی اعتبار قصد القربة فی کل واجب إلا ما خرج بالدلیل.

الوجه الثانی: بالروایات التی تنصّ علی أن الأعمال بالنیات ولا أثر لها بدونها(2) والمراد من النیة، نیة القربة.

والجواب: أن هذه الروایات وإن کانت کثیرة وفیها روایات معتبرة إلا أنها أجنبیة عن الدلالة علی أن نیة القربة معتبرة فی کل عمل واجب فی الشریعة

-

ص:313


1- (1) - سورة البیّنة (98):5.
2- (2) - لاحظ وسائل الشیعة 46:1، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات.

المقدسة، لأن معنی أن الأعمال بالنیّات أنها تتبع فی الحسن والقبح والخیر والشر، نیة العامل، فإن عملا واحداً إذا صدر من العامل بنیة الخیر فهو حسن، وإذا صدر منه بنیة الشر فهو قبیح، مثلا ضرب الیتیم إذا کان بنیة التأدیب فهو حسن، وإذا کان بنیة الإیذاء أو امتحان العصا فهو قبیح، وکذلک القیام إذا کان بنیة احترام مؤمن فهو حسن وإذا کان بنیة هتکه وهدر حقه فهو قبیح وهکذا، وهذا معنی أن الأعمال بالنیات.

فالنتیجة، أنه لا صلة لهذه الروایات بالدلالة علی أن کل عمل واجب فی الشریعة المقدسة فهو واجب عبادی، وأما کونه واجباً توصلیاً فهو بحاجة إلی دلیل، هذا إضافة إلی أن تخصیص الأعمال فی هذه الروایات بالواجبات العبادیة فی الشریعة المقدسة تخصیص بالفرد النادر وهو قبیح عرفاً.

الوجه الثالث: أن مقتضی الأصل فی کل واجب لدی العقل هو کونه تعبدیاً فالتوصلیة بحاجة إلی دلیل، وذلک لأنه لا شبهة فی أن الغرض من الأمر المتعلق بشیء کالصلاة مثلا هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف للتحریک نحو إیجاد ذلک الشیء فی الخارج، وقد تقدم أن الأمر الصادر من المولی یتضمن التحریک والسعی نحو المأموریة فی الخارج علی أساس دلالته علیه، وحیث إن الغرض من الأمر هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف، فحینئذ إن أتی بالمأموربه بذلک الداعی حصل الغرض منه وسقط أمره، وأما إذا لم یأت به بالداعی المذکور فلا یعلم بحصول الغرض وسقوط الأمر، ومع عدم العلم بذلک لا محالة یحکم العقل بوجوب لاتیان بالمأموربه بداعی أمره تحصیلا للغرض، إلا إذا قام دلیل من الخارج علی أن الغرض منه یحصل بدون الاتیان به بداعی أمره، وهذا هو معنی کونه واجباً توصلیاً.

ص:314

والجواب: أن الغرض من الأمر الوارد من المولی بعنوان المولویة وإن کان هو إیجاد الداعی فی نفس المکلف للتحریک نحو الاتیان بمتعلقه فی الخارج، لأن معنی الأمر هو طلب الاتیان به والسعی نحوه، ولافرق فی ذلک بین الأوامر التعبدیة والأوامر التوصّلیة، لأن الغرض من الجمیع إیجاد الداعی فی نفس المکلف وإلا کان الأمر به لغواً، إلا أن ذلک الداعی یکون علة لتحریک المکلف نحو إیجاد المأمور به بتمام أجزائه وقیوده فی الخارج لا أنه قید له ودخیل فی غرضه ومعتبر فی صحته، ضرورة أن الأمر المتعلق بالصلاة بما لها من الأجزاء والقیود یدعو المکلف إلی الاتیان بها بتمام تلک الأجزاء والقیود، ولا یدل علی أن الاتیان بها لابد أن تکون بداعی نفسه بأن یأتی بالصلاة مثلا بداعی أمره، بداهة أن الأمر المتعلق بها لا یدل إلا علی الاتیان بها فحسب لا علی الاتیان بها بداعی نفسه، وإلا لزم داعویته إلی داعویة نفسه.

فالنتیجة، أن هذه الوجوه بأجمعها لا ترجع إلی معنی محصل، فالصحیح ما ذکرناه من أن مقتضی الاطلاق نفی التعبدیة، سواءاً کان الاطلاق لفظاً أم مقامیاً.

الأصل العملی عند الشک فی التعبدیة و التوصلیة
اشارة

وأما الکلام فی الجهة الثالثة، وهی مقتضی الأصل العملی، فهو یختلف باختلاف الآراء فی المسألة.

الرأی المختار

أما علی الرأی المختار وهو إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، فحاله حال سائر أجزاء الصلاة وقیودها، فإذ شک فی اعتباره جزءاً وقیداً، دخل المقام فی کبری مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، فإن قلنا هناک بأصالة البراءة العقلیة والشرعیة، فنقول بها فی المقام أیضاً، ولو قلنا هناک بأصالة الاحتیاط والاشتغال، إما بدعوی عدم انحلال العلم الاجمالی أو بدعوی عدم احراز سقوط التکلیف المعلوم ثبوته وفعلیته بالاتیان بالأقل، أو بدعوی عدم العلم

ص:315

بحصول الغرض إلا بالاتیان بالأکثر، فنقول بها فی المقام أیضاً بنفس الملاک. هذا، ولکن الصحیح أن المرجع فی تلک المسألة هو أصالة البراءة عقلا وشرعاً وکذا فی المقام، وتفصیل الکلام فی محله إنشاء الله تعالی.

وأما علی الرأی القائل بعدم إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، فعلی ضوء مقالة المحقق الخراسانی (قدس سره) من أن اعتباره إنما هو فی الغرض والملاک وهو لا یحصل إلا مع قصد القربة، فهل مقتضی الأصل العملی عند الشک فی دخله فیه أصالة البراءة أو أصالة الاشتغال؟ فیه قولان:

رأی المحقق الخراسانی

فقد إختار المحقق الخراسانی (قدس سره) القول الثانی(1) وأن المرجع فیه أصالة الاشتغال عند الشک دون أصالة البراءة لا الشرعیة ولا العقلیة، بتقریب أن قصد القربة غیر مأخوذ فی متعلق الأمر شرعاً لا الأمر الأول ولا الأمر الثانی، وإنما هو دخیل فی الغرض بحکم العقل، وعلی هذا فإذا شک فی حصول الغرض بالاتیان بالواجب بدون قصد القربة، حکم العقل بلزوم اتیانه بقصد القربة حتی یحصل الیقین بتحققه، وعلیه فمقتضی الأصل العملی عند الشک فی واجب أنه تعبدی أو توصلی، التعبدیة فالتوصلیة بحاجة إلی دلیل.

مناقشة السید الاستاذ

هذا، وقد أفاد السید الاُستاذ (قدس سره) أن ما ذکره هنا یشترک مع ما ذکره فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین فی نقطة وتفترق عنه فی نقطة اخری، أما نقطة الاشتراک فهی أن العقل کما یستقل بوجوب تحصیل الغرض هناک عند الشک فی حصوله کذلک یستقل بوجوب تحصیله هنا عند الشک فیه، ومن هنا التزم (قدس سره) هناک بأصالة الاشتغال وعدم جریان أصالة البراءة العقلیة کما هو الحال فی المقام.

-

ص:316


1- (1) - کفایة الاُصول: 75.

وأما نقطة الافتراق فهی أنه (قدس سره) قد إلتزم بجریان البراءة الشرعیة هناک دون هنا، والنکتة فی ذلک أنه عند الشک فی اعتبار شیء فی العبادة کالصلاة مثلا کما یعلم اجمالا بوجود تکلیف مردد بین تعلقه بالأقل أو الأکثر، کذلک یعلم اجمالا بوجود غرض مردد بین تعلقه بهذا أو ذاک، وحیث إن هذا العلم الاجمالی لاینحل إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی بالأکثر، فبطبیعة الحال یکون مقتضاه وجوب الاحتیاط وعدم جریان البراءة العقلیة، وأما البراءة الشرعیة فالظاهر أنه لا مانع من جریانها، لأن مقتضی أدلة البراءة الشرعیة هو رفع التقیید الزائد المشکوک فیه، فإذا شککنا فی جزئیة السورة مثلا فی الصلاة فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن جزئیتها، وإذا ضممنا ذلک إلی ما علمناه اجمالا من الأجزاء والشرائط، یثبت الاطلاق ظاهراً وهو وجوب الأقل وهذا بخلاف المقام، فإنه لایمکن فیه جریان البراءة الشرعیة، فإنها إنما تجری فیما یکون أمره رفعاً ووضعاً بید الشارع، وأما ما لایکون کذلک فلا تجری فیه البراءة، وعلی هذا فکل ما یکون قابلا للجعل شرعاً من الأجزاء والشرائط إذا شک فیه فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه، وأما ما لایکون قابلا للجعل شرعاً، فإذا شک فی اعتباره عقلا فلا مجال للرجوع إلی أصالة البراءة عنه، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن الشک إنما هو فی دخل قصد القربة فی الغرض عقلا لا شرعاً(1).

ثم علق (قدس سره) علیه بأمور:

الأول: ما تقدم من أنه لا مانع من أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر شرعاً، وعلیه فلا فرق بینه وبین سائر الأجزاء والشرائط.

-

ص:317


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 194:2.

الثانی: أن العلم الاجمالی فی مسألة الأقل والأکثر ینحل حکماً.

الثالث: أنه لا فرق بین التکلیف والغرض، کما أن التکلیف مالم یصل الی المکلف لا یحکم العقل بتنجزه ووجوب موافقته کذلک الغرض، فإنه مالم یصل إلی المکلف لا یحکم العقل بتنجزه ووجوب تحصیله، فإنه لایزید علی أصل التکلیف.

وغیر خفی أن التعلیق الأول والثانی وإن کان صحیحاً، إلا أن التعلیق الثالث غیر سدید، وذلک لأن صاحب الکفایة لم یقل بالفرق بین ما إذا کان الشک فی التکلیف وما إذا کان الشک فی الغرض، وإنما یقول بأصالة الاشتغال فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین عند الشک فی الغرض من جهة العلم الاجمالی وعدم انحلاله، فلهذا یحکم العقل بقاعدة الاشتغال لا بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، ولکن بما أنه (قدس سره) قد بنی فی نهایة المطاف علی جریان البراءة الشرعیة وانحلال العلم الاجمالی حکماً فلایحکم العقل بقاعدة الاشتغال، فإن الوظیفة حینئذ الاتیان بالأقل، وهذا قرینة علی أنه لا یقول بقاعدة الاشتغال فی کل مورد یکون الشک فیه شکاً فی الغرض، وأما فی المقام فمن جهة أن الغرض قد وصل إلی المکلف بوصول الأمر إلیه، والشک إنما هو فی حصوله بالاتیان بالواجب بدون قصد القربة، فمن أجل ذلک یحکم العقل بقاعدة الاشتغال، علی أساس أن الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، ومن الواضح أن التزامه (قدس سره) بالاشتغال فی هذین الموردین لا یدل علی التزامه به فی کل مورد وإن کان الشک فی الغرض فیه بدویاً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه (قدس سره) قد صرح فی الکفایة أنه لا مجال فی المقام إلا لقاعدة الاشتغال، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقل والأکثر

ص:318

الارتباطیین، وذلک لأن الشک فی المقام إنما هو فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدته، فلا یکون العقاب مع الشک وعدم احراز الخروج عقاباً بلا بیان والمؤاخذة علیه بلا برهان، ضرورة أنه مع العلم بالتکلیف تصحّ المؤاخذة علی المخالفة(1) ، هذا هو الفرق بین المقام وبین مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، ولکن هذا الفرق لایجدی فی أن المرجع فی المقام قاعدة الاشتغال، وفی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین قاعدة البراءة، وذلک لأن المکلف وإن کان یعلم بالغرض القائم بذات الواجب واشتغال ذمته به من جهة أنه وصل إلیه بوصول الأمر به، والشک إنما هو فی سقوطه بالاتیان به بدون قصد القربة، ولکن هذا الشک إنما یکون مورداً لقاعدة الاشتغال إذا لم یکن راجعاً إلی المولی، وإلا کان مورداً لقاعدة البرائة.

ودعوی أن هذا صحیح إذا کان اعتبار قصد القربة بید الشارع کغیره من الأجزاء والشرائط، والمفروض أن اعتباره لیس بیده، لما مر من أنه لایمکن أخذه فی متعلق الأمر لا بالأمر الأول ولا بالأمر الثانی، مدفوعة بأن هناک مسألتین:

الاُولی: أخذه فی متعلق الأمر.

الثانیة: بیان دخله فی الغرض ولو بجملة خبریة. والذی لایمکن فی المقام هی المسألة الاُولی، وأما المسألة الثانیة فهی بید المولی، لأن بیان تمام ما له دخل فی حصول الغرض بیده منه دخالة قصد القربة، فإن أخذه فی متعلق الأمر وإن کان غیر ممکن إلا أن بیان أنه دخیل فی الغرض ولو بجملة خبریة بیده، فإذا کان بإمکان المولی بیان ذلک ومع هذا سکت ولم یبین دخالته فیه، کان ذلک قرینة علی

-

ص:319


1- (1) - کفایة الاُصول: 75.

أنه غیر دخیل فیه، ولو شک فیه فالمرجع قاعدة البراءة العقلیة والشرعیة، ولا تختص البراءة بما إذا کان الشک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیة آخر له، بل تعم ما إذا کان الشک فی دخالة شیء فی الغرض وإن لم یکن جزءاً للمأمور به أو قیداً له کما فی المقام، لأن مفاد أدلة أصالة البراءة رفع ما کان قابلا للوضع شرعاً.

وإن شئت قلت: أن الشک فی سقوط التکلیف أو الغرض إنما یکون مورداً لقاعدة الاشتغال إذا کان راجعاً إلی المکلف وکان البیان تامّاً من قبل الشارع، کما إذا کان الشک فی ذلک من جهة الشک فی کیفیة الامتثال، ففی مثل ذلک یکون المرجع فیه قاعدة الاشتغال، وأما إذا کان راجعاً إلی المولی کما فی المقام، فإن دخل قصد القربة فی الغرض وعدم دخله فیه إنما هو راجع إلی المولی دون المکلف، لأنه لا طریق له إلی ذلک، وعلی هذا فإن کان دخیلا فیه فعلیه بیانه ولو بجملة خبریة إن لم یمکن بصیغة الأمر، ومع ذلک إذا لم یبین وسکت، فسکوته یدل علی أنه غیر دخیل فیه، ولو شک ولم یکن هناک اطلاق، فالمرجع فیه قاعدة البراءة.

وأما علی ضوء مقالة المحقق النائینی (قدس سره) من استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، أو مقالة السید الاُستاذ (قدس سره) أو ما قویناه من أن استحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق، فهل یمکن التمسک بأصالة البراءة أو أن المرجع فیه قاعدة الاشتغال؟ الظاهر هو الأول، وذلک لأن أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر وإن لم یمکن، إلا أنه لو کان دخیلا فی حصول الغرض فی الواقع فعلی المولی بیانه لانه بیده، ومع ذلک إذا لم یبین وسکت، فسکوته فی مقام البیان یدل علی عدم اعتباره، وحینئذ فلو شک فی ذلک کان المرجع أصالة البراءة عقلا وشرعاً.

والخلاصة: أنه علی هذین القولین معاً، فالاطلاق اللفظی فی مقام الاثبات

ص:320

الکاشف عن الاطلاق الحقیقی فی مقام الثبوت غیر موجود، فإذا لم یکن هناک اطلاق مقامی فالمرجع الأصل العملی، ودعوی أنه لا یجری فی المقام، أما البراءة العقلیة فلأمرین: أحدهما: أن مقتضی العلم الاجمالی فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین هو قاعدة الاشتغال دون البراءة، والمفروض أن المقام داخل فیها، والآخر أن الشک فی المقام إنما هو فی سقوط الغرض بعد العلم بثبوته وهو مورد لقاعدة الاشتغال، وأما البراءة الشرعیة فلأن مفاد أدلتها رفع التکلیف المشکوک ولا یمکن تطبیقها علی المقام، لأن التکلیف فیه معلوم ولا شک فیه، والشک إنما هو فی دخالة قصد القربة فی الغرض ولایمکن نفیها بالبراءة الشرعیة.

مدفوعة، أما أولا فلأن کلا الأمرین المذکورین غیر صحیح، أما الأمر الأول فقد تقدم أن العلم الاجمالی فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین منحل حکماً فلا أثر له، وأما الأمر الثانی فلما مرّ أیضاً من أن مرد الشک فی السقوط فی المقام إلی الشک فی أن قصد القربة دخیل فی الغرض أو لا، وحیث إن بیان ذلک بید الشارع وهو متمکن من ذلک ولو بجملة خبریة، فإذا لم یبین وسکت فلا مانع من الرجوع إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان شریطة أن لا ینعقد هناک اطلاق.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن البراءة العقلیة لاتجری فی المقام ولکن لا مانع من جریان البراءة الشرعیة، لأن مفاد أدلتها رفع الکلفة إذا کان منشأها اعتبار من الشرع، وحیث إن الشک فی المقام إنما هو فی دخالة قصد القربة فی الغرض، فمن الواضح أنها ترجع إلی الشارع، فإنه إن اعتبر دخالة قصد القربة فیه، ففی ترکه مسؤلیة وإلا فلا مسؤولیة فیه، وبما أن اعتبار الشارع مشکوک فیه، فالشک فی المسؤولیة علی ترکه، فلا مانع حینئذ من التمسک بأصالة البراءة لرفع هذه المسؤولیة، هذا إضافة إلی أن بیان دخالة قصد القربة فی الغرض

ص:321

وإن کان بجملة خبریة، فیدل علی الوجوب بالالتزام، وحینئذ فلا مانع من تطبیق أدلة البراءة علی المقام وإن قلنا بأن مفادها رفع التکلیف المشکوک فیه.

هذا تمام کلامنا فی مقتضی الأصل اللفظی والعملی فی موارد الشک فی کون الواجب تعبدیاً أو توصلیاً.

نتائج البحث

ولمزید من المعرفة بهذه المسألة نظریاً وتطبیقیاً نستعرض نتائجها فی ضمن النقاط التالیة.

الاُولی: أن فی التقابل بین الاطلاق والتقیید آراء.

الأول: أن التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، وقد اختاره المحقق النائینی (قدس سره).

الثانی: أن التقابل بینهما من تقابل التضاد، وقد اختاره السید الاُستاذ (قدس سره).

الثالث: أن التقابل بینهما من تقابل الایجاب والسلب.

الثانیة: أن الصحیح من هذه الآراء هو الرأی الثالث، وذلک لأن الاطلاق الذی هو عبارة عن انطباق الطبیعة علی أفرادها وسریانها إلیها لا یتوقف علی أی مقدمة خارجیة وعنایة لأنه ذاتی، ویکفی فیه عدم لحاظ القید الذی هو نقیض لحاظ القید، وأما تفسیره بالعدم الخاص فی مقابل الملکة فهو بلا مبرر، لأن الاطلاق لا یتوقف علیه، کما أن تفسیره بلحاظ عدم القید ورفضه الذی هو أمر وجودی مضاد للحاظ القید بلا موجب، لعدم توقف الاطلاق علیه علی ما مرّ تفصیله.

الثالثة: أن السید الاُستاذ (قدس سره) قد علق علی ما اختاره المحقق النائینی (قدس سره) من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة وأن استحالة التقیید

ص:322

تستلزم استحالة الاطلاق بأمرین:

الأول: أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل التضاد لا العدم والملکة، وعلیه فاستحالة التقیید تستلزم إما ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقیید بخلافه، لاستحالة الاهمال فی الواقع.

الثانی: أنه علی تقدیر تسلیم أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، ومع ذلک ما ذکره (قدس سره) من أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق غیر تام نقضاً وحلا، وقد مرّ تفصیل ذلک موسعاً.

الرابعة: أن تعلیقه الأول علی ما أفاده المحقق النائینی (قدس سره) مبنائی هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخری الظاهر أن مراده (قدس سره) من اهمال الواقع اهماله من حیث الاطلاق والتقیید اللحاظیین مع علم الحاکم بمراده فی الواقع سعة وضیقاً، ولهذا التجأ إلی دلیل آخر یدل علی الاطلاق أو التقیید، ولیس المراد من الاهمال تردد الحاکم فی أن مراده مطلق أو مقید.

وأما تعلیقه الثانی، فهو غیر سدید، لأن تقابل العدم والملکة فی کل مورد منوط بقابلیة ذلک المورد للاتصاف بکل منهما، وأما إذا لم یکن قابلا لذلک، فلا یکون التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، مثلا علم الانسان بکنه ذاته تعالی وتقدس مستحیل من جهة أن المحل غیر قابل للاتصاف بالعلم به، فإذا لم یکن المحلل قابلا للاتصاف به لم یکن قابلا للاتصاف بعدمه أیضاً، فلهذا یکون عدم الاتصاف الذی هو نقیض الاتصاف ضروری.

الخامسة: أن استحالة الاطلاق عند استحالة التقیید قد فسرت بتفسیرین:

الأول: استحالة شمول الخطاب للمقید.

ص:323

الثانی: استحالة نفی التقیید به وشمول الخطاب لصورة فقدان القید، ومراد المحقق النائینی (قدس سره) من هذین التفسیرین التفسیر الثانی بقرینة أنه (قدس سره) أراد من الاطلاق المستحیل نفی التعبدیة واثبات التوصلیة.

وأما التفسیر الأول، فیرد علیه أنه یتبع ملاک الاستحالة، فإنه إن کان قائماً بنفس ثبوت الحکم، فإذن الاطلاق کالتقیید مستحیل بملاک واحد وفی عرض واحد، لأن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، وإن کان قائماً بعملیة التقیید فحسب، فلا یکون الاطلاق مستحیلا.

السادسة: أنه علی الرأی المختار من إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، فلا مانع من التمسک باطلاق دلیله عند الشک فی اعتباره، وأما علی الرأی القائل باستحالة أخذه فیه فلا یمکن التمسک بالاطلاق، سواء فیه القول بأن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق أم القول بأنها تستلزم ضرورته علی تفصیل تقدم، وأما إذا لم یکن هناک اطلاق لفظی، فلا مانع من التمسک بالاطلاق المقامی الناشیء من السکوت فی مقام البیان إذا کان.

السابعة: قد یقال کما قیل أن الأصل فی الواجب التعبدیة، فالتوصلیة بحاجة إلی دلیل، وقد استدل علی ذلک بوجوه ولایتم شیء منها، وقد مرّتفصیل ذلک.

الثامنة: أن مقتضی الأصل العملی علی المختار من إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر البراءة، باعتبار أن المقام حینئذ داخل فی کبری مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، والصحیح فی تلک المسألة هو أصالة البراءة عقلا وشرعاً، وأما علی القول بعدم إمکان أخذه فیه، فعلی مقالة المحقق الخراسانی (قدس سره) أصالة الاشتغال، ولکن الصحیح أصالة البراءة، وأما علی مقالة المحقق النائینی (قدس سره) من أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، فالصحیح فیها أیضاً أصالة

ص:324

البراءة وکذلک علی مقالتی السید الاُستاذ (قدس سره)، والمختار من أن استحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق، وقد تقدم تفصیل کل ذلک بشکل موسّع.

التاسعة: أن المرجع علی المختار من إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر هو أصالة البراءة، لأن المسألة حینئذ داخلة فی کبری مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین، حیث إن حال قصد القربة علی هذا القول حال سائر الأجزاء والشروط.

العاشرة: أن المرجع علی الرأی القائل بعدم إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر هو أصالة البراءة أیضاً علی تفصیل تقدم، خلافاً للمحقق الخراسانی (قدس سره)، حیث إنه ذهب إلی أن المرجع علی هذا القول هو أصالة الاشتغال وإن قلنا بأصالة البراءة فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین.

الحادیة عشر: أن الشک فی المقام وإن کان فی سقوط الغرض بالاتیان بالمأمور به بدون قصد القربة ولکن مع ذلک یکون المرجع فیه أصالة البراءة، وذلک لأن الشک فی السقوط بعد الثبوت إنما یکون مورداً لقاعدة الاشتغال إذا کان راجعاً إلی المکلف دون الشارع، کما إذا شک فی السقوط من جهة الشک فی الامتثال وأما إذا کان راجعاً إلی الشارع فهو مورد لأصالة البراءة، وحیث إن الشک فی السقوط فی المقام یرجع إلی أن الشارع اعتبر دخالة قصد القربة فی الغرض أو لا وإن لم یکن اعتباره بنحو الجزئیة أو الشرطیة للمأمور به، حیث لا شبهة فی أن بامکان الشارع بیان أنه دخیل فیه ولو بجملة خبریة، ومع الشک فیه یرجع إلی أصالة البراءة وقد تقدم تفصیله.

الثانیة عشر: أن المرجع فی المسألة عند الشک وعدم وجود الاطلاق أصالة البراءة بلا فرق بین القول بأن استحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق أو

ص:325

تستلزم ضرورته.

الشک فی النفسی والغیری

اشارة

یقع الکلام فیه فی مقامین:

المقام الأول فی مقتضی الأصل اللفظی.

المقام الثانی فی مقتضی الأصل العملی.

الأصل اللفظی فی المسألة

أما الکلام فی المقام الأول، فیمکن اثبات أن الواجب نفسی بأحد طریقین:

الأول: التمسک باطلاق المادة، کما إذا أمر المولی بالصلاة وأمر بالوضوء وشککنا فی أن الوضوء قید للصلاة حتی یکون وجوبه غیریاً، أو أنه لیس قیداً لها حتی یکون وجوبه نفسیاً، فلا مانع من التمسک باطلاق الصلاة لاثبات عدم تقیدها بالوضوء، ولازم ذلک أن وجوب الوضوء نفسی وهذا اللازم حجة فی باب الاُصول اللفظیة، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون دلیل الأمر بالواجب المردد بین النفسی والغیری کدلیل الوضوء متصلا بدلیل الواجب النفسی کدلیل الأمر بالصلاة أو منفصلا عنه، ودعوی أنه لو کان متصلا بدلیل الواجب النفسی یسری اجماله وتردد إلیه.

مدفوعة بأنها إنما تتم إذا کان الدلیل المجمل المردد بمثابة القرینة علی الدلیل الآخر کالخاص بالنسبة إلی العام، فإنه إذا کان متصلا بالعام ومجملا سری اجماله إلیه، والمفروض أن دلیل الأمر بالواجب المردد بین النفسی والغیری لیس بمثابة القرینة علی دلیل الواجب النفسی حتی یسری اجماله إلیه، ومن الواضح أن مجرد اقترانه به لا یوجب سرایة اجماله إلیه، بل مقتضی اطلاق المادة فیه نفی الاجمال عنه إذا کان المتکلم فی مقام البیان.

ص:326

وقد یقال کما قیل إنه یمکن التمسک باطلاق المادة کالوضوء، مثلا أن الحصة غیر الموصلة منها مصداق للواجب أیضاً، ولازم ذلک أن الوضوء واجب نفسی بناء علی ما هو الصحیح من اختصاص الوجوب الغیری بالحصة الموصلة فقط، وهذا اللازم حجة فی باب الألفاظ، أو فقل أن اطلاق المادة یدل بالمطابقة علی أن الحصة غیر الموصلة مصداق لها وبالالتزام علی أنها واجبة نفسیة لا غیریة.

والجواب: أولا أن هذه الطریقة لو تمت فإنما تتم علی القول بتخصیص الواجب الغیری بالحصة الموصلة فقط لا مطلقاً.

وثانیاً أن اثبات مصداقیة الحصة غیر الموصلة للواجب کالوضوء مثلا متوقف علی کونه واجباً نفسیاً، إذ لوکان غیریاً لم تکن الحصة المذکورة مصداقاً له، فلو توقف کونه واجباً نفسیاً علی مصداقیة تلک الحصة لزم الدور، وعلیه فلابد من اثبات وجوب المادة کالوضوء بوجوب نفسی فی المرتبة السابقة، فإذا ثبت وجوبها النفسی کذلک، فعندئذ کانت الحصة المذکورة مصداقاً لها وإلا فلا. نعم، لوکانت مصداقیة الحصة غیر الموصلة للمادة بنفسها تدل علی وجوبها النفسی بالالتزام، صح هذا الوجه، إلا أن المقدم باطل حینئذ، لوضوح أن المادة لاتقسم إلی الحصتین المذکورتین إلا بعد فرض وجوبها لا مطلقاً، ضرورة أنه لا معنی لتقسیم الوضوء إلی الوضوء الموصل وغیر الموصل فی نفسه وبقطع النظر عن وجوبه.

هذا إضافة إلی أن الوضوء لو کان واجباً نفسیاً لم ینقسم إلی الحصة الموصلة وغیر الموصلة، لأن هذا التقسیم إنما هو بملاک اختصاص وجوب المقدمة بالحصة الموصلة، ومعنی اختصاصه بها أنه مشروط بترتب ذی المقدمة علیها خارجاً، ومن الواضح أن هذا الملاک غیر موجود فیما إذا کان وجوبه نفسیاً، فإذن لا

ص:327

تتصف أفراده فی الخارج بهذین الوصفین حتی ینقسم إلیهما.

الثانی: التمسک باطلاق الهیئة، بتقریب أن وجوب الوضوء مثلا لو کان غیریاً لکان مربوطاً بوجوب واجب نفسی، لفرض أن وجوب الواجب الغیری تابع لوجوبه ومشروط به، إما بملاک أنه مترشح منه أو أن الشارع إذا جعله جعل وجوب مقدماته أیضاً بالتبع، وعلی هذا فإذا شک فی أن وجوبه مرتبط بوجوبه أو أنه غیر مرتبط به، فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة، فإن مقتضاه عدم تقیید وجوب المادة الذی هو مفاد الهیئة بوجوب واجب آخر، ونتیجة ذلک أن وجوبها نفسی.

وإن شئت قلت: أن مقتضی اطلاق دلیل وجوب الوضوء هو عدم تقید وجوبه بما إذا وجب شیء آخر، وهذا هو معنی کونه نفسیاً.

قد یقال کما قیل أنه یمکن اثبات کون مفاد الهیئة وجوباً نفسیاً لا غیریاً بطریق آخر وهو أن الأمر فی المقام یدور بین قیدین:

أحدهما وجودی وهو قید الغیریة: فإنه عبارة عن الوجوب الناشیء عن وجوب واجب آخر، والآخر عدمی وهو قید النفسیة، فإنه عبارة عن الوجوب الذی لم ینشأ عن وجوب واجب آخر، ومن الطبیعی أنه کلما دار الأمر بین قیدین أحدهما وجودی والآخر عدمی، فمقتضی الاطلاق فی مقام الاثبات إرادة القید العدمی دون الوجودی، فإن إرادته بحاجة إلی قرینة وعنایة زائدة ولا قرینة فی المقام علی إرادة القید الوجودی، فإذن مقتضی اطلاق الهیئة کون الوجوب نفسیاً، ولکن هذا الطریق غیر سدید، أما أولا فلأن الأمر فی المقام لا یدور بین قیدین أحدهما وجودی وهو قید الغیریة والآخر عدمی وهو قید النفسیة، بل الأمر فی المقام یدور بین لحاظ قید وهو لحاظ تقید وجوب الوضوء فی المثال

ص:328

بوجوب واجب آخر وعدم لحاظه، فإنه یکفی فی الاطلاق ولا یتوقف علی لحاظ العدم، ومقتضی اطلاق الهیئة عدم لحاظ تقید الوجوب بوجوب واجب آخر، وعلیه فلایدور الأمر فی المقام بین قیدین الأول الوجودی والآخر العدمی، بل یدور بین لحاظ قید وعدم لحاظه الذی هو نقیض اللحاظ.

وثانیاً أن الأمر إذا دار بین لحاظ قیدین الوجودی والعدمی فالاطلاق لا یعین الثانی، فإذا أمر المولی باکرام عالم وشککنا فی أن المأخوذ فی موضوع وجوب الاکرام هل هو قید العدالة أو عدم الفسق، فالاطلاق لا یعین أن المأخوذ فیه الثانی دون الأول، لأن أخذ کل منهما فیه بحاجة إلی عنایة زائدة والاطلاق لایفی لاثباتها، نعم إذا دار الأمر بین أن یکون الموضوع مقیداً بالعدالة أو لا، فمقتضی الاطلاق عدم تقییده بها لا تقییده بعدم الفسق بنحو العدم النعتی.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن مقتضی اطلاق دلیل الأمر مادة وهیئة هو کون الواجب نفسیاً لا غیریاً، وسیأتی الکلام فی بعض خصوصیات هذه المسألة فی بحث مقدمة الواجب إنشاء الله تعالی.

الشک فی التعیینی والتخییری

اشارة

یقع الکلام هنا فی مقامین:

المقام الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

المقام الثانی: فی مقتضی الأصل العملی.

وأما البحث عن حقیقة الوجوب التخییری والأقوال والاتّجاهات فی تفسیرها، فسیأتی فی مبحث الواجب التخییری موسعاً.

ص:329

الأصل اللفظی فی المسألة

أما الکلام فی المقام الأول وهو ما إذا شک فی کون الواجب تعیینیاً أو تخییریاً، فلا شبهة فی أن مقتضی الاطلاق التعیین فالتخییر بحاجة إلی دلیل، أما علی القول بأن حقیقة الوجوب التخییری ترجع إلی أن المجعول وجوبات متعددة مشروطة، فمقتضی الاطلاق عدم الاشتراط وأن المجعول وجوب واحد، وأما علی القول بأنها ترجع الی وجوب واحد مجعول للجامع، فمقتضی اطلاق المادة أن الواجب هو متعلق الأمر بعنوانه الخاص لا أنه فرد للواجب، مثلا إذا أمر المولی بصوم شهرین وشککنا فی أنه واجب تعیینی أو تخییری، فمقتضی اطلاق المادة أن الصوم بعنوانه واجب لا أن الواجب هو الجامع والصوم فرد له، فإنه بحاجة إلی قرینة بل لا مانع من التمسک بالاطلاق الأحوالی للهیئة، فإن سکوت المولی عن بیان العدل له وعدم سقوطه بفعل آخر کاطعام ستین مسکیناً مثلا یدل بالالتزام علی أنه واجب تعیینی.

والخلاصة: أن ثبوت الوجوب التخییری علی جمیع الأقوال فی المسألة متوقف علی مؤونة زائدة، بینما ثبوت الوجوب التعیینی لا یتوقف علیها، ولهذا إذا دار الأمر بینهما فی مقام الاثبات، فمقتضی اطلاق الأمر الوجوب التعیینی، تحصل أن مفاد الأمر مادة وهیئة هو الوجوب النفسی التعیینی وإرادة الوجوب الغیری أو التخییری منه بحاجة إلی قرینة.

الأصل العملی فی المسألة

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو مقتضی الأصل العملی عند الشک فی کون الواجب تعیینیاً أو تخییریاً، فالظاهر هو أصالة البراءة عن التعیین لأن فیه کلفة زائدة لا فی التخییر، وذلک لأن مرد التخییر لایخلو من أن یکون إلی جعل وجوبات متعددة المشروطة أو إلی جعل وجوب واحد علی الجامع والتخییر بین أفراده، وعلی کلا التقدیرین فمرجع الشک فیه إلی الشک فی التعیین والتخییر، فإذا

ص:330

أمر المولی بصوم شهرین متتابعین وشککنا فی أن وجوبه تعیینی أو تخییری، فبطبیعة الحال یکون مرد هذا الشک إلی الشک فی أن الصوم واجب علی المکلف تعیینیاً، أو أنه واجب علیه تخییراً بینه وبین الاطعام، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون متعلق الوجوب التخییری کل واحد من الخصال بعنوانه بنحو الوجوب المشروط أو الجامع بینها، وعلی کلا الفرضین فالشک فی أن الصوم فی المثال واجب تعیینیاً أو تخییریاً بینه وبین الاطعام، إما بملاک أن کلا منهما واجب بنحو الواجب المشروط أو بملاک أن کلا منهما فرد للواجب، فإذا کان الشک فی المقام من موارد الشک فی التعیین والتخییر. فالمرجع فیه إصالة البراءة عن التعیین، فالنتیجة هی التخییر، وبکلمة أن المرجع فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر أصالة الاشتغال فی مسألتین:

الاُولی: أن یکون الشک فی التعیین والتخییر فی الحجیة، بأن یکون الأمر دائراً بین حجیة امارة تعیینیاً وحجیتها تخییراً بینها وبین امارة اخری، ففی مثل ذلک یکون مقتضی الأصل التعیین.

الثانیة: أن یکون الشک فیهما فی مرحلة الامتثال بعد العلم بالتکلیف بتمام حدوده واشتغال ذمته به.

وأما إذا کان الشک فی التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل، فیکون المرجع فیه قاعدة البراءة عن التعیین، وما نحن فیه من هذا القبیل.

ومن هنا یظهر أن نتیجة الأصل اللفظی فی هذه المسألة تختلف عن نتیجة الأصل العملی فیها، فإن نتیجة الأول اثبات التعیین ونتیجة الثانی اثبات التخییر.

ص:331

الشک فی الکفائی والعینی

اشارة

یقع الکلام فیه فی مقامین:

المقام الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

المقام الثانی: فی مقتضی الأصل العملی، وأما البحث عن حقیقة الوجوب الکفائی والأقوال فی تفسیرها فسیأتی فی مبحث الواجب الکفائی انشاء الله تعالی.

الأصل اللفظی فی المسألة

أما الکلام فی المقام الأول وهو مقتضی الأصل اللفظی عند الشک فی واجب أنه کفائی أو عینی، فلا شبهة فی أن مقتضاه أنه عینی، لأن الکفائیة بحاجة إلی عنایة زائدة، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الوجوب الکفائی سنخ وجوب متوجه إلی فرد أو فئة معینة فی الواقع عند الله وغیر معینة عندنا أو إلی أحاد المکلفین بنحو العموم المجموعی أو العموم الاستغراقی أو إلی فرد أو فئة لا بعینه أو إلی کل فرد أو جماعة بنحو الوجوب المشروط، فإن مقتضی اطلاق دلیل الأمر علی جمیع الأقوال فی المسألة العینیة، أما علی القول الأول، فلأن مقتضی اطلاق الأمر المتوجه إلی فرد أو فئة عدم سقوطه عنه بفعل غیره وکذلک الحال علی القول الثالث والرابع، وأما علی الثانی فلأن مقتضی اطلاق الأمر المتوجه إلی آحاد المکلفین أن کل فرد تمام الموضوع لا أنه جزء الموضوع، فإنه بحاجة إلی دلیل، وأما علی القول الخامس، فلأن مقتضی إطلاق الأمر المتوجه إلی کل فرد أو فئة عدم الاشتراط، فالاشتراط بحاجة إلی دلیل.

فالنتیجة، أن مقتضی اطلاق الأمر کون الوجوب نفسیاً تعیینیاً عینیاً، وإرادة

ص:332

الغیری أو التخییری أو الکفائی منه بحاجة إلی قرینة.

الأصل العملی فی المسألة

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو مقتضی الأصل العملی، فالصحیح أن مقتضاه نفی العینیة عند الشک فیها، باعتبار أن فیها کلفة زائدة، فإذا فرضنا أن المولی أمر فئة بالقیام بعمل وشککنا فی أنه واجب کفائی یسقط بقیام غیرهم به أو عینی لا یسقط به، ففی مثل ذلک لا مانع من الرجوع إلی أصالة البرائة عن العینیة، ودعوی أن الأمر إذا کان متوجهاً إلی فرد وشک فی أنه کفائی أو عینی، فیرجع هذا الشک إلی الشک فی السقوط بقیام الغیر به وهو من موارد قاعدة الاشتغال دون البراءة.

مدفوعة، بأن سنخ الوجوب العینی غیر سنخ الوجوب الکفائی روحاً وملاکاً، وعلی هذا فإذا توجه أمر إلی فرد وشک فی أنه عینی أو کفائی، فهو حینئذ وإن کان یعلم بثبوت الوجوب الجامع بین العینی والکفائی ولکن لا یعلم بثبوت کل من الوجوب العینی أو الکفائی بحده الخاص، لأن حدوث کل منهما مشکوک فیه والعلم بالجامع لا أثر له إلا فیما إذا لم یقم غیره بالعمل، فإنه حینئذ یجب علیه القیام به، سواءاً کان کفائیاً أم عینیاً، وأما إذا قام غیره به فهو عندئذ وإن کان شاکاً فی سقوطه، إلا أن مرد هذا الشک إلی الشک فی حدوث الوجوب العینی واشتغال ذمته به، ومن الواضح أن المرجع فیه أصالة البراءة، ولا تعارض بأصالة البراءة عن الوجوب الکفائی لعدم جریانها فیه، من جهة أنه لا کلفة فیه والکلفة إنما هی فی الوجوب العینی.

فالنتیجة، أن المرجع فی موارد الشک فی کون الوجوب عینیاً أو کفائیاً هو أصالة البراءة عن العینیة، وبذلک یختلف نتیجة الأصل اللفظی عن نتیجة الأصل العملی فی المقام.

ص:333

خلاصة هذه البحوث امور:

الأول: أنه یمکن التمسک بإطلاق الأمر من ناحیة المادة تارة ومن ناحیة الهیئة تارة اخری لاثبات أن الواجب نفسی لا غیری.

الثانی: أن مقتضی اطلاق دلیل الأمر أن الواجب تعیینی لا تخییری، فالتخییریة بحاجة إلی عنایة زائدة، نعم مقتضی الأصل العملی نفی التعیینیة، ولهذا تکون نتیجته علی عکس نتیجة الأصل اللفظی.

الثالث: أن مقتضی اطلاق دلیل الأمر کون الواجب عینیاً لا کفائیاً، فإن الکفائیة بحاجة إلی بیان زائد، نعم مقتضی الأصل العملی فیه نفی العینیة، فتکون النتیجة علی عکس ما هو مقتضی الأصل اللفظی.

الرابع: أن مدلول الأمر وضعاً النسبة الطلبیة المولویة المساوقة للوجوب، ومدلول اطلاقه الثابت بمقدمات الحکمة، کون الواجب نفسیاً تعیینیاً عینیّاً، وارادة کل من الواجب الغیری أو التخییری أو الکفائی بحاجة إلی قرینة.

ص:334

الأمر الوارد تلو الحظر

إذا ورد الأمر من المولی عقیب الحظر أو فی مورد توهمه، فهل یبقی ظهوره فی الوجوب أو لا، وعلی الثانی فهل یدل علی الاباحة أو علی الحکم السابق قبل النهی، أو لا هذا ولا ذاک بل یصبح مجملا، فیه وجوه:

الظاهر أن شیئاً من هذه الوجوه غیر صحیح، فلنا دعویان:

الاُولی: أن المناسب فی المقام أن تجعل صیغة البحث فی محل النزاع البحث عن وجود المانع النوعی من دلالة الأمر علی الوجوب، لا البحث عن دلالته علی أحد الوجوه المذکورة بعنوان ثانوی.

الثانیة: بطلان هذه الوجوه.

أما الدعوی الاُولی، فلان من الواضح أنه لیس للأمر وضع آخر بعنوان ثانوی للدلالة علی أحد الوجوه المذکورة، وحینئذ فلا معنی لجعل ذلک محل النزاع والبحث فی المسألة، ومن هنا قلنا أن الأنسب جعل صیغة البحث فی المقام عن وجود المانع النوعی عن دلالة الأمر علی معناه الموضوع له وهو الوجوب، باعتبار أن هذه الدلالة سواءاً کانت مستندة إلی الوضع أم الاطلاق ومقدمات الحکمة أو حکم العقل، فلا تختلف باختلاف الموارد والمقامات، وإنما تختلف باختلاف القرائن والمناسبات، وهذه القرائن قد تکون شخصیة وهی تختلف من مورد إلی آخر ولیس لها ضابط کلی ومعیار معین، وقد تکون نوعیة وهی لا تختلف من مورد إلی آخر ولها ضابط کلی.

وعلی هذا فینبغی أن یبحث فی المقام عن أن وقوع الأمر عقیب الحظر أو فی

ص:335

مورد توهمه، هل یصلح أن یکون قرینة نوعیة مانعة عن دلالة الأمر علی الوجوب أو لا، وأما کونه قرینة فی بعض الموارد لمناسبة أو خصوصیة فیه فلا اشکال فیه، وإنما الکلام فی قرینیته نوعاً بنحو ضابط کلی، وهی التی تناسب أن تکون مبحوثاً عنها فی المسألة دون البحث عن دلالة الأمر علی الوجوب أو علی الاباحة أو علی الحکم السابق قبل النهی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری الظاهر أن وقوع الأمر تلو الحظر قرینة نوعیة علی المنع من دلالة الأمر علی الوجوب ورفع الحظر، بمعنی أنه لا منع ولا حظر بعد ذلک، وأما أنه واجب أو مباح أو مکروه أو مستحب فلا یدل علی شیء من هذا، نعم إذا کان الأمر معلقاً علی زوال علة النهی کان یدل علی الحکم السابق قبل النهی إن کان وجوباً، فالوجوب کما فی قوله تعالی: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکِینَ )(1) ، فإنه یدل علی الوجوب، بقرینة أن الحکم السابق هو الوجوب وإن کان مباحاً، فالاباحة کما فی قوله تعالی: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(2) ، فإنه یدل علی الإباحة باعتبار أن الحکم السابق هو الاباحة، وهذه الدلالة من جهة قرینة المقام لا فی نفسه.

فالنتیجة، أن الأمر الواقع عقیب الحظر لایدل إلا علی رفع الحظر والمنع، وأما دلالته علی الوجوب أو الاباحة بحاجة إلی قرینة.

وأما الدعوی الثانیة، فقد ظهر مما مر أن الأمر الواقع عقیب الحظر لا یدل علی الوجوب فی نفسه، ومن هنا ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أن عدم دلالة الأمر علی الوجوب واضح علی جمیع الأقوال فی المسألة، أما علی القول بأن دلالته علیه

-

ص:336


1- (1) - سورة التوبة (9) 5.
2- (2) - سورة المائدة (5) 2.

بحکم العقل أو بالاطلاق ومقدمات الحکمة فالأمر ظاهر، ضرورة أن مقدمات الحکمة لا تتم علی القول الثانی مع فرض وقوع الأمر عقیب الحظر لأنه صالح للقرینیة ومانع عن تمامیتها، وأما علی القول الأول، فلان العقل إنما یحکم بالوجوب بمقتضی قانون المولویة والعبودیة إذا لم تقم قرینة علی الترخیص وإلا فلا یحکم بذلک، وأما علی القول بأن الأمر موضوع للدلالة علی الوجوب، فلا ظهور له فیه إذا کان واقعاً عقیب الحظر، وأصالة الحقیقة لا أثر لها طالما لم یکن هناک ظهور(1).

وقد علق علی ذلک بعض المحققین (قدس سره) بأن الأمر له مدلول تصوری وهو الوجوب المعبر عنه بالنسبة الارسالیة المولویة المساوقة له وله مدلول تصدیقی وهو إرادة طلب الفعل، والأمر فی مورد توهم الحظر مستعمل فی معناه الموضوع له، ومن هنا لا یکون الأمر فی قوله تعالی: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(2) مستعملا فی معنی مجازی بل هو مستعمل فی معناه الموضوع له وهو النسبة الارسالیة المولویة(3).

وغیر خفی أن هذا التعلیق وإن کان صحیحاً فی نفسه إلا أنه لا یکون تعلیقاً علی ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره)، لوضوح أن غرضه من عدم دلالة الأمر الواقع عقیب الحظر علی الوجوب عدم دلالته علیه بدلالة تصدیقیة وبالظهور العرفی، ولیس غرضه المنع من استعماله فی مدلوله التصوری، والقرینة علی ذلک أنه (قدس سره) قال أنه لا یمکن التمسک بأصالة الحقیقة لأنها لا تکون حجة تعبداً وإنما تکون حجة من باب الظهور، ومن الواضح أن مورد أصالة الحقیقة الشک فی المراد

-

ص:337


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 205:2-206.
2- (2) - سورة المائدة (5):2.
3- (3) - لاحظ بحوث فی علم الاُصول 117:2-118.

التصدیقی وأنه معنی حقیقی أو معنی مجازی، وحینئذ فإن کان للفظ ظهور فی إرادة المعنی الحقیقی فهو حجة، وإن لم یکن له ظهور فی ذلک لم تکن الأصالة حجة، بل یکون اللفظ مجملا، وهذا لا ینافی کونه مستعملا فی مدلوله التصوری، ومن هنا یظهر أن الأمر المذکور لا یدل علی الاباحة، ضرورة أنه غیر مستعمل فیها کما أنه غیر مستعمل فی الحکم السابق، بل هو مستعمل فی معناه ومدلوله التصوری ویدل علی رفع الحظر کما تقدم، فالنتیجة أن المتفاهم العرفی من الأمر الواقع عقیب الحظر هو رفع المنع والحظر فحسب ولا یدل علی أکثر من ذلک، وأما إرادة خصوصیة اخری فهی بحاجة إلی قرینة حالیة أو مقالیة.

ص:338

المرة و التکرار

اشارة

اختلف الاُصولیون فی أن صیغة الأمر هل تدل علی المرة أو التکرار فی الأفراد الطولیة والدفعة أو الدفعات فی الأفراد العرضیة أو لا تدل؟

فالصحیح أنها لا تدل علی شیء من هذه الخصوصیات لا من ناحیة المادة ولا من ناحیة الهیئة، أما من ناحیة المادة فلأنها موضوعة للماهیة المهملة التی یکون النظر فیها مقصوراً علی ذاتها وذاتیاتها وهی غیر واجدة للحیثیة الخارجیة عن ذاتها وذاتیاتها وعاریة عن کافة الخصوصیات اللحاظیة حتی إضافتها إلی ما عداها، وإلا کانت لها تعینات ثلاثة اللا بشرطیة وبشرط اللائیة وبشرط الشیئیة وهی مقسم لها، فإذن لا تدل المادة علی شیء من الخصوصیات منها المرة والتکرار والدفعة والدفعات، وأما من ناحیة الهیئة فلأنها موضوعة للنسبة الطلبیة المولویة المساوقة للوجوب إذا لم تکن قرینة علی الخلاف، فالنتیجة أن الصیغة لا تدل وضعاً لا علی المرة ولا علی التکرار فی الأفراد الطولیة ولا علی الدفعة أو الدفعات فی الأفراد العرضیة، ویؤکد ذلک أنها لو کانت موضوعة للدلالة علی المرة لکان تقییدها بالتکرار مجازاً وبالعکس مع أن الأمر لیس کذلک، وأما علی القول بأن الصیغة تدل علی الوجوب بالاطلاق ومقدمات الحکمة أو بحکم العقل، فالأمر أیضاً کذلک، أما علی الأول فلأن مقتضی اطلاق الصیغة الثابت بمقدمات الحکمة هو الوجوب فحسب دون المرة أو التکرار، فإنها خارجة عن مدلول الاطلاق، وأما علی الثانی فلأن العقل لا یحکم إلا بالوجوب فقط عند عدم قرینة علی الترخیص بملاک مولویة الأمر، وأما کونه مرة واحدة أو مکرراً فلا یدرک العقل ذلک.

ص:339

إلی هنا قد تبین أن صیغة الأمر تدل علی الطلب المولوی بالمعنی الحرفی المساوق للوجوب، ومادة الأمر تدل علیه بالمعنی الاسمی ولا تدل علی أکثر من ذلک حتی علی أنه متعلق بصرف وجود الطبیعة دون مطلق وجودها، فإن ذلک مستفاد من اطلاق الطبیعة من ناحیة، وبقرینة أنه لا یمکن أن یکون متعلقه مطلق وجودها فی الخارج من الوجودات العرضیة والطولیة من ناحیة اخری، وعدم تقییدها بحصة خاصة من ناحیة ثالثة، فالنتیجة علی ضوء ذلک أن متعلق الطلب صرف وجود الطبیعة الصادق علی أول وجودها، وعلیه فالاکتفاء فی مقام الامتثال بالمرة فی الأفراد الطولیة وبالدفعة فی الأفراد العرضیة إنما هو من جهة أنه لازم کون المطلوب صرف وجود الطبیعة لا أن الصیغة تدل علی ذلک، لما عرفت من أنها لا تدل إلا علی النسبة الطلبیة المولویة وهی النسبة بین المادة والمخاطب، ولا تدل علی أکثر من ذلک حتی علی کون هذه النسبة متعلقة بصرف وجود المادة، فإنه مستفاد من اطلاقها بمقدمات الحکمة بضمیمة ما مر من الخصوصیات.

الفرق بین الأمر و النهی

ومن هنا تختلف صیغة الأمر عن صیغة النهی فی نقطة وتشترک معها فی نقطة اخری، أما نقطة الاشتراک فلأن صیغة النهی موضوعة للنسبة الزجریة المولویة المساوقة للحرمة وتدل علیها، ولا تدل علی خصوصیة اخری وضعاً، ولهذا لا فرق بین صیغة الأمر وصیغة النهی فی الدلالة الوضعیة، فإن کلتیهما تدلان علی النسبة المولویة، غایة الأمر أنها طلبیة فی صیغة الأمر وزجریة فی صیغة النهی، ولا تدلان علی خصوصیة زائدة، وأما نقطة الافتراق فلأن مقتضی إطلاق متعلق النهی من جهة وخصوصیة النسبة الزجریة المتعلقة به من جهة اخری انحلال النهی بانحلال متعلقه، فإذا نهی المولی عن شرب الخمر مثلا، کان مقتضی اطلاق متعلقه وهو الشرب، وعدم تقییده بحصة خاصة من جهة، وخصوصیة

ص:340

الزجر المولوی المتعلق به من جهة اخری انحلال حرمة الشرب بانحلال أفراده فی الخارج، فیثبت لکل فرد منها فرد من الحرمة، إذ لا یمکن أن یکون متعلقه صرف وجود الطبیعة، فلأن المتفاهم العرفی من الخطابات التحریمیة بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة هو أن متعلقها مطلق وجود الطبیعة لا صرف وجودها المنطبق علی وجودها الأول فحسب دون الثانی والثالث وهکذا، ضرورة أنه من غیر المحتمل قطعاً أن تکون روح الحرمة وملاکها قائمة بصرف وجود الطبیعة، فلا محالة تکون قائمة بمطلق وجودها، وإلا لکان جعل الحرمة له لغواً.

وبکلمة اخری، أنه قد مر أن صیغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبیة المولویة وتدل علیها وضعاً ولا تدل علی خصوصیة زائدة.

وأما صیغة النهی فهی موضوعة للنسبة الزجریة المولویة المساوقة للحرمة وتدل علیها وضعاً، ولا تدل علی أی خصوصیة اخری زائدة، وهذه النسبة کالنسبة الاُولی بین المخاطب والمادة وکلتاهما تتعلقان بالمادة، وحیث إن سنخ النسبة الاُولی تختلف عن سنخ النسبة الثانیة، فلذلک یشتمل کل واحدة منهما علی خصوصیة غیر خصوصیة الاُخری، فإن الاُولی تشتمل علی خصوصیة الطلب والثانیة تشتمل علی خصوصیة الزجر، فتختلف الاُولی عن الثانیة خصوصیة وروحاً وملاکاً، وعلی هذا فاختلاف الأمر مع النهی فی مقام الاثبات ناجم عن هاتین الخصوصیتین الواقعیتین، لأن النسبة الزجریة المولویة إذا تعلقت بالمادة من دون تقییدها بقید خاص، کان المتفاهم منها عرفاً بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة إنحلال الزجر بانحلال أفراد المادة، فیثبت لکل فرد من أفرادها فرد من الزجر مستقلا طالما لم یتقید المادة بحصة خاصة، ولا

ص:341

یمکن القول بأن متعلق الزجر هو صرف وجود المادة کما تقدم. بینما إذا تعلقت النسبة الطلبیة المولویة بالمادة کالصلاة مثلا، کان المتبادر منها عرفاً بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة القطعیة أن متعلقها صرف وجودها لا مطلق وجودها، لعدم قدرة المکلف علیه، والنکتة فی ذلک أن مفاد الأمر بما أنه طلب الفعل فهو یتطلب کلفة العمل خارجاً، فلذلک لابد أن یکون متعلقه صرف وجود المادة لا مطلق وجودها، وإلا لزم التکلیف بغیر المقدور، ومفاد النهی بما أنه الزجر عن الاقتحام فی الفعل خارجاً، فهو لا یتطلب أکثر من الأنزجار والابتعاد عنه وعدم الدخول فیه، ومن الواضح أنه یتطلب روحاً وملاکاً الانزجار والابتعاد عن مطلق وجود المادة فی الخارج لا عن صرف وجودها وإلا لکان لغواً، فلذلک تتطلب خصوصیة النسبة الزجریة انحلالها بانحلال متعلقها فی الخارج، بینما تتطلب خصوصیة النسبة الطلبیة عدم انحلالها بانحلال متعلقها فیه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لا شبهة فی انحلال الحکم بانحلال موضوعاته فی الخارج. فإذا أمر المولی بالصلاة بقوله (صل)، فالوجوب بلحاظ متعلقه وهو الصلاة لا ینحل بانحلال أفراده، وأما بلحاظ موضوعه وهو الانسان البالغ العاقل فهو ینحل بانحلال أفراده، ومن هذا القبیل ما إذا قال المولی أکرم العالم، فان الوجوب بلحاظ متعلقه وهو الاکرام لا ینحل بانحلال أفراده، ولا یجب بالنسبة إلی کل عالم أکثر من اکرام واحد، بینما هو ینحل بانحلال أفراد موضوعه فی الخارج ویتکثر بتکثر العلماء، ویثبت لکل فرد من العالم فرد من وجوب الاکرام، وهذا الفرق بین المتعلق والموضوع واضح، وإنما الکلام فی نکتة ذلک، والمذکور فی کلماتهم نکتتان:

ص:342

الاُولی: أن الاطلاق بلحاظ المتعلق بدلی وبلحاظ الموضوع شمولی، ولکن هذه النکتة غیر صحیحة، وذلک لأن مدلول مقدمات الحکمة فی تمام الموارد واحد وهو عدم تقید الطبیعة بقید فی مرحلة الجعل، وقد تقدم أن معنی الاطلاق هو عدم لحاظ القید مع الطبیعة، فإذن مقدمات الحکمة تثبت الاطلاق فی مقام الاثبات أی عدم القید للطبیعة فی مقام الجعل، وأما أنه بدلی أو شمولی فمقدمات الحکمة لا تدل لا علی الأول ولا علی الثانی، وعلیه فلا محالة تکون خصوصیة البدلیة أو الشمولیة ترتبط بنکتة اخری، وهی تتطلب البدلیة فی مورد والشمولیة فی مورد آخر لا بمقدمات الحکمة فی مقام الاثبات.

الثانیة: أن انحلال الحکم بانحلال الموضوع وعدم انحلاله بانحلال المتعلق، إنما هو بنکتة أن الموضوع فی القضیة الحقیقیة سواءاً کانت اخباریة أم کانت انشائیة مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج، فلهذا ترجع القضیة الحقیقیة إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت المحمول، فإذا قال المولی اکرم العالم کان یرجع إلی قضیة شرطیة وهی أن العالم إذا وجد وجب اکرامه، ومن الواضح أن فعلیة الجزاء تتبع فعلیة الشرط ومرتبطة بها ولا یعقل تخلفها عنها، وعلی هذا فبطبیعة الحال یتعدد الجزاء بتعدد الشرط وهو معنی انحلال الحکم بانحلال موضوعه، وهذا بخلاف المتعلق، فإنه حیث لم یؤخذ فی مرحلة الجعل مفروض الوجود فلا یتطلب تعدده، تعدد الحکم، لفرض أنه لیس بشرط حتی یکون ارتباط الحکم به من ارتباط الجزاء بالشرط، بل لا یعقل ذلک، فإن مرد ارتباط الحکم بالمتعلق لو کان إلی ارتباط الجزاء بالشرط، فمعناه أن ثبوت الحکم مرتبط بوجود الشرط فی الخارج مع أن وجود المتعلق فی الخارج مسقط للحکم، فلا یعقل أن یکون سبباً لثبوته، وفی المثال المتقدم لا یعقل أن یکون ثبوت الوجوب مرتبطاً بوجود الاکرام خارجاً، لأنه مسقط له لا أنه علة

ص:343

لثبوته، فلذلک لا موجب للانحلال.

ویمکن المناقشة فی هذه النکتة أیضاً، أما أولا فلأنها مبنیة علی أن یکون الموضوع فی جمیع الخطابات الشرعیة مأخوذاً مفروض الوجود فی الخارج ولکنه غیر ثابت فی جمیع الخطابات الشرعیة، نعم أنه ثابت فی الخطابات الوجوبیة، وأما فی الخطابات التحریمیة فهو غیر معلوم، مثلا فی مثل قضیة لاتشرب الخمر لایبعد أن یقال أن الخمر لم تؤخذ مفروضة الوجود فی الخارج حتی یکون فعلیة حرمة شربها منوطة بفعلیة وجود الخمر فیه، بل الظاهر أنها فعلیة وإن لم تکن الخمر موجودة إذا کان بامکان المکلف إیجادها فی الخارج، وهذا معنی أن الخمر لم تؤخذ مفروضة الوجود فی القضیة، وإلا کانت فعلیة حرمة شربها مرتبطة بفعلیة الخمر فی الخارج بملاک ارتباط فعلیة الجزاء بفعلیة الشرط وهکذا.

وثانیاً أن النهی ینحل بانحلال متعلقه علی أساس ما أشرنا إلیه من النکتة، وهی أن متعلق الزجز المولوی لایمکن أن یکون صرف وجود الطبیعة وإلا کان النهی لغواً، وهذا قرینة لبّیة علی أن متعلقه مطلق وجود الطبیعة بنحو الانحلال، والنکتة المذکورة لا تقتضی عدم انحلال النهی بلحاظ المتعلق، وإنما تقتضی انحلال الحکم بلحاظ الموضوع فی الأوامر والنواهی، وأما بلحاظ المتعلق فلابد من النظر إلی أن هناک نکتة وخصوصیة اخری تقتضی الانحلال أو تقتضی عدمه أو لا هذا ولا ذاک، وقد مرّ أن فی الأوامر خصوصیة تقتضی عدم الانحلال بلحاظ المتعلق، وهذه الخصوصیة بمثابة القرینة المتصلة لتعیین متعلقها، وفی النواهی خصوصیة تقتضی الانحلال بلحاظ المتعلق وهی تعین لباً أن متعلقها مطلق الوجود، وفی بعض الکلمات أنه لا فرق بین الأمر والنهی، فأن مقتضی

ص:344

القاعدة فیهما معاً الانحلال بلحاظ الموضوع وعدم الانحلال بلحاظ المتعلق، وقد أفاد فی وجه ذلک أن متعلق الأمر کما یکون صرف وجود الطبیعیة کذلک یکون متعلق النهی صرف وجودها، ولایکون المجعول بلحاظ المتعلق إلا حکم واحد بلا فرق فی ذلک بین الأمر والنهی، وإنما الفرق بینهما فی مقام الامتثال والتطبیق، باعتبار أن المطلوب فی الأمر إیجاد تلک الطبیعة وفی النهی اعدامها، وإیجادها یتحقق بإیجاد فرد منها، وبذلک یحصل الغرض ویتم المطلوب، واعدامها لایمکن إلا باعدام جمیع أفرادها وإلا لم تنعدم، وعلی هذا فامتثال الأمر یتحقق بإیجاد فرد منها، وأما امتثال النهی فلا یتحقق إلا بالاجتناب والابتعاد عن تمام الأفراد، فالفرق بین الأمر والنهی لیس راجعاً إلی کون الحکم واحداً فی الأمر ومتعدداً فی النهی، بل الحکم فیهما معاً یکون واحداً ومتعلقاً بالطبیعة بنحو صرف الوجود، وإنما الفرق بینهما فی مقام الامتثال وایجاد الطبیعة واعدامها، فلو قال المولی اکرم العالم کان المتبادر منه وجوب اکرام کل عالم بوجوب واحد غیر منحل إلی وجوبات متعددة بعدد انحاء الاکرام، ویتحقق امثتال هذا الوجوب الواحد باکرام واحد، وإذا قال لا تکرم فاسقاً، کان مقتضی الطبع الأولی أن یحرم اکرام کل فاسق حرمة واحدة غیر منحلة، بحیث لو أکرم فاسقاً مرة سقط الحکم بالنسبة إلی ذلک الفاسق بالعصیان وجاز اکرامه مرة اخری، ولکن هذه الحرمة الواحدة لا یتحقق امتثالها إلا بترک جمیع أفراد اکرامه، بینما ذاک الوجوب الواحد یتحقق امتثاله باکرام واحد کما مر.

وهذا الفرق ثابت بین الجملة الخبریة الموجبة والنافیة أیضاً، فقولک العالم موجود لا یدل إلا علی صرف وجود العالم المنطبق علی وجود عالم واحد، بینما

ص:345

قولک العالم لیس بموجود لا یصدق إلا بانعدام تمام العلماء(1) هذا.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه، وذلک لأن الحرمة المتعلقة بالطبیعة إذا کانت واحدة فلا محالة یکون المطلوب منها صرف ترکها وهو یتحقق بأول الترک، وذلک لأن المفسدة الملزمة لا تخلو من أن تکون قائمة بصرف وجود الطبیعة أو بمطلق وجودها المنحل إلی وجودات متعددة أو بحصة خاصّة منها ولا رابع فی البین، أما علی الاحتمال الأول فالحرمة بما أنها متعلقة بصرف وجود الطبیعة کما هو المصرح به فی هذه المقالة فیکون الحرام والمبغوض هو صرف وجودها، ونتیجة ذلک أن المکلف إذا عصی وأوجد تلک الطبیعة فی ضمن فرد منها، فلا یکون إیجادها بعد ذلک محرماً ومبغوضاً، لأن المبغوض والمحرم هو صرف الوجود ولا یکون وجودها الثانی مصداقاً له، هذا إضافة إلی أن نقیض صرف الوجود صرف الترک، وصرف الترک بالنسبة إلی الأفراد الطولیة یتحقق فی الآن الأول، والترک فی الآن الثانی ترک للفرد الثانی ونقیض له لا للأول، وأما أن اعدام الطبیعة لایمکن إلا باعدام جمیع أفرادها کما فی الکفایة(2) ، فهو مبنی علی الخلط بین العدم المضاف إلی ذات الطبیعة وهی الطبیعة المطلقة والعدم المضاف إلی صرف وجودها، فإن الأول نقیض للطبیعة المطلقة ولا یتحقق إلا بترک تلک الطبیعة، ومن المعلوم أن ترک الطبیعة المطلقة لایمکن إلا بترک جمیع أفرادها، والعدم الثانی نقیض لوجودها الأول المتمثل فی صرف وجودها ولیس نقیضاً لوجودها الثانی والثالث وهکذا.

نتیجة هذا البحث... وأما علی الاحتمال الثانی فبما أن المفسدة الملزمة قائمة بمطلق وجود الطبیعة

-

ص:346


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 123:2-124.
2- (2) - کفایة الاُصول: 149.

بنحو الانحلال، فلا محالة تنحل الحرمة بانحلالها لأنها روح الحرمة وحقیقتها، وعلی هذا فبطبیعة الحال تتعدد الحرمة المجعولة فی باب النواهی بتعدد افراد متعلقها، فیکون کل فرد من أفراده متعلقاً للنهی مستقلا جعلا ومجعولا، بمعنی أن المولی جعل فی مقام الثبوت نواهی متعددة بعدد أفراد الطبیعة من الطولیة والعرضیة، وهذا هو الفرق بین الأمر والنهی، حیث إن الحکم فی باب الأمر واحد جعلا ومجعولا دون باب النهی، تحصل أن الفرق بین الأوامر والنواهی إنما هو فی مرحلة الانشاء جعلا ومجعولا لا فی مرحلة الامتثال والتطبیق.

نتیجة هذا البحث عدة امور:

الأول: أن مدلول الأمر مادة وهیئة الطلب المولوی المساوق للوجوب إما وضعاً کما هو الصحیح أو اطلاقاً بمقدمات الحکمة أو بحکم العقل، ولا یدل علی أکثر من تعلقه بالطبیعة بدون تخصصها بخصوصیة زائدة کالمرة أو التکرار فی الأفراد الطولیة والدفعة أو الدفعات فی الأفراد العرضیة.

الثانی: أن فی مدلول الأمر خصوصیة تقتضی تعلقه بصرف وجود الطبیعة إلا إذا کانت هناک قرینة تدل علی الخلاف.

الثالث: أن مدلول النهی خصوصیة تقتضی تعلقه بمطلق وجود الطبیعة بنحو الانحلال.

الرابع: أن الفرق بین الأمر والنهی هو أن الأمر واحد جعلا ومجعولا بینما النهی متعدد کذلک.

الخامس: أن انحلال الحکم بانحلال موضوعه یکون علی القاعدة وبمقتضی الطبع الأولی إذا کان مأخوذاً مفروض الوجود فی الخارج کما هو الغالب، علی

ص:347

أساس أنه بمثابة الشرط بالنسبة إلی حکمه، ومن الطبیعی أن الجزاء بحکم ارتباطه بالشرط یتعدد بتعدده، نعم لو کانت هناک قرینة علی عدم الانحلال فلابد من الأخذ به، کما لو قال المولی اکرم عالماً، فإنه لا إنحلال فیه للحکم من جهة أن موضوعه غیر قابل له.

السادس: أن انحلال الحکم فی طرف الموضوع إنما هو من شؤون عالم التطبیق والفعلیة ولا ربط له بعالم الجعل والاعتبار، وأما عدم الانحلال فی طرف المتعلق فإنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار، علی أساس أن المجعول فی هذا العالم حکم واحد وهو الطلب المولوی المتعلق بصرف وجود الطبیعة، فعدم الانحلال فیه إنما هو من جهة وحدة الحکم المجعول فی عالم الجعل وعدم تعدده فیه، والمفروض أنه لیس للحکم بلحاظ المتعلق عالمان:

1 - عالم الجعل والاعتبار.

2 - عالم التطبیق والفعلیة، لأن المتعلق فی عالم التطبیق والفعلیة مسقط للحکم لا أنه موجب لفعلیته. وإنما له عالمان بلحاظ الموضوع فقط، وعلی هذا فالانحلال وعدمه بلحاظ المتعلق إنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار، فإن کان المجعول فیه حکماً واحداً فلا انحلال فی عالم التطبیق والفعلیة، وإن کان متعدداً فیه کان متعدداً فی عالم التطبیق، ومن هنا یظهر أن انحلال النهی بلحاظ المتعلق إنما هو من شؤون عالم الجعل والاعتبار لا عالم التطبیق، ودعوی أن الحکم المجعول فی الشریعة المقدسة بلحاظ الموضوع فی مرحلة الجعل أیضاً متعدد، بمعنی أن الشارع جعل أحکاماً متعددة بعدد أفراد الموضوع فی الخارج فی تلک المرحلة لا حکماً واحداً، ویتعدد فی مرحلة الانطباق وإن کانت صحیحة، إذ لولم یکن المجعول احکاماً متعددة، فکیف یمکن تعدده فی مرحلة الانطباق

ص:348

والفعلیة، إلا أن الأثر حیث لا یترتب علیه إلا فی مرحلة الفعلیة والانطباق، فلذلک جعل تعدده بلحاظ الموضوع من شؤون هذه المرحلة دون مرحلة الجعل، وهذا بخلاف وحدته أو تعدده بلحاظ المتعلق، فإنه حیث لاتکون له بهذا اللحاظ مرحلتان بل مرحلة واحدة وهی مرحلة الجعل، باعتبار أن فعلیة المتعلق ووجوده خارجاً مسقطة للحکم، فکیف یعقل أن تکون من مرحلة ثبوته ووجوده.

السابع: أن مقتضی اطلاق الهیئة نفی تقید الوجوب بالمرة أو التکرار وبالدفعة أو الدفعات، ومقتضی إطلاق المادة عدم تقیدها بشیء من هذه الخصوصیات، وأما الاکتفاء فی مقام الامتثال بالمرة، فإنما هو من جهة إنطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج.

وأما مقتضی الأصل العملی فی المقام عند الشک فی وجوب التکرار هو أصالة البراءة عن وجوبه، لأنه تقیید زائد ولا یعلم المکلف باشتغال ذمته به.

بقی هنا شیء وهو ما ذکره المحقق صاحب الکفایة (قدس سره) من أن الامتثال قد یکون علة تامة لحصول الغرض، وفی مثله لایمکن الامتثال بعده، وقد لا یکون علة تامة لحصوله، ومثل لذلک بما إذا أمر المولی عبده بإتیان ماء من جهة أنه عطشان مثلا، فإذا جاء بماء فقد امتثل أمر المولی، ولکن للمولی تبدیل هذا الامتثال بامتثال آخر، وهذا شاهد علی أن الامتثال الأول لا یکون علة تامة لحصول الغرض(1).

و قد علق علیه السید الاُستاذ والمحقق الأصبهانی(2) (قدس سرهما) بما حاصله: من أن معنی

-

ص:349


1- (1) - کفایة الاُصول: 79.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 209:2، ونهایة الدرایة 361:1.

الامتثال هو اتیان المکلف بالمأمور به بتمام أجزائه وقیوده، فإذا کان آتیاً به کذلک کان علة تامة لحصول الغرض المترتب علی الأمر به، وإلا فلا یمکن الجزم بالامتثال فی شیء من الموارد، لأن الامتثال الثانی کالامتثال الأول، فلا فرق بینهما، فلولم یکن الأول علة تامة له، لم یکن الثانی أیضاً کذلک، وأما المثال الذی ذکره (قدس سره) ففیه غرضان:

أحدهما مترتب علی فعل العبد وهو احضاره الماء عند المولی وجعله تحت تصرفه، والآخر مترتب علی فعل المولی، ومن الواضح أن الغرض الثانی لا یترتب علی فعل العبد وتکلیفه بحصوله یکون من التکلیف بغیر المقدور، وأما ما یترتب علی فعل العبد وهو احضار الماء للمولی وجعله تحت یده، فیکون فعله علة تامة لحصوله، فإذن کیف یعقل بقاء شخص هذا الأمر.

وبکلمة، أن الغرض المترتب علی فعل العبد الداعی إلی الأمر به، فلا محالة یترتب علیه إذا أتی العبد به ویسقط أمره وإلا لزم الخلف أو تحصیل الحاصل، ودعوی أن الأمر باحضار الماء فی المثال أمر مقدمی، فإن الغرض الأصلی الموجب للأمر به هو رفع العطش عن المولی، وعلیه فاحضار الماء یکون مقدمة له، ومن الواضح أن الامتثال لا یحصل بالاتیان بالمقدمة، فإذن یکون الأمر باحضار الماء أمراً غیریاً، فلا امتثال له حتی یکون تبدیله من تبدیل الامتثال بامتثال آخر.

مدفوعة، بأن الأمر باحضار الماء لا یمکن أن یکون أمراً مقدمیاً، لأن الأمر المقدمی غیر قابل للتنجز، فلذلک لا یستحق الثواب علی الاتیان بمتعلقه ولا العقاب علی ترکه، مع أنه لا شبهة فی أن العبد یستحق العقاب علی مخالفة ذلک الأمر وترک احضار الماء للمولی، وهذا شاهد علی أنه أمر مولوی نفسی

ص:350

لاغیری.

فالنتیجة، أن تبدیل الامتثال بامتثال آخر غیر معقول حتی فی مثل المثال المذکور، إذ لا یعقل بقاء الأمر الأول بعد الاتیان بمتعلقه بتمام أجزائه وقیوده، وإلا لزم طلب الحاصل، ولو أمر المولی فی المثال باحضار الماء ثانیاً، فهو أمر آخر تعلق باحضار فرد آخر، لا أنه الأمر الأول، وعلی هذا فالتعلیق من العلمین علی ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) فی محله.

ص:351

الفور والتراخی

قد اتضح مما تقدم أن صیغة الأمر لا تدل إلا علی الوجوب بالمعنی الحرفی فحسب، إما بالوضع کما استظهرناه أو بالاطلاق ومقدمات الحکمة أو بحکم العقل، ولا تدل علی خصوصیة زائدة علیه ککونه بالفور أو بالتراخی، فإنها لیست جزء مدلولها علی جمیع الأقوال فی المسألة، فأرادة کل منهما من الصیغة بحاجة إلی دلیل.

وأما اطلاق متعلقها، فهل یدل علی الفور أو التراخی أو لا، الظاهر أنه لا یدل علی شیء منها، بل مقتضاه نفی تقیّده بالفور واثبات السعة للمکلف، نعم نتیجة هذا الاطلاق جواز التراخی، وإن شئت قلت إنا إذا شککنا فی اعتبار الفوریة وعدمه، فمقتضی إطلاق دلیل الأمر عدم اعتبارها وإن کان الشک فی تقیید الوجوب بالزمن الأول، فلا مانع من التمسک باطلاق الهیئة لنفی هذا التقیید واثبات إنه مطلق، وإن کان فی تقیید الواجب به فیتمسک باطلاق المادة لاثبات أن الواجب مطلق وغیر مقید بالزمن الأول، هذا إذا کان فی المسألة أصل لفظی، وإلا فالمرجع الأصل العملی وهو أصالة البراءة عن التقیید الزائد هذا.

وقد یستدل علی وجوب الفور بآیتین:

الأولی: قوله تعالی: (سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ )(1) بتقریب أن الآیة الشریفة تدل علی وجوب المسارعة إلی المغفرة، وحیث أنها فعله تعالی، فإذن بطبیعة الحال یکون المراد وجوب المسارعة إلی أسبابها، ومن الواضح أن من

-

ص:352


1- (1) - سورة آل عمران (3):133.

أظهرها الاتیان بالواجبات الالهیة، فإذن تجب المسارعة إلیها، وهذا هو معنی وجوبها فوراً، وللمناقشة فی دلالتها مجال واسع، أما أولا فلأن فی الآیة احتمالان:

الأول: أن یکون المراد من المغفرة فیها رضوانه تعالی وجنته المعلی.

الثانی: غفرانه تعالی عباده وتجاوزه عن سیئاته.

أما علی الاحتمال الأول، فیکون الاتیان بالواجبات من أسباب الدخول فی الجنة کسائر أسبابه، وأما علی الاحتمال الثانی، فلا یکون الاتیان بها من أسباب غفرانه تعالی وتجاوزه عن السیئات، لأن المکلف إن أتی بتلک الواجبات استحق الثواب والدخول فی الجنة بفضله سبحانه، وإن عصی وترک هذه الواجبات إستحق العقوبة والدخول فی النار، فالنتیجة، أن الاتیان بالواجبات الالهیة لیس سبباً لمحو الذنوب السابقة وإزالتها من صحائف الأعمال، وعلی هذا فالآیة الشریفة لولم تکن ظاهرة فی الاحتمال الثانی فلا ظهور لها فی الاحتمال الأول فتکون مجملة، فلایمکن الاستدلال بها.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنها ظاهرة فی الاحتمال الأول، ولکن یرد علیها أن أسباب المغفرة کثیرة منها الاتیان بالواجبات ومنها التوبة ومنها الاعمال المستحبة بأنواعها المختلفة واشکالها المتعددة، ومن الواضح أن المسارعة إلی الأعمال المستحبة غیر واجبة، فإذن لا محالة یکون الأمر بالمسارعة فی الآیة مستعملا فی الجامع بین الوجوب والندب، فلا یدل علی الوجوب فإذن الوجوب بحاجة إلی قرینة.

وثالثاً: أن الأمر بالمسارعة أمر ارشادی ولا یحتمل أن یکون أمراً مولویاً نفسیاً، بأن تکون المسارعة واجبة مستقلة فی الشریعة المقدسة کالصلاة ونحوها، بحیث یستحق العقوبة علی ترکها والمثوبة علی فعلها، فإذا سارع إلی

ص:353

الاتیان بالصلاة مثلا وأتی بها فقد استحق مثوبتین:

مثوبة علی الصلاة ومثوبة علی المسارعة وهو کماتری، مع أن هذا لیس مقصود المستدل، فإن مقصوده من الاستدلال بها، اثبات فوریة وجوب الصلاة ونحوها، لا أن المسارعة واجبة مستقلة فی الشرع.

والخلاصة: أن الأمر بالمسارعة ارشاد إلی ما استقل به العقل ولا شأن له غیر شأن المرشد إلیه، فإن کان وجوبها فوریاً فالمسارعة إلیها واجبة بحکم العقل، باعتبار أن الأمر بها ارشاد إلیه، وإن لم یکن وجوبها فوریاً لم تجب المسارعة إلیها بحکم العقل، فإذن لابد من إثبات وجوب الأعمال الواجبة فوری أو أنه غیر فوری فی المرتبة السابقة، لأن الأمر بالمسارعة تابع له فی ذلک، ولهذا لا مجال للاستدلال بالآیة الشریفة علی الفور.

ورابعاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الآیة تدل علی الفور، إلا أن معنی ذلک دلالة الأوامر علی الفور بقرینة خارجیة وهذا لا کلام فیه، وإنما الکلام فی دلالتها علی الفور فی نفسها إما بالوضع أو بالاطلاق ومقدمات الحکمة أو بحکم العقل، والمفروض أنها لا تدل علیه کذلک کما مر، هذا إضافة إلی أن تطبیق الآیة الشریفة علی الواجبات الشرعیة لا یخلو عن اشکال بل منع، لأن الواجبات الشرعیة علی قسمین:

الأول: موقت. والثانی: غیر موقت.

أما القسم الأول، فهو لایخلو من أن یکون وقته مضیقاً بأن لا یزید الوقت علی مفعول العمل أو متسعاً، فعلی الأول فهو خارج عن محل الکلام، إذ لا موضوع فیه للفور أو التراخی کالصوم فی شهر رمضان ونحوه. وأما علی الثانی، فمقتضی ما دل علی أن وقته متسع، هو تخییر المکلف فی الاتیان به فی أی فترة من

ص:354

وقته شاء کالصلاة ونحوها، ولا یدل علی وجوب الاتیان به فی أول جزء من الوقت، وإلا ففی الجزء الثانی وهکذا فوراً ففوراً، وعلی هذا فلو دلت الآیة الشریفة علی وجوب الفور، فلابد من تقیید اطلاقها بغیر هذا القسم من الواجبات بما دل علی اتساع وقته تطبیقاً لقاعدة حمل المطلق علی المقید.

وأما القسم الثانی، فبما أنه غیر موقت، فالمکلف مخیر فی الاتیان به فی أی وقت شاء، طالما یکون واثقاً ومطمئناً بأنه لا یفوت عنه، فإذن لابد من تقیید اطلاق الآیة الشریفة بغیر ذلک، إلا أن یقال بأن وجوب القضاء فوری بنحو تعدد المطلوب، بمعنی أنه یجب الاتیان به فی أول أزمنة الامکان وإلا ففی الزمن الثانی وهکذا فوراً ففوراً، ولکن هذا القول مضافاً إلی أنه ضعیف، إن القائل به إنما یقول لا من جهة الآیة الشریفة بل من جهة دعوی الاجماع أو الشهرة. وأما وجوب الحج فمضافاً إلی إمکان المناقشة فی فوریته، إنها مستفادة من دلیل خاص لا من الآیة الشریفة، ومن هنا یظهر الحال فی وجوب صلاة الآیات أیضاً.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: (فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ )(1) بتقریب أن الآیة الشریفة تدل علی وجوب الاستباق إلی الخیرات، ومن الواضح أن الاتیان بالواجبات الالهیة من أظهر مصادیقها، فإذن یجب الاستباق إلیها.

ویرد علی الاستدلال بهذه الآیة الشریفة جمیع ما أوردناه علی الآیة الأول حرفاً بحرف بدون تفاوت بینهما هذا، ولکن السید الاُستاذ (قدس سره) قد ذکر أن کلتا الآیتین أجنبیة عن محل الکلام، أما الآیة الاُولی فلأن الظاهر من المغفرة فیها خصوص التوبة دون الأعم منها ومن الواجبات الشرعیة والأعمال المستحبة،

ص:355


1- (1) - سورة البقرة (2):148، وسورة المائدة (5):48.

فإذن یکون مفادها ارشاد إلی ما استقل به العقل من وجوب التوبة(1).

وفیه أن هذا الاشکال متین ومبنی علی ما أشرنا إلیه فی مستهل البحث من أنه لا یبعد أن یکون المراد من المغفرة غفرانه تعالی العبد والتجاوز عن سیئاته، وحیث إن الواجبات الشرعیة لیست من أسباب محو الذنوب وإزالة السیئات عن العبد فلا تکون مشمولة للآیة الشریفة، وعندئذ إما أن تکون الآیة مختصة بالتوبة، باعتبار أنها من أظهر أسباب غفران الذنوب ومحوها أو تعم سائر أسبابه أیضاً ولا یبعد العموم.

وأما الآیة الثانیة، فلأن الظاهر منها عرفاً هو أنه تعالی أمر عباده بالتسابق إلی المشروعات الخیریة العامة کتشیید المدارس الدینیة والمساجد والحسینیات والجسور العامة ونحوها، حیث إن علی کل واحد منهم أن یسبق الآخر فی تلک الأعمال، وعلیه فالأمر فی الآیة الشریفة متوجه إلی کل واحد منهم بالمسابقة فی الخیرات لا بفعلها ابتداءاً، وعلی هذا فمفاد الآیة الشریفة أجنبی عن الواجبات الشرعیة ولا ینطبق علیها، باعتبار أن فیها کل فرد مأمور بالاتیان بها مستقلا وابتداءً وهذا الاشکال فی محله.

ثم أن من الغریب ما ذکره المحقق العراقی (قدس سره) فی المقام وحاصل ما ذکره، أن الآیة الشریفة تدل علی وجوب الاستباق إلی الأعمال الخیریة جمیعاً، وحیث إن کل فرد من المکلف لا یتمکن من إیجاد جمیع الأعمال الخیریة فلا محالة تقع المزاحمة بینها الناشیء من عدم قدرته علی ذلک، وعندئذ فیسقط وجوب الاستباق علی أساس المزاحمة وعدم القدرة، فإذا سقط وجوب الاستباق انتفت

ص:356


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 214:2-215.

المزاحمة بانتفاء منشأها، وإذا انتفت المزاحمة وجب الاستباق من جهة أن سقوطه من جهة المزاحمة، ومع فرض انتفائها فلا موجب لسقوطه، فإذن یلزم من فرض وجوب الاستباق عدم وجوبه وهو محال(1) ، ووجه الغرابة أن ما ذکره (قدس سره) مبنی علی تخیل أن مفاد الآیة الشریفة وجوب الاستباق علی کل مکلف إلی إیجاد جمیع الأعمال الخیریة، وحیث إنه غیر مقدور فتقع المزاحمة بینها، ولکن من الواضح أن ذلک لیس مفاد الآیة، ضرورة أن مفادها توجه الأمر إلی المکلفین جمیعاً بإیجاد أنواع الخیرات کذلک، ومقابلة الجمع بالجمع تفید التوزیع، فیکون معنی الآیة أن کل مکلف مأمور بإیجاد ما هو مقدور من الأعمال الخیریة، وإن علیه أن یتسابق فیه علی الآخرین، هذا إضافة إلی أن وجوب التسابق علی کل فرد من أفراد المکلف بإیجاد تمام أنواع الخیرات تکلیف بغیر المقدور فکیف یمکن جعله من المولی الحکیم، والتزاحم انما هو بین التکلیفین المجعولین فی الشریعة المقدسة فی مرحلة الامتثال اتفاقاً لا دائماً وإلا کان بینهما تعارض، فلایمکن جعل کلیهما معاً، وأیضاً لو فرضنا وقوع المزاحمة بینها، فیکون الساقط عندئذ وجوب التسابق فی الجمیع لا فی البعض الذی یکون التسابق فیه مقدوراً، وعلیه فمقتضی مرجحات باب التزاحم ترجیح وجوب التسابق بالأهم فالأهم، فما فی کلامه (قدس سره) من أنه إذا سقط وجوب التسابق انتفت المزاحمة، فإذا انتفت المزاحمة عاد وجوب التسابق، لاینبغی صدوره من مثله، فإن انتفاء المزاحمة لیس معلولا لانتفاء وجوب التسابق، بل الأمر بالعکس تماماً، لأن سقوط وجوب التسابق فی الجمیع معلول لوقوع التزاحم الناجم من عدم قدرة المکلف علیه، فإذن لا محذور، فإن وجوب التسابق فی الجمیع قد سقط لمکان عدم القدرة، ووجوب

ص:357


1- (1) - لاحظ بدائع الافکار: 252.

التسابق فی المقدار المقدور منها ثابت ومقتضاه مراعاة الأهم فالأهم.

فالنتیجة، فی نهایة المطاف أن الأمر لا یدل علی الفور ولا علی التراخی، أما هیئة فلما عرفت من أنها موضوعة للنسبة الطلبیة المولویة المساوقة للوجوب، وأما مادة فلأنها موضوعة للطبیعة المهملة وهی الطبیعة العاریة عن جمیع الخصوصیات اللحاظیة، فإذن لا یدل الأمر إلا علی النسبة الطلبیة المولویة بین المخاطب والمادة لا علی أکثر من ذلک لا بالوضع ولا بالاطلاق ومقدمات الحکمة ولا بحکم العقل، وأما الاستدلال بآیة المسارعة وآیة الاستباق علی الفور، فقد تقدم موسعاً أنه فی غیر محله، وإن الآیتین الشریفتین أجنبیتان عن الدلالة علی ذلک نهائیاً.

ص:358

مبحث الاجزاء

اشارة

هناک ثلاث مراحل رئیسیة:

المرحلة الاُولی: أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی، هل یجزی عن وجوب الإعادة فی الوقت والقضاء فی خارج الوقت، أم لا؟

المرحلة الثانیة: أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری، هل یکون مجزیاً عن المأمور به بالأمر الواقعی إعادة فی الوقت وقضاءً فی خارج الوقت عند رفع الاضطرار، أو لا؟

المرحلة الثالثة: أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی إعادة فی الوقت وقضاءً فی خارج الوقت عند کشف الخلاف فیه، أم لا؟

إجزاء المأمور به الواقعی عن نفسه
اشارة

أما الکلام فی المرحلة الاُولی، فلا شبهة فی أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی بتمام أجزائه وشروطه مجزیء، بل هو علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر وعدم وجوب إعادته لا فی الوقت ولا فی خارجه، بداهة أنه لولم یحصل الغرض به ولم یسقط الأمر لم یمکن الجزم بحصوله وسقوط الأمر بالامتثال الثانی، لأنه کالأول فلا فرق بینهما أصلا، فانطباق المأمور به بکامل أجزائه وشروطه علی الفرد المأتی به فی الخارج لولم یستوجب حصول الغرض وسقوط الأمر به فی الامتثال، لم یستوجب فی الامتثال الثانی أیضاً، لاستحالة الترجیح بلا مرجّح.

والخلاصة أن الغرض لولم یحصل بالاتیان بالمأمور به الواقعی بکامل الاجزاء والشرائط ولم یسقط أمره به، فلازمه أحد امور:

ص:359

الأول: عدم إمکان الامتثال نهائیاً وهو کماتری.

الثانی: أن ما فرض ترتب الغرض علیه وتعلق الأمر به لیس کما فرض وهو خلف.

الثالث: أن بقاء الأمر یستلزم طلب الحاصل وهو مستحیل.

تکرار الامتثال

ولکن مع هذا قد یتوهم جواز الامتثال بعد الامتثال فی مجموعة من المسائل.

الاُولی: أن من صلی وحده ثم انعقدت جماعة، فیجوز له أن یعید صلاته جماعة، ومن الواضح أن هذا من الامتثال بعد الامتثال، وقد دلت علی ذلک عدة من الروایات.

منها، صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبدالله (علیه السلام) أنه قال فی الرجل یصلی الصلاة وحده ثم یجد جماعة، قال یصلی معهم ویجعلها الفریضة إن شاء(1).

ومنها، صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبدالله (علیه السلام) فی الرجل یصلی الصلاة وحده ثم یجد جماعة، قال یصلی معهم ویجعلها الفریضة2.

ومنها، موثقة عمار، قال سألت أباعبدالله (علیه السلام) عن الرجل یصلی الفریضة ثم یجد قوماً یصلون جماعة أیجوز له أن یعید الصلاة معهم؟ قال: نعم هو أفضل، قلت: فإن لم یفعل؟ قال: لیس به بأس3.

ومنها، غیرها(2) بتقریب أن الأمر بالاعادة فی هذه الروایات یدل بوضوح علی أن الامتثال بعد الامتثال جائز، فلوکان الامتثال الأول علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر، کان الأمر بالاعادة لغواً وجزافاً، فإذن لا محالة تکشف

ص:360


1- (1و2و3) - الوسائل 401:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 11 و 9.
2- (4) - راجع الوسائل 8، الباب المتقدم.

هذه الروایات عن أن الامتثال الأول لیس علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر، وإلاّ فلایمکن الأمر بالاعادة ثانیاً، فوقوعه فیها أدل دلیل علی إمکانه وإلا لم یقع، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اُخری أن فی قوله (علیه السلام) یصلی معهم و یجعلها الفریضة عدة احتمالات:

الأول: أن یجعل الصلاة المعادة جماعة فریضة فعلیة دون صلاة الفرادی.

الثانی: أن یکون المراد منه تبدیل الامتثال بامتثال آخر.

الثالث: أن یکون المراد من جعلها الفریضة، جعل الصلاة المعادة فریضة الظهر أو العصر التی صلاها فرادی لادراک ثواب الجماعة الذی فات عنه.

ودعوی أن إعادتها إذا کانت مستحبة، فلا تکون مشروعة فی الجماعة.

مدفوعة، بأن الجماعة غیر مشروعة فی النوافل الذاتیة المرتبة وغیر المرتبة فی مقابل الفرائض کذلک، وأما الاعادة فهی مستحبة بعنوان فریضة الظهر أو العصر، فلا تکون من النوافل الذاتیة حتی تکون مشمولة لاطلاق ما دل علی عدم مشروعیة الجماعة فیها.

ولنأخذ بالنظر فی هذه الاحتمالات، أما الاحتمال الأول فهو غیر معقول، بداهة أنه لایمکن القول بأن الصلاة المعادة جماعة فریضة فعلیة دون صلاة الفرادی التی صلاها سابقاً، فإن لازم ذلک عدم إمکان الامتثال نهائیاً، إذ لا فرق بین الامتثال الأول والامتثال الثانی، فإن الامتثال الأول إذا لم یکن وافیاً بالغرض ومسقطاً للأمر فالامتثال الثانی أیضاً کذلک، وإن کان فی ضمن فرد أفضل کالصلاة فی الجماعة أو المسجد أو الحرم، هذا إضافة إلی أن الغرض إذا لم یحصل بانطباق المأمور به بکامل أجزائه وشروطه علی الفرد المأتی به فی

ص:361

الخارج، لزم أحد محذورین، إما أن هذا الغرض لیس غرضاً له وهو خلف، وإما أن ذلک المأمور به لاینطبق علیه بکامل أجزائه وقیوده وهو أیضاً کذلک، وأما بقاء الأمر مع الاتیان بمتعلقه فهو غیر معقول، وإلا لزم طلب الحاصل.

ودعوی أن هنا ملاکین: أحدهما قائم بالجامع بین صلاة الفرادی وصلاة الجماعة، والآخر قائم بخصوص صلاة الجماعة، وعلی هذا فالغرض القائم بالجامع یحصل بالامتثال الأول، وأما الغرض القائم بالحصة الخاصة وهی الصلاة جماعة فلا یحصل إلا بالاتیان بها، وعلی هذا فالامتثال الثانی إنما هو لتحصیل الغرض الثانی.

مدفوعة، بأن ذلک وإن کان ممکناً ثبوتاً، إلا أنه خلاف المفروض فی المقام، فإن المفروض فیه وحدة المطلوب ملاکاً وحکماً، فإذا کان المطلوب واحداً کذلک فکیف یعقل عدم حصول الغرض وعدم سقوطه الأمر بالامتثال الأول وهو انطباق المأمور به بکامل أجزائه وشروطه علی الفرد المأتی به فی الخارج، وأما فرض تعدد الغرض والملاک وتعدد الأمر فهو خارج عن محل الکلام، حیث إنه لابد فیه من تعدد الامتثال.

قد یقال أن وجوب الصلاة فرادی مشروط بعدم التمکن من الاتیان بها جماعة کوجوب الصلاة مع الطهارة الترابیة، فإنه مشروط بعدم التمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة، وعلی هذا فإذا کان المصلی متمکناً من الاتیان بالصلاة جماعة وجب علیه الاتیان بها، ولا یکفی الاتیان بالصلاة فرادی.

وفیه أن ذلک وإن کان ممکناً ثبوتاً إلا أنه خلاف الضرورة الفقهیة اثباتاً، بل خلاف سیرة المسلمین کافة من لدن زمن التشریع إلی زماننا هذا، فلوکان الأمر کذلک لبان واشتهر بین المسلمین وأصبح من الواضحات من جهة کثرة الابتلاء

ص:362

به، وأهمیة الموضوع والروایات المتقدمة لا تدل علی هذه الفرضیة، بل تدل علی خلافها کما هو ظاهر.

وأما الاحتمال الثانی، فهو أیضاً غیر معقول، لأنه إذا حصل الغرض وسقط الأمر باتیان الصلاة فرادی فکیف یمکن تبدیله بامتثال آخر، بداهة استحالة انقلاب الشیء عما هو علیه، فإذا کانت الصلاة المأمور بها تنطبق بکامل أجزائها وقیودها علی الفرد المأتی به فی الخارج، کان حصول الغرض وسقوط الأمر عنها ضروریاً بسبب ذلک الانطباق القهری الذاتی، ولایمکن تبدیله بعدم الانطباق، لأنه من انسلاخ الشیء عن ذاته وذاتیاته.

وأما الاحتمال الثالث، فهو وإن کان خلاف الظاهر إلا أنه لا مانع من الالتزام به، لامکان حمل قوله (علیه السلام) فی صحیحة حفص بن البختری (ویجعلها الفریضة علی ذلک)، بتقریب أنه بعدما لا یمکن حمله علی فریضة فعلیة کما مرّ، فلا مانع من حمله علی إعادة فریضة الظهر أو العصر مستحبة، فیکون المراد من الروایة أن من صلی فریضة الظهر أو العصر فرادی، فإذا انعقدت هناک جماعة جاز له أن یعیدها بعنوان فریضة الظهر أو العصر استحباباً بعدما لایمکن أن تکون وجوباً، وعلی هذا فلابد أن یراد من قوله (علیه السلام) ویجعلها الفریضة، الفریضة بالذات لا بالفعل، ولا ینافی کونها مستحبة بالفعل، لأن الاستحباب الفعلی یجتمع مع الفریضة الشأنیة وبالذات، کما أن المراد من الجعل فی الصحیحة لیس أن اختیار الصلاة المعادة جماعة فریضة مستحبة بید المصلی واختیاره، بل صیرورتها کذلک إنما هی بحکم الشارع وخارج عن اختیار المصلی، ونظیر ذلک ما ورد من أن المصلی إذا دخل فی صلاة العصر معتقداً بأنه صلی الظهر، ثم فی الأثناء انکشف وبان أنه لم یصل الظهر فوظیفته العدول إلی العصر، فإن التعبیر بالعدول لیس

ص:363

معناه أن أمره بیده بل هو قهری، لأن ما صلاة عصراً انقلب ظهراً بحکم الشارع أراد المصلی أو لم یرد.

تحصل أن الصلاة المعادة جماعة هی فریضة الظهر أو العصر ذاتاً ومستحبة فعلا، فیکون الأمر بالاعادة أمراً استحبابیاً، بل نفس الصحیحة تدل علی ذلک، بقرینة أن الأمر فیها قد ورد فی مورد توهم الحظر ولا یدل علی أکثر من رفع الحظر، وهنا روایات اخری تنص علی استحباب الاعادة، منها موثقة عمار المتقدمة(1).

ومنها، صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله (علیه السلام) (قال: إذا صلیت صلاة وأنت فی المسجد واُقیمت الجماعة، فإن شئت فاخرج وإن شئت فصل معهم واجعلها تسبیحاً)(2) ، فإنها ناصة علی أن الصلاة المعادة مستحبة.

فالنتیجة، أن المستفاد من مجموع الروایات أن إعادة ما صلاه فرادی جماعة مستحبة، والغرض الداعی إلی استحبابها هو إدراک فضیلة الجماعة وما یترتب علیها من الآثار، إلی هنا قد تبین أن هذه الروایات أجنبیة عن الدلالة علی جواز الامتثال بعد الامتثال.

ینبغی التنبیه علی عدة نقاط:

الاُولی: أن هذه الروایات لا تنافی ما دل من الروایات علی عدم مشروعیة الجماعة فی النوافل(3) ، أما أولا: فلأن الصلاة المعادة جماعة وإن کانت نافلة فعلا

ص:364


1- (1) - الوسائل 403:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 9.
2- (2) - الوسائل 402:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 8.
3- (3) انظر الوسائل 28:8، باب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان، ح 6، وص 45، باب 10 من هذه الأبواب.

إلا أن الظاهر اختصاص تلک الروایات بالنوافل الأصلیة کصلاة اللیل والنوافل الیومیة المرتبة وغیرها، فلاتشمل النوافل بالعرض کما فی المقام.

وثانیاً: فعلی تقدیر تسلیم أن تلک الروایات تشمل النوافل بالعرض إلا أنه لابد من تقیید اطلاقها بالروایات المتقدمة التی تدل علی مشروعیة الجماعة فی النوافل بالعرض کما هو الحال فی صلاتی العیدین وصلاة الاستسقاء والصلاة المتبرع بها عن الغیر والصلوات الاحتیاطیة الاستحبابیة.

الثانیة: أن مشروعیة الاعادة جماعة بعد الامتثال فرادی، حیث إنها کانت علی خلاف القاعدة، فلابد من الاقتصار علی موردها وهو ما إذا صلی منفرداً أن یعید صلاته جماعة إماماً کان أم مأموماً، وکذا إذا کان قد صلی جماعة إماماً أو مأموماً، فإن له أن یعیدها فی جماعة اخری إماماً فقط، ولایمکن التعدی عن هذه الموارد إلی سائر الموارد.

الثالثة: أن قوله (علیه السلام) فی صحیحة هشام بن سالم (ویجعلها الفریضة إن شاء)(1) ، یدل علی أن الرجل الذی صلی الصلاة وحده ثم یجد جماعة، فله أن یصلی معهم بنیة فریضة فاتته إذا شاء، کما أن له أن یصلی بنیة الاستحباب لادراک ثواب الجماعة فحسب.

الرابعة: أن الروایة التی تدل علی أن الله تعالی یختار أحبهما إلیه(2) ضعیفة من ناحیة السند فلایمکن الاعتماد علیها، ومع الاغماض عن سندها فالظاهر منها أنه تعالی فی مقام التفضل والامتنان علی العباد إختار الصلاة المعادة فی مقام الاحتساب واعطاء الأجر والثواب، وهذا أمر آخر غیر حصول الغرض

ص:365


1- (1) - الوسائل 401:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة ح 1.
2- (2) - الوسائل 403:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.

وسقوط الأمر بالاتیان بالمأمور به، أو فقل: أن الغرض الأصلی الملزم الداعی للمولی إلی إیجاب الصلاة الذی هو مشترک بین الصلاة فرادی والصلاة جماعة بما أنه قد حصل بالامتثال الأول وسقط الأمر، فلایمکن حمل هذه الروایة علی الاجزاء، فإذن لابد من حمل الروایة علی أنها فی مقام اعطاء الأجر والثواب هذا، وللمحقق العراقی (قدس سره) تفسیر آخر لهذه الروایة، وحاصل هذا التفسیر أن المستفاد منها أنه لیس للصلاة غرض نفسی قائم بصرف وجودها حتی یحصل بمجرد تحققها فی الخارج، بل لها غرض مقدمی بمعنی أن الصلاة مقدمة لاختیار المولی من أفرادها عند تعددها فی الخارج ماشاء، وعلی هذا فبناء علی وجوب المقدمة الموصلة، فإن اقتصر المکلف فی مقام الامتثال علی صلاة واحدة عازماً علی عدم الاتیان بصلاة اخری تحقق الغرض بها وسقط الأمر، وأما إذا لم یقتصر فی هذا المقام علی امتثال فرد واحد بل کرر فی ضمن فردین أو أکثر، فعندئذ إذا اختار المولی من الفردین أو الأفراد ما شاء، کان ذلک الفرد المختار هو المصداق للصلاة المأمور بها وفرد لها وهی تنطبق علیه لا علی غیره، وهذا معنی قوله (علیه السلام) یختار أحبّهما إلیه.

وفیه، أن هذا التفسیر غریب جداً، إذ لا یمکن أن یکون ذلک هو معنی الروایة، لأن مرد هذا المعنی إلی أن حصول الغرض وسقوط الأمر بالفرد الأول مراعی بعدم الاتیان بالفرد الثانی أو الثالث وهکذا وهو کماتری، بداهة أن إنطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج أمر قهری وذاتی، والمفروض أن هذا الانطباق علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر. فإذن کیف یعقل أن یکون مراعی بعدم الاتیان بالفرد الثانی أو الثالث وهکذا، وإلاّ فلازمه أن لا یکون علة تامة له وهو خلف.

ص:366

والخلاصة، أن المأمور به لا یخلو إما ینطبق علی الفرد الأول المأتی به فی الخارج بکامل الاجزاء والقیود أو لا، والثانی غیر معقول، لأن الانطباق أمر قهری تکوینی، أما علی الأول فهو علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر، فلا یعقل أن یکون مراعی بعدم الاتیان بالفرد الثانی أو الثالث، لأن المعلوم یتبع العلة، فلا یعقل أن یکون مربوطاً بشیء آخر، ولازم ما أفاده (قدس سره) أن وجود الفرد الأفضل والأکمل مانع عن انطباق الطبیعی المأمور به علی الفرد الأول غیر الأفضل وهو کماتری، فإنه إن کان فرداً ومصداقاً له فانطباقه علیه قهری، ولا یعقل أن یکون وجود الفرد الأفضل مانعاً عنه، وإن لم یکن فرداً ومصداقاً له فلایمکن الانطباق، فالنتیجة أن ما أفاده (قدس سره) من التفسیر لایرجع إلی معنی محصل.

المسألة الثانیة: من صلی وحده ثم اقیمت جماعة منهم جاز له أن یدخل معهم فی الجماعة ویعید ما صلاه وحده جماعة، وتدل علی ذلک مجموعة من الروایات، منها صحیحة عمر بن یزید عن أبی عبدالله (علیه السلام): (أنه قال: ما منکم أحد یصلی صلاة فریضة فی وقتها ثم یصلی معهم صلاة تقیة وهو متوضأ إلا کتب الله له بها خمساً وعشرین درجة فارغبوا فی ذلک)(1).

ومنها، صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله (أنه قال: ما من عبد یصلی فی الوقت ویفرغ ثم یأتیهم ویصلی معهم وهو علی وضوء إلا کتب الله له خمساً وعشرین درجة)2.

ومنها، صحیحة زرارة عن أبی جعفر (علیه السلام) فی حدیث (قال: لاینبغی للرجل أن یدخل معهم فی صلاتهم وهو لا ینویها صلاة، بل ینبغی له أن ینویها وإن کان

ص:367


1- (1و2) - الوسائل 302:8، باب 6، من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 2.

قد صلی، فإن له صلاة اخری)(1).

ومنها غیرها(2) بدعوی أن هذه الروایات تدل علی جواز الامتثال بعد الامتثال.

والجواب، أنها لا تدل علی مشروعیة الامتثال بعد الامتثال بداعی نفس الغرض والأمر الأول، فإن معنی ذلک أن الغرض لم یحصل بالامتثال الأول ولا الأمر یسقط به، والاتیان بالمأمور به مرة اخری إنما هو بداعی حصوله وسقوط الأمر، وأما إذا سقط الأمر بالامتثال الأول وحصل الغرض به ولکنه یأتی بفرد آخر منه بداعی الأمر الآخر والغرض الثانی، سواءاً کان ذلک الأمر وجوبیاً أم استحبابیاً، فهو لیس من الامتثال بعد الامتثال وخارج عن محل الکلام.

ومورد الروایات فی المقام الثانی دون الأول، ضرورة أنه لا شبهة فی سقوط الأمر بالامتثال الأول وحصول الغرض به، وإلا لزم عدم امکان الجزم بالامتثال نهائیاً أو الخلف، وأما الدخول معهم فی صلاتهم، فإنما هو لغرض آخر یدعو إلی ذلک وهو المداراة معهم تقیة، فإن مصلحة المداراة التی منها وحدة صفوف المسلمین وجمع شملهم، ومنها المحافظة علی دماء الطائفة أو أعراضهم أو أموالهم، تقتضی ذلک.

فالنتیجة، أن هذه الروایات أجنبیة عن الدلالة علی جواز الامتثال بعد الامتثال.

المسألة الثالثة: وهی أن من صلی صلاة الآیات، جاز له أن یعیدها مرة

ص:368


1- (1) - الوسائل 401:8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2.
2- (2) - لاحظ الوسائل 302:8، باب 6 من أبواب صلاة الجماعة.

ثانیة، وقد دلت علی ذلک صحیحة معاویة بن عمار، قال: قال أبوعبدالله (علیه السلام): «صلاة الکسوف إذا فرغت قبل أن ینجلی فأعد»(1).

بدعوی، أنها تدل علی جواز الامتثال بعد الامتثال.

والجواب: أن ظاهر الأمر بالاعادة فی الصحیحة الارشاد إلی بطلان صلاة الآیات إذا فرغ المکلف منها قبل الانجلاء، وعلی هذا فالصحیحة تدل علی بطلان الامتثال الأول، من جهة أنه فاقد للشرط وهو الفراغ منها بعد الانجلاء ووجوب امتثالها مرة ثانیة، ولا تدل علی جواز الامتثال بعد الامتثال أصلا، فلو کنا نحن وهذه الصحیحة فلابد من الالتزام بظاهرها، ولکن فی مقابلها روایة اخری وهی معتبرة عمار عن أبی الله (علیه السلام) قال: «إن صلیت الکسوف إلی أن یذهب الکسوف عن الشمس والقمر وتطوِّل فی صلاتک، فإن ذلک أفضل، وإن أحببت أن تصلی فتفرغ من صلاتک قبل أن یذهب الکسوف فهو جائز»(2).

وهذه المعتبرة تدل علی أن الفراغ عن الصلاة بعد الانجلاء لیس شرطاً فی صحتها، فإذن تقع المعارضة بینهما، باعتبار أن مفاد الصحیحة هو الارشاد إلی أن الفراغ شرط فی صحتها، ومفاد المعتبرة الارشاد إلی أنه لیس شرطاً فیها، فتسقطان معاً ونشک فی شرطیته، فمقتضی أصالة البراءة عدمها، فالنتیجة أنه لیس بشرط، نعم إطالة الصلاة إلی ما بعد الانجلاء أمر محبوب کما نصت علیه المعتبرة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن الاتیان بالمأمور به بکامل أجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر وإلا لزم أحد

ص:369


1- (1) - الوسائل 498:7، باب 8، من أبواب صلاة الکسوف والآیات، ح 1.
2- (2) - الوسائل 498:7، باب 8 من أبواب صلاة الکسوف والآیات ح 2.

المحذورین:

الأول: عدم إمکان الجزم بالامتثال نهائیاً، فإن الامتثال الثانی کالامتثال الأول فلا فرق بینهما.

الثانی: الخلف وکلاهما لایمکن.

هذا تمام الکلام فی المرحلة الاُولی وهی إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی عن الاعادة فی الوقت والقضاء خارج الوقت.

إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الواقعی
اشارة

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة وهی إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به بالأمر الواقعی إعادةً وقضاءً وعدم إجزائه.

فیقع الکلام فی مقامین:

الأول: فی مقام الثبوت والواقع.

الثانی: فی مقام الاثبات والکشف.

أما الکلام فی المقام الأول، فلا شبهة فی أن جعل الحکم الاضطراری کوجوب التیمم لغیر واجد الماء ونحوه فی موارده لایمکن أن یکون جزافاً وبلا ملاک، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة ملزمة تدعو المولی إلی جعله فیها وهی تفی بغرض المولی، لأن الأمر الاضطراری أمر واقعی، غایة الأمر أنه مجعول علی المکلف بعنوان ثانوی وهو کونه معذوراً عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون عذره واقعیاً تکوینیاً أو شرعیاً، والأول کالعاجز

ص:370

تکویناً عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائیة. والثانی کالعاجز شرعاً عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائیة، وفی کلتا الحالتین یکون المکلف مأموراً واقعاً بالصلاة جالساً أو مع الطهارة الترابیة، ومن الواضح أن هذا الأمر یکشف عن أن الصلاة المذکورة تفی بغرض المولی فی هذه الحالات.

وبکلمة واضحة أن مقتضی القاعدة الأولیة عدم الاجزاء، فإن سقوط الواجب وحصول الغرض بالاتیان بغیر الواجب بحاجة إلی دلیل یدل علی تقیید وجوبه بعدم الاتیان به، وعلی هذا الأساس فمقتضی اطلاق دلیل کل واجب عدم سقوط وجوبه بالاتیان بغیره، فإن مسقطیة الغیر بحاجة إلی دلیل.

هذا إذا کان لدلیل الواجب اطلاق وأما إذا لم یکن له اطلاق، فمقتضی الأصل العملی عدم السقوط بغیره تطبیقاً لقاعدة أن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة وهذا لا کلام فیه، وإنما الکلام فی الخروج عن مقتضی هذه القاعدة الأولیة فی حال الاضطرار إلی الاتیان بغیر المأمور به الواقعی، کما إذا اضطر إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة عند عدم التمکن من الطهارة المائیة عقلا أو شرعاً أو إلی الصلاة جالساً أو فی ثوب نجس عند عدم التمکن من الصلاة قائماً أو فی ثوب طاهر وهکذا، والخروج عن مقتضی تلک القاعدة یتوقف علی أن یکون الأمر الاضطراری کاشفاً عن وجود ملاک فی متعلقه یفی بملاک الأمر الواقعی، فإذا کان کاشفاً عن ذلک کان دالا علی الاجزاء، مثلا الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة الترابیة عند عدم التمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة إذا کان کاشفاً عن وجود ملاک فیها یفی بملاک الواقع إجزاء الاتیان بها عنها إعادة وقضاءً، وعلی هذا فیقع الکلام فی ثبوت الملازمة بین وجود الأمر الاضطراری بشیء ووجود ملاک فیه یفی بغرض الواقع فی مسألتین:

ص:371

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

الاضطراری بشیء کالصلاة مع الطهارة الترابیة مثلا أو الصلاة جالساً أو نحو ذلک هو الاجزاء، وذلک لأن المولی إذا أمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة عند عدم التمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة فی تمام الوقت وکان فی مقام البیان ومع ذلک إذا سکت عن وجوب القضاء فی خارج الوقت، کان ذلک یشکل دلالة التزامیة للأمر الاضطراری، وهی دلالته علی أن المأمور به بذلک الأمر مشتمل علی ملاک یفی بتمام ملاک الواقع أو بالمقدار المعتد به منه، بحیث یکون المقدار المتبقی غیر الزامی، وأما إذا کان الزامیاً وقابلا للتدارک فی خارج الوقت، فعلی المولی بیان إیجاب القضاء فیه لتدارکه وإلا لأخلّ بغرضه، ومع هذا إذا سکت عن ذلک کان سکوته قرینة علی أن المقدار المتبقی غیر الزامی.

فالنتیجة، أن لدلیل الأمر الاضطراری إذا کان إطلاقاً، فلا مانع من التمسک به لنفی وجوب القضاء فی خارج الوقت لأنه بحاجة إلی بیان زائد، وحیث لم یکن فالاطلاق کاشف عن أن الملاک القائم بالبدل یکون علی النحو الأول أوالثانی أو الثالث، وأما إذا لم یکن لدلیل الأمر الاضطراری إطلاق أو کان لبیاً، فلا مامع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب القضاء، لأن المکلف إذا أتی بوظیفته الاضطراریة کالصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت وشک فی إجزائها عن القضاء خارج الوقت، فیکون المرجع فیه أصالة البراءة عن وجوب القضاء، باعتبار أن الشک فی أصل وجوبه لأنه بأمر جدید.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن جعل الأمر الاضطراری لشیء ثبوتاً لا یلزم الاجزاء والاکتفاء به عن الواقع، ولا ملازمة بین الأمرین فی مقام الثبوت، وأما فی مقام الاثبات، فإن کان لدلیل الأمر الاضطراری اطلاق فهو المرجع وإلا فالأصل العملی.

ص:373

کلام المحقق النائینی

ثم إن للمحقق النائینی (قدس سره) فی المسألة کلاماً وحاصل هذا الکلام، أن القول بعدم إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری فی هذه المسألة، وهی ما إذا کان الاضطرار مستوعباً لتمام الوقت غیر معقول، وقد أفاد فی وجه ذلک، أن القید المتعذر علی المکلف فی الصلاة وهو الطهارة المائیة مثلا فی تمام الوقت لایخلو من أن یکون له دخل فی ملاک الواجب الواقعی مطلقاً حتی فی حال تعذره وعدم التمکن منه کالقیود المقومة له، أو یکون له دخل فی ملاکه فی حال التمکن فحسب لا مطلقاً کالطهارة المائیة التی یکون دخلها فی الملاک مختص بحال التمکن فقط، فعلی الأول لایمکن الأمر بالفاقد فی الوقت کالصلاة بلا طهور لعدم اشتماله علی الملاک حتی یدعو المولی إلی الأمر به، وعلی الثانی فیبقی الأمر بالفاقد بحاله، علی أساس اشتماله علی الملاک التام، لفرض عدم دخل القید المتعذر فیه حال التعذر، لأن قیدیته مختصه بحال التمکن کالطهارة المائیة، فإنها دخیلة فی الملاک حال التمکن منها لا مطلقاً، وأما فی حال تعذرها فملاک الصلاة قد ظل باقیاً، باعتبار أنه لا دخل لها فیه فی هذه الحالة، وعلی ضوء ذلک فعلی الفرض الأول لایمکن الأمر بالفاقد کالصلاة بدون طهور فی الوقت لعدم ملاک له کما مرّ، فإذن یتعین الأمر بالواجد کالصلاة مع الطهارة المائیة خارج الوقت، وعلی الفرض الثانی یتعین الأمر بالفاقد کالصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت لاشتماله علی تمام ملاک الواقع، وعلیه فالجمع بین الأمر بالفاقد فی الوقت أداءاً کالصلاة مع الطهارة الترابیة وبین الأمر بالواجد خارج الوقت قضاءً کالصلاة مع الطهارة المائیة جمع بین أمرین متناقضین، فإن معنی الأمر بالفاقد فی الوقت أنه مشتمل علی تمام ملاک الواقع، وحینئذ فلا مبرر للقضاء ولا موضوع له، ضرورة أن موضوع الأمر بالقضاء فوت الفریضة، ومن الطبیعی أن صدقه منوط بعدم الأمر بالفاقد فی الوقت أداءً وعدم اشتماله علی الملاک ودخل القید فیه مطلقاً حتی حال التعذر،

ص:374

وأما مع فرض الأمر به واشتماله علی الملاک وعدم دخل القید فیه حال التعذر فلا موضوع له، ومعنی الأمر بالواجد فی خارج الوقت قضاءً أن الفاقد فی الوقت غیر مشتمل علی الملاک ولا أمر به، فإذن لایمکن الجمع ین الأمرین، علی أساس أن الأول یستلزم عدم الموضوع للثانی والثانی یستلزم عدم الملاک للأول، فلذلک یکون إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به بالأمر الواقعی ضروریاً فی مسألتنا هذه وهی ما کان الاضطرار مستوعباً لتمام الوقت، وعدم الاجزاء فیها غیر معقول(1).

ویمکن المناقشة فیه، وذلک لأن الصلاة ذات مراتب متعددة ومتفاوته طولا من المرتبة العلیا وهی صلاة المختار إلی المرتبة الدنیا وهی صلاة الغرقی مثلا وبینهما متوسطات، وکل مرتبة منها واجبة ومشتملة علی مصلحة ملزمة عند تعذر مرتبة فوقها، فإذا تعذر علی المکلف الصلاة مع الطهارة المائیة انتقلت وظیفته إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة، وإذا تعذر علیه الصلاة قائماً انتقلت وظیفته إلی الصلاة جالساً وهکذا، وعلی هذا فالصلاة مع الطهارة الترابیة بما أنها فی طول الصلاة مع الطهارة المائیة ودونها فی المرتبة، فلایمکن أن تکون مشتملة علی تمام ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة، وإلا فتکون فی عرضها لا فی طولها، وفی مرتبتها لا دونها فی المرتبة، وعلیه فبطبیعة الحال لا یکون ملاکها وافیاً بتمام ملاکها، إذ لا شبهة فی أن ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة أقوی وأکبر من ملاک الصلاة مع الطهارة الترابیة وإلا فلا مبرر للطولیة بینهما، وعلی هذا فیقع الکلام فی أن المقدار المتبقی من مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة بعد استیفاء المقدار المهم منها الصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت وعدم امکان تدارک تمامها به فیه، هل

ص:375


1- (1) - أجود التقریرات 283:1.

هو لازم الاستیفاء مع إمکانه أو أنه لیس بلازم الاستیفاء، أو أنه لازم الاستیفاء ولکنه غیر ممکن؟ فعلی الأول یجب الاتیان بالصلاة مع الطهارة المائیة خارج الوقت لاستیفاء المقدار المتبقی من تلک المصلحة، وأما علی الثانی والثالث فلا موجب للاتیان بها خارج الوقت، وعلی هذا فلا تهافت ولا تناقض بین وجوب الفاقد وهو المرتبة الذاتیة من الصلاة کالصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت أداءً وبین وجوب الواجد فی خارج الوقت وهو الصلاة مع الطهارة المائیة، لأن التناقض بینهما مبنی علی نقطة خاطئة وهی تخیل أن الصلاة مع الطهارة الترابیة مشتملة علی تمام ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة، علی أساس أن الطهارة المائیة غیر دخیلة فی الملاک فی حال تعذرها، وهذا الخیال خاطیء جداً ولا واقع موضوعی له، لأن دخالة الطهارة المائیة فی الملاک مختصة بحال التمکن منها عقلا وشرعاً، بمعنی أنها دخیلة فی ملاک صلاة المختار ولا تکون دخیلة فی ملاک صلاة دونها فی المرتبة وهی الصلاة مع الطهارة الترابیة، ومن الواضح أن عدم دخالتها فی ملاکها لیس معناه أن ملاکها نفس ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة، بل معناه أن الدخیل فی ملاکها فی هذه المرتبة هو الطهارة الترابیة، والدخیل فی ملاکها فی المرتبة العلیا (صلاة المختار) هو الطهارة المائیة، فلذلک تختلف المرتبتان ملاکاً، ومن هنا لا یستلزم وجوب الصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت عدم وجوب القضاء فی خارج الوقت، لأنه یدور مدار أن المقدار المتبقی من المصلحة لیس بلازم الاستیفاء أو أن استیفائه غیر ممکن وإن کان لازماً فی نفسه، وأما إن کان لازماً کذلک وکان بالامکان استیفاؤه فیجب القضاء فی خارج الوقت، کما أن وجوب القضاء فیه لایستلزم عدم الأمر بالفاقد فی الوقت وعدم اشتماله علی الملاک فلا ملازمة بین الأمرین.

وبکلمة أن قیود الصلاة علی نوعین:

ص:376

الأول: أن قیدیته ثابتة فی جمیع مراتب الصلاة من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا فی تمام حالات المکلف الطارئة علیه، وذلک کالطهارة من الحدث الأکبر والأصغر الأعم من المائیة والترابیة، فإنها کما تکون شرطاً للصلاة فی المرتبة العلیا کذلک یکون شرطاً لها فی سائر مراتبها، ومن هنا إذا تعذرت الطهارة المائیة والترابیة معاً یسقط الأمر بالصلاة بسقوط موضوعها فلا صلاة حتی تکون واجبة، ولهذا تسقط الصلاة عن فاقد الطهورین.

الثانی: أن قیدیته مختصة بحال التمکن کالطهارة المائیة فقط والقیام واستقبال القبلة والاستقرار وما شاکل ذلک.

ومعنی هذا أن المکلف طالما یکون متمکناً من الصلاة مع الطهارة المائیة فلا یصل دور الصلاة مع الطهارة الترابیة، وإذا تعذر علیه تلک الصلاة عقلا أو شرعاً انتقلت وظیفته إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة وکذلک الحال فی سائر الشرائط، فإن المکلف مادام قادراً علی القیام فوظیفته الصلاة قائماً وإلا فالصلاة جالساً، ومادام متمکناً من الرکوع والسجود فوظیفته الصلاة راکعاً وساجداً وإلا فالصلاة مع الایماء بدیلا عن الرکوع والسجود، فالنتیجة أن دخل هذا النوع من الشروط فی ترتب الملاک مختص بحال التمکن لا مطلقاً، وعلی هذا فإذا تعذر مرتبة من الصلاة تعلق الأمر بمرتبة اخری منها دونها وهکذا، ومن الواضح أنه لا تنافی بین الأمر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائیة فی الوقت وبین قضائها فی خارج الوقت، لأن وجوب الصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت عند تعذر الطهارة المائیة إنما هو بملاک أنها لا تسقط بحال، وأما وجوب قضائها مع الطهارة المائیة فی خارج الوقت فهو بملاک أنها لا تفی بتمام غرضها من جهة، المقدار المتبقی منه لازم الاستیفاء من جهة اخری، وبالامکان استیفاؤه من جهة ثالثة، فما ذکره

ص:377

المحقق النائینی (قدس سره) من أن الجمع بینهما من الجمع بین أمرین متناقضین، لایرجع إلی معنی محصل، هذا تمام الکلام فیما إذا کان الاضطرار مستوعباً لتمام الوقت.

الاضطرار غیر المستوعب

وأما الکلام فی المسألة الثانیة وهی ما إذا کان الاضطرار فی جزء من الوقت وغیر مستوعب لتمام الوقت، فیقع تارة فی مقام الثبوت واُخری فی مقام الاثبات.

أما الکلام فی مقام الثبوت فیمکن أن یکون المأمور به بالأمر الاضطراری علی أحد الأنحاء التالیة:

الأول: أن یکون ملاکه وافیاً بتمام ملاک الواجب الواقعی.

الثانی: أن یکون وافیاً بجزء مهم من ملاکه والجزء المتبقی غیر ملزم.

الثالث: أن یکون وافیاً ببعض ملاکه، والبعض الآخر المتبقی ملزم ولکن لایمکن استیفاؤه ثانیاً.

الرابع: هذه الصورة ولکن بالامکان استیفاء ذلک البعض المتبقی من الملاک ثانیاً. ویقع البحث حول هذه الفروض الأربعة:

أما علی الفرض الأول، فلا شبهة فی الاجزاء بملاک أنه یفی بتمام غرض الواقع، فإذا کان المکلف فی أول الوقت غیر واجد للماء وتیمم وصلی ثم وجد الماء فی آخر الوقت لم تجب علیه الاعادة، لأن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وافیة بتمام ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، فإذن لا مقتضی للاعادة، ولکن الواجب علی هذا الفرض هو الجامع بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت طولا والمکلف مخیر بینهما، وکذا إذا لم یتمکن المکلف من القیام فی أول الوقت وصلی جالساً وفی آخر الوقت تمکن من القیام لم تجب علیه إعادة الصلاة قائماً، لأن الواجب هو الجامع بینهما

ص:378

وهکذا.

وأما علی الفرض الثانی، فأیضاً لا شبهة فی الاجزاء، لأن المقدار المتبقی من الملاک بما إنه غیر ملزم، فلا یجب استیفاؤه.

وأما علی الفرض الثالث، فإن الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری فی أول الوقت وإن کان مجزیاً وضعاً إلا أنه غیر جائر تکلیفاً، لأنه یوجب تفویت المقدار من الملاک الملزم بدون مبرر، فإن المکلف إذا أتی بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، فهی وإن کانت صحیحة من جهة اشتمالها علی الملاک الملزم فی نفسه، إلا أنها لا تجوز شرعاً من جهة أنها توجب تفویت المقدار الملزم من ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة، مع أن بامکانه استیفاء الجمیع، لأنه لولم یأت بها مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، کانت وظیفته الاتیان بها مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، واستیفاء تمام ملاکها وعدم تفویت شیء منه، وکذلک لایجوز له البدار تکلیفاً فی هذا الفرض، لاستلزامه تفویت المقدار الملزم من الملاک الذی کان بامکانه ادراکه فی آخر الوقت لولم یبادر فی اول الوقت، ودعوی أن البدار إذا کان منهیاً عنه فهو یوجب فساد العبادة تطبیقاً لکبری اقتضاء النهی عن العبادة الفساد، فإذن لایمکن القول بجواز البدار فیه وضعاً لا تکلیفاً.

مدفوعة بأن اقتضاء النهی عن العبادة الفساد إنما هو فیما إذا کان النهی نفسیاً مولویاً، وأما إذا کان غیریاً فهو لا یقتضی الفساد والنهی عن البدار فی المقام، بما أنه غیری ناشیء من تفویت الملاک المبتقی الملزم فی الصلاة الاختیاریة فلا یقتضی الفساد، لوضوح أن النهی عن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت لم ینشأ عن وجود مفسدة فیها لکی یقتضی فسادها، بل هو ناشیء من مبغوضیة تفویت الباقی من الملاک فی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، باعتبار أن

ص:379

إدراک جزء من ملاکها بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت مانع عن إدراک الجزء الآخر بها مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، هذا اضافة إلی أن تفویت الملاک إنما هو فی طول صحة الصلاة مع الطهارة الترابیة، فإنها إذا کانت صحیحة کانت مفوتة له، وأما إذا کانت فاسدة فلا توجب تفویته، وعلیه فالمبغوضیة والحرمة لا یمکن أن تکون موجبة لبطلان الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، ضرورة أنها لو بطلت فلا مبغوضیة ولا حرمة، فإذن یلزم من فرض وجودها عدمها، فوجودها محال، فالنتیجة أن البدار جائز وضعاً فی هذا الفرض لا تکلیفاً.

وأما علی الفرض الرابع، فهل یجوز البدار إلی الاتیان بالوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت ثم الاتیان بالوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت أو لا؟ فیه وجهان: قد یقال کما قیل بالوجه الثانی، وذلک لأن الأمر بالوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت یکون لغواً ولا یترتب علیه أثر، إذ لابد للمکلف من الاتیان بالوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت وإن أتی بالوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت، ولا معنی للتخییر بین الاتیان بعملین والاتیان بعمل واحد، بمعنی أن یکون المکلف مخیراً بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت ثم الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، وبین الاقتصار علی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، ومن الطبیعی أنه لا معنی لهذا التخییر، ویکون الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة منضمة إلی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت لغواً محضاً ولا ملاک له أصلا، وعلی هذا فلا یجوز البدار فی هذا الفرض، لأن جوازه واقعاً معناه أن العمل الاضطراری متعلق للأمر وهو لایمکن، فإذن یتعین الأمر بالعمل الاختیاری فی آخر الوقت ولایکون العمل الاضطراری مشروعاً فی أول الوقت، ولکن الصحیح هو الوجه الأول، وذلک لأن الوظیفة الاضطراریة فی

ص:380

أول الوقت کالصلاة مع الطهارة الترابیة إذا کانت مشتملة علی ملاک ملزم فی نفسه کما هو المفروض، لم یکن الأمر بها منضمة إلی الوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت لغواً وبلا ملاک وروح بنحو التخییر، لأن حقیقة الحکم وروحه الملاک وهو موجود فیها، نعم الأمر بها کذلک تعییناً لغو وبلا مبرر، وأما تخییراً فلا مانع منه، حیث إنه موجود لبّاً وملاکاً، فإذا کان موجوداً لبّاً فلا مانع منه اثباتاً.

وإن شئت قلت إنا نعلم جزماً أنه لا یجب علی المکلف فی هذا الفرض الانتظار والاقتصار علی الاتیان بالوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت تعییناً وعدم مشروعیة الوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت، إذ لا شبهة فی أنها مشروعة، لفرض أنها مشتملة علی الملاک الملزم فی نفسه وإن کان دون الملاک الملزم للوظیفة الاختیاریة وبنسبة الجزء إلی الکل، فإذن لا محالة یکون المجعول فی هذه الحالة هو الأمر بالجامع بین عملین طولیین زماناً هما العمل الاضطراری فی أول الوقت والعمل الاختیاری فی آخر الوقت، وبین عمل واحد وهو العمل الاختیاری فی آخر الوقت، غایة الأمر أن المکلف إذا اختار العملین فالمستوفی بالعمل الاختیاری الجزء المتبقی من الملاک، باعتبار استیفاء جزء منه بالعمل الاضطراری، وإذا اختار العمل الواحد وهو العمل الاختیاری، فالمستوفی به تمام الملاک، فالنتیجة جواز البدار فی هذا الفرض واقعاً تکلیفاً ووضعاً.

نعم، لولم یعلم بالحال فی مقام الثبوت ودار الأمر فی مقام الاثبات بین أن یکون الواجب عملین طولیین زماناً أو عمل واحد، فلایمکن اثبات التخییر بینهما، لأن وجوب الاتیان بالعمل الواحد معلوم علی کل تقدیر، فإذن إیجاب الاتیان بالعمل الآخر منضماً إلیه لغو ولا یترتب علیه أثر، وأما إذا کان اشتمال کلا الفعلین علی الملاک الملزم معلوماً، غایة الأمر أن المکلف إذا اقتصر فی مقام

ص:381

الامتثال علی العمل الأخیر فقد استوفی تمام الملاک به، وإن أتی بالعمل الأول فقد استوفی به جزء الملاک المتبقی، وحیث إن التخییر روحاً وملاکاً فی مقام الثبوت موجود فلا مناص منه فی مقام الاثبات، ولا یقاس المقام بالتخییر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فإنه غیر معقول، باعتبار أن المکلف مهما أتی بالأقل حصل الغرض به وسقط الأمر وإن کان فی ضمن الأکثر، وحینئذ فلا محالة یکون الأمر بالأکثر ولو تخییراً لغواً وجزافاً، وهذا بخلاف المقام فإن المکلف إذا أتی بالأکثر حصل الغرض به لا بالأقل، وإن اقتصر علی الأقل حصل الغرض به ولا یتوقف علی الأکثر.

ومن هنا یظهر أن الصحیح هو ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی(1) والمحقق الأصبهانی(2) (قدس سرهما) من التخییر فی المسألة بین البدار والاتیان بالوظیفتین الاضطراریة فی أول الوقت والاختیاریة فی آخر الوقت أو الانتظار والاقتصار علی عمل واحد وهو الوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت ولا مانع من ذلک، وقد أفاد المحقق الأصبهانی (قدس سره) فی وجه ذلک، أن المصلحة الصلاتیة قائمة بالصلاة الواحدة فی حال الاختیار إذا لم یسبقهاالصلاة الاضطراریة، وبالصلاتین فی حالتی الاختیار والاضطرار، بمعنی أن المترتب علی کل واحدة منهما جزء المصلحة، وفی مثل ذلک لا مناص من الالتزام بالأمر التخییری ولا یعقل غیره، لأن وفاء العملین وهما العمل الاضطراری فی أول الوقت والعمل الاختیاری فی آخر الوقت معاً بتمام المصلحة، یمنع عن الأمر التعیینی بخصوص العمل الاختیاری فإنه بلا موجب ومبرر، نعم لایمکن أن یکون الأمر بکل من العمل

ص:382


1- (1) - کفایة الاُصول: 85.
2- (2) - نهایة الدرایة 385:1.

الاضطراری فی أول الوقت والاختیاری فی آخر الوقت تعییناً لأنه بلا مقتضی(1) ، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن مقتضی القاعدة فی الفرض الأول والثانی والثالث الاجزاء، وأما فی الفرض الرابع فالمکلف مخیر بین البدار بالاتیان بالعمل الاضطراری فی أول الوقت والعمل الاختیاری فی آخر الوقت، وبین الانتظار والاقتصار بالاتیان بالعمل الاختیاری فی آخر الوقت، هذا کله بحسب مقام الثبوت.

وأما الکلام فی مقام الاثبات فقد تقدم أن العذر إذا کان مستوعباً لتمام الوقت، فمقتضی اطلاق أدلة الأوامر الاضطراریة الاجزاء وهذا لا کلام فیه وتقدم، وإنما الکلام فی المقام وهو إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت فی أنه هل لأدلة الأوامر الاضطراریة اطلاق یمکن التمسک به لاثبات الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو لا؟ فیه قولان:

فقد اختار المحقق الخراسانی (قدس سره) القول الأول، وقد أفاد فی وجه ذلک إنه لا مانع من التمسک باطلاق قوله تعالی: (إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ) الی قوله تعالی: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً )(2).

وإطلاق الروایات کقوله (علیه السلام): «التراب أحد الطهورین یکفیک عشر سنین»(3) وقوله (علیه السلام): «إن رب الماء ورب الأرض واحد»(4) و قوله (علیه السلام): «إن

ص:383


1- (1) - المصدر المتقدم.
2- (2) - سورة المائدة (5):6.
3- (3) - هذا السیاق تلفیق روایتین احداهما وردت فی الوسائل 386:3، باب 23 من أبواب التیمم، ح 5 ولفظها: (إن التیمم أحد...) والثانیة وردت فی نفس الباب، ح 4 ولفظها: (یکفیک الصعید...).
4- (4) - الوسائل 386:3، باب 23 من أبواب التیمم، ح 6. ولفظه: (إن ربّ الماء هو رب الصعید).

الله جعل التراب طهوراً کما جعل الماء طهوراً»(1) وقوله (علیه السلام): «فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض»(2) ونحوها(3) ، ومقتضی اطلاق هذه الأدلة جواز البدار وضعاً وتکلیفاً، فإذا لم یجد الماء فی أول الوقت وتیمم وصلی صحت صلاته، فإذا ارتفع العذر فی أثناء الوقت لم تجب الاعادة(4) ، وقد اختار هذا القول فی خصوص ما إذا کان العذر عدم وجدان الماء لا مطلق العذر جماعة، منهم السید الطباطبائی(5) (قدس سره) هذا، والصحیح هو القول الثانی وذلک لأمرین:

الأمر الأول: أن الآیة الشریفة إنما هی فی مقام بیان أن المکلف علی نوعین:

أحدهما: الواجد للماء. والآخر: الفاقد له.

ووظیفة الأول الطهارة المائیة ووظیفة الثانی الطهارة الترابیة، وحیث إن التقسیم قاطع للشرکة، فلایمکن اشتراکهما فی التکلیف، وهذا هو مقتضی ظاهر الآیة الشریفة ولا نظر لها إلی أن وظیفة الفاقد للماء الصلاة مع الطهارة الترابیة مطلقاً حتی فیما إذا کان للمکلف فاقداً له فی بعض الوقت دون تمام الوقت، فإنها لیست فی مقام البیان من هذه الجهة، وأما الروایات المتقدمة فهی أیضاً کذلک، لأن مفادها أن التراب طهور، أما أنه طهور مطلقاً حتی فیما إذا لم یکن فاقداً للماء فی تمام الوقت فلا تدل علیه، أو فقل أن الروایات المذکورة بألسنة مختلفة إنما هی فی مقام تشریع طهوریة التراب فی طول طهوریة الماء عند عدم التمکن من استعماله، فلا تدل علی أنه طهور مطلقاً وإن کان عدم التمکن من الاستعمال فی

ص:384


1- (1) - الوسائل 385:3، باب 23 من أبواب التیمم، ح 1.
2- (2) - الوسائل 384:3، باب 22 من أبواب التیمم، ح 3.
3- (3) - لاحظ أحادیث البابین المتقدّمین فی الوسائل.
4- (4) - لاحظ کفایة الاُصول: 85.
5- (5) راجع العروة الوثقی 502:1، مسألة 8.

بعض الوقت لا فی تمامه.

الأمر الثانی: أن کل صلاة فریضة موقتة بوقت خاص بدایة ونهایة، فالواجب هو الجامع بین الأفراد الطولیة والعرضیة فی الوقت ویکون المکلف مخیراً فی مقام الامتثال بین الأفراد المذکورة، فطالما یکون متمکناً من إیجاد الطبیعی الواجب فی ضمن أحد أفراده فی طول الوقت کالصلاة مع الطهارة المائیة فلا یصل دور الصلاة مع الطهارة الترابیة، لأنها وظیفة العاجز عن الاُولی فی الوقت لا وظیفة المتمکن منها فیه، وإلا لزم أن یکون وجوبها فی وقتها وهو خلف، ومن الطبیعی أنه یکفی فی تمکن المکلف من الاتیان بالصلاة مع الطهارة المائیة فی الوقت، التمکن من الاتیان بفرد منها فیه ولو بنحو صرف الوجود وإن لم یتمکن منها فی سائر أجزائه، فإذا تمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة ولو فی جزء منه، صدق أنه متمکن منها فی وقتها ومعه تکون وظیفته الصلاة مع الطهارة المائیة دون الطهارة الترابیة.

تحصل مما ذکرناه أن مقتضی القاعدة الأولیة هو أن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت غیر مشروعة فی حق من تمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت کما هو المفروض فی المسألة، إلا إذا کان هناک دلیل علی الاجزاء، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن لأدلة الأوامر الاضطراریة کالآیة الشریفة والروایات اطلاق من هذه الناحیة، فلا مانع من التمسک به لاثبات الاجزاء، فإن مقتضاه أن العذر غیر المستوعب لتمام الوقت موضوع للأمر الاضطراری کالعذر المستوعب لتمام الوقت، وعلی هذا فإن کان المکلف فاقداً للماء فی أول الوقت وتیمم وصلی صحت صلاته وإن ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة فیه، ولکن قد یعترض علی ذلک بأنه لو کان لها اطلاق فمع ذلک

ص:385

لایمکن التمسک باطلاقها لسببین:

الأول: أن لازم ذلک أن تکون شرطیة الطهارة الترابیة فی عرض شرطیة الطهارة المائیة وهو کماتری، ضرورة أن المکلف إذا کان متمکناً من الصلاة مع الطهارة المائیة فی الوقت لم یجز له الاکتفاء بالصلاة مع الطهارة الترابیة فیه، لأن ذلک خلاف الآیة الشریفة التی تنص علی أن وظیفة الواجد للماء فی الوقت الصلاة مع الطهارة المائیة ووظیفة الفاقد الصلاة مع الطهارة الترابیة، وعلیه فإذا کان المکلف واجداً للماء فی آخر الوقت وتمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة فیه فوظیفته الاتیان بها دون الصلاة مع الطهارة الترابیة، ولو صلاها فی أول الوقت انکشف بطلانها وظهر أنه غیر مأمور بها.

الثانی: أن لازم ذلک أن تکون کل حصة من الصلاة مشروطة بالطهارة المائیة، فإذا کان المکلف فی أول الوقت فاقداً للماء فوظیفته الطهارة الترابیة بالنسبة إلی الحصة الواقعة فیه، فإذا أتی بتلک الحصة معها صحت فلا إعادة علیه، وهذا کماتری، ضرورة أن الطهارة المائیة شرط لطبیعة الصلاة الجامعة بین أفرادها الطولیة من المبدأ إلی المنتهی لا أنها شرط لکل حصة، حصة منها فی طول الوقت مستقلا. ویمکن المناقشة فی کلا الأمرین:

أما الأمر الأول، فلأنه لو کان لدلیل الأمر الاضطراری اطلاق کالآیة الشریفة والروایات، کان مقتضاه أن الاضطرار غیر المستوعب لتمام الوقت موضوع للأمر الاضطراری کالمستوعب له، وعلیه فلا مانع من التمسک باطلاقه لاثبات عدم وجوب الاعادة، ومن الواضح أنه لیس معنی هذا کون شرطیة الطهارة الترابیة فی عرض شرطیة الطهارة المائیة بل هی فی طولها وعند تعذرها، غایة الأمر أعم من أن یکون تعذرها فی تمام الوقت أو فی جزء منه، ونتیجة هذا

ص:386

الاطلاق جواز البدار واقعاً تکلیفاً ووضعاً، وعلی هذا فإذا تیمم وصلی صحت صلاته وإن ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن من الصلاة مع الطهارة المائیة.

ودعوی، أن مقتضی اطلاق دلیل الأمر الاضطراری وإن کان کفایة الوظیفة الاضطراریة عن الوظیفة الاختیاریة إلا أنه معارض بإطلاق دلیل الأمر الاختیاری، فإن مقتضی اطلاقه تعین الوظیفة الاختیاریة فی مجموع الوقت أی بین المبدأ والمنتهی وعدم کفایة الوظیفة الاضطراریة عنها.

مدفوعة، فإن مقتضی اطلاق دلیل الأمر الاختیاری وإن کان ذلک إلا أن اطلاق دلیل الأمر الاضطراری یتقدم علیه، علی أساس تقدم أدلة الأحکام الثانویة علی أدلة الأحکام الأولیة کدلیل لا ضرر ولا حرج ونحوهما، وعلی هذا فلابد من رفع الید عن اطلاق دلیل الأمر الاختیاری وحمله علی ما إذا لم یکن علی خلافه دلیل الأمر الاضطراری، وإلا فلابد من تقیید اطلاقه بغیر مورده.

فالنتیجة، أنه لو کان لدلیل الأمر الاضطراری اطلاق فهو المحکم والمرجع دون اطلاق دلیل الأمر الاختیاری، ولکن الذی یسهل الخطب أنه لا اطلاق له.

وأما الأمر الثانی، فلأن مقتضی اطلاق دلیل الأمر الاضطراری لیس تضیق دائرة شرطیة الطهارة المائیة وجعلها لحصة خاصة من الصلاة وهی الحصة الواقعة فی أول الوقت، بل مقتضاه کفایة الاتیان بالوظیفة الاضطراریة عن الوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت وأنها تفی بغرضها، لا أن الطهارة المائیة لیست شرطاً لها، ومن هنا إذا لم یأت بالوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت وجب علیه الاتیان بالوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت وهی الصلاة مع الطهارة المائیة، فإذن کیف یمکن أن یکون مقتضی اطلاقه تخصیص شرطیة الطهارة المائیة بالصلاة فی أول الوقت دون الصلاة فی آخر الوقت فإنه خلاف

ص:387

الکتاب والسنة.

والخلاصة: أن نتیجة اطلاق دلیل الأمر الاضطراری وتقدیمه علی دلیل الأمر الاختیاری هی أن الواجب فی المسألة الجامع بین الوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت کالصلاة مع الطهارة الترابیة والوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت والمکلف مخیر بینهما طولا، فإذا أتی بالاُولی کفت عن الثانیة وإلا وجب علیه الاتیان بالثانیة.

تحصل أن الاطلاق لو ثبت لدلیل الأمر الاضطراری لکان هو المتعین ومقتضاه جواز البدار واقعاً تکلیفاً ووضعاً، ولکن قد مر أنه غیر ثابت لا فی الآیة الشریفة ولا فی الروایات، فإذن مقتضی القاعدة فی المسألة عدم جوار البدار واقعاً وعدم کفایة الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت مع التمکن من الاتیان بالصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، هذا هو مقتضی القاعدة، ولکن مع ذلک ذهب جماعة من المحققین إلی الاجزاء فی المسألة، منهم المحقق العراقی والمحقق النائینی والمحقق الأصبهانی (قدس سرهم)، أما المحقق العراقی فقد ذکر فی وجه ذلک وجوهاً:

الوجه الأول: أن أدلة البدلیة کآیة التیمم والروایات مطلقة، وتدل باطلاقها علی أن موضوع وجوب التیمم مطلق العذر أعم من أن یکون مستوعباً لتمام الوقت أو غیر مستوعب له، بدعوی أن المتبادر من قوله تعالی: (إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ) إلَی قوله تعالی: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً )(1) ، هو أن المکلف إذا أراد الاتیان بالصلاة فی أی جزء من أجزاء الوقت، فإن کان واجداً للماء فی ذلک الجزء، فوظیفته الوضوء والغسل فیه وإلا

ص:388


1- (1) - سورة المائدة (5):6.

فوظیفته التیمم.

فالنتیجة، أن المعیار بالوجدان والفقدان إنما هو فی الوقت الذی أراد المکلف الاتیان بالصلاة، سواء أکان ذلک فی أول الوقت أم فی أثنائه أم آخره، فإذا أراد الاتیان بها فی أول الوقت وکان فاقداً للماء فوظیفته الاتیان بها مع الطهارة الترابیة وهکذا(1) ، ولکنه (قدس سره) أعقب ذلک بتعلیقین:

الأول: أن هذا الاطلاق معارض باطلاق دلیل الأمر الاختیاری، فإن مقتضاه أن القید المضطر إلی ترکه فی جزء من الوقت دخیل فی الملاک وغیر ساقط بالاضطرار غیر المستوعب، فیکون معارضاً لاطلاق دلیل الأمر الاضطراری فیسقطان معاً من جهة المعارضة فلا دلیل علی الاجزاء، وفیه ما أشرنا إلیه آنفاً من أن اطلاق دلیل الأمر الاضطراری یتقدم علی إطلاق دلیل الأمر الاختیاری بالحکومة، فلو ثبت أن للآیة الشریفة إطلاقاً وکذلک للروایات التی تنص علی بدلیة التراب عن الماء، فلا مناص من الأخذ به ولا یعارضه اطلاق دلیل الأمر الاختیاری

الثانی: تقدیم ظهور دلیل الأمر الاختیاری علی اطلاق دلیل الأمر الاضطراری بالأظهریة أو الحکومة، بدعوی أن ظهور دلیل الأمر الاختیاری فی دخل القید فی الملاک الواقعی وصغی، والظهور الوضعی یتقدم علی الظهور الاطلاقی من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر(2).

والجواب: أولا، أن المعارض مع اطلاق دلیل الاضطراری لیس أصل الظهور فی دخل القید، بل اطلاقه لحالة ما إذا أتی المکلف المضطر بالوظیفة

ص:389


1- (1) - مقالات الاُصول 270:1.
2- (2) - نهایة الأفکار 234:1.

الاضطراریة فی أول الوقت ثم ارتفع عذره فی آخر الوقت.

وثانیاً: ما تقدم من أن اطلاق دلیل الأمر الاضطراری یتقدم علی اطلاق دلیل الأمر الاختیاری، ویکون هذا التقدیم بالحکومة وتضییق دائرة دخل القید فی الملاک بما إذا لم یضطر المکلف إلی ترکة ولو فی بعض الوقت وکفایة بدله فی هذه الحالة، وعلی الجملة فأدلة البدلیة کالآیة الشریفة والروایات تدل علی أصل بدلیة الطهارة الترابیة عن الطهارة المائیة عند الاضطرار والعذر بالوضع، وتدل علی کفایة البدل فی هذه الحالة وهی الاضطرار فی جزء من الوقت بالاطلاق، وحیث إنها ناظرة إلی تشریع البدل حتی فی هذه الحالة، فلذلک تکون حاکمة علی دلیل المبدل، ومن هنا یظهر أن ما ذکره (قدس سره) من أن دلیل الأمر الاختیاری حاکم علی دلیل الأمر الاضطراری غریب جداً، فالنتیجة أنه لو کان لأدلة البدلیة إطلاق فلا مناص من الاخذ به، وحیث إنه لا إطلاق لها، فیکون إطلاق دلیل الأمر الاختیاری محکماً.

الوجه الثانی: أن الواجب فی المسألة وهی ما إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت الجامع بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، وکذا الجامع بین الصلاة جالساً فی أول الوقت والصلاة قائماً فی آخر الوقت وهکذا، کما هو الحال فی صلاتی المسافر والحاضر، فإن الواجب هو الجامع بینهما، ولکن الشارع عین لکل من المکلف المضطر والمکلف المختار حصة خاصة من الجامع، فللأول الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وللثانی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت وهکذا، کما أنه عین للمسافر الصلاة قصراً فقط وللحاضر الصلاة تماماً کذلک، وعندئذ فیکون إجزاء الفرد الاضطراری عن الفرد الاختیاری علی القاعدة، باعتبار أن کل

ص:390

واحد من فردی الجامع واف بالمصلحة القائمة به بنسبة واحدة(1).

وفیه إنه لایمکن إتمام هذا الوجه لا ثبوتاً ولا اثباتاً.

أما ثبوتاً فلأن الواجب لو کان الجامع بینهما، فما معنی تعیین الشارع لکل من المختار والمضطر والقادر والعاجز فرداً خاصاً معیناً من الجامع، بداهة أن هذا التعیین لایمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة تکون من جهة أن خصوصیة الفرد دخیلة فی المصلحة، فإذا کانت دخیلة فیها إستحال أن یکون الواجب هو الجامع بینهما، فإن معنی کون الواجب الجامع أن خصوصیة الفرد ملغاة وغیر دخیلة فی المصلحة، ووفاء کل من الفردین بها بلحاظ اشتماله علی الجامع، وعلی هذا فالجمع بین کون الواجب الجامع بینهما وبین تعیین الشارع لکل منهما فرداً خاصاً، جمع بین نقیضین فلایمکن، ومن هنا یظهر حال صلاتی القصر والتمام، ضرورة أن الواجب لیس هو الجامع بینهما، بل الواجب علی کل من الحاضر والمسافر حصة خاصة من الصلاة.

فالنتیجة، أن ما ذکره (قدس سره) ثبوتاً لایمکن، وأما اثباتاً فلأن کون الواجب هو الجامع بینهما یتوقف علی أن یکون لأدلة البدلیة اطلاق، وقد مر أنه لا اطلاق لتمام الوقت.

الوجه الثالث: أن ظاهر دلیل الأمر الاضطراری التعیین لا التخییر کما هو الحال فی دلیل الأمر الاختیاری، علی أساس أن الأمر إذا تعلق بشیء ظاهر فی أنه واجب بنفسه وبعنوانه لا أنه فرد من واجب، وعلی هذا فمقتضی أدلة الأوامر الاضطراریة کالآیة الشریفة والروایات أن وجوب الصلاة مع الطهارة الترابیة

ص:391


1- (1) - المصدر المتقدم.

وجوب تعیینی ناشیء عن وجود مصلحة ملزمة فیها، کما أن وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة وجوب تعیینی ناشیء عن وجود مصلحة ملزمة فیها، فإذن إجزاء الصلاة مع الطهارة الترابیة عن الصلاة مع الطهارة المائیة إنما هو بملاک أن الاتیان بالاُولی یوجب تفویت مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة تماماً للمضادة بینهما، فلایمکن استیفاء تلک المصلحة بالاعادة فی آخر الوقت عند ارتفاع العذر، ومن هنا لولا اطلاق أدلة الاضطرار کان العقل مستقلا بعدم جواز البدار الموجب لتفویت المصلحة کاملة(1).

وفیه أولا: ما عرفت من أنه لا اطلاق لأدلة الأوامر الاضطراریة بالنسبة إلی العذر غیر المستوعب لتمام الوقت.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن لها اطلاقاً، إلا أن مقتضی اطلاقها جواز البدار والاتیان بالوظیفة الاضطراریة فی أول الوقت کالصلاة مع الطهارة الترابیة أو جالساً أو مع الایماء، ولا یحتمل تعین البدار إلیها ثبوتاً، لفرض أن الوظیفة الاختیاریة فی آخر الوقت کالصلاة مع الطهارة المائیة بعد ارتفاع العذر مشتملة علی مصلحة أکمل وأهم من مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، فإذن کیف یمکن أن یکون الأمر بها فی أول الوقت تعیینیاً لا تخییریاً.

وثالثاً: أن العقل إذا کان مستقلا بعدم جواز تفویت المصحلة الکاملة والاکتفاء بالمصلحة الناقصة کان ذلک قرینة لبّیة مانعة عن انعقاد ظهور أدلة الأوامر الاضطراریة فی الاطلاق، نعم لوکان هناک نص علی الترخیص فی التفویت، ارتفع حکم العقل بارتفاع موضوعه، ولکنه غیر موجود.

ص:392


1- (1) - مقالات الاُصول 277:1.

ورابعاً: أن فرض التضاد بین المصلحتین مع عدم التضاد بین الصلاتین مجرد فرض لا واقع موضوعی له، بداهة أن المضادة إنما هی بین الأفعال الخارجیة، فإذا لم تکن مضادة بینها، فلا مضادة بین آثارها وما یترتب علیها من الفوائد والمصالح.

وخامساً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن بینهما مضادة، إلا أنه حینئذ تقع المعارضة بین دلیل الأمر الاضطراری المتعلق بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت ودلیل الأمر الاختیاری المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت بعد ارتفاع العذر، ولایمکن جعل کلیهما معاً لأنه لغو.

وأما المحقق النائینی (قدس سره) فقد اختار الاجزاء فی صورة خاصة وهی صورة الیأس عن ارتفاع العذر فی طول الوقت أو الظن بعدم ارتفاعه، وقد أفاد فی وجه ذلک، أن جواز البدار فیها لا یخلو من أن یکون ظاهریاً أو واقعیاً، فعلی الأول یدخل البحث فی البحث عن المرحلة الثالثة الآتیة، وهی أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی أو لا، وسوف یأتی تفصیل ذلک.

وعلی الثانی، فلا شبهة فی الاجزاء، فإن جواز البدار واقعاً ملازم لوجود الأمر الاضطراری بالصلاة مع الطهارة الترابیة، ومع وجود هذا الأمر یستحیل تعلق أمر آخر بها مع الطهارة المائیة فی وقت واحد، لقیام الضرورة والاجماع القطعی علی عدم وجوب ستة صلوات علی المکلف فی یوم واحد، لأن الواجب فی کل یوم خمسة صلوات لا أکثر، وعلی هذا فلا محالة یکشف الأمر الاضطراری المتعلق بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت عن وجود مصلحة فیها لا تقل عن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة، أو أن المقدار

ص:393

المتبقی فیها غیر الزامی، ولهذا فإذا ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن المکلف من الصلاة مع الطهارة المائیة فیه، لم تجب إعادتها وکفایة الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، وکذلک إذا صلی جالساً فی أول الوقت أو مع الایماء بدیلا عن الرکوع والسجود ثم ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن من الصلاة قائماً أو مع الرکوع والسجود، فإنها تکفی ولا تجب علیه الاعادة(1). هذا،

وللمناقشة فیه مجال واسع، فإن جواز البدار واقعاً أی وضعاً وتکلیفاً فی هذه الصورة مع کشف الخلاف وارتفاع العذر فی أثناء الوقت، بحاجة إلی دلیل یدل علی أن الواجب هو الجامع بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، وإلا فمقتضی القاعدة عدم جواز البدار وعدم وجود الأمر الاضطراری واقعاً، والموجود إنما هو الأمر الاختیاری بالصلاة مع الطهارة المائیة، علی أساس تمکن المکلف منها واقعاً فی الوقت ولو فی الجزء الأخیر منه. والفرض أنه لا دلیل علی ذلک، أما الدلیل الخاص المختص بصورة الیأس فهو غیر موجود جزماً، وأما الدلیل العام کالآیة الشریفة والروایات، فقد تقدم أنه لا اطلاق لها بالنسبة إلی العذر غیر المستوعب لتمام الوقت.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنها مطلقة وباطلاقها تشمل العذر غیر المستوعب فلا وجه لهذا التفصیل، فإن مقتضی اطلاقها کفایة الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، سواءً کان قاطعاً باستمرار العذر إلی آخر الوقت أم قاطعاً بعدم استمراره أم لا هذا ولا ذاک، هذا من جانب ومن جانب آخر، أن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت مع تمکن المکلف من الصلاة مع الطهارة

ص:394


1- (1) - أجود التقریرات 284:1-285.

المائیة فی آخر الوقت إن کانت مشتمله علی مصلحة وافیة بتمام مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة، کانت مشتمله علیها فی تمام الحالات المذکورة، وإن لم تکن مشتملة علی مصلحة کذلک، لم تکن مشتملة علیها فی شیء من تلک الحالات، ضرورة أنه لا یحتمل اشتمالها علی مصلحة فی صورة الیأس عن ارتفاع العذر والقطع باستمراره إلی آخر الوقت فقط، أو من غیر المحتمل أن یکون القطع بعدم ارتفاع العذر واستمراره دخیلا فی اشتمال الصلاة مع الطهارة الترابیة علی المصلحة.

وإن شئت قلت: أن موضوع الأمر الاضطراری إن کان العذر المستوعب لتمام الوقت، فلا أمر واقعاً فیما إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت، وإن کان أعم من العذر المستوعب وغیر المستوعب، فالأمر الاضطراری موجود واقعاً وهو الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وإن ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن المکلف من الصلاة مع الطهارة المائیة، فالتفصیل بین صورة القطع باستمرار العذر المخالف للواقع وصورة عدم القطع به، فعلی الأول یکون الأمر الاضطراری موجوداً دون الثانی لا وجه له أصلا، بداهة أنه لایحتمل أن یکون للقطع المخالف للواقع دخیل فی الملاک، وهکذا الحال فی سائر الأعذار فی باب الصلاة وغیره.

ومن هنا یظهر أنه لو قلنا بجواز البدار واقعاً وکفایة الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، فعندئذ عدم وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة یکون علی القاعدة، باعتبار أن الواجب علی هذا هو الجامع بینهما طولا، والمفروض أن المکلف قد أتی بأحد فردیه، کما هو الحال فیما إذا کان الواجب علی المکلف الجامع بین صلاتی القصر والتمام أو بین الجمعة والظهر فی یوم الجمعة، وحینئذ فلا وجه للاستدلال بالضرورة والاجماع علی عدم وجوب ستة صلوات، فإن الاستدلال

ص:395

بهما إنما یکون له محل لو قیل بأن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت واجبة تعیینیة، فعندئذ لو کانت الصلاة مع الطهارة المائیة واجبة کذلک بعد ارتفاع العذر فی آخر الوقت لزم هذا المحذور، والفرض أن من یقول بکفایة الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت فی المسألة عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت بعد ارتفاع العذر، إنما یقول بأن الواجب حینئذ هو الجامع بینهما لا خصوص الاُولی فی أول الوقت والثانیة فی آخر الوقت.

هذا إضافة إلی أن ذلک لو تم فرضاً فإنما یتم فی باب الصلاة فقط، وأما فی سائر أبواب الواجبات، فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب من هذه الناحیة.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أن مقتضی القاعدة فی هذه المسألة عدم جواز البدار واقعاً، فجوازه بحاجة إلی دلیل خاص، ففی کل مورد قام دلیل خاص علی ذلک نأخذ به وإلا فلا، ومن ذلک المورد، موارد التقیة فإنه قد ثبت جواز البدار فیها واقعاً تکلیفاً، وأما تکلیفاً ووضعاً فقد ثبت فی باب الصلاة والوضوء لا مطلقاً، وسوف یأتی تفصیله.

الأصل العملی فی المسألة

وأما الأصل العملی فی المقام، فحیث أن الشک فیه یرجع إلی الشک فی أن الواجب هو الجامع بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت أو خصوص الصلاة مع الطهارة المائیة فحسب، فیدور الأمر عندئذ بین التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل، والمرجع فیه أصالة البرائة عن التعیین، فالنتیجة کفایة الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وعدم وجوب إعادة الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت.

وأما المحقق الأصبهانی (قدس سره) فقد أفاد فی وجه ذلک ما نصه:

تحقیق الحال فیه أن بدلیة شیء عن شیء وقیامه مقامه ولو بنحو الترتیب

ص:396

لایعقل إلا مع جهة جامعة وافیة بسنخ غرض واحد، فإن کان البدل فی غرض المبدل لزم مساواته له فی تمام المصلحة، إما ذاتاً أو بالعرض والوجه واضح، وإن کان البدل فی طول المبدل کما فی مفروض البحث، فاللازم مجرد مسانخة الغرضین، سواءً کان مصلحة المبدل أقوی من مصلحة البدل أو لا، وحدیث إمکان استیفاء بقیة مصلحة المبدل إنما یصح إذا کان المبدل مشتملا علی مصلحتین:

إحداهما تقوم بالجامع بین المبدل والبدل، والاُخری بخصوص المبدل، بحیث تکون کلتا المصلحتین ملزمتین قابلتین لانقداح البعث، وأما إذا کانت المصلحة فی البدل والمبدل واحدة وکان التفاوت بالضعف والشدة، فلا تکاد تکون بقیة المصلحة ملاکاً للبعث إلی المبدل بتمامه، إذ المفروض حصول طبیعة المصلحة القائمة بالجامع الموجود بوجود البدل، فتسقط عن الاقتضاء والشدة بما هی، لایعقل أن تکون ملاکاً للأمر بالمبدل بکماله، حیث إن المفروض أن تمام الملاک للأمر بتمام المبدل وهی المصلحة الکاملة القویة وطبیعتها وجدت فی الخارج وسقطت عن الاقتضاء، فلوکان مع هذا حد الطبیعة القویة مقتضیاً للأمر بتمام المبدل لزم الخلف. نعم، اقتضاؤه لتحصیل الخصوصیة القائمة بالمبدل معقول، نظراً إلی أن اشتراک المبدل والبدل فی جامع الملاک یکشف عن جامع بینهما، لکنه لایجدی إلا مع الالتزام بالأمر بالجامع أیضاً فی ضمن المبدل تحصیلا للخصوصیة التی لها ملاک ملزم، فیکون الأمر بالمبدل مقدمیاً وهو مما لا ینبغی الالتزام به، ومنه تعرف أن الالتزام بمصلحتین فی المبدل أیضاً لا یجدی إذا کانت احداهما قائمة بالجامع فقط واُخری بالخصوصیة، بل لابد من الالتزام بقیام مصلحتین

ص:397

إحداهما بالجامع فقط واُخری بالجامع المتخصص بالخصوصیة(1).

ما أفاده یتضمن عدة نقاط:

الاُولی: أن البدلیة إذا کانت عرضیة لزم تساوی طرفیها فی الملاک.

الثانیة: أنها إذا کانت طویلة فلابد من اشتراک البدل مع المبدل فی سنخ الملاک وإن کان ملاک المبدل أقوی من ملاک البدل.

الثالثة: أن استیفاء الملاک المتبقی من ملاک المبدل إنما هو فیما إذا کان المبدل مشتملا علی ملاکین أحدهما قائم بالجامع بین البدل والمبدل، والآخر بالجامع المتخصص بخصوصیة المبدل وکان کل منهما ملزماً فی نفسه، وأما إذا کان البدل والمبدل کلاهما مشتملا علی ملاک واحد وکان التفاوت بینهما بالشدة والضعف، فلا یصلح الملاک المتبقی أن یکون داعیاً إلی المبدل بتمامه بعد استیفاء طبیعة الملاک الجامعة بین ذات البدل وذات المبدل، فإذا استوفی ذلک الملاک بالاتیان بالبدل لم یبق لذات المبدل ملاک، وإنما یبقی الملاک القائم بخصوصیته الخاصة فحسب، فإذن لابد إما من إفتراض الأمر بذات المبدل وهو ذوالخصوصیة مقدمة الملاک القائم بها أو إفتراضه بنفس الخصوصیة، ولکن کلا الفرضین لایمکن، أما الأول فلأن لازمه أن یکون الأمر بالمبدل أمراً مقدمیاً غیریاً ناشئاً من الملاک القائم بخصوصیته المقترنة به وجوداً الخارجة عنه ذاتاً وحقیقة، ونتیجة ذلک أن الأمر بالصلاة مع الطهارة المائیة أو مع القیام فی آخر الوقت بعد ارتفاع العذر غیری، شریطة إتیانه بالصلاة مع الطهارة الترابیة أو جالساً فی أول الوقت، باعتبار أن الأمر بالصلاة إنما هو مقدمة لتحصیل الملاک القائم بالطهارة المائیة أو بالقیام فیها

ص:398


1- (1) - نهایة الدرایة 382:1.

لا بنفسها، وهذا خلاف ظاهر الدلیل.

وأما الثانی، فلأن لازمه أن یکون الأمر متعلقاً بالخصوصیة لا بذیها وهو کماتری، ضرورة أنه متعلق بالصلاة مع الطهارة المائیة أو مع القیام لا بالطهارة المائیة فی الصلاة أو القیام فیها، وبذلک یظهر أن إمکان استیفاء بقیة مصلحة المبدل منوط بوجود مصلحتین:

إحداهما قائمة بالجامع فقط، والاُخری قائمة بالجامع المتخصص بالخصوصیة، وأما إذا کانت إحداهما قائمة بالجامع والاُخری بالخصوصیة فقط، فأیضاً لا یمکن بنفس ما عرفت من الملاک، هذا توضیح لما أفاده (قدس سره) هنا.

ولنأخذ بالنظر إلی هذه النقاط.

أما النقطة الاُولی: فلأن ما ذکره (قدس سره) من أن المعتبر فی البدلیة العرضیة أن یکون طرفاها متساویین بنسبة واحدة فی تمام المصلحة.

فإن أراد بذلک أن مصلحة البدل مساویة لمصلحة المبدل وبالعکس، فیرد علیه أنه إذا کانت لکل من البدل والمبدل مصلحة تامة مساویة لمصلحة الآخر، فلا مبرر حینئذ للتخییر والبدلیة إلا إذا فرض التضاد بین المصلحتین، ولکن هذا مجرد فرض لا واقع له، إذ لا یتصور المضادة بینهما طالما لم تکن مضادة بین الفعلین فی الخارج، وإن أراد بذلک أن استیفاء المصلحة فی کل منهما مشروط بعدم إستیفائها فی الآخر، بأن تکون هناک مصلحتان مشروطتان ویتبعهما وجوبان مشروطان کما هو أحد الأقوال فی مسألة الواجب التخییری، فیرد علیه أنه لا معنی لأن یکون استیفاء المصلحة فی کل منهما مشروطاً بعدم استیفائها فی الآخر، لأن المصلحة أمر تکوینی، فإذا لم تکن بینهما مضادة وجب استیفاء کلیهما معاً لا

ص:399

إحداهما فحسب، ومن هنا قلنا ببطلان هذا القول فی الواجب التخییری وإنه لا یرجع إلی معنی محصل، وإن أراد بذلک تساوی کل من البدل والمبدل فی الوفاء بتمام المصلحة القائمة بالجامع فهو صحیح، لما ذکرناه من أن المصلحة فی الواجب التخییری قائمة بالجامع وهی واحدة، ولهذا یکون المجعول فیه وجوب واحد، فالتنیجة أن الواجب فی البدلیة العرضیة واحد ملاکاً وحکماً ومتعلقاً، والتخییر إنما هو بین أفراده.

وأما النقطة الثانیة: فقد ذکر (قدس سره) أن المعتبر فی البدلیة الطولیة مجرد مسانخة الغرضین، بأن یکون الغرض القائم بالبدل مسانخاً للغرض القائم بالمبدل، سواء أکان غرض المبدل أقوی من غرض البدل أم لا، ویمکن المناقشة فیه بأن الغرض القائم بالمبدل إذا لم یکن أقوی من الغرض القائم بالبدل، فلا موجب لکون البدلیة بینهما طولیة، بأن یکون وجوب البدل مشروطاً بالعجز عن المبدل، إذ لا معنی لهذا الاشتراط إذا کانا متساویین فی الملاک والغرض، ضرورة أن جعل الشارع وجوب الصلاة مع الطهارة الترابیة فی طول وجوبها مع الطهارة المائیة لایمکن أن یکون جزافاً وبلا ملاک، فلا محالة یکون لنکته، وتلک النکتة لیست إلا أن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة أقوی بدرجة تلزم المکلف بالاتیان بها طالما یتمکن منها، وإذا تعذر انتقلت وظیفته إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة، فإذا فرضنا أن مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة لیست أقوی من مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت، فلا مبرر لکون الثانیة فی طول الاُولی، وأما إذا کان الغرض القائم بالمبدل أقوی من الغرض القائم بالبدل بدرجة تلزم المکلف بالاتیان بالمبدل طالما یکون متمکناً منه، وإذا تعذر عقلا أو شرعاً، انتقل الأمر إلی البدل، فهل یعتبر فی هذه الطولیة أن یکون غرض البدل مسانخاً

ص:400

لغرض المبدل؟

فقد التزم المحقق الأصبهانی (قدس سره) باعتبار المسانخة بینهما فی کون البدل فی طول المبدل، ولکن الظاهر عدم إعتبارها، إذ لایلزم أن تکون مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابیة عند تعذر الصلاة مع الطهارة المائیة فی تمام الوقت مسانخة لمصلحتها، فیمکن أن تکون مصلحة الصلاة مع الطهارة الترابیة عند تعذرها مع الطهارة المائیة فی تمام الوقت غیر مسانخة لمصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة، فإن المعیار فی وجوبها کونها مشتملة علی مصلحة ملزمة فی حالة خاصة وهی حالة تعذر الصلاة مع الطهارة المائیة لا مطلقاً، وأما کونها من سنخ مصلحتها فهو غیر دخیل فی وجوبها ولا فی بدلیتها لها، لأن العبرة فیها إنما هی بکونها فی طولها وعند تعذرها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لا شبهة فی أن الصلاة مع الطهارة الترابیة عند تعذر الصلاة مع الطهارة المائیة فی تمام الوقت واجدة ومشتملة علی مصلحة ملزمة فی هذه الحالة وإن کانت دون مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة کما تقدم، وأما إذا کان التعذر فی بعض الوقت لا فی تمامه، کما إذا کان المکلف فاقداً للماء فی أول الوقت وواجداً له فی آخر الوقت، فإن کان لدلیل الأمر الاضطراری اطلاق، فالواجب هو الجامع بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، إذ لایمکن أن یکون وجوب کل منهما تعیینیاً کما مرّ، وعلی هذا فمقتضی الاطلاق الاجزاء، وقد تقدم أن اطلاقه یتقدم علی اطلاق دلیل الأمر الاختیاری، وإن لم یکن له اطلاق، فالمرجع حینئذ إطلاق دلیل الأمر الاختیاری ومقتضاه عدم الاجزاء.

وأما النقطة الثالثة: فإن کان العذر مستوعباً لتمام الوقت، فلا شبهة فی أن کل

ص:401

من البدل والمبدل مشتمل علی مصلحة غیر مصلحة الآخر، فالصلاة مع الطهارة الترابیة عند تعذر الطهارة المائیة فی تمام الوقت مشتملة علی مصلحة غیر مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة، ولا شبهة فی تعدد المصلحة فی هذه الصورة، فمصلحة البدل تقوم بالبدل بحده ومصلحة المبدل تقوم بالمبدل کذلک، ولا یمکن أن تکون قائمة بالجامع، لأن الواجب فی هذه الحالة هو خصوص البدل تعییناً، وأما إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت، فاشتمال البدل علی المصلحة ثبوتاً یتصور علی وجوه، وقد تقدم الکلام فی تلک الوجوه موسعاً، وأما إثباتاً فإن کان لدلیل الأمر الاضطراری اطلاق فرضاً فمقتضاه الاجزاء وعدم وجوب الاعادة، وإن لم یکن له اطلاق کما هو کذلک، فمقتضی اطلاق دلیل الأمر الاختیاری عدم الاجزاء ووجوب الاعادة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أن ما ذکره (قدس سره) من أن المصلحة الباقیة إذا کانت قائمة بالخصوصیة، فلایمکن تدارکها کما تقدم قابل للمناقشة، اما أولا، فلأن فرض قیام المصلحة بالخصوصیة بحدها بدون دخل ذیها فیها مجرد افتراض لا واقع موضوعی له، إذ لا یحتمل أن تکون المصلحة فی القیام للصلاة وفی الطهارة المائیة لها، لوضوح أن القیام دخیل فی مصلحة الصلاة وکذلک الطهارة المائیة، فالمصلحة قائمة بحصة خاصة من الصلاة وهی الحصة المقیدة بالطهارة المائیة أو القیام، وثانیاً أن المصلحة لم تقم بالخصوصیة القیامیة أو الطهاراتیة مطلقاً، وإنما تقوم بالقیام الصلاتی وبالطهارة الصلاتیة، وعلیه فالأمر بالصلاة إنما هو من جهة قیام مصلحة بخصوصیة قائمة بها قیام العنوان بالمعنون، وهذا بنظر العرف لیس من الأمر بالمقدمة، تحصل أن ما أفاده المحقق الأصبهانی (قدس سره) فی المقام، فلایمکن المساعدة علیه.

ص:402

هذا کله بالنسبة إلی أدلة الأوامر الاضطراریة الخاصة کالآیة الشریفة والروایات، وأما الأدلة العامة فهی متمثلة فی أمرین:

الأول: قاعدة المیسور التی یکون مقتضاها أن العمل الناقص المیسور مجز عن العمل التام المعسور، ولا فرق بین أن یکون العمل الناقص المیسور الصلاة مع الطهارة الترابیة بعد تعذر الطهارة المائیة أو غیرها، وفیه أن هذه القاعدة غیر ثابتة فی نفسها، لأن روایاتها ضعیفة سنداً ودلالةً، فلایمکن الاعتماد علیها وتمام الکلام فی محله.

الثانی: حدیث رفع الاضطرار، بتقریب أن المکلف إذا اضطر إلی ترک الصلاة مع الطهارة المائیة أو مع القیام أو مع الرکوع والسجود و غیرها، فحیث إن الاضطرار رافع لوجوبها بمقتضی قوله (علیه السلام) رفع ما اضطروا إلیه(1) ، فحینئذ لا محالة یکون الواجب هو الصلاة مع الطهارة الترابیة أو مع الجلوس أو الایماء. وفیه، أن مفاد حدیث الرفع، رفع الحکم عن العمل الذی اضطر المکلف إلی ترک جزء أو قید منه، لا اثبات الحکم للعمل الفاقد له لا مطابقة ولا التزاماً، وعلی الجملة فالحدیث یدل علی رفع الوجوب عن الصلاة مع الطهارة المائیة عند الاضطرار إلی ترکها، ولا یدل علی اثبات الوجوب للصلاة مع الطهارة الترابیة ولو بالالتزام، بل لا اشعار فیه علی ذلک فضلا عن الدلالة، وتمام الکلام فی محله.

وأما الکلام فی الاضطرار إلی ذلک فی سائر الواجبات کالوضوء والغسل والصوم والحج وغیر ذلک، فیقع تارة فی مقتضی الأدلة العامة واُخری فی مقتضی الأدلة الخاصة.

-

ص:403


1- (1) - الوسائل 369:15، باب 56 من أبواب جهاد النفس وما یناسبه، ح 1 و 3، وج 218:16، باب 25 من أبواب الأمر والنهی، ح 10.

أما الأدلة العامة فقد عرفت قصورها سنداً ودلالة أو دلالة فقط فلا یمکن الاستدلال بها.

وأما الدلالة الخاصة، فقد دلت مجموعة من الروایات علی إجزاء الوضوء والغسل الناقصین عن الوضوء والغسل التامین، وهی روایات الجبیرة(1) التی یکون مفادها أن وضوء الجبیرة بدیل عن الوضوء التام وکذلک غسل الجبیرة فإنه بدیل عن الغسل التام، شریطة أن یکون العذر مستوعباً لتمام الوقت لا مطلقاً علی تفصیل فی محله، ومن هذا القبیل وضوء المسلوس والمبطون، فإن مقتضی الروایات(2) کفایة وضوئهما عن الوضوء التام، شریطة أن یکون واجداً للشروط المعتبرة فیه بالنسبة إلیهما علی تفصیل ذکرناه فی الفقه هذا من ناحیة.

الاضطرار لأجل التقیة

ومن ناحیة اخری أن روایات الجبیرة والمسلوس والمبطون لا تدل علی الاجزاء إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت وتفصیل الکلام هناک، بقی الکلام فی الاضطرار إلی ترک جزء أو قید من جهة التقیة.

الروایات الواردة فیها علی طائفتین:

الاُولی: الروایات العامة.

الثانیة: الروایات الخاصة.

أما الاُولی، فهی روایات کثیرة قد وردت بألسنة مختلفة، منها ما جاء بلسان أن التقیة دینی ودین أبائی ولا إیمان لمن لا تقیة له(3) ، ومنها ما جاء بلسان التقیة

-

ص:404


1- (1) - لاحظ الوسائل 463:1، باب 39 من أبواب الوضوء.
2- (2) - انظر الوسائل 297:1، باب 19 من نواقض الوضوء.
3- (3) - الوسائل 204:16، باب 24 من أبواب الأمر والنهی، ح 4 ولفظه: (التقیة من دینی و...).

حرز المؤمن ولا إیمان لمن لا تقیة له(1) ، ومنها ما جاء بلسان لا دین لمن لا تقیة له(2) ، ومنها ما جاء بلسان التقیة فی کل ضرورة(3) وغیر ذلک(4)..

وتقریب الاستدلال بها أنها تنص علی أن التقیة من الدین، وحیث إنها عنوان للعمل المتقی به فیصبح العمل المذکور من الدین، وعلی هذا فإذا اضطر المکلف تقیة إلی الصلاة بدون البسملة أو مع التکتف وهکذا، کانت الصلاة من الدین، فإذا کانت من الدین کانت بطبیعة الحال واجبة ومأموراً بها، وحینئذ فلا محالة تکون مجزیة عن الواقع، باعتبار أن وجوبها کاشف عن وجود مصلحة فیها تفی بمصلحة الواقع وإلا لکان وجوبها لغواً، نعم لو اضطر المکلف إلی الافطار فی جزء من نهار شهر رمضان وأفطر فیه، لم یکف صومه فی سائر أجزائه عن صوم ذلک الیوم کاملا، لأن الاضطرار الناشیء من التقیة فی المقام رافع لوجوب الصوم فحسب، ولا یدل علی أن هذا الافطار کلا افطار ولا أثر له، ولا ینطبق علی هذا الصوم الناقص عنوان التقیّة لکی یکون من الدین وواجباً، فإن هذا العنوان إنما ینطبق علی الافطار فی جزء من النهار لا علی صوم باقی النهار، وهذا بخلاف الوقوف بعرفات، فإن الوقوف معهم تقیة مجزیء، لا من جهة انطباق عنوان التقیة علیه، بل من جهة ما ذکرناه من الوجه وتمام الکلام فیه فی محله هذا. ولکن التحقیق عدم دلالة هذه الروایات علی الاجزاء، وذلک لأنها وإن کانت تنص علی أن التقیة من الدین وإنها شرعت کسائر الأحکام الشریعة، إلا أن الکلام إنما هو فی دلالتها علی الاجزاء، ومن الواضح أنها إنما تدل علیه لوکان مفادها أن

-

ص:405


1- (1) - المصدر المتقدم ح 7.
2- (2) - المصدر المتقدم ح 3 و 23 و 24.
3- (3) - الوسائل 214:16، باب 25 من أبواب الأمر والنهی، ح 1.
4- (4) - لاحظ الوسائل 203:16، باب 24، وما بعده من أبواب الأمر والنهی.

العمل المتقی به مأمور به بعنوان ثانوی بعد سقوط الأمر عنه بعنوان أولی، فإذا اضطر المکلف تقیة إلی ترک البسملة فی الصلاة أو إلی التکتف فیها، فلا شبهة فی أن الأمر المتعلق بالصلاة مع البسملة أو مقیدة بعدم التکتف قد سقط بسقوط متعلقه ولا یعقل بقائه، وإلا لزم التکلیف بالمحال، وأما ثبوت الأمر الآخر المتعلق بالصلاة بدون البسملة أو مع التکتف، فهو بحاجة إلی دلیل وروایات التقیة العامة لا تدل علیه، وقد قیل فی وجه عدم دلالتها، بأن التقیة إنما هی فی جزء من العمل المتقی به وهو ترک البسملة فی المثال أو التکتف، لا فی القراءة ولا فی الرکوع والسجود ولا فی التشهد والتسلیم، ومن الواضح أن فی ترک البسملة مصلحة وهی مصلحة حفظ النفس وکذلک فی التکتف، فلذلک یکون واجباً، وأما فی بقیة الاجزاء فحیث أن الأمر الأول قد سقط عنها بسقوط متعلقه روحاً وملاکاً، فثبوت الأمر الآخر بها بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، لأن هذه الروایات لا تدل إلا علی محبوبیة العمل المتقی به من جهة ما یترتب علیه من الآثار وهی حفظ النفس أو العرض أو المال، والمفروض عدم صدق هذا العنوان علی بقیة الاجزاء، وإنما یصدق علی ترک البسملة أو التکتف فحسب، مثلا غسل الرجلین فی الوضوء مصداق للتقیة دون سائر أجزائه، ولکن لا وجه لهذا التقریب لنقطتین:

الاُولی: أن التقیة عنوان للصلاة بدون البسملة أو الصلاة مع التکتف، ضرورة أن عنوان التقیة لا یصدق علی ترک البسملة مطلقاً أو علی التکتف کذلک، وإنما یصدق علی حصة خاصة منه وهی ترک البسملة فی ضمن الصلاة ومرتبطاً بها، ومن الواضح أن صدق هذا العنوان علیه حینئذ لا ینفک عن صدقه علی سائر الاجزاء، لأن الاتیان بها کذلک إنما هو من أجل التقیة وإلا فلا موجب له، فإذن عنوان التقیة یصدق علی الصلاة بدون البسملة أو مع التکتف لا علی

ص:406

جزء منه فقط، ومن المعلوم أن الاتیان بها إنما هو بغرض دفع مفسدة التقیة.

الثانیة: أن انطباق عنوان التقیة علی العمل المتقی به لیس من جهة ما فیه من الملاک الخاص، بل من جهة مصلحة عامة التی اهتم الشارع بها، ومن أجل التحفظ علی تلک المصلحة العامة أمر الشارع بالتقیة، وهی مصلحة حفظ النفس أو العرض أو المال، فالاتیان بالعمل المتقی به إنما هو من أجل تلک المصلحة العامة، فلذلک لا یکشف إنطباقه علیه عن وجوبه النفسی لکی یکون مجزیاً عن الواقع.

والخلاصة: أن الروایات المذکورة وإن کانت ناصة فی وجوب التقیة وأنها من الدین، إلا أنها لا تدل علی أن وجوبها ناشیء من الملاک القائم بالعمل المتقی به لکی یکشف عن وجوبه النفسی، بل الظاهر منها بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة أنه ناشیء من مصالح اخری وهی مصالح حفظ النفس أو العرض أو المال التی اهتم الشارع بها، فیکون وجوبه مقدمیّاً.

هذا إضافة إلی أن هناک مجموعة من الروایات التی تنص علی أن علة جعل التقیة وتشریعها من الدین هی حقن الدماء والأنفس، کصحیحة محمد بن مسلم(1) وصحیحة أبی حمزة الثمالی2 ونحوهما(2) ، فإنها تنص علی أن مصلحة جعل التقیة وحکمته حقن الدماء وحفظ الأنفس وما یلحق بها من الاعراض والأموال، وعلی هذا فلا تدل هذه الروایات علی أن العمل المتقی به مأمور به حتی یکون الاتیان به مجزیاً عن الواقع.

ومن هنا یظهر أن ما نسب إلی المشهور من دلالة هذه الروایات علی الاجزاء

-

ص:407


1- (1و2) - الوسائل 234:16، باب 31 من أبواب الأمر والنهی، ح 1 و 2.
2- (3) - لاحظ الوسائل 235:16، باب 32 من أبواب الأمر والنهی.

لایمکن المساعدة علیه، فالنتیجة أن أدلة التقیة العامة لا تدل علی الاجزاء.

وأما الأدلة الخاصة فتارة یقع الکلام فی الأدلة الخاصة الواردة فی باب الصلاة واُخری فی غیرها، أما الکلام فی الأول فقد وردت فیها طوائف من الروایات:

الاُولی: الروایات التی تنص علی ترغیب المؤمنین فی الصلاة معهم والحث علی الدخول فی مساجدهم وحضور جنائزهم، وقد جاء فی صحیحة حماد بن عثمان وصحیحة الحلبی أن من صلی معهم فی الصف الأول کان کمن صلی خلف رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی الصف الأول(1) ، وهذه الطائفة تدل بوضوح علی الاجزاء، ومقتضی اطلاقها أن الصلاة معهم مجزیة وإن کانت فاقدة للجزء أو الشرط، کما إذا کانت فاقدة للقراءة أو البسملة أو مقرونة بالتکتف أو نحو ذلک، بل مقتضی هذه الروایات صحة الصلاة معهم مداراة وإن لم تکن هناک تقیة، بل مقتضی الصحیحتین المذکورتین أنها أفضل وأکثر ثواباً من الصلاة وحدة.

ا لثانیة: الروایات الناهیة عن الصلاة خلفهم والاقتداء بهم، ومقتضی اطلاقها أنها غیر صحیحة وإن کانت فی حال التقیة(2).

الثالثة: الروایات التی تدل علی جواز الصلاة خلفهم شریطة أن یقرأ القراءة بنفسه واخفاتاً، کقوله (علیه السلام) فی صحیحة علی بن یقطین إقرء لنفسک وإن لم تسمع نفسک(3) ، وقوله (علیه السلام) فی صحیحة الحلبی فاقرء خلفه سمعت قراءته أو لم تسمع(4). و هکذا(5).

-

ص:408


1- (1) - الوسائل 299:8، باب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 4.
2- (2) - الوسائل 303:8، باب 6 من أبواب صلاة الجماعة ح 5.
3- (3) - الوسائل 363:8، باب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1.
4- (4) - الوسائل 363:8، باب 33 من أبواب صلاة الجماعة ح 9.
5- (5) - لاحظ أحادیث الباب المتقدم.

ثم إن بین الطائفة الاُولی والثانیة معارضة، فإن الاُولی تدل علی صحة الصلاة خلف إمامهم والثانیة تدل علی بطلانها فتسقطان معاً من جهة المعارضة، فیکون المرجع الطائفة الثالثة التی لا معارض لها، ومقتضی هذه الطائفة جواز الاقتداء بهم بشرط أن یقرء القراءة بنفسه، نعم ما یترتب علی الاشتراک معهم فی الصلاة والاقتداء بإمامهم من المصالح العامة کإظهار الوحدة بین صفوف المسلمین والمحافظة علی مصالح الطائفة لایرتبط بصحة صلاته، لأنها منوطة بأن یقرء القراءة بنفسه، ولایمکن أن یعول علی قراءة إمامهم بأن تعوض قرائته عن قرائته، لأن شروط التعویل غیر متوفرة فیه، نعم مقتضی إطلاق هذه الروایات أن التکتف أو السجود علی ما لا یصح السجود علیه لا یضر بصحة الصلاة وإن کان بامکانه الاتیان بها فی مکان آخر بدون التکتف ومع السجود علی ما یصح، ولکن هذا الفرض خارج عن محل الکلام، فإن محل الکلام إنما هو فی کفایة الصلاة الاضطراریة عن الصلاة الاختیاریة فیما إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت، وأما إذا کان الاتیان بالصلاة الناقصة بإرادة المکلف واختیاره مع تمکنه من الاتیان بالصلاة التامة فی عرضها کما هو المفروض فی مورد هذه الروایات، فهو خارج عن محل الکلام.

وأما الکلام فی الثانیة، وهی ماورد فی بعض الروایات الخاصة من الأمر بغسل الرجلین فی الوضوء تقیة(1) ، فهل یجزی إذا توضأ شخص کذلک، الظاهر أنه یجزی، وذلک لأن الأمر المتعلق بالوضوء کذلک یکشف عن وجود مصلحة ملزمة فیه وهی تفی بمصلحة الواقع، وأما عنوان التقیة فهو عنوان تعلیلی له ولیس بتقییدی لکی یکون الأمر به من جهة ما یترتب علی التقیة من المصلحة.

-

ص:409


1- (1) - الوسائل 444:1، باب 32 من أبواب الوضوء، ح 3.

ومن هنا تختلف الأدلة العامة للتقیة عن الأدلة الخاصة لها، فإن الاُولی ظاهرة فی أن الأمر بالتقیة بعنوانها إنما هو من أجل ما یترتب علیها من المصلحة العامة وهی حقن الدماء وحفظ الأموال والأعراض، لا من أجل ما یترتب علی الفعل المتقی به بعنوانه الأولی من المصلحة، فلهذا یکون الظاهر منها أن التقیة جهة تقییدیة لا تعلیلیة، وهذا بخلاف الأدلة الخاصة فإنها حیث کانت ظاهرة فی أن الأمر متعلق بالفعل بعنوانه الأولی لا بالتقیة، ولکن من أجل التقیة فیکون الظاهر منها أنها جهة تعلیلیة لا تقییدیة.

الاضطرار بسوء الاختیار

هذا کله فی الاضطرار الطاریء علی الانسان بغیر اختیاره، وأما إذا کان بسوء الاختیار، فهل هو مشمول لاطلاق أدلة الأوامر الاضطراریة من الآیة الشریفة والروایات أو لا؟ فقد ذکر السید الاسُتاذ (قدس سره) أن الاضطرار العارض علی المکلف بغیر اختباره هو القدر المتیقن من اطلاقها، وأما إذا کان بسوء اختیاره کما إذا کان معجزاً نفسه عن الوضوء أو الغسل بإهراق الماء عنده، أو معجزاً کذلک عن الصلاة قائماً أو الصلاة فی ثوب طاهر بإرادته، فقد ذکر (قدس سره) أنه غیر مشمول لاطلاق أدلة الأوامر الاضطراریة، بدعوی أن هذه الاطلاقات منصرفه عنه ومختصة بالاضطرار الطبیعی وغیر الاختیاری، فإن قوله تعالی: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً (1) ، ظاهر عرفاً فیما إذا کان عدم وجدان الماء بطبعه لا بسوء اختیاره، ولا یشمل ما إذا کان عدم وجدانه الماء مستنداً إلی سوء اختیاره کما إذا کان عنده ماء أهرقه باختیاره، وکذلک قوله (علیه السلام): «إذا قوی فلیقم»(2) ، فإنه لایشمل ما إذا کان عجزه عن القیام مستنداً إلی سوء اختیاره، وعلی هذا فلا

-

ص:410


1- (1) - سورة النساء (4):43 وسورة المائدة (5):6.
2- (2) - الوسائل 495:5، باب 6 من أبواب القیام، ح 3.

یجوز للمکلف إیقاع نفسه فی الاضطرار اختیاراً، لأنه یستوجب فوات الملاک الملزم القائم بالمبدل وحرمان نفسه عنه وهو غیر جائز، لأن العقل کما یحکم بقبح تفویت التکلیف المنجز کذلک یحکم بقبح تفویت الملاک المنجز الذی هو حقیقة التکلیف وروحه.

وعلی الجملة فاطلاقات أدلة الأوامر الاضطراریة إذا لم تشمل الاضطرار الناشیء بسوء اختیار المکلف، لم یکن هناک أمر اضطراری حتی یکون الاتیان بمتعلقه مجزیاً عن الواقع، فلهذا قد حرم نفسه عن استیفاء الملاک المولوی وفوّت علی نفسه تمام ملاک الواقع.

ثم ذکر (قدس سره) أن الثمرة لاتظهر بین القولین فی باب الصلاة، علی أساس أنها لاتسقط بحال، فإذا أوقع المکلف نفسه فی الاضطرار إلی التیمم باهراق الماء الموجود عنده باختیاره، فالآیة الشریفة عندئذ وإن کانت لا تشمل مثله وهو الفاقد للماء باختیاره، إلا أن الصلاة بما أنها لاتسقط بحال، فیجب علیه الاتیان بها مع الطهارة الترابیة، والثمرة إنما تظهر بین القولین فی غیر باب الصلاة(1) هذا. ولنا تعلیقان علی ما أفاده (قدس سره) فی المسألة:

الأول: علی أصل الدعوی.

الثانی: علی ما ذکره (قدس سره) من أن الثمرة لا تظهر بین القولین فی باب الصلاة.

أما التعلیق الأول، فلأن الآیة الشریفة وإن کان یمکن القول بأن المنصرف منها عدم وجدان المکلف الماء بطبعه وبغیر سوء اختیاره، إلا أن هذا الانصراف بدویّ، لأن التأمل فی الآیة الشریفة بضم صدرها إلی ذیلها بمناسبة الحکم

-

ص:411


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 241:2-243.

والموضوع الارتکازیة یؤکد أن موضوع وجوب الوضوء فی الآیة تمکن المکلف من استعمال الماء عقلا وشرعاً، وموضوع وجوب التیمم عدم تمکنه من الاستعمال کذلک، وعلی هذا فإن کان المکلف متمکناً من استعمال الماء عقلا وشرعاً فوظیفته الوضوء أو الغسل وإلا فوظیفته التیمم، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون عدم التمکن مستنداً إلی أمر خارج عن اختیار المکلف أو مستنداً إلی سوء اختیاره، فإنه علی کلا التقدیرین یصدق علیه أنه غیر متمکن من استعمال الماء عقلا أو شرعاً.

فالنتیجة، أن الآیة تشمل الاضطرار الناشیء من سوء اختیار المکلف ولا تختص بالاضطرار الجائی بغیر اختیاره.

وأما روایات البدلیة، فالظاهر أن ها تشمل العجز الناشیء من سوء الاختیار، فإنها تدل علی أن التراب بدل عن الماء بالمطابقة وأن هذه البدلیة طولیة بالالتزام، وعلیه فإذا کان المکلف عاجزاً عن استعمال الماء انتقلت وظیفته إلی بدله وهو التراب، ولا فرق بین أن یکون العجز عن الماء بالقهر أو بالاختیار، ولا مجال لدعوی انصراف العجز فیها إلی العجز بغیر الاختیار، لفرض أنه لم یؤخذ فی لسان هذه الروایات لکی یدعی انصرافه عن ذلک، بل هو قید یستفاد منها بالالتزام عقلا، وعلی هذا فمقتضی اطلاق هذه الروایات عدم الفرق بین أن یکون العجز عن الماء بسوء الاختیار أو بغیره هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنه لو کان لدلیل الأوامر الاضطراریة إطلاق بالنسبة إلی العذر غیر المستوعب لتمام الوقت وتشمله باطلاقها، فعلی هذا لا فرق بین العذر المذکور بسوء اختیار المکلف أو بغیر سوء اختیاره، إذ علی کلا التقدیرین إن کان ملاک الوظیفة الاضطراریة وافیاً بتمام ملاک الوظیفة الاختیاریة أو أن المقدار

ص:412

المتبقی غیر الزامی، فلا شبهة فی الاجزاء، حیث إن الواجب حینئذ هو الجامع بین الوظیفة الاختیاریة والوظیفة الاضطراریة، وأما إذا کان المقدار المتبقی الزامیاً قابلا للاستیفاء، فالواجب هو الجامع بین عملین الاضطراری فی أول الوقت والاختیاری فی آخر الوقت، وبین الاقتصار علی عمل واحد وهو الاختیاری فی آخر الوقت، ولا مانع من ذلک کما تقدم، وأما إذا لم یکن قابلا للاستیفاء فلا یجوز للمکلف إیقاع نفسه فی الاضطرار، لأنه یوجب تفویت الملاک الملزم وهو قبیح، وأما لو أوقع نفسه فیه بسوء اختیاره وأتی بالصلاة الاضطراریة فی أول الوقت، فصلاته وإن کانت صحیحة إلا أنه أثم علی تفویت المقدار المتبقی من الملاک الملزم فی نفسه، ومن هنا یظهر أنه لا یجوز البدار فی هذا الفرض تکلیفاً، وأما وضعاً فهو جائز کما تقدم تفصیله.

وأما إذا لم یکن لدلیل تلک الأوامر اطلاق بالنسبة إلی العذر غیر المستوعب، بأن یکون مختصاً بالعذر المستوعب لتمام الوقت، فأیضاً لافرق بین أن یکون العذر قهریاً أو بسوء الاختیار، فإنه علی کلا التقدیرین یکون موضوعاً للأمر الاضطراری.

وأما التعلیق الثانی من الالتزام بأن الاضطرار إذا کان بسوء الاختیار لم یکن مشمولا لاطلاق أدلة الأوامر الاضطراریة، فلایمکن المساعدة علی ما أفاده (قدس سره) من أن الثمرة لاتظهر بین القولین فی باب الصلاة فإنه علی کلا القولین فیه لابد من الاتیان بها مع الطهارة الترابیة، وذلک لأن تعذر استعمال الماء بسوء الاختیار إذا کان غیر مشمول للآیة الشریفة والروایات، فلا دلیل علی وجوب التیمم حینئذ والصلاة معه، بل إنه فاقد الطهورین، لأن الطهارة المائیة متعذرة علیه إما عقلا أو شرعاً، وأما الطهارة الترابیة فلا یکون مأموراً بها، باعتبار أن عدم قدرته علی

ص:413

الطهارة المائیة حیث إنه کان بسوء اختیاره، فلا یکون مشمولا لأدلة البدلیة کالآیة الشریفة والروایات حتی یکون مأموراً بالطهارة الترابیة والصلاة معها، وأما حدیث لا تدع الصلاة بحال(1) فهو لا یثبت موضوعه وهو الصلاة، فلابد من فرض تمکن المکلف منها فی المرتبة السابقة حتی یدل الحدیث علی أنها لا تسقط عنه، والمفروض أنه غیر متمکن منها فی المقام، أما الصلاة مع الطهارة المائیة فهو غیر قادرة علیها، وأما الطهارة الترابیة فغیر مشروعة فی حقه حتی یکون قادراً علی الصلاة معها، فإذن یکون فاقداً الطهورین فلا یکون مشمولا للحدیث حتی یدل علی أن الصلاة لا تسقط عنه، وعلی الجملة فالحدیث الشریف یدل علی أن الصلاة لاتسقط بسقوط جزء أو شرط منها طالما لم یکن الجزء أو الشرط من مقوماتها، وأما إذا کان من مقوماتها فهی تسقط بسقوطه لا محالة، وحینئذ فلا صلاة لکی یکون مشمولا للحدیث ویدل علی عدم سقوطها، وحیث إن الطهور من مقوماتها، فمن لم یتمکن منه فلا صلاة له لکی یدل الحدیث علی أنها لا تسقط عنه، فموضوع الحدیث من یتمکن من الصلاة فی المرتبة السابقة ولو بأدنی مرتبتها، فإنه مأمور بالاتیان بها وعدم جواز ترکها وأنها لا تسقط عنه، وأما من لم یتمکن منها کفاقد الطهورین فهو خارج عن موضوع الحدیث، فلا یکون مشمولا له.

وأما نفس الحدیث فهی لا تدل علی مشروعیة التیمم، وذلک لأن دلالة الحدیث علی عدم سقوط الصلاة بحال تتوقف علی تمکن المکلف من الصلاة فی المرتبة السابقة، فلو توقف تمکنه منها علی دلالته علیه لدار، فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) فی المقام غیر تام کالآیة الشریفة أو الروایات ونحوها، إلی هنا قد

-

ص:414


1- (1) - الوسائل 373:2، باب 1 من أبواب الاستحاضة، ح 5. وفیه: (لا تدع الصلاة علی حال).

تبین أن اطلاقات أدلة الأوامر الاضطراریة کالآیة الشریفة والروایات ونحوها لا تشمل الاضطرار غیر المستوعب لتمام الوقت، وعلی هذا فلو صلی المکلف فی أول الوقت مع الطهارة الترابیة ثم ارتفع العذر فی آخر الوقت وتمکن من الطهارة المائیة، وجبت علیه إعادة الصلاة مع الطهارة المائیة، فیکون مقتضی القاعدة فیه عدم الاجزاء. وأما إذا کان العذر مستوعباً لتمام الوقت، فقد تقدم أن مقتضی اطلاق أدلتها الاجزاء، هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل اللفظی.

الأصل العملی عند الشک فی إجزاء المأمور به الاضطراری

وأما الکلام فی مقتضی الأصل العملی فیما إذا شک فی أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری فی أول الوقت، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی فی آخر الوقت أو لا؟ فیه وجهان:

رأی المحقق الخراسانی

فذهب المحقق صاحب الکفایة (قدس سره) إلی أن مقتضاه الاجزاء، وذلک لأصالة البراءة عن وجوب الاعادة عند الشک فیه(1) ، وفی مقابل ذلک قول بعدم الاجزاء، وذلک لأصالة الاشتغال فیه، بدعوی أن المکلف یعلم بأن ذمته مشغولة بالصلاة مع الطهارة المائیة الجامعة بین فردها المقدور وهو فردها فی آخر الوقت وغیر المقدور وهو فردها فی أول الوقت، ولا مانع من وجوب الجامع بین المقدور وغیر المقدور، لأنه مقدور، ویشک فی سقوطها عن ذمته بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البرائة، لأن الشک فی السقوط لا فی الثبوت.

ولکن هذا القول خارج عن محل الکلام، لأن محل الکلام إنما هو فی إجزاء الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة المأمور بها بالأمر الاضطراری فی أول الوقت

-

ص:415


1- (1) - کفایة الاُصول: 85.

عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، فلنا دعویان:

الاُولی: أن القول المذکور خارج عن محل الکلام.

الثانیة: أن محل الکلام إنما هو فی إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به بالأمر الواقعی.

أما الدعوی الاُولی، فلأن الأمر الاضطراری إذا کان ثبوته مشکوکاً فیه فلا معنی للبحث عن أنه یجزی أو لا، فإذا لم تثبت مشروعیة التیممم لفاقد الماء فی جزء من الوقت وکان یشک فی مشروعیته، فکیف یمکن القول بأن الصلاة معه فی أول الوقت مجزیة عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت.

وأما الدعوی الثانیة، فلوضوح أن محل الکلام إنما هو فی إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به بالأمر الواقعی، فإذا ثبتت مشروعیة الطهارة الترابیة لفاقد الماء فی جزء من الوقت مع کونه واجداً له فی جزء آخر منه، فعندئذ یشک فی أن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت هل تجزی عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت أو لا، ومنشأ هذا الشک، الشک فی أن ملاک الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت یفی بتمام ملاک الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت أو بمقدار منه، والمقدار المتبقی منه لا یخلو إما أنه غیر لزومی أو إنه لزومی، وعلی الثانی فإما أنه قابل للاستیفاء أو غیر قابل له فهنا وجوه:

فعلی الوجه الأول والثانی، فالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت بدیلة وعدیلة للصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت ولا شبهة فی إجزائها عنها ولا موضوع للاعادة، لأن التخییر بینهما حینئذ من التخییر بین المتباینیین فیکفی الاتیان باحداهما فی مقام الامتثال، لأن الواجب حینئذ هو الجامع بینهما طولا،

ص:416

وأما علی الوجه الثالث فلا تجزی، لأن الواجب علی هذا الفرض یدور بین الأقل والأکثر، لأن الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وحده لا تجزی بدون ضمیمة الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، فإذن یکون المکلف فیه مخیراً بین الاتیان بهما معاً فی طول الوقت وبین الاتیان بالصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت فحسب، لأنها تفی بتمام الملاک إذا لم تسبقها الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، وعلیه فوجوب البدل منضماً إلی المبدل تخییراً معلوم، ووجوب المبدل إذا لم یسبقه البدل تخییراً أیضاً معلوم، وأما وجوب المبدل تعییناً بوجوب آخر فهو غیر معلوم، فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه، لأنه من الشک فی التکلیف الزائد ولا ربط له بمسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر، نعم علی القول بأن مثل هذا التخییر غیر معقول، بدعوی أن الأمر بالبدل منضماً إلی المبدل لغو وجزاف بعد کفایة المبدل وحده، فعندئذ یکون المبدل واجباً تعیینیاً.

ولکن قد تقدم أنه لا مانع من هذا التخییر، ولا یقاس هذا بالتخییر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین.

وأما علی الوجه الرابع، فلا یجوز البدار إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت تکلیفاً، لأنه یوجب تفویت الملاک الملزم بلا مبرر، وأما وضعاً فالاتیان بها مجزیء، هذا کله بحسب مقام الثبوت، وأما فی مقام الاثبات فإذا لم یکن دلیل لفظی لاثبات الوجه الأول أو الثانی فیصل الدور إلی الأصل العملی، وحیث لا نعلم أن الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت هل هو علی النحو الأول أو الثانی أو الثالث أو الرابع ثبوتاً، فیکون ذلک منشأ للشک فی إجزاء الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت وحدها عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، ومرجع هذا الشک إلی الشک فی وجوب إعادتها مع الطهارة المائیة وعدم

ص:417

وجوبها، ولا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوبها، فالنتیجة الاجزاء.

رأی المحقق العراقی

ولکن مع هذا فقد اعترض المحقق العراقی (قدس سره) علی أصالة البراءة فی المسألة، بدعوی أن الأصل فیها أصالة الاشتغال دون البراءة، وقد استدل علی ذلک بوجهین:

الأول: أن الشک فی وجوب إعادة الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت ناشیء من الشک فی أن المتبقی من الملاک بعد الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت قابل للاستیفاء أو لا. وهذا من الشک فی القدرة وهو مورد لقاعدة الاشتغال.

الثانی: أن المقام داخل فی مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فإن الصلاة مع الطهارة الترابیة إن کانت مجزیة عن الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، فالواجب هو الجامع بینهما، ویکون المکلف مخیراً بین الاتیان بالاُولی أو الثانیة، وإن لم تکن مجزیة، فالواجب خصوص الصلاة مع الطهارة المائیة تعیینیاً، فإذا کان الأمر دائراً بین التعیین والتخییر، فالأصل فی هذه المسألة التعیین والاحتیاط دون البراءة(1) ، ولکن کلا الوجهین غیر تام.

أما الوجه الأول، فیرد علیه أنه لا فرق فی جریان أصالة البراءة فی موارد الشک فی التکلیف بین أن یکون منشأه الشک فی القدرة أو الشک من جهة اخری، فإنه علی کلا التقدیرین لا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة لاطلاق أدلتها، فإذا شک فی وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت بعد الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت، فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه إن کان منشأه الشک فی القدرة علی استیفاء الملاک المتبقی منها.

-

ص:418


1- (1) - نهایة الأفکار 230:1.

وبکلمة، أن الشک فی القدرة یتصور علی نحوین:

الأول: أن یکون الشک فیها فی موارد یکون أصل ثبوت التکلیف فی تلک الموارد مشکوکاً فیه کما فی المقام، فإن المکلف لا یعلم بوجوب الصلاة مع الطهارة المائیة علی تقدیر الاتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت ولا یعلم بدخولها فی الذمة من الأول.

الثانی: أن یکون الشک فی القدرة علی امتثال ما تنجز من التکلیف ودخل فی العهدة، ومورد الشک فی القدرة الذی هو مجری الاحتیاط عقلا، الثانی دون الأول، إذ لا موجب لکونه مورداً لأصالة الاحتیاط بعد ما کان الشک فی أصل ثبوت التکلیف، فإن المکلف إذا ترک الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت فقد علم بوجوب الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، وأما علی تقدیر الاتیان بها فوجوبها مشکوک فیه، وهذا من الشک فی أصل ثبوت التکلیف وهو مورد لأصالة البراءة دون أصالة الاحتیاط، وإن کان منشأه الشک فی القدرة، إذ لا فرق بین أن یکون منشأ الشک فی أصل ثبوت التکلیف الشک فی القدرة أو من جهة اخری، طالما لا یرجع إلی الشک فی القدرة علی امتثال ما ثبت وتنجز من التکلیف، فإذا رجع إلیه فهو مورد لأصالة الاحتیاط، باعتبار أنه من موارد الشک فی السقوط بعد الثبوت، ولا فرق فیه بین أن یکون منشأه الشک فی القدرة أو من جهة اخری، وأما إذا لم یرجع إلیه فهو من موارد أصالة البراءة، فما هو المشهور من أن موارد الشک فی القدرة من موارد أصالة الاحتیاط مطلقاً غیر تام.

وأما الوجه الثانی، فالأمر فی المسألة لایدور بین التعیین والتخییر، فإن دورانه بینهما مبنی علی أن الأمر إما أن یکون متعلقاً بالجامع بین العمل

ص:419

الاضطراری والعمل الاختیاری أو بخصوص العمل الاختیاری فقط، وهذا الاحتمال غیر محتمل فی جمیع فروض المسألة، أما علی الفرض الأول والثانی، فالأمر متعلق بالجامع بینهما جزماً ویکون التخییر بینهما من التخییر بین المتباینین، إذ علی ضوئهما یکون المکلف مخیراً بین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، وأما علی الفرض الثالث، فالأمر متعلق بالجامع بین الأقل والأکثر، بمعنی أن المکلف مخیّر بین الانتظار والاتیان بصلاة واحدة وهی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت وبین جواز البدار والاتیان بصلاتین الصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت والصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت، ولایدور الأمر فی المسألة بین التعیین والتخییر، وأما احتمال وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت تعییناً لا تخییراً ولا منضماً وإن کان محتملا، إلا أنه من الشک فی التکلیف الزائد والمرجع فیه أصالة البراءة، ولا یرتبط بمسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر، هذا بناء علی امکان هذا التخییر کما هو الصحیح، وأما بناء علی القول باستحالته فالأمر أیضاً کذلک، لأن وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت حینئذ یکون معیناً، فلا یدور أمره بین التعیین والتخییر.

نتائج هذا البحث... وأما علی الفرض الرابع، فلا یجوز البدار تکلیفاً ولکنه جائز وضعاً، بمعنی أن المکلف إذا أتی بالصلاة مع الطهارة الترابیة فی أول الوقت فصلاته صحیحة، ولکنه آثم من جهة أنه قد فوت علی نفسه الملاک الملزم وهو المقدار المتبقی، فلهذا لا یجوز له البدار تکلیفاً، وفی هذا الفرض لا شک فی المسألة لکی یدور الأمر بین التعیین والتخییر، لأن وظیفة المکلف فیها معلومة وهی الصلاة مع الطهارة المائیة فی آخر الوقت.

ص:420

فالنتیجة، أن ما ذکره المحقق العراقی (قدس سره) من أن الأمر فی المسألة یدور بین التعیین والتخییر، لا یتم علی جمیع فروض المسألة واحتمالاتها، هذا إضافة إلی أن المرجع فی مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الجعل أصالة البراءة لا أصالة الاشتغال إلا فی مسألتین:

الاُولی: فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی حجیة شیء.

الثانیة: فی دوران الأمر بینهما فی مقام الامتثال، وحیث أن المقام داخل فی المسألة الاُولی دون الثانیة والثالثة، فالمرجع فیها أصالة البراءة عن التعیین.

هذا تمام الکلام فی إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الواقعی.

نتائج هذا البحث عدة نقاط:

الاُولی: أن مقتضی القاعدة الأولیة عدم الاجزاء، فإن سقوط الواجب عن المکلف وحصول الغرض منه بالاتیان بغیر الواجب بحاجة إلی دلیل وإلا فمقتضی اطلاق دلیله عدم السقوط إذا کان له اطلاق، وإلا فهو مقتضی الأصل العملی أیضاً، لأن الشک إنما هو فی سقوط الواجب بغیره، وهذا من موارد أصالة الاشتغال تطبیقاً لقاعدة أن الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی.

الثانیة: أن الدلیل قد دل علی الخروج عن مقتضی هذه القاعدة فی موارد اضطرار المکلف إلی الاتیان بغیر المأمور به بالأمر الواقعی الأولی، کما إذا اضطر إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة، من جهة أنه فاقد للماء أو غیر متمکن من استعمالها، وإلی الصلاة عن جلوس من جهة عدم قدرته علی القیام أو أنه حرجی علیه وهکذا، ففی مثل ذلک حیث إن الأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة أو مع الجلوس لایمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکشف عن وجود ملاک فیها یفی

ص:421

بغرض المولی فی الواقع.

الثالثة: أن الاضطرار الطاریء علی المکلف تارة یکون مستوعباً لتمام الوقت واُخری یکون فی جزء من الوقت دون جزء آخر، أما الکلام فی الأول، فتارة یقع فی مقام الثبوت واُخری فی مقام الاثبات، أما فی مقام الثبوت فالملاک الذی یدعو المولی إلی الأمر الاضطراری یتصور علی وجوه تقدم الکلام فیها موسعاً، وأما فی مقام الاثبات فمقتضی اطلاق دلیل الأمر الاضطراری الاجزاء وعدم وجوب القضاء فی خارج الوقت.

الرابعة: أن ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن عدم الاجزاء فی هذه المسألة وهی ما إذا کان الاضطرار مستوعباً لتمام الوقت غیر معقول، بدعوی أن القید المتعذر لا یخلو من أن یکون دخیلا فی الملاک مطلقاً حتی فی حال تعذره، أو لا یکون دخیلا فیه إلا فی حال التمکن، فعلی الأول لا أمر بالفاقد وعلی الثانی فالملاک فیه تام، لفرض أن القید المتعذر غیر دخیل فیه، فإذا کان ملاکه تاماً فلا موضوع للقضاء فی خارج الوقت، لأن موضوعه الفوت ولم یفت من المکلف شیء، غیر تام، لأن الصلاة ذات مراتب متفاوتة، فلکل مرتبة منها ملاک دون ملاک المرتبة الاُولی، مثلا المصلحة المترتبة علی الصلاة مع الطهارة الترابیة دون المصلحة المترتبة علی الصلاة مع الطهارة المائیة، وعلی هذا فإذا کان المقدار المتبقی منها لزومیاً، فلا مانع من الجمع بین الأداء بالوظیفة الاضطراریة کالصلاة مع الطهارة الترابیة فی الوقت والقضاء بالوظیفة الاختیاریة کالصلاة مع الطهارة المائیة فی خارج الوقت لادراک تمام المصلحة علی تفصیل تقدم.

الخامسة: أن الاضطرار إذا لم یکن مستوعباً لتمام الوقت، ففی مثل ذلک یمکن تصویر المأمور به بالأمر الاضطراری ثبوتاً علی أحد الأنحاء الأربعة التالیة:

ص:422

الأول: أن یکون مشتملا علی ملاک یفی بتمام ملاک الواقع.

الثانی: بجزء منه والجزء المتبقی غیر لزومی.

الثالث: أنه لزومی قابل للاستیفاء.

الرابع: أنه غیر قابل له.

فعلی الأول والثانی یکون الاجزاء علی القاعدة، وعلی الثالث فمقتضی القاعدة عدم الاجزاء، لأن الواجب حینئذ هو الجامع بین الأقل والأکثر، بمعنی أن المکلف مخیر بین الاتیان بعملین فی طول الوقت هما الاضطراری والاختیاری وبین الاقتصار بعمل واحد وهو الاختیاری فی آخر الوقت. وعلی الرابع الاجزاء وصفاً لا تکلیفاً وقد تقدم کل ذلک موسعاً.

السادسة: أن ما ذکره المحقق الخراسانی (قدس سره) من جواز التمسک باطلاق آیة التیمم وروایات البدلیة لاثبات الاجزاء فی المسألة وعدم وجوب الاعادة غیر تام، أما أولا: فلأنه لا إطلاق لأدلة البدلیة من الآیة الشریفة والروایات من هذه الناحیة حتی یمکن التمسک باطلاقها کما مرت الاشارة إلیه.

وثانیاً: أن الواجب هو طبیعة الصلاة مع الطهارة المائیة الجامعة بین مبدأ الوقت ومنتهاه، فطالما یکون المکلف متمکناً من الاتیان بها فی ضمن أحد أفرادها الطولیة، فلا تصل النوبة إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة لأنها وظیفة العاجز عن الأولی.

السابعة: أن لو کان لدلیل الأوامر الاضطراریة اطلاق فرضاً، فلا مانع من التمسک باطلاقها، لأن مقتضاه أن الاضطرار غیر المستوعب کالاضطرار المستوعب موضوع للأمر الاضطراری فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، ودعوی

ص:423

أنه لا یمکن الأخذ بهذا الاطلاق، مدفوعة کما تقدم.

الثامنة: أن ما قیل من أن اطلاق دلیل الأوامر الاضطراریة فی المسألة معارض باطلاق دلیل الأوامر الاختیاریة مما لا أصل له، لأن اطلاق الدلیل الأول بما أنه متکفل للحکم بعنوان ثانوی یتقدم علی اطلاق الدلیل الثانی المتکفل للحکم بعنوان أولی من باب الحکومة کما سبق تفصیله.

التاسعة: أن مقتضی القاعدة عدم الاجزاء بناء علی ما هو الصحیح، من أنه لا إطلاق لأدلة الأوامر الاضطراریة إذا لم یکن العذر مستوعباً لتمام الوقت، ولکن مع ذلک ذهب جماعة إلی الاجزاء فی المسألة کالمحقق العراقی والمحقق النائینی والمحقق الأصبهانی (قدس سرهم)، أما المحقق العراقی (قدس سره) فقد استدل علی ذلک بوجوه، ولکن تقدم عدم تمامیة شیء من تلک الوجوه، وأما المحقق النائینی (قدس سره) فقد اختار الاجزاء فی صورة خاصة من المسألة وهی ما إذا کان المکلف مأیوساً عن ارتفاع العذر فی الوقت أو ظاناً بعدم ارتفاعه، ولکن قد سبق عدم تمامیة ذلک أیضاً، وأنه لا فرق بین هذه الصورة وصورة العلم بارتفاع العذر فی آخرالوقت، فإن مقتضی القاعدة فی کلتا الصورتین عدم الاجزاء، وأما المحقق الأصبهانی (قدس سره) فقد اختار فی المسألة الاجزاء، وأفاد فی وجه ذلک کلاماً طویلا أشرنا إلیه وما فیه من الاشکال.

العاشرة: لا شبهة فی إجزاء وضوء الجبیرة عن الوضوء التام لکن لا مطلقاً، بل فیما إذا کان العذر مستوعباً لتمام الوقت وإلا فلا یجزی، وکذا غسل الجبیرة، ومن هذا القبیل وضوء المسلوس والمبطون.

الحادیة عشر: أن الاضطرار إلی ترک جزء أو شرط إذا کان من جهة التقیة، فالروایات العامة الواردة بلسان أن التقیة دینی ودین آبائی ونحوه لا تدل علی

ص:424

الاجزاء، لأنها لا تکشف عن وجود مصلحة ملزمة فی الفعل المتقی به لکی یکون الأمر بالتقیة أمراً بذلک الفعل حقیقة، بل الظاهر منها أن التقیة إنما هی من جهة مصلحة مترتبة علیها وهی حقن الدماء والاعراض والأموال، فالاتیان بالفعل المتقی به إنما هو من أجل ذلک لا لمصلحة فی نفسه.

الثانیة عشر: أن المستفاد من مجموعة من الروایات هو أن الصلاة معهم وخلف إمامهم صحیحة شریطة أن یقرء القراءة بنفسه ولا یعول علی قراءة إمامهم وإن کانت الصلاة مع التکتف أو بدون ما یصح السجود علیه، بل وإن لم تکن هناک تقیة واضطرار أصلا، فإنه یجوز له الدخول معهم فی صلاتهم جماعة اختیاراً، بل هو أفضل من صلاته فرادی.

الثالثة عشر: أن الوضوء مع غسل رجلین بدل مسحها تقیة صحیح کما تقدم تفصیله.

الرابعة عشر: الأظهر أن الاضطرار إذا کان بسوء الاختیار فهو مشمول لاطلاق أدلة الأوامر الاضطراریة خلافاً للسید الاُستاذ (قدس سره).

الخامسة عشر: أن ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أن الثمرة لاتظهر بین القولین فی باب الصلاة، فإن المکلف إذا أوقع نفسه بسوء اختیاره فی الاضطرار إلی الطهارة الترابیة وجب علیه الاتیان بها والصلاة معها، هذا لا من جهة أنها مشمولة لاطلاق أدلة الاضطرار کالآیة الشریفة والروایات، بل من جهة أن الصلاة لا تسقط بحال لایتم، لأن الطهارة الترابیة إذا لم تکن مشمولة للآیة الشریفة ونحوها، فلایمکن اثبات مشروعیتها بقوله (علیه السلام): «لا تدع الصلاة بحال».

السادسة عشر: إذا لم یکن أصل لفظی فی المسألة فالمرجع فیها الأصل العملی

ص:425

وهو أصالة البراءة فی المقام عن وجوب الاعادة، وإعتراض المحقق العراقی (قدس سره) علیها بأن المرجع فیها أصالة الاشتغال دون البراءة فی غیر محله علی تفصیل تقدم.

ص:426

إجزاء الأمر الظاهری عن الواقع
اشارة

وأما الکلام فی المرحلة الثالثة وهی أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی أو لا:

فیقع فی مقامات ثلاثة:

المقام الأول: فی بیان حجیة الامارات ومدی تأثیرها فی المسألة.

المقام الثانی: فی بیان حجیة الاُصول العملیة وما هو مقدار تأثیرها فی الواقع.

المقام الثالث: فی بیان الأقوال فی المسألة.

الاجزاء فی الامارات
الاجزاء علی القول بطریقیة الامارات

أما الکلام فی المقام الأول ففیه تفسیران للحجیة:

أحدهما الطریقیة والکاشفیة للامارات بدون أن تکون دخیلة فی الواقع أصلا، وثانیهما السببیة والموضوعیة للامارات التی لها تأثیر فی الواقع. وأما التفسیر الأول ففیه أقوال:

القول الأول: أنه لا جعل ولا مجعول فی باب الامارات أصلا، وإنما هو إمضاء وتقریر من الشارع لما بنی علیه العقلاء من العمل باخبار الثقة، علی أساس ما فیها من النکتة المبررة لذلک البناء وهو أقربیتها إلی الواقع من غیرها، وهذا القول هو الصحیح علی تفصیل یأتی فی محله إنشاء الله تعالی.

القول الثانی: ما ذهبت إلیه مدرسة المحقق النائینی (قدس سره) من أن المجعول فی هذا الباب إنما هو الطریقیة والعلم التعبدی فحالها حال العلم الواجدانی من هذه

ص:427

الناحیة، فإن کانت مطابقة للواقع فقد أدرک الواقع بما له من الملاک، وإلا فقد فات الواقع عنه کذلک(1).

القول الثالث: أن المجعول فی باب الامارات الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة مطابقتها للواقع والمخالف فی صورة عدم مطابقتها له، وهذا الحکم الظاهری المجعول حکم طریقی لا شأن له غیر تنجیز الواقع عند الاصابة والتعذیر عند الخطأ.

القول الرابع: أن المجعول فی هذا الباب هو المنجزیة والمعذریة، وقد اختار هذا القول المحقق الخراسانی (قدس سره)(2).

ثم إن هذه الأقوال فی المسألة تشترک فی نقطة وهی أن مقتضی القاعدة علی ضوء جمیع هذه الأقوال عدم إجزاء الاتیان بمؤدی الامارة عن الواقع، باعتبار أن مؤداها علی جمیع الأقوال المذکورة لا یکون مشتملا علی مصلحة تفی بمصلحة الواقع حتی یکون مجزیاً.

الاجزاء علی القول بسببیة الامارات

وأما التفسیر الثانی ففیه أیضاً أقوال:

القول الأول: السببیة المنسوبة إلی الأشاعرة، وهی أنه لا واقع قبل قیام الامارة علی شیء، فالامارة هی التی تحدث مصلحة فیه وتجعله الواقع بدون أن یکون هناک واقع مجعول من قبل الله تعالی فی المرتبة السابقة، والسببیة بهذا المعنی مضافاً إلی أنها غیر معقولة ومخالفة للکتاب والسنة وضرورة من الشرع، أنه لا معنی حینئذ للبحث عن إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی ولا

-

ص:428


1- (1) - أجود التقریرات 292:1.
2- (2) - کفایة الاُصول: 347 و 469.

موضوع له، إذ لا أمر علی ذلک إلا للمؤدی، ومن الواضح أن هذا البحث یتطلب تعدد الأمر ولا یعقل فی أمر واحد، نعم أن البحث عن ذلک علی هذا القول یندرج فی صغریات البحث عن المرحلة الاُولی، وهی أن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یجزی أداءً وقضاءً، وقد تقدم أن الاجزاء بهذا المعنی ضروری وإلا فلا یمکن الامتثال أصلا(1).

القول الثانی: السببیة المنسوبة إلی المعتزلة، وهی أن معنی حجیة الامارات أنها توجب انقلاب الواقع وارتفاعه فی صورة المخالفة وإنحصاره بالمؤدی، علی أساس أنه مغیّ بعدم قیام الامارة علی خلافه.

وبذلک تمتاز سببیة المعتزلة عن سببیة الأشاعرة، فإن الامارات علی ضوء سببیة الأشاعرة تحدث بالواقع ابتداءً، حیث إنه لا حکم مجعول من قبل الشارع فی المرتبة السابقة إنما یجعل الحکم، الحکم تبعاً لقیام الامارة وفی المرتبة المتأخرة، ولهذا لا تتصور فیها المخالفة حینئذ تارة والمطابقة تارة اخری، وأما علی ضوء سببیة المعتزلة فالأحکام الواقعیة وإن کانت مجعولة من قبل الشارع وثابتة فی المرتبة السابقة إلا أنها مغیاة بعدم قیام الامارة علی خلافها، فإذا قامت علی خلافها ارتفعت بارتفاع غایتها، نعم فی صورة مطابقتها لها صارت نفس تلک الأحکام فعلیة ومنجزة، فالحکم الواقعی ما أدت إلیه الامارة کانت مطابقة للواقع أم لا، ولکن علی هذا القول أیضاً لا مجال لهذا البحث، إذ لیس فی موارد الامارات أمران ظاهری وواقعی حتی یقع البحث عن أن الامتثال الأول هل یجزی عن امتثال الثانی أو لا، بل أمر واقعی واحد وهو الأمر بالمؤدی، فیکون المقام من صغریات البحث عن المرحلة الاُولی لا هذه المرحلة.

-

ص:429


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 266:2.
الاجزاء علی القول بالمصلحة السلوکیة

القول الثالث: ما ذکره شیخنا الأنصاری (قدس سره) من السببیة بمعنی المصلحة السلوکیة ونقصد بها کون المصلحة فی نفس سلوک الامارة وتطبیق العمل علیها(1) ، ولهذا تختلف هذه المصلحة باختلاف السلوک سعة وضیقاً، فإن کان سلوکها فی أول الوقت، فمصلحته تفی بمصلحة أول الوقت فحسب، وإن کان سلوکها فی تمام الوقت فمصلحته تفی بمصلحة تمام الوقت، ولهذا تجب الاعادة فی الأول لاستیفاء مصلحة أصل الوقت بعد استیفاء مصلحة الوقت المفضل، ویجب القضاء فی الثانی، لأن المصلحة السلوکیة إنما تفی بمصلحة الوقت فقط، وأما مصلحة أصل الصلاة فهی باقیة فلابد من استیفائها بالقضاء إذا کان القضاء بالأمر الأول، نعم إذا کان بأمر جدید لم یجب القضاء، لأن موضوعه فوت الفریضة والمفروض عدم فوتها کما عن السید الاُستاذ (قدس سره)(2) هذا، وقد علق علیه بعض المحققین (قدس سره) بأن الالتزام بالمصلحة السلوکیة إنما هو علی أثر برهان قبح التفویت بمقدار لولاها لزم تفویت مصلحة الواقع بلا تدارک أصلا وهو قبیح، وهذا البرهان لایقتضی أکثر من وجود مصلحة سلوکیة بمقدار مصلحة الوقت التی لا یمکن تدارکها أصلا، وأما مصلحة أصل الفعل الذی یمکن تدارکه بالقضاء کما هو ظاهر دلیل القضاء، فلا یمکن أن یستفاد من دلیل الحکم الظاهری تدارکها، لأن مدرک هذا التقیید هو الضرورة والبرهان، والضرورات تتقدر بقدرها لا أکثر، فإذن یجب القضاء کما هو مقتضی ظاهر دلیله(3).

وللنظر فی هذا التعلیق مجال، فإن الالتزام بوجود مصلحة سلوکیة فی باب الامارات إنما هو علی أساس حکم العقل بقبح تفویت ملاک الواقع، باعتبار أن

-

ص:430


1- (1) - فرائد الاُصول: 27.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه 274:2-276.
3- (3) - لاحظ بحوث فی علم الاُصول 164:2.

حجیة الامارات من باب الطریقیة تستلزم ذلک، فمن أجل دفع هذا القبح لابد من الالتزام بالمصلحة السلوکیة فیها لکی یتدارک بها مصلحة الواقع الفائتة، وعلی هذا فإن کان سلوک الامارة فی الوقت المفضل فحسب ثم انکشف الخلاف وتبین أنها غیر مطابقة للواقع، فلابد حینئذ أن تکون مصلحته بمقدار یتدارک به مصلحة الصلاة فی الوقت المفضل، وإن کان فی تمام الوقت فلابد أن تکون مصلحته بمقدار یتدارک به مصلحة الصلاة فی تمام الوقت، فإذن لا یفوت شیء منه فی الوقت حتی یجب قضاؤها فی خارج الوقت، ودعوی أن المتدارک بالمصلحة السلوکیة إنما هو مصلحة الوقت فحسب دون مصلحة أصل الصلاة، فإنها قابلة للتدارک بالقضاء فی خارج الوقت ومصلحة الوقت غیر قابلة له فیه، مدفوعة بأنها مبنیة علی نقطة خاطئة وهی أن تکون هناک مصلحتان مستقلتان، إحداهما مصلحة الصلاة، والاُخری مصلحة الوقت، والمتدارک بالمصلحة السلوکیة مصلحة الوقت دون مصلحة الصلاة، وأما خطأ هذه النقطة، فلأنه لا شبهة فی أن هنا مصلحة واحدة قائمة بحصة خاصة من الصلاة وهی الصلاة المقیدة بالوقت المحدد، والوقت دخیل فی اتصاف الصلاة بها من ناحیة وترتبها علیها خارجاً من ناحیة اخری، ولایمکن القول بأن الوقت دخیل فی اتصاف الصلاة بمقدار من المصلحة لا فی أصلها، لأن ذلک القول مبنی علی الالتزام بتعدد المطلوب والملاک وهو قول لا أساس له.

فالنتیجة، أن المصلحة السلوکیة فی تمام الوقت بما أنها تفی بتمام مصلحة الصلاة فی الوقت. فلا موضوع للقضاء، لوضوح أنه لا مصلحة للصلاة فی خارج الوقت إلا فی عرض فوتها فی الوقت.

وبکلمة، أن الالتزام بالمصلحة السلوکیة فی باب الامارات إنما هو علی

ص:431

أساس تدارک ما فات عن المکلف من مصلحة الواقع، فإن کان سلوک الامارة فی الوقت المفضل فحسب، فمصلحته تفی بمصلحة الصلاة فی الوقت المفضل، وإن کان سلوکها فی تمام الوقت فمصلحته تفی بمصلحة الصلاة فی تمام الوقت، فلا یجب القضاء، لأنه تابع لتحقق موضوعه وهو فوت الفریضة فی الوقت، فإنه یوجب اتصاف الصلاة بالملاک فی خارج الوقت وإلا فلا ملاک لها، والمفروض عدم تحقق فوتها فیه.

ومن هنا یظهر أن هذا القول لا یقتضی الاجزاء بالنسبة إلی الاعادة فی الوقت، فإذا انکشف خلاف الامارة فی الوقت وتبین عدم مطابقتها للواقع وجبت الاعادة، علی أساس أن المتدارک بمصلحة السلوک إنما هو مصلحة الصلاة فی الوقت المفضل لا فی تمام الوقت، وأما بالنسبة إلی وجوب القضاء فیقتضی الاجزاء، باعتبار أن سلوک الامارة إذا کان فی تمام الوقت، فالمتدارک مصلحة الصلاة کذلک، فإذن لا یفوت منه شیء فی الوقت حتی یجب التضاد فی خارج الوقت.

ولکن المحقق النائینی (قدس سره) ذهب إلی أن مقتضی القاعدة فیه عدم الاجزاء مطلقاً أی فی الوقت وخارجه فحاله حال القول بالطریقیة، وقد أفاد فی وجه ذلک أن المصلحة السلوکیة تختلف باختلاف أمد السلوک، فإن کان أمده فی الوقت المفضل فحسب فالمتدارک بمصلحته مصلحة الصلاة فی هذا الوقت فقط لا فی تمام الوقت، فلهذا تجب إعادتها لاستیفاء مصلحة تمام الوقت، وإن کان أمده فی تمام الوقت فالمتدارک بها مصلحة الصلاة فی الوقت فقط دون مصلحة أصل الصلاة، فإذن لابد من الاتیان بها قضاءً لاستیفاء تلک المصلحة(1).

-

ص:432


1- (1) - أجود التقریرات 293:1-294.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه، لأن ما ذکره (قدس سره) مبنی علی أن تکون الصلاة مشتملة علی مصلحتین مستقلتین:

إحداهما: قائمة بحصة خاصة منها وهی الصلاة فی أول الوقت، والاُخری قائمة بذات الصلاة، وحیث أن المتدارک بالمصلحة السلوکیة إنما هو مصلحة الصلاة فی الوقت فتبقی مصلحة ذات الصلاة، فیجب تدارکها بالقضاء، ولکن هذا المبنی خاطیء، لأن الصلاة لا تکون مشتملة علی مصلحتین مستقلتین، الاولی مصلحة الوقت والثانیة مصلحة ذات الصلاة، لوضوح أنه لا مصلحة لذات الصلاة بما هی، فالمصلحة إنما هی لحصة خاصة منها وهی حصتها فی الوقت لا مطلقاً کما مرّ، بل لو صح القول بتعدد المطلوب والملاک کانت مصلحة ذات الصلاة فی طول مصلحة الصلاة فی الوقت، فوجوب استیفائها فی خارج الوقت منوط بعدم استیفائها فی الوقت، وأما مع استیفائها فیه فلایجب استیفائها فی الخارج، وعلی هذا فإذا کانت مصلحة الصلاة فی الوقت متدارکة بالمصلحة السلوکیة، فلا موجب لقضائها فی خارج الوقت، لأنه منوط بعدم تدارکها فی الوقت إما بنفسها أو بالمصلحة السلوکیة، وأما مع التدارک فلا موضوع له، هذا إضافة إلی أن القول بتعدد المطلوب مبنی علی جعل المقید علی أفضل الأفراد لا حمل المطلق علیه، وهذا خلاف الارتکاز القطعی العرفی، فإن المرتکز لدی العرف العام هو أن المقید قرینة نوعیة لبیان المراد من المطلق، ومن هنا یکون حمل المطلق علی المقید من أحد موارد الجمع العرفی وخارج عن موارد التعارض المستقر، وعلی هذا فلابد من حمل اطلاقات أدلة وجوب الصلاة فی الکتاب والسنة علی ما دل علی تقیید وجوبها بوقت خاص بدایة ونهایة.

وهنا فروض اخری للقول بالتسبیب:

ص:433

الفرض الأول: الالتزام بوجود مصلحة فی المؤدی، علی أساس أن تفویت مصلحة الواقع بلا مبرر قبیح، فلذلک لابد من الالتزام بوجودها فیه حتی لا یلزم هذا المحذور.

وهذه المصلحة قد تکون مسانخة لمصلحة الواقع وقد تکون غیر مسانخة لها، وأما إذا کانت مسانخة لها، فإن کانت أقوی من مصلحة الواقع انقلب الواقع إلی واقع ثانوی وهو مؤدی الامارة، باعتبار أن مصلحته حیث کانت أقوی من مصلحة الواقع فهی المؤثرة دونها، لأن تأثیرها منوط بأن لا یکون لها مزاحم أقوی، ولازم ذلک التصویب والاجزاء، وأما التصویب فلأنه مرد ذلک إلی أن الحکم الواقعی مشروط بعدم قیام الامارة علی خلافه، فإذا قامت ارتفع بارتفاع موضوعه، وهذا هو التصویب المنسوب إلی المعتزلة، أما الاجزاء فهو واضح لمکان استیفاء مصلحة الواقع بمصلحة أقوی منها وهو مصلحة المؤدی، فلا مبرر حینئذ للاعادة ولا للقضاء. وإن کانت مساویة لها، فالواجب حینئذ تخییری وهو الجامع بین الواقع والمؤدی، ولا یمکن أن یکون تعیینیاً، ضرورة أن الاتیان بکل من المؤدی والواقع یکفی عن الآخر ملاکاً وحکماً ومعه لا یمکن أن یکون کل منهما واجباً تعیینیاً، ولازم ذلک أیضاً التصویب والاجزاء، أما التصویب فلأن الواقع ینقلب عن التعیین إلی التخییر، وأما الاجزاء فلأن المکلف إذا عمل بالامارة المخالفة فقد أتی بأحد فردی الواجب، وأما إذا کانت مصلحة المؤدی غیر مسانخة لمصلحة الواقع، فلا تستلزم التصویب ولا الاجزاء، أما الأول فلأن استیفائها لیس استیفاء لها، فإذا عمل المکلف بالمؤدی فقد استوفی مصلحته، وأما مصلحة الواقع فهی باقیة علی حالها، أو فقل إن هنا واجبین مستقلین لایرتبط أحدهما بالآخر لا ملاکاً ولا حکماً وهما المؤدی والواقع، وعلی هذا فإذا أتی المکلف بالمؤدی لم یسقط الواقع عنه لا ملاکاً ولا حکماً،

ص:434

لفرض أن ملاک المؤدی لیس من سنخ ملاکه حتی یکون استیفاؤه استیفاءً له کما هو الحال فی جمیع الواجبات المستقلة، فإذن یبقی الواقع کما هو، غایة الأمر أن المکلف جاهل به، وحینئذ فإذا إنکشف الخلاف فی الوقت وجب الاعادة فیه، وإذا انکشف خارج الوقت وجب القضاء فیه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری هل یتصور ذلک فی باب الصلاة، بأن لا تکون مصلحة المؤدی فیه من سنخ مصلحة الواقع، الظاهر أنه غیر متصور فیه، فإذا قامت الامارة علی عدم جزئیة السورة مثلا فی الصلاة وکان الواجب فی الواقع هو الصلاة مع السورة، ففی مثل ذلک لوکانت مصلحة المؤدی مباینة لمصلحة الواقع وغیر مسانخة لها، لزم تعدد الواجب حکماً وملاکاً وهو لا یمکن، ضرورة أن الواجب علی المکلف صلاة واحدة إما بدون السورة أو معها، فلو فرض وجود مصلحة فی الصلاة بدون السورة التی هی مؤدی الامارة، فلابد أن تکون من سنخ مصلحة الصلاة مع السورة التی هی واجبة فی الواقع حتی تستوفی بها، فلایمکن فرض وجود مصلحة مستقلة فیها غیر مسانخة لها، وإلا لزم محذور تعدد الواجب حکماً وملاکاً.

وأما فی غیر باب الصلاة کالصوم والحج والزکاة والخمس وغیرها، فلا مانع من افتراض تعدد المصلحة سنخاً، بأن لا تکون مصلحة مؤدی الامارة من سنخ مصلحة الواقع، کما إذا قامت الامارة علی وجوب الصلاة رکعتین مثلا عند رؤیة الهلال وکان الواجب فی الواقع الدعاء، فلا مانع من أن تکون مصلحة الصلاة التی هی مؤدی الامارة مباینة لمصلحة الدعاء بدون المضادة بینها، وعلی هذا فالقول بالتسبیب علی هذا الفرض لایستلزم التصویب ولا الاجزاء فی غیر باب الصلاة من أبواب العبادات.

ص:435

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أن المصلحة التی کانت تحدث فی مؤدی الامارة بواسطة دلیل حجیتها، فإن کانت تلک الامارة فی باب الصلاة فلا یمکن أن تکون تلک المصلحة مباینة لمصلحة الواقع وغیر مسانخة لها، بل لابد أن تکون من سنخها ذاتاً وإلا لزم تعدد الواجب حکماًّ وملاکاً وهو خلاف الضرورة فی باب الصلاة، وإن کانت فی سائر الأبواب غیر باب الصلاة، فلا مانع من أن تکون مصلحة المؤدی مباینة لمصلحة الواقع وغیر مسانخة لها، غایة الأمر یلزم حینئذ تعدد الواجب حکماً وملاکاً ولا محذور فیه فی سائر الأبواب.

الفرض الثانی: الالتزام بوجود مصلحة فی جعل الحکم الظاهری لا فی متعلقه من أجل رفع قبح تفویت مصلحة الواقع، بدعوی أن هذا التفویت إنما یکون قبیحاً إذا لم تکن مصلحة فی نفس هذا التفویت وهو جعل الحکم الظاهری لأن جعله، جعل التفویت، وعلی هذا الفرض لا تصویب ولا إجزاء، لفرض أن مصلحة الواقع محفوظة وغیر متدارکة، ومعها یجب الاتیان به فی الوقت إذا کان انکشاف الخلاف فیه، وخارج الوقت إذا کان إنکشاف الخلاف فیه.

الفرض الثالث: ما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أنه یمکن إفتراض وجود مصلحة فی مؤدی الامارة المخالفة للواقع، بما هو مؤدی الامارة المخالفة وهی مصلحة فی عرض مصلحة الواقع، فإنها قائمة بالمؤدی بعنوان ثانوی وهو مؤدی الامارة المخالفة للواقع، ومصلحة الواقع قائمة به بعنوان أولی(1) ، وعلی هذا فإذا عمل المکلف بالامارة وأتی بمؤداها، حصل الغرض وسقط الأمر عن الواقع، فإذن هذاالتصویر من السببیة یوجب الاجزاء ولایوجب التصویب وتبدل الأمر الواقعی التعیینی بالواقع إلی الأمر بالجامع بینه وبین مؤدی الامارة المخالفة للواقع

-

ص:436


1- (1) - نهایة الدرایة 405:1.

بما هو مؤدی الامارة المخالفة لاستحالة ذلک.

وللمناقشة فیه مجال وذلک لأن مصلحة مؤدی الامارة المخالفة للواقع بهذا العنوان، لا تخلو من أن تکون مباینة لمصلحة الواقع أو مسانخة لها، أما علی الأول فإن کانت بینهما مضادة، فلایمکن الأمر بتحصیلهما معاً لاستحالة الأمر بالضدین، وعلی هذا فإذا عمل المکلف بالامارة المخالفة، فقد استوفی مصلحة مؤداها بما هی مصلحة مؤداها، ومع استیفاءها لا یمکن استیفاء مصلحة الواقع لمکان المضادة، فإذن لا محالة یسقط الأمر بالواقع، ولا مناص حینئذ من الالتزام بالأجزاء دون التصویب وانقلاب الواقع، وفی هذه الصورة یستلزم القول بالتسبیب الاجزاء ولا یستلزم التصویب، فأحدهما ینفک عن الآخر، وأما إن لم تمکن بینهما مضادة بأن یکون بامکان المکلف تحصیلهما معاً، ففی مثل ذلک لا تصویب ولا إجزاء.

أما الأول، فلأن المصلحتین بما أنهما متباینتان ولا ترتبط إحداهما بالاُخری فلا تستوفی مصلحة الواقع بمصلحة المؤدی حتی ینقلب، بل هی باقیة علی حالها، غایة الأمر أن المکلف غیر مأمور بتحصیلها من جهة عدم وصولها إلیه.

وأما الثانی، فلأن مصلحة الواقع قد ظلّت بحالها فلا موجب لسقوط الواقع عن المکلف، وحینئذ فإذا إنکشف الخلاف فإن کان فی الوقت وجب الاتیان به فیه لاستیفاء مصلحته، وإن کان فی خارج الوقت وجب قضاؤه فیه، ولکن هنا إنما یتصور فی غیر باب الصلاة من الواجبات، وأما فی باب الصلاة فقد تقدم أنه لا یمکن فرض کون مصلحة مؤدی الامارة المخالفة للواقع مباینة لمصلحة الواقع وغیر مربوطة بها، وإلا لزم تعدد الواجب واقعاً ملاکاً وحکماً وهو کما تری.

وأما علی الثانی وهو ما إذا کانت مصلحة المؤدی من سنخ مصلحة الواقع،

ص:437

فلابد من الالتزام بالانقلاب من التعیین إلی التخییر، حیث لا یمکن أن یکون الأمر بکل منهما أمراً تعیینیاً، لأن حدوث مصلحة فی مؤدی الامارة المخالفة المسانخة لمصلحة الواقع لا محالة یوجب انقلاب الأمر الواقعی التعیینی بالواقع إلی الأمر التخییری بالجامع بینه وبین مؤدی الامارة المخالفة بما هو المخالفة، غایة الأمر أن المکلف مأمور بالعمل بالامارة المخالفة للواقع وتحصیل المصلحة القائمة بمؤداها، ولا یکون مأموراً بتحصیل المصلحة القائمة بالواقع لعدم وصولها إلیه وجهله بها، فالنتیجة أن السببیة فی هذا الفرض تستلزم التصویب والاجزاء معاً، فما ذکره (قدس سره) من أنها تستلزم الاجزاء دون التصویب فلا یتم.

وبکلمة، أن مصلحة المؤدی بما هو مؤدی الامارة المخالفة للواقع إن کانت من سنخ مصلحة الواقع، فمعنی ذلک أنها مصلحة بدلیة عن مصلحة الواقع، فإذا کانت کذلک فمعناها التصویب وانقلاب الواقع من الواجب التعیینی إلی الواجب التخییری، ولکن هل یمکن هذا الانقلاب، فقد ذکر (قدس سره) أنه مستحیل(1).

الظاهر أنه لم یرد بالاستحالة، استحالة تصویر الجامع بین الواقع ومؤدی الامارة المخالفة له، فإن تصویره بمعنی مفهوم أحدهما بمکان من الامکان، بل الظاهر أنه أراد بذلک أن الواجب لا یمکن أن یکون الجامع بینهما بأن یکون الأمر فی الواقع أمراً تخییریاً لا تعیینیاً، لأن تحقق أحد فردی الجامع وهو مؤدی الامارة المخالفة للواقع یتوقف علی تعلق الأمر بالواقع تعیینیاً، ومن الواضح أن الأمر المتعلق به کذلک ناشیء من وجود مصلحة فی متعلقه، فلوکان الأمر الواقعی متعلقاً بالجامع فلم یتحقق ذلک الفرد، فإذن یلزم من فرض انقلاب الواقع من التعیین إلی التخییر عدم الانقلاب، وعلی الجملة فعنوان مخالفة مؤدی

-

ص:438


1- (1) - نهایة الدرایة 405:1.

الامارة للواقع یتوقف علی ثبوت الأمر التعیینی بالواقع فی المرتبة السابقة، ومن المعلوم أن الأمر المتعلق به ینبثق عن وجود مصلحة تعیینیة فی متعلقه، فلو کان الأمر الواقعی تخییریاً متعلقاً بالجامع بینهما لم تتحقق الامارة المخالفة للواقع حتی توجب الانقلاب، فإذا لم تتحقق فلا انقلاب، فیلزم حینئذ من فرض الانقلاب عدم الانقلاب، ومن فرض تحقق مخالفة مؤدی الامارة للواقع عدم المخالفة وهو محال.

نتائج البحث

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: أن حجیة الامارات علی القول بالطریقیة لا تستلزم الاجزاء لا فی الوقت ولا فی خارج الوقت علی ضوء جمیع الآراء فی تفسیرها کما مرّ.

الثانیة: أن حجیتها علی القول بالسببیة هل تستلزم الاجزاء؟

والجواب: أن ذلک یختلف باختلاف الأقوال فی تفسیرها، فعلی ضوء التفسیر المنسوب إلی الأشاعرة فلا شبهة فی الاجزاء، إذ علی هذا التفسیر لا واقع قبل قیام الامارة وحجیتها، فالواقع أولا وثانیاً هو مؤدی الامارة، فإذن یکون ذلک من إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی عن أمره لا من إجزاء الاتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری عن المأمور به بالأمر الواقعی، وکذلک الحال علی التفسیر المنسوب إلی المعتزلة کما تقدم.

وأما علی التفسیر بالمصلحة السلوکیة، فقد مرّ أنها تستلزم الاجزاء بالنسبة إلی القضاء دون الامارة.

وأما علی التفسیر بالمصلحة فی مؤدی الامارة، فإن کانت مسانخة لمصلحة الواقع فهی توجب التصویب والاجزاء معاً کما عرفت، وإن لم تکن مسانخة لها

ص:439

فلا توجب التصویب ولا الاجزاء، لأن مصلحة الواقع غیر مستوفاة بها.

وأما علی التفسیر بالمصلحة فی نفس جعل الحکم الظاهری، فهی لا تستلزم التصویب ولا الاجزاء، لفرض أنها لیست من سنخ مصلحة الواقع وأنها لا تتدارک بها.

وأما علی التفسیر بالمصلحة فی مؤدی الامارة المخالفة للواقع بما هو مؤدی الامارة المخالفة، فإن کانت تلک المصلحة من سنخ مصلحة الواقع، فلازمه التصویب والاجزاء معاً وإن لم تکن من سنخها، فإن کانت مضادة لها فلازمها الاجزاء دون التصویب وانقلاب الواقع، وإن لم تکن مضادة لها فلا تصویب ولا إجزاء، لفرض أن مصلحة الواقع غیر مستوفاة بها.

الثالثة: قد ظهر مما تقدم أن القول بالسببیة إذا استلزم التصویب وانقلاب الواقع، استلزم الاجزاء أیضاً، وأما إذا لم یستلزم التصویب والانقلاب فلا یستلزم الاجزاء إلا فی صورة خاصة وهی ما إذا کانت بین المصلحتین مضادة، فإنه حینئذ یستلزم الاجزاء دون التصویب والانقلاب کما مر، وأما السببیة بمعنی المصلحة السلوکیة، فهی لا تستلزم الانقلاب والتصویب وإن کانت تستلزم الاجزاء بالنسبة إلی القضاء دون الاعادة.

والخلاصة: أن التصویب ملازم للاجزاء، وأما الاجزاء فهو غیر ملازم للتصویب.

الرابعة: أن الغرض من بیان الآراء والاحتمالات فی حجیة الامارات علی القول بالطریقیة والسببیة لیس التحقیق فی صحتها وسقمها، فإن لذلک محلا آخر وهو باب الظن وسیأتی الکلام فیه إنشاء الله تعالی، بل الغرض من بیانها أن الملازمة بین هذه الآراء والاحتمالات وبین الاجزاء ثابتة فی الجمیع أو فی البعض

ص:440

أو لا تکون ثابتة أصلا، وقد ظهر مما مر أن الملازمة لم تثبت بین الاجزاء وشیء من الآراء علی القول بالطریقیة، وأما علی القول بالسببیة فقد تقدم أن الملازمة ثابتة علی ضوء بعض الآراء والتفاسیر دون بعضها الآخر.

الاجزاء فی موارد الأصول العملیة

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو مفاد حجیة الاُصول العملیة کأصالة الطهارة والحلیة واستصحابهما، فلا شبهة فی أن مقتضی القاعدة عدم الاجزاء عند انکشاف الخلاف إلا علی القول بالتصویب وارتفاع الحکم الواقعی بجعل الحکم الظاهری، وأما علی القول بالطریقیة فبما أن الحکم الواقعی لا یرتفع بالحکم الظاهری، فمع انکشاف الخلاف وعدم امتثاله فلا محالة تجب الاعادة فی الوقت إذا کان انکشاف الخلاف فیه وإلا ففی خارج الوقت.

ولکن المحقق الخراسانی (قدس سره) قد فصل فی المقام بین الحکم الظاهری المجعول بلسان احراز الواقع والنظر إلیه والحکم الظاهری المجعول بلسان جعل الحکم المماثل للواقع ابتداء من غیر نظر إلیه، فإن کان من قبیل الأول لم یجزیء وإن کان من قبیل الثانی أجزأ، فلو صلی فی ثوب محکوم بالطهارة بمقتضی أصالة الطهارة أو فی ثوب محکوم بالحلیة بمقتضی أصالة الحل ثم انکشف الخلاف وبان أن الثوب نجس أو مغصوب، کان مقتضی القاعدة الاجزاء من جهة أن دلیل أصالة الطهارة أو أصالة الحلیة یوسع موضوع دلیل اشتراط الطهارة أو الحل فی الصلاة وینقح صغری الشرط ویجعله أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة، وحینئذ فإذا صلی مع أصالة الطهارة أو الحلیة صلی مع الشرط واقعاً ولیس فیه انکشاف الخلاف، غایة الأمر إذا علم بالنجاسة ارتفع الشرط بارتفاع موضوعه من حین العلم بالنجاسة، لأن انکشاف الخلاف إنما هو بالنسبة إلی النجاسة لا بالنسبة إلی

ص:441

الشرط (1) ، بیان ذلک أن مفاد هذه الاُصول ومدلولها أحکام ظاهریة ثابتة واقعاً فی ظرفها وهو ظرف الجهل بالواقع وعدم العلم به، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن نسبة هذه الاُصول العملیة إلی الأدلة الاجتهادیة التی تدل علی شرطیة الطهارة والحلیة فی الصلاة نسبة الدلیل الحاکم إلی الدلیل المحکوم، فإنها توسع دائرة الشرطیة وتنقح صغراها وتجعل الشرط أعم من الطهارة أو الحلیة الواقعیة والظاهریة، لأن الحکومة تارة تکون واقعیة کما إذا کان الدلیل الحاکم کالدلیل المحکوم دلیلا اجتهادیاً ناظراً إلی اثبات الواقع کجملة (الطواف فی البیت صلاة)، و (الفقاع خمر) وهکذا، فإن الدلیل الحاکم یوسع موضوع الدلیل المحکوم واقعاً ویجعل فرداً آخر له تزیلا، واُخری تکون ظاهریة، فلا یکون للدلیل الحاکم تأثیر فی الواقع لا توسعةً ولا تضییقاً، وهذه الحکومة قد تکون فی طریق إثبات الواقع کأدلة حجیة الامارات، إذ لولاها لم یمکن اثبات الواقع إلا بالعلم الوجدانی، ولکنها توسع دائرة الاثبات وتجعله أعم من الاثبات الوجدانی والاثبات التعبدی علی تفصیل ذکرناه فی محله، وقد تکون فی توسعة الواقع ظاهراً لا واقعاً کحکومة دلیل أصالة الطهارة علی الدلیل الاجتهادی الدال علی شرطیة طهارة البدن والثیاب فی الصلاة الظاهر فی أن الشرط خصوص الطهارة الواقعیة، باعتبار أن دلیل الأصالة یدل علی أن الشرط أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة، علی أساس أنه ینقح الصغری له ویثبت الطهارة ظاهراً، فیترتب علیها آثارها واقعاً منها الشرطیة، وعلی هذا فإذا صلی فی ثوب أو بدن محکوم بالطهارة بمقتضی أصالة الطهارة أو استصحابها ثم انکشف الخلاف وبان أنه نجس، صحت صلاته واقعاً لأنها واجدة للشرط

ص:442


1- (1) - کفایة الاُصول: 86.

کذلک وهو الطهارة الظاهریة، ولا یتصور انکشاف الخلاف فیها لعدم واقع موضوعی لها حتی یتصور فیها انکشاف الخلاف، لأنها مجعولة فی حال الجهل بالواقع وعدم العلم به وثابتة فی هذه الحالة واقعاً ولیس لها واقع موضوعی وراء هذه الحالة، فطالما یکون الجهل بالواقع موجوداً فهی موجودة ولا ترتفع إلا بارتفاعه، نعم إنکشاف الخلاف إنما یتصور بالنسبة إلی النجاسة الواقعیة التی لها واقع موضوعی قد تطابقه وقد لا تطابقه، وعلی هذا فإذا علم بالنجاسة وانکشف الخلاف بعد الصلاة انتفی الشرط بانتفاء موضوعه من حینه، لا أنه یکشف عن فقدانه حال الصلاة، لأنه خلف فرض أن الشرط أعم من الطهارة الظاهریة والواقعیة، والمفروض أن الطهارة الظاهریة أثناء الصلاة موجودة واقعاً، وکذلک إذا صلی فی ساتر محکوم بالحلیة بمقتضی أصالة الحل، فإذا انکشف الخلاف بعد الصلاة فهو إنما یکون بالنسبة إلی الحلیة الواقعیة التی لها واقع خارجی قد تطابقه وقد لا تطابقه، وأما بالنسبة إلی الحلیة الظاهریة فلا یتصور فیها انکشاف الخلاف، لأنها ثابتة واقعاً فی حال الجهل بالواقع ولا واقع موضوعی لها غیر ثبوتها فی هذه الحالة، وعلی هذا فالمصلی واجد للشرط حال الصلاة حقیقة وانکشاف الخلاف بعدها لا یؤثر فیها ولا یجعل الواجد للشرط فاقداً له، لاستحالة انقلاب الشیء عما وقع علیه هذا.

وقد علق علی مقالة صاحب الکفایة (قدس سره) المحقق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهما) بوجوه:

الوجه الأول: أن الحکومة عند المحقق الخراسانی (قدس سره) منحصرة فی التفسیر اللفظی، بأن یکون الدلیل الحاکم بمدلوله اللفظی ناظراً إلی مدلول الدلیل المحکوم ومفسراً له بکلمة (یعنی)، ومن الواضح أن لسان دلیل أصالة الطهارة وأصالة

ص:443

الحل واستصحابهما لیس لسان التفسیر والنظر، فإذن لا حکومة هذا(1).

وقد وجه بعض المحققین (قدس سره) کلامه بأن من الجائز أن یکون مراده (قدس سره) من الحکومة فی المقام الورود واثبات موضوع جدید للشرطیة وهو الطهارة الظاهریة حقیقة(2) ، ولکن قد یقال بأن هذا التوجیه خلاف نص کلامه (قدس سره) فی المقام، حیث قال فیه أن دلیل الأصالة حاکم علی دلیل الاشتراط ویوسع دائرة الشرط ویجعله أعم من الواقع والظاهر، ومع هذا التصریح کیف یمکن حمل کلامه علی الورود هذا، إضافة إلی أن ضابط الورود لا ینطبق علی المقام، لأن ضابطه أن یکون الدلیل الوارد رافعاً لموضوع الدلیل المورود وجداناً وحقیقة أو یوسع دائرته کذلک، وأما إذا کان توسیع دائرته فی الظاهر کما فی المقام لا فی الواقع، فهو من الحکومة ولیس من الورود، ومن هنا ذکر المحقق الأصبهانی (قدس سره) أن الحکومة عند صاحب الکفایة (قدس سره) لیست بمعنی کون الدلیل الحاکم ناظراً بمدلوله اللفظی إلی مدلول الدلیل المحکوم بمثل أعنی وأشباهة، وما ذکره (قدس سره) فی باب التعادل والترجیح إنما أورد علی الشیخ الأعظم (قدس سره) الملتزم فی الحکومة بنظر أحد الدلیلین إلی الآخر، بأن النظر فی مقام الاثبات لا یکون إلا بمثل أعنی وأشباهه، بل یکفی فی حکومة أحد الدلیلین علی الآخر عنده (قدس سره) مجرد اثبات الموضوع أو نفیه تنزیلا(3) هذا، ولکن لا یبعد ما ذکره بعض المحققین (قدس سره) من التوجیه لأمرین:

الأول: أنه (قدس سره) قد اعتبر فی الحکومة النظر وکون الدلیل الحاکم ناظراً بمدلوله اللفظی إلی مدلول الدلیل المحکوم، وقد صرح بذلک فی موردین أحدهما فی آخر

-

ص:444


1- (1) - أجود التقریرات 287:1.
2- (2) - بحوث فی علم الاُصول 158:2.
3- (3) - نهایة الدرایة 393:1، فی تعلیقة منه (قدس سره).

مبحث الاستصحاب(1) والآخر فی أوائل مبحث التعادل والترجیح2.

الثانی: أن ثبوت الموضوع وهو الطهارة الظاهریة أو الحلیة الظاهریة بالوجدان، لأن مفاد دلیل حجیة أصالة الطهارة هو جعل الطهارة الظاهریة فی ظرف الجهل بالواقع والشک فیه وهو قطعی، فکما أن نفی الموضوع للدلیل إذا کان بالوجدان فهو من الورود بلافرق بین أن یکون ذلک تکویناً أو تشریعاً، وإذا کان بالتعبد فهو من الحکومة، ومن هنا ذهب المحقق النائینی (قدس سره) والسید الاُستاذ (قدس سره) إلی أن دلیل حجیة الامارات وارد علی البراءة العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان، باعتبار أنه رافع لموضوعها بنفس ثبوت التعبد الذی هو وجدانی، ولا یمکن أن یکون ثبوت التعبد بالتعبد وإلا لزم التسلسل، وحاکم علی البراءة الشرعیة باعتبار أنه رافع لموضوعها، فثبوت المتعبد به وهو الواقع وثبوته بالتعبد لا بالوجدان، فلذلک یکون تقدیمه علیها من باب الحکومة(2) ، وعلی هذا الأساس فبما أن ثبوت الطهارة الظاهریة فی ظرف الجهل بالواقع والشک فیه إنما هو بالوجدان شرعاً لا بالتعبد، فیکون تقدیم دلیل ثبوتها علی دلیل شرطیة الطهارة بالورود، لأنه یثبت موضوعها وهو الطهارة الظاهریة بالوجدان هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن ما ذکره المحقق الأصبهانی (قدس سره) من أن مراد صاحب الکفایة من الحکومة لیس نظر الدلیل الحاکم إلی الدلیل المحکوم، بل مجرد إثبات الموضوع أو نفیه تنزیلا، وما ذکره (قدس سره) فی باب التعادل والتراجح إنما هو إشکال علی الشیخ الأعظم (قدس سره) فی غیر محله، لأنه (قدس سره) قد فسر الحکومة فی باب التعادل

-

ص:445


1- (1و2) - کفایة الاُصول: 429 و 438.
2- (3) - أجود التقریرات 284:3-285 و 290:4، ومصباح الاُصول 250:3-251.

والترجیح بالنظر وکذلک فی أواخر الاستصحاب من دون الاشارة إلی أن هذا التفسیر علی مبنی الشیخ (قدس سره). فالنتیجة أنه لا یبعد أن یکون مراده (قدس سره) من الحکومة فی المقام الورود.

الوجه الثانی: أن حکومة دلیل أصالة الطهارة والحلیة واستصحابهما علی الأدلة الاجتهادیة وهی أدلة شرطیة الطهارة والحلیة للصلاة، حکومة ظاهریة موقتة بزمن الجهل بالواقع والشک فیه، ولیست بحکومة واقعیة لکی توجب توسعة الواقع، ونتیجة هذه الحکومة هی ترتیب آثار الطهارة الواقعیة أو الحلیة الواقعیة علی الطهارة الظاهریة أو الحلیة الظاهریة طالما لم ینکشف الخلاف، فإذا انکشف الخلاف وتبین أنه لم یعمل بالواقع وجب علیه العمل به، لأن الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی ومتأخراً عنه رتبة، فلا یعقل أن یکون توسعة للحکم الواقعی إلا ظاهراً وفی مقام الوظیفة العملیة التی ترتفع بانکشاف الخلاف(1).

وقد أجاب عنه بعض المحققین بأن أصالة الطهارة فی طول النجاسة الواقعیة المشکوکة ولکنها لیست فی طول شرطیة الطهور فی الصلاة، فلا مانع من أن تکون حکومة دلیل أصالة الطهارة علی دلیل شرطیة الطهارة واقعیة(2).

ولکن هذا الجواب قابل للمناقشة وذلک، لأن أصالة الطهارة کما أنها فی طول النجاسة الواقعیة کذلک فی طول الطهارة الواقعیة، باعتبار أنها مجعولة للشیء المشکوک طهارته ونجاسته، والمفروض أن مدلول دلیل شرطیة الطهارة للصلاة هو شرطیة الطهارة الواقعیة، ومفاد دلیل أصالة الطهارة لیس إثبات شرطیة

-

ص:446


1- (1) - أجود التقریرات 289:1، ومحاضرات فی اصول الفقه 257:2.
2- (2) - بحوث فی علم الاُصول 158:2.

الطهارة الظاهریة لکی یقال أن شرطیة الطهارة الظاهریة لیست فی طول شرطیة الطهارة الواقعیة رتبة، لأن کون الطهارة الظاهریة فی طول الطهارة الواقعیة لا یستلزم کون شرطیتها فی طول شرطیتها، بل مفاده إثبات الطهارة الظاهریة وجعلها، وحیث إن الطهارة الظاهریة فی طول الطهارة الواقعیة فلایمکن أن تکون توسعة لها، ضرورة أن الحکم الظاهری لایمکن أن یکون توسعة للحکم الواقعی إلا ظاهراً، ومن الواضح أن هذه السعة ترتفع بانکشاف الخلاف وتبین أنه لم یصل مع طهارة ثوبه أو بدنه، فإذن تجب علیه الاعادة إن کان فی الوقت والقضاء إن کان فی خارج الوقت.

الوجه الثالث: أن أصالة الطهارة لو کانت حاکمة علی دلیل شرطیة الطهارة للصلاة لکانت حاکمة علی دلیل شرطیة الطهارة للوضوء أو الغسل أو نحو ذلک أیضاً، فما دل علی شرطیة طهارة ماء الوضوء أو الغسل ظاهر فی الطهارة الواقعیة، ودلیل أصالة الطهارة یوسع دائرة الشرط ویجعل موضوعه أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة، فإذا توضأ بماء محکوم بالطهارة بمقتضی أصالة الطهارة ثم انکشف الخلاف وتبین نجاسته، فمقتضی ما ذکره (قدس سره) من الحکومة صحة وضوئه، لأنه واجد للشرط وهو طهارة الماء مع أنه لم یلتزم به أحد من الفقهاء حتی هو (قدس سره)، ومن هنا لو غسل ثوبه بماء طاهر بمقتضی أصالة الطهارة ثم تبین أنه نجس فلا شبهة فی بقائه علی النجاسة، مع أن مقتضی ما ذکره (قدس سره) هو الحکم بطهارته وهکذا وهو کما تری(1) هذا.

وذکر بعض المحققین (قدس سره) أن بإمکان المحقق الخراسانی (قدس سره) أن یدفع هذا النقض بأن أصالة الطهارة إنما هی حاکمة علی دلیل قد أخذ الطهارة فی موضوعه، فإنها

-

ص:447


1- (1) - أجود التقریرات 289:1.

توسع موضوعه وتجعله الأعم من الطهارة الواقعیة والطهارة الظاهریة ولا تکون حاکمة علی دلیل قد أخذ فی موضوعه النجاسة، لأن أصالة الطهارة توجد طهارة اخری ظاهریة فی مقابل الطهارة الواقعیة، ولیس لها مدلول التزامی وهو نفی النجاسة الواقعیة، وعلی هذا فإذا ثبت فی الفقه من الدلیل أن الطهارة هی الشرط فی الصلاة والنجاسة هی المانعة عن صحة الوضوء، فلا مناص حینئذ من التفصیل بینهما وأن أصالة الطهارة حاکمة فی الأول دون الثانی، فإذن لابد من الحکم ببطلان الوضوء إذا انکشف الخلاف وتبیّن أن الماء نجس.

ودعوی أن أصالة الطهارة إن دلت بالالتزام عرفاً علی نفی النجاسة، فهی کما تکون حاکمة علی دلیل شرطیة الطهارة کذلک تکون حاکمة علی دلیل مانعیة النجاسة، غایة الأمر أن حکومتها علی الأول بتوسیع موضوع دلیل الشرطیة وعلی الثانی بنفی موضوع دلیل المانعیة وهو النجاسة، وحینئذ فإن کانت الحکومة واقعیة فلا مناص من القول بالأجزاء فی کلا الموضعین وإلا فلا إجزاء فی کلیهما، وإن لم تدل علی ذلک لعدم الملازمة بینهما عرفاً، فلایمکن تصحیح الوضوء بما ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، مدفوعة بأن هذه الدعوی إنما تتم إذا کان المراد من الحکومة التنزیل، فعندئذ یجییء هذا التفصیل، وأما إذا کان المراد من الحکومة ما ذکرناه من إیجاد فرد حقیقی للموضوع بالورود، فإنه حینئذ یکون الفرق بین فرض شرطیة الطهارة ومانعیة النجاسة واضحاً، لأن أصالة الطهارة تحقق مصداقاً آخر للشرط فیجزی، بینما المانع لابد من إنتفاء تمام مصادیقه لینتفی المانع، وبأصالة الطهارة لایمکن نفی النجاسة الواقعیة المشکوکة حقیقة بالورود، لأن هذا خلف الطولیة بین الحکمین وانحفاظ الحکم الواقعی،

ص:448

فلیس هذا إلا انتفاء النجاسة المانعة ظاهراً(1).

ویمکن المناقشة فیه أما أولا، فلأن الظاهر أن الوضوء کالصلاة مشروط صحته بطهارة الماء لابعدم نجاسته، ولهذا لا یجوز الوضوء بماء لم یحرز طهارته ولو بالأصالة، فإذن هذا النقض وارد علی صاحب الکفایة (قدس سره).

وثانیاً ما ذکرناه آنفاً من أن تقدیم دلیل أصالة الطهارة علی دلیل شرطیة الطهور للصلاة وإن کان لایبعد أن یکون من باب الورود لا من باب الحکومة، إلا أنه علی کلا التقدیرین یکون المجعول هو الطهارة الظاهریة، وعلی هذا فسواءً أکان التقدیم من باب الحکومة أو الورود فهو ظاهری لا واقعی، بمعنی أن توسعة موضوع الشرطیة ظاهریة لاواقعیة، فإذا کانت ظاهریة فمقتضی القاعدة عدم الاجزاء، باعتبار أن المکلف طالما یکون الحکم الظاهری ثابتاً فی حقه فهو معذور فی العمل به، فإذا انکشف الخلاف وتبین أنه لم یعمل بالواقع، وجب علیه العمل به سواءً أکان فی الوقت أو خارج الوقت، ولا یمکن أن یکون هذا التقدیم واقعیاً وإن کان بالورود، لوضوح أن الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی فلا یمکن أن یکون توسعة له، ومن هنا یظهر أن ما ذکره (قدس سره) من أن تقدیم أصالة الطهارة علی دلیل شرطیة الطهارة حیث إنه کان من باب الورود فیکون حقیقیاً غیر تام کما عرفت، ودعوی أن مفاد دلیل أصالة الطهارة لیس إلا تنزیل مشکوک الطهارة منزلة الطاهر الواقعی بلحاظ الاحکام المجعولة لها منها الشرطیة، فإذن تکون الحکومة واقعیة والتوسعة الحقیقیة للشرطیة، مدفوعة بأن ذلک لیس مفاد دلیل أصالة الطهارة، لأن مفادها جعل الطهارة الظاهریة، لوضوح أن قوله (علیه السلام): «کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد

-

ص:449


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 158:2.

قذر»(1) ، ظاهر فی جعل الطهارة فی حال الجهل بالواقع والشک فیه ابتداءً ولیس مفاده التنزیل، وأما لبّاً فیکون تنزیل المشکوک بمنزلة الطاهر الواقعی ظاهراً لا واقعاً، لأنه فی مقام بیان الحکم الظاهری ثبوتاً واثباتاً لا الحکم الواقعی هذا، إضافة إلی أن مفادة لو کان تنزیل مشکوک الطهارة منزلة الطاهر الواقعی واقعاً، فلازمه صحة الصلاة واقعاً عند الشک فی الطهارة ولا تتوقف علی احراز الطهارة، باعتبار أنه علی هذا یکون موضوع الشرطیة أعم من الطاهر الواقعی والمشکوک طهارته وهو کماتری، بل أن هذا الاحتمال غیر محتمل عرفاً، لأن الروایة فی مقام بیان الحکم الظاهری، فلو کانت فی مقام بیان الحکم الواقعی فی ترتیب آثاره منها الشرطیة، لم یکن استفادة الحکم الظاهری منها حینئذ وهذا خلف.

الوجه الرابع: ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن مفاد موثقة عمار لا یخلو من أن یکون جعل الطهارة الظاهریة أو توسعة دائرة شرطیة الطهارة، ولا یمکن أن تکون الموثقة متکفلة لکلا الأمرین معاً، فإن الثانی فی طول الأول، إذ لابد من الفراغ عن جعل الطهارة الظاهریة أولا ثم یقال أنها شرط وفرد من أفرادها، ولا یمکن أن یکون مفاد الموثقة کلا الأمرین الطولیین معاً، لأن المنشأ بها إما الطهارة الظاهریة أو الشرطیة ولایمکن أن تکون کلتاهما منشأة بانشاء واحد، وحیث أن الظاهر منها جعل الطهارة الظاهریة، فلایمکن أن یستفاد منها توسعة دائرة الشرط (2). وناقش فیه بعض المحققین (قدس سره) بأمرین:

الأول: أن هذا الاشکال مبنی علی أن یکون مراد صاحب الکفایة (قدس سره) من

-

ص:450


1- (1) - الوسائل 467:3، باب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
2- (2) - أجود التقریرات 288:1.

الحکومة فی المقام الحکومة المصطلحة والتنزیل، فإنها عندئذ إن کانت ناظرة إلی جعل الطهارة الظاهریة ونتزیلها منزلة الطهارة الواقعیة فلا نظر لها إلی توسعة دائرة الشرط، وإن کانت ناظرة إلی توسعة دائرة الشرط فلا نظر لها إلی جعل الطهارة الظاهریة، وأما بناء علی أن یکون مراده (قدس سره) من الحکومة الورود فلا یرد علیه هذا الاشکال، لأن الدلیل الوارد یوجد فرداً آخر للموضوع وهو الطهارة الظاهریة، وحینئذ فلا مانع من التمسک باطلاق الدلیل المورود وهو دلیل شرطیة الطهارة فی المقام لاثبات حکمه لهذا الفرد أیضاً، فالنتیجة أن دلیل الأصالة یثبت الطهارة الظاهریة واطلاق دلیل الشرطیة یثبت الشرطیة لها فإذن لا اشکال(1).

وفیه أن مفاد دلیل أصالة الطهارة، الطهارة الظاهریة وموضوع دلیل الاشتراط الطهارة الواقعیة، ولا اطلاق له بالنسبة إلی الطهارة الظاهریة، لوضوح أنه ظاهر عرفاً فی أن الشرط هو الطهارة الواقعیة وإرادة الأعم بحاجة إلی قرینة، والمفروض أن دلیل الأصالة لا یوجد فرداً من الطهارة واقعاً لکی یکون مشمولا لدلیل الاشتراط، وإنما یوجد الطهارة الظاهریة العذریة التی لا ملاک لها بمعنی أنها غیر دخیلة فی الملاک، فطهارة الثوب مثلا إذا کانت ظاهریة عذریة غیر دخیلة فی ملاک الصلاة وإنما جعلت لمصلحة عامة وهی التسهیل بالنسبة إلی نوع المکلفین، وعلیه فلا تصلح الطهارة الظاهریة أن تکون شرط کالطهارة الواقعیة، وإنما جعلت لکی تکون عذراً للمکلف فی صورة مخالفتها للواقع هذا، إضافة إلی أن ترتیب آثار الطهارة الواقعیة علیها متوقف علی أن یکون لسان دلیل أصالة الطهارة والحلیة لسان التنزیل لا لسان الجعل والاعتبار بدون النظر إلی الواقع أصلا.

-

ص:451


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول 160:2.

الثانی: أنه علی تقدیر تسلیم أن مفاد دلیل أصالة الطهارة الحکومة والتنزیل، ولکن بامکان صاحب الکفایة (قدس سره) أن یجیب عن هذا الاشکال، بأن موضوع هذا التنزیل لیس هو الطهارة الظاهریة لیقال بأنه کیف یمکن أن یتکفل جعل واحد التوسعة وموضوعها معاً فی وقت واحد بل نفس مشکوک الطهارة، فکأنه قال أن مشکوک الطهارة محکوم بأحکام الطاهر الواقعی بما هو طاهر، والطهارة الظاهریة منتزعة من هذا التنزیل وفی مرتبة متأخرة عنه لا أنها موضوع له(1) ، وفیه أن هذا التوجیه غریب، حیث لا شبهة فی أن قوله (علیه السلام) (کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر) ظاهر فی جعل النظافة والطهارة ظاهراً فی ظرف جهل المکلف بالواقع وعدم علمه به، وهذا یکشف عن أن التنزیل فی مقام الثبوت واللب یکون بلحاظ الحکم الظاهری، وأما حمله علی تنزیل مشکوک الطهارة بمنزلة الطاهر الواقعی واقعاً بلحاظ أحکامه المجعولة منها الشرطیة فلایمکن، لأنه من غیر المحتمل إرادته منه عرفاً إلا إذا کانت هناک قرینة واضحة علی ذلک، هذا إضافة إلی أن لازم ذلک کون مدلول دلیل الأصالة حکماً واقعیاً فلا یدل حینئذ علی الحکم الظاهری، ودعوی أنه منتزع من هذا التنزیل، مدفوعة بأن التنزیل إذا کان واقعیاً، فلا یصلح أن یکون منشأً لانتزاع حکم ظاهری لأنه بلا مبرر.

فالنتیجة، أنه لا بأس بالوجوه المذکورة لتبریر عدم الاجزاء فی الجملة.

والتحقیق أن لنا فی المسألة دعویین:

الاُولی: أن ما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) من التفسیر لأصالة الطهارة وأصالة الحل واستصحابهما غیر صحیح.

-

ص:452


1- (1) - المصدر المتقدم.

الثانیة: أن نتیجة ما ذکره (قدس سره) من التفسیر لهذه القواعد الثلاث لیست توسعة دائرة أدلة شرطیة الطهارة وجعلها الأعم من الطهارة الواقعیة الظاهریة.

أما الدعوی الاُولی، فلا شبهة فی أن الظاهر والمتفاهم عرفاً من مثل قوله (علیه السلام): «کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر»، هو جعل الطهارة الظاهریة التی هی من الاحکام الترخیصیة فی ظرف الجهل بالواقع وعدم العلم به، بقرینة أن المراد من الشیء فیه هو الشیء المشکوک طهارته ونجاسته واقعاً لا الشیء بعنوانه الأولی، لأن الطهارة المجعولة له طهارة واقعیة وهی لایمکن أن تکون مغیّاة بالعلم بالنجاسة، وإلا لزم اختصاص الأحکام الواقعیة بالعالم بها وهو خلاف الضرورة، فلذلک لابد أن یکون المراد من الشیء فیه الشیء المشکوک والطهارة المجعولة له طهارة ظاهریة لأنها مغیّاة بالعلم بالنجاسة، وقوله (علیه السلام): «حتی تعلم أنه قذر» وإن کان قیداً للحکم وغایة له، إلا أنه قرینة علی أن المراد من الشیء المأخوذ فی موضوع القضیة الشیء المشکوک فیه، وإلا استحال أن یکون قیداً وغایة لحکمه، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن المتفاهم العرفی من مثل هذا النص أنه فی مقام بیان ثبوت الطهارة للشیء المشکوک وحدوثها له، لا أنه فی مقام بیان بقائها وإستمرارها بعد الفراغ عن ثبوتها وحدوثها، لأن بقاء الحکم ببقاء موضوعه واستمراره باستمراره أمر قهری فلا یحتاج إلی مؤونة زائدة، ولهذا لا شبهة فی ظهور الحدیث فی ذلک کما هو الحال فی جمیع القضایا، سواءً کانت من القضایا الواقعیة أم الظاهریة، لأنها فی نفسها ظاهرة عرفاً فی ثبوت المحمول للموضوع، ولا یمکن حملها علی البقاء بعد الثبوت فإنه بحاجة إلی قرینة، وأما قوله (علیه السلام) فی الموثقة: «حتی تعلم أنّه قذر»، فهو لا یصلح أن یکون قرینة علی أنها فی مقام

ص:453

بیان بقاء الطهارة واستمرارها إلی زمان العلم بالقذارة بعد الفراغ عن أصل ثبوتها وحدوثها، لأن الظاهر منه أنه غایة للحکم المجعول فی القضیة، ویدل علی أنه حکم ظاهری، فلهذا یکون مغیّاً بالعلم بالقذارة ولا ظهور له فی أنه غایة لاستمراره لا لأصل ثبوته، والخلاصة أن المحتمل فی الموثقة معنیان:

الأول: أن المراد من الشیء فی الموثقة الشیء المشکوک والحکم الثابت له هو الحکم الظاهری وثبوته مغیّی بالعلم بالخلاف.

الثانی: أن المراد من الشیء فیها الشیء بعنوانه الأولی والحکم الثابت له حکم واقعی وهو مستمر ظاهراً إلی زمان العلم بالنجاسة، ومن الواضح أن الموثقة ظاهرة فی المعنی الأول ولایمکن حملها علی المعنی الثانی، إلا بقرینة ولا قرینة علی ذلک لا فی نفس الموثقة ولا من الخارج، فالنتیجة أن کل قضیة ظاهرة فی ثبوت المحمول للموضوع منها هذه الموثقة، ومن هنا یظهر حال دلیل أصالة الحل، فإن الکلام فیه بعینه هو الکلام فی دلیل أصالة الطهارة حرفاً بحرف فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وأما استصحاب الطهارة أو الحلیة فقد ذکرنا فی محله أن دلیل الاستصحاب لا یتکفل جعل الحکم الظاهری المماثل فی صورة المطابقة والمخالف فی صورة المخالفة، بل مفاده النهی عن نقض الیقین السابق بالشک فی مقام الوظیفة العملیة والجری العملی، فلیس مفاده کمفاد دلیل أصالة الطهارة، فإن مفادها جعل الطهارة الظاهریة ابتداءً وبالمطابقة، وأما مفاد دلیل الاستصحاب فهو النهی عن نقض الیقین بالحالة السابقة بالشک فیها ارشاداً إلی أن وظیفته العمل بالحالة السابقة وعدم جواز رفع الید عنها عملا، ولا اشعار فیه فضلا عن الدلالة علی جعل حکم ظاهری مماثل للحالة السابقة إن کانت حکماً ولحکمها إن کانت

ص:454

موضوعاً فی صورة المطابقة أو مخالف لها أو لحکمها فی صورة عدم المطابقة، فإذن ما ذکره صاحب الکفایة من أن استصحاب الطهارة أو الحلیة کأصالتهما، مبنی علی ما بنی علیه فی باب الاستصحاب من أن المجعول فیه الحکم الظاهری المماثل أو المخالف.

وعلی هذا فحال الاستصحاب حال الامارات علی القول بالطریقیة، فإن کان مطابقاً للواقع فهو وإلا فالواقع ظل ثابتاً فلا إجزاء، ولابد من الاتیان به فی الوقت أو خارجه.

وأما أصالة الطهارة أو الحلیة وإن کانت متکفلة للحکم الظاهری، إلا أنا ذکرنا حقیقة الحکم الظاهری فی محله موسعاً وملخصه:

أن الأحکام الظاهریة علی نوعین:

النوع الأول: الأحکام الظاهریة الالزامیة، وهی الأحکام الطریقیة الطولیة المجعولة بغرض الحفاظ علی الأحکام الواقعیة وملاکاتها الالزامیة من جهة اهتمام الشارع بتلک الأحکام حتی فی حال الجهل بها وعدم العلم ولا شأن لها غیر ذلک، ولهذا تسمّی بالأحکام الظاهریة التنجیزیة.

النوع الثانی: الأحکام الظاهریة الترخیصیة، والغرض من جعلها والداعی إلیه هو التسهیل علی عامة المکلفین فی حال الجهل بالواقع وعدم العلم به.

وقد ذکرنا فی محله أن هذه الأحکام الظاهریة أحکام عذریة ولا شأن لها غیر کونها عذراً للمکلف فی صورة مخالفتها للواقع، ولا تکون ناشئة عن الملاکات فی متعلقاتها لتقع المزاحمة بینها وبین ملاکات الأحکام الواقعیة، بل هی ناشئة عن المصلحة العامة والنوعیة المترتبة علی أصل جعلها وهی مصلحة التسهیل، ولا

ص:455

مزاحمة حینئذ بینها وبین الملاکات الشخصیة الواقعیة، وحیث أن المصلحة العامة النوعیة أهم عند الشارع من المصالح الشخصیة، فلذلک قدم الشارع تلک المصلحة العامة وجعل تلک الأحکام الظاهریة التعذیریة، وعلی هذا فلا مقتضی للاجزاء، لأن الواقع باق علی حاله بماله من الملاک، فإذا انکشف الخلاف وبان أنه لم یأت بالواقع ولا بما یتدارک به ملاکه، فلابد من الاتیان به سواءً کان فی الوقت أم خارجه، وعلی الجملة فالأحکام الظاهریة إن کانت الزامیة فهی ناشئة عن إهتمام الشارع بالتحفظ علی الملاکات الواقعیة حتی فی حال الشک والجهل بها، ولا ملاک لها غیر الحفاظ علی تلک الملاکات فی الواقع حتی فی هذه الحالة، وإن کانت ترخیصیة فهی ناشئة عن المصلحة العامة المترتبة علیها بدون أن تؤثر فی الواقع وملاکاته، وعلی هذا فإذا صلی فی ثوب طاهر بأصالة الطهارة ثم تبین أنه نجس، فمن الواضح أن صلاته هذه لا تجزی عن الصلاة الواجبة فی الواقع وهی الصلاة مع ثوب طاهر، لأن صلاته مع الثوب المذکور صلاة عذریة فلاتجزی عن الصلاة المأمور بها فی الواقع، لأنه لم یأت بها ولا بما یتدارک ملاکها، لفرض أن الصلاة العذریة لا تشتمل علی الملاک، وعلیه فإذا انکشف الخلاف، فإن کان فی الوقت وجبت إعادتها فیه، وإن کانت فی خارج الوقت وجب قضاؤها.

وأما الدعوی الثانویة، وهی أن هذه القواعد الثلاث حاکمة علی الأدلة الاجتهادیة التی تدل علی شرطیة الطهارة للصلاة وتجعل الشرط أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة.

فیرد علیها أولا، أن هذه الدعوی لو تمت فإنما تتم فی قاعدتی الطهارة والحلیة ولا تتم فی استصحابهما، لما عرفت من أنه لیس فی مورده حکم ظاهری مجعول

ص:456

مماثل للحالة السابقة أو لحکمها، فإذن لا موضوع للحکومة بالنسبة إلیه.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الحکم الظاهری مجعول فی مورده کما فی مورد قاعدتی الطهارة والحلیة، ولکن هذا الحکم الظاهری وهو الطهارة أو الحلیة الظاهریة فی مورد هذه القواعد الثلاث حکم ترخیصی تعذیری وغیر ناشیء عن ملاک فی متعلقه الذی یمکن أن یتدارک به ملاک الواقع ویفی به، بل هو ناشیء عن المصلحة العامة النوعیة المترتبة علیه، فإنها الغایة التی تدعو المولی إلی جعله بدون أن یؤثر فی الواقع، وحینئذ فإذا انکشف الخلاف وتبین أنه لم یأت بالواقع ولا بما یتدارک به ملاکه، فلا إجزاء لا إعادةً ولا قضاءً، فإذن لاتکون تلک القواعد حاکمة علی أدلة شرطیة الطهارة، ولاتدل علی أن الشرط أعم من الطهارة الواقعیة والطهارة الظاهریة لعدم توفر ملاک الشرطیة فیها، بل تدل علی جعل الطهارة والحلیة الظاهریة، علی أساس أنها حکم تعذیری، فیکون معذراً للمکلف علی تفویت ملاک الواقع إذا استمر ولم ینکشف خلافه، ومع التنزل عن ذلک وتسلیم الحکومة فی المقام فمع هذا لا اجزاء فیه، وذلک لأن الحکومة علی قسمین:

الاُولی: الحکومة الواقعیة.

الثانیة: الحکومة الظاهریة.

ونقصد بالحکومة الواقعیة توسعة دائرة موضوع الدلیل المحکوم واقعاً أو تضییقها کذلک، مثل: «الطواف فی البیت صلاة» «الفقاع خمر» وهکذا، ولهذا لا موضوع لانکشاف الخلاف فیها، ونقصد بالحکومة الظاهریة توسعة دائرة موضوع الدلیل المحکوم فی الظاهر لا فی الواقع، کحکومة الامارات المعتبرة علی الواقع فی إثباته ظاهراً وترتیب آثاره علیه بما أنه مؤداها، ولیس معنی حکومتها

ص:457

علیه توسعة دائرة الواقع واقعاً، لأنها بهذا المعنی مبنیة علی القول بالسببیة والموضوعیة علی تفصیل تقدم(1) ، وأما علی القول بالطریقیة والکاشفیة، فیستحیل أن تکون الامارات موجبة لتوسعة دائرة الواقع واقعاً وانقلابه، بل هو ظل ثابت بدون تأثیر الامارات فیه، فإذا قامت أمارة علی عدم وجوب السورة فی الصلاة مثلا وکانت فی الواقع واجبة ثم انکشف الخلاف وتبین أن المأمور به فی الواقع هو الصلاة مع السورة ولم یأت بها، وما أتی به فهو غیر واجب ولا مشتمل علی ملاک یمکن أن یتدارک به ملاک الواجب، فتجب علیه الاعادة، وأما قاعدة الطهارة، فهی وإن لم تکن ناظرة إلی الواقع، ولکن مدلولها جعل الطهارة الظاهریة للشیء المشکوک طهارته ونجاسته الواقعیتین، وقد مر أن الطهارة الظاهریة حیث أنها حکم ترخیصی تعذیری، فلا محالة یکون تنزیل الشیء المشکوک بمنزلة الطاهر فی قوله (علیه السلام): «کل شیء نظیف»، إنما هو بلحاظ حال الوظیفة العملیة والجری علی طبقها حتی تکون عذراً للمکلف فی هذه الحالة إذا أدی عمله فیها إلی تفویت ملاک الواقع، وعلی هذا فلا محالة تکون حکومة القاعدة علی أدلة شرطیة الطهارة حکومة ظاهریة عذریة فی مقام العمل، بمعنی أنها شرط عذری طالما یکون الواقع مجهولا، فإذا ارتفع الجهل عن الواقع وانکشف الخلاف، فلا عذر فی ترک الواقع حینئذ، وهذا معنی عدم إجزاء العمل بالقاعدة عن الواقع. نعم، لوکان مدلول دلیل القاعدة تنزیل الشی المشکوک منزلة الطاهر الواقعی واقعاً أی بلحاظ آثاره وأحکامه المجعولة فی الواقع منها الشرطیة، کان العمل بالقاعدة مجزیاً عن الواقع، باعتبار أن حکومتها علی أدلة الشرطیة حنیئذ تکون واقعیة وتوسع دائرة الشرط واقعاً، إلا أن مدلوله لیس

-

ص:458


1- (1) - فی المقام الأول من المرحلة الثالثة (اجزاء الأمر الظاهری عن الواقع).

کذلک، لأنه لا یدل علی هذا التنزیل وإنما یدل علی التنزیل الظاهری، باعتبار أنه فی مقام بیان الحکم الظاهری، فلوکان مفاده التنزیل الواقعی، فلایمکن أن یستفاد منه الحکم الظاهری.

فالنتیجة، أن حکومة القاعدة بما أنها ظاهریة فلا توجب انقلاب الواقع وهو محفوظ بما له من الملاک، فإذا انکشف الخلاف وجب الاتیان به سواءً أکان فی الوقت أم فی خارجه، فإذن لا موضوع للأجزاء، وبذلک یظهر أنه لا وجه لما ذهب إلیه صاحب الکفایة (قدس سره) من الاجزاء فی مورد هذه القواعد الثلاث ولعله مبنی علی الخلط بین حکومة تلک القواعد علی أدلة الشرطیة ظاهراً وحکومتها علیها واقعاً وتخیل أن حکومتها علیها واقعیة، ومن هنا یظهر أنه لا فرق بین موارد الامارات المعتبرة والاُصول العملیة، فعدم الاجزاء فی کلا الموردین یکون علی القاعدة.

الأقوال فی الاجزاء

وأما الکلام فی المقام الثالث، فیقع فی بیان الأقوال فی المسألة وهی کثیرة:

1 - الاجزاء مطلقاً.

2 - عدم الاجزاء کذلک.

3 - التفصیل بین الامارات والاُصول العملیة.

فعلی الأول لا یجزی الاتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری عن الواقع وعلی الثانی یجزی.

4 - التفصیل بین ما إذا کانت حجیة الامارات بنحو السببیة والموضوعیة، وما إذا کانت بنحو الطریقیة والکاشفیة. فعلی الأول یجزی وعلی الثانی لا یجزی.

ص:459

5 - التفصیل بین ما إذا کان انکشاف الخلاف بالعلم الوجدانی وما إذا کان

بالعلم التعبدی. فعلی الأول لا یجزی وعلی الثانی یجزی.

6 - التفصیل بین ما إذا قامت الامارة علی الحکم وما إذا قامت علی الموضوع، فیجزی علی الثانی دون الأول.

هذه هی الأقوال فی المسألة.

أما القول الأول والثانی فلا أصل لهما کما یظهر وجه ذلک من بیان الأقوال الآتیة.

وأما القول الثالث، فقد ظهر عما مرّ أنه لا أصل له.

وأما القول الرابع، فقد تقدم سابقاً أن القول بالسببیة والموضوعیة لا یلازم القول بالاجزاء مطلقاً.

وأما القول السادس وهو التفصیل بین الامارات فی الشبهات الحکمیة والامارات فی الشبهات الموضوعیة، فهو مبنی علی القول بکون حجیة الامارات من باب السببیة والموضوعیة، فإنها علی هذا القول إن کانت فی الشبهات الحکمیة فتوجب انقلاب الواقع فیها، وإن کانت فی الشبهات الموضوعیة فلا تأثیر لها فیها، ولکن قد تقدم بطلان هذا القول بتمام اشکاله وصیغه، فإذن لا وجه لهذا التفصیل.

وأما القول الخامس، وهو التفصیل بین ما إذا کان انکشاف الخلاف بالعلم الوجدانی وما إذا کان بالعلم التعبدی، فیقع الکلام فی الثانی فی مقامین:

الأول: أن یکون انکشاف الخلاف بالامارة المعتبرة.

الثانی: أن یکون بالأصل العملی.

ص:460

أما الکلام فی المقام الأول، فقد استدل علی الاجزاء بتقریب، أن انکشاف الخلاف إذا کان بقیام حجة معتبرة علی الخلاف لا بالعلم الوجدانی لم یعلم المکلف ببطلان الحجة الاُولی ومخالفتها للواقع، حیث إنه لا مزیة للحجة اللاحقة علی الحجة السابقة من هذه الناحیة، فکما یحتمل أن تکون الحجة اللاحقة مطابقة للواقع دون الاُولی فکذلک یحتمل العکس، غایة الأمر أن وظیفة المکلف فعلا هی العمل علی طبق الحجة اللاحقة دون الحجة الاُولی بدون العلم بمطابقتها للواقع، وأما الاُولی فهی وإن لم تکن حجة فعلا ولکنها کانت حجة فی ظرفها وقبل وصول الثانیة صغری وکبری، وإنما لا تکون حجة بعد وصولها کذلک، ومن الواضح أنها بعد اتصافها بالحجیة بالوصول لا توجب انقلاب الواقع وجعل الحجة غیر حجة فی ظرفها، لأن اتصاف الامارة بالحجیة متقوم بالعلم به والوصول فی افق الذهن ولا یتصور فیه کشف الخلاف، إذ لا واقع موضوعی له غیر تقومه بالعلم والوصول فی افق النفس، فطالما العلم والوصول موجوداً فیه فالحجیة موجودة، وإذا زال، زالت الحجیة من حین زواله، وعلی هذا فحجیة الامارة السابقة إن زالت بالعلم الوجدانی بخلافها فلا مقتضی للاجزاء، لأن الأعمال السابقة المستندة إلیها حینئذ تکون مخالفة للواقع جزماً، وإن زالت بالعلم التعبدی کالامارة المعتبرة فلا علم بعدم مطابقتها للواقع، فإن سقوط الامارة السابقة عن الحجیة إنما هو فی ظرف وصول الامارة اللاحقة صغری وکبری، وأما فی ظرفها فهی کانت حجة والأعمال السابقة مستند إلیها والعلم الوجدانی بمخالفتها للواقع غیر موجود، ونتیجة ذلک هی أن کشف الخلاف إن کان فی الوقت وجب الاعادة فیه لمکان قاعدة الاشتغال، وإن کانت فی خارج الوقت لم یجب القضاء لعدم احراز صدق فوت الواجب فی الوقت وإنما هو احتمال الفوت.

ص:461

ولکن لا یمکن المساعدة علیه، وذلک لأن اتصاف الامارة بالحجة فی ظرف العمل وإن کان ثابتاً ولا یزول هذا الاتصاف إلا بوصول الحجة اللاحقة، إلا أن الامارة اللاحقة تکشف عن ثبوت مدلولها فی الشریعة المقدسة من أول الأمر وتکون حجة علیه بالمطابقة وعلی نفی مدلول الحجة السابقة بالالتزام، وأما الحجة السابقة فهی ساقطة عن الاعتبار ولا تکون حجة فی إثبات مدلولها فعلا، وأما فی ظرفها فهی وإن کانت حجة وتحکی عن ثبوت مدلولها فی الشریعة المقدسة، إلا أنها معارضة من هذه الناحیة مع الحجة اللاحقة، وحیث إن اللاحقة أقوی من السابقة، إما من ناحیة إمکان الجمع العرفی بینهما أو الترجیح، فلابد من تقدیمها علیها، وعلیه فإذا فرضنا قیام إمارة معتبرة علی عدم وجوب السورة فی الصلاة، وإن الواجب هو الصلاة بدونها ثم ظهر له حجة اخری تدل علی وجوب السورة فیها أقوی من الاُولی، فلا تکون حجة فی مقابل الاُخری، وحینئذ فإن کان ذلک فی الوقت وجبت الاعادة وإن کان فی خارج الوقت وجب القضاء، باعتبار أن اتیان المکلف بالصلاة بدون السورة فی وقتها وإن کانت مستنداً إلی الحجة حین الاتیان بها، إلا أنه بعد خروج الوقت انکشف أنها لیست فرداً للصلاة المأمور بها فی الشریعة المقدسة، فإذا لم تکن فرداً لها ولم تنطبق الصلاة المأمور بها علیها فقد فاتت عنه ظاهراً، فلذلک یجب قضاؤها خارج الوقت کذلک، ومن هذا القبیل ما إذا قلد مجتهداً یری عدم وجوب الجلسة الاستراحة فی الصلاة ثم عدل عنه إلی مجتهد آخر صار أعلم منه وهو یری وجوبها فی الصلاة، ففتوی الأول حجة طالما المکلف لم یعدل عنه، فإذا عدل إلی الثانی سقطت عن الحجیة وتصبح فتوی الثانی حجة، وتدل علی أن الواجب فی الشریعة المقدسة هو الصلاة مع الجلسة الاستراحة بالمطابقة وعلی نفی وجوبها بدونها بالالتزام، وفتوی الأول وإن کانت حجة فی ظرفها إلا أنها لاتصلح أن

ص:462

تعارض فتوی الثانی بقاءً فتسقط عن الحجة، وعلی هذا فإن کان العدول فی الوقت فعلیه الاعادة، وإن کان فی خارج الوقت فعلیه القضاء، لأن الصلاة المأتی بها فی وقتها وهی الصلاة بدون جلسة الاستراحة وإن کانت مع الحجة إلا أنه فی خارج الوقت، انکشف أنها لیست فرداً للصلاة المأمور بها فی الشریعة المقدسة ظاهراً، فإذا فاتت عنه الصلاة فی الوقت، فیجب علیه قضاؤها خارج الوقت وهکذا، وللمسألة أمثلة وفروع کثیرة فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة، لأنها مسألة سیالة لا تختص بباب دون باب.

وأما علی الثانی، وهو انکشاف الخلاف بالأصل العملی، ففیه صور فی الشبهة الموضوعیة والشبهة الحکمیة.

الصورة الاُولی: ما إذا کان انکشاف الخلاف بالاستصحاب فی الشبهة الموضوعیة، وذلک کمن صلی فشک فی أثناء صلاته فی الاتیان بجزء منها بعد التجاوز عن محله، وبنی علی الاتیان به تطبیقاً لقاعدة التجاوز، ثم ظهر أن المورد لیس من موارد التمسک بالقاعدة لعدم توفر شروطها فیه، وحینئذ فلا مانع من استصحاب عدم الاتیان بالجزء المشکوک فیه، ویترتب علیه وجوب الاعادة إن کان ذلک فی الوقت، بل وجوب الاعادة فی الوقت لا یتوقف علی الاستصحاب، فإنه تکفی فیه قاعدة الاشتغال، وأما إن کان ذلک فی خارج الوقت، فهل یترتب علی هذا الاستصحاب وجوب القضاء؟ فیه قولان: فإن قلنا بأن موضوع وجوب القضاء عدم الاتیان بالصلاة فی الوقت، فهو یثبت بالاستصحاب فیجب القضاء، وإن قلنا بأن موضوعه الفوت کما هو الظاهر من الدلیل، فلا یمکن إثباته بالاستصحاب إلا علی القول بالأصل المثبت.

ودعوی، أن لازم ذلک عدم وجوب القضاء حتی فیما إذا انکشف الخلاف فی

ص:463

الوقت والمکلف ترک الاعادة فیه عامداً عالماً، لأنه شاک فی تحقق موضوعه وهو فوت الفریضة حینئذ أیضاً، لفرض أنه لم یثبت بالاستصحاب، وعلیه فیشک فی توجه الأمر بالقضاء إلیه فتجری البراءة عنه.

مدفوعة بأن وجوب القضاء فی هذه الصورة لا یتوقف علی اثبات فوت الواجب الواقعی لکی یقال أنه غیر ثابت، بل یکفی فی وجوب القضاء فیها فوت الواجب الظاهری الذی ثبت وجوبه بالاستصحاب أو قاعدة الاشتغال، والمفروض أنه فات عن المکلف فی الوقت فیجب علیه قضاؤه خارج الوقت، غایة الأمر أن وجوب قضائه عندئذ أیضاً ظاهری لأن ملاکه التدارک، فإن کان المتدارک فریضة واقعیة، فوجوب قضائها أیضاً واقعیة، وإن کان فریضة ظاهریة فوجوب قضائها أیضاً کذلک، ومن هنا یظهر الفرق بین انکشاف الخلاف فی الوقت وانکشاف الخلاف فی خارج الوقت، فإنه علی الثانی لم تفت عنه الفریضة الظاهریة فی الوقت لعدم وجوبها علیه، وأما فوت الفریضة الواقعیة فهو مشکوک وغیر محرز، ومن هذا القبیل ما إذا شک فی صحة جزء فی الصلاة بعد الفراغ منه وبنی علی صحته تطبیقاً لقاعدة الفراغ ثم انکشف الخلاف وظهر أن شروط القاعدة غیر متوفرة فیه، وعندئذ فلا مانع من استصحاب عدم صحته بنحو الاستصحاب فی العدم الأزلی، ویترتب علیه وجوب الاعادة إن کان ذلک فی الوقت، بل یکفی فیه قاعدة الاشتغال أیضاً، ولکن لایترتب علیه وجوب القضاء إن کان فی خارج الوقت بناءً علی ما هو الصحیح من أن موضوع وجوب القضاء فوت الفریضة، ولا یمکن احرازه بالاستصحاب إلا علی القول بالأصل المثبت، نعم لو کان القضاء بالأمر الأول أو کان موضوعه عدم الاتیان بالفریضة فی الوقت ثبت وجوبه.

ص:464

الصورة الثانیة: ما إذا انکشف الخلاف فی شبهة حکمیة، کما إذا بنی فیما إذا سافر شخص أربعة فراسخ ولم یرجع فی نفس الیوم وبقی إلی ما دون العشرة علی وجوب القصر علیه، ثم حصل له الشک فی وجوبه من جهة الشک فی صحة مدرکه، وحینئذ فیشک فی أن الواجب علیه فی المسألة هل هو القصر أو التمام، فلا مانع من التمسک باستصحاب بقاء وجوب التمام علیه، وحینئذ فإن کان ذلک فی الوقت وجب علیه الاتیان بالظهر تماماً فیه، وإن کان فی خارج الوقت، فإن کان موضوع وجوب القضاء عدم الاتیان بالواجب أو أنه بالأمر الأول وجب القضاء، وإن کان موضوعه الفوت، فلایمکن إثباته بالاستصحاب الاّ علی النحو المثبت.

الصورة الثالثة: ما إذا کان انکشاف الخلاف بأصالة الاشتغال، والأصالة تارة تکون علی أساس العلم الاجمالی واُخری علی أساس أن المرجع فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین قاعدة الاشتغال دون البرائة.

أما الأول، فکما إذا تعلق رأی المکلف اجتهاداً أو تقلیداً بوجوب الصلاة تماماً علی کثیر السفر وإن لم یکن السفر مقدمة لشغله ثم تردد فیه، فحصل له العلم الاجمالی إما بوجوب التمام علیه أو القصر أو بنی علی وجوب التمام علی کل من یکون شغله السفر فی السفرة الاُولی أیضاً بعد اقامة عشرة أیام فی بلد المکاری ثم تردد فیه، فحصل له العلم الاجمالی إما بوجوب التمام أو القصر أو علی وجوب التمام علی من یکون سفره بین وطنه ومقر شغله لا یقل عن عشرة أیام فی کل شهر ثم تردد فی ذلک، فحصل له العلم الاجمالی إما بوجوب القصر أو التمام وهکذا، ففی کل هذه الموارد فإن کان انکشاف الخلاف فی الوقت وقبل الاتیان بوظیفته وهی الصلاة تماماً، فلا اشکال فی وجوب الاحتیاط بالجمع بین

ص:465

القصر والتمام ولا کلام فیه، وإنما الکلام فیما إذا کان انکشاف الخلاف فی الوقت بعد الاتیان بالصلاة تماماً، وحینئذ فهل یکون العلم الاجمالی مؤثراً وأن المرجع فی الطرف الباقی أصالة الاشتغال أو أنه لایکون مؤثراً والمرجع فیه أصالة البراءة، الظاهر أنه غیر مؤثر، لأنه إنما حصل فی وقت کان أحد طرفیه خارجاً عن محل الابتلاء، وعلیه فالرکن الأول من أرکان منجزیة العلم الاجمالی وهو تعلقه بالتکلیف الفعلی المولوی علی کل تقدیر مفقود فیه، فلذلک لا یکون منجزاً، ومن هنا یظهر حال ما إذا کان انکشاف الخلاف بعد خروج الوقت، فإنه إن کان بعد الاتیان بما هو وظیفته فی داخل الوقت، فالمرجع فی خارج الوقت أصالة البراءة عن وجوب القضاء، وإن کان قبل الاتیان به فی الوقت وجب علیه القضاء فی خارج الوقت، وهل یجب علیه الاحتیاط فیه بالجمع بین التمام والقصر؟

والجواب نعم، باعتبار أنه یعلم من الآن أن الفائت فی الوقت إما الصلاة قصراً أو الصلاة تماماً، فلهذا یجب علیه الاحتیاط فی خارج الوقت أیضاً.

وأما علی الثانی، فکما إذا تعلق رأیه بعدم وجوب السورة فی الصلاة ثم حصل له الشک وتردد فی وجوبها فی الوقت، ففی مثل ذلک یجب الاتیان بالصلاة مع السورة بمقتضی قاعدة الاشتغال، سواء أتی بالصلاة بدون السورة أم لا، وإن کان انکشاف الخلاف فی خارج الوقت، فإن کان بعد الاتیان بما هو وظیفته فی الوقت لم یجب القضاء وإلا وجب، هذا بناء علی أن المرجع فی المسألة أصالة الاشتغال دون البراءة، وأما إذا قلنا بأن المرجع فیها أصالة البراءة کما هو الصحیح، فالمسألة خارجة عن محل الکلام.

ص:466

تنبیهات:
الأول: کلام المحقق الخراسانی

الأول: أن المحقق الخراسانی (قدس سره) قد ذکر أن محل النزاع فی المسألة إنما هو فی الامارات التی قائمة علی متعلقات الأحکام الشرعیة دون الامارت التی قائمة علی نفس الأحکام الشرعیة(1).

أما الاُولی کما إذا قامت أمارة علی عدم جزئیة شیء للصلاة أو شرطیة آخر لها وکان فی الواقع جزءاً أو شرطاً، مثال ذلک ما إذا کان مقتضی اطلاق الدلیل عدم وجوب السورة فی الصلاة أو بنی علی عدم وجوبها بدلیل خاص أو أصل عملی وکان فی الواقع جزءاً لها، ففی مثل ذلک إن قلنا بأن حجیة الامارات والاُصول العملیة من باب السببیة والموضوعیة، فلا مناص من الالتزام بالاجزاء، وإن قلنا بأنها من باب الطریقیة فمقتضی القاعدة عدم الاجزاء لا فی الوقت ولا فی خارج الوقت.

وأما الثانیة کما إذا قامت أمارة علی وجوب صلاة الجمعة فی یومها وکان الواجب فی الواقع هو صلاة الظهر، فإنها خارجة عن محل الکلام ولا تدل علی الاجزاء حتی علی القول بالسببیة والموضوعیة، بدعوی أن قیامها علی وجوب صلاة الجمعة وإن أحدث مصلحة فی مؤداها علی القول بالسببیة إلا أن تلک المصلحة أجنبیة عن مصلحة الواجب الواقعی وهو صلاة الظهر فی المثال، ولا تکون من سنخها حتی یمکن استیفائها بها، لأن وجوب صلاة الجمعة مباین لوجوب صلاة الظهر ملاکاً ومتعلقاً، وعلی هذا فبطبیعة الحال لا یکون الاتیان بصلاة الجمعة فی یومها مجزیاً عن صلاة الظهر، لأنها مجزیة عن نفسها لا عن غیرها.

ص:467


1- (1) - کفایة الاُصول: 87.

والخلاصة: أن وجوب کل من الصلاتین وجوب واقعی ناشیء عن ملاک خاص لا صلة لملاک إحداهما بملاک الاُخری، غایة الأمر أن وجوب صلاة الظهر وجوب واقعی أولی ووجوب صلاة الجمعة وجوب واقعی ثانوی وهو مؤدی الامارة، نعم لا یمکن الالتزام بتعدد الواجب فی خصوص باب الصلاة من جهة دلیل خارجی علی أن الواجب فی کل یوم خمسة صلوات لا أکثر، فإذن لابد فی باب الصلاة من الالتزام بالانقلاب والاجزاء علی القول بالسببیة من جهة قرینة خارجیة، وأما فی غیر باب الصلاة فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب وعدم الاجزاء، هذا.

وقد أورد علی هذا التفصیل السید الاُستاذ (قدس سره) بما حاصله، أنه لا فرق بین القسمین من الامارات علی کلا القولین فی المسألة هما القول بالسببیة والقول بالطریقیة(1) ، وقد أفاد فی وجه ذلک أن لسان الامارات لسان الحکایة عن الواقع وحصرها فی مؤداها، فإنها تدل علی ثبوت الواقع بالمطابقة وعلی نفیه عن غیر مؤداها بالالتزام، فالامارة القائمة علی وجوب صلاة الجمعة فی یومها تدل علی وجوبها بالمطابقة وعلی نفی وجوب صلاة الظهر بالالتزام، وعلی الجملة فالواقع واحد، فإذا قامت امارة علیه دلت علی ثبوته مطابقة وعلی نفی غیره التزاماً.

تحصل أنه لا وجه لما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) من التفصیل فی المقام.

الثانی: إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الواقعی و الأمر الاضطراری عنه

الثانی: أن محل النزاع فی المسألة إنما هو فی إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الواقعی والأمر الظاهری عنه علی تفصیل تقدم.

ص:468


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه 281:2.

وأما إذا لم یکن فی المسألة أمر اضطراری ولا أمر ظاهری وإنما هو مجرد الاعتقاد بثبوت الواقع والقطع به فهو خارج عن محل النزاع، ضرورة أن القطع لا یغیر الواقع ولا یوجب انقلابه ولا یجعل مالیس بواقع واقعاً، لأنه طریق إلیه وکاشف عنه علی ما هو علیه فی الواقع، والکاشف یستحیل أن یؤثر فی المکشوف.

الثالث: الاجزاء بالنسبة إلی المجتهد و المقلد

الثالث: أن مقتضی القاعدة بناء علی ما هو الصحیح من أن حجیة الامارات من باب الطریقیة والکاشفیة وإن کان هو عدم الاجزاء فی صورة المخالفة، ولکن مع هذا یقع الکلام فی مقامین:

المقام الأول فی المجتهد.

المقام الثانی فی المقلد.

أما الکلام فی المقام الأول، فإذا ظهر عند المجتهد أنه أخطأ فی مدرک فتواه مثلا بعدم وجوب السورة فی الصلاة، کما إذا کان بانیاً علی عدم وجوبها فیها من جهة أصل لفظی کالاطلاق أو العموم أو أصل عملی کأصالة البراءة أو استحصاب عدم وجوبها ثم تبیّن خطأه فی ذلک وبنی علی وجوبها، فهل مقتضی القاعدة وجوب إعادة الصلوات التی صلاها بدون السورة؟

والجواب: نعم، أما فی الوقت فلا اشکال فی وجوبها، وأما فی خارج الوقت فمقتضی القاعدة وجوبها أیضاً، لأنه وإن کان شاکاً فی فوتها واقعاً إلا أنه غیر شاک فی فوتها ظاهراً وهو موضوع لوجوب قضائها فی خارج الوقت، غایة الأمر ظاهراً لا واقعاً، لأن وجوب الفائت إن کان ظاهریاً فوجوب قضائه أیضاً ظاهری، وإن کان واقعیاً فوجوب قضائه أیضاً واقعی، وکذلک الحال بالنسبة إلی مقلدیه.

ص:469

وأما الکلام فی المقام الثانی، فإن کان ظهور الخطأ من جهة عدول المکلف من مجتهد إلی مجتهد آخر، إما علی أساس أن المجتهد الثانی أصبح أعلم من الأول أو أنه کان أعلم منه من الابتداء ولکنه لایدری بالحال، أو ظهر عنده أن الأول غیر واجد لشروط التقلید بسبب أو آخر أو غیر ذلک، فهنا صور:

الاُولی: ما إذا کان عدوله من مجتهد إلی مجتهد آخر من جهة أنه أصبح أعلم منه بقاءً.

الثانیة: ما إذا کان ذلک من جهة أنه کان أعلم منه من الأول ولکنه لایعلم بالحال.

الثالثة: ما إذا کان ذلک من جهة أن الأول کان یفقد بعض شروط التقلید بقاء.

الرابعة: ما إذا کان ذلک من جهة أنه کان فاقداً لشروط التقلید من الأول وهو لا یعلم بالحال.

الخامسة: ما إذا کان ذلک من جهة موت المجتهد الأول.

أما الصورة الاُولی، فإن کان ذلک فی الوقت وجبت الاعادة بمقتضی قاعدة الاشتغال، وأما إن کان فی خارج الوقت فیجب علیه القضاء، فإن علمه بفتوی المجتهد الأول وإن کان عملا بالحجة فی ظرفه، ضرورة أن الشیء لا ینقلب عما کان علیه، إلا أنها سقطت عن الحجیة والکشف بوصول فتوی الثانی صغری وکبری، وهی حجة من الآن علی اثبات مدلولها فی تمام قطاعاته الزمنیة الطولیة إلی زمن الشرع، وحینئذ ففوت الواقع واقعاً فی الوقت وإن کان غیر محرز، إلا أن فوته ظاهراً فیه محرز بنفس وصول حجیة هذه الفتوی، وحیث أنها أقوی من الاُولی فعلا وتتقدم علیها، فلا تکون الاُولی حجة فی مقابلها وکاشفة عن ثبوت

ص:470

مدلولها کذلک.

وأما الصورة الثانیة: فتجب علیه الاعادة والقضاء، علی أساس أن أعماله السابقة کانت علی خلاف الحجة فی الواقع حتی فی ظرفها وهی فتوی الأعلم.

وأما الصورة الثالثة: وهی ما إذا کان الرجوع إلی الثانی من جهة فقد الأول بعض شروط التقلید بقاءً، فهل فی مثل ذلک إذا کانت فتوی المجتهد الثانی مخالفة لفتوی المجتهد الأول وجوب الاعادة فی خارج الوقت؟

والجواب: الظاهر عدم وجوبها، وذلک لأن فتوی الثانی لم تکشف عن بطلان الأعمال السابقة لا وافعاً ولا ظاهراً.

أما الأول، فهو واضح.

وأما الثانی، فلأنه منوط بأن تکون فتوی المجتهد الثانی أقوی من فتوی المجتهد الأول وتتقدم علیها فی مقام الکشف والمعارضة، والمفروض أنها لیست کذلک لولم یکن الأمر بالعکس، نعم أنها فعلا قد سقطت عن الحجیة ولا تکون مؤمنة، وأما فی ظرف العمل بها فهی کانت حجة ومؤمنة وکاشفة، ولیس کشف فتوی الثانی أقوی من کشفها.

وأما الصورة الرابعة: وهی ما إذا کان المجتهد غیر واجد لشروط التقلید من الابتداء بسبب أو آخر، فالظاهر بطلان الأعمال السابقة التی تکون مخالفة لفتوی المجتهد الثانی، باعتبار أنها مخالفة للحجّة من الأول ولم تکن مستندة إلیها واقعاً فی ظرفها، ومقتضی القاعدة حینئذ وجوب إعادتها ظاهراً.

وأما الصورة الخامسة: وهی ما إذا مات المجتهد الأول ورجع إلی المجتهد الحی، فهل تجب إعادة الأعمال الماضیة التی کانت مطابقة لفتوی المیت

ص:471

ومخافة لفتوی الحی، الظاهر عدم وجوب الاعادة، لأن فتوی المیت وإن سقطت من الحجیة فعلا إلا أنها کانت حجّة فی ظرف العمل بها، وفتوی الحی وإن کانت حجة فعلا إلا أن دلالتها علی ثبوت مدلولها فی تمام فتراته الزمنیة الطولیة إلی زمن الشرع تصادم مع فتوی المیت فی ظرف حجیتها ودلالتها علی ثبوت مدلولها کذلک، ولا ترجیح فی البین، وعلی هذا فلا تدل فتوی الحی علی بطلان الأعمال السابقة لا واقعاً ولا ظاهراً، أما الأول فهو واضح، وأما الثانی فلأنه منوط بتقدیم فتوی المجتهد الحی علی فتوی المجتهد المیت فی ظرف حجیتها ولا مبرر لذلک، حیث لا یکون کشف فتوی الحی عن الواقع أقوی من کشف فتوی المیت عنه فی ظرف اعتبارها، وحینئذ فلا تجب إعادة الأعمال السابقة فی خارج الوقت لا واقعاً ولا ظاهراً.

هذا کله بحسب مقتضی القاعدة الأولیة فی المسألة.

وأما بحسب مقتضی القاعدة الثانویة فی باب الصلاة فحسب، فلا تجب الاعادة لا فی الوقت ولا فی خارجه إذا کان الاخلال بغیر الأرکان من الاجزاء والشروط بمقتضی حدیث لا تعاد(1) ، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الاخلال بالنسیان أو الجهل.

وعلی الثانی لا فرق بین أن یکون الجهل مرکباً أو بسیطاً، نعم إذا کان بسیطاً وکان مقصراً فلا تکون مشمولا لاطلاق الحدیث.

وبکلمة إننا قد ذکرنا موسعاً فی بحث الفقه أن حدیث لا تعاد لا یختص بالناسی ویعمّ الجاهل بقسمیة المرکب والبسیط، غایة الأمر أنه إذا کان بسیطاً

ص:472


1- (1) - الوسائل 91:6، باب 29 من أبواب القراءة فی الصلاة، ح 5.

فشمول اطلاق الحدیث له منوط بأن لا یکون مقصراً وإلا فلا یکون مشمولا له کالعالم العامد، وأما الجاهل المرکب فهو مشمول لاطلاقه وإن کان مقصراً، وتمام الکلام فی ذلک فی محله.

فالنتیجة، أن الاخلال فی باب الصلاة بالأجزاء أو الشروط غیر الرکنیة إذا کان بالنسیان أو الجهل المرکب وإن کان مقصراً أو البسیط، شریطة أن لا یکون مقصراً لا یوجب الاعادة، وأما إذا کان الاخلال بالأجزاء أو الشروط الرکنیة فهو یوجب الاعادة، وکذلک إذا کان الاخلال بالتکبیرة، فإنها وإن لم تکن مذکورة فی حدیث لا تعاد إلا أنها رکن بمقتضی النصوص الخاصة.

ومن هنا یظهر أن وجوب الاعادة أو القضاء لم یثبت إلا فیما إذا کان الاختلاف بین المجتهدین فی الاجزاء أو الشرائط الرکنیة، هذا کله فی باب العبادات.

وأما فی باب المعاملات فحیث أن الاختلاف بین الفقهاء والمجتهدین فی ذلک الباب قلیل فلا تظهر الثمرة إلا نادراً، باعتبار أنه لا تعتبر فی صحة المعاملات المالیة ونفوذها صیغة خاصة ولغة مخصوصة، بل لا یعتبر فیها اللفظ فضلا عن کونه بصیغة خاصة وتکفی فیها المعاطاة، وأما فی باب النکاح فاعتبار لفظ خاص کالعربیة أو صیغة مخصوصة فهو المعروف والمشهور عند الفقهاء، وعلی هذا فإذا أفتی فقیه بصحة النکاح بالمعاطاة أو بالفارسیة وعقد علی امرأة بالفارسیة، وحینئذ فإذا ظهر له أنه أخطأ فی ذلک وبنی علی اعتبار العربیة فی الصیغة وعدم کفایة الفارسیة، فعلیه أن یجدد العقد علیها بالصیغة العربیة، وکذلک إذا عدل مقلده منه إلی غیره بسبب أو آخر وکان فتوی غیره باعتبار العربیة فی صیغة عقد النکاح وعدم کفایة المعاطاة ولا الفارسیة، فإن علیه أن یجدد العقد علی امرأته بالعربیة، هذا إذا کان الموضوع باقیاً وإلا فلا شیء علیه هذا من ناحیة.

ص:473

ومن ناحیة اخری إذا أفتی فقیه بجواز الذبح بالاستیل، فإذا ذبح أحد شاة به اعتماداً علی فتواه ثم عدل عنه إلی مجتهد آخر یری عدم جواز الذبح به واعتبر أن یکون بالحدید، فإن کانت الذبیحة باقیة وجب علیه الاجتناب عنها، وإن لم تکن باقیة بأن أکلها أو أکلها غیره فلا شیء علیه لا تکلیفاً ولا وضعاً، هذه نبذة مختصرة حول الأحکام المترتبة علی اختلاف المجتهدین فی الفتوی فی بابی العبادات والمعاملات، وتفصیل الکلام فی ذلک فی باب الاجتهاد والتقلید.

نتائج البحث

نتائج هذا البحث... نتائج البحث عدة نقاط:

الاُولی: أن الأقوال فی تفسیر حجیة الامارات من باب الطریقیة والکاشفیة أربعة وقد تقدم نقطة الاشتراک بین هذه الأقوال ونقطة الامتیاز بینها وما یترتب علیها من الآثار.

الثانیة: أن الأقوال الرئیسیة فی تفسیر حجیة الامارات من باب السببیة والموضوعیة ثلاثة، وتقدم ما هو الفرق بین هذه الأقوال وما هو الممکن منها وما هو المستحیل وما یترتب علیها من الآثار فلاحظ.

الثالثة: أن هناک فروضاً اخری للقول بالتسبیب:

الفرض الأول: الالتزام بوجود مصلحة فی المؤدی، وهذه المصلحة إن کانت مسانخة لمصلحة الواقع، فحینئذ إن کانت أقوی منها إنقلب الواقع من الواقع الأولی إلی الواقع الثانوی وهو مؤدی الامارة، ولازم هذا القول التصویب والاجزاء، وإن کانت مساویة لها انقلب الواجب إلی الجامع بین الواقع والمؤدی، فیکون الواجب أحدهما، ولازم هذا أیضاً التصویب والاجزاء، وأما إذا لم تکن مصلحة المؤدی مسانخة لمصلحة الواقع ومباینة لها، فعندئذ لاتصویب ولا إجزاء، ولکن هذا الفرض لایمکن فی باب الصلاة لاستلزام ذلک کون الواجب

ص:474

أکثر من خمس صلوات فی الیوم وهو لایمکن، وأما فی سائر الأبواب فلامانع من هذا الفرض.

الفرض الثانی: الالتزام بوجود مصلحة فی نفس جعل الحکم الظاهری وینتهی مفعولها بانتهاء الجعل، وهذا الفرض لایستلزم التصویب ولا الاجزاء.

الفرض الثالث: الالتزام بوجود مصلحة فی مؤدی الامارة المخالفة للواقع بما هو مؤدی الامارة المخالفة، وذکر هذا الفرض المحقق الأصبهانی (قدس سره) وفیه نظر وقد تقدم تفصیله.

الرابعة: أن المحقق الخراسانی (قدس سره) قد فصل فی الاُصول العملیة بین ما إذا کان مفادها جعل الحکم الظاهری بلسان احراز الواقع والنظر إلیه، وما إذا کان مفادها جعل الحکم الظاهری بلسان جعل الحکم المماثل للواقع ابتداءً من دون نظر إلی الواقع، فعلی الأول لا یجزی عن الواقع وعلی الثانی یجزی عنه کأصالة الطهارة وأصالة الحلیة واستصحابهما، فإنها توسع دائرة الشرط وتجعله الأعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة والحلیة الواقعیة والظاهریة، فدلیل الأصالة حاکم علی دلیل الشرط وینقح صغری له ویجعله الأعم من الشرط الواقعی والشرط الظاهری، غایة الأمر أن الحکومة إن کانت واقعیة فتوسع دائرة الواقع واقعاً، وإن کانت ظاهریة فتوسع دائرة الشرط ظاهراً.

الخامسة: قد علق المحقق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهما) علی ماذکره صاحب الکفایة (قدس سره) بوجوه:

الأول: أن الحکومة عنده (قدس سره) منحصرة فی التفسیر اللفظی وبکلمة یعنی، ومن الواضح أن لسان دلیل أصالة الطهارة وأصالة الحلیة واستصحابهما لیس لسان التفسیر والنظر فإذن لا حکومة، وقد وجه بعض المحققین (قدس سره) بأن مراده من

ص:475

الحکومة فی المقام الورود واثبات موضوع جدید للشرطیة وهو الطهارة الظاهریة أو الحلیة الظاهریة، وهذا التوجیه غیر بعید کما تقدم.

الثانی: أن هذه الحکومة، حکومة ظاهریة لا واقعیة ومنوطة بجهل المکلف بالواقع وعدم علمه، فإذا ارتفع الجهل وأصبح عالماً بالواقع انکشف أنه لم یعمل به، فإذن یجب علیه العمل به، وهذا معنی عدم إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی، وهذا الوجه لا بأس به، ولا یرد علیه ما أورده بعض المحققین (قدس سره) علی تفصیل تقدم.

الثالث: أن أصالة الطهارة لوکانت حاکمة علی دلیل شرطیة الطهارة للصلاة لکانت حاکمة علی دلیل شرطیة طهارة الماء للوضوء والغسل مع أن الأمر لیس کذلک، بداهة أنه لو توضأبماء محکوم بالطهارة بمقتضی أصالة الطهارة ثم انکشف أنه کان نجساً فی الواقع، لم یمکن الحکم بصحة هذا الوضوء، وقد تقدم أن المحاولة لدفع هذا النقض غیر سدیدة.

الرابع: ما ذکره المحقق النائینی (قدس سره) من أن مفاد موثقة عمار لایخلو من أن یکون جعل الطهارة الظاهریة أو توسعة دائرة شرطیة الطهارة، ولا یمکن أن تکون الموثقة متکفلة لکلا الأمرین معاً، وحیث أن الظاهر منها الأمر الأول، فلایمکن إرادة الأمر الثانی منها، وما أورده بعض المحققین (قدس سره) من الاشکال علی هذا الوجه لا یخلو عن تأمل علی تفصیل تقدم.

السادسة: أن مفاد الموثقة جعل الطهارة الظاهریة التی هی من الاحکام الظاهریة الترخیصیة، وهی أحکام عذریة مجعولة بغرض التسهیل علی نوع المکلفین ولا تؤثر فی الواقع، ولهذا لا موضوع للاجزاء، لأن الواقع بماله من الملاک قد ظل بحاله والاجزاء منوط بتدارک ملاکه والمفروض عدم التدارک،

ص:476

وکذلک مفاد دلیل أصالة الحل، وأما دلیل الاستصحاب فلا یکون متکفلا لجعل حکم ظاهری مماثل أو مخالف، فإن کان مطابقاً للواقع فالثابت هو الحکم الواقعی وإلا فلاشیء فی مورده، ومن هنا قلنا أنه لا حکومة لقاعدة الطهارة علی أدلة شرطیتها، فإن حکومتها علیها منوطة بتوفر أمرین:

الأول: أن تکون الطهارة الظاهریة العذریة دخیلة فی الملاک کالطهارة الواقعیة.

الثانی: أن یکون ذلک بلسان التنزیل، وکلا الأمرین مفقود فی المقام، ومع الاغماض عن ذلک فالحکومة ظاهریة وعذریة، فلذلک لا یتصور فیها الاجزاء، فإن المکلف طالما یکون جاهلا بطهارة الثوب ونجاسته یعامل معه معاملة الطاهر فیصلّی فیه، وحینئذ فإذا انکشف الخلاف وظهر أنه لم یأت بالصلاة فی الثوب الطاهر ولا استوفی ملاکها، وجب علیه الاتیان بها فیه، سواءً کان فی الوقت أم خارج الوقت علی تفصیل تقدم.

السابعة: أن القول بالتفصیل بین ما إذا کان انکشاف الخلاف بالعلم الوجدانی وما إذا کان بالعلم التعبدی، فعلی الأول لا مقتضی للأجزاء لأنه لم یأت لا بالمأمور به بالأمر الواقعی ولا بالمأمور به بالأمر الظاهری، وعلی الثانی یجزی ولایبتنی علی أساس مقبول، فالصحیح عدم الاجزاء مطلقاً بلا فرق بین ما إذا کان انکشاف الخلاف بالعلم الوجدانی وما إذا کان بالعلم التعبدی، وقد تقدم ذلک موسعاً.

هذا آخر ما أوردناه فی هذا الجزء

والحمد لله أولا وآخراً.

ص:477

ص:478

الفهرس

الأوامر معنی مادة الأمر 5

اشتراک مادة الأمر لفظا بین الطلب و الشیء 6

اشتراک مادة الأمر معنی بین الطلب و غیره 9

دلالة مادة الأمر علی الوجوب 12

معنی صیغة الأمر 12

دلالة صیغة الأمر علی الوجوب 12

نتائج البحث 17

کیفیة دلالة الأمر مادة و هیئة علی الوجوب 18

رأی المحقق العراقی 19

رأی المحقق النائینی و السید الاستاذ 28

مناقشات صاحب البحوث 31

نتائج البحث 35

اتحاد الطلب و الارادة 37

رأی المحقق الخراسانی 37

رأی الأشاعرة فی الکلام النفسی 40

الفرق بین اسم الفاعل المتعدی و اللازم 53

ص:479

نتائج البحث 55

حقیقة إرادة اللّه تعالی 57

رأی الفلاسفة و المحقق الخراسانی 57

رأی المحقق الأصبهانی 58

معنی حدیث «خلق اللّه المشیئة بنفسها...» 68

تفسیر المحقق الأصبهانی 68

نتائج البحث 70

الجبر و الاختیار 72

رأی الأشاعرة 72

رأی الفلاسفة و المحقق الخراسانی و الأصبهانی 80

الدلیل الأول للجبر 80

رأی مدرسة المحقق النائینی فی حقیقة الاختیار و الارادة 88

قول السید الاستاذ بوجود أفعال للنفس کالبناء و الاعتقاد 89

نتائج البحث 95

الدلیل الثانی للجبر 101

الدلیل الثالث للجبر 103

نتائج البحث 107

الدلیل الرابع للجبر 111

رأی المعتزلة: التفویض 136

قانون التعاصر بین العلة و المعلول 139

نتائج البحث 143

ص:480

رأی الامامیة: الأمر بین الأمرین 147

حسن العقاب علی أعمال العباد 160

رأی الأشاعرة و الفلاسفة 160

توجیه صدر المتألهین 160

توجیه الحسن البصری 162

توجیه البافلانی 164

التوجیه الرابع 164

توجیه الأشاعرة 170

توجیه المحقق الخراسانی 172

توجیه المحقق الأصبهانی 180

نتائج البحث 184

الجملة الخبریة المستعملة لانشاء الطلب 188

کیفیة دلالتها علی الطلب 188

رأی السید الاستاذ 188

رأی المحقق الخراسانی 189

الرأی الثانی 190

الرأی الثالث و الرابع 192

الرأی الخامس 193

الرأی المختار 194

دلالة الجملة الخبریة علی الوجوب 196

نتائج البحث 202

ص:481

التعبدی و التوصلی معانی التعبدی و التوصلی 205

سقوط الواجب بفعل الغیر 206

الأصل اللفظی فی المسألة 206

الرأی المعروف 206

رأی المحقق النائینی و السید الاستاذ 206

الأصل العملی فی المسألة 212

رأی السید الاستاذ 212

سقوط الواجب بالفرد غیر الاختیاری 216

الأصل اللفظی فی المسألة 216

رأی المحقق النائینی 217

الدلیل الأول 217

الدلیل الثانی 221

الأصل العملی فی المسألة 223

رأی السید الاستاذ 223

سقوط الواجب بالفرد المحرم 224

الأصل اللفظی فی المسألة 224

الأصل العملی فی المسألة 226

نتائج البحث 228

سقوط الواجب بغیر قصد الفربة 232

ص:482

الفرق بین الواجب التعبدی و التوصلی 232

إمکان أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلق الأمر 233

رأی المحقق النائینی 233

رأی المحقق الخراسانی 247

رأی المحقق الأصبهانی 255

تصویر العراقی بطریق الحصة التوأم 260

التصویر بأخذ عنوان ملازم 262

أخذ سائر الدواعی القربیة فی متعلق الأمر 264

تصویر أخذ قصد الامتثال بتعدد الأمر 270

رأی المحقق الخراسانی 270

مناقشة المحقق الأصبهانی 271

رأی المحقق النائینی 280

مناقشة السید الاستاذ 280

مناقشة صاحب البحوث 282

رأی المحقق الخراسانی فی الفرق بین الواجب التعبدی و التوصلی 283

نتائج البحث 287

الشک فی اعتبار قصد الامتثال 294

نوعیة التقابل بین الاطلاق و التقیید 294

رأی المحقق النائینی 294

رأی السید الاستاذ 296

الرأی المختار 297

ص:483

التمسک بالاطلاق اللفظی لاثبات التوصلیة 308

التمسک بالاطلاق المقامی لاثبات التوصلیة 311

القول بأصالة التعبدیة 312

الأصل العملی عند الشک فی التعبدیة و التوصلیة 315

الرأی المختار 315

رأی المحقق الخراسانی 316

مناقشة السید الاستاذ 316

نتائج البحث 322

الشک فی النفسیة و الغیریة 326

الأصل اللفظی فی المسألة 326

الشک فی التعیینیة و التخییریة 329

الأصل اللفظی فی المسألة 330

الأصل العملی فی المسألة 330

الشک فی العینیة و الکفائیة 332

الأصل اللفظی فی المسألة 332

الأصل العملی فی المسألة 332

معنی الأمر الوارد بعد الحظر أو توهمه 335

دلالة الأمر علی المرة و التکرار 339

الفرق بین الأمر و النهی 340

نتائج البحث 347

تکرار الامتثال أو تبدیله 349

ص:484

دلالة الأمر علی الفور و التراخی 352

الإجزاء إجزاء المأمور به الواقعی عن نفسه 359

تکرار الامتثال 360

إجزاء المأمور به الاضطراری عن الاختیاری 370

الاضطرار المستوعب لتمام الوقت 372

کلام المحقق النائینی 374

الاضطرار غیر المستوعب 378

الأصل العملی فی المسألة 396

الاضطرار لأجل التقیة 404

الاضطرار بسوء الاختیار 410

الأصل العملی عند الشک فی إجزاء المأمور به الاضطراری 415

رأی المحقق الخراسانی 415

رأی المحقق العراقی 418

نتائج البحث 421

إجزاء المأمور به الظاهری عن الواقعی 427

الاجزاء علی القول بطریقیة الامارات 427

الاجزاء علی القول بسببیة الامارات 428

الاجزاء علی القول بالمصلحة السلوکیة 430

نتائج البحث 439

ص:485

الاجزاء فی موارد الأصول العملیة 441

الأقوال فی الاجزاء 459

تنبیهات الأول: کلام المحقق الخراسانی 467

الثانی: إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الواقعی و الأمر الاضطراری عنه 468

الثالث: الاجزاء بالنسبة إلی المجتهد و المقلد 469

نتائج البحث 474

ص:486

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.