المباحث الاصولیه (محمد اسحاق فیاض کابلی) المجلد 2

اشارة

سرشناسه:فیاض، محمداسحاق، 1934 - م

عنوان و نام پدیدآور: المباحث الاصولیه/ تالیف محمداسحاق الفیاض.

مشخصات نشر:قم: دفتر آیه الله العظمی الشیخ محمداسحق الفیاض(دام ظله)

مشخصات ظاهری:15 ج.

شابک:دوره 964-06-9191-7 : ؛ ج.1 964-06-9188-7 : ؛ ج. 2 964-06-9189-5 : ؛ ج. 3 964-06-9190-9 : ؛ ج. 12 978-600-90462-1-8 : ؛ ج.14 978-964-8238-59-4 : ؛ ج.15 978-964-8238-93-8 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم: 1382.

یادداشت:ج. 1- 3 ( چاپ دوم: 1385) .

یادداشت:ج. 12 (چاپ اول: 1389).

یادداشت:ج.15 (چاپ اول: 1395).

یادداشت:جلد دوازدهم کتاب حاضر توسط انتشارات عزیزی منتشر خواهد شد.

یادداشت:جلد چهاردهم و پانزدهم کتاب توسط انتشارات صاحب الامر (عج) منتشر شده است.

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج.15. التعارض و الترجیح

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:دفتر آیت الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

رده بندی کنگره:BP159/8/ف 9م 2 1300 ی

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 82-18593

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

المباحث الاصولیه

تالیف محمداسحاق الفیاض

ص :4

الحادی عشر: وضع هیئات الجمل

اشارة

یقع الکلام هنا فی عدة مقامات:

الأول: فی تحدید المدلول الوضعی للجمل الناقصة.

الثانی: فی تحدید المدلول الوضعی للجمل الخبریة التامة وبیان المائز بین مدلولها ومدلول الجملة الناقصة.

الثالث: فی تحدید المدلول الوضعی للجمل الانشائیة.

أما الکلام فی المقام الأول, فلا فرق بین مدلول هیئات الجمل الناقصة ومدلول الحروف الداخلة علیها، وقد صرح بذلک جماعة من الاُصولیین منهم المحقق الأصبهانی قدس سره، حیث قال بأن الحروف أو ما یقوم مقامها من هیئات الجمل الناقصة موضوعة بإزاء انحاء النسب والروابط، فالمعنی الموضوع له لهیئات تلک الجمل بعینه هو المعنی الموضوع له الحروف، ومنهم السید الاُستاذ قدس سره، حیث قدصرح بأن الحروف أو ما یشبهها من الهیئات جمیعاً موضوعة بإزاء التحصیصات والتضییقات، ومنهم بعض الأکابر، حیث قد صرح بأن الحروف المذکورة أو مایقوم مقامها من الهیئات الناقصة موضوعة بإزاء النسب التحلیلیة، وکذلک الحال بناءً علی ما قویناه من أن الحروف المزبورة والهیئات الناقصة کهیئة الإضافة والتوصیف ونحوهما موضوعة جمیعاً بإزاء النسب الواقعیة الذهنیة علی تفصیل تقدم، وتقدم تفصیل سائر الأقوال فی المسألة بما لها من النقد والمناقشة أیضاً، فلاحظ.

وأما الکلام فی المقام الثانی، وهو مفاد هیئة الجمل الخبریة التامة ففیه

ص:5

نظریتان رئیسیتان:

الاُولی: ما هو المعروف والمشهور بین الاُصولیین من أن الجمل الخبریة التامة موضوعة بإزاء النسبة التامة التی یصح السکوت علیها فی مقابل الجمل الناقصة أو الحروف الداخلة علیها.

الثانیة: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أنها موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانی کقصد الحکایة، والاخبار عن الواقع نفیاً واثباتاً.

وقد قام قدس سره بمجموعة من المحاولات لتفنید نظریة المشهور واثبات ما اختاره قدس سره من النظریة.

المحاولة الاُولی: أنه لا یمکن أن تکون الجمل الخبریة التامة موضوعة للدلالة علی ثبوت النسبة الواقعیة فی الخارج وعدم ثبوتها فیه، لأنها لا تدل علی ثبوتها ولو ظناً مع قطع النظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجیة، مع أن دلالة اللفظ لا تنفک عن مدلوله الوضعی بقانون الوضع، وإلا فلا فائدة للوضع، فإذا فرضنا أن الجملة بما هی لا تدل علی تحقق النسبة فی الواقع ولا کاشفیة لهاعنه أصلاً حتی ظنا، فما معنی کون الهیئة موضوعة له، نعم إنها وإن کانت عندالاطلاق تدل علی ثبوت النسبة أو نفیها بالدلالة التصوریة إلاّ أنه بهذه الدلالة لیس مدلولاً للهیئة، فإن مدلولها مدلول تصدیقی لا تصوری(1).

وضع هیئات الجمل

وللمناقشة فی هذه المحاولة مجال لأنها مبنیة علی أن تکون الجملة موضوعة للدلالة علی ثبوت النسبة فی الخارج أو نفیها منه، ولکن قد مرّ أنها لم توضع لذلک وإنما هی موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة، وتدل الجملة علیها

ص:6


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 85.

جزماً بالدلالة التصوریة التی هی دلالة وضعیة دون الدلالة التصدیقیة، فإنهامستندة إلی ظهور حال المتکلم الملتفت لا إلی الجملة نفسها.

المحاولة الثانیة: أن الجمل الخبریة التامة لو کانت موضوعة للنسبة الواقعیة الخارجیة فلازم ذلک أن لا یکون لها مدلول نهائیاً فی موارد هل البسیطة، حیث لا تعقل النسبة خارجاً بین وجود الشیء وماهیته، ولاسیما بین ذاته تعالی ووجوده وصفاته العلیا الذاتیة کقولنا «اللَّه موجود» أو «قادر» أو «عالم» ولا فی مثل قولنا «شریک الباری ممتنع» و «العنقاء ممکن» و «اجتماع النقیضین مستحیل» وهکذا، لأن ثبوت النسبة خارجاً فرع ثبوت المنتسبین فیه، ومع عدم ثبوتهما لا یعقل ثبوتها، وبالتالی لا یصح استعمال الجملة فی هذه الموارد، لعدم معنی لها، مع أنه لا شبهة فی صحة استعمالها فیها کاستعمالها فی سائر الموارد ویکون علی نحو واحد، وهذا یکشف عن أن مدلول الجملة لابد أن یکون معنی محفوظاً فی الموارد المذکورة أیضاً، وهو لیس إلاّ ابراز الأمر النفسانی کقصد الحکایة والاخبار عن الواقع نفیاً أو اثباتاً(1).

والجواب: أن هذه المحاولة أیضاً مبنیة علی أن تکون الجملة موضوعة بإزاء النسبة الخارجیة، ولکن قد مرّ أنها لم توضع بإزائها، وإنما وضعت بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة، وهی ثابتة فی جمیع الموارد المذکورة بدون استثناء، فإذن لا اشکال من هذه الناحیة.

المحاولة الثالثة: أن حقیقة الوضع بناء علی ما اخترناه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانی، ومقتضاها تعهد کل متکلم أنه متی ما قصد تفهیم معنی خاص أن یتکلم بلفظ مخصوص، فاللفظ مفهم ودال علی أن المتکلم أراد تفهیمه

ص:7


1- (1) دراسات فی علم الاصول ج 1 ص 46.

بقانون الوضع، ومن الواضح أن التعهد والالتزام لا یتعلقان إلا بالفعل الإختیاری، إذ لا معنی للتعهد بالإضافة إلی أمر غیر اختیاری، وحیث إن ثبوت النسبة أو نفیها فی الواقع خارج عن الإختیار، فلا تعقل تعلق التعهد به، فإذن لامناص من الالتزام بتعلقه بإبراز قصد الحکایة فی الجملة الخبریة، وابراز أمراعتباری نفسانی فی الجملة الانشائیة، حیث إنهما أمران اختیاریان(1).

والجواب أولاً: أن هذا مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، وأما علی مسلک المشهور فلا مانع من وضع الجملة بإزاء النسبة الواقعیة أو نفیها، فإن الوضع علی مسلک المشهور لا یتطلب أن یکون متعلقه فعلاً اختیاریاً، سواء أکان بمعنی اعتبار الملازمة بین اللفظ والمعنی أم بمعنی جعل اللفظ للمعنی أو علی المعنی فی عالم الإعتبار أم کان بمعنی القرن الأکید بین اللفظ والمعنی، فإن متعلقه علی جمیع التقادیر ذات المعنی دون الفعل الإختیاری، ونتیجة ذلک هی انتقال الذهن من تصور اللفظ إلی تصور المعنی.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن حقیقة الوضع هی التعهد والالتزام النفسانی، إلاّ أن مراد المشهور من وضع الجملة بإزاء النسبة لیس هو التعهد بثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها عنه لکی یقال إنه لا یعقل تعلق التعهدیة باعتبارأنه خارج عن الإختیار، بل مرادهم منه التعهد، بأنه إذا نطق بالجملة الخبریة التامة قصد اخطار ثبوت النسبة فی ذهن السامع أو نفیها فیه تصوراً لا قصد الحکایة والاخبار عنه، وعلیه فیکون المعنی الموضوع له هو قصد اخطار النسبة فی ذهن السامع لا قصد الحکایة عن ثبوتها فی الواقع، وذلک لأن الوضع بمعنی التعهد لا یقتضی أن تکون الجملة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار

ص:8


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 85.

عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، إذ کما یمکن ذلک یمکن أن تکون موضوعة للدلالة علی قصد إخطار ثبوت النسبة فی ذهن السامع.

وبکلمة، إن الوضع لوکان بمعنی التعهد فبطبیعة الحال یکون مراد المشهور من وضع الجملة بإزاء النسبة هو التعهد بقصد اخطارها فی ذهن السامع حین النطق بها، کما أن مراد السید الاُستاذ قدس سره من وضع الحروف أو ما یقوم مقامهاللتحصیصات والتضییقات للمفاهیم الاسمیة التعهد بإرادة تفهیمها عند التکلم بها، ولیس مراده وضعها بإزاء نفس التحصیصات والتضییقات، لإستحالة تعلق التعهد والالتزام بها، باعتبار خروجها عن الإختیار کما هو الحال فی الألفاظ المفردة، فإنه قدس سره یقول بأن لفظ الماء موضوع للجسم السیال ولفظ النار موضوع للجسم المحرق وهکذا، مع أنه لا معنی للتعهد بثبوت الجسم السیال أو المحرق فی الواقع، لأنه خارج عن الإختیار، فإذن لا محالة یکون مراده من ذلک التعهد، بأنه إذا قصد تفهیم الجسم السیال ینطق بلفظ الماء، وإذا قصد تفهیم الجسم المحرق ینطق بلفظ النار وهکذا.

فالنتیجة أن الالتزام بکون حقیقة الوضع التعهد والتبانی لا یقتضی وضع الجملة الخبریة للدلالة علی قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیهافیه، إذ کما یمکن ذلک یمکن وضعها للدلالة علی قصد اخطارها فی ذهن السامع.

المحاولة الرابعة: أن دلالة الجملة الخبریة علی معناها الموضوع له بما أنهادلالة تصدیقیة لا تصوریة، فلا یمکن أن تکون موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة، وإلاّ لم تکن دلالتها تصدیقیة، فإذن لا مناص من الالتزام بأنها إما أن تکون موضوعة بإزاء النسبة الخارجیة أو بإزاء قصد الحکایة والاخبار عن الواقع نفیاً أو اثباتاً، وحیث إنها لم توضع بإزاء الاُولی، علی أساس أن وضعها

ص:9

بإزائها یستلزم أن لا یکون لها مدلول فی موارد هل البسیطة وما شاکلها کماتقدم، فلا محالة تکون موضوعة بإزاء الثانی، وهو قصد الحکایة.

والخلاصة: أن الجملة لا یمکن أن تکون موضوعة بإزاء النسبة لا الخارجیة ولا الذهنیة، فإذن لا مناص من الالتزام بوضعها للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت الواقع أو نفیه.

والجواب أولاً: أن هذه المحاولة مبنیة علی القول بأن حقیقة الوضع هی التعهدوالالتزام النفسانی، فإن الدلالة الوضعیة علی ضوء هذا القول دلالة تصدیقیة.

وأما علی ضوء سائر الأقوال فی باب الوضع فلا مانع من وضع الجملة الخبریة التامة بإزاء النسبة الذهنیة، علی أساس أن الدلالة الوضعیة علی أساس تلک الأقوال دلالة تصوریة لا تصدیقیة حتی فی الجملات تامة کانت أم ناقصة.

وثانیاً: أنها لا تتم علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع أیضاً، لأن الدلالة الوضعیة علی ضوء هذا المسلک وإن کانت دلالة تصدیقیة مطلقاً حتی فی الألفاظ والکلمات الا فرادیة، إلاّ أن ذلک لا یقتضی أن یکون المراد من النسبة فی الجمل التامة النسبة الخارجیة، لکی یقال إنها لم توضع بإزائها للمحذور المتقدم، بل من جهة أن الوضع بهذا المعنی لا یقتضی إلا أن یکون متعلقه اختیاریاً، وحینئذ فکمایمکن أن یکون متعلقه ابراز قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الخارج أو نفیها فیه، فکذلک یمکن أن یکون متعلقه ابراز قصد اخطار النسبة فی ذهن السامع، إذ من الواضح أن الوضع بمعنی التعهد لا یقتضی تعین وضع الجملة بإزاءالمعنی الأول دون الثانی، فالنتیجة أن هذه المحاولة أیضاً غیر تامة.

المحاولة الخامسة: هی ما ذکره قدس سره فی مسألة الوضع من أن الغرض منه التفهیم والتفهم وابراز المعانی والمقاصد للآخرین، ومن الواضح أن الوضع سعة

ص:10

وضیقاً یدور مدار سعة غرضه وضیقه، ولا یمکن أن یکون أوسع منه وإلاّ فهولغو، ومن هنا لابد أن تکون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة حتی علی سائرالمبانی والأقوال فی المسألة، إذ لوکانت دائرة الوضع أوسع من دائرة الغرض کان الوضع لغواً وجزافاً.

وعلی الجملة، فالغرض من الوضع إنما هو انتقال الذهن من تصور اللفظ إلی تصور المعنی فی موارد قصد التفهیم والافادة، وأما الإنتقال فی غیر هذه الموارد فلیس داخلاً فی دائرة الغرض منه، بل هو من جهة الاُنس الذهنی لا الوضع، وعلیه فلابد من تقیید العلقة الوضعیة بصورة قصد التفهیم، واطلاقها مع اختصاص الغرض بها یکون بلا فائدة(1).

والجواب عنه: ما ذکرناه هناک موسعاً وحاصله أن الغرض من الوضع وإن کان ذلک إلا أنه حکمة له تدعو إلی إیجاد العلقة الوضعیة بین اللفظ والمعنی، ولایلزم الواضع بتقییدها بموارد قصد التفهیم، علی أساس أن اطلاقها مع فرض اختصاص الغرض بتلک الموارد لا یکون لغواً، باعتبار أن الاطلاق أمر عدمی علی ما قویناه، فلا تکون فیه مؤنة لحاظیة زائدة حتی یکون لغواً، وعلی هذا فلامانع من جعل العلقة الوضعیة مطلقة، فإنه یفی بالغرض بدون أن تکون فیه مؤنة زائدة بالنسبة إلی جعلها مقیدة لکی یلزم اشکال اللغویة.

هذا إضافة إلی أن الکلام فی امکان أصل هذا التقیید علی تفصیل تقدم سابقاً.

المحاولة السادسة: أن الجمل التامة لو کانت موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة فما هو الفارق حینئذ بینها وبین الجمل الناقصة؟ علی أساس أن النسبة لا

ص:11


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 104.

تقبل الاتصاف بالتمامیة تارةً وبالنقصان اخری، لأنها متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو الخارج، بلا فرق فی ذلک بین الجمل التامة والناقصة، وعلی هذا فلا یمکن القول بوضع الجمل التامة بإزاء النسبة، بل لابدمن القول بأنها موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، وبذلک تفترق الجمل التامة عن الناقصة فیصح السکوت علیها دون الناقصة(1).

وغیر خفی أن هذه المحاولة لیست نقداً وإشکالاً علی مسلک المشهور بشکل مباشر، بل هی فی الحقیقة تتطلب منهم بیان الفارق بین الجملتین إذا کانت کلتاهما موضوعة بإزاء النسبة الذهنیة الواقعیة، وسوف نشیر بعونه تعالی إلی الفرق بینهما رغم أن کلتیهما موضوعة بإزاء تلک النسبة.

إلی هنا قد انتهینا إلی هذه النتیجة، وهی أن ما أورده السید الاُستاذه قدس سره علی مسلک المشهور من الإعتراضات والمحاولات لتفنیده غیر تام.

فالصحیح هو أن الجمل الخبریة التامة موضوعة بإزاء النسب الواقعیة الذهنیة التی هی نسب بالحمل الشائع، ولها تمام خصائصها الذاتیة فی موطنها، وهی الالتصاق والإرتباط الحقیقی بین مفهومین موجودین فیه، لأن النسبة فی کل موطن متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فیه ذهناً کان أم خارجاً، فإن کانت فی الذهن فخصائصها مناسبة للموجودات الذهنیة، وإن کانت فی الخارج فخصائصها مناسبة للموجودات الخارجیة.

ثم إن النسبة الذهنیة ثابتة فی جمیع موارد استعمالات القضایا الحملیة، سواء

ص:12


1- (1) نقلها عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 268.

أکانت من موارد هل البسیطة أو المرکبة حتی فی مثل قولنا «اللَّه موجود» أو «عالم» أو «قادر» و «شریک الباری معدوم» وهکذا، فإن النسبة الخارجیة غیر متصورة هناک، بل لا تتصور بین وجود الشیء وماهیته فضلاً عن تلک الموارد، وأما النسبة الذهنیة فهی متصورة حتی بین ذاته تعالی ووجوده فضلاًبین وجود الشیء وماهیته وفی الاعتباریات والانتزاعیات، لأن النسبة المذکورة إنما هی بین الموضوع والمحمول فی عالم الذهن، سواء أکان لهما وجود فی عالم الخارج أم لا، وحیث إن مفهوم «اللَّه» ومفهوم «موجود» فی القضیة المعقولة فی عالم الذهن موجودان حاکیان عن وجود واحد فی الخارج حقیقة، وهو وجوده تعالی وتصادقا علیه فیه، فالنسبة بینهما تکون ذهنیة، بمعنی یکون الذهن ظرفاًلها والقضیة قضیة معقولة فحسب، وأما فی الخارج فلا قضیة حتی تکون هناک نسبة، لأن الموضوع والمحمول، إما أنه لا وجود لهما فی الخارج کما فی الاعتباریات والانتزاعیات ونحوهما أو أن لهما وجوداً واحداً فیه، والنسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بالمنتسبین ولا یعقل وجودها بدونهما.

فالنتیجة أن القضیة المعقولة فی تلک الموارد اما أن لا تحکی عن شیء فی الخارج، کما إذا کان الموضوع والمحمول کلاهما أمراً اعتباریاً أو ممتنعاً وجوده فی الخارج کشریک الباری مثلاً أو تحکی عن وجود واحد فیه کما فی القضایا الحملیة التی هی بمفاد کان التامة والهلیة البسیطة کقولک «الانسان موجود»، فإن الموضوع والمحمول یحکیان عن وجود واحد فی الخارج، ولهذا لا تتصور النسبة بینهما فیه.

وأما فی القضایا الحملیة التی هی بمفاد کان الناقصة والهلیة المرکبة کقولک «زید عالم»، فبما أن الموضوع فیها موجود فی الخارج، والمحمول یکون من

ص:13

عوارضه فیه، فالمعتبر فی صحة الحمل فیها أمران: أحدهما: أن یکون الموضوع متحداً مع المحمول فی الخارج، وإلاّ کان حمله علیه من حمل المباین علی المباین وهو غیر صحیح، والآخر التغایر بینهما من جهة حتی لا یکون من حمل الشیء علی نفسه، وعلی هذا فإن کانت الذات مأخوذة فی مفهوم المشتق لکان حمل العالم علی زید فی المثال من حمل الکلی علی فرده فی الخارج، وحینئذ فلا نتصورالنسبة بینهما منه، باعتبار أنهما موجودات بوجود واحد فیه، وأما إذا لم تکن الذات مأخوذة فی مفهوم المشتق بأن یکون مفهومه نفس المبدأ، فحینئذیکون المحمول مبایناً للموضوع فلا یصح حمله علیه، إلاّ أن یرجع إلی الحمل علی الصفة القائمة بزید وهو من حمل الکلی علی فرده، ومن هذا القبیل حمل الأبیض علی الجسم، فإنه یرجع إلی الحمل علی الصفة القائمة بالجسم، وهذامن حمل الکلی علی فرده فی الخارج، وحیث إن الموجود فیه واحد فلا تتصور النسبة بینهما فیه.

ثم إنه لا فرق فی ذلک بین کون الجملة الخبریة التامة اسمیة، کقولک «زیدعالم» أوفعلیة کقولک «ضرب زید»، فإن کلتا الجملتین موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة التی هی نسبة بالحمل الشائع، غایة الأمر أن قولک «زید عالم» یرجع إلی قولک «زید شیء له صفة وتلک الصفة علم» فهنا ثلاث نسب: اثنتان منها من النسب الحملیة هما النسبة بین زید وبین شیء له صفة. والنسبة بین هذه الصفة القائمة بزید والعلم والثالثة من نسبة العرض إلی معروضه، وهی نسبة الصفة إلی الشیء، فإنها من نسبة العرض إلی موضوعه، ولا موطن للنسبتین الاولیین إلاّ فی صقع الذهن، باعتبار أن الموضوع والمحمول فیهما متحدان فی الخارج، فلا یعقل وجود النسبة بینهما فیه، وأما النسبة الثالثة فهی کما أنها ثابتة فی صقع الذهن کذلک أنها ثابتة فی صقع الخارج، علی أساس مغایرة العرض مع

ص:14

معروضه فی الذهن والخارج.

وأما الجمل الفعلیة کقولک «ضرب زید»، فإن النسبة فیها لیست من النسب الحملیة، وهی نسبة المحمول إلی الموضوع، بل نسبة العرض إلی معروضه، وهی قد تکون صدوریة کالمثال المذکور، وقد تکون حلولیة کقولک «زید قائم» و «بکر عالم» وهکذا، ولهذه النسبة موطن فی الذهن والخارج، بمعنی أنها إن کانت فی الذهن فهی متقومة بشخص وجود طرفیها فیه، وإن کانت فی الخارج فکذلک فیه، فتکون النسبتان متباینتین ذاتاً وحقیقة من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منهما مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری.

وأما حکایة النسبة الذهنیة عن النسبة الخارجیة مع عدم انطباقها علیها علی حد انطباق الطبیعی علی فرده فهی إنما تکون بسبب طرفیها، باعتبار أنهما بالنظرالتصوری الآلی عین الخارج، وبهذا النظرتری النسبة تبعاً بأنها عین النسبة الخارجیة، وإلا فنسبتها إلیها نسبة المماثل إلی المماثل، لا الطبیعی إلی الفرد فحکایتها عنها إنما هی بالتبع لا بالأصالة.

والخلاصة: أن کلتا الجملتین الاسمیة والفعلیة معاً موضوعة بإزاء معنی واحد، وهو النسبة الواقعیة الذهنیة التی هی نسبة بالحمل الشائع، والإختلاف بینهما إنما هو فی بعض الخصوصیات الخارجة عن حریم المعنی الموضوع له، منهاما عرفت، ومنها أن الجملة الفعلیة تدل علی الحدوث فی عمود الزمان دون الاسمیة.

لتوضیح ما ذکرناه نظریاً وتطبیقیاً نذکر اموراً:

الأول: أن نتیجة ما ذکرناه من أن الجملة الخبریة التامة موضوعة للنسبة الواقعیة الذهنیة هی أن الدلالة الوضعیة لها دلالة تصوریة، لما ذکرناه فی باب

ص:15

الوضع من أن الدلالة الوضعیة للألفاظ علی معانیها مطلقاً - بلا فرق بین الألفاظ المفردة والألفاظ المرکبة کالجملات من التامة والناقصة - تصوریة علی أساس أن تلک الدلالة مستندة إلی الوضع مباشرة دون الدلالة التصدیقیة، فإنهامستندة إلی الظهورات الحالیة أو السیاقیة مباشرة دون اللفظ بما هو.

وبکلمة، إن الدلالة الوضعیة علی جمیع المبانی فی مسألة الوضع دلالة تصوریة ولا یمکن أن تکون تصدیقیة إلا علی مبنی التعهد والالتزام النفسانی، فإن الدلالة الوضعیة علی أساس هذا المبنی دلالة تصدیقیة مطلقاً فی الکلمات الأفرادیة حقیقة أو حکماً، والجملات التامة الاسمیة والفعلیة، فإن الاُولی موضوعة للدلالة علی قصد تفهیم معانیها، والثانیة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت شیء فی الواقع أو نفیه فیه.

فالنتیجة أن الدلالة الوضعیة علی جمیع المبانی فی باب الوضع دلالة تصوریة لا تصدیقیة إلاّ علی مبنی التعهد.

الأمر الثانی: أن ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أن الجملة التامة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، فلایمکن المساعدة علیه.

أما أولاً فلأن ما اختاره قدس سره مبنی علی مسلکه من أن حقیقة الوضع هی التعهد والتبانی، فإنه علی هذا المسلک تکون الدلالة الوضعیة دائماً دلالة تصدیقیة، فالجملة التامة کقولک «الانسان عالم» موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، ولکن قد تقدم أن هذا المسلک غیر تام، وأما علی ضوء سائر المسالک فی باب الوضع فالدلالة الوضعیة دائماً دلالة تصوریة، لما ذکرناه هناک من أنه لا یعقل نشوء أکثر من العلاقة التصوریة

ص:16

بین اللفظ والمعنی من الوضع طالما لم یرجع إلی التعهد.

وثانیاً: لو سلمنا أن الوضع بمعنی التعهد إلاّ أنه لا یقتضی أکثر من کون متعلقه أمراً اختیاریاً، وأما کونه فی الجملة التامة کزید عادل مثلاً هو قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع فهو بحاجة إلی مبرر، إذ کما یمکن ذلک یمکن أن یکون متعلقه قصد اخطار المعنی فی الذهن، فلا ترجیح للأول علی الثانی، وعلی هذا فما أفاده قدس سره من أنه یقتضی کون الجملة التامة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة بحاجة إلی مبرر.

الثالث: أن الجملة الاستفهامیة کقولک «هل زید عالم» موضوعة للدلالة علی النسبة الاستفهامیة بین المستفهم والمستفهم عنه فی الذهن، وهذا لا کلام فیه، وإنما الکلام فی أن المستفهم عنه هل هو مدلول الجملة التامة وهو النسبة فی عالم الذهن أو أنه ثبوت النسبة فی الخارج.

والجواب: أنه لا ریب فی أن المستفهم عنه العلم إلی زید فی الخارج أی کون زید عالماً فیه، ولیس المستفهم عنه النسبة الذهنیة التی هی مدلول الجملة وضعاً، کما أنه لیس قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الخارج أو نفیها فیه.

والخلاصة: أن کلمة «هل» تدل علی النسبة الاستفهامیة، ومدخولها وهوجملة «زید عالم» فی المثال تدل علی واقع النسبة الذهنیة، فتکون استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامیة من باب تعدد الدال والمدلول، بأن تکون النسبة الاستفهامیة مدلولاً لأداة الاستفهام، والنسبة الذهنیة مدلولاً للجملة التامة المدخول علیها الأداة.

وقد اورد علی القائل بأن الجملة التامة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الخارج أو نفیها فیه بالنقض بموارد دخول أداة

ص:17

الاستفهام علی الجملة التامة، کما فی قولک «هل زید عادل»، إذ لا شبهة فی أن المستفهم عنه نسبة العدالة إلی زید فی الخارج، أی کون زید عادلاً فیه لا قصد الحکایة والاخبار عنها(1).

وقد أجاب عن ذلک السیدالاُستاذ قدس سره بأن أداة الاستفهام أو الجملة الاستفهامیة موضوعة بوضع واحد للدلالة علی قصدالاستفهام، فلیست استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامیة من باب تعدد الدال والمدلول، بأن یکون الاستفهام مدلولاً للأداة، والنسبة التامة مدلولاًللجملة، بل الدال والمدلول واحد، فإن الدال هو الجملة الاستفهامیة، والمدلول هو قصد الاستفهام وانشاؤه.

ولکن هذا الجواب تام علی مسلکه قدس سره، فإن تعدد الدال والمدلول فی الجملة الاستفهامیة إنما یتصورعلی مسلک المشهورالمختار، وهو أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة، فإن الجملة الاستفهامیة تدل علی الاستفهام والجملة التامة المدخول علیها الأداة تدل علی النسبة، فإذاقیل: هل زید قائم کان المتبادر منه أمران: أحدهما الاستفهام والآخرالنسبة بین زید وقائم، والدال علی الأول أداة الاستفهام، وعلی الثانی الجملة المدخول علیها الأداة من باب تعدد الدال والمدلول.

وأما علی مسلک التعهد، فحیث إن الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة، فلایتصور تعدد الدال والمدلول فی الجملة الاستفهامیة، فإنها تدل علی الاستفهام، والجملة المدخول علیها الأداة لا تدل علی قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الخارج أو نفیها فیه، لأن هذه الدلالة علی ذلک المسلک وإن کانت وضعیة إلاّ أنهاتتوقف علی أن تکون الجملة صادرة من متکلم شاعر ملتفت بالإستقلال، لاختصاص الوضع لها بهذه الحالة، والمفروض أنها لم تصدر إلاّ فی ضمن

ص:18


1- (1) أورده مع نقل الجواب فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 287.

الجملة الاستفهامیة، فلا ینطبق علیها قانون الوضع بمعنی التعهد، فتکون الجملة حینئذمنسلخة عن معناها الموضوع له.

ودعوی أن استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامیة لولم تکن من باب تعدد الدال والمدلول، لم یصح تصدیق الاستفهام فی مقام الجواب بکلمة «نعم» أو «لا». لأن مدلول الجملة الاستفهامیة مدلول انشائی، وهو غیر قابل للتصدیق أو للنفی، فصحة التصدیق اثباتاً أو نفیاً تدل علی أن الإستفادة من باب تعدد الدال والمدلول.

مدفوعة بأن مردّ التصدیق فی مقام الجواب بکلمة «نعم» أو «لا» إلی تصدیق الجملة، حیث إنه بمثابة تکرارها نفیاً أو اثباتاً، لا إلی تصدیق الانشاء لکی یقال: أنه لا یقبل التصدیق لا نفیاً ولا اثباتاً(1).

وبکلمة، إنه علی القول بالتعهد تکون للجملة الاستفهامیة مدلول واحد وضعاً بدون أن تکون للجملة المدخول علیها الأداة مدلول وضعی، باعتبار أن قانون الوضع بمعنی التعهد لا ینطبق علیه، علی أساس أن المتکلم بالجملة الاستفهامیة، تعهد بأنه متی تکلم بها أراد انشاء الاستفهام وطلب فهم ثبوت نسبة العلم إلی زید فی الخارج، وعلی هذا فإذا أجاب المسؤول إلیه بقوله «نعم» أو «لا» کان مرجع جوابه إلی التصدیق بثبوت العلم لزید أو نفیه عنه، لا إلی التصدیق بالانشاء نفیاً أو اثباتاًلکی یقال إنه غیر معقول، لوضوح أن الاستفهام عن شیء إذا اتجه إلی شخص، فإذا أجاب بقوله «نعم» أو «لا» فبطبیعة الحال یرجع جوابه إلی التصدیق بثبوت ذلک الشیء أو بنفیه، لا إلی التصدیق بانشاء الاستفهام أوبعدمه، ومن الواضح أن رجوع الجواب إلی التصدیق بثبوت النسبة

ص:19


1- (1) راجع بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 288.

فی الخارج أو نفیها فیه، لا یتوقف علی أن تکون استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامیة من باب تعدد الدال والمدلول، هذا علی القول بالتعهد.

وأما علی سائر الأقوال فی المسألة التی تکون الدلالة الوضعیة علی ضوئها دلالة تصوریة دائماً، فتکون دلالة الجملة الاستفهامیة علی الاستفهام من باب تعدد الدال والمدلول، فإذا قیل: هل زید عالم، فالجملة الاستفهامیة تدل علی الاستفهام، والجملة التامة المدخول علیها الأداة، تدل علی النسبة بینهما فی الذهن، وهذا معنی أن استفادة الاستفهام منها من باب تعدد الدال والمدلول، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن المسؤول عنه فی الجملة الاستفهامیة، إنما هو المدلول العرضی للجملة التامة المدخول علیها الأداة، لا مدلولها الذاتی الوضعی، وإن شئت قلت: إن المستفهم عنه فیها إنما هو ثبوت النسبة فی الخارج، أی کون زید عالماً فیه، والمفروض أن المدلول الوضعی للجملة التامة، هو النسبة الذهنیة فی عالم الذهن.

ومن ناحیة ثالثة، أن الجواب عن الاستفهام عن قیام زید فی قولک «هل زید قائم» بکلمة «نعم» أو «لا» یرجع فی الحقیقة إلی الاخبار والحکایة عن ثبوت القیام لزید أو عدم ثبوته له، بلا فرق فی ذلک بین القول بالتعهد فی باب الوضع وسائر الأقوال فیه، غایة الأمر أن دلالته علی قصد الاخبار والحکایة علی القول بالتعهد إنما هی بالوضع، وعلی سائر الأقوال بالظهور الحالی أو السیاقی لابالوضع.

وقد اورد النقض علی مسلک السید الاُستاذ قدس سره أیضاً بما إذا دخل الفعل علی الجملة التامة کما فی مثل قولک «أخبرنی أن زیداً عادل»، فإن المخبر به

ص:20

نفس النسبة، أی ثبوت العدالة لزید فی الخارج بمعنی کونه عادلاً فیه، لا قصد الحکایة والاخبار عنها(1).

ولکن قد ظهر مما مرّ أنه لا أساس لهذا النقض، لأن الجملة المدخول علیها الفعل لا تدل علی قصد الحکایة حتی علی القول بالتعهد، علی أساس أن دلالتهاعلیه منوطة بکونها صادرة من متکلم تعهد بأنه لا ینطق بها إلا إذا قصد الحکایة والاخبار عنها، وهذا الضابط لا ینطبق علی الجملة، لأن المتکلم هنا فی المقام طلب الاخبار بها لا هو أخبر بها، وإذا أجاب المخاطب بقوله «إنه عادل» أو «لیس بعادل»، کان قاصداً الحکایة عنها والاخبار بها.

هذا إضافة إلی أن کون المخبر به نفس النسبة فی المثال لا قصد الحکایة عنها، فإنما هو بلحاظ أنها ذات المعنی الموضوع له حتی علی مسلک التعهد، فإن العلقة الوضعیة علی هذا المسلک مقیدة بحالة خاصة، وهی حالة ما إذا قصد المتکلم الحکایة عنها لا المعنی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن المستفهم عنه فی الجملة الاستفهامیة والمطلوب فیهاإنما هو ثبوت النسبة الخارجیة، لا مدلول الجملة التامة، لا علی القول بالتعهد فی مسألة الوضع ولا علی سائر الأقوال فی المسألة.

الأمر الرابع: ما هو الفارق بین الجملة التامة والناقصة؟

والجواب: أن الاُصولیین قد ذکروا وجوهاً للفرق بینهما:

الوجه الأول: أن النسبة فی الجملة التامة نسبة واقعیة ذهنیة ومورد للحکم التصدیقی، فمن أجل ذلک یصح السکوت علیها، وأما النسبة فی الجملة الناقصة

ص:21


1- (1) أورده فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 288.

فهی نسبة تحلیلیة ولیست بواقعیة، فإن المفهوم منها شیء واحد فی الذهن، وهوینحل إلی أجزاء ثلاثة منها النسبة، ومن هنا تکون الجملة الناقصة بمثابة المفرد، فلا تکون نسبتها مورداً للحکم التصدیقی، فلذلک لا یصح السکوت علیها.

فالنتیجة أن منشأ صحة السکوت فی الجملة التامة إنما هو کون نسبتها مورداً للحکم التصدیقی باعتبار أنها نسبة واقعیة، ومنشأ عدم صحة السکوت فی الجملة الناقصة إنما هو عدم صلاحیة نسبتها لأن یکون مورداً للحکم التصدیقی باعتبار أنها تحلیلیة لا واقعیة(1).

ولکن قد تقدم أن هذا الوجه غیر تام.

الوجه الثانی: ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره، وحاصل ما أفاده: أن الجملة التامة موضوعة لقصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیهافیه، فلذلک یصح السکوت علیها، باعتبار أنها تتضمن حکماً تصدیقیاً، وأماالجملة الناقصة فهی موضوعة بإزاء قصد اخطار الحصة فی ذهن المخاطب تصوراً، وحیث إنها لم تتضمن مطلباً تصدیقیاً وإنما تضمنت مطلباً تصوریاً، فلایصح السکوت علیها(2).

ولکن یمکن المناقشة فیه:

أما أولاً: فلأن هذا الفرق بین الجملتین مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع وهو التعهد، فإنه علی ضوئه بنی علی أن الجملة التامة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، والجملة

ص:22


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 268.
2- (2) (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 75 و 85.

الناقصة موضوعة للدلالة علی قصد اخطار النسبة والحصة فی الذهن تصوراً، ولکن تقدم موسعاً أن هذا المسلک غیر تام، فإذن لا یمکن الالتزام بهذا الفرق.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن حقیقة الوضع هی التعهد والتبانی إلا أن ذلک لا یقتضی إلا أن یکون متعلقه فعلاً اختیاریاً، وأما کون الجملة التامة موضوعة لقصد الحکایة والاخبار، والناقصة لقصد الاخطار فی الذهن، فهولایقتضی ذلک، وعلی هذا فوضع الاُولی بإزاء قصد الحکایة والثانیة بإزاء قصد الاخطار بحاجة إلی نکتة فی المرتبة السابقة تبرر ذلک، والمفروض أنه لیس هناک أی نکتة تبرره.

وعلی هذا فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن الوضع علی مسلکنا یقتضی کون الجملة التامة موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة، والجملة الناقصة موضوعة للدلالة علی قصد الاخطار یکون بدون مبرر.

وإن شئت قلت: إن الوضع بمعنی التعهد یقتضی کون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة بأن یکون متعلقه الإرادة والقصد، وعلیه فالوضع لا یقتضی أن یکون متعلقه قصد الحکایة فی الجملة التامة وقصد الاخطار فی الجملة الناقصة، فالتعیین بحاجة إلی معین.

وثالثاً: مع الإغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أن الوضع یقتضی التعیین، إلاّ أن هذا المدلول التصدیقی لا یصلح أن یکون فارقاً بین الجملتین، حیث إن الفرق بینهما موجود فی الحالات التی لا یکون للجملة التامة ذلک المدلول التصدیقی، کمافی الحالات التی تکون الجملة التامة مدخولاً علیها أداة الاستفهام، کما فی مثل قولک «هل زید عالم»، فإنه إذا دخلت علیها أداة الاستفهام انسلخت عن مفهومها التصدیقی وهو قصد الحکایة، ومع هذا یکون الفرق بینهما محفوظاً من

ص:23

تلک الحالات أیضاً، حیث إن دخول أداة الاستفهام علی الجملة التامة کالمثال المذکور صحیح، بینما دخولها علی الجملة الناقصة غیر صحیح، وهذا یکشف عن أن الفرق بینهما لیس فی أن الجملة التامة تدل علی قصد الحکایة دون الجملة الناقصة، فإذن لابد أن یکون الفارق بینهما متمثلاً فی شیء آخر.

فالنتیجة، أنه لا یمکن الفرق بینهما فی ذلک.

الوجه الثالث: ما ذکره المحقق العراقی قدس سره، وهو یرجع إلی أمرین:

أحدهما: أن الجملة التامة موضوعة بإزاء ایقاع النسبة، والجملة الناقصة موضوعة بإزاء النسبة الثابتة، فالاُولی تحکی عن إیقاع النسبة والثانیة عن النسبة الثابتة، وهذا هو الفارق بینهما(1).

ویمکن المناقشة فیه بأنه إن ارید بإیقاع النسبة إیقاعها فی الخارج، وبالنسبة الثابتة ثبوتها فی الذهن، فیرد علیه ما ذکرناه سابقاً من أن الجملة التامة لم توضع بإزاء النسبة الخارجیة، ولا تدل علی إیقاعها فیه، وإنما هی موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة الذهنیة کالجملة الناقصة، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وقدتقدم موسعاً أنها لو کانت موضوعة بإزاء النسبة الخارجیة، لزم أن لا یکون لها مدلول فی جملة من القضایا الحملیة، منها القضایا التی هی فی موارد هل البسیطة وبین ذاته تعالی وصفاته الذاتیة والاعتباریات والانتزاعیات، لأن النسبة الخارجیة لا تتصور فی هذه الموارد بین الموضوع والمحمول، إما علی أساس أنه لاوجود لهما فی الخارج أو أنهما موجودان بوجود واحد فیه حقیقة، مع أن استعمال الجملة فی تلک الموارد کاستعمالها فی موارد هل المرکبة صحیح بدون أدنی فرق

ص:24


1- (1) نهایة الافکار ج 1 ص 54.

بینهما.

هذا إضافة إلی أن هذا الفرق لا یؤدی إلی صحة السکوت فی الاُولی دون الثانیة، إذ کما أن دلالة الاُولی علی إیقاع النسبة فی الخارج مما یصح السکوت علیه کذلک دلالة الثانیة علی ثبوتها فی الذهن، فإنها مما یصح السکوت علیه، فإذن لا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وإن ارید بإیقاع النسبة إیجادها التصوری وبثبوتها وجودها التصوری، فیرد علیه أولاً: أن هذا الفرق لا یؤدی إلی الفرق بین الجملتین فی التمامیة والناقصیة وصحة السکوت وعدمها فی مقام الافادة، إذ مرد هذا الفرق إلی الفرق بینهما فی الایجاد والوجود التصوری، وأن الجملة التامة موضوعة للدلالة علی الایجادالتصوری والجملة الناقصة موضوعة للدلالة علی الوجود التصوری، مع أنه لافرق بینهما فی الواقع إلا باللحاظ والإعتبار.

وثانیاً: ما ذکرناه سابقاً من أن الذهن ظرف لنفس النسبة لا لوجودها، إذ لایعقل لها وجود لا فی الذهن ولا فی الخارج، باعتبار أنه لیست لها ماهیة متقررة فی المرتبة السابقة علی الوجود الذهنی والخارجی، فلذلک لا یعقل أن تکون الجملة موضوعة بإزاء وجود النسبة أو إیجادها، لأن وجودها التصوری واللحاظی مفهوم اسمی ولیس بحرفی، والموضوع بإزائه لفظ النسبة لا الجملة، لأن معناها حرفی لا اسمی، وعلی هذا فکما لا یمکن أن تکون الجملة موضوعة بإزاء الوجود التصوری ولا إیجاده، فکذلک لا یمکن أن یکون الایجاد والوجود التصوری دخیلاً فی المعنی الموضوع له لهما.

وثانیهما: أن الجملة التامة موضوعة بإزاء النسبة التی تحکی عنها بلحاظ وجودها، مثلاً جملة «زید عالم» تحکی عن النسبة الموجودة بین زید والعلم،

ص:25

والجملة الناقصة موضوعة بإزاء النسبة التی تحکی عنها بلحاظ نفسهابقطع النظر عن وجودها وعدمها، فلذلک لا تکون مورداً للتصدیق وبالتالی لایصح السکوت علیها(1).

وهذه المحاولة غیر تامة، وذلک لأنه إن ارید بالنسبة التی تحکی عنها بلحاظ وجودها وجود النسبة فی الخارج، بمعنی أنها موضوعة بإزاء النسبة الموجودة فیه، فیرد علیه.

أولاً: أنه لا وجود للنسبة فی الخارج ولا للنسبة المقیدة بوجودها فیه، أما الأول فلما تقدم من أن الخارج ظرف لنفسها لا لوجودها، علی أساس أنه لوکان لها وجود، فلابد من أن تکون لها ماهیة متقررة فی المرتبة السابقة علی عالم الوجود، وقد مرّ أنه لا یعقل أن تکون للنسبة ماهیة کذلک، وإلا لم تکن نسبة بالحمل الشائع، أی متقومة بشخص وجود طرفیها، وأما الثانی فلفرض أنه لاوجود لها حتی یکون قیداً لها.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن لها وجوداً فی الخارج، إلاّ أن المعنی الموضوع له اللفظ لا یمکن أن یکون مقیداً بوجودها فیه، فإن الموضوع له طبیعی المعنی، وهو قد یوجد فی الذهن وقد یوجد فی الخارج، ولا یعقل أخذ الوجود الخارجی أو الذهنی فی مدلول اللفظ.

وثالثاً: قد تقدم أن الجملة التامة لم توضع بإزاء النسبة الواقعیة الخارجیة.

وإن ارید بها وجودها فی الذهن أی أنها موضوعة بإزاء النسبة بلحاظ وجودها فی الذهن، فیرد علیه.

ص:26


1- (1) نهایة الافکار ج 1 ص 55.

أولاً: ما عرفت من أنه لیس للنسبة وجود تصوری ولحاظی فی الذهن، لأن المتصور بهذا التصور والملحوظ بهذا اللحاظ مفهوم اسمی ولیس بنسبة بالحمل الشائع، فلا یکون هذا الوجود وجود النسبة التی هی معنی حرفی، بل هو وجود لمعنی اسمی له تقرر ماهوی بقطع النظر عن وجوده فی الذهن أو الخارج، فإذن لایرجع ما أفاده قدس سره من أن الجملة التامة موضوعة بإزاء النسبة بلحاظ وجودهافی الذهن إلی معنی محصل ومعقول.

وثانیاً: ما تقدم من أن الوجود الذهنی کالوجود الخارجی لا یعقل أن یؤخذفی المعنی الموضوع له اللفظ.

وإن ارید بها أن النسبة فی الجملة التامة تلحظ فانیة فی الخارج بوجودها التصوری، وفی الجملة الناقصة تلحظ فانیة فیه بنفسها لا بوجودها التصوری، فیرد علیه.

أولاً: ما عرفت من أنه لیس للنسبة وجود تصوری لکی تکون ملحوظة فانیة فی الخارج به، لأن الموجود بهذا الوجود فی الذهن مفهوم اسمی لا حرفی، وحکایة النسبة الذهنیة عن النسبة الخارجیة إنما هی بتبع حکایة اطرافهاعن الخارج لا بنفسها.

وثانیاً: أن هذا المقدار من الفرق بین الجملتین لا یؤدی إلی الفرق الجوهری بینهما، وهو صحة السکوت فی الجملة الاُولی فی مقام الافادة وعدم صحته فی الجملة الثانیة فی هذا المقام، لأن النسبة إذا کانت ملحوظة فی کلتیهما فانیة فی الخارج، غایة الأمر أن فناءها فی الاُولی بوجودها التصوری وفی الثانیة بنفسها، ومن الواضح أن هذا الفرق لا یؤدی إلی عدم صحة السکوت فی الثانیة، لأن ملاک صحة السکوت التصدیق بثبوت النسبة فی الخارج، وهو متوفر فی

ص:27

کلتا الجملتین معاً.

وثالثاً: أن النسبة الذهنیة لا یعقل أن تحکی بنفسها عن النسبة الخارجیة، لماتقدم من أنها مباینة لها من جهة أن المقومات الذاتیة لها مباینة للمقومات الذاتیة لتلک، ولهذا لا یعقل فناؤها فیها وحکایتها عنها بنفسها، فإذن ما أفاده قدس سره من أن الجملة الناقصة موضوعة بإزاء النسبة التی تحکی بنفسها لا یرجع إلی معنی محصل، إلا أن یکون مراده من ذلک الحکایة فی ضمن حکایة اطرافها وبتبعها، ولکن فی ذلک لا فرق بین النسبة فی الجملة التامة والنسبة فی الجملة الناقصة.

فالنتیجة: أن ما ذکره المحقق العراقی قدس سره من نکتة الفرق بین الجملتین لا یرجع إلی معنی محصل.

إلی هنا قد تبین أن الوجوه التی ذکرت لتمییز الجملة التامة عن الجملة الناقصة وصحة السکوت علی الاُولی دون الثانیة، لا یتم شیء منها.

فالصحیح فی المقام أن یقال: إنه لا فرق بین الجملتین فی المدلول الوضعی، فإن کلتا الجملتین موضوعة للنسبة الواقعیة الذهنیة التی هی نسبة بالحمل الشائع ولا فرق بینهما من هذه الناحیة، ولکن مع هذا یکون الفرق بینهما محفوظاً، حیث إنه یصح السکوت علی الجملة التامة، ولایصح علی الجملة الناقصة فیعامل معهامعاملة المفرد وتجعل اما موضوعاً فی القضیة أو محمولاً فیها، بینما الجملة التامة مرکبة من الموضوع والمحمول معاً، وعلی هذا فلابد من أن تکون هناک نکتة اخری للفرق بینهما، وتلک النکتة متمثلة فیما یلی:

هو أن الغرض من احضار الجملة التامة فی افق الذهن إنما هو جعلها وسیلة لاصدار حکم تصدیقی علیها فی الخارج، ففی مثل قولک «زید قائم» یکون الغرض من احضاره فی الذهن إنما هو جعله وسیلة لاصدار الحکم بثبوت القیام

ص:28

لزید فیه، باعتبار أن المتکلم والمخاطب فیها ینظران إلی الموضوع والمحمول بما همامنطبقان علی موجود واحد فی الخارج ومتصادقان علیه، فمن أجل ذلک تتضمن الجملة حکماً تصدیقیاً خارجیاً، ولهذا یصح السکوت علیه.

وهذا بخلاف الجملة الناقصة، فإن المتکلم والمخاطب فیها لا ینظران إلی طرفیهما کموضوع ومحمول فی القضیة بما هما منطبقان علی موجود واحد فی الخارج ومتصادقان علیه لکی تصلح لاصدار حکم تصدیقی علیها فیه، بل ینظران إلیهما کموضوع واحد فی القضیة أو محمول واحد، فلذلک لاتصلح للحکم التصدیقی علیها فی الخارج، فحالها حال الکلمات الا فرادیة من هذه الناحیة.

وبکلمة، إن الجملة الناقصة وإن کانت مشتملة علی النسبة إلاّ أنها لا تصلح لاصدار حکم تصدیقی علیها فی الخارج من دون ضم محمول أو موضوع إلیها، فإذا قیل «الصلاة فی المسجد» أو «النار فی الموقد» کان المتبادر منها احضارنفسها فی الذهن ومعرفتها کذلک فیه، وفناءها التصوری فی الخارج، فلذلک لاتصلح لاصدار حکم تصدیقی علیها فیه.

وهذا بخلاف ما إذا قیل «الصلاة مستحبة فی المسجد» أو «النار موجودة فی الموقد»، فإن المتبادر منه احضار نفس الجملة فی الذهن ومعرفتها فیه وفناؤها فی الخارج تصوراً وتصدیقاً، فلذلک تصلح لاصدار حکم تصدیقی علیها فیه.

والخلاصة: أن الجملة الناقصة بلحاظ مدلولها الوضعی لا تصلح لاصدارحکم تصدیقی علیها فی الخارج، لما تقدم من أنها موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة فی وعاء الذهن، وهی لا تحکی عن الخارج إلا بتبع حکایة طرفیها تصوراً لاتصدیقاً، وهذا بخلاف الجملة التامة، فإنها تحکی عن الخارج تصوراً وتصدیقاً،

ص:29

فمن أجل ذلک تصلح الجملة التامة لاصدار حکم تصدیقی علیها دون الناقصة.

وبکلمة، إن الجملة التامة تتمیز عن الجملة الناقصة فی المدلول التصوری والتصدیقی معاً، أما فی الأول فلأن الجملة التامة موضوعة للدلالة علی النسبة التی تلحظ بالنظر التصوری فانیة فی واقع مفروغ عنه فی الخارج، فإذا قیل «زیدعالم» کان المتبادر منه فی الذهن النسبة بینهما کذلک، والجملة الناقصة موضوعة للدلالة علی النسبة التی لم تلحظ کذلک إلا فانیة فی نفسها، ولهذا کان ذلک هوالمتبادر منها عرفاً، فإذا قیل «غلام زید» مثلاً أو «الصلاة فی المسجد» کان هذا هو المنسبق منه، وأما فی الثانی فلأن المدلول التصدیقی للجملة التامة هو قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، وهذا عبارة اخری عن أن غرض المتکلم من احضارها فی ذهن السامع، هو جعلها وسیلة ومورداً للحکم التصدیقی فی الخارج، ولهذا یصح السکوت علیها، بینما المدلول التصدیقی للجملة الناقصة هو قصد تفهیم نفسها واخطارها فی ذهن السامع بدون جعلها مورداً للحکم التصدیقی ووسیلة له.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن الجملة إذا کانت مفادها مورداً للحکم التصدیقی خارجاً، فهی تامة ویصح السکوت علیها فی مقام الافادة، وإذا لم یکن مفادها کذلک، فهی ناقصة ولا یصح السکوت علیها.

هذا تمام کلامنا فی تعیین مدلول الجملة الناقصة والتامة وامتیاز مدلول مدلول الجمل المتمحضة فی الانشاء الاُولی عن مدلول الثانیة.

وأما الکلام فی المقام الثالث فیقع فی موردین:

الأول: فی الجمل المتمحضة فی الانشاء.

ص:30

الثانی: فی الجمل المشترکة بین الانشاء والاخبار.

أما المورد الأول فالکلام فیه یقع فی مرحلتین:

الاُولی: فی تعیین مدلولها وضعاً.

الثانیة: فی الفارق بینهما وبین الجمل المتمحضة فی الاخبار.

أما الکلام فی المرحلة الاُولی ففیها أقوال:

القول الأول: أن الجملة الانشائیة کصیغة الأمر موضوعة بإزاء الطلب وصیغة الاستفهام موضوعة للإستفهام وصیغة التمنی موضوعة للتمنی وصیغة الترجی للترجی.

وغیر خفی أن هذا القول مجمل المراد، وذلک لأنه إن ارید بوضع هذه الصیغ للمعانی المذکورة إیجاد مصادیقها بها حقیقة فی عالم الخارج فهو واضح البطلان، وذلک لأن مصادیق تلک المعانی فی الخارج أمور تکوینیة غیر قابلة للانشاء بها، لأنها تتبع عللها التکوینیة الواقعیة وتوجد بوجودها.

وإن شئت قلت: إن مصادیق المعانی المذکورة فی الخارج من الصفات النفسانیة الحقیقیة القائمة بالنفس کصفات التمنی والترجی والطلب والاستفهام، ولهذا قد تکون داعیة للانشاء بالصیغ المذکورة لا أنها منشأة.

وإن ارید إیجاد هذه المعانی فی الذهن، فیرده أن الایجاد التصوری اللحاظی غیر مأخوذ فی مدلول الألفاظ، لوضوح أنها لم توضع بإزاء إیجاد معانیهاتصوراً، وإن ارید به الایجاد الاعتباری فی عالم الاعتبار، فیرد علیه أن الایجاد الاعتباری إنما هو باعتبار المعتبر مباشرة، ولا یعقل أن یکون فعلاً له بالتسبیب، سواء أکان بسبب اللفظ أم کان بغیره، وإن ارید به مفهوم الطلب أو الاستفهام أو

ص:31

التمنی أو الترجی، فیرد علیه أنه مفهوم اسمی، فلا یمکن أن یکون مدلولاً للجملة الانشائیة، وإن ارید به الایجاد الانشائی فی عالم الانشاء بنفس هذه الصیغ بلحاظ أنه معناه الموضوع له، فیرد علیه أن الکلام إنما هو فی حقیقة هذا الوجودالانشائی وحدوده سعة وضیقاً، وهی مسکوت عنها فی هذا القول.

مدلول الجمل المتمحضة فی الانشاء

ومن هنا یظهر أن ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره من أن هذه الصیغ موضوعة للوجود الانشائی الایقاعی(1) مما لا یمکن المساعدة علیه.

وذلک لأنه إن ارید بالوجود الانشائی الوجود الاعتباری، فیرد علیه أنه قائم باعتبار المعتبر مباشرة، ولا یعقل فیه التسبیب، وإن ارید به الوجود الانشائی المنشأ بها بلحاظ أنه مدلولها وضعاً، فالکلام إنما هو فی حقیقة هذا الوجود، والمفروض أنه غیر مبین فی کلامه قدس سره وسیأتی توضیحه.

القول الثانی: ما ذهب إلیه المحقق العراقی قدس سره من أن الجملة الانشائیة کصیغة الأمر وصیغتی التمنی والترجی وأداة الاستفهام موضوعة بإزاء النسب، کالنسبة الطلبیة والتمنیة والترجیة والاستفهامیة، وهذه النسبة فی الجملة الطلبیة کقولک «صلِّ»، متقومة ذاتاً وحقیقة بالمادة ومفهوم الطلب الذی هو مفهوم اسمی، وفی الجملة الاستفهامیة کقولک «هل زید قائم»، متقومة ذاتاً وحقیقة بالجملة التامة المدخول علیها الأداة ومفهوم الاستفهام، وفی جملة التمنی أو الترجی متقومة کذلک بالجملة المدخول علیها أداة التمنی أو الترجی ومفهومه، لأن الجملة المدخول علیها أدوات الاستفهام والتمنی والترجی بمثابة المادة لهیئات هذه الجمل التی یکون مدلولها النسب الاستفهامیة والترجیة والتمنیة.

ص:32


1- (1) کفایة الاصول ص 69.

وعلی هذا ففی الجملة الاستفهامیة، مثل قولک «هل زید عالم» نسبتان: الاُولی بین زید وعالم، الثانیة بین مفهوم الاستفهام والجملة المستفهم عنهاوهی جملة «زید عالم»، وتدل الجملة الاستفهامیة علی النسبة الاستفهامیة بتعدد الدال والمدلول، بأن یکون الدال علی النسبة الاُولی الجملة المدخول علیها الأداة والدال علی النسبة الثانیة الجملة الاستفهامیة، وکذلک الحال فی الجملة التمنیة والترجیة(1).

وقد یورد علی هذا القول بإیرادین:

الأول: أن أحد طرفی النسبة فی الکلام وهو الدال علی مفهوم الاستفهام غیرمذکور فیه، ولازم ذلک هو أن یکون الکلام علی مستوی مدلوله اللفظی ناقصاً، وعلیه فلا یمکن أن یدل علی هذه النسبة، إذ لو دلّ علیها، فبطبیعة الحال یدل علی طرفیها الموجودین فیه، حیث إنه لا یعقل وجودالنسبة بدون وجود طرفیها(2).

والجواب: أن مفهوم الاستفهام مفهوم ثانوی ولیس مدلولاً مطابقیاً للفظ، فإن المدلول المطابقی للفظ هو المفهوم الذی یرد علی الذهن من الخارج مباشرة دون المفهوم الثانوی، فإنه لم یرد علی الذهن من الخارج کذلک، بل هو منتزع من المفهوم الأولی، ولا موطن له إلاّ الذهن، ولا یکون مدلولاً للفظ، وعلی هذا فلاتکون الجملة الاستفهامیة ناقصة علی مستوی مدلولها اللفظی، وذلک لأن کلمة «هل» فی قولک «هل زید عالم» تدل علی النسبة المذکورة التی یکون أحدطرفیها مفهوم الاستفهام والطرف الآخر الجملة التامة المدخول علیها الأداة بعنوان المستفهم عنها، وعلیه فطرفا النسبة الاستفهامیة من المفاهیم الثانویة،

ص:33


1- (1) نقله عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 296.
2- (2) (2) أورده فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 297.

وهما مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه، فلذلک لا یکون مدلولاً للفظ بالمطابقة، لأنه منتزع من المفهوم الأول ولیس مدلولاً للفظ مباشرة، وعلیه فعدم دلالة الکلام علی مفهوم الاستفهام بالمطابقة، لا یؤدی إلی کونه ناقصاً علی مستوی مدلوله اللفظی، لفرض أنه لیس مدلولاً للفظ کما عرفت، وحیث إن النسبة لاتتصور إلاّ بین المنتسبین، فیکون الطرف الآخر لها، وهو مفهوم الاستفهام مستفاد من الأداة، علی أساس أنها تدل علی النسبة بالمطابقة وعلی طرفیها بالتبع باعتبار أنها لا یعقل بدونهما، ونفس الشیء یقال بالنسبة إلی سائر الجمل الانشائیة، کالجمل التمنیة أو الترجیة أو الطلبیة، علی أساس أن هذه النسب أیضاً نسب ثانویة، حیث إن طرفیها من المفاهیم الثانویة.

والخلاصة: أن أداة الاستفهام أو التمنی أو الترجی أو هیئة الجملة الاستفهامیة أو التمنیة أو الترجیة التی تدل علی النسبة الاستفهامیة أو التمنیة أو الترجیة بالمطابقة تدل علی طرفیها بالالتزام والتبع، وهما مفهوم الاستفهام الذی هومفهوم اسمی والمستفهم عنه وهو الجملة التامة المدخول علیها الأداة، وعلی هذا فلاتکون الجملة ناقصة علی مستوی مدلولها اللفظی، فإذن لا اشکال فی هذا القول من هذه الناحیة.

ولکن الذی یرد علیه أن النسبة المذکورة التی تدل علیها الأداة أو الهیئة المتحصلة من دخولها علی الجملة إنما هی نسبة بین المستفهم والمستفهم عنه، لابین مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه، لأن مفهوم الاستفهام مفهوم اسمی، ولا تدل الأداة أو الهیئة علی النسبة بینه وبین الجملة المدخول علیها الأداة، بل تدل علی النسبة بین المستفهم والمستفهم عنه.

هذا إضافة إلی أن مفهوم الاستفهام مفهوم لحاظی منتزع من النسبة

ص:34

الاستفهامیة لا طرف لها، فلذلک لا یصلح أن یکون طرفاً للنسبة.

الثانی: أن هذه النسبة التی هی بین مفهوم الاستفهام والجملة المستفهم عنهالا تخلو من أن تکون نسبة تامة واقعیة فی صقع الذهن أو ناقصة تحلیلیة، وکلتاهما غیر معقولة.

أما الأول فلأن ملاک النسبة التامة أن یکون موطنها الأصلی الذهن، وأما النسب الخارجیة الأولیة لا یمکن أن ترد إلی الذهن إلا ناقصة، والمقصود بالنسب الخارجیة، کلما ما کان خارج الذهن بوصفه وعاء للتصور واللحاظ، سواء أکان موجوداً فی عالم الخارج أی المادة أم فی عالم النفس، ونتیجة ذلک أنه لا یمکن أن تکون النسبة الاستفهامیة تامة، لأنها ثابتة خارج الذهن ولو کان هوعالم النفس الذی هو موطن الاستفهام.

وأما الثانی، فهو غیر معقول فی المقام، لأن طرفی النسبة التحلیلیة مع نفس النسبة یوجدان بوجود واحد فی صقع الذهن، وذلک الوجود الواحد ینحل إلی أجزاء ثلاثة منها النسبة، ومن الواضح أن الصورة الموجودة فی الذهن من الجملة الاستفهامیة لیست صورة واحدة کصورة الانسان مثلاً وانحلالها عقلاً إلی ذات القید وذات المقید والتقیّد، بل الموجود فیه صورة جملة تامة، وهی المرکبة من المقید وهو الجملة المستفهم عنها، والقید وهو المستفهم، والنسبة بینهما، فالنتیجة أنه لا ینطبق ضابط النسبة التامة علی النسبة الاستفهامیة، ولاضابط النسبة الناقصة التحلیلیة(1).

والجواب: ما تقدم موسعاً من أن النسبة سواء أکانت فی الجملة التامة

ص:35


1- (1) أورده فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 297.

أم الناقصة ثابتة فی الذهن بنفسها لا بوجودها اللحاظی، لأن الملحوظ بهذا اللحاظ فیه مفهوم اسمی لا حرفی، وانهابنفسها لا تتصف بالتمامیة والنقصان إلاّ بالتبع.

وبکلمة، قد أشرنا فی غیر مورد أن الذهن ظرف لنفس النسبة لا لوجودها التصوری لاستحالة أن توجد النسبة فی الذهن، لأن ما وجد فیه تصوراً إنما هومفهوم النسبة لا واقعها، والمفروض أن مفهوم النسبة لیس بنسبة بالحمل الشائع، لأنه مفهوم اسمی ولیس بحرفی، وعلی هذا فالنسبة الاستفهامیة نسبة ثابتة فی الذهن بنفسها لا بوجودها التصوری اللحاظی، حیث إنه لا یعقل أن یکون لها وجود کذلک، فإذن لا یکون الذهن وعاءً وظرفاً لوجود النسبة، وإنماهی ثابتة فیها بنفسها لا بوجودها اللحاظی التصوری، فإذن یکون المراد من ثبوت النسبة الاستفهامیة فی عالم النفس دون عالم الذهن ثبوتها بنفسها لابوجودها اللحاظی التصوری فی عالم الذهن الذی هو وعاء له.

فالنتیجة أن النسبة الاستفهامیة نسبة واقعیة ثابتة بنفسها فی الذهن لابوجودها التصوری، وهذا لا ینافی ثبوتها فی عالم النفس.

ولکن الذی یرد علی هذا القول هو أن أحد طرفی النسبة الاستفهامیة لیس مفهوم الاستفهام بل المستفهم، لأن مفهوم الاستفهام مفهوم انتزاعی منتزع من النسبة المذکورة فی وعاء الذهن، فلا یصلح أن یکون طرفاً لها.

القول الثالث: ما اختاره المحقق الأصبهانی قدس سره من أن الجمل المتمحضة فی الانشاء کالجملة الاستفهامیة موضوعة بإزاء النسبة بین المستفهم

ص:36

والجملة المستفهم عنها، ولا وعاء لها إلاّ وعاء الاستفهام، لأنها توجد فیه، فإذا قیل «هل زید قائم»، دلت کلمة (هل) أو هیئة الجملة الاستفهامیة علی النسبة بین المستفهم والسائل وبین القضیة المستفهم والمسئول عنها، وهذه النسبة أی النسبة الاستفهامیة غیر النسبة فی الجملة المدخول علیها کلمة «هل»، فإنها بین زیدوقائم، وتلک بین المستفهم والجملة المستفهم عنها، وتوجد فی وعاء الاستفهام عند وجود الجملة الاستفهامیة ودلالتها علیها، باعتبار أن الأداة أو الهیئة تدل علی واقع الاستفهام، والسؤال الذی هو بالحمل الشائع عین الربط والنسبة بینهما، وکذلک الحال فی الجملة التمنیة والترجیة، وأما مفهوم الاستفهام والتمنی والترجی، فهو مفهوم اسمی ولیس بحرفی ولا تدل الأداة علیه(1).

وغیر خفی أن هذا القول هوالصحیح وموافق للمتفاهم العرفی الإرتکازی من الجمل الاستفهامیة ونظیراتها، فإذا قیل «هل زید عالم» کان المتبادر منه واقع الاستفهام عن ثبوت العلم لزید فی الخارج، ومن الواضح أن الاستفهام متقوم ذاتاً وحقیقةً بشخص المستفهم والمستفهم عنه، لأنه نسبة بینهما بالحمل الشائع، وهذه النسبة التی تسمی بالنسبة الاستفهامیة غیرالنسبة فی الجملة المدخول علیها الأداة، لأنها بین زید وعالم فی المثال، ومباینة لها من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منهما مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، وعلی هذا فالجملة الاستفهامیة تدل علی النسبة بین المستفهم والجملة المستفهم عنها بتعدد الدال والمدلول، فإنها تدل علی هذه النسبة، والجملة المدخولة تدل علی النسبة فیها، غایة الأمر أن هذه النسبة تخرج عن صلاحیة الحکایة إذا دخلت علیها الأداة.

القول الرابع: ما اختاره بعض المحققین قدس سره، وحاصل ما اختاره أن مفادالجملة الاستفهامیة واضرابها أو مفاد الأداة لیس نسبة مغایرة للنسبة المدلول علیها بالجملة المدخول علیها الأداة بل هو متمم لها.

ص:37


1- (1) نقله عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 297.

بیان ذلک أن النسبة بین «زید» و «عالم» فی مثل قولنا «هل زید عالم» لیس لها رکنان فحسب، بل لابد من رکن ثالث لها، علی أساس أن النسبة التصادقیة لا معنی لها إلاّ بلحاظ وعاء یکون فیه التصادق، فإن الذهن یتصور «زید» و «عالم» متصادقین علی شیء فی عالم من العوالم خارج الذهن، وهذا العالم فی الجملة الخبریة المجردة عن الأداة عالم التحقق والثبوت، وفی الجملة الاستفهامیة عالم الاستفهام والسؤال، وفی الجملة التمنیة عالم التمنی، وفی الجملة الترجیة عالم الترجی وهکذا، ویکون المعنی فی الجملة الاُولی تصادق المفهومین فی وعاء التحقق والثبوت، وفی الجملة الثانیة تصادقهما فی وعاء الاستفهام، وفی الجملة الثالثة وعاء التمنی، وفی الجملة الرابعة وعاء الترجی وهکذا، ولیس المقصود من هذا الطرف الثالث وجود مفهوم اسمی ثالث للنسبة التصادقیة علی حد مفهوم «زید» و «عالم»، بل وجود رکن ثالث لقوام النسبة التصادقیة، فإنها بحاجة إلی وعاء یصدق بلحاظه المفهومان.

وإن شئت قلت: إن النسبة التصادقیة بین مفهومین لها حصص عدیدة إحداها النسبة التصادقیة بلحاظ وعاء التحقق، والاُخری بلحاظ عالم السؤال والاستفهام، والثالثة بلحاظ عالم التمنی وهکذا، وتعیین احدی هذه الحصص یکون بالأداة الداخلة علی الجملة أو بتجردها عن کل أداة کما فی الجملة الخبریة التامة(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أن مفاد الجملة الاستفهامیة کقولک «هل زیدقائم»، واضرابها، نسبة مغایرة للنسبة المدلول علیها بجملة «زید قائم» التی دخلت علیها الأداة، وذلک لما تقدم من أن مغایرة کل نسبة عن نسبة اخری إنما

ص:38


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 298.

هی بمغایرة المقومات الذاتیة لکل منهما للمقومات الذاتیة للاُخری، وحیث إن المقومات الذاتیة للنسبة الاستفهامیة التی هی مفاد الأداة أو الهیئة المتحصلة من دخولها علی الجملة، مباینة للمقومات الذاتیة للنسبة التی هی مفاد جملة «زیدقائم» التی هی المدخول علیها الأداة، لأن الاُولی متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجودی المستفهم والجملة المستفهم عنها، والثانیة متقومة کذلک بشخص وجودی «زید» و «قائم»، فإذن لا محالة تکون النسبة الاستفهامیة مغایرة للنسبة المدلول علیها بجملة «زید قائم»، وعلی هذا فموطن النسبة الاستفهامیة عالم الاستفهام، وموطن النسبة المدلول علیها بجملة «زید قائم» الذهن، فهنانسبتان وتدل علیهما الجملة الاستفهامیة بتعدد الدال والمدلول، فإن أداة الاستفهام تدل علی النسبة الاستفهامیة، والجملة المدخول علیها الأداة ک «زیدقائم» تدل علی النسبة بینهما، فوعاء الاُولی عالم الاستفهام والسؤال، ووعاء الثانیة عالم الذهن بحسب مرحلة التکوین، وعالم التحقق بحسب مرحلة التصادق نفیاً وإثباتاً، فإذن لا یمکن القول بأن مفاد الجملة الاستفهامیة واضرابها لیس نسبة مغایرة للنسبة المدلول علیها بجملة «زید قائم» فی المثال التی دخلت علیها الأداة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن النسبة التصادقیة لیست مدلولاً وضعیاً للجملة وإنماهی مدلول تصدیقی لها ومتمثلة فی النسبة الخارجیة، فإن عالم الخارج والتحقق هو وعاء تصادق مفهومی طرفی النسبة الذهنیة، والمدلول الوضعی للجملة انماهو النسبة الواقعیة الذهنیة التی یکون الذهن ظرفاً لنفسها وتحکی عن النسبة الخارجیة بتبع اطرافها.

فالنتیجة أنه لا یمکن المساعدة علی هذا القول.

ص:39

القول الخامس: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أن الجملة الانشائیة موضوعة لإبراز أمر اعتباری نفسانی من الوجوب أو الحرمة أو الملکیة أو الزوجیة أو الاستفهام أو التمنی أو الترجی، وقد أفاد فی وجه ذلک أنه لیس فی موارد الجمل الانشائیة عند التحلیل إلاّ اعتبار شیء فی صقع الذهن وابرازه فی الخارج بمبرز ما، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن ما هو المشهور والمعروف بین الأصحاب من أن الانشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ لا یرجع إلی معنی محصل، وذلک لأنه إن ارید بالایجاد الایجاد التکوینی کإیجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من الضروریات التی لا تقبل النزاع، بداهة أن الانشاء من المولی بما هو مولی لایمکن تعلقه بالموجودات الخارجیة بشتی اشکالها وأنواعها، فإنها توجد بوجود اسبابها وعللها التکوینیة، والمفروض أن الألفاظ لیست واقعة فی سلسلة عللها وأسبابها لکی توجد بها، وإن ارید به الایجاد الاعتباری کإیجاد الوجوب والحرمة أو الملکیة والزوجیة وغیر ذلک، فیرد علیه أن الایجاد الاعتباری بید المعتبر وجوداً وعدماً، لأنه فعل اختیاری له مباشرة، ولا یعقل فیه التسبیب، ومن هنا یکفی فی تحققه نفس الإعتبار النفسانی من دون حاجة إلی اللفظ والتلفظ به، ولا یعقل أن تکون الجملة الانشائیة سبباً وعلة لإیجاده، وإلاّ لکان فعلاً تسبیباً وهذا خلف، نعم یکون اللفظ مبرزاً له فی الخارج لا موجداً له، وأما الإعتبار الشرعی أو العقلائی، فهو مترتب علی الجملة الانشائیة إذا استعملت فی معناها الموضوع له لا مطلقاً، والکلام فعلاً إنما هو فی تعیین هذا المعنی وتحدیده سعةً أو ضیقاً(1).

ص:40


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 81 و 88.

ما ذکره قدس سره یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: أن الجملة الانشائیة موضوعة للدلالة علی قصد ابراز أمر اعتباری نفسانی خاص، علی أساس أن کل متکلم یتعهد بأنه متی ما قصد ابراز ذلک یتکلم بالجملة الانشائیة، مثلاً إذا قصد ابراز اعتبار الملکیة، یتکلم بصیغة «بعت» أو «ملکت»، وإذا قصد ابراز اعتبار الزوجیة، یبرزه بقوله «زوجت» أو «أنکحت»، وإذا قصد إبراز اعتبار کون المادة علی عهدة المخاطب، یتکلم بصیغة «افعل» أو نحوهما وهکذا.

ومن هنا قلنا إنه لا فرق بینهما وبین الجملة الخبریة فی الدلالة الوضعیة والإبراز الخارجی، فکما أنها موضوعة للدلالة علی ابراز أمر اعتباری کالملکیة والزوجیة ونحوهما، فکذلک تلک موضوعة للدلالة علی ابراز قصد الحکایة والاخبار عن الواقع.

الثانیة: أن ما هو المعروف والمشهور بین الأصحاب من أن الجملة الانشائیة موضوعة للدلالة علی إیجاد المعنی فی الخارج لا یرجع إلی معنی محصل.

ولکن کلتا النقطتین قابلة للنقد والمناقشة:

أما النقطة الاُولی فلأنها مبنیة علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، وهو التعهد والالتزام النفسانی، فإنه یقتضی أن تکون الجملة الانشائیة موضوعة للدلالة علی قصد ابراز أمر اعتباری نفسانی فی الخارج، ولکن ذکرنا فی باب الوضع موسعاً أن هذا المسلک غیر تام فلا نعید.

هذا إضافة إلی أن الوضع بمعنی التعهد لا یقتضی وضع الجمل الانشائیة للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، إذ کما یمکن ذلک یمکن أن

ص:41

تکون موضوعة للدلالة علی قصد اخطار الأمر الاعتباری النفسانی فی الذهن، لأن الوضع بهذا المعنی وإن کان یقتضی أخذ الإرادة والقصد فی المعنی الموضوع له أو العلقة الوضعیة، باعتبار أن التعهد والالتزام لابد أن یکون متعلقاً بفعل اختیاری قصدی، وأما کون متعلق القصد الإبراز أو الاخطار، فهو لا یقتضی ذلک، وکیف کان فما ذکره قدس سره مبنی علی مسلکه فی باب الوضع، وأما علی سائر المسالک فیه، فلا یتم ما أفاده کما سوف نشیر إلیه.

وأما النقطة الثانیة فمن الواضح جداً أن مراد المشهور من الایجاد لیس هو الایجاد التکوینی الخارجی، علی أساس أنه لا یمکن إیجاده بالانشاء باللفظ، ولا الایجاد الاعتباری، فإنه بید المعتبر مباشرة ولا یعقل فیه التسبیب، بل مرادهم منه الایجاد الانشائی التصوری، علی أساس أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة بحتة بدون فرق فی ذلک بین الألفاظ المفردة والألفاظ المرکبة من الجملات الخبریة والانشائیة، ومعنی الایجاد الانشائی التصوری هو أن المتبادر من الجملة الانشائیة کصیغة الأمر مثلاً النسبة المولویة البعثیة الطلبیة الفانیة فی واقع یری بالنظر التصوری ثبوته بنفس هذه الجملة، بینما کان المتبادر من الجملة الخبریة النسبة الفانیة فی واقع یری بالنظر التصوری مفروغاً عنه، هذا هو الفارق بینهمافی المدلول التصوری، فیکون هذا الفرق من شؤون مرحلة المدلول الوضعی، وأما فی مرحلة المدلول التصدیقی، فالصیغة تدل علی إرادة المولی تحرک المأمورنحو المادة وکشفها عن هذه الإرادة الجدیة، بینما الجملة الخبریة تدل علی إرادة المخبر الحکایة والاخبار عن ثبوت ذلک الأمر المفروع عنه فی الواقع أو نفیه فیه.

وعلی هذا فالظاهر أن المشهور أرادوا بتفسیر الانشاء بالایجاد وضع الجملة الانشائیة بإزاء معنی لا واقع له الا فی وعاء الانشاء، فإن کانت الجملة الانشائیة

ص:42

طلبیة فوعاؤه عالم الطلب، وإن کانت استفهامیة فوعاؤه عالم الاستفهام، وإن کانت تمنیة فوعاؤه عالم التمنی وإن کانت ترجیة فوعاؤه عالم الترجی وهکذا، فإذاکانت الجمل الانشائیة موضوعة بإزاء المعانی الموجودة فی هذه الأوعیة ودالة علی اخطارها فی ذهن السامع وإن کانت صادرة من لافظ بغیر شعور واختیارکانت معانیها إیجادیة، یعنی لا واقع موضوعی لها ماعدا ثبوتها فی تلک الأوعیة، فالایجادیة صفة للمعنی لا أنها صفة للفظ، لأن اللفظ لا یکون سبباً وعلة لإیجاده، فالجملة الانشائیة تدل علی معنی لا واقع موضوعی له فی الخارج، ولذلک لا تتصف بالصدق والکذب، وهذا بخلاف الجملة الخبریة، فإنها تدل علی معنی له واقع موضوعی، ولهذا تتصف بالصدق والکذب من جهة أنهاقدتکون مطابقة للواقع وقد تکون مخالفة له. تحصل من ذلک أن الایجادیة صفة للمعنی وقائمة به بلحاظ وعائه لا للجملة، واتصافها بها إنما هو بالعرض وبلحاظ معناها لا فی نفسها.

فالنتیجة أن مراد المشهور من أن الانشاء إیجاد المعنی باللفظ هو الایجاد الانشائی التصوری، لا الایجاد التکوینی ولا الایجاد الاعتباری، وهذا هوالظاهر من الجملة الانشائیة بشتی أنواعها وأشکالها.

وبکلمة، إن صیغة «افعل» موضوعة للدلالة علی معنی فان فی واقع یری بالنظر التصوری ثبوته بنفس هذه الصیغة فی وعاء الطلب، وهو النسبة الطلبیة المولویة، وصیغة الاستفهام موضوعة للدلالة علی معنی - وهو النسبة الاستفهامیة - فإن فی واقع یری باللحاظ التصوری ثبوته بنفس هذه الصیغة فی وعاء الاستفهام، وکذلک الحال فی صیغة التمنی والترجی وما شاکلهما، وبذلک تفترق الجملة الانشائیة عن الجملة الخبریة فی مرحلة المدلول الوضعی

ص:43

التصوری، کما أنها تفترق عنها فی مرحلة المدلول التصدیقی، هذا تمام الکلام فی المرحلة الاُولی وهی تعیین المدلول الجمل المشترکة بین الانشاء والاخبار.

الوضعی الذاتی للجملة الانشائیة.

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة فیقع فی تمییز الجمل المختصة بالانشاء عن الجمل المختصة بالاخبار، وهذا یختلف باختلاف المبانی فی تفسیرهما.

اما علی مبنی السید الاُستاذ قدس سره فکلتا الجملتین تشترک فی الدلالة الوضعیة، وهی الدلالة علی قصد المتکلم وإرادته، وتختلف فی سنخ المقصود، فإنه فی الجملة الاُولی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، وفی الجملة الخبریة الحکایة والاخبار عن الثبوت والتحقق فی الواقع أو نفیه، فلهذا لا تتصف الاُولی بالصدق والکذب، علی أساس أنه لا واقع موضوعی لمدلولها فی الخارج لکی یتصف بالصدق إذا کان مطابقاً للواقع، وبالکذب إذا لم یکن مطابقاً له، وتتصف الثانیة بالصدق والکذب باعتبار أن لمدلولها واقعاً موضوعیاً قد یکون مطابقاً له وقدیکون مخالفاً له، فعلی الأول تتصف بالصدق، وعلی الثانی بالکذب.

الجمل المشترکة بین الانشاء والاخبار

وأما علی القول الرابع فلا اختلاف بین الجملتین فی ذات المدلول الوضعی وهوالنسبة، وإنما الإختلاف بینهما فی وعائها، مثلاً جملة «زید قائم» موضوعة للدلالة علی النسبة بینهما، ووعاؤها

ص:44

عالم التحقق والثبوت فی مرحلة التصادق، وإذا دخلت علیها أداة الاستفهام کجملة «هل زید قائم» دلت الأداة أو الهیئة المتحصلة من دخولها علیها علی تلک النسبة فی وعاء الاستفهام، فالفرق بینهاوبین الجملة المجردة عن الأداة إنما هو فی الوعاء، وکذلک إذا دخلت علیها أداة التمنی أو الترجی دلت علی نفس النسبة فی وعاء التمنی أو الترجی وهکذا.

والخلاصة: أن النسبة لما کانت بحاجة إلی رکن ثالث - وهو الوعاء - زائداً علی طرفیها، فهذا الرکن فی الجملة الخبریة إذا کانت مجردة عن الأداة عالم التحقق والثبوت، باعتبار أن طرفی النسبة متصادقان علی شیء واحد فیه، وفی الجملة الانشائیة إذا کان استفهامیة عالم الاستفهام، وإذا کانت تمنیة عالم التمنی وهکذا.

وعلی هذا فالفرق بین الجملة الانشائیة والخبریة إنما هو فی وعاء المدلول التصوری الوضعی لا فی ذاته، لأن المتبادر من الجملة الاستفهامیة النسبة الاستفهامیة التصادقیة فی وعاء الاستفهام وإن کانت الجملة صادرة من متکلم بغیر شعور واختیار، والمتبادر من الجملة التمنیة، النسبة التمنیة التصادقیة فی وعاء التمنی وهکذا، والمتبادر من الجملة الخبریة، النسبة التصادقیة فی وعاءالتحقق والخارج.

وأما بناءً علی ما قویناه فتفترق الجملة الانشائیة من الجملة الخبریة فی النسبة والوعاء معاً، فإن الجملة الانشائیة الاستفهامیة موضوعة للدلالة علی النسبة بین المستفهم والجملة المستفهم عنها فی عالم الاستفهام، والجملة التمنیة موضوعة للدلالة علی النسبة بین المتمنی والجملة المتمنی عنها وهکذا، والجملة الخبریة «کزید عالم» موضوعة للدلالة علی النسبة التصادقیة بینهما فی عالم التحقق والثبوت، وهذه النسبة مغایرة للنسبة فی الجملة الانشائیة، من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منهما مغایرة للمقومات الذاتیة للاُخری.

ثم إن إیجادیة المعنی الانشائی کما مرّ إنما هی بلحاظ ثبوته فی وعاء لاواقع موضوعی له فی الخارج، کما أن حکائیة المعنی الاخباری إنما هی بلحاظ ثبوته فی الواقع.

وأما الکلام فی المورد الثانی، فیقع فی الجملة المشترکة وهی الجملة الخبریة التی تستعمل

ص:45

فی مقام الانشاء المعاملی کجملة «بعت» أو «اشتریت» أوفی مقام إنشاء البعث والطلب کجملة «یعید» أو «أعاد» وهکذا.

وهل یکون استعمالها فی مقام الانشاء فی معنی آخر مغایر لمعناها فی مقام الاخبار، فیه أقوال:

القول الأول: ما اختاره المحقق الأصبهانی قدس سره من أن مفاد «بعت» إخباراً وإنشاءاً واحد، وهو نسبة إیجاد المادة إلی المتکلم، وهیئة «بعت» مستعملة فیها، وهذه النسبة الایجادیة الواقعة بین المادة والمتکلم إن قصد الحکایة عن ثبوتها فی الواقع فالجملة خبریة، وان قصد إیجادها التنزیلی اللفظی فی عالم الانشاء فالجملة انشائیة(1).

ونتیجة ما أفاده قدس سره هی أن المدلول الوضعی التصوری للجملة المشترکة واحد، وهو النسبة الایجادیة بین المادة والمتکلم، فإنها تدل علیها وضعاً وإن کان صدورها عن لافظ بغیر شعور واختیار، وحینئذ فإن کان فی مقام الانشاءکان یقصد إیجاد هذه النسبة خارجاً بوجودها التنزیلی اللفظی، ولیس وراء ذلک أمر آخر، وإن کان فی مقام الاخبار کان یقصد - زیادة عن ثبوت المعنی تنزیلاً - الحکایة عن ثبوته فی موطنه.

والخلاصة: أن الجملة المشترکة بین الاخبار والانشاء إذا استعملت فی مقام الاخبار، فقد احتوت علی نقطة زائدة، وهی قصد الحکایة عن ثبوت المعنی فی عالم التحقق والخارج زائداً علی قصد اخطاره فی ذهن السامع وإیجاده التنزیلی بالوجود اللفظی.

وما ذکره قدس سره یرجع إلی نقطتین:

ص:46


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 62 و 275.

الاُولی: أن المدلول التصوری الوضعی فی الجمل المشترکة بین الاخبار والانشاء واحد، وهو إیجاد النسبة المتعلقة بالمادة بالوجود اللفظی التنزیلی واخطارها فی ذهن السامع.

الثانیة: أنها فی مقام الاخبار تتضمن نکتة زائدة، وهی قصد الحکایة عن ثبوت النسبة المذکورة فی موطنها وعدم ثبوتها فیه.

ولنأخذ بالنظر علی کلتا النقطتین:

أما النقطة الاُولی: فیرد علیها ما سوف نشیر إلیه فی ضمن البحوث القادمة، من أن الجمل المشترکة موضوعة بإزاء ذات النسبة المناسبة لکلا النحوین من اللحاظ التصوری الحکائی والایجادی، وتدل علیها بتعدد الدال والمدلول، بأن تدل ذات الجملة علی ذات النسبة، وخصوصیتها علی خصوصیتها من الایجادیة أو الحکائیة، فالجملة فی مقام الاخبار تدل علی نسبة فانیة بالنظر التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی الخارج، وفی مقام الانشاء تدل علی نسبة فانیة فی مصداق یری بالنظر التصوری ثبوته بنفس هذه الجملة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إن ما ذکره قدس سره - من أن المدلول الوضعی لهذه الجملة النسبة بین المادة والمتکلم، والجملة مستعملة فیهاسواء أکانت فی مقام الاخبار أم الانشاء، غایة الأمر إذا کانت فی مقام الاخبار قصد أمراً زائداً علیها، وهوالحکایة عنها فی الواقع - لا یمکن المساعدة علیه، لأن الموضوع له لها إذا کان النسبة الایجادیة بینهما، فهی لا تتصف بالحکائیة لا تصوراً ولا تصدیقاً، أما الأول فلأن النسبة الحکائیة بالنظر التصوری هی النسبة الفانیة بهذا النظر فی واقع مفروغ عن ثبوته فی الخارج، ومن الواضح أن هذا فی مقابل النسبة الفانیة بالنظر التصوری فی مصداق یری ثبوته ووجوده بنفس الجملة، فلذلک لا یمکن الجمع

ص:47

بینهما، وأما الثانی فلأنه لا یمکن أن یقصد المتکلم الحکایة عن هذه النسبة التی لا واقع لها غیر وجودها بین المادة والمتکلم الحاصلة بنفس الجملة، ومن هناکان المتبادر منها بالتبادر التصوری فی مقام الاخبار غیر ما هو المتبادر منها بهذا التبادر فی مقام الانشاء.

ومن ناحیة ثالثة، إن تفسیره الایجاد بالایجاد التنزیلی اللفظی مبنی علی أن معنی الوضع عنده هو تنزیل وجود اللفظ وجوداً للمعنی، ولکن قد تقدم أن هذا التفسیر للوضع تفسیر خاطیء لا یمکن الالتزام به، ومن هنا یکون استعمال اللفظ فی المعنی یقتضی التغایر والإثنینیة، لا أنه یتطلب الإتحاد والعینیة بالتنزیل والإعتبار.

وأما النقطة الثانیة: فیرد علیها مامرّ الآن من أن قصد الحکایة عن النسبة الایجادیة بین المادة والمتکلم التی لاثبوت لها بالنظرالتصوری إلا بثبوت نفس الجملة مما لامعنی له، إذ لا واقع لها لکی یقصد الحکایة عنها، ومن الواضح أن قصد الحکایة عن النسبة، یستلزم کون النسبة حکائیة بالنظرالتصوری، علی أساس أن المدلول التصدیقی هوالمدلول التصوری، ولافرق بینهما فی نفس المدلول.

القول الثانی: ما اختاره المحقق الخراسانی قدس سره، فإنه بعد ما قوی أن المعنی الحرفی والاسمی متحدان بالذات والحقیقة ومختلفان باللحاظ الآلی والإستقلالی، قال لا یبعد أن یکون الانشاء والاخبار أیضاً من هذا القبیل، بمعنی أن طبیعی المعنی الموضوع له واحد فیهما، والإختلاف بینهما إنما هو فی الداعی، فإنه فی الانشاء قصد إیجاد المعنی، وفی الخبر قصد الحکایة عنه، وکلاهما خارجان عن حریم المعنی(1).

ص:48


1- (1) کفایة الاصول ص 12.

توضیح ذلک: أن الصیغ المشترکة کصیغة «بعت» و «ملکت» ونحوهماتستعمل فی معنی واحد مادة وهیئة فی مقام الاخبار والانشاء، وأما بحسب المادة فظاهر، لأن معناها الطبیعیُّ المهمل، وهی تستعمل فیه دائماً سواء کانت الهیئة الطارئة علیها یستعمل فی مقام الاخبار أو الانشاء، وأما بحسب الهیئة فلأنهاتستعمل فی نسبة إیجاد المادة إلی المتکلم فی کلا المقامین، غایة الأمر أن الداعی فی مقام الانشاء إنما هو إیجادها فی الخارج، وفی مقام الاخبار الحکایة عنها، فالإختلاف بینهما فی الداعی لا فی المستعمل فیه.

وإن شئت قلت: إن العلقة الوضعیة فی أحدهما غیر العلقة الوضعیة فی الثانی، فإنها فی الجمل الانشائیة تختص بما إذا قصد المتکلم إیجاد المعنی فی الخارج، وفی الجمل الخبریة تختص بما إذا قصد الحکایة عنه فیه.

وقد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن الإختلاف بین الجملة الخبریة والانشائیة، إنما هو فی المعنی الموضوع له والمستعمل فیه لا فی مجرد الداعی، بتقریب أن هذه الجمل تقسم إلی صنفین أحدهما ما یستعمل من مقام الانشاء، والآخر ما یستعمل فی مقام الاخبار.

أما الأول فهو موضوع للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت شیءفی الواقع أو نفیه فیه، والثانی موضوع للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، فالمعنی الموضوع له فی الأول هو قصد الحکایة والاخبار عن الواقع، وفی الثانی هو قصد ابراز الأمر الاعتباری من الوجوب أو الحرمة أو الملکیة أوالزوجیة أو نحو ذلک.

ویؤکد ذلک أن معنی الانشاء والاخبار لو کان واحداً بالذات والحقیقة وکان الإختلاف بینهما من ناحیة الداعی، کان اللازم أن یصح استعمال الجملة الاسمیة

ص:49

فی مقام الطلب کما یصح استعمال الجملة الفعلیة فیه، بأن یقال «إن المتکلم فی الصلاة معید صلاته»، کما یقال «إنه یعید صلاته» أو «إنه إذا تکلم فی صلاته أعاد صلاته» مع أنه من أفحش الأغلاط (1).

ولنأخذ بالنقد علی ما أفاده قدس سره، وملخصه أن هذا الإشکال مبنی علی مسلکه قدس سره من باب الوضع، فإن الوضع بمعنی التعهد یقتضی کون الجملة ک «بعت» أو «اشتریت» مثلاً فی موارد الاخبار موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة عن الواقع نفیاً أو اثباتاً، وفی موارد الانشاء موضوعة للدلالة علی قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، ولا یمکن انخفاظ قصد الحکایة والاخبارعن ثبوت شیء فی الواقع أو نفیه فیه فی موارد استعمالها فی الانشاء، إذ مقتضی مسلک التعهد أن کل مستعمل واضع، وعلیه فالمستعمل للجملة المشترکة إذا استعملها فی موارد الاخبار، تعهد بأنه لا یتکلم بها فی هذه الموارد إلا إذا قصد الحکایة بها عن ثبوت شیء فی الواقع، وإذا استعملها فی موارد الانشاء، تعهدبأنه لا یتکلم بها فی هذه الموارد إلاّ إذا قصد ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، فإذن یکون لها وضعان: وضع فی موارد استعمالها فی الاخبار، ووضع فی موارداستعمالها فی الانشاء، وعلیه فهذا الإختلاف بینهما فی المعنی الموضوع له والمستعمل فیه نتیجة حتمیة للإلتزام بهذا المسلک، ولکن هذا المسلک غیر تام کما ذکرناه فی باب الوضع.

وبکلمة أوضح أن الجمل المشترکة التی تستعمل فی مقام الانشاء المعاملی کصیغة «بعت» و «ملکت» و «زوجت» وهکذا، أو فی مقام إنشاء الطلب مثل «أعاد» و «یعید» وما شاکل ذلک، هل تستعمل فی معنی آخر غیر معناها الذی

ص:50


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 88.

یراد منها فی موارد استعمالها فی مقام الاخبار.

والجواب: أن هناک عدة تفسیرات لذلک.

الأول: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من انهما مختلفتان فی المدلول الوضعی، فإنه فی موارد استعمالها فی مقام الاخبار قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، وفی موارد استعمالها فی مقام الانشاء قصد ابراز الأمر الاعتباری، کان من الاعتبارات المعاملیة أم التکلیفیة علی تفصیل تقدم آنفاً.

ولکن قد مرّ أن ذلک مبنی علی مسلک التعهد فی باب الوضع.

الثانی: ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی قدس سره من أن الجمل المشترکة موضوعة لمعنی واحد، ولا فرق بینهما اخباراً وانشاءً فیه، والفرق إنما هو فی الداعی، فإن کان الداعی علی استعمالها فی معناها الموضوع له إیجاده وانشاؤه فی وعائه فهی انشائیة، وإن کان الحکایة عن ثبوته فی الخارج فهی خبریة.

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أنه إن ارید من الداعی إرادة إیجاد مدلولها الوضعی فی وعاء الطلب أو الإعتبار من الاعتبارات المعاملیة فی موارد استعمالهافی مقام الانشاء وإرادة الحکایة عن ثبوته فی وعاء التحقق والخارج فی موارد استعمالها فی الاخبار، فیرد علیه أن لازم ذلک هو أن اتصاف الجملة المشترکة بالخبریة تارة والانشائیة اخری، إنما هو بلحاظ المدلول التصدیقی لها دون المدلول الوضعی، حیث إنه لا اختلاف بینها اخباراً وانشاءً فیه، لأنها بلحاظه لا انشائیة ولا اخباریة، وإنما تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصدیقی.

والخلاصة: إن الجمل المشترکة علی هذا القول لا تتصف بالخبریة والانشائیة بلحاظ مدلولها الوضعی التصوری، وإنما تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصدیقی،

ص:51

ولکن سوف نشیر إلی أن الفرق بینهما اخباراً وانشاءً، إنما هو فی المدلول التصوری لا فی المدلول التصدیقی فقط.

وإن ارید من الداعی تقیید العلقة الوضعیة فی کل منهما بحالة خاصة کما فسره بذلک السید الاُستاذ قدس سره، فیرد علیه أن هذا التفسیر لا ینسجم مع مسلکه قدس سره من أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لا تصدیقیة، فإن لازم هذا التفسیر هوالالتزام بأن الدلالة الوضعیة تصدیقیة لا تصوریة.

الثالث: أن الجملة فی موارد الاخبار تختلف عن الجملة فی موارد الانشاءبالمدلول الوضعی التصوری بالالتزام بتعدد الوضع، بأن تکون الجملة فی مواردالاخبار موضوعة بإزاء النسبة التی تلحظ فانیة باللحاظ التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی عالم التحقق والخارج، وفی موارد الانشاء موضوعة بإزاء نفس النسبة، ولکنها تلحظ فانیة باللحاظ التصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس هذه الجملة، وعلیه فخصوصیة الحکایة والایجادیة بالمعنی المذکور مأخوذة فی المدلول التصوری لکل منهما، فإذن خبریة الجملة وإنشائیتها إنما هی بالمدلول التصوری دون التصدیقی فحسب، وعلی هذا فلا یمکن أن تکون الجملة خبریة إلاّ بلحاظ وضعها بإزاء معنی حکائی فی عالم التصور، کما لا یمکن أن تکون انشائیة إلاّ بوضعها بإزاء معنی انشائی کذلک.

الرابع: أن الجملة المشترکة موضوعة بوضع واحد بإزاء معنی اخباری، وهوالمعنی الفانی فی واقع مفروغ عنه بالنظر التصوری، فهی بلحاظ وضعها جملة خبریة لا مشترکة بینها وبین الانشائیة، ولکنها فی مقام الانشاء استعملت فی معنی إنشائی مجازاً، و هو المعنی الفانی فی مصداق یری بالنظر التصوری کأنه حاصل بنفس هذه الجملة، وعلی هذا فالجملة المذکورة جملة اخباریة وضعاً،

ص:52

ولکنها قد تستعمل فی مقام الانشاء مجازاً، وعلیه فخصوصیة الاخباریة والایجادیة بالمعنی المذکور مأخوذة فی المدلول التصوری بنحو الحقیقة والمجاز.

الخامس: أن الجملة المذکورة موضوعة بإزاء ذات النسبة المناسبة لکلا النحوین من اللحاظ التصوری الحکائی والایجادی، فتدل علیها بنحو تعدد الدال والمدلول، بأن تدل الجملة بنفسها علی ذات النسبة وبخصوصیتها علی الایجادیة أو الحکائیة.

وبعد ذلک نقول: أنه لا یمکن الالتزام بالوجه الأول، فإنه مبنی علی مسلک التعهد، ولا بالوجه الثانی کما مرّ.

وحینئذ فهل الظاهر من الوجوه الثلاثة الأخیرة الوجه الأول أو الثانی أو الثالث، الظاهر هو الثالث دون الأول، فإن الالتزام بتعدد الوضع فی الجمل المذکورة بعید جداً، لأن الظاهر أن لها وضعاً واحداً مادة وهیئة، ودون الوجه الثانی، لأن الالتزام بأن استعمالها فی مقام الانشاء مجاز، خلاف ما هو المرتکز فی الأذهان، وعلی هذا فالظاهر هو أن استعمال هذه الجمل فی مقام الانشاء والاخبار کلیهما حقیقی من باب تعدد الدال والمدلول، فإن الجملة بنفسها تدل علی ذات النسبة وبخصوصیتها، ککونها فی مقام الاخبار تدل علی خصوصیة حکائیة، وکونها فی مقام الانشاء تدل علی خصوصیة إیجادیة، علی أساس أن کل جملة ظاهرة فی أن المدلول التصدیقی لها مطابق للمدلول التصوری طالما لم تکن قرینة علی عدم المطابقة، باعتبار أن المدلول التصدیقی هوالمدلول التصوری، ولا فرق بینهما إلاّ فی أن الأول متعلق للإرادة والقصد، والثانی لللحاظ والتصور.

فالنتیجة من ذلک کله، أن الظاهر من هذه الوجوه الثلاثة هوالوجه الثالث،

ص:53

وعلی هذا فلافرق بین الجمل المستعملة فی مقام الاخبار والجمل المستعملة فی مقام الانشاء فی ذات المعنی الموضوع له، وإنما الفرق بینهما فی خصوصیته بدال آخر.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: أن الجملة الناقصة کهیئة الإضافة والتوصیف ونحو هما موضوعة بإزاء نسبة واقعیة ذهنیة کالحروف الداخلة علیها، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

الثانیة: أن الجملة الخبریة التامة موضوعة للدلالة علی واقع النسبة فی الذهن وهی النسبة بالحمل الشائع، ولها خصائصها الذاتیة التکوینیة کالإرتباط والالتصاق بین المفاهیم فیه، وأما ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أنها موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه فهوغیر تام، لأنه مبنی علی مسلک التعهد فی باب الوضع، وقد تقدم أن هذاالمسلک غیر تام.

الثالثة: أن مدلول الجمل الخبریة التامة بما أنه النسبة الواقعیة الذهنیة، فلذلک یصح استعمالها فی جمیع الموارد، سواء کانت من موارد هل المرکبة أم البسیطة أم ذاته تعالی وصفاته العلیا الذاتیة والاعتباریات والانتزاعیات، فلوکان مدلولها النسبة الخارجیة لم یصح استعمالها فی کثیر من تلک الموارد، باعتبارأنه لا مدلول لها فیها، إما من جهة أنه لا وجود للموضوع والمحمول فیها فی الخارج أو أنهما موجودان بوجود واحد فیه، وعلی کلا التقدیرین فلا تعقل النسبة الخارجیة فیها.

الرابعة: أنه لا فرق فی ذلک بین الجمل الاسمیة کقولک «زید عالم»، والجمل الفعلیة ک «ضرب زید»، فإن کلتا الجملتین موضوعة بإزاء النسبة الواقعیة

ص:54

الذهنیة، غایة الأمر أن جملة «زید عالم» أو ماشاکلها ترجع إلی قولک «زیدشیء له صفة تلک الصفة علم» علی تفصیل تقدم فی بحث علامیة صحة الحمل.

الخامسة: أن الوضع علی مسلک التعهد یقتضی أن یکون متعلقه اختیاریاً، وهل فی الجملة التامة یقتضی أن یکون متعلقه قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه؟ والجواب أنه لا یقتضی ذلک، إذ کما یمکن أن یکون ذلک متعلقه، یمکن أن یکون متعلقه قصد اخطار المعنی فی ذهن السامع، فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من تعین الأول، فهو بحاجة إلی مبرّر، ولا مبرر له.

السادسة: أن أداة الاستفهام الداخلة علی الجملة التامة کقولک «هل زیدعالم» أو الهیئة الحاصلة من دخولها علیها، موضوعة للدلالة علی النسبة الاستفهامیة بین شخص المستفهم والقضیة المستفهم عنها فی وعاء الاستفهام.

السابعة: أن المستفهم عنه فی الجملة الاستفهامیة لیس ثبوت النسبة فی الجملة المدخول علیها الأداة فی وعاء الذهن، بل ثبوتها فی وعاء الخارج الذی لیس مدلولاً للجملة وضعاً، فإن مدلولها الوضعی کما مرّ، النسبة الواقعیة الذهنیة دون النسبة الخارجیة، والمسؤول عنه فی الجملة الاستفهامیة هو النسبة الخارجیة، فإنها أحد طرفی النسبة الاستفهامیة.

الثامنة: أن أداة الاستفهام أو الجملة الاستفهامیة علی مسلک التعهدموضوعة للدلالة علی قصد الاستفهام وإنشائه، ولیست دلالتها علیه من باب تعدد الدال والمدلول، لأن الجملة المدخول علیها الأداة قد انسلخت عن معناها الموضوع له وهو قصد الحکایة، فإنها فی هذه الحالة لا تدل علیه، لعدم توفرشروط هذه الدلالة فیها فی تلک الحالة. وأما علی سائر المسالک فی باب الوضع، فتکون دلالة الجملة الاستفهامیة علی الاستفهام من باب تعدد الدال والمدلول،

ص:55

فإن الأداة تدل علی الاستفهام، والجملة المدخول علیها الأداة تدل علی النسبة التامة فیها.

التاسعة: أن المستفهم عنه فی الجملة الاستفهامیة لیس المدلول الوضعی للجملة المدخول علیها الأداة، لا علی مسلک التعهد فی باب الوضع ولا علی سائرالمسالک فی هذا الباب، أما علی الأول فلأنها منسلخة عن معناها الموضوع له، وهو قصد الحکایة فی حالة دخول الأداة علیها، فإذن لیس لها معنی کی یتجه الاستفهام إلیه.

وأما علی الثانی فلأن السؤال فی الجملة متجه إلی ثبوت النسبة فی الخارج، لاإلی معناها الموضوع له وهو النسبة الواقعیة الذهنیة، ولا فرق فی ذلک بین دخول الأداة علی الجملة التامة کقولک «هل زید قائم» أو دخول الفعل علیها کقولک «أخبرنی أن زیداً عادل» علی تفصیل تقدم.

العاشرة: أن الجملة التامة تتمیز عن الجملة الناقصة بالنکتة التالیة، وهی أن الغرض من احضار الجملة التامة فی أفق الذهن، إنما هو جعلها وسیلة لاصدارالحکم التصدیقی علیها فی الخارج الذی یصح السکوت علیه من دون أن یظل فی حالة الإنتظار، بینما یکون الغرض من احضار الجملة الناقصة فی الذهن، إنما هومعرفة نفسها مرآة لما وراءها فی الخارج، لا لاصدار حکم تصدیقی علیها فی الخارج، باعتبار أنها لا تتضمن مطلباً تصدیقیاً فیه، فمن أجل ذلک لا یصح السکوت علیها، وهذا هو الفارق بینهما، لا أن النسبة فی الاُولی نسبة واقعیة ذهنیة وفی الثانیة نسبة تحلیلیة، ولا ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من الفرق بینهما، فإنه مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع ولایتم علی سائر المسالک فی هذاالباب، ولا ما ذکره المحقق العراقی قدس سره من الفرق بینهما، وقد تقدم کل ذلک موسعاً.

ص:56

الحادیة عشرة: الصحیح أن الجمل المتمحضة فی الانشاء وکصیغة الاستفهام مثلاً موضوعة بإزاء النسبة الاستفهامیة بین المستفهم والقضیة المستفهم عنها فی وعاء الاستفهام، وهذه النسبة تختلف عن النسبة بین طرفی القضیة المستفهم عنها ذاتاً ووعاءً.

الثانیة عشرة: تتمیز الجمل المتمحضة فی الانشاء وکصیغة الأمر والاستفهام والتمنی والترجی عن الجمل المتمحضة فی الاخبار کزید قائم مثلاً فی النسبة ووعائها معاً، لا فی الوعاء فقط کما تقدم.

الثالثة عشرة: أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من الفرق بینهما فی أن الاُولی موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها فیه، والثانیة موضوعة للدلالة علی ابراز الأمر الاعتباری النفسانی، مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، وحیث إن هذا المسلک غیر تام کما ذکرناه هناک، فلا یمکن الالتزام بهذا الفرق.

الرابعة عشرة: أن المعنی الانشائی إیجادی بلحاظ وعائه کوعاء الاستفهام والطلب والتمنی والترجی وغیر ذلک، فإن صیغة الاستفهام تدل علی النسبة الاستفهامیة فی وعاء الاستفهام، وصیغة الأمر تدل علی النسبة الطلبیة فی وعاء الطلب، وصیغة التمنی تدل علی النسبة التمنیة فی وعاء التمنی وهکذا، ولا واقع موضوعی لها وراء ثبوتها فی هذه الأوعیة التی توجد بنفس دلالة هذه الصیغ.

وإن شئت قلت: إن صیغة الأمر تدل علی النسبة الطلبیة الفانیة بالنظرالتصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس الصیغة، وصیغة الاستفهام تدل علی النسبة الاستفهامیة الفانیة باللحاظ التصوری فی مصداق یری ثبوته بنفس هذه الصیغة، وهکذا صیغة التمنی والترجی، وهذا بخلاف الجملة الخبریة، فإنها

ص:57

موضوعة للدلالة علی النسبة التی تلحظ فانیة بالنظر التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی الخارج، فلهذا تکون معانیها حکائیة.

الخامسة عشرة: الظاهر أن الجمل المشترکة بین الانشاء والاخبار موضوعة للدلالة علی ذات النسبة المناسبة لکلا النحوین من اللحاظ التصوری الایجادی والحکائی، وتدل علیها بتعدد الدال والمدلول، بأن تدل الجملة علی ذات النسبة وخصوصیتها علی الحکائیة والایجادیة.

السادسة عشرة: أن الجمل المستعملة فی موارد الانشاء تمتاز عن الجمل المستعملة فی موارد الاخبار بالمدلول التصوری، فإنها فی الموارد الاُولی مستعملة فی النسبة الفانیة باللحاظ التصوری فی مصداق یری کأنه حاصل بنفس هذه العملیة، وفی الثانیة مستعملة فی النسبة الفانیة بالنظر التصوری فی مصداق مفروغ عنه فی الخارج.

مدلول حرف النداء

السابعة عشرة: أن إیجادیة الجملة الانشائیة إنما هی بلحاظ مدلولها التصوری الوضعی دون مدلولها التصدیقی فحسب، وکذلک حکائیة الجملة الخبریة، باعتبار أن المدلول التصدیقی لکل جملة یتناسب مع المدلول التصوری لها، وحیث إن المدلول التصوری للجملة الانشائیة النسبة فی وعاء لا واقع موضوعی لها ماعدا ثبوتها فیه، فالمدلول التصدیقی المناسب هو قصد وجودتلک النسبة فی نفس وعائها.

الثامنة عشرة: قد ظهر مما مرّ أمران:

الأول: أن إیجادیة المعنی الانشائی إنما هی بلحاظ وعائه کوعاء الاستفهام والطلب ونحوهما، علی أساس أنه لا واقع موضوعی له وراءه، وحیث إن معنی الجملة الانشائیة مما لا وجود له إلا فی هذا الوعاء، فلذلک تتصف بالایجادیة،

ص:58

أی انها تدل علی معنی لا وجود له إلاّ فیه.

الثانی: أن إیجادیة المعنی الانشائی لیست بمعنی التولید والایجاد الخارجی، ولا بمعنی الایجاد الاعتباری النفسانی، ولا بمعنی انهافی طول دلالة الجملة علی مدلولها التصوری والتصدیقی، بل بمعنی أنه لا وعاء له إلاّ وعاء الجملة الانشائیة تصوراً وتصدیقاً، ولهذا یری ثبوت مصداقه بنفس الجملة.

ها هنا امور:

الأول: فی مدلول حرف النداء وتعیین حدوده.

الثانی: فی مدلول اسماء الاشارة وتحدیده سعةً وضیقاً.

الثالث: فی تفسیر الوضع النوعی وتمییزه عن الوضع الشخصی.

أما الکلام فی الأمر الأول فالظاهر أن أداة النداء موضوعة بإزاء واقع النسبة بین المنادی بالفتح والمنادی - بالکسر -، فإن معناها الموضوعة له هو النداء، وهو بالحمل الشائع نسبة بینهما، ولم توضع بإزاء مفهوم النداء، باعتبار أنه لیس بنداء بالحمل الشائع الصناعی، بل هو نداء بالحمل الأولی، ومفهوم اسمی ولیس بحرفی، والموضوع بإزائه هو لفظ النداء لا حرف النداء.

ثم إن أداة النداء تختلف عن أداة الاستفهام والتمنی والترجی فی نقطة، وهی أن تلک الأداة لا تدخل إلا علی الجملة التامة، کقولک «هل زید عالم»، «ولعل زیداً عادل» و «لیت بکراً قائم» بینما أداة النداء لا تدخل إلا علی المفرد أو التثنیة أو الجمع دون الجملة التامة.

وبکلمة، إن أداة الاستفهام موضوعة بإزاء واقع النسبة بین المستفهم والجملة المستفهم عنها، وأداة التمنی موضوعة بإزاء واقع النسبة بین المتمنی والجملة

ص:59

المتمنی عنها وهکذا، وأداة النداء موضوعة بإزاء واقع النداء الذی هو نداء بالحمل الشائع بین الشخص المنادی والمنادی - بالفتح - فی وعاء النداء، ولا واقع موضوعی له، غیر أنه یری بالنظر التصوری ثبوته فی هذا الوعاء بنفس هذه الأداة، کوعاء الاستفهام والطلب والتمنی والترجی وغیر ذلک.

قد یقال کما قیل: إن دلالة حرف النداء علی النسبة المذکورة لیست من ناحیة الوضع کسائر الحروف والأدوات، بل من ناحیة أن حرف النداء کالصوت منبه طبیعی، غایة الأمر أن الصوت منبه تکوینی عام، وحرف النداء منبه تکوینی خاص، وعلیه فإطلاقه إیجاد للمنبه التکوینی، لا کما هو حاک عن معناه الموضوع له ودال علیه(1).

ولکن هذا القول خاطیء جداً، وذلک لأن الإحساسات الأولیة للإنسان والحیوان وإن کانت منبهات طبیعیة تکوینیة یستخدمها الانسان فی حیاته الإعتیادیة الأولیة لابراز مقاصده وافکاره للآخرین، إلاّ أنها لا تنطبق علی الألفاظ بالنسبة إلی معانیها.

بیان ذلک أن المنبه علی نوعین:

الاول: المنبه الطبیعی التکوینی.

الثانی: المنبه الشرطی الصناعی.

أما الأول فهو یمثل الإحساسات الأولیة للإنسان والحیوان، فإذا رأی أحد أسداً مثلاً انتقل الذهن إلی صورته مباشرة، وهذا الإنتقال والإستجابة الذهنیة نتیجة طبیعیة أولیة للإحساس البصری، وإذا سمع صوته انتقل الذهن إلی صورة

ص:60


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 302.

الصوت استجابة طبیعیة أولیة للإحساس السمعی وهکذا.

ثم إن المنبة الطبیعی تارة یکون أولیاً واُخری یکون ثانویاً، فإذا سمع أحد صوتاً کان انتقال الذهن منه إلی صورة الصوت أولیاً، لأنه نتیجة الإحساس به مباشرة، وأما الإنتقال منه إلی صورة صاحبه من إنسان أو حیوان فهو ثانوی، مثلاً إذا رأی صورة الأسد فی جدار مثلاً کان انتقال الذهن إلی نفس هذه الصورة المنقوشة أولیاً وبشکل مباشر بدون أی واسطة فی البین، وأما انتقاله إلی صورة الحیوان المفترس فی الخارج فهو ثانوی، فالمنبه الطبیعی بکلا قسمیه قانون عام تکوینی فی حیاة الانسان الإعتیادیة، ولا یتوقف علی أی عامل وسبب خارجی.

وأما الثانی وهو المنبه الشرطی، فهو یتوقف علی عامل خارجی، کما إذا سمع شخص صوتاً من خلف الباب مثلاً، فسماعه بالنسبة إلی انتقال الذهن إلی صورة الصوت منبه أولی، وبالنسبة إلی صورة صاحبه اجمالاً منبه ثانوی، وأما بالنسبة إلی أنه زید فهو منبه شرطی یتوقف علی تکرار سماع هذا الصوت من زیدبدرجة یحصل التقارن بینه وبین صورة زید فی الذهن، وحینئذ فکلما سمع هذا الصوت انتقل الذهن إلی أنه صوت زید، ومن هذا القبیل ما إذا سمع صوت جرس الباب مثلاً من شخص خاص مکرراً إلی حدّ یوجب انتقال الذهن إلی صورته متی سمع ذلک الصوت، فیکون سماعه حینئذ منبهاً شرطیاً لانتقال الذهن إلیها.

وأما اللفظ فالإنتقال منه إلی صورته عند الإحساس به نتیجة طبیعیة، فیدخل فی المنبهات التکوینیة الأولیة، وأما الإنتقال منه إلی معناه فهو منبه شرطی ولیس بطبیعی، علی أساس أنه بحاجة إلی عامل خارجی کمی أو کیفی،

ص:61

والأول یمثل کثرة الاستعمال إلی أن تؤدی إلی الإشراط والإرتباط الذهنی بینه وبین المعنی، والثانی یمثل الوضع.

فالنتیجة أن اللفظ إنما یکون منبهاً شرطیاً بأحد العاملین المذکورین:

الأول: الوضع التعیینی، وهو العامل الکیفی.

الثانی: الوضع التعیّنی، وهو العامل الکمی.

فاللفظ یکون منبهاً شرطیاً بالنسبة إلی معناه الموضوع له کغیره من الأفعال.

وبعد ذلک نقول: إن حرف النداء ککلمة «یا» مثلاً موضوع لواقع النداء

مدلول أسماء الاشارة

الذی هو نداء بالحمل الشائع وربط حقیقی بین المنادی والمنادی، ومن الواضح أن حرف النداء لا تدل علیه بالذات وبدون عامل، بل تتوقف دلالته علیه علی عامل کمّی أو کیفی کدلالة سائر الحروف علی معانیها.

وبکلمة، إن حرف النداء یکون منبهاً طبیعیاً بالنسبة إلی انتقال الذهن إلی صورته کما هو الحال فی سائر الألفاظ، وأما بالنسبة إلی معناه وهو واقع النسبة بین الشخص المنادی والمنادی فی وعاء النداء، فلا یکون منبهاً طبیعیاً لانتقال الذهن إلیه، بل منبه شرطی کسائر الحروف وبحاجة إلی عامل خارجی کالوضع أو کثرة الاستعمال، وحیث إن نسبة حرف النداء إلی مدخوله وغیره علی حدسواء، فتعیینه بحاجة إلی دال آخر، فإذا أراد نداء زید مثلاً قال «یا زید» فحرف النداء یدل علی واقع النسبة بین المنادی والمنادی بتعدد الدال والمدلول، بأن یکون الدال علی واقع النسبة حرف النداء، والدال علی أن المنادی هو زید فی المثال، الهیئة المتحصلة من دخول حرف النداء علیه، کأداة الاستفهام وغیرها، فإنها تدل علی النسبة الاستفهامیة بتعدد الدال والمدلول، بأن تدل الأداة علی

ص:62

هذه النسبة، والجملة المدخولة علی النسبة بین جزئیها.

ومن هنا یظهر أن معنی حرف النداء کمعنی حرف الاستفهام ونحوه إیجادی، بمعنی أنه لا واقع موضوعی له وراء ثبوته فی وعاء النداء.

وأما الکلام فی الأمر الثانی فیقع فی مدالیل اسماء الاشارة والضمائر والموصولات وتحدیدها سعة وضیقاً، فهنا أقوال:

القول الأول: ما اختاره المحقق الخراسانی قدس سره من أنه یمکن أن یقال أن المستعمل فیه فی أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما عام کالحروف وأن تشخصه إنماجاء من قبل طور استعمالها، حیث إن اسماء الاشارة وضعت لیشار بها إلی معانیها، وکذا بعض الضمائر، وبعضها لیخاطب بها المعنی، والاشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفی، فدعوی أن المستعمل فی مثل «هذا» و «هو» و «إیاک» إنما هو المفرد المذکر، وتشخصه إنما جاء من قبل الاشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إلیه، فإن الاشارة أو التخاطب لا یکاد یکون إلاّ إلی الشخص أومعه غیر مجازفة(1).

وقد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأنا لو سلمنا اتحاد المعنی الحرفی والاسمی ذاتاً وحقیقة واختلافهما باللحاظ الآلی والإستقلالی، لم نسلم ما أفاده قدس سره فی المقام، والوجه فیه هو أن لحاظ المعنی فی مرحلة الاستعمال مما لابد فیه ولامناص عنه، ضرورة أن الاستعمال فعل اختیاری للمستعمل، فیتوقف صدوره علی تصور اللفظ والمعنی، وعلیه فللواضع أن یجعل العلقة الوضعیة فی الحروف بما إذا لوحظ المعنی فی مقام الاستعمال آلیاً، وفی الأسماء بما إذا لوحظ المعنی

ص:63


1- (1) کفایة الاصول ص 12.

استقلالاً، ولا یلزم علی الواضع أن یجعل لحاظ المعنی آلیاً کان أو استقلالیاً قیداً للموضوع له، بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده وأنه فی مقام الاستعمال ممالابد فیه، وهذا بخلاف اسماء الاشارة والضمائر ونحوهما، فإن الاشارة إلی المعنی لیست مما لابد منه فی مرحلة الاستعمال.

بیان ذلک أنه إن ارید بالاشارة استعمال اللفظ فی المعنی ودلالتة علیه، کما قدتستعمل فی ذلک کما فی مثل قولنا «قد أشرنا إلیه فیما تقدم» أو «فلان أشار إلی أمر کذا فی کتابه أو کلامه»، فالاشارة بهذا المعنی مشترک فیها بین جمیع الألفاظ، فلا اختصاص لها بأسماء الاشارة وما یلحق بها، وإن ارید بها أمر زائد علی الاستعمال، فلابد من اخذه فی الموضوع له، ضرورة أنه لیس کلحاظ المعنی ممالابد منه فی مقام الاستعمال، بمعنی أنه لیس شیئاً یقتضیه طبع الاستعمال، بحیث لایمکن الاستعمال بدونه، وحینئذ فلابد من اخذه قیداً فی المعنی الموضوع له، وإلاّفالاستعمال بدونه بمکان من الامکان. فالصحیح فی المقام أن یقال: إن أسماءالاشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة علی قصد تفهیم معانیها خارجاً عندالاشارة والتخاطب لا مطلقاً، فلا یمکن ابراز تفهیم تلک المعانی بدون الاقتران بالاشارة أو التخاطب، فکل متکلم تعهد فی نفسه بأنه متی ما قصد تفهیم معانیها أن یتکلم بها مقترنة بأحد هذین الأمرین، فکلمة «هذا» أو «ذاک» لا تدل علی معناها وهو المفرد المذکر إلاّ بمعونة الاشارة الخارجیة، کالاشارة بالید کما هی الغالب أو بالرأس أو بالعین، وضمیر المخاطب لا یبرز معناه إلا مقترناً بالخطاب الخارجی، ومن هنا لا یفهم شیء من کلمة «هذا» مثلاً عند اطلاقها مجردة عن أیة إشارة خارجیة(1) ، هذا.

ص:64


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 90.

ویمکن المناقشة فیه.

أما أولاً: فلما یظهر من المحقق الخراسانی قدس سره فی أنه یمکن أخذ الاشارة والتخاطب فی المعنی الموضوع له کما یمکن أخذها فی العلقة الوضعیة، فهما من هذه الناحیة یختلفان عن اللحاظ الآلی والإستقلالی، باعتبار أن لحاظ المعنی مما لابد منه فی مقام الاستعمال دون الاشارة والتخاطب، فلهذا یکون أخذ اللحاظ فی المعنی الموضوع له لغواً دون أخذهما فیه.

وثانیاً: إن ما ذکره قدس سره من الفرق بین اسماء الاشارة والضمائر وبین الحروف لایتم، وذلک لأن استعمال اللفظ فی المعنی بملاک أنه فعل اختیاری یتوقف علی أصل اللحاظ والتصور، کما هو الحال فی سائر الأفعال الإختیاریة، لا علی لحاظ وتصور خاص وهو اللحاظ الآلی أو الاستقلالی، ضرورة أن استعمال کلمة «من» مثلاً فی الابتداء الذی هو معناه الموضوع له علی مسلکه قدس سره لا یتوقف علی لحاظه آلیاً، وإنما یتوقف علی طبیعی اللحاظ الجامع بین الآلی والإستقلالی وصرف وجوده، وعلیه فلا مانع من أخذ خصوص اللحاظ الآلی فی معناها الموضوع له، باعتبار أنه لیس مما لابد منه فی مقام الاستعمال، وخصوص اللحاظ الإستقلالی فی المعنی الموضوع له الأسماء، وعلی هذا فلا فرق بین المقام وبین الحروف والأسماء، فکما أنه یمکن أخذ الاشارة والتخاطب قیداً فی المعنی الموضوع له فی المقام، یمکن أخذ اللحاظ الآلی أو الإستقلالی قیداً فیه هناک، ولایکون لغواً.

وثالثاً: أنه لا مانع من أخذ اللحاظ الآلی قیداً للمعنی الموضوع له فی الحروف، والإستقلالی قیداً له فی الأسماء ولکن فی طول المعنی لا فی عرضه، وماقیل من أن ذلک لا یمکن، لأن اللحاظ المأخوذ قیداً للمعنی الموضوع له إن کان

ص:65

عین اللحاظ الجائی من قبل الاستعمال، لزم أخذ ما هو متأخر رتبة فی المتقدم، وإن کان غیره فهو خلاف الوجدان، مدفوع بأن هذا المحذور إنما یلزم لو أخذ اللحاظ الآلی أو الإستقلالی قیداً للمعنی الموضوع له فی عرضه، وأما إذا اخذقیداً له فی طوله، بأن یکون المعنی الموضوع له مقیداً باللحاظ الآلی أو الاستقلالی الجائی من قبل الاستعمال، فلا یلزم المحذور المذکور، علی أساس أنه یتحقق بنفس اللحاظ الاستعمالی.

وبکلمة، إنه لا مانع ثبوتاً لذلک من أن یکون المعنی الموضوع له مقیداً بواقع اللحاظ الآلی طولاً فی الحروف، وبواقع اللحاظ الإستقلالی کذلک فی الأسماء، وأن هذا القید الطولی یتحقق بالاستعمال لا أنه متحقق فی عرض المعنی، ومن الواضح أنه لا محذور فی وضع لفظ بإزاء معنی مقید بقید طولی یتحقق ذلک القیدبنفس الاستعمال، کما أنه لا مانع من تقیید المعنی الموضوع له بمفهوم اللحاظ الآلی أو الاستقلالی لا بواقعة، غایة الأمر فالمعنی الموضوع له عندئذٍ یکون کلیاً لاجزئیاً، ولکن التقیید بمفهوم اللحاظ لیس مراد صاحب الکفایة قدس سره، فإن مراده التقیید بواقع اللحاظ الآلی فلذلک یصیر المعنی جزئیاً، باعتبار أن الوجود مساوق للتشخص وإن کان وجوداً لحاظیاً ذهنیاً.

فالنتیجة: أنه لا مانع من تقیید المعنی بهذا القید طولاً، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره من تقیید العلقة الوضعیة بالاشارة والتخاطب الخارجیین لا یتم.

أما أولاً: فلأنه لا موجب لهذا التقیید بعد ما کان المعنی الموضوع له والمستعمل فیه مطلقاً وغیر مقید باللحاظ الآلی أو الإستقلالی، فإن الموجب لهذا التقیید فی الحروف، هو أن امتیازها عن الأسماء الموازیة لها یتوقف علی ذلک، إذ

ص:66

لا امتیاز بینهما فی ذات المعنی الموضوع له، فلولم تکن العلقة الوضعیة فی الحروف مقیدة بما إذا لوحظ معانیها آلیاً وفی الأسماء بما إذا لوحظ معانیها استقلالیاً، لم یکن فرق بینهما لا فی الوضع ولا فی المعنی الموضوع له، وأما فی المقام فلا موجب لتقیید العلقة الوضعیة فی أسماء الاشارة والضمائر بالاشارة والتخاطب، لفرض أن المعنی الموضوع له فیهما عام ولا مبرر لتقییده ولا تقیید العلقة الوضعیة، حیث لایتوقف الإمتیاز بینهما علی ذلک، فإذن لا مقتضی له.

وثانیاً: إن هذا التقیید لا ینسجم مع ما سلکه قدس سره فی باب الوضع من أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لا تصدیقیة، فإن مقتضی هذا التقیید هو أنها تصدیقیة لاتصوریة، لأن تقیید العلقة الوضعیة بواقع الاشارة والتخاطب یتطلب کون الدلالة الوضعیة تصدیقیة، وهذا إنما ینسجم مع مسلک التعهد، لا مع ماهو التحقیق فی باب الوضع من أنها تصوریة محضة وثابتة حتی عند التلفظ بالکلمة بدون قصد وشعور.

فالنتیجة أن ما استظهره المحقق الخراسانی قدس سره من أن المعنی الموضوع له فی أسماء الاشارة وأخواتها عام والعلقة الوضعیة فیهما خاصة وثابتة فی حالة خاصة، وهی حالة ما إذا أشار المتکلم إلی المعنی الموضوع له والمستعمل فیه أوخاطب به فی مرحلة الاستعمال غیر تام، إذ لا موجب لهذا التخصیص أولاً، ومناسب لمسلک التعهد ثانیاً دون سائر المسالک.

القول الثانی: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أن أسماء الاشارة ونظیراتها موضوعة للدلالة علی قصد تفهیم معانیها خارجاً عند الاشارة والتخاطب لامطلقاً، فلا یمکن ابراز تفهیم تلک المعانی بدون الإقتران بالاشارة والتخاطب، فکل متکلم تعهد فی نفسه بأنه متی ما قصد تفهیم معانیها أن یتکلم بها مقترنة

ص:67

بأحد هذین الأمرین، فکلمة «هذا» أو «ذاک» لا تدل عل معناها وهو المفرد المذکر إلاّ بمعونة الاشارة الخارجیة، کالاشارة بالید کما هی الغالب أو بالرأس أوبالعین، وضمیر الخطاب لا یبرز معناه إلاّ مقترناً بالخطاب الخارجی، ومن هنالا یفهم شیء من کلمة «هذا» عند إطلاقها مجردة عن الإقتران بأیة إشارة خارجیة(1). هذا,

وللنظر فیه مجال، وذلک لأنه مبنی علی مسلک التعهد الذی هو مختاره قدس سره فی مسألة الوضع، اذ علی أساس هذا المسلک لابدّ من الالتزام بأن أسماء الاشارة والضمائر موضوعة للدلالة علی قصد تفهیم معانیها خارجاً عند الاشارة والتخاطب، باعتبار أن دلالة الألفاظ علی معانیها فی ضوء هذا المسلک دلالة تصدیقیة لا تصوریة، ولکن قد ذکرنا هناک أن مسلک التعهد فی باب الوضع غیر تام، ومن هنا قلنا إن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة بحتة علی تفصیل تقدم هناک.

والتحقیق فی المقام أن یقال: إن أسماء الاشارة موضوعة بإزاء واقع الاشارة التی هی إشارة بالحمل الشائع، ومن الواضح أن واقع الاشارة یمثل النسبة بین المشیر والمشار إلیه، وتدل علیها بالدلالة الوضعیة التصوریة التی هی محفوظة حتی عند التکلم بها بدون قصد وشعور، وینتقل الذهن من سماعها إلی تصور معناها، وهو الاشارة الفانیة فی واقعها وهو النسبة بین المشیر والمشار إلیه فی وعاء الاشارة.

وإن شئت قلت: إن کلمة «هذا» أو «ذاک» موضوعة للدلالة علی الاشارة الواقعیة وهی النسبة بین المشیر والمشار إلیه، ولم توضع بإزاء مفهوم الاشارة التی

ص:68


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 91.

هی إشارة بالحمل الأولی ومفهوم اسمی، لأن الموضوع بإزائه هو کلمة (إشارة)، ومن الواضح أن کلمة «هذا» لا تکون مرادفة لکلمة «الاشارة»، فلوکانت موضوعة بإزاء مفهومها لکانت مرادفة لها، وهی کماتری، ومن هنا کان المتبادر من کلمة «هذا» واقع الاشارة، والمتبادر من کلمة «الاشارة» مفهومها، فیکون ذاک نظیر الحروف الداخلة علی الجملة الناقصة ک «من» و «إلی» و «فی» و «علی» وما شاکلها، فإن کلمة «من» موضوعة لواقع الابتداء الذی هو ابتداء بالحمل الشائع، وهو النسبة بین المبتدأ به والمبتدأ منه، ولم توضع بإزاء مفهوم الابتداء الذی هو ابتداء بالحمل الأولی ومفهوم اسمی، فیکون الموضوع بإزائه لفظ «الابتداء».

ودعوی أن کلمة «هذا» أو «ذاک» لوکانت موضوعة بإزاء واقع الاشارة، فلازم ذلک أن تکون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة، لأن واقع الاشارة - سواءکان متمثلاً فی الفعل الخارجی کالاشارة بالید أو العین أو الرأس أم الفعل النفسانی کتوجه خاص من النفس - مدلول تصدیقی.

مدفوعة، بأن المراد من واقع الاشارة هو النسبة الإشاریة الواقعیة بین المشیروالمشار إلیه التی هی إشارة بالحمل الشائع لا الفعل الخارجی ولا الفعل النفسانی، ومن الواضح أن وضعها بإزاء تلک النسبة لا یستلزم کون الدلالة الوضعیة تصدیقیة، لأن النسبة الاشاریة التی هی ثابتة فی الذهن بنفسها من المعانی التصوریة کسائر أنحاء النسب والروابط، مثلاً کلمة «من» موضوعة بإزاء واقع النسبة بین المبتدأ به والمبتدأ منه، وکلمة «فی» موضوعة بإزاء واقع النسبة الظرفیة بین الظرف والمظروف وهکذا، ولا یستلزم ذلک کون دلالة تلک الحروف علیها تصدیقیة، بل هی تصوریة بتبع دلالة أطرافها کما مر، ونفس

ص:69

الشیء یقال فی الضمائر.

والخلاصة: أن أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما کالحروف الداخلة علی الجمل الناقصة مثل کلمة «من» و «إلی» و «علی» و «فی» وغیرها، فکما أن هذه الحروف موضوعة بإزاء النسب الواقعیة فی عالم الذهن التی هی نسب بالحمل الشائع، فکذلک أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما، فإنها موضوعة بإزاءالنسب الواقعیة فی وعاء الذهن، فاسم الاشارة موضوع بإزاء واقع الاشارة وهوالنسبة الاشاریة بین المشیر والمشار إلیه، وضمیر المخاطب موضوع لواقع الخطاب الذی هو خطاب بالحمل الشائع ونسبة بین المتکلم والمخاطب وهکذا.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الأول: بطلان ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره فی أسماء الاشارة والضمائر من أن العلقة الوضعیة قد قیدت فیهما بالاشارة والتخاطب مع کون المعنی الموضوع له فیهما عاماً.

الثانی: ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أنهما موضوعتان للدلالة علی قصدتفهیم معانیها خارجاً عند الاشارة والتخاطب مبنی علی مسلکه فی باب الوضع، وهو التعهد، ولکن قد ذکرنا هناک أن المبنی غیر تام.

الثالث: الصحیح أنهما موضوعتان بإزاء واقع الاشارة والخطاب، وهو النسبة بین المشیر والمشار إلیه فی عالم الذهن، والنسبة بین المتکلم والمخاطب فیه.

وهناک مجموعة من الدعاوی فی المسألة.

الاُولی: قد یتوهم أن اسماء الاشارة ک «هذا» موضوعة بإزاء المفرد المذکر، و «هذه» موضوعة بإزاء المفرد المؤنث.

ص:70

ولکن لا أساس لهذا التوهم، ضرورة أن کلمة «هذا» لم توضع بإزاء المفرد المذکر، إذ لوکانت موضوعة بإزائه لکان لازم ذلک أن یکون معناها معنی اسمیاً لا حرفیاً ومرادفة لکلمة المفرد المذکر، وهذا باطل جزماً، لوضوح أن المتبادر من کلمة «هذا» غیر ما هو المتبادر من کلمة المفرد المذکر، فإن المتبادرمنها مفهومه، ولذلک تکون من اسماء الأجناس، فلا یعقل أن تکون مرادفه لاسماء الاشارة.

الثانیة: قد یقال: إن اسماء الاشارة موضوعة بإزاء الاشارة الخارجیة التی هی نسبة خارجیة بین وجود المشیر ووجود المشار إلیه فی الخارج، فی مقابل الاشارة الذهنیة التی هی نسبة بینهما فی الذهن.

ولکن هذا القول أیضاً باطل.

أما أولاً: فلما ذکرناه فی باب الوضع من أن الألفاظ لم توضع بإزاء المعانی المقیدة بالوجود الخارجی منها اسماء الاشارة ونحوها، کما أنها لم توضع بإزاء المعانی المقیدة بالوجود الذهنی، أو فقل: إن وضع اللفظ بإزاء المعنی المقید بالوجود الخارجی وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنه لم یقع فی اللغات، لأنها موضوعة بإزاء معانی قد توجد فی الذهن وقد توجد فی الخارج، واما إذا وضعت بإزاء المعانی المقیدة بالوجود الخارجی، فلا یمکن انطباقها علیها فی الذهن، وکذلک الأمر بالعکس. فالنتیجة أن عدم وضع اسماء الاشارة ونظیراتها للمعانی المقیدة بالوجود الخارجی أمر مقطوع به.

وثانیاً: أن لازم ذلک هو کون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة، علی أساس أن الموجود الخارجی مساوق للتصدیق به، فإذا کان المعنی الموضوع له مقیداً بالوجود الخارجی فهو مدلول تصدیقی للفظ، ولکن تقدم أن الدلالة الوضعیة

ص:71

دلالة تصوریة بحتة وثابتة حتّی عند صدور اللفظ من لافظ بلا شعور واختیار.

الثالثة: قد یتخیل أن اسماء الاشارة موضوعة بإزاء الاشارة فی أفق النفس، وهی التوجه الخاص منها إلی المشار إلیه، و هو المفرد المذکر أو المؤنث.

ولکن یرد علیها أولاً: أن لازم ذلک هو کون الدلالة الوضعیة لها دلالة تصدیقیة، علی أساس أن التوجه الخاص من النفس إلی شیء یناسب التصدیق به، لأنه فعل اختیاری لها، فلا یمکن صدوره منها بالنسبة إلی شیء بدون الإلتفات والتصدیق.

وإن شئت قلت: إن الذهن هو وعاء التصور وموطن صور الأشیاء، وأما وعاء التصدیق فهو خارج عن وعاء التصور، سواء کان عالم الخارج أم عالم النفس، فإذن یکون عالم النفس فی وعاء التصدیق لا التصور.

وثانیاً: إن المتبادر من کلمة «هذا» أو «ذاک» هو واقع الاشارة بین المشیروالمشار إلیه فی عالم الذهن دون توجه خاص من النفس.

فالنتیجة، أنه لا یتم شیء من هذه الدعاوی الثلاث.

هذا تمام الکلام فی تحدید مفاهیم أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما.

وأما الکلام فی الأمر الثالث فیقع فی مقامین:

الأول: فی بیان ضابط الوضع الشخصی والوضع النوعی.

الثانی: أن وضع الهیئات والحروف وماشاکلهما هل هو نوعی أو شخصی.

أما الکلام فی المقام الأول فالضابط للوضع الشخصی هو تصور شخص اللفظ بحده الفردی وشخصه الذاتی ثم وضعه بإزاء معنی، فیکون اللفظ الموضوع

ص:72

شخص الملحوظ والمستحضر فی الذهن لا نوعه، مثلاً إذا أراد الواضع وضع لفظ «زید» مثلاً وقام باستحضار شخصه فی الذهن ثم وضع نفس المستحضر بإزاءمعنی کان الوضع شخصیاً، لأن الموضوع شخص اللفظ المستحضر لا فرده، وکذا إذا تصور لفظ «الانسان» بحدّه الشخصی ثم وضع بإزاء معنی کان من الوضع الشخصی، فإن الضابط فیه کون اللفظ الموضوع شخص اللفظ المستحضر فی الذهن لا فرده المستحضر فیه بنوعه لا بشخصه.

وأما الضابط للوضع النوعی فهو أن الملحوظ والمستحضر فی الذهن فی مقام عملیة الوضع نوع اللفظ والعنوان العام دون شخص اللفظ الموضوع، کما إذاتصور الواضع فی مقام عملیة الوضع هیئة «فاعل» من جهة أنها عنوان عام للهیئات الخاصة کهیئة «ضارب» و «ناصر» و «عالم» و «عادل» ضابط الوضع النوعی والوضع الشخصی و «قائم» وهکذا، فإن تصورها تصور لتلک الهیئات الخاصة بعنوانها العام واستحضارها استحضار لها کذلک، وحیث إن تصور اللفظ الموضوع واستحضاره فی الذهن إجمالاً بتصور واستحضار عنوانه العام فیه یکفی فی مقام عملیة الوضع، فلامانع حینئذ من وضع الهیئات الخاصة بعنوانها العام، بأن یقول کل ما کان علی زنة «فاعل» فهو موضوع للمعنی الفلانی، فیکون الموضوع فی الحقیقة شخص کل هیئة خاصة، بینما المستحضر والمتصور فی الذهن نوعها وهو الهیئة العامة المنتزعة.

وقد تسأل هل یمکن وضع الهیئة العامة بإزاء معنی بنحو الوضع العام والموضوع له العام؟

والجواب: أنه لا یمکن، وذلک لأنه لا یتصور معنی جامع بین معانی الهیئات الخاصة حتی تکون الهیئة العامة موضوعة بإزائه، باعتبار أن معانی الهیئات

ص:73

المذکورة معان نسبیة، وقد تقدم فی بحث الحروف أن الجامع الذاتی بین أنحاء النسب والروابط غیر معقول، علی أساس أن کل نسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها، ومع التحفظ علی مقومات کل نسبة فهی متباینات بالذات، من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منها مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، ومع الغائها فلا نسبة حتی یتصور الجامع بینها.

هذا إضافة إلی أن معانی تلک الهیئات مختلفة من جهة اخری أیضاً، وهی أن التلبس والنسبة بین تلک الهیئات قد یکون صدوریاً کما فی «ضارب» وقد یکون حلولیاً کما فی «مائت» و «عالم» هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، أن الهیئة العامة بما أنه لا واقع موضوعی لها فی الخارج، باعتبار أنها منتزعة من الهیئات الخاصة، فلا معنی لوضعها مستقلاً فی مقابل وضع تلک الهیئات.

وبکلمة، إن الوضع علاقة بین اللفظ والمعنی، وفی مقام عملیة الوضع لابد من تصور واستحضار کل من اللفظ «الموضوع» والمعنی «الموضوع له» فی الذهن، فکما أن الواضع قد یستحضر المعنی الکلی الانتزاعی فی الذهن ویضع اللفظ بإزاء أفراده، فیکون من الوضع العام والموضوع له الخاص، وقد یستحضرالمعنی فی الذهن ویضع اللفظ بإزاء نفس ذلک المعنی المستحضر فیه، فیکون من الوضع العام والموضوع له العام، فکذلک قد یستحضر اللفظ الموضوع فی الذهن بشخصه ویضع نفس اللفظ المستحضر بإزاء المعنی، ویکون هذا من الوضع الشخصی، وقد یستحضر اللفظ بعنوان عام فی الذهن ویضع أفراده المستحضرة باحضاره فیه بإزاء المعانی دون شخص اللفظ المستحضر، ویکون هذا من الوضع النوعی دون الشخصی.

ص:74

إلی هنا قد تبین ضابط الوضع الشخصی والوضع النوعی.

وأما الکلام فی المقام الثانی فیقع فی موردین:

الأول: فی وضع الهیئات الافرادیة والجملیة.

الثانی: فی وضع الحروف وما یلحق بها.

أما المورد الأول: فالمعروف والمشهور بین الاُصولیین أن وضع الهیئات نوعی لا شخصی، ووضع المواد شخصی لا نوعی، ویمکن تقریب ذلک بأن المادة بما أنها ملحوظة بوحدتها الذاتیة الشخصیة من قبل الواضع فی مقام عملیة الوضع ثم توضع نفس تلک المادة المستحضرة بإزاء معنی لا وضع الهیئات نوعی أو شخصی أفرادها، فلا محالة یکون من الوضع الشخصی، لأن الموضوع شخص اللفظ المستحضر لا نوعه، مثلاً مادة «ضرب» وهی «ض ر ب» فإذا قام الواضع بوضعها استحضرها فی الذهن بحدها الشخصی الممیز عن غیرها، ثم وضع شخص تلک المادة المستحضرة فی الذهن بإزاء معنی لا أفرادها، وهذا بخلاف الهیئة، فإن الواضع فی مقام وضع الهیئات یقوم باستحضار هیئة جامعة بینها فی الذهن التی هی عنوان عام لها ومندک فیها فی الخارج، وحیث إن استحضارها استحضار لتلک الهیئات الخاصة بعنوانها العام، فیکفی ذلک فی وضع تلک الهیئات فی ضمن هیئة جامعة عامة بالصیغة التالیة: هی أن کلما کان علی هیئة «فعل» مثلاً، فهوموضوع للمعنی الکذائی، وکل ما کان علی هیئة «فاعل»، فهو موضوع للمعنی الفلانی وهکذا، إذ من البعید جداً أن یقوم الواضع بوضع کل هیئة بخصوصها بالوضع الشخصی.

فالنتیجة أن ضابط الوضع النوعی ینطبق علی وضع الهیئات، فلذلک یکون نوعیاً لا شخصیاً.

ص:75

وقد استشکل علی ذلک بوجهین:

أحدهما: أن ملاک شخصیة الوضع فی المواد إن کان امتیازها عن مادة اخری ذاتاً وحقیقة وبجوهر حروفها، فهذا الملاک موجود بعینه فی الهیئة، لأن کل هیئة تمتاز عن هیئة اخری ذاتاً وحقیقة وبوحدتها الطبیعیة وهویتها الشخصیة، فإن هیئة «فاعل» تمتاز عن هیئة «مفعول» کذلک وهکذا، فإذن ما هو الموجب لکون وضع المواد شخصیاً ووضع الهیئات نوعیاً، وإن کان ملاک نوعیة وضع الهیئات عدم اختصاص الهیئة بمادة دون اخری، فهذا الملاک بعینه موجود فی المواد أیضاً، فإن المادة لا تختص بهیئة دون اخری، لأن مادة «ض ر ب» لاتختص بهیئة «ضارب»، بل تعم سائر الهیئات ومشتقاتها أیضاً، فإذن ما هوالسبب لکون وضع الهیئات نوعیاً والمواد شخصیاً؟

وقد أجاب عنه المحقق الأصبهانی قدس سره، وتقریب ذلک مع التوضیح أن المادة بوحدتها الذاتیة وهویتها الشخصیة وجوهر حروفها جامعة ذاتیة بین أفرادها، لأن جمیع أفرادها تشترک فی المقومات الذاتیة لها، وهی جوهر حروفها وامتیازها الذاتی والماهوی عن غیرها، والواضع فی مقام عملیة الوضع قد استحضر المادة بجوهر حروفها وبوحدتها وهویتها الشخصیة الممیزة فی الذهن ثم وضعها بإزاء معنی، فیکون الموضوع شخص اللفظ الملحوظ والمستحضر فیه مباشرة لا نوعه، وهذا هو معنی الوضع الشخصی.

وأما الهیئة فحیث إنها مندکة فی المادة ومندمجة فیها غایة الإندماج، فلا استقلال لها فی الوجود اللحاظی کما فی الوجود الخارجی کالمعنی الحرفی، فلایمکن انفکاکها عنها وتجریدها ولو فی الذهن، لأن کل هیئة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص مادتها، فلذلک تکون مباینة للاُخری، من جهة أن المقومات الذاتیة

ص:76

لکل منها مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، وعلیه فلا یتصور جامع ذاتی بین الهیئات لکی یکون الموضوع ذلک الجامع الذاتی، فإذن لا محالة یجب الوضع لأشخاصها بجامع عنوانی انتزاعی، کقولهم کلما کان علی زنة «فاعل» فهوموضوع لکذا وکذا.

وإن شئت قلت: إن الهیئة الجامعة ذاتاً وحقیقة بین جمیع الهیئات غیرمتصورة، لأن تلک الهیئات متباینات بالذات والحقیقة من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منها مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری وهی المواد، فإذن لابد للواضع فی مقام الوضع من احضار عنوان انتزاعی یشیر به إلیها، علی أساس أنه عنوان عام لها وتصوره تصور لها بعنوانها ثم یضع تلک الهیئات بعنوان عام لمعنی، وهذا هو المراد من الوضع النوعی أی الوضع لها بجامع عنوانی، أو ان المراد منه هو أن المادة حیث یمکن لحاظها فقط، فالوضع شخصی، والهیئة حیث لا یمکن لحاظها فحسب، بل لابد أن یکون فی ضمن مادة، فالوضع لها یوجب اقتصاره علیها، فیجب حینئذ أن یقال هیئة «فاعل» وما یشبهها موضوعة لکذا، وهذامعنی نوعیة الوضع أی الوضع لها ولما یشبهها(1).

وقد علق علی هذا الجواب بعض المحققین قدس سره بتقریب أنه لا یتم فی بعض الهیئات الا فرادیة کهیئة اسم الفاعل وفعل الماضی، فإن الاُولی موضوعة للذات المتلبسة بالمبدأ، والثانیة موضوعة للنسبة بین الفعل والفاعل، وتلبس الذات بالمبدأ قد یکون صدوریاً کما فی «ضارب» و «قاتل»، وقد یکون حلولیاً کما فی «مائت» و «عالم» وهکذا، وکذلک نسبة الفعل إلی الفاعل، فإنها قد تکون صدوریة کما فی مثل «ضرب» و «قتل» وقد تکون حلولیة کما فی مثل «مات»

ص:77


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 77.

و «علم» و «قام» وهکذا، وعلی هذا فلا یخلو اما أن یکون المعنی الموضوع له لاسم الفاعل الجامع بین النحوین من التلبس وهو الذات المتلبسة بالمبدأ الجامعة بین التلبس الصدوری والحلولی أو حصة خاصة منه وهی التلبس الصدوری، وکلاهما لا یمکن.

أما الأول: فلأن لازمه صحة استعمال هیئة اسم الفاعل فی کل من التلبس الصدوری والحلولی، مع أنه لا یصح استعمال هیئة «قاتل» فی التلبس الحلولی، وکذا هیئة «ضارب»، لأن من تلبس بحلول القتل علیه، فإنه مقتول لا قاتل، ومن تلبس بوقوع الضرب علیه، فإنه مضروب لا ضارب، کما لا یصح استعمال هیئة «مائت» فی التلبس الصدوری، وکذا هیئة «عالم» و «قائم».

وأما الثانی: فلأن لازمه عدم صحة استعمال هیئة «فاعل» فی التلبس الحلولی علی نحو الحقیقة مع أنه لا شبهة فی صحة استعمال هیئة «مائت» و «عالم» ونحوهما فیه حقیقة، وعدم صحة استعمالها فی التلبس الصدوری، ونفس الشیء یقال فی نسبة الفعل إلی الفاعل.

وعلی هذا فلا مناص من الالتزام بأن الواضع حین عملیة الوضع یلاحظ کل هیئة مقرونة بمادتها الخاصة ویضعها للتلبس والنسبة المناسبة لها، مثلاً یلاحظ هیئة «قاتل» مقرونة بمادتها الخاصة وبعنوانها المخصوص ثم یضعها بإزاء معنی مناسب لها، فیکون الموضوع نفس الهیئة المستحضرة فی الذهن لا نوعها، وهذا هو ضابط الوضع الشخصی دون النوعی(1).

ولکن یمکن التعلیق علیه بأنه لا مانع من الالتزام بأن هیئة اسم الفاعل

ص:78


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 344.

موضوعة بإزاء الذات المتلبسة بالمبدأ، وهیئة فعل الماضی موضوعة بإزاء نسبة الفعل إلی الفاعل، ولا تدل علی أکثر من ذلک، وأما الصدوریة أو الحلولیة فهی مأخوذة فی مدلول المادة دون الهیئة، فمادة هیئة القاتل موضوعة لمعنی مناسب للنسبة الصدوریة، وکذا مادة هیئة الضارب ونحوها، وأما مادة هیئة العالم والمائت وما شاکلهما، موضوعة بإزاء معنی مناسب للنسبة الحلولیة، وهذا الإشکال مبنی علی أن النسبة الصدوریة والحلولیة مأخوذة فی مدلول الهیئة، فعندئذ لا یمکن الالتزام بوضع واحد نوعی فی الهیئات، بل لا مناص من الالتزام بتعدده بتعدد الهیئات، فیکون وضعها حینئذ شخصیاً، بلحاظ أن لکل هیئة مقترنة بالمادة بشخصها وضعاً، وأما إذا کانت هذه النسبة من لوازم معنی المادة، فلا مانع من الالتزام بالوضع النوعی فی الهیئات کلها.

وبکلمة، إن المادة قد تکون قائمة بالذات المتلبسة بها وحالة فیها کمادة الموت والعلم والقیام ونحو ذلک، وقد تکون صادرة عنها وقائمة بغیرها کمادة القتل والضرب ونحوهما، وهیئة الفاعل فی کل من الموردین تدل علی تلبس الذات بالمادة، وأما کون المادة صدوریة أو حلولیة فهی لا تدل علیها، لأنها من شؤون المادة ولوازمها الذاتیة، ومدلول هیئة اسم الفاعل تلبس الذات بالمادة، ومدلول هیئة فعل الماضی نسبة المادة إلی الفاعل، وأما کون النسبة فی مورد صدوریة وفی آخر حلولیة، فیکون من جهة اختلاف معنی المادة، لا أنها مأخوذة فی مدلول الهیئة، باعتبار أن مدلولها هو التلبس والنسبة فقط بدون الدلالة علی خصوصیة اخری، والمادة موضوعة لطبیعی معناها اللا بشرط، ولا تدل بالدلالة الوضعیة إلاّ علیه بدون الدلالة علی خصوصیة اخری، وأما کون التلبس والنسبة صدوریة أو حلولیة، فهو من شؤون خصوصیة معنی المادة بالذات، واتصاف النسبة بها إنما هو بالعرض أی من جهة معنی المادة، فإن المادة فی مثل «القاتل»

ص:79

و «قتل» موضوعة لمعنی لا یقبل إلاّ الصدور من الفاعل، وفی مثل «المائت» و «مات» و «العالم» و «علم» موضوعة لمعنی لا یقبل إلاّ الحلول فیه.

وعلی هذا فلا مناص من الالتزام بالوضع النوعی فی الهیئات، فإن هیئة الفاعل إذا کانت بجمیع أصنافها مشترکة فی معنی واحد، فلا موجب للوضع الشخصی لکل صنف، وحینئذ فبامکان الواضع أن یتصور الهیئة المنتزعة الجامعة بینها التی هی عنوان عام لها ثم یضع تلک الهیئات بسبب تصورواستحضار عنوانها العام فی الذهن، فیکون المستحضر فیه النوع، والموضوع هوالشخص، وهذا هو المعیار العام للوضع النوعی.

إلی هنا قد انتهینا إلی هذه النتیجة، وهی أن الأظهر أن وضع جمیع الهیئات نوعی بلا فرق بین الهیئات الا فرادیة والجملیة.

وأما الحروف وما یلحق بها فهل یکون وضعها نوعیاً أو شخصیاً؟

والجواب: أن هنا نظریتین: الاُولی: أن وضعهانوعی، والثانیة: أنه شخصی.

أما النظریة الاُولی: فیمکن تقریبها بأنه لیس للحروف وضع مستقل، بل هی موضوعة بوضع ضمنی أی فی ضمن وضع الجملة، وقد تقدم أن وضع الجملة نوعی، علی أساس أن أفراد الجملة تختلف من مورد إلی مورد آخرباختلاف موادّها، وهی غیر محصورة، فلابد للواضع فی مقام عملیة الوضع من احضار عنوان عام جامع یشیر به إلی کل جملة تتألف مثلاً من الظرف والمظروف وحرف الظرفیة کقولک «الصلاة فی المسجد» و «زید فی الدار» وهکذا، ثم یضعها بإزاء معنی مناسب لها وهو واقع النسبة الظرفیة، فیکون الموضوع فی الحقیقة شخص کل جملة تتألف من هذه العناصر

وضع الحروف نوعی أو شخصی

الثلاثة المستحضرة فی الذهن

ص:80

والمتصورة فیه بنوعها لا بشخصها، وهذا هو معنی الوضع النوعی(1).

ویؤکد ذلک أن دلالة الحروف علی معانیها تتوقف علی أن تکون فی ضمن جملة وإلاّ فلا مدلول لها، بینما دلالة الأسماء علی معانیها لا تتوقف علی ذلک.

وبکلمة، إن الأسماء مستقلة لفظاً ومعنی، وموضوعة بإزاء معان مستقلة، وهی المعانی التی لها تقرر ذاتی ماهوی فی المرتبة السابقة علی الوجود الذهنی والخارجی، وقد توجد فی الذهن وقد توجد فی الخارج، وتدل علیها عند اطلاقها، سواء أکانت وحدها أم کانت فی ضمن کلام، فإن دلالتها الوضعیة التصوریة لا تتوقف علی ذلک، بینما تکون الحروف غیر مستقلة لفظاً ومعناً، فإن دلالتها علی معانیها تتوقف علی أن تکون فی ضمن کلام، وإلاّ فلا دلالة لها ولامدلول، وعلی هذا فلا مبرر لأن یقوم الواضع بوضعها شخصیاً کوضع الأسماء، إذیکفی أن یقوم بوضعها فی ضمن وضع الجملة، کقوله کل کلام یتألف من الظرف والمظروف، وحرف الظرفیة فإنه موضوع للنسبة الظرفیة بینهما، وکل کلام یتألف من المستعلی والمستعلی علیه، وحرف الاستعلاء فإنه موضوع للنسبة الاستعلائیة بینهما، وکل کلام یتألف من المبتدأ به والمبتدأ منه، وحرف الابتداء فإنه موضوع للنسبة الابتدائیة بینهما.

وأما النظریة الثانیة فهی مبنیة علی أن یکون للحروف وضع مستقل کالأسماء، فإذا کان لها وضع کذلک فبطبیعة الحال یکون شخصیاً، لأن ملاک شخصیة الوضع هو أن یکون الملحوظ والمستحضر فی الذهن شخص اللفظ الموضوع لا نوعه، کما أن ملاک نوعیة الوضع هو أن یکون الملحوظ والمستحضرفیه نوع اللفظ الموضوع لا شخصه، وعلی هذا فالواضع فی مقام عملیة الوضع

ص:81


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 343.

یلاحظ کلمة «فی» مثلاً بوحدتها الذاتیة وبحدها الشخصی ثم یضعها بإزاء معنی، وهو واقع نسبة الظرفیة، فیکون الموضوع شخص اللفظ المستحضر فی الذهن والملحوظ فیه لا نوعه، فإذن یکون وضعها کوضع الأسماء شخصی، ولافرق بینهما فی هذه الناحیة.

والخلاصة: أنه لا مانع من وضع الحروف بإزاء معانیها وهی النسب الواقعیة، فإن الوضع لا یتوقف علی أکثر من تصور اللفظ الموضوع واحضاره فی الذهن وتصور المعنی الموضوع له.

غایة الأمر أنها لا تدل علیها إلاّ إذا کانت فی ضمن جملة، وهذا لا من جهة أن وضعها بإزاء المعانی لابد أن یکون فی ضمن وضع الجملة، بل من جهة خصوصیة فی معانیها، وهی کونها معان نسبیة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها من المعانی الاسمیة، ولهذا لا تدل الحروف علی معانیها إلاّ إذا کانت فی ضمن جملة حتی بالدلالة التصوریة، إذ لا یمکن تصورها إلاّ فی ضمن غیرها، بینما الأسماء تدل علی معانیها مطلقاً أی سواء أکانت فی ضمن الجملة أم کانت وحدها، علی أساس أن معانیها معان مستقلة ذاتاً وحقیقة، ولا یتوقف تصورها علی أن تکون فی ضمن کلام.

ثم إن الظاهر من هذین القولین هل هو القول الأول أو الثانی؟

والجواب: هو القول الثانی، وذلک لأمرین:

الأول: أن العرف العام واللغة یشهدان علی أن الحروف کالأسماء موضوعة بإزاء معانیها بشخصها الملحوظ لا بنوعها، غایة الأمر أن معانی الحروف بما أنهامعان نسبیة متقومة بالذات والحقیقة بشخص وجود طرفیها، فلذلک لا تدل علیها إلاّ أن تکون فی ضمن جملة ومتعلقة بالمفاهیم الاسمیة، وهذا بخلاف

ص:82

الأسماء، فإن معانیها بما أنها معان مستقلة فهی تدل علیها مطلقاً، فعدم دلالة الحروف علی معانیها إلاّ فی ضمن جملة، لا یکون قرینة علی أنها لم توضع إلاّ فی ضمن وضع الجملة، لأن أحد الأمرین غیر مربوط بالآخر، إذ للواضع أن یتصور معانی الحروف متعلقه بالمفاهیم الاسمیة ثم یضعها بإزائها علی نحو الوضع الشخصی، ولکن بما أنها متعلقه بها ذاتاً وحقیقة، فلا یمکن دلالتها علیها وحدها ومستقلة، بل لابد أن تکون فی ضمن جملة.

الثانی: أن الجملة إذا لم تکن مشتملة علی الحروف کقولک «زید عالم»، فإن هیئتها القائمة بعنصریها هما «زید» و «عالم» فی المثال موضوعة لواقع النسبة بینهما، وعلی هذا فالدال علی النسبة هو هیئة الجملة لا عنصر الموضوع ولا المحمول.

وأما إذا کانت الجملة مشتملة علی الحرف کالجملة المؤلفة من الظرف والمظروف وحرف الظرفیة، کقولک «الصلاة فی المسجد» مثلاً، فإن لفظ «الصلاة» موضوع لمعناه ویدل علیه، وکذا لفظ «المسجد» ولا یدل شیء منهماعلی النسبة بینهما، وهی نسبة الظرفیة، وعلیه فلا محالة یکون الدال علیها کلمة «فی» فی ضمنها، لوضوح أن الجملة مؤلفّة من ثلاثة عناصر وهی کلمة «الصلاة» وکلمة «المسجد» وکلمة «فی»، وکل من تلک العناصر یدل علی معناه، وبذلک یحصل الغرض المطلوب من الجملة ویتم المقصود منها، ومع هذا لاحاجة إلی وضع الجملة بتمامها، فإنها لو کانت موضوعة فلا محالة موضوعة بإزاء النسبة المذکورة، والمفروض أن الدال علیها کلمة «فی»، وعلیه فوضع الجملة بماهی بإزائها لغو.

فالنتیجة أن وضع الحروف شخصی لا نوعی.

ص:83

قد یدعی أن کلمة «فی» فی المثال أو ما شاکله لم توضع لنسبة الظرفیة، والموضوع بإزائها إنما هو هیئة الجملة القائمة بعناصرها الثلاثة، فإنها تدل علیهادون کلمة «فی».

ولکن هذه الدعوی فاسدة، إذ لا شبهة فی أن کلمة «فی» دخیلة فی تکوین هذه الجملة لفظاً ومعناً، ومن المعلوم أن معنی دخلها فی تکوینها دلالتها علی نسبة الظرفیة التی تتکون الجملة بها، وعلی هذا فکلمة «فی» لا تخلو من أن تدل علی النسبة المذکورة أو لا تدل، فعلی الأول لا معنی لوضع الهیئة بإزائها، لأنه لغومحض، وعلی الثانی فهو خلاف الضرورة والوجدان، حیث إن دخلها فی تکوین الجملة لفظاً ومعنی أمر وجدانی، ومن هنا تختلف الجمل التی لا تتوقف تکوینهاعلی الحرف عن الجمل التی یتوقف تکوینها علیه.

هذا إضافة إلی أن لازم ذلک أنه لیس لکلمة «فی» مدلول فی الجملة، وهذا کما تری.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن وضع الحروف کوضع الأسماء شخصی لا نوعی.

نتیجة البحث امور:

الأول: أن الضابط فی الوضع الشخصی هو استحضار شخص اللفظ الموضوع بحدّه الشخصی فی الذهن ثم وضعه بإزاء معنی مناسب له، فیکون الموضوع شخص اللفظ المستحضر فی الذهن والمتصور فیه بنفسه لا بنوعه.

والضابط فی الوضع النوعی هو استحضار الجامع العنوانی الانتزاعی مشیراً به إلی کل ما یکون هذا الجامع عنواناً له، فیوضع کل ما هو المستحضر فی الذهن والمتصور فیه بهذا العنوان الجامع بإزاء معنی مناسب له، فیکون الموضوع فی الحقیقة شخص کل فرد، ولکن المستحضر فی الذهن

ص:84

والملحوظ فیه لیس شخص کل فرد بنفسه بل بنوعه، وهذا هو ضابط الوضع النوعی.

الثانی: أن وضع الهیئات نوعی، سواء أکانت الهیئات إفرادیة کهیئات المشتتقات ونحوها أو جملیة، ووضع المواد شخصی.

أما الأول: فلأن الواضع یقوم باستحضار هیئة عامة منتزعة کهیئة «فاعل» مشیراً بها إلی الهیئات الخاصة کهیئة «ضارب» و «عالم» و «قاتل» وهکذا، فیضع تلک الهیئات الخاصة بعنوانها العام کقولهم کلما کان علی زنة الفاعل...، فیکون الموضوع فی الحقیقة شخص هذه الهیئات الخاصة، ولکن المستحضر والمتصور فی الذهن لیس بشخصها بل بنوعها.

وأما الثانیة فلأن الواضع یقوم باستحضار شخص المادة بوحدتها الذاتیة فی الذهن وبوضعها بإزاء معنی، فیکون الموضوع شخص اللفظ المستحضر والمتصور فی الذهن بنفسه، وهذا هو ضابط الوضع الشخصی.

الثالث: أن وضع الحروف شخصی کالأسماء، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وإنما الفرق بینهما من ناحیة اخری، وهی أن الحروف لا تدل علی معناهاإلاّفی ضمن الجملة، بینما الأسماء تدل علی معناها، سواء أکانت فی ضمن الجملة أم کانت وحدها.

ص:85

الثانی عشر: الحقیقة الشرعیة

اشارة

یقع الکلام فی هذه المسألة فی مرحلتین:

المرحلة الاُولی: فی ثبوت الحقیقة الشرعیة.

المرحلة الثانیة: فی ثمرة هذه المسألة.

أما الکلام فی المرحلة الاُولی فیتوقف علی ثبوت العلقة الوضعیة تعییناً أوتعیّناً بین ألفاظ العبادات ومعانیها الخاصة المخترعة من قبل الشارع.

أما الأول: وهو الوضع التعیینی، فتارة یقع الکلام فی قیام الشارع بنفسه بعملیة الوضع بصیغته الصریحة. واُخری فی قصده الوضع بصیغة الاستعمال، ویسمی ذلک بالوضع التعیینی الاستعمالی فی مقابل الوضع التعیینی بالصیغة المألوفة الصریحة.

أما القسم الأول فهو غیر محتمل، إذ لو کان النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم وسلم هو القائم بعملیة وضع أسماء العبادات بإزاء معانیها الخاصة بغرض التفاهم بها فی المجتمع الاسلامی فی مرأی المسلمین والصحابة لشاعت العملیة فی ذلک الزمن واشتهرت بینهم، باعتبار أنها لیست عملیة عادیة فردیة، بل هی عملیة اجتماعیة تشکل جانباً مهماً من حیاة المجتمع، إذ کلما توسعت جوانب حیاة المجتمع علمیاً وثقافیاً، مادیاً ومعنویاً تتطلب توسع ظاهرة اللغة أکثر فأکثر، لأنها دخیلة فی جمیع جوانب الحیاة وتطورها وتوسعها، فلو کان النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم قائماً بهذه العملیة الاجتماعیة سجّله التاریخ ونقل فی الأحادیث واشتهر فی الألسنة ووصل إلینا یداً بید وطبقة بعد طبقة، مع أنه لا عین له ولا أثر

ص:86

لا فی التاریخ ولا فی الأحادیث.

وأما القسم الثانی وهو الوضع التعیینی بصیغة الاستعمال لا بتصریح من الواضع، فیقع الکلام فی إمکانه أولاً، وفی وقوعه ثانیاً، فهنا مقامان:

أما الکلام فی المقام الأول فقد ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی عدم إمکانه، بتقریب أن حقیقة الاستعمال هی إفناء اللفظ فی المعنی بحیث إن المتکلم کأنه لایلقی إلی المخاطب إلاّ المعنی والمخاطب لا یتلقی منه إلاّ ذلک المعنی، فاللفظ علی کل حال یکون مغفولاً عنه، بینما الوضع یقتضی لحاظ اللفظ بنفسه واستقلالاً لا آلیّاً وفانیّاً، کما أنه یقتضی لحاظ المعنی کذلک، وعلی هذا فلا یمکن تحقق الوضع بالإستعمال وکونه مصداقاً ومحققاً له، وإلاّ لزم الجمع فیه بین اللحاظ الآلی والاستقلالی وهو محال، وإن شئت قلت: إنه لا یمکن أن یکون إطلاق اللفظ علی المعنی استعمالاً ووضعاً معاً، فإنه بلحاظ کونه استعمالاً، فالنظر إلیه آلی وبلحاظ کونه وضعاً فالنظر إلیه استقلالی، ولا یعقل أن یکون النظر إلیه آلیّاً واستقلالیاً فی نفس الوقت(1).

الحقیقة الشرعیة

وقد علّق علیه السید الاُستاذ قدس سره بتعلیقتین.

الاُولی: أن الوضع سواء أکان بمعنی التعهد والتبانی أم بمعنی الاعتبار النفسانی فی مرتبة متقدمة علی الاستعمال، أما علی الأول فواضح، ضرورة أن التعهد والتبانی بذکر لفظ خاص عند إرادة تفهیم معنی ما یکون مقدماً علی الاستعمال لامحالة، من دون فرق بین أن یکون إبراز هذا التعهد بمثل کلمة وضعت أونحوها الدالة علیه بالمطابقة أو یکون بنفس الاستعمال الدال علی ذلک بالالتزام

ص:87


1- (1) اجود التقریرات ج 1 ص 49.

بمعونة القرینة.

وأما علی الثانی فلأن اعتبار الملازمة أو نحوها بین لفظ خاص ومعنی خاص مقدم علی الاستعمال بالضرورة وإن کان المبرز لذلک الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرینة علی ذلک، فالنتیجة أن الاستعمال متأخر عن الوضع، ولا یلزم محذور الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی إذا قصد الوضع بالاستعمال علی جمیع المبانی والمسالک فی تفسیر حقیقة الوضع، علی أساس أنه أمر نفسانی ثابت فی افق النفس، والاستعمال أمر خارج عن افق النفس وکاشف عنه، فلذلک یکون الوضع سابقاً علی الاستعمال دائماً.

الثانیة: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الاستعمال مقارن للوضع فمع ذلک إذا قصد الوضع بنفس الاستعمال لم یلزم من تحقق الوضع به محذور الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی شیء واحد، لأن لزوم هذا المحذور مبتن علی مسلک المشهور فی باب الاستعمال، حیث إنهم یرون أن اللفظ فی مقام الاستعمال ملحوظ آلیاً وفانیاً فی المعنی.

وأما بناء علی ما هو الصحیح من أن حال الألفاظ حال المعانی فی مرحلة الاستعمال، فکما أن المعانی ملحوظة استقلالاً فکذلک الألفاظ، فإن المتکلم حین الاستعمال کما یلتفت إلی المعانی وما لها من الخصوصیات یلتفت إلی الألفاظ وما لها من الخصوصیات ککونها عربیة أو فارسیة أو غیر ذلک، فلا یلزم من الجمع بین الوضع والاستعمال الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی.

فالنتیجة أن الوضع التعیینی الاستعمالی بمکان من الامکان(1).

ص:88


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 127.

ولنا نظر فی کلتا التعلیقتین:

أما علی الاُولی فلأن الوضع یختلف باختلاف المبانی، فإنه علی أساس نظریة الاعتبار فلا یمکن إیجاده بالاستعمال، لأن حقیقة الوضع وإن کانت اعتباریة إلا أنها لیست بإنشائیة یتسبب إلی إنشائها فی الخارج باللفظ أونحوه کماهو الحال فی المعاملات العقلائیة والشرعیة التی یتسبب بها إلی إنشاء مسبباتها، بل هو أمر اعتباری قائم بنفس المعتبر بالمباشرة ولا واقع موضوعی له ما عدا اعتبار المعتبر إیاه فی عالم الاعتبار والذهن، ولا صلة للفظ به أونحوه ماعدا کونه مبرزاً له، فإن الواضع فی مقام عملیة الوضع اعتبر العلاقة بین اللفظ والمعنی مباشرة ولا یعقل التسبیب فیها، لأن العملیة لیست عملیة تسبیبیة بحاجة إلی سبب.

فالنتیجة أن حقیقة الوضع علی ضوء هذه النظریة بما أنه أمر اعتباری، فهی فعل المعتبر مباشرة ولا ترتبط بالاستعمال الذی هو عملیة خارجیة.

وأما علی القول بأن حقیقة الوضع التعهد والتبانی النفسانی فأیضاً لا یمکن إیجاده بالاستعمال، لأن الوضع علی ضوء هذه النظریة أمر تکوینی وجدانی وفعل قصدی للمتعهد فی أفق النفس مباشرة، کان هناک لفظ یتلفظ به أم لا، ولایکون فعلاً تسبیباً.

وأما علی القول بأن حقیقة الوضع هی اختصاص اللفظ بالمعنی کما هو ظاهرالمحقق الخراسانی قدس سره، فإن ارید بالاختصاص العلاقة والارتباط التکوینی بین اللفظ والمعنی فی الذهن، وحینئذ فإن کان منشؤه الاعتبار، فقد مرّ أنه لا یتوقف علی الاستعمال، وإن کان منشؤه التخصیص والتعیین الخارجی، فلا مانع من تحققه بالاستعمال، علی أساس أن حقیقة الاستعمال هی تخصیص اللفظ بالمعنی،

ص:89

أو فقل إنها عبارة عن اقتران اللفظ بالمعنی بغرض الدلالة علیه، ولا مانع من حصول الوضع بمعنی الاختصاص والارتباط بین صورة اللفظ وصورة المعنی فی الذهن بالاستعمال کمّاً أو کیفاً.

وکل هذه البحوث قد تقدمت بشکل موسع فی ضمن الأبحاث السالفة.

وأما علی الثانیة فعلی تقدیر تسلیم أن عملیة الوضع متحدة مع عملیة الاستعمال، فمع ذلک لا مانع من أن یقصد المستعمل عملیة الوضع بالاستعمال، ولا یلزم منه محذور الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی شیء، لا من جهة ماذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن حقیقة الاستعمال هی جعل اللفظ علامة علی المعنی لا فانیاً فیه، وذلک لما ذکرناه فی محله من أن هذا التفسیر للاستعمال غیرصحیح، لأن اللفظ بما أنه وسیلة وأداة لتفهیم المعانی، فلا محالة یکون النظرإلیه نظر وسیلة وأداة لا علامة، ولکن فی نفس الوقت لا مانع من أن یکون مورداً للإلتفات والتوجه بتمام خصوصیاته، فکونه آلة ووسیلة لا یلازم کونه مغفولاً عنه.

وقوع الوضع بالاستعمال

وبکلمة، إن عملیة الوضع إن کانت بصیغتها المألوفة الصریحة، فهی تتطلب لحاظ اللفظ کالمعنی مستقلاً وفی نفسه لا بعنوان الوسیلة، وأما إذا کانت بصیغة الاستعمال، فبإمکان المستعمل أن یقصد وضع اللفظ الملحوظ فی هذه العملیة أداة ووسیلة للمعنی المستعمل فیه ولا یتوقف علی لحاظه مستقلاً، إذ لیس معنی لحاظه أداة ووسیلة أنه مغفول عنه ولا یکون مورداً للالتفات أصلاً، بل معناه أنه مورد الالتفات أداة ووسیلة للمعنی، وهذا یعنی أنه أداة ووسیلة وفی نفس الوقت مورد للالتفات والتوجه، ولا تنافی بین الأمرین أصلاً، فان التنافی إنما هوبین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی شیء، لا بین کونه أداة ووسیلة بالذات وکونه

ص:90

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

وإن لم یدل علی الوضع فی نفسه ولکن مرکوزیة تلک الطریقة فی أذهان العقلاء وأعماق نفوسهم توجب ظهور هذا الاستعمال فی أن الشارع قصد به وضع هذه الألفاظ بإزاء تلک المعانی الشرعیة المستحدثة.

وأما الکلام فی الصغری فلأنه لم یثبت کون الشارع هو المخترع لمعانی أسماء العبادات علی حد اختصاص المخترعین بالمخترعات الصناعیة وغیرها، إذ الظاهر من مجموعة من الآیات الشریفة أن جملة من تلک المعانی ثابتة فی الشرائع السابقة کالصلاة والصیام والحج ونحوها، منها قوله تعالی:«وَ أَوْصانِی بِالصَّلاةِ وَ الزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیًّا»1 ، ومنها قوله عزّ من قائل:«وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ»2 ، ومنها قوله سبحانه وتعالی:«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ»3 ، حیث إنها تدل علی أن إطلاق هذه الأسماء إنماهوعلی نفس هذه المعانی هناک، فإذن لا تکون تلک المعانی من مخترعات هذه الشریعة خاصة.

ودعوی أن هذه الآیات لا تدل علی أن الصلاة والصیام والحج ونحوها کانت موجودة سابقاً بنفس المعانی الاسلامیة، لوضوح أنها لا تدل علی أکثر من أن هذه العبادات کانت موجودة هناک، وأما أن العبادات الاسلامیة عین العبادات العیسویة فهی لا تدل علیها.

مدفوعة بأن الظاهر من هذه الآیات هو أنها فی مقام الحکایة عن ثبوت هذه المعانی فی الشرائع السابقة وعدم اختصاصها بهذه الشریعة، فالاختلاف إنما هو

ص:92

فی بعض الأجزاء والشروط غیر الرئیسیة والمقومة.

وعلی هذا فلا تکون هذه المعانی من المعانی والماهیات المخترعة من قبل الشارع فحسب، بل هی ثابتة فی الشرائع السابقة، واختلافها مع هذه الشریعة فی جزء أو شرط لا یوجب الاختلاف فی الحقیقة والماهیة، واحتمال أن یکون الموجود فی الشرائع السابقة سنخ عبادات اخری مباینة لسنخ العبادات الاسلامیة، بمعنی أن الصلاة العیسویة والصلاة الاسلامیة لیستا صنفان لصلاة واحدة کصلاتی المسافر والحاضر فی شرعنا، وأن اطلاق ألفاظ الصلاة علیها مجاز وکذا غیرها من ألفاظ العبادات غیر محتمل بالنظر إلی تلک الآیات وغیرهامن النصوص، إذ لا یحتمل أن یکون إطلاق لفظ الصلاة والصیام والحج ونحوهاعلی تلک المعانی مجازاً فی هذه الشریعة، لأن الظاهر من تلک الآیات أن هذه الاطلاقات إنما هی علی المعانی المعهودة والمرتکزة فی أذهان الناس منذ نزولها، لا أنها علی معانی غریبة عن أذهانهم، وهذا یکشف عن ثبوت هذه المعانی قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ.

وبکلمة، إن هذه المعانی ثابتة قبل الاسلام وقدیمة إما بنفس هذه الألفاظ، حیث یظهر أن إطلاقها علیها قبل الاسلام کان أمراً معروفاً ومعهوداً لدی الناس هناک، ومن هنا لا یکون إطلاقها علیها بعد الاسلام أمراً غریباً بین الصحابة والتابعین، حیث إنها بنفس تلک الأسامی ثابتة فی مجتمع الجزیرة العربیة قبل الاسلام، ولم یصدر من الشارع بعده إلا بعض الأجزاء والشروط والتفاصیل غیر المقومة لها، أو ثابتة بأسماء اخری غیرها کالسریانیة أو العبرانیة، بدعوی أنه لا ملازمة بین قدم هذه المعانی وثبوتها فی الشرائع السابقة والتسمیة بهذه الأسماء الخاصة، ومجرد التعبیر عنها فی الکتاب العزیز بتلک الأسماء لا یدل علی

ص:93

أنها موجودة بنفس هذه الأسماء فی الشرائع السابقة، بل هو من أجل إقتضاءمقام الافادة ذلک، کما هو الحال فی سائر القصص والحکایات القرآنیة التی کانت بالسریانیة کما فی لغة عیسی علیه السلام، أو العبرانیة کما فی لغة موسی علیه السلام ونقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصة فی القرآن الکریم من أجل أن مقام الافادة یقتضی ذلک.

ومن هنا یظهر أن ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن هذه المعانی لو کانت قدیمة وثابتة قبل الاسلام لکانت ألفاظها حقائق لغویة(1) لا یتم، لما عرفت من عدم الملازمة بین قدم هذه المعانی والتسمیة بتلک الألفاظ.

وأما أن هذه المعانی من المعانی المخترعة والمستحدثة فی الشریعة الاسلامیة فحسب من قبل الشارع، فهو غیر محتمل عرفاً وبعید جداً.

ثم إن الأظهر من الاحتمالین السابقین هو الاحتمال الأول، وأن هذه المعانی ثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ الخاصة فی الجزیرة العربیة، اذ احتمال أنهاموجودة بألفاظ اخری کالسریانیة أو العبرانیة فی المجتمع العربی بعید جداً، ویؤکد ذلک أن المسلمین کانوا مأنوسین بهذه الألفاظ الواردة فی النصوص القرآنیة وغیرها ولم تکن غریبة عندهم.

ونتیجة ما ذکرناه أمران:

الأول: أن الشارع لا یکون مخترعاً لماهیات العبادات من الصلاة والصیام والحج وغیرها فی هذه الشریعة بحیث لم تکن لها سابقة بهذه الکمیة والکیفیة فی الأدیان الماضیة وأن الصلاة والصیام والحج فی تلک الأدیان مباینة لها فی الدین الاسلامی ولا تشترکان فی جامع واحد کصلاتی المسافر والحاضر، بل إنها

ص:94


1- (1) کفایة الاصول ص 21.

قدیمة وثابتة فی تلک الأدیان، غایة الأمر أن الشارع فی الدین الاسلامی قدأکملها وأتمها ببعض الأجزاء والشروط غیر المقومة لها.

الثانی: أن ألفاظها علی هذا حقائق لغویة لا شرعیة، باعتبار أن الواضع لهابإزاء تلک المعانی لیس هو الشارع لا بالوضع الصریح ولا بالاستعمال، بل هی موضوعة لها قبل الاسلام.

قد یقال کما قیل إن المراد من اختراع الشارع المعانی العبادیة هو استحداثه التألیف بین أجزائها بتنسیق معین من البدایة إلی النهایة کالصلاة مثلاً، فإن معنی کونها مخترعة، هو أن الشارع اخترع الترکیب والتألیف بین أجزائها بکیفیة خاصة وکمیة مخصوصة، لا أن نفس الأجزاء والمواد مخترعة، ومن الواضح أن هذا المقدار من الاختراع یکفی لتصدیه وضع هذه الأسماء بإزائها، إذ من المستبعدجداً أن یکون الشارع هو المخترع لترکیب الصلاة بالکیفیة المذکورة والکمیة الخاصة، ولکن الواضع للفظ الصلاة بإزائها کان غیره.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من أن تلک المعانی العبادیة لیست مجعولة ومخترعة من قبل الشارع غیر جعلها فی حیز الطلب(1) غیر تام، فإن مراد من یقول بکونها مجعولة ومخترعة من قبل الشارع، هو أن الهیئة الترکیبیة لها مجعولة ومخترعة لا موادها الأصلیة.

والجواب عنه یظهر مما تقدم من أن هذه الترکیبات العبادیة بمقوماتها الأساسیة قدیمة وثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ، غایة الأمر أن الشارع بعد الاسلام قد یتصرف فیها بزیادة جزء أو شرط أو مانع غیر رکنی.

ص:95


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 89.

والخلاصة أن هناک ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن هذه العبادات باُصولها الثابتة المقومة موجودة فی الشرائع السابقة ولیست من مخترعات الشارع ومختصات هذه الشریعة، بل هی عبادات وطقوس دینیة قدیمة من لدن تلک الشرائع إلی هذه الشریعة، ولم تمرفترة علی مجتمع لم یعش حیاة دینیة ولم یسمع شیئاً من العبادات والطقوس الدینیة حتی فی فترة الجاهلیة، فإن جمعاً غفیراً من أصحاب الدیانتین السابقتین علی الاسلام کان یعیش مع مجتمع الجزیرة الذین هم من القبائل العربیة الأصیلة وکان جمع غفیر من مجتمع الجزیرة اعتنقوا إحدی الدیانتین وعملوا بعباداتها والطقوس الدینیة لها، ومن المستبعد جداً أنهم کانوا یطلقون علی العبادات أسماء غیر عربیة رغم شیوع تلک العبادات بینهم وابتلائهم بها، إذ لو کان لها أسماء اخری غیر العربیة لا نعکس فی التاریخ مع أنه لا عین لها فیه ولا أثر.

ویؤکد وجود هذه الأسماء قبل الاسلام طرح القرآن الکریم نفس هذه الأسماء منذ بدایة الوحی واستعمالها لافادة تلک العبادات، فلولم تکن تلک الأسماء مأنوسة عندهم ومرکوزة فی أذهانهم وکانت من مستحدثات هذه الشریعة لکان طرح القرآن الکریم لهامنذ البدایة صدمة لدعوی النبوة ومن إحدی الموانع، علی أساس أن القرآن قد جاء بعرف لغوی جدید وکان عند المجتمع أمراً بدعاً وغریباً، وحیث إنهم لم یستغربوا هذا الطرح والاستعمال وکان مأنوساً عندهم، فیکشف ذلک عن قدم هذه الألفاظ واستعمالها فیها قبل الاسلام، وعلی هذا فبإمکاننا إثبات قدم هذه الألفاظ وثبوتها قبل الاسلام باُمور:

الأول: أن العبادات المذکورة عند المجتمع العربی فی الجزیرة لو کانت مسماة بأسماء اخری لأصبحت معروفة بعد الاسلام، علی أساس اهتمام المسلمین بتلک

ص:96

العبادات وبالتالی بأسمائها قبل الاسلام، ولنقلت فی التاریخ ولا سیما فی تاریخ الأدب العربی والنصوص.

الثانی: أن من المستبعد جداً أن القبائل العربیة الأصیلة الموجودة فی الجزیرة الذین اعتنقوا إحدی الدیانتین، کانوا یطلقون علی تلک العبادات أسماء غیرعربیة رغم أنهم کانوا معروفین فی الفصاحة والبلاغة فی اللغة العربیة، فإذن کیف یکون ذلک محتملاً فی حقهم.

الثالث: طرح نصوص القرآن والسنة هذه الأسماء علی العبادات المذکورة بین الناس منذ الوهلة الاُولی للوحی بدون استغرابهم تلک الأسماء مع أنها لو کانت من الأسماء الجدیدة وغیر المسبوقة کان إطلاقها علیها بنظرهم بدعاً وغریباً، مع أن الأمر لیس کذلک، حیث إن اطلاقها واستعمالها لإفادة تلک العبادات کاستعمال غیرها من الألفاظ واللغات لإفادة معانیها بین أهل اللسان، فیکشف ذلک عن وجود هذه الأسماء قبل الاسلام واُنسهم بها، وأن اطلاق نصوص الکتاب والسنة أسماء العبادات علیها وإلقائها علی الناس کان طبعیاً واعتیادیاًکإطلاق اللغات علی أهل اللسان، فلو کانت هذه الأسماء والألفاظ غریبة لکان هذا الاطلاق فی الکتاب والسنة بحاجة إلی عنایة زائدة وقرینة.

ومن هنا یظهر أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أنه لا شاهد علی ذلک لا من الکتاب ولا من السنة ولا قرینة من الخارج(1) غیر تام، لما عرفتم من أن نصوص الکتاب والسنة تشهد علی ذلک، کما أن هناک قرینة خارجیة أیضاً، وهی أن المجتمع العربی فی الجزیرة بما أن لغتهم لغة عربیة، فلذلک یکون من المستبعد جداً بل غیر محتمل عادة أنهم کانوا یطلقون علی تلک العبادات

ص:97


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 132.

أسماء اخری غیر عربیة.

الاحتمال الثانی: أن المعانی الشرعیة ثابتة فی الشرائع السابقة لا بهذه الألفاظ بل بألفاظ اخری، ولکن الشارع استعمل هذه الألفاظ فیها منذ بدایة الوحی فی نصوص الکتاب والسنة.

الاحتمال الثالث: أن لا تکون هذه المعانی الشرعیة ثابتة قبل الاسلام، وحینئذ فلا محالة تکون مخترعة من قبل الشارع.

وبعد ذلک نقول أما علی الاحتمال الأول الذی هو الأظهر، فبما أن تلک العبادات ثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الأسماء ولم یصدر من الشارع إلا بعض التفاصیل والشروط غیر المقومة لحقیقتها الجامعة، فهی حقائق لغویة وهذه الألفاظ موضوعة بإزاء تلک الحقیقة الجامعة قبل الاسلام، وهی الجامعة بین ماجاء به الاسلام وما جاءت به الشرائع السابقة.

وأما علی الاحتمال الثانی فحیث إن إطلاق هذه الألفاظ الخاصة علی تلک المعانی واستعمالها فیها من قبل الشارع فی نصوص الکتاب والسنة ولا یکون من القدیم، فلذلک لا یحتمل أن تکون حقیقة لغویة، فلا محالة تکون حقیقة شرعیة بالوضع الحاصل بالاستعمال، وأما الوضع التعیینی فهو غیر محتمل کما تقدم.

ومن هنا یظهر أن ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن المعانی الشرعیة لوکانت ثابتة فی الشرائع السابقة لکانت حقائق لغویة لا شرعیة غیر تام، لأن المعیار فی کون هذه الألفاظ الخاصة حقائق لغویة أو شرعیة إنما هو بوضع تلک الألفاظ بإزاء المعانی المذکورة، فإن کان هذا الوضع مستنداً إلی الشارع بعدالاسلام فهی حقائق شرعیة، وإن کان ثابتاً قبل الاسلام فهی حقائق لغویة، وحیث إن تلک المعانی لم تثبت قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ الخاصة، فلا

ص:98

یمکن أن تکون حقائق لغویة.

فالنتیجة أنه لا ملازمة بین ثبوت المعانی المذکورة قبل الاسلام وثبوتهابنفس هذه الألفاظ الخاصة، إذ کما یمکن ذلک یمکن أن تکون ثابتة بألفاظ اخری.

وأما علی الاحتمال الثالث، فحیث إن الشارع هو المخترع لتلک العبادات بالکمیة والکیفیة الموجودتین فی الشریعة من دون أن یکون لها وجود قبل الاسلام، فلا محالة یکون هو الواضع والمعین للأسماء بإزائها، إذ احتمال أنه اخترع تلک المعانی من دون أن یعین لها أسماء غیر محتمل عادة، فإذن بطبیعة الحال یعین لها أسماء خاصة، وحیث إنه لا یحتمل أن یکون هذا التعیین منه بالوضع الصریح، فلا محالة یکون بالاستعمال، وعلیه فتکون هذه الألفاظ حقائق شرعیة بالوضع التعیینی الاستعمالی لا بالصریح.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالیة:

الاُولی: الظاهر أن المعانی الشرعیة قدیمة وثابتة قبل الاسلام بأسمائها العربیة فی المجتمع العربی الأصیل فی الجزیرة، فإنهم بمقتضی عربیتهم کانوا یطلقون علیها أسماء عربیة ویستعملونها فی مقام إفادة تلک المعانی العبادیة کما هو الحال فی سائرالألفاظ واللغات المستعملة بینهم للافادة والاستفادة، واحتمال أنهم یتبعون أهل الدیانتین فی أسامی تلک العبادات بعید جداً کما مرّ، فإذن تکون أسامی العبادات حقائق لغویة لا شرعیة.

الثانیة: أن هذه المعانی لو کانت مخترعة من قبل الشارع لکانت أسماؤها موضوعة بإزائها من قبل الشارع بالوضع التعیینی الاستعمالی، فتکون حقیقة شرعیة.

ص:99

الثالثة: أن تلک المعانی إذا کانت ثابتة قبل الاسلام بألفاظ اخری واستعمال الألفاظ العربیة فیها إنما کان بعد الاسلام فی نصوص الکتاب والسنة، فإثبات الحقیقة الشرعیة فی هذا الفرض بالوضع التعیینی الصریح أو بالاستعمال من قبل الشارع لا یمکن کما مرّ.

وأما الثانی وهو الوضع التعیّنی المستند إلی العامل الکمی ککثرة الاستعمال، فلا موضوع له بناء علی ما استظهرناه من أن هذه الألفاظ حقائق لغویة لاشرعیة، نعم لو کانت تلک المعانی مخترعة من قبل الشارع أو أن تلک الألفاظ مستعملة فیها فی الکتاب والسنة بعد الاسلام فلا ریب فی ثبوته، إذ لا شبهة فی کثرة استعمال هذه الألفاظ فی تلک المعانی فی مختلف الموارد والمناسبات بنحوتؤدی إلی الوضع.

وقد استشکل فی تحقق الوضع التعیّنی بالاستعمال صغری وکبری.

أما الصغری فلأن استعمال هذه الألفاظ فی المعانی المذکورة فی لسان النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم لم یبلغ من الکثرة بدرجة تؤدی إلی الوضع، نعم استعمالها فیها فی لسانه صلی الله علیه و آله و سلم ولسان تابعیه وإن بلغ من الکثرة درجة تؤدی إلی الوضع التعیّنی، أی الاستجابة الذهنیة الشرطیة إلا أنه لیس بحقیقة شرعیة بل هوحقیقة متشرعیّة.

ثبوت الحقیقة الشرعیة بالوضع التعیّنی

والجواب: أن الغرض من ثبوت الحقیقة الشرعیة هو حمل الألفاظ الواردة فی الکتاب والسنة علی معانیها الشرعیة بدلاً عن حملها علی معانیها اللغویة، وهذا الحمل یتوقف علی ثبوت العلقة الوضعیة بین هذه المعانی والألفاظ المذکورة فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم وإن لم یکن ثبوتها مستنداً إلی خصوص استعماله صلی الله علیه و آله و سلم هذه الألفاظ، لأن الأثر المطلوب من ثبوت الحقیقة الشرعیة هو

ص:100

حمل هذه الألفاظ علی المعانی المذکورة، وهذا الأثر یحصل فی زمنه صلی الله علیه و آله و سلم وإن لم تسمی العلقة الحاصلة بینهما بالحقیقة الشرعیة.

فالنتیجة أنه لا شبهة فی حصول الوضع التعیّنی من مجموع استعماله صلی الله علیه و آله و سلم واستعمال تابعیه منذ أوائل البعثة، علی أساس أن هذه الاستعمالات منهم مبنیة علی الاهتمام بتلک المعانی وترسیخها وترکیزها فی الذهن، فلذلک تحصل الملازمة بین صورة هذه الألفاظ وصورة تلک المعانی فی الذهن فی فترة قصیرة.

وأما الکبری فلأن استعمال هذه الألفاظ فی تلک المعانی لما کان استعمالاً فی غیر معناها الموضوع له فهو بحاجة إلی قرینة، ومن الواضح أن استعمال اللفظ مع القرینة فی معنی مهما بلغ من الکثرة، فهی توجب حصول الاُنس بینه وبین اللفظ المقترن بالقرینة، لا بینه وبین ذات اللفظ المستعمل فیه ولا تتواجد بینهما علقة، وإنما تتواجد بینه وبین اللفظ المقترن بالقرینة لا مطلقاً ولو کان مجرداً عنها، فإذن لا یمکن حصول الوضع التعیّنی من کثرة استعمال اللفظ فی المعنی إذا کان الاستعمال مع القرینة، علی أساس أن الاُنس الحاصل منها المترسخ فی الذهن والمترکز فیه إنما هو بین المعنی واللفظ المقترن بالقرینة لا مطلقاً.

والجواب: أن الإشکال مبنی علی أن تکون القرینة کاللفظ عنصراً ثابتاً محفوظاً فی تمام موارد الاستعمال، ولکن الأمر لیس کذلک، لأن القرینة عنوان انتراعی وأفرادها تختلف فی کل مورد عن مورد آخر، فإنها فی مورد حالیة، وفی آخر لفظیة، وفی ثالث معنویة، وفی رابع ارتکازیة وهکذا، والعنصر الثابت فی تمام الموارد هو اللفظ، فإنه لا یختلف باختلافها، وعلی هذا فحیث إن عنصر القرینة لیس عنصراً ثابتاً محفوظاً فی تمام الموارد وعنصر اللفظ عنصر ثابت محفوظ فی کل الموارد، فبطبیعة الحال یوجب هذا حصول العلقة بین المعنی وذات

ص:101

اللفظ المستعمل فیه، لا بینه وبین اللفظ المقترن بالقرینة، إذ لا أثر لاقترانه بهابعد تبدلها وتغیرها من مورد إلی آخر.

فالنتیجة أنه لا مانع من حصول الوضع التعیّنی بعامل کمی، وهو کثرة الاستعمال بین ذات اللفظ والمعنی، فإذا أطلق انتقل الذهن من تصوره إلی تصور المعنی، سواء أکان مقترناً مع القرینة أم لا. هذا تمام الکلام فی المرحلة الاُولی.

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة وهی ثمرة القول بثبوت الحقیقة الشرعیة، فقد ذکروا أنه علی القول بثبوت الوضع الشرعی بأحد أنحائه الثلاثة المتقدمة تحمل النصوص الواردة فی الکتاب والسنة علی المعانی الشرعیة بمقتضی أصالة الظهور، وعلی القول بعدم ثبوت الوضع الشرعی تحمل النصوص علی معانیها اللغویة عملاً بأصالة الحقیقة، وأما إذا لم یثبت القول بالحقیقة الشرعیة ولاعدمها، فتصبح النصوص مجملة فلا یمکن التمسک بها. هذا،

وقد علق المحقق النائینی قدس سره علی هذه الثمرة بأنه لا واقع موضوعی لها فی الخارج، وذلک لأن ظهور النصوص الواردة من الأئمة الأطهار علیهم السلام فی إرادة المعانی الشرعیة مما لا شبهة فیه ولا یحتمل أن یکون المراد منها المعانی اللغویة، وأما النصوص الصادرة فی زمن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم فالثمرة وإن کانت تظهر فیها إلا أن تلک النصوص لم تثبت من طرقنا إلا ماروی عن الأئمة الأطهارعلیهم السلام بسند تام، فالنتیجة أن الثمرة لا تظهر بین القولین فی المسألة(1).

ولکن لا أساس لهذا التعلیق، فإنا لو سلمنا أن النصوص الصادرة من النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم لم تصل إلینا بطرق معتبرة، فما هو موقفک من النصوص القرآنیة التی یتضمن کثیر منها العبادات والمعاملات بأسامیهما الخاصة، هذا من ناحیة.

ص:102


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 48.

ومن ناحیة اخری، إن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من عدم ظهور الثمرة بین القولین فی المسألة وإن کان صحیحاً من هذه الجهة، إلا أنه غیر صحیح من جهة تخصیص ذلک بخصوص النصوص الصادرة من الأئمة الأطهارعلیهم السلام، إذ لا وجه لهذا التخصیص أصلاً، فإن مراد الشارع من النصوص الشرعیة، سواء کانت من الکتاب أو السنة معلوم أنه هو المعانی الشرعیة ولا شک فی ذلک، بلا فرق فیه بین النصوص الواردة من الأئمة الأطهارعلیهم السلام والنصوص القرآنیة والنبویة، إذ لاشبهة فی أن نصوص القرآن مستعملة فی المعانی الشرعیة، وکذلک نصوص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم، کما هو الحال فی نصوص الأئمة الأطهارعلیهم السلام، هذا تمام کلامنا فی وضع العبادات.

الحقیقة الشرعیة فی ألفاظ المعاملات

وأما المعاملات فلا شبهة فی أنها امور عقلائیة ثابتة بین العقلاء قبل الشرع، کما أنه لا شبهة فی ثبوتها بنفس هذه الألفاظ الخاصة قبل الاسلام فی المجتمع العربی فی الجزیرة، إذ احتمال أنهم کانوا یستعملونها کنظام مالی فی حیاتهم الاقتصادیة بألفاظ اخری غیر محتمل فیها وإن فرض احتماله فی العبادات، علی أساس أن من اعتنق من القبائل العربیة إحدی الدیانتین بحاجة إلی استعمال العبادات دون غیره، بینما المعاملات باعتبار أنها نظام مالی حیاتی للمجتمع ککل، فجمیع القبائل العربیة هناک بحاجة إلی استعمالها بألفاظ عربیة فی مقام المفاهمة ونقل الأفکار بها إلی الآخرین، ومن هنا لا یکون طرح القرآن المعاملات بأسمائها الخاصة منذ بدایة الوحی أمراً بدعاً وغریباً لدی الناس ولغة جدیدة لهم، بل هم کانوا یتلقون خطابات القرآن کالخطابات المتبادلة بینهم فی

ص:103

محاوراتهم بدون أدنی غربة.

نستعرض نتائج البحث حول الحقیقة الشرعیة بما یلی:

الاُولی: أن من غیر المحتمل أن یکون النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم هو الواضع لأسماء العبادات بإزاء معانیها مباشرة، وإلا لشاع ذلک بین المسلمین وسجّل فی التواریخ والأحادیث مع أنه لا عین ولا أثر له فیهما.

الثانیة: فی تحقق الوضع التعیینی بصیغة الاستعمال خلاف، فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی استحالة ذلک، بدعوی أن الاستعمال یقتضی لحاظ اللفظ آلیاً والوضع یقتضی لحاظه استقلالاً، والجمع بینهما یستلزم الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی شیء واحد وهو مستحیل، بینما ذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی إمکانه، بدعوی أن الاستعمال لا یقتضی لحاظ اللفظ آلیاً، فلا مانع من الجمع بینهما.

والصحیح فی المقام هو التفصیل، فإن ذلک یختلف باختلاف المبانی فی حقیقة الوضع، فعلی مبنی أن حقیقة الوضع حقیقة اعتباریة قائمة بالمعتبر مباشرة، فلایمکن إیجادها بالاستعمال، وإلا لکانت حقیقة إنشائیة تسبیبیة لا اعتباریة محضة وهذا خلف، وکذلک علی مبنی التعهد والتبانی، لأن حقیقة الوضع علی هذا المبنی حقیقة تکوینیة وجدانیة، وهی فعل المتعهد فی أفق النفس مباشرة، ولا یکون تسبیباً، نعم علی مبنی الاختصاص بأن تکون حقیقته اختصاص اللفظ بالمعنی فی عالم الذهن، فإن کان منشؤه التعیین والتخصیص أی الاقتران بین اللفظ والمعنی فی الخارج، أمکن إیجاده بالاستعمال علی تفصیل تقدم.

الحقیقة الشرعیة فی ألفاظ المعاملات

الثالثة: لا یلزم من اتحاد عملیة الوضع مع عملیة الاستعمال الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی شیء واحد، لا من جهة ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن حقیقة الاستعمال جعل اللفظ علامة، فإنه غیر صحیح کما تقدم، بل من

ص:104

جهة ما ذکرناه من أن النظر إلی اللفظ بالذات فی مقام الاستعمال نظر وسیلة وأداة وفی نفس الوقت لا مانع من کونه مورداً للتوجه واللحاظ مستقلاً، فلا یلزم المحذور المذکور حینئذ من الجمع بین العملیتین.

الرابعة: قد بنی السید الاُستاذ قدس سره علی وقوع الوضع التعیینی بالاستعمال بین العرف والعقلاء فی الأعلام الشخصیة والمعانی المستحدثة المخترعة، منها المعانی الشرعیة، ولهذا قال فدعوی ثبوت الحقیقة الشرعیة بالوضع التعیینی بالاستعمال غیرة بعیدة.

ولکن الصحیح عدم ثبوت الحقیقة الشرعیة لا بهذا الوضع ولا بالوضع الصریح ولا بالوضع التعیّنی، لأن الظاهر من جملة من الآیات أن أسامی العبادات حقائق لغویة بمعنی أنها موضوعة بإزاء تلک المعانی قبل الاسلام، ولم یصدر من قبل الشارع بعد الاسلام إلا بعض التفاصیل من الأجزاء والشروط غیر المقومة لحقیقة هذه المعانی الجامعة بین ما جاء به الاسلام وما جاءت به الشرائع والأدیان السابقة علی ما تقدم تفصیله.

الخامسة: أن کثرة استعمال اللفظ فی المعنی المجازی التی تؤدی إلی الوضع التعیّنی لا تتوقف علی کثرة استعمال اللفظ مجرداً عن القرینة فیه، بل من جهة أن اللفظ عنصر ثابت ومحفوظ فی جمیع موراد الاستعمال دون القرینة، فإنها تختلف باختلاف الموارد، فلذلک یحصل منها الاُنس الذهنی بین ذات اللفظ والمعنی بقطع النظر عن اقترانه بالقرینة، وهذا هو الوضع التعیّنی.

السادسة: الظاهر أن الثمرة لا تظهر بین القولین فی المسألة، علی أساس أن المراد من النصوص التشریعیة فی الکتاب والسنة معلوم، وهو المعانی الشرعیة، سواء أکان الاستعمال فیها حقیقیاً أم مجازیاً علی تفصیل تقدم.

ص:105

الثالث عشر: الصحیح والأعم

اشارة

اختلف الاُصولیون فی تحدید المدلول الوضعی لألفاظ العبادات والمعاملات سعة وضیقاً، فذهب جماعة منهم إلی أنها موضوعة لحصة خاصة منها وهی الحصة الصحیحة، وفی مقابل ذلک ذهب جماعة اخری إلی أنها موضوعة بإزاء جامع بینها وبین الفاسدة، فهنا مقامان:

المقام الأول فی أسماء العبادات. المقام الثانی فی أسماء المعاملات.

أسماء العبادات

اشارة

أما المقام الأول فقبل الدخول فی بیان القولین الرئیسیین فی المسألة ینبغی تقدیم عدة نقاط:

النقطة الاُولی: أن البحث فی هذه المسألة ینسجم مع جمیع الأقوال فی المسألة المتقدمة، وهی مسألة الحقیقة الشرعیة، وقد مرّ أن الأقوال فی تلک المسألة ثلاثة:

القول الأول: أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزائها من قبل الشارع إما بالوضع التعیینی أو التعیّنی.

القول الثانی: أنها موضوعة بإزائها قبل الاسلام، علی أساس أنها معان قدیمة ولیست بمستحدثة فی الشریعة المقدسة.

القول الثالث: أنها مستعملة فیها مجازاً.

ص:106

أما علی القول الأول وهو القول بثبوت الحقیقة الشرعیة فالأمر واضح، فإن القائل بالصحیح فی هذه المسألة یدعی أن الشارع وضع ألفاظ العبادات بإزاءحصة خاصة وهی الصحیحة، والقائل بالأعم یدعی أن الشارع وضع ألفاظها بإزاء جامع بین الصحیحة والفاسدة.

وأما علی القول الثانی وهو أنها موضوعة بإزائها قبل الاسلام، فالأمر أیضاً واضح، لأن مرد هذا النزاع إلی النزاع فی تحدید المعانی اللغویة سعة وضیقاً، فالصحیحی یدعی ضیقها والأعمّی یدعی سعتها.

وأما علی القول بالمجاز فقد قیل فی تصویر هذا النزاع وجوه:

الأول: ما جاء فی الکفایة من أن غایة ما یمکن أن یقال فی تصویره هو أن النزاع علی هذا القول مبنی علی أن هذه الألفاظ التی استعملت فی المعانی الشرعیة مجازاً فی نصوص الکتاب والسنة، هل الأصل فی هذه الاستعمالات هو الاستعمال فی خصوص الصحیحة ویکون الاستعمال فی الأعم بتبعه ومناسبته، أوأن الأمر بالعکس(1).

وبکلمة واضحة إن الأقرب إلی المعنی الحقیقی، هل هو خصوص الصحیحة أو الجامع بینها وبین الفاسدة، فالقائل بالصحیح یدعی أن الأقرب إلی المعنی اللغوی وأشبه به هو الصحیحة دون الأعم، وعلی هذا فالألفاظ المستعملة فی الکتاب والسنة محمولة علیها، ویکفی فی ذلک وجود قرینة صارفة علی عدم إرادة المعنی اللغوی وعدم الحاجة إلی قرینة معینة، تطبیقاً لقاعدة أن إرادة المعنی الحقیقی إذا تعذّرت فأقرب المجازات هو المتعین، وأما استعمالها فی الأعم، فهو

ص:107


1- (1) کفایة الاصول ص 23.

بحاجة إلی قرینة اخری، لأن استعمالها فیه إما علی أساس مناسبته للصحیحة، فیکون فی طولها، أو علی أساس أن مناسبته مع المعنی الحقیقی فی مرتبة دون مرتبة مناسبة الصحیحة معه، والقائل بالأعم یدعی أن الأعم هو أقرب المجازات إلی المعنی الحقیقی، ولکن هذا البیان بحسب الکبری وإن کان تاماً إلا أن کون المقام من صغریات هذه الکبری محل إشکال بل منع، لأن تطبیقها علیه منوط بأحد افتراضین:

أسماء العبادات

الأول: أن تکون علاقة الصحیحة مع المعنی الحقیقی أقوی وآکد من علاقة الأعم معه أو بالعکس.

الثانی: أن تکون علاقة المعنی الحقیقی مع أحدهما فی طول علاقته مع الآخر.

وکلا الافتراضین غیر صحیح.

أما الأول، فلأن العلاقة الموجودة بین المعنی اللغوی وکل من المعنی الشرعی الصحیح والأعمّ إنما هی علاقة المشابهة والمشاکلة، ولا تکون هذه العلاقة بین المعنی اللغوی وبین أحدهما أقوی وآکد من العلاقة بینه وبین الآخر بنظر العرف بدرجة توجب انصراف اللفظ إلیه عند نصب قرینة علی عدم إرادة المعنی اللغوی وعدم حاجة إلی قرینة اخری المعینة، بینما تکون إرادة الآخر بحاجة إلی قرینة اخری.

وأما الثانی، فلأنه لا مجال لتوهم أن علاقة الأعم فی طول علاقة الصحیح، بمعنی أن للصحیح علاقة مع المعنی اللغوی مباشرة وللأعم علاقة مع الصحیح کذلک ومع المعنی اللغوی بالواسطة، ضرورة أنه لا معنی للطولیة بعد أن کانت العلاقة المصححة محفوظة فیهما بدرجة واحدة.

ص:108

ومن هنا یظهر أن اعتراض المحقق صاحب الکفایة قدس سره علی هذا الوجه فی محله، فإنه ناظر إلی أن علاقة کل من الصحیح والأعم مع المعنی اللغوی فی عرض الآخر وعلی مستوی واحد، فلا طولیة ولا أقوائیة فی البین.

الثانی: ما جاء فی کلمات المحقق الأصبهانی قدس سره من أنه یمکن تصویر النزاع فی المسألة بما یلی، من أن القائل بالأعم یدعی أن اللفظ کالصلاة مثلاً قد استعمل دائماً فی الأعم لعلاقة بینه وبین المعنی الحقیقی، وأما استفادة خصوصیة اخری کوصف الصحة أو الفساد فهی بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، ومع عدم دال آخر یحمل اللفظ علی الأعم، والخلاصة أن القائل بالأعم یدعی أن الطریقة المتّبعة فی استعمال ألفاظ العبادات فی نصوص الکتاب والسنة هی استعمالها فی الأعم وهو الجامع بین الصحیح والفاسد وإرادة خصوص الصحیح أو الفاسد إنما هی بدالّ آخر.

والقائل بالصحیح یدعی أن اللفظ دائماً استعمل فی الصحیحة، علی أساس علاقة بینها وبین المعنی اللغوی، وفی الفاسدة لا لعلاقة بینها وبین المعنی الحقیقی ولا للمشاکلة بینها وبین الصحیحة، بل من أجل التصرف فی أمر عقلی وهوتنزیل المعدوم من الأجزاء أو الشروط منزلة الموجود، لئلا یلزم سبک المجاز من المجاز، فلا مجاز أصلاً من حیث المعنی إلا فی استعمال اللفظ فی الصحیحة، وحیث إن الاستعمال دائماً فی الصحیحة من حیث المفهوم والمعنی فمع عدم القرینة علی التصرف فی أمر عقلی یحمل علی الصحیحة ویترتب علیه ما یترتب علی الوضع للصحیحة من الثمرة(1).

وغیر خفی أن هذا التقریب وإن کان ممکناً عقلاً إذ لا مانع من دعوی کل من

ص:109


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 92.

الصحیحی والأعمی ذلک، إلا أنه لا یمکن عرفاً الأخذ به، حیث إن الأخذ به کذلک منوط بأن یکون بصیغة عرفیة مقبولة، حیث لا یحتمل أن یکون استعمال الشارع هذه الألفاظ فی معانیها الشرعیة مجازاً فی الکتاب والسنة خارجاً عن الطریقة المتّبعة لدی العرف والعقلاء فی باب المحاورات والافادات، ضرورة اختیار الشارع طریقة التفاهم فی باب الألفاظ نفس الطریقة المتبعة لدی العرف العام فی هذا الباب، وهذا أمر واضح، وعلی ذلک فلابد من النظر إلی دعوی کل من الصحیحی والأعمی.

أما دعوی الصحیحی بأن اللفظ فی الکتاب والسنة دائماً مستعمل فی الصحیحة حتی إذا کان المراد منها الفاسدة بعد تنزیلها منزلة الصحیحة بالالتزام بالمجاز فی الأمر العقلی لا فی الکلمة، فهی لا تبتنی علی نکتة عرفیة، وذلک لأن العلاقة المصححة للاستعمال المجازی کما هی متوفرة ومحفوظة بین المعنی اللغوی والصحیحة، کذلک هی متوفرة ومحفوظة بینه وبین المعنی الأعم، وعلیه فدعوی أن الشارع استعمل اللفظ دائماً فی الصحیحة إما حقیقة أو ادعاء أی بعد تنزیل المعدوم من الأجزاء أو الشرائط منزلة الموجود بلا مبرّر وموجب، ضرورة أنه إذا صح استعمال اللفظ فی الفاسدة مجازاً بواسطة العلاقة بینها وبین المعنی اللغوی مباشرة فلا مقتضی للتنزیل، ولا یلزم من ذلک سبک المجاز عن المجاز، لأن کلا المجازین فی عرض واحد، لا أن أحدهما فی طول الآخر.

هذا إضافة إلی أنه لا محذور فی سبک المجاز من المجاز، ولا مانع من أن یکون استعمال لفظ فی معنی مجازاً من جهة علاقته بالمعنی الحقیقی مباشرة، واستعماله فی معنی آخر مجازاً من جهة علاقته بالمعنی المجازی کذلک.

وبکلمة، إذا کانت لکل من الماهیة الصحیحة والأعم علاقة مع المعنی الحقیقی

ص:110

فی عرض الآخر، وهی علی الفرض مصححة لاستعمال اللفظ فی کل منهما، فحینئذ لا مبرر لتنزیل الحصة الفاسدة منزلة الصحیحة أولاً ثم استعمال اللفظ فیها مجازاً، فإنه لغو محض، لأن صحة هذا الاستعمال لا تتوقف علی هذا التنزیل، والمفروض أنه لا یوجب صیرورة هذا الاستعمال استعمالاً حقیقیاً ولو ادعاء، لفرض أن استعمال اللفظ فی الحصة الصحیحة مجاز علی کل حال، أی سواء أکانت صحیحة واقعاً أم ادعاء، فإذن اللجوء إلی التنزیل أولاً ثم استعمال اللفظ فی الصحیحة الادعائیة مجازاً رغم صحة هذا الاستعمال فی الفاسدة ابتداء بدون سبق التنزیل بلا موجب، إذ لا یترتب علی هذا التنزیل أی فائدة وأثر، لأن المجاز فی الکلمة محفوظ فی المقام علی کل حال، وحینئذ فالالتزام بالمجاز فی الاسناد والأمر العقلی أیضاً یکون لغواً، ولذلک لا تکون هذه الطریقة طریقة عرفیة عقلائیة، ولا یمکن للشارع أن یختار هذه الطریقة فی نصوص الکتاب والسنة.

وأما دعوی الأعمیّ وهی أن خصوصیة الصحیحة أو الفاسدة مستفادة من دال آخر، فهی أیضاً لا تبتنی علی نکتة عرفیة، وذلک لأن تعدّد الدال والمدلول وإن کان من الطرق المتّبعة لدی العرف والعقلاء فی استعمالاتهم ومحاوراتهم، إلا أنها إنما تتبع فی موارد یراد فیها التحفظ علی الحقیقة، بأن یستعمل اللفظ فی معناه الحقیقی، والخصوصیة مستفادة من دال آخر، وطالما یمکن ذلک، فلا تصل النوبة إلی المجاز، ولکن ذلک لا ینطبق علی المقام، لأن استعمال اللفظ فی المقام مجاز علی کل حال، أی سواء أکان فی الأعم أم فی الصحیحة.

ودعوی أن هذه الطریقة وإن کانت تتخذ غالباً للحفاظ علی استعمال اللفظ فی المعنی الحقیقی، إلا أنه لا مانع من اتخاذها فی المقام أیضاً، لأن الاستعمال فیه وإن

ص:111

کان مجازیاً علی کل حال، إلا أن الظاهر هو أن الشارع استعمل هذه الألفاظ فی النصوص التشریعیة فی معنی جامع بین الصحیحة والفاسدة، وإرادة خصوص الصحیحة أو الفاسدة منها بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول.

مدفوعة بأن اتباع هذه الطریقة فی المحاورات والاستعمالات العرفیة إنما هوبنکتة اخری لا مجرد التحفظ علی وحدة المستعمل فیه، وهی أن اللفظ فی باب الحقیقة ظاهر عند الاطلاق فی إرادة المعنی الحقیقی واستعماله فیه، وعلیه فإذا نصب المتکلم قرینة علی إرادة حصة خاصة منه فیدور الأمر بین استعمال اللفظ فی هذه الحصة مجازاً ورفع الید عن ظهوره فی معناه الحقیقی، وبین التحفظ علی هذا الظهور وإرادة الحصة بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، فالثانی متعیّن تحفظاً علی ظهوره فی معناه الحقیقی، حیث لا موجب لرفع الید عنه واستعماله فی الحصة مجازاً، فإذا قیل «جاء أسد» فلفظ الأسد مستعمل فی معناه الحقیقی، وهوالحیوان المفترس الجامع، وتطبیقه علی الفرد إنما هو بدال آخر وهو الرؤیة، لا أن لفظ الأسد مستعمل فی الفرد مجازاً، لأنه خلاف الظاهر، وهذه النکتة غیرمتوفرة فی المقام، وذلک لأن استعمال اللفظ فیه فی الأعم مجاز علی الفرض، وعلی هذا فإذا أراد المتکلم حصة خاصة منه وهی الصحیحة أو الفاسدة ونصب قرینة علی إرادتها، فلا ظهور للفظ فی الأعم وهو الجامع وکون إرادة الحصة منه بدال آخر، علی أساس أن ظهوره فیه مستند إلی القرینة لا إلی الوضع، وعلیه فإذانصب المتکلم قرینة علی إرادة الحصة منه انتفی ظهوره بانتفاء منشئه وهو القرینة، فإذن لا ظهور له لکی یدور الأمر بین التحفظ علیه وإرادة الحصة منه بدال آخر وبین رفع الید عنه واستعماله فی الحصة مجازاً، لوضوح أنه إذا نصب قرینة علی إرادة الخاص من ألفاظ الکتاب والسنة دون مدلولها اللغوی، فمعناه أنها مستعملة فیه لا أنها مستعملة فی الأعم، وإرادة الخاص بالقرینة من باب

ص:112

تعدد الدال والمدلول، لفرض أنه لم ینصب قرینة علی إرادة الأعم واستعمالها فیه، وإنما نصب قرینة علی إرادة الخاص واستعمالها فیه.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنه لا یمکن تصویر النزاع فی المسألة بهذه الطریقة علی القول بالمجاز.

الثالث: أن مرجع النزاع فی المسألة علی هذا القول إلی تحدید مفاد القرینة العامة التی یعتمد علیها الشارع فی استعمال هذه الألفاظ الخاصة فی المعانی الشرعیة مجازاً، وتلک القرینة العامة متمثلة فی استعمال الشارع هذه الألفاظ فی النصوص الشرعیة من الکتاب والسنة فی المعانی المذکورة بما أنه شارع لا بما أنه متکلم عرفی أو لغوی، وهذه الجهة قرینة عامة علی استعمال هذه الألفاظ فی الکتاب والسنة فی المعانی الشرعیة مجازاً دون المعانی اللغویة الحقیقیة.

فإذن یقع الکلام فی تحدید مدلول هذه القرینة العامة، فالصحیحی یدعی أن مدلولها هو استعمال تلک الألفاظ فی الکتاب والسنة فی الصحیحة، وإرادة الأعم أو الفاسدة منها بحاجة إلی قرینة خاصة، والأعمی یدعی أن مدلولها هواستعمالها فیهما فی الأعم، وإرادة خصوص الصحیحة بحاجة إلی قرینة خاصة(1).

والخلاصة: أن القرینة العامة قائمة علی أن هذه الألفاظ فی الکتاب والسنة مستعملة فی المعانی الشرعیة کما إذا کانت موضوعة بإزائها، هذا مما لا إشکال فیه، والنزاع إنما هو فی أن مقتضی هذه القرینة العامة هو استعمالها فی الأعم، وإرادة الخاص فی مورد بحاجة إلی قرینة خاصة أو بالعکس، فالقائلون بالأعم یدعون الأول، والقائلون بالصحیح یدعون الثانی.

ص:113


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 189.

وإلی ذلک أشار السید الاُستاذ قدس سره من أن مرجع النزاع علی هذا القول هو أن الشارع المقدس من لدن نزول القرآن الحکیم هل استعمل هذه الألفاظ فی المعانی الشرعیة الصحیحة من جهة لحاظ علاقة بینها وبین المعانی اللغویة أو استعملهافی الأعم من جهة لحاظ علاقة بینه وبین المعانی اللغویة، فعلی الأول الأصل فی استعمالات الشارع الاستعمال فی الصحیح إلا إذا قامت قرینة علی الخلاف، وعلی الثانی ینعکس الأمر.

بل یجری النزاع حتی علی القول المنسوب إلی الباقلانی، وهو أن هذه الألفاظ استعملت فی لسان الشارع فی معانیها اللغویة، ولکنه أراد المعانی الشرعیة من جهة نصب قرینة تدل علی ذلک بنحو تعدّد الدال والمدلول، والوجه فی ذلک هوأن النزاع یقع فی أن الشارع حین إرادته المعانی الشرعیة بالقرینة، هل نصب القرینة العامة علی إرادة المعانی الصحیحة حتی یحتاج إرادة الأعم إلی قرینة خاصة، أو أنه نصبها علی إرادة الأعم، فإرادة الصحیحة تحتاج إلی قرینة خاصة(1).

معنی الصحة والفساد

فالنتیجة أنه لا مانع من تصویر النزاع فی المسألة علی هذا القول بهذه الکیفیة.

النقطة الثانیة: فی تحدید المراد من الصحة سعة وضیقاً، وقد فسّرت بوجوه:

الوجه الأول: ما نسب إلی المتکلمین من أن المراد منها موافقة الشریعة أوتحصیل الغرض.

الوجه الثانی: ما عن الفقهاء من أن المراد منها سقوط القضاء والاعادة.

وقد اورد علیهما بأنهما لیسا معنی الصحة بل هما من لوازمها، فإن لازم صحة

ص:114


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 134.

المأمور به موافقة الشریعة وحصول الغرض، کما أن من لوازمها سقوط القضاء والاعادة، ولیس شیء منها معنی الصحة حقیقة(1).

الوجه الثالث: ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن معنی الصحة هو التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط التی یعبّر عنها فی لغة الفرس بکلمة «درستی» وهی معناها لغة وعرفاً.

ومن هنا أشکل علی تفسیرها باسقاط القضاء والاعادة تارة وبموافقة الشریعة تارة اخری بأنه تفسیر باللازم، فإن الصلاة مثلاً إذا کانت تامة من حیث الأجزاء والشرائط، کان لازمها أنها موافقة للشریعة ومسقطة للاعادة والقضاء(2).

وغیر خفی أن ما ذکره قدس سره بحاجة إلی البحث والنظر، وذلک لأن تمامیّة الشیء مرة تکون بلحاظ أنه واجد لذاته وذاتیاته بلا فرق بین أن تکون ذاتیاته من الأجزاء الخارجیة أو الداخلیة کالجنس والفصل، والأول یمثل المرکبات الخارجیة کالصلاة ونحوها، والثانی یمثل المرکبات التحلیلیة کالانسان وغیره، واُخری تکون بلحاظ الحیثیة المطلوبة منه وراء ذاته وذاتیاته، مثلاً الحیثیة المطلوبة من الصلاة والمرغوب فیها حیثیة إسقاط الاعادة فی الوقت والقضاء فی خارج الوقت وموافقة الشریعة وحصول الغرض، فتمامیة الصلاة بلحاظ أنها واجدة لهذه الحیثیات.

وبعد ذلک نقول: إن التمامیة بالمعنی الأول لیست مساوقة للصحة، فلا یقال عرفاً للشی التام بهذا المعنی إنه صحیح لوجوه:

ص:115


1- (1) (2) راجع کفایة الاصول ص 24 و محاضرات فی أصول الفقه ج 1 ص 135.
2- (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 135.

الأول: أن للتمامیة بهذا المعنی واقعاً موضوعیاً، فإنها متمثلة فی وجدان الشیء لذاته وذاتیاته وأجزائه وقیوده، علی أساس أن ماهیة کل شیء فی الواقع متقومة ذاتاً وحقیقة بأجزائه، سواء أکانت من الأجزاء التحلیلیة أم کانت من الأجزاء الخارجیة، نعم إن مفهوم التمامیة الذی هو تمام بالحمل الأولی مفهوم انتزاعی ومرآة لواقعها کسائر المفاهیم، ولکن من الواضح أن من یقول بأن معنی الصحة التمامیة لم یرد مفهوم التمامیة، بل أراد واقعها الذی هو تمام بالحمل الشائع کما هوظاهر، بینما تکون الصحة عنواناً انتزاعیاً لا واقع موضوعی لها ومنتزعاً من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج، نظیر حیثیة إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشریعة وغیرها، فإنها جمیعاً حیثیات انتزاعیة لا واقع موضوعی لها ماعدا وجود المأمور به فی الخارج، فإذن لا یمکن أن یکون معنی الصحة التمامیة بهذا المعنی.

الثانی: أن التمامیة بالمعنی المذکور تشمل المرکب والبسیط، فإن کل شیء واجد لذاته وذاتیاته فإنه تام، سواء کان مرکباً أم بسیطاً کالانسان، مع أن البسیط لا یتصف بالصحة تارة وبالفساد اخری، فإنهما من مفاد کان الناقصة، وإنما یتصف بالوجود والعدم الذین هما من مفاد کان التامة.

الثالث: أن الشیء إنما یتصف بالصحة بلحاظ ما یترتب ویتطلب منه من الأثر، کحیثیة سقوط الاعادة والقضاء وموافقة الشریعة وحصول الغرض، ضرورة أن الصلاة مثلاً لا تتصف بالصحة تارة وبالفساد اخری إلا بلحاظ ترتب تلک الحیثیة علیها وعدم ترتبها، وبقطع النظر عنه، فلا تتصف بالصحة، فإذن یکون اتصافها بالصحة وجوداً وعدماً متقوماً بالحیثیة المذکورة کذلک، فإن انتزاع الصحة من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج منوط

ص:116

بترتب تلک الحیثیة علیه، وإلا فلا مجال لانتزاعها منه.

فالنتیجة أنه لا یصح تفسیر الصحة بالتمامیة بالمعنی الأول.

وأما التمامیة بالمعنی الثانی وهی وجدان الشیء للحیثیة المطلوبة منه فهی مساوقة للصحة، إذ لا واقع موضوعی لها ماعدا منشأ انتزاعها، وهو مطابقة المأتی به للمأمور به فی الخارج المتحیّث بحیثیة إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشریعة.

ومن هنا ذکر المحقق الاصبهانی قدس سره أن حیثیة إسقاط القضاء وموافقة الشریعة وغیرهما تکون من الحیثیات التی تتم بها حقیقة التمامیة، ولیست من لوازم التمامیة بالدقة، حیث لا واقع للتمامیة إلا التمامیة من حیث إسقاط القضاء أو من حیث موافقة الشریعة أو من حیث ترتب الغرض إلی غیر ذلک، ومن الواضح أن اللازم لیس من متمّمات معنی الملزوم(1).

فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أنها من لوازم التمامیة إنما یتم بالنسبة إلی التمامیة بالمعنی الأول، ولکن قد عرفت أنها لیست معنی الصحة، وأما التمامیة بالمعنی الثانی فهو أمر نسبی انتزاعی، فلا واقع موضوعی لها إلا إضافة العمل إلی الحیثیات المذکورة، فالصلاة المسقطة للقضاء والاعادة الموافقة للشریعة منشأ لانتزاع التمامیة والصحة واتصافها بهما، فلذلک لا واقع موضوعی لهما ماعدا تلک الحیثیات.

والخلاصة: أن التمامیة بالمعنی الأول وإن کان لها واقع موضوعی إلا أنها لیست معنی الصحة کما مرّ، وأما التمامیة بالمعنی الثانی التی هی معنی الصحة، فلا

ص:117


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 95.

واقع موضوعی لها کما عرفت.

ثم إنه علی القول بالصحیح فی باب العبادات والمعاملات، هل المأخوذ فی المسمّی ما هو الصحیح بالحمل الشائع من أفراد المعنی الشرعی، أو ما هو الصحیح بالحمل الأولی وهو مفهومه، أما الأول فسوف یقع البحث فیه فی ضمن البحوث القادمة عن کیفیة تصویر الجامع بین الأفراد الصحیحة، وأما الثانی وهوأخذ مفهوم الصحیح فی المسمی، فهو مقطوع العدم لوجوه:

الأول: أن المتبادر عرفاً من ألفاظ العبادات والمعاملات کالصلاة ونحوها هونفس الأجزاء المرتبطة المقیّدة بالقیود الخاصة دون مفهوم الصحة بالحمل الأولی، فإذا قیل «زید یصلی» کان المتبادر من لفظ الصلاة هو أجزائها الخاصة المرتبطة بشروطها المخصوصة دون مفهوم الصحیح.

الثانی: أن لفظ الصلاة لو کان موضوعاً لمفهوم الصحیح، لزم أن یکون مترادفاً مع لفظ الصحیح مع أن الأمر لیس کذلک، ضرورة أن المتبادر من لفظ الصحیح غیر ما هو المتبادر من لفظ الصلاة.

الثالث: أن مفهوم الصحة بما أنه متأخر عن الأمر ومتفرع علیه، فلا یمکن أخذه فی متعلقة وهو المسمی لأسماء العبادات، حیث إنه متعلق الأمر حتی علی القول بوضعها للصحیح، ومن الواضح أنه لا یمکن أخذ مالا یتأتی إلا من قبل الأمر کاسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشریعة ونحو ذلک فی متعلقه، علی أساس أن کل هذه الحیثیات حیثیات انتزاعیة منتزعة من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج ومتفرّعة علیه، ومن الطبیعی أنه لا یمکن أخذ الصحة بهذا المعنی فی متعلق الأمر، لأنها فی طول تعلق الأمر به.

أخذ الأجزاء والشرائط فی المسمی

فالنتیجة أن المتبادر من ألفاظ العبادات هو واقع الصحیح لا مفهومه.

ص:118

النقطة الثالثة: لا شبهة فی اعتبار الصحة فی مسمیّات العبادات من ناحیة الأجزاء علی القول بالصحیح، ونقصد بصحتها وجدان تلک الأجزاء للحیثیات المطلوبة منها.

وکذلک لا شبهة فی اعتبارها من ناحیة الشرائط، فإن وجدان الأجزاءللحیثیات المطلوبة منها منوطة بتوفّر تلک الشروط فیها، سواء کانت شروطاً لنفسها مباشرة أم لأجزائها کذلک.

نعم، نسب إلی شیخنا الأنصاری قدس سره علی ما فی تقریر بحثه عدم إمکان دخول الشرائط فی المسمی، بدعوی أن الشرط متأخر عن المشروط وفی طوله، فلایمکن أخذه معه فی العبادات فی عرض واحد، فإن معنی أخذه فیها أنه فی عرض الأجزاء قدس سره(1).

وقد علق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن الطولیة بین الشرط والمشروط به وهوالجزء إنما هی فی عالم الوجود لا فی عالم المفهوم، ومحل الکلام إنما هو فی الثانی، ومن الواضح أنه لا مانع فیه من ملاحظة الجزء والشرط معاً فی عرض واحد فی مقام التسمیة بدون أن یکون الشرط فی طول الجزء. هذا(2).

والصحیح فی المقام أن یقال إنه لا طولیة بینهما لا فی عالم الوجود ولا فی عالم المفهوم، فإن الطولیة الرتبیة بین شیئین بحاجة إلی ملاک فی کلا العالمین، کالعلیة والمعلولیة والسببیة والمسبّبیة ونحوها، ولا یمکن أن تکون جزافاً، والفرض أن وجود الجزء فی عالم

ص:119


1- (1) نقله عنه فی محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 137.
2- (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 137.

الوجود لیس علة لوجود الشرط فیه، کما أنه لا ملاک لتقدمه علیه فی عالم المفهوم، فإذن لا یکون الشرط فی طول الجزء لا فی عالم الوجود ولا فی عالم المفهوم.

أجل، قد یتوهم أن الجزء یتقدم رتبة علی الشرط فی مقام تأثیره فی الملاک، علی أساس أنه بمثابة المقتضی والفاعل، والشرط فی طرف الفاعل مصحح لفاعلیته، وفی طرف القابل مصحح لقابلیته، فلذلک یکون متأخراً عن اقتضاء المقتضی فی مقام التأثیر.

ولکن لا أساس لهذا التوهم، وذلک لأن تمام المؤثر فی المقام إنما هو حصة خاصة من الجزء وهی الحصة المقیّدة بالشرط، ولا اقتضاء للتأثیر فی ذات الجزء بما هی حتی یکون الشرط مصححاً لفاعلیتها ویکون تأثیره فی طول تأثیرها، وقیاس الجزء والشرط فی المرکبات الاعتباریة کالصلاة ونحوها بالمقتضی والشرط فی التکوینیات قیاس مع الفارق.

هذا إضافة إلی أن حیثیة التأثیر حیثیة انتزاعیة غیر مأخوذة فی مسمی اللفظ، وإن شئت قلت: إن حیثیة التأثیر التی تکون الأجزاء المقیدة بالشروط واجدة لها اقتضاء لا واقع موضوعی لها فی الخارج غیر نفس الأجزاء المقیدة حتی تکون مأخوذة فی المسمی فی عرض تلک الأجزاء، وأما حیثیة التأثیرالفعلی فهی مساوقة لمفهوم الصحیح، وقد تقدم أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه، وإنما وضعت بإزاء الصحیح بالحمل الشائع یعنی ذوات الأجزاء المقیدة بالشرائط، وإطلاق الصحیح علیها إنما هو بلحاظ أنها واجدة للحیثیة المطلوبة منها، ومن هنا قلنا إن مجرد تمامیة الأجزاء والشرائط لیس معنی الصحة، بل بلحاظ وجدانهما للحیثیة المذکورة.

إلی هنا قد تبین أنه لا ترتب بین الجزء والشرط فی المرکبات الشرعیة، لا فی عالم الوجود ولا فی عالم المفهوم ولا فی عالم التأثیر.

ص:120

ومن ذلک یظهر أن ما علقه السید الاُستاذ قدس سره علی الشیخ قدس سره بأن الترتب بین الجزء والشرط إنما هو فی عالم الوجود لا فی عالم المفهوم والتسمیة، غیر تام، لماعرفتم من أنه لا ترتب بینهما أصلاً لا فی عالم الوجود ولا فی غیره.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم الطولیة بینهما رتبة إلا أن هذه الطولیة لا تؤثرفی عالم التصور والانتقال، ولا تمنع من وضع اللفظ بإزائهما معاً وفی آن واحد، فإذا اطلق لفظ «الصلاة» مثلاً انتقل الذهن إلی معناها، وهو الأجزاء المقیدة بالشروط فی آن واحد، سواء أکانت بینهما طولیة رتبة أم لا، فالطولیة الرتبیة بین شیئین کانا متقارنین زماناً لا أثر لها فی عالم الوضع والتصور، حیث إن إمکان الوضع بإزاء المتقدم والمتأخر رتبة فی زمان واحد من الواضحات، لأن التأخر فی مقام العلیة لا یوجب التأخر فی مقام التسمیة، فإن أحد المقامین أجنبی عن المقام الآخر بالکلیة، بل لا مانع من وضع اللفظ بإزاء شیئین طولیین زماناً، لأن طولیتهما، إنما هی بلحاظ وجودهما فی الخارج، والمفروض أن اللفظ لم یوضع بإزاء وجودهما فیه، وإنما وضع بإزاء المرکب منهما فی عالم المفهوم وهو عالم التسمیة، ومن الواضح أن طولیتهم فی عالم الوجود الخارجی لا یقتضی طولیتهمافی عالم التسمیة والمفهوم.

فالنتیجة لحد الآن أمران:

الأول: أن ما نسب إلی شیخنا الأنصاری قدس سره علی ما فی تقریر بحثه لا یرجع إلی معنی صحیح.

الثانی: أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من تسلیم الطولیة بین الأجزاء والشروط رتبة بحسب عالم الوجود فی المقام غیر تام کما مرّ.

وأما اعتبار قصد القربة فی الصحة علی القول بالصحیح، فهو مبنی علی

ص:121

البحث المعروف بین الاُصولیین حول إمکان أخذه فی متعلق الأمر، فإنه إن قلنابإمکانه، فلا مانع من أخذه فی المسمی علی هذا القول، لأن القائل بالصحیح یدعی أن المسمی لأسامی العبادات یصلح أن یقع متعلقاً للحکم فی الخطابات الشرعیة، وعلی هذا فما یمکن أخذه فی متعلق الأمر، فبإمکان الصحیحی أن یدعی أخذه فی المسمی، وما لا یمکن أخذه فیه، فلیس بإمکانه أن یدعی أخذه فیه وإن کان معتبراً فی الصحة شرعاً أو عقلاً.

وأما القیود اللبیة التی منها عدم المزاحم بناء علی أن صحّة العبادة مشروطة به، ومنها عدم النهی بناء علی القول باقتضائه الفساد.

أما الأول وهو عدم المزاحم فإنه غیر معتبر فی صحة العبادة بناء علی القول بإمکان الترتب کما هو الصحیح، وأما بناءً علی القول بعدم إمکانه فصحتها وإن کانت متوقفة فی نهایة المطاف علی أساس أنّ وجود المزاحم لها مانع عن الأمربها فعلاً، ومع عدم الأمر بها کذلک لا یمکن إحراز اشتمالها علی الملاک، بالتالی لا یمکن الحکم بالصحة لتوقفها علی إحراز أحد أمرین: إما وجود الأمربها فعلاً أو اشتمالها علی الملاک، وإلا فلا یمکن الحکم بالصحة إلا أنه لا یکون مأخوذاً فی المسمی، لأنه لیس قیداً شرعاً، وإنما هو قید لبّاً بحکم العقل فی مورد التزاحم متأخراً عن المسمی، والصحیحی فی مقابل الأعمی لا یدعی إلا وضع ألفاظ العبادات لمعنی یکون ذلک المعنی هو متعلق الأمر، فما لا یکون مأخوذاً فی متعلقه، فلیس للصحیحی أن یدعی أخذه فی المسمّی وإن کان دخیلاً فی الصحة عقلاً أو شرعاً، وحیث إن عدم المزاحم لا یکون مأخوذاً فی متعلق الأمرشرعاً، فلا یحتمل أن یکون مأخوذاً فی المسمی.

وأما الثانی وهو عدم النهی عن العبادة، فقد ذکرنا فی ضمن البحوث السالفة

ص:122

أنه لا یقتضی فساد العبادة لکی یکون عدمه شرطاً لها کسائر شروطها.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره بعض المحققین قدس سره من أن عدم المزاحم وعدم النهی إن کانا مضافین إلی المسمی بما هو مسمی، کانا فی طول المسمی لا محالة، وقد مرّأنه لا ینبغی للصحیحی أن یدعی أخذه فیه، فانه إنما یدعی أخذ ما یمکن أخذه فی متعلق الأمر، علی أساس أنه هو المسمی، والمفروض أن عدم المزاحم وکذلک عدم النهی فی طول متعلق الأمر ومتفرع علیه، فلا یمکن أن یکون مأخوذاً فیه، وإن کانا مضافین إلی ذات المسمی أمکن أن تلحظ الصحة من ناحیتهما أیضاً، کماهو الحال فی سائر القیود(1)

فما ذکره قدس سره قابل للمناقشة، أما بالنسبة إلی المزاحم فإنه إنما یتصف بهذا الوصف من جهة إضافته إلی المسمی بما هو مسمی، لأن التزاحم إنما هو بین واجبین ولا یتصور بین واجب وغیر واجب، وعلیه فبطبیعة الحال یکون عدم المزاحم مضافاً إلی المسمی بما هو متعلق الأمر، لا إلی ذات المسمی بقطع النظرعن کونه متعلقاً للأمر.

وأما بالنسبة إلی النهی فیمکن أن یکون عدمه مضافاً إلی ذات المسمی کمایمکن أن یکون مضافاً إلی المسمی بما هو مسمی، فعلی الأول یمکن أن تلحظ الصحة من ناحیته أیضاً، وعلی الثانی فلا یمکن ذلک، لأنه فی طول المسمی، هذامن ناحیة.

ومن ناحیة اخری ذکر المحقق النائینی قدس سره أنه لا یمکن أخذ جمیع هذا فی المسمی، وقد أفاد فی وجه ذلک ما حاصله، أن الصحة من جهة عدم المزاحم

ص:123


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 191.

وعدم النهی وقصد القربة فی مرتبة متأخرة عن المسمی وفرع تحققه لکی یتعلق به النهی أو یوجد له مزاحم أویقصد به التقرب، وعلی هذا فلا یعقل اعتبارها فی المسمی وأخذها فیه، فیکون من قبیل أخذ ما هو متأخر رتبة فی المتقدم کذلک، وهو غیر معقول(1) ، والخلاصة أنه قدس سره حکم باستحالة أخذ هذه الاُمور فی المسمی، معللاً بأنها متفرعة علی تحقق المسمی فی المرتبة السابقة.

ولکن قد تبین مما تقدم أن ما أفاده قدس سره لا یتم مطلقاً، أما قصد القربة فقد مرّأنه علی القول بامکان أخذه فی متعلق الأمر، فحاله حال سائر الأجزاء والقیود المأخوذة فیه، وأما علی القول بعدم إمکان ذلک فهو خارج عن المسمی، لأن الصحیحی لا یدعی أخذ ما لا یمکن أخذه فی متعلق الأمر فی المسمی، وأما عدم المزاحم، فقد تقدم أنه لیس شرطاً للمأمور به علی القول بالترتب، وأما علی القول بالعدم، فوجوده وإن کان مانعاً عن الأمر بالعبادة، إلا أن عدمه ملحوظ فی طول المسمی بما هو مسمی، فلا یمکن أن تلحظ الصحة من ناحیته. وأما عدم النهی عن العبادة، فقد مرّ أنه لا یکون شرطاً لصحتها، لأن شرطیته مبنیة علی اقتضائه الفساد، وهو محل اشکال بل منع.

وأما السید الاُستاذ قدس سره فقد أورد علیه بأنه لا مانع من وضع لفظ بإزاء شیئین طولیین رتبة بل زماناً، ولا یلزم منه أی محذور، ومقامنا من هذا القبیل، إذ مجردکون قصد القربة وعدم المزاحم وعدم النهی فی طول الأجزاء المأمور بهاوالشرائط لا یوجب استحالة أخذها فی مسمی لفظ «الصلاة» ولا یوجب تقدم الشیء علی نفسه، وما ذکره قدس سره من أن تلک الاُمور متفرعة علی تحقق المسمی فی المرتبة السابقة مبنی علی عدم أخذ هذه الاُمور فیه، وأما إذا فرض أنها مأخوذة

ص:124


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 51.

فیه کسائر الأجزاء والشرائط، فلا یتحقق إلا مقیداً بتلک الاُمور(1).

لزوم تصویر الجامع

اشارة

وغیر خفی أن ما أورده السید الاُستاذ قدس سره من الاشکال علی المحقق النائینی قدس سره إن أراد به مجرد نفی الاستحالة وإمکان وضع اللفظ بإزاء المقید بها فلا بأس به، وإن أراد بذلک أن بإمکان الصحیحی أن یدعی أخذ هذه الاُمور فی المسمی رغم أنها غیر مأخوذة فی متعلق الأمر، فقد عرفت أنه لا یمکن، إذ لیس للصحیحی إلا أن یدعی وضع أسامی العبادات بإزاء معنی جامع یصلح متعلقاً للأحکام الشرعیة، فما لا یکون مأخوذاً فی متعلق الأمر الشرعی، إما من جهة عدم إمکانه أو من ناحیة اخری، فلیس بإمکان الصحیحی أن یدعی أخذه فی المسمی وإن کان دخیلاً فی الصحة عقلاً أو شرعاً، وهذا ظاهر.

النقطة الرابعة: أن علی کل من الصحیحی والأعمی تصویر جامع مشترک بین الأفراد، فعلی الصحیحی تصویره بین الأفراد الصحیحة، وعلی الأعمی تصویره بین الأعم منها ومن الفاسدة حتی یکون ذلک الجامع هو المعنی الموضوع له لأسامی العبادات، والوجه فی ذلک هو أن ألفاظ العبادات کلفظ الصلاة ونحوها لیست من الألفاظ المشترکة بین معان متعددة بأوضاع عدیدة، لوضوح أن لها وضعاً واحداً بإزاء معنی واحد، وتستعمل فی کلمات الشارع فی الکتاب والسنة فی کل الموارد والمقامات فیه بدون استخدام أی قرینة معینه، مع أنها لوکانت مشترکة لفظیة، فحینئذ وإن کان استعمالها فی کل صنف من أصنافها أو فردمن أفرادها حقیقیاً إلا أنه بحاجة إلی قرینة معینة، وبدونها فلا تدل علی التعیین، والمفروض أن الأمر لیس کذلک، فإذن لا محالة یکون استعمالها فی کل مورد من الموارد فی الجامع، والخصوصیة مستفادة من دال آخر من باب تعدّد الدال

ص:125


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 138.

والمدلول، وحینئذ فإن کان هناک دال آخر فهو، وإلا فاللفظ لا یدل إلا علی الجامع بدون خصوصیة.

ومن هنا یظهر أنه لا یمکن الإلتزام بالوضع العام والموضوع له الخاص فیها، وذلک لنفس المحذور المذکور، وهو کون استعمالها فی کل صنف أو فرد منها وإن کان حقیقیاً إلا أنه بحاجة إلی قرینة معینة، حیث إن الوضع العام والموضوع له الخاص کالمشترک اللفظی من هذه الناحیة.

وبکلمة، إنه یمکن تصویر وضع أسامی العبادات واختصاصها بها علی أحد أنحاء.

الأول: أن یکون بنحو الاشتراک اللفظی.

الثانی: أن یکون بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص.

الثالث: أن یکون بنحو الحقیقة فی بعض المراتب والمجاز فی الباقی.

الرابع: أن یکون بنحو الوضع العام والموضوع له العام.

أما الأول فمضافاً إلی القطع بعدم تعدد الوضع فیها بعدد أفرادها أو أصنافها لابالوضع التعیینی الصریح ولا بالوضع التعیینی الاستعمالی ولا بالوضع التعیّنی، إن لازم ذلک إجمال ألفاظ العبادات فی نصوص الکتاب والسنة وعدم تبادر شیءمنها عند إطلاقها إلا بمعونة قرینة معینة، وهو خلاف الضرورة والوجدان فیها.

وأما الثانی فهو کالمشترک اللفظی فی النتیجة، وهی إجمال اللفظ وعدم تبادرشیء منه بدون قرینة معینة.

وأما الثالث فهو مقطوع البطلان کما سوف یأتی الکلام فیه قریباً.

ص:126

فإذن یتعین النحو الرابع وهو الوضع العام والموضوع له العام.

وعلی هذا الأساس فلابد علی کلا القولین فی المسألة من تصویر جامع بین الأفراد.

ولکن خالف فی ذلک المحقق النائینی قدس سره فذهب إلی أنه لیست هناک ضرورة تدعو إلی تصویر جامع مشترک بین جمیع الأفراد بعرضها العریض علی کلا القولین فی المسألة. وأفاد فی وجه ذلک، أنه لا مانع من الالتزام بأن الموضوع له فی مثل لفظة الصلاة هو المرتبة العلیا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط، فان للصلاة مثلاً باعتبار مراتبها عرضاً عریضاً، ولها مرتبة علیا وهی صلاة المختار، ولها مرتبة دنیا وهی صلاة الغرقی، وبین الحدین متوسطات، فلفظة الصلاة ابتداء موضوعة للمرتبة العلیا علی کلا القولین فی المسألة، واستعمالها فی غیرها من المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزیل أو من باب الاشتراک فی الأثر، فالصحیحی یدعی أن استعمال لفظة الصلاة فی بقیة المراتب الصحیحة إما من باب الادعاء وتنزیل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فیما یصح فیه التنزیل، أو من باب الاشتراک فی الأثر واکتفاء الشارع به فی مقام الامتثال کما فی صلاة الغرقی، فانه لایمکن فیها الالتزام بالتنزیل المذکور، والأعمی یدعی أن استعمالها فی بقیة مراتبها الأعم من الصحیحة والفاسدة من باب العنایة والتنزیل أو من باب الاشتراک فی الأثر، فکل واحد من الأمرین موجب لجواز الاستعمال حتی فی الفرد الفاسدکصلاة الغرقی من باب تنزیله منزلة الواجد منها المنزل منزلة التام الأجزاء والشرائط من جهة الاشتراک فی الأثر. نعم، استثنی قدس سره من ذلک صلاتی القصروالتمام، فقال إنهما فی عرض واحد فلابد من تصویر جامع بینهما.

ثم رتب علی ذلک بطلان ثمرة النزاع بین قول الأعمی وقول الصحیحی، وهی

ص:127

جواز التمسک بالاطلاق علی الأعمی وعدم جوازه علی الصحیحی، فإنه بناء علی کون الصلاة مثلاً موضوعة لخصوص المرتبة العلیا لم یجز التمسک بالاطلاق ولو فرض وجود مطلق فی العبادات، لعدم العلم بالتنزیل والمسامحة فی مقام الاستعمال، ومعه یصبح اللفظ مجملاً لا محالة، ثم قال إن الحال فی سائر المرکبات الاختراعیة أیضاً کذلک(1).

ونتیجة ما أفاده قدس سره عدة نقاط:

الاُولی: أن المعنی الموضوع له فی مثل لفظة الصلاة هو المرتبة العلیا علی کلا القولین فی المسألة، غایة الأمر أن الصحیحی یدعی صحة الاستعمال فی خصوص المراتب الصحیحة والأعمی یدعی صحته علی الاطلاق.

الثانیة: أن علی کل من الصحیحی والاعمی تصویر جامع بین خصوص صلاتی القصر والاتمام باعتبار أنهما فی عرض واحد.

الثالثة: بطلان ثمرة النزاع بین القولین فی المسألة.

الرابعة: أنه لا فرق فی ذلک بین العبادات وغیرها من المرکبات الاختراعیة.

أما النقطة الاُولی فیرد علیها أولاً أن ما أفاده قدس سره وإن کان ممکناً فی مقام الثبوت إلا أنه لا یمکن الالتزام به فی مقام الاثبات، وذلک لأن إطلاق لفظة الصلاة علی جمیع مراتبها الطولیة من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا یکون علی نسق واحد، لا أن إطلاقها علی ما دون المرتبة العلیا من المراتب النازلة إطلاقاًعنائیاً وبحاجة إلی التنزیل أو ملاحظة الاشتراک فی الأثر مثلاً، کما أن إطلاقهاعلی الصلاة مع الطهارة المائیة حقیقی کذلک إطلاقها علی الصلاة مع الطهارة

ص:128


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 53.

الترابیة، رغم أن الاُولی صلاة المختار والثانیة صلاة المضطر ودونها فی المرتبة، ومن هذا القبیل صلاة القائم وصلاة القاعد، والصلاة فی الثوب النجس والصلاة فی الثوب الطاهر وهکذا.

وبکلمة، إن الصلاة مستعملة فی تمام مراتبها فی الشرع فی معنی واحد، والاختلاف إنما هو فی تطبیقه علی مصادیقه وأفراده الطولیة، ولکن هذا المعنی الواحد الجامع لا تکون سعته بحد تشمل مثل صلاة الغرقی، علی أساس أن المقومات الذاتیة للصلاة لابد أن تکون محفوظة فی کل مرتبة من مراتبها، وإلا فلا تکون من مراتبها وبالتالی من مصادیقها، وعلی هذا فإن کانت صلاة الغرقی واجدة للأرکان المقوّمة، فهی من مراتبها الذاتیة النهائیة، وإلا فلا تکون منهاومن مصادیقها.

وعلیه فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن المعنی الجامع للصلاة یشمل صلاة الغرقی أیضاً وأن إطلاقه علیها إطلاق حقیقی، لا یمکن المساعدة علیه مطلقاً.

قد یقال کما قیل: إن لفظة الصلاة منصرفة إلی المرتبة العلیا، وهی صلاة المختار الواجدة لجمیع الأجزاء والشرائط، وحیث إنه لا منشأ لهذا الانصراف والانسباق إلا الوضع، فبطبیعة الحال یکشف ذلک عن وضعها بإزائها.

والجواب أولاً: أن هذا الانصراف ممنوع، لأن المتبادر من لفظة الصلاة عندإطلاقها هو الجامع بین أفراد الصلاة کالأرکان، وانطباقه علی کل مرتبة من مراتبه من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا بحاجة إلی عنایة زائدة وقرینة معینة، ولا فرق من هذه الناحیة بین المرتبة العلیا وسائر المراتب، بل لا فرق فی ذلک بین الأفراد الصحیحة والأفراد الفاسدة، شریطة أن تکون واجدة للعناصر المقومة وهی الأرکان.

ص:129

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن لفظة الصلاة موضوعة للمرتبة العلیا إلا أنه لابد من تصویر جامع مشترک بین أفراد تلک المرتبة أیضاً، باعتبارأن المرتبة العلیا لیست مرتبة واحدة محدّدة کماً وکیفاً، بحیث لا تزید ولا تنقص لیکون اللفظ موضوعاً بإزائها، بل هی أیضاً تختلف باختلاف أصناف الصلاة، فإن المرتبة العلیا من صلاة الظهر أو العصر مغایرة کماً وکیفاً للمرتبة العلیا من صلاة المغرب، والمرتبة العلیا منهما مغایرة کذلک للمرتبة العلیا من صلاة الصبح وهکذا.

وعلی هذا فلوکانت لفظة الصلاة موضوعة بإزاء المرتبة العلیا، فلابد إما من تصویر جامع مشترک بین أفراد تلک المرتبة علی کلا القولین فی المسألة أوالالتزام بتعدد الوضع فیها بتعدد أفرادها، فإذن الالتزام بأن الموضوع له لمثل لفظة الصلاة هو المرتبة العلیا لا یغنی عن لابدیة أحد الأمرین: إما تصویر جامع مشترک بین أفراد هذه المرتبة أو الالتزام بتعدد الوضع.

وأما النقطة الثانیة فقد ظهر مما مرّ من أنه علی تقدیر تسلیم أن الصلاة موضوعة للمرتبة العلیا، فالحاجة إلی تصویر الجامع لا تنحصر بالقصر والتمام، بل لابد من تصویره بین صلاة العشاء والمغرب أیضاً، علی أساس أن المرتبة العلیا من صلاة العشاء غیر المرتبة العلیا من صلاة المغرب، وهما غیر المرتبة العلیا من صلاة الصبح، بل المرتبة العلیا من صلاتی الظهرین غیر المرتبة العلیا من صلاة العشاء، علی أساس اختلافهما فی الکیفیة، وهی بأجمعها غیر المرتبة العلیامن صلاة الآیات والعیدین ونحوهما، وعلی هذا فلابد من تصویر جامع بین المراتب العلیا فی کل من هذه الموارد، فلاوجه للتخصیص بالقصر والتمام.

وأما النقطة الثالثة فما أفاده قدس سره من عدم ظهور الثمرة علی هذا بین القولین لا

ص:130

یتم، لأنه مبنی علی أن تکون المرتبة العلیا مرتبة خاصة محددة ولیست بنفسهاذات مراتب متعددة وأفراد مختلفة، ولکن قد عرفت أن لها فی نفسها مراتب متفاوتة کماً وکیفاً، وعلی هذا فتظهر الثمرة بین القولین، فإنه علی القول بالصحیح لا یمکن التمسک بالاطلاق عند الشک فی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً، لأن الشک فی ذلک مساوق للشک فی تحقق المسمی بدون ذلک الشیء المشکوک فیه، وأما علی القول بالأعم فلا مانع منه.

وأما النقطة الرابعة فیرد علیها أن ما أفاده قدس سره من أن المرکبات الاختراعیة کالمرکبات الشرعیة لا یتم مطلقاً، لأن تلک المرکبات علی أنواع:

الأول: المرکبات الکیمیاویة.

الثانی: المعاجین کالحلویات وما شاکلها.

الثالث: المرکبات الخارجیة.

أما النوع الأول فلأن الترکیب فیه یقوم علی أساس موازین ومقاییس خاصة محددة کماً وکیفاً، ولیس له مراتب طولیة کالصلاة، بل له مرتبة واحدة محددة واللفظ موضوع بإزائها.

أما النوع الثانی فالظاهر أن حاله حال الصلاة، حیث إن له مراتب متفاوتة من المرتبة العالیة إلی المرتبة الدانیة، مثلاً کلمة «حلوی» کال «صلاة» موضوعة بإزاء الجامع بین جمیع مراتبها وأفرادها أو بإزاء خصوص المرتبة العلیامنها، وإطلاقها علی ما دونها من المراتب النازلة إما بلحاظ تنزیل الفاقد منزلة الواجد أو الاشتراک فی الأثر.

وأما النوع الثالث فالظاهر أنه کالصلاة من ناحیة ویختلف عنها من ناحیة

ص:131

اخری. أما أنه کالصلاة فباعتبار أن له أجزاء رئیسیة محددة، وقوامه بهاوبانتفائها ینتفی المرکب، وأما أنه یختلف عنها فمن أجل أن الزیادة علی الأجزاء الرئیسیة فیه کمال لا واجب وضروری. وهذا بخلاف الزیادة علی الأجزاء الرئیسیة فی الصلاة، فإنها واجبة وضروریة فی تلک المرتبة.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنه لا یصح قیاس سائر المرکبات الاختراعیة بالعبادات مطلقاً، بل لابد فیها من التفصیل کما مرّ.

إلی هنا قد تبین أن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره فی المقام غیر تام، وعلی هذا فلابد من تصویر جامع مشترک بین أفراد العبادات علی کلا القولین فی المسألة لتکون العبادات موضوعة بإزائه، فإذن یقع الکلام تارة فی تصویر جامع بین الأفراد الصحیحة، واُخری فی تصویر جامع بین الأعم منها ومن الفاسدة.

قد استدل علیه بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره من أنه یمکن تطبیق قاعدة فلسفیة - وهی أن «الواحد لا یصدر إلا من واحد» - علی المقام(1) ، بیان ذلک أن هذه القاعدة الفلسفیة ترتکز علی مبدأ التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول، فاذا کانت العلة واحدة فمن الضروری أن یکون المعلول واحداً تطبیقاً لهذا المبدأ وإلا لأمکن تأثیر کل شیء فی کل شیء، وهذا هدم لمبدأ العلیة، ومن الواضح أن هدم هذا المبدأ، مساوق لانهیار جمیع العلوم من الطبیعیة والنظریة والتطبیقیة،

ص:132


1- (1) کفایة الاصول ص 24.

حیث لا یمکن حینئذ للانسان الاستدلال بشیء، وهذا واضح. وعلی هذا فحیث إن أفراد الصلاة الصحیحة مثلاً تشترک جمیعاً فی أثر واحد وهو النهی عن الفحشاء والمنکر بمقتضی قوله تعالی: «إنَّ الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِوَالْمُنْکَرِ»(1).

تصویر الجامع علی الصحیحی

فمن الطبیعی أن وحدة الأثر تکشف عن وحدة المؤثر، علی أساس مبدأ التناسب، وعلی هذا فلا یعقل أن یکون المؤثر فی هذا الأثر الواحد کل فرد من الأفراد الصحیحة بحده الفردی، وإلا لزم أن یکون الواحد مسانخاً للکثیر، وهومستحیل، فإذن لا محالة یستکشف کشفاً قطعیاً عن وجود جامع واحد بین الأفراد الصحیحة، ویکون ذلک الجامع الواحد هو المؤثر فی ذلک الأثر الواحدتطبیقاً لقاعدة أن «الواحد لا یصدر إلا من واحد سنخاً».

والخلاصة أن کشف جامع ذاتی بین الأفراد الصحیحة منوط بتوفر أمرین:

الأول: ترتب أثر واحد علی تلک الأفراد جمیعاً بدون استثناء.

الثانی: أن الواحد لا یمکن أن یصدر إلا من الواحد سنخاً بمقتضی مبدأ التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول، وحیث إن کلا الأمرین متوفر فی المقام، فلا محالة یستکشف من ذلک وجود جامع واحد بین الأفراد الصحیحة، ویکون ذلک الجامع الواحد هو المؤثر فی ذلک الأثر، لاستحالة أن یکون المؤثرفیه نفس الأفراد بخصوصیاتها الفردیة المختلفة کماً وکیفاً کما مرّ، ومن هناقال قدس سره: إن تصویر الجامع الوحدانی بین الأفراد الصحیحة خاصة بمکان من الامکان، بل هو ضروری دون الأعم، لعدم تحقق صغری هذه القاعدة علی

ص:133


1- (1) سورة العنکبوت آیة 45.

القول بالأعم، وبدونها لا طریق لنا إلی کشف الجامع من ناحیة اخری.

ولنأخذ بالنظر فیه من جهات:

الاُولی: أن هذه القاعدة الفلسفیة وهی أن «الواحد لا یصدر إلا من واحد» کما تنطبق علی الواحد الشخصی کذلک تنطبق علی الواحد النوعی والجنسی، فان المعلول إذا کانت وحدته شخصیة فهی تکشف عن أن علته أیضاً کذلک، علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بینهما، وهذا لیس شرطاً خارجیاً، بل هومقوم لعلیة العلة، باعتبار أن المعلول من سنخ وجود العلة ومن مراتب وجودها النازلة، وإن کانت وحدته نوعیة، فهی تکشف عن أن علته أیضاً واحدة بالنوع بمقتضی هذا المبدأ، وکذلک إذا کانت وحدته جنسیة بنفس الملاک، فوحدة الحرارة تکشف عن وحدة علتها، وحیث إن وحدتها نوعیة، فهی تکشف عن وحدة علتها کذلک، ضرورة أنه لا یعقل أن تکون وحدة المعلول نوعیة دون وحدة العلة، وإلا لزم خلف فرض العلیة بینهما، مثلاً صفة الضحک التی هی عارضة علی أفراد الانسان المتناسبة والمشترکة فی حقیقة واحدة نوعیة، تکشف عن أن المؤثر فیها جهة واحدة مشترکة بینها علی أساس قانون التناسب، ضرورة أنه لا یمکن أن یکون المؤثر فی کل فرد من الضحک فرد من الانسان بحده الفردی، لأنه من تأثیر المباین فی المباین، فلا محالة یکون المؤثر فی وجود الضحک بما هو وجود الأنسان کذلک بقطع النظر عن الخصوصیات العرضیة الطارئة علیها فی الخارج، وعلی هذا فترتب أفراد الضحک علی أفراد الانسان یکشف عن أن المؤثر فیها هو الجهة الجامعة الواحدة بین أفراد الانسان، لا کل فرد بحده الفردی باعتبار أن الضحک صفة للانسان دون الفرد، وکونه صفة له إنماهو بلحاظ أنه إنسان، ومن هذا القبیل صفة الاحساس التی هی مترتبة علی

ص:134

أفراد الحیوان، فإنها تکشف عن جهة واحدة جامعة بینها، فیکون تأثیر کل فردفیها علی أساس وجود تلک الجهة الجامعة فیه تطبیقاً للقاعدة الفلسفیة.

فالنتیجة أن هذه القاعدة التی تبتنی علی أساس مبدأ التناسب والسنخیة بین العلة والمعلول من القواعد الأولیة التی قیاساتها معها، ولهذا لا مجال للتأمل والنقاش حولها.

الثانیة: أن هذه القاعدة لا تنطبق علی المقام، وذلک لأن الأثر إذا کانت وحدته نوعیة - بمعنی أن یکون ذا أفراد متناسبة مشترکة فی حقیقة واحدة - تکشف وحدته النوعیة عن أن المؤثر فیه أیضاً أفراد متناسبة مشترکة فی حقیقة کذلک، وبالتالی یکون تأثیر کل فرد بلحاظ اشتماله علی الجهة المشترکة لا بحده الفردی تطبیقاً للقاعدة، وأما إذا کانت وحدة الأثر المترتب علیها وحدة انتزاعیة لا نوعیة کما فی المقام، فإن عنوان النهی عن الفحشاء والمنکر عنوان انتزاعی، فهی لا تکشف عن جهة واحدة جامعة بینها، إذ لا مانع من انتزاعهامن حقائق مختلفة، کعنوان الطویل أو القصیر، فانه عنوان انتزاعی منتزع من حقائق مختلفة کالانسان الطویل أو القصیر والشجر الطویل أو القصیر وهکذا، فان نسبة هذه الأعراض إلی موضوعاتها نسبة العرض إلی منشأ انتزاعه، لانسبة الأثر إلی المؤثر والمعلول إلی العلة، وعلیه فلا یمکن تطبیق القاعدة الفلسفیة علی الاُمور الاعتباریة أو الانتزاعیة.

والخلاصة أن العنوان الانتزاعی الذی هو منتزع من الأفراد فی الخارج لایکشف عن جهة واحدة جامعة بینها لتکون تلک الجهة الجامعة هی المؤثرة فیه، إذ لا مانع من انتزاعه عن کل فرد بحده الفردی، وعلی هذا فحیث إن عنوان النهی عن الفحشاء والمنکر عنوان انتزاعی، فلا مانع من انتزاعه عن الصلاة

ص:135

المرکبة من حقائق مختلفة، ولا یکشف عن جهة واحدة جامعة بینها فی الخارج، فلذلک لا یمکن تطبیق القاعدة علی المقام.

الثالثة: أنه لا یعقل وجود جامع بسیط ذاتی بین الأفرد الصحیحة، لأن الصلاة مؤلفة من حقائق مختلفة ومقولات متباینة سنخاً کمقولة الکیف المسموع والکیف النفسانی ومقولة الوضع، ومن الواضح أن الجامع الذاتی المشترک بین هذه المقولات غیر متصور، لأنها أجناس عالیات فلا یتصور جنس فوقها، وإلا لزم الخلف.

وبکلمة واضحة، إنه لا یتصور وجود جامع ذاتی بسیط بین حقیقتین متباینتین بتمام الذات والهویة، وإلا لم تکونا متباینتین کذلک بل مشترکتین فی حقیقة واحدة، وهذا خلف، والمقام من هذا القبیل، وذلک لأن الصلاة مرکبة من مقولات متباینات بتمام الذات والحقیقة کمقولة الوضع والکیف النفسانی والمسموعی، وقد برهن فی محله أن المقولات أجناس عالیات ومتباینات بتمام الذات والذاتیات، فلا یعقل دخولها تحت جنس فوقها، وإلا لم تکن أجناساً عالیات، وهذا خلف، فإذن لا یمکن أن تکون الصلاة حقیقة واحدة نوعیة تشترک جمیع أفرادها فیها، هذا إذا کان المراد من الجامع الذاتی، الذاتی فی باب الکلیات.

وأما إذا کان المراد منه الذاتی فی باب البرهان، وهو لازم الماهیة، فهو أیضاً غیر معقول، إذ لا یتصور أن یکون لماهیة الصلاة لازم واحد، لأنها مؤلفة من الماهیات المتباینات، فلو کان لها لازم واحد لزم أن یکون معلولاً لها، ومن الواضح أن اللازم الواحد لا یمکن أن یکون معلولاً لماهیات متباینة ذاتاً وسنخاًومسانخاً لها، نعم یعقل وجود جامع عنوانی عرضی لمقولات متباینة کعنوان

ص:136

الناهی عن الفحشاء والمنکر أو ما شاکله، إلا أن لفظة «الصلاة» لم توضع بإزاءهذا الجامع العرضی، وذلک لأمرین:

الأول أن المتبادر من لفظة «الصلاة» هو نفس الأجزاء المقیدة بقیود معینة دون العنوان المذکور، وهذا دلیل إنّی علی أنها لم توضع بإزائه، وإنما وضعت بإزاءنفس الأجزاء المذکورة.

الثانی: أنها لو کانت موضوعة بإزاء ذلک العنوان العرضی، لزم أن تکون الصلاة مرادفة مع عنوان الناهی، مع أن الأمر لیس کذلک وجداناً.

إلی هنا قد تبین أنه لا یمکن تطبیق القاعدة الفلسفیة علی المقام، لأن مورد القاعدة ما إذا کان الأثر المترتب علی شیء أثراً ذاتیاً، فإنه یکشف عن وجود جامع ذاتی بین أفراد ذلک الشیء تطبیقاً للقاعدة، وحیث إن الأثر المترتب علی الصلاة فی المقام أثر النتزاعی، فلا یکشف عن وجود جامع ذاتی بین أفرادها.

هذا إضافة إلی أنه لا یمکن وجود جامع ذاتی بین أفراد الصلاة.

وقد أورد علی ذلک السید الاُستاذ قدس سره بإشکال آخر، وهو أن الأثر فی المقام غیر مترتب علی الجامع بین الأفراد الصحیحة، وإنما هو مترتب علی أفراد الصلاة بخصوصیاتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فیها، فإن ترتب النهی عن الفحشاء والمنکر علی الصلاة، لیس کترتب الاحراق علی النار وترتب سائرالآثار الخارجیة علی أسبابها، فإن الأثر فی جمیع هذه الموارد مترتب علی الجامع من دون دخل لأیة خصوصیة من الخصوصیات الفردیة فیه، بینما یکون الأثر فی المقام وهو النهی عن الفحشاء والمنکر مترتباً علی أفراد الصلاة وحصصها بما لهامن الخصوصیات المعتبرة فی صحتها شرعاً، مثلاً صحة صلاة الصبح منوطة بوقوع التسلیمة فی الرکعة الثانیة، وصحة صلاة المغرب منوطة بخصوصیة وقوع

ص:137

التسلیمة فی الرکعة الثالثة وعدم وقوعها فی الرکعة الثانیة، وصحة صلاة الظهرین أو ما شاکلها متوقفة علی خصوصیة وقوع التسلیمة فی الرکعة الرابعة ومقیدة بعدم وقوعها فی الرکعة الثالثة وهکذا، فالنتیجة أن المؤثر فی النهی عن الفحشاء والمنکر نفس تلک الخصوصیات لا الجامع بین الأفراد، فإنه إنمایکون مؤثراً إذا لم یکن دخل للخصوصیات فی ترتب الأثر، وهذا لا یتصورفی المقام(1).

وقد علق علیه بعض المحققین قدس سره بما حاصله أنه إن ارید من دخالة الخصوصیات دخالتها فی تحقق الجامع وانتزاعه فهو مسلم، ولکنه لا ملازمة بین دخالتها فی تحقق الجامع ودخولها فی المسمی، بل المسمی ذات الجامع، وإن اریددخالتها فی التأثیر وإیجاد الأثر المشترک، فهو ممنوع علی ضوء قانون «الواحد لایصدر إلا من واحد»، إذ علی فرض تصویر وجود جامع بین الأفراد الصحیحة، فیکون المؤثر هو الجامع فی ضمن کل صنف دون الخصوصیات تطبیقاً للقاعدة(2).

ویمکن المناقشة فی هذا التعلیق، وذلک لأن الخصوصیات المذکورة وإن کانت دخیلة فی تحقق الجامع، فالجامع انتزاعی لا حقیقی، والجامع الأنتزاعی یتحقق بتحقق منشأ انتزاعه وینتفی بانتفائه، وحیث إن منشأ انتزاعه فی المقام الخصوصیات الصنفیة لکل صنف من الصلاة، فبطبیعة الحال یلغی الجامع بإلغاءتلک الخصوصیات، لأنه متقوم بها ومعلول لها، ومع

ص:138


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 145.
2- (2) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 196.

إلغائها فلا جامع، وأما إذاکان الجامع حقیقیاً، فلا تکون الخصوصیات دخیلة فی تحققه، لأنه محفوظ مع إلغاء جمیع هذه الخصوصیات العرضیة، وحیث قد فرض فی هذا التعلیق دخالة الخصوصیات فی تحققه، فبطبیعة الحال یکون الجامع انتزاعیاً، وقد مر أنه لایمکن تطبیق قاعدة «الواحد لا یصدر إلا من واحد» علی الجامع الانتزاعی من ناحیة، وعدم کون هذا الجامع مسمی بأسامی العبادات من ناحیة اخری.

والخلاصة أن الجامع بین الأفراد الصحیحة إن کان ذاتیاً فالخصوصیات العرضیة غیر دخیلة فی تحققه، وإن کان عنوانیاً منتزعاً فهی دخیله فیه، ولکنه لا یکون مسمی لأسامی العبادات کالصلاة ونحوها. هذا،

والذی یمکن أن یعلق علی ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره هو أنه لا شبهة فی دخالة الخصوصیات فی الصحة وترتب الأثر، ولکن لقائل أن یقول إن دخالتهافیها إنما هی من جهة اشتمالها علی الجهة الجامعة لا بحدها الخاص، مثلاً تأثیرصلاة الصبح فیها إنما هو من جهة اشتمالها علی الجهة الجامعة لا بحدها الخاص، وکذلک الحال فی سائر أصناف الصلاة، وعلی هذا فإن ارید بدخالة هذه الخصوصیات فی الصحة وإیجاد الأثر المشترک دخالتها بما هی، فهی ممنوعة ومخالفة لقاعدة «الواحد لا یصدر إلا من واحد»، فإن مقتضی هذه القاعدة هوأن المؤثر فیه هو الجامع المشترک فی ضمن هذه الخصوصیات لا نفسها، وماذکره قدس سره من أن الخصوصیات والقیودات الخاصة دخیلة فی إیجاد الأثر، لا ینفی أن دخالتها إنما هی من جهة اشتمالها علی الجهة المشترکة تطبیقاً للقاعدة لا فی نفسها، وإن ارید بدخالتها دخالتها فی المسمی، فیرد علیه أن المسمی ذات الجامع، والخصوصیات خارجة عنه.

فالنتیجة أن ما أورده السید الاُستاذ قدس سره من الاشکال حتی مع فرض إمکان تصویر الجامع بین الأفراد الصحیحة غیر تام.

ص:139

إلی هنا قد تبین أنه لا یمکن ثبوتاً تصویر جامع ذاتی بین أجزاء الصلاة، لتباینها بالذات والحقیقة، ولا مجال لتطبیق قاعدة «الواحد لا یصدر إلامن واحد» علیها، فما عن المحقق الخراسانی قدس سره من التطبیق خطأ لا ینبغی صدوره من مثله.

الرابعة: أن الجامع الذی فرضه قدس سره بین الأفراد الصحیحة لا یمکن أن یکون بسیطاً کما تقدم، وهل یمکن أن یکون مرکباً؟

والجواب: أنه لا یمکن أیضاً، بیان ذلک أن لتصویره طریقین، وکلا الطریقین خاطیء.

الأول: أن یؤخذ فی الجامع الترکیبی الأجزاء والشرائط المعتبرة فی أفراد الصلوات الصحیحة جمیعاً.

الثانی: أن تؤخذ فیه الأجزاء والشرائط المعتبرة فی صحة الفعل کل بحسب حاله وموضوعه من الاختیار والاضطرار ونحوهما.

أما الطریق الأول فلا یمکن تصویره، لأن أیاً من المرکب افترض بین تلک الأفراد یتداخل فیه الصحة والفساد، ویکون صحیحاً فی حالة وفاسداً فی حالة اخری، وصحیحاً من مکلف وفاسداً من مکلف آخر، ضرورة أن الجامع المرکب الذی افترض لا یخلو من أن یکون تاماً أو ناقصاً، ولا ثالث لهما، والأول لا ینطبق علی الناقص وإن کان صحیحاً، والثانی لا ینطبق علی التام.

وإن شئت قلت: إن افتراض الجامع المرکب إما أن یکون بین خصوص أفرادالمرتبة العلیا أو خصوص أفراد المرتبة الدنیا أو بین جمیع المراتب بعرضها العریض، والأول لا ینطبق علی أفراد

ص:140

المرتبة الدنیا، والثانی لا ینطبق علی أفراد المرتبة العلیا، فإذن شیء منهما لا یکون جامعاً بین جمیع الأفراد الصحیحة بتمام مراتبها، لأن الجامع بینها لابد أن یکون متمحضاً فی الصحة مطلقاً وفی جمیع الحالات. والثالث غیر معقول، إذ لا یمکن افتراض جامع مرکب بین جمیع المراتب بعرضها العریض.

وأما الطریق الثانی فکیفیة تصویره علی النحو الآتی:

أولاً: إن ما یعتبر فی صحة العمل مطلقاً وفی جمیع الحالات کنیة القربة مثلاً تؤخذ فی الجامع الترکیبی تعییناً.

ثانیاً: إن ما یکون له بدل فی عرضه تخییراً کالتسبیحات الأربع فی الرکعتین الأخیرتین - حیث إن المکلف مخیر فیهما بین الاتیان بها والاتیان بالحمد - یؤخذ فیه الجامع بینهما وبین بدلها العرضی.

ثالثاً: أن یؤخذ فی الجامع الترکیبی الطهارة من الحدث، وهی متمثلة فی الوضوء للمحدث بالأصغر وفی الغسل للمحدث بالأکبر، أو یؤخذ فیه الجامع بین الرکعتین الأخیرتین للحاضر وترکهما للمسافر، بمعنی أن المأخوذ فی الجامع الترکیبی أحدهما.

رابعاً: أن یؤخذ فی الجامع الترکیبی الطهارة أعم من الطهارة المائیة والترابیة مع التقیید بحالتی الاختیار والاضطرار، بمعنی أنه یؤخذ فیه الطهارة المائیة فی حال الاختیار والتمکن، والطهارة الترابیة فی حال العجز عن الاُولی.

خامساً: ما یعتبر فی صحة الفعل حال الاختیار من دون بدل له أو فی حال التذکر والالتفات کذلک، والأول کالبسملة، فإنها معتبرة فی حال الاختیار فقط دون حال التقیة بلا بدل لها فی هذه الحالة، والثانی الأجزاء والقیود غیر الخمسة

ص:141

للصلاة، فإنها معتبرة فی حال الالتفات والتذکر فقط دون حال النسیان والجهل بلا بدل لها فی هذه الحالة، ولکن مع ذلک یمکن تصویر أخذه بما یلی:

أما فی الشق الأول فیؤخذ فی المسمی الترکیبی الجامع بین البسملة وبین بقیة الأجزاء خاصة فی حال التقیة بها، وأما فی الشق الثانی فیؤخذ فیه الجامع بین الأجزاء غیر الخمسة وبین الخمسة خاصة فی حال الجهل والنسیان بتلک الأجزاء.

ولنأخذ بالمناقشة فیه.

أما أولاً فلأن تصویره بهذا الطریق أیضاً لا یمکن، بیان ذلک أما القسم الأول والثانی فالأمر فیهما کما مر.

وأما القسم الثالث فالأمر فیه بالنسبة إلی المحدث بالأکبر والمحدث بالأصغروإن کان کذلک، باعتبار أن المأخوذ فی الجامع الترکیبی هو الطهارة بلا فرق بین أن یکون سببها الغسل أو الوضوء، إلا أن الأمر بالنسبة إلی الرکعتین الأخیرتین لیس کذلک، إذ لا یمکن أن یکون المأخوذ فی المسمی الترکیبی الجامع بین تقییدالرکعتین الأولیین بالأخیرتین من الحاضر وبین ترکهما من المسافر بأن یقید کل منهما بموضوعه، وذلک لأنه لا شبهة فی أن متعلق الأمر المتوجه إلی الحاضر، الصلاة المقیدة بوقوع التسلیمة بعد الرکعة الرابعة، ومتعلق الأمر المتوجه إلی المسافر، الصلاة المقیدة بوقوع التسلیمة بعد الرکعة الثانیة، ولا یکون متعلق الأمر الجامع بین التقیید والترک.

وإن شئت قلت: إن کلا التقییدین المذکورین - وهما تقیید وقوع التسلیمة بعد الرکعة الرابعة وتقیید وقوعها بعد الرکعة الثانیة - مأخوذ فی متعلق الأمر بالنسبة إلی کل من الحاضر والمسافر تعییناً، لا أن المأخوذ فیه هو الجامع بین التقیید

ص:142

والترک، فیکون هنا متعلقان متباینان، فلا یتصور الجامع بینهما حتی یکون ذلک الجامع هو متعلق الأمر.

وأما القسم الرابع فلا یمکن أخذ الجامع بین الطهارة المائیة والطهارة الترابیة بماهو جامع فی المسمی الترکیبی، وإلا کانت نتیجته التخییر، بل لابد من تقیید الاُولی بموضوعها وهو الواجد للماء، وتقیید الثانیة بالفاقد له، ونتیجة هذا التقیید أن المأخوذ فیه الحصة دون الجامع، فالحصة الاُولی مأخوذة بالنسبة إلی المتمکن من استعمال الماء، والحصة الثانیة مأخوذة بالنسبة إلی غیر المتمکن من استعماله وفی طول الاُولی، أو فقل: إن الجامع بینهما لا یمکن أن یکون قیداً للمسمی الترکیبی، بل القید الطهارة المائیة للمتمکن منها والطهارة الترابیة لغیر المتمکن من الاُولی، ومع هذا کیف یعقل أن یکون الجامع قیداً له، ومن هنا یظهر الحال بالنسبة إلی مراتب الرکوع والسجود، فإنه لا یمکن أن یکون المأخوذ فیه الجامع بین هذه المراتب، لوضوح أن المأخوذ فی المسمی الترکیبی الذی هو متعلق الأمرخصوص رکوع القائم عن قیام عند التمکن منه، وعند تعذره رکوع الجالس إن امکن، وإلا فالایماء والاشارة.

وأما القسم الخامس فلأن متعلق الأمر فی غیر حال التقیة الصلاة الجامعة للبسملة وفی حال التقیة الصلاة الفاقدة لها، وافتراض أن المأخوذ فی المسمی هوالجامع بین البسملة وتقیید سائر الأجزاء بحال التقیة فیها وتعلق الأمر به مجرد افتراض لا واقع موضوعی له، إذ لا شبهة فی أن الأمر المتعلق بالواجد للبسملة غیر الأمر المتعلق بالفاقد لها، فلا جامع بینهما لکی یکون الأمر متعلقاً به.

ومن هنا یظهر حال الشق الثانی من هذا القسم، إذ لا شبهة فی أن مقتضی الأدلة تعدد متعلق الأمر بتعدد حالات المکلف من الاختیار والاضطرار

ص:143

والتذکروالنسیان، وافتراض أن المأخوذ فی المسمی الترکیبی هو الجامع لایطابق مع الواقع.

وثانیاً لو سلمنا تصویر جامع ترکیبی بین الأفراد الصحیحة بهذه الطریقة إلا أنا نقطع بأن أسامی العبادات لم توضع بإزاء ذلک الجامع، لأنه معنی معقد وغیرعرفی وخارج عن الأذهان، وأسامی العبادات لابد أن تکون موضوعة بإزاء معان عرفیة یدرکها المتشرعة عند إطلاقها وینتقل الذهن من تصویرها إلی تصویر معانیها، ولا یمکن أن تکون موضوعة بإزاء معان معقدة خارجة عن الأذهان.

ودعوی أن الواضع لألفاظ العبادات بما أنه الشارع دون العرف العام، فلامانع من وضع الشارع تلک الألفاظ بإزاء ذلک الجامع المعقد.

مدفوعة أما أولاً فقد تقدم أن الشارع لم یقم بعملیة وضع هذه الألفاظ بإزاءمعانیها بالوضع التعیینی الصریح ولا بالوضع التعیینی الاستعمالی، لأنها إماموضوعه بإزائها قبل الاسلام أو أنه قد حصل بکثرة الاستعمال، وعلی کلا التقدیرین فلابد أن یکون الوضع بإزاء معنی عرفی.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن الشارع هو الواضع لها إلا أنه لاشبهة فی أنه وضعها بإزاء معان عرفیة، ولا یمکن أن یقوم بوضعها بإزاء معان معقدة خارجة عن أذهان العرف، لأن ذلک لغو.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن تصویر جامع بین الأفراد الصحیحة غیر معقول لا مرکباً ولا بسیطاً، وتصویر جامع عنوانی وإن کان أمراًممکناً إلا أن اللفظ لم یوضع بإزائه ولا بإزاء معنونه وهو الأفراد الخارجیة، علی أساس أن الوضع بإزاء معنونه لا یمکن إلا بنحو الوضع العام والموضوع له

ص:144

الخاص، وقد تقدم أن وضع ألفاظ العبادات بإزائها لیس کذلک، وإنما هو بنحو الوضع العام والموضوع له العام.

الوجه الثانی: ما ذکره المحقق العراقی قدس سره من أن الجامع لا ینحصر بالجامع الذاتی ولا بالجامع العنوانی لکی یقال إن الأول غیر متصور، والثانی لم یوضع بإزائه اللفظ، بل هنا جامع ثالث وهو الجامع الوجودی، بتقریب أن الأفراد الصحیحة وإن کانت متباینات سنخاً وذاتاً إلا أنها مشترکات فی حیثیة واحدة وهی حیثیة الوجود.

بیان ذلک أن الصلاة مثلاً مرکبة من مقولات متباینات بتمام الذات والحقیقة، وتلک المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولی حقیقی، باعتبار أنها أجناس عالیات إلا أنها مندرجة تحت مرتبة خاصة من الوجود الساری، وتلک المرتبة الخاصة البسیطة من الوجود حاویة لجملة من المقولات ومحدودة من ناحیة القلة بالأرکان علی سعتها، وأما من ناحیة الزیادة فهو لا بشرط، بمعنی أنه قابل للانطباق علی القلیل والکثیر، وهذه الجهة الوجودیة جهة جامعة بین جمیع الأفراد الصحیحة، فالصلاة عبارة عن تلک المرتبة الخاصة من الوجود المحفوظة فی المقولات بلا دخل لخصوصیة المقولیة فی حقیقة الصلاة، ولا مانع من وضع لفظة الصلاة بإزاء هذه المرتبة الخاصة من الوجود الساری الجامعة بین أفرادها الصحیحة(1).

ولنأخذ بالمناقشة فیه.

أما أولاً فکما أنه لا یعقل وجود جامع ذاتی بین المقولات بأنفسها لأنها

ص:145


1- (1) مقالات الاصول ج 1 ص 142.

متباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، فلا یمکن أن تندرج تحت مقولة واحدة، فکذلک لا یعقل تحقق جامع وجودی بین وجوداتها، إذ کما یستحیل اتحاد مقولتین واندراجهما تحت مقولة واحدة، فکذلک یستحیل اتحاد وجودیهما واندراجهماتحت وجود واحد بسیط، بداهة أن اتحاد مقولة مع مقولة اخری ماهیة ووجوداً مستحیل، وعلی هذا فالصلاة مثلاً مؤلفة من مقولات متباینة ذاتاً وسنخاً، ولکل مقولة وجود، ولا یعقل أن یکون وجودها حاویاً لغیرها وساریاً إلیهاو وجوداً لها أیضاً، ولهذا یستحیل اشتراک مقولتین متباینتین ذاتاً وسنخاً فی وجود واحد حقیقة، فإن اشتراکهما فی وجود واحد یستدعی اشتراکهما فی حقیقة واحدة واندراجهما تحت ماهیة واحدة، بقانون أن لکل ماهیة وجوداً واحداً وبالعکس، ویستحیل أن یکون وجود واحد وجوداً لماهیتین متباینتین ذاتاًوسنخاً وبالعکس، لأن الوجود حد للماهیة، ولا یعقل أن یکون لها حدان کماحقق فی محله، فإذا کانت الصلاة مرکبة من مقولات متباینات بالذات والحقیقة فبطبیعة الحال یکون لکل واحدة منها وجود واحد مباین سنخاً لوجود مقولة اخری وهکذا.

فالنتیجة أنه لا یمکن أن تشترک المقولات المتباینة سنخاً وذاتاً فی حیثیة وجودیة واحدة حقیقیة.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إمکان اشتراک المقولات المتباینة سنخاًفی حیثیة وجودیة واحدة جامعة بین وجودات المقولات، إلا أن أسامی العبادات لم توضع بإزاء تلک الحیثیة الوجودیة، فإنه إن ارید منها واقع الوجود وحقیقته، فقد تقدم فی مبحث الوضع أن الألفاظ لم توضع بإزائه الذی لم یناله الذهن إلا بعنوانه الأنتزاعی، وإنما وضعت بإزاء المفاهیم التی قد توجد فی الذهن

ص:146

وقد توجد فی الخارج. هذا إضافة إلی أن لازم ذلک کون المدلول الوضعی مدلولاًتصدیقیاً، وهذا لا یمکن إلا علی القول بالتعهد.

وإن ارید منها الحیثیة الانتزاعیة التی هی عنوان للوجود الخارجی، فمن الواضح أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزاء هذا العنوان العرضی المشیر إلی واقع الوجود، ضرورة أنه لیس مدلولاً لها، ولهذا لا یتبادر منها عند إطلاقها.

وبکلمة، إنه قدس سره إن أراد من الحیثیة الوجودیة الجامعة المشترکة بین وجودات المقولات المتباینة سنخاً واقع الوجود، فقد مرّ أن اللفظ لم یوضع بإزائه، علی أساس أنه لا یمکن إحضاره فی الذهن إلا بعنوانه العرضی، والمفروض أن العنوان العرضی لیس مدلولاً لأسامی العبادات.

هذا، إضافة إلی أن لازم ذلک أن یکون مدلوله الوضعی مدلولاً تصدیقیاً، وهو لا یمکن إلا علی القول بالتعهد.

وإن أراد قدس سره من تلک الحیثیة الحیثیة الانتزاعیة التی یعبّر عنها بمفهوم الوجودکما صرح قدس سره فی مقالاته بقوله: إن الصلاة اسم لمفهوم منتزع من الوجود الجامع بین الوجودات الخاصة المحددة التی یکون کل منها محفوظاً فی مقولته(1) ، فیردعلیه أن أسامی العبادات لم توضع بإزائه، باعتبار أن مفهوم الوجود المنتزع عنوان عرضی فی طول العناوین الخاصة لأجزاء الصلاة کالرکوع والسجود والقراءة والتشهد وغیر ذلک، وهذا وإن کان أمراً معقولاً إلا أن مرده إلی تصویرجامع انتزاعی بین أفراد الصلاة وأجزائها، وقد تقدم أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزاء نفس الجامع العنوانی الانتزاعی، ولا بإزاء معنونه وهو الوجودات

ص:147


1- (1) مقالات الاصول ج 1 ص 143.

الخارجیة الخاصة.

وعلی الجملة فشأن مفهوم الوجود المنتزع فی المقام شأن سائر المفاهیم، فلامانع من وضع اللفظ بإزائه فی نفسه، ولیس کوضع اللفظ بإزاء الموجود الخارجی، إلا أن أسامی العبادات لم توضع بإزاء مفهومه، فلذلک کان المتبادر والمنسبق من لفظة الصلاة مثلاً نفس الأجزاء المقیدة بقیود محددة دون مفهوم وجود تلک الأجزاء المرکبة.

فتلخص مما ذکرناه أن ما أفاده المحقق العراقی قدس سره من تصویر جامع بین الأفراد الصحیحة لا یرجع إلی معنی صحیح.

الوجه الثالث: ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من إمکان تصویر جامع مشترک بین الأفراد الصحیحة، وقد أفاد فی وجه ذلک ما إلیکم نصه: والتحقیق أن سنخ المعانی والماهیات وسنخ الوجود العینی الذی حیثیة ذاته حیثیة طرد العدم فی مسألة السعة والاطلاق متعاکسان، فان سعة سنخ الماهیات من جهة الضعف والابهام، وسعة سنخ الوجود الحقیقی من فرط الفعلیة، فلذا کلما کان الضعف والابهام فی المعنی أکثر، کان الاطلاق والشمول أوفر، وکلما کان الوجود أشد وأقوی، کان الاطلاق والسعة أعظم وأتم.

فإن کانت الماهیة من الماهیات الحقیقیة، کان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطواریء وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها کالانسان مثلاً، فإنه لا إبهام فیه من حیث الجنس والفصل المقومین لحقیقته، وإنما الابهام فیه من حیث الشکل وشده القوی وضعفها وعوارض النفس والبدن حتی عوارضها اللازمة لها ماهیة ووجوداً.

وإن کانت الماهیة من الاُمور المؤتلفة من عدة امور بحیث تزید وتنقص کماً

ص:148

وکیفاً، فمقتضی الوضع لها بحیث یعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ علی نحومبهم فی غایة الابهام بمعرفیة بعض العناوین الغیر المنفکة عنها، فکما أن الخمرمثلاً مائع مبهم من حیث اتخاذه من العنب والتمر وغیرهما، ومن حیث اللون والطعم والریح، ومن حیث مرتبة الاسکار، ولذا لا یمکن وصفه إلا بمائع خاص بمعرفیة المسکریة من دون لحاظ الخصوصیة تفصیلاً، بحیث إذا أراد المتصورتصوره لم یوجد فی ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جمیع الجهات إلا حیثیة المائعیة بمعرفیة المسکریة، کذلک لفظة «الصلاة» مع هذا الاختلاف الشدید بین مراتبها کماً وکیفاً، لابد من أن یوضع لسنخ عمل معرفه النهی عن الفحشاء أوغیره من المعرفات، بل العرف لا ینتقلون من سماع لفظ «الصلاة» إلا إلی سنخ عمل خاص مبهم إلا من حیث کونه مطلوباً فی الأوقات الخاصة، ولا دخل لماذکرناه بالنکرة، فإنه لم یؤخذ فیه الخصوصیة البدلیة کما اخذت فیها.

وبالجملة الابهام غیر التردید، وهذا الذی تصورناه فی ما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتی مقولی وجامع عنوانی ومن دون الالتزام بالاشتراک اللفظی مما لا مناص له بعد القطع بحصول الوضع ولو تعیناً، وقد التزم بنظیره بعض أکابر فن المعقول(1) فی تصحیح التشکیک فی الماهیة جواباً عن تصور شمول طبیعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة والناقصة، حیث قال: نعم الجمیع مشترک فی سنخ واحد مبهم غایة الابهام بالقیاس إلی تمام نفس الحقیقة ونقصانها وراء الابهام الناشیء فیه عن اختلاف الأفراد بحسب هویاتهاانتهی، مع أن ما ذکرناه أولی به مما ذکره فی الحقائق المتأصلة والماهیات

ص:149


1- (1) هو صدر المتألهین فی الأسفار ج 1 ص 431.

الواقعیة کما لا یخفی»(1).

ثم قال قدس سره: «وأما علی ما تصورنا الجامع، فالصحیحی والأعمی فی إمکان تصویر الجامع علی حد سواء، فإن المعرف إن کان فعلیة النهی عن الفحشاء، فهی کاشفة عن الجامع بین الأفراد الصحیحة، وإن کان اقتضاء النهی عن الفحشاء، فهو کاشف عن الجامع بین الأعم»(2) انتهی کلامه.

ملخص ما أفاده قدس سره امور:

الأول: أن الماهیة والوجود متعاکسان من جهة السعة والاطلاق، فالوجودکلما کان أشد وأقوی، کان الاطلاق والشمول فیه أوسع وأوفر، بینما الماهیة کلماکان الضعف والابهام فیها أکثر، کان الاطلاق والسعة فیها أشمل وأوفر.

الثانی: أن الجامع بین الماهیات الاعتباریة کالصلاة ونحوها سنخ عمل مبهم فی غایة الابهام، فإنه جامع لجمیع شتاتها ومتفرقاتها کماً وکیفاً، وصادق علی القلیل والکثیر والزائد والناقص، مثلاً الجامع بین أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جمیع الجهات إلا من حیث النهی عن الفحشاء والمنکر أو من حیث فریضة الوقت.

الثالث: أن الماهیات الاعتباریة نظیر الماهیات المتأصلة التشکیکیة من جهة إبهامها، غایة الأمر أن إبهام الاُولی اعتباریة وابهام الثانیة ذاتیة.

ولنأخذ بالنظر علی هذه الاُمور:

أما الأمر الأول: فهو فی غایة الصحة والمتانة، فإن الماهیة کلما کانت مبهمة

ص:150


1- (1) (2) نهایة الدرایة ج 1 ص 101.
2- (2) نهایة الدرایة ج 1 ص 113.

وخالیة عن جمیع القیودات والخصوصیات الذهنیة والخارجیة، فهی أکثر سعة وأوسع شمولاً، وأما الوجود فهو کلما کان أشد وأقوی، کان أکثر شمولاً وأوسع إطلاقاً بعکس الماهیة کما حقق فی محله.

وأما الأمر الثانی فیرد علیه:

أولاً: أن حقیقة الصلاة مثلاً عبارة عن عدة مقولات متباینة ذاتاً وسنخاً ومقیدة بقیود محددة من التکبیرة إلی التسلیمة ولا إبهام فیها، وأما العمل المبهم غایة الابهام فهو لا یخلو من أن یکون عنواناً ذاتیاً لها أو انتزاعیاً، ولا ثالث لهما.

أما الفرض الأول فهو غیر معقول، لما مر من أن الجامع الذاتی بمعنی الجنس والفصل بین تلک المقولات المتباینة ذاتاً وسنخاً غیر متصور، لا ستحالة اندراج هذه المقولات تحت جامع ذاتی واحد، وإلا لم تکن أجناساً عالیات، وهذاخلف، وکذلک بمعنی لازم الماهیة، لاستحالة أن یکون لتلک المقولات المتباینة سنخاً لازم واحد، علی أساس أن لازم الماهیة بمثابة المعلول لها ومسانخ معها، وعلیه فلا یعقل أن یکون اللازم الواحد مسانخاً لماهیة مقولة من تلک المقولات الصلاتیة وفی نفس الوقت یکون مسانخاً لماهیة مقولة اخری منها.

وأما الفرض الثانی وهو کون العمل المبهم جامعاً عنوانیاً انتزاعیاً فهو أمرمعقول فی نفسه، إذ لا مانع من انتزاعه من حقائق مختلفة کعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر ونحوه، وتکون نسبته إلی تلک الحقائق المختلفة نسبة العرض إلی منشأ انتزاعه لا نسبة المعلول إلی علته، ولکن حیث إنه لا واقع موضوعی له ما عدا ثبوته فی عالم المفهوم والذهن، فلا یمکن أن یکون مسمی لاسم الصلاة، بداهة أنه لیس وراء المقولات التی تکون الصلاة مرکبة منها شیئاً آخر زائداً علیها حتی یمکن تعلق الأمر به.

ص:151

هذا إضافة إلی أن لفظة «الصلاة» لم توضع بإزائه جزماً، وذلک لأن المتبادرمنها عند الاطلاق هو نفس الأجزاء المتباینة والقیود المختلفة سنخاً، وواضح أن هذا التبادر والانسباق کاشف عن أنها موضوعة بإزاء نفس تلک الأجزاء والشرائط، دون عنوان العمل المبهم المنتزع، مع أنها لو کانت موضوعة بإزائه لکانت مرادفة له، وهذا کما تری.

وثانیاً: أنه إن ارید بإبهام مسمی الصلاة وغیرها إبهامه فی مقام الثبوت والواقع فهو غیر معقول، بداهة أنه لا إبهام فیها من حیث المفهوم والمعنی الموضوع له، وإبهامها إنما هو من حیث انطباقها علی ما فی الخارج، مع أنهالیست من الأسماء المبهمات، بل هی من أسماء الأجناس.

وبکلمة، إن المعنی لا یمکن أن یکون مبهماً فی جوهر ذاته وذاتیاته ثبوتاً، بل هو متعین فیه، فلا یعقل دخول الابهام فی تجوهر ذاته، لأن الشیء بتجوهر ذاته متعین ومتحصل فی الواقع، وعلی هذا فمسمی الصلاة فی الواقع متعین ولا یعقل دخول الابهام فی جوهر ذاته، لأنه متمثل فی مجموعة من المقولات المتباینة سنخاً المتعینة فی الواقع، وإنما یتصور الابهام بلحاظ الطواریء والعوارض الخارجیة کما صرح هو قدس سره بذلک فی الماهیات المتأصلة، فحقیقة الصلاة حقیقة متعینة بتجوهر ذاتها، والابهام فیها إما أن یکون بلحاظ الطواریء والعوارض الخارجیة أو بلحاظ انطباقها علی ما فی الخارج.

وإن ارید بذلک أن المسمی عنوان عرضی یشار به إلی واقع تلک المرکبات الخارجیة، فیکون مبهماً لعدم تبین تلک المرکبات، فیرد علیه أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزاء العنوان العرضی کما مرّ آنفاً.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره قدس سره من أن لفظ الخمر موضوع بإزاء مائع مبهم، فإن

ص:152

ارید أنه مبهم ثبوتاً، فقد عرفت أنه غیر معقول، لأن کل معنی متعین بجوهر ذاته وذاتیاته فی الواقع ومقام الثبوت، وإن ارید أنه مبهم من حیث إنه مأخوذ لابشرط من ناحیة مرتبة إسکاره ومنشأ اتخاذه من العنب أو غیره، ففیه أنه لیس من الابهام فی المعنی الموضوع له، علی أساس أن المأخوذ فیه طبیعی الاسکار لامرتبة خاصة منه، کما أنه لا فرق فیه بین کون منشأ اتخاذه العنب أو غیره، لأن الابهام فیه لا یوجب الابهام فی المعنی الموضوع له، وإن ارید من الابهام الابهام فی تشخیص المعنی الموضوع له لدی العرف العام کما فی أسامی بعض المرکبات والمعاجین، فیرد علیه حینئذ أنه لا إبهام فی المعنی الموضوع له، وإنما الابهام فی طریقة تشخیص ذلک لدی العرف العام.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أن ما أفاده المحقق الأصبهانی قدس سره من أن أسامی العبادات کالصلاة مثلاً موضوعة بإزاء عمل مبهم غایة الابهام لایرجع بالتحلیل إلی معنی معقول.

نتیجة البحث امور:

الأول: أنه لابد من تصویر جامع ذاتی یشترک فیه جمیع الأفراد الصحیحة أوالأعم منها ومن الفاسدة علی کلا القولین فی المسألة، خلافاً للمحقق النائینی قدس سره، حیث إنه منع عن هذه اللابدیة وقال: إن المسمی بأسامی العبادات هو المرتبة العلیا، واستعمالها فی سائر المراتب إما بالتنزیل أو من جهة الاشتراک فی الأثر، ولکن قد تقدم نقده، وقلنا بأن ما أفاده قدس سره لا یرجع إلی معنی صحیح، ولا یغنی عن تصویر جامع.

الثانی: أن تمسک المحقق الخراسانی قدس سره لاثبات الجامع بین الأفراد الصحیحة بقاعدة فلسفیة، وهی أن «الواحد لا یصدر إلا من واحد» فی غیر محله، فإن

ص:153

المقام کما مرّ لیس من صغریات هذه القاعدة، ولا یمکن تطبیقها علیه.

الثالث: أن ما أفاده المحقق العراقی قدس سره من أن الجامع لا ینحصر بالجامع الذاتی الماهوی لکی یقال إنه غیر متصور، ولا بالجامع العنوانی لکی یقال إن ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه، بل هنا جامع ثالث، وهو الجامع الوجودی، ولا مانع من اشتراک الأفراد الصحیحة فیه ووضع اللفظ بإزائه، ولکن قد تقدم أنه إذا لم یمکن تصویر جامع مقولی بین الأفراد الصحیحة لم یمکن تصویر جامع وجودی بینها أیضاً، إذ لا یعقل اندراج وجودات المقولات المتباینة سنخاً تحت وجودواحد، لأن لکل ماهیة وجوداً واحداً، ولا یعقل أن یکون وجود واحد وجوداً للماهیات المتعددة المتباینة، وأما مفهوم الوجود فهو وإن أمکن انتزاعه من حقائق مختلفة، إلا أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.

تصویر الجامع علی الاعمی

الرابع: ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره من أن المسمی لأسامی العبادات هوالعمل المبهم من جمیع الجهات، ولا یمکن تعریفه إلا من طریق أنه مطلوب وفریضة الوقت والناهی عن الفحشاء والمنکر، ولکن تقدم أن أسامی العبادات لم توضع بإزائه، لأنه إن ارید بالعمل المبهم الجامع الذاتی بین أفراد العبادات الصحیحة، فقد مرّ أنه غیر معقول، وإن ارید به الجامع العنوانی، فقد عرفت أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.

تصویر الجامع علی الأعمی

قد استدل علیه بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما أفاده المحقق الأصبهانی قدس سره من أن العمل المبهم کما یمکن أن

ص:154

یکون جامعاً بین الأفراد الصحیحة یمکن أن یکون جامعاً بین الأعم منها ومن الفاسدة، بتقریب أن المعرف للجامع المذکور إن کان فعلیة النهی عن الفحشاء والمنکر، فهی کاشفة عن الجامع بین الأفراد الصحیحة فحسب، وإن کان اقتضاء النهی عن الفحشاء والمنکر، فهو کاشف عن وجود جامع بینها وبین الفاسدة، فالنتیجة أن العمل المبهم کما یصلح أن یکون جامعاً بین الأفراد الصحیحة علی القول بالصحیح، یصلح أن یکون جامعاً بین الأعم منها ومن الفاسدة علی القول بالأعم(1).

ولکن تقدم أن العمل المبهم الذی لا یمکن وصفه إلا بعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر أو فریضة الوقت لا یصلح أن یکون جامعاً، فإن المراد منه إن کان الجامع الذاتی، فهو غیر متصور بین أفراد العبادات کالصلاة ونحوها، وإن کان الجامع العنوانی، فألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.

الوجه الثانی: ما عن المحقق القمی قدس سره من أن العبادات أسام للأرکان خاصة، وأما بقیة الأجزاء والشرائط، فهی دخیله فی المأمور به دون المسمی، فلفظ الصلاة مثلاً موضوع لذات التکبیرة والرکوع والسجود والطهور المقیدة بالوقت والقبلة، فإنها من العناصر المقومة وأرکانها، وأما غیرها من الأجزاء والشرائط، فهی معتبرة جمیعاً فی مطلوبیتها شرعاً لا فی تسمیتها عرفاً(2).

ونتیجة ما أفاده قدس سره أمران:

الأول: أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء الأرکان التی هی من أجزائها الرئیسیة المقومة.

ص:155


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 113.
2- (2) قوانین الاصول ج 1 ص 44.

الثانی: أن سائر أجزائها وشرائطها دخیلة فی المأمور به فحسب دون المسمی.

واُورد علیه بأن المعنی الموضوع له لألفاظ العبادات لو کان خصوص الأرکان، لزم أن یکون إطلاق لفظة الصلاة علی الصلاة الواجدة لها ولبقیة الأجزاء والشرائط مجازاً واستعمالاً فی غیر المعنی الموضوع له من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکل، مع أن الأمر لیس کذلک، لوضوح أن إطلاقهاعلیها إطلاق حقیقی، فلذلک لا یمکن الالتزام بهذا القول(1).

ویمکن الجواب عن ذلک بأن إطلاق لفظ الصلاة مثلاً علی الواجدة لجمیع الأجزاء والشرائط حقیقی لا بلحاظ أنه مستعمل فی الکل، بل بلحاظ أنه مستعمل فی معناه الموضوع له وهو الأرکان، والخصوصیات الزائدة مستفادة من دال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، وسوف نشیر إلی توضیح ذلک. نعم هناشیء آخر، وهو ما تأتی الاشارة إلیه عن قریب من أن الظاهر هو انحصار أرکان الصلاة فی أجزاء ثلاثة: الرکوع والسجود والطهور، وأما الوقت والقبلة فهما وإن کانا دخیلین فی صحة الصلاة مطلقاً وفی جمیع الحالات إلا أنه لم یثبت کونهما من الأرکان المقومة لمسمی الصلاة، ومثلها التکبیرة علی الأظهر.

الوجه الثالث: ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن أسامی العبادات موضوعة بإزاء الأرکان بنحو لا بشرط بالنسبة إلی سائر الأجزاء والشرائط، ومرجع هذا إلی أن الأجزاء أو الشرائط الاُخری عند وجودها

ص:156


1- (1) (2) کفایة الاصول ص 25.

داخلة فی المسمی، وعندعدمها خارجة عنه، مثلاً لفظ «الصلاة» موضوع بإزاء الأرکان الملحوظة لابشرط بالنسبة إلی سائر أجزائها وشرائطها، ونتیجة ذلک أنها عند وجودها داخلة فی مسماها وعند عدمها خارجة عنه، ولذلک نظائر کثیرة فی المرکبات الخارجیة الاعتباریة کالدار مثلاً، فإنها موضوعة لمعنی مرکب من العناصرالرئیسیة المقومة، وهی الحیطان والساحة والغرفة وإنها أرکانها، ولم یلحظ فیها مواداً معینة ولا شکلاً معیناً من الأشکال الهندسیة، وأما بالاضافة إلی الزائد علیها فهی مأخوذة لا بشرط، بمعنی أن الزائد علی تقدیر وجوده داخل فی المسمی وعلی تقدیر عدمه خارج عنه، فالموضوع له معنی وسیع یصدق علی القلیل والکثیر والتام والناقص علی نسق واحد. ومن هذا القبیل الکلمة والکلام، فإن الکلمة موضوعة للمرکب من حرفین فصاعداً، فإن زید علیهماحرف أو أزید فهو داخل فی معناها، وإلا فلا، والکلام موضوع للمرکب من کلمتین فمازاد وهکذا.

وبکلمة، إن المرکبات الاعتباریة علی نحوین:

أحدهما: ما لوحظ فیه حد خاص محدد من طرفی القلة والکثرة معاًکالاعداد، فإن کل مرتبة منها مرکبة من عدد خاص محدد من طرفی القلة والکثرة، کالخمسة مثلاً أو الأربعة أو الستة وهکذا.

والآخر: ما لوحظ فیه أجزاء معینة من جانب القلة فقط، وله حد خاص من هذا الطرف، وأما من جانب الکثرة ودخول الزائد فقد اخذ لا بشرط، کالأمثلة المتقدمة وما شاکلها، والصلاة من هذا القبیل، فإنها موضوعة للأرکان فصاعداً، والزائد علیها من الأجزاء والشرائط عند وجوده داخل فی المسمی، وإلا فلا.

فالمتحصل من تعبیراته قدس سره المختلفة فی المقام عنصران:

الأول: أن المعنی الموضوع له للصلاة مثلاً الأرکان بنحو لا بشرط بالنسبة إلی الزائد.

ص:157

الثانی: أن المعنی الموضوع له لها الأرکان ومازاد.

والعنصران متقابلان فلا ینطبق أحدهما علی الآخر، فإن معنی العنصر الأول هو أن الأرکان مأخوذة لا بشرط، یعنی مطلقة وغیر مقیدة بشیء لا وجوداً ولاعدماً، لأن ماهیة لا بشرط هی الماهیة المطلقة التی لم یؤخذ فیها أی قید، فی مقابل ماهیة بشرط شیء وماهیة بشرط لا، فإن الاُولی مقیدة بوجود شیء، والثانیة مقیدة بعدم شیء آخر. ومعنی العنصر الثانی هو أن المعنی الموضوع له مرکب من عنوانین، أحدهما الأرکان، والآخر مازاد علیها.

وفی کلا العنصرین إشکال.

أما العنصر الأول، فلأن الاطلاق الذی هو مفاد لا بشرط إما بمعنی رفض القیود وعدم أخذ شیء منها فی المطلق کما أختاره قدس سره أو بمعنی عدم القید کما قویناه، وعلی کلا القولین فاللا بشرط المأخوذ فی مسمی العبادات المساوق للاطلاق لا یدل علی دخول الأجزاء أو الشرائط فیه عند وجودها، أما علی القول الأول فلأن مفاد الاطلاق رفض القیود، وهو ملازم لخروجها عن المطلق وجوداً وعدماً لا جمع القیود، وأما علی الثانی فلأن مفاده عدم التقیید بقید، وهویلازم خروجه عنه وجوداً وعدماً، وعلیه فما أفاده قدس سره من أن سائر الأجزاء عندوجودها داخلة فی المسمی وعند عدمها خارجة عنه لا ینسجم مع ما بنی علیه قدس سره من أن المسمی وهو الأرکان ملحوظ بنحو لا بشرط، فإن معنی اللابشرط هو الاطلاق، والاطلاق علی کلا القولین کما مرّ ملازم لخروج سائرالأجزاء والشرائط عن المسمی وجوداً وعدماً، وإلا لم یکن المسمی ملحوظاً لابشرط، لأن الأجزاء الاُخری لو کانت داخلة فیه عند وجودها، فمعناه أنه مأخوذ بشرط شیء لا لابشرط، ولو کان عدمها داخلاً فیه فمعناه أنه

ص:158

مأخوذ بشرط لا.

وبکلمة، إن مسمی العبادات کالصلاة ونحوها إذا کان هو الأرکان، فلا یخلو إما أن یؤخذ لا بشرط بالنسبة إلی سائر الأجزاء والشرائط أو یؤخذ بشرط شیء بالنسبة إلیها أو بشرط لا، ولا رابع فی البین، وعلی الأول فالمسمی مطلق ولا یدخل فیه شیء من الأجزاء أو الشرائط الاُخری لا وجوداً ولا عدماً، وعلی الثانی فالمسمی مقید بوجود الأجزاء والشرائط الاُخری، وعلی الثالث فهو مقید بعدمها، وعلی هذا فما ذکره قدس سره من أن المسمی مأخوذ لا بشرط بالنسبة إلی الزائد من الأجزاء والشرائط الاُخری فی طرف النقیض مع ما بنی علیه قدس سره من أن الزائد عند وجوده داخل فیه، لأن معنی کونه مأخوذاً لا بشرط أن الزائدغیر داخل فیه لا وجوداً ولا عدماً، ومعنی أن الزائد داخل فیه عند وجوده أنه مأخوذ بشرط شیء بالنسبة إلیه لا لابشرط.

هذا إضافة إلی أنه لایمکن أن یکون الزائد عند وجوده داخلاً فی المسمی وجزءاً له، لأن المسمی هو المعنی الموضوع له، وهو من سنخ المفهوم، حیث إن اللفظ لم یوضع إلا بإزاء المفهوم، دون الموجود الخارجی أو الذهنی، وعلی هذا فلا یعقل أن یکون الزائد عند وجوده داخلاً فی المسمی وجزءاً له، لأن الموجود الخارجی لا یمکن أن یکون جزءاً للمفهوم، نعم یکون جزءاً لمصداقه عند وجوده، وعدم کونه جزءاً له عند عدمه.

وعلی هذا فالمسمی لا ینطبق فی الخارج إلا علی الأرکان فقط، سواء أکان معها أجزاء اخری أم لا، علی أساس أن کل مفهوم ینطبق علی مصادیقه وأفراده فیه لا علی غیرها، والمسمی بما أنه مفهوم الأرکان، فهو ینطبق علیها دون غیرها من الأجزاء، فإذن کما أن الأجزاء الاُخری لیست جزء المسمی وداخلة فیه عند

ص:159

وجودها کذلک، لیست جزء مصداقه بما هو مصداقه وإن کانت جزء الموجود الخارجی، ولکن الموجود الخارجی بما هو لیس مصداقه بل هو مرکب منه ومن غیره، کما هو الحال فی سائر أسماء الأجناس، وعلیه فکما أن دخول الزائد عند وجوده فی مصداق المسمی لا یستلزم المجاز فی الکلمة، لأن کلمة الصلاة مثلاً مستعملة فی جمیع أفرادها وتمام مراتبها الطولیة فی معناها الموضوع له، وهوالأرکان، سواء أکانت معها أجزاء اخری أم لا، کذلک لا یستلزم المجازفی الاسناد والتطبیق أیضاً، لأن المسمی منطبق علی مصداقه فقط کان معه شیءآخر أم لا.

ومن هنا یظهر أن نتیجة وضع أسماء العبادات بإزاء الأرکان بنحو لا بشرط هی صحة انطباقها علی جمیع أفرادها فی الخارج المشتملة علیها، وأما اشتمالهاعلی الأجزاء الاُخری والخصوصیات العرضیة، فهو لا یمنع عن انطباقها علی مصادیقها، فلحاظ الأرکان لا بشرط لا یتطلب کون الأجزاء الاُخری عند وجودها داخلة فی المسمی، بل قد أشرنا آنفاً أن ذلک غیر معقول، بل لا یتطلب کونها عند وجودها داخلة فی مصداقه فی الخارج بما هو مصداقه، نعم إنها داخلة فیه بما هو موجود فی الخارج.

وأما العنصر الثانی فلأن لازم کون المسمی مرکباً من الأرکان وما زاد علیهاعدم انطباقه علی الأرکان فقط، وانتفاؤه بانتفاء ما زاد الذی هو عنوان لسائر الأجزاء والشرائط، لأن المرکب ینتفی بانتفاء أحد أجزائه، وبذلک یظهر حال ما أفاده قدس سره فی المرکبات الخارجیة الاعتباریة.

والخلاصة أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء الأرکان بنحو لا بشرط بالنسبة إلی سائر الأجزاء أو الشرائط، فإن ارید

ص:160

بکلمة لا بشرط الاطلاق کما هو معناه، فقد عرفت أنه یلازم خروج سائر الأجزاء والشرائط عن المسمی وجوداً وعدماً، وإن ارید بها مازاد علی المسمی من الأجزاء والشرائط الاُخری، فقد عرفت أن لازم ذلک عدم انطباق المسمی علی الأرکان فقط.

ثم إن هناک إشکالات اخری علی هذا القول.

الأول: ما عن المحقق النائینی قدس سره، وحاصله أنه إن ارید بعدم دخول بقیة الأجزاء والشرائط فی المسمی عدم دخولها فیه دائماً، فیرده أنه ینافی الوضع للأعم، فإن لازمه عدم صدق لفظة «الصلاة» علی الفرد الصحیح إلا بنحو من العنایة والمجاز ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکل، وإن ارید به دخولها فیه عند وجودها وخروجها عنه عند عدمها فهو غیر معقول، ضرورة أن دخول شیء واحد فی ماهیة عند وجوده وخروجه عنه عند عدمه أمرمستحیل، لاستحالة کون شیء جزءاً لماهیة مرة وخارجاً عنها مرة اخری، فإن کل ماهیة متقومة بجنس وفصل أو ما یشبههما، فلا یعقل أن یکون شیء واحد مقوماً لماهیة عند وجوده ولا یکون کذلک عند عدمه، یعنی أنها لا تنتفی بانتفائه، فإذن لا یعقل أن تکون بقیة الأجزاء داخلة فی المسمی عند وجودها وخارجه عنه عند عدمها، فإن معنی دخولها فیه عند وجودها أنها مقومة له، فإذا کانت مقومة له فلا محالة ینتفی بانتفائها، ومعنی خروجها عنه عند عدمها أنه لا ینتفی بانتفائها، وبالتالی لا تکون مقومة له، فإذن یکون مرد دخولها فی المسمی عند وجودها وخروجها عنه عند عدمها إلی أنها مقومة له وفی نفس الوقت لا تکون مقومة له، وهذا تناقض(1).

ص:161


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 61.

وقد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ قدس سره بأنه مبنی علی الخلط بین المرکبات الحقیقیة والمرکبات الاعتباریة، وما أفاده قدس سره إنما یتم فی المرکبات الحقیقیة، حیث إنها مرکبة من جنس وفصل ومادة وصورة، باعتبار أن لکل واحد من الجزئین جهة افتقار بالاضافة إلی الآخر، فلا یعقل فیها تبدیل الأجزاء بغیرها ولاالاختلاف فیها کماً وکیفاً، فإذا کان شیء واحد جنساً أو فصلاً لماهیة، فلا یعقل أن یکون جنساً أو فصلاً لها فی حالة ولا یکون کذلک فی حالة اخری، إذ معنی ذلک أنه مقوم لها وفی نفس الوقت لا یکون مقوماً لها، مثلاً الناطق فصل مقوم للانسان، ولا یعقل أن یکون فصلاً له عند وجوده ولا یکون فصلاً له عندعدمه وهکذا.

وأما فی المرکبات الاعتباریة فهو لا یتم، لأن الترکیب فیها بین أمرین مختلفین أو أزید، ولیس بینهما أی جهة اتحاد حقیقة ولا افتقار ولا ارتباط، بل إن کل واحد منهما موجود مستقل علی حیاله ومباین للآخر فی التحصل والفعلیة، والوحدة العارضة علیهما وحدة اعتباریة، لاستحالة الترکیب الحقیقی بین أمرین أو امور متحصلة بالفعل، وعلی هذا فلا مانع من کون شیء واحد داخلاً فی المرکب الاعتباری عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه.

ومن أمثلة ذلک کلمة «الدار»، فإنها موضوعة لمعنی مرکب، وهو ما اشتمل علی الحیطان والساحة والغرفة، وهی أجزاؤها الرئیسیة ومقومة لصدق عنوانها، وحینئذ فإن کان لها غرفة اخری وسرداب أو طبقة ثانیة أو غیر ذلک فهی من أجزائها وداخلة فی المسمی، ومن هذا القبیل «الکلمة» و «الکلام» ونحوهما کما مرّ، وعلی هذا فحیث إن العبادات کالصلاة ونحوها من المرکبات الاعتباریة، فلا مانع من الالتزام بأن مسماها الأرکان وما زاد علیها من الأجزاء

ص:162

داخل فیه عند وجوده وخارج عنه عند عدمه کما تقدم.

فالنتیجة أن الالتزام بذلک لا یمکن فی المرکبات الحقیقیة الواقعیة، وأما فی المرکبات الاعتباریة، سواء أکانت شرعیة أم عرفیة فلا مانع من ذلک(1). هذا،

ولکن قد سبق أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من الطریقة فی وضع المرکبات الاعتباریة أعم من الشرعیة والعرفیة فی نفسه غیر صحیح، لا من جهة ما ذکره المحقق النائینی قدس سره، فلنا دعویان.

الاُولی: أن عدم صحته من جهة ما ذکرناه.

الثانیة: أن عدم صحته لیس من جهة ما ذکره المحقق النائینی قدس سره.

أما الدعوی الاُولی، فلما عرفت موسعاً من أنه لا یمکن أن یکون ما زاد علی المسمی عند وجوده داخلاً فیه بما هو مسمی، لأن الموجود الخارجی لا یعقل أن یکون جزء المفهوم الذهنی، کما لا یمکن أن یکون داخلاً فی مصداقه بما هومصداقه، نعم هو داخل فی الموجود الخارجی بما هو موجود فیه.

وأما الدعوی الثانیة، فلأن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره مبنی علی عدم الفرق بین المرکبات الحقیقیة والمرکبات الاعتباریة، ولکن الفرق بینهما واضح، فإن المرکبات الاعتباریة بما أنها بید معتبرها ومخترعها سعة وضیقاً، فله أن یجعل بعض أجزائها علی البدل، کما أن له أن یجعل الشیء داخلاً فیه عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه، هذا فی مقام الاختراع.

وأما فی مقام الوضع، فلأن الوضع بما أنه علقة بین اللفظ والمعنی فی عالم المفهوم، فلا محالة یکون وضع هذه المرکبات بإزاء المعانی فی عالم المفهوم، وعلیه

ص:163


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 159.

فلایمکن أن یکون الشیء داخلاً فیها عند وجوده وخارجاً عنها عند عدمه، إذلا یعقل أن یکون الشیء الموجود خارجاً جزء المعنی فی عالم المفهوم، وعلی هذا فلابد أن یکون وضعها بإزاء مفاهیم محددة فی ذلک العالم، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری: إن المرکبات الاعتباریة علی نوعین:

النوع الأول: ما یکون متقوماً بأرکان محددة متمثلة فی أجزاء معینة، کالمرکبات الشرعیة من الصلاة ونحوها وبعض المرکبات العرفیة.

النوع الثانی: ما یکون متقوماً بأرکان غیر محددة بأجزاء معینة خارجاً، وذلک کالدار والبستان والکلمة والکلام ونحوها.

أما النوع الأول: فلا یبعد القول بأنه موضوع بإزاء الأرکان بنحو لا بشرط فی مقابل بشرط شیء وبشرط لا، بمعنی أنه لا یؤخذ فی معناه الموضوع له شیء من الخصوصیات الزائدة لا وجوداً ولا عدماً، وعلی هذا فاطلاق أسماء هذا النوع من المرکبات علی جمیع مواردها ومراتبها إطلاق حقیقی بلحاظ أن معناه الموضوع له محفوظ فیها، وأما الخصوصیات الزائدة علیه أعم من الخصوصیات العرضیة أو الأجزاء والشرائط الاُخری، فهی مستفادة من دال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، والدال الآخر قد یکون قرینة حالیة کحال المصلی من الاختیار والاضطرار، وقد یکون مقامیة، وإذا کثر الاستعمال فی الواجدة لبقیة الأجزاء والشرائط بالقرینة، فقد تؤدی إلی تحقق الوضع التعینی والمنبه الشرطی، علی أساس أن القرینة لیست عنصراً ثابتاً فی کل الموارد المستعملة، بل هی تختلف من مورد إلی آخر بینما اللفظ عنصر ثابت فی جمیع مواردالاستعمال، فمن أجل ذلک یحصل الاُنس الذهنی بین ذات اللفظ والمعنی کانت هناک قرینة أم لا، وإذا اطلق لفظ الصلاة حینئذ، کان المتبادر منه صورة الصلاة

ص:164

الواجدة من التکبیرة إلی التسلیمة.

والخلاصة أن أسامی العبادات مستعملة فی معانیها الموضوعة لها فقط - وهی الأرکان - دائماً وفی جمیع الموارد، لا أنها مستعملة فیها مع الأجزاء والشرائط الاُخری، فإن تلک الأجزاء والشرائط مستفادة من دال آخر عند الحاجة وتعلق الغرض بأفهامها، کما هو الحال فی سائر أسماء الأجناس، نعم قد یحصل الوضع التعیّنی لها بإزاء المجموع بعامل کمی کما عرفت.

ثم إن التزام السید الاُستاذ قدس سره بأن مازاد علی المسمی وهو الأرکان داخل فیه عند وجوده وخارج عنه عند عدمه، إنما هو من جهة تخیل أنه لو لم یلتزم بذلک، فلابد من الالتزام بأن استعمال العبادات فی الواجدة لجمیع الأجزاء والشرائط فی کل مرتبة من مراتبها یکون مجازاً ومن باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکل، مع أن الأمر لیس کذلک.

ولکن قد تقدم أنه لا ملازمة بین الأمرین، إذ لا مانع من القول بوضع العبادات للأرکان فقط واستعمالها فیها دائماً، سواء أکان معها أجزاء اخری أم لا، واستفادة تلک الأجزاء عند الحاجة وتعلق الغرض بأفهامها إنما هی بدال آخرمن باب تعدد الدال والمدلول، فإذن لا مانع من الالتزام بوضعها بإزاء الأرکان فحسب.

وأما النوع الثانی وهو الذی متقوم بأرکان غیر محددة بأجزاء معینة، فالظاهرأنه موضوع لمفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحو الابهام مباشرة المنطبق علی تجمع الأرکان وحدها وعلی تجمع المشتمل علیها وعلی الأجزاء والشرائط الاُخری، مثلاً لفظ «کلمة» موضوع بإزاء عنوان مازاد علی حرف، وهذا العنوان کما ینطبق علی الکلمة الثنائیة الحروف کذلک ینطبق علی الکلمة الثلاثیة

ص:165

الحروف وهکذا، ولفظ «کلام» موضوع بإزاء عنوان مازاد علی کلمة، وهذا کماینطبق علی الکلام المرکب من کلمتین ینطبق علی الکلام المرکب من کلمات وهکذا، ولفظ «الدار» موضوع بإزاء مفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحوالابهام بدون التحدید بحد خاص لا کماً ولا کیفاً، وهو یصدق علی القلیل والکثیر والتام والناقص وهکذا.

ودعوی أن ألفاظ العبادات أیضاً موضوعة بإزاء مفهوم منتزع مباشرة من تجمع الأجزاء بنحو الابهام بدون تعیین حدّ له لا کماً ولا کیفاً، وهذا المفهوم یصدق علی الصلاة التامة والناقصة فی کل مرتبة من مراتبها.

مدفوعة بأنها لم توضع بإزاء ذلک المفهوم المنتزع، لعدم کونه متبادراً منها عند الاطلاق کما هو واضح.

الاشکال الثانی: هو أن الأرکان بنفسها مختلفة کماً وکیفاً ولها عرض عریض ومراتب طویلة، فإذن لابد من تصویر جامع ذاتی مشترک بین تلک المراتب لکی یصدق علی القلیل والکثیر والناقص والتام علی نسق واحد، فیعود المحذور، وذلک لأن هذا الجامع الذاتی لا یمکن أن یکون بسیطاً، سواء أکان المرادمن الذاتی، الذاتی فی باب الکلیات أم باب البرهان، وکذلک لا یمکن أن یکون مرکباً علی تفصیل تقدم(1).

ویمکن الجواب عنه بأحد طریقین:

الأول: أن المأخوذ فی المسمی طبیعی الأرکان بعرضها العریض ومراتبها الطویلة، وهو الجامع بین الطهارة المائیة والطهارة الترابیة، وبین رکوع القائم

ص:166


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 61.

ورکوع الجالس وهکذا، فیکون المأخوذ فیه الجامع بین البدل والمبدل بقطع النظر عن حیثیة البدلیة والمبدلیة، فإن الحیثیة غیر مأخوذة فیه، إذ مع أخذحیثیة کل منهما بعین الاعتبار لا یتصور جامع بینهما فیعود الاشکال. وأما تقیید الجامع بین البدلین بحالتی الاختیار والاضطرار، فهو إنما یکون فی مرتبة تعلق الأمر به لا فی مرتبة المسمی، فإن الأمر المتعلق بالصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء والشرائط، مقیدة بالطهارة المائیة فی حال الاختیار والتمکن، وبالطهارة الترابیة فی حال الاضطرار والعجز عن الاُولی، وکذلک الحال بالنسبة إلی الرکوع والسجود.

فالنتیجة أنه لا تقیید للجامع فی مرتبة التسمیة، والتقیید إنما هو فی مرتبة تعلق الأمر به.

ولکن قد یشکل علیه بأن متعلق الأمر هو المسمی، فإذا کان المسمی الجامع کان متعلق الأمر هو الجامع، لا أن متعلقه حصة خاصة منه.

والجواب أن هذا تام علی القول بالصحیح، فإنه علی هذا القول لا یمکن الاختلاف بین المسمی ومتعلق الأمر، والمفروض أن المسمی علی هذا القول هوالجامع بین الأفراد الصحیحة، فإذا کان المسمی ذلک کان هو متعلق الأمر، ولایمکن أن یکون مشتملاً علی خصوصیة زائدة علی المسمی جزءاً أو شرطاً وإلا لزم الخلف، وأما علی القول بالأعم فیختلف متعلق الأمر عن المسمی.

الثانی: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أنه لا مانع من وضع الصلاة للأرکان بعرضها العریض علی سبیل البدل، بأن یکون المقوم للمرکب أحد امور علی نحو البدلیة طولاً، فالطهارة المائیة مقومة للصلاة فی حال الاختیار، والطهارة الترابیة مقومة لها فی حال الاضطرار وفی مرتبة متأخرة، والرکوع من القائم عن قیام

ص:167

مقوم لها فی حال التمکن والاختیار، ومن الجالس عن جلوس مقوم لها فی حال العجز والاضطرار وهکذا، ومثل ذلک لفظ «الحلوی» فإنه موضوع للمرکب المطبوخ من سُکَّر وغیره، وذلک الغیر قد یکون دقیق حنطة وقد یکون دقیق حمص أو ارز أو غیر ذلک، فإن کل واحد منها مقوم له علی سبیل البدل، غایة الأمر أن الفرق بین هذا المثال وما نحن فیه، هو أن المأخوذ فی المرکب فی هذا المثال أحد هذه الاُمور علی نحو البدلیة فی عرض الآخر، بینما المأخوذ فی مسمی العبادات فی المقام أحد الاُمور المذکورة علی نحو البدلیة فی طول الآخر.

والخلاصة: أن وضع أسامی العبادات بإزاء الأرکان علی سبیل البدل، بأن یکون المأخوذ فی المسمی مثلاً رکوع القائم فی حال القیام، وإذا تعذر ذلک رکوع الجالس فی حال الجلوس وهکذا، فبما أنه ممکن، فلا تصل النوبة إلی تصویرجامع مشترک بین مراتب الأرکان ولا حاجة إلیه(1).

ویمکن المناقشة فیه بما ذکرناه آنفاً، من أن هذا التقیید إنما هو فی مرتبه تعلق الأمر بالمسمی لا فی مرتبة التسمیة، حیث إن الظاهر فی هذه المرتبة کما مرملاحظه جامع بین مراتب الأرکان بدون أن تلحظ طولیتها فی هذا المقام کحیثیة البدلیة والمبدلیة، بینما تلحظ هذه الطولیة فی مقام تعلق الأمر بالمسمی.

هذا إضافة إلی أن أخذ أحد امور علی سبیل البدل فی المرکبات الاعتباریة وإن کان ممکناً إلا أنه لیس بعرفی، وعلی هذا فالصحیح فی دفع هذا الاشکال وعلاجه ما ذکرناه لا ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره.

الاشکال الثالث: دعوی القطع بأن الصلاة لم توضع بازاء الأرکان فحسب،

ص:168


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 162.

إذ لو کانت موضوعة لها کذلک لم تصدق علی الصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء والشرائط إذا کانت فاقدة لبعض الأرکان، مع أن صدقها علیه من الواضحات، وهذا یدل علی أن هذه الصلاة لم توضع بإزاء الأرکان فقط، کما أنها لا تصدق علی الأرکان فحسب بدون اقترانها ببقیة الأجزاء أو الشرائط، فإذن لا یدورصدق الصلاة مدار الأرکان وجوداً وعدماً.

وهذا الاشکال ینحل إلی جانب إیجابی، وهو صدق الصلاة بما لها من المعنی علی الفاقدة لبعض الأرکان إذا کانت واجدة لبقیة الأجزاء والشرائط، وإلی جانب سلبی وهو عدم صدقها کذلک علی الأرکان فقط إذا کانت خالیة عن سائر الأجزاء والشرائط جمیعاً.

ولکن کلا الجانبین لا یخلو عن إشکال بل منع، حیث إنه لا منشأ لهذه الدعوی وإنها مبنیة علی المسامحة لدی العرف والمتشرعة، إذ لا شبهة فی أن الصلاة تدور مدار الأرکان وجوداً وعدماً، وبانتفاء واحد منها تنتفی الصلاة، سواء أکانت سائر الأجزاء والشرائط موجودة أم لا، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، قد ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن کل مرکب اعتباری لابد أن یعرف من قبل مخترعه، سواء أکان ذلک المخترع هو الشارع المقدس أم غیره، وحیث إن العبادات کالصلاة ونحوها من مخترعات الشارع من حیث الکمیة والکیفیة، فلابد من أن یعرف حقیقتها التی یدور صدقها مدارها وجوداً وعدماً من قبل الشارع، فإذن لابد من الرجوع إلی النصوص الشرعیة لتعیین حقیقتها وتحدیدها کماً وکیفاً، وقد استفدنا منها أن حقیقة الصلاة التی یدور صدقها مدارها نفیاً وإثباتاً عبارة عن التکبیرة والرکوع والسجود والطهور، وأما بقیة

ص:169

الأجزاء فهی غیر مأخوذة فیها(1) ، فهنا دعویان:

الاُولی: أن بقیة الأجزاء غیر مأخوذة فی المسمی.

الثانیة: أن المأخوذ فی المسمی الأرکان الأربعة.

أما الدعوی الاُولی فیدل علیها حدیث لا تعاد(2) ، فإن مفاده أن الاخلال بغیر الخمسة من الأجزاء والشرائط نسیاناً أو جهلاً إذا کان مرکباً أو بسیطاً شریطة أن یکون معذوراً فیه لا یضر بصحة الصلاة فضلاً عن صدقها مادامت الخمسة موجودة، ومن الواضح أن هذا ناص فی عدم أخذ غیر الخمسة من الأجزاء والشرائط فی المسمی.

ودعوی أن الحدیث علی القول بالصحیح لا یدل علی أن تلک الأجزاء والشرائط غیر مأخوذة فی المسمی، وذلک لأن الصحیحی إنما ینتزع الجامع عمایکون مطابقاً للمأمور به بمقدار دخالته فیه لا أکثر، فإذا کان اعتباره منوطاً بحال دون حال أخذ الجامع مقیداً بذلک الحال، وحینئذ فلا یکون إخلال به فی الحال الاُخری، علی هذا فحیث إن اعتبار الأجزاء والشرائط غیر الخمسة مقید بحال الالتفات والتذکر، فإذن لا إخلال فی حال النسیان وعدم الالتفات، مدفوعة أما أولاً فلأن محل الکلام فی المسألة إنما هو علی القول بالأعم دون الصحیح.

وثانیاً قد تقدم أن تصویر الجامع المرکب علی القول بالصحیح بالنحو المذکور وإن فرض أنه ممکن إلا أن من الواضح عدم وضع لفظ الصلاة بإزائه، لأنه معنی

ص:170


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 161.
2- (2) الوسائل ج 6 ص 91 ح 5 / أبواب القراءة ب 29.

معقد خارج عن الفهم العرفی کما مرّ.

وثالثاً أن لازم ذلک هو أن مسمی الصلاة فی حال الاختیار والالتفات غیرمسماها فی حال النسیان والجهل، وهو مما لا یمکن الالتزام به.

فالنتیجة أنه لا شبهة فی أن الأجزاء والشرائط غیر الخمسة لم تؤخذ فی المسمی، وإنما اخذت فی المأمور به.

وأما الخمسة، فهل یدل الحدیث علی أنها من الأرکان التی یدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجوداً وعدماً؟

والجواب أنه لا یدل علی ذلک، بتقریب أن مفاده فی عقد المستثنی منه یکون إرشاداً إلی أن اعتبار غیر الخمسة من الأجزاء والشرائط مقید بحال الالتفات والتذکر لا مطلقاً، وعلی هذا فلا یکون إخلال بها فی حال النسیان والغفلة حتی تبطل الصلاة به، وفی عقد المستثنی یکون إرشاداً إلی اعتبارالخمسة مطلقاً حکماًوملاکاً وفی جمیع الحالات، فلذلک تبطل الصلاة بالاخلال بها وإن کان نسیاناً.

وبکلمة، إن الموضوع فی عقد المستثنی والمستثنی منه فی الحدیث هو الصلاة، ومفاده الارشاد فی کلا العقدین، وفی العقد الأول إرشاد إلی أن غیر الخمسة من الأجزاء أو الشرائط إنما اعتبرت جزءاً وشرطاً فی حال التذکر والالتفات لامطلقاً أی حتی فی حال النسیان والجهل، وفی العقد الثانی إرشاد إلی أن الشارع اعتبر الخمسة جزءاً وشرطاً مطلقاً وفی جمیع الحالات، فلهذا تبطل الصلاة بالاخلال بها ولو نسیاناً، وعلی هذا فالحدیث الشریف فی مقام بیان الفرق بین الخمسة المستثناة فیه وبین غیرها من الأجزاء والشرائط فی أن الخمسة دخیلة فی الملاک والحکم مطلقاً وفی تمام الحالات، بینما یکون غیرها دخیل فیهما فی حال الالتفات والتذکر فقط لا مطلقاً، ولیس فی مقام بیان أنها من الأرکان المقومة.

ص:171

هذا إضافة إلی إیجاب إعادة الصلاة بالاخلال بالخمسة یدل علی أن حقیقة الصلاة لا تنتفی بالاخلال بها، علی أساس أن کلمة الاعادة تنصّ علی الوجودالثانی للصلاة بعد الفراغ عن وجودها الأول، فلو کانت الخمسة من الأرکان، فلا صلاة عند الاخلال بها، لا أنها وجدت فاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط، فالنتیجة أن حدیث لا تعاد لا یدل علی أن الخمسة من الأرکان بل یدل علی أنهالیست منها.

وأما الدعوی الثانیة فقد ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن صحیحة الحلبی التی تنص علی أن الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الطهور، وثلث منها الرکوع، وثلث منها السجود(1) ، فقد دلت علی حصر الصلاة بهذه الثلاثة وأنها حقیقتها، ولکن لابد من رفع الید عنها من هذه الجهة بما دل من الروایات علی أن التکبیرة أیضاً رکن ومقوم لها، وأما عدم ذکرها فی حدیث لا تعاد، فلعله من جهة أن الدخول فی الصلاة لا یصدق بدونها حتی یصدق علی الاتیان بها الاعادة، لأنها عرفاً وجود ثان للشیء بعد وجوده أولاً، باعتبار أن المستفاد من روایات التکبیرة هو أن الصلاة عمل خاص لا یمکن الدخول فیه بدون الافتتاح بها، فلودخل فیه بدونها نسیاناً أو جهلاً فلا یکون مشمولاً للحدیث، فالنتیجة هی تقیید إطلاق روایة التثلیث بروایات التکبیرة، وعلیه فأرکان الصلاة أربعة: التکبیرة والرکوع والسجود والطهور، وهذه الأرکان هی مسمی الصلاة(2) ، هذا.

والتحقیق یتطلب النظر إلی المسألة فی مقامین:

الأول: النظر إلی روایة التثلیث ومدی دلالتها علی حقیقة الصلاة التی یدور

ص:172


1- (1) الوسائل ج 6 ص 310 ح 1 / أبواب الرکوع ب 9.
2- (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 163.

صدقها مدارها وجوداً وعدماً.

الثانی: النظر إلی روایات التکبیرة ومدی دلالتها علی أنها رکن.

أما المقام الأول فلا شبهة فی أن روایة التثلیث ظاهرة فی بیان حقیقة الصلاة وتکوّنها من الأجزاء الثلاثة، ولکن مع هذا فقد نوقش فیها بوجوه:

الوجه الأول: أن دلالة روایة التثلیث علی رکنیة الثلاثة وإن کانت بالنص ولکن دلالتها علی نفی رکنیة غیرها إنما هی بالاطلاق الناشیء من السکوت فی مقام البیان، ونتیجة ذلک أن دلالتها علی حصر الأرکان بها إنما هی بالاطلاق المذکور، وحیث إن هذا الاطلاق من أضعف مراتب الدلالة، فلذلک لا یصلح أن یعارض روایات التکبیرة التی کانت تدل علی أنها رکن، فإذن لابد من رفع الید عن إطلاقها بها تطبیقاً لقاعدة حمل الظاهر علی الأظهر.

ویمکن المناقشة فیه بأن دلالة روایة التثلیث علی الحصر وإن کانت بالاطلاق الناشیء من السکوت فی مقام البیان، إلا أن روایات التکبیرة بتمام طوائفها کما سوف نشیر إلیها ضعیفة إما دلالةً وسنداً أو دلالة فحسب، ولا یدل شیء منها علی أنها رکن، فلهذا لا تصلح أن تکون مقیدة لاطلاق روایة التثلیث.

قد یقال بأنه لا تنافی بین روایة التثلیث وروایات التکبیرة، بدعوی أن المراد من قوله علیه السلام فی روایة التثلیث (الصلاة ثلاثة أثلاث) إنما هو بعد الدخول فیها بالتکبیرة.

والجواب أولاً أن حمل روایة التثلیث علی ذلک خلاف الظاهر، لأن الظاهرمنها أنها فی مقام بیان حقیقة الصلاة لا أنها فی مقام بیان تثلیثها بعد الدخول فیها بالتکبیر.

ص:173

وثانیاً أن ذلک لا ینسجم مع کون أحد الثلاثة الطهور، فإنه لابد أن یکون مقارناً مع التکبیر، ولا یمکن أن یکون بعده، وإلا لزم کون التکبیر بدون طهور، وهو باطل.

الوجه الثانی: أن حدیث التثلیث لا یکون ظاهراً فی بیان حقیقة الصلاة، فإنه إما أن یکون ظاهراً فی إرادة التثلیث من حیث الأهمیة والثواب أویکون مجملاً.

والجواب: ما مرّ من أنه لا شبهة فی ظهور الحدیث فی إرادة التثلیث من حیث بیان حقیقة الصلاة لا أهمیتها، لوضوح أن قوله علیه السلام: «الصلاة ثلاثة أثلاث» ظاهر فی أن حقیقة الصلاة تنقسم إلی الثلاثة، ولا رابع لها، لأن الصلاة اسم لحقیقتها، وإرادة الأهمیة منها بحاجة إلی قرینة.

الوجه الثالث: أن حدیث التثلیث وإن کان ظاهراً فی بیان حقیقة الصلاة إلا أنه لابد من رفع الید عن هذا الظهور بقرینة قوله علیه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب»(1) وقوله علیه السلام: «لا صلاة لمن لم یقم صلبه»(2) وهکذا، مع أن فاتحة الکتاب لیست رکناً للصلاة، وکذا القیام منتصباً، فإذن هذا التعبیر أو ما شابهه لایدل علی أنه فی مقام بیان حقیقة الصلاة وتکوینها.

والجواب: أنه لا شبهة فی ظهور تلک الروایات فی نفسها فی نفی الحقیقة، ولکن رفعنا الید عن ظهورها فی ذلک لقرائن خارجیة، ولولا تلک القرائن فلامناص من الأخذ به، والمفروض أنه لا قرینة فی المقام، فإذن لا مناص من الأخذبظهور حدیث التثلیث، وهو أن أرکان الصلاة ثلاثة: الرکوع والسجود والطهور، هذا من ناحیة.

ص:174


1- (1) مستدرک الوسائل ج 4 ص 158 ح 5 و 8.
2- (2) ورد هذا المضمون فی الوسائل ج 5 ص 488 ح 1 و 2 / أبواب القیام ب 2.

ومن ناحیة اخری، إن حدیث التثلیث هل یدل علی أن الأرکان الثلاثة هی مسمی الصلاة؟

والجواب أنه لا یدل علی ذلک، فإن مفاده أن حقیقة الصلاة ثلاثة أثلاث، أما أن لفظ «الصلاة» موضوع بإزائها فقط أو الأعم منها ومن غیرها، فهو لا یدل علی شیء منهما وساکت عن ذلک.

وأما المقام الثانی فلأن روایات التکبیر فی نفسها قاصرة عن الدلالة علی رکنیّته للصلاة، وهی علی طوائف ثلاث.

الطائفة الاُولی: هی الروایات التی جاءت تارة بلسان أن افتتاح الصلاة بالتکبیر کروایة ناصح المؤذن(1) ، واُخری بلسان لا تفتتح الصلاة إلا بها کما فی روایة المجالس(2) ، وثالثة بلسان أن لکل شیء أنف، وأنف الصلاة التکبیر کما فی روایة إسماعیل بن مسلم(3) ، وتقریب الاستدلال بها أنها جمیعاً تحکی عن مطلب واحد، وهو أن مبدأ الصلاة التکبیر ولا تنعقد إلا به.

والجواب: أما عن الروایة الاُولی فلأنها وإن دلّت علی أن افتتاح الصلاة بالتکبیر وأنها لا تنعقد بدونه، إلا أن دلالتها علی رکنیة التکبیر ودخالته فی المسمی منوطة بأن تکون فی مقام بیان حقیقة الصلاة وما یعتبر فیها، لا فی مقام بیان ما یعتبر فی مطلوبیّتها شرعاً، ولکن الظاهر منها الثانی دون الأول، فإن مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة وهی صدورها من المولی تقتضی أنها فی مقام الاشارة إلی جزئیة التکبیر للصلاة المأمور بها شرعاً وبیان أنه مبدؤها،

ص:175


1- (1) الوسائل ج 6 ص 10 ح 7 / أبواب تکبیرة الافتتاح ب 1.
2- (2) نفس المصدر 12 ح 12.
3- (3) نفس المصدر 10 ح 6.

وحملها علی أنها فی مقام بیان أنه جزء المسمی ودخیل فیه بحاجة إلی قرینة، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنه لا ظهور لها فی ذلک، إلا أنه لا ظهور لها فی الأول أیضاً، فتصبح الروایة مجملة، بل لو سلمنا ظهورها فی الأول ومع ذلک لا یمکن الأخذ بها من جهة ضعفها سنداً.

وأما الروایة الثانیة فمن المحتمل أن تکون الجملة فیها ناهیة لا خبریة، وهذا الاحتمال یمنع عن الاستدلال بها، هذا إضافة إلی أنها لا تدل علی أکثر من کون التکبیر جزءاً للصلاة، وأما أنه جزء مقوم لها فهی لا تدل علیه، هذا إضافة إلی أنها ضعیفة سنداً.

وأما الروایة الثالثة فهی تدل علی عکس المطلوب، فإن تشبیه التکبیر بالأنف للشیء یدل علی أنه لیس برکن، باعتبار أن أنف الشیء لا یکون رکناً، هذا إضافة إلی أنها ضعیفة سنداً أیضاً.

الطائفة الثانیة: التی جاءت بلسان أن تحریمها التکبیر، فإنها لا تدل علی أکثرمن حرمة الاتیان بمنافیات الصلاة بعد الدخول فیها بالتکبیر، فلا إشعار فیها فضلاً عن الدلالة علی أنه رکن.

الطائفة الثالثة: منها قوله علیه السلام فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام: «التکبیرة الواحدة فی افتتاح الصلاة تجزیء، والثلاث أفضل»(1) ، بدعوی أنه یدل علی أن الصلاة لا تتحقق بدون التکبیرة، فلو دخل المصلی فی القراءة بدون أن یکبر، لا یصدق أنه دخل فی الصلاة.

ولکن یمکن المناقشة فی دلالتها، بتقریب أنها لا تدل علی أکثر من إجزاء

ص:176


1- (1) الوسائل ج 6 ص 10 ح 4.

تکبیرة واحدة فی افتتاح الصلاة والشروع فیها، وکلمة الاجزاء تدل علی أن الصحیحة فی مقام بیان ما یعتبر فی صحة الصلاة لا فی مقام بیان حقیقتها، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنها فی مقام بیان أن تکبیرة واحدة تکفی فی مقابل الأکثر، ولیست فی مقام بیان أنها رکن.

ومنها قوله علیه السلام فی موثقة عمار فی جواب السؤال: «عن رجل سها خلف الامام فلم یفتتح الصلاة، یعید الصلاة، ولا صلاة بغیر افتتاح»(1) ، بدعوی أن قوله علیه السلام لا صلاة بغیر افتتاح، ظاهر فی أن التکبیرة معتبرة فی حقیقة الصلاة، ولهذا نفی الصلاة بدونها.

ولکن بإمکاننا المناقشة فی دلالتها علی ذلک، فإنا لو کنا نحن وقوله علیه السلام: «لاصلاة بغیر افتتاح»، فلا مناص من الالتزام بظهوره فی نفی حقیقة الصلاة بدون التکبیرة، ولکن بما أنه مسبوق بقوله علیه السلام: «یعید الصلاة» فهو یصلح أن یکون مانعاً عن ظهوره فی ذلک، علی أساس أن وجوب الاعادة ظاهر فی الوجود الثانی للصلاة بعد الفراغ عن وجودها الأول، ومعنی هذا أن التکبیرة غیر دخیلة فی حقیقة الصلاة وأنها لا تنتفی بانتفائها، ولکن حیث إنها کانت فاسدة من جهة الاخلال بها، فتجب إعادتها مرة اخری.

وبکلمة، إن ظهور قوله علیه السلام: «یعید الصلاة» فی أن التکبیرة غیر دخیلة فی حقیقة الصلاة وإنما هی دخیلة فی صحتها مطلقاً وفی تمام الحالات یصلح أن یکون مانعاً عن ظهور قوله علیه السلام: «لا صلاة بغیر افتتاح» فی نفی الحقیقة، باعتبار

ص:177


1- (1) الوسائل ج 6 ص 14 ح 7 / أبواب تکبیرة الاحرام ب 2.

أنه من جهة مسبوقیته بالجملة المتقدمة، ظاهر فی أن الصلاة المنفیّة فیه هو نفس الصلاة التی امر بإعادتها فی الجملة السابقة.

ومع الاغماض عن ذلک فتقع المعارضة بینهما، فإن جملة «یعید الصلاة» ظاهرة فی الارشاد إلی فساد الصلاة المأتی بها فی الخارج بدون التکبیرة، ومن المعلوم أن الصحة والفساد صفتان للصلاة الموجودة فی الخارج، فإنها إن کانت مطابقة للصلاة المأمور بها اتصفت بالصحة، وإلا فبالفساد، أو فقل: إن کلمة الاعادة بنفسها تدل علی أن وجودها الأول مفروغ عنه فی الخارج، وحیث إنه لا یجزیء فی مقام الامتثال لعدم مطابقته للمأمور به، فلذلک امر بالاعادة مرة اخری، وجملة لا صلاة بغیر افتتاح، ظاهرة فی نفی حقیقة الصلاة بدون الافتتاح، ولا یمکن الجمع بینهما عرفاً بتطبیق أحد عناصر الجمع العرفی، لأن المقام لیس من موارده، فإذن لا محالة تکون بین الظهورین معارضة، فیسقطان معاً من جهة المعارضة، فتصبح کلتا الجملتین مجملة حکماً، فلا یمکن العمل بشیء منهما.

فالنتیجة فی نهایة الشوط أنه لا دلیل علی أن تکبیرة الافتتاح رکن مقوم لحقیقة الصلاة، وعلی هذا فلا مقید لروایة التثلیث.

وخلاصة ما حققناه لحد الآن هو أن المسمی لأسامی العبادات کالصلاة ونحوها، الأرکان التی تدور العبادات مدارها وجوداً وعدماً، وحیث إن الأرکان محفوظة بین جمیع أفرادها ومراتبها الطولیة من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا، فتکون کالمقومات الذاتیة من الجنس والفصل فی المرکبات الحقیقة التی هی محفوظة بین أفرادها بقطع النظر عن خصوصیاتها العرضیة، وعلی هذا فکما أن إطلاق الانسان علی کل فرد من أفراده إطلاق حقیقی، باعتبار أنه مستعمل فی معناه الموضوع له - وهو الجامع الذاتی - والخصوصیة مستفادة من دال آخر من

ص:178

باب تعدد الدال والمدلول، فکذلک إطلاق الصلاة علی کل فرد من أفرادها إطلاق حقیقی، لأنها مستعملة فی معناها الموضوع له وهو الأرکان، والخصوصیات الزائدة علیها من الأجزاء والشرائط مستفادة من دال آخر بتعدد الدال والمدلول.

وقد یقال کما قیل إن لفظ الصلاة موضوع بإزاء معظم الأجزاء ویدور صدقه مداره وجوداً وعدماً(1).

ولکن هذا القول لا یرجع إلی معنی محصل، وذلک لأن المراد من وضع لفظ الصلاة بإزاء معظم الأجزاء لیس وضعه بإزاء مفهومه بالحمل الأولی، بداهة أنه لیس معنی الصلاة ومفهومها، وإلا لزم أن یکون لفظ الصلاة مرادفاً للفظ معظم الأجزاء، بل المراد وضعه بإزاء واقع معظم الأجزاء الذی هو معظم بالحمل الشائع، وعلی هذا فإن ارید بمعظم الأجزاء خصوص الأرکان، فقد تقدم الکلام فیه، وإن ارید به الأرکان منضمة إلی جملة من الأجزاء أو الشرائط الاُخری، فیرد علیه أن لازم ذلک تبادل القیود الزائدة علی الأرکان المأخوذة فی المسمی، بأن یکون شیء واحد داخلاً فیه تارة وخارجاً عنه آخری، بل مردداً بین أن یکون هو الخارج أو غیره عند اجتماع تمام الأجزاء والشرائط، ولا سیما بالنسبة إلی ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب اختلاف حالات المکلفین من السفر والحضر والاختیار والاضطرار ونحو ذلک، کما أنها مختلفة فی أنفسهاباختلاف أصنافها من حیث الکمیة والکیفیة، وعلیه فالأجزاء الزائدة علی الأرکان بما أنها تختلف کماً وکیفاً من الناحیتین المذکورتین، فیلزم من ذلک دخول شیء واحد فی المسمی مرة وخروجه عنه اخری، بل عند اجتماع تمام

ص:179


1- (1) نقله فی کفایة الاصول ص 26.

الأجزاء لا تعیین ولا تمییز بین ما هو الداخل فیه وما هو الخارج عنه، باعتبار أن نسبة کل جزء إلی المسمی علی حد سواء، فإذن کون هذا الجزء داخلاً فیه دون آخر ترجیح من دون مرجح.

وقد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ قدس سره بأن المسمی وهو معظم الأجزاء قد اعتبر لا بشرط بالاضافة إلی الزائدة، ونتیجة ذلک أن قوام المسمی بواقع معظم الأجزاء، وأما الزائد علیه فهو داخل فیه عند وجوده، وخارج عنه عند عدمه، ولدی اجتماع جمیع الأجزاء والشرائط فالجیمع داخل فی المسمی، لا أنه لاتعین للداخل(1).

ولنأخذ بالنقد علیه.

أما أولاً فلأن واقع معظم الأجزاء یختلف کماً وکیفاً باختلاف حالات المکلفین، کما أنه یختلف باختلاف نفس العبادات، لأن معظم الأجزاء فی صلاة الصبح غیر معظم الأجزاء فی صلاة المغرب مثلاً وهکذا، فإذن لابد من تصویرجامع بین أفراد معظم الأجزاء المختلفة، ولهذا لا یقاس معظم الأجزاء بالأرکان، فإن الأرکان فی الواقع متعینة ومحددة فی جمیع الحالات وبالنسبة إلی تمام أصناف الصلاة، بینما لا یمکن تحدید معظم الأجزاء کماً وکیفاً.

وثانیاً إن معنی اللا بشرط هو الاطلاق مقابل التقیید، فإذا اعتبر المسمی لابشرط، فمعناه أنه اعتبره مطلقاً مقابل تقییده بقید الذی هو معنی بشرط الشیء، والاطلاق إما بمعنی عدم التقیید أو بمعنی رفض القیود، وعلی کلا المعنیین أی سواء أکان بالمعنی الأول کما هو الصحیح أم بالمعنی الثانی کما هو مختاره قدس سره،

ص:180


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 167.

فلازمه خروج الزائد عن المسمی وجوداً وعدماً، فلو کان الزائد داخلاً فیه عند وجوده فلازمه تقیید المسمی به، وهو خلف فرض اعتباره لا بشرط، وعلی الجملة فعلی مسلکه قدس سره من أن الاطلاق هو رفض القیود لا ینسجم مع افتراض کون الزائد داخلاً فی المسمی عند وجوده، فإنه فی طرف المقابل له.

هذا إضافة إلی أن الوضع بإزاء معنی علی سبیل البدل غیر عرفی.

وإن ارید به أعم من أن یکون مشتملاً علی جمیع الأرکان أو علی بعضها، فیرد علیه أن معظم أجزاء الصلاة مثلاً إذا لم یکن مشتملاً علی تمام أرکانها، فلایکون صلاة کما مرّ.

فالنتیجة أن معظم الأجزاء لا یصلح أن یکون مسمی لاسامی العبادات کالصلاة ونحوها.

أدلة القول بالأعم

قد استدل علی ذلک بوجوه:

الوجه الأول: الأخبار البیانیة، وهی وردت فی تحدید أجزاء الصلاة وقیودها المقومة، وقد قرب الاستدلال بها السید الاُستاذ قدس سره ببیان أن حدیث التثلیث یدل علی أن الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الطهور وثلث منها الرکوع وثلث منها السجود، ومقتضی هذا الحدیث حصر حقیقة الصلاة بالمؤلفة من هذه الأجزاء الثلاثة، ولکن لابد من رفع الید عنه من هذه الجهة بما دل من الروایات علی أن التکبیر أیضاً رکن، ونتیجة ذلک أن أرکان الصلاة أربعة: التکبیر والرکوع والسجود والطهور، وأما الأجزاء الاُخری غیرها، فلا تکون

ص:181

مقومة للمسمی(1) ، هذا.

وفیه ما تقدم موسعاً من أن روایات التکبیر بتمام طوائفها قاصرة عن الدلالة علی أنه رکن من أرکان الصلاة، هذا مضافاً إلی قصور جملة منها سنداً أیضاً.

وأما حدیث «لا تعاد» فقد مرّ أنه لا یدل علی أن الخمسة من الأرکان، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری فقد تقدم أن حدیث التثلیث وإن دل علی أن حقیقة الصلاة ثلاثة أثلاث إلا أنه لا یدل علی أنها مسمی الصلاة والموضوع له لها.

الوجه الثانی: التبادر، بتقریب أن المتبادر فی الذهن من أسماء العبادات کالصلاة مثلاً عند إطلاقها هو المعنی الأعم.

وقد یورد علیه بأن المتبادر والمنسبق منها عند الاطلاق فی زماننا هذا وإن کان هو المعنی الأعم إلا أنه لا یکشف عن وضعها بإزائه فی زمن الشارع، لاحتمال أنها کانت موضوعة بإزاء الصحیح فی ذلک الزمن ولکنها نقلت عنه إلی المعنی الأعم من جهة کثرة استعمالها فیه عند المتشرعة، ولا دلیل علی أصالة عدم النقل، فإن هذه الأصالة إنما تکون حجة من باب الظهور، ولا ظهور لها فی عدم النقل(2).

والجواب: أن تبادر المعنی الأعم وانسباقه عند المتشرعة من إطلاقات الکتاب والسنة فعلاً، کاشف إناً عن وصوله إلیهم کذلک یداً بید وطبقة بعد طبقة من زمن الشارع، علی أساس أن المتشرعة تتبع الشارع فی استعمالات ألفاظ

ص:182


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 163.
2- (2) أورده فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 206.

العبادات فی الکتاب والسنة، فإذا فرضنا أن ألفاظ العبادات موضوعة للأعم فی زمن الشارع بالوضع التعیینی أو التعیّنی علی تفصیل تقدم ومستعملة فی النصوص التشریعیة فیه، فلا یمکن مخالفة المتشرعة للشارع فی ذلک، فإن المتشرعة الموجودین فی زمان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهارعلیهم السلام یستعملون تلک الألفاظ فی الکتاب والسنة فی نفس المعنی الذی استعملها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فیه والأئمة الأطهارعلیهم السلام، وکذلک الحال فی الطبقة بعد هذه الطبقة، لأن کل طبقة تتبع فی ذلک الطبقة المتقدمة، باعتبار أنهم أقرب إلی زمان المعصومین علیهم السلام وهکذا، واحتمال النقل من المتشرعة بعید جداً وغیر محتمل عادة.

وأما التوسع فی الاطلاقات عند المتشرعة، بأن تستعمل ألفاظ العبادات فی الأعم مع أنها موضوعة للصحیح، فهو لا یقتضی النقل، إذ یمکن إشباع هذا التوسع بالاستعمال المجازی، حیث إن باب المجاز واسع، فلا تصل النوبة إلی النقل.

وبکلمة، إن التوسع فی الاطلاقات والاستعمالات إنما هو من جهة توسع الحاجة إلیها، ومن الواضح أنه یمکن إشباع هذه الحاجة بالاستعمال والاطلاق المجازی، ولا ضرورة للنقل والوضع الجدید بل لا مبرر له.

ولکن قد یتوهم أن توسع الاطلاق والاستعمال المجازی من جهة توسع الحاجة قد یؤدی فی نهایة المطاف إلی تحقق الوضع التعیّنی، بتقریب أن ألفاظ العبادات لو کانت موضوعة بإزاء المعنی الصحیح فی زمان الشارع ولکن توسع الحاجة تطلب الاستعمال فی الأعم مجازاً بواسطة القرینة، فإذا کثر هذه الاستعمال وتوسع بمرور الأیام والأزمان عند المتشرعة من جهة توسع الحاجة وأدّی فی نهایة الشوط إلی حصول العلاقة بین ذاتها وبین المعنی المجازی، بحیث ینتقل

ص:183

الذهن إلیه عند إطلاقها مجردة عن القرینة وسماعها، فقد تحقق الوضع التعینی للأعم، فإذن یکون المتبادر فعلاً من ألفاظ العبادات کالصلاة ونحوها فی الکتاب والسنة عند المتشرعة وإن کان هو المعنی الأعم، ولکن لا یمکن أن یستکشف من ذلک وضعها للأعم فی زمن الشارع، إذ کما یمکن ذلک أن یکون منشؤه حصول الوضع التعیّنی من کثرة الاستعمال بین المتشرعة رغم أنها موضوعة للصحیح فی زمن الشارع، ولا معین للاحتمال الأول.

والجواب أن هذا التوهم لا أساس له، لأنه مبنی علی أن توسع الحاجة إلی استعمال ألفاظ العبادات فی الأعم کان یصل من الکثرة بدرجة یصبح استعمالها فی الصحیح نادراً، ولکن الأمر لیس کذلک جزماً، فإنها لو کانت موضوعة بإزاء الصحیح کانت مستعملة فیه عند المتشرعة غالباً، والحاجة إلی استعمالها فی الأعم وإن کانت تتفق فی غیر مورد، إلا أن توسعها لیس بدرجة یتطلب کثرة الاستعمال فیه بنحو توجب حصول العلاقة بینه وبین ألفاظ العبادات تعیّناً.

الوجه الثالث: قوله علیه السلام: «دعی الصلاة أیام أقرائک»(1) بتقریب أن صلاة الحائض بما أنها فاقدة للطهارة من الحدث فهی فاسدة، ومع ذلک اطلق علیها لفظ «الصلاة»، وظاهر الاطلاق أنه حقیقی، إذ لو کان مجازیاً کان بحاجة إلی قرینة.

ویرد علیه أولاً: أن الاطلاق أعم من الحقیقة ولا یدل علیها.

وثانیاً: أن هذا النهی لیس نهیاً حقیقیاً، بل هو نهی إرشادی، ویکون مفاده الارشاد إلی مانعیة حدث الحیض عن الصلاة، ولهذا تکون حرمتها علیها حرمة

ص:184


1- (1) الوسائل ج 2 ص 287 ح 2 / أبواب الحیض ب 7.

تشریعیة لا ذاتیة، وعلیه فبطبیعة الحال یکون المراد من الصلاة المنهی عنها هوخصوص الصلاة الصحیحة، بقرینة أن حدث الحیض مانع عنها دون الفاسدة.

أو فقل: إن النهی فی المقام إنما هو عن الصلاة التی کانت الحائض موظفة بالأتیان بها بقطع النظر عن طروء الحیض علیها لا الصلاة التی لم تکن موظفة بها.

قد یقال کما قیل: إن حمل النهی فی الروایة علی الارشاد إلی عدم قدرة الحائض علی الصلاة عن طهارة فی حال الحیض لغو، لفرض عدم قدرة الحائض علیها فی هذه الحالة(1).

والجواب: أن مفاد الجملة الانشائیة الناهیة فی الروایة هو الارشاد إلی أن الشارع جعل حدث الحیض مانعاً عن الصلاة، فتکون الروایة فی مقام جعل المانعیة لا فی مقام النهی عن الصلاة، کما هو الحال فی سائر النواهی فی باب العبادات، کالنهی عن الصلاة فی الحریر والذهب والمیتة وغیر ذلک، فإنه ظاهرفی الارشاد إلی مانعیة هذه الاُمور عن الصلاة، ولا یمکن حمله علی النهی المولوی، ومن هنا قلنا إن ظهور النهی فی المولویة ینقلب فی باب العبادات کالصلاة ونحوها إلی ظهوره فی الارشاد إلی المانعیة، کما أن ظهور الأمر فی هذا الباب ینقلب عن المولویة إلی ظهوره فی الارشاد إلی الجزئیة أو الشرطیة، فإذن لا یکون نهی الحائض عن الصلاة فی حال الحیض نهیاً تکلیفیاً لکی یستلزم التکلیف بالمحال.

الوجه الرابع: صحة تقسیم أسامی العبادات بما لها من المعانی إلی الصحیحة والفاسدة، وهی تدل علی صحة إطلاقها علی المقسم وهو الجامع بینهما، وظاهر

ص:185


1- (1) نهایة الدرایة ج 1 ص 129.

الاطلاق هو الاطلاق الحقیقی.

والجواب: أنها لا تدل علی أکثر من صحة استعمالها فی الأعم، وهی أعم من الحقیقة ولا تدل علیها.

الوجه الخامس: ما ورد فی الروایات الکثیرة من التعبیر بالاعادة فی موارد الاخلال بالصلاة جزءاً أو شرطاً، بتقریب أن کلمة «الاعادة» تدل بالالتزام علی وجود الصلاة المفروغ عنها فی الخارج، وحیث إنها کانت فاسدة فتجب إعادتها مرة ثانیة، وهذا لا یمکن إلا علی القول بالأعم.

والجواب: أن هذه الروایات لا تدل علی أکثر من صحة إطلاق الصلاة علی الصلاة الفاسدة، والمفروض أنها أعم من الحقیقة.

الوجه السادس: ما تقدم فی مسألة الحقیقة الشرعیة من أن فیهاأربعة احتمالات:

الأول: أن تکون أسامی العبادات حقائق لغویة وموضوعة بإزاء هذه المعانی قبل الاسلام.

الثانی: أن تکون حقائق شرعیة بالوضع التعیّنی.

الثالث: أن تکون حقائق شرعیة بالوضع التعیینی الاستعمالی.

الرابع: أن تکون حقائق متشرعیة لا شرعیة.

أما علی الاحتمال الأول، فلا شبهة فی أنها موضوعة للأعم، وهوالجامع بین العبادات ما قبل الاسلام والعبادات ما بعده، علی أساس أن الشارع قد اعتبرفیها من الأجزاءالقیود غیرالمقومة التی لم تکن معتبرة فیها قبل الاسلام کما تقدم.

ص:186

وأما علی الاحتمال الثانی، فالظاهر أنها موضوعة بالوضع التعیّنی للأعم أیضاً، وذلک لما تقدم من أن کثرة استعمالها فی المعانی الشرعیة فی لسان الشارع والمتشرعة من الصحابة والتابعین تکون بدرجة تؤدی إلی الوضع التعیّنی لها واتصافها بالمنبه الشرطی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، الظاهر أن هذا الاستعمال من الشارع فی نصوص الکتاب والسنة کان فی الأعم وتکشف عن ذلک شیوع الاستعمال فی الأعم عند المتشرعة، إذ احتمال أنهم قاموا بوضعها للأعم تعییناً أو تعیّناً بعید جداً، فإن الظاهر أنهم تابعون لنصوص الکتاب والسنة فی الاستعمال، فلوکانت مستعملة فی تلک النصوص فی الصحیح، فمن المستبعد جداً أن یکون استعمال المتشرعة علی خلافها، واحتمال أن توسع الحاجة قد دعاهم إلی الاستعمال فی الأعم رغم أنها کانت مستعملة فی زمن الشارع فی الصحیح ضعیف جداً، إذ لو کان الأمرکذلک لنبهوا علی هذه المخالفة، مع أنه کان بإمکانهم إشباع هذه الحاجة بالاستعمال المجازی، هذا إضافة إلی ما تقدم آنفاً من أن الحاجة إلی الاستعمال فی الأعم لیست بدرجة تتطلب کثرة الاستعمال فیه بنحو توجب الوضع التعیّنی.

وأما علی الاحتمال الثالث فلیس لنا طریق إلی إحراز الوضع التعیینی الاستعمالی من قبل الشارع للصحیح، وأما للأعم فیمکن ذلک بوجهین:

الأول: أنه لا شبهة فی أن المتشرعة کانوا یستعملون أسامی العبادات فی الأعم بدون عنایة، بمعنی أن استعمالها فی الصحیح کاستعمالها فی الفاسد علی حدسواء، وهذا یکشف عن الوضع للأعم وأن استعمالها فی کل من الصحیح والفاسدإنما هو باعتبار مصداقیته له، إذ احتمال تخلف المتشرعة عما صنعه الشارع من الوضع غیر محتمل عادة، فإنهم بصفة کونهم تابعین له فی العبادات

ص:187

والمعاملات، فلا یمکن مخالفتهم معه فی ذلک، وفی حالة توسع الحاجة، فبإمکانهم إشباعها بالاستعمال المجازی.

هذا إضافة إلی أن طریقة العقلاء فی المرکبات الاعتباریة هی الوضع للأعم من التام والناقص.

الثانی: أن تدریجیة بیان أجزاء العبادات کالصلاة ونحوها تقتضی الوضع للأعم، بمعنی أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعنی الجامع القابل للأنطباق علی ماهو موجود فی زمن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم من الأجزاء والشرائط وعلی ما زاد علیه فی المستقبل علی حد سواء، لأن الوضع بإزاء مفهوم الصحیح الذی هو صحیح بالحمل الأولی غیر محتمل، وأما الوضع بإزاء واقع الصحیح الذی هو صحیح بالحمل الشائع وهو الأجزاء والشرائط التی لم تعرف بعد ومبهمة، فلا ینسجم مع الغرض من الوضع وهو التفهیم والتفهم، وأما الوضع بإزاء خصوص المبین من الأجزاء والشرائط فعلاً، فهو لا یمکن أن یظل محفوظاً فی المستقبل، فلا محالة یتغیر کماً وکیفیاً ببیان الأجزاء والشرائط الاُخری فیما بعد.

ولکن لا یخفی أن هذا الوجه لا یصلح لترجیح الوضع للأعم علی الوضع للصحیح، لأن الوضع سواء أکان للأعم أو الصحیح، فلابد أن یکون للجامع المنطبق علی الأجزاء والشرائط الموجودتین فی صدر الاسلام فقط وعلی المشتملتین علی ما زاد علیهما فی المستقبل علی السواء، غایة الأمر أن الصحیحی یدعی أن الجامع المذکور ینطبق علی التجمع من الأجزاء والشرائط الموجودتین فی صدر الاسلام الواجد للحیثیة المطلوبة منه فعلاً وعلی المشتمل علی ما زاد علیهما فی الآتی علی حد سواء، والاعمی یدعی أن الجامع المزبور ینطبق علی التجمع المذکور الموجود فی صدر الاسلام الواجد للحیثیة المطلوبة منه اقتضاء

ص:188

وعلی المشتمل علی ما زاد فی المستقبل علی حد سواء، فالنتیجة أن هذا الوجه لایصلح أن یکون دلیلاً علی الوضع للأعم فالعمدة هی الوجه الأول.

وأما علی الاحتمال الرابع، فالظاهر أنه لا شبهة فی حصول الوضع التعیّنی للعبادات فی الأعم من کثرة استعمال ألفاظها فیه عند المتشرعة، وحیث إن هذا الوضع حاصل من کثرة الاستعمال لدیهم فالحقیقة متشرعیة، والدلیل علی ذلک أن إطلاق لفظ «الصلاة» علی الصلاة الفاسدة کإطلاقها علی الصلاة الصحیحة، علی حد سواء، وهذا قرینة علی الوضع للأعم وأن إطلاق لفظ «الصلاة» علی کل منهما إنما هو باعتبار أنه مصداق له، إذ لو کان موضوعاً لخصوص الصحیحة کان إطلاقه علی الفاسدة مجازاً، مع أن الأمر لیس کذلک، ولهذا لا فرق بین الاطلاقین فی عدم الاحتیاج إلی عنایة زائدة وقرینة صارفة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن القول بالوضع للأعم هو الصحیح دون غیره.

أدلة القول بالوضع للصحیح

الأول: التمسک بالنصوص الواردة فی الکتاب والسنة.

أما فی الکتاب فبقوله تعالی:«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ»1 ، وأما فی السنة فبروایات کثیرة منها قوله علیه السلام: «الصلاة قربان کل تقی»(1)

ص:189


1- (2) الوسائل ج 4 ص 43 ح 1,44 و 2 / ابواب أعداد الفرائض ب 12.

ومنها: «الصلاة عماد الدین»(1) ومنها: «الصلاة معراج المؤمن»(2).

وتقریب الاستدلال بها أن هذه النصوص تدل علی أن «الصلاة» اسم للعبادة التی تکون لها هذه الآثار، وأما إذا لم تکن لها تلک الآثار، فهی لیست بصلاة حقیقة، لا أنها صلاة فاسدة.

والجواب: أن هذه النصوص وإن کانت تدل علی أن الصلاة التی لها هذه الآثار صلاة صحیحة إلا أنها لا تدل علی أن ما لا یترتب علیه هذه الآثار، فهولیس بصلاة، لأن خروج الصلاة الفاسدة عن هذه النصوص کما یحتمل أن یکون بالتخصیص یحتمل أن یکون بالتخصص، فعلی الاحتمال الأول فهی لا تدل علی الوضع للصحیح، بل تدل علی العکس، وعلی الاحتمال الثانی فتدل علی الوضع للصحیح، وحیث إنه لا ظهور لها فی نفسها لا فی الاحتمال الأول ولا فی الاحتمال الثانی، فلا تدل علی أن لفظ «الصلاة» موضوع بإزاء الصحیح.

أدلة القول بالوضع للصحیح

وبکلمة، إن غایة ما فی هذه النصوص هو استعمال لفظ «الصلاة» فی الصحیحة، وهو أعم من الحقیقة، ولا یدل علیها إلا علی القول بحجیة أصالة الحقیقة من باب التعبد، ولا دلیل علیه، فإذن الاحتمالات الموجودة فیها ثلاثة:

الأول: أن یکون هذا الاطلاق حقیقیاً.

الثانی: أن یکون مجازیاً.

الثالث: أن یکون من باب التطبیق بتعدد الدال والمدلول، بأن تکون الصلاة مستعملة فی الأعم، وتطبیقها علی الصحیحة یکون بدال آخر.

ص:190


1- (1) الوسائل ج 2 ص 373 ح 5 / أبواب الاستحاضة ب 1 و ج 4 ص 27 ح 12 أبواب أعداد الفرائض ب 7.
2- (2) محاسن البرقی - کتاب ثواب الأعمال ص 44 ح 60.

فإرادة الاحتمال الأول بحاجة إلی قرینة، ولا قرینة فی البین، فالنتیجة أنه لایمکن الاستدلال بالنصوص المذکورة علی القول بالصحیح.

الثانی: أن المتبادر والمنسبق من لفظ «الصلاة» عند إطلاقه هوالصلاة الصحیحة دون الأعم، فإذا قیل «فلان صلی» یفهم منه أنه أتی بصلاة صحیحة وهکذا.

والجواب: أن هذا التبادر وإن کان موجوداً إلا أنه غیر مستند إلی اللفظ حتی یکون علامة علی الوضع، بل هو مستند إلی قرینة حالیة وهی أن حال کل مکلف فی مقام الامتثال تتطلب الاتیان بما هو وظیفته الشرعیة بشکل مبریء للذمة، وعلی هذا فالمتبادر من مثل قولک «فلان صلی» أو «یصلی» أو مثل قولنا «صلیت» أو «صلی» وإن کان الصلاة الصحیحة إلا أنه لیس من ذات اللفظ، بل بضمیمة القرینة الخارجیة وهی حال المکلف فی مقام الامتثال وإبراء الذمة.

الثالث: أن الطریقة العقلائیة للمخترعین فی المرکبات الاعتباریة هی وضعها للصحیح دون الأعم، وحیث إنه لم یظهر من الشارع فی المرکبات الشرعیة طریق آخر للوضع فیه، فلامحالة یتبع هذه الطریقة.

والجواب أولاً: الظاهر أن الطریقة المتبعة عند العقلاء للمخترعین فی المرکبات الاختراعیة الاعتباریة هی الوضع للأعم إلا فی المرکبات التی تکون أجزاؤها محددة من طرفی الزیادة والنقیصة کمراتب الأعداد أو ما شاکلها، وأما المرکبات التی لا تکون أجزاؤها محددة من طرف الزیادة، فهی موضوعة للأعم بأصنافها المختلفة.

وثانیاً: أن الطریقة المتبعة إن کانت ارتکازیة عند العرف والعقلاء وناشئة من

ص:191

أعماق نفوسهم وموافقة للفطرة والجبلة، فحینئذ إذا لم یصدر من الشارع ردع عنها، کان ذلک کاشفاً عن إمضائه لها وموافقته بها، وأما إذا لم تکن کذلک کما هوالحال فی المقام، فإن مجرد أن طریقة المخترعین عند العقلاء هو وضع أسامی المرکبات للصحیحة، فلا دلیل علی حجیتها ولا تکشف عن موافقة الشارع لها.

فالنتیجة أن مجرد ثبوت هذه الطریقة عند العقلاء لا یکشف عن اتباع الشارع لها فی وضع أسماء العبادات.

الرابع: ما دل علی نفی الصلاة عن الفاقد کقوله علیه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب»(1) أو ما شاکله، فإنه یدل علی الوضع للصحیح، وإلا فلا معنی لنفی الصلاة عن الفاقدة لفاتحة الکتاب.

والجواب: أن لسان الحدیث هو الارشاد إلی جزئیة فاتحة الکتاب وبیان اعتبارها فیما هو وظیفة المکلف من الصلاة فی مقام الأداء والامتثال لا فی مقام التسمیة، أو فقل: إن محتملات هذا الحدیث ثلاثة:

الأول: أن یکون الخبر المقدر لکلمة «لا» فیه «حقیقة».

الثانی: أن یکون «صحیحة».

الثالث: أی یکون «واجبة».

وهذه الجملة فی نفسها ظاهرة فی الاحتمال الأول، ویکون مفادها علی هذا الاحتمال رکنیة فاتحة الکتاب للصلاة وانتفاؤها، ولکن لابد من رفع الید عن هذا الظهور بروایات اخری التی تدل علی أن فاتحة الکتاب لیست برکن، منهاحدیث «لا تعاد»، وعلیه فتکون الجملة فی مقام بیان جزئیة فاتحة الکتاب

ص:192


1- (1) مستدرک الوسائل ج 4 ص 158 ح 5 و 8.

للصلاة المطلوبة من المکلف، فإذن لا محالة یکون الخبر المقدر فی تلک الجملة «صحیحة» بلحاظ أنها فی مقام بیان جزئیة الفاتحة للصلاة التی تکون وظیفة المکلف الاتیان بها فی مقام الامتثال لا فی مقام بیان المسمی لهما.

إلی هنا قد تبین أنه لا دلیل علی القول بأن أسامی العبادات موضوعة للصحیحة.

ثمرة النزاع الصحیحی والأعمی

ثمرة النزاع بین القولین

اشارة

المهم ثمرتان:

الاُولی: أن الأعمی یتمسک بأصالة البراءة فی موارد الشک فی الأجزاء والشرائط، والصحیحی یتمسک بقاعدة الاشتغال والاحتیاط فی تلک الموارد.

وهذه الثمرة ترتکز علی رکیزتین:

الاُولی: أن یکون المسمی جامعاً بسیطاً علی القول بالصحیح، وجامعاً مرکباً علی القول بالأعم.

الثانیة: أن تکون نسبة الجامع بسیطاً إلی الأفراد الصحیحة نسبة المسبب إلی السبب والمعلول إلی العلة، لا نسبة الطبیعی إلی أفراده ومصادیقه.

فإذا تمت هاتان الرکیزتان تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة، أما علی القول بالأعم، فلأن المسألة حینئذ تصبح من إحدی صغریات کبری مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، وقد ذکرنا هناک أن الصحیح فی تلک المسألة هو الرجوع إلی أصالة البراءة، لانحلال العلم الاجمالی فیها إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی فی التقیید الزائد، والمرجع فیه البراءة علی تفصیل مذکور هناک، وأما علی

ص:193

القول بالصحیح، فالشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر یرجع إلی الشک فی المحصل للواجب، وهو الجامع البسیط، والمرجع فیه قاعدة الاشتغال والاحتیاط، فإذا شک فی جزئیة السورة للصلاة مثلاً، فالشک إنما فی جزئیتها للمحصل، حیث إن الصلاة المرکبة من الأجزاء الخارجیة المقیدة بقیود کذلک، محصلة للمأمور به الذی هو أمر بسیط ومسبب عنها، لا أنها نفسها مأمور بها، فإذا کان الشک فی المحصل، فالمرجع فیه قاعدة الاشتغال.

ثمرة النزاع الصحیحی والأعمی

ولکن کلتا الرکیزتین خاطئة ولا واقع موضوعی لها، أما الرکیزة الاُولی فیرد علیها ما تقدم من أنه لا یعقل وجود جامع ذاتی بسیط بین الأفراد الصحیحة، لامن الذاتی باب الکلیات ولا من باب البرهان.

وأما الرکیزة الثانیة، فعلی تقدیر تسلیم وجود جامع ذاتی بسیط بین الأفراد الصحیحة، إلا أن نسبته إلی الأفراد فی الخارج لیست نسبة المسبب إلی السبب والمعلول إلی العلة، بل نسبة الطبیعی إلی أفراده، وعلی هذا فالشک فی جزیئة شیء أو شرطیة آخر لا یرجع إلی الشک فی المحصل لیکون المرجع فیه قاعدة الاشتغال، علی أساس أن الطبیعی عین الفرد فی الخارج، فالشک فی جزئیة شیء للفرد فی الخارج بعینه هو الشک فی جزئیته للطبیعی الذی هو المأمور به، فإذا کان الشک فی جزء المأمور به أو شرطه، فالمرجع فیه قاعدة البراءة.

ولا فرق فی ذلک بین الجامع الذی استکشفه المحقق الخراسانی قدس سره بین الأفراد الصحیحة من جهة تطبیق قاعدة فلسفیة علیها، وهی أن «الواحد لا یصدر إلامن واحد» والجامع الذی حاول المحقق الأصبهانی قدس سره تصویره بینها بمعرفیة بعض العناوین غیر المنفکة عنها کعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر، والجامع الذی ذکره المحقق العراقی قدس سره.

ص:194

أما علی الأول، فلأن الجامع الذاتی المستکشف بالقاعدة عین الأفراد فی الخارج، وعلیه فالشک فی جزئیة شیء للفرد أو شرطیة آخر له بعینه هو الشک فی جزئیته للمأمور به أو شرطیته له، ولا یکون من موارد الشک فی المحصل، فإذن یکون المرجع فیه أصالة البراءة بناء علی ما هو الصحیح من جریانها فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین.

وبکلمة، إن الطبیعی الجامع عین أفراده خارجاً ومتحد معها عیناً، فالأمر المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها، سواء فیه القول بأن متعلق الأوامر الطبائع أم القول بأن متعلقها الأفراد، أما علی الثانی فهو واضح، وأما علی الأول فلاتحاد الطبیعی معها خارجاً، غایة الأمر أن الخصوصیات الفردیة العرضیة غیر دخیلة فی ذلک، فعلی کلا القولین یرجع الشک فی اعتبار شیء جزءاً أوشرطاً إلی الشک فی إطلاق المأمور به وتقییده، لا إلی أمر خارج عن دائرة المأمور به، فبناء علی ما هو الصحیح من جریان البراءة فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، کان المرجع فی المقام البراءة عن التقیید الزائد المشکوک فیه.

أما علی الثانی فهو واضح، لأن الجامع علی هذا القول بما أنه جامع عنوانی لاذاتی، فلا وجود له فی الخارج لکی یکون ذلک متعلق الأمر، لأن الموجود فیه واقعاً إنما هو منشأ انتزاعه، وعلیه فالأمر فی الحقیقة متعلق به، وهو فی المقام نفس الأجزاء والشرائط، وأخذ ذلک الأمر الانتزاعی فی لسان الدلیل إنما هولأجل الاشارة إلی ما هو متعلق الأمر فی القضیة، وعلی هذا فالشک فی اعتبارشیء جزءاً أو قیداً یرجع إلی الشک فی تقیید المأمور به بقید زائد علی المقدار المتیقّن، فالمرجع فیه أصالة البراءة دون قاعدة الاشتغال.

وأما علی الثالث فلأن الجامع بین الأفراد الصحیحة جامع تشکیکی یصدق

ص:195

علی جمیع مراتب الصلاة من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا، فإن اختلاف مراتب الصلاة من حیث الأجزاء والشرائط یؤدی إلی سعة ذلک الجامع وضیقه، علی أساس أن ذلک الجامع البسیط الذی هو ذو مراتب تشکیکیة کل مرتبة منه متحدة مع مرتبة من مراتب الصلاة خارجاً، ونسبتها إلیها نسبة الطبیعی إلی الفرد لا نسبة المسبب إلی السبب، بأن یکون هناک وجودان أحدهما مسبب والآخر سبب، بل وجود واحد وله إضافتان، إحداهما إلی الفرد بحده الفردی، والاُخری إلی الجامع بحده الجامعی.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن موارد الشک فی الجزئیة أو الشرطیة علی القول بالصحیح لیست من موارد الشک فی المحصل للمأمور به خارجاً لکی یکون المرجع فیه قاعدة الاشتغال والاحتیاط.

وأما علی القول بأن الجامع بین الأفراد الصحیحة مرکب، فلا یعقل أن یکون ذلک الجامع المرکب مسبباً عن الأفراد الخارجیة، لأنه عین الأجزاء والشرائط، فالأجزاء المقیدة بالشرائط بأنفسها متعلقة للأمر، ووحدتها لیست وحدة حقیقیة، بل وحدة اعتباریة، بداهة أنه لا تحصل من ضم ماهیة الرکوع إلی ماهیة السجود ماهیة ثالثة مباینة لماهیتهما، وعلیه فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عند الشک فی اعتبار شیء زائد علی المقدار المعلوم، بناء علی ما هوالصحیح من جریانها فی مسألة دوران الواجب بین الأقل والأکثر الإرتباطیین، نعم بناء علی القول بعدم انحلال العلم الاجمالی فی تلک المسألة، فالمرجع فیها قاعدة الاشتغال.

إلی هنا قد تبین أنه لا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة، وأن المرجع علی کلا القولین فیها قاعدة البراءة دون الاشتغال.

ص:196

ولکن خالف فی ذلک المحقق النائینی قدس سره وقال بظهور هذه الثمرة بین القولین فی المسألة، فعلی القول بالصحیح لا مناص من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال، وعلی القول بالأعم إلی قاعدة البراءة، وقد أفاد فی وجه ذلک بما یلی:

أما علی القول بالصحیح، فلأن تصویر الجامع بین الأفراد الصحیحة لا یمکن إلا بتقیید المسمی بعنوان بسیط خاص، إما من ناحیة علل الأحکام کعنوان المحصل للملاک أو من ناحیة معلولاتها کعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر أونحو ذلک، وهذا العنوان خارج عن المأتی به فی الخارج ومأخوذ فی المأمور به، وعلیه فالشک فی اعتبار شیء فیه جزءاً أو شرطاً لا محالة یوجب الشک فی حصول العنوان المذکور بدون ذلک الشیء المشکوک فیه، وهذا من الشک فی المحصل، والمرجع فیه قاعدة الاشتغال(1).

وقد اعترض علیه السید الاُستاذ قدس سره بتقریب أن الجامع علی القول بالصحیح ینطبق علی نفس الأجزاء والشرائط انطباق الکلی علی فرده، ولهذا یکون الشک فی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً فی المقام من صغریات کبری دوران الأمر بین الاقل والأکثر الارتباطین، فبناء علی ما هو الصحیح فیه من انحلال العلم الاجمالی، فالمرجع قاعدة البراءة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن ما ذکره قدس سره من أنه علی القول بالصحیح لابد من تقیید المسمی بعنوان بسیط إما من ناحیة علل الأحکام أو معلولاتها، مبنی علی الخلط بین الصحة الفعلیة التی تنتزع من انطباق المأمور به علی الفرد الماتی به فی الخارج والصحة بمعنی التمامیة التی هی مأخوذة فی المسمی، فالحاجة إلی التقیید إنماتکون فیما إذا کان النزاع بین الصحیحی والأعمی فی أخذ الصحة الفعلیة فی

ص:197


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 66.

المسمی وعدم أخذها فیه، فإنه علی هذا لابد للصحیحی من تقییده بعنوان خاص کعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر أو المحصل للغرض، ولکن قد تقدم أنه لا یعقل أخذها فی المأمور به فضلاً عن المسمی، فلا تکون الصحة بهذا المعنی مورداً للنزاع(1).

ولنا فی المقام تعلیقان:

الأول: علی ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من الاعتراض.

الثانی: علی ما ذکره المحقق النائینی قدس سره.

أما الأول فلأنه لا ملازمة بین تقیید المسمی بعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر أو المحصل للغرض وکون مورد النزاع أخذ الصحة الفعلیة فی المسمی، لکی یقال إن أخذها فیه غیر معقول، لتأخرها عن وجود المسمی فی الخارج فضلاً عن ماهیته، وذلک لما ذکرناه سابقاً من أن معنی الصحة لیس هو التمامیة، کما أنها لیست مرادفة لعنوان الناهی عن الفحشاء والمنکر، وقد تقدم تفصیل ذلک بشکل موسع، بل هی عبارة عن وجدان المأمور به للحیثیة المطلوبة منه.

وبکلمة: إن عنوان الناهی إنما اخذ لمجرد المعرفیة والطریقیة المحضة للصلاة الواجدة للحیثیة المطلوبة منها، کحیثیة إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشریعة وحصول الغرض، ومن الواضح أن الصلاة الواجدة للحیثیة المطلوبة هی الصلاة التامة لا محالة، ضرورة أنها واجدة لها دون الناقصة، ولکن اتصافها بالصحة إنما هو بلحاظ وجدانها لتلک الحیثیة لا بلحاظ تمامیتها فحسب، وقدعرفتم أن هذا هو معنی الصحة فی المقام لا مجرد التمامیة، فالعنوان المذکور عنوان

ص:198


1- (1) (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 173.

للمسمی الواجد للحیثیة المطلوبة، لا أنه عنوان للموجود الخارجی المتصف بالصحة الفعلیة، فأخذه فی المسمی معناه أخذ الحیثیة المطلوبة منه فیه، لا معناه أخذ الصحة الفعلیة فیه التی هی منتزعة من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج، لکی یقال إن أخذها فیه غیر معقول، فتقیید المسمی بعنوان الناهی لا یستلزم أن یکون النزاع فی أخذ الصحة الفعلیة فیه کما مرّ، وعلی هذا فالصحة الفعلیة لا یمکن أخذها فی المسمی.

وأما الصحة بمعنی وجدان المسمی للحیثیة المطلوبة منه فلا، مانع من أخذها فیه، غایة الأمر أن الصحیحی یدعی أن المأخوذ فیه وجدانه للحیثیة المطلوبة منه فعلاً، والأعمی یدعی أن المأخوذ فیه وجدانه للحیثیة المطلوبة منه شأناً واقتضاء لا فعلاً.

وأما الثانی فلأن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من ظهور الثمرة بین القولین فی المسألة لا یتم، وذلک لأن عنوان الناهی کما تقدم عنوان انتزاعی صرف مشیر إلی المسمی ومعرف له، ولیس له واقع موضوعی فی الخارج فی مقابل المسمی، ولا وجود له فی الخارج إلا بوجود المسمی الواجد للحیثیة المطلوبة، فإذن لایرجع الشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر إلی الشک فی المحصل لکی یکون المرجع فیه قاعدة الاشتغال، لأن الشک فیه إنما یکون فی المحصل إذا کان العنوان المذکور قیداً زائداً علی المسمی فی الخارج لا مجرد کونه عنواناً معرفاً له، والمفروض أنه لیس قیداً زائداً علیه.

ودعوی أن عنوان الناهی عن الفحشاء وإن کان عنواناً انتزاعیاً صرفا ولیس له ما بإزاء فی الخارج إلا أن منشأ انتزاعه لیس ذات المسمی بما هو، لوضوح أنه إنما ینتزع عنه بلحاظ تلبسه بخصوصیة ما، وهی کونه واجداً للحیثیة المطلوبة

ص:199

منه فعلاً، وعلی هذا فإذا شک فی اعتبار شیء فیه، فبطبیعة الحال یرجع إلی الشک فی أنه دخیل فی اتصافه بتلک الحیثیة أو لا، ومعه لا یمکن التمسک بالبراءة،

مدفوعة بأن مرجع الشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر إلی الشک فی أنه دخیل شرعاً جزءاً أو شرطاً فی وجدان سائر الأجزاء والشرائط للحیثیة المطلوبة منهما فعلاً أو لا، وفی مثل ذلک لا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن دخالته فیه، وبالتالی عن جزئیته أو شرطیته.

وإن شئت قلت: حیث إن مرد هذا الشک إلی الشک فی أن وجدان سائر الأجزاء والشرائط للحیثیة المطلوبة منهما، هل هو مقید ومشروط بهذا الشیء المشکوک فیه جزءاً أو شرطاً، فلا مانع من الرجوع إلی إصالة البراءة عن هذا التقیید الزائد بناء علی ما هو الصحیح من جریان الأصالة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

الثمرة الثانیة: ذکر جماعة من الاُصولیین منهم المحقق الخراسانی قدس سره أنه یجوزالتمسک باطلاقات الکتاب والسنة علی القول بالأعم عند الشک فی اعتبار شیءجزءاً أو شرطاً، ولا یجوز التمسک بها علی القول بالصحیح، بل لابد فیه من الرجوع إلی الاُصول العملیة(1).

بیان ذلک أن التمسک بالاطلاق من الکتاب والسنة وغیرهما یتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة، وهی:

الاُولی: أن یکون الحکم فی القضیة وارداً علی الجامع بین الأفراد والحصص لا علی حصة خاصة أو فرد مخصوص.

ص:200


1- (1) کفایة الاصول ص 28.

الثانیة: إحراز أن المتکلم فی مقام البیان ولو بأصل عقلائی لا فی مقام الاهمال والاجمال، ویکفی فی إثبات هذه المقدمة ظهور حال المتکلم فی ذلک.

الثالثة: إحراز أنه لم ینصب قرینة علی التعیین والتقیید.

فإذا تمت هذه المقدمات فی مقام الاثبات ثبت الاطلاق فیه، وبه یکشف عن الاطلاق فی مقام الثبوت وأن مراده الاستعمالی مطابق لمراده الجدی، وحینئذفإذا شک فی دخل شیء جزءاً أو شرطاً فی المأمور به، فلا مانع من التمسک بإطلاقه لدفع ما شک فی اعتباره فیه، علی أساس أنه شک فی اعتبار أمر زائد علی صدقه، ومعه لا مانع من التمسک بالاطلاق.

وحیث إن هذه المقدمات تامة علی القول بالأعم، فلا مانع من التمسک بالاطلاق فیه عند الشک فی اعتبار شیء جزءاً أو قیداً، باعتبار أنه شک فی أمرزائد علی صدق طبیعی المطلق فیدفع باطلاقه. وهذا بخلاف القول بالوضع للصحیح، فإن المقدمة الاُولی التی هی مقدمة رئیسیة من تلک المقدمات الثلاث غیر متوفرة علی هذا القول، فإن الحکم فیه لم یرد علی الجامع بین الصحیحة والفاسدة، وإنما ورد علی حصة خاصة منه، وهی خصوص الصحیحة المتقومة بوجدانها لجمیع الأجزاء والشرائط، ولو شک عند ئذ فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر لها، فلا محالة یرجع الشک إلی الشک فی صدقها علی الفاقد للمشکوک فیه، لاحتمال دخله فی المسمی، ومعه لا یمکن التمسک بالاطلاق.

والخلاصة أن الشک فی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً علی هذا القول مساوق للشک فی صدق المسمی، لأنه إن کان جزءاً أو شرطاً له فی الواقع فهو داخل فیه، وإلا فهو خارج عنه، وحیث إنا لا نعلم بذلک، فیکون صدقه علی الفاقد له مشکوکاً فیه، ومعه لا مجال للتمسک بأصالة الاطلاق.

ص:201

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهده النتیجة، وهی إمکان التمسک باطلاق الکتاب والسنة علی القول بالأعم وعدم إمکان التمسک به علی القول بالصحیح.

نعم لو کان الشک فی اعتبار شیء رکناً للصلاة مثلاً لم یجز التمسک بالاطلاق حتی علی القول بالأعم، لأن الشک فیه مساوق للشک فی الصدق، فلا یکون صدق طبیعی المطلق علی الفاقد محرزاً حتی یکون الشک فی اعتبار أمر زائد.

وقد نوقش فی هذه الثمرة بعدة وجوه:

الأول: أنه لا فرق بین القولین فی إمکان التمسک بالاطلاق وعدم إمکانه، والسبب فیه أن المناط فی إمکان التمسک بالاطلاق إنما هو بکون المتکلم فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی التقیید، وعلیه فکما أن الأعمی یتمسک بالاطلاق فیما إذا احتمل دخل شیء فی المأمور به زائداً علی المقدار المتیقن، فکذلک الصحیحی یتمسک به فیما إذا شک فی اعتبار شیء زائداً علی المقدار المعلوم، ومن هنا یتمسک الفقهاء (قدس سرهم) باطلاق صحیحة حماد التی قد وردت فی مقام بیان الأجزاء والشرائط، حیث إن الامام علیه السلام فی الصحیحة قد بین جمیع أجزاء الصلاة من التکبیرة والقراءة والرکوع والسجود والتشهد والتسلیمة ونحوها مقتصراًعلی تلک الأجزاء وساکتاً عن غیرها، وحینئذ فإذا شک فی أن الاستعاذة مثلاًجزء لها، فلا مانع من التمسک بإطلاقها لاثبات عدم کونها جزءاً.

والجواب: أن هذه المناقشة مبنیة علی الخلط بین التمسک بالاطلاق اللفظی والتمسک بالاطلاق المقامی الناشیء من السکوت فی مقام البیان، ومحل الکلام فی المقام إنما هو فی الأول، وقد تقدم أن التمسک به یتوقف علی تمامیة مقدمات الحکمة، وهی متمثلة فی الثلاث، اولاها إحراز تعلق الحکم بالجامع بحسب المراد الاستعمالی وقابلیة انقسامه إلی قسمین أو أقسام فی الواقع، وهذه المقدمة

ص:202

لابد من إحرازها، وإلا فلا یعقل الاطلاق فی مقام الثبوت لکی یستکشف ذلک بالاطلاق فی مقام الاثبات، وحیث إن الحکم علی القول بالصحیح متعلق بحصة خاصة وهی خصوص الحصة الصحیحة، فالمقدمة الاُولی غیر تامة علی هذا القول، وحینئذ فالاطلاق اللفظی غیر معقول فیه.

وأما صحیحة حماد، فإطلاقها یکون مقامیاً ناشئاً عن السکوت فی مقام البیان، ولا فرق فی جواز التمسک به بین القول بالصحیح والقول بالأعم، والسرفی ذلک واضح، وهو أن المعتبر فیه سکوت المتکلم عن البیان حینما کان یورد الحکم علی نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد تفصیلاً، مثلاً إذا کان المولی فی مقام بیان ما یحتاجه فی الیوم من اللحم والخبز واللبن والأرز والحمص وغیرذلک، فأمر خادمه بشرائها وسکت عن غیرها، فسکوته هذا فی مقام البیان کاشف عن عدم إرادة غیر هذه الأشیاء، وإلا لم یسکت، ولهذا لا نحتاج فی هذاالنحو من الاطلاق إلی وجود لفظ مطلق فی القضیة، وهذا بخلاف الاطلاق اللفظی، فإن المعتبر فیه ورود الحکم فی القضیة علی الطبیعی الجامع القابل للانطباق علی أفراد وحصص عدیدة، ولا أقل من حصتین ثم إحراز أن المتکلم فی مقام البیان لا فی مقام الاهمال والاجمال، وأنه لا ینصب قرینة علی إرادة الخلاف، فإذا تمت هذه المقدمات تم الاطلاق فی مقام الاثبات الکاشف عن الاطلاق فی مقام الثبوت، وحینئذ فإذا شک فی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً، فإن کان اعتبار ذلک الشیء زائداً علی صدق المطلق والموضوع فی القضیة علی الفاقدله کما هو الحال علی القول بالأعم، یتمسک بالاطلاق لدفع اعتباره طالما لم یدل دلیل علی ثبوته، وإن لم یکن زائداً علیه بأن یکون الشک فی اعتباره مساوقاً للشک فی تحقق المطلق والموضوع فی القضیة کما هو الحال علی القول بالصحیح، فلا یمکن التمسک بالاطلاق لدفع اعتباره.

ص:203

فالنتیجة: أن الاطلاق إذا کان مقامیاً، جاز التمسک به مطلقاً بلا فرق بین القولین فی المسألة أصلاً، وإذا کان لفظیاً، فلابد من التفصیل فیه، فعلی القول بالأعم یجوز التمسک به دون القول بالصحیح.

الثانی: أن أدلة العبادات جمیعاً مجملة فی الکتاب والسنة، فلا إطلاق لها حتی یمکن التمسک به، لما مرّ من أن الاطلاق منوط بثبوت مقدمات الحکمة الثلاث جمیعاً، والمفروض فی المقام عدم ثبوت المقدمة الثانیة وهی کون المتکلم فیها فی مقام البیان، وعلی هذا فلا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة.

وبکلمة، إن أدلة العبادات بما أنها جمیعاً فی مقام أصل التشریع والجعل بلانظر لها إلی خصوصیاتها التفصیلیة کماً وکیفاً، فلا إطلاق لها حتی یمکن التمسک به، غایة الأمر أن عدم جواز التمسک بها علی القول بالاعم من جهة واحدة وهی عدم کونها فی مقام البیان، وعلی القول بالصحیح من جهتین وهما عدم ورودهافی مقام البیان وعدم تعلق الحکم فیها بالجامع والمقسم، فالنتیجة عدم إمکان التمسک بالاطلاق علی کلا القولین فی المسألة، وعلیه فلا تظهر الثمرة بینهما.

والجواب: - مضافاً إلی أن ذلک مبنی علی الحدس والاجتهاد الخاطیء بدون القیام بالفحص والبحث عن الآیات والروایات - أن الأمر لیس کذلک.

أما الروایات الواردة فی أبواب العبادات فکثیر منها فی مقام البیان ولهاإطلاق، ولا مانع من التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبار شیء فیها، وهذا واضح لکل فقیه یقوم بعملیة الاجتهاد والاستنباط فی تلک الأبواب.

وأما الآیات فمنها قوله تعالی:«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ

ص:204

مِنْ قَبْلِکُمْ»1 ، فإن المفهوم من کلمة الصیام عرفاً هو کف النفس عن الأکل والشرب، وهو معناه اللغوی والعرفی، فالصیام بهذا المعنی ثابت فی الشرائع السابقة والأدیان الاُخری، ویدل علی ذلک قوله تعالی:«کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»2 ، فإذن حقیقة الصیام هی کف النفس عن الأکل والشرب فی جمیع الشرائع، نعم تختلف هذه الشریعة عن الشرائع السابقة فی بعض الشروط غیر المقومة لحقیقة الصیام کالکف عن الجماع والاستمناء والکذب علی اللَّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهارعلیهم السلام وغیر ذلک، وعلی هذا فإذا شک فی اعتبار شیء فیه جزءاً أو شرطاً زائداً علی صدقه، فلا مانع من الرجوع إلی إطلاق الآیة الشریفة، ومقتضاه عدم اعتباره، فإذن حال الآیة الشریفة حال قوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» /3 و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»4 و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»5 ونحو ذلک، فکما أنه لا مانع من التمسک بإطلاق هذه الآیات فی باب المعاملات، فکذلک لا مانع من التمسک بإطلاق الآیة المبارکة فی باب الصوم عند الشک فی دخل شیء فی صحته شرعاً.

هذا إضافة إلی أنه یکفی فی ظهور هذه الثمرة إمکان ترتبها، لأن المعتبر فی اصولیة المسألة إمکان وقوعها فی طریق عملیة الاستنباط لا فعلیة ذلک، وعلی هذا فلو فرضنا أن أدلة العبادات جمیعاً من الکتاب والسنة مجملة، فلا یمکن التمسک بها عند الشک فی اعتبار شیء فیها جزءاً أو شرطاً، إلا أن ذلک لا یمنع

ص:205

عن إمکان ترتب هذه الثمرة لو کان هناک إطلاق، وهذا المقدار یکفی فی کون المسألة اصولیة.

الثالث: أن الاطلاق والتقیید فی العبادات إنما یلاحظ بالاضافة إلی المأمور به ومتعلق الأمر لا بالقیاس إلی المسمی، لوضوح أن الاطلاق أو التقیید فی کل کلام إنما هو بالقیاس إلی مراد المتکلم منه، فإذا کان المتکلم هو الشارع، فلا محالة لوحظ الاطلاق أو التقیید بالنسبة إلی مراده وأنه مطلق أو مقید لا إلی ما هوأجنبی عنه، وعلی ذلک فلا فرق بین القولین فی المسألة، فکما أن الصحیحی لایمکنه التمسک بالاطلاق فکذلک الأعمی. أما الصحیحی فلما تقدم من عدم إحراز الصدق علی الفاقد لما شک فی اعتباره جزءاً أو قیداً، وأما الأعمی فمن أجل أنه یعلم بأن مراد المولی هو المسمی بوصف کونه مأموراً به ومتعلق الأمر، ومن الواضح أن المأمور به حصة خاصة من المسمی وهی الحصة الصحیحة، ضرورة أن الشارع لا یأمر بالحصة الفاسدة ولا بالأعم منها ومن الصحیحة، وعلی هذا فلا یمکن التمسک بالاطلاق عند الشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر، للشک فی صدق المأمور به حینئذ علی الفاقد للشیء المشکوک فیه.

والخلاصة: أن الصحة لو کانت مأخوذة فی المسمی، سواء أکانت مأخوذة فیه بما هو مسمی کما هو الحال علی القول بالصحیح أم مأخوذة فیه بوصف کونه مأموراً به ومتعلق الأمر کما هو الحال علی القول بالأعم، فلا یمکن التمسک بالاطلاق لا علی القول الأول ولا علی الثانی.

والجواب: أن الاطلاق والتقیید فی مقام الثبوت والواقع إنما یلحظان بالاضافة إلی ذات المأمور به ومتعلق الأمر لا بوصف کونه مأموراً به ومتعلق الأمر، لأن الأمر فی الواقع لا یخلو إما أن یکون متعلقاً بالمسمی مطلقاً أو مقیداً،

ص:206

ولا ثالث لهما، لاستحالة الاهمال فی الواقع، وعلی هذا فإن کان فی مقام الاثبات دلیل مطلق من آیة أو روایة، فلا مانع من التمسک بإطلاقه عند الشک فی اعتبارشیء فی المأمور به جزءاً أو شرطاً علی القول بالأعم، باعتبار أن صدق المطلق علی الفاقد للشیء المشکوک فیه محرز، والشک إنما هو فی اعتبار أمر زائد، وحینئذ فلا مانع من التمسک بإطلاقه لدفع اعتباره فیه، وبه یستکشف أن المأموربه فی الواقع مطلق.

وبکلمة، إنه إذا شک فی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً فی الصلاة المأمور بها مثلاً کالسورة، فعلی القول بالوضع للأعم حیث إن صدق الصلاة بما لها من المعنی الموضوع له علی الفاقدة للسورة معلوم، والشک إنما هو فی اعتبار أمر زائد فلامانع من التمسک بالاطلاق لنفی اعتباره والحکم بأن المأمور به فی الواقع ومقام الثبوت هو الصلاة بدون السورة، وأما علی القول بالوضع للصحیح، فحیث إن صدق الصلاة بما لها من المعنی علی الفاقدة للسورة مشکوک فیه لاحتمال دخلها فی مسماها، فلا إطلاق لها لکی یمکن التمسک به.

فالنتیجة: أن هذا الوجه مبنی علی نقطة خاطئة، وهی کون المسمی بوصف کونه مأموراً به متعلق الأمر، وهذا مستحیل لاستحالة أخذ هذا الوصف فی متعلق الأمر، لأنه متأخر منه ومنتزع من تعلقه بالمسمی، فکیف یعقل أخذه فی متعلقه.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أنه لا غبار فی ظهور هذه الثمرة بین القولین فی المسألة، هذا تمام کلامنا فی العبادات.

ص:207

أسماء المعاملات

المقام الثانی فی المعاملات. یقع الکلام فیه من عدة جهات:

الجهة الاُولی أن فی المعاملات اتجاهین رئیسیین:

الأول: ما هو المعروف والمشهور بین الأصحاب من أن المعاملات امورإنشائیة تسبیبیة.

الثانی: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أن المعاملات امور اعتباریة نفسانیة مبرزة فی الخارج بمبرز ما.

أما الاتجاه الأول فقد ذکر الأصحاب قدیماً وحدیثاً أن المعاملات تنقسم إلی أسباب ومسببات. أما الأسباب فهی متمثلة فی صیغ خاصة لفظیة کانت أو فعلیة مشتملة علی الأجزاء والشرائط، فمن أجل ذلک تتصف بالصحة تارة وبالفساد اخری. وأما المسببات فهی متمثلة فی الملکیة أو الزوجیة أو نحوهاسواء أکانت شرعیة أم عقلائیة، وهی لا تتصف بالصحة أو الفساد، بل بالوجودتارة والعدم اخری، علی أساس أنها امور بسیطة.

أما الاتجاه الثانی فقد ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن أسامی المعاملات موضوعة لابراز أمر اعتباری نفسانی غیر قصد الحکایة، مثلاً صیغة بعت موضوعة للدلالة علی قصد إبراز ملکیة المبیع، حیث إن البائع فی مقام البیع اعتبرملکیته للمشتری، ثم یبرزها فی الخارج بصیغة بعت أو ما شاکلها لکی تدل علی أنه قصد إبرازها(1).

ص:208


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 192 و 195.

ومن هنا ذکر قدس سره أن معنی الانشاء هو إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل(1) ، ومن الواضح أن کلا من الاعتبار والابرازفعل اختیاری للمعتبر مباشرة لا تسبیباً، فلا یکون هناک سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذیها.

وبکلمة، إنه لیس فی باب المعاملات إلا أمران، أحدهما الأمر الاعتباری القائم بنفس المتعاملین مباشرة، والآخر الأثر الشرعی أو العقلائی المترتب علی فعل المتعاملین کذلک، وکلاهما فعل مباشر ولا یعقل أن یکون فعلاً تسبیبیاً. أما الأول فهو فعل نفسانی للمتعاملین بالمباشرة وبیدهما وجوداً وعدماً، ولا یعقل أن یکون مسبباً عن شیء آخر. وأما الثانی فهو فعل الشارع أو العقلاء بالمباشرة، غایة الأمر أن الشارع أو العقلاء یعتبر الملکیة أو الزوجیة کذلک فی موضوع خاص، هذا إضافة إلی أن مراد المشهور من المسبب لیس هو الأثر الشرعی أو العقلائی، فالنتیجة أنه لیس فی باب المعاملات سببیة ولا مسبّبیة ولاآلة ولا ذیها، لأن کل ذلک غیر موجود، فالموجود إنما هو اعتبار المتعاملین الملکیة أو الزوجیة فی عالم الاعتبار والنفس وإبرازه فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، ومجموع المبرز - بالکسر - والمبرز - بالفتح - بمثابة الموضوع للأثر الشرعی أو العقلائی، هذا ملخص ما أفاده قدس سره.

وما أفاده قدس سره یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: أن الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری النفسانی بمبرز ما من قول أو فعل.

ص:209


1- (1) (2) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 88.

الثانیة: أنه لا سببیة ولا مسببیة فی باب المعاملات.

أما النقطة الاُولی، فیرد علیها أن تفسیر الانشاء بذلک مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانی، باعتبار أن لازم هذا المسلک هو کون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة، وعلیه فلابد من الالتزام بأن المعاملات موضوعة للدلالة علی قصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما حتی تکون دلالتها الوضعیة دلالة تصدیقیة، ولکن حیث إنا قد ذکرنا فی باب الوضع عدم صحة هذا المسلک موسعاً وقلنا هناک بأن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة لا تصدیقیة، فمن أجل ذلک لا یمکن تفسیر المعاملات بذلک، وقد تقدم فی ضمن البحوث السالفة تفسیر الانشاء فیها بماینسجم مع کون الدلالة الوضعیة لها دلالة تصوریة.

وأما النقطة الثانیة، فلأنه لا مانع من أن یراد من المسبب فی المعاملة الأثر العقلائی أو الشرعی المترتب علیها ترتب الأثر علی المؤثر والمسبب علی السبب، باعتبار أنه الأثر المطلوب من إیجاد المعاملة فی الخارج بما لها من المعنی الانشائی التسبیبی.

وبکلمة، إن جعل هذا الأثر بنحو القضیة الحقیقیة وإن کان بفعل الشارع أو العقلاء فی مرحلة الجعل والاعتبار، ولکن فعلیة هذا الأثر إنما هی بید المتعاملین، فإنهما إذا قاما بإیجاد السبب وهو المعاملة بما لها من الشروط، ترتب علیه ذلک الأثر، ومن الواضح أن هذا الترتب إنما هو مستند إلی فعل المتعاملین من باب ترتب الأثر علی المؤثر والمسبب علی السبب، وقد تحصل من ذلک أن فعلیة الأثر الشرعی أو العقلائی هی المسبب فی باب المعاملات، وأما الصیغة بما لها من المعنی الانشائی فهی سبب لها، غایة الأمر أن العلاقة بین السبب والمسبب تارة تکون

ص:210

ذاتیة بینهما کالعلاقة بین النار والحرارة، واُخری تکون جعلیة کما فی المقام، فالجامع بین المقامین هوا ستحالة انفکاک أحدهما عن الآخر خارجاً إما بالذات أو بالجعل، والظاهر أن هذا هو مراد المشهور من المسبب فی باب المعاملات.

ولکن قد یستشکل فی ذلک بأن السببیة بهذا المعنی لا تختص بالمعاملات، لأن کونها سبباً لفعلیة الأثر لیس إلا بلحاظ أنها موضوع له، علی أساس أن فعلیة الحکم تدور مدار فعلیة موضوعه خارجاً واستحالة انفکاکها عنها، ولافرق فی ذلک بین الأحکام الوضعیة و الأحکام التکلیفیة، فکما أن فعلیة الأحکام الوضعیة تتبع فعلیة موضوعاتها فی الخارج فکذلک فعلیة الأحکام التکلیفیة، فإنها تتبع فعلیة موضوعاتها فیه، وعلی هذا فإطلاق الأسباب علی موضوعات الأحکام الوضعیة دون موضوعات الأحکام التکلیفیة لیس إلا مجرد اصطلاح بلا أی نکتة مبررة لذلک. هذا،

ولکن الظاهر أن هذا الفرق مبنی علی نکتة، وهی أن موضوعات الأحکام الوضعیة تختلف عن موضوعات الأحکام التکلیفیة فی نقطة، وهی أن موضوعات الأحکام الوضعیة التی هی متمثلة فی المعاملات امور إنشائیة قصدیة، مثلاً جملة «بِعْتُ» الانشائیة تدل علی قصد إیجاد معناها فی وعاء التصور والتصدیق، والغرض منه الوصول إلی أثره الشرعی أو العقلائی المترتب علیه ترتب المسبب علی السبب، فالصیغة بما لها من المعنی الانشائی سبب، لأن المتعامل فی مقام المعاملة یقصد بها التسبیب ولو ارتکازاً إلی ترتب الأثر الشرعی علیها. وعلی الجملة فتسمیة المعاملات بالأسباب فی الأحکام الوضعیة مع أنها موضوعات لها فی الحقیقة، فإنما هی من جهة أنها امور إنشائیة تسبیبیة، ولا یمکن تحققها بدون قصد التسبیب بها ولو فی أعماق نفسه

ص:211

ارتکازاً وفطرة.

وهذا بخلاف موضوعات الأحکام التکلیفیة، فإنها بین ما یکون خارجاً عن قدرة المکلف کالعقل والبلوغ والوقت ورؤیة الهلال وما شاکلها، وما یکون الموضوع فیها جامعاً بین الحصة الاختیاریة وغیر الاختیاریة کالاستطاعة ونحوها، والجامع أن القصد والارادة غیر دخیل فی تحققها أصلاً.

فالنتیجة أن موضوعات الأحکام الوضعیة فی باب العقود والایقاعات امورإنشائیة قصدیة فی نفسها، فلذلک تسمی بالأسباب بالاضافة إلی ما یترتب علیها من الأحکام، بینما لا تکون موضوعات الأحکام التکلیفیة کذلک، فلهذا لاتسمی بالأسباب بالنسبة إلی ما یترتب علیها من الآثار.

وکیف کان فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن المعاملات امور اعتباریة نفسانیة مبرزة فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، لا یتم إلا علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، حیث لا شبهة فی أنها امور إنشائیة قصدیة بصیغتها الخاصة من قول أوفعل، وقد تقدم تفصیل ذلک فی بابی الانشاء والاخبار موسعاً.

الجهة الثانیة: أن محل النزاع فی أن أسماء المعاملات موضوعة للصحیح أو الأعم، هل هو بنظر الشرع أو العقلاء؟ فیه قولان:

فذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی القول الثانی، بدعوی أن المعاملات المأخوذة فی موضوع أدلة الامضاء کالبیع والاجارة ونحوهما معاملات عرفیة عقلائیة وموجودة قبل مجیء الشرع ولم یتصرف الشارع فیها بعد مجیئه أی تصرف أساسی لا من حیث اللفظ ولا من حیث المعنی، بل أمضاها بما لها من المفاهیم لدی العرف والعقلاء قبل الاسلام، حیث إن المعاملات بهذه الأسامی کانت دارجة بین الناس فی الجزیرة العربیة، واحتمال أن المعاملات موجودة عند العرب

ص:212

بألفاظ اخری غیر الألفاظ العربیة التی یعبّر بها عنها فی الکتاب والسنة غیرمحتمل، ویؤکد ذلک أن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم حینما طرح المعاملات بأسامیها الخاصة علی الناس منذ بدایة الاسلام لم تکن هذه الأسامی غریبة عندهم، بل کانوا مأنوسین بها.

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات، فإن العبادات حیث إنها ماهیات مخترعة عند الشارع بجمیع أجزائها وشرائطها، فلوکانت موضوعة للصحیحة فلا یمکننا التمسک بإطلاقاتها عند الشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر، لاحتمال دخله فی المسمی کما سبق، وهذا بخلاف المعاملات، فإنها ماهیات مخترعة عندالعرف والعقلاء، فلو شککنا فی اعتبار شیء فیها شرعاً، فیکون الشک فی اعتبارأمر زائد علی ما کان معتبراً عندهم، وفی مثله لا مانع من التمسک بالاطلاق ولوعلی القول بکونها موضوعة للصحیحة عندهم.

نعم لو شککنا فی اعتبار شیء فیها عرفاً کاعتبار المالیة مثلاً أو نحوها، فلایمکننا التمسک بالاطلاق، لعدم إحراز صدق البیع علی فاقد المالیة أو نحوها علی القول بالوضع للصحیح.

والخلاصة أن محل النزاع إنما هو فی وضع المعاملات للصحیحة أو الأعم بنظرالعقلاء دون الشرع، إذ لو کانت موضوعة للصحیحة لدی الشرع، لأدّی ذلک إلی کون أدلة الامضاء کقوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» ، و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ونحوهما لغواً، فإن مرد ذلک إلی قولنا البیع الصحیح صحیح، التجارة الصحیحة صحیحة وهکذا، فلذلک لا یمکن أن یکون محل النزاع فی الوضع للصحیحة أوالأعم بنظر الشرع، بل یتعین أن یکون بنظر العقلاء فقط (1).

ص:213


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 193.

وقد استشکل علیه بأنه لا مانع من أن یکون محل النزاع فی وضع المعاملات للصحیحة أو الأعم عند الشارع، غایة الأمر إذا کانت موضوعة للصحیحة کانت مستعملة فی الأعم مجازاً فی مقام ورودها للامضاء(1).

وهذا الاشکال غریب جداً، ضرورة أنها لو کانت مستعملة فی الأعم مجازاً فی أدلة الامضاء، فحینئذ ما هو المبرر لوضعها شرعاً للصحیحة، ومن الواضح أنه لا مبرر له بعد ما کانت صحتها مستفادة من أدلة الامضاء، وإن شئت قلت: إنها لو کانت موضوعة للصحیحة عند الشارع، فوقتئذ إما أن یکون وضعها لها لغواً أو أنَّ أدلة الامضاء لغو، فلذلک لا أساس لهذا الاشکال.

فالصحیح فی الجواب أن یقال: إنه لا مانع من تصویر النزاع فی المسألة للصحیح أو الأعم بنظر الشرع أیضاً، وذلک لأن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من محذور اللغویة فی أدلة الامضاء وإنما یلزم لو کانت الصحة المأخوذة فی مسمی المعاملات الصحة بمعنی الامضاء أو مفهوم الصحة المنتزع من إمضاء الشرع لها، ولکن من الواضح أن الصحة بهذا المعنی غیر مأخوذة فی مسمی المعاملات، ضرورة أنه لا یحتمل أن تکون أسماء المعاملات موضوعة بإزاء المعاملات الموصوفة بالصحة والامضاء حتی یکون الامضاء لغواً، إذ معناها حینئذ أن المعاملة الصحیحة صحیحة والبیع الممضی ممضی وهکذا، بل الصحة المأخوذة فی المسمی علی القول بوضعها للصحیح هی الصحة بمعنی تمامیة المعاملة بأجزائهاوشروطها الواجدة

ص:214


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 211.

للحیثیة المطلوبة منها، فإنها الصحة بالحمل الشائع، ولامانع من وضع أسماء المعاملات بإزائها، ولا یستوجب ذلک محذور لغویة أدلة الامضاء، فإنها علی هذا تعلقت بالمعاملة تامة الأجزاء والشرائط الواجدة للحیثیة المطلوبة، فإذا تعلقت بها ترتب علیها آثارها، مثلاً العقد الواقع بین المتعاملین المقرون بالتراضی بینهما إذا تعلق به دلیل الامضاء کقوله تعالی:«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» أو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ترتب علیه أثره، وإلا فلا.

وبکلمة أوضح، إنه لا فرق من هذه الناحیة بین العبادات والمعاملات، فکما أنه لا یمکن أخذ مفهوم الصحة وعنوانها بالحمل الأولی فی مسمی العبادات، علی أساس أنه منتزع من انطباق العبادة المأمور بها علی الفرد المأتی به فی الخارج ولا یعقل أخذه فیه کما تقدم، فکذلک لا یمکن أخذ مفهوم الصحة بالحمل الأولی فی مسمی المعاملات، لأنه منتزع من تعلق دلیل الامضاء بالمعاملة فی الخارج ولا یمکن أخذه فیه، وإلا لکان دلیل الامضاء لغواً.

وأما واقع الصحة الذی هو صحة بالحمل الشائع، فکما أنه لا مانع من أخذه فی مسمی العبادات، فکذلک لا مانع من أخذه فی مسمی المعاملات، لأن واقع الصحیح هو المرکب المشتمل علی تمام الأجزاء والشرائط الواجد للحیثیة المطلوبة منه، ولا فرق بین أن یکون ذلک المرکب عبادة أو معاملة، إذ معنی وضع لفظ «البیع» للصحیح وضعه بإزاء تملیک عین بعوض المقرون بالرضا المنشأ بفعل أو قول من بالغ وعاقل، وهو متعلق لدلیل الامضاء، وعلیه فإذا تعلق الامضاء به ترتب علیه الأثر الشرعی وهو حصول الملک شرعاً، وإذا لم یتعلق به دلیل الامضاء، لم یحکم بحصول التملیک وترتیب الأثر علیه.

وهذا هو معنی الصحة فی العبادات والمعاملات، ولا فرق بینهما فیه أصلاً، وأما الصحة الجائیة من قبل الامضاء فی المعاملات والمتقوّمة به والصحة الجائیة من قبل الأمر فی العبادات المتقومة به، فلا یمکن أخذها فی المسمی لا فی المعاملات ولا فی العبادات، هذا من ناحیة.

ص:215

ومن ناحیة اخری، إن تصویر النزاع فی وضع أسماء المعاملات للصحیحة أوللأعم من وجهة نظر الشرع وإن کان ممکناً، إلا أنه غیر واقع فی الخارج، لأن الواقع هو وضع أسماء المعاملات بإزاء معانیها قبل الاسلام، ولهذا تکون حقائق عرفیة عقلائیة لا شرعیة، فإن هذه الأسماء مستعملة فی تلک المعانی قبل مجیء الاسلام وبعده علی حد سواء، غایة الأمر أن الشارع قد یتصرف فیها فنهی عن بعض المعاملات الدارجة بینهم کالمعاملة الربویة وما شاکلها، وزاد فی بعض الموارد قیداً أو جزءاً لم یکن معتبراً عند العقلاء کاعتبار البلوغ فی المتعاقدین ونحو ذلک.

ومن هنا یجوز التمسک بإطلاقات أدلة المعاملات فی الکتاب والسنة عند الشک فی اعتبار شیء فیها شرعاً جزءاً أو شرطاً، بلا فرق فی ذلک بین أن تکون أسماء المعاملات عند العقلاء موضوعة للصحیح أو للأعم، ولهذا لا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة عند الشارع، نعم تظهر الثمرة بینهما عند العقلاء.

الجهة الثالثة: قد تسأل هل یجری النزاع فی وضع أسماء المعاملات بمعنی المسببات للصحیحة أو الأعم؟

والجواب: أن المعروف المشهور بین الأصحاب أنه لا یجری فی المعاملات بمعنی المسببات، والوجه فی ذلک هو أن المسبب کالملکیة أو الزوجیة أو نحوهابسیط ویدور أمره بین الوجود والعدم المحمولیین، لا بین الصحة والفساد بمفادکان ولیس الناقصتین، فلذلک لا یعقل جریان هذا النزاع فی المسببات، وعلی هذا فالنزاع إنما هو فی أسماء المعاملات بمعنی الأسباب، علی أساس أنها تتصف بالصحة تارة وبالفساد اخری، باعتبار أنها مرکبة من أجزاء ومقیدة بقیود، فإن کانت واجدة لتمام أجزائها وقیودها اتصفت بالصحة، وإن کانت فاقدة لبعضها

ص:216

اتصفت بالفساد، فإذن یختص النزاع فی باب المعاملات بالأسباب، ولا یمکن جریانه فی المسببات لعدم قبولها للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد اخری.

ولکن السید الاُستاذ قدس سره قد علق علی ذلک بأن فی باب المعاملات لا سبب ولامسبب ولا آلة ولا ذیها، وقد أفاد فی وجه ذلک أن ما هو المعروف بین الأصحاب من أن الانشاء إیجاد المعنی باللفظ لا یرجع إلی معنی محصل، لأنه إن ارید بالایجاد الایحاد التکوینی الخارجی فهو غیر معقول، بداهة أن اللفظ لا یکون واقعاً فی سلسلة علل وجوده وأسبابه، وإن ارید به الایجاد الاعتباری، فیرد علیه أنه یوجد بنفس اعتبار المعتبر، سواء کان هناک لفظ یتلفظ به أم لا، فاللفظ لا یکون سبباً لإیجاده الاعتباری ولا آلة له، فإذن لیس فی باب المعاملات إلا أمران: أحدهما المبرز - بالفتح - وهو الأمر الاعتباری النفسانی فی افق النفس، والآخرالمبرز - بالکسر - وهو اللفظ أو الفعل فی الخارج، والمعاملة اسم للمرکب من هذین الأمرین.

وبکلمة، إن المعاملات أسام للمرکب من الأمر الاعتباری النفسانی وإبرازه فی الخارج باللفظ أو نحوه، لأن الآثار المترقبة لا تترتب إلا علی المرکب من هذین الأمرین، فالبیع والایجار والصلح والنکاح وما شاکلها لا یصدق علی مجرد الاعتبار النفسانی بدون إبرازه فی الخارج بمبرز ما، فلو اعتبر أحد ملکیة داره أو فرسه لزید مثلاً فی افق نفسه بدون أن یبرزها فی الخارج بمبرر ما من قول أو فعل، فلا یصدق أنه باع داره أو فرسه من زید، کما أن هذه العناوین لا تصدق علی مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفسانی فی افق الذهن، کما لو کان فی مقام تعداد صیغ العقود أو الایقاعات، أو کان التکلم بها بداع آخر غیرإبرازما فی افق النفس من الأمر الاعتباری، فلو قال أحد: (بعت أو زوجت) أو

ص:217

نحوذلک من دون اعتبار نفسانی، فلا یصدق علیه عنوان البیع أو التزویج والنکاح وهکذا.

والخلاصة: أن المعاملات بعناوینها الخاصة من البیع أو الهبة وما شاکلها أسام للمرکب من الأمرین، فلا یصدق علی کل واحد منهما بالخصوص، فإذن لاسبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذیها، بل أمر اعتباری نفسانی فی افق النفس وإبرازه فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، وعلی هذا فکما أن المبرز الذی یمثل صیغ العقود یتصف بالصحة تارة باعتبار وجدانه للشروط وبالفساد اخری باعتبار فقدانه لها، فکذلک الأمر الاعتباری النفسانی الذی هو بمثابة موضوع للاعتبار العقلائی والشرعی، فإنه یتصف بالصحة والفساد باعتبار استتباعه للأثر الشرعی وعدمه، لأنه إذا کان واجداً للشرائط کما إذا کان صادراً من العاقل البالغ المالک اتصف بالصحة، وإذا کان صادراً من الصبی أو المجنون أو الفضولی فبالفساد.

أو فقل: إن ما یسمی بالمسبب أمران: الأول الأثر الشرعی أو العقلائی کالملکیة أو الزوجیة أو نحوهما، والثانی الأثر المنشأ من قبل المتعاقدین أنفسهما، وهو اعتبار شخصی قائم بالمتعاقدین، ویکون موضوعاً للمسبب الأول وهوالأثر الشرعی أو العقلائی، والذی لا یتصف بالصحة والفساد إنما هو المسبب بالمعنی الأول، لأنه إما موجود أو غیر موجود، ولا ثالث لهما، وأما المسبب بالمعنی الثانی، فهو یتصف بالصحة والفساد(1).

وغیر خفی أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره فی المقام من التفسیر للانشاء فی باب المعاملات مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، وهو أنه التعهد والتبانی، علی

ص:218


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 192.

أساس أن لازم هذا المسلک کون المدلول الوضعی مدلولاً تصدیقیاً، وهو یتطلب تفسیر الانشاء فی هذا الباب بهذا التفسیر لکی یکون المدلول الوضعی للمعاملات مدلولاً تصدیقیاً، هذا، ولکن ذکرنا فی باب الوضع موسعاً عدم صحة هذا المسلک، ولهذا نقول بأن المدلول الوضعی مدلول تصوری لا تصدیقی، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنه لا شبهة فی أن المعاملات امور إنشائیة تصدر من المتعاملین بالتسبیب، لا أنها امور اعتباریة تصدر منهم بالمباشرة کما مرّ.

ومن ناحیة ثالثة، إن ظاهر المشهور من المعاملة بمعنی المسبب الأثر الشرعی أو العقلائی المترتب علیها خارجاً ترتب المسبب علی السبب، باعتبار أن ترتبه هو النتیجة المطلوبة من قبل المتعاملین ومسبب عن فعلهما، وعلیه فلا یمکن جریان النزاع فی المعاملات بمعنی المسبب، لأنها بهذا المعنی لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود والعدم.

وبکلمة، إن مضمون المعاملة المنشأة من قبل المتعاملین بصیغتها الخاصة من قول أن فعل، یکون بمثابة الموضوع والسبب للأثر الشرعی أو العقلائی، باعتبارأن ترتبه علیها هو النتیجة المتوخّاة من قبلهما، لأن الغرض من هذا الانشاء والاعتبار الشخصی هو الوصول إلی تلک النتیجة وتحققها خارجاً، وعلی هذا فإذا ترتب علی ذلک المنشأ من قبلهما أثر شرعی أو عقلائی، اتصفت المعاملة بالصحة، وإلا فبالفساد، ومعنی اتصافها بالصحة أن المنشأ یصبح شرعیاً، فالملکیة المنشأة من قبل المتعاملین تصبح ملکیة شرعیة قانونیة، وترتب الأثرعلیها منوط بتوفر الشروط المعتبرة فی إنشائها شرعاً، کالبلوغ والعقل وأن لاتکون فضولیاً، وأن تکون بصیغة خاصة إذا کان انشاؤها منوطاً بها، وفی ضوء

ص:219

ذلک إن کان مراد المشهور من المسبب هو ترتب الأثر الشرعی علیها خارجاً کماهو الظاهر منهم، فهو لا یتصف بالصحة والفساد، ولا یمکن جریان النزاع فیه، وإن کان مرادهم منه نفس المنشأ الشخصی فی المعاملة من قبل المتعاملین بقول أوبفعل، فهو یتصف بالصحة إن کانت شروطه متوفرة، وبالفساد إن لم یکن کذلک.

الجهة الرابعة: أن المعاملات إذا کانت أسامی للأسباب، فلا شبهة فی جوازالتمسک بإطلاق أدلة الامضاء، کقوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ونحوهما، حتی علی القول بوضعها للصحیح عند العقلاء، باعتبار أن الصحیح عندهم أعم منه عند الشارع، فإذا شک فی اعتبار شیء فیها شرعاً، فلامانع من التمسک بإطلاقها، لأن صدق لفظ المطلق علی الفاقد للشیء المشکوک فیه لدی العقلاء محرز، والشک إنما هو فی اعتبار أمر زائد علیه، نعم علی هذا القول إذا شک فی اعتبار شیء فیها عند العقلاء، فلا إطلاق لفظی لکی یتمسک به، باعتبار أن الصدق حینئذ علی الفاقد غیر محرز، کما أن الأمر کذلک علی القول بالوضع للصحیح الشرعی.

فالنتیجة أن الثمرة لا تظهر شرعاً بین القولین فی المسألة بناء علی ما هو الصحیح من أن المعاملات أمور عرفیة عقلائیة وموضوعة بإزاء معانیها قبل الشرع والشریعة ومستعملة فیها فی نصوص الکتاب والسنة، وحینئذ فإذا شک فی اعتبار شیء منها شرعاً جزءاً أو شرطاً، فلا مانع من التمسک بإطلاق تلک النصوص علی کلا القولین فی المسألة.

نعم تظهر الثمرة بینهما بناء علی وضعها للصحیح عند الشارع، فإنه علی هذا القول لا یتصور فیها إطلاق لفظی لکی یتمسک به، بینما علی القول بوضعها للأعم یتصور فیه إطلاق لفظی یمکن التمسک به عند الشک فی اعتبار شیء جزءاً أو

ص:220

شرطاً، ولا فرق من هذه الناحیة بین العبادات والمعاملات.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من أن هذا النزاع فی باب المعاملات لا یجری عند الشارع، علی أساس أنه لا یمکن أخذ الصحة الشرعیة فی مسمی المعاملات الذی هو موضوع لأدلة الامضاء، وإلا لکان معنی قوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» أن البیع الممضی ممضی، وهذا مما لا معنی له، لأنه من القضیة بشرط المحمول لا یتم، لما تقدم من أنه لا مانع من تصویر هذا النزاع عند الشارع، ولا فرق من هذه الناحیة بین المعاملات والعبادات، فإن الصحة المأخوذة فی المسمی، سواء کانت فی العبادات أم فی المعاملات، إنما هی واقع الصحة أی الصحة بالحمل الشائع، وهو المرکب المشتمل علی جمیع الأجزاء والقیود الواجد للأثر المطلوب منه، فإذا تعلق به دلیل الامضاء، ترتب علیه ذلک الأثر واتصف بالصحة فعلاً، ومن الواضح أن هذه الصحة الفعلیة لا یمکن أخذها فی المسمی، لأنها متفرعة علی دلیل الامضاء المتعلق به، کما أن الصحة المنتزعة من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به فی الخارج، لایمکن أخذها فی المسمی فی باب العبادات، لأنها متقومة بالأمر، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إنه بناء علی ما استظهرناه سابقاً من أن أسامی العبادات حقائق لغویة وموضوعة بإزائها قبل الاسلام، فأیضاً لا تظهر الثمرة بین القولین فیها، أما علی القول بالأعم فواضح، وأما علی القول بالصحیح، فلأن الصحة عندهم أعم منها عند الشارع بعد الاسلام، فإذن لا فرق بین العبادات والمعاملات من هذه الناحیة أیضاً.

وأما إذا کانت المعاملات أسامی للمسببات، فهل یمکن التمسک باطلاقات أدلة الامضاء من الآیات والروایات لامضاء أسبابها؟ فیه قولان: الأول جواز

ص:221

التمسک بها، والثانی عدم جوازه.

أما القول الأول، فقد اختاره المحقق النائینی قدس سره، وقد أفاد فی وجه ذلک أن نسبة صیغ العقود إلی المعاملات لیست منه الأسباب إلی المسببات لتکونا موجودین خارجیتین تترتب إحداهما علی الأخری ترتباً قهریاً، ویکون تعلق الارادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب، من جهة أن اختیاریة المسبب إنما هی باختیاریة السبب، کما هو الحال فی جمیع الأفعال التولیدیة، بل نسبتها إلیها نسبة الآلة إلی ذیها، والارادة تکون متعلقة بنفس المعاملة ابتداء، کما هو الحال فی سائرالانشاءات، فإن قولنا «بعت» أو «صلّ» لیس بنفسه موجداً للملکیة أوالطلب فی الخارج نظیر إلقاء الحطب فی النار الموجد للاحراق، بل الموجد فی الواقع هو الارادة المتعلقة بإیجاده إنشاء، والخلاصة أنه إذ لم تکن الصیغ من قبیل الأسباب والمعاملات من قبیل المسببات، فلم یکن هناک موجودان خارجیان مترتبان کی لا یکون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر، بل موجود واحد، غایة مافی الباب أنه باختلاف الآلة ینقسم إلی أقسام عدیدة، فالبیع المنشأ بالمعاطاة قسم، وبغیرها قسم آخر، وباللفظ العربی قسم، وبغیر العربی قسم آخر وهکذا، فإذا کان دلیل إمضاء البیع مثلاً فی مقام البیان ولم یقیده بنوع دون نوع، فیستکشف منه عمومه لجمیع الأقسام والأنواع، کما فی بقیة المطلقات حرفاً(1) بحرف.

ولکن للنظر فیه مجالاً، وذلک لأن أدلة الامضاء المتعلقة بالمعاملات بمعنی المسببات، إن کانت ناظرة إلی أسبابها أیضاً وهی صیغ العقود دلت علی إمضائها، سواء أکانت تلک الصیغ مسماة بالأسباب أم بالآلات، وحینئذ فإن کان

ص:222


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 73.

لها إطلاق من هذه الناحیة فلا مانع من التمسک به، وإن لم تکن ناظرة إلی إمضائها، فهی لا تدل علیه وإن کانت مسماة بالآلات، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری، إنه لا ریب فی أن وجود الصیغ فی باب المعاملات مغایرلوجود المسببات فی هذا الباب، فإن المسببات فیه امور إنشائیة اعتباریة لاوجود لها إلا فی عالم الانشاء والاعتبار، بینما تلک الصیغ امور واقعیة حقیقیة موجودة فی الخارج، وهی الألفاظ والأفعال فیه، سواء أکان یعبّر عنهابالأسباب أم بالآلات، فان الاختلاف فی التعبیر لا یغیر الواقع.

فما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن نسبة صیغ العقود إلی المعاملات لیست نسبة الأسباب إلی المسببات، بل نسبتها إلیها نسبة الآلة إلی ذیها، فإن أرید بذلک أنهما لیستا موجودتین فی الخارج حتی تترتب إحداهما علی الاُخری خارجاً قهراً کترتب المسببات الخارجیة علی أسبابها والمعلولات علی عللها، بل الموجود فیه الصیغ فقط دون المسببات، فإنها امور اعتباریة إنشائیة ولا وجود لها إلا فی عالم الإنشاء والاعتبار دون الخارج، ولهذا تکون نسبتها إلیها نسبة الآلات إلی ذیها، فیرد علیه أن نسبة الصیغ إلیها وإن لم تکن کنسبة الأسباب إلی مسبباتها الخارجیة إلا أن ذلک لا یجدی فی دفع الاشکال، وهو أن إمضاء المعاملات بمعنی المسببات لا یستلزم إمضاء صیغها، فإن هذا الاشکال مبنی علی أن وجود الصیغ مباین لوجود المعاملات، فإنها موجودة فی الخارج بوجود حقیقی، والمعاملات موجودة فی عالم الاعتبار والانشاء دون الخارج.

وإن ارید بذلک أن نسبة الصیغ إلی المعاملات إن کانت نسبة الآلة إلی ذیها، فإمضاء ذی الآلة یستلزم إمضاء الآلة، دون ما إذا کانت نسبتها إلیها نسبة السبب إلی المسبب، فیرد علیه أن مجرد التغییر فی الاسم لایغیر الواقع.

ص:223

وعلی ضوء ذلک أن أدلة الامضاء من الآیات والروایات المتّجهة إلی إمضاءالمعاملات بمعنی المسببات، هل تنظر إلی إمضاء کل ما یمکن إیجادها به، سواءأکان ذلک مسمی بالسبب أم بالآلة، فإن المعیار إنما هو بالواقع لا بالتسمیة، فیه قولان:

فذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی القول الأول، وقد أفاد فی وجه ذلک ما ملخصه أن المسببات کالأسباب متعددة، وتنحل خارجاً بعدد الأسباب، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون المراد من المسبب الأمر الاعتباری النفسانی کما اختاره قدس سره أوالوجود الانشائی المتحصل من الصیغة القولیة أو الفعلیة کما هو المشهور بین الأصحاب أو الامضاء العقلائی الذی هو مسبب عن فعل المتعاملین.

أما علی الأول فلأن الاعتبار النفسانی فی کل معاملة غیر الاعتبار النفسانی فی معاملة اخری، فإذا باع داره بالصیغة العربیة وباع فرسه بالصیغة الفارسیة وباع کتابه بالمعاطاة وهکذا، کانت هناک أسباب ومسببات بعددها، لأن الاعتبار المبرز بالصیغة العربیة غیر الاعتبار المبرز بالصیغة الفارسیة، وهما غیرالاعتبار المبرز بالمعاطاة.

وأما علی الثانی فالأمر أوضح من الأول، لأن المنشأ بکل صیغة عربیة أوفارسیة أو فعلیة غیر المنشأ بالأخری.

وأما علی الثالث فالأمر أیضاً کذلک، ضرورة أن العقلاء یمضون کل بیع صادر من البائع إذا کان واجداً للشروط، فإذا باع زید کتابه، فهو مورد لامضاء العقلاء، وإذا باع فرسه کان مورداً لامضائهم، وإذا باع داره فکذلک وهکذا.

وعلی ذلک فإذا أمضی الشارع المسبب الموجود والمبرز باللغة الفارسیة أو بالمعاطاة، فلا محالة أمضی المعاطاة أو الصیغة الفارسیة، إذ لا معنی للقول بامضاء

ص:224

المسبب منها والمنشأ بها دون نفسها.

والخلاصة أن المسبب بأی معنی کان یتعدد بتعدد الأسباب، وإمضاء کل مسبب لا یمکن أن ینفک عن إمضاء سببه، وعلی هذا فلا مانع من التمسک بإطلاق أدلة الامضاء بالنسبة إلی الأسباب أیضاً، فإنها إذا کانت مطلقة بالنسبة إلی المسببات، فهی مطلقة بالنسبة إلی الأسباب أیضاً، علی أساس أنها تنحلّ بانحلال المسببات، فیکون لکل مسبب إمضاء، والمفروض أن انحلال المسببات إنما هو بانحلال أسبابها، فإذن تدل أدلة الامضاء علی إمضاء المسببات بالمطابقة، وعلی إمضاء الأسباب بالالتزام(1), هذا.

ولکن الظاهر هو القول الثانی، وهو عدم إمکان التمسک بإطلاقات أدلة الامضاء بالنسبة إلی الأسباب، وذلک لأن مفاد أدلة الامضاء إعطاء قاعدة کلیة لا إمضاء کل مسبب فی الخارج، مثلاً مفاد قوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» هو إمضاء المبادلة بین المالین، یعنی تملیک عین بعوض إذا لم تکن ربویة، وأما إمضاؤها عن کل طریق وسبب یمکن إیجادها به فهو لا یدل علیه، ولیس مفاده إمضاء کل مبادلة تقع فی الخارج وبأی سبب.

وإن شئت قلت: إن المتفاهم العرفی منه هو أن اللَّه تعالی قد منح الناس الفرصة علی إیجاد البیع وهو المبادلة بین المالین فی قبال المنع عنه. وأما أن هذه الفرصة متاحة لهم بأی طریق وسبب یمکن إیجاده به فلا إطلاق له، لأن معنی إمضاء المعاملة عند الشارع والعقلاء، إنما هو إعطاء الفرصة للناس علی إیجادها فی مقابل المنع، کما هو مقتضی قوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» ، فإذا کان ذلک هو معنی إمضاء المعاملة شرعاً وعقلائیاً، فلا إطلاق لفظی فی أدلة

ص:225


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 188.

الامضاء، علی أساس أن إعطاء الفرصة ومنحها للناس لایجاد المسبب کالمبادلة بین المالین مثلاً لا یقتضی منح إیجاده عن أی سبب یمکن إیجاده به.

وعلی هذا فإن کان بین الأسباب قدر متیقن فلابد من الأخذ به، وفی الزائدیرجع إلی الأصل وإن لم یکن بینها قدر متیقن حکم بامضاء الجمیع، إذ الحکم بامضاء البعض دون بعض ترجیح من غیر مرجح.

فالنتیجة أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من التلازم بین إمضاء المسببات وإمضاء الأسباب، لا یمکن المساعدة علیه علی نحو الإطلاق.

الجهة الخامسة: فی ثمرة النزاع بین القولین فی المسألة، ولکن ظهر مما تقدم أن الثمرة لا تظهر بینهما.

وعلل ذلک السید الاُستاذ قدس سره بأن المعاملات تفترق عن العبادات، فإن العبادات بما أنها ماهیة مخترعة من قبل الشارع المقدس، فلو کانت موضوعة للصحیحة فلا یمکننا التمسک بإطلاق أدلتها، لأن الشک فی اعتبار شیء فیها جزءاً أو شرطاً یرجع إلی الشک فی صدق اللفظ بما له من المعنی علی الفاقد للشیء المشکوک فیه، لاحتمال مدخلیته فی المسمی، وهذا بخلاف المعاملات، فإنهاحیث کانت ماهیات مخترعة من قبل العقلاء لحفظ النظام، فلوکانت موضوعة للصحیحة لم یکن مانع من التمسک بالاطلاق، باعتبار أن الصحیح عند العقلاءأعم مورداً من الصحیح عند الشارع، نعم تظهرالثمرة بین القولین فی باب المعاملات أیضاً فیما إذا شک فی اعتبار شیء فیها عند العقلاء جزءاً أو شرطاً کما مرّ(1).

وغیر خفی أن ما ذکره قدس سره من أن المعاملات امور عرفیة عقلائیة وإن کان

ص:226


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 184.

صحیحاً، إلا أن ما ذکره قدس سره من أن العبادات من مخترعات الشارع غیر صحیح، لما تقدم من أن العبادات بصورهاالخاصة المحددة کماً وکیفاً موجودة قبل الاسلام بألفاظها المخصوصة، ولا یتصرف الشارع فیها بعد الاسلام إلا بما لا یکون ذلک من مقوماتها، فإذن لا فرق من هذه الناحیة بین العبادات والمعاملات.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم هذا الفرق، إلا أنه لا یوجب عدم جریان نزاع الصحیح والأعم فی باب المعاملات عند الشارع، لما مرّ من أنه لا فرق بینهمامن هذه الناحیة أیضاً.

فالنتیجة أن الثمرة لا تظهر بین القولین فی المسألة، لا من جهة ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من الفرق بین العبادات والمعاملات، بل من جهة أن أسامی المعاملات أسام عرفیة عقلائیة لا شرعیة، سواء أکان هناک فرق بینهماوبین العبادات أم لا.

الجهة السادسة: قد تسأل هل أن أسامی المعاملات موضوعة للمعاملات بمعنی الأسباب أو المسببات.

والجواب: أنها موضوعة للاُولی دون الثانیة. فلنا دعویان:

الاُولی: أنها موضوعة للمعاملات بمعنی الأسباب.

الثانیة: أنها لم توضع للمعاملات بمعنی المسببات.

أما الدعوی الاُولی، فلا شبهة فی أن المعاملات بمعنی الأسباب کالبیع والاجارة والنکاح والهبة والصلح وما شاکل ذلک من العناوین الخاصة کلها اسم لفعل المتعاملین، وهو إنشاء مضمون المعاملة من الملکیة أو الزوجیة أو نحوهاعن قصد بصیغتها الخاصة من قول أو فعل، ولا یصدق عنوان البیع مثلاً علی

ص:227

الصیغة فقط، بل علیها بما لها من المضمون الانشائی، فإذا أنشأ البائع تملیک عین بعوض بلفظ أو ما یقوم مقامه وکان جاداً فیه، تحقق البیع فی الخارج وصدق علیها عنوانه الخاص ویکون مشمولاً لدلیل الامضاء کقوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» ، فإنه أوجد البیع الذی أحله تعالی ورخص فیه.

وبکلمة أوضح، إن المعاملات المذکورة متقومة بثلاثة عناصر:

الأول: أداة الانشاء من لفظ أو ما یقوم مقامه.

الثانی: إنشاء مضمون المعاملة بها.

الثالث: أن یکون جاداً فی إنشائه.

فالمعاملة تتکون من هذه العناصر الثلاثة، فإذا تحققت کانت مشمولة لدلیل الامضاء وترتب علیها أثرها القانونی، وهو حکم الشارع بالصحة، فإذا أنشأ البائع المبادلة بین مالین بأداتها من قول أو فعل وکان جاداً فی ذلک ومتوفراً شروطها وشروط المتعاملین، تحقق البیع خارجاً وصدق علیه اسمه وترتب علیه أثره الشرعی، لمکان شمول دلیل الامضاء له.

وأما قصد التسبیب إلی ذلک الأثر، فهل هو معتبر فی تحقق المعاملة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص زائداً علی العناصر المتقدمة، فیه قولان:

فذهب بعض المحققین قدس سره إلی اعتباره فی تحقق المعاملة التی هی بمثابة الموضوع لدلیل الامضاء(1).

ولکن الظاهر أن قصد التسبیب إلی الأثر الشرعی أو العقلائی غیر معتبر فی

ص:228


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 214.

تحقق المعاملة، ولیس من أرکانها وعناصرها المقومة، ومن هنا قد یکون قصد التسبیب إلی الأثر الشرعی أو العقلائی القانونی أمراً مغفولاً عنه عن أذهان المتعاملین، ولهذا لم یؤخذ فی تعریف المعاملة کالبیع أو نحوه، وأدلة الامضاء لاتدل علی أن قصد التسبیب دخیل فی تحقق المعاملة وأنه من أحد عناصرها المقومة، لأن مفادها إمضاء المعاملات بعناوینها الخاصة کالبیع والاجارة والنکاح والصلح وغیرها، والترخیص فی إیجادها.

ودعوی أن البیع أو نحوه من المعاملات معاملات تسبیبیة متقومة بالقصد، مدفوعة بأن ذلک إنما هو من جهة أن الشارع جعلها سبباً لترتب الأثر الشرعی وموضوعاً له، ومن الواضح أن قصد موضوعیة الموضوع غیر معتبر فی موضوعیته، وکذلک قصد سببیة السبب.

هذا إضافة إلی أن البائع إذا کان فی مقام إنشاء البیع وکان جاداً فی ذلک، فلامحالة یکون قصد التسبیب موجوداً فی أعماق نفسه ارتکازاً، فلا یلزم قصده تفصیلاً، إلا أن یکون مراده قدس سره من قصد التسبیب أعم من قصده ارتکازاً.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن ألفاظ المعاملات المعنونة بعناوین خاصة أسام لها، شریطة وجدانها للعناصر الثلاثة المتقدمة.

أما الدعوی الثانیة، فلأنه إن ارید بالمسبب الشرعی نفس الحکم الشرعی، وهو حلیّة إیجاد البیع والترخیص فیه الذی هو مفاد أدلة الامضاء، فلا شبهة فی أن المعاملات لیست أسامی له، فإن المعاملات موضوعة ومتعلقة له، وإن أریدبه الأثر الشرعی القانونی الذی هو نتیجة أدلة الامضاء، فلا اثنینیة بین السبب والمسبب حینئذ إلا بالاعتبار، لأن تملیک عین بعوض کما فی البیع سبب بلحاظ أنه تحقق بانشاء البائع بالمباشرة، ومسبب بلحاظ أن الشارع أحل هذا التملیک

ص:229

وأقرّه وأمضاه، فالممضی هو نفس التملیک المذکور الذی هو فعل البائع، وبعدتعلق الامضاء به اتصف بالشرعی، وعلی هذا الأساس فلیس هنا فردان من التملیک لا فی عالم الخارج ولا فی عالم الاعتبار، بل فرد واحد من التملیک وهو المنشأ من البائع بالقصد والاختیار، وحینئذ فإذا تعلق به الامضاء من قبل الشارع صحّ إسناده إلیه أیضاً، فلا اختلاف بینهما إلا بالاعتبار والاضافة، فإنه باعتبار إضافته إلی الشارع مسبب، وباعتبار اضافته إلی البائع سبب.

وبکلمة أوضح إن الانشاء الشخصی الصادر من البائع فی باب البیع کتملیک عین بعوض، تارة یکون مورداً لامضاء الشارع إذا کان واجداً لشرائط الامضاء، واُخری لا یکون مورداً له کما إذا لم تتوفر فیه الشروط المعتبرة من قبل الشارع، ولکن یکون مورداً لامضاء العقلاء بلحاظ توفر شروط إمضائهم فیه، وثالثة لا یکون مورداً لا لهذا ولا لذاک.

أما علی الأول، فلأن للمنشأ بهذا الانشاء الشخصی ثبوت وتحقق فی عالم الاعتبار والانشاء لدی الشارع، وکان یتصف بالصفة الشرعیة ویترتب علیه آثاره، ولا اثنینیة بین ما یسمی بالسبب وما یسمی بالمسبب ذاتاً وحقیقة، فالاختلاف بینهما إنما هو بالاعتبار، وعلی هذا الأساس لا معنی للنزاع فی أن ألفاظ المعاملات موضوعة للسبب أو المسبب إلا إذا کانت حیثیة إضافته إلی الشارع دخیله فی المسمی، وهی غیر محتملة.

وأما علی الثانی، فلأن للمنشأ بهذا الانشاء الشخصی ثبوت وتحقق فی عالم الاعتبار والانشاء لدی العقلاء دون الشرع، أی لا ثبوت له فی هذا العالم لدی الشارع، ومن هنا یکون البیع صحیحاً عند العقلاء ولا یکون صحیحاً عند الشارع.

ص:230

وأما علی الثالث، فلأنه لا ثبوت للمنشأ بالانشاء المذکور لا عند الشارع ولا عند العقلاء، باعتبار أن شروط الصحة غیر متوفرة فیه مطلقاً حتی عند العقلاء، وإنما له ثبوت وتحقق شخصی عند المتعاملین مع علمهما بعدم ثبوته لاعند الشارع ولا عند العقلاء.

ومن هنا یظهر أن المراد من المسبب لیس هو نفس إمضاء الشارع وحکمه بالحلیة، بل المراد منه هو الممضی والمحلل شرعاً الذی هو متمثل فی الملکیة المنشأة بإنشاء المتعاملین أو الزوجیة المنشأة بإنشاء المتعاقدین فی باب النکاح وهکذا، فالنتیجة أنه لا تعدد بین السبب والمسبب ذاتاً وحقیقة، والاختلاف بینهما إنما هو بالاعتبار، هذا.

وقد یقال: إن السبب عبارة عن أداة الانشاء فحسب من لفظ أو ما یقوم مقامه، وهو غیر المسبب الذی هو عبارة عن مضمون المعاملة، وهو الملکیة أوالزوجیة.

ولکن هذا القول غیر صحیح، إذ من الواضح جداً أن المراد من السبب لیس هو نفس الأداة للانشاء، بل هی أداة للسبب الذی هو نفس إنشاء مضمون المعاملة بها عن جد.

إلی هنا قد تبین أن المعاملة کالبیع أو نحوه اسم لمجموع العناصر الثلاثة المتقدمة.

الجهة السابعة: قد عرفتم أن المعاملات متقومة بالعناصر والأرکان الثلاثة، ونتیجة ذلک أنها موضوعة للأعم، وهو الجامع بین ما ینطبق علی المعاملة المشتملة علی الأرکان الثلاثة فقط والمشتملة علیها وعلی غیرها من الأجزاء والشروط غیر المقومة علی حد سواء، نظیر ما ذکرناه فی باب العبادات،

ص:231

ویدل علی ذلک أمران:

الأول: صحة إطلاق المعاملة علی المعاملة الفاسدة کإطلاقها علی المعاملة الصحیحة بلا فرق بینهما فی ذلک، مثلاً إطلاق البیع علی البیع الفاسد کإطلاقه علی البیع الصحیح علی حد سواء، وهذا یکشف عن أن المعنی الموضوع له هوالجامع بین الصحیح والفاسد، واللفظ مستعمل فیه دائماً، وإرادة کل من الخاص إنما هی بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول.

الثانی: أن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم منذ بدایة الوحی قد طرح نفس هذه الأسماء فی نصوص الکتاب والسنة لإفادة معانیها علی المجتمع الاسلامی من الصحابة والتابعین له بدون أی استغراب منهم علی هذا الطرح، بل یظهر منها أنهم کانوامأنوسین بها، وهذا یدل علی أن المعاملات کانت موجودة بنفس تلک الأسامی قبل الاسلام ودارجة بها بین العرب فی الجزیرة، إذ من الواضح أنها لولم تکن دارجة بین الناس قبل الاسلام بنفس الأسامی الموجودة فی نصوص الکتاب والسنة، بأن تکون موجودة بأسامی ولغات اخری من العبرانیة أو السریانیة، لکان طرح النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم المعاملات منذ بدایة الوحی بهذه الأسماء والألفاظ العربیة الخاصة أمراً مستغرباً عندهم، حیث إنهم کانوا مأنوسین بألفاظ اخری دون هذه الألفاظ، فعدم استغرابهم من هذا الطرح، یکشف عن أنها کانت موجودة بنفس هذه الألفاظ قبل الاسلام، غایة الأمر أن الشارع بعد الاسلام قداعتبر فیها جزءاً أو شرطاً أو مانعاً لم یکن معتبراً فیها عند العقلاء ولا مانعاً، ومن هنا لا ملازمة بین الصحیح لدی العقلاء والصحیح عند الشارع، فربّما تکون المعاملة صحیحة عند العقلاء ولا تکون صحیحة عند الشارع.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنه لا شبهة فی أن المعاملات موضوعة للأعم

ص:232

دون الصحیح.

نتیجة بحث الصحیح والأعم تمثل عدة نقاط:

الاُولی: أن النزاع فی وضع أسماء العبادات والمعاملات للصحیح أو الأعم یجری علی جمیع الأقوال فی مسألة الحقیقة الشرعیة، أما علی القول بوضعها من قبل الشارع بإزاء المعانی الشرعیة فالأمر واضح، وکذلک علی القول بوضعهابإزاء تلک المعانی قبل الاسلام، وأما علی القول بالمجاز، فالصحیح فی تصویره أن یقال: إن مفاد القرینة العامة التی یعتمد علیها الشارع فی استعمال هذه الألفاظ الخاصة فی المعانی الشرعیة مجازاً، هل هو استعمال الشارع تلک الألفاظ فی المعانی الصحیحة وإرادة الأعم بحاجة إلی قرینة خاصة، أو استعمالها فی الأعم وإرادة الصحیحة بحاجة إلی قرینة خاصة؟ والأعمی یدعی الأول، والصحیحی یدعی الثانی علی تفصیل تقدم.

نتیجة بحث الصحیح والأعم

الثانیة: أن تفسیر الصحة بمعنی التمامیة غیر واقعی، لأن التمامیة بمعنی وجدان الشیء لذاته وذاتیاته لیست مساوقة للصحة، سواء أکان ذلک الشیء بسیطاً أم مرکباً، وکذلک بمعنی وجدان الشیء للأجزاء والشرائط، بل الظاهر أن التمامیة بمعنی وجدان الشیء للحیثیة المطلوبة منه مساوقة للصحة، وهذه الحیثیة هی حیثیة إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشریعة فی العبادات.

الثالثة: قد تقدم أنه لا شبهة فی أن الصحة من ناحیة الأجزاء والشرائط علی القول بالصحیح معتبرة فی مسمی العبادة کالصلاة ونحوها، ولا طولیة بینهما لا فی عالم الوجود ولا فی عالم آخر، وأما الصحة من ناحیة قصد القربة، فهی منوطة بإمکان أخذه فی المسمی الذی هو متعلق الأمر، وأما الصحة من ناحیة عدم المزاحم والنهی عن العبادة، فلا تکون مأخوذة فی المسمی.

ص:233

الرابعة: أن علی کل من الصحیحی والأعمی تصویر جامع بین أفراد العبادات لکی تکون أسماؤها موضوعة بإزاء ذلک الجامع، فعلی الصحیحی تصویره بین الأفراد الصحیحة، وعلی الأعمی تصویره بین الأعم منها ومن الفاسدة، علی أساس أن احتمال الاشتراک اللفظی أو الوضع العام والموضوع له الخاص غیر موجود علی تفصیل تقدم سابقاً.

الخامسة: أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أنه لا ضرورة تدعو إلی تصویرجامع بین أفراد العبادات علی کلا القولین فی المسألة، غیر تام علی ما تقدم.

السادسة: أن المحقق الخراسانی قدس سره قد استدل علی وجود جامع بین الأفراد الصحیحة بقاعدة فلسفیة، وهی أن «الواحد لا یصدر إلا من واحد» علی أساس اشتراک تلک الأفراد فی أثر واحد، ولکن تقدم أنه لایمکن تطبیق تلک القاعدة علیها فی المقام.

السابعة: أنه لا یعقل وجود جامع ذاتی بسیط بین الأفراد الصحیحة، باعتبارأن الصلاة مرکبة من حقائق مختلفة ومقولات متباینة، والجامع الذاتی بین تلک المقولات غیر معقول.

الثامنة: أنه لا یتصور وجود جامع مرکب بین الأفراد الصحیحة، لأن کل مرکب فرض أنه جامع، فهو صحیح فی حالة وفاسد فی حالة اخری، فلا یمکن تصویره بینها فی تمام الحالات.

التاسعة: أن ما ذکره المحقق العراقی قدس سره - من أن الجامع بین الأفراد الصحیحة لاینحصر بالجامع الذاتی ولا بالجامع العنوانی لکی یقال إن الأول غیرمتصور، والثانی لم یوضع اللفظ بإزائه، بل هنا جامع ثالث وهو الجامع الوجودی بینها - غیر تام.

ص:234

العاشرة: أن ما ذکره المحقق الأصبهانی قدس سره - من أن الجامع بین الأفرادالصحیحة سنخ عمل مبهم من جمیع الجهات إلا من حیث کونه مطلوباً فی أوقات خاصة أو من حیث أثره الخاص کالناهی عن الفحشاء والمنکر - غیر تام.

الحادیة عشرة: أن ما ذکره المحقق القمی قدس سره - من أن أسماء العبادات کالصلاة مثلاً موضوعة بإزاء الأرکان فقط، وأما بقیة الأجزاء والشرائط، فهی دخیلة فی المأمور به دون المسمی - غیر بعید علی تفصیل تقدم.

الثانیة عشرة: ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره - من أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء الأرکان بنحو لا بشرط بالنسبة إلی سائر الأجزاء والشرائط، بمعنی أنهاعند وجودها داخلة فی المسمی وعند عدمها خارجة عنه - غیر تام، لأن الماهیة لا بشرط هی الماهیة المطلقة فی مقابل الماهیة بشرط شیء وبشرط لا التی هی الماهیة المقیّدة بالوجود أو بالعدم، والاطلاق إما بمعنی رفض القیود کما هومختاره قدس سره أو بمعنی عدم التقیید کما قویناه، فعلی کلا التقدیرین لیس معنی لابشرط دخول سائر الأجزاء والشرایط فی المسمی عند وجودها وعدم دخولها فیه عند عدم وجودها، فإن ما ذکره قدس سره من التفسیر لکلمة لا بشرط لیس تفسیراً لها علی ما تقدم.

الثالثة عشرة: أن ما أورده المحقق النائینی قدس سره من أن شیئاً واحداً لا یمکن أن یکون داخلاً فی المرکب عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه، مبنی علی الخلط بین المرکبات الحقیقیة والمرکبات الاعتباریة، فما أفاده قدس سره تام فی المرکبات الحقیقیة دون الاعتباریة.

الرابعة عشرة: یمکن القول بأن ألفاظ المرکبات الاعتباریة کالعبادات ونحوها، موضوعة بإزاء مفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحو الابهام المنطبق

ص:235

علی تجمع الأرکان وحدها وعلی تجمع المشتمل علیها وعلی الأجزاء والشرائط الاُخری، ولکن تقدم أن هذا القول أیضاً غیر تام.

الخامسة عشرة: أن الأرکان المأخوذة فی المسمی طبیعی الأرکان بعرضها العریض ومراتبها الطویلة، فالمأخوذ الطهارة الحدثیة الجامعة بین الطهارة المائیة والترابیة، والرکوع الجامع بین رکوع القائم ورکوع الجالس وهکذا، هذا إذا کان بین البدل والمبدل جامع، وإلا فالمأخوذة کل منهما علی البدل، وما عن السید الاُستاذ من أن الأرکان مأخوذ فیه علی سبیل البدل، لا یتم مطلقاً.

السادسة عشرة: أن حدیث لا تعاد لایدل علی أن الخمسة رکن وتدور الصلاة مدارها وجوداً وعدماً، بل یدل علی أنها دخیلة فی صحة الصلاة حتی فی حال النسیان، وأما روایات التکبیرة، فإنها أیضاً لا تدل علی أنها رکن مقومة للصلاة، نعم روایة التثلیث تدل علی أن الثلاثة مقومة للصلاة ویدور صدقهامدارها وجوداً وعدماً، ولکنها لاتدل علی أنها مسمی الصلاة فقط، وقد تقدم تفصیل ذلک.

السادسة عشرة: أن القول بوضع الصلاة بإزاء معظم الأجزاء، لایرجع إلی معنی محصل کما مرّ.

الثامنة عشرة: الصحیح أن أسماء العبادات موضوعة بإزاء الأعم دون الصحیحة.

التاسعة عشرة: أن الثمرة لا تظهر بین القولین فی الاُصول العملیة، فإن المرجع علی کلا القولین أصالة البراءة.

العشرون: أن الثمرة تظهر بین القولین بالنسبة إلی الاُصول اللفظیة، فإنه

ص:236

علی القول بالأعم لا مانع من الرجوع إلی إطلاق الأدلة من الکتاب والسنة عند الشک فی جزئیة شیء أو شرطیة آخر، وأما علی القول بالصحیح، فلا یمکن التمسک بإطلاقها.

الحادیة والعشرون: الصحیح أن معنی المعاملة أمر إنشائی منشأ بصیغة خاصة من قول أو ما یقوم مقامه، فإذا کان المتعامل جاداً فی ذلک ومتوفراًشروطه، ترتب علیه أثره، ولیس معناه اعتبار الأمر النفسانی فی افق النفس وإبرازه بمبرز ما فی الخارج من قول أو فعل کما بنی علیه السید الاُستاذ قدس سره.

الثانیة والعشرون: أن محل النزاع فی وضع أسماء المعاملات للصحیح أوللأعم، هل هو بنظر الشرع أو العقلاء؟ فذهب السید الاُستاذ قدس سره إلی أنه بنظرالعقلاء وعدم إمکان أن یکون بنظر الشارع، إذ لو کانت موضوعة للصحیح بنظرالشارع، استحال تعلق دلیل الامضاء به، لأن مفاد دلیل الامضاء صحة المعاملة، فلو کانت صحیحة فی المرتبة السابقة، لکان معنی تعلقه بها أن المعاملة الصحیحة صحیحة، وهذا کما تری.

ولکن الصحیح إمکان هذا النزاع بنظر الشارع أیضاً، لأن ما ذکره قدس سره من المحذور مبنی علی وضع أسماء المعاملات للصحیح بالحمل الأولی، وهو مفهوم الصحیح المتقوم بالامضاء، وأما وضعها بإزاء واقع الصحیح - وهو المرکب التام من الأجزاء والشرائط الواجد للأثر المطلوب منه - فلا مانع من وضعها بإزائه، کما هو الحال فی العبادات علی ما تقدم تفصیله.

الثالثة والعشرون: أن المعاملات بمعنی المسببات لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود تارة وبالعدم اخری إذا کان المراد بالمسبب ترتب الأثر الشرعی أوالعقلائی، کما هو ظاهر المشهور، وأما لوکان المراد به الأمر الانشائی المنشأ من

ص:237

قبل المتعاملین بصیغته الخاصة من لفظ أو ما یقوم مقامه کالملکیة أو الزوجیة، فهو یتصف بالصحة تارة وبالفساد اخری.

الرابعة والعشرون: یجوز التمسک بإطلاق أدلة الامضاء علی کلا القولین فی المسألة، ولا تظهر الثمرة بینهما بناء علی ما هو الصحیح من أن المعاملات امورعرفیة عقلائیة، إذ علی هذا فالصحیح عند العقلاء أعم منه عند الشارع، فلامانع حینئذ من التمسک بإطلاق أدلة الامضاء إذا شک فی اعتبار شیء فیها شرعاً، لأن صدق اللفظ بما له من المعنی علی الفاقد للشیء المشکوک فیه محرز، والشک إنما هو فی اعتبار أمر زائد علیه، نعم تظهر الثمرة بینهما إذا شک فی اعتبار شیء فیهاعند العقلاء، فإنه علی القول بالأعم یجوز التمسک بالاطلاق دون القول بالصحیح، وکذلک لو کان هذا النزاع عند الشارع، کما هو الحال فی العبادات.

الخامسة والعشرون: أن ما ذکره السید الاُستاذ قدس سره - من أن أدلة الامضاء لوکانت متجهة إلی إمضاء المعاملات بمعنی المسببات، فهی تدل علی إمضاء أسبابهاأیضاً بالالتزام - لا یتم.

السادسة والعشرون: أن أسماء المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب التی هی متمثلة فی العناصر الثلاثة:

1 - أداة الانشاء من لفظ أو ما یقوم مقامه.

2 - إنشاء مضمون المعاملة بها.

3 - أن یکون جاداً فی ذلک.

ص:238

الرابع عشر: المشتق

اشارة

ها هنا جهات من البحث.

الجهة الاُولی: فی تنقیح موضوع البحث وتحدیده سعةً وضیقاً.

وغیر خفی أن موضوع البحث فی المسألة ومحوره الاسم فی مقابل الفعل والمصدر، فإنهما خارجان عن محل النزاع کما سوف نشیر إلیه.

ثم إن الاسم علی أنواع.

النوع الأول: متمثل فی الاسم الذی یکون مفهومه منتزعاً عن مقام ذاته وذاتیاته، وهی جنسه وفصله الذاتیین بلا دخل لأی شیء خارج عن مقام ذاته وذاتیاته فیه، وذلک کمفهوم الانسان والحیوان والشجر والحجر وما شاکل ذلک، فإن تلک المفاهیم منتزعة عن ذوات هذه الأسماء بذاتها وذاتیاتها علی أثر اتصاف تلک الذوات بالمبادیء الذاتیة لها، کاتصاف ذات الانسان بصورته النوعیة وهی صورة الانسانیة، فإن هذا الاتصاف هو المنشأ لانتزاع مفهوم الانسان وهکذا.

النوع الثانی: متمثل فی الاسم الذی یکون مفهومه منتزعاً عن أمر خارج عن ذاته وذاتیاته بملاک اتصاف ذاته به، وذلک کمفهوم الزوج والزوجة والرق والحروما شابه ذلک.

النوع الثالث: متمثل فی الاسم الذی یکون وصفاً اشتقاقیاً، وذلک کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبهات بالفعل وأسماء الأزمنة والأمکنة ونحوذلک، هذا من ناحیة.

ص:239

ومن ناحیة اخری إن دخول کل اسم فی موضوع البحث منوط بتوفرأمرین فیه:

المشتق

أحدهما: أن یکون الاسم جاریاً علی الذات المتلبّسة بالمبدأ بنحو من أنحاء التلبس ومحمولاً علیه حقیقة.

وثانیهما: بقاء الذات فی حال انقضاء المبدأ عنها وعدم استحالة ذلک، بأن تکون الذات جامعة بین الفرد المتلبس بالمبدأ والفرد المنقضی عنه المبدأ.

وعلی ضوء هذا الأساس فالنوع الأول من الأسماء خارج عن موضوع النزاع فی المسألة، لعدم توفر شیء من الشرطین فیه، أما عدم توفر الشرط الأول فلأنه عین ذاته وذاتیاته، فلذلک لایمکن حمله علیها إلا بالحمل الأولی الذاتی لابالشائع الصناعی، لأن حمل الانسان علی الحیوان الناطق حمل أولی لا شائع، وأما عدم توفر الشرط الثانی فلأن بقاء الذات فیه مع انقضاء المبدأ عنها مستحیل، علی أساس أنه ذاتی لها من الذاتی باب الکلیات، ولا یعقل بقاء ذات الانسان مع زوال صورته النوعیة.

وأما النوع الثانی من الأسماء، فالظاهر أنه داخل فی محل النزاع، علی أساس أن کلا الشرطین متوفر فیه، أما توفر الأول فلمکان صحة حمله علی الذات، کقولک «زید زوج» أو «رق» أو «حر» و «هند زوجة» وهکذا. وأما توفر الثانی فلأن الذات لا تنتفی بانتفاء المبدأ عنها، لأنه لیس من مقوماته.

وأما النوع الثالث، فهو القدر المتیقن من دخوله فی محل النزاع.

فالنتیجة أن دخول کل اسم فی محل النزاع منوط بتوفر الشرطین المذکورین فیه. ومن هنا یظهر أن خروج الأفعال والمصادر عن محل النزاع إنما هو من جهة

ص:240

عدم توفر الشرط الأول فیهما، وهو صحة الحمل والجری علی الذات.

قد یقال کما قیل: إن لازم اعتبار الشرط الثانی خروج مجموعة کبیرة من العناوین الاشتقاقیة عن محل النزاع.

منها العناوین التی تکون مبادئها من لوازم ذواتها، فیستحیل انفکاکها عنهاخارجاً، وذلک کالممکن والممتنع والواجب والمعلول والعلة وما شاکل ذلک، فإن مبادیء هذه العناوین وإن کانت حیثیة عرضیة لها، إلا أنها لازمة لذاتها ولایمکن زوالها عنها إلا بزوال ذاتها، ولهذا تکون تلک المبادیء من الذاتی باب البرهان، مثلاً إمکان الممکن منتزع عن مقام ذاته لا عن شیء خارج عن ذاته، وإلا لزم أن یکون الممکن خالیاً عن الامکان فی مرتبة ذاته، وهذا مستحیل، لاستلزام ذلک انقلاب الممکن إلی أحد أخویة، ونفس الشیء یقال فی الواجب والممتنع والمعلول والعلة ونحوها.

فمن أجل ذلک ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی خروج هذه العناوین عن محل النزاع کالعناوین الذاتیة، ولا معنی للبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو للجامع بینه وبین المنقضی عنه المبدأ، باعتبار أن انقضاء المبدأ عنهالا یتصور إلا بانقضاء نفس الذات فی الخارج.

وإن شئت قلت: إن المواد الثلاث وهی الوجوب والامکان والامتناع وإن کانت خارجة عن ذات الشیء وذاتیاته، إلا أنها منتزعة عن مقام ذاته لا عن شیء خارج عن ذاته، ولهذا تکون من الخارج المحمول، ولا یعقل خلوّ شیء من الأشیاء فی الواقع عن إحدی هذه المواد الثلاث فی الخارج، ومن هذا القبیل العلیة والمعلولیة، فإنهما منتزعتان عن مقام ذات العلة وذوات المعلول، وهما وإن کانتا خارجتین عن مفاد ذاتیهما ولکن لایعقل زوالهما مع بقاء الذات، وإلا لزم

ص:241

اتصاف ذات العلة وذات المعلول بغیرهما، وهو کما تری(1).

وقد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ قدس سره بتقریب أن وضع الهیئات لو کان شخصیاً کوضع المواد، فلا یمکن دفع هذا الاشکال، ضرورة أنه لا معنی للبحث حینئذ عن أن هذه الهیئات الخاصة موضوعة لخصوص الذات المتلبسة بالمبدأ فعلاً أو للأعم منها ومن الذات المنقضیة عنها المبدأ رغم أن بقاء الذات فیها مع انقضاء المبدأ عنها مستحیل، وأما إذا کان وضعها نوعیاً کما هو کذلک، فلا مجال لهذا الأشکال، لأن النزاع عندئذ إنما هو فی وضع الهیئة الجامعة بین الهیئات الخاصة التی لا یمکن فیها بقاء الذات مع زوال المبدأ عنها والهیئات الاُخری التی یمکن فیها بقاء الذات مع زوال المبدأ عنها، لأن البحث عن وضع الهیئة الجامعة سعةً وضیقاً لا یکون لغواً بعدما کانت الذات باقیة بعد زوال المبدأ فی جملة کثیرة من أفرادها، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن النزاع إنما هو فی وضع هیئة «مفعول» وهیئة «فاعل» وهیئة «مفعل»، ومن الواضح أن هذه الهیئات لاتختص بالمواد التی هی منتزعة عن مقام ذاتها وذاتیاتها ولازمة لها، بحیث لایعقل زوالها مع بقاء ذاتها، کالممکن والممتنع والواجب والعلة والمعلول ونحوها لکی لا یجری النزاع فیها، بل تشمل ما یمکن فیه بقاء الذات مع زوال التلبس بالمبدأ وانقضائه عنها، کالمقیم والمنعم والضارب والمالک والمملوک والقادر والمقدور وهکذا.

والخلاصة أن وضع الهیئات بما أنه نوعی، فلا موجب لخروج تلک العناوین عن محل النزاع. فإن الخارج عن محل النزاع أمران لا غیر.

ص:242


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 79.

الأول العناوین الذاتیة، والثانی الأفعال والمصادر(1), هذا.

ویمکن التعلیق علی ذلک بتقریب أنه لا مانع من الالتزام بدخول تلک العناوین فی محل النزاع حتی القول بأن وضع الهیئات شخصی کوضع المواد، وذلک لأن استحالة وجود فرد فی الخارج لا تمنع عن إمکان الوضع بإزاء مفهوم جامع بینه وبین فرد آخر إذا کان الجامع قابلاً للتصور واللحاظ.

وعلی هذا فدخول العناوین المذکورة فی محل النزاع مبتن علی رکیزتین:

الاُولی: إمکان تصور الجامع بین الفرد المتلبّس والمنقضی.

الثانیة: أن استحالة تحقق الفرد المنقضی فی الخارج لاتمنع عن الوضع بإزاء الجامع.

أما الرکیزة الثانیة فالظاهر أنه لا وجه للنقاش فیها، إذ استحالة أحد فردی الجامع فی الخارج لا تمنع عن إمکان الوضع بإزاء جامع بینه وبین الفرد الآخر، وعلی هذا فلا مانع من وضع المشتق بإزاء جامع بین المتلبّس بالمبدأ فعلاً وبین المنقضی عنه المبدأ وإن استحاال وجود الفرد المنقضی فی الخارج.

ودعوی أن مثل هذا الوضع لغو ولا فائدة فیه، مدفوعة بأنه إنما یکون لغواً إذا کان الفرض مترتباً علی فرده فی الخارج، وهو خصوص المتلبس فی المقام، بحیث لا یستعمل اللفظ إلا فیه دون الجامع، وأما إذا فرض أن اللفظ مستعمل فی الجامع واستفادة الفرد إنما هی بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، فلایکون لغواً.

فالنتیجة، أن الجامع بین المتلبس والمنقضی إذا کان متصوراً، فاستحالة

ص:243


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 229.

وجود الفرد المنقضی فی الخارج لا تمنع عن الوضع بإزاء الجامع.

وأما الرکیزة الاُولی: فقد یقال إن الجامع بین الفرد المتلبّس والمنقضی فی العناوین المذکورة غیر متصور حتی یکون اللفظ موضوعاً بإزائه، فلذلک تخرج عن محل النزاع، فیکون حالها من هذه الناحیة حال العناوین الذاتیة، فکما أن الجامع بینهما فی تلک العناوین غیر متصور، لاستلزامه التناقض فی عالم التصور واللحاظ، فکذلک فی هذه العناوین.

بیان ذلک أن تصور الجامع بین الذات المتلبسة بالامکان مثلاً والذات الفارغة عنها الامکان یستلزم فی نفس الوقت عدم تصوره بینهما، علی أساس أن الذات الفارغة عنها الامکان لیست بذات الممکن حتی یکون هذا الجامع جامعاً بین فردیها، وهذا هو معنی التناقض فی عالم التصور واللحاظ، کما هو الحال فی العناوین الذاتیة.

والخلاصة أن خروج هذه العناوین العرضیة عن محل النزاع لیس من جهة استحالة وقوع الفرد المنقضی فیها خارجاً، بل من جهة عدم إمکان تصورالجامع بین الفردین فیها واستلزامه التناقض فی هذه المرحلة أی مرحلة التصور, هذا.

والجواب، أن استحالة انفکاک المبدأ عن الذات فی الشرط الثانی تتصورعلی نحوین:

الأول: أنها وقوعیة فعلیة، لا ذاتیة منطقیة.

الثانی: أنها ذاتیة منطقیة.

وعلی هذا فالاستحالة إن کانت علی النحو الأول، فهی لاتمنع عن تصور

ص:244

الجامع بینهما فی عالم المفهوم، وإن کانت علی النحو الثانی تمنع عن تصوره، وحیث ان استحالة الانفکاک فی تلک العناوین وقوعیة فعلیة لا ذاتیة منطقیة، فلاتمنع عن حضور الجامع بین فردی المتلبس والمنقضی فیها، وذلک لأن المبدأ فی العناوین المذکورة مغایر للذات مفهوماً ومصداقاً، غایة الأمر أنه لا ینفک عنهاخارجاً، لأنه من لوازمها الذاتیة من الذاتی باب البرهان، ولکن ذلک لا یمنع عن تصور الجامع بینهما، لأن المبدأ إذا کان مغایراً مع الذات کما هو المفروض فی العناوین المذکورة، أمکن تصور الذات فارغة ومنقضیة عنها المبدأ فی عالم التصور واللحاظ، ولا یلزم من ذلک عدم تصورها حتی یکون تصورهامستحیلاً بملاک التناقض فی نفس عالم التصور واللحاظ، وإنما یلزم ذلک إذا کان المبدأ عین الذات حقیقة کما فی العناوین الذاتیة کالانسان والحیوان ونحوهما، فإنه لا یمکن تصور ذات الانسان فارغة عن مبدئها وهو الانسانیة التی هی صورتها النوعیة المقومة، بداهة أن تصورها کذلک لیس تصوراً لها فی نفس الوقت، فیلزم حینئذ التناقض فی عالم التصور واللحاظ، وهو مستحیل.

وبکلمة، إن تصور الشیء بدون صورته النوعیة المقومة له وبقطع النظر عنهالیس تصوراً له، وهذا معنی أنه یلزم من تصوره کذلک عدم تصوره، وما یلزم من تصوره عدم تصوره، فتصوره مستحیل، وأما تصور ذات الممکن بدون الامکان وبقطع النظر عنه، فهو بمکان من الامکان، باعتبار أن مبدئها مغایر لها، فلا مانع من التفکیک بینهما فی عالم التصور واللحاظ، وإنما لا یمکن ذلک فی عالم الواقع والخارج، وعلی هذا فبإمکان الواضع تصور الجامع بین الذات المتلبسة بالامکان والذات الفارغة عنها الامکان ووضع لفظ «الممکن» بإزائه، ونفس الشیء یقال فی نظائره، غایة الأمر أن تحقق الفرد المنقضی فی الخارج مستحیل.

ص:245

فالنتیجة أن استحالة وقوع الفرد المنقضی فی الخارج لا تمنع عن دخول العناوین المذکورة فی محل النزاع ووضع اللفظ بإزاء الجامع بعد إمکان تصوره.

ومن هنا یظهر أن المراد من استحالة انفکاک المبدأ عن الذات فی الشرط الثانی هو الاستحالة الذاتیة المنطقیة، وحینئذ فاشتراط عدمها مساوق لاشتراط المغایرة بین المبدأ والذات ولو کان المبدأ لازماً لها خارجاً، وأما إذا کان المبدأ متحداً مع الذات ومقوماً لها حقیقة وذاتاً، فلا یکون هذا الشرط متوفراً فیه کمافی العناوین الذاتیة مثل الانسان والحیوان والشجر والحجر ونحوها، فإن مبدأ الانسان المتمثل فی صورته النوعیة المقومة وهی الانسانیة لا یعقل انفکاکه عنه لا فی عالم الخارج ولا فی عالم التصور واللحاظ، بداهة أنه لا یمکن تصور ذات الانسان فارغة عن الانسانیة، لأنه لیس تصوراً لها، فیلزم حینئذ من فرض تصورها عدم تصورها، وهو مستحیل.

إلی هنا قد تبین أن العناوین العرضیة التی یکون مبدؤها لازماً لذاتها من الذاتی باب البرهان، داخلة فی محل النزاع حتی علی القول بأن وضع الهیئات شخصی، وأما العناوین الذاتیة التی یکون مبدؤها مقوماً لذاتها من الذاتی باب الکلیات، فهی خارجة عن محل النزاع.

ومنها ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن أسماء الأزمنة خارجة عن محل النزاع، بتقریب أن الشرط الثانی وهو إمکان انخفاظ الذات مع زوال المبدأ عنهاغیر متوفر فیها، باعتبار أن الذات فیها هی نفس الزمان، وهو ینصرم آناً فآناً ولا یعقل انخفاظه وبقاؤه، وعلی هذا فالزمان الذی وقع فیه المبدأ فقد انصرم ومضی، والزمان الذی هو موجود فعلاً لم یقع فیه المبدأ، ونتیجة ذلک أن الشرط

ص:246

الثانی غیر متوفر فیها، فلذلک تکون خارجة عن محل النزاع(1).

وقد اجیب عن ذلک بوجوه:

الأول: ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن هذا الاشکال مبنی علی أن یکون لأسماء الأزمنة وضع علی حدة فی قبال أسماء الأمکنة، ولکن الأمر لیس کذلک، فإن الهیئة المشترکة بینهما وهی هیئة «مفعل» موضوعة بوضع واحد لمعنی واحدکلی، وهو ظرف وقوع الفعل فی الخارج أعم من أن یکون زماناً أو مکاناً، وقدمرّ أن النزاع فی المقام إنما هو فی وضع الهیئة بلا نظر إلی مادة دون مادة، فإذا لم یعقل بقاء الذات فی مادة مع زوالها، لم یوجب ذلک عدم جریان النزاع فی الهیئة نفسها التی هی مشترکة بین ما یعقل فیه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها وما لایعقل فیه ذلک، وحیث إن الهیئة فی محل البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بین الزمان والمکان، کان النزاع فی وضعها لخصوص المتلبس أو الأعم نزاعاً معقولاً، غایة الأمر أن الذات إذا کانت زماناً لم یعقل بقاؤها مع زوال التلبّس عن المبدأ، وإذا کانت مکاناً یعقل فیه ذلک، ولا مانع من وضع اللفظ للجامع بین الفرد الممکن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهیمه. نعم، لو کانت هیئة اسم الزمان موضوعة بوضع علی حدة لخصوص الزمان الذی وقع فیه الفعل، لم یکن مناص من الالتزام بخروج اسم الزمان عن محل النزاع(2) ، وقد سبقه فی هذا الجواب المحقق الأصبهانی قدس سره(3).

ولنا تعلیق علی هذا الجواب، وحاصل هذا التعلیق هو أن هیئة اسمی الزمان

ص:247


1- (1) کفایة الاصول ص 40.
2- (2) (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 232.
3- (3) نهایة الدرایة ج 1 ص 172.

والمکان وإن کانت هیئة واحدة ومشترکة بینهما، إلا أن اشتراکهما فیها إنما هو فی اللفظ فقط لا فی المعنی، وذلک لأن معنی کل من اسمی الزمان والمکان معنی حرفی، ولیس معناه مفهوم الظرفیة بالحمل الأولی الذی هو مفهوم اسمی، بل واقع الظرفیة الذی هو ظرف بالحمل الشائع ونسبة بین الظرف والمظروف، وحیث إن النسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها، فبطبیعة الحال تختلف النسبة الظرفیة فی ظرف الزمان عن النسبة الظرفیة فی ظرف المکان، علی أساس أن شخص طرفیها فی الأول یختلفان عن شخص طرفیها فی الثانی، فإذن لا محالة تختلف النسبتان ولا یعقل اشتراکهما فی جامع ذاتی، لما ذکرناه فی بحث الحروف من أن الجامع الذاتی بین أنحاء النسب والروابط غیر معقول، لأن المقومات الذاتیة لکل نسبة مباینة للمقومات الذاتیة للنسبة الاُخری، ومع إلغائها فلا نسبة فی البین، ومع الحفاظ علیها، فالنسب وإن کانت ثابتة إلا أنهامتباینات بالذات والحقیقة.

وعلی هذا فما أفاده قدس سره من أن هیئة «مفعل» موضوعة بوضع واحد لمعنی واحد کلی فلا یمکن المساعدة علیه، لأنه إن ارید بالمعنی الکلی الجامع الذاتی بین ظرف الزمان وظرف المکان، فقد عرفت أن الجامع الذاتی بینهما غیر متصور، وإن ارید به الجامع العنوانی الانتزاعی، فهو وإن کان أمراً معقولاً وجامعاً بینهما إلا أن الهیئة المشترکة لم توضع بإزائه، لأنه مفهوم اسمی لا حرفی، ومعنی الهیئة معنی حرفی.

ودعوی أنه لا مانع من الالتزام بوضع الهیئة للنسبتین بالوضع العام والموضوع له الخاص، بأن یتصور الواضع الجامع العنوانی بینهما، وهوعنوان الظرفیة ویوضع اللفظ بإزاء واقعه وهو النسبتان بنحو الوضع العام

ص:248

والموضوع له الخاص.

مدفوعة بأن لازم ذلک أن الصیغة المشترکة لا تدل علی خصوصیة کون الظرف زمانیاً أو مکانیاً إلا بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، باعتبار أن حالها حینئذ حال اللفظ المشترک بین معنیین أو أکثر مع أن الأمر لیس کذلک، فإن الصیغة بنفسها تدل علی الخصوصیة من الزمانیة أو المکانیة.

ولکن غیر خفی أن هذا الدفع لا یخلو عن تأمل، وذلک لأن النسبة الظرفیة فی أسماء الأزمنة مباینة للنسبة الظرفیة فی أسماء الأمکنة من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منها مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، ومن الواضح أن الدال علی الاُولی، وبما لها من خصوصیة کون الظرفیة زمانیة هو اسماء الأزمنة، والدال علی الثانیة کذلک هو أسماء الأمکنة، ولکن مع هذا فمن یقول بأن الهیئة المشترکة موضوعة بإزاء النسبتین بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص أو بنحوالاشتراک اللفظی فلا مجازفة فیه، بقرینة أنها لا تدل بنفسها علی الخصوصیة الخاصة بدون قرینة علیها، کخصوصیة کون الظرف زمانیاً أو مکانیاً، مثلاً إذا قیل «مقتل زید» فلا تدل الهیئة علی شیء من الخصوصیتین، فالدلالة علیهابحاجة إلی ضم قرینة فی البین من الحالیة أو المقامیة أو غیرها، وما مر من أن الهیئة بنفسها تدل علی الخصوصیة لعله خلاف الوجدان.

الثانی: ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن انحصار مفهوم کلی فی فردین أحدهما ممکن والآخر ممتنع، لایوجب عدم إمکان وضع اللفظ للکلی لیضطر إلی وضعه للفرد الممکن، فإن له أن یلاحظ المعنی الجامع بین الفردین ووضع اللفظ له، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإن انحصار مفهوم اسم الزمان فی فرد وهو الفرد المتلبس لا یوجب وصفه له، بل یمکن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بإزائه،

ص:249

لأن إنحصاره فی الخارج فی فرد وهو الزمان المتلبس بالمبدأ بالفعل وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان المنقضی عنه المبدأ لا یمنع عن وضع لفظ للجامع بین الفردالممکن والمستحیل، ومن هنا وقع النزاع فی وضع لفظ الجلالة (اللَّه) وأنه اسم للجامع أو علم لذاته المقدسة، فلو لم یکن الوضع للکلی الجامع بین الممکن والممتنع لم یصح النزاع فیه، بل کان المتعین أنه علم لا اسم جنس، بل قال قدس سره إن کلمة الواجب موضوعة للمعنی الجامع مع استحالة سائر أفراده غیر ذاته تعالی وتقدس(1) ، هذا.

وقد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن وضع لفظ للمعنی الجامع بین الفرد الممکن والممتنع وإن کان ممکناً بل لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد المستحیل، کوضع لفظ بسیط للحصة المستحیلة من الدور أو التسلسل أو لمفهوم اجتماع النقیضین فضلاً عن الوضع للجامع بین ما یمکن وما یستحیل، کما هو الحال فی لفظ الدور والتسلسل والاجتماع وما شاکل ذلک، فإن الجمیع وضع للمفهوم العام مع امتناع بعض أفراده فی الخارج، ولکن وقوع مثل هذا الوضع متوقف علی تعلق الحاجة بتفهیم الجامع المذکور، وذلک لأن الغرض من الوضع والداعی إلیه التفهیم والتفهم فی المعانی التی تتعلق الحاجة بإبرازها کما فی الأمثلة المذکورة، لأن الحاجة کثیراً ما تتعلق باستعمال تلک الألفاظ فی الجامع، بل تطلق کثیراً ما ویراد منها خصوص الفرد المستحیل والحصة الممتنعة، وأما إذا لم تتعلق الحاجة بذلک فیکون الوضع لغواً، وحیث إن الحاجة لم تکن متعلقة باستعمال أسماء الأزمنة فی الجامع بین الزمان المنقضی عنه المبدأ والزمان المتلبّس کان الوضع بإزائه لغواً، فلذلک تخرج عن محل النزاع.

ص:250


1- (1) کفایة الاصول ص 40.

ثم إنه قدس سره قد أشکل علیه بأن قیاس المقام باسم الجلالة قیاس مع الفارق، لأن الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة فی الجامع فی مسألة البحث عن التوحید وغیره، فلذلک لا یکون وضعه بإزاء الجامع لغواً(1).

ولنا تعلیق علیه، وحاصل هذا التعلیق هو أن تصور الجامع بین الفرد المتلبّس والمنقضی فی أسماء الأزمنة إذا فرض أنه ممکن، فلا مانع من وضع اللفظ بإزائه.

ودعوی أن اسم الزمان بما أنه مستعمل دائماً فی خصوص الفرد المتلبّس، فیکون وضعه بإزاء الجامع لغواً وبلا فائدة.

مدفوعة أما أولاً، فلأن الجامع إذا کان متصوراً بینهما وکان اللفظ موضوعاً بإزائه، فلا مانع من استعماله فیه، وإرادة خصوص الفرد المتلبس عندتعلق الحاجة به إنما هی بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، کما هو الحال فی سائر الموارد.

وثانیاً: إن الغرض الکلی من وضع الألفاظ إنما هو إعطاء صفة الصلاحیة لها لاستخدامها واستعمالها کوسیلة لنقل المعانی والأفکار إلی الآخرین لدی الحاجة بنحو القضیة الشرطیة، وأما فعلیة هذا الاستخدام والاستعمال، فهی تتبع فعلیة الحاجة، وعلی هذا فإذا فرض أن أسماء الأزمنة موضوعة بإزاء الجامع، فقدترتب علی وضعها بإزائه أثره، وهو صفة الصلاحیة للدلالة علیه، فلا یکون لغواً، وأما فعلیة الاستعمال والدلالة، فهی منوطة بفعلیة حاجة المستعمل، وعلیه فإذا فرض أن حاجة المستعمل دائماً متعلقة بتفهیم الفرد دون الجامع،

ص:251


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 231.

فهی لا تدعو إلی استعمالها فی الفرد مجازاً لا فی الجامع، إذ کما یمکن ذلک یمکن استعمالها فی الجامع وإرادة الفرد بدال آخر، فلا یکون هذا الوضع حینئذ لغواً، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری هل یمکن تصور الجامع بین المتلبّس والمنقضی فی أسماء الأزمنة أم لا؟

والجواب: أنه لا یمکن بنظر العقل، وذلک لأنه یلزم من تصور الزمان الفارغ عنه المبدأ عدم تصوره، وما یلزم من تصوره عدمه فتصوره محال.

وبکلمة، إن مفهوم الزمان الذی هو زمان بالحمل الأولی وإن کان جامعاً بین الزمان المتلبس بالمبدأ والزمان المنقضی، إلا أن أسماء الأزمنة لم توضع بإزاءمفهوم الزمان، لأنه مفهوم اسمی، ومعنی اسم الزمان معنی حرفی.

هذا إضافة إلی أن لازم ذلک أن یکون اسم الزمان مرادفاً مع لفظ الزمان فی المعنی، وهو کما تری.

وأما واقع الزمان الذی هو زمان بالحمل الشائع، فلا یمکن تصور جامع بین الزمان المتلبس بالمبدأ والزمان المنقضی عنه المبدأ، علی أساس أنه یلزم من تصوره عدم تصوره، وهو مستحیل.

هذا کله بحسب النظر الدّقی العقلی، وأما بحسب النظر العرفی، فسوف یأتی الکلام فیه عن قریب.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أنه علی ضوء النظر الدّقی العقلی، فإن کان الجامع بین المتلبس والمنقضی متصوراً فی أسماء الأزمنة، فلا مبرر لخروجهاعن محل النزاع، وإن لم یکن متصوراً بینهما، فلا مناص من خروجها عن محل

ص:252

النزاع، لعدم توفر الشرط الثانی فیها.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق العراقی قدس سره من أن الذات محفوظة فی اسم الزمان بعد زوال المبدأ عنها، بتقریب أن الاتصال بین اللحظات الزمنیة وآناتهامساوق للوحدة بنظر العرف، وذلک مثل الیوم مثلاً، فإنه بنظر العرف شیءواحد یوجد بوجود أول جزء منه حقیقة وینتفی بانتفاء آخر جزء.

وعلیه فإذا وقع القتل مثلاً فی جزء منه تلبّس الیوم به بلحاظ ذلک الجزء، وإذا انقضی هذا الجزء وجاء الجزء الثانی فقد انقضی عنه المبدأ بلحاظ هذا الجزء، فالذات وهی الیوم محفوظة فی کلتا الحالتین، هما حالة التلبس وحالة الانقضاء.

وبکلمة، إن واقع الزمان تدریجی تصرّمی متقوم بالتدریج والتصرم ذاتاًوحقیقة، بمعنی أن التدرج والتصرم من المقومات الذاتیة له کالجنس والفصل للنوع، وقد قسّم هذا الزمان إلی قطعات خاصة بلحاظ ما یترتب علیها من الآثار الشرعیة أو العرفیة، ویکون کل قطعة منها المعنونة بعنوان مخصوص والمسماة باسم خاص موضوع للأثر، وذلک کالیوم واللیل والاُسبوع والشهروالسنة والدهر والساعة وهکذا، ویکون لکل قطعة منها وجود مستقل یوجدحقیقة بوجود أول جزء منها ویستمر وجودها إلی انتهاء آخر جزء منها، وعلی هذا فإذا وقع قتل فی یوم الجمعة مثلاً، فقد تلبس نفس یوم الجمعة بالقتل حقیقة بلحاظ وجوده بوجود الجزء الواقع فیه القتل، کما أنه قد انقضی عنه القتل کذلک بلحاظ وجوده بوجود الجزء الثانی وانقضاء الجزء الواقع فیه القتل وهکذا، وعلی کلا التقدیرین فالذات وهی نفس یوم الجمعة محفوظة فی کلتا الحالتین معاً، وهما حالة التلبس وحالة الأنقضاء، فیکون حال أسماء الأزمنة حینئذ حال أسماء الأمکنة ولا فرق بینهما، فکما أن الذات فی أسماء الأمکنة محفوظة فی

ص:253

کلتا الحالتین فکذلک فی أسماء الأزمنة، وعلیه فلا إشکال فی دخولها فی محل النزاع(1).

وهذا الجواب هو الأقرب وأظهر ما فی الباب.

إلی هنا قد تبین أن النظر إلی الزمان إن کان بدقّة عقلیة فبما أن کل آن منه بهذا النظر مباین للآخر، فبطبیعة الحال لم یتوفر فیه الشرط الثانی، وإن کان بنظرعرفی فبما أن لکل قطعة من الآنات المتصلة وحدة وجودیة، فیکون حاله حال اسم المکان.

ومنها ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من أن اسم الآلة خارج عن محل النزاع فی المسألة، بتقریب أن الهیئة فی أسماء الآلة قد وضعت للدلالة علی قابلیة الذات للتلبس بالمبدأ واستعدادها له، فإذا کانت الذات کذلک صدق علیها اسم الآلة حقیقة وإن لم تتلبس بالمبدأ فعلاً، مثلاً هیئة المفتاح تصدق علی آلة الفتح حقیقة وبدون عنایة وإن لم تتلبس بالفتح فعلاً، ومن هنا یکفی فی صحة إطلاق اسم الآلة حقیقة شأنیة الآلة وقابلیتها للتلبّس بالمبدأ وإن لم تکن متلبسة به بالفعل، فإذن لا معنی للنزاع فی أن هیئة أسماء الآلة موضوعة لخصوص الذات المتلبسة بالمبدأ فعلاً أو للأعم منها ومن الذات المنقضیة(2).

ولکن یمکن المناقشة فیه، بتقریب أنه لا شبهة فی أن المبدأ فی أسماء الآلة کالمفتاح والمکنس ونحوهما هو القابلیة والشانیة، فما دامت قابلیة الذات للاتصاف بالمبدأ موجودة فالتلبّس فعلی، والاطلاق حینئذ یکون علی المتلبس، لأن الانقضاء فیها إنما هو بزوال تلک القابلیة عنها ولو بکسر بعض أسنانها أو

ص:254


1- (1) نهایة الافکار ج 1 ص 129.
2- (2) (2) أجود التقریرات ج 1 ص 124.

غیر ذلک، وعلی هذا فبناء علی القول بکون المشتق موضوعاً للمعنی الجامع بین الذات المنقضیة عنها المبدأ والمتلبسة به فعلاً یصدق علیه أنه مفتاح علی نحوالحقیقة، وعلی القول بکونه موضوعاً للمتلبس به فعلاً لا یصدق علیه إلا مجازاً، ومن هنا لا شبهة فی صدق لفظ المفتاح حقیقة علی کل ما فیه قابلیة للفتح ولولم یقع الفتح به خارجاً، وکذا المکنس.

فالنتیجة أن المبدأ فیها هو القابلیة والشأنیة لا الفعل الخارجی کالفتح والکنس الخارجیین، وعلیه فما أفاده قدس سره من خروج اسم الآلة عن محل النزاع مبنی علی الخلط بین شأنیة اتصاف الذات بالمبدأ وفعلیته به، وتخیل أن المعتبر فی التلبس إنما هو التلبس بالمبدأ بالفعل.

ومنها استثناؤه قدس سره أسماء المفعولین، بدعوی أن هیئة تلک الأسماء موضوعة للدلالة علی وقوع المبدأ علی الذات، وهو مما لا یعقل فیه الانقضاء، لأن ماوقع لا ینقلب عما وقع علیه(1).

والجواب أولاً بالنقض بأسماء الفاعلین، لأن ما أفاده قدس سره من المبرّر لخروج أسماء المفعولین موجود بعینه فی أسماء الفاعلین، إذ کما أن الشیء إذا وقع فی الخارج لا ینقلب عما وقع علیه کذلک إذا صدر شیء عن الفاعل فیه، استحال أن ینقلب عما صدر عنه.

وثانیاً بالحلّ، وحاصله أن ما ذکره قدس سره من المبرر لخروج أسماء المفعولین عن محل النزاع مبنی علی الخلط بین الأمرین، أحدهما أن یکون المبدأ فی مثل هیئة المضروب الضرب الواقع علی الذات فی الخارج، والآخر أن یکون المبدأ فیها

ص:255


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 124.

الضرب الذی یقع علیها فعلاً، فإن کان المبدأ الأول فالأمر کما أفاده قدس سره، إذیستحیل أن ما وقع فی الخارج ینقلب عما وقع علیه، ولکن الأمر لیس کذلک، فإن الأول لایصلح أن یکون مبدأ لهیئة المفعول کالمضروب، وذلک لأن المتفاهم العرفی من هیئة المضروب مثلاً إما خصوص من یقع علیه الضرب فعلاً أو الأعم منه وممن ینقضی عنه الضرب.

وبکلمة، إن الضرب مبدأ للفاعل والمفعول معاً، غایة الأمر أن تلبس الذات به فی الفاعل تلبس فاعلی یتضمّن حیثیة الصدور، وفی المفعول تلبس مفعولی یتضمن حیثیة الوقوع، وهاتان الحیثیتان من حیثیات نسبة المبدأ إلی الفاعل وإلی المفعول، فإن نسبته إلی الأول تستبطن حیثیة الصدور، وإلی الثانی حیثیة الوقوع، وحیث إن کل نسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو الخارج، فعلیه تکون نسبته إلی الفاعل مباینة لنسبته إلی المفعول، ولکن بما أنهما تشترکان فی طرف واحد وهو المبدأ، فبانتفائه تنتفی کلتا النسبتین معاً، وحینئذ فیقع الکلام فی أن إطلاق هیئة المضروب مثلاً علی الذات التی انقضت نسبة المبدأ عنها وزالت، هل هو إطلاق حقیقی أو مجازی، فعلی القول بوضع المشتق للأعم حقیقی، وإلا فمجازی، وکذلک الحال فی طرف الفاعل کالضارب مثلاً، فإنه بعد زوال نسبة المبدأ عنه بزواله، فعلی القول بالأعم حقیقی، وعلی القول بالأخص مجازی.

والخلاصة، أنه لا فرق بین اسم الفاعل والمفعول، فکما أن النزاع یجری فی هیئة اسم الفاعل وأنها وضعت بإزاء مفهوم کان مطابقه فی الخارج فرداً واحداًوهو خصوص المتلبّس بالمبدأ فعلاً أو فردین أحدهما المتلبس والآخر المنقضی فکذلک یجری فی هیئة اسم المفعول وأنها وضعت لمعنی کان مطابقه فی الخارج

ص:256

فرداً واحداً أو فردین.

ویمکن تقریب ذلک بطریق آخر، وهو أن للمبدأ نسبتین: نسبة إلی مفعوله، ونسبة إلی فاعله، وهاتان النسبتان متقابلتان بتقابل التضایف لدی المتفاهم العرفی الإرتکازی، مثلاً للعلم نسبتان:

نسبة إلی العالم، ونسبة إلی المعلوم، والاُولی نسبة فاعلیة، والثانیة نسبة مفعولیة، فإذا فرض أن زیداً کان یعلم بإجتهاد عمرو مثلاً فزید عالم واجتهاد عمرو معلوم، ونسبة العلم إلی زید نسبة فاعلیة، ونسبته إلی اجتهاد عمرو نسبة مفعولیة، ویستحیل انفکاک إحدی النسبتین عن الأخری، باعتبار أنهما متضایفتان، فلا یعقل الانفکاک بینهما، وإلا لزم الخلف، وعلی هذا فإذا زال المبدأ وهو العلم عن زید فی المثال، فقد زال عن اجتهاد عمرو أیضاً، ویستحیل بقاؤه علی صفة المعلومیة مع زوال صفة العالمیة عن زید، لفرض أنه کان معلوماً بعلمه لابعلم آخر، والمفروض أن علمه قد زال، فإذن کما یقع الکلام فی أن إطلاق العالم علی زید بعد زوال العلم عنه، هل هو إطلاق حقیقی أو مجازی، فعلی القول بوضع المشتق للجامع، حقیقی، وعلی القول الآخر مجازی، کذلک یقع الکلام فی أن إطلاق المعلوم علی اجتهاد عمرو بعد انقضاء صفة العلم عنه وزوالها، هل هوحقیقی أو مجازی، فعلی القول الأول حقیقی وعلی الثانی مجازی، وعلی ذلک فلایمکن التفکیک بین اسم الفاعل واسم المفعول، باعتبار أن کلتا الهیئتین مشترکة فی مادة واحدة، فطالما المادة باقیة، فالتلبس فعلی فی کلیهما، وإذا زالت وانقضت، فقد زالت عن کلیهما معاً، فما ذکره قدس سره من عدم تصور حالة الانقضاء فی اسم المفعول لا یرجع إلی معنی محصل، بداهه أنها لولم تتصور فی اسم المفعول لم تصورفی اسم الفاعل أیضاً بملاک التقابل بینهما.

ص:257

وأما فی هیئة المضروب فالأمر فیها أیضاً کذلک، فإن للضرب نسبتین: نسبة إلی الفاعل، ونسبة إلی المفعول، وهاتان النسبتان أیضاً متقابلتان بتقابل التضایف، فیستحیل انفکاک إحداهما عن الاُخری، وعلی هذا فهیئة المضروب علی القول بالأعم موضوعة للجامع بین من یقع علیه الضرب فعلاً ومن ینقضی عنه الضرب، أی الجامع بین المتلبس والمنقضی، وعلی القول الآخر موضوعة لخصوص من یقع علیه الضرب فعلاً، وکذلک هیئة الضارب، فإنها علی القول بالأعم موضوعة للجامع بین من یصدر منه الضرب بالفعل ومن ینقضی عنه صدور الضرب طالما یصدر من زید مثلاً ویقع علی عمرو، فزید متلبس بالضرب صدوراً بالفعل وعمرو متلبس بالضرب وقوعاً کذلک، وإذا انقطع صدور الضرب عنه انقطع وقوعه علی عمرو أیضاً، إذ لا یعقل الانفکاک بینهما، وعندئذ فکما یقع الکلام فی أن إطلاق الضارب علی زید الذی انقضی عنه المبدأ هل هو حقیقی أو مجازی، فعلی القول بالأعم حقیقی، وعلی القول الآخر مجازی، فکذلک یقع فی أن إطلاق المضروب علی عمرو بعد انقضاء الضرب عنه، هل هوحقیقی أو مجازی، فعلی القول الأول حقیقی وعلی الثانی مجازی، ولا یمکن القول بأن هیئة المضروب موضوعة للأعم وهیئة الضارب لخصوص المتلبس رغم التقابل بینهما بتقابل التضایف، لأن زوال نسبة المبدأ عن الفاعل زوال نسبته عن المفعول أیضاً، کما أن تلبس الأول بالمبدأ تلبس الثانی به أیضاً، ولا یمکن التفکیک بینهما فی ذلک، وعلیه فالقول بأن هیئة المضروب موضوعة للأعم لا یمکن إلاعلی القول بوضع المشتق له، لأنه متفرع علیه، فإذن لا فرق بین هیئة الضارب وهیئة المضروب، وکون هیئة المضروب خاصة موضوعة للأعم غیر محتمل.

وعلی الجملة فإن کانت هیئة المضروب موضوعة لمن یقع علیه الضرب لکانت هیئة الضارب موضوعة لمن یصدر عنه الضرب بقرینة التقابل بینهما،

ص:258

وحینئذ فإن کانت هیئة المضروب موضوعة للجامع بین من یقع علیه الضرب فعلاً ومن ینقضی عنه وقوع الضرب، لکانت هیئة الضارب موضوعة للجامع بین من یصدر عنه الضرب فعلاً ومن ینقضی عنه صدور الضرب، وإن کانت هیئة المضروب موضوعة لخصوص من یقع علیه الضرب فعلاً، لکانت هیئة الضارب موضوعة لخصوص من یصدر عنه الضرب فعلاً، کل ذلک بقرینة أن التقابل بینهما من تقابل التضایف.

وثالثاً مع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أنه لا تقابل بین اسم الفاعل واسم المفعول، إلا أن ما ذکره قدس سره لو تمّ فإنما یتم فی مثل هیئة المضروب والمقتول، ولایتم فی کثیر من أسماء المفعولین کالمعلوم والمملوک والمقدور والمصبوع والمسجور والمسجون والمطلوب والمدیون والمنصور والمعیوب والمنقوص وما شاکل ذلک، فإنه لا شبهة فی إمکان انقضاء المبدأ عن الذات فی هذه الأسماء ووقوع النزاع فی صدقها علی الذات مع زوال المبدأ عنها فعلاً، فالأعمی یدعی أن صدق المعلوم علی الشیء بعد زوال العلم عنه حقیقی، وصدق المطلوب علی شیء بعد زوال الطلب عنه کذلک، وکذا صدق المعیوب بعد زوال العیب والمملوک بعد زوال الملک وهکذا، وأما علی القول بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً، فلایصدق إلا مجازاً.

فالنتیجة أن ما أفاده قدس سره لو تمّ فإنما یتم فی مثل هیئة المضروب والمقتول ونحوهما دون غیرهما من أسماء المفعولین.

قد یقال کما قیل بخروج أسماء الصناعات والحرف وما یلحق بها کالمهندس والطبیب والخیاط والبناء والصائغ والسایق والمجتهد وما شاکل ذلک عن محل النزاع فی المسألة، بدعوی أنه لا شبهة فی صدق هذه العناوین حقیقة فی حالات

ص:259

انقضاء المبدأ عن الذات، بل لا شبهة فی صدقها کذلک علی من لم یتلبس بالمبدأ بعد کالطبیب، فإنه یصدق حقیقة علی من لدیه علم الطب وإن لم یقم بعد بعملیة الطبابة خارجاً، والمجتهد یصدق علی من لدیه قدرة علی عملیة الاستنباط وإن لم یقم بعد بالعملیة، وکذا المهندس والصائغ والخیاط وهکذا، وهذا یکشف إنّاً عن أنها موضوعة للأعم من المتلبس والمنقضی وغیر المتلبس بعد، ولهذا لا مجال للنزاع فیها أنها موضوعة للأعم أو لخصوص المتلبس.

والجواب: أنه لابد من الالتزام فیها بأحد أمرین:

الأول: الالتزام بأنها موضوعة للجامع بین المتلبس والمنقضی وغیرالمتلبس بعد.

الثانی: أن المبدأ فی مثل المجتهد والمهندس والطبیب وما شاکل ذلک القوة والاستعداد لا الفعل الخارجی، فمن کانت عنده قدرة علی عملیة الاستنباط فهومجتهد حقیقة وإن لم یقم بالعملیة بعد، ومن کانت عنده قدرة علی عملیة الطبابة فهو طبیب وإن لم یقم بعد بالعملیة وهکذا، والمبدأ فی مثل الخیاط والبناء والبزازوالحداد والنساج والنجار وغیر ذلک هو الحرفة والصنعة، فمن أخذ الخیاطة حرفة له فهو خیاط فعلاً ومتلبس بالمبدأ بالفعل، سواء کان مشغولاً بالخیاطة خارجاً أم لا، ومن أخذ البناء حرفة له فهو بناء وهکذا، والانقضاء فی مثل ذلک إنما یکون بترک هذه الحرفة، فما دام لم یترکها ولم یعرض عنها، فالتلبس فعلی وإن لم یشتغل بالخیاطة أو البناء أو غیر ذلک.

أما الأمر الأول فلا یمکن الالتزام به لوجهین:

الأول: أنه مبنی علی أن یکون المبدأ فیها الفعل الخارجی، ولکن قد عرفت أن المبدأ فی بعض تلک العناوین القدرة والاستعداد العلمی، وفی بعضها

ص:260

الآخر الحرفة والصنعة، فإذن لا موجب فیها للالتزام بالوضع للأعم بل حالها حال سائر المشتقات، وتدور مدارها فی الوضع للأعم أو لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.

الثانی: أن ذلک لا ینسجم مع کون وضع الهیئات نوعیاً، لأن معنی کون وضعها نوعیاً أن المعنی الموضوع له فی جمیع الهیئات الخاصة علی نحو واحد سعة وضیقاً، فلا یمکن أن یکون المعنی الموضوع له فی بعض تلک الهیئات أوسع من المعنی الموضوع له فی بعضها الآخر رغم أن الجمیع قد وضعت بجامع عنوانی واحد لسنخ معنی کذلک کماً وکیفاً، ولا یمکن تعدد المعنی الموضوع له سنخاً، بأن یکون معنی هیئة الضارب مثلاً خصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، ومعنی هیئة الصائغ الجامع بینه وبین المنقضی وهکذا، مع أنهما موضوعان بجامع عنوانی واحد.

فالنتیجة أنه لا یمکن الالتزام بأن وضع تلک العناوین الخاصة للأعم أمرمسلم.

وأما الثانی: وهو أن المبادیء فی هذه العناوین لیست الأفعال الخارجیة، بل فی بعضها القوة والملکة العلمیة وفی بعضها الآخر الحرفة والصنعة فهو الصحیح، وعلی هذا ففی مثل المجتهد والمهندس والطبیب طالما الملکة والقوة موجودة فی نفوسهم، فالإطلاق إطلاق علی المتلبس بالمبدأ بالفعل، وإذا زالت هذه الملکة والقوة، فعندئذ علی القول بالأعم فالاطلاق حقیقی وعلی القول الآخر مجازی، وفی مثل الخیاط والنجار والصائغ ونحو ذلک، فطالما کانوا متخذین هذه الأعمال حرفة وصنعة لهم فالصدق یکون علی المتلبس بالفعل، لأن فعلیة التلبس حینئذتدور مدار اتخاذها شغلاً وکسباً وانتسابها إلی الذات، ولا فرق بین أن یکون

ص:261

ذلک الانتساب انتساباً حقیقیاً کما فی الخیاط والنساج والنجار وما شاکلها، أوتبعیاً کما فی البقال والبزاز والحداد والتامر واللابن وأمثالها، لأن موادها من أسماء الأعیان وإنها غیر قابلة للانتساب إلی الذات حقیقة، فلا محالة یکون انتسابهاإلیها بتبع اتحاد الفعل المتعلق بها حرفة وشغلاً، فمن اتخذ بیع التمر شغلاً له صار التمرمربوطاً به تبعاً، ومن اتخذ بیع اللبن شغلاً له صار اللبن مربوطاً به وهکذا، والانقضاء فی أمثال ذلک إنما یکون بترک هذه الحرفة وذاک الشغل، وحینئذ فعلی القول بوضع المشتق للأعم فالصدق أیضاً حقیقی، وعلی القول بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً فالصدق مجازی.

إلی هنا قد وصلنا إلی النتائج التالیة:

الأولی: أن الدخول فی محل النزاع فی المسألة منوط بتوفّر أمرین:

الأول: صحة المحل والجری علی الذات.

الثانی: إمکان انفکاک الذات عن المبدأ ولو فی عالم المفهوم والتصور والمغایرة بینهما، فکل اسم إذا توفر فیه کلا الأمرین فهو داخل فی محل النزاع، وإلا فلا.

الثانیة: أن العناوین الذاتیة کالانسان والحیوان ونحوهما خارجة عن محل النزاع بمقتضی الأمر الثانی، حیث إنه لا یمکن انفکاک الذات عن المبدأ فی تلک العناوین حتی فی عالم التصور واللحاظ فضلاً عن عالم الخارج، علی أساس أن المبدأ فیها صورة نوعیة للذات ومتحد معها ولا مغایرة بینهما.

الثالثة: أن المراد من استحالة انفکاک المبدأ عن الذات فی الشرط الثانی هو الاستحالة الذاتیة یعبر عنا بالاستحالة المنطقیة أیضاً لا الاستحالة الوقوعیة، ولذلک قلنا إن العناوین التی یکون مبدؤها لازماً لذاتها بحیث یستحیل انفکاکه

ص:262

عنها واقعاً خارجاً داخلة فی محل النزاع، باعتبار أن استحالة الانفکاک فیها وقوعیة لامنطقیة.

الرابعة: أن اسم الزمان کاسم المکان داخل فی محل النزاع، هذا لا من جهة ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن الهیئة المشترکة بینهما موضوعة بإزاء معنی جامع بینهما وهو الظرفیة، سواء أکانت زمانیة أم مکانیة، لما تقدم من أن الجامع بینهماغیر متصور، لأن النسبة الزمانیة مباینة للنسبة المکانیة، بل من جهة أن لکل قطعة من الزمان وحدة بنظر العرف، فلذلک تتصور حالة الانقضاء فیها کما تقدم، نعم دعوی وضع الهیئة المشترکة بإزاء اسمی الزمان والمکان بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص، غیر بعیدة کما تقدم.

الخامسة: أن استثناء المحقق النائینی قدس سره اسمی الآلة والمفعول عن محل النزاع، مما لا یرجع إلی معنی صحیح.

کیفیة وضع الأفعال والمصادر والأوصاف الاشتقاقیة

الجهة الثانیة: فی کیفیة وضع الأفعال والمصادر

والأوصاف الاشتقاقیة

اشارة

ویقع الکلام فیها فی مقامات:

المقام الأول: فی کیفیة وضع الأفعال.

المقام الثانی: فی کیفیة وضع المصادر.

المقام الثالث: فی کیفیة وضع الأوصاف الاشتقاقیة.

أما الکلام فی المقام الأول وهو وضع الأفعال، فلا شبهة فی أن المتفاهم العرفی

ص:263

الارتکازی من هیئة الفعل کقولک «ضرب» مثلاً نسبة المادة إلی الذات المبهمة الفاعلة، وهذه النسبة تختلف باختلاف الأفعال، فإنها فی مثل «ضرب» صدوریة، وفی مثل «مات» حلولیة، وفی مثل «قعد» و «قام» حلولیة وصدوریة معاً وهکذا..

ثم إن هذه الخصوصیات هل هی مأخوذة فی مدلول المادة أو فی مدلول الهیئة؟

والجواب: أن هنا قولین:

الأول: أنها مأخوذة فی مدلول الهیئة.

الثانی: أنها مأخوذة فی مدلول المادة دون الهیئة.

أما القول الأول فهو لا یتم، بناء علی القول بأن وضع الهیئات نوعی، إذ علی هذا القول فجمیع الهیئات الخاصة المشترکة فی الهیئة المنتزعة الجامعة بینها المندکة فیها موضوعة بواسطتها بوضع واحد نوعی لمعنی واحد کذلک، ولا یمکن اختلاف تلک الهیئات الخاصة فی سنخ المعنی کماً وکیفاً، وعلی هذا فلا یمکن أن تدل هیئة «ضرب» مثلاً علی نسبة المادة إلی الذات المبهمة صدوراً، وهیئة «مات» حلولاً، ولذلک لا یمکن أن تکون خصوصیة الصدوریة أو الحلولیة مأخوذة فی مدلول الهیئة، بل هی من خصوصیات مدلول المادة.

وأما علی القول بأن وضع الهیئة شخصی، فهل هذه الخصوصیات مأخوذة فی مدلولها الخاص؟

والجواب: أن ذلک وإن کان ممکناً بأن توضع هیئة «ضرب» مثلاً فی ضمن مادتها الشخصیة للنسبة الصدوریة، وهیئة «مات» فی ضمن مادتها کذلک للنسبة الحلولیة وهکذا، ولکن مع ذلک یکون المتفاهم العرفی من کل هیئة

ص:264

خاصة النسبة بدون خصوصیة زائدة علیها، والخصوصیة إنما جاءت من قبل مادتها، فانها مختلفة وینسجم بعضها مع خصوصیة الصدوریة کالضرب مثلاً، وبعضها الآخر مع خصوصیة الحلولیة کالموت ونحوه.

والخلاصة: أن المادة إذا کانت من قبیل الضرب ونحوه، فهی تتضمن کون نسبتها إلی الفاعل صدوریة، وإذا کانت من قبیل الموت ونحوه، فتتضمن کون نسبتها إلیه حلولیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن لجملة «ضرب زید» مثلاً هیئتین: الاُولی هیئة الفعل، والثانیة هیئة الجملة، وهذا مما لا کلام فیه، وإنما الکلام فی أن هیئة الفعل هل وضعت للنسبة التامة، وهیئة الجملة لتعیین طرفها وهو الذات، أو إنها وضعت للنسبة الناقصة، وهیئة الجملة للنسبة التامة، فیه قولان.

الصحیح هو القول الأول دون الثانی، فلنا دعویان:

الاُولی: أن هیئة الفعل موضوعة للنسبة بین المادة والذات المبهمة، وهیئة الجملة موضوعة لتعیین أحد طرفیها، وهو الذات المبهمة فی فرد معین فی الخارج، ولم توضع للنسبة الاُخری.

الثانیة: أن هیئة الفعل لم توضع للنسبة الناقصة وهیئة الجملة للنسبة التامة.

أما الدعوی الاُولی فقد عرفت أن المتفاهم العرفی من هیئة الفعل عند إطلاقهانسبة المادة إلی الذات المبهمة، وهذه النسبة نسبة بالحمل الشائع، لوضوح أنها لم توضع بإزاء مفهوم النسبة الذی هو نسبة بالحمل الأولی، لأنه مفهوم اسمی لاحرفی، وتامة لما ذکرناه آنفاً من أن تمامیة النسبة إنما هی بوجود طرفیها فی الذهن أو الخارج، نعم لا ملازمة بین کون النسبة تامة وبین ما صح السکوت علیها،

ص:265

لأن النسبة فی الجمل الناقصة تامة، ومع ذلک لایصح السکوت علیها، والنکتة فی ذلک أن النسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها، ولا نعنی بتمامیتها إلا ثبوتها بثبوتهما فی الذهن أو الخارج، باعتبار أنهما من المقومات الذاتیة لهاوبمثابة الجنس والفصل للنوع، فلذلک یدور أمرها بین کونها ثابتة أو غیر ثابتة، لا بین أنها بعد الثبوت تامة أو ناقصة.

وبکلمة، إن ثبوت النسبة إنما هی بثبوت طرفیها، فإذا کانا ثابتین فی الذهن أو الخارج فالنسبة ثابتة، وإلا فلا نسبة، لا أنها ثابتة ناقصة، بداهة أنه لا یعقل ثبوت النسبة الناقصة بدون ثبوت طرفیها، ومع ثبوتهما فالنسبة تامة، وأما کون الجملة ناقصة، فهو لیس بملاک أن نسبتها ناقصة، بل بملاک آخر، وقد تقدم الکلام فیه موسعاً، ومن هنا یکون المتفاهم العرفی الارتکازی من هیئة الفعل نسبة المادة إلی الفاعل المبهم فی عالم الذهن، ومن الهیئة القائمة بالفعل والفاعل کقولک «ضرب زید» تعیین الفاعل المبهم المستتر فی فرد معین کزید مثلاً لاالنسبة، لأن الدال علیها هیئة الفعل التی هی أسبق منها.

وأما الدعوی الثانیة فقد ظهر حالها مما تقدم، وجه الظهور هو أنه لایمکن القول بأن هیئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة، وهیئة الجملة موضوعة للنسبة التامة.

أما أولاً فقد عرفت أن النسبة لا تتصف بالتمامیة والنقصان، فإنها إمام ثابتة فی وعائها أو لا، علی أساس أن طرفیها إن کانا ثابتین فیه فهی ثابتة بثبوتهما، وإلاّ فلا ثبوت لها، ولا یعقل أن تکون النسبة ثابتة بثبوت طرفیها ومع ذلک تکون ناقصة، إلا أن یراد من نقصانها عدم صحة السکوت علیها، ولکن قد مرأن ذلک مرتبط بنقصان الجملة، بمعنی أنها لا تصلح أن تکون مورداً للحکم

ص:266

التصدیقی لا بمعنی أن نسبتها ناقصة.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن النسبة تتصف بالتمامیة والنقصان إلا أنه لا یمکن القول بأن هیئة الفعل تدل علی النسبة الناقصة وهیئة الجملة علی النسبة التامة، وذلک لأن المتفاهم العرفی الارتکازی من الفعل هو النسبة التامة، ومن هیئة الجملة تعیین أحد طرفیها وهو الفاعل، فإذا قیل «ضرب» کان المتبادر منه نسبة الضرب إلی فاعل ما، وإذا قیل «ضرب زید» کان المتبادر منه أن فاعل الضرب هو زید، وعلیه فقولک ضرب زید یدل علی أمرین من باب تعدد الدال والمدلول، فهیئة الفعل تدل علی نسبة المادة إلی فاعل ما، وهیئة الجملة علی تعیین الفاعل ورفع الاجمال عنه، لا أن هیئة الفعل تدل علی النسبة الناقصة وهیئة الجملة علی النسبة التامة، لأن ذلک غیر متبادر من الجملة جزماً، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن شخص المادة لا یمکن أن یکون طرفاً لنسبتین متباینتین فی عرض واحد وإن کانت إحداهما تامة والاُخری ناقصة، لأنه لایمکن أن یکون مقوماً ذاتیاً لهما معاً، فالنتیجة أن قیام نسبتین متباینتین فی عرض واحد بمادة واحدة وطرفین آخرین غیر معقول.

ومن ناحیة ثالثة، إنه إن ارید بالنسبة الناقصة النسبة التی یکون أحد طرفیها المادة وطرفها الآخر الفاعل المبهم المقدر، ففیه أنها نسبة تامة، إذ لا یحتمل أن یکون تعیین الفاعل دخیلاً فی تمامیة النسبة، وإن ارید بها الخصوصیة القائمة بالمادة لا النسبة التی هی متقومة بالطرفین، باعتبار أن المادة تدل علی أحد طرفیها ولا یوجد فی الکلام ما یدل علی طرفها الآخر، وأما الفاعل فهو طرف للنسبة التامة لا الناقصة، والمفروض أن النسبة لا تتصور بدون وجود طرفیها،

ص:267

لأنهما من المقومات الذاتیة لها کالجنس والفصل للنوع، فلذلک یکون المراد من النسبة الناقصة الحیثیة القائمة بالمادة، وهی حیثیة الصدور والحلول، فإنها إن اضیفت إلی الفاعل فالحیثیة القائمة بها صدوریة، وإن اضیفت إلی المفعول فهی حلولیة، وهیئة الفعل تدل علی أنها صدوریة، وهی حالة قائمة بالمادة کقیام المعنی الحرفی بالمعنی الاسمی، وهی غیر النسبة، ولهذا تکون قائمة بطرف واحد، وإن ارید ذلک، فیرد علیه أن هیئة الفعل کما مرّ تدل علی النسبة التامة الصدوریة بالمطابقة وعلی طرفیها بالالتزام، علی أساس أنها لا تتصور إلا بین الفعل وفاعل ما، لا أنها تدل علی حیثیة الصدور فحسب دون النسبة الصدوریة.

هذا إضافة إلی أنه إن ارید بالحیثیة الصدوریة الحالة القائمة بالمادة التی یستبطنها معناها، فالمادة تدل علیها لا هیئة الفعل، وإن ارید بها النسبة الصدوریة وهی نسبة المادة إلی فاعل ما، فالدال علیها هیئة الفعل، فإنها إذاطرأت علی المادة التی تتضمن حیثیة الصدور، فتدل علی النسبة الصدوریة، لامن جهة أن حیثیة الصدور مأخوذة فی مدلولها، بل من جهة أنها من خصوصیات مادتها، وإذا طرأت علی المادة التی تتضمن حیثیة الحلول، فتدل علی النسبة الحلولیة بنفس ما مرّ من الملاک.

فالنتیجة أن هیئة الفعل الدالة علی النسبة الواقعیة التامة بالمطابقة، فلا محالة تدل علی وجود طرفیها بالالتزام، وهما فی المقام المادة والذات المبهمة، فإذن لاحاجة إلی وجود ما یدل فی الکلام علی الذات المبهمة لکی یقال إنه لا یوجدفیه ما یدل علیها.

ودعوی أن انفهام الذات المبهمة من الفعل خلاف الوجدان، مدفوعة بأنهاوإن لم تکن جزء معنی الفعل إلا أنه یدل علیها بالالتزام کما مرّ وجداناً.

ص:268

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أن مدلول هیئة الفعل النسبة التامة بین المادة والذات المبهمة، ومدلول هیئة الجملة تعیین الذات المبهمة فی فردخاص، هذا.

ولکن قد اعترض علی هذا المحقق العراقی قدس سره نقضاً وحلاً.

أما نقضاً ففی بعض الجمل الإسمیة کجملة «زید ضرب» مثلاً، فإنها بلحاظ اشتمالها علی هیئة الفعل کجملة «ضرب زید»، وعلی هذا فلوکانت هیئة الفعل فی جملة «ضرب زید» موضوعة للنسبة التامة دون هیئة الجملة لکان الأمرکذلک فی جملة «زید ضرب» أیضاً، لاشتراکهما فی الاشتمال علی هیئة الفعل مع أن الأمر فیها لیس کذلک(1).

وقد اجیب عن ذلک بأن الفرق بین الجملتین واضح، فإن الجملة الإسمیة کجملة «زید ضرب» مشتملة علی نسبتین: الاُولی النسبة بین المادة والضمیرالمستتر فی الفعل، والثانیة النسبة بین المبتدأ والجملة الفعلیة، وهیئة الفعل تدل علی النسبة الاُولی، وهیئة الجملة تدل علی النسبة الثانیة، بینما الجملة الفعلیة لایمکن أن تکون مشتملة علی نسبتین، وإلا لزم أحد محذورین، إما تقوم کل من النسبتین بعین ما تقوّمت به الاُخری، لأن المفروض أن المقومات الذاتیة للنسبة فی المقام واحدة، وهی المادة والفاعل، ولا یعقل تعدد النسبة بینهما، لأن تعددها إنما هو بتعدد المقومات الذاتیة لها التی هی بمثابة الجنس والفصل، فإذاکانت واحدة استحال تعددها، وإما أن یکون إحداهما قائمة بطرف واحد، وهو غیر معقول.

ص:269


1- (1) نقله عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 314.

ولنا تعلیق علی هذا الجواب، وتقریبه أن تحلیل جملة «زید ضرب» إلی جملة اسمیة وجملة فعلیة أی إلی جملة کبیرة وجملة صغیرة وملاحظة کل جملة بحیالها بحاجة إلی ملاک مبرر لذلک، ولا یمکن أن یکون ذلک جزافاً وبلا ملاک، وملاکه إما تعدد الموضوع أو المحمول والنسبة، وأما مع وحدة الموضوع والمحمول والنسبة، فلا ملاک للانحلال وتحویل الجملة إلی جملتین، وعلی هذا ففی المقام لا موجب للانحلال، لأن الموضوع والمحمول فیه واحد، فإن الموضوع فی القضیة «زید» والمحمول فیها الجملة الفعلیة، وعلیه فبطبیعة الحال تکون النسبة بینهما واحدة ولا یمکن تعددها، وإلا لزم أحد المحذورین المتقدمین، فإذن ما هوالدال علی هذه النسبة الواحدة؟

والجواب: أن الدال علیها هیئة الفعل، فإنها تدل علی نسبة المادة إلی فاعل ما، وهو الضمیر المستتر فیه، وهیئة الجملة تدل علی تعیین هذا الفاعل بفردخاص، وعلی ذلک فلا فرق بین جملة «زید ضرب» وجملة «ضرب زید»، فإن مدلول هیئة الفعل فی کلتا الجملتین النسبة التامة بین المادة والذات المبهمة، ومدلول هیئة الجملة تعیین الذات المبهمة فی فرد خاص، إذ کما أن فی جملة «ضرب زید» لا یمکن أن یکون مدلول هیئة الفعل النسبة الناقصة ومدلول هیئة الجملة النسبة التامة کما تقدم کذلک من جملة «زید ضرب» لایمکن أن یکون مدلول هیئة الفعل النسبة الناقصة ومدلول هیئة الجملة النسبة التامة بنفس الملاک.

فالنتیجة أن الجملة المذکورة جملة واحدة ومؤلفة من الفعل والفاعل، فحالهاحال جملة «ضرب زید»، فلا فرق بینهما إلا فی الصورة والشکل.

وأما حلاً فقد ذکره قدس سره أن هیئة الفعل موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما،

ص:270

ولکن حیث إنها هیئة إفرادیة فوضعها لا یغنی عن وضع هیئة الجملة القائمة بالفعل والفاعل(1).

ولکنه قابل للنقد، وذلک لأنه إن ارید بذلک أن هیئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة وهیئة الجملة موضوعة للنسبة التامة، فیرد علیه:

أولاً ما تقدم من أن النسبة لا تتصف بالتمامیة والنقصان، لأنها إما ثابتة بثبوت شخص طرفیها فی وعاء الذهن أو الخارج أو لا، ولا ثالث لهما.

وثانیاً أن طرفی النسبة الناقصة إن کانا نفس المادة والذات الفاعلة فهی عین النسبة التامة، اذ لا یمکن تعدد النسبة مع وحدة الطرفین، وإن لم تکن الذات أحد طرفیها، لزم أن تکون قائمة بطرف واحد، وهذا مستحیل، إلا أن یراد من النسبة الناقصة الحیثیة الصدوریة أو الحلولیة التی هی حالة قائمة بالمادة، ولکن مضافاً إلی أن ذلک بحاجة إلی قرینة إن هیئة الفعل لا تدل علیها، فإن الدال علیها نفس المادة.

وإن أراد قدس سره بذلک أن وضع هیئة الفعل بإزاء النسبة التامة لا یغنی عن وضع هیئة الجملة للدلالة علی تعیین أحد طرفیها وهو الفاعل، ففیه أنه لم یقل أحد إن وضعها للنسبة التامة یعنی عن وضع هیئة الجملة للتعیین، بل یقول إن وضعها بإزاء النسبة التامة یغنی عن وضع هیئة الجملة بإزائها أیضاً، باعتبار أنه لغو.

فالنتیجة أن ما أفاده قدس سره من الجواب الحلّی إن کان مرده إلی ما ذکرناه فهو، وإلا فلا یتم.

ثم إنه لا فرق فیما ذکرناه بین فعل الماضی وفعل المضارع، فإن هیئة الفعل

ص:271


1- (1) نقله عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 314.

ماضیاً کان أم مضارعاً موضوعة للنسبة التامة بین المادة والذات المبهمة الفاعلة، وهیئة الجملة الطارئة علیها تدل علی تعیین الذات المبهمة فی فرد خاص، ولا فرق من هذه الناحیة بین الفعلین، وإنما الفرق بینهما من ناحیة اخری، وهی ما مرّ من أن النسبة فی فعل الماضی تتضمن حیثیة الحکایة عن الثبوت والتحقق فی عالم الخارج، بینما إنها فی فعل المضارع تتضمن حیثیة الوقوع فعلاً أو استقبالاً.

إلی هنا قد تبین أن القول بأن هیئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة وهیئة الجملة موضوعة للنسبة التامة لا یرجع إلی معنی صحیح، فالصحیح هو القول بأنها موضوعة للنسبة التامة وهیئة الجملة لتعیین أحد طرفی النسبة.

وهنا قولان آخران فی المسألة:

الأول: ما اختاره المحقق النائینی قدس سره من أن هیئة فعل الماضی موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما علی نحو التحقق، وهیئة فعل المضارع موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما علی نحو الترقب، وبذلک یمتاز فعل الماضی عن المضارع(1). هذا،

وغیر خفی أنه قدس سره إن أراد بإضافة هذا القید أن حیثیة التحقق مأخوذة فی مدلول هیئة فعل الماضی، بمعنی أنها موضوعة بإزاء النسبة الخارجیة، وحیثیة الترقب مأخوذة فی مدلول هیئة فعل المضارع، بمعنی أنها موضوعة بإزاء النسبة التی تقع فی الخارج أو سوف تقع فیه، فیرد علیه:

أولاً أن لازم وضع هیئة الفعل للنسبة الخارجیة أن یکون مدلولها الوضعی تصدیقیاً لا تصوریاً، وهو کماتری، لما ذکرناه فی بحث الوضع موسعاً من

ص:272


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 91.

أن الدلالة الوضعیة علی جمیع المبانی فی باب الوضع غیر مبنی التعهد دلالة تصوریة لا تصدیقیة.

ثانیاً: أن لازم ذلک عدم صحة استعمال هیئة الفعل فیما لا تتصور فیه النسبة الخارجیة، کما فی الصفات الذاتیة للَّه تعالی کقولنا «علم اللَّه» وموارد الهلیة البسیطة والاعتباریات الانتزاعیات، فإن النسبة الخارجیة لا تتصور فی هذه الموارد، مع أن استعمال فعل الماضی والمضارع فی هذه الموارد کاستعمالهما فی غیرها من الموارد التی تتصور فیها النسبة الخارجیة علی حد سواء، وهذا کاشف عن أن هیئة الفعل لم توضع بإزاء النسبة الخارجیة.

وإن أراد قدس سره بذلک أن النسبة فی فعل الماضی تتضمن حیثیة الحکایة والاخبارعما وقع فی خارج الذهن، وفی فعل المضارع تتضمن حیثیة الحکایة والاخبارعما یقع فیه فعلاً أو فی المستقبل القریب فهو صحیح، لأن هیئة فعل الماضی موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما التی تتضمن حیثیة الحکایة بتبع حکایة طرفیها عما تحقق فی الخارج وتدل علی هذا المعنی الحکائی بالدلالة التصوریة فی مرحلة التصور، وبالدلالة التصدیقیة فی مرحلة التصدیق، وهیئة فعل المضارع موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما التی تتضمن حیثیة الحکایة عما یقع فیه تصوراً وتصدیقاً، ومن هنا إذا سمع الانسان لفظ «ضرب» ولو من لافظ بلاشعور واختیار، کان المتبادر منه فی الذهن ارتکازاً وفطرة معناه الحکائی عماتحقق فی الخارج، کما أن المتبادر من لفظ «یضرب» هو معناه الحکائی عمایتحقق فیه.

ومن هنا یظهر أن ما قیل من أنه لا فرق بین فعل الماضی والمضارع فی المدلول التصوری، وإنما الفرق بینهما فی المدلول التصدیقی، فإنه فی فعل الماضی قصد

ص:273

الحکایة عن ثبوت المبدأ وتحققه فی الخارج، وفی فعل المضارع قصد الحکایة عمایقع فی الخارج غیر صحیح، وذلک لما عرفت من الفرق بینهما فی نفس المدلول التصوری، حیث إنه فی کل منهما متخصص بخصوصیة خاصة کما مرّ، ولذلک یختلف المدلول التصدیقی فی کل منهما عن المدلول التصدیقی فی الآخر، وإلا فلازمه أن یکون المدلول التصدیقی لکل منهما مخالفاً لمدلوله التصوری الوضعی، وهو کماتری، لوضوح أن المدلول التصدیقی للفظ هو المدلول التصوری، غایة الأمر أنه فی مرحلة التصور متعلق للتصور، وفی مرحلة التصدیق متعلق للتصدیق.

القول الثانی: ما اختاره السید الاُستاذ قدس سره من أن هیئة الفعل سواء کان اضیاً أم مضارعاً موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن ثبوت الواقع أو نفیه، فیکون قصد الحکایة عن الواقع هو المدلول الوضعی لها، ولذلک تکون دلالتها الوضعیة دلالة تصدیقیة لا تصوریة(1).

وفیه أن ذلک مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانی، فإن الدلالة الوضعیة علی ضوء هذا المسلک دلالة تصدیقیة لا تصوریة، ولکن قد تقدم نقد هذا المسلک بشکل موسع، فلاحظ.

إلی هنا قد تبین أن الأقوال فی المسألة أربعة، فالصحیح منها هو القول الثانی، هذا تمام الکلام فی فعل الماضی وفعل المضارع.

وأما فعل الأمر ففیه جهتان:

الجهة الاُولی متمثلة فی النظر إلیه بما أنه فعل کأخویه من فعل الماضی والمضارع.

الجهة الثانیة متمثلة فی النظر إلیه بما أنه یتضمن طلب المادة من المخاطب، وبهایمتاز عن أخویه

ص:274


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 85.

الماضی والمضارع.

وأما الکلام فی الجهة الاُولی، فلأن ملاک فعلیته أنه یتضمن نسبة المادة إلی فاعل ما کالماضی والمضارع، علی أساس أن فعلیة الفعل متقومة بتلک النسبة، وهی محفوظة فیه کما هی محفوظة فیهما، غایة الأمر أنه تدل علیها فی وعاء الطلب والارسال، وهما یدلان علیها فی وعاء التحقق والاخبار، وهذا الفرق لا یمثل فارقاً فیما هو مدلول الفعل بما هو فعل.

وأما الکلام فی الجهة الثانیة، فلأنه یدل علی النسبة فی عالم الطلب والانشاء، بینما یدل فعل الماضی والمضارع علیها فی عالم التحقق والاخبار، وبذلک یمتازعنهما.

وبکلمة، إن فعلیة الفعل متقومة بدلالته علی نسبة المادة إلی فاعل ما وتدورمدارها وجوداً وعدماً، والمفروض أنها محفوظة فی فعل الأمر کما أنها محفوظة فی نظیریه، وأما خصوصیة کون النسبة نسبة طلبیة إنشائیة فی عالم الانشاء والطلب أو حکائیة إخباریة فی عالم التحقق والثبوت، فهی تمثل حقیقة مدلول الفعل، ومن هنا تمتاز الخصوصیة التی تنشأ من قبل الهیئة کالطلبیة والانشائیة فی فعل الأمر والاخباریة والحکائیة فی فعل الماضی والمضارع عن الخصوصیة التی تنشأمن قبل المادة کالصدوریة والحلولیة فی نقطة، وهی أن الاُولی من مقومات النسبة التی هی مدلول الهیئة، والثانیة من لوازم مدلول المادة.

إلی هنا قد تبین أن فعل الأمر یشترک مع فعل الماضی والمضارع فی ذات المدلول، وهی النسبة بما هی، ویمتاز عنهما فی وعائها المقوم لها، حیث إنه یدل

ص:275

علی النسبة فی وعاء الطلب والانشاء، بینما هما یدلان علی النسبة فی وعاء الاخبار والحکایة عن الواقع، ونتیجة ذلک أن النسبة وإن کانت محفوظة فی فعل الأمر التی هی ملاک فعلیته، إلا أنها غیر النسبة فی فعل الماضی والمضارع، فإنها متمثلة فی النسبة الطلبیة الانشائیة تصوراً وتصدیقاً، بینما النسبة فیهما متمثلة فی النسبة الحکائیة والاخباریة کذلک، فإذن یمتاز فعل الأمر عن أخویه فی المدلول التصوری، لأن المتبادر منه عند سماعه هو النسبة الطلبیة وإن کان من لافظ بغیرشعور واختیار، کما أن المتبادر منهما النسبة الاخباریة الحکائیة کذلک، ومن هناإذا استعمل فعل المضارع فی النسبة الطلبیة الانشائیة لم یجرد عن کونه فعلاً، لأن استعماله فیها لا ینافی فعلیته.

والخلاصة أن ملاک فعلیة الفعل إنما هو دلالته علی نسبة المادة إلی فاعل ما صدوراً أو حلولاً، غایة الأمر أن هذه النسبة قد تکون فی وعاء الطلب والانشاء، وقد تکون فی وعاء التحقق والاخبار، فالنسبة الصدوریة من الفاعل فی کلا الوعائین ثابتة، ولا فرق بین أن تکون هذه النسبة بنحو الطلب منه أوبنحو التحقق والاخبار عنه، وعلی هذا فملاک فعلیة الفعل محفوظة فی صیغة الأمرکما أنه محفوظة فی صیغة المضارع إذا استعملت فی مقام الانشاء والطلب.

نعم لو کان ملاک فعلیة الفعل دلالته علی النسبة فی وعاء التحقق والاخبارلم تکن صیغة الأمر فعلاً، لفرض أنها لا تدل علی النسبة فی ذلک الوعاء، ولکن لازم هذا تجرید فعل المضارع عن الفعلیة أیضاً إذا استعمل فی مقام الطلب والانشاء، وهو کماتری.

قد یقال کما قیل: إن من خاصة الفعل الممیزة دلالته علی الزمان، وحیث إنهالم تتوفر فی فعل الأمر لعدم دلالته علیه، فلا یکون فعلاً.

ص:276

والجواب: أن الدلالة علی الزمان لیست من مقومات فعلیة الفعل، فلهذا لایدل علیه فعل الماضی والمضارع أیضاً کما سوف نشیر إلیه، فإذن لیست الدلالة علی الزمان من ملاک فعلیة الفعل.

بقی هنا أمران:

الأول: أن الفعل لا یقع محکوماً علیه ویقع محکوماً به، أما عدم وقوعه محکوماً علیه، فلأن الفعل وإن کان متکوناً من المادة التی هی معنی اسمی والهیئة التی هی معنی حرفی، إلا أن الملحوظ والمنظور فیه إنما هو المعنی الحرفی، أی مدلول الهیئة الذی هو ملاک فعلیة الفعل، دون مدلول المادة المشترکة، فإنه معنی اسمی ولیس دخیلاً فی فعلیة الفعل، لأنها متقومة بهیئته الطارئة علی المادة التی هی بمثابة الصورة النوعیة له، ولهذا یکون امتیاز کل فعل عن آخر إنما هو بهیئته، فمن هذه الجهة لا یقع الفعل محکوماً علیه.

فالنتیجة أن الفعل وإن کان مرکباً من المعنی الاسمی الذی هو مدلول المادة والمعنی الحرفی الذی هو مدلول الهیئة، إلا أن الدخیل فی فعلیته إنما هومدلول الهیئة، وهو النسبة بین المادة والفاعل، فاحتیاج الفعل إلی المادة کاحتیاج الصورة إلی الهیولی، باعتبار أن فعلیة الفعل إنما هو بصورته النوعیة القائمة بالمادة لا بمادته، ومن الواضح أن تلک النسبة لا تصلح أن تقع موضوعاً للحکم فی القضیة.

وأما وقوعه محکوماً به کما فی مثل «زید قام» فإنما هو من أجل أن المتفاهم العرفی من الفعل الواقع خبراً للمبتدأ فی الجملة الاسمیة هو الذات المتلبسة بالمبدأ، ولهذا ترجع الجملة المذکورة إلی جملة «زید قائم»، وعلیه فوقوعه محمولاً إنما هو بهذا اللحاظ لا بلحاظ مدلوله فی نفسه وهو النسبة، وبذلک تمتاز

ص:277

الجملة الفعلیة کقولک «قام زید» عن الجملة الاسمیة المشتملة علی الفعل کقولک «زید قام»، لأن الفعل فی الجملة الاسمیة مشتمل علی الذات بلحاظ الضمیرفیه، ولهذا کان المتفاهم منه الذات المتلبسة بالمبدأ، بینما الفعل فی الجملة الفعلیة مشتمل علی المادة والهیئة فحسب دون الذات، نعم إنها تدل علیها بالالتزام کماتقدم، فإذن وقوعه محکوماً به فإنما هو بلحاظ اشتماله علی الذات.

الثانی: أن الزمان غیر مأخوذ فی مدلول الفعل، لما عرفت من أن مدلوله نسبة المادة إلی فاعل ما، ولا یعتبر فیه وقوعه فی الخارج فی زمان، لأن موطنه عالم الذهن أو عالم الطلب والبعث، ومن هنا یظهر أن ما نسب إلی النحاة من دلالة الفعل علی الزمان لا أصل له، لأن الفعل لم یوضع بإزاء النسبة الخارجیة لکی یتوهم أنها تقع فی زمان ما، مع أن وقوعها فیه لا یدل علی أنه مأخوذ فی مدلوله جزءاً أو قیداً، بل لعله من باب أن کل زمانی لابد أن یقع فی زمان، مع أن الزمان لو کان مأخوذاً فی مدلوله لکان مدلوله تصدیقیاً لا تصوریاً، لأن معنی ذلک أنه موضوع بإزاء النسبة الخارجیة لا الذهنیة، والحال أن الأمر لیس کذلک، لما مرّ من أنه موضوع بإزاء واقع النسبة التی یکون الذهن ظرفاً لنفسها لالوجودها اللحاظی، لأنها بهذا الوجود معنی اسمی لا حرفی، کما أشرنا إلیه سابقاً، هذا تمام کلامنا حول وضع الأفعال وامتیاز بعضها عن بعضها الآخر.

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو وضع المصادر، فلا شبهة فی أن المصدر بما هو لا یکون مبدأ المشتقات، لأن المبدأ لها لابد أن یکون ساریاً فی جمیع أنواعها وأشکالها، بأن یکون خالیاً ومجرداً عن کل الخصوصیات لفظاً ومعنی حتی یقبل أی صورة تطرأ علیه کالهیولی فی الأشیاء، بینما المصدر لیس کذلک، فإنه مشتمل علی خصوصیة لفظاً ومعنی، أما لفظاً فلأنه مشتمل علی هیئة خاصة،

ص:278

وأما معنیً فلأنه مشتمل علی خصوصیة زائدة علی صرف الحدث.

والخلاصة أن المبدأ کالهیولی الاُولی، فکما أنها عاریة عن کل خصوصیة من الخصوصیات، وإلا فلا یمکن أن تقبل أیّ صورة ترد علیها ولا تصلح أن تکون مادة لجمیع الأشیاء فکذلک المبدأ، وهذا بخلاف المصدر، فإنه مشتمل علی خصوصیة زائدة علی نفس الحدث المشترک.

ومن هنا یظهر أن ما هو المشهور بین النحاة من أن المصدر أصل المشتقات ومبدأ لها لا یرجع إلی معنی محصل، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد تسأل أن الخصوصیة التی تدل علیها هیئة المصدر ماهی؟

والجواب: أن فیه قولین:

الأول: ما ذهب إلیه جماعة من أنها عبارة عن النسبة الناقصة بین المادة والذات المبهمة، وهیئة المصدر موضوعة بإزائها وتدل علیها، هذا.

وعلیه تعلیقان:

الأول: ما عن المحقق النائینی قدس سره من أن المصدر لو کان موضوعاً للنسبة الناقصة بین المادة والذات المبهمة، فلازمه أن یکون مبنیاً من جهة مشابهته للحرف فی معناه النسبی، مع أنه معرب لا مبنی(1).

ولکن هذا التعلیق غیر صحیح.

أما أولاً: فبالنقض بالأوصاف الاشتقاقیة، فإنها موضوعة بإزاء معان نسبیة

ص:279


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 93.

وهی نسبة المبدأ إلی الذات، مع أنها معربة ولیست بمبنیة.

وثانیاً: بالحلّ وهو أن وضع هیئة المصدر للنسبة الناقصة وإن کان مؤدّیاً إلی مشابهته للحرف فی مدلول هیئة، إلا أنه لا أثر لهذه المشابهة، لأنها لاتستدعی أن یکون المصدر مبنیاً، لأن الملاک فی کونه مبنیاً إنما هو مشابهته للحرف بمدلول مادته کما فی أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما، ولا قیمة لمشابهته للحرف بمدلول هیئته.

وبکلمة، إن المصدر مرکب من أمرین: الأول المادة التی هی معنی اسمی، والثانی الهیئة التی هی معنی حرفی، فالمصدر بلحاظ مادته اسم ولا یشبهه الحرف، وشباهته له بلحاظ هیئته لا تضر بکونه معرباً بلحاظ مادته، لأنه من جهة ما یشبه المعنی الحرفی لا دخل له فی حیثیة کونه معرباً، ومن جهة ماله دخل فی ذلک لا یشبه المعنی الحرفی، فلذلک لا یکون مبنیاً.

هذا إضافة إلی أن الملحوظ فی المصدر بالأصالة إنما هو مدلول المادة، لأنه العنصر الأساسی فیه دون مدلول الهیئة، فإنه مندک فیه ولا ینظر إلیه إلا تبعاً، فلهذا یقع المصدر محکوماً علیه دون الفعل، حیث إن فعلیة الفعل إنما هی بهیئته لابمادته، بینما یکون المصدر بعکس ذلک.

الثانی: أن هیئة المصدر لو کانت موضوعة للنسبة الناقصة بین المادة والذات المبهمة لم تصح إضافة المصدر إلی الذات فی مثل «ضرب زید» و «قیام عمرو» و «علم خالد» وهکذا، لأستلزم ذلک قیام نسبتین ناقصتین فی عرض واحد بین مادة واحدة وطرفین أحدهما الذات المبهمة والآخر الذات المعینة کزید مثلاً، وهذ مستحیل، لاستحالة أن یکون شخص المادة طرفاً لنسبتین متباینتین معاً، لما مر من أن کل نسبة متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو

ص:280

الخارج، ومن الواضح أنه لا یعقل أن یکون شخص المادة من المقومات الذاتیة لنسبتین متباینتین فی عرض واحد، فإن هذا نظیر أن یکون فصل واحد من المقومات الذاتیة لنوعین متباینتین کذلک، وهو کما تری.

أو فقل: إن شخص وجود المادة فی الذهن أو الخارج إذا کان طرفاً لنسبة فیه، فلا یعقل أن یکون فی نفس الوقت طرفاً لنسبة اخری فیه مباینة للاُولی، لما تقدم من أن الجامع الذاتی بین أنحاء النسب غیر متصور، لأنها متباینات بالذات والحقیقة بتباین مقوماتها الذاتیة، لأن المقومات الذاتیة لکل نسبة مباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، حیث إنها بمثابة الجنس والفصل للنوع، فکما أن کل نوع من الأنواع مباین للنوع الآخر باعتبار أن الجنس والفصل لکل منها مباین للجنس والفصل للآخر، فلا یعقل اشتراک نوعین متباینین فی شخص الجنس والفصل ولا فی أحدهما فقط دون الآخر، فکذلک الحال فی أنحاء النسب، فإنه لا یعقل اشتراک نسبتین متباینتین فی شخص الطرفین أو فی أحدهما فحسب دون الآخر(1).

ولکن یمکن المناقشة فیه، إذ بإمکان القائل بهذا القول أن یقول بأن هیئة المصدر تدل علی النسبة الناقصة، وهیئة الاضافة علی تعیین الذات المبهمة التی هی أحد طرفیها فی فرد معین فی الخارج، لا علی النسبة الناقصة الاُخری فی عرض الاُولی. هذا،

والصحیح فی نقد هذا القول أن یقال إن هیئة المصدر لم توضع للنسبة الناقصة بین الحدث والذات المبهمة، وإنما وضعت لحصة خاصة من الحدث، فلنا دعویان:

ص:281


1- (1) ذکره فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 315.

الاُولی: أن المصدر لم یوضع للنسبة الناقصة بین الحدث والذات المبهمة.

الثانیة: أنها موضوعة لحصة خاصة من الحدث.

أما الدعوی الاُولی فلأن هیئة المصدر لو کانت موضوعة للنسبة بین الحدث والذات المبهمة، فلابد من أن تکون النسبة تامة، لما ذکرناه سابقاً من أن تمامیة النسبة فی أیّ وعاء إنما هی بتمامیة شخص طرفیها فیه، سواء أکان ذلک الوعاء وعاء الخارج أم الذهن، لأن ذهنیة النسبة أنما هی بذهنیة طرفیها، کما أن خارجیتها إنما هی بخارجیتها، ولا یعقل أن توجد النسبة فی الذهن أو الخارج ناقصة، لأن طرفیها إن وجدا فی الذهن أو الخارج فالنسبة ثابتة فیه، وإلا فلانسبة، لا أنها موجودة ناقصة.

والخلاصة أن هیئة المصدر لو کانت موضوعة بإزاء النسبة بین الحدث والذات المبهمة لم یکن فرق بینها وبین هیئة الفعل فی المعنی الموضوع له، حیث قدمر أن هیئة الفعل أیضاً موضوعة للنسبة بین الحدث والذات المبهمة، مع أن الفرق بینهما فی المعنی الموضوع له واضح وجداناً وارتکازاً، ومن هنا یختلف المصدر عن الفعل فی عدة نقاط:

منها: أن المصدر یصح وقوعه محکوماً علیه دون الفعل.

ومنها: أن المصدر یصح إضافته إلی الفاعل تارة والمفعول اخری دون الفعل، فإنه لایصح إضافته إلی شیء منهما.

ومنها: أن العنصر الأساسی فی المصدر إنما هو مادته دون هیئته، بینما الأمر فی الفعل علی العکس.

ومن الواضح أن تلک تدل بوضوح علی أن هیئة المصدر لم توضع بإزاء

ص:282

النسبة بین الحدث والذات المبهمة، وإلا کان حاله حال الفعل، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وأما الدعوی الثانیة فلأن المتفاهم العرفی من هیئة المصدر حیثیة خاصة قائمة بذات الحدث کقیام المعنی الحرفی بالمعنی الاسمی، ولیست تلک الحیثیة نسبة حتی لا یعقل قیامها بطرف واحد.

وبذلک یفترق المصدر عن الفعل، وهذا یمثل الفرق بینهما جوهریاً، لأن المصدر متقوم بمدلول مادته وهو ذات الحدث الفارغة عن جمیع الخصوصیات والحیثیات الطارئة، دون مدلول هیئته وهو الحیثیة القائمة بها، والفعل متقوم بمدلول هیئته وهو النسبة بین المادة والذات المبهمة کما تقدم، دون مدلول مادته.

وعلی الجملة فالظاهر أن هیئة المصدر موضوعة بإزاء الحیثیة القائمة بذات الحدث التی هی معنی مادته وتدل علیها، وهذه الحیثیة وإن کانت تستلزم إضافة الحدث إلی الذات المبهمة إلا أنها لم تؤخذ فی مدلولها، لأن الأخذ فیه شیء والاستلزام شیء آخر.

وما ذکرناه سابقاً من أن حیثیة الصدور أو الحلول لم تؤخذ فی مدلول الهیئة، وإنما هی مأخوذة فی مدلول المادة لا ینافی ما مرّ الآن من أن هیئة المصدر تدل علی خصوصیة قائمة بذات المادة، لأن الخصوصیة التی تکون مدلولة لهیئة المصدر هی خصوصیة الإیجاد، فإن المصدر فی مرحلة التصور قد یلحظ بما هوحدث

ص:283

وإیجاد، وقد یلحظ بما هو موجود بالذات فی الخارج، نظیر الخلق والمخلوق والإیجاد والوجود، فإنهما متحدان فی الواقع ذاتاً وحقیقة ومختلفان اعتباراً، فالقیام تارة یلحظ بما هو حدث وإیجاد، واُخری یلحظ بما هو وجود فی الخارج، فهیئة المصدر موضوعة للقیام بلحاظ الحیثیة الاُولی، أی بما هو حدث وإیجاد، وأما خصوصیة الحلولیة، فهی مقتضی أرضیة القیام وخاصته، فلاتکون هیئة المصدر موضوعة لها، ومن هنا یظهر حال اسم المصدر، فإنه موضوع للحدث بلحاظ الحیثیة الثانیة، لأن کلتا الحیثیتین من حیثیات الحدث ومن الحالات القائمة بذاته، غایة الأمر أن مدلول هیئة المصدر حینئذ موجود فی ضمن مدلول کل هیئة من الهیئات الاشتقاقیة، حیث إنه أسبق رتبة من سائرالمشتقات، وکذلک اسم المصدر.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أن هیئة المصدر موضوعة للحیثیة القائمة بذات الحدث لا للنسبة بینها وبین الذات المبهمة.

وهنا قولان آخران:

القول الأول: ما عن المحقق النائینی قدس سره فإنه فی مقام التمییز بین المصدر واسم المصدر قال: إن المصدر موضوع للحدث الملحوظ بنحو قابل لورود النسبة علیه، أی إنه موضوع للحدث الملحوظ بنحو لا بشرط، واسم المصدرموضوع للحدث بشرط عدم هذه النسبة، یعنی أنه موضوع للحدث الملحوظ بشرط لا(1). هذا،

ولکن للمناقشة فیه مجالاً واسعاً، وذلک لأنه قدس سره إن أراد بکلمة «لا بشرط» عنوانها ومفهومها وأن المصدر موضوع بإزائه، فیرد علیه أن مفهوم هذه الکلمة مفهوم اسمی، فلا یمکن أن تکون هیئة المصدر موضوعة بإزائه، لأن مدلولها معنی حرفی لا اسمی.

وإن أراد بها واقعها الموضوعی، وهو الخصوصیة التی یستبطنها الحدث

ص:284


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 91 و 93.

کخصوصیة الصدوریة أو الحلولیة، وهی قابلیة الحدث لورود الاضافة والنسبة علیه، وهذه الخصوصیة قائمة بذات الحدث کقیام المعنی الحرفی بالمعنی الاسمی، ولیست نسبة بالمعنی الذی یحتاج إلی الطرفین، وأما کونها مأخوذة لا بشرط فإنما هو بالنسبة إلی إضافة الحدث إلی الذات وعدم إضافته إلیها، فیرد علیه أن لازم ذلک کون المصدر مبنیاً عنده قدس سره للمشابهة بالمعنی الحرفی وهو الخصوصیة المذکورة، ومن هنا منع قدس سره عن وضع هیئة المصدر بإزاء النسبة بین المادة والذات، معللاً بأنها لو کانت موضوعة بإزائها لکان المصدر مبنیاً بملاک المشابهة لا معرباً، والخصوصیة المذکورة وإن لم تکن نسبة إلا أنها معنی حرفی، فإذا کانت معنی حرفیاً، فلا یری قدس سره وضع المصدر بإزائها بنفس الملاک المتقدم، فالنتیجة أنه لا یمکن أن یکون مراده قدس سره من اللا بشرط تلک الخصوصیة.

وإن أراد قدس سره بها ذات المعنون بعنوان لا بشرط، وهی طبیعی الحدث الذی لم یلحظ معه أیّ خصوصیة من الخصوصیات العرضیة، بأن یکون مهملاً من جمیع الجهات والخصوصیات، فیرد علیه أن الحدث بهذا المعنی مبدأ للمشتقات، فلایمکن أن یکون مدلولاً للمصدر، لأن المصدر مشتمل علی خصوصیة زائدة لفظاً ومعنی، فلا یصلح أن یکون مبدأ لها کالهیولی، بل هو من أحد المشتقات، هذا إضافة إلی أن الحدث بهذا اللحاظ معنی اسمی، فلا یمکن أن یکون مدلولاً لهیئة المصدر.

فالنتیجة أن هذه المحاولة بتمام محتملاتها غیر تامة.

نعم، قد یظهر من بعض کلماته أن المصدر وضع للحدث القائم بموضوع، واسم المصدر وضع للحدث بشرط عدم لحاظ قیامه به، فهما متباینان معنی(1).

ص:285


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 94.

ویمکن المناقشة فیه بأنه إن أراد قدس سره بقیامه بالموضوع قیامه به خارجاً، فیردعلیه أن لازم ذلک وضع هیئة المصدر للنسبة الخارجیة، لأن قیام الحدث بالموضوع فی الخارج عبارة اخری عن نسبته إلیه، ومن الواضح أنه لایمکن الالتزام به، لأن لازمه أن یکون المدلول الوضعی لها مدلولاً تصدیقیاً، وأیضاً لازمه أن یکون المصدر مبنیاً عنده قدس سره مع أنه لا یلتزم بالبناء.

هذا إضافة إلی أن لازم وضعها للنسبة الخارجیة عدم ثبوت المدلول لها فی موارد الهلیة البسیطة والصفات الذاتیة له تعالی والاعتباریات والانتزاعیات، من جهة أن النسبة الخارجیة لا تتصور فی هذه الموارد کافة.

وإن أراد قدس سره بذلک قیامه بالموضوع فی صقع الذهن، فیرد علیه أن لازم ذلک وضع هیئة المصدر للنسبة الذهنیة، والحال أنه قدس سره لا یلتزم به، بل ینفی ذلک معللاً بأن وضعها لهایستلزم کون المصدر مبنیاً مع أنه معرب، فالنتیجة أنه لیس بوسعه الالتزام بوضع المصدر بإزاء النسبة ولا بإزاء الخصوصیة القائمة بالحدث، لاستلزام ذلک کونه مبنیاً عنده.

وأما ما أفاده قدس سره بالنسبة إلی اسم المصدر، فلا یمکن المساعدة علیه.

أما أولاً: فلأن لازم ذلک عدم وجود مصداق لمدلول اسم المصدر فی الخارج، لأن الحدث بشرط عدم لحاظ إضافته إلی ذات فیه مجرد مفهوم فی عالم الذهن لاواقع له خارجاً، ضرورة أنه لا یمکن فرض وجود حدث بدون انتسابه إلی ذات فیه.

وثانیاً: أنه لا شبهة فی صحة إضافة اسم المصدر إلی فاعله، فلوکان موضوعاً للحدث بنحو بشرط لا، أی بشرط عدم الاضافة إلیه، لزم إلغاء معناه الموضوع له واستعماله فی غیره فی مثل قولک «غُسل زید» مثلاً، أو فقل إنه یلزم التناقض

ص:286

والتهافت بین مدلوله ومدلول الاضافة.

القول الثانی: ما ذهب إلیه السید الاُستاذ قدس سره من أن هیئة المصدر موضوعة للدلالة علی قصد نسبة الحدث إلی فاعل ما، وهیئة اسم المصدر موضوعة للدلالة علی قصد الحدث من دون لحاظه منتسباً إلی ذات فی الخارج.

وأما هیئة فعل الماضی، فقد تقدم أنها موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة عن تحقق المبدأ فی الخارج قبل التکلم بها ولو آناً ما، وهیئة فعل المضارع موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة عن تحقق المبدأ حال التکلم أو بعده ولو بآن، وعلی هذا فتمتاز هیئة المصدر عن اسم المصدر فی المعنی الموضوع له، وکذلک تمتاز هیئة المصدر عن هیئة الفعل فی ذلک(1) ، هذا.

ویمکن المناقشة فیه.

أما أولاً فلأن ما ذکره قدس سره مبنی علی نظریته فی مسألة الوضع، وهی التعهد والالتزام النفسانی، حیث إن لازم هذه النظریة کون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة، والفرق بین هیئة المصدر وهیئة الفعل علی ضوئها ظاهرة، وأما علی ضوء سائر النظریات فی باب الوضع فقد مرّ أن الدلالة الوضعیة دلالة تصوریة، وعلی هذا فما هو الفارق بین هیئة المصدر وهیئة الفعل بعد ما کان المدلول الوضعی فی کلتیهما هو النسبة بین الحدث والذات المبهمة، وقد تقدم أنه علی هذا لا فرق بینهما.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم نظریة التعهد، ولکن مع هذا یکون المتبادر من هیئة المصدر عرفاً قصد تفهیم الخصوصیة القائمة بالحدث دون

ص:287


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 235 و 277.

النسبة بینه وبین الذات المبهمة، کما أنها هی المتفاهم منها عرفاً علی ضوء سائرالنظریات، وقد تقدم أن هذا هو الصحیح.

وأما هیئة اسم المصدر، فإن کانت متحدة مع هیئة المصدر کما هو الغالب فی اللغة العربیة فالمدلول الوضعی لها واحد، وذلک مثل «الضرب» و «النصر» ونحوهما، لوضوح أنه لیس لها معنیان: أحدهما المعنی المصدری، والآخر المعنی الاسم المصدری.

وأما إذا کانت لکل منهما هیئة مستقلة ک «الغُسل» و «الغَسل»، فالظاهر أن هیئة اسم المصدر موضوعة للحدث بلحاظ أنه موجود فی موطنه، وهیئة المصدر موضوعة بإزائه بلحاظ إیجاده، فیکون الفرق بینهما الفرق بین الایجاد والوجود، فالمصدر وضع لحیثیة الایجاد، واسم المصدر لحیثیة الوجود.

ثم إن مرادنا من الایجاد والوجود لیس هو الایجاد والوجود الخارجیین لکی یقال إن اللفظ لم یوضع بإزاء الوجود الخارجی، بل المراد منهما أن الحدث فی عالم التصور قد ینظر إلیه بما أنه حدث وإیجاد وقد ینظر إلیه بما أنه وجود فی موطنه، والأول المعنی المصدری، والثانی المعنی الاسم المصدری.

نتیجة البحث عدة نقاط:

الاُولی: أن هیئة الفعل بشتی أنواعه موضوعة للنسبة بین المادة والذات والمبهمة فی وعاء التحقق والطلب، وهیئة الجملة فی مثل قولک «ضرب زید» وضعت لتعیین الذات المبهمة فی فرد خاص.

الثانیة: أن صدوریة النسبة وحلولیتها إنما هی من خصوصیات المادة دون الهیئة، وهذا واضح علی القول بأن وضع الهیئة نوعی، وأما علی القول بأن

ص:288

وضعها شخصی فالظاهر أن الأمر أیضاً کذلک کما تقدم.

الثالثة: أن القول بأن هیئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة وهیئة الجملة موضوعة للنسبة التامة، لا یرجع إلی معنی صحیح، بل لازم ذلک قیام نسبتین متباینتین فی عرض واحد بمادة واحدة وطرفین آخرین، وهو غیر معقول کما مرّ.

الرابعة: أنه لا فرق بین جملة «ضرب زید» التی هی جملة فعلیة وبین جملة «زید ضرب» التی هی جملة اسمیة، فکما أن هیئة الفعل فی الجملة الاُولی تدل علی النسبة التامة بین المادة والذات المبهمة، وهیئة الجملة تدل علی تعیین الذات المبهمة فی فرد معین فی الخارج کزید مثلاً فکذلک هیئة الفعل فی الجملة الثانیة، فإنها تدل علی النسبة بین المادة والذات المبهمة المستترة فیه، وهیئة الجملة تدل علی تعیین الذات المبهمة فی فرد خاص، غایة الأمر أن هیئة الفعل فی الجملة الاُولی تدل علی الذات المبهمة بالالتزام، علی أساس دلالتها علی وقوع المادة وتحققها خارجاً، وأما فی الجملة الثانیة فتدل علیها بالمطابقة، وهی الضمیرالمستتر فیه.

ودعوی أن الجملة الثانیة تنحل إلی جملتین صغیرة وکبیرة ومشتملة علی نسبتین، فالصغیرة جملة فعلیة تدل علی النسبة بین المادة والفاعل المبهم وهو الضمیر المستتر فیه، والکبیرة جملة اسمیة تدل علی النسبة بین المبتدأ والخبر وهوالجملة الفعلیة، بینما الجملة الاُولی لا تنحل إلی جملتین کذلک.

مدفوعة بأن هذا الانحلال وإن کان معروفاً إلا أنه لا ملاک له، بل هی جملة واحدة کالجملة الاُولی، غایة الأمر أن الفاعل فی الجملة الاُولی متأخر عن الفعل وفی الثانیة متقدم علیه، ولکن هذا المقدار من الاختلاف لا یمثل الفرق بینهما واقعاً وجوهراً.

ص:289

الخامسة: أن ما أفاده بعض الأعاظم قدس سره - من أن هیئة الفعل فی الجملة الاسمیة وإن کانت موضوعة بإزاء نسبة المادة إلی فاعل ما، إلا أنها لما کانت هیئة إفرادیة، فوضعها بإزائها لا یغنی عن وضع هیئة الجملة القائمة بالفعل والفاعل - غیر تام کما تقدم.

السادسة: أن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره - من أن هیئة فعل الماضی موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما بنحو التحقق، وهیئة فعل المضارع موضوعة لنسبة المادة إلی فاعل ما بنحو الترقب، وبذلک یمتاز فعل الماضی عن المضارع - مما لایمکن المساعدة علیه، إلا أن یکون مراده قدس سره من ذلک أن النسبة فی فعل الماضی تتضمن حیثیة الحکایة والاخبار عما وقع فی الخارج، وفی فعل المضارع تتضمن حیثیة الحکایة والاخبار عما یقع فیه فعلاً أو فی المستقبل، فعندئذ ما أفاده قدس سره تام.

السابعة: أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره - من أن هیئة الفعل ماضیاً کان أم مضارعاً موضوعة للدلالة علی قصد الحکایة والاخبار عن الواقع نفیاً أو إثباتاً - مبنی علی مسلکه قدس سره فی باب الوضع، وحیث إنه غیر تام عندنا، فلا یمکن المساعدة علی ما أفاده قدس سره.

الثامنة: أن فعلیة صیغة الأمر إنما هی بلحاظ اشتمالها علی النسبة بین المادة والفاعل کأخویها من فعل الماضی والمضارع، علی أساس أن فعلیة الفعل متقومة بتلک النسبة، وحیث إن فعل الأمر مشتمل علیها، فهو یشترک معهما فی الفعلیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إن وعاء هذه النسبة فی فعل الأمر وعاء الطلب والانشاء، وفی فعل الماضی والمضارع وعاء التحقق والاخبار، وبذلک یمتاز فعل

ص:290

الأمرعنهما.

التاسعة: أن الفعل لا یقع محکوماً علیه، بنکتة أن فعلیة الفعل إنما هی بهیئته التی هی بمثابة صورته النوعیة دون مادته التی هی بمثابة الهیولی، فلذلک یکون مدلول الفعل معنی حرفیاً، باعتبار أنه مدلول هیئته، والمعنی الحرفی لا یصلح أن یحکم علیه، وأما وقوعه محکوماً به، فلا یکون من جهة معناه الموضوع له وهوالنسبة، لأنه من هذه الجهة کما لا یحکم علیه لا یحکم به أیضاً، بل من جهة أن الجملة الفعلیة إذا وقعت خبراً للمبتدأ کقولک «زید قام» ترجع فی الحقیقة إلی جملة اسمیة وهی قولک «زید قائم»، علی أساس أن المتفاهم العرفی منها هوتلبس الذات بالمبدأ، فیکون المحمول فی الحقیقة هو تلک الذات المتلبسة کماتقدم، دون الفعل، بما هو فعل دال علی النسبة.

العاشرة: أن المصدر لا یصلح أن یکون مبدأ للمشتقات وأصلاً لها کما فی کلمات النحاة، لأنه مشتمل علی خصوصیة زائدة لفظاً ومعنی، والمبدأ لابد أن یکون خالیاً عن جمیع الخصوصیات العرضیة حتی یکون ساریاً فی جمیع المشتقات بشتی أنواعها وأشکالها.

الحادیة عشرة: أن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من أن هیئة المصدر لو کانت موضوعة بإزاء النسبة الناقصة بین المادة والذات المبهمة کان مبنیاً من جهة المشابهة غیر تام، لأن المصدر معرب من جهة مادته التی هی معنی اسمی، والمفروض أنه لا یشبه الحرف من هذه الجهة، وإنما یشبه الحرف من جهة هیئته، والشباهة من هذه الجهة لا ترتبط بالجهة التی یکون المصدر معرباً من تلک الجهة.

الثانیة عشرة: أن صحة إضافة المصدر إلی الذات ک «ضرب زید» و «قیام

ص:291

عمرو» تمنع عن وضع هیئته للنسبة الناقصة، وإلا لزم قیام نسبتین ناقصتین فی عرض واحد بین مادة واحدة وطرفین، وهما الذات المبهمة والذات المعینة، وهذا مستحیل، لاستحالة أن یکون شخص المادة طرفاً مقوماً لنسبتین متباینتین معاً کما تقدم.

الثالثة عشرة: الصحیح أن هیئة المصدر موضوعة لخصوصیة خاصة قائمة بالحدث، وهی لیست بنسبة حتی تحتاج إلی وجود طرفین لها، بل هی من الحالات القائمة بالغیر کقیام المعنی الحرفی بالمعنی الاسمی.

الرابعة عشرة: أن المصدر یمتاز عن الفعل بعدة نقاط: منها وقوعه محکوماً علیه، ومنها صحة إضافته إلی الفاعل، ومنها إلی المفعول، بینما لا یقع الفعل محکوماً علیه ولا یصح إضافته إلی الفاعل ولا إلی المفعول.

وأما الکلام فی المقام الثالث وهو وضع الأوصاف الاشتقاقیة، ففیه قولان رئیسیان:

القول الأول: أنها موضوعة للمتلبس بالمبدأ فعلاً.

القول الثانی: أنها موضوعة للجامع بینه وبین ما انقضی عنه المبدأ.

وأما الأقوال الاُخری فی المسألة، فهی أقوال جانبیة ویظهر حالها من بیان القولین الرئیسین فیها.

ثم إن هذا النزاع مبتن علی إمکان تصویر جامع بین المتلبس بالمبدأ والمنقضی عنه المبدأ، وأما علی تقدیر عدم إمکان تصویره، فلا موضوع لهذا النزاع، لأنه بنفسه دلیل علی بطلان القول بالأعم وتعین القول بالوضع لخصوص المتلبس، فلذلک یقع الکلام فی مقامین:

ص:292

الأول: فی مقام الثبوت.

الثانی: فی مقام الاثبات.

أما الکلام فی المقام الأول فعلی القول ببساطة مفهوم المشتق وأنه نفس المبدأ الملحوظ لا بشرط من حیث الحمل، فلا یعقل تصور معنی جامع قابل للانطباق علی المتلبس والمنقضی معاً فی الخارج، لأن المبدأ إما أن یکون موجوداً فیه أومعدوماً، ولا ثالث لهما، فتصویره تصویر جامع بین النقیضین، وهو غیر معقول، وعلیه فالمشتق بما أنه عین المبدأ ذاتاً وحقیقة، فطالما یکون المبدأ موجوداً فالمشتق صادق، وإذا زال وانقضی زال المشتق ولا یعقل بقاؤه، وعلی هذا القول یکون حال العناوین الاشتقاقیة کحال العناوین الذاتیة کالانسان والحیوان ونحوهما، فکما أنه یستحیل بقاء تلک العناوین مع زوال مبادئها الذاتیة التی هی حقیقتها، باعتبار أن شیئیة الشیء إنما هی بصورته النوعیة المقومة فکذلک عنوان المشتق، فإنه یستحیل بقاؤه مع زوال المبدأ، وإلاّ لزم خلف فرض کونه عینه، بل هو أسوء حالاً من العناوین الذاتیة، فإن تلک العناوین مرکبة من المادة والصورة، فإذا زالت صورتها النوعیة زالت العناوین بصورتها لا بمادتها.

هذا إضافة إلی أن هناک بحثاً فی الفلسفة عن إمکان انفکاک الذات عن صورتها النوعیة من جهة البحث عن مدی تقوم الصورة الجسمیة بالصورة النوعیة، فهناک قول بأن الصورة النوعیة کالأعراض للصورة الجسمیة، ولادخل لها فیها، وقول بأن الصورة الجسمیة متقومة بإحدی الصور النوعیة علی البدل، وقول بأنها متقومة بأشخاص الصور النوعیة، وتمام الکلام هناک، فالغرض هنا الاشارة إلی أن مسألة عدم انفکاک الذات عن صورتها النوعیة لیست من المسائل المسلمة لدی الفلاسفة، وهذا بخلاف المشتق، فإنه علی

ص:293

القول ببساطته عین المبدأ، فزواله بزوال المبدأ أمر وجدانی غیر قابل للبحث، فلذلک لا موضوع حینئذ للنزاع فی أنه وضع للأعم أو الخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.

وبکلمة اخری، إن الرکن الوطید علی هذا القول هو نفس المبدأ غایة الأمرأنه ملحوظ لا بشرط، ومعه لا یأبی عن الحمل علی الذات، وحینئذ فالصدق متقوم بالمبدأ وجوداً وعدماً، فإذا انعدم لم یصدق العنوان الاشتقاقی إلا بالعنایة والمجاز، وبذلک تختلف العناوین الاشتقاقیة عن العناوین الذاتیة، فإن العناوین الاشتقاقیة علی الرغم من کونها عین مبادئها ذاتاً وحقیقة وبسیطة، سواء أکانت المبادیء من إحدی المقولات أم کانت من غیرها، فإذا زالت المبادیء زالت العناوین الاشتقاقیة بالکلیة، ولکن مع هذا یصح إطلاقها علی الذات قبل الاتصاف بها وبعده مجازاً بعلاقة الأول والمشارفة أو علاقة ما کان.

بینما العناوین الذاتیة علی الرغم من کونها مرکبة من الصورة والمادة، فإذا زالت الصورة وتبدلت بصورة اخری بقیت المادة، ولکن مع هذا لا یصح إطلاقها علی المادة ولو مجازاً، فإذا صار الانسان أو الکلب ملحاً لم یصح إطلاق الانسان علی المادة ولا الکلب لا حقیقة ولا بالعنایة والمجاز، والنکتة فی ذلک هی أن المتصف بالانسانیة حصة من الهیولی، وتزول تلک الحصة بزوال صورتها وهی الانسانیة، والباقی هو الهیولی المشترکة بین جمیع الأشیاء، وهی بحدّها لا تتصف بالانسانیة أصلاً، بل لا یعقل اتصافها بها، وأما الحصة المتصفة بالترابیة، فهی مباینة للحصة المتصفة بالانسانیة وهکذا، فلذلک لا یصح إطلاق العناوین الذاتیة علی الهیولی المشترکة ولا علی حصة اخری منها مباینة ولو مجازاً، لعدم العلاقة المجوزة فی البین، وهذا بخلاف الذات فی باب العناوین الاشتقاقیة، فإنها

ص:294

قبل الاتصاف بها وحین الاتصاف بها وبعدة ذات واحدة شخصیة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتیجتین التالیتین:

الاُولی: أنه علی القول ببساطة مفهوم المشتق لا موضوع للنزاع فی أنه وضع للأعم أو لخصوص المتلبّس.

الثانیة: أن هذا القول بنفسه دلیل قطعی علی وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.

وأما علی القول بأن مفهوم المشتق مرکب من الذات والمبدأ، فهل یمکن حینئذتصویر معنی جامع بین المتلبس والمنقضی أو لا؟

فیه قولان:

فذهب المحقق النائینی قدس سره إلی القول الثانی بتقریب أن تصویر معنی جامع بین الذات المتلبسة بالمبدأ فعلاً والذات الفاقدة له کذلک غیر ممکن، لأن تصویره بینهما کتصویر جامع بین الواجد والفاقد والوجود والعدم، وهو غیر معقول.

فالنتیجة أن وضع المشتق للأعم یتوقف علی تصویر جامع بین المتلبّس والمنقضی فی الواقع ومقام الثبوت وهو غیر متصور(1). هذا،

وقد علق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأنه یمکن تصویر الجامع علی القول بالترکیب بأحد الوجهین التالیین:

الأول: أن الجامع بین المتلبس والمنقضی هو اتصاف الذات بالمبدأ فی الجملة، فی مقابل الذات التی لم تتلبس به بعد، فإن الذات فی الخارج علی نوعین:

ص:295


1- (1) فوائد الاصول ج 1 ص 121, أجود التقریرات ج 1 ص 115.

الأول: الذات التی لم تتلبس بالمبدأ بعد، وهذا النوع من الذات خارج عن المقسم.

الثانی: الذات التی تتصف بالمبدأ، وهی أعم من أن یکون اتصافها باقیاً حین النطق أو لا یکون باقیاً، وهو جامع بین المتلبس والمنقضی، وینطبق علی کل منهما انطباق الطبیعی علی أفراده، وعلی هذا فالموضوع له علی القول بالأعم هوصرف وجود الاتصاف العاری عن أی خصوصیة من الخصوصیات العرضیة، کما هو شأن الجامع والمقسم فی کل مورد، وهو کما ینطبق علی الفرد المتلبس حقیقة کذلک ینطبق علی الفرد المنقضی، باعتبار أن هذا المعنی موجود فی کلا الفردین.

وإن شئت قلت: إن الجامع بینهما خروج المبدأ من العدم إلی الوجود، فان المبدأ کما خرج من العدم إلی الوجود فی موارد التلبس کذلک خرج فی موارد الانقضاء، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده بقاء جامع بین الفردین، وخصوصیة البقاء والانقضاء من خصوصیات الأفراد خارجتان عن المعنی الموضوع له.

الثانی: أنا لو سلمنا أن تصویر جامع حقیقی بین الفردین غیر ممکن إلا أن بإمکاننا تصویر جامع انتزاعی بینهما، وهو عنوان أحدهما، نظیر ما ذکرناه فی بحث الصحیح والأعم من تصویر جامع انتزاعی بین الأرکان، ولا ملزم لأن یکون الجامع ذاتیاً، لعدم مقتض له، إذ فی مقام الوضع یکفی الجامع الانتزاعی، لأن الحاجة التی قد دعت إلی تصویر جامع هنا هی الوضع بإزائه، وهو لا یستدعی أزید من تصویر معنی ما، سواء أکان ذلک المعنی من الماهیات

ص:296

المتأصلة أم کان من الماهیات الاعتباریة أم الأنتزاعیة(1).

وقد علق علی کلا الوجهین بعض المحققین قدس سره.

أما علی الوجه الأول فبأمرین:

الأول: أن المتفاهم عرفاً من المشتقات لیس هو خروج المبدأ من العدم إلی الوجود، بل المتفاهم منها تلبس الذات بالمبدأ لا بتوسیط عدمه(2).

وفیه: أن هذا التعلیق فی غیر محله.

أما أولاً فلأن الکلام فی المقام إنما هو فی إمکان تصویر معنی جامع بین الفرد المتلبس والمنقضی ثبوتاً، وأما کون هذا الجامع هو المتفاهم من المشتق عرفاً فی مقام الاثبات أو أن المتفاهم منه شیء آخر فی هذا المقام، فهو مسألة اخری سوف یأتی الکلام فیها.

وثانیاً: أن هذا التعلیق أشبه بالتعلیق علی صیغة التعبیر لا علی المضمون، حیث إن مقصوده قدس سره من هذه الصیغة هو تلبس الذات بصرف وجود المبدأ لا أن قید العدم دخیل فی الجامع، أو فقل إن هذا التعبیر تعبیر عن واقع الحال، وهوأن المبدأ کغیره من الأشیاء یخرج من العدم إلی الوجود، لا أن سبقه بالعدم دخیل فیه.

الثانی: أنه إن ارید بالجامع مفهوم المتلبس، ففیه أن المتلبس نفسه من المشتقات، ولابد من تحدید معناه سعةً وضیقاً، فلا یمکن أن یکون المعنی الموضوع له للأوصاف الاشتقاقیة وجامعاً بین الفردین فیها، وإن ارید به واقع

ص:297


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 25.
2- (2) (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 373.

المتلبس، وهو التلبس بنحو الفعل الماضی، ففیه أنه لا یمکن أخذ مضمون الفعل الماضی فی مفاد المشتقات، وإلا فلازمه عدم صدق المشتق علی الذات بلحاظ آن حدوث المبدأ، لأن الفعل الماضی لا یصدق إلا حینما یکون المبدأ حادثاً قبل زمان الجری، وأیضاً لازمة عدم صحة جری المشتق بلحاظ المستقبل کقولک «زیدمن قائم غداً»، لعدم عرفیة إجراء الماضی بلحاظ المستقبل، هذا إضافة إلی أنه لایصح أخذ مفاد الفعل الماضی فی جملة من المشتقات کأسماء الآلة وأسماء الأزمنة والأمکنة ونحوها(1).

ویمکن المناقشة فیه بأن المأخوذ فی الجامع لیس هو مفهوم المتلبس ولا مفاد الفعل الماضی، بل المأخوذ فیه تلبس الذات بالمبدأ فی الجملة، أی بنحو صرف الوجود، ولا یرد علیه شیء من الاشکالات المتقدمة، لأنه لیس بنحو مفاد الفعل الماضی، لأن التلبس بنحو الفعل الماضی إنما یتصور بالنسبة إلی الفرد المنقضی فی مرحلة التطبیق لا فی الجامع، والمفروض أن صدق الجامع علی المنقضی إنما هو بلحاظ تلبّسه بالمبدأ فی الجملة أی بنحو صرف الوجود، والتلبس کذلک یصدق علیه حقیقة فی مقابل عدم صدقه کذلک علی من لم یتلبس به بعد.

نعم، إن الجامع بین الحالتین هما حالة التلبس وحالة الانقضاء لا یمکن تصویره، لأنهما من الحالتین المتضادین فلا جامع بینهما، وأما الجامع بین الذاتین هما الذات فی حال التلبس والذات فی حال الانقضاء فهو بمکان من الامکان، وهو صرف التلبس بالمبدأ، لأن کلتیهما مشترکة فیه، وهو جامع بین الفردین فی الحالتین بدون أن یکون شیء من الحالتین مأخوذاً فی الجامع ودخیلاً فیه.

ص:298


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 373.

وعلی هذا فالصحیح هو ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من إمکان تصویر جامع بین الفردین علی القول بالترکیب.

ودعوی أن الجامع بینهما لابد أن یکون واجداً لصفتی کل منهما وهما حالة الانقضاء وحالة التلبس، ومن الواضح أنه لا یتصور جامع یکون واجداً لکلتا الحالتین المتضادتین.

مدفوعة بأن الجامع لابد أن یکون عاریاً عن جمیع الخصوصیات العرضیة، وهی الخصوصیات الطارئة علی أفراده، والجامع فی المقام هو صرف تلبس الذات بالمبدأ فی الجملة، ولم یؤخذ فیه أیة خصوصیة لا خصوصیة التلبس فی الحال ولا خصوصیة الانقضاء، فإنهما من خصوصیات الفرد العرضیة.

أما علی الوجه الثانی فلأن تصویر جامع انتزاعی کعنوان أحدهما بین الفردین فی المسألة وإن کان بمکان من الامکان بل لا مانع منه حتی بین النقیضین، إلا أن الکلام إنما هو فی تصویر معنی جامع یکون المشتق موضوعاً بإزائه، والظاهر أن المشتق لم یوضع بإزائه، لعدم انفهامه منه(1).

وفیه: أن مجرد دعوی عدم الانفهام والتبادر لا یکون دلیلاً علی أن عنوان أحدهما لا یصلح أن یکون معنی للمشتق فی المسألة، إذ بإمکان القائل بالأعم أن یدعی وضع المشتق بإزائه بنحو الوضع العام والموضوع له العام، أو لمصداقه بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن تصویر الجامع بین الفردین فی المسألة ثبوتاً بمکان من الامکان علی القول بالترکیب.

ص:299


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 372.

وأما الکلام فی مقام الاثبات، فعلی القول بأن مدلول المشتق بسیط فلاموضوع للنزاع فی هذا المقام، لأنه متفرع علی إمکان تصویر جامع فی مقام الثبوت، والفرض عدم إمکانه فیه، ومن هنا یکون نفس هذا القول دلیلاً قطعیاً علی وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.

أما علی القول بأن مدلول المشتق مرکب من الذات والمبدأ، فحیث إن الجامع متصور فیه ثبوتاً، فیقع النزاع فیه فی مقام الاثبات علی أقوال عمدتها قولان:

الأول: أن هیئة المشتق موضوعة لخصوص المتلبّس بالمبدأ بالفعل.

الثانی: أنها موضوعة للجامع بینه وبین المنقضی.

أما القول الأول فقد استدل علیه بوجوه:

الأول: التبادر، بتقریب أن المتبادر والمنسبق من المشتق فی العرف العام لدی الاطلاق ارتکازاً هو المتلبس خاصة دون الأعم، ولا فرق فی هذا التبادر بین أن یکون المشتق فی ضمن الجملة التامة کقولک «زید عالم» أو فی ضمن الجملة الناقصة ک «دار عالم» و «علم مجتهد» وهکذا أو لا یکون فی ضمن أی منهما، فإنه علی کل حال کاشف عن وضعه للمتلبس خاصة.

وقد علق علی هذا الوجه بأن منشأ التبادر قد یکون الوضع وقد یکون الانصراف الناجم من کثرة الاستعمال، وفی المقام کما یحتمل الأول کذلک یحتمل الثانی، ومع هذا الاحتمال لا یکون کاشفاً عن الوضع(1).

والجواب: أن کثرة الاستعمال فی المتلبس خاصة إذا بلغت درجة ینجم منهاتبادر خصوص المتلبس عند الاطلاق فمعنی ذلک تحقق الوضع بعامل کمی، وهو

ص:300


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 374.

کثرة الاستعمال، فإذن تکون النتیجة أن تبادر المتلبس من المشتق عند الاطلاق مستند إلی الوضع وکاشف عنه، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الوضع تعیینیاً أوتعیّنیاً، فإن الغرض هو إثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس سواء أکان بالوضع التعیینی أم التعیّنی.

ودعوی أن کثرة الاستعمال مع القرینة مهما کانت لا تؤدی إلی الوضع، لأنهاإنما توجب العلاقة بین المعنی واللفظ المقترن بالقرینة لا مطلقاً، فإذا جرّد اللفظ عن القرینة لم یکن المعنی متبادراً منه، لعدم حصول العلاقة بینه مجرداً وبین المعنی، فإذن لا تکون نتیجة هذه الکثرة حصول الوضع التعیّنی.

مدفوعة بأن لهذا الاستعمال عنصرین: أحدهما: اللفظ, والآخر القرینة، والأول عنصر ثابت فی جمیع موارد الاستعمال علی حدّ سواء، والثانی، عنصرمتغیر، لأن القرینة تختلف من استعمال إلی استعمال آخر، ففی مورد تکون لفظیة وفی آخر تکون حالیة وفی ثالث عهدیة وفی رابع مقامیّة وهکذا، لأن القرینة فی کل مورد من موارد الاستعمال حسب ما یتطلبها انفهام المعنی المجازی من اللفظ فیه، وحیث إن اللفظ عنصر ثابت ولا یختلف باختلاف الموارد، فبطبیعة الحال إذا کثر الاستعمال کانت تؤدی إلی حصول العلاقة بینه وبین المعنی، سواء أکانت معه قرینة أم لا، وهی الاُنس الذهنی الحاصل بینهما من العامل الکمّی الموجب لتبادر المعنی منه عند إطلاقه، نعم لو کان عنصر القرینة عنصراً ثابتاً کاللفظ فی جمیع الموارد، فلا یمکن حصول الوضع التعیّنی من کثرة الاستعمال مهما بلغت.

وقد اجیب عن ذلک بأن استعمال المشتق فی المنقضی فی موارد الانقضاء أکثرمن استعماله فی المتلبس خاصة، وعلیه فلا یحتمل أن یکون تبادر المتلبس من المشتق ناجماً من کثرة الاستعمال فیه، وإلا لکان الأمر بالعکس، فإذن لا محالة

ص:301

یکون مستنداً إلی الوضع وناجماً منه(1).

وقد یعترض علی ذلک بأن المشتق لو کان موضوعاً للمتلبّس خاصة ومع ذلک یکون استعماله فی موارد الانقضاء أکثر، لزم کونه منافیاً لحکمة الوضع التی تتطلب تعیّن الوضع علی طبقها، وهو الوضع للاعم.

والجواب أولاً: أن هذا الاشکال لو تمّ فإنما یتم لو کان الوضع إلهیّاً، إذ حینئذ لایمکن صدوره منه تعالی بدون حکمة تتطلب ذلک، وأما إذا کان الوضع بشریاً فلا یتم ذلک مطلقاً، لأن صدور الوضع من الواضع البشری إنما هو بحسب مایدرکه من متطلبات المجتمع وحاجیاتهم، فان أدرک أن وضع المشتق للمتلبّس خاصة أوفی بها من وضعه بإزاء الجامع بینه وبین المنقضی قام بوضعه له، وإن أدرک العکس فبالعکس، ولا یعلم بمتطلبات حیاتهم الاجتماعیة والفردیة فی المستقبل، ولعلها تتطلب استعمال المشتق فی الأعم أکثر منه فی المتلبس خاصة فی الآتی لظروف خاصة أو عامة، نعم إذا علم حین الوضع أن الحاجة تدعو إلی استعمال المشتق فی الأعم أکثر منه فی المتلبس خاصة، لکان وضعه بإزاء المتلبس منافیاً لحکمة الوضع.

وثانیاً: أنه لا یتم حتی علی القول بکون الوضع إلهیّاً، لأن الوضع إذا کان من صنعه تعالی ومع ذلک إذا وضع المشتق للمتلبس خاصة، رغم أن استعماله فی موارد الانقضاء أکثر من استعماله فی خصوص المتلبس، فلا محالة یکون ذلک عن حکمة مبرّرة له، إذ کون ذلک جزافاً وبلا حکمة غیر محتمل، غایة الأمر أنه لا طریق لنا إلی تلک الحکمة المبررة.

ص:302


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 374.

وثالثاً: أن الغرض من وضع الألفاظ فی کل لغة إنما هو إشباع حاجة الانسان فی حیاته الاعتیادیة فی وجه هذه الکرة فی کل وقت وعصر، وحیث إن حیاة الانسان منذ ولادته علی وجه الکرة حیاة بسیطة جداً ولهذا یکتفی فی مقام التفهیم والتفهم مع الآخرین بالوسائل الطبیعیة البدائیة الساذجة کالاشارات والتصویرات وتقلید الأصوات وما شاکلها، ویعبر عنها بالمنبهات الطبیعیة، ثم بدأت تتکامل وتتوسع بتمام شؤونها یوماً بعد یوم وقرناً بعد آخر، فلهذا تتطلب استخدام الوسائل والأسالیب الأکثر شمولاً واستیعاباً للمعانی وعدم کفایة استخدام الوسائل البدائیة وهی متمثلة فی الألفاظ واللغات التی تلعب دوراً محوریاً أساسیاً فی کل مجتمع، ومن المعلوم أن الغرض من الوضع لا یختص بالوضع الحقیقی الشخصی، بل یترتب علی الأعم منه ومن الوضع النوعی المجازی، إذ کما أن العلاقة الحاصلة بین اللفظ والمعنی بالوضع الشخصی مصححة للاستعمال ووافیة بالغرض، کذلک العلاقة الحاصلة بینه وبین المعنی المجازی بتبع العلاقة الاُولی، فإنها مصححة له.

فإذا فرض وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، فإنه کما یوجب صحة استعماله واستخدامه فیه إذا تعلقت الحاجة بإبرازه للآخرین، کذلک یوجب صحة استعماله فی الأعم منه عند تعلق الحاجة به، وعلی هذا فأکثریة استعمال المشتق فی المنقضی فی حال انقضاء المبدأ عنه من استعماله فی المتلبس خاصة لا ینافی حکمة الوضع، لأن حکمة الوضع تتطلب وضع اللفظ بإزاء معنی بغرض استعماله فیه وفی کل ما یناسبه من المعانی، لا أنها تتطلب استعماله فی الأول فقط وهو معناه الموضوع له مباشرة دون غیره، فالنتیجة أن الحکمة التی تتطلب وضع الألفاظ بإزاء المعانی هی استخدامها واستعمالها فیها عند تعلق الحاجة بإبرازها للآخرین بلا فرق فی ذلک بین أن تکون تلک المعانی من المعانی

ص:303

الحقیقیة أو المجازیة.

ورابعاً: أن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء وإن کان أکثر من استعماله فی موارد التلبس، إلا أن ذلک لا یستلزم أن یکون استعماله فی المنقضی أکثر من استعماله فی المتلبس، وذلک لأن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء إنما یکون استعمالاً فی المنقضی عنه المبدأ بالفعل إذا کان بلحاظ حال النطق، وأما إذا کان بلحاظ حال التلبس والاسناد، فهو استعمال فی المتلبس لا فی المنقضی.

بیان ذلک أن الموارد التی استعمل المشتق فیها لا تخلو من أن یکون من الجمل الانشائیة الحقیقیة کقوله تعالی: «اَلسّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»1 وقوله تعالی: «اَلزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»2 ونحوهما أو من الجمل التطبیقیة الفعلیة أو الاسمیة.

أما فی الجمل الحقیقیة التی هی جمل تقدیریة لا تطبیقیة، فلا یمکن الاستشهادبها علی أن المشتق فی تلک الجملات مستعمل فی المنقضی أو فی الأعم منه ومن المتلبس، وذلک لأن الموضوع فیها قد اخذ مفروض الوجود، سواء أکان موجوداً فی الخارج أم لا، ففی الآیة الاُولی قد فرض المولی وجود شخص متلبس بالسرقة وحکم علیه بقطع الید، وفی الآیة الثانیة فرض وجود شخص متلبس بالزنا وحکم علیه بمائة جلدة، فالمشتق فی کلتا الآیتین استعمل فی المتلبس، وهو تمام الموضوع للحکم المذکور فیهما، وقد ذکرنا فی غیر مورد أن الموضوع فی القضایا الحقیقیة مأخوذ مقدّر الوجود فی الخارج، ولهذا ترجع کل قضیة حقیقیة إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت الحکم له،

ص:304

وحیث إن الآیتین الشریفتین من القضایا الحقیقیة فالموضوع فیهما إنسان فرض تلبّسه بالسرقة أو الزنا فی الخارج، ولا یعقل الانقضاء فی هذه المرحلة، فإنه إنمایتصور فی مرحلة التطبیق والقضایا الخارجیة لا فی مرحلة الجعل والتقدیر بنحوالقضیة الحقیقیة، وعلیه فعنوان الزانی والسارق فی الآیتین مستعمل فیمن فرض تلبسه بالمبدأ، غایة الأمر أن زمان القطع والجلد متأخر فی الخارج عن زمان التلبس، فقد تحصل أن الاستعمال فی المنقضی فی القضایا الحقیقیة غیر معقول، وإلا لزم الخلف، أی ما فرض موضوعاً فی لسان الدلیل لیس بموضوع.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره بعضهم من أن المشتق فی الآیتین أو ما شاکلهما استعمل فیمن انقضی عنه المبدأ، وهذا دلیل علی أنه موضوع للأعم وإلا لم یصح استعماله فیه إلا بالعنایة والمجاز، مبنی علی الخلط بین القضایا الحقیقیة والقضایا الخارجیة، وتخیل أن إطلاق السارق والزانی فی الآیتین إنما هو بلحاظ ظرف تطبیق الحکم وإجرائه لا بلحاظ ظرف الجعل، مع أن الأمر لیس کذلک، لوضوح أن الاطلاق فیهما إنما هو بلحاظ ظرف الجعل، لما عرفت من أن الآیتین الشریفتین من قبیل القضایا الحقیقیة، فتکونان بصدد جعل الحکم علی المتلبس بالسرقة والزنا، لا فی مقام تطبیقه علیه فی الخارج، کما أنه لا وجه لما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره فی مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أن الاستعمال فیهما إنمایکون بلحاظ حال التلبس دون الانقضاء(1) ، وذلک لأن حالة الانقضاء لاتتصور فی القضایا الحقیقیة لکی یکون الاستعمال فیها بلحاظ حال التلبس دونها.

والخلاصة أن العناوین الاشتقاقیة الواردة فی لسان الأدلة التی اخذ تلبس الذات بالمبدأ فیها مفروض الوجود فی الخارج مستعملة فی المتلبس خاصة،

ص:305


1- (1) کفایة الاصول ص 50.

ولا یعقل استعمالها فی المنقضی إلا فی مقام التطبیق.

وأما الجمل التطبیقیة، فإن کانت فعلیة کقولنا «قام العالم» و «أکرمت العالم» و «ضربت الفاسق» فلا شبهة فی ظهورها عرفاً فی أن إطلاق المشتق فی هذه الجملات إنما هو بلحاظ حال الاسناد والنسبة لا حال النطق، وعلیه فیکون استعماله فیها فی المتلبس خاصة لا فی المنقضی، وحینئذ فلا یمکن الاستشهاد بهاعلی استعمال المشتق فی المنقضی فی موارد الانقضاء.

وإن کانت اسمیة فإن کانت من قبیل قولنا «زید عالم»، «بکر عادل»، «عمرو فاسق» وهکذا، فهی وإن کانت ظاهرة فی أن إطلاق المشتق فیها یکون بلحاظ حال الاستعمال والنطق دون حال التلبس، إلا أن موارد انقضاء المبدأ عن الذات فی هذا القسم من الجملات التطبیقیة لیست بأکثر وأغلب من موارد عدم الانقضاء فیها وتلبس الذات به، حتی یکون استعمال المشتق فی المنقضی فی تلک الجملات أکثر من استعماله فی المتلبس فضلاً عن کونه أکثر بالنسبة إلی جمیع موارد الانقضاء.

وإن کانت من قبیل قولنا «الشیخ الأنصاری فقیه» مثلاً، و «الشیخ النائینی عالم اصولی» وهکذا، والجامع أن لا یکون الموضوع الذی یحمل علیه المشتق باقیاً ومحفوظاً، فهی ظاهرة فی أن الاطلاق إنما هو بلحاظ حال الاسناد والجری لا حال النطق.

فالنتیجة أن فی الجمل الاسمیة إن کان الموضوع محفوظاً وموجوداً فعلاً، فالجملة وإن کانت

ص:306

ظاهرة فی أن إطلاق المشتق فیها یکون بلحاظ حال النطق لاحال التلبس، إلا أنک عرفت أن موارد الانقضاء فیها لیست بتلک الکثرة لکی تنافی حکمة الوضع، وإن لم یکن الموضوع محفوظاً وموجوداً فیها، کانت ظاهرة فی أن الاطلاق یکون بلحاظ حال الاسناد والنسبة، فتحصل أنه لا بأس بالاستدلال علی القول بأن المشتق موضوع للمتلبس خاصة بالتبادر لدی العرف العام.

الوجه الثانی: أنه لا شبهة فی أن المرتکز فی أعماق نفوس الانسان هو التضاد بین العناوین الاشتقاقیة بما لها من المبادیء، ولا یمکن اجتماع اثنین منها فی موضوع واحد، کالعالم والجاهل والمتحرک والساکن والمسافر والحاضروالفاسق والعادل والقائم والقاعد وهکذا، وارتکازیة هذا التضاد تکشف عن وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، إذ لو کان موضوعاً للأعم لم یکن التضاد موجوداً بینها، ویصدق حینئذ علی شخص واحد عنوان العالم والجاهل معاً فی آن واحد حقیقة إذا کان جاهلاً سابقاً ثم صار عالماً، وعنوان المتحرک والساکن معاً علی شیء واحد إذا کان متحرکاً سابقاً والآن ساکن وهکذا، مع أن التضاد بینها ثابت ارتکازاً.

ولکن لا یمکن أن یکون هذا الوجه وجهاً مستقلاً فی مقابل التبادر، بل مردّه إلیه فی نهایة المطاف، حیث إنه لا منشأ للمضادة بین العناوین الاشتقاقیة إلاتبادر المتلبس خاصة منها عند إطلاقها ارتکازاً، إذ لا یحتمل أن تکون المضادة بینها ذاتیة، فإن المضادة الذاتیة إنما هی بین مبادئها دون نفس تلک العناوین، ومن هنا فالقائل بالأعم لا یقول بالمضادة بینها، وإنما یقول بها بین مبادئها فحسب کالعلم والجهل، لا العالم والجاهل، إذ لا مانع من صدقهما معاً علی شخص واحد فی آن واحد، باعتبار أن صدقهما علیه لا یستلزم اجتماع مبدئهما فیه وهو العلم والجهل، وکذلک الحال فی نظائرهما. أو فقل إن المعیار فی صدق المشتق علی القول بالأعم إنما هو بتلبس الذات بالمبدأ فی الجملة وإن زال المبدأ

ص:307

عنها بعد ذلک، لا بوجود المبدأ حین الصدق، ولکن ارتکازیة التضاد فی الأذهان تحکم علی القول بالأعم، إذ لازم هذا القول صحة استعمال المشتق فی کل من المتلبس والمنقضی علی حدّ سواء، وهی تؤدی لا محالة إلی ارتکازیة التجانس وعدم التنافی بین العناوین الاشتقاقیة بعضها مع بعضها الآخر، فإذن ارتکازیة التضاد بینها لا محالة تکشف عن الوضع للمتلبس خاصة.

ثم إن هذا الوجه یختلف بحسب الصورة عن الوجه الأول وهو التبادر لابحسب الجوهر، لأن التبادر دلیل علی الوضع بإزاء المتلبس، کانت مضادة بین العناوین الاشتقاقیة بعضها مع بعضها الآخر أم لا، ولا تتوقف دلیلیته علی وجود المضادة بینها، وهذا بخلاف هذا الوجه، فإن دلیلیته إنما هی بإفتراض وجود المضادة بینها، ولکن منشأ هذه المضادة التبادر لا الذات.

الوجه الثالث: صحة سلب المشتق عن المنقضی عنه بالمبدأ، فإذا کان زید عادلاً ثم زالت عنه العدالة، صح أن یقال زید لیس بعادل.

وقد اعترض علیه بوجهین:

الأول: فی کبری علامیة صحة السلب للحقیقة وعدم صحته للمجاز.

الثانی: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم الکبری أنها فی خصوص المقام لاتصلح أن تکون علامة، بتقریب أنه إن ارید بها سلب المطلق حتی بلحاظ حال التلبس فهو غیر صحیح، وإن ارید بها سلب المقید فهو لا یکون علامة، لأن سلب المقید لا یستلزم سلب المطلق، هذا.

وقد أجاب المحقق الخراسانی قدس سره عن الاعتراض الثانی بأن سلب المطلق عن الذات حتی بلحاظ حال التلبس وإن کان غیر صحیح، إلا أن سلب المقید تارة

ص:308

یکون بلحاظ أن القید قید للمسلوب عنه، واُخری بلحاظ أنه قید للسلب، وثالثة بلحاظ أنه قید للمسلوب، أما علی الأول والثانی فلا یضر التقیید، کما إذا قیل زید الآن لیس بعادل، فإنه علامة ودلیل علی أن المشتق لم یوضع للأعم، وإلا لم یصح سلبه عن زید فی حال الانقضاء، لفرض أنه موضوع للجامع بین المتلبس والمنقضی، فکما یصدق علیه فی حال تلبسه بالمبدأ فکذلک یصدق علیه فی حال انقضاء المبدأ عنه، وکذلک إذا کان القید قیداً للسلب، کما إذا قیل «زید الآن لیس بعادل»، فإنه قید للسلب الذی هو مفاد لیس، لا للمسلوب ولاللمسلوب عنه، وهو یدل علی أن المشتق لم یوضع للأعم، وإلا لم یصح هذا السلب. وأما علی الثالث وهو ما إذا کان القید قیداً للمسلوب کما إذا قیل زید لیس بقائم الآن، فلا یکون علامة ودلیلاً علی عدم وضع المشتق للأعم، لأن سلب الأخص لا یدل علی سلب الأعم، وإنما یدل علی أن المشتق لم یوضع بإزاء الأخص، ولا یدل علی أنه لم یوضع بإزاء الأعم، ولکن تقییده ممنوع.

وغیر خفی أن منشأ هذا الاعتراض هو الخلط بین تقیید المادة بحال الانقضاء الفعلی وتقیید الوصف الاشتقاقی بها.

بیان ذلک أن حال الانقضاء إن کان قیداً للمادة کما فی مثل قولک «زید لیس متلبساً بالعدالة الآن»، فإنه لا یدل علی أنه لم یکن متلبساً بها سابقاً أیضاً، لأن المنفی عنه هو التلبس بالعدالة فعلاً، ومن الواضح أن نفیه عنه لا یستلزم نفی الأعم منها ومن العدالة السابقة، فإن زیداً إذا کان متلبساً بالعدالة سابقاً ثم زالت عنه العدالة، صح أن یقال إنه کان متلبساً بالعدالة فی السابق ولیس بمتلبس بها فی الحال.

وبکلمة، إن سلب المادة کالعدالة مثلاً عن الذات المنقضیة عنها المادة فعلاً لا

ص:309

یستلزم سلبها عنها مطلقاً حتی فی السابق، علی أساس أن سلب الأخص لایستلزم سلب الأعم، وهذا بخلاف سلب الوصف الاشتقاقی کعنوان العادل مثلاً عن زید مقیداً بحال الانقضاء، فإنه یدل علی عدم وضعه للأعم، وإلا لم یصح سلبه عنه بنحو السلب بالحمل الشائع، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون القید قیداًللمسلوب عنه أو للمسلوب، وما فی کلام المحقق الخراسانی قدس سره من الفرق بینهما(1) ، لا یرجع إلی معنی محصل إلا إذا کان مراده من ذلک أن القید إذا کان للمسلوب، فهو راجع إلی المادة دون الوصف الاشتقاقی، بینما إذا کان للمسلوب عنه فلا یمکن رجوعه إلی المادة، وهذا هو الفارق بینهما، ولکن استفادة ذلک من کلامه بحاجة إلی عنایة زائدة، إذ لا ظهور له فیه وإن کان محتملاً، هذا إضافة إلی أنه لا فرق من هذه الناحیة أیضاً بین أن یکون القید قیداً للمسلوب أو المسلوب عنه کما لا یخفی.

وأما ما ذکره قدس سره من أن القید قد یکون للسلب الذی هو مفاد لیس فی مقابل المسلوب والمسلوب عنه فلا یمکن المساعدة علیه، لأن السلب معنی حرفی ولایمکن تقییده إلا بتقیید متعلقه من المسلوب أو المسلوب عنه فی المقام.

ودعوی أن الاعتراض المذکور إنما یکون ناشئاً من الخلط إذا کان المراد من سلب الوصف الاشتقاقی عن المنقضی فی حال الانقضاء السلب بالحمل الشائع، فإنه یدل علی أنه لم یوضع للجامع، وإلا لم یصح سلبه عن مصداقه وفرده، ولافرق فی ذلک بین أن یکون حال الانقضاء قیداً للمسلوب أو للمسلوب عنه، وأما إذا کان المراد من سلبه عن المنقضی بلحاظ حال الانقضاء السلب بالحمل الأولی الذاتی، فالاعتراض حینئذ یکون فی مورده، فإن سلب الوصف

ص:310


1- (1) کفایة الاصول ص 47.

الاشتقاقی بما له من المعنی الارتکازی عن المنقضی مقیداً بحال الانقضاء بالحمل الأولی لا یدل علی سلبه کذلک عن الجامع، فإن عدم وضع المشتق للمنقضی لایکون أمارة علی عدم وضعه للجامع.

مدفوعة، بأنه لا یمکن أن یراد من سلب الوصف الاشتقاقی عن المنقضی مقیداً بحال الانقضاء السلب بالحمل الأولی، بداهة أنه لا یحتمل أن یکون المشتق موضوعاً بإزاء المنقضی خاصة، کما لا یحتمل تعدّد الوضع فیه، فإذن لامحالة یکون المشتق موضوعاً إما لخصوص المتلبس أو للجامع بینه وبین المنقضی ولا ثالث لهما، وعلیه فلا یمکن أن یراد من سلب المشتق عن المنقضی فی حال الانقضاء السلب بالحمل الذاتی الأولی، بل لا محالة یکون المراد منه السلب بالحمل الشائع، وهو بطبیعة الحال یکون أمارة علی عدم الوضع للجامع، فالنتیجة فی نهایة المطاف أنه لا بأس بالاستدلال بصحة السلب فی المقام فی نفسه.

ولکن الکلام إنما هو فی کبری علامیتها، وقد تقدم الاشکال فیها فی باب علامات الحقیقة والمجاز بشکل موسع فلاحظ، فمن أجل ذلک لا یمکن الاستدلال بها فی المقام.

هذه هی أهم الوجوه التی استدل بها علی وضع المشتق للمتلبس خاصة، وعمدتها الوجه الأول.

وأما القول الثانی وهو وضع المشتق للأعم، فقد استدل علیه بعدة وجوه:

الوجه الأول: التبادر، بدعوی أن المتبادر من المشتق عند الاطلاق عرفاً، هو الأعم دون خصوص المتلبس بالمبدأ.

ص:311

وفیه: ما عرفت من أن المتبادر والمنسبق منه فی أذهان العرف عند الاطلاق هو المتلبس خاصة دون الأعم.

الوجه الثانی: عدم صحة سلب المشتق بما له من المعنی عن الأعم، وهذا أمارة علی کونه موضوعاً له، وإلا صحّ سلبه عنه.

وفیه مضافاً إلی ما تقدم من المناقشة فی کبری علامیة صحة السلب، أن عدم صحة سلبه عن الجامع أول الکلام، بل ظهر مما مر أنه یصح.

الوجه الثالث: أن إطلاق المشتق فی موارد الانقضاء کإطلاقه فی موارد التلبس یکون علی نحو الحقیقة، فیقال «هذا قاتل زید» و «ذاک مقتول عمرو» وهکذا بدون أی عنایة فی البین.

وفیه: الظاهر أن مثل هذا الاطلاق فی موارد الانقضاء إنما هو بلحاظ حال التلبس، لا بلحاظ حال الانقضاء والنطق، فلا یکون دلیلاً علی الوضع للأعم، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن هذا الاطلاق إنما هو بلحاظ حال الانقضاء والنطق لا بلحاظ حال التلبس، إلا أنه مع ذلک لا یدل علی الوضع للأعم، لأن الاطلاق أعم من الحقیقة، فدلالته علیها بحاجة إلی عنایة زائدة.

الوجه الرابع: أن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء أکثر من استعماله فی موارد التلبس، فلو کان المشتق موضوعاً للمتلبس خاصة، لزم أن یکون استعمال المشتق فی المعنی المجازی أکثر من استعماله فی المعنی الحقیقی، وهذا بعید فی نفسه مع أنه ینافی حکمة الوضع.

وفیه أولاً: ما أشرنا إلیه سابقاً من أنه لا مانع من أن یکون الاستعمال المجازی أکثر من الاستعمال الحقیقی ولا ینافی ذلک حکمة الوضع، باعتبار أن کلا

ص:312

الاستعمالین معلول للوضع ومن متطلباته، لا خصوص الاستعمال الحقیقی، غایة الأمر أن الوضع کان یعطی صلاحیة الدلالة للفظ علی المعنی الحقیقی بالمباشرة وعلی المعنی المجازی بالواسطة، حیث إن الغرض من وضع الألفاظ ذلک لکی یتمکن من استخدامها کوسیلة لابراز المعانی والأفکار للآخرین، ومن الواضح أن اللفظ بعد الوضع کما یصلح للدلالة علی المعنی الحقیقی کذلک یصلح للدلالة علی المعنی المجازی، فإذن حکمة الوضع لا تنحصر بدلالة اللفظ علی المعنی الحقیقی فقط.

وثانیاً: أن هذا لو تمّ فإنما یتم لو کان الوضع الهیاً، وأما إذا کان بشریاً کما هوالصحیح، فلا یتم کما تقدم موسعاً.

وثالثاً: أنه لا یتم ولو کان الوضع الهیاً کما مرّ.

ورابعاً: أن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء وإن کان أکثر من استعماله فی موارد التلبس، إلا أن ذلک لا یستلزم کون استعماله فیها فی المنقضی بلحاظ حال النطق أکثر من استعماله فی المتلبس بلحاظ حال التلبس، حیث إن استعماله فی موارد الانقضاء کثیراً ما یکون بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء والنطق کما مر تفصیل ذلک.

الوجه الخامس: قوله تعالی:«لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ»1 وتقریب الاستدلال به أنه یدل علی عدم لیاقه عبدة الأصنام للخلافة ولو بعد دخولهم فی الاسلام، ولذلک استشهد الامام علیه السلام بالآیة علی عدم لیاقة الخلفاء الثلاث للخلافة الالهیة، وهذا الاستشهاد منه دلیل علی أن المشتق موضوع للأعم، إذ

ص:313

لوکان موضوعاً لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل لم یتم الاستشهاد بها، لأنهم فی زمن دعواهم لمنصب الخلافة کانوا متشرفین بالاسلام وغیر متلبسین بالظلم وعبادة الوثن، وإنما کان تلبّسهم به قبل التشرف بالاسلام وفی زمن الجاهلیة، فإذن لا یتم الاستدلال بالآیة إلا علی القول بالوضع للأعم لکی یصدق علیهم عنوان الظالم فعلاً.

والجواب: أنه لا یمکن الاستدلال بالآیة الشریفة علی وضع المشتق للأعم، لأن مفادها هو القضیة الحقیقیة، وقد تقدم أن القضیة خارجة عن محل النزاع، لأن الموضوع فیها قد اخذ مفروض الوجود فی الخارج واللفظ مستعمل فیه، فإذا کان الموضوع فی لسان الدلیل العنوان الاشتقاقی کما فی الآیة الکریمة فقد اخذتلبس الذات بالمبدأ فیه مفروض الوجود، واللفظ مستعمل فیه. ومن هنا قلنا إن النزاع فی أن المشتق مستعمل فی المتلبس خاصة أو فی المنقضی مختص بالقضایا الخارجیة، ولا یتصور ذلک فی القضایا الحقیقیة.

فالنتیجة أن عنوان «الظالمین» فی الآیة الشریفة مستعمل فی المتلبسین بالظلم لا فی الأعم ولا فی المنقضی.

وأما استشهاد الامام علیه السلام بالآیة الشریفة علی عدم لیاقة الخلفاء الثلاثة للخلافة، فلا یکون مبنیاً علی وضع المشتق للأعم، بل هو مبنی علی نزاع آخر، وهو أن العناوین التی تؤخذ فی موضوعات الأحکام الشرعیة ومتعلقاتها فی القضایا الحقیقیة، هل تدور تلک الأحکام مدارها حدوثاً وبقاء أو تدور مدارهاحدوثاً فقط؟

والجواب: أن تلک العناوین تارة تکون من العناوین المأخوذة فی موضوعات القضایا الخارجیة، واُخری تکون مأخوذة فی موضوعات القضایا الحقیقیة، أما

ص:314

علی الأول فهی علی قسمین:

أحدهما: أنها مأخوذة بنحو المعرفیة الصرفة لما هو الموضوع فی القضیة بدون أی دخل لها فیه، کما فی مثل قولک «صل خلف هذا القائم»، فإن عنوان القائم قد اخذ بنحو المعرفیة والمشیریة إلی من هو الموضوع لجواز الاقتداء به فی الصلاة، إذ لا یحتمل أن یکون له دخل فیه لا جزءاً ولا قیداً.

والآخر: أنها مأخوذه بنحو الموضوعیة، کما فی مثل قولنا «صل خلف العادل»، فإن عنوان العادل المأخوذ فی الموضوع، إنما اخذ بنحو الموضوعیة، بأن یکون له دخل فیه ومقوم له ویدورالحکم المجعول علیه مداره وجوداً وعدماً.

وأما علی الثانی فهی علی أنحاء:

النحو الأول: ما یکون مأخوذاً بنحو المعرفیة والطریقیة الصرفة لما هوالموضوع فی القضیة واقعاً.

النحو الثانی: ما یکون مأخوذاً فی لسان الدلیل بنحو الموضوعیة بحیث یدورالحکم مداره حدوثاً وبقاءً، کما فی مثل قوله تعالی:«وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً»1 ، فإن عنوان الاستطاعة دخیل فی اتصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وفی الحکم فی مرحلة الجعل، وفی مثل قولک «أکرم العلماء» و «أطعم الفقراء» وهکذا، فإن الحکم فی أمثال هذه القضایا یدور مدارالعنوان المأخوذ فی الموضوع فی لسان الدلیل وجوداً وعدماً حدوثاً وبقاء.

النحو الثالث: ما یکون حدوثه دخیلاً فی الحکم حدوثاً وبقاء، بمعنی أن حدوثه سبب لحدوث الحکم وبقاؤه معاً، هذا کله بحسب مقام الثبوت.

ص:315

وأما بحسب مقام الاثبات، فالمعیار فی أن العناوین المأخوذة فی لسان الأدلة هل هی مأخوذة علی النحو الأول أو الثانی أو الثالث إنما هو فهم العرف ارتکازاً بمناسبة الحکم والموضوع فی کل قضیة، وقد یکون المتفاهم العرفی من العنوان المأخوذ فی لسان الدلیل فیها بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة هو النحوالأول کما فی قوله تعالی:«کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»1 ، فإن المتفاهم العرفی من عنوان التبیّن المأخوذ فی لسان الآیة الشریفة بمناسبة الحکم والموضوع هو المعرفیة والطریقیة المحضة.

وقد یکون المتفاهم العرفی منه علی أثر المناسبات الارتکازیة هو النحو الثانی، کما هو الغالب فی العناوین المأخوذة فی القضایا الحقیقیة، کعنوان «الاستطاعة» الذی اخذ فی موضوع وجوب الحج فی الآیة الشریفة، فإن المتفاهم العرفی منه بمناسبة الحکم والموضوع أنه دخیل فی الحکم والملاک معاًحدوثاً وبقاء، ومنها عنوان «العادل» المأخوذ فی موضوع جواز الصلاة خلفه وقبول شهادته وغیرهما، ومنها عنوان «المجتهد» الذی هو مأخوذ فی موضوع جواز التقلید ونفوذ حکمه فی باب القضاء بل مطلقاً، ومنها عنوان «المسافر» المأخوذ فی موضوع وجوب القصر، وعنوان «الحاضر» فی موضوع وجوب التمام وهکذا.

وقد یکون المتفاهم العرفی منها بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة أن حدوثه دخیل فی الحکم حدوثاً وبقاء، بمعنی أن بقاء الحکم لا یدور مدار بقاء العنوان.

وبعد ذلک نقول: إن العناوین التی اخذت فی موضوعات القضایا الحقیقیة،

ص:316

فهی لا تخلو عن أحد النحوین الأخیرین، وأما النحو الأول، فهو فی تلک القضایا قلیل جداً، نعم إنه غالباً یکون فی القضایا الخارجیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن ظاهر العناوین المأخوذة فی القضایا الحقیقیة أنها اخذت علی النحو الثانی، بمعنی أنها دخیلة فی الحکم والملاک حدوثاً وبقاء، ولایکفی حدوثها فی بقاء الحکم والملاک، وأما إرادة النحو الثالث منها، فهی بحاجة إلی عنایة زائدة، وإلا فالعناوین بنفسها ظاهرة فی النحو الثانی، مثلاً قوله تعالی:«اَلزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»1 ، و قوله تعالی:«اَلسّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما» قدس سره(1) ظاهران عرفاً فی أن العنوان فیهما مأخوذ علی النحو الثالث، ولکن بعنایة زائدة وهی أن الحکم فیهما لو کان دائراً مدار العنوان المأخوذ وجوداً وعدماً حدوثاً وبقاءً کان لغواً، لعدم إمکان إجراء هذا الحکم فی مرحلة التطبیق، حیث إنه قد زال تلبّسه بالسرقة أو الزنا فی هذه المرحلة، فمن أجل هذه النکتة کانت الآیتان ظاهرتین فی أن تلبس شخص بالزنا أو السرقة حدوثاً دخیل فی حدوث الحکم علیه وبقائه معاً طالما لم یطبق علیه خارجاً وإن زال المبدأ عنه.

وعلی ضوء هذا الأساس یقع الکلام فی أن عنوان «الظالم» المأخوذ فی الآیة الشریفة، هل هو مأخوذ علی النحو الثانی بأن یکون الحکم فی الخارج یدورمداره حدوثاً وبقاءً أو أنه مأخوذ علی النحو الثالث، فالاستدلال بالآیة الشریفة علی عدم لیاقة عبدة الأصنام للخلافة مبتن علی أن یکون مأخوذاً علی النحو الثالث.

ص:317


1- (2) (1) سورة المائدة آیة 38.

والجواب: الظاهر أن مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة تقتضی أن عبده الأوثان لا یلیقون لمنصب الخلافة والامامة التی هی من أعظم المناصب الالهیة بعد الرسالة، فإن المرتکز فی أعماق نفوس الناس أن المتقمّص لهذا المنصب الالهی العظیم لابد أن یکون مثالاً سامیاً فی المجتمع ومنزهاً عن جمیع الأعمال الدنیة والمفاسد الأخلاقیة فی طول عمره وقدوة للناس فی سیرته وسلوکه اجتماعیاًوفردیاً ومعرّاً عن أی منقصة خَلقیة وخُلقیة، ومن هنا فإنّ شارب الخمر أو الزانی إذا ترک شرب الخمر أو الزنا وتاب ثم ادعی منصب الخلافة والامامة من قبل اللَّه تعالی لم یقبل الناس منه هذه الدعوی فطرة وارتکازاً، ویقولون إنه کان یشرب الخمر فی الأمس والآن یدعی الامامة والخلافة.

وبکلمة، إن المرتکز فی أعماق نفوس الناس فطرة وجبلةً أن المتلبّس بثوب الرسالة أو الامامة من قبل اللَّه تعالی لابد أن یکون إنساناً کاملاً فی المجتمع خَلقاً وخُلقاً ومثالاً روحیاً للبشر ومربیاً لهم فی سیرته وسلوکه وداعیاً إلی اللَّه بأخلاقه وأعماله ولم تکن فی سجلات حیاته التاریخیة فی مختلف مجالاتها من الاجتماعیة والفردیة نقطة سوداء تحط من شأنه وجلالة قدره وتأثیره فی النفوس، وإلا فهو بنظر الناس لا یصلح أن یکون ممثلاً من قبل اللَّه تعالی وسفیراً، وعلی هذا فمن عبد الوثن مدة معتداً بها من عمره ثم ترک وتشرف بالاسلام، فإنه وإن کان یجب ما قبله کالتوبة إلا أن فی سجل حیاته نقطة سوداء، وهی تبقی فی نفوس الناس وتحط من شأنه ولیاقته لمنصب الخلاقة والامامة ولا یصلح أن یکون ممثلاً وسفیراً من اللَّه تعالی، إذ من الواضح أن المتصدی لمنصب الرسالة والإمامة لدیهم لابد أن یکون مثالاً أعلی فی المجتمع الانسانی فی علو الشأن وجلالة القدر والمکانة حتی یکون له وقر وأثر کبیر فی نفوس الناس قولاً وعملاً.

ص:318

ویؤکد ذلک ما ورد فی الروایات من النهی عن الصلاة خلف المحدود والمجزوم، ولعل نکتة ذلک أن منصب إمامة الجماعة وإن کان دون منصب الامامة والخلافة بمراتب إلا أنه فی نفسه منصب مهم فی الشریعة المقدسة، والمتصدی له لابد أن لا یکون ساقطاً عن الأنظار خلقیاً، وبما أن المحدود ساقط عن الأنظارکذلک، فلا یصلح لهذا المنصب، بل إن هذا الارتکاز الناشیء من الفطرة والجبلة ثابت حتی بین العقلاء فی المناصب الدنیویة أیضاً، لأن من یرید أن یتصدی لمنصب الرئاسة أو الوزارة یدقق فی سجل تاریخ حیاته الاجتماعیة والفردیة، فإن کانت فیه نقطة سوداء تحط من شأنه فی المجتمع وکرامته عند الناس خلقیاً وبالتالی سقوطه عن الأنظار لم ینتخب رئیساً أو وزیراً.

وعلی هذا فاستدلال الامام علیه السلام بالآیة الشریفة علی عدم لیاقة هؤلاء الثلاثة لمنصب الخلافة عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لیس مبتن علی وضع المشتق للأعم، بل هو مبتن علی هذه النکتة، وهی أن هؤلاء الثلاثة لما کانوا من عبدة الأوثان والأصنام فترة معتداً بها من عمرهم فبعد تشرفهم بالاسلام تبقی هذه النقطة السوداء فی سجل تاریخ حیاتهم، وهی تمس من کرامتهم وتحط من قدرهم وشأنهم فی المجتمع، فلذلک لا یلیق مثل هؤلاء لمنصب الخلافة عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والامامة التی هی من أعظم المناصب الالهیة بعد الرسالة، لأن علوّ شأن هذا المنصب وجلالة قدره ومکانته یتطلب أن یکون المتصدی لها مثالاً أعلی فی المجتمع الانسانی ککل فی الخلق والکرامة وعلوّ الشأن وجلالة القدر والمکانة، فیکون إنساناً کاملاً خَلقاً وخُلقاً، فإذن تشیر الآیة الشریفة إلی مطلب ارتکازی فطری للبشر، وهذا قرینة علی أن صرف حدوث مبدأ الوصف الاشتقاقی المأخوذ فی موضوع الآیة الشریفة علة للحکم حدوثاً وبقاء.

ص:319

فقد تحصل مما ذکرناه أنه لا یتم شیء من الوجوه التی استدل بها علی وضع المشتق للأعم، فالصحیح أنه موضوع للمتلبس خاصة.

نتیجة البحث عن وضع الأوصاف الاشتقاقیة عدة نقاط:

الاُولی: أن الجامع بین المتلبس والمنقضی علی القول بأن مفهوم المشتق بسیط غیر متصور، ولهذا لا مناص علی هذا القول من الوضع لخصوص المتلبس، وأماعلی القول بأن مفهومه مرکب من الذات والمبدأ، فهل یمکن تصویر معنی جامع بینهما، فیه قولان: الأظهر أنه ممکن کما تقدم.

الثانیة: الصحیح أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ، أما علی القول بالبساطة فهو واضح، وأما علی القول بالترکیب، فأیضاً الأمر کذلک علی القول بعدم إمکان تصویر جامع بینهما، وأما علی القول بإمکان تصویره، فالظاهر أنه موضوع أیضاً للمتلبس خاصة دون الأعم، بملاک أنه المتبادر منه عرفاً عند الاطلاق کما تقدم.

الثالثة: أن ما قیل - من أن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء بما أنّه أکثر من استعماله فی موارد التلبس، فهو یتطلب وضعه للأعمّ، وإلا لکان منافیاً لحکمة الوضع - فقد تقدم الجواب عنه بعدّة وجوه.

الرابعة: أن المشتق فی القضایا الحقیقیة مستعمل دائماً فی المتلبس بالمبدأ خاصة لا فی الأعم ولا فی المنقضی کما مر، وأما فی القضایا التطبیقیة، فإن کانت فعلیة، فالظاهر أن استعمال المشتق فی موارد الانقضاء إنما هو بلحاظ حال التلبس والاسناد لا بلحاظ حال النطق والانقضاء، وإن کان اسمیة، فهی تختلف باختلاف الموارد کما تقدم.

ص:320

الخامسة: أن المضادة بین العناوین الاشتقاقیة بعضها مع بعضها الآخر وإن کانت مرتکزة فی الأذهان فطرة إلا أن منشأها إنما هو المضادة بین مبادئها ذاتاً، إذلا یمکن اجتماع العلم والجهل مثلاً فی شخص واحد، وأما انطباق عنوانی العالم والجاهل علی الشخص الذی کان عالماً سابقاً ثم صار جاهلاً أمر ممکن، فإن القائل بوضع المشتق للأعم یقول بانطباق کلا العنوانین علیه فی آن واحد حقیقة، نعم الذی لا یمکن هو اجتماع العلم والجهل فیه، فالاستدلال بالمضادة بینها یرجع فی نهایة المطاف إلی الاستدلال بالتبادر، ولا یکون وجهاً آخر فی مقابلة کما مرّ.

السادسة: أنه لا یصح الاستدلال علی وضع المشتق للمتلبس خاصة بصحة السلب عن المنقضی، وذلک لما ذکرناه فی بحث علائم الحقیقة والمجاز من المناقشة فی کبری أماریة صحة السلب وعدم صحته، وأما مع الاغماض عن ذلک فالاعتراض علیه - بأنه إن ارید بصحة السلب سلب المطلق فهو غیر صحیح، وإن ارید بها سلب المقید فهو لیس بعلامة - غیر وارد، لأنه مبنی علی الخلط بین تقیید المادة وتقیید الوصف الاشتقاقی کما تقدم.

السابعة: أنه لا یصح الاستدلال علی وضع المشتق للأعم بالتبادر، ولا بعدم صحة السلب، ولا بقوله تعالی: «لایَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِیْن» علی تفصیل قد مرّ.

الجهة الثالثة: ما هو المراد من الحال المأخوذ فی عنوان النزاع فی المسألة.

قد یقال کما قیل: إن المراد منه زمان النطق، وهو مأخوذ فی مدلول المشتق، بدعوی أن المتبادر عرفاً من جملة «زید ضارب» و «عمرو عادل» و «بکرعالم» ونحوها هو تلبس الذات بالمبدأ فی زمان النطق، وهذا التبادر دلیل علی أن زمان الحال وهو زمان النطق مأخوذ فی مدلول المشتق، إذ إرادة التلبس فی غیرزمان النطق کزمان الماضی أو المضارع بحاجة إلی قرینة.

ص:321

ولکن لا أساس لهذا القیل.

أما أولاً: فلأن المشتق فی هذه الجملات وإن کان ظاهراً فی تلبس الذات بالمبدأ فی زمان الحال إلا أن ذلک لیس من جهة أن زمان الحال مأخوذ فی مدلوله جزءاً أو قیداً، بل من جهة أن کل أمر زمانی لابد أن یقع فی زمان ما من الماضی أو المضارع أو الحال، وحیث إن مدلوله تلبس الذات بالمبدأ أن یکون فی زمان، ولیس معنی ذلک أن الزمان مأخوذ فی مدلوله، بل هو من لوازمه.

هذا إضافة إلی أن ظهور المشتق فی النسبة التلبسیة فی زمن الحال إنما هو إذاکان فی ضمن الجملات الحملیة التطبیقیة إذا کان الموضوع فیها محفوظاً لامطلقاً کما تقدم، وأما إذا کان فی ضمن الجملات الفعلیة التطبیقیة کقولنا «أکرمت العالم» و «ضربت الفاسق» وهکذا، فهو ظاهر فی النسبة التلبسیة فی زمان الجری والاسناد لا زمان النطق، وهذا شاهد علی أن الزمان غیرمأخوذ فی مدلول المشتق.

وثانیاً: إن هذا الظهور لیس بظهور المشتق نفسه وبقطع النظر عن الضمائم الخارجیة، بل هو ظهور وقوعه فی ضمن الجملة الحملیة التطبیقیة، ولهذا لا بأس بتسمیة هذا الظهور بالظهور السیاقی لها لا ظهور المشتق نفسه، ومن هنا إذا لم یکن فی سیاق الجملة، فلا ظهور له إلا فی واجدیة الذات للمبدأ بدون الدلالة علی أنها فی زمان الماضی أو المضارع أو الحال.

هذا إضافة إلی أن هذا الظهور مدلول تصدیقی، فلا یمکن أن یکون مدلولاً للمشتق وضعاً، لأن مدلوله الوضعی تصوری لا تصدیقی.

وثالثاً: إن لازم ذلک أن یکون إطلاق المشتق فی مثل قولک «زید ضارب غداً» أو «ضارب فی الأمس» مجازاً، مع أن الأمر لیس کذلک جزماً، لأن هذا

ص:322

الاطلاق إنما هو بلحاظ زمان التلبس، والاطلاق بلحاظ هذا الزمان إطلاق حقیقی حتی علی القول بوضع المشتق للمتلبس خاصة وهذا شاهد علی أن زمان الحال غیر مأخوذ فی مدلول المشتق.

ورابعاً: أن مدلول المشتق لا یمکن أن یکون مقیداً بزمان الحال، وهو زمان النطق، لأنه ارید بتقییده بمفهوم زمان النطق، فیرد علیه أن مفهومه بالحمل الأولی الذاتی لیس بزمان الحال، فلا یکون تقیید مدلول المشتق به تقییداً بزمان الحال بالحمل الشائع، هذا إضافة إلی أن عدم دلالة المشتق علی مفهوم زمان الحال واضح، لأن الدال علیه هو لفظ الحال.

وإن ارید به واقع زمان النطق الذی هو زمان الحال بالحمل الشائع، فیرد علیه أن تقیید مدلول المشتق به یستلزم کون مدلوله مدلولاً تصدیقیاً، وهذا لایمکن إلا علی مسلک التعهد، فإنه علی هذا المسلک تکون الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة والمدلول الوضعی مدلول تصدیقی، وأما علی سائر المسالک فی باب الوضع، فالمدلول الوضعی مدلول تصوری، ولا یمکن أن یکون مقیّداً بقیدتصدیقی، إذ لا معنی لتقیید المعنی الموضوع له بقید إلا الانتقال من اللفظ إلیه مع قیده، فلوکان قیده تصدیقیاً استحال الانتقال من اللفظ إلیه بمقتضی الوضع، لأن هذا الانتقال تصدیقی لا تصوری، والمفروض أن مقتضی الوضع علی غیر مسلک التعهد هو الانتقال التصوری من اللفظ إلی المعنی الموضوع له بتمام قیوده لا التصدیقی، فلذلک لا یمکن أن یکون اللفظ موضوعاً لمعنی مقید بقید تصدیقی، حیث لایمکن الانتقال إلیه إلا بانتقال تصدیقی، وهو خلف فرض کون مقتضی الوضع الانتقال التصوری دون التصدیقی.

هذا إضافة إلی أنه لا معنی لتقیید مفهوم المشتق بواقع زمان النطق فی الخارج،

ص:323

وإلا فلازمة أن لایدل المشتق علی معنی بدون تحقق النطق به خارجاً وهوکماتری.

فالنتیجة أنه لا یمکن تقیید المدلول الوضعی للمشتق بواقع زمان الحال والنطق.

وقد یقال کما قیل: إن المراد من الحال هو زمان الجری والاسناد، بمعنی أن المشتق موضوع للمتلبس بالمبدأ مقارناً لزمان الجری والاسناد، بدعوی أنه المتبادر منه عرفاً عند الاطلاق، فإذا قیل «جاء قاتل» کان المتبادر منه التلبس بالمبدأ فی زمان الجری والاسناد لا فی زمن النطق.

والجواب أولاً: أنه لیس المتبادر من المشتق فی نفسه، فإن المتبادر منه کذلک کما مرّ واجدیة الذات للمبدأ بدون الدلالة علی أنها فی زمان الجری والاسناد أو فی زمن النطق، ولهذا لا یتبادر من المشتق عن الاطلاق أی زمان لازمان الحال ولا غیره.

وثانیاً: أنه إن ارید بذلک تقیید مدلول المشتق بمفهوم زمان الجری والاسناد بالحمل الأولی الذاتی فهو باطل، لأنه لیس بزمان بالحمل الشائع، فلا یکون التقیید به تقییداً بزمان الجری والاسناد، وإن ارید به واقع زمان الجری والاسناد وهو الزمان الخارجی، فیرد علیه:

أولاً: أن لازم ذلک أن لا یدل المشتق علی معناه من دون تحقق الجری والاسناد خارجاً، باعتبار أنه قید مقوم له.

وثانیاً: أن نتیجة هذا کون مدلوله الوضعی مقیداً بقید تصدیقی، وهو لایمکن، لأن معنی کونه قیداً للمعنی الموضوع له أن الانتقال من اللفظ إلیه بمقتضی الوضع تصوری لا تصدیقی، ومعنی کونه قیداً تصدیقیاً أن الانتقال منه إلیه لا

ص:324

یمکن إلا بالانتقال التصدیقی دون التصوری، وبالتالی یلزم من فرض کونه قیداً للمعنی الموضوع له عدم کونه قیداً له.

فالنتیجة أنه لا یمکن أن یراد من الحال المأخوذ فی عنوان المسألة زمان النطق ولا زمان الجری والاسناد.

ومن هنا ذکر السید الاُستاذ قدس سره أن المراد بالحال فیه لیس زمن النطق والتکلم ولا أحد الأزمنة الثلاثة، بل المراد به فعلیة تلبس الذات بالمبدأ بمعنی أن النزاع فی المسألة إنما هو فی سعة مفاهیم المشتقات وضیقها، وأنها موضوعة للمفاهیم التی مطابقها فی الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ أو الأعم من ذلک ومن حال الانقضاء، فبناء علی القول بالأعم کانت مفاهیمها قابلة للانطباق خارجاً علی فردین هما المتلبس فعلاً والمنقضی عنه المبدأ، وعلی القول بالأخص کانت مفاهیمها غیر قابلة للانطباق إلا علی فرد واحد، وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً(1).

وهذا التفسیر هو الصحیح، ولا معنی له غیر واجدیة الذات للمبدأ وفعلیة تلبسها به فی مقابل انقضائه عنها، ولیس شیئاً زائداً علی ذلک.

قد یقال کما قیل: إن الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها علی شیء هو فعلیة تلبس الذات بالمبدأ حین النطق والتکلم، فإن الظاهر من قولنا «زید قائم» کونه کذلک بالفعل وفی زمن النطق، وحینئذ فلا معنی للنزاع فی کون المشتق موضوعاً للأعم أو للأخص بعد التسالم علی أن المرجع فی تعیین مدالیل الألفاظ ومفاهیمهاسعة وضیقاً هو الفهم العرفی العام.

ص:325


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 24.

والجواب: أن محل النزاع فی المسألة إنما هو فی وضع المشتق بنفسه وبقطع النظر عن کونه واقعاً فی ضمن القضایا التطبیقیة وأنه موضوع لمعنی جامع أو لمعنی خاص، وأما إذا کان واقعاً فی ضمن تلک القضایا، فإن کانت فعلیة، فالظاهر أن إطلاقه إنما هو بلحاظ الجری والاسناد لا حال النطق والتکلم، ولکن هذا الظهور لیس من جهة أن المشتق فی نفسه ظاهر فی ذلک، بل من جهة ظهور الجملة فی أن إطلاقه إنما هو بهذا اللحاظ لا بلحاظ حال النطق، وإن کانت حملیة کالمثال المتقدم ونحوه، فالظاهر أن إطلاق المشتق فیها إنما هو بلحاظ حال النطق، ولکن هذا الظهور أیضاً لیس من جهة أنه فی نفسه ظاهر فی ذلک، بل من جهة ظهور الجملة الحملیة فی أن إطلاقه إنما هو بلحاظ حال النطق.

فالنتیجة أن ظهور المشتق فی القضایا الحملیة التطبیقیة فی فعلیة تلبس الذات بالمبدأ حین النطق والتکلم، إنما هو من جهة ظهور تلک القضایا فی ذلک لا من جهة ظهور المشتق بنفسه فیه، وقد تقدمت الاشارة إلی أن القضایا التطبیقیة مختلفة فی ذلک، ولیس لها ضابط واحد فی تمام الموارد.

الجهة الرابعة: هل المشتق بسیط أم مرکب؟

اختلف الاُصولیون فی بساطة مفهوم المشتق وترکیبه، فذهب جماعة إلی أنه بسیط، منهم المحقق الشریف والمحقق الدوانی والمحقق النائینی، وخالف فیه جماعة فذهبوا إلی أنه مرکب، منهم المحقق العراقی والمحقق الأصبهانی والسید الاُستاذ (قدس سرهم).

ثم إن القائلین بالترکیب قد اختلفوا إلی قولین: فذهب المحقق العراقی قدس سره إلی أن مادة المشتق موضوعة لذات الحدث الخالی عن کافة الخصوصیات العرضیة، وهیئته موضوعة لنسبته إلی الذات، وأما المحقق الأصبهانی والسید الاُستاذ (قدس سرهما)

ص:326

فقد اختارا أن هیئة المشتق موضوعة للذات المنتسب إلیها المادة، فالمشتق علی الأول یدل علی نسبة المادة إلی الذات وعلی الثانی یدل علی الذات المنتسب إلیها المادة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن محل النزاع فی أن مفهوم المشتق بسیط أو مرکب إنما هوبلحاظ عالم الواقع والتحلیل العقلی، لا بلحاظ عالم الادراک والتصور الساذج، وذلک لأن البساطة الادراکیة تجتمع مع ترکب المفهوم واقعاً وحقیقة، ضرورة أن المتبادر فی الذهن فی مرحلة التصور من کل لفظ مفرد عند الاطلاق معنی بسیط، سواء أکان فی الواقع وعالم التحلیل أیضاً بسیطاً أم کان مرکباً، وهذا بلا فرق بین المشتقات وغیرها من الألفاظ، وحینئذ فلا معنی لأن یجعل مرکز البحث البساطة والترکیب بحسب التصور والادراک، لأن ذلک أمر وجدانی غیر قابل للبحث والنظر فیه وإقامة البرهان علیه.

ومن هنا یظهر أن ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره - من أن معنی البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراکاً وتصوراً، بحیث لا یتصور عند تصوره إلا شیء واحد لاشیئان وإن انحل بتعمل من العقل إلی شیئین کانحلال مفهوم الحجر والشجر إلی شیء له الحجریة أو الشجریة مع وضوح بساطة مفهومهما(1) - غریب جداً، لماعرفت من أن ما یصلح لأن یکون مورد البحث والنزاع هو البساطة والترکیب بحسب التحلیل العقلی لا بحسب الادراک والتصور، ضرورة أن البساطة اللحاظیة لا تصلح لأن تکون محوراً للبحث ومرکزاً لتصادم الأدلة والبراهین العقلیة، بل لا تقع تحت أی بحث علمی ولا فلسفی، لأن المرجع فی إثباتها فهم العرف وإدراکه الوجدانی، حیث إن واقعها انطباع صورة علمیة واحدة فی مرآة

ص:327


1- (1) کفایة الاصول ص 54.

الذهن، سواء أکانت قابلة للانحلال فی الواقع کمفهوم الانسان ونحوه أم لم تکن، فمناط البساطة اللحاظیة وحدة المفهوم إدراکاً، ووحدته کذلک أمر وجدانی ولایقع لأحد فیه شک ولا ریب.

أدلة بساطة مفهوم المشتق

فالنتیجة أن مرکز النزاع فی المسألة إنما هو فی البساطة والترکیب بلحاظ عالم الواقع والتحلیل الفلسفی، لا بلحاظ عالم الادراک والتصور، ومن ذلک یظهر أن المحقق الخراسانی قدس سره فی الحقیقة من القائلین بالترکیب لا البساطة.

وبعد ذلک نقول: إن المشهور بین الفلاسفة والمتأخرین من الاُصولیین بساطة المفاهیم الاشتقاقیة والاصرار علی أنه لا فرق بینها وبین مبادئها حقیقة وذاتاً، والفرق بینهما إنما هو بالاعتبار، أی باللحاظ اللا بشرطی والشرطی اللائی، وفی مقابل ذلک ذهب جماعة إلی أنها مرکبة من الذات والمبدأ. فإذن یقع الکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی أدلة القائلین بالبساطة.

المقام الثانی: فی أدلة القائلین بالترکیب.

أما الکلام فی المقام الأول فقد استدل علی بساطة مفهوم المشتق بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن مفهوم المشتق لو کان مرکباًمن الذات والمبدأ فبطبیعة الحال تکون النسبة بینهما داخلة فیه، فإذن یکون مفهوم المشتق مشتملاً علی معنی حرفی، ولازم ذلک أن یکون المشتق مبنیاً للمشابهة لا معرباً، مع أنه معرب، وهذا کاشف عن أن مفهومه بسیط لا مرکب.

والجواب: أن مجرد اشتمال مفهوم المشتق علی النسبة بین الذات والمبدأ لایوجب کونه مبنیاً حتی تکون معربیته دلیلاً علی بساطته، إذ لا مانع من کون

ص:328

مفهومه مرکباً مشتملاً علی النسبة ومع ذلک یکون معرباً لا مبنیاً، والنکتة فیه أن للمشتق جهتین: الأولی جهة اشتماله علی المادة التی هی معنی اسمی، والاُخری جهة اشتماله علی الهیئة التی هی معنی حرفی، فالمشتق معرب من الجهة الاُولی ولایشبه الحرف من تلک الجهة، وإنما یشبه الحرف من الجهة الثانیة، والمفروض أن إعرابه لیس من هذه الجهة حتی تکون شباهته مانعة عنه، وعلیه فالجهة التی تکون دخیلة فی إعرابه لا یشبه الحرف من هذه الجهة حتی یکون مبنیاً، والجهة التی لا تکون دخیلة فی اعرابه وإن کان یشبه الحرف من تلک الجهة إلا أنه لا أثرلذلک، فإنها لا تؤثر فی الجهة الاُولی ولا تجعلها شبیهة بالحرف، فإذن قیاس المشتق بأسماء الاشارة والضمائر قیاس مع الفارق، فإن أسماء الاشارة تشبه الحروف فی معناها الموضوع له، وکذلک الضمائر، بینما المشتق لا یشبه الحروف فی مدلول مادته الذی هو مدلول اسمی، وإنما یشبهه فی مدلول هیئته الذی هو مدلول حرفی، والمفروض أن إعراب المشتق إنما هو باعتبار مدلول أحد جزأیه وهوالمادة دون مدلول جزئه الآخر وهو الهیئة.

فالنتیجة أن المشتق بلحاظ مادته اسم ومعرب ولا یشبه الحرف، وبلحاظ هیئته حرف، وعلی هذا فإن کان المشتق بسیطاً فلا یتضمن معنی حرفیاً أصلاً، وإن کان مرکباً فهو وإن کان یتضمن معنی حرفیاً إلا أنه لا یکون دخیلاً فی الجهة التی تقتضی إعرابه، فلذلک یکون من الاسماء المعربة سواء أکان بسیطاً أم مرکباً.

الوجه الثانی: ما أفاده المحقق النائینی قدس سره أیضاً من أن أخذ الذات فی مفهوم المشتق وإن سلمنا أنه ممکن إلا أنه غیر واقع فی الخارج، وذلک لأن أخذها فیه لایمکن أن یکون جزافاً، بل لابد أن یکون مبنیاً علی نکتة، وتلک النکتة هی أن حمل المشتق بماله من المفهوم علی الذات غیر صحیح بدون أخذها فیه، وأما إذا

ص:329

صح الحمل بدون ذلک فلا مقتضی له، والمفروض أنه صحیح بدون ذلک، لأن لحاظ المادة لا بشرط وبما هی متحدة مع الذات خارجاً مصحح له، ومعه یکون أخذ الذات فیه لغواً(1).

والجواب أولاً: أن ما یدعو إلی وضع الألفاظ بإزاء المعانی هو سعة الحاجة وتطورها وعدم کفایة الوسائل الأولیة لابرازها، فإذن یکون الغرض الداعی إلی وضع المشتقات بإزاء معانیها هو إبرازها بها لدی الحاجة فی کل مورد وعدم کفایة الأسالیب الاُخری البدائیة لذلک، بلا فرق بین أن تکون تلک المعانی بسیطة أو مرکبة، قابلة للحمل أم لا، وأما صحة الحمل وعدم صحته، فهی من صفات المعنی ولیست من الدواعی للوضع.

وثانیاً: أن ملاک صحة الحمل الأولی الذاتی إنما هو اتحاد الموضوع والمحمول ذاتاً وحقیقة واختلافهما اعتباراً کالتفصیل والاجمال ونحوهما، کقولک «الانسان حیوان ناطق»، وملاک صحة الحمل الشائع الصناعی إنما هو اتحاد الموضوع والمحمول فی الخارج، بأن یکونا موجودین بوجود واحد فیه، واختلافهما فی المفهوم کقولک «زید انسان».

أو فقل: إن صحة الحمل الشائع ترتکز علی رکیزتین:

الاُولی: اتحاد الموضوع والمحمول فی الوجود الخارجی واقعاً وحقیقة.

الثانیة: تغایرهما فی المفهوم الذهنی کذلک.

وأما إذا کان الموضوع مغایراً مع المحمول فی الوجود الخارجی فلا یمکن حمله علیه، لأنه من حمل المباین علی المباین، وعلی هذا فإذا کان مفهوم المشتق متمثلاً

ص:330


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 98.

فی المبدأ فحسب بدون أخذ الذات فیه، کان مبایناً معها فی الوجود الخارجی واقعاً، لأن المبدأ سواء أکان من مقولة العرض أم من الاعتباریات والانتزاعیات مباین للذات فی الخارج وجوداً، ولا یعقل اتحاده معها فیه، ومن الواضح أن مایکون مبایناً للذات وجوداً واقعاً فی الخارج ومغایراً لها عیناً لا یمکن تصحیح حمله علیها باعتبار اللا بشرطیة، ضرورة أن مجرد اعتبارها ولحاظها لا یوجب انقلاب الواقع، ولا یجعل المبدأ المباین للذات متحداً معها خارجاً، لاستحالة انقلاب الشیء عما هو علیه فی الواقع، مع أن صحة الحمل منوطة بالاتحاد والعینیة بین الموضوع والمحمول، وعلیه فلو کان المبدأ متحداً مع الذات صح حمله علیه، سواء اعتبرناه لا بشرط أم بشرط لا عن الحمل، وإلا لم یصح حمله علیهاوإن اعتبرناه لا بشرط.

وبکلمة، إن صحة الحمل منوطة بالاتحاد والعینیة بین الموضوع والمحمول واقعاً فی الخارج، وعدم صحته منوط بعدم الاتحاد والعینیة بینهما فیه، وعلی هذا ففی المقام إن کان المبدأ متحداً مع الذات فی الوجود الخارجی واقعاً بأن یکوناموجودین بوجود واحد فی الخارج، صح حمله علیها واقعاً وحقیقة وإن اعتبرناه بشرط لا عن الحمل لحاظاً، ضرورة أنه لا أثر لهذا الاعتبار واللحاظ الذی لا یخرج عن افق الذهن إلی الواقع، والمفروض أن صحة الحمل منوطة بالاتحاد والعینیة فی الواقع، وهو موجود. وإن لم یکن متحداً معها فیه، لم یصح حمله علیها وإن اعتبرناه لا بشرط.

الثالث: ما ذکره المحقق النائینی قدس سره أیضاً من أن الذات لو کانت مأخوذة فی مفهوم المشتق لزم أخذ النسبة بینها وبین المبدأ أیضاً فیه، إذ لا یمکن أخذها بدون أخذ النسبة بینهما، وعندئذ یلزم اشتمال جملة واحدة کجملة «زید عالم» علی

ص:331

نسبتین فی عرض واحد، إحداهما النسبة بین الذات والمبدأ والاُخری النسبة بین زید والذات المتلبسة بالمبدأ، وهو لا یمکن، لأن وجود نسبتین متباینتین فی عرض واحد یقتضی وجود طرفین کذلک لکل منهما، لأن تعدد النسبة إنما هوبتعدد شخص طرفیها، باعتبار أنها متقومة بهما ذاتاً وحقیقة کتقوم النوع بالجنس والفصل، وفی المقام لیس کذلک، لأن الذات المتلبسة هی زید، ولا فرق بینهما إلا بالاجمال والتفصیل(1).

والجواب: أن الجملة الواحدة وإن کانت لا یمکن أن تکون مشتملة علی نسبتین متباینتین فی الذهن أو الخارج، لأن وجود النسبتین کذلک یتطلب وجود طرفین مستقلین لکل منهما متباینین مع الطرفین للاُخری، علی أساس أن تباین کل نسبة عن نسبة اخری إنما هو بتباین المقومات الذاتیة لکل منهما للمقومات الذاتیة للاُخری، وهی شخص وجود طرفیها، إلا أنه لا مانع من اشتمالها علی نسبة واحدة تامة ونسبة تحلیلیة یتضمنها المشتق، لأن مفهوم المشتق فی افق الذهن وإن کان واحداً، وهو طرف للنسبة بینه وبین موضوع الجملة، إلا أنه ینحل بتعمل من العقل وتحلیله إلی ذات ومبدأ ونسبة بینهما، وهذه النسبة نسبة تحلیلیة لا واقعیة.

والخلاصة: أنه لا مانع من اشتمال الجملة الواحدة علی نسبة تامة واقعیة ونسبة تحلیلیة، وحیث إن النسبة التحلیلیة هی النسبة التی یحللها العقل من الشیء الواحد کالانسان مثلاً إلی أجزاء ثلاثة منها النسبة، فلذلک لیست بنسبة واقعیة لا فی الذهن ولا فی الخارج حتی تکون فی عرض نسبة الجملة فیه، وبالتالی فالجملة لا تشتمل إلا علی نسبة واحدة واقعیة، فتحصل مما ذکرناه أن

ص:332


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 100.

ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من الوجوه الثلاثة لا یتم شیء منها.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقق الدوانی قدس سره من أنه لا شبهة فی صحة إطلاق المشتق علی المبدأ وحده کإطلاق الأبیض علی البیاض والموجود علی الوجود ونحو ذلک، ومن هذا القبیل إطلاق العالم القادر علی ذاته تعالی وتقدس، مع أن صفاته العلیا الذاتیة عین ذاته تعالی، ولا یعقل وجود ذات وراء تلک الصفات فی عالم العین والخارج، وهذا دلیل علی عدم أخذ الذات فی مفهوم المشتق، إذ لو کانت الذات مأخوذة فیه لم یصح إطلاقه فی الموارد المذکورة إلابالعنایة والمجاز(1).

والجواب: أن هذا الوجه مبنی علی أن مفهوم المشتق لو کان مرکباً من الذات والمبدأ، فلابد أن تکون الذات مغایرة للمبدأ فی الوجود الخارجی، وعلی هذا فالمشتق یدل علی تلبس الذات بالمبدأ فی عالم الخارج، ومن الواضح أن التلبس فی عالم الخارج یقتضی الاثنینیة فیه، کما أن التلبس فی عالم الذهن یقتضی الاثنینیة فیه، وعلی هذا فإذا کانت المغایرة معتبرة بین الذات والمبدأ فی الخارج، فبطبیعة الحال یکون مدلول المشتق تلبس الذات بالمبدأ فیه، وحیث لا مغایرة بین الذات والمبدأ فی الموارد المذکورة خارجاً، فلا محالة یکون إطلاق المشتق فی تلک الموارد بالعنایة والمجاز. هذا،

ولکن ذلک البناء غیر صحیح، لأن التعدد والاثنینیة المعتبر بین الذات والمبدأإنما هو فی عالم المفهوم والذهن، وهو موجود بینهما حتی فی الموارد المذکورة، لأن الصفات الذاتیة له تعالی کالعالم والقادر والحیاة ونحوها وإن کانت مبادئها عین الذات خارجاً إلا أنها مغایرة لها مفهوماً، وهذه المغایرة تکفی فی صحة إطلاقها

ص:333


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 322.

علی ذاته تعالی، وکذلک الحال فی إطلاق الموجود علی الوجود وإطلاق الأبیض علی البیاض وهکذا، فإنه یکفی فی صحة هذا الاطلاق المغایرة بین المبدأ والذات مفهوماً وإن کان عینها خارجاً، وعلی هذا فالمشتق موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ فی عالم الذهن الفانیة فی الخارج تصوراً وتصدیقاً، باعتبار أن المدلول الوضعی له مدلول تصوری لا تصدیقی، ولا یمکن أن یکون المشتق موضوعاً للذات المتلبسة بالمبدأ خارجاً، وإلا لزم أن لا یکون للمشتق مدلول فی المواردالمتقدمة، علی أساس أن التلبس یقتضی المغایرة والاثنینیة خارجاً، ولا اثنینة بین ذاته تعالی وصفاته العلیا کذلک، وکذا بین الوجود والموجود وبین البیاض والأبیض وهکذا، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری، إن لازم وضع المشتق للمتلبس فی الخارج کون مدلوله الوضعی مدلولاً تصدیقیاً، وهذا مما لا یمکن الالتزام به إلا علی القول بالتعهد.

وبکلمة، إن تلبس الذات بالمبدأ الذی هو مفهوم المشتق إنما هو التلبس فی عالم الذهن والمفهوم دون عالم الخارج، وعلی هذا فإذا کان المبدأ مغایراً للذات مفهوماً کفی ذلک فی صدق المشتق وإن کان عینها خارجاً، وحینئذ فلا یکون إطلاق العالم والقادر والحی علی اللَّه تعالی مجرد لقلقة اللسان، بل هو إطلاق حقیقی کإطلاق العالم علی زید، علی أساس أن المعیار فی صحة الاطلاق إنما هوبتغایرهما مفهوماً، سواء کانا متغایرین خارجاً أم لا، ولا یمکن أن یکون المشتق موضوعاً للمتلبس فی الخارج، إذ مضافاً إلی أن لازم ذلک کون المدلول الوضعی له مدلولاً تصدیقیاً لا تصوریاً، یلزم أن لا یکون مدلول له أصلاً فی الموارد الهلیة البسیطة والصفات العلیا الذاتیة والاعتباریات والانتزاعیات، حیث إن التلبس الخارجی غیر متصور فی تلک الموارد، مع أن إطلاق المشتق فیها کإطلاقه فی

ص:334

غیرها مما یتصور فیه التلبس الخارجی علی حد سواء.

ومن هنا یظهر أن ما التزم به صاحب الفصول قدس سره فی الصفات العلیا الذاتیة والأسماء الحسنی الجاریة علی ذاته تعالی بالنقل والتجوز(1) ، مبنی علی أن المشتق موضوع لتلبس الذات بالمبدأ خارجاً، وحیث إنه لا یتصور فی الصفات المذکورة، فإذن لابد من الالتزام بالنقل والتجوز، فالنتیجة أن هذا الوجه أیضاً لا یتم.

الوجه الخامس: ما أفاده المحقق الخراسانی قدس سره من أن الذات لوکانت مأخوذة فی مدلول المشتق لزم تکرار الموضوع فی مثل قولنا «زید عالم»، «الانسان کاتب» ونحوهما، فإن الأول یؤول إلی قولنا «زید زید له العلم» والثانی یؤول إلی قولنا «الانسان انسان له الکتابة» مع أن هذا التکرار خلاف الوجدان والمتفاهم العرفی من المشتق عن الاطلاق فطرة وارتکازاً، وعدم انفهامه منه عرفاً، وهذا دلیل علی عدم أخذ الذات فی مدلوله(2).

والجواب: أنه مبنی علی أن یکون المأخوذ فی مدلول المشتق مصداق الشیءلا مفهومه، فعندئذ یؤول قولنا «زید عالم» إلی قولنا «زید زید له العلم»، وأماإذا کان المأخوذ فیه مفهوم الشیء فلا یلزم التکرار، فإن قولنا «الانسان کاتب» یؤول إلی قولنا «الانسان شیء له الکتابة» ولا تکرار فیه، لأن التکرار عرفاً هوإعادة عین الشیء الأول مرة ثانیة، ولهذا لا مانع من التصریح بجملة «الانسان شیء له الکتابة»، فإنها کجملة «الانسان کاتب»، فکما لا تکرار فیها فکذلک لاتکرار فی تلک.

ص:335


1- (1) الفصول, فصل المشتق, التنبیه الثالث. ونقله عنه فی کفایة الاصول ص 56.
2- (2) (2) کفایة الاصول ص 54.

وعلی الجملة فحیث إن المأخوذ فی مفهوم المشتق شیء مبهم ومعری عن کل خصوصیة من الخصوصیات العرضیة ماعدا قیام المبدأ به، ولا تعیّن له إلا بالانطباق علی ذوات خاصة معینة فی الخارج کزید وعمرو ونحوهما، فلا یلزم التکرار فی مثل «زید عادل» و «بکرٌ عالم» و «الانسان ضاحک» وغیر ذلک، لوضوح أنه لا فرق بین جملة «زید عادل» وجملة «زید شیء له العدالة»، فکمالا تکرار فی الجملة الاُولی فکذلک فی الثانیة.

فالنتیجة أن هذا الوجه کالوجوه السابقة فلا یدل علی عدم إمکان أخذ الذات فی مفهوم المشتق.

الوجه السادس: ما أفاده صاحب الفصول قدس سره من أن الذات لو کانت مأخوذة فی مفهوم المشتق لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی قضیة ضروریة، مثلاً قضیة «الانسان کاتب» قضیة ممکنة فی نفسها، فلو کان مفهوم الذات مأخوذاً فی مدلول المشتق لزم الانقلاب المذکور، باعتبار أن صدق مفهوم الذات علی جمیع الأشیاء والذوات الخاصة ضروریة(1).

والجواب: أن المحمول فی القضیة تارة یکون طبیعی الشیء بنحو اللابشرط، واُخری یکون مقیداً بقید خاص، وذلک القید لا یخلو من أن یکون مبایناً للموضوع فی القضیة أو مساویاً له أو عاماً أو خاصاً، فإن کان المحمول ملحوظاً علی النحو الأول، فثبوته للموضوع وإن کان ضروریاً إلا أن محمول القضیة فی المقام لیس کذلک، لأنه علی القول بالترکیب الشیء المقید بنحو بشرط الشیء لا المطلق بنحو لا بشرط، مثلاً المحمول فی مثل قضیة «الانسان کاتب» هوالشیء المقید بالکتابة لا المطلق، وعلی هذا فکون القضیة ضروریة أو ممکنة

ص:336


1- (1) الفصول, فصل المشتق, التنبیه الاول.

أو ممتنعة تتبع القید المأخوذ فی محمولها، فإن کان ثبوت ذلک القید ضروریاً للموضوع فالقضیة ضروریة، کما إذا کان القید من ذاتیات الموضوع فی باب الکلیات أو باب البرهان، وذلک مثل قولک «الانسان ناطق»، فإن ثبوت المبدأ وهو النطق للانسان الذی هو الموضوع فی القضیة ضروری، وإن لم یکن ضروریاً له، فإن کان من العوارض المفارقة له کالکتابة ونحوها، فبما أن ثبوته للموضوع ممکن فالقضیة ممکنة، وذلک مثل قولک «الانسان کاتب»، فإن ثبوت القید وهو الکتابة لموضوع القضیة کالانسان إنما هو بالامکان، فلذلک تظل القضیة علی إمکانها، ولا یوجب أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق الانقلاب فی مثل المثال، وإن کان من الأشیاء الممتنعة ثبوتها للموضوع فالقضیة ممتنعة، وذلک کقولک «شریک الباری ممتنع» و «اجتماع النقیضین مستحیل» وهکذا.

إلی هنا قد تبین أن أخذ مفهوم الذات والشیء فی مدلول المشتق لا یوجب انقلاب القضیة الممکنة إلی قضیة ضروریة، لوضوح أن قضیة «الانسان کاتب» قضیة ممکنة مطلقاً، أی سواء أکان مفهوم الذات مأخوذاً فی مدلول المشتق أم لا، وقضیة «الانسان ناطق» قضیة ضروریة کذلک، لأن أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق لا یؤثر فی جهة القضیة أصلاً، فإنها إن کانت ممکنة ظلت علی إمکانها، وإن کانت ضروریة ظلت علی ضرورتها، وهکذا.

فما أفاده صاحب الفصول قدس سره من أن أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق یوجب الانقلاب لا یرجع إلی معنی صحیح.

قد یقال کما قیل: هذا فیما إذا کان المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء، وأما إذا کان المأخوذ فیه واقع الشیء ومصداقه لزم الانقلاب، إذ حینئذ تؤول

ص:337

قضیة «الانسان کاتب» إلی قضیة «الانسان إنسان له الکتابة»، وعلیه فالمحمول فی القضیة إما ذات المقید، والقید قد اخذ بنحو المعرفیة والمشیریة إلیها أو المقید بما هو المقید، والقید قد اخذ بنحو الموضوعیة، فعلی الأول تکون القضیة ضروریة، فإن ثبوت الانسان للانسان ضروری، وعلی الثانی تکون ممکنة، لأن ثبوت الانسان المقید بالکتابة للانسان ممکن.

والجواب أولاً: أن المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء المبهم، لا واقعه وهو الذوات الخاصة، وهذا واضح بناء علی أن وضع الهیئات نوعی، وأما بناءعلی أن وضعها شخصی فالأمر أیضاً کذلک إذا کان وضعها من باب الوضع العام والموضوع له العام، نعم إذا کان من باب الوضع العام والموضوع له الخاص فالمأخوذ فیه الذوات الخاص، ولکنه مجرد افتراض لا واقع موضوعی له.

وثانیاً: أن لزوم الانقلاب هنا مبنی علی نقطة خاطئة، وهی أن یکون المحمول فی القضیة ذات الانسان وقید الکتابة قد اخذ بنحو المعرفیة والمشیریة إلیه بدون أن یکون له دخل فیه، ولکن من الواضح أن هذه النقطة خاطئة، إذ لازم ذلک أن یکون المحمول فی قضیة «الانسان کاتب» هو ذات الانسان، وعنوان الکتاب قد اخذ بنحو المعرفیة المحضة من دون أن یکون له دخل فیه، وعلیه فتکون القضیة ضروریة، لأن ثبوت الانسان للانسان ضروری، وهذا کماتری، وبداهة أنهاقضیة ممکنة، لأن المحمول فیها علی القول بالترکیب الانسان المقید بالکتابة الذی هو مدلول المشتق لا طبیعی الانسان، وعلیه فبطبیعة الحال یکون المحمول فی القضیة المنحلة والمؤولة نفس ذلک المحمول، والفرق إنما هو بالاجمال والتفصیل والانحلال وعدمه، ومن الواضح أن المحمول إنما یکون قابلاً للانحلال علی القول بترکب المشتق من الذات والمبدأ والنسبة.

ص:338

ومن هنا یظهرأن الانقلاب غیر معقول، بلا فرق بین أن یکون المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء و مصداقه، باعتبار أن المحمول وهو مدلول المشتق مرکب من الذات والمبدأ والنسبة، وإمکان القضیة إنما هو من جهة أن ثبوت المبدأ لموضوعها إن کان بالامکان فالقضیة ممکنة، وإن کان بالضرورة فضروریة، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون مدلول المشتق محمولاً فی القضیة بالاجمال أوبالتفصیل والتحلیل، ولا یعقل أن یکون ثبوته بالتحلیل ضروریاً وبالاجمال ممکناً، وإلا لم یکن الفرق بینهما بالاجمال والتفصیل بل بالتباین، وهذا خلف.

قد یقال کما قیل: إن القید إذا کان مأخوذاً بنحو الموضوعیة بأن یکون قیداً للمحمول واقعاً لا معرفاً له فحسب، فهو وإن کان یدفع محذور الانقلاب إلا أنه یستلزم محذوراً آخر، وهو حمل الأخص علی الأعم، لأن الانسان المقید بالکتابة أو نحوها یکون أخص من الانسان المطلق وغیر المقید، ومن المعلوم أن حمل الأخص علی الأعم غیر صحیح، لأن ملاک صحة الحمل هو اتحاد المحمول مع الموضوع فی القضیة خارجاً وجوداً، وهذا إنما هو فیما إذا کان المحمول مساویاً مع الموضوع أو أعم منه، وأما إذا کان أخص منه، فهو لا یتخد إلا مع حصة منه، فلذلک لا یصح حمل الأخص علی الأعم إلاّ بالتأویل والعناویة، فإذن لابد أن یکون القید مأخوذاً بنحو المعرفیة والمشیریة لا بنحو الموضوعیة.

والجوب: أن المحمول فی مثل قضیة «الانسان کاتب» أو «ضاحک» لیس أخص من الموضوع فیها، لأن قید الکتابة مثلاً بما أنه ملحوظ ثبوته له بنحو الامکان فهو بهذا اللحاظ لیس أخص منه، وعلی هذا فلا یکون حمل الکاتب علی الانسان فی قولنا «الانسان کاتب» من حمل الأخص علی الأعم، بل هومن حمل المساوی علی المساوی، وأما إذاکان القید أخص من الموضوع، فلایصح

ص:339

حمله علی الأعم إلا بالتأویل.

وبکلمة، إن حمل الأخص مفهوماً علی الأعم کذلک غیر صحیح إذا کان کل منهما ملحوظاً بحدّه بنحو الموضوعیة، وأما إذا کانا ملحوظین بنحو الفناء فی حقیقة واحدة فی الخارج ومعبران عنها فی مرحلة التصادق، فحینئذ وإن کان الحمل صحیحاً لتوفر ملاکه وهو انطباقهما علی موجود واحد، إلا أنه لیس من حمل الأخص مفهوماً علی الأعم کذلک، إلا صورة، فإنه فی الحقیقة من حمل المساوی علی المساوی، ومن هذا القبیل ما إذا جعل الموضوع فانیاً فی مصداق المحمول، فإن الحمل وقتئذ وإن کان صحیحاً إلا أنه من حمل المساوی علی المساوی، لا حمل الأخص علی الأعم إلا صورة، فالنتیجة أن حمل الأخص علی الأعم لا یصح إلا بالتصرف والتأویل، لحد الآن قد تبین أن أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق أو واقعة الموضوعی لا یوجب الانقلاب.

ولکن قد یقال: إن أخذ واقع الشیء فیه إنما لا یوجب الانقلاب فیما إذا کان قابلاً للتقیید، کما فی مثل قولنا «الانسان کاتب» أو «ضاحک»، وأما إذا لم یکن قابلاً للتقیید فأخذه یوجب الانقلاب، کما فی مثل قولنا «زید عالم»، فإنه ینحل إلی قولنا «زید زید له العلم»، وزید بما أنه جزئی حقیقی فلا یقبل التقیید، فإذن یکون القید مجرد معرف ومشیر إلیه من دون أن یکون له دخل فیه، وحینئذ فتکون قضیة «زیدٌ زید له العلم» قضیة ضروریة، لأنه من حمل الشیء علی نفسه، وهذا هو معنی الانقلاب(1).

والجواب: أولاً: أن الانقلاب إنما یلزم لو کان المأخوذ فی مدلول المشتق

ص:340


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 332.

خصوص ما لا یقبل التقیید لا مطلقاً، مع أن القائل به یدعی لزومه مطلقاً.

وثانیاً: أن لزوم الانقلاب فی مثل المثال المذکور إنما هو لو کان المأخوذ فی مدلول المشتق شخص الموضوع فی القضیة، وهو زید فی المثال، ولکن الظاهر أن المأخوذ فیه نوع الموضوع لا شخصه، بقرینة أن المراد من واقع الشیء المأخوذ فیه ما یکون معروضاً للمبدأ عادة فی الخارج، ومن الواضح أن ما یکون معروضاً له عادة هو الانسان، باعتبار أن العلم والعدالة والکتابة ونحوها من عوارضه، لا من عوارض الفرد بحدّه الفردی کزید مثلاً، فإن عروضها علیه إنماهو بلحاظ أنه انسان لا بلحاظ أنه زید، وحینئذ فتنحل قضیة «زید عالم» إلی قضیة «زید انسان له العلم» لا إلی قضیة «زید زید له العلم»، فإذن لا انقلاب.

وثالثاً: مع الاغماض عن جمیع ذلک وتسلیم أن المأخوذ فی مدلول المشتق شخص الموضوع فی القضیة، فمع هذا لا یلزم الانقلاب، وذلک لأن الجزئی لایقبل التقیید الافرادی، وأما الأحوالی فلا مانع منه، وعلی هذا فمثل قولنا «زیدعالم» وإن انحل إلی قولنا «زیدٌ زید له العلم» ولکن زید بما أنه مقید بحالة العلم، فلا یکون حمله مقیّداً بها علی زید - الذی هو موضوع القضیة مطلقاً - ضروریاً، من جهة أن ثبوت تلک الحالة له لیس بضروری، وإنما هو بالامکان.

وقد یقال کما قیل: إن أخذَ واقع الشیء فی مدلول المشتق یؤدی إلی انحلال القضیة الواحدة إلی قضیتین: إحداهما ضروریة، وهی «الانسان إنسان»، والاُخری ممکنة، وهی «الانسان له الکتابة» مع أن قضیة «الانسان کاتب» قضیة واحدة ممکنة لدی العرف والعقلاء، وهذا شاهد علی عدم أخذ واقع الشیء فی مدلول المشتق(1).

ص:341


1- (1) کفایة الاصول ص 52.

والجواب: أن انحلال القضیة الواحدة الممکنة إلی قضیتین: الاُولی ضروریة، والثانیة ممکنة مبنی علی أحد أمرین:

الأول: اشتمال القضیة علی نسبتین فی عرض واحد، إحداهما النسبة بین الانسان والکاتب، والاُخری النسبة بینه وبین المبدأ کالکتابة ونحوها، وحیث إن وحدة القضیة وتعدّدها إنما هی بوحدة النسبة وتعدّدها، فإذا کانت النسبة واحدة فالقضیة واحدة، وإذا کانت متعددة فالقضیة متعددة، علی أساس أن النسبة هی المقومة للقضیة ولا یمکن تکوینها بدونها.

الثانی: انحلال عقد الحمل إلی قضیة، وهذه القضیة وإن کانت تقییدیة وصفیة إلا أنها تصبح قضیة إخباریة مستقلة بقانون أن الوصف قبل العلم به إخبار.

ولنا تعلیق علی کلا الأمرین:

أما علی الأمر الأول فلأن اشتمال القضیة علی نسبتین فی عرض واحد إنمایوجب تعددها وانحلالها إلی قضیتین إذا کانت النسبتان تامّتین، إذ حینئذ لا یعقل أن تکون القضیة واحدة، لما ذکرناه فی ضمن البحوث السابقة من أن کل نسبة مباینة ذاتاً وحقیقة للنسبة الاُخری، من جهة أن المقومات الذاتیة لکل منهمامباینة للمقومات الذاتیة للاُخری، وهی متمثلة فی شخص وجود طرفیها هما الموضوع والمحمول فی القضیة، فلذلک لایعقل أن تکون القضیة الواحدة موضوعاًومحمولاً مشتملة علی نسبتین تامتین، بداهة أنه یلزم من افتراض وحدتها کذلک تعددها، وما یلزم من افتراض وجوده عدمه، فوجوده مستحیل.

ولکن الأمر فی المقام لیس کذلک، لأن قضیة «الانسان کاتب» مشتملة علی نسبة

ص:342

واحدة، وهی النسبة بین الانسان والکاتب، ولا یعقل اشتمالها علی نسبة

اخری تامة کما عرفت، وأما المحمول فی تلک القضیة وهو «الکاتب»، فلایکون مشتملاً علی نسبة واقعیة تامة، وإلاّ لزم قیام النسبة بطرف واحد، وهومستحیل، نعم إنه بتحلیل من العقل ینحل إلی أجزاء ثلاثة: الذات والمبدأوالنسبة بینهما، إلا أن تلک النسبة نسبة تحلیلیة لا واقعیة، فإنها لیست فی وعاء الذهن أو الخارج، فلهذا لا تستدعی وجود طرفین فیه، لأن الموجود فی الذهن مفهوم واحد، وهو مفهوم الکاتب، ولکن العقل فی مقام التحلیل یحلله إلی ثلاثة أجزاء، فتلک الأجزاء تحلیلیة عقلیة لا خارجیة ولا ذهنیة، فالمعیار فی وحدة القضیة إنما هو بوحدة الموضوع والمحمول فی عالم الذهن أو الخارج، وحیث إن الموضوع والمحمول فی قضیة «الانسان کاتب» واحد فیه فالقضیة واحدة، وانحلال الکاتب إلی أجزاء ثلاثة لا یؤثر فی وحدتها ولا یجعلها متعددة، ومن هنا لا یکون النسبة التحلیلیة فی عرض النسبة الواقعیة، فإن أحد طرفی النسبة الواقعیة «الکاتب»، وهو موجود واحد فی أفق الذهن، والمفروض عدم نسبة اخری فی هذا الاُفق فی عرض النسبة الاُولی، فإذن تکون القضیة المذکورة مشتملة علی نسبة واحدة فی عالم الذهن أو الخارج، والنسبة التحلیلیة لیست بنسبة فی عالم الواقع، بل هی نسبة فی عالم التحلیل فحسب، فیکون المقام نظیرقولنا «زید انسان» فإنه قضیة واحدة مشتملة علی نسبة واحدة، وهی النسبة بین «زید» و «انسان» فی عالم الذهن، ولا یضر بوحدتها اشتمال الانسان بالتحلیل من العقل علی نسبة تحلیلیة، وهی النسبة بین الحیوان والناطق، ومن الواضح أن النسبة التحلیلیة لا تشکل قضیة واقعیة ولا لها دخل فی تکوینها، لأن قضیة «الانسان کاتب» قضیة واحدة مشتملة علی نسبة واحدة، وهی النسبة بین الانسان والکاتب، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون الکاتب مشتملاًعلی

ص:343

النسبة التحلیلیة أو لا، وکذلک قضیة «زید انسان».

فالنتیجة أن القضیة المذکورة مشتملة علی نسبة واحدة، سواء أکان الشیءمأخوذاً فی مدلول المشتق أم لا.

وأما التعلیق علی الأمر الثانی، فلأن قضیة «الانسان کاتب» علی القول بالترکیب تتضمن إخبارین: أحدهما الاخبار عن ثبوت المقید، وهو «إنسان له الکتابة»، والآخر الاخبار عن ثوت المطلق فی ضمن المقیّد، وهو «انسان» فی المثال، بملاک أن الاخبار عن ثبوت المقید یستلزم الاخبار عن ثبوت المطلق، فالاخبار الأول مدلول مطابقی للقضیة وجهته الامکان، والاخبار الثانی مدلول تضمنی لها وجهته الضرورة، وهذا لیس من الانقلاب فی شیء.

وإن شئت قلت: إنه علی القول بأخذ مصداق الشیء فی مدلول المشتق فالمحمول فی مثل قولک «الانسان کاتب» انحل إلی محمولین: أحدهما المقید وهو «إنسان له الکتابة» والآخر المطلق وهو «إنسان»، فثبوت الأول للموضوع بالامکان، والثانی بالضرورة، وحیث إن القضیة المطابقیة هی القضیة المقیدة، فهی باقیة علی جهتها وهی الامکان، ولا انقلاب فیها، وأما القضیة الضمنیة وهی القضیة المطلقة، فهی وإن کانت ضروریة إلا أنها بملاک أن جهتها الواقعیة الضرورة لا من جهة الانقلاب، هذا نظیر جملة «زید خطیب بارع» و «عمروطبیب ماهر» وهکذا، فإنها تنحل إلی إخبارین: أحدهما الاخبار عن المدلول المطابقی لها، وهو براعة زید فی فن الخطابة، ومهارة عمرو فی فن الطبابة، والآخرعن المدلول التضمنی لها، وهو الاخبار عن خطابة زید وطبابة عمرو، ولا مانع من أن تکون جهة القضیة بلحاظ مدلولها المطابقی الامکان وبلحاظ

ص:344

مدلولها التضمنی الضرورة.

وهذا أمر طبیعی فی القضایا المذکورة وأشباهها، ولیس من الانقلاب فی شیء، لأن القضایا التی تکون محمولاتها من القضایا الوصفیة تنحل إلی قضیتین طبعاً: الاُولی قضیة مستقلة وهی القضیة المقیّدة، والثانیة قضیة ضمنیة وهی القضیة المطلقة، مثلاً قضیة «زید خطیب بارع» تنحل إلی الاخبار عن براعة زید فی الخطابة والاخبار عن خطابته ضمناً، والاُولی قضیة مستقلة، والثانیة: قضیة ضمنیة وهکذا، باعتبار أن کل قضیة یکون محمولها مقیداً بقید تتضمن قضیة اخری فی ضمن القضیة المستقلة، وکل قضیة یکون محمولها بسیطاً فلاتتضمن قضیة اخری، وعلی هذا فعلی القول بأخذ مصداق الشیء فی مدلول المشتق، فالمحمول فی مثل قضیة «الانسان کاتب» مقید بالمبدأ فی الواقع، وکذلک إذا کان المأخوذ فیه مفهوم الشیء، وأما علی القول ببساطة مفهوم المشتق فالمحمول فیها بسیط ولا موضوع للانحلال.

والخلاصة أنه إن ارید بالانحلال أن المحمول علی القول بالترکیب بما أنه مشتمل علی نسبة، فیلزم عروض نسبتین علی الذات فی عرض واحد وهومستحیل، فیرد علیه أن المحال إنما هو عروض نسبتین واقعیتین علی شیء واحد، والمفروض فی المقام أن النسبة الواقعیة فی وعاء الذهن أو الخارج واحدة، وأما النسبة بین الذات والمبدأ، فهی نسبة تحلیلیة فی المرتبة السابقة علی الحمل لا واقعیة، وإن ارید به انحلال المحمول إلی إخبارین: أحدهما الاخبار عن القضیة المقیدة المستقلة، والآخر الاخبار عن القضیة المطلقة الضمنیة، فیرد علیه أن هذا الانحلال أمر طبیعی علی القول بالترکیب، ولیس هذا من الانقلاب المستحیل، لأنه متمثل فی انقلاب مادة الامکان إلی الضرورة.

ص:345

الوجه السابع: ما ذکره المحقق الشریف من أن المأخوذ فی مدلول المشتق إن کان مصداق الشیء لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی قضیة ضروریة، وإن کان المأخوذ فیه مفهوم الشیء لزم دخول العرض العام فی الفصل کالناطق مثلاً، وهولا یمکن، لاستحالة أن یکون العرض جزءاً من الجوهر ومقوماً له، وعلی هذا فلوکان العرض داخلاً فی الفصل لزم أن یکون مقوماً للانسان والحیوان ونحوهماوذاتیاً لها، وهو کما تری(1). هذا،

والجواب عن ذلک: أما عن الشق الأول من کلامه، فقد تقدم موسعاً فلاحاجة إلی الاعادة.

وأما عن الشق الثانی منه وهو دخول العرض العام فی الفصل، فقد اجیب عنه بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره وجماعة من الفلاسفة المتأخرین منهم السبزواری، من أن الناطق فصل مشهوری ولیس فصلاً حقیقیاً، وقد أفاد فی وجه ذلک أن معرفة حقائق الأشیاء وفصولها الحقیقیة متعذرة ولا یمکن الوصول إلیها إلا للباری عز وجل، ومن أجل ذلک قد وضعوا مکانها ما هو من لوازمها وخاصّتها التی یشیروا بها إلیها، فالناطق والصاهل والناهق جمیعاًلیست بفصول حقیقیة، فإن الناطق إن ارید به النطق الخارجی الذی هو من خاصة الانسان، فهو من مقولة الکیف المسموع، فلا یعقل أن یکون مقوّماً للجوهر النوعی، وإن ارید به الادراک الباطنی أعنی إدراک الکلیات، فهو کیف نفسانی وعرض من أعراض الانسان، فیستحیل أن یکون مقوماً له، لأن العرض إنما یعرض علی الشیء بعد تقومه بذاته وذاتیاته وتحصله بفصله، وأما

ص:346


1- (1) شرح المطالع ص 11.

الصاهل والناهق فکلاهما من الکیف المسموع، فلا یعقل أن یکون مقوماً للجوهر النوعی، ومن هنا قد یجعلون لازمین وخاصتین مکان فصل واحد، فیقولون «الحیوان حساس متحرک بالارادة» ومن الطبیعی أن الحساس والمتحرک بالارادة خاصتان للحیوان ولیستا بفصلین له، ضرورة أن الشیء الواحد لا یعقل أن یتقوم بفصلین، لأن کل فصل مقوم للنوع وذاتی له، فلا یعقل اجتماعهما فی شیء واحد، وعلیه فلا یلزم من أخذ الشیء فی المشتق دخول العرض العام فی الفصل، بل یلزم منه دخوله فی الخاصة، وهذا أمر طبیعی ولامحذور فیه، فإن العرض العام کالشیء إذا قید بقید خاص أصبح خاصة، فما أفاده المحقق الشریف من استلزام أخذ مفهوم الشیء فی مفهوم المشتق دخول العرض العام فی الفصل غیر تام، ولا یرجع إلی معنی محصل(1).

الوجه الثانی: ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من أن الناطق بمعنی النطق الظاهری أو إدراک الکلیات وإن کان من لوازم الانسان وعوارضه الخاصة ولا یعقل أن یکون فصلاً مقوماً له، إلا أن الناطق بمعنی صاحب النفس الناطقة فصل حقیقی له، فیلزم حینئذٍ من أخذ مفهوم الشیء فی المفهوم الاشتقاقی دخول العرض العام فی الفصل(2). هذا،

وقد علق علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن صاحب النفس الناطقة هو الانسان، وهو نوع لا فصل(3) ، نعم لو فسر الناطق بالنفس الناطقة لم یرد علیه هذا الاشکال، فإن النفس الناطقة هی الفصل الحقیقی للانسان، وهی بسیطة،

ص:347


1- (1) کفایة الاصول ص 52.
2- (2) (2) أجود التقریرات ج 1 ص 102.
3- (3) (3) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 270.

والناطق اسم لها ولیس من الأوصاف الاشتقاقیة، فإذن لا موضوع لما ذکره المحقق الشریف من أن مفهوم الشیء إن کان مأخوذاً فی مدلول المشتق لزم دخول العرض العام فی الفصل، لأن الناطق بمعناه اللغوی وهو النطق الظاهری أو الادراک الباطنی لیس بفصل، فلا یلزم المحذور المذکور، وبمعنی النفس الناطقة وإن کان فصلاً إلا أنه بهذا المعنی بسیط، فلا یکون مفهوم الشیء مأخوذاً فیه.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق النائینی قدس سره أیضاً من أن الشیء لیس من العرض العام، بل هو جنس الأجناس وجهة مشترکة بین جمیع المقولات من الجواهر والأعراض، وقد أفاد فی وجه ذلک أن ضابط العرض العام هو ما کان خاصة للجنس القریب أو البعید، کالماشی والمتحیز، والشیئیة تعرض لکل ماهیة من الماهیات وتنطبق علیها، فهی جهة مشترکة بین جمیعها ولیس ورائها أمر آخر، یکون ذلک الأمر هو الجهة المشترکة وجنس الأجناس لتکون الشیئیة عارضة علیه وخاصة له، کما هو شأن العرض العام، وعلی هذا فاللازم من أخذ مفهوم الشیء فی المشتق دخول الجنس فی الفصل لا دخول العرض العام فیه، ومن الواضح أنه کما یستحیل دخول العرض العام فی الفصل کذلک یستحیل دخول الجنس فیه، لأن لکل واحد من الجنس والفصل ماهیة تباین ماهیة الآخر ذاتاً وحقیقة، فلا یکون أحدهما ذاتیاً للآخر، فالحیوان لیس ذاتیاً للناطق وبالعکس، بل هو لازم أعم بالاضافة إلیه، وذلک لازم أخص، وعلیه فیلزم من دخول الجنس فی الفصل انقلاب الفصل إلی النوع، وهو محال.

والخلاصة أن خروج مفهوم الشیء عن مفهوم المشتق أمر ضروری، سواءفیه القول بأن الشیء عرض عام أو جنس، وسواء أکان الناطق فصلاً حقیقیاً أم مشهوریاً، فإن دخول الجنس فی اللازم کدخوله فی الفصل الحقیقی

ص:348

محال(1) ، هذا.

وقد أورد علیه السید الاُستاذ قدس سره بأن هذا غریب منه، فإن الشیء لا یعقل أن یکون جنساً عالیاً للأشیاء جمیعاً من الواجب والممتنع والممکن بأقسامه من الجواهر والأعراض والاعتباریات والانتزاعیات، فإنه وإن کان صادقاً علی الجمیع حتی علی الممتنعات، فیقال «شریک الباری شیء ممتنع» و «اجتماع النقیضین شیء مستحیل» وهکذا، إلا أن صدقه لیس صدقاً ذاتیاً لیقال إنه جنس عال له، بداهة استحالة وجود الجامع الماهوی بین ذاته تعالی وبین غیره من المقولات المتأصلة والماهیات الاعتباریة والانتزاعیة والأشیاء الممتنعة، بل لا یعقل الجامع الذاتی بین المقولات العشر بأنفسها، لأنها أجناس عالیات ومتباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، بل ذکر قدس سره أنه قد برهن فی محله أن الجامع الحقیقی بین المقولات التسع العرضیة فضلاً عن الجامع کذلک بین جمیع المقولات غیرمتصور(2). هذا.

وما ذکره السید الاُستاذ قدس سره یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: أن الشیء لا یعقل أن یکون جنساً عالیاً للجمیع من الواجب والممکن والممتنع.

الثانیة: أنه قد برهن فی محله أن المقولات العشر أجناس عالیات ومتباینات بتمام ذاتها وذاتیاتها، ولا یعقل أن تندرج تحت مقولة واحدة ذاتاً وحقیقیة. هذا،

وغیر خفی أن النقطة الاُولی واضحة ولا تقبل الشک، بداهة أنه لا یعقل أن

ص:349


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 102.
2- (2) (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 271.

یکون الشیء بعرضه العریض جنساً عالیاً للأشیاء جمیعاً.

وأما النقطة الثانیة فقد یناقش فیها بأنه لم یقم برهان فی الفلسفة علی استحالة وجود جنس أعلی للمقولات العشر لا أنه قام برهان علی الاستحالة، وقدصرح بذلک صاحب الأسفار(1).

وفیه أنا وإن سلمنا عدم قیام برهان علی استحالة وجود جنس أعلی للمقولات العشر إلا أن الشیء لا یعقل أن یکون جنساً أعلی لها جامعاً ذاتیاً بین جمیع الأشیاء لأمرین:

الأول: أن الشیء یصدق علی الواجب والممتنع والممکن بشتی أنواعه وأشکاله، ومن الواضح استحالة تصویر جامع حقیقی بینها جمیعاً، بداهة أنه لایعقل أن یکون الواجب تعالی شریکاً مع الممکن والممتنع فی الجنس.

الثانی: أن الشیء لو کان جنساً أعلی للمقولات العشر لکان کل مقولة مرکبة منه ومن فصل یمیزه عن المقولات الاُخری، وحینئذ نقول إن الفصل شیء أو لا؟ والثانی لا یمکن، فعلی الأول فإن کانت الشیئیة تمام حقیقته لزم اتحاد الجنس والفصل، وإن کانت جزئه لزم ترکبه من جزئین، وحینئذ فتنقل الکلام إلی جزئه الثانی فهل هو شیء؟ والجواب: نعم إنه شیء، وهکذا یذهب إلی مالا نهایة له، فإذن لا یمکن الوصول إلی ما یمیز المقولات بعضها عن بعضها الآخر.

فالصحیح أن الشیء عرض عام للأشیاء جمیعاً من الواجب والممکن والممتنع، ویصدق علی الجمیع صدقاً عرضیاً، فلذلک یکون من العرض العام، لا من العرض المقابل للجوهر، فإنه لا یصدق علی وجود الواجب تعالی ولا علی

ص:350


1- (1) (2) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 331.

غیره من الاعتباریات والانتزاعیات ونحوهما، ومن الواضح أن الشیء بما له من المفهوم یصدق علی الجمیع علی نسق واحد.

وأما ما أفاده قدس سره - من أن ضابط العرض العام أن یکون خاصة للجنس القریب أو البعید بأن یکون ما وراءه جنساً وهو عارض علیه وخاصة له، وضابط العرض الخاص أن یکون خاصة للنوع کالضحک مثلاً، وهذا الضابط لاینطبق علی الشیء - فلا أصل له، وذلک لأنه قدس سره إن أراد بذلک أن عروض العارض علی الجنس مقوم لعمومه لا لعرضیته، ففیه أن کونه مقوماً لعمومه إنماهو بملاک أنه أکثر أفراداً وأوسع دائرة من النوع، فإذن یکون ملاک اتصاف العرض بالعرض العام کون دائرة معروضة أوسع من دائرة معروض العرض الخاص، وأما کونه جنساً قریباً کان أم بعیداً أو غیره فغیر معتبر، إذ لا یحتمل أن تکون جنسیة معروضة، دخیلة فی اتصافه بالعرض العام، وإن أراد به أنه مقوم لعرضیته، ففیه أن عرضیة العرض متقومة ذاتاً وحقیقة بعروضه علی شیء، سواء أکان ذلک الشیء جنساً أم لا، ثم إن کون العرض عاماً وخاصاً أمر إضافی نسبی، فالماشی عرض عام باعتبار وإضافة، وخاص باعتبار آخر وإضافة اخری، فالنتیجة ما أفاده قدس سره من الضابط للعرض العام لا یرجع إلی معنی صحیح فالمعیار فیه ما ذکرناه.

الوجه الرابع: أن محل الکلام فی بساطة مفهوم المشتق وترکیبه، حیث إنه فی مدلوله اللغوی، فلا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی مدلوله لغة دخول العرض العام فی الفصل الحقیقی حتی یکون محالاً، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری فقد اجیب فی شرح المطالع عن شبهة وجهت علی تعریف الادراک بترتیب امور معلومة لتحصیل أمر مجهول، وهی أنه لا یشمل التعریف

ص:351

بالحد الناقص، وهو التعریف بالفصل وحده، فاُجیب عنها بأن الفصل أیضاً مرکب من أمور ولیس بسیطاً، فالناطق شیء له النطق، فإذن لا إشکال فی التعریف(1).

ولکن علق علی هذا الجواب المحقق الشریف بأن لازم ذلک دخول العرض العام فی الفصل الحقیقی(2). ومن الواضح أن الشریف أراد من الناطق الفصل الحقیقی بقرینة أن التعریف إنما هو به بقطع النظر عن باب الدلالة اللغویة والعرفیة، وعلیه فما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره - من أن الناطق فصل مشهوری لا حقیقی، ووضع مکان الفصل الحقیقی باعتبار أنه لازم له، وحینئذ فلا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق دخول العرض العام فی الفصل الحقیقی، وإنمایلزم من ذلک دخول العرض العام فی الفصل المشهوری، وهذا مما لا محذور فیه - لیس جواباً عن تعلیق المحقق الشریف، لما عرفت من أن نظره فیه متّجه إلی الفصل الحقیقی دون المشهوری، فإذن لا صلة لما ذکره المحقق الخراسانی قدس سره بماعلق علیه الشریف. هذا،

فالصحیح فی المقام أن یقال إن هنا مسألتین:

الاُولی: أن مدلول المشتق بسیط أو مرکب.

الثانیة: أن الناطق هل هو فصل بمعناه اللغوی العرفی أو لا.

أما المسألة الاُولی فهی مسألة لغویة، والمرجع فی إثباتها الطرق المقرّرة لدی العرف العام، کالتنصیص والتبادر ونحوهما.

ص:352


1- (1) شرح المطالع ص 11.
2- (2) (2) هامش مصدر المتقدم.

وأما المسألة الثانیة: فلا شبهة فی أن الناطق بما له من المعنی اللغوی لا یصلح أن یکون فصلاً حقیقیاً للانسان، وکذلک الصاهل والناطق ونحوهما، ولا فرق فی ذلک أن یکون المشتق موضوعاً لمعین بسیط أو مرکب، لأن المبدأ فی الناطق وهو النطق لا یمکن أن یکون فصلاً حقیقیاً للانسان، باعتبار أنه إن کان بمعنی النطق الظاهری، فهو من مقولة الکیف المسموع، وإن کان بمعنی الادراک الباطنی، فهو من مقولة الکیف النفسانی، وعلی کلا التقدیرین فلا یصلح أن یکون فصلاً حقیقیاً، بلا فرق بین أن یکون مفهوم الشیء مأخوذاً فیه أولاً، وعلی هذا فجعل الناطق فی باب الکلیات من الذاتی والفصل الحقیقی للانسان لایمکن بدون تجریده عن معناه اللغوی مادة وهیئة وإرادة معنی آخر منه، وهوالنفس الناطقة.

وبکلمة، إن الناطق عند العرف واللغة موضوع للشیء المتلبّس بالنطق الظاهری أو الباطنی، وهو بهذا المعنی لا یصلح أن یکون فصلاً حقیقیاً للانسان ومقوماً له، وعلیه فجعله فی المنطق فصلاً حقیقیاً لا یمکن أن یکون بمعناه اللغوی، فلا محالة یکون قد جرد عنه تماماً واستعمل فی معنی جامد بسیط، وهوالنفس الناطقة، فإنه بهذا المعنی یصلح أن یکون فصلاً حقیقیاً ومقوماً، علی أساس أن نظر المناطقة إلی حقائق الأشیاء من الجنس والفصل الذاتیین، لا إلی الأوضاع اللغویة والمعانی العرفیة، فلذلک جعلوا الناطق أسماءً للنفس الناطقة، وهو بهذا المعنی فصل حقیقی للانسان.

وعلی هذا فلا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق لغة وعرفاً دخول العرض العام فی الفصل الحقیقی، لما عرفت من أن الناطق أو ما شاکله لیس بمعناه اللغوی فصلاً، وإنما هو فصل بمعنی آخر، وهو النفس الناطقة التی هی صورة

ص:353

الانسان وحقیقته، ومن هنا یظهر أن اعتراض المحقق الشریف بأن مفهوم الشیء لو کان مأخوذاً فی مدلول المشتق، لزم دخول العرض العام فی الفصل مبنی علی الخلط بین المسألتین، لأن مفهوم الشیء لو کان مأخوذاً فیه، لزم دخول العرض فی معناه اللغوی لا فی الفصل الحقیقی کما تخیّله.

هذا إضافة إلی أن هذا الوجه لو تمّ فإنه یمنع عن دخول مفهوم الشیء فی مدلول المشتق، ولا یمنع عن دخول النسبة فیه، بأن یکون المشتق موضوعاً للمبدأ ونسبته إلی الذات، ولا یلزم منه أیّ محذور.

ودعوی أن أخذ النسبة فی مدلول المشتق یستلزم أخذ الذات فیه أیضاً لاستحالة تقوم النسبة بطرف واحد.

مدفوعة، فإن استحالة ذلک إنما هی بلحاظ أنها متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو الخارج، ولکن هذا لا یقتضی استحالة وضع اللفظ مع طرف واحد، لأن عملیة الوضع عملیة اختیاریة للواضع، فإن له أخذ شیء فی المعنی الموضوع له قیداً، وله عدم أخذه فیه کذلک، فاللفظ علی الأول یدل علی المعنی المقید به لا أکثر، وعلی الثانی علی المعنی المطلق کذلک، وفی المقام لامانع من وضع المشتق بإزاء المبدأ والنسبة بدون أخذ الذات فیه، فإنه حینئذ لایدل إلا علی المبدأ ونسبته إلی الذات دون نفس الذات، وهذا لیس معناه قیام النسبة بطرف واحد، بل دلالة اللفظ علیها مع طرف واحد. ومن هنا فالحروف موضوعة للنسب والروابط فحسب بدون أخذ أطرافها فی معناها الموضوع له، مع أنها متقومة بها ذاتاً وحقیقة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن شیئاً من الوجوه التی استدل بها علی بساطة مفهوم المشتق لایتم، فلا یمکن القول حینئذ بالبساطة.

ص:354

وأما الکلام فی المقام الثانیة وهی القول بأن مفهوم المشتق مرکب من الذات والمبدأ والنسبة بینهما، فنقول إن المراد من الذات المأخوذة فی مفهوم المشتق هوالذات المبهمة غایة الابهام ومعراة عن کل خصوصیة من الخصوصیات العرضیة ما عدا قیام المبدأ بها، ولیس المراد منها مصداقها، فلنا دعویان:

الاُولی: أن مصداق الذات والشیء غیر مأخوذ فی مفهوم المشتق.

الثانیة: أن المأخوذ فیه مفهوم الشیء والذات بنحو الابهام.

أما الدعوی الاُولی فهی باطلة جزماً، لأن لازم ذلک أن یکون المشتق من متکثر المعنی، بأن یکون الوضع فیه عاماً والموضوع له خاصاً، وهذا خلاف الارتکاز العرفی منه فطرة، لأن المرتکز منه کذلک معنی واحد مبهم غایة الابهام، ولهذا یقبل الحمل علی الواجب تعالی کقولک «اللَّه عالم وقادر وحیّ» وهکذا، وعلی الممکن بشتی أنواعه من الماهیات المتأصلة کالجواهر والأعراض والماهیات الاعتباریة والانتزاعیة، وعلی الممتنع کقولک «شریک الباری ممتنع» و «اجتماع النقیضین مستحیل» وهکذا، والجمیع علی نسق واحد.

وأیضاً لازم ذلک أن یکون استعمال المشتق فی الذات المتلبسة بالمبدأ المعراة عن الخصوصیات العرضیة مجازاً، لأنه استعمال فی غیر معناه الموضوع له، وأن یکون المشتق مجملاً إذ لم تکن هناک قرینة علی تعیین المصداق، باعتبار أن حکمه حینئذ حکم اللفظ المشترک، فلا یدل علی التعیین.

ودعوی أن جعل المصداق موضوعاً فی القضیة یدل علی أنه مأخوذ فی مدلول المشتق.

مدفوعة بأن المشتق لا یکون محمولاً دائماً، بل قد یکون محمولاً وقد لا

ص:355

یکون، کما فی مثل قولنا «أکرم العالم» و «لا تصلّ خلف الفاسق» وهکذا، فإنه لایکون محمولاً فی مثل هذه الموارد مع أن استعماله فیها کاستعماله فیما إذا کان محمولاً بلا فرق بینهما أصلاً.

والخلاصة أن القول بأن المأخوذ فی مفهوم المشتق الشیء لا یرجع إلی معنی محصل.

وأما الدعوی الثانیة وهی أن المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء المبهم من جمیع الجهات والخصوصیات حتی من جهة خصوصیة أنه عین المبدأ خارجاً کما فی صفات الباری عز وجل الذاتیة، فیدل علیها أمران:

الأول: أن المتبادر من المشتق عند إطلاقه ارتکازاً وفطرة هو تلبس الذات المبهمة بالمبدأ، فإذا قیل «زید عالم» تمثل فی النفس ذات مبهمة متلبسة بالعلم، وتنطبق فی المثال علی زید، ومن الواضح أن هذا التبادر الارتکازی الموافق للفطرة فی أعماق النفس دلیل قطعی علی أن مفهوم الشیء والذات المبهمة مأخوذ فی مدلول المشتق وضعاً، وحیث إنه مبهم من جمیع الجهات حتی من جهة اتحاده مع المبدأ، فلهذا یصدق علی الجمیع من الجوهر والعرض والأمر الاعتباری والانتزاعی والزمان وما فوقه من الواجب تعالی وغیره علی نسق واحد بدون لحاظ أیة عنایة فی شیء منها.

الثانی: أنه لا شبهة فی صحة حمل المشتق بما له من المعنی المرتکز فی الذهن علی الذات فی الخارج، کقولنا «زید عالم» و «الانسان ضاحک» وهکذا، ومن الواضح أنه لا یمکن تصحیح هذا الحمل بدون أخذ مفهوم الذات فی مدلول المشتق، لأن المبدأ مغایر للذات مفهوماً وعیناً، وقد مرّ أن صحة الحمل ترتکزعلی رکیزتین: الاُولی: اتحاد المحمول مع الموضوع فی عالم الوجود، والثانیة:

ص:356

مغایرتهما فی عالم المفهوم، وبانتفاء أیة من الرکیزتین فلا موضوع للحمل، وفی المقام حیث إن المبدأ مغایر للذات فی الوجود الخارجی والمفهوم الذهنی معاً فلایمکن حمله علیها، ومجرد اعتباره لا بشرط ومتحداً مع الذات لا یوجب اتحاده معها خارجاً وقلبه عما کان علیه فی الواقع من المغایرة والمباینة، بداهة أن المغایرة بینهما واقعیة لا اعتباریة لکی تنتفی باعتبار آخر، فإذن لا قیمة لاعتبار المبدأ لابشرط، ولا یوجب صحة حمله علی الذات التی هی منوطة بأن یکون متحداً معها فی الخارج حقیقة. هذا،

ولکن المحقق النائینی قدس سره قد أصر فی المقام علی أن اعتبار المبدأ لا بشرط ولحاظه متحداً مع الذات یکفی فی صحة حمله علیها، ولذلک بنی علی أن الذات غیر مأخوذة فی مفهوم المشتق، وقد أفاد فی وجه ذلک أن وجود العرض فی نفسه عین وجوده لموضوعه، وهذا لا بمعنی أن له وجودین: أحدهما لنفسه والآخرلموضوعه، لاستحالة أن یکون لماهیة واحدة وجودان، بل بمعنی أن وجوده النفسی عین وجوده الرابطی لموضوعاته.

وإن شئت قلت: إن للعرض وجوداً واحداً فی الخارج، ولکن له حیثیتان: الاُولی حیثیة أنه لنفسه، والثانیة حیثیة أنه لموضوعه، وعلی هذا فإن لوحظ العرض من الحیثیة الاُولی أی بما أنه شیء من الأشیاء وموجود من الموجودات فی الخارج بحیاله واستقلاله فی مقابل وجود الجوهر کذلک، فهو بهذا الاعتبار واللحاظ عرض مباین لموضوعه وجوداً وغیر محمول علیه، وإن لوحظ من الحیثیة الثانیة أی بما هو واقعه فی الخارج بلا أی مؤنه اخری وأن وجوده فی نفسه عین وجوده لموضوعه فیه، فهو بهذا اللحاظ والاعتبار عرضی ومشتق وقابل للحمل علی موضوعه ومتحد معه، حیث إنه من شؤونه وأطواره،

ص:357

فإن شأن الشیء لا یباینه.

والخلاصة أن للمبدأ لحاظین: أحدهما لحاظه موجوداً فی الخارج بحیاله واستقلاله فی مقابل الذات، والآخر لحاظه لا بشرط أی بما هو واقعة الموضوعی، وهو أن وجوده فی نفسه عین وجوده لموضوعه، ولا یمکن حمله علیها باللحاظ الأول، وأما باللحاظ الثانی فلا مانع منه، لأنه بهذا اللحاظ متحد معها بنحو من أنحاء الاتحاد فی الخارج(1). هذا،

وقد علق علیه السید الاُستاذ قدس سره بعدة وجوه:

الوجه الأول: أن ما ذکره قدس سره من الفرق لیس فارقاً بین المشتق ومبدئه، بل هو فارق بین المصدر واسم المصدر، فإن العرض کالعلم مثلاً متحیّث بحیثیتین واقعیتین: الاُولی حیثیة وجوده فی نفسه، والثانیة حیثیة وجوده لموضوعه، فیمکن أن یلحظ مرة بالحیثیة الاُولی، وهی أنه شیء من الأشیاء وموجود من الموجودات بحیاله، واستقلاله فی مقابل وجود الجوهر، وبهذا الاعتبار یعبر عنه باسم المصدر، ومرة اخری بالحیثیة الثانیة، وهی أن وجوده فی نفسه عین وجوده لموضوعه، وأنه طور من أطواره، وبهذا الاعتبار یعبّر عنه بالمصدر، حیث قد اعتبر فیه الاسناد إلی فاعل ما دون اسم المصدر.

وبکلمة، إن اسم المصدر وضع للدلالة علی الوجود المحمولی فی قبال العدم المحمولی، والمصدر وضع للدلالة علی الوجود النعتی فی مقابل العدم النعتی، فماذکره قدس سره لیس فارقاً بین المشتق ومبدئه، وإنما هو فارق بین المصدر واسم المصدر(2).

ص:358


1- (1) أجود التقریرات ج 1 ص 107.
2- (2) (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 277.

ویمکن نقد هذا الوجه من عدة جهات:

الاُولی: ما تقدم موسعاً فی باب الوضع من أن الألفاظ لم توضع بإزاء الموجودات الخارجیة ولا الموجودات الذهنیة، وإنما هی موضوعة بإزاء طبیعی المعنی الذی قد یوجد فی الذهن وقد یوجد فی الخارج، بدون أن یکون الوجود الذهنی أو الخارجی قیداً له.

هذا إضافة إلی أن لازم الوضع بإزاء الموجود الخارجی کون المدلول الوضعی مدلولاً تصدیقیاً، وهو لا یمکن إلا علی القول بالتعهد.

وعلی هذا فالمصدر لم یوضع للوجود النعتی واسم المصدر للوجود المحمولی، إلا أن یکون مراده قدس سره من ذلک وضع المصدر بإزاء معنی فان فی الوجود النعتی فی الخارج، واسم المصدر بإزاء معنی فان فی الوجود المحمولی فیه، ولکن إرادة ذلک من کلامه قدس سره بحاجة إلی قرینة.

الثانیة: ما تقدم آنفاً من أن المصدر لم یوضع لنسبة المادة إلی الذات، وإنماوضع بإزاء خصوصیة قائمة بالمادة کالصدوریة أو الحلولیة ونحوهما، وتلک الخصوصیة غیر النسبة، لأنها متقومة بالطرفین، فلا یمکن قیامها بطرف واحد، بینما هی قائمة بطرف واحد، واسم المصدر وضع بإزاء الحدث بما هو بدون لحاظ أی خصوصیة معه، وهذا الفرق بینهما إنما هو بحسب المفهوم، وذلک لا یمنع عن وحدتهما فی الوجود الخارجی.

الثالثة: الظاهر أن المحقق النائینی قدس سره أراد بذلک الفرق بین المشتق والمصدر، لابینه وبین مبدئه، ولا بین المصدر واسم المصدر، بقرینة أنه قدس سره ذکر أن للعرض فی مقابل الجوهر حیثیتین واقعیتین، وهما حیثیة وجوده فی نفسه، وحیثیة وجوده لموضوعه، فإن لوحظ من الحیثیة الاُولی فهو عرض ومصدر ومباین للذات

ص:359

وجوداً ولا یقبل الحمل علیها، وإن لوحظ من الحیثیة الثانیة فهو عرضی ومشتق یقبل الحمل، باعتبار أنه من شؤونه وأطواره ومن مراتب وجوده، وشؤون الشیء لا تکون أجنبیة عنه.

الوجه الثانی: لا ریب فی أن وجود العرض فی الخارج فی مقابل وجود الجوهر فیه، وأنه مباین له وإن کان یختلف عنه سنخاً، لأن وجود الجوهر فی نفسه لنفسه، ووجود العرض فی نفسه لغیره، وهذا لیس بمعنی أن وجوده من حدود وجوده وأنه لیس هناک إلا وجود واحد وهو وجود الجوهر، بل بمعنی أن وجوده فی نفسه عین وجوده لموضوعه، لا أنه عین وجود موضوعه.

وبکلمة، إنه لولم یکن فی الخارج إلا وجود واحد وهو وجود الجوهر، والعرض من حدود وجوده ومرتبة من مراتبه ولیس موجوداً مستقلاً فی مقابله فلا شبهة فی صحة حمله علیه، لمکان الاتحاد بینهما، ولکن هذا مجرد افتراض لاواقع موضوعی له، بداهة أن العرض لیس من حدود وجود الجوهر، بل هومباین له وجوداً، وعلیه فمجرد اعتباره لا بشرط بالنسبة إلی موضوعه لا یؤثرفی الواقع ولا یوجب انقلابه عما کان علیه من المغایرة، ضرورة أنها لیست بالاعتبار، فإذن لا یمکن القول بأن العرض إن لوحظ لا بشرط وعلی ما هو علیه فی الواقع، فهو من شؤون موضوعه وطور من أطواره، وشؤون الشیء لاتباینه، وإن لوحظ بشرط لا وعلی حیاله واستقلاله وأنه شیء من الأشیاء فی الخارج فی مقابل موضوعه فیه، فهو مغایر له ولا یمکن حمله علیه، وذلک لأن العرض لو کان متحداً مع الجوهر وجوداً فی الخارج بأن یکونا موجودین بوجود واحد فیه، صح حمله علیه سواء أکان ملحوظاً لا بشرط أم لا، وإن کان مغایراً معه وجوداً فی الخارج، بأن یکون هناک وجودان: أحدهما وجود

ص:360

العرض، والآخر وجود الجوهر، لم یصح حمله علیه وإن اعتبره لا بشرط (1).

وغیر خفی أن ما أفاده السید قدس سره من أنه لا أثر لاعتبار المبدأ لا بشرط، فإنه لا یصحح حمله علی الذات بعد ما کان مغایراً لها وجوداً، صحیح وغیر قابل للمناقشة لا نظریاً ولا تطبیقیاً، ولکن یمکن أن یقال إن نظر المحقق النائینی قدس سره لیس إلی ذلک، بل إلی واقع لا بشرط، بمعنی أن لحاظ المعنی لا بشرط تارة یکون بنحو الموضوعیة واُخری بنحو الطریقیة، ولا یبعد أن یکون نظره قدس سره فی المقام إلی الثانی، بقرینة أنه قدس سره قال فی مقام الفرق بین العرض والعرضی (المبدأ والمشتق) أن ماهیتهما واحدة بالذات والحقیقة، والفرق بینهما إنما هو بالاعتبار واللحاظ، ببیان أن لماهیة العرض حیثیتین واقعیتین: إحداهما حیثیة وجودة فی نفسه، والاُخری حیثیة وجوده لموضوعه، فهی تارة تلحظ من الحیثیة الاُولی وبما هی موجودة فی حیالها واستقلالها وأنها شیء من الأشیاء فی قبال وجودات موضوعاتها، فهی بهذا اللحاظ والاعتبار عرض معنون بعنوان البشرط لائیة وغیر محمول علی موضوعه لمکان المباینة بینهما، واُخری تلحظ بما هی موجودة فی الواقع ونفس الأمر وأن وجودها فی نفسها عین وجودها لموضوعها ومن مراتب وجوده، فهی بهذا الاعتبار عرضی ومشتق معنون بعنوان اللا بشرطیة ومحمول علی الذات، وهذا الکلام منه قدس سره یدل علی أن نظره إلی اللا بشرطیة والشرط لائیة لیس بنحو الموضوعیة، بل بنحو الطریقیة والمعرفیة الصرفة.

ولکن هذا أیضاً غیر تام، وذلک لأن صحة حمل العرض علی موضوعه مبنیة علی فرضیة، وعدم صحة حمله علیه مبنی علی فرضیه اخری.

أما الفرضیة الاُولی فهی ترتکز علی رکیزة واحدة، وهی أن الموجود فی

ص:361


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 278.

الخارج واحد وهو وجود الجوهر، وأما العرض فلا وجود له فی قبال وجوده، وإنما هو شأن من شؤون وجوده وحدوده، وحدّ الشیء نفس الشیء ولا یغایره، وعلیه فیصح الحمل لمکان الاتحاد.

وهذه الفرضیة وإن کانت لا واقع موضوعی لها ومخالفة للوجدان الموافق للفطرة، إلا أنه مع ذلک قیل إنه لم یقم برهان فی الفلسفة علی أن للعرض وجوداً فی الخارج فی قبال وجود الجوهر، ولهذا نسب إلی بعض الفلاسفة أن الصور العلمیة العارضة علی النفس من مراتب وجودها وحدوده، ولیس لها وجود فی قبال وجودها، حیث إن هناک وجوداً واحداً وهو وجود النفس، وتلک الصور العارضة علیها من مراتب ذلک الوجود وحدوده، فإذا کانت الصور المذکورة التی هی من مقولة الکیف النفسانی متحدة مع النفس، کان الأمر کذلک فی سائرالمقولات العرضیة أیضاً، إذ الفرق غیر محتمل(1) ، وعلی هذا فلو أراد قدس سره من ذلک أن العرض شأن من شؤون موضوعه وطور من أطواره وأنه لا وجود له فی الخارج إلا وجود موضوعه، ففیه أن حمله علی الذات حینئذ وإن کان صحیحاً لمکان الاتحاد بینهما وجوداً، إلا أن ذلک مجرد افتراض لا واقع موضوعی له، إذلا شبهة فی أن وجود العرض غیر وجود الجوهر فی الخارج، وهما نحوان وسنخان من الوجود فیه، وهذا أمر لا یقبل الشک کما تقدم.

وأما الفرضیة الثانیة فهی تبتنی علی أن وجود العرض مباین لوجود الجوهرفی الخارج، وهما سنخان متباینان من الوجود، فإن وجود العرض وجود یتوقف علی موضوع محقق فیه ولا یمکن وجوده بدونه، بینما وجود الجوهر وجود مستقل فلا یتوقف علی ذلک، فإذن کیف یعقل أن یکون وجود العرض

ص:362


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 326.

عین وجود الجوهر فی الخارج ومن حدود وجوده، وعلی ضوء ذلک فلا یمکن الحمل لمکان المغایرة، وملاک صحة الحمل الاتحاد.

وعلیه فما ذکره المحقق النائینی قدس سره - من أن العرض إن کان ملحوظاً من حیث وجوده فی نفسه وأنه شیء من الأشیاء فی الخارج فی مقابل الجوهر، فهو مباین له وغیر قابل للحمل علیه، وإن کان ملحوظاً من حیث أن وجوده فی نفسه عین وجوده لموضوعه وأنه من شؤونه، فهو قابل للحمل علیه - لا یرجع إلی معنی صحیح، فإنه إن ارید بالشؤون أنه من حدود وجود موضوعه فی الخارج ولاوجود له فیه إلا وجود موضوعه فیه، فیرده أنه خلاف مفروض کلامه، لأن مفروض کلامه أن للعرض وجوداً فی الخارج فی مقابل وجود الجوهر، وأن هناک سنخین من الوجود: وجوداً فی نفسه لنفسه، ووجوداً فی نفسه لغیره، والأول وجود الجوهر والثانی وجود العرض، وإن ارید بها أنه من عوارضه فی الخارج ولا یوجد بدون وجوده فیه، ففیه أن الأمر وإن کان کذلک إلا أن معنی هذا أن له وجوداً فیه فی قبال وجود موضوعه، غایة الأمر أن سنخ وجوده یختلف عن سنخ وجود موضوعه، ونتیجة ذلک عدم صحة حمله علیه.

الثالث: أن ما أفاده المحقق النائینی قدس سره من أن العرض قد یلحظ بنفسه بمفادکان التامة، وقد یلحظ بما هو قائم بموضوعه فی الخارج بمفاد کان الناقصة لو تم فإنما یتم فی المشتقات التی تکون مبادئها من المقولات الحقیقیة التی لها وجود فی الخارج، ولا یتم فی المشتقات التی تکون مبادئها من الاُمور الاعتباریة أو الانتزاعیة التی لا وجود لها فی الخارج لکی یلحظ تارة بنفسه وبمفاد کان التامة، واُخری بما هو قائم بموضوعه وبمفاد کان الناقصة(1).

ص:363


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 279.

وغیر خفی أن هذا التعلیق بدل ما یبرهن عدم صحة حمل المشتقات التی تکون مبادئها من الاُمور الاعتباریة أو الانتزاعیة یبرهن الفرق بینها وبین المشتقات التی تکون مبادئها من الأعراض، وحینئذٍ فبإمکان المحقق النائینی قدس سره أن یدعی أن صحة حمل تلک المشتقات علی الذوات لا تتوقف علی لحاظ مبادئهالا بشرط لکی یقال إنها لا توجد فی الخارج حتی تلحظ کذلک، بینما صحة حمل هذه المشتقات تتوقف علی ذلک، فإذن لا مجال لهذا التعلیق. هذا،

ولکن الصحیح فی الجواب أن یقال: إن المبدأ إذا کان من المقولات فقد تقدم أن وجوده فی الخارج مباین لوجود موضوعه واقعاً وحقیقة، ولا یجدی لحاظه لا بشرط، لا بنحو الموضوعیة ولا بنحو الطریقیة، وأما إذا کان المبدأ أمراً اعتباریاً أو انتزاعیاً کالملکیة أو الزوجیة أو نحوها، فلا یکون عنواناً لمصداق الموضوع فی الخارج لکی ینطبق علیه انطباق العنوان علی المعنون، فإذن لا یتوفرفیه ملاک صحة الحمل، وقد مرّ أن ملاک صحته إما اتحاد المحمول مع الموضوع فی الوجود الخارجی بأن یکونا موجودین بوجود واحد فیه أو انطباق المحمول مع الموضوع علی موجود واحد، وکلا الملاکین غیر متوفر فی المقام، أما الأول فهوواضح، وأما الثانی فلأن المبدأ لیس عنواناً لمصداق الموضوع فی الخارج لکی ینطبق علیه انطباق العنوان علی المعنون، مثلاً قولنا «زید مالک» لا یمکن أن یکون المالک بلحاظ مدلوله الوضعی البسیط وهو الملکیة عنواناً لزید فی الخارج، لأن کونه عنواناً له لا یمکن إلا بلحاظ اشتماله علی الذات، بأن یکون مفهومه مرکباً منها ومن المبدأ، وأما المبدأ فهو بنفسه لایصلح أن یکون عنواناً للموضوع فی الخارج، لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ منشأ انتزاعه، وهذا بخلاف مفهوم الشیء والذات، فإنه وإن کان من المفاهیم الانتزاعیة التی لا وجود لها فی الخارج، إلا أنه لما کان بنفسه عنواناً للموضوع فی الخارج صحّ حمله علیه کقولک

ص:364

«زید شیء له الکتابة..» مثلاً.

الرابع: أن ما أفاده قدس سره لو تم فی المشتقات التی تکون مبادئها وضعاً للذات سواء أکان من المقولات أم من الاعتبارات أو الانتزاعات، ولا یتم فی المشتقات التی لا یکون المبدأ فیها صفة للذات، کما فی أسماء الأزمنة والأمکنة وأسماء الآلة، لأن اتحاد المبدأ فیها مع الذات غیر معقول، لأن المبدأ فی اسم الزمان کالمقتل هوالقتل، والذات فیه الزمان، وفی اسم المکان المکانُ، ولا یعقل اتحاده لا مع الزمان ولا مع المکان وکذلک الحال فی اسم الآلة کالمفتاح، فإن المبدأ فیه وهو الفتح لایعقل أن یکون متحداً مع الذات فیه وهو الحدید مثلاً، وأوضح من ذلک کله المشتقات التی تکون مبادئها من الأعیان الخارجیة کالبقال والتامر واللابن وماشاکل ذلک، فإن المبدأ فی الأول البقل، وفی الثانی التمر، وفی الثالث اللبن، ومن الواضح أن شیئاً من هذه المبادیء لا یعقل أن یتحد مع الذات.

والخلاصة: أنا لو سلمنا الوصف متحد مع موضوعه فی الوعاء المناسب له من الذهن أو الخارج بلحاظ أن الوصف شأن من شؤون الموصوف ومن حدود وجوده، فلا نسلم اتحاده مع زمانه أو مکانه أو آلته وغیر ذلک من ملابساته(1).

ویمکن نقده أیضاً، فإن لحاظ المبدأ قائماً بموضوعه قیام صدور أو حلول إنماهو باعتبار أنه متلبس به بنحو من أنحاء التلبس من الصدوری أو الحلولی، ولایمکن تحققه بدون ذلک، وهذا الملاک موجود بالنسبة إلی زمانه ومکانه وآلته، بداهة أن المبدأ کما هو بحاجة إلی فاعل ما کذلک بحاجة إلی زمان ومکان وآله، لأن کل فعل زمانی لا یعقل أن یوجد بدون شیء من ذلک، وعلی هذا فالمبدأ کما أنه قائم بالفاعل قیام صدور أو حلول، کذلک إنه قائم بظرف الزمان أو المکان

ص:365


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 280.

قیام المظروف بالظرف أو بالآلة قیام ذیها بها، غایة الأمر أن قیامه بالفاعل یکون علی أحد النحوین المذکورین، وقیامه بالزمان والمکان والآلة علی نحوواحد، وهو قیام المظروف بالظرف وقیام ذی الآلة بها، مثلاً القتل مبدأ للقتل، فإنه کما یکون وصفاً لموضوعه وهو القائل، یکون وصفاً لزمانه ومکانه أیضاً، والفتح فی المفتاح فإنه کما یکون وصفاً لموضوعه وهو الفاتح، یکون وصفاً لآلته أیضاً وهی الحدید وهکذا، وأما المبدأ فی مثل اللابن والتامر والبقال ونحو ذلک، فهو لیس من الأعیان الخارجیة، بل هو من الحرف، ومن هنا یصدق التامرواللابن والبقال علی الشخص حقیقة وإن لم یکن مشغولاً به فعلاً، بل کان مسافراً أو نائماً أو غیر ذلک، کأصحاب الملکات من المجتهد و المهندس والطبیب والبناء والنجار والخیاط وما شاکل ذلک، ومن الواضح أن المهن والحرف أوصاف لاربابها کالأعراض التی هی أوصاف لمعروضاتها.

فالنتیجة أنه لا فرق بین أسماء الأزمنة والأمکنة والآلة وبین سائر المشتقات، فکما أن المبدأ فی تلک المشتقات وصف من أوصاف الذات وقائم بها فکذلک فی هذه الأسماء، غایة الأمر أن قیامه بها هناک قیام صدور أو حلول، وأما قیامه بها هنا قیام المظروف بالظرف وقیام ذی الآلة بها. هذا،

وقد اجیب عن ذلک بأنه یمکن التخلص عن هذا الاعتراض بافتراض أن المبدأ فی أسماء الأزمنة والأمکنة لیس هو الحدث، بل المحلیة والمعرضیة للحدث التی تکون نسبتها إلی الزمان والمکان نسبة العرض إلی موضوعه(1).

وفیه: أنه لا یمکن الالتزام به، لوضوح أن المبدأ فی مثل المقتل القتل لا المعرضیة والمحلیة، نعم المعرضیة صفة للذات المنتزعة من وقوع المبدأ فیها

ص:366


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 326.

لا أنها مبدأ.

إلی هنا قد تبین أن تعلیقات السید الاُستاذ قدس سره علی ما ذکره المحقق النائینی من أن صحة حمل المشتق علی الذات لا تتوقف علی أخذ مفهومها فیه وإن کانت قابلة للمناقشة فی صیغها الخاصة، إلا أن المجموع من حیث المجموع یدل علی أن ما أفاده قدس سره غیر صحیح، لأن وجود العرض إذا کان مبایناً لوجود الجوهرفی الخارج، فلا یکفی مجرد قیامه به خارجاً وعروضه علیه فی صحة الحمل بعدتغایرهما وجوداً.

لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أنه لا یمکن حمل المشتق علی الذات علی القول ببساطة مفهومه، فلذلک لا مناص من الالتزام بالقول بأن مفهومه مرکب من الذات المبهمة المعراة عن جمیع الخصوصیات العرضیة والمبدأ، فیصح حینئذ حمله علیها، ویکون من حمل الطبیعی علی فرده فی الخارج علی ماتقدم تفصیله فی ضمن البحوث السالفة.

ثم إن هنا قولاً ثالثاً فی مقابل القول بالبساطة والترکیب، وهو أن مادة المشتق موضوعة لطبیعی الحدث، وهیئته موضوعة للنسبة بینه وبین الذات، وأما الذات فهی غیر مأخوذة فی مدلوله، وقد اختار هذا القول المحقق العراقی قدس سره وأفاد فی وجه ذلک أن الاستقراء فی وضع الهیئات بشتی أنواعها وأشکالها من الهیئات الافرادیة والهیئات الترکیبیة فی اللغات، یشهد بأن کل هیئة موضوعة بإزاء النسبة، ومن الواضح أن هیئة المشتق لا تکون خارجة عنها، ونتیجة ذلک أن مادة المشتق موضوعة بإزاء الحدث، وهیئته موضوعة بإزاء النسبة أی نسبة الحدث إلی الذات، فالذات خارجة عن مدلولها، وحیث إنه ملتفت إلی أن هناک إشکالاً متجه علیه علی أساس هذا القول وهو أن معنی المشتق علی هذا معنی

ص:367

حرفی فلا یصح حمله علی الذات، مع أن صحة حمله علیها من الواضحات الأولیة، فلهذا حاول دفع هذا الاشکال عنه وعلاج هذه النقطة بمحاولتین:

المحاولة الأولی: أن هیئة المشتق وإن کانت موضوعة بإزاء نسبة المادة إلی الذات، إلا أن النسبة بما أنها متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو الخارج واستحالة قیامها بطرف واحد، فهی تدل علی الذات بالدلالة الالتزامیة، بملاک أنها أحد طرفی مدلولها الوضعی، وعلیه فصحة حمله علی الذات إما هی بلحاظ مدلوله الالتزامی دون المطابقی.

المحاولة الثانیة: أن مدلول هیئة المشتق بما أنه النسبة الاتحادیة بین الذات والمبدأ، فلا مغایرة بینها وبین الذات فی الخارج، والتغایر بینهما إنما هو فی الذهن، وعلی هذا فالنسبة متحدة مع الذات فی الخارج ومتغایرة معها فی الذهن، وهذاهو ملاک صحة حمل المشتق علی الذات(1).

ولنأخذ بالنقد علی کلتا المحاولتین:

أما المحاولة الاُولی فیرد علیها أنه لا شبهة فی أن المشتق فی مثل قولنا «زیدعالم» محمول علی «زید» بماله من المعنی الموضوع له، لا أنه مستعمل فی مدلوله الالتزامی مجازاً وهو محمول علیه، لوضوح أنه لا فرق بین أن یکون المشتق محمولاً فی قولنا «زید عالم» وبین أن لا یکون محمولاً کما فی قولنا «جاء عالم» فان «العالم» فی کلام المثالین مستعمل فی معنی واحد، لا أنه فی المثال الأول مستعمل فی مدلوله الالتزامی مجازاً دون الثانی.

فالنتیجة أن المشتق سواء أکان محمولاً فی القضیة أم لا، فهو مستعمل فی معناه

ص:368


1- (1) نهایة الافکار ج 1 ص 143, ونقله عنه فی بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 327.

الموضوع له، لا أنه إذا کان محمولاً فی القضیة، فمستعمل فی مدلوله الالتزامی مجازاً، وإذا لم یکن محمولاً فیها، فمستعمل فی مدلوله المطابقی، فإنه خلاف الضرورة عرفاً.

هذا إضافة إلی أن لازم ذلک صحة حمل المصدر علی الذات، بناء علی المشهورمن أن هیئة المصدر موضوعة للنسبة بین الذات والحدث، وحینئذ فتکون الذات مدلولاً التزامیاً للمصدر، فیصح عندئذ حمله علی الذات بلحاظ مدلوله الالتزامی، مع أن حمله علی الذات غیر صحیح حتی علی المشهور، بل هو قدس سره أیضاً لا یری صحة حمله علی الذات.

وقد أجاب عن ذلک بعض المحققین قدس سره بأن المشتق الذی یدل بالدلالة الالتزامیة علی أخذ الذات طرفاً للنسبة لا یدل علی أنها طرف لها بنحو المقید، یعنی ذات متلبسة بالمبدأ، أو بنحو القید یعنی مبدأ لذات، والذی یجدی فی صحة الحمل هو الأول دون الثانی(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أن أخذ الذات طرفاً للنسبة بنحو المقید لایحتاج إلی عنایة زائدة، بل هو علی القاعدة، باعتبار أن المبدأ وصف من أوصاف الذات وعرض من أعراضها فی المرتبة السابقة علیه، وما یعرض علیها فبطبیعة الحال یکون من حالاتها وقیودها منها المبدأ، وأما العکس وهو أن یکون المبدأ مقیداً والذات قیداً له، فهو بحاجة إلی عنایة زائدة، وعلی هذا فبطبیعة الحال یدل المشتق بالدلالة الالتزامیة علی أن الذات المأخوذة طرفاً للنسبة مأخوذة بنحوالمقید دون القید، ولا فرق بین أن تکون مأخوذة فی مدلوله المطابقی أو الالتزامی، فإنه علی کلا التقدیرین یکون أخذها بنحو المقید یعنی ذات متلبسة

ص:369


1- (1) بحوث فی علم الاصول ج 1 ص 328.

بالمبدأ لا بنحو القید یعنی مبدأ لذات، فإنه یشبه الأکل من القفاء، فإذن یکون المنساق والمتبادر من کون الذات طرفاً للنسبة، کونها طرفاً لها بنحو المقیدکما هومقتضی طبع القضیة.

وأما المحاولة الثانیة فهی لا ترجع إلی معنی محصل.

أما أولاً فلأن الکلام فی المقام فی صحة حمل المشتق علی الموضوع فی القضیة وعدم صحته إذا لم تؤخذ الذات فی مدلوله، وأما وضع المشتق بإزاء النسبة بین الذات والمبدأ، فهو لا یرتبط بذلک ولا یعالج المشکلة، لأن المبدأ إن کان متحداً مع الذات فی الخارج صح حمله علیها لمکان الاتحاد، لا من جهة أن المشتق موضوع للنسبة الاتحادیة، وإن کان مغایراً معها فیه لم یصح حمله علیها، لمکان المغایرة وإن کان المشتق موضوعاً بإزاء النسبة المذکورة.

وثانیاً إنه قدس سره إن أراد بالنسبة الاتحادیة النسبة بین الذات والمبدأ إذا کانتا متحدتین فی الخارج، فیرد علیه أن النسبة حینئذ لا تتصور بینهما، لأنها متقومة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها المتغایرین فی الذهن أو الخارج، وإن أرادبها النسبة بینهما فی الذهن وأنها متحدة مع طرفیها فی الخارج إذا کانا متحدین فیه، فیرد علیه أنها لا تعقل أن تتحد مع طرفیها فیه، لأنها إذا کانت متقومة ذاتاً بشخص وجود طرفیها فی الذهن یستحیل أن تتحد معهما وجوداً فی الخارج، وإن أراد بها أن النسبة بما أنها متقومة بالذات والحقیقة بشخص وجود طرفیها، علی أساس أنهما من المقومات الذاتیة لها وبمثابة الجنس والفصل للنوع، فلامحالة تکون متحدة معهما، فیرد علیه أن تقومها بهما غیر تقوم النوع بالجنس والفصل، لأن معنی تقوم النوع لهما أنهما تمام الذات له، ومعنی تقوم النسبة بطرفیها أنها بذاتها وحقیقتها بما أنها تعلقیة یستحیل تحققها بدون طرفیها، لا أن

ص:370

طرفیها تمام الذات لها.

فالنتیجة أن ما ذکره قدس سره من أن هیئة المشتق موضوعة للنسبة الاتحادیة بین الذات والمبدأ لا یرجع إلی معنی معقول.

هذا کله مضافاً إلی أن المنساق والمتبادر من المشتق عرفاً عند الاطلاق هوالذات المتلبسة بالمبدأ لا غیر.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أن الصحیح من الأقوال فی المسألة، هو القول بأن مدلول المشتق مرکب من الذات والمبدأ والنسبة، هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری إن المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الذات والشیء بنحو الابهام بالنسبة إلی کل خصوصیة من الخصوصیات العرضیة، بحیث لم تلحظ فیه أیّ خصوصیة من تلک الخصوصیات ما عدا قیام المبدأ بها إجمالاً وإن کان قیامه بها بنحو العینیة، ومن هنا یصدق علی الواجب والممتنع والممکن بجمیع أقسامه من جواهره واعراضه وانتزاعیاته واعتباریاته، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون وضع المشتق نوعیاً کما هو الظاهر أو شخصیاً بنحو الوضع العام والموضوع له العام.

نتیجة البحث امور:

الأول: أن المراد من الحال المأخوذ فی عنوان النزاع فی المسألة لیس زمان الحال والنطق فی مقابل زمان الماضی والمضارع، فإن الزمان غیر مأخوذ فی مدلول المشتق، وما قیل من أن المتبادر من مثل قولنا «زید عالم»، «بکر عادل» ونحوهما هو تلبس الذات بالمبدأ فی زمان النطق، وهذا التبادر دلیل علی أنه مأخوذ فی مدلول المشتق، مدفوع بأنه - مضافاً إلی أن هذا التبادر مستند إلی وقوع المشتق فی ضمن الجملة، لا إلی ظهوره فی نفسه - لا یمکن أن یکون زمان

ص:371

النطق مأخوذاً فی مدلوله، لا مفهومه بالحمل الأولی لأنه لیس بزمان، ولا واقعه بالحمل الشائع لأنه أمر تصدیقی، ولا یعقل تقیید المدلول التصوری بقید تصدیقی، لاستحالة الانتقال إلیه بانتقال تصوری، ومن هنا یظهر أنه لا یمکن أن یکون المأخوذ فی مدلول المشتق زمان الجری والاسناد أیضاً بنفس الملاک.

الثانی: أن المراد بالحال هو فعلیة تلبس الذات بالمبدأ وواجدیتها له، وحیث إن فعلیة التلبس أمر زمانی، فلابد أن یقع فی زمان ما.

الثالث: أن محل النزاع فی أن مفهوم المشتق بسیط أو مرکب، إنما هو بلحاظ عالم الواقع والتحلیل العقلی لا بلحاظ عالم الادراک والتصور الساذج، لأن البساطة الادراکیة لحاظاً تجتمع مع کون المفهوم مرکباً واقعاً وحقیقة، وما یظهرمن المحقق الخراسانی قدس سره من أن المراد من البساطة فی محل النزاع البساطة بحسب الادراک والتصور لا بحسب الواقع والتحلیل العقلی، غریب جداً کما تقدم.

الرابع: أن ما ذکره المحقق النائینی قدس سره - من أن مفهوم المشتق لو کان مرکباً من الذات والمبدأ، فلا محالة تکون النسبة بینهما داخلة فیه، وعندئذ فلابد من الالتزام بکون المشتق مبنیاً لا معرباً لمکان المشابهة - غیر تام، لأن کون المشتق معرباً إنما هو من جهة مادته التی هی معنی اسمی، ولا یشبه الحرف من هذه الجهة، وإنما یشبه الحرف من جهة هیئته، وهذه الجهة غیر دخیلة فی إعرابه.

الخامس: تخیل أن أخذ الذات فی مدلول المشتق إنما هو من جهة أنه لا یمکن حمله علیها بدون ذلک، وأما إذا أمکن بدونه من جهة اخری وهی لحاظه لابشرط، فلا موجب لأخذها فیه، لأنه لغو، قد تقدم فساده، لأن أخذ شیء فی المعنی الموضوع له مقام الوضع إنما هو من جهة أن الحاجة تدعو إلی ذلک فی مقام التفهیم والتفهم لا من أجل صحة الحمل، فإنها من صفات المعنی ولیست من

ص:372

دواعی الوضع، هذا إضافة إلی أن المبدأ إذا کان مغایراً للذات وجوداً فی الخارج، فلا أثر للحاظه لا بشرط، فإنه لا یغیر الواقع عما کان علیه من المغایرة إلی الاتحاد، لأنها لیست بالاعتبار حتی تنتفی باعتبار آخر.

السادس: أن الذات لو کانت مأخوذة فی مفهوم المشتق، لزم أخذ النسبة بینهاوبین المبدأ فیه أیضاً، ولازم ذلک اشتمال جملة واحدة کجملة «زید عالم» علی نسبتین فی عرض واحد، وهو مستحیل، ولکن قد تقدم أن الجملة المذکورة لاتشتمل إلا علی نسبة واحدة واقعیة، وهی النسبة بین زید وعالم فی وعائها، وأما المشتق إذا کان مفهومه مرکباً، فهو مشتمل علی نسبة تحلیلیّة لا واقعیة، وهی لیست فی عرض النسبة الواقعیة.

السابع: أن القول بأن صحة إطلاق المشتق علی المبدأ وحده کإطلاق الأبیض علی البیاض والموجود علی الوجود وإطلاق العالم والقادر علی اللَّه عز وجل، دلیل علی أن الذات غیر مأخوذ فی مفهوم المشتق غیر تام، لأنه مبنی علی أن الذات المأخوذة فی مفهومه لابد أن تکون مغایرة للمبدأ خارجاً، ولکن تقدم أنه تکفی المغایرة بینهما مفهوماً وإن کان المبدأ عین الذات خارجاً، کما فی موارد الهلیة البسیطة والصفات العلیا الذاتیة له تعالی.

الثامن: أنه لا یلزم من أخذ الذات فی مفهوم المشتق التکرار، کما ذکره صاحب الکفایة قدس سره.

التاسع: أن أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق لایوجب انقلاب القضیة الممکنة إلی قضیة

ص:373

ضروریة، کما عن صاحب الفصول قدس سره لأن الانقلاب مبنی علی أن یکون المحمول فی القضیة طبیعی الشیء بنحو لا بشرط، والمفروض أنه الشیء المقیّد، وعلیه فإن کان ثبوت القید للموضوع ضروریاً فالقضیة ضروریة، وإن کان ممکناً فالقضیة ممکنة، فلا انقلاب فی البین.

العاشر: أن ما قیل - من أخذ مفهوم الشیء فی مدلول المشتق وإن لم یوجب الانقلاب إلا أن أخذ واقع الشیء فیه یوجب الانقلاب، کما فی مثل قولنا «الانسان کاتب»، فإنه یؤول إلی قولنا «الانسان إنسان له الکتابة»، وحمل الانسان علی الانسان ضروری، لأنه من حمل الشیء علی نفسه - غیر صحیح، لأنه مبنی علی أن یکون القید فی مثل المثال مأخوذاً بنحو المعرفیة والمشیریة بدون أن یکون له دخل فی المحمول أصلاً، وهذا کماتری، ضرورة أنه لا شبهة فی أن قید الکتابة فی المثال ملحوظ بنحو الموضوعیة، وأن المحمول هوالانسان المقید بالکتابة لا طبیعی الانسان، فاذن لا فرق بین أن یکون المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء أو المأخوذ فیه واقعه، فعلی کلا التقدیرین لایلزم الانقلاب.

الحادی عشر: أن ما ذکر من أخذ واقع الشیء فی مدلول المشتق یؤدی إلی انحلال القضیة الواحدة إلی قضیتین: إحداهما ضروریة والاُخری ممکنة مبنی علی أحد الأمرین، وقد علقنا علی کلیهما معاً کما تقدم.

الثانی عشر: أن ما ذکره المحقق الشریف من أن المأخوذ فی مدلول المشتق إن کان مصداق الشیء، لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی قضیة ضروریة، وإن کان مفهوم الشیء، لزم دخول العرض العام فی الفصل، ولکن کلا الاشکالین غیر تام علی تفصیل قد سبق.

الثالث عشر: أن الشیء عرض عام للأشیاء بکافة أنواعها من الواجب والممکن والممتنع، لا أنه جنس الأجناس کما ذکره المحقق النائینی قدس سره، بداهة أنه لا یعقل وجود مانع ذاتی بین جمیع الأشیاء کذلک.

ص:374

الرابع عشر: أن المیزان فی العرض العام أن تکون دائرة معروضه أوسع من دائرة معروض العرض الخاص نسبیاً، باعتبار أن العموم والخصوص فیهما أمرنسبی لا مطلق، فیمکن أن یکون شیء واحد عرضاً عاماً بالنسبة إلی موضوع وخاصاً بالنسبة إلی موضوع آخر، فما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أن المیزان فی العرض العام أن یکون معروضه جنساً قریباً کان أم بعیداً، والمیزان فی العرض الخاص أن یکون معروضه نوعاً، فلا مبرر له.

الخامس عشر: أن محل الکلام فی أن مفهوم المشتق بسیط أو مرکب بما أنه فی مدلوله اللغوی العرفی، فلا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فیه دخول العرض العام فی الفصل الحقیقی.

السادس عشر: أن الناطق بما له من المعنی اللغوی لا یصلح أن یکون فصلاًحقیقیاً للانسان، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون بسیطاً أو مرکباً، لأن المبدأ فیه وهو النطق إما بمعنی النطق الظاهری أو بمعنی الادراک الباطنی، وعلی کلا التقدیرین، فلا یصلح أن یکون ذاتیاً للانسان، وحینئذ فلا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی مدلوله دخول العرض العام فی الفصل.

السابع عشر: أنه إذا فرض عدم إمکان أخذ الذات فی مدلول المشتق، فلامانع من أخذ النسبة فیه مع المبدأ، بأن یکون موضوعاً للمبدأ ونسبته إلی الذات مع خروج الذات عن مدلوله الوضعی.

الثامن عشر: الصحیح أن المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الشیء بالنحو المبهم والمعری عن جمیع الخصوصیات العرضیة ماعدا قیام المبدأ به.

التاسع عشر: أنه لا یصح حمل المبدأ علی الذات، لأنه مغایر لها وجوداً، وماذکره المحقق النائینی قدس سره - من المحاولة لتصحیح حمله علیها باعتباره لا بشرط -

ص:375

غیر تام بداهة أن اعتباره لا بشرط لا یوجب انقلابه عما کان علیه من المغایرة إلی الاتحاد، لأنها لیست باعتباریة لکی تنتفی باعتبار آخر، ولهذا علق علیه السید الاُستاذ قدس سره بعدة وجوه، ونحن وإن ناقشنا فی صیغ تلک الوجوه واُسلوبها ولکن أصل الاشکال وهو أن لحاظ لا بشرط لا یجدی فی صحة الحمل تام ولامناص عنه. وإن شئت قلت: إن المبدأ إن لوحظ لا بشرط بنحو الموضوعیة فلا أثر له، ولا یوجب انقلاب الواقع عما کان علیه من المغایرة إلی الاتحاد، وإن لوحظ بنحو الطریقیة فلا واقع لها، لأن المبدأ فی الواقع لا یکون متحداً مع الذات بنحو من أنحاء الاتحاد.

العشرون: أن ما ذهب إلیه المحقق العراقی قدس سره - من أن هیئة المشتق موضوعة بإزاء نسبة المبدأ إلی الذات، وأما الذات فهی خارجة عن معناها الموضوع له - لایرجع إلی معنی محصل کما تقدم.

الحادی والعشرون: أن الصحیح من الأقوال فی المسألة هو القول بأن المشتق موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ دون القول بالبساطة.

الثانی والعشرون: أن المأخوذ فی مدلول المشتق مفهوم الذات بنحو الابهام دون مصداقه، ولهذا یصدق علی الواجب والممتنع والممکن بکافة أنواعه.

مقتضی الأصل العملی فی المسألة

یقع الکلام هنا فی مقامین:

الأول: فی مقتضی الأصل العملی فی المبادیء الاُصولیة.

الثانی: فی مقتضی الأصل العملی فی المسألة الفقهیة.

ص:376

أما الکلام فی المقام الأول، فهل یمکن التعویل علی الأصل العملی عند الشک فی تعیین المعنی الموضوع له وأنه المعنی الوسیع أو الضیق بعد فرض عدم تمامیة الأدلة علی تعیین الوضع لأحدهما؟

مقتضی الأصل العملی فی المسألة

والجواب: أنه لا یمکن، وذلک لأن وضع المشتق لکل من المعنی الأعم والأخص وإن کان مسبوقاً بالعدم، إلا أن استصحاب عدم وضعه للأعم معارض باستصحاب عدم وضعه للأخص، فیسقطان معاً. هذا إضافة إلی أنه لایجری فی نفسه، لأن استصحاب عدم وضعه للأعم لا یثبت الوضع للأخص وبالعکس إلا علی القول بالأصل المثبت.

ودعوی أن الوضع للمتلبس خاصة بحاجة إلی عنایة زائدة دون الوضع للأعم، وهی لحاظ خصوصیة التلبس زائدة علی لحاظ المعنی الأعم، وعلیه فلحاظ المعنی الأعم فی مقام الوضع متیقن إما مستقلاً أو فی ضمن الأخص، والشک إنما هو فی لحاظ خصوصیة زائدة، وحینئذ فلا مانع من التمسک باستصحاب عدم أخذ تلک الخصوصیة قیداً فی مقام الوضع، وبذلک یثبت الوضع للأعم بناء علی ما هو الصحیح من أن التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب، وإن شئت قلت: إن وضع المشتق للمعنی معلوم، والشک إنما هو فی الاطلاق والتقیید، وباستصحاب عدم التقیید یثبت الاطلاق وینفی المقید، خاطئة جداً، لأن الشک فی المقام إنما هو فی أن الواضع فی مقام الوضع، هل لاحظ المعنی الأعم فی عالم المفهوم ووضع اللفظ بإزائه أو المعنی الأخص ووضع اللفظ بإزائه، ومن الطبیعی أن لحاظ کل واحد منهما فی عالم المفهوم مباین للحاظ الآخر فیه، بداهة أن المفاهیم فی حد مفهومیتها اللحاظیة متباینات، فلا یعقل فیها الاطلاق والتقیید، فإن ذلک إنما یعقل بلحاظ الصدق فی

ص:377

الخارج، لأن المفهومین متباینان دائماً بحسب عالم اللحاظ والمفهوم، سواء أکانابحسب عالم الصدق والخارج متحدین أم لا، فالنتیجة أن الشک فی المقام لیس فی الاطلاق والتقیید، بل الشک فی وضع المشتق بإزاء أحد المعنیین المتباینین فی عالم المفهوم واللحاظ.

وبکلمة، إن نسبة المفاهیم بعضها مع بعض بلحاظ عالم الصدق والانطباق خارجاً، إما الاتحاد فی الوجود الخارجی أو التباین فیه أو العموم من وجه أوالعموم المطلق، وأما بلحاظ عالم المفهوم فهی التباین دائماً، لأن الوجود اللحاظی لکل مفهوم فی هذا العالم مباین للوجود اللحاظی لمفهوم آخر فیه.

وعلی هذا فلا یعقل أن یکون لحاظ المعنی الأخص فی المقام مشتملاً علی لحاظ المعنی الأعم مع خصوصیة زائدة، ضرورة أن لحاظ المعنی الأخص هووجوده اللحاظی فی عالم الذهن بحده، ولحاظ المعنی الأعم هو وجوده اللحاظی فیه کذلک، وهما وجودان متباینان فی هذا العالم، فالنتیجة أن الجامع والمتلبس خاصة وإن کان متحدین بحسب عالم الصدق فی الخارج إلا أنهما متباینان بحسب عالم اللحاظ والمفهوم.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أن أصالة عدم لحاظ الخصوصیة تجری فی المقام وتثبت بها الوضع للأعم، إلا أن ذلک لا یجدی فی ترتب الأثر الشرعی علی المسألة، فإنه إنما یترتب علی الظهور لمکان حجیته لا علی الوضع، وإثبات الظهور بإثبات الوضع بالاستصحاب من الأصل المثبت.

وأما الکلام فی المقام الثانی وهو التمسک بالأصل العملی فی المسألة الفقهیة، فقد ذکر المحقق الخراسانی قدس سره أنه یختلف باختلاف الموارد، ففی الموارد التی نشک فیها حدوث الحکم بعد انقضاء المبدأ عن الذات یرجع فیها إلی أصالة البراءة، کما

ص:378

إذا فرضنا أن زیداً کان عالماً ثم زال عنه العلم، وبعد ذلک ورد فی الدلیل «أکرم کل عالم» فشککنا فی وجوب إکرام زید لاحتمال کون المشتق موضوعاً للأعم.

وأما فی الموارد التی نشک فیها فی بقاء الحکم بعد حدوثه وثبوته، فالمرجع فیه هو الاستصحاب کما إذا کان زید مثلاً عالماً حینما أمر المولی بوجوب إکرام کل عالم، ثم بعد ذلک زال عنه العلم وأصبح جاهلاً لسبب أو آخر، ففی مثل ذلک لامحالة یکون الشک فی بقاء الحکم، لاحتمال کون المشتق موضوعاً للأعم، فإذن یستصحب بقاؤه(1).

وقد علق علی ذلک التفصیل السید الاُستاذ قدس سره، وأفاد أنه لا فرق بین الموارد التی یکون الشک فیها فی حدوث الحکم من الأول والموارد التی یکون الشک فیها فی بقاء الحکم بعد حدوثه، فإن المرجع فی جمیع هذه الموارد أصالة البراءة، أما فی موارد الشک فی حدوث التکلیف فعدم جریانه فیها واضح، وأما فی موارد الشک فی البقاء، فبناء علی ما قویناه فی باب الاستصحاب من عدم جریانه فی الشبهات الحکمیة خلافاً للمشهور فالأمر فیها أیضاً کذلک، وأما علی المسلک المشهور بین الأصحاب من جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة، فالظاهر أنه لا یجری فی المقام أیضاً، وذلک لاختصاص جریانه بما إذا کان مفهوم اللفظ متعیّناًومعلوماً من حیث السعة والضیق وکان الشک متمحضاً فی سعة الحکم المجعول وضیقه، کالشک فی بقاء حرمة وط ء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، فإن المرجع فیه هو استصحاب بقاء الحرمة إلی أن تغتسل، أو الشک فی بقاءنجاسة الماء المتغیر بأحد أوصاف النجس بعد زوال تغیره فی نفسه، أو فی بقاءنجاسة الماء المتمم کرّاً بناء علی نجاسة الماء القلیل بالملاقاة، فإن المرجع فی جمیع

ص:379


1- (1) کفایة الاصول ص 45.

ذلک، هو استصحاب بقاء النجاسة وبه یثبت سعتها.

وأما إذا لم یکن مفهوم اللفظ متعیناً ومعلوماً، بأن یکون منشأ الشک فی الحکم سعة وضیقاً هو الشک فی المفهوم کذلک، فلا یجری الاستصحاب فیه، لا فی الحکم ولا فی الموضوع.

أما فی الأول فلأن المعتبر فی جریان الاستصحاب وحدة القضیة المتیقنة مع القضیة المشکوک فیها موضوعاً ومحمولاً، بداهة أنه لا یصدق نقض الیقین بالشک مع اختلاف القضیتین فی الموضوع أو المحمول، وفی الشبهات المفهومیة حیث لم یحرز الاتحاد بینهما موضوعاً، فلا یمکن التمسک بالاستصحاب الحکمی، کما إذا شک فی بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقیة عن قمّة الرأس من جهة الشک فی مفهوم المغرب سعةً وضیقاً وأن المراد به الاستتار أو ذهاب الحمرة، فعلی الأول لم یبق موضوع الوجوب، وعلی الثانی فالموضوع بعد باق، وبما أنا لم نحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بین القضیتین فیه، وبدونه فلا یمکن جریان الاستصحاب الحکمی.

وأما فی الثانی وهو استحصاب بقاء الموضوع فلعدم الشک فی شیء خارجاً لافی انقلاب شیء ولا فی حدوث حادث، فإن استتار القرص عن الاُفق معلوم لناحساً، وذهاب الحمرة غیر متحقق کذلک، فإذن لا شک فی المقام إلا فی وضع لفظ المغرب وتردد مفهومه بین السعة والضیق، وقد مرّ أنه لا أصل یمکن التعویل علیه فی تعیین الوضع سعة وضیقاً.

وما نحن فیه من هذا القبیل، فان الشبهة فیه مفهومیة، والمعنی الموضوع له فیها مردد بین خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضی، فالاستصحاب الحکمی فیه لا یجری للشک فی بقاء موضوعه، لأن موضوع الحکم إن کان هو

ص:380

الجامع کان باقیاً، وإن کان خصوص المتلبس کان منتفیاً، وحیث إنا لم نحرز أن المشتق موضوع للأول أو الثانی، فبطبیعة الحال نشک فی بقاء موضوعه، ومعه لانحرز الاتحاد بین القضیتین، فلا یمکن جریان الاستصحاب الحکمی.

وأما الاستصحاب الموضوعی، فهو لا یجری فی المقام لعدم الشک فی شیء خارجاً مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بین الأعم والأخص، وقدمرّ أنه لا أصل فی المقام یمکن التعویل علیه لتعیین وضعه لأحدهما.

وبکلمة، إن المعتبر فی جریان الاستصحاب أمران: الیقین السابق والشک اللاحق مع وحدة متعلقهما فی الخارج، والشک فی المقام غیر موجود، فإن تلبس زید بالمبدأ سابقاً متیقین، وکذلک انقضاؤه عنه فعلاً، فلا شک فی شیء منهما، والشک فی المقام إنما هو فی وضع المشتق للأعم أو للأخص، وقد عرفت أنه لا أصل فیه یرجع إلیه فی تعیینه، فبالنتیجة أن المرجع فی المسألة أصالة البراءة مطلقاً، أی سواء أکان الانقضاء قبل ثبوت الحکم أم بعده، ولا وجه لما ذکره المحقق صاحب الکفایة قدس سره من التفصیل بینهما أصلاً(1). هذا،

ویمکن المناقشة فیه، وذلک لأن هناک مسألتین:

الاُولی: مسألة الشبهة المفهومیة، یعنی تردد معنی اللفظ وضعاً بین السعة والضیق.

الثانیة: مسألة مدی تشخیص موضوع الاستصحاب بقاء.

والظاهر أن إحدی المسألتین لا ترتبط بالأخری، فان المرجع فی تعیین المسألة الاُولی إحدی العلائم المذکورة فی محلها، منها التبادر، وأما فی الثانیة فهو

ص:381


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 243.

المناسبات الارتکازیة العرفیة بین الحکم وموضوعه، فان الخصوصیة المأخوذة فی موضوع الحکم المستصحب بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة، تارة تکون من الخصوصیات التعلیلیة غیر المقومة، واُخری تکون من الخصوصیات التقییدیة المقومة، فعلی الأول لا ینتفی الموضوع بانتفائها، وعلی الثانی ینتفی بانتفائها، وعلی هذا فخصوصیة تلبس الذات بالمبدأ إن کانت بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة من الجهات التعلیلة لم ینتف الموضوع بانتفائها، ولا فرق فی ذلک بین کون المشتق موضوعاً للأعم أو الخصوص المتلبس، فان وضعه لخصوص المتلبس شیء ومدی تشخیص العرف موضوع الحکم بالمناسبات الارتکازیة العرفیة شیء آخر، فیمکن أن یکون المشتق موضوعاً للذات المتلبسة بالمبدأ خاصة وموضوع الحکم بمدی تشخیص العرف بالمناسبات المذکورة هو الذات، وخصوصیة التلبس من الجهات التعلیلیة التی لا ینتفی الموضوع بانتفائها لا التقییدیة، فاذا ورد فی الدلیل «الماء المتغیر نجس» کان المتفاهم العرفی منه بالمناسبات الارتکازیة العرفیة أن موضوع النجس طبیعی الماء، وخصوصیة التغیر من الجهات التعلیلیة لا التقییدیة، وحینئذ ینتفی الموضوع بانتفائها، ولهذا لا مانع من استصحاب بقاء نجاسته بعد زوال التغیر، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون المشتق موضوعاً للأعم أو للمتلبس خاصة، کما أنه لا فرق بین أن یکون الوارد فی لسان الدلیل «الماء المتغیر نجس» أو الوارد فی لسانه «الماء إذا تغیر إلخ»، فإنه علی کلا التقدیرین یکون المتفاهم العرفی منه بمناسبة الحکم والموضوع أن خصوصیة التغیر من الجهات التعلیلیة لا التقییدیة، بینما إذا ورد فی الدلیل «أکرم کل عالم» مثلاً کان المتفاهم العرفی منه بمناسبة الحکم والموضوع أن خصوصیة التلبس فیه من الجهات التقییدیة لا التعلیلیة، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون المشتق موضوعاً للأعم أو للمتلبس خاصة، فإنه علی

ص:382

الأول وإن کان عنوان العالم یصدق علی الذات بعد زوال حیثیة التلبس عنها، إلا أن هذا الصدق إنما هو بلحاظ الوضع لا بلحاظ مدی تشخیص العرف موضوع الحکم، علی أساس المناسبات المذکورة، فإنه علی ضوء تلک المناسبات مقید بحیثیة التلبس الفعلی وینتفی بانتفائها.

وبکلمة، إن العرف یفهم من الدلیل المذکور بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة أن التلبس بالعلم تمام الموضوع والملاک للحکم، لا أنه مجرد علة والموضوع هو الذات، ولهذا یدور الحکم بنظرهم مدار العلم وجوداً وعدماًحدوثاً وبقاءاً، لا مدار صدق عنوان المشتق، فإنه یصدق علی الذات علی القول بالوضع للأعم بعد انقضاء العلم عنها أیضاً، ومع ذلک لا یکون موضوعاً للحکم، حیث إنه متقوم عندهم بحیثیة وجود العلم فیها بالفعل، لا بحیثیة صدق عنوان العالم علیها کذلک وإن کان العلم منقضیاً عنها.

فالنتیجة أنه لابد فی کل مورد من موارد الشبهة المفهومیة من ملاحظة الخصوصیة المفقودة فیه، وأنها بنظر العرف ومدی تشخیصه، هل هی من الحیثیات التعلیلیة لموضوع الحکم أو التقییدیة، ولا یدور ذلک مدار أنهامأخوذة فی المعنی الموضوع له أو لا، فإنه علی الرغم من تردد الوضع بین السعة والضیق، فالعرف، یشخص علی ضوء المناسبات المذکورة أن الحیثیة الزائلة عن الموضوع حیثیة تعلیلیة فحسب أو تقییدیة کذلک، فما ذکره السید الاُستاذ قدس سره من عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة إذا کان منشؤها الشبهة المفهومیة مبنی علی نقطة خاطئة، وهی أن موضوع الحکم فی القضیة یدور سعةً وضیقاً مدار الوضع کذلک، فإذا کان الوضع مجهولاً من هذه الناحیة، کان موضوع الحکم أیضاً مجهولاً، ولکن قد عرفت أن الأمر لیس ذلک، فإن تشخیص

ص:383

موضوع الحکم منوط بمدی فهم العرف علی ضوء المناسبات العرفیة ولا یرتبط بالوضع، فإذن ملاک جریان الاستصحاب فیها وعدم جریانه شیء آخر لا کون الشبهة مفهومیة وعدمها.

الفرق بین المشتق والمبدأ

أما علی القول بأن مفهوم المشتق مرکب من الذات والمبدأ والنسبة، فهو واضح ولا کلام فیه، وأما علی القول بأن مفهوم المشتق بسیط، فالمعروف بین الفلاسفة هو أن الفرق بین المبدأ والمشتق إنما هو باعتبار اللابشرطیة والبشرط لائیة، فمدلول المشتق ملحوظ لا بشرط ومدلول المادة ملحوظ بشرط لا، ولهذا یصح حمل الأول علی الذات دون الثانی.

بیان ذلک أن ماهیة العرض والعرضی «المبدأ والمشتق» واحدة بالذات والحقیقة، والفرق بینهما بالاعتبار واللحاظ، من جهة أن لماهیة العرض حیثیتین واقعیتین: الاُولی حیثیة وجوده فی نفسه، والثانیة حیثیة وجوده لموضوعه، فهی تارة تلحظ من الحیثیة الاُولی وبما هی موجودة فی حیالها واستقلالها وأنهاشیء من الأشیاء فی قبال وجودات موضوعاتها، فهی بهذا الاعتبار واللحاظ عرض ومبدأ (بشرط لا) وغیر محمول علی موضوعه لمباینته معه فی الخارج، وملاک صحة الحمل الاتحاد فی الوجود، وتارة اخری تلحظ بما هی فی الواقع ونفس الأمر وأن وجودها فی نفسه عین وجودها لموضوعها وأنه ظهوره وطورمن أطواره ومرتبة من وجوده، وظهور الشیء لا یباینه، فهی بهذا الاعتبارعرضی ومشتق (لا بشرط)، فیصح حملها علیه.

وبنفس هذا البیان قد جروا فی مقام الفرق بین الجنس والمادة والفصل

ص:384

والصورة، حیث قالوا إن الترکیب بین المادة والصورة ترکیب اتحادی لا انضمامی، لأنهما موجودتان فی الخارج بوجود واحد حقیقة، وهو وجود النوع کالانسان ونحوه، لأن المرکبات الحقیقیة لابد لها من جهة وحدة حقیقیة، وإلا لکان الترکیب بین أجزائها انضمامیاً، ومن الطبیعی أن الوحدة الحقیقیة لا تحصل إلا إذا کان أحد الجزأین قوة صرفة والآخر فعلیة محضة، فإن الاتحاد الحقیقی بین الجزأین فعلیین أو الجزأین کلیهما بالقوة غیر معقول، لإباء فعلیة عن فعلیة اخری، وکذلک کل قوة عن قوة اخری، ولذلک صح حمل کل من الجنس علی الفصل وبالعکس، وحمل کل منهما علی النوع، وکذا العکس، ومن الواضح أن الترکیب لو کان انضمامیاً لم یصح الحمل، لمکان المباینة والمغایرة، وعلی هذا فالتحلیل بین أجزاء المرکبات الحقیقیة لا محالة تحلیل عقلی، بمعنی أن العقل یحلل تلک الجهة الواحدة إلی ما به الاشتراک وهو الجنس، وما به الامتیاز وهوالفصل، فالجنس هو الجهة الجامعة والمشترکة بین هذه الحقیقة الواحدة وبین سائر الحقائق، ویعبر عن تلک الجهة الجامعة بالجنس بلحاظ الأجزاء الذهنیة التحلیلیة، وبالمادة بلحاظ الأجزاء الخارجیة التحلیلیة، وأما الفصل فهو الجهة الممیزة بین تلک الحقیقة الواحدة وبقیة الحقائق، ویعبر عن تلک الجهة الممیزة بالفصل بلحاظ عالم الذهن، وبالصورة بلحاظ عالم الخارج، ولیس ذلک إلا من جهة أن اللحاظ مختلف.

الفرق بین المشتق والمبدأ

فقد تلاحظ جهة الاشتراک فی الخارج بما لها من المرتبة الخاصة والدرجة المخصوصة من الوجود الساری وهی کونها قوة صرفة ومادة محضة، وقدتلاحظ جهة الامتیاز کذلک بما لها من المرتبة الخاصة من ذلک الوجود الساری وهی کونها فعلیة وصورة، وحیث إن الدرجتین والمرتبتین بما هما درجتان ومرتبتان متباینتان، فلا یصح حمل إحداهما علی الأخری، ولا حمل کلتیهما علی

ص:385

النوع، لمکان المباینة ولمغایرة، والمعتبر فی صحة الحمل الاتحاد فی الوجود.

وقد تلاحظ کل من جهتی الاشتراک والامتیاز بما لهما من الاتحاد الوجودی فی الواقع، نظراً إلی شمول الوجود الواحد لهما، وهو الساری من الصورة وما به الفعلیة إلی المادة وما به القوة، ومتحدتان فی الخارج بوحدة حقیقیة، لأن الترکیب بینهما اتحادی لا انضمامی کما مرّ، وبهذا اللحاظ صح الحمل کما أنه بهذا اللحاظ یعبر عن جهة الاشتراک بالجنس، وعن جهة الامتیاز بالفصل، وهذا هومرادهم من لحاظهما لا بشرط.

فالنتیجة أن ما به الاشتراک إن لوحظ لا بشرط، فهو جنس قابل للحمل علی الفصل والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو مادة غیر قابلة للحمل علی الصورة ولا علی النوع، وکذا ما به الامتیاز، فإنه إن لوحظ لا بشرط، فهو فصل قابل للحمل علی الجنس والنوع، وإن لوحظ بشرط لا فهو صورة غیر قابل للحمل علی المادة ولا علی النوع.

ولنا تعلیق علی کلا الموردین:

أما المورد الأول فقد تقدم موسعاً أن العرض مباین للجوهر وجوداً فی الخارج، فلا یکونان موجودین بوجود واحد، بل بوجودین متباینین سنخاً، والمعتبر فی صحة الحمل الاتحاد فی الوجود والتغایر فی المفهوم، ولحاظ العرض لا بشرط واعتباره کذلک لا یجعله متحداً مع الجوهر وجوداً خارجاً، کیف فإن اللحاظ والاعتبار لا یخرج عن عالم الذهن والاعتبار إلی عالم الواقع حتی یکون مؤثراً فیه، فإذا کان الغرض مبایناً للجوهر وجوداً فی الخارج، فلا أثر لاعتباره لا بشرط، فإنه لا یوجب انقلابه عما کان علیه فی الواقع من المغایرة، کما أنه لوکان متحداً معه فیه بأن یکون من حدود وجوده، فلا أثر لاعتباره بشرط لا،

ص:386

فإنه لا یوجب انقلابه عما کان علیه من الاتحاد، وتمام الکلام هناک.

وأما المورد الثانی فهو یختلف عن المورد الأول، فإن الحیثیتین الواقعیتین لماهیة العرض إنما هما بلحاظ وجوده فی الخارج، فإن وجوده منه فی نفسه عین وجوده لموضوعه، وهذا بخلاف الحیثیتین الواقعیتین لجهتی الاشتراک والامتیاز، فإن إحداهما بلحاظ عالم الذهن، والاُخری بلحاظ عالم الخارج، فإن الجنس والفصل من الأجزاء التحلیلیة الذهنیة لماهیة النوع، والمادة والصورة من الأجزاء التحلیلیة الخارجیة لها، وعلی أساس ذلک فالجنس والفصل وإن کانامتغایرین مفهوماً فی عالم الذهن إلا أنهما متحدان فی عالم الخارج وموجودان فیه بوجود واحد، فلذلک صح حمل أحدهما علی الآخر وحمل کلیهما علی النوع لمکان الاتحاد، وهذا بخلاف المادة والصورة، فإنهما حیث کانتا من الأجزاء التحلیلیة الخارجیة، فتکونان متغایرتین فی الخارج، لأن المادة فیه متمثلة فی القوة المحضة، ویعبر عنها بالهیولی أیضاً التی تقبل أیة صورة ترد علیها، فلذلک لا یصح حمل إحداهما علی الاُخری ولا حمل کلتیهما علی النوع لمکان المغایرة.

وبکلمة، إن النوع کالانسان مثلاً وإن کان موجوداً فی الخارج بوجود واحدحقیقة، إلا أنه فی الواقع وبتحلیل من العقل مرکب من جزأین متباینین فی الخارج، أحدهما المادة وهی القوة الصرفة، والآخر الصورة وهی الفعلیة المحضة، فالمادة بحدها الشخصی مباینة للصورة کذلک، وحیث إن المادة قوة صرفة فتقبل أیّ صورة ترد علیها، فلذلک یکون الترکیب بینهما حقیقیاً باعتبار أن فعلیتها إنماهی بصورتها، إذ لو کان کلاهما فعلیاً أو بالقوة لم یعقل أن یکون الترکیب حقیقیاً لإباء کل فعلیة عن فعلیة اخری وکل قوة عن قوة اخری، فلهذا لایصح حمل الصورة علی المادة وبالعکس، ولا حمل کل واحدة منهما علی النوع، ضرورة

ص:387

عدم صحة حمل المرکب علی أجزائه ولا حمل أجزائه علیه، بلا فرق فی ذلک بین الأجزاء التحلیلیة کما فی المرکب الحقیقی والأجزاء العینیة کما فی المرکب الاعتباری، وهذا بخلاف الجنس والفصل، فانهما وإن کانا من أجزاء الانسان إلا أنهما من أجزائه الذهنیة، فیکونان متباینین مفهوماً فی عالم الذهن ومتحدین وجوداً فی عالم الخارج، فلهذا یصح حمل أحدهما علی الآخر وحمل کل منهما علی النوع، ومن هنا یظهر أن الفرق بین الجنس والفصل والمادة والصورة إنما هو فی الوعاء، فوعاء الجنس والفصل عالم الذهن، ووعاء المادة والصورة عالم الخارج، فلهذا یکون الجنس والفصل متباینین فی الذهن لا فی الخارج، والمادة والصورة متباینتین فی الخارج.

وبذلک یتضح أن الفرق بین الجنس والفصل والمادة والصورة لیس من جهة أن ما به الاشتراک إن لوحظ لا بشرط فهو جنس، وإن لوحظ بشرط لا فهومادة، وکذلک ما به الامتیاز، فإنه إن لوحظ لا بشرط فهو فصل، وإن لوحظ بشرط لا فهو صورة، ضرورة أن ما به الاشتراک إن کان متحداً مع ما به الامتیازفی الخارج، فلا أثر للحاظه بشرط لا، لأنه لا یغیّر الشیء عما کان علیه فی الواقع من الاتحاد، وإن کان مغایراً معه وجوداً فیه، فلا أثر للحاظه لا بشرط، فإنه لایوجب انقلاب الشیء عما کان علیه فی الواقع من المغایرة، هذا إذا کان المراد من لحاظ اللابشرطیة والشرط لائیة اللحاظ بنحو الموضوعیة.

وأما لو کان المراد من لحاظهما اللحاظ بنحو الطریقیة والمعرفیة المحضة فهوصحیح، إذ لا مانع من جعل اللا بشرطیة عنواناً ومعرفاً للجنس والفصل، باعتبار أنهما متحدان فی الخارج وجوداً ومتغایران مفهوماً، والبشرط لائیة عنواناً معرفاً للمادة والصورة، باعتبار أنهما متغایران فی الخارج وجوداً، فإذن

ص:388

عنوان اللابشرطیة والبشرط لائیة فی المقام من العناوین المعرفة والممیزة، ولکن إرادة ذلک من کلمات الفلاسفة وغیرهم مما لا یمکن، لأن الظاهر منها أن اللابشرطیة والبشرط لائیة ملحوظتان بنحو الموضوعیة لا بنحو الطریقیة والمعرفیة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد اتضح مما ذکرناه الفرق بین العرض والجوهر وبین الجنس والفصل والمادة والصورة، فإن العرض مباین للجوهر وجوداً فی الخارج فلا یمکن حمله علیه، ولا أثر للحاظه لا بشرط کما مر، وأما الجنس والفصل فهما متحدان فی الخارج وجوداً، وهذا لیس من جهة أن ما به الاشتراک وما به الامتیاز کلیهما ملحوظان لا بشرط، لما مرّ من أنه لا أثر لذلک، بل من جهة أنهما جزءان تحلیلیان فی وعاء الذهن ومتحدان فی وعاء الخارج، وأما المادة والصورة فهما متغایران فی الخارج وجوداً، وهذا لا من جهة أن ما به الاشتراک وما به الامتیاز کلیهما ملحوظان بشرط لا، بل من جهة أنهما جزءان تحلیلیان لحقیقة واحدة فی وعاء الخارج، فلهذا تکونان متباینتین فیه، فالنتیجة أن تحلیل جهة الوحدة فی المرکبات الحقیقیة إلی ما به الاشتراک وما به الامتیاز إن کان فی وعاء الذهن، صح حمل أحدهما علی الآخر لمکان الاتحاد بینهما فی الخارج، وإن کان فی وعاء الخارج، لم یصح الحمل لمکان المغایرة بینهما فیه.

تلبس الذات بالمبدأ

هل یقتضی هذا التلبس التغایر بین المبدأ والذات مفهوماً ووجوداً أو مفهوماً فحسب أو لا هذا ولا ذاک، فیه وجوه بل أقوال:

القول الأول: أنه یقتضی التغایر بینهما مفهوماً ووجوداً.

ص:389

القول الثانی: أنه یقتضی التغایر بینهما مفهوماً فحسب.

القول الثالث: أنه لا یقتضی التغایر بینهما أصلاً لا وجوداً ولا مفهوماً.

أما القول الأول: فقد مال إلیه صاحب الفصول قدس سره، ولذلک التزم فی الصفات الذاتیة العلیا الجاریة علی ذاته تعالی بالنقل والتجوز، من جهة عدم المغایرة بین مبادیء تلک الصفات والذات فی الخارج، فلا تعقل النسبة بینهما فیه(1).

ولکن لا یمکن المساعدة علی هذا القول من وجوه:

الأول: أن المشتق لو کان موضوعاً للذات المتلبسة بالمبدأ فی الخارج، کان اللازم من ذلک أن یکون المدلول الوضعی له مدلولاً تصدیقیاً، ولا یمکن الالتزام به إلا علی القول بأن حقیقة الوضع هی التعهد، کما اختاره السید الاُستاذ قدس سره، وأما علی سائر الأقوال فی مسألة الوضع، فالمدلول الوضعی للفظ مدلول تصوری لا تصدیقی.

الثانی: أن الألفاظ کما ذکرناه غیر مرة لم توضع للموجودات الخارجیة ولا للموجودات الذهنیة، وإنما وضعت بإزاء طبیعی المعنی الذی قد یوجد فی الذهن وقد یوجد فی الخارج، فالوجود الخارجی کالوجود الذهنی، فکما لا یمکن أن یکون تمام المعین الموضوع له، فکذلک لا یمکن أن یکون قیداً له.

الثالث: مع الاغماض عن ذلک إلا أن لازم وضع المشتق للموجود الخارجی أن لا یکون له مدلول وضعی عند کذب المتکلم کما إذا قال «زید عالم» وهو لیس بعالم فی الواقع، فإنه لا مدلول له وضعاً حینئذ، لأن مدلوله الوضعی تلبس الذات بالمبدأ فی الخارج، وهو غیر متحقق إذا کان الکلام کاذباً، وهو کماتری.

ص:390


1- (1) الفصول, فصل المشتق, التنبیه الثالث.

الرابع: أن لازم ذلک عدم صحة إطلاق الصفات العلیا الذاتیة علی ذاته تعالی ولا یعقل تلبسها بها، باعتبار أن المبدأ فیها عین الذات وجوداً وعیناً، ولامغایرة بینهما خارجاً، فلذلک التزم قدس سره بالنقل والتجوز فیها، وهو لا یرجع إلی معنی محصل، فإنه إن أراد قدس سره نقل مبادیء هذه الصفات من المعنی المعهود منها إلی معنی ضده، ففیه أنه لا یمکن، بداهة أنه لا یصلح إطلاق ضد العلم علیه تعالی أو ضد القدرة، وإن أراد بذلک معنی زائد علی ذاته تعالی کعلم زید وقدرته، ففیه أنه لا یمکن أن یراد من صفاته العلیا الذاتیة معنی زائد، وإلا لزم أن یکون عروضها علی ذاته تعالی وتلبسها بها بحاجة إلی علة، وهو کماتری، أو فقل إنهالو کانت زائدة علی ذاته تعالی، فلا تخلو من أن تکون قدیمة أو حدیثة، فعلی الأول لزم تعدد القدماء، وعلی الثانی فمضافاً إلی أن عروضها علی ذاته یکون بحاجة إلی علة یلزم کون ذاته محلاً للحوادث والعوارض، وکلاهما مستحیل کماحقق فی محله، وإن أراد قدس سره معنی آخر لا هذا ولا ذاک، فهو - مضافاً إلی أنه مجهول - مقطوع البطلان، ضرورة أن إطلاق العالم علیه تعالی إنما هو بمعناه المعهود، وکذاسائر صفاته تعالی لا مجرد لقلقة اللسان.

فالنتیجة أن هذا القول لا یرجع إلی معنی محصل.

وأما القول الثانی وهو تلبس الذات بالمبدأ لا یقتضی أکثر من التغایر بینهمامفهوماً، فقد أختاره المحقق الخراسانی قدس سره والمحقق النائینی قدس سره، بتقریب أنه یکفی فی صدق تلبس الذات بالمبدأ کون المبدأ مغایراً لها مفهوماً وإن کان عینهاخارجاً، کما فی الصفات العلیا لذاته تعالی، فإن المبدأ فیها عین ذاته سبحانه خارجاً ولکنه مغایر لها مفهوماً، لأن مفهوم المبدأ کالعلم أو القدرة مغایر لمفهوم ذاته تعالی، وتکفی المغایرة المفهومیة فی صحة الحمل والجری، ولا یلزم معها

ص:391

حمل الشیء علی نفسه(1). هذا،

ویمکن المناقشة فیه بأن الاشکالات المتقدمة وإن لم ترد علی هذا القول، إلاأنه لا یحل المشکلة فیما إذا کان المبدأ متحداً مع الذات وجوداً ومفهوماً معاً، کما فی مثل قولنا «الوجود موجود»، «البیاض أبیض»، «الضوء مضیء» وهکذا، فإن المبدأ والذات معاً فی الموجود هو الوجود وفی المضیء الضوء وفی الأبیض البیاض وهکذا بدون أیة مغایرة بینهما، مع أن اطلاق المشتق فی هذه الموارد حقیقی کإطلاقه فی غیرها من الموارد، ولا فرق بین قولنا «زید موجود» وقولنا «الوجود موجود»، فإن الموجود فی کلا المثالین مستعمل فی معنی واحد، وهذادلیل علی أنه لا یعتبر فی تلبس الذات بالمبدأ التغایر بینهما أصلاً، هذا.

ولکن هذه المناقشة لا تخلو عن إشکال بل منع، إذ الظاهر أن المغایرة بینهماثابتة مفهوماً حتی فی هذه الأمثلة کما سوف نشیر إلیه.

وأما القول الثالث: وهو أنه لا یعتبر فی تلبس الذات بالمبدأ المغایرة بینهمالا وجوداً ولا مفهوماً، فقد اختاره السید الاُستاذ قدس سره، بتقریب أن المردا بالتلبس والقیام لیس قیام العرض بمعروضه وتلبسه به، وإلا لاختص البحث عن ذلک بالمشتقات التی تکون مبادئها من المقولات التسع، ولا یشمل ما کان المبدأ فیه من الاعتباریات أو الانتزاعیات أو کان عین الذات خارجاً کما فی الصفات العلیا الذاتیة للَّه تعالی، مع أن البحث عنه عام، بل المراد واجدیة الذات للمبدأ فی قبال فقدانها، وهی تختلف باختلاف الموارد، فمرة یکون الشیء واحداً لما هو مغایر له وجوداً ومفهوماً، کما هو الحال فی غالب المشتقات، واُخری یکون واجداً لما هوعینه خارجاً وإن کان مغایراً له مفهوماً، کواجدیة ذاته تعالی لصفاته العلیا

ص:392


1- (1) کفایة الاصول ص 56, أجود التقریرات ج 1 ص 125.

الذاتیة، وثالثة یکون واجداً لما هو متحد معه وجوداً ومفهوماً، کواجدیة الشیء لنفسه، فإنها نحو من الواجدیة، بل هو أتم مراتبها وأشد من واجدیة الشیء لغیره، لأن الوجود موجود بالذات، وغیر موجود به، فلذلک یکون صدق الموجود علی الوجود أولی من صدقه علی غیره.

فالنتیجة أن المراد من التلبس الواجدیة، وهی کما تصدق واجدیة الشیءلغیره کذلک تصدق علی واجدیة الشیء لنفسه، فالواجدیة بهذا المعنی وإن کانت خارجة عن الفهم العرفی إلا أن الکلام لیس فی أنها من المتفاهم العرفی، بل الکلام فی تطبیق المفهوم العرفی من المشتق وهو تلبس الذات بالمبدأ علیها، وهوبید العقل لا العرف(1). هذا،

ولکن لایمکن المساعدة علی هذا القول، وذلک لأن تلبس الذات بالمبدأ ووجدانها له إنما یکون بلحاظ عالم العین والخارج، فإنه فیه قد یکون عرضیاً، سواء أکان بنحو الصدور أو الحلول، وقد یکون ذاتیاً من الذاتی باب البرهان، وقد یکون ذاتیاً من الذاتی باب الکلیات کتلبس الانسان بالحیوانیة والناطقیة، وقد یکون عینیاً کما فی وجدان ذاته تعالی للصفات العلیا الکمالیة وکما فی مثل قولنا «الوجود موجود» وهکذا، فإن صدق التلبس والواجدیة فی الجمیع بنحوالحقیقة، بل صدقه علی الوجود أتم وأقوی من صدقه علی غیره، باعتبار أن کل شیء موجود بالوجود، والوجود بنفسه، وأما بلحاظ عالم الذهن فلابد من التغایر بینهما فیه مفهوماً، بداهة أن الشیء الواحد وجوداً ومفهوماً لا یعقل فیه التلبس والواجدیة، لأنه نسبة بین الذات والمبدأ، فإذا کان المبدأ عین الذات خارجاً، فلابد من فرض النسبة بینهما فی الذهن، وإلا فلا یعقل التلبس

ص:393


1- (1) محاضرات فی اصول الفقه ج 1 ص 291.

والواجدیة، فالنتیجة أن ما أفاده السید الاُستاذ قدس سره من أن المبدأ عین الذات وجوداً ومفهوماً فی مثل قولک «الوجود موجود» لا یصح، إذ لا شبهة فی أن مفهوم الوجود غیر مفهوم الموجود فی الذهن.

هل یعتبر فی صدق المشتق حقیقة إسناده إلی ما هو له؟

لا یعتبر ذلک، إذ لا مانع مع استعمال المشتق فی معناه الموضوع له علی الرغم من کون اسناده إلی غیر ما هو له، ومن هنا لا فرق بین قولنا «الماء جار» وقولنا «المیزاب جار»، فکما أن کلمة الجاری مستعملة فی معناها الموضوع له فی المثال الأول فکذلک فی المثال الثانی، والمجاز فیه إنما هو فی الاسناد والتطبیق لا فی الکلمة، مثلاً لو قیل «زید أسد» فلفظ الأسد استعمل فی معناه الموضوع له وهوالحیوان المفترس، فیکون حقیقة، ولکن یلحظ فی تطبیقه علی زید نحو من التوسعة والعنایة، فیکون المجاز فی التطبیق لا فی الکلمة، فلا ملازمة بین المجاز فی الاسناد والمجاز فی الکلمة، فإن کلمة الجاری فی مثل قولنا «النهر جار» أو «المیزاب جار» قد استعملت فی معناها الموضوع له وهو المتلبس بالجریان، والمجاز إنما هو فی إسناد الجری إلی النهر أو المیزاب، هذا من دون فرق بین أن یکون مفهوم المشتق بسیطاً أو مرکباً.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره صاحب الفصول قدس سره من أنه یعتبر فی صدق المشتق واستعماله فیما وضع له حقیقة أن یکون الاسناد والتطبیق أیضاً حقیقیاً مبنی علی الخلط بین المجاز فی الأسناد والمجاز فی الکلمة(1) ، ولا ملازمة بینهما کما عرفت.

نتائج البحث عدة نقاط :

ص:394


1- (1) الفصول, فصل المشتق: التنبیه الثالث.

الاُولی: ما إذا شک فی أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم ولم یقم دلیل علی وضعه للأول ولا للثانی، فهل هناک أصل موضوعی فی المسألة یمکن التعویل علیه فی إثبات وضعه لأحدهما؟

والجواب أنه لیس فی المسألة أصل موضوعی یمکن الاعتماد علیه فی إثباتها، وعلی هذا فتصل النوبة إلی الأصل الحکمی، وهل هو أصالة البراءة أو الاستصحاب أو التفصیل، فیه قولان:

فذهب المحقق الخراسانی قدس سره إلی التفصیل بین ما إذا کان الشک فی أصل حدوث الحکم وما إذا کان الشک فی بقائه بعد حدوثه، فعلی الأول یرجع إلی أصالة البراءة، وعلی الثانی إلی الاستصحاب. هذا،

وأشکل علیه السید الاُستاذ قدس سره أولاً بأن الشبهة فی المقام بما أنها حکمیة، فلایجری الاستصحاب فیها لمکان المعارضة باستصحاب عدم الجعل.

نتائج البحث

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک أن الاستصحاب فیها إنما یجری إذا لم یکن منشأ الشک فیها الشبهة المفهومیة، إلا فلا یجری، وحیث إن منشأ الشک فی المقام الشبهة المفهومیة فلا یجری الاستصحاب فیه.

ولکن قد تقدم أن مجرد کون الشبهة مفهومیة لا یمنع عن جریان الاستصحاب لأنه منوط بمدی تشخیص العرف بقاء موضوعه علی ضوء المناسبات العرفیة الارتکازیة، ومن هنا قد تکون الخصوصیة الزائلة فی الشبهة المفهومیة بنظر العرف من الحیثیة التعلیلیة لا التقییدیة، وحینئذ فلا یکون الشک فی بقاء الموضوع لکی یمنع عن جریان الاستصحاب.

الثانیة: المشهور بین الفلاسفة هو أن الفرق بین المبدأ والمشتق بناء علی کون

ص:395

مدلول المشتق بسیطاً إنما هو بالاعتبار، فإن المعنی بالذات والحقیقة فیهما واحد، ولکن ذلک المعنی الواحد إن اعتبر لا بشرط، فهو مشتق وقابل للحمل علی الذات، وإن اعتبر بشرط لا، فهو مبدأ وغیر قابل للحمل علیها، وقالوا بمثل ذلک فی مقام الفرق بین الجنس والفصل والمادة والصورة، فإن ما به الاشتراک فی المرکبات الحقیقیة إن لوحظ لا بشرط، فهو جنس وقابل للحمل علی الفصل والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو مادة غیر قابلة للحمل علی الصورة ولا علی النوع، وکذلک ما به الامتیاز فیها، فإنه إن لوحظ لا بشرط، فهو فصل قابل للحمل علی الجنس والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو صورة غیر قابلة للحمل علی المادة ولا علی النوع.

وفیه ما تقدم من أن لحاظ المعنی لابشرط لایغیره عما کان علیه فی الواقع من المغایرة، وأما صحة حمل الجنس علی الفصل وبالعکس وعدم صحة حمل المادة علی الصورة وبالعکس، فلیست من جهة لحاظ جهتی الاشتراک والامتیاز لابشرط وبشرط لا بنحو الموضوعیة، بل من جهة أن الجنس والفصل بما أنهما من الأجزاء الذهنیة، فهما متغایران فی الذهن ومتحدان فی الخارج، فلذلک صح حمل أحدهما علی الآخر، وأما المادة والصورة فبما أنهما من الأجزاء الخارجیة، فتکونان متباینتین فی الخارج، فلهذا لم یصح حمل إحداهما علی الاُخری وبالعکس.

الثالثة: أن المراد من تلبس الذات بالمبدأ الذی هو معنی المشتق واجدیة الذات للمبدأ، وهی تشمل واجدیة الشیء لنفسه أیضاً، بل هی من أتم وأقوی مراتب الواجدیة، فلذلک یکون إطلاق المشتق فی جمیع الموارد علی حد سواء، بلا فرق بین أن یکون المبدأ مغایراً للذات مفهوماً ووجوداً أو مغایراً لها مفهوماً

ص:396

فحسب، کما فی موارد الهلیة البسیطة والصفات الذاتیة للَّه تعالی.

الرابعة: أنه لا یعتبر فی استعمال المشتق فی معناه الحقیقی أن یکون إسناده إلی ما هو له، ومن هنا لا فرق بین قولنا «الماء جار» وقولنا «المیزاب جار»، فإن کلمة الجاری فی کلا المثالین مستعملة فی معناها الحقیقی، مع أن الاسناد فی الأول حقیقی وفی الثانی مجازی، فلا ملازمة بین المجاز فی الاسناد والمجاز فی الکلمة.

ص:397

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.