جواهر التاریخ المجلد 5

اشارة

جواهر التاریخ

بقلم علی الکورانی العاملی

المجلد الخامس

سیرة الإمامین محمد الباقر وجعفر الصادق(علیهماالسّلام)فی مواجهة خطط التحریف

الطبعة الأولی1428

الکتاب .............................. جواهر التاریخ- المجلد الخامس

المؤلف .............علی الکورانی العاملی

الناشر....دار الهدی الطبعة

الأولی- 1428 المطبعة ظهور

العدد .2000 نسخة

Isbn:964-497-025-x؟؟

Isbn:964-497-135-3؟؟

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحیم

الحمدُ لله ربِّ العالمین ، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام

علی سیدنا ونبینا محمد وآله الطیبین الطاهرین .

یبحث هذا المجلد سیرة الإمامین محمد الباقر وجعفر الصادق(علیهماالسّلام) والتحولات الکبیرة التی حدثت فی عصرهما ، حیث نشأت الحرکة الحسنیة لإسقاط الدولة الأمویة بقیادة عبدالله بن الحسن المثنی ، وانضمَّ الیها أبناء محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، وبایعوا إبنه محمداً وسموه المهدی . ( قال عمیر بن الفضل الخثعمی: رأیت أبا جعفر المنصور یوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف علی الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ینتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتی رکب ، ثم سوی ثیابه علی السرج ومضی محمد . فقلت وکنت حینئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذی أعظمته هذا الإعظام حتی أخذت برکابه ، وسویت علیه ثیابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت: لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدینا أهل البیت) . (مقاتل الطالبیین/161) .

کان هذا سنة126 عندما اختلف الأمویون بینهم علی الخلافة ، ولم تطل المدة حتی انقلب علیهم العباسیون وأقنعوا بکیر بن ماهان مهندس الثورة الإیرانیة ضد الأمویین وبعده صهره أبا سلمة الخلال وغلامه أبا مسلم ، بأن یبایعوهم ، فاستشاط

ص: 3

الحسنیون غضباً وثاروا علیهم بقیادة مهدیهم بن عبدالله بن الحسن ، الذی کتب للمنصور: ( فإن الحق حقنا ، وإنما ادعیتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشیعتنا وحظیتم بفضلنا وإن أبانا علیاً کان الوصی وکان الإمام ، فکیف ورثتم ولایته ووُلده أحیاء ! ثم قد علمت أنه لم یطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا. لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ! ولیس یمت أحد من بنی هاشم بمثل الذی نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل). (الطبری:1/196).

ویقصد باللعناء آل أبی سفیان ، وبالطرداء آل مروان ، وبالطلقاء آل العباس ، لأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أسر العباس فی بدر وأطلقه بفدیة ، وکان معروفاً عند المسلمین أن الخلافة لاتحل للطلقاء ولا لأولادهم ! فقد روی فی الطبقات:3/342 ، عن عمر قال: (هذا الأمر فی أهل بدر ما بقی منهم أحد ، ثم فی أهل أحد ما بقی منهم أحد ، ولیس فیها لطلیق ولا لولد طلیق ولا لمسلمة الفتح شئ). وابن حجر فی فتح الباری: 13/178، وتاریخ دمشق:59/145 ، وأسد الغابة: 4/387 ، وتاریخ الخلفاء للسیوطی/113 ، وکنز العمال: 5/735 ، و:12/681 ، عن ابن سعد ، والغدیر: 7/144 ، و:10/30 ، ونفحات الأزهار: 5/350 .

وقد أفتی أغلب فقهاء المدینة ومنهم أبو حنیفة ومالک بن أنس بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ضد المنصور العباسی ، وسیطر محمد علی المدینة ومکة ، وحارب جیش المنصور العباسی حتی قُتل وانتصر علیه المنصور .

وبعد قتله ، ثار أخوه إبراهیم بن عبدالله بن الحسن فی البصرة وسیطر علیها وعلی فارس وواسط ، وهاجم الکوفة بسبعین ألف مقاتل ، وکاد ینتصر لولا أن سهماً طائشاً أصابه فقتله وانکسر جیشه ، وانتصر علیه المنصور العباسی ، وأفرط بعد انتصاره فی البطش بالحسنیین والعلویین ، حتی قتل من ذریة علی وفاطمة(علیهماالسّلام) أکثر من ألف ، واضطهد الإمام الصادق(علیه السّلام)وضیق علیه حتی قتله بالسم !

ومن جهة أخری تمکن المنصور أن یقتل أبا مسلم الخراسانی، الذی قاد الثورة وقتل فیها من المسلمین أکثر من ست مائة ألف مسلم ! (الطبری:6/137) .

ص: 4

کان المنصور ، کما وصفه الإمام الباقر(علیه السّلام)، جبار بنی عباس! ولم یقتصر تجبره علی القتل وسفک الدماء ، بل کان مهندس دولة العباسیین ، ومؤسس مذاهبها ، وراسم خط سیرها الی یومنا هذا ! قال البیاضی فی الصراط المستقیم:3/204: (لمَّا وقع بینه وبین العلویة خلاف قال: والله لأرغمن أنفی وأنوفهم ، ولأرفعن علیهم بنی تیم وعدی ، وذکر الصحابة فی خطبته ، واستمرت البدعة إلی الآن ).

لقد قرر المنصور إبعاد المسلمین عن مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام)الفقهیة والعقائدیة ، فأسس مقابلهم مذهب مالک ومذهب أبی حنیفة ، ثم نشأ منهما مذهبان لتلمیذیهما الشافعی والحنبلی ! فقد استحضر المنصور مالک بن أنس واسترضاه ، بعدما جلده والیه فی المدینة وحبسه لأنه أفتی بالخروج مع مهدی الحسنیین ، وقال له المنصور: (یا أبا عبد الله إنه لم یبق علی وجه الأرض أعلم منی ومنک ، وإنی قد شغلتنی الخلافة فضع أنت للناس کتاباً ینتفعون به ، تجنب فیه رخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، ووطئه للناس توطئة . قال مالک: فوالله لقد علمنی التصنیف یومئذ) ! ( مقدمة ابن خلدون/18 ، وتاریخه:1/17، وسیر الذهبی:8/111) . قال مالک: (فقلت له: إن أهل العراق لا یرضون علمنا ! فقال أبو جعفر: یُضربُ علیه عامَّتُهم بالسیف وتقطع علیه ظهورهم بالسیاط) ! (ترتیب المدارک لعیاض/124). (وشرط علیه أن لا یروی فی کتابه عن علی) ! (مستدرک الوسائل:1/20). فلا تجد فی الموطأ أی روایة عن علی(علیه السّلام)!

فی تلک الفترة کان الإمامان الباقر والصادق(علیهماالسّلام)یقاومان تحریف بنی أمیة للإسلام ، ویؤسسان لمقاومة التحریف القادم من الثوار (الهاشمیین) !

وکانت للإمامین(علیهماالسّلام)مکانة محترمة فی الأمة ساعدتهما علی مقاومة التحریف ، فهما الوارثان لأمجاد أهل البیت النبوی ، علی ، والحسن ، والحسین ، وزین

ص: 5

العابدین(علیهم السّلام) ، ولهم موقعٌ خاصٌّ فی نفوس الحسنیین والعباسیین ، فهم بنو عمهم الذین کان آباؤهم أتباعاً لآبائهم الأئمة(علیهم السّلام)الذین أسسوا الثورة علی الأمویین. وزید بن زین العابدین(علیه السّلام)هو الذی فتح باب الثورة المسلحة علی الدولة الأمویة الهرمة فثار فی الکوفة واستشهد سنة122 . وکان زید(رحمه الله)فی عُمْر عبدالله بن الحسن الذی ثار بأولاده ، وفی عُمْر محمد بن علی بن عبدالله بن عباس ، والد المنصور وإخوته . وکان الحسنیون والعباسیون عند شهادته(رحمه الله)فی بدایة التفکیر فی الحرکة ، ولذا جعلوا شعارهم الأخذ

بثار الحسین(علیه السّلام)وثار حفیده زید(رحمه الله).

من هنا لم یستطع الحسنیون أن یزایدوا علی الأئمة من بنی الحسین(علیهم السّلام)فی مکانتهم ، ولا فی الثورة علی بنی أمیة ، لأن الحسینیین أصلها وفرعها .

أما العباسیون فبایعوا الحسنیین وکانوا تبعاً لهم ، ثم ادعوا بعد ذلک أنهم ورثوا الإمامة والخلافة بوصیة أبی هاشم بن محمد بن الحنفیة لأبیهم محمد بن علی بن عبدالله بن عباس ! وزعموا أن ابن الحنفیة خلیفة شرعی لأنه تبنی ثورة المختار ، أو لأنه وصی أبیه علی(علیه السّلام) !

قال فی وفیات الأعیان:4/186: (وکان سبب انتقال الأمر إلیه أن محمد بن الحنفیة کانت الشیعة تعتقد إمامته بعد أخیه الحسین ، فلما توفی محمد بن الحنفیة انتقل الأمر إلی ولده أبی هاشم ، وکان عظیم القدر وکانت الشیعة تتوالاه ، فحضرته الوفاة بالشام فی سنة ثمان وتسعین للهجرة ولا عقب له ، فأوصی إلی محمد بن علی المذکور وقال له: أنت صاحب هذا الأمر وهو فی ولدک ، ودفع إلیه کتبه وصرف الشیعة نحوه .

ولما حضرت محمداً المذکور الوفاة بالشام أوصی إلی ولده إبراهیم المعروف بالإمام... وحبسه مروان بن محمد آخر ملوک بنی أمیة بمدینة حران ، فتحقق أن مروان یقتله ، فأوصی إلی أخیه السفاح وهو أول من ولی الخلافة من أولاد العباس). وتهذیب الکمال:26/153

ص: 6

وروی فی شرح النهج:7/148 ، عن المبرد فی الکامل (الکامل/360 ، طبع أوروبا) أنه لما ولد لعبدالله بن عباس ولد سماه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)باسمه علیاً وکناه أبا الحسن ، وقال له: خذ الیک أبا الأملاک... صحت الروایة عندنا عن أسلافنا وعن غیرهم من أرباب الحدیث أن علیاً لما قُبض ، أتی محمد ابنه أخویه حسناً وحسیناً فقال لهما: أعطیانی میراثی من أبی... میراث العلم.. فدفعا إلیه صحیفة لو أطلعاه علی أکثر منها لهلک ، فیها ذکر دولة بنی العباس ! حدثنی عیسی بن علی بن عبد الله بن العباس قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد ، لما قبض علی إبراهیم الإمام جعلنا نسخة الصحیفة التی دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفیة إلی محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، وهی التی کان آباؤنا یسمونها صحیفة الدولة ، فی صندوق من نحاس صغیر ، ثم دفناه تحت زیتونات بالشراة (قرب معان بالأردن) لم یکن بالشراة من الزیتون غیرهن ، فلما أفضی السلطان إلینا وملکنا الأمر ، أرسلنا إلی ذلک الموضع فبُحث وحُفر ، فلم یوجد فیه شئ ! فأمرنا بحفر جریب من الأرض فی ذلک الموضع حتی بلغ الحفر الماء ، ولم نجد شیئاً... ولم یکن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)قد فصَّلَ لعبد الله بن العباس الأمر ، وإنما أخبره به مجملاً ). انتهی.

لکن عندما حکم المنصور قرر أن یستغنی عن الإستناد فی شرعیة خلافته الی وصیة أبی هاشم لأبیه محمد ، لأن شرعیة أبی هاشم تستند الی أبیه ابن الحنفیة ثم الی علی(علیه السّلام)، ومعناه الإعتراف بوصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی(علیه السّلام)، وهذا ما لا یریده المنصور ! لذلک زعم أن جده العباس هو الوارث والمورث الوحید للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأنکر وصیة علی(علیه السّلام) ، ونصب له العداوة ! وفسر وصیة أبی هاشم لأبیه بأنها إخبار غیبی من علی(علیه السّلام)عن ملکهم ، فهو یفتخر به وبإخبار الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)له بأنه سیحکم !

ص: 7

إخبار الإمامین الباقر والصادق(علیهاالسّلام)بحکم العباسیین !

مضافاً الی احترام شخصیات بنی العباس وبنی الحسن للإمامین الصادقین(علیهماالسّلام) فقد عزَّزَ مکانتهما فی قلوب العباسیین أنهما أخبراهم بما سیکون ، فتحقق ما قالاه حرفاً بحرف ! روی فی الکافی:8/210، بسند صحیح عن أبی بصیر(رحمه الله)قال: (کنت مع أبی جعفر(علیه السّلام)جالساً فی المسجد إذ أقبل داود بن علی وسلیمان بن خالد وأبو جعفر عبد الله بن محمد أبو الدوانیق ، فقعدوا ناحیة من المسجد فقیل لهم: هذا محمد بن علی جالس ، فقام إلیه داود بن علی وسلیمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانیق مکانه حتی سلموا علی أبی جعفر فقال لهم أبو جعفر: ما منع جبارکم من أن یأتینی؟ فعذَّروه عنده ، فقال: أما والله لا تذهب اللیالی والأیام حتی یملک ما بین قطریها ، ثم لیطأنَّ الرجال عقبه ، ثم لتذلن له رقاب الرجال ، ثم لیملکن ملکاً شدیداً ! فقال له داود بن علی: وإن ملکنا قبل ملککم؟ قال: نعم یا داود إن ملککم قبل ملکنا وسلطانکم قبل سلطاننا . فقال له داود: أصلحک الله ، فهل له من مدة ؟ فقال: نعم یا داود والله لا یملک بنو أمیة یوماً إلا ملکتم مثلیه ، ولا سنة إلا ملکتم مثلیها ، ولیتلقفها الصبیان منکم کما تلقفُ الصبیان الکرة ! فقام داود بن علی من عند أبی جعفر فرحاً ، یرید أن یخبرأبا الدوانیق بذلک ، فلما نهضا جمیعاً هو وسلیمان بن

ص: 8

خالد ، ناداه أبو جعفر من خلفه: یا سلیمان بن خالد: لا یزال القوم فی فسحة من ملکهم ما لم یصیبوا منا دماً حراماً ، وأومأ بیده إلی صدره ، فإذا أصابوا ذلک الدم فبطن الأرض خیر لهم من ظهرها ، فیومئذ لا یکون لهم فی الأرض ناصر ولا فی السماء عاذر ، ثم انطلق سلیمان بن خالد فأخبر أبا الدوانیق فجاء أبو الدوانیق إلی أبی جعفر فسلم علیه ، ثم أخبره بما قال له داود بن علی وسلیمان بن خالد ، فقال له: نعم یا أبا جعفر دولتکم قبل دولتنا وسلطانکم قبل سلطاننا ، سلطانکم شدید عسر لا یسر فیه ، وله مدة طویلة والله لا یملک بنو أمیة یوماً إلا ملکتم مثلیه ولا سنة إلا ملکتم مثلیها، لیتلقفها صبیان منکم فضلاً عن رجالکم کما یتلقف الصبیان الکرة ! أفهمت؟! ثم قال(علیه السّلام): لا تزالون فی عنفوان الملک ترغدون فیه ما لم تصیبوا منا دماً حراماً ، فإذا أصبتم ذلک الدم غضب الله عز وجل علیکم فذهب بملککم وسلطانکم وذهب بریحکم ) !

وفی منهاج الکرامة للعلامة الحلی(رحمه الله)/56: (وکان عبد الله بن الحسن جمع أکابر العلویین للبیعة لولده ، فقال له الصادق(علیه السّلام): إن هذا الأمر لا یتم ! فاغتاظ من ذلک فقال(علیه السّلام): إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلک إلی المنصور ! فلما سمع المنصور بذلک فرح لعلمه بوقوع ما یُخبر به ، وعلم أن الأمر یصل إلیه . ولما هرب المنصور (من جیش ابراهیم بن عبد الله بن الحسن) کان

یقول: أین قول صادقهم) !

لذلک کان المنصور یذکر الإمام الباقر(علیه السّلام) بإجلال ، لیقینه بأن ما یقوله(علیه السّلام)من علم النبوة الذی خصهم الله به ! فقد روی فی الکافی:8/209، عن سیف بن عمیرة قال: کنت عند أبی الدوانیق فسمعته یقول ابتداء من نفسه: یا سیف بن عمیرة: لابد من مناد ینادی باسم رجل من ولد أبی طالب ! قلت: یرویه أحد من الناس؟ قال: والذی نفسی بیده لسمعتْ أذنی منه یقول:لابد من مناد ینادی باسم رجل. قلت: یا أمیر المؤمنین إن هذا الحدیث ما سمعت بمثله قط! فقال لی: یا سیف إذا کان ذلک فنحن أول من یجیبه ، أما إنه أحد بنی عمنا ! قلت: أی بنی عمکم؟ قال: رجل من ولد فاطمة(علیهاالسّلام) . ثم قال: یا سیف لولا أنی سمعت أبا جعفر محمد بن علی یقوله ثم حدثنی به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولکنه محمد بن علی) !!

ص: 9

موضوعات هذا المجلد

1- معالم سیرة الإمام محمد الباقر(علیه السّلام)ودروه فی شق علم النبوة ، ومواجهة التحریف الأموی ، وتجدید حیاة الأمة ، وتشیید صرح التشیع .

2- معالم سیرة الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)ونشره علوم الإسلام ، ودوره فی مواجهة التحریف الأموی ، ومشاریع الجبابرة الجدد من الحسنیین والعباسیین .

3- ثورة زید(رحمه الله)علی النظام الأموی ، ثم حرکة الحسنیین وثورتهم ، وثورة الإیرانیین لإسقاط النظام الأموی وتقدیمهم الثورة الی العباسیین .

4- سیطرة أبی جعفر المنصور علی البلادالإسلامیة ، وقتله قادة الثورة الإیرانیین وانتصاره علی الحسنیین ، ثم قتله الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)، وتأسیسه عقیدة الأشاعرة ومذاهبها .

إن کل واحد من هذه الموضوعات یستحق دراسة خاصة ، لکن بسبب ترابطها وتداخل أحداثها ، رأینا تقدیمها فی مجلد واحد ، ولو احتاجت الی جهد أکبر ، لکی نقدم معالم سیرة الإمامین(علیهماالسّلام)ومعها أهم أحداث الحرکات فی عصرهما ، فی تسلسل علمی نصل فیه الی صیاغة المنصور العباسی لعقائد المذاهب وفقهها .

ختاماً ، نذکِّر القارئ الکریم بأن مصادر البحث هی کتب برنامج (مکتبة أهل البیت(علیه السّلام)) الذی توفقنا لإنتاجه ، ومصادر أخری ذکرناها فی محالها ، وذکرنا أحیاناً المجلد والصفحة لأکثر من طبعة . والله ولی التوفیق والمثوبة .

کتبه: علی الکَوْرانی العاملی

بقم المشرفة ، غرة رجب رجب الخیر 1428

ص: 10

الفصل الأول:مل الأئمة(علیهم السّلام)ککل ودور الإمام الباقر(علیه السّلام)

1- الأئمة الإثنا عشر(علیهم السّلام)وحدةٌ فی الهدف وتعدُّدٌ فی الأدوار

اشارة

یمکن تقسیم عمل الأنبیاء والرسل(علیهم السّلام)ککل الی مراحل، بسبب التدرج فی تنزیل الرسالة الإلهیة ، ویدل علی ذلک تسمیة الأنبیاء الخمسة(علیهم السّلام)فی القرآن بأولی العزم ، وکذا قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (إنما مثلی ومثل الأنبیاء کرجل بنی داراً فأکملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس یدخلونها ویعجبون بها ویقولون هلا وضعت هذه اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبیین).(المناقب 1/198،ونحوه بخاری:4/162).

فهو یدل علی تدرج الخطة الإلهیة لأنبیائه(علیهم السّلام)، وأنها بلغت أوْجَها فی نبینا الخاتم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ورسالته الخاتمة ، التی هی الصیغة النهائیة للدین الإلهی .

أما عمل الأئمة الإثنی عشر(علیهم السّلام)الذین امتد حضورهم بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )نحو قرنین ونصف الی غیبة الإمام المهدی(علیه السّلام) ، فإن الأحادیث نصت علی أنهم منظومة اختارهم الله تعالی لقیادة لأمة بعد نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأخبر أن الأمة سوف لا تقبلهم ، وأنهم لایضرهم تکذیب من کذبهم ، وسیقومون بأدوارهم ویُقتلون ، ویمدُّ الله فی عمر آخرهم(علیه السّلام)وتکون له غیبة طویلة ، ثم یظهر ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً ویُنهی الله به الظلم ویقیم به دولة العدل الإلهی ، التی تمتد الی یوم القیامة .

ص: 11

وهذه الأحادیث تدل علی التدرج فی الخطة الإلهیة فی عملهم کما فی عمل الأنبیاء(علیهم السّلام) ، وأن مشروعهم یبلغ أوْجَهُ بخاتمهم(علیه السّلام)فی إنهاء الظلم عن وجه الأرض ، وإقامة دولة العدل الإلهی . أما تقسیم عملهم(علیهم السّلام)الی مراحل متمیزة عن بعضها ، فلا تنص علیه الأحادیث ، ولهذا یمکننا أن نفترض أکثر من تقسیم لعملهم(علیهم السّلام) ، بشرط أن ینطبق علی سیرتهم(علیهم السّلام).

من هذه التقسیمات ما تبناه أستاذنا(رحمه الله)من أن عملهم(علیهم السّلام)ثلاث مراحل

فی الأولی منها: کان الأئمة(علیهم السّلام)یرسخون عقائد الإسلام ووجوده فی الأمة .

وفی المرحلة الثانیة: عملوا لتکوین الأمة الواعیة ، وتقویة وجودها .

وفی المرحلة الثالثة: عملوا لتسلم السلطة وتطبیق الإسلام کاملاً .

وبتعبیر آخر: کان عمل الأئمة الی الإمام زین العابدین(علیهم السّلام)ترسیخ الإسلام کدین ، ثم کان عملهم الی الإمام الرضا(علیه السّلام)بناء الأمة الواعیة والفرقة الناجیة ، ثم من الإمام الرضا الی الإمام المهدی(علیهماالسّلام)فی الإعداد لإقامة الدولة .

لکن الإشکالات علی هذا التقسیم کثیرة ،منها: أن الأئمة(علیهم السّلام)لو عملوا لتسلم السلطة لتسلموها ، فالذین هم أقل منهم وصلوا الی السلطة بمدة قلیلة ، وهم(علیهم السّلام) أعرف بطرق الوصول الی السلطة من الأمویین والعباسیین وغیرهم ، ومعهم قوة منطق القرآن والنبوة ، ومجد انتسابهم الی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فهل یعقل أنهم عملوا لتسلم السلطة أکثر من قرنین فلم یستطیعوا ؟!

ثم لو کانوا یریدون السلطة فلماذا رفضوا استلامها عندما عرضت علیهم ، فقد عرض المختار وإبراهیم بن الأشتر علی الإمام زین العابدین(علیه السّلام)أن یتسلم دولتهما التی کانت تضم العراق وإیران وغیرهما ، وکان الجو العام فیها ملائماً لأنها قامت

ص: 12

علی أخذ الثأر للإمام الحسین(علیه السّلام) ، لکنه رفض ذلک !

کما عرض أبو مسلم الخراسانی وأبو سلمة الخلال قائدا الثورة الإیرانیة علی الإمام الصادق(علیه السّلام)أن یأخذا له البیعة فلم یقبل کما یأتی !

فهذه المواقف وغیرها للأئمة(علیهم السّلام)وتصریحاتهم ، تدل علی أن مشروعهم کان عدم تسلم السلطة بعد أمیر المؤمنین والإمام الحسن(علیهماالسّلام) ، وعدم الثورة بعد الحسین(علیه السّلام) ، حتی ظهور المهدی ، بل لم یجیزوا العمل باسمهم لتسلم السلطة ، حتی مع سلب المسؤولیة عنهم .

ومن هذه التقسیمات جعل عملهم(علیهم السّلام)من خمس مراحل

أولاها ، مرحلة إعادة نموذج الحکم النبوی وجهاد الأمة علی تأویل القرآن ، استکمالاً لجهاد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی تنزیله .

وثانیها ، مرحلة انسحاب الإمام الحسن(علیه السّلام)من مسرح الحکم وتعلیمه الأمة کیف تتعایش مع حکامها الظالمین عندما تضطر الی الصلح معهم , وکیف تَثبت علی عقیدتها ، وتُکوِّن المعارضة وتنهض بها .

وثالثها ، مرحلة ثورة الإمام الحسین(علیه السّلام)التی هی مرحلة جدیدة فی مسیرة الأنبیاء والأوصیاء جمیعاً(علیهم السّلام) ، لأنه(علیه السّلام)تجسیدٌ لظلامات الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) وثأر الله فی الأرض ، الذی ینبغی للأمة أن تخلِّده وتجعله شعاراً ، حتی یتحقق تطهیر الأرض من الظلم .

ورابعها: مرحلة تقویة التشیع فی الأمة ، وتشیید معالمه العقدیة والفقهیة والبشریة لیکونوا الطائفة الثابتة علی الحق التی لایضرها تکذیب من کذبها ، امتداداً للفئة الناجیة التی کانت حول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثم حول الأئمة(علیهم السّلام).

ص: 13

وخامسها ، مرحلة ظهور الإمام المهدی(علیه السّلام)الذی یعید الحق الی نصابه ، ویستثمر جهود الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام)ویحقق هدفهم فی دولة العدل الإلهی . وهی مرحلة نوعیة فی مسیرة الأنبیاء والأئمةً(علیهم السّلام)، بل هی طوْرٌ جدید للحیاة البشریة علی وجه الأرض، حیث تُطهَّر من الظلم وتبنی فیها أرقی حیاة .

ومن هذه التقسیمات أن نقول: إن أدوارهم(علیهم السّلام)متنوعة وهدفها أمران:

الأول ، المحافظة علی الإسلام نظریاً ،وعلی ما یمکن من تطبیقه عملیاً .

والثانی ، ترسیخ وجود أمة واعیة داخل الأمة ، ثابتة علی الحق حتی یظهر إمامهم(علیه السّلام).. الی آخر ما یمکن من تقسیمات . والصحیح منها ما یستند الی مسار عملهم ، والأهداف المنصوصة فی مشروعهم(علیهم السّلام).

ولا بد أن نذکِّر هنا ، بأن الأئمة المعصومین(علیهم السّلام)مشروعٌ ربانیٌّ متقن ، فهم یعملون بتوجیه الحکیم الخبیر عز وجل ، ولا یصح أن نحصر دورهم فی عصر دون عصر ، أو نلخصه فی العمل لتسلم سلطة ، أو نختصره فی بیان بعض العلوم وبناء بعض الأوضاع ، فقضیتهم(علیهم السّلام)أعمق من ذلک وأوسع ، وصاحب مشروعهم العلیم الحکیم عز وجل الذی أتقن کل شئ فی هذا الکون الوسیع بأعلی درجات الإتقان والإعجاز ، فکما لایصح أن نُسَطِّح عمله فی الطبیعة ، لا یصح أن نُسَطِّح مشروعه فی النبی والأئمة(علیهم السّلام) ، لأن الإنسان أعظم عنده من الطبیعة !

وقد تواترت الأحادیث فی النص علی ذلک ، ففی الإحتجاج:2/48، أن أبا خالد الکابلی قال للإمام زین العابدین(علیه السّلام): (یا ابن رسول الله ، أخبرنی بالذین فرض الله طاعتهم ومودتهم ، وأوجب علی خلقه الإقتداء بهم بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ فقال لی: یا أبا کنکر ! إن أولی الأمر الذین جعلهم الله أئمة الناس وأوجب علیهم طاعتهم:

ص: 14

أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ، ثم انتهی الأمر إلینا ، ثم سکت . فقلت له: یا سیدی رویَ لنا عن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) أنه قال: لا تخلو الأرض من حجة لله علی عباده ، فمَن الحجة والإمام بعدک؟ قال: ابنی محمدواسمه فی التوراة باقر ، یبقر العلم بقراً ، هو الحجة والإمام بعدی ، ومن بعد محمد ، ابنُه جعفر ).

وتقدم أن الزهری سأل زین العابدین(علیه السّلام): (یا ابن رسول الله هذا الذی أوصیت إلیه أکبر أولادک؟ فقال: یا أبا عبدالله لیست الإمامة بالصغر والکبر ، هکذا عَهِدَ إلینا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وهکذا وجدنا مکتوباً فی اللوح والصحیفة . قلت: یا ابن رسول الله فکم عهد إلیکم نبیکم أن تکون الأوصیاء من بعده؟ قال: وجدنا فی الصحیفة واللوح اثنی عشر أسامی مکتوبة ، بإمامتهم وأسامی آبائهم وأمهاتهم، ثم قال:یخرج من صلب محمد ابنی سبعة من الأوصیاء فیهم المهدی).(کفایة الأثر/241).

فما هو اللوح ، وما هی الصحیفة ؟

ص: 15

2- دور الإمام الباقر(علیه السّلام)فی اللوح المقدس

جاء حبرئیل(علیه السّلام)الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بلوح مقدس ، هدیة من الله تعالی الی ابنته فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام) ، فیه أسماء الأئمة الربانیین من أبنائها(علیهم السّلام)، وقد رآه الصحابی جابر بن عبد الله الأنصاری(رحمه الله)واستنسخه ، وروی عنه فی الکافی:1/528 ، نص اللوح وهو:

(بسم الله الرحمن الرحیم . هذا کتاب من الله العزیز الحکیم لمحمد نبیه ونوره وسفیره وحجابه ودلیله ، نزل به الروح الأمین من عند رب العالمین ، عظِّمْ یا محمد أسمائی ، واشکر نعمائی ، ولا تجحد آلائی ، إنی أنا الله إله إلا أنا ، قاصم الجبارین ، ومدیل المظلومین ، ودیان الدین ، إنی أنا الله لا إله إلا أنا ، فمن رجا غیر فضلی أو خاف غیر عدلی ، عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمین ، فإیای فاعبد ، وعلیَّ فتوکل . إنی لم أبعث نبیاً فأکملت أیامه وانقضت مدته ، إلا جعلت له وصیاً ، وإنی فضلتک علی الأنبیاء ، وفضلت وصیک علی الأوصیاء ، وأکرمتک بشبلیک وسبطیک حسن وحسین ، فجعلت حسناً معدن علمی بعد انقضاء مدة أبیه وجعلت حسیناً خازن وحیی وأکرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة . جعلت کلمتی التامة معه وحجتی البالغة عنده ، بعترته أثیب وأعاقب ، أولهم علی سید العابدین وزین أولیائی الماضین ، وابنه شبه جده المحمود محمد الباقر علمی ، ومعدن حکمتی . سیهلک المرتابون فی

جعفر ، الراد علیه کالراد علیَّ ، حق القول منی لأکرمنَّ مثوی جعفر ولأسرنه فی أشیاعه وأنصاره وأولیائه . أتیحت بعده موسی فتنة عمیاء حندس لأن خیط فرضی لا ینقطع وحجتی لا تخفی ، وأن أولیائی یسقون بالکأس الأوفی . من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتی ، ومن غیَّر آیةً من کتابی ، فقد افتری علیَّ .

ص: 16

ویلٌ للمفترین الجاحدین عند انقضاء مدة موسی ، عبدی وحبیبی . وخیرتی فی علیٍّ ولیِّی وناصری ، ومن أضع علیه أعباء النبوة وأمتحنه بالإضطلاع بها ، یقتله عفریتٌ مستکبر ، یدفن فی المدینة التی بناها العبد الصالح إلی جنب شر خلقی . حقَّ القولُ منی لأسرَّنَّهُ بمحمد ابنه وخلیفته من بعده ووارث علمه ، فهو معدن علمی وموضع سری ، وحجتی علی خلقی ، لایؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه وشفعته فی سبعین من أهل بیته کلهم قد استوجبوا النار

وأختمُ بالسعادة لابنه علی ولیی وناصری ، والشاهد فی خلقی ، وأمینی علی وحیی ، أخرج منه الداعی إلی سبیلی والخازن لعلمی الحسن ، وأکمل ذلک بابنه محمد رحمة للعالمین ، علیه کمال موسی ، وبهاء عیسی ، وصبر أیوب ، فیذل أولیائی فی زمانه وتتهادی رؤوسهم کما تتهادی رؤوس الترک والدیلم فیقتلون ویحرقون ، ویکونون خائفین مرعوبین وجلین ، تصبغ الأرض بدمائهم ، ویفشو الویل والرنا فی نسائهم ، أولئک أولیائی حقاً ، بهم أدفع کل فتنة عمیاء حندس وبهم أکشف الزلازل ،وأدفع الآصار والأغلال ، أولئک علیهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئک هم المهتدون .

قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصیر: لو لم تسمع فی دهرک إلا هذا الحدیث لکفاک ، فصنه إلا عن أهله). والفضائل لابن شاذان/113 ، والإمامة والتبصرة/103 ، والعیون :2/50 ، والإختصاص/210 ، وکمال الدین/310، وغیبة النعمانی/71، وأمالی الطوسی/292، والإحتجاج:1/85، ومناقب آل أبی طالب:1/255، وبشارة المصطفی/284، وإعلام الوری:2/176. والجواهر السنیة/207.

ونحوه مصادر أخری مثل کفایة الأثر/74 ، عن أنس بن مالک من حدیث معراج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأنه رأی أسماءهم مکتوبة علی ساق العرش: ( اثنی عشر اسماً مکتوباً بالنور فیهم علی بن أبی طالب وسبطیَّ ، وبعدهما تسعة أسماء علیاً علیاً ثلاث مرات ، ومحمداً محمداً مرتین ، وجعفر وموسی والحسن ، والحجة یتلألأ من بینهم).

ص: 17

3- صحیفة الوصیة التی نزل بها جبرئیل(علیه السّلام)

نزلت هذه الصحیفة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مرض وفاته، وفیها رسالة له من الله تعالی یأمره أن یورِّث العلم لعترته ، ویأخذ المیثاق من عترته بعده ، ومعها صحیفة لکل إمام تتضمن برنامج عمله العام .

وقد عقد فی الکافی:1/279 ، باباً بعنوان: (باب أن الأئمة(علیهم السّلام)لم یفعلوا شیئاً ولا یفعلون ، إلا بعهد من الله عز وجل وأمر منه لا یتجاوزونه، روی فیه عدة أحادیث منها:

(عن معاذ بن کثیر ، عن أبی عبد الله(علیه السّلام)قال: إن الوصیة نزلت من السماء علی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاباً ، لم ینزل علی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاب مختوم إلا الوصیة ، فقال جبرئیل(علیه السّلام): یا محمد هذه وصیتک فی أمتک عند أهل بیتک ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أیُّ أهل بیتی یا جبرئیل؟

قال: نجیب الله وذریته ، لیرثک علم النبوة کما ورَّثه إبراهیم(علیه السّلام)، ومیراثک لعلی(علیه السّلام)وذریتک من صلبه، قال: وکان علیها خواتیم قال: ففتح علی(علیه السّلام)الخاتم الأول ومضی لما أمر به فیها، ثم فتح الحسن(علیه السّلام) الخاتم الثانی ومضی لما أمر به فیها ، فلما توفی الحسن ومضی فتح الحسین(علیه السّلام) الخاتم الثالث فوجد فیها أن قاتل فاقتل وتقتل ، واخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلا معک ، قال: ففعل(علیه السّلام) ، فلما مضی دفعها إلی علی بن الحسین(علیه السّلام)قبل ذلک ففتح الخاتم الرابع فوجد فیها أن اصمت وأطرق لمَّا حجب العلم ، فلما توفی ومضی دفعها إلی محمد بن علی(علیهماالسّلام)ففتح الخاتم الخامس فوجد فیها أن فسر کتاب الله تعالی ، وصدق أباک ، وورث ابنک ، واصطنع الأمة وقم ، بحق الله عز وجل ، وقل الحق فی الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله ، ففعل ، ثم دفعها إلی الذی یلیه ، قال: قلت له: جعلت فداک فأنت هو؟ قال فقال: ما بی إلا أن تذهب یا

ص: 18

معاذ فتروی علیَّ ! قال فقلت: أسأل الله الذی رزقک من آبائک هذه المنزلة أن یرزقک من عقبک مثلها قبل الممات قال؟ قد فعل الله ذلک یا معاذ ، قال: فقلت: فمن هو جعلت فداک؟ قال: هذا الراقد وأشار بیده إلی العبد الصالح وهو راقد). یقصد ابنه الإمام موسی بن جعفر(علیه السّلام) .

وروی حدیثاً عن الإمام الباقر(علیه السّلام)جاء فیه: (ثم دفعه إلی ابنه محمد بن علی ففک خاتماً فوجد فیه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله عز وجل ، فإنه لا سبیل لأحد علیک ، ففعل ، ثم دفعه إلی ابنه جعفر ففک خاتماً فوجد فیه: حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بیتک ، وصدق آبائک الصالحین ، ولا تخافن إلا الله عز وجل ، وأنت فی حرز وأمان ، ففعل...

وروی عن ضریس الکناسی عن أبی جعفر(علیه السّلام)قال: ( قال له حمران: جعلت فداک أرأیت ما کان من أمر علی والحسن والحسین(علیهم السّلام) ، وخروجهم وقیامهم بدین الله عز وجل ، وما أصیبوا من قتل الطواغیت إیاهم والظفر بهم ، حتی قتلوا وغلبوا ؟! فقال أبو جعفر(علیه السّلام): یا حمران إن الله تبارک وتعالی کان قدَّر ذلک علیهم وقضاه وأمضاه وحتمه ، ثم أجراه . فبتقدم علم ذلک إلیهم من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، قام علی والحسن والحسین(علیهم السّلام)، وبعلمٍ صمت من صمت منا ).

کما روی حدیثاً عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (حین نزل برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الأمر نزلت الوصیة من عند الله کتاباً مسجلاً ، نزل به جبرئیل مع أمناء الله تبارک وتعالی من الملائکة ، فقال جبرئیل: یا محمد مُرْ بإخراج من عندک إلا وصیک ، لیقبضها منا وتُشهدنا بدفعک إیاها إلیه ، ضامناً لها یعنی علیا(علیه السّلام) ، فأمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بإخراج من کان فی البیت ما خلا علیا(علیه السّلام)وفاطمة(علیهاالسّلام)فیما بین الستر والباب ، فقال جبرئیل: یا محمد ربک یقرؤک السلام ویقول: هذا کتاب ما کنت عهدت إلیک وشرطت

ص: 19

علیک وشهدت به علیک وأشهدت به علیک ملائکتی ، وکفی بی یا محمد شهیداً . قال: فارتعدت مفاصل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: یا جبرئیل ربی هو السلام ومنه السلام وإلیه یعود السلام ، صدق عز وجل وبر ، هات الکتاب ، فدفعه إلیه وأمره بدفعه إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فقال له: إقرأه ، فقرأه حرفاً حرفاً فقال: یا علی هذا عهد ربی تبارک وتعالی إلیَّ وشرطه علیَّ وأمانته ، وقد بلغت ونصحت وأدیت ، فقال علی(علیه السّلام):وأنا أشهد لک بأبی وأمی أنت بالبلاغ والنصیحة والتصدیق علی ما قلت، ویشهد لک به سمعی وبصری ولحمی ودمی ! فقال: جبرئیل(علیه السّلام): وأنا لکما علی ذلک من الشاهدین، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا علی أخذتَ وصیتی وعرفتَها وضمنتَ لله ولی الوفاء بما فیها؟ فقال علی(علیه السّلام): نعم بأبی أنت وأمی ، علیَّ ضمانها وعلی الله عونی وتوفیقی علی أدائها . فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا علی إنی أرید أن أشْهِدَ علیک بموافاتی بها یوم القیامة . فقال علی(علیه السّلام)نعم أشْهِدْ ، فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن جبرئیل ومیکائیل فیما بینی وبینک الآن وهما حاضران ، معهما الملائکة المقربون لأشهدهم علیک ! فقال: نعم لیشهدوا وأنا بأبی أنت وأمی أشهدهم ، فأشهدهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وکان فیما اشترط علیه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأمر جبرئیل(علیه السّلام)فیما أمر الله عز وجل أن قال له: یا علی تفی بما فیها من موالاة من والی الله ورسوله والبراءة والعداوة لمن عادی الله ورسوله ، والبراءة منهم علی الصبر منک وکظم الغیظ ، وعلی ذهاب حقک وغصب خمسک ، وانتهاک حرمتک؟ فقال: نعم یا رسول الله . فقال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): والذی فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئیل یقول للنبی: یا محمد عرِّفْهُ أنه تنتهک الحرمة وهی حرمة الله وحرمة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وعلی أن تُخضب لحیته من رأسه بدم عبیط . قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): فصعقت حین فهمت الکلمة من الأمین جبرئیل حتی سقطت علی وجهی وقلت: نعم قبلت

ص: 20

ورضیت وإن انتهکت الحرمة وعطلت السنن ومزق الکتاب وهُدمت الکعبة ، وخُضبت لحیتی من رأسی بدم عبیط ، صابراً محتسباً أبداً ، حتی أقدم علیک !

ثم دعا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فاطمة والحسن والحسین ، وأعلمهم مثل ما أعلم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فقالوا مثل قوله ! فختمت الوصیة بخواتیم من ذهب لم تمسه النار ، ودفعت إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)!

فقلت لأبی الحسن(علیه السّلام): بأبی أنت وأمی ألا تذکر ما کان فی الوصیة؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله ، فقلت: أکان فی الوصیة توثبهم وخلافهم علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)؟ فقال: نعم والله شیئاً شیئاً وحرفاً حرفاً ، أما سمعت قول الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نُحْیِ الْمَوْتَی وَنَکْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَکُلَّ شَئْ أَحْصَیْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِینٍ؟ والله لقد قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأمیر المؤمنین وفاطمة(علیهماالسّلام): ألیس قد فهمتما ما تقدمت به إلیکما وقبلتماه؟ فقالا: بلی وصبرنا علی ما ساءنا وغاظنا .

وفی نسخة الصفوانی زیادة... عن حریز قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السّلام): جعلت فداک ما أقلَّ بقاءکم أهل البیت وأقرب آجالکم بعضها من بعض ، مع حاجة الناس إلیکم؟! فقال: إن لکل واحد منا صحیفة فیها ما یحتاج إلیه أن یعمل به فی مدته ، فإذا انقضی ما فیها مما أمر به عَرَفَ أن أجله قد حضر ، فأتاه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ینعی إلیه نفسه وأخبره بماله عند الله . وإن الحسین(علیه السّلام)قرأ صحیفته التی أعطیها ، وفسر له ما یأتی بنعی ، وبقی فیها أشیاء لم تقض فخرج للقتال ، وکانت تلک الأمور التی بقیت ، وإن الملائکة سألت الله فی نصرته فأذن لها ، ومکثت تستعد للقتال وتتأهب لذلک حتی قتل ، فنزلت وقد انقطعت مدته وقتل(علیه السّلام)، فقالت الملائکة: یا ربِّ أذنت لنا فی الإنحدار ، وأذنت لنا فی نصرته فانحدرنا وقد قبضته ! فأوحی الله إلیهم: أن الزموا قبره حتی تروه وقد خرج فانصروه ، وابکوا علیه وعلی ما فاتکم

ص: 21

من نصرته...). ونحوه النعمانی/60، وروضة الواعظین/210 ، وبصائر الدرجات/166و170، والإرشاد:2/189 ، وقال: والأخبار فی هذا المعنی کثیرة .

وعن أمیر المؤمنین(علیه السّلام): (دعانی رسول الله عنده موته وأخرج من کان عنده فی البیت غیری ، والبیت فیه جبرئیل والملائکة(علیهم السّلام)أسمع الحس ولا أری شیئاً ، فأخذ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاب الوصیة من ید جبرئیل(علیه السّلام)مختومة فدفعها إلیَّ وأمرنی أن أفضها ففعلت ، وأمرنی أن أقرأها فقرأتها ، فقال: إن جبرئیل عندی أتانی بها الساعة من عند ربی ، فقرأتها فإذا فیها کل ما کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوصی به شیئاً شیئاً ما تغادر حرفاً...).(البحار:22/478 ، عن الطرائف لابن طاووس، ولم نجده فیه ولعله عن الطرف).

4- صحیفة الولایة والبراءة فی قراب سیف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

وهناک صحیفة ثانیة کتبها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وجعلها فی قراب سیفه وورَّثها مع سیفه لعلی والعترة(علیهم السّلام)، ففی قرب الإسناد/103، عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال: (وُجد فی غمد سیف رسول

الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )صحیفة مختومة ففتحوها فوجدوا فیها: إن أعتی الناس علی الله القاتل غیر قاتله والضارب غیر ضاربه . ومن أحدث حدثاً أو آوی محدثاً فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین ، لا یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . ومن تولی غیر موالیه فقد کفر بما أنزل علی محمد).

وفی تفسیر فرات/394: (عن الأصبغ بن نباتة قال: کنت جالساً عند أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)فی مسجد الکوفة ، فأتاه رجل من بجیلة یکنی أبا خدیجة ومعه ستون رجلاً من بجیلة ، فسلم وسلموا ، ثم جلس وجلسوا ، ثم إن أبا خدیجة قال: یا أمیر المؤمنین أعندک سرٌّ من أسرار رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تحدثنا به؟ قال: نعم یا قنبر إئتنی بالکتابة ففضها فإذا فی أسفلها سلیفة مثل ذنَب الفارة مکتوب فیها: بسم

ص: 22

الله الرحمن الرحیم . إن لعنة الله وملائکته والناس أجمعین علی من انتمی إلی غیر موالیه ، ولعنة الله وملائکته والناس أجمعین علی من أحدث فی الإسلام أو آوی محدثاً ، ولعنة الله علی من ظلم أجیراً أجره ، ولعنة الله علی من سرق منار الأرض وحدودها . یکلف یوم القیامة أن یجئ بذلک من سبع سماوات وسبع أرضین .

ثم التفت إلی الناس فقال: والله لو کلفت هذا دواب الأرض ما أطاقته . فقال له أبو خدیجة: ولکن أهل البیت موالی کل مسلم فمن تولی غیر موالیه؟ فقال: لست حیث ذهبت یا أبا خدیجة ، ولکنا أهل البیت موالی کل مسلم ، فمن تولی غیرنا فعلیه مثل ذلک ! یا أبا خدیجة والأجیر لیس بالدینار ولا بالدینارین ولا بالدرهم ولا بالدرهمین ، بل من ظلم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسلم أجره فی قرابته قال الله تعالی: قُلْ لا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی ، فمن ظلم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أجره فی قرابته فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین).

5- صحیفة رموز العلوم فی قراب سیف علی(علیه السّلام)

وصحیفة أخری فیها رموز الألف باب التی علمها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مرض وفاته لعلی(علیه السّلام). ففی بصائر الدرجات/327 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام): (کان فی ذؤابة سیف علی(علیه السّلام)صحیفة صغیرة وإن علیاً(علیه السّلام)دعا ابنه الحسن(علیه السّلام)فدفعها إلیه ودفع إلیه سکیناً ، وقال له: إفتحها فلم یستطع أن یفتحها ! ففتحها له ثم قال له: إقرأ ، فقرأ الحسن الألف والباء والسین واللام ، وحرفاً بعد حرف ، ثم طواها فدفعها إلی ابنه الحسین(علیه السّلام)فلم یقدر علی أن یفتحها ، ففتحها له ثم قال له: إقرأ یا بنی فقرأها کما قرأ الحسن ، ثم طواها ، فدفعها إلی ابنه ابن الحنفیة فلم یقدر علی أن یفتحها ففتحها له فقال له: إقرأ فلم یستخرج منها شیئاً ، فأخذها علی(علیه السّلام)وطواها ثم علقها

ص: 23

من ذؤابة السیف. قال قلت لأبی عبد الله(علیه السّلام): وأی شئ کان فی تلک الصحیفة؟ قال: هی الأحرف التی یفتح کل حرف ألف حرف . قال أبو بصیر قال أبو عبد الله(علیه السّلام): فما خرج منها إلا حرفان إلی الساعة). والکافی:1/296 والخصال/649.

وهناک صحف أخری تتعلق بأهل البیت(علیهم السّلام)، منها الصحیفة الجامعة بإملاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وخط علی(علیه السّلام)فیها مایحتاج الیه الناس ، وصحیفتا قریش: الصحیفة الملعونة الأولی التی کتبها زعماء قریش ضد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبنی هاشم وعلقوها فی الکعبة ، وقاطعوهم بموجبها وحاصروهم نحو خمس سنوات فی شعب أبی طالب(رحمه الله) ، والملعونة الثانیة التی کتبوها فی حجة الوداع وتعاهدوا علی إبعاد العترة عن خلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . وصحیفة ثالثة تتعلق بنفیل جد عمر بن الخطاب عندما زنی بصهاک أمَة عبد المطلب فحملت وکتبوا حملها غلاماً لعبد المطلب.. وبحث هذه الصحف خارج عن غرضنا .

6- ملاحظات علی حدیث اللوح وصحف الوصیة

1- روت مصادرنا حدیث اللوح وصحیفة الوصیة بعدة طرق ، کما روت تفسیر صحیفة القراب ، کالذی رواه فی الکافی:1/238: (عن أبی بصیر قال: دخلت علی أبی عبد الله(علیه السّلام)فقلت له جعلت فداک إنی أسألک عن مسألة ، هاهنا أحد یسمع کلامی؟ قال فرفع أبو عبد الله(علیه السّلام)ستراً بینه وبین بیت آخر فاطلع فیه ثم قال: یا أبا محمد سل عما بدا لک . قال قلت: جعلت فداک إن شیعتک یتحدثون أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علم علیا(علیه السّلام)باباً یفتح له منه ألف باب؟ قال فقال: یا أبا محمد علم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)ألف باب یفتح من کل باب ألف باب ! قال قلت: هذا والله العلم . قال فنکت ساعة فی الأرض ، ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاک . قال ثم قال: یا أبا

ص: 24

محمد وإن عندنا الجامعة وما یدریهم ما الجامعة ؟ قال قلت: جعلت فداک وما الجامعة ؟ قال:صحیفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وإملائه من فَلْق فیه وخط علی بیمینه ، فیها کل حلال وحرام ، وکل شئ یحتاج الناس إلیه حتی الأرش فی الخدش...) .

وفی الکافی:1/241: (عن بکر بن کرب الصیرفی قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) یقول: إن عندنا ما لا نحتاج معه إلی الناس وإن الناس لیحتاجون إلینا ، وإن عندنا کتاباً إملاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وخط علی(علیه السّلام)، صحیفة فیها کل حلال وحرام... وإنکم لتأتونا بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ، ونعرف إذا ترکتموه ).

وفی الکافی:1/296، عن الإمام الصادق(علیه السّلام): (کان فی ذؤابة سیف رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) صحیفة صغیرة ، فقلت لأبی عبد الله(علیه السّلام): أی شئ کان فی تلک الصحیفة؟ قال: هی الأحرف التی یفتح کل حرف ألف حرف). انتهی.

وفی أمالی المفید/351: (عن الأصبغ بن نباتة العبدی قال: لما ضرب ابن ملجم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)غدونا علیه نفر من أصحابنا أنا والحارث وسوید بن غفلة ، وجماعة معنا فقعدنا علی الباب ، فسمعنا البکاء فبکینا فخرج إلینا الحسن بن علی فقال: یقول لکم أمیر المؤمنین: إنصرفوا إلی منازلکم ، فانصرف القوم غیری ، واشتد البکاء من منزله فبکیت ، فخرج الحسن(علیه السّلام)فقال: ألم أقل لکم انصرفوا ؟! فقلت: لا والله یا ابن رسول الله ما تتابعنی نفسی ولا تحملنی رجلی أن أنصرف حتی أری أمیر المؤمنین صلوات الله علیه . قال: فتلبث فدخل ولم یلبث أن خرج فقال لی: ادخل ، فدخلت علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف واصفر وجهه ، ما أدری وجهه أصفر أو العمامة ، فأکببت علیه فقبلته وبکیت ، فقال لی: لا تبک یا أصبغ فإنها

ص: 25

والله الجنة، فقلت له: جعلت فداک إنی أعلم والله أنک تصیر إلی الجنة ، وإنما أبکی لفقدانی إیاک یا أمیر المؤمنین، جعلت فداک حدثنی بحدیث سمعته من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فإنی أرانی لا أسمع منک حدیثاً بعد یومی هذا أبداً ! فقال: نعم یا أصبغ، دعانی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوماً فقال لی: یا علی إنطلق حتی تأتی مسجدی ثم تصعد علی منبری ثم تدعو الناس إلیک فتحمد الله عز وجل وتثنی علیه وتصلی علی صلاة کثیرة ، ثم تقول: أیها الناس إنی رسول الله إلیکم وهو یقول لکم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائکته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتی علی من انتمی إلی غیر أبیه أو ادعی إلی غیر موالیه ، أو ظلم أجیراً أجره ! فأتیت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتنی قریش ومن کان فی المسجد أقبلوا نحوی فحمدت الله وأثنیت علیه وصلیت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) صلاة کثیرة ثم قلت: أیها الناس إنی رسول رسول الله إلیکم ، وهو یقول لکم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائکته المقربین وأنبیائه المرسلین ولعنتی علی من انتمی إلی غیر أبیه ، أو ادعی إلی غیر موالیه ، أو ظلم أجیراً أجره . قال: فلم یتکلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال: قد أبلغت یا أبا الحسن ولکنک جئت بکلام غیر مفسر ، فقلت: أُبلغ ذلک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فرجعت إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسلم فأخبرته الخبر فقال: إرجع إلی مسجدی حتی تصعد منبری فاحمد الله واثن علیه وصل علیَّ ثم قل: أیها الناس ما کنا لنجیئکم بشئ إلا وعندنا تأویله وتفسیره ، ألا وإنی أنا أبوکم ، ألا وإنی أنا مولاکم ، ألا وإنی أنا أجیرکم ). وأمالی الطوسی/122 .

أما مصادر أتباع الخلافة فطبیعی أن تتجنب أحادیث الوصیة وتنکرها ما استطاعت ، لکنهم رووا منها حدیث وصیة یوم الغدیر وغیره ، وروی بخاری حدیث الصحیفة فی قراب سیف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثمان مرات ، وتعمد روایتها عن علی وأولاده(علیهم السّلام)

ص: 26

لیقول إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یورثهم غیرها ! قال فی صحیحه:2/221: (عن علی قال: ما عندنا شئ إلا کتاب الله وهذه الصحیفة عن النبی(ص): المدینة حَرَمٌ ما بین عائر إلی کذا ، من أحدث فیها حدثاً أو آوی محدثاً فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، لا یقبل منه صرف ولا عدل ، وقال: ذمة المسلمین واحدة ، فمن أخفر مسلماً فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین لا یقبل منه صرف ولا عدل . ومن تولی قوماً بغیر إذن موالیه فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، لا یقبل منه صرف ولا عدل). ونحوه:4/30 ، و4/67 و/69 و:8/10و/45 و/47 و/144 ، بصیغ متضاربة ومسلم:4/115 و/217 و:6/85 ، وأبو داود:1/168 و:2/177، وأحمد بعشر روایات.. الخ.

ویلاحظ أن رواتهم غیَّروا الفقرة المتعلقة بولایة العترة(علیهم السّلام) ، لکن الشافعی روی شیئاً منها فی مسنده/198، قال: (عن محمد بن إسحق قال: قلت لأبی جعفر محمد بن علی: ما کان فی الصحیفة التی کانت فی قراب سیف رسول الله ؟ فقال کان فیها: لعن الله القاتل

غیر قاتله والضارب غیر ضاربه . ومن تولی غیر ولی نعمته فقد کفر بما أنزل الله علی محمد (ص) ). انتهی.

2- نصت الأحادیث علی أن دور کل إمام محددٌ من الله تعالی: ( لکل واحد منا صحیفة فیها ما یحتاج إلیه أن یعمل به فی مدته ، فإذا انقضی ما فیها مما أُمِرَ به عَرَفَ أن أجله قد حضر ، فأتاه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ینعی إلیه نفسه) . لکنها لاتدل علی تقسیم حیاتهم(علیهم السّلام)الی مراحل ، ولا تذکر أن فی مهمتهم العمل لتسلم السلطة !

3- استدل أستاذنا(قدسّ سرّه)علی أن الإمام زین العابدین(علیه السّلام)کان هدفه الأساسی ترسیخ الإسلام کدین فی نفوس الناس ، فکان یعول بمئة بیت أو أربع مئة بیت من أهل المدینة ، مع أنه کان یقول لیس فی المدینة عشرون بیتاً یحبوننا !

وأن هدف الإمام الباقر(علیه السّلام)کان بناء الکتلة الواعیة أو الأمة داخل الأمة ، فکان

ص: 27

ینفق علی خاصة أصحابه ، ویتصدق کل جمعة فی المسجد بدینار .

لکن عمل الإمام زین العابدین(علیه السّلام)کان کذلک أیضاً ، فکلاهما قام بترسیخ قِیَم الدین ککل واصطناع الأمة داخل الأمة، والفرق بین عملهما(علیهماالسّلام)فی الدرجة ولیس فی النوع ، ویفهم ذلک من نص صحیفة الوصیة: ( فلما مضی دفعها إلی علی بن الحسین(علیه السّلام) قبل ذلک ، ففتح الخاتم الرابع فوجد فیها أن اصمت وأطرق لمَّا حُجِبَ العلم . فلما توفی ومضی دفعها إلی محمد بن علی(علیهماالسّلام)ففتح الخاتم الخامس فوجد فیها أن فسر کتاب الله تعالی وصدِّق أباک وورث ابنک واصطنع الأمة ، وقم بحق الله عز وجل، وقل الحق فی الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله) .

فعبارة: وصدِّق أباک.. للباقر(علیه السّلام)تدل علی أن: أصمت وأطرق.. لأبیه(علیه السّلام) ، هی أحد مضامین الصحیفة ولیست کل ما فیها عن دوره ، فقد جهر بالحق واصطنع الأمة ، ثم صدقه الإمام الباقر(علیه السّلام)وبدأ بمرحلة جدیدة فی اصطناع الأمة ، حیث أمره الله تعالی أن یبقر علم النبوة ویفجر ینابیعه ، فقام بإعلاء صرح التشیع الذی شیده والده(علیه السّلام)وأرسی معالمه . کما رسَّخ قیم الإسلام فی الأمة ، ورفعت عنه التقیة فی کل ذلک .

ص: 28

الفصل الثانی: سماه جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )باقر علم النبوة وبشر به الأمة

1- اشتهر(علیه السّلام)بهذا الإسم ورواه المؤالف والمخالف

أشهر ألقابه(علیه السّلام)الباقر ، وباقر العلم . قال فی القاموس: ( والباقر: محمد بن علی بن الحسین رضی الله تعالی عنهم ، لتبحره فی العلم) .

وقال الزبیدی:6/105: ( وفی اللسان: لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه . قلت: وقد ورد فی بعض الآثار عن جابر بن عبد الله الأنصاری أن النبی (ص) قال له: یوشک أن تبقی حتی تلقی ولداً لی من الحسین یقال له محمد یبقر العلم بقراً ، فإذا لقیته فاقرأه منی السلام . خرَّجه أئمة النسب ). انتهی.

أقول: یقصد الزبیدی حدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی بَشَّر فیه بحفیده الباقر(علیه السّلام)وبعث الیه سلامه مع جابر بن عبد الله الأنصاری(رحمه الله)! ففی الکافی:1/469 ، عن الصادق(علیه السّلام) بسند صحیح قال: (إن رسول الله قال ذات یوم لجابر بن عبد الله الأنصاری: یا جابر إنک ستبقی حتی تلقی وَلَدی محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب ، المعروف فی التوراة بالباقر ، فإذا لقیته فاقرأه منی السلام ، فدخل جابر إلی علی بن الحسین(علیهماالسّلام)فوجد محمد بن علی عنده غلاماً فقال له: یا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال: أدبر فأدبر ، فقال جابر: شمائل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ورب الکعبة ، ثم أقبل علی بن

ص: 29

الحسین فقال له: من هذا ؟ قال: هذا ابنی وصاحب الأمر بعدی محمد الباقر ، فقام جابر فوقع علی قدمیه یقبلهما ویقول: نفسی لنفسک الفداء یا ابن رسول الله ، إقبل سلام أبیک. إن رسول الله یقرأ علیک السلام . قال: فدمعت عینا أبی جعفر ثم قال: یا جابر علی أبی رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعلیک السلام یا جابر بما بلغت ) .

وقال فی مناقب آل أبی طالب:3/328: (وحدیث جابر مشهور معروف ، رواه فقهاء المدینة والعراق کلهم.. بطرق کثیرة عن سعید بن المسیب ، وسلیمان الأعمش ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة بن أعین ، وأبی خالد الکابلی..). وقال المفید فی الإرشاد:2/159: (وسماه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعرفه بباقر العلم علی ما رواه أصحاب الآثار ، وبما روی عن جابر بن عبد الله فی حدیث مجرد أنه قال: قال لی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یوشک أن تبقی حتی تلقی ولداً لی من الحسین ، یقال له محمد ، یبقر علم الدین بقراً ، فإذا لقیته فاقرئه منی السلام). والمستجاد/170 .

وفی مناقب أمیر المؤمنین لمحمد بن سلیمان:2/275: (تلقی رجلاً من ولدی یقال له محمد بن علی بن الحسین، یهب الله له النور والحکمة ، فإذا لقیته فاقرأه منی السلام ).

وفی تاریخ الیعقوبی:2/320: (وکان یسمی أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم . قال جابر بن عبد الله الأنصاری: قال لی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنک ستبقی حتی تری رجلاً من ولدی أشبه الناس بی إسمه علی اسمی ، إذا رأیته لم یخف علیک ، فاقرئه منی السلام ! فلما کبرت سنُّ جابر وخاف الموت جعل یقول: یا باقر یا باقر أین أنت ؟ حتی رآه فوقع علیه یقبل یدیه ورجلیه ، وهو یقول: بأبی وأمی ، شبیه أبیه رسول الله ! إن أباک یقرؤک السلام ).

وأوردناه فی معجم أحادیث الإمام المهدی:3/326، عن أمالی الطوسی:2/249 ، وغیره

ص: 30

بلفظ آخر وفیه: (فأتی جابر بن عبد الله باب علی بن الحسین(علیهاالسّلام)وبالباب أبو جعفر محمد بن علی ، فی أغیلمة من بنی هاشم قد اجتمعوا هناک ، فنظر جابر إلیه مقبلاً فقال: هذه مشیة رسول الله وسجیته ، فمن أنت یا غلام؟ قال: فقال: أنا محمد بن علی بن الحسین ، فبکی جابر بن عبد الله ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدن منی بأبی أنت وأمی ، فدنا منه فحل جابر إزاره ووضع یده علی صدره فقبله وجعل علیه خده ووجهه وقال له: أقرؤک عن جدک رسول الله السلام...وفی

آخره:فأقبل جابر علی من حضر وقال: والله ما رؤی فی أولاد الأنبیاء مثل علی بن الحسین إلا یوسف بن یعقوب(علیهماالسّلام)، والله لذریة علی بن الحسین أفضل من ذریة یوسف بن یعقوب ، إن منهم لمن یملأ الأرض عدلا کما ملئت جوراً). أیضاً: أمالی الصدوق/434 والعلل:1/233، وإعلام الوری:1/505 والثاقب /104 ، والخرائج:2/892 ، وعمدة الطالب/194 ، وروضة الواعظین/202 ، والهدایة الکبری/241، بسند صحیح فی عدد منها .

وروت مصادرنا أحادیث تسمیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )له بالباقر(علیه السّلام)، منها فی معجم أحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام):3/194، عن الإمام زین العابدین(علیه السّلام)، وفیه: (واسمه فی صحف الأولین باقر ، یبقر العلم بقراً ). ومنها فی کفایة الأثر/81 ، عن أبی هریرة قال: (کنت عند النبی وأبو بکر وعمر والفضل بن العباس وزید بن حارثة وعبد الله بن مسعود ، إذ دخل الحسین بن علی.... وفیه: یخرج من صلبه ولد مبارک سمیُّ جده علی یسمی العابد ونور الزهاد ، ویخرج من صلب علی ولد إسمه إسمی وأشبه الناس بی ، یبقر العلم بقراً ، وینطق بالحق ویأمر بالصواب ، ویخرج الله من صلبه کلمة الحق ولسان الصدق . فقال له ابن مسعود: فما إسمه یا نبی الله ؟ قال: فقال له: جعفر ، صادق فی قوله وفعاله ) .

ص: 31

2- وروی علماء السنة حدیث بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالباقر(علیه السّلام)

فقد رواه أبو نصر البخاری من حدیث جابر فی سر السلسلة العلویة/32 ، ونصه: (یا جابر ، إنک ستعیش حتی تدرک رجلاً من أولادی إسمه إسمی ، یبقر العلم بقراً ، فإذا رأیته فاقرأه منی السلام ، ففعل ذلک جابر(رحمه الله)).

ورواه محمد بن طلحة الشافعی فی مطالب السؤول/81 وطبعة425، فقال: (الإمام محمد الباقر: هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ورافعه ، ومتفوق دره وواضعه ، ومنمق دره وراضعه ، صفا قلبه وزکا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت فی مقام التقوی قدمه ، وظهرت علیه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء ، فالمناقب تسبق إلیه ، والصفات تشرف به.. ثم روی حدیث جابر فی/431: (کنت مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والحسین فی حجره وهو یلاعبه ، فقال: یا جابر یولد لابنی الحسین ابن یقال له علی ، إذا کان یوم القیامة نادی مناد: لیقم سید العابدین . فیقوم علی بن الحسین ، ویولد لعلی ابن یقال له محمد ، یا جابر إن رأیته فاقرءه منی السلام ، واعلم أن بقاءک بعد رؤیته یسیر . فلم یعش جابر بعد ذلک إلا قلیلا) .

ورواه ابن قتیبة فی عیون الأخبار:2/91 ، وفیه: ( یا جابر إنک ستعیش بعدی حتی یولد لی مولود إسمه کاسمی یبقر العلم بقراً فإذا لقیته فاقرئه منی السلام).

ورواه العاصمی فی سمط النجوم:4/141،و:2/348، وحکم بصحته فقال: (یکنی أبا جعفر..

والهادی ، وأشهرها الباقر لقول النبی(ص) لجابر بن عبد الله الأنصاری إنک ستعیش حتی تری رجلاً من أولادی إسمه إسمی یبقر العلم بقراً ، فإذا لقیته فأقره منی السلام فلقیه جابر وأقرأه السلام من رسول الله).

ص: 32

ورواه مرسلاً وصححه ، ابنُ أبی الحدید المعتزلی فی شرح النهج:15/277، قال: (وهو سید فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر باقر العلم ، لقبه به رسول الله (ص) ولم یُخلق بعد ، وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤیته ، وقال: ستراه طفلاًً ، فإذا رأیته فأبلغه عنی السلام ! فعاش جابر حتی رآه ، وقال له ما وُصِّیَ به ) . ورواه ابن الصباغ المالکی فی الفصول المهمة:2/882 ، وفیه: ( یبقر العلم بقراً ، أی یفجره تفجیراً ، فإذا رأیته فاقرأه عنی السلام ).

ورواه الزرندی الشافعی فی معارج الوصول إلی معرفة فضل آل الرسول/122، قال: (سماه رسول الله الباقر ، وأهدی إلیه سلامه علی لسان جابر بن عبد الله فقال: یا جابر إنک تعیش حتی تدرک رجلاً من أولادی إسمه إسمی یبقر العلم بقراً ، فإذا رأیته فاقرأه منی السلام . فأدرکه جابر بن عبد الله الأنصاری وهو صبی فی الکتاب فأقرأه عن رسول الله (ص) السلام المستطاب ، وقال: هکذا أمرنی رسول الله (ص) . وهذه منقبة لم یشرکه فیها أحد من الآل والأصحاب ).

ورواه ابن حجر الهیتمی فی الصواعق:2/585 ، قال: (أبو جعفر محمد الباقر سمی بذلک من بَقَرَ الأرض أی شقها وأثار مخبئاتها ومکامنها ، فکذلک هو أظهر من مخبئات کنوز المعارف وحقائق الأحکام والحکم واللطائف ما لا یخفی إلا علی منطمس البصیرة أو فاسد الطویة والسریرة ، ومن ثَم قیل فیه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ، عمرت أوقاته بطاعة الله وله من الرسوخ فی مقامات العارفین ما تکل عنه ألسنة الواصفین ، وله کلمات کثیرة فی السلوک والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وکفاه شرفاً أن ابن المدینی روی عن جابر أنه قال له وهو صغیر: رسول الله یسلم علیک ، فقیل له وکیف ذاک؟ قال: کنت جالساً عنده والحسین فی حجره وهو یداعبه فقال: یا جابر یولد له مولود اسمه علی إذا کان یوم القیامة

ص: 33

نادی مناد لیقم سید العابدین ، فیقوم ولده . ثم یولد له ولد اسمه محمد الباقر ، فإن أدرکته یا جابر فاقرئه منی السلام ) .

وفی شرح إحقاق الحق:28/234 ، رواه فی سبائک الذهب فی معرفة قبائل العرب/329 ط دار الکتب العلمیة بیروت ، وفیه: ( یا جابر یوشک أن تلحق بولد من ولد الحسین إسمه کاسمی یبقر العلم بقراً أی یفجره تفجیراً ).

وذکر فی هامش نهج الحق/257 ، أن الخطیب فی تاریخ بغداد:2/204، روی قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لجابر: (أنت تدرک ولدی محمد الباقر ، إنه یبقر العلم بقراً فإذا رأیته ، فاقرأه عنی السلام) . ولم أجده هناک ، ولعل ید المحرفین حذفته من المطبوع !

وستری أن الذهبی رواه بسند صحیح !

وروی أبو نصر البخاری فی السلسلة العلویة/32: ( وفد زید بن علی علی هشام (الأحول) بن عبد الملک فقال له هشام: ما فعل أخوک البقرة ، یعنی الباقر؟! فقال زید: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله (ص) ! سماه رسول الله الباقر وتسمیه البقرة ! لتُخَالفنَّه فی یوم القیامة فیدخل الجنة وتدخل النار !..القصة بطولها.. وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسین ، أبوه علی بن الحسین ، وأمه أم عبد الله بنت الحسن ، وفیه یقول القرظی:

یا باقر العلم لأهل التقی

وخیر من لبَّی علی الأجْبُلِ

وفیه یقول مالک بن أعین الجهنی:

إذا طلب الناس علم القران

کانت قریشٌ علیه عیالا

وإن قیل هذا ابن بنت النبی

نال بذاک فروعاً طوالا

نجومٌ تهلل للمُدْلجین جبالٌ تورث علماٌ جبالا) . انتهی.

ولحدیث زید(رحمه الله)مع هشام مصادر عدیدة تاریخیة وحدیثیة ستأتی ، وهو کاف لتصحیح حدیث جابر(رحمه الله) ، حتی عند المتشددین فی الجرح .

ص: 34

3- قبل المتعصبون لقب الباقر وغیَّبوا حدیث جابر !

فی شرح مسلم للنووی:6/137: (ومنه سمیَ محمد الباقر رضی الله عنه ، لأنه بقر العلم ودخل فیه مدخلاً بلیغاً ووصل منه غایة مرضیة ).

وفی عمدة القاری بشرح البخاری للعینی:3/52: (أما محمد بن علی فهو: محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب ، رضی الله تعالی عنهم أجمعین ، الهاشمی المدنی ، أبو جعفر المعروف بالباقر ، سمی به لأنه بقر العلم أی شقه بحیث عرف حقائقه ، وهو أحد الأعلام التابعین الأجلاء).

وفی تفسیر القرطبی:1/446: (ومنه الباقر لأبی جعفر محمد بن علی زین العابدین ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أی شقه ).

وفی تذکرة حفاظ الذهبی:1/124: ( أبو جعفر الباقر محمد بن علی بن الحسین الإمام الثبت الهاشمی العلوی المدنی... وکان سید بنی هاشم فی زمانه . اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم ، یعنی شقه فعلم أصله وخفیه ).

وبنحو هذا فسر لقب (الباقر) عامة من ترجم للإمام(علیه السّلام)من علمائهم .

4- شهد مخالفو الإمام(علیه السّلام)وأعداؤه بعلمه وقداسته !

قال سبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص/347: (عن عطاء المکی قال: ما رأیت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبی جعفر محمد بن علی بن الحسین ! ولقد رأیت الحکم بن عیینة مع جلالته فی القوم بین یدیه کأنه صبی بین یدی معلمه ! وکان جابر بن یزید الجعفی إذا روی عن محمد بن علی شیئاً قال: حدثنی وصیُّ الأوصیاء ، ووارث علم الأنبیاء: محمد بن علی بن الحسین).

وقال ابن حجر فی تهذیب التهذیب:9/313: (قال الزبیر ابن بکار: کان یقال لمحمد

ص: 35

باقر العلم . وقال محمد بن المنکدر: ما رأیت أحداً یفضل علی علی بن الحسین حتی رأیت ابنه محمداً ، أردت یوماً أن أعظه فوعظنی).

وقال محمد بن طلحة الشافعی فی مطالب السؤول/436: (نقل عنه الحدیث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم ، مثل یحیی بن سعید الأنصاری ، وابن جریح ، ومالک بن أنس ، والثوری ، وابن عیینة ، وشعبة ، وأیوب السجستانی وغیرهم ، وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضیلة اکتسبوها ).

وقال الحافظ أبو نعیم: (ومنهم الإمام الحاضر الذاکر الخاشع الصابر ، أبو جعفر محمد بن علی الباقر ، وکان من سلالة النبوة ، وجمع حسب الدین والأبوة ، تکلم فی العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهی عن المراء والخصومات ). (کشف الغمة:2/344).

وقال ابن عساکر فی تاریخ دمشق:54/268: (محمد بن علی بن الحسین.. باقر العلم من أهل المدینة ، أوفده عمر بن عبد العزیز علیه (أی طلب أن یفد الیه) حین ولی الخلافة یستشیره فی بعض أموره... لما ولیَ بعث إلی الفقهاء فقربهم ، وکانوا أخص الناس به ، بعث إلی محمد بن علی بن حسین أبی جعفر ، وبعث إلی عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وکان من عباد أهل الکوفة وفقهائهم ، فقدم علیه وبعث إلی محمد بن کعب القرظی ، وکان من أهل المدینة من أفاضلهم وفقهائهم ، فلما قدم أبو جعفر محمد بن علی علی عمر بن عبد العزیز وأراد الإنصراف إلی المدینة قال: بینما هو جالس فی الناس ینتظرون الدخول علی عمر إذ أقبل ابن حاجب عمر وکان أبوه مریضاً فقال: أین أبو جعفر لیدخل! فأشفق محمد بن علی أن یقوم فلا یکون هو الذی دعا به ، فنادی ثلاث مرات ، قال: لم یحضر یا أمیر المؤمنین ! قال بلی قد حضر حدثنی بذلک الغلام ، قال: فقد نادیته

ص: 36

ثلاث مرات ، قال: کیف قلت؟ قال قلت: أین أبو جعفر ؟! قال: ویحک أخرج فقل: أین محمد بن علی ، فخرج ، فقام فدخل فحدثه ساعة وقال إنی: أرید الوداع یا أمیر المؤمنین ، قال عمر فأوصنی یا أبا جعفر ، قال: أوصیک بتقوی الله واتخذ الکبیر أباً والصغیر ولداً والرجل أخاً ، فقال: رحمک الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله علیه استقام لنا الخیر إن شاء الله . ثم خرج ، فلما انصرف إلی رحله أرسل إلیه عمر: إنی أرید أن آتیک فاجلس فی إزار ورداء ، فبعث إلیه: لا بل أنا آتیک ، فأقسم علیه عمر فأتاه عمر فالتزمه ووضع صدره علی صدره وأقبل یبکی ثم جلس بین یدیه ، ثم قام ولیس لأبی جعفر حاجة سأله إیاها إلا قضاها له ، وانصرف فلم یلتقیا حتی ماتا جمیعاً ) .

ونقل الطبری فی تاریخه:6/197، رسالة المنصور العباسی الی محمد بن عبدالله بن الحسن الذی خرج علیه ، جاء فیها: (وزعمت أنک أوسط بنی هاشم نسباً وأصرحهم أماً وأباً... وما ولد فیکم بعد وفاة رسول الله (ص) أفضل من علی بن حسین وهو لأم ولد ، ولهو خیر من جدک حسن بن حسن ، وما کان فیکم بعده مثل ابنه محمد بن علی ، وجدته أم ولد ولهو خیر من أبیک ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، ولهو خیر منک) . وتاریخ الذهبی:9/23 .

وقال ابن سعد فی الطبقات:5/320: ( أبو جعفر محمد بن علی بن حسین بن علی بن أبی طالب بن عبد المطلب ، وأمه أم عبد الله بنت حسن بن علی... معاویة بن عبد الکریم قال: رأیت علی محمد بن علی أبی جعفر جبة خز ومطرف خز... عن جابر عن محمد بن علی قال: إنا آل محمد نلبس الخز والیمنة والمعصفرات والممصرات.. عن عبد الأعلی أنه رأی محمد بن علی یرسل عمامته خلفه... حکیم بن عباد بن حنیف قال: رأیت أبا جعفر متکئاً علی طیلسان مطوی فی

ص: 37

المسجد ، قال محمد بن عمر: ولم یزل ذلک من فعل الأشراف وأهل المروءة عندنا ، الذین یلزمون المسجد یتکئون علی طیالسة مطویة سوی طیلسانه وردائه الذی علیه.. عن عبد الأعلی قال: سألت محمد بن علی عن الوسمة فقال: هو خضابنا أهل البیت.. عبد الله بن قشیر الجعفی قال: قال لی أبو جعفر إخضب بالوسمة... المعیصی قال: رأیت محمد بن علی علی جبهته وأنفه أثر السجود لیس بالکثیر... أوصی أن یکفن فی قمیصه الذی کان یصلی فیه... سألت جعفراً: فی أی شئ کفنت أباک؟ قال: أوصانی فی قمیصه وأن أقطع أزراره ، وفی ردائه الذی کان یلبس ، وأن أشتری برداً یمانیاً ، فإن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کُفِّن فی ثلاثة أثواب أحدها برد یمان... وقال أبو نعیم الفضل بن دکین: توفی بالمدینة سنة أربع عشرة ومائة ، وکان ثقة کثیر العلم والحدیث ).

وقال ابن کثیر فی النهایة:9/339: (وسمی الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحکم ، کان ذاکراً خاشعاً صابراً ، وکان من سلالة النبوة رفیع النسب عالی الحسب ، وکان عارفاً بالخطرات کثیر البکاء والعبرات معرضاً عن الجدال والخصومات... عن زید بن خیثمة عن أبی جعفر قال: الصواعق تصیب المؤمن وغیر المؤمن ولا تصیب الذاکر... وقال جابر الجعفی: قال لی محمد بن علی: یا جابر إنی لمحزون وإنی لمشتغل القلب ! قلت: وما حزنک وشغل قلبک ؟ قال: یا جابر إنه من دخل قلبه صافی دین الله عز وجل شغله عما سواه ، یا جابر ما الدنیا وما عسی أن تکون؟ هل هی إلا مرکباً رکبته ، أو ثوباً لبسته ، أو امرأةً أصبتها ؟! یا جابر ، إن المؤمنین لم یطمئنوا إلی الدنیا لبقاء فیها.. فأنزلوا الدنیا حیث أنزلها ملیکهم کمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وترکوه ، وکماء أصبته فی منامک ، فلما استیقظت إذا لیس فی یدک منه شئ ، فاحفظ الله فیما استرعاک من دینه وحکمته..).

ص: 38

5- ملاحظات علی بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )به وتسمیته بالباقر(علیه السّلام)

1- اتضح بما تقدم صحة بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بحفیده الباقر(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتسمیته بباقر العلم فلماذا لم تنعکس هذه البشارة بحجمها علی عامة المسلمین وأجیالهم ؟!

فلو أن نبیاً آخر بَشَّرَ أمته بأنه سیکون من عترته بعد نصف قرن من یبقر لها علم النبوة ، لعظَّمَته أمته ، والتفَّتْ حوله ودَوَّنَتْ علومه .

لکن هذه الحقیقة کغیرها من الحقائق المرتبطة بأهل البیت(علیهم السّلام) ، رأت الخلافة أن من مصلحتها تغییبها وعدم نشرها فی المسلمین ! أما إذا عرفوها من رواة ساذجین أو غیر منضبطین ، فعلی علماء السلطة أن یهوِّنوا من أمرها !

لکن لو کان الذی بشر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنه سیبقر علم النبوة شخصاً من بنی أمیة ، أو من بنی تیم وعدی ، لرأیت تطبیلهم وتزمیرهم ، وتعظیمهم لباقر علم النبوة(علیهم السّلام) !

2- یتبادر الی ذهن المسلم سؤال الی نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ألست أنت یارسول الله باقر العلم؟ علم الکتاب والحکمة وبقیة الوحی الذی أنزله الله علیک ، فبقرته للناس وبینته ؟ فکیف صار حفیدک باقر العلم ، وأعطاه الله هذا الإسم فی التوراة ؟

ولا جواب علی هذا السؤال إلا بالقول إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )شق العلم وبینه للناس ، ولکن الحکومات المنحرفة بعده ستغیبه وتخفیه ، وستحتاج الأمة بعد عقود قلیلة الی من یشقه من جدید ، وهو ولده الباقر(علیه السّلام) ! لذلک لا تعجب إن أخفوا هذه البشارة النبویة ، بل اعجب لمن رواها منهم وفیها إدانة لحکوماتهم وثقافتهم !

3- والسؤال الأشد علیهم: هل صدق رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بشارته بحفیده أم لا ؟ فإن صدق(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فأین علم النبوة الذی شقه حفیده الباقر(علیه السّلام) ، وبیَّنه للأمة ؟!

ص: 39

أما الخلیفة الأموی هشام الأحول فقد: کذَّب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فعندما دخل علیه زید أخ

الإمام الباقر(علیه السّلام)أهانه وقال له: ما فعل أخوک البقرة ؟! فأجابه زید(رحمه الله): سماه رسول الله باقر العلم وأنت تسمیه بقرة ؟ لشدَّ ما اختلفتما إذن ، ولتخالفنّه فی الآخرة کما خالفته فی الدّنیا فیرد الجنّة وترد النّار ! فقال هشام: خذوا بید هذا الأحمق المائق ! فأخرجوه.. ومعه نفر یسیر حتی طردوه عن حدود الشام ). ( رواها ابن قتیبة فی عیون الأخبار:1/212 ، وآخرون بصیغ متعددة کالطبقات:5/325 ، وتاریخ دمشق:19/468 ، وتاریخ الطبری:5/486 ، وذیل تاریخ الطبری/130 ، والوافی:15/21 والکامل:4/445 ، وسیر الذهبی:5/447 ، والعقد الفرید/837 ، ومواعظ المقریزی/1872 ، ومناقب آل أبی طالب:3/328 ، وعمدة الطالب/194 ، والفرق والمذاهب/46 ، وسر السلسلة العلویة/33 ، وشرح النهج:3/285 ، وأنساب الأشراف/825 ، ووفیات الأعیان:3/317 وسمط النجوم/848 . وجاء فی بعضها: (أذن له بعد حبس طویل وهشام فی علیَّة له فرقی زید إلیها ، وقد أمر هشام خادماً له أنًََ یتبعه حیث لا یراه زید ویسمع ما یقول ، فصعد زید وکان بادناً فوقف فی بعض الدرجة ، فسمعه الخادم وهو یقول: ما أحبَّ الحیاة إلا من ذَل ، فأخبر الخادم هشاماً بذلک ، فلما قعد زید بین یدی هشام وحدثه حلف له علی شئ فقال هشام: لا أصدقک . فقال زید: إن الله لا یرفع أحداً عن أن یرضی بالله ، ولم یضع أحداً عن أن یرضی بذلک منه . قال له هشام: إنه بلغنی أنک تذکر الخلافة وتتمناها ولست هناک لأنک ابن أمة ! فقال زید: إن لک جواباً ! قال: تکلم قال: إنه لیس أحد أولی بالله ولا أرفع درجة عنده من نبی ابتعثه وهو إسماعیل بن إبراهیم وهو ابن أمة قد اختاره الله لنبوته وأخرج منه خیر البشر . فقال هشام: فما یصنع أخوک

البقرة ؟! فغضب زید حتی کاد یخرج من إهابه ، ثم قال: سماه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الباقر ، وتسمیه أنت البقرة ! لشدَّ ما اختلفتما ، لتخالفنه فی الآخرة کما خالفته فی الدنیا ، فیرد الجنة وترد النار ) .

ویقصد هشام أنک إذا کنت أنت تصلح للخلافة ، فما هو دور أخیک الباقر ؟

ص: 40

وفی طبقات الشعراء لابن المعتز/262: (قال زید بن علی لرجل سبَّه عند هشام بن عبد الملک: إنی والله ما أنا بالوشیظة المستلحقة ، ولا الحقیبة المستردفة ، ولا أنت بعبدی فأضربک ، ولا بکُفْئی فأسبُّک ) !

أقول: الوشیظ الوشیظة: الملحق بالقبیلة . والحقیب والحقیبة: الکیس أو الشخص الذی یحتقبه الراکب خلفه ، فهو ملحق أیضاً. (لسان العرب:7/466 ، و:1/325) .

ویتضح لک من کلام هشام أن الحکام الأمویین لم یکونوا یخجلون من تکذیب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والسخریة بکلامه ! أما علماؤهم فیختلفون عنهم بالشکل دون الجوهر ! وستری أن الذهبی وهو من کبار أئمتهم یزعم عدم صدق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی بشارته بحفیده الباقر(علیه السّلام)، لأنه فضَّل علیه ابن کثیر وغیره !

4- أما السؤال الأکثر إحراجاً لأتباع الحکومات القرشیة ، فهو عن العلم الذی کان مغیباً مغطی من عقیدة الإسلام وشریعته ، فبقره الإمام(علیه السّلام)وبینه للأمة ؟!

وجوابنا: أن الحکومات المتعاقبة قامت بتغییب علم النبوة فی الألوهیة ، فأخذت بمتشابه القرآن بدل محکماته ، وبأساطیر الیهود بدل أحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتعمدت أن تنشر عقیدة التجسیم لله تعالی ،

واللامنطقیة فی أفعاله !

کما غیبت عصمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الکاملة الشاملة ، فی منطقه وفعله ، واستبدلته بنبی یشک فی نبوته فیقرر أن یلقی بنفسه من شاهق وینتحر ، حتی یطمئنه قسیس هو ورقة بن نوفل (أول حدیث فی صحیح بخاری) ! أو نبی مسحور یتخیل أنه فعل الشی ولم یفعله ! أو نبی یخطئ فیصحح له أخطاءه عمر بن الخطاب ، فینزل الوحی مؤیداً لعمر موبخاً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! أو نبی عصبی المزاج یظلم قادة قریش ویلعنهم بغیر حق ثم یندم فیطلب أن یجعل الله لعنته علیهم رحمة وبرکة وزکاة ومغفرة !

کما غیبت مکانة أهل البیت النبوی(علیهم السّلام)التی أعطاها لهم الله فی إمامة الأمة

ص: 41

وحفظ الدین ، واستبدلتها بقیادة اللعناء والطرداء والطلقاء ، الذین حذر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الأمة من شرهم فلم تطعه ! فوقعت فی فتنتهم وذاقت الویلات من تسلطهم !

أقول: إن هذه الحقائق بعض دلالات هذه البشارة النبویة الإعجازیة ، التی توجب علینا الإعتراف بانحراف الوضع الثقافی فی عصر الإمام الباقر(علیه السّلام)، وبأن ما قدمه(علیه السّلام)کان بقراً للعلم النبوی ، وإخراجاً لجواهره خاصة فی العقیدة والفقه !

فهذه هی النظرة الصحیحة الی أحادیث الإمام الباقر(علیه السّلام) ، لا کما یزعم الذهبی الناصبی فیفضل علیه وعلی علمه أصحاب الإحتمالات والظنون والآراء الهوائیة !

6- لماذا غصَّ الذهبی وابن تیمیة بحدیث جابر؟!

قال الذهبی فی سیره:4/401 ، فی ترجمة الإمام الباقر(علیه السّلام): ( هو السید الإمام ، أبو جعفر محمد بن علی بن الحسین بن علی ، العلوی الفاطمی ، المدنی ، وَلَد زین العابدین ، وُلد سنة ست وخمسین فی حیاة عائشة وأبی هریرة . أرخ ذلک أحمد بن البرقی . روی عن جدیه النبی وعلی مرسلاً ، وعن جدیه الحسن والحسین مرسلاً أیضاً.. ولیس هو بالمکثر ، هو فی الروایة کأبیه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا یبلغ حدیث کل واحد منهم جزءاَ ضخماَ ، ولکن لهم مسائلُ وفتاوی...

وکان أحد من جمع بین العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وکان أهلا للخلافة . وهو أحد الأئمة الإثنی عشر الذین تبجلهم الشیعة الإمامیة وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجمیع الدین ، فلا عصمة إلا للملائکة والنبیین ، وکل أحد یصیب ویخطئ ، ویؤخذ من قوله ویُترک ، سوی النبی (ص) فإنه معصوم ، مؤید بالوحی . وشُهر أبو جعفر بالباقر ، من بقر العلم ، أی شقه فعرف أصله وخفیَّه . ولقد کان أبو جعفر إماماً مجتهداً ، تالیاً لکتاب الله ، کبیر الشأن ، ولکن لا یبلغ فی القرآن درجة ابن کثیر ونحوه ، ولا فی الفقه درجه أبی الزناد وربیعة ، ولا فی

ص: 42

الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب ، فلا نحابیه ولا نحیف علیه ، ونحبه فی الله لما تجمع فیه من صفات الکمال). انتهی.

هذه خلاصة کلام الذهبی ورأیه فی الإمام الباقر(علیه السّلام)، وهو یقدم لک نفسه علی أنه کاتبٌ موضوعی برئ ، وأنه ترجم لإمام من أهل البیت(علیهم السّلام)وأنصفه . مع أنه ارتکب التعتیم والبتر والتزویر جمیعاً !

1- تعمد التعتیم ، عندما روی فی نفس الترجمة ، عن الزبیر بن بکار بیت القرظی: یا باقر العلم لأهل التقی وخیر من لبَّی علی الأجْبُلِ.. ثم أبیات الجهنی: إذا طلب الناس علم القُرَان...الخ. ثم تعامی عن قصة زید(رحمه الله)مع هشام بن عبد الملک التی فیها حدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، مع أن المؤلفین قبله رووه مع الأبیات .

2- تعمد تغییب حدیث البشارة النبویة ، عندما روی حدیثاً بسند صحیح ، قال: (ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبی نجیح ، حدثنا علی بن حسان القرشی، عن عمه عبد الرحمن بن کثیر، عن جعفر بن محمد ، قال: قال أبی: أجلسنی جدی الحسین فی حجره وقال لی: رسول الله یقرؤک السلام).انتهی.

ولم یسأل نفسه: لماذا أرسل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )سلامه الی حفیده الباقر(علیه السّلام) ، ولم یورد البشارة النبویة مع أن مصادرنا روتها ، ورواها غیرنا من علمائهم ؟!

3- ارتکب الإنتقاء الکیفی الذی لایخلو من خباثة ، حیث روی فی نفس الترجمة/404 ، صیغةً مستهجنةً لحدیث جابر(رحمه الله)للطعن فیه وفی الإمام(علیه السّلام)! قال: (عن أبان بن تغلب ، عن محمد بن علی قال: أتانی جابر بن عبد الله وأنا فی الکتَّاب فقال لی: إکشف عن بطنک ، فکشفت ، فألصق بطنه ببطنی ثم قال: أمرنی رسول الله أن أقرئک منه السلام . قال ابن عدی: لا أعلم رواه عن أبان غیر المفضل بن صالح أبی جمیلة النحاس). والمعقول فیه ما رواه الیعقوبی:2/320: (حتی رآه فوقع

ص: 43

علیه یقبل یدیه ورجلیه ، ویقول: بأبی وأمی شبیه أبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )).

ومع أن الذهبی ضعَّف هذه الصیغة من الحدیث کغیره ، لکنه أغمض عینیه عن أصله الصحیح المروی فی کتب العلماء قبله ، کبشارة المصطفی لمحمد بن علی الطبری/113 ، وهو من علماء القرن الرابع ، والذهبی من القرن الثامن ! وجاء فیه: (فأتی جابر بن عبد الله باب علی بن الحسین ، وبالباب أبو جعفر محمد بن علی فی أغیلمة من بنی هاشم قد اجتمعوا هناک ، فنظر جابر بن عبد الله إلیه مقبلاً فقال: هذه مشیة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسمته ، فمن أنت یا غلام؟ قال: أنا محمد بن علی بن الحسین ، فبکی جابر وقال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدنُ منی بأبی أنت ، فدنا منه فحل جابر أزراره ثم وضع یده علی صدره فقبله وجعل علیه خده ووجهه ، وقال: أقرؤک عن جدک رسول الله السلام ، وقد أمرنی أن أفعل بک ما فعلت ، وقال لی: یوشک أن تعیش وتبقی حتی تلقی من ولدی من اسمه محمد بن علی ، یبقر العلم بقراً ). انتهی.

وما نسبه حدیث الذهبی الی جابر ، محرَّفٌ عن حدیث مشابه لأبی هریرة رواه الحاکم:3/168، وصححه ، وأحمد:2/427 ، أن (أبا هریرة لقی الحسن فقال له إکشف عن بطنک حتی أقبل حیث رأیت رسول الله (ص) یقبِّل منه . قال: فکشف عن بطنه فقبَّله). وتاریخ دمشق:13/220، وقال فی الزوائد:9/177: رواه أحمد والطبرانی.. ورجالهما رجال الصحیح ، غیر عمیر بن إسحاق وهو ثقة) .

ثم إن الحدیث الذی رووه وضعفوه بالمفضل النحاس أو النخاس ، مروی بواسطة آخرین عن أبان بن تغلب(رحمه الله)وهو من کبارالقراء والمحدثین ومرویاته معروفة لأمثال الذهبی ، وقد ترجمت له المصادر الرجالیة الشیعیة والسنیة وترجم له الذهبی فی الکاشف:1/205، وقال: ثقة ، شیعی . وقال عنه سیره:6/308 : (أبان بن تغلب الإمام المقرئ أبو سعد... وهو صدوق فی نفسه ، عالم کبیر وبدعته خفیفة ، لا یتعرض للکبار ، وحدیثه یکون نحو المئة ، لم یخرج له البخاری ، توفی فی

ص: 44

سنة إحدی وأربعین ومئة) .وقال عنه فی میزان الإعتدال:1/5: (شیعی جلد ، لکنه صدوق فلنا صدقه وعلیه بدعته . وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معین وأبو حاتم . وأورده ابن عدی وقال: کان غالیاً فی التشیع . وقال السعدی: زائغ مجاهر . فلقائل أن یقول: کیف ساغ توثیق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان ؟ فکیف یکون عدلاً من هو صاحب بدعة ؟! وجوابه أن البدعة علی ضربین: فبدعة صغری کغلو التشیع أو کالتشیع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا کثیر فی التابعین وتابعیهم مع الدین والورع والصدق. فلو رُدَّ حدیث هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبویة ، وهذه مفسدة بینة. ثم بدعة کبری کالرفض الکامل والغلو فیه ، والحط علی أبی بکر وعمر رضی الله عنهما والدعاء إلی ذلک ، فهذا النوع لا یحتج بهم ولا کرامة) . راجع روایة أبان فی تسمیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للإمام بالباقر(علیه السّلام)فی الکافی:1/469 ، وفی ترجمته فی رجال الطوسی:1/217، وقد نقل الذهبی عن هذا الکتاب فی مؤلفاته کثیراً .

4- ولم یکتف الذهبی بما فعله ، حتی انتقص من الإمام الباقر(علیه السّلام)وطعن فیه ، بل طعن فی قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتسمیته إیاه باقر العلم !

فکأن الذهبی یقول: نعم أرسل النبی سلامه الی حفیده الباقر ، وقد یکون سماه باقر العلم لکن قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یتحقق فلم یبقر محمد بن علی علم الأنبیاء(علیهم السّلام)ولاشق علوم القرآن لأن الإمام ابن کثیر زمیل الذهبی فی التفسیر أفضل من محمد الباقر(علیه السّلام) ! کما أن الباقر لم یشق علم الفقه والشریعة لأن ربیعة الرأی وأبا الزناد أعلم منه فی الفقه ! وإمامه أبو الزناد هو الذی یطعن فیه مالک وهو ابن أخ أبی لؤلؤة قاتل عمر. (کاشف الذهبی:1/549).

5- ثم أفاض الذهبی فی موقف الإمام الباقر وابنه الإمام الصادق(علیهماالسّلام)من أبی بکر وعمر ، وروی مکذوبات علیهما فی مدیحهما ، لیبرر بذلک بعض مدحه له !

ص: 45

7- ابن تیمیة فهم لقب الباقر(علیه السّلام)أکثر من الذهبی !

فهم ابن تیمیة معنی تسمیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لحفیده بالباقر(علیه السّلام)ولوازمها ، أکثر من الذهبی ، ولذلک بادر الی تکذیب الحدیث بدون أن یراجعه !

قال السید المیلانی فی دراسات فی منهاج السنة/367 ، ما خلاصته: (ذکرنا طرفاً من کلمات أعلام أهل السنة المتقدمین منهم والمتأخرین فی مدح الأئمة(علیهم السّلام) والإعتراف بفضائلهم ومناقبهم... إلا أنک تجد فی المقابل من یتجاسر علی أهل البیت(علیهم السّلام)ویحط من شأنهم ویکذب علیهم.. حتی أن قائلاً منهم قال إن الحسین قتل بسیف جده ! وبعضهم قدح فی وثاقة بعض الأئمة الأطهار وقال إن فی نفسه منه شیئاً ! ولعل أشهر

هؤلاء ابن تیمیة ، فقد أطلق فی کتابه لسانه البذئ علیهم ، فحاول سلبهم فضائلهم کلها ، وجعلهم کأناس عادیین لا یجوز تفضیلهم بعلم ولا زهد ، بل کذب علیهم وافتری! وردَّ أن أبا حنیفة درس عند الإمام الصادق(علیه السّلام) ، وادعی أن الإمام السجاد(علیه السّلام)تعلم من مروان بن الحکم ! وتراه یعظم الجنید وسهلاً التستری وأمثالهما ویصفهم بالزهد ، بینما ینفی أن یکون الحسن والحسین(علیهماالسّلام)أزهد الناس فی عصرهما !

ثم یُکذِّب أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لقب أحدهم "زین العابدین" وأحدهم "الباقر" وینفی حتی توبة "بشر الحافی" بواسطة أحدهم ، وأن معروفاً الکرخی کان خادماً لأحدهم ! فحتی مثل هذه الأمور لم یتحملها ابن تیمیة !

ثم ذکر نفیه حدیث تسمیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للإمام بالباقر ، قال فی منهاج سنته:4/51: (لا أصل له عند أهل العلم ، بل هو من الأحادیث الموضوعة ، وکذلک حدیث تبلیغ جابر له السلام ، هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحدیث). ورد علیه بروایة ابن قتیبة فی احتجاج زید(علیه السّلام)علی هشام وبقول ابن شهراشوب: (حدیث جابر

ص: 46

مشهور معروف ، رواه فقهاء المدینة والعراق کلهم).

ثم ذکر استدلال ابن تیمیة علی أن الأئمة(علیهم السّلام)تعلموا من علماء زمانهم بقوله: (ومن المعلوم أن علی بن الحسین وأبا جعفر محمد بن علی وابنه جعفر بن محمد ، کانوا هم العلماء الفضلاء ، وأن من بعدهم من الإثنی عشر لم یعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء . ومع هذا فکانوا یتعلمون من علماء زمانهم ویرجعون إلیهم ، حتی قال أبو عمران بن الأسس القاضی البغدادی: أخبرنا أصحابنا أنه ذکر ربیعة بن أبی عبد الرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم ، فقال ربیعة: إنه اشتری حائطاً من حیطان المدینة ، فبعث إلی حتی أکتب له شرطاً فی ابتیاعه . نقله عنه محمد بن حاتم ابن ریحوته البخاری ، فی کتاب إثبات إمامة الصدیق) ! انتهی.

لکن الی الآن لم یعرف أحد من هو أبوعمران الأسس ، ولا من هو ابن ریحوتة البخاری اللذین جعلهما ابن تیمیمة أستاذین للأئمة(علیهم السّلام)! ولا من روی طلب الإمام الصادق(علیه السّلام)من ربیعة أن یکتب له وثیقة شراء بستان !

ولعل ابن تیمیة شعر بأنه أفرط فی رکة استدلاله وتحامله علی أئمة أهل البیت(علیهم السّلام)فقال فی منهاجه:4/110، کالمعتذر عن عدم روایتهم عنهم ، وتفضیل نکرات علیهم: (لکن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحدیث والفتیا قد یکون أکثر من المنقول الثابت عن الآخر ، فتکون شهرته لکثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلک . وإلا فلا یقول أهل السنة إن یحیی بن سعید وهشام بن عروة وأبا الزناد أولی بالإتباع من جعفر بن محمد ، ولا یقولون إن الزهری ویحیی بن أبی کثیر وحماد بن أبی سلیمان ومنصور بن المعتمر أولی بالاتباع من أبیه أبی جعفر الباقر ، ولا یقولون إن القاسم بن محمد وعروة بن الزبیر وسالم بن عبد الله أولی بالإتباع من علی بن الحسین ، بل کل واحد من هؤلاء ثقة فیما ینقله مصدق

ص: 47

فی ذلک.). انتهی. لکن کلامه هذا لایجبر انتقاصه من مقامهم(علیهم السّلام)وهو کثیر حتی حکم علیه بعض علماء المذاهب بأنه ناصبی مبغض لعلی(علیه السّلام)) ! انتهی کلام المیلانی .

أقول: وللذهبی کلام من نوع کلام ابن تیمیة هذا ، یحاول فیه جبر انتقاصه لحقهم(علیهم السّلام)! قال فی سیره:13/120:(فسبطا رسول الله (ص) وسیدا شباب أهل الجنة لو استخلفا لکانا أهلاً لذلک . وزین العابدین کبیر القدر من سادة العلماء العاملین یصلح للإمامة ، وله نظراء ، وغیره أکثر فتوی منه ، وأکثر روایة . وکذلک ابنه أبو جعفر الباقر: سیدٌ ، إمام ، فقیه ، یصلح للخلافة . وکذا ولده جعفر الصادق: کبیر الشأن من أئمة العلم ، کان أولی بالأمر من أبی جعفر المنصور . وکان ولده موسی کبیر القدر جید العلم ، أولی بالخلافة من هارون ، وله نظراء فی الشرف والفضل .

وابنه علی بن موسی الرضا کبیر الشأن له علم وبیان ووقع فی النفوس ، صیره المأمون ولی عهده لجلالته فتوفی سنة ثلاث ومئتین . وابنه محمد الجواد من سادة قومه ، لم یبلغ رتبة آبائه فی العلم والفقه . وکذلک ولده الملقب بالهادی شریف جلیل . وکذلک ابنه الحسن بن علی العسکری . رحمهم الله تعالی).

لکن ملاحظة ما ارتکبه الذهبی وابن تیمیة من تحریف وتزویر لانتقاص حقوق أئمة العترة النبویة(علیهم السّلام) ، یکشف عن أن مدحهما لهم للتغطیة لا أکثر ، حتی لایتهمان بالنصب والنفاق !

ص: 48

8- أهم المجالات التی فجَّر فیها الإمام(علیه السّلام)علم النبوة للأمة

1- تجدید علم التوحید ، وتعلیم الأمة تنزیه الله تعالی وتحصینها من التشبیه .

2- توضیح مقام النبوة ورد التهم والشبهات حول شخصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وکشف تحریفات سنته وسیرته من قبل الحکومات ورواتها .

3- بیان عقیدة الإمامة وأصالتها فی نسیج الإسلام ، وتحدید الفئة الناجیة ، وإرساء معالم عقائدها ، وتعلیم الأمة البراءة من مدعی الإمامة .

4- بیان معالم الفقه الإسلامی ووضع أصول الفقه ، فی مواجهة الفقه الظنی والکیفی ، الذی تبنته الحکومات وعلماؤها ، وأصول الحدیث فی مواجهة الإسرائیلیات والمکذوبات عند رواة الخلافة .

5- فتح نافذة علی الأمة من الغیب النبوی ، وإخبارها عن بعض الأحداث فی مستقبلها القریب والبعید حتی یتحقق الوعد الإلهی بظهور مهدیها الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً .

قال المفید(رحمه الله)فی الإرشاد:2/157: (کان الباقر محمد بن علی بن الحسین(علیهم السّلام)من بین إخوته خلیفة أبیه علی بن الحسین ووصیه والقائم بالإمامة من بعده ، وبرز علی جماعتهم بالفضل فی العلم والزهد والسؤدد ، وکان أنبههم ذکراً وأجلهم فی العامة والخاصة ، وأعظمهم قدراً ، ولم یظهر عن أحد من ولد الحسن والحسین(علیهم السّلام)من علم الدین والآثار والسنة وعلم القرآن والسیرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبی جعفر(علیه السّلام) ، وروی عنه معالم الدین بقایا الصحابة ووجوه التابعین ورؤساء فقهاء المسلمین ، وصار بالفضل به عَلَماً لأهله ، تضرب به الأمثال وتسیر بوصفه الآثار والأشعار ، وفیه یقول القرظی:

یا باقر العلم لأهل التقی وخیر من لبَّی علی الأجْبُلِ...).

ص: 49

وقال السید الأمین فی أعیان الشیعة:1/99: (وجاء بعده ولده محمد الملقب بالباقر لقب بذلک لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فیه... وعاصر من ملوک بنی أمیة خمسة أو ثمانیة: الولید وسلیمان ویزید وهشام أولاد عبد الملک بینهم عمر بن عبد العزیز ، وأخذ عنه عظماء المسلمین من الصحابة والتابعین والفقهاء والمصنفین والعلماء ، من جمیع نحل الإسلام ، واقتدوا به واتبعوا أقواله ، واستفادوا من فقهه وحججه البینات ، فی التوحید والفقه والکلام ، وغیرها . وفی مناقب ابن شهرآشوب: یقال لم یظهر علی أحد من ولد الحسن والحسین(علیهماالسّلام)من العلوم ما ظهر منه من التفسیر والکلام والفتیا والأحکام والحلال والحرام). انتهی.

9- نماذج من علم الإمام(علیه السّلام)فی المجالات المتقدمة

1- فی علم التوحید: قال(علیه السّلام)لجابر بن یزید

الجعفی: (یا جابر ما أعظم فریة أهل الشام علی الله عز وجل ! یزعمون أن الله تبارک وتعالی حیث صعد إلی السماء وضع قدمه علی صخرة بیت المقدس ! ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه علی حجرٍ فأمرنا الله تبارک وتعالی أن نتخذه مصلی . یا جابر ، إن الله تبارک وتعالی لا نظیر له ولا شبیه ، تعالی عن صفة الواصفین وجل عن أوهام المتوهمین واحتجب عن أعین الناظرین ، لا یزول مع الزائلین ولا یأفل مع الآفلین . لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَئٌْ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ). (توحید الصدوق/179) . ویقصد(علیه السّلام)بأهل الشام السلطة الأمویة وعلماءها الذین ینشرون عقیدة کعب الأحبار فی التشبیه والتجسیم !

وقال(علیه السّلام): (من عبد المعنی دون الإسم فإنه یخبر عن غائب ، ومن عبد الإسم دون المعنی فإنه یعبد المسمی ، ومن عبد الإسم والمعنی فإنه یعبد إلاهین ، ومن عبد المعنی بتقریب الإسم إلی حقیقة المعرفة ، فهو موحد) .

ص: 50

وقال(علیه السّلام): ( أذکروا من عظمة الله ما شئتم ، ولا تذکرون منه شیئاً إلا وهو أعظم منه ! واذکروا من النار ما شئتم ولا تذکرون منها شیئاً إلا وهی أشد منه ! واذکروا من الجنة ما شئتم ولا تذکرون منها شیئاً إلا وهی أفضل منه ) !

وسأله داود بن القاسم الجعفری:جعلت فداک ما الصمد؟ قال: ( السید المصمود إلیه فی القلیل والکثیر) . (توحید الصدوق/179) .

وفی توحید الصدوق/92: أنه قدم علی الإمام الباقر(علیه السّلام)وفد من فلسطین یسألونه عن مسائل فأجابهم ، ثم سألوه عن الصمد ، فقال: تفسیر الصمد فیه خمسة أحرف ، فالألف دلیل علی إنیته ، وهو قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وذلک تنبیه وإشارة إلی الغائب عن درک الحواس ، واللام دلیل علی إلهیته بأنه هو الله ، والألف واللام مدغمان لا یظهران علی اللسان ولا یقعان فی السمع ، ویظهران فی الکتابة دلیلان علی أن إلهیته خافیة لا تدرک بالحواس ولا تقع فی لسان واصف ولا أذن سامع ، لأن تفسیر الإله هو الذی أله الخلق عن درک مائیته وکیفیته بحس أو بوهم ، لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس...الخ.).

2- فی مقام النبوة: اهتم الإمام(علیه السّلام)بمواجهة التحریف الأموی لسیرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والتنقیص من مقامه، فحدَّث تلامیذه والمسلمین بسیرته ومعجزاته ومقامه وصفته وشمائله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد رسمت أحادیثه وأحادیث ولده الصادق(علیهماالسّلام)أهم معالم السیرة النبویة . ففی مسند أحمد:1/101: (عن محمد بن علی رضی الله عنه عن أبیه قال: کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ضخم الرأس ، عظیم العینین ، هدب الأشفار قال حسن الشفار مشرب العینین بحمرة ، کث اللحیة ، أزهر اللون ، شثن الکفین والقدمین ، إذا مشی کأنما یمشی فی صعد ( وفی روایة تکفَّأ ) وإذا التفت التفت جمیعاً ).

وروی عنه عبد الرزاق فی المصنف:2/217 قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (من الجفاء أن أذکر

ص: 51

عند الرجل فلا یصلی علیَّ) . وروی عنه الحاکم:3/2 ، أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمضی فی مکة بعد البعثة ، ثلاث

عشرة سنة وروت مصادرهم عنه عن جابر وصف حج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، قال النووی فی المجموع:7/216: (وهو حدیث عظیم الفوائد فیه مناسک ومعظمها ذکر فیه کل ما فعله (ص) من حین خروجه إلی فراغه ، رواه مسلم وأبو داود وغیرهما بطوله ولم یروه البخاری بطوله) . والطیالسی/232، والمغنی:3/237.

3- فی مقام الإمامة: کان الإمام(علیه السّلام)یجهر بإمامة أهل البیت(علیهم السّلام)ومقامهم الذی خصهم الله تعالی به ، قال(علیه السّلام): ( لما أتی أبو بکر وعمر إلی منزل أمیر المؤمنین وخاطباه فی أمر البیعة وخرجا من عنده ، خرج أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إلی المسجد ، فحمد الله وأثنی علیه بما اصطنع عندهم أهل البیت إذ بعث فیهم رسولاً منهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً ، ثم قال: إن فلاناً وفلاناً أتیانی وطالبانی بالبیعة لمن سبیله أن یبایعنی ! أنا ابن عم النبی وأبو ابنیه ، والصدیق الأکبر ، وأخو رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لا یقولها أحد غیری إلا کاذب ! أسلمت وصلیت قبل کل أحد ، وأنا وصیه وزوج ابنته سیدة نساء العالمین فاطمة بنت محمد ، وأبو حسن وحسین سبطی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . ونحن أهل بیت الرحمة ، بنا هداکم الله ، وبنا استنقذکم الله من الضلالة ، وأنا صاحب یوم الدوح ، وفیَّ نزلت سور من القرآن...

ثم قال الإمام الباقر(علیه السّلام): یا عبد الله ما أکثر ظلم هذه الأمة لعلی بن أبی طالب ، وأقل انتصارهم ، ثم یمنعون علیاً ما یعطونه سایر الصحابة وعلی أفضلهم ، فکیف یمنع منزلة یعطونها غیره ، قیل: وکیف ذاک یا

ابن رسول الله؟ قال: لأنکم تتولون محبی أبی بکر بن أبی قحافة وتتبرؤون من أعدائه کائناً من کان ، وکذلک تتولون عمر بن الخطاب وتتبرؤون من أعدائه کائناً من کان ، وتتولون عثمان بن عفان وتتبرؤون من أعدائه کائناً من کان ، حتی إذا صار إلی علی بن أبی طالب قالوا:

ص: 52

نتولی محبیه ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم ! فکیف یجوز هذا لهم ورسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول فی علی: اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! أفترونه لا یعادی من عاداه ، ولا یخذل من خذله؟! لیس هذا بإنصاف ) ! (الإحتجاج:2/67، وتفسیر العسکری(علیه السّلام)/562 ، من حدیث طویل).

وقال(علیه السّلام): (قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): خلق الله عز وجل مائة ألف نبی وأربعة وعشرین ألف نبی ، أنا أکرمهم علی الله ، ولا فخر ، وخلق الله عز وجل مائة ألف وصی وأربعة وعشرین ألف وصی ، فعلی أکرمهم علی الله وأفضلهم ) . ( الخصال/641، وأمالی الصدوق/307).

وقال(علیه السّلام)فی تفسیر قوله تعالی: فِطْرَتَ اللهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا: (هو لا إله إلا الله محمد رسول الله ، علی أمیر المؤمنین ولی الله . إلی هاهنا التوحید).( القمی:2/155).

وقال صاحب المیزان(رحمه الله):16/186: (ورویَ هذا المعنی فی بصائر الدرجات عن أبی عبد الله(علیه السّلام)، ورواه فی التوحید عن عبد الرحمن مولی أبی جعفر عنه(علیه السّلام). ومعنی کون الفطرة هی الشهادات الثلاث أن الإنسان مفطور علی الإعتراف بالله لا شریک له بما یجد من الحاجة إلی الأسباب المحتاجة إلی ما

وراءها وهو التوحید ، وبما یجد من النقص المحوج إلی دین یدین به لیکمله وهو النبوة ، وبما یجد من الحاجة إلی الدخول فی ولایة الله بتنظیم العمل بالدین وهو الولایة والفاتح لها فی الإسلام هو علی(علیه السّلام) . ولیس معناه أن کل إنسان حتی الإنسان الأوَّلی یدین بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث). انتهی.

أقول: مضافاً الی ما ذکره(رحمه الله)من أن الإمامة الربانیة نظمٌ لأمر الدین ، فإنها طریق التصدیق العملی بالنبوة والتوحید ، بل هی من صلب التوحید لأن التوحید الصحیح لا یتحقق مع نصب أئمة مقابل من جعلهم الله أئمة وفرض طاعتهم !

ص: 53

ویدل علیه ما رواه عنه أبوحمزة الثمالی فی تفسیره/237، فی قوله تعالی: فَأَبَی أَکْثَرُ النَّاسِ إِلا کُفُوراً ، أنه یقصد الکفر العملی المنافی للتوحید ، قال(علیه السّلام): (یعنی بولایة علی(علیه السّلام)یوم أقامه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )) .

4- تأصیله الفقه والحدیث الإسلامی: قال(علیه السّلام): (قرأت فی کتاب لعلی(علیه السّلام)أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: إنه سیکذب علیَّ کاذب کما کُذب علی من کان قبلی ، فما جاءکم عنی من حدیث وافق کتاب الله فهو حدیثی ، وما خالف کتاب الله فلیس من حدیثی)(قرب الإسناد/92). وقال(علیه السّلام): (کل شئ خالف کتاب الله عز وجل رُدَّ إلی کتاب الله عز وجل والسنة...کل من تعدی السنة رُدَّ إلی السنة).(الکافی:6/58 و:1/71 ).

وفی الحدائق الناضرة فی فقه العترة الطاهرة:1/93 ، عن زرارة بن أعین قال: (سألت الباقر(علیه السّلام)فقلت: جعلت فداک یأتی عنکم الخبران والحدیثان المتعارضان فبأیهما أخذ؟ فقال: یا زرارة خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر . فقلت یا سیدی إنهما معا مشهوران مرویان مأثوران عنکم؟ فقال(علیه السّلام): خذ بما یقول أعدلهما عندک وأوثقهما فی نفسک . فقلت إنهما معاً عدلان مرضیان موثقان ؟ فقال: أنظر ما وافق منهما العامة فاترکه ، وخذ ما خالفه فإن الحق فیما خالفهم .

فقلت: ربما کانا موافقین لهم أو مخالفین ، فکیف أصنع ؟ فقال: إذن فخذ ما فیها الحائطة لدینک واترک الآخر . فقلت: إنهما معاً موافقان للإحتیاط أو مخالفان له ، فکیف أصنع ؟ فقال إذن تتخیر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر) .

5- واجه الإمام(علیه السّلام)استعمال القیاس فی الدین ، ففی مناقب أبی حنیفة/208، عن عبد الله بن المبارک أن أبا حنیفة لقی الإمام الباقر(علیه السّلام) فی المدینة فقال له: أنت الذی خالفت أحادیث جدی(علیه السّلام)بالقیاس؟! فقال: معاذ الله عن ذلک ، أجلس فإن لک حرمة کحرمة جدک(علیه السّلام)علی أصحابه ، فجلس ثم جثی أبو حنیفة بین یدیه...) .

ص: 54

ورویت هذه القصة لأبی حنیفة مع الإمام الصادق(علیه السّلام).

6- قاعدة لاضرر ولاضرار فی الإسلام: قال الباقر(علیه السّلام): (إن سمرة بن جندب کان له عذق وکان طریقه إلیه فی جوف منزل رجل من الأنصار ، فکان یجئ ویدخل إلی عذقه بغیر إذن من الأنصاری فقال الأنصاری: یا سمرة ، لا تزال تفجأنا علی حال لا نحب أن تفجأنا علیه ، فإذا دخلت فاستأذن . فقال: لا أستأذن فی طریق هو طریقی إلی عذقی . قال: فشکاه الأنصاری إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فأرسل إلیه رسول الله فأتاه فقال: إن فلاناً قد شکاک وزعم أنک تمر علیه وعلی أهله بغیر إذنه فاستأذن علیه إذا أردت ان تدخل . فقال یا رسول الله أستأذن فی طریقی إلی عذقی؟ فقال له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): خل عنه ولک مکانه عذق فی مکان کذا وکذا ، فقال: لا ، قال: فلک اثنان قال: لا أرید ، فلم یزل یزیده حتی بلغ عشرة أعذاق فقال: لا ! قال فلک عشرة فی مکان کذا وکذا . فأبی ، فقال: خل عنه ولک مکانه عذق فی الجنة قال: لا أرید ! فقال له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنک رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار علی مؤمن . قال ثم أمر بها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقلعت ورمیَ بها إلیه ، وقال له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنطلق فاغرسها حیث شئت). (الکافی:5/294).

7- قاعدة لاتقیة فی الدماء: قال(علیه السّلام): (إنما جعل التقیة لیحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فلیس تقیة ) . ( الکافی:2/220) .

8- قاعدة کل شئ حلال حتی تعلم أنه حرام: (عبد الله بن سلیمان قال: سألت أبا جعفر(علیه السّلام)عن الجبن فقال: لقد سألتنی عن طعام یعجبنی ، ثم أعطی الغلام دراهم فقال: یا غلام ابتع لی جبناً ودعا بالغداء فتغدینا معه ، وأتی بالجبن فقال: کلْ ، فلما فرغ من الغداء قلت: ما تقول فی الجبن؟ قال: أولم ترنی أکلت؟ قلت: بلی ولکنی أحب أن أسمعه منک، فقال: سأخبرک عن الجبن وغیره: کل ما یکون فیه حلال

ص: 55

وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه) . (المحاسن:2/495).

وقد فصلها الإمام الصادق(علیه السّلام)فقال: (کل شئ هو لک حلال حتی تعلم أنه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون قد اشتریته وهو سرقة أو المملوک عندک ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبیع أو قهر ، أو امرأة تحتک وهی أختک أو رضیعتک . والأشیاء کلها علی هذا ، حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البینة). (الکافی:5/313).

9- قاعدة عرض الحدیث علی کتاب الله تعالی ، قال(علیه السّلام): (إذا ورد علیکم حدیث فوجدتم له شاهداً من کتاب الله أو من قول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وإلا فالذی جاء کم به أولی به..قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):إن علی کل حق حقیقةً وعلی کل صواب نوراً ، فما وافق کتاب الله فخذوه وما خالف کتاب الله فدعوه ). (الکافی:1/69).

10- قاعدة لارضاع بعد فطام ولا یتم بعد احتلام.:قال(علیه السّلام): (قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لا رضاع بعد فطام ، ولا وصال فی صیام ، ولا یتم بعد احتلام ، ولا صمت یوماً إلی اللیل ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا طلاق قبل نکاح ، ولا عتق قبل ملک ، ولا یمین لولد مع والده ، ولا لمملوک مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا نذر فی معصیة ، ولا یمین فی قطیعة ) . (الفقیه:3/359).

11- قاعدة لاتنقض الیقین بالشک أبداً ولکن تنقضه بیقین آخر . (الکافی:3/351 ).

12- قاعدة (لاتعاد الصلاة) ، قال(علیه السّلام): ( لا تعاد الصلاة إلا من خمس: الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والرکوع ، والسجود ثم قال(علیه السّلام): القراءة سنة والتشهد سنة ، ولا تنقض السنة الفریضة). ( الفقیه:1/339).

13- التأکید علی الجهر بالبسملة ، التی کان الطلقاء فی مکة یخافون منها ثم عملوا بعد إسلامهم علی حذفها ! قال النووی فی المجموع:3/342: (وقال أبو جعفر

ص: 56

محمد بن علی: لا ینبغی الصلاة خلف من لا یجهر). راجع تفصیل الموضوع فی ألف سؤال وإشکال:1/405 ، مسألة 98.

14- إخباره(علیه السّلام)بمغیبات مما علمه جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وربه سبحانه وتعالی: نقلها المخالف والمؤالف ، وشاع إخباره بأن أخاه زیداً(رحمه الله)سیخرج علی الأمویین ویستشهد ویصلب ، وأن الحسنیین سیثورون علی العباسیین ولا ینجحون ، وأن العباسیین سیقتلونهم ویحکمون ، وذلک قبل هذه الأحداث بسنین طویلة ! ففی مناقب آل أبی طالب:3/320: (الثعلبی فی نزهة القلوب: روی عن الباقر أنه قال: أشخصنی هشام بن عبد الملک فدخلت علیه وبنو أمیة حوله فقال لی: أدن یا ترابی ! فقلت: من التراب خلقنا والیه نصیر ، فلم یزل یدنینی حتی أجلسنی معه ثم قال: أنت أبو جعفر الذی تقتل بنی أمیة؟ فقلت: لا ، قال: فمن ذاک ؟ فقلت: ابن عمنا أبو العباس بن محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، فنظر إلیَّ وقال: والله ما جربت علیک کذباً ، ثم قال: ومتی ذاک؟ قل: عن سنیَّاتٍ والله ما هی ببعیدة ، الخبر) !

ومنها ، قول الإمام الباقر(علیه السّلام)للعباسیین: (نعم یا داود ، والله لا یملک بنو أمیة یوماً إلا ملکتم مثلیه ، ولا سنة إلا ملکتم مثلیها ، ولیتلقفها الصبیان منکم کما تلقف الصبیان الکرة.. هذا ما عهده إلی أبی! فلما ملک الدوانیقی تعجب من قول الباقر(علیه السّلام)).( الکافی:8/210، والخرائج:1/273 ، والدر النظیم/613) .

ولذا کان المنصور یعتقد بالإمام الباقر(علیه السّلام)ویحدث عن حتمیة النداء السماوی باسم المهدی(علیه السّلام)ویقول: لولا أنی سمعت أبا جعفر محمد بن علی یقوله ثم حدثنی به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولکنه محمد بن علی) ! (الکافی:8/209) .

ومنها ، أنه(علیه السّلام)کان جالساً یوماً: (إذ أطرق رأسه الی الأرض فمکث فیها ملیاً ، ثم رفع رأسه فقال: یا قوم کیف أنتم إذا جاءکم رجل یدخل علیکم مدینتکم هذه

ص: 57

فی أربعة آلاف حتی یستعرضکم بالسیف ثلاثة أیام فیقتل مقاتلتکم ، وتلقون منه بلاء لاتقدرون أن تدفعوه ، وذلک من قابل فخذوا حذرکم ، واعلموا أن الذی قلت لکم کائن لابد منه ! فلم یلتفت أهل المدینة إلی کلامه وقالوا: لا یکون هذا أبداً ! ولم یأخذوا حذرهم إلا نفر یسیر وبنو هاشم خاصة ، وذلک أنهم علموا أن کلامه هو الحق . فلما کان من قابل تحمَّل أبو جعفر بعیاله وبنو هاشم فخرجوا من المدینة ، وجاء نافع بن الأزرق حتی کبس المدینة فقتل مقاتلتهم وفضح نساءهم ! فقال أهل المدینة: لا نردُّ علی أبی جعفر شیئاً نسمعه منه أبداً بعدما سمعنا ورأینا ! فإنهم أهل بیت النبوة وینطقون بالحق). (الخرائج:1/289).

ومنها ، (أن ناصبیاً شامیاً کان یختلف إلی مجلس أبی جعفر(علیه السّلام)ویقول له: طاعة الله فی بغضکم ولکنی أراک رجلاً فصیحاً ! فکان أبو جعفر یقول: لن تخفی علی الله خافیة ، فمرض الشامی فلما ثقل قال لولیه: إذا أنت

مددت علیَّ الثوب فأئت محمد بن علی وسله أن یصلی علیَّ ، قال: فلما أن کان فی بعض اللیل ظنوا أنه بَرَد (أی مات) وسجَّوْه ، فلما أن أصبح الناس خرج ولیه إلی أبی جعفر وحکی له ذلک ، فقال أبو جعفر(علیه السّلام): کلا إن بلاد الشام صَرْدٌ والحجاز بلاد حر ولحمها شدید ، فانطلق فلا تعجلن علی صاحبکم حتی آتیکم ! قال: ثم قام من مجلسه فجدد وضوءاً ثم عاد فصلی رکعتین ثم مد یده تلقاء وجهه ما شاء الله ثم خر ساجداً حتی طلعت الشمس ، ثم نهض فانتهی إلی مجلس الشامی فدخل علیه فدعاه فأجابه ، ثم أجلسه فدعا له بسویق فسقاه ، وقال: إملأوا جوفه وبردوا صدره بالطعام البارد ، ثم انصرف ، وتبعه الشامی فقال: أشهد أنک حجة الله علی خلقه ، قال: وما بدا لک؟ قال: أشهد أنی عمدت بروحی وعاینت بعینی فلم یتفاجأنی إلا ومناد ینادی ردوا إلیه روحه فقد کان سألنا ذلک محمد بن علی ! فقال أبو جعفر: أما علمت أن الله

ص: 58

یحب العبد ویبغض عمله ، ویبغض العبد ویحب عمله ، قال: فذلک من أصحاب أبی جعفر) . (مناقب آل أبی طالب:3/320 ).

ومنها، إخباره بخلافة عمر بن عبد العزیز قبلها بسنة ونصف: ( قال أبو بصیر: کنت مع الباقر(علیه السّلام)فی المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزیز ، علیه ثوبان ممصران متکئاً علی مولی له فقال(علیه السّلام): لیلینَّ هذا الغلام فیظهر العدل ویعیش أربع سنین ، ثم یموت فیبکی علیه أهل الأرض ویلعنه أهل السماء ! فقلنا: یا بن رسول الله ألیس ذکرت عدله وإنصافه؟قال:یجلس فی مجلسنا ولا حق له فیه).(الخرائج:1/276).

ومنها: إخباره عن أجله(علیه السّلام)، قال الإمام الصادق(علیه السّلام): (إن أبی قال ذات یوم: إنما بقی من أجلی خمس سنین ، فحسبت فما زاد ولا نقص).(مناقب آل أبی طالب:3/320)

ومنها ، أنه (قال(علیه السّلام)لرجل من أهل خراسان:کیف أبوک؟ قال: صالح. قال: قد مات أبوک بعدما خرجت حیث سرت إلی جرجان . ثم قال: کیف أخوک ؟ قال: ترکته صالحاً . قال: قد قتله جار له یقال له صالح فی یوم کذا فی ساعة کذا ! فبکی الرجل وقال: إنا لله وإنا إلیه راجعون فیما أصبتُ . قال أبو جعفر: أسکت فقد صارا إلی الجنة والجنة خیر لهما مما کانا فیه . فقال له الرجل: إنی خلفت ابنی وجعاً شدید الوجع ولم تسألنی عنه . قال: قد برأ وقد زوجه عمه ابنته ، وأنت تقدم علیه وقد ولد له غلام واسمه علی وهو لنا شیعة وأما ابنک فلیس لنا شیعة ! بل هو لنا عدو . فقال له الرجل: هل من حیلة ؟ قال: إنه لنا عدو . فقام الرجل من عنده وهو وقیذ (محزون) . قلت: من هذا ؟ قال: هو رجل من أهل خراسان ، وهو لنا شیعة ، وهو مؤمن) . ( الثاقب فی المناقب/383، والدر النظیم/611) .

ومنها ، إخباره کثیرالنوا أنه یموت تائهاً لا یعتقد بشئ ، (قال جابر(رحمه الله):کنا عند الباقر(علیه السّلام)نحو من خمسین رجلاً ، إذ دخل علیه کثیر النواء ، وکان من المغیریة

ص: 59

فسلم وجلس ثم قال: إن المغیرة بن عمران عندنا بالکوفة یزعم أن معک ملکاً یعرفک الکافر من المؤمن وشیعتک من أعدائک؟ قال: ما حرفتک؟ قال: أبیع الحنطة ، قال: کذبت . قال: وربما أبیع الشعیر ، قال: لیس کما قلت ، بل تبیع النوا . قال: من أخبرک بهذا؟ قال الملک الربانی یعرفنی شیعتی من عدوی ، ولست تموت إلا تائهاً ! قال جابر الجعفی: فلما انصرفنا إلی الکوفة ذهبت فی جماعة نسأل عن کثیر فدللنا علی عجوز فقالت: مات تائهاً منذ ثلاثة أیام)!(الخرائج:1/275، وکشف الغمة:2/356) .

ومنها ، قال جابر الجعفی(رحمه الله): (خرجت مع أبی جعفر(علیه السّلام)إلی الحج.. فأصبحنا دون قریات ونخل ، فعمد أبو جعفر(علیه السّلام)إلی نخلة یابسة فیها، فدنا منها وقال: أیتها النخلة أطعمینا مما خلق الله فیک . فلقد رأیت النخلة تنحنی حتی جعلنا نتناول من ثمرها ونأکل ! وإذا أعرابی یقول: ما رأیت ساحراً کالیوم ! فقال أبو جعفر(علیه السّلام): یا أعرابی لا تکذبن علینا أهل البیت فإنه لیس منا ساحر ولا کاهن ، ولکنا عُلِّمنا أسماء من أسماء الله تعالی نسأل بها فنعطی وندعو فنجاب). (الدر النظیم/612).

الی عشرات الموارد أخبر فیها(علیه السّلام)بالمغیبات مما علمه ربه عز وجل ، وجده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

15- اشتهرت معجزات الإمام الباقر والصادق(علیه السّلام)فاستغلها بعض المشعوذین !

وهذه ظاهرة فی الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام)حیث تؤثر شخصیاتهم ومعجزاتهم فی قلوب الناس وعقولهم ، فیظهر کذابون ومشعودون یغالون فیهم ویدعون لهم الحلول أو الألوهیة ، ویدعون لأنفسهم شیئاً من ذلک !

وعدَّهم الإمام الصادق(علیه السّلام)فی عصره وعصر أبیه(علیهماالسّلام)سبعة ، وطبق علیهم قوله تعالی: هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلَی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیَاطِینُ . تَنَزَّلُ عَلَی کُلِّ أَفَّاکٍ أَثِیمٍ .قال(علیه السّلام):( قال: هم سبعة: المغیرة بن سعید ، وبیان ، وصائد النهدی ، والحارث الشامی ، وعبد الله بن الحارث ، وحمزة بن عمارة البربری ، وأبو الخطاب).(رجال الکشی:2/577).

ص: 60

وأشهرهم المغیرة بن سعید مولی قبیلة بجیلة ، وقد أسس فرقة سمیت المغیریة قال الذهبی فی میزان الإعتدال:4/160: (وکان لعنه الله یقول: إن معبوده علی صورة رجل علی رأسه تاج ، وإن أعضاءه علی عدد حروف الهجاء . وإنه لما أراد أن یخلق تکلم باسمه فطار فوقع علی تاجه ثم کتب بأصبعه أعمال العباد . فلما رأی المعاصی ارفض عرقاً فاجتمع من عرقه بحران ملح وعذب وخلق الکفار من البحر الملح .تعالی الله عما یقول.. وقال جریر بن عبد الحمید: کان المغیرة بن سعید کذاباً ساحراً ... وقال الجوزجانی: قتل المغیرة علی ادعاء النبوة کان أشعل النیران بالکوفة علی التمویه والشعبذة حتی أجابه خلق . عن الأعمش قال: أول من سمعته یتنقص أبا بکر وعمر المغیرة المصلوب . کثیر النواء قال: سمعت أبا جعفر یقول: برئ الله ورسوله من المغیرة بن سعید ، وبنان بن سمعان فإنهما کذبا علینا أهل البیت).

أقول: ومع ذلک فقد نسبه الذهبی الینا فقال فی أول ترجمته:( المغیرة بن سعید البجلی ، أبو عبد الله الکوفی الرافضی الکذاب ! وقال الذهبی فی ترجمته: قال أبو بکر بن عیاش: رأیت خالد بن عبد الله القسری حین أتی بالمغیرة بن سعید وأتباعه ، فقتل منهم رجلاً ثم قال للمغیرة: أحیه ! وکان یریهم أنه یحیی الموتی فقال: والله ما أحیی الموتی ، فأمر خالد بطَنٍّ قصب فأضرم ناراً ، ثم قال للمغیرة إعتنقه ! فأبی ، فعدا رجل من أصحابه فاعتنقه والنار تأکله . فقال خالد: هذا والله أحق منک بالریاسة ثم قتله وقتل أصحابه . قلت: وقتل فی حدود العشرین ومائة) . وقال الطبری:5/456: (فی هذه السنة (119) خرج المغیرة بن سعید وبیان فی نفر فأخذهم خالد فقتلهم). وفی الوافی:24/277، خرجوا فی الکوفة وهم ینادون: (لبیک جعفر لبیک جعفر ودخلوا علیه (الوالی) وهو علی المنبر فدهش) ! ثم أحرقهم بالنار .

وأفاضت مصادرنا فی روایة مواقف الأئمة الغاضبة القاطعة من هؤلاء الدجالین الغلاة ، فعن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال:( لعن الله المغیرة بن سعید إنه کان یکذب علی

ص: 61

أبی فأذاقه الله حر الحدید، لعن الله من قال فینا ما لا نقوله فی أنفسنا ولعن الله من أزالنا عن العبودیة لله الذی خلقنا والیه مآبنا ومعادنا وبیده نواصینا... لعن الله المغیرة بن سعید ولعن یهودیة کان یختلف إلیها یتعلم منها السحر والشعبذة والمخاریق . إن المغیرة کذب علی أبی(علیه السّلام)فسلبه الله الایمان ، وإن قوماً کذبوا علی مالهم أذاقهم الله حر الحدید...الخ). (رجال الکشی: 2/489 ، ولا یتسع المجال للتفصیل فراجع: معجم السید الخوئی:4/204، و:15/256، والکافی:3/69، و105، والغارات:2/762 ، والمسائل الجارودیة/10، والخرائج:2/710 ، وشرح النهج:8/121، والطبقات:5/321 ) .

وقال الصدوق(رحمه الله)فی الإعتقادات/98: (کان

الرضا(علیه السّلام)یقول فی دعائه: اللهم إنی أبرأ إلیک من الحول والقوة ، فلا حول ولا قوة إلا بک. اللهم إنی أبرأ إلیک من الذین ادعوا لنا ما لیس لنا بحق . اللهم إنی أبرأ إلیک من الذین قالوا فینا ما لم نقله فی أنفسنا . اللهم لک الخلق ومنک الأمر ، وإیاک نعبد وإیاک نستعین . اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولین وآبائنا الآخرین . اللهم لا تلیق الربوبیة إلا بک ولا تصلح الإلهیة إلا لک فالعن النصاری الذین صغروا عظمتک ، والعن المضاهین لقولهم من بریتک . اللهم إنا عبیدک وأبناء عبیدک ، لا نملک لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حیاة ولا نشورا . اللهم من زعم أننا أرباب فنحن إلیک منه براء ، ومن زعم أن إلینا الخلق وعلینا الرزق فنحن إلیک منه براء کبراءة عیسی(علیه السّلام)من النصاری . اللهم إنا لم ندعهم إلی ما یزعمون فلا تؤاخذنا بما یقولون ، واغفر لنا ما یزعمون ) .

15- کل ما تقدم کان فی المجال الفکری للأمة ، أما فی المجال العملی فقد شق الإمام الباقر(علیه السّلام)طریق التغییر والثورة علی الباطل ، وستجد أن وضع الأمة کله قد تغیر بجهوده وجهاده(علیه السّلام) ، فصار بعد الإمام الباقر(علیه السّلام)غیره قبله !

ص: 62

الفصل الثالث: شخصیة الإمام الباقر(علیه السّلام)وعصره

1- ولادة الإمام الباقر(علیه السّلام)وصفته البدنیة

ولد(علیه السّلام)فی الأول من رجب سنة سبع وخمسین ، وقبض فی سابع ذی الحجة سنة أربع عشرة ومئة ، فکان عمره الشریف سبعاً وخمسین سنة . وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علی ، فهو حفیدٌ للحسن والحسین(علیهماالسّلام) ، قال الصادق(علیه السّلام):(کانت أمه صدیقة لم یدرک فی آل الحسن مثلها). ( الدعوات/69، والدر النظیم/603) .

وجاء فی وصفه(علیه السّلام)أنه شبیه جده النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی ملامح وجهه ، حنطی اللون ، له خال علی خده ، ضامر الکشح أی لیس بطیناً مع أنه بدین ، حسن الصوت ، مطرق الرأس. (مناقب آل أبی طالب:3/339) .

وتمیز الإمام الباقر من بین الأئمة(علیهم السّلام)بأنه أکثرهم بدانةً وجسامةً . فعن سدیر قال: (قلت لأبی جعفر(علیه السّلام): أتصلی النوافل وأنت قاعد؟ فقال: ما أصلیها إلا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم ، وبلغت هذا السن ). (الکافی:3/410 ) .

وفی فقه الرضا/183، عن الإمام الصادق(علیه السّلام): (وکتب أبی فی وصیته: أن أکفنه فی ثلاث أثواب ، أحدها رداء له حبرة کان یصلی فیه یوم الجمعة ، وثوب آخر وقمیص... وشققنا له القبر شقاً من أجل أنه کان رجلاً بدیناً ، وأمرنی أن أجعل ارتفاع قبره أربعة أصابع مفرجات).

ص: 63

2- أدرک الإمام الباقر جده الإمام الحسین(علیهماالسّلام)

کان الإمام الباقر مع أبیه زین العابدین فی سفره مع جده الحسین(علیهم السّلام)الی کربلاء وکان عمره أربع سنوات . وروی حادثة عن جده الحسین(علیهماالسّلام)فی مکة ربما کان عمره فیها ثلاث سنوات ، ففی الکافی:4/223، أن زرارة سأله: ( أدرکتَ الحسین(علیه السّلام)؟ قال(علیه السّلام): نعم أذکر وأنا معه فی المسجد الحرام ، وقد دخل فیه السیل والناس یقومون علی المقام یخرج الخارج یقول: قد ذهب به السیل ! ویخرج منه الخارج فیقول: هو مکانه . قال: فقال(علیه السّلام): یا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقال: أصلحک الله یخافون أن یکون السیل قد ذهب بالمقام ، فقال: ناد أن الله تعالی قد جعله علماً لم یکن لیذهب به ! فاستقَرُّوا . وکان موضع المقام الذی وضعه إبراهیم(علیه السّلام)عند جدار البیت فلم یزل هناک حتی حوَّله أهل الجاهلیة إلی المکان الذی هو فیه الیوم . فلما فتح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مکة رده إلی الموضع الذی وضعه إبراهیم(علیه السّلام)فلم یزل هناک إلی أن ولیَ عمر بن الخطاب ، فسأل الناس من منکم یعرف المکان الذی کان فیه المقام؟! فقال رجل: أنا قد کنت أخذت مقداره بنسع (حزام للبعیر وغیره) فهو عندی فقال: إئتنی به فأتاه به فقاسه ، ثم رده إلی ذلک المکان) ! وقال الیعقوبی فی تاریخه:2/320: (قال أبو جعفر(علیه السّلام): قتل جدی الحسین ولی أربع سنین ، وإنی لأذکر مقتله ، وما نالنا فی ذلک الوقت). انتهی.

ومعنی عبارته الأخیرة(علیه السّلام)أنه عایش جیداً أحداث کربلاء ومأساتها ، والأسْر الی الکوفة فالشام ، لکن لم یصلنا من روایته(علیه السّلام)إلا قلیل ! فمن ذلک أنه عندما رفع الحسین(علیه السّلام) رضیعه ، وطالب أعدائه أن لایمنعوا عنهم الماء ، ورماه حرملة بسهم فأصابه فی نحره: (تلقی الحسین(علیه السّلام)الدم بکفیه فلما امتلأتا رمی بالدم نحو السماء ثم قال: هَوَّنَ علیَّ ما نزل بی أنه بعین الله . قال الباقر(علیه السّلام): فلم یسقط من ذلک الدم قطرة

ص: 64

إلی الأرض). (اللهوف/69) . وقال الباقر(علیه السّلام):(أصیب الحسین بن علی ووجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرین طعنة برمح أو ضربة بسیف أو رمیة بسهم) . (روضة الواعظین/189).

وفی شرح الأخبار:3/54: (کانت کلها فی صدره ووجهه(علیه السّلام)لأن کان لایولی) .

وقال الباقر(علیه السّلام): (إن الحسین لما حضره الذی حضره ، دعا ابنته الکبری فاطمة فدفع إلیها کتاباً ملفوفاً ووصیةً ظاهرةً ، ووصیة باطنة . وکان علی بن الحسین مبطوناً لا یرون إلا أنه لِمَا به ، فدفعت فاطمة الکتاب إلی علی بن الحسین ، ثم صار ذلک إلینا . فقلت: فما فی ذلک الکتاب؟ فقال: فیه والله جمیع ما یحتاج إلیه ولد آدم إلی أن تفنی الدنیا ). (بصائر الدرجات/168، وإعلام الوری:1/482).

أقول: أودع الإمام الحسین(علیه السّلام)مواریث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عند أم المؤمنین أم سلمة رضی الله عنها ، وأوصاها أن تسلمها الی من یعطیها علامة ، فسلمتها الی الإمام زین العابدین(علیه السّلام)لما رجع من الشام وأعطاها العلامة . أما هذا الکتاب الذی کان معه(علیه السّلام)فی کربلاء ، فهو وصیته(علیه السّلام).

3- وکان عضد أبیه الإمام زین العابدین(علیهماالسّلام)

رافق الإمام الباقر والده(علیهماالسّلام)فی مراحل حیاته وکان وزیره وعضده . وعندما توفی والده سنة أربع وتسعین ، کان الباقر(علیه السّلام)فی الثامنة والثلاثین من عمره ، وکان وارث أمجاد أبیه وخلیفته بلا منازع . قال الذهبی یصف زین العابدین(علیه السّلام): (وکان له جلالة عجیبة ! وحقَّ له والله ذلک ، فقد کان أهلاً للإمامة العظمی ، لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه ، وکمال عقله). (سیر الذهبی:4/398) .

وتقدم أن الزهری سأل زین العابدین(علیه السّلام): (یا ابن رسول الله هذا الذی أوصیت إلیه أکبر أولادک؟ فقال: یا أبا عبد الله لیست الإمامة بالصغر والکبر ، هکذا عَهِدَ إلینا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وهکذا وجدنا مکتوباً فی اللوح والصحیفة . قلت: یا ابن

ص: 65

رسول الله فکم عهد إلیکم نبیکم أن تکون الأوصیاء من بعده ؟ قال: وجدنا فی الصحیفة واللوح اثنی عشر أسامی مکتوبة بأسماء آبائهم وأمهاتهم ، ثم قال: یخرج من صلب محمد ابنی سبعة من الأوصیاء فیهم المهدی).(کفایة الأثر/241).

وقد أعطاه أبوه فی حیاته مواریث الأنبیاء(علیهم السّلام): (أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال: یا محمد إحمل هذا الصندوق ، قال فحُمل بین أربعة . فلما توفی جاء إخوته یدَّعون ما فی الصندوق فقالوا: أعطنا نصیبنا من الصندوق فقال: والله ما لکم فیه شئ ، ولو کان لکم فیه شئ ما دفعه إلیَّ . وکان فی الصندوق سلاح رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکتبه ) . (الکافی:1/305 ، وإعلام الوری/500) .

وکان الی جنب أبیه(علیهماالسّلام)فی المراحل الصعبة.. فی ثورة أهل المدینة وحملة یزید الوحشیة علیهم فی وقعة الحرة . وما تبعها من حملة یزید علی ابن الزبیر واستباحته الکعبة . ثم هلاک یزید واضطراب خلافة بنی أمیة ، ثم قتلهم معاویة بن یزید(رحمه الله) . ثم سیطرة مروان بن الوزغ وأولاده علی العرش الأموی ، ثم موت مروان بعد شهور وسیطرة ابنه عبد الملک ، وحربه مع المختار ثم فی حربه مع ابن الزبیر ، التی امتدت أکثر من عشر سنین . وفی أثنائها بنی عبد الملک (کعبة) علی صخرة بیت المقدس وأحجَّ المسلمین الیها بدل مکة !

کما عایش الإمام صمود أبیه(علیهماالسّلام) ، ورفضه ضغوط الثائرین باسم الحسین(علیه السّلام)، من التوابین والمختار وابن الأشتر ، وتأییده فی نفس الوقت کل من یأخذ بثأر الحسین(علیه السّلام) ، ومدحه المختار(رحمه الله)لأنه قتل عدداً من قتلة الحسین(علیه السّلام) .

کما عاصر سیطرة ابن الزبیر علی الحجاز بعد هلاک یزید ، وحکم المختار للعراق وما تبعه أکثر من سنتین ، ثم حرب مصعب بن الزبیر له وانتصاره علیه .

وعاصر علاقات أبیه(علیهماالسّلام)المتفاوتة فی توترها وهدوئها ، مع یزید بن معاویة ،

ص: 66

ومروان ، وعبد الملک ، والحجاج ، وابن الزبیر ، والخوارج ، وعرف فی المدینة الشاب المترف عمر بن عبد العزیز ، المحب لأبیه الإمام زین العابدین(علیه السّلام).

کما حضر مجالس أبیه(علیه السّلام)وسمع جواهر علومه ، وعرف تلامیذه ، من محمد بن شهاب الزهری ، الی العُبَّاد والمتصوفة ، الی تلامیذه الخاصین کیحیی بن أم الطویل ، وسعید بن المسیب ، والقاسم بن محمد بن أبی بکر ، وحکیم بن جبیر بن مطعم ، وکمیل بن زیاد ، وسعید بن جبیر .

کما شاهد الباقر(علیه السّلام)تقدیس الأمة لأبیه زین العابدین(علیهماالسّلام) ، فقد کان معه فی مکة عندما انفسح له الناس لیستلم الحجر ، فحسده هشام بن عبد الملک وتجاهله ، فارتجل الفرزدق(رحمه الله)قصیدته الخالدة: هذا الذی تعرف البطحاء وطأته.. فحبس الفرذزدق فهجاه بقوله: یقلب رأساً لم یکن رأس سید .. وعیناً له حولاء بادٍ عیوبها !

کما عاصر الإمام الباقر أباه(علیهماالسّلام)فی صموده فی وجه العداء الأموی وتحریف الإسلام ، فقد شارکه فی حملات دفاعه القویة ضد التحریف والعداء وفی کشف مؤامرة قریش علی الأئمة من العترة النبویة(علیهم السّلام)، وفی عمله النبوی فی تشیید صرح التشیع وبناء الفئة الثابتة من الأمة .

کان مع أبیه(علیهماالسّلام)فی المدینة وفی سفر الحج ، وفی اعتزاله سنین فی البادیة ، وسفراته المتخفیة لزیارة قبر جده أمیر المؤمنین والحسین(علیهم السّلام)ومسجد الکوفة .

ورأی إعجاب عبد الملک بأبیه زین العابدین(علیه السّلام)ومکائده له فی نفس الوقت ، وکان مبعوث أبیه الیه لیعالج مشکلة النقد والطراز مع الروم ، کما بینا فی سیرة أبیه(علیهماالسّلام) . ثم عاصر الإمام(علیه السّلام)بعد هلاک عبد الملک ، عهد ابنه الولید ، صاحب الشخصیة المعقدة والجرائم المنکرة ، وأعظمها قتله للإمام زین العابدین(علیه السّلام) !

ص: 67

4- لمحة عن عبادة الإمام(علیه السّلام)وأخلاقه

تقدم عن محمد بن طلحة الشافعی فی مطالب السؤول/424: (صفا قلبه وزکی عمله ، وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت فی مقام التقوی قدمه ، وظهرت علیه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء).

وفی الصواعق المحرقة/201: (وارثه منهم عبادةً وعلماً وزهادة: أبو جعفر محمد الباقر .. أظهر من مخبآت کنوز المعارف ، وحقائق الأحکام والحکم واللطائف ، ما لا یخفی إلا علی منطمس البصیرة أو فاسد الطویة والسریرة.. صفی قلبه وزکی علمه وعمله ، وطهرت نفسه وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة الله ، وله من الرسوم فی مقامات العارفین ما تکل عنه ألسنة الواصفین) .

وقال الذهبی فی سیره:4/403: (وبلغنا أن أبا جعفر کان یصلی فی الیوم واللیة مئة وخمسین رکعة) . وفی معارج الوصول للزرندی الشافعی/121: (کان الباقر محمد بن علی من العلم والزهد ولسان الحکمة بمحل عظیم ، وله فی معانی الزهد ودقائق العلوم فی التوحید کلام جم جسیم).

وقال ابن العماد فی شذرات الذهب:1/149: (قال عبد الله بن عطاء: ما رأیت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عنده ، وله کلام نافع فی الحکم والمواعظ منه: أهل التقوی أیسر أله الدنیا مؤونة وأکثرهم معونة ، إن نسیت ذکروک ، وإن ذکرت أعانوک ، قوالین بحق الله ، قوامین بأمر الله).انتهی. هذا ، وقد ذکرنا نماج من إخباراته بالمغیبات(علیه السّلام) ، فی فصل بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )به وتسمیته باقر علم النبوة .

5- الجبارون ومشاریع الجبارین الذین عاصرهم الإمام(علیه السّلام)

عاصر الإمام(علیه السّلام)سنوات حکم یزید بن معاویة ، ومروان بن الحکم ، وعبد الملک الذی توفی سنة86 ، وأبناء عبد الملک: الولید قاتل الإمام زین العابدین(علیه السّلام)سنة94 ، وتوفی الولید سنة 96 ، ثم سلیمان ، وتوفی سنة99 ، ثم عمر

ص: 68

بن عبد العزیز وتوفی سنة101، ثم یزید بن عبد الملک وتوفی105 .

کما أدرک الإمام الباقر(علیه السّلام) تسع سنین من حکم الطاغیة هشام بن عبد الملک ، الذی ارتکب جریمة قتل الإمام(علیه السّلام)سنة114 ، ثم هلک هشام سنة125، وبعد سبع سنوات من هلاکه انهار النظام الأموی بثورة العباسیین .

ونقصد بمشاریع الجبابرة: الشخصیات التی کانت تعمل للثورة علی بنی أمیة وأخذ السلطة ، وتتبنی نفس منهج بنی أمیة فی قتل من خالفها واضطهاده ، وظلم المسلمین والإستئثار بثرواتهم ! فقد کان شعار یالثارات الحسین(علیه السّلام)واحترام النص النبوی ، أو احترام إرادة الأمة فی اختیار حکامها ، واحترام دمائها وکرامتها وملکیتها وحقوقها الفردیة والعامة ورد ظلامات المسلمین الی أهلها ، أموراً غائبةً عن منهج هؤلاء الثوار ، حتی لو رفعوها شعارات لجذب الجمهور المرهق المسکین ! فحکمهم نفس الحکم الجبری الأموی ، وقائدهم طاغ جبار وإن تسمی بخلیفة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وانتسب بالقرابة الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

هذه نظرة الإمام الباقر(علیه السّلام)الی مشاریع الثورة علی بنی أمیة ، التی أخذت فی عصره تتشکل فی حرکات سریة ، لکن أخبارها علنیة !

کان الإمام(علیه السّلام)ینظر الی الفقهاء بأنهم

مرتزقة غیر صادقین فکیف بالسیاسیین ! فقد سأله رجل عن مسألة فأجابه الإمام(علیه السّلام)، فقال الرجل: (إن الفقهاء لا یقولون هذا ، فقال: یا ویحک وهل رأیت فقیهاً قط؟! إن الفقیه حق الفقیه: الزاهد فی الدنیا الراغب فی الآخرة ، المتمسک بسنة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )). (الکافی:1/70) .

وقد تقدمت تسمیة الإمام(علیه السّلام)لأبی جعفر المنصور بالجبار عندما دخل بعض آل العباس الی المسجد فقال لهم(علیه السّلام): ما منع جبارکم من أن یأتینی؟! فعذَّروه عنده فقال: أما والله لا تذهب اللیالی والأیام حتی یملک ما بین قطریها)! (الکافی:8/210) .

ص: 69

وفی دلائل الإمامة للطبری/219، بسند صحیح عن الأعمش(رحمه الله)قال: (قال لی المنصور: کنت هارباً من بنی أمیة أنا وأخی أبو العباس ، فمررنا بمسجد المدینة ومحمد بن علی الباقر جالس ، فقال لرجل إلی جانبه: کأنی بهذا الأمر وقد صار إلی هذین ! فأتی الرجل فبشرنا به فملنا إلیه وقلنا: یا بن رسول الله ما الذی قلت؟ فقال: هذا الأمر صائر إلیکم عن قریب ولکنکم تسیئون إلی ذریتی وعترتی فالویل لکم عن قریب ! فما مضت الأیام حتی ملک أخی وملکتها ).

أقول: کان المنصور عند وفاة الإمام الباقر(علیه السّلام)فی العشرینات من عمره . وکان کغیره من العباسیین تابعین للحسنیین بقیادة کبیرهم عبدالله بن الحسن المثنی، الذی ادعی أن ابنه محمداً هو المهدی ، وأخذ له البیعة منهم بالإمامة والخلافة ! ( قال عمیر بن الفضل الخثعمی: رأیت أبا جعفر المنصور یوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف علی الباب مع عبد

له أسود وأبو جعفر ینتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتی رکب ، ثم سوی ثیابه علی السرج ومضی محمد . فقلت وکنت حینئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذی أعظمته هذا الإعظام حتی أخذت برکابه وسویت علیه ثیابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت:لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدینا أهل البیت).(مقاتل الطالبیین/161).

6- الجبارون فی عصر الإمام الباقر(علیه السّلام)کالجبارین فی عصر هود(علیه السّلام)

کان الإمام الباقر(علیه السّلام)أبرز شخصیات بنی هاشم ، مُهاباً من الدولة محترماً من أصحاب مشاریع الثورة ، یقوم بثورته علی طریقته ، فیرسخ معالم الإسلام کما نزل من عند الله تعالی علی جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ویفضح التحریف الحکومی ومؤامرة قریش علی أئمة العترة النبویة ، الذین اختارهم الله ورسوله لإمامة الأمة .

لذلک کان منطقه(علیه السّلام)هادراً قویاً کمنطق نبی الله هود(علیه السّلام) ، لأن معاصریهما

ص: 70

جبابرة أشداء ، فوجب أن یکون منطقهما(علیهماالسّلام)کاسحاً لأفکارهم الباطلة وغرورهم !

وقوم هود(علیه السّلام)هم عاد الأولی والثانیة ، أصحاب حضارة بعد قوم نوح(علیه السّلام) وعاصمتهم الأحقاف فی الیمن والجزیرة ، وکانوا جبارین ذوی ثروة ، وأجسام ضخمة ، وکان لابد لمنطق نبیهم(علیه السّلام)أن یتناسب مع حالتهم فی القوة والشدة !

قال الله تعالی فی سورة الأعراف: قَالَ الْمَلأ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاکَ فِی سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّکَ مِنَ الْکَاذِبِینَ . قَالَ یَا قَوْمِ لَیْسَ بِی سَفَاهَةٌ وَلَکِنِّی رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِینَ. أُبَلِّغُکُمْ رِسَالاتِ رَبِّی وَأَنَا لَکُمْ نَاصِحٌ أَمِینٌ . أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَکُمْ ذِکْرٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَلَی رَجُلٍ مِنْکُمْ لِیُنْذِرَکُمْ وَاذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَکُمْ فِی الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْکُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا کَانَ یَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَاتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ کُنْتَ مِنَ الصَّادِقِینَ . قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَیْکُمْ مِنْ رَبِّکُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِی فِی أَسْمَاءٍ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّی مَعَکُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِینَ . فَأَنْجَیْنَاهُ وَالَّذِینَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیَاتِنَا وَمَا کَانُوا مُؤْمِنِین .

وقال تعالی فی سورة فُصِّلَتْ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُکُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ . إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لانْزَلَ مَلائِکَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ کَافِرُونَ . فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَکْبَرُوا فِی الأرض بِغَیْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِی خَلَقَهُمْ هُوَأَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَةً وَکَانُوا بِآیَاتِنَا یَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحًا صَرْصَرًا فِی أَیَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِیقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْیِ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَی وَهُمْ لا یُنْصَرُونَ

وقال فی سورة الحاقة: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عَاتِیَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَیْهِمْ سَبْعَ لَیَالٍ وَثَمَانِیَةَ أَیَّامٍ حُسُومًا فَتَرَی الْقَوْمَ فِیهَا صَرْعَی کَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِیَةٍ .

والآیات فیهم کثیرة ، وأسوأ منهم الجبارون المعاصرون للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل

ص: 71

بیته(علیهم السّلام) ، فهم فراعنة کما قال الله تعالی لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَیْکُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَیْکُمْ کَمَا أَرْسَلْنَا إِلَی فِرْعَوْنَ رَسُولاً. (المزمل:15) ، وقال فیهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعد أن اضطروا لخلع سلاحهم وإعلان إسلامهم: (یا معشر قریش لتنتهن أو لیبعثن الله علیکم من یضرب رقابکم بالسیف علی الدین ! قد امتحن الله قلبه علی الإیمان ! قالوا: من هو یا رسول الله؟ فقال له أبو بکر: من هو یا رسول الله؟

وقال عمر: من هو یا رسول الله؟ قال هو خاصف النعل ، وکان أعطی علیاً نعله یخصفها). (الترمذی:5/298، وصححه ، ونحوه أبو داود:1/611 . راجع صراع قریش مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للمؤلف/50).

وهم أنفسهم الذی جاهدهم علی والأئمة من أبنائه(علیهم السّلام) ! لذلک نری أن منطق الإمام الباقر(علیه السّلام)کان معهم قویاً کاسحاً قاصعاً ، کمنطق نبی الله هود(علیه السّلام) ، وأن أحادیثه تمیز بجرأتها وصراحتها فی کشف مؤامرة قریش وشرح فریضة ولایة أهل البیت النبوی(علیهم السّلام)والبراءة من ظالمیهم وأعدائهم . ولتسمیته بالباقر علاقة بذلک ، حیث لبَّد المحرفون سماء ثقافة الأمة بغیوم الجاهلیة الأمویة والیهودیة ، فاحتاجت الی من یبقر العلم ویفجر النور ویبدد غیوم التحریف .

7- الإمام یصف حالة أهل البیت(علیهم السّلام)وشیعتهم فی زمن بنی أمیة

وصف الإمام الباقر(علیه السّلام)اضطهاد بنی أمیة لأهل البیت(علیهم السّلام)وشیعتهم ، فقال لبعض أصحابه کما فی شرح النهج:11/43: (یا فلان ما لقینا من ظلم قریش إیانا وتظاهرهم علینا؟! وما لقی شیعتنا ومحبونا من الناس؟! إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قبض وقد أخبر أنا أولی الناس بالناس ، فتمالأت علینا قریش حتی أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت علی الأنصار بحقنا وحجتنا ! ثم تداولتها قریش واحد بعد واحد ، حتی رجعت إلینا ، فنکثت بیعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم یزل صاحب الأمر فی صعود کؤود حتی قتل ، فبویع الحسن ابنه وعوهد ، ثم غُدر به وأُسلم ، ووثب علیه أهل

ص: 72

العراق حتی طعن بخنجر فی جنبه ، ونهبت عسکره وعولجت خلالیل أمهات أولاده ! فوادع معاویة وحقن دمه ودماء أهل بیته وهم قلیل حق قلیل !

ثم بایع الحسین(علیه السّلام)من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به وخرجوا علیه وبیعته فی أعناقهم ، وقتلوه ! ثم لم نزل أهل البیت نستذل ونستضام ، ونقصی ونمتهن ، ونحرم ونقتل ونخوف ! ولا نأمن علی دمائنا ودماء أولیائنا !

ووجد الکاذبون الجاحدون لکذبهم وجحودهم موضعاً یتقربون به إلی أولیائهم وقضاة السوء وعمال السوء فی کل بلدة ، فحدثوهم بالأحادیث الموضوعة المکذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله لیبغضونا إلی الناس ! وکان عِظَمُ ذلک وکِبْرُه زمن معاویة بعد موت الحسن(علیه السّلام) ، فقتلت شیعتنا بکل بلدة ، وقطعت الأیدی والأرجل علی الظنة ، وکان من یذکر بحبنا والإنقطاع إلینا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ! ثم لم یزل البلاء یشتد ویزداد إلی زمان عبید الله بن زیاد قاتل الحسین(علیه السّلام). ثم جاء الحجاج فقتلهم کل قتلة ، وأخذهم بکل ظنة وتهمة ، حتی إن الرجل لیقال له زندیق أو کافر ، أحب إلیه من أن یقال شیعة علی(علیه السّلام)! وحتی صار الرجل الذی یذکر بالخیر ولعله یکون ورعاً صدوقاً ، یحدث بأحادیث عظیمة عجیبة من تفضیل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم یخلق الله تعالی شیئاً منها ولا کانت ولا وقعت ! وهو یحسب أنها حق ، لکثرة من قد رواها ممن لم یعرف بکذب ولا بقلة ورع ) ! انتهی.

کما وصف الإمام الجواد(علیه السّلام)اضطهاد تلامیذ الإمام زین العابدین(علیه السّلام)الخاصین قال: (أما یحیی بن أم الطویل فکان یظهر الفتوة ، وکان إذا مشی فی الطریق وضع الخلوق علی رأسه ویمضغ اللبان ویطول ذیله ، وطلبه الحجاج فقال تلعن أبا تراب وأمر بقطع یدیه ورجلیه وقتله . وأما سعید بن المسیب فنجا وذلک أنه کان یفتی

ص: 73

بقول العامة وکان آخر أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فنجا . وأما أبو خالد الکابلی فهرب إلی مکة واخفی نفسه فنجا . وأما عامر بن واثلة فکانت له ید عند عبد الملک بن مروان فلهی عنه . وأما جابر بن عبد الله الأنصاری فکان رجلاً من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فلم یتعرض له وکان شیخاً قد أسن . وأما أبو حمزة الثمالی وفرات بن أحنف ، فبقوا إلی أیام أبی عبد الله ، وبقی أبو حمزة إلی أیام أبی الحسن موسی بن جعفر(علیهماالسّلام)).(رجال الطوسی:1/338 ). هذا ، وتبلغ مفردات الإضطهاد والظلم التی ذکرها الإمام(علیه السّلام)أو لم یذکرها مجلدات، لأنها تغطی قرناً کاملاً ، ابتداء من وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

8- صَمَتَ الإمام الباقر سبعَ سنین بعد أبیه(علیهماالسّلام)

بعد سبع سنوات من شهادة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)حدثت فُسحةٌ علی عامة المسلمین ، وعلی أهل البیت(علیهم السّلام)وشیعتهم خاصة ، وذلک بهلاک الطاغیة سلیمان بن عبد الملک ، الذی لم یکن له ولد یصلح للخلافة ، ورأی ضعف الدولة الأمویة یتفاقم بسبب نقمة المسلمین وظلم الأجهزة وفسادها ! ورأی أن الناس یمیلون الی ابن عمه عمر بن عبد العزیز ، ویلهجون باسمه للخلافة لما عرف به من استقامة ، فأوصی له وبعده لأخیه یزید بن عبد الملک . فکان عمر بن عبد العزیز نشازاً بین الملوک الأمویین لأنه (عادل) بین جبابرة ، أی أعور بین عمیان !

وقد روی محبوه أن الإمام الباقر(علیه السّلام)سئل عنه فقال: (أما علمت أن لکل قوم نجیبة وأن نجیبة بنی أمیة عمر بن عبد العزیز، وإنه یبعث یوم القیامة أمة وحده). (سیر الذهبی:5م120، وتاریخ دمشق:45/147، وتهذیب الکمال:21/439) . وقد تکون الروایة صحیحة لکنها لا تدل علی نجاته , بل علی تمیزه علی ملوک قومه .

وکان عصر ابن عبد العزیز الفرصة الموعودة فی مقادیر الله تعالی للإمام

ص: 74

الباقر(علیه السّلام)، قال الشیخ الطوسی(قدسّ سرّه)فی رجاله:1/339: (عن القاسم بن عوف قال: کنت أتردد بین علی بن الحسین وبین محمد بن الحنفیة وکنت آتی هذا مرة وهذا مرة . قال: ولقیت علی بن الحسین(علیه السّلام)فقال لی: یا هذا إیاک إن تأتی أهل العراق فتخبرهم أنا استودعناک علماً ، فإنا والله ما فعلنا ذلک ! وإیاک أن تترایس بنا فیضعک الله ، وإیاک أن تستأکل بنا فیزیدک الله فقراً ، واعلم أنک إن تکن ذنباً فی الخیر خیر لک من أن تکون رأساً فی الشر . واعلم أنه من یحدث عنا بحدیث سألنَاه یوماً، فإن حدث صدقاً کتبه الله صدیقاً، وإن حدث وکذب کتبه الله کذاباً !

وإیاک أن تشد راحلة تُرَحِّلُها ، فإنما هاهنا یطلب العلم، حتی یمضی لکم بعد موتی سبع حجج ، ثم یبعث الله لکم غلاماً من ولد فاطمة(علیهاالسّلام) ، تنبتُ الحکمة فی صدره کما ینبت الطَّلُّ الزرع ! قال:

فلما مضی علی بن الحسین حسبنا الأیام والجمع والشهور والسنین ، فما زادت یوماً ولا نقصت حتی تکلم محمد بن علی بن الحسین باقر العلم ، صلوات الله علیهم). انتهی.

ویدل ذلک علی أن ظرف الإمام زین العابدین(علیه السّلام)وإن سمح بقدر من مقاومة التحریف ، إلا أنه لم یسمح بطرح خط أهل البیت(علیهم السّلام)إسلاماً ربانیاً مقابل إسلام السلطة الأمویة ، وعقیدةً صحیحة مقابل عقیدتها الرسمیة ، وخطاً سیاسیاً مقابل خط السلطة . وأن هذا الظرف سیستمر سبع سنین بعد وفاته(علیه السّلام)هی بقیة حکم الولید بن عبد الملک وأخیه سلیمان وشطر من حکم عمر بن عبد العزیز ، فالحجات السبع تبدأ من وفاته(علیه السّلام) سنة94 ، فیکون آخرها سنة100 هجریة فی خلافة عمر بن العزیز ، حیث بدأت فی صفر سنة99 ، وانتهت بموته مسموماً سنة101 هجریة .

ومعنی قول الإمام زین العابدین(علیه السّلام): (وإیاک أن تشد راحلة تُرَحِّلها... أی لاتتعب نفسک فی طلب العلم الحقیقی، فلا یوجد عند علماء السلطة ، ولا قبل سبع سنین حیث سیبدأ الباقر(علیه السّلام)بطرح مذهب أهل البیت(علیهم السّلام)إسلاماً متکاملاً مقابل إسلام السلطة .

ص: 75

9- کان عهد عمر بن عبد العزیز منطلقاً للإمام الباقر(علیه السّلام)

(کانت ولایة عمر ثلاثین شهراً... وتوفی لست بقین من رجب سنة 101 ، وهو ابن تسع وثلاثین سنة ، وکان أسمر ، رقیق الوجه حسن اللحیة ، غائر العینین بجبهته أثر ، وعهد إلی یزید بن عبد الملک). (الیعقوبی:2/308 ، والطبری:5/318).

وکان فی وجهه أثر جرح من رفسة فرس ویسمی أشجَّ بنی أمیة . (فتن ابن حماد/75) .

وکان عهده علی قصر مدته متنفساً للمسلمین من اضطهاد قومه بنی أمیة !

وسبب استخلافه أن سلفه سلیمان بن عبد الملک کان ظلوماً عسوفاً أکولاً لایکاد یشبع! لکن کانت لعمر بن عبد العزیز یدٌ علیه حیث وقف معه لما أراد أخوه أن ینتزع الخلافة منه ، فحفظها له سلیمان وکتب له عهده عندما عاجله الموت وهو شاب ، ونصه: (هذا کتاب من عبد الله سلیمان أمیر المؤمنین لعمر بن عبد العزیز: إنی قد ولیتک الخلافة من بعدی ، ومن بعدک یزید بن عبد الملک ، فاسمعوا له وأطیعوا واتقوا الله ، ولا تختلفوا فیطمع فیکم). (تاریخ الطبری:5/306) . وأمر أولاده وهو یحتضر أن یبایعوه: (ونزل عمر بن عبد العزیز قبره وثلاثة من ولده ، فلما تناولوه تحرک علی أیدیهم فقال ولد سلیمان: عاش أبونا ورب الکعبة ! فقال عمر: بل عوجل أبوکم ورب الکعبة ! وکان بعض من یطعن علی عمر یقول دَفَنَ سلیمان حیاً . وکانت ولایة سلیمان بن عبد الملک سنتین وثمانیة أشهر ، وخلف من الولد الذکور عشرة ). ( الیعقوبی:2/299) .

أقول: أراد الله تعالی فی مطلع القرن الثانی للهجرة ، أن یفتح باب رحمة علی أمة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وباب عذاب علی بنی أمیة ! وقد شعر بنو أمیة خطر خلافة ابن عبد العزیز عندما أعلن إدانة الخلفاء قبله بظلمهم للمسلمین ومصادرتهم حریاتهم واستباحتهم أموالهم، وأعلن أنه سیحقق العدالة ویرد ظلامة کل مظلوم ! وباشر بإعادة الحریات

ص: 76

وأصدر المراسیم بتغییر الولاة ورد الظلامات ، فاستنفر بنو أمیة ضده وکانوا قبیلة کثیرة بیدهم مفاصل الدولة ، وقتلوه بعد سنتین بالسم ، وأعادوا الظلم کما کان ، ونصبوا بعده یزید بن عبد الملک ، ثم الطاغیة هشام بن عبد الملک الذی ارتکب جریمة قتل الإمام الباقر(علیه السّلام)بالسم علی ید والی المدینة أو غیره من المقربین الیه .

والنص التالی یکشف الفرق فی نظر الإمام الباقر(علیه السّلام)بین سلیمان بن عبد الملک وخلیفته عمر بن عبد العزیز: فقد روی الیعقوبی فی تاریخه:2/306 ، أن عمر بن عبد العزیز ذکر الإمام زین العابدین(علیه السّلام)یوماً فقال: ( ذهب سراج الدنیا وجمال الإسلام وزین العابدین ! فقیل له: إن ابنه أبا جعفر محمد بن علی فیه بقیة ، فکتب عمر یختبره ، فکتب إلیه محمد کتاباً یعظه ویخوفه ! فقال عمر: أخرجوا کتابه إلی سلیمان فأخرج کتابه فوجده یقرظه ویمدحه ، فأنفذ إلی عامل المدینة وقال له: أحضر محمداً وقل له: هذا کتابک إلی سلیمان تقرظه ، وهذا کتابک إلیَّ مع ما أظهرت من العدل والإحسان ! فأحضره عامل المدینة وعرفه ما کتب به عمر فقال: إن سلیمان کان جباراً کتبت إلیه بما یکتب إلی الجبارین ، وإن صاحبک أظهر أمراً فکتبت إلیه بما شاکله ! وکتب عامل عمر إلیه بذلک فقال عمر: إن أهل هذا البیت لا یخلیهم الله من فضل) ! انتهی.

ومعناه أن سلیمان برأی الإمام(علیه السّلام)جبارٌ لا یتحمل أن یطرح الإمام مذهب أهل البیت(علیهم السّلام)، فکان یداریه کما داری الأنبیاء(علیهم السّلام)فراعنة عصورهم . أما ابن عبد العزیز فأعلن أنه یرید تحقیق العدل ویتحمل النصیحة ، فکتب له الإمام(علیه السّلام)بما کتب . فأعجب ذلک عمر .

لقد کان عهده فرصة للإمام(علیه السّلام)لیبدأ مشروعه فی الجهر بالحق ، وینشط تلامیذه فی البلاد لنشر الإسلام ! فبَقَرَ الإمام الباقر(علیه السّلام)علوم جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفجَّرها ، کما بَقَرَ طریق الثورة علی الأمویین ، وشقها أمام فئات الهاشمیین !

ص: 77

10- نقاط إیجابیة من عصر ابن عبدالعزیز

1- عندما تولی الخلافة دعا الإمام الباقر(علیه السّلام)الی الشام ، لیسشتیره فی أمور الخلافة: (فدخل فحدثه ساعة وقال إنی: أرید الوداع یا أمیر المؤمنین ، قال عمر فأوصنی یا أبا جعفر ، قال: أوصیک بتقوی الله ، واتخذ الکبیر أباً ، والصغیر ولداً ، والرجل أخاً ، فقال: رحمک الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله علیه ، استقام لنا الخیر إن شاء الله ). (تاریخ دمشق:54/268، وأمالی القالی/495).

2- (قال أبو بکر بن أبی سبرة: لما رد عمر بن عبد العزیز المظالم قال: إنه لینبغی أن لا أبدأ بأول إلا من نفسی ، فنظر إلی ما فی یدیه من أرض أو متاع فخرج منه حتی نظر إلی فص خاتم فقال: هذا مما أعطانیه الولید بن عبد الملک مما جاءه من أرض المغرب ، فخرج منه) . (الطبقات:5/341).

( لما استخلف قال: یا أیها الناس ، إنی قد رددت علیکم مظالمکم ، وأول ما أرد منها ما کان فی یدی ، وقد رددت فدک علی ولد رسول الله (ص) وولد علی بن أبی طالب ، فکان أول من ردها ). (بحار الأنوار:29/208).

(ونکث عمر أعمال أهل بیته وسماها مظالم ، وکتب إلی عماله جمیعاً: أما بعد فإن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور فی أحکام الله ، وسنن سیئة سنتها علیهم عمال السوء ، قلما قصدوا قصد الحق والرفق والإحسان ، ومن أراد الحج فعجلوا علیه عطاءه حتی یتجهز منه ، ولا تحدثوا حدثاً فی قطع وصلب حتی تؤامرونی..

وأعطی بنی هاشم الخمس ، ورد فدکاً وکان معاویة أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزیز فورثها عمر منه ، فردها علی ولد فاطمة ، فلم تزل فی أیدیهم حتی ولی یزید بن عبد الملک ، فقبضها . ورد عمر هدایا النیروز والمهرجان ، ورد

ص: 78

السُّخَر (الإجبار علی العمل مجاناً) ، ورد العطاء علی قدر ما استحق الرجل من السنة ، وورث العیالات علی ما جرت به السنة ، غیر أنه أقر القطائع التی أقطعها أهل بیته والعطاء فی الشرف لم ینقصه ولم یزد فیه ، وزاد أهل الشأم فی أعطیاتهم عشرة دنانیر ، ولم یفعل ذلک فی أهل العراق). (تاریخ الیعقوبی:2/305 ، ونحوه الطبری:5/321).

3- ( لما ولی عمر بن عبد العزیز ، فردَّ فدک علی ولد فاطمة(علیهاالسّلام)وکتب إلی والیه علی المدینة أبی بکر بن عمر بن حزم یأمره بذلک ، فکتب إلیه: إن فاطمة قد ولدت فی آل عثمان وآل فلان وآل فلان ! فکتب إلیه: أما بعد فإنی لو کنت کتبت إلیک آمرک أن تذبح شاة لسألتنی جمَّاء أو قرناء ! أو کتبت إلیک أن تذبح بقرة لسألتنی ما لونها ! فإذا ورد علیک کتابی هذا فاقسمها بین ولد فاطمة من علی والسلام ! قال أبو المقدام: فنقمت بنو أمیة ذلک علی عمر بن عبد العزیز وعاتبوه فیه وقالوا له: هجَّنْتَ فعل الشیخین ! وخرج إلیه عمرو بن عبس فی جماعة من أهل الکوفة ، فلما عاتبوه علی فعله قال: إنکم جهلتم وعلمت ونسیتم وذکرت ، إن أبا بکر محمد بن عمرو بن حزم حدثنی عن أبیه عن جده ، أن رسول الله قال: فاطمة بضعة منی یسخطنی ما یسخطها ویرضینی ما یرضیها، وإن فدک کانت صافیة علی عهد أبی بکر وعمر ، ثم صار أمرها إلی مروان فوهبها لأبی عبد العزیز ، فورثتها أنا وإخوانی فسألتهم أن یبیعونی حصتهم منها فمنهم من باعنی ، ومنهم من وهب لی ، حتی استجمعتها فرأیت أن أردها علی ولد فاطمة ! فقالوا: إن أبیت إلا هذا فأمسک الأصل واقسم الغلة ، ففعل) ! (الشافی:4/102، وشرح النهج:16/278).

(فسلمها إلی محمد بن علی الباقر(علیه السّلام)وعبد الله بن الحسن ، فلم تزل فی أیدیهم إلی أن مات عمر بن عبد العزیز ). (کشف الغمة:2/117).

(فقیل له: طعَنْتَ علی الشیخین ! فقال: هما طعنا علی أنفسهما ! وذلک لما صار

ص: 79

إلیه محمد بن علی(علیه السّلام)). (المسترشد لمحمد بن جریر الطبری ( الشیعی)/503).

( لما دخل المدینة عمر بن عبد العزیز نادی منادیه: من کانت له مظلمة وظلامة فلیحضر :(فدخل إلیه مولاه مزاحم فقال: إن محمد بن علی بالباب ، فقال له: أدخله یا مزاحم قال: فدخل وعمر یمسح عینیه من الدموع ، فقال له محمد بن علی: ما أبکاک یا عمر؟ فقال هشام: أبکاه کذا وکذا یا ابن رسول الله ، فقال محمد بن علی)فلما رآه استقبله وأقعده مقعده فقال(علیه السّلام): إنما الدنیا سوق من الأسواق یبتاع فیها الناس ما ینفعهم وما یضرهم ، وکم قوم ابتاعوا ما ضرهم فلم یصبحوا حتی أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنیا ملومین لمَّا لم یأخذوا ما ینفعهم فی الآخرة فقسم ما جمعوا لمن لم یحمدهم ، وصاروا إلی من لا یعذرهم . فنحن والله حقیقون أن ننظر إلی تلک الأعمال التی نتخوف علیهم منها ، فکف عنها واتق الله ، واجعل فی نفسک اثنتین: إلی ما تحب أن یکون معک إذا قدمت علی ربک فقدمه بین یدیک ، وانظر إلی ما تکره أن یکون معک إذا قدمت علی ربک فارمه ورائک . ولا ترغبن فی سلعة بارت علی من کان قبلک فترجو أن یجوز عنک ، وافتح الأبواب وسهل الحجاب ، وأنصف المظلوم ورد الظالم . ثلاثة من کن فیه استکمل الإیمان بالله (فجثا عمر علی رکبتیه ، ثم قال: إیه أهل بیت النبوة ، قال: نعم یا عمر ، من إذا رضی لم یدخله رضاه فی باطل ، ومن إذا غضب لم یخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم یتناول ما لیس له . فدعا عمر بدواة وبیاض وکتب: بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما رد عمر بن عبد العزیز ، ظلامة محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم بفدک). ( الخصال/105 ، والمناقب:3/337 ، والمسترشد/504) .

أقول: ذکرت بعض الروایات أنه رد غلة فدک دون أصلها ، وبعضها أنه سلمها الی

ص: 80

الإمام الباقر(علیه السّلام)لیقسمها بین أولاد فاطمة(علیهاالسّلام) ، وبعضها أنه سلمها له ولعبد الله بن الحسن المثنی . واتفق الرواة علی أن یزید بن عبد الملک الذی حکم بعده ، أعادها الی بنی أمیة ! لکن یبقی ردها عملاً مهماً لأنه اعتراف من خلیفة أموی بظلامة فاطمة(علیهاالسّلام)وظلامة أبنائها ، وتخطئة لسیاسات الحکام نحوهم بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

وفی تاریخ دمشق:70/255: ( لما رد عمر بن عبد العزیز مظالم أهل بیته وأخذهم بالحق قال مولی لآل مروان بربری: وأنتم أیضاً فتزوجوا بنات عمر بن الخطاب) !

یقصد أن عمر بن الخطاب أنفق أیضاً من أموال المسلمین فبناته إماء لهم !

وفی الطرائف/252: (فردها علیهم السفاح ، ثم قبضت فردها علیهم المهدی ، ثم قبضت فردها علیهم المأمون... قبضت منهم بعد المأمون فردها علیهم الواثق ، ثم قبضت فردها علیهم المستعین ، ثم قبضت فردها علیهم المعتمد ، ثم قبضت فردها المعتضد ، ثم قبضت فردها علیهم الراضی) .

وفی المناقب:2/52: (وردها علیهم المأمون ، والمعتصم والواثق وقالا: کان المأمون أعلم منا به ، فنحن نمضی علی ما مضی هو علیه ، فلما ولی المتوکل قبضها... وردها المعتضد وحازها المکتفی ، وقیل إن المقتدر ردها علیهم).

4- ( وروی أنه لما صارت الخلافة إلی عمر بن عبد العزیز ، رد علیهم سهام الخمس سهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسهم ذی القربی وهما من أربعة أسهم ، رده علی جمیع بنی هاشم ، وسلم ذلک إلی محمد بن علی الباقر وعبد الله بن الحسن . وقیل إنه جعل من بیت ماله سبعین حملاً من الورق والعین من مال الخمس ، فرد علیهم ذلک ، وکذلک کلما کان لبنی فاطمة وبنی هاشم مما حازه أبو بکر وعمر وبعدهما عثمان ومعاویة ویزید وعبد الملک ، رده علیهم ! واستغنی بنو هاشم فی تلک السنین وحسنت أحوالهم). (المناقب:2/52 ، وکشف الغمة:2/117 ، ویؤیده ما فی الطبقات:5/391).

ص: 81

وروی فی سمط النجوم/1043 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أن عمر بن عبد العزیز کان یهدی إلیهم الدراهم والدنانیر فی زقاق العسل ، خوفاً من أهل بیته !

5-ألغی عمر بن عبد العزیز مرسوم معاویة بلعن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی صلاة الجمعة ، قال الیعقوبی:2/305: (وترک لعن علی بن أبی طالب علی المنبر ، وکتب بذلک إلی الآفاق... وأعطی بنی هاشم الخمس ، ورد فدکاً وکان معاویة أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزیز فورثها عمر منه فردها علی ولد فاطمة . فلم تزل فی أیدیهم حتی ولی یزید بن عبد الملک فقبضها) .

وقال فی شرح النهج:4/58: ( فأما عمر بن عبد العزیز فإنه قال: کنت غلاماً أقرأ القرآن علی بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بی یوماً وأنا ألعب مع الصبیان ونحن نلعن علیاً ، فکره ذلک ودخل المسجد ، فترکت الصبیان وجئت إلیه لأدرس علیه وردی ، فلما رآنی قام فصلی وأطال فی الصلاة شبه المعرض عنی حتی أحسست منه بذلک ، فلما انفتل من صلاته کلح فی وجهی فقلت له: ما بال الشیخ؟ فقال لی: یا بنیَّ أنت اللاعن علیاً منذ الیوم؟ قلت: نعم ، قال: فمتی علمت أن الله سخط علی أهل بدر بعد أن رضی عنهم ! فقلت: یا أبت وهل کان علی من أهل بدر! فقال: ویحک ! وهل کانت بدر کلها إلا له ! فقلت: لا أعود ، فقال: آلله إنک لا تعود ! قلت: نعم فلم ألعنه بعدها .

ثم کنت أحضر تحت منبر المدینة وأبی یخطب یوم الجمعة وهو حینئذ أمیر المدینة ، فکنت أسمع أبی یمر فی خطبه تهدر شقاشقه حتی یأتی إلی لعن علی(علیه السّلام)فیجمجم ویعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فکنت أعجب من ذلک َ، فقلت له یوماً: یا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالی أراک أفصح خطیب یوم حفلک حتی إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألکن عیِیاً !

ص: 82

فقال: یا بنی ، إن من تری تحت منبرنا من أهل الشام وغیرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما یعلمه أبوک ، لم یتبعنا منهم أحد ! فوقرت کلمته فی صدری مع ما کان قاله لی معلمی أیام صغری ، فأعطیت الله عهداً لئن کان لی فی هذا الأمر نصیبٌ لأغیرنه ! فلما من الله علیَّ بالخلافة أسقطت ذلک وجعلت مکانه: إِنَّ اللهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ وَالْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ ، وکتب به إلی الآفاق فصار سنة).

ومدحه لذلک الشعراء ، فقال کُثیِّر عزة:

ولِیتَ فلم تشتمْ علیاً ولم تُخفْ

َرِیَاً ولم تقبل إساءة مجرم

وکفَّرتَ بالعفو الذنوب مع الذی

أتیت فأضحی راضیاً کل مسلم

ألا إنما یکفی الفتی بعد زیغه

من الأود البادی ثقاف المقوم

وعبَّر الشریف الرضی فی رثائه له عن عقیدة الشیعة فیه فقال(رحمه الله):

یا ابن عبد العزیز لو بکت

العینُ فتًی من أمیةٍ لبکیتکْ

أنت نزهتنا عن السب والشتْم

فلو أمکن الجزاءُ جزیتُک

دیر سمعان لا أغبک غیث

خیرُ میْت من آل مروان میتُک

فلوَ انی ملکتُ دفعاُ لما نا

بَکَ من طارق الردی لفدیتک

( شرح النهج:4/58 ، ومختصر أخبار شعراء الشیعة/69 ،

والحماسة/150)

وفی الطبقات:5/393: (کان الولاة من بنی أمیة قبل عمر بن عبد العزیز یشتمون علیاً رحمه الله فلما ولی عمر أمسک عن ذلک فقال کثیر عزة الخزاعی... ) .

وفی سیر الذهبی:5/147: ( کان الولاة من بنی أمیة قبل عمر بن عبد العزیز یشتمون رجلاً ! رضی الله عنه ، فلما ولی هو أمسک عن ذلک فقال کثیر عزة..)

أقول: ما أن قتل بنو أمیة عمر بن عبد العزیز حتی أعادوا سب أمیر المؤمنین(علیه السّلام) علی المنابر وغیرها ، کما أثبتناه فی أواخر المجلد الثالث .

ص: 83

6- وقتله بنو أمیة بالسُّم وأعادوا ظلم الناس کما کان: (وعزل یزید عمال عمر بن عبد العزیز جمیعاً).(الیعقوبی:2/308) لکن الأمر کُتب علیهم فقد فضحهم ابن عبد العزیز وجرَّأ المسلمین علیهم ، وفتح لبنی هاشم باب الثورة ، فثار زید بن علی(رحمه الله) بعد عشرین سنة ، والعباسیون بعد ثلاثین سنة .

قال الولید بن هشام: ( لقینی یهودی فأعلمنی أن عمر بن عبد العزیز سیلی هذا الأمر وسیعدل فیه ، ثم لقینی بعد فقال لی: إن صاحبک قد سقی فمُرْهُ فلیتدارک نفسه ! فلقیته فذکرته له فقال لی: قاتله الله ما أعلمه ! لقد علمت الساعة التی سقیت فیها ، ولو کان شفائی أن أمس شحمة أذنی ما فعلت ، أو أوتی بطیب فأرفعه إلی أنفی فأشمه ، ما فعلت) ! (الفتن لنعیم بن حماد/68).

یشیر النص الی أن الیهود کانوا وراء سمه ، وقد کانت صلاتهم وثیقة بالأمویین! کما یشیر الی مبالغات الناس فی إیمان عمر بن عبد العزیز وتقواه ، وأنه کان مسلِّماً لقضاء الله وقدره ، الی حد أنه لایعالج نفسه من السُّم !

7- تقدم فی سیرة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)(4/182) ، أن ابن عبد العزیز کان یعرف مقام علی والأئمة من العترة(علیهم السّلام)، وأن الإمام(علیه السّلام)کان یصفه بالمترف الفاسق ، ورأیت أن الجاحظ یصفه بالفاسق أیضاً ، وهذا یشیر الی سلوکه الأخلاقی ، لکن حکمنا علیه لأنه یعلم أن بنی أمیة غصبوا الخلافة من أهل البیت(علیهم السّلام)ولم یُرجعها الی أصحابها !

(قال أبو بصیر: کنت مع الباقر(علیه السّلام)فی المسجد ، إذ دخل علیه عمر بن عبد العزیز ، علیه ثوبان ممصران متکئاً علی مولی له ، فقال(علیه السّلام): لَیَلِیَنَّ هذا الغلام فیظهر العدل ویعیش أربع سنین ، ثم یموت فیبکی علیه أهل الأرض ویلعنه أهل السماء. فقلنا: یا بن رسول الله ألیس ذکرت عدله وإنصافه ؟ قال:یجلس فی مجلسنا ولا حق له فیه ) ! (الخرائج:1/276).

ص: 84

وتقدم أن روایتهم عن الإمام الباقر(علیه السّلام)أنه: ( نجیب بنی أمیة ویبعث یوم القیامة أمة وحده) یدل علی تمیزه عن غیره من خلفائهم ، ولایدل علی نجاته .

8- روی ابن عساکر:69/160، أن یزید بن معاویة صَلَبَ رأس الحسین(علیه السّلام)فی دمشق ثلاثة أیام ، ثم وضعه: ( فی خزائن السلاح.. فلما ولی عمر بن عبد العزیز بعث إلی الخازن خازن بیت السلاح: وجِّه إلیَّ رأس الحسین بن علی ، فکتب إلیه أن سلیمان أخذه وجعله فی سفط وصلی علیه ودفنه ، فصح ذلک عنده . فلما دخلت المسودة سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه ، والله أعلم ما صُنع به ).

أقول: هذه الروایة من تصوراتهم ، والمعتمد عند المصریین أنه بقی فی خزائن بنی أمیة ودفنوه فی عسقلان ثم فی القاهرة ، والمعتمد عندنا أن الإمام زین العابدین(علیه السّلام)أخذه من یزید وأعاده الی کربلاء ، ودفنه مع الجسد الشریف .

9- روی ابن عساکر:30/297 ، وغیره ، أن عمر بن العزیز أرسل محمد بن الزبیر الی الحسن البصری یقول له: (إشفنی فیما اختلف فیه الناس: هل کان رسول الله (ص) استخلف أبا بکر؟ فاستوی الحسن قاعداً فقال: أوَفی شک هو لا أباً لک ! إی والله الذی لا إله إلا هو لقد استخلفه ). وعلق علیه الأمینی(رحمه الله)فی االغدیر:5/345 ، بقوله: (أنظر إلی هذا المتقشف المتزهد الجامد ، کیف یحلف کذباً بالله تعالی علی ما لا تعترف به الأمة جمعاء ، حتی نفس أبی بکر وعمر ) !

أقول: یدل ذلک علی أن ابن عبد العزیز والناس فی عصره یرون أن الخلافة لاتکون إلا بالنص ، وأن بنی أمیة أو غیرهم ادعوا النص علی أبی بکر ، وکان الخلیفة متحیراً ، فأراد أن (یُشفی) شکه بسؤال الحسن البصری ! وقد یکون ذلک فی مرحلة من حیاته ، ثم وصل الی تفضیل أهل البیت(علیهم السّلام)علی نفسه وجمیع الناس ، فقد قضی فی رجل فضَّل معاویة علی علی(علیه السّلام)بالتعزیز والنفی، وکان یقول: (ما علمنا أحداً کان فی هذه

ص: 85

الأمة أزهد من علی بن أبی طالب بعد النبی). (الکامل:3/401 ، راجع جواهر التاریخ:4/183).

وقضی بأن علیاً(علیه السّلام)أفضل من أبی بکر وعمر وعثمان ، فقد روی ابن الکلبی أن عامل عمر بن العزیز رفع الیه مسألة رجل حلف أن علیاً خیر هذه الأمة وأولاها برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وإلا فامرأته طالق ثلاثاً ، فقال له أبوها طَلُقَتْ منک ، واختلفا: ( فجمع عمر بن عبد العزیز بنی هاشم وبنی أمیة... ما تقولون فی یمین هذا الرجل؟... وکتب عمر إلی عامله ابن مهران..: قد صدَّق الله یمین الزوج وأبرَّ قسمه ، وأثبته علی نکاحه ، فاستیقن ذلک واعمل علیه ). ( شرح النهج:20/222 ، وملاحم ابن طاووس/385 ).

10- فی هذا الجو السیاسی الذی هیأه الله للإمام الباقر(علیه السّلام)انطلق فی جهده النبوی علی مدی أربع عشرة سنة ، یجهر بالحق ، ویواجه تآمر قریش وتحریفها للإسلام ، ویفضح سیاسات الحکام ، ویعلی الصرح الفکری والإجتماعی للفئة الثابتة فی زمن الإنحراف! وقد نشأت ثورة الحسنیین والعباسیین من هذه الأرضیة بفضل الموجة التی أحدثها الإمام(علیه السّلام)، ثم استمدت دفعها من ثورة أخیه زید(رحمه الله)أبکر ثورة هاشمیة بعد کربلاء. وعندما مات عمر بن عبد العزیز ، وتولی بعده یزید بن عبد الملک أربع سنین ثم هشام بن عبد الملک عشر سنین ، لم یستطیعا إیقاف الموجة الفکریة والإجتماعیة والسیاسیة التی أحدثها الإمام(علیه السّلام) ، لأنها کَوَّنَتْ واقعاً جدیداً فی الأمة ، جریئاً علی بنی أمیة وطغیانهم . وساعد علیه عدم الإستقرار السیاسی للنظام الأموی ، وأن الخلیفة کان مشغولاً بالصراع مع ولاته ومع الطامعین بالخلافة حوله ، وقد انفتح هذا الباب فی زمن ابن عبد العزیز عندما عزل حاکم البصرة وبلاد فارس ابن المهلب ، وحبسه فی الشام ، فهرب من سجنه وعاد الی موطنه وأعلن الحرب علی بنی أمیة ! وکذلک اضطربت ولایة خراسان وشمال إیران ، واستفحل الخوارج فی العراق ..الخ.

ص: 86

الفصل الرابع: تصعید الإمام الباقر(علیه السّلام)مواجهته للنظام الأموی

1- الإمام الباقر(علیه السّلام)یُعلی صَرْحَ التشیع

حددت صحیفة الوصیة البلیغة التی تقدمت فی الفصل الأول ، البرنامج الربانی للإمام الباقر(علیه السّلام): ( فسِّرْ کتاب الله تعالی ، وصدِّقْ أباک ، وورِّثْ ابنک ، واصطنع الأمة وقم بحق الله عز وجل ، وقل الحق فی الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله ) .

ولکل فقرة منها دلالات ، وغرضنا منها الفقرة الأخیرة التی ترفع التقیة عن الإمام(علیه السّلام)لیجهر بالحق فی الخوف والأمن ، ویکشف التحریف .

کما حدد حدیث أبیه زین العابدین(علیهماالسّلام)أنه سیبدأ انطلاقته فی بَقْر علم النبوة وتفجیر ینابیعه ، حیث قال(علیه السّلام)للقاسم بن عوف(رحمه الله): ( وإیاک أن تشد راحلة ترحلها فما ها هنا مطلب العلم حتی یمضی لکم بعد موتی سبع حجج ، ثم یبعث الله لکم غلاماً من ولد فاطمة یُنبت الحکمة فی صدره کما یُنبت الطَّلُّ الزرع ) .

وبعد سبع سنین تولی الخلافة عمر بن عبد العزیز ، الشاب المترف الذی عاش فی المدینة ثم صار والیها ، وکان محباً لبنی هاشم عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، معجباً بالإمام

ص: 87

زین العابدین(علیه السّلام)أیما إعجاب کما تقدم فی سیرته، وظل یذکره بإیمان ولهفة ویقول: (ذهب سراج وجمال الإسلام وزین العابدین) (تاریخ الیعقوبی:2/306) . وقد انتقل إعجابه الی ولده محمد الباقر(علیه السّلام)فانفتح الباب لانطلاقة الإمام(علیه السّلام)طوال أربع عشرة سنة من عمره الشریف ، منها خمس سنوات فی عهدابن عبد العزیز وخلفه یزید بن عبد الملک ، ثم واصل جهاده فی عهد الطاغیة هشام بن عبد الملک حتی استشهد بیده بعد تسع سنین !

فی هذه المدة جهر الإمام(علیه السّلام)بالحق فی حدیثه ومواقفه ، فبیَّنَ معالم الإسلام النبوی ومرکزیة ولایة أهل البیت(علیهم السّلام)فیه ، وبَلْوَرَ معالم فقه الإسلام وشریعته ، ورسَّخَ أسس التشیع التی أرساها آباؤه(علیهم السّلام)، وفضح عمل قریش وتآمرها .

وربی علی ذلک جیلاً من العلماء والرواة ، کما تقدم فی فصله ، ونشر مذهب أهل البیت(علیهم السّلام)فی العراق وخراسان والشام والحجاز ، وغیرها من مناطق الدولة .

ولو تتبعنا مفردة واحدة من نشاطه العلمی تطبیقاً لأمر الله تعالی: ( فسر کتاب الله) لرأینا العمق والیقین فی تفسیر القرآن، فی عصر ساد فیه التفسیر السطحی بالإسرائیلیات من علماء الدولة کعکرمة وقتادة ومجاهد والحسن البصری !

وصدِّقْ أباک.. أی: رسِّخ ما بناه أبوک زین العابدین(علیه السّلام)من عقائد الإسلام وأخلاقیته وروحانیته ، وظلامة العترة الطاهرة .

وورِّثْ ابنک.. أی قم بما یتعلق بک من إعداد جعفر الصادق(علیه السّلام)وتعریفه للأمة ، والوصیة له ، وتوریثه جهدک ومجدک ومواریث الأنبیاء(علیهم السّلام) .

ومعنی ذلک: رکز مکانة آبائک وابنک واربط الأمة بهم ، وعلمها أن توالی هذه الأسرة الربانیة المختارة وتقتدی بهم ، حتی لا ینصب لها المنحرفون أنداداً وأئمة من دون الله تعالی ، ویخدعوها بولایة الطغاة المقنعین ، وعلمائهم المضلین !

واصطنع الأمة.. أی قم ببناء الفئة الواعیة الناجیة داخل الأمة ، فاختر علماءها

ص: 88

وعناصرها ، وتألفهم بالتربیة والرعایة والإدارة . وهذا ما قام به الإمام(علیه السّلام)فکان ینمی الکتلة الموالیة لأهل البیت(علیهم السّلام)ویرعاهم ویوجه الیهم الرسائل والمبلغین .

ویکفی لمعرفة تأثیره(علیه السّلام)فی بناء المجتمع الشیعی قول الخلیفة هشام عنه: (هذا نبی أهل الکوفة). (الکافی:8/120) . (المفتون به أهل العراق). (سیر أعلام :4/405).

وقم بحق الله عز وجل.. فی نفسک وأسرتک وعشیرتک ومجتمعک ، ومع السلطة الأمویة ، ولاتها ورأسها ، ومع مشاریع الجبابرة الجدد الذین یعملون لوراثتها .

وقل الحق فی الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله.. وهذا أمرٌ للإمام(علیه السّلام)بالجهر بالحق بدون تقیة ، فکان یجهر به ویعلمه لتلامیذه وأتباعه ، ویواجه به شخصیات المجتمع ، وعلماء السلطة ، وأتباعهم ، ویواجه به الوالی والخلیفة ، سواء کان لیناً محباً کعمر بن عبد العزیز ، أو معادیاً طاغیة کالحاکمیْن اللذین عاصرهما بعده: یزید بن عبد الملک الذی عمل لإعادة الأمور الی ماکانت علیه قبل ابن عبد العزیز والطاغیة الجبار المریض نفسیاً هشام بن عبد الملک ، الذی جاهده الإمام وعانی منه تسع سنین ، حتی

کتب الله له الشهادة بیده .

ویظهر لک من تاریخ عصره(علیه السّلام)أنه أوجد تیاراً فی الأمة موالیاً لأهل بیت النبوة(علیهم السّلام) وکان یجاهر فی ذلک ولا یخاف إلا الله تعالی: روی الصدو(رحمه الله)فی فضائل الشیعة/8 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (خرجت أنا وأبی ذات یوم إلی المسجد فإذا هو بأناس من أصحابه بین القبر والمنبر ، قال فدنی منهم وسلم علیهم وقال:

إنی والله لأحب ریحکم وأرواحکم فأعینوا علی ذلک بورع واجتهاد ، واعلموا أن ولایتنا إلا بالورع والإجتهاد ، من أئتم منکم بقوم فلیعمل بعلمهم . أنتم شیعة الله وأنتم أنصار الله ، وأنتم السابقون الأولون ، والسابقون الآخرون ، والسابقون فی الدنیا إلی محبتنا ، والسابقون فی الآخرة إلی الجنة . ضمنت لکم الجنة بضمان الله

ص: 89

عز وجل وضمان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

أنتم الطیبون ، ونساؤکم الطیبات ، کل مؤمنة حوراء وکل مؤمن صدیق . بکم من مَرَّةٍ قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لقنبر: أبشروا وبشروا ، فوالله مات رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهو ساخط علی أمته إلا الشیعة ! ألا وإن لکل شئ شرفاً ، وشرف الدین الشیعة . ألا وإن لکل شی إماماً وإمام الأرض أرض تسکنها الشیعة . ألا وإن لکل شئ سیداً وسید المجالس مجالس الشیعة . ألا وإن لکل شئ شهوة ، وإن شهوة الدنیا سکنی شیعتنا فیها . والله لولا ما فی الأرض منکم ما استکمل أهل خلافکم طیباتهم فی الدنیا ، وما لهم فی الآخرة من نصیب . کل ناصب وإن تعبد واجتهد ، منسوب إلی هذه الآیة: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَی نَاراً حَامِیَةً . من دعا منکم دعوة فله مئة ، ومن طلب منکم إلی الله تبارک وتعالی اسمه حاجة فله مائة . ومن دعا دعوة فله مائة ، ومن عمل حسنة فلا یحصی تضاعیفها ، ومن أساء سیئة فمحمد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حجته علی تبعتها . والله إن صائمکم لیرتع فی ریاض الجنة تدعو له الملائکة بالفوز حتی یفطر ، وإن حاجکم ومعتمرکم لخاصة الله عز وجل . وإنکم جمیعاً لأهل دعوة الله وأهل ولایته ، لاخوف علیکم ولا حزن ، کلکم فی الجنة ، فتنافسوا الصالحات . والله ما أحد أقرب من عرش الله عز وجل بعدنا من شیعتنا . ما أحسن صنع الله إلیهم ! لولا أن تفشلوا ویشمت به عدوکم ویُعظم الناس ذلک ، لسلَّمَتْ علیکم الملائکة قبیلاً ! قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): ٍیخرج أهل ولایتنا من قبورهم یخاف الناس وهم لا یخافون ، ویحزن الناس وهم لا یحزنون) .

ص: 90

2- أهم فعالیات الإمام(علیه السّلام)لإعلاء صرح الإسلام ورد التحریف

ذکرنا فی الفصل الثانی نماذج من علم الإمام(علیه السّلام) ، وکلها مفرداتٌ فی إعلائه لصرح التشیع ، الذی هو الإسلام النبوی فی مقابل الإسلام الأموی .

ومراعاةً لمنهج الکتاب فی الإختصار ، نکتفی بالقول: إن الإسلام النبوی الذی قدمه الإمام(علیه السّلام)یقوم علی التمسک بالقرآن والعترة ، ومن أرکانه فریضة ولایة أئمة العترة النبویة(علیهم السّلام)التی أوحاها الله تعالی

وبلغها رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ویوازیها رکن آخر هو فریضة البراءة من أعدائهم وظالمیهم وغاصبی حقوقهم ، أیاً کانوا ! وهذا ما تجده صریحاً قویاً فی أحادیث الإمام(علیه السّلام)ومواقفه ! ویکفی أن تقرأ فهرس أحادیثه فی أبواب الکافی:1/174، مثلاً:

باب طبقات الأنبیاء والرسل والأئمة(علیهم السّلام) .

باب الفرق بین الرسول والنبی والمحدث(علیهم السّلام) .

باب أن الأرض لا تخلو من حجة .

باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل فی أرضه وأبوابه التی منها یؤتی .

باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذین ذکرهم الله عز وجل .

باب أن أهل الذکر الذین أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة(علیهم السّلام).

باب أن الراسخین فی العلم هم الأئمة(علیهم السّلام).

باب فی أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم کتابه هم الأئمة(علیهم السّلام).

باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائکة.

باب أن الأئمة ورثوا علم النبی وجمیع الأنبیاء والأوصیاء الذین من قبلهم(علیهم السّلام).

باب أن الأئمة(علیهم السّلام)إذا شاؤوا أن یعلموا علموا.

باب أن الأئمة(علیهم السّلام)محدثون مفهمون .

باب وقت ما یعلم الإمام جمیع علم الإمام الذی کان قبله.

ص: 91

باب ثبات الإمامة فی الأعقاب وأنها لا تعود فی أخ ولا عم ولا غیرهما .

باب ما یفصل به بین دعوی المحق والمبطل فی أمر الإمامة .

ففی هذه الأبواب وأمثالها تجد أحادیثه وأحادیث ابنه الصادق(علیهماالسّلام)وافرةً هادرة ، فی بیان أصول ولایة أهل البیت(علیهم السّلام) وتفاصیلها ، وأصول البراءة من مخالفیهم وتفاصیلها . یبدأ فیها الإمام(علیه السّلام)بآیات کتاب الله تعالی ، ویؤیدها بسیرة جده النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأحادیثه من أول بعثته ، ومراحل جهاده فی مکة ثم فی المدینة ، وبمواقفه الحاسمة وأحادیثه الصریحة التی لاتقبل التعلل ، وتنص علی أن الله تعالی بعثه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أولاً رسولاً الی بنی هاشم ثم الی قریش والعالم ، وأنه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بلغ رسالة ربه فأنذر عشیرته الأقربین ، واختار منهم بأمر ربه علیاً(علیه السّلام)وزیره ووصیه !

ولا یتحرج الإمام(علیه السّلام)فی أن یذم قریشاً ویسمی رؤساء بطونها وشخصیاتها ، الذین کذبوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتآمروا علیه ، ثم تعاونوا مع الیهود فی تجییش العرب لحربه ثم اضطروا الی خلع سلاحهم والخضوع له فی فتح مکة ، لکنهم واصلوا التآمر علیه وکتبوا صحیفتهم الملعونة الثانیة لأخذ خلافته ، وإبعاد أهل بیته عنها !

ثم تجد أن عقیدة الإمامة عند الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)لیست منفصله عن عقیدة النبوة والألوهیة بحال فقریش انتقصت من عقیدة النبوة ومن شخصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لتتناسب صورته التی قدمتها للناس مع قولها إنه ترک أمته سدی وانتهی مشروعه بموته دون أن یعهد به الی عترته الذین وعد الله أن یظهر بهم دینه علی الدین کله .

کما انتقصت قریش من توحید الله عز وجل فی ذاته وصفاته ، وأفعاله وحکمته ودونت فی مصادر المسلمین تصورها لله تعالی تصوراً یهودیاً لا إسلامیاً !

لذا کان من فعالیات الإمام الباقر(علیه السّلام)تصحیح التوحید وتصحیح فهم المسلمین لله تعالی وأفعاله ، فواصل المعرکة التی خاضها أهل البیت(علیهم السّلام)لإعادة التوحید النبوی ومقاومة التحریف القرشی الیهودی، الذی قدم ذات الله شخصاً شبیهاً بالإنسان یسکن فی السماء وینزل الی الدنیا ویصعد ! متبعین للمتشابه لزیغهم ، ومخالفین للآیات

ص: 92

المحکمة بأنه عز وجل لاتدرکه الأبصار ولیس کمثله شئ ! ومازال أتباعهم الی یومنا هذا یصرون علی فریتهم وینشرونها فی المسلمین !

ویکفی أن ترجع الی کتاب التوحید للصدوق(رحمه الله)لتجد أن الإمام الباقر(علیه السّلام)شق طریق التوحید ، وهاجم التحریف فی معرفة الله تعالی وعبادته .

کما تلاحظ وفرة ما روی عنه(علیه السّلام)فی سیرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومقامه الشامخ ، وأنه أسس لسیرة نبویة أصیلة ، أثبت فیها ما أنقصه الأمویون ، وبرأها مما ألصقوه !

کما تجد من فعالیاته(علیه السّلام)ترکیز مکانة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی الأمة لأنه(علیه السّلام)محور التشیع وأول أئمته ، وأول مظلوم یفتح ملفه یوم الحساب کما روی أصح کتب مخالفیه: (أول من یجثو للخصومة بین یدی الرحمان یوم القیامة) ! (صحیح بخاری:5/6).

وتجد من فعالیاته(علیه السّلام): تعلیم المسلمین التدین الفقاهتی فی مقابل التدین السیاسی للخلیفة وموظفی الدولة ، والتدین البدوی الشکلی لأتبعهم .

ومن فعالیاته(علیه السّلام): إرساء أصول الفقه وقواعده ، ومحاربته المنهج الظنی والکیفی:

ومن فعالیاته(علیه السّلام): نفی قداسة الأئمة الذین نصبتهم قریش مقابل أهل البیت(علیهم السّلام).:

وفی کل واحد من هذه الموضوعات مفردات وبحوث ، لایتسع لها المجال ، نعم ینبغی التنبیه علی أمرین: أولهما ، أنک تجد فی أحادیث الإمام الباقر(علیه السّلام)عدداً وافراً من أحادیث أهل البیت(علیهم السّلام)الصریحة جداً والجریئة جداً ، فی إدانة ما فعلته قریش مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی حیاته وبعد وفاته ، وفی وصف أئمتها بأوصاف شدیدة !

والثانی ، أن السلطة الأمویة والعباسیة ورواتهما وجدوا أنفسهم محرجین أمام شقاشق الإمام الباقر(علیه السّلام)الهادرة فی بیان حق أهل البیت(علیهم السّلام)وذم مخالفیهم ، لذلک وضعوا علی لسانه أحادیث فی مدح أئمتهم وسلفهم خاصة أبی بکر وعمر ، وردوا الأحادیث المخالفة لها ، واتهموا رواتها !

ص: 93

4- الإمام الباقر(علیه السّلام)یتبنی الشاعرین کُثَیِّر عَزَّة والکُمَیْت

اشارة

کان تأثیر الشاعر فی تلک العصور کتأثیر الإذاعة فی عصرنا ، ومن هنا اهتم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والأئمة(علیهم السّلام)بالشعر لإسناد الحق ودحض الباطل . وذکر المحدثون عدة شعراء کانوا فی خط الإمام الباقر(علیه السّلام): الفرزدق ، وکُثیِّر عزة ، وابنه ، والکمیت ، وأخوه الورد ، وابنه المستهل . وتقدمت مواجهة الفرزدق لهشام بن عبد الملک یوم کان أمیراً ، وقصیدته الخالدة فی مدح الإمام زین العابدین(علیه السّلام): هذا الذی تعرف البطحاء وطأته.. وقد بقی الفرزدق علی صلة بالإمام الباقر(علیه السّلام) ، لکن لم أجد له شعراً فی مدحه ، ولا فی ذم بنی أمیة بعد قصیدته تلک !

کُثَیِّر عزة(رحمه الله)

(کُثَیِّر بن عبد الرحمن.. الخزاعی الحجازی الشاعر ، المعروف بابن أبی جمعة وهو کُثَیِّر عَزَّة.. وکان من فحول الشعراء). (تاریخ دمشق:50/76).

سمع به عبد الملک بن مروان فاستحضره ، ولما دخل علیه رآه قصیراً تزدریه العین فقال: تسمع بالمعیدی لا أن تراه ! فقال: ( مهلاً یا أمیر المؤمنین فإنما المرء بأصغریه: قلبه ولسانه ، إن ضرب ضرب بجنان ، وإن نطق نطق ببیان !

تری الرجل النحیف فتزدریه

وفی أثوابه أسد هصورُ

ویعجبک الطریر فتختبره

فیخلف ظنک الرجل الطریرُ

وقد عظم البعیر بغیر لبٍّ

فلم یستغن بالعِظَم البعیر

فیُرکب ثم یُضرب بالهراوی

فلا عرفٌ لدیه ولا نکیر..

فیُرکب ثم یُضرب بالهراوی

فلا عرفٌ لدیه ولا نکیر..

فاعتذر إلیه عبد الملک ورفع مجلسه). (تاریخ دمشق:50/86). ومن یومها صار کثیِّر مقرباً عند عبد الملک رغم تشیعه ! قال الصفدی فی وفیات الأعیان:4/106: ( أحد

ص: 94

عشاق العرب المشهورین... وهو صاحب عزة بنت جمیل... وله معها حکایات ونوادر وأمور مشهورة ، وأکثر شعره فیها ، وکان یدخل علی عبد الملک بن مروان وینشده ، وکان رافضیاً شدید التعصب لآل أبی طالب ، حکی ابن قتیبة فی طبقات الشعراء أن کثیراً دخل یوماً علی عبد الملک فقال له عبد الملک: بحق علی بن أبی طالب هل رأیت أحداً أعشق منک؟ قال: یا أمیر المؤمنین لو نشدتنی بحقک أخبرتک). وحدثه عن شاب بدوی نصب حُبَالة لیصید ما یسد به جوعه وجوع والدیه ، فصاد غزالة ، فلما نظر الی عینیها أطلقها لأنها تشبه حبیبته !

ولما عزم عبد الملک علی حرب مصعب بن الزبیر فی العراق ، ناشدته زوجته عاتکة بنت یزید بن معاویة أن لا یخرج بنفسه وأن یستنیب غیره...فقال: قاتلَ الله ابن أبی جمعة یعنی کثیِّراً کأنه رأی موقفنا هذا حین قال:

إذا ما أراد الغزو لم یثن عزمه... حصان علیها نظم در یزینها

نهته فلما لم ترَ النهی عاقه... بکت فبکی مما شجاها قطینها ).

وذهب عبد الملک الی المعسکر ، فقال لکثیر: (یا ابن أبی جمعة ، ذکرتک بشئ من شعرک الساعة ، فإن أصبته فلک حکمک ! قال: نعم یا أمیر المؤمنین ، أردت الخروج فبکت عاتکة بنت یزید وحشمها ، یعنی امرأته فذکرت قولی: إذا ما أراد الغزو لم یثن همه.. قال: أصبت والله ، إحتکم . قال مائة ناقة من نوقک المختارة . قال: هی لک . فلما کان الغد نظر عبد الملک إلی کثیِّر یسیر فی عرض الناس ضارباً بذقنه علی صدره یفکر فقال: ( أرأیت إن أخبرتک بما کنت تفکر به تعطینی حکمی؟ قال: نعم . قال له عبد الملک إنک تقول فی نفسک: هذا رجل لیس هو علی مذهبی ، وهو ذاهب إلی قتال رجل لیس هو علی مذهبی ، فإن أصابنی سهم غرب من بینهما خسرت الدنیا والآخرة ! فقال: إی والله یا أمیر المؤمنین فاحتکمْ .

ص: 95

قال: حکمی أن أردک إلی أهلک وأحسن جائزتک ، فأعطاه مالاً وأذن له بالإنصراف). (تاریخ دمشق:50/86 ، والنهایة:9/279).

وروی فی مناقب آل أبی طالب:3/337، أن الإمام الباقر(علیه السّلام)سأل کثیر عزة یوماً: (امتدحت عبد الملک؟ فقال: ما قلت له یا إمام الهدی ، وإنما قلت: یا أسد والأسد کلب ، ویا شمس ، والشمس جماد ، ویا بحر ، والبحر موات ، ویا حیة ، والحیة دویبة منتنة ، ویا جبل وإنما هو حجر أصم . قال: فتبسم(علیه السّلام)). وأمالی المرتضی:1/207 .

وبعد عبد الملک ضعفت علاقة کثیِّر بأبنائه ، حتی استخلف عمر بن عبد العزیز وأصدر مرسومه بمنع سب علی(علیه السّلام)فی خطب الجمعة ، فقال کثیر یمدحه:

( وَلیتَ فلم تشتم علیا ولم تُخف.. بریاً ولم تقبل إشارة مُجرمِ

وصدَّقت بالفعل المقال مع الذی... أتیت فأمسی راضیاً کل مسلم...

وصدَّقت بالفعل المقال مع الذی... أتیت فأمسی راضیاً کل مسلم...

فما بین شرق الأرض والغرب کلها... مناد ینادی من فصیح وأعجم

یقول أمیر المؤمنین ظلمتنی... بأخذک دیناری ولا أخذ درهم

ولا بسط کف لامرئ غیر مجرم.. ولا السفک منه ظالما ملء محجم

ولو یستطیع المسلمون لقسموا.. لک الشطر من أعمارهم غیر ندم

فعشت بها ما حج لله راکب... مغذ مطیف بالمقام وزمزم

(تاریخ دمشق:50/92، ومناقب آل أبی طالب:3/22).

أما أقوی مواقف کثیِّر(رحمه الله)فکانت عندما: (کتب هشام إلی والی المدینة أن یأخذ الناس بسب علی بن أبی طالب رضی الله تعالی عنه ، فقال کثیِّر:

لعن الله من یسبُّ علیاً

وبنیه ، من سَوْقَة وإمام

ورمی الله من یسبُّ علیاً

بصدامٍ وأولقٍ وجذام

طبْتَ بیتاً وطاب أهلک أهلاً

أهل بیت النبی والإسلام

رحمةُ الله والسلامُ علیکم

کلما قام قائمٌ بسلام

ص: 96

یأمنُ الطیرُ والظباء ولا

یأ من رهط النبی عند المقام

قال فحبسه الوالی وکتب إلی هشام بما فعل ، فکتب إلیه هشام یأمره بإطلاقه وأمر له بعطاء)!(مجمع الأمثال للنیسابوری:1/309 ، والبیان والتبیین:3/359 ، والمرزبانی/348 ، والأغانی:7/246) .

أقول: یدل إطلاق الخلیفة لکثیِّر علی قوة الجو العام ضد بنی أمیة ، وأکثره من تأثیر الإمام الباقر(علیه السّلام)! کما یدل علی أن مرسوم ابن عبد العزیز فی منع سب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)انحصر فی مدة حکمه القصیرة ثم أعاده خلفاء بنی أمیة کما کان ! بل لعل مرسوم ابن عبد العزیز لم یطبق إلا فی حیاته ، وبشکل جزئی !

وروی ابن الشجری فی أمالیه/211 ، أن کثیراً قال وهو فی حبس والی المدینة:

إنَّ امْرَءاً کانَت مَساوِیهِ

حُبُّ النَبِیِّ لغَیْرُ ذی عُتْبِ

وبَنِی أبی حَسَن ووالِدِهِم

مَنْ طابَ فی الأرحام والصُّلبِ

أیَرَونَ ذَنْباً أنْ أُحِبَّهُمُ

بَل حُبُّهُم کَفّارَةُ الذَّنْبِ

فکتب فیه إبراهیم إلی هشام ، فکتب إلیه هشام أن أقمه علی المنبر حتی یلعن علیاً وزیداً ، فإن فعل وإلا فاضربه مائة سوط علی مائة ، فأمره أن یلعن علیاً فصعد المنبر فقال: لعن الله من یسب علیاً... وبنیه من سوقة وإمام ) .

أقول: تکرر هذا الموقف من کثیِّر(رحمه الله)فی مکة فقد روی فی المنتظم:7/103: ( وکان بمکة وقد ورد علی الأمراء الأمر بلعن علی رضی الله عنه ، فرقی المنبر وأخذ بأستار الکعبة ، وقال..). ونحوه ابن المغازلی فی المناقب/309 .

وهذا یدل علی تأثیر عمل الإمام(علیه السّلام)فی الرأی العام وجرأة الناس علی بنی أمیة !

وسیأتی شعره عند احتضاره فی البراءة من بنی تیم وعدی وأمیة ! واحتشاد المسلمین علی جنازته وإعراضهم عن جنازة عکرمة !

ص: 97

الکمیت بن زید الأسدی(رحمه الله)

ترجم له الذهبی وهو المبغض للشیعة ، فقال فی سیره:5/388: (الکمیت بن زید الأسدی الکوفی ، مقدم شعراء وقته ، قیل بلغ شعره خمسة آلاف بیت ، روی عن الفرزدق وأبی جعفر الباقر . وعنه: والبة بن الحباب ، وأبان بن تغلب ، وحفص القارئ... قال أبو عبیدة: لو لم یکن لبنی أسد منقبة غیر الکمیت لکفاهم حببهم إلی الناس وأبقی لهم ذکراً . وقال أبو عکرمة الضبی: لولا شعر الکمیت لم یکن للغة ترجمان... وکان الکمیت شیعیاً مدح علی بن الحسین فأعطاه من عنده ومن بنی هاشم أربع مئة ألف وقال: خذ هذه یا أبا المستهل ، فقال: لو وصلتنی بدانق لکان شرفاً ، ولکن أحسن إلیَّ بثوب یلی جسدک أتبرک به ، فنزع ثیابه کلها فدفعها إلیه ودعا له . فکان الکمیت یقول: ما زلت أعرف برکة دعائه... قال ابن عساکر: ولد سنة ستین ، ومات سنة ست وعشرین ومئة). انتهی.

وقال ابن عساکر فی تاریخ دمشق:50/232: (کان فی الکمیت عشر خصال ، لم تکن فی شاعر: کان خطیب بنی أسد ، وفقیه الشیعة ، وحافظ القرآن ، وثبت الجنان ، وکان کاتباً حسن الخط ، وکان نسابة وکان جدلاً ، وکان أول من ناظر فی التشیع ، وکان رامیاً لم یکن فی أسد أرمی منه بنبل ، وکان فارساً ، وکان شجاعاً ، وکان سخیاً دیناً) .

ص: 98

کان الکمیت متدیناً لایقبل الجائزة الدنیویة علی شعره

فقد أنشد لثلاثة من الأئمة: زین العابدبدین والباقر والصادق(علیهم السّلام)ولم یقبل جائزة مادیة ، بل طلب منهم الدعاء والتبرک بثیابهم لیجعلها فی کفنه ، قال:

( والله ما أحببتکم للدنیا ، ولو أردتها لأتیت من هو فی یدیه ، ولکننی أحببتکم للآخرة ، فأما الثیاب التی أصابت أجسادکم فإنی أقبلها لبرکتها ، وأما المال فلا أقبله). (خزانة الأدب:1/155) .

وقال للإمام زین العابدین(علیه السّلام): إنی قد مدحتک لأن یکون لی وسیلة عند رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). وقال للباقر(علیه السّلام): والله ما أحبکم لعرض الدنیا وما أردت بذلک إلا صلة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وما أوجب الله علی من الحق . وقال مرة: ألا والله لا یعلم أحد أنی أخذ منها حتی یکون الله عز وجل الذی یکافینی . وقال مرة: والله ما قلت فیکم إلا لله وما کنت لأخذ علی شئ جعلته لله مالاً ولا ثمناً . وقال: ما أردت بمدحی إیاکم إلا الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولم أک لأخذ لکم ثمناً من الدنیا). (الغدیر:2/198).

القصائد الهاشمیات: رددها المسلمون وغنَّتْ بها المغنیات

أحب المسلمون الکمیت وأحصوا شعره: ( قال محمد بن مسلمة: کان مبلغ شعر الکمیت حین مات خمسة آلاف ومائتین وتسعاً وثمانین بیتاً ، وکانت ولادته أیام مقتل الحسین بن علی سنة ستین ، وتوفی شهیداً سنة ست وعشرین ومائة فی خلافة مروان بن محمد ). (معاهد التنصیص/555) .

وعلموا شعره لأولادهم ، ففی تاریخ دمشق:50/238: (سمعت مشایخ أهل البیت

ص: 99

یقولون: خذوا أولادکم بتعلیم الهاشمیات ، فإنها تُنبت الولایة فی قلوبهم...

قال جعفر بن محمد: الکمیت سیف آل محمد ، فی کل قلب معاند مغمد) !

وفی:50/247، عن أبی عبد الله المفجع ، قال: (رأیت أمیر المؤمنین فی النوم فقلت: أشتهی أقول الشعر فی أهل البیت ، فقال: علیک بالکمیت فاقتف أثره ، فإنه إمام شعرائنا أهل البیت ، وبیده لواؤهم یوم القیامة حتی یقودهم إلینا).

وقد أحدث شعر الکمیت موجة شعبیة ضد بنی أمیة ، فأراد والی العراق خالد بن عبدالله القسری أن یقتله ، لکنه خاف من عشیرته بنی أسد ، فاحتال لیحصل علی مرسوم من الخلیفة هشام ، فاختار جوارٍ مغنیات وحفَّظهنَّ هاشمیات الکمیت وأرسلهن الی هشام ، فطلب هشام من إحداهن أن تغنیه فغنت بشعر الکمیت فی مدح بنی هاشم وذم بنی أمیة ! فغصب وطلب من الثانیة أن تغنی فغنت بشعر الکمیت أیضاً ! فکتب إلی خالد: ( أن ابعث إلیَّ برأس الکمیت ! فأخذه خالد وحبسه ، فوجه الکمیت إلی امرأته ولبس ثیابها وترکها فی موضعه وهرب من الحبس ، فلما علم خالد أراد أن ینکل بالمرأة ، فاجتمعت بنو أسد إلیه وقالوا: ما سبیلک علی امرأة لنا خدعت؟! فخافهم وخلی سبیلها). (خزانة الأدب:1/87 ).

وفی تاریخ دمشق:50/239: (قال الجاحظ: ما فتح للشیعة الحجاج إلا الکمیت بقوله:

فإن هیَ لم تصلحْ لحیٍّ سواهمُ... فإن ذوی القربی أحقُّ وأوجبُ یقولون لم یورثْ ولولا تراثُه... لقد شرکتْ فیها بکیلٌ وأرحبُ وأجابه المفید(رحمه الله)الفصول:2/85: (إنما نظم الکمیت معنی کلام أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی منثور کلامه فی الحجة علی معاویة ، فلم یزل آل محمد(علیهم السّلام)بعد أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یحتجون بذلک ، ومتکلموا الشیعة قبل الکمیت وفی زمانه وبعده).

ص: 100

لکن قصد الجاحظ أن شعر الکمیت انتشر بین الناس الی عصره وتعلموا منه .

هذا ، وقد شرح العلماء والأدباء هاشمیات الکمیت(رحمه الله) ، وأقدم شرح وصلنا: (شرح هاشمیات الکمیت لأبی ریاش أحمد بن إبراهیم القیسی أو الشیبانی ، المتوفی سنة339.. وهی سبع قصائد.. ومجموعها خمسمائة وبضعة وسبعون بیتاً.. ولعبد المتعال الصعیدی کتاب: الکمیت بن زید شاعر العصر المروانی ، طبع بالقاهرة ، ولصلاح الدین نجا: الکمیت بن زید الأسدی شاعر الشیعة السیاسی ، طبع فی بیروت.. یوجد شرح الهاشمیات فی دار الکتب المصریة ، وطبع فی لیدن سنة 1904م مع مقدمة وتصحیحات بالألمانیة لیوسف هوروفتس . وطبع بالقاهرة فی مطبعة شرکة التمدن الصناعیة سنة1912م مع مقدمة لمحمد محمود الرافعی فی ترجمة الکمیت ومختارات من شعره . وطبع فی بیروت بتحقیق الدکتور داود سلوم والدکتور نوری القیسی).(مجلة تراثنا:14/49). ثم ذکر شرحین مطبوعین لمعاصرین هما: لمحمد شاکر الخیاط ، ومحمد محمود الرافعی . راجع: الغدیر:2/180، والأعلام:1/85 ، ومعجم المطبوعات العربیة:1/311 ، و925 .

ولا یتسع المجال هنا إلا لنماذج من هاشمیاته(رحمه الله):

1- قال(رحمه الله): ألا هل عمٍ فی رأیه متأملُ...وهل

مدبرٌ بعد الإساءة مقبلُ وهل أمة مستیقظون لرشدهم...فیکشف عنه النعسة المتزمل 1- قال(رحمه الله): ألا هل عمٍ فی رأیه متأملُ...وهل مدبرٌ بعد الإساءة مقبلُ وهل أمة مستیقظون لرشدهم...فیکشف عنه النعسة المتزمل وعطلت الأحکام حتی کأننا...علی ملة غیر التی نتنحل کلام النبیین الهداة کلامنا...وأفعال أهل الجاهلیة نفعل...

فیا ساسةً هاتوا لنا من حدیثکم...ففیکم لعمری ذو أفانینَ مقول أأهل کتاب نحن فیه وأنتم...علی الحق نقضی بالکتاب ونعدل فکیف ومن أنی وإذ نحن خلفة...فریقان شتی: تسمنون ونهزل؟

ص: 101

فتلک ملوک السوء قد طال ملکهم...فحتی م حتی م العناء المطول لهم کل عام بدعة یحدثونها...أزلوا بها أتباعهم ثم أوجلوا تحل دماء المسلمین لدیهم...ویحرم طلع النخلة المتهدل فیا رب هل إلا بک النصر یرتجی...علیهم وهل إلا علیک المعول وغاب نبی الله عنهم وفقده...علی الناس رزء ما هناک مجلل فلم أر مخذولاً أجلَّ مصیبةً...وأوجب منه نصرةً حین یُخذل یصیب به الرامون عن قوس غیرهم...فیا آخراً أسدی له الغیَّ أول تهافت ذبان المطامع حوله...فریقان شتی ذو سلاح وأعزل

2- وقال(رحمه الله):طربت وماشوقاً إلی البیض أطربُ ولا

لعباً منی وذو الشوق یلعبُ ولم یُلهنی دار ولا رسم منزل...ولم یتطرَّبْنی بنانٌ مخضب ولم یُلهنی دار ولا رسم منزل...ولم یتطرَّبْنی بنانٌ مخضب ولکن إلی أهل الفضائل والنهی...وخیر بنی حواء والخیر یطلب إلی النفر البیض الذین بحبهم...إلی الله فیما نالنی أتقرب بنی هاشم رهط النبی فإننی...بهم ولهم أرضی مراراً وأغضب

بأی کتاب أم بأیَّة سنةٍ...تری حبهم عاراً علی وتحسب

فطائفة قد کفرتنی بحبکم...وطائفة قالوا مسئٌ ومذنب

فما ساءنی تکفیر هاتیک منهم...ولا عیب هاتیک التی هی أعیب وقالوا ترابیٌّ هواه ورأیُهُ...بذلک أدعی فیهمُ وألقب

بحقکم أمست قریش تقودنا...وبالفذ منها والردیفین نُرکب

إذا اتضعونا کارهین لبیعة...أناخوا لأخری والأزمة تجذبُ

ص: 102

وقالوا ورثناها أبانا وأمنا...وما ورَّثتهم ذاک أمٌّ ولا أبُ

ولکن مواریث ابن آمنة الذی...به دان شرقیٌّ لکم ومُغَرِّب

فدیً لک موروثاً أبی وأبو أبی...ونفسی ونفسی بعدُ بالناس أطیب بک اجتمعت أنسابنا بعد فرقة...فنحن بنو الإسلام ندعی وننسب لقد غیبوا براً وصدقاً ونائلاً...عشیة واراک الصفیح المنصب یقولون لم یورث ولولا تراثه...لقد شرکت فیه بکیلٌ وأرْحَبُ وعِکٌّ ولَخْمٌ والسَّکونُ وحِمْیرٌ...وکِندةُ والحیَّانِ بکْرٌ وتَغْلبُ وعِکٌّ ولَخْمٌ والسَّکونُ وحِمْیرٌ...وکِندةُ والحیَّانِ بکْرٌ وتَغْلبُ فیا لک أمراً قد أشتَّتْ أموره...ودنیاً أری أسبابها تتقضب فیا موقداً ناراً لغیرک ضوؤها...ویا حاطباً فی غیر حبلک تحطب

3- وقال(رحمه الله): من لقلب متیم مستهام...غیر ما صبوة ولا أحلام بل هوای الذی أجن وأبدی...لبنی هاشم فروع الأنام للقریبین من ندی والبعید ین من الجور فی عری الأحکام والمصیبین باب ما أخطأ الناس ومرسی قواعد الاسلام ساسةٌ لا کمن یرَّعی الناس.سواءً ورعیة الأنعام

لا کعبد الملیک أو کولید...أو کسلیمان بعد أو کهشام

ما أبالی إذا حفظت أبا القاسم فیهم ملامة اللوام

فهم شیعتی وقسمی من الأمة حسبی من سائر الأقسام إن أمت لا أمت ونفسی نفسا...ن من الشک فی عمیً أو تعامی أخلص الله لی هوایَ فما أغرق نزعاً ولا تطیش سهامی وروی أن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال له :(لا تقل هکذا ولکن قل: فقد أغرق نزعاً وما

ص: 103

تطیش سهامی. فقال الکمیت: یامولای أنت أشعر منی).(الکافی:8/215 ، والمناقب:3/337)

4- وقال(رحمه الله): أنی ومن أین آبک الطرب...من حیث لا

صبوةٌ ولا رِیَبُ وقیل أفرطت بل قصدت ولو...عنفنی القائلون أو ثلبوا إلیک یا خیر من تضمنت ال....أرض وإن عاب قولی العیب إلیک یا خیر من تضمنت ال....أرض وإن عاب قولی العیب لجَّ بتفضیلک اللسان ولو...أکثر فیک الضجاج واللجب أنت المصفی المهذب المحض فی النسبة...إن نص قومک النسب أکرم عیداننا وأطیبها...عودک عود النضار لا الغرب ما بین حواء إن نسبت إلی...آمنة اعتم نبتک الهدب قرن فقرن تناسخوک لک ال...فضة منها بیضاء والذهب حتی علا بیتک المهذب من...خندف علیاء تحتها العرب

5- وقال(رحمه الله): نفی عن عینک الأرقُ الهجوعا..وهمٌّ

یمتری منها الدموعا

ویوم الدوحِ دوحِ غدیرِ خمٍّ...أبانَ له الولایةَ لو أطیعا

ولکنَّ الرجال تبایعوها...فلم أر مثلها خطراَ مبیعا

فلم أبلغ بهم لعناً ولکن...أساء بذاک أولهم صنیعا

فصار بذاک أقربهم لعدل...إلی جور وأحفظهم مضیعا

فقل لبنی أمیة حیث حلوا...وإن خفت المهندَ والقطیعا

ألا أف لدهر کنت فیه...هداناً طائعاً لکم مطیعا

أجاع الله من أشبعتموه...وأشبع من بجورکم أجیعا

6-وقال(رحمه الله): علی أمیر المؤمنین وحقه.من

الله مفروض علی کل مسلم

ص: 104

وزوجته صدیقة لم یکن لها...معادلة غیر البتولة مریم وردَّم أبوابَ الذین بنی لهم... بیوتاً سوی أبوابه لم یُردم

7- وقال(رحمه الله):أ هوی علیاً أمیر المؤمنین ولا.ألوم یوماً أبا بکر ولا عمرا ولا أقول وإن لم یعطیا فدکاً...بنت النبی ولا میراثه کفرا الله یعلم ماذا یأتیان به...یوم القیامة من عذر إذا اعتذرا إن الرسول رسول الله قال لنا...إن الإمام علی غیر ما هجرا فی موقف أوقف الله الرسول به...لم یعطه قبله من خلقه بشرا من کان یرغمه رغماً فدام

له...حتی یری أنفه بالترب منعفرا

(شرح القصائد الهاشمیات/81).

8- وله(رحمه الله)نشید: بأبی أنت وأمی... یا

أمیر المؤمنینا وفدتک النفس منی... یا

إمام المتقینا وأمین الله والوارث...علم

الأولینا ووصی المصطفی... أحمد

خیر المرسلینا وولی الحوض والذائد...عنه

المحدثینا.

طاردت السلطة الکمیت سنوات عدیدة فلم تظفر به !

قال فی العقد الفرید:3/183، وفی طبعة/281: (کان الکمیت بن زید یمدح بنی هاشم ویعرِّض

ببنی أمیة ، فطلبه هشام فهرب منه عشرین سنة ، لا یستقر به القرار من خوف هشام). وتقصد الروایة کل خلافة هشام من سنة (115-120) وفیها مبالغة ،

ص: 105

لکن الکمیت أمضی سنوات عدیدة کان یتحرک فیها مع أخیه الورد ومجموعة فرسان من فتیانه ، فی أحیاء بنی أسد وبوادی العراق والحجاز والأهواز ، وکانت السلطة تطارده للقبض علیه فلم تستطع ! ورووا له کرامات فی تشرده بدعاء الإمام الباقر(علیه السّلام)، منها أنه خرج فی ظلمة اللیل هارباً وقد أقعدوا علی کل طریق جماعة لیأخذوه فأراد أن یسلک طریقاً فجاء أسد فمنعه من أن یسیر فیها ، فسلک أخری فمنعه منها أیضاً ، وکأنه أشار إلی الکمیت أن یسلک خلفه فمضی خلف الأسد إلی أن أمن وتخلص ! (الخرائج:2/941).

وطال به التشرید فاستأذن الإمام الباقر(علیه السّلام) ، أن ینهی تشرده ویمدح الخلیفة بقصیدة فأجازه . قال أخوه الورد: ( أرسلنی الکمیت إلی أبی جعفر(علیه السّلام)فقلت له: إن الکمیت أرسلنی إلیک وقد صنع بنفسه ما صنع ، فتأذن له أن یمدح بنی أمیة؟ قال: نعم هو فی حل فلیقل ما شاء . فنظم قصیدته الرائیة التی یقول فیها. فالآن صرت إلی أمیة... والأمور إلی مصائر..).(الأغانی:15/126). فتوسط له مسلمة بن عبد الملک عند أخیه الخلیفة هشام فعفا عنه ومدحه بقصیدته المذکورة فأعطاه جائزة.

وعاش الکمیت(رحمه الله)بعد هشام ، حتی کتب الله الشهادة کما دعا له الإمام زین العابدین(علیه السّلام)عندما أنشده قصیدته: من

لقلب متیم مستهام... (خزانة الأدب:1/69).

وقد رووا فی سبب وفاته أنه کان ینشد عند والی الکوفة ، فهاجمه حراسه الثمانیة وکانوا من الیمانیة المتعصبین علیه لأنه مضری (الوافی بالوفیات:24/277) ولا نثق بمثل هذه الروایة ، بل المرجح أنه قتل بسبب الثأر الأموی المزمن علیه .

وربما کان من عوامل قتله طعنه بأبی بکر وعمر . فقد روی أنه کان علی مذهب السید الحمیری وکثیر عزة فی ذلک ، ففی أخبار السید الحمیری للمرزبانی/178 ، أنه رأی الکمیت فی الحج فقال له: أنت القائل:

ص: 106

ولا أقول إذا لم یعطیا فدکاً...بنت الرسول ولا میراثه کفَرا...

قال: نعم قلته تقیة من بنی أمیة ، وفی مضمون قولی شهادة علیهما إنهما أخذا ما کان فی یدها . فقال السید: لولا إقامة الحجة لوسعنی السکوت: لقد ضعفت یا هذا عن الحق یقول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): فاطمة بضعة منی یریبنی ما رابها وإن الله یغضب لغضبها ویرضی لرضاها، فخالفت ! رسولُ الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهب لها فدکاً بأمر الله له وشهد لها أمیر المؤمنین والحسن والحسین وأم أیمن بأن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أقطع فاطمة فدکاً فلم یحکما لها بذلک ، والله تعالی یقول: یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ ویقول: وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ.. وهم یجعلون سبب مصیر الخلافة إلیهم الصلاة بشهادة المرأة لأبیها إنه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: مروا فلاناً بالصلاة بالناس...الخ. فقال الکمیت: أنا تائب إلی الله مما قلت ، وأنت أبا هاشم أعلم وأفقه منا) . ورووا أنه أنشد الباقر(علیه السّلام):

إنّ المُصَرَّیْنِ علی ذنبیهما... والمخفیا الفتنة فی قلبیهما

والخالعا العقدة من عنقیهما.. والحاملا الوزر علی ظهریهما

کالجبت والطاغوت فی مثلیهما..الخ. (العقد النضید/165).

کما رووا أنه سأل الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)عن أبی بکر وعمر ، فأجاباه بالنفی فقال: الله أکبر الله أکبر ، حسبی حسبی ! (الکافی:8/102 ، والبحار:30/240).

ص: 107

5- الإمام الباقر(علیه السّلام)یتحدی الخلیفة هشام الأحول

تقدم فی سیرة الإمام زین العابدین قول الذهبی عنه(علیه السّلام): (وکان له جلالة عجیبة وَحَقَّ له والله ذلک ، فقد کان أهلاً للإمامة العظمی لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وکمال عقله . قد اشتهرت قصیدة الفرزدق وهی سماعنا ، أن هشام بن عبد الملک حج قبیل ولایته الخلافة، فکان إذا أراد استلام الحجر زوحم علیه ، وإذا دنا علی بن الحسین من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له ، فوجم لها هشام وقال: من هذا فما أعرفه ! فأنشأ الفرزدق یقول: هذا الذی تعرفُ البطحاءُ وطأتَه..الخ.(سیر الذهبی:4/398).

فحبس هشام الفرزدق فهجاه بأبیات منها:

یقلب رأساً لم یکن رأسَ سیِّدٍ ... وعیناً له حَوْلاءَ بادٍ عُیُوبها. (المناقب:3/306 ).

وقد أججت هذه الحادثة نار الحقد فی نفس الأمیر المریضة ، ولم یستطع أن یقنع أباه عبد الملک بقتله ، وقد یکون هو الذی أقنع أخاه الولید بسمه فیما بعد ! ثم وجه نار حسده الی ولده الباقر(علیه السّلام)وأظهره فی قوله لزید(رحمه الله): (ما یفعل أخوک البقرة ، یعنی الباقر(علیه السّلام)؟! فأجابه زید: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله ! سماه رسول الله الباقر وتسمیه البقرة؟! ). ( أبو نصر البخاری/22) .

ودخل علیه زید(رحمه الله)یوماً فقال: (السلام علیک یا أمیر المؤمنین فلم یرد علیه فقال: السلام علیک یا أحول فإنک تری نفسک أهلاً لهذا الإسم)!(تاریخ الکوفة/381).

وقد کان بالفعل یری نفسه أهلاً لإسم الأحول ! ففی نثر الدرر/1173 ، أنه قال یوماً: (من یسبنی ولا یفحش وله هذا المطرف له ! فقال له أعرابی حضر: ألقه یا أحول . فقال هشام: خذه قاتلک الله ) !

وقالت له أخته یوماً وهو خلیفة: (یا أحول مشؤوماً ، أما تخاف أن تکون الأحوال

ص: 108

الذی علی یدیه هلاک قریش؟).(نسب قریش/31).

وقالت له سکینة بنت الحسین(علیه السّلام): (یا أحول، لقد أصبحت تتهکم بنا)! (لسان العرب:12/617، وتاریخ دمشق:70/21) .

وعندما جاءت وصیة أخیه الولید لعمر بن عبد العزیز وبعده لأخیه یزید ، قال قال له رجاء: (یا أحول ما أنت والکلام) ! (الوصایا لأبی حاتم/54) .

ولم یکن بنو أمیة یرونه أهلاً للخلافة فجاءته سنة115 علی غیر حسبان ، وشاهد نجم الإمام الباقر(علیه السّلام)یعلو ویسطع ، ورأی حب المسلمین له وتقدیسهم ، فکان یسمیه نبی أهل العراق !

کانت هذه الجرأة الجدیدة للناس علی النظام الأموی وشخص الخلیفة ، نتیجة لمخزون مواقف أهل البیت(علیهم السّلام)وجهادهم فی الناس، التی استثمرها الإمام الباقر(علیه السّلام)وصعَّد موقف التحدی مع الخلیفة ووالیه علی المدینة بشکل لاسابقة له !

فعندما کان هشام فی الحج وقعت له مع الإمام الباقر(علیه السّلام)حادثة شبیهةً بحادثته مع أبیه زین العابدین(علیهماالسّلام) ، لکن کان الفعل هذه المرة من الإمام الباقر(علیه السّلام).

روی فی الکافی:8/120: (عن أبی الربیع قال:

حججنا مع أبی جعفر(علیه السّلام)فی السنة التی کان حج فیها هشام بن عبد الملک ، وکان معه نافع مولی عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فنظر نافع إلی أبی جعفر فی رکن البیت وقد اجتمع علیه الناس فقال نافع: یا أمیر المؤمنین من هذا الذی قد تَدَاکَّ علیه الناس؟ فقال: هذا نبی أهل الکوفة ، هذا محمد بن علی ! فقال: أشهد لآتینه فلأسألنه عن مسائل لا یجیبنی فیها إلا نبی أو ابن نبی أو وصی نبی ! قال: فاذهب إلیه وسله لعلک تُخجله ! فجاء نافع حتی اتکأ علی الناس ، ثم أشرف علی أبی جعفر(علیه السّلام)فقال: یا محمد بن علی إنی قرأت التوراة والانجیل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت

ص: 109

أسألک عن مسائل لا یجیب فیها إلا نبی أو وصی نبی أو ابن نبی !

قال: فرفع أبو جعفر رأسه فقال: سل عما بدا لک ، فقال: أخبرنی کم بین عیسی وبین محمد من سنة؟ قال: أخبرک بقولی أو بقولک؟ قال: أخبرنی بالقولین جمیعاً.

قال: أما فی قولی فخمس مائة سنة ، وأما فی قولک فست مائة سنة . قال: فأخبرنی عن قول الله لنبیه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً یُعْبَدُونَ . من الذی سأل محمد وکان بینه وبین عیسی خمس مائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر هذه الآیة: سُبْحَانَ الَّذِی أَسْرَی بِعَبْدِهِ لَیْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الأَقْصَی الَّذِی بَارَکْنَا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیَاتِنَا.. فکان من الآیات التی أراها الله تبارک وتعالی محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حیث أسری به إلی بیت المقدس ، أن حشر الله عز ذکره الأولین والآخرین من النبیین والمرسلین ، ثم أمر جبرئیل فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال فی أذانه: حی علی خیر العمل ، ثم تقدم محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فصلی بالقوم فلما انصرف قال لهم: علی ما تشهدون وما کنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له وأنک رسول الله ، أخذ علی ذلک عهودنا ومواثیقنا . فقال نافع: صدقت یا أبا جعفر ، فأخبرنی عن قول الله عز وجل: أَوَلَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض کَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ؟ قال: إن الله تبارک وتعالی لما أهبط آدم إلی الأرض وکانت السماوات رتقاً لا تمطر شیئاً ، وکانت الأرض رتقاً لا تنبت شیئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل علی آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام ، ثم أمرها فأرخت عَزَالیها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار ، فکان ذلک رتقها وهذا فتقها .

قال نافع: صدقت یا ابن رسول الله ، فأخبرنی عن قول الله عز وجل: یَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَیْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ ، أی أرض تبدل یومئذ؟

ص: 110

فقال أبو جعفر: أرض تبقی خبزة یأکلون منها حتی یفرغ الله عز وجل من الحساب . فقال نافع: إنهم عن الأکل لمشغولون ؟! فقال أبو جعفر: أهم یومئذ أشغل أم إذ هم فی النار ؟ فقال نافع: بل إذ هم فی النار . قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ، ودعوا بالشراب فسقوا الحمیم .

قال: صدقت یا ابن رسول الله ولقد بقیت مسألة واحدة ، قال: وما هی ؟ قال: أخبرنی عن الله تبارک وتعالی متی کان ؟ قال: ویلک متی لم یکن حتی أخبرک متی کان ! سبحان من لم یزل ولا یزال فرداً صمداً ، لم یتخذ صاحبة ولا ولداً .

ثم قال: یا نافع أخبرنی عما أسألک عنه ، قال: وما هو؟ قال: ما تقول فی أصحاب النهروان ؟ فإن قلت: إن أمیر المؤمنین قتلهم بحق فقد ارتددت ، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد کفرت ! قال: فولی من عنده وهو یقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً ! فأتی هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعنی من کلامک هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً ، وهو ابن رسول الله حقاً ، ویحق لأصحابه أن یتخذوه نبیاً)! انتهی.

ونلاحظ فی هذه الحادثة:

1- کان نافع مرجعاً دینیاً عند الدولة الأمویة ، وهو یعرف الإمام الباقر(علیه السّلام) جیداً، وقوله للخلیفة: ( دعنی من کلامک هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً) یدل علی أن الخلیفة هوَّن له أمر الإمام الباقر(علیه السّلام)وأرسله الیه لیتحداه ! بل ذکرت بعض الروایات أنه هو بعثه لمناظرة الإمام(علیه السّلام): (قال إذهب إلیه فقل له: یقول لک أمیر المؤمنین: ما الذی یأکل الناس ویشربون إلی أن یفصل بینهم یوم القیامة ؟ فقال أبو جعفر(علیه السّلام): یحشر الناس علی مثل قرصة البر النقی ، فیها أنهار متفجرة یأکلون ویشربون حتی یفرغ من الحساب . قال: فرأی هشام أنه قد ظفر به ، فقال: الله أکبر اذهب إلیه فقل له: ما أشغلهم عن الأکل والشرب یومئذ؟! فقال له

أبو جعفر(علیه السّلام):

ص: 111

فهم فی النار أشغل ، ولم یشغلوا عن أن قالوا: أَفِیضُوا عَلَیْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَکُمُ اللهُ ! فسکت هشام لا یرجع کلاماً). (الإحتجاج:2/57) .

2- نافع عندهم إمام کبیر وإن ضعفه بعضهم ، قال فی مقدمة موطأ الإمام مالک:1/21: (روی مالک عن نافع مولی عبد الله بن عمر المتوفی سنة120، ونافع هو الذی بعثه عمر بن عبد العزیز إلی مصر لیعلمهم القرآن والسنة ، وکان یلقب بفقیه المدینة ، لزمه مالک وهو غلام نصف النهار (أی کان مالک خادماً له) وکان مالک یقول: کنت إذا سمعت حدیث نافع عن ابن عمر لا أبالی ألا أسمعه من أحد غیره ! وأهل الحدیث یقولون روایة مالک عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب ، لجلالة کل واحد من هؤلاء الرواة) !

أما عندنا فنافع کذابٌ ناصبی یمیل الی رأی الخوارج ! فقد وی فی الکافی:6/61، عن زرارة أنَ الإمام الباقر(علیه السّلام)قال له: ( أنت الذی تزعم أن ابن عمر طلق امرأته واحدة وهی حائض فأمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عمر أن یأمره أن یراجعها؟ قال: نعم . فقال له: کذبتَ والله الذی لا إله إلا هو علی ابن عمر ! أنا سمعت ابن عمر یقول: طلقتها علی عهد رسول الله ثلاثاً فردها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیَّ وأمسکتها بعد الطلاق ! فاتق الله یا نافع ولا ترو علی ابن عمر الباطل). تهذیب الکمال:29/298 ، والتمهید:13/236 .

3- رویت مناظرة نافع مع الإمام الباقر(علیه السّلام)بألفاظ متعددة وفی بعضها زیادة ، ففی تفسیر القمی:2/284: (قال نافع: صدقت یا بن رسول الله یا أبا جعفر ، أنتم والله أوصیاء رسول الله وخلفاؤه فی التوراة ، وأسماؤکم فی الإنجیل وفی الزبور وفی القرآن ، وأنتم أحق بالأمر من غیرکم ) .

4- روت بعض مصادرنا أن هشاماً الأحول أرسل الأبرش الکلبی أیضاً لیناظر

ص: 112

الإمام(علیه السّلام)، کما فی تفسیر القمی:2/69، والمناقب:3/329 . وفی أسد الغابة:4/93، أن الأبرش صاحب هشام ، وفی تاریخ ابن خلدون:3/114، أنه وزیره ، وفی الوافی: 15/69، کان ندیمه قبل الخلافة: (وکان غالباً علیه ، وطعن قوم فی نسب الأبرش الکلبی). وفی الیعقوبی:2/328: (وکان هشام من أحزم بنی أمیة وأرجلهم ، وکان بخیلاً حسوداً ، فظاً غلیظاً ظلوماً ، شدید القسوة بعید الرحمة طویل اللسان ، وفشا الطاعون فی أیامه حتی هلک عامة الناس وذهبت الدواب والبقر ، وکان الغالب علیه الأبرش بن الولید الکلبی ) !

5- فی حج ذلک الموسم تطوَّرَ حسد هشام الأحول وغیظه من الإمام(علیه السّلام)حتی أمر بإحضاره الی دمشق ، بسبب خطبة الإمام الصادق بأمر أبیه(علیهماالسّلام)فی موسم الحج لأن هشاماً لم یحج فی غیرها وهی سنة106 ، أی قبل شهادة الإمام(علیه السّلام)بثمان سنوات ، فقد عدد الیعقوبی(2/328)

من أقام الحج فی حکم هشام ، ولیس فیهم هشام إلا فی سنة 106 . قال ابن عساکر فی تاریخ دمشق:48/199: (حج هشام بن عبد الملک وهو خلیفة سنة ست ومائة ، فصار فی سنة سبع ومائة فی المحرم وهو بالمدینة ، ومعه غیلان یفتی الناس ویحدثهم ! وکان محمد بن کعب یجئ کل جمعه من قریة علی میلین من المدینة.. قالوا یا یا أبا حمزة جاءنا رجل یشککنا فی دیننا فنأتیک به ؟ قال لا حاجة لی به ! قلنا: أصلحک الله نسمع منه ونسمع منک ! قال: فأتونی به إن شئتم غداً یوم السبت ، وحضر الناس معه...).

أقول: لاحظ هذین (العالمیْن)المقرَّبَیْن من الخلیفة اللذین یفتیان الناس: غیلان القدری الذی ینفی مسؤولیة الإنسان عن أفعاله وینسب جرائمه الی الله تعالی !

ونافع مولی ابن عمر الذی کان نصرانیاً ثم قیل إنه أسلم وصار ناصبیاً خارجیاً !

ص: 113

6- الإمام الباقر(علیه السّلام)یأمر ابنه جعفر(علیه السّلام)أن یصدع بولایة العترة فی الحج !

اشارة

فی ذلک الموسم أمر الإمام الباقر ولده الصادق(علیهماالسّلام)أن یخطب فی الحجیج ویجهر بولایة أهل البیت النبوی(علیهم السّلام)ویبین موقعهم فی صلب الإسلام ، متحدیاً بذلک النظام ، والحرکات الهاشمیة الناشئة من الحسنیین وأتباعهم العباسیین . وبذلک صعَّدَ الإمام(علیه السّلام)عمله فأعلن وجود معارضة علنیة للخلافة الأمویة ، واختار لذلک موسم الحج وحضور الخلیفة هشام ! ففی المناقب (3/329) أن الأبرش الکلبی قال لهشام مشیراً إلی الباقر(علیه السّلام): من هذا الذی احتوشته أهل العراق یسألونه؟ قال: هذا نبی الکوفة ، وهو یزعم أنه ابن رسول الله ، وباقر العلم ومفسر القرآن ، فاسأله مسألة لا یعرفها ) !

فالجو الشعبی للإمام(علیه السّلام)فی العراق یسمح له بمصارحة المسلمین وتوعیتهم علی مقام أهل البیت(علیهم السّلام)، ولا حجة للسلطة علیه ، لأنه یطرح النظریة ویبین خط الإسلام العقائدی فقط ، ولم یدع الناس الی الثورة علی بنی أمیة !

قال محمد بن جریر الطبری فی دلائل الإمامة/233 : (حج هشام بن عبد الملک بن مروان سنة من السنین ، وکان حج فی تلک السنة محمد بن علی الباقر ، وابنه جعفر(علیهماالسّلام)، فقال جعفر فی بعض کلامه: الحمد لله الذی بعث بالحق محمداً نبیاً وأکرمنا به ، فنحن صفوة الله علی خلقه وخیرته من عباده ، فالسعید من اتبعنا والشقی من خالفنا ، ومن الناس من یقول: إنه یتولانا وهو یتولی أعداءنا ومن یلیهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم یسمع کلام ربنا ولم یعمل به .

قال أبو عبد الله جعفر بن محمد(علیه السّلام): فأخبر مسلمة بن عبد الملک أخاه ، فلم

ص:114

یعرض لنا حتی انصرف إلی دمشق وانصرفنا إلی المدینة ، فأنفذ بریداً إلی عامل المدینة بإشخاص أبی وإشخاصی معه ، فأشخصنا إلیه فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أیام ثم أذن لنا فی الیوم الرابع ، فإذا هو قد قعد علی سریر الملک وجنده وخاصته وقوف علی أرجلهم سماطین متسلحین ، وقد نصب البرجاس (هدف الرمی) حذاءه وأشیاخ قومه یرمون . فلما دخل أبی وأنا خلفه ، ما زال یستدنینا منه حتی حاذیناه وجلسنا قلیلاً فقال لأبی: یا أبا جعفر لو رمیت مع أشیاخ قومک الغرض ؟ وإنما أراد أن یضحک بأبی ظناً منه أنه یقصر فلا یصیب الغرض لکبر سنه فیشتفی منه ! فاعتذر أبی وقال: إنی قد کبرت فإن رأیتَ أن تعفینی ، فلم یقبل وقال: لا والذی أعزنا بدینه ونبیه ، ثم أومأ إلی شیخ من بنی أمیة أن أعطه قوسک ، فتناولها منه أبی وتناول منه الکنانة فوضع سهماً فی کبد القوس فرمی وسط الغرض فأثبته فیه ثم رمی الثانی فشق فوق السهم الأول إلی نصله ، ثم تابع حتی شق تسعة أسهم ، فصار بعضها فی جوف بعض ، وهشام یضطرب فی مجلسه ، فلم یتمالک أن قال: أجدت یا أبا جعفر فأنت أرمی العرب والعجم ! زعمت أنک قد کبرت ، کلا ! ثم ندم علی مقالته وتکنیته له ، وکان من تکبره لا یکنی أحداً فی خلافته ! فأطرق إطراقة یرتئی فیه رأیاً ، وأبی واقف إزاءه ومواجه له وأنا وراء أبی ، فلما طال الوقوف غضب أبی وکان إذا نظر السماء نظر غضبان یتبین الغضب فی وجهه ! فلما نظر هشام ذلک من أبی قال: إصعد یا محمد فصعد أبی السریر وصعدت ، فلما دنا من هشام قام إلیه واعتنقه وأقعده عن یمینه ، ثم اعتنقنی وأقعدنی عن یمین أبی، وأقبل علی أبی بوجهه وقال: یا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قریش ما دام فیهم مثلک ولله درک ، من علمک هذا الرمی وفی کم تعلمته؟! فقال أبی: قد علمتَ أن أهل المدینة یتعاطونه فتعاطیته أیام حداثتی ثم ترکته ، فلما أراد أمیر

ص: 115

المؤمنین منی ذلک عدت إلیه ، فقال: ما رأیت مثل هذا الرمی قط مذ عقلت ، وما ظننت أن أحداً فی أهل الأرض یرمی مثل هذا ! فأین رمی جعفر من رمیک؟

فقال: إنا نتوارث الکمال والتمام والدین اللذین أنزل الله تعالی علی نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی قوله: الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإسلام دِیناً . والأرض لا تخلو ممن یُکَمِّل دینَه من هذه الأمور التی یقصر عنها غیرنا ، فکان ذلک علامة ! فلما سمع ذلک انقلبت عینه الیمنی فاحْوَلَّتْ واحْمَرَّ وجهه ، وکان ذلک علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنیهة ورفع رأسه إلی أبی وقال: ألسنا بنی عبد مناف نسبنا ونسبکم واحد ؟

فقال أبی: نحن کذلک ولکن الله جل ثناؤه اختصنا بمکنون سره وخالص علمه ما لم یختص أحداً غیرنا .

فقال: ألیس الله بعث محمداً من شجرة عبد مناف إلی الناس کافة أبیضها وأسودها وأحمرها ، فمن أین ورثتم ما لیس لغیرکم ورسول الله مبعوث إلی الناس کافة ؟ ومن أین أورثتم هذا العلم ولیس بعد محمد نبی ، وما أنتم أنبیاء ؟!

فقال أبی: من قوله تعالی: لا تُحَرِّکْ بِهِ لِسَانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، فالذی أبداه فهو للناس کافة ، والذی لم یحرک به لسانه أمر الله تعالی أن یخصنا به دون غیرنا ، فلذلک کان یناجی به أخاه علیاً دون أصحابه ، وأنزل الله تعالی قرآنا ، فقال: وَتَعِیَهَا أُذُنٌ وَاعِیَةٌ ، فقال له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): بین أصحابه سألت الله أن یجعلها أذنک یا علی ولذلک قال علی بالکوفة: علمنی رسول الله ألف باب من العلم ، ینفتح من کل باب ألف باب ! خصه رسول الله من مکنون علمه ما خصه الله به ، فصار إلینا وتوارثناه من دون قومنا .

فقال له هشام: إن علیاً کان یدعی علم الغیب ، والله لم یطلع علی غیبه أحداً ،

ص: 116

فکیف ادعی ذلک ومن أین؟ فقال أبی: إن الله أنزل علی نبیه کتاباً بین فیه ما کان وما یکون إلی یوم القیامة فی قوله تعالی: وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِکُلِّ شَیْئٍ وَهُدیً وَرَحْمَةً وَبُشْرَی لِلْمُسْلِمِین. وفی قوله تعالی: وَکُلَّ شَئٍْ أَحْصَیْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِین وفی قوله: مَا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَئْ، وفی قوله: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِی السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِی کِتَابٍ مُبِینٍ . وأوحی إلی نبیه أن لا یبقی فی غیبه وسره ومکنون علمه شیئاً إلا ناجاه به ، وأمر أن یؤلف القرآن من بعده ، ویتولی غسله وتحنیطه وتکفینه من دون قومه ، وقال لأهله وأصحابه: حرام أن تنظروا إلی عورتی غیر أخی علی فهو منی وأنا منه ، له ما لی وعلیه ما علیَّ ، وهو قاضی دینی ومنجز وعدی . وقال لأصحابه: علیٌّ یقاتل علی تأویل القرآن کما قاتلت علی تنزیله . ولم یکن عند أحد تأویل القرآن بکماله وتمامه إلا عند علی ، ولذلک قال لأصحابه: أقضاکم علی . وقال عمر بن الخطاب: لو لا علی لهلک عمر ! أفیشهد له عمر ، ویجحد غیره ؟! فأطرق هشام ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتک .

فقال: خلفت أهلی وعیالی مستوحشین لخروجی ! فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعک إلیهم ، فلا تقم أکثر من یومک ، فاعتنقه أبی وودعه وفعلت فعله ، ونهض ونهضت .

وخرجنا إلی بابه فإذا علی بابه میدان وفیه أناس قعود فی آخره فسأله عنهم أبی فقال الحُجَّاب: هؤلاء القسیسون والرهبان ، وهذا عالم لهم یقعد لهم فی کل سنة یوماً واحداً ، یستفتونه فیفتیهم . فلفَّ أبی رأسه بفاضل رداءه وفعلت فعله وأقبل حتی قعد عندهم ، وقعدت وراء أبی ، فرفع الخبر إلی هشام فأمر بعض غلمانه أن یحضره وینظر ما یصنع ! فأتی ومعه عدداً من المسلمین فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصاری وقد شد حاجبیه بعصابة صفراء فتوسطنا ، وقام إلیه جمیع الحاضرین

ص: 117

مسلِّمین ، فتوسط صدر المجلس وقعد فیه وأحاطوا به وأبی وأنا بینهم ، فأدار نظره فیهم فقال لأبی: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبی: بل من هذه الأمة المرحومة . فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟ فقال أبی: لست من جهالها . فاضطرب وقال: أسألک فقال: سل . قال: من أین ادعیتم أن أهل الجنة یأکلون ویشربون ولا یحدثون ولا یبولون وما الدلیل ، وهل من شاهد لا یجهل ؟ قال أبی: الدلیل الذی لا ینکر مشاهدة الجنین فی بطن أمه یطعم ولا یحدث ، فاضطرب اضطراباً شدیداً وقال: کلا زعمت أنک لست من علمائها ؟ فقال أبی: قلت لست من جهالها . قال: فأسألک عن مسألة أخری؟ قال: سل . قال: من أین ادعیتم أن فاکهة الجنة أبداً غضة طریة وما الدلیل من المشاهدات؟ قال: إن الفرات غض طری موجود غیر معدوم لا ینقطع . فاضطرب اضطراباً شدیداً وقال: کلا زعمت أنک لست من علمائها؟ فقال أبی: قلت لست من جهالها .

فقال أسألک عن مسألة أخری . قال: سل قال: أسألک عن ساعة من ساعات الدنیا لیست من اللیل ولا من النهار؟ قال أبی: هی الساعة التی بین طلوع الفجر إلی طلوع الشمس ، یهدأ فیها المبتلی ، ویرقد فیها الساهر ، ویفیق فیها المغمی علیه ، جعلها الله فی الدنیا رغبة للراغبین ، وفی الآخرة للعاملین لها ، وجعلها دلیلاً واضحاً وحجة بالغة علی الجاحدین والتارکین ! فصاح صیحة ثم قال: بقیت مسألة واحدة لأسألنک عنها ولا تهتدی إلی الجواب عنها أبداً ، قال أبی: فسل إنک حانث فی قولک . فقال: أخبرنی عن مولودین ولدا فی یوم واحد وماتا فی یوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسین سنة والآخر خمسین سنة فی الدنیا؟ فقال أبی: ذلک عزیر وعزرة ولدا فی یوم واحد ، ولما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرین عاماً مر عزیر علی حماره بقریة فی أنطاکیة وهی خاویة علی عروشها: قَالَ أَنَّی یُحْیِی هَذِهِ اللهُ بَعْدَ

ص: 118

مَوْتِهَا ؟ وکان الله قد اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلک غضب الله علیه وأماته مائة عام ثم بعثه علی طعامه وحماره وشرابه ، وعاد إلی داره وأخوه عزرة لا یعرفه فاستضافه وبعث إلی أولاده وأحفاده وقد شاخوا ، وعزیر شاب فی سن خمس وعشرین وهو یذکر عزرة بنفسه فیقول له: ما رأیت شاباً أعلم بعزیر منک فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزیر لأخیه: أنا عزیر ، سخط الله تعالی علیَّ بقول قلته فأماتنی مائة سنة ، ثم بعثنی لیزدادوا بذلک یقیناً أن الله علی کل شیء قدیر ، وهذا حماری وطعامی وشرابی الذی خرجت به من عندکم أعاده لی کما کان بقدرته فأعاشه الله بینهم تمام الخمسین وقبضه الله وأخاه فی یوم واحد .

فنهض عند ذلک عالم النصاری وقاموا معه فقال:جئتمونی بأعلم منی فأقعدتموه بینکم لیفضحنی ، ویعلم المسلمون بأن لهم من یحیط بعلومنا ، وعنده ما لا نحیط به ! فلا والله لا کلمتکم ولا قعدت لکم إن عشت سنة! فتفرقوا وأبی قاعد مکانه .

ورفع ذلک الرجل الخبر إلی هشام فإذا رسوله بالجائزة والأمر بانصرافنا إلی المدینة من وقتنا فلا نبقی ، لأن أهل الشام ماجوا وهاجوا فیما جری بین أبی وعالم النصاری ! فرکبنا دوابنا منصرفین ، وقد سبقنا برید هشام إلی عامل مَدْیَن فی طریقنا إلی المدینة ، یذکر له أن ابن أبی تراب الساحر محمد بن علی وابنه جعفر الکذابین - بل هو الکذاب لعنه الله- فیما یظهران من الإسلام قد وردا علیَّ فلما صرفتهما إلی المدینة مالا إلی القسیسین والرهبان وتقرباً إلیهم بالنصرانیة ، فکرهت النکال بهما لقرابتهما ! فإذا مرَّا بانصرافهما علیکم فلیناد فی الناس برئت الذمة ممن بایعهما وشاراهما وصافحهما وسلم علیهما ، ورأی أمیر المؤمنین قتلهما ودوابهما وغلمانهما لارتدادهما !

فلما ورد البرید إلی مدین وشارفناها بعده ، قدم أبی غلمانه لیشتروا لدوابنا علفاً

ص: 119

ولنا طعاماً فلما قربوا من المدینة أغلق أهلها الباب فی وجوههم وشتموهم وذکروا بالشتم علیاً(علیه السّلام) ، وقالوا لهم: لا نزول لکم عندنا ولا بیع ولا شراء ، فأنتم کفار مشرکون! فوقف غلماننا إلی الباب حتی انتهینا إلیهم فکلمهم أبی ولیَّن لهم القول قال: اتقوا الله فلسنا کما بلغکم ! فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبی: هبونا کما قلتم فافتحوا الباب وبایعونا کما تبایعون الیهود والنصاری والمجوس . فقالوا: أنتم أشر منهم ، لأن هؤلاء یؤدون الجزیة وأنتم لا تؤدون . فقال لهم أبی: إفتحوا الباب وخذوا منا الجزیة کما تأخذونها منهم . فقالوا: لا نفتح ولا کرامة حتی تموتوا علی ظهور دوابکم جیاعاً وتموت دوابکم تحتکم !

فوعظهم أبی فازدادوا عتوا فثنی أبی رجله عن سرجه وقال لی: مکانک یا جعفر لا تبرح ! فصعد الجبل المطل علی مدینة مدین وهم ینظرون ما یصنع ، فلما صار فی أعلاه استقبل بوجهه المدینة ووضع إصبعیه فی أذنیه ونادی: وَإِلَی مَدْیَنَ أَخَاهُمْ شُعَیْبًا قَالَ یَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِکْیَالَ وَالْمِیزَانَ إِنِّی أَرَاکُمْ بِخَیْرٍ وَإِنِّی أَخَافُ عَلَیْکُمْ عَذَابَ یَوْمٍ مُحِیطٍ... إلی قوله: بَقِیَّةُ اللهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ وَمَا أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفِیظٍ . نحن والله بقیة الله فی أرضه !

فأمر الله تعالی ریحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوته فألقته فی أسماع الرجال والنساء والصبیان والإماء ، فما بقی أحد من أهل مدین إلا صعد السطح من الفزع ! وفیمن صعد شیخ کبیر السن ، فلما نظر الجبل صرخ بأعلی صوته: إتقوا الله یا أهل مدین ، فإنه قد وقف الموقف الذی وقف فیه شعیب حین دعا علی قومه ! فإن لم تفتحوا له الباب نزل بکم العذاب ، وقد أعذر من أنذر !

ففتحوا لنا الباب وأنزلونا وکتب العامل بجمیع ذلک إلی هشام ، فارتحلنا من مدین إلی المدینة فی الیوم الثانی ، وکتب هشام إلی عامله بأن یأخذوا الشیخ

ص: 120

ویدفنوه فی حفیرة ففعلوا ! وکتب أیضاً إلی عامله بالمدینة أن یحتالوا فی سم أبی بطعام أو شراب ، فمضی هشام ولم یتهیأ له فی أبی شئ من ذلک ) ! انتهی.

والأمان من أخطار الأسفار للسید ابن طاووس/66، والدر النظیم لإبن حاتم/604 .ومدینة المعاجز:5/66، والبحار:46/313 ، ومستدرک الوسائل:14/77 .

وفی الکافی:1/471: (عن أبی بکر الحضرمی قال: لما حمل أبو جعفر(علیه السّلام)إلی الشام إلی هشام بن عبد الملک وصار ببابه ، قال لأصحابه ومن کان بحضرته من بنی أمیة: إذا رأیتمونی قد وبخت محمد بن علی ثم رأیتمونی قد سکت فلیقبل علیه کل رجل منکم فلیوبخه ! ثم أمر أن یؤذن له فلما دخل علیه أبو جعفر(علیه السّلام) قال بیده: السلام علیکم فعمهم جمیعاً بالسلام ثم جلس ، فازداد هشام علیه حنقاً بترکه السلام علیه بالخلافة وجلوسه بغیر إذن ، فأقبل یوبخه ویقول فیما یقول له: یا محمد بن علی لا یزال الرجل منکم قد شق عصا المسلمین ودعا إلی نفسه وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم ! ووبخه بما أراد أن یوبخه ! فلما سکت أقبل علیه القوم رجل بعد رجل یوبخه

حتی انقضی آخرهم ، فلما سکت القوم نهض(علیه السّلام)قائماً ثم قال: أیها الناس أین تذهبون وأین یراد بکم ، بنا هدی الله أولکم وبنا یختم آخرکم ، فإن یکن لکم ملک معجل فإن لنا ملکاً مؤجلاً ولیس بعد ملکنا ملک ، لأنا أهل العاقبة یقول الله عز وجل: والعاقبة للمتقین !

فأمر به إلی الحبس ، فلما صار إلی الحبس تکلم فلم یبق فی الحبس رجل إلا ترشفه وحن إلیه ، فجاء صاحب الحبس إلی هشام فقال: یا أمیر المؤمنین إنی خائف علیک من أهل الشام أن یحولوا بینک وبین مجلسک هذا ثم أخبره بخبره !

فأمر به فحمل علی البرید هو وأصحابه لیردوا إلی المدینة وأمر أن لا یخرج لهم الأسواق وحال بینهم وبین الطعام والشراب ، فساروا ثلاثاً لا یجدون طعاماً ولا

ص: 121

شراباً حتی انتهوا إلی مدین ، فأغلق باب المدینة دونهم ، فشکا أصحابه الجوع والعطش قال: فصعد جبلاً لیشرف علیهم فقال بأعلی صوته: یا أهل المدینة الظالم أهلها أنا بقیة الله، یقول الله: بَقِیَّتُ اللهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ وَمَا أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفِیظٍ. قال: وکان فیهم شیخ کبیر فأتاهم فقال لهم: یا قوم هذه والله دعوة شعیب النبی ! والله لئن لم تخرجوا إلی هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقکم ومن تحت أرجلکم فصدقونی فی هذه المرة وأطیعونی وکذبونی فیما تستأنفون ، فإنی لکم ناصح ، قال: فبادروا فأخرجوا إلی محمد بن علی وأصحابه بالأسواق ، فبلغ هشام بن عبد الملک خبر الشیخ ، فبعث إلیه فحمله فلم یدر ما صنع به ). انتهی.

وهذه بعض الملاحظات علی الحادثة

1- لم یصلنا من خطبة الإمام الصادق(علیه السّلام)فی الحج إلا هذه الفقرة الیتیمة: (الحمد لله الذی بعث بالحق محمداً نبیاً وأکرمنا به(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فنحن صفوة الله علی خلقه وخیرته من عباده ، فالسعید من اتبعنا والشقی من خالفنا ، ومن الناس من یقول إنه یتولانا وهو یتولی أعداءنا ومن یلیهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم یسمع کلام ربنا ولم یعمل به ) ! لکنها بلیغة تنص علی أن فریضة ولایة أهل البیت(علیهم السّلام) والبراءة من أعدائهم من صلب الإسلام ، وأن ذمة المسلم لاتبرأ ولایکون عاملاً بکلام الله تعالی حتی یتولاهم ویتبرأ من کل من خالفهم !

ویشبه هذه الفقرة ما قاله الإمام الباقر(علیه السّلام)لهشام الأحول فی قصره بالشام ، وبما رواه فی بصائر الدرجات/83 ، عن الإمام الباقر(علیه السّلام): (نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خیرته ، ونحن مستودع مواریث الأنبیاء(علیهم السّلام)، ونحن أمناء الله ونحن حجة الله ، ونحن أرکان الایمان ونحن دعائم الإسلام ، ونحن من رحمة الله علی خلقه ،

ص: 122

ونحن الذین بنا یفتح الله وبنا یختم ، ونحن أئمة الهدی ونحن مصابیح الدجی ونحن منار الهدی ، ونحن السابقون ونحن الآخرون ، ونحن العلم المرفوع للخلق من تمسک بنا لحق ومن تخلف عنا غرق ، ونحن قادة الغر المحجلین ، ونحن خیرة الله ونحن الطریق وصراط الله المستقیم إلی الله ، ونحن من نعمة الله علی خلقه ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوة ونحن موضع الرسالة ، ونحن الذین إلینا مختلف الملائکة ، ونحن السراج لمن استضاء بنا ، ونحن السبیل لمن اقتدی بنا ، ونحن الهداة إلی الجنة ، ونحن عز الإسلام ، ونحن الجسور القناطر من مضی علیها سبق و من تخلف عنها محق ، ونحن السنام الأعظم ، ونحن الذین بنا تنزل الرحمة وبنا تسقون الغیث ، ونحن الذین بنا یصرف عنکم العذاب ، فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والینا ). وکمال الدین/206، وأمالی الطوسی/654، وبعضه فی الهدایة الکبری ، عن جابر بن یزید/239 .

ویشبهه ما رواه فی عیون المعجزات/67، عن أبی بصیر وکان ضریراً قال: قلت لأبی جعفر الباقر(علیه السّلام): أنتم ورثة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ فقال لی: نعم رسول الله وارث الأنبیاء ونحن ورثته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وورثتهم(علیهم السّلام). فقلت: تقدرون أن تحیوا الموتی وتبرئوا الأکمه والأبرص ؟ قال: نعم بإذن الله تعالی . ثم قال: أدن منی فدنوت منه فمسح علی عینی فأبصرت السماء والأرض وکل شئ کان فی الدار ، فقال(علیه السّلام): أتحب أن تکون هکذا ولک ما للناس وعلیک ما علیهم ، أو تعود إلی حالک ولک الجنة خالصة؟ فقلت: الجنة أحب إلیَّ ، فمسح یده علی عینی فرجعت کما کانت .

ثم قال(علیه السّلام): نحن جنب الله جل وعز ، نحن صفوة الله نحن خیرة الله ، نحن أمناء الله ، نحن مستودع مواریث الأنبیاء، نحن حجج الله ، نحن حبل الله المتین ، نحن صراط الله المستقیم قال الله تعالی: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

ص: 123

نحن رحمة علی المؤمنین ، بنا فتح الله وبنا ختم الله ومن تمسک بنا نجا وتخلف عنا غوی ، نحن القادة الغر المحجلین ، ثم قال(علیه السّلام): فمن عرفنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والینا).انتهی. وأصله الحدیث الطویل الذی یصف فیه النبی نفسه وأهل بیته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). (تفسیر فرات/258).

2- روت مصادرنا أجزاء أخری من مناظرة الإمام(علیه السّلام)مع نافع ، ومع الراهب النصرانی ، کما فی الکافی:8/122، وتفسیر القمی:1/98 ، و:2/284، وغیرهما .

3- نلاحظ فی کلام الإمام الباقر(علیه السّلام)منطقاً عالیاً ، واستدلالاً جدیداً بآیات من القرآن ، علی علم الأئمة المعصومین(علیهم السّلام)الربانی ومقامهم العظیم ، فقد استدل(علیه السّلام) بآیة إکمال الدین علی أنه نزل معها کمال شخصیة المعصوم وتمامها من علی الی آخر المعصومین الإثنی عشر(علیهم السّلام)وأن وجود الإنسان الکامل، مکمل ربانی للدین !

واستدل(علیه السّلام)بآیة: لا تُحَرِّکْ بِهِ لِسَانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. علی أن القرآن وتفسیره قسمان عام للناس ، وخاص لأوصیاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ( فالذی أبداه فهو للناس کافة ، والذی لم یحرک به لسانه أمر الله تعالی أن یخصنا به دون غیرنا) !

واستدل من تعلیم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی ألف باب من العلم علی وراثتهم(علیهم السّلام)لذلک .

واستدل بقوله تعالی: وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِکُلِّ شَئْ.. ومَا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَئٍْ.. وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِی السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِی کِتَابٍ مُبِینٍ..علی أن ذلک العلم عند النبی والأئمة من آله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

واستدل بقول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأهله وأصحابه فی وصیته: (حرام أن تنظروا إلی عورتی غیر أخی علی فهو منی وأنا منه). علی مقام لعلی وأنه یختص بالنظر الی جثمانه ، ولا بد أن تکون العورة هنا بالمعنی المجازی ، ولا یتسع المجال للتفصیل .

4- لهشام الأحول هدفان من إحضار الإمام(علیه السّلام): الأول: أن یرهبه ویذله ویجد

ص: 124

حجة أو طریقاً الی قتله ، نظراً لاتساع شعبیته ، کما قتل أباه زین العابدین(علیهماالسّلام) !

والثانی: أن یتأکد من صحة عقیدة الشیعة فی أئمتهم(علیهم السّلام)وأنهم أصحاب صفات ممیزة عن الناس ، وأن عندهم علوماً من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیست عند غیرهم ؟! کما أعلن ذلک أولهم علی(علیه السّلام)! ویظهر ذلک من سؤاله للإمام(علیه السّلام): ( إن علیاً کان یدعی علم الغیب ، والله لم یطلع علی غیبه أحداً ، فکیف ادعی ذلک ومن أین) ؟

وقد أکد الإمام لهشام تمیزهم(علیه السّلام)بالعلم وبیَّنَ له بعض مصادر علمهم ! فغضب هشام وتساءل: ما الفرق بیننا وبینکم ، ألسنا وأنتم من قبیلة واحدة ونسب واحد؟! وهو نفس منطق قریش الجاهلی مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )استعملوه معه ومع عترته المطهرین المعصومین(علیهم السّلام)، وما زال أتباعهم یستعملونه مع الأئمة من عترته(علیهم السّلام)الی یومنا !

5- فی تلک الفترة قام هشام الأحول بتغییر والی المدینة مرتین ، فولاها (خاله إبراهیم بن هشام بن إسماعیل المخزومی ، فقدم المدینة یوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادی الآخرة سنة106 ، فکانت ولایة النضری علی المدینة سنة وثمانیة أشهر). (الطبری:5/379) . ویبدو أن

هشاماً لم یرتض لینه مع أهل البیت(علیهم السّلام)، فولی علیهم أمویاً ناصبیاً خبیثاً سئ السیرة بذئ اللسان ! قال فی تاریخ دمشق:16/172: (استعمل هشام بن عبد الملک خالد بن عبد الملک علی المدینة ، فکان یؤذی علی بن أبی طالب علی المنبر ، فسمعته یوماً علی منبر رسول الله (ص) وهو یقول: والله لقد استعمل رسول الله علیاً ، وهو یعلم أنه کذا وکذا ، ولکن فاطمة کلمته فیه). وفی مناقب ابن حمزة/271: (وهو یعلم أنه خائن)!

وفی عمدة القاری:9/261 ، أن خالداً هذا کان خاملاً قبل ولایته علی المدینة .

وفی تاریخ دمشق:16/170: (خالد هذا لیس بابن عبد الملک بن مروان وإنما هو ابن عبد الملک بن الحارث بن الحکم بن أبی العاص.. المعروف بابن مطرة وولی

ص: 125

لهشام بن عبد الملک المدینة سبع سنین فأقحطوا ، فکان یقال سنیات خالد ، وکان أهل البادیة قد جلوا إلی الشام ) !

وفی التمهید:19/35 ، أن عروة بن الزبیر کان یشغل نفسه بالکلام عندما یسب أمیر المدینة خالد علیاً(علیه السّلام)فی خطبة الجمعة ویقول: (إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا) !

وفی أعیان الشیعة:3/492: (کانت سکینة (بنت الحسین(علیه السّلام)) تجئ یوم الجمعة فتقوم بإزاء ابن مطیر... إذا صعد المنبر فإذا شتم علیاً شتمته هی وجواریها ، فکان یأمر الحرس یضربون جواریها).

وقد روت المصادر کرامات لأولیاء فی إدانة هذه السیاسة . الثاقب فی المناقب لابن حمزة/271: مدینة المعاجز:2/282، وتاریخ دمشق:16/172 .

6- لم یکتف (الخلیفة) بما فعل والیه أمیر المدینة ، فأمره أن یجبر المسلمین علی سب علی(علیه السّلام)علی منبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فکانوا یتصدون للأمیر عندما یسب علیاً(علیه السّلام)یوم الجمعة ، وهجاه کُثیِّر الشاعر بأبیاته: لعن الله من یسبُّ علیاً... فانتشرت بین الناس وتقدمت مع مصادرها ، وقلنا إن إطلاق الخلیفة سراح الشاعر کثیر(رحمه الله)یدل علی قوة الجو العام ضد بنی أمیة .

7- إن قول الإمام الصادق(علیه السّلام)فی روایة دلائل الإمامة: ( فمضی هشام ولم یتهیأ له فی أبی من ذلک شئ) یعنی أن والی المدینة قام بمحاولات عدیدة فاشلة ، لم تصل الینا روایتها ، لکن وصلنا أنهم استطاعوا ذلک بعد ثمان سنوات أن یدسوا السم للإمام(علیه السّلام) ! وتذکر بعض الروایات أنهم أهدوا الیه سرجاً مسموماً، أو دعوه للرکوب علی فرس سرجها مسموم . قال ابن حاتم فی الدر النظیم/613: (وفی روایة: بطریق السرج الذی أعطاه (والی المدینة) زید بن الحسن). وقال عنها السید الخوئی فی معجمه:8/351: (الروایة مرسلة علی أنها غیر قابلة للتصدیق ، فإن عبد الملک لم یبق

ص: 126

إلی زمان وفاة الباقر(علیه السّلام)جزماً ، فالروایة مفتعلة). انتهی. لکن قد یکون فیها سقطاً .

8- لم تذکر روایة الکافی الریح السوداء التی هبت علی مدین عندما ناداهم الإمام الباقر(علیه السّلام)بنداء شعیب(علیه السّلام)، وهذا لاینفی وقوعها ، فنصوص الحادثة متعددة لسعتها ، وقد تناولتها کل روایة من الزاویة التی أرادها الراوی .

9- نلاحظ من الحادثة ومن تغییر الخلیفة لولاته علی المدینة ، سقوط هیبة بنی أمیة عند المسلمین فی عهد الإمام(علیه السّلام)الباقر ، ویدل علیه التشییع الحاشد لجنازة کثیر(رحمه الله)الذی کان یجاهر بتشیعه ویهجو الأمویین ، وإعراضهم عن جنازة عکرمة عالم الخلافة الأمویة ، حیث ماتا فی یوم واحد سنة 105هجریة ! فاحتشد الناس اجتمعوا علی جنازة کثیِّر وصلی علیه الإمام الباقر(علیه السّلام)وشارک فی رفع جنازته قال: ( أفرجوا لی عن جنازة کثیر لأرفعها ، فرفع جنازته وعرقه یجری) ! فی حین ترکوا جنازة عکرمة فلم یوجد من یحملها !(الدرجات الرفیعة/590 ، وتهذیب الکمال:20/290) .

وفی کلا الموقفین دلالة علی قوة الموجة التی أوجدها الإمام الباقر(علیه السّلام)فی الحجاز فی نقد بنی أمیة وتسقیط علماء البلاط ! وکان أهل الکوفة أکثر جرأة من أهل المدینة ، کما کانت تجری فی خراسان والبصرة صراعات دمویة بین الولاة ، أو بین الخلیفة والولاة . وروی فی خزانة الأدب:5/221، قول کثیر فی احتضاره:

برئت إلی الإله من ابن أروی(یقصد عثمان) ومن دین الخوارج أجمعینا ومن عمر برئت ، ومن عتیق ( یقصد أبا بکر) غداة دعی أمیر المؤمنینا ).

هذا ، وقد اضطر الذهبی أن یعترف بإعراض المسلمین عن جنازة عکرمة ، فقال فی سیره:5/33: (قلت: ما ترکوا عکرمة مع علمه وشیعوا کثیِّراً ، إلا عن بلیة کبیرة فی نفوسهم له ) ! أقول: وکفی بنصبه ونصب الذهبی بلیة !

ص: 127

10- لنا أن تقدر الوقع القوی لمواقف الإمام(علیه السّلام)مع الخلیفة عند جماهیر المسلمین ، خاصة أهل المدینة والعراق ، وقد تفاعل مواجهته(علیه السّلام)حتی کانت ثورة أخیه زید(رحمه الله)بعد شهادته(علیه السّلام)بسبع سنین ، فی حکم هشام نفسه سنة122 ، وحکم حتی سنة125 هجریة ، ثم سقطت دولة بنی أمیة بعد هلاکه بسبع سنین .

7- هشام الأحول یقتل الإمام الباقر(علیه السّلام)بالسُّم

توفی الإمام الباقر(علیه السّلام)مسموماً فی ذی الحجة سنة114 ، ودفن بالبقیع الی جانب أبیه زین العابدین وعمه الحسن بن علی(علیهم السّلام). وفی الکافی:1/471، بسند صحیح عن الصادق(علیه السّلام)قال: (قبض محمد بن علی الباقر وهو ابن سبع وخمسین سنة ، فی عام أربع عشرة ومائة ، عاش بعد علی بن الحسین(علیهماالسّلام)تسع عشرة سنة وشهرین) .

وقال الصدوق(رحمه الله)فی الإعتقادات/98: ( وعلی بن الحسین سید العابدین(علیه السّلام)سمَّه الولید بن عبد الملک فقتله . والباقر محمد بن علی(علیهاالسّلام)سمه إبراهیم بن الولید فقتله . والصادق(علیه السّلام)سمه المنصور فقتله . وموسی بن جعفر(علیه السّلام)سمه هارون الرشید فقتله. والرضا علی بن موسی(علیه السّلام)قتله المأمون بالسم . وأبو جعفر محمد بن علی(علیه السّلام)قتله المعتصم بالسم . وعلی بن محمد(علیه السّلام) قتله المعتضد بالسم . والحسن بن علی العسکری(علیه السّلام)قتله المعتمد بالسم .

واعتقادنا فی ذلک أنه جری علیهم علی الحقیقة ، وأنه ما شبه للناس أمرهم کما یزعمه من یتجاوز الحد فیهم بل شاهدوا قتلهم علی الحقیقة والصحة ، لا علی الحسبان والخیلولة ولا علی الشک والشبهة . فمن زعم أنهم شبِّهوا ، أو واحد منهم ، فلیس من دیننا علی شئ ونحن منه برآء . وقد أخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والأئمة(علیهم السّلام)أنهم مقتولون ، فمن قال إنهم لم یقتلوا فقد کذبهم ). یشیر(رحمه الله)الی المغالین الذین ألهوا الأئمة(علیهم السّلام)أو ادعوا فیهم الحلول معاذ الله .

ص: 128

وفی مناقب آل أبی طالب:3/340: (قال أبو جعفر بن بابویه: سمَّهُ إبراهیم بن الولید بن یزید ، وقبره ببقیع الغرقد ). لکنه لایصح ، فهو تصحیف أو اشتباه ، لأنه لا ذکر لإبراهیم هذا فی عمال المدینة ولا فی غیرهم ، ولیس هو من أولاد عبد الملک ، وقد یکون المقصود ابن خاله إبراهیم بن هشام بن إسماعیل المخزومی الذی ولی المدینة (النهایة:9/261) ثم عزله هشام الأحول وولَّی مکانه الولید بن عبد الملک ، وفی ولایته علی المدینة استشهد الإمام الباقر(علیه السّلام).

وکذا لایصح قول ابن شهراشوب: (وکان فی سنی إمامته ملک الولید بن یزید وسلیمان ، وعمر بن عبد العزیز ، ویزید بن عبد الملک ، وهشام أخوه ، والولید بن یزید ، وإبراهیم أخوه ، وفی أول ملک إبراهیم قبض).

وهذه قائمة بالملوک من أولاد مروان:1- عبد الملک بن مروان من سنة:65-86 .

2 - الولید بن عبد الملک . من: 86 - 96 . 3 -سلیمان بن عبد الملک . من: 96 - 99 .

4 - عمر بن عبد العزیز . من:99 – 101. 5 - یزید بن عبد الملک . من:101-105 .

6- هشام بن عبد الملک . من:105- 125. 7- الولید بن یزید بن عبد الملک من:125-126

8 - یزید بن الولید بن عبد الملک. من: 126-126 . 9- إبراهیم بن الولید بن عبد الملک . أربعة أشهر فی سنة126 . 10 - مروان بن محمد الملقب بالحمار . من: 127 - 132 .

( أولاد الإمام محمد الباقر(علیه السّلام)للباحث السید حسین الزرباطی/28) .

والمهم أن شهادة الإمام(علیه السّلام)کانت فی خلافة هشام ، الذی کان صدره یغلی بالحسد علیه وعلی أبیه(علیهماالسّلام) ، وقد یکون التنفیذ بید والیه خالد ، الذی کان مثله فی بغض أهل البیت(علیهم السّلام) ، أو بید غیره .

ومما یلفتُ فی وصیة الإمام الباقر(علیه السّلام): أنه ( مرض مرضاً شدیداً حتی خفنا علیه فبکی بعض أهله عند رأسه ، فنظر فقال: إنی لست بمیت من وجعی هذا ، إنه أتانی اثنان فأخبرانی: إنی لست بمیت من وجعی هذا ، قال: فبرأ ومکث ما شاء الله

ص: 129

أن یمکث . فبینا هو صحیح لیس به بأس قال: یا بنی إن اللذین أتیانی من وجعی ذلک أتیانی فأخبرانی أنی میت یوم کذا وکذا . قال: فمات فی ذلک الیوم... عن أبی عبد الله(علیه السّلام)أنه قال: کنت عند أبی فی الیوم الذی قبض فیه أبی محمد بن علی فأوصانی بأشیاء فی غسله وفی کفنه وفی دخوله قبره . قال: قلت: یا أبتاه والله ما رأیت منذ اشتکیت أحسن هنیئة منک الیوم ، وما رأیت علیک أثر الموت . قال: یا بنی أما سمعت علی بن الحسین نادانی من وراء الجدران: یا محمد تعال عجل .

عن الإمام الرضا(علیه السّلام)قال: قال أبو جعفر(علیه السّلام):حین احتضر: إذا أنا مت فاحفروا لی وشقوا لی شقاً ، فإن قیل لکم إن رسول الله(علیهماالسّلام)لحد له فقد صدقوا .

إن أبا جعفر(علیه السّلام)انقلع ضرس من أضراسه فوضعه فی کفه ثم قال: الحمد لله ، ثم قال: یا جعفر إذا أنا مت ودفنتنی فادفنه معی .

أوصی أبو جعفر(علیه السّلام)بثمانمائة درهم لمأتمه ، وکان یری ذلک للسنة ، لأن رسول الله(علیهماالسّلام)قال: اتخذوا لآل جعفر بن أبی طالب طعاماً ، فقد شغلوا .

عن أبی عبد الله((علیه السّلام)قال: (قال لی أبی: یا جعفر أوقف لی من مالی کذا وکذا لنوادب تندبننی عشر سنین بمنی أیام منی). (موسوعة شهادة المعصومین(علیهم السّلام)/83).

وهکذا استطاع الإمام الباقر(علیه السّلام)فی العشرین سنة من إمامته المبارکة أن یبقر علم النبوة ویُفَجِّر جداوله للمسلمین، ویُسقط هیبة بنی أمیة عند جماهیر الأمة ویفجر حرکتها ضد ظالمیها، ویکتب بعلمه ودمه الزکی طریق نهایة الأمویین .

وقد یکون ما لم یصل الینا من فعالیاته أعظم تأثیراً علی مجری التاریخ مما وصلنا، وکذلک هی فعلیات الأئمة(علیهم السّلام)، کلها تأسیسیة ، وقسم منها غیر معلن .

ص: 130

الفصل الخامس: الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)

1- مولده وشهادته(علیه السّلام)

ولد أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)فی السابع عشر من ربیع الأول سنة ثلاث وثمانین ، وهو یوم مولد جده المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

وتوفی(علیه السّلام)فی شوال سنة ثمان وأربعین ومائة ، وله خمس وستون سنة ، ودفن بالبقیع ، فی القبر الذی دفن فیه أبوه وجده والحسن بن علی(علیهم السّلام). وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر). (الکافی:1/472 ) .

وللإمام الصادق(علیه السّلام)عشرة أولاد أشهرهم الإمام الکاظم(علیه السّلام)وإسماعیل . (الإرشاد:2/209) . وذکر النسابون أن نسل الباقر(علیه السّلام)محصور بولده الصادق(علیهماالسّلام)فقط ، ورووا أن والی المدینة قتل ابنه عبدالله(رحمه الله)بالسم ولم یرزق أولاداً ، قال

المفید فی الإرشاد:2/176: (وکان أخوه عبد الله یُشار إلیه بالفضل والصلاح ، وروی أنه دخل علی بعض بنی أمیة فأراد قتله فقال له عبد الله: لا تقتلنی فأکون لله علیک عوناً ، واستبقنی أکن لک علی الله عوناً ؟ یرید بذلک أنه ممن یشفع إلی الله فیشفعه ، فقال له الأموی: لست هناک ، وسقاه السم فقتله ) ! واستدل السید الزرباطی علی وجود ذریة لعبدالله ولأخیه علی . (أولاد الإمام الباقر(علیه السّلام)للزرباطی/124).

ص: 131

2- سماه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جعفراً الصادق(علیه السّلام)

(عن أبی خالد الکابلی قال: دخلت علی سیدی علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب(علیهم السّلام)فقلت: یا ابن رسول الله أخبرنی بالذین فرض الله طاعتهم ومودتهم وأوجب علی عباده الإقتداء بهم بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ فقال: یا کابلی إن أولی الأمر الذین جعلهم الله عز وجل أئمة الناس وأوجب علیهم طاعتهم: أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)، ثم الحسن عمی ، ثم الحسین أبی ، ثم انتهی الأمر إلینا . ثم سکت . فقلت له: یا سیدی روی لنا عن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالی علی عباده ، فمن الحجة والإمام بعدک ؟ قال: ابنی محمد واسمه فی صحف الأولین باقر یبقر العلم بقراً ، هو الحجة والإمام بعدی ، ومن بعد محمد ابنه جعفر ، واسمه عند أهل السماء الصادق ، قلت: یا سیدی فکیف صار اسمه الصادق وکلکم صادقون؟ قال: حدثنی أبی عن أبیه عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: إذا ولد ابنی جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب فسموه الصادق ، فإن الخامس من ولده الذی اسمه جعفر یدعی الإمامة اجتراءً علی الله وکذباً علیه ، فهو عند الله جعفر الکذاب المفتری علی الله تعالی ، والمدعی لما لیس له بأهل ، المخالف لأبیه والحاسد لأخیه ، وذلک الذی یروم کشف ستر الله عز وجل عند غیبة ولی الله ، ثم بکی علی بن الحسین(علیه السّلام) بکاءً شدیداً ثم قال: کأنی بجعفر الکذاب وقد حمل طاغیة زمانه علی تفتیش أمر ولی الله ، والمغیب فی حفظ الله والتوکیل بحرم أبیه جهلاً منه برتبته ، وحرصاً منه علی قتله إن ظفر به ، وطمعاً فی میراث أخیه حتی یأخذه بغیر حق . فقال أبو خالد فقلت: یا ابن رسول الله وإن ذلک لکائن؟ فقال: إی وربی إن ذلک مکتوب عندنا فی الصحیفة التی فیها ذکر المحن التی تجری علینا بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فقال أبو

ص: 132

خالد فقلت: یا ابن رسول الله ثم یکون ماذا ؟ قال: ثم تمتد الغیبة بولی الله الثانی عشر من أوصیاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والأئمة بعده . یا أبا خالد: إن أهل زمان غیبته القائلین بإمامته والمنتظرین لظهوره ، أفضل من أهل کل زمان ، فإن الله تبارک وتعالی أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ، ما صارت به الغیبة عندهم بمنزلة المشاهدة ، وجعلهم فی ذلک الزمان بمنزلة المجاهدین بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالسیف ! أولئک المخلصون حقاً ، وشیعتنا صدقاً ، والدعاة إلی دین الله عز وجل سراً وجهراً) . (کمال الدین: 1/319 ، بسندین ، والخرایج:1/268، والمناقب:3/393، ومعجم أحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام):3/194 ، وقصص الأنبیاء(علیهم السّلام)/365 ، والاحتجاج:2/317 ، .. الخ.).

3- الإمام الصادق(علیه السّلام)وزیر أبیه ووصیه

( کان الصادق جعفر بن محمد بن علی بن الحسین(علیهم السّلام)من بین إخوته خلیفة أبیه محمد بن علی(علیه السّلام)ووصیَّه القائم بالإمامة من بعده ، وبرز علی جماعتهم بالفضل ، وکان أنبههم ذکراً ، وأعظمهم قدراً ، وأجلّهم فی العامة والخاصة ، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان ، وانتشر ذکره فی البلدان ، ولم ینقل عن أحد من أهل بیته العلماء ما نقل عنه ، ولا لقی أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم کما نقلوا عن أبی عبد الله(علیه السّلام) ، فإنّ أصحاب الحدیث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات علی اختلافهم فی الآراء والمقالات فکانوا أربعة آلاف رجل ، وکان له(علیه السّلام)من الدّلائل الواضحة فی إمامته ما بهرت القلوب وأخرست المخالف) . (المفید(رحمه الله)فی الإرشاد:2/179) .

أقول: کان وزیر أبیه(علیهماالسّلام)ومعتمده فی مهمات أموره ، فی المدینة وفی سفره الی الحج ، والی الشام عندما استدعاه الخلیفة هشام ، وفی لقاءاته مع مشاریع الجبابرة

ص: 133

من حسنیین وعباسیین. وکان أبوه الباقر معجباً به(علیهماالسّلام)قال سدیر الصیرفی: (سمعت أبا جعفر(علیه السّلام)یقول: إن من سعادة الرجل أن یکون له الولد یعرف فیه شبه خلقه وخلقه وشمائله ، وإنی لأعرف من ابنی هذا شبه خلقی وخلقی وشمائلی).

(وعن أبی الصباح الکنانی قال: نطر أبو جعفر إلی أبی عبد الله(علیهماالسّلام)یمشی فقال: تَری هذا؟ هذا من الذین قال الله عز وجل: وَنُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ ).

وعن عبد الأعلی عن أبی عبد الله قال: (إن أبی استودعنی ما هناک ، فلما حضرته الوفاة قال: أدع لی شهوداً فدعوت له أربعة من قریش، فیهم نافع مولی عبد الله بن عمر فقال: اکتب: هذا ما أوصی به یعقوب بنیه: یَابَنِیَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وأوصی محمد بن علی إلی جعفر بن محمد ، وأمره أن یکفنه فی برده الذی کان یصلی فیه الجمعة ، وأن یعممه بعمامته ، وأن یربع قبره ویرفعه أربع أصابع ، وأن یحل عنه أطماره عند دفنه ، ثم قال للشهود: إنصرفوا رحمکم الله . فقلت له بعد ما انصرفوا: یا أبت ما کان فی هذا بأن تشهد علیه ، فقال: یا بنی کرهت أن تغلب وأن یقال: إنه لم یوص إلیه ، فأردت أن تکون لک الحجة). (الکافی:1/306 ، ومناقب آل ابی طالب:3/398).

4- أوصاه أبوه بجیل تلامیذه(علیهماالسّلام)وشیعته

کان تلمیذ أبیه الأول(علیهماالسّلام)ووصیه علی جیل کامل من تلامیذه النابغین ، الذین ملؤوا الأمصار وقلوب الناس ، فهم أوسع جیل من التلامیذ بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعلی(علیه السّلام).

وقد أوصی الإمام الباقر ابنه الصادق(علیهماالسّلام)بتلامیذه خاصة: (لما حضرت أبی(علیه السّلام)الوفاة قال: یا جعفر أوصیک بأصحابی خیراً ، قلت: جعلت فداک ، والله لأدعنهم والرجل منهم یکون فی المصر فلا یسأل أحداً ) ! (الکافی:1/306) .

ص: 134

وقد وفی الإمام(علیه السّلام)بوعده ، ففی المدة التی عاشها بعد أبیه(علیهماالسّلام)وهی أربع وثلاثین سنة ، أثری جیل تلامیذ أبیه ، وخرَّج جیلاً معهم ، وقد تقدم أن ابن عقدة(رحمه الله)ألَّف کتاباً فی الرواة عنه(علیه السّلام)وما رواه کل منهم ، فبلغوا أربعة آلاف طالب وعالم !

وأغنی

أبوه(علیه السّلام)شیعته فی مناسکهم ، وأوصاه أن یغنیهم علمیاً: قال زرارة: (وکانت الشیعة قبل أن یکون أبو جعفر وهم لا یعرفون مناسک حجهم وحلالهم وحرامهم حتی کان أبو جعفر ففتح لهم وبین لهم مناسک حجهم

وحلالهم وحرامهم حتی صار الناس یحتاجون إلیهم، من بعد ما کانوا یحتاجون إلی الناس).(الکافی:2/20) .

وکان یفتخر بأصحاب أبیه(علیهماالسّلام)، (قال ربیعة الرأی لأبی عبد الله(علیه السّلام): ما هؤلاء الإخوة الذین یأتونک من العراق ، ولم أر فی أصحابک خیراً منهم ولا أهیأ ؟ قال(علیه السّلام): أولئک أصحاب أبی ، یعنی وُلد أعیَن). (تاریخ آل زرارة لأبی غالب الزراری/6).

وتقدم کیف أبادت السلطة وأتباعها أحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والأئمة من عترته(علیهم السّلام)، وطاردت رواتها وصادرت مؤلفاتهم ! کما تقدم تسمیة أصحاب الإمامین الباقر والصادق(علیهماالسّلام)الذین أجمعت الطائفة علی تصدیقهم فقالوا: أفقه الأولین ستة: زرارة ومعروف بن خربوذ ، وبرید ، وأبو بصیر الأسدی ، والفضیل بن یسار ، ومحمد بن مسلم الطائفی . قالوا: وأفقه الستة: زرارة . وستة نفر من أصحاب الصادق: جمیل بن دراج ، وعبد الله بن مسکان ، وعبد الله بن بکیر ، وحماد بن عیسی وحماد بن عثمان وأبان بن عثمان. وهم أحدث أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام).

وکان(علیه السّلام)یحب تلامیذه من العلماء وطلبة العلم ، ویشکو من ضغوط السلطة الأمویة والعباسیة ومضایقاتهما ویقول لهم: (یا لیتنی وإیاکم بالطائف أحدثکم وتؤنسونی وأضمن لهم ألا نخرج علیهم أبداً). (رجال الکشی:2/652).

ویحث الناس علی طلب العلم ، ویقول: (إعرفوا منازل شیعتنا عندنا علی قدر

ص: 135

روایتهم عنا ، وفهمهم منا ، فإن الروایة تحتاج إلی الدرایة ، وخبر تدریه خیر من ألف خبر ترویه) . (الغیبة للنعمانی/29) .

ویبین فضل علماء الشیعة: (علماء شیعتنا مرابطون فی الثغر الذی یلی إبلیس وعفاریته ، یمنعونهم عن الخروج علی ضعفاء شیعتنا ، وعن أن یتسلط علیهم إبلیس وشیعته والنواصب . ألا فمن انتصب لذلک من شیعتنا کان أفضل ممن جاهد الروم والترک والخزر ، ألف ألف مرة ، لأنه یدفع عن أدیان محبینا ، وذلک یدفع عن أبدانهم ). ( الاحتجاج:1/8) .

5- لمحة عن عبادة الإمام الصادق(علیه السّلام)ومعجزاته

ستأتی شهادات أئمة المذاهب وکبار علمائهم فی الإمام الصادق(علیه السّلام) ، وعلمه وعبادته وکراماته(علیه السّلام)کقول مالک بن أنس: ( ما رأت عینی أفضل من جعفر بن محمد ، فضلاً وعلماً وورعاً ، وکان لا یخلو من إحدی ثلاث خصال: إما صائماً ، وإما قائماً ، وإما ذاکراً . وکان من عظماء البلاد ، وأکابر الزهاد الذین یخشون ربهم ). (مناقب آل أبی طالب:3/396) .

أما کراماته ومعجزاته(علیه السّلام)فتبلغ المئات ، وقد تضمن الکتاب عدداً منها وسیجئ بعضها فی سیرته(علیه السّلام)مع المنصور العباسی وغیره . قال الشعرانی فی لواقح الأنوار: (کان إذا احتاج إلی شئ قال: یا رباه أنا أحتاج إلی کذا ، فما یستتم دعاءه إلا وذلک الشئ بجنبه). (جامع کرامات الأولیاء للنبهانی:2/4).

وقال ابن الصباغ فی الفصول المهمة:2/913: (وأما مناقبه فتکاد تفوت من عد الحاسب ،ویحیر فی أنواعها فهم الیقظ الکاتب ، وقد نقل بعض أهل العلم أن کتاب الجفر بالمغرب الذی یتوارثه بنو عبد المؤمن بن علی هو من کلامه).

وفی الکافی:1/474 ، بسند صحیح ، قال أبو بصیر(رحمه الله): ( کان لی جار یتبع السلطان ،

ص: 136

فأصاب مالاً فأعدَّ قیاناً وکان یجمع الجمع ویشرب المسکر ویؤذینی ، فشکوته إلی نفسه غیر مرة فلم ینته ، فلما أن ألححت علیه قال لی: یا هذا أنا رجل مبتلی وأنت رجل معافی ، فلو عرضتنی لصاحبک رجوت أن ینقذنی الله بک ، فوقع ذلک فی قلبی ، فلما صرت إلی أبی عبد الله(علیه السّلام)ذکرت له حاله فقال لی: إذا رجعت إلی الکوفة سیأتیک فقل له: یقول لک جعفر بن محمد: دع ما أنت علیه وأضمن لک علی الله الجنة . فلما رجعت إلی الکوفة أتانی فیمن أتی فاحتبسته عندی حتی خلا منزلی ، ثم قلت له: یا هذا إنی ذکرتک لأبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)فقال لی: إذا رجعت إلی الکوفة سیأتیک فقل له: یقول لک جعفر بن محمد: دع ما أنت علیه وأضمن لک علی الله الجنة ، قال: فبکی ثم قال لی: آلله لقد قال لک أبو عبد الله هذا ؟ قال: فحلفت له أنه قد قال لی ما قلت ، فقال لی: حسبک ومضی . فلما کان بعد أیام بعث إلیَّ فدعانی فإذا هو خلف داره عریان ، فقال لی: یا أبا بصیر ، لا والله ما بقی فی منزلی شئ إلا وقد أخرجته ، وأنا کما تری !

قال: فمضیت إلی إخواننا فجمعت له ما کسوته به ، ثم لم تأت علیه إلا أیام یسیرة حتی بعث إلیَّ إنی علیل فأتنی ، فجعلت أختلف إلیه وأعالجه حتی نزل به الموت ، فکنت عنده جالساً وهو یجود بنفسه ، فغشی علیه غشیة ثم أفاق ، فقال لی: یا أبا بصیر قد وفی صاحبک لنا ، ثم قبض(رحمه الله) ! فلما حججت أتیت أبا عبد الله(علیه السّلام)فاستأذنت علیه فلما دخلت قال لی ابتداء من داخل البیت وإحدی رجلیَّ فی الصحن والأخری فی دهلیز داره: یا أبا بصیر قد وفینا لصاحبک ) !

أقول: کفی به مقاماً للإمام(علیه السّلام)عند ربه عز وجل أنه یضمن علیه الجنة ، ویخبر بما یکون من أمر ذلک المؤمن التائب من ذنوبه !

وقال محمد أبو زهرة فی تاریخ المذاهب الاسلامیة/713 ، یصف أخلاقه العالیة: (کان

ص: 137

سمحاً کریماً لا یقابل الإساءة بمثلها ، بل یقابلها بالتی هی أحسن: فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ. وکان یقول: إذا بلغک عن أخیک شئ یسوءک فلا تغتم فإنه إن کان کما تقول فیه القائل کانت عقوبة قد عُجِّلت ، وإن کان علی غیر ما یقول کانت حسنة لم یعلمها . وکان رفیقاً مع کل من یعامله من عشراء وخدم ، ویروی فی ذلک أنه بعث غلاماً له فی حاجة فأبطأ ، فخرج یبحث عنه فوجده نائماً فجلس عند رأسه وأخذ یروح له حتی انتبه فقال له: ما ذلک لک تنام اللیل والنهار ، لک اللیل ولنا النهار. بل إن التسامح والرفق لیبلغ به أن یدعو الله بغفران الإساءة لمن یسئ إلیه ).

6- الإمام الصادق(علیه السّلام)أبو المذاهب بشهادة

یعترف الجمیع بأن الإمام الصادق(علیه السّلام)أبو المذاهب الفقهیة وأستاذ أئمتها ! ویروون تعظیم أئمتها وعلمائها للإمام الصادق(علیه السّلام)!

1- قال ابن حجر فی الصواعق: ( ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان وانتشر صیته فی جمیع البلدان... روی عنه الأئمة الأکابر کیحیی بن سعید ، وابن جریح ، ومالک ، والسفیانین ، وأبی حنیفة ، وشعبة ، وأیوب) .

2- قال الشیخ محمد أبو زهرة: (لا نستطیع فی هذه العجالة أن نخوض فی فقه الإمام جعفر ، فإنّ أُستاذ مالک وأبی حنیفة وسفیان بن عیینة ، لا یمکن أن یدرس فقهه فی مثل هذه الإلمامة) . (موسوعة أصحاب الفقهاء:2/30).

3- قال ابن أبی الحدید: (أما أصحاب أبی حنیفة فأخذوا عن أبی حنیفة ، وأما الشافعی فهو تلمیذ تلمیذ أبی حنیفة ، وأما ابن حنبل فهو تلمیذ الشافعی . وأبو حنیفة قرأ علی جعفر الصادق وعلمه ینتهی إلی علم جده علی(علیه السّلام)).

ص: 138

4 - قال الإمام مالک بن أنس: (ما رأت عینی أفضل من جعفر بن محمد ، فضلاً وعلماً وورعاً وکان لا یخلو من إحدی ثلاث خصال: إما صائماً ، وإما قائماً ، وإما ذاکراً . وکان من عظماء البلاد ، وأکابر الزهاد الذین یخشون ربهم ، وکان کثیر الحدیث طیب المجالسة کثیر الفوائد ، فإذا قال: قال رسول الله ، اخْضَرَّ مرةً واصْفَرَّ أخری حتی لینکره من لا یعرفه ). (مناقب آل أبی طالب:3/396) .

وقال مالک أیضاً: ( اختلفتُ إلی جعفر بن محمد زماناً ، وما کنت أراه إلا علی ثلاث خصال: إما مصل ، وإما صائم ، وإما یقرأ القرآن ، وما رأیته یحدِّث عن رسول الله (ص) إلا علی طهارة . وکان لا یتکلم فیما لا یعنیه ، وکان من العلماء العباد الزهاد الذین یخشون الله ، ولقد حججت معه سنة ، فلما أتی الشجرة أحرم فکلما أراد أن یُهِلَّ کاد یغشی علیه فقلت له: لا بد لک من ذلک ، وکان یکرمنی وینبسط إلی ، فقال: یا أبن أبی عامر إنی أخشی أن أقول لبیک اللهم لبیک ، فیقول: لا لبیک ولا سعدیک ! قال مالک: ولقد أحرم جده علی ابن حسین ، فلما أراد أن یقول اللهم لبیک أو قالها ، غُشِیَ علیه وسقط عن ناقته). (التمهید لابن عبد البر:2/67، وبعضه تهذیب التهذیب:2/88).

ولو سألت مالکاً: ما دامت هذه عقیدتک فی أستاذک ، فلماذا أسست مذهباً ضده ولماذا لم ترو عنه فی کتابک الموطأ إلا خمسة أحادیث ؟!

فلا جواب له إلا أن المنصور العباسی أمره بذلک ، والمأمور معذور !

9- ترجم الحافظ أبی نعیم إمام الأئمة فی حلیة الأولیاء:3/192، للإمام الصادق(علیه السّلام) بتفصیل ، وروی موقفه من أبی حنیفة وقیاسه ، قال: ( الإمام الناطق ذو الزمام السابق ، أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق ، أقبل علی العبادة والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ، ونهی عن الرئاسة والجموع... مالک بن أنس قال: لما قال سفیان

ص: 139

الثوری: لا أقوم حتی تحدثنی ! قال له: أنا أحدثک ، وما کثرة الحدیث لک بخیر...

عن الهیاج بن بسطام قال: کان جعفر بن محمد یطعم حتی لا یبقی لعیاله شئ..

کان من دعاء جعفر بن محمد: اللهم أعزنی بطاعتک ، ولا تخزنی بمعصیتک . اللهم ارزقنی مواساة من قتَّرْتَ علیه رزقه ، بما وسعت علیَّ من فضلک..

هشام بن عباد قال: سمعت جعفر بن محمد یقول: الفقهاء أمناء الرسل ، فإذا رأیتم الفقهاء قد رکبوا الی السلاطین فاتهموهم...

الأصمعی قال: قال جعفر بن محمد: الصلاة قربان کل تقی . والحج جهاد کل ضعیف . وزکاة البدن الصیام . والداعی بلا عمل کالرامی بلا وتر...الخ.

نصر بن کثیر قال: دخلت أنا وسفیان الثوری علی جعفر بن محمد فقلت: إنی أرید البیت الحرام فعلمنی شیئاً أدعو به ، فقال: إذا بلغت البیت الحرام فضع یدک علی الحائط ثم قل یا سابق الفوت یا سامع الصوت ویا کاسیَ العظام لحماً بعد الموت ، ثم ادع بما شئت .

أحمد بن عمرو بن المقدام الرازی قال: وقع الذباب علی المنصور فذبه عنه فعاد فذبه حتی أضجره ، فدخل جعفر بن محمد علیه فقال له المنصور: یا أبا عبدالله لم خلق الله الذباب؟ قال: لیُذَلَّ به الجبابرة !..

یحیی بن الفرات قال: قال جعفر بن محمد لسفیان الثوری: لا یتم المعروف إلا بثلاثة بتعجیله وتصغیره وستره..

روی عن جعفر عدة من التابعین منهم: یحیی بن سعید الأنصاری ، وأیوب السختیانی ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمرو بن العلاء ، ویزید بن عبدالله بن الهاد ، وحدث عنه من الأئمة والأعلام: مالک بن أنس ، وشعبة بن الحجاج ، وسفیان الثوری ، وابن جریج ، وعبدالله بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفیان بن عیینة

ص: 140

وسلیمان بن بلال ، وإسماعیل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعیل ، وعبدالعزیز بن المختار ، ووهب بن خالد ، وإبراهیم بن طهمان .. فی آخرین . وأخرج عنه مسلم بن الحجاج فی صحیحه محتجاً بحدیثه .

ثم روی عنه(علیه السّلام)عدة أحادیث، منها: یحیی بن العلاء عن جعفر بن محمد ، عن أبیه ، عن جابر قال: جاء أعرابی الی النبی(ص) فقال: یا محمد ، أعرض علیَّ الاسلام ، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له ، وأن محمداً عبده ورسوله . قال: تسألنی علیه أجراً؟ قال: لا ، إلا المودة فی القربی . قال: قربایَ أو قرباک ؟ قال: قربای . قال: هات أبایعک ، فعلی من لا یحبک ولا یحب قرباک لعنة الله ! قال(ص): آمین .

ومنها، عن جابر أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال لعلی(علیه السّلام): سلام علیک أبا الریحانتین أوصیک بریحانتی من الدنیا خیراً ، فعن قلیل ینهد رکناک والله خلیفتی علیک !

عبدالله بن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنیفة علی جعفر بن محمد فقال لابن أبی لیلی لیلی: من هذا معک؟ قال: هذا رجل له بصر ونفاذ فی أمر الدین . قال: لعله

یقیس أمر الدین برأیه؟قال: نعم . قال فقال جعفر لأبی حنیفة: ما اسمک؟ قال نعمان ، قال: یا نعمان هل قست رأسک بعد؟ قال کیف أقیس رأسی؟ قال: ما أراک تحسن شیئاً، هل علمت ما الملوحة فی العینین والمرارة فی الأذنین والحرارة فی المنخرین والعذوبة فی الشفتین؟ قال: لا . قال: ما أراک تحسن شیئاً ، قال: فهل علمت کلمة أولها کفر وآخرها إیمان؟ فقال: ابن أبی لیلی: یا ابن رسول الله أخبرنا بهذه الأشیاء التی سألته عنها ! فقال: أخبرنی أبی عن جدی أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال إن الله تعالی بمنه وفضله جعل لابن آدم الملوحة فی العینین لأنهما شحمتان ولولا ذلک لذابتا ، وإن الله تعالی بمنه وفضله ورحمته علی ابن آدم جعل

ص: 141

المرارة فی الأذنین حجاباً من الدواب فإن دخلت الرأس دابة والتمست الی الدماغ فإذا ذاقت المرارة التمست الخروج ، وإن الله تعالی بمنه وفضله ورحمته علی ابن آدم جعل الحرارة فی المنخرین یستنشق بهما الریح ولولا ذلک لأنتن الدماغ ، وإن الله تعالی بمنه وکرمه ورحمته لابن آدم جعل العذوبة فی الشفتین یجد بهما استطعام کل شئ ویسمع الناس بها حلاوة منطقه . قال: فأخبرنی عن الکلمة التی أولها کفر وآخرها إیمان . فقال: إذا قال العبد لا إله فقد کفر ، فإذا قال إلا الله فهو إیمان . ثم أقبل علی أبی حنیفة فقال: یا نعمان حدثنی أبی عن جدی أن رسول الله(ص)قال: أول من قاس أمر الدین برأیه إبلیس قال الله تعالی له اسجد لآدم ، فقال: أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ. فمن قاس الدین برأیه قرنه الله تعالی یوم القیامة بإبلیس لأنه اتبعه بالقیاس ! زاد ابن شبرمة فی حدیثه: ثم قال جعفر: أیهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال قتل النفس. قال: فإن الله عز وجل قبل فی قتل النفسس شاهدین ولم یقبل فی الزنا إلا أربعة ، ثم قال: أیهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة ، قال: فما بال الحائض تقضی الصوم ولا تقضی الصلاة ؟ فکیف ویحک یقوم لک قیاسک ؟! إتق الله ولا تقس الدین برأیک) !

5- وسئل أبو حنیفة: ( من أفقه من رأیت؟ قال: جعفر بن محمد ، لمَّا أقدمه المنصور بعث إلیَّ فقال: یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهئ له مسائلک الشداد ، فهیأت له أربعین مسألة ، ثم بعث إلیَّ أبو جعفر وهو بالحیرة فأتیته فدخلت علیه وجعفر جالس عن یمینه ، فلما بصرت به دخلنی من الهیبة لجعفر ما لم یدخلنی لأبی جعفر ، فسلمت علیه فأومأ إلی فجلست ، ثم التفت إلیه فقال: یا أبا عبد الله هذا أبو حنیفة فقال: نعم أعرفه . ثم التفت إلیَّ فقال: ألق علی أبی عبد الله من مسائلک ، فجعلت ألقی علیه ویجیبنی فیقول: أنتم تقولون وکذا ،

ص: 142

وأهل المدینة یقولون کذا ، ونحن نقول کذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعهم، وربما خالفنا جمیعاً ، حتی أتیت علی الأربعین مسألة فما أخل منها بشئ ! ثم قال أبو حنیفة: ألیس قد روینا: أعلم الناس ، أعلمهم باختلاف الناس). (مناقب آل أبی طالب:3/378 ، وتهذیب الکمال:5/79، وسیر الذهبی:6/258، وکامل ابن عدی:2/132، وغیرها).

(جاء أبو حنیفة لیسمع منه ، وخرج أبو عبد الله یتوکأ علی عصا فقال له أبو حنیفة: یا ابن رسول الله ما بلغت من السن ما تحتاج معه إلی العصا ! قال: هو کذلک ، ولکنها عصا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أردت التبرک بها ، فوثب أبو حنیفة وقال له: أقبِّلُها یا ابن رسول الله؟ فحسر أبو عبد الله عن ذراعه وقال له: والله لقد علمت أن هذا بَشَرُ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأن هذا من شعره ، فما قبلته وتقبل عصاه) ! (المناقب:3/372).

ولو سألت أبا حنیفة: ما دامت هذه عقیدتک فی أستاذک ، فلماذا أسست مذهباً ضده ، وخالفت فقه من تعترف بأنه أفقه الناس وأعلم الناس؟!

فلا جواب له ، إلا أن یقول إن قلبه أشرب حب ذلک ثم شجعه المنصور !

ورویَ أن أم أبی حنیفة کانت أمَة الإمام الصادق(علیه السّلام)ففی المناقب:3/372: (قال أبو عبد الله المحدث فی رامش أفزای إن أبا حنیفة من تلامذته ، وإن أمه کانت فی حبالة الصادق(علیه السّلام)...قال: وکان أبو زید البسطامی طیفور السقاء خادمه وسقاءه ثلاث عشرة سنة . قال أبو جعفر الطوسی: کان إبراهیم بن أدهم ومالک بن دینار من غلمانه). والبحار:3/373 .

6- وقال الإربلی فی کشف الغمة:2/367: (قال کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی: هو من عظماء أهل البیت وساداتهم ، ذو علم جم ، وعبادة موفورة ، وأوراد متواصلة وزهادة بینة ، وتلاوة کثیرة ، یتتبع معانی القرآن الکریم ویستخرج من بحره جواهره ، ویستنتج عجائبه ، ویقسم أوقاته علی أنواع الطاعات

ص: 143

بحیث یحاسب علیها نفسه . رؤیته تذکر الآخرة ، واستماع کلامه یزهد فی الدنیا ، والإقتداء بهداه یورث الجنة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة ، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّیة الرسالة . نقل عنه الحدیث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمّة وأعلامهم ، مثل یحیی بن سعید الأنصاری ، وابن جریج ، ومالک بن أنس ، والثوری ، وابن عیینة ، وأبی حنیفة ، وشعبة ، وأیوب السجستانی وغیرهم ، وعدوا أخذهم منه منقبة شرفوا بها وفضیلة اکتسبوها . إلی أن قال: وأما مناقبه وصفاته فتکاد تفوق عدد الحاصر ، ویحار فی أنواعها فهم الیقظ الباصر ، حتی أنه من کثرة علومه المفاضة علی قلبه من سجال التقوی ، صارت الأحکام التی لا تدرک عللها، والعلوم التی تقصر الأفهام عن الإحاطة بحکمها، تضاف إلیه وتروی عنه).

7- وقال الإیجی فی المواقف:3/638: (وهما سیدا شباب أهل الجنة کما ورد فی الحدیث ، ثم أولاد أولاده ممن اتفق الأنام علی فضلهم علی العالمین ، حتی کان أبو یزید (البسطامی) مع علو طبقته سقاء فی دار جعفر الصادق رضی الله عنه . وکان معروف الکرخی بواب دار علی بن موسی الرضا ، هذا مما لا شبهة فی صحته ، فإن معروفاً کان صبیاً نصرانیاً فأسلم علی ید علی بن موسی وکان یخدمه ، وأما أبو یزید فلم یدرک جعفراً بل هو متأخر عن معروف ، ولکنه کان یستفیض من روحانیة جعفر). والطرائف فی معرفة مذاهب الطوائف/520.

8- (عن عمرو بن أبی المقدام قال: کنت إذا نظرت إلی جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبیین ! قد رأیته واقفاً عند الجمرة یقول: سلونی ، سلونی . وعن صالح بن أبی الأسود ، سمعت جعفر بن محمد یقول: سلونی قبل أن تفقدونی ، فإنه لا یحدثکم أحد بعدی بمثل حدیثی) ! (سیر الذهبی:6/257) .

ص: 144

7- أصحاب وتلامیذ خاصون للإمامین الباقر والصادق(علیه السّلام)

أ- جابر بن یزید الجعفی(رحمه الله)

اشارة

الأصحاب الخاصون ظاهرةٌ عامةٌ عند الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام)، وقد ذکرنا لها نماذج من أصحاب نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أبا ذر ، وعمرو بن الحمق الخزاعی ، فی المجلد الثانی من هذا الکتاب . ونذکر فیما یلی بعض أصحاب الإمامین الباقر والصادق(علیهماالسّلام) ، یتمیز الواحد منهم بشخصیته ، أو برنامجه ، أو ظروفه ومهمته .

من هؤلاء جابر بن یزید الجعفی(رحمه الله)، قالوا فی ترجمته: ( أبو محمد الجعفی عربی قدیم . نسبه: ابن الحرث بن عبد یغوث بن کعب بن الحرث بن معاویة بن وائل بن مرار بن جعفی ، لقی أبا جعفر وأبا عبد الله(علیهماالسّلام)). (النجاشی/128).

درس عند الإمام الباقر(علیه السّلام)18سنة ، وکان حاجبه الخاص

قال جابر(رحمه الله): (دخلت علی أبی جعفر(علیه السّلام)وأنا شاب فقال: من أنت؟ قلت: من أهل الکوفة ، قال: ممن؟ قلت: من جعف ، قال: ما أقدمک إلی المدینة ؟ قلت: طلب العلم ، قال: ممن؟ قلت منک ، قال فإذا سألک أحد من أین أنت ، فقل من أهل المدینة . قال: قلت أسألک قبل کل شئ عن هذا ، أیحل لی أن أکذب ؟ قال: لیس هذا بکذب من کان فی مدینة فهو من أهلها حتی یخرج ). (معجم السید الخوئی:4/336). وکان جابر(علیه السّلام)بواباً عند الإمام الصادق(علیه السّلام). (الدر النظیم/603).

وفی أمالی الطوسی/296: (خدمت سیدنا الإمام أبا جعفر محمد بن علی(علیهم السّلام) ثمانی عشرة سنة ، فلما أردت الخروج ودعته وقلت: أفدنی . فقال: بعد ثمانی عشرة سنة یا جابر ! قلت نعم إنکم بحر لا ینزف ولا یبلغ قعره . فقال: یا جابر ،

ص: 145

بلغ شیعتی عنی السلام وأعلمهم أنه لا قرابة بیننا وبین الله عز وجل ، ولا یتقرب إلیه إلا بالطاعة له . یا جابر ، من أطاع الله وأحبنا فهو ولینا ، ومن عصی الله لم ینفعه حبنا . یا جابر ، من هذا الذی یسأل الله فلم یعطه ، أو توکل علیه فلم یکفه ، أو وثق به فلم ینجه ! یا جابر ،

أنزل الدنیا منک کمنزل نزلته ترید التحویل عنه ، وهل الدنیا إلا دابة رکبتها فی منامک فاستیقظت وأنت علی فراشک غیر راکب ولا أخذ بعنانها ، أو کثوب لبسته أو کجاریة وطأتها ! یا جابر ، الدنیا عند ذوی الألباب کفئ الظلال . لا إله إلا الله إعزاز لأهل دعوته . الصلاة تثبیت للاخلاص وتنزیه عن الکبر . والزکاة تزید فی الرزق . والصیام والحج تسکین القلوب . القصاص والحدود حقن الدماء . وحبنا أهل البیت نظام الدین . جعلنا الله وإیاکم من الذین یخشون ربهم بالغیب وهم من الساعة مشفقون).

کان مؤتمناً علی أسرار الأئمة(علیهم السّلام)، بمنزلة سلمان الفارسی(رحمه الله)

قال ذریح: (سألت أبا عبد الله(علیه السّلام)عن جابر الجعفی وما روی؟ فلم یجبنی، فسألته الثالثة فقال لی: یا ذریح دع ذکر جابر ، فإن السفلة إذا سمعوا بأحادیثه شنَّعوا... قال(رحمه الله)حدثنی أبو جعفر بسبعین ألف حدیث..الخ. (رجال الطوسی:2/438 ) .

وفی الکافی:8/157: (عن جابر بن یزید قال: حدثنی محمد بن علی سبعین حدیثاً لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحداً أبداً ، فلما مضی محمد بن علی ثقلت علی عنقی وضاق بها صدری ، فأتیت أبا عبد الله فقلت: جعلت فداک إن أباک حدثنی سبعین حدیثاً لم یخرج منی شیئاً منها ولا یخرج شئ منها إلی أحد ، وأمرنی بسترها وقد ثقلت علی عنقی وضاق بها صدری فما تأمرنی؟ فقال: یا جابر إذا ضاق بک من ذلک شئ فأخرج إلی الجبانة واحتفر حفیرة ثم دلِّ رأسک فیها وقل: حدثنی محمد بن علی بکذا وکذا ، ثم طُمَّهُ فإن الأرض تستر علیک ! قال:

ص: 146

جابر ففعلت ذلک فخف عنی ما کنت أجده).

وروی الصدوق فی الإختصاص/216 أن المفضل سأل الإمام الصادق(علیه السّلام): (یا ابن رسول الله فما منزلة جابر بن یزید منکم؟ قال: منزلة سلمان من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: فما منزلة داود بن کثیر الرقی منکم؟ قال: منزلة المقداد من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )).

أقول: جاء فی حدیث رجال الطوسی(رحمه الله)الباقر

عدد سبعین ألف حدیث ، وفی الکافی سبعین حدیثاً ، وقد یکون تصحیفاً ، وقد تکون هذه السبعین غیرها .

کان صاحب کرامات ومعجزات

فقد روت المصادر له عدة کرامات ومعجزات منها: (جاء قوم إلی جابر الجعفی فسألوه أن یعینهم فی بناء مسجدهم فقال: ما کنت بالذی أعین فی بناء شئ یقع منه رجل مؤمن فیموت ، فخرجوا من عنده وهم یبخلونه ویکذبونه ، فلما کان من الغد أتموا الدراهم ووضعوا أیدیهم فی البناء ، فلما کان عند العصر ، زلت قدم البناء فوقع فمات ! العلاء بن شریک رجل من جعفی ، قال: خرجت مع جابر لما طلبه هشام حتی انتهی إلی السواد قال: فبینا نحن قعود وراع قریب منا ، إذ لعبت نعجة من شاته إلی حمل فضحک جابر ، قلت له: ما یضحکک یا أبا محمد؟ قال: إن هذه النعجة دعت حملها ، فلم یجئ . فقالت له: تنح عن ذلک الموضع فإن الذئب عام أول أخذ أخاک منه . فقلت: لأعلمن حقیقة هذا أو کذبه ! فجئت إلی الراعی فقلت: یا راعی تبیعنی هذا الحمل . قال: فقال: لا. فقلت ولمَ؟ قال: لان أمه أفْرَهُ شاة فی الغنم وأغزرها درَّة ، وکان الذئب أخذ حملاً لها عند عام الأول من ذلک الموضع فما رجع لبنها ، حتی وضعت هذا: فدرَّت . فقلت: صدق . ثم أقبلت فلما صرت علی جسر الکوفة نظر إلی رجل معه خاتم یاقوت فقال له یا فلان

ص: 147

خاتمک هذا البراق أرنیه . قال: فخلعه فأعطاه ،

فلما صار فی یده رمی به فی الفرات ! قال الآخر: ما صنعت ؟ قال: تحب أن تأخذه ؟ قال: نعم فقال بیده إلی الماء ، فأقبل الماء یعلو بعضه علی بعض حتی إذا قرب تناوله وأخذه !...

عن عروة بن موسی قال: کنت جالساً مع أبی مریم الحناط وجابر عنده جالس ، فقام أبو مریم فجاء بدورق من ماء بئر مبارک بن عکرمة فقال له جابر: ویحک یا أبا مریم ، کأنی بک قد استغنیت عن هذه البئر واغترفت من هاهنا من ماء الفرات... یجری فیه ماء الفرات فتخرج المرأة الضعیفة والصبی ، فیغترف منه ، ویجعل له أبواب فی بنی رواس وفی بنی موهبة وعند بئر بنی کندة ، وفی بنی فزارة حتی تتغامس فیه الصبیان ، قال علی: إنه قد کان ذلک). (معجم السید الخوئی:4/344).

ألَّفَ جابر کتباً رواها العلماء ، وألف بعضهم کتاباً فی أخباره

فی معجم السید الخوئی:4/336: ( له کتب ، منها التفسیر ، أخبرناه أحمد بن محمد... وله کتاب النوادر...وله کتاب الفضائل...وکتاب الجمل ، وکتاب صفین ، وکتاب النهروان ، وکتاب مقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام) وکتاب مقتل الحسین(علیه السّلام) روی هذه الکتب: الحسین بن الحصین العمِّی.. وقال القتیبی: هو من الأزد . وعده المفید فی رسالته العددیة ممن لا مطعن فیهم ولا طریق لذم واحد منهم . وعده ابن شهرآشوب من خواص أصحاب الصادق(علیه السّلام).. وقال العلامة فی الخلاصة.. إن الصادق(علیه السّلام)ترحم علیه وقال: إنه کان یصدق علینا.). ورجال النجاشی/129 ، وقال فی/85 فی ترجمة أحمد بن محمد الجوهری/85: ( له کتب ، منها: کتاب مقتضب الأثر فی عدد الأئمة الإثنی عشر.. ، کتاب أخبار جابر الجعفی ) .

وثَّقَهُ کبار علمائنا وعظموه

قال السید الخوئی(قدسّ سرّه)فی معجمه:4/344: (الذی ینبغی أن یقال: أن الرجل لابد من عده من الثقات الأجلاء لشهادة علی بن إبراهیم والشیخ المفید فی رسالته العددیة

ص: 148

وشهادة ابن الغضائری علی ما حکاه العلامة، ولقول الصادق(علیه السّلام)فی صحیحة زیاد إنه کان یصدق علینا . ولا یعارض ذلک قول النجاشی إنه کان مختلطاً... فإن فساد العقل لو سُلِّم فی جابر ولم یکن تجنناً.. لا ینافی الوثاقة ولزوم الأخذ بروایاته حین اعتداله وسلامته... إذن لا تکون الموثقة معارضة للصحیحة الدالة علی صدقه فی الأحادیث والمؤیدة بما تقدم من الروایات الدالة علی جلالته ومدحه وأنه کان عنده من أسرار أهل البیت(علیهم السّلام).. ثم إن النجاشی ذکر أنه قل ما یورد عنه شئ فی الحلال والحرام ، وهذا منه غریب ، فإن الروایات عنه فی الکتب الأربعة کثیرة رواها المشایخ..).

أقول: یتضح بذلک أن النجاشی(رحمه الله)لم یطلع علی أحادیث جابر(رحمه الله)، مضافاً الی تسرعه فی التضعیف ، وأن سبب تضعیف جابر الجعفی(رحمه الله)انتقاد السنیین لأحادیثه الثقیلة ،وقد تأثر بهم بعض الشیعة حتی سألوا عنها الإمام الصادق(علیه السّلام)، ففی الإرشاد/204: ( اختلف أصحابنا فی أحادیث جابر الجعفی) فکان موقفه(علیه السّلام)صریحاً قویاً فی مدح جابر وتصدیق أحادیثه ، فقال کما صحیحة زیاد: (رحم الله جابر الجعفی کان یصدق علینا ). (البصائر/258). وبعد ثبوت شهادة المعصوم(علیه السّلام)لانحتاج الی شهادة غیره لأنها لاتزید عن إضاءة السراج أمام ضوء الشمس !

وأما ما قیل عن اختلاطه أو جنونه، فإن(جنون جابر)(رحمه الله)خیر من عقل الکثیرین !

وأما وصف الإمام الصادق(علیه السّلام)لمن ینکر أحادیث جابر بأنهم (سفلة): (لا تحدث به السفلة فیذیعونه ) . (دع ذکر جابر فإن السفلة إذا سمعوا بأحادیثه شنَّعوا أو أذاعوا). (رجال الطوسی:2/436 ، و439) . فمعناه سفالة مستواهم العقلی أو الروحی عن استیعاب معجزات الأئمة(علیهم السّلام)ومقاماتهم ! لتأثرهم الشدید بالمادیات ، أو بموقف رواة الحکومة القرشیة ! وکم کنت أتأسف لبعض أستاتذتنا عندما کان ینتقد جابر(رحمه الله) ولا یحب أحادیثه ویقول إنها یغلب علیها الغیبیات ! مع أن هذا الکلام یمکن قوله للقرآن وأحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فحجم الغیب فیها أکبر من الشهادة !

ص: 149

تحیَّرَ علماء الحکومات فی جابر بین مادح وذام

قال مسلم فی صحیحه:1/15: (الجراح بن ملیح یقول: سمعت جابراً یقول عندی سبعون ألف حدیث عن أبی جعفر عن النبی(ص) کلها ! سمعت جابراً یقول: إن عندی لخمسین ألف حدیث ما حدثت منها بشئ ، قال ثم حدث یوماً بحدیث فقال: هذا من الخمسین ألفاً.. حدثنا سفیان قال: سمعت رجلاً سأل جابراً عن قوله عز وجل: فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّی یَأْذَنَ لِی أَبِی أَوْ یَحْکُمَ اللهُ لِی وَهُوَ خَیْرُ الْحَاکِمِینَ ، فقال جابر: لم یجئ تأویل هذه . قال سفیان: وکذب . فقلنا لسفیان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول إن علیاً فی السحاب ، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتی ینادی مناد من السماء یرید علیاً أنه ینادی أخرجوا مع فلان . یقول جابر: فذا تأویل هذه الآیة وکذب ، کانت فی إخوة یوسف . حدثنا سفیان قال: سمعت جابراً یحدث بنحو من ثلاثین ألف حدیث ما أستحل أن أذکر منها شیئاً وأن لی کذا وکذا) . وترجم له ابن حجر فی تهذیب التهذیب:2/41 ، بتفصیل فقال: (أبو داود والترمذی وابن ماجة) جابر بن یزید بن الحارث بن عبد یغوث الجعفی ، أبو عبد الله ، ویقال أبو یزید الکوفی ، روی عن أبی الطفیل وأبی الضحی وعکرمة وعطاء وطاوس وخیثمة والمغیرة بن شبیل وجماعة ، وعنه شعبة والثوری وإسرائیل والحسن بن حی وشریک ومسعر ومعمر وأبو عوانة وغیرهم . قال أبو نعیم: عن الثوری: إذا قال جابر حدثنا وأخبرنا فذاک . وقال ابن مهدی عن سفیان: ما رأیت أورع فی الحدیث منه . وقال بن علیة: عن شعبة: جابر صدوق فی الحدیث . وقال یحیی بن أبی بکیر عن شعبة: کان جابر إذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس . وقال بن أبی بکیر أیضاً عن زهیر بن معاویة: کان إذا قال سمعت أو سألت فهو من أصدق الناس . وقال وکیع: مهما شککتم فی شئ فلا تشکوا فی أن جابراً

ص: 150

ثقة . حدثنا عنه مسعر وسفیان وشعبة وحسن بن صالح .

وقال بن عبد الحکم: سمعت الشافعی یقول قال سفیان الثوری لشعبة: لئن تکلمت فی جابر الجعفی لأتکلمن فیک !

وقال معلی بن منصور :وقال لی أبو عوانة کان سفیان وشعبة ینهیانی عن جابر الجعفی وکنت أدخل علیه فأقول: من کان عندک؟ فیقول شعبة وسفیان !

وقال وکیع: قیل لشعبة: لما طرحت فلاناً وفلاناً ورویت عن جابر؟ قال: لأنه جاء بأحادیث لم نصبر عنها ! وقال الدوری عن بن معین: لم یَدَعْ جابراً ممن رآه إلا زائدة ، وکان جابر کذاباً . وقال فی موضع آخر: لا یکتب حدیثه ولا کرامة . وقال بیان بن عمرو عن یحیی بن سعید: ترکنا حدیث جابر قبل أن یقدم علینا الثوری .

وقال یحیی بن سعید عن إسماعیل بن أبی خالد: وقال الشعبی لجابر: یا جابر لا تموت حتی تکذب علی رسول الله (ص) . قال إسماعیل: فما مضت الأیام واللیالی حتی اتهم بالکذب ! وقال یحیی بن یعلی: قیل لزائدة :ثلاثة لم لا تروی عنهم: أبن أبی لیلی وجابر الجعفی والکلبی؟قال: أما الجعفی فکان والله کذاباً یؤمن بالرجعة وقال أبو یحیی الحمانی عن أبی حنیفة: ما لقیت فیمن لقیت أکذب من جابر الجعفی ، ما أتیته بشئ من رأیی إلا جاءنی فیه بأثر ، وزعم أن عنده ثلاثین ألف حدیث لم یظهرها ! وقال عمرو بن علی: کان یحیی وعبد الرحمن لا یحدثان عنه کان عبد الرحمن یحدثنا عنه قبل ذلک ثم ترکه . وقال أحمد بن حنبل: ترکه یحیی وعبد الرحمن . وقال محمد بن بشار عن ابن مهدی: ألا تعجبون من سفیان بن عیینة ، لقد ترکت لجابر الجعفی لما حکی عنه أکثر من ألف حدیث ، ثم هو یحدث عنه ! وقال النسائی: متروک الحدیث وقال فی موضع آخر: لیس بثقة ولا یکتب حدیثه . وقال الحاکم أبو أحمد: ذاهب الحدیث . وقال بن عدی: له

ص: 151

حدیث صالح . وشعبة أقل روایة عنه من الثوری وقد احتمله الناس وعامة ما قذفوه به أنه کان یؤمن بالرجعة ، وهو مع هذا إلی الضعف أقرب منه إلی الصدق . روی له أبو داود فی السهو فی الصلاة حدیثاً واحداً من حدیث المغیرة بن شعبة ، وقال عقبة: لیس فی کتابی عن جابر الجعفی غیره . وقال أبو موسی محمد بن المثنی: مات سنة 128 . قلت: وذکر مطین عن مفضل بن صالح: مات سنة127. وقال بن أبی خیثمة عن یحیی بن معین: مات سنة 132 . وقال سلام بن أبی مطیع: قال لی جابر الجعفی: عندی خمسون ألف باب من العلم ما حدثت به أحداً . فأتیت أیوب فذکرت هذا له فقال: أما الآن فهو کذاب . وقال جریر بن عبد الحمید عن ثعلبة: أردت جابر الجعفی فقال لی لیث بن أبی سلیم: لا تأته فهو کذاب . قال جریر: لا أستحل أن أروی عنه ، کان یؤمن بالرجعة . وقال أبو داود: لیس عندی بالقوی فی حدیثه . وقال أبو الأحوص: کنت إذا مررت بجابر الجعفی سألت ربی العافیة . وقال الشافعی: سمعت سفیان بن عیینة یقول: سمعت من جابر الجعفی کلاماً فبادرت خفت أن یقع علینا السقف ! قال سفیان: کان یؤمن بالرجعة وقال إبراهیم الجوزجانی: کذاب . وقال إسحاق بن موسی: سمعت أبا جمیلة یقول: قلت لجابر الجعفی: کیف تسلم علی المهدی؟ قال: إن قلت لک کفرت . وقال الحمیدی عن سفیان: سمعت رجلاً سأل جابر الجعفی عن قوله: فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّی یَأْذَنَ لِی أَبِی.. قال: لم یجئ تأویلها بعد . قال سفیان: کذب . قلت ما أراد بهذا قال الرافضة تقول إن علیاً فی السماء لا یخرج من ولده حتی ینادی من السماء أخرجوا مع فلان ، یقول جابر: هذا تأویل هذا . وقال الحمیدی أیضاً: سمعت رجلاً یسأل سفیان: أرأیت یا أبا محمد الذین عابوا علی جابر الجعفی قوله حدثنی وصی الأوصیاء ؟ فقال سفیان: هذا أهونه ! وقال شبابة عن ورقاء عن جابر:

ص: 152

دخلت علی أبی جعفر الباقر فسقانی فی قعب حسائی حفظت به أربعین ألف حدیث ! وقال یحیی بن یعلی: سمعت زائدة یقول: جابر الجعفی رافضی یشتم أصحاب النبی ! وقال ابن سعد: کان یدلس وکان ضعیفاً جداً فی رأیه وروایته . وقال العقیلی فی الضعفاء: کذبه سعید بن جبیر . وقال العجلی: کان ضعیفاً یغلو فی التشیع وکان یدلس . وقال الساجی فی الضعفاء: کذبه بن عیینة . وقال المیمونی: قلت لأحمد بن خداش: أکان جابر یکذب؟ قال إی والله وذاک فی حدیثه بیِّن . وقال ابن قتیبة فی کتابه مشکل الحدیث: کان جابر یؤمن بالرجعة ، وکان صاحب نیرنجات وشبه . وقال عثمان بن أبی شیبة: حدثنی أبی عن جدی قال: کنت آتیه فی وقت لیس فیه فاکهة ولا قثاء ولا خیار فیذهب إلی بسیتین له فی داره فیجئ بقثاء وخیار فیقول: کلْ ، فوالله ما زرعته ! وقال أبو العرب الصقلی فی الضعفاء: سئل شریک عن جابر فقال: ما له العدل الرضی ومد بها صوته ؟! وقال أبو العرب: خالف شریک الناس فی جابر . وقال الشعبی لجابر ولداود بن یزید: لو کان لی علیکما سلطان ثم لم أجد إلا الإبر لشککتکما بها ! وقال أبو بدر: کان جابر یهیج به فی السنة مرة فیهذی ویخلط فی الکلام ، فلعل ما حکی عنه کان فی ذلک الوقت ! وخرج أبو عبید فی فضائل القرآن: حدیث الأشجعی عن مسعر ثنا جابر قبل أن یقع فیما وقع فیه . قال الأشجعی: ما کان من تغیر عقله . وقال أبو أحمد الحاکم: یؤمن بالرجعة ، اتهم بالکذب وذکره یعقوب بن سفیان فی باب من یرغب الروایة عنهم . وقال بن حبان: کان سبائیاً من أصحاب عبد الله بن سبأ ، وکان یقول إن علیاً یرجع إلی الدنیا ! فإن احتج محتج بأن شعبة وغیره والثوری رویا عنه قلنا: الثوری لیس من مذهبه ترک الروایة عن الضعفاء ، وأما شعبة وغیره فرأوا عنده أشیاء لم یصبروا عنها وکتبوها لیعرفوها ، فربما ذکر أحدهم عنه الشئ

ص: 153

بعد الشئ علی جهة التعجب ! وأخبرنی بن فارس قال: ثنا محمد بن رافع قال: رأیت أحمد بن حنبل فی مجلس یزید بن هارون معه کتاب زهیر عن جابر الجعفی ، فقلت له: یا أبا عبد الله تنهونا عن جابر وتکتبونه ؟! قال: لنعرفه . وقال المیمونی: سمعت أحمد یقول: کان بن مهدی والقطان لا یحدثان عن جابر بشئ وکان أهل ذلک . وقال الأثرم: قلت لأحمد کیف هو عندک ؟ قال: لیس له حکم یضطر إلیه ویقول سألت سألت . وقال أحمد بن الحکم لأحمد: کتبت أنا وأنت عن علی بن بحر عن محمد بن الحسن الواسطی عن مسعر؟ قال: کنت عند جابر فجاءه رسول أبی حنیفة: ما تقول فی کذا وکذا؟ قال: سمعت القاسم بن محمد وفلاناً حتی عد سبعة ، فلما مضی الرسول قال جابر: إن کانوا قالوا ! (أی اعترف علی نفسه بالکذب) ! قیل لأحمد: ما تقول فیه بعد هذا؟ فقال هذا شدید واستعجمه ، نقل ذلک کله العقیلی ، ثم نقل عن یحیی بن المغیرة عن جریر قال: مضیت إلی جابر فقال لی هُدبة رجل من بنی أسد: لا تأته فإنی سمعته یقول الحارث بن سریج فی کتاب الله ، فقال له رجل من قومه: لا والله ما فی کتاب الله سریج یعنی الحارث الذی کان خرج فی آخر دولة بنی أمیة وکان معه جهم بن صفوان) . انتهی.

ملاحظات علی موقفهم من جابر

1- قال فی أعیان الشیعة:4/54: ( الرجل ثقة صدوق ورع ، کما اعترف به شعبة وسفیان الثوری ووکیع و زهیر بن معاویة وشریک وغیرهم... وإن القدح فیه لیس إلا لتشیعه ونسبة القول بالرجعة الیه کما صرح به ابن عدی بقوله: عامة ما قذفوه به أنه کان یؤمن بالرجعة ، وکذلک جریر وزائدة وأبو أحمد الحاکم... ولروایته من فضائل أهل البیت(علیهم السّلام)ما لا تحتمله عقولهم ، ولذلک ترکه ابن عیینة لما سمع منه

ص: 154

حدیثاً فی فضلهم الباهر ، واستنکروا تسمیته الإمام الباقر وصی الأوصیاء .

ثم بیَّنَ السید الأمین أن تهمتهم له بالقول بالرجعة ، لأنه یقول بظهور المهدی(علیه السّلام)بعد غیبته ، وقال: ( هذه هی الرجعة التی یطبل القوم بها ویزمرون ) !

2- ما أوردناه من تهذیب ابن حجر ، لیس کل ما قالوه فی جابر مدحاً أو ذماً ، وقد انتقی ابن حجر وبتر ، ورجح تضعیفه بقوله: (قلنا: الثوری لیس من مذهبه ترک الروایة عن الضعفاء ، وأما شعبة وغیره فرأوا عنده أشیاء لم یصبروا عنها وکتبوها لیعرفوها ، فربما ذکر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ علی جهة التعجب ) !

وبذلک خالف منهجهم فی التوثیق ! فلو کان جابر راویاً غیر شیعی لاکتفی بمدح کبار أئمته له ووثقه واحتج به ، وطالب الطاعن بحجة علی طعنه ومستنده فی جرحه ؟! خاصة أن مدحهم القوی له تضمن رد کل الطعون علیه / حیث صرحوا بأن طعنهم یرجع الی تشیعه ، وقوله بالرجعة أو بظهور الإمام المهدی(علیه السّلام).

وکما ص أبو حنیفة علی أن سبب اتهامه لجابر بالکذب أنه عارض اجتهاداته بالأحادیث ! (ما أتیته بشئ من رأیی إلا جاءنی فیه بأثر ، وزعم أن عنده ثلاثین ألف حدیث لم یظهرها) ! وعلیه یجب تکذیب کل من عارض اجتهادات أبی حنیفة بالحدیث کالشافعی! وتکذیب من ادعی أن عنده مئات ألوف الأحادیث ، کابن حنبل وبخاری ومسلم !

3- الذین طعنوا فی جابر الجعفی(رحمه الله)کذَّبوا أنفسهم والحمد لله ، وأولهم أبو حنیفة وأصحابه ! قال فی المحلی:10/378: (جابر الجعفی کذاب ، وأول من شهد علیه بالکذب أبو حنیفة ثم لم یبال بذلک أصحابه فاحتجوا بروایته حیث اشتهوا) ، کما احتجوا بحدیثه عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (کل شئ خطأ إلا السیف ، ولکل خطأ أرش). وقال عنه فی نیل الأوطار:7/166: (وهذا الحدیث یدور علی جابر الجعفی) .

ص: 155

4- والقضیة أضخم من احتیاجهم لأحادیث جابر ، أو أن بعضهم کان یعجب بها ولا یصبر عن کتابتها ! أو کان یکتبها لیعرفها ، أو لینص علی غرابتها ولم یفعل !

فقد شهد الترمذی بأن أحادیث جابر عمدة أحادیث أئمتهم من محدثی الکوفة!

قال فی سننه:1/133: (سمعت الجارود یقول: سمعت وکیعاً یقول: لولا جابر الجعفی لکان أهل الکوفة بغیر حدیث ) ! ومعناه أنهم مع بغضهم لجابر بسبب تشیعه ، ازدحموا فی بیته وکتبوها عنه ودلسوا فیها فنسبوها الی غیره ! قال أبو داود: ( رأیت زکریا بن أبی زائدة یزاحمنا عند جابر ، فقال لی سفیان: نحن شباب وهذا الشیخ ماله یزاحمنا؟!). وکان شعبة یسمی من یطعن فی جابر مجانین یقولون ما لایفعلون ! فکلهم تلامیذه! (قال لنا شعبة: لا تنظروا إلی هؤلاء المجانین الذین یقعون فی جابر. هل جاءکم بأحد لم یلقه)؟!(میزان الإعتدال:1/382 ، والجرح والتعدیل للرازی:1/117) .

وقال ابن عدی فی الکامل:2/117: (قال ابن إدریس: ذهب بی أبی الی جابر الجعفی فأجلسنی قریباً منه ، فقال لأبی: هذا ابنک الذی علمته القرآن؟ قال نعم.. قال الشیخ: ولجابر حدیث صالح ، وقد روی عنه الثوری الکثیر ، وشعبة أقل روایة عنه من الثوری . وحدث عنه زهیر وشریک وسفیان والحسن بن صالح وابن عیینة وأهل الکوفة وغیرهم ، وقد احتمله الناس ورووا عنه ، وعامة ما قذفوه أنه کان یؤمن بالرجعة ، وقد حدثه عنه الثوری مقدار خمسین حدیثاً . ولم یتخلف أحد فی الروایة عنه ، ولم أر له أحادیث جاوزت المقدار فی الإنکار ، وهو مع هذا کله أقرب الی الضعف منه الی الصدق) !

5- وبلغ من تحیرهم فیه أن کبار أئمتهم وقعوا فی الکذب والتناقض ! فقد قال الذهبی فی الکاشف:1/288: (من أکبر علماء الشیعة ،وثقه شعبة فشذ ، وترکه الحفاظ) . ثم کذب نفسه فقال فی المغنی:1/126: ( د. ت. ق. جابر بن یزید

ص: 156

الجعفی ، مشهور ، عالم ، قد وثقه شعبه والثوری وغیرهما ) .

أما ابن حبان فقد میَّع موضوعه فاخترع سببین من عنده لروایتهم عنه فقال فی المجروحین:1/209: (فإن احتج محتج بأن شعبة والثوری رویا عنه ، فإن الثوری لیس من مذهبه ترک الروایة عن الضعفاء بل کان یؤدی الحدیث علی ما سمع ، لأن یرغب الناس فی کتابة الأخبار ویطلبوها فی المدن والأمصار . وأما شعبة وغیره من شیوخنا فإنهم رأوا عنده أشاء لم یصبروا عنها وکتبوها لیعرفوها فربما ذکر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ علی جهة التعجب فتداوله الناس ).

فالسبب الأول الذی اتهم به إمامهم سفیان الثوری أنه کتب الأحادیث الضعیفة لأن الناس یرغبون فیها ، والسبب الثانی الذی اتهم به إمامهم شعبة وأن کان یروی للتعجب فقط ، فیأخذه الناس ولا یعرفون أنه للتعجب ، ولا یعرفه ابن حبان أیضاً ! وعلیه یجب إسقاط کل مرویات الثوری وشعبة ، وإحراق کتب ابن حبان وغیره !

6- المشکلة عند علماء السلطة الطاعنین فی جابر الجعفی(رحمه الله) لیست عقیدته ،

فأمثال جابر عندهم کثیرون وقد رووا عنهم واحتجوا بهم ، وبلغ عددهم أکثر من مئة راوٍ فی صحیح بخاری ومسلم فقط ، لأن شرط الراوی عندهم أن یکون ثقة فی نقله بقطع النظر عن عقیدته ، وقد قبلوا قول الطبیب غیر المسلم إذا کان ثقة.

فالمشکلة لست عقیدته بل أحادیثه الثقیلة عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی الوصیة لعلی(علیه السّلام) والعترة(علیهم السّلام)وأن الله تعالی فرض طاعتهم علی الأمة وفی أولها الصحابة ! وهذا ینسف شرعیة الخلافة القرشیة التی قامت علی ادعائهم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یوص وأن بنی هاشم یکفیهم النبوة ، ویجب أن تکون الخلافة من نصیب بقیة القبائل !

ومثلها مرویاته الثقیلة عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بعض الصحابة ، ولهذا قالوا إنه رافضی یشتم الصحابة ویؤمن بالرجعة ، أی بظهور المهدی(علیه السّلام)بعد غیابه .

ص: 157

وینبغی أن تعرف أن علماء السلطة عندما یواجهون راویاً محترماً یروی هذه الأحادیث ، فقد یهاجمونه ویضعفونه کما رأیت ، أو یقولون هو جید لکن الرواة عنه ضعاف حرفوا حدیثه وکذبوا علیه ! وقد قالوا ذلک فی جابر(رحمه الله)وصبوا غضبهم علی تلمیذه عمرو بن شمر الذی یروی عنه الأوزاعی فقالوا: ( سفیان بن سعید: عمرو بن شمر هذا أکثر عن جابر وما رأیته عنده قط) . (الجرح والتعدیل :1/77). أو یقولون أحادیثه منکرة وهو متروک ، أی منکرة عند الحکومات ولذا ترکها علماؤها ! فالمنکر عندها منکر عند الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! والراوی المتروک عندهم متروک عند الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! ولذلک قالوا إنهم ترکوا جابراً ولم یترکوه !

قال سفیان بن عیینة: (ترکت جابراً الجعفی لما سمعت منه قال: دعا رسول الله (ص) علیاً فعلمه مما تعلم ، ثم دعا علی الحسن فعلمه مما تعلم ، ثم دعا الحسن الحسین فعلمه مما تعلم . ثم دعا ولده ، حتی بلغ جعفر بن محمد . قال سفیان: فترکته ذلک) . (میزان الذهبی:1/381) . وقد کذبوا علی سفیان أو سفیان خوفاً من زملائه المجانین حسب تعبیر شعبة ! قال عبد الرحمن بن مهدی: ( ألا تعجبون من سفیان بن عیینة یقول: لقد ترکت جابراً الجعفی لقوله لما حکی عنه أکثر من ألف حدیث ، ثم هو یحدث عنه) ! (تهذیب الکمال:4/469) !

7- یلفتنا فی ترجمة جابر جوابه(رحمه الله) لمن سأله: (کیف تسلم علی المهدی؟ قال: إن قلت لک کفرت ) ! ومعناه أنه کان یسلم علی إمامه الباقر(علیه السّلام)أو علی خاتم الأئمة المهدی(علیه السّلام)قبل ولادته ، وأن تلمیذه تعجب من هذا السلام کیف یصل الی صاحبه وهو غائب ، فأجابه جابر بأنی لو شرحت لک ذلک لم تتحمله وکفرت به !

وهذا یدل علی مقام خاص لجابر(رحمه الله) .

8- معنی قول ابن حجر فی آخر ترجمة جابر: (سمعته یقول: الحارث بن سریج فی

ص: 158

کتاب الله ، فقال له رجل من قومه: لاوالله ما فی کتاب الله سریح ، یعنی الحارث الذی کان خرج فی آخر دولة بنی أمیة): أن جابراً کان حیاً عندما ثار الحارث بن سریج علی نصر بن سیار حاکم خراسان ، وأنه رأی فیه بدایة أحداث زوال دولة بنی أمیة ، تفسیراً لما أخبره به الإمام الباقر(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أو لبعض آیات الشجرة الملعونة وحکمهم ألف شهر ، وقد قتل الحارث وقتل معه جهم بن صفوان والسختیانی ، وکانت ثورته سنة128 ، کما فی الطبری:6/6،

وتاریخ خلیفة/307، والذهبی:8/383 . والذی اعترض علی

جابر لم یفهم قوله فاعتبره کذاباً . وفی الوافی:11/161: (وکانت قتلته فی حدود الثلاثین والمئة). والمرجح أن جابراً عاش الی سنة132، کما قال ابن معین فی تهذیب التهذیب أی شهد سقوط الأمویین ، بدلیل أن الإمام الباقر(علیه السّلام)أعطاه أحادیث لینشرها بعد سقوطهم ، وهو إخبار بأنه سیبقی الی ذلک الوقت . وربما کان المعنی أن یعطیها لتنشر بعد سقوطهم ، لکن الأول أظهر .

اتسع تأثیر جابر الجعفی فاتخذ الخلیفة الأحول قراراً بقتله

روی فی الکافی:1/396 ، عن النعمان بن بشیر قال: (کنت مزاملاً لجابر بن یزید الجعفی ، فلما أن کنا بالمدینة دخل علی أبی جعفر(علیه السّلام)فودعه وخرج من عنده وهو مسرور ، حتی وردنا الأُخَیْرجة أول منزل نعدل من فید إلی المدینة ، یوم جمعة ، فصلینا الزوال فلما نهض بنا البعیر إذا أنا برجل طوال آدم معه کتاب ، فناوله جابراً فتناوله فقبله ووضعه علی عینیه ، وإذا هو: من محمد بن علی إلی جابر بن یزید ، وعلیه طین أسود رطب ! فقال له: متی عهدک بسیدی؟ فقال: الساعة . فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة ! ففک الخاتم وأقبل یقرؤه ویقبض وجهه ، حتی أتی علی آخره ثم أمسک الکتاب ، فما رأیته ضاحکاً ولا مسروراً حتی وافی الکوفة ! فلما وافینا الکوفة لیلاً بتُّ لیلتی فلما أصبحت أتیته

ص: 159

إعظاماً له فوجدته قد خرج علیَّ وفی عنقه کعاب قد علقها وقد رکب قصبة ، وهو یقول: أجد منصور بن جمهور أمیراً غیر مأمور ، وأبیاتاً من نحو هذا ، فنظر فی وجهی ونظرت فی وجهه ، فلم یقل

لی شیئاً ولم أقل له ، وأقبلت أبکی لما رأیته واجتمع علیَّ وعلیه الصبیان والناس ! وجاء حتی دخل الرحبة وأقبل یدور مع الصبیان والناس یقولون: جُنَّ جابر بن یزید جُن . فوالله ما مضت الأیام حتی ورد کتاب هشام بن عبد الملک إلی والیه أن انظر رجلاً یقال له: جار بن یزید الجعفی فاضرب عنقه وابعث إلیَّ برأسه ، فالتفت إلی جلسائه فقال لهم: من جابر بن یزید الجعفی؟ قالوا: أصلحک الله کان رجلاً له علم وفضل وحدیث ، وحج فجن ، وهو ذا فی الرحبة مع الصبیان علی القصب یلعب معهم ! قال: فأشرف علیه فإذا هو مع الصبیان یلعب علی القصب ، فقال الحمد لله الذی عافانی من قتله . قال ولم تمض الأیام حتی دخل منصور بن جمهور الکوفة وصنع ما کان یقول جابر) . ورواه فی الإختصاص/67 ، وفیه أن کتاب هشام الی والی الکوفة وصل بعد ثلاثة أیام، وأن الوالی کتب إلی هشام: (إنک کتبت إلی فی أمر هذا الرجل الجعفی وإنه جُن ! فکتب إلیه: دعه). وفید: منتصف الطریق بین الکوفة ومکة ، بینها وبین تیماء ست لیال . والأخیْرجة: مکان قرب فید . (معجم البلدان:4/282، و البحار:46/283) .

ثلاث ملاحظات

1- جابر الجعفی(رحمه الله)من حواریی الإمام الباقر(علیه السّلام)وجنود الله الخاصین ، رباه ثمانیة عشر سنة ، ثم أرسله الی الکوفة قاعدة الإسلام وعاصمة التشیع لیقوم بنشر حدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل بیته(علیهم السّلام) ، بین الشیعة وکبار علماء الدولة ورواتها ، الذین کانوا بحاجة الی التلمذ علیه والروایة عنه ، فکان علمه الغزیر سبب إعجاب بعضهم به ، وحسد بعضهم له حتی وشوا به الی الخلیفة وحذروه من خطر أحادیثه

ص: 160

علی بنی أمیة ، فأرسل الی والیه أن یقتله ، فأمره الإمام الباقر(علیه السّلام)ان یتظاهر بالجنون فنجاه الله تعالی ، فلما اطمأن عاد الی وضعه الطبیعی !

ثم أرسل الخلیفة مرة أخری الی والیه أن یقبض علیه ، ففرَّ منه الی سواد الکوفة ففی رجال الطوسی:2/444: (خرجت مع جابر لما طلبه هشام حتی انتهی إلی السواد). وقد یکون ذلک بعد شهادة الباقر(علیه السّلام)سنة114 ، ویظهر أن الوالی یومها غیر الوالی السابق لأن السابق سأل عنه مَن هو؟

ثم أراد الخلیفة قتله مرة أخری سنة126عند قتل الولید ، فأظهر الجنون مجدداً ! ففی رجال الطوسی:2/437: (دخلت المسجد حین قتل الولید فإذا الناس مجتمعون قال: فأتیتهم فإذا جابر الجعفی علیه عمامة خز حمراء ، وإذا هو یقول: حدثنی وصی الأوصیاء ووارث علم الأنبیاء محمد بن علی(علیه السّلام)قال: فقال الناس: جُنَّ جابر ، جُن جابر). والولید قتله ابن عمه الولید بن یزید سنة126 .

ومعنی ذلک أن جابراً(رحمه الله)کان لبضع عشرة سنة فی أواخر عمره متخفیاً من قبضة الخلیفة ، حتی سقط النظام الأموی ! ولذلک تری التفاوت فی تاریخ وفاة جابر .

2- الطریقة التی أوصل الإمام(علیه السّلام)الخبر الی جابر فیها إعجاز ، وقد فهمها الکلینی(رحمه الله)بأن الإمام(علیه السّلام)استفاد من مؤمنی الجن فقطع الرسول منهم مسیرة أسبوع فی ساعة ، ولذا روی الحدیث تحت عنوان: (أن الجن یأتونهم فیسألونهم عن معالم دینهم ویتوجهون فی أمورهم). لکن قول الراوی: (إذا أنا برجل طوال آدم معه کتاب فناوله جابراً فتناوله فقبله ووضعه علی عینیه). لایدل علی أنه من الجن ، بل یدل علی أن جابراً وثق بالخاتم وبحامل الکتاب ، فقد یکون من الجن أو من أولیاء الله الذین یصحبون الإمام(علیه السّلام)ویخدمونه .

3- تتمیز أحادیثه(رحمه الله)ب-: 1- العمق والدقة . 2- قوة العنصر الغیبی. 3- بیان مقامات

ص: 161

أهل البیت(علیهم السّلام)التی خصهم الله بها . 4- الصراحة فی ولایتهم والبراءة من مخالفیهم .

وهذا سبب ثقلها علی المخالفین ، بل علی بعض الموالین الذین لایحبون الأحادیث التی فیها غیب وصراحة ! حتی کانت موضع تساؤل حتی من بعض الشیعة ! قال زیاد بن أبی الحلال:( اختلف أصحابنا فی أحادیث جابر الجعفی فقلت لهم: أسألُ أبا عبد الله(علیه السّلام)، فلما دخلت ابتدأنی فقال: رحم الله جابر الجعفی کان یصدق علینا، لعن الله المغیرة بن سعید کان یکذب علینا). (رجال الطوسی:2/436). وعن ذریح المحاربی أنه سأل الإمام الصادق(علیه السّلام): (ما تقول فی أحادیث جابر ؟ قال تلقانی بمکة قال: فلقیته بمکة فقال: تلقانی بمنی ، قال: فلقیته بمنی فقال لی: ما تصنع بأحادیث جابر ! أُلْهُ عن أحادیث جابر فإنها إذا وقعت إلی السفلة أذاعوها . قال عبد الله بن جبلة: فاحتسبت ذریحاً سفلة). وفی روایة:( فإن السفلة إذا سمعوا بأحادیثه شنعوا).(رجال الطوسی:2/671) .

أقول: اشتبه ابن جبلة(رحمه الله) ، فتأخیر الإمام جواب ذریح ونهیه إیاه عن الإنشغال بأحادیث جابر ، یدل علی أنها قد تصل من ذریح الی السفلة . لکن یبقی السؤال عن سبب مدح الأئمة(علیهم السّلام)لجابر وإمضائهم

لأحادیثه ، ثم أمرهم بحصرها فی أهلها ، ونهیهم عن جعلها فی معرض الوصول الی السفلة؟ والجواب: أن مقامات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعترته المعصومین(علیهم السّلام)عظیمة یصعب التصدیق بها ! فقد أعطاهم الله جلَّتْ قدرته أکثر مما نعرفه ، بل إن ترکیبهم العقلی والبدنی أرقی من الإنسان العادی وإلا فکیف تفسر أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیس له ظل، وأنه تنام عینه ولا ینام قلبه ، وأنه یری من خلفه کما یری من أمامه ، وأن شخصاً شرب من دم حجامته فلم یشب ولم یمرض؟! بل یمکن القول إن الزمان والمکان بالنسبة الیهم غیره بالنسبة الینا فنحن نری فی النوم أشیاء خارج الزمن ، فکیف بهم؟ وبهذا یمکنهم أن یروا أعمال العباد ببرنامج ربانی ، لأنهم المقصودون بقوله تعالی: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) . (التوبة:105) .

وهذه بضعة نماذج من أحادیثه(رحمه الله):

ص: 162

1- قال(رحمه الله): (تقبضت بین یدی أبی جعفر فقلت: جعلت فداک ربما حزنت من غیر مصیبة تصیبنی أو أمر ینزل بی حتی یعرف ذلک أهلی فی وجهی وصدیقی ! فقال: نعم یا جابر إن الله عز وجل خلق المؤمنین من طینة الجنان وأجری فیهم من ریح روحه ، فلذلک المؤمن أخو المؤمن لأبیه وأمه فإذا أصاب روحاً من تلک الأرواح فی بلد من البلدان حزن ، حزنت هذه لأنها منها). (الکافی:2/166).

2- روی عن جابر الأنصاری(رحمه الله):(سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول لعلی(علیه السّلام): یا علی أنت أخی ووصیی ووارثی ، وخلیفتی علی أمتی فی حیاتی وبعد وفاتی ، محبک محبی ومبغضک مبغضی ، وعدوک عدوی وولیک ولیی). (أمالی الصدوق/187).

3- روی عن ابن مسعود الأنصاری قال: ( قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): من صلی صلاة ولم یصل فیها علی وعلی أهل بیتی لم تقبل منه ! وإقران الأهل به فی الحکم دلیل الوجوب لما بیناه من وجوب الصلاة علیه). (المعتبر:2/227).

4- روی عن الإمام الباقر(علیه السّلام)أنه قال له: (إذا أردت أن تعلم أن فیک خیرا فانظر إلی قلبک ،فإن کان یحب أهل طاعة الله ویبغض أهل معصیته ، ففیک خیر والله یحبک . وإن کان یبغض أهل طاعة الله ویحب أهل معصیته ، فلیس فیک خیر والله یبغضک . والمرء مع من أحب ) . (الکافی:2/126) .

5- قال له الإمام الصادق(علیه السّلام): (یا أخا جعف ، إن الیقین أفضل من الایمان ، وما من شئ أعز من الیقین) . (کتاب التمحیص/62).

6- روی عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال: (لما أنزلت:یَوْمَ نَدْعُو کُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ..قال المسلمون: یا رسول الله ألست إمام الناس کلهم أجمعین؟ فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أنا رسول الله إلی الناس أجمعین ، ولکن سیکون بعدی أئمة علی الناس من أهل بیتی من الله ، یقومون فی الناس ، فیکذبونهم ویظلمونهم أئمة الکفر والضلال وأشیاعهم ! ألا فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو منی ومعی وسیلقانی ، ألا ومن ظلمهم وأعان علی ظلمهم وکذبهم فلیس منی ولا معی وأنا منه برئ). (المحاسن:1/155).

ص: 163

ب- _ علی بن یقطین(رحمه الله)وزیر الخلفاء العباسیین

1- یظهر أن الحکم الشرعی للعمل مع الحاکم الجائر واحدٌ فی شرائع جمیع الأنبیاء(علیهم السّلام)، فالأصل حرمته إلا ما کان فیه خدمة للمؤمنین ، کقبول یوسف(علیه السّلام) لمنصب رئیس الوزراء عند فرعون (عزیز مصر): قَالَ اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الأرض إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ . أو ما کان عن إکراه کقبول الإمام الرضا(علیه السّلام)لمنصب ولایة العهد للمأمون ، فقد سأله أحد الخوارج: ( أخبرنی عن دخولک لهذا الطاغیة فیما دخلت له وهم عندک کفار ، وأنت ابن رسول الله ، فما حملک علی هذا ؟ فأجابه: أرأیتک هؤلاء أکفر عندک أم عزیز مصر وأهل مملکته؟.. ویوسف بن یعقوب نبی ابن نبی ابن نبی ، فسأل العزیز وهو کافر فقال: اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الأرض إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ . وکان یجلس مجلس الفراعنة . وأنا رجل من ولد رسول الله ، أجبرنی علی هذا الأمر وأکرهنی علیه ). (وسائل الشیعة:12/150) .

2- وقد بحث فقهاؤنا الموضوع فی باب القضاء کما فی جواهر الکلام:21/407 ، واستدلوا بالکتاب والسنة وقد ورد فیها النهی والتحذیر من العمل عند السلطان الجائر ، کما ورد جواز ذلک بل استحبابه لأجل خدمة المؤمنین . فقد أجاب الإمام الباقر(علیه السّلام)من سأله عن العمل مع السلطان ، فقال:( لا ، ولا مَدَّةُ قلم ! إن أحدهم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلا أصابوا من دینه مثله ). (الکافی:5/107). وعن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (العامل بالظلم والمعین له والراضی به ، شرکاء فیه). (البحار:72/378). وطلب أحدهم من الإمام الصادق(علیه السّلام)أن یأذن له بالعمل مع السلطان فقال له: (تناولُ السماء أیسر علیک من ذلک).(الکافی:5/108، ونحوه/111).

وسئل الإمام الصادق(علیه السّلام): (عن الدخول فی عمل السلطان ، فقال: هم الداخلون

ص: 164

علیکم أم أنتم الداخلون علیهم؟ فقال: لا ، بل هم الداخلون علینا ، قال: فما بأسٌ بذلک). ( البحار:72/378). وقال(علیه السّلام): (ما من جبار إلا ومعه مؤمن یدفع الله به عن المؤمنین ، وهو أقلهم حظاً فی الآخرة ). أی لصحبته الجبار . ( الکافی:5/111).

وعن الإمام الکاظم(علیه السّلام): ( کفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان). (تحف العقول/187). وقال السید الخوئی فی مصباح الفقاهة:1/674: (النتیجة أن الولایة من قبل الجائر إن کانت لحفظ المعاش مع قصد الإحسان إلی المؤمنین فهی مکروهة ، وإن کانت للإحسان إلیهم فقط ، فهی مستحبة ). انتهی.

3- وکان للأئمة(علیهم السّلام)أصحاب فی أجهزة الدولة القرشیة من عهد أبی بکر وعمر وعثمان ، وبقیة بنی أمیة ، وبنی العباس ، ظاهرین أو مستخفین ، یعملون بالتقیة مع الخلیفة وکبار وزرائه ، ویخدمون المؤمنین ، وینفذون ما یأمرهم به الإمام(علیه السّلام) .

ومن أبرز أمثلتهم علی بن یقطین ، الذی کان وزیراً مقرباً من السفاح والمنصور والمهدی والهادی والرشید ، وقد ترجمت له مصادر التاریخ والحدیث ، قال ابن النجار فی ذیل تاریخ بغداد:4/202: (علی بن یقطین بن موسی ، أبو الحسن مولی بنی أسد: ولد بالکوفة فی سنة أربع وعشرین ومائة ، وکان أبوه من وجوه دعاة الإمامیة (العباسیة) ، فطلبه مروان بن محمد فهرب واستتر ، وهربت به أمه وبأخیه عبید بن یقطین ، وکان ولد بعد علی بسنتین إلی المدینة ، وکانت له وصلة بعیال جعفر بن محمد الصادق فأتت منزله بابنیها فاستدنی جعفر علیاً وأقعده علی حجره ومسح علی رأسه ، فلما ظهر بنو العباس ظهر یقطین ، وعادت أم علی بعلی وعبید فلم یزل یقطین فی خدمة أبی العباس وأبی جعفر ، ومع ذلک یری رأی آل أبی طالب ویقول بإمامتهم وکذلک ولده ، وکان یحمل الأموال إلی جعفر الصادق والألطاف ، ثم وصل خبره إلی المنصور والمهدی فلم یکیداه ، ولما نقل المهدی

ص: 165

إلی الرصافة صُیِّرَ فی حجر یقطین فنشأ المهدی وعلی بن یقطین کأنهما أخوان ، فلما أفضت الخلافة إلی المهدی استوزر علی بن یقطین وقدمه وجعله علی دیوان الزمام ودیوان البسر والخاتم ، فلم یزل فی یده حتی توفی المهدی وأفضی الأمر إلی الهادی فأقره علی وزارته ولم یشرک معه أحداً فی أمره إلی أن توفی الهادی ، وصار الأمر إلی الرشید فأقره شهراً ، ثم صرفه بیحیی بن خالد البرمکی...قرأت فی کتاب محمد بن إسحاق الندیم بخطه قال: توفی علی بن یقطین بمدینة السلام سنة اثنتین وثمانین ومائة ، وسنُّهُ سبع وخمسون سنة ، وصلی علیه ولی العهد محمد بن الرشید ، وتوفی أبوه بعده فی سنة خمس وثمانین ومائة ، ولعلی بن یقطین کتاب ما سأل عنه الصادق من أمور الملاحم ، وکتاب مناظرته للشاک بحضرة جعفر)

4- والمؤکد عن یقطین أنه کان من دعاة بنی العباس ، وذکر ابن حجر فی لسان المیزان:2/302 ، وابن الندیم فی الفهرست/279 تشیع أبیه یقطین بن موسی ، وقال: (وکان یحمل الأموال إلی جعفر بن محمد بن علی والألطاف ، ونمَّ خبره إلی المنصور والمهدی فصرف الله عنهم کیدهما). وذکر السید الخوئی(قدسّ سرّه)أن أباه یقطین لم یکن شیعیاً واستدل بروایة صحیحة ذکرت أن الإمام الصادق(علیه السّلام)دعا علی یقطین وأولاده ، وروایة ضعیفة تذکر قول یقطین لابنه: (ما بالنا قیل لنا فکان وقیل لکم فلم یکن؟فأجابه: إن الذی قیل لنا ولکم کان من مخرج واحد غیر أن أمرکم حضر فأعطیتم محضه فکان کما قیل لکم ، وأن أمرنا لم یحضر فعللنا بالأمانی). ویؤیده أن المؤرخین یعبرون عن أتباع بنی العباس بالشیعة .

5- نص علماؤنا علی تشیع ولده علی ووثاقته ورووا مدح الأئمة(علیهم السّلام)له ، ففی فهرست الطوسی/154: (علی بن یقطین ، ثقة جلیل القدر له منزلة عظیمة عند أبی الحسن موسی(علیه السّلام) ، عظیم المکان فی الطائفة... ولعلی بن یقطین عنه کتب ، منها

ص: 166

کتاب ما سئل عنه الصادق(علیه السّلام)من الملاحم وکتاب مناظرة الشاک بحضرته(علیه السّلام). وله مسائل عن أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السّلام). أخبرنا بکتبه ومسائله...).

وفی خلاصة الأقوال/174 ، عن داود الرقی قال: ( دخلت علی أبی الحسن(علیه السّلام) یوم النحر فقال مبتدئاً: ما عرض فی قلبی أحد وأنا فی الموقف إلا علی بن یقطین فإنه ما زال معی وما فارقنی حتی أفضت) . وهذا مقام عظیم لعلی بن یقطین(رحمه الله)أن یخصه الإمام الکاظم(علیه السّلام)بدعائه یوم عرفة ، ولعل السبب أنه کان یواجه ظروفاً صعبة من هارون الرشید ، ویتجسس علیه لإثبات تشیعه وقتله !

وترجم له السید الخوئی(رحمه الله)فی معجمه:21/169، بتفصیل ، جاء فیه: ( أقبل علی بن یقطین فالتفت أبو الحسن(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: من سره أن یری رجلاً من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلینظر إلی هذا المقبل ، فقال له رجل: هو إذن من أهل الجنة ، فقال أبو الحسن(علیه السّلام): أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة.. وقال له الإمام الکاظم(علیه السّلام): إضمن لی خصلة أضمن لک ثلاثاً... أن لا یصیبک حر الحدید أبداً بقتل ، ولا فاقة ، ولا سقف سجن.. وأما الخصلة التی تضمن لی أن لا یأتیک ولی أبداً إلا أکرمته . قال: فضمن له علی الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث...

ثم قال السید الخوئی(رحمه الله):(إن کثرة الروایات المادحة والدالة علی جلالة علی بن یقطین أغنتنا عن التعرض لأسانیدها ، علی أن بعضها صحیحة وفیها الکفایة).انتهی.

وصح عند فقهائنا أن الإمام الکاظم(علیه السّلام)نهی علی بن یقطین أن یتوضأ وضوء أهل البیت(علیهم السّلام)وأمره أن یتوضأ بوضوء العباسیین وهو وضوء الأمویین ، وقد راقبه هارون خفیة لیعرف مذهبه من وضوئه فرآه یتوضأ وضوءه فنجا منه! (الإرشاد:2/228).

وکان هارون أهدی له عباءة مذهبة أهداها له ملک الروم ، فأرسلها ابن یقطین الی الإمام الکاظم(علیه السّلام) قال: (فمکثت ستة أشهر أو سبعة أشهر ثم انصرفت یوماً

ص: 167

من عند هارون وقد تغدیت بین یدیه ، فقام إلیَّ خادمی الذی یأخذ ثیابی بمندیل علی یدیه وکتاب مختوم وطینه رطب فقال: جاء بهذه الساعة رجل فقال إدفع هذا إلی مولاک ساعة یدخل ، ففضضت الکتاب فإذا فیه: یا علی هذا وقت حاجتک إلی الدراعة . فکشفت طرف المندیل عنها ، ودخل علیَّ خادم لهارون بغیر إذن فقال: أجب أمیر المؤمنین ! قلت: شئ حدث؟ قال: لا أدری ، فرکبت ودخلت علیه وعنده عمر بن بزیع واقفاً بین یدیه فقال: ما فعلت بالدراعة التی وهبتها لک؟ قلت: خِلَعُ أمیر المؤمنین علیَّ کثیرة من دراریع وغیرها فعن أیها تسألنی؟ قال: دراعة الدیباج السوداء الرومیة المذهبة . قلت: ما عسی أن أصنع بها ألبسها فی أوقات وأصلی فیها رکعات...: فأرسلت خادمی حتی جاء بها . فلما رآها قال: یا عمر ما ینبغی أن نقبل علی علی بعدها شیئاً... وکان الساعی بی ابن عم لی ، فسوَّد الله وجهه وکذبه والحمد لله). (الخرائج:2/656، ودلائل الإمامة/322).

6- کان أولاد عم علی بن یقطین جواسیس علیه عند هارون الرشید ، وکذلک خالد البرمکی وولداه جعفر ویحیی ، وقد استطاعوا أن یؤثروا علی هارون فعزل علی بن یقطین واستوزر البرامکة سنة170، لمدة17سنة ، وکانوا أداة الرشید فی اضطهاد الإمام الکاظم(علیه السّلام)وقتله ، وفی حملته لإبادة العلویین وإفقارهم ، وسیأتی .

وکان البرامکة شدیدی العداء والنصب للأئمة من أهل البیت(علیهم السّلام)وقد انتقم الله منهم فغضب علیهم الرشید ونکبهم بعد أن سلطهم علی کل أموره ، وزوجهم أخته. ولعله اکتشف أنهم مجوس أصحاب مشروع معاد للإسلام وأمته .

7- ألف علی بن یقطین کتاباً فیما سأل عنه الإمام الصادق(علیه السّلام)من الملاحم ، ومن أعجب ما رأیته عنه(علیهم السّلام)ما یدل علی إیمان عبد المطلب(رحمه الله)وأنه کان عنده خبر الإسلام والملاحم ، قال علی بن یقطین: (قال لی أبو الحسن موسی بن جعفر(علیه السّلام):

ص: 168

إضمن لی واحدة أضمن لک ثلاثاً: إضمن لی أنه لا یأتی أحد من موالینا فی دار الخلافة إلا قمت له بقضاء حاجته ، أضمن لک أن لا یصیبک حر السیف أبداً، ولا یظلک سقف سجن أبداً، ولا یدخل الفقر بیتک أبداً . قال الحسن: فذکرت لمولای کثرة تولی أصحابنا أعمال السلطان واختلاطهم بهم ، قال: ما یکون أحوال إخوانهم معهم؟ قلت: مجتهد ومقصر ، قال: من أعز أخاه فی الله وأهان أعداءه فی الله ، وتولی ما استطاع نصیحته ، أولئک یتقلبون فی رحمة الله ، ومثلهم مثل طیر یأتی بأرض الحبشة فی کل صیفة یقال له "القدم" فیبیض ویفرخ بها ، فإذا کان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إلیه وخرجوا معه من أرض الحبشة ، فإذا قام قائمنا اجتمع أولیاؤنا من کل أوب ! ثم تمثل بقول عبد المطلب:

فإذا ما بلغ الدور إلی

منتهی الوقت أتی طیْر القَدمْ

بکتاب فصلت آیاته

وبتبیان أحادیث الأمم .

(مستدرک الوسائل:13/137، وجامع أحادیث الشیعة:17/297).

ج- والی العراق یزید بن عمر بن هبیرة

اشارة

قال الکلینی(رحمه الله)فی الکافی:1/473: (عن رفید مولی یزید بن عمر بن هبیرة ، قال: سخط علیَّ ابن هبیرة وحلف علی لیقتلنی ، فهربت منه وعذت بأبی عبد الله(علیه السّلام) فأعلمته خبری فقال لی: إنصرف واقرأه منی السلام وقل له: إنی قد أجرت علیک مولاک رفیداً فلا تهجه بسوء . فقلت له: جعلت فداک شامی خبیث الرأی ! فقال: إذهب إلیه کما أقول لک ، فأقبلت فلما کنت فی بعض البوادی استقبلنی أعرابی فقال: أین تذهب إنی أری وجه مقتول ! ثم قال لی: أخرج یدک ففعلت ، فقال: ید مقتول ! ثم قال لی: أبرز رجلک فأبرزت رجلی ، فقال: رجل مقتول ! ثم قال لی:

ص: 169

أبرز جسدک؟ ففعلت ، فقال: جسد مقتول ! ثم قال لی: أخرج لسانک ففعلت فقال لی: إمض ، فلا بأس علیک ، فإن فی لسانک رسالة لو أتیت بها الجبال الرواسی لانقادت لک ! قال: فجئت حتی وقفت علی باب ابن هبیرة فاستأذنت فلما دخلت علیه قال: أتتک بخائن رجلاه ! یا غلام النطع والسیف ! ثم أمر بی فکتفت وشد رأسی وقام علیَّ السیاف لیضرب عنقی ، فقلت: أیها الأمیر لم تظفر بی عنوة وإنما جئتک من ذات نفسی ، وهاهنا أمر أذکره لک ، ثم أنت وشأنک ، فقال: قل، فقلت: أخلنی ، فأمر من حضر فخرجوا ، فقلت له: جعفر بن محمد یقرؤک السلام ویقول لک: قد أجرتُ علیک مولاک رفیداً فلا تهجه بسوء . فقال: والله لقد قال لک جعفر هذه المقالة وأقرأنی السلام ؟! فحلفت له ، فردها علیَّ ثلاثاً ثم حل أکتافی ثم قال: لا یقنعنی منک حتی تفعل لی ما فعلت بک ( أی یُکَتِّفه للقتل کما کتَّفه) ! قلت: ما تنطلق یدی بذاک ولا تطیب به نفسی ! فقال: والله ما یقنعنی إلا ذاک ، ففعلت به کما فعل بی وأطلقته فناولنی خاتمه وقال: أموری فی یدک فدبر فیها ما شئت). انتهی.

ملاحظات

1- یدل ذلک علی أن ابن هبیرة کان له اعتقادٌ خاص بالإمام الصادق(علیه السّلام) ، ولعل السبب أنه کان رأی منه معجزة ، فیکون من أصحابه بالمعنی العام لا بمعنی أنه شیعی ، وقد کان أبوه عمر قبله حاکم العراق وخراسان من قبل الأمویین ، وله فی تاریخ دمشق:65/324، ترجمة مطولة ، فیها أنه ولد سنة87 ، وأصله من الشام وولی قنسرین للولید بن یزید بن عبد الملک ، وولی العراق وخراسان لمروان الحمار ، وکان سخیاً بخلاف أبیه ، وکان جسیماً طویلاً سمیناً خطیباً أکولاً شجاعاً وکان من ندمائه القاضی المعروف ابن شبرمة ، وقد خطب هشام بن عبد الملک

ص: 170

ابنته لابنه معاویة فأبی أن یزوجه ، وبقی والیاً الی الی سقوط دولة بنی أمیة ، وقاتله المنصور فی واسط وحاصره نحو سنة فلم یقدر علیه ، وراسل عبدالله بن الحسن لیعلن بیعته فلم یقبل وارادها لابنه وسیأتی ذلک ! ولا بد أنه راسل الإمام الصادق(علیه السّلام)قبله یعرض علیه البیعة فلم یقبل ، وأعطاه المنصور الأمان وشرط أن یبقی فی جیشه فقبل ، ثم غدر به وقتله فی ذی القعدة سنة132. وتاریخ خلیفة/306 ، وفتح الباری:13/125، والأخبار الطوال/367 ، وتاریخ بغداد:13/328 .

2- أما رفید صاحب القصة ، فقد ترجم له علماؤنا باسم رفید مولی ابن هبیرة ورووا عنه بضع روایات ، ولم یزیدوا علی ذلک . وترجموا لرفید بن مصقلة العبدی الکوفی وأنه کان مفتی العامة ، ورووا عنه فی فضل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، وعده الشیخ الطوسی فی رجاله من أصحاب الباقر(علیه السّلام) ، ولم یستبعدوا اتحاده مع رقبة بن مصقلة العبدی ، الذی وثقه علماء السنة ورروا عنه ، کما فی مستدرک الحاکم:2/171، وأوسط الطبرانی:8/211، وتهذیب الکمال:4/344 ، وکاشف الذهبی:1/398، ومیزان الإعتدال:1/580 ، وتقریب التهذیب:1/303 ، وغیرها.. لکن لایمکن القول إنه رفید مولی ابن هبیرة ، لأنه رفیداً مولی وابن مصقلة عربی کما یبدو .

3- ومما یلفت فی هذه القصة الصحیحة ، المستوی الذی بلغه علم القیافة عند العرب فی ذلک العصر ! وکیف عرف ذلک الأعرابی البدوی الأمی من شکل بدن رفید أنه مقتول ، وأعجب منه کیف عرف من لسانه أنه یحمل رسالة لو قرأها علی الجبال الرواسی لأطاعته ، فکان کما قال ! وقد انتهی هذا العلم فی عصرنا ، إلا نتفٌ منه عند بعض قراء الکف الهنود ، وبعض أهل الفراسة (الشوَّافین) الذین قرأت عنهم ، ورأیت بعضهم ، ولیس هذا مجال الکلام فی ذلک .

ص: 171

د- جابر بن حیان

اشارة

قال السید الخوئی(قدسّ سرّه)فی معجمه:4/328: (جابر بن حیان ، الصوفی الطرسوسی ، أبو موسی ، من مشاهیر أصحابنا القدماء ، کان عالماً بالفنون الغریبة وله مؤلفات کثیرة أخذها من الصادق(علیه السّلام)..کُتب فی أحواله وذکرت مؤلفاته کتب عدیدة... قال جرجی زیدان فی مجلة الهلال علی ما حکی عنه: إنه من تلامذة الصادق ، وإن أعجب شئ عثرت علیه فی أمر الرجل أن الأوروبیین اهتموا بأمره أکثر من المسلمین والعرب ، وکتبوا فیه وفی مصنفاته تفاصیل ، وقالوا إنه أول من وضع أساس الشیمی الجدید وکتبه فی مکاتبهم کثیرة) .

وقال ابن الندیم فی الفهرست/420: ( وکان من أهل الکوفة.. وزعم قوم من الفلاسفة أنه کان منهم ، وله فی المنطق والفلسفة مصنفات ، وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الریاسة انتهت إلیه فی عصره ، وأن أمره کان مکتوماً ، وزعموا أنه کان یتنقل فی البلدان لا یستقر به بلد خوفاً من السلطان علی نفسه... وحدثنی بعض الثقات ممن یتعاطی الصنعة أنه کان ینزل فی شارع باب الشام فی درب یعرف بدرب الذهب ، وقال لی هذا الرجل: إن جابراً کان أکثر مقامه بالکوفة وبها کان یدبر الإکسیر لصحة هوائها ، ولما أصیب بالکوفة الأزج (الجُرْن) الذی وجد فیه هاون ذهب فیه نحو مائتی رطل ، ذکر هذا الرجل أن الموضع الذی أصیب ذلک فیه کان دار جابر بن حیان.. ولهذا الرجل کتب فی مذاهب الشیعة أنا أوردها فی مواضعها ، وکتب فی معانی شتی من العلوم قد ذکرتها فی مواضعها من الکتاب . وقد قیل إن أصله من خراسان ، والرازی یقول فی کتبه المؤلفة فی الصنعة: قال أستاذنا أبو موسی جابر بن حیان...

ص: 172

له فهرست کبیر یحتوی علی جمیع ما ألف فی الصنعة وغیرها ، وله فهرست صغیر یحتوی علی ما ألف فی الصنعة فقط . ونحن نذکر جملاً من کتبه رأیناها وشاهدها الثقات فذکروها لنا... ثم أورد ابن الندیم أسماءها وقال: فهذه أربعون کتاباً من السبعین کتاباً.. ثم أورد أسماء رسائل أخری وقال: وهذه الکتب مائة واثنا عشر کتاباً . وله بعد ذلک سبعون کتاباً ، منها: کتاب اللاهوت . کتاب الباب . کتاب الثلاثین کلمة... وله بعد ذلک عشر رسائل فی النبات.. وله فی الأحجار عشر رسائل علی هذا المثال . فذلک سبعون رسالة . ویتلو ذلک عشرة کتب مضافاً إلی السبعین... ثم یتلو هذه عشرون کتاباً بأسمائها وهی ، کتاب الزمردة ، کتاب الأنموذج . کتاب المهجة... ثم یتلو ذلک ثلاثة کتب وهی کتاب الطهارة آخر کتاب التسعة ، کتاب الأعراض... قال أبو موسی: ألفت ثلاثمائة کتاب فی الفلسفة وألف وثلاثمائة کتاب فی الحیل ، علی مثال کتاب تقاطر ، وألف وثلاثمائة رسالة فی صنائع مجموعة وآلات الحرب ، ثم ألفت فی الطب کتاباً عظیماً...الخ.).

وفی معجم المطبوعات العربیة:1/664: ( لم یطبع من هذا الکتاب الا ترجمات باللغة اللاتینیة ، وطبع قسم منه باللغة العربیة ضمن کتاب الأستاذ برتولو المسمی vol paris 1893 3 La chimie au moyen age مجموعة أحد عشر کتاباً فی علم الأکسیر الأعظم...کتاب الملک - طبع حجر بمبی1892 کتاب المکتسب - موسوم بنهایة الطلب مع شرحه للجلدکی - در علم کیمیا. الخ. وشرح الجلدکی باللغة الفارسیة - طبع حجر بمبی1307 . ولجابر بن حیان کتاب نفیس فی السموم مخطوط فی الخزانة التیموریة ). وفی معجم المطبوعات العربیة:2/1207: ( استفاد الدکتور صروف

وأفاد من کتاب نفیس وجده فی الخزانة التیموریة وهو کتاب السموم لأبی موسی جابر بن حیان ، وهی نسخة وحیدة علی ما هو معروف إلی

ص: 173

الآن ، فوصفه وصفاً وافیاً فی المقتطف سنة1921) .

وقال الزرکلی فی الأعلام:2/103: (فیلسوف کیمیائی ، کان یعرف بالصوفی . من أهل الکوفة وأصله من خراسان.. توفی بطوس . له تصانیف کثیرة قیل عددها 232 کتاباً ، وقیل: بلغت 500 ضاع أکثرها وترجم بعض ما بقی منها إلی اللاتینیة... ولجابر شهرة کبیرة عند الإفرنج بما نقلوه من کتبه فی بدء یقظتهم العلمیة. قال برتلوBerthelot.m: لجابر فی الکیمیاء ما لأرسطو طالیس قبله فی المنطق ، وهو أول من استخرج حامض الکبریتیک وسماه زیت الزاج ، وأول من اکتشف الصودا الکاویة ، وأول من استحضر ماء الذهب ، وینسب إلیه استحضار مرکبات أخری مثل کربونات البوتاسیوم وکربونات الصودیوم . وقد درس خصائص مرکبات الزئبق واستحضرها . وقال لوبون:Le Bon.G: ( تتألف من کتب جابر موسوعة علمیة تحتوی علی خلاصة ما وصل إلیه علم الکیمیاء عند العرب فی عصره . وقد اشتملت کتبه علی بیان مرکبات کیماویة کانت مجهولة قبله . وهو أول من وصف أعمال التقطیر والتبلور والتذویب والتحویل.الخ.). وأورد عدداً من کتبه فی الذریعة:2/36 ، و43، و211، و491، و:3/175، و:4م15، و18، و52، و64، و170و:5/120، و:20/171.

وفی وفیات الأعیان:1/112، فی ترجمة الإمام الصادق(علیه السّلام): (وفضله أشهر من أن یذکر ، وله کلام فی صنعة الکیمیاء ، وکان تلمیذه أبو موسی جابر بن حیان الصوفی الطرسوسی قد ألف کتاباً یشتمل علی ألف ورقة یتضمن رسائل جعفر الصادق ، وهی خمسمائة رسالة ).

وفی الفائق فی رواة وأصحاب الإمام الصادق(علیه السّلام):1/277: (من مشاهیر علماء الفلسفة والحکمة والطب والریاضیات والفلک والمنطق والنجوم ، وکان متصوفاً أدیباً زاهداً، واعظاً مؤلفاً فی شتی صنوف العلم والمعرفة ).

ص: 174

وفی مستدرک الوسائل:16/445: (عن عمر بن یزید قال: کتب جابر بن حیان الصوفی إلی أبی عبد الله(علیه السّلام): یا بن رسول الله منعتنی ریح شابکة ، شبکت بین قرنی إلی قدمی ، فادع الله لی ، فدعا له وکتب إلیه: علیک بسعوط العنبر والزنبق علی الریق ، تعافی منها إن شاء الله . ففعل ذلک فکأنما نشط من عقال ).

ونورد من أعیان الشیعة:4/30 ، خلاصة مقال للدکتور أحمد فؤاد الأهوانی نشره فی مجلة المجلة المصریة جاء فیه: هو أشهر علماء العرب ، وأول من أرسی قواعد العلم التجریبی ، وذکر أن أبا جابر کان عطاراً فی الکوفة وأن والی خراسان قتله لاتهامه بالتشیع، وأنه سافر الی خراسان فولد ابنه جابراً هناک سنة120 وتوفی سنة190 وذکر أن کتبه ورسائله ومقالاته تزید علی3900 کتاب...

وحین اتجهت أوروبا إلی العرب تغترف من بحر علومهم ، لم تجد أمامها فی الکیمیاء سوی جابر فنقلت اسمه وکتبه

وعلمه ، واشتهر عندهم باسم Geber وباللاتینیة Geberus کما نقلوا عن تلمیذه الرازی . ونقل جیرار الکریمونی فی أکبر الظن کتاب السبعین من مؤلفات جابر بن حیان إلی اللاتینیة ، وهو مجموعة تتألف من سبعین کتاباً... عنی بتحقیق سیرة جابر من الأوروبیین الأستاذ هولمیارد فی مقالة له نشرها سنة1923 وقد کتب عنه فی کتبه الأخری ، وفی کتاب له وهو الکیمیاء الصادر سنة1957 فی سلسلة بلیکان الإنکلیزیة .

مختار رسائل جابر بن حیان نشرت فی القاهرة عام1935 من قبل المستشرق التشیکوسلوفاکی ب. کراوس .

یقسم هولمیارد مؤلفاته إلی أربع مجموعات: أ - الکتب المائة والاثنا عشر . وهی التی أهدی بعضها إلی البرامکة ، ومعظم هذه المجموعة مأخوذة عن هرمس . ب - الکتب السبعون ، وقد ترجم معظمها إلی اللاتینیة فی القرن الثانی عشر . ج

ص: 175

- المصححات العشر ، والتی یصف فیها ما قام به القدماء فی علم الکیمیاء مثل فیثاغورس وسقراط وغیرهم . د - کتب الموازین وهی114 کتاباً یعرض فیها نظریة المیزان .

کتاب هولمیارد الأستاذ الأول فی علوم الکیمیاء بمدرسة کلفتن فی برستل بانکلترة المنشور فی باریس عام1928 . ثم نشر هولمیارد سنة 1928 إحدی عشرة رسالة لجابر ، کما نشر کراوس فی القاهرة المختار من رسائل جابر بن حیان ، وذلک فی کتاب یقع فی555 صفحة .

وقال الدکتور الأهوانی: لقد أغفل هولمیارد من مؤلفات جابر ما کتبه فی الطب والفلسفة والمنطق وغیر ذلک لان عنایته کانت بالجانب الکیمیائی فقط . ولم ینشر من هذا التراث الضخم إلا جزء ضئیل ، بدأه برتیلوه Berthlot بنشر کتاب الرحمة ، وهو أول کتب جابر ، وقد نشرت الترجمة اللاتینیة کذلک .

وآخر کتاب نشر له فی لیبزغ هو رسالة دفع السموم ومضارها مع ترجمة النص إلی الألمانیة ، وذلک فی سنة 1959 . وقد یسر کراوس فی المجلد الأول من بحثه العمل ، فأحصی جمیع المخطوطات الموجودة فی شتی مکتبات العالم من مؤلفات جابر ، مع الإشارة إلی ما طبع منها .

وقال الجندی فی کتابه الإمام جعفر الصادق/277: (علی هؤلاء الفقهاء والعلماء تعلم أهل أوربة منهج النزاهة العلمیة والواقعیة الذی تبلور فی طریقة التجربة والإستخلاص . والذی أعلنه جابر بن حیان أول من استحق فی العالم لقب کیمیائی ، کما یعبر عنه الأوربیون) .

نظرة فی کتاب: مختار رسائل جابر بن حیان

هذا الکتاب فی أکثر من570 صفحة ، عنی بتصحیحه ونشره ب.کراوس ، طبع مکتبة الخانجی بالقاهرة سنة1354 هجریة ، وأعادت طبعه مکتبة المثنی ببغداد

ص: 176

بدون تاریخ . ویشتمل علی ست وعشرین رسالة ، أولها کتاب إخراج ما فی القوة الی الفعل ، ثم کتاب الحدود ، وکتاب الماجد ، والجزء الأول من کتاب الأحجار علی رأی بلیناس.. الی آخره . وقد طالعته فرأیت فیه من ناحیة عقائدیة شذرات جیدة ، لکن فیه حشوٌ کثیر ممل! فمؤلفه یؤکد مرات عدیدة أن رسائله من إملاء (سیدی جعفر صلوات الله علیه ) ویکرر قسَمه: ( وحق سیدی ، أو: وحق سیدی(علیه السّلام)، أو: وحق سیدی جعفر صلوات الله علیه ) أکثر من ثلاثین مرة .

ویبدأ کتاب الأحجارصفحة158 بقوله: (بسم الله الرحمن الرحیم . الحمد لله الذی اصطفی محمداً نبیاً وانتخب له علیاً ولیاً ). وفی صفحة 456 ، یرشد طالب الکیمیا وعلم المیزان لنجاح عمله الی صلاة وأوراد وتوسل بالنبی وآله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وفیه قوله: ( اللهم إن وسیلتی الیک محمد وصفوة أهل بیته آمین . قال سیدی لی فی ذلک: إن الله عز وجل أکرم من أن یتوسل الیه إنسان بنبیه وأهل نبیه فیرده خائباً ).

وفی صفحة489 ، یذکر تحت عنوان کتاب الخمسین ، ألقاب خمسة وخمسین شخصاً یدور علیهم تکوین العالم ، فیقول: ( وأما أسماء الأشخاص الذین یکونون فی هذا الباب خمسة وخمسون: النبی .الإمام . الحجاب . البسیط . السابق. التالی. الاساس. العمد..الخ.). وهی تقسیمات لبعض تنظیمات الإسماعیلیة المتأخرة عن زمن جابر بن حیان . أما من ناحیة علمیة فموضوع الرسائل وهدفها ، قوانین الکیمیاء وصنعة تحویل الحدید والمعادن الی ذهب ، ولا تجد من ذلک شیئاً ذا قیمة ! وهذا ما یجعلک تطمئن أنهم نسبوا الی جابر(رحمه الله)کتباً ورسائل لم یکتبها ! وذلک بسبب شهرته وثقة الرأی العام بعلمه . لکن ذلک لاینفی مؤلفات جابر الحقیقیة ، ونبوغه فی الکیمیاء والطب ، وما علمه أستاذه الإمام الصادق(علیه السّلام).

ص: 177

ه-- الخلیل بن أحمد الفراهیدی

اشارة

هو الخلیل بن أحمد الفراهیدی ، نسبة الی فراهید بطن من قبیلة الأزد العمانیة أو الیمانیة . (لسان العرب/3/335 ، وتهذیب اللغة للأزهری:6/280، والمزهر للسیوطی:2/379) ، أو محلة فی البصرة . (ثقات ابن حبان:8/229) ولعلها محلة الفراهید الأزدیین .

(قال الأصمعی: سأَلْتُ الخَلِیلَ بنَ أَحمدَ: مِمّن هو؟ فقال: من أَزْدِ عُمَانَ من فراهید . قلت: وما فَرَاهِیدُ ؟ قال: جَرْوُ الأَسد بلُغَة عُمَانَ) . (تاج العروس:8/494 ، ونحوه نور القبس للمرزبانی/20) . لکن الصفدی قال فی الوافی:13/241: (وعلماء الفرس تدعی مشارکتهم فی هذه الفضیلة.. ومن الفرس کان أصله لأنه من فراهید الیمن ، وکانوا من بقایا أولاد الفرس الذین فتحوا بلاد الیمن لکسری وکان جد الخلیل من أولئک). وذکر الزبیدی فی تاج العروس:13/534 ، أن جَنْکُ إسم جَدِّ الخلیل بن أَحمد وقال: ( وهو من محدثی سجستان ، قاله الصاغانی .قلت وکنیته أبو سعید).

وقال المرزبانی فی نور القبس/20: ( وکان من أهل عمان من قریة من قراها ، ثم انتقل إلی البصرة أ وکان من أزهد الناس وأعلاهم نفساً . وکان یعیش من بستان له بالخریبة خلفه له أبوه... وقال: قدمت من عمان ورأیی رأی الصفریة فجلست إلی أیوب بن أبی تمیمة السختیانی.. فلزمته فنفعنی الله به .

قال یونس: قلت للخلیل: مابال أصحاب رسول الله (ص) کأنهم بنو أم واحدة وعلیّ بن أبی طالب(علیه السّلام)کأنه ابن عَلَّة؟ فقال: من أین لک هذا السؤال؟ قلت: أرید أن تجیبنی ! فقال: علی أن تکتم علیَّ مادمت حیاً ! قلت: أجل ، فقال: تقدمهم إسلاماً ، وبذهم شرفاً ، وفاقهم علماً ، ورجحهم حلماً ، وکاثرهم زهداً ، وأنجدهم شجاعة فحسدوه ! والناس إلی أمثالهم وأشکالهم أمیل منهم إلی من فاقهم وکثرهم ورجحهم) ! ثم روی المرزبانی مجموعة من أقواله وشعره .

ص: 178

وقال یاقوت فی معجم الأدباء:3/300: ( وکان سفیان الثوری یقول: من أحب أن ینظر إلی رجل خلق من الذهب والمسک فلینظر إلی الخلیل بن أحمد !

ویروی عن النضر بن شمیل أنه قال: ما رأیت رجلاً أعلم بالسنة بعد ابن عون من الخلیل بن أحمد.. أکلت الدنیا بعلم الخلیل وکتبه ، وهو فی خص لا یشعر به). انتهی. أی کان ابن شمیل وغیره یأخذون کتبه ویبیعونها الی الخلیفة والولاة !

أقول: یتضح بهذا أن الخلیل کان شیعیاً یکتم تشیعه ، وکان یروی عن أیوب السختیانی وسفیان الثوری تلمیذی الإمام الصادق(علیه السّلام)اللذین کانا یعیشان فی البصرة ، وقد روی السنة عنه عن سفیان عن الإمام الصادق(علیه السّلام)حدیث فلسفة الحج ، ففی تهذیب الکمال:5/93، قال الخلیل: (سمعت سفیان بن سعید الثوری یقول: قدمت إلی مکة فإذا أنا بأبی عبد الله جعفر بن محمد(علیه السّلام)قد أناخ بالأبطح فقلت: یا ابن رسول الله لم جعل

الموقف من وراء الحرم ، ولم یصیر فی المشعر الحرام؟ فقال: الکعبة بیت الله عز وجل والحرم حجابه والموقف بابه ، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب یتضرعون ، فلما أذن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثانی وهو المزدلفة ، فلما نظر إلی کثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم ، فلما رحمهم أمرهم بتقریب قربانهم ، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التی کانت حجاباً بینه وبینهم ، أمرهم بزیارة بیته علی طهارة منهم ، قال: فقال له: فلما کره الصوم أیام التشریق؟ فقال: إن القوم فی ضیافة الله عز وجل ولا یجب علی الضیف أن یصوم عند من أضافه . قال: قلت: جعلت فداک فما بال الناس یتعلقون بأستار الکعبة وهی خرق لا تنفع شیئاً؟ فقال: ذلک مثل رجل بینه وبین رجل جرم ، فهو یتعلق به ویطوف حوله رجاء أن یهب له ذلک الجرم) . والذهبی فی سیره:6/264، وتاریخ الإسلام:9/92 . ورواه البیهقی مختصراً فی فضائل

ص: 179

الأوقات/408 ، عن علی(علیه السّلام) ، وکذا الشعرانی فی العهود المحمدیة/238، والمنذری فی الترغیب:2/133، بینما نسب شبیهه فی شعب الإیمان:3/469 الی ذی النون المصری ، وکذا ابن عساکر:6/352 . وبهذا یسهل أن نتفهم أن الخلیل(رحمه الله)أخذ أصول علمه من الإمام الصادق أو أبیه(علیهماالسّلام) وبنی علیها فی البصرة علم العروض واللغة ، کما أخذ أبو الأسود الدؤلی(رحمه الله)أصول علم النحو من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وبنی علیها فی البصرة .

روی فی مناقب آل أبی طالب:1/326 ، عن تاریخ البلاذری ، أن علم العروض خرج من دار علی(علیه السّلام)قال: ( ومنهم العروضیون ومن داره خرجت العروض ، روی أن الخلیل بن أحمد أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب محمد الباقر أو علی بن الحسین(علیهماالسّلام)فوضع لذلک أصولاً). ورواه فی شرح إحقاق الحق:12/169 ، عن الحافظ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازی فی کتابه: الزینة فی الکلمات الإسلامیة العربیة/80 ، طبعة القاهرة .

وروت مصادر الجمیع أن أبا الأسود الدؤلی(رحمه الله)أول من وضع علم العربیة بتوجیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)(مثلاً تاریخ دمشق:25/194) ، وأکمله الخلیل(رحمه الله)فوضع تشکیل الحروف من المد والتشدید والفتحة الکسرة والضمة والسکون والتنوین والروْم والإشمام. (البحار:40/161، القرآن للطباطبائی/155، والاتقان:2/171، وتاریخ القرآن للزرندی/161).

توثیق علمائنا للخلیل بن أحمد(رحمه الله)

قال العلامة فی خلاصة الأقول/140: ( کان أفضل الناس فی الأدب وقوله حجة فیه ، واخترع علم العروض وفضله أشهر من أن یذکر ، وکان إمامی المذهب) .

وعده فی أعیان الشیعة:6/337 ، وکذا فی الذریعة:2/325 ، وذکر له کتاب الإمامة.. تممه أبو الفتح محمد بن جعفر المراغی المتوفی سنة371 ).

وقال فی جواهر الکلام:7/221، فی معنی العشی والإبکار: (ومنهم الخلیل بن أحمد فی کتاب العین ، الذی هو الأصل فی اللغة ، وعلیه المعول والمرجع).

ص: 180

علم العروض وکتاب العین

قال الصفدی فی وفیات الأعیان:2/244: (وهو الذی استنبط علم العروض وأخرجه إلی الوجود وحصر أقسامه فی خمس دوائر یستخرج منها خمسة عشر بحرا ثم زاد فیه الأخفش بحراً آخر وسماه الخبب).

وقال ابن الندیم فی الفهرست/48: (أصله من الأزد من فراهید.. وکان غایة فی استخراج مسائل النحو وتصحیح القیاس . وهو أول من استخرج العروض وخص به أشعار العرب . وکان من الزهاد فی الدنیا المنقطعین إلی العلم.. توفی بالبصرة سنة سبعین ومائة وعمره أربع وسبعون سنة.وله من الکتب المصنفة: کتاب العین. قرأت بخط أبی الفتح بن النحوی صاحب بنی الفرات ، وکان صدوقاً منقراً بحاثاً: قال أبو بکر بن درید: وقع بالبصرة کتاب العین سنة ثمان وأربعین ومائتین قدم به وراق من خراسان ، وکان فی ثمانیة وأربعین جزءً فباعه بخمسین دیناراً . وکنا نسمع بهذا الکتاب أنه بخراسان فی خزائن الطاهریة حتی قدم به هذا الوراق... وقد استدرک علی الخلیل جماعة من العلماء فی کتاب العین خطأ وتصحیفاً وشیئاً ذکر أنه مهمل وهو مستعمل ، وشیئاً ذکر أنه مستعمل وهو مهمل. فمنهم أبو طالب المفضل بن سلمة وعبد الله بن محمد الکرمانی وأبو بکر بن درید . والجهضمی والسدوسی . والهنانی الدوسی . وقد انتصر له جماعة من العلماء وخطأ بعضهم بعضاً.. وللخلیل أیضا من الکتب: کتاب النغم . کتاب العروض . کتاب الشواهد . کتاب النقط والشکل . کتاب فائت العین . کتاب الایقاع. أسماء فصحاء الأعراب المشهرین) .

وقال فی الذریعة:1/38: (آلات الإعراب ، المعبر عنه بکتاب النقط والشکل.. فی خزانة کتب أیاصوفیة رقم4456 ). وذکر له فی:5/143، کتاب جمل الإعراب .

ص: 181

وفی:9/ق1/303 ، دیوان الخلیل . وفی:15/364، کتاب العین ، وقال: (ذکر فی العین عدد أبنیة کلام العرب المهمل والمستعمل علی مراتبها الأربع من الثنائی والثلاثی والرباعی والخماسی من غیر تکرار ، فی اثنی عشر ألف ألف وثلاثمأة وخمسة آلاف وأربعمأة وستة . فالثنائی سبعمأة وستة وخمسون ، والثلاثی تسعة عشر الف وستمأة وخمسون . والرباعی أربع مأة الف واحد وتسعون الف وأربعمأة . والخماسی أحد عشر ألف ألف وسبعمأة وثلاثة وتسعون ألف وستمأة وهو موجود فی مکتبة (کوپرلی زاده/ رقم1445) .

ثم ذکر مؤلفات حول العین ، قال: ( وقد کتب نضر بن شمیل المتوفی204: المدخل علی کتاب العین. ولأبی طالب مفضل بن سلمة الکوفی المتوفی250: استدراک علی کتاب العین ، ولأبی بکر محمد بن درید المتوفی321: استدراک آخر علیه . ولغلام ثعلب المتوفی344 فائت العین . ولابن درستویه المتوفی347: نقض العین . ولأحمد الخارزنجی المتوفی348: تکملة العین. ولأبی بکر محمد الزبیدی المتوفی379: مختصر العین . ولمحمد بن عبد الله الإسکافی الخطیب المتوفی421: غلط العین . ولسهام بن غالب بن التبانی المتوفی436: فتح العین . ولعبد الله بن محمد الکرمانی: استدراک العین) .

وفی تهذیب ابن حجر:3/141: (قیل لسیبویه هل رأیت مع الخلیل کتباً یملی علیک منها ؟ قال: لم أجد معه کتباً إلا عشرین رطلاً ، فیها بخط دقیق ما سمعته من لغات العرب. وما سمعت من النحو فاملاه من قلبه . وکانت وفاة الخلیل سنة 175 وقیل سنة70وقیل سنة نیف وستین ومائة . قرأت الأولین بخط الخطیب).

من أخلاق الخلیل وأقواله الممیزة(رحمه الله)

(کان الخلیل رجلاً صالحاً عاقلاً حلیماً وقوراً.. قال تلمیذه النضر بن شمیل: أقام الخلیل فی خص(کوخ) من أخصاص البصرة لا یقدر علی فلسین ، وأصحابه

ص: 182

یکسبون بعلمه الأموال ! ولقد سمعته یوماً یقول: إنی لأغلق علیَّ بابی فما یجاوزه همی . وکان یقول: أکمل ما یکون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعین سنة ، وهی السن التی بعث الله تعالی فیها محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). ثم یتغیر وینقص إذا بلغ ثلاثاً وستین سنة ، وهی السن التی قبض فیها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). وأصفی ما یکون ذهن الإنسان فی وقت السحر ). (وفیات الأعیان:2/244).

وقال: ( أحثُّ کلمة علی طلب علم قول علی بن أبی طالب(علیه السّلام): قدر کل امرئ ما یحسن) . ( أمالی الطوسی/494).

وقال: (الإنسان لا یعرف خطأ معلمه حتی یجالس غیره) . (مستطرفات السرائر/652) .

وقال: (إن الدنیا بأسرها لا تتسع متباغضین ، وإن شبراً فی شبر یسع متحابین) . کشف الخفاء:2/189) . وقال(رحمه الله): (إذا نسخ الکتاب ثلاث مرار تحول بالفارسیة . قال أبو یعقوب: یعنی یکثر سقطه). (مذیل الطبری/151).

(کان من الزهاد فی الدنیا والمنقطعین إلی العلم ، ویروی عنه أنه قال: إن لم تکن هذه الطائفة، یعنی أهل العلم ، أولیاء الله فلیس لله ولی). (تهذیب الکمال:8/330).

(قال ابن حبان: کان من عباد الله المتقشفین فی العبادة.. ولد سنة مائة ومات سنة سبعین أو خمس وسبعین). (خلاصة تذهیب تهذیب الکمال لخزرجی/106).

قال الخلیل بن أحمد: ( الناس أربعة: فرجل یدری وهو یدری أنه یدری فذاک عالم فخذوا عنه ، ورجل یدری وهو لا یدری أنه یدری فذاک ناس فذکروه ، ورجل لا یدری وهو یدری أنه لا یدری فذاک مسترشد فعلموه ، ورجل لا یدری وهولا یدری أنه لا یدری فذاک جاهل فارفضوه). (تهذیب الکمال:8/327).

قیل له: (ما الدلیل علی أن علیاً إمام الکل فی الکل؟ قال: احتیاج الکل إلیه واستغناؤه عن الکل . وقیل له: ما تقول فی علی بن أبی طالب(علیه السّلام)؟ فقال: ما أقول فی

ص: 183

حق امرئ ، کتم مناقبه أولیاؤه خوفاً وأعداؤه حسداً ، ثم ظهر من بین الکتمانین ما ملأ الخافقین). (المهذب البارع:4/293)

وقیل له: ( لِمَ هجرَ الناس علیاً(علیه السّلام)وقرباه من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قرباه ، وموضعه من المسلمین موضعه ، وعناؤه فی الاسلام عناؤه ؟ فقال: بهر والله نوره أنوارهم وغلبهم علی صفو کل منهل ، والناس إلی أشکالهم أمیل ، أما سمعت الأول حیث قال:

وکل شکل لشکله ألفٌ

أما تری الفیلَ یألفُ الفیلا ) .

(مناقب آل أبی طالب:3/15 ، وأمالی الصدوق/300 ، وعلل الشرائع:1/145).

وله(رحمه الله)وصف لطیف للخلیفة الأموی الولید بن یزید الذی حکم سنة125، قال: (حضرت مجلس الولید بن یزید بن عبد الملک بن مروان ، وقد اسحنفر فی سب علی(علیه السّلام) ، واثعنجر فی ثلبه ، إذ خرج علیه أعرابی علی ناقة له ، وذفراها یسیلان لإغذاذ السیر دماً ، فلما رآه الولید فی منظرته قال: إئذنوا لهذا الأعرابی فإنی أراه قد قصدنا ، وجاء الأعرابی فعقل ناقته بطرف زمامها ، ثم أذن له فدخل ، فأورده قصیدة لم یسمع السامعون مثلها جودة قط ، إلی أن انتهی إلی قوله:

ولما أن رأیت الدهر آلی

علیَّ ولحَّ فی إضعاف حالی

وفدت إلیک أبغی حسن عقبی

أسدُّ بها خصاصات العیال..الخ.

قال: فقبل مدحته وأجزل عطیته وقال له: یا أخا العرب قد قبلنا مدحتک وأجزلنا صلتک فاهجُ لنا علیاً أبا تراب ، فوثب الأعرابی یتهافت قطعاً ویزأر حنقاً ویشمذر شفقاً ، وقال: والله إن الذی عنیته بالهجاء لهو أحق منک بالمدیح ، وأنت أولی منه بالهجاء ! فقال له جلساؤه: اسکت نزحک الله قال: علام ترجونی؟ وبم تبشرونی؟ ولما أبدیت سقطاً ولا قلت شططاً ولا ذهبت غلطاً ، علی أننی فضلت علیه من هو أولی بالفضل منه ، علی بن أبی طالب الذی تجلبب بالوقار ، ونبذ الشنار وعاف العار... وأفاض فی مدح علی(علیه السّلام)ومواقفه مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعده ، قال الخلیل:

ص: 184

(فأربد وجه الولید وتغیر لونه ، وغص بریقه ، وشرق بعبرته ، کأنما فقئ فی عینه حب المضِّ الحاذق ، فأشار علیه بعض جلسائه بالإنصراف وهو لا یشک أنه مقتول به ، فخرج فوجد بعض الأعراب الداخلین فقال له: هل لک أن تأخذ خلعتی الصفراء وآخذ خلعتک السوداء ، وأجعل لک بعض الجائزة حظاً ؟ ففعل الرجل وخرج الأعرابی فاستوی علی راحلته وغاص فی صحرائه وتوغل فی بیدائه ، واعتقل الرجل الآخر فضرب عنقه وجیئ به

إلی الولید ، فقال: لیس هو هذا بصاحبنا.. قال: أجد علی قلبی غمة کالجبل من فوت هذا الأعرابی). (العدد القویة للحلی/253، والبحار:46/321 ، ومواقف الشیعة:1/358) . یروی له(رحمه الله):

لو کنتَ تعلم ما أقول عذرتنی

أو کنت أجهل ما تقول عذلتکا

لکن جهلت مقالتی فعذلتنی

وعلمتُ أنک جاهلٌ فعذرتکا ).

(تهذیب الکمال:8/330).

(کان الخلیل بن أحمد یحب أن یری عبد الله بن المقفع ، وکان ابن المقفع یحب ذلک فجمعهما عباد بن عباد المهلی فتحادثا ثلاثة أیام ولیالیهن ، فقیل للخلیل: کیف رأیت عبد الله؟ قال: ما رأیت مثله وعلمه أکثر من عقله . وقیل لابن المقفع: کیف رأیت الخلیل؟ قال: ما رأیت مثله ، وعقله أکثر من علمه .

قال المغیرة: فصدقا ، أدی عقل الخلیل الخلیل إلی أن مات أزهد الناس ! وجهل ابن المقفع أداه إلی أن کتب أماناً لعبد الله بن علی فقال فیه: ومتی غدر أمیر المؤمنین بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبیده أحرار والمسلمون فی حل من بیعته! فاشتد ذلک علی المنصور جداً خاصة أمر البیعة.. وکتب إلی سفیان بن معاویة المهلبی وهو أمیر البصرة من قبله بقتله فقتله)!(أمالی المرتضی:1/94 ).

أقول: کانت طریقة قتل ابن المقفع فجیعة ! فقد دخل علی الوالی العباسی فی

ص: 185

البصرة وکان خادمه ینتظره ، فأدخله الوالی وقتله وقطعه وألقی قطعه فی التنور ، ثم أنکر مجیئه الیه ! وردالمنصور الشهود وصدق والیه فی دعواه الکاذبة !

أخفی أکثرهم تشیع الخلیل ، ونقصوه حقه !

وثقه علماء السنة ورووا عنه ، کما فی المحلی:8/162، وتاریخ بغداد:11/325، وتذکرة الحفاظ:3/1082، وقال عنه الذهبی فی سیره:7/429: (حدث عن: أیوب السختیانی ، وعاصم الأحول ، والعوام بن حوشب ، وغالب القطان... أقام الخلیل فی خص له بالبصرة ، لا یقدر علی فلسین ، وتلامذته یکسبون بعلمه الأموال ! قال أیوب بن المتوکل: کان الخلیل إذا أفاد إنساناً شیئاً لم یره بأنه أفاده وإن استفاد من أحد شیئاً أراه بأنه استفاد منه . قلت: صار طوائف فی زماننا بالعکس) .

وقال الذهبی فی تاریخه:9/383 ، یمتدح التعایش بین أهل الأدیان والمذاهب فی البصرة: (قال خلف بن المثنی: کان یجتمع بالبصرة عشرة فی مجلس ، لا یعرف مثلهم فی تضاد أدیانهم ونحلهم: الخلیل بن أحمد سنی ، والسید بن محمد الحمیری رافضی ، وصالح بن عبد القدوس ثنوی ، وسفیان بن مجاشع صفری ، وبشار بن برد خلیع ماجن ، وحماد عجرد زندیق ، وابن رأس الجالوت یهودی ، وابن نطیرا متکلم النصاری ، وعمرو بن أخت المؤید المجوسی ، وروح بن سنان الحرانی صابئی ، فیتناشد الجماعة أشعاراً ، فکان بشار یقول: أبیاتک هذه یا فلان أحسن من سورة کذا وکذا ! وبهذا المزاح ونحوه کفروا بشاراً).

لکن عرفت تشیع الخلیل(رحمه الله) ، وقد ترجم الذهبی

نفسه لابنه فی لسان المیزان:1/55، فقال: (ابراهیم بن الخلیل الفراهیدی ، شیعی).

وفی الأعلام للزرکلی:2/314: ( من أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض ، أخذه من الموسیقی وکان عارفا بها... وهو أستاذ سیبویه النحوی ولد ومات فی

ص: 186

البصرة وعاش فقیراً صابراً . کان شعث الرأس شاحب اللون قشف الهیئة متمزق الثیاب متقطع القدمین ، مغموراً فی الناس لا یعرف... وفکر فی ابتکار طریقة فی الحساب تسهله علی العامة ، فدخل المسجد وهو یعمل فکره فصدمته ساریة وهو غافل ، فکانت سبب موته) .

أقول: لا تصدق ذمهم للخلیل ، ولعلهم قتلوه کما قتلوا ابن المقفع لکلمة بلغتهم عنه ، فالعباسیون کاسلافهم الأمویین لاتتسع صدورهم لمن خالفهم أدنی مخالفة ، حتی لو کان عبقریاً !

کل اتجاه علمی ودم جدید فی الأمة وراؤه أهل البیت(علیهم السّلام)

رأیتَ فی الفصول المتقدمة أن فعالیات الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)متنوعة وتأسیسیة . وکذلک هی فعالیات الأئمة(علیهم السّلام). وقد قلنا فی کتاب: کیف رد الشیعة غزو المغول/199 ما خلاصته: أن التشیع کان دائماً طاقة تجدید لحیاة الأمة ، وعندما قال الله تعالی لعرب الجزیرة فی أواخر حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): وَإِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثَالَکُمْ). (محمد:38) ، قصد أن عنده بدیلاً خیراً منهم إذا هم تقاعسوا . فلو لم تدخل الیمن فی الإسلام وتغنی مخزونها ، لأکلت

قبائل الجزیرة بعضها بعضاً باسم الإسلام ، ثم أماتوه وماتوا !

علی أن أهم عنصر فی المخطط الإلهی لبقاء الإسلام ، هو مخزون العترة النبویة ومأساتها ، فلولا وجود أهل البیت(علیهم السّلام)لفرضت القبائل القرشیة خلافتها بدون معارض ، ولَسَارَ التاریخ بعقلیة تقاسم بطون قریش للرفادة والسقایة والحجابة والدفاع عن حقوق القبیلة وَما عرفت الأمة بدیلاً لدین الخلافة ، ولا الإجتهاد ودور العقل ، والإنفتاح علی العلوم.. ولولا العترة النبویة لَمَا کانت مأساتهم وإقصاؤهم عن الحکم واضطهادهم ، وتقتیلهم فی کل أرض وتحت کل نجم ،

ص: 187

ولا دویُّ هذه (التراجیدیا) الدینیة العمیق فی وجدان الأمة ، ومخزونها الفاعل فی ضمیرها .

لقد کان التشیع وما زال مضخةً تُجدِّد دم الأمة کلما تراکم فیها الفساد والمرض! فهو النفحةً النبویة التی تُرَوْحِنها کلما دفعها الهجیر البدوی الی الیَبَس !

ألا تری کیف تَخَثَّر المخزون الدینی والإنسانی فی أواخر خلافة عثمان ؟ فثار الصحابة وولوا علیاً(علیه السّلام)فأیقظ حیویتها وأغنی مخزونها ؟ ثم کیف انحط مستواها فی زمن یزید ، فأحیا مسیرتها الحسین(علیه السّلام)بدمه الطاهر ودماء الطالبین بثاره ؟! وکیف ضَخّ فیها زید بن علی(رحمه الله)روحَ الثورة والتغییر؟ فکانت شعارات الحسنیین والعباسیین بظلامات أهل البیت ، وثارات زید والحسین(علیه السّلام)؟

وعندما أفرط ملوک بنی عباس فی طغیانهم ، کیف مدَّت ثورات العلویین الأمة بالقیم ، وعلمتها انتزاع حقها فی الثورة والتغییر ؟

وعندما غرقت الدولة العباسیة فی المادیة الیونانیة والفارسیة ، کیف أثری الإمام الرضا(علیه السّلام)مخزونها من صریح الإسلام ووحی النبوة ؟

وعندما تهرَّأ النظام العباسی ، کیف جاءت الموجة الفاطمیة من الغرب وقدمت بدیلاً منافساً جدَّد الحیاة فی الأمة ؟ ثم رفدتها موجة البویهیین فأخرجت العاصمة من جمودها الحنبلی ، وأحیت حریة التفکیر !

وعندما ضعفت دولة البویهیین وجاءت موجة التعصب السلجوقی کیف حولت الخلافة الی استغراق فی الترف حتی فَقَدَ جسم الأمة قدرته علی المقاومة والدفاع فجاءتها دفعة المضادات الحیویة من وحشیة المغول لتحرک کریاتها البیضاء ، ولم تکن هذه الکریات إلا الشیعة ومذهب أهل البیت(علیهم السّلام)؟

وعندما زاد ضغط الصلیبیین علی سواحلها وأعماقها ، کیف قادت المقاومة دول

ص: 188

وإمارات الشیعة فی حلب ومصر والشام ولبنان !

ینسی أتباع الخلافة قرنین من مقاومة الجیش المصری الشیعی للروم والفرنجة ویُطبِّلون لصلاح الدین السنی ، وما کان عمله إلا أنه تسلق الی قیادة الجیش المصری الشیعی وجیش الحمدانیین فی حلب الذین اشترطوا علی ابن الزنکی حریتهم المذهبیة فوقَّع لهم علی شروطهم ؟!

ثم انظر کیف جاءت موجة الأتراک العثمانیین لضرب القوة الشیعیة وفرض الخلافة السنیة ، حاملة کل تعصب العباسیین والأمویین ، فرافقتها موجة شیعیة أقامت الدولة الصفویة فی إیران لحفظ حریتها المذهبیة !

وعندما انهارت الخلافة العثمانیة بحروب الإنکلیز والوهابیین ضدها ، ودفنوا الخلافة والخلیفة فی استانبول ! کیف انهارت المؤسسة الدینیة فی العالم السنی وصمدت المؤسسة الشیعیة وحفظت وجودها واستقلالها ؟

وأخیراً ، عندما فشلت مقاومات الأمة القومیة الیساریة والسنیة ، کیف ظهرت المرجعیة الشیعیة فی إیران ، فضخَّت فی الأمة روح المقاومة والحیاة ؟

وعندما انهزمت الجیوش والأنظمة العربیة أمام إسرائیل ، کیف ظهرت موجة المقاومة الحسینیة فی شیعة لبنان فهزمت دولة إسرائیل الأسطوریة ، وضخَّت فی الأمة دماً جدیداً للحیاة والمقاومة ؟!

وعندما أرادت الوهابیة تقلید الشیعة وضربوا مرکز الغرب التجاری العالمی کیف جُنُّوا وأعلنوا الحرب علی المسلمین ، وعجزت الوهابیة عن خطابهم ، فجاء الخطاب الشیعی موازناً بین خطی المقاومة والتعایش !

إن بقاء الأمة الیوم بعناصر القوة فی ثقافتها ومقاومتها ، مدینً للفکر الشیعی الذی تمسک بالنص ولم یخضع لمنطق القبیلة فی السقیفة .

ص: 189

وبهذا تعرف سبب هذا التوجه المعاصر فی شعوب الأمة الی أهل البیت(علیهم السّلام) ترید أن تفهم قصتهم ومذهبهم ، لأنهم فی عمقها الذهنی والتاریخی مشروع نجاة عندما یستنفد مذهب الخلافة طاقته وخطابه !

وفی موضوعنا: نجد أن الإمام الباقر(علیه السّلام)غیَّر وضعها العام تغییراً أساسیاً ، فیکفی أن تنظر الی حالتها قبل الإمام(علیه السّلام)فی عهد عبد الملک وأولاده ، وحالتها بعد الإمام(علیه السّلام)أی فی بقیة حکم هشام الی سنة 125 ، ثم فی عهد الذین خلفوه: الولید ، ویزید ، وإبراهیم ، ومروان الحمار، لتری أن الإمامین الباقر والصادق(علیهماالسّلام) وتلامیذهما أسسوا لعلوم اللغة والطبیعة، والإنفتاح علی ثقافة الشعوب وثروتها العلمیة ، وأنهم کسروا الجمود القبلی باسم الدین وبعثوا تیار الحریة فی الأمة ، فاتخذ أشکالاً متعددة ، فی طلیعتها التشیع ، والإعتزال ، ونزعة التحرر .

إن هذه الموجة التی شق طریقها الإمام الباقر(علیه السّلام)ودفع بها ولده الصادق(علیه السّلام)، هی التی مهدت لثورة زید(رحمه الله)، ثم لثورة الخراسانیین علی عمال بنی أمیة ، وانتصارهم علی جیوش النظام الأموی وإسقاطه .

ص: 190

الفصل السادس:کیف تعمدت السلطة وأتباعها تضییع علم العترة(علیهم السّلام) !

1- أجیالٌ من الرواة والعلماء خَرَّجَها الإمامان الباقر والصادق(علیهماالسّلام)

لایمکننا إحصاء تلامیذ الإمامین الباقرین(علیهماالسّلام)، کما أن ترجمة المعروفین منهم تحتاج الی مجلدات ! ویکفی أن تعرف أن ابن عقدة(رحمه الله)ألَّف کتاباً من عدة مجلدات ، أورد فیه أربعة آلاف عالم وطالب رووا عن الإمام الصادق(علیه السّلام) ، وذکر بعد کل واحد منهم ما رواه ! قال العلامة الحلی فی ترجمته فی خلاصة الأقوال/322: ( له کتب ذکرناها فی کتابنا الکبیر ، منها کتاب أسماء الرجال الذین رووا عن الصادق(علیه السّلام)أربعة آلاف رجل ، وأخرج فیه لکل رجل الحدیث الذی رواه ، مات بالکوفة سنة ثلاث وثلاثین وثلاثمائة). انتهی.

وقد روینا قسماً کبیراً من فقهنا وعقائدنا وثقافتنا ، عن الإمامین محمد الباقر وابنه جعفر الصادق(علیهماالسّلام) ، حتی عرف مذهبنا بالمذهب الجعفری . والیک حجم ما رواه بعض تلامیذهما(علیهماالسّلام): ففی رجال النجاشی/12: (عن سلیم بن أبی حیة قال: کنت عند أبی عبد الله(علیه السّلام)فلما أردت أن أفارقه ودعته وقلت: أحب أن تزودنی ، فقال: أئْتِ أبان بن تغلب ، فإنه قد سمع منی حدیثاً کثیراً ، فما روی لک فاروه عنی).

وقال(علیه السّلام)لأبان بن عثمان: (إن أبان بن تغلب

روی عنی ثلاثین ألف حدیث ،

ص: 191

فاروها عنه ). وفی رجال ابن داود/29: ( قال له أبو جعفر(علیه السّلام): أجلس فی مسجد الکوفة وأفْتِ الناس ، إنی أحبُّ أن یری فی شیعتی مثلک . وکان إذا دخل علی أبی عبد الله ثنی له وسادة وصافحه ، وکان إذا قدم المدینة تقوضت إلیه الحلق وأخلیت له ساریة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). مات سنة إحدی وأربعین ومائة ، وترحم علیه أبو عبد الله(علیه السّلام)وقال: لقد أوجع قلبی موت أبان ! وکان قد أخبره بموته ) .

وفی رجال الطوسی:1/386 ، عن محمد بن مسلم الثقفی(رحمه الله)قال: ما شجر فی رأیی شئ قط الا سألت عنه أبا جعفر(علیه السّلام)حتی سألته عن ثلاثین ألف حدیث ، وسألت أبا عبد الله(علیه السّلام)عن ستة عشر ألف حدیث) .

وقال السید الخوئی فی کتاب الإجتهاد والتقلید/15: (حتی أن أبان بن تغلب وهو راو واحد حدَّثَ عن أبی عبد الله(علیه السّلام)بثلاثین ألف حدیث . وتظافر النقل أن أربعة آلاف رجل من المشتهرین بالعلم جمعوا من أجوبة مسائله أربعمائة کتاب عرفت بالأصول الأربعمائة ، کلهم من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان . وهذا غیر ما دُوِّن عن السجاد والباقر والأئمة بعد الصادق(علیهم السّلام)، فقد جمع أصحابهم فیما تحملوه من أحادیثهم ما یزید علی الأصول الأربعمائة بکثیر ، ولم تزل تلکم الأحادیث محتفظاً بها فی موسوعات هامة کالأصول الأربعة).

وفی رجال الطوسی:2/438 ، عن ذریح المحاربی قال: ( عن جابر(رحمه الله)قال: حدثنی أبو جعفر بسبعین ألف حدیث لم أحدث بها أحداً قط ،ولا أحدث بها أحداً أبداً.

قال أبو جعفر(علیه السّلام): یا جابر حدیثنا صعب مستصعب ، أمرد ، ذکوار ، وعر ، أجرد لا یحتمله والله إلا نبی مرسل ، أو ملک مقرب ، أو مؤمن ممتحن ، فإذا ورد علیک یا جابر شئ من أمرنا فلان له قلبک فاحمد الله ، وان أنکرته فرده إلینا أهل البیت ، ولا تقل کیف جاء هذا ، وکیف کان وکیف هو ، فإن هذا والله الشرک بالله العظیم

ص: 192

. وقال جابر(رحمه الله): دفع إلیَّ (الباقر(علیه السّلام))کتاباً وقال لی: إن أنت حدثت به حتی تهلک بنو أمیة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی ، وإذا أنت کتمت منه شیئاً بعد هلاک بنی أمیة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی ، ثم دفع إلیَّ کتاباً آخر ، ثم قال: وهاک هذا ، فإن حدثت بشئ منه أبداً فعلیک لعنتی ولعنة آبائی) . انتهی.

أقول: فی الحدیث الأخیر إخبار بأن زوال ملک بنی أمیة سیکون فی حیاة جابر بن یزید الجعفی(رحمه الله)، وهذا ما حصل ، وهو من معجزات الإمام الباقر(علیه السّلام)!

ومعنی أن حدیثهم(علیهم السّلام)صعب مستصعب.. أنه صعب بذاته علی الفهم العادی ، مستصعب علی بعض الأذهان والقلوب . ومعنی تشبیهه بالعود الأمرد الذی لاورق له لیمسک به . والذکوار مثل المذکار ، یقال حدید مذکر ومؤنث ، وسیف مذکار وذکر ، أی صلب حاد الشفرة صارم ، والحدیث الذکوار هو الصلب الصارم .

کما أن حدیثهم(علیهم السّلام)یشبه الأرض الوعرة علی سالکها ، ویشبه فی ظاهره الأرض الجرداء من النبات ! فهو یحتاج الی یقین بأنه من الوحی علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، یوجب تعقله والتعبد بقبوله ، ولذا یصعب الإیمان به إلا علی الأنبیاء والملائکة(علیهم السّلام) ، والمؤمنین الذین امتحن الله قلوبهم للإیمان .

وأصل الحدیث لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)کما فی الدر النظیم/616، قال الإمام الباقر(علیه السّلام): (یا أبا الربیع حدیث تمضغه الشیعة بألسنتها لا تدری ما کنهه ! قلت: ما هو؟ قال: قول علی بن أبی طالب(علیه السّلام): أمرنا صعب مستصعب لا یحتمله إلا ملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإیمان ! یا أبا الربیع ، ألا تری أنه یکون ملک ولا یکون مقرباً ، ولا یحتمله إلا المقرب ، وقد یکون نبی ولیس بمرسل فلا یحتمله إلا المرسل ، وقد یکون مؤمن ولیس بممتحن فلا یحتمله إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإیمان ) !

ص: 193

2- شهادات علمائهم بأن الباقر(علیه السّلام)نشر علمه !

ذکرنا فی الفصل الثانی شهادات عدد من أئمة الفقه والحدیث السنیین ، بعلم الإمام الباقر(علیه السّلام)وقداسته . وهذه بعض شهاداتهم فی أنه(علیه السّلام)نشر علمه !

قال مسلم فی صحیحه:1/15: ( سمعت جریراً یقول: لقیت جابر بن یزید الجعفی فلم أکتب عنه . کان یؤمن بالرجعة.. سمعت جابراً یقول عندی سبعون ألف حدیث عن أبی جعفر عن النبی (ص) کلها.. قال جابر: إن عندی لخمسین ألف حدیث ما حدثت منها بشئ ! قال ثم حدث یوماً بحدیث فقال هذا من الخمسین ألفاً...حدثنا سفیان قال سمعت

جابراً یحدث بنحو من ثلاثین ألف حدیث ، ما أستحل أن أذکر منها شیئاً ، وأن لی کذا وکذا ) !

وقال ابن حجر فی تهذیب التهذیب:9/311: (الستة: محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب الهاشمی ، أبو جعفر الباقر ، أمه بنت الحسن بن علی بن أبی طالب.. روی عنه ابنه جعفر ، وإسحاق السبیعی ، والأعرج ، والزهری ، وعمرو بن دینار ، وأبو جهضم موسی بن سالم ، والقاسم بن الفضل ، والأوزاعی ، وابن جریج ، والأعمش ، وشیبة ابن نصاح ، وعبد الله بن أبی بکر بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عطاء ، وبسام الصیرفی ، وحرب بن سریج ، وحجاج بن أرطاة ومحمد بن سوقة ، ومکحول بن راشد ، ومعمر بن یحیی بن بسام ، وآخرون .

قال ابن سعد: کان ثقة کثیر الحدیث ، ولیس یروی عنه من یحتج به . وقال العجلی: مدنی تابعی ثقة.. ).انتهی.

وقال المزی فی تهذیب الکمال:26/136: ( محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب القرشی الهاشمی ، أبو جعفر الباقر.. روی عنه: أبان بن تغلب الکوفی ،

ص: 194

وأبیض بن أبان ، وبسام الصیرفی (س) وأبو حمزة ثابت بن أبی صفیة الثمالی (ت) وجابر بن یزید الجعفی ، وابنه جعفر بن محمد الصادق (بخ/4) والحجاج بن أرطاة وحرب بن سریج (عس) والحکم بن عتیبة ، وربیعة بن أبی عبد الرحمان وسدیر بن حکیم بن صهیب والد حنان بن سدیر الصیرفی ، وسلیمان الأعمش (قد) وشیبة بن نصاح (س) وعبد الله بن

أبی بکر بن حزم (ت) وعبد الله بن عطاء ، وعبد الله بن محمد بن عمر بن علی بن أبی طالب ، وعبد الرحمان بن طلحة الخزاعی (عس) إن کان محفوظاً ، وعبد الرحمان بن عمرو الأوزاعی (م) وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج وهو أسن منه ، وعبد الملک بن جریج ، وعبید الله بن طلحة بن عبید الله بن کریز الخزاعی (د) علی خلاف فیه ، وعبید الله بن الولید الوصافی ، وعطاء بن أبی رباح ، وعلقمة بن مرثد (س) وعمرو بن دینار (خ م د س) والقاسم بن الفضل الحدانی (ق) وقرة بن خالد السدوسی ، وکثیر النواء ، ولیث بن أبی سلیم ومحمد بن سوقة (ق) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهری ، ومخول بن راشد (خ س) ومعمر بن یحیی بن سام (خ) ، وأبو جهضم موسی ابن سالم (س) ، وموسی بن عمیر القرشی ، وواصل مولی أبی عیینة (د) ویحیی بن أبی کثیر ، ویحیی الکندی (خت) وأبو إسحاق السبیعی (خ).

قال الحافظ أبو نعیم فی حلیة الأولیاء:3/192: (عمرو بن المقدام قال: کنت إذا نظرت الی أبی جعفر بن محمد ، علمت أنه من سلالة النبیین ).

لاحظ قول ابن سعد فی الطبقات:5/224: (قال أبو نعیم الفضل بن دکین توفی بالمدینة سنة أربع عشرة ومائة . وکان ثقة کثیر العلم والحدیث ، ولیس یروی عنه من یحتج به ) وقوله فی/222، عن أبیه الإمام زین العابدین(علیه السّلام):( قالوا وکان علی بن حسین ثقة مأموناً ، کثیر الحدیث عالیاً رفیعاً ورعاً ).

ص: 195

فقد اعترف ابن سعد بثروة الأحادیث التی نشرها الإمام الباقر وأبوه(علیهماالسّلام)فی الأمة ثم اعتذر عن علماء السلطة لعدم روایتهم عنهم ، بأن تلامیذ الإمام الباقر(علیه السّلام)غیر ثقاة لایحتج بهم ! وهذا تعامٍ منه عن أن تلامیذه(علیه السّلام)وتلامیذ أبیه وابنه جعفر الصادق(علیهم السّلام)هم کبار أئمتهم !لکن الذهبی استعمل أسلوب ابن تیمیة فأنکر أن یکون الإمام الباقر والصادق(علیه السّلام) کثیری الحدیث ! قال فی سیره:4/401: (ولیس هو بالمکثر ، هو فی الروایة کأبیه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا یبلغ حدیث کل واحد منهم جزءً ضخماً ، ولکن لهم مسائل وفتاو ! ثم ناقض الذهبی نفسه فقال: (حدث عنه ابنه ، وعطاء بن أبی ریاح والأعرج مع تقدمهما ، وعمرو بن دینار ، وأبو إسحاق السبیعی ، والزهری ، ویحیی بن أبی کثیر ، وربیعة الرأی ، ولیث بن أبی سلیم ، وابن جریج ، وقرة بن خالد ، وحجاج بن أرطاة والأعمش ومخول بن راشد ، وحرب بن سریج ، والقاسم بن الفضل الحدانی، والأوزاعی ، وآخرون... وکان أحد من جمع بین العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وکان أهلاً للخلافة . وهو أحد الأئمة الإثنی عشر الذین تبجلهم الشیعة الإمامیة وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجمیع الدین).

وقال فی تذکرة الحفاظ:1/124: (محمد بن علی بن الحسین ، الإمام الثبت الهاشمی العلوی المدنی ، أحد الاعلام . حدث عنه ابنه جعفر بن محمد ، وعمرو بن دینار ، والأعمش والأوزاعی ، وابن جریج ، وقرة بن خالد ، وخلقٌ.. ).

لکن کیف نصدق الذهبی وقد شهد ابن سعدوغیره بأنهم کانوا کثیری الحدیث عن جدهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فما أعذار هؤلاء إلا تغطیة علی تعمدهم الإعراض عن أحادیثهم(علیهم السّلام)حتی عن تلامیذهم أئمة مذاهب السلطة !

ص: 196

3- طبقات أصحاب الإمامین الباقرین(علیهماالسّلام)وثروة کتبهم العظیمة

قال الحر العاملی(رحمه الله)فی وسائل الشیعة لتحصیل علوم الشریعة:20/79:

(الفائدة السابعة: فی ذکر أصحاب الإجماع وأمثالهم ، کأصحاب الأصول ونحوهم ، والجماعة الذین وثقهم الأئمة(علیهم السّلام)وأثنوا علیهم وأمروا بالرجوع إلیهم والعمل بروایاتهم ، والذین عُرفت عدالتهم بالتواتر ، فیحصل بوجودهم فی السند قرینة توجب ثبوت النقل والوثوق وإن رووا بواسطة . قال الشیخ الثقة الجلیل أبو عمرو الکشی فی کتاب الرجال ماهذا لفظه: أجمعت العصابة علی تصدیق هؤلاء الأولین من أصحاب أبی جعفر وأبی عبد الله(علیهماالسّلام)وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولین ستة: زرارة ومعروف بن خربوذ ، وبرید ، وأبو بصیر الأسدی ، والفضیل بن یسار ، ومحمد بن مسلم الطائفی . قالوا: وأفقه الستة زرارة ، وقال بعضهم مکان أبی بصیر الأسدی: أبو بصیر المرادی وهو لیث بن البختری.انتهی. ثم أورد أحادیث کثیرة فی مدحهم وجلالتهم وعلو منزلتهم والأمر بالرجوع إلیهم ، تقدم بعضها فی کتاب القضاء . ثم قال: تسمیة الفقهاء من أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام): أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصح عن هؤلاء وتصدیقهم لما یقولون وأقروا لهم بالفقه من دون أولئک الستة الذین عددناهم وسمیناهم ستة نفر: جمیل بن دراج وعبد الله بن مسکان ، وعبد الله بن بکیر ، وحماد بن عیسی ، وحماد بن عثمان ، وأبان بن عثمان قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقیه یعنی ثعلبة بن میمون أن أفقه هؤلاء جمیل بن دراج ، وهم أحداث أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام).

ثم قال بعد ذلک: تسمیة الفقهاء من أصحاب أبی إبراهیم ، وأبی الحسن الرضا: أجمع أصحابنا علی تصحیح ما یصح عن هؤلاء وتصدیقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم وهم ستة نفر آخرین... ثم ذکر أکثر من ثمانین مؤلفاً للأصول من أصحاب

ص: 197

الأئمة(علیهم السّلام)... وأما الجماعة الذین وثقهم الأئمة(علیهم السّلام)وأثنوا علیهم وأمروا بالرجوع إلیهم والعمل بروایاتهم ، ونصبوهم وکلاء وجعلوهم مرجعاً للشیعة ، فهم کثیرون ونحن نذکر جملة منهم... ومما یؤید قول الشهید الثانی إنه قد نقل حصول وضع الحدیث فی زمان ظهور الأئمة(علیهم السّلام)من بعض الضعفاء ، وکان الثقات یعرضون ما یشکون فیه علی الأئمة(علیهم السّلام)وعلی الکتب المعتمدة ، وکان الأئمة یخبرونهم بالحدیث الموضوع ابتداء غالباً، ولم ینقل أنه وقع وضع حدیث فی زمان الغیبة من أحد من مشهوری الشیعة ونسب إلی الأئمة(علیهم السّلام)أصلاً) .انتهی.

هذا ، وقد سمی أهل البیت(علیهم السّلام)بعض أصحاب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأصحابهم (الحواریین) ففی رجال الطوسی:1/39 ، عن الإمام الکاظم(علیه السّلام)قال: (إذا کان یوم القیامة نادی مناد: أین حواری محمد بن عبد الله رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الذین لم ینقضوا العهد ومضوا علیه؟ فیقوم سلمان والمقداد وأبو ذر ؟ ثم ینادی مناد أین حواری علی بن أبی طالب(علیه السّلام)وصی محمد بن عبد الله رسول الله ؟ فیقوم عمرو بن الحمق الخزاعی ومحمد بن أبی بکر ومیثم بن یحیی التمار مولی بنی أسد وأویس القرنی . قال: ثم ینادی المنادی: أین حواری الحسن بن علی بن

فاطمة بنت محمد بن عبد الله رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ فیقوم سفیان بن أبی لیلی الهمدانی وحذیفة بن أسید الغفاری . قال: ثم ینادی المنادی أین حواری الحسین بن علی(علیه السّلام)؟ فیقوم کل من استشهد معه ولم یتخلف عنه . قال ، ثم ینادی المنادی أین حواری علی بن الحسین(علیه السّلام)؟ فیقوم جبیر بن مطعم ویحیی بن أم الطویل وأبو خالد الکابلی وسعید بن المسیب . ثم ینادی المنادی: أین حواری محمد بن علی وحواری جعفر بن محمد(علیهماالسّلام)؟ فیقوم عبد الله بن شریک العامری وزرارة بن أعین وبرید بن معاویة العجلی ومحمد بن مسلم وأبو بصیر لیث بن البختری المرادی وعبد الله بن أبی یعفور وعامر بن عبد الله بن جداعة وحجر بن زائدة وحمران بن أعین . ثم ینادی سائر

ص: 198

الشیعة مع سائر الأئمة(علیهم السّلام)یوم القیامة ، فهؤلاء المتحورة أول السابقین ، وأول المقربین ، وأول المتحورین من التابعین).

قال الکشی فی رجاله تحت عنوان: تسمیة أصحاب أبی جعفر وأبی عبد الله(علیهماالسّلام): أجمعت العصابة علی تصدیق هؤلاء الأولین من أصحاب أبی جعفر وأبی عبد الله وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولین ستة: زرارة ، ومعروف بن خربوذ ، وبرید ، وأبو بصیر الأسدی ، والفضیل بن یسار ، ومحمد بن مسلم الطائفی . قالوا: وأفقه الستة: زرارة ، وقال بعضهم مکان أبی بصیر الأسدی: أبو بصیر المرادی ، وهو لیث البختری . وقال تحت عنوان: تسمیة الفقهاء من أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام): أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصح عن هؤلاء وتصدیقهم لما یقولون وأقروا لهم بالفقه ، من دون أولئک الستة الذین عددناهم وسمیناهم ، ستة نفر: جمیل بن دراج وعبد الله بن مسکان وعبد الله بن بکیر وحماد بن عیسی وحماد بن عثمان وأبان بن عثمان . قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقیه یعنی ثعلبة بن میمون أن أفقه هؤلاء جمیل بن دراج . وهم أحداث أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام)).

وقال تحت عنوان: تسمیة الفقهاء من أصحاب أبی إبراهیم وأبی الحسن الرضا(علیهماالسّلام): (أجمع أصحابنا علی تصحیح ما یصح عن هؤلاء وتصدیقهم ، وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أخر دون الستة نفر الذین ذکرناهم فی أصحاب أبی عبد الله(علیه السّلام)، منهم: یونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن یحیی بیاع السابری ومحمد ابن أبی عمیر ، وعبد الله بن المغیرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمد بن أبی نصر . قال بعضهم مکان الحسن بن محبوب: الحسن بن علی بن فضال ، وفضالة بن أیوب . وقال بعضهم مکان ابن فضال: عثمان بن عیسی . وأفقه هؤلاء: یونس بن عبد الرحمن وصفوان بن یحیی . وهؤلاء الثمانیة عشر هم المعبر عنهم بأصحاب الإجماع).

ص: 199

4- یقدسون الأئمة(علیهم السّلام)ویشهدون بأنهم أعلم ولا یروون عنهم !

اشارة

تقدم فی سیرة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)أن تلمیذه الزهری کان یذوب فیه حباً وتقدیساً ، ویشهد بأنه أفقه من رآه ، لکنه لما اختاره البلاط الأموی وکلفوه أن یکتب لهم السنة لینشروها فی الناس، لم یکتب عن أستاذه الإمام(علیه السّلام)ولا عن أهل البیت(علیهم السّلام) إرضاءً لبنی أمیة ! وقد عوتب علی ذلک فقال کاذباً إن الإمام زین العابدین(علیه السّلام)قلیل الحدیث ! (عن معمر قال: قلت للزهری: مالک لا تکثر الروایة عن علی بن حسین؟ فقال: کنت أکثر مجالسته ولکنه کان قلیل الحدیث). (تاریخ دمشق:41/376). ( ابن عیینة عن الزهری قال: کان أکثر مجالستی مع علی بن الحسین وما رأیت أحداً کان أفقه منه ، ولکنه کان قلیل الحدیث). (سیر الذهبی:4/389 ، وتهذیب الکمال:20/382 ، وتاریخ الإسلام:6/435 ، والنهایة:9/124، وعامة من ترجم له من السنیین).

وقلنا کذب الزهری ! لأن شهد بأن زین العابدین(علیه السّلام)أفقه الناس فی عصره والفقه مبنی علی الکتاب والسنة ، فکیف یکون أفقه أهل عصره قلیلَ الحدیث ؟! بل سمع الزهری من الإمام(علیه السّلام)الکثیر وکتبه ، لکنه أخفاه ولم یحدث به خوفاً من أسیاده !

قال ابن عبد البر فی جامع بیان العلم:1/76: (سمعت ابن شهاب یحدث سعد بن إبراهیم: أمرنا عمر بن عبد العزیز بجمع السنن ، فکتبناها دفتراً دفتراً ، فبعث إلی کل أرض له علیها سلطان دفتراً ). (قال علی بن المدینی: له (الزهری) نحوٌ من ألفی حدیث. وقال أبو داود: حدیثه ألفان ومئتا حدیث ). (سیر الذهبی:5/328).

إن هذا الموقف من الزهری والسلطة ، یضع یدک علی خط الإنحراف عن أهل البیت(علیهم السّلام)! ونفس السیاسة استعملوها مع الإمام الباقر(علیه السّلام)مع أن علماهم شهدوا بأنه نشر علمه کما أخبر جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حیث سماه باقر علم النبوة .

ص: 200

وهذه ملاحظات أخری علی الموضوع

1- من التناقضات الصارخة عند أتباع الخلافة أنهم یدعون محبةأهل البیت(علیهم السّلام) وإطاعة وصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فیهم: ( إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی أهل بیتی ، وإن اللطیف الخبیر أخبرنی أنهما لن یفترقا حتی یردا علیَّ الحوض ، فانظرونی بمَ تخلفونی فیهما) . (مسند أحمد:3/17) . فإذا وصلوا الی تلقی دینهم منهم أعرضوا ونفروا !

وتحججوا تارة ، بأنهم رووا عنهم بضعة أحادیث ، کما رأیت فی کلام ابن حجر فی ترجمة الإمام الباقر(علیه السّلام)فی تهذیب التهذیب: روی عنه الستة ، مع أن مجموع ما رووه عنه لایبلغ مئتی حدیث ! فأین الخمسون ألف حدیث التی رواها عنه جابر الجعفی وحده ! وهی تبلغ عشرة أضعاف کتاب صحیح بخاری ، الذی لا تزید أحادیثه إذا حذفت مکرراتها عن أربعة آلاف حدیث ؟!

وتحججوا أخری ، بکذبة الزهری المتقدمة بأن الإمام زین العابدین(علیه السّلام)قلیل الحدیث ، مع أنه شهد بأنه أفقه من رأی ، ولا فقه بدون حدیث عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! ومثلها کذبة الذهبی الآنفة فی سیره: ( ولیس هو بالمکثر ، هو فی الروایة کأبیه وابنه جعفر ) ! مع أنه قرأ قول ابن سعد: (کان ثقة کثیر الحدیث) ! (تهذیب التهذیب:9/311) .

وتحججوا ثالثة ، بأنه لا یروی عنه ثقات یحتج بهم مع أن أئمتهم رووا عنهم(علیهم السّلام)! ویکفی فی تکذیبهم أنهم وثقوا جابراً الجعفی الذی روی عن الإمام الباقر(علیه السّلام)خمسین ألف حدیث أو سبعین ألفاً ! ووثقوا أبان بن تغلب الذی روی عن ولده الصادق(علیه السّلام)ثلاثین ألف حدیث ! ووثقوا الأعمش وهو یروی أربعة آلاف حدیث ! (جامع بیان العلم لابن عبد البر:2/34). ووثقوا ابن عقدة وقد روی عن أهل البیت(علیهم السّلام)مئتی ألف حدیث ! (الصوارم المهرقة للشهید التستری/214، وغیره ) . ومحمد بن

ص: 201

مسلم الثقفی (وثقه ابن حبان:9/36) وقد روی عن الباقر والصادق(علیهماالسّلام)ستاً وأربعین ألف حدیث ! فکم رووا عن هؤلاء الذین وثقوهم ، وبعضهم عندهم أئمة أجلاء؟!

2- یتضح لک بما تقدم کیف ضیَّع أتباع الحکومات القرشیة ورواتها ثروة السنة النبویة التی رواها أهل البیت(علیهم السّلام)، بعد أن ضیعوا السنة بمنع تدوینها ومجرد التحدیث بها وجعله جریمة یعاقب فاعلها ، من عهد أبی بکر الی زمن الزهری !

ثم لم یکتفوا بالإعراض عن أحادیث أهل البیت(علیهم السّلام)حتی اضطهدوا رواتها والمؤلفین فیها ، والمتداولین بها ، وطاردوهم وقتلوهم ! فکیف نصدق قولهم إنهم یحبون أهل البیت(علیهم السّلام)ویطیعون وصیة نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فیهم !

وما الفرق بین هؤلاء العلماء والخلفاء ، وبین جیش یزید الذین سفکوا دم الحسین وأهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم صلوا فی صلاتهم علی النبی وأهل بیته(علیهم السّلام) وهم یقولون إنهم یحبونهم ، ویطیعون وصیة نبیهم فیهم !!

قال السید ابن طاووس(رحمه الله)فی الطرائف/191: ( أنظر رحمک کیف حرموا أنفسهم الإنتفاع بروایة سبعین ألف حدیث عن نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بروایة أبی جعفر(علیه السّلام) ، الذی هو من أعیان أهل بیته الذین أمرهم بالتمسک بهم). انتهی.

أقول: وأسوأ من حرمانهم أنفسهم والمسلمین أن بعض أئمتهم أراد أن یبرر إعراضهم عن أهل البیت(علیهم السّلام)فطعن فیهم ولم یستطع أن یخفی کرهه لهم ! فقال إن فی نفسه شیئاً من الإمام الصادق(علیه السّلام)! قال ابن حجر فی تهذیب التهذیب:2/88 فی ترجمته(علیه السّلام): (قال ابن أبی حاتم عن أبیه ثقة لا یسأل عن مثله... وقال ابن سعد: کان کثیر الحدیث ولا یحتج به ویستضعف ! سئل مرة سمعت هذه الأحادیث من أبیک؟ فقال: نعم ، وسئل مرة فقال: إنما وجدتها فی کتبه . قلت: یحتمل أن یکون السؤالان وقعا عن أحادیث مختلفة فذکر فیما سمعه أنه سمعه ، وفیما لم یسمعه أنه

ص: 202

وجده ، وهذا یدل علی تثبته ).انتهی. فقد دافع ابن حجر عن الإمام الصادق(علیه السّلام)بأن طعن ابن حجر فیه بتفاوت جوابه عن أحادیث ، هو مدح ولیس طعناً ! ثم قال:

(وذکره ابن حبان فی الثقات وقال: کان من سادات أهل البیت فقهاً وعلماً وفضلاً یحتج بحدیثه من غیر روایة أولاده عنه ! وقد اعتبرت حدیث الثقات عنه فرأیت أحادیث مستقیمة لیس فیها شئ یخالف حدیث الأثبات (الثقات) ، ومن المحال أن یلصق به ما جناه غیره . وقال الساجی کان صدوقاً مأموناً ، إذا حدث عنه الثقات فحدیثه مستقیم . قال أبو موسی کان عبد الرحمن بن مهدی لا یحدث عن سفیان ، وکان یحیی بن سعید یحدث عنه ، وقال النسائی فی الجرح والتعدیل: ثقة . وقال مالک: اختلفت إلیه زماناً فما کنت أراه إلا علی ثلاث خصال: إما مصل ، وإما صائم ، وإما یقرأ القرآن . وما رأیته یحدث إلا علی طهارة ).

وقال الذهبی عنه فی میزان الإعتدال:1/414: ( أحد الأئمة الأعلام ، برٌّ صادقٌ کبیر الشأن ،لم یحتج به البخاری... سئل یحیی بن سعید القطان عن الصادق فقال: مجالد أحب إلیَّ منه ، فی نفسی منه شئ ! لم یرو مالک عن جعفر حتی ظهر أمر بنی العباس... قال مصعب: کان لا یروی عن جعفر بن محمد حتی یضمه إلی آخر من أولئک الرقعاء ! ثم یجعله بعده). انتهی.

أقول: بلغ من تعصب مالک بن أنس انه لم یرو أی حدیث عن علی(علیه السّلام)کما أمره المنصور ! ومن تعصب بخاری أنه لم یرو أی حدیث عن الإمام الصادق(علیه السّلام) مع أنه روی عن أشد النواصب من أعداء أهل البیت(علیهم السّلام)! قال أبو بکر الحضرمی:

قضیةٌ أشبه بالمرزأهْ... هذا البخاری إمام الفئهْ

بالصادق الصدیق ما احتج فی...صحیحه واحتج

بالمرجئهْ

ومثل عمران بن حطان أو... مروان وابن المرأة المخطئه

ص: 203

مشکلة ذات عوار إلی... حیرة أرباب النهی ملجئه

وحق بیت یممته الوری... مغذة فی السیر أو مبطئه

إن الإمام الصادق المجتبی... بفضله الآی أتت منبئه

أجلُّ من فی عصره رتبةً... لم یقترف فی عمره سیئه قُلامةٌ من ظفر إبهامه... تعدلُ من مثل البخاری مئه (النصائح الکافیة لمن یتولی معاویة)/119للحافظ محمد بن عقیل) .

3- ولو أنهم اتبعوا منهجاً واحداً لخفَّ تناقضهم ، لکن اتبعوا الإنتقاء الکیفی فهم یبحثون عما یوافق هواهم ولا یهمهم أن یکون راویه موثقاً عندهم أو مجروجاً ! بل لایهمهم أن یکون الحدیث موضوعاً ، کحدیث: ( أصحابی کالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم) الذی شهد نقاد الحدیث منهم بأنه موضوع ، لکنهم کانوا وما زالوا یستدلون به ، فی منابرهم ، ومعاهدهم ، ومناظراتهم للشیعة وفی علم الفقه ، والتفسیر ، والعقائد ، وغیرها !

وعملاً بهذا الإنتقاء الهوائی ، رووا عن مئات الرواة الشیعة ، منهم أکثر من مئة راو فی أسانید صحیح بخاری ومسلم ، وبرروا ذلک بأنهم مضطرون الیه !

قال الذهبی فی میزان الإعتدال:1/5 ، فی ترجمة أبان بن تغلب(رحمه الله)کما تقدم فی حدیث باقر العلم: (شیعیٌّ جَلِد ، لکنه صدوق ، فلنا صدقه وعلیه بدعته ، وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معین وأبو حاتم... ولم یکن أبان بن تغلب یعرض للشیخین أصلاً ، بل قد یعتقد علیاً أفضل منهما) .

أقول: لاتصدقهم عندما یمدحون راویاً شیعیاً بأنه کان معتدلاً فی موقفه من أهل السقیفة، فقد کان رأی أبان(رحمه الله)فیهم شدیداً ، کما تجد فی بصائر الدرجات/294، وهو من مصنفات الشیعة القدیمة المشهورة ، ولابد أن الذهبی اطلع علیه !

ص: 204

4- من السهل علیک أن تکتشف سر القوم ، وأن مقیاسهم للراوی أن یتولی أبا بکر وعمر ، ولا یکون فیما یرویه شئ ضدهما ولو صغیراً ، وإلا فهو مخالف للدین مبتدع ، یجب الإعراض عنه والطعن فیه ! قال الشهید نور الله التستری(رحمه الله)فی الصوارم المهرقة/214: (إن أهل بغداد أجمعوا علی أنه لم یظهر من زمان ابن مسعود إلی زمان ابن عقدة من یکون أبلغ منه فی حفظ الحدیث . وأیضاً قال الدارقطنی: سمعت منه أنه قال: قد ضبطت ثلاثمائة ألف حدیث من أحادیث أهل البیت وبنی هاشم(علیهم السّلام) ، وحفظت مائة ألف حدیث بأسانیدها . ونقل الذهبی عن عبد الغنی بن سعید أنه قال: سمعت عن الدارقطنی قال: إن ابن عقدة یعلم ما عند الناس ولا یعلم الناس ما عنده . وقال الثلاثة: إن ابن عقدة کان یقعد فی جامع براثا من الکوفة ویذکر مثالب الشیخین عند الناس ، فلهذا ترکوا بعض أحادیثه ! وإلا فلا کلام فی صدقه). انتهی.

وکم لهذا العالم النابغة من مثیل ! وهذا باب واسع ملئ بالأمثلته من مصادر الحدیث عندهم والتفسیر والتاریخ والفقه والعقائد ، وقد کتب فیه العلماء بحوثاً ومؤلفات منها کتاب: العتب الجمیل علی أهل الجرح والتعدیل ، للحافظ محمد بن عقیل ، أثبت فیه أن هوی النقاد کان وراء تضعیف الرواة عن أهل البیت(علیهم السّلام) وتضییع الثروة العظیمة التی رووها !

ونکتفی هنا من بمثال الحارث بن حصیرة الأزدی ، الذی یروی عن جابر بن یزید الجعفی(رحمه الله)عن الباقر(علیه السّلام). قال عنه فی تهذیب التهذیب:2/121: (البخاری فی الأدب المفرد والنسائی ، وفی خصائص علی... قال جریر: شیخ طویل السکوت یصر علی أمر عظیم ، رواها مسلم فی مقدمة صحیحه عن جریر . وقال أبو أحمد الزبیری:کان یؤمن بالرجعة . وقال ابن معین ثقة..خشبی ینسبونه إلی خشبة زید

ص: 205

بن علی التی صلب علیها . وقال النسائی: ثقة وقال أبو حاتم: لولا أن الثوری روی عنه لترک حدیثه . وقال ابن عدی: عامة روایات الکوفیین عنه فی فضائل أهل البیت ، وإذا روی عنه البصریون فروایاتهم أحادیث متفرقة ، وهو أحد من یعد من المحترقین بالکوفة فی التشیع ، وعلی ضعفه یکتب حدیثه . قلت: علق البخاری أثراً لعلی فی المزارعة وهو من روایة هذا ... وقال الدارقطنی شیخ للشیعة یغلو فی التشیع . وقال الآجری: عن أبی داود شیعی صدوق . ووثقه العجلی وابن نمیر . وقال العقیلی: له غیر حدیث منکر.. وقال الأزدی: زائغ ، سألت أبا العباس بن سعید عنه فقال: کان مذموم المذهب فاسده ، وذکر ابن حبان فی الثقات) .

وفی میزان الإعتدال:4/272: (صدوق لکنه رافضی) . وفی:1/432: (کان یؤمن بالرجعة . وقال یحیی بن معین: ثقة. وقال النسائی: ثقة . وقال ابن عدی: یکتب حدیثه علی ضعفه ، وهو من المحترقین فی التشیع . وقال زنیج: سألت جریراً: أرأیت الحارث بن حصیرة؟ قال: نعم، رأیته شیخاً کبیراً طویل السکوت ، یصر علی أمر عظیم) ! وتاریخ الذهبی:9/95 ، وتهذیب الکمال:5/225 والإصابة:1/191..الخ.

أقول: الأمر العظیم الذی یصر علیه هذا الشیخ الصامت الصدوق ، ویثیر هؤلاء المتعصبة أتباع لحکومة ، لیس إیمانه بالرجعة ، بل ما رواه فی فضائل علی(علیه السّلام)وفی

عاقبة بعض الصحابة المرتدین علی أعقابهم ، أمثال ما فی الخصال/457 ، عن أبی ذر(رحمه الله)وهو حدیث طویل جاء فیه: (قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): شر الأولین والآخرین اثنا عشر ، ستة من الأولین وستة من الآخرین ، ثم سمی الستة من الأولین.. الی أن قال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن أمتی ترد علیَّ الحوض علی خمس رایات: أولها رایة العجل ، فأقوم فآخذ بیده فإذا أخذت بیده اسودَّ وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ، ومن فعل فعله یتبعه فأقول: بماذا خلفتمونی فی الثقلین من بعدی؟ فیقولون:

ص: 206

کذبنا الأکبر واضطهدنا الأصغر وأخذنا حقه ! فأقول: أسلکوا ذات الشمال... ثم ترد علی رایة أمیر المؤمنین وإمام المتقین وقائد الغر المحجلین ، فأقوم فآخذ بیده فإذا أخذت بیده ابیضَّ وجهه ووجوه أصحابه فأقول: بما خلفتمونی فی الثقلین من بعدی؟ قال فیقولون: اتبعنا الأکبر وصدقناه ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه ، فأقول: ردوا رواء مرویین ، فیشربون شربة لا یظمأون بعدها أبداً ، وجه إمامهم کالشمس الطالعة، ووجوه أصحابه کالقمر لیلة البدر ) .

5- کیف أبادوا کتب علمائنا..کتب ابن عقدة نموذجاً

إن الثروة الثقافیة الممیزة والغنیة التی یملکها الشیعة الیوم ، إنما هی البقیة الباقیة من غارات الحکومات القرشیة ورواتها علی کتب الشیعة وإحراقها وإتلافها ، أو مصادرتها وسرقة ما یشتهون من مضامینها ونسبتها الی غیرهم .

ویکفینا مثالاً علی ذلک کُتب ابن عقدة(رحمه الله)التی فقدت من علمائنا بسبب تشریدهم وتقتیلهم ومصادرتهم ! بینما کان علماء السلطة یحتفظون بما سلم منها ویستفیدون منه سراً ، وینقلون عنه أحیاناً صریحاً !

عدَّد الشیخ حرز الدین فی مقدمة کتاب الولایة لابن عقدة/58 ، مجموعة کتبه ومنها التاریخ الکبیر ، الذی نقل منه الخطیب فقال فی تاریخ بغداد:3/307: (وذکره ابن عقدة فی تاریخه الکبیر) . ونحوه ابن حجر فی تهذیبه:9/259/487 . وذکر له ابن ماکولا فی الإکمال:2/550 ، کتاب أخبار أبی حنیفة ومسنده ، وسماه مرة بالرواة عن أبی حنیفة:1/316 . وله کتاب: الشیعة من أصحاب الحدیث ، ذکره النجاشی فی رجاله ، والشیخ الطوسی فی الفهرست ، وابن شهرآشوب فی معالم العلماء ، ونقل عنه ابن حجر فی تهذیبه:1/380 ، والذهبی فی لسان المیزان:1/359 ، وکتاب: تاریخ

ص: 207

وفیات الشیوخ ، ذکره فی هامش الإکمال:1/563 ، و:3/399 ، وکتاب: أصل ، نقل عنه فی الإکمال:4/369 ، و:4/123، وکتاب الصحابة ، ذکره ابن الأثیر فی أسد الغابة:1/367 وفی:2/77 , وإجازة ابن عقدة لابن السقاء ، ذکرها الخطیب فی کتابه الکفایة فی علم الروایة/349 ، قال: وقرأت بخط أبی العباس أحمد بن محمد بن سعید الکوفی الحافظ المعروف بابن عقدة ، إجازة قد کتبها لأبی محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطی الحافظ المعروف بابن السقاء نسختها... وإجازة ابن عقدة لأبی الحسن محمد بن أحمد بن سفیان الحافظ ذکرها الخطیب البغدادی فی تاریخ بغداد:5/22. وذکر له فی تاریخ بغداد:5/16جزء فی صلة الرحم.

هذا فقط ما کان من کتبه عند علماء السلطة ونقلوا منه !

وعدد الشیخ الطوسی(رحمه الله)مؤلفاته فی الفهرست/73، ومنها: (کتاب السنن وهو عظیم قیل إنه حمل بهیمة ، لم یجتمع لأحد .. کتاب من روی عن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ومسنده ، کتاب من روی عن الحسن والحسین(علیهماالسّلام)، کتاب من روی عن علی بن الحسین(علیه السّلام)وأخباره ، کتاب من روی عن أبی جعفر محمد بن علی(علیه السّلام) وأخباره.. کتاب الرجال ، وهو کتاب من روی عن جعفر بن محمد(علیه السّلام)).

وذکر له أبو نصر البخاری فی السلسلة العلویة/86 ، کتاب: تفسیر الباقر(علیه السّلام).

أما کتب الشیعة التی رواها ابن عقدة ونقل منها ، فهی أصول کثیرة لا یمکن حصرها ، وقد أخذ أکثرها من مؤلفیها مباشرةً ! قال الطوسی(رحمه الله)فی رجاله/409: روی ابن عقدة جمیع کتب أصحابنا ومصنفاتهم ، وذکر أصولهم . ثم أورد عدداً کبیراً منها ، ومن ذلک: کتب غریب القرآن لأبان بن تغلب ، ومحمد بن السائب الکلبی ، وأبی روق بن عطیة بن الحارث جمع عبد الرحمن بن محمد الأزدی الکوفی . کتاب الفضائل کتاب القراءة کتاب صفین لأبان بن تغلب . کتب المبدأ

ص: 208

والمغازی والوفاة والردة والنواد ، لأبان بن عثمان الأحمر البجلی . وکتاب خطب علی(علیه السّلام)لإبراهیم بن الحکم بن ظهیر الفزاری . کتاب النوادر لإبراهیم بن عبد الحمید الأسدی . کتاب مبوب فی الحلال والحرام لإبراهیم بن محمد بن أبی یحیی عن أبی عبد الله(علیه السّلام).کتاب إبراهیم بن مهزم الأسدی . کتاب السنن والأحکام والقضایا ، لأبی رافع مولی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). کتاب النوادر: لأحمد بن الحسین بن سعید بن عثمان القرشی . مقتل الحسین بن علی(علیهماالسّلام)للأصبغ بن نباتة. کتاب بریه العبادی . کتاب بسطام بن الحصین بن عبد الرحمن الجعفی . کتاب تلید بن سلیمان المحاربی . کتاب الفضائل , تفسیر جابر بن یزید الجعفی . کتاب جحدر بن المغیرة الطائی . کتاب المشیخة ، کتاب الصلاة ، کتاب المکاسب ، کتاب الصید ، کتاب الذبائح لجعفر بن بشیر الوشاء البجلی . کتاب جفیر بن الحکم العبدی . کتاب حجاج بن رفاعة الخشاب. کتاب فضائل القرآن للحسن بن علی بن أبی حمزة البطائنی کتاب التفسیر ، کتاب جامع العلم: للحسین بن مخارق السلولی .کتاب حفص بن غیاث بن طلق . کتاب الدیات: للحکم ومشمعل ابنی سعد الأسدی الناشری . کتاب خلید بن أوفی أبو الربیع الشامی العنزی . کتاب زیاد بن أبی غیاث . تفسیر القرآن: لزیاد بن المنذر أبو الجارود ، عن أبی جعفر الباقر(علیه السّلام)... رسالة أبی جعفر(علیه السّلام)الی کتاب سعد بن طریف الحنظلی . کتاب سوید مولی محمد بن مسلم . کتاب عاصم بن حمید الحناط . کتاب الحج ، کتاب الصلاة ، کتاب الصوم ، کتاب المثالب ، کتاب جامع الحلال والحرام ، کتاب الغیبة ، کتاب نوادر: للعباس بن هشام الناشری الأسدی . کتاب الوضوء ، کتاب الصلاة لعبد الله بن المغیرة البجلی . کتاب عبد الکریم بن هلال الجعفی الخزاز . کتاب القضایا والأحکام ، کتاب الوصایا ، کتاب الصلاة لعثمان

ص: 209

ابن عیسی العامری الکلابی الرؤاسی . کتاب التوحید ، کتاب الإمامة ، کتاب حدیث الشوری لعمرو بن أبی المقدام . کتاب البداء ، کتاب الإحتجاج فی الإمامة ، کتاب الحج ، کتاب فضائل الحج لمحمد بن أبی عمیر زیاد بن عیسی أبو أحمد الأزدی . کتاب الرجال: لمحمد بن الحسن بن علی أبو عبد الله المحاربی . کتاب الغیبة ، کتاب الکوفة ، کتاب الملاحم ، کتاب المواعظ ، کتاب البشارات ، کتاب الطب، کتاب إثبات إمامة عبد الله ، کتاب أسماء آلات رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأسماء سلاحه ، کتاب العلل ، کتاب وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، کتاب عجائب بنی إسرائیل ، کتاب الرجال ، کتاب ما روی فی الحمام ، کتاب التفسیر ، کتاب الجنة والنار ، کتاب الدعاء ، کتاب المثالب ، کتاب العقیقة لعلی بن الحسن بن علی بن فضال . کتاب التفسیر لمحمد بن علی بن أبی شعبة الحلبی . کتاب التقیة لمحمد بن مفضل بن إبراهیم بن قیس بن رمانة الأشعری . کتاب السنن ، کتاب الجمل لمصبح بن الهلقام بن علوان العجلی..الخ.). وبعد کل کتاب سند روایة ابن عقدة له عن مؤلفه مباشرة أو بواسطة ، وتاریخ إجازة سماعه !

وتلاحظ فی ترجمة السنیین لابن عقدة أنهم یتفقون علی نبوغه وجلالته وتمیزه وکثرة مؤلفاته . وفی مجلة تراثنا:21/180: (أفرد الذهبی رسالة عن حیاته ، مذکورة فی مؤلفاته فی مقدمة سیر أعلام النبلاء باسم: ترجمة ابن عقدة:. ترجم له أعلام العامة بکل تجلة وتبجیل ووثقوه وأثنوا علی علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه وأرخوا ولادته لیلة النصف من المحرم سنة 249، ووفاته فی7 ذی القعدة سنة332 ومن المؤسف أن هذا الرجل العظیم لم یبق من مؤلفاته الکثیرة الکبیرة سوی وریقات توجد فی دار الکتب الظاهریة بدمشق ، ضمن المجموعة رقم4581 ، باسم: جزء من حدیث ابن عقدة ، من الورقة 9-15) !!

ص: 210

ولم نجد ترجمة الذهبی لابن عقدة فلعلهم أخفوها ! وهذا بعض ما قاله فیه فی سیره:15/340: (أبو العباس الکوفی الحافظ العلامة ، أحد أعلام الحدیث ونادرة الزمان وصاحب التصانیف علی ضعف فیه (لأنه شیعی !) وهو المعروف بالحافظ ابن عقدة . وعُقْدَة لقب لأبیه النحوی البارع محمد بن سعید..کان قبل الثلاث مئة .

وولد أبو العباس فی سنة تسع وأربعین ومئتین بالکوفة ، وطلب الحدیث سنة بضع وستین ومئتین وکتب منه ما لا یحد ولا یوصف ، عن خلق کثیر بالکوفة وبغداد ومکة... روی عنه الطبرانی ، وابن عدی ، وأبو بکر بن الجعابی ، وابن المظفر ، وأبو علی النیسابوری ، وأبو أحمد الحاکم ، وابن المقرئ ، وابن شاهین وعمر بن إبراهیم الکتانی ، وأبو عبید الله المرزبانی ، وابن جمیع الغسانی ، وإبراهیم بن عبد الله خرشیذ قوله ، وأبو عمر بن مهدی ، وأبو الحسین أحمد بن المتیم ، وأحمد بن محمد بن الصلت الأهوازی . وخلائق . ووقع لی حدیثه بعلو..

قال أبو أحمد الحاکم: قال لی ابن عقدة: دخل البردیجی الکوفة فزعم أنه أحفظ منی فقلت: لا تطوِّل ، نتقدم إلی دکان وراق ونضع القبان ونزن من الکتب ما شئت ثم یلقی علینا فنذکره ! قال: فبقی ! (سکت ولم یکن عنده جواب!)

سمعت علی بن عمر وهو الدارقطنی یقول: أجمع أهل الکوفة أنه لم یُرَ من زمن عبد الله بن مسعود إلی زمن أبی العباس بن عقدة ، أحفظ منه.. ابن عقدة یعلم ما عند الناس ولا یعلم الناس ما عنده .

محمد بن عمر بن یحیی العلوی یقول: حضر ابن عقدة عند أبی فقال له: یا أبا العباس قد أکثر الناس فی حفظک للحدیث فأحب أن تخبرنی بقدر ما تحفظ؟ فامتنع وأظهر کراهیة لذلک فأعاد أبی المسألة ، وقال: عزمت علیک إلا أخبرتنی ! فقال أبو العباس: أحفظ مئة ألف

ص: 211

حدیث بالإسناد والمتن ، وأذاکر بثلاث مئة ألف حدیث... عرفة البرقانی: أقمت مع إخوتی بالکوفة عدة سنین نکتب عن ابن عقدة فلما أردنا الإنصراف ودعناه فقال: قد اکتفیتم بما سمعتم منی !

أبو سعد المالینی: أراد ابن عقدة أن ینتقل فاستأجر من یحمل کتبه ، وشارط الحمالین أن یدفع إلی کل واحد دانقاً قال: فوزن لهم أجورهم مئة درهم ، وکانت کتبه ست مئة حملة...

روی ابن صاعد ببغداد حدیثاً أخطأ فی إسناده ، فأنکر علیه ابن عقدة فخرج علیه أصحاب ابن صاعد(وهم غوغاء أهل الحدیث الذین أسسهم المتوکل) وارتفعوا إلی الوزیر علی بن عیسی وحبس ابن عقدة ، فقال الوزیر: من نسأل ونرجع إلیه؟ فقالوا: ابن أبی حاتم ، فکتب إلیه الوزیر یسأله ، فنظر وتأمل فإذا الحدیث علی ما قال ابن عقدة ، فکتب إلیه بذلک فأطلق ابن عقدة وارتفع شأنه .

سمعت ابن الجعابی یقول: دخل ابن عقدة بغداد ثلاث دفعات ، سمع فی الأولی من إسماعیل القاضی ونحوه ، ودخل الثانیة فی حیاة ابن منیع ، فطلب منی شیئاً من حدیث ابن صاعد لینظر فیه فجئت إلی ابن صاعد فسألته فدفع إلی " مسند " علی فتعجبت من ذلک ، وقلت فی نفسی: کیف دفع إلی هذا وابن عقدة أعرف الناس به ! مع اتساعه فی حدیث الکوفیین ، وحملته إلی ابن عقدة ، فنظر فیه ، ثم رده علیَّ فقلت: أیها الشیخ هل فیه شئ یستغرب؟ فقال: نعم فیه حدیث خطأ ! فقلت: أخبرنی به فقال: لا والله لا عرفتک ذلک حتی أجاوز قنطرة الیاسریة وکان یخاف من أصحاب ابن صاعد ، فطالت علی الأیام انتظاراً لوعده ، فلما خرج إلی الکوفة سرت معه فلما أردت مفارقته قلت: وعدک؟ قال: نعم ، الحدیث عن أبی سعید الأشج ، عن یحیی بن زکریا بن أبی زائدة ، ومتی سمع منه؟ وإنما ولد أبو سعید فی اللیلة التی مات فیها یحیی بن زکریا ! فودعته وجئت إلی ابن صاعد فأعلمته

ص: 212

بذلک فقال: لأجعلن علی کل شجرة من لحمه قطعة ، یعنی ابن عقدة ! ثم رجع یحیی إلی الأصول فوجده عنده الحدیث عن شیخ غیر الأشج ، عن ابن أبی زائدة فجعله علی الصواب..

قال الخطیب: سمعت من یذکر أن الحفاظ کانوا إذا أخذوا فی المذاکرة ، شرطوا أن یعدلوا عن حدیث ابن عقدة لاتساعه وکونه مما لا ینضبط . ثم عدد الذهبی بعض کتبه نقلاً عن الشیخ الطوسی(قدسّ سرّه). ثم نقل عن أبی عمر بن حیاة قال: کان ابن عقدة فی جامع براثا یملی مثالب الصحابة أو قال: الشیخین ، فلم أحدث عنه بشئ . وقیل: إن الدارقطنی کذب من یتهمه بالوضع ، وإنما بلاؤه من روایته بالوجادات ومن التشیع). انتهی.

أقول: لاحظ أنهم یمدحون علمه وکتبه ویتعجبون من جودتها وکثرتها ، ثم لایذکرون أین صارت هذه الثروة العلمیة ، ولماذا حُرم المسلمون منها ؟

السبب الوحید أنه شیعی ! وقد صرح صاحبهم ابن حیاة بأنه کان یروی روایات فیها مثالب أی عیوب لبعض الصحابة ، أو لأبی بکر وعمر !

ثم لم یقفوا عند مصادرة الکتب وإحراقها ، بل أفتوا بأن کل من روی روایة فیها نقد لأبی بکر وعمر ، فحکمه أن یحفروا له بئراً ویدفنوه فیه حیاً !

قال الذهبی فی میزان الإعتدال:2/75: (قال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معین عنه فقال: رجل سوء یحدث بأحادیث سوء.. قلت: فقد قال لی: إنک کتبت عنه ؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا کتب عنه . وقال: یستأهل أن یحفر له بئر فیلقی فیها )! والعلل لأحمد بن حنبل:3/8 ، وضعفاء العقیلی:2/86 ، وابن عدی:3/215 ، وغیرها .

فهل یجوز أن تخسر أجیال الأمة ثروة علمیة عظیمة بسبب بعض روایات تنتقد ببعض الصحابة ؟ أما کان الأصلح أن یرووها ویردوا علیها ؟!

ص: 213

6- سؤال یبقی بلا جواب: لماذا لاتتلقون دینکم من أئمة العترة(علیهم السّلام)؟!

من عجائب أعمال سلطة الخلافة واتباعهم من أئمة المذاهب وعلمائهم ، أئهم أبادوا أکثر الثروة العلمیة لأهل البیت(علیهم السّلام)ورواتهم ، وأخفوا بعضها فهم ینقلون منه ما ینتقونه انتقاءً ، کما رأیت فی کتب ابن عقدة(رحمه الله)!

وبقیت من ثروة أهل البیت(علیهم السّلام)بقیة حفظنا منها الکثیر ، وحفظوا القلیل بما فیه المحرف والمکذوب ! وعندما تسألهم عن الإمام الباقر أو الصادق أو غیرهم من الأئمة(علیهم السّلام)یمدحونهم مدحاً کثیراً، وینقلون لک مدح أئمتهم وکبار علمائهم لهم ! ویقولون لک إنا نحبهم ونتولاهم ! لکنهم یعجزون عن الجواب عندما تسألهم:

ما دام أهل البیت(علیهم السّلام)عندکم فی هذا المقام العظیم الذی ترویه صحاحکم ، فلماذا لاتخرجون فضائلهم من کتبکم الی خطابکم للمسلمین ووسائل الإعلام ، ومناهجکم الدراسیة فی المعاهد الدینیة والمدارس؟!

ومادام أئمة أهل البیت(علیهم السّلام)علماء عظماء عندکم ، وتقولون إن غیرهم لیس أولی بالإتباع منهم ، فلماذا لا تتلقون منهم معالم دینکم وفقهمکم؟!

فلا جواب عندهم إلا أن یقولوا إن مذهبکم الذی تروونه عنهم لم یثبت عندنا ! فلا هم یروونه ولا یقبلون روایتنا ! ولکنه عذر فهم یروون کثیراً من مذهبهم(علیهم السّلام) بأحادیث صحیحة ویتعمدون مخالفته الی یومنا هذا !

وفی نقاش فی شبکة النت للأخ سراج الدین (1/7/-2004) کتب له السلفی حسن حسان:

(http://namehaj.bounceme.net/~hajr/hajrvb/showthread.php?t=402743259)

(لا دلیل یدل علی عدم جواز اتباع غیرأئمة المذاهب ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمد الصادق . وجعفر بن محمد کان من المجتهدین الکبار ویجوز اتباعه ، ولکن ما یدعی الشیعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمد غیر ثابت .

فأجابه سراج الدین: الشیعة یقولون إذا سألنا الحنفیة والشافعیة والمالکیة

ص: 214

والحنبلیة ، وقلنا لهم من أین عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدین؟ لقال کل واحد من هذه الطوائف الأربعة: إن مشایخنا نقلوا عن مشایخهم ، وهکذا إلی المجتهد الذی نعمل برأیه، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذی نعمل برأیه، وهکذا نحن علمنا بالنقل المشهور عن مشایخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمد(علیهماالسّلام). فکتب له السلفی: إذا کان هذا فهم من أهل النجاة ، وأقسم أنه لو ثبت له قول عن الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)لعمل به .

فکتبتُ له: الأخ حسن ، بناء علی قسمک بأنک تتبع الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام) فیما صح عنه ، حتی لو خالف المذاهب الأربعة ، فقد صح عنه عند رواتکم ورواتنا الجهر بالبسملة فی الصلاة ، فتوکل علی الله والتزم بذلک ، واجهر بصلاتک فی مسجد فیه سلفیة إن استطعت ! وهذا نموذج من اعتراف فقهاء المذاهب بذلک:

فی المجموع للنووی:3/342: ( وفی کتاب الخلافیات للبیهقی عن جعفر بن محمد قال اجتمع آل محمد(ص) علی الجهر ببسم الله الرحمن الرحیم ، ونقل الخطیب عن عکرمة أنه کان لا یصلی خلف من لا یجهر ببسم الله الرحمن الرحیم . وقال أبو جعفر محمد بن علی: لاینبغی الصلاة خلف من لایجهر).

فکتب السلفی: ولا یهمک شیخ العاملی سوف أجهر بالبسملة... فإن تعارضت عندی أقوال الفقهاء قدمت قول جعفر علی أبی حنیفة ومالک وأحمد والشافعی .

فکتبتُ له: ألف تحیة للأخ البار بیمینه الشیخ حسن حسان ، وأعانک الله علی التحمل من المتعصبین فی جهرک بأعظم آیة من کتاب الله تعالی . وأخبرک یا أخ حسن ، بأن الثابت عندنا من مذهب الإمام الصادق(علیه السّلام)فیها هو وجوب الجهر بها فی صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، واستحباب الجهر بها فی صلاتی الظهر والعصر ، هذا علی الرجال أما النساء فلا جهر علیهن ، بل یتخیرین فی الجهریة إن لم یکن أجنبی.. أخذ الله بیدک وقلبک الی نور النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ونور أهل بیته الطاهرین(علیهم السّلام) ، وهو واحد ولیس متعدداً .

ص: 215

وکتب له الأخ المرتضی: الله أکبر هل هذا قولٌ وفعلٌ أم قولٌ فقط؟ إذا کان قولاً وفعلاً فافتح موضوعاً وانشره فی کل المنتدیات ، واجهر بها أمام کل الناس إن کنت صادقاً !

وکتب له الأخ قاسم: إن کان حسن حسان جاداً ، فهو بحق رجل.

وکتب له فتی الحرمان: الله أکبر , حسن حسان سیجهر بالبسملة أمام السلفیة !

أقول: یظهر أن هذا الشیخ السلفی فشل فی الوفاء بوعده باتباع مذهب أهل البیت(علیهم السّلام)فی مسألة واحدة ، مع أنها بسملة القرآن ، التی أنکر قرآنیتها أئمة المذاهب جهاراً نهاراً ، وأسقطوها من الصلاة ومن القرآن !

إنه القرار القرشی الذی صدر بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد ربَّتْ علیه الحکومات أئمة المذاهب ، فربوا علیه أتباعهم وجعلوا مخالفة نبیهم فی أهل بیته(علیهم السّلام)دیناً یدینون به ، فیا له من دین !

ص: 216

الفصل السابع:الشعبیة الواسعة لأهل البیت(علیهم السّلام)وثورة زید وابنه یحیی

1- إفاقة الأمة علی الظلم الأموی

1- احتاج الأمر الی قرن من الزمان حتی یکتشف عامة المسلمین أن بنی أمیة الذین یحکمونهم ویظلمونهم ، قد سرقوا السلطة ! وأنهم حقاً أسرة أبی سفیان قائد المشرکین فی حروبهم مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأنهم قتلوا أسرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! لذلک ظهرت موجة تعاطف واسعة مع آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وساعد علیها ما بلغ المسلمین من آیات القرآن وأحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مکانة أهل البیت(علیهم السّلام)فی الإسلام ، وما جسده حکم علی(علیه السّلام) ، وما أثاره استشهاد الحسین(علیه السّلام) فی وجدان الأمة ، ثم حفیده زید(رحمه الله) ، وما بیَّنه الأئمة من عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من جواهر علم الإسلام ، وما فجَّره الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)من علوم ! کما ساعد علیها تفاقم ظلم الأمویین وسوء سیرتهم ، حتی لم یبق لهم من الناس عاذر إلا قلیل من بطانتهم !

2- کانت القوی التی تصنع القرار فی العالم الإسلامی یومها کالتالی: کان الثقل العلمی فی المدینة ، وجود الأئمة من أهل البیت(علیهم السّلام) ، ویلیهم بقیة الفقهاء الذین تتبناهم السلطة . ثم توزع هذا الثقل علی

بعض حواضر العالم الإسلامی کالکوفة

ص: 217

والبصرة وبغداد .

وأما الثقل السیاسی فکان للشام والعراق وإیران ، ففیها تصنع أحداث العالم الإسلامی وتتخذ قراراته ، وتتبعها بقیة المناطق .

أما الثقل العسکری فکان للیمانیین الذین قامت علی أکتافهم أکثر الفتوحات وانتشروا فی البلاد ، حامیاتٍ وحکاماً ، ثم للقوة الشامیة المقاتلة ، ثم القوة العراقیة ثم دخلت القوة العسکریة الخراسانیة . فهذه القوی التی کانت تصنع تاریخ الأمة .

3- وصف مهندس الحرکة العباسیة والد السفاح والمنصور ، محمد بن علی بن عبدالله بن العباس ، حالة الأمة فی عصره فقال: ( أما الکوفة وسوادها فهناک شیعة علی وولده . وأما البصرة وسوادها فعثمانیة تدین بالکف وتقول: کن عبد الله المقتول ولا تکن عبد الله القاتل . وأما الجزیرة فحروریة مارقة وأعراب کأعلاج ومسلمون فی أخلاق النصاری . وأما أهل الشام فلیس یعرفون إلا آل أبی سفیان وطاعة بنی مروان ، وعداوةً لنا راسخة وجهلاً متراکباً . وأما أهل مکة والمدینة فقد غلب علیهم أبو بکر وعمر . ولکن علیکم بخراسان فإن هناک العدد الکثیر والجلَد الظاهر ، وهناک صدور سالمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ، ولم تتوزعها النِّحَل ، ولم تشغلها دیانة ، ولم یقدح فیها فساد ، ولیست لهم الیوم همم العرب ، ولا فیهم

کتحارب الأتباع للسادات وکتحالف القبائل وعصبیة العشائر ، وما یزالون یُدالون ویمتهنون ویظلمون ویکظمون ، ویتمنون الفرج ویأملون ، وهم جند لهم أبدان وأجسام ، ومناکب وکواهل وهامات ، ولحی وشوارب وأصوات هائلة). (أخبار الدولة العباسیة/206، وشرح النهج:15/293).

4- هذا الوصف للخراسانیین صحیح ، وهو یبین لماذا اختار العباسیون إیران لتکون بدایة حرکتهم وثقلها العسکری ، فهی شعب خام فکریاً بالنسبة الی الدین

ص: 218

وقد عاش ظلم الولاة الأمویین والحامیات العربیة التی تتحکم فیه . ولهذا اتفق العباسیون وأبو مسلم الخراسانی علی قتل کل العرب فی إیران ! فکتب إبراهیم بن محمد العباسی فی رسالته لأبی مسلم: (فاقتل من شککت فی أمره ، ومن کان فی أمره شبهة ومن وقع فی نفسک منه شئ ! وإن استطعت أن لا تدع بخراسان لساناً عربیاً فافعل، فأیما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ! ولا تخالف هذا الشیخ یعنی سلیمان بن کثیر ولا تعصه ، وإذا أشکل علیک أمر فاکتف به منی).(الطبری:6/14، والنهایة:10/30).

5- سبب خصوبة الجو السیاسی العام فی إیران الذی استغله أبو مسلم ، هو شعور الإیرانیین غیر المسلمین بأنهم فقدوا دولتهم وملکهم ، واستعمرهم الغزاة العرب ! وشعور المسلمین منهم بأنهم محکومون باسم الإسلام من قبل حکام ظلمة ، سرقوا الحکم أصلاً من آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

کان الجو العام فی إیران والعراق والحجاز ضد النظام الأموی ، لکن فرق الإیرانیین عن غیرهم أنهم لاعبون جدد فی الساحة السیاسیة المصیریة للأمة ، وأنهم

قوة مقاتلة مطیعة لقادتها أکثر من غیرها ، بینما القوة الحجازیة مجموعات صغیرة مختلفة ، والقوة العراقیة متعددة بحسب القبائل والبلاد ، وهی لاعب قدیم یحسب قادتها حساب الربح والخسارة الآنیة فی کل معرکة .

وأما قوة أهل الشام فهی عمدة النظام الأموی وذراع الخلیفة ، لکنها فقدت تماسکها التاریخی باختلاف الأمویین أنفسهم ، وصراعهم مع ولاة المناطق ، وتأثیر موجة العداء للنظام الأموی والولاء لآل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

6- توجهت موجة عاطفة المسلمین فی الحجاز والعراق وإیران وغیرها ، الی آل النبی أو أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهو عنوان عام یشمل عند عوام المسلمین والمناطق البعیدة کل بنی هاشم ، فکلهم برأیهم أسرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعشیرته وأهل بیته ، فلم

ص: 219

یکن حاضراً فی ذهنهم حدیث الکساء الذی حدد فیه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أهل بیته عند نزول آیة: إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً ، وأنهم علی وفاطمة والحسنان ، وتسعة من ذریة الحسین(علیهم السّلام) ، فقط .

لذلک کان الإجمال فی أهل البیت عند عامة الناس فرصة لکل فرع من بنی هاشم أن یتصدی للثورة وقیادة الناس ، فالعباسیون یقولون نحن آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل بیته وأبونا عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، والحسنیون یقولون نحن آله وعترته وأمنا ابنته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، والحسینیون یضیفون الی ذلک النص علیهم بأن الأئمة الربانیین(علیهم السّلام)منهم ، ویستشهدون بأمجاد جدهم الإمام الحسین(علیه السّلام)ومأساته .

لهذا وجد کل فرع من بنی هاشم تعاطفاً ونصرةً من الإیرانیین ، واستعمل بعضهم لتجاوز خلافات الهاشمیین مصطلح: (الدعوة الی الرضا من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )) وأوصوا أتباعهم أن یعملوا باسم نصرة آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولا یُسمُّوا أحداً للخلافة ، بل یقولوا إن الخلیفة سیکون شخصاً مرضیاً من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یختارونه فیما بعد ، وکان بعضهم یقول إنه معین لکن لایمکن إعلان إسمه لئلا یقتله بنو أمیة !

7- أول من تصدی للثورة من الهاشمیین بعد الحسین(علیه السّلام)زید بن علی(رحمه الله) ، وهو حسینی ، وقد وجد أنصاراً فی العراق لکنهم فشلوا فی المعرکة ، وشاء الله أن یصیبه سهم فی جبهته فیُقتل وینفرط أنصاره ، وواصل ثورته ابنه یحی(رحمه الله)فقصد إیران ووجد أنصاراً ، لکن شاء الله أن یصیبه سهم فی جبهته کأبیه !

8- تصدی للثورة فی الکوفة بعد یحیی بن زید ، عبدالله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر ، حفید جعفر الطیار(رحمه الله)وفشل ، لکنه وجد أنصاراً من الإیرانیین فحکم مناطق منها ، وقصده بعض بنی هاشم ومنهم المنصور وأخوه السفاح ، فعینه جابیاً لخراج بلدة إیذه فی الأهواز ، حتی جاءه جیش الشام بقیادة ابن ضبارة ، فانهزم

ص: 220

ابن جعفر وانتهت خلافته !

9- وتصدی الحسنیون وکانوا زعامة الحرکة فی المدینة ، وأخذوا البیعة من العباسیین وغیرهم کما یأتی ، ولکنهم رکزوا نشاطهم علی البصرة ، ولم ینشطوافی إیران لکسب الأنصار کما نشط العباسیون أخیراً . وکانوا یهتمون بالنوعیة دون الکمیة ، والتف حولهم الزیدیون . قال الذهبی فی سیره:8/346: ( یعقوب الوزیر الکبیر الزاهد الخاشع.. بن داود بن طهمان الفارسی الکاتب. کان والده کاتباً للأمیر نصر بن سیار متولی خراسان ، فلما خرج هناک یحیی بن زید بن علی بن الحسین بعد مصرع أبیه زید ، کان داود یناصح یحیی سراً ، ثم قتل یحیی وظهر أبو مسلم صاحب الدعوة وطلب بدم یحیی وتتبع قتلته ، فجاءه داود مطمئناً إلیه ، فطالبه بمال ثم أمنه . وتخرج أولاده فی الآداب وهلک أبوهم ثم أظهروا مقالة الزیدیة وانضموا إلی آل حسن.. وجال یعقوب بن داود فی البلاد ، ثم صار أخوه علی بن داود کاتباً لإبراهیم بن عبد الله الثائر بالبصرة ، فلما قتل إبراهیم اختفوا مدة ، ثم ظفر المنصور بهذین فسجنهما ، ثم استخلف المهدی فمنَّ علیهما).

وقال ابن خلدون:3/211: (فکان ذلک سبباً لوصلته بالمهدی حتی استوزره ، فجمع الزیدیة وولاهم شرقاً وغرباً ، وکثرت السعایة فیه من البطانة.. وتمکن أعداؤه من السعایة حتی سخطه ، وأمر به فحبس وحبس عماله وأصحابه ، ویقال بل دفع إلیه علویاً لیقتله فأطلقه ) !

9- لم یتصدَّ الأئمة المعصومون بعد الحسین(علیه السّلام)للثورة ، مع أن الکوفة کانت قاعدة لهمم ، وکان لهم شیعة من الإیرانیین فیهم شخصیات ، فقد أسس سلمان

الفارسی(رحمه الله)للتشیع بین الإیرانیین فی المدینة ثم فی المدائن ، والتفَّ عدد منهم حول أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی الکوفة ، ومن النصوص الصحیحة عند الجمیع

أن

ص: 221

الأشعث بن قیس دخل یوماً الی مسجد الکوفة وکان علی(علیه السّلام)یخطب ، فتخطی الأشعث رقاب الناس نحو المنبر وقال: (یاأمیر المؤمنین غلبتنا علیک هذه الحمراء! (الإیرانیون) فقال: من یعذرنی من هؤلاء الضیاطرة (الفارغین) ، یتخلف أحدهم یتقلب علی حشایاه ، وهؤلاء یُهَجِّرون إلی ذکر الله ، إن طردتهم إنی إذاً لمن الظالمین . أما والله لقد سمعته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: لیضربنکم علی الدین عوداً کما ضربتموهم علیه بدءاً). (مسند أبی یعلی:1/322 ، وکتاب الأم للشافعی:7/176، وأمالی المحاملی/200، والغارات للثقفی:2/498، ونهج السعادة:2/703، ولسان العرب:4/549). وکان للأئمة من أبناء علی(علیهم السّلام) أصحاب فی أکثر مدن إیران ، تلامیذ ورواة وعلماء ، ووکلاء معتمدون .

ومع ذلک لم یغیِّر الإمامان الباقر والصادق(علیهماالسّلام)أسلوب آبائهما(علیهم السّلام)فی العمل العلمی العقائدی ، ولم یعملا فی طرح الشعارات وجمع الأنصار وأخذ البیعة والإعداد للثورة ، کما فعل یحیی بن زید(رحمه الله)ودعاة بنی الحسن وبنی العباس .

2- ثورة زید بن علی(رحمه الله)فتحت باب الثورة من جدید

1- أجمع علماؤنا علی مدح زید بن علی(رحمه الله). قال المفید(قدسّ سرّه)فی الإرشاد:2/171: (وکان زید بن علی بن الحسین عیْن إخوته بعد أبی جعفر(علیه السّلام)وأفضلهم ، وکان عابداً ورعاً فقیهاً سخیاً شجاعاً ، وظهر بالسیف یأمر بالمعروف وینهی عن المنکر، ویطلب بثارات الحسین(علیه السّلام)).

وکان زید(رحمه الله)أصغر من أخیه الباقر(علیه السّلام)بأربع وعشرین سنة ، وکان یحترم ابن أخیه الإمام الصادق(علیه السّلام)ویستشیره مع أنه فی سنه ، قال الصادق(علیه السّلام): (رحم الله عمی زیداً إنه دعا إلی الرضا من آل محمد ، ولو ظفر لوفَی بما دعا إلیه ، ولقد استشارنی فی خروجه فقلت له: یا عم إن رضیت أن تکون المقتول المصلوب

ص: 222

بالکناسة فشأنک ! فلما ولَّی قال جعفر بن محمد: ویلٌ لمن سمع واعیته فلم یجبه). (العیون:2/225). واشتشهد زید(رحمه الله)سنة122وعمره42 سنة (تاریخ دمشق:19/476 ، ومقاتل الطالبیین/88 ).

2- کان زید(رحمه الله)شاباً الی جنب أخیه الإمام الباقر(علیه السّلام)معروفاً بصفاته الممیزة ، وکان الإمام(علیه السّلام)یصفه بلسانه المعبر عن أفکاره ، کما روی السید المرتضی(رحمه الله):( وأما زید فلسانی الذی أنطق به) . (الناصریات/64) . وتقدم أن زیداً أجاب هشاماً الأحول عندما قال له: (ما یفعل أخوک البقرة یعنی الباقر(علیه السّلام)؟! فقال زید: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، سماه رسول الله الباقر وتسمیه البقرة ! لتخالفنه فی یوم القیامة فیدخل الجنة وتدخل النار) ! وقد واکب زید جهاد أخیه الباقر(علیه السّلام)وهو یفجر جداول علم النبوة ، ویتحدی الخلیفة والنظام الأموی ، ویجرِّئ المسلمین علیه !

کان زید یشاهد الشعبیة الواسعة لأهل البیت(علیهم السّلام)فی الحجاز والعراق وخراسان فأخذ یفکر فی الثورة لإسقاط الحکم الأموی الفاسد وإقامة حکم صالح ، ثم کان یعلن ذلک ، حتی أن الخلیفة هشام سأله عن تفکیره بالثورة فلم ینکره !

(فقال له هشام: یازید إن الله لا یجمع النبوة والملک لأحد ! فقال زید: یا أمیر المؤمنین ماهذا ؟! قال الله تبارک وتعالی:أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عَظِیماً). (تاریخ دمشق:19/468).

وقد رووا کثیراً عن السبب المباشر لثورته(رحمه الله) ، وأقوی الروایات أن هشاماً عندما نَکَبَ والیه علی العراق خالد القسری وحبسه وطالبه بملایین ، أراد أن یضرب معه زیداًَ وشخصیات من بنی هاشم: ( بعث إلی مکة فأخذوا زیداً ، وداود بن علی بن عبد الله بن عباس ، ومحمد بن عمر بن علی بن أبی طالب ، لأنهم اتُّهموا أن لخالد القسری عندهم مالاً مودوعاً ). (عمدة الطالب/256) فأحضروهم الی الشام ، ووبخ الخلیفة زیداً فأجابه زید بقوة ، ثم أرسله الی الکوفة لیواجه به خالد

ص: 223

القسری ! قال الیعقوبی:2/325: ( وأقدم هشام زید بن علی بن الحسین فقال له: إن یوسف بن عمر الثقفی کتب یذکر أن خالد بن عبد الله القسری ذکر له أن عندک ستمائة ألف درهم ودیعة ، فقال: ما لخالد عندی شئ ! قال: فلا بد من أن تشخص إلی یوسف بن عمر حتی یجمع بینک وبین خالد . قال: لاتُوجه بی إلی عبد ثقیف یتلاعب بی ! فقال: لابد من إشخاصک إلیه ، فکلمه زید بکلام کثیر... قال له هشام: لقد بلغنی أنک تؤهل نفسک للخلافة وأنت ابن أمَة ! قال: ویلک مکان أمی یضعنی؟ والله لقد کان إسحاق ابن حُرة وإسماعیل ابن أمَة ، فاختص الله عز وجل ولد إسماعیل فجعل منهم العرب ، فما زال ذلک یُنمی حتی کان منهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . ثم قال: إتق الله یا هشام ! فقال: أو مثلک یأمرنی بتقوی الله؟ فقال: نعم ! إنه لیس أحد دون أن یأمر بها ، ولا أحد فوق أن یسمعها ! فأخرجه مع رسل من قبله... وکتب هشام إلی یوسف بن عمر: إذا قدم علیک زید بن علی فاجمع بینه وبین خالد ولا یقیمن قِبَلَک ساعة واحدة ، فإنی رأیته رجلاً حلو اللسان شدید البیان خلیقاً بتمویه الکلام ، وأهل العراق أسرع شئ إلی مثله ! فلما قدم زید الکوفة دخل إلی یوسف فقال: لم أشخصتنی من عند أمیر المؤمنین؟ قال:ذکر خالد بن عبد الله أن له عندک ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالداً ! فأحضره وعلیه حدید ثقیل فقال له یوسف: هذا زید بن علی فاذکر ما لک عنده ! فقال: والله الذی لا إله إلا هو ، ما لی عنده قلیل ولا کثیر ، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه ! فأقبل یوسف علی زید وقال له: إن أمیر المؤمنین أمرنی أن أخرجک من الکوفة ساعة قدومک . قال: فأستریح ثلاثاً ثم أخرج. قال: ما إلی ذلک سبیل . قال: فیومی هذا ! قال: ولا ساعة واحدة ! فأخرجه مع رسل من قبله ، فتمثل عند خروجه:

ص: 224

منخرق الخفین یشکو الوجی...تنکبُه أطرافُ مروٍ حدادْ

شرده الخوف وأزری به...کذلک من یکره حرَّ الجلاد

قد کان فی الموت له راحةٌ...والموتُ حتمُ فی رقاب العباد

قد کان فی الموت له راحةٌ...والموتُ حتمُ فی رقاب العباد

فلما صار رسل یوسف بالعُذیْب انصرفوا ، وانکفأ زید راجعاً إلی الکوفة).

قال فی عمدة الطالب/256: (فخرجت الشیعة خلف زید بن علی إلی القادسیة فردوه وبایعوه.. حتی أحصی دیوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الکوفة خاصة ، سوی أهل المداین والبصرة وواسط والموصل وخراسان والری وجرجان والجزیرة . وأقام بالعراق بضعة عشر شهراً ، کان منها شهرین بالبصرة والباقی بالکوفة ، وخرج سنة إحدی وعشرین ومائة) .

3- أفتی أبو حنیفة بوجوب الثورة مع زید ، وکان متحمساً یجمع المساعدات لحرکته ، وکذلک عامة فقهاء الکوفة ، قال فی تفسیر الکشاف:1/309، والنصائح الکافیة/153: ( وکان الإمام أبو حنیفة یفتی سراً بوجوب نصرة زید بن علی بن الحسین وحمل المال إلیه ، والخروج معه علی اللص المتغلب المسمی بالخلیفة ! یعنی هشام بن عبد الملک.. وقالت له امرأة: أشرتَ علی ابنی بالخروج مع إبراهیم ومحمد ابنی عبد الله بن الحسن حتی قتل ، فقال لیتنی مکان ابنک . وکان یقول فی المنصور وأشیاعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونی علی عد آجرِّه ، لما فعلت).

بینما تحفظ الأعمش إمام الرواة عن نصرة زید ، لعدم ثقته بمن بایع زیداً ! (حدثنی شریک قال إنی لجالس عند الأعمش أنا وعمرو بن سعید أخو سفیان بن سعید الثوری ، إذ جاءنا عثمان بن عمیر أبو الیقظان الفقیه ، فجلس إلی الأعمش فقال: أخلنا فإن لنا إلیک حاجة . فقال: وما خطبکم ؟ هذا شریک وهذا عمرو بن سعید ، أذکر حاجتک . فقال: أرسلنی إلیک زید بن علی أدعوک إلی نصرته

ص: 225

والجهاد معه ، وهو من عرفت . قال: أجل ، ما أعرفنی بفضله . أقریاه منی السلام وقولا له . یقول لک الأعمش لست أثق لک جعلت فداک بالناس ، ولو أنا وجدنا لک ثلاثمائة رجل أثق بهم لغیَّرنا لک جوانبها) . (مقاتل الطالبیین/99).

4- لا یتسع المجال لتفصیل حرکة زید(رحمه الله)وأسباب فشلها عسکریاً ، لکن المؤکد أنها نجحت فی هز النظام الأموی وإضعاف تماسکه ، کما قال الإمام الصادق(علیه السّلام): (إن أتاکم آت منا فانظروا علی أی شئ تخرجون ، ولا تقولوا خرج زید ، فإن زیداً کان عالماً وکان صدوقاً ، ولم یدعکم إلی نفسه إنما دعاکم إلی الرضا من آل محمد(علیهم السّلام) ، ولو ظهر لوفی بما دعاکم إلیه ، إنما خرج إلی سلطان مجتمع لینقضه ، فالخارج منا الیوم إلی أی شئ یدعوکم ، إلی الرضا من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فنحن نشهدکم إنا لسنا نرضی به ! وهو یعصینا الیوم ولیس معه أحد وهو إذا کانت الرایات والألویة أجدر أن لا یسمع منا ). (الکافی:8/264) .

قال فی السیرة الحلبیة:2/207: (فحاربه یوسف بن عمر الثقفی أمیر العراقین من قبل هشام بن عبد الملک ، فانهزم أصحاب زید عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أکثرهم... وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم فی جهته ، وحال اللیل بین الفریقین فطلبوا حَجَّاماً من بعض القری لینزع له النصل ، فاستخرجه فمات من ساعته فذفنوه من ساعته وأخفوا قبره ، وأجروا علیه الماء ، واستکتموا الحجام ذلک ، فلما أصبح الحجام مشی إلی یوسف بن عمر منتصحاً وأخبره ودله علی موضع قبره ، فاستخرجه وبعث برأسه إلی هشام ، فکتب إلیه هشام أن اصلبه عریاناً ، فصلبه کذلک.. وأقام مصلوباً أربع سنین وقیل خمس سنین فلم تُرَ عورته وقیل إن بطنه الشریف ارتخی علی عورته فغطاها... وکان عند صلبه وجهوه إلی غیر القبلة ، فدارت خشبته التی صلب علیه إلی أن صار وجهه إلی القبلة) . انتهی.

ص: 226

أقول: ذکر المؤرخون والمحدثون ما ظهر من کرامة لزید(رحمه الله)عندما صلب ، قال ابن عساکر:19/479: (کان زید بن علی حیث صلب ، یوجه وجهه ناحیة الفرات فیصبح وقد دارت خشبته ناحیة القبلة مراراً ! وعمدت العنکبوت حتی نسجت علی عورته). وعمدة الطالب/258. ورغم هذه الکرامة أبقی هشام جثمان زید(رحمه الله)مصلوباً أربع سنین وقیل خمسة !

وقال الصفدی فی الوافی:15/22: ( وقال الموکَّل بخشبته: رأیت النبی (ص) فی النوم وقد وقف علی الخشبة وقال: هکذا تصنعون بولدی من بعدی ! یا بُنَیَّ یا زید قتلوک قتلهم الله ، صلبوک صلبهم الله ! فخرج هذا فی الناس ، فکتب یوسف بن عمر إلی هشام أنَّ عجل أهل العراق قد فتنتهم ، فکتب إلیه: أحرقه بالنار ).

وقد نص علی أن مدة صلبه أربع سنوات أو خمسة: الذهبی فی العبر:1/154 ، والدمیری/860 ، والعصامی:1/349، ومسند زید/11. لکن ابن کثیر

الأموی جعل ذلک قولاً قیل ! قال فی النهایة:9/362: (ویقال إن زیداً مکث مصلوباً أربع سنین) !

5- روت المصادر حزن المسلمین علی زید(رحمه الله)ورثاءهم له بقصائد کثیرة، وروت شماتة شاعر الخلیفة الأموی حکیم بن عباس الکلبی ، واستجابة دعاء الإمام الصادق(علیه السّلام)علیه: ففی دلائل الإمامة لمحمد بن جریر الطبری الشیعی/253: (جاء رجل إلی أبی عبد الله(علیه السّلام)فقال: یا ابن رسول الله إن حکیم بن عباس الکلبی ینشد الناس بالکوفة هجاءکم ! فقال: هل علقت منه بشئ ؟ قال: بلی فأنشده:

صلبنا لکم زیداً علی جذع نخلة... ولم نر مهدیاً علی الجذع یصلبُ وقستم بعثمانٍ علیاً سفاهةً... وعثمان خیر من علی وأطیب

فرفع أبو عبد الله(علیه السّلام)یدیه إلی السماء وهما ینتفضان رِعْدَةً فقال: اللهم إن کان کاذباً فسلط علیه کلباً من کلابک ! قال فخرج حکیم من الکوفة فأدلج ، فلقیه

ص: 227

الأسد فأکله ! فجاءوا بالبشیر لأبی عبد الله(علیه السّلام)وهو فی مسجد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأخبروه بذلک ، فخرَّ لله ساجداً ، وقال: الحمد لله الذی صدقنا وعده ). والمناقب:3/360 وتاریخ دمشق:15/134، والبصائر لأبی حیان/816 ، ومعجم الأدباء/799، و نثر الدرر/164، والصواعق:2/588 ، والفصول المهمة:2/920 ، وینابیع المودة :3/114، وفی کشف الغمة:2/421 ونوادر المعجزات/142 ، وغیرها .

6- یظهر من الخبر التالی أن الذین استشهدوا مع زید(رحمه الله)کانوا250 رجلاً ، فقد روی ابن عنبة فی عمدة الطالب/258 ، عن عبد الرحمن بن سیابة قال: ( أعطانی جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)ألف دینار ، وأمرنی أن أفرقها فی عیال من أصیب مع زید ، فأصاب کل رجل أربعة دنانیر). انتهی.

5- ویظهر من الخبرین التالیین أن زیداً ویحیی ومن استشهد معهما وبکی لهما ، من أهل الجنة ، ففی ثواب الأعمال/220، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال:( إن آل أبی سفیان قتلوا الحسین بن علی(علیه السّلام)فنزع الله ملکهم ، وقتل هشام زید بن علی فنزع الله ملکه وقتل الولید یحیی بن زید فنزع الله ملکه ، علی قتل ذریة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )).

وسأل الإمام الصادق(علیه السّلام)أبا ولاد الکاهلی: ( أرأیت عمی زیداً؟ قال: نعم رأیته مصلوباً ورأیت الناس بین شامت حنق ، وبین محزون محترق ! فقال(علیه السّلام): أما الباکی فمعه فی الجنة ، وأما الشامت فشریک فی دمه ) ! (کشف الغمة:2/422) .

7- أحدثت شهادة زید(رحمه الله)موجة غضب واسعة فی الأمة ، فقد وصف ابن واضح الیعقوبی فی

تاریخه:2/326 ، وهو مؤرخ دقیق ، حالة الأمة فی العراق وإیران بعد شهادته فقال: ( ولما قتل زید وکان من أمره ما کان ، تحرکت الشیعة بخراسان وظهر أمرهم ، وکثر من یأتیهم ویمیل معهم ، وجعلوا یذکرون للناس أفعال بنی أمیة وما نالوا من آل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، حتی لم یبق بلد إلا فشا فیه هذا الخبر ، وظهرت الدعاة ورئیت المنامات وتُدُورست کتب الملاحم ، وهرب یحیی بن

ص: 228

زید إلی خراسان ، فصار إلی بلخ فأقام بها متواریاً ، وکتب یوسف إلی هشام بحاله فکتب إلی نصر بن سیار بسببه ، فوجه نصر جیشاً إلی بلخ علیهم هدبة بن عامر السعدی

فطلبوا یحیی حتی ظفروا به فأتوا به نصراً ، فحبسه فی قهندز مرو).

3- ثورة یحیی بن زید(رحمه الله)فی إیران

1- فی الأصول الستة عشر/265، أن هشاماً الأحول أحضر الإمام الصادق(علیه السّلام)الی الشام لیسأله عن یحیی بن زید قال(علیه السّلام): ( کنت فی منزلی فما شعرت إلا بالخیل والشرطة قد أحاطوا بالدار ! قال فتسوروا علیَّ ، فتطایر أهلی ومن عندی قال: فأخذوا یتسخرون الناس(یجبرونهم علی العمل مجاناً)قلت: لا تسخروهم واستأجروا علیَّ فی مالی، قال: فحملونی فی محمل وأحاطوا بی ، فأتانی آت من أهلی (فی المنام أو المکاشفة) فقال: إنه لیس علیک بأس ، إنما یسألک عن یحیی بن زید ، قال: فلما أدخلونی علیه قال: لو شعرنا أنک بهذه المنزلة ما بعثنا إلیک ! إنما أردنا أن نسألک عن یحیی بن زید فقلت: مالی به عهد قد خرج من هاهنا . قال: ردوه ، فردونی) .

2- قصد یحیی الی خراسان ، وأخذ یجمع أصحابه للثورة ، فاستطاع نصر بن سیار والی خراسان أن یلقی علیه القبض ویحبسه ، لکنه تخلص من الحبس.

قال الیعقوبی:2/331: (وکتب (نصر بن سیار) إلی هشام بخبره فوافق ورود کتابه موت هشام فکتب إلیه الولید أن خل سبیله ، وقیل: بل احتال یحیی بن زید حتی هرب من الحبس ، وصار إلی بیهق من أرض أبَرْشَهْر ، فاجتمع إلیه قوم من الشیعة فقالوا: حتی متی ترضون بالذلة ؟ واجتمع معه نحو مائة وعشرین رجلاً ، فرجع حتی صار إلی نیسابور

، فخرج إلیه عمرو بن زرارة القسری وهو عامل نیسابور

ص: 229

فقاتل یحیی فظهر یحیی علیه فهزمه وأصحابه وأخذوا أسلحتهم ، ثم اتبعوهم حتی لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه . وسار یحیی یرید بلخ ، فوجه إلیه نصر بن سیار سَلَمَ بن أحوز الهلالی ، فسار سلم حتی صار إلی سرخس وسار یحیی حتی صار إلی باذغیس ، وسبق إلی مرو الروذ ، فلما بلغ نصراً ذلک سار إلیه فی جموعه فلقیه بالجوزجان فحاربه محاربة شدیدة ، فأتت نشابة فوقعت فی یحیی وبادر القوم فاحتزوا رأسه ، وقاتل أصحابه بعده حتی قتلوا عن آخرهم ) !

3- فی مقاتل الطالبیین/106: ( لما أطلق یحیی بن زید وفک حدیده صار جماعة من میاسیر الشیعة إلی الحداد الذی فک قیده من رجله فسألوه أن یبیعهم إیاه ، وتنافسوا فیه وتزایدوا حتی بلغ عشرین ألف درهم ، فخاف أن یشیع خبره فیؤخذ منه المال فقال لهم: إجمعوا ثمنه بینکم ، فرضوا بذلک وأعطوه المال فقطعه قطعة قطعة وقسمه بینهم ، فاتخذوا منه فصوصاً للخواتیم یتبرکون بها !

وعبأ یحیی أصحابه علی ما کان عبأهم عند قتال عمرو بن زرارة ، فاقتتلوا ثلاثة أیام ولیالیها أشد قتال حتی قتل أصحاب یحیی کلهم ، وأتت یحیی نشابة فی جبهته ، رماه رجل من موالی عنزة یقال له عیسی ، فوجده سوْرة بن محمد قتیلاً فاحتز رأسه... وصُلب یحیی بن زید علی باب مدینة الجوزجان ).

وفی تاریخ دمشق:64/224و228: أن یحیی کان مع أبیه زید حین أقدمه هشام بن عبد الملک الی الشام ، وأن مقتله فی الجوزجان کان فی سنة125، وقیل سنة126: (بعد حرب شدیدة وزحوف ومواقف ، ثم أصاب یحیی سهم فی صدغه فسقط إلی الأرض ، وانکبوا علیه فاحتزوا رأسه.. وصلبت جثته بجوزجان فلم یزل مصلوباً حتی ظهر أبو مسلم فأمر بجسده فأنزل . ووری بعد أن تولی هو الصلاة علیه ، وکتب أبو مسلم بإقامة النیاحة ببلخ سبعة أیام بلیالیها ، وبکی علیه الرجال والنساء

ص: 230

والصبیان ، وأمر أهل مرو ففعلوا مثل ذلک ، وکثیرٌ من کور خراسان . وما ولد فی تلک السنة مولود بخراسان من العرب ومن له حال ونبأ، إلا سمی یحیی ودعا أبو مسلم بدیوان بنی أمیة فجعل یتصفح أسماء قتله یحیی بن زید ومن سار فی ذلک البعث لقتاله ، فمن کان حیاً قتله ، ومن کان میتاً خلفه فی أهله وفی عشیرته بما یسوءه). ونحوه الذهبی فی تاریخه:8/299 ، ومقاتل الطالبیین/108.

4- فی أخبار الدولة العباسیة/288، أن نصر بن سیار عندما شعر بالهزیمة أمام موجة أبی مسلم الخراسانی کان یرغب أن یستسلم له ، لکنه یعلم أنهم سیقتلونه بیحیی! قال: (والله ما زلنا نسمع بالرایات السود حتی رأیناها وابتلینا بها ، وبالله لو أنی أعلم أنی آمن فیهم لأسرعت إلیهم وکنت رجلاً منهم ، ولکن کیف لی بذلک وأنا عندهم قاتل یحیی بن زید، وهم یبکون علیه ویندبونه صباحاً ومساء)!

5- صح عندنا أن یحیی بن زید(رحمه الله)کان یعترف بإمامة ابن عمه الصادق(علیه السّلام) وأنه أوصی بالقیادة السیاسیة الی محمد وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن. ففی سند الصحیفة السجادیة عن: (متوکل بن هارون قال: لقیت یحیی بن زید بن علی(علیه السّلام)وهو متوجه إلی خراسان بعد قتل أبیه فسلمت علیه فقال لی: من أین أقبلت؟ قلت من الحج ، فسألنی عن أهله وبنی عمه بالمدینة وأحفی السؤال عن جعفر بن محمد(علیه السّلام)فأخبرته بخبره وخبرهم وحزنهم علی أبیه زید بن علی ، فقال لی: قد کان عمی محمد بن علی أشار علی أبی بترک الخروج وعرفه إن هو خرج وفارق المدینة ما یکون إلیه مصیر أمره ، فهل لقیت ابن عمی جعفر بن محمد ؟ قلت: نعم ، قال: فهل سمعته یذکر شیئاً من أمری؟ قلت: نعم ، قال: بم ذکرنی خبرنی! قلت: جعلت فداک ما أحب أن أستقبلک بما سمعته منه ! فقال:

ص: 231

أبالموت تخوفنی هات ما سمعته ! فقلت: سمعته یقول: إنک تقتل وتصلب کما قتل أبوک وصلب ، فتغیر وجهه وقال: یَمْحُوا اللهُ مَا یَشَاءُ وَیُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْکِتَابِ ، یا متوکل إن الله عز وجل أید هذا الأمر بنا وجعل لنا العلم والسیف فجمعا لنا ، وخُصَّ بنو عمنا بالعلم وحده ! فقلت: جعلت فداک إنی رأیت الناس إلی ابن عمک جعفر(علیه السّلام)أمیل منهم إلیک وإلی أبیک ، فقال إن عمی محمد بن علی وابنه جعفراً دعوا الناس إلی الحیاة ونحن دعوناهم إلی الموت ! فقلت: یا ابن رسول الله ، أهم أعلم أم أنتم؟ فأطرق إلی الأرض ملیاً ثم رفع رأسه وقال: کلنا له علم غیرأنهم یعلمون کلما نعلم ، ولا نعلم کلما یعلمون ! ثم قال لی: أکتبت من ابن عمی شیئاً؟ قلت: نعم ، قال: أرنیه فأخرجت إلیه وجوهاً من العلم وأخرجت له دعاء أملاه علی أبو عبد الله(علیه السّلام)وحدثنی أن أباه محمد بن علی(علیه السّلام)أملاه علیه وأخبره أنه من دعاء أبیه علی بن الحسین(علیه السّلام)من دعاء الصحیفة الکاملة ، فنظر فیه یحیی حتی أتی علی آخره ، وقال لی: أتأذن فی نسخه؟ فقلت: یا ابن رسول الله أتستأذن فیما هو عنکم؟! فقال: أمَا لأخرجن إلیک صحیفة من الدعاء الکامل مما حفظه أبی عن أبیه وإن أبی أوصانی بصونها ومنعها غیر أهلها . قال عمیر: قال أبی: فقمت إلیه فقبلت رأسه وقلت له: والله یا ابن رسول الله إنی لأدین الله بحبکم وطاعتکم ، وإنی لأرجو أن یسعدنی فی حیاتی ومماتی بولایتکم ، فرمی صحیفتی التی دفعتها إلیه إلی غلام کان معه وقال: أکتب هذا الدعاء بخط بیِّنٍ حسن واعرضه علیَّ لعلی أحفظه ، فإنی کنت أطلبه من جعفر حفظه الله فیمنعنیه . قال متوکل: فندمت علی ما فعلت ولم أدر ما أصنع ، ولم یکن أبو عبد الله تقدم إلیَّ ألا أدفعه إلی أحد ! ثم دعا بعیبة فاستخرج منها صحیفة مقفلة مختومة فنظر إلی الخاتم وقبله وبکی ، ثم فضه وفتح القفل ثم نشر الصحیفة ووضعها علی عینه

ص: 232

وأمرها علی وجهه وقال: والله یا متوکل لولا ما ذکرت من قول ابن عمی أننی أقتل وأصلب لما دفعتها إلیک ، ولکنت بها ضنیناً ، ولکنی أعلم أن قوله حق أخذه عن آبائه وأنه سیصح ، فخفت أن یقع مثل هذا العلم إلی بنی أمیة فیکتموه ویدخروه فی خزائنهم لأنفسهم ، فاقبضها واکفنیها وتربص بها ، فإذا قضی الله من أمری وأمر هؤلاء القوم ما هو قاض فهی أمانة لی عندک حتی توصلها إلی ابنیْ عمی محمد وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی(علیه السّلام)فإنهما القائمان فی هذا الأمر بعدی . قال المتوکل: فقبضت الصحیفة فلما قتل یحیی بن زید صرت إلی المدینة فلقیت أبا عبد الله(علیه السّلام) فحدثته الحدیث عن یحیی فبکی واشتد وجْده به وقال: رحم الله ابن عمی وألحقه بآبائه وأجداده ، والله یا متوکل ما منعنی من دفع الدعاء إلیه إلا الذی خافه علی صحیفة أبیه ، وأین الصحیفة؟ فقلت: ها هی ففتحها وقال: هذا والله خط عمی زید ودعاء جدی علی بن الحسین(علیهماالسّلام)ثم قال لابنه: قم یا إسمعیل فأتنی بالدعاء الذی أمرتک بحفظه وصونه فقام إسمعیل فأخرج صحیفة کأنها الصحیفة التی دفعها إلیَّ یحیی بن زید ، فقبلها أبو عبد الله ووضعها علی عینه وقال: هذا خط أبی وإملاء جدی(علیهماالسّلام)بمشهد منی ، فقلت یا ابن رسول الله: إن رأیت أن أعرضها مع صحیفة زید ویحیی؟ فأذن لی فی ذلک وقال: قد رأیتک لذلک أهلاً ، فنظرت وإذا هما أمر واحد و لم أجد حرفاً منها یخالف ما فی الصحیفة الأخری ، ثم استأذنت أبا عبد الله(علیه السّلام)فی دفع الصحیفة إلی ابنی عبد الله ابن الحسن، فقال: إِنَّ اللهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَی أَهْلِهَا ، نعم فادفعها إلیهما ، فلما نهضت للقائهما قال لی: مکانک ، ثم وجه إلی محمد وإبراهیم فجاءا فقال: هذامیراث ابن عمکما یحیی من أبیه قد خصکما به دون إخوته ، ونحن مشترطون علیکما فیه شرطاً، فقالا: رحمک الله قل فقولک

ص: 233

المقبول ، فقال: لا تخرجا بهذه الصحیفة من المدینة ، قالا: ولم ذاک؟ قال إن ابن عمکما خاف علیها أمراً أخافه أنا علیکما. قالا: إنما خاف علیها حین علم أنه یقتل فقال أبو عبد الله(علیه السّلام)وأنتما فلا تأمنا فوالله إنی لأعلم أنکما ستخرجان کما خرج وستقتلان کما قتل ! فقاما وهما یقولان: لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم ! فلما خرجا قال لی أبو عبد الله: یا متوکل کیف قال لک یحیی: ابن عمی محمد ابن علی وابنه جعفرا دعوا الناس إلی الحیاة ودعوناهم إلی الموت؟ قلت: نعم أصلحک الله قد قال لی ابن عمک یحیی ذلک . فقال: یرحم الله یحیی ، إن أبی حدثنی عن أبیه عن جده عن علی(علیه السّلام)أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أخذته نعسة وهو علی منبره فرأی فی منامه رجالاً یَنْزُون علی منبره نَزْوَ القردة ، یردون الناس علی أعقابهم القهقری ، فاستوی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جالساً والحزن یعرف فی وجهه ، فأتاه جبریل(علیه السّلام)بهذه الآیة: وَإِذْ قُلْنَا لَکَ إِنَّ رَبَّکَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلا طُغْیَاناً کَبِیراً ، یعنی بنی أمیة ! قال: یا جبریل علی عهدی یکونون وفی زمنی؟ قال: لا ولکن تدور رحی الإسلام من مهاجرک فتلبث بذلک عشراً ، ثم تدور رحی الإسلام علی رأس خمسة وثلاثین من مهاجرک فتلبث بذلک خمساً ، ثم لا بد من رحی ضلالة هی قائمة علی قطبها ، ثم ملک الفراعنة . قال: وأنزل الله تعالی فی ذلک:

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاکَ مَا لَیْلَةُ الْقَدْر . لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ یملکها بنو أمیة لیس فیها لیلة القدر . قال: فأطلع الله عز وجل نبیه(علیه السّلام)علی أن بنی أمیة تملک سلطان هذه الأمة وملکها طول هذه المدة ، فلو طاولتهم الجبال لطالوا علیها حتی یأذن الله تعالی بزوال ملکهم ، وهم فی ذلک یستشعرون عداوتنا أهل البیت وبغضنا ، أخبر الله نبیه بما یلقی أهل بیت محمد وأهل مودتهم وشیعتهم

ص: 234

منهم فی أیامهم وملکهم ، قال: وأنزل الله تعالی فیهم: أَلَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ کُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ یَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ . ونعمة الله محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل بیته(علیهم السّلام) ، حبهم إیمان یدخل الجنة ، وبغضهم کفر ونفاق یدخل النار ، فأسرَّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ذلک إلی علی وأهل بیته قال: ثم قال أبو عبد الله(علیه السّلام): ما خرج ولا یخرج منا أهل البیت إلی قیام قائمنا أحد لیدفع ظلماً أو ینعش حقاً إلا اصطلمته البلیة ، وکان قیامه زیادة فی مکروهنا وشیعتنا ! قال المتوکل بن هرون: ثم أملی علی أبو عبد الله(علیه السّلام)الأدعیة وهی خمسة وسبعون باباً...). ونحوه کفایة الأثر:307 .

6- وروینا بسند صحیح أن یحیی وأباه کانا یعترفان بإمامة الأئمة الإثنی عشر(علیهم السّلام) ویرویان حدیثهم عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). ففی کفایة الأثر فی النص علی الائمة الإثنی عشر(علیهم السّلام)/304: (عن یحیی بن زید قال: سألت أبی عن الأئمة فقال: الأئمة إثنا عشر ، أربعة من الماضین وثمانیة من الباقین . قلت: فسمهم یا أبه . فقال: أما الماضین فعلی بن أبی طالب والحسن والحسین وعلی بن الحسین ، ومن الباقین أخی الباقر وجعفر الصادق ابنه وبعده موسی ابنه وبعده علی ابنه وبعده محمد ابنه وبعده علی ابنه وبعده الحسن ابنه وبعده المهدی . فقلت: یا أبه ألست منهم؟ قال: لا ولکنی من العترة . قلت: فمن أین عرفت أسامیهم؟ قال: عهد معهود عهده إلینا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )).

ویؤید ذلک ترحم الأئمة(علیهم السّلام)علی زید ویحیی ومدحهم لهما رحمهما الله ، ولا بد أن نفسر ما روی لهما من مناقشات أو انتقاد لبعض مواقف الأئمة(علیهم السّلام)بأنها جزئیة مغفورة أو ناتجة عن شبهة ، أو شکلیة لإبعاد أذی السلطة عنهم(علیهم السّلام) .

ص: 235

4- ثورة عبدالله بن معاویة بن عبدالله جعفر

اشارة

1- کان عبدالله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر الطیار(رحمه الله)شاباً طموحاً ، وکان شاعراً ، وله أبیات ممیزة ، کقوله:

إنا وإن أحسابنا کرمت.. یوماً علی الأحساب نتکلُ

نبنی کما کانت أوائلنا.. تبنی ونفعل مثل ما فعلوا

(تاریخ دمشق:33/219) .

وله: فلست براءٍ عیب ذی الضغن کله... ولا سائلاً عنه إذا کنت راضیا فعینُ الرضا عن کل عیب کلیلةٌ... ولکن عین السُّخط تُبدی المساویا(شرح النهج:18/206 ) .

وذکر فی تاریخ دمشق:33/212، أنه کان صدیق الولید بن یزید وندیمه ، یؤانسه ویلعب معه الشطرنج ! وفی شرح دیوان الحماسة:2/39:

( وکان یرمی بالزندقة ، ویستولی علیه من عرف واشتهر أمره فیها...وکان عبد الله هذا أقسی خلق الله قلباً ! یغضب علی الرجل فیأمر أن یضرب بالسیاط وهو یتحدث ، ویتغافل عنه حتی یموت تحت السیاط) ! ونحوه مقاتل الطالبیین/110 .

وذکر فقهاؤنا أنه کذب علی الإمام الصادق(علیه السّلام) ، فوضع جدولاً فی علامات ثبوت الهلال ونسبه الیه ! (غنیة النزوع/131، ومستند الشیعة:10/405 ، وإقبال الأعمال:1/61) .

واتهموه بأنه أسس فرقة الجناحیة الضالة ، ففی المواقف للإیجی:3/672: (قال عبد الله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر ذی الجناحین: الأرواح تتناسخ ، وکان روح الله فی آدم ، ثم فی شیت ثم الأنبیاء والأئمة ، حتی انتهت إلی علی وأولاده الثلاثة ، ثم إلی عبد الله هذا) !

وفی أنساب السمعانی:2/249: (الحلولیة وهم أصناف... فمنهم من زعم أنها انتهت

ص: 236

إلی بیان بن سمعان وادعی له بذلک الإلهیة . ومنهم من زعم أن تلک الروح انتهت إلی عبد الله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر ذی الجناحین ، وعبدَه أتباعه وزعموا أنه إلهٌ وکفروا بالجنة والنار والقیامة واستحلوا جمیع المحرمات من المیتة والخمر وذوات المحارم... وهکذا قول المنصوریة فی أبی منصور العجلی). راجع المجدی فی أنساب الطالبین/297، والفائق للشبستری:2/310 . وقد یکون الأمویون وأتباعهم کذبوا علیه ، لکن المؤکد أنه کان له بطانة سوء فی سلوکهم وعقائدئهم .

2- فی أنساب الأشراف/60: (فلما ولی یزید بن الولید بن عبد الملک ، وهو یزید الناقص الخلافة ، وولی عبد الله بن عمر بن عبد العزیز بن مروان العراق ، خرج عبد الله بن معاویة علیه بالکوفة) . وقال القاضی النعمان فی شرح الأخبار:3/321: (وقام عبد الله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب وادعی الإمامة ، وهو الذی قیل إن أبا هاشم أوصی إلیه.. وذلک فی سنة سبع وعشرین ومائة).

أقول: تدل أخباره علی أنه لم یکن فیه صفات القیادة ، وأن الزیدیة دفعوه الی الخروج دفعاً مستغلین اختلاف بنی أمیة وغیبة والی الکوفة ، لکنه هرب فی أول المعرکة ودخل قصر الکوفة الذی کان خالیاً ! قال الذهبی فی تاریخه:8/17: (فلما مات یزید الناقص هاجت شیعة الکوفة وجیشوا ، وغلبوا علی القصر وبایعوا عبد الله هذا ، فحشد معه خلائق فالتقاهم عسکر الکوفة وتمت لهم وقعة انهزم فیها عبد الله بن معاویة ، فدخل القصر وقتل خلق من شیعته ، ثم إنه أخرج من القصر وأمنوه وأخرجوه من الکوفة). وفی تاریخ دمشق:33/215: (فأقام أیاماً تبایعه الناس ، وأتته بیعته من المدائن ومن کل وجه ، وخرج یوم الأربعاء یرید ابن عمر... وانهزم فدخل القصر ! وثبتت الزیدیة فقاتلوا قتالاً شدیداً ، ولزموا أفواه السکک حتی أخذوا لعبد الله بن معاویة وأخویه أن یأخذوا حیث شاءوا من البلاد).

ص: 237

وفی تاریخ الطبری:5/604: (ثم إن ربیعة أخذت لأنفسها وللزیدیة ولعبد الله بن معاویة أماناً لا یمنعونهم ویذهبوا حیث شاءوا ) .

وفی تاریخ خلیفة/298: (فرحَّله ومن معه من شیعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد وأهل الکوفة ، فسارت بهم رسل عمر حتی أخرجوهم).

3- فی شرح الأخبار:3/321: (وقال له رجال من أهل الکوفة: قد فنی رجالنا بسببکم وقتل أکثرنا معکم ، فاخرج إلی فارس فإنهم أهل مودة ! فخرج الیها فنزل إصبهان ودعا إلی نفسه ، فأجابه ناس کثیر من العرب والعجم ، فاستولی علی أرض فارس کلها وإصبهان وما والاها من البلاد ، واستعمل أخاه الحسن بن معاویة علی إصطخر ، ویزید بن معاویة علی شیراز ، وعلی بن معاویة علی کرمان ، وصالح بن معاویة علی قم . وجاءه بنو هاشم فمن أراد منهم عملاً فاستعمله ، ومن أراد صلة وصله . وقدم إلیه معهم أبو العباس (السفاح) وأبو جعفر ابنا محمد بن علی بن عبد الله بن العباس فولاهما بعض الکور). (وضرب الدراهم وکتب علیها: قُلْ لاأَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی . ثم غلب علی إصبهان وعامة فارس والأهواز ) . (أنساب الأشراف/60).

4-کانت ثورة عبدالله بن معاویة فی السنتین اللتین اضطربت فیهما الخلافة الأمویة بسبب اختلافهم ، من سنة125-127، وتولی فیهما ثلاثة خلفاء: الولید بن یزید بن عبد الملک ، ویزید بن الولید ، وإبراهیم بن الولید . فلما تولی آخرهم مروان بن محمد الملقب بالحمار واستتب له الأمر ، أرسل جیشاً من الشام بقیادة عامر بن ضبارة لمساندة عامله علی العراق محمد بن هبیرة ، وعامله علی إیرن نصر بن سیار ، ومحاربة عبد الله بن معاویة ، وإعادة إیران الی طاعة الخلیفة .

قال فی تاریخ دمشق:25/430 ، عن جیش ابن ضبارة: (فلقیه بإصطخر ومعه أخواه

ص: 238

الحسن ویزید ابنا معاویة ، فهزمه ابن ضبارة حتی أتی خراسان ، وقد ظهر أبو مسلم فی شهر رمضان سنة تسع وعشرین ومائة فحبس الهاشمی وأخویه ).

وفی مقاتل الطالبیین/115: ( فوجه إلیه عامر بن ضبارة فی عسکر کثیف فسار إلیه ، حتی إذا قرب من أصبهان ندب ابن معاویة أصحابه إلی الخروج إلیه وقتاله فلم یفعلوا ولا أجابوه ! فخرج علی دهش هو وإخوته قاصدین لخراسان ، وقد ظهر أبو مسلم بها ونفی عنها نصر بن سیار ، فلما صار فی طریقه نزل علی رجل من الثناء ذی مروءة ونعمة ، وجاءه فسأله معونته فقال: أنت من ولد رسول الله؟ قال: لا . قال: أفأنت إبراهیم الإمام الذی یدعی له بخراسان ؟ قال: لا . قال: فلا حاجة لی فی نصرتک ! فخرج إلی أبی مسلم وطمع فی نصرته ، فأخذه أبو مسلم فحبسه عنده ، واختلف فی أمره بعد محبسه . فقال بعض أهل السیر: إنه لم یزل محبوساً حتی کتب إلی أبی مسلم رسالته المشهورة التی أولها: من الأسیر فی یدیه المحبوس بلا جرم لدیه... وهی طویلة لا معنی لذکرها هاهنا . فلما کتب إلیه بذلک أمر بقتله . وقال آخرون: بل دس إلیه سماً فمات منه ، ووجه برأسه إلی ابن ضبارة فحمله إلی مروان . وقال آخرون: سلمه حیاً إلی ابن ضبارة فقتله ، وحمل رأسه مروان ).

وفی تاریخ دمشق:33/219: (فحبس عبد الله بن معاویة وأخویه ثم قتله ، وخلی عن أخویه فی سنة ثلاثین ومائة). وفی شرح الأخبار:3/321: (فأمره بقتل عبد الله فقتله ، وأمره بأن یرفع إلیه یزید والحسن بن معاویة أخوی عبد الله فرفعهما إلیه فحبسهما أبو مسلم مدة ثم خلی سبیلهما. وأما علی بن معاویة فقتله ابن ضبارة).

5- ذکر البلاذری فی أنساب الأشراف/60 ، أن أبا جعفر المنصور قصد عبدالله بن جعفر مع من صار إلیه من بنی هاشم فولاه إیذرج من الأهواز فجبی خراجها .

ص: 239

ولما ضعف أمر عبدالله بن معاویة أمام جیش ابن ضبارة ، هرب المنصور یرید البصرة ، فقبض علیه سلیمان بن حبیب بن المهلب والی الأهواز وأغرمه المال ، وضربه وحبسه وأراد قتله ، فمنعه من ذلک سفیان بن معاویة بن یزید بن المهلب). وفی شرح الأخبار:3/321: (فهزمهم ابن ضبارة وأسر منهم أربعین رجلاً ، وکان فیمن أسر منهم عبد الله العباس (السفاح) ، فقال له ابن ضبارة: ما جاءک بک إلی ابن معاویة ، فقد عرفت خلافه علی أمیر المؤمنین یعنی مروان بن محمد؟ فقال: کان علیَّ دینٌ فأتیته لأصیب منه فضلاً . فقام إلیه ابن قطن فقال: ابن أختنا فوهبه له وخلی سبیله وکان أسر معهم ، وبعث به وبهم إلی ابن هبیرة ، وحمله ابن هبیرة إلی مروان بن محمد ).

ملاحظات

1- لماذا قتل أبو مسلم عبدالله بن معاویة وهو هاشمی ثائر علی بنی أمیة ؟

الجواب: أن أبا مسلم کان یعمل بأمر بکیر بن مهران ویدعو للرضا من آل محمد بدون تسمیة ! وفی السنة الأخیرة أعلن أن الرضا من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی یدعو لبیعته هو إبراهیم بن محمد بن عبدالله بن عباس ، الملقب بالإمام ، والذی سجنه مروان الحمار بسبب ذلک وقتله . لذا کان عبدالله بن معاویة یشکل خطراً علی خلافة ابن العباس ! خاصة أنه کان یدعی أن أبا هاشم بن محمد بن الحنفیة أوصی الیه . (شرح الأخبار:3/316) . ومن البعید أن یکون أبو مسلم قتله من نفسه ، بدون أمر قائده بکیر . أما لماذا أرسل رأسه الی ابن ضبارة ، فأرسله الی مروان ؟ فلو صح ذلک فلا بد أن تکون صفقة بین أبی مسلم وابن ضبارة ، قبل أن تشتد الحرب بینهما وینتصر قحطبة قائد أبی مسلم علی ابن ضبارة ویقتله .

2- أکدت مصادر عدیدة أن والی الأهواز سلیمان بن حبیب بن المهلب خوَّن

ص: 240

المنصور بسرقة مال الخراج وضربه وأراد قتله ، ولذلک عندما صار المنصور خلیفة قتله مع أن أخاه السفاح کان عفا عنه وولاه علی الأهواز ! ( سیر الذهبی:7/23 ، و/83 ، وتاریخه:9/466 ، والوافی:9/121، وشرح النهج:15/238، والنزاع والتخاصم للمقریزی/39 ).

وقال الذهبی فی سیره:7/83 ، بعد أن مدح المنصور: (وقد ولی بلیدة من فارس لعاملها سلیمان بن حبیب بن المهلب بن أبی صفرة ، ثم عزله وضربه وصادره ، فلما استخلف قتله . وکان یلقب أبا الدوانیق ، لتدنیقه ومحاسبته الصناع ) .

وقال فی تاریخه:9/466: (ولی بعض کور فارس فی شبیبته لعاملها سلیمان بن حبیب بن المهلب الأزدی ، ثم عزله وضربه ضرباً مبرحاً ، لکونه احتجز المال لنفسه ، ثم أغرمه المال ، فلما ولی المنصور الخلافة ضرب عنقه). ونحوه النهایة:10/37.

أقول: یتضح بذلک أن الرواة خلطوا بین تأدیب ابن المهلب للمنصور ، وبین قبض ابن ضبارة علیه ، ویظهر أن المنصور کان فی شبابه المبکر عاملاً لابن المهلب علی بلیدة فی الأهواز کما ذکر الذهبی ، ویومها کسر الخراج فصادره ابن المهلب وأدبه وسجنه حتی هرب من سجنه . وتعرف فی السجن علی نوبخت المنجم جد آل نوبخت البغدادیین . (تاریخ بغداد:10/53).

وبعد سنین طویلة رجع المنصور مع أخیه الصغیر السفاح الی الأهواز وعمل عند ابن جعفر الطیار الخلیفة سنة127، حتی انهزم عبد الله ففر السفاح ووقع المنصور فی أسر جیش الشام بقیادة ابن ضبارة ، فأرسله الی والی العراق ابن هبیرة فأرسله الی مروان ، فتقرب الیه المنصور بذم ابن عمه الهاشمی الذی بایعه بالأمس إماماً وخلیفة ! فأطلقه ، وهذا یعنی أن أخاه إبراهیم لم یکن مطروحاً للخلافة یومذاک ولم یکن فی حبس مروان ، وإلا لحبسه معه !

ویؤکد ذلک أن المنصور لم یذهب الی أبی مسلم الذی زعموا أنه کان یعمل

ص: 241

لخلافة أخیه إبراهیم ، وذلک لأن أبا مسلم لم یدخل فی عمله أحداً من العباسیین ولا الحسنیین ولا الحسینیین ، وأنه لم یعلن خلافة إبراهیم أخ المنصور إلا فی سنة إحدی وثلاثین ، بل کان ذلک مجرد تسمیة قابلة للمناورة والتغییر قبل البیعة ، وستعرف أن أبا سلمة عندما دخل جیش أبی مسلم الی الکوفة راسل الإمام الصادق(علیه السّلام)وعبدالله بن الحسن یعرض علیهما أن یأخذ لهما البیعة ! واعتبر أن إعلان خلافة إبراهیم العباسی قد انتهی بموته ، ولا یعنی جعلهم الخلافة فی بنی العباس ! بل تدل روایة ابن خلدون:3/187، علی أن بیعة بنی العباس لمهدی الحسنیین کانت عندما اضطرب أمر مروان بن محمد ! قال: (حین اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إلیه (عبدالله بن الحسن) وتشاوروا فیمن یعقدون له الخلافة ، فاتفقوا علی محمد بن عبد الله بن الحسن المثنی بن علی ، وکان یقال إن المنصور ممن بایعه تلک اللیلة) !

3- یتضح أن عبدالله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر لم یکن متدیناً ولا شیعیاً ! فلم أجد من وثقه من علماء الشیعة والسنة . وقد کان ندیماً لأمیر أموی متهتک هو الولید بن یزید ! ولم یکن فیه من صفات القیادة إلا أنه فصیح یقدم نفسه علی أنه بطل ، مع أنه خوَّار ! وخروجه یدل علی قوة الزیدیین فی الکوفة وأنهم دفعوه الی الثورة ، وعلی قوة تیار محبة أهل البیت(علیهم السّلام)وأنه کان یغری الطامحین من بنی هاشم !

4- بقی أن نذکر أنه سلیمان بن حبیب بن المهلب(رحمه الله)الذی حبس المنصور لسرقته مال الخراج کان شیعیاً متدیناً(رحمه الله)، وکان والی الأهواز لابن هبیرة والی العراق . وهو الذی أرسل الی الخلیل یدعوه الی الأهواز . (أعیان الشیعة:6/340، و:7/295 ).

5- ذکر الحافظ أبو نعیم الأصفهانی أن والده مهران کان مولی لعبدالله بن جعفر ، أی أنه أسلم علی یده (کتاب الضعفاء وغیره) . ولعل مهراناًهذا کان ندیم عبدالله ، کما کان هو ندیم الأمیر الأموی یزید الفاسق !

ص: 242

الفصل الثامن: الحسنیون والحسینیون فی موجة تأیید الأمة لأهل البیت(علیهم السّلام)

1- مناقبیة الأخوَّة عند الإمامین الحسن والحسین(علیهماالسّلام)

یضرب المثل للأخوین المتصافیین فیقال: أخوان کالحسن والحسین ، لأن سلوکهما(علیهماالسّلام)کان نبویاً فی المودة والإحترام ، وإیثار أحدهما لأخیه(علیهماالسّلام).

وتجلی ذلک فی حرص الحسن علی أن یُغَیِّبَ الحسین(علیهماالسّلام)عن تنازله لمعاویة ، فلا تجد له ذکراً فی مفاوضات الصلح ولا فی دخول معاویة الی الکوفة !

کما تجلی عندما کان الحسن(علیه السّلام)یکابد السم الذی دسه له معاویة ذات مرة ، فجاءه الحسین(علیه السّلام): ( فلما نظر إلیه بکی ، فقال له: ما یبکیک یا أبا عبد الله؟ قال: أبکی لما یُصنع بک ! فقال له الحسن(علیه السّلام): إن الذی یؤتی إلیَّ سُمٌّ یُدَسُّ إلیَّ فأقتل به ، ولکن لایومَ کیومک یا أبا عبد الله ، یزدلف إلیک ثلاثون ألف رجل یدَّعون أنهم من أمة جدنا محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وینتحلون دین الإسلام ، فیجتمعون علی قتلک وسفک دمک وانتهاک حرمتک ، وسبی ذراریک ونسائک وانتهاب ثقلک ، فعندها تحل ببنی أمیة اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً ، ویبکی علیک کل شئ حتی الوحوش فی الفلوات والحیتان فی البحار) ! (أمالی الصدوق/177).

وأوصی الإمام الحسن(علیه السّلام)أولاده أن یکونوا مع عمهم الحسین(علیه السّلام)فی کربلائه

ص: 243

الموعودة ، فاستشهد بین یدیه ثلاثة منهم: القاسم وعبد الله وعمرو .

وکان أولاد الإمام الحسن(علیه السّلام)بضعة عشر بنتاً وابناً ، وغالب ذریته من ابنیه زید بن الحسن ، والحسن بن الحسن الذی یسمی الحسن المثنی. (الذریعة:2/372).

2- زید بن الإمام الحسن(علیه السّلام)وذریته

مدحه علماؤنا مدحاً عاماً فقال المفید(رحمه الله)فی الإرشاد:2/21:(کان جلیل القدر کریم الطبع ظَلِف النفس (متورع ومتقشف) کثیر البر ، ومدحه الشعراء وقصده الناس من الآفاق لطلب فضله.. کان یلی صدقات رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).. کان مسالماً لبنی أمیة ومتقلداً من قبلهم الأعمال ، وکان رأیه التقیة لأعدائه والتألف لهم والمداراة.. ومات زید وله تسعون سنة ، فرثاه جماعة من الشعراء وذکروا مآثره ). ثم ذکر أن سلیمان بن عبد الملک عزله عن صدقات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم أعادها الیه ابن عبد العزیز.

وقال فی عمدة الطالب/69: (تخلف عن عمه الحسین(علیه السّلام)فلم یخرج معه إلی العراق . وبایع بعد قتل عمه الحسین(علیه السّلام)عبد الله بن الزبیر ، لأن أخته لأمه وأبیه کانت تحت عبد الله بن الزبیر.. فلما قتل عبد الله أخذ زید بید أخته ورجع إلی المدینة.. عاش مائة سنة ،

وقیل خمساً وتسعین ، وقیل تسعین ).

وبعد زید بن الحسن ، ولَّی الولید بن عبد الملک ابنه الحسن بن زید صدقات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فنازعه فیها أبو هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفیة ، فشکی ابن زید الی الولید بن عبد الملک فحبس أبا هاشم وطال حبسه ، فتوسط له الإمام زین العابدین(علیه السّلام)وطلب أن یطلقه لأنه مکذوب علیه . (الوافی للصفدی:15/19) .

واشتهر زید بن الحسن بن زید بن الحسن(علیه السّلام): (کان أمیر المدینة من قبل المنصور الدوانیقی ، وعمل له علی غیر المدینة أیضاً ، وکان مظاهراً لبنی العباس

ص: 244

علی بنی عمه الحسن المثنی ، وهو أول من لبس السواد من العلویین ، وبلغ من السن ثمانین سنة ) . (عمدة الطالب/69). وفی میزان الإعتدال:1/492: (ولیَ المدینة للمنصور خمس سنین ، ثم عزله وصادره ثم سجنه ، فلما ولی المهدی أطلقه وأکرمه وأدناه . وکان شیخ بنی هاشم فی زمانه.. وهذا هو والد الست نفیسة ) .

أقول: اشتهرت بنته نفیسة أکثر منه ، ففی الأعلام:8/44: ( نفیسة بنت الحسن بن زید بن الحسن بن علی بن أبی طالب: صاحبة المشهد المعروف بمصر. تقیة صالحة عالمة بالتفسیر والحدیث . ولدت بمکة ونشأت فی المدینة ، وتزوجت إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق . وانتقلت إلی القاهرة فتوفیت فیها . حجت ثلاثین حجة ، وکانت تحفظ القرآن وسمع علیها الإمام الشافعی ، ولما مات أُدخلت جنازته إلی دارها وصلت علیه .

وکان العلماء یزورونها ویأخذون عنها ).

3- الحسن بن الإمام الحسن(علیه السّلام)وذریته

تقدم فی سیرة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)أن الحسن بن الحسن شهد کربلاء مع عمه الحسین(علیه السّلام)وأثخن بالجراح ، فلما أرادوا أخد الرؤوس وجدوا به رمقاً ، وکانت أمه من قبیلة فزارة فاستوهبه رئیس فزارة أسماء بن خارجة ، فقال عبید الله بن زیاد: (دعوا لأبی حسان بن أخته ، وعالجه أسماء حتی برئ ثم لحق بالمدینة... حتی دس إلیه الولید بن عبد الملک من سقاه سماً فمات ، وعمره إذ ذاک خمس وثلاثون سنة ، وکان یشبَّه برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )). ( عمدة الطالب/100).

قال المفید(رحمه الله)فی الإرشاد:2/23: ( أما الحسن بن الحسن فکان جلیلاً رئیساً فاضلاً ورعاً.. وروی أن الحسن بن الحسن خطب إلی عمه الحسین(علیه السّلام)إحدی ابنتیه فقال له الحسین: إختر یا بنی أحبهما إلیک ، فاستحیا الحسن ولم یُحِرْ جواباً ، فقال

ص: 245

الحسین(علیه السّلام): فإنی قد اخترت لک ابنتی فاطمة وهی أکثرهما شبهاً بأمی فاطمة بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . وقُبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون سنة وأخوه زید بن الحسن حیّ.. ولما مات.. ضربت زوجته فاطمة بنت الحسین علی قبره فسطاطاً وکانت تقوم اللیل وتصوم النهار ، وکانت تشبه بالحور العین لجمالها ، فلما کان رأس السنة قالت لموالیها: إذا أظلم اللیل فقوِّضوا هذا الفسطاط ) .

وعلمه الإمام زین العابدین(علیهماالسّلام)دعاءً ، وظهرت له کرامة، ففی فتح الباری:11/124: (کتب الولید بن عبد الملک إلی عثمان بن حیان (والیه علی المدینة): أنظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلدة وأوقفه للناس ، قال فبعث إلیه فجئ به فقام إلیه علی بن الحسین فقال: یا ابن عم تکلم بکلمات الفرج یفرج الله عنک ، فذکر حدیث علی باللفظ الثانی ، فقالها فرفع إلیه عثمان رأسه فقال: أری وجه رجل کُذِبَ علیه ! خلوا سبیله فسأکتب إلی أمیر المؤمنین بعذره فأطلق) !

وفی السلسلة العلویة/4 ، أن الخلیفة سلیمان قتله بالسم ، کعادة أسلافه !

أقول: عرف حفید الحسن هذا باسم شهید فخ ، وهو الحسین بن علی بن الحسن بن الحسن المثنی بن الإمام الحسن(علیه السّلام) ، وهو أکثر من مدحه الأئمة(علیهم السّلام)من الحسنیین .

4- عبد الله بن الحسن المثنی أبو الثورة العباسیة

هو عبدالله بن الحسن بن الحسن(علیه السّلام) ، ویسمی عبد الله المحض ، لأن أباه ابن الحسن وأمه بنت الحسین(علیهماالسّلام) . وکان صاحب شخصیة قویة ، وکان سیاسیاً ولیس عالماً ! وهو صاحب مشروع الثورة علی الأمویین بعد زید بن علی(رحمه الله) ، وقد ابتکر ادعاء المهدیة لولده محمد ودعا الی بیعته ولم یقبل أن یبایعوه بدل ابنه ! واستطاع أن یقنع العباسیین وأکثر الحسنیین فبایعوا ابنه بالإمامة والطاعة ، لکنه لم یستطع أن

ص: 246

یضم الیه أئمة العترة من ذریة الحسین(علیه السّلام) .

ثم انقلب علیه العباسیون فیما بعد واتفقوا مع أبی مسلم أن یبایع أبا العباس السفاح بالخلافة ، فثار علیهم عبد الله بن الحسن وقُتل هو وأکثر أولاده ، وواصل الذین أفلتوا منهم ثوراتهم فأسسوا دولتهم فی المغرب ، وما زالوا یحکمونها الی الیوم ، ودولتهم فی شمال إیران وقد انتهت ، کما حکموا الحجاز مدة طویلة حتی ورثهم آل سعود ، وما زالوا الی الیوم یحکمون الأردن .

قال السید الخوئی فی ترجمته فی معجم رجال الحدیث:11/170: ( ثم إن الروایات قد کثرت فی ذم عبد الله هذا.. سلیمان بن هارون قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السّلام): إن العجلیة یزعمون أن عبد الله بن الحسن یدَّعی أن سیف رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عنده ! قال(علیه السّلام):والله لقد کذب! فوالله ما هو عنده وما رآه بواحدة من عینیة قط ولا رآه أبوه ، إلا أن یکون رآه عند علی بن الحسین(علیه السّلام)، وإن صاحبه لمحفوظٌ ومحفوظ له . لا تذهبن یمیناً ولا شمالاً فإن الأمر واضح ! والله لو أن أهل الأرض اجتمعوا علی أن یحولوا هذا الأمر من موضعه الذی وضعه الله ما استطاعوا ، ولو أن خلق الله کلهم جمیعاً کفروا حتی لا یبقی أحد ، جاء الله لهذا الأمر بأهل یکونون هم أهله.. فالسند صحیح... عن علی بن سعید قال: کنت قاعداً عند أبی عبد الله(علیه السّلام)... فقال محمد بن عبد الله بن علی: العجب لعبد الله بن الحسن أنه یهزأ ویقول فی جفرکم الذی تدعون ! فغضب أبو عبد الله(علیه السّلام)فقال: العجب لعبد الله بن الحسن یقول: لیس فینا إمام ، صدقَ ما هو بإمام ولا کان أبوه إماماً . ویزعم أن علی بن أبی طالب لم یکن إماماً !

أخبرنی سماعة بن مهران قال: أخبرنی الکلبی النسابة قال: دخلت المدینة ولست أعرف شیئاً من هذا الأمر ، فأتیت المسجد فإذا جماعة من قریش فقلت: أخبرونی

ص: 247

عن عالم أهل هذا البیت فقالوا: عبد الله بن الحسن ، فأتیت منزله فاستأذنت فخرج إلیَّ رجل ظننت أنه غلام له فقلت له: إستأذن لی علی مولاک فدخل ثم خرج فقال لی أدخل ، فدخلت فإذا أنا بالشیخ معتکف شدید الاجتهاد... قلت: أخبرنی عن رجل قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء ، فقال: تبین برأس الجوزاء ، والباقی وزرٌ علیه وعقوبة ! فقلت فی نفسی: واحدة ، فقلت: ما یقول الشیخ فی المسح علی الخفین؟ فقال: قد مسح قوم صالحون ونحن أهل البیت لانمسح . فقلت فی نفسی: ثنتان ، فقلت: ما تقول فی أکل الجری أحلال هو أم حرام؟ فقال: حلال إلا أنا أهل البیت نعافه ، فقلت فی نفسی: ثلاث ، فقلت: ما تقول فی شرب النبیذ ؟ فقال: حلال إلا أنا أهل البیت لا نشربه ، فخرجت من عنده وأنا أقول: هذه العصابة تکذب علی أهل هذا البیت) !

وأضاف السید الخوئی(قدسّ سرّه): ( أقول: هذه الروایة تدل علی أن عبد الله بن الحسن کان قد نصب نفسه للإمامة ، وکان یفتی بغیر ما أنزل الله ) ! انتهی.

أقول: وصف ابن خلدون:3/84، قوة شخصیة عبد الله بن الحسن عندما اعتقله المنصور فی الحج ، قال: ( ثم إن المنصور أخذهم وسار بهم من الربذة ، فمر بهم علی بغلة شقراء ، فناداه عبد الله بن الحسن: یا أبا جعفر ما هکذا فعلنا بأسرائکم یوم بدر !

فأخسأه أبو جعفر ، وتفل علیه ومضی ! فلما قدموا إلی الکوفة قال عبد الله لمن معه: أما ترون فی هذه القریة من یمنعنا من هذه الطاغیة ؟ قال: فلقیه الحسن وعلی ابنا أخیه مشتملین علی سیفین فقالا له: قد جئناک یا ابن رسول الله فمرنا بالذی ترید . قال: قد قضیتما ما علیکما ولن تغنیا فی هؤلاء شیئاً فانصرفا) !

وکان المنصور علی جبروته وشیطنته یخاف من عبد الله هذا أن یؤثر علیه ، فعندما کان فی سجنه فی العراق طلب منه المنصور أن یوافق علی حل لمشکلة

ص: 248

ولده محمد فأجاب عبدالله: ( لا والله ، لا أرد علیکما حرفاً ! إن أحب أن یأذن لی فألقاه فلیفعل . فانصرف الرجلان فأبلغاه فقال: أراد أن یسحرنی ! لا والله لا تری عینه عینی حتی یأتینی بابنیه ) . (الطبری:6/173، والکامل:5/524 ) .

5- عداوة عبدالله بن الحسن وأولاده للأئمة(علیهم السّلام)

والأحادیث فی ذلک کثیرة ، فیها الصحیح کالذی ذکره السید الخوئی(قدسّ سرّه)فی ترجمته . وقد أورد فی البحار:47/270 ، عدداً منها فی سیرة الإمام الصادق(علیه السّلام) تحت عنوان: ( أحوال أقربائه وعشائره وما جری بینه وبینهم ، وما وقع علیهم من الجور والظلم ، وأحوال من خرج فی زمانه(علیه السّلام)من بنی الحسن(علیه السّلام)وأولاد زید(رحمه الله) وغیرهم) . وروی فیه بضع عشرة روایة تدل علی ذم عبد الله بن الحسن وأولاده ، وحسدهم للأئمة(علیهم السّلام) ، وعداوتهم لهم ، وسوء أدبهم !

وفی بعضها ، أن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (لیس منا إلا وله عدو من أهل بیته ، فقیل له:

بنو الحسن لا یعرفون لمن الحق؟ قال: بلی ، ولکن یمنعهم الحسد ) .

وفی بعضها ، أن محمد بن عبدالله بن الحسن الذی ادعوا له المهدیة قال مرة للإمام الصادق(علیه السّلام): ( والله إنی لأعلم منک وأسخی منک وأشجع منک ! فقال: أما ما قلت إنک أعلم منی ، فقد أعتق جدی وجدک ألف نسمة من کد یده ، فسمهم لی ، وإن أحببت أن أسمیهم لک إلی آدم فعلت ! وأما ما قلت إنک أسخی منی فوالله ما بتُّ لیلة ولله علیَّ حق یطالبنی به . وأما ما قلت إنک أشجع منی ، فکأنی أری رأسک وقد جئ به ووضع علی حِجْر الزنابیر یسیل منه الدم إلی موضع کذا وکذا ! قال: فحکی ذلک لأبیه فقال: یا بنی آجرنی الله فیک ! إن جعفراً أخبرنی أنک صاحب حِجْر الزنابیر ) .

ص: 249

وفی بعضها ، أن علی بن سعید قال للإمام الصادق(علیه السّلام): (جعلت فداک إن عبد الله بن الحسن یقول: ما لنا فی هذا الأمر ما لیس لغیرنا . فقال أبو عبد الله(علیه السّلام)بعد کلام: أما تعجبون من عبد الله یزعم أن أباه علیاً(علیه السّلام)لم یکن إماماً ! ویقول: إنه لیس عندنا علم ، وصدق والله ما عنده علم ! ولکن والله وأهوی بیده إلی صدره إن عندنا سلاح رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسیفه ودرعه ، وعندنا والله مصحف فاطمة(علیهاالسّلام) ، ما فیه آیة من کتاب الله ، وإنه لمن إملاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وخط علی(علیه السّلام)بیده ، والجفر ، وما یدرون ما هو: مسک شاة أو مسک بعیر ) .

وفی بعضها ، أن رجلاً قال للإمام الصادق(علیه السّلام): ( العجب لعبد الله بن الحسن إنه یهزأ ویقول: هذا فی جفرکم الذی تدعون ! فغضب أبو عبد الله(علیه السّلام)فقال: العجب لعبد الله بن الحسن یقول: لیس فینا إمام صدق ، ما هو بإمام ولا کان أبوه إماماً ، یزعم أن علی بن أبی طالب(علیه السّلام)یکن إماماً ویردد ذلک ، وأما قوله: فی الجفر فإنما هو جلد ثور مذبوح کالجراب فیه کتب ، وعلم ما یحتاج الناس إلیه إلی یوم القیامة من حلال وحرام ، إملاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وخط علی(علیه السّلام)بیده ، وفیه مصحف فاطمة(علیهاالسّلام) ، ما فیه آیة من القرآن ، وإن عندی خاتم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ودرعه ، وسیفه ولواءه ، وعندی الجفر علی رغم أنف من رُغِم ) .

وفی بعضها ، أن الإمام الصادق(علیه السّلام) لقی محمداً هذا فی الطریق فدعا الإمام الی منزله فأبی أن یذهب ، وأرسل معه ولده إسماعیل(رحمه الله)، وأومأ له أن یصمت: ( فلما انتهی إلی منزله أعاد إلیه الرسول لیأتیه ، فأبی.. فضحک محمد ثم قال: ما منعه من إتیانی إلا أنه ینظر فی الصحف ، قال: فرجع إسماعیل فحکی لأبی عبد الله الکلام فأرسل رسولاً من قبله وقال: إن إسماعیل أخبرنی بما کان منک وقد صدقت ، إنی أنظر فی الصحف الأولی صحف إبراهیم وموسی، فسل نفسک وأباک هل ذلک

ص: 250

عندکما؟ قال: فلما أن بلغه الرسول سکت فلم یجب بشئ ) .

وفی بعضها ، أن عبد الخالق بن عبد ربه قال للإمام الصادق(علیه السّلام)إن إبراهیم بن عبد الله بن الحسن ذکر أنک تقول إن عندک کتاب علی(علیه السّلام) ، وقد نفی أن یکون علی(علیه السّلام)ترک کتاباً ! فقال(علیه السّلام): (ما هو والله کما یقولون ، إنهما جفران مکتوب فیهما ، لا والله إنهما لإهابان علیهما أصوافهما وأشعارهما ، مدحوسین کتباً ، فی أحدهما وفی الآخر سلاح رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )...الخ.).

وفی بعضها ، (عن عبید بن زرارة قال: لقیت أبا عبد الله(علیه السّلام)فی السنة التی خرج فیها إبراهیم بن عبد الله بن الحسن ، فقلت له: جعلت فداک ، إن هذا قد ألَّفَ الکلام وسارع الناس إلیه ، فما الذی تأمر به ؟ قال فقال: إتقوا الله واسکنوا ما سکنت السماء والأرض) . أی سکنت الأرض من الخسف.. الخبر .

وفی بعضها ، أنه ( وقع بین جعفر(علیه السّلام)وعبد الله بن الحسن کلام فی صدر یوم فأغلظ له فی القول عبد الله بن حسن ، ثم افترقا وراحا إلی المسجد ، فالتقیا علی باب المسجد ، فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد(علیه السّلام)لعبد الله بن الحسن: کیف أمسیت یا أبا محمد ؟ فقال: بخیر کما یقول المغضب ! فقال: یا أبا محمد أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب ، فقال: لا تزال تجئ بالشئ لا نعرفه ، قال: فإنی أتلو علیک به قرآناً قال: وذلک أیضاً ؟ قال: نعم ، قال: فهاته ، قال: قول الله عز وجل: وَالَّذِینَ یَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَیَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَیَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ . قال: فلا ترانی بعدها قاطعاً رحمنا) .

وفی بعضها ، ذم لأخیه الحسن المثلث الذی مات معه فی السجن ، ففی رجال الطوسی:2/651 ، (عن سلیمان بن خالد قال: لقیت الحسن بن الحسن فقال: أما لنا حق ؟ أما لنا حرمة ؟ إذا اخترتم منا رجلاً واحداً کفاکم ! فلم یکن عندی له

ص: 251

جواب ، فلقیت أبا عبد الله(علیه السّلام)

فأخبرته بما کان من قوله لی ، فقال لی: إلقه ، فقل له أتیناکم فقلنا هل عندکم ما لیس عند غیرکم؟ فقلتم لا ، فصدقناکم وکنتم أهل ذلک . وأتینا بنی عمکم ، فقلنا هل عندکم ما لیس عند الناس؟ فقالوا نعم ، فصدقناهم وکانوا أهل ذلک ! قال: فلقیته فقلت له ما قال لی ، فقال لی الحسن: فإن عندنا ما لیس عند الناس ، فلم یکن عندی شئ ، فأتیت أبا عبد الله(علیه السّلام)فأخبرته فقال لی: إلقه وقل: إن الله عز وجل یقول فی کتابه: ائْتُونِی بِکِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ . فاقعدوا لنا حتی نسألکم ! قال: فلقیته فحاججته بذلک ، فقال لی: أفما عندکم شئ إلا تعیبونا؟ إن کان فلان(یعنی الصادق(علیه السّلام)) تفرغ وشُغلنا ، فذاک الذی یذهب بحقنا ؟! ).

6- موقف الأئمة(علیه السّلام)من الثوار الحسنیین

کان الأئمة(علیهم السّلام)یحذرون الحسنیین من العمل للوصول الی الحکم ، لأن النتیجة ستکون علیهم عکسیة ، وفی نفس الوقت کانوا یتعاطفون معهم عندما یقع علیهم ظلم أو تحلُّ بهم نکبة . لکن لا یصح اعتبار هذا التعاطف تأییداً لسیاستهم .

فقد جاء محمد بن عبد الله بن الحسن الذی ادعوا له المهدیة ، یوماً الی منزل الإمام الصادق(علیه السّلام)فلما ذهب: ( رقَّ له أبو عبد الله(علیه السّلام)ودمعت عینه ، فقلت له: لقد رأیتک صنعت به ما لم تکن تصنع ؟ قال: رققت له لأنه ینسب فی أمر لیس له ! لم أجده فی کتاب علی من خلفاء هذه الأمة ، ولا ملوکها) . (الکافی:8/395).

وتعاطف الإمام الصادق(علیه السّلام)مع الحسینیین ، عندما اعتقل العباسیون عبدالله بن الحسن وجماعته ، وعندما قُتل ولداه محمد وإبراهیم ، وکتب له الإمام(علیه السّلام) رسالة تعزیة عبرت عن تأثره ، رواها ابن طاووس(رحمه الله)فی کتاب الإقبال:3/82 ، جاء فیها: (بسم الرحمن الرحیم . إلی الخلف الصالح والذریة الطیبة من ولد أخیه وابن عمه، أما

ص: 252

بعد فلئن کنتَ تفردتَ أنت وأهل بیتک ممن حمل معک بما أصابکم ، ما انفردت بالحزن والغبطة والکآبة وألیم وجل القلب دونی ، فلقد نالنی من ذلک من الجزع والقلق وحر المصیبة مثلما نالک ، ولکن رجعت إلی ما أمر الله جل جلاله به المتقین من الصبر وحسن العزاء حین یقول لنبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): وَاصْبِرْ لِحُکْمِ رَبِّکَ فَإِنَّکَ بِأَعْیُنِنَا . وحین یقول: فَاصْبِرْ لِحُکْمِ رَبِّکَ وَلا تَکُنْ کَصَاحِبِ الْحُوتِ... وذکرت الروایة آیات عدیدة وتابعت: واعلم أی عم وابن عم أن الله جل جلاله لم یبال بضر الدنیا لولیه ساعة قط ، ولا شئ أحب إلیه من الضر والجهد والأذی مع الصبر ، وأنه تبارک وتعالی لم یبال بنعیم الدنیا لعدوه ساعة قط ، ولولا ذلک ما کان أعداؤه یقتلون أولیاءه ویخیفونهم ویمنعونهم ، وأعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون . ولولا ذلک ما قتل زکریا ویحیی ، ظلماً وعدواناً فی بغی من البغایا . ولولا ذلک ما قتل جدک علی بن أبی طالب(علیه السّلام)لمَّا قام بأمر الله جل وعز ظلماً ، وعمک الحسین بن فاطمة صلی الله علیهما اضطهاداً وعدواناً . ولولا ذلک ما قال الله عز وجل فی کتابه: وَلَوْلا أَنْ یَکُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَیْهَا یَظْهَرُونَ . ولولا ذلک لما قال فی کتابه: أَیَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِینَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْرَاتِ بَلْ لا یَشْعُرُونَ... فعلیکم یا عم وابن عم وبنی عمومتی وإخوتی، بالصبر والرضا والتسلیم والتفویض إلی الله جل وعز ، والرضا والصبر علی قضائه والتمسک بطاعته والنزول عند أمره . أفرغ الله علینا وعلیکم الصبر ، وختم لنا ولکم بالأجر والسعادة ، وأنقذکم وإیانا من کل هلکة ، بحوله وقوته إنه سمیع قریب ، وصلی الله علی صفوته من خلقه محمد النبی وأهل بیته). انتهی.

وأشک فی صحة هذه الروایة ، لکن ابن طاووس(رحمه الله)صححها ، واستنتج منها أن عبدالله بن الحسن وجماعته ممدوحون مرضیون ، قال(رحمه الله): ( وهذا یدل علی أن هذه الجماعة المحمولین کانوا عند مولانا الصادق(علیه السّلام)معذورین وممدوحین

ص: 253

ومظلومین وبحبه عارفین . ثم أجاب(رحمه الله)علی الرویات التی تنص علی مخالفتهم للأئمة(علیهم السّلام)بقوله: (وذلک محتملٌ للتقیة لئلا یُنسب إظهارهم لإنکار المنکر إلی الأئمة الطاهرین . ثم استدل(رحمه الله)بقول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لفاطمة(علیهاالسّلام): یقتل منک أو یصاب منک نفر بشط الفرات ، ما سبقهم الأولون ولا یدرکهم الآخرون ). ثم ذکر(رحمه الله)روایة تطبِّق ذلک علی عبد الله بن الحسن وجماعته ، مع أنها وردت فی الحسین وأصحابه(علیه السّلام)دون غیرهم ! وختم(رحمه الله)بقوله: ( وهذه شهادة صریحة من طرق صحیحة بمدح المأخوذین من بنی الحسن(علیه السّلام) ، وأنهم مضوا إلی الله جل جلاله بشرف المقام والظفر بالسعادة). انتهی.

وهذا الرأی یتناسب مع طبیعة هذا السید الجلیل ابن طاووس(رحمه الله)، فهو حسن الظن سریع التصدیق ، ثم هو من ذریة الحسن المثنی(رحمه الله)!

7- استبصار ابن عبدالله بن الحسن وحدیثه عن موقف الإمام الصادق(علیه السّلام)

اشارة

من أهم النصوص فی الموضوع روایة موسی بن عبدالله بن الحسن ، التی رواها فی الکافی:1/343، تحت عنوان: باب ما یفصل به بین دعوی المحق والمبطل فی أمر الإمامة ، روی فیه تسعة عشر حدیثاً ملیئة بالفوائد ، منها هذا الحدیث عن عبد الله بن إبراهیم بن محمد الجعفری قال: (أتینا خدیجة بنت عمر بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب(علیهم السّلام)نعزیها بابن بنتها ، فوجدنا عندها موسی بن عبد الله بن الحسن ، فإذا هی فی ناحیة قریباً من النساء فعزیناهم ، ثم أقبلنا علیه...

فقال موسی بن عبد الله: والله لأخبرنکم بالعجب ! رأیت أبی(رحمه الله)(عبدالله بن الحسن المثنی) لما أخذ فی أمر محمد بن عبد الله وأجمع علی لقاء أصحابه ، فقال: لا أجد هذا الأمر یستقیم إلا أن ألقی أبا عبد الله جعفر بن محمد ، فانطلق وهو متکئ علیَّ

ص: 254

فانطلقت معه حتی أتینا أبا عبد الله ، فلقیناه خارجاً یرید المسجد فاستوقفه أبی وکلمه ، فقال له أبو عبد الله (علیه السّلام): لیس هذا موضع ذلک ، نلتقی إن شاء الله . فرجع أبی مسروراً ، ثم أقام حتی إذا کان الغد أو بعده بیوم انطلقنا حتی أتیناه فدخل علیه أبی وأنا معه ، فابتدأ الکلام ثم قال له فیما یقول: قد علمت جعلت فداک أن السن لی علیک ، فإن فی قومک من هو أسن منک ، ولکن الله عز وجل قد قدم لک فضلاً لیس هو لأحد من قومک ، وقد جئتک معتمداً لما أعلم من برک وأعلم فدیتک أنک إذا أجبتنی لم یتخلف عنی أحد من أصحابک ، و لم یختلف علی اثنان من قریش ولا غیرهم . فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): إنک تجد غیری أطوع لک منی ولا حاجة لک فیَّ ، فوالله إنک لتعلم أنی أرید البادیة أو أهم بها فأثقل عنها ، وأرید الحج فما أدرکه إلا بعد کد وتعب ومشقة علی نفسی ، فاطلب غیری وسله ذلک ولا تعلمهم أنک جئتنی . فقال له: إن الناس مادُّون أعناقهم إلیک وإن أجبتنی لم یتخلف عنی أحد ، ولک أن لا تکلف قتالاً ولا مکروهاً . قال: وهجم علینا ناس فدخلوا وقطعوا کلامنا ، فقال أبی: جعلت فداک ما تقول؟ فقال: نلتقی إن شاء الله ، فقال: ألیس علی ما أحب؟ قال: علی ما تحب إن شاء الله من إصلاح حالک . ثم انصرف حتی جاء البیت فبعث رسولاً إلی محمد فی جبل بجهینة یقال له الأشقر ، علی لیلتین من المدینة ، فبشره وأعلمه أنه قد ظفر له بوجه حاجته وما طلب ، ثم عاد بعد ثلاثة أیام فوقفنا بالباب ولم نکن نحجب إذا جئنا ، فأبطأ الرسول ثم أذن لنا ، فدخلنا علیه فجلست فی ناحیة الحجرة ودنا أبی إلیه فقبل رأسه ثم قال: جعلت فداک قد عدت إلیک راجیاً مؤملاً قد انبسط رجائی وأملی ، ورجوت الدرک لحاجتی . فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام):یا ابن عم إنی أعیذک بالله من التعرض لهذا الأمر الذی أمسیت فیه ، وإنی لخائف علیک أن یکسبک شراً ، فجری الکلام

ص: 255

بینهما حتی أفضی إلی ما لم یکن یرید ، وکان من قوله: بأی شئ کان الحسین أحق بها من الحسن؟ فقال أبو عبد الله(علیه السّلام): رحم الله الحسن ورحم الحسین وکیف ذکرت هذا ؟ قال: لأن الحسین کان ینبغی له إذا عدل ، أن یجعلها فی الأسن من ولد الحسن ! فقال أبو عبد الله(علیه السّلام):إن الله تبارک وتعالی لما أن أوحی إلی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوحی إلیه بما شاء ولم یؤامر أحداً من خلقه ، وأمر محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)بما شاء ففعل ما أمر به ، ولسنا نقول فیه إلا ما قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من تبجیله وتصدیقه فلو کان أمر الحسین(علیه السّلام)أن یصیرها فی الأسن ، أو ینقلها فی ولدهما یعنی الوصیة لفعل ذلک الحسین ، وما هو بالمتهم عندنا فی الذخیرة لنفسه ، ولقد ولی وترک ذلک ، ولکنه مضی لما أمره جدک وعمک ، فإن قلت خیراً فما أولاک به ، وإن قلت هجراً فیغفر الله لک ، أطعنی یا ابن عم واسمع کلامی ، فوالله الذی لا إله إلا هو لا آلوک نصحاً وحرصاً ، فکیف ولا أراک تفعل وما لأمر الله من مردّ . فسُرَّ أبی عند ذلک . فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): والله إنک لتعلم أنه الأحول الأکشف الأخضر المقتول بسدة أشجع بین دورها عند بطن مسیلها ، فقال أبی: لیس هو ذاک ، والله لنجازین بالیوم یوماً وبالساعة ساعة وبالسنة سنة ، ولنقومن بثار بنی أبی طالب جمیعاً .

فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): یغفر الله لک ما أخوفنی أن یکون هذا البیت یلحق صاحبنا: مَنَّتْکَ نفسُک فی الخَلاء ضلالا ! لا والله لا یملک أکثر من حیطان المدینة ولا یبلغ عمله الطائف إذا أحفل ، یعنی إذا أجهد نفسه ، وما للأمر من بد أن یقع فاتق الله وارحم نفسک وبنی أبیک ، فوالله إنی لأراه أشأم سلحة أخرجتها أصلاب الرجال إلی أرحام النساء ! والله إنه المقتول بسدة أشجع بین دورها ، والله لکأنی به صریعاً مسلوباً بزته ، بین رجلیه لبنة ، ولا ینفع هذا الغلام ما یسمع !

ص: 256

قال موسی بن عبد الله: یعنینی ! ولیخرجن معه فینهزم ویُقتل صاحبه ، ثم یمضی فیخرج مع رایة أخری ، فیقتل کبشها ویتفرق جیشها ، فإن أطاعنی فلیطلب الأمان عند ذلک من بنی العباس حتی یأتیه الله بالفرج ! ولقد علمت بأن هذا الأمر لا یتم ، وإنک لتعلم ونعلم أن ابنک الأحولُ الأخضرُ الأکشفُ ، المقتول بسدة أشجع ، بین دورها عند بطن مسیلها ! فقام أبی وهو یقول: بل یغنی الله عنک، ولتعودن أو لیفئ الله بک وبغیرک ، وما أردت بهذا إلا امتناع غیرک ، وأن تکون ذریعتهم إلی ذاک !

فقال أبو عبد الله(علیه السّلام): الله یعلم ما أرید إلا نصحک ورشدک وما علیَّ إلا الجهد ! فقام أبی یجر ثوبه مغضباً فلحقه أبو عبد الله(علیه السّلام)فقال له: أخبرک أنی سمعت عمک وهو خالک یذکر أنک وبنی أبیک ستقتلون ، فإن أطعتنی ورأیت أن تدفع بالتی هی أحسن فافعل ، ووالله الذی لا إله إلا هو عالم الغیب والشهادة الرحمن الرحیم الکبیر المتعال علی خلقه ، لوددت أنی فدیتک بولدی وبأحبهم إلیَّ وبأحب أهل بیتی إلیَّ ، ما یعدلک عندی شئ ، فلا تری أنی غششتک ! فخرج أبی من عنده مغضباً أسفاً !

قال: فما أقمنا بعد ذلک إلا قلیلاً عشرین لیلة أو نحوها ، حتی قدمت رسل أبی جعفر فأخذوا أبی وعمومتی سلیمان بن حسن ، وحسن بن حسن ، وإبراهیم بن حسن ، وداود بن حسن ، وعلی بن حسن ، وسلیمان بن داود بن حسن ، وعلی بن إبراهیم بن حسن ، وحسن بن جعفر بن حسن ، وطباطبا إبراهیم بن إسماعیل بن حسن ، وعبد الله بن داود ، وقال: فصُفِّدوا فی الحدید ، ثم

حملوا فی محامل أعراء لا وطاء فیها ، ووقفوا بالمصلی لکی یشتمهم الناس قال: فکفَّ الناس عنهم ورقُّوا لهم للحال التی هم فیها ، ثم انطلقوا بهم حتی وقفوا عند باب مسجد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). قال عبد الله بن إبراهیم الجعفری: فحدثتنا خدیجة بنت عمر بن علی

ص: 257

أنهم لما أوقفوا عند باب المسجد ، الباب الذی یقال له باب جبرئیل ، اطَّلَعَ علیهم أبو عبد الله(علیه السّلام)وعامة ردائه مطروح بالأرض ، ثم اطلع من باب المسجد فقال: لعنکم الله یا معشر الأنصار ، ثلاثاً ، ما علی هذا عاهدتم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ولا بایعتموه ، أما والله إن کنت حریصاً ولکنی غلبت ، ولیس للقضاء مدفع ، ثم قام وأخذ إحدی نعلیه فأدخلها رجله والأخری فی یده ، وعامة ردائه یجره فی الأرض ، ثم دخل فی بیته فحُمَّ عشرین لیلة لم یزل یبکی فیها اللیل والنهار ، حتی خفنا علیه ! فهذا حدیث خدیجة .

قال الجعفری: وحدثنا موسی بن عبد الله بن الحسن أنه لما طلع بالقوم فی المحامل قام أبو عبد الله(علیه السّلام)من المسجد ثم أهوی إلی المحمل الذی فیه عبد الله بن الحسن یرید کلامه ، فمنع أشد المنع وأهوی إلیه الحرسی فدفعه وقال: تنح عن هذا فإن الله سیکفیک ویکفی غیرک ، ثم دخل بهم الزقاق ! ورجع أبو عبد الله(علیه السّلام)إلی منزله فلم یبلغ بهم البقیع حتی ابتلی الحرسی بلاء شدیداً ! رمحته ناقته فدقت ورکه فمات فیها ، ومضی القوم .

فأقمنا بعد ذلک حیناً ، ثم أتی محمد بن عبد الله بن الحسن ، فأخبر أن أباه وعمومته قتلوا ، قتلهم أبو جعفر ، إلا حسن بن جعفر ، وطباطبا ، وعلی بن إبراهیم وسلیمان بن داود ، وداود بن حسن وعبد الله بن داود ، قال: فظهر محمد بن عبد الله عند ذلک ودعا الناس لبیعته ، قال: فکنت ثالث ثلاثة بایعوه واستوثق الناس لبیعته ، ولم یختلف علیه قرشی ولا أنصاری ولا عربی .

قال: وشاور عیسی بن زید وکان من ثقاته ، وکان علی شرطته فشاوره فی البعثة إلی وجوه قومه ، فقال له عیسی بن زید: إن دعوتهم دعاء یسیراً لم یجیبوک أو تُغلظ علیهم ، فخلنی وإیاهم . فقال له محمد: إمض إلی من أردت منهم فقال:

ص: 258

إبعث إلی رئیسهم وکبیرهم یعنی أبا عبد الله جعفر بن محمد(علیه السّلام) فإنک إذا أغلظت علیه علموا جمیعاً أنک ستمرهم علی الطریق التی أمررت علیها أبا عبد الله قال: فوالله ما لبثنا أن أتیَ بأبی عبد الله(علیه السّلام)حتی أوقف بین یدیه فقال له عیسی بن زید: أسلم تسلم ، فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): أحَدَثَتْ نبوةٌ بعد محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ فقال له محمد: لا، ولکن بایع تأمن علی نفسک ومالک وولدک ، ولا تکلفن حرباً . فقال له أبو عبد الله: ما فیَّ حرب ولا قتال ، ولقد تقدمت إلی أبیک وحذرته الذی حاق به ولکن لا ینفع حذر من قدر ، یا ابن أخی علیک بالشباب ودع عنک الشیوخ . فقال له محمد: ما أقرب ما بینی وبینک فی السن ، فقال له أبو عبد الله: إنی لم أعازک ولم أجئ لأتقدم علیک فی الذی أنت فیه ، فقال له محمد: لا والله لا بد من أن تبایع ، فقال له

أبو عبد الله(علیه السّلام): ما فیَّ یا ابن أخی طلب ولا هرب ، وإنی لأرید الخروج إلی البادیة فیصدنی ذلک ویثقل علیَّ حتی یکلمنی فی ذلک الأهل غیر مرة ، وما یمنعنی منه إلا الضعف ، والله والرحم أن تدبر عنا ونشقی بک ! فقال له: یا أبا عبد الله قد والله مات أبو الدوانیق یعنی أبا جعفر ! فقال له أبو عبد الله: وما تصنع بی وقد مات؟ قال: أرید الجَمالَ بک ، قال: ما إلی ما ترید سبیل ، لا والله ما مات أبو الدوانیق إلا أن یکون مات موت النوم ! قال: والله لتبایعنی طائعاً ، أو مکرهاً ولا تحمد فی بیعتک ! فأبی علیه إباءا شدیداً فأمر به إلی الحبس ! فقال له عیسی بن زید: أما إن طرحناه فی السجن وقد خرب السجن ولیس علیه الیوم غلق خفنا أن یهرب منه . فضحک أبو عبد الله(علیه السّلام)ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم ، أو تراک تسجننی؟! قال: نعم والذی أکرم محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالنبوة لأسجننک ولأشددن علیک ! فقال عیسی بن زید: إحبسوه فی المخبأ ، وذلک دار ریطة الیوم ، فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): أما والله إنی سأقول ثم أصدق ، فقال له عیسی بن زید: لو

ص: 259

تکلمت لکسرت فمک ! فقال له أبو عبد الله (علیه السّلام): أما والله یا أکشف یا أزرق ، لکأنی بک تطلب لنفسک جُحْراً تدخل فیه ! وما أنت فی المذکورین عند اللقاء ! وإنی لأظنک إذا صُفَّق خلفک طرت مثل الهیق النافر ، فنفر علیه محمد بانتهار: إحبسه وشدد علیه وأغلظ علیه . فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): أما والله لکأنی بک خارجاً من سدة أشجع إلی بطن الوادی وقد حمل علیک فارس معلم ، فی یده طرادة نصفها أبیض ونصفها أسود ، علی فرس کمیت أقرح فطعنک فلم یصنع فیک شیئاً ، وضربت خیشوم فرسه فطرحته وحمل علیک آخر خارج من زقاق آل أبی عمار الدئلیین ، علیه غدیرتان مضفورتان قد خرجتا من تحت بیضته کثیر شعر الشاربین ، فهو والله صاحبک فلا رحم الله رمته ! فقال له محمد: یا أبا عبد الله حَسَبْتَ فأخطأت ! وقام إلیه السراقی ابن سلخ الحوت ، فدفع فی ظهره حتی أدخل السجن ! واصطفی ما کان له من مال وما کان لقومه ممن لم یخرج مع محمد ! قال: فطلع بإسماعیل بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب وهو شیخ کبیر ضعیف قد ذهبت إحدی عینیه وذهبت رجلاه وهو یحمل حملاً ، فدعاه إلی البیعة فقال له: یا ابن أخی إنی شیخ کبیر ضعیف ، وأنا إلی برِّک وعونک أحوج !

فقال له: لا بد من أن تبایع ، فقال له: وأی شئ تنتفع ببیعتی ، والله إنی لأضیِّق علیک مکان إسم رجل إن کتبته ! قال: لابد لک أن تفعل ، فأغلظ علیه فی القول فقال له إسماعیل: أدع لی جعفر بن محمد فلعلنا نبایع جمیعاً . قال: فدعا جعفراً(علیه السّلام)فقال له إسماعیل: جعلت فداک إن رأیت أن تبین له فافعل ، لعل الله یکفه عنا ، قال: قد أجمعتُ ألا أکلمه فَلْیَرَ فیَّ رأیه ! فقال إسماعیل لأبی عبد الله(علیه السّلام): أنشدک الله هل تذکر یوماً أتیت أباک محمد بن علی(علیه السّلام)وعلیَّ حلتان صفراوان ، فأدام النظر إلیَّ ثم بکی ، فقلت له: ما یبکیک؟ فقال لی: یبکینی أنک

ص: 260

تقتل عند کبر سنک ضیاعاً ، لا ینتطح فی دمک عنزان !

قال فقلت: متی ذاک ؟ قال: إذا دعیت إلی الباطل فأبیته ، وإذا نظرت إلی أحول مشوم قومه ینتمی من آل الحسن علی منبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، یدعو إلی نفسه قد تسمی بغیر اسمه ، فأحدث عهدک واکتب وصیتک فإنک مقتول من یومک أو من غد؟ فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): نعم وهذا ورب الکعبة لا یصوم من شهر رمضان إلا أقله ، فأستودعک الله یا أبا الحسن ، وأعظم الله أجرنا فیک ، وأحسن الخلاقة علی من خلفت ، وإنا لله وإنا إلیه راجعون ! قال: ثم احْتُمِل إسماعیلُ ، ورُدَّ جعفر إلی الحبس . قال: فوالله ما أمسینا حتی دخل علیه بنو أخیه بنو معاویة بن عبد الله بن جعفر فتوطؤوه حتی قتلوه ! وبعث محمد بن عبد الله إلی جعفر(علیه السّلام)فخلی سبیله !

قال: وأقمنا بعد ذلک حتی استهللنا شهر رمضان ، فبلغنا خروج عیسی بن موسی یرید المدینة ، قال: فتقدم محمد بن عبد الله علی مقدمته یزید بن معاویة بن عبد الله بن جعفر ، وکان علی مقدمة عیسی بن موسی ولد الحسن بن زید بن الحسن بن الحسن ، وقاسم ، ومحمد بن زید ، وعلی وإبراهیم بنو الحسن بن زید ، فهزم یزید بن معاویة ، وقدم عیسی بن موسی المدینة ، وصار القتال بالمدینة ، فنزل بذباب ، ودخلت علینا المسودة من خلفنا ، وخرج محمد فی أصحابه ، حتی بلغ السوق فأوصلهم ومضی، ثم تبعهم حتی انتهی إلی مسجد الخوامین ، فنظر إلی ما هناک فضاء لیس مسود ولا مبیض ، فاستقدم حتی انتهی إلی شعب فزارة ، ثم دخل هذیل ، ثم مضی إلی أشجع ، فخرج إلیه الفارس الذی قال أبو عبد الله(علیه السّلام)من خلفه من سکة هذیل فطعنه فلم یصنع فیه شیئاً ، وحمل علی الفارس وضرب خیشوم فرسه بالسیف فطعنه الفارس فأنفذه فی الدرع وانثنی علیه محمد فضربه فأثخنه ، وخرج إلیه حمید بن قحطبة وهو مدبر علی الفارس یضربه من

ص: 261

زقاق العماریین ، فطعنه طعنة أنفذ السنان فیه فکسر الرمح وحمل علی حمید ، فطعنه حمید بزج الرمح فصرعه ، ثم نزل فضربه حتی أثخنه وقتله وأخذ رأسه ، ودخل الجند من کل جانب وأخذت المدینة ، وأجلینا هرباً فی البلاد .

قال موسی بن عبد الله: فانطلقت حتی لحقت بإبراهیم بن عبد الله ، فوجدت عیسی بن زید مکمناً عنده فأخبرته بسوء تدبیره ، وخرجنا معه حتی أصیب(رحمه الله) ثم مضیت مع ابن أخی الأشتر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن حتی أصیب بالسند ، ثم رجعت شریداً طریداً تضیق علیَّ البلاد ، فلما ضاقت علی الأرض واشتد الخوف ، ذکرت ما قال أبو عبد الله(علیه السّلام)فجئت إلی المهدی وقد حج وهو یخطب الناس فی ظل الکعبة ، فما شعر إلا وأنی قد قمت من تحت المنبر فقلت: لی الأمان یا أمیر المؤمنین وأدلک علی نصیحة لک عندی ؟ فقال: نعم ، ما هی؟ قلت: أدلک علی موسی بن عبد الله بن حسن ، فقال: نعم لک الأمان فقلت له: أعطنی ما أثق به ، فأخذت منه عهوداً ومواثیق ووثقت لنفسی ، ثم قلت: أنا موسی بن عبد الله ، فقال لی: إذاً تکرم وتحبی ! فقلت له: أقطعنی إلی بعض أهل بیتک یقوم بأمری عندک . فقال: أنظر إلی من أردت ، فقلت: عمک العباس بن محمد ، فقال العباس: لا حاجة لی فیک ! فقلت: ولکن لی فیک الحاجة أسألک بحق أمیر المؤمنین إلا قبلتنی فقبلنی شاء أو أبی ، وقال لی المهدی: من یعرفک وحوله أصحابنا أو أکثرهم فقلت: هذا الحسن بن زید یعرفنی ، وهذا موسی بن جعفر یعرفنی ، وهذا الحسن بن عبید الله بن عباس یعرفنی . فقالوا: نعم یا أمیر المؤمنین کأنه لم یغب عنا ! ثم قلت للمهدی: یا أمیر المؤمنین لقد أخبرنی بهذا المقام أبو هذا الرجل ، وأشرت إلی موسی بن جعفر(علیه السّلام) . قال موسی بن عبد الله: وکذبت علی جعفر کذبة فقلت له: وأمرنی أن أقرئک السلام وقال: إنه إمام عدل وسخی ،

ص: 262

قال: فأمر لموسی بن جعفر(علیه السّلام) بخمسة آلاف دینار ، فأمر لی موسی(علیه السّلام)منها بألفی دینار، ووصل عامة أصحابه ووصلنی فأحسن صلتی ! فحیث ما ذکر ولد محمد بن علی بن الحسین فقولوا: صلی الله علیهم وملائکته وحملة عرشه والکرام الکاتبون ، وخصوا أبا عبد الله(علیه السّلام)بأطیب ذلک، وجزی موسی بن جعفر عنی خیراً فأنا والله مولاهم بعد الله). وروی بعضه: الطبری:6/188 .

وفی مقاتل الطالبیین/148: (إنی لواقف بین القبر والمنبر إذ رأیت بنی الحسن یخرج بهم من دار مروان مع أبی الأزهر یراد بهم الربذة فأرسل إلی جعفر بن محمد فقال: ما وراءک ؟ قلت: رأیت بنی الحسن یخرج بهم فی محامل . فقال: أجلس فجلست قال: فدعا غلاماً له ثم دعا ربه کثیراً ثم قال لغلامه: إذهب فإذا حملوا فأت فأخبرنی . قال: فأتاه الرسول فقال: قد أقبل بهم . فقام جعفر فوقف وراء ستر شعر ابیض من ورائه فطلع بعبد الله بن الحسن وإبراهیم بن الحسن وجمیع أهلهم کل واحد منهم معاد له مسود فلما نظر إلیهم جعفر بن محمد هملت عیناه حتی جرت دموعه علی لحیته ثم أقبل علی فقال: یا أبا عبد الله ، والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا ، والله ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما أعطوه من البیعة علی العقبة... علی أن تمنعوا رسول الله وذریته مما تمنعون منه أنفسکم وذراریکم . قال: فوالله ما وفوا له حتی خرج من بین أظهرهم ثم لا أحد یمنع ید لامس ! اللهم فاشدد وطأتک علی الأنصار ).

ملاحظات

1- هذه الروایة الصحیحة تکشف موقف عبدالله بن الحسن المثنی وأولاده وأتباعه ، من إمامة الإمام الصادق وبقیة الأئمة الحسینین(علیهم السّلام). فهو یری أن الإمام الحسن(علیه السّلام)أکبر سناً من الإمام الحسین(علیه السّلام)فأبناؤه أولی بالإمامة ، وکان الواجب

ص: 263

علی الحسین(علیه السّلام)أن یجعلها بعده فی أکبر أولاد أخیه ، وقد أخطأ واستأثر عندما جعلها فی ابنه علی بن الحسین(علیه السّلام) ! وهذا هو التفکیر القرشی القبلی فی الإمامة ، کأنها مقام یختاره الناس فیجب أن یخضع لمقاییس القبیلة والعرف الإجتماعی مع أنها اختیارٌ من الله تعالی وعصمةٌ وعلمٌ واجتباء ، لادخل للبشر فیها !

ومنطق عبدالله بن الحسن نفس منطق هشام الأحول مع الإمام الباقر(علیه السّلام)عندما قال له: (ألیس الله بعث محمداً من شجرة عبد مناف إلی الناس کافة أبیضها وأسودها وأحمرها ، فمن أین ورثتم ما لیس لغیرکم ، ورسول الله مبعوث إلی الناس کافة ؟ ومن أین أورثتم هذا العلم ولیس بعد محمد نبی وما أنتم أنبیاء ! ) .

وهو نفس منطق قریش الجاهلی الذی استعملته مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، واستعملته مع عترته المعصومین(علیهم السّلام) ! لاحظ جرأة عبد الله علی عمه الحسین(علیه السّلام):( لأن الحسین کان ینبغی له إذا عدل أن یجعلها فی الأسنِّ من وُلد الحسن ! فقال أبو عبد الله(علیه السّلام): إن الله تبارک وتعالی لما أن أوحی إلی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوحی إلیه بما شاء ولم یؤامر أحداً من خلقه ، وأمر محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)بما شاء ففعل ما أمر به ، ولسنا نقول فیه إلا ما قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من تبجیله وتصدیقه ، فلو کان أمَر الحسینَ أن یُصَیِّرها فی الأسنّ أو ینقلها فی ولدهما یعنی الوصیة ، لفعل ذلک الحسین ، وما هو بالمتهم عندنا فی الذخیرة لنفسه). فعبدالله یتهم عمه الإمام الحسین(علیه السّلام)بأنه استأثر لأولاده بالإمامة ! مع أنه یشهد أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال فیه وفی أخیه: (الحسن والحسین سیدا أهل الجنة) ! وهو یعرف أن سید شباب أهل الجنة لایمکن أن یظلم صاحب حق ، ولا أن یکون أنانیاً لأولاده ! لکنه الحسد الذی یجعل صاحبه یتهم المعصوم(علیه السّلام)ویعترض علی ربه ! قال عز وجل: أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عَظِیماً . وقوله تعالی: أَهُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ

ص: 264

رَبِّکَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ !

2- نلاحظ فی أحداث القصة ، البصیرة الربانیة عند الإمام الصادق(علیه السّلام)ویقینه بما سیحدث ، فهو یصفه کمن یشاهده أمامه ، فیقع کما أخبر به(علیه السّلام) لا ینخرم عنه بشعرة ! ونلاحظ فی المقابل إیمان عبدالله وأولاده بما یقوله الصادق(علیه السّلام)عن مستقبلهم ، وإن أظهروا التشکیک والمکابرة ، ولذا قال له:(علیه السّلام): (والله إنک لتعلم..).

3- لایغرک أدب عبدالله وأولاده مع الإمام الصادق(علیه السّلام)عند حاجتهم الی تأییده ، لأنهم یعرفون أن شعبیته أوسع من شعبیتهم وأعمق ، ولذلک یقول له عبدالله: ( إن الناس مادُّون أعناقهم إلیک ، وإن أجبتنی لم یتخلف عنی أحد ، ولک أن لا تکلف قتالاً ولا مکروهاً) . وعندما ردهم الإمام(علیه السّلام)رداً جمیلاً لیناً ، ووعدهم بعدم معارضتهم ، کشفوا عن حقیقتهم التی لاتختلف بشئ عن حقیقة جبابرة بنی أمیة إن لم تزد علیها ! فهم یزعمون أنهم یثورون علی بنی أمیة للنهی عن المنکر وإنصاف المسلمین ، وأول عملهم أنهم یجبرون المسلمین علی بیعتهم ، ولا یتورعون عن قتل ابن عمهم: ( إسماعیل بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب وهو شیخ کبیر ضعیف ، قد ذهبت إحدی عینیه وذهبت رجلاه ، وهو یُحمل حملاً) ! فقتلوه ظلماً وعدواناً لمجرد أنه لم یبایع طاغیتهم محمد المتسمی بالمهدی !

وأهانوا الإمام الصادق(علیه السّلام)وحبسوه لأنه لم یبایعهم ، ودفعوه فی ظهره وأدخلوه السجن ! وصادروا أمواله وأموال کل من لم یبایعهم ! وربما أرادوا قتله فأنجاه الله بکرامة لم تصل الینا ! فأی عدل یرید أن یملأ به الأرض هذا المهدی المزعوم ؟! إن المکتوب یقرأ من عنوانه ، وعنوانه ظلم متعمد لمن یعرفون مکانته وحرمته !

ولک أن تقدر ما تَحَمَّله الإمام الباقر(علیه السّلام)والأئمة المعصومون(علیهم السّلام)من أقاربهم المخالفین ، وکل ذنبهم أن الله اختارهم للإمامة ولم یختر أولئک !

ص: 265

قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام):( والله ما تنقم منا قریش إلا أن الله اختارنا علیهم... أین الذین زعموا أنهم الراسخون فی العلم دوننا ، کذباً وبغیاً علینا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم) ! (نهج البلاغة:1/82 ، و2/27 ) .

4- وصف الإمام الصادق(علیه السّلام)محمد بن عبدالله الذی ادعی المهدیة بأوصاف شدیدة کما رأیت ، وفیها قوله لأبیه: ( والله إنک لتعلم أنه الأحول الأکشف الأخضر المقتول بسدة أشجع بین دورها عند بطن مسیلها ) ! واستشهد ببیت الأخطل الذی یهجو به جریراً: فانعق بضأنک یا جریر فإنما.. مَنَّتْکَ نفسُک فی الخَلاء ضلالا ! (والمعنی إنک من رعاة الغنم لا من الأشراف ، وما منتک نفسک به فی الخلاء أنک من العظماء ، فضلالً باطل ). (خزانة الأدب:11/140، وأمالی المرتضی:1/157 . وقد غلط فی تفسیره فی البحار:47/289 ، وشرح الکافی:6/314) .

5- عین أبی زیاد أو عین زیاد: بساتین أنشأها الإمام الصادق(علیه السّلام)قرب المدینة ، ففی تاریخ المدینة لعمر بن شبة:1/172، أن سیول المدینة تنحدر وتجتمع عند إضم الذی سمی به لانضمام السیول الیه: ( ثم تجتمع فتنحدر علی عین أبی زیاد ، ثم تنحدر فیلقاها شعاب یمنة ویسرة ). وفی تاج العروس:18/413، أنها عند وادی نعمان.

وقال الشیخ الأنصاری(رحمه الله):(یظهر من بعض الأخبار أن عین زیاد کانت ملکاً لأبی عبد الله(علیه السّلام)). (المکاسب:2/210 . الوسائل: 6/140). وفی الکافی:3/569 ، أن غلَّتها کانت أربعة آلاف دینار ، وأن الإمام الصادق(علیه السّلام)کان یقسمها ویبقی له أربع مئة دینار . وفی الطبری:6/205: (کتب أبو جعفر إلی عیسی بن موسی: من لقیک من آل أبی طالب فاکتب إلی باسمه ، ومن لم یلقک فاقبض ماله . قال فقبض عین أبی زیاد وکان جعفر بن محمد تغیب عنه ، فلما قدم أبو جعفر کلمه جعفر ، وقال: ما لی قد قبضه مهدیکم) ! یذکِّره الإمام(علیه السّلام)ببیعته له وأنه کان یأخذ برکابه ویمشی معه

ص: 266

کالخادم ویقول: هذا مهدینا أهل البیت ، وکان الإمام(علیه السّلام)ینهاهم عن ذلک ! وهذا یدل علی أن والی المدینة أخذها من أموال مهدی الحسنیین .

وفی الطبری:6/224: (فقال: یا أمیر المؤمنین ردَّ علیَّ قطیعتی عین أبی زیاد آکل من سعفها . قال: إیای تکلم بهذا الکلام ، والله لأزهقن نفسک ! قال: فلا تعجل علیَّ قد بلغت ثلاثاً وستین وفیها مات أبی وجدی وعلی بن أبی طالب ! وعلیَّ کذا وکذا إن رِبْتُک بشئ أبداً ، وإن بقیتُ بعدک إن ربتُ الذی یقوم بعدک . قال: فرقَّ له وأعفاه . وحدثنی هشام بن إبراهیم بن هشام بن راشد قال: لم یرد أبو جعفر عین أبی زیاد حتی مات ، فردها(ابنه) المهدی علی ولده ). ونحوه تاریخ الإسلام:9/31 .

وفی مقاتل الطالبیین/184، عن الرومی مولی جعفر بن محمد قال: ( أرسلنی جعفر بن محمد(علیه السّلام)أنظر ما یصنعون؟ فجئته فأخبرته أن محمداً قتل ، وأن عیسی قبض علی عین أبی زیاد ، فنکس طویلاً ثم قال: ما یدعو عیسی

إلی أن یسبنا ویقطع أرحامنا ! فوالله لا یذوق هو ولا ولده منها شیئاً أبداً ).

وفی الکافی:5/229، أن أحدهم أراد أن یشتری تمرها من السلطة ، فبعث یسأل الإمام(علیه السّلام)عن ذلک فأجاب: (یشتریه فإنه إن لم یشتره اشتراه غیره ).

6- یُعرف راوی القصة(رحمه الله) موسی بن عبدالله باسم (موسی الجون) لسمرته ، وله أولاد کثیرون ولعله أکثر الحسنیین ذریة ، ومن أولاده المشهورین عبدالله بن موسی بن عبدالله ، الذی طلبه المأمون فتواری عنه فکتب له یعطیه الأمان ویضمن له أن یولیه العهد بعده ، فأجابه: (وصل کتابک وفهمته ، تختلنی فیه عن نفسی ختل القانص ، وتحتال علی حیلة المغتال القاصد لسفک دمی ، وعجبت من بذلک العهد وولایته لی بعدک ، کأنک تظن أنه لم یبغلنی ما فعلته بالرضا ، ففی أی شئ ظننت أنی أرغب من ذلک... أم فی العنب المسموم الذی قتلت به الرضا ؟!... فلم أجد أضر علی

ص: 267

الاسلام منک ، لأن الکفار أظهروا کفرهم فاستبصر الناس فی أمرهم ، وعرفوهم فخافوهم ، وأنت ختلت المسلمین بالاسلام وأسررت الکفر فقتلت بالظنة وعاقبت بالتهمة وأخذت المال من غیر حله فأنفقته فی غیر حله ، وشربت الخمر المحرمة صراحاً وأنفقت مال الله علی الملهین وأعطیته المغنیین... فإن یسعدنی الدهر ویعنی الله علیک بأنصار الحق أبذل نفسی فی جهادک بذلاً یرضیه منی ، وإن یمهلک ویؤخرک.. فحسبی من سعیی ما یعلمه الله عز وجل من نیتی... ولم یزل عبد الله متواریاً إلی أن مات فی أیام المتوکل) . (مقاتل الطالبیین/630) .

ومن أولاده بنو الأخیضر ، الذین حکموا الیمامة مدة ، وأغاروا علی مکة والمدینة مراراً ، ثم حکموا الحرمین . (ابن

خلدون:4/98 ، وسر السلسلة العلویة/9) .

وقد ترجمت له مصادر التاریخ والرواة ، ووثقه ابن شبة والخطیب وابن معین . وقال البخاری: فیه نظر . (تاریخ الذهبی:13/416 ، وتاریخ بغداد:13/27، وتاریخ دمشق:60/443).

أقول: طبیعی أن یتوقف فیه بخاری لأن مرویاته شدیدة علیهم ، ففیها أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمر أبا بکر وعمر أن یسلما علی علی(علیه السّلام)بإمرة المؤمنین ! وفیها ، أن الله تعالی اختار علیاً(علیه السّلام)خلیفة: ( قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لما عُرج بی إلی السماء وصرت إلی سدرة المنتهی أوحی الله إلیَّ: یا محمد قد بلوت خلقی فمن وجدت أطوعهم؟ قلت: یا رب علیاً . قال: صدقت یا محمد . ثم قال: هل اخترت لأمتک خلیفة من بعدک یعلمهم ما جهلوا من کتابی ویؤدی عنی؟ قلت: اللهم اختر لی فإن اختیارک خیر من اختیاری. قال: قد اخترت لک علیاً). (نوادر المعجزات للطبری/74). راجع: مناقب أمیر المؤمنین لسلیمان الکوفی:2/271 ، ومقاتل الطالبیین/259، و290 ، و415 ، و437 ، وشرح الأخبار:3/326 ، وعمدة الطالب/111 ، والبحار:28/316 ، و:30/386 ، ومعجم السید الخوئی:20/55).

7- مع أن عبدالله بن الحسن المثنی کان یملک قدرة تأثیر وإقناع یضرب بها المثل لکنه لم یؤثر علی کل أولاده ، فکان منهم ومن ذریتهم شیعة للإمام الصادق(علیه السّلام).

ص: 268

وابنه موسی صاحب القصة نموذج لمن تشیع منهم لما رآه من آیات .

ویظهر أن أفضل الحسنیین وأعمقهم إیماناً وتشیعاً شهید فخ(رحمه الله)وهو الحسین بن علی بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن الإمام الحسن(علیه السّلام) ، الذی ثار علی الدولة العباسیة عندما أمعنت فی إبادة أبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام)، وقد أثنی علیه الأئمة(علیهم السّلام).

8- تضمنت الروایة أن عبدالله بن الحسن کان أکبر سناً من الإمام الصادق(علیه السّلام) وذکر فی الإحتجاج:1/131 أن عبدالله بن الحسن توفی سنة145 ، وله خمس وسبعون سنة ، فولادته نحو السبعین هجریة ، بینما ولادة الإمام الصادق(علیه السّلام)سنة ثمانین هجریة ، أما مهدی الحسنیین محمد بن عبدالله فولد سنة ثلاث وتسعین أو خمس وتسعین ، فیکون الإمام الصادق(علیه السّلام)أکبر منه ببضع عشرة سنة .

9- تضمنت الروایة دعاء الإمام الصادق(علیه السّلام)علی الأنصار ولعنه لهم لعدم وفائهم للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حیث لم یحموا ذریته مما یحمون منه أنفسهم وذراریهم ! قال(علیه السّلام): (لعنکم الله یا معشر الأنصار ، ثلاثاً ، ما علی هذا عاهدتم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولا بایعتموه). وقد تکرر هذا الإحتجاج من الأئمة(علیهم السّلام)علی الأنصار وقریش لأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أخذ بیعة العقبة علی حمایته وحمایة ذریته ، وأن لاینازعوا الأمر أهله . وبنحوها کانت بیعة الشجرة ! فکان یجب علی الأنصار أن یقاوموا السقیفة وظلم قریش وبنی أمیة لأهل البیت(علیهم السّلام) ، ولکنهم لم یفعلوا ونقضوا بیعتهم ، فعاقبهم الله بالقتل والذل !

وقد بحثنا ذلک فی الإنتصار:7/11 ، وأوردنا مصادره ، وتصحیحهم لحدیثه .

ص: 269

8- عبدالله بن الحسن یدعو الی مؤتمر الأبواء لبیعة ابنه

اشارة

روت مصادر التاریخ أن عبدالله بن الحسن دعا شخصیات بنی هاشم الی مؤتمر فی الأبواء سنة126 قرب المدینة ، لیبایعوا ابنه محمداً علی أنه المهدی الموعود !

ففی مقاتل الطالبیین/140، و171، عن عمر بن شبة ومؤرخین عاصروا تلک الفترة ، بعدة أسانید ، قال: (إن بنی هاشم اجتمعوا فخطبهم عبد الله بن الحسن ، فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: إنکم أهل البیت قد فضلکم الله بالرسالة واختارکم لها ، وأکثرکم برکة یا ذریة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بنو عمه وعترته ، وأولی الناس بالفزع فی أمر الله ، من وضعه الله موضعکم من نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد ترون کتاب الله معطلاً وسنة نبیه متروکة والباطل حیاً والحق میتاً . قاتلوا لله فی الطلب لرضاه بما هو أهله قبل أن ینزع منکم اسمکم ، وتهونوا علیه کما هانت بنو إسرائیل وکانوا أحب خلقه إلیه . وقد علمتم أنا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أیدیهم ، فقد قتلوا صاحبهم یعنی الولید بن یزید(سنة126) فهلمَّ نبایع محمداً فقد علمتم أنه المهدی ! فقالوا: لم یجتمع أصحابنا بعد ، ولو اجتمعوا فعلنا ، ولسنا نری أبا عبد الله جعفر بن محمد ! فأرسل إلیه ابن الحسن فأبی أن یأتی ، فقام وقال: أنا آت به الساعة فخرج بنفسه حتی أتی مضرب الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربیعة بن الحرث فأوسع له الفضل ولم یصدِّره ، فعلمت أن الفضل أسن منه ، فقام له جعفر وصدَّره فعلمت أنه أسن منه . ثم خرجنا جمیعاً حتی أتینا أبا عبد الله فدعا إلی بیعة محمد فقال له جعفر: إنک شیخ وإن شئت بایعتک وأما ابنک فوالله لا أبایعه وأدعک). وفی روایة: ( إن جماعة من بنی هاشم اجتمعوا بالأبواء وفیهم إبراهیم بن محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، وأبو جعفر المنصور ، وصالح بن علی ، وعبد الله بن الحسن بن الحسن ، وابناه محمد وإبراهیم ، ومحمد بن عبد

ص: 270

الله بن عمرو بن عثمان . فقال صالح بن علی: قد علمتم أنکم الذین تمد الناس أعینهم إلیهم وقد جمعکم الله فی هذا الموضع ، فاعقدوا بیعة لرجل منکم تعطونه إیاها من أنفسکم ، وتواثقوا علی ذلک حتی یفتح الله وهو خیر الفاتحین .

فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنی علیه ثم قال: قد علمتم أن ابنی هذا هو المهدی فهلموا فلنبایعه . وقال أبو جعفر المنصور: لأی شئ تخدعون أنفسکم ! ووالله لقد علمتم ما الناس إلی أحد أطول أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلی هذا الفتی ! یرید محمد بن عبد الله . قالوا: قد والله صدقت ، إن هذا لهو الذی نعلم !

فبایعوا جمیعاً محمداً ومسحوا علی یده ! قال عیسی(بن زید بن الحسن): فأرسلنی أبی أنظر ما اجتمعوا علیه ، وأرسل جعفر بن محمد محمد بن عبد الله الأرقط بن علی بن الحسین فجئناهم ، فإذا بمحمد بن عبد الله یصلی علی طنفسة رجل مثنیة ، فقلت: أرسلنی أبی إلیکم لأسألکم لأی شئ اجتمعتم؟

فقال عبد الله: اجتمعنا لنبایع المهدی محمد بن عبد الله .

قالوا: وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن الحسن إلی جنبه فتکلم بمثل کلامه ، فقال جعفر: لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم یأت بعد ! إن کنت تری یعنی عبد الله أن ابنک هذا هو المهدی فلیس به ولا هذا أوانه ، وإن کنت إنما ترید أن تخرجه غضباً لله ولیأمر بالمعروف وینهی عن المنکر ، فإنا والله لا ندعک وأنت شیخنا ونبایع ابنک . فغضب عبد الله وقال: علمتَ خلاف ما تقول ! ووالله ما أطلعک الله علی غیبه ولکن یحملک علی هذا الحسد لابنی ! فقال: والله ما ذاک یحملنی ولکن هذا وإخوته وأبناؤهم دونکم وضرب بیده علی ظهر أبی العباس ، ثم ضرب بیده علی کتف عبد الله بن الحسن ، وقال: إنها والله ما هی إلیک ولا إلی ابنیک ولکنها لهم وإن ابنیک لمقتولان ! ثم نهض وتوکأ علی ید عبد العزیز بن عمران الزهری . فقال: أرأیت

ص: 271

صاحب الرداء الأصفر یعنی أبا جعفر؟ قال: نعم . قال: فإنا والله نجده یقتله ! قال له عبد العزیز: أیقتل محمداً ؟ قال: نعم . قال: فقلت فی نفسی: حسده ورب الکعبة ! قال: ثم والله ما خرجت من الدنیا حتی رأیته قتلهما !

قال: فلما قال جعفر ذلک انفضَّ القوم فافترقوا ولم یجتمعوا بعدها ، وتبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: یا أبا عبد الله أتقول هذا؟ قال: نعم ، أقوله والله وأعلمه).

والإرشاد/276 ، وإعلام الوری/271 و272 ، ومناقب ابن شهرآشوب:4/228 ، وفیه: إنها والله ما هی إلیک ولا إلی ابنک ، وإنما هی لهذا یعنی السفاح ، ثم لهذا یعنی المنصور ، یقتله علی أحجار الزیت ، ثم یقتل أخاه بالطفوف وقوائم فرسه فی الماء ، فتبعه المنصور فقال: ما قلت یا أبا عبد الله؟ فقال: ما سمعته وإنه لکائن! قال: فحدثنی من سمع المنصور أنه قال: انصرفت من وقتی فهیأت أمری ، فکان کما قال). وإثبات الهداة:3/112 ، عن إعلام الوری ، والبحار:47/276 ، عنه وعن الإرشاد .

ملاحظات

1- أورد السید الخوئی هذا الحدیث فی ترجمة عبد الله بن الحسن فی معجمه:11/170 ، ونقل قول المفید(قدسّ سرّه): (وهذا حدیث مشهور کالذی قبله لاتختلف العلماء بالآثار فی صحتها). وأضاف السید الخوئی(قدسّ سرّه): ( والمتحصل أن عبد الله بن الحسن مجروح مذموم ، ولا أقل من أنه لم یثبت وثاقته أو حسنه ).

2- جعلنا تاریخ هذا المؤتمر سنة126 ، لقول عبدالله بن الحسن فی خطبته: (وقد علمتم أنا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أیدیهم ، فقد قتلوا صاحبهم یعنی الولید بن یزید فهلمَّ نبایع محمداً ) . ویزید بن الولید المعروف بالفاسق قتله سَمِیُّه الولید بن یزید المعروف بالناقص (یوم الخمیس للیلتین بقیتا من من جمادی الآخرة سنة 126). (الطبری:5/556) .

وبویع لیزید الناقص وامتنع أهل حمص عن بیعته ، ثم مات أو قتل بعد شهور ، ثم بویع لإبراهیم بن الولید ، واضطرب أمر بنی أمیة بینه وبین مروان بن محمد .

ص: 272

قال الطبری:5/596: (ثم کان إبراهیم بن الولید بن عبد الملک بن مروان غیر أنه لم یتم له أمر.. وکان یسلم علیه جمعة بالخلافة ، وجمعة بالأمرة ، وجمعة لا یسلمون علیه لا بالخلافة ولا بالأمرة)!انتهی. وبعد صراع فی بقیة تلک السنة غلب مروان بن محمد الملقب بالحمار وبویع له فی أوائل سنة127. (تاریخ دمشق:57/327).

ومعنی ذلک أن نشاط الحسنیین بدأ فی تلک السنة، أی بعد ثورة زید بسبع سنین ! أما العباسیون فکانوا تابعین لهم ومتحمسین لبیعة مهدیهم محمد بن عبد الله ، کما صرح صالح بن علی بن عبدالله بن عباس ، وابن أخیه المنصور ، أما أبو السفاح والمنصور محمد بن علی فکان یومها فی الشام یعیش علی سفرة بنی أمیة التی تصله فی منفاه فی الأردن ، وعندما شحت سفرتهم لاضطراب الخلافة احتاج السفاح والمنصور أن یلتحقا بعبد الله بن معاویة بن جعفر بن أبی طالب الذی ثار فی إیران فملک الأهواز وأصفهان فی سنة127 ، ووظفهما عنده ، کما تقدم .

وبهذا تسقط أکاذیب کثیرة للعباسیین ، بأنهم أرسلوا دعاتهم الی خراسان زمن عمر بن عبد العزیز ! والصحیح أن أبا مسلم بدأ حرکته فی أواخر سنة128 ، فی خلافة مروان الحمار ، ولم یعلن خلافة إبراهیم العباسی إلا فی أواخر سنة132 ، فقبض علیه مروان .

3- عقدنا فی المعجم الموضوعی لأحادیث الإمام المهدی فصلاً فی تحریف البشارة النبویة وادعاء المهدیة ، وقلنا إن معاویة ادعی المهدیة فی مقابل مهدی بنی هاشم ، ثم ادعاها موسی بن طلحة بن عبید الله ، ثم ادعاها من بنی هاشم اثنان هما محمد بن عبدالله بن الحسن المثنی ، ثم محمد بن عبد الله المنصور المعروف بالمهدی العباسی ،

وحاول أنصار کل منهما أن یطبقوا أحادیث المهدی الموعود علی صاحبهم . وکان عبد الله بن الحسن المثنی أبرعهم ! فادعاها أول الأمر لنفسه:

ص: 273

(لم یزل عبد الله بن الحسن منذ کان صبیاً یتواری ویراسل الناس بالدعوة إلی نفسه ویسمی بالمهدی) ! (مقاتل الطالبیین/239) . ثم ادعاها لابنه محمد ورباه تربیة خاصة وحجبه عن الناس وأشاع حوله الأساطیر ! ففی تهذیب الکمال:25/467: (عن ابن أخی الزهری: تجالسنا بالمدینة أنا وعبد الله بن حسن فتذاکرنا المهدی ، فقال عبد الله بن حسن: المهدی من ولد الحسن بن علی . فقلت: یأبی ذاک علماء أهل بیتک ! فقال عبد الله: المهدی والله من ولد الحسن بن علی ، ثم من ولدی خاصة).

لذلک نرجح أنه هو الذی زاد فی حدیث البشارة النبویة: (واسم أبیه إسم أبی) ، مع أن أصله: إسمه إسمی وکنیته کنیتی ، ولیس فیه: واسم أبیه إسم أبی !

وقد أقنع عبد الله حلفاءه العباسیین بمهدیة ابنه وبایعوه ! فکان المنصور یأخذ برکاب محمد هذا ویقول: (هذا مهدینا أهل البیت) ! (مقاتل الطالبیین/239) .

ثم عندما اختلفوا مع الحسنیین ادعی المنصور المهدیة لابنه محمد ، المعروف بالمهدی العباسی ! ووضعوا له أحادیث عن ابن عباس وغیره مثل: ( منا السفاح والمنصور ، والمهدی یسلمها إلی الدجال) . (العیون لابن قتیبة:1/302).

4- نلاحظ أن الأئمة(علیهم السّلام)تعمدوا فی مناسبات عدیدة أن یخبروا بنی العباس بأنهم سیحکمون ، فقد أخبر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ابن عباس بأن طفله علیاً هو أبو الملوک العباسیین ! وأخبر الإمام الباقر(علیه السّلام) المنصور بأنه سیحکم وسماه جباراً ! ثم أکد له ذلک الإمام الصادق(علیه السّلام) ، وأخبر أبناء عمه الحسنیین بأنهم لایصلون الی الحکم ، وأن العباسیین سیحکمون ویقتلونهم ! وهو عمل مقصود ، یحقق عدة أهداف لخدمة الإسلام وأمته ، فمن جهة یثبت اختصاص الأئمة(علیهم السّلام)بعلم بعض المغیبات کرامةً من الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . ومن جهة یقوی العباسیین علی العمل ضد الأمویین ، کما یشجعهم علی الحسنیین ! وکأن الله تعالی لم یشأ أن یحکم الحسنیون الأمة ،

ص: 274

لأنهم أسوأ من العباسیین فی حسدهم لأئمة أهل البیت(علیهم السّلام)وشیعتهم ، فقد یتبنون تجاههم سیاسة الإبادة التامة ! فأراد الله عز وجل أن یبعد ضرر حکمهم عن إسم الإمام الحسن(علیه السّلام) ، وعن الأئمة الحسینیین(علیهم السّلام)حتی لایقیسهم الناس بهم !

ویشبه ذلک حکم الحسینیین غیر الأئمة(علیهم السّلام)کما فی ثورة زید وابنه یحیی(رحمه الله). والعلویون کما فی ثورة عبد الله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر . فقد کانت مقومات النجاح متوفرة لهم ولکن الصدفة ، بل الإرادة الربانیة أطاحت بجهودهم !

9- الحسنیون یُقنعون فقهاء البصرة والمدینة بمبایعة مهدیهم !

اشارة

نشط عبد الله بن الحسن المثنی وأولاده فی الدعوة الی مهدیهم من سنة126 وأقنعوا أکثر علماء عصرهم بذلک ، فبایعه کبار فقهاء البصرة والمدینة من معتزلة وغیرهم

مثل عمرو بن عبید ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم ، وابن عجلان ، ومالک بن أنس ، وأبی حنیفة ، وغیرهم ! بعضهم بایعه فی زمن بنی أمیة ، وبعضهم زمن بنی العباس ، وأفتوا بوجوب الخروج معه ، وبأن بیعة المسلمین للمنصور باطلة لأنها بیعة إکراه ! ووفی هؤلاء الفقهاء والمتصوفة ببیعتهم لمحمد ، ولم ینکثوها کما نکثها المنصور وبنو عباس ، بل تحدوا العباسیین وأفتوا بالخروج علیهم بعد ثلاث عشرة سنة من قیام دولتهم !

ففی الطبری:6/228و229، أن المنصور قال لمحمد بن عثمان بن خالد الزبیری: (هیهْ یا عثمان ! أنت الخارج علی أمیر المؤمنین والمعین علیه؟! قال: بایعت أنا وأنت رجلاً بمکة ، فوفیت ببیعتی وغدرت بیعتک !... قال: أین المال الذی عندک؟ قال: دفعته إلی أمیر المؤمنین(رحمه الله)! قال: ومن أمیر المؤمنین؟ قال محمد بن عبد الله ! قال: أبایعته ؟ قال: نعم کما بایعتَه ! قال یا ابن اللخناء: قال ذاک من قامت عنه الإماء ! قال: إضرب عنقه . قال فأمر فضربت عنقه).

ص: 275

ویظهر أن واصل بن عطاء رئیس المعتزلة ، وعمرو بن عبید کبیر علماء البصرة ، قادا حرکة بیعة الفقهاء لمهدی الحسنیین ! ففی مقاتل الطالبیین/196،

بسنده عن ابن فضالة النحوی قال: ( اجتمع واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبید فی بیت عثمان بن عبد الرحمن المخزومی من أهل البصرة ، فتذاکروا الجَوْر ، فقال عمرو بن عبید: فمن یقول بهذا الأمر ممن یستوجبه وهو له

أهل؟ فقال واصل: یقوم به والله من أصبح خیر هذه الأمة: محمد بن عبد الله بن الحسن . فقال عمرو بن عبید: ما أری أن نبایع ولا نقوم إلا مع من اختبرناه وعرفنا سیرته . فقال له واصل: والله لو لم یکن فی محمد بن عبد الله أمر یدل علی فضله إلا أن أباه عبد الله بن الحسن فی سنه وفضله وموضعه ، قد رآه لهذا الأمر أهلاً ، وقدمه فیه علی نفسه ، لکان لذلک یستحق ما نراه له ، فکیف بحال محمد فی نفسه وفضله ؟

قال یحیی(بن الحسن المذکور فی سند الحدیث): وسمعت أبا عبید الله بن حمزة یحدِّث قال: خرج جماعة من أهل البصرة من المعتزلة ، منهم واصل بن عطاء وعمرو بن عبید وغیرهما ، حتی أتوا سویقة ، فسألوا عبد الله بن الحسن أن یُخرج لهم ابنه محمداً حتی یکلموه ، فضرب لهم عبد الله فسطاطاً ، واجتمع هو ومن شاوره من ثقاته أن یخرج إلیهم إبراهیم بن عبد الله . فأخرج إلیهم إبراهیم ، وعلیه ریطتان ومعه عکازة ، حتی أوقفه علیهم ، فحمد الله وأثنی علیه وذکر محمد بن عبد الله وحاله ، ودعاهم إلی بیعته ، وعذرهم فی التأخر عنه ، فقالوا: اللهم إنا نرضی برجل هذا رسوله ! فبایعوه وانصرفوا إلی البصرة ) !

ملاحظات

1- قوله: ( اجتمع واصل بن عطاء وعمرو بن عبید فی بیت عثمان بن عبد الرحمن المخزومی من أهل البصرة ). (عثمان بن عبد الرحمن بن سعید...

ص: 276

المخزومی حجازی سمع عروة بن الزبیر). (الجرح والتعدیل:6/157) .

فصاحب البیت الذی اجتمعوا فیه قرشی من الرواة ، وأبوه کان قاضی البصرة (أخبار القضاة لابن حیان:2/142). وأمه أم کلثوم بنت أبی بکر . (تاریخ دمشق:69/249) .

2- قوله: حتی أتوا سویقة . (موضع قرب المدینة یسکنه آل علی بن أبی طالب رضی الله عنه).(معجم البلدان:3/286). (فیه مساکن ونخیل للحسنیین).(أعیان الشیعة:6/99).

ومعناه أن وفد فقهاء البصرة وشخصیاتها جاؤوا خصیصاً لیروا مهدی الحسنیین فإن اقتنعوا بشخصیته بایعوه . ویفاجؤک هنا أن مهدی الحسنیین غیَّبَه أبوه ، ولما طلبوا منه أن یریهم طلعته البهیة ، نصب لهم فسطاطاً أی خیمة کطبیرة وعقد مجلساً ، ولم یخرج لهم مهدیه الأسمر بل أخرج بدله أخاه إبراهیم بزیِّ الصلحاء ! فکلمهم وأعجبهم فبایعوا مهدیهم لأن بدیله أعجبهم وعادوا الی البصرة فرحین شاکرین ! فهل هذا سذاجة وبَلَهٌ من أولئک الفقهاء ، أو حیلة ونفاق !

3- بایع الحسن المثنی لولده المهدی عندما قتل یزید بن الولید126 واشتد صراع بنی أمیة علی الخلافة ، وقد قتل یزید یزیداً فی وسط السنة ، والمرجح أن یکون مجئ فقهاء البصرة ولقاءهم بالإمام الصادق(علیه السّلام)فی السنة التالیة127 حیث جدد الحسن المثنی بیعة ولده ، وفیها تمت بیعة مروان الحمار بدمشق .

4- یظهر أن بیعة فقهاء البصرة وشخصیاتها لمهدی الحسنیین ، أثمرت شعبیة واسعة للحسنیین ، فبعد قتل مهدیهم فی المدینة سنة145، ذهب أخوه إبراهیم الی البصرة وسیطر علیها بسهولة ، وجند منها خمسین ألف مقاتل ، قصد فیها الکوفة ، ومدحه بشار بن برد وشجعه علی المنصور فقال:

إذا بلغ الرّأی المشورة فاستعن

برأی نصیحٍ أو نصاحة حازم

وآذن من القربی المقدّم نفسه

ولا تشهد الشوری امرءًا غیر کاتم

ص: 277

وما خیر کفّ أمسک الغلّ أختها

وما خیر سیف لم یوتّد بقائم

وخل الهوینا للضعیف ولا تکن

نؤوماً فإن الحزم لیس بنائم

وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة

شبا الحرب خیر من قبول المظالم

(نهایة الإرب:3/6/71 ، وبهجة المجالس:لابن عبد البر/212، والأغانی:3/150، ومحاضرات الراغب/16).

5- ذکر المؤرخون عدداً آخر من الفقهاء بایعوا مهدی الحسنیین ، قال الذهبی فی تاریخه:9/23: (فلما قتل وولی المدینة جعفر بن سلیمان ، أتوه بابن عجلان فکلمه کلاماً شدیداً وقال: خرجت مع الکذاب ! وأمر بقطع یده ، فلم ینطق إلا أنه حرک شفتیه . فقال من حضر من العلماء: أصلح الله الأمیر ، إن ابن عجلان فقیه المدینة وعابدها ، وإنما شبه علیه وظن أنه المهدی الذی جاءت فیه الروایة ، ولم یزالوا یرغبون إلیه حتی ترکه . ولزم عبید الله بن عمر ضیعة له واعتزل فیها ، وخرج أخواه عبد الله وأبو بکر مع محمد بن عبد الله ولم یقتلا ، عفا عنهما المنصور . واختفی جعفر الصادق وذهب إلی مال له بالفراغ معتزلاً للفتنة(رحمه الله)...

قال سعد بن عبد الحمید... أن مالکاً استفتیَ فی الخروج مع محمد وقیل له: إن فی أعناقنا بیعة للمنصور ، فقال: إنما بایعتم مکرهین ولیس علی مکره یمین ! فأسرع الناس إلی محمد ، ولزم مالک بیته ). والطبری:6/188

وفی الطبری:6/211: (أتیَ بابن هرمز إلی عیسی بعدما قتل محمد فقال: أیها الشیخ أمَا وَزَعَک فقهک عن الخروج مع من خرج ! قال: کانت فتنة شملت الناس فشملتنا فیهم ! قال: إذهب راشداً ... سمعت مالک بن أنس یقول کنت آتی ابن هرمز فیأمر الجاریة فتغلق الباب وترخی الستر ، ثم یذکر أول هذه الأمة ثم یبکی حتی تخضل لحیته . قال: ثم خرج مع محمد فقیل له: والله ما فیک شئ ! قال قد علمت ، ولکن یرانی جاهل فیقتدی بی ) . راجع:الطبری:6/226.

ص: 278

وفی الطبری:6/226: (وخرج معه أبو بکر بن عبد الله بن محمد بن أبی سبرة... وخرج معه عبد الواحد بن أبی عون... وعبد العزیز بن محمد الدراوردی ، وعبد الحمید بن جعفر ، وعبد الله بن عطاء بن یعقوب وبنوه... وعبد الله وعطاء ویعقوب وعثمان وعبد العزیز بنو عبد الله بن عطاء . قال أبو جعفر لعیسی بن موسی: من استنصر مع محمد؟ قال: آل الزبیر. قال ومَن؟ قال: وآل عمر . قال: أما والله لعن غیر مودة بهما له ولا محبة له ولا لأهل بیته ) .

أقول: ترجع أسباب مبایعة الفقهاء والشخصیات لمهدی الحسنیین ، الی تنامی وعی الأمة لأمجاد علی والحسن والحسین(علیهم السّلام)وأبنائهم الأئمة(علیهم السّلام) ، وثقتهم بهم ککل بدون تمییز بینهم وتصورهم أنهم یعملون لتحقیق العدالة واحترام الإنسان ! کما ترجع الی الموجة التی أحدثتها جهود الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام) ، وثورة زید(رحمه الله). والی تفاقم ویلات المسلمین من بنی أمیة ، وسوء ظنهم بالعباسیین ، وشعورهم بأن سیاستهم نفس سیاسة بنی أمیة !

أما الأئمة(علیه السّلام)فکانوا یرون أن الحسنیین کالعباسیین إن لم یکونوا أسوأ منهم ! وقد تقدم موقف الإمام الصادق(علیه السّلام)وتکذیبه عبدالله بن الحسن فی ادعاء المهدیة لابنه ، وإخباره المنصور الذی کان یأخذ برکابه بأنه سیقتله وأخاه ! ففی رجال الطوسی:2/473: ( عن أبی غیلان قال: أتیت الفضیل بن یسار فأخبرته أن محمداً وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن قد خرجا ، فقال لی: لیس أمرهما بشئ قال: فصنعت ذلک مراراً ، کل ذلک یرد علی مثل هذا الرد . قال قلت: رحمک الله قد أتیتک غیر مرة أخبرک فتقول لیس أمرهما بشئ ، أفبرأیک تقول هذا ؟ قال فقال: لا والله ، ولکن سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام)یقول: إن خرجا قتلا ). وفی تاریخ الطبری:6/223: (حدثتنی أمی أم حسین بنت عبد الله بن محمد بن علی بن حسین قالت: قلت لعمی

ص: 279

جعفر بن محمد: إنی فدیتک ما أمْر محمد بن عبد الله ؟ قال: فتنة یقتل فیها محمد عند بیت رومی ، ویقتل أخوه لأبیه وأمه بالعراق وحوافر فرسه فی ماء). انتهی.

وممن اقتدی بالإمام الصادق(علیه السّلام)سلیمان بن الأعمش(رحمه الله)ولذلک نجا من فخ المنصور ، حیث زوَّرَ له کتاباً: (علی لسان محمد یدعوه إلی نصرته ، فلما قرأه قال: قد خبرناکم یا بنی هاشم فإذا أنتم تحبون الثرید ، فلما

رجع الرسول إلی أبی جعفر(المنصور) فأخبره ، قال: أشهد أن هذا کلام الأعمش). (الطبری:6/203).

10- فقهاء البصرة یحاولون إقناع الإمام الصادق(علیه السّلام)برأیهم

اشارة

یظهر أن الحسنیین دفعوا هؤلاء الفقهاء لیقنعوا الإمام الصادق(علیه السّلام)بالإنضمام الیهم ، فناقشهم الإمام(علیه السّلام)وأثبت لهم أن مشروع الحسنیین لایختلف عن مشروع بنی أمیة ! لأنه لایقوم علی حکم الأمة بالعلم والفقه ، بل بالجبر والظن والهوی !

فی الکافی:5/23، والتهذیب:6/148، بسند صحیح عن عبد الکریم بن عتبة ، قال: (کنت قاعداً عند أبی عبد الله(علیه السّلام)بمکة إذ دخل علیه أناس من المعتزلة ، فیهم عمرو بن عبید وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولی ابن هبیرة ، وناس من رؤسائهم ، وذلک حدثان قتل الولید واختلاف أهل الشام بینهم ، فتکلموا وأکثروا وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم أبو عبد الله(علیه السّلام): إنکم قد أکثرتم علیَّ فأسندوا أمرکم إلی رجل منکم ولیتکلم بحججکم ویوجز ، فأسندوا أمرهم إلی عمرو بن عبید ، فتکلم فأبلغ وأطال ، فکان فیما قال أن قال: قد قتل أهل الشام خلیفتهم ، وضرب الله عز وجل بعضهم ببعض وشتت الله أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دین وعقل ومروة ، وموضع ومعدن للخلافة ، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع علیه فنبایعه ثم نظهر معه ، فمن کان بایعنا فهو منا وکنا منه ، ومن اعتزلنا

ص: 280

کففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له علی بغیه ورده إلی الحق وأهله . وقد أحببنا أن نعرض ذلک علیک فتدخل معنا ، فإنه لا غنی بنا عن مثلک لموضعک وکثرة شیعتک . فلما فرغ قال أبو عبد الله(علیه السّلام): أکلکم علی مثل ما قال عمرو ؟ قالوا: نعم فحمد الله وأثنی علیه وصلی علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثم قال:

إنما نسخط إذا عصی الله فأما إذا أطیع رضینا . أخبرنی یا عمرو لو أن الأمة قلدتک أمرها وولتک بغیر قتال ولا مؤونة وقیل لک ولِّها من شئت ، من کنت تولیها؟ قال: کنت أجعلها شوری بین المسلمین. قال: بین المسلمین کلهم؟ قال: نعم ، قال: بین فقهائهم وخیارهم ؟ قال: نعم ، قال: قریش وغیرهم؟ قال: نعم ، قال: والعرب والعجم ؟ قال: نعم .

قال: أخبرنی یا عمرو أتتولی أبا بکر وعمر أو تتبرأ منهما ؟ قال: أتولاهما ، فقال: فقد خالفتهما ! ما تقولون أنتم تتولونهما أو تتبرؤون منهما ، قالوا: نتولاهما . قال: یا عمرو إن کنت رجلاً تتبرأ منهما فإنه یجوز لک الخلاف علیهما ، وإن کنت تتولاهما فقد خالفتهما ! قد عهد عمر إلی أبی بکر فبایعه ولم یشاور فیه أحداً ، ثم ردها أبو بکر علیه ولم یشاور فیه أحداً ! ثم جعلها عمر شوری بین ستة وأخرج منها جمیع المهاجرین والأنصار غیر أولئک الستة من قریش ! وأوصی فیهم شیئاً لا أراک ترضی به أنت ولا أصحابک ، إذ جعلتها شوری بین جمیع المسلمین ! قال: وما صنع؟ قال: أمر صهیباً أن یصلی بالناس ثلاثة أیام ، وأن یشاور أولئک الستة لیس معهم أحد ، وابن عمر یشاورونه ولیس له من الأمر شئ ، وأوصی من بحضرته من المهاجرین والأنصار إن مضت ثلاثة أیام قبل أن یفرغوا أو یبایعوا رجلاً أن یضربوا أعناق أولئک الستة جمیعاً ! فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضی ثلاثة أیام وخالف اثنان أن یضربوا أعناق الإثنین ! أفترضون بهذا أنتم فیما تجعلون من

ص: 281

الشوری فی جماعة من المسلمین ؟ قالوا: لا .

ثم قال: یا عمرو ، دع ذا ، أرأیت لو بایعت صاحبک الذی تدعونی إلی بیعته ثم اجتمعت لکم الأمة فلم یختلف علیکم رجلان فیها ، فأفضتم إلی المشرکین الذین لا یسلمون ولا یؤدون الجزیة ، أکان عندکم وعند صاحبکم من العلم ما تسیرون بسیرة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی المشرکین فی حروبه ؟ قال: نعم ، قال: فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم إلی الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلی الجزیة . قال: وإن کانوا مجوساً لیسوا بأهل الکتاب؟ قال: سواء ، قال: وإن کانوا مشرکی العرب وعبدة الأوثان؟ قال: سواء ، قال: أخبرنی عن القرآن تقرؤه ؟ قال: نعم ، قال: إقرأ: قَاتِلُوا الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْیَوْمِ الآخِرِ وَلا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ حَتَّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . فاستثناء الله عز وجل واشتراطه من الذین أوتوا الکتاب فهم والذین لم یؤتوا الکتاب سواء؟ قال: نعم ، قال عمن أخذت ذا ؟ قال: سمعت الناس یقولون ! قال: فدع ذا ، فإن هم أبوا الجزیة فقاتلتهم فظهرت علیهم کیف تصنع بالغنیمة؟ قال:أخرج الخمس وأقسم أربعة أخماس بین من قاتل علیه. قال: أخبرنی عن الخمس من تعطیه؟ قال: حیثما سمی الله ، قال فقرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ. قال: الذی للرسول من تعطیه؟ ومن ذو القربی قال: قد اختلف فیه الفقهاء فقال بعضهم: قرابة النبی وأهل بیته ، وقال بعضهم: الخلیفة ، وقال بعضهم: قرابة الذین قاتلوا علیه من المسلمین ، قال: فأی ذلک تقول أنت؟ قال: لا أدری ، قال: فأراک لا تدری فدع ذا.... قال: نعم ، قال: فقد خالفت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی کل ما قلت فی سیرته ، کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقسم صدقة أهل البوادی فی أهل البوادی وصدقة أهل الحضر فی أهل الحضر ولا

ص: 282

یقسمه بینهم بالسویة ، وإنما یقسمه علی قدر ما یحضره منهم وما یری ، ولیس علیه فی ذلک شئ موقت موظف... ثم أقبل علی عمرو بن عبید فقال له:

إتق الله ، وأنتم أیها الرهط فاتقوا الله ، فإن أبی حدثنی وکان خیر أهل الأرض وأعلمهم بکتاب الله عز وجل وسنة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أن رسول الله قال: من ضرب الناس بسیفه ودعاهم إلی نفسه وفی المسلمین من هو أعلم منه ، فهو ضَالٌّ متکلف) .

ملاحظات

1- بین لهم الإمام(علیه السّلام)فی احتجاجه أنهم وغیرهم لایملکون آلیة لانتخاب خلیفة ، وأنهم لاعلم لهم بفقه الإسلام لیحکموا به المسلمین . وهما دلیلان علی ضرورة وجود الإمام المعصوم . والعصمة أمر خفی یعلمه الله

تعالی ولا یعلمه البشر: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِکُلِّ قَوْمٍ هَادٍ . کما أن الحاکم یحتاج الی علم بالکتاب وغیره ، وهو علم یورثه الله للأئمة المختارین من عترة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقط: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا .

2- أثبت الإمام(علیه السّلام)لفقهاء البصرة أنهم لاعلم لهم بالأحکام الشرعیة فی مسائل مالیة محسوسة کتوزیع غنائم الحرب والجزیة والصدقات ، فکیف بغیرها ! وإذا کانوا هم فقهاء الأمة لایعرفون فکیف بمن سیبایعونه وهو أقل علماً منهم ؟!

3- وخلص الإمام(علیه السّلام)الی بیان شرط الأعلم أمام کل طامح لحکم المسلمین ، وإذا اعترف المسلمون بهذا الشرط فی قائد الحرکة والدولة فسیصلون الی أهل البیت(علیهم السّلام) ، الذین هم أعلم الأمة !

4- ألفت الإمام(علیه السّلام)فقهاء البصرة الی شوری عمر المزعومة ، وتناقضه مع أبی بکر کما ألفت الی سنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعد الحکام عنها ، بل عدم فهمهم لها .

ومما یتصل بالموضوع قول الإمام الصادق(علیه السّلام): ( إن القتال مع غیر الإمام المفترض

ص: 283

طاعته حرام مثل المیتة والدم ولحم الخنزیر) ! (الکافی:5/24) وقول مهدی العباسیین المتقدم للإمام الصادق(علیه السّلام)یوماً: (والله إنی لأعلم منک وأسخی منک وأشجع منک ! فقال: أما ما قلت إنک أعلم منی فقد أعتق جدی وجدک ألف نسمة من کد یده فسمهم لی ، وإن أحببت أن أسمیهم لک إلی آدم ، فعلت ) ! (المناقب:3/355).

11- لم یستفد الحسنیون من القاعدة الزیدیة وضیعوا فرصاً ذهبیة

نلاحظ فی تاریخ حرکة الحسنیین (بقطع النظر عن أن هدفهم دنیوی) أنهم کانت تنقصهم المبادرة وسرعة الإقدام ، وکأن الله شاء أن لایحکموا ! فتراهم لم یشارکوا زیداً(رحمه الله)فی ثورته ، مع أن عبدالله بن الحسن کان شخصیة بارزة ، لکن اکتفی بادعاء المهدیة لابنه بعد حرکة زید(رحمه الله) . (تاریخ الدولة العباسیة/384).

ثم أوصی لهم یحیی بن زید(رحمه الله)فقال للمتوکل بن هارون عن نسخة الصحیفة: (فهی أمانة لی عندک حتی توصلها إلی ابنی عمی محمد وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی(علیه السّلام)فإنهما القائمان فی هذا الأمر بعدی). لکنهم لم یقوموا بعد شهادته(رحمه الله)بنشاط مهم ، واکتفوا بأخذ البیعة لمهدیهم سنة 127 ، وبنشاطهم فی البصرة مع الفقهاء الذین بایعوا مهدیهم .

وکانت نظرة عبد الله بن الحسن لأهل الکوفة سیئة ، قال: ( أهل الکوفة نفخ فی العلانیة ، خَوَرٌ فی السریرة ، هرجٌ فی الرخاء ، جزعٌ فی اللقاء ، تتقدمهم ألسنتهم ولا تشایعهم قلوبهم ، ولقد تواترت إلی کتبهم بدعوتهم فصممت عن ندائهم ، وألبست قلبی غشاء عن ذکرهم ، یأساً منهم واطراحاً لهم ، وما لهم مثل إلا کما قال علی بن أبی طالب: إن أهملتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس علی إمامة طعنتم ، وإن أجبتم إلی مشقة نکصتم). (کامل ابن الأثیر:5/235) .

ص: 284

ومع الإشکال علی کلامه فی تقییم أهل الکوفة ، فلا عذر له فی عدم التحرک فی إیران لجمع أنصار یحیی(رحمه الله)ومواصلة حرکته بعد أن أوصی لهم ، خاصة بعد أن رفع أبو مسلم الخراسانی شعار الثأر بدم یحیی وأمر الناس بالبکاء علیه !

لکنه تأخر حتی حج إبراهیم بن محمد ومعه قحطبة سنة 129 ، فاقترح أن یرسل ولده محمداً لیبایعوا له فی خراسان ! (حج (إبراهیم) فی سنة تسع وعشرین ومئة وحج معه قحطبة ، فلقیه عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب بمکة فاستسلفه مالاً، وقد بلغه أن قحطبة قدم علیه بمال من خراسان ، فقال له إبراهیم: کم ترید؟ قال: أرید أربعة آلاف دینار ، فقال إبراهیم: والله ما هی عندی ولکن هذه ألف دینار فخذها صلة ، وأمر عروة مولاه بحملها إلیه . وانصرفوا صادرین من حجهم وقد سقط إلی عبد الله بن الحسن وَضَحٌ من أمر إبراهیم ، فلما صاروا إلی المدینة اتخذ عبد الله بن الحسن طعاماً فدعا أهل بیته ، ودعا إبراهیم ومن کان معه فلما طعموا قال عبد الله لإبراهیم ، ولیس معهما إلا رجلان من مشایخهم: إنه قد بلغنا أن أهل خراسان قد تحرکوا لدعوتنا ، فلو نظرنا فی ذلک فاخترنا منا من یقوم بالأمر فیهم ، فقال إبراهیم: نجمع مشایخنا فننظر فلن نخرج مما اتفقوا علیه . وافترقا علی ذلک ، وجمع أهله وأهل بیته وبعث إلی إبراهیم ومعه یومئذ داود بن علی ویحیی بن محمد ، فلما أتوه قدم إلیهم الطعام فلما فرغوا من طعامهم قال عبد الله: إنه قد انتهی إلی تشمیر أهل المشرق فی الدعاء إلی آل محمد، فانظروا فی ذلک واتفقوا علی رجل یقوم بالأمر فتأتیهم رسله . فقال بعضهم: أنت أسن أهل بیتک فقل ، فقال: نعم ، محمد ابنی فقد أملته الشیعة ، وهو فی فضله ونعمة الله علیه ، فوصفه بالفضل فأسکت القوم . فقال إبراهیم: سبحان الله یا أبا محمد ، تدع مشایخنا وذوی الأسنان منا وتدعونا إلی فتی کبعضنا ! لو دعوتنا إلی نفسک أو إلی

ص: 285

بعض من تری . ما هاهنا أحد من ذوی الأسنان یرضی بهذا فی نفسه وإن أعطاک الرضا فی علانیته ! قال من حضر منهم: صدق وبرَّ ، فأیقن(إبراهیم) بأن قد وطأ الأمر لنفسه . وانصرف إبراهیم إلی منزله من السراة). (تاریخ الدولة العباسیة/387).

فلماذا لم یبادر عبد الله ویرسل أحداً الی خراسان الی جنب أبی مسلم ، أو موازیاً له ؟ لعل سببه أنه یعرف أن هوی أبی مسلم مع أولاد العباس ، وأنه یخاف أن یغضب علیه الخلیفة مروان ، فقد کان یحتفظ معه بعلاقة حسنة: ( قال مروان بن محمد لعبد الله بن الحسن: إئتنی بابنک محمد . قال: وما تصنع به یا أمیر المؤمنین؟ قال: لا شئ إلا أنه إن أتانا أکرمناه وإن قاتلناه، وإن بعد عنا لم نُهِجْهُ.. عن المغبرة بن زمیل العنبری أن مروان بن محمد قال له: ما فعل مهدیکم؟ قال: لا تقل ذلک یا أمیر المؤمنین فلیس کما یبلغک. فقال: بلی ، ولکن یصلحه الله ویرشده). (مقاتل الطالبیین/175) .

ومعناه أن مرواناً کان یعلم بمشروع الحسنیین ، وقد قرر أن لایهیجهم قبل أن یظهروا حرکتهم ! ولذا اتهمهم العباسیون بأنهم حرکوا مرواناً ضد إبراهیم (الإمام) وأنهم السبب فی سجنه وقتله ، فزعموا أن عبدالله کتب له: ( إنک تظن یا أمیر المؤمنین أن أحداً لا ینازعکم ملککم غیر بنی أبی طالب ، هذا إبراهیم بن محمد فی جوارک بالشام قد زحفت إلیک شیعته من خراسان . فقال إبراهیم: کذب عبد الله بن الحسن یا أمیر المؤمنین ! أفلا ینصح لک فی محمد ابنه الذی یزعم أنه مهدی هذه الأمة ، وهو مستخف منک ومن الولید بن یزید ومن هشام بن عبد الملک ، تربصه للخلافة ). (تاریخ الدولة العباسیة/394).

ثم زعم العباسیون أن مرواناً أحضر عبد الله الی حران ، فدافع عن نفسه بأنه لیس عنده حرکة بل الحرکة فی خراسان تأخذ البیعة لإبراهیم ! ( فقال له عبد الله بن

ص: 286

الحسن: وما أنا وهذا ، وصاحب أمرهم إبراهیم بن محمد وهو المتحرک لها ، وکان أبوه من قبله علی مثل رأیه فشأنک به ! فحلفه علی براءته مما ظن به فحلف له ، ولما حلف له أخذ بیعته وخلی عنه). (تاریخ الدولة العباسیة/394) .

ولا نعلم صدق هذه التهمة ، لکن المؤکد أن الحسنیین فوَّتوا فرصاً کثیرة ، وآخرها أن القائد بن هبیرة الذی کان معه عشرون ألف مقاتل وکان مرابطاً فی واسط ، ولم یستطع جیش أبی مسلم الخراسانی والسفاح الإنتصار علیه طوال سنة: (بعث ابن هبیرة إلی محمد بن عبد الله بن الحسن المثنی بأن یبایع له ، فأبطأ عنه جوابه) . (ابن خلدون:3/175) .

أما العباسیون فلم یفوتوا الفرصة ، واعتمدوا علی الإیرانیین ، ووثقوا علاقتهم مع کبیرهم بکیر بن ماهان ، الذی أرسل فتاه أبا مسلم الی خراسان وکان ابن19 سنة ، فلم یقبله المعارضون ، ثم عاود إرساله فی السنة التالیة129، وأمره أن یبایع للرضا من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، بدون تسمیة أحد ، فأخذ یسجل نجاحاته ، کما یأتی !

12- رسالة أبی سلمة الخلال الی الإمام الصادق(علیه السّلام)وبقیة العلویین

من المؤکد فیما یسمی الثورة العباسیة أو الحسنیة ، أنها کانت إیرانیة بقیادة الفرس ، وأنهم قدموها الی العباسیین الذین لم یتعبوا فیها ، ولم یقاتلوا إلا بعد أن بایعهم القادة الفرس بالخلافة ، وظهر انتصارهم علی الخلیفة الأموی المکسور !

أما صُنَّاع الثورة فهم ثلاث شخصیات: بکیر بن ماهان وهو المؤسس والمنظر والقائد حتی مات فی أواخر سنة127. (کامل ابن الأثیر:5/339) . وبعده صهره أبو سلمة الخلال الذی استخلفه بکیر رئیساً للحرکة فی الکوفة فقاد الثورة وهو مختف فی الکوفة حتی دخل الجیش الخراسانی العراق فحرر الکوفة من بنی أمیة بخطة

ص: 287

ذکیة . وأبو مسلم الخراسانی غلام بکیر ، الذی أرسله الخلال الی إیران فقاد الثورة وأجاد العمل سیاسیاً وعسکریاً ، واستفاد من الخلاف المضری الیمنی ، واستولی علی إیران فی نحو سنتین ، قریة قریة ومدینة ومدینة ، من أقصی خراسان حتی الأهواز وحلوان ، الی داخل العراق .

وسجل التاریخ لأبی سلمة حرکة غریبة عندما أکمل تحریر إیران ووصلت قواته الی الکوفة ، ولم یبق إلا معرکة واسط المحاصرة ، ومعرکة حران مع الخلیفة الأموی المکسور ، وعندما وصل العباسیون الی الکوفة من الشام والحجاز وفیهم أولاد محمد بن علی وهم السفاح والمنصور ، بعد أن کان أبو مسلم أعلن أخاهم إبراهیم خلیفة ، فسجنه مروان فی حران وقتله .

والحرکة الغریبة أن أبا سلمة قام بحبس بنی العباس فی الکوفة أربعین یوماً أو شهرین ، بحجة کتمان أمرهم حتی یتهیأ الجو السیاسی ، بل رووا أنه أهانهم ولم یعطهم أجرة الجمال الذی حملهم الی الکوفة ! وکتب الی ثلاثة من العلویین هم الإمام الصادق(علیه السّلام)وعبدالله بن الحسن وعمر بن علی ، یقول إنا دعونا الناس الی الرضا من آل محمد ولم نسم شخصاً ، ویعرض علیهم أن یأخذ لهم البیعة ! وأوصی رسوله أن یبدأ بالإمام الصادق(علیه السّلام)فإن أجابه فلا یوصل الرسالتین الی عبد الله وعمر ! لکن أبا الجهم مولی باهلة وهو قائد صغیر عند أبی مسلم عرف بالأمر فی أثناء هذه المدة ، فحرک بعض القادة الصغار ضد أبی سلمة وأخرجوا العباسیین من حبسهم فاعتذر أبو سلمة بأنه کان یُحکم الأمر للعباسیین !

قال فی عمدة الطالب/101: ( ولما قدم أبو العباس السفاح وأهله سراً علی أبی سلمة الخلال الکوفة ، ستر أمرهم وعزم أن یجعلها شوری بین ولد علی والعباس حتی یختاروا هم من أرادوا ، ثم قال: أخاف أن لا یتفقوا ، فعزم علی أن یعدل

ص: 288

بالأمر إلی ولد علی من الحسن والحسین ، فکتب إلی ثلاثة نفر منهم: جعفر بن محمد علی بن الحسین ، وعمر بن علی بن الحسین ، وعبد الله بن الحسن ، ووجه بالکتب مع رجل من موالیهم من ساکنی الکوفة ، فبدأ بجعفر بن محمد فلقیه لیلاً وأعلمه أنه رسول أبی سلمة وأن معه کتاباً إلیه منه ، فقال: وما أنا وأبو سلمة وهو شیعة لغیری؟ فقال الرسول: تقرأ الکتاب وتجیب علیه بما رأیت . فقال جعفر لخادمه: قدم منی السراج ، فقدمه فوضع علیه کتاب أبی سلمة فأحرقه فقال: ألا تجیبه؟ فقال: قد رأیت الجواب !

فخرج من عنده وأتی عبد الله بن الحسن بن الحسن فقبل کتابه ، ورکب إلی جعفر بن محمد فقال له: أی أمر جاء بک یا أبا محمد ، لو أعلمتنی لجئتک؟

فقال: أمر یجلُّ عن الوصف ! قال: وما هو یا أبا محمد ؟ قال: هذا کتاب أبی سلمة یدعونی لأمر یجل عن الوصف! قال: وما هو یا أبا محمد ؟ قال: هذا کتاب أبی سلمة یدعونی لأمر ویرانی أحق الناس به وقد جاءته شیعتنا من خراسان !

فقال له جعفر الصادق(علیه السّلام): ومتی صاروا شیعتک؟ أأنت وجهت أبا سلمة إلی خراسان وأمرته بلبس السواد ؟ هل تعرف أحداً منهم باسمه ونسبه؟ کیف یکونون من شیعتک وأنت لا تعرفهم ولا یعرفونک ! فقال: عبد الله: إن کان هذا الکلام منک لشئ ! فقال جعفر(علیه السّلام): قد علم الله أنی أوجب علی نفسی النصح لکل مسلم فکیف أدخره عنک فلا تُمنینَّ نفسک الأباطیل ، فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم ولا تتم لأحد من آل أبی طالب ، وقد جاءنی مثل ما جاءک ! فانصرف غیر راض بما قاله . وأما عمر بن علی بن الحسین فرد الکتاب وقال: ما أعرف کاتبه فأجیبه ).

یدل هذا النص وغیره علی أن أبا سلمة الخلال أراد أن یغیر مسار الخلافة من بنی العباس الی بنی علی(علیه السّلام)، ولم یکن عمله هذا بدافع عقائدی لشهادة الإمام

ص: 289

الصادق(علیه السّلام)بأنه شیعة لغیره ! بل بحسابات سیاسیة لمصلحة الإیرانیین تنسجم مع هدف سلفه مؤسس الثورة بکیر بن ماهان ، فهو یعبر عن أفکاره أکثر من غلامه أبی مسلم ، وأکثر من قائده قحطبة وأولاده الشیبانیین !

وتلاحظ فی النص أن عبدالله بن الحسن اهتز فرحاً بأمل کاذب ضلله به أبو سلمة ، فنصحه الإمام(علیه السّلام)فأساء به الظن کعادته ! وأرسل الی أبی سلمة أن یبایع لابنه محمد ! لکن حرکة أبی الجهم أحبطت خطة أبی سلمة وفرضت السفاح.

13- بیعة الإیرانیین للسفاح وطلبه حضور الحسنیین للبیعة

من أدق التعابیر عن إنتاج الخلافة العباسیة ، قول ابن حبان فی الثقات:2/323: (وولی أبو مسلم أبا العباس ، واسمه عبد الله بن محمد بن علی بن عبد الله بن العباس وذلک یوم الجمعة لثلاث عشرة لیلة خلت من شهر ربیع الأول سنة اثنتین وثلاثین ومائة... وهو أول عباسی تولی الخلافة

). انتهی.

وأخذت الشخصیات ووجهاء القبائل تتوافد من الحجاز والعراق لبیعة للسفاح فی عاصمته الأنبار ، وفی تاریخ الیعقوبی:2/359: (وقدم عبد الله بن الحسن بن الحسن علی أبی العباس ، ومعه أخوه الحسن بن الحسن بن الحسن ، فأکرمه أبو العباس وبرَّه وآثره ، ووصله الصلات الکثیرة . ثم بلغه عن محمد بن عبد الله أمر کرهه ، فذکر ذلک لعبد الله بن الحسن ، فقال: یا أمیر المؤمنین ما علیک من محمد شئ تکرهه . وقال له الحسن بن الحسن أخو عبد الله بن الحسن: یا أمیر المؤمنین أتتکلم بلسان الثقة والقرابة أم علی جهة الرهبة للملک والهیبة للخلافة ؟ فقال: بل بلسان القرابة . فقال: أرأیت یا أمیر المؤمنین إن کان الله قضی لمحمد أن یلی هذا الأمر ثم أجلبت وأهل السماوات والأرض معک أکنت دافعاً عنه؟ قال: لا ! قال: فإن کان لم یقض ذلک لمحمد ثم أجلب محمد ، وأهل السماوات

ص: 290

والأرض معه أیضرک محمد ؟ قال: لا والله ! ولا القول إلا ما قلت ! قال: فلم تنغص هذا الشیخ نعمتک علیه ومعروفک عنده ؟ قال: لا تسمعنی ذاکراً له بعد الیوم . وبلغ أبا العباس أن محمد بن عبد الله قد تحرک بالمدینة ، فکتب إلی عبد الله بن الحسن فی ذلک وکتب فی الکتاب:

أرید حیاته ، ویرید قتلی

عذیرک من خلیلک من مراد

فکتب إلیه عبد الله بن الحسن:

وکیف یرید ذاک ، وأنت منه

بمنزلة النیاط من الفؤاد

وکیف یرید ذاک ، وأنت منه

وأنت لهاشم رأس وهاد

وطفئ أمر محمد فی خلافة أبی العباس ، فلم یظهر منه شئ . وکان متی بلغ أبا العباس عنه شئ ذکر ذلک لعبد الله فیقول: یا أمیر المؤمنین ! إنا نحمیها بکل قذاة یخل ناظرک منها ، فیقول: بک أثق ، وعلی الله أتوکل. وکان أبو العباس کریماً حلیماً جواداً ، وصولاً لذوی أرحامه). وبعضه تاریخ بغداد:9/438 .

14- جعل المنصور هدفه الأول القبض علی مهدی الحسنیین

( لما استخلف أبو جعفر(المنصور) لم تکن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه وما یرید ، فدعا بنی هاشم رجلاً رجلاً کلهم یُخْلیه (یُفرده) فیسألهم عنه ، فیقولون یا أمیر المؤمنین قد علم أنک قد عرفته یطلب هذا الشأن قبل الیوم ، فهو یخافک علی نفسه ، وهو لا یرید لک خلافاً ولا یحب لک معصیة وما أشبه هذه المقالة ، إلا حسن بن زید فإنه أخبره خبره وقال: والله ما آمن وثوبه علیک... وقد ذکر أن محمداً کان یذکر أن أبا جعفر ممن بایع له لیلة تشاور بنو هاشم بمکة فیمن یعقدون له الخلافة حین اضطرب أمر بنی مروان ، مع سائر المعتزلة الذین کانوا معهم هنالک).

(الطبری فی تاریخه:6/155، وأبو الفرج فی مقاتل الطالبیین/143، والذهبی فی تاریخه:9/15).

ص: 291

ووصف الطبری وغیره بحث المنصور عن مهدی الحسنیین ، فقال:6/157: (اشتری أبو جعفر رقیقاً من رقیق الأعراب ، ثم أعطی الرجل منهم البعیر والرجل البعیرین والرجل

الذَّوْد (عدة أباعر) وفرقهم فی طلب محمد فی ظهر المدینة ، فکان الرجل منهم یرد الماء کالمار وکالضال فیفرون عنه... قدم محمد البصرة مختفیاً فی أربعین فأتوا عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له عبد الرحمن: أهلکتنی وشهرتنی ، فانزل عندی وفرق أصحابک، فأبی! فقال: لیس لک عندی منزل ، فنزل فی بنی راسب... قدم محمد فنزل علی عبد الله بن شیبان أحد بنی مرة بن عبید فأقام ستة أیام ثم خرج فبلغ أبا جعفر مقدمه البصرة ، فأقبل مغذاً حتی نزل الجسر الأکبر... وکان محمد قد خرج قبل مقدم أبی جعفر...

ووصف زیاد والی المدینة مجئ المنصور الی المدینة وتحیره وقلقه فی أمر مهدی الحسنیین الی حد الهوس ! قال: (فأدخلنی ووقف خلفی بین البابین فإذا الشمع فی نواحی القبة فهی تزهر ، ووصیف قائم فی ناحیتها ، وأبو جعفر مُحْتَبٍ بحمائل سیفه علی بساط ، لیس تحته وسادة ولا مصلی ، وإذا هو منکس رأسه ینقر بجُرْز فی یده ، قال فأخبرنی الربیع أنها حاله من حین صلی العتمة إلی تلک الساعة ! قال: فما زلت واقفاً حتی إنی لأنتظر نداء الصبح وأجد لذلک فرجاً ، فما یکلمنی بکلمة ، ثم رفع رأسه إلیَّ فقال: یا ابن الفاعلة أین محمد وإبراهیم؟!

قال: ثم نکس رأسه ونکت أطول مما مضی له ، ثم رفع رأسه الثانیة فقال: یا ابن الفاعلة أین محمد وإبراهیم ؟ قتلنی الله إن لم أقتلک ! قال: قلت له: أنت نفرتهما عنک ! بعثت رسولا بالمال الذی أمرت بقسمه علی بنی هاشم فنزل القادسیة ثم أخرج سکیناً یحده وقال: بعثنی أمیر المؤمنین لأذبح محمداً وإبراهیم ، فجاءتهما بذلک الأخبار فهربا ) ! (الطبری:6/162).

ص: 292

(استعمل أبو جعفر علی المدینة محمد بن خالد بعد زیاد ، وأمره بالجد فی طلب محمد وبسط یده فی النفقة فی طلبه ، فأغذ السیر حتی قدم المدینة هلال رجب سنة141 فوجد فی بیت المال سبعین ألف دینار وألف ألف درهم ، فاستغرق ذلک المال ، ورفع فی محاسبته أموالاً کثیرة أنفقها فی طلب محمد ، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه ، فکتب إلیه أبو جعفر یأمره بکشف المدینة وأعراضها وأمر القسری أهل المدینة فلزموا بیوتهم سبعة أیام وطافت رسله والجند ببیوت الناس یکشفونها لا یحسون شیئاً... فلما استبطأه أبو جعفر ورأی ما استغرق من الأموال عزله... جَدَّ أبو جعفر حین حبس عبد الله فی طلب ابنیه ، فبعث عیناً له وکتب معه کتاباً علی ألسن الشیعة إلی محمد یذکرون طاعتهم ومسارعتهم ، وبعث معه بمال وألطاف فقدم الرجل المدینة... وکان لأبی جعفر کاتب علی سره کان متشیعاً فکتب إلی عبد الله بن حسن بأمر ذلک العین وما بعث له...

قال لی السندی مولی أمیر المؤمنین: أتدری ما رفع عقبة بن سلم عند أمیر المؤمنین؟ قلت: لا ، قال أوفد عمی عمر بن حفص وفداً من السند فیهم عقبة فدخلوا علی

أبی جعفر ، فلما قضوا حوائجهم نهضوا فاسترد عقبة فأجلسه ثم قال له: من أنت؟ قال: رجل من جند أمیر المؤمنین وخدمه صحبت عمر بن حفص . قال: وما اسمک؟ قال عقبة بن سلم بن نافع . قال: ممن أنت؟ قال: من الأزد ، ثم من بنی هناءة . قال: إنی لاری لک هیأة وموضعاً وإنی لأریدک لأمر أنا به معنیٌّ لم أزل أرتاد له رجلاً عسی أن تکونه ، إن کفیتنیه رفعتک ، فقال: أرجو أن أصدِّق ظن أمیر المؤمنین فیَّ .. ثم ذکر الطبری کیف وجهه للتجسس علی عبدالله بن الحسن وأولاده وأنه تقرب منهم فوثقوا به ، وعرف الوقت الذی وقتوه لخروجهم). (تاریخ الطبری:6/157:)

ص: 293

ووضع المنصور علیه العیون وکان یداهمه فیفلت منه: (خرج إلیه بالخیل والرجال ففزع منه محمد فأحْضَرَ (أسرع فرسه) شَدّاً فأفلت ، وله ابن صغیر ولد فی خوفه ذلک وکان مع جاریة له ، فهوی من الجبل فتقطع) ! وعندما خرج محمد حبس قائد السریة ( فلم یزل محبوساً حتی قتل محمد ) . (تاریخ الطبری:6/169).

وسمع المنصور أن شخصاً إسمه وَبَر المزنی رآه فکتب یطلبه: (فحُمل إلیه رجل منهم یدعی وبراً فسأله عن قصة محمد وما حکی له العین؟ فخلف أنه ما یعرف من ذلک شیئاَ ، فأمر به فضرب سبعمائة سوط وحبس حتی مات) ! (الطبری:6/162).

وبَصَّر علیه عند المنجمین ! فکتب الی والیه علی المدینة: (إن محمداً ببلاد فیها الأترج والأعناب فاطلبه بها... قال هذه رضوی فطلبه فلم یجده). (الطبری:6/162).

وکان والیه یحضر العلویین ویهددهم لیسلموا محمداً وإبراهیم ! ( بعث إلینا ریاح فأتیته أنا وجعفر بن محمد بن علی بن حسین ، وحسین بن علی بن حسین بن علی ، وعلی بن عمر بن علی بن حسین بن علی ، وحسن بن علی بن حسین بن علی بن حسین بن علی ، ورجال من قریش ، منهم إسماعیل بن أیوب بن سلمة بن عبد الله بن الولید بن المغیرة ، ومعه ابنه خالد ، فإنا لعنده فی دار مروان... فوثب ابن مسلم بن عقبة وکان مع ریاح فاتکأ علی سیفه فقال: أطعنی فی هؤلاء فاضرب أعناقهم . فقال: علی بن عمر: فکدنا والله تلک اللیلة أن نطیح حتی قام حسین بن علی فقال: والله ما ذاک لک إنا علی السمع والطاعة).(الطبری:6/184).

وسجلت المصادر إحضار المنصور لعبد الله بن الحسن والإمام الصادق(علیه السّلام) وتهدیدهما بالقتل إن لم یحضرا محمداً ! ففی الخرائج:2/635 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام) قال: (دعانی أبو جعفر الخلیفة ومعی عبد الله بن الحسن ، وهو یومئذ نازل بالحیرة قبل أن تبنی بغداد ، یرید قتلنا لا یشک الناس فیه . فلما دخلت علیه دعوت الله

ص: 294

بکلام ، وقد قال لابن نهیک وهو القائم علی رأسه: إذا ضربت بإحدی یدیَّ علی الأخری فلا تناظره حتی تضرب عنقه ! فلما تکلمت بما أرید ، نزع الله من قلب أبی جعفر الخلیفة الغیظ . فلما دخلت أجلسنی مجلسه وأمر لی بجائزة).

وفی الغارات:2/850: عن ابن عبید: (رأیت جعفر بن محمد وعبد الله بن الحسن بالغری عند قبر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فأذن عبد الله وأقام الصلاة وصلی مع جعفر ، وسمعت جعفراً یقول:هذا قبر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)).

أقول: کان المنصور یعرف جیداً أن الإمام الصادق(علیه السّلام)رفض ادعاء الحسنیین مهدیة محمد ، لکنه وجدها فرصة لقتل الإمام(علیه السّلام) ، کما سیأتی !

وعندما کان المنصور فی الحج حبس شخصیات آل الحسن ! ( لما حج أبو جعفر فی سنة140 ، أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن... قال: أین ابنک؟ فقال لا أدری ، قال: لتأتینی به . قال: لو کان تحت قدمی ما رفعتهما عنه ! قال: یا ربیع قم به إلی الحبس..). وقال الذهبی فی تاریخه:9/15: (فلما طال أمر الأخوین علی المنصور أمر ریاحاً (والیه علی المدینة) بأخذ بنی حسن وحبسهم ، فأخذ حسناً وإبراهیم ابنی حسن بن حسن ، وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن ، وسلیمان وعبد الله ابنی داود بن حسن بن حسن ، وأخاه علیاً العابد ، ثم قیدهم وجهر علی المنبر بسب محمد بن عبد الله وأخیه فسبح الناس وعظموا ما قال ، فقال ریاح: ألصق الله بوجوهکم الهوان ! لأکتبن إلی خلیفتکم غشکم وقلة نصحکم ! فقالوا: لا سمع منک یا بن المحدودة ! وبادروه یرمونه بالحصی ، فنزل واقتحم دار مروان وأغلق الباب فحف بها الناس فرموه وشتموه ، ثم أنهم کفوا ) .

ثم نقل الحسنیین من سجن المدینة الی الهاشمیات فی العراق: ( لم یزل بنو حسن محبوسین عند ریاح حتی حج أبو جعفر سنة144 فتلقاه ریاح بالربذة فرده إلی

ص: 295

المدینة ، وأمره بإشخاص بنی حسن إلیه ). (الطبری:6/173).

(ثم إن آل حسن حملوا فی أقیادهم إلی العراق ، ولما نظر إلیهم جعفر الصادق وهم یخرج بهم من دار مروان جرت دموعه علی لحیته ، ثم قال: والله لا تحفظ لله حرمة بعد هؤلاء ، وأخذ معهم أخوهم من أمهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو ابن فاطمة بنت الحسین . وقال الواقدی: أنا رأیت عبد الله بن حسن وأهل بیته یخرجون من دار مروان ، وهم فی الحدید فیجعلون فی المحامل عراة لیس تحتهم وطاء ! وأنا یومئذ قد راهقت الإحتلام... وأخذ معهم یومئذ نحو من أربعمائة نفس من جهینة ومزینة وغیرهم ، فأراهم بالربذة ملتفین فی الشمس ، وسجنت مع عبد الله بن حسن فوافی المنصور الربذة منصرفاً من الحج فسأل المنصور أن یأذن له فی الدخول فامتنع ) . (تاریخ الذهبی:9/15).

(لما حمل بنو حسن کان محمد وإبراهیم یأتیان معتمین کهیئة الأعراب فیسایران أبا هما ویسائلانه ویستأذناه فی الخروج فیقول: لا تعجلا حتی یمکنکما ذلک ، ویقول: إن منعکما أبو جعفر أن تعیشا کریمین ، فلا یمنعکما أن تموتا کریمین ). (الطبری:6/175).

(لما قدم بعبد الله بن حسن وأهله مقیدین فأشرف بهم علی النجف ، قال لأهله أما ترون فی هذه القریة من یمنعنا من هذا الطاغیة؟ قال فلقیه ابنا أخی الحسن وعلی مشتملین علی سیفین فقالا له: قد جئناک یا ابن رسول الله فمرنا بالذی ترید قال قد قضیتما ما علیکما ولن تغنیا فی هؤلاء شیئا فانصرفا). (تاریخ الطبری:6/178).

(حبس من بنی حسن ثلاثة عشر رجلاً ، وحبس معهم العثمانی وابنان له ، فی قصر ابن هبیرة ، وکان فی شرقی الکوفة مما یلی بغداد فکان أول من مات منهم إبراهیم بن حسن ، ثم عبد الله بن حسن). (الطبری:6/179).

ص: 296

وقتل المنصور حفید عثمان بن عفان لأنه کان مع بنی الحسن: (دخل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان علی أبی جعفر ، وعلیه قمیص وساج وإزار رقیق تحت قمیصه ، فلما وقف بین یدیه قال: إیهاً یا دیوث ! قال محمد: سبحان الله ، والله لقد عرفتنی بغیر ذلک صغیراً وکبیراً ! قال: فممَّ حملت ابنتک ، وکانت تحت إبراهیم بن عبد الله بن حسن بن الحسن ، وقد أعطیتنی الأیْمان بالطلاق والعتاق ألا تغشنی ولا تمالئ علیَّ عدواً... وأمر بشق ثیابه فشق قمیصه عن إزاره فأشف عن عورته ! ثم أمر به فضرب خمسین ومائة سوط فبلغت منه کل مبلغ وأبو جعفر یفتری علیه ولا یکنِّی! فأصاب سوط منها وجهه فقال له: ویحک أکفف عن وجهی فإن له حرمة من رسول الله ! قال فأغری أبو جعفر فقال للجلاد: الرأس الرأس ! قال فضرب علی رأسه نحواً من ثلاثین سوطاً ، ثم دعا بساجور من خشب شبیه به فی طوله وکان طویلاً ، فشد فی عنقه وشدت به یده ثم أخرج به ملبباً ، فلما طلع به من حجرة أبی جعفر وثب إلیه مولی له فقال: بأبی أنت وأمی ألا ألوثک بردائی ؟ قال: بلی جزیت خیراً ، فوالله لشفوف إزاری أشد علیَّ من الضرب الذی نالنی ! فألقی علیه المولی الثوب ومضی به إلی أصحابه المحبسین... فأخرج کأنه زنجی قد غیرت السیاط لونه وأسالت دمه وأصاب سوط منها إحدی عینیه فسالت ! ... ثم لبثنا هنیهة فخرج أبو جعفر فی شق محمل معادله الربیع فی شقه الأیمن علی بغلة شقراء فناداه عبد الله: یا أبا جعفر ، والله ما هکذا فعلنا بأسرائکم یوم بدر ! قال: فأخسأه أبو جعفر ،وتفل علیه ، ومضی ولم یعرِّج ) ! (الطبری:6/176).

(کتب إلیه أبو عون...أن أهل خراسان قد تقاعسوا عنی وطال علیهم أمر محمد بن عبد الله ، فأمر أبو جعفر عند ذلک بمحمد بن عبد الله بن عمرو (بن عثمان بن عفان) فضربت عنقه وأرسل برأسه إلی خراسان.. فطافوا فی کور خراسان وجعلوا یحلفون بالله أن هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله ! یوهمون

ص: 297

الناس أنه رأس محمد بن عبد الله بن حسن الذی کانوا یجدون خروجه علی أبی جعفر فی الروایة... فلما قدم به ارتاب أهل خراسان ، وقالوا: ألیس قد قتل مرة وأتینا برأسه؟!). (الطبری:6/179). وفی تاریخ الذهبی:9/273، أنه کان أصغر إخوته من أمه وکانوا: (یرقون علیه ویحبونه ، وکان لا یفارقهم ) .

وقتل المنصور منهم شاباً حسنیاً موصوفاً بالجَمَال، فبنی علیه أسطوانة کما یأتی ! وقتل الباقین بأنواع من القتل ! ففی مقاتل الطالبیین/153: (مات میِّت من آل الحسن وهم بالهاشمیة محبوسون فأُخرج عبد الله بن الحسن یرسف فی قیوده لیصلی علیه... یعقوب وإسحاق ومحمداً وإبراهیم بنی الحسن قتلوا فی الحبس ، بضروب من القتل ، وإن إبراهیم بن الحسن دفن حیاً وطرح علی عبد الله بن الحسن بیت) ! وقال الیعقوبی:2/370: (فلم یزالوا فی الحبس حتی ماتوا ، وقد قیل إنهم وجدوا مسمرین فی الحیطان). وتقدم تضامن الإمام الصادق(علیه السّلام)معهم رغم عداوتهم له .

وذات یوم والمنصور ینتظر أخبار جواسیسه لمعرفة توقیت حرکة محمد جاءه بدوی قطع الطریق مسرعاً فوصل الی بغداد فی تسعة أیام، وأخبره بوقت خروجه: (فقال: لأوطئن الرجال عقبیک ولأغنینک ! وأمر له بتسعة آلاف ، لکل لیلة سارها ألفاً... قال: أنا أبو جعفر ! استخرجت الثعلب من جحره ) ! (الطبری:6/193) .

ص: 298

الفصل التاسع: ثورة مهدی الحسنیین وأخیه إبراهیم علی المنصور

1- الحسنیون ولعنة ادعاء المهدویة !

کل من ادعی المهدیة کذباً لحقته لعنتها ! فی عمله السیاسی فأصیب بالفشل ، وفی سلوکه فظهر ظلمه ، تکذیباً لادعائه بأنه سیملأ الأرض قسطاً وعدلاً !

وهذا ما ابتلی به الحسنیون لما أرادوا أن یستغلوا موجة السخط علی بنی أمیة والتعاطف مع أهل البیت(علیهم السّلام) ، ویرثوا ثورة زید(رحمه الله) ، فابتکر مهندس حرکتهم عبدالله أن یجعل ابنه محمداً المهدی الموعود ویأخذ له البیعة ، فأقنع أولاده وبقیة العباسیین ودعا الی مؤتمر الأبواء بعد بضع سنین من شهادة زید(رحمه الله)، وأخذ البیعة لابنه علی أنه المهدی الموعود ، وکَذَّبَه الإمام الصادق(علیه السّلام)وقال له: ( إن کنت تری أن ابنک هذا هو المهدی فلیس به ولا هذا أوانه ، وإن کنت إنما ترید أن تُخرجه غضباً لله ولیأمر بالمعروف وینهی عن المنکر ، فإنا والله لا ندعک وأنت شیخنا ونبایع ابنک). (مقاتل الطالبیین/140) . وکان المنصور من المتحمسین لبیعة محمد المهدی ! ثم کان أول المنقلبین علیه وصار یسمی أباه (أبا قحافة) تهکماً به ، لأنه بایع لابنه وهو حی کوالد أبی بکر بن أبی قحافة ! (شرح النهج:1/156).

وثارهذا (المهدی) فی المدینة سنة145 فی المدینة ، بعد أن حبس المنصور أباه وبقیة الحسنیین: ( ثم وجه إلی مکة فأخذت له وبیَّضوا... ووجه أخاه إبراهیم بن

ص: 299

عبد الله إلی البصرة فأخذها وغلبها وبیَّضوا معه... أن الحسن والقاسم لما أخذا مکة تجهزا وجمعا جمعاً کثیراً ، ثم أقبلا یریدان محمداً ونصرته علی عیسی بن موسی واستخلفا علی مکة رجلاً من الأنصار ، فلما کانا بقدید لقیهما قتل محمد ، فتفرق الناس عنهما.. استعمل محمد الحسن بن معاویة بن عبد الله بن جعفر علی مکة ، ووجه معه القاسم بن إسحاق واستعمله علی الیمن...وموسی بن عبد الله علی الشأم یدعوان إلیه ، فقتلا قبل أن یصلا). (الطبری:6/202، و203، و204) .

أقول: استعمل بنو العباس شعار الرایات والثیاب السود ، وادعوا انطباق الحدیث النبوی علیهم ، وأن منهم المهدی الذی یکون أنصاره أصحاب الرایات السود من خراسان ! واستعمل الخارجون علیهم الرایات والثیاب البیض ، فسمیَ العباسیون (المُسَوِّدَة) والثوار علیهم (المُبَیِّضَة) .

وأرسل الیه المنصور جیشاً بقیادة ابن عمه ولی عهده عیسی بن موسی (فی أربعة آلاف من الجند ، فلما أحس محمد بن عبد الله به قد أُتِیَ ، حفر خندق النبی (ص) الذی کان احتفره للأحزاب فاجتمع زهاء ألف رجل ). (ابن خلدون:3/84).

وفی الطبری:6/214، أن قسماً من الجیش کان من أهل خراسان .

وقال الذهبی فی تاریخه:9/26: (ندب المنصور لقتال محمد ، ابن عمه عیسی بن موسی وقال فی نفسه: لا أبالی أیهما قتل صاحبه !(لأن عیسی ولی عهده بنص السفاح ، وهو یرید استبداله بابنه الذی زعم أنه المهدی) فجهز

مع عیسی أربعة آلاف فارس وفیهم محمد بن السفاح ، فلما وصل إلی فند کتب إلی أهل المدینة فی خرق الحریر یتألفهم ، فتفرق عن محمد خلق ، وسار منهم طائفة لتلقِّی عیسی والتحیز إلیه ، فاستشار محمد بن جعفر فقال: أنت أعلم بضعف جمعک وقلتهم ، وبقوة خصمک وکثرة جنده ، والرأی أن تلحق بمصر ، فوالله لا یردک عنها راد...

ص: 300

ثم إن عیسی أحاط بالمدینة فی أثناء شهر رمضان ، ثم دعا محمد إلی الطاعة ثلاثة أیام ، ثم ساق بنفسه فی خمسمائة فوقف بقرب السور فنادی: یا أهل المدینة إن الله قد حرم دماء بعضنا علی بعض فهلموا إلی الأمان ، فمن جاء إلینا فهو آمن ، ومن دخل داره أو المسجد أو ألقی سلاحه فهو آمن ، خلوا بیننا وبین صاحبنا ، فإما لنا وإما له ، قال فشتموه فانصرف یومئذ ، ففعل من الغد کذلک ، ثم عبأ جیشه فی الیوم الثالث وزحف).

ووصف الطبری:6/188، مهدی الحسنیین فقال: (کان محمد آدم شدید الأدمة ، أدلم ، جسیماً ، عظیماً ، وکان یلقب القاری من أدمته (نسبة الی القار أو الزفت) ، حتی کان أبو جعفر یدعوه محمماً.. کان محمد تمتاماً فرأیته علی المنبر یتلجلج الکلام فی صدره فیضرب بیده علی صدره یستخرج الکلام... حدثنی من حضر محمداً علی المنبر یخطب ، فاعترض بلغم فی حلقه فتنحنح ، فذهب ثم عاد فتنحنح فذهب ، ثم عاد فتنحنح ثم عاد فتنحنح ، ثم نظر فلم یر موضعاً فرمی بنخامته سقف المسجد فألصقها به) !

وقال ابن قدامة فی المغنی:9/116 : (قال الشافعی: بقی محمد بن عجلان فی بطن أمه أربع سنین.. وبقی محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی فی بطن أمه أربع سنین ، وهکذا إبراهیم بن نجیح العقیلی) !

(اجتمع مع محمد جمع لم أر مثله ولا أکثر منه ، إنی لأحسب أنا قد کنا مائة ألف ! فلما قرب عیسی خطبنا فقال: یاأیها الناس إن هذا الرجل قد قرب منکم فی عدد وعدة ، وقد حللتکم من بیعتی ، فمن أحب المقام فلیقم ، ومن أحب الانصراف فلینصرف ، فتسللوا حتی بقی فی شرذمة لیس بالکثیرة... خرج ناس کثیر من أهل المدینة بذراریهم وأهلیهم إلی الأعراض والجبال ، فأمر محمد أبا القلمس فرد

ص: 301

من قدر علیه منهم ، فأعجزه کثیر منهم فترکهم). (الطبری:6/208و209) .

أقول: هذا یدلک علی أن مهدیهم یکذب کالعباسیین والأمویین ، فقد خیرهم بین البقاء معه أو ترک المدینة ، ثم أمر قائد شرطته أبا القلمس بإجبار الناس علی البقاء ، فنقض کلامه لهم بأنهم فی الخیار وفی حل من بیعته ! بل سمع بأن المنصور بعث برسائل الی شخصیات من المدینة فأخذ الرسول والکتب وحبس أصحابها قبل أن تصلهم: (وجاء بهم وضرب بعضهم ثلاث مئة ثلاث مئة) ثم حبسهم: ( وقیدهم بکبول وسلاسل تبلغ ثمانین رطلاً). (الطبری:6/206). کما صادر أبو القلمس إبلاً فی المدینة فجاء صاحبها الی المهدی وقال له: (أنت تدعو إلی العدل ونفی الجور فما بال إبلی تؤخذ ! قال فدفعها إلیه). (الطبری:6/206) .

أما قائد جیشه عیسی بن زید بن الحسن فکان یقول له: (من خالفک أو تخلف عن بیعتک من آل أبی طالب ، فأمکنی منه أن أضرب عنقه ). (مقاتل الطالبیین/269).

وکان عیسی هذا عدواً لدوداً للإمام الصادق(علیه السّلام)وهو الذی أحضره لیجبره علی بیعة مهدی الحسنیین وقال له: أسلم تسلم ! وهدده وآذاه فقال له(علیه السّلام): (أما والله یا أکشف یا أزرق ، لکأنی بک تطلب لنفسک جُحْراً تدخل فیه ! وما أنت فی المذکورین عند اللقاء ، وإنی لأظنک إذا صُفَّق خلفک طرت مثل الهیق النافر).(الکافی:1/363). والأکشف: الجبان ، وهو أیضاً الذی فی قصاص رأسه شعرات واقفة لا تسترسل . (نهایة ابن الأثیر:4/176، وتاج العروس:12/457) . والهیق النافر أو الظلیم: طائر النقنق أو اللقلق .(العین:5/28) .

وصدق الإمام الصادق(علیه السّلام) ، فعندما حمی الوطیس هرب عیسی بن زید ، وبقی کل عمره هارباً کالهیق النافر حتی قتل ! أما مهدیه فلم یستطع أن یهرب فقتل . لکن أبا القلمس الذی أجبر الناس علی عدم الهروب ، شبع ضحکاً وهو هارب ! قال صاحبه: (لما انهزمنا یومئذ کنت فی جماعة فیهم أبو القلمس ، فالتفت إلیه فإذا هو مستغرقٌ ضحکاً ! قال فقلتُ: والله ما هذا بموضع ضحک ! وخفضت بصری فإذا برجل من المنهزمة قد تقطع قمیصه فلم یبق منه إلا جربانه وما یستر صدره إلی ثدییه ، وإذا

ص: 302

عورته بادیة وهو لا یشعر !! قال فجعلت أضحک لضحک أبی القلمس). (الطبری:6/226).

(خرج محمد فی أول یوم من رجب سنة145، فبات بالمذاد هو وأصحابه ، ثم أقبل فی اللیل فدقَّ السجن وبیت المال ، وأمر بریاح (الوالی) وابن مسلم فحبسا معاً فی دار ابن هشام). (الطبری:6/184) . (فرأیت علیه لیلة خرج قلنسوة صفراء مصریة وجبة صفراء وعمامة قد شد بها حقویه ، وأخری قد اعتم بها متوشحاً سیفاً ، فجعل یقول لأصحابه: لا تقتلوا لا تقتلوا... وتعلق ریاح فی مشربة فی دار مروان فأمر بدرجها فهدمت ،فصعدوا إلیه فأنزلوه وحبسوه فی دار مروان ...

صعد محمد المنبر فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد أیها الناس فإنه کان من أمر هذا الطاغیة عدو الله أبی جعفر ما لم یخف علیکم ، من بنائه القبة الخضراء التی بناها معاندةً لله فی ملکه ، وتصغیراً للکعبة الحرام ، وإنما أخذ الله فرعون حین قال: أنا ربکم الأعلی. وإن أحق الناس بالقیام بهذا الدین أبناء المهاجرین الأولین والأنصار المواسین . اللهم إنهم قد أحلوا حرامک وحرموا حلالک وآمنوا من أخفت ، وأخافوا من آمنت ! اللهم فأحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً ). (الطبری:6/186) .

وکان مهدیهم متحیراً لاوضوح عنده ! (إنا لعند محمد لیلة وذلک عند دنو عیسی من المدینة إذ قال محمد: أشیروا علیَّ فی الخروج والمقام؟ قال فاختلفوا فأقبل علی فقال أشر علیَّ یا أبا جعفر قلت: ألست تعلم أنک فی أقل بلاد الله فرساً وطعاماً وسلاحاً وأضعفها رجالاً؟ قال: بلی . قلت: تعلم أنک تقاتل أشد بلاد الله رجلاً وأکثرها مالاً وسلاحاً؟قال: بلی . قلت: فالرأی أن تسیر بمن معک حتی تأتی مصر فوا لله لا یردک راد! فصاح حنین بن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدینة وحدثه أن النبی(ص) قال رأیتنی فی درع حصینة فأولتها المدینة ). (الطبری:6/207) .

ولم تطل المعرکة إلا بعض یوم ، فقد قال الطبری:6/210: ( نزل عیسی بقصر

ص: 303

سلیمان بالجرف... وغدا یوم الإثنین حتی استوی علی سَلَع ، فنظر إلی المدینة والی من دخلها وخرج منها ، وشحن وجوهها کلها بالخیل والرجال ، إلا ناحیة مسجد أبی الجراح وهو علی بطحان فإنه ترکه لخروج من هرب... أقبل علی دابة یمشی حوالیه نحو من خمسمائة وبین یدیه رایة یسار بها معه فوقف علی الثنیة ونادی: یا أهل المدینة إن الله قد حرم دماء بعضنا علی بعض فهلموا إلی الأمان... خلوا بیننا وبین صاحبنا فإما لنا أو له . قال فشتموه وأقذعوا له وقالوا یا ابن الشاة ، یا ابن کذا یا ابن کذا... وانتهوا إلی الخندق... فأرسل إلیه عیسی بأبواب بقدر الخندق فعبروا علیها حتی کانوا من ورائه ، ثم اقتتلوا أشد القتال من بکرة حتی صار العصر... انصرف محمد یومئذ قبل الظهر حتی جاء دار مروان فاغتسل وتحنط... رأیت محمداً یومئذ باشر القتال بنفسه فأنظر إلیه حین ضربه رجل بسیف دون شحمة أذنه الیمنی فبرک لرکبتیه وتعاوروا علیه ، وصاح حمید بن قحطبة لا تقتلوه فکفوا ، وجاء حمید فاحتز رأسه... بعد العصر یوم الإثنین لأربع عشرة لیلة خلت من شهر رمضان). (الطبری:6/215-220). ( واستحر القتال ، وانهزم أصحاب محمد بن عبد الله بن الحسن ونزل وقاتل وقتل بیده جماعة ، وحمل علیه ابن قحطبة فطعنه فی صدره فصرعه ، ثم نزل فاحتز رأسه) . (شرح الأخبار:3/236).

وصدق الإمام الصادق(علیه السّلام)فقد قتل مهدی الحسنیین فی المکان الذی حدده له قبل نحو عشرین سنة ! فی زقاق بنی أشجع الغطفانی (الطبری:4/446، وطبعة:7/594 ، وتاریخ الذهبی:9/30). ولا بد أن رأسه حمل رأسه ووضع عند حجر الزنابیر کما أخبره(علیه السّلام).

وروی الطبری أفاعیل الجیش الخراسانی فی المدینة ، فقال شاهد عیان: (إنا لعلی ظهر سلع (جبل) ننظر وعلیه أعاریب جهینة ، إذ صعد إلینا رجل بیده رمح قد نصب علیه رأس رجل متصلاً بحلقومه وکبده وأعفاج بطنه ! قال فرأیت منه منظراً هائلاً

ص: 304

وتطیَّرَتْ منه الأعاریب وأجفلتْ هاربة حتی أسهلت (صارت فی السهل) ! وعلا الرجل الجبل ونادی علی الجبل رطانة لأصحابه بالفارسیة: کوهبان ( المسؤول عن الجبل) ! فصعد إلیه أصحابه حتی علوا سلعاً فنصبوا علیه رایة سوداء). (الطبری:6/216).

ودخلوا المدینة فجاءت إحدی نساء بنی العباس بخمار أسود فنصبوه: ( علی منارة مسجد رسول الله (ص) فلما رأی ذلک أصحاب محمد تنادوا دُخلت المدینة وهربوا ). (الطبری:6/216). ( وکان مکث محمد بن عبد الله من حین ظهر إلی أن قتل شهرین وسبعة عشر یوماً ). (الطبری:6/226).

( لما قُدم برأس محمد علی أبی جعفر وهو بالکوفة ، أمر به فطیف به فی طبق أبیض ، فرأیته آدم أرقط ، فلما أمسی من یومه بعث به إلی الآفاق). (الطبری:6/223).

هذا ، وقد رووا فی رثاء مهدی الحسنیین الذی سموه النفس الزکیة ، قصائد عدیدة ، منها قصیدة غالب الهمدانی بروایة المدائنی ، وفیها:

أصبح آلُ الرسول أحمد فی الناس کذی عُرَّة به جَرَبُ

بؤساَ لهم ما جنت أکفهم وأی حبل من أمة قضبوا ).

(مقاتل الطالبیین/153).

بؤساَ لهم ما جنت أکفهم وأی حبل من أمة قضبوا ).

(مقاتل الطالبیین/153).

2- الرسائل المتبادلة بین المنصور ومهدی الحسنیین

من نصوص ثورة مهدی الحسنیین المهمة ، الرسائل المتبادلة بینه وبین المنصور فهی وثیقة تکشف ظروف تلک الفترة ، وتتضمن أقوی حجج الحسنیین والعباسیین ضد بعضهم . ویتضح منها قوة حجج الأئمة(علیهم السّلام)علی الطرفین .

قال الطبری فی تاریخه:6/195: ( لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله بالمدینة کتب إلیه: بسم الله الرحمن الرحیم . من عبد الله عبد الله أمیر المؤمنین إلی محمد بن عبد الله . إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِینَ یُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الأَرْضِ فَسَاداً

ص: 305

أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ فِی الدُّنْیَا وَلَهُمْ فِی الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ . إِلا الَّذِینَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَیْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ . ولک علی عهد الله ومیثاقه وذمته وذمة رسوله (ص) إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر علیک ، أن أؤمنک وجمیع ولدک وإخوتک وأهل بیتک ومن اتبعکم علی دمائکم وأموالکم ، وأسوغک ما أصبت من دم أو مال ، وأعطیک ألف ألف درهم ، وما سألت من الحوائج ، وأنزلک من البلاد حیث شئت ، وأن أطلق من فی حبسی من أهل بیتک ، وأن أؤمن کل من جاءک وبایعک واتبعک أو دخل معک فی شئ من أمرک ، ثم لا أتبع أحداً منهم بشئ کان منه أبداً ، فإن أردت أن تتوثق لنفسک فوجه إلیَّ من أحببت یأخذ لک من الأمان والعهد والمیثاق وما تثق به .

فکتب إلیه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحیم . من عبد الله المهدی محمد بن عبد الله إلی عبد الله بن محمد: نَتْلُو عَلَیْکَ مِنْ نَبَأِ مُوسَی وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ . وَنُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الأَرْضِ وَنُرِیَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا کَانُوا یَحْذَرُونَ . وأنا أعرض علیک من الأمان مثل الذی عرضت علیَّ ، فإن الحق حقنا ، وإنما ادعیتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشیعتنا ، وحظیتم بفضلنا ، وإن أبانا علیاً کان الوصی وکان الإمام ، فکیف ورثتم ولایته وولده أحیاء ! ثم قد علمت أنه لم یطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا . لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ! ولیس یمتُّ أحد من بنی هاشم بمثل الذی نمت به من القرابة والسابقة والفضل . وإنا بنو أم رسول الله (ص) فاطمة بنت عمرو فی الجاهلیة ، وبنو بنته فاطمة فی الاسلام دونکم . إن الله اختارنا واختار لنا ، فوالدنا من النبیین محمد (ص) ومن السلف

ص: 306

أولهم إسلاماً علی ، ومن الأزواج أفضلهن خدیجة الطاهرة وأول من صلی القبلة ومن البنات خیرهن فاطمة سیدة نساء أهل الجنة ، ومن المولودین فی الاسلام حسن وحسین سیدا شباب أهل الجنة ، وإن هاشماً ولد علیاً مرتین ، وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتین ، وإن رسول الله (ص) ولدنی مرتین ، من قبل حسن وحسین ، وإنی أوسط بنی هاشم نسباً وأصرحهم أباً ، لم تعرِّق فیَّ العجم ، ولم تَنازع فیَّ أمهات الأولاد ، فما زال الله یختار لی الآباء والأمهات فی الجاهلیة والاسلام ، حتی اختار لی فی النار ، فأنا ابن أرفع الناس درجة فی الجنة وأهونهم عذاباً فی النار ، وأنا ابن خیر الأخیار وابن خیر الأشرار وابن خیر أهل الجنة وابن خیر أهل النار . ولک الله علیَّ إن دخلت فی طاعتی وأجبت دعوتی أن أؤمنک علی نفسک ومالک ، وعلی کل أمر أحدثته إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد ، فقد علمت ما یلزمک من ذلک ، وأنا أولی بالأمر منک، وأوفی بالعهد لأنک أعطیتنی من العهد والأمان ما أعطیته رجالاً قبلی! فأی الأمانات تعطینی أمان ابن هبیرة ، أم أمان عمک عبد الله بن علی أم ، أمان أبی مسلم ؟!

فکتب إلیه المنصور: بسم الله الرحمن الرحیم . أما بعد فقد بلغنی کلامک وقرأت کتابک ، فإذا جل فخرک بقرابة النساء ، لتضل به الجفاة والغوغاء ، ولم یجعل الله النساء کالعمومة والآباء ، ولا کالعصبة والأولیاء ، لأن الله جعل العم أباً وبدأ به فی کتابه علی الوالدة الدنیا ، ولو کان اختیار الله لهن علی قدر قرابتهن کانت آمنة أقربهن رحماً وأعظمهن حقاً وأول من یدخل الجنة غداً . ولکن اختیار الله لخلقه علی علمه ، لما مضی منهم واصطفائه لهم .

وأما ما ذکرت من فاطمة أم أبی طالب وولادتها ، فإن الله لم یرزق أحداً من ولدها الاسلام لابنتاً ولا ابناً ، ولو أن أحداً رزق الاسلام بالقرابة رزقه عبد الله

ص: 307

أولاهم بکل خیر فی الدنیا والآخرة ، ولکن الأمر لله یختار لدینه من یشاء ، قال الله عز وجل:إِنَّکَ

لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَکِنَّ اللهَ یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ ولقد بعث الله محمداً(علیه السّلام)وله عمومة أربعة فأنزل الله عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الأَقْرَبِینَ ، فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبی ، وأبی اثنان أحدهما أبوک فقطع الله ولایتهما منه ولم یجعل بینه وبینهما إلا ولا ذمة ولا میراثاً ! وزعمت أنک ابن أخف أهل النار عذاباً ، وابن خیر الأشرار ولیس فی الکفر بالله صغیر ولا فی عذاب الله خفیف ولا یسیر ، ولیس فی الشر خیار ولا ینبغی لمؤمن یؤمن بالله أن یفخر بالنار ! وسترد فتعلم: وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ . وأما ما فخرت به من فاطمة أم علی وأن هاشماً ولده مرتین ، ومن فاطمة أم حسن وأن عبد المطلب ولده مرتین وأن النبی (ص) ولدک مرتین فخیر الأولین والآخرین رسول الله (ص) لم یلده هاشم إلا مرة ، ولا عبد المطلب إلا مرة ! وزعمت أنک أوسط بنی هاشم نسباً وأصرحهم أماً وأباً وأنه لم تلدک العجم ، ولم تعرق فیک أمهات الأولاد ، فقد رأیتک فخرت علی بنی هاشم طراً فانظر ویحک أین أنت من الله غداً ، فإنک قد تعدیت طورک وفخرت علی من هو خیر منک نفساً وأباً وأولاً وآخراً ، إبراهیم بن رسول الله (ص) وعلی والد ولده . وما خیار بنی أبیک خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد ، وما ولد فیکم بعد وفاة رسول الله (ص) أفضل من علی بن حسین وهو لأم ولد ، ولهو خیر من جدک حسن بن حسن . وما کان فیکم بعده مثل ابنه محمد بن علی وجدته أم ولد ، ولهو خیر من أبیک . ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، ولهو خیر منک . وأما قولک إنکم بنو رسول الله (ص) فإن الله تعالی یقول فی کتابه: مَا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِکُمْ ، ولکنکم بنو ابنته وإنها لقرابة قریبة ، ولکنها لا تحوز

المیراث ولا ترث الولایة ولا تجوز

ص: 308

لها الإمامة فکیف تورث بها ، ولقد طلبها أبوک بکل وجه فأخرجها نهاراً ومرَّضها سراً ودفنها لیلاً ! فأبی الناس إلا الشیخین وتفضیلهما . ولقد جاءت السنة التی لا اختلاف فیها بین المسلمین أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا یرثون . وأما مافخرت به من علیٍّ وسابقته فقد حضرت رسول الله (ص) الوفاة فأمر غیره بالصلاة ، ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم یأخذوه ، وکان فی الستة فترکوه کلهم دفعاً له عنها ، ولم یروا له حقاً فیها . أما عبد الرحمن فقدم علیه عثمان وقتل عثمان وهو له متهم ، وقاتله طلحة والزبیر ، وأبی سعد بیعته ، وأغلق دونه بابه ، ثم بایع معاویة بعده ! ثم طلبها بکل وجه وقاتل علیها وتفرق عنه أصحابه وشک فیه شیعته قبل الحکومة ، ثم حکم حکمین رضی بهما وأعطاهما عهده ومیثاقه فاجتمعا علی خلعه ، ثم کان حسن فباعها من معاویة بخرق ودراهم ولحق بالحجاز ، وأسلم شیعته بید معاویة ، ودفع الأمر إلی غیر أهله ، وأخذ مالاً من غیر ولائه ولا حله . فإن کان لکم فیها شئ فقد بعتموه وأخذتم ثمنه ! ثم خرج عمک حسین بن علی علی ابن مرجانة فکان الناس معه علیه حتی قتلوه ، وأتوا برأسه إلیه ! ثم خرجتم علی بنی أمیة فقتلوکم وصلبوکم علی جذوع النخل ، وأحرقوکم بالنیران ونفوکم من البلدان حتی قتل یحیی بن زید بخراسان ، وقتلوا رجالکم وأسروا الصبیة والنساء وحملوهم بلا وطاء فی المحامل ، کالسبی المجلوب إلی الشأم ، حتی خرجنا علیهم فطلبنا بثأرکم وأدرکنا بدمائکم ، وأورثناکم أرضهم ودیارهم وسنینا سلفکم وفضلناه ، فاتخذت ذلک علینا حجة وظننت أنا إنما ذکرنا أباک وفضلناه للتقدمة منا له علی حمزة والعباس وجعفر ، ولیس ذلک کما ظننت ، ولکن خرج هؤلاء من الدنیا سالمین متسلماً منهم مجتمعاً علیهم بالفضل ، وابتلی أبوک بالقتال والحرب ، وکانت بنو أمیة تلعنه کما

ص: 309

تلعن الکفرة فی الصلاة المکتوبة فاحتججنا له وذکرناهم فضله وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه ، ولقد علمت أن مکرمتنا فی الجاهلیة سقایة الحجیج الأعظم وولایة زمزم فصارت للعباس من بین إخوته ، فنازعنا فیها أبوک فقضی لنا علیه عمر ، فلم نزل نلیها فی الجاهلیة والاسلام ، ولقد قحط أهل المدینة فلم یتوسل عمر إلی ربه ولم یتقرب إلیه إلا بأبینا حتی نعشهم الله وسقاهم الغیث ، وأبوک حاضر لم یتوسل به . ولقد علمت أنه لم یبق أحد من بنی عبد المطلب بعد النبی (ص) غیره ، فکان وراثه من عمومته . ثم طلب هذا الأمر غیر واحد من بنی هاشم فلم ینله إلا ولده ، فالسقایة سقایته ومیراث النبی له والخلافة فی ولده ، فلم یبق شرف ولا فضل فی جاهلیة ولا إسلام فی دنیا ولا آخرة إلا والعباس وارثه ومورثه ! وأما ما ذکرت من بدر ، فإن الاسلام جاء والعباس یموِّن أبا طالب وعیاله وینفق علیهم للأزمة التی أصابته ، ولولا أن العباس أُخرج إلی بدر کرهاً لمات طالب وعقیل جوعاً ، وللحسا جفان عتبة وشیبة ، ولکنه کان من المطعمین فأذهب عنکم العار والسبة ، وکفاکم النفقة والمؤونة ، ثم فدی عقیلاً یوم بدر . فکیف تفخر علینا وقد أعلناکم فی الکفر وفدیناکم من الأسر ، وحُزْنا علیکم مکارم الآباء ، وورثنا دونکم خاتم الأنبیاء ، وطلبنا بثأرکم فأدرکنا منه ما عجزتم عنه ، ولم تدرکوه لأنفسکم . والسلام علیک ورحمة الله ) .

أقول: فی هذه الرسائل مواضیع مهمة ، سیأتی بعضها ولایتسع المجال لاستیفائها:

منها ، غیاب نقاط لا بد أن تکون هذه الرسائل تضمنتها ولم یذکرها الرواة ، وهی مطالبة مهدی الحسنیین للمنصور ببیعته له أکثر من مرة ! فلا بد أن یکون ذکرها فی رسالته ، لأن أنصاره احتجوا بها علی المنصور ! والمتأمل فی جواب المنصور یشعر بأنه یجیب علی فقرات من رسالة محمد قد بترها الرواة !

ص: 310

ومنها ، احتجاج الحسنی علی المنصور بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوصی لعلی(علیه السّلام)وقد کان الحسنیون والعباسیون یحتجون به علی بنی أمیة لإثبات استحقاق بنی هاشم الخلافة !

ففی أول خطبة عند بیعة السفاح قال عمه داود بن علی: (أیها الناس ! الآن تقشعت حنادس الفتنة... وأخذ القوس باریها ، ورجع الحق إلی نصابه فی أهل بیت نبیکم ، أهل الرأفة بکم والرحمة لکم والتعطف علیکم... وإنه والله أیها الناس ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولی به من علی بن أبی طالب ، وهذا القائم خلفی ، فاقبلوا عباد الله ما آتاکم بشکر ). (تاریخ (الیعقوبی:2/350).

ومنها ، قول محمد الحسنی: ( لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء): وهو احتجاجٌ قوی علی العباسیین ، لأن أباهم العباس طلیق بعد أن أسره المسلمون فی بدر ، ولا حق لطلیق وابن طلیق فی الخلافة ، کما قال عمر بن الخطاب ، وقد أوردنا مصادره فی المقدمة . وهی نقطة لم یجب علیها المنصور !

ومنها ، ضعف إشکال الحسنی علی المنصور بأن بناءه القبة الخضراء ببغداد مضاهاة للکعبة ! قال فی خطبته فی أهل المدینة: ( کان من أمر هذا الطاغیة عدو الله أبی جعفر ما لم یخف علیکم من بنائه القبة الخضراء ، التی بناها معاندةً لله فی ملکه ، وتصغیراً للکعبة الحرام...). فالإشکال من هذه الناحیة غیر وارد ، نعم یرد علی جبایة أموال المسلمین بغیر حق وإنفاقها علی البذخ والترف !

ومنها ، قوة إشکال المنصور علی مهدی الحسنیین بافتخاره بآبائه من أهل النار وأنه: ( ابن أرفع الناس درجة فی الجنة وأهونهم عذاباً فی النار... وابن خیر أهل الجنة وابن خیر أهل النار) فهو إشکال قوی إذ لا یصح الفخر بأهل النار ؟! وقد کذب ابن یونس النباطی(رحمه الله)نسبة هذا الکلام الی مهدی الحسنیین فقال: ( هذا کذب صریح ، وکیف یفتخر برجل کافر یعذب بنوع من العذاب). (الصراط المستقیم:1/336).

لکن فاته أن عبد الله بن الحسن وأولاده ومنهم المتسمی بالمهدی ، أقرب الی التسنن منهم الی التشیع ، وقد تقدم اتهام أبیهم عبدالله للإمام الحسین(علیه السّلام)بأنه کان

ص: 311

علیه أن یجعل الإمامة فی أکبر أبناء أخیه الحسن(علیه السّلام)ولکنه لم یعدل فجعلها لابنه الإمام زین العابدین(علیه السّلام) ! وجواب الإمام الصادق(علیه السّلام)له .

فهم یرون أن خلافة علی(علیه السّلام)ثبتت بالنص ، وکذا خلافة الحسن والحسین(علیهماالسّلام) وبعده یجب أن تکون الخلافة فی أکبر أبناء الحسن(علیه السّلام)بمقیاس قبلی لا بالنص !

وهم یتولون أبا بکر وعمر ، مع أنهما برأیهم غاصبان للخلافة ! ویوافقون أتباع الخلافة القرشیة علی أن أجدادهم أبا طالب وعبد المطلب(علیهماالسّلام)کانا کافرین ! ویظهر أنهم تأثروا بالحدیث الذی وضعه رواة السلطة بعد معاویة ، أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یشفع لأبی طالب فلا تؤثر شفاعته فیوضع فی ضحضاح من نار ! ولو کان هذا الحدیث معروفاً فی زمن معاویة لاحتج به علی علی(علیه السّلام) ! ولکنه ظهر بعده ، ورده الأئمة(علیهم السّلام) .

وسبب وضعه أن الحکومات رأت أنها إذا اعترفت بإیمان أبی طالب وعبد المطلب لکانا وارثین لإسماعیل وإبراهیم(علیهماالسّلام)فیکون النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وارثاً لهما ، ثم علی(علیه السّلام) . فقالت إن عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وجده کانا کافرین لتنفی وراثته لهما .

ومنها ، أن المنصور أعلن فی رسائله وخطبه نصبه وعداءه لعلی(علیه السّلام)وإنکار وصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )له ، بل طعن فیه وفی الإمام الحسن(علیهماالسّلام) ! کما سیأتی ، کما یأتی نکثه للعهود والمواثیق ، ومنها عهده وأمانه لأبی مسلم ، وعهده لعمه عبد الله بن علی.

3- وأوصی مهدی الحسنیین الی أخیه إبراهیم ثم الی ابن زید

(ولما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن وزحف إلیه عیسی بن موسی ، جمع إلیه وجوه الزیدیة وکل من حضر معه من أهل العلم ، وعهد إلیه أنه إن أصیب فی وجهه ذلک ، فالأمر إلی أخیه إبراهیم ، فإن أصیب إبراهیم ، فالأمر إلی عیسی بن زید ). (مقاتل الطالبیین/270). (کان عیسی والحسین ابنا زید بن علی مع محمد وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن فی حروبهما ، من أشد الناس قتالاً وأنفذهم بصیرة ، فبلغ ذلک عنهما أبا جعفر(المنصور) فکان یقول: مالی ولابنیْ زید ، وما ینقمان علینا؟! ألم نقتل قتلة أبیهما ونطلب بثأرهما ، ونشفی صدورهما من عدوهما؟!). (مقاتل الطالبیین/269).

ص: 312

4- ثورة ابراهیم بن الحسن المثنی فی البصرة

اشارة

(أرسله أخوه محمد النفس الزکیة إلیها ، فاستولی علیها فبلغه الخبر بمقتل أخیه یوم العید غرة شهر شوال ، سنة 45 ، فخطب الناس ونعاه إلیهم ، وأنشد:

سأبکیک بالبیض الصفاح وبالقنا فإنَّ بها ما یدرک الطالب الوترا ولست کمن یبکی أخاه بعبرة یُعَصِّرها من ماء مقلته عصرا ولکن أروی النفس منی بغارة تَلَهَّبُ فی قصریْ کتاتیبها جمرا وإنا أناسٌ لا تفیض دموعنا علی هالک منا وان قصم الظهرا فبایعوه بالإمامة واستولی علی واسط والأهواز وکورها وما والاها من بلاد فارس ونهض لقتال المنصور). (سمط النجوم:4/177، وابن حمدون/494) .

(فأظهر محمد دعوته بالمدینة واستولی علیها وعلی مکة ، واستولی أخوه إبراهیم علی البصرة ، واستولی أخوهما إدریس علی بعض بلاد المغرب ، وکان ذلک فی ولایة المنصور ، وأنفذ المنصور عیسی بن موسی فی جیش کثیف لحرب محمد فقتلوا محمداً فی المعرکة ، ثم نفذ المنصور أیضاً عیسی المذکور لحرب إبراهیم فقتله بباخمری ، قریة من قری الکوفة). (الوافی بالوفیات:3/243).

وشخصیته وثورته(رحمه الله)تستحق کتاباً خاصاً ، وهذه خلاصة لها من: تاریخ الطبری:6/255، وتاریخ الذهبی:9/36 ، ومقاتل الطالبیین/210:

دخل إبراهیم البصرة فأسرع أهل العراق والأهواز وفارس الی بیعته !

یتعجب الباحث لهذه السرعة والإجماع من فئات الناس علی بیعته ، حتی صار المنصور کالمعزول فی جزیرة ! قال الطبری:6/257: (قال الحجاج بن قتیبة: لقد دخلت علی أمیر المؤمنین المنصور فی ذلک الیوم مسلماً وما أظنه یقدر علی رد السلام !

ص: 313

لتتابع الفتوق والخروق علیه والعساکر المحیطة به ، ولمائة ألف سیف کامنة له بالکوفة ، بإزاء عسکره ینتظرون به صیحة واحدة فیثبون ! فوجدته صقراً أحوزیاً مشمراً ، قد قام إلی ما نزل به من النوائب یعرکها ویمرسها)!

وفی تاریخ الذهبی:9/38: (وقیل إن المنصور لما بلغه خروج إبراهیم قال: ما أدری ما أصنع؟ ما فی عسکری إلا ألفا رجل ! فرقت عساکری ، مع ابنی بالری ثلاثون ألفاً ، ومع محمد بن أشعث بأفریقیة أربعون ألفاً ، ومع عیسی بن موسی بالحجاز ستة آلاف، ولئن سلمت من هذه لا یفارقنی ثلاثون ألف فارس ، ثم لم ینشب أن قدم علیه عیسی من الحجاز منصوراً فوجهه علی الناس لحرب إبراهیم ).

وتزاحم الفقهاء والرواة والعباد علی تأییده والثورة علی المنصور !

وسبب ذلک: شعور الأمة بأن موجة الظلم الأموی لأهل البیت(علیهم السّلام)کانت موجهة ضد بنی علی وفاطمة(علیهماالسّلام)، فالخلافة یجب أن تکون لهم وقد قفز بنو عمهم العباس وسرقوا الخلافة ، مع أنهم کانوا بایعوا الحسنیین !

ومن جهة أخری رأوا أن سلوک المنصور هو نفس سلوک جبابرة الأمویین !

قال الذهبی المتعصب فی تاریخه:9/36: ( وقد جرت لإبراهیم أمور فی اختفائه ، وربما وقع به بعض الأعوان فیصطنعه ویطلقه لما یعلم من جبروت أبی جعفر ، ثم اختفی بالبصرة فجعل یدعو الناس فیستجیبون له لشدة بغضهم للمنصور لبخله وعسفه ! قال ابن سعد: لما ظهر محمد بن عبد الله وغلب علی الحرمین وجه أخاه إبراهیم إلی البصرة فدخلها فی أول رمضان من سنة خمس فغلب علیها ، وبیض أهل البصرة ونزعوا السواد ، وخرج معه من العلماء جماعة کثیرة ).

وکان بشیر الرحال الزاهد المعروف ، یعرِّض بالمنصور فی خطبه ویقول: (علیک أیها المنبر لعنة الله وعلی من حولک ، فوالله لولاهم ما نفذت لله معصیة ، وأقسم

ص: 314

بالله لو یطیعنی هؤلاء الأبناء حولی لأقمت کل امرئ منهم علی حقه وصدقه قائلاً للحق أو تارکاً له ، وأقسم بالله لئن بقیت لأجهدن فی ذلک جهدی أو یریحنی الله من هذه الوجوه المشوهة المستنکرة فی الاسلام .

أیها القائل بالأمس: إن ولینا عدلنا ، وفعلنا وصنعنا ، فقد ولیت فأی عدل أظهرت؟ وأی جور أزلت؟ وأی مظلوم أنصفت ؟ آه . ما أشبه اللیلة بالبارحة ! إن فی صدری حرارة لا یطفیها إلا بَرْدُ عَدْلٍ ، أو حَرُّ سَنَان ). (مقاتل الطالبیین/227) .

وعقد أبو الفرج فی مقاتل الطالبیین/235 ، فصلاً بعنوان: (تسمیة من خرج مع إبراهیم) هذه خلاصته: قال سلام بن أبی واصل الحذاء لولده: یا بنی إن إبراهیم قد ظهر بالبصرة ، فابتع لی عمامة صوف وقباء وسراویل ، فشخص هو وثلاثة رهط معه حتی لحقوا بإبراهیم بالبصرة ، فقال له إبراهیم إن بیت المال ضائع فاکفناه ، فولاه بیت المال . خرج

فطر بن خلیفة مع إبراهیم وکان یومئذ شیخاً کبیراً ، وعیسی بن أبی إسحاق السبیعی ، وأبو خالد الأحمر ، مصطحبین متنکرین مع الحاج علیهم جباب الصوف وعمائم الصوف ، یسوقون الجمال فی زی الجمالین ، حتی أمنوا فعدلوا إلی إبراهیم ، وکانوا معه حتی قتل .

وشهد معه حمزة بن عطاء البرنی ، وعبد الله بن جعفر المدائنی ، وهو والد علی بن المدائنی ، وخلیفة بن حسان الکیال ، وکان أفرس الناس .

خرج معه هارون بن سعد فقال له: استکفنی أهم أمرک إلیک ، فاستکفاه واسطاً واستعمله علیها . قال أبو نعیم: والذی رواه الأعمش عن أبی عمرو الشیبانی إنما سمعه من هارون بن سعد . وکان شیخاً کبیراً قد انحنی علی دابته ، فدخل واسطاً وهرب منه أصحاب أبی جعفر فبایعه أهل واسط وتبعه الخلق ولم یتخلف أحد من الفقهاء ولم یبق أحد من أهل العلم إلا تبعه وکان منهم عواد بن العوام ،

ص: 315

وإسحاق بن یوسف الأزرق ، ویزید بن هارون ومسلم ابن سعید ، والأصبغ بن زید ، وهشیم ، وکان موقف هشیم فی حروبه مشهوراً وقتل ابنه معاویة وأخوه الحجاج بن بشیر فی بعض الوقائع .

وخطب هارون بن سعد الناس ونعی علی أبی جعفر أفعاله وقتله آل رسول الله وظلمه الناس ، وأخذه الأموال ووضعها فی غیر مواضعها ، وأبلغ فی القول حتی أبکی الناس ورقت لقوله قلوبهم ، فاتَّبعه عباد بن العوام ، ویزید بن هارون وهشیم بن بشیر ، والعلاء بن راشد . فلما قتل إبراهیم انحدر هارون بن سعد إلی البصرة ، فبلغنا أنه مات بها حین دخلها رحمه الله ورضی عنه .

وشهد معه العوام بن حوشب یومئذ وهو شیخ کبیر ، وکان یحمل الرایة ، وأسامة بن زید ، وکان یقول: رمیت فی هؤلاء القوم یعنی المسوِّدة ثمانیة عشر سهماً ، ما سرنی أنی رمیت بها أهل بدر مکانهم .

خرج مع إبراهیم أبو العوام القطان واسمه عمران بن داود ، وهو من أصحاب الحسن البصری . وهرب عباد بن العوام ، فهدمت داره وانقضت جموعه ولم یزل متواریا حتی مات أبو جعفر .

وانضم الیه عبد الواحد بن زیاد وأخذ بلدة فهرب والیها وخلف فی بیت مالها سبعین ألف درهم فأخذها عبد الواحد ، فکانت أول ما قدم به علی إبراهیم .

وبیَّضَ معه أی لبس البیاض ضد سواد العباسیین ، أیوب بن سلیمان وهو محدث راو ، روی عنه الواسطیون وسلیمان بن أبی شیخ .

وکان أبو حنیفة یجهر فی أمر إبراهیم جهراً شدیداً ویفتی الناس بالخروج معه.

حتی خاف تلمیذه من المنصور فقال له: والله ما أنت بمنته عن هذا حتی نؤتی فتوضع فی أعناقنا الحبال... سمعت أبا حنیفة ورجلان یستفتیانه فی الخروج مع

ص: 316

إبراهیم وهو یقول: أخرجا.. ما یقعدکم ؟! هی بدر الصغری.. وقال له أبو إسحاق الفزاری: ما اتقیتَ الله حیث أفتیت أخی بالخروج مع

إبراهیم بن عبد الله بن الحسن حتی قتل ! فقال: قَتْل أخیک حیث قُتل ، یعدل قتله لو قتل یوم بدر ، وشهادته مع إبراهیم خیر له من الحیاة ! قال له: ما منعک أنت من ذاک ؟! قال: ودائع للناس کانت عندی . وجاءت امرأة إلی أبی حنیفة أیام إبراهیم فقالت: إن ابنی یرید هذا الرجل وأنا أمنعه فقال: لا تمنعیه .

کتب أبو حنیفة إلی إبراهیم یشیر علیه أن یقصد الکوفة لیعینه الزیدیة وقال له: إئتها سراً فإن من هاهنا من شیعتکم یُبَیِّتُونَ أبا جعفر فیقتلونه أو یأخذون برقبته فیأتونک به ! وکتب أبو حنیفة إلی إبراهیم بن عبد الله لما توجه إلی عیسی بن موسی: إذا أظفرک الله بعیسی وأصحابه فلا تسر فیهم سیرة أبیک فی أهل الجمل ، لم یقتل المنهزم ولم یأخذ الأموال ولم یتبع مدبراً ولم یذفف علی جریح ، لأن القوم لم یکن لهم فئة ، ولکن سر فیهم بسیرته یوم صفین فإنه سبی الذریة وذفف علی الجریح وقسم الغنیمة ، لأن أهل الشام کانت لهم فئة ، وکانوا فی بلادهم . فظفر أبو جعفر بکتابه فسیره وبعث إلیه فأشخصه ، وسقاه شربة فمات منها ودفن ببغداد . دعا أبو جعفر أبا حنیفة إلی الطعام فأکل معه ثم استسقی فسقی شربة عسل مجدوحة وکانت مسمومة فمات من غد ، ودفن فی بغداد فی المقابر المعروفة بمقابر الخیزران . (بایع أبو حنیفة المنصور وکان معه سنوات ، ثم یظهر أنه قتله ) !

وخرج معه عبد ربه بن یزید وکان شیخاً کبیراً أبیض الرأس واللحیة . وخرج معه نصر بن ظریف فأصابت یده جراحة فعطلتها ، ثم انهزم لما قتل إبراهیم فاستخفی . وشهد معه من آل سلمة بن المحبق: عبد الحمید بن سنان بن سلمة بن المحبق ، والحکم بن موسی بن سلمة ، وعمران بن شبیب بن سلمة .

ص: 317

رأیت مسلم بن سعید والأصبغ بن زید مع هارون بن سعد ، علیهما سیفان أیام إبراهیم بن عبد الله بواسط .

کان هشام بن حسان کان یذکر أبا جعفر فیقول: اللهم أهلک أبا الدوانیق !

سمعت الأعمش یقول أیام إبراهیم: ما یقعدکم؟ أما أنی لو کنت بصیراً لخرجت ! قتل إبراهیم وأنا بالکوفة فأتیت الأعمش بعد قتله فقال: أهاهنا أحد تنکرونه ؟ قلنا لا: قال: فإن کان هاهنا أحد تنکرونه فأخرجوه إلی نار الله ! ثم قال: أما والله لو أصبح أهل الکوفة علی مثل ما أری ، لسرنا حتی ننزل بعقوته یعنی أبا جعفر ! فإذا قال لی: ما جاء بک یا أعمش ؟ قلت: جئت لأبید خضراءک أو تبید خضرائی کما فعلت بابن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟!

لما قتل إبراهیم بن عبد الله قال سفیان الثوری: ما أظن الصلاة تقبل إلا أن الصلاة خیر من ترکها . وأما المفضل الضبی فکان أکثر إقامة إبراهیم عنده حتی خرج ، فکان لا یزال یدس ویحتال لکل من أمکنه ان یحوزه إلی مذهبه .

خرج مع إبراهیم أبو خالد الأحمر ، وأبو داود الطهوی . ومعاذ بن نصر العنبری . وأبو محمد البریدی المؤدب ،

وجنادة بن سوید وکان قائد ثلاثمائة . وخرج معه هشیم وقتل معه ابنه معاویة ، والأزرق بن تمة الصریمی وکان متقلداً سیفین ، وکان من أصحاب عمرو بن عبید . وخرج معه سفیان مؤمل ، وحنبص ومؤمل , وقتل معه صاحبان کانا لسفیان الثوری کانا من خاصته .

وکان خالد بن عبد الله الواسطی من أهل السنة والجماعة ، خرج الناس مع إبراهیم بن عبد الله بن الحسن غیره ، فإنه لزم بیته..

وتقدم أن مالک بن أنس أفتی بالخروج مع محمد أخ إبراهیم بن عبد الله .

أقول: یدلک هذا علی أن الأمة کانت بعد بنی أمیة ترید بنی علی وفاطمة(علیهماالسّلام)،

ص: 318

وأن عامة فقهائها وشخصیاتها حتی الذین کانوا یصانعون بنی أمیة کانوا بقلوبهم أو بقلوبهم وسیوفهم مع بنی علی(علیه السّلام)ضد بنی العباس !

انتصر إبراهیم ، فتهیأ المنصور للهرب وهو یقول: أین قول صادقهم ؟!

(أحصی دیوان إبراهیم من أهل البصرة مائة ألف) . (مقاتل الطالبیین/253، وغیره).

قال المنصور: ( إن إبراهیم قد عرف وعورة جانبی وصعوبة ناحیتی وخشونة قرنی ، وإنما جرأه علی المسیر إلی من البصرة اجتماع هذه الکوَر المطلة علی عسکر أمیر المؤمنین وأهل السواد معه علی الخلاف والمعصیة ! وقد رمیت کل کورة بحجرها وکل ناحیة بسهمها ، ووجهت إلیهم الشهم النجد المیمون المظفر عیسی بن موسی ، فی کثرة

من العدد والعدة ). (الطبری:6/256) .

(کنت وصیفاً أیام حرب محمد أقوم علی رأس المنصور بالمذبة ، فرأیته لما کثف أمر إبراهیم وغلظ أقام علی مصلی نیفاً وخمسین لیلة ینام علیه ویجلس علیه ، وعلیه جبة ملونة قد اتسخ جیبها وما تحت لحیته منها فما غیَّر الجبة ولا هجر المصلی حتی فتح الله علیه ، إلا أنه کان إذا ظهر للناس علا الجبة بالسواد وقعد علی فراشه ، فإذا بَطَنَ (داخل قصره)عاد إلی هیئته ، قال: فأتته ریسانة (التی تدبر له النساء) فی تلک الأیام وقد أهدیت له امرأتان من المدینة ، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عیسی بن طلحة بن عبید الله ، والأخری أم الکریم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسید بن أبی العیص ، فلم ینظر إلیهما ، فقالت: یا أمیر المؤمنین إن هاتین المرأتین قد خبثت أنفسهما وساءت ظنونهما ، لما ظهر من جفائک لهما ! فنهرها وقال: لیست هذه الأیام من أیام النساء ! لا سبیل لی إلیهما حتی أعلم أرأس إبراهیم لی أم رأسی لإبراهیم ! وذکر أن محمداً وجعفراً ابنی سلیمان(عمه والی

ص: 319

البصرة) کتبا إلی أبی جعفر یعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر فی قطعة جراب ولم یقدرا علی شئ یکتبان فیه غیر ذلک ! فلما وصل الکتاب إلیه فرأی قطعة جراب بید الرسول قال: خلع والله أهل البصرة مع إبراهیم ! ).(الطبری:6/255).

(وأقبل إبراهیم ومعه جماعة کثیرة من أفناء الناس أکثر من جماعة عیسی بن موسی ، فالتقوا بباخمری وهی علی ستة عشر فرسخاً من الکوفة ، فاقتتلوا بها قتالاً شدیداً وانهزم حمید بن قحطبة ، وکان علی مقدمة عیسی بن موسی ، وانهزم الناس معه فعرض لهم عیسی بن موسی یناشدهم الله والطاعة فلا یلوون علیه ومروا منهزمین ، وأقبل حیمد بن قحطبة منهزماً فقال له عیسی بن موسی: یا حمید الله الله والطاعة ! فقال: لا طاعة فی الهزیمة ، ومر الناس کلهم حتی لم یبق منهم أحد بین یدی عیسی بن موسی ).(الطبری:6/260).

(ووصل أوائل المنهزمین من عسکر المنصور إلی الکوفة ، فتهیأ المنصور للهرب وأعدَّ النجائب لیذهب إلی الری ، فیقال إن نوبخت المنجم دخل علیه فقال الظفر لک وسیقتل إبراهیم فلم یقبل منه.. فبات طائر اللب ، فلما کان الصباح أتی برأس إبراهیم ! فتمثل بیت معقر البارقی:

فألقت عصاها واستقرَّ بها النوی کما قَرَّ عیناً بالإیاب المسافرُ ). (تاریخ الذهبی:9/42) .

وقال الطبری:6/230: (لما التقوا هزم عیسی وأصحابه هزیمة قبیحة ، حتی دخل أوائلهم الکوفة ، وأمر أبو جعفر باعداد الإبل والدواب علی جمیع أبواب الکوفة لیهرب علیها.. حتی جعل یقول: ویلک یا ربیع ! فکیف ولم ینلها أبناؤنا ! فأین إمارة الصبیان؟!). یقصد بقوله لحاجبه الربیع (الشیعی): أین قول إمامک جعفر الصادق وأبیه(علیهماالسّلام)بأن الحسنیین لاینالون الخلافة، وستکون لنا حتی ینالها صبیاننا؟!.

( لما اتصل بالمنصور انهزام عسکره وهو بالکوفة اضطرب اضطراباً شدیداً

ص: 320

وجعل یقول: فأین قول صادقهم؟! أین لعب الغلمان والصبیان؟! ثم جاءه بعد ذلک خبر الظفر ، وجیئ برأس إبراهیم فوضعه فی طشت بین یدیه والحسن بن زید بن الحسن بن علی(علیه السّلام)واقف علی رأسه علیه السواد فخنقته العبرة والتفت إلیه المنصور وقال: أتعرف رأس من هذا ؟ فقال: نعم:

فتی کان تحمیه من الضیم نفسه

وینجیه من دار الهوان اجتنابها

فقال المنصور: صدقت ولکن أراد رأسی فکان رأسه أهون علیَّ . ولوددت أنه فاء إلی طاعتی). (عمدة الطالب/110) .

(سألت أبا صلابة: کیف قتل إبراهیم؟ قال: إنی لأنظر إلیه واقفاً علی دابة محمد بن یزید ، ینظر إلی أصحاب عیسی وقد ولوا ومنحوه أکتافهم ونکص عیسی برایته القهقری وأصحابه یقتلونهم ، وعلی إبراهیم قباء زرد ، فأذاه الحر فحل أزرار القباء فشال الزرد حتی سال علی یدیه وحسر عن لبته ، فأتته نشابة عاثرة فأصابت لبته ! فرأیته اعتنق فرسه وکر راجعاً وأطافت به الزیدیة). (مقاتل الطالبیین/231).

(فلما أصبح یوم الثلاثاء أمر برأس إبراهیم فنصب بالسوق ، فرأیته منصوباً مخضوباً بالحناء..فخرجت ومنادی أبی جعفر ینادی: هذا رأس الفاسق ابن الفاسق فرأیت رأس إبراهیم فی سفط أحمر فی مندیل أبیض ، قد غلف بالغالیة فنظرت إلی وجه رجل سائل الخدین خفیف العارضین أقنی ، قد أثر السجود بجبهته وأنفه وشخص ابن أبی الکرام برأسه إلی مصر). (مقاتل الطالبیین/232) .

سهم عاثر لزید بن علی(رحمه الله)، وسهم عاثر لابنه یحیی(رحمه الله)، وسهم عاثر لإبراهیم !

فی عمدة الطالب/110: (وانهزم عسکر عیسی بن موسی ، فیحکی أن إبراهیم نادی: لا یتبعن أحد منهزماً.. ورفع إبراهیم البرقع عن وجهه فجاءه سهم عاثر فوقع علی جبهته فقال: الحمد لله ، أردنا أمراً وأراد الله غیره أنزلونی ).

ص: 321

(وجاء سهم بینهم فأصاب إبراهیم فسقط ، وأسنده بشیر الرحال إلی صدره حتی مات إبراهیم وهو فی حجره ، وقتل بشیر وإبراهیم علی تلک الحال فی حجره ، وهو یقول: وَکَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) . (الطبری:6/230).

وقال الطبری:6/261: (وجعلوا یقتتلون یومهم ذلک ، إلی أن جاء سهم عاثر لا یدری من رمی به ، فوقع فی حلق إبراهیم بن عبد الله فنحره ، فتنحی عن موقفه وقال أنزلونی فأنزلوه عن مرکبه وهو یقول: وکان أمر الله قدراً مقدوراً . أردنا أمراً وأراد الله غیره ! فأنزل إلی الأرض وهو مثخن واجتمع علیه أصحابه وخاصته یحمونه ویقاتلون دونه ورأی حمید بن قحطبة اجتماعهم فأنکرهم ، فقال لأصحابه شدوا علی تلک الجماعة حتی تزیلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا علیه ! فشدوا علیهم فقاتلوهم أشد القتال حتی أفرجوهم عن إبراهیم وخلصوا إلیه فحزوا رأسه ، فأتوا به عیسی بن موسی فأراه ابن أبی الکرام الجعفری فقال: نعم هذا رأسه ، فنزل عیسی إلی الأرض فسجد

وبعث برأسه إلی أبی جعفر المنصور . وکان قتله یوم الإثنین لخمس لیال بقین من ذی القعدة سنة 145 ، وکان یوم قتل ابن ثمان وأربعین سنة ، ومکث منذ خرج إلی أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أیام).

أقول: ذکرنا أن المفهوم من أحادیث الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)أن الله تعالی أراد أن یحفظ کرامة المعصومین من ذریة الحسین(علیه السّلام)فلا تنجح ثورات غیرهم من ذریة علی وفاطمة(علیهم السّلام) . لذلک قد کان القدر الإلهی ینتظر أن یلوح النصر لإبراهیم لیختم حیاته . وکان المنصور وإبراهیم یعرفان ذلک جیداً ، ولذلک کان المنصور یتعجب من هزیمته ویقول أین قول صادقهم ؟ أما إبراهیم(رحمه الله)فقال: أردنا شیئاً وأراد الله غیره !

کان إبراهیم فارساً شجاعاً ملتزماً بقیَم ، بعکس العباسیین والأمویین وبعکس أخیه !

(أن محمداً وإبراهیم کانا عند أبیهما ، فوردت إبل لمحمد فیها ناقة شرود ولا

ص: 322

یرد رأسها شئ فجعل إبراهیم یحد النظر إلیها فقال له محمد: کأن نفسک تحدثک أنک رادها ؟ قال: نعم ، قال: فإن فعلت فهی لک ، فوثب إبراهیم فجعل یتغیر لها ویتستر بالإبل ، حتی إذا أمکنته جاءها وأخذ بذنبها ، فاحتملته وأدبرت تمخض بذنبها حتی غاب عن عین أبیه ، فأقبل أبوه علی محمد وقال له: قد عرضت أخاک للهلکة . فمکث هویاً ثم أقبل مشتملاً بإزاره حتی وقف علیهما . فقال له محمد: کیف رأیت؟ زعمت أنک رادها وحابسها . قال: فألقی ذنبها وقد انقطع فی یده . فقال ما أعذر من جاء بهذا ). (مقاتل الطالبیین/110).

وکان المنصور من أول خلافته یبحث عن إبراهیم وأخیه محمد ، فسمع یوماً بأن إبراهیم دخل الموصل فذهب الیها یبحث عنه ! قال الذهبی فی تاریخه:9/36: (وقد جرت لإبراهیم أمور فی اختفائه ، وربما وقع به بعض الأعوان فیصطنعه ویطلقه لما یعلم من جبروت أبی جعفر... وعن إبراهیم قال: اضطرنی الطلب بالموصل حتی جلست علی موائد أبی جعفر ! وکان قد قدمها یطلبنی فتحیرت ، ولفظتنی الأرض فجعلت لا أجد مساغاً ، ووضع علیَّ الطلب والأرصاد ، ودعا یوماً الناس إلی غدائه فدخلت فی الناس وأکلت ثم خرجت ، وقد کف الطلب ) !

(أتاه قوم من الدهجرانیة أصحاب الضیاع فقالوا: یا بن رسول الله إنا قوم لسنا من العرب ولیس لأحد علینا عقد ولا ولاء ، وقد أتیناک بمال فاستعن به. فقال: من کان عنده مال فلیعن به أخاه ، فأما أن أخذه فلا ، ثم قال: هل هی إلا سیرة علی بن أبی طالب أو النار ؟! وقبض أنصاره علی عامل للمنصور وقالوا له: ( هات ما معک من مال الظلمة . قال: وأدخلونی إلی إبراهیم فرأیت الکراهیة من وجهه فاستحلفنی فحلفت فخلی سبیلی.. أخذ حمید بن القاسم عاملاً کان لأبی جعفر فقال له المغیرة: إدفعه إلیَّ قال: وما تصنع به؟ قال: أعذبه . قال: لا حاجة لی فی مال لا یؤخذ إلا بالعذاب ). (مقاتل الطالبیین/222).

ص: 323

وخالف إبراهیم فتوی أبی حنیفة له: ( لما انهزم أصحاب عیسی تبعتهم رایات إبراهیم فی آثارهم فنادی منادی إبراهیم: ألا لا تتبعوا مدبراً ) . (الطبری:6/262).

وقال له أحد قادته: (فدعنی أبیته فوالله لأشتتن جموعه ، فقال: إنی أکره القتل ! فقلت ترید الملک وتکره القتل) ! (الطبری:6/256).

واقترح علیه أبو حنیفة فی رسالته ، ثم قائد أن یذهب سراً الی الکوفة ویجمع أنصاره ویباغت أتباع المنصور: ( فقال: لا نأمن أن تجیبک منهم طائفة فتطأ خیل المنصور الصغیر والکبیر ، فتکون قد تعرضت لمأثم ! فقلت: خرجت لقتال المنصور وأنت تتوقی قتل الصغیر والکبیر ، ألیس قد کان رسول الله یوجه السریة فتقاتل فیکون فی ذلک نحو ما کرهت؟! فقال: أولئک مشرکون ، وهؤلاء أهل قبلتنا..

عن عبد الله بن جعفر المدینی قال: خرجنا مع إبراهیم إلی باخمری فلما عسکرنا أتانا لیلة من اللیالی فقال: إنطلق بنا نطیف فی عسکرنا ، قال فسمع أصوات طنابیر وغناء فرجع..وقال: ما أطمع فی نصر عسکر فیه مثل هذا !..

فإنا معشر ربیعة أصحاب بیات ، فدعنی أبیت أصحاب عیسی بیاتاً ؟ قال: إنی أکره البیات) . (تاریخ الذهبی:9/39).

المنصور ینتقم ویرسل رأس إبراهیم الی أبیه ثم یقتله والمحبوسین معه !

وقبل أن یرسل المنصور برأس إبراهیم الی الشیعة فی مصر لیرهبهم! أرسله الی أبیه وأقاربه فی سجنه ! (فوجه به المنصور مع الربیع إلیهم ، فوضع الرأس بین أیدیهم وعبد الله یصلی ، فقال له إدریس أخوه: أسرع فی صلاتک یا أبا محمد ، فالتفت إلیه وأخذ الرأس فوضعه فی حجره ، وقال له: أهلاً وسهلاً یا أبا القاسم ، والله لقد کنت من الذین قال الله عز وجل فیهم: الذین یوفون بعهد الله ولا ینقضون المیثاق... ثم التفت إلی الربیع فقال: قل لصاحبک: قد مضی من بؤسنا أیام ومن نعیمک أیام ، والملتقی القیامة . قال الربیع: فما رأیت المنصور قط أشد انکساراً منه

ص: 324

فی الوقت الذی بلغته الرسالة)! (مروج الذهب:928

، وتذکرة ابن حمدون/886 ، ووافی الصفدی:3/243 وفی المستطرف/2/596: فکان ذلک فألاً علی المنصور ، ولم یر بعد ذلک الیوم راحة) .

هذا ، وقد تقدم فی مطاردة المنصور للمهدی العباسی وأخیه إبراهیم ، حبس أبیهما مع جماعة من الحسنیین ، وقد قتل بعضهم وحبس الباقین ثلاث سنین ، ثم قتلهم ، وقتل غیرهم من الحسنیین والحسینیین .

وشمل انتقامه أنصار إبراهیم فی حملة وحشیة وقصص کثیرة ، وفی طلیعتهم أهل البصرة ! (فکتب إلی سلم بن قتیبة عامله بالبصرة یأمره بهدم دور من خرج مع إبراهیم بن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم ، فکتب إلیه: بأیهما أبدأ بالدور أم بالنخل یا أمیر المؤمنین؟ فکتب إلیه: لو قلت لک بالنخل لکتبت إلیَّ بماذا أبدأ بالشهریز أم بالبرنی ! وعزله وولی محمد بن سلیمان ). (شرح النهج:13/16).

( فلما قتل إبراهیم ، هرب أهل البصرة بحراً وبراً واستخفی الناس ، وقتل معه بشیر الرحال الأمیر ، وجماعة کثیرة ). (تاریخ الذهبی:9/42) .

المنصور ینتقم فیُحضر الإمام الصادق(علیه السّلام)ویضطهد کل أبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام)!

فی مقاتل الطالبیین/233: (حدثنا جعفر بن محمد(علیه السّلام)من فیه إلی أذنی قال: لما قتل إبراهیم بن عبد الله بن الحسن بباخمری ، حُسرنا عن المدینة ، ولم یُترک فیها منا محتلم ، حتی قدمنا الکوفة ، فمکثنا فیها شهراً ، نتوقع فیها القتل ! ثم خرج إلینا الربیع الحاجب فقال: أین هؤلاء العلویة؟ أدخلوا علی أمیر المؤمنین رجلین منکم من ذوی الحجی . قال: فدخلنا إلیه أنا والحسن بن زید ،

فلما صرت بین یدیه قال لی: أنت الذی تعلم الغیب؟ قلت: لا یعلم الغیب إلا الله . قال: أنت الذی یجبی إلیک هذا الخراج . قلت: إلیک یجبی یا أمیر المؤمنین الخراج . قال: أتدرون لم دعوتکم؟ قلت: لا . قال: أردت أن أهدم رباعکم وأروع قلوبکم وأعقر نخلکم ، وأترککم بالسراة لا

ص: 325

یقربکم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق فإنهم لکم مفسدة ! فقلت له: یا أمیر المؤمنین ، إن سلیمان أعطی فشکر وإن أیوب ابتلی فصبر وإن یوسف ظُلم فغفر ، وأنت من ذلک النسل ! قال فتبسم وقال: أعد علیَّ فأعدت ، فقال: مثلک فلیکن زعیم القوم وقد عفوت عنکم ووهبت لکم جرم أهل البصرة ، حدثنی الحدیث الذی حدثتنی عن أبیک عن آبائه عن رسول الله . قلت: حدثنی أبی عن آبائه عن علی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) صلة الرحم تعمر الدیار وتطیل الأعمار وإن کانوا کفاراً. فقال: لیس هذا . فقلت: حدثنی أبی عن آبائه عن علی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: الأرحام معلقة بالعرش تنادی: اللهم صل من وصلنی واقطع من قطعنی . قال: لیس هذا . فقلت: حدثنی أبی عن آبائه عن علی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إن الله عز وجل یقول: أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها إسماً من إسمی ، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته . قال: لیس هذا الحدیث . قلت: حدثنی أبی عن آبائه عن علی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن ملکاً من الملوک فی الأرض کان بقی من عمره ثلاث سنین ، فوصل رحمه فجعلها الله ثلاثین سنة . فقال: هذا الحدیث أردت ! أی البلاد أحب إلیک؟ فوالله لأصلن رحمی إلیکم. قلنا: المدینة، فسرحنا إلی المدینة وکفی الله مؤنته) .

أقول: معنی ذلک أن المنصور قد أسَرَ جمیع أبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام)حتی الصبیان وجاء بهم الی الکوفة . ویدل سؤاله للإمام الصادق(علیه السّلام): أنت تعلم الغیب ، وأنت یجبی الیک الخراج ؟ علی تجبره وتنمره ونسیانه جمیل الإمام وأبیه الباقر(علیهماالسّلام) بإخباره بأنه سیملک وأنه سیقتل المهدی الحسنی الذی کان یأخذ برکابه ویقول هذا مهدینا أهل البیت ! وسیقتل أخاه إبراهیم ! ویدل طلبه لحدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن صلة الرحم ، أنه یرید النفع المادی له بطول عمره ، والإمام(علیه السّلام)یعرف ذلک ، لکنه أراد أن یتم علیه الحجة فتلا علیه أحادیث أخری قبله ، فی صلة الرحم لعله یخفف طغیانه !

یدل رثاء إبراهیم علی أنه دخل فی ضمیر الأمة نموذجاً محبوباً من آل علی(علیه السّلام)

وصف أبو الفرج إحدی خطبه فی البصر فقال/224: (فکان الناس یعجبون من کلامه

ص: 326

هذا وهو یرید ما یرید. قال: ثم رفع صوته وقال: اللهم إنک ذاکر الیوم آباءً بأبنائهم وأبناء بآبائهم فاذکرنا عندک بمحمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). اللهم وحافظ الآباء فی الأبناء والأبناء فی الآباء إحفظ ذریة محمد نبیک(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . قال: فارتج المصلی بالبکاء).

ونکتفی من قصائد رثائه(رحمه الله)الکثیرة بأبیات من قصیدة غالب بن عثمان الهمدانی:

وقتیلُ باخَمْری الذی

نادی فأسمع کل شاهدْ

قاد الجنود إلی الجنود

تُزحِّف الأسد الحواردْ

فدعا لدین محمد

ودعوا إلی دین ابن صائد

فرماهم بلبان أبلق

سابق للخیل سائد

بالسیف یفری مصلتاً

هاماتهم بأشد ساعد

فأتیح سهم قاصد

لفؤاده بیمین جاحد

فهوی صریعاً للجبین

ولیس مخلوق بخالد

نفسی فداؤک من صریع

غیر ممهود الوسائد

وفدتک نفسی من غریب

الدار فی القوم الأباعد

فأولئک الشهداء والصبر

الکرام لدی الشدائد

ونجار یثرب والأباطح

حیث معتلج العقائد

أقوت منازل ذی طوی

فبطاح مکة فالمشاهد

أمست بلاقع من بنی الحسن بن فاطمة الأراشد

5- تفرَّقَ الحسنیون بعد مقتل إبراهیم فی العالم وأقاموا دولاً !

قال القاضی النعمان فی شرح الأخبار:3/331: ( وکان إدریس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب ، قد شهد مع الحسین بن علی فخ ، فلما کان من الأمر ما کان أخرجه مولی له یقال له: راشد ، مختفیاً حتی سار به إلی مصر ، ثم

ص: 327

أخرجه منهما حتی سار إلی المغرب فأظهره وعرفه أهل البلاد من البربر فأجابوه وتولوه ، فلم یزل فیهم أمره یقوی ویزید إلی أن بلغ ذلک الرشید فوجه إلیه مولی کان یسمی المهدی یقال له: شماخ ، وکان شیخاً مجرباً محکماً ، وأمره بأن یحتال علیه ویقتله ، فخرج شماخ حتی صار إلی المغرب وتوصل إلی إدریس بعلم الطب ، ولیس فی موضعه طبیب فقربه وأنس به أنساً شدیداً ، ثم شکا إلیه علته فصنع له دواء وجعل فیه سما فسقاه إیاه ، ومات وهرب شماخ فلم یُقدر علیه وصار إلی الرشید فأخبره وأجازه وأحسن إلیه ، وخلف إدریس حملاً بأم ولد ، فولدت ولداً سمی إدریس وبلغ وضبط الأمر ، وولد له فسماه محمد ، فتناسلوا وکثروا وهم فی المغرب) .

أقول: عندما ثار محمد وإبراهیم أرسلا مجموعة رسل من إخوتهما وآلهما ، الی مناطق العالم الإسلامی ، الشام ومصر وفلسطین والیمن وفارس وخراسان وطبرستان ، وغیرها ، وکان لکل واحد منهم نشاط وقصة . وبعد قتل محمد وإبراهیم لم یهدأ للحسنیین بال ، فواصلوا ثوراتهم ، وتلاقوا مع الزیدیین والحسینین من غیر الأئمة(علیهم السّلام) کما أنه لایزال منهم حکام الی عصرنا فی المغرب والأردن ،بینما انتهی حکم العباسیین . ولا یتسع المجال لتفصیل ذلک .

ص: 328

الفصل العاشر:العباس وأولاده..أسماء کبیرة وأفعال صغیرة

1- کان العباس وأولاده أتباعاً لعلی وأولاده(علیهم السّلام)

کانت الشخصیات البارزة من بنی هاشم فی زمن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): عمه أبو طالب بن عبد المطلب ، وولداه علی وجعفر ، وعمه حمزة بن عبد المطلب . وکان هؤلاء رضوان الله علیهم طلیعة المؤمنین برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، الباذلین أرواحهم فی سبیله .

وکان العباس بن عبد المطلب ، وعقیل بن أبی طالب وبقیة بنی هاشم (مع) النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )دفاعاً وعصبةً ، ما عدا أبی لهب ، فقد کان عدواً لدوداً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، متحمساً للعمل ضده مع زعماء قریش !

وعندما هاجر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی المدینة ، هاجر معه علی وحمزة وجعفر وغیرهم من بنی هاشم . وبقی العباس وعقیل وغیرهم ، وکانت قریش تعرف میلهم الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عصبةً له لکنها تحبسهم معها ، فعندما استنفرت لحرب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بدر خرج معها العباس، وکان أحد أغنیائها المطعمین لجیشها وهم: عتبة بن ربیعة ، والحارث بن عامر ، وطعیمة بن عدی ، وأبو البختری بن هشام ، وحکیم بن حزام ، والنضر بن الحارث بن کلدة ، وأبو جهل بن المغیرة ، وأمیة بن خلف ونبیه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهیل بن عمرو . (سیرة ابن هشام:2/488 ، والطبری:6/199).

ووقع العباس أسیراً بأیدی المسلمین فی بدر هو وعقیل ، ثم أطلقهما النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بفداء کبقیة أسری بدر (الخرائج:1/61) . وصح

عندنا أن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب کان ثالث الهاشمیین الذین أسروا فی بدر ، بینما کان أخوته الثلاثة عبیدة والطفیل

ص: 329

والحصین مسلمین هاجروا مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وکان عبیدة أحد أبطال الإسلام فی بدر ، واستشهد من جراحته فیها .

وصح عندنا أن آیة: یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِمَنْ فِی أَیْدِیکُمْ مِنَ الأَسْرَی إِنْ یَعْلَمِ اللهُ فِی قُلُوبِکُمْ خَیْراً یُؤْتِکُمْ خَیْراً مِمَّا أخذ مِنْکُمْ.. (الأنفال:70) نزلت فی العباس وعقیل ونوفل وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال للعباس: ( أفْدِ نفسک وأفد ابن أخیک ، فقال: یا محمد تترکنی أسأل قریشاً فی کفی ! فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابنی فی وجهی هذا شئ فأنفقیه علی ولدک ونفسک ! فقال له: یا ابن أخی من أخبرک بهذا ؟ فقال: أتانی به جبرئیل من عند الله عز وجل ! فقال: ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلا أنا وهی ! أشهد أنک رسول الله ، قال: فرجع الأسری کلهم مشرکین إلا العباس وعقیل ونوفل ). (الکافی:8/202).

وفدی العباس نفسه وعقیلاً من الأسر وعاد الی مکة ، حتی حاصرها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی العام الثامن للهجرة ، فتوسط لقریش عند النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وجاءه بأبی سفیان الی مرکز قیادته واتفقا علی خلع سلاح قریش ، والنداء بالأمان لمن ألقی سلاحه .

وبعد فتح مکة انتقل العباس بعائلته الی المدینة لیعیش فی ظل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکان علی(علیه السّلام)یحترمه لأنه عمه ، وکان هو یعرف حدوده ویقف دائماً خلف علی(علیه السّلام) ولم یفکر یوماً أن یتقدم علیه لأنه عضد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وصهره ، والمقرب عنده ، وبطل الإسلام

وابن أخیه أبی طالب رئیس بنی هاشم .

وکان العباس کغیره من بنی هاشم یتوجس من خطة قریش وإصرارها علی عزل بنی هاشم بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لذا بادر عند وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال لعلی(علیه السّلام): أبسط یدک أبایعک فیقال: عم رسول الله بایع ابن عم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقال علی(علیه السّلام): وأحَدٌ یطمع فیه غیرنا؟ فقال العباس: أظن والله سیکون ! (فتح الباری:8/109والطبقات:2/246).

وبعد أن تغلب أهل السقیفة علی سعد بن عبادة زعیم الخزرج ، بأن حرکوا علیه الأوس وهددوه بالقتل ، وأعلنوا من بیته رغماً عنه بیعة أبی بکر !

قرروا أن یستمیلوا أهم شخصیتین تقفان الی جنب علی(علیه السّلام)وهما العباس وأبو

ص: 330

سفیان ، فقد کان أبو سفیان یصیح: ( ما بال هذا الأمر فی أقل حی من قریش؟! والله لئن شئت لأملأنها علیه خیلاً ورجالاً... یا آل عبد مناف فیمَ أبو بکر من أمورکم؟! أین المستضعفان أین الأذلان علی والعباس؟! وقال: یا أبا حسن ، أبسط یدک حتی أبایعک . فزجره علیٌّ وقال: إنک والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنک والله طالما بغیت الإسلام شراً ).(تاریخ الطبری:2/449)

فقال عمر: (ما الرأی؟ قالوا: الرأی أن تلقی العباس بن عبد المطلب فتجعل له فی هذا الأمر نصیباً یکون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحیة علی بن أبی طالب ، ویکون حجة لکم علی علی إذا مال معکم ، فانطلق أبو بکر وعمر وأبو عبیدة بن الجراح والمغیرة حتی دخلوا علی العباس لیلاً... جئناک ونحن نرید أن نجعل لک فی هذا الأمر نصیباً یکون لک ، ویکون لمن بعدک من عقبک). (تاریخ الیعقوبی:2/124).

(فقال عمر لأبی بکر: إن هذا (أبو سفیان) قد قدم وهو فاعل شراً ، وقد کان النبی (ص) یستألفه علی الإسلام فدع له ما بیده من الصدقة ففعل ، فرضی أبو سفیان وبایعه) . (العقد الفرید:1005) . لکن أبا سفیان لم یقنع حتی عینوا ابنه عتبة والیاً علی الطائف ، وابنه یزیداً علی جیش الشام !

أما العباس فرضی بأقل من ذلک وجاری خلافة أبی بکر وعمر وکانا یکرمانه ویبجلانه باعتبار أنه عم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، لکنهم حرصوا علی إبعاده وأولاده وأی هاشمی عن المناصب المهمة ، لذلک بقی العباس محسوباً علی علی(علیه السّلام).

ولم تَخْلُ حیاة العباس مع أبی بکر وعمر من ذلة وطمع ، فقد ( بقی فی بیت مال عمر شئ بعدما قسم بین الناس ، فقال العباس لعمر وللناس: أرأیتم لو کان فیکم عم موسی أکنتم تکرمونه؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أحق به أنا عم نبیکم (ص) ! فکلم عمر الناس فأعطوه تلک البقیة التی بقیت) ! ( الطبقات:4/30 ).

لهذا قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عندما سئل أین کان بنو هاشم عند وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟

ص: 331

فقال إنه لم یبق منهم إلا عباس وعقیل وکانا ذلیلین عاجزین حدیثی عهد بالإسلام: (ولو کان لی حمزة وجعفر حیین ، ما سلمت هذا الأمر أبداً ، ولا قعد أبو بکر علی أعوادها ). (العقد النضید/153، وکتاب سلیم بن قیس/216).

بسبب ما تقدم ، ذم علماؤنا العباس ، قال السید الخوئی(قدسّ سرّه)فی معجمه:10/254 ، بعد أن ذکر روایات مدحه وذمه: ( وملخص الکلام أن العباس لم یثبت له مدح وروایة الکافی الواردة فی ذمه صحیحة السند ، ویکفی هذا منقصة له ، حیث لم یهتم بأمر علی بن أبی طالب(علیه السّلام) ، ولا بأمر الصدیقة الطاهرة(علیهاالسّلام)فی قضیة فدک ، معشار ما اهتم به فی أمر میزابه). یقصد میزابه الذی کان یصب فی الطریق فقلعه عمر فثار وغضب حتی اعتذر منه عمر وأصعده علی ظهره فأعاده ! (الطبقات:4/20) .

ویتضح من أخبار العباس علی أنه کان تاجراً بامتیاز قبل أی شئ آخر ! وقد مات(رحمه الله)هو وأبو سفیان فی خلافة عثمان . (الطبری:3/353) .

2- عبدالله بن العباس بن عبد المطلب

کان عمره عندما توفی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثلاث عشرة سنة ، وتوفی فی الطائف سنة ثمان وستین للهجرة وعمره اثنان وسبعون سنة (مجممع

الزوائد:9/285) ، وبرز أکثر من أبیه فی خلافة عمر ، وکان ذکیاً نابغاً ، فقربه عمر علی صغر سنه وأکرمه ، لکنه فقد مکانته فی زمن عثمان ، وإن بقی محترماً .

وعندما بایع المسلمون علیاً(علیه السّلام)کان عبدالله بن عباس الی جنبه ، کما کان فی خلافة عمر وأفضل ، وولاه علی(علیه السّلام)علی البصرة ، وأخاه عبیدالله علی الیمن ، وأخاه قثم علی مکة والطائف . (الطبری:4/69) .

وکان مع علی(علیه السّلام)فی حروبه لکنه لم یکن مقاتلاً ، بل سیاسیاً إدرایاً فقط ، وروی أنه خان إمامه والمسلمین فی أواخر خلافة أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، وسرق بیت مال البصرة وذهب الی مکة ! وأن علیاً(علیه السّلام)کتب له: ( أما بعد فإنی کنت أشرکتک فی

ص: 332

أمانتی ، وجعلتک شعاری وبطانتی ، ولم یکن رجل من أهلی أوثق منک فی نفسی لمواساتی وموازرتی وأداء الأمانة إلی . فلما رأیت الزمان علی ابن عمک قد کلب والعدو قد حرب ، وأمانة الناس قد خزیت ، وهذه الأمة قد فنکت وشغرت ، قلبت لابن عمک ظهر المجن، ففارقته مع المفارقین وخذلته مع الخاذلین وخنته مع الخائنین! فلا ابن عمک آسیت ولا الأمانة أدیت ! وکأنک لم تکن الله ترید بجهادک ، وکأنک لم تکن علی بینة من ربک ، وکأنک إنما کنت تکید هذه الأمة عن دنیاهم ، وتنوی غرتهم عن فیئهم ، فلما أمکنتک الشدة فی خیانة الأمة أسرعت الکرة وعاجلت الوثبة ، واختطفت ما قدرت علیه من أموالهم ، المصونة لأراملهم وأیتامهم ، اختطاف الذئب الأزلِّ دامیة المعزی الکسیرة ، فحملته إلی الحجاز رحیب الصدر بحمله غیر متأثم من أخذه! کأنک لا أباً لغیرک حدرت إلی أهلک تراثاً من أبیک وأمک ! فسبحان الله ، أما تؤمن بالمعاد ، أو ما تخاف نقاش الحساب ؟! أیها المعدود کان عندنا من ذوی الألباب ! کیف تسیغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنک تأکل حراماً وتشرب حراماً ؟ وتبتاع الإماء وتنکح النساء من مال الیتامی والمساکین والمؤمنین ، والمجاهدین الذین أفاء الله علیهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد . فاتق الله واردد إلی هؤلاء القوم أموالهم ، فإنک إن لم تفعل ثم أمکننی الله منک لأعذرن إلی الله فیک ! ولأضربنک بسیفی الذی ما ضربت به أحداً إلا دخل النار ! ووالله لو أن الحسن والحسین فعلاً مثل الذی فعلت ما کانت لهما عندی هوادة ، ولا ظفرا منی بإرادة ، حتی أخذ الحق منهما وأزیح الباطل من مظلمتهما . وأقسم بالله رب العالمین ما یسرنی أن ما أخذتَ من أموالهم حلالٌ لی أترکه میراثاً لمن بعدی . فصُخ رویداً فکأنک قد بلغت المدی ودفنت تحت الثری ، وعرضت علیک أعمالک بالمحل الذی ینادی الظالم فیه بالحسرة ویتمنی المضیع الرجعة ولات حین مناص). (نهج البلاغة:3/353).

وروی الکشی:1/279، أن علیاً(علیه السّلام)صعد المنبر وقال: (هذا ابن عم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی علمه وقدره یفعل مثل هذا ، فکیف یؤمَن مَن کان دونه ! اللهم إنی قد مللتهم فأرحنی منهم ، واقبضنی إلیک غیر عاجز ولا ملول) .

ص: 333

وقد أورد السید الخوئی(قدسّ سرّه)فی معجمه:11/245، الروایات التی تذم عبدالله بن عباس وضعَّفها ، کما ضعَّف الروایات المادحة لکنه اعتبر أن استفاضتها تغنی عن سندها ! وختم بقوله: (والمتحصل مما ذکرنا أن عبد الله بن عباس کان جلیل القدر مدافعاً عن أمیر المؤمنین والحسنین(علیهم السّلام)). انتهی.

أقول: لا شک أن عبدالله(رحمه الله)خیر أولاد العباس ، وله مواقف عظیمة فی نصرة أمیر المؤمنین والحسنین(علیهم السّلام)، لکنها کلها فی نصرة بنی هاشم مقابل غیرهم ، ولم أجد له موقفاً إیجابیاً عندما یصل الأمر الی آل عباس مقابل آل أبی طالب . فتجده یروی أحادیث فی إمامة علی والحسنین والأئمة الإثنی عشر(علیهم السّلام) ، وأنهم أئمة ربانیون فرض الله طاعتهم ، لکن لا تجدلذلک انعکاساً علی سلوکه ! لذلک أعتبره شیعیاً بالمعنی العام ، وأتوقف فی کل ما یرویه إذا اتصل بالعباس وأولاده .

وکان(رحمه الله)خصماً لدوداً لمعاویة ، ثم عدواً لدوداً لیزید ، ولعبدالله بن الزبیر ، وتوفی فی الطائف سنة ثمانیة وستین . (الحاکم:3/543).

وروی السید الخوئی(قدسّ سرّه):11/245 ، أنه قال عند وفاته: (اللهم إنی أحیا علی ما حیی علیه علی بن أبی طالب ، وأموت علی ما مات علیه علی بن أبی طالب).

3- علی بن عبدالله بن عباس ، جد الأملاک

سماه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أبا الأملاک: ( لمَّا وُلد جاء به أبوه إلی علی بن أبی طالب فقال: ما سمیته؟ فقال: أو یجوز لی أن أسمیه قبلک؟! فقال: قد سمیته باسمی وکنیته بکنیتی ، وهو أبو الأملاک). (تهذیب التهذیب:7/313 ، وأخبار الدولة العباسیة/134، والغارات:2/681، ووفیات الأعیان:3/274 ، والسیرة الحلبیة:1/107، وینابیع المودة:3/149).

وفی شرح النهج:7/47: (لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلی علی فأخذه وتفل فی فیه وحنکه بتمرة قد لاکها ، ودفعه إلیه وقال: خذ إلیک أبا الأملاک . هکذا الروایة الصحیحة وهی التی ذکرها أبو العباس المبرد فی الکتاب الکامل، ولیست الروایة

ص: 334

التی یذکر فیها العدد بصحیحة ، ولا منقولة من کتاب معتمد علیه (یقصد عدد أولاده الملوک) . وکم له(علیه السّلام)من الإخبار عن الغیوب الجاریة هذا المجری ، مما لو أردنا استقصاءه لکسرنا له کراریس کثیرة ، وکتب السیر تشتمل علیها مشروحة).

وقد کذَبَ العباسیون کثیراً فی صفته فقالوا:

(وکان آدم جسیماً له لحیة طویلة وکان عظیم القدم جداً ، لا یوجد له نعل ولا خف یستعمله ، وکان مفرطاً فی الطول ، إذا طاف کأنما الناس حوله مشاة وهو راکب من طوله ، وکان مع هذا الطول یکون إلی منکب أبیه عبد الله ، وکان عبد الله إلی منکب أبیه العباس... وتوفی علی بن عبد الله سنة ثمانی عشرة ومائة ). (وفیات الأعیان:3/277).

وأفاض فی الوفیات:3/275، فی مکذوباتهم فقال:( إن علی بن عبد الله کان إذا قدم مکة حاجاً أو معتمراً عطلت قریش مجالسها فی المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ، ولزمت مجلسه إعظاماً وإجلالاً وتبجیلاً له ، فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشی مشوا جمیعاً حوله ! ولا یزالون کذلک حتی یخرج من الحرم ! ثم قال عن الحُمیمة: وهذه القریة کانت لعلی المذکور وأولاده فی أیام بنی أمیة وفیها ولد السفاح والمنصور... وذکر الطبری فی تاریخه أن الولید بن عبد الملک بن مروان أخرج علی بن عبد الله بن العباس من دمشق وأنزله الحمیمة فی سنة خمس وتسعین للهجرة ، ولم یزل ولده بها إلی أن زالت دولة بنی أمیة ، وولد له بها نیف وعشرون ولداً ذکراً ).

وعلی أصغر أبناء ابن عباس وأشهرهم: فالمشهور أن عبدالله بن عباس أعقب بنتاً إسمها لبابة ، وخمسة بنین هم: العباس وهو أکبر ولده وبه یکنی ، ومحمداً ، والفضل ، وعبد الرحمن ، وعلیاً وهو أصغرهم وأشهرهم ، وهو جد الخلفاء العباسیین ، وأولهم السفاح والمنصور ابنا محمد بن علی بن عباس. (أخبار الدولة العباسیة/117) . لکن المصادر ذکرت لعبدالله بن عباس عدة أولاد غیرهم ، مثل عبیدالله (الأم

للشافعی:2/232وثواب الأعمال/72، والآحاد والمثانی:1/78 ، وابن حبان:5/69) وإسحاق (الإتحاف للشبراوی/246) وعبدالله (المجموع:18/347، وسنن البیهقی:5/266) وسلیمان (علل الشرائع :1/135)

ص: 335

وحسیناً (معجم السیدالخوئی:8/184، وکامل ابن عدی:2/350 ) وعوناً (علل الدارقطنی:2/82) وکثیراً (إکلیل المنهج للکرباسی/574) . ومهما یکن فقد کان علی أحب أبنائه الیه ، فقربه وسلمه أموره فی حیاته ، ثم أوصی الیه دون إخوته .

سکن علی بن عبدالله بعد وفاة أبیه فی الشام: فعندما نفی ابن الزبیر ، ابن عباس ومحمد بن الحنفیة لأنهما رفضا بیعته ، سکنا فی الطائف و: ( أرسل ابن عباس ابنه علیاً إلی عبد الملک بالشام وقال: لئن یَرُبُّنی بنو عمی أحب إلی من أن یَرُبَّنی رجل من بنی أسد ، یعنی ببنی عمه: بنی أمیة لأنهم جمیعهم من ولد عبد مناف ، ویعنی برجل من بنی أسد: ابن الزبیر.. ولما وصل علی بن عبد الله بن عباس إلی عبد الملک سأله عن اسمه وکنیته فقال: إسمی علی والکنیة أبو الحسن ، فقال: لا یجتمع هذا الإسم وهذه الکنیة فی عسکری ! أنت أبو محمد). (کامل ابن الأثیر:4/253).

وفی تاریخ دمشق:43/45: (حوِّل کنیتک ، ولک مائة ألف ! قال: أما وأبی حیٌّ فلا قال: فلما مات عبد الله بن عباس ، کناه عبد الملک: أبا محمد). انتهی.

ثم سکن علی بن عبدالله بن عباس فی المدینة فترة ، وکان یتردد علی عبد الملک وأولاده فیکرمونه ، وعندما ضاقت معیشته وآخرون من بنی هاشم ذهبوا الی الإمام زین العابدین(علیه السّلام)واقترحوا علیه أن یهاجروا معه الی الشام ، فقال لهم: (یا سبحان الله تأمروننی بالخروج من دار الهجرة إلی دار الأعراب ، فأصیر أعرابیاً بعد الهجرة ! وتأمروننی بفراق قبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )). ( أخبار الدولة العباسیة/107). لکن علی بن عبدالله بن عباس هاجر الی الشام مع أولاده .

ضربه الولید مرتین ونفاه مع أولاده الی الحُمَیْمَة: وهی

قریة بالأردن علی یمین طریق معان العقبة ، ومنها الی العقبة75 کیلو متراً . وکذبت الروایات العباسیة فجعلت سکنه هناک تکریماً له وجعلت القریة أهدیت الیه ! ثم جعلت نفیه الیها نفیاً سیاسیاً لتخوفهم منه ومن أولاده . (أخبار الدولة العباسیة/106).

والصحیح أن بنی أمیة کانوا یعرفون أن زوال ملکهم علی ید رایات خراسان ،

ص: 336

وأنها تدعو الی بنی العباس ، وقد تقدم سؤال هشام للإمام الباقر(علیه السّلام)عن ذلک وجوابه ، ولکن الأمویین وجدوا فی سلوک علی بن عبدالله بن عباس مایبرر نفیه ، فقد وصف ابن کثیر فی النهایة:10/46 ، دخول سلیمان بن علی بن عبدالله بن عباس منتصراً الی دمشق فقال: ( دخلها بالسیف وأباح القتل فیها ثلاث ساعات ، وجعل جامعها سبعین یوماً إسطبلاً لدوابه وجماله ! ثم نبش قبور بنی أمیة فلم یجد فی قبر معاویة إلا خیطاً أسود مثل الهباء ، ونبش قبر عبد الملک بن مروان فوجد جمجمة وکان یجد فی القبر العضو بعد العضو ، إلا هشام بن عبد الملک فإنه وجده صحیحاً لم یَبْلَ منه غیر أرنبة أنفه ، فضربه بالسیاط وهو میت وصلبه أیاماً ، ثم أحرقه ودق رماده ثم ذره فی الریح ! وذلک أن هشاماً کان قد ضرب أخاه محمد بن علی ، حین کان قد اتهم بقتل ولد له صغیر ، سبعمائة سوط ، ثم نفاه إلی الحمیمة بالبلقاء) . وفی وفیات الأعیان:3/275: (وضُرب علی بالسیاط مرتین ، کلتاهما ضربه الولید بن عبد الملک: إحداهما ، فی تزوجه لبابة ابنة عبد الله بن جعفر بن أبی طالب وکانت عند عبد الملک...فضربه الولید وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منهم... وأما ضربه إیاه فی المرة الثانیة... رأیت علی بن عبد الله یوماً مضروباً بالسوط یدار به علی بعیر ووجهه

مما یلی ذنب البعیر وصائح یصیح علیه: هذا علی بن عبد الله الکذاب ! فأتیته وقلت: ما هذا الذی نسبوک فیه إلی الکذب؟ قال: بلغهم عنی أنی أقول إن هذا الأمر سیکون فی ولدی ، ووالله لیکونن فیهم ، حتی تملکهم عبیدهم الصغار العیون العراض الوجوه ، الذین کأن وجوههم المِجَانُّ المطرَّقة ) . والمرجح أن السبب الضرب قتله لأخیه سلیط !

4- علی بن عبدالله بن عباس قتل أخاه ! وابنه محمد قتل طفله !

اتفقوا علی أن عبدالله بن عباس: (کانت له جاریة مولدة صفراء (کالصینیین) تخدمه ، فواقعها مرة ولم یطلب ولدها). (کامل ابن الأثیر:5/256). وقد وضعت ولداً فشک ابن عباس بها واتهمها ، وسماه سلیطاً ، والسلیط الطویل اللسان ، وربما سماه سلیطاً لأن

ص: 337

أمه کانت سلیطة أی صخابة (لسان العرب:7/320) . وبعد موت ابن عباس وسکن ابه علی فی الشام اشتکی علیه أخوه سلیط أنه نفاه من أبیه مع أنه اعترف به ! ( ادعی بعد موته علی علی بن عبد الله أنه أخوه ، وله قصة طویلة). (لسان المیزان:3/436).

وخلاصة القصة: أن أم سلیط شکت علیاً هذا الی الولید بن عبد الملک بأنه قتل ولدها سلیطاً حتی لایرث معه: (ودفنه فی البستان الذی ینزله وبنی علیه دکاناً ، فأخذه الولید بذلک وقال له: أقتلت أخاک؟ قال: لیس بأخی ، ولکنه عبدی قتلته ! وکان عبد الله بن عباس أوصی إلی ابنه علی أن یورث سلیطاً ولا یزوجه وقال: أنا أعلم أنه لیس منی ، ولکنی لا أدفعه عن المیراث ). (تاریخ الیعقوبی:2/290 ) !

وفی أنساب الأشراف للبلاذری/915: (دعا بعلی

بن عبد الله وسأله عن خبر سلیط فحلف أنه لا یعلم من خبره شیئاً بعد قیامه للصلاة ، وأنه لم یأمر فیه بأمر ، فسأله إحضار عمر الدنّ فحلف أنه لا یعرف موضعه ، فوجه الولید إلی الجنینة من سرح فیها الماء فلما انتهی إلی موضع الحفرة التی دفن فیها سلیط دخلها فانخسفت ، فأمر الولید بعلی بن عبد الله فأقیم فی الشمس وجَعَل علی رأسه الزیت ، وضربه ستین أو أحداً وستین سوطاً ، وألبسه جبة صوف ، وحبسه لیخبره خبر سلیط ویدله علی الدن وصاحبه، وکان یخرج فی کل یوم فیقام فی الشمس وکان عباد بن زیاد له صدیقاً فجاءه فألقی علیه ثیابه ، وکلم الولید فی أمره..).

وفی تاریخ ابن خلدون:3/102: (فنبشوا فی البستان فوجدوه ، فأمر الولید بعلی فضرب لیدله علی عمر الدن (المأمور بقتله) ثم شفع فیه عباد بن زیاد ، فأخرج إلی الحمیمة ، ولما ولیَ سلیمان رده إلی دمشق ).

کما رووا کیف قتل أبو السفاح طفله ! (اشتری محمد بن علی بها جاریة فجاءت بابن فأنکر محمد الإبن ، فاختصما إلی هشام بن عبد الملک فأمر قاضیه أن یحکم بینهما، فاستحلفه فحلف أنه لیس بابنه وفرق بینهما ، ثم إن محمد بن علی لما أن

ص: 338

بلغ الصبی سبع سنین دس إلیه من سرقه فأتاه به فقتله فاستعدت أمه علیه إلی هشام فحلف أنه ما قتله ، ولا دس إلیه من قتله ولا یعلم له قاتلاً ! ثم إن هشاماً أمر أصحاب الأبواب أن یتجسسوا فی الغوطة هل عندهم من ذلک خبر؟ فجاءه رجل من أهل المزة فذکر أنه کان یسقی أرضاً له باللیل ، وأنه رأی رجلاً راکباً علی فرس وقد أردف خلفه آخر، ومعه آخر یمشی فقتلوا واحداً منهم ودفنوه ، ولم یعلموا بی وقد علمت علی الموضع الذی فیه القتیل ، وتتبعت أثرهم حتی دخلوا المدینة وعرفت الدار التی دخلوها ! فقال هشام: لله درک فرجت عنا ، ثم وجه معه بأقوام إلی الدار التی ذکر ، فإذا دار محمد بن علی فأحضره وسأله فأنکر ، فوجه فنبش الصبی ووضع بین یدیه مقتولاً ، فقال هشام: لولا أن الأب لا یقاد بالابن لأقدتک به! ثم أمر فضرب سبع مائة سوط ونفاه إلی الحمیمة) ! (تاریخ دمشق:53/126) .

أقول: اتضح أولاً ، أن الحُمَیْمَة فی منطقة السراة أو الشراة منفی ، لبعدها وانقطاعها ولیست مزرعة کما وصفوها ! وقد هدَّد المنصور عبد الله بن الحسن والإمام الصادق(علیه السّلام)بأن ینفیهما الی الحمیمة ، قال: ( إنما دعوتکم لأخرب دیارکم ، وأوغر قلوبکم وأنزلکم بالسراة ، فلا أدع أحداً من أهل الشام والحجاز یأتون إلیکم ، فإنهم لکم مفسدة)! (عوالی اللآلی:1/362، والفرج بعد الشدة:1/70 ).

واتضح ثانیاً ، أن علی بن عبد الله بن العباس(أبو الأملاک) قد قتل أخاه سلیطاً ، وأن ابنه محمداً وهو الإمام المؤسس لملک بنی العباس ، قد قتل طفله !

وقد فاق علیه أبناؤه خاصة محمد السفاح والمنصور ، فقتلا إخوتهما وأعمامهما واضطهدوهم ونکثوا العهود معهم ، حتی کان صاحب الحظ من أعمامهم موظفاً أو قائد حرب یقتل الناس من أجلهم ، ثم یُضطهد أو یُقتل بید أخیه أو ابن أخیه !

ومن أجل سلیط وغیر سلیط ، کان الخلفاء من أولاد محمد بن علی یقولون: لایوجد لابن عباس أولاد إلا جدهم علی ! وصار ذلک التاریخ العباسی الرسمی ،

ص: 339

فقال فی الطبقات:5/315: (وقد انقرض ولد العباس بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فلم یبق منهم أحد ! ولیس العقب الیوم من ولد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب إلا فی ولد علی بن عبد الله بن عباس ، وفیهم العدد والخلافة).انتهی.

5- تمیز الأئمة الحسینیین(علیهم السّلام)علی العباسیین والحسنیین

یتضح بما تقدم أن أولاد عبدالله بن عباس کانوا خاملین، ولم یکن سلوکهم متناسباً مع سمعة جدهم ابن عباس وبنی هاشم ، وکان الخلفاء الأمویون یعطونهم ، لکنهم لا یحترمونهم ، لا بمستوی احترام عمر لابن عباس ، ولا بأقل منه بکثیر کاحترامهم أولاد کبار الصحابة . أما العلویون فکانوا یفرضون احترامهم علی الخلفاء الأمویین لسلوکهم النبیل ، ومنهم أولاد جعفر بن أبی طالب(رحمه الله) ، أو أولاد الإمام الحسن(علیه السّلام).

أما الأئمة المعصومون من أبناء الحسین(علیهم السّلام)فلهم سلوکٌ نبوی وقداسة خاصة عند الناس والخلفاء ، وقد رأیت تقدیس عبد الملک للإمام زین العابدین(علیه السّلام) وهیبته له ، وکذلک حال ابنه الإمام الباقر ثم ابنه جعفر الصادق(علیهم السّلام) .

لذلک کان الحسنیون والعباسیون یعیشون فی ظل الأئمة الحسینین(علیهم السّلام) ، وعندما اتجهو الی القیام بحرکة سیاسیة لاستلام السلطة ، نهاهم الأئمة(علیه السّلام)لأنهم یعلمون أن الدولة التی سیقیمونها لیست أفضل من دولة بنی أمیة ، لأن منهجهم نفس المنهج الأموی ، وهو التسلط بالجبر علی مقدرات المسلمین ! ولذلک عادوا الأئمة الحسینیین، لکنهم(علیهم السّلام)کانوا یتحملون سلبیاتهم ویوجهونهم .

ص: 340

الفصل الحادی عشر:الثورة علی الأمویین إیرانیة ولیست عباسیة !

1- أسلمت إیران فدخلت طاقة جدیدة فی صناعة حیاة الأمة

لو لم تنضم الیمن وإیران الی جسم الأمة الإسلامیة لمات الإسلام ! وکنا نسمع بأن نبیاً بعث فی جزیرة العرب ووحَّدها فی دولة ، ثم تصارعت قریش بعده علی سلطانه وتحزبت معها بعض قبائل العرب حتی أکل بعضهم بعضاً ، وضیعوا رسالته !

فالیمن وإیران منبعان لقوة بشریة عسکریة فاعلة ، وقد دخلت الیمن فی حرکة الفتوحات من أول یوم ، بینما تأخرت إیران حتی استوعبت هزة التغییر وأخذت تشکیلتها الجدیدة فی ظل الإسلام ، وفی تلک الفترة ظهرت فی شعوبها اتجاهات عدیدة ، فکریة وروحیة وسیاسیة ، منها اتجاه التصوف ، واتجاه الإلحاد والزندقة ، واتجاه التعمق العلمی ، واتجاه التشیع لعلی والأئمة من ولده(علیهم السّلام)..الخ.

وغرضنا هنا أن نلفت الی أبرز الإتجاهات السیاسیة فی ردة فعل الإیرانیین علی فتح بلادهم بید العرب ، وهما اتجاهان:

الأول ، اتجاه الثورة علی (العرب الغزاة) ، لإعادة الملک الفارسی الکسروی ، ولعل أکبر محاولة لذلک تحشیدهم مئة وخمسین ألف جندی فی نهاوند لاسترداد ما فتحه العرب ، ثم غزو بلاد العرب ! فقد کتب عمار بن یاسر والی الکوفة الی

ص: 341

عمر بن الخطاب: (إن أهل الری وسمنان وساوه وهمذان ونهاوند وأصفهان وقاشان وراوند واسفندهان وفارس وکرمان وضواحی أذربیجان.. قد اجتمعوا بأرض نهاوند فی خمسین ومائة ألف من فارس وراجل من الکفار ، وقد کانوا أمَّروا علیهم أربعة من ملوک الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز، وسنفاد بن حشروا، وخهانیل بن فیروز ، وشرومیان بن اسفندیار ، وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتکاتبوا وتواصوا وتواثقوا علی أنهم یخرجوننا من أرضنا ویأتونکم من بعدنا ! وهم جمع عتید وبأس شدید ودواب فره وسلاح شاک ، وید الله فوق أیدیهم ، فإنی أخبرک یا أمیر المؤمنین أنهم قد قتلوا کل من کان منا فی مدنهم ، وقد تقاربوا مما کنا فتحناه من أرضهم...قال: فلما ورد الکتاب علی عمر بن الخطاب رضی الله عنه وقرأه وفهم ما فیه ، وقعت علیه الرعدة والنفضة حتی سمع المسلمون أطیط أضراسه ، ثم قام عن موضعه حتی دخل المسجد وجعل ینادی: أین المهاجرون والأنصار، ألا فاجتمعوا رحمکم الله وأعینونی أعانکم الله). (الفتوح لابن الأعثم:2/290). ثم وصف ابن الأعثم مجئ علی(علیه السّلام)وتطمینه لعمر ووضعه الخطة فارتاح عمر وأطلق یده ، فأرسل النعمان بن مقرن وحذیفة لقیادة معرکة نهاوند .

فالقادة الفرس فی معرکة نهاوند هم امتداد لدفاعهم عن مملکة کسری الفارسیة وقد بقی هذا الخط والإتجاه السیاسی بعد هزیمة الفرس فی معرکة نهاوند ، متمثلاً بمقاومات عدیدة للفتح الإسلامی فی إیران ، خاصة فی خراسان وآذربیجان ، ولعل آخرها ثورة بابک الخرمی فی آذربیجان التی استفحلت فی زمن المأمون واستمرت أکثر من عشرین سنة ! قال المسعودی فی التنبیه والإشراف/305: (وکان الفتح قد أسر بابک فی شهر رمضان وقیل شوال سنة222 ، وحمل إلی سر من رأی فقتل بها فی صفر سنة223. فکان من أدرکه الإحصاء ممن قتله بابک فی اثنتین وعشرین سنة ، من جیوش المأمون والمعتصم ، من الأمراء والقواد وغیرهم من

ص: 342

سائر طبقات الناس فی القول المقلل خمسمائة ألف ، وقیل أکثر من ذلک وأن الإحصاء لا یحیط به کثرة ! وکان خروجه فی سنة200 فی خلافة المأمون وقیل سنة201 بجبل البذین من بلاد آذربیجان.. وقد ذکرنا فی کتابنا (المقالات فی أصول الدیانات) وفی کتاب (سر الحیاة) مذاهب الخرمیة ، الکوذکیة منهم والکوذشاهیة وغیرهم ، ومن منهم بنواحی أصبهان والبرج وکرج أبی دلف والززین ومعقل وأبی دلف ، ورستاق الورسنجان وقسم وکوذشت من أعمال الصیمرة ، من مهرجان قذق ، وبلاد السیروان وأربوجان من بلاد ماسبذان ، وهمذان ، وماه الکوفة ، وماه البصرة وآذربیجان ، وأرمینیة... وما جری لنا من المناظرات مع من شاهدناه منهم فی هذه المواطن ، وما ینتظره الجمیع فی المستقبل من الزمان الآتی من عود الملک فیهم...واستقصینا الکلام علی هؤلاء وغیرهم من أصحاب الإثنین).

ویقصد بأصحاب الإثنین: الثنویة المجوس القائلین بإله الخیر وإله الشر .

والثانی ، الإتجاه القومی الواقعی ، الذی تبناه أکثر الزعماء الإیرانیین یومها ، وهو یقول بأن فتح إیران وإسلام أکثر

أهلها أمرٌ واقع ، ولایمکن الوقوف فی وجه موجة الإسلام ، فلا بد من مماشاتها ، وذلک بالعمل مع النظام الحاکم ، أو العمل لتغییره ، لکن وفق أصول الموازین المقبولة عند المسلمین ، ولیس بالدعوة الی إعادة الکسرویة !

وقد مثَّل هذا الإتجاه بکیر بن ماهان وصهره أبو سلمة الخلال ، وغلامه أبو مسلم الخراسانی ، وکثیر من وزراء الخلفاء العباسیین وقادة جیوشهم ، ومن أبرزهم البرامکة ، الذین کان جدهم من کبار علماء الزردشتیة ، ویمثله العدید من أبناء ملوک الفرس ووزرائهم وعلمائهم ، وقادةٌ آخرون نابغون یعبرون عن الضمیر الفارسی ، الذی لایطیق تسلط العرب وظلم ولاتهم لشعبهم .

علی أن الأرجح أن یکون البرامکة من نوع بابک الخرمی ، لأنهم اتُّهموا بالزندقة

ص: 343

ولأن غضب الأئمة(علیهم السّلام)علیهم کان أشد منه علی أبی مسلم وأبی سلمة وبکیر . فقد حمَّلهم الإمام الرضا(علیه السّلام)مسؤولیة دفع هارون الرشید لقتل الإمام الکاظم(علیه السّلام) وکان یدعو علیهم فی عرفات ! (کان أبو الحسن(علیه السّلام)واقفاً بعرفة یدعو ثم طأطأ رأسه ، فسئل عن ذلک؟ فقال: إنی کنت أدعو الله تعالی علی البرامکة بما فعلوا بأبی ، فاستجاب الله لی الیوم فیهم ! فلما انصرف لم یلبث إلا یسیراً حتی بُطش بجعفر ویحیی ، وتغیرت أحوالهم ) . (عیون أخبار الرضا(علیه السّلام):1/245).

2- الإیرانیون أذکی من استغل موجة نقمة الأمة علی بنی أمیة

کتب عدیدون فی تعامل حکام المسلمین وخاصة الأمویین مع غیر العرب من شعوب البلاد المفتوحة ، وکیف تکونت طبقة العرب المتکبرة وطبقة الموالی المسحوقة ! ثم طفح الکیل فی زمن بنی أمیة فنشأت الشعوبیة المعادیة للعرب !

قال فی محاضرات الأدباء:1/421: (کانت العرب إلی أن عادت الدولة العباسیة إذا أقبل العربی من السوق ومعه شئ فرأی مولی ، دفعه إلیه لیحمله معه ! فلا یمتنع ولا السلطان یَغِیرُ علیه ! وکان إذا لقیه راکباً وأراد أن ینزله فعل ! وإذا رغب أحدهم فی مناکحة مولاة خطب إلی مولاها دون أبیها وجدها) !

وقال فی العقد الفرید/757: (قال أصحابُ العصبیَّة من العَرب... لا یَقْطع الصلاةَ إلا ثلاثة: حِمار أو کَلب أو مَوْلی . وکانوا لا یکنونهم بالکُنی ولا یدْعُونهم إلا بالأسماء والألقاب ، ولا یمشون فی الصف معهم ، ولا یُقَدمونهم فی الموکب ، وإن حضروا طعاماً قاموا علی رؤوسهم ، وإن أطعموا المولی لسنِّه وفضله وعلمه أَجلسوه فی طرف الخِوان ، لئلا یخفی علی الناظر أنه لیس من العرب...

وقال زِیاد: دعا مُعاوِیة الأحْنف بن قَیْس وسَمُرة بن جُنْدب فقال: إنِّی رأیتُ هذه الحَمْراء قد کثرت وأَراها قد طعنت علی السَّلف ، وکأنی أنظر إلی وَثْبة

ص: 344

منهم علی العَرب والسُّلطان ، فقد رأیتُ أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السُّوق وعِمَارة الطریق ، فما تَرَوْن؟ فقال الأحنف: أَری أن نفسی لا تَطِیب ، یُقْتل أخِی لأمی وخالی وَمَوْلای ! وقد شارکناهم وشارکونا فی النسب فظننتُ أنی قد قُتلتُ عنهم . وأطرق معاویة . فقال سَمُرة بن جُنْدب: إجعلها إلیَّ أیها الأمیر فأنا أتولی ذلک منهم وأبْلُغ إلی ما ترید منه ! فقال: قوموا حتی أنظر فی هذا الأمر . قال الأحْنف: فَقُمْنا عنه وأنا خائفٌ وأتیت أهْلی حَزِیناً . فلما کان بالغداة أرسل إلیَّ فعلمتُ أنه أخذ برَأیی وتَرکَ رَأی سَمُرة ) .

أقول: کان هذا الوضع کافیاً لشحن غیر العرب عموماً ، وعمدتهم الإیرانیون الذین انهارت أمبراطوریتهم حدیثاً ، علی ید قوم کانوا الی الأمس محتاجین الیهم تابعین لهم ، مطیعین !

وعندما تفاقم ظلم الأمویین وعمَّت موجة التعاطف مع أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، جاءت الفرصة الذهبیة لقادة الفرس أصحاب مشاریع التغییر الی الأحسن بالنسبة الیهم فحققوا ذلک ! ولمعرفة ما أنجزوه یکفی أن تقارن بین موقف معاویة الذی أراد قتل غیر العرب إلا من کان ضروریاً للأسواق والإعمار ، وموقف المأمون الذی فتح الباب لأن یکون الفارسی أفضل من العربی فقال: ( الشرف نسب ، فشریف العرب أولی بشریف العجم من وضیع العجم بشریفهم ، وشریف العجم أولی بشریف العرب من وضیع العرب بشریفهم ). (محاضرات الأدباء:1/423) .

3- ضعف النشاط العباسی قبل بکیر بن ماهان

یُصَوِّر العباسیون وصولهم الی الحکم کأنه خطة وضعوها ونفذوها ! مع أن الواقع أن أمیر المؤمنین والإمام الباقر والصادق(علیهم السّلام)أخبروهم بأنهم سیملکون الأمة بعد بنی أمیة ، فغرسوا بذلک الفکرة فی رؤوسهم ، لأهداف عالیة فی مسار الإسلام

ص: 345

وأمته ، ولا بد أن یکون عبد الله بن عباس وأولاده اهتزُّوا لهذا الخبر وطاروا فرحاً وأخذوا یفکرون فیما یعملون ! لکنهم لم یستطیعوا عمل شئ یذکر بسبب سیطرة بنی أمیة ، وعدم وجود علاقات لهم مع الخراسانیین الذین أخبرهم الأئمة(علیهم السّلام) بأنهم سیکونون أنصارهم !

وحتی بعد ضعف النظام الأموی بقی عمل العباسیین ضعیفاً أو معدوماً حتی ظهر الزعیم الفارسی بکیر بن ماهان سنة127، فخطط للثورة وقادها ، هو وغلامه أبو مسلم ، وخلیفته صهره أبو سلمة الخلال ، ثم قدموها الی العباسیین علی طبق من ذهب ، لأنهم وجدوهم أفضل من یمکن العمل معهم لمصلحة قومهم !

وغایة من ما نقله الرواة عن العباسیین أنهم کانوا یتبجحون بدولتهم الآتیة عندما یأمنون ! کما کان یفعل علی بن عبدالله بن عباس لما ضربه الولید بن عبد الملک: (إن هذا الأمر سیکون فی ولدی ، ووالله لیکونن فیهم حتی تملکهم عبیدهم) (وفیات الأعیان:3/275) . ثم رووا أن ابنه محمد بن علی بن عبد الله بن عباس أرسل من الحمیمة سنة97 شخصین الی العراق ، لیدعوَا الناس الیه سراً ، وشخصین الی خراسان بصفة تجار فرجعا بعد أربع سنین وقالوا لقد غرسنا شیئاً !

قال الدینوری فی الأخبار الطوال/332: (ووجه أبا عکرمة وحیان العطار إلی خراسان ، وعلی خراسان یومئذ سعید بن عبد العزیز بن الحکم بن أبی العاص فجعلا یسیران فی

أرض خراسان من کورة إلی أخری ، فیدعوان الناس إلی بیعة محمد بن علی ، ویزهدانهم فی سلطان بنی أمیة لخبث سیرتهم وعظیم جورهم ، فاستجاب لهما بخراسان أناس کثیر ، وفشا بعض أمرهم وعلن ، فبلغ أمرهما سعیداً فأرسل إلیهم فأتی بهم فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم تجار . قال: فما هذا الذی یذکر عنکم؟ قالوا: وما هو؟ قال: أخبرنا أنکم جئتم دعاة لبنی العباس ! قالوا: أیها الأمیر ، لنا فی أنفسنا وتجارتنا شغل عن مثل هذا ! فأطلقهما فخرجا من عنده

ص: 346

یدوران کور خراسان ورساتیقها فی عداد التجار ، فیدعوان الناس إلی الإمام محمد بن علی ! فمکثا بذلک عامین ثم قدما علی الإمام محمد بن علی بأرض الشام فأخبراه أنهما قد غرسا بخراسان غرساً یرجوان أن یثمر فی أوانه ! وألفیاه قد ولد له أبو العباس ابنه فأمر بإخراجه إلیهم ، وقال: هذا صاحبکم ) ! ونحوه الیعقوبی:2/308 ، وأضاف الطبری:5/316: (ثم انصرفوا بکتب من استجاب لهم إلی محمد بن علی فدفعوها إلی میسرة ، فبعث بها میسرة إلی محمد بن علی ، واختار عکرمة السراج (أبو محمد الصادق) لمحمد بن علی اثنی عشر رجلاً نقباء منهم سلیمان بن کثیر الخزاعی ، ولاهز بن قریظ التمیمی ، وقحطبة بن شبیب الطائی ، وموسی بن کعب التمیمی ، وخالد بن إبراهیم أبو داود من بنی عمرو بن شیبان بن ذهل ، والقاسم بن مجاشع التمیمی ، وعمران بن إسماعیل أبو النجم مولی لآل أبی معیط ، ومالک بن الهیثم الخزاعی ، وطلحة بن زریق الخزاعی ، وعمرو بن أعین أبو حمزة مولی لخزاعة ، وشبل بن طهمان أبو علی الهروی مولی لبنی حنیفة ، وعیسی بن أعین مولی خزاعة ، واختار سبعین رجلاً ، فکتب إلیهم محمد بن علی کتاباً لیکون لهم مثالاً وسیرة یسیرون بها).

أقول: جعلنا غیبتهم أربع سنین ، لأن السفاح ولد سنة104 ولیس102 ! ونلاحظ ومعنی أنهم زرعوا فی أربع سنین زرعاً للمستقبل ، أنهم لم یعملوا شیئاً مهماً !

ونلاحظ أن عبارة الطبری لاتقول إن النقباء بایعوا محمد بن علی ! بل تقول إن عکرمة سماهم لمحمد لیعتمدهم نقباء إن قبلوا بیعته والإنضمام الی حرکته ! وبعضهم عرب لهم مسؤولیات إداریة أو عسکریة فی خراسان ، أو إیرانیون وجهاء ، فیبدو أن یکون ادعاء أنهم نقباء جاء بعد نجاح حرکة أبی مسلم !

أما فی العراق فلم یکن للعباسیین وجود یذکر ، فقد وصف عبدالله بن عمیر أحد دعاتهم حرکة زید(رحمه الله)سنة122 فقال: ( وقد أطبق أهل الکوفة علی الخروج

ص: 347

معه... فقال بکیر: إنی أعلم ما لا تعلمون ، إلزموا بیوتکم وتجنبوا أصحاب زید ومخالطتهم ، فوالله لیقتلن ولیصلبن بمجمع أصحابکم... قال یقطین بن موسی: وأنا یومئذ منقطع إلی أبی سلمة فإنا لعند أبی هاشم (بکیر) إذ أتاه آت فقال له: قد خرج زید وأمر الناس بحضور المسجد ، فقال: تَنَحَّوْا بنا عن هؤلاء وعن شرورهم ، فخرج وخرجنا معه أنا وأبو مسرور عیسی بن حمزة فأتینا الحیرة فأقمنا بها حتی قتل زید وصلب ، ثم انصرفنا إلی الکوفة وقد هدأ الناس). (أخبار الدولة العباسیة/231).

فأنصارهم فی الکوفة کانوا أفراداً وقد تجنبوا ثورة زید(رحمه الله)بأمر بکیر . بل قال بکیر إن إمامه محمد بن علی سأله فی سنة وفاته125: (کَم یبلغ أصحابکم بالکوفة؟ قلت: لایکونون ثلاثین رجلاً ). (أخبار الدولة العباسیة/196). وهو نص علی أن حرکتهم لم تتقدم فی العراق وإیران لأکثر من ثلاثین سنة ، حتی تفاقمت موجة النقمة علی بنی أمیة ، والتعاطف مع أهل البیت(علیهم السّلام)وثورة زید(رحمه الله) !

ومما یؤکد غیاب التحرک العباسی طول هذه المدة ، أن المنصور وأخوه الصغیر السفاح لم یکن لهما دور لا فی الحجاز ولا فی العراق ، ولا فی إیران ! بل کانا مغمورین یتقربان الی ابن المهلب والی بنی أمیة علی البصرة والأهواز ، الذی کان شیعةً للإمام الصادق(علیه السّلام) ، فوظف المنصور جابیاً لخراج بلدة (إیذة) ، وسکن فیها وولد فیها ابنه الذی سماه المهدی ، ثم خان أمانتها فحبسه ابن المهلب ! وبعد أن هرب من السجن وتغیرت الظروف ، التحق مع أخیه السفاح ، بعبد الله بن معاویة بن عبدالله بن جعفر ، الذی زعَّمَهُ الزیدیون فی الکوفة سنة127، ففشل، ثم ثاروا به فی إیران: (فاستولی علی أرض فارس کلها وإصبهان وما والاها من البلاد... وجاءه بنو هاشم...وقدم إلیه معهم أبو العباس وأبو جعفر ابنا محمد بن علی بن عبدالله بن العباس فولاهما بعض الکور). (شرح الأخبار:3/321 ، وتاریخ بغداد:10/53).

وکذلک نری عبدالله بن علی بن العباس وهو أخ محمد بن علی والد السفاح

ص: 348

ومن شخصیاتهم ، کان فی الأهواز عند عبدالله بن معاویة بن جعفر ، فأسره ابن ضبارة قائد جیش مروان فی حملته علی ابن جعفر ! فقال له: ( ما جاء بک إلی ابن معاویة وقد عرفت خلافة أمیر المؤمنین (مروان)؟ قال: کان علیَّ دینٌ فأدیته). (الطبری:6/41) . ومعناه أن العباسیین کانوا غائبین عن المشارکة فی الأحداث فضلاً عن صناعتها ، لأنهم کانوا تابعین للحسنیین وبایعوا مهدیهم المزعوم مرات !

أما بکیر بن ماهان وصهره أبو سلمة الخلال ، وغلامه ابن سنفیرون بن إسفندیار الذی هو أبو مسلم الخراسانی ! (تاریخ بغداد:10/205) فکان لهم مشروعهم الذی یحتاجون فیه الی شخص هاشمی یعلنون إسمه للخلافة فی الوقت المناسب ، ولم یأت وقت إعلانه الی سنة132، وهما لا یریدان أن یعمل معهم فی إیران أی هاشمی ! ولذا قتل أبو مسلم إمام الزیدیین عبد الله بن معاویة سنة 128، بعد انهیار دولته علی ید جیش الشام !

ص: 349

4- بکیر بن ماهان مهندس الثورة علی الأمویین

لماذا فشلت الثورة علی الأمویین فی العراق والحجاز ، ونجحت فی إیران ؟ مع أن إیران کانت فی قبضة حکامٍ أمویین هم قادة عسکریون ، ومعهم حامیات عربیة منتشرة فی أنحاء إیران ، یبلغ عددها نحو مائة ألف مقاتل ؟!

الجواب: أن نجاح الثورة علی أی نظام قوی ، یحتاج الی قوة قتالیة ، یجمعها شعور عام ونظرة بعیده وقائد محنک مطاع ! وهذا ما توفر للإیرانیین من أقصی خراسان الی الأهواز والبصرة ، ومن بحر الخزر الی همدان وواسط ، ولم یتوفر فی الحجاز لأن قوته العسکریة کانت مجموعات صغیرة مختلفة فیما بینها ، ولا فی العراق لأن قواته کانت متعددة بحسب القبائل والبلاد ، وقادتها لایعملون بنظرة بعیدة ، بل یحسبون الربح والخسارة لکل معرکة علی حدة !

کان الفرس أو الخراسانیون یسودهم شعور قوی ضد الأمویین ، فالکفار منهم یتحسرون للإنتقام لمملکة کسری ، والمسلمون الشیعة یتحرقون للإنتقام للإمام الحسین(علیه السّلام)وأهل بیته ، ولزید الشهید(رحمه الله)وابنه یحیی(رحمه الله)، والسنة یؤیدون کل ما ینصف غیر العرب ویرفع عنهم المذلة والإحتقار ویساویهم بالعرب ، أو یمیزهم علیهم . وبذلک کانوا کلهم أرضیة خصبة للثورة ، بانتظار أن یبرز قائد کفوء یعبر عن ضمیرهم ویثقون به ! وکان ذلک القائدبکیر بن ماهان ، الذی یدل إسمه علی أنه أسلم هو فغیَّر إسمه ، أما أبوه فقد یکون بقی علی مجوسیته !

کانت حرکة العباسیین لاتُکاد تُذکر قبل بکیر بن ماهان ! فمع أن الروایات حول بکیر مرَّت علی رقابة العباسیین ، وحاول رواتها أن یعطوه وخلیفته الخلال وأبا مسلم صفة المؤمنین الأتقیاء المطیعین لأئمتهم العباسیین ، إلا أن الحقیقة تلوح من روایاتهم ، وهی أن العباسیین لم یکن لهم حضور فی التخطیط وصناعة أحداث الثورة

ص: 350

وإنما ذهب بکیر الی محمد بن علی بصفة تاجر عطر ، وأعطاه مالاً وهدایا وسیطر علی قلبه ، وأخبره عن خطته للثورة ووعده أن یعلن إسمه فی الوقت المناسب ، وأخذ منه تفویضاً عاماً بالعمل بإسمه ، ثم اختار بعد وفاته ابنه إبراهیم الذی سموه بالإمام تشبهاً بالمهدی الحسنی ، فعرف الخلیفة مروان الحمار بإبراهیم العباسی فأحضره الی حران ، وقتله !

قال فی أخبار الدولة العباسیة/191:( فأما بکیر فإن أباه کان مولی لرجل من بنی مُسْلیة ، سکن الشام بالأردن بعد ، وکان بکیر ابنه یُنزله بنو مسلیة من صلیبتهم (یعتبرونه منهم) وکان من أهل الدیوان ، وغزا مع یزید بن المهلب خراسان ودخل معه جرجان حیث افتتحت ، وکان هو فی عدة من بنی مُسلیة قد شهدوا فتحها مع یزید . وحفص بن سلیمان وهو أبو سلمة الخلال ، وحفص الذی یدعی الأسیر ، وهؤلاء جمیعاً موالی بنی مُسلیة ، رهط عامر بن إسماعیل ومیسرة الرحال وموسی بن سریج السراج... إنما تأثل (نبت ونما) أمر الدعوة فی بنی مسلیة ، وتولوا أمرها والقیام بها).

أقول: بنو مُسْلِیَة فرع من بلحارث ، من قبیلة مذحج الیمانیة ، وکذا بنو معقل بن الحارث ، وحیُّهم فی الکوفة ، وکان منهم مقاتلون وموظفون کبار فی أصفهان ولهم مزارع هناک ، ولهم موالٍ أی حلفاء إیرانیون ، ومنهم غلمان أی عبید ، ومن موالیهم بکیر وأبوه ماهان ، وأبو سلمة

الخلال وأبوه حفص ، وأبو مسلم الخراسانی ، وقیل کان عبداً لموسی السراج جاء به من أصفهان وعمره سبع سنین وکان غلاماً له یعمل معه فی صناعة الأعنَّة والسروج ، ویسافر لبیعها . (معجم قبائل العرب:3/1123، والنجاشی/164، وإیضاح الإشتباه/183، ولسان العرب:14/396، وعرفت منهم امرأة یضرب بها المثل فی العار إسمها بوزع ذکرها جریر: خزانة الأدب:11/416، و:9/459، وتاج العروس:11/15) .

وکان بنو مُسْلیة مع المختار فی ثورته، وکانوا یقولون بإمامة محمد بن الحنفیة! وبقی عدد منهم بعد زوال دولة المختار مع ولده عبدالله المعروف بأبی هاشم .

قال القاضی النعمان فی شرح الأخبار:3/316: (وقالت فرقة أخری: بل مات (ابن الحنفیة) وأوصی إلی ابنه أبی هاشم واسمه عبد الله ، وقد مات وإنه یرجع ، وإنه هو

ص: 351

المهدی الذی یخرج فیملأ الأرض عدلاً . وقال آخرون بل مات أبو هاشم وزعموا أن الإمامة فی ولد محمد بن الحنفیة لا تخرج إلی غیرهم ، وأن القائم المهدی منهم یکون . وزعمت فرقة أخری منهم أن أبا هاشم مات وأوصی إلی عبد الله بن معاویة بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب... وعبد الله هذا هو صاحب إصبهان الذی قتله أبو مسلم فی حبسه . وقالت فرقة أخری: إن أبا هاشم أوصی إلی محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، ودفع الوصیة إلی أبیه علی بن عبد الله بن العباس ، لأنه مات عنده بأرض السراة من الشام وکان محمد الوصی... وقالت فرقه أخری منهم: إن محمد بن علی أوصی إلی ابنه إبراهیم صاحب أبی مسلم الذی کان دعا إلیه ، وادعوا أن الإمامة صارت إلی أبیه محمد بن علی ، من جهة أبی هاشم.. وبهذا القول تعلق بنو العباس).

أقول: تمسک العباسیون بمقولة أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوصی لعلی(علیه السّلام)فهو الإمام وبعده ابنه محمد بن الحنفیة ، وبعده ابنه أبو هاشم ، وورثها منه بنو العباس وأعطاهم صحیفة جده علی(علیه السّلام) ، وفیها خبر دولة بنی العباس .

فی هذا الجو نشأ بکیر بن ماهان ، وهو فارسی أصله من مرو ، من قریة هرمز فَرَهْ (أنساب السمعانی:5/635) وفی عصره کان ثلث سکان الکوفة تقریباً من الإیرانیین ، وسمع بکیر بوجود حرکة لبنی العباس فی محلته ، فیها أشخاص کانوا مع ابن الحنفیة ، رئیسهم میسرة النبال العبدی مولی بنی أسد ، الذی یسکن فی حی الأزدیین ، وهو یتصل بمحمد بن علی العباسی فی الأردن بالحمیمة .

وکان بکیر مسجلاً فی دیوان الجند مع بنی مُسلیة ، فجاءته مأموریة وذهب جندیاً مع یزید بن المهلب لفتح جرجان فی شمال إیران سنة98 ، ومن تلک السنة صارت جرجان مدینة وسکن فیها عدد من أهل الکوفة . ( وعندما تسمع عن فتح بلد فی کتب الفتوح فقد یکون للمرة الأولی أو العاشرة ! وأن أهل ذلک البلد تحرکوا

ص: 352

ضد المسلمین فأخضعوهم مجدداً) . وقد حقق بکیر فی سفرته الی جرجان نجاحاً کجندی وإداری ، ثم ذهب الی خراسان فاختاره الجنید بن عبد الرحمن والی خراسان مترجماً وکاتباً ، وأرسله بمهمات إداریة الی السند فجمع ثروة جیدة ، لکنه عُزل: (فلما عزل الجنید قدم بکیر الکوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب ، وعاد بها الی الکوفة... فذکروا له أمر دعوة بنی هاشم فقبل ذلک ورضیه ، وأنفق ما معه علیهم). (الکامل:5/125). وفی الکوفة

سجنه الوالی مع عمال الجنید المعزول ، والتقی فی السجن ببعض بنی معقل بعضهم حبس بسبب سرقة أموال الخراج فی أصفهان وبعضهم (بسبب من أسباب الفساد). (أخبار الدولة العباسیة/254) .

وتعرَّفَ فی السجن علی أبی مسلم وکان غلاماً صغیراً یخدم أسیاده بنی معقل لأنه من قریة لهم بأصفهان ، فأعجب به بکیر واشتراه بأربع مئة درهم سنة124.

واستولی بکیر علی قلب محمد بن علی العباسی وأخذ منه تفویضاً عاماً: فقد کسب قلب میسرة العبدی وقلوب بنی مُسْلیة ، لأنه أنفق علیهم لبنات ذهبه وفضته ، ولما توفی میسرة کلفوا بکیراً أن یذهب موفداً منهم الی إمامهم العباسی ( فأجاب إلی ذلک وسُرَّ به ونشط له). (أخبار الدولة العباسیة/194). فسافر الی الأردن بصورة تاجر عطر: (اجتمعت الشیعة بالکوفة ، وکتبوا إلی الإمام من جماعتهم بموت أبی ریاح وسألوه أن یولی علیهم رجلاً وکان رسولهم بکتابهم إلی الإمام أبو هاشم بکیر بن ماهان من قریة هرمزفَرَهْ). (أنساب السمعانی:5/635).

وفی کتاب العباسیین الرسمی (أخبار الدولة العباسیة) الذی نشره الدکتور عبد العزیز الدوری سنة1971، صفحة/196: (قال بکیر: فدفعت إلیه تسعین ومئة دینار جمعتها من شیعة الکوفة ! قال: ودفعت إلیَّ أم الفضل(زوجة بکیر) طوقاً من ذهب وثوباً مرویاً (نسبة الی مرو) من غزل یدها وسألتنی دفعهما إلیه ، فکان أول مال حملته الشیعة إلی محمد بن علی مع بکیر بن ماهان . قال إبراهیم: فکان إذا تفرق بنو

ص: 353

علی وحامتهم أرسل محمد إلی بکیر فیدخله علیه ویکثر الخلوة به ، فقال عبد الله بن علی(أبرز إخوة محمد بن علی): قد غلبنا هذا العطار علی أبی عبد الله فقلت له: إنه حسن الحدیث وقد طوَّف البلدان وأخوک یعجبه حدیثه... قال عمرو بن شبیب المُسْلی: سمعت بکیراً وهو یحدث سالماً قال: قلت لمحمد بن علی: ما أعجب غفلتک ، وأنت ترید ما ترید ویأتیک من یأتیک ، عن اتخاذک منزلاً شاسعاً تنفرد فیه لأمورک وغاشیتک ، وتتنحی فیه عن جماعة أهل بیتک ، فوالله ما آمن السفهاء منهم أو من غیرهم من جیرتک أن یفشو شیئاً سمعه أو ظنه ، حتی یلقی بک فیما تکره ، وأنت بین هذه الفراعنة ! فقال لی: رحمک الله یا أبا هاشم ! ما زلت أحدث نفسی بذلک . قال: فاتخذ منزلاً بکُداد وبینه وبین منازل ولد أبیه بالحمیمة نحو من میلین . قال بکیر: فقلت له: لو صیرت بینک وبین شیعتک رجلاً من أهلک لا تنکر خلوتک به ، تکون رسلهم تأتیه ویکون هو یؤدی عنک إلیهم؟ فقال: إنی فاعل...

فلما تهیأ لبکیر انصرافه إلی العراق قال لمحمد بن علی: إنی قد جَوَّلت الآفاق ودخلت خراسان وشهدت فتح جرجان مع یزید بن المهلب ، فما رأیت قوماً أرق قلوباً عند ذکر آل الرسول من أهل المشرق ، ولقد لقیت رجلاً من الحی یقال له قیس بن السری بجرجان ، فصادفت عنده رجلاً من الأعاجم فسمعته یقول بالفارسیة: ما رأینا قوماً أضل من العرب ، مات نبیهم فصیروا سلطانه إلی غیر عترته ، ثم بکی ، فوالله ما ملکت نفسی أن بکیت معه ، فقلت له: رحمک الله وکم رأیت من باطل قد علا علی حق ، شُبِّه علی العرب ودُعوا إلی الدنیا فمال إلی الدنیا

من کان فی الدنیا همته ، وقد أفاق کثیر منهم وأبصروا خطأهم . قال: فما یمنعکم من الطلب لهم ورد الأمر فیهم ، فأنا لکم علی أهل بلادی ضمین ینهضون معکم فی ذلک ، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم ، أبسط یدک أبایعک علی ذلک فبسطت یدی فبایعنی ، وما لنا یومئذ أرب فی نشر الدعوة بخراسان...

ص: 354

فقال محمد: یا أبا هاشم دعوتنا مشرقیة وأنصارنا أهل المشرق ورایاتنا سود ، قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إذا رأیتم الرایات السود مقبلة من خراسان فأتوها ولو حبواً علی الثلج... وقد أذنت لک فی بث الدعوة بخراسان ، واکتم ذلک فلا تظهر شیئاً حتی ترد جرجان ، ولا تلق أمرک إلا إلی الثقات من أهلها ، فأنت بکر هذا الأمر وبک افتتاحه... ولتکن دعوتکم وما تلقی به العامة أن تدعوهم إلی الرضا من آل محمد ، وتذکر جور بنی أمیة وأن آل محمد أولی بالأمر منهم... وأبلغ أصحابک ما ألقیت إلیک ، ومرهم بالکف إلا فی مثل ما ألقیت حتی یأتیهم رأیی ، وحذر شیعتنا التحرک فی شئ مما تتحرک فیه بنو عمنا من آل أبی طالب ، فإن خارجهم مقتول وقائمهم مخذول ، ولیس لهم فی الأمر نصیب ، وسندرک بثأرهم وسنبتلی بسعیهم ، ثم لا یکون ضرر ذلک إلا علیهم !

واحذروا جماعة أهل الکوفة ولا تقبلن منهم أحداً إلا ذوی البصائر ، فإنهم لا یُعَزُّ بهم من نصروه ، ولا یوهنون بخذلانهم من خذلوه ! یا أبا هاشم أنتم خاصتی وعیبتی وثقاتی وأمنائی ، ومنکم القائم بأمرنا ).

أقول: فی هذا النص دلالات مهمة ، منها أن بدایة حرکتهم الحقیقیة کانت علی ید بکیر ، وأن کل عمل محمد بن علی قبله لم یکن ذا قیمة ، فقد قال له: (فأنت بکر هذا الأمر وبک افتتاحه) !

وکان بکیر حریصاً علی إعطاء عمله بعداً غیبیاً کإمامه محمد العباسی: (کتب الإمام محمد بن علی إلی بکیر بن ماهان أن یقوم مقام میسرة... وکان رجلاً مفوهاً فقام بالدعاء وتولی الدعوة بالعراقین . وکانت کتب الإمام تأتیه فیغسلها بالماء ویعجن بغسالتها الدقیق ، ویأمر فیختبز منه قرص ، فلا یبقی أحد من أهله وولده إلا أطعمه منه) ! (الأخبار الطوال/333).ونقل عن إمامه أنه قال عن ولده السفاح: (یا أبا هاشم وأشار إلی أبی العباس: هذا المجلی عن بنی هاشم القائم المهدی ، لا ما

ص: 355

یقول عبد الله بن الحسن فی ابنه ) ! (أخبار الدولة العباسیة/238) .

(مرَّ فتی معه قربتان حتی انتهی إلی دجلة فاستقی ماء ثم رجع ، فدعاه بکیر فقال: ما اسمک یا فتی؟ قال: عامر. قال: ابن من؟ قال ابن إسماعیل من بلحارث . قال: وأنا من بلحارث . قال: فکن من بنی مسلیة . قال: فأنا منهم . قال: فأنت والله تقتل مروان! لکأنی والله أسمعک تقول: یا جوانکتان دهید).(تاریخ الطبری:6/97 ، وتاریخ دمشق:25/309) وفیه: یاحوانکار دهاد ، کلمة فارسیة مبهمة ، تدل علی أن الشاب فارسی.

وزعم بکیر أن إمامه محمد بن علی قال له: یا أبا هاشم أنتم خاصتی وعیبتی وثقاتی وأمنائی ومنکم القائم بأمرنا ، ومنکم قاتل فرعون هذه الأمة ، عمرو أو عامر ، واحد أبیه) .

وبعد رجوعه الی الکوفة ، بدأ بکیر بعمله فأرسل أشخاصاً الی خراسان ، یدعون الی بنی العباس سراً ، فقبض علیهم الوالی وقطع ( أیدی من ظفر به منهم وأرجلهم وصلبهم). (الطبری:5/387) . ثم ذهب بکیر بنفسه الی جرجان ثم الی خراسان ، فبلغ خبره حاکمها الأموی القوی نصر بن سیار ، فبعث للقبض علیه فأفلت منه ، وعاد الی الکوفة وذهب الی إمامه قبیل وفاته: ( قدم أبو هاشم بکیر بن ماهان علی أبی عبد الله محمد بن علی من خراسان بأموال کثیرة وحلی وثیاب فدفعها إلیه... فقال له: إستکثر منی یا أبا هاشم فما أوشک فراقی إیاکم.. وهذا إبراهیم صاحبکم بعدی وقد عهدت إلیه ألا یعدو رأیک . ثم دعا إبراهیم فقال له: یا بنی قد کنت تقدمت إلیک فی طاعة هذا الرجل بما قد علمت فانته إلی ذلک ولا تخالفن أمره ، ولا تجاهدن بنفسک...وأقام عنده نحواً من عشرین لیلة ، ومرض محمد بن علی فأقام ینتظر ما یکون من أمره حتی هلک... ومات محمد بن علی سنة125 هو ابن ستین سنة). (أخبار الدولة العباسیة/237 ، و239) .

أقول: یظهر بما تقدم بطلان زعم العباسیین أن نشاطهم فی إیران بدأ فی زمن

ص: 356

عمر بن عبد العزیز ، فالصحیح أنه لم یکن لبکیر بن ماهان أی نشاط مؤثر قبل أواسط سنة126، حین اضطرب أمر بنی أمیة وقتل الولید بن یزید بن عبد الملک سنة126، ابن عمه الخلیفة الولید بن یزید المعروف بالفاسق ، ثم حکم هو وأخوه إبراهیم حوالی سنة ، حتی استخلف مروان الحمار آخر ملوکهم سنة127 .

ففی تلک الفترة تحرک الحسنیون وبایع عبدالله بن الحسن لابنه محمد علی أنه المهدی کما تقدم . وفی تلک الفترة ثار یحیی بن زید(رحمه الله)ثم عبدالله بن معاویة بن أبی طالب ، وتحرک بکیر بن ماهان تحرکاً سیاسیاً سلمیاً ، ولم یتحرک عسکریاً إلافی سنة130 ، بل نراه ثبط أنصاره عن الثورة مع یحیی بن زید(رحمه الله): (لما رجع بکیر إلی خراسان قال لهم: إن یحیی بن زید کامن بین أظهرکم وکأنکم به قد خرج علی هؤلاء القوم فلا یخرجن معه أحد منکم ، ولا یسعی فی شئ من أمره فإنه مقتول، وقد نعاه الإمام إلی أهل بیته).(أخبار الدولة العباسیة/242). ومعناه أنه کان یعرف قول الصادق(علیه السّلام)فی زید وابنه(رحمه الله) !

ورووا أن بکیراً حمل معه کتاب إمامه الذی جاء فیه: ( وفقنا الله وإیاکم لطاعته قد وجهت إلیکم شقة منی بکیر بن ماهان ، فاسمعوا منه وأطیعوا وافهموا عنه ، فإنه من نجباء الله ، وهو لسانی إلیکم وأمینی فیکم ، فلا تخالفوه ولا تقضوا الأمور إلا برأیه ، وقد آثرتکم به علی نفسی لثقتی به فی النصیحة لکم ، واجتهاده فی إظهار نور الله فیکم . والسلام). (أخبار الدولة العباسیة/213) .

ولم یطل عمر بکیر بن ماهان لکنه أن أرسی مسیرة الثورة: قال فی الأخبار الطوال/333: (مرض مرضه الذی مات فیه فأوصی إلی أبی سلمة الخلال وکان أیضاً من کبار الشیعة... فکتب محمد بن علی إلی أبی سلمة فولاه الأمر وأمره بالقیام بما کان یقوم به أبو هاشم). وفی تاریخ الطبری:5/622: (وکتب إبراهیم إلی أبی سلمة یأمره بالقیام بأمر أصحابه ، وکتب إلی أهل خراسان یخبرهم أنه قد

ص: 357

أسند أمرهم إلیه ، ومضی أبو سلمة إلی خراسان فصدقوه وقبلوا أمره ودفعوا إلیه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشیعة وخمس أموالهم). ونحوه الکامل:5/339 .

وفی أخبار الدولة العباسیة/250: (أتانا قتل الولید وقدم منصور بن جمهور والیاً علی العراق ، وهرب یوسف بن عمر... فقالوا له: یا أبا هاشم قتل الولید ، وهو مغلوب لشدة مرضه ، فکرروا ذلک علیه حتی فهم قولهم فقال: أوَقُتل الولید؟ قالوا: نعم . قال: قد کنت أتوقع ذلک فالحمد لله علی قضائه، أما لو کانت بی حیاة لقرَّت عینی وعظم سروری. یا أبا سلمة وهو حاضر یومئذ: شمر فی أمرک فقد فتح الله البلاء علی بنی أمیة ، وفتح الفجر علی آل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إنا کنا نقول: إن قتل الولید أحد أوقاتهم ، ثم العصبیة وقد بدأت بالمشرق الحروریة ، ثم الطاعون الجارف ، ثم الرجفة . قال: وجعل یتکلم فلا یفهم حتی غلب فوالله ما برحنا حتی مات وصار إلی أبی سلمة أمر الدعاة).

ص: 358

الفصل الثانی عشر:قادة الثورة یعرضون البیعة علی الإمام الصادق(علیه السّلام)

أبو سلمة الخلال خلیفة بکیر بن ماهان وأکفأ منه

أبو سلمة حفص بن سلیمان ، مولی بنی السبیع ، کان یعمل فی الصرافة وبیع الخل فی الکوفة ، وصفه الذهبی فی سیره:6/7، بأنه: ( رجل شهم ، سائس ، شجاع ، متمول ذو مفاکهة وأدب وخبرة بالأمور ، وکان صیرفیاً أنفق أموالاً کثیرة فی إقامة الدولة وذهب إلی خراسان وکان أبو مسلم تابعاً له فی الدعوة ، ثم توهم منه میل إلی آل علی عندما قتل مروان إبراهیم الإمام . فلما قام السفاح وزَرَ له وفی النفس شئ ، ثم کتب أبو مسلم إلی السفاح یُحَسِّنُ له قتله فأبی وقال: رجل قد بذل نفسه وماله لنا ! فدس علیه أبو مسلم من سافر إلیه وقتله غیلة لیلاً بالأنبار ، فإنه خرج من السمر من عند الخلیفة فشد علیه جماعة فقتلوه ، وذلک بعد قیام السفاح بأربعة أشهر سنة اثنتین وثلاثین ومئة فی رجبها ، وتحدث العوام أن الخوارج قتلوه . وکان سامحه الله یقال له: وزیر آل محمد ) .

أقول: کان أبو سلمة یعیش فی حی زرارة من قبیلة همدان بالکوفة ، وجوُّهم التشیع لعلی والأئمة من ذریته(علیهم السّلام). وکان نابغاً فی السیاسة والإدارة ، لکنه کان تابعاً لأستاذه بکیر بن ماهان ، الذی اختار العباسیین أئمة لثورته ، وقد زوج أبا سلمة ابنته حمامة ، وأخذه معه الی إمامه محمد بن علی العباسی، ثم الی إبراهیم

ص: 359

بن محمد ، وعرفهم علیه ووثقه عندهم ، وأرسله مرات الی إیران والأردن وأرسل معه أبا مسلم یخدمه . وعندما توفی بکیر سنة126 ، استخلفه وکتب بذلک الی إمامه إبراهیم بن محمد فأمضی استخلافة وکتب الی أنصاره بإطاعته إطاعة کاملة. قال فی الآداب السلطانیة/107: (کان أبو سلمة سمحاً کریماً مطعاماً کثیر البذل، مشغوفاً بالتنوق فی السلاح والدواب ، فصیحاً عالماً بالأخبار والأشعار والسیر والجدل والتفسیر ، حاضر الحجة ، ذا یسار ومروءة ظاهرة . فلما بویع السفاح استوزره وفوض الأمور إلیه وسلم إلیه الدواوین ولقب وزیر آل محمد ، وفی النفس أشیاء) .

وتدل فعالیاته فی الثورة علی أنه کان أکفأ من عمه بکیر ، فکان ینقذه من مشکلات عملیة ومالیة ، فقد رجع مرة من إیران فوجد بکیراً محبوساً من غرمائه: (وکانت إقامة أبی سلمة هناک أربعة أشهر ، ولما انصرف ألفی أبا هاشم محبوساً علی ما خلفه علیه ، وکانت حمامة بنت بکیر أبی هاشم تحت أبی سلمة فصالح أبو سلمة عنه غرماءه.. وأبو سلمة یومئذ موسر حسن الحال ، وکان یعالج الصرف وکانت له حوانیت یباع له فیها الخل... فلم یلبث أبو هاشم (بکیر) إلا نحواً من شهرین حتی مرض واشتد وجعه). (أخبار الدولة العباسیة/248).

(کتب بکیر بن ماهان إلی إبراهیم بن محمد یخبره أنه فی أول یوم من أیام الآخرة وآخر یوم من أیام الدنیا وأنه قد استخلف حفص بن سلیمان وهو رضیً للأمر . وکتب إبراهیم إلی أبی سلمة یأمره بالقیام بأمر أصحابه ، وکتب إلی أهل خراسان یخبرهم أنه قد أسند أمرهم إلیه). (الطبری:5/622، ونحوه الأخبار الطوال/334).

قاد أبو سلمة الثورة الإیرانیة العباسیة ، وهو مختبئ فی الکوفة ، فقد کانت رسائله ورسله تتوالی الی إمامه إبراهیم فی الأردن ، والی غلامه أبی مسلم فی

ص: 360

إیران ، وقائد جیشه الشجاع قحطبة بن شبیب الطائی !

ومن أمثلة إدارته رسالته فی معرکة جیشه فی نهاوند مع الجیش الأموی الشامی الذی أرسله مروان بقیادة ابن ضبارة ، قال فی أخبار الدولة العباسیة/336: (فأشار بعضهم بالخروج إلیه وأبی الأکثر أن یخرجوا حتی یقرب منهم ابن ضبارة ، وبلغ أبا سلمة ما دبر ابن هبیرة فی ابن ضبارة ، وما صنع مروان فیمن وجه من الجنود ، فکتب إلی أبی مسلم یخبره بذلک ، وأن یسرب الجنود إلی قحطبة ، وکتب أبو سلمة إلی قحطبة یأمره بالتأنی حتی یستکشف أمره ، وبعث بکتابه إلیه مع أشیم بن دعیم المسلی ، فقدم الری فألفی قحطبة قد أراد الخروج وأن یتقدم ، فلما قرأ کتاب أبی سلمة أقام بالری حتی قدمت الجنود إلی قحطبة قائداً فی إثر قائد ، حتی سرب إلیه أحد عشر قائداً فی نحو من عشرة آلاف رجل ).

کما استطاع أبو سلمة أن یخفی فعالیاته ویهدئ الوضع فی الکوفة ولا یفتح فیها جبهة ، حتی جاءت ساعة الصفر بعد أن تحررت إیران ودخل جیش الخراسانی بقیادة قحطبة الی العراق ، واشتبک فی واسط مع الوالی الأموی ابن هبیرة !

عندها حرک أبو سلمة ابن الوالی الأموی السابق المعزول الذی اتفق معه علی الثورة عند دخول الجیش الخراسانی العراق: (وکتب قحطبة إلی أبی سلمة یخبره بعبوره الفرات ، وبعث بکتابه إلیه مع أبی ماجد رجل من همدان ، فلما وصل إلیه الکتاب بعث إلی محمد بن خالد القسری رسولاً یقول له: قد کنت تتمنی هذا الیوم فقد بلغته ! فأظهر السواد واخرج فی موالیک وعشیرتک وصنائع أبیک ، فبعث إلی موالیه وقومه وجیرته وصنائع أبیه ، فاجتمع إلیه منهم نحو من ألف رجل ، فأخبرهم برأیه وما أجمع علیه ، وأمرهم ألا یبیتوا حتی یفرغوا من سوادهم. وبعث أبو سلمة بمثل ذلک إلی طلحة بن إسحاق بن محمد بن الأشعث الکندی فتأهب ،

ص: 361

وبدره محمد بن خالد فخرج من منزله فی جماعة کثیرة ، ودس له أبو سلمة أصحابه ومن کان من جیرته فیمن یلیهم ، وأرغبوهم فی الخروج للحوق بمحمد بن خالد ففعلوا . وانتشر الحدیث بذلک فماج أهل الکوفة بعضهم فی بعض وبلغ ذلک زیاد بن صالح صاحب شرطة ابن هبیرة فهرب من القصر ولحق بابن هبیرة . ومضی محمد بن خالد حتی أتی القصر ولیس فیه أحد ، فدخله وخرج إلی المسجد الجامع یوم الإثنین لست لیال خلون من المحرم سنة اثنتین وثلاثین ومئة ، ووافاه طلحة بن إسحاق فی جماعة قومه ، فصعد محمد المنبر فحمد الله وأثنی علیه ، وخلع مروان ودعا إلی آل محمد . وکان فیما تکلم به یومئذ أن قال: یا أهل الکوفة ! إن الله قد أکرمکم بهذه الدعوة المبارکة ، وقد طلبها الأبناء بعد الآباء فحرموها حتی ساقها الله إلیکم ، هذه جنود الحق قد أظلتکم داخلة علیکم أحد الیومین فقوموا فبایعوا . قال: فوالله ما رأیت سروراً قط کان أشد اجتماعاً علیه من سرورهم بالبیعة ، لقد أطافوا بالمنبر یستبقون إلی البیعة حتی کادوا یکسرونه ، فما تخلف عن البیعة إلا أناس قلیل ! وبعث أبو سلمة إلی محمد بن خالد أن ابعث الساعة إلی بیت المال والخزائن والطراز من یختم علی ما فیها، وسمی لها: یونس بن أبی الهمدانی والحجاج بن أرطاة النخعی وبشر ابن الفرافصة العبدی والهلقام بن عبد الله التمیمی فبعثهم محمد بن خالد فختموا علی بیت المال والخزائن والطراز). (أخبار الدولة العباسیة/367) .

وأخبر أبو سلمة قادة الثورة بسجن إمامهم إبراهیم ، وأنه یعمل لتخلیصه:

(وکان مروان بن محمد آخر ملوک بنی أمیة یحتال علی الوقوف علی حقیقة الأمر ، وأن أبا مسلم إلی من یدعو منهم ، فلم یزل علی ذلک حتی ظهر له أن الدعاء لإبراهیم الإمام ، وکان مقیماً عند إخوته وأهله بالحمیمة.. فأرسل إلیه

ص: 362

وقبض علیه وأحضره إلی حران ، فأوصی إبراهیم بالأمر من بعده لأخیه عبد الله السفاح . ولما وصل إبراهیم إلی حران حبسه مروان بها ثم غمه بجراب طرح فیه نورة وجعل فیه رأسه وسد علیه إلی أن مات ، وذلک فی صفر سنة اثنتین وثلاثین ومائة ، وقیل إنه قتله غیر هذه القتلة ، لکن هذا هو الأکثر ! وکان عمره إحدی وخمسین سنة وکان دفنه هناک داخل حران. ثم صار أبو مسلم یدعو الناس إلی أبی العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح ). ( وفیات الأعیان:3/147).

(وورد علیه(قحطبة) کتاب أبی سلمة أن مروان قد حبس إبراهیم الإمام ، وقد هیأت رجلین أبعثهما بمال یصانعان فی تخلیصه... إن ابن هبیرة فی جموع عظیمة بجلولاء وإنی لعلی ثقة من إتمام الله دعوتنا ). (أخبار الدولة العباسیة/363).

وظهر أبو سلمة فی الکوفة واحتفل بالنصر: ( وأرسل أبو سلمة إلی حمید بن قحطبة أن یدخل الکوفة بأحسن هیأة ، وأن یظهروا زینتهم ویشهروا سلاحهم وأعلامهم وقوتهم ، ففعل... وظهر أبو سلمة وأعلن أمره.. وأتوا أبا سلمة وهو فی داره ببرذون سمند یقوَّم علیه باثنی عشر ألف درهم ، مسرجاً ملجماً ، فقدم إلیه فرکبه وترجل العکی وبسام وخازم وأبو شراحیل (قادة) فقبلوا یده وتقدم وجوه من معهم إلیه یقبلون یده ویدعون له بالبرکة ، ومضی إلی العسکر ، وجعل بعضهم یلقی بعضاً فیقول له: تو أبی سلمة دیدی؟ (أنت رأیت أبا سلمة؟! ) فإذا قال: نعم ، اعتنقه وقبله إعظاماً لأبی سلمة ! وکان ظهور أبی سلمة وتولیته للأمور یوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة اثنتین وثلاثین ومئة ، فانتهی إلی العسکر وقد وقف له الناس واستقبله القواد ، فلم یبق أحد مهم إلا نزل إلیه وقبل یده ، فاستقرأ صفوفهم یسلم علی عوامهم ویدعو بالبرکة لهم ثم نزل ، وقد هیئت له حجرة فنزلها ، وانقاد القوم له وسمعوا منه وأطاعوا أمره وسکنوا إلیه ، وبات لیلته وقد أطافت الخراسانیة بحجرته وعظَّمَت أمره .

ص: 363

فلما أصبح جمع القواد ووجوه الجند.. وذکر خطبته ..ثم قال: (فتکلم القوم فی جواب ذلک وذکروا طاعتهم ، وقوة بصائرهم واجتهادهم ، وما هم علیه من الجد فی مجاهدة عدوهم ، وتکلموا بالفارسیة بذلک وکبروا تکبیرا متتابعاً ارتج منه العسکر ، فلما سکنوا قال: إن أهل بیت اللعنة کانوا یفرضون لجندهم فی السنة ثلاث مئة درهم ، وإنی قد جعلت رزق الرجل منکم فی الشهر ثمانین درهماً ، وسأخص قوادکم وأهل القدم والسوابق منکم بخواص سنیة أجریها علیکم ، لکل رجل بقدر استحقاقه ، فابشروا وقروا عیناً واحمدوا الله علی بلائه عندکم ، وکأنکم بإمامکم قد حل بین أظهرکم فیعطیکم أکثر مما تأملون ! فکبروا وارتج العسکر بالتکبیر ، ثم تحول فعسکر بحمام أعین). (أخبار الدولة العباسیة:374).

(وسار ابن قحطبة حتی دخل الکوفة فی نیف وثلاثین ألفاً من أهل خراسان ومن اتبعه من أهل العراق وأقبل إلیه أبو سلمة حفص بن سلیمان الخلال وکان یعرف بالوزیر وزیر آل محمد(ص) فلما رآه الحسن بن قحطبة قام إلیه وقبل یده وتنحی عن مجلسه حتی أجلسه ، ثم قال: أیها الوزیر إن الأمیر أبا مسلم قد أمرنا بطاعتک فما تأمرنا؟ قال: فوثب أبو سلمة من وقته ورکب معه الحسن بن قحطبة ، ونودی فی الناس فاجتمعوا إلی المسجد الأعظم ولم یبق هاشمی ولا غیر ذلک من أشراف أهل الکوفة إلا وقد اجتمعوا وهم لا یدرون لأی شئ یجتمعون . قال: وبالکوفة یومئذ جماعة من العلویة ، قوم یظنون أن البیعة تکون لولد أبی طالب ، وقوم یظنون أن البیعة تکون لولد العباس ). (الفتوح لابن الأعثم:8/328).

وکان الذی سمی أبا سلمة وزیر آل محمد ، قحطبة قائد جیوش أبی مسلم الذی غرق فی دجلة ، فخلفه ابناه حسن وحمید: (وقال قبل موته: إذا قدمتم الکوفة فوزیر الإمام أبو سلمة ، فسلموا هذا الأمر إلیه). (الطبری:6/73).

ص: 364

وأدار أبو سلمة الدولة الجدیدة بکفاءة حتی بویع السفاح: (وبایع الناس أبا سلمة حفص بن سلیمان مولی السبیع ، وکان یقال له وزیر آل محمد ، واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله علی الکوفة . وکان یقال له الأمیر حتی ظهر أبو العباس السفاح ) . (ابن خلدون:3/128، والکامل:5/406 ، ونحوه الطبری:6/73).

وحبس أبو سلمة الخلال کل بنی العباس فی الکوفة !

قام أبو سلمة بعمل جرئ مع العباسیین کان سبب قتله بعد عدة أشهر ! فقد حبس کل أولاد العباس أربعین یوماً ، وفی روایة المسعودی شهرین ، وراسل الإمام

الصادق(علیه السّلام)عارضاً علیه البیعة بالخلافة !

وکان سبب مجئ بنی العباس الی الکوفة أنهم یرون أن الخلافة لهم بعد أخیهم إبراهیم بن محمد ، فعندما اعتقل الأمویون إبراهیم من الحُمیمة بالأردن ، قالوا إنه أمر إخوته ورجال بنی العباس: ( بالمسیر إلی الکوفة مع أخیه أبی العباس عبد الله بن محمد وبالسمع والطاعة له وأوصی إلی أبی العباس وجعله الخلیفة بعده ، فشخص أبو العباس عند ذلک ومن معه من أهل بیته... حتی قدموا الکوفة فی صفر فأنزلهم أبو سلمة دار الولید بن سعد مولی بنی هاشم فی بنی أود ، وکتم أمرهم نحواً من أربعین لیلة عن جمیع القواد والشیعة ، وأراد فیما ذکر تحویل الأمر إلی آل أبی طالب لمَّا بلغه الخبر عن موت إبراهیم بن محمد ، فذکر علی بن محمد أن جبلة بن فروخ وأبا السری وغیرهما قالوا قدم الإمام الکوفة فی أناس من أهل بیته فاختفوا ، فقال أبو الجهم لأبی سلمة: ما فعل الإمام؟ قال: لم یقدم بعد ، فألحَّ علیه یسأله ، قال: قد أکثرت السؤال ولیس هذا زمان خروجه ! حتی لقی أبو حمید خادماً لأبی العباس یقال له سابق الخوارزمی فسأله عن أصحابه فأخبره أنهم بالکوفة ، وأن أبا سلمة أمرهم أن یختفوا ! فجاء به إلی أبی

ص: 365

الجهم فأخبره خبرهم فسرح أبو الجهم أبا حمید مع سابق حتی عرف منزلهم بالکوفة ، ثم رجع وجاء معه إبراهیم بن سلمة رجل کان معهم فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ، ونزول الإمام بنی أود وأنه أرسل حین قدموا إلی أبی سلمة یسأله مائة دینار فلم یفعل ! فمشی أبو الجهم وأبو حمید وإبراهیم إلی موسی بن کعب فقصوا علیه القصة وبعثوا إلی الإمام بمائتی دینار ، ومضی أبو الجهم إلی أبی سلمة فسأله عن الإمام فقال: لیس هذا وقت خروجه لأن واسطا لم تفتح بعد ، فیرجع أبو الجهم إلی موسی بن کعب فأخبره فأجمعوا علی أن یلقوا الإمام ، فمضی موسی بن کعب وأبو الجهم وعبد الحمید بن ربعی وسلمة بن محمد وإبراهیم بن سلمة وعبد الله الطائی وإسحاق بن إبراهیم وشراحیل وعبید الله بن بسام وأبو حمید وحرز بن إبراهیم وسلیمان بن الأسود ومحمد بن الحصین إلی الإمام (قادة صغار خراسانیون) فبلغ أبا سلمة فسأل عنهم فقیل رکبوا إلی الکوفة فی حاجة لهم ، وأتی القوم أبا العباس فدخلوا علیه فقالوا: أیکم عبد الله بن محمد بن الحارثیة؟ فقالوا: هذا فسلموا علیه بالخلافة ، فرجع موسی بن کعب وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الآخرین فتخلفوا عند الإمام ، فأرسل أبو سلمة إلی أبی الجهم أین کنت؟ قال: رکبت إلی إمامی فرکب أبو سلمة إلیهم ، فأرسل أبو الجهم إلی أبی حمید أن أبا سلمة قد أتاکم فلا یدخلن علی الإمام إلا وحده ، فلما انتهی إلیهم أبو سلمة منعوه أن یدخل معه أحد ، فدخل وحده فسلم بالخلافة علی أبی العباس ، وخرج أبو العباس علی برذون أبلق یوم الجمعة فصلی بالناس ، قال فأخبرنا عمارة مولی جبریل وأبو عبد الله السلمی أن أبا سلمة لما سلم علی أبی العباس بالخلافة قال له أبو حمید: علی رغم أنفک یا ماص بظر أمه ، فقال له أبو العباس مه . فذکر علی بن محمد أن جبلة بن فروخ قال: قال یزید بن أسید: قال

ص: 366

أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمیر المؤمنین سمرنا ذات لیلة فذکرنا ما صنع أبو سلمة ، فقال رجل منا: ما یدریک لعل ما صنع أبو سلمة کان عن رأی أبی مسلم؟! فلم ینطق منا أحد ! فقال أبو العباس: لئن کان هذا عن رأی أبی مسلم إنا بعرض بلاء ، إلا أن یدفعه الله عنا). (تاریخ دمشق:14/409 ، ونحوه الطبری:6/80) .

وقال الیعقوبی:2/350: (وکان من قدم إلی الکوفة من بنی هاشم اثنین وعشرین رجلاً منهم: داود وسلیمان وعیسی وصالح وإسماعیل وعبد الله وعبد الصمد بنو علی بن عبد الله بن عباس ، وموسی بن داود ، وجعفر ومحمد ابنا سلیمان ، والفضل وعبد الله ابنا صالح ، وأبو العباس ومحمد ابنه ، وجعفر ومحمد ابنا المنصور ، وعیسی بن موسی بن محمد ، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهیم ، ویحیی بن محمد ، والعباس بن محمد).

وفی شرح النهج:3/291: (وکان عیسی بن موسی یقول بعد ذلک إذا ذکر خروجهم من الحمیمة یریدون الکوفة: إن ثلاثة عشر رجلاً خرجوا من دیارهم وأهلیهم یطلبون ما طلبنا ، لعظیمة هممهم کبیرة نفوسهم شدیدة قلوبهم).انتهی.

أقول: لا یبعد أن یکون المنصور والسفاح جاءا من الحجاز ، کما أن وصیة إبراهیم لأخیه السفاح غیر ثابتة ، ویظهر أن

المتغلبین نفذوا رغبة محمد بن علی بتفضیل أبناء زوجته ریطة بنت عبد المدان الحارثیة أم السفاح علی أبناء جاریته سلامة البربریة أو الفارسیة أم إبراهیم والمنصور ، وقد ولد إبراهیم سنة ثمانین هجریة فکان أکبر من المنصور بخمس عشرة سنة ، وأکبر من السفاح بخمس وعشرین سنة ، وعندما مات إبراهیم سنة131 أو132، کان عمر السفاح 27 سنة .

کما ینبغی الإشارة الی أن أبا الجهم المذکور ، کان جزاؤه أن سمَّهُ المنصور !

ص: 367

وعرض أبو سلمة الخلافة مجدداً علی الإمام الصادق(علیه السّلام)

قال المسعودی فی مروج الذهب/890: (وأخفی أبو سَلَمة أمر أبی العباس ومن معه ، ووکل بهم وکیلاً ، وکان قدوم أبی العباس الکوفة فی صفر من سنة اثنتین وثلاثین ومائة ، وفیها جریَ البرید بالکتب لولد العباس ، وقد کان أبو سَلَمة لما قُتل إبراهیم الإمام خاف انتقاض الأمر وفساده علیه ، فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وکان أسلم مولیً لرسول اللهّ(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکتب معه کتابین علی نسخة واحدة إلی أبی عبد الله جعفربن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب ، وإلی أبی محمد عبد الله بن الحسن بن الحسین بن علی بن أبی طالب ، یدعو کلَّ واحد منهما إلی الشخوص إلیه لیصرف الدعوة إلیه ، ویجتهد فی بیعة أهل خراسان له ، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ فلا تکونَنَّ کوافد عاد (بعثوه فاختار لهم سحابة سوداء فکانت علیهم لا لهم)

فقدم محمد بن عبد الرحمن المدینة علی أبی عبد الله جعفربن محمد فلقیه لیلاً ، فلما وصل إلیه أعلمه أنه رسول أبی سَلَمة ودفع إلیه کتابه فقال له أبو عبد الله: وما أنا وأبو سَلَمة وأبو سَلَمة شیعة لغیری؟! قال: إنی رسول فتقرأ کتابه وتجیبه بما رأیت . فدعا أبو عبد الله بسراج ثم أخذ کتاب أبی سلمة فوضعه علی السراج حتی احترق ، وقال للرسول: عرِّف صاحبک بما رأیت ! ثم أنشأ یقول متمثلاً بقول الکمیت بن زید(رحمه الله):

أیا مُوقِداً ناراً لغیرک ضوؤها ویا حاطباً فی غیر حبلک تحطب

فخرج الرسول من عنده ، وأتی عبد الله بن الحسن فدفع إلیه الکتاب فقبله وقرأَه وابتهج به ، فلما کان من غد ذلک الیوم الذی وصل إلیه فیه الکتاب رکب عبد الله حماراً حتی أتی منزل أبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، فلما راه أبو عبد الله أکبر مجیئه وکان أبو عبد الله أسَنِّ من عبد الله فقال له: یا أبا محمد أمْرٌ ما

ص: 368

أتی بک ! قال: نعم وهوأجَلُّ من أن یوصف ، فقال: وما هو یا أبا محمد . قال: هذا کتاب أبی سلمة یدعونی إلی ما أقبله وقد قدمت علیه شیعتنا من أهل خراسان ! فقال له أبو عبد الله: یا أبا محمد ومتی کان أهل خراسان شیعة لک؟! أأنت بعثت أبا مسلم إلی خراسان وأنت أمرته بلبس السواد ؟ وهؤلاء الذین قدموا العراق أنت کنت سبب قدومهم أو وَجَّهت فیهم وهل تعرف منهم أحداً ؟! فنازعه عبد الله بن الحسن الکلام إلی أن قال: إنما یرید القوم ابنی محمداً لأنه مهدیُّ هذه الأُمة ، فقال أبو عبد الله جعفر: والله ما هو مهدی هذه الأُمة ولئن شهر سیفه لیقتلن ، فنازعه عبد اللهّ القول حتی قال له: والله ما یمنعک من ذلک إلا الحسد ! فقال أبوعبد الله(علیه السّلام): والله هذا نصح منی لک ، ولقد کتب الیً أبو سلمة بمثل ما کتب به الیک ، فلم یجد رسوله عندی ما وجد عندک ، ولقد أحرقْتُ کتابه من قبل أن أقرأه ، فانصرف عبد الله من عند جعفر مغضباً !

ولم ینصرف رسول أبی سلمة إلیه إلی أن بویع السفاح بالخلافة ، وذلک أن أبا حمید الطوسی دخل ذات یوم من المعسکر إلی الکوفة فلقی سابقاً الخوارزمی فی سوق الکناسِة فقال له: أسابق؟ قال: سابق ، فسأله عن إبراهیم الإمام ، فقال: قتله مروان فی الحبس ، وکان مروان یومئذ بحرَّان ، فقال أبو حمید: فإلی مَنِ الوصیة ، قال: إلی أخیه أبی العباس ، قال: وأین هو ، قال: معک بالکوفة هو وأخوه وجماعة من عمومته وأهل بیته ، قال: مُذْ متی هم هنا ؟ قال: من شهرین ، قال: فتمضی بنا إلیهم ، قال: غداً بینی وبینک الموعد فی هذا الموضع ، وأراد سابق أن یستأذن أبا العباس فی ذلک ، فانصرف إلی أبی العباس فأخبره ، فلامه إذ لم یأت به معه إلیهم ، ومضی أبو حمید فأخبر جماعة من قوَّاد خراسان فی عساکر أبی سَلَمة بذلک ، منهم أبو الجهم وموسی بن کعب وکان زعیمهم ،

ص: 369

وغدا سابقٌ إلی الموضع فلقی أبا حمید ، فمضَیَا حتی دخلا علی أبی العباس ومن معه فقال: أیکم الإمام ، فأشار داود بن علی

إلی أبی العباس وقال: هذا خلیفتکم ، فأکبَّ علی أطرافه یقبلها وسَلم علیه بالخلافة ، وأبو سلمة لا یعلم بذلک ، وأتاه وجوهُ القواد فبایعوه ، وعلم أبو سلمة بذلک فبایعه ، ودخلوا إلی الکوفة فی أحسن زی ، وضربوا له مصافاً وقُدِّمت الخیول فرکب أبو العباس ومن معه حتی أتوا قصر الإمارة ، وذلک فی یوم الجمعة لاثنتی عشرَةَ لیلة خلت من ربیع الآخر سنة اثنتین وثلاثین ومائة) .

وعرض أبو مسلم الخراسانی الخلافة علی الإمام الصادق(علیه السّلام)

قال الشهرستانی فی الملل والنحل:1/154: (وکان أبو مسلم صاحب الدولة علی مذهب الکیسانیة فی الأول ، واقتبس من دعاتهم العلوم التی اختصوا بها ، وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فیهم ، فکان یطلب المستقر فیه ، فبعث إلی الصادق جعفر بن محمد رضی الله عنهما إنی قد أظهرت الکلمة ودعوت الناس عن موالاة بنی أمیة الی موالاة أهل البیت ، فإن رغبت فیها فلا مزید علیک، فکتب إلیه الصادق رضی الله عنه: ما أنت من رجالی ولا الزمان زمانی ! فحاد أبو مسلم إلی أبی العباس عبدالله بن محمد السفاح وقلده أمر الخلافة).

وفی الکافی:8/274: (عن الفضل بن سلیمان الکاتب ، قال: کنت عند أبی عبد الله(علیه السّلام)فأتاه کتاب أبی مسلم فقال: لیس لکتابک جواب أخرج عنا ! فجعلنا یسار بعضنا بعضاً ، فقال: أی شئ تسارُّون؟ یا فضل إن الله عز ذکره لا یعجل لعجلة العباد ولإزالة جبل عن موضعه أیسر من زوال ملک لم ینقض أجله . ثم قال: إن فلان بن فلان ، حتی بلغ السابع من ولد فلان . قلت فما العلامة فیما بیننا وبینک جعلت فداک؟ قال: لا تبرح الأرض یا فضل حتی یخرج السفیانی فإذا خرج السفیانی فأجیبوا الینا یقولها ثلاثاً وهو من المحتوم ) .

ص: 370

وفی ینابیع المودة:3/161: (وأرسل أبو مسلم المروزی صاحب الدولة إلی جعفر الصادق رضی الله عنه وقال: إنی دعوت الناس إلی موالاة أهل البیت ، فإن رغبت فیه فأنا أبایعک . فأجابه: ما أنت من رجالی ولا الزمان زمانی . ثم جاء أبو مسلم الکوفة وبایع السفاح وقلده الخلافة ) .

وفی مناقب آل أبی طالب:3/356: (عن زکار بن أبی زکار الواسطی قال: قبل رجل رأس أبی عبد الله فمس أبو عبد الله ثیابه وقال: ما رأیت کالیوم أشد بیاضاً ولا أحسن منها ! فقال: جعلت فداک هذه ثیاب بلادنا وجئتک منها بخیر من هذه ، قال فقال: یا معتب إقبضها منه ، ثم خرج الرجل فقال أبو عبد الله: صدق الوصف وقرب الوقت ، هذا صاحب الرایات السود الذی یأتی بها من خراسان ! ثم قال: یا معتب الحقه فسله ما اسمه؟ ثم قال: إن کان عبد الرحمن فهو والله هو ، قال: فرجع معتب فقال قال: إسمی عبد الرحمن . قال: فلما ولی وُلد العباس نظرت إلیه فإذا هو عبد الرحمن أبو مسلم . وفی رامش افزای أن أبا سلمة الخلال وزیر آل محمد ، عرض الخلافة علی الصادق قبل وصول الجند إلیه فأبی ، وأخبره أن إبراهیم الإمام لا یصل من الشام إلی العراق ، وهذا الأمر لأخویه الأصغر ثم الأکبر ویبقی فی أولاد الأکبر . وأن أبا مسلم بقی بلا مقصود ! فلما أقبلت الرایات کتب أیضاً بقوله وأخبره أن سبعین ألف مقاتل وصل الینا فننتظر أمرک ! فقال: إن الجواب کما شافهتک ،فکان الأمر کما ذکر ، فبقی إبراهیم الإمام فی حبس مروان وخطب باسم السفاح .

وقرأت فی بعض التواریخ: لما أتی کتاب أبی سلمة الخلال إلی الصادق باللیل قرأه ثم وضعه علی المصباح فحرقه ! فقال له الرسول وظن أن حرقه له تغطیة وستر وصیانة للأمر: هل من جواب ؟ قال: الجواب ما قد رأیت .

وقال أبو هریرة الأبار صاحب الصادق(علیه السّلام):

ولما دعا الداعون مولای لم یکن

لیُثْنَی علیه عزمُه بصواب

ولما دعوه بالکتاب أجابهم

بحرق الکتاب دون رد جواب

ص: 371

وما کان مولای کمشری ضلالة

ولا ملبساً منها الردی بثواب

ولکنه لله فی الأرض حجة

دلیل إلی خیر وحسن مآب ).

وإثبات الوصیة/158، ونحوه الخرائج:2/645 ، وإعلام الوری/272 ، ودلائل الإمامة/140، وفیه:

(فقال أبو عبد الله: عبد الرحمن والله ثلاث مرات ، هو ورب الکعبة . قال بشیر فلما قدم أبو مسلم الکوفة جئت فنظرت إلیه فإذا هو الرجل الذی دخل علینا )

ملاحظات

1- تدل هذه النصوص السنیة والشیعیة وغیرها ، علی أن أکبر قائدین للثورة الخراسانیة اتصلا مراراً بالإمام الصادق(علیه السّلام)، منذ زیارة أبی مسلم له عندما حج سنة129 ، وکذلک زاره أبو سلمة الخلال قبل دخول جیش الخراسانیین ، وعرضا علیه البیعة فلم یقبل ! ثم أرسل الیه أبو سلمة بعد دخول جیش الخراسانیین یعرض علیه البیعة فأجابه الإمام(علیه السّلام): (إن الجواب کما شافهتک) أی عندما جئتنی ، لأن الإمام(علیه السّلام)لم یذهب فی تلک المدة الی الکوفة. ویشیر النص الی أنه(علیه السّلام)کان أخبره بما یکون ، وأن إبراهیم یموت ولا یصل الی الکوفة: (وأن أبا مسلم بقی بلا مقصود) أی یقتل ولایحقق هدفه فی جعل دور له وللخراسانیین فی اختیار الخلیفة ! ولا یبعد أن یکون الإمام(علیه السّلام)أخبر أبا سلمة بمقتله بید السفاح أیضاً !

فکان اتصالهما بالإمام الصادق(علیه السّلام)قبل فترة قتل إبراهیم فی حران فی صفر الی بیعة السفاح فی منتصف ربیع الثانی ! وهذا ینسجم مع منطق الأمور وأحداث ثورة استغرقت نحو سنتین ، وتضمنت معارک وصراعات ، حتی صارت إیران فی قبضة أبی مسلم وأبی سلمة . أما علی روایة ابن سعد کما ذکر الذهبی وأن قتل إبراهیم کان سنة131، أی قبل دخول الجیش الخراسانی بأکثر من سنة ، فیکون الوقت أوسع للإتصالات .

2- اختلف الباحثون فی تفسیر حرکة أبی سلمة وقیامه بحبس العباسیین ومراسلة الإمام الصادق(علیه السّلام) ! والذی أرجحه أنها کانت عن اتفاق بینه وبین أبی مسلم ،

ص: 372

استمراراً لسعیهما السابق فی إقناع الإمام(علیه السّلام)بقبول البیعة ! ولکن القادة الصغار الفرس کأبی الجهم بن عطیة مولی باهلة ، کشفوا خطتهما وأحبطوها !

ویظهر أن هدفهما کان تشکیل شوری من أولاد علی(علیه السّلام)والعباس ، وأن یجعلوها شرطاً علی من یقبل الخلافة ، ویعلنوا ذلک للناس قبل بیعته !

ویظهر أنهم أرادوا مداورة الخلافة ، فیکون الخلیفة أولاً من أولاد الحسین ، ثم من أولاد الحسن(علیهماالسّلام)، ثم من أولاد العباس! فقد روی فی عمدة الطالب/101، والتنوخی فی الفرج بعد الشدة:2/374: ( لما قدم أبو العباس السفاح وأهله سراً علی أبی سلمة الخلال الکوفة ستر أمرهم ، وعزم أن یجعلها شوری بین ولد علی والعباس ، حتی یختاروا هم من أرادوا ، ثم قال: أخاف أن لا یتفقوا ، فعزم علی أن یعزل بالأمر إلی ولد علی من الحسن والحسین ، فکتب إلی ثلاثة نفر منهم..) .

3- ویؤید ما ذهبنا الیه أن هذا النوع من الشوری کان مطروحاً یومذاک ، فقد تبناه الزیدیون وقالوا: ( الإمامة شوری فی أولاد الحسن والحسین فکل فاطمی خرج بالسیف داعیاً إلی الحق وکان عالماً شجاعاً، فهو إمام).(شرح المواقف:8/353) .

4- ویؤیده أن الذی هزَّ وجدان الأمة وأیقظ ضمیرها ضد ظلم بنی أمیة ، حَدَثان حسینیان هما: ثورة الحسین(علیه السّلام)وثورة حفیده زید(رحمه الله) ، ولیس فیهما صنع للحسنیین والعباسیین ، بل کان الحسنیون ساکتین تابعین للحسینیین متعاطفین معهم ، ورفعوا شعار ظلامة الحسین وزید والثأر لهما . وکان أبو سلمة وأبو مسلم یعیشان وسط هذین الحدثین ویریان نبض الأمة وأناشیدها وبکاءها علی الحسین(علیه السّلام)وحفیده زید(رحمه الله)، وقد تقدم أن أبا مسلم أعلن الحداد علی یحیی بن زید(رحمه الله): (وکتب أبو مسلم بإقامة النیاحة ببلخ سبعة أیام بلیالیها ، وبکی علیه الرجال والنساء والصبیان ، وأمر أهل مرو ففعلوا مثل ذلک ، وکثیرٌ من کور خراسان) ! (تاریخ دمشق:64/224 ، وتاریخ الذهبی:8/299 ، ومقاتل الطالبیین/108).

ولذلک کان أبو سلمة یحرص علی أن یستجیب له إمام حسینی ! قال المؤرخ ابن

ص: 373

الطقطقی فی الآداب السلطانیة/106: (فلما سبر أحوال بنی العباس عزم علی العدول عنهم إلی بنی علی ، فکاتب ثلاثة من أعیانهم جعفر بن محمد الصادق ، وعبد الله المحض بن حسن بن حسن بن علی بن أبی طالب ، وعمر الأشرف بن زین العابدین ، وأرسل الکتب مع رجل من موالیهم ، وقال له أقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الکتابین الآخرین ، وإن لم یجب فالق عبد الله المحض ، فإن أجاب فأبطل کتاب عمر ، وإن لم یجب فالق عمر) .

5- ویؤید ماذکرناه أن الأئمة من أبناء الحسین(علیهم السّلام)کانوا معروفین فی بلاد الأمة أکثر من الحسنیین والعباسیین ، فالأمة کلها عرفت زین العابدین ومحمد الباقر وجعفر الصادق(علیهم السّلام)بعلمهم ومعجزاتهم ومواقفهم ضد بنی أمیة ، بما لایقاس بمعرفتها بالحسنیین والعباسیین ، فمن الطبیعی للقادة الإیرانیین الذین یریدون إنصاف الفرس والشعوب غیر الإیرانیة بنصب خلیفة هاشمی ، أن یفکروا بأولاد الحسین(علیه السّلام)قبل غیرهم ، خاصة وأنهم عُرفوا بعالمیة عقیدتهم وفکرهم وبعدهم عن التعصب العربی والقبلی . وقد کان أبو سلمة وأبو مسلم یعیشون فی الکوفة وسط الموجة الفکریة والسیاسیة التی شقها الإمام الباقر(علیه السّلام)ویرون أن أهل الکوفة وکثیراً من قومهم الفرس یأخذون معالم دینهم من الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)حتی أن الخلیفة الأموی یسمی الباقر: نبی أهل الکوفة !

6- ومما یؤید قولنا ما رواه ابن الأعثم فی الفتوح:8/328 ، قال: (ونودی فی الناس فاجتمعوا إلی المسجد الأعظم ، ولم یبق هاشمی ولا غیر ذلک من أشراف أهل الکوفة إلا وقد اجتمعوا ، وهم لا یدرون لأی شئ یجتمعون . قال: وبالکوفة یومئذ جماعة من العلویة قوم یظنون أن البیعة تکون لولد أبی طالب وقوم یظنون أن البیعة تکون لولد العباس . قال: فاجتمع الناس وتکاملوا فی المسجد ، وأقبل أبو سلمة حفص بن سلیمان حتی صعد علی المنبر ، فحمد الله وأثنی علیه وخطب الناس ، ثم

ص: 374

قال: أیها الناس أنظروا غداً ولا یبقی أحد ممن یلبس السلاح ویرکب الخیل إلا ویلبس السواد ویوافی هذا المسجد حتی تعتقد البیعة لأهلها ، والسلام . قال: فعندها أیس الناس من آل أبی طالب من البیعة وانصرف الناس إلی منازلهم فجعلوا یصبغون الأقبیة والعمائم والأعلام ، فما أقبل الصباح إلا وأهل الکوفة کلهم لابسون السواد ، ثم صاروا إلی المسجد الأعظم فرکب بعضهم بعضاً، وضربت الطبول وخفقت الرایات ونفخت البوقات وارتفع التکبیر وأقبل أبو سلمة حفص بن سلیمان حتی دخل المسجد وعلیه سواد ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه وذکر محمداً فصلی علیه وعلی آله الطیبین الطاهرین ثم قال: أیها الناس، هل أنتم راضون بما أصنع؟ فقالوا: رضینا بأمرک، إفعل ما بدا لک ! فقال: إن الأمیر أمیر آل محمد أبا مسلم الخراسانی عبد الرحمن بن مسلم کتب إلیَّ وأمرنی أن أقیم للناس خلیفة هاشمیاً ، لیستریح هذا الخلق من جور بنی أمیة العاتین الظالمین الفسقة الذین قتلوا ذریة رسول الله (ص) . ألا وإنا قد نظرنا فی أخبار بنی هاشم وذوائبها ، فما رأینا فیها

أحداً هو أجل ولا أعبد من علی بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ، وکل بنی العباس خیرون فاضلون ، وقد ارتضیت لکم عبد الله بن محمد بن علی بن عبد الله بن عباس وهو الزکی فی حسبه التقی فی نسبه العدل فی سیرته ، فهل رضیتم به؟ قال: فضج الناس من کل جانب: نعم رضینا . ثم نزل أبو سلمة عن المنبر وأرسل إلی عبد الله بن محمد فدعاه ، فأقبل عبد الله بن محمد علی بغلة له دهماء وهو معتم بعمامة سوداء ، وعلیه ثیاب سود حتی دخل المسجد). انتهی.

لاحظ أن أبا سلمة سمی أبا مسلم (أمیر آل محمد) وعبر عنه لأول مرة بکلمة (أمرنی) مع أن أبا مسلم غلامه ، وما زال یتلقی منه الأوامر !

ثم لاحظ أن أبا سلمة لم یذکر شیئاً عن بیعتهم لمحمد بن علی بن عباس ، وابنه إبراهیم الذی یسمونه الإمام ، وهذا یضعف کل ما رواه العباسیون من ذلک ! فقد جعل أبو سلمة الأمر جدیداً من تاریخ تحقیق النصر ، وأن المطلوب

ص: 375

تنفیذ أمر أبی مسلم یوم النصر: (أمرنی أن أقیم للناس خلیفة هاشمیاً) بدون تحدید عائلته ، فأنا مخول وصاحب الحق فی ذلک ، وسأتصرف فهل تقبلون ؟! فصاح الخراسانیون: (رضینا بأمرک ، إفعل ما بدا لک).

وعندما أخذ التفویض من الجمهور الحاضر ، وغالبیتهم من عوام الإیرانیین أرسل بإحضار الخلیفة المرشح فبایعه وبایعه الناس ! وهذا یکشف عن خطته أن یبایع لأی شخص یستجیب له من الذین راسلهم ، وأن یطلب من الناس تخویله بجعلها شوری بالشکل الذی یتفق علیه مع المرشح ، لکنه اضطر الی هذا الإخراج بسبب ضغط القادة الخراسانیین الصغار وجنودهم الذین سمح لهم بالدخول الی الکوفة ، فقادهم أبو الجهم مولی باهلة ، وأحبط خطته !

7- لم یکن بکیر وأبو سلمة وأبو مسلم ، شیعة للإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)، بل کانوا قومیین فرساً یعملون لمصلحة الفرس والشعوب الإیرانیة التی کانت تسمی الخراسانیة ومن الطبیعی لهم أن یفکروا بضمان مستقبل الإیرانیین وإعطائهم دوراً فی تعیین الخلیفة عن طریق الشوری بین آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وما شابه .

8- وؤید ما ذکرناه أن أبا سلمة عاش فی وسط الشیعة الزیدیة والإمامیة ، فهو مولی بطن السبیع من الهمدانیین ، وهمدان معروفة بتشیعها ، والسبیعیون منهم العالم المشهور أبو إسحاق السبیعی المعاصر لأبی سلمة ، الذی یروی عن الإمام الباقر(علیه السّلام)( المحاسن:1/282) ویمدح زیداً(رحمه الله)(مسند زید/46). قال النجاشی/94: (رجل جلیل فی أصحاب الحدیث مشهور بالحفظ.. وکان کوفیاً زیدیاً جارودیاً علی ذلک حتی مات). ومنهم حمید بن شعیب السبیعی المعاصر لأبی سلمة أیضاً الذی یروی عن جابر الجعفی وله کتاب (النجاشی/133) . وقد نبغ من السبیعیین فیما بعد ابن عقدة الشیعی الزیدی الذی ملأ الدنیا علماً (فهرست الطوسی/73) . فکان أبو سلمة ألیفاً للأئمة الحسینیین وأصحابهم .

ص: 376

9- یعجب الباحث بهذه الحکمة العالیة فی عمل الإمام الصادق(علیه السّلام)فی خضم تلک الأحداث الکبیرة والخطیرة لثورة الخراسانیین ، والحسنیین ، وتسلط العباسیین ، فقد رسم(علیه السّلام)الخط السیاسی الصحیح ونفذه بمن أطاعه ، واتخذ المواقف الشرعیة الحکیمة التی تحفظ الإسلام کدین ومسار ، وأهمها الموقف من الزعامات المتصارعة علی الحکم ! ویزداد إعجابک بمعجزات الإمام وأبیه من قبل(علیهماالسّلام) ، وإخبارهما عن مصیر الأشخاص ومستقبل الأوضاع ، فهکذا یکون الإمام المعصوم حجة الله تعالی علی خلقه ، لو فهموا منه وأطاعوه !

ومن النکات التی نلفت الیها هنا تأکید الإمام(علیه السّلام)علی بیاض ثیاب أبی مسلم الخراسانی، لیسجل بذلک أن الرایات السود التی تبناها بنو العباس إنما هی لعبة لتطبیق الحدیث النبوی علیهم وأن رایاتهم هی الموعودة لنصرة المهدی(علیه السّلام)!

لماذا رفض الإمام الصادق(علیه السّلام)أن یتسلم السطة ؟

یتعجب الباحث وتأخذه الدهشة من رفض الإمام الصادق(علیه السّلام)أن یتسلم الخلافة والسلطة ، مع أنها قدمت له بکل احترام ، علی طبق من ذهب !

إنه عَرْضٌ یسیل له لعاب الناس ، وأولهم الإسلامیون ! فیتساءلون بحرقة: لماذا لم یقبل الإمام(علیه السّلام)تسلم السلطة ویصلحها من الداخل؟ ألا یجب علیه أن یقیم الدولة الإسلامیة ویطبق أحکام الإسلام ، ویعمل لتحقیق العدالة التی صادرها الأمویون ، فیعید الی المسلمین حقوقهم المسلوبة وثرواتهم المنهوبة؟!

إنه موقف یشبه موقف جده الإمام زین العابدین(علیه السّلام)عندما عرض علیه المختار وابن الأشتر البیعة وتولی قیادة دولة العراق وإیران ، فرفض ! مع أنها دولة قامت علی المطالبة بثأر أبیه الإمام الحسین(علیه السّلام)!

وقد تقدم الجواب علی هذا التساؤل وقلنا إن أهداف المعصومین(علیهم السّلام)عالیة

ص: 377

وبعیدة النظر ، وإنه یعمل بفقه أعمق وخریطة ربانیة ، وبرنامجه یتفق مع أحکام الشریعة کما نفهمها وقد یختلف أحیاناً عما نفهم ! ومن الغباء أن نُبَسِّط عمل الله تعالی فی الطبیعة أو علی ید الأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام) !

ونضیف هنا ما یخفف التساؤل: وهو أن المشکلة الأساسیة عند الأنبیاء والأئمة(علیهم السّلام)هی وجود (الکوادر) المؤمنة الکفوءة التی تدیر الحکم معهم ، ثم تدیره من بعدهم ، فهذه هی نقطة الضعف القاتلة لدول العدل التی أقاموها(علیهم السّلام) !

وقد أخبرنا الله بأن ذلک من سننه فی الحیاة ، وأنه هو السبب لانحراف الأمم وصراعها بعد الرسل(علیهم السّلام)! قال تعالی: تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَیْنَا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّنَاتِ وَأَیَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ وَلَکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ کَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَکِنَّ اللهَ یَفْعَلُ مَا یُرِیدُ .(البقرة:253).

وأخبرنا الإمام الصادق(علیه السّلام)بأن هذه المشکلة هی التی تمنعه من الثورة ، کما تمنعه من قبول تسلم السلطة ! ففی الکافی:2/242: ( باب فی قلة عدد المؤمنین.. عن سدیر الصیرفی قال: دخلت علی أبی عبد الله(علیه السّلام)فقلت له: والله ما یسعک القعود ! فقال: ولمَ یا سدیر؟ قلت: لکثرة موالیک وشیعتک وأنصارک ، والله لو کان لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)ما لک من الشیعة والأنصار والموالی ، ما طمع فیه تیمٌ ولا عدیٌّ!

فقال: یا سدیر وکم عسی أن یکونوا؟ قلت: مائة ألف ، قال: مائة ألف ؟! قلت: نعم ، ومائتی ألف ! قال: مائتی ألف ! قلت: نعم ونصف الدنیا !

قال فسکت عنی ثم قال: یخف علیک أن تبلغ معنا إلی ینبع؟ قلت: نعم ، فأمر

ص: 378

بحمار وبغل أن یُسْرجا فبادرت فرکبت الحمار فقال: یا سدیر أتری أن تؤثرنی بالحمار؟ قلت: البغل أزین وأنبل ! قال: الحمار أرفق بی ، فنزلت فرکب الحمار ورکبت البغل ، فمضینا فحانت الصلاة ، فقال: یا سدیر إنزل بنا نصلی ، ثم قال: هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فیها ، فسرنا حتی صرنا إلی أرض حمراء ونظر إلی غلام یرعی جداء فقال: والله یا سدیر لو کان لی شیعة بعدد هذه الجداء ما وسعنی القعود ! ونزلنا وصلینا فلما فرغنا من الصلاة ، عطفت علی الجداء فعددتها فإذا هی سبعة عشر) !! بذلک نبهنا الإمام(علیه السّلام)الی أن إقامة دولة العدل وتطبیق أحکام الإسلام ، تحتاج الی بضعة عشر شخصیة علی الأقل ، بکفاءة بکیر وأبی سلمة وأبی مسلم ، وبفقه زرارة وأبی بصیر ومحمد بن مسلم ، وبشجاعة قحطبة بن شبیب وزملائه ! وحیث لایوجد هؤلاء فمعنی قبوله السلطة أن القیادة ستکون فی واد ، ووزراؤها وعمالها فی واد آخر ، وأن قائدهم(علیه السّلام)إذا سَلِمَ من مؤامراتهم فسیقع بینهم الصراع فی حیاته ویظهر فی ساعة وفاته ، ویعود الظلم والجور کما کان وأشد ! ولهذا ادَّخر الله تعالی للإمام المهدی(علیه السّلام)أصحاباً خاصین ، یجمعهم له فی لیلة واحدة ، من أقاصی الأرض وأدانیها ، فیقیم بهم دولة العدل الإلهی !

هذا ، وقد وردت أحادیث عن الأئمة(علیهم السّلام)تذم أبا مسلم وتأمر بالبراءة منه ، وأن إسمه فی صحیفة أعداء أهل البیت(علیهم السّلام)، وفی صحیحة محمد بن أبی عمیر(رحمه الله): (کان شدید العناد علینا وعلی شیعتنا ، فمن أحبه فقد أبغضنا ، ومن قبل منه فقد رد علینا ، ومن مدحه فقد ذمنا ) . (مستدرکات علم رجال الحدیث:8/452).

ومن المحتمل أن الإمام الصادق(علیه السّلام)نبه السفاح والمنصور الی خطره علی الإسلام ، رغم عدائهما له(علیه السّلام)، کما نبه الإمام الکاظم والرضا(علیهماالسّلام)، الرشید والمأمون الی خطر البرامکة والفضل بن سهل وأمثالهم ، مع عدائهم لهما(علیهماالسّلام).

ص: 379

کما رفض الإمام الصادق(علیه السّلام)عرضاً من شیعته فی الکوفة

روی فی الکافی:8/331: (عن المعلی بن خنیس قال: ذهبت بکتاب عبد السلام بن نعیم وسدیر ، وکتب غیر واحد إلی أبی عبد الله(علیه السّلام)حین ظهرت المسودة ، قبل أن یظهر ولد العباس ، بأنا قد قدَّرنا أن یؤول هذا الأمر إلیک فما تری؟ قال: فضرب بالکتب الأرض ثم قال: أفٍّ أفٍّ ما أنا لهؤلاء بإمام ! أما یعلمون أنه إنما یقتل السفیانی). ومعجم أحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام):3/465 ، وفیه عن الکشی/353: فلما قرأ کتابهم رمی به ثم قال: ما أنا لهؤلاء بإمام ، أما علموا أن صاحبهم السفیانی ).

وفی غیبة النعمانی/203: (عن أبی بکر الحضرمی قال: دخلت أنا وأبان علی أبی عبد الله(علیه السّلام)وذلک حین ظهرت الرایات السود بخراسان فقلنا: ما تری؟ فقال: إجلسوا فی بیوتکم ، فإذا رأیتمونا قد اجتمعنا علی رجل ، فانهدوا إلینا بالسلاح).

أقول: معنی قوله(علیه السّلام): (أما یعلمون أنه إنما یقتل السفیانی... أما علموا أن صاحبهم السفیانی): أن هؤلاء الشیعة أصحاب الرسائل أخطأوا ، فجعلوا رایات العباسیین السود علامةً لظهور المهدی الموعود من أهل البیت(علیهم السّلام) ، الذی سیقیم دولة العدل الإلهی الی یوم القیامة ، مع أنهم یعرفون أن علامته خروج السفیانی علی حکم یکون قبله ، وأن السفیانی یکون عدواً للإمام المهدی(علیه السّلام)فیقتله المهدی(علیه السّلام) !

ص: 380

الفصل الثالث عشر :الثورة کالقطة تأکل أولادها.. وأباها وأمها

کیف أکلت الثورة قائدها العام أبا سلمة الخلال؟!

یظهر أن أبا الجهم القائد الصغیر فی جیش الخراسانیین ، الذی کشف خطة أبی سلمة وهدفه من حبس العباسیین وحرک زملاءه القادة الصغار وأجبروا أبا سلمة علی إظهار ه العباسیین وبیعة السفاح بدون شروط ، کان مدفوعاً من الإتجاه الفارسی المجوسی ، لأن الوزیر الذی فرضوه بعد قتل أبی سلمة هو أبو الجهم لکن لفترة قصیرة ، ثم خالد بن برمک سادن معبد النار عند المجوس !

ففی الآداب السلطانیة/107: (إن السفاح استوزر بعد أبی سلمة خالد بن برمک). والنجوم الزاهرة:7/336 ، والبدء والتاریخ/479 ، وفیه أنه کان أیضاً قاضی الدولة !

وفی معجم البلدان:5/307: ( نوبهار: بالضم ثم السکون.. وکانت الفرس تعظمه وتحج إلیه.. وکانوا یسمون السادن الأکبر برمک.. وکانت سنَّتُهم إذا هم وافوه أن یسجدوا للصنم الأکبر ویقبلوا ید برمک.. کان برمک یُعمر النوبهار ویقوم به ، وهو اسم لبیت النار الذی کان ببلخ یعظم قدره

بذلک فصار ابنه خالد بن برمک بعده). وقد التحق خالد البرمکی بثورة أبی مسلم وصار مستشاراً لقائده قحطبة ، وکان

ص: 381

حاقداً علی الأئمة من أهل البیت(علیهم السّلام)وهو الذی دفع هارون الرشید لیقتل الإمام الکاظم(علیه السّلام) وقتله (الإرشاد:2/237) . وکان الإمام الرضا(علیه السّلام)یدعو علیه فی عرفات لأنه قتل أباه(علیه السّلام). (عیون أخبار الرضا(علیه السّلام):1/245).

وفی الآداب السلطانیة/108: (فأما أبو الجهم فوزر للسفاح مدة ، فلما أفضت الخلافة إلی المنصور کان فی نفسه منه أمور فسَمَّه فی سویق اللوز ، فلما أحس بالسم قام لیذهب ، فقال له المنصور: إلی أین؟ قال: إلی حیث بعثتنی یا أمیر المؤمنین) ! وقد یکون المنصور وراء عزله من وزارة السفاح ، لأنه کان یعترض علی بعض أفعاله ! أما الآخرون الذین وردت أسماؤهم فی الحادثة فلایعرف منهم إلا موسی بن کعب مولی تمیم ، ذکروه فی نقباء العباسیین المتعصبین لهم. ( الأخبار الطوال/335). وفی تاریخ دمشق:61/198 أنه مات سنة141 وهو قائد شرطة المنصور .

وقد أشاع هؤلاء أن إمامهم إبراهیم بن محمد أوصی الی أخیه الصغیر السفاح بن الحارثیة ، مع أن المنصور أخ إبراهیم الشقیق لأمه سلامة الفارسیة ، وهو أکبر من السفاح بعشر سنین ! وأشاعوا أن أبا سلمة خان الدعوة العباسیة وخالف وصیة إمامه إبراهیم وحبس السفاح والعباسیین ، وهو یعمل لتحویل الخلافة الی آل علی(علیه السّلام).

وکان هؤلاء القادة الصغار فی معسکرهم خارج الکوفة ، ولا بد أن صراعاً محتدماً جری بینهم وبین قائدهم أبی سلمة فی تلک الأیام ، فقال لهم إنه أخر البیعة وراسل من راسل من العلویین ، من أجل ضبط البیعة للسفاح: (فقال: إنی إنما کنت أدبر استقامة الأمر وإلا فلا أعمل شیئاً فیه). (تاریخ الیعقوبی:2/349).

وتکشف الروایات ومنها روایة ابن الأعثم وهو کوفی (الفتوح: 8/328) أن أبا سلمة استطاع أن یحتوی الأزمة ، فدعا الجیش الخراسانی والناس الی المسجد وخطب فیهم وواعدهم الیوم التالی لبیعة هاشمی مرضی ، وفی الموعد خطب فیهم وأخذ منهم تخویلاً ببیعة السفاح ، ثم أحضره وبایعه هو والناس !

ومع حقد السفاح والمنصور علی أبی سلمة فقد استوزروه رسمیاً ، بإسم وزیر آل

ص: 382

محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، بسبب شعبیته القویة فی الجیش الخراسانی الذی یشکل أکثر السبعین ألفاً الذین دخلوا الکوفة !

لکن موجة حب الخراسانیین لأبی سلمة ، وتاریخه الممیز فی قیادة الثورة لم تخدمه إلا سنة أو نحوها ، فبدأت ثورته بأکل أبیها أبی سلمة !

ویاحاطباً فی غیر حَبْلک تَحْطِبُ !

قال الکمیت(رحمه الله)فی قصیدته التی ینتقد فیها عمل قریش فی السقیفة:

یرون لهم حقاً علی الناس واجباً... سفاهاً وحق

الهاشمیین أوجب

فیا موقداً ناراً لغیرک ضوءها... ویا حاطباً فی غیر

حبلک تحطب).

(مختصر أخبار شعراء الشیعة/72).

وقد استشهد بذلک الإمام الصادق(علیه السّلام)فی حدیثه مع أبی سلمة الخلال قبل انتصاره ! وصدق(علیه السّلام)فقد کان أبو سلمة یحتطب ویضع حطبه فی حبل المنصور ، وسرعان ما أحرقه المنصور بحطبه ، ودبر قتله وجعله بید القائد الثانی للثورة أبی مسلم ! ومن یومها دخل المنصور تاریخ الدولة العباسیة مهندساً ومنفذاً لأحداثها لمدة سبع وعشرین سنة حتی هلک سنة158 ، أی بعد قتله الإمام الصادق(علیه السّلام)بعشر سنین ! بل مهندساً مؤسساً لکل عقائد المسلمین وفقههم وفکرهم الی یومنا هذا !

قال الطبری:6/102: ( وفی هذه السنة (132)

شَخَصَ أبو جعفر إلی أبی مسلم بخراسان لاستطلاع رأیه فی قتل أبی سلمة... قال أبو جعفر (المنصور) : لما ظهر أبو العباس أمیر المؤمنین سمرنا ذات لیلة فذکرنا ما صنع أبو سلمة فقال رجل منا: ما یدریکم لعل ما صنع أبو سلمة کان عن رأی أبی مسلم ! فلم ینطق منا أحد ، فقال أمیر المؤمنین أبو العباس: لئن کان هذا عن رأی أبی مسلم إنا لبعرض بلاء ! إلا أن یدفعه الله عنا ! وتفرقنا فأرسل إلیَّ أبو العباس فقال: ما تری ؟ فقلت: الرأی رأیک ، فقال: لیس منا أحد أخص بأبی مسلم منک فاخرج إلیه حتی تعلم ما رأیه ، فلیس

ص: 383

یخفی علیک ، فلو قد لقیته فإن کان عن رأیه أخذنا لأنفسنا ، وإن لم یکن عن رأیه طابت أنفسنا ! فخرجت علی وجل فلما انتهینا إلی الری إذا صاحب الری قد أتاه کتاب أبی مسلم إنه بلغنی أن عبد الله بن محمد توجه إلیک ، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه علیک ، فلما قدمت أتانی عامل الری فأخبرنی بکتاب أبی مسلم وأمرنی بالرحیل فازددت وجلاً وخرجت من الری وأنا حذر خائف فسرت ، فلما کنت بنیسابور إذا عاملها قد أتانی بکتاب أبی مسلم إذا قدم علیک عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه فإن أرضک أرض خوارج ، ولا آمن علیه ، فطابت نفسی وقلت أراه یعنی بأمری فسرت ، فلما کنت من مرو علی فرسخین تلقانی أبو مسلم فی الناس فلما دنا أبو مسلم منی أقبل یمشی إلیَّ حتی قبل یدی ! فقلت: إرکب فرکب فدخل مرو فنزلت داراً فمکثت ثلاثة أیام لا یسألنی عن شئ ، ثم قال لی فی الیوم الرابع: ما أقدمک؟ فأخبرته فقال: فعلها أبو سلمة !أکفیکموه . فدعا مرار بن أنس الضبی فقال: إنطلق إلی الکوفة فاقتل أبا سلمة حیث لقیته ، وانته فی ذلک إلی رأی الإمام ، فقدم مرار الکوفة ، فکان أبو سلمة یسمر عند أبی العباس ، فقعد فی طریقه فلما خرج قتله ، وقالوا قتله الخوارج...

فبعث لذلک أبو مسلم مرار بن أنس الضبی ، فقدم علی أبی العباس فی المدینة الهاشمیة وأعلمه سبب قدومه ، فأمر أبو العباس منادیاً فنادی إن أمیر المؤمنین قد رضی عن أبی سلمة ، ودعاه وکساه ! ثم دخل علیه بعد ذلک لیلة ، فلم یزل عنده حتی ذهب عامة اللیل ، ثم خرج منصرفاً إلی منزله یمشی وحده حتی دخل الطاقات ، فعرض له مرار بن أنس ومن کان معه من أعوانه فقتلوه ، وأغلقت أبواب المدینة وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة ! ثم أخرج من الغد فصلی علیه یحیی بن محمد بن علی(أخ السفاح) ودفن فی المدینة الهاشمیة).

وفی نهایة ابن کثیر:10/56 ، ووفیات الأعیان:2/196: (قتله أبو مسلم بالأنبار عن أمر

ص: 384

السفاح ، بعد ولایته بأربعة أشهر فی شهر رجب ، وکان ذا هیئة فاضلاً حسن المفاکهة ، وکان السفاح یأنس به ویحب مسامرته لطیب محاضرته ، ولکن توهم میله لآل علی فدس أبو مسلم علیه من قتله غیلة کما تقدم ، فأنشد السفاح عند قتله: إلی النار فلیذهب ومن کان مثله علی أیِّ شئ فاتنا منه نأسفُ ).

وفی أنساب الأشراف للبلاذری/971: (فکتب أبو العباس إلی أبی مسلم یُعْلمه الذی کان من تدبیره فی صرف الأمر عنه ، ونکث بیعة الإمام ، فکتب أبو مسلم یشیر بقتله ، فکتب إلیه: أنت أولی بالحکم فیه فابعث من یقتله ، فوجه مرار بن أنس الضبی فلقیه لیلاً فأنزله عن دابته ثم ضرب عنقه ، ثم جمع أبو الجهم بن عطیة ، وکان عیناً لأبی مسلم یکتب إلیه بالأخبار جمیع القواد فقال: إن حفصاً کان غاشاً لله ورسوله والأئمة فالعنوه ، فلعنوه... وقال المنصور حین قتل أبو سلمة: دُووِیَ العبد وأصاب أمیر المؤمنین دواه...وسمع أبو العباس الصراخ علی أبی سلمة فتمثل قول الشاعر: أفی أن أحش الحرب فیمن یحشُّها ألامُ وفی أن لا أقرَّ المخاویا..

وکان بقاء أبی سلمة فی الدولة ثلاثة أشهر أو أربعة). وفی العقد الفرید/1156: (فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلال ، واتهمه بحب بنی فاطمة وأنه کان یَحْطِب فی حِبالهم ).

ملاحظات

1- روی أن سفر المنصور الی إیران کان بعد قتل أبی سلمة ، لکن الصحیح ما رواه الطبری وغیره بأنه سافر من أجل قضیة أبی سلمة ولیختبر أبا مسلم ، ونجح فی جعل أبی مسلم یرسل من یقتل أبا سلمة ، کما اتخذ هو قراراً بقتل أبی مسلم !

وقد أتقن المنصور خطة قتل أبی سلمة فأخلی الکوفة من السبعین ألف مقاتل خراسانی، فأرسل قسماً منهم لحرب ابن هبیرة فی واسط ، وقسماً الی حرب مروان الحمار فی الشام ثم فی مصر !

ص: 385

2- یدل إرسال السفاح منادیاً ینادی بأنه رضی عن أبی سلمة ، علی أنه کان أعلن غضبه علیه ، وهذا یردُّ کل ما رووه عن طیبة المنصور وسماحه وحفظه جمیل أبی سلمة ! بل یدل علی أن هذا (الرضا السیاسی) المعلن والخلعة علیه محاولة من الخلیفة أن یبرئ نفسه عند الخراسانیین من جریمة قتل أبی سلمة التی ستقع قریباً ! وهذا أسلوب قدیم یستعمله السیاسیون الدهاة !

3- روی ابن عساکر:14/413 ، أن قتله کان سنة132، وروی أنه سنة133 ، وهو المرجح لسفر المنصور الی مرو البعیدة عن الکوفة ، ومجئ القاتل بن أنس الضبی من هناک . وقال ابن خلدون:3/222، من اعتراض سلیمان بن کثیر علی قتل أبی سلمة قال: ( وسرح سلیمان بن کثیر (من قادة الثورة) بالنکیر لذلک فقتله أبو مسلم ، وبعث علی فارس محمد بن الأشعث ، وأمره أن یقتل ابن أبی سلمة ، ففعل )!

ص: 386

الغلام العبقری سفاک الدماء ، أبو مسلم الخراسانی

الروایة المعقولة عن ولادته ونشأته ، أن إسمه عبد الرحمن بن مسلم ، کما اتفقت المصادر ، وأن أباه مسلم بن سنفیرون بن إسفندیار . (تاریخ بغداد:10/205) .

( أبوه من أهل رستاق فریذین ، من قریة تسمی سنجرد ) . (سیر الذهبی:6/48).

وقد بالغوا کعادتهم فجعلوه ابن شیدوس بن جودرن من ولد بزر جمهر حکیم الفرس المشهور ! والمؤکد أنه کان غلاماً للعجلیین وهم قبیلة فی الحلة ترجع الی کنانة ، وکانوا یعملون فی جبایة الخراج فی تلک المنطقة من أصفهان ، ففی تاریخ الدولة العباسیة/257: (کان برستاق فریدین من أصبهان مولی لبنی عجل یقال له عثمان بن یسار ، فأتعب (افتقر) فی الخراج بفریدین فحمل جاریة له أعجمیة إلی عیسی بن معقل العجلی بماوشان وکان من عشیرته ، فشکا إلیه حاله فی الخراج ، وباع منه تلک الجاریة بثمانی مئة درهم ، وهی یومئذ حامل بأبی مسلم وهو لا یعلم بحملها ، فانطلق عثمان بن یسار من وجهه ذلک فمات ، وعلم عیسی بن معقل بحمل الجاریة بعد ما فارقه عثمان بن یسار فحصنها، فولدت أبا مسلم وماتت فی نفاسها). (وکان إدریس وعیسی ابنا معقل محبوسین بالکوفة مع قوم حبسهم یوسف بن عمر من أهل الجبل بسبب الخراج ، فکان أبو مسلم یخدمهما ویقضی حوائجهما وهو فی ذلک مع أبی موسی السراج صاحبه یخرز الأعنَّة ویعمل السروج ، وله بضاعة فی الأدم) . (أنساب الأشراف:3/383 ) . (وهو إذ ذاک غلام یخدم عیسی بن معقل العجلی..فاشتراه بکیر بن ماهان منه بأربعمائة درهم).(النهایة:9/371).

واتفقوا علی هلاک أبی مسلم سنة137، وأن إمامه إبراهیم أرسله سنة129 وهو ابن

ص: 387

تسع عشرة سنة: ( وتوجه أبو مسلم لشأنه وهو ابن تسع عشرة سنة). (تاریخ بغداد:10/205) فیکون عمره عندما هلک28 سنة ! وعن الزمخشری أنه قتل وهو ابن ثلاث وثلاین سنة . (وفیات الأعیان:3/149).

وقد: ( وصف المدائنی أبا مسلم فقال: کان قصیراً ، أسمر ، جمیلاً حلواً ، نقی البشرة ، أحور العین ، عریض الجبهة ، حسن اللحیة وافرها ، طویل الشعر ، طویل الظهر ، قصیر الساق والفخذ ، خافض الصوت ، فصیحاً بالعربیة والفارسیة ، حلو المنطق ، راویة للشعر ، عالماً بالأمور . لم یُر ضاحکاً ولا مازحاً إلا فی وقته ، ولا یکاد یقطب فی شئ من أحواله ، تأتیه الفتوحات العظام فلا یظهر علیه أثر السرور وتنزل به الحوادث الفادحة فلا یری مکتئباً ، وإذا غضب لم یستفزه الغضب . ولا یأتی النساء فی السنة إلا مرة واحدة ویقول الجماع: جنون ویکفی الإنسان أن یجن فی السنة مرة ) . (وفیات الأعیان:3/149).

لکن أبرز صفاته أنه عفریت سفاک للدماء: وقد أمره بذلک إمامه إبراهیم العباسی فقال: (أنظر هذا الحی من مضر فإنهم العدو القریب الدار فاقتل من شککت فی أمره ، ومن کان فی أمره شبهة ، ومن وقع فی نفسک منه شئ ! وإن استطعت أن لا تدع بخراسان لساناً عربیاً فافعل ، فأیما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله). (الطبری:6/14) .

ثم قال له إمامه السفاح: ( فتقدم إلیه أبو العباس ألا یدع بخراسان عربیاً لا یدخل فی أمره إلا ضرب عنقه). (الأخبار الطوال/359).

لذا کانت کلمة: (یا غلام إضرب عنقه) حاضرة علی طرف لسانه ! (قام رجل إلی أبی مسلم وهو یخطب فقال له: ما هذا السواد الذی أری علیک؟ فقال: حدثنی أبو الزبیر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله دخل مکة یوم الفتح وعلیه عمامة سوداء وهذه ثیاب الهیبة وثیاب الدولة ، یا غلام إضرب عنقه) ! (تاریخ بغداد:10/205) .

ص: 388

(قتل فی دولته ستمائة ألف صبراً ) ! (وفیات الأعیان:3/148) . ومعنی قتلهم (صبراً) أنه قتلهم فی غیر معرکة بل کان الواحد منهم أسیراً فی یده لایستطیع دفاعاً عن تهمته ولا دفعاً عن نفسه ! أما الذین قتلهم فی معارکه ومواجهاته فأضعاف هذا العدد! وعندما تری أسباب قتله وظروفه ونوعیة المقتولین یزداد عجبک وغضبک !

وقد کان هذا القاتل المسرف یعرف جیداً ما اقترفت یداه بأمر أئمته وأنه وغیاهم یستحقون جهنم ! (سمعت أبا مسلم بعرفات یقول فی الموقف: اللهم إنی أتوب إلیک مما أظن أنک لن تغفره لی ! فقلت: أیها الأمیر ، أیعظم علی الله تعالی غفران ذنب؟فقال: إنی نسجت ثوباً من الظلم لا یبلی ما دامت الدولة لبنی العباس! فکم صارخٍ وصارخةٍ تلعننی عند تفاقم هذا الأمر، فکیف یغفر الله تعالی لمن هذا الخلق خصماؤه) ! (سمط النجوم العوالی/1087).

(وقیل له مرة: لقد قمت بأمر لا یقصر بک عن الجنة ، فقال: خوفی فیه من النار أولی من الطمع فی الجنة ! إنی أطفأت من بنی أمیة جمرة ، وألهبت من بنی العباس نیراناً ! فإن أفرح بالإطفاء فواحزنا من الإلهاب) ! (ربیع الأبرار للزمخشری/564).

أما کفاءته وعبقریته ونبوغه فقصصها کثیرة ، تقرؤها فتُعجب به ، حتی تری فیه سفاک الدماء فتبغضه ! قال الذهبی فی سیره:6/48: (کان من أکبر الملوک فی الاسلام ، کان ذا شأن عجیب ونبأ غریب ، من رجل یذهب علی حمار بإکاف من الشام حتی یدخل خراسان ، ثم یملک خراسان بعد سبعة أعوام ویعود بکتائب أمثال الجبال ، ویقلب دولة ویقیم دولة أخری ) !

(فسار إلی خراسان وهو ابن تسع عشرة سنة راکباً علی حمار بإکاف.. ثم آل به الحال حتی صارت له خراسان بأزمتها وحذافیرها ، وذکر أنه فی ذهابه إلیها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره ، فلما تمکن أبو مسلم جعل ذلک

ص: 389

المکان دکاً ، فکان بعد ذلک خراباً ).(النهایة:10/72).

(فأقام عند إبراهیم (العباسی) سنین لا یحسبه من رآه إلا عبداً لإبراهیم ، ثم قدم قوم من الشیعة علی إبراهیم العباسی فسألوه أن یبعث معهم رجلاً یدعو الناس إلی هذا الأمر ، فقال لهم إبراهیم: هذا الغلام یخرج معکم ویدعو الناس ، وهو صاحبکم الذی یقوم بهذا الأمر ، فبعثه إبراهیم إلی خراسان فتوجه إلیها غیر مرة حتی شاع ذکره ، فبلغ ابن هبیرة وهو یومئذ والی العراق أن رجلاً یختلف إلی خراسان یفسد أهلها ، فبعث إلی أصحاب المسالح أن رجلاً من حاله کذا وکذا یمر بکم فتفقَّدوه ، وکتب إلی نصر بن سیار یعلمه حاله ویأمره بالجد فی طلبه فتفقد أصحاب المسالح کل من مر بهم وفتشوا الناس ، ومرَّ أبو مسلم علی حمار أسود أبتر الذنب ، فلما انتهی إلی المسلحة التی فی دسکرة الملک ، حبس صاحب المسلحة الناس وفتشهم وسأل عن أسمائهم ، وأبو مسلم فیهم ، فشغل الرجل الذی کان یسألهم ویفتشهم عن أبی مسلم ، فانسل علی حماره ولم یتفقدوه ، ومضی حتی أتی الری). (تاریخ الدولة العباسیة/261) .

(وفی هذه السنة (129) وجه إبراهیم بن محمد أبا مسلم إلی خراسان ، وکتب إلی أصحابه: إنی قد أمرته بأمری فاسمعوا منه واقبلوا قوله ، فإنی قد أمَّرته علی خراسان ، وما غلب علیه بعد ذلک). (تاریخ الطبری:6/48) .

(وعندما وصل کتاب إبراهیم الی أتباعه رفض طاعته کبیرهم سلیمان بن کثیر الخزاعی ، وضرب أبا مسلم بالدواة فجرحه فی وجهه ، فتباکی لهم ابو مسلم وأظهر أنه مؤمن مظلوم ، وتابع إقناعهم حتی قبلوه رئیساً ! (فأتاهم أبو مسلم فوضع کتاب إبراهیم نصب أعینهم وقال: هذا کتاب إمامکم ومولاکم. قال له سلیمان: (أحسبک والله قد جئت بها دویهیة صماء... صَلِینا بمکروه هذا الأمر واستشعرنا

ص: 390

الخوف... فلما تنسمنا روح الحیاة وانفسحت أبصارنا وأینعت ثمار غراسنا ، طرأ علینا هذا المجهول الذی لا یدری أیة بیضة تفلقت عن رأسه ، ولا من أی عش درج ! والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن یخلق هذا فی بطن أمه ! أکتب یا أبا منصور بما تسمع إلی الإمام... ومد أبو مسلم یده إلی کتاب إبراهیم لیأخذه فحذفه سلیمان بن کثیر بالدواة فشجه فسال الدم علی وجهه، وقذفه بشیر بن کثیر أخو سلیمان ، فقام أبو مسلم عن المجلس وهو یقول: أتقتلون رجلاً أن یقول ربی الله وقد جاءکم بالبینات من إمامکم !؟ ونهض مع أبی مسلم من المجلس ناجیة ابن أثیلة الباهلی ومحمد بن علوان المروزی فجعلا یغسلان الدم عن وجهه وهو یقول: لکل نبأ مستقر وسوف تعلمون ، وشق محمد بن علوان من أسفل ثیابه عصابة فعصب بها رأس أبی مسلم ، وافترق القوم عن مجلسهم مختلفین ، فکانت النقباء تحب أن تضع من أبهة سلیمان بن کثیر ، وکان أن یترأس علیهم أجنبی لیس منهم أروح علیهم وأوفق لهم ، فاجتمعت الکلمة من الشیعة علی ترئیس أبی مسلم وخذلوا سلیمان بن کثیر وأفردوه). ( أخبار الدولة العباسیة/270) .

( لما ظهر بخراسان کان أول ظهوره بمرو یوم الجمعة لتسع بقین ، وقال الخطیب: لخمس بقین من شهر رمضان سنة تسع وعشرین ومائة ، والوالی بخراسان یومئذ نصر بن سیار اللیثی من جهة مروان بن محمد آخر ملوک بنی أمیة فکتب نصر إلی مروان..وکان مروان مشغولاً عنه بغیره من الخوارج بالجزیرة الفراتیة وغیرها . وأبو مسلم یوم ذاک فی خمسین رجلاً). (وفیات الأعیان:3/148) .

( فظهر فی خمسین رجلاً وآل أمره إلی أن هرب منه نصر بن سیار أمیر خراسان وصفت ممالکها لأبی مسلم فی سنتین وأربعة أشهر) ! (تاریخ الذهبی:8/581) .

ص: 391

وابتکر ابراهیم العباسی توظیف الحدیث النبوی فأمر أبا مسلم برفع الرایات السود !

فقد بشر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأن الله تعالی سیبعث فی آخر الزمان المهدی(علیه السّلام)من عترته فینقذ أمته من ضلالها وضعفها ، وأخبر بأن أنصاره سیکونون أهل الرایات السود من خراسان ، فاستغل ذلک الحسنیون وزعموا أن المهدی(علیه السّلام)منهم کما تقدم ! ثم استغله العباسیون وزعموا أن المهدی(علیه السّلام)منهم ! وبعثوا الی خراسان رایات سوداً من زمن أبی سلمة الخلال لتکون شعاراً لهم: (وقدم أبو سلمة خراسان فقال بعضهم: وأبو مسلم یومئذ معه خادم له ، فبدأ بجرجان فدفع رایة سوداء إلی أبی عون ، وهو یومئذ رئیس القوم.. ثم نفذ إلی مرو فدفع إلی سلیمان بن کثیر رایة سوداء ، وبعث برایة إلی ما وراء النهر ). (تاریخ الطبری:6/31) .

(وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتی انتهوا إلی أندومان...فعقد اللواء الذی أتاه من الإمام علی رمح وعقد الرایة , واجتمع إلیه شیعة أهل نسا..). (أخبار الدولة العباسیة/247).

( ثم تحول أبو مسلم عن منزل أبی الحکم عیسی بن أعین ، فنزل علی سلیمان ابن کثیر الخزاعی فی قریته التی تدعی سفیذنج من ربع خرقان ، للیلتین خلتا من شهر رمضان من سنة129 ، فلما کانت لیلة الخمیس لخمس بقین من شهر رمضان سنة129 عقدوا اللواء الذی بعث به الإمام إلیه الذی یدعی الظل ، علی رمح طوله أربعة عشر ذراعاً ، وعقد الرایة التی بعث بها الإمام التی تدعی السحاب علی رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً وهو یتلو أذن للذین یقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علی نصرهم لقدیر ، ولبسوا السواد هو وسلیمان بن کثیر وإخوة سلیمان وموالیه ، ومن کان أجاب الدعوة من أهل سفیذنج... وتأول هذین الإسمین الظل والسحاب أن السحاب یطبق الأرض وکذلک دعوة بنی العباس ، وتأویل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبداً وکذلک لا تخلو من خلیفة عباسی أبد الدهر... وکان أبو مسلم

ص: 392

وهو فی الخندق إذا کتب إلی نصر بن سیار یکتب للأمیر نصر ، فلما قوی أبو مسلم بمن اجتمع إلیه فی خندقه من الشیعة ، بدأ بنفسه فکتب إلی نصر.. وکان من الأحداث وأبو مسلم بسفیذنج أن نصر بن سیار وجه مولی له یقال له یزید فی خیل عظیمة لمحاربة أبی مسلم بعد ثمانیة عشر شهراً ). (تاریخ الطبری:6/25).

وقد نبه علماء الحدیث علی أن الریات السود الموعودة فی حدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لنصرة المهدی(علیه السّلام)غیر رایات العباسیین ، وقد عقدنا فصلاً فی تحریف البشارة النبویة وادعاء المهدیة ، فی المعجم الموضوعی لأحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام) .

ونلفت هنا الی ما تقدم من مناقب آل أبی طالب:3/356 ، من أن أبا مسلم زار الإمام الصادق(علیه السّلام)فی السنة التی أرسله فیها إبراهیم العباسی الی إیران وبدأ عمله(سنة129) فقبَّل رأس الإمام(علیه السّلام)فلمس ثیابه وقال: (ما رأیت الیوم أشد بیاضاً ولا أحسن منها ! فقال: جعلت فداک هذه ثیاب بلادنا وجئتک منها بخیر من هذه ، فقال: یا مُعَتِّب إقبضها منه ، ثم خرج الرجل فقال أبو عبد الله: صدق الوصف وقرب الوقت ، هذا صاحب الرایات السود الذی یأتی بها من خراسان ) !

وغرضه(علیه السّلام)أن یسجل للمسلمین تزویر العباسیین وأن أهل بیت نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عندهم علم ذلک !

واستفاد أبو مسلم من عوامل مهمة وأساسیة فی تحریک الناس ، هی القومیة الفارسیة ، ونقمة الناس علی الأمویین وتعاطفهم مع آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . فقد صُدم عوام المسلمین من الإیرانیین عندما اکتشفوا أن الأمویین الذین یحکمونهم ویظلمونهم کان زعیمهم أبو سفیان عدو النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقائد المشرکین ضده ، وأن حفیده یزیداً قتل سبط الرسول الإمام الحسین(علیه السّلام) ، وعشیرته قتلوا حفید الحسین زیداً(رحمه الله)عندما ثار علی طغیانهم ! فکان أبو مسلم ودعاته یعبؤون الناس بالعاطفة لآل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والثأر للحسین(علیه السّلام)وزید(رحمه الله)ویتلو علیهم آیة المودة فی القربی وأحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی أهل بیته(علیهم السّلام)،ویقولون إنهم آل العباس عم الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

ص: 393

وکانوا یعبؤونهم ضد مروان الخلیفة الأموی ، وهم سموه (مروان الحمار) ! ولم یکن مروان غبیاً ، بل کان من أعلم بنی أمیة وأشجعهم ، وأکثرهم کفاءة إداریة وقیادیة ، لکن الموجة الربانیة کانت ضده . فلا یصح قول ابن حبان (الثقات:2/322): (إنما عرف بالحمار لقلة عقله). ولا قول الذهبی وابن الأثیر إنه سمی الحمار لجرأته وصبره فی الحروب ! (تاریخ الکوفة للبراقی/276) بل الصحیح أن الذی سماه الحمار هم الخراسانیون ، فقد انتشر بینهم أن یسوق أحدهم حماره ویقول له (هَرْ هَرْ مروان) أی هُشْ یا مروان ! قال فی الأخبار الطوال/360: (وحان الوقت الذی واعد فیه أبو مسلم مستجیبیة ، فخرجوا جمیعاً فی یوم واحد من جمیع کور خراسان حتی وافوه... من هراة ، وبوشنج ، ومرو الروذ ، والطالقان ، ومرو ، ونسا وأبیورد ، وطوس ، ونیسابور ، وسرخس ، وبلخ ، والصغانیان ، والطخارستان ، وختلان ، وکش ، ونسف ، فتوافوا جمیعاً مسودی الثیاب ، وقد سودوا أیضاً أنصاف الخشب التی کانت معهم وسموها کافر کوبات (قارعة الکافر) وأقبلوا فرساناً وحمَّارة ورجَّالة ، یسوقون حمیرهم ویزجرونها ، هَرْ مروان ، یسمونها مروان ترغیماً لمروان بن محمد ، وکانوا زهاء مائة ألف رجل . فلما بلغ نصر بن سیار ظهور أبی مسلم سقط فی یدیه وخاف علی نفسه ، ولم یأمن أن ینحاز الکرمانی فی الیمانیة والربعیة إلیهم ، فیکون فی ذلک اصطلامه).

واستفاد أبو مسلم من الصراع المریر، الذی حدث بین العرب فی خراسان ، بین المضریة ویرأسهم والی خراسان نصر بن سیار الکنانی ، وکنانة قبیلة مضریة حلیفة لبنی أمیة من الجاهلیة . وبین الیمانیة والربیعیة ویرأسهم جدیع بن علی الأزدی الیمانی ، المعروف بالکرمانی ، لأنه ولد بکرمان حیث کان أبوه مع المهلب فی حربه للخوارج الأزارقة . (الأخبار الطوال/340) .

ص: 394

واشتدت العصبیة القبلیة فی العرب من سنة126عند قتل الخلیفة الولید بن یزید: (فاضطرب أمر العرب بخراسان وتعصبوا وتحزبوا واقتتلوا وهم متحیرون ، وقد قُتل الولید بن یزید ولم یأتهم الخبر باجتماع الأمر لغیره ! فتمکن أبو سلمة (الخلال) فی تلک الأیام مما أراد ، واستثارت الدعوة وقوی أهلها وبث دعاته ورسله... وسلیمان بن کثیر صاحب أمر الشیعة بخراسان وکامل بن مظفر یدبر لهم أمورهم ، فطالت الفتنة بین نصر بن سیار وعلی بن الکرمانی ومن کان بها من العرب حتی أضجر ذلک کثیراً من أصحابهما ، وجعلت نفوسهم تطلع إلی غیر ماهم فیه وإلی أمر یجمعهم فتحرکت الدعوة) . (أخبار الدولة العباسیة/248).

وکان أکثر أتباع أبی سلمة وأبی مسلم من الإیرانیین ، وله أتباع فی العرب الیمانیین والمضریین ، فکان یراسل نصر بن سیار والی خراسان من قبل الأمویین ویطمعه فی أن یکون الی جانبه مقابل الیمانیین ! ویراسل ابن الکرمانی ویتقرب الیه بأن الیمانیین أقرب الی أهل البیت(علیهم السّلام) ! ویتقارب مدة مع هذا ومدة مع هذا ، وهو مع ذلک ماضٍ فی السیطرة علی قری إیران ومدنها واحدة بعد أخری ، ثم تحالف مع الکرمانی وحارب ابن سیار: ( واشتدت شوکة أبی مسلم فهرب نصر من خراسان وقصد العراق فمات فی الطریق بناحیة ساوة ، وقیل إنه مرض بالری وحمل إلی ساوة وهی بالقرب من همذان فمات بها ، فی شهر ربیع

الأول سنة إحدی وثلاثین ومائة ، وکانت ولایته بخراسان عشر سنین .

وفی یوم الثلاثاء للیلتین بقیتا من المحرم سنة اثنتین وثلاثین ومائة وثب أبو مسلم علی علی بن جدیع بن علی الکرمانی بنیسابور فقتله بعد أن قیده وحبسه ، وقعد فی الدست وسلم علیه بالإمرة وصلی وخطب ودعا للسفاح أبی العباس عبد الله بن محمد أول خلفاء بنی العباس ، وصفت له خراسان وانقطعت عنها ولایة بنی

ص: 395

أمیة... وظهر السفاح بالکوفة وبویع بالخلافة لیلة الجمعة لثلاث عشرة لیلة خلت من شهر ربیع الآخر ). (وفیات الأعیان:3/150) .

وتتابعت انتصارات أبی مسلم فی قری إیران ومدنها ، فی معارک صغیرة وکبیرة: وأجاد الإدارة سلماً وحرباً ، ولایتسع المجال لذکر نشاطه ومعارکه ، فنکتفی منها بالمرحلة الأخیرة من عمله فی إیران ، حیث جمع نحو مئة ألف مقاتل ، وأرسل منهم نحو سبعین ألفاً بقیادة قحطبة بن شبیب الطائی(تاریخ بغداد:7/415) أبرز قواده ، وأمره أن یکسح المناطق الباقیة من إیران ثم یدخل العراق ، وقد برز معه عدد من القادة العرب: (فکان أول من عقد له منهم زنباع بن النعمان علی سمرقند ، وولی خالد بن إبراهیم علی طخارستان ، وولی محمد بن الأشعث الطبسین ، ثم وجه أصحابه إلی سائر تلک البلاد ، وضم إلی قحطبة بن شبیب أبا عون مقاتل بن حکیم العکی ، وخالد بن برمک ، وحارثة بن خزیمة ، وعبد الجبار بن نهیک ، وجهور بن مراد العجلی ،والفضل بن سلیمان ، وعبد الله بن النعمان الطائی ، وضم إلی کل واحد من هؤلاء القواد صنادید الجنود وأبطالهم . وأمر قحطبة أن یسیر إلی طوس ، فیلقی من قد اجتمع بها من جنود نصر بن سیار والکرمانی فیحاربهم حتی یطردهم عنها ، ثم یتقدم قدماً قدماً حتی یرد العراق . فسار قحطبة حتی إذا دنا من طوس هرب أولئک الذین قد کانوا تجمعوا بها فتفرقوا ، وسار قحطبة من طوس إلی جرجان فافتتحها . وسار منها إلی الری فواقع عامل مروان علیها فهزمه ، ثم سار من الری إلی أصبهان حتی وافاها وبها عامر بن ضبارة من قبل یزید بن عمر (حاکم العراق) فهرب منه ، ودخلها قحطبة واستولی علیها . ثم سار حتی أتی نهاوند وبها مالک بن أدهم الباهلی فتحصن أیاماً ثم استأمن إلی قحطبة فأمنه فخرج إلیه ، وسار قحطبة حتی نزل حلوان فأقام بها . وکتب إلی أبی مسلم یعلمه

ص: 396

خبره وأن مروان بن محمد قد أقبل من الشام حتی وافی الزابین فأقام بها فی ثلاثین ألفاً ، وأن یزید بن عمر بن هبیرة قد استعد بواسط ، فأتاه کتاب أبی مسلم یأمره أن یوجه أبا عون العکی فی ثلاثین ألف فارس من أبطال جنوده إلی مروان بن محمد بالزابین فیحاربه ، ویسیر هو فی بقیة الجنود إلی واسط فیحارب یزید بن عمر ، لیشغله عن توجیه المدد إلی مروان ، ففعل قحطبة ذلک). (الأخبار الطوال/364).

وبعد بیعة السفاح جاء المنصور الی إیران لیتشارو مع أبی مسلم فی قتل أبی سلمة ! وتقدم ذلک فی ترجمة أبی سلمة ، قالوا: ( لما رأی أبو جعفر عظمة أبی مسلم وسفکه للدماء ، رجع من عنده وقال للسفاح: لستَ بخلیفة إن أبقیت أبا مسلم ! قال: وکیف؟ قال: ما یصنع إلا ما یرید ! قال فاسکت واکتمها منه).(سیر الذهبی:6/59 وتاریخ الیعقوبی:2/296) . وباشر السفاح بتنفیذ رأی أخیه وعمل لقتل أبی مسلم ، فلم ینجح ! قال الذهبی فی سیره:6/60: (وفی عام ثلاثة وثلاثین خرج علی أبی مسلم شریک المهری ببخاری ونقم علی أبی مسلم کثرة قتله وقال: ما علی هذا اتبعنا آل محمد ! فاتبعه ثلاثون ألفاً . فسار عسکر أبی مسلم فالتقوا فقتل شریک .

وفی سنة خمس وثلاثین خرج زیاد بن صالح الخزاعی من کبار قواد أبی مسلم علیه ، وعسکر بما وراء النهر، وکان قد جاءه عهد بولایة خراسان من السفاح وأن یغتال أبا مسلم إن قدر علیه ، فظفر أبو مسلم برسول السفاح فقتله ، ثم تفلل عن زیاد جموعه ولحقوا بأبی مسلم ، فلجأ زیاد إلی دهقان فقتله غیلة وجاء برأسه إلی أبی مسلم ! وفی سنة ست بعث أبو مسلم إلی السفاح یستأذنه فی القدوم فأذن له واستناب علی خراسان خالد بن إبراهیم ، فقدم فی هیئة عظیمة فاستأذن فی الحج فقال: لولا أن أخی حج لولیتک الموسم ! وکان أبو جعفر یقول للسفاح: یا أمیر المؤمنین أطعنی واقتل أبا مسلم ، فوالله إن فی رأسه لغدرة ! فقال: یا أخی قد

ص: 397

عرفت بلاءه وما کان منه ، وأبو جعفر یراجعه) !

أقول: کان أبو مسلم یعرف أن المنصور والسفاح یریدان قتله ، لکنه کان یأمل أن یتخلص من ذلک باللین والسیاسة وإضافة إنجازات کبری یقدمها لدولتهم فیسکتان عنه ! وإذا حضر الأجل عمی البصر ! وذکر بعضهم أنه أراد قتل السفاح أو المنصور، لکن قول الإمام الصادق(علیه السّلام)المتقدم لأبی سلمة: ( إبراهیم الإمام لا یصل من الشام إلی العراق ، وهذا الأمر لأخویه الأصغر ثم الأکبر ، ویبقی فی أولاد الأکبر . وإن أبا مسلم بقی بلا مقصود). (إثبات الوصیة/158) أی أسقط بیده ، وبقی بلا هدف مبرر أو ممکن التحقیق !

أخَّرَ المنصور قتل أبی مسلم حتی أخذ منه البیعة ، وقاتل له عمه عبدالله بن علی ! کان المنصور فی خلافة أخیه السفاح مخططاً ومنفذاً ، وکلمته نافذة عنده ، فقد کان عمر السفاح سبعاً وعشرین سنة والمنصور سبعاً وثلاثین ، وإنما جعلوا السفاح خلیفة لأنه ابن رَیْطَة الحارثیة من بنی عبد المدان ، الذین کانوا ملوکاُ بنجران ، والمنصور ابن سلامة وهی أمَةٌ مغمورة . وکان السفاح یعتقد بأن أخاه المنصور أکثر منه خبرة ، وأنه یعمل لتثبیت سلطان بنی العباس ، فأطلق یده .

لذلک کان المنصور وراء الأحداث المهمة فی خلافة السفاح ، بل إن موت السفاح فی أول الثلاثین من عمره یوجب الظن بأن المنصور قتله بالسم ، وکان ذلک سائداً من قدیم واتسع فی زمن بنی أمیة وبنی عباس ،وأول المستفیدین من قتله المنصور ، لکن ذکرت الروایة الرسمیة العباسیة أن السفاح عهد الیه بالخلافة ومن بعده الی عیسی ابن أخیه موسی ، ولم یذکر المؤرخون أن السفاح عقد أی مجلس لإعلان ذلک ، وإنما رووا أنه (کتب العهد بذلک وصیره فی ثوب وختم علیه بخاتمه وخواتیم أهل بیته ودفعه إلی عیسی بن موسی).(الطبری:6/120).

ص: 398

وکان عیسی هذا شاباً مقاتلاً شجاعاً ، وهو الذی أرسله المنصور لحرب مهدی الحسنیین وأخیه إبراهیم ، وکان بیده قصر السفاح فی الأنبار ، وقد اعتمد علیه المنصور عندما سافر الی الحج مع أبی مسلم ، وعلی من زرعهم حول السفاح ، وما أن مات السفاح حتی بادر عیسی بأخذ البیعة للمنصور من العباسیین الموجودین بالخلافة وله هو بولایة عهده ، وکان المنصور فی الحج فسارع بالرجوع ، وبادر عمه عبد الله بن علی بن عبدالله بن عباس بأخذ البیعة لنفسه من قادة جیشه وأهل الشام فقال لهم: ( أما تشهدون أن أمیر المؤمنین أبا العباس قال: من خرج إلی مروان فهو ولی عهدی؟ فشهدوا له بذلک وبایعوا وبایع أکثر أهل الشأم له ، وکتب إلی عیسی بن علی وغیره یعلمهم مبایعة من قبله من القواد وأهل الشام له بصحة عهد أبی العباس إلیه ، وتوجه یرید العراق ) ! (تاریخ الطبری:4/377 ، والیعقوبی:2/365، والنجوم الزاهرة:1/333) .

(فقدم أبو جعفر الکوفة غرة المحرم فنزل الحیرة وصلی بالناس الجمعة ، ثم شخص إلی الأنبار إلی مدینة أبی العباس فضم إلیه أطرافه وخزائن أبی العباس . وبلغه أمر عبد الله بن علی وتوجهه إلی العراق ، فقال لأبی مسلم: لیس لعبد الله بن علی غیری أو غیرک . فکره أبو مسلم ذلک وقال: یا أمیر المؤمنین إن أمر عبد الله بالشأم أقل وأذل ، وأمر خراسان أمر یجل خطبه ، ثم انصرف أبو مسلم إلی منزله وقال لکاتبه: ما أنا وهذان الرجلان ! ثم قال: ما الرأی إلا أن أمضی إلی خراسان وأخلی بین هذین الکبشین فأیهما غلب وکتب إلینا کتبنا إلیه سمعنا وأطعنا). (تاریخ الیعقوبی:2/365 ، وسیر الذهبی:6/60) لکنهم رووا کیف أقنع المنصور أبا مسلم بالتوجه الی حرب عمه قبل أن یصل بجیشه العراق ! (ومضی أبو مسلم سائراً من الأنبار ولم یتخلف منه من القواد أحد ) ! (تاریخ الطبری:6/124).

وذکر المؤرخون هنا مجزرة ارتکبها عبد الله بن علی فی جیشه ! وکان أکثر من ثلاثین ألفاً ، وقد هزم به مروان فی العراق ، ثم فی الشام ، فهرب مروان الی مصر

ص: 399

فأرسل الیه قسماً من جیشه وقتله فی مصر ، وبذلک تم انتصار العباسیین !

کان قسم من هذا الجیش عراقیون وخراسانیون موالون لأبی مسلم ، فخاف عبدالله منهم إذا وصل أبو مسلم أن یلتحقوا به ، أو یتواطؤوا معه علی الإنضمام الیه عند المعرکة لإحداث الهزیمة به ، فأمر بذبحهم جمیعاً ! قال ابن کثیر فی النهایة:10/67: (خشی من جیش العراق أن لا یناصحوه ، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً). وقال الطبری:4/378: (فقتل منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً). وقال الذهبی فی سیره:6/61: (خشی أن یخامر علیه الخراسانیة فقتل منهم بضعة عشر ألفاً ، صبراً).

وأدار أبو مسلم المفاوضات مع عبدالله عم المنصور ببراعته الأصفهانیة ، ثم أدار المعرکة کذلک لشهور ، حتی کانت القاضیة علی جیش عبد الله بن علی !

قال الطبری فی تاریخ:4/380: ( وکان قد عُمِلَ لأبی مسلم عرش ، فکان یجلس علیه إذا التقی الناس فینظر إلی القتال ، فإن رأی خللاً فی المیمنة أو فی المیسرة أرسل إلی صاحبها إن فی ناحیتک انتشاراً فاتق ألا تؤتی من قبلک فافعل کذا ، قدم خیلک کذا أو تأخر کذا إلی موضع کذا ، فإنما رُسُلُهُ تختلف إلیهم برأیه حتی ینصرف بعضهم عن بعض ! قال: فلما کان یوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادی الآخرة سنة ست وثلاثین ومائة أو سبع وثلاثین ومائة ، التقوا فاقتتلوا قتالاً شدیداً ، فلما رأی ذلک أبو مسلم مکر بهم فأرسل إلی الحسن بن قحطبة وکان علی میمنته أن أعْرِ المیمنة وضَمَّ أکثرها إلی المیسرة ، ولیکن فی المیمنة حماة أصحابک ، فلما رأی ذلک أهل الشأم أعروا میسرتهم وانضموا إلی میمنتهم ، لأن بإزاء میسرة أبی مسلم ، ثم أرسل أبو مسلم إلی الحسن أن مر أهل القلب مع من بقی فی المیمنة علی میسرة أهل الشام ، فحملوا علیهم وجال أهل القلب والمیمنة ! قال: ورکبهم أهل خراسان فکانت الهزیمة ! فقال عبد الله بن علی لابن سراقة

ص: 400

الأزدی وکان معه: یا ابن سراقة ما تری؟ قال: أری والله أن تصبر وتقاتل حتی تموت ، فإن الفرار قبیح بمثلک... قبح الله مروان جزع من الموت ففر! قال فإنی آتی العراق . قال: فأنا معک فانهزموا وترکوا عسکرهم !

وکتب بذلک أبو مسلم إلی أبی جعفر... ومضی عبد الله بن علی وعبد الصمد بن علی فأما عبد الصمد فقدم الکوفة فاستأمن له عیسی بن موسی فآمنه أبو جعفر وأما عبد الله بن علی فأتی سلیمان بن علی بالبصرة فأقام عنده).

الطاغیة العباسی یسحب العفریت من حلوان الی حتفه !

بعد رجوعه من الحج ، اشتغل أبو مسلم ستة أشهر فی الإعداد لحرب عم المنصور وخوضها ، وانتصر فیها وانهزم عم المنصور ، فأضاف أبو مسلم إنجازاً کبیراً الی خدماته لدولة العباسیین ، وهذه المرة فی صراعهم الداخلی ! وکتب الی المنصور یبشره بالنصر فبادره المنصور بإرسال رسوله لیحصی غنائم الحرب ویتسلمها ! فغضب أبو مسلم وتوجه مباشرة من حران الی حلوان قاصداً خراسان !

کان ذلک فی أوائل جمادی الآخرة سنة137، وعاش بعدها الی أواخر شعبان من تلک السنة . وسافر المنصور من الأنبار الی المدائن وأقام فیها لیدیر معرکته مع أبی مسلم ! وامتلأت هذه الشهور الثلاثة بالمراسلات بینهما ، وبرسل المنصور علیه لإقناعه بالمجئ الی المدائن للقائه ، واستعمل المنصور أنواع الحیل فلم تنفع وتحرک أبو مسلم من حلوان نحو الری ، لکن جبار بنی عباس استطاع أخیراً أن یجر العفریت الی قصره ، ویوبخه ویسبه ویشتمه ، ثم یقطعه إرباً إرباً ، ثم یرسل الی معسکره من ینثر علیهم الذهب حتی إذا تزاحموا علی جمعه ، ألقی الیهم برأس قائدهم أبی مسلم ! (فقتله.. وذلک یوم الأربعاء لأربع بقین من شعبان سنة

ص: 401

سبع وثلاثین ومائة ). (تاریخ دمشق:5/418). والنهایة:10/71 . ( ثم بعث إلی عیسی بن موسی ولی العهد فأعلمه ، وأعطاه الرأس والمال فخرج به فألقاه إلیهم ، ونثر الذهب فتشاغلوا بأخذه ). (سیر الذهبی:6/67) .

وقال الذهبی عن أبی مسلم: (فشاور البائس أبا إسحاق المروزی ، فقال له: ما الرأی هذا موسی بن کعب لنا دون خراسان ، وهذه سیوف أبی جعفر من خلفنا وقد أنکرت من کنت أثق به من أمرائی ؟ فقال: أیها الأمیر هذا رجل یضطغن علیک أمورا متقدمة ، فلو کنت إذ ذاک هذا رأیک ، ووالیت رجلا من آل علی ، کان أقرب . ولو أنک قبلت تولیته إیاک خراسان والشام والصائفة مدت بک الأیام ، وکنت فی فسحة من أمرک ، فوجهت إلی المدینة فاختلست علویاً فنصبته إماماً فاستملتَ أهل خراسان وأهل العراق ، ورمیت أبا جعفر بنظیره ، لکنت علی طریق تدبیر . أتطمع أن تحارب أبا جعفر وأنت بحلوان وعساکره بالمدائن وهو خلیفة مجمع علیه ؟ لیس ما ظننت ! لکن بقی لک أن تکتب إلی قوادک وتفعل کذا وکذا . فقال: هذا رأی إن وافقنا علیه قوادنا . قال: فما دعاک إلی خلع أبی جعفر وأنت علی غیر ثقة من قوادک؟ أنا أستودعک الله من قتیل ! أری أن توجه بی إلیه حتی أسأله لک الأمان ، فإما صفح ، وإما قتل علی عز ، قبل أن تری المذلة والصغار من عسکرک ، إما قتلوک ،

وإما أسلموک . قال: فسفرت بینه وبین المنصور السفراء ، وطلبوا (وکتبوا) له أماناً فأتی المدائن ). (سیر الذهبی:6/67).

وقد تضمنت الرسائل المتبادلة والحوارات بین المنصور وأبی مسلم ، حقائق کثیرة تکشف عن معتقدهما ومحتوی شخصیتهما وهدفها الرخیص ، وتکشف عن طغیانهما معاً ! وفی نفس الوقت عن ذلة أبی مسلم تطبیقاً للحدیث الشریف: (من أعان ظالماً سلطه الله علیه). (الخرائج:3/1058).

ص: 402

وهذه بعض نصوصهم ، رتبناها لیتضح تسلسل الموضوع:

1- (بعث المنصور یقطین بن موسی إلی أبی مسلم بعد هزیمة عبد الله بن علی لیحصی ما کان فی عسکره ، فقال أبو مسلم: أفَعَلَها ابن سلامة الفاعلة ، لا یکنی...(أی وصف أم المنصور صراحة بالزانیة بدون کنایة ) ! فکتب إلیه: إنی قد ولیتک الشام ومصر فهما أفضل من خراسان، ومنزلک بالشام أقرب إلی أمیر المؤمنین فمتی أحببت لقاءه لقیته ، وأنفذ الکتاب إلیه مع یقطین أیضاً ، فلما قرأه قال: أهو یولینی الشام ومصر مکان خراسان وخراسان لی)؟! (أنساب الأشراف/1007).

2- (وکتب إلیه المنصور: إنی أردت مذاکرتک أشیاء لم یحتملها الکتاب فأقبل فإن مقامک قِبَلی یسیر ، فلم یلتفت إلی الکتاب ، فبعث إلیه جریر بن یزید البجلی وکان صدیقاً لأبی مسلم راجحاً عنده فلم یزل یمسح جوانبه ویرفق به..

وأمر عمومته ومن حضر من بنی هاشم أن یکتبوا إلیه فیعظموا علیه حق الطاعة ویحذروه سوء عواقب الغدر والتبدیل والنکث ویسألوه الرجوع.

3- (کتب إلی المنصور: من عبد الرحمن بن مسلم إلی عبد الله بن محمد ، أما بعد فإنی اتخذت أخاک إماماً ، وکان فی قرابته برسول الله ومحله من العلم علی ما کان ، ثم استخف بالقرآن وخرقه طعماً فی قلیل من الدنیا... ثم إن الله بحمده ونعمته استنقذنی بالتوبة وکره إلی الحوبة ، فإن یعف فقدیماً عرف ذلک منه ، وإن یعاقب فبذنوبی وما الله بظلام للعبید .

فکتب إلیه المنصور: قد فهمت کتابک وللمدل علی أهله بطاعته ونصیحته ونصرته ومحاماته وجمیل بلائه مقال... فأقبل رحمک الله مبسوط الید فی أمرنا محکماً فیما هویت الحکم فیه ، ولا تشمت الأعداء بک وبنا إن شاء الله .

4- ( کتب المنصور إلی أبی مسلم: أما بعد فإنه یرین علی القلوب ویطبع علیها

ص: 403

المعاصی ، فع أیها الطائش ، وأفق أیها الکسران ، وانتبه أیها النائم ، فإنک مغرور بأضغاث أحلام کاذبة ، فی برزخ دنیا قد غرت من کان قبلک وسم بها سوالف القرون هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِکْزاً . وإن الله لا یعجزه من هرب ، ولا یفوته من طلب ، فلا تغتر بمن معک من شیعتی وأهل دعوتی ، فکأنهم قد صالوا علیک بعد أن صالوا معک إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لک من الله ما لم تکن تحتسب ! مهلاً مهلاً ، إحذر البغی أبا مسلم ، فإنه من بغی واعتدی تخلی الله عنه ، ونصر علیه من یصرعه للیدین والفم ، واحذر أن تکون

سنة فی الذین قد خلوا من قبلک ، ومُثْلَةً لمن یأتی بعدک ، فقد قامت الحجة وأعذرت إلیک وإلی أهل طاعتی فیک . قال تعالی: وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی آتَیْنَاهُ آیَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ فَکَانَ مِنَ الْغَاوِینَ !

فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت کتابک فرأیتک فیه للصواب مجانباً ، وعن الحق حائداً إذ تضرب فیه الأمثال علی غیر أشکالها ، وکتبت إلی فیه آیات منزلة من الله للکافرین ، وما یستوی الذین یعلمون والذین لا یعلمون ، وإننی والله ما انسلخت من آیات الله ولکننی یا عبد الله بن محمد کنت رجلا متأولاً فیکم من القرآن آیات أوجبت لکم بها الولایة والطاعة ، فأتممت بأخوین من قبلک ثم بک من بعدهما ، فکنت لهما شیعة متدیناً أحسبنی هادیاً مهتدیاً ، وأخطأت فی التأویل وقدماً أخطأ المتأولون ! وقد قال تعالی: وَإِذَا جَاءَکَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِآیاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَیْکُمْ کَتَبَ رَبُّکُمْ عَلَی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْکُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ . وإن أخاک السفاح ظهر فی صورة مهدی وکان ضالاً ، فأمرنی أن أحِدَّ السیف وأقتل بالظنة وأقدم بالشبهة ، وأرفع الرحمة ولا أقیل العثرة فوترت أهل الدنیا فی طاعتکم وتوطئة سلطانکم ، حتی عرفکم الله من کان

ص: 404

جهلکم ! ثم إن الله سبحانه تدارکنی منه بالندم واستنقذنی بالتوبة ، فإن یعف عنی ویصفح فإنه کان للأوابین غفوراً ، وإن یعاقبنی فبذنوبی وما ربک بظلام للعبید .

فکتب إلیه المنصور: أما بعد أیها المجرم العاصی ، فإن أخی کان إمام هدی یدعو إلی الله علی بینة من ربه فأوضح لک السبیل ، وحملک علی المنهج السدید فلو بأخی اقتدیت لما کنت عن الحق حائداً ، وعن الشیطان وأوامره صادراً ، ولکنه لم یسنح لک أمران إلا کنت لأرشدهما تارکاً ولأغواهما راکباً ، تقتل قتل الفراعنة وتبطش بطش الجبابرة ، وتحکم بالجور حکم المفسدین ، وتبذر المال وتضعه فی غیر مواضعه فعل المسرفین ، ثم من خبری أیها الفاسق أنی قد ولیت موسی بن کعب خراسان وأمرته أن یقیم بنیسابور ، فإن أردت خراسان لقیک بمن معه من قوادی وشیعتی وأنا موجه للقائک أقرانک ، فاجمع کیدک وأمرک غیر مسدد ولا موفق ، وحسب أمیر المؤمنین ومن اتبعه الله ونعم الوکیل .

5- ولم یزل المنصور یراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة ، ویستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذین یبعثهم أبو مسلم إلی المنصور ویعدهم ، حتی حسنوا لأبی مسلم فی رأیه القدوم علیه .

6- استطاع المنصور أن یقنع نائب أبی مسلم علی خراسان أبا داود ، فکتب إلی أبی مسلم یلومه ویقول: إنا لم نخرج لمعصیة خلفاء الله وأهل بیت النبوة ، فلا تخالفن إمامک . فوافاه کتابه وهو علی تلک الحال ، فزاده هماً ورعباً .

7- کتب إلی أبی مسلم کتاباً لطیفاً مع أبی حمید المروروذی وقال: إن أجاب إلی الإنصراف وإلا فقل له یقول لک أمیر المؤمنین: نُفِیتُ من العباس لئن مضیتَ ولم تلقنی ! لا وکلت أمرک إلی أحد سوای ولو خضت إلیک البحر الأخضر حتی أموت أو أقتلک ! فلما قرأ الکتاب عزم علی المضی لوجهه فأدی إلیه أبو حمید

ص: 405

الرسالة(التهدید) فکسرته ! وعزم علی الإنصراف إلی المنصور ، وخلف ثقله بحلوان وعلیه مالک بن الهیثم..

9- ولما قدم أبو مسلم علی المنصور وهو بالرومیة التی عند المدائن أمر الناس بتلقیه وقام إلیه فعانقه وأکرمه ، وقال: کدت تمضی قبل أن نلتقی فألقی إلیک ما أرید ، وأمره أن ینصرف إلی منزله فیستریح ویدخل الحمام لیذهب عنه کلال السفر ثم یعود ، وجعل یزیده براً وإعظاماً وهو ینتظر الفرصة فیه ، حتی قتله ! وأعد له المنصور عثمان بن نهیک ، وهو یومئذ علی حرسه وعدة... وقال لعثمان: إذا عاتبته فعلا صوتی فلا تخرجوا ، وکان وأصحابه وراء ستر خلف أبی مسلم ، فإذا أنا صفقت فدونکم العلج.. فلما قام لیدخل نزع سیفه فقال: ما کان یصنع بی مثل هذا ، فقیل لیس ذاک إلا الخیر.. فدخل فسلم وجلس علی وسادة لیس فی البیت غیرها والقوم خلف ظهره.. قال: هیه ، قتلت أهل خراسان وفعلت وفعلت ، ثم جعلت تقول بمکة أیصلی هذا الغلام بالناس ، وألقیت نعلی من رجلی فرفعت نفسک عن مناولتی إیاها حتی ناولنیها معاذ بن مسلم ، وأعجب من هذا إقعادک إیای فی دهلیز بخراسان مستخفاً بحقی حتی أشیر علیک بخلاف ذلک فتکارهت علی تسهیل إذنی وفتح الأبواب لی ، ثم کتابک إلی تبدأ بنفسک ، وخطبتک إلی أمیة بنت علی، وقولک إنک ابن سلیط بن عبد الله لقد ارتقیت یا بن اللخناء مرتقی صعباً ، ثم ذمک أخی وسیرته وقولک إنه أوطأک العشوة وحملک علی الإثم .

ثم أنت صاحبی بمکة تنادی: من أکل طعام الأمیر فله درهم ، ثم کسوتک الأعراب وقولک: لأتخذنکم دون أهل خراسان ، وأعجب من هذا أنی دفعت فی صدر حاجبک بخراسان فقلت لی أیضرب حاجبی ردوه عنا إلی العراق .

فقال أبو مسلم: إنه لا یقال لی هذا القول بعد بلائی وعنائی . فقال: یا ابن الخبیثة

ص: 406

إنما عملت ما عملت بدولتنا ، ولو کان الأمر إلیک ما قطعت فتیلاً ، ثم فتل شاربه وفرک یده ، فلما رأی أبو مسلم فعله قال: یا أمیر المؤمنین لا تدخلن علی نفسک ما أری، فإن قدری أصغر من أن یبلغ شئ من أمری منک هذا المبلغ. وصفق المنصور بإحدی یدیه علی الأخری ، فضرب عثمان بن نهیک أبا مسلم ضربة خفیفة ، فأخذ برجل المنصور فدفعه برجله وضربه شبیب بن واج علی حبل عاتقه ضربة أسرعت فیه فقال: وانفساه ، ألا قوة ، ألا مغیث؟ فقال المنصور: إضربوا ابن اللخناء ، فاعتوره القوم بأسیافهم ، وأمر به فلف فی مسح ویقال فی عباءة).

10- (قال له: فلم قتلت سلیمان بن کثیر ، وإبراهیم بن میمون ، وفلاناً وفلاناً ؟

قال: لأنهم عصونی وخالفوا أمری . فغضب عند ذلک المنصور وقال: ویحک ! أنت تقتل إذا عُصیت ، وأنا لا أقتلک وقد عصیتنی؟! وصفق بیدیه وکانت الإشارة بینه وبین المرصدین لقتله ، فتبادروا إلیه لیقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سیفه فقال: یا أمیر المؤمنین استبقنی لأعدائک ، فقال: وأی عدو لی أعدی منک ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعاً ولفوه فی عباءة) !

11- ویقال: إن المنصور لما سبه ، انکب علی یده یقبلها ویعتذر . وقیل: أول ما ضربه ابن نهیک لم یصنع أکثر من قطع حمائل سیفه فصاح: یا أمیر المؤمنین استبقنی لعدوک ، قال: لا أبقانی الله إذاً ، وأی عدو أعدی لی منک ؟! قتلنی الله إن لم أقتلک . وضربه بعمود ، ثم وثبوا علیه ، وذلک لخمس بقین من شعبان .

12- (وکان من نیة المنصور أن یقتله تلک اللیلة فمنعه وزیره أبو أیوب الموریانی . قال أبو أیوب: فلما غدوت علیه قال لی: یا ابن اللخناء لا مرحباً بک . أنت منعتنی منه أمس ، والله ما نمت البارحة ! أدعُ لی عثمان بن نهیک فدعوته فقال: یا عثمان کیف بلاء أمیر المؤمنین عندک؟ قال: إنما أنا عبدک ولو أمرتنی أن

ص: 407

أتکئ علی سیفی حتی یخرج من ظهری لفعلت. قال: کیف أنت إن أمرتک بقتل أبی مسلم . قال: فوجم لها ساعة لا یتکلم . فقلت: مالک ساکتاً ؟ فقال قولة ضعیفة: أقتله . فقال: إنطلق ، فجئ بأربعة من وجوه الحرس شجعان ، فأحضر أربعة منهم شبیب بن واج فکلمهم فقالوا: نقتله ، فقال: کونوا خلف الرواق ، فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه...

قال: فأخبرنی عن تقدمک علی فی طریق الحج . قال: کرهت اجتماعنا علی الماء فیضر ذلک بالناس . قال له: ألست الکاتب إلی تبدأ بنفسک ؟ والکاتب إلی تخطب أمینة بنت علی عمتی ؟! قال: فمراغمتک وخروجک إلی خراسان؟ قال: خفت أن یکون قد دخلک منی شئ فقلت أذهب إلیها وإلیک أبعث بعذری والآن فقد ذهب ما فی نفسک علی؟ قال: تالله ما رأیت کالیوم قط ! وضرب بیده فخرجوا علیه).

وقال الیعقوبی:2/367: (فأقبل أبو مسلم یتکلم فقال له:یا ابن اللخناء! إنک لمستعظم غیر العظیم ، ألست الکاتب إلی تبدأ باسمک علی اسمی؟ ألست الذی کتبت إلی تخطب عمتی آمنة بنت علی وتزعم أنک من ولد سلیط بن عبد الله ؟! ألست الفاعل کذا والفاعل کذا؟ وجعل یعد علیه أموراً ، فلما رأی أبو مسلم ما قد دخله قال: یا أمیر المؤمنین إن قدری أصغر من أن یدخلک کل ما أری . فعلا صوت أبی جعفر وصفق بیدیه ، فخرج القوم فضربوه بأسیافهم ، فصاح: أوه ، ألا مغیث ، ألا ناصر ! وهم یضربونه حتی قتلوه ، فلما قتل قال أبو جعفر:

إشرب بکأس کنت تسقی بها أمرُّ فی فیک من العلقم

کنت حسبت الدَّیْنَ لا یقتضی کذبت والله أبا مجرم

وقیل لأصحابه: إجتمعوا فإن أمیر المؤمنین قد أمر أن ینثر علیکم الدراهم ، ونثرت علیهم بدرة دراهم ، فلما أکبوا

یلتقطونها طرح علیهم رأس أبی مسلم ،

ص: 408

فلما نظروا إلیه أسقط ما فی أیدیهم وعرتهم ضعضعة).

13- (لما قتل أبو جعفر أبا مسلم قال: رحمک الله أبا مسلم ، بایعتنا وبایعناک ، وعاهدتنا وعاهدناک ، ووفیت لنا ووفینا لک . وإنا بایعنا علی ألا یخرج علینا أحد إلا قتلناه ، فخرجت علینا فقتلناک) . (الفقرات من أنساب الأشراف للبلاذری/1007 ، وسیر أعلامن النبلاء للذهبی:6/66 ، والنهایة لابن کثیر:10/72) .

ویظهر أنها فقرات من خطبة المنصور بعد أن هدَّأ الوضع المتوتر لقتله أبی مسلم فقد روی الطبری فی تاریخه:6/335 ، أنه خطب وقال: (أیها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلی وحشة المعصیة ، ولا تسروا غش الأئمة.... إنه من نازعنا عروة هذا القمیص أجزرناه خبیَّ هذا الغمد ! وإن أبا مسلم بایعنا وبایع الناس لنا علی أنه من نکث بنا فقد أباح دمه ، ثم نکث بنا فحکمنا علیه حکمه علی غیره لنا ، ولم تمنعنا رعایة الحق له من إقامة الحق علیه).

وهکذا انتهی الغلام القائد الأسطورة ، أبو مسلم الخراسانی ، مخلفاً وراءه جباراً یمعن فی الطریق الذی شقه له ، وتارکاً ابنتین: (فأعقبت أسماء ولم تعقب فاطمة قال: وفاطمة التی تدعو لها الحرمیة إلی الساعة ). (تاریخ بغداد:10/206 ، والنهایة:10/74). وذاهباً الی محکمة العدل الإلهی لیواجه أکثر من ملیون رجل وامرأة وطفل تشخب أوداجهم ویسألونه: بأی حق قتلهم ؟! ویسأله الله تعالی: متی خولتک أن تدعو عبادی الی طاعة العباسیین وطاعتک ، وتجعل ذلک میزاناً لقتلهم وإبقائهم ونفعهم وضرهم؟!

شهدت خراسان ثلاثة أنواع من الثورة

شهدت خراسان فی مطلع الدولة العباسیة ثلاثة أنواع من الثورة:

النوع الأول: ثورة علی العباسیین وأبی مسلم ، وقد قضی علیها أبو مسلم .

کثورة أبی جابر الأشعث الطائی . (أنساب الأشراف/1028).

ص: 409

والثانی: ثورة علی أبی مسلم بتحریک السفاح ، وقضی علیها أبو مسلم .

والثالث: ثورة بعد مقتل أبی مسلم للأخذ بثأره ، أشهرها ثورة القائد أستاذیس .

قال السیوطی فی تاریخ الخلفاء/262: (وفی سنة خمسین خرجت الجیوش الخراسانیة عن الطاعة مع الأمیر استاذسیس ، واستولی علی أکثر مدن خراسان وعظم الخطب واستفحل الشر ، واشتد علی المنصور الأمر ، وبلغ ضریبة الجیش الخراسانی ثلاثمائة ألف مقاتل ما بین فارس وراجل ! فعمل معهم أجشم المروزی مصافاً فقتل أجشم واستبیح عسکره ، فتجهز لحربهم خازم بن خزیمة فی جیش عرمرم یسد الفضاء فالتقی الجمعان وصبر الفریقان ، وکانت وقعة مشهورة یقال قتل فیها سبعون ألفاً وانهزم أستاذسیس فالتجأ إلی جبل وأمر الأمیر خازم فی العام الآتی بالأسری فضربت أعناقهم ، وکانوا أربعة عشر ألفاً ، ثم حاصروا أستاذسیس مدة ثم سلم نفسه فقیدوه وأطلقوا أجناده ، وکان عددهم ثلاثین ألفاً). انتهی.

ویدل النص المتقدم عن تاریخ بغداد أن حرکات الثأر لأبی مسلم استمرت بعد قتله مدة ، وکانت إحداها بقیادة ابنته فاطمة ، فقضی علیها المنصور .

ص: 410

الفصل الرابع عشر: المنصور الدوانیقی مهندس الخلافة العباسیة

1- هویة المنصور ونشأته

هو عبدالله بن محمد بن علی العباسی ، أمه فارسیة ولادة البصرة وقیل بربریة، وقد اتفق المؤرخون علی أنه ولد فی الحُمَیْمَة قرب معان بالأردن نحو سنة95 ه-. وتولی الخلافة سنة36 وعمره إحدی وأربعون سنة وتوفی سنة 158 وعاش64 سنة.

(وکانت وفاة المنصور ببئر میمون علی أمیال من مکة یوم السبت لست لیال خلون من ذی الحجة سنة158وله ثلاث وستون سنة ودفن بالحرم ، وکانت خلافته إحدی وعشرین سنة وأحد عشر شهراً وعشرین یوماً. وکان طویلاً أسمر نحیفاً خفیف العارضین یخضب بالسواد ، محنک السن حازم الرأی قد عرکته الدهور ). (أنساب الأشراف للبلاذری/296).

( وأمه سلامة ابنة بشیر ، مولدة البصرة وقیل بربریة). (التنبیه للمسعودی/295). (التلیدة: هی التی ولدت ببلاد العجم وحُملت فنشأت فی بلاد العرب . والمولدة: التی ولدت فی بلاد الاسلام) . (غریب ابن قتیبة:2/201 ، والصحاح:2/450).

وکان بعضهم یُعَیِّرُ المنصور بأمه وهی أم أخیه إبراهیم أیضاً ، فعندما انتصر أبو مسلم علی عم المنصور عبدالله الذی نازعه الخلافة ، أرسل المنصور من یحصی الغنائم فغضب أبو مسلم: (وتناول أبا جعفر بلسانه حتی ذکر أمه وقال: ویْلی علی ابن

ص: 411

سلامة!). (الیعقوبی:2/366). بل وصفها أبو مسلم بالزانیة کما تقدم قال: ( أفَعَلَها ابن سلامة الفاعلة ، لا یکنی) ! (أنساب الأشراف/1007).

وعندما خرج علیه مهدی الحسنیین کان عمه عبدالله فی سجنه ، فبعث یسأله ماذا یصنع؟ فقالوا له: (خرج محمد . قال: فما ترون ابن سلامة صانعاً؟ یعنی المنصور قالوا: لا ندری . قال: إن البخل قد قتله فلیخرج الأموال ویکرم الجند ، فإن غلب فما أوشک أن یعود إلیه ماله) .(سیر الذهبی:6/216) .

وعندما حبس المنصور عبد الله بن الحسن قال له: یا ابن اللخناء ! فأجابه: ( لیت شعری أی الفواطم لخَّنْتَ یا ابن سلامة؟ أفاطمة بنت الحسین أم فاطمة بنت رسول الله أم جدتی فاطمة بنت أسد بن هاشم جدة أبی...أم فاطمة ابنة عمرو بن عائذ.. جدة جدتی؟قال: ولا واحدة من هؤلاء)! (الیعقوبی:2/270).

ویظهر أن سلامة کانت معروفة بالسوء ، فقد کان الإمام الصادق(علیه السّلام)إذا ذکر المنصور أمام خاصته (زنَّاه) أی وصفه بابن الزنا ! (تقریب المعارف لأبی الصلاح/الحلبی248 ، والبحار:30/384). ومما یدل علی أن المنصور لغیر رشدة ، ما رواه الصدوق فی علل الشرائع:1/58، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)فی قوله تعالی: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِی أَقْتُلْ مُوسَی وَلْیَدْعُ رَبَّهُ.. فقیل له: من کان یمنعه؟ قال: منعه أنه کان لرشده ، لأن الأنبیاء والحجج لا یقتلهم الا أولاد زنا) ! (ونحوه کامل الزیارات/163، ومستطرفات السرائر/644). وقد قتل المنصور الإمام الصادق(علیه السّلام) ، فدل ذلک علی حال أمه !

وکانت سلامة تفتخر بأن ابنها أسدٌ تسجد له الأسود ! وتقول: ( لما حملت بابنی جعفر رأیت کأن أسداً خرج من فرجی ، فأقعی وزأر وضرب بذنبه ، فرأیت الأسْد تقبل من کل ناحیة إلیه ، فکلما انتهی أسد منها سجد له). تاریخ دمشق:32/304، و:69/231 ، والنهایة:10،/130 .

واتبعها ابنها المنصور فزعم أنه رأی فی صغره النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی منامه فبشره بأن

ص: 412

الملک سیبقی فی أولاده الی یوم القیامة ! وقال لجلسائه: (ینبغی لکم أن تثبتوها فی ألواح الذهب وتعلقوها فی أعناق الصبیان) ! (تاریخ بغداد:1/85 ، وتاریخ دمشق:32/301 وابن کثیر فی نهایته:10/129، وحکم بصحة المنام ! وخلاصته منام المنصور: زعم أنه رأی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی الکعبة فأراد عمه عبدالله أن یدخل فمنعوه ، ودخل هو فاستقبله النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعقد له لواءً أسود وأوصاه بأمته ، وعممه بعمامة من23 دوراً وقال له: خذها إلیک أبا الخلفاء إلی یوم القیامة) !

2- یکذب ویسرق حتی سمته أمه: (مقلاص) !

رووه فی اختیار المنصور لموقع بغداد: (فرآه راهب کان هناک وهو یقدِّر بناءها فقال: لا تتم ، فبلغه فأتاه فقال: نعم ، نجد فی کتبنا أن الذی یبنیها ملک یقال له مقلاص! قال أبو جعفر:کانت والله أمی تلقبنی فی صغری مقلاصاً) ! (تاریخ بغداد:1/87 ).

وفی هامش النهایة:10/108: ( مقلاص: إسم لص کانت تضرب به الأمثال ، وکان أبو جعفر المنصور صبیاً سرق غزلاً لعجوز کانت تخدمه وباعه لینفق علی أتراب له ، فلما علمت بفعلته سمته مقلاصاً ، وغلب علیه هذا اللقب ).

وفی الطبری:6/237، و297: (وبعث إلی راهب فی الصومعة فقال: هل عندک علم أن یبنی ههنا مدینة؟ فقال له: بلغنی أن رجلاً یقال له مقلاص یبنیها ! قال أنا والله مقلاص)! وفی الکامل:5/559:(فأنا کنت أدعی مقلاصاً فی حداثتی) وتاریخ الذهبی:9/33، والنهایة:10/108. وأصل معنی المقلاص الناقة السمینة (الصحاح:3/1053) وقد یکون ذلک السارق مقلاص یسرق النوق السِّمان !

وفی الخطبة اللؤلؤیة لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)التی أخبر فیها عن ملک بنی أمیة وبنی عباس ، سمی ثانی ملوکهم (المقلاص) قال(علیه السّلام): ( وتبنی مدینة یقال لها الزوراء بین دجلة ودجیل والفرات، فلو رأیتموها مشیدة بالجص والآجر مزخرفة بالذهب والفضة واللازورد المستسقی والمرموم ، والرخام وأبواب العاج والأبنوس.. وتوالت ملوک بنی

ص: 413

الشیبصان أربعة وعشرون ملکاً علی عدد سنی الملک فیهم السفاح والمقلاص والجموح والخدوع والمظفر والمؤنث والنطار والکبش والکیسر والمهتور والعیار..الخ.). (کفایة الأثر/213 ، والمناقب:2/108) .

3- سماه أبو حنیفة اللص المتغلب علی الخلافة !

فی تفسیر الکشاف:1/309، والنصائح الکافیة/153: ( وکان الإمام أبو حنیفة یفتی سراً بوجوب نصرة زید بن علی بن الحسین وحمْل المال إلیه ، والخروج معه علی اللص المتغلب المسمی بالخلیفة ! یعنی هشام بن عبد الملک.. وکان یقول فی المنصور وأشیاعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونی علی عد آجرِّه لما فعلت!

وعن ابن عیینة: لا یکون الظالم إماماً قط ! وکیف یجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لکف المظلمة ؟! فإذا نصب من کان ظالماً فی نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعی الذئب فقد ظلم ). وتفسیر أبی حیان:1/549 .

أقول: لکن المنصور تمکن أن یروِّض أبا حنیفة وغیره من الفقهاء کما یأتی!

4- ذهبت به أمه سلامة الی البصرة وهو غلام

لم یذکر التاریخ للمنصور خالاً ولا خالة ، ولا شیئاً عن عائلة أمه سلامة ، لکن المؤکد أنه عاش أول شبابه فی الأهواز وهی منطقة البصرة التی ذکروا أن أمه مولَّدة فیها ، وعمل هناک جابی خراج لبلیدة عند والی الأهواز الشیعی سلیمان بن حبیب بن المهلب ، وسرق الخراج فسجنه سلیمان وصادر ماله ، وأراد أن یهتکه أی یرکبه علی حمار بالمقلوب وینادی علیه فی الأسواق ، فتوسط له کاتبه الموریانی فعفا عنه وسجنه ! وعندما صار المنصور خلیفة قتل سلیمان المذکور ، وجعل الموریانی وزیره ، ثم غضب علیه وقتله هو وکل أقاربه سنة153 !

قال فی وفیات الأعیان:2/410: (کان المنصور قبل الخلافة ینوب عن سلیمان

ص: 414

المذکور فی بعض کور فارس فاتهمه بأنه احتجن المال لنفسه ، فضربه بالسیاط ضرباً شدیداً وأغرمه المال ، فلما ولی الخلافة ضرب عنقه . وکان سلیمان قد عزم علی هتکه عقیب ضربه فخلصه منه کاتبه أبو أیوب المذکور ، فاعتدها المنصور له واستوزره ، ثم إنه فسدت نیته فیه ونسبه إلی أخذ الأموال وهم أن یوقع به ، فتطاول ذلک فکان کلما دخل علیه ظن أنه سیوقع به ، ثم یخرج سالماً فقیل إنه کان معه شئ من الدهن قد عمل فیه سحر ، فکان یدهن به حاجبیه إذا دخل علی المنصور ، فسار فی العامة دهن أبی أیوب). ( وسیر الذهبی:7/23 ، و/83 ، وتاریخه:9/675 ، ووافی الصفدی:15/231، و9/121، وشرح النهج:15/238، واللباب:3/268، والکامل:5/612 ).

ویظهر أن هذه القریة أوالبلیدة حسب تعبیر الذهبی التی تولی المنصور خراجها هی (إیذج ، ففی وفیات الأعیان:4/187 ، أن المهدی بن المنصور ولد فی إیذج من قری الأهواز سنة122، وفی معجم البلدان:1/288، أنه ینسب الیها جماعة من أولاد المهدی العباسی . فقد تکون أمه منها ، وکذلک جدته سلامة .

5- تعرف فی سجن الأهواز علی نوبخت المنجم !

ونوبخت المذکور هو جد آل نوبخت ، العائلة التی عرفت فیما بعد فی بغداد وکان مجوسیاً وأسلم ، ثم صاروا شیعة ، ونبغ منهم علماء کبار ، وکان منهم ولی الله أبو القاسم الحسین بن روح بن أبی بحر النوبختی ، السفیر الثالث للإمام المهدی صلوات الله علیه . وقد حکی جدهم علی قصة لقاء أبیه نوبخت بالمنصور فی سجن الأهواز فقال کما فی تاریخ بغداد:10/56 ، وتاریخ دمشق:32/53: (کان جدنا نوبخت علی دین المجوسیة ، وکان فی علم النجوم نهایة ، وکان محبوساً بسجن الأهواز فقال: رأیت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن فرأیت من هیبته وجلالته وسیماه وحسن وجهه وبنائه ، ما لم أره لأحد قط ! فصرت من موضعی

ص: 415

إلیه فقلت: یا سیدی لیس وجهک من وجوه أهل هذه البلاد ، فقال: أجل یا مجوسی ، قلت: فمن أی بلاد أنت؟ فقال: من أهل المدینة ،فقلت: أی مدینة؟ فقال: من مدینة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقلت: وحق الشمس والقمر إنک لمن ولد صاحب المدینة ! قال: لا ، ولکنی من عرب المدینة . قال: فلم أزل أتقرب إلیه وأخدمه حتی سألته عن کنیته؟ فقال: کنیتی أبو جعفر ، فقلت: أبشر فوحق المجوسیة لتملکن جمیع ما فی هذه البلدة حتی تملک فارس وخراسان والجبال! فقال لی: وما یدریک یا مجوسی؟ قلت: هو کما أقول فاذکر لی هذه البشری ، فقال: إن قضی شئ فسوف یکون . قلت قد قضاه الله من السماء فطب نفساً وطلبت دواة فوجدتها فکتب لی: بسم الله الرحمن الرحیم ، یا نوبخت إذا فتح الله علی المسلمین وکفاهم مؤونة الظالمین ورد الحق إلی أهله ، لم نغفل ما یجب من حق خدمتک إیانا . وکتب أبو جعفر . قال نوبخت: فلما ولی الخلافة صرت إلیه فأخرجت الکتاب ، فقال: أنا له ذاکر ولک متوقع ، فالحمد لله الذی صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلی أهله فأسلم نوبخت ، وکان منجماً لأبی جعفر ومولی). وسیر الذهبی:7/88 ، وفیه: فرأیت المنصور وقد سجن یعنی وهو شاب).

6- کان فی المدینة ضیفاً ، لا منزل له ولا لأبیه فیها !

فبعد أن انتقل جده علی بن عبدالله بن عباس الی دمشق ثم نُفی الی الأردن ، فقد عاش مع أبنائه وأحفاده هناک ، ولم یرد فی أخبارهم وجودهم فی المدینة إلا قلیلاً ، فیبدو أنهم کانوا یأتون الی المدینة ضیوفاً . ولعل أقدم نص عن وجود المنصور فی المدینة ما ذکرناه فی المقدمة وفی

فقرة الجبابرة الذین عاصرهم الإمام الباقر(علیه السّلام)، وفیه: أنه دخل مع عمه داود الی المسجد فقیل لهم: هذا محمد بن علی جالس ، فقام إلیه داود بن علی وسلیمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانیق

ص: 416

مکانه حتی سلموا علی أبی جعفر ، فقال لهم أبو جعفر: ما منع جبارکم من أن یأتینی؟! فعذَّروه عنده فقال: أما والله لا تذهب اللیالی والأیام حتی یملک ما بین قطریها ! الخ.). (الکافی:8/210) . ورواه المنصور کما ورد بسند صحیح (عن الأعمش قال: قال لی المنصور یعنی أبا جعفر الدوانیقی: کنت هارباً من بنی أمیة أنا وأخی أبو العباس ، فمررنا بمسجد المدینة ومحمد بن علی الباقر جالس، فقال لرجل إلی جانبه: کأنی بهذا الأمر وقد صار إلی هذین ! فأتی الرجل فبشرنا به فملنا إلیه وقلنا: یا بن رسول الله ما الذی قلت؟ فقال: هذا الأمر صائر إلیکم عن قریب ، ولکنکم تسیئون إلی ذریتی وعترتی ، فالویل لکم عن قریب . فما مضت الأیام حتی ملک أخی وملکتها) . (دلائل الإمامة للطبری الشیعی/219).

فلو فرضنا أن الحادثة کانت فی سنة شهادة الإمام الباقر(علیه السّلام)114 ، فیکون عمر المنصور نحو عشرین سنة لأنه ولد سنة 95 ، ویکون عمر أخیه السفاح نحو عشر سنین! وهذا یوجب الظن بأن قول نوبخت علی أثر اشتهار إخبار الإمام الباقر(علیه السّلام) فمن البعید أن یکون المنصور التقی به فی السجن قبل ذلک التاریخ !

وکذا إخبار نوبخت للمنصور بعد هزیمة جیشه علی ید إبراهیم الحسنی ، بأن إبراهیم سیقتل وأنه سینتصر ، فقد کان بعد اشتهار إخبار الإمام الصادق(علیه السّلام)به فی مؤتمر الأبواء الذی عقده الحسنیون وبایعوا فیه مهدیهم بعد مقتل الخلیفة الأموی سنة126 ، وکان ذلک قبل عشرین سنة من مقتل إبراهیم ، وقد کرر ذلک الإمام مرات حتی عرفه القریب والبعید ، ووصف مقتل محمد وإبراهیم .

7- لماذا هرب المنصور فی زمن الأمویین ؟

زعم المنصور أنه کان متخفیاً هارباً فی عصر بنی أمیة وأنه کان فی قری الشام یتعیش من التقرب الی الشیعة بروایة فضائل علی والعترة(علیهم السّلام)، کما فی حدیثه المطول مع الأعمش(رحمه الله) ، کما زعم فی حدیثه الآنف أنه هرب مع أخیه الصغیر

ص: 417

السفاح ابن العشر سنوات! وزعم أنه هرب الی الموصل وعمل فترة مع الملاحین فی النهر وتزوج بامرأة وترکها حاملاً ، کما فی حدیث قتله لوزیره الموریانی !

مع أنه لا یوجد سبب سیاسی لهروب أحد من العباسیین ولا العلویین قبل ثورة زید(رحمه الله)سنة121، فلا بد أن یکون سبب هروبه مالیاً من نوع سرقته للخراج فی الأهواز ، ولعله هرب من السجن وکان مطلوباً لعمال بنی أمیة بسببه !

8- من الذی سماه الدوانیقی أو أبو الدوانیق ، والمنصور ؟

أصل الدانق (دانه) أی حبه ، وهو جزء الدرهم ، وأصلهما فارسی وعُرِّبا ، وأصل الدینار لاتینی وعُرِّب . (هامش النهایة:9/21، عن النقود العربیة للکرملی/23) .

وذکروا لتسمیة المنصور بأبی الدوانیق والدوانیقی أسباباً ، یجمعها حرصه علی المال وبُخله رغم أنه جمع ثروات لم یجمعها خلیفة قبله ، وبنی بغداد ، وقام بمشاریع کبیرة ! لکنه کان مفرطاً فی بخله !

ففی نهایة الإرب:/769 ، وغرر الخصائص/279: (ذکْرُ من کان یدین بالبخل من الملوک.. عبد الله بن الزبیر.. عبد الملک بن مروان وکان یسمی رشح الحجر... والمنصور وکان یلقب أبا الدوانیق ، لقب بذلک لأنه لما بنی مدینة بغداد کان یباشرها بنفسه ویحاسب الصناع فیقول لهذا: أنت نمت القائلة ، ولهذا: لم تبکر ، ولهذا: انصرفت قبل أن تکمل الیوم ، فیسقط لهذا دانقاً ولهذا دانقین ، فلا یکاد یعطی لأحد أجرةً کاملة ! ویحکی عنه أنه قال لطباخیه: لکم ثلاث وعلیکم اثنان . لکم الرؤس والأکارع والجلود ، وعلیکم الحطب والتوابل .

ومن حکایاته الدالة علی شدة بخله... دخل المؤمل بن أمیل علی المهدی بالری وهو إذ ذاک ولی عهد أبیه المنصور فامتدحه بأبیات.. فأعطاه عشرین ألف درهم

ص: 418

فکتب بذلک صاحب البرید إلی المنصور وهو بمدینة السلام بغداد فکتب إلی المهدی یلومه علی هذا العطاء ویقول له: إنما کان ینبغی لک أن تعطی الشاعر إذا أقام ببابک سنة ، أربعة آلاف درهم ، وأمر کاتبه أن یوجه إلیه بالشاعر فطلب فلم یوجد.. فأمر بإرصاده فمسک.. قال: أنشدنی ما قلت فیه ، فأنشدته القصیدة فقال: والله لقد أحسنت ، ولکنها لا تساوی عشرین ألفاً ! یا ربیع خذ منه المال وأعطه منه أربعة آلاف درهم ففعل !

وأشرف یوماً علی الصید فرأی صائداً اصطاد سمکة عظیمة فقال لبعض موالیه أخرج إلی المتسبب فمره أن یوکل بالصیاد من یدور معه من حیث لا یشعر ، فإذا باع السمکة قبض علی مشتریها وصار به إلینا ، ففعل المتسبب ما أمر به فلقی الصیاد رجلاً نصرانیاً فابتاع منه السمکة بثلثی درهم ، فلما صارت السمکة فی ید النصرانی وذهب بها قبض علیه الأعوان وأتی به المتسبب وأدخله علی المنصور فقال له: من أنت؟ قال: رجل نصرانی . قال: بکم ابتعت هذه السمکة ؟ قال: بثلثی درهم ، قال: وکم عیالک؟ قال: لیس لی عیال. قال: وأنت یمکنک أن تشتری مثل هذه السمکة بمثل هذا الثمن! کم عندک من المال ؟ قال: ما عندی شئ . فقال للمتسبب: خذه إلیک فإن أقر بجمیع ما عنده وإلا فمثِّل به ! فأقر بعشرة آلاف درهم! قال: کلا إنها أکثر ، فأقر بثلاثین ألف درهم ، وأحل دمه إن وقف له علی أکثر منها ، قال له من أین جمعتها؟ قال: وأنا آمن یا أمیر المؤمنین؟ قال له: وأنت آمن علی نفسک إن صدقت . قال: کنت جاراً لأبی أیوب فولانی جهبذة ، بعض نواحی الأهواز فأصبت هذا المال . فقال المنصور: الله أکبر ، هذا مالنا اختنته ! وأمر المتسبب بحمل المال وإطلاق الرجل)..الی آخر قصص بخله وطمعه !

وکان بخیلاً مشهوراً من صغره ! ففی تاریخ دمشق:32/308: (کان یرحل فی

ص: 419

طلب العلم قبل الخلافة ، فبینما هو یدخل منزلاً من المنازل(المنزل هنا شبه الحدود) قبض علیه صاحب الرصد (الجمرک) فقال: زن درهمین قبل أن تدخل ، قال: خلِّ عنی فإنی رجل من بنی هاشم ، قال: زن درهمین . قال: خلِّ عنی فإنی من بنی أعمام رسول الله ! قال: زن درهمین . قال: خلِّ عنی فإنی رجل قارئ لکتاب الله تعالی . قال: زن درهمین . قال: خل عنی فإنی رجل عالم بالفقه والفرائض. قال: زن درهمین . قال: فلما أعیاه أمره وزن الدرهمین ! ولزم جمع المال والتدنیق فیه ، فبقی علی ذلک برهة من زمانه ، إلی أن قلد الخلافة وبقی علیه ، فصار الناس یبخلونه ، فلقب بأبی الدوانیق ). وتاریخ الخلفاء/205، ومعرفة علوم الحدیث/214.

وفی تاریخ الذهبی:9/36، أبغضه أهل البصرة لبخله وعسفه. وفی النهایة:10/108: (بانیها (بغداد) یقال له مقلاص ، وذو الدوانیق لبخله).

ونلاحظ أن أکثر تعبیر أئمة أهل البیت(علیهم السّلام)(أبو الدوانیق)وکذلک قدماء الرواة ففی رسالة القشیری/137: (تکلم أبو سعید الخراز فی الورع ، فمر به عباس بن المهتدی فقال: یا أبا سعید أما تستحی ! تجلس تحت سقف أبی الدوانیق ، وتشرب من برکة زبیدة ، وتتعامل بالدراهم المزیفة ، وتتکلم فی الورع) !

وأما إسم السفاح والمنصور ، فهما لقبان للمهدی الموعود من ذریة علی وفاطمة(علیهم السّلام)، وسمی(علیه السّلام)بالسفاح لأن الله تعالی أمره بإنهاء الظلم علی الأرض وسفح دماء الطغاة ، کما سمی(علیه السّلام)المنصور لأنه ولی دم الإمام الحسین(علیه السّلام) ودماء الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) ، فعن حمران بن أعین أنه قال للإمام الباقر(علیه السّلام):(یا ابن رسول الله زعم ولد الحسن(علیه السّلام)أن القائم منهم وأنهم أصحاب الأمر ، ویزعم ولد ابن الحنفیة مثل ذلک فقال: نحن والله أصحاب الأمر ، وفینا القائم ، ومنا السفاح والمنصور وقد قال الله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِیِّهِ سُلْطَاناً ، نحن أولیاء الحسین بن

ص: 420

علی(علیهماالسّلام)وعلی دینه).(تفسیر العیاشی:2/291 وإثبات الهداة:3/552 ، والبحار:8/146).

وقد افتری العباسیون أحادیث أن السفاح والمنصور والمهدی منهم ، وأن مهدیهم یسلم الرایة الی عیسی(علیه السّلام)أو الی الدجال ! وشهد نقاد الحدیث بکذب رواتها ، وقد استوفیناها فی معجم أحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام)الفصل الثامن فی تحریف البشارة النبویة وادعاء المهدیة .

ویظهر أن بطل هذا الإفتراء هو المنصور وأنه سمی أخاه الصغیر أول ملوکهم بالسفاح ، وسمی نفسه المنصور ، ثم سمی ابنه المهدی ، وأشهد القضاة والرواة علی أن أوصاف المهدی فی أحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، تنطبق علیه وأنه هو الذی سیملأ الأرض قسطاً وعدلاً ! واحتج بأحادیثه الموضوعة لیعزل ولی عهده عیسی بن موسی العباسی الذی نصبه السفاح ، فأحضره وفاوضه وهدده وأذله حتی خلع نفسه ! وعقد مجلساً (شرعیاً) لإعلان ولده ولی عهده والمهدی الموعود !

ولم یملأ هذا (المهدی) الأرض قسطاً وعدلاً ، وحتی بیته ، فقد کان بیت خمر وغناء ورقص وصارت ابنته علیة مضرب المثل ! وقد اشتهر سوؤهم وفاحت رائحتهم حتی شهد ولده الرشید بکذب ادعاء جده وأبیه ، وکان ابن المنصور الأکبر جعفر یسخر من أخیه ، وتسمیته بالمهدی ! وقد وثقنا ذلک .

9- المنصور الجبار والفرعون

لماذا سماه الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)جباراً عندما أخبراه بأنه سیملک الأمة ! فقد قال الباقر(علیه السّلام)لعمه:(ما منع جبارکم أن ی-أتینی)؟! وروی وزیره الربیع أنه بینما کان الإمام الصادق(علیه السّلام)جالساً معه: ( وقع علی المنصور ذباب فذبه عنه ، ثم وقع علیه فذبه عنه ، ثم وقع علیه فذبه عنه ، فقال: یا أبا عبد الله لأی شئ خلق الله تعالی

ص: 421

الذباب؟! قال(علیه السّلام): لیُذل به الجبارین). (علل الشرائع:2/496).

ومعنی الجبار (الدیکتاتور) الذی یظلم الناس ویجبرهم بالقوة لیتسلط علیهم ! ویکون صاحب بطش شدید: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِینَ . وصاحب عناد: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ کُلِّ جَبَّارٍ عَنِیدٍ . والتجبر ینشأ من التکبر: کَذَلِکَ یَطْبَعُ اللهُ عَلَی کُلِّ قَلْبِ مُتَکَبِّرٍ جَبَّارٍ . وقد أخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنه سیکون فی أمته حکام جبابرة حتی یبعث الله المهدی من عترته(علیهم السّلام)فیُنهیهم ! وروی السنیون: (سیکون من بعدی خلفاء ومن بعد الخلفاء أمراء ومن بعد الأمراء ملوک ومن بعد الملوک جبابرة ، ثم یخرج رجل من أهل بیتی یملأ الأرض عدلاً کما ملئت جوراً).(مجمع الزوائد:5/190).

وسمی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعضهم بالوصف فقال: ( لیرعفنَّ علی منبری جبار من جبابرة بنی أمیة فیسیل رعافه). (مجمع الزوائد:5/240). وسمی بعضهم بالإسم: (قال رسول الله (ص): سیکون رجل إسمه الولید یسد به رکنٌ من أرکان جهنم) . (کتاب الفتن لنعیم بن حماد/74). وذکر فی النهایة:6/271، والسیرة الحلبیة:1/265، أن الناس کانوا یلهجون بذلک وأن ابن المسیب امتنع عن بیعته الولید لذلک .

وقال الإمام الصادق(علیه السّلام): (إن الله عز وجل أوحی إلی نبی من الأنبیاء(علیه السّلام)فی مملکة جبار من الجبابرة: أن أت هذا الجبار فقل له: إنی لم أستعملک علی سفک الدماء واتخاذ الأموال ! وإنما استعملتک لتکف عنی أصوات المظلومین ، فإنی لن أدع ظلامتهم وإن کانوا کفاراً ) ! (ثواب الأعمال/272).

ومن الأحادیث المباشرة فی موضوعنا ما رواه الإمام الصادق(علیه السّلام)عن جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی أن سبعة جبابرة هم أرکان جهنم ، وأن أحدهم من ولد العباس یقال له الدوانیقی ! ویظهر أن هذا الحدیث کان یؤرق المنصور ویثیر غیظه وعناده ! فقد أحضر الأعمش(رحمه الله)وسأله فیما سأله عن هذا الحدیث لیبرر له خطته فی إبادة

ص: 422

العلویین ! ففی البحار:47/309 ، (عن کتاب الإستدراک بإسناده إلی الأعمش(رحمه الله)، أن المنصور حیث طلبه فتطهر وتکفن وتحنط ، قال له: حدثنی بحدیث سمعته أنا وأنت من جعفر بن محمد فی بنی حِمَّان (محلة فی الکوفة) قال: قلت له: أی الأحادیث؟ قال: حدیث أرکان جهنم ، قال قلت: أو تعفینی؟قال: لیس إلی ذلک سبیل! قال: قلت: حدثنا جعفر بن محمد عن آبائه(علیهم السّلام)أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: لجهنم سبعة أبواب وهی الأرکان ، لسبعة فراعنة ثم ذکر الأعمش: نمرود بن کنعان فرعون الخلیل ،ومصعب بن الولید فرعون موسی ، وأبا جهل بن هشام.. ثم سکت فقال لی: الفرعون السابع؟ قلت: رجل من ولد العباس یلی الخلافة یلقب بالدوانیقی إسمه المنصور ! قال: فقال لی: صدقت هکذا حدثنا جعفر بن محمد ! قال: فرفع رأسه وإذا علی رأسه غلام أمرد ما رأیت أحسن وجهاً منه فقال:إن کنتُ أحد أبواب جهنم فلمَ أستبقِ هذا؟ (أی لا أقتله) ! وکان الغلام علویاً حسینیاً فقال له الغلام: سألتک یا أمیر المؤمنین بحق آبائی إلا عفوت عنی ، فأبی ذلک ، وأمر المرزبان به ، فلما مد یده حرک الفتی شفتیه بکلام لم أعلمه ، فإذا هو کأنه طیر قد طار منه) ! انتهی.

ثم ذکر الأعمش أنه لقی الفتی بعد ذلک ، فتعلم منه الدعاء الذی دعا به !

10- المنصور یجبر المسلمین علی عبادته وعبادة أسرته !

یکفی دلیلاً علی ذلک المنام الذی اخترعه ونمَّقَه ، وفرضه علی المسلمین ! وقد روته ثلاثة مصادر مهمة بسند صحیح عندهم ، کتاریخ بغداد:1/85 ، وتاریخ دمشق:32/301، ونهایة ابن کثیر:10/129، ونصه الکامل:

(عن محمد بن إبراهیم الإمام قال: (قال المنصور یوماً ونحن جلوس عنده: أتذکرون رؤیا کنت رأیتها ونحن بالشراة؟ فقالوا: یا أمیر المؤمنین ما نذکرها ، فغضب من ذلک وقال: کان ینبغی لکم أن تثبتوها فی ألواح الذهب وتعلقوها فی أعناق الصبیان ! فقال عیسی بن علی: إن کنا قصرنا فی ذلک فنستغفر الله یا أمیر المؤمنین، فلیحدثنا أمیر المؤمنین بها . قال: نعم: رأیت کأنی فی المسجد الحرام

ص: 423

وکأن رسول الله (ص) فی الکعبة وبابها مفتوح والدرجة موضوعة ، وما أفقد أحداً من الهاشمیین ولا من القرشیین إذا مناد ینادی: أین عبد الله؟

فقام أخی العباس یتخطی الناس حتی صار علی الدرجة ، فأخذ بیده فأدخل البیت ، فما لبث أن خرج علینا ومعه قناة علیها لواء قدر أربع أذرع أو أرجح فرجع حتی خرج من باب المسجد . ثم نودی أین عبد الله ؟ فقمت أنا وعبد الله بن علی نستبق حتی صرنا إلی الدرجة فجلس ، وأخذ بیدی فأصعدت فأدخلت الکعبة ، وإذا رسول الله (ص) جالس ومعه أبو بکر وعمر وبلال فعقد لی وأوصانی بأمته وعممنی فکان کورها ثلاثة وعشرین کوراً وقال: خذها إلیک أبا الخلفاء إلی یوم القیامة).

فهو بذلک یزعم أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )اختاره وذریته حکاماً علی الأمة وأن الحکم سیبقی الحکم فیهم الی یوم القیامة ! وعلی المسلمین أن یشکروا الله علی ذلک ویکتبوا منام أمیر المؤمنین المنصور علی ألواح الذهب ، ویعلقوه فی أعناق صبیانهم ، فی المدارس والبیوت ، جیلاً بعد جیل !

فهذه الذاتیة المفرطة هی هدف المنصور وأصل جبروته ، فقد أسقط علی نفسه قداسة النببی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وعلی ذریته قداسة العترة(علیهم السّلام)، ثم عمل بکل حیلة حتی عزل ولی عهده ونصب ابنه بدله وألبسه شخصیة المهدی الموعود(علیه السّلام)الذی یملأ الأرض عدلاً ! ویکفی لإثبات کذبه أن تعرف أن ابنه لم یملأ الأرض عدلاً ، ولا بیته ! وأن حکم ذریة المنصور انتهی قبل یوم القیامة ، والحمد لله .

وتلاحظ فی النص تَمَلُّق شخصیات العباسیین للمنصور فما حال بقیة المسلمین !

11- المنصور یتبنی منطق معاویة القدری ویجعل فعله فعل الله !

قال فی خطبته فی الحج: ( أیها الناس إنما أنا سلطان الله فی أرضه أسوسکم بتوفیقه وتسدیده ، وأنا خازنه علی فیئه ،أعمل بمشیئته ، وأقسمه بإرادته ، وأعطیه بإذنه ! قد جعلنی الله علیه قفلاً ، إذا شاء أن یفتحنی لأعطیاتکم وقسم فیئکم

ص: 424

وأرزاقکم فتحنی ، وإذا شاء أن یقفلنی أقفلنی). (الطبری:6/331).

وفی متشابه القرآن لابن شهرآشوب:1/123: ( أول من أظهر الجبر فی هذه الأمة معاویة ! ذلک أنه خطب فقال: یا أهل الشام أنا خازن من خزان ربی ، أعطی من أعطاه الله ، وأمنع من منعه الله بالکتاب والسنة ، فقام أبو ذر(رحمه الله)وقال: کذبت ! والله إنک لتعطی من منعه ال بالکتاب والسنة ، وتمنع من أعطاه الله).

12- المنصور یدعی أنه فوق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ویفرح بمن ادعوا له الألوهیة !

قال المقریزی فی النزاع والتخاصم/135: (إنه تزیا بزی الأکاسرة.. وأحدث تقبیل الأرض (بین یدیه) ! وتحجَّب عن الرعیة وترفَّع علیهم.. حتی أن الربیع حاجبه ضرب رجلاً سمَّت المنصور عند العطسة(قال له:یرحمک الله) فلما شکا ذلک إلی المنصور . قال: أصاب الرجل السنة وأخطأ الأدب) ! انتهی.

فالأدب مع الخلیفة بنظره مقدم علی سنة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! بل زاد من جبروته فأقنع شیاطینه بعض رعاع المجوس فادعوا له الألوهیة ، وکان راضیاً به ، ویبرره بأن ذلک أفضل من أن یعصوه !

قال الطبری:6/147: (والراوندیة قوم فیما ذکر عن علی بن محمد ، کانوا من أهل خراسان علی رأی أبی مسلم صاحب دعوة بنی هاشم یقولون فیما زعم بتناسخ الأرواح ، ویزعمون أن روح آدم فی عثمان بن نهیک وأن ربهم الذی یطعمهم ویسقیهم هو أبو جعفر المنصور ! وأن الهیثم بن معاویة جبرئیل ! قال: وأتوا قصر المنصور فجعلوا یطوفون به ویقولون: هذا قصر ربنا فأرسل المنصور إلی رؤسائهم فحبس منهم مائتین ، فغضب أصحابهم وقالوا علام حبسوا ؟ وأمر المنصور ألا یجتمعوا... عن أبی بکر الهذلی قال: إنی لواقف بباب أمیر المؤمنین ، إذ طلع فقال رجل إلی جانبی: هذا رب العزة ! هذا الذی یطعمنا ویسقینا ! فلما رجع أمیر

ص: 425

المؤمنین ودخل علیه الناس دخلت وخلا وجهه ، فقلت له: سمعت الیوم عجباً وحدثته ! فنکت فی الأرض وقال: یا هذلی یدخلهم الله النار فی طاعتنا ویعذبهم ، أحب إلیَّ من أن یدخلهم الجنة بمعصیتنا). انتهی.

فأصل الأمور عند هذا الفرعون طاعة أوامره ورغباته ! وکل شئ من أجل ذلک حلال ، حتی الکفر بالله تعالی ، وحتی عبادته هو مکان الله تعالی !

ویظهر أن الراوندیة انقسموا أقساماً عدیدة ، فأصلهم مجوس أتباع سنباذ الذی ثار علی المنصور انتقاماً لأبی مسلم ، فهزمهم وفرقهم.(الأخبار الطوال/384).

ثم تمکن المنصور بشیطنته أن یستوعب قسماً منهم حتی قالوا بألوهیته ، وسکت عن ذلک وکأنه أنس به ! ویبدو أنهم تأقلموا بعد ذلک وأسلموا وقالوا إن العباس أفضل الصحابة وقد أوصی له النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!(فتح

الباری:13/187، وشرح مسلم للنووی:15/148).

وقال فی شرح النهج:9/87: (وأما الراوندیة فإنهم خصصوها بالعباس وولده من بین بطون قریش کلها ، وهذا القول الذی ظهر فی أیام المنصور والمهدی) !

وسیأتی من تاریخ ابن خلدون أنهم صاروا فرقة یقولون بالنص علی العباس ویتبرؤون من أبی بکر وعمر وعثمان .

13- المنصور القاتل المتعطش للدماء

من الطبیعی لصاحب الصفات المتقدمة: الکذب والسرقة والأنانیة والتجبر ، أن یصیر قاتلاً ! فإن کانت عمیقة فی شخصیته صار مدمناً علی سفک الدماء !

وهکذا کان المنصور أبو الدوانیق ، حیث یحتاج إحصاء من قتلهم الی مجلد ، لأنه یشمل حیله لقتل من لا یرید أن یتحمل مسؤولیته علناً ، ویشمل تفننه فی طرق القتل . وکله فیمن سجل الرواة خبرهم ، وقد یکون غیرهم أکثر منهم !

والقتل کله مبغوض منفور ، إلا ما أوجبه الله تعالی کالذی قال عنه: وَلَکُمْ فِی

ص: 426

الْقِصَاصِ حَیَاةٌ یَا أُولِی الأَلْبَابِ . لکن أسوأ أنواع القتل ماکان بانتقام ووحشیة ، أو کان حسداً لشخص أنعم الله علیه بنعمة ولم ینعمها علی القاتل ، أو کان خیانة لمن أجری الله نعمته علی ید القاتل حتی لایبقی حیاً ویُعَیَّر فیه ! أو کان إسرافاً فی القتل من غیر (حاجة) کقتل من أساء إساءة صغیرة جزاؤها العفو أو مثلها .

إذا أردت أن تعرف شخصیة أحد ، فانظر الی ثقافته فی خصومة من یخاصم ، ثم فی سلوکه ! فإن وجدته یری أن لخصمه حقاً فی الحیاة والتعبیر عن رأیه ، ویؤمن بحدود لحقه فی خصومة من یخاصم ویلتزم بها ، فهو إنسان طبیعی ، وإلا فهو مریض ، لایقف عند حد فی بغضه وشهوته ، إلا مجبراً بلجام !

وعندما تقرأ حیاة المنصور تجده من أصحاب الصدور الضیقة الذین لاتتسع قلوبهم لمن خالفهم ، بل یعبؤون أنفسهم عن عمد وسبق إصرار ضد من خالفهم ویعتبرون مخالفته لهم کفراً وعداوة وحرباً ، وأن علیهم أن یواجهوه ویقمعوه وإن استطاعوا.. أن یقتلوه ! فقد خطب المنصور ثم أخذ بقائم سیفه فقال: ( أیها الناس إنَ بکم داءً هذا داؤه ، وأنا زعیم لکم بشفائه ، فلیعتبر عبد قبل أن یُعتبر به فإنما بعد الوعید الإیقاع ) ! (العقد الفرید/883).

14- لم یعجبه کتاب الأمان لعمه فقتل کاتبه ابن المقفع !

ابن المقفع أدیب ، کان یجید اللغات الثقافیة المهمة فی عصره ، وله مؤلفات فی الأدب والحکمة ، وترجم کتباً فی الفلسفة والطب واشتهر منها کتاب کلیلة ودمنه وقد شغل وظیفة کاتب الدیوان للمنصور العباسی ، وهو فارسی الأصل کان یعیش فی البصرة . وقد عرف فی شبابه بالزندقة ، وتقدم فی ترجمة الخلیل أنه سئل: (کیف رأیت عبد الله؟ قال: ما رأیت مثله وعلمه أکثر من عقله . وقیل لابن المقفع: کیف رأیت الخلیل؟ قال: ما رأیت مثله وعقله أکثر من علمه). (أمالی المرتضی:1/94).

ص: 427

وکان لابن المقفع أصدقاء زنادقة کابن أبی العوجاء ، وأبی شاکر الدیصانی ، وعبد الملک البصری ، وابن طالوت ، وابن الأعمی ، لکنه کان یتمیز عنهم ، ففی الکافی:1/74 ، أنه کان مع بعضهم فی المسجد الحرام فقال: (ترون هذا الخلق؟ وأومأ بیده إلی موضع الطواف ، ما منهم أحد أوجِبُ له إسم الانسانیة إلا ذلک الشیخ الجالس یعنی أبا عبد الله جعفر بن محمد(علیهماالسّلام)، فأما الباقون فرعاع وبهائم ! فقال له ابن أبی العوجاء: وکیف أوجبت هذا الإسم لهذا الشیخ دون هؤلاء؟ قال: لأنی رأیت عنده ما لم أره عندهم ! فقال له ابن أبی العوجاء: لابد من اختبار ما قلت فیه منه ، قال: فقال ابن المقفع: لا تفعل فإنی أخاف أن یفسد علیک ما فی یدک ، فقال: لیس ذا رأیک ولکن تخاف أن یضعف رأیک عندی فی إحلالک إیاه المحل الذی وصفت ! فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علیَّ هذا فقم إلیه وتحفظ ما استطعت من الزلل ولا تثنی عنانک إلی استرسال فیسلمک إلی عقال وسِمْه مالک أو علیک؟ قال: فقام ابن أبی العوجاء وبقیت أنا وابن المقفع جالسین فلما رجع إلینا ابن أبی العوجاء قال: ویلک یا ابن المقفع ما هذا ببشر ! وإن کان فی الدنیا روحانی یتجسد إذا شاء ظاهراً ویتروَّح إذا شاء باطناً فهو هذا ! فقال له: وکیف ذلک؟ قال: جلست إلیه فلما لم یبق عنده غیری ابتدأنی فقال: إن یکن الامر علی ما یقول هؤلاء ، وهو علی ما یقولون ، یعنی أهل الطواف ، فقد سلموا وعطبتم ، وإن یکن الامر علی ما تقولون، ولیس کما تقولون ، فقد استویتم وهم فقلت له: یرحمک الله وأی شئ نقول وأی شئ یقولون؟ ما قولی وقولهم إلا واحداً ! فقال: وکیف یکون قولک وقولهم واحداً وهم یقولون: إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً ویدینون بأن فی السماء إلهاً وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب لیس فیها أحد ! قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن کان الامر کما یقولون أن یظهر لخلقه

ص: 428

ویدعوهم إلی عبادته حتی لا یختلف منهم اثنان ، ولم احتجب عنهم وأرسل إلیهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه کان أقرب إلی الایمان به ؟ فقال لی: ویلک وکیف احتجب عنک من أراک قدرته فی نفسک: نشوءک ولم تکن ، وکبرک بعد صغرک ، وقوتک بعد ضعفک ، وضعفک بعد قوتک وسقمک بعد صحتک ، وصحتک بعد سقمک ، ورضاک بعد غضبک وغضبک بعد رضاک ، وحزنک بعد فرحک وفرحک بعد حزنک ، وحبک بعد بغضک وبغضک بعد حبک ، وعزمک بعد أناتک وأناتک بعد عزمک ، وشهوتک بعد کراهتک وکراهتک بعد شهوتک ، ورغبتک بعد رهبتک ورهبتک بعد رغبتک ، ورجاءک بعد یأس ویأسک بعد رجائک ، وخاطرک بما لم یکن فی وهمک ، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنک ، وما زال یعدد علی قدرته التی هی فی نفسی التی لا أدفعها حتی ظننت أنه سیظهر فیما بینی وبینه) ! انتهی.

وکان ابن المقفع صدیقاًً لعیسی وسلیمان بن علی وهما عما المنصور ، وأسلم علی ید عیسی (وفیات الأعیان:2/151) ویدل علی إسلامه أیضاً أن أعمام المنصور اقتادوا والی البصرة الی المنصور وطلبوا أن یقتص منه ، فلم ینکر ذلک !

وعندما توفی السفاح وبایعوا المنصور ، کان عمه عبدالله قد أتم فتح الشام ومصر وقتل مروان الحمار آخر خلفاء بنی أمیة ، فادعی عبدالله أن ابن أخیه السفاح جعل ولایة عهده لمن نهض الی حرب مروان ، وأنه قبل بذلک علی هذا الأساس، وشهد له الشهود بذلک فبایعه جیشه وأهل الشام . فأرسل المنصور لحرب عمه عبدالله جیشاً بقیادة أبی مسلم الخراسانی فانتصر علیه أبو مسلم وهرب عبدالله الی البصرة ، حیث أخویه سلیمان وعیسی ، وراسلا المنصور بأن یبایعه عبدالله ویعطیه الأمان فقبل بذلک: (قالا لعبد الله بن المقفع: أکتبه أنت وبالغ

ص: 429

فی التأکید کی لا یقتله المنصور.. فکتب ابن المقفع الأمان وشدد فیه حتی قال فی جملة فصوله: ومتی غدر أمیر المؤمنین بعمه عبد الله بن علی فنساؤه طوالق ، ودوابه حبس (وقف) وعبیده أحرار ، والمسلمون فی حل من بیعته..!

فلما وقف علیه المنصور عَظُم ذلک علیه ، وقال: من کتب هذا؟ فقالوا له: رجل یقال له عبد الله بن المقفع ، یکتب لأعمامک ، فکتب إلی سفیان(المهلبی) متولی البصرة یأمره بقتله وکان سفیان شدید الحنق علیه... فاستأذن ابن المقفع یوماً علی سفیان فأخَّر إذنه حتی خرج من کان عنده ، ثم أذن له فدخل فعدل به إلی حجرة فقتل فیها وقال المدائنی لما دخل ابن المقفع علی سفیان قال له: أتذکر ما کنت تقول فی أمی فقال أنشدک الله أیها الأمیر فی نفسی فقال أمی مغتلمة إن لم أقتلک قتلة لم یقتل بها أحد وأمر بتنور فسجر ، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواً وهو یلقیها فی التنور وهو بنظر ، حتی أتی علی جمیع جسده ، ثم أطبق علیه التنور وقال لیس علی فی المثلة بک حرج ، لأنک زندیق وقد أفسدت الناس ، وسأل سلیمان وعیسی عنه فقیل إنه دخل دار سفیان سلیماً ولم یخرج منها ! فخاصماه إلی المنصور وأحضراه إلیه مقیداً وحضر الشهود الذین شاهدوه وقد دخل داره ولم یخرج فأقاموا الشهادة عند المنصور ، فقال لهم المنصور: أنا أنظر فی هذا الأمر ، ثم قال لهم: أرأیتم إن قتلت سفیان به ،ثم خرج ابن المقفع من هذا البیت وأشار إلی باب خلفه وخاطبکم ، ما ترونی صانعاً بکم أأقتلکم بسفیان؟ فرجعوا کلهم عن الشهادة ، وأضرب عیسی وسلیمان عن ذکره ، وعلموا أن قتله کان برضا المنصور ! ویقال إنه عاش ستا وثلاثین سنة) (وفیات الأعیان:2/152).

أقول: قصة قتل ابن المقفع بهذا الشکل الفجیع أوسع مما ذکرنا(علیهاالسّلام) ، ویلاحظ الباحث کیف أمر المنصور والیه المهلبی الوحشی بقتله ، ثم خلصه من القصاص

ص: 430

بحیلة شیطانیة ، وأذهب دم مسلم هدراً ! کل ذلک لأنه لم یعجبه نص الأمان الذی کتبه ابن المقفع لحفظ دم عم الخلیفة من أنیاب الخلیفة !

علی أن المنصور یعرف أن السفاح فی أول خلافته جعل ولایة عهده الی من یذهب لحرب مروان ، وکان المنصور وأعمامه حاضرین ، فلم یقبل ذلک منهم إلا عمه عبدالله ! فهو ولی عهد السفاح بنصه ، ولو صحت ولایة عهد المنصور فتحتاج الی أن یعزل السفاح ولی عهده السابق وینصب بدله ، ولم یقع ذلک !

15- وَقَّعَ المنصور عهد الأمان لعمه الذی کتبه ابن المقفع ثم قتله !

وطبیعی لمثل المنصور الجبار أن لا یفی بعهد ولا ذمة ! وقد وبخه بذلک مهدی الحسنیین ، عندما کتب له المنصور یعرض علیه الأمان فأجابه بأنه هو یعرض علیه الأمان ، وکتب له: ( ولک الله علیَّ إن دخلت فی طاعتی وأجبت دعوتی أن أؤمنک علی نفسک ومالک ، وعلی کل أمر أحدثته إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد ، فقد علمت ما یلزمک من ذلک ، وأنا أولی بالأمر منک ، وأوفی بالعهد لأنک أعطیتنی من العهد والأمان ما أعطیته رجالاً قبلی ! فأی الأمانات تعطینی أمان ابن هبیرة ، أم أمان عمک عبد الله بن علی ، أم أمان أبی مسلم)؟!

وقد روی المؤرخون أن الخلیفة الشرعی التقی المجاهد حامی حمی الدین ومؤسس مذاهب المسلمین أمیر المؤمنین أبو جعفر المنصور قد نکث بعهده ونقض أمانه ، وخفر ذمة عمیه عیسی وسلیمان ، بعد أن حلف لهما بالأیمان المغلظة ، فجاؤوا له بأخیهما عبدالله فحبسه بحیلة ، وطردهما مع حامیتهما ، ثم استعمل عمه المحبوس للمساومة والحیلة مع ابن عمه موسی ولی عهده لیعزله مع أن أخاه السفاح نص علیه معه فی عهده المزعوم لهما !

ففی الکامل لابن الأثیر:5/496: ( لما عزل سلیمان عن البصرة ، اختفی أخوه عبد الله

ص: 431

بن علی ومن معه من أصحابه خوفاً من المنصور ، فبلغ ذلک المنصور فأرسل إلی سلیمان وعیسی ابنی علی بن عبد الله بن عباس فی إشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان لعبد الله ، وعزم علیهما أن یفعلا . فخرج سلیمان وعیسی بعبد الله وقواده وموالیه حتی قدموا علی المنصور فی ذی الحجة ، فلما قدموا علیه أذن لسلیمان وعیسی فدخلا علیه وأعلماه حضور عبد الله وسألاه الإذن له ، فأجابهما إلی ذلک وشغلهما بالحدیث وکان قد هیأ لعبد الله مکاناً فی قصره ، فأمر به أن یصرف إلیه بعد دخول سلیمان وعیسی ففعل به ذلک ، ثم نهض المنصور وقال لسلیمان وعیسی: خذا عبد الله معکما ، فلما خرجا لم یجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس ، فرجعا إلی المنصور فمنعا عنه ، وأخذت عند ذلک سیوف من حضر من أصحابه وحبسوا ! وقد کان خفاف بن منصور حذرهم ذلک وندم علی مجیئه معهم وقال: إن أطعتمونی شددنا شدة واحدة علی أبی جعفر ، فوالله لا یحول بینه وبیننا حائل حتی نأتی علیه ، ولا یعرض لنا أحد إلا قتلناه وننجو بأنفسنا ،فعصوه . فلما أخذت سیوفهم وحبسوا ، جعل خفاف یضرط فی لحیة نفسه ویتفل فی وجوه أصحابه ). وفی نهایة ابن کثیر:10/111: (استدعی عیسی بن موسی وقال له: إن هؤلاء شفعوا فی عبد الله بن علی وقد أجبتهم إلی ذلک فسلمه إلیهم . فقال عیسی: وأین عبد الله؟ ذاک قتلته منذ أمرتنی . فقال المنصور: لم آمرک بذلک وجحد ذلک وأن یکون تقدم إلیه منه أمره فی ذلک ، فأحضر عیسی الکتب التی کتبها إلیه المنصور مرة بعد مرة فی ذلک فأنکر أن یکون أراد ذلک ، وصمم علی الإنکار ، وصمم عیسی بن موسی أنه قد قتله ، فأمر المنصور عند ذلک بقتل عیسی بن موسی قصاصاً بعبد الله ! فخرج به بنو هاشم لیقتلوه ، فلما جاؤوا بالسیف قال: ردونی إلی الخلیفة فردوه إلیه فقال له: إن عمک حاضر ولم أقتله ، فقال: هلم به . فأحضره فسقط فی

ص: 432

ید الخلیفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنیة علی ملح ، فلما کان من اللیل أرسل علی جدرانها الماء فسقط علیه البناء فهلک ! ثم أمر المنصور بقتل بعضهم بحضرته وبعث الباقین إلی أبی داود خالد بن إبراهیم بخراسان فقتلهم بها ) .

ولخص ابن خلدون القصة التی امتدت بضع عشرة سنة ، فقال فی تاریخه:3/185: (کان عبد الله بن علی بعد هزیمته أمام أبی مسلم ، لحق بالبصرة ونزل علی أخیه سلیمان ، ثم إن المنصور عزل سلیمان سنة تسع وثلاثین ، فاختفی عبد الله وأصحابه ، فکتب المنصور إلی سلیمان وأخیه عیسی بأمان عبد الله وقواده وموالیه وإشخاصهم إلی المنصور معهما فشخصوا . ولما قدما علیه فأذن لهما فأعلماه بحضور عبد الله واستأذناه له ، فشغلهما بالحدیث

وأمر بحبسه فی مکان قد هیئ له فی القصر ، فلما خرج سلیمان وعیسی لم یجدا عبد الله، فعلما أنه قد حبس، وأن ذمتهما قد أخفرت ! فرجعا إلی المنصور فحبسا عنه ! وتوزع أصحاب عبد الله بین الحبس والقتل ، وبعث ببعضهم إلی أبی داود خالد بن إبراهیم بخراسان ، فقتلهم بها ! ولم یزل عبد الله محبوساً حتی عهد المنصور إلی المهدی سنة تسع وأربعین وأمر موسی بن عیسی فجعله بعد المهدی ودفع إلیه عبد الله وأمره بقتله ، وخرج حاجاً . وسارَّ عیسی کاتبه یونس بن فروة فی قتل عبد الله بن علی فقال:لا تفعل فإنه یقتلک به وإن طلبه منک فلا ترده إلیه سراً ! فلما قفل المنصور من الحج دس علی أعمامه من یحرضهم علی الشفاعة فی أخیهم عبد الله فشفعهم وقال لعیسی: جئنا به فقال: قتلته کما أمرتنی ! فأنکر المنصور وقال: خذوه بأخیکم فخرجوا به لیقتلوه حتی اجتمع الناس واشتهر الأمر فجاء به ، وقال هو ذا حی سویٌّ ! فجعله المنصور فی بیت أساسه ملح ، وأجری علیه الماء فسقط ومات).

أقول: یکفی الباحث أن یتأمل فی قتل ابن المقفع، وعبدالله بن علی عم المنصور وجماعته ، لیعرف أنه لایوجد عند المنصور لا تقوی ولا دین ولا قیم عائلیة ولا

ص: 433

إنسانیة ، وأن أبا حنیفة کان صادقاً عندما وصفه باللص المتغلب علی الخلافة ! وإن کان أبو حنیفة خضع للمنصور أخیراً ، وصار أداة بید هذا اللص مع الأسف !

إن قتل المنصور لابن المقفع وعبدالله فضلاً عن غیرهما ، من أمثلة المکر والحیلة والخیانة والبطش وانعدام القیم ، الذی افتتح به بنو العباس عصرهم الذی نصفه الیوم بالعصر الزاهی ، ونعده من أمجاد هذا الدین وهذه الأمة !

16- ذنبه أنه شاب جمیل من ذریة علی وفاطمة(علیهماالسّلام)!

فهو بما وهبه الله من جمال یثیر حفیظة صاحب العظمة المنصور ویملأ قلبه حقداً علیه ! ولا شفاء لحقده إلا بقتله قتلةً مبتکرة توصل الیها الخلیفة بنبوغه ! وقد قتل المنصور شابین جمیلین یقال لکل منهما الدیباج ، اعتقلهما مع أولاد الحسن المثنی ، أحدهما من أحفاد عثمان ، وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، وکان جمیلاً علی أخواله بنی هاشم لأن أمه فاطمة بنت الحسین(علیه السّلام)، فهو أخ عبد الله بن الحسن لأمه ، وتقدمت مأساته فی فصل الحسنیین .

والثانی شاب صغیر السن کان جمیلاً جداً(رحمه الله)، قال عنه الطبری:6/179: ( أمر أبو جعفر (المنصور) أبا الأزهر فحبس بنی حسن بالهاشمیة.. أتی بهم أبو جعفر فنظر إلی محمد بن إبراهیم بن حسن فقال: أنت الدیباج الأصفر ؟ قال: نعم . قال: أما والله لأقتلنک قتلةً ما قتلتها أحداً من أهل بیتک ! ثم أمر بأسطوانة مبنیة ففُرِّغت ، ثم أدخل فیها فبنی علیه وهو حی ! قال محمد بن الحسن: وحدثنی الزبیر بن بلال قال: کان الناس یختلفون إلی محمد ینظرون إلی حسنه). انتهی.

وفی النزاع والتخاصم للمقریزی/143: (ومضی ببنی حسن إلی الکوفة فسجنهم بقصر بن هبیرة وأحضر محمد بن إبراهیم بن حسن وأقامه ، ثم بنی علیه أسطوانة وهو حی وترکه حتی مات جوعاً وعطشاً . ثم قتل أکثر من معه من بنی حسن) .

ص: 434

17- دفن المنصور عدداً من العلویین أحیاءً فی أسطوانات بغداد !

قال الحاکم الأنماطی النیسابوری کما فی عیون أخبار الرضا(علیه السّلام):2/102: ( لما بنی المنصور الأبنیة ببغداد ، جعل یطلب العلویة طلباً شدیداً ، ویجعل من ظفر منهم فی الأسطوانات المجوفة المبنیة من الجص والآجر ! فظفر ذات یوم بغلام منهم حسن الوجه ، علیه شعر أسود من ولد الحسن بن علی بن أبی طالب(علیهم السّلام)، فسلمه إلی البناء الذی کان یبنی له وأمره أن یجعله فی جوف أسطوانة ویبنی علیه ووکل علیه من ثقاته من یراعی ذلک حتی یجعله فی جوف أسطوانة بمشهده ! فجعله البناء فی جوف أسطوانة فدخلته رقه علیه ورحمه له ، فترک الأسطوانة فرجه یدخل منها الروْح ، فقال للغلام: لا باس علیک فاصبر فإنی سأخرجک من جوف هذه الأسطوانة إذا جن اللیل ، فلما جن اللیل جاء البناء فی ظلمه فأخرج ذلک العلوی من جوف تلک الأسطوانة وقال له: إتق الله فی دمی ودم الفعلة الذین معی وغیب شخصک فإنی إنما أخرجتک ظلمة هذه اللیلة من جوف هذه الأسطوانة لأنی خفت إن ترکتک فی جوفها أن یکون جدک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوم القیامة خصمی بین یدی الله عز وجل ، ثم أخذ شعره بآلات الجصاصین کما أمکن وقال: غیب شخصک وانج بنفسک ، ولا ترجع إلی أمک . فقال الغلام: فإن کان هذا هکذا فعرِّف أمی أنی قد نجوت وهربت ، لتطیب نفسها ویقل جزعها وبکاؤها وإن لم یکن لعودی إلیها وجه ! فهرب الغلام ولا یدری أین قصد من وجه أرض الله تعالی ولا إلی أی بلد وقع ؟! قال ذلک البناء: وقد کان الغلام عرفنی مکان أمه

وأعطانی العلامة ، فأنهیت إلیها فی الموضع الذی دلنی علیه فسمعت دویاً کدوی النحل من البکاء ، فعلمت أنها أمه فدنوت منها وعرفتها خبر ابنها وأعطیتها شعره وانصرفت) .

ص: 435

أقول: هذه القصة تنسجم مع جبروت المنصور ، وما تقدم فی بخله وأنه کان یشرف علی العمال والبنائین ویحاسبهم علی الدانق . وینسجم مع رأیه بأن العلویین أخطر من یهدد خلافته . ومع الظرف السیاسی عندما شرع فی بناء بغداد ، حیث کان ذلک بعد انتصاره علی إبراهیم بن عبد الله بن الحسن. (وشرع فی عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149). (معجم البلدان:1/457).

بل تحول الیها سنة146 قبل أن یکمل بناءها: (وکان لا یدخلها أحد راکباً ، حتی أن عمه عیسی اشتکی الیه المشی فلم یأذن له). (مرآة الجنان:1/301) .

18- القتل المفرد لایکفیه فقرَّر المنصور إبادة أبناء علی وفاطمة(علیه السّلام)

قال محمد بن الإسکندری: (کنت من خواص المنصور أبی جعفر الدوانقی ، وکنت أقول بإمامة أبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)فدخلت یوماً علی أبی جعفر الدوانیقی وإذا هو یفرک یدیه ویتنفس تنفساً بارداً ، فقلت: یا أمیر المؤمنین ما هذه الفکرة ؟ فقال: یا محمد إنی قتلت من ذریة فاطمة بنت رسول الله ألفاً أو یزیدون ، وقد ترکت سیدهم ! فقلت له: ومَن ذلک یا أمیر المؤمنین؟ فقال: ذلک جعفر بن محمد )! (دلائل الإمامة للطبری الشیعی:298).

قال المفید(رحمه الله)فی الإرشاد:1/311: (ومن آیات الله تعالی فیه (أمیر المؤمنین(علیه السّلام)) أنه لم یُمْنَ أحد فی ولده وذریته بما منی(علیه السّلام)فی ذریته ، وذلک

أنه لم یعرف خوف شمل جماعة من ولد نبی ولا إمام ولا ملک زمان ولا بر ولا فاجر ، کالخوف الذی شمل ذریة أمیر المؤمنین علیه السلام ، ولا لحق أحداً من القتل والطرد عن الدیار والأوطان والإخافة والارهاب ما لحق ذریة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وولده ، ولم یجر علی طائفة من الناس من ضروب النکال ما جری علیهم من ذلک ، فقتلوا بالفتک والغیلة والإحتیال ، وبنی علی کثیر منهم وهم أحیاء البنیان ، وعذبوا بالجوع والعطش حتی ذهبت أنفسهم علی الهلاک ، وأحوجهم ذلک إلی التمزق فی البلاد

ص: 436

ومفارقة الدیار والأهل والأوطان ، وکتمان نسبهم عن أکثر الناس . وبلغ بهم الخوف إلی الإستخفاء من أحبائهم فضلاً عن الأعداء ، وبلغ هربهم من أوطانهم إلی أقصی الشرق والغرب والمواضع النائیة فی العمران ، وزهد فی معرفتهم أکثر الناس ، ورغبوا عن تقریبهم والاختلاط بهم ، مخافة علی أنفسهم وذراریهم من جبابرة الزمان).

(قال مشافهةً للإمام الصادق: لأقتلنک ولأقتلن أهلک حتی لا أبقی علی الأرض منکم قامة سیف ، ولأضربن المدینة حتی لا أترک فیها جداراً قائماً . ویقول الطبری فی تاریخه: إن المنصور هذا ترک خزانة رؤوس میراثاً لولده المهدی کلها من العلویین ، وقد علق بکل رأس ورقة کتب فیها ما یستدل به علی صاحبه ومن بینها رؤوس شیوخ وشبان وأطفال ! والمنصور هو الذی کان یضع العلویین فی الأسطوانات ویسمرهم فی الحیطان کما ذکر الیعقوبی فی تاریخه

ویترکهم یموتون فی المطبق جوعاً وتقتلهم الروائح الکریهة ، حتی لم یکن لهم مکان یخرجون إلیه لإزالة الضرورة . وکان یموت أحدهم ویترک حتی یبلی من غیر دفن ثم یهدم المطبق علی من تبقی منهم أحیاء وهم فی أغلالهم). (نظریة عدالة الصحابة للمحامی أحمد حسین یعقوب/136).

19- وأوصی ابنه المهدی أن یتابع سیاسة الإبادة لأبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام)

روی الطبری:6/343: ( لما عزم المنصور علی الحج دعا ریطة بنت أبی العباس امرأة المهدی ، وکان المهدی بالری قبل شخوص أبی جعفر ، فأوصاها بما أراد وعهد إلیها ودفع إلیها مفاتیح الخزائن ، وتقدم إلیها وأحلفها ووکد الأیْمان أن لا تفتح بعض تلک الخزائن ، ولا تطلع علیها أحداً الا المهدی ولا هی إلا أن یصح عندها موته فإذا صح ذلک اجتمعت هی والمهدی ولیس معهما ثالث حتی یفتحا

ص: 437

الخزانة ! فلما قدم المهدی من الری إلی مدینة السلام دفعت إلیه المفاتیح وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إلیها فیه ألا یفتحه ولا یطلع علیه أحداً حتی یصح عندها موته ، فلما انتهی إلی المهدی موت المنصور وولی الخلافة ، فتح الباب ومعه ریطة فإذا أزج کبیر فیه جماعة من قتلاء الطالبیین وفی آذانهم رقاع فیها أنسابهم ! وإذا فیهم أطفال ورجال شباب ومشایخ ، عدة کثیرة ! فلما رأی ذلک ارتاع لما رأی ، وأمر فحفرت لهم حفیرة فدفنوا فیها وعمل علیهم دکان).

أقول: یظهر أن الأزج غرفة مخروطیه الشکل داخل تلک الغرفة ، فیها جماجم القتلی العلویین رحمهم الله. (راجع: لسان:2/208 ، والصحاح:1/298).

ویظهر أنهم شخصیات أو أسر ، ذنبهم أن المنصور بحساباته خشی منهم فی المستقبل أن یخالفوا ابنه المهدی فیتکلموا ضده أو یثوروا علیه ! وأنه قتلهم فی سجنه ولم یُسلِّم جثثهم لذویهم ! واحتفظ بهم نموذجاً لولده لیرکز فی نفسه عداوتهم له وخطرهم علیه ، وضرورة استمراره فی سیاسة أبیه فی إبادتهم !

أما کتابته لنسب کل واحد منهم فی رقعة ، فهو بذلک یقول لابنه لاتخف من النبسب وکونهم أبناء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وذریته من فاطمة وعلی(علیهماالسّلام) !

لکن لا تفسیر لتعلیقه رقعة کل واحد فی أذنه إلا أن یکون حنَّطهم ، أو جعل الغرفة الخاصة مبردة حتی لا تفسد أبدانهم ، أو تکون الرقاع معلقة بجماجمهم !

20- السم من أقدم أسلحة الجبابرة لقتل الناس

فی الآداب السلطانیة/107: (فأما أبو الجهم فوزَرَ للسفاح مدة ، فلما أفضت الخلافة إلی المنصور کان فی نفسه منه أمور ، فسمه فی سویق اللوز ، فلما أحس بالسم قام لیذهب فقال له المنصور: إلی أین؟ قال: إلی حیث بعثتنی! ).

وقال المقریزی فی النزاع والتخاصم/145: (فلما استخلف أبو جعفر المنصور وجار فی أحکامه ، قال أبو الجهم: ما علی هذا بایعناهم إنما بایعناهم علی العدل! فأسرها

ص: 438

أبو جعفر فی نفسه ، ودعاه ذات یوم فتغدی عنده ، ثم سقاه شربة من سویق لوز ، فلما وقعت فی جوفه هاج به وجع فتوهم أنه قد سم ، فوثب فقال له المنصور: إلی أین یا أبا جهم ؟ فقال: إلی حیث أرسلتنی ! ومات بعد یوم أو یومین فقال:

إحذر سویق اللوز لا تشربنَّهُ...فشرب سویق اللوز أردی أبا الجهمْ).

21- الی الذین یقرؤون المنصور من زوایا أخری

یقولون: لماذا تقرؤون المنصور من زاویته السلبیة ، ولا تقرؤونه من زوایاه الإیجابیة ؟ ألیس هو الثائر المنتصر علی نظام بنی أمیة الظالم ؟

ألیس هو مؤسس بغداد عاصمة الخلافة والحضارة العربیة الإسلامیة ؟

ألیس هو الذی فتح باب ترجمة الثقافات الأجنبیة وأثری ثقافة الأمة ؟

ألیس هو الذی حمی ثغور الدولة الإسلامیة بالغزو والجهاد ، وأذل الروم ؟

ألیس هو الذی بنی دولة الإسلام القویة التی فاقت أمبراطوریة الروم ؟

ألیس عصره وعصر ولدیه الرشید والمأمون أزهی العصور الإسلامیة ؟

فلماذا تقیِّمون الحاکم بموازین إنسانیة ودینیة ، ولا تقیِّمونه بإنجازاته العسکریة والحضاریة ؟

ثم لماذا تقیِّمونه بموقفه من أهل البیت الخاصین علی وفاطمة والحسنین وتسعة من ذریة الحسین(علیهم السّلام)وهو من أهل البیت وابن العباس عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟

وجوابنا ، ماذا نصنع إذا کنا نؤمن بقیم إنسانیة ونزن الأشخاص بمیزانها ، ونقیس الأمور بمقیاسها ؟ فلو تنازلنا عنها لوجب أن نمدح کل الطغاة والجبارین والفراعنة ونغمض عیوننا عن جرائمهم ! فنقول إن فرعون وهامان ونمرود ونیرون وأمثالهم ، کانوا حکاماً ممتازین !

ص: 439

وماذا نصنع إذا کنا نؤمن بالإسلام أصولاً وفروعاً ، ونقیِّم به الأشخاص والأعمال صغیرها وکبیرها ؟ فلو تنازلنا عما أنزل الله علی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لوجب أن نمدح الأکاسرة والقیاصرة ویکونوا هم والنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومن ادعی خلافته فی المیزان سواء !

وماذا نصنع إذا کنا نؤمن بأن النص النبوی واجب التطبیق کالنص القرآنی ، لأن الله تعالی أمرنا: وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . فصار کلامه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )میزاننا ، وصار قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی ، مقیاسنا للآخرین ؟ وماذا نصنع إذا حدد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أهل بیته وعترته بعلی وفاطمة والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین(علیهم السّلام)وأخرج منهم أزواجه وأصحابه وبقیة عشیرته ؟ أعطونا نصاً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یجعل أحداً بوزن القرآن کما جعل عترته ، حتی نتبعه ونقیس الناس به ، ونقرنه مع نبینا بالصلاة علیه !

وحیث لم تفعلوا ولن تفعلوا، فإنا نقیس الناس بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بمقیاس النص القرآنی والنبوی ، وبنص أهل بیته الطاهرین(علیهم السّلام)، ورضاهم علیه أو غضبهم !

وها هو المقیاس الإنسانی یتفق دائماً مع مقیاسنا الإسلامی ولا یتخلف عنه ، وما ذلک إلا لأنه مقیاس نبوی یوالی العترة المطهرة المعصومة(علیهم السّلام)؟!

ص: 440

الفصل الخامس عشر:المنصور الدوانیقی.. عمر بن الخطاب الثانی !

1- مشروع المنصور لصیاغة الإسلام العباسی

لایوجد شخصٌ أعمق واوسع تأثیراً فی حیاة جمهور المسلمین بعد عمر بن الخطاب من المنصور الدوانیقی ! فهو مهندس عقائدهم ومذاهبهم ، وراسم سیاستهم التی ساروا علیها من عصره حتی یومنا هذا !

والفرق بین عمر والمنصور أن عمر کان یخطط لحکم قریش بدون بنی هاشم بینما کان المنصور یخطط لحکم ابنه الذی سماه المهدی ، وبعده حکم ذریته الی یوم القیامة ! وقد نصَّ علی ذلک بالمنام الذی اخترعه ونسبه الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وقال إنه یستحق أن یکتبه المسلمون فی ألواح الذهب ویعلقونه فی أعناق صبیانهم ! وخلاصته: أنه رأی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی الکعبة فدعاه وعقد له لواءً أسود ، وأوصاه بأمته وقال له: (خذها إلیک أبا الخلفاء إلی یوم القیامة) !

وکتب فی رسالته الی مهدی الحسنیین: (ولقد علمت أنه لم یبق أحد من بنی عبد المطلب بعد النبی (ص) غیره فکان وراثه من عمومته...فلم یبق شرف ولا فضل فی جاهلیة ولا إسلام فی دنیا ولا آخرة إلا والعباس وارثه ومورثه. الخ.).

ص: 441

وهذا المشروع برأیه یحتاج من اجل ترسیخه الی مجموعة أعمال ، من أولها أن یقتل کل من یخشی منهم علی مشروعه ، ثم یواصل ذلک ابنه المهدی بحزم کما أوصاه ، وقد خزن له فی غرفة سریة نموذجاً من جماجم العلویین !

ومنها أن یقضی علی عوامل قوة المشاریع الأخری المضادة ، وأهمها المشروع العلوی ، فهو المشروع الوحید القوی المضاد للمشروع العباسی بعد أن انهار المشروع الأموی ، وغابت المشاریع القرشیة الأخری لانعدام أرضیتها !

وأهم الأعمال التی رآها المنصور ضروریة لمشروعه ، خمسة:

1- الإشادة بالعباس عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبنیه ، وأنه أفضل الصحابة ، وأنه وارث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومورثه ! وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بشره بأن المُلْک سیکون فی أولاده الی یوم القیامة ، وأن المهدی الموعود منهم ، ولیس من ولد علی وفاطمة(علیهماالسّلام) !

2- التنقیص من مکانة علی(علیه السّلام) ، وأنه إذا کان شجاعاً فقد کان فقیراً هو وأبوه وکان العباس ینفق علیه ، وأنه لم ینجح فی حکمه فقد تلطخت یداه بالدماء ، کما ضعف وقبل بحکم الحکمین بینه وبین معاویة فحکما علیه ، کما اعتمد هو وأولاده علی أهل العراق أهل الشقاق والنفاق فخذلوهم وقتلوهم ، بینما اعتمد العباسیون علی الخراسانیین أهل المشرق فنجحوا !

أما الأحادیث الواردة فی علی(علیه السّلام)فیجب منع روایتها ، والتهوین من أمرها . وأما تقدیس الناس لعلی وأبنائه ، فیجب إنهاؤه بإبادة آل علی ، والبارزین من شیعتهم !

3- الإشادة بأبی بکر وعمر (ولأرفعن علیهم بنی تیم وعدی) ، لإرغام أنوف بنی علی(علیه السّلام)ولو تضرر معهم العباسیون، لأن بنی علی یتهمونهما ولا یحبونهما ، ولأنهما عزلا علیاً عن الخلافة وأخذاها، فالإشادة بهما حطٌّ من شخصیة علی(علیه السّلام)!

ص: 442

4- بما أن جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)لا یقل خطره علی خلافة العباسیین عن خطر الحسنیین بل یزید علیهم ، فیجب قتله ولو کان إماماً ربانیاً ، لأن الملک عقیم یجبرک علی مثل هذه الأعمال ! وکذلک کل من یدعی الإمامة الربانیة من أبنائه !

وقد تقدم أن المنصور تبنی سیاسة إبادة إبادة أبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام)کلیاً ، وأوصی ولده بها وصیة مؤکدة ، وخزن له عدداً من أجساد ورؤوس من قتلهم منهم !

5- من الأخطار التی رآها المنصور علی مشروعه أن الأئمة من أبناء الحسین(علیهم السّلام) صاروا المرجعیة الفقهیة والعقائدیة للمسلمین ، حتی لفقهائهم ، فلا بد من تأسیس مذاهب وإلزام المسلمین بها بالسیف ، لصرف الناس عن مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام).

وقد عبر المنصور بوضوح عن أهدافه الخمسة هذه ، وضرورتها لترسیخ ملکه ، فی رسالته لمهدی الحسنیین ، وفی خطبه المتعددة وأقواله کما تقدم ویأتی .

2- الهدف الأول للمنصور: تعظیم العباس عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

اشارة

کان العباسیون علی هامش الحسنیین کما تقدم ، فقد بایعوا مهدیهم ، وکان المنصور یأخذ برکابه ویقول: هذا مهدینا أهل البیت !

ولما انفصلوا عنهم ادعوا أنهم أخذوا الشرعیة من وصیة أبی هاشم بن محمد بن الحنفیة لأبیهم محمد بن علی ، عندما سمَّه الأمویون فمات عنده فی الحمیمة!

ومن یومها صرت تجد فی مصادرهم الأولی کتاریخ الدولة العباسیة وغیره روایات مفصلة عن وصیة أبی هاشم لمحمد بن علی .

لکن المنصور رأی أن ذلک اعتراف بوصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی(علیه السّلام)ثم بوصیته لابنه محمد بن الحنفیة ، وبوصیة ابن الحنفیة لابنه أبی هاشم ، وهذا یرتب علیهم أموراً لذلک ترکها المنصور وادعی وراثة العباس للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رأساً !

ص: 443

ویبدو أنه توصل الی ذلک فی أوائل خلافته ، فقد کتب به سنة 145 ، بعد تسع سنین من خلافته الی مهدی الحسنیین عندما ثار علیه ، قال المنصور:

(ولقد بعث الله محمداً(علیه السّلام)وله عمومة أربعة فأنزل الله عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الأَقْرَبِینَ ، فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبی، وأبی اثنان أحدهما أبوک ، فقطع الله ولایتهما منه ولم یجعل بینه وبینهما إلا ولا ذمة ولا میراثاً... ولقد علمت أن مکرمتنا فی الجاهلیة سقایة الحجیج الأعظم وولایة زمزم ، فصارت للعباس من بین إخوته ، فنازعنا فیها أبوک فقضی لنا علیه عمر ، فلم نزل نلیها فی الجاهلیة والاسلام ، ولقد قحط أهل المدینة فلم یتوسل عمر إلی ربه ولم یتقرب إلیه إلا بأبینا حتی نعشهم الله وسقاهم الغیث ، وأبوک حاضر لم یتوسل به . ولقد علمت أنه لم یبق أحد من بنی عبد المطلب بعد النبی (ص) غیره ، فکان وراثه من عمومته . ثم طلب هذا الأمر غیر واحد من بنی هاشم فلم ینله إلا ولده ، فالسقایة سقایته ومیراث النبی له ، والخلافة فی ولده ، فلم یبق شرف ولا فضل فی جاهلیة ولا إسلام فی دنیا ولا آخرة ، إلا والعباس وارثه ومورثه . وأما ما ذکرت من بدر ، فإن الاسلام جاء والعباس یموِّن أبا طالب وعیاله وینفق علیهم للأزمة التی أصابته ولولا أن العباس أُخرج إلی بدر کرهاً لمات طالب وعقیل جوعاً ، وللحسا جفان عتبة وشیبة ! ولکنه کان من المطعمین فأذهب عنکم العار والسبة وکفاکم النفقة والمؤونة ، ثم فدی عقیلاً یوم بدر . فکیف تفخر علینا وقد أعناکم فی الکفر وفدیناکم من الأسر ! وحُزْنا علیکم مکارم الآباء ، وورثنا دونکم خاتم الأنبیاء ، وطلبنا بثأرکم فأدرکنا منه ما عجزتم عنه ولم تدرکوه لأنفسکم ) ! (الطبری:6/195).

لکن العباسیین ومنهم المنصور نفسه قبل خلافته ، کان من المتسالم عندهم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوصی لعلی(علیه السّلام)وکان العباس کان یحترم علیاً(علیه السّلام)ولا یتقدم علیه وقد

ص: 444

اعترف بحقه فی الخلافة فقال له یوم وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (أبسط یدک أبایعک فیقال: عم رسول الله بایع ابن عم رسول الله ، فلا یختلف علیک اثنان. فقال له علی:ومن یطلب هذا الأمر غیرنا).(الإمامة والسیاسة:1/12، والإقتصاد/214، والنزاع والتخاصم/78 ).

وقد روی الجمیع موقف العباس هذا ، حتی جعله السنیون دلیلاً علی انعقاد الخلافة ببیعة رجل واحد (مآثر الإنافة:1/44).

وسیأتی بعض ما یرویه المنصور فی اختیار الله تعالی لعلی(علیه السّلام)وصیاً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ومما یؤکده أیضاً خطبة السفاح وعمه داود یوم بیعته ، فقد شرع السفاح بخطبته فتوعک فأکملها عمه داود بن علی ، وقال کما فی تاریخ ابن الأثیر:5/411: ( الحمد لله شکراً ، الذی أهلک عدونا وأصار إلینا میراثنا من نبینا محمد .

أیها الناس: الآن أقشعت حنادس الدنیا وانکشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها ، وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه ، وأخذ القوس باریها وعاد السهم إلی منزعه ، ورجع الحق إلی نصابه فی أهل بیت نبیکم ، أهل الرأفة والرحمة بکم والعطف علیکم... إنا والله ما زلنا مظلومین مقهورین علی حقنا حتی أباح الله لنا شیعتنا أهل خراسان فأحیا بهم حقنا ، وأبلج بهم حجتنا ، وأظهر بهم دولتنا ، وأراکم الله بهم ما کنتم تنتظرون...

أیها الناس: إنه والله ما کان بینکم وبین رسول الله (ص) خلیفة إلا علی بن أبی طالب وأمیر المؤمنین عبد الله بن محمد ، وأشار بیده إلی أبی العباس السفاح .

واعلموا أن هذا الأمر فینا لیس بخارج منا حتی نسلمه إلی عیسی بن مریم(علیه السّلام)...

ثم نزل أبو العباس وداود بن علی أمامه حتی دخل القصر ، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور یأخذ البیعة علی الناس فی المسجد ، فلم یزل یأخذها علیهم حتی صلی بهم العصر ثم المغرب وجنهم اللیل).انتهی.

ص: 445

وقد اشتهرت مناظرة جدهم ابن عباس مع عمر ، فروی الطبری:3/289، وغیره أنهم تذاکروا الشعراء فی دار الخلافة: ( فقال بعضهم: فلان أشعر ، وقال بعضهم: بل فلان أشعر ، قال فأقبلتُ فقال عمر: قد جاءکم أعلم الناس بها ، فقال عمر: من شاعر الشعراء یا ابن عباس؟ قال فقلت: زهیر بن أبی سلمی ، فقال عمر: هلمَّ من شعره ما نستدل به علی ما ذکرت ، فقلت: امتدح قوماً من بنی عبد الله بن غطفان ، فقال:

لو کان یَقعدُ فوق الشمس من کرم

قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا

قومٌ أبوهم سنانٌ حین تنسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

إنسٌ إذا أمنوا جنٌّ إذا فزعوا

مرزَّؤون بهالیلٌ إذا حَشدوا

محسدون علی ما کان من نعم

لا ینزع الله منهم ما له حسدوا

فقال عمر: أحسن وما أعلم أحداً أولی بهذا الشعر من هذا الحی من بنی هاشم لفضل رسول الله وقرابتهم منه . فقلت: وفقت یا أمیر المؤمنین ولم تزل موفقاً . فقال: یا ابن عباس أتدری ما منع قومکم منکم بعد محمد؟ فکرهت أن أجیبه ، فقلت: إن لم أکن أدری فأمیر المؤمنین یدرینی . فقال عمر: کرهوا أن یجمعوا لکم النبوة والخلافة فتبجحوا علی قومکم بجحاً بجحاً ، فاختارت قریش لأنفسها فأصابت ووفقت . فقلت: یا أمیر المؤمنین إن تأذن لی فی کلام وتمط عنی الغضب ، تکلمت. فقال: تکلم یا ابن عباس ، فقلت: أما قولک یا أمیر المؤمنین اختارت قریش لأنفسها فأصابت ووفقت ، فلو أن قریشاً اختارت لأنفسها حیث اختار الله عز وجل لها لکان الصواب بیدها غیر مردود ولا محسود . وأما قولک إنهم کرهوا أن تکون لنا النبوة والخلافة ، فإن الله عز وجل وصف قوماً بالکراهیة فقال: ذلک بأنهم )ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ! فقال عمر: هیهات والله یا ابن عباس قد کانت تبلغنی عنک أشیاء کنت أکره..الخ.).انتهی.

وکان ابن عباس بعد عمر یقول: (أما تیم وعدی فقد سلبونا سلطان نبینا ! عدوْا علینا فظلمونا وشفوْا صدور أعداء النبوة منا ! وأما بنو أمیة فإنهم شتموا أحیاءنا ولعنوا

ص: 446

موتانا، وجازوا حقوقنا واجتمعوا علی إخماد ذکرنا وإطفاء نورنا ، فیأبی الله لذکرنا إلا علواً ولنورنا إلا ضیاءً ، والله للفریقین بالمرصاد ). (أخبار الدولة العباسیة/49).

فالخلافة فی عقیدة العباسیین حق لعلی(علیه السّلام)(وبنی هاشم) وقد طمعت قریش فأبعدته وجاءت بغیره ، ولم تختر الذین اختارهم الله تعالی لقیادة الأمة !

ویؤکد ذلک خطبة أبی مسلم الخراسانی فی المدینة عندما حج مع المنصور ، فقد جاء فیها: ( الحمد لله الذی حمد نفسه ، واختار الاسلام دیناً لعباده ثم أوحی إلی محمد رسول الله (ص) من ذلک ما أوحی واختاره من خلقه ، نفسه من أنفسهم وبیته من بیوتهم ، ثم أنزل علیه فی کتابه الناطق الذی حفظه بعلمه وأشهد ملائکته علی حقه ، قوله: إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً ، ثم جعل الحق بعد محمد(علیه السّلام)فی أهل بیته ، فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله علی اللأواء والشدة ،وأغضی علی الاستبداد والإثرة... وزعموا أن غیر آل محمد أولی بالأمر منهم فلمَ وبمَ أیها الناس ! ألکم الفضل بالصحابة دون ذوی القرابة ، الشرکاء فی النسب والوراثة... والله ما اخترتم من حیث اختار الله لنفسه ساعة قط ، وما زلتم بعد نبیه تختارون تیمیاً مرة وعدویاً مرة وأمویاً مرة وأسدیاً مرة ، وسفیانیاً مرة ومروانیاً مرة ! حتی جاءکم من لا تعرفون اسمه ولا بیته (یقصد نفسه) یضربکم بسیفه فأعطیتموها عنوة وأنتم صاغرون ! ألا إن آل محمد أئمة الهدی ومنار سبیل التقی ، القادة الذادة السادة ، بنو عم رسول الله ، ومنزل جبریل بالتنزیل ، کم قصم الله بهم من جبار طاغ ، وفاسق باغ شید الله بهم الهدی وجلا بهم العمی . لم یسمع بمثل العباس ! وکیف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة ! أبو رسول الله بعد أبیه ، وإحدی یدیه وجلدة بین عینیه ، أمینه یوم العقبة وناصره بمکة ورسوله إلی أهلها ، وحامیه یوم حنین عند ملتقی الفئتین ، لا یخالف له رسماً ولا یعصی له

ص: 447

حکماً ، الشافع یوم نیق العقاب إلی رسول الله فی الأحزاب . ها ، إن فی هذا أیها الناس لعبرة لأولی الأبصار).(شرح النهج:7/161).

ونیق العقاب معسکر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قرب مکة فی طریقه الی فتحها ، حیث جاءه العباس وشفع لأهل مکة ، کما زعموا ! (معجم البلدان:5/333) .

ملاحظات

زَوَّرَ المنصور أموراً کثیرة لتعظیم جده العباس ، وإثبات أنه وأبناؤه الورثة الشرعیون لخلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولا یتسع المجال لبحثها ، فنکتفی بالإشارة الی أهمها:

1- أجاب علی افتخار مهدی الحسنیین بجدته فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)، بأن العباس أفضل منها وأحق بوراثة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! قال: (ولم یجعل الله النساء کالعمومة والآباء ولا کالعصبة والأولیاء ، لأن الله جعل العم أباً وبدأ به فی کتابه علی الوالدة الدنیا ، ولو کان اختیار الله لهن علی قدر قرابتهن کانت آمنة أقربهن رحماً وأعظمهن حقاً وأول من یدخل الجنة غداً . ولکن اختیار الله لخلقه علی علمه ، لما مضی منهم واصطفائه لهم) .

وهذا یعنی أن المنصور وافق أهل السقیفة فی منطقهم ، لکن طبقه علی العباس وأولاده ، ورفض تطبیقه علی أبی بکر وعمر بحجة سبقهم بالبیعة !

وجوهر المنطق القرشی الذی قام علیه نظام الخلافة أن وراثة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وخلافته قضیة قبلیة ولیست دینیة ! فیجب أن تتم حسب قوانین قبائل الجزیرة العربیة وعاداتها وأعرافها ، ویجب إلغاء کل نص دینی یخالف ذلک ، وفی نفس الوقت لا مانع من الإستفادة من أی نص دینی یؤیده !

ولهذا رفض أهل السقیفة أن یکتب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عهده لأمته فی مرض وفاته وصاحوا فی وجهه لا نرید أن تکتب لنا شیئاً ، حسبنا کتاب الله ! وحتی القرآن

ص: 448

فنحن نفسره ، ولا نقبل أن تعین له مفسراً بعدک من عترتک !

فهذا المنطق یستوجب استبعاد نص النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی من یخلفه فی أمته ، بمنعه من

ذلک ، أو بإنکار صدوره عنه ، أو بتأویل ما وجد منه !

فالمنصور یقبل ذلک لکنه یرید تطبیقه علی العباس وأولاده بمنطق قبلی لا بمنطق النص ، ویرفض تطبیقه علی أبی بکر وعمر ، بحجة أن قریشاً اختارتهما ، أوبحجة دینیة کالسبق بالصحبة ، أو بحجة سیاسیة کسبقهما بالبیعة !

لکن هذا المنطق کله یناقض نفسه ، فهو عند المنصور وغیره یستبعد النص الشرعی ویلغی سنة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! ثم یستدل المنصور بالنص المزعوم علی أن مکانة العم أعظم من المرأة والبنت ، وأن العم أولی بالإرث من البنت !

ثم یناقض نفسه ثانیة فیعترف بأن البنت أقرب رحماً من العم ، ثم یعود للعرف القبلی وأنها لا تستحق التقدیم علیه ، لأنها امرأة ولیست ابناً !

ومع کل ما فی هذا المنطق فما زال حاکماً علی جمهور المسلمین الی الیوم بسبب الأسس التی وضعها عمر ، والمذاهب التی ابتکرها المنصور !

2- زعم المنصور أن العباس استجاب للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأسلم ! وافتری علی عمه أبی طالب بأنه لم یسلم ! وعلی والدی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنهما ماتا کافرین ! وکل ذلک مردود بمنطق الإسلام وحقائق التاریخ ، وقد استوفته بحوث علمائنا .

3- زعم المنصور أن إسلام العباس أعطاه حق وراثة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فهو وأولاده یرثون حکم الأمة الإسلامیة ویورثونه ! وغطی علی عدم هجرة العباس علی فرض إسلامه ، وقد احتج الأئمة(علیه السّلام)علیهم بذلک ! فعن الزبیر بن بکار أن بنی العباس اشتکوا عند هشام بن الولید علی بنی علی(علیه السّلام)فخطب الإمام الصادق(علیه السّلام)فی جوابهم ومما قاله: ( إن الله تعالی لما بعث رسوله محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان أبونا أبو طالب

ص: 449

المواسی له بنفسه والناصر له ، وأبوکم العباس وأبو لهب یکذبانه ویؤلبان علیه شیاطین الکفر... ثم قال: فکان أبوکم طلیقنا وعتیقنا ، وأسلم کارهاً تحت سیوفنا ، لم یهاجر إلی الله ورسوله هجرة قط ، فقطع الله ولایته منا بقوله: وَالَّذِینَ آمَنُوا وَلَمْ یُهَاجِرُوا مَا لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَئٍْ حَتَّی یُهَاجِرُوا) ! (مستدرک الوسائل:17/204).

4- زعم أن حق سقایة الحاج وإطعامهم الذی هو لهاشم ثم لعبد المطلب ، قد ورثه العباس ، فهو وارث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وأخفی قوله تعالی: أَجَعَلْتُمْ سِقَایَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ کَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِی سَبِیلِ اللهِ لا یَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ . (التوبة:19) .

5- جعل خروج العباس مع المشرکین لحرب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بدر مکرمة مع أنه کفر وعار ، وتعامی عن أسره وافتخر بدفعه فداء ابن أخیه عقیل بأمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

6- صادر مکانة عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی الإسلام والآیات والأحادیث العظیمة التی تحددهم بعلی وفاطمة والحسنین وتسعة من ذریته(علیهم السّلام)، وحصر العترة بالعباس !

7- زعم أن العباس کان ینفق علی آل أبی طالب فهو أفضل منهم ، وهذا لا یصح لا فی صغراه ولا کبراه .

8- ادعی منازعة علی(علیه السّلام)للعباس فی ولایة زمزم وسقایة الحاج ، وأن عمر حکم بها للعباس ، واستدل به علی أحقیته بالخلافة ، وهذا باطل فی شقیه .

9- استدل بتوسل عمر بالعباس فی صلاة الإستسقاء علی أفضلیة العباس علی علی(علیه السّلام)واستحقاقه الخلافة دونه ، وهو باطل أیضاً .

10- استدل علی وراثة العباس للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنه عند وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یکن غیر العباس من بنی عبد المطلب ، فانحصرت وراثته به دون ابنة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وعلی(علیه السّلام) . وخالف بذلک أتباع الخلافة القرشیة الذین قالوا إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لایورث ! ولذا

ص: 450

قال الذهبی فی سیره:9/92: (وبکل حال ، لو کان نبینا (ص) ممن یورث ، لما ورثه أحد بعد بنته وزوجاته ، إلا العباس ).

أما مذهبنا فإن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یورث وراثة شخصیة کغیره ، واستثناؤه من قانون التوریث کذبة قرشیة لیصادروا أمواله ، ویمنعوا آله من الإحتجاج علی وراثته السیاسیة بوراثته المالیة . أما خلافته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فتحتاج الی نص ، والنص لایصدر من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلا بأمر الله تعالی ، وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی . إِنْ هُوَ إِلا وَحْیٌ یُوحَی .

11- وزاد أبو مسلم الخراسانی علی المنصور بأن جعل آیة التطهیر للعباس دون العترة ، إلا أن یکونوا ملحقین به إلحاقاً ! ثم استدل أبو مسلم بأمور مکذوبة فی فضائل العباس ، ولو صحت لما قامت دلیلاً قال: ( لم یسمع بمثل العباس ! وکیف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة ! أبو رسول الله بعد أبیه ، وإحدی یدیه وجلدة بین عینیه ، أمینه یوم العقبة وناصره بمکة ، ورسوله إلی أهلها ، وحامیه یوم حنین عند ملتقی الفئتین ، لا یخالف (النبی) له رسماً ولا یعصی له حکماً ، الشافع یوم نیق العقاب إلی رسول الله فی الأحزاب) .

وهو کلام مرصوف ، فیه تزویر للحقائق ، وإخفاء لمطاعن العباس ، وتغییب للأدوار العظیمیة لأبی طالب وعلی(علیهماالسّلام) ، وتغییب لنصوص النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )المتواترة فی تحدید علی والعترة(علیهم السّلام)وتأکید حقهم فی قیادة الأمة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

ویظهر أن المذهب العباسی الذی تحدث عنه ابن خلدون قام علی أفکار أبی مسلم الآنفة ! قال فی تاریخه:3/218: (ولبنی العباس أیضاً شیعة یسمون الراوندیة من أهل خراسان یزعمون أن أحق الناس بالإمامة بعد النبی هو العباس ، لأنه وارثة وعاصبه لقوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللهِ ، وأن الناس منعوه من ذلک وظلموه إلی أن رده الله إلی ولده ! ویذهبون إلی البراءة من الشیخین

ص: 451

وعثمان . ویجیزون بیعة علی لأن العباس قال له یا ابن أخی هلم أبایعک فلا یختلف علیک إثنان ، ولقول داود بن علی عم الخلیفة العباسی علی منبر الکوفة یوم بویع السفاح: یا أهل الکوفة إنه لم یقم فیکم إمام بعد رسول الله إلا علی بن أبی طالب وهذا القائم فیکم ، یعنی السفاح) .

12- کتبنا مختصراً عن العباس فی أول فصل العباسیین ، والصحیح المتواتر أنه لم یسلم إلا بعد بدر عندما أخذ أسیراً ،وأنه من الطلقاء ولیس من المهاجرین .

قال االطبری:6/176، وابن خلدون:3/84 ، یصف اعتقال المنصور لعبدالله بن الحسن المثنی: (فخرج أبو جعفر فی شق محمل معادله الربیع فی شقه الأیمن علی بغلة شقراء فناداه عبد الله: یا أبا جعفر والله ما هکذا فعلنا بأسرائکم یوم بدر ! قال: فأخسأه أبو جعفر وتفل علیه ، ومضی ولم یعرِّج ) !

وقال أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی حدیثه عن الخلافة: (وقد کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عهد إلیَّ عهداً فقال: یا بن أبی طالب لک ولاء أمتی ، فإن ولوک فی عافیة وأجمعوا علیک بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا علیک فدعهم وما هم فیه ، فإن الله سیجعل لک مخرجاً ، فنظرت فإذا لیس لی رافد ولا معی مساعد إلا أهل بیتی فظننت بهم عن الهلاک ، ولو کان لی بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عمی حمزة وأخی جعفر لم أبایع کرهاً ولکننی بلیت برجلین حدیثی عهد بالإسلام العباس وعقیل فظننت بأهل بیتی عن الهلاک فأغضیت عینی علی القذی ، وتجرعت ریقی علی الشجا ، وصبرت علی أمر من العلقم). (کشف المحجة لابن طاووس/180).

وفی کتاب سلیم بن قیس(رحمه الله)/216: (وبقیت بین جلفین جافیین ، ذلیلین حقیرین عاجزین: العباس وعقیل ، وکانا قریبی عهد بکفر ! فأکرهونی وقهرونی فقلت کما قال هارون لأخیه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی ! فلی بهارون أسوة

ص: 452

حسنة ، ولی بعهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حجة قویة). انتهی.

13- أخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بملک بنی العباس وکذا علی(علیه السّلام)وسمی طفل ابن عباس علیاً ، وقال لأبیه (خذ إلیک أبا الأملاک). ولکنه(علیه السّلام)قال: (ملک بنی العباس عسرٌ لا یسر فیه.. ولا یزالون فی غضارة من ملکهم حتی یشذ عنهم موالیهم وأصحاب دولتهم ، ویسلط الله علیهم علجاً یخرج من حیث بدأ ملکهم ، لا یمر بمدینة إلا فتحها).(غیبة النعمانی/249).

وفی تأویل الآیات:2/585 ، عن محمد الحلبی قال: ( قرأ أبو عبد الله(علیه السّلام): فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ ، ثم قال: نزلت هذه الآیة فی بنی عمنا بنی العباس وبنی أمیة) !

14- اشتهرت مکذوبات الرواة فی فضائل العباس وأولاده ، ومنشؤها قرار المنصور وحکومات أولاده ! وقد اعترف علماؤهم بکثرة الأحادیث الموضوعة فی ذلک! قال الذهبی فی سیره:2/99، عن حدیث: العباس منی وأنا منه: (إسناده لیس بقوی ، وقد اعتنی الحفاظ بجمع فضائل العباس رعایة للخلفاء).

ومعناه أنهم أکثروا الوضع والکذب علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، تقرباً الی الحکام من أولاد العباس ! وهی نفس سیاسة بنی أمیة التی قال عنها الحافظ المؤرخ ابن عرفة: (إن أکثر الأحادیث الموضوعة فی فضائل الصحابة افتعلت فی أیام بنی أمیة تقرباً إلیهم بما یظنون أنهم یرغمون به أنوف بنی هاشم). (شرح النهج:11/46).

ومع ذلک صححوا عدداً من أحادیث مدائح العباس وأولاده ! من نوع الحدیث المکذوب: (ما بال رجال یؤذوننی فی العباس ، وإن عم الرجل صِنْوُ أبیه ، من آذی العباس فقد آذانی).(سیر الذهبی:2/87). وهو محرف عن أحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی علی وفاطمة(علیهماالسّلام). وحدیث: (ذکروا عنده إثنا عشر خلیفة ثم الأمیرفقال ابن عباس: والله إن منا بعد ذلک السفاح والمنصور والمهدی یدفعها إلی عیسی بن مریم). (الفتن لابن

ص: 453

حماد/52). وهو مسروق من أحادیث المهدی(علیه السّلام).

وحدیث: (إذا ملک الخلافة بنوک لم تزل الخلافة فیهم حتی یدفعوها إلی عیسی بن مریم).(تاریخ دمشق:32/282). وذکر ذلک داود بن علی عند بیعة السفاح ، قال: (واعلموا أن هذا الأمر فینا لیس بخارج منا حتی نسلمه إلی عیسی بن مریم). وقد ثبت کذبهم والحمد لله ، وانتهت دولتهم کما قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): (ویسلط الله علیهم علجاً یخرج من حیث بدأ ملکهم) !

3- الهدف الثانی: الطعن فی علی(علیه السّلام)والتنقیص من مکانته !

اشارة

لو جمعنا ما قاله وما رواه المنصور قبل خلافته فی عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی وفاطمة والحسن والحسین(علیهم السّلام)، وما قاله بعد خلافته ، لرأیناه یتناقض مئة وثمانین درجة !

فقد کان المنصور کأهل بیته ، عباسیاً ملحقاً بالحسنیین ، معارضاً لبنی أمیة ، لأنهم غصبوا الخلافة من علی(علیه السّلام)، الذی دافع عنه جده ابن عباس وقاتل معه ، وعرض علیه البیعة جده العباس عند وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال له: أبسط یدک أبایعک .

لکن المنصور بعد خلافته نقض کل ذلک ، فی سنة142 ! وعندما اعتقل آل الحسن لأنهم لم یحضروا محمداً مهدیهم وأخاه إبراهیم ، خطب فی الخراسانیین لأن فیهم مؤیدین کثرة لآل علی ، وقال: (یا أهل خراسان ، أنتم

شیعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا ، ولو بایعتم غیرنا لم تبایعوا من هو خیر منا ، وإن أهل بیتی هؤلاء من ولد علی بن أبی طالب ترکناهم والله الذی لا إله إلا هو والخلافة ، فلم نعرض لهم فیها بقلیل ولا کثیر ، فقام فیها علی ابن أبی طالب فتلطخ ، وحکَّم علیه الحکمین فافترقت عنه الأمة ، واختلفت علیه الکلمة ، ثم وثبت علیه شیعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه ، ثم قام من بعده الحسن بن علی فوالله ما کان فیها برجل ، قد عرضت علیه الأموال فقبلها فدس إلیه معاویة إنی أجعلک ولی عهدی من بعدی

ص: 454

فخدعه ، فانسلخ له مما کان فیه وسلمه إلیه ، فأقبل علی النساء یتزوج فی کل یوم واحدة فیطلقها غداً ، فلم یزل علی ذلک حتی مات علی فراشه ! ثم قام من بعده الحسین بن علی فخدعه أهل العراق وأهل الکوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق فی الفتن ، أهل هذه المدرة السوداء ، وأشار إلی الکوفة ! فوالله ما هی بحرب فأحاربها ولا سلم فأسالمها فرق الله بینی وبینها ، فخذلوه وأسلموه حتی قتل .

ثم قام من بعده زید بن علی فخدعه أهل الکوفة وغروه ، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه ، وقد کان أتی محمد بن علی فناشده فی الخروج وسأله ألا یقبل أقاویل أهل الکوفة ، وقال له: إنا نجد فی بعض علمنا أن بعض أهل بیتنا یصلب بالکوفة ، وأنا أخاف أن تکون ذلک المصلوب ، وناشده عمی داود بن علی وحذره غدر أهل الکوفة فلم یقبل ، وتم علی خروجه فقتل وصلب بالکناسة . ثم وثب علینا بنو أمیة فأماتوا شرفنا ، وأذهبوا عزنا ، والله ما کانت لهم عندنا ترة یطلبونها ، وما کان ذلک کله إلا فیهم وبسبب خروجهم علیهم ، فنفونا من البلاد فصرنا مرة بالطائف ومرة بالشام ومرة بالشراة ، حتی ابتعثکم الله لنا شیعة وأنصاراً فأحیا شرفنا وعزنا بکم أهل خراسان ، ودمغ بحقکم أهل الباطل وأظهر حقنا وأصار إلینا میراثنا عن نبینا ، فقر الحق مقره وأظهر مناره وأعز أنصاره ، وقطع دابر القوم الذین ظلموا ، والحمد لله رب العالمین . فلما استقرت الأمور فینا علی قرارها من فضل الله فیها ، وحکمه العادل لنا ، وثبوا علینا ظلماً وحسداً منهم لنا وبغیاً لما فضلنا الله به علیهم ، وأکرمنا به من خلافته ومیراث نبیه: جهلاً علیَّ وجبناً عن عدوهم....لبئست الخلتان الجهل والجبنُ !

فإنی والله یأهل خراسان ما أتیت من هذا الأمر ما أتیت بجهالة ، بلغنی عنهم بعض السقم والتعرم ، وقد دسست لهم رجالاً فقلت قم یا فلان قم یا فلان ، فخذ معک من المال کذا ، وحذوت لهم مثالاً یعملون علیه ، فخرجوا حتی أتوهم بالمدینة فدسوا إلیهم تلک الأموال ، فوالله ما بقی منهم شیخ ولا شاب ولا صغیر ولا کبیر إلا بایعهم بیعة استحللت بها دماءهم وأموالهم ، وحلت لی عند ذلک بنقضهم بیعتی وطلبهم الفتنة

ص: 455

والتماسهم الخروج علیَّ ، فلا یرون أنی أتیت ذلک علی غیر یقین! ثم نزل وهو یتلو علی درج المنبر هذه الآیة: وَحِیلَ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَا یَشْتَهُونَ کَمَا فُعِلَ بِأَشْیَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ کَانُوا فِی شَکٍّ مُرِیبٍ) . (تاریخ الطبری:6/333).

ملاحظات

1- هذه الخطبة للمنصور ملیئة بالکذب والتزویر ! فقد قفز علی جهاد علی(علیه السّلام) مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وعلی مدائح الله تعالی لعلی وفاطمة والحسنین(علیهم السّلام) ، ومدائح نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأوامره فیهم ، وإعلانه خلافة علی(علیه السّلام)یوم الغدیر ومناسبات أخری ! والمنصور خبیر بکل ذلک ، فقد کان یرویه ویؤمن به ، وکان یحدث أنه عندما هرب من سجن الأمویین کان یتعیش من الشیعة بروایة أحادیث فضائل علی والزهراء والحسنین(علیهم السّلام)! وما رواه منها صریح فی إمامة علی(علیه السّلام)وخلافته !

لکن المنصور العفریت قفز عن ذلک ! وبدأ کلامه بقوله إن العلویین لیسوا خیراً منا ( ولو بایعتم غیرنا لم تبایعوا من هو خیر منا) ! ونقول: نعم لو اسثنینا المعصومین(علیهم السّلام)من العلویین لکان لقوله مجال ، لأن فی العلویین مشاریع جبابرة لو بایعهم الناس لکانوا شبیهین به ، لکن لاعذر له فی تعمیم حکمه علی کل العلویین مع شهادته بأن فیهم معصومین یقدسهم ویعتقد أنهم تحدثهم الملائکة ! کالإمام الباقر وابنه جعفر الصادق(علیهماالسّلام) ، وقد تقدم بعض ذلک منه ویأتی بعضه !

ثم تابع المنصور مدعیاً بأن العباسیین (تفضلوا) علی العلویین: (ترکناهم والله الذی لا إله إلا هو والخلافة فلم نعرض لهم فیها بقلیل ولا کثیر) ! یقصد أنهم ترکوا الخلافة لعلی(علیه السّلام)فی أیام السقیفة ولم ینازعوه فیها ! ثم ترکوها له فی شوری عمر

ص: 456

ثم ترکوها للإمام الحسن(علیه السّلام)ولم ینازعوه فیها !

مع أن هذا العفریت یعلم أن العباس من الطلقاء الذین أجمعت الأمة علی أنه لاتحل لهم الخلافة ولا لأولادهم ! وقد قیل لعمر أن یدخل العباس فی الشوری فقال: (هذا الأمر فی أهل بدر ما بقی منهم أحد ، ثم فی أهل أحد ما بقی منهم أحد ، ولیس فیها لطلیق ولا لولد طلیق ولا لمسلمة الفتح شئ).(ابن سعد:3/342 ، وفتح الباری:13/178، والإستیعاب:2/850 ).

لکن المنصور یرتکب التزویر بوقاحة ، فیمنُّ علی العلویین بترک ما لاحق له فیه ویفترض أن العباس کان له حق فی الخلافة أو کان إسمه مطروحاً لها فی حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أو عند وفاته ! مع أنه ما کان یحلم بها ولا یطمح ! وغایة ما فعله بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنه عرض البیعة علی علی(علیه السّلام)فأبی ، ولو کان له حق لطرح نفسه ؟!

والمنصور یعلم أن جده عبد الله بن عباس اعترف بذلک فی کلامه ، وفی رسالته لمعاویة ، قال له: ( وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن کان فی الشوری ، فما أنت والخلافة وأنت طلیق الإسلام). ( الإمامة والسیاسة لابن قتیبة:1/100وأنساب الأشراف/116 والتذکرة الحمدونیة/1585/وأخبار العباس وولده/5 ، وأخبار الدولة العباسیة/37، وینابیع المودة:2/22) .

إن منطق المنصور وغیره ممن یتکلمون عن مفاخر العباس وحقه فی الخلافة ، کمنطق الأموییین ، یقف عاجزاً أبکم أمام منطق النص والوصیة الذی نؤمن به ، والذی کان العباسیون یؤمنون به حتی حکموا !

ویقف عاجزاً ابکم أمام ما رواه أتباع الخلافة القرشیة جمیعاً بأصح الأسانید أن الطلقاء وأبناءهم محرم علیهم أن یحکموا الأمة ! بل رووا أنهم أمة أخری ملحقة بالأمة ! فعن جابر بن عبد الله(رحمه الله)عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: (المهاجرون والأنصار بعضهم

ص: 457

أولیاء بعض فی الدنیا والآخرة ، والطلقاء من قریش والعتقاء من ثقیف بعضهم أولیاء بعض فی الدنیا والآخرة ) ! روته بلفظه أو بنحوه مصادر السنیین بأسانید عدیدة فیها الصحیح علی شرط الشیخین ! کما فی مسند أحمد:4/363 ، وأبو یعلی: 8/446 ، وابن حبان: 16/250 ، والطبرانی الکبیر: 2/309 ، و 313 ، و 214 ، و 316 ، و 343 ، و 347 ، و: 10/187 ، وموارد الظمآن: 7/271 ، والدر المنثور: 3/206 ، وفتح القدیر: 2/330 ، وعلل الدارقطنی: 5/102 ، وتاریخ بغداد: 13/46 ، وتعجیل المنفعة/414 ، والأنساب للسمعانی: 4/152 ، وأخبار إصبهان:1/146 ، وأمالی الطوسی/268 ، ومجمع الزوائد:10/15 ، بعدة روایات ، وقال فی بعضها: رواه أحمد والطبرانی بأسانید وأحد أسانید الطبرانی رجاله رجال الصحیح ، وقد جوده فإنه رواه عن الأعمش عن موسی بن عبد الله) .

فماذا یصنعون بهذا الحدیث الصحیح ، الذی یحرِّم علی الأمة أن یقودها بنو أمیة وبنو عباس ، لأنهم لیسوا من صلبها بل ملحقون بها إلحاقاً !

وقد کان هذا الحکم معروفاً للمنصور کما کان معروفاً لمعاویة ، لکنهما عفریتان مکابران ! ففی شرح الأخبار:2/101: (کان عقیل ممن أسر یوم بدر وفیمن أطلق بفکاک فکه به العباس مع نفسه ، فقال له معاویة: وأنت من الطلقاء یا أبا یزید؟ فقال: إی والله ، ولکنی أُبْتُ إلی الحق وخرج منه هؤلاء معک ! قال: فلماذا جئتنا ؟ قال: لطلب الدنیا ! فأراد أن یقطع قوله فالتفت إلی أهل الشام فقال: یا أهل الشام أسمعتم قول الله عزو جل: تَبَّتْ یَدَا أَبِی لَهَبٍ وَتَبَّ ؟ قالوا: نعم. قال: فأبو لهب عم هذا الشیخ المتکلم ، یعنی عقیل وضحک وضحکوا فقال لهم عقیل: فهل سمعتم قول الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ؟ هی عمة أمیرکم معاویة ، هی ابنة حرب بن أمیة زوجة عمی أبی لهب وهما جمیعاً فی النار ، فانظروا أیهما أفضل الراکب أم المرکوب؟ فلما نظر معاویة إلی جوابه قال: إن کنت إنما جئتنا یا أبا یزید للدنیا فقد أنلناک منها ما قسم لک ، ونحن نزیدک والحق بأخیک ، فحسبنا ما لقینا منک !

فقال عقیل: والله لقد ترکت معه الدِّینَ وأقبلت إلی دنیاک ، فما أصبت من دینه ولا نلت من دنیاک عوضاً منه).

ص: 458

ونختم بروایة عیون أخبار الرضا(علیه السّلام):1/189، بسند صحیح: (عن معمر بن خلاد وجماعة قالوا: دخلنا علی الرضا(علیه السّلام)فقال له بعضنا: جعلنا الله فداک ما لی أراک متغیر الوجه؟ فقال: إنی بقیت لیلتی ساهراً متفکراً فی قول مروان بن أبی حفصة:

أنی یکون ولیس ذاک بکائن لبنی البنات وراثة الأعمام

ثم نمت فإذا أنا بقائل قد أخذ

بعضادة الباب ، وهو یقول:

أنی یکون ولیس ذاک بکائن

للمشرکین دعائم الإسلام

لبنی البنات نصیبهم من جدهم

والعم متروک بغیر سهام

ما للطلیق وللتراث وإنما

سجد الطلیق مخافة الصمصام

قد کان أخبرک القُران بفضله

فمضی القضاء به من الحکام

أن ابن فاطمة المنوه باسمه

حاز الوراثة عن بنی الأعمام

وبقی ابن نثلة واقفا متردداً

یبکی ویسعده ذووا الأرحام).

2- ثم تجرأ المنصور فطعن فی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقال: ( فقام فیها علی بن أبی طالب فتلطخ ، وحکَّم علیه الحکمین فافترقت عنه الأمة واختلفت علیه الکلمة ، ثم وثبت علیه شیعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه) !

ومعناه أن علیاً(علیه السّلام)لم یکن أهلاً للحکم ، لأنه تلطخت یداه بالدماء ، وقد فشل لأنه قبل بتحکیم الحکمین فحکما علیه وخسر شعبیته ، فقتله أصحابه !

وکتب فی رسالته الی مهدی الحسنیین:( ولکنها(الزهراء(علیهاالسّلام)) لا تحوز المیراث ولا ترث الولایة ولا تجوز لها الإمامة ، فکیف تورث بها ! ولقد طلبها أبوک بکل وجه فأخرجها نهاراً ومرَّضها سراً ودفنها لیلاً ، فأبی الناس إلا الشیخین وتفضیلهما ! ولقد جاءت السنة التی لا اختلاف فیها بین المسلمین أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا یرثون . وأما ما فخرت به من علیٍّ وسابقته فقد حضرت رسول الله الوفاة فأمر غیره بالصلاة ،

ص: 459

ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم یأخذوه ، وکان فی الستة فترکوه کلهم دفعاً له عنها ولم یروا له حقاً فیها . أما عبد الرحمن فقدم علیه عثمان . وقتل عثمان وهو له متهم ، وقاتله طلحة والزبیر، وأبی سعد بیعته وأغلق دونه بابه ثم بایع معاویة بعده ! ثم طلبها بکل وجه وقاتل علیها ، وتفرق عنه أصحابه ، وشک فیه شیعته قبل الحکومة ثم حکَّم حکمین رضی بهما وأعطاهما عهده ومیثاقه، فاجتمعا علی خلعه).

ومعناه: أن المنصور أنکر بیعة الغدیر وادعی أن علیاً(علیه السّلام)أراد وراثة الخلافة بسهم فاطمة(علیهاالسّلام)فی الإرث ! ودفعها الی المطالبة بسهمها وجعلها تغضب علی الشیخین وتعادیهما ، فلم یطعها الناس وأرادوا الشیخین !

ثم استدل بأن العصبة فی الإرث مقدمة علی الجد للأم والأخوال وأقارب الزوجة لیثبت بذلک أن جده العباس مقدم فی إرث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی الزهراء(علیهاالسّلام) !

ثم استدل علی خلافة أبی بکر بما کذبوه من أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمره بالصلاة مکانه ولم یأمر علیاً(علیه السّلام) ! وبأن الناس اختاروا غیر علی

للخلافة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعد أبی بکر وبعد عمر ، ولم یختاروا علیاً(علیه السّلام)مع أنه کان فی الشوری ، لأن ابن عوف صاحب حق النقض فی الشوری قدم عثماناً علیه !

ثم ذم المنصور علیاً(علیه السّلام)بأنه فی خلافته قاتله طلحة والزبیر ، ولم یبایعه سعد بن وقاص ثم بایع معاویة ، وطعن فیه(علیه السّلام)بأنه نفذ أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین علی تأویل القرآن کما قاتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی تنزیله ، مع أن ذلک صح ذلک عند جمیع المسلمین ! کما طعن فیه(علیه السّلام) بأنه حکَّم الحکمین وأعطاهما عهد الله ومیثاقه علی القبول بحکمهما ، ثم نکث ولم یقبل به !

وهکذا بلغ المنصور فی طمس الحقائق وقلب الأمور وتزویرها ، مبلغاً لم یصل الیه أحد غیره ، حتی الخوارج والنواصب ! ولا یتسع المجال لتفصیل رده لکن

ص: 460

لم أرَ أحداً قبل المنصور ادعی إن علیاً(علیه السّلام)أراد الخلافة بسهم فاطمة(علیهاالسّلام) من إرث أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! ولا طعن علیه بأن عمر أعطی حق النقض لصهر عثمان فمال معه! ولا جعل نکث طلحة والزبیر طعناً علیه ! ولا جعل شیطنة ابن العاص فی التحکیم وغضب أبی موسی الأشعری ولعنه له ، حجةً علی علی(علیه السّلام)!

لکنها عقدة المنصور من علی(علیه السّلام)نبتت فی نفسه المریضة لأسباب آخرها ثورة أبناء علی(علیه السّلام)علیه ، فجعلته یطمس فضائله التی کان یتعیش بروایتها ، ویقلبها الی مساوئ یذم بها علیاً(علیه السّلام) !

إنه المنصور نفسه الذی یروی عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنه قال لفاطمة(علیهاالسّلام): (إعلمی یا فاطمة أن الله تعالی اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختار منها أباک فبعثه نبیاً ، ثم اطلع اطلاعة ثانیة فاختار بعلک فجعله وصیاً ) !

ونفیه والذی یروی عنه ابنه المهدی بسند صحیح عندهم عن ابن عباس قال: (کنت عند النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعنده أصحابه حافین به ، إذ دخل علی بن أبی طالب فقال له النبی (ص): یا علی إنک عبقریهم . قال المهدی: أی سیدهم).(تاریخ بغداد:8/436، وتاریخ دمشق:42/325، وکنز العمال:11/627).

هذا ، وقد تضمن کلام المنصور أباطیل وافتراءات علی الإمام الحسن(علیه السّلام)وعلی أهل الکوفة الشیعة ، نحیل فی کشف زیفها الی المجلد الثالث من هذا الکتاب .

لقد سجل المؤرخون أن المنصور هو الذی ابتدع هذه المعرکة ضد العلویین ! وبدأ سیاسة الإنتقاص من علی(علیه السّلام)والإضطهاد لأبنائه !

قال السیوطی فی تاریخ الخلفاء/261: (وکان المنصور أول من أوقع الفتنة بین العباسیین والعلویین وکانوا قبل شیئاً واحداً).

ص: 461

4- المنصور یشن حملة علی رواة فضائل علی(علیه السّلام)

عمل المنصور علی مدی خلافته التی امتدت اثنین وعشرین سنة إلا عشرة أیام بکل طاقته ، لطمس حق أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الذی فرضه الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتشویه سمعته العاطرة ! وذلک لأن موجة العاطفة لأهل البیت(علیهم السّلام)کانت قویة وکان محورها فی قلوب الناس علیاً والحسین والأئمة من ذریة الحسین(علیهم السّلام) وزید بن علی(رحمه الله) ، وکان موقع العباسیین علی هامش هؤلاء کما کان واقعهم !

وکان المنصور یتخیل أنه یمکنه تغییر التاریخ والعقائد والقلوب ! وما علیه إلا أن یستعمل مع مخالفیه الأسالیب المناسبة شدة ولیناً وقمعاً وقتلاً ، ونشر الفضائل الکاذبة للعباس وبنیه ، ولمخالفی علی(علیه السّلام) ، وتزویقها وتسویقها للناس !

وبهذا التقی المنصور بالکامل مع معاویة فی هدف محاربة علی(علیه السّلام)! ولم یبق بینهما فرق إلا فی نمط تفکیر کل منهما وظروفه المحیطة ، فقد اختار معاویة مطاردة شیعة علی(علیه السّلام)ورواة فضائله ، واضطهدهم بالقتل والحرمان المدنی ، وفرض لعن علی(علیه السّلام)علی منابر المسلمین کجزء من صلاة الجمعة .

بینما استثنی المنصور اللعن لأنه غیر ممکن ، ولأن اللعن الأموی أعطی نتائج عکسیة ، واستعمل بدله فرض مدح أبی بکر وعمر فی صلاة الجمعة کما یأتی ، واختار مجموعة أعمال ضد علی وأبنائه(علیه السّلام) ، فی طلیعتها تجفیف منابع روایة فضائلهم ونشرها ! فصرنا نقرأ فی مصادر الجمیع مثل هذه القصة الغریبة للمنصور مع إمام المحدثین وشیخهم سلیمان بن الأعمش(رحمه الله)، حیث شرطته لإحضاره لیلاً فأحس سلیمان أأنه سیسأله عما یرویه من فضائل علی(علیه السّلام) فیقر له بأنه یرویها فیقتله ! فاغتسل غسل الشهادة وتحنط وذهب الیه فوجد عنده عمرو بن عبید العالم البصری الذی کان مماشیاً لبنی أمیة ثم صار مع العباسیین فأحبه المنصور !

ص: 462

وکانت جلسة تاریخیة تغیرت فیها شراهة المنصور للعنف فاعترف اعترافات خطیرة ، وسلم الله الأعمش من القتل فی تلک الجلسة ، کما یأتی !

5- طوَّع المنصور الفقهاء لخدمة مشروعه !

1- نقرأ فی عمل المنصور أنه استطاع أن یطوِّع الفقهاء والرواة المخالفین له الذین أفتوا بالثورة علیه مع مهدی الحسنیین کأبی حنیفة ومالک بن أنس وابن شبرمة وابن أبی لیلی وغیرهم ، فأرسل من یکسبهم ویأتی بهم الیه لیبایعوه ، ثم تولی تطویعهم وتشغیلهم ، کل فی مجاله المناسب !

قال ابن عبد البر فی الإنتقاء/159: (إن أبا حنیفة هرب من بیعة المنصور وجماعة من الفقهاء قال أبو حنیفة لی فیهم أسوة . فخرج مع أولئک الفقهاء فلما دخلوا علی المنصور أقبل علی أبی حنیفة وحده من بینهم فقال له: أنت صاحب حیل ، فالله شاهد علیک أنک بایعتنی صادقاً من قلبک؟ قال: الله یشهد علیَّ حتی تقوم الساعة ! فقال: حسبک . فلما خرج أبو حنیفة قال له أصحابه: حکمت علی نفسک بیعته حتی تقوم الساعة ! قال: إنما عنیت حتی تقوم الساعة من مجلسک إلی بول أو غائط أو حاجة حتی یقوم من مجلسه ذلک) ! انتهی.

ولکن حیل المنصور أقوی من حیل أبی حنیفة ، فکان یکلفه بمهام صعبة تخدم هدفه ، فقد کلفه مثلاً بأن یهیئ أربعین مسألة صعبة ویمتحن بها بحضوره الإمام الصادق(علیه السّلام)لعله یغلبه ، وکلفه أن یذهب الیه فی المدینة ویوبخه لماذا أمر شیعته فی الکوفة بلعن أبی بکر وعمر، کما سیأتی !

وکلفه أن یقنع الأعمش بالتوبة عن روایة أحادیث فی مدح علی(علیه السّلام) ، ففی أمالی الطوسی/628، عن (شریک بن عبد الله القاضی قال: حضرت الأعمش فی علته التی قبض فیها ، فبینا

ص: 463

أنا عنده إذ دخل علیه ابن شبرمة وابن أبی لیلی وأبو حنیفة فسألوه عن حاله فذکر ضعفاً شدیداً وذکر ما یتخوف من خطیئاته وأدرکته رنة فبکی ! فأقبل علیه أبو حنیفة فقال: یا أبا محمد إتق الله وانظر لنفسک فإنک فی آخر یوم من أیام الدنیا وأول یوم من أیام الآخرة ، وقد کنت تحدث فی علی بن أبی طالب بأحادیث لو رجعت عنها کان خیراً لک ! قال الأعمش: مثل ماذا یا نعمان؟ قال: مثل حدیث عبایة: أنا قسیم النار . قال: أو لمثلی تقول هذا یا یهودی؟ أقعدونی سندونی أقعدونی: حدثنی والذی إلیه مصیری موسی بن طریف ، ولم أر أسدیاً کان خیراً منه قال: سمعت عبایة بن ربعی إمام الحی ، قال: سمعت علیاً أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یقول: أنا قسیم النار ، أقول هذا ولیی دعیه ، وهذا عدوی خذیه ! وحدثنی أبو المتوکل الناجی فی إمرة الحجاج وکان یشتم علیاً شتماً مقذعاً یعنی الحجاج ، عن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إذا کان یوم القیامة یأمر الله عز وجل فأقعد أنا وعلی علی الصراط ویقال لنا: أدخلا الجنة من آمن بی وأحبکما وأدخلا النار من کفر بی وأبغضکما ! ثم قال أبو سعید: قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ما آمن بالله من لم یؤمن بی ، ولم یؤمن بی من لم یتول أو قال لم یحب علیاً ، وتلا: أَلْقِیَا فِی

جَهَنَّمَ کُلَّ کَفَّارٍ عَنِیدٍ ! قال فجعل أبو حنیفة إزاره علی رأسه وقال: قوموا بنا ، لا یجیؤنا أبو محمد بأطمَّ من هذا ! قال لی شریک بن عبد الله: فما أمسی یعنی الأعمش حتی فارق الدنیا(رحمه الله)). ومناقب آل أبی طالب:2/8 ، وغیره من مصادرنا بأسانید متعددة ، ورواه عدد من علمائهم ، کالحاکم الحسکانی النیسابوری فی شواهد التنزیل بعدة أسانید فیها الصحیح علی مبانیهم). قال المفید فی تصحیح اعتقادات الإمامیة/108: وقد جاء الخبر بأن الطریق یوم القیامة إلی الجنة کالجسر یمر به الناس ، وهو الصراط الذی یقف عن یمینه رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعن شماله أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ویأتیهما النداء من

ص: 464

قبل الله تعالی: أَلْقِیَا فِی جَهَنَّمَ کُلَّ کَفَّارٍ عَنِیدٍ ). انتهی

2- وصف الأعمش(رحمه الله)أبا حنیفة بالیهودی لأن مبغض علی والعترة(علیهم السّلام)یحشر یهودیاً بحکم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! (قال جابر بن عبد الله الأنصاری: خطبنا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فسمعته وهو یقول: أیها الناس ، من أبغضنا أهل البیت حشره الله یوم القیامة یهودیاً ! فقلت: یا رسول الله وإن صام وصلی؟ قال: وإن صام وصلی وزعم أنه مسلم ، احتجر بذلک من سفک دمه ، وأن یؤدی الجزیة عن ید وهم صاغرون . مُثِّل لی أمتی فی الطین فمرَّ بی أصحاب الرایات فاستغفرت لعلیٍّ وشیعته . رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه من لم أعرفهم). (مجمع الزوائد:9/172، وابن أحمد فی فضائل الصحابة:2/661 , وشواهد التنزیل:1/49، بأسانید ، وفیها عندهم حسنٌ علی الأقل) .

3- قد تقول: ما هو الدلیل علی أن أبا حنیفة مکلف من المنصور فی طلبه من الأعمش؟ وجوابه: أنه عاش مع الأعمش عمراً من زمن بنی أمیة الی ثورات العلویین

وحکم العباسیین ، فلم یتکلم فی ذلک إلا فی زمن المنصور !

وقد تقول: قد یکون مطلب أبی حنیفة بعض الأحادیث التی یراها غلواً فی علی(علیه السّلام)؟ وجوابه: أن عنف الأعمش(رحمه الله)فی جوابه یدل علی أن أبا حنیفة فی رأیه ناصبی ینتقص من علی(علیه السّلام)ولا یرید روایة فضائله . کما أن أسالیب المنصور وما یأتی من استدعائه الأعمش لیلاً ، یؤید أن یکون وراء الموضوع .

کما أن وقت القضیة فی سنة148، أیام کانت علاقة أبی حنیفة مع المنصور قویة وحمیمة ! وکان أبو حنیفة موظفاً فی مشروع بناء بغداد ، مسؤول استلام الآجر الذی یأتون به لبناء سورها وبیوتها ! وسبب هذه الوظیفة أن أبا حنیفة کان یفتی بوجوب الثورة علی المنصور ویسمیه اللص المتغلب علی الخلافة (وکان یقول فی المنصور وأشیاعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونی علی عد آجرِّه لما

ص: 465

فعلت).(تفسیر الکشاف:1/309، وتفسیر أبی حیان:1/549). وعندما خضع للمنصور ورضی علیه أقسم أن یشغله فی عدِّ آجر بغداد والنظارة علی العمال ، فأطاعه !

قال الطبری:6/238: ( وذکر عن سلیمان بن مجالد أن المنصور أراد أبا حنیفة النعمان بن ثابت علی القضاء فامتنع من ذلک ، فحلف المنصور أن یتولی له وحلف أبو حنیفة ألا یفعل ، فولاه القیام ببناء المدینة وضرب اللبن وعده ، وأخْذ الرجال بالعمل ! قال: وإنما فعل المنصور ذلک لیخرج من یمینه ! قال: وکان أبو حنیفة المتولی لذلک حتی فرغ من استتمام بناء حائط المدینة مما یلی الخندق وکان استتمامه فی سنة149 . وذکر عن الهیثم بن عدی أن المنصور عرض علی أبی حنیفة القضاء والمظالم فامتنع ، فحلف ألا یقلع عنه حتی یعمل ، فأخبر بذلک أبو حنیفة فدعا بقصبة فعدَّ اللبن علی رجل قد لبَّنَه ، وکان أبو حنیفة أول من عدَّ اللبن بالقصب ، فأخرج أبا جعفر عن یمینه ! واعتل فمات ببغداد). انتهی.

وقد خلط الرواة بین قسم أبی حنیفة والمنصور ، ویبدو أن المنصور سمع منه فی بغداد ما لم یعجبه ، أو استکمل منه غرضه لأنه خضع له ، ومذهبه عند تلامیذه ، فسجنه وقتله ! (والصحیح أنه توفی وهو فی السجن). (تاریخ بغداد:13/329).

وکذلک نرجح أن یکون المنصور قتل الأعمش بأن دس الیه السم فمرض ، أو سمَّهُ عندما کان مریضاً وبعث الیه أبا حنیفة لیتوب عن روایة فضائل علی(علیه السّلام) فانتفض فی وجهه وشتمه وأعلن إصراره علی روایة فضائل علی(علیه السّلام) ! فقد جاء فی القصة: (فما أمسی یعنی الأعمش حتی فارق الدنیا(رحمه الله)).

وقد کان أبو حنیفة معروفاً بانه صاحب حیل ، فقد تقدم قول المنصور له إنک صاحب حیل ، ومن حیله ما رواه ابن الجوزی فی کتاب الأذکیاء/161: ( أن رجلاً ابتلی بمحبة امرأة فأتی أبا حنیفة فأخبره أن ماله قلیل وأنهم إن علموا بذلک لم یزوجوه ! فقال له أبو حنیفة أتبیعنی أحلیلک باثنی عشر ألف درهم؟ قال: لا . قال:

ص: 466

فأخبر القوم إنی أعرفک . فمضی فخطبها فقالوا من یعرفک؟ فقال أبو حنیفة ، فسألوا أبا حنیفة عنه فقال: ما أعرفه إلا أنه حضر عندی یوماً فسووم فی سلعة له باثنی عشر ألف درهم فلم یبع ! فقالوا هذا یدل علی أنه ذو مال فزوجوه ) !

4- أجمع العلماء علی اختلاف مذاهبهم علی توثیق سلیمان بن مهران الأعمش(رحمه الله)وکان من أهل طبرستان ، یمتاز بقوة العقیدة والبصیرة ، وقوة الشخصیة ، وکان محدثاً حافظاً للقرآن والحدیث ، وإمام الحدیث المتفق علیه فی الکوفة بعد جابر الجعفی(رحمه الله)، یقصده الطلبة والفقهاء للتلمذ علیه وأخذ الحدیث والقرآن منه . وکان من أصحاب الإمام الباقر والصادق(علیهماالسّلام)الخاصین ، لکنه یجید التقیة ولایصانع ولا یضارع ، ولم یکن یحترم أبا حنیفة وابن شبرمة وابن أبی لیلی وأمثالهم من الضعاف ، الذین مشوا مع موجة بنی أمیة ، ثم مع موجة الحسنیین ، ثم رضخوا لموجة العباسیین .

(دخلت أنا وأبو حنیفة علی الأعمش نعوده فقال له أبو حنیفة: لولا الثقل علیک لزدت فی عیادتک أو لعدتک أکثر مما أعودک ، فقال له الأعمش: والله إنک لثقیل علیَّ وأنت فی بیتک ، فکیف إذا دخلت علیَّ ) ! (ناسخ الحدیث لابن شاهین/120).

(کان أبو حنیفة خزازاً وکان الأعمش صیرفیاً ) . (کامل ابن عدی:7/9).

قال أبو داود صاحب السنن: (سمعت أحمد بن یونس قال: مات الأعمش وأنا ابن أربع عشرة سنة . ورأیت أبا حنیفة رجلاً قبیح الوجه). (سؤالات الآجری:1/192) .

5- کان المنصور یحقد علی الأعمش لتشیعه وقوة شخصیته ، وعدم خضوعه له کما خضع غیره من الحفاظ والفقهاء ! بل کان الأعمش یتحداه ویروی فضائل علی(علیه السّلام)حتی فی مجلس المنصور ! فقد اختار یوماً مجلسه العام: (دخل الأعمش علی المنصور وهو جالس للمظالم ، فلما بصر به قال له: یا سلیمان تَصَدَّرْ؟ قال: أنا

ص: 467

صدرٌ حیث جلستُ ! ثم قال: حدثنی الصادق قال: حدثنی الباقر قال: حدثنی السجاد قال: حدثنی الشهید أبو عبد الله قال: حدثنی أبی وهو الوصی علی بن أبی طالب قال: حدثنی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: أتانی جبرئیل آنفاً فقال: تختموا بالعقیق فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانیة ولمحمد بالنبوة ولعلی بالوصیة ولولده بالإمامة ولشیعته بالجنة ! قال: فاستدار الناس بوجوههم نحوه فقیل له: تذکر قوماً فتعلم من لا نعلم ! فقال: الصادق جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب والسجاد علی بن الحسین ، والشهید الحسین بن علی ، والوصی وهو التقی علی بن أبی طالب(علیه السّلام)). (العمدة/378 ، والطرائف/134 ، عن الحافظ ابن المغازلی)

ولم تذکر الروایة ردة فعل المنصور الذی ینشط لطمس فضائل علی وولده وتحریم روایتها ! لکن لا بد أنه حرَّق الإرم علی الأعمش ، کیف یدبر قتله !

6- روت مصادر الخاصة والعامة أجزاء من ملحمة الأعمش(علیه السّلام)مع المنصور ، ومن أکمل نصوصها ما رواه الحافظ ابن المغازلی فی فضائل علی(علیه السّلام)/226، والحافظ ابن حسنویه الحنفی ، بسنده عن سلمان بن الأعمش عن أبیه قال:

(قال الأعمش: وجّه إلیَّ المنصورُ فقلت للرسول: لما یریدنی أمیر المؤمنین؟ قال: لا أعلم ، فقلت: أبلغه أنی آتیه ، ثمّ تفکرتُ فی نفسی فقلت: ما دعانی فی هذا الوقت لخیر ، ولکن عسی أن یسألنی عن فضائل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فان أخبرته قتلنی ! قال: فتطهرتُ ولَبستُ أکفانی وتحنَّطتُ ثم کتبت وصیتی ، ثمّ صرت إلیه فوجدت عنده عمرو بن عُبید فحمدت الله تعالی علی ذلک وقلت: وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة . فقال لی: أدن یا سلیمان ! فدنوت ، فلمّا قرُبتُ منه أقبلتُ علی عمرو بن عُبید أُسائله وفاح مِنّی ریح الحُنوط . فقال: یا سلیمان ما هذه الرائحة ؟ والله لتصْدُقنی وإلاّ قتلتُک. فقلت: یا أمیر

ص: 468

المؤمنین أتانی رسولک فی جَوف اللیل فقلت فی نفسی: ما بعث إلیّ أمیر المؤمنین فی هذه السّاعة إلاّ لیسألنی عن فضائل علیّ فان أخبرته قتلنی ، فکتبتُ وصیّتی ولبستُ کفَنی وتحنَّطَتُ . فاستوی جالساً وهو یقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلیِّ العظیم . ثم قال: أتدری یا سلمان ما اسمی؟ فقلت: یا أمیر المؤمنین دعنا الساعة من هذا . فقال: ما إسمی؟ فقلت: عبد الله بن محمد بن علی بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . قال: صدقت فأخبرنی بالله وقرابتی من رسول الله کم رویت من حدیث علی بن أبی طالب وکم من فضیلة من جمیع الفقهاء؟ قلت: شئ یسیر یا أمیر المؤمنین . قال: کم؟ قلت: مقدار عشرة آلاف حدیث وما یزداد . قال: یا سلمان ألا أحدثک بحدیث فی فضائل علی یأکل کل حدیث رویته عن جمیع الفقهاء، فإن حلفت لا ترویها لأحد من الشیعة حدثتک بها ! قال: لا أحلف ولا أحدث بها . قال: إسمع . کنت هارباً من بنی مروان وکنت أدور البلدان أتقرب إلی الناس بحب علی وفضائله ، وکانوا یشرفونی ویعظمونی ویکرمونی حتی وردت بلاد الشام وأهل الشام کلما أصبحوا لعنوا علیاً رضی الله عنه فی مساجدهم ، فإنهم کلهم خوارج وأصحاب معاویة ، فدخلت مسجداً وفی نفسی منهم ما فیها ، فأقمت الصلاة وصلیت الظهر وعلیَّ کساء خلق ، فلما سلم الإمام اتکی علی الحائط وأهل المسجد حضور ، وجلست فلم أر أحداً یتکلم توقراً منهم لإمامهم ، فإذا أنا بصبیین قد دخلا المسجد ، فلما نظر إلیهما الإمام قام ثم قال: أدخلا فمرحباً بکما وبمن سمیتما باسمهما ، والله ما سمیتهما باسمیهما إلا لأجل حبی لمحمد وآل محمد ! فإذا أحدهما الحسن والآخر الحسین ، فقلت فی نفسی: قد أجیبت حاجتی ولا قوة إلا بالله ، وکان إلی جانبی شاب فسألته من هذا الشیخ ومن هذان الغلامان . فقال: الشیخ جدهما ولیس فی هذه المدینة أحد یحب

ص: 469

علیاً سواه ، فلذلک سماهما الحسن والحسین ، ففرحت فرحاً شدیداً ، وکنت یومئذ لا أخاف الرجال ، فدنوت من الشیخ فقلت: هل لک فی حدیث أقر به عینک؟ فقال ما أحوجنی إلی ذلک ، وإن أقررت عینی أقررت عینک ، فعند ذلک قلت: حدثنی أبی عن جدی عن أبیه عن رسول الله . قال لی: ومن أبوک ومن جدک ؟ فعلمت أنه یرید نسبتی فقلت: أنا محمد بن علی بن عبد الله بن العباس ، وإنه قال: کنا مع رسول الله وإذا بفاطمة وقد أقبلت تبکی ، فقال لها النبی (ص): وما یبکیک لا أبکی الله عیناک . قالت: یا أبتا إن الحسن والحسین قد ذهبا منذ الیوم ولم أرد أین هما وإن علیاً یمشی إلی الدالیة منذ خمسة أیام یسقی البستان ، وإنی قد استوحشت لهما ! قال: یا أبا بکر إذهب فاطلبهما ویا عمر إذهب فاطلبهما ویا فلان ویا فلان . قال: ولم یزل یوجه حتی مضوا سبعین رجلاً یعثرون فی طلبهم فرجعوا ولم یصیبوهما ، فاغتم النبی ثم قام ووقف علی باب المسجد فقال: اللهم بحق إبراهیم خلیلک ، وبحق آدم صفوتک إن کانا قرة عینی فی بر أو بحر أو سهل أو جبل فاحفظهما وسلمهما علی قلب فاطمة سیدة نساء العالمین ! فإذا باب من السماء قد فتح وجبرئیل قد نزل من عند رب لم یزل وقال: السلام علیک یا رسول الله ، الحق یقرؤک السلام ویقول لک لا تحزن ولا تغتم ، الغلامان فاضلان فی الدنیا والآخرة ، وهما سیدا شباب أهل الجنة ، وإنهما فی حدیقة بنی النجار ، وقد وکلت بهما ملکین رحیمین یحفظانهما إن قاما أو قعدا أو ناما أو استیقظا ! قال: فعند ذلک فرح النبی فرحاً شدیداً وقام ومضی وجبرئیل عن یمینه والمسلمون حوله حتی دخل حظیرة بنی النجار ، فسلم علیه الملکان الموکلان بهما فرد علیهما السلام والحسن والحسین نیام معتنقان ، وذلک الملک قد جعل جناحه تحتهما والجناح الآخر فوقهما ، فجثی النبی علی رکبتیه وانکب علیهما یقبلهما،

ص: 470

حتی استیقظا فرأیا جدهما فحمل النبی الحسن وحمل جبرئیل الحسین ، وخرج النبی من الحظیرة ، قال: وکان یقول کلما قبلهما وهما علی کتفیه وکتف جبرئیل: من أحبکما فقد أحبنی ومن أبغضکما فقد أبغضنی فقال أبو بکر: أعطنی أحمل أحدهما یا رسول الله ، قال: نعم المحمول ونعم المطیة ونعم الراکبان هما ، وأبوهما وأمهما خیر منهما ، ونعم من أحبهما . فلما خرجا ومضیا وتلقاهما عمر فقال: من أحبهما قال ولم یزل النبی سائراً حتی دخلت المسجد وقال: والله لأشرفن الیوم ولدی کما شرفهما الله تعالی ثم قال یا بلال ناد فی الناس فقال النبی: معاشر المسلمین بلغوا عن نبیکم ما تسمعون منه، أیها الناس: ألا أدلکم الیوم علی خیر الناس جداً وجدةً؟ قالوا: بلی یا رسول الله . قال: الحسن والحسین جدهما محمد رسول الله وجدتهما خدیجة بنت خویلد سیدة نساء أهل الجنة . أیها الناس: ألا أدلکم علی خیر الناس أباً وأماً ؟ قالوا: بلی یا رسول الله . قال: الحسن والحسین ، أبوهما علی بن أبی طالب وأمهما فاطمة بنت رسول الله ، وإن أباهما خیر منهما ، یحب الله ویحب رسوله ویحبة الله ورسوله ، سید العابدین وسید الأوصیاء . أیها الناس: ألا أدلکم علی خیر الناس عماً وعمة ؟ قالوا: بلی یا رسول الله . قال: الحسن والحسین عمهما جعفر الطیار یطیر مع الملائکة بجناحین مکللین بالدر والیاقوت ، وعمتهما أم هانی بنت أبی طالب . معاشر الناس: هل أدلکم علی خیر الناس خالاً وخالة ؟ قالوا: بلی یا رسول الله. قال: الحسن والحسین ، خالهما القاسم ابن رسول الله وخالتهما زینب. ثم قال: اللهم إنک تعلم أن الحسن والحسین فی الجنة ، وأن جدهما وجدتهما فی الجنة ، وأن أباهما وأمها فی الجنة ، وأن من کرامتهما علی الله أن سماهما فی التوراة شبراً وشبیراً ، فهما سبطای وریحانتای فی الدنیا والآخرة . قال(المنصور): فلما سمع الشیخ ذلک منی کسانی خلعته ، فبعتها بمائة دینار... ثم

ص: 471

ذکر المنصور أن هذا الشیخ دله علی أخ له فحدثه المنصور بفضائل العترة(علیهم السّلام)فأکرمه ، قال: (فقلت: أخبرنی أبی عن جدی عن أبیه قال: کنا مع رسول الله جلوساً بباب داره وإذا بفاطمة قد أقبلت وهی حاملة الحسن وهی تبکی بکاءا شدیداً ، فاستقبلها وقال: ما یبکیک لا أبکی الله لک عیناً ! ثم تناول الحسن من یدها فقالت: یا أبت إن نساء قریش یعیرننی ویقلن قد زوجتک أبوک بفقیر لامال له ! فقال لها النبی: یا فاطمة ما زوجتک أنا ولکن الله تعالی زوجک فی السماء وشهد لک جبرئیل ومیکائیل وإسرافیل ! إعلمی یا فاطمة أن الله تعالی اطلع إلی الأرض اطلاعة فاختار منها أباک فبعثه نبیاً ، ثم اطلع اطلاعة ثانیة فاختار بعلک فجعله وصیاً ثم زوجک به من فوق سبع سماواته ، وأمرنی أن أزوجک به واتخذه وصیاً ووزیراً فعلی أشجعهم قلباً ، وأعلم الناس علماً ، وأحلم الناس حلماً ، وأحکم الناس حکماً ، وأقدم بالناس إیماناً ، وأسمحهم کفاً ، وأحسن الناس خلقاً ، یا فاطمة إنی أخذ لواء الحمد ومفاتیح الجنة بیدی وأدفعها إلی علی بن أبی طالب ، فیکون آدم ومن دونه تحت لوائه ! یا فاطمة إنی مقیم غداً علیاً علی حوضی یسقی من یرد علیه من أمتی . یا فاطمة إبناک الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة ، وکان قد سبق اسمهما فی التوراة مع موسی بن عمران لکرامتها عند الله . یا فاطمة یکسی أبوک حلة من حلل الجنة ولواء الحمد بین یدی وأمتی تحت لوائی ، فأناوله علیاً لکرامته علی الله . قال: وینادی مناد یا محمد نعم الجد جدک ونعم الأخ أخوک ، فالجد إبراهیم والأخ علی بن أبی طالب . وإذا دعانی رب العالمین دعا علیاً معی، وإذا أحیانی أحیی علیاً معی، وإذا شفعنی ربی شفع علیاً . وإنه فی المقام عونی علی مفاتیح الجنة ، فقومی یا فاطمة إن علیاً وشیعته هم الفائزون یوم القیامة . وقال: بینا فاطمة جالسة إذ أقبل أبوها ، حتی جلس إلیها فقال لها: مالی أراک

ص: 472

حزینة ؟ قالت: بأبی أنت وأمی یا رسول الله ، وکیف لا أبکی ولا أحزن ، وترید أن تفارقنی ! فقال لها: یا فاطمة لا تبکی ولا تحزنی ، فلا بد من فراقک ، فاشتد بکاؤها وقالت: یا أبتی أین ألقاکظ قال: تلقینی علی تل الحمد أشفع لأمتی . قالت: یا أبت وإن لم ألقک (هناک)؟ قال: تلقینی عند الصراط ، جبرئیل عن یمینی ومیکائیل عن شمالی وإسرافیل أخذ بحجزتی والملائکة من خلفی ، وأنا أنادی أمتی فیهوِّن علیهم الحساب ، ثم أنظر یمیناً وشمالاً إلی أمتی وکل نبی یوم القیامة مشتغل بنفسه یقول یا رب نفسی نفسی ، وأنا أقول یا رب أمتی أمتی ، فأول من یلحق بی أنت وعلی والحسن والحسین ، فیقول الرب عز وجل: یا محمد إن أمتک لو أتونی بذنوب کأمثال الجبال لغفرت لهم ما لم یشرکوا بی شیئاً ولم یوالوا عدواً قال: فلما سمع الشاب هذا منی أمر لی بعشرة آلاف درهم... ثم قال المنصور إن الشیخ حکی له علی شخص کان مفرطاً فی سب علی(علیه السّلام) فحول الله وجهه الی وجه خنزیر وصار آیة للناس !

ثم قال (المنصور):یا سلیمان سمعت فی فضائل علی أعجب من هذین الحدیثین؟ یاسلیمان حُبُّ علی إیمان وبُغْضُه نِفاق ، لا یحبُّ علیاً إلاّ مؤمن ولا یبغضه إلاّ کافر ! فقلت: یا أمیر المؤمنین الأمان؟ قال: لک الأمان ، قلت: فما تقول یا أمیر المؤمنین فی مَنْ قتل هؤلاءِ؟ قال: فی النّار لا أشکُّ ، فقلت: فما تقول فیمن قَتَل أولادهم وأولاد أولادهم؟ قال: فَنکَّسَ رأسه ثم قال: یا سلیمان المُلْکُ عَقیمٌ ، ولکن حَدِّث عن فضائل علی بما شئت! قال قلت: مَن قتل ولده فی النار! فقال عمرو بن عبید: صدقت یا سلیمان ، الویل ثم الویل لمن قتل ولده ! فقال المنصور: یا عمرو إشهد علیه فإنه قال فی النار ، فقال قد أخبرنی الشیخ الصدوق یعنی الحسن بن أنس أن من قتل أولاد علی لا یشم رائحة الجنة . قال: فوجدت

ص: 473

المنصور قد غمض وجهه ! فخرجنا . فقال أبو جعفر(الراوی) لولا مکان عمرو ، ما خرج سلیمان إلا مقتولاً). وکشف الیقین للعلامة الحلی/309، وشرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی:2/372 ، وینابیع المودة للقندوزی:3/37، وحلیة الأبرار:2/137، وغایة المرام:6/302 للبحرانی ، وشرح إحقاق الحق للمرعشی:15/671 ، عن در بحر المناقب/48 لابن حسنویه ، مخطوط).

وسیأتی المزید من اهتمام المنصور بطمس أحادیث فضائل علی(علیه السّلام)!

6- الهدف الثالث: إرغام أنف بنی علی(علیه السّلام)بتعظیم أبی بکر وعمر

قال العلامة الحلی(رحمه الله)فی منهاج الکرامة/69: ( ابتدعوا أشیاء اعترفوا بأنها بدعة ، وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: کل بدعة ضلالة وکل ضلالة فإن مصیرها إلی النار ، وقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): من أدخل فی دیننا ما لیس منه فهو ردٌّ علیه ! ولو رُدُّوا عنها کرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ، کذکر الخلفاء فی خطبتهم ، مع أنه بالإجماع لم یکن فی زمن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولا فی زمن أحد من الصحابة والتابعین ، ولا فی زمن بنی أمیة ، ولا فی صدر ولایة العباسیین ، بل هو شئ أحدثه المنصور لما وقع بینه وبین العلویة فقال: والله لأرغمن أنفی وأنوفهم ، وأرفعن علیهم بنی تیم وعدی ، وذکر الصحابة فی خطبته ، واستمرت هذه البدعة إلی هذا الزمان) ! انتهی.

أقول: هذا ما استقر علیه رأی المنصور أخیراً ، وإلا فقد قامت حرکتهم فی عهد قائدها بکیر بن ماهان وأبی سلمة الخلال وأبی مسلم الخراسانی ومعهم أخو المنصور إبراهیم بن محمد المسمی بالإمام ، علی الدعوة الی الرضا من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والبراءة من بنی أمیة وبنی تیم وعدی ! وقد تقدم کلامهم فی ذلک ومنه خطبة أبی مسلم الخراسانی فی الحج . لکن المنصور رأی أن للشیخین أبی بکر وعمر شعبیة فی أهل الحجاز ، وأن الحسنیین تبنوا الترضی عنهما فکسبا کثیراً من محبیهما ، فتبنی الترضی عنهما ! فقد کان عبدالله بن الحسن یسأل عن

ص: 474

أبی بکر وعمر فیقول: (کانت أمنا فاطمة صدیقة ابنه نبی مرسل ، وماتت وهی غضبی علی قوم فنحن غضاب لغضبها).(البحار الأنوار:28/316). لکنه غیَّر رأیه فکان یقول:( والله لا یقبل الله توبة عبد تبرأ من أبی بکر وعمر وإنهما لیعرضان علی قلبی فأدعو الله لهما ، أتقرب به إلی الله عز وجل ). (تاریخ دمشق:27/373).

والسبب الأهم أن المنصور رأی من اللازم لمواجهة ثورات العلویین علیه أن یکسر موجة التعاطف مع أهل البیت التی ترکزت علی آل علی(علیه السّلام)وذلک بإعادة الإعتبار لمن هم مقابلهم ، حتی لو تضرر بذلک بنو العباس ! فقوله: (لأرغمن أنفی وأنوف بنی علی) یعنی أنه یدرک ضرر ذلک علی بنی العباس ، لکنه مضطر لأن یطبق المثل القائل: ( علیَّ وعلی أعدائی یارب) ! وکان یتصور أنه یتحاشی الضرر علیه بتصعید الدعایة لبنی العباس خاصة، دون بنی علی(علیه السّلام)!

ولذلک أصدر أمره بأن یترضی خطباء الجمعة فی أنحاء الدولة الإسلامیة علی أبی بکر وعمر . وأبلغ ذلک الی الفقهاء لکی ینفذوه: (قال مالک: قال لی المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله ؟ فقلت: أبو بکر وعمر . فقال: أصبت وذلک رأی أمیرالمؤمنین). (النهایة لابن کثیر:10/130).

أما عثمان فلم یضفه المنصور الیهما فی مرسومه لأنه أموی ، وکانت موجة الإنتقام من الأمویین شدیدة ! لکنهم رووا أنه بعد ذلک رد له ولعلی(علیه السّلام)بعض اعتبارهما فحکم بصحة خلافتهما وعفا عنهما کما عفی عن أبی بکر وعمر !

وهکذا تبنی المنصور سیاسة معاویة والأمویین بالکامل: (کان معاویة وعماله یدعون لعثمان فی الخطبة یوم الجمعة ویسبون علیاً ویقعون فیه).(تاریخ أبی الفداء:1/185).

فغیَّر ذلک المنصور بالشکل ولیس بالمضمون ، فلم یأمر بسب علی(علیه السّلام)علناً ، لکنه نشط فی العمل ضده والمزید من سبه سراً !

ص: 475

7- استمر مرسوم المنصور فی خطب الجمعة 558 سنة

أضاف الیه الحکام لاحقاً عثمان وعلیاً(علیه السّلام)وأمروا خطباء الجمعة بأن یترضوا علیهما ، واستمر تطبیق المرسوم مع تعدیله مدة 588 سنة ! حیث صدر بعد ثورة الحسنیین سنة145 ، وبقی معمولاً به حتی ألغاه السلطان المغولی محمد خدابنده فأصدر مرسوماً بحذف بدعة المنصور وأن لایذکر فی خطبة الجمعة إلا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل بیته الطاهرون(علیهم السّلام) ، فقامت قیامة المتعصبین وأفتوا بأن بدعة المنصور فریضة لأجل مواجهة الروافض وحفظ الإسلام والمسلمین !

قال ابن تیمیة فی کتابه (الرد علی الرافضی) الذی ألفه رداً علی کتاب منهاج الکرامة للعلامة الحلی(رحمه الله)، وسموه له فیما بعد (منهاج السنة) ، قال فی:4/156: (الجواب من وجوه: أحدها أن ذکر الخلفاء علی المنبر

کان علی عهد عمر بن عبد العزیز بل قد روی أنه کان علی عهد عمر بن الخطاب... فروی الطلمنکی...

وذکر أن أبا موسی الأشعری صلی علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی خطبة الجمعة ، ثم صلی علی عمر ، فاعترض علیه صحابی لأنه بدعة ! وهو حجة علی ابن تیمیة لا له ! ثم قال: الوجه الثانی: أنه قد قیل إن عمر بن عبد العزیز ذکر الخلفاء الأربعة لما کان بعض بنی أمیة یسبون علیاً فعوض عن ذلک بذکرالخلفاء والترضی عنهم لیمحو تلک السنة الفاسدة... وهذا (القیل) لایصلح حجة ، ولعله قائله نفس ابن تیمیة !

الوجه الثالث.. فلم یکن فی ذکر المنصور لهما إرغام لأنفه ولا لأنوف بنی علی ، إلا لو کان بعض بنی تیم أو بعض بنی عدی ینازعهم الخلافة ، ولم یکن أحد من هؤلاء ینازعهم فیها ! وهذا من ابن تیمیة غباء أو تغابٍ !

الوجه الرابع: أن أهل السنة لا یقولون إن ذکر الخلفاء الأربعة فی الخطبة فرض بل یقولون إن الإقتصار علی علی وحده أو ذکر الإثنی عشر هو البدعة المنکرة...

ص: 476

وهذا تهافت ، لأن البدعة ذکر شخص فی الخطبة لم یرد فیه نص ، ولا ترتفع البدعة بضم غیره الیه ! أما ذکر أهل البیت(علیهم السّلام)فروی نصه الجمیع !

الوجه الخامس: أنه لیس کل خطباء السنة یذکرون الخلفاء فی الخطبة بل کثیر من خطباء السنة بالمغرب وغیره لا یذکرون أحداً من الخلفاء باسمه...

وهذا حجة له لاعلیه ، إذ لو کان واجباً لما ترکوه !

الوجه السادس: أنه یقال إن الذین اختاروا ذکر الخلفاء الراشدین علی المنبر یوم الجمعة إنما فعلوه تعویضاً عمن یسبهم ویقدح فیهم... وهؤلاء (الرافضة) یبغضون أبا بکر وعمر وعثمان ویسبونهم ، بل قد یکفرونهم ، فکان ذکر هؤلاء وفضائلهم رداً علی الرافضة ، ولما قاموا فی دولة خدابنده الذی صنف له هذا الرافضی هذا الکتاب فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب أهل السنة ...

وإذا کان ذکر الخلفاء الراشدین هو الذی یحصل به المقاصد المأمور بها عند مثل هذه الأحوال ، کان هذا مما یؤمر به فی مثل هذه الأحوال ،وإن لم یکن من الواجبات التی تجب مطلقاً ولا من السنن التی یحافز علیها فی کل زمان ومکان... فإذا قدر أن الواجبات الشرعیة لا تقوم إلا بإظهار ذکر الخلفاء وإنه إذا ترک ذلک ظهر شعار أهل البدع والضلال صار مأموراً به... وبهذا الکلام أسس ابن تیمیة لوجوب البدعة والإستدراک علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وإضافة أمور فی الصلاة والعبادات ، بحجة أنها رد علی الرافضة وغیرهم ، وأنها شعار لطائفة السنة المحقة !

الوجه السابع: أن یقال الکلام فی ذکر الخلفاء الراشدین علی المنبر وفی الدعاء لسلطان الوقت ونحو ذلک إذا تکلم فی ذلک العلماءأهل العلم والدین... کان للمصیب منهم أجران وللمخطئ أجر.. وأما إذا أخذ یعیب ذلک من یعوِّض عنه بما هو شر منه ، کطائفة ابن التومرت الذی کان یدعی فیه أنه المهدی المعلوم

ص: 477

والإمام المعصوم...ثم أخذ هؤلاء التومرتیة ینتصرون لذلک بأن ذکر الخلفاء الأربعة لیس سنة بل بدعة ، کان هذا القول مردوداً علیهم.. بل ذکر غیر واحد من خلفاء بنی أمیة وبنی العباس أولی من ذکر هذا الملقب بالمهدی...

وأعظم من ذلک إنکار هؤلاء الإمامیة الذین ینکرون ذکر الخلفاء الراشدین ویذکرون اثنی عشر رجلاً کل واحد من الثلاثة خیر من أفضل الإثنی عشر وأکمل خلافة وإمامة...واذا قیل علی هو ابن عمه قیل فی أعمام النبی وبنی عمه جماعة مؤمنون صحبوه کحمزة والعباس وعبد الله والفضل ابنی العباس وکربیعة بن الحارث بن عبد المطلب... فکیف یجوز أن یعیب ذکر الخلفاء الراشدین الذین لیس فی الإسلام أفضل منهم... ومن یعوض بذکر قوم فی المسلمین خلق کثیر أفضل منهم).؟! انتهی.

وقد أخفی ابن تیمیة حقیقة أن صلاة الجمعة وعناصر خطبتها عبادة توقیفیة ، وکل زیادة علیها أو نقیصة فیها بدعة ، وأن الله أمر فی الصلاة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بضم آله الیه وقرنهم بهم ، وقد روی البخاری الصلاة الإبراهیمیة وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمر بضم آله الیه وقرنهم به ولم یرو أحد لصحابة الیه! وقد استوفینا ذلک فی کتاب کیف رد الشیعة غزو المغول ، وکتاب ألف سؤال وإشکال .

لکن مهما کانت أدلتک قویة ، فالنتیجة عندهم أن قَرْن أبی بکر وعمر بالنبی فی الصلاة علیه , والترضی عنهما فی خطبة الجمعة مطلوبة حتی لو کانت بدعة ، لأنها موافقة لمزاج أتباع المذاهب التی أسسها المنصور الدوانیقی بمرسوم ، کما أسس الترضی عن أناس لإرغام أنف بنی علی(علیه السّلام)بمرسوم !

ص: 478

8- تحول مرسوم المنصور الی فتوی بقتل من یشتم الصحابة ، إلا علیاً(علیه السّلام)

لم یقف مرسوم المنصور عند فرض مدح أبی بکر وعمر فی خطبة الجمعة ، بل رافقه أمرٌ بتأدیب من ینتقدهما ، وتحول أمره فتوی من مالک وأحمد وغیرهم وفتوی التأدیب تصیر قتلاً فی التنفیذ ! وکأن هدف المنصور من مدح الشیخین یوم الجمعة تحریک من لایحبونهما لیعترض أحد منهم أو ینتقد فیحکم القاضی بجلده فیجلدونه حتی یموت کما هی العادة !

ولذا عندما ( سئل محمد بن عمر بن الحسن بن علی بن أبی طالب(علیه السّلام) المعاصر للمنصور عن أبی بکر وعمر؟ فقال: قتلتم منذ ستین سنة فی أن ذکرتم عثمان ! فوالله لو ذکرتم أبا بکر وعمر لکانت دماؤکم أحل عندهم من دماء السنانیر)!(تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی/253) .

وهذا النص یدلنا علی أن الأمویین کانوا یهتمون بمن ینتقد عثمان أو یشتمه فیعاقبونه حتی القتل ولایهتمون بمن یشتم الشیخین ! وأن المنصور بدأ بسیاسة جدیدة تعاقب من ینتقد الشیخین أو یشتمهما ولا تهتم بذلک فی عثمان .

ویؤید ذلک أن موجة التعاطف مع آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کانت موجهة الی کل من أبعدهم عن الخلافة

وأخذ حقهم فی الحکم ، وکان الکلام علی تیم وعدی والبراءة منهما جزءً من هذا التیار ، کما رأیت فی خطبة أبی مسلم وغیره .

کان المنصور یتصور أنه یستطیع أن یصنع التاریخ وعقائد الناس کما یرید ، وکان یری أن لأبی بکر وعمر محبین کثراً فی الحجاز ، وقد کسبهم أعداؤه الحسنیون بالترضی عنهما ، فیجب أن یکسبهم هو . لذا أمر بالترضی عنهما فی خطبة الجمعة ، وبتأدیب من ینتقدهما ! وأفتی صاحب المذهب الأول الذی أسسه المنصور بذلک . قال هشام بن عمار: (سمعت مالک بن أنس یقول من سب أبا بکر

ص: 479

وعمر جلد ومن سب عائشة قتل ). (المحلی:11/415 ، وأحکام القرآن:3/366).

وتبعه الفقهاء وزادوا علیه ، لکن لم یترکز قانون المنصور إلابعد مدة ، لوجود فئات تخالفه ، فقد ورد أن ابن المنصور أعجبته فی حیاة أبیه قصیدة السید الحمیری وفیها شتم أبی بکر وعمر ، فمنع العطاء عن قبیلتیهما ! قال أبو سلیمان الناجی: (جلس المهدی یوماً یعطی قریشاً صلات لهم وهو ولی عهد ، فبدأ ببنی هاشم ثم بسائر قریش ، فجاء السید الحمیری فرفع إلی الربیع حاجب المنصور رقعة مختومة وقال: إن فیها نصیحة للأمیر فأوصلها إلیه فأوصلها ، فإذا فیها:

قل لابن عباس سمیِّ محمدٍ

لا تعطین بنی عدی درهما

أحرم بنی تیم بن مرة إنهم

شر البریة آخراً ومقدما

إن تعطهم لا یشکروا لک نعمة

ویکافئوک بأن تذم وتشتما

ولئن منعتهم لقد بدأوکم

بالمنع إذ ملکوا وکانوا أظلما

منعوا تراث محمد أعمامه

وابنیه وابنته عدیلة مریما

وتأمروا من غیر أن یستخلفوا

وکفی بما فعلوا هنالک مأثما

لم یشکروا لمحمد أنعامه

أفیشکرون لغیره إن أنعما ؟!

والله من علیهم بمحمد

وهداهم وکسا الجنوب وأطعما

ثم انبروا لوصیه وولیه

بالمنکرات فجرعوه العلقما

قال فرمی بها إلی أبی عبید الله معاویة بن یسار الکاتب للمهدی ثم قال: إقطع العطاء فقطعه وانصرف الناس ، ودخل السید إلیه فلما رآه ضحک وقال: قد قبلنا نصیحتک یا إسماعیل ولم یعطهم شیئاً). (الطرائف/29، والأغانی:7/263، ومواقف الشیعة:2/390).

ص: 480

9- وأطاع فقهاء المذاهب المنصور وزادوا علیه !

قال ابن تیمیة فی الصارم المسلول:3/1061: (وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الکوفة وغیرهم بقتل من سب الصحابة وکفر الرافضة . قال محمد بن یوسف الفریابی وسئل عمن شتم أبا بکر قال: کافر . قیل: فیصلی علیه؟ قال: لا . وسأله کیف یصنع به وهو یقول لا إله الا الله؟ قال: لا تمسوه بأیدیکم ، إدفعوه بالخشب حتی تواروه فی حفرته).انتهی. (وقال أحمد: أهل البدع لا یعادون إن مرضوا ، ولا یشهد جنائزهم إن ماتوا . وهذا قول مالک).(المغنی:2/419).

وأهل البدع مادة قانونیة مبهمة ، یطبقها الحاکم والقاضی کما یحب ! فقد أمر المتوکل بضرب شخص شتم أبا بکر ألف سوط! و(لما ضرب ترک فی الشمس حتی مات، ثم رمی به فی دجلة).(تاریخ بغداد:7/369، وتاریخ الطبری:7/375).

ومع أن أبا حنیفة نادر الروایة ، فقد روی أن أبا بکر کان معه ملک یرد عنه الشتم ! (تاریخ بغداد:5/280 ، ومجمع الزوائد:8/189، وصحیحة الألبانی:5/230).

10- المنصور یواجه رفض أهل الکوفة لأبی بکر وعمر

کان بنو العباس یذمون أهل الکوفة ، لأن أهلها یوالون علیاً وآل علی(علیهم السّلام) ، ولا یوالون آل عباس ! قال المنصور بعد انتصار علی الحسنیین: (یا أهل الکوفة علیکم لعنة الله وعلی بلد أنتم فیه ، للعجب لبنی أمیة وصبرهم علیکم ! کیف لم یقتلوا مقاتلتکم ویسبوا ذراریکم ، ویخربوا منازلکم ، سبئیة خشبیة ! قائل یقول: جاءت الملائکة ، وقائل یقول: جاء جبریل وهو یقول: أقدم حیزوم ، تشبهونه بعسکر رسول الله ، ثم عمدتم إلی أهل هذا البیت وطاعتهم حسنة فأفسدتموهم وأنغلتموهم ، فالحمد لله الذی جعل دائرة السوء علیکم ! أما والله یا أهل المدرة الخبیثة لإن لکم لأذلنکم ) ! (أنساب الأشراف:2/58و:1/404/ ونحوه تاریخ الطبری:6/333).

ص: 481

أقول: خطاب المنصور مع أهل الکوفة سنة145نفس خطاب الوالی الأموی لهم سنة 122، أی قبل بضع وعشرین سنة فقط ! فقد خطب الوالی الأموی بعد مقتل زید(رحمه الله)فقال: (یا أهل المدرة الخبیثة ، والله ما یقعقع لی بالشنان ولا تقرن بی الصعبة ، لقد هممت أن أخرب بلدکم ، وأن أحربکم بأموالکم ، والله ما أطلت منبری إلا لأسمعکم علیه ما تکرهون ، فإنکم أهل بغی وخلاف . ولقد سألت أمیر المؤمنین أن یأذن لی فیکم ، ولو فعل لقتلت مقاتلتکم وسبیت ذریتکم ! إن یحیی بن زید لیتنقل فی حجال نسائکم کما کان أبوه یفعل ! وما فیکم مطیع إلا حکیم بن شریک المحاربی ، ووالله لو ظفرت بیحیاکم لعرقت خصیتیه کما عرقت خصیتی أبیه ). (أنساب الأشراف:1/436 ، ونحوه الطبری:5/507 ).

وشتم المنصور لهم بقوله (سبئیة خشبیة) هو شتمٌ أموی ، لأن الشیعة قالوا: لکل نبی وصی ووصی نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی وأبناؤه(علیهم السّلام)، فنسب الأمویون هذه المقولة الی عبدالله بن سبأ الیهودی المغالی الذی قتله علی(علیه السّلام).

أما الخشبیة فسماهم بها الأمویون عندما أرسلهم المختار لتخلیص محمد بن الحنفیة وبنی هاشم ، حیث سجنهم ابن الزبیر وأعطاهم مهلة لیبایعوه أو یقتلهم ، فأوصاهم المختار أن یحفظوا حرمة الحرم ولا یدخلوه بالسلاح ، فدخلوا وهم یحملون عصی الخشب! وقد وثقناه فی المجلد الرابع وقلنا إنه من منقبة للمختار .

والذی یهمنا هنا أن المنصور تبنی تعظیم أبی بکر وعمر لیرغم أنوف بنی علی وانفه هو کما قال ، لأنه حرکات بنی هاشم قامت علی إعلان ظلم قریش لهم والبراءة من بنی أمیة وبنی تیم وعدی ! وأذکر أنی قرأت فی شرح النهج لابن أبی الحدید ، ثم لم أجده ، أن رجلاً شفع الی المنصور فی إطلاق أحد أقاربه من السجن ، فأجابه المنصور بأن المسجون ینال من الشیخین ، فقال له الرجل متعجباً:

ص: 482

ویْ وهل بایعناکم إلا علی البراءة منهما ؟!

وفی هذه المرحلة نشط المنصور لقمع أهل الکوفة بحجة براءتهم من أبی بکر وعمر ، وظهرت علی لسانه تعابیر الرافضة والسبئیة والخشبیة وبقیة منظومة الشتم الأمویة ، ومعها عقوباتها المقررة ! وجنَّدَ لذلک من استطاع من الرواة والفقهاء ، ومنهم أبو حنیفة حیث أرسله المنصور الی المدینة لیحاج الإمام الصادق(علیه السّلام)ویطلب منه أن یکتب لأهل الکوفة أن (لایشتموا) أبا بکر وعمر ! وقد وصف أبو حنیفة مهمته مع الإمام(علیه السّلام)فقال: (فصرت إلی بابه واستأذنت علیه فحجبنی ! وجاء قوم من أهل الکوفة فاستأذنوا علیه فأذن لهم فدخلت معهم ! فلما صرت عنده قلت له: یا ابن رسول الله ، لو أرسلت إلی أهل الکوفة فنهیتهم عن أن یشتموا أصحاب محمد فإنی ترکت بها أکثر من عشرة آلاف یشتمونهم ! فقال: لا یقبلون منی . فقلت: ومن لا یقبل منک وأنت ابن رسول الله (ص) ؟! فقال: أنت أول من لا یقبل منی ! دخلت داری بغیر إذنی وجلست بغیر أمری ، وتکلمت بغیر رأیی ! وقد بلغنی أنک تقول بالقیاس !

قلت: نعم أقول . قال: ویحک یا نعمان ، أول من قاس إبلیس حین أمره الله تعالی بالسجود لآدم وقال:خَلَقْتَنِی مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ . أیما أکبر یا نعمان القتل أم الزنا ؟ قلت: القتل ؟ قال: فلم جعل الله تعالی فی القتل شاهدین وفی الزنا أربعة ؟ أینقاس لک هذا ؟ قلت: لا . قال: فأیما أکبر الصلاة أم الصیام ؟ قلت: الصلاة . قال: فلم وجب علی الحائض أن تقضی الصوم ولا تقضی الصلاة ؟ أینقاس لک هذا ؟ قلت : لا . قال: فأیما أضعف المرأة أم الرجل ؟ قلت: المرأة . قال : فلم جعل الله فی المیراث للرجل سهمین وللمرأة سهماً ؟ أینقاس لک هذا ؟ قلت: لا . قال: فیم حکم الله تعالی فیمن سرق الدراهم القطع ، وإذا قطع الرجل ید رجل فعلیه دیتها

ص: 483

خمسة آلاف درهم؟ أینقاس لک هذا؟ قلت: لا...إلخ.).(دعائم الإسلام للقاضی المغربی:1/91، وإحقاق الحق للشهید نور الله التستری/335 ، وبحار الأنوار للمجلسی:10/220 ، والإمام جعفر الصادق للدکتور عبد الحلیم الجندی/179، وروی الدمیری فی حیاة الحیوان:2/4 ، وطبعة/671، عن ابن شبرمة مناقشة الإمام(علیه السّلام)لأبی حنیفة فی قیاسه ، ولم یرو طلب أبی حنیفة من الإمام(علیه السّلام)أن یکتب رسالة الی أهل الکوفة ! کما روت عدة مصادر أجزاء منه ).

ومن أبرز دلالات هذا الحدیث أن أهل الکوفة کانوا متمسکین بالبراءة من بنی أمیة وتیم وعدی ، وأن أبا حنیفة الذی أفتی بالثورة مع بنی علی(علیه السّلام)ضد الأمویین ثم ضد المنصور ، وکان یسمی المنصور لص الخلافة المتغلب..صار أداة بیده ! کما یدل علی أن الإمام الصادق(علیه السّلام)کان واعیاً لدور أبی حنیفة فلم یأذن له ، وتخلص من طلبه ، ثم هاجمه لأنه ینشر قاعدةً تخرب فقه الإسلام !

11- بقیت فتوی المنصور فعالة الی عصرنا رغم الأدلة العلمیة ضدها !

ناقش عدد من فقهائهم فی هذه الفتوی کالرازی فی المحصول:4/340، قال: (وثالثها ما یروی من شتم بعضهم بعضاً.. اجتمع عند معاویة عمرو بن العاص وعتبة بن أبی سفیان والولید بن عقبة والمغیرة بن شعبة ثم أحضروا الحسن بن علی لیسبوه فلما حضر تکلم عمرو بن العاص وذکر علیاً ولم یترک شیئاً من المساوئ إلا ذکر فیه...ثم ذکر ما قاله بعضهم فی بعض ، وذکر سب عثمان لعائشة بأنها وحفصة کامرأتی نوح ولوط ! (فکانت عائشة تحرض علیه جهدها وطاقتها وتقول أیها الناس هذا قمیص رسول الله لم یبل وقد بلیت سنته ، أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً...الخصومة العظیمة التی کانت بین عبد الله بن مسعود وأبی ذر وعمار وبین عثمان ...الخ.).

بل ناقش قبلهم الخلیفة العباسی المأمون وکان عالماً متفقهاً ! قال الیعقوبی: 2/468، (کان بشر بن الولید الکندی قاضی المأمون ببغداد قد ضرب رجلاً قُرف بأنه شتم أبا بکر وعمر ، وأطافه علی جمل ، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء فقال: إنی قد نظرت

ص: 484

فی قضیتک یا بشر ، فوجدتک قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطیئة ، ثم أقبل علی الفقهاء فقال: أفیکم من وقف علی هذا ؟ قالوا: وما ذاک یا أمیر المؤمنین؟ فقال: یا بشر ! بم أقمت الحد علی هذا الرجل؟ قال: بشتم أبی بکر وعمر . قال: حضرک خصومه؟ قال: لا ! قال: فوکلوک؟ قال: لا ! قال: فللحاکم أن یقیم حد القرفة بغیر حضور خصم؟ قال: لا ! قال: وکنت تأمن أن یهب بعض القوم حصته فیبطل الحد؟ قال: لا ! قال: فأمهما کافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل کافرتان . قال: فیقام فی الکافرة حد المسلمة؟

قال: لا ! قال: فهبک فعلت هذا بما یجب لأبی بکر وعمر من الحق أفشهد عندک شاهدا عدل ؟ قال: قد زکی أحدهما . قال: فیقام الحد بغیر شاهدین عدلین؟ قال: لا ! قال: ثم أقمت الحد فی رمضان ، فالحدود تقام فی شهر رمضان؟ قال: لا ! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود یقام؟ قال: لا ! ثم شبحته بین العقابین ، فالمحدود یشبح؟ قال: لا ! قال: ثم جلدته عریاناً ، فالمحدود یعرَّی؟ قال: لا ! قال: ثم حملته علی جمل فأطفته ، فالمحدود یطاف به ؟ قال: لا ! قال: ثم حبسته بعد أن أقمت علیه الحد ، فالمحدود یحبس بعد الحد؟ قال: لا !قال: لا یرانی الله أبوء بإثمک وأشارکک فی جرمک ! خذوا عنه ثیابه وأحضروا المحدود لیأخذ حقه منه ! فقال من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذی جعلک عاملاً بحقوقه عارفاً بأحکامه، تقول الحق وتعمل به، وتأمر بالعدل وتؤدب من رغب عنه، إن هذا یا أمیر المؤمنین حاکم اجتهد برأیه فأخطأ ، فلا تفضح به الحکام وتهتک به القضاء . فأمر به فحبس فی داره).

وناقش فیها علماؤهم المعاصرون کالسید بدر الدین الحوثی فی رسائله/3، بأمثلة من صحیح بخاری یعتبرون مثلها سباً وشتماً ویقیمون علیه الحد بالجلد أو القتل ! کروایته من أغضب فاطمة فقد أغضبنی ، فتساءل الحوثی فهل نری البخاری قد سب أبا بکر من أجل روایتیه المذکورتین أو لروایته أنا أبا سفیان کان بخیلاً ؟ أو أن المرأتین اللتین تظاهرتا علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )هما حفصة وعائشة ؟!

والدکتور حسن المالکی فی کتابه الصحبة والصحابة/60، فانتقد استثناءهم من یلعن

ص: 485

علیاً(علیه السّلام)ویشتمه من العقوبة ! وقال: (ثم القول بالأجر لمن سب أحد هؤلاء لم یقله النبی(ص) لخالد بن الولید لما سب عبد الرحمن بن عوف مع أنه لم یصدر هذا السب من خالد إلا مرة واحد لخصومة آنیة ، بعکس الذی سنه معاویة وابنه وبنو مروان ، فقد استمر طیلة حکم بنی أمیة ، وعلی کل منبر

من منابر الإسلام وفی کل خطبة جمعة ! فلیت شعری لو سئل النبی (ص) هل سیقول إن هؤلاء مأجورون أجراً واحداً !؟ أم سیقول: من سب علیاً فقد سبنی! اللهم اغفر لقومی فإنهم لا یعلمون) !

وقال المالکی فی صفحة/121: (والغریب أن بعضهم کابن تیمیة سامحه الله یورد مثل هذه النصوص العامة ویعتبرون القادح فی الصحابة قادحاً فی الکتاب والسنة ، ویقصدون ب (الصحابة) غالباً المتأخرین منهم کمعاویة وعمرو وأمثالهم ، بینما یسکتون عن طعن النواصب فی علی بن أبی طالب ولعنهم له ! والدلیل علی ذلک أنهم یذمون الرافضة ولا یذمون النواصب عند إیراد هذه الأحادیث ! وهذا سطو علی فضائل السابقین وجعلها فی اللاحقین) ! انتهی.

وقد بحثنا ألاعیبهم فی هذا الکتاب:2/471، وکیف عمموا حکم سب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الی بعض الصحابة واستثنوا علیاً(علیه السّلام)! مع أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) خص علیاً دون الصحابة بقوله: (من سب علیاً فقد سبنی) .وقد اتفقوا علی صحته ، کما فی صحیحة الألبانی رقم (3332) ومجمع الزوائد:9 /130.

لکن علی من تقرأ مزامیرک یاداود؟! فما زال المتحجرون فی عصرنا یتشبثون بمرسوم المنصور وفتواه ، وقد أضافوا الیها عثمان وشددوا علی استثناء علی(علیه السّلام)!

بل جعلوا سب الصحابة شعاراً لقتل من یریدون ! فیکفی فی البلد الفلانی العصری جداً ! أن یوجه الموظف (الدینی) التهمة زوراً وعدواناً الی من یرید بأنه سب الصحابة فتأخذه الشرطة ویحکم علیه القاضی بالقتل ، ویقتلونه بالفعل ! وکم لذلک من مثال فی مخافرهم والمحاکم ! وکم صنعوا من أبنائهم (حیوانات مفخخة) ودفعوهم لتفجیر أنفسهم فی مساجد الشیعة ومشاهد أئمتهم ، بحجة أنهم یسبون الصحابة !

ص: 486

الفصل السادس عشر: جعل الدوانیقی أکبر أهدافه قتل الإمام الصادق(علیه السّلام)

1- استکمل المنصور حروبه وانتصاراته.. وصار إمبراطوراً !

قال السیوطی فی تاریخ الخلفاء/262: (وفی سنة ثمان وأربعین توطدت الممالک کلها للمنصور ، وعظمت هیبته فی النفوس ، ودانت له الأمصار ، ولم یبق خارجاً عنه سوی جزیرة الأندلس فقط ، فإنها غلب علیها عبد الرحمن بن معاویة الأموی المروانی ، لکنه لم یتلقب بأمیر المؤمنین بل بالأمیر فقط ، وکذلک بنوه).

أقول: لکن بقی للمنصور هدف کبیر هو قتل الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام) ، فقد اتخذ قراره النهائی فیه لکنه تحیر فی توقیته ! فمشکلته مع الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه مدین له ولأبیه الباقر(علیه السّلام)من یوم فتح عینیه فسمع بهما ، ورأی تقدیس المسلمین لهما ، ثم رآهما فأخبراه بأنه سیملک شرق البلاد وغربها ! فشجعه ذلک فی کل مراحل حیاته ، من یوم کان صعلوکاً سارقاً تسمیه أمه (المقلاص) وأیام سجنه فی الأهواز بسبب سرقته مال الخراج ، ثم فی هروبه وتشرده ، ثم فی خططه وسیاسته ومعارکه وحروبه ، حتی تحقق له ما أخبراه به حرفاً بحرف !

وتحقق ما أخبره به الصادق(علیه السّلام)یوم کان فقیراً یخدم مهدی الحسنیین ویمسک برکابه ویقول: هذا مهدینا أهل البیت ، فأخبره الإمام(علیه السّلام)بأنه لیس المهدی ، بل هو مشروع جبار مثله

ص: 487

وأنهما سیختلفان وسیقتله المنصور ویقتل أخاه إبراهیم ویحکم ! فتحقق ذلک حرفاً بحرف !

ولکن الباقر والصادق(علیهماالسّلام)أخبراه فی نفس الوقت بأنه جبار طاغیة ، یسفک دماء المسلمین وعترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، هو وأولاده ، فینتقم الله منهم ویزیل ملکهم !

أما الباقر(علیه السّلام)فقد توفی عندما کان المنصور فی العشرین ، ولذلک کان یذکره بتقدیس ویروی کیف بشره وهو شاب بأنه سیملک الأمة ، ویقول لمن تعجب من اعتقاده بالنداء السماوی باسم المهدی من ولد فاطمة(علیهاالسّلام): (یا سیف لولا أنی سمعت أبا جعفر محمد بن علی یقوله ، ثم حدثنی به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولکنه محمد بن علی)!! (الکافی:8/209).

وأما ابنه جعفر(علیه السّلام)فله فضل علیه فی إخباره عن مستقبل صراعه مع الحسنیین ، ولکنه(علیه السّلام)ینظر الیه علی أنه طاغیة سفاک دماء کیزید ومعاویة وفرعون ! ویتعاطف مع أولاد عمه الحسنیین و(یتعصب) لبنی فاطمة(علیهاالسّلام)ضد بنی العباس !

ثم ها هو یملک قلوب الناس بعلمه وتقواه ، وقد افتتن به أهل العراق علی حد تعبیره ، وقد تکون الإشارة منه أحیاناً أقوی من فرقة جیش یرسلها المنصور !

کان المنصور یری أن عامة الفقهاء والرواة ووجهاء الناس فی الحجاز والعراق قد بایعوا مهدی الحسنیین الذی لایقاس عندهم بجعفر الصادق(علیه السّلام) ، فلو أن جعفراً طرح نفسه للخلافة لبایعه أکثر ممن بایعوا مهدی الحسنیین وأخاه !

وکان یری أن قادة الثورة أبا مسلم وأبا سلمة الخلال ما زالا یعرضان البیعة علی جعفر الصادق(علیه السّلام)،وقد حبسا المنصور وکل بنی العباس شهرین فی الکوفة

وأخرا بیعتهم علی أمل أن یستجیب لهما جعفر الصادق(علیه السّلام)! (فأنزلهم جمیعاً دار الولید بن سعد التی فی بنی أود ، وألزمهم مساوراً القصاب ویقطینا الأبزاری ...

ص: 488

فکان إذا أمسوا أقبل مساور بشقة لحم وأقبل أبو سلمة بخل وأقبل یقطین بالأبزار فیطبخون ویأکلون . وفی ذلک یقول أبو جعفر:

لحم مُساور وخلُّ أبی سلمة.. وأبزار یقطینٍ فطابت المرقهْ). (الأخبارالطوال/358).

فما زال المنصور یتذکر المرقة التی أکلها هو وبنو العباس شهرین فی حبس قائد الثورة الخلال ، بانتظار أن یستجیب له جعفر الصادق(علیه السّلام) ! ولو استجاب له لأعلن له البیعة ، وألقی بنی عباس فی أزقة الکوفة ، ثم لاخلافة لهم ولا من یفرحون ، ولا مرقة ولا من یطبخون !

ومن جهة أخری کان المنصور یری أن الإمام(علیه السّلام)یداریه ولا یتحرک ضده ، ولکن عمله وبرنامجه یکسب قلوب المسلمین ویقوی موقعه فیهم یوماً بعد یوم !

کان المنصور یحترمه فی الظاهر لأنه وأباه إمامان صاحبا فضل علیه ، ولأنه أکبر منه بخمس عشرة سنة ، ولکن قلبه

یغلی منه حسداً وخوفاً وحقداً !

إنه یرید أن یقتله ، لکنه لایجد علیه ممسکاً یبرر به ذلک للناس ! وقد نوی علی قتله مراراً ، لکن کان یحدث له مانع بکرامة للإمام(علیه السّلام)! فکان یقول لوزیره: (ویلک یاربیع ! هذا الشجی المعترض فی حلقی من أعلم الناس) ! (مهج الدعوات/251) .

لهذه الأسباب مرَّت اثنتا عشرة سنة من تولیه الخلافة حتی تمکن من دس السم للإمام الصادق(علیه السّلام)، کان المنصور فیها متوتراً یبحث عن ممسک علی الإمام(علیه السّلام) فلا یجد ، ثم کان یقرر قتله بلا ممسک ویحضره فیحدث ما یثنیه عن ذلک ، حتی أذن الله تعالی وتمکن جواسیسه من دس السم للإمام(علیه السّلام)سنة148هجریة !

2- المنصور وکل (الخلفاء) یعرفون أن أئمة العترة(علیهم السّلام)أئمة ربانیون !

بشر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمته بأن الله تعالی جعل فیها بعده إثنی عشر إماماً من عترته ، وأکد ذلک مراراً خاصة فی حجة الوداع ، ورفع بید أولهم علی(علیهاالسّلام)یوم غدیر خم وأعلنه بأمر الله تعالی إماماً وولی کل مؤمن من بعده ، وأمر المسلمین أن یهنؤوه

ص: 489

ویبایعوه ، فهنأوه وقال له عمر بن الخطاب کلمته المشهورة: بخٍ بخٍ لک یا ابن أبی طالب أصبحت مولای ومولی کل مسلم). (تاریخ دمشق:42/233 ، ونحوه مسند أحمد:4/281، راجع الإنتصار:3/348، و:6/292) .

وعندما تقرأ الخلفاء القرشیین ، نجدهم جمیعاً یعرفون إمامة علی وأبنائه(علیهم السّلام) ! وقد تقدم ذلک عن معاویة وعبد الملک بن مروان ، وغیرهما .

وکان الحسنیون والعباسیون یعرفون ذلک أیضاً ، والأدلة علیه کثیرة ، منها ما رواه الکافی:1/475: (عن صفوان بن یحیی ، عن جعفر بن محمد بن الأشعث قال: قال لی: أتدری ما کان سبب دخولنا فی هذا الأمر ومعرفتنا به ، وما کان عندنا منه ذکر ولا معرفة شئ مما عند الناس؟ قال: قلت له: ما ذاک؟ قال: إن أبا جعفر یعنی أبا الدوانیق ، قال لأبی محمد بن الأشعث: یا محمد إبغ لی رجلاً له عقل یؤدی عنی فقال له أبی: قد أصبته لک هذا فلان ابن مهاجر خالی ، قال: فأتنی به ، قال فأتیته بخالی فقال له أبو جعفر: یا ابن مهاجر خذ هذا المال وأت المدینة وأت عبد الله بن الحسن بن الحسن وعدة من أهل بیته فیهم جعفر بن محمد ، فقل لهم: إنی رجل غریب من أهل خراسان وبها شیعة من شیعتکم وجهوا إلیکم بهذا المال ، وادفع إلی کل واحد منهم علی شرط کذا وکذا ، فإذا قبضوا المال فقل: إنی رسول وأحب أن یکون معی خطوطکم بقبضکم ما قبضتم ! فأخذ المال وأتی المدینة فرجع إلی أبی الدوانیق ومحمد بن الأشعث عنده ، فقال له أبو الدوانیق: ما وراءک؟ قال: أتیت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمد ، فإنی أتیته وهو یصلی فی مسجد الرسول فجلست خلفه وقلت حتی ینصرف فأذکر له ما ذکرت لأصحابه ، فعجل وانصرف ، ثم التفت إلیَّ فقال: یا هذا إتق الله ولا تغرَّ أهل بیت محمد فإنهم قریبوا العهد بدولة بنی مروان وکلهم محتاج ،

ص: 490

فقلت: وما ذاک أصلحک الله؟ قال: فأدنی رأسه منی وأخبرنی

بجمیع ما جری بینی وبینک ، حتی کأنه کان ثالثنا ! قال فقال له أبو جعفر: یا ابن مهاجر ، إعلم أنه لیس من أهل بیت نبوة إلا وفیه محدث ، وإن جعفر بن محمد محدثنا الیوم ! وکانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة).انتهی.

أقول: جعفر الأشعث هذا ، هو ابن محمد بن الأشعث ، الذی شارک فی قتل الحسین(علیه السّلام) ! وجده الأشعث رئیس کندة کان عمیلاً لمعاویة ، وشارک مع قطام وابن ملجم فی قتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ! ثم نقل بنو الأشعث خدمتهم من بنی أمیة الی بنی العباس ، فکانوا یعتمدون علیهم فی المهمات الخاصة !

وغرض المنصور من المهمة التی کلف بها خال ابن الأشعث ، أن یحصل علی إیصال بمبالغ من رؤساء العلویین ، فیتهمهم بتلقی أموال من شیعتهم فی خراسان والتحضیر للثورة علیه ویقتلهم ! وقد فوجئ بأن الإمام الصادق(علیه السّلام)کشف مکیدته فسارع بدهائه وقلب الموضوع وجعله مکرمة لبنی هاشم یفتخر هو بها ! لأن فیهم ، أی بنی هاشم وهو منهم فی کل عصر إماماً تحدثه الملائکة !

لکن جعفر ابن الأشعث وخاله ابن مهاجر رأیا فی ذلک آیة ربانیة علی إمامة الصادق(علیه السّلام)، وعلی غصب المنصور وأسلافه مقامهم الذی خصهم الله به .

وأکثر منه صراحةً: قصة المنصور المتقدمة مع إمام الرواة سلیمان الأعمش(رحمه الله) الموثق عند الشیعة والسنة ، والأحادیث التی رواها فی أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نص علی مقام علی وفاطمة والأئمة من أبنائهما(علیهم السّلام)، وبأن مبغضهم وقاتلهم فی النار !

وأکثر صراحةً من الجمیع: ما یأتی من أن المنصور نص صراحة علی أنه یعتقد بأن الإمام الصادق (إمام الخلق أجمعین) ! (الثاقب فی المناقب/208).

أما عذر المنصور وأسلافه بأن الملک عقیم ، فهو عذر کل الطغاة فی التاریخ بأن الغایة تبرر الوسیلة ، ولا وزن له فی عقل أو شرع !

ص: 491

3- عقدة المنصور من الإمام الصادق(علیه السّلام)

اعترف المنصور بأنه متعطش لدم ذریة علی وفاطمة(علیهماالسّلام) ! وأنه قتل منهم ألفاً لکن ما فائدة ذلک وکبیرهم وسیدهم حیٌّ لم یقتل ، یقصد الإمام الصادق(علیه السّلام)!

والذی یقرأ أخباره مع الإمام الصادق(علیه السّلام)یجد أن المنصور یعیش عقدة معه أشد من عقده مع غیره ! یدل علی ذلک أقواله فیه ، وإحضاره المتعدد له فی الحج سنة142 الی مقره فی الربذة ، وسنة147 عندما زار المدینة ، وإحضاره قبل ذلک وبعده الی الأنبار والحیرة وبغداد ، عدة مرات ، وفی کل مرة ینوی قتله فیحدث له مانع بمعجزة وکرامة للإمام(علیه السّلام)حتی تمکن من سمه !

بدأ المنصور من أول خلافته بإحضار الإمام الصادق(علیه السّلام)لقتله ! وروته مصادر الجمیع بروایات متعددة ، وأن الإمام(علیه السّلام)حرک شفتیه فتغیرت حالة المنصور ، وأن الربیع وزیر المنصور وغیره طلبوا من الإمام(علیه السّلام)الدعاء الذی دعا به فأعطاه لبعضهم ! فقد روی فی تاریخ دمشق:18/86 ، وغیره: (عن الربیع حاجب المنصور قال: لما استوت الخلافة لأبی جعفر المنصور قال لی: یا ربیع ! قلت: لبیک یا أمیر المؤمنین. قال: إبعث إلی جعفر بن محمد من یأتینی به ( یظهر أنه کان أحضره فی العاصمة) قال: ففتحت(ذهبت) من بین یدیه ، وقلت أیُّ بلیة یرید أن یفعل ! وأوهمته أن أفعل ثم أتیته بعد ساعة فقال لی: ألم أقل لک أن تبعث إلی جعفر بن محمد من یأتینی به ، والله لأقتلنه ! فلم أجد بداً من ذلک ، فدخلت إلیه فقلت یا أبا عبد الله أجب أمیر المؤمنین ، فقام معی مسرعاً ، فلما دنونا إلی الباب قام یحرک شفتیه ، ثم دخل فسلم فلم یرد علیه ، ووقف فلم یُجلسه ! ثم رفع رأسه إلیه فقال: یا جعفر أنت ألَّبْتَ علینا وکثَّرت وعذَّرت ، وحدثنی أبی عن أبیه عن جده أن النبی(ص) قال:

ص: 492

ینصب لکل غادر لواء یعرف به یوم القیامة ! فقال جعفر بن محمد: حدثنی أبی عن أبیه عن جده ، عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنه قال: ینادی یوم القیامة من بطنان العرش: ألا فلیقم من کان أجره علی الله ، فلا یقوم إلا من عفا عن أخیه ، فما زال یقول حتی سکن ما به ولانَ له فقال: أجلس یا أبا عبد الله ، إرتفع أبا عبد الله ، ثم دعا بدهن فیه غالیة فغلفه بیده والغالیة تقطر من بین أنامل أمیر المؤمنین المنصور ، ثم قال: إنصرف أبا عبد الله فی حفظ الله .

وقال لی: یا ربیع أتبع أبا عبد الله جائزته . قال الربیع: فخرجت إلیه فقلت: یا أبا عبد الله أنت تعلم محبتی لک ، قال: نعم یا ربیع أنت منا ، حدثنی أبی عن أبیه عن جده عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: مولی القوم

منهم وأنت منا . قلت: یا أبا عبد الله شهدت ما لم تشهد وسمعت ما لم تسمع ، وقد دخلت فرأیتک تحرک شفتیک عند الدخول علیه بدعاء ، فهو شئ تقوله أو تأثره عن آبائک الطیبین ؟ قال: لا بل حدثنی أبی عن أبیه عن جده أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان إذا حَزَبَهُ أمرٌ دعا بهذا الدعاء ، وکان یقال إنه دعاء الفرج: اللهم احرسنی بعینک التی لا تنام ، واکنفنی برکنک الذی لا یرام ، وارحمنی بقدرتک علی ، لا أهلکُ وأنت رجائی..الخ. قال الربیع: کتبته من جعفر بن محمد برقعة ، وها هو ذا فی جیبی..وذکر رواته وکل منهم یقول: وها هو ذا فی رقعة فی جیبی... ثم قال الربیع: فقلت له یا أمیر المؤمنین حلفت لتقتلنه ثم فعلت به ما فعلت ! قال: ویحک یا ربیع إنه لما دخل إلی فرأیت وجهه أجد شیئاً له رقة ، لم أقدر علی غیر ما رأیت ، وقد رأیته یحرک شفتیه فاسأله عما یقول فأتیت جعفراً فسألته فقال علی أن لا تعلمه ! فقلت: ذلک لک ، فقال یا ربیع إذا أصبحت وإذا أمسیت قل:اللهم احرسنی بعینک التی لا تنام..الخ.).

ولعل إحضار الإمام(علیه السّلام)هذه المرة کان الی الأنبار لأنها کانت العاصمة فی أول

ص: 493

خلافة المنصور ، ثم انتقل الی الحیرة واستحضره الیها مراراً ، ثم بنی عاصمته الهاشمیة قرب الکوفة واستحضره فیها أکثر من مرة ، ثم انتقل الی بغداد واستحضره الیها مراراً أیضاً .

وکانت آخر إحضاراته له فی المدینة، عندما حج المنصور سنة 147، منها ما رواه الصدوق(رحمه الله)فی أمالیه/709 ، بسنده عن الربیع صاحب المنصور قال:(بعث المنصور إلی الصادق جعفر بن محمد یستقدمه لشئ بلغه عنه ، فلما وافی بابه خرج إلیه الحاجب فقال: أعیذک بالله من سطوة هذا الجبار فإنی رأیت حَرَدَهُ علیک شدیداً ! فقال الصادق: علیَّ من الله جنة واقیة تعیننی علیه إن شاء الله ، إستأذن لی علیه ، فاستأذن فأذن له ، فلما دخل سلم فرد علیه السلام ، ثم قال له: یا جعفر قد علمت أن رسول الله قال لأبیک علی بن أبی طالب: لولا أن تقول فیک طوائف من أمتی ما قالت النصاری فی المسیح ، لقلت فیک قولاً لا تمر بملإ إلا أخذوا من تراب قدمیک یستشفون به ! وقال علی: یهلک فیَّ اثنان ولا ذنب لی: محب غال ، ومفرط قال . قال ذلک اعتذاراً منه أنه لا یرضی بما یقول فیه الغالی والمفرط . ولعمری إن عیسی بن مریم(علیه السّلام)لو سکت عما قالت فیه النصاری لعذبه الله ، ولقد تعلم ما یقال فیک من الزور والبهتان ، وإمساکک عن ذلک ورضاک به سخط الدیان ! زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنک حبر الدهر وناموسه وحجة المعبود وترجمانه ، وعیبة علمه ومیزان قسطه ، مصباحه الذی یقطع به الطالب عرض الظلمة إلی ضیاء النور ، وأن الله لا یقبل من عامل جهل حدک فی الدنیا عملاً ، ولا یرفع له یوم القیامة وزناً ، فنسبوک إلی غیر حدک ، وقالوا فیک ما لیس فیک ، فقل فإن أول من قال الحق جدک ، وأول من صدقه علیه أبوک ، وأنت حری أن تقتص آثارهما وتسلک سبیلهما !

ص: 494

فقال الصادق(علیه السّلام): أنا فرع من فروع الزیتونة ، وقندیل من قنادیل بیت النبوة ، وأدیب السفرة ، وربیب الکرام البررة ، ومصباح من مصابیح المشکاة التی فیها نور النور ، وصفو الکلمة الباقیة فی عقب المصطفین إلی یوم الحشر ! فالتفت المنصور إلی جلسائه فقال: هذا قد أحالنی علی بحر مواج لا یدرک طرفه ولا یبلغ عمقه ، یحار فیه العلماء ویغرق فیه السُّبَحَاء ، ویضیق بالسابح عرض الفضاء ، هذا الشجی المعترض فی حلوق الخلفاء ، الذی لا یجوز نفیه ولا یحل قتله ! ولولا ما یجمعنی وإیاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها وعذب ثمرها وبورکت فی الذر وقدست فی الزبر ، لکان منی إلیه مالا یحمد فی العواقب ، لما یبلغنی من شدة عیبه لنا وسوء القول فینا ! فقال الصادق(علیه السّلام): لا تقبل فی ذی رحمک وأهل الرعایة من أهل بیتک قول من حرم الله علیه الجنة وجعل مأواه النار ، فإن النمام شاهد زور وشریک إبلیس فی الإغراء بین الناس وقد قال الله تعالی: إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَی مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ ، ونحن لک أنصار وأعوان ، ولملکک دعائم وأرکان ، ما أمرت بالعرف والإحسان وأمضیت فی الرعیة أحکام القرآن ، وأرغمت بطاعتک لله أنف الشیطان ، وإن کان یجب علیک فی سعة فهمک وکثرة علمک ومعرفتک بآداب الله ، أن تصل من قطعک وتعطی من حرمک وتعفو عمن ظلمک ، فإن المکافی لیس بالواصل ، إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمک یزد الله فی عمرک ، ویخفف عنک الحساب یوم حشرک ! فقال المنصور: قد صفحت عنک لقدرک ، وتجاوزت عنک لصدقک ، فحدثنی عن نفسک بحدیث أتعظ به ویکون لی زاجر صدق عن الموبقات. فقال الصادق: علیک بالحلم فإنه رکن العلم ، وامْلُکْ نفسک عند أسباب القدرة ، فإنک إن تفعل ما تقدر علیه کنت کمن شفی غیظاً ، أو تداوی حقداً ، أو یحب أن

ص: 495

یذکر بالصولة ، إعلم بأنک إن عاقبت مستحقاً لم تکن غایة ما توصف به إلا العدل ، ولا أعرف حالاً أفضل من حال العدل ، والحال التی توجب الشکر أفضل من الحال التی توجب الصبر . فقال المنصور: وعظت فأحسنت ، وقلت فأوجزت ، فحدثنی عن فضل جدک علی بن أبی طالب حدیثاً لم تؤثره العامة . فقال الصادق(علیه السّلام): حدثنی أبی ، عن أبیه ، عن جده قال: قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لما أسری بی إلی السماء عهد إلی ربی جل جلاله فی علی(علیه السّلام) ثلاث کلمات فقال: یا محمد ! فقلت: لبیک ربی وسعدیک . فقال عز وجل: إن علیاً إمام المتقین ، وقائد الغر المحجلین ویعسوب المؤمنین ، فبشرْه بذلک ، فبشره النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذلک فخرَّ علیٌّ ساجداً شکراً لله عز وجل ثم رفع رأسه فقال: یا رسول الله ، بلغ من قدری حتی أنی أذکر هناک؟! قال: نعم وإن الله یعرفک وإنک لتذکر فی الرفیق الأعلی ! فقال المنصور: ذَلِکَ فَضْلُ اللهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ) . انتهی.

وهی حادثة جدیرة بالتحلیل ، ونلفت منها الی اهتمام المنصور بما یعتقده الإمام الصادق(علیه السّلام)وشیعته من فضائل علی(علیه السّلام)! ثم تصریح المنصور بعقدته والحکام قبله من الإمام الصادق وآبائه الأئمة(علیهم السّلام): ( هذا الشجی المعترض فی حلوق الخلفاء ، الذی لا یجوز نفیه ولا یحل قتله) !

ومنها ما رواه ابن طاووس فی مهج الدعوات/184، قال: (کتبته(الدعاء) من مجموع بخط الشیخ الجلیل أبی الحسین محمد بن هارون التلعکبری أدام الله تأییده ، هکذا کان فی الأصل ، ومن ذلک دعاء الصادق(علیه السّلام)لما استدعاه المنصور مرة ثانیة بعد عوده من مکة إلی المدینة: حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد النوفلی قال: حدثنی الربیع صاحب أبی جعفر المنصور قال: حججت مع أبی جعفر المنصور فلما صرت فی بعض الطریق قال لی المنصور: یا ربیع إذا نزلت المدینة فاذکر لی

ص: 496

جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی ، فوالله العظیم لا یقتله أحد غیری إحذر أن تدع أن تذکرنی به ! قال: فلما صرنا إلی المدینة أنسانی الله عز وجل ذکره ، قال: فلما صرنا إلی مکة قال لی یا ربیع ألم آمرک أن تذکرنی بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدینة ! قال فقلت: نسیت ذلک یا مولای یا أمیر المؤمنین . قال فقال لی: إذا رجعت إلی المدینة فذکرنی به فلا بد من قتله ، فإن لم تفعل لأضربن عنقک ! فقلت: نعم یا أمیر المؤمنین . ثم قلت لغلمانی وأصحابی: أذکرونی بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدینة إن شاء الله تعالی . قال: فلم تزل غلمانی وأصحابی یذکرونی به فی کل وقت ومنزل ندخله وننزل فیه ، حتی قدمنا المدینة ، فلما نزلنا بها دخلت إلی المنصور فوقفت بین یدیه فقلت له: یا أمیر المؤمنین جعفر بن محمد ! قال فضحک وقال لی: نعم إذهب یا ربیع فأتنی به ، ولا تأتنی به إلا مسحوباً ! قال فقلت له: یا مولای یا أمیر المؤمنین حباً وکرامة وأنا أفعل ذلک طاعة لأمرک ! قال: ثم نهضت وأنا فی حال عظیم من ارتکابی ذلک ! قال: فأتیت جعفر بن محمد وهو جالس فی وسط داره فقلت له: جعلت فداک إن أمیر المؤمنین یدعوک إلیه ! فقال: لی السمع والطاعة ، ثم نهض وهو معی یمشی ، قال فقلت له: یا ابن رسول الله إنه أمرنی أن لا آتیه بک إلا مسحوباً ! قال فقال الصادق: إمتثل یا ربیع ما أمرک به ! قال: فأخذت بطرف کمه أسوقه إلیه فلما أدخلته إلیه رأیته وهو جالس علی سریره وفی یده عمود حدید یرید أن یقتله به ! ونظرت إلی جعفر وهو یحرک شفتیه به فوقفت أنظر إلیهما ! قال الربیع: فلما قرب منه جعفر بن محمد قال له المنصور: أدن منی یا ابن عمی ، وتهلل وجهه وقربه منه حتی أجلسه معه علی السریر ! ثم قال: یا غلام إئتنی بالحقة فأتاه الحقة فإذا فیها قدح الغالیة ، فغلفه منها بیده ، ثم حمله علی بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ، ثم أمره بالإنصراف !

ص: 497

قال فلما نهض من عنده خرجت بین یدیه حتی وصل إلی منزله فقلت له: بأبی أنت وأمی یا ابن رسول الله ، إنی لم أشک فیه إنه ساعة تدخل علیه یقتلک ورأیتک تحرک شفتیک فی وقت دخولک علیه فما قلت؟ قال لی: نعم یا ربیع إعلم إنی قلت: حسبی الرب من المربوبین ، حسبی الخالق من المخلوقین...اللهم إنک أجل وأجبر مما أخاف وأحذر، اللهم إنی أدرأک فی نحره وأعوذ بک من شره وأستعینک علیه وأستکفیک إیاه یا کافی موسی فرعون ومحمداً الأحزاب...قال الربیع: فکتبته فی رق وجعلته فی حمائل سیفی ، فوالله ما هبت المنصور بعدها).

أقول: لاینسی المنصور هدفه فی قتل الإمام(علیه السّلام)لکنه أراد امتحان طاعة الربیع!

وفی مرة منها ظهرت للإمام(علیه السّلام)کرامة ، وعَلَّمَ شیعته کیف یردون علی المفترین ! ففی الکافی:6/445: (عن صفوان الجمال قال: حملت أبا عبد الله(علیه السّلام)الحملة الثانیة إلی الکوفة، وأبو جعفر المنصور بها ، فلما أشرف علی الهاشمیة مدینة أبی جعفر أخرج رجله من غرز الرحل ثم نزل ، ودعی ببغلة شهباء ، ولبس ثیاباً بیضاً وکمة بیضاء ، فلما دخل علیه قال له أبو جعفر: لقد تشبهت بالأنبیاء! فقال أبو عبد الله(علیه السّلام): وأنی تبعدنی من أبناء الأنبیاء(علیهم السّلام)! فقال: لقد هممت أن أبعث إلی المدینة من یعقر نخلها ویسبی ذریتها فقال: ولم ذلک یا أمیر المؤمنین؟ فقال: رفع إلی أن مولاک المعلی بن خنیس یدعو إلیک ویجمع لک الأموال! فقال: والله ما کان ! فقال: لست أرضی منک إلا بالطلاق والعتاق والهدی والمشی ! فقال: أبالأنداد من دون الله تأمرنی أن أحلف ! إنه من لم یرض بالله فلیس من الله فی شئ ! فقال أتتفقه علیَّ ؟ فقال: وأنی تبعدنی من الفقه وأنا

ابن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فقال: فإنی أجمع بینک وبین من سعی بک ! قال: فافعل فجاء الرجل الذی سعی به فقال له أبو عبدالله: یا هذا ! فقال: نعم والله الذی لا إله إلا هو عالم الغیب والشهادة

ص: 498

الرحمن الرحیم لقد فعلت ! فقال له أبو عبد الله(علیه السّلام): ویلک تمجد الله فیستحیی من تعذیبک ، ولکن قل: برئت من حول الله وقوته ولجأت إلی حولی وقوتی ! فحلف بها الرجل ، فلم یستتمها حتی وقع میتاً ! فقال له أبو جعفر: لا أصدق بعدها علیک أبداً ، وأحسن جائزته ورده) . والمناقب:3/367، والإرشاد:2/182.

ورواه ابن الصباغ فی الفصول المهمة:2/918: (فامتنع الرّجل فنظر إلیه المنصور منکراً فحلف بها فما کان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض وقضی میّتاً مکانه فی المجلس! فقال المنصور: جُرُّوا برجله وأخرجوه لعنه الله ، ثمّ قال: لا علیک یا أبا عبد الله أنت البرئ الساحة السلیم الناحیة المأمون الغائلة، علیَّ بالطیب والغالیة).

ورواه فی الخرائج:2/763 ، عن الإمام الرضا(علیه السّلام) ، وفیه: ( ودخل وقد امتلأ المنصور غیظاً وغضباً فقال له: أنت الذی تأخذ البیعة لنفسک علی المسلمین ترید أن تفرق جماعتهم ، وتسعی فی هلکتهم وتفسد ذات بینهم؟! فقال الصادق(علیه السّلام): ما فعلت شیئاً من هذا ! قال المنصور: فهذا فلان یذکر أنک فعلت کذا وأنه أحد من دعوته إلیک . فقال: إنه لکاذب...دعنی أحلفه بالیمین التی حدثنی بها أبی عن جدی عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنه لا یحلف بها حالف إلا باء بإثمه...فقالها الرجل...فما استتم کلامه حتی سقط میتاً ! واحتمل ومضی به وسری عن المنصور ، وسأله عن حوائجه . فقال: لیس لی حاجة إلا إلی الله ، والإسراع إلی أهلی فإن قلوبهم بی متعلقة. فقال المنصور: ذلک إلیک فافعل منه ما بدا لک ، فخرج من عنده مکرماً، قد تحیر فیه المنصور ومن یلیه فقال قوم: ماذا؟رجل فاجأه الموت ما أکثر ما یکون هذا ! وجعل الناس یصیرون إلی ذلک المیت ینظرون إلیه...إذ قعد علی سریره وکشف عن وجهه وقال: یا أیها الناس إنی لقیت ربی بعدکم فلقانی السخط واللعنة واشتد غضب زبانیته علیَّ للذی کان منی إلی جعفر بن محمد الصادق ، فاتقوا الله ولا تهلکوا فیه کما هلکت . ثم أعاد کفنه علی وجهه وعاد فی موته فرأوه لا حراک به )!

ص: 499

وفی الصواعق لابن حجر:2/587: (فما تم حتی مات مکانه ! فقال أمیر المؤمنین لجعفر: لا بأس علیک أنت المبرأ الساحة المأمون الغائلة...ووقع نظیر هذه الحکایة لیحیی بن عبد الله المحض بن الحسن المثنی بن الحسن السبط بأن شخصا زبیریاً سعی به للرشید فطلب تحلیفه فتلعثم فزبره الرشید ، فتولی یحیی تحلیفه بذلک ، فما أتم یمینه حتی اضطرب وسقط لجنبه ، فأخذوا برجله وهلک ! فسأل الرشید یحیی عن سر ذلک؟ فقال تمجید الله فی الیمین یمنع المعاجلة بالعقوبة).

أفتی فقهاؤنا بجواز تحلیف المفتری بیمین البراءة ، فقال صاحب الجواهر :35/345: (لکن قد یستفاد من قول أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی نهج البلاغة: أحلفوا الظالم إذا أردتم یمینه بأنه برئ من حول الله وقوته ، فإنه إذا حلف بها کاذباً عوجل ، وإذا حلف بالله الذی لا إله إلا هو لم یعاجل لأنه قد وحد الله سبحانه ، جواز تحلیف الظالم بالکیفیة المزبورة ، بل قد یستفاد أیضا من فعل الصادق(علیه السّلام) وتحلیفه من وشی به ذلک أیضاً... إلا أنی لم أجد من أفتی بذلک من الأصحاب نعم فی الوسائل باب جواز استحلاف الظالم بالبراءة من حول الله وقوته ، وظاهره الفتوی به ، ولا ریب أن الاحتیاط یقتضی ترکه إلا فی مهدور الدم من الناصب ونحوه).

کما أفتوا أیضاً بجواز مباهلة المعاند ، فقد عقد فی الکافی:2/513، باباً بعنوان: باب المباهلة ، روی فیه خمسة أحادیث ، منها عن أبی مسروق عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (قلت: إنا نکلم الناس فنحتج علیهم بقول الله عز وجل: أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم ، فیقولون: نزلت فی امراء السرایا ، فنحتج علیهم بقوله عز وجل: إنما ولیکم الله ورسوله إلی آخر الآیة فیقولون : نزلت فی المؤمنین ، ونحتج علیهم بقول الله عز وجل : قل لا أسألکم علیه أجراً إلا المودة فی القربی فیقولون نزلت فی قربی المسلمین ، قال: فلم أدع شیئاً مما حضرنی ذکره من هذه وشبهه إلا ذکرته ، فقال لی: إذا کان ذلک فادعهم إلی المباهلة ، قلت: وکیف أصنع ؟ قال: أصلح نفسک

ص: 500

ثلاثاً وأظنه قال وصم واغتسل وأبرز أنت وهو إلی الجبان فشبک أصابعک من یدک الیمنی فی أصابعه ، ثم أنصفه وابدأ بنفسک وقل: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضین السبع ، عالم الغیب والشهادة الرحمن الرحیم ، إن کان أبو مسروق جحد حقاً وادعی باطلاً فأنزل علیه حسباناً من السماء أو عذاباً ألیماً ثم رد الدعوة علیه فقل: وإن کان فلان جحد حقاً وادعی باطلاً فأنزل علیه حسباناً من السماء أو عذاباً ألیماً ، ثم قال لی: فإنک لا تلبث أن تری ذلک فیه ! فوالله ما وجدت خلقا یجیبنی إلیه ) . وفی جواهر الکلام:5/39: (وبناء علی الوجه الأول یستفاد منه حینئذ استحباب الغسل لفعل المباهلة کما عن جماعة النص علیه ، ویدل علیه خبر أبی مسروق عن الصادق... وقول الراوی: وأظنه قال..یختص بالصوم ولا یعم الإغتسال کما هو الظاهر) .

هذا ، وقد رویت فی إحضار الإمام(علیه السّلام)روایات عدیدة ، ستأتی فقرات منها .

4- ملاحظات علی نصوص إحضار المنصور للإمام(علیه السّلام)

1- یظهر أن عدد المرات التی أحضر فیها المنصور الإمام الصادق(علیه السّلام)أکثر من عشر ! وقد اهتموا بروایتها من أجل الدعاء الذی کان یقرؤه الإمام(علیه السّلام)فتتغیر حالة المنصور ویتراجع عن قتله! ففی الکافی:5/445: (عن صفوان الجمال قال : حملت أبا عبد الله(علیه السّلام)الحملة الثانیة إلی الکوفة وأبو جعفر المنصور بها، فلما أشرف علی الهاشمیة) وفی مهج الدعوات/214: ( لما بعث المنصور إلیه إلی المدینة لیقتله وهی المرة التاسعة ، رویناها من کتاب الخصائص للحافظ أبی الفتح محمد بن أحمد بن علی النطنزی ، وقد أثنی علیه محمد بن النجار فی تذییله علی تاریخ الخطیب) . راجع الفصول المهمة:2/917 ، ودلائل الإمامة للطبری/119 ، الخرائج والجرائح/357) .

ورووا أن المنصور عندما حج سنة142، لم یدخل المدینة ونزل الربذة وحبس الحسنیین ، واستدعی الإمام الصادق(علیه السّلام)ثلاث مرات ! ففی البحار:91/282: (لما استدعاه المنصور مرة ثالثة بالربذة ). وعندما حج سنة 147 ، ودخل المدینة استدعاه مرات: (

ص: 501

لما استدعاه المنصور مرة ثانیة بعد عوده من مکة إلی المدینة).

وفی البحار:91/289: (دعاء الصادق(علیه السّلام)لما استدعاه المنصور مرة رابعة إلی الکوفة). وفی/288: (دعاء لمولانا الصادق(علیه السّلام)لما استدعاه المنصور مرة خامسة إلی بغداد قبل قتل محمد وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن). وفی مهج الدعوات/198: (دعاء مولانا الصادق(علیه السّلام)...لما استدعاه المنصور مرة سادسة ، وهی ثانی مرة إلی بغداد) .

وبعض روایات هذه المرات متداخلة ، لکنها تبقی أکثر من عشر مرات ! وهی تدل علی تحیر المنصور وعناده وتجبره !

2- کان هدف المنصور من إحضار الإمام(علیه السّلام)فی أکثر المرات أن یقتله ! وفی بعضها کان له أغراض أخری . ففی أول خلافته أحضره مع عبدالله بن الحسن لیبایعاه ، ثم أحضره لیسأله عن مهدی الحسنیین وأخیه ، ثم أحضره الی الحیرة لیمتحنه لعله یکشف نقص علمه ! قال أبو حنیفة: ( لما أقدمه المنصور بعث إلیَّ فقال: یا أبا حنیفة ، إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهئ له من المسائل الشداد ، فهیأت له أربعین مسألة). ولعله فی تلک المرة أراد أن یمتحن الإمام(علیه السّلام) فی علم الطب ، فأحضر له طبیباً هندیاً: (حضر مجلس المنصور یوماً وعنده رجل من الهند یقرأ کتب الطب فجعل أبو عبد الله الصادق جعفر بن محمد(علیه السّلام)ینصت لقراءته فلما فرغ الهندی قال له: یا أبا عبد الله: أترید مما معی شیئاً؟ قال: لا ، فإن ما معی خیر مما معک). ثم ذکر الراوی أنه جری بینهما حدیث فی الطب یظهر أن الراوی لم یفهمه ! وفی آخره قال له الهندی: من أین لک هذا العلم؟فقال: أخذته عن آبائی(علیهم السّلام)عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن جبرئیل(علیه السّلام) عن رب العالمین جل جلاله ، الذی خلق الأجساد والأرواح . فقال الهندی: صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وعبده ، وأنک أعلم أهل زمانک ). (الخصال/511).

ص: 502

3- مضافاً الی صحة سند إحضار المنصور للإمام (علیه السّلام)لقتله ثم تراجعه عن ذلک فقد استفاضت روایته عند الشیعة والسنة ! وهذا یدل علی أن الحجة کانت تامة علی المنصور وأنه یعرف إمامة الصادق(علیه السّلام) ، ویدل علی عناده وتجبره حیث أصرَّ علی قتل الإمام(علیه السّلام)رغم الآیات التی رآها ! والإصرار صفة بارزة فی شخصیة المنصور ، وقد صار تعامله مع ولی عهده وابن عمه عیسی بن موسی مضرب المثل ، فقد استعمل معه أنواع الحیل والضغوط والترغیب والترهیب حتی عزله ونصب مکانه ابنه الذی سماه بالمهدی ، مع أنه ضال مضل کأبیه !

4- تضمنت بعض روایات القضیة سوء أدب المنصور مع الإمام الصادق(علیه السّلام) مع أنه یعرف إمامته ومقامه عند الله تعالی ، مضافاً الی أن الإمام بالمقیاس الإجتماعی أکبر من المنصور سناً ببض عشرة سنه ، ثم هو ابن علی والحسین(علیهماالسّلام) اللذین تقدسهما الأمة ، ومنها بنو هاشم وبنو العباس !

لکن مع ذلک کان المنصور یتجرأ علی الإمام(علیه السّلام)ویقول له: (یا جعفر تحاول الفتنة وترید سفک دماء المسلمین ، وتلحد فی سلطانی وتبتغی الغوائل . فقال له جعفر بن محمد: یا أمیر المؤمنین ما فعلت ذلک ولا أردته ، فقد علمت قدیماً ما أنا علیه (من عدم قبول قیادة حرکة للوصول الی السلطة) ، فلا تقبل علیَّ من کاذب إن کذب وساع إن سعی بی عندک). (شرح الأخبار:3/303 ). وقال له مرة: (أی عدو الله ! إتخذک أهل العراق إماماً یبعثون إلیک زکاة أموالهم، وتلحد فی سلطانی وتبغیه الغوائل! قتلنی الله إن لم أقتلک... ما تدع حسدک وبغیک وإفسادک علی أهل هذا البیت من بنی العباس... أما تستحیی مع هذه الشیبة ). (مستدرک سفینة البحار:6/232).

بل أراد المنصور فی المدینة أن یذل الإمام(علیه السّلام)فأخرجه معه وهو یتوکأ علی یده کما یفعل الکبیر مع الصغیر ! فرآه مولی خالد بن عبد الله فقال: (لوددت أن

ص: 503

خدَّ أبی جعفر نعل لجعفر، وتقدم رزام حتی وقف بین یدی المنصور فقال له: أسألُ یا أمیر المؤمنین؟ فقال له المنصور: سل هذا ، فقال: إنی أریدک بالسؤال ! فقال له المنصور: سل هذا ، فالتفت رزام إلی الإمام(علیه السّلام) فقال له: أخبرنی عن الصلاة وحدودها ، فقال له: للصلاة أربعة آلاف حد..).(مستدرک سفینة البحار:6/232).

ونلاحظ فی المقابل لین الإمام الصادق(علیه السّلام)ومداراته للجبار: (فقال له جعفر بن محمد: یا أمیر المؤمنین ما فعلت ذلک ولا أردته) (شرح الأخبار:3/303). وهذا خط الأنبیاء وأوصیائهم(علیهم السّلام)أمرهم الله أن یسلکوه مع الجبابرة ویتحملوا منهم ، إلا فی استثناءات . والإمام الصادق(علیه السّلام)مؤید من ربه، تحدثه الملائکة بشهادة المنصور ، وهو حجة الله علی خلقه ، معصوم فی قوله وفعله ، وما یفعله فبتوجیه ربه عز وجل ، إما بحکم شرعی أو بما یلقیه الله فی قلبه من علم ویقین .

وقد اقتضت حکمته تعالی أن یمتحن الناس بجبروت المنصور ویمد فی عمر الإمام(علیه السّلام)اثنتی عشرة سنة فی خلافة المنصور حتی أذن بشهادته بالسم سنة148.

وفی هذه المدة قام الإمام(علیه السّلام)بأعمال ضخمة فی ترسیخ الإسلام وبلورة خط أهل البیت(علیهم السّلام) ، وکشف الخطوط المنحرفة ، فرسَّخَ بذلک ما شیَّده فی زمن السفاح .

وقد تکون هذه السنوات الإثنتا عشرة مع الأربع سنوات فی زمن السفاح أخصب سنوات عمر الإمام(علیه السّلام)فی بثه العلوم وتخریجه العلماء ، وتعمیقه الإیمان فی عقول الخاصة والعامة ، مما سمعت به الأمة وعاشته آنذاک ، ووصلت الینا بعض برکاته .

5- روت المصادر السنیة نوعین من دعاء الإمام(علیه السّلام)لدفع شر المنصور ، ففی سیر الذهبی:6/266: (اللهم احرسنی بعینک التی لا تنام ، واکنفنی برکنک الذی لا یرام ، واحفظنی بقدرتک علی ولا تهلکنی وأنت رجائی . ربَ کم من نعمة أنعمت بها علی قل لک عندها شکری ، وکم من بلیة ابتلیتنی بها قل لها عندک صبری ، فیا من قل عند نعمته شکری فلم یحرمنی ، ویا من قل عند بلیته صبری فلم یخذلنی ، ویا من رآنی

ص: 504

علی المعاصی فلم یفضحنی ، ویاذا النعم التی لا تحصی أبداً ، ویاذا المعروف الذی لا ینقطع أبداً ، أعنی علی دینی بدنیا ، وعلی آخرتی بتقوی ، واحفظنی فیما غبت عنه ، ولا تکلنی إلی نفسی فیما خطرت . یا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة ، إغفر لی ما لا یضرک ، وأعطنی ما لاینقصک ، یا وهاب أسألک فرجاً قریباً ، وصبراً جمیلاً ، والعافیة من جمیع البلایا ، وشکر العافیة). وتهذیب الکمال:5/95 .

وفی تاریخ دمشق:18/136: عن (رزام مولی خالد بن عبد الله القسری قال: بعث بی المنصور إلی جعفر بن محمد... فلما أقبلت به إلیه والمنصور بالحیرة وعلونا النجف ، نزل جعفر بن محمد عن راحلته فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فصلی رکعتین ثم رفع یدیه . قال رزام: فدنوت منه فإذا هو یقول: اللهم بک أستفتح وبک أستنجح ، وبمحمد عبدک ورسولک أتوسل . اللهم سهِّل حزونته وذلل لی صعوبته وأعطنی من الخیر أکثر ما أرجو، واصرف عنی من الشر أکثر مما أخاف. ثم رکب راحلته فلما وقف بباب المنصور وأعلم بمکانه فُتحت الأبواب ورُفعت الستور ، فلما قرب من المنصور قام إلیه فتلقاه ، وأخذه بیده وماشاه حتی انتهی به إلی مجلسه فأجلسه فیه ، ثم أقبل علیه یسأله عن حاله وجعل جعفر یدعو له).

أمامصادرنا فروت ما تقدم ، وروت أدعیة أخری دعا بها الإمام(علیه السّلام)فی هذه المرة أو تلک

فتغیرت حالة المنصور ، کما تقدم من مهج الدعوات .

وفی عدد من المصادر دعاء: (یا عدتی عند شدتی ، ویا غوثی عند کربتی ، فاحرسنی بعینک التی لا تنام ، واکنفنی برکنک الذی لا یرام..الخ.). کما فی روضة الواعظین/209، والإرشاد:2/182 ، وهو من أدعیة صحیفة الإمام زین العابدین(علیه السّلام). وروی الصدوق دعاءً آخر: (حسبی الرب من المربوبین ، وحسبی الخالق من المخلوقین ، وحسبی الرازق من المرزوقین وحسبی الله رب العالمین، حسبی من هو حسبی ، حسبی من لم یزل حسبی، حسبی الله لا اله إلا هو علیه توکلت وهو رب العرش

ص: 505

العظیم). (العیون:1/273، والبحار:91/292، وذکر أنه دعاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لدفع مکر الأحزاب والیهود !

وبهذایظهر أن أدعیة الإمام(علیه السّلام)کانت متعددة ، وقد فهم الرواة أنها السبب فی تغیر حالة المنصور ، لکن العامل الأول فی التأثیر هو شخصیة الداعی(علیه السّلام) ، فکم من کلام لو قاله غیر الإمام لم یؤثر ، ولو قاله هو لأثَّر

6- تفاوتت الروایة فی وصف تغیر حالة المنصور من غاضب حانق جبار ، قرَّر قتل الإمام(علیه السّلام)وأحضر السیاف أو السیف، الی هادئ متودد للإمام(علیه السّلام)! ففی روایة تاریخ دمشق:18/86: (قال الربیع: فقلت له: یا أمیر المؤمنین حلفت لتقتلنه ثم فعلت به ما فعلت ! قال: ویحک یا ربیع ! إنه لما دخل إلی فرأیت وجهه أجد شیئاً له رقة لم أقدر علی غیر ما رأیت ، وقد رأیته یحرک شفتیه فاسأله عما یقول) !

وفی تهذیب الکمال:5/95: (فقال إن جعفر بن محمد یلحد فی سلطانی ! قتلنی الله إن لم أقتله... فلما نظر إلیه مقبلاً قام من مجلسه فتلقاه وقال: مرحباً بالنقی الساحة البرئ من الدغل والخیانة ، أخی وابن عمی ! فأقعده علی سریره معه وأقبل علیه بوجهه وسأله عن حاله ، ثم قال: سلنی حوائجک؟ فقال: أهل مکة والمدینة قد تخلف علیهم عطاؤهم فتأمر لهم به ، قال: أفعل . ثم قال: یا جاریة إیتنی بالمتحفة فأتته بمدهن زجاج فیه غالیة). ونحوه الفرج بعد الشدة:1/70 . والغالیة:عطرخاص .

وفی روایة الخرائج:2/641: (وکان یقول: علیَّ به ، سقی الله الأرض دمی إن لم أسقها دمه ، عجلوا عجلوا ! قال: فلما دخل علیه جعفر قال له: مرحباً یا ابن عم یا ابن رسول الله ! فما زال یرفعه حتی أجلسه علی وسادته ، ثم دعا بالطعام وجعل یلقمه جیداً بارداً وقضی حوائجه). وفی مهج الدعوات/185: (فلما أدخلته إلیه رأیته وهو جالس علی سریره وفی یده عمود حدید یرید أن یقتله به... فوقفت أنظر إلیهما قال الربیع: فلما قرب منه جعفر بن محمد قال له المنصور: أدن منی یا ابن

ص: 506

عمی ، وتهلل وجهه وقربه منه حتی أجلسه معه علی السریر ) .

وفی البحار:91/285: (فحرک شفتیه بشئ لم أفهمه ، فنظرت إلی المنصور فما شبهته إلا بنار صُبَّ علیها ماء فخمدت، ثم جعل یسکن غضبه حتی دنا منه جعفر بن محمد وصار مع سریره ، فوثب المنصور فأخذ بیده ورفعه علی سریره ، ثم قال له: یا أبا عبد الله یعز علی تعبک ، وإنما أحضرتک لأشکو إلیک أهلک: قطعوا رحمی ، وطعنوا فی دینی ،وألبوا الناس علیَّ ، ولو ولیَ هذا الأمر غیری ممن هو أبعد رحماً منی لسمعوا له وأطاعوا ! فقال جعفر: یا أمیر المؤمنین فأین یعدل بک عن سلفک الصالح ، إن أیوب(علیه السّلام)ابتلی فصبر ، وإن یوسف(علیه السّلام) ظلم فغفر ، وإن سلیمان(علیه السّلام)أعطی فشکر ، فقال المنصور: قد صبرت وغفرت وشکرت . ثم قال: یا أبا عبد الله حدثنا حدیثاً کنت سمعته منک فی صلة الأرحام...).

7- ذکرت عدة مصادر معجزات حدثت فی بعض المرات ، وهو أمر لا یستبعد علی مقام الإمام(علیه السّلام)عند الله تعالی ، فإذا صح السند قبلناه ، ففی البحار:91/293، أن المنصور قال: (فتمثل لی رسول الله باسط ذراعیه قد تشمر واحمرَّ وعبس وقطب حتی کاد أن یضع یده علیَّ ! فخفت والله لو فعلت لفعل) !

وفی مهج الدعوات/18، عن محمد بن عبید الله الإسکندری قال: (کنت من ندماء أبی جعفر المنصور وخواصه ، وکنت صاحب سره ، فبینا أنا إذ دخلت علیه ذات یوم فرأیته مغتماً فقلت له: ما هذه الفکرة یا أمیر المؤمنین؟ قال فقال لی: یا محمد لقد هلک من أولاد فاطمة مائة أو یزیدون ، وقد بقی سیدهم وإمامهم ! فقلت له: مَن ذاک یا أمیر المؤمنین؟ قال: جعفر بن محمد رأس الروافض وسیدهم ! فقلت له: یا أمیر المؤمنین إنه رجل شغلته العبادة عن طلب الملک والخلافة . فقال لی: قد علمت أنک تقول به وبإمامته ، ولکن الملک عقیم وقد آلیت علی نفسی أن لا

ص: 507

أمسی عشیتی هذه حتی أفرغ منه ! ثم دعا بسیاف وقال له: إذا

أنا أحضرت أبا عبد الله وشغلته بالحدیث ووضعت قلنسوتی ، فهو العلامة بینی وبینک ، فاضرب عنقه ! فأمر بإحضار الصادق فأحضر فی تلک الساعة ولحقته فی الدار وهو یحرک شفتیه فلم أدر ما الذی قرأ إلا أننی رأیت القصر یموج کأنه سفینة ! فرأیت أبا جعفر المنصور یمشی بین یدیه کما یمشی العبد بین یدی سیده حافی القدمین مکشوف الرأس ، یحمرَ ساعة ویصفرَ أخری وأخذ بعضد الصادق وأجلسه علی سریر ملکه فی مکانه وجثی بین یدیه کما یجثو العبد بین یدی مولاه ثم قال: ما الذی جاء بک إلینا فی هذه الساعة یا ابن رسول الله؟ قال: دعوتنی فأجبتک . قال: ما دعوتک وإنما الغلط من الرسول ! ثم قال له: سل حاجتک یا ابن رسول الله. فقال: أسألک أن لا تدعونی لغیر شغل . قال: لک ذاک . وانصرف أبو عبد الله فلما انصرف نام أبو جعفر ولم ینتبه إلی نصف اللیل ، فلما انتبه کنت جالساً عند رأسه قال لی: لا تبرح یا محمد من عندی حتی أقضی ما فاتنی من صلاتی وأحدثک بحدیث . قلت: سمعاً وطاعة یا أمیر المؤمنین . فلما قضی صلاته قال: إعلم أنی لما أحضرت سیدک أبا عبد الله وهممت بما هممت به من السوء رأیت تنیناً قد حوی بذنبه جمیع داری وقصری وقد وضع شفته العلیا فی أعلاها والسفلی فی أسفلها ، وهو یکلمنی بلسان طلق ذلق عربی مبین: یا منصور إن الله بعثنی إلیک وأمرنی إن أنت أحدثت فی عبدی الصالح الصادق حدثاً أبتلعتک ومن فی الدار جمیعاً ! فطاش عقلی

وارتعدت فرائصی واصطکت أسنانی)! ودلائل الإمامة للطبری الشیعی/298 ، بتفاوت ، وعیون المعجزات/80 . والثاقب فی المناقب/208 ، وفیه: (یا محمد لقد هلک من أولاد فاطمة مقدار مائة أو یزیدون ، وقد بقی سیّدهم وإمامهم...فقلت: أسحرٌ هذا یا أمیر المؤمنین؟! قال: أسکت ، أما تعلم أن جعفر بن محمد خلیفة الله فی أرضه)؟!

ص: 508

وفی روایة: (قال محمد: قلت لیس هذا بعجیب فإن أبا عبد الله وارث علم النبی وجده أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ، وعنده من الأسماء والدعوات التی لو قرأها علی اللیل المظلم لأنار وعلی النهار المضئ لأظلم). ثم ذکر أنه قصد الإمام(علیه السّلام)فعلمه الدعاء وهو طویل.

هذا ، وقد ورد إسم الراوی فی الثاقب/208، بدل محمد بن الإسکندری (محمد بن الاسقنطوری وکان وزیراً للدوانیقی). ولم أجد ترجمته فی وزراء المنصور أو ندمائه الذین ذکروا منهم: ابن هرمة الشاعر وهو إبراهیم بن علی بن سلمة (وافی الصفدی:2/ 240) ومحمد بن جعفر بن عبیدالله بن عباس (تاریخ الذهبی:9/595) والهیثم بن عدی الثعلی الطائی (البرصان والعرجان للجاحظ/3 ، والأعلام:8/104).

8- کان الربیع حاجب المنصور یحب الإمام الصادق(علیه السّلام) ، حتی عده بعضهم من شیعته ، وعندما بعثه المنصور لیسأل الإمام(علیه السّلام)عن الدعاء الذی دعا به: (قال

الربیع: فخرجتُ إلیه فقلت: یا أبا عبد الله أنت تعلم محبتی لک ، قال: نعم یا ربیع أنت منا ، حدثنی أبی عن أبیه عن جده ، عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: مولی القوم منهم وأنت منا ). (تاریخ دمشق:18/86) لکن لا مدح فی ذلک لأن الربیع مولی المنصور فهو ملحق ببنی هاشم ، فکلمة: (وأنت منا) وسیعة تعنی آل هاشم ، وحتی لو استعملت فی آل علی(علیه السّلام)لاتکون مدحاً حتی یقال مثلاً: (منا أهل البیت) ، فقاعدة مولی القوم منهم لاترفع من شأن الربیع الذی کان لقیطاً لا یُعرف له أب ، وشارک المنصور فی کثیر من جرائمه ، وأدار الأمور عند موت المنصور کحاکم مقتدر وأخذ البیعة لابن المنصور ! قال ابن الندیم فی الفهرست/258: (عیسی بن أبان.. من أهل فَسَا.. وهو الذی أشار علی المنصور وقد شکا إلیه لین حجابه: إستخدم قوماً وقاحاً. قال: ومن هم ؟ قال: اشتر قوماً من الیمامة ، فإنهم یربون الملاقیط (اللقطاء الذین لاأب لهم) ! فاشتراهم وجعل حجابه إلیهم ، منهم الربیع الحاجب).

وفی تاریخ بغداد:8/412 ، أن ابن عیاش کان: (یطعن فی نسب الربیع طعناً قبیحاً

ص: 509

ویقول للربیع: فیک شبه من المسیح ، یخدعه بذلک فکان یکرمه لذلک ! حتی أخبر المنصور بما قاله له . فقال: إنه یقول لا أب لک ! فتنکر له بعد ذلک) !

وفی الوفیات:14/58 ، أن بعض الهاشمیین: ( دخل علی المنصور وجعل یحدثه ویقول: کان أبی(رحمه الله)وکان ، وأکثر من الرحمة علیه ، فقال له الربیع: کم تترحم علی أبیک بحضرة أمیر المؤمنین ؟! فقال له الهاشمی: أنت معذور ، لأنک لا تعرف مقدار الآباء ! فخجل منه ! وضحک المنصور إلی أن استلقی ! ثم قال للهاشمی: خذ بما أدبک به الربیع) !

أقول: هذا هو الربیع الذی حکم الدولة الإسلامیة وابنه الفضل لسنین طویلة ! وهذا هو المنصور الذی یضحک حتی یستلقی علی ظهره ، لأن وزیره ومعتمده لقیطٌ لا أب له ، ویأمر ذلک الهاشمی بأن یتأدب بالأدب الذی أمره به اللقیط ، فلا یمدح أحداً فی حضورالمنصور ، لأن المدح یجب أن یکون له وحده !

9- أحضر المنصور الإمام(علیه السّلام)الی بغداد فی جو إیجابی عندما کان یرتب الأمر لابنه المهدی! فعن محمد بن إبراهیم الإمام العباسی: (أرسل المنصور بُکراً واستعجلنی الرسول وظننت أن ذلک لأمر حادث ، فرکبت إذ سمعت وقع الحافر فقلت للغلام: أنظر من هذا فقال: هذا أخوک عبد الوهاب فرفقت فی السیر فلحقنی فسلمت علیه وسلم علی فقال: أتاک رسول هذا ؟ قلت: نعم ، فهل أتاک ؟ قال: نعم ، قلت: فیمَ ذاک تری؟ قال: تجده اشتهی خلا وزیتا یرید الغداء ، فأحب أن نأکل معه ! قلت: ما أری ذلک ، وما أظن هذا إلا لأمر ! قال: فانتهینا إلیه فدخلنا فإذا الربیع واقف عند الستر وإذا المهدی ولی العهد فی الدهلیز جالس ، وإذا عبد الصمد بن علی وداود بن علی وإسماعیل بن علی وسلیمان بن علی وجعفر بن محمد بن علی بن حسین وعبد الله بن حسن بن حسن والعباس بن محمد . قال الربیع: إجلسوا مع بنی

ص: 510

عمکم ، قال فجلسنا فدخل الربیع وخرج فقال للمهدی أدخل أصلحک الله ، ثم دخل فقال: أدخلوا جمیعاً فدخلنا وسلمنا وأخذنا مجالسنا ، فقال للربیع: هات دویاً وما یکتبون فیه ، فوضع بین یدی کل واحد منا دواة وورقاً ، ثم التفت إلی عبد الصمد بن علی فقال: یا عم حدث ولدک وإخوتک وبنی أخیک حدیث البر والصلة، فقال عبد الصمد: حدثنی أبی عن جدی عبد الله بن العباس عن النبی (ص) أنه قال: إن البر والصلة لیطیلان الأعمار ویعمران الدیار ویکثران الأموال ولو کان القوم فجاراً....ثم التفت المنصور إلی جعفر بن محمد فقال یا أبا عبد الله حدث إخوتک وبنی عمک بحدیث أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام) . قال: قال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ما من ملک یصل رحمه وذوی قرابته ویعدل علی رعیته إلا شد الله له ملکه وأجزل له ثوابه وأکرم ما به وخفف حسابه). (تاریخ دمشق:36/242، والمنتظم:9/106).

وهکذا کان کل برنامج المنصور لهذه الجلسة التی أحضر لها شخصیات بنی العباس وبنی علی(علیه السّلام) ، أن یروی کل منهم أحادیث صلة الرحم لیؤلف بین بنی هاشم بقیادة ولده الذی سماه بالمهدی ، وهو الضال بن الضال !

10- وأحضر المنصور الإمام(علیه السّلام)لیسأله عن مهدی الحسنیین وأخیه ویستشیره فیهما ، وهو یذکر جیداً أن الإمام(علیه السّلام)قال له یوم بایع المنصور مهدی الحسنیین وکان متحمساً له لیس هذا هو المهدی ولا ینالها هو ولا أخوه وستقتلهما أنت !

(عن رزام مولی خالد بن عبد الله القسری قال: بعث بی المنصور إلی جعفر بن محمد... قال فلما أقبلت به إلیه والمنصور بالحیرة وعلونا النجف نزل جعفر بن محمد عن راحلته فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فصلی رکعتین ثم رفع یدیه قال رزام: فدنوت منه فإذا هو یقول: اللهم بک أستفتح وبک استنجح وبمحمد عبدک ورسولک أتوسل . اللهم سهِّل لی حزونته وذلل لی صعوبته ، وأعطنی من الخیر

ص: 511

أکثر ما أرجو ، واصرف عنی من الشر أکثر مما أخاف . ثم رکب راحلته فلما وقف بباب المنصور وأعلم بمکانه فُتحت الأبواب ورُفعت الستور ، فلما قرب من المنصور قام إلیه فتلقاه ، وأخذه بیده وماشاه حتی انتهی به إلی مجلسه فأجلسه فیه ثم أقبل علیه یسأله عن حاله ، وجعل جعفر یدعو له ، ثم قال: قد عرفت ما کان منی فی أمر هذین الرجلین یعنی محمداً وإبراهیم ابنی عبد الله بن الحسن ، وتری کأنی بهما وقد استخفا بحقی وأخاف أن یشقا العصا وأن یلقیا بین أهل هذا البیت شراً لا یصلح أبداً ! فأخبرنی عنهما ؟ فقال له جعفر: والله لقد نهیتهما فلم یقبلا فترکتهما کراهة أن أطلع علی أمرهما وما زلت حاطباً فی أمرک مواظباً علی طاعتک . قال: صدقت ، ولکنک تعلم أنی أعلم أن أمرهما لن یخفی عنک ولن تفارقنی إلا أن تخبرنی به . فقال له: یا أمیر المؤمنین أفتأذن لی أن أتلو آیة من کتاب الله علیک فیها منتهی عملی وعلمی ؟ قال: هات علی اسم الله . فقال جعفر: أعوذ بالله السمیع العلیم من الشیطان الرجیم: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا یَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا یَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَیُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا یُنْصَرُونَ. قال فخرَّ أبو جعفر ساجداً ثم رفع رأسه فقبل بین عینیه وقال: حسبک . ثم لم یسأله بعد ذلک عن شئ حتی کان من أمر إبراهیم ومحمد ما کان). (تاریخ دمشق:18/136).

11- اغتنم الإمام الصادق(علیه السّلام)إحضار المنصور له فی أول خلافته الی الأنبار سنة136 لیظهر قبر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ویأخذ رسمیته من المنصور ! قال صفوان الجمال: (حملت جعفر بن محمد(علیه السّلام)فلما انتهیت إلی النجف قال: یا صفوان تیاسر حتی تجوز الحیرة فتأتی القائم (العمود المبنی).. ثم تقدم هو وعبد الله بن الحسن فصلیا عند قبر ، فلما قضیا صلاتهما قلت: جعلت فداک أی موضع هذا القبر؟ قال هذا قبر علی بن أبی طالب). (البحار:97/246).

ص: 512

وقد کان الأئمة(علیهم السّلام)یزورون قبر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی ظهر الکوفة ویدلون علیه خاصتهم ، وبعد زوال ملک بنی أمیة طلب أبو مسلم الخراسانی من الإمام الصادق(علیه السّلام)عندما حج مع المنصور أن یظهر القبر لیزوره المسلمون فلم یقبل ، لکنه بادر(علیه السّلام)لإظهاره فی أول خلافة المنصور لمعرفته بأن المنصور سیُغیر رأیه ویعلن عداوته لعلی(علیه السّلام)! ( قال المنصور للصادق(علیه السّلام): قد استدعاک أبو مسلم لإظهار تربة علی فتوقفت ، تعلم أم لا ؟ فقال: إن فی کتاب علی(علیه السّلام)أنه یظهر فی أیام عبد الله أبی جعفر الهاشمی . ففرح المنصور بذلک . ثم إنه(علیه السّلام)أظهر التربة فأخبر المنصور بذلک وهو فی الرصافة ، فقال: هذا هو الصادق ، فلیزر المؤمن بعد هذا إن شاء الله ، فلقبه بالصادق ). (مناقب آل أبی طالب:3/393).

(فلم یزل قبره(علیه السّلام)مخفیاً حتی دل علیه الصادق جعفر بن محمد(علیهماالسّلام)فی الدولة العباسیة وزاره عند وروده إلی أبی جعفر المنصور وهو بالحیرة ، فعرفته الشیعة واستأنفوا إذ ذاک زیارته ، صلی الله علیه). (المستجاد من الإرشاد/14).

وکان الإمام الصادق(علیه السّلام)یحثُّ المسلمین علی زیارته ویقول عن الغری: (هو قطعة من الجبل الذی کلم الله تعالی علیه موسی تکلیماً وقدس علیه عیسی تقدیساً ، واتخذ علیه إبراهیم خلیلاً، واتخذ محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیه حبیباً وجعله للنبیین مسکناً، والله ما سکن فیه بعد أبویه الطیبین آدم ونوح أکرم من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فإذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علی بن أبی طالب(علیه السّلام)فإنک زائر الآباء الأولین ومحمداً خاتم النبیین وعلیاً سید الوصیین فإن زائره تفتح له أبواب السماء عند دعوته). (الغارات:2/854). وفی تهذیب الأحکام:6/21: (ما لمن زار جدک أمیر المؤمنین(علیه السّلام)؟ فقال: یا بن ما رد من زار جدی عارفاً بحقه کتب الله له بکل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة ، والله یا بن ما رد ما یطعم الله النار قدماً اغبرَّت فی زیارة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ماشیاً کان أو راکباً ).

ص: 513

وفی وسائل الشیعة:10/305: (لما وافیت مع جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام) الکوفة نرید أبا جعفر المنصور قال لی: یا صفوان أنخ الراحلة فهذا قبر جدی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فأنختها، ثم نزل فاغتسل وغیر ثوبه وتحفی ، وقال لی: إفعل کما أفعل ، ثم أخذ نحو الذکوات ثم قال لی: قصر خطاک وألق ذقنک إلی الأرض یکتب لک بکل خطوة مأة ألف حسنة ، وتمحی عنک مأة ألف سیئة ، وترفع لک مأة ألف درجة وتقضی لک مأة ألف حاجة ، ویکتب لک ثواب کل صدیق وشهید مات أو قتل ، ثم مشی ومشیت معه وعلینا السکینة والوقار نسبح ونقدس ونهلل إلی أن بلغنا الذکوات، وذکر الزیارة إلی أن قال: وأعطانی دراهم وأصلحت القبر) .

5- مضی الإمام شهیداً لکن بعد أن عبَّد الطریق الذی شقه أبوه(علیهماالسّلام)

تمکن المنصور بعد اثنتی عشرة سنة من التخطیط والصراع مع الإمام الصادق(علیه السّلام)والعناد لآیات الله التی ظهرت فیه ، أن یقتل الإمام(علیه السّلام)بأن دسَّ له السم فی المدینة کما تقدم ! ومضی الإمام(علیه السّلام)الی ربه شهیداً لکن بعد أن عبَّد الطریق الذی شقه أبوه باقر علم جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وباقر طریق التغییر

للأمة.

قال السید ابن طاووس(رحمه الله)فی مهج الدعوات ومنهج العبادات/212: (ومن العجب المستطرف المستغرب أن المنصور یری هذه الآیات والمعجزات والکرامات للصادق صلوات الله علیه فلما بلغته وفاته بکی علیه ، وأمر بقتل من أوصی إلیه ! علی ما رواه محمد بن یعقوب الکلینی فی کتاب الحجة فی باب النص علی أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السّلام)قد ذکر بإسناده عن داود بن زربی ، عن أبی أیوب الجوزی ، قال: بعث إلیَّ أبو جعفر المنصور فی جوف اللیل فأتیته فدخلت علیه وهو جالس علی کرسی ، وبین یدیه شمعة وفی یده کتاب ، فلما سلمت علیه رمی الکتاب إلیَّ وهو یبکی ، فقال لی: هذا کتاب جعفر بن سلیمان یخبرنا أن

ص: 514

جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إلیه راجعون ثلاثاً ، وأین مثل جعفر !

ثم قال: أکتب فکتبت صدر الکتاب ، ثم قال: أکتب إن کان أوصی إلی رجل واحد بعینه فقدمه فاضرب عنقه . قال فرجع إلیه الجواب أنه أوصی إلی خمسة نفر أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سلیمان ، وعبد الله ، وموسی ، وحمیدة... فقال أبو جعفر المنصور: لیس إلی قتل هؤلاء سبیل ! أقول: إنا لله وإنا إلیه راجعون مما بلغ إلیه حب الدنیا حتی عمیت لأجله القلوب والعیون: أَفَرَأَیْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِینَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما کانُوا یُوعَدُونَ ما أَغْنی عَنْهُمْ ما کانُوا یُمَتَّعُونَ) . (والکافی:1/310 ، وغیبة الطوسی197، وفیه: أبو أیوب الخوزی ، ومناقب آل أبی طالب:3/434 ، وفیه: أن

أبا حمزة الثمالی لما بلغته وصیة الإمام(علیه السّلام)قال: ( الحمد لله الذی هدانا.. بیَّنَ عیوب الکبیر ودل علی الصغیر لإضافته إیاه ، وکتم الوصیة عن المنصور ).

وروی إسماعیل عم المنصور تباکیه الکاذب علی الإمام(علیه السّلام)فقال: (دخلت علی أبی جعفر یوماً وقد اخْضَلَّت لحیته بالدموع وقال لی: أما علمت ما نزل بأهلک؟ فقلت: وما ذاک یا أمیر المؤمنین؟ قال: فإن سیدهم وعالمهم وبقیة الأخیار منهم توفی! فقلت: ومن هو یا أمیر المؤمنین ؟ قال: جعفر بن محمد . فقلت: أعظم الله أجر أمیر المؤمنین وأطال الله بقاءه ، فقال لی: إن جعفراً ممن قال الله فیهم:ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا . وکان ممن اصطفی الله وکان من السابقین بالخیرات). (الیعقوبی:2/381 ، وتحف العقول/310).

وهذا یدل علی مکانة خاصة للإمام(علیه السّلام)عند العباسیین ، فهم ینظرون الیه کأبیه(علیهماالسّلام)، إماماً ربانیاً ، أخبرهم بملکهم ولم یواجههم ، فاضطر المنصور أمامهم أن یخفی قتله له ویتظاهر بالبکاء علیه !

ص: 515

6- وارتاح المنصور الجبار وتنفس الصعداء لأنه..قتل الإمام(علیه السّلام)!

فهو یرید أن یکون مهندس التاریخ ، وأبو سلالة حکامٍ تمتد عبر العصور ، حتی یسلمها آخر خلیفة منهم الی عیسی بن مریم والمهدی الموعود(علیهماالسّلام) !

ویرید أن یکون مهندس عقائد الأمة وفقهها ، ویجب أن یلغی من ثقافتها وصیة علی وحقه وحق أولاده(علیه السّلام)فی الخلافة ، فالوارث الشرعی الوحید للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )هو عمه العباس بن عبد المطلب وأولاده فقط ، فهو یقول: (فلم یبق شرف ولا فضل فی جاهلیة ولا إسلام ، فی دنیا ولا آخرة ، إلا والعباس وارثه ومورثه). (الطبری:6/199)

أما أبو بکر وعمر ، فهما صحابیان قرشیان استأثرا علی العباس وأبنائه ، وغصبا حقهم ، لکن سامحهما الله ورضی عنهما ، وعلی الأمة أن تترضی عنهما لترغم أنوف علی وأولاده ! ولذلک أصدر مرسومه بالترضی عنهما فی صلاة الجمعة وقال: (والله لأرغمن أنفی وأنوفهم ، وأرفعن علیهم بنی تیم وعدی).(منهاج الکرامة/96) .

وأما عثمان فلم یشمله مرسوم المنصور بالترضی عنه ، لأنه أول حاکم أموی والمنصور یتتبع بنی أمیة لیذبح من بقی منهم ! وقیل أضافه آخر خلافته والمؤکد أن أتباعه النواصب أضافوه لرواسبهم الأمویة ولیغیضوا به علیاً وآل علی(علیهم السّلام) !

( قال مالک: قال لی المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله ؟قلت: أبو بکر وعمر . فقال: أصبت ! وذلک رأی أمیر المؤمنین یعنی نفسه) ! (نهایة ابن کثیر:10/130 ، وتاریخ دمشق:32/309 ).

(قال محمد بن أبی السری: قلت لعبد الرزاق: ما رأیک فی التفضیل، فأبی أن یخبرنی ! ثم قال: کان سفیان یقول: أبو بکر وعمر ویسکت . وکان مالک یقول: أبو بکر وعمر ، ویسکت). (تاریخ الذهبی:15/263ومیزانه:2/612، وتاریخ دمشق:36/186).

لقد فهم مالک سیاسة المنصور فتبناها ، ولعله بقی یسکت عن عثمان الی آخر

ص: 516

عمره ، فلم أجد له مدحاً ممیزاً لعثمان ، بل وجدته یروی کره المسلمین له ومنعهم دفن جثته فی مقابرهم ! قال ابن عبد البر فی الإستیعاب:3/1047: (عن مالک قال: لما قتل عثمان ألقی علی المزبلة ثلاثة أیام ! فلما کان من اللیل أتاه اثنا عشر رجلاً فیهم حویطب بن عبد العزی وحکیم بن حزام وعبد الله بن الزبیر وجدی فاحتملوه ، فلما صاروا به إلی المقبرة لیدفنوه ناداهم قوم من بنی مازن: والله لئن دفنتموه هنا لنخبرن الناس غداً ! فاحتملوه وکان علی باب وإن رأسه علی الباب لیقول طق طق ! حتی صاروا به إلی حش کوکب فاحتفروا له ، وکانت عائشة بنت عثمان معها مصباح فی جرة فلما أخرجوه لیدفنوه صاحت ، فقال لها ابن الزبیر: والله لئن لم تسکتی لأضربن الذی فیه عیناک ! قال فسکتت فدفن).

لهذا نشک فی روایة الذهبی فی تاریخه:9/468 ، أن المنصور عد عثمان من الخلفاء الشرعیین للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: (قال الربیع بن یونس الحاجب: سمعت المنصور یقول: الخلفاء أربعة: أبو بکر وعمر وعثمان وعلی ، والملوک أربعة: معاویة وعبد الملک وهشام وأنا). فإن صح فهو فی آخر خلافته ، ولا یدل علی تغییر سیاسته !

7- المنصور یؤسس المذاهب مقابل مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام)

تصوَّر المنصور أنه بقتل الإمام الصادق(علیه السّلام)قضی علی المرجعیة العلمیة لأهل البیت(علیهم السّلام)، فهو الآن یعین للمسلمین مراجعهم ویرسم لهم عقائدهم وفقههم ! وکان رأیه أن یحصر المذاهب فی مذهب واحد ویُجبر الناس علیه بالسیف والسوط ، فأحضر أنس بن مالک الفارسی ، وأمره أن یؤلف کتاباً سهلاً موطأً لیفرضه علی الناس ویحرم غیره !

قال له بدهائه: (لم یبق علی وجه الأرض أعلم منی ومنک ! وإنی قد شغلتنی

ص: 517

الخلافة ، فضع أنت للناس کتاباً ینتفعون به ، تجنب فیه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة . قال مالک: فوالله لقد علمنی التصنیف یومئذ) ! ( مقدمة ابن خلدون/18 ، وسیر الذهبی:8/111). قال مالک: (فقلت له: إن أهل العراق لا یرضون علمنا (لأنهم شیعة أو متأثرون بهم)! قال: یُضربُ علیه عامَّتُهم بالسیف وتقطع علیه ظهورهم بالسیاط) ! (ترتیب المدارک لعیاض/124). وشرط علیه المنصور أن لا یروی عن علی(علیه السّلام)! ولذلک لاتجد فی الموطأ أی روایة عن علی(علیه السّلام)! (مستدرک الوسائل:1/20) .

ووعده المنصور أن یعظمه ویجعل کلامه کالقرآن ، ویفرضه علی المسلمین فرضاً ! قال مالک: (دخلت علی أبی جعفر وقد نزل علی مثال له ، یعنی فرشه ، وإذا علی بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان ، وجاء صبی یخرج ثم یرجع فقال لی: أتدری من هذا؟ قلت: لا . قال: هذا ابنی... ثم قال: والله لئن بقیت لأکتبن قولک کما تکتب المصاحف ، ولأبعثن به إلی الآفاق فلأحملنهم علیه). (سیر الذهبی:8/61) .

وقالوا فی صفة مالک: (مالک الإمام ، هو شیخ الاسلام ، حجة الأمة.. مالک بن أنس بن مالک بن أبی عامر.. الأصبحی...حلیف بنی تیم من قریش ، فهم حلفاء عثمان أخی طلحة بن عبید الله أحد العشرة.. وأمه هی: عالیة بنت شریک الأزدیة.. مولد مالک علی الأصح فی سنة ثلاث وتسعین..کان طوالاً جسیماً عظیم الهامة أشقر ، عظیم اللحیة ، أصلع ،وکان لا یُحْفی شاربه ویراه مُثْلَة.. أزرق العینین تبلغ لحیته صدره ویلبس الثیاب الرفیعة البیاض ). (سیر الذهبی:8/48، و70، والعبر:1/273).

هکذا قال مالک إنه عربی حلیف لبنی تیم ، لکن المؤرخ ابن إسحاق وغیره قالوا إنه فارسی ولیس عربیاً ، فهو مولی لبنی أصبح وهم حلفاء لبنی تیم ، قال ابن حبان فی الثقات:7/382: ( لم یکن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس وأیامهم من محمد بن إسحاق ، وکان یزعم أن مالکاً من موالی ذی أصبح ، وکان مالک یزعم أنه من

ص: 518

أنفسهم فوقع بینهما لهذا مفاوضة ، فلما صنف مالک الموطأ قال بن إسحاق: أئتونی به فإنی بیطاره ! فنقل ذلک إلی مالک فقال: هذا دجال من الدجاجلة یروی عن الیهود ! وکان بینهم ما یکون بین الناس حتی عزم محمد بن إسحاق علی الخروج إلی العراق ، فتصالحا حینئذ فأعطاه مالک عند الوداع خمسین دیناراً نصف ثمرته تلک السنة ، ولم یکن یقدح فیه مالک من أجل الحدیث ، إنما کان ینکر علیه تتبعه غزوات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن أولاد الیهود الذین أسلموا وحفظوا قصة خیبر وقریظة والنضیر وما أشبهها من الغزوات عن أسلافهم ، وکان بن إسحاق یتتبع هذا عنهم لیعلم من غیر أن یحتج بهم ، وکان مالک لا یری الروایة إلا عن متقن صدوق فاضل یحسن ما یروی).

وفی مقدمة سیرة ابن هشام:1/20: ( فکان هذان الأمران سبباً فی انحراف مالک عن ابن إسحاق وإطلاقه لسانه فیه ، فکان ینال من عرضه ویجرحه) .

لکن یبدو أن طعن مالک فی عرض ابن إسحاق کان جواباً علی طعن ابن إسحاق فی عرض مالک ، لأن أم مالک عالیة بنت شریک ولدته بعد ثلاث سنوات !

قال البیهقی فی سننه:7/443: ( سمعت الولید بن مسلم یقول: قلت لمالک بن أنس: إنی حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزید المرأة فی حملها علی سنتین قدر ظل المغزل ! فقال: سبحان الله من یقول هذا... قد یکون الحمل سنین ، وأعرف من حملت به أمه أکثر من سنتین ! یعنی نفسه..ثنا محمد بن عمر بن واقد فی ذکر مالک بن أنس أن أمه حملت به فی البطن ثلاث سنین) .

وقال الخرشی فی شرح مختصر خلیل:1/151: ( قوله: وَحَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ ثَلاثَ سِنِینَ ، قال بکار بن عبدالله الزبیری: والله أنضجته الرحم ، أی فصار کامل العقل سدید الرأی ). ونحوه ترتیب المدارک للقاضی عیاض/49 . وهکذا یجعلون النقص فضیلة ! فإن

ص: 519

الطب یرفض إمکانیة هذا الحمل ، کما لم یقل أحد إن طول الحمل یوجب إنضاج الجنین بدنیاً أو ذهنیاً ! فهل یقول هؤلاء إن شقرة مالک وزرقة عینیه وطول لحیته وشواربه ، بسبب الثلاث سنوات التی بقیها فی بطن أمه !

لکن أتباع المنصور لم یکتفوا بالتغاضی عن طعن ابن إسحاق فی مالک وقوله إنه مولی بنی أصبح ولیس منهم ، ولا بحثوا هل یوجد فی بنی أصبح أو فی عشیرة أمه عالیة الأزدیة شقران زرق العیون ، ولا بحثوا فی تفسیر حمل أمه به ثلاث سنوات وهل کان ذلک بعد طلاقها من أبیه ، أم کانت علی ذمته وأصیبت بأمراض نسائیة فتخیلتها حملاً ؟ بل جعلوا ذلک منقبة لمالک ، ووخالفوا بدائه الطب والعلم فقالوا إنه نضج فی رحم أمه واستوی ، وکمل عقله أکثر من غیره !

وصدقوا مالکاً وقلدوه فی طعنه بابن إسحاق ، فلم یرووا عنه إلا تأییداً لما رواه مالک وأمثاله ! فقد أرادوا من محمد بن إسحاق(رحمه الله)أن یکون مثل ربیعة المعروف بربیعة الرأی: قال فی تاریخ بغداد:8/423، عن بکر بن عبدالله الصنعانی قال: (أتینا مالک بن أنس فجعل یحدثنا عن ربیعة الرأی بن أبی عبد الرحمن فکنا نستزیده حدیث ربیعة ، فقال لنا ذات یوم: ما تصنعون بربیعة هو نائم فی ذاک الطاق ! فأتینا ربیعة فأنبهناه ، فقلنا له: أنت ربیعة بن أبی عبد الرحمن؟ قال: بلی ، قلنا: ربیعة بن فروخ ؟ قال بلی ، قلنا ربیعة الرأی ؟ قال بلی. قلنا هذا الذی یحدث عنک مالک بن أنس؟ قال بلی ، قلنا له: کیف حظی بک مالک ولم تحظ أنت بنفسک؟قال أما علمتم أن مثقالاً من دولة خیر من حمل علم)! (ووفیات الأعیان:2/288).

ولم یغفر مالک ذنب محمد بن إسحاق وتهمته له فی نسبه ، بل حرک علیه الوالی العباس فی المدینة لینفیه منها ، حتی لا تخرب ثقة الناس بالمفتی الأعظم للدولة العباسیة العتیدة ! فنفاه الوالی وأعطاه مالک دنانیر لعله یشتری سکوته ، لکن ابن

ص: 520

إسحاق واصل طعنه فیه ، فرد علیه مالک وأفتی بأنه دجال ! (قال رجل: کنت بالری عند أبی عبید الله وزیر المهدی فقال ابن إسحاق: هاتوا أعرضوا علیَّ علوم مالک ، فإنی أنا بیطارها ! فقال مالک: دجال من الدجاجلة یقول هذا ! نحن نفیناه من المدینة ) ! (سیر الذهبی:7/50 ، وتاریخ بغداد:1/238).

فقد اعترف مالک بأنه کام وراء نفیه ، فذهب ابن إسحاق الی المهدی بن المنصور حاکم إیران ، وکان یحرک العباسیین علی مالک ! واستطاع بمساعدة المهدی أن یمنع تأثیر حملة مالک علیه وتشهیره به بأنه شیعی ! فقبله المنصور وطلب منه تألیف کتاب المغازی !

8- لم یکمل المنصور مشروعه فی الإمام مالک

قد یکون الطعن فی نسب مالک أحد الأسباب فی برود المنصور فی مشروعه ، فلم یُصدر مرسوماً بتعمیم کتاب الموطأ ، بل تبنی فقهاء آخرین مع مالک ، هم أبو حنیفة وابن شبرمة وابن أبی لیلی وغیرهم ، وعینهم فی مناصب ووجه الناس الی فتاویهم ، وسار أولاده علی خطه فتبنی الرشید مذهب أبی حنیفة وعین تلمیذه أبا یوسف القاضی مفتی الدولة وقاضی قضاتها .

لکن الرشید مع ذلک أعاد الإعتبار الی مالک بعد إهماله ، وأغدق علیه المال فاستغنی مالک بعد فقره الشدید حتی باع خشب سقف بیته ! (مجلة تراثنا:27/68).

(ولما أراد الرشید الشخوص إلی العراق قال لمالک: ینبغی أن تخرج معی فإنی عزمت أن أحمل الناس علی الموطأ کما حمل عثمان الناس علی القرآن (مفتاح السعادة:2/87). ثم أراد هارون أن یعلق الموطأ علی الکعبة (کشف الظنون:2/1908)! ونادی منادی الحکومة: ألا لا یفتی الناس إلا مالک بن أنس(وفیات الأعیان:3/284) .واشتهر مالک بن أنس بالغناء وهذا ما نص علیه غیر واحد (نهایة الأرب :4/229، والأغانی:2/75.

ص: 521

راجع الأحادیث المقلوبة/للسید المیلانی/38). قال الذهبی فی سیره:8/55: (وقصده طلبة العلم من الآفاق فی آخر دولة أبی جعفر المنصور وما بعد ذلک ، وازدحموا علیه فی خلافة الرشید وإلی أن مات) .

9- لماذا لم یتبنَّ المنصور محمد بن إسحاق ؟

أما لماذا لم یتبنَّ المنصور محمد بن إسحاق مع شهادة العلماء بأنه أعلم من مالک ، فالسبب أن ابن إسحاق شیعی وقد غلب علیه التاریخ والحدیث ، بینما مالک سنی وغلب علیه الفقه ولا معرفة له بالتاریخ وقد طعنوا فیه کمحدث !

وقد شهد کبار أئمتهم فی ابن إسحاق ، لکن ذلک لم ینفعه عند المنصور ، ولا عند المتعصبین لمالک علیه ! فقد کان شعبة یقول: (محمد بن إسحاق أمیر المؤمنین فی الحدیث) . (تاریخ بغداد:1/243).

وقال أبو معاویة الحافظ: (کان ابن إسحاق أحفظ الناس ، وکان إذا کان عند الرجل خمسة أحادیث أو أکثر ، جاء واستودعها ابن إسحاق ، یقول: إحفظها عنی فإن نسیتها کنت قد حفظتَها علی) ! (سیر الذهبی:7/51).

وقال ابن عیینة: (ما رأیت أحداً یتهم ابن إسحاق ! وقال لی علی بن عبد الله: نظرت فی کتاب ابن إسحاق ، فما وجدت علیه إلا فی حدیثین ، ویمکن أن یکونا صحیحین) . (تاریخ بغداد:1/246).

وقال یزید بن هارون: ( لو کان لی سلطان لأمرت بن إسحاق علی المحدثین وأما مالک رحمه الله تعالی فإنه نال منه بانزعاج وذلک لأنه بلغه أنه یقول أعرضوا علیَّ علم مالک فأنا بیطاره ! فغضب مالک) . (تذکرة الحفاظ للذهبی:1/173).

ص: 522

10- کیف کان المنصور یُعامل الذین نصبهم أئمة للمسلمین؟

بعد أن سیطر وتمکَّن سلطانه، وقتل الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)، وأظهر اهتمامه بالفقهاء والمحدثین..توافد علیه العلماء متقربین الیه ، لعله یختار أحدهم فیجعله إماماً کما فعل بمالک ، أو یقبل کتابه فیعطیه ویغنیه ! لکن المنصور لم یکن یقبل إلا ما یخدم هدفه ، حتی لو کان حدیث جده عبد الله بن عباس !

قال أحمد بن حنبل فی العلل:2/312: (قدم بن جریج علی أبی جعفر(المنصور) فقال له: إنی قد جمعت حدیث جدک عبد الله بن عباس ، وما جمعه أحد جمعی ، أو نحو ذا ، قال: فلم یعطه شیئاً ! فضمه إلی سلیمان بن مجالد... فأحسن إلی ابن جریج یعنی أعطاه وأکرمه ، فقال له بن جریج: ما أدری ما أجزیک به ، ولکن خذ کتبی هذه فانسخوها فبعضها سماع وبعضها عرض).

أقول: لم یفهم ربیعة الرأی التوجه السیاسی للمنصور ضد علی(علیه السّلام)وأبنائه ، وأن أحادیث جده ابن عباس لا تنفعه ! فقد کان ابن عباس تلمیذاً مطیعاً لعلی(علیه السّلام)، مدافعاً عنه ، ناطقاً بفضائله ، صادعاً بتفسیر آیات الله فیه ، وأحادیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) القاصعة فی مکانته فی الإسلام ووصیته له بالخلافة ! وکلها تنقض ما یریده المنصور من تمجید جده العباس وأنه الوارث والمورث الوحید للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وبعده أبو بکر وعمر رغم طمعهما وأخذهما الخلافة وهی للعباس وأولاده ! لکن رضی الله عنهما فهما خیر من علی وأبناء علی الذین نازعوهم !

وتقدم کیف کان المنصور یعامل أبا حنیفة ، وقوله له: (أنت صاحب حیل ، فالله شاهد علیک أنک بایعتنی صادقاً من قلبک؟ قال: الله یشهد علیَّ حتی تقوم الساعة ! فقال: حسبک . فلما خرج أبو حنیفة قال له أصحابه: حکمت علی نفسک بیعته حتی تقوم الساعة ! قال: إنما عنیت حتی تقوم الساعة من مجلسک إلی بول أو

ص: 523

غائط أو حاجة حتی یقوم من مجلسه ذلک) ! (کتاب الإتقاء لابن عبد البر/159).

وتقدم إجبار المنصور أبا حنیفة أن یعمل فی عدِّ الآجر فی بناء بغداد ! مع أنه تبنی مذهبه ، وجعل حفیده الرشید تلمیذه أبا یوسف قاضی قضاة الدولة !

وکذلک کان تعامل المنصور مع بقیة الفقهاء الکبار الذین عین منهم قضاة وعزلهم ! أو جعلهم أئمة مذاهب ثم أهانهم أو أهملهم أو قتلهم کأبی حنیفة ! ومن أشهرهم بعد مالک وأبی حنیفة وأبی یوسف القاضی: ابن شبرمة ، وابن أبی لیلی ، وسوار بن عبدالله ، وشریک بن عبد الله وأیاس بن مطیع ، وعبدالله بن المبارک .

ونختم بهذا النموذج من شیطنة المنصور واحتقاره لهم:

قال ابن حیان فی أخبار القضاة:3/142: (قال

محمد بن عبد الرحمن بن أبی لیلی: تغدیت عند أبی جعفر وقد ولانی الفتیا ، فأتی بصحفة مصببة فیها مثال رأس ، فقال لی: خذ أیها الرجل من هذا ، فجلعت أضرب بیدی إلی الشئ فإذا وضعته فی فمی لم أحتج إلی مضغه یسیل ! فلما فرغنا جعل یلعق بیده الصحفة ویلحسها فقال: یا محمد تدری ما تأکل؟ قلت: لا یا أمیر المؤمنین ! قال هذا مخ الثنیتان معقود بالسکر الطبرزد ! تدری بکم تقوَّم الصحفة ؟ قلت: لا یا أمیر المؤمنین ! قال . بثلاثمائة وبضعة عشر...فلما خرج ابن أبی لیلی من عنده رفع رأسه إلیَّ مع الحاجة فقال: یا ربیع لقد أکل الشیخ عندنا أکلة لا یفلح بعدها أبداً ).

أقول: یقصد المنصور أن هذا القاضی مادام أکل هذه الأکلة فقد عشقها وأدمن علیها ، وسیبیع دینه من أجلها ویکون مطیعاً للمنصور فلا یفلح بعد الیوم ! وفی ذلک دلالات عدیدة ! والطبرزد نوع من السکر ، ولم أجد معنی کلمة مخ الثنیتان أوالثیتان ، ویشبه أن یکون مخ طائر معین لارتفاع ثمن الطبق منه فهو یعادل فی عصرنا عشرة آلاف دولار ! لأن ثمنه أکثر من300 درهم ، وثمن

ص: 524

الخروف الجید یومها خمسة دراهم أو أربعة (أسد الغابة:3/341) وثمن الأرنب ربع درهم (جامع بیان العلم لابن عبد البر:2/104).

وربما کان فی أکلة المنصور خمر أو مادة مخدرة توجب الإعتیاد ! ولعلها من أکلات ملوک الفرس والروم ، وقد ذکر ابن حمدون فی تذکرته:1/11، شبیهاً لها عند معاویة ، قال: (قال الأحنف: دخلت علی معاویة فقدم إلیَّ من الحلو والحامض ما کثر تعجبی منه ، ثم قدم لوناً ما أدری ما هو ، فقلت ما هذا؟ قال: مصارین البط محشوة بالمخ (مخاخ العصافیر) قد قلیَ بدهن الفستق وذُرَّ علیه الطبرزد ، فبکیت ، فقال ما یبکیک ؟ قلت: ذکرت علیاً ، بینا أنا عنده فحضر وقت إفطاره فسألنی المقام ، إذ دعا بجراب مختوم ، قلت: ما فی الجراب؟ قال: سویق شعیر ، قلت خفت علیه أن یؤخذ أوبخلت به ؟ قال: لا ولا أحدهما ، ولکنی خفت أن یلتَّه الحسن والحسین بسمن أو زیت . قلت: محرم هو یا أمیر المؤمنین؟ قال: لا ولکن یجب علی أئمة الحق أن یعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا یٌطغی بالفقیر فقره ! قال معاویة: ذکرتَ من لا ینکر فضله). ونثر الدرر/137 ، وحلیة الأبرار:2/233.

ص: 525

ختام

الی هنا ننهی هذا المجلد ، ولا یتسع المجال فیه لدراسة تأسیس المنصور للمذاهب الأربعة ، فنشیر الی أنه أسس منها مذهبین هما المالکی والحنفی ، ثم تفرع عنهما مذهبان لتلامیذهما هما الشافعی والحنبلی .

وتوجد بحوث مفصلة فی کیفیة تبنی الحکومات بعد المنصور لهذه المذاهب ، وکیف نشرتها فی الناس ، ولعلنا نخصها بمجلد نکشف فیها الحقائق المدهشة !

والی جانب إطلاق المنصور بدعة المذهب الواحد أو المذاهب ، واصل هو وأولاده سیاسة إبادة العلویین ، واضطهاد الأئمة المعصومین من أهل البیت(علیهم السّلام) ، فقتل حفیده الرشید الإمامَ الکاظم بن جعفر الصادق(علیهماالسّلام) بالسُّم فی سجنه ، وقتل المأمون الإمام الرضا بن الکاظم(علیه السّلام)بالسم وهو ولی عهده ، وقتل المعتصم الإمام محمد الجواد(علیه السّلام) بالسم وهو صهره ، وقتل المتوکل الإمام علی الهادی(علیه السّلام)بعد أن أجبره علی الإقامة فی عاصمته سامراء ! وقتل المعتمد الإمام الحسن العسکری(علیه السّلام) لما رآه من آیاته ، وعمل لقتل ابنه المهدی(علیه السّلام)الإمام الثانی عشر لأنه الأخطر علیهم ، فحفظه الله تعالی وغیَّبه ومدَّ فی عمره ، وادَّخره مع ولیه الخضر وجنوده فی الغیب وملائکته ، یعملون بأمره وعلمه اللدنی ، حتی یحقق فیه هدفه ویظهر به الدین علی الدین کله ، ویملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً . وَاللهُ غَالِبٌ عَلَی أَمْرِهِ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ .

ص: 526

فهرس المجلد الخامس من کتاب جواهر التاریخ

مقدمة

الفصل الأول: عمل الأئمة(علیهم السّلام)ککل ودور الإمام الباقر(علیه السّلام)

1- الأئمة الإثنا عشر(علیهم السّلام)وحدةٌ فی الهدف وتعدُّدٌ فی الأدوار. 11

2- دور الإمام الباقر(علیه السّلام)فی اللوح المقدس. 16

3- صحیفة الوصیة التی نزل بها جبرئیل(علیه السّلام) 18

4- صحیفة الولایة والبراءة فی قراب

سیف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). 22

5- صحیفة رموز العلوم فی قراب سیف علی(علیه السّلام) 23

6- ملاحظات علی حدیث اللوح وصحف

الوصیة 24

الفصل الثانی: سماه جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )باقر علم النبوة وبشَّر به الأمة

1- اشتهر(علیه السّلام)بهذا الإسم ورواه المؤالف والمخالف 29

2- وروی علماء السنة حدیث بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالباقر(علیه السّلام) 32

3- قبل المتعصبون لقب الباقر وغیَّبوا حدیث جابر ! 35

4- شهد مخالفو الإمام(علیه السّلام)وأعداؤه بعلمه وقداسته ! 35

5- ملاحظات علی بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )به وتسمیته بالباقر(علیه السّلام) 39

6- لماذا غصَّ الذهبی وابن تیمیة بحدیث جابر؟! 42

7- ابن تیمیة فهم لقب الباقر(علیه السّلام)أکثر من الذهبی ! 46

8- أهم المجالات التی فجَّر فیها الإمام(علیه السّلام)علم النبوة للأمة 49

9- نماذج من علم الإمام(علیه السّلام)فی المجالات المتقدمة 50

ص: 527

الفصل الثالث: شخصیة الإمام الباقر(علیه السّلام)وعصره

1- ولادة الإمام الباقر(علیه السّلام)وصفته البدنیة 63

2- أدرک الإمام الباقر جده الإمام الحسین(علیهماالسّلام) 64

3- وکان عضد أبیه الإمام زین العابدین(علیهماالسّلام) 65

4- لمحة عن عبادة الإمام(علیه السّلام)وأخلاقه 68

5- الجبارون فی عصر الإمام الباقر(علیه السّلام)کالجبارین فی عصر هود(علیه السّلام) 68

6- الجبارون ومشاریع الجبارین الذین عاصرهم الإمام(علیه السّلام) 70

7- الإمام یصف حالة أهل البیت(علیهم السّلام)وشیعتهم فی زمن بنی أمیة 72

8- صَمَتَ الإمام الباقر سبعَ سنین بعد أبیه(علیهماالسّلام)

74

9- کان عهد عمر بن عبد العزیز منطلقاً للإمام الباقر(علیه السّلام) 76

10- نقاط إیجابیة من عصر ابن عبد العزیز 78

الفصل الرابع: تصعید الإمام الباقر(علیه السّلام)مواجهته للنظام الأموی

1- الإمام الباقر(علیه السّلام)یُعلی صَرْحَ التشیع 87

2- أهم فعالیات الإمام(علیه السّلام)لإعلاء صرح الإسلام ورد التحریف 91

4- الإمام الباقر(علیه السّلام)یتبنی الشاعرین کُثَیِّر عَزَّة والکُمَیْت 94

5- الإمام الباقر(علیه السّلام)یتحدی الخلیفة هشام الأحول 108

6- الإمام الباقر(علیه السّلام)یأمر ابنه جعفر(علیه السّلام)أن یصدع بولایة العترة فی الحج ! 114

7- هشام الأحول یقتل الإمام الباقر(علیه السّلام)بالسم

128

الفصل الخامس: الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)

1- مولده وشهادته(علیه السّلام) 131

2- سماه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جعفراً الصادق(علیه السّلام) 132

3- الإمام الصادق(علیه السّلام)وزیر أبیه ووصیه 133

4- أوصاه أبوه بجیل تلامیذه(علیهماالسّلام)وشیعته 134

ص: 528

5- لمحة عن عبادة الإمام الصادق(علیه السّلام)ومعجزاته

136

6- الإمام الصادق(علیه السّلام)أبو المذاهب بشهادة أئمتها 138

7- أصحاب وتلامیذ خاصون للإمامین الباقر والصادق(علیه السّلام) 145

أ- جابر بن یزید الجعفی(رحمه الله)145

ب- _ علی بن یقطین(رحمه الله)وزیر الخلفاء العباسیین

164

ج- والی العراق یزید بن عمر بن هبیرة 169

د- جابر بن حیان 172

ه-- الخلیل بن أحمد الفراهیدی 178

کل اتجاه علمی ودم جدید فی الأمة وراؤه أهل البیت(علیهم السّلام) 187

الفصل السادس: کیف تعمدت السلطة

وأتباعها تضییع علم العترة(علیهم السّلام) !

1- أجیالٌ من الرواة والعلماء خَرَّجَها الإمامان الباقر

والصادق(علیهماالسّلام) 191

2- شهادات علمائهم بأن الباقر(علیه السّلام)نشر علمه !

194

3- طبقات أصحاب الإمامین الباقرین(علیهماالسّلام)وثروة کتبهم العظیمة 197

4- یقدسون الأئمة(علیهم السّلام)ویشهدون بأنهم أعلم ولا یروون عنهم ! 200

5- کیف أبادوا کتب علمائنا..کتب ابن عقدة نموذجاً 207

6- سؤال یبقی بلا جواب: لماذا لاتتلقون دینکم من أئمة

العترة(علیهم السّلام)؟! 214

الفصل السابع: الشعبیة الواسعة لأهل البیت(علیهم السّلام)وثورة زید وابنه یحیی

1- إفاقة الأمة علی الظلم الأموی 217

2- ثورة زید بن علی(رحمه الله)فتحت باب الثورة من جدید

222

3- ثورة یحیی بن زید(رحمه الله)فی إیران 229

4- ثورة عبدالله بن معاویة بن عبدالله جعفر 236

الفصل الثامن: الحسنیون والحسینیون فی موجة تأیید الأمة لأهل البیت(علیهم السّلام)

1- مناقبیة الأخوَّة عند الإمامین الحسن والحسین(علیهماالسّلام) 243

ص: 529

2- زید بن الإمام الحسن(علیه السّلام)وذریته 244

3- الحسن بن الإمام الحسن(علیه السّلام)وذریته 245

4- عبد الله بن الحسن المثنی أبو الثورة العباسیة 246

5- عداوة عبدالله بن الحسن وأولاده للأئمة(علیهم السّلام) 249

6- موقف الأئمة(علیه السّلام)من الثوار الحسنیین 252

7- استبصار ابن عبدالله بن الحسن وحدیثه عن موقف الإمام الصادق(علیه السّلام) 254

8- عبدالله بن الحسن یدعو الی مؤتمر الأبواء لبیعة ابنه

270

8- عبدالله بن الحسن یدعو الی مؤتمر الأبواء لبیعة ابنه

270

9- الحسنیون یُقنعون فقهاء البصرة والمدینة بمبایعة مهدیهم ! 275

10- فقهاء البصرة یحاولون إقناع الإمام الصادق(علیه السّلام)برأیهم 280

11- لم یستفد الحسنیون من القاعدة الزیدیة وضیعوا فرصاً

ذهبیة 284

12- رسالة أبی سلمة الخلال الی الإمام الصادق(علیه السّلام)وبقیة العلویین 287

13- بیعة الإیرانیین للسفاح وطلبه حضور الحسنیین للبیعة

290

14- جعل المنصور هدفه الأول القبض علی مهدی الحسنیین 291

الفصل التاسع: ثورة مهدی الحسنیین

وأخیه إبراهیم علی المنصور

1- الحسنیون ولعنة ادعاء المهدویة ! 299

2- الرسائل المتبادلة بین المنصور ومهدی الحسنیین 305

3- وأوصی مهدی الحسنیین الی أخیه إبراهیم ثم الی ابن زید 312

4- ثورة ابراهیم بن الحسن المثنی فی البصرة 313

5- تفرَّقَ الحسنیون بعد مقتل إبراهیم فی العالم وأقاموا

دولاً ! 327

الفصل العاشر: العباس وأولاده..أسماء کبیرة وأفعال صغیرة

1- کان العباس وأولاده أتباعاً لعلی وأولاده(علیهم السّلام)

329

2- عبدالله بن العباس بن عبد المطلب 332

3- علی بن عبدالله بن عباس ، جد الأملاک 334

4- علی بن عبدالله بن عباس قتل أخاه ! وابنه محمد قتل طفله ! 337

ص: 530

5- تمیز الأئمة الحسینیین(علیهم السّلام)علی العباسیین والحسنیین 340

الفصل الحادی عشر: الثورة علی الأمویین إیرانیة ولیست عباسیة !

1- أسلمت إیران فدخلت طاقةً جدیدةً فی صناعة حیاة الأمة 341

1- أسلمت إیران فدخلت طاقةً جدیدةً فی صناعة حیاة الأمة 341

2- الإیرانیون أذکی من استغل موجة نقمة الأمة علی بنی أمیة 344

3- ضعف النشاط العباسی قبل بکیر بن ماهان 345

4- بکیر بن ماهان مهندس الثورة علی الأمویین 350

وکان بکیر حریصاً علی إعطاء عمله بعداً غیبیاً ، کإمامه

محمد العباسی 355

الفصل الثانی عشر: قادة الثورة یعرضون البیعة علی الإمام الصادق(علیه السّلام)

أبو سلمة الخلال خلیفة بکیر بن ماهان وأکفأ منه 359

وحبس أبو سلمة الخلال کل بنی العباس فی الکوفة ! 365

وعرض أبو سلمة الخلافة مجدداً علی الإمام الصادق(علیه السّلام) 368

وعرض أبو مسلم الخراسانی الخلافة علی الإمام الصادق(علیه السّلام) 370

لماذا رفض الإمام الصادق(علیه السّلام)أن یتسلم السطة ؟ 377

کما رفض الإمام الصادق(علیه السّلام)عرضاً من شیعته فی الکوفة 380

الفصل الثالث عشر: الثورة کالقطة تأکل أولادها.. وأباها وأمها

کیف أکلت الثورة قائدها العام أبا سلمة الخلال؟! 381

ویاحاطباً فی غیر حَبْلک تَحْطِبُ ! 383

الغلام العبقری سفاک الدماء ، أبو مسلم الخراسانی 387

الطاغیة العباسی یسحب العفریت من حلوان الی حتفه !

401

شهدت خراسان ثلاثة أنواع من الثورة 409

الفصل الرابع عشر: المنصور الدوانیقی مهندس الخلافة العباسیة

1- هویة المنصور ونشأته 411

ص: 531

2- یکذب ویسرق حتی سمته أمه: (مقلاص) ! 413

3- سماه أبو حنیفة اللص المتغلب علی الخلافة ! 414

4- ذهبت به أمه سلامة الی البصرة وهو غلام 414

5- تعرف فی سجن الأهواز علی نوبخت المنجم ! 415

6- کان فی المدینة ضیفاً ، لا منزل له ولا لأبیه فیها ! 416

7- لماذا هرب المنصور فی زمن الأمویین ؟ 417

8- من الذی سماه الدوانیقی أو أبو الدوانیق ، والمنصور ؟

418

9- المنصور الجبار والفرعون 421

10- المنصور یجبر المسلمین علی عبادته وعبادة أسرته !

423

11- المنصور یتبنی منطق معاویة القدری ویجعل فعله فعل الله ! 424

12- المنصور یدعی أنه فوق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ویفرح بمن ادعوا له الألوهیة ! 425

13- المنصور القاتل المتعطش للدماء 426

14- لم یعجبه کتاب الأمان لعمه فقتل کاتبه ابن المقفع !

427

15- وَقَّعَ المنصور عهد الأمان لعمه الذی کتبه ابن المقفع

ثم قتله ! 431

16- ذنبه أنه شاب جمیل من ذریة علی وفاطمة(علیهماالسّلام)! 434

17- دفن المنصور عدداً من العلویین أحیاءً فی أسطوانات بغداد ! 435

18- القتل المفرد لایکفیه فقرَّر المنصور إبادة أبناء علی

وفاطمة(علیه السّلام) 436

19- وأوصی ولده المهدی أن یتابع سیاسة الإبادة لأبناء علی وفاطمة(علیهماالسّلام) 437

20- السم من أقدم أسلحة الجبابرة لقتل الناس 438

21- للذین یقرؤون المنصور من زوایا أخری 439

الفصل الخامس عشر: المنصور الدوانیقی عمر بن الخطاب الثانی !

مشروع المنصور فی صیاغة الإسلام العباسی 441

الهدف الأول للمنصور: تعظیم العباس عم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) 443

الهدف الثانی للمنصور: الطعن فی علی(علیه السّلام)والتنقیص من مکانته ! 454

المنصور یشن حملة علی رواة فضائل علی(علیه السّلام)

462

ص: 532

طوَّع المنصور الفقهاء لخدمة مشروعه ! 463

الهدف الثالث: إرغام أنف بنی علی(علیه السّلام)بتعظیم أبی بکر وعمر 474

استمر مرسوم المنصور فی خطب الجمعة 558 سنة 476

تحول مرسوم المنصور الی فتوی بقتل من یشتم الصحابة ، إلا علیاً(علیه السّلام) 479

وأطاع فقهاء المذاهب المنصور ، وزادوا علیه ! 481

المنصور یواجه رفض أهل الکوفة لأبی بکر وعمر 481

بقیت فتوی المنصور فعالة الی عصرنا رغم الأدلة العلمیة ضدها ! 484

الفصل السادس عشر: جعل الدوانیقی أکبر أهدافه قتل الإمام الصادق(علیه السّلام)

1- استکمل المنصور حروبه وانتصاراته.. وصار إمبراطوراً ! 487

2- المنصور وکل (الخلفاء) یعرفون أن أئمة العترة(علیهم السّلام)أئمة ربانیون ! 489

3- عقدة المنصور من الإمام الصادق(علیه السّلام) 492

4- ملاحظات علی نصوص إحضار المنصور للإمام(علیه السّلام) 501

5- مضی الإمام شهیداً لکن بعد أن عبَّد الطریق الذی شقه

أبوه(علیهماالسّلام) 514

6- وارتاح المنصور الجبار وتنفس الصعداء لأنه..قتل الإمام(علیه السّلام)! 516

7- المنصور یؤسس المذاهب مقابل مرجعیة أهل البیت(علیهم السّلام) 517

8- لم یکمل المنصور مشروعه فی الإمام مالک 521

9- لماذا لم یتبنَّ المنصور محمد بن إسحاق ؟ 522

10- کیف کان یُعامل المنصور الذین نصبهم أئمة للمسلمین؟ 523

ص: 533

أهم مضامین مجلدات جواهر التاریخ

یتضمن المجلد الأول: تمهیداً فی أحد عشر قانوناً فی الهدایة والضلال . رفض قریش للعهد النبوی وترتیبها بیعة السقیفة . مأساة العترة النبویة(علیهم السّلام)علی ید قریش . الأحداث الکبری التی غطتها الحکومات بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). عداوة قریش للعترة وشنها ثلاثة حروب ضد علی(علیه السّلام) . تراجع الأمة عن مشروع إعادة العهد النبوی . شهادة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)

ویتضمن المجلد الثانی: دراسة لشخصیة أبی سفیان ومعاویة المؤسسیْن للأمبراطوریة الأمویة . جذور الطموح الأموی ودور الیهود فیه . الهویة الشخصیة لمعاویة . الطلقاء والعتقاء وذریاتهم مسلمون درجة ثانیة . غارة أتباع الأمویین علی الأحادیث النبویة . کذبة خال المؤمنین وکاتب الوحی . محاولة إثبات شرعیة معاویة بصلحه مع الإمام الحسن(علیه السّلام). خطط معاویة لتعظیم نفسه ومن یتصل به وقوله إن عمر شقّ عصا الأمة وسفک دماءها. شکُّ عمر فی نفسه خیرٌ من غرور معاویة . قتل معاویة مَن لم یشهد له بإمرة المؤمنین . معاویة یدعی أنه خلیفة الله . تعظیم معاویة للشیخین أبی بکر وعمر من أجل تعظیم نفسه وقتله أولادهما وأولاد عثمان .حسد معاویة للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتنقیصه من مقامه . استهزاء معاویة بالأنصار وقول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فیهم . سکوته عن حاخام اتهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالغدر . دین معاویة التزویر والتحریف . ابن قائد المشرکین یدعی أنه أحق بخلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . تزویره الحقائق فی قتله عماراً ومالک الأشتر وحجر بن عدی وأصحابه . تزویره رسالة له من قیس بن سعد . کذبه علی الإمام الحسن(علیه السّلام)وهو حاضر فی المجلس . قبوله شروط الإمام الحسن(علیه السّلام)ثم إعلانه عدم الوفاء بها. نقضه لتعهده بأن لایسب أمیر المؤمنین(علیه السّلام). استلحق زیاداً بنسبه وجعله أخاه ، ثم قتله .

الذین قتلهم معاویة:کان شعاره (أجمل ما فی الحیاة قتل المعارضین) . ثقافة القتل الیهودیة الأمویة . قتل فی حرب صفین أکثر من سبعین ألفاً . قتل ثلاثین ألفاً فی غارة بسر بن أرطاة علی الحرمین والیمن . قَتَلَ الألوف من أولیاء الله وزعماء العرب . قتل الصحابی عبد الرحمن بن خالد بن الولید . قتل الصحابی عبد الرحمن بن أبی بکر. هل قتلَ معاویة عائشة بنت أبی بکر . قتل الصحابی سعد بن أبی وقاص . هلک زیاد بن أبیه بدعاء الإمام الحسین(علیه السّلام)وسُمِّ

ص: 534

معاویة . قتل ابن خاله الصحابی محمد بن أبی حذیفة. ققتل الصحابی سعید بن عثمان بن عفان . قتل محمد بن أبی بکر(رحمه الله) . قتل الصحابی البطل مالک الأشتر(رحمه الله)بطل معرکة القادسیة والیرموک . ققتل الصحابی حجر بن عدی الکندی(رحمه الله) . قتله الصحابی عمرو بن الحَمِق الخزاعی(رحمه الله) . قتل الصحابیة المجاهدة زوجة عمرو بن الحمق . قتل الصحابی رُشَیْد بن عقبة الهجری من فرسان أحُد . عشرات الشخصیات من کل نوع قتلهم معاویة . هدم البیوت واضطهد المسلمین وشردهم . خطة معاویة فی القتل المعنوی لعلی(علیه السّلام)وإجبار الناس علی سبِّه . حکم مَن سَبَّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). حکم من سب علیاً(علیه السّلام) .

ویتضمن المجلد الثالث: سیرة الإمام الحسن(علیه السّلام)وتسلط بنی أمیة ومواجهة أهل البیت(علیهم السّلام) لخططهم . بیعة المهاجرین والأنصار للإمام الحسن(علیه السّلام)وانهیار الأمة فی عصره . أهداف الإمام(علیه السّلام)من خلافته . الإمام الحسن(علیه السّلام)یؤکد الحجة علی معاویة والأمة. معاویة یتحرک بجیشه نحو العراق والإمام الحسن(علیه السّلام)یحرک فی الأمة ثُمالة شعلتها . الإمام الحسن(علیه السّلام)بین المعادلة الإسلامیة والجاهلیة . ثلاث محاولات لاغتیال الإمام الحسن(علیه السّلام)فی یوم واحد . مفاوضات الصلح بین المدائن وحلب . شروط الصلح بین الإمام الحسن(علیه السّلام)ومعاویة: أن یعمل معاویة بکتاب الله وسنة رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). أن لایعهد معاویة بالخلافة بعده الی أحد بل تکون بعده للحسن(علیه السّلام) . إعلان العفو العام خاصة لشیعة علی(علیه السّلام) . أن یترک معاویة سب أمیر المؤمنین(علیه السّلام) . أن لایغتال الإمام الحسن أو الحسین(علیهماالسّلام)وآلهما . أربعة بنود مالیة . أن لایسمیه الإمام الحسن (أمیر المؤمنین) ولا یقیم عنده شهادة . الإمام الحسن(علیه السّلام)یعود من المدائن الی الکوفة . الإمام الحسن(علیه السّلام)یخطب فی الکوفة قبل أن یغادرها الی المدینة . ظلم مصادر الحکومات للإمام الحسن(علیه السّلام)وتلمیعها لمعاویة . برنامج الإمام الحسن(علیه السّلام)فی المدینة بعد الصلح . قتل معاویة للإمام الحسن(علیه السّلام) . خمس مسائل حول الحجرة النبویة الشریفة . معاویة یستمیت لأخذ البیعة لیزید ویعترف: لولا هوایَ فی یزید لأبصرت رشدی . تلمیع معاویة لیزید بتأمیره علی الحج ، وتزویر غزوة القسطنطینیة من أجل یزید . غزوة معاویة لقبرص مکذوبة کغزوة ابنه یزید . مواقف الإمامین والحسین والحسین(علیهماالسّلام)فی مواجهة معاویة .

معاویة یهوی ویسلِّم أمبراطوریته الی غلام أهوج . وصیة الأمبراطور الطاغیة الی ولده المدلل .

الهویة الشخصیة لیزید بن معاویة . لمحة عن جرائمه الکبری: کربلاء ملحمة الهدی الإلهی

ص: 535

مع الضلال البشری . استباحته للمدینة فی وقعة الحرة . استباحته مکة وضربه الکعبة بالمنجنیق . هلاک یزید وتزلزل الدولة الأمویة . معاویة ابن یزید(رحمه الله)یکشف جرائم جده وأبیه ویعلن تشیعه . المؤسس الثانی للدولة الأمویة مروان بن الحکم ملعونٌ ابن ملعون .

ویتضمن المجلد الرابع: سیرة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)ومواجهته لخطط التحریف الأموی . معالم شخصیة الإمام زین العابدین(علیه السّلام)وخطأ التَّصَوُّر السائد عن عمله .سماهُ رَبُّهُ زین العابدین وسید العابدین . معجزات الإمام زین العابدین(علیه السّلام). اعترفوا بأنه ولیٌّ یملک الإسم الأعظم . الإمام زین العابدین(علیه السّلام)فی کربلاء. من تزویرات ابن تیمیة والذهبی ضد الإمام وأهل البیت(علیهم السّلام). تلامیذ الإمام زین العابدین(علیه السّلام)وأصحابه . علاقاته مع شخصیات المجتمع ورجال الدولة . مکانة الإمام زین العابدین (علیه السّلام)فی الأمة. الإمام(علیه السّلام)یواجه التحریف الأموی. الإمام(علیه السّلام)یُشَیِّد صَرْحَ التشیع . أصحاب الإمام الخاصون الذین شیَّد بهم المجتمع الشیعی . عاصر الإمام(علیه السّلام)ثلاث ثورات ولم یخضع لضغوطها.ثورة أهل المدینة ووقعة الحّرَّة . التوابون قادة ٌوشخصیات وفرسان ممیزون . ابراهیم بن الأشتر(رحمه الله)القائد الأساسی فی ثورة المختار . أتباع الخلافة یَکْذِبُونَ لتشویه شخصیة المختار(رحمه الله) . تحفُّظ أهل البیت(علیهم السّلام)من المختار ومدحهم له وترحُّمُهم علیه(رحمه الله). مصعب بن الزبیر یهاجم الکوفة ویقتل المختار . إبراهیم بن الأشتر ینضم الی مصعب ضد بنی أمیة .الولید بن عبد الملک قاتل الإمام زین العابدین(علیه السّلام). کان الولید ناصبیاً وکان یتهم عائشة ویطعن فیها . منهجهم فی تلمیع خلفائهم . الإمام زین العابدین(علیه السّلام)والطامعون فی أوقاف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یکون مالیة لعترته ویوجههم الی تکوین مالیة خاصة . ینبع بلد علی وأهل البیت(علیهم السّلام) .

کتب أخری للمؤلف:

تدوین القرآن . الوهابیة والتوحید . عصر الظهور . المعجم الموضوعی لأحادیث الإمام المهدی. ثمار الأفکار . العقائد الإسلامیة . الإنتصار . فلسفة الصلاة . الموظف الدولی لمهاجمة الشیعة . ألف سؤال وإشکال علی المخالفین . کیف رد الشیعة غزو المغول . مکتبة الطالب . وغیرها . تجدها فی موقع:www.alameli.net

ص: 536

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.