جواهر التاریخ المجلد 1

اشارة

جواهر التاریخ .. بقلم

علی الکورانی العاملی

المجلد الأول

الطبعة الأولی 1425- 2004

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین ، وصلی الله علی سیدنا ونبینا

محمد وآله الطیبین الطاهرین

فجائع.. علی هامش عاشوراء

هزت وجدان العالم مشاهد مفجعة بثتها الفضائیات یوم عاشوراء ، من مدینتی کربلاء والکاظمیة فی العراق ، ومدینة کویته فی باکستان ، وأثارت فی القلوب ألواناً من مشاعر التعجب والحزن ! فقد رأی الناس حالة عدوان قام أصحابها بإلقاء متفجرات وسط ملایین المؤمنین الذین جاؤوا الی کربلاء لزیارة قبر حفید نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وهم ما بین دموع الحزن وأناشید الولاء !

لقد سمع الناس خبر شخص یلقی متفجرة فی أماکن العبادة ، فیقتل العشرات عشوائیاً ! لکن الجدید علیهم هذا الشخص العامی الذی عبأه مشایخه (الأتقیاء) بالعدوان ، ودفعوه لأن یلف نفسه بمتفجرات ویفجر نفسه فی وسط المحتشدین فی مراسم دینیة ، فیقتل معه عشرین أو خمسین منهم ، کباراً وصغاراً ، نساءً وأطفالاً ، لا ذنب لهم إلا أنهم جاؤواللمشارکة فی هذه المناسبة الدینیة !!

ص: 3

ومن جهة ثانیة ، أثارت هذه المشاهد مشاعر التعجب والإکبار لنُبْل الشیعة وتصرفهم تجاهها ، فقد سجل مراسلو الفضائیات دهشتهم من أمرین:

الأول ، السرعة التی انتهی فیها ذعر الناس فی مکان تفجیرات کربلاء ومناظرها المرعبة ، فقد بادر متطوعون منهم فی مکان الحادث الی نقل الجرحی وجمع الجثامین والأشلاء ، بینما واصل ملایینهم حتی الذین کانوا قرب المکان عملهم المقدس الأهم ، وهو أداء مراسمهم فی عزاء الإمام الحسین(علیه السّلام) ، فی مواکبهم الذاهبة الی حرمه المقدس أو العائدة منه ، بدموعها الحرَّی علی سید الشهداء (علیه السّلام)، ولطمها الحزین علی الصدور ، أوضربها المفجع للهامات وأناشیدها !

وقد حدثنی شخص کان علی بُعد أمتار من تفجیرات کربلاء قائلاً: لقد تعجبت من زوار الإمام الحسین(علیه السّلام) ، فما هی إلا دقائق حتی واصلوا مواکبهم بهتافهم المشهور: أبدْ والله ما ننسی حسینا ، وبعضهم أضافوا الی هتافهم: أبدْ والله بالتفجیر ما ننسی حسینا.. واستمروا فی مراسمهم وکأن شیئاً لم یحدث !!

والثانی ، قرار الصبر والعض علی الجراح ، الذی اتضح بسرعة ، وظهر منه أن الشیعة قد تبانوا علیه فیما بینهم ، واتخذوا موقفاً مسبقاً حازماً بعدم الإنجرار الی الفتنة الطائفیة ، بإجماع مراجعهم وزعمائهم ، وملایینهم الکربلائیة !

جذور الظلامة

یبقی الأمر الأهم الذی أثارته هذه الفواجع: التأمل فی سببها وجذورها الفکریة والتاریخیة ، التی جعلت قتل المسلم الشیعی (دیناً)یربی المتطرفون عوامهم علیه ، ویقنعونهم بأن الشیعی مشرکٌ مهدور الدم ، وأن علیهم أن یتقربوا الی الله تعالی بإراقة دمه ، ونهب ماله ، وهتک عرضه !

فمتی بدأت هذه الحالة فی تاریخنا الإسلامی ، وکیف تطورت ، والی أین

ص: 4

وصلت فی عصرنا الحاضر ؟!

إن الموجة المعاصرة التی نشهدها ممن یکفروننا ویستحلون دماءنا ، تعود جذورها الی المتوکل العباسی ! فهذا (الخلیفة) هو الذی تبنی مذهب مجسمة الحنابلة المتعصبین ضد الشیعة ، وشکل(میلیشیا)فی بغداد لمهاجمة مجالس عاشوراء ومنع الشیعة من إقامتها ! وسمی حزبه: أهل الحدیث، والمحدثین، وأهل السنة، وأهل السنة والجماعة، بینما سماهم المسلمون: مجسمة الحنابلة ، والنواصب.

ومما یدل علی ذلک أن الذهبی روی سخریة البغوی الإمام المعروف ، من هذه التسمیة التی خص المتوکل بها حزبه ، فقال فی سیر أعلام النبلاء:14/449:

(اجتاز أبوالقاسم البغوی بنهر طابق علی باب مسجد ، فسمع صوت مُسْتَمْلٍ فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن صاعد . قال: ذاک الصبی؟! قالوا: نعم . قال: والله لا أبرح

حتی أملی هاهنا ، فصعد دکةً وجلس ، ورآه أصحاب الحدیث فقاموا وترکوا ابن صاعد . ثم قال: حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن یولد المحدثون ! وحدثنا طالوت قبل أن یولد المحدثون ! وحدثنا أبونصر التمار.. فأملی ستة عشر حدیثاً ، عن ستة عشر شیخاً ، ما بقی من یروی عنهم سواه ) !! انتهی .

ومعنی قول البغوی: (ذاک الصبی..حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن یولد المحدثون !) أن هؤلاء الصبیان المتسمَّیْن بالمحدثین ، إنما هم أحداث جمعهم المتوکل حول أحمد بن حنبل ، وجعله إماماً لهم !

فالمتوکل هو الذی حَنْبَلهم ، أی اتخذ لهم أحمد بن حنبل المروی أو الرازی أی الطهرانی ، مولی بنی ذهل ، إماماً ، فصار إسمه: الإمام أحمد ، ودعاه الی سامراء وأقام له مراسم احترام وتجلیل ، وأشاع الإعتقاد فی العوام بکراماته ! وذات مرة مرضت جاریة المتوکل المفضلة عنده من بین أربعة آلاف جاریة ،

ص: 5

فأرسلها الی بغداد لیقرأ علیها الإمام أحمد بن حنبل دعاءه فشفیت ببرکته! وانتشر الخبر بکرامة حصلت لجاریة الخلیفة ببرکة إمام أهل الحدیث !

والمتوکل هو الذی کتب مرسوماً بنشر أحادیث التجسیم والنصب ، وبالغ فی احترام (المحدثین) الذین یروونها ویتحمسون لها ، وأغدق علیهم ، وأقام لهم المجالس الرسمیة الکبیرة ، وحَشَدَ الناس لحضورها ، وحضرها بنفسه !

والمتوکل هو الذی بَخَّرهم ، أی جعل لهم محمد بن إسماعیل بن بَرد زبه ، الفارسی أو السلجوقی ، إماماً ، فصار إسمه الإمام البخاری، وجعل کتابه: صحیح البخاری إمام مصادر السنة النبویة .

والمتوکل هو الذی شجع التجسیم وجاهر بالنصب ، وبغض علی وأهل البیت النبوی صلوات الله علیه وعلیهم ، وکان یعقد مجالس فی دار الخلافة بسامراء لإهانة علی بن أبی طالب(علیه السّلام)وسبه ! ویأتی بشخص(کومیدی) یمثل شخصیة علی(علیه السّلام) فیسخر منه ویضحک ، ویامر المغنین والمغنیات أن یغنوا بسبه ، وهو یشرب الخمر علی الغناء بشتم علی(علیه السّلام) !

والمتوکل هو الذی اضطهد شیعة علی(علیه السّلام)وتتبعهم أینما کانوا فی دولته ، واضطهد الأئمة المعصومین من العترة النبویة الطاهرة، ففرض علی الإمام علی الهادی(علیه السّلام) الإقامة الجبریة فی سامراء ، ثم حبسه ، ثم قتله بالسم ، ثم حبس ولده الإمام الحسن العسکری(علیه السّلام) ، وعمل بکل جهده لإطفاء نور أهل بیت النبوة(علیهم السّلام) !

والمتوکل هو صاحب العُقدة من قبر الإمام الحسین(علیه السّلام)، ومن احتشاد المسلمین لزیارته فی کربلاء ، فمنعهم واضطهد من یزوره بوحشیة ! ولمَّا عجز عن منعهم بالکامل، أرسل فرقة جیش بقیادة یهودی إسمه (زیرج) ، ومعه (میلیشیا السلفیین) لهدم قبر الحسین(علیه السّلام)وحرث أرضه ! فهدموه وأجروْا علیه فرعاً من نهر الفرات ،

ص: 6

فلما وصل الماء الی القبر حارَ حوله ، وشکل دائرة سمیت: الحائر الحسینی الشریف !

لقد هلک المتوکل ولقی جزاء عمله ، حیث ثار علیه بعض قادة جیشه من المحبین لأهل البیت الطاهرین(علیهم السّلام) فقتلوه ومعهم ابنه المنتصر ، الذی اعترض علیه یوماً لإهانته علیاً(علیه السّلام) فأمر المتوکل المغنیات أن یغنین بسبِّ ولده وأمه !

قال ابن الأثیر فی تاریخه:6/108: (فی هذه السنة(236هجریة) أمر المتوکل بهدم قبر الحسین بن علی وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن یبذر ویسقی موضع قبره ، وأن یمنع الناس من إتیانه ، فنادی بالناس فی تلک الناحیة من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه فی المطبق ، فهرب الناس وترکوا زیارته ، وخُرب وزُرع!

وکان المتوکل شدید البغض لعلی بن أبی طالب ولأهل بیته ، وکان یقصد من یبلغه عنه أنه یتولی علیاً وأهله بأخذ المال والدم ! وکان من جملة ندمائه عبادة المخنث وکان یشد علی بطنه تحت ثیابه مخدة ویکشف رأسه وهو أصلع ویرقص بین یدی المتوکل ، والمغنون یغنون قد أقبل الأصلع البدین ، خلیفة المسلمین ! یحکی بذلک علیاً ، والمتوکل یشرب ویضحک ! ففعل ذلک یوماً والمنتصر حاضر فأومأ إلی عبادة یتهدده فسکت خوفاً منه فقال المتوکل ما حالک فقام وأخبره فقال المنتصر: یا أمیر المؤمنین إن الذی یحکیه هذا الکلب ویضحک منه الناس هو ابن عمک وشیخ أهل بیتک وبه فخرک ! فکل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الکلب وأمثاله منه ! فقال المتوکل للمغنین: غنوا جمیعاً:

غار الفتی لابن عمهْ

رأس الفتی فی حر أمهْ

فکان هذا من الأسباب التی استحل بها المنتصر قتل المتوکل). انتهی .

وقال العصامی فی سمت النجوم العوالی ص1168: (وذکر ابن خلکان: کان المتوکل یبغض علیاً فذکر یوماً علیٌّ عنده فغض منه ، فتمعَّر وجه ابنه المنتصر

ص: 7

لذلک ، فشتمه أبوه المتوکل وأنشد مواجهاً له ... الخ . )

وفی مآثر الإنافة للقلقشندی:1/228: ( العاشر من خلفاء بنی العباس... وحظی فی زمانه أهل الأدب إلا أنه کان شدید البغض لعلی بن أبی طالب رضی الله عنه ولأهل بیته ، علی خلاف ما کان علیه المأمون...) وذکر القصة وغیرها .

أقول: مع أن المتوکل صاحب الخطة مات ، إلا أن خطته وحزبه بقیا بلاءً علی الأمة ، وامتحاناً للمسلمین عامة وللشیعة خاصة ! وعُرفوا باسم مجسمة الحنابلة .

ومع أن الخلفاء العباسین بعد المتوکل لم یتبنَّوهم رسمیاً ، لکنهم کانوا یستفیدون منهم کحزب عنیف فی بغداد ، فیدفعونهم للحد من نفوذ الشیعة ، الذین کان لهم جمهورهم وثقلهم فی بغداد والأقطار الإسلامیة .

کانت حکومة بغداد تدفع مجسمة الحنابلة لضرب الشیعة وتساندهم ، فإذا زاد طغیان المجسمة بتقدیرهم خلوا بینهم وبین الشیعة ، وربما ساعدوا الشیعة علیهم ! لذلک لم یعدم الطرفان أنصاراً فی وزراء الخلیفة ، بل فی أمراء جیشه وقادته الأتراک ، الذین کانت لهم کلمة

الفصل العسکری فی قضایا الدولة .

ثم جاءت ثورة البویهیین فی مطلع القرن الرابع فکانت متنفساً للشیعة ، حیث توقف نزفهم المتواصل تقریباً من زمن المتوکل ، وضمَّدوا أکثر جراحهم .

فقد احتل البویهیون ، أو آل بُویَهْ ، وهم فرْس من شمال إیران ، احتلوا إیران وأطراف العراق ، ثم احتلوا بغداد ، وفرضوا أنفسهم علی الخلیفة بدل الأتراک ، وأجبروه أن یَرْسِم کبیرهم سلطاناً باسم وزیر ، ویأمر الخطباء بالدعاء له بعد الخلیفة ، فورثوا الأتراک فی التسلط علی مقدرات الدولة وکانوا هم الذین ینصبون الخلیفة ، ویجرون له مرتباً شهریاً ، وقد یعزلونه بإهانة !

وفی عهدهم الذی استمر أکثر من قرن(334 - 447 هجریة) ، ضعف مجسمة

ص: 8

الحنابلة لکنهم لم ینتهوا ، فالبویهیون قبل تشیعهم کانوا سیاسیین همهم السلطة ، ولذا قلدوا الأتراک فی تبنی لعبة الموازنة بین الشیعة ومجسمة الحنابلة ، فربما اختاروا الحیاد فی نزاعاتهم ، وربما رجحوا کفة الشیعة ، أوکفة الحنابلة !

واستمر الأمر علی هذه الحال حتی جاءت ثورة السلاجقة الأتراک ، وهم بدوٌ من برِّ مدینة بخاری الی جهة الصین ، فاحتلوا إیران والعراق ، وقضوا علی بنی بُویَه ، وسیطروا علی الخلافة العباسیة (447 - 581 هجریة) وتبنوا مجسمة الحنابلة أو حزب المتوکل ، وشنوا علی الشیعة موجة اضطهاد قاسیة ، استباحوا فیها أحیاءهم فی بغداد قتلاً ونهباً وحرقاً ، خاصة منطقة الکرخ مرکز ثقل الشیعة التاریخی ، وبدوأ هجومهم بإحراق خزانة کتب الکرخ العالمیة التی أسسها البویهیون ! وقتلوا الألوف المؤلفة من الشیعة ، فاضطر أکثرهم الی الإختفاء أو الهجرة ، وکان ممن نجا منهم مرجع الشیعة الشیخ الطوسی(قدسّ سرّه)الذی فرَّ الی النجف الأشرف سنة448 ، أی فی السنة الثانیة لاستیلاء السلاجقة ، وأسس الحوزة العلمیة ورسخها ونماها ، حتی توفی سنة460 هجریة(رحمه الله) .

نشط مجسمة الحنابلة فی عصر السلاجقة ، ووجدوا منهم التأیید والمساعدة فی کثیر من الأحیان ، لکنهم ظلوا فئة متطرفة تراوح مکانها فی بغداد ، لم تستطع أن تمتد فی العالم الإسلامی ، بسبب نفوذ الشیعة ، وقوة التیار السنی المخالف لهم .

وأخیراً انحسر دعم الأمراء السلاجقة لهم بسبب سوء تصرفهم ، فکانت حکومة بغداد تضطر أحیاناً الی تأدیبهم لإرضاء العامة الشاکین من عنفهم !

وبسقوط دولة قبیلة قزل ، آخر قبیلة سلجوقیة حاکمة ، وملکهم بهلوان آخر سلاطین السلاجقة ، سنة582 هجریة (سیر أعلام النبلاء:21/45) ، سقط معهم نجم

ص: 9

مجسمة الحنابلة ، وغلب علی بغداد جو الإعتدال السنی والمیل الی التشیع ، ولم نعدنسمع بذکر علماء الحنابلة المتطرفین وجمهورهم العنیف ، لعدة قرون !

کما لم یظهر لهم فی هذه القرون أی وجود فی أی بلد من بلاد المسلمین ، حتی جاء القرن الثامن فظهروا فی ظل الممالیک الشراکسة ، کحزب صغیر فی الشام ، بزعامة شخص متوتر هو الشیخ أحمد عبد الحلیم بن تیمیة ، الذی رعاه بعض الأمراء الشراکسة ، وعینه لمدة قصیرة فی منصب شیخ الإسلام فی بلاد الشام ، ثم عزلوه وسجنوه وحاکموه ، نزولاً عند حکم علماء المذاهب الأربعة فی مصر والشام ، وأبقوه فی السجن حتی مات . وبموته تلاشی حزبه ، وغابت أفکاره التی هی نفس أفکار حزب المتوکل أو مجسمة الحنابلة ، فلم یذکر التاریخ لهم وجوداً فی بلاد الشام أوغیرها ، إلا بعد خمسة قرون ، علی ید الشیخ محمد عبد الوهاب النجدی !

کلمتان فی منهج الدراسة

الکلمة الأولی: أنا لا نتوقع من التاریخ الذی کتب بحبر الحکام ، أن یکون منصفاً فی بیان ظلامة المعارضة ! فالحکومات تؤرخ لنفسها وتعظِّم أشخاص الحکام ، وتجعلهم فی مصاف المصلحین والأولیاء وإن کانوا فاسدین مفسدین!

کما یتفنن المؤرخون الحکومیون فی التعتیم علی المعارضة ، فیصورون لک أنها لم تکن موجودة أصلاً ، وإن اضطروا للإعتراف بها تعمدوا تهمیشها وتشویهها ! وهذا هو دأب کل الحکومات التی کتبت تاریخنا ، وأملت مصادر حدیثنا وتفسیرنا وفقهنا ! لا فرق فیها بین الأمویة والعباسیة والشرکسیة والعثمانیة والحدیثة ، ولا بین مذاهبها .

لذلک کان لا بد لنا لفهم تأریخ الظلم والإضطهاد علی أهل البیت الأطهار(علیهم السّلام)

ص: 10

وشیعتهم الأبرار ، والتی کانت أطولَ ظلامة لأطول معارضة فی التاریخ الإسلامی أن نسمع الی کلام الشیعة أنفسهم ، ونقرأ ما کتبته مصادرهم .

وإنی لأعجب من الباحث الذی یدعی الموضوعیة ، ویرید أن یفهم حوادث التاریخ الإسلامی أویفهمها للناس ، دون أن یسأل الذاکرة الشیعیة ، وهو یعرف أن ذاکرة الضحیة أدق ، وفهمها أعمق !

ورغم هذه الحقیقة ، ترانی اعتمدت فی البحث علی نصوص من مصادر الحکومات وأتباعها المخالفین للشیعة لأنها أقوی فی الحجة ، وإن اخترتها من ذاکرة التاریخ الشیعی أیدتها غالباً بنصوص من مصادر غیرهم !

والکلمة الثانیة: أن تصور موجات الظلم علی الشیعة لایکتمل إلا بمعرفة سیاقها التاریخی ، والأرضیة التی کانت سبباً فی نشوءکل موجة ، ثم بمعرفة ردة الفعل من العترة النبویة(علیهم السّلام) وشیعتهم علیها . لکن استیفاء الأسباب والنتائج وردود الأفعال ، یعنی أن نکتب تاریخاً جدیداً من وجهة نظر المظلومین ، بدل التاریخ الذی کتبه الحکام ، وهو ما لا یتسع له کتابنا !

لهذا ، ترانی اختصرت فی عرض بعض الأحداث ، وتوسعت فی بعضها ، من أجل تکمیل السیاق وتوضیح الصورة .

أسأل الله تعالی أن یصلیَ علی أهل بیت نبیه الأطهار المعصومین المظلومین، وأن یتقبل هذا الکتاب فی أعمال الدفاع عنهم . فهو ولی التوفیق والقبول .

حرره بقم المشرفة فی الخامس عشر من محرم الحرام 1425 علی الکورانی العاملی

ص: 11

ص: 12

تمهیدفی القوانین والسنن الإلهیة فی الهدایة والضلال

اشارة

إن استیعاب الظلامة التی وقعت علی أهل البیت النبوی(علیهم السّلام) وشیعتهم بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، علی ید زعماء قریش ، یتوقف علی فهم عدد من القوانین والسنن الإلهیة فی هدایة البشر وضلالهم ، بیَّنها الله تعالی فی کتابه ، وبیَّنها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) للأمة فی أحادیثه وخطبه وعمله ، وحذر الأمة منها . وفیما یلی موجزٌ لها ، وقد بحثناها فی کتاب مستقل باسم: قوانین الهدایة والضلال ، وهی:

1 - قانون تقارن کل نبوة مع مضلین !

2 - قانون الضلال .

3 - قانون الإضلال .

4 - قانون الإحباط .

5 - قانون الفتنة الفردیة والإجتماعیة .

6 - قانون الإبتلاء والإختبار .

7 - سنة الله فی اقتتال الأمم بعد رسلها !

8 - التحذیر من انقلاب الأمة علی أعقابها بعد رسولها !

9 - فتنة هذه الأمة بالأئمة المضلین علی سنة من قبلها !

10 - فتنة هذه الأمة بالشجرة الملعونة فی القرآن !

11 - ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا غلب أهل باطلها علی أهل حقها !

ص: 13

1 - قانون: اقتران کل نبوة بأئمة مضلین !

ومنطق هذا القانون: أن المطلوب فی حیاة الإنسان علی الأرض أن تبقی قدرته علی الإهتداء وقدرته علی الضلال متساویتین ، فبذلک وحده یتحقق اختیاره للهدایة بإرادته الحرة ، فیستحق الجزاء الإلهی والجنة ، ویتحقق اختیاره للضلال بإرادته الحرة ، فیستحق النار .

وقد رتَّب الله تعالی تکوین الإنسان وظروف حیاته علی الأرض علی هذا التساوی ، فألهمه الفجور ، وألهمه التقوی ، وهداه النجدین ، وجعل للشیطان منفذاً الی نفسه ، وجعل سیئته بواحدة وحسنته بعشرة ..الخ.

ولما کانت النبوة دفعةَ هدایة قویة ، کان لابد أن یرافقها وجود مضلین مع النبی ، لیبقی التعادل ویحتاج المهتدون الی بذل جهد فکری وعملی فی مقاومة الفتنة ، والثبات علی الهدی .

وقد نصت آیات کثیرة علی هذا القانون بالعموم ونصت علیه آیتان بخصوصه:

فالآیة الأولی ، قررت ضرورة وجود عوامل ضلال مع کل نبوة: (وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیٍّ عدواً شَیَاطِینَ الآنْسِ وَالْجِنِّ).(الأنعام:112 - 113) .

ومعناها أن فعالیة شیاطین الإنس والجن فی الوسوسة عند هدایة کل نبی ، إنما هی عوامل ضلال ضروریة یجب أن تبقی فاعلة !

والآیة الثانیة ، صورةٌ صارخةٌ لصحابیین للرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أحدهما کافرٌ یخطط لإضلال الناس ، والثانی مطیعٌ له یدفعه صاحبه الی معصیة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهَجْر القرآن ، فیَضلاَّن ویُضلاَّن الناس ! ویوم القیامة یعضُّ الظالم الأصلی منهما یدیه ندماً لإطاعته لصاحبه ! أما الآخر فمصیبته أعظم من أن یعضَّ علی یدیه ، لأنه لم یکن مع الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولا لحظة ! بل کان مجرماً کامناً للإسلام ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

ص: 14

قال تعالی:(وَیَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یَدَیْهِ یَقُولُ یَا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلاً . یَا وَیْلَتَی لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فلاناً خَلِیلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِی عَنِ الذِّکْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِی وَکَانَ الشَّیْطَانُ لِلإنسان خَذُولاً . وَقَالَ الرَّسُولُ یَا رَبِّ إِنَّ قَوْمی اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجوراً . وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیٍّ عدواً مِنَ الْمُجْرِمِینَ وَکَفَی بِرَبِّکَ هَادِیًا وَنَصِیرًا).(الفرقان:27 - 31 ).

وقوله تعالی: (وَکَفَی بِرَبِّکَ هَادِیًا وَنَصِیرًا) جوابٌ علی سؤال مقدر یقول: مادام القانون الإلهی أن الله تعالی یجعل عدواً مضلاً مع النبی العادی من مجموع المئة وأربع وعشرین ألف نبی(علیهم السّلام) ، فقد یعنی ذلک أن یکون مع نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عشرة أعداء مجرمین ! فکیف یهتدی الناس ، وکیف ینتصر الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟!

فکان الجواب الإلهی: هذا لیس من شأنکم بل من شأن الله تعالی: وَکَفَی بِرَبِّکَ هَادِیًا وَنَصِیرًا ، فالتعادل محفوظٌ مع وجود المضلین بقدر یحقق الهدایة لقسم من الناس ، ویحقق النصر الآنی أو المستقبلی للأنبیاء(علیهم السّلام) ، حسب الخطة الحکیمة !

ص: 15

2 - قانون الضلال

ومنطق هذا القانون: أنه یوجد واقع موضوعی فی کل القضایا النظریة والعملیة، وأن کل فعالیات الإنسان إما أن تصیب ذلک الواقع فتکون علی حق ، أو تخطئه عمداً أوسهواً أوجهلاً ، فتکون علی ضلال .

فالضلال عدم إصابة الأمر الصحیح فی علم الله تعالی لأی سبب ، حتی لوکان لا إرادیاً کالنسیان: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَکِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَی ) (البقرة:282) .

فمفهوم الضلال نسبی ، ولذا کانت استعمالاته وأنواعه فی القرآن عدیدة:

أولاً: أنواعه بحسب ذاته ، من الضلال المبین وغیر المبین ، أی الشدید الوضوح والأقل وضوحاً ، حتی یصل الی الضلال الخفی الذی لا یعلمه إلا القلة ، أو الذی لایعلمه إلا الله تعالی . وقد ورد الضلال المبین فی القرآن19 مرة .

والضلال البعید والأقل بعداً ، حتی یصل الی الأقرب الی الصراط المستقیم . وقد ورد الضلال البعید فی القرآن10مرات ، والکبیر وغیر الکبیر مرة واحدة.الخ.

ثانیاً: أنواع الضلال بحسب موضوعه ، من قضایا وأفکار وأعمال . وهو بهذا الإعتبار أنواعٌ ورد ذکرها بنحو وآخر فی القرآن ، کالضلال العقلی ، والنفسی والسلوکی والعقائدی والسیاسی والإقتصادی والإجتماعی والحضاری .

أو: الضلال عن الفطرة ، والضلال عن الدین ، أوعن التفکیر المنطقی. الخ.

ثالثاً: أنواعه بحسب موضوعه من الأشخاص ،

مثل: ضلال الظالمین ، وضلال المجرمین ، وضلال المسرفین المرتابین ، والفاسقین ، والکافرین.. الخ .

رابعاً: أنواعه بحسب لزومه وقابلیته للزوال: فمن الضلال ما یصبح ثابتاً کالذین حقًّت علیهم الضلالة (الأعراف:30 و النحل:36) ، أو الذین استحقوا أن یضلهم الله تعالی: وَمَنْ یُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . (الرعد:33 ) ، وبمعناها آیات عدیدة .

ص: 16

ومنه قابل للزوال بسرعة أوببطء: (وَمَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقًا حَرَجًا کَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی السَّمَاءِ کَذَلِکَ یَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لایُؤْمِنُونَ). (الأنعام:125)

خامساً: أنواعه بحسب علته وفاعله . فمنه ما یکون بفعل الشخص مباشرة باتباع الهوی: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَی فَیُضِلَّکَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ) (سورة صاد:26) . ومنه ما یکون بفعل الشیطان: (کُتِبَ عَلَیْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ یُضِلُّهُ وَیَهْدِیهِ إِلَی عَذَابِ السَّعِیرِ). (الحج:4) ، ومنه ما یکون بفعل الرؤساء والشخصیات: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلا). (الأحزاب:67) ، أوغیرهم من الناس: (وَإِنْ تُطِعْ أَکْثَرَ مَنْ فِی الأرض یُضِلُّوکَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا یَخْرُصُونَ). (الأنعام:116) .

ومنه ما یکون بتأثیر الأصنام والمجسمات المعبودة: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ کَثِیراً مِنَ النَّاس). (ابراهیم:36)

سادساً: أنواعه بحسب تأثیره علی صاحبه وعلی المجتمع . وقد ذکر القرآن عدة تأثیرات لأنواع الضلال ، روحیة وفکریة وعملیة ، فردیة ، واجتماعیة.. الخ.

سابعاً: أنواعه بحسب الصراط المضلول عنه . کالضلال عن(سبیل الله)حیث ورد فی القرآن ست مرات ، وورد ست مرات مضافاً الی ضمیر الغائب(سبیله) ومرة واحدة الی ضمیر المخاطب (سبیلک) . والضلال عن(سواء السبیل) ورد 5 مرات . والضلال عن السبیل ،4 مرات . والضلال عن الذکر ، مرة واحدة . وضلال الأعمال عن الصراط المستقیم ، أوضلالها وإضلالها عن الهدف منها ..الخ.

ومن الواضح أن قانون الضلال بأصوله وفروعه ، بقیَ فعالاً فی أمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بعد وفاته ، فلم یرد نصٌّ واحد یدل علی استثنائها منه ، إلا التأمین الذی عرضه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی أمته فی مرض وفاته ، فرفضه الحزب القرشی !

ص: 17

ففیالبخاری:1/36: (عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبی(ص)وجعه قال: إئتونی بکتاب أکتب لکم کتاباً لاتضلوا بعده . قال عمر: إن النبی(ص)غلبه الوجع وعندنا کتاب الله حسبنا ! فاختلفوا وکثر اللغط ! قال (ص): قوموا عنی ، ولا ینبغی عندی التنازع !! فخرج ابن عباس یقول: إن الرزیئة کل الرزیئة ، ما حال بین رسول الله (ص) وبین کتابه ) !!

وقال البخاری:5/137: ( لما حضر رسول الله(ص)وفی البیت رجال فقال النبی (ص): هلموا أکتب لکم کتاباً لاتضلوا بعده . فقال بعضهم: إن رسول الله(ص)قد غلبه الوجع وعندکم القرآن ، حسبنا کتاب الله ! فاختلف أهل البیت واختصموا ، فمنهم من یقول:

قربوا یکتب لکم کتاباً لاتضلوا بعده ومنهم من یقول غیر ذلک ! فلما أکثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا ).

وقال البخاری:7/9: (باب قول المریض قوموا عنی...عن ابن عباس قال: لما حُضِرَ رسول الله(ص)وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطاب...ورواه البخاری أیضاً: 8/160....

وفی مسلم:5/75: (عن ابن عباس أنه قال: یوم الخمیس وما یوم الخمیس ! ثم جعل تسیل دموعه حتی رأیت علی خدیه کأنها نظام اللؤلؤ ! قال قال رسول الله(ص): إئتونی بالکتف والدواة أکتب لکم کتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا: إن رسول الله(ص) یهجر) !! ثم روی عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله(ص) وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطاب فقال النبی(ص): هلم أکتب لکم کتاباً لاتضلون بعده ! فقال عمر: إن رسول الله(ص)قد غلب علیه الوجع ، وعندکم القرآن ، حسبنا کتاب الله... الخ).

وفی مسند أحمد:3/346: (عن جابر أن النبی(ص)دعا عند موته بصحیفة لیکتب فیها کتاباً لایضلون بعده ، قال فخالف علیها عمر بن الخطاب حتی رفضها) ! (ورواه أحمد:1/324و336 و324 )

ص: 18

وفی مجمع الزوائد:9/33: (عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبی(ص)قال: أدعوا لی بصحیفة ودواة أکتب کتاباً لاتضلون بعدی أبداً ، فکرهنا ذلک أشد الکراهة!! ثم قال: أدعوا لی بصحیفة أکتب لکم کتاباً لاتضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون مایقول رسول الله ؟! فقلت: إنکن صواحبات یوسف إذا مرض رسول الله(ص)عصرتنَّ أعینکن ، وإذا صح رکبتنَّ رقبته . فقال رسول الله: دعوهنَّ فإنهنَّ خیرٌ منکم ) ! انتهی .

ومعنی هذا أن الأمة برفضها کتاب التأمین النبوی من الضلال ، قد وضعت نفسها فی معرض أنواع الضلال ، بل دخلت فی أول نوع منها !

ص: 19

3 - قانون الإضلال

ومنطق هذا القانون: أنه یوجد نوع من الضالین یشکلون خطراً علی السالکین فی الطریق المستقیم ، وخطراً إضافیاً علی الضالین التائهین ، لذلک وضع الله قانوناً إضافیاً یجزیهم بإضلالهم ، لمنع خطرهم أو الحد منه ، أو لمساعدة أهل الطریق المستقیم علیهم ، أولامتحان الناس بهم.. وغیرها من الحکم التی یعلمها سبحانه .

وقانون الإضلال أیضاً أقسام ، فمنه قانون الإضلال العام ، ویشمل أعمال الکافرین والمنافقین . ومنه قوانین إضلال خاصة ببعض أعمالهم ، أوبأعمال بعض أصنافهم ، وقد نصت علیها آیات القرآن ، وخلاصتها ما یلی:

إضلال الکافرین وإضلال أعمالهم: (سورة محمّد:1و8 والفرقان:44 ، والجاثیة:23)

إضلال المنافقین:.( النساء:143، والنساء:88 )

إضلال الظالمین:(نوح: 24 ، وإبراهیم:27 )

إضلال الفاسقین:(البقرة:26 )

إضلال المسرفین المرتابین: (غافر:32 - 34 )

الذین حقت علیهم الضلالة: (النحل:36 ، والأعراف:30 ، ومریم:75 - 76)

إضلال أعمال الکافرین والمنافقین فی الدنیا:(الرعد:33 - 34 ، والأنعام:108، وآیات تزیین أعمال بعض الفئات الضالة من الکافرین والمنافقین والمجرمین ).

إضلال أعمالهم عن بلوغ أهدافها النهائیة:(النور:39 - 40 ، وإبراهیم:18 )

لاهادی لمن أضله الله ولا ناصر:(الإسراء:97، والأعراف:177 - 178، والزمر:23)

ص: 20

4 - قانون الإحباط

العمل المُحْبَط هو العمل الذی یتراکم فیفسد ولا یؤدی الی نتیجته المطلوبة ویضرُّ بصاحبه . وإسمه مأخوذٌ من(الحَبَط) وهوحالة تصیب الدابة التی تکثر الأکل فیفسد فی معدتها وینتفخ بطنها وتصاب بالإمساک . وفی الحدیث النبوی (إن مما ینبت الربیع ما یقتل حَبَطاً أویُلِمُّ ) . فالإضلال یأخذ العمل من زاویة سیره وضلاله عن إصابة الهدف، والإحباط من زاویة تراکمه المفسد له ، والبطلان من زاویة نتیجته التی تتلاشی . وقد یجتمع الإضلال والإحباط والبطلان فی عمل واحد ، وقد ینفرد بعضها . وهذه أهم أقسام الإحباط فی القرآن:

إحباط عمل المرتدین: (البقرة:217 ).

إحباط عمل قتلة الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) والأمرین بالقسط: (آل عمران:12 - 22)

إحباط عمل المنافقین والمنافقات: (التوبة:68 - 69 ، والأحزاب:18 - 19، ومحمّد:27 - 28)

إحباط عمل مرضی القلوب المرتبطین بالکفار:(المائدة:51 - 53)

إحباط عمل أنواع من المتکبرین والکافرین والمشرکین: (الأعراف:14 ، وهود:15 - 16، ومحمّد:31 - 33 ، والتوبة:17 - 18، والکهف:103 - 105، والأعراف: 146 - 147، المائدة:5)

تحذیر الأنبیاء من إحباط أعمالهم: الأنعام:83 - 88 ، و (الزمر:65 )

البداوة فی التعامل مع المعصومین تحبط العمل: (الحجرات: 2 - 3) .

ومن الواضح أن قانون إحباط الأعمال بقی جاریاً فی الأمة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأن شرط کل أعمالهم التی مدحهم القرآن لأجلها أن لایشملها قانون الإحباط !

ص: 21

5 - قانون الفتنة الفردیة والإجتماعیة

منطق هذا القانون: أن الإنسان مخلوق لایمکن أن یتکامل إلا بالصراع فی داخل نفسه بین الخیر والشر ، والفجور والتقوی . فعناصر الخیر والشر ضرورة لحیاته ، لأنها الجو الوحید الذی یتم فیه صهر جوهر النفس البشریة لتتفق کوامنها وتخرج علی حقیقتها ! وکلما کانت هذه العناصر أکثر وأقوی ، کان صَهْرها للنفس أشد ، وکانت الصفات الإنسانیة التی تنتج عنها أعلی وأجود ! ولذلک قال الله تعالی: (ألم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا یُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَیَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیَعْلَمَنَّ الْکَاذِبِینَ).(العنکبوت:2 - 3 ) .

وفی حدیث الإمام الرضا(علیه السّلام)فی الکافی:1/370: عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن(علیه السّلام)یقول: ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا یُفْتَنُونَ ، ثم قال لی: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداک الذی عندنا الفتنة فی الدین ، فقال: یُفتنون کما یُفتن الذهب ! ثم قال: یخلصون کما یخلص الذهب ) !

وفی لسان العرب:13/317: (معنی الفتنة الإبتلاء والإمتحان والإختبار ، وأصلها مأخوذ من قولک فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتمیز الردئ من الجید ، وفی الصحاح: إذا أدخلته النار لتنظر ما جودَتْه ، ودینار مفتون . والفَتْن: الإحراق ، ومن هذا قوله عز وجل: یوم هم علی النار یفتنون ، أی یحرقون بالنار . ویسمی الصائغ الفتان ، وکذلک الشیطان ، ومن هذا قیل للحجارة السود التی کأنها أحرقت بالنار: الفتین).

والفتنة فی القرآن متنوعة ، سواءً فی مادة الفتنة ، وفی المبتلَیْن بها ، وفی آثارها.. ونکتفی بإیراد الآیات فی أهم أنواعها التی تتصل بالأمة:

لابد من فتنة الأمة الإسلامیة بعد نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (العنکبوت:3 )

المنافقون أسرع الناس الی الفتنة: (الأحزاب:13 - 14) .

فتنة الذین لایطیعون النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):.(النور:63)

ص: 22

صهر شخصیة نبی الله موسی(علیه السّلام)بالفتنة: (طَهَ:40).

فتنة الناس بأن الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) من نوعهم:(الفرقان:20).

المتشابه فی القرآن فتنة ، وأهل الزیغ یتبعون ماتشابه منه :(آل عمران:7 - 8 )

من المؤمنین فئة مرتبطة بالیهود تستحق الإضلال والفتنة: (المائدة:41 - 42 )

تمییز المسلمین بین الکفار فی الولاء فتنة: (الأنفال:27 - 73 )

الفتنة بجعل الناس فئات وطبقات:(الأنعام:52 - 53 )

تحذیر المسلمین من الفتنة:(الأنفال:24 - 28 )

الفتنة السنویة للمنافقین والذین فی قلوبهم مرض:(التوبة:124 - 126)

مکانة المؤمنین الذین تعرضوا للفتنة: (النحل:110 )

بعض الأزواج والأولاد فتنة:(التغابن:14 - 15)

النعم فتنة: (الجن:16 - 17)

فتنة الأمة بعد نبیها بالشجرة الملعونة: (الإسراء:60).

وسیأتی ذکرها مع الأئمة المضلین فی الفتن الخاصة فی الأمة .

ص: 23

6 - قانون الإبتلاء والإختبار

الإبتلاء هوالإختبار ، وهو یعنی جعل الله تعالی للإنسان تکویناً أوتشریعاً ، فی وضع أو تکلیف فیه نوعٌ من المشقة العملیة أوالنفسیة ، الظاهرة أوالخفیة .

وهو عرفاً ضد العافیة والسلامة ، لکنهما قد یکونان منه . وهوأعم من الفتنة مطلقاً ، إذ قد یکون الإبتلاء بالضراء والسراء : (النمل:40 ، والأعراف:168) .

وهوأقسام کثیرة أیضاً ، فمنه الإبتلاء بالمرض والفقر والموت والناس ، وبالحالات النفسیة . ومنه ابتلاء فردی واجتماعی..الخ. وبما أن الفتنة نوع منه ، فکل آیات الفتنة تعنی الإبتلاء والإختبار. وهذه أهم آیات ابتلاء الأمة:

الوعد الإلهی للأمة بالإبتلاء والفتنة: (البقرة:155، وآل عمران:186) .

ابتلاء الأمة بما آتاها الله تعالی:(المائدة:48 ) .

لا بد أن یبلوَ اللهُ المؤمنین ویَبْلُوَ أخبارهم : (محمّد:29 - 31 ) .

وهذه بعض أحادیث فتنة الأمة وابتلائها:

فی الکافی:2/52 ، عن فضیل بن یسار ، عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال: أشد الناس بلاء الأنبیاء ، ثم الأوصیاء ، ثم الأماثل فالأماثل).

وفی حلیة الأولیاء:5 /119 ، بسنده عن أبی عبیدة بن الجراح ، عن عمر بن الخطاب قال: أخذ رسول الله(ص)بلحیتی وأنا أعرف الحزن فی وجهه فقال: إنا لله وإنا إلیه راجعون ! أتانی جبریل آنفاً فقال لی: إنا لله وإنا الیه راجعون ، فقلت: أجل إنا لله وإنا الیه راجعون ، فممَّ ذاک یا جبریل؟ فقال: إن أمتک مفتتنة بعدک بقلیل من دهر غیر کثیر ! فقلت فتنةَ کفر أو فتنةَ ضلالة ؟فقال: کلٌّ سیکون ! فقلت: ومن أین وأنا تارک فیهم کتاب الله ؟ قال: فبکتاب الله یفتنون وذلک من قبل أمرائهم وقرائهم ، یمنع الناس الأمراء الحقوق فیظلمون حقوقهم ولایعطونها فیقتتلون ویفتتنون ، ویتبع

ص: 24

القراء أهواء الأمراء فیمدونهم فی الغی ثم لا یقصرون ! فقلت کیف یسلم من سلم منهم؟ قال بالکف والصبر ، إن أعطوا الذی لهم أخذوه وإن منعوه ترکوه). انتهی. ورواه الحکیم الترمذی ، والسیوطی فی الدر المنثور:3/55 ، وفی نصهما: أتانی رسول الله وأنا أعرف الحزن فی وجهه ، فأخذ بلحیتی فقال إنا لله وإنا الیه راجعون..الخ.). انتهی. وفیه دلالات بلیغة ، ولا یتسع المجال لشرحه !

ص: 25

7 - سنة الله فی اقتتال الأمم بعد رسلها(علیهم السّلام)

(تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ، وَآتَیْنَا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّنَاتِ وَأَیَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ ، وَلَکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ کَفَرَ ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَکِنَّ اللهَ یَفْعَلُ مَا یُرِیدُ ). (البقرة:253) والآیة صریحة فی أن السنة الإلهیة جاریة فی اختلاف الأمم بعد الرسل(علیهم السّلام) الی عیسی(علیه السّلام)والی نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأن سببها بعض صحابة الرسول الذین یبغون علی أهل الحق ویظلمونهم عن علم وعمد ، طمعاً فی السلطة ، فتنقسم الأمة الی مؤمن وکافر ، بالمعنی الأعم للإیمان والکفر !

فی الکافی:8/270: (عن عمرو بن أبی المقدام ، عن أبیه قال: قلت لأبی جعفر (علیه السّلام): إن العامة یزعمون أن بیعة أبی بکر حیث اجتمع الناس کانت رضاً لله جل ذکره ، وما کان الله لیفتن أمة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من بعده ؟

فقال أبوجعفر(علیه السّلام): أو ما یقرؤون کتاب الله أو لیس الله یقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ )؟

قال: فقلت له: إنهم یفسرون علی وجه آخر . فقال: أولیس قد أخبر الله عز وجل عن الذین من قبلهم من الأمم أنهم قد اختلفوا من بعدما جاءتهم البینات ، حیث قال: وَآتَیْنَا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّنَاتِ وَأَیَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ ، وَلَکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ کَفَر ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَکِنَّ اللهَ یَفْعَلُ مَایُرِیدُ).

وقال الکلینی تعلیقاً علیه: ( وفی هذا ما یستدل له علی أن أصحاب محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قد اختلفوا من بعده ، فمنهم من آمن ومنهم من کفر ). انتهی .

ص: 26

وبهذا تستطیع أن تفسر الحدیث الصحیح عن أهل البیت(علیهم السّلام) : (ارتدَّ الناس إلا ثلاثة) ! ففی الکافی:2/244 ، عن حمران بن أعین قال: قلت لأبی جعفر(علیه السّلام): جعلت فداک ما أقلَّنَا ، لو اجتمعنا علی شاة ما أفنیناها ! فقال: ألا أحدثک بأعجب من ذلک ، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بیده - ثلاثة ! قال حمران: فقلت: جعلت فداک ما حال عمار ؟ قال: رحم الله عماراً أبا الیقظان ، بایع وقتل شهیداً ، فقلت: فی نفسی ما شئ أفضل من الشهادة ! فنظر إلیَّ فقال: لعلک تری أنه مثل الثلاثة ! أیْهات أیْهات !) . انتهی .

والکفر هنا لیس بمعنی الحکم بخروجهم عن الملة ، لأن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) الذی استشهد بهذه الآیة واستحل بها قتال البغاة ، عاملهم معاملة المسلمین .

ص: 27

8 - آیة انقلاب الأمة علی أعقابها بعد رسولها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

اشارة

قال الله تعالی فی سورة آل عمران صلوات الله علی نبینا وآله وعلیهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا یَعْلَمِ اللهُ أَلَّذِینَ جَاهَدُوا مِنْکُمْ وَیَعْلَمَ الصَّابِرِینَ . وَلَقَدْ کُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَیْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ). (آل عمران:143 - 144) .

وهاتان آیتان من أربعین آیة نزلت فی معرکة أحُد(آل عمران139 - 179) یوم افتضح الصحابة وهربوا ! بعضهم عدواً متسلقین جبلَ أحد ، وبعضهم رکضاً الی المدینة ! تارکین النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لسیوف قریش ورماحها ! ولم یثبت معه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلا علیٌّ (علیه السّلام)وأبو دجانة الأنصاری ، ونسیبة بنت کعب ! ثم اشتد الوطیس فاستشهد أبو دجانة(رحمه الله)وجرحت نسیبة ، فلم یبق معه إلا علی(علیه السّلام)وحده !

وفی ذلک الوقت العصیب جاءت فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)من المدینة راکضة الی المعرکة کالصقر المنقضّ ، تواسی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بنفسها ، وتضمد جراحه !

واغتنمت قریش فرصة فرار الصحابة ! فرکزت حملاتها لقتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وعلیٌّ(علیه السّلام)یردها الواحدة تلو الأخری ! وقد قاتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی أول الأمر قتالاً شدیداًً ، رمیاً بالقوس وضرباً بالسیف وطعناً بالرمح ، ثم عمل بأمر ربه فانتهی (إلی صخرة فاستتر بها لیتقی بها من السهام سهام المشرکین ، فلم یلبث أبو دجانة إلا یسیراً حتی أثخن جراحة فتحامل حتی انتهی إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فجلس إلی جنبه وهو مثخن لا حراک به . وعلیًّ لایبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله علی یدیه حتی انقطع سیفه)(البحار:20/104، عن تفسیر فرات) .

فأعطاه رسول الله ذا الفقار ، وکانت تأتی الحملة وأمامها فوج الرماح ، أو

ص: 28

الفرسان ، فیحمل علیهم علی(علیه السّلام)ویشق صفوفهم ویقتل قائدهم فینهزمون ، ثم تعود کتیبةٌ أخری بقائد جدید وطمع جدید أن یقتلوا محمداً وعلیاً !

کان جیش المسلمین فی معرکة أحُد نحو ألف مقاتل ، والمشرکین نحو ثلاثة آلاف ، وقد انتصر المسلمون أولَ الأمر ، لکنهم عصوا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وترکوا مواضعهم ورکضوا لیجمعوا الغنائم ، فاغتنم الفرصة خالد بن الولید وباغت المسلمین فالتفَّ علیهم من خلفهم ، وحمل ابن قمیئة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ووصل الیه بضربة خفیفة فتخیل أنه قتله ، وصاح المشرکون وإبلیسهم: قتل محمد! فانهزم الصحابة وصدَّقوا الخبر ! وظهر نفاق بعضهم فنادی: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلی دینکم الأول ! واجتمع الفارُّون علی الجبل عند صخرة ، وقرروا أن یوسطوا رئیس المنافقین فی المدینة ، فیأخذ لهم الأمان من أبی سفیان !

وقد حاول علیٌّ(علیه السّلام)أن یردَّهم قبل صعودهم الجبل لکن دون فائدة ، فوبخهم ! قال أبو واثلة یصف توبیخ علی(علیه السّلام)للفارین کما فی تفسیر القمی:1/114: (فرأیت علیاً کاللیث یتقی الدر ، وإذ قد حمل کفاً من حصی

فرمی به فی وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلی أین تفرون إلی النار ؟! فلمْ نرجع ثم کرَّ علینا الثانیة وبیده صفیحة یقطر منها الموت فقال: بایعتم ثم نکثتم ، فوالله لأنتم أولی بالقتل ممن قتل(أقتُل) ! فنظرت إلی عینیه کأنهما سلیطان یتوقدان ناراً

أوکالقدحین المملوین دماً ، فما ظننت إلاویأتی علینا کلنا ، فبادرت أنا إلیه من بین أصحابی فقلت: یا أبا الحسن ، اللهَ اللهَ ، فإن العرب تکر وتفر وإن الکرة تنفی الفرة ، فکأنه استحیا فولی بوجهه عنی ، فما زلت أسکن روعة فؤادی ، فوالله ما خرج ذلک الرعب من قلبی حتی الساعة . ونظر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی رجل من کبار المهاجرین قد ألقی ترسه خلف ظهره وهو فی الهزیمة ، فناداه: یا صاحب

ص: 29

الترس ألق ترسک ومُرَّ إلی النار ! فرمی بترسه فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا نسیبة خذی الترس فأخذت الترس وکانت تقاتل المشرکین ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لَمقام نسیبة أفضل من مقام فلان وفلان !

وسمعوا منادیاً ینادی من السماء: لاسیف إلا ذو الفقار ولا فتی إلا علی ، فنزل جبرئیل علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: هذه والله المواساة یا محمد ! فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ):لأنی منه وهو منی . وقال جبرئیل: وأنا منکما). انتهی .

ونلاحظ فی أحادیث أحُد کثرة الکذب من رواة الخلافة ، للدفاع عمن یحبونهم من الهاربین ، وتعسفهم فی إثبات مناقب مکذوبة لهم !

من ذلک: أنهم ادعوا أن عمر هو الذی أجاب أبا سفیان بعد المعرکة ، عندما افتخر أبو سفیان بهزیمة المسلمین وقال: أُعلُ هبل ! مع أن المعرکة جرت فی وادی أحد ، وکان أبوسفیان فی أدنی الجبل قرب المعرکة ، أما عمر فکان باعترافه بعیداً یتسلق الجبل وینزو کالأروی أوالأرویة ، أی العنزة الجبلیة ! (تاج العروس:10/159) ! وقد وصفهم الله تعالی بقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَی أَحَدٍ وَالرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ فِی أُخْرَاکُمْ ، فاستعمل فعل أصعد الرباعی ، الذی یدل علی الإبعاد فی الصعود! فکیف سمع عمر کلام أبی سفیان ، وصار ناطقاً باسم الإسلام والنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وقد کان فاراً لا یلوی علی شئ ، ولایسمع کلام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهو ینادیه ویأمره بالرجوع ! وقد صحَّت عندهم الروایة أنه کان من المصدقین بقتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وکان یتشاور مع طلحة وأبی بکر وغیرهم من القرشیین کیف یقنعون أباسفیان بتوبتهم من الإسلام ورجوعهم الی دینهم الأول!

أما الذی أجاب أبا سفیان فکان علیاً(علیه السّلام)ولیس عمر: ( فقال أبوسفیان وهو علی الجبل: أُعْلُ هُبَل ! فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأمیرالمؤمنین(علیه السّلام)قل له: الله أعلی وأجل .

ص: 30

فقال: یا علی إنه قد أنعم علینا ! فقال علی(علیه السّلام): بل الله أنعم علینا . ثم قال أبوسفیان: یا علی أسألک باللات والعزی هل قتل محمد؟ فقال له أمیر المؤمنین (علیه السّلام): لعنک الله ولعن الله اللات والعزی معک ! والله ما قتل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهویسمع کلامک ! فقال: أنت أصدق ، لعن الله ابن قمیئه زعم أنه قتل محمداً)! (تفسیرعلی بن إبراهیم:1/117) .

ویرد روایتهم أیضاً ، ما رواه البخاری عن مداواة فاطمة(علیهاالسّلام)لجرح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأن عمر وحزبه کانوا غائبین عن مکان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

ومن ذلک: ما ادعته عائشة لابن عمها طلحة التیمی ، أنه ثبت مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ودافع عنه ولم یهرب ، وأنه أصیب ببضعة وستین جراحة ،کما أصیب علی(علیه السّلام)!

راجع ابن کثیر فی النهایة:4/33 ! مع أن طلحة کان فی الفارین ولم یرجع لاهو ولا أبو بکر ولا عمر لأنهم لم یحضروا صلاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی شهداء أحد !

وقد بلغ بهم الغلو فی الدفاع عن الفارین أنهم اتهموا رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنه فرَّ معهم ! ففی صحیح ابن حبان:15/436: (عن عبد الله بن الزبیر عن أبیه قال: خرجنا مع رسول الله(ص)مُصْعدین فی أحد ، فذهب رسول الله(ص)علی ظهره لینهض علی صخرة فلم یستطع ، فبرک طلحة بن عبید الله تحته فصعد رسول الله (ص)علی ظهره حتی جلس علی الصخرة ! قال الزبیر فسمعت رسول الله(ص) یقول: أوجب طلحة) . انتهی. أی استحق طلحة الجنة ، لأنه ساعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی فراره معهم بزعمهم !

وفی روایة البخاری فی تاریخه:8/162 (وتبطَّنَهُ طلحة یومئذ فحمله ) !

وذکر المقریزی فی إمتاع الأسماع:1/169: أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان بدیناً وقد لبس یومها درعین ! (وقد حمله طلحة حین انتهی إلی الصخرة حتی ارتفع علیها) !!

وقال البخاری:4/ 212: (رأیت ید طلحة التی وقی بها النبی(ص) قد شلت) !!

ص: 31

وبهذا اخترعت مصادر الخلافة قضیة إسمها: أوجب طلحة الجنة ! (راجع من باب المثال: مسندأحمد:1/165,والترمذی:3/ 119، و:5/307، والحاکم:3/25) !!

وکل ذلک مناقض لما رووه أنفسهم وصححوه عن أنس بن النضر أنه ( انتهی إلی عمر وطلحة فی رجال من المهاجرین قد ألقوا بأیدیهم ، فقال: ما یحبسکم . قالوا: قتل النبی! قال: فما تصنعون بالحیاة بعده )؟! (النهایة:4/39 ، وغیرها) !

وما رووه فی صمود النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی ساحة المعرکة ، کما فی سیرة ابن هشام: 3/370 ، و603 عن ابن عباس (قال: إن رسول الله(ص)لم یبلغ الدرجة المبنیة فی الشعب ). انتهی . والدرجة تقع فی آخر الوادی للصاعد الی الجبل !!

فالنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یترک موضعه فی ساحة المعرکة فی وادی أحُد قرب المهراس ، ولا صعد علی صخرة ولا شجرة ! والصحابة هم الذین فروا مصعدین فی الجبل کما وصفهم الله تعالی ، أو هاربین الی المدینة !

قال الإمام الصادق(علیه السّلام): ( فلما دنت فاطمة(علیهاالسّلام)من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ورأته قد شُج فی وجهه وأدمیَ فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله علی من أدمی وجه رسول الله ! وکان رسول الله یتناول فی یده ما یسیل من الدم فیرمیه فی الهواء فلا یتراجع منه شئ !

قال الصادق(علیه السّلام): والله لو سقط منه شئ علی الأرض لنزل العذاب .

قال أبان بن عثمان: حدثنی بذلک عنه الصباح بن سیابة ، قال قلت: کسرت رباعیته کما یقوله هؤلاء؟ قال: لا والله ما

قبضه الله إلا سلیماً ، ولکنه شُجَّ فی وجهه . قلتُ: فالغار فی أحُد الذی یزعمون أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )صار إلیه ؟ قال: والله ما برح مکانه ، وقیل له: ألا تدعو علیهم؟ قال: اللهم اهد قومی).انتهی .( إعلام الوری:1/179، والبحار:20/96 ).

من جهة أخری ، حاول رواة قریش طمس دور علی(علیه السّلام)فی أحد، فلم یشیدوا

ص: 32

بمجئ فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)الی المعرکة ! ویظهر ذلک من تتبع نصوصهم ومقارنتها بما روته مصادر أهل البیت(علیهم السّلام) . قال البخاری:3/227: (لما کسرت بیضة النبی (ص)علی رأسه ، وأدمیَ وجهه وکسرت رباعیته ، کان علیٌّ یختلف بالماء فی المجن ، وکانت فاطمة تغسله ، فلما رأت الدم یزید علی الماء کثرة عمدت إلی حصیر فأحرقتها ، وألصقتها علی جرحه(یعنی رمادها) فرقأ الدم). انتهی.

فغایة ما ذکروه عن مجئ فاطمة(علیهاالسّلام)کیف غسلت جرح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی وجهه وداوتْهُ ، لکن فی حدود ما سمح به البخاری فقط !

قال القمی فی تفسیره:1/124: (وخرجت فاطمة بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تعدو علی قدمیها ، حتی وافت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقعدت بین یدیه ، فکان إذا بکی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )بکت لبکائه وإذا انتحب انتحبت ، ونادی أبوسفیان موعدنا وموعدکم فی عام قابل فتقبلُ ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)قل: نعم ). انتهی .

وینبغی الإشارة الی أن بکاء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )آنذاک کان حباً وشکراً لفاطمة(علیهاالسّلام) وکان بکاؤها تأثراً لوحدة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وجراحه !

أما علی(علیه السّلام)فقد غمطوه حقه ، بل لم یسلم

من ذمهم ! فقد زعموا أنه أعطی سیفه الی فاطمة(علیهماالسّلام)لتغسله من الدم مفتخراً بنفسه ، فوبخه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقال له لست أحسن من غیرک ! وروی بعضهم أنه أعطاها سیفه فی أحد فاعترف أن فاطمة کانت هناک ، وبعضهم زعم أنه أعطاها إیاه عندما رجع الی المدینة !

ص: 33

ثلاث مسائل فی تفسیر آیة الإنقلاب

المسألة الأولی: فی أقسام المسلمین فی الآیات وأهم صفاتهم
اشارة

القسم الأول: الطیبون ، المجاهدون ، المقاتلون ، الثابتون ، المحسنون ، الرِّبَّیون ، الذین هم الأعلون ، لایهنون ولایحزنون .

والقسم الثانی: المنافقون ، الذین تخلفوا عن المعرکة بقیادة عبدالله بن سلول . (الَّذِینَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوأَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا....

والقسم الثالث: المؤمنون أصحاب الذنوب ، الذین استزلهم الشیطان ببعض ذنوبهم فهربوا وترکوا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لسیوف قریش ! ( إِنَّ الَّذِینَ تَوَلَّوْا مِنْکُمْ یَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّیْطَانُ بِبَعْضِ مَاکَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِیمٌ) .

وهؤلاء قسمان: فطائفة منهم مؤمنون حقیقیون ، لکنهم ضعفوا وارتکبوا معصیة الفرار بسبب ذنوبهم ، ثم وفق الله الکثیر منهم للتوبة من فرارهم ، وهم الذین أصابهم الغم من عملهم ، وأنزل الله علیهم النعاس رحمةً بهم: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَی أَحَدٍ وَالرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ فِی أُخْرَاکُمْ فَأَثَابَکُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِکَیْ لاتَحْزَنُوا عَلَی مَا فَاتَکُمْ وَلا مَا أَصَابَکُمْ وَاللهُ خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا یَغْشَی طَائِفَةً مِنْکُمْ . وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ...

والقسم الرابع: طائفة الفارین المنافقین الذین لم یغتموا لفرارهم ، ولم ینزل الله علیهم النعاس: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ یَظُنُّونَ بِاللهِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِیَّةِ یَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئْ قُلْ إِنَّ الأمر کُلَّهُ للهِ یُخْفُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ مَا لایُبْدُونَ لَکَ یَقُولُونَ لَوکَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا

قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوکُنْتُمْ فِی بُیُوتِکُمْ لَبَرَزَ الَّذِینَ کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقَتْلُ إِلَی مَضَاجِعِهِمْ وَلِیَبْتَلِی اللهُ مَا فِی صُدُورِکُمْ وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِکُمْ وَاللهُ

ص: 34

عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُور). وهؤلاء هم المعنیون بآیة الإنقلاب ، وقد ذکر الله تعالی لهم خمس صفات وهی غیر الصفات السلبیة التی تفهم من مقارنتهم بالمؤمنین:

1 - أنهم طائفة مستقلة فی مقابل طائفة المؤمنین ، وإن اشترکوا معهم فی الفرار .

2 - أن ظنهم بالله تعالی ظنٌّ جاهلی ، لأن نظرتهم الی الله تعالی وعقیدتهم به ما زالت جاهلیة ، أو أقرب الی الجاهلیة منها الی الإسلام ، فهم یتعاملون مع الله تعالی بمعادلات النفع الدنیوی ، کما یتعامل المشرکون مع أصنامهم ، وکما یتعامل الیهود مع معبودهم ! ولا یعتقدون بهیمنته وقدرته وحکمته وإدارته لرسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للوصول به الی الهدف الصحیح کما یعتقد الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والمؤمنون !

3 - أنهم یرون أن قیادتهم هم أفضل من قیادة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقیادة الله تعالی، فبمجرد أن رأوا رجحان کفة المشرکین فی المعرکة ، أنْحَوْا باللائمة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وعلی ربه سبحانه ! (یَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر کُلَّهُ للهِ یُخْفُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ مَا لا یُبْدُونَ لَکَ یَقُولُونَ لَوکَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا)

4 - أنهم منافقون یظهرون للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنهم مؤمنون بالله وبرسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولکنهم کذابون فهم لایسلِّمون بالأمر لله ورسوله ، بل یریدون أن یکون الأمر لهم أو تکون لهم شراکة فیه ! یُخْفُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ مَا لایُبْدُونَ لَکَ یَقُولُونَ لَوکَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا ! وقصدهم بقولهم: مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا ، أی ما قتل مَن قتل من المسلمین فی أحد ! فهم مع نفاقهم یتکلمون باسم المسلمین !

وکلامهم هذا قد یکون فی الجبل أو فی الطریق ، أو بعد رجوعهم الی المدینة وفی غیاب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! وهو محاولة خبیثة لتحریک المسلمین ضد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وتحمیله مسؤولیة هزیمة أحُد وقتل من قتل فیها ، ومطلبهم أن یکون لهم من الأمر شئ ، فلا یتصرف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی المواجهات القادمة بمفرده ، بل تکون القیادة جماعیة ! وهم فی منطقهم هذا یتناغمون مع منطق ابن سلول وحزبه

ص: 35

الذین تخلفوا عن أحُد ، مما یشیر الی أن لهم علاقة معهم !

5 - أن مشکلتهم عبادة ذواتهم واهتمامهم بها ، وعدم الإهتمام بأمر الإسلام والمسلمین ! وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ یَظُنُّونَ بِاللهِ غَیْرَ الْحَقِّ...

صدَّقوا شائعة قتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )واستعدوا لإعلان توبتهم لأبی سفیان !

ولا بد أن یکونوا هم الذین ذکرهم المحدثون والمؤرخون بأنهم انقلبوا علی أعقابهم ، وقرروا أن یعلنوا توبتهم من الإسلام ویرجعوا الی دینهم الأول ، وهو عبادة الأصنام ، ولکن الرواة غطوا علیهم فلم یسموهم !

قال الطبری فی تفسیره:4/151: (سمعت الضحاک یقول فی قوله: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..الآیة: ناسٌ من أهل الإرتیاب والمرض والنفاق ، قالوا یوم فرَّ الناس عن نبی الله(ص)وشُجَّ فوق حاجبه وکسرت رباعیته: قُتل محمد فالحقوا بدینکم الأول ! فذلک قوله: أفإن

مات أو قتل انقلبتم علی أعقابکم ! قال ابن زید...: ما بینکم وبین أن تَدَعُوا الإسلام وتنقلبوا علی أعقابکم ، إلا أن یموت محمد أو یقتل ، فسوف یکون أحد هذین ، فسوف یموت أو یقتل ) !!

وقال الرازی فی تفسیره:9/22: ( المسألة الثالثة: قوله: انقلبتم علی أعقابکم ، أی صرتم کفاراً بعد إیمانکم ، یقال لکل من عاد إلی ما کان علیه: رجع وراءه وانقلب علی عقبه ، ونکص علی عقبیه ، وذلک أن المنافقین قالوا لضعفة المسلمین: إن کان محمد قُتل فالحقوا بدینکم ، فقال بعض الأنصار: إن کان محمد قتل ، فإن رب محمد لم یقتل ، فقاتلوا علی ما قاتل علیه محمد ). انتهی .

لکن الرازی وغیره لم یبینوا متی صدر منهم هذا الکفر ، وأین ، ومن قاله ؟!

ولا نجد لکلامهم وقتاً إلا بعد هزیمة المسلمین ، وقبل انسحاب أبی سفیان عن المدینة ، فلم ینقل أحدٌ هذا الکلام إلا عن هذه الطائفة الذین أهمتهم أنفسهم ،

ص: 36

ولم یشملهم النعاس ، بل آووا فی الجبل الی صخرة ، وتشاوروا فیمن یرسلون لیأخذ لهم الأمان من أبی سفیان !

قال الطبری فی تاریخه:2/201: (وفشا فی الناس أن رسول الله(ص)قد قُتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة: لیت لنا رسولاً إلی عبد الله بن أبیّ فیأخذ لنا أمنةً من أبی سفیان! یا قوم إن محمداً قد قُتل فارجعوا إلی قومکم ، قبل أن یأتوکم فیقتلوکم ! قال أنس ابن النضر: یا قوم إن کان محمد قد قُتل فإن رب محمد لم یُقتل فقاتلوا علی ما قاتل علیه محمد ! اللهم إنی أعتذر إلیک مما یقول هؤلاء وأبرأ إلیک مما جاء به هؤلاء ! ثم شد بسیفه فقاتل حتی قتل). انتهی

صاحوا فی أحُد داعین الی الردة والإستسلام !!

وتفاجؤک نصوصٌ خطیرة تنص علی أن مجموعة صحابة(مهاجرین) قرشیین ، دعوا الناس الی الردة والکفر علناً ، بمجرد أن شاعت شائعة قتل النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وذلک بعد جولة القتال الأولی ، عندما التفَّ المشرکون علی المسلمین وفاجؤوهم من ورائهم وقتلوا منهم ، وأشاعوا أنهم قتلوا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

وینص بعضها علی أن أحدهم وقف علی تل یدعو المنهزمین الی الرجوع الی دینهم الأول والتسلیم لأبی سفیان قبل أن یأتی القرشیون ویقتلوهم ! وأنه عقَّبَ کلامه هذا بقوله: (إنهم لَعشائرنا وإخواننا) ! فمن یکون هذا المنادی إلا رئیس الطائفة الذین قال الله تعالی عنهم:(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ یَظُنُّونَ بِاللهِ غَیْرَ الْحَقِّ)

والناطق الرسمی بإسمهم ! فمن هو هذا الصحابی القرشی الصارخ علی التل بالدعوة الی الکفر؟! وهل لقصة أنس بن النضر وبراءته منهم علاقة بالموضوع ؟!

طبیعی أنک لاتنتظر من رواة خلافة قریش أن یبینوا إسمه ! لکنک بالتأمل فی نصوصهم تعرف من هم الصحابة أبطال هذه القصة الذین رووا أقوالهم بدون

ص: 37

ذکر أسمائهم فقالوا: نادی منادٍ یوم أحد حین هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قُتل ، فارجعوا إلی دینکم الأول..وقالوا: لو أن محمداً کان حیاً لم یهزم ، ولکنه قد قُتل ! وقال أناس منهم: لوکان نبیاً ما قُتل !! قال أهل المرض والإرتیاب والنفاق حین فرَّ الناس عن النبی(ص): قد قتل محمد ، فالحقوا بدینکم الأول !

قال السیوطی فی الدر المنثور:2/80: (وأخرج ابن جریر عن الضحاک قال: نادی منادٍ یوم أحد حین هزم أصحاب محمد: ألا إن محمداً قد قتل ، فارجعوا إلی دینکم الأول ، فأنزل الله: وما محمد إلا رسول..الآیة . وأخرج ابن جریر من طریق العوفی ، عن ابن عباس أن رسول الله(ص)اعتزل هو وعصابة معه یومئذ علی أکمة والناس یفرُّون ، ورجلٌ قائمٌ علی الطریق یسألهم ما فعل رسول الله؟وجعل کلما مروا علیه یسألهم فیقولون: والله ما ندری ما فعل . فقال: والذی نفسی بیده لئن کان قتل النبی لنعطینهم بأیدینا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا: لوأن محمداً کان نبیاً لم یهزم ولکنه قد قتل! فترخصوا فی الفرار حینئذ ! فأنزل الله: وما محمد إلارسول..الآیة کلها.

وأخرج ابن جریر ، وابن أبی حاتم ، عن الربیع فی الآیة قال: ذلک یوم أحد حین أصابهم من القتل والقرح وتداعَوْا نبیَّ الله ، قالوا قد قتل ، وقال أناس منهم لوکان نبیاً ما قتل ، وقال أناسٌ من علیة أصحاب النبی(ص): قاتلوا علی ما قاتل علیه نبیکم حتی یفتح الله علیکم أوتلحقوا به . وذُکر لنا أن رجلاً من المهاجرین مرَّ علی رجل من الأنصار وهو یتشحَّطُ فی دمه فقال: یا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاری: إن کان محمد قد قتل فقد بلَّغ ، فقاتلوا عن دینکم !

وأخرج ابن جریر ، عن ابن جریج قال: قال أهل المرض والإرتیاب والنفاق حین فر الناس عن النبی (ص): قد قتل محمد ، فالحقوا بدینکم الأول ! فنزلت هذه الآیة: وما محمد إلا رسول..الآیة ....).

وفی سیرة ابن هشام:3/600: (قال ابن إسحاق: وحدثنی القاسم بن عبد الرحمن

ص: 38

بن رافع ، أخو بنی عدی بن النجار قال: انتهی أنس بن النضر ، عم أنس بن مالک ، إلی عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبید الله ، فی رجال من المهاجرین والأنصار ، وقد ألقوا بأیدیهم ، فقال: ما یجلسکم؟ قالوا: قتل رسول الله ! قال: فماذا تصنعون بالحیاة بعده ؟ قوموا فموتوا علی ما مات علیه رسول الله ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتی قتل).( ورواه ابن کثیر فی سیرته:3/68 ، وکثیرون . راجع أیضاً: النهایة:4/35، وعیون الأثر:1/417) . وهی نصوص صارخة تکفی لمعرفة من هم الصحابة الذین نکصوا علی أعقابهم ، وصرخ صارخهم یدعوالمسلمین الی الکفر ! ووصفهم ابن جریح بأنهم: (أهل المرض والإرتیاب والنفاق) !

ص: 39

المسألة الثانیة: الصحابة المنقلبون فی معرکة الخندق وحجة الوداع

نلاحظ أن صفات المنقلبین فی أحُد فی السنة الثانیة للهجرة ، بقیت ثابتة لهم فی معرکة الأحزاب فی السنة الخامسة للهجرة ، وکذلک فی حجة الوداع فی السنة العاشرة للهجرة ! ففی الآیة العاشرة حتی السابعة عشرة من سورة الأحزاب تجد وحدة الخیوط وأقسام المسلمین ! فالثابتون المحسنون الربانیون قلة ، والضعفاء کثرة ، والمنافقون ناشطون ، ولا نقصد بهم حزب ابن سلول ، بل المنافقین المهاجرین المخلوطین بالمؤمنین ! فالذین قال الله عنهم فی معرکة أحُد: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ یَظُنُّونَ بِاللهِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِیَّةِ یَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئْ ) ! هم أنفسهم الذین قال الله عنهم فی معرکة الأحزاب: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) .

ومرضی القلوب فی أحُد ، الذین فروا الی الجبل وقالوا:(لوکان نبیاً ما قتل) !

هم المنافقون الذین قال الله عنهم فی سورة الأحزاب: (وَإِذْ یَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) .

والذین قال الله تعالی لهم فی أحُد: (وَلَقَدْ کُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَیْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) .

هم الذین قال الله عنهم هنا: (وَلَقَدْ کَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لایُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَکَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً. أَشِحَّةً عَلَیْکُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَیْتَهُمْ یَنْظُرُونَ إِلَیْکَ تَدُورُ أَعْیُنُهُمْ کَالَّذِی یُغْشَی عَلَیْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوکُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍأَشِحَّةً عَلَی الْخَیْرِ أُولَئِکَ لَمْ یُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللهِ یسیراً ).

والذین ثبتوا فی أحُد فقال الله عنهم: (وَکَأَیِّنْ مِنْ نَبِیٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ کَثِیرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَکَانُوا وَاللهُ یُحِبُّ الصَّابِرِینَ ).

ص: 40

هم الذین قال الله عنهم هنا: (مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلاً . لِیَجْزِیَ اللهُ الصَّادِقِینَ بِصِدْقِهِمْ وَیُعَذِّبَ الْمُنَافِقِینَ إِنْ شَاءَ أَوْ یَتُوبَ عَلَیْهِمْ إِنَّ اللهَ کَانَ غَفُورًا رحیماً ).

ونفس الخیوط والخطوط والشخصیات تجدها فی السنة العاشرة للهجرة ، فی سورة المائدة ، سورة حجة الوداع ، وهی آخر سورة نزلت من القرآن !

وهذا یدلنا علی أن مشکلة الإسلام هی هؤلاء المنافقون ، الذین یکمن فیهم الإنقلاب علی الأعقاب ، وینتظر أن یغمض الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عینیه !

إن سورة المائدة تتضمن خارطة للأخطار علی الأمة ، وطریقة معالجتها ، ونکتفی منها بآیات تتعلق بآیة الإنقلاب:

المسارعون فی الکفر هم المسارعون فی الإنقلاب ! (المائدة:41)

أنهم عبَّاد أنفسهم وأهوائهم یطمعون بالتأثیر علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (المائدة:48 )

أن خطر ارتباطهم بالیهود والنصاری سیستمر بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (المائدة:52) .

أن خطر الإنقلاب أو خطر الردة ما زال قائماً:(المائدة:54 - 56 )

أن عملیة تمییز الخبیث من الطیب طویلة الأمد: (المائدة:99 - 100 )

أن عذاب الصحابة المنقلبین لایشبهه عذاب أحد من العالمین: (المائدة:111 - 115)

ص: 41

المسألة الثالثة:هل أن آیة الإنقلاب تحذیر أم إخبار بوقوعه؟

تقول الآیة: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ )؟

وقد یقال: إن الآیة لیست أکثر من استفهام إنکاری ، فهی جملة شرطیة استفهامیة ، لا تدل علی وقوع شرطها وجزائها !

فیقال: نعم هی جملة فرضیة ، لکن المتکلم هو الله تعالی والفرض منه له دلالة وهو یدل هنا علی أن انقلابهم محتمل الوقوع ، أما وقوعه بالفعل فقد تکفلت به السنة والتاریخ ! علی أن فی الآیة دلالةً أکثر من الشرطیة فی قوله تعالی: (وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ ) ، حیث قسَّم الأمة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی منقلبین علی أعقابهم ، وشاکرین علی ما أصابهم !

وقد یجاب: إن احتمال الوقوع احتمال عقلی مجرد کاحتمال أن یکفر الأنبیاء والرسل(علیهم السّلام) فی قوله تعالی: (وَلَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَإِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَلَتَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِینَ). (الزمر:65) ، فتحذیرات الأنبیاء(علیهم السّلام) لاتدل علی وقوع الشرط منهم ، فکذلک تحذیرات المؤمنین من الردة .

والجواب: أن الدلیل الخارجی دل علی أن هذا الإحتمال فی الأنبیاء(علیهم السّلام) لن یتحقق لنبوتهم وعصمتهم ، أما فی حق غیرهم فیبقی احتمالاً عادیاً ! ولذا لم یکتف بفرضیة الإنقلاب فی الآیة ، بل قسم الأمة الی منقلبین علی أعقابهم ، وشاکرین ، ووعد الشاکرین بجزاء جمیل !

(وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ) .

قد یقال: لو سلمنا أن بعض الصحابة قد انقلب علی عقبیه فی أحُد ودعا الی

ص: 42

الکفر ، فقد کانت فَلْتَة وقی الله المسلمین شرها ، والصحابة الذین انقلبوا أو کادوا ، تابوا ثم شارکوا فی حروب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وقد یکونون فرَّوا من معارک أخری وتابوا أیضاً ، ولم نسمع أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عنَّفَهم ، فالملاک حسن العاقبة ، وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مات وهو عنهم راض ، ولم یخبر أنهم سینقلبون بعد موته ویکفرون !

والجواب: أن وقوع الإنقلاب والردة فی أحُد من بعض الصحابة معلومٌ بروایة أتباعهم ، فضلاً عن روایاتنا ، أما توبتهم منه فلم یروها أحد .

ولا بد أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبَّخهم بعد أحدُ ، وقال لهم فی أنفسهم قولاً بلیغاً ، حیث لم یصل الینا کل ما قاله وما فعله النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! والسنة التی سمحت الخلافة القرشیة بتدوینها بعد قرن ونصف ، لاتغطی إلا القلیل من سیرته وأقواله وأفعاله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

علی أنهم رووا طرفاً من توبیخه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لبعضهم عندما اعترض علیه عمر فی صلح الحدیبیة ، قال السیوطی فی الدر المنثور:6/68: (وأخرج البیهقی عن عروة قال: أقبل رسول الله(ص)من الحدیبیة راجعاً

، فقال رجل من أصحاب رسول الله: والله ما هذا بفتح ، لقد صُدِدنا عن البیت ، وصُدَّ هَدْیُنا ، وعکف رسول الله بالحدیبیة ، ورَدَّ رجلین من المسلمین خرجا ! فبلغ رسول الله(ص)قول رجال من أصحابه إن هذا لیس بفتح فقال: بئس الکلام هذا أعظم الفتح لقد رضی المشرکون أن یدفعوکم بالراح عن بلادهم ویسألوکم القضیة ، ویرغبون إلیکم فی الإیاب ، وقد کرهوا منکم ما کرهوا وقد أظفرکم الله علیهم وردکم سالمین غانمین مأجورین ، فهذا أعظم الفتح ! أنسیتم یوم أحُد ، إذ تصعدون ولا تلوون علی أحد وأنا أدعوکم فی أخراکم ! أنسیتم یوم الأحزاب، إذ جاؤکم من فوقکم ومن أسفل منکم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) . انتهی .

ولا شک أن هذا بعض أحداث الحدیبیة ، ومثله ما روی عن أحد والخندق !

ص: 43

وأما القول بأن الملاک حسن العاقبة وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مات وهو راض عنهم .

فجوابه: إن أصح کتاب عند أتباع الصحابة بعد کتاب الله تعالی ، هو البخاری وقد روی عدة أحادیث ترسم مشهداً کارثیاً للصحابة فی الآخرة وأنهم یدخلون جهنم ، ویُمنعون حتی من مواجهة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وأنه ینکشف یومها للناس أنهم کانوا مجرمین کباراً انقلبوا علی أعقابهم ، وأوقعوا الأمة فی أعظم کارثة !

بل روی البخاری أنه لاینجو منهم من جهنم إلا قلة قلیلة ، مثل الغنم المنفردة عن القطیع ! فقطیع الصحابة هالک ، ولا یسلم إلا المعارضون المنفردون عنه !

قال البخاری:7/208:(عن أبی هریرة عن النبی(ص)قال: بینا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتی إذا عرفتهم خرج رجل من بینی وبینهم فقال: هلمَّ ، فقلت أین؟ قال إلی النار والله ! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدک علی أدبارهم القهقری ! ثم إذا زمرة حتی إذا عرفتهم خرج رجل من بینی وبینهم فقال: هلمَّ ! قلت: أین؟قال: إلی النار والله ! قلت: ماشأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدک علی أدبارهم القهقری ! فلا أراه یخلص منهم إلا مثل همل النعم) ! انتهی.

وقد صرحت الروایة الآتیة للبخاری بأن هؤلاء المطرودین عن الحوض من الصحابة ، وفسرها شراحه بالصحابة ! فقد روی البخاری:2/975:(یرد علی الحوض رجالٌ من أصحابی فیحلؤون عنه فأقول یارب أصحابی ! فیقول: فإنه لاعلم لک بما أحدثوا بعدک ، إنهم ارتدوا علی أعقابهم القهقری)! وشبیهاً به فی: 8/86 .و:7/195و207-210 وص84 و87 و:8/86 و87 ، ونحوه مسلم:1/150 و:7/66 وابن ماجة:2/1440وأحمد:2/25و408 و:3/28 و:5/21 و24 و50 و:6/16 ، والبیهقی فی سننه:4/ 14، وغیرهم ، وفی بعضها تفاصیل مهمة، ذکرنا بعضهافی المسألة69 من کتاب: (ألف سؤال وإشکال علی المخالفین ).

ص: 44

9 - فتنة هذه الأمة بالأئمة المضلین ، علی سنن من قبلها !

شهدت عامة المصادر کالبخاری ومسلم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حذَّرَ المسلمین مراراً وتکراراً من الإنحراف بعده ، وفی نفس الوقت أخبرهم بأن ذلک سیکون ، فقال: ( لتتبعن سنن من کان قبلکم شبراً شبراً وذراعاً بذراع ، حتی لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهم ! قلنا: یا رسول الله ، الیهود والنصاری ؟ قال: فمن ؟! ).

وقال لهم فی مناسبة أخری: (والذی نفسی بیده لتتبعنَّ سننَ الذین من قبلکم ، شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، وباعاً فباعاً ، حتی لودخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه ! قالوا ومن هم یا رسول الله ، أهل الکتاب ؟ قال: فَمَهْ ؟!).

وقال فی مناسبة أخری: (لاتقوم الساعة حتی تأخذ أمتی مأخذ الأمم والقرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، قالوا: یا رسول الله کما فعلت فارس والروم ؟ قال: وهل الناس إلا أولئک؟!). (روت ذلک عامة المصادر کالبخاری:9/126 و:8/151، ومسلم:4/2054 عن أبی سعید الخدری ، ونحوه ص 2055 ، وأحمد:2/327و325 و450، ونحوه ص336 و367 و527 و: 3/84 و9 و94 و:4/125، والرویانی: ح- 1085 عن سهل بن سعد ، والبغوی فی المصابیح:3/458 ، من صحاحه ، عن أبی سعید ، کما فی روایة البخاری الثانیة ، وجامع الأصول:10/409 ح- 7472 ، و7473 ، وجمع الجوامع: 1/902 ، والجامع الصغیر:2/401 ح- 7224 ، ومجمع الزوائد:7/261، وفیض القدیر:5/261 ، ومسند ابن الجعد ص491 ، والدیباج علی مسلم: 6/33 و34 ، ومصنف عبد الرزاق:11/369 ، وکنز العمال: 14/207 ) .

ورواه فی الکنی والأسماء:2/30 وفیه: عن ابن عباس أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: ولترکبن سنن من کان قبلکم شبراً حتی لوأن أحدهم دخل جُحر ضَبٍّ دخلتم ، وحتی لوأن أحدهم ضاجع أمه بالطریق لفعلتم !

والحاکم:1/37 و4/455 وصححه وفیه: حتی لوأن أحدهم جامع امرأته بالطریق لفعلتموه .

ومصنف ابن أبی شیبة:8/634 ، وفیه: (أنتم أشبه الناس سمتاً وهدیاً ببنی إسرائیل لتسلکن طریقهم حذوالقذة بالقذة والنعل بالنعل ). قال عبد الله: إن من البیان سحراً .

ص: 45

وقال فی هامشه: القُذَّة ریش السهم ، وللسهم ثلاث قذذ متقاربة الواحدة بجانب الأخری، ویقال حذو القذة بالقذة للشیئین یستویان ولا یتفاوتان ).

وفی شرح النووی:16/219:(السَّنَن بفتح السین والنون هوالطریق ، والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب: التمثیل بشدة الموافقة لهم) .

وفی فتح الباری:13/255:(قال عیاض: الشبر والذراع والطریق ودخول الجحر ، تمثیلٌ للإقتداء بهم فی کل شئ مما نهی الشرع عنه وذمه.... وقد أخرج الطبرانی من حدیث المستورد بن شداد رفعه: لاتترک هذه الأمة شیئاً من سننن الأولین حتی تأتیه.... وحیث قیل الیهود والنصاری کان هناک قرینة تتعلق بأمور الدیانات أصولها وفروعها.... وأخرج ابن أبی خیثمة من طریق مکحول عن أنس ، قیل: یا رسول الله متی یترک الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر؟ قال: إذا ظهر فیکم ما ظهر فی بنی إسرائیل ، إذا ظهر الإدهان فی خیارکم ، والفحش فی شرارکم ، والملک فی صغارکم ، والفقه فی رذالکم ). انتهی .

وفی مناسبة أخری قال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ( لتنقض عری الإسلام عروة عروة، کلما نقضت عروة تشبث الناس بالتی تلیها ، فأولهن نقضاً الحکم ، وآخرهن الصلاة ).

(رواه من مصادرنا: الشیخ الطوسی(رحمه الله)وغیره ، قال فی الأمالی ص186: أخبرنا محمد بن محمد قال: أخبرنی أبومحمد الحسن بن محمد العطشی قال: حدثنا أبوعلی محمد بن همام الإسکافی قال: حدثنا حمزة بن أبی جمة الجرجرائی الکاتب قال: حدثنا أبوالحارث شریح قال: حدثنا الولید بن مسلم، عن عبد العزیز بن سلیمان، عن سلیمان بن حبیب ، عن أبی أمامة الباهلی عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

ورواه من مصادرهم: أحمد:5/251 ، والبخاری فی تاریخه: 8/333 ح 3214 ، وابن حبان: 8/253 ح 6680 ، عن أبی أمامة . والطبرانی الکبیر: 8/116 ، والجامع الصغیر:2/403 ح 7232 ، وص473 ، والحاکم: 4/92 ، وقال: والإسناد کله صحیح ولم یخرجاه. ومجمع الزوائد:7/281، وقال: رواه أحمد والطبرانی ، ورجالهما رجال الصحیح ) .

وفی هذه الأحادیث نقاط مهمة تعرضنا لها فی(ألف سؤال وإشکال)خلاصتها:

ص: 46

أولاً ، أن معناها أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )نعی الأمة الی نفسها ، وأنها ستنحرف بعده ، وهی حقیقة مرة وخطیرة لکنها قطعیة !

ثانیاً ، أن مقصوده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )انحراف غالبیة الأمة ، ولیس فئة صغیرة منها ، وإلا لقال: لیتبعن فئة من أمتی ، أومارقة من أمتی سنن من کان قبلهم . ولم یصح أن یوجه خطابه الی جمیع الأمة فیقول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لتتبعن سنن من کان قبلکم شبراً شبراً....والذی نفسی بیده لتتبعنَّ سننَ الذین من قبلکم.. ولترکبن سنن من کان قبلکم...

ثالثاً ، أن الإنحراف الموعود یشمل العقائد والشرائع والسیاسة ، کما حدث فی بنی إسرائیل ، الذین شمل انحرافهم أصول عقیدتهم بالله تعالی، وطعنهم بأنبیائهم ومخالفتهم لأوصیائهم(علیهم السّلام) واتباعهم لغیرهم ! وقد نصَّت بعض صیغ الأحادیث علی الشمول ، کقوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لتنقض عری الإسلام عروة عروة ، کلما نقضت عروة تشبث الناس بالتی تلیها ، فأولهن

نقضاً الحکم ، وآخرهن الصلاة . وسواء أراد بالحکم الخلافة ، أوالقضاء ، فهویدل علی انحراف السلطة الحاکمة .

رابعاً ، هذه الأحادیث النبویة تفسر آیة الإنقلاب علی الأعقاب: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ) (آل عمران:144) ، وأن الشرطیة والإستفهام فیها إنذارٌ واستنکار وإخبار ! ولیس قضیة فرضیة لن تحدث !

خامساً ، أین هو هذا الإنحراف فی الأمة ، إن لم یکن ما تقوله الشیعة ؟ فلو سألت بعضهم: هل تحقق ما أخبر به النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )واتبعت الأمة سنن الیهود والنصاری؟! لحاول أن ینفی ذلک ویثبت لک أن الأمة بعد نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مشت علی طریق الهدی ، واتبعت خیر أصحابه أبا بکر وعمر ، وأن الذین ارتدوا قبائل قلیلة تم إخضاعهم ، وأن الذین انحرفوا هم فئة قلیلة من أهل الأهواء والبدع ، وهم الرافضة الذین رفضوا خلافة أبی بکر وعمر ، وزعموا أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوصی لعلی والعترة(علیهم السّلام) !

ص: 47

ولو قلت له: لو کانت أغلبیة الأمة مهتدیة لما صح هذه الإطلاق والتعمیم فی کلام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولکان اللازم أن یقول مثلاً: لتتبعن فئة من أمتی ، أو مارقة من أمتی سنن من کان قبلها ؟!

إنه لاجواب عندهم علی هذا التعمیم المبین المتواتر فی کلام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، إلا أن یطعن أحدٌ فی صدق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والعیاذ بالله !

سادساً ، من أین یبدأ هذا الإنحراف الخطیر فی الأمة ؟

والجواب:أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حدد مصدر الإنحراف وأساس الفتنة بأنه حکام قریش وأئمتهم المضلون وأغیلمة قریش ! ففی مجمع الزوائد:5/239: (وعن ثوبان قال رسول الله(ص): إنما أخاف علی أمتی الأئمة المضلین . رواه أحمد ورجاله ثقات... وعن سداد بن أوس قال قال رسول الله(ص): إنی لا أخاف علی أمتی إلا الأئمة المضلین... رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح .....قال قال عمر لکعب: إنی سائلک عن أمر فلا تکتمنی . قال: والله ما أکتمک شیئاً أعلمه ، قال: ما أخوف ما تخاف علی أمة محمد(ص)؟ قال: أئمة مضلین ، قال عمر: صدقت قد أسرَّ إلیَّ وأعلمنیه رسول الله(ص). رواه أحمد ورجاله ثقات ).

وروی أحمد:5/145، عن أبی ذر قال: کنت أمشی مع رسول الله(ص)فقال: لغیر الدجال أخوفنی علی أمتی . قالها ثلاثاً ! قال قلت یارسول الله ، ما هذا الذی غیر الدجال أخوفک علی أمتک قال: أئمة مضلون ) ! (ورواه أبویعلی:1/359 ح 466 ، والفردوس:3/131ح 4163 عن علی) .

وفی سنن الترمذی:3/342:(عن ثوبان قال قال رسول الله (ص): إنما أخاف علی أمتی الأئمة المضلین. لاتزال طائفة من أمتی علی الحق ظاهرین لایضرهم من خذلهم حتی یأتی أمر الله . هذا حدیث صحیح). وقال فی شرحه فی تحفة الأحوذی:6/401:

ص: 48

(باب ما جاء فی الأئمة المضلین: قوله: إنما أخاف علی أمتی أئمة مضلین ، أی داعین إلی البیع والفسق والفجور.... قوله ( هذا حدیث صحیح ) ، وأخرجه مسلم وابن ماجة بدون ذکر إنما أخاف علی أمتی أئمة مضلین . وأخرجه أبوداود مطولاً).

انتهی . وروی ابن أبی شیبة فی المصنف:15/142: (عن علی قال: کنا عند النبی(ص)جلوساً وهو نائم ، فذکرنا الدجال فاستیقظ محمراً وجهه فقال: غیر الدجال أخوف علیکم عندی من الدجال: أئمة مضلون ). انتهی .

أما من طرق أهل البیت(علیهم السّلام) فقد روی الطوسی فی أمالیه:2/126حدیث ابن أبی شیبة بدون حذف فقال:(عن عبد الله بن یحیی الحضرمی قال: سمعت علیاً(علیه السّلام) یقول: کنا جلوساً عند النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهو نائم ورأسه فی حجری فتذاکرنا الدجال ، فاستیقظ النبی محمراً وجهه فقال: غیر الدجال أخوف علیکم من الدجال ، الأئمة المضلون، وسفک دماء عترتی من بعدی، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم).

وفی کمال الدین للصدوق ص281: (عن سعید بن غزوان عن أبی بصیر ، عن أبی عبد الله عن آبائه(علیهم السّلام) قال: قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن الله عز وجل اختار من الأیام الجمعة ، ومن الشهور شهر رمضان ، ومن اللیالی لیلة القدر ، واختارنی علی جمیع الأنبیاء ، واختار منی علیاً وفضله علی جمیع الأوصیاء ، واختار من علی الحسن والحسین، واختار من الحسین الأوصیاء من ولده ، ینفون عن التنزیل تحریف الغالین وانتحال المبطلین وتأویل المضلین ، تاسعهم قائمهم ) . انتهی .

ونختم بما رواه فی الکافی:1/62 ، وتفسیر العیاشی:1/14 ، بسند صحیح عن سُلَیْم بن قیس الهلالی ، قال قلت لأمیر المؤمنین(علیه السّلام): إنی سمعت من سلمان والمقداد وأبی ذر شیئاً من تفسیر القرآن وأحادیث عن نبی الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )غیر ما فی أیدی الناس، ثم سمعت منک تصدیق ماسمعت منهم ، ورأیت فی أیدی الناس أشیاء کثیرة

ص: 49

من تفسیر القرآن ومن الأحادیث عن نبی الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنتم تخالفونهم فیها، وتزعمون أن ذلک کله باطل ، أفتری الناس یکذبون علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) متعمدین ؟ ویفسرون القرآن بآرائهم ؟ قال: فأقبل علیَّ فقال:

قد سألت فافهم الجواب . إن فی أیدی الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وکذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعاماً وخاصاً ، ومحکماً و متشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد کذب علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی عهده حتی قام خطیباً فقال: أیها الناس قد کثرت علیَّ الکذابة ، فمن کذب علی متعمداً فلیتبوء مقعده من النار ! ثم کُذب علیه من بعده ! وإنما أتاکم الحدیث من أربعة لیس لهم خامس: رجل منافق یظهر الإیمان، متصنع بالإسلام لایتأثم ولا یتحرج أن یکذب علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )متعمداً ، فلو علم الناس أنه منافق کذاب لم یقبلوا منه ولم یصدقوه ، ولکنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه ، وهم لایعرفون حاله ، وقد أخبر الله عن المنافقین بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل: وَإِذَا رَأَیْتَهُمْ تُعْجِبُکَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ یَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ . ثم بقوا بعده فتقربوا إلی أئمة الضلالة والدعاة إلی النار بالزور والکذب والبهتان فولوهم الأعمال ، وحملوهم علی رقاب الناس ، وأکلوا بهم الدنیا ! وإنما الناس مع الملوک والدنیا إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة .

ورجل سمع من رسول الله شیئاً لم یحمله علی وجهه ووَهِمَ فیه ولم یتعمد کذباً فهو فی یده یقول به ویعمل به ویرویه فیقول: أنا سمعته من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ لم یقبلوه ، ولو علم هوأنه وهم لرفضه .

ورجل ثالث سمع من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )شیئاً أمر به ثم نهی عنه وهو لایعلم ، أو سمعه ینهی عن شئ ثم أمر به وهو لایعلم ، فحفظ منسوخه ولم یحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه . وآخر رابع لم یکذب علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، مبغض للکذب خوفاً من الله وتعظیماً لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لم ینسه بل حفظ ما سمع علی وجهه فجاء به کما سمع لم یزد فیه

ص: 50

ولم ینقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فإن أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ومحکم ومتشابه ، قد کان یکون من رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )الکلام له وجهان: کلام عام وکلام خاص مثل القرآن ، وقال الله عز وجل فی کتابه: وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . فیشتبه علی من لم یعرف ولم یدر ما عنی الله به ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

ولیس کل أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان یسأله عن الشئ فیفهم ! وکان منهم من یسأله ولا یستفهمه حتی أن کانوا لیحبون أن یجیئ الأعرابی والطارئ فیسأل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حتی یسمعوا . وقد کنت أدخل علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کل یوم دخلة وکل لیلة دخلة فیخلینی فیها أدور معه حیث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنه لم یصنع ذلک بأحد من الناس غیری ، فربما کان فی بیتی یأتینی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أکثر ذلک فی بیتی ، وکنت إذا دخلت علیه بعض منازله أخلانی وأقام عنی نسائه ، فلا یبقی عنده غیری ، وإذا أتانی للخلوة معی فی منزلی لم تقم عنی فاطمة ، ولا أحد من بنیَّ ، وکنت إذا سألته أجابنی ، وإذا سکت عنه وفنیت مسائلی ابتدأنی ، فما نزلت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )آیة من القرآن إلا أقرأنیها وأملاها علیَّ فکتبتها بخطی ، وعلمنی تأویلها وتفسیرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحکمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن یعطینی فهمها وحفظها ، فما نسیت آیة من کتاب الله ولا علماً أملاه علیَّ وکتبته منذ دعا الله لی بما دعا، وما ترک شیئاً علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهی کان أو یکون ، ولا کتاب منزل علی أحد قبله من طاعة أومعصیة إلا علمنیه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثم وضع یده علی صدری ودعا الله لی أن یملأ قلبی علماً وفهماً وحکماً ونوراً ، فقلت: یا نبی الله بأبی أنت وأمی منذ دعوت الله لی بما دعوت لم أنس شیئاً ولم یفتنی شئ لم أکتبه ، أفتتخوف علیَّ النسیان فیما بعد ؟ فقال: لا ، لست أتخوف علیک النسیان والجهل . وقد أخبرنی ربی أنه قد استجاب لی فیک وفی شرکائک الذین یکونون من بعدک . فقلت: یا رسول الله ومن

ص: 51

شرکائی من بعدی؟ قال: الذین قرنهم الله بنفسه وبی . فقال: الأوصیاء منی إلی أن یردوا علی الحوض ، کلهم هاد مهتد لا یضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم ، لا یفارقهم ولا یفارقونه ، بهم تنصر أمتی وبهم یمطرون ، وبهم یدفع عنهم ، وبهم استجاب دعاءهم . فقلت: یا رسول الله سمهم لی فقال: ابنی هذا ، ووضع یده علی رأس الحسن ، ثم ابنی هذا ووضع یده علی رأس الحسین ، ثم ابن له یقال له علی ، وسیولد فی حیاتک فاقرأه منی السلام ، ثم تکملة اثنی عشر من ولد محمد . فقلت له: بأبی أنت وأمی فسمهم لی ، فسماهم رجلاً رجلاً فیهم والله یا أخا بنی هلال مهدی أمة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً و ظلماً ، والله إنی لأعرف من یبایعه بین الرکن والمقام وأعرف أسماء آبائهم وقبائلهم). (ورواه النعمانی/75 ، والطبری الشیعی فی المسترشد/29 ، والصدوق فی کمال الدین: 1/284 ، والخصال: 1/255 ، والحرانی فی تحف العقول/193 ، والطبرسی فی الإحتجاج:1/264 ، وابن میثم البحرانی فی شرح النهج: 4/19 ، والحر العاملی فی إثبات الهداة: 1/664 ، والمجلسی فی البحار: 2/228 ، و: 36/273 و276 ، و: 9/98 . ویوجد قسم منه فی نهج البلاغة ، شرح صبحی الصالح ، خطبة 210 ، وشرح محمد عبده:/214 . وروی ابن الجوزی قسماً منه فی تذکرة الخواص ص143 ، مرسلاً عن کمیل بن زیاد ).

ص: 52

10 - فتنة هذه الأمة بالشجرة الملعونة فی القرآن

تکشف آیة الشجرة الملعونة فی القرآن وأحادیثها ، قوانین صعبة التعقل فی إدارة الله تعالی للبشر ، وحقائق صعبة التحمل عن مستقبل الأمة الإسلامیة !

قال الله تعالی: (وَإِنْ مِنْ قَرْیَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِکُوهَا قَبْلَ یَوْمِ الْقِیَامَةِ أَومُعَذِّبُوهَا عذاباً شدیداً کَانَ ذَلِکَ فِی الْکِتَابِ مَسْطُورًا . وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآیَاتِ إِلا أَنْ کَذَّبَ بِهَا الأَوَلُونَ وَآتَیْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآیَاتِ إِلا تَخْوِیفًا . وَإِذْ قُلْنَا لَکَ إِنَّ رَبَّکَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیَا التی أَرَیْنَاکَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلا طُغْیَانًا کَبِیرًا . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِیسَ قَالَ اسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِینًا . قَالَ أَرَأَیْتَکَ هَذَا الَّذِی کَرَّمْتَ عَلَیَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ لاحْتَنِکَنَّ ذُرِّیَّتَهُ إِلا قلیلاً .قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَکَ مِنْهُمْ فإن جَهَنَّمَ جَزَاؤُکُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا . وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِکَ وَأَجْلِبْ عَلَیْهِمْ بِخَیْلِکَ وَرَجِلِکَ وَشَارِکْهُمْ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَایَعِدُهُمُ الشَّیْطَانُ إِلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ سُلْطَانٌ وَکَفَی بِرَبِّکَ وَکِیلاً ). (الإسراء:58 - 65)

وخلاصة تفسیرها: أن سنة الله تعالی أنه سُیهلک الدول والحضارات التی یقیمها البشر علی غیر هداه أو یعذبها قبل یوم القیامة ، وذلک عندما یأتی الوقت لإقامة دولة العدل الإلهی . وسیمهل هذه الأمة الآخرة ولن یعاجلها بآیات العقوبة کبعض الأمم السابقة ، وأنها سوف تقیم دولاً وحضارة علی غیر هدی الله ، وقد أری الله تعالی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی منامه دولة الشجرة الملعونة التی ستتسلط علی أمته وصوَّر له قادتها وهم ینزون نزو القرود علی منبره ویضلون أمته !

ثم بیَّن أن مشکلة هؤلاء القرود حسدهم للنبی وآله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فهی مشکلة أعداء الأنبیاء(علیهم السّلام) المزمنة بل مشکلة إبلیس مع آدم(علیه السّلام) !

ص: 53

وقد شرح ذلک أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فقال: فی نهج البلاغة:1/82 : (والله ما تنقم منا قریش إلا أن الله اختارنا علیهم ، فأدخلناهم فی حیِّزنا ، فکانوا کما قال الأول:

أدمتَ لعمری شُرْبَک المحْضَ صابحاً

وأکلک بالزبد المقشرةَ البُجْرا

ونحن وهبناک العلاءَ ولم تکن

علیاً وحُطنا حولک الجُرْدَ والسُّمْرا ) .

وقال(علیه السّلام): (أین الذین زعموا أنهم الراسخون فی العلم دوننا ، کذباً وبغیاً علینا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم !

بنا یستعطی الهدی ، ویستجلی العمی . إن الأئمة من قریش ، غرسوا فی هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علی سواهم ، ولا تصلح الولاة من غیرهم). (نهج البلاغة:2/27 ) .

وقال الإمام الباقر(علیه السّلام): فی قوله تعالی: (أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عَظِیماً ): نحن الناس المحسودون علی ماآتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعین . فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عظیماً ، یقول: جعلنا منهم الرسل والأنبیاء والأئمة ، فکیف یقرون به فی آل إبراهیم(علیه السّلام)وینکرونه فی آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟! وقال الراوی برید العجلی: قلت: وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عَظِیماً؟ قال: الملک العظیم أن جعل فیهم أئمةً مَن أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصی الله ، فهوالملک العظیم).( الکافی:1/205)

وقد صحت الأحادیث النبویة فی مصادر الجمیع ، فی أن الشجرة الملعونة فی القرآن هم بنو أمیة ! وأورد الأمینی(رحمه الله)قسماً منها فی الغدیر:8/248 قال: (وأخرج الطبری والقرطبی وغیرهما من طریق سهل بن سعد قال: رأی رسول الله(ص)بنی أمیة ینزون علی منبره نزو القردة فساءه ذلک ! فما استجمع ضاحکاً حتی مات ، وأنزل الله تعالی: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیا التی أَرَیْنَاکَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلا طُغْیَاناً کَبِیراً . وروی القرطبی والنیسابوری عن ابن عباس: إن الشجرة الملعونة هم بنو أمیة . وأخرج ابن أبی حاتم عن ابن عمرو أن

ص: 54

النبی(ص)قال: رأیت ولد الحکم بن أبی العاص علی المنابر کأنهم القردة فأنزل الله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیا التی أَرَیْنَاکَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ . یعنی الحکم وولده...). الخ . راجع لزیادة المصادر فیما رویناه: تفسیر الطبری 15: 77 ، تاریخ الطبری 11: 6 35 ، مستدرک الحاکم 4: 48 ، تاریخ الخطیب 8: 28 و ج 9: 44 ، تفسیر النیسابوری هامش الطبرانی 15: 55 ، تفسیر القرطبی:10: 283 ، 286 ، النزاع والتخاصم للمقریزی ص 52 ، أسد الغابة:3/14 من طریق الترمذی ، تطهیر الجنان لابن حجر هامش الصواعق ص148 فقال: رجاله رجال الصحیح إلا واحداً فثقة . الخصایص الکبری 2: 118 ، الدر المنثور 4: 191 ، کنز العمال 6: 90 ، تفسیر الخازن 3: 177 ، تفسیر الشوکانی 3: 230 ، 231 ، تفسیر الآلوسی 15: 107 وقال: ومعنی جعل ذلک فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبراً ، وبذلک فسره ابن المسیب ، وکان هذا بالنسبة إلی خلفائهم الذین فعلوا مافعلوا ، وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلی ما عدا خلفاءهم منهم ممن کان عندهم عاملاً وللخبائث عاملاً ، أو ممن کان أعوانهم کیف ما کان . ویحتمل أن یکون المراد: ما جعلنا خلافتهم وما جعلنا أنفسهم إلا فتنة ، وفیه من المبالغة فی ذمهم ما فیه ، وجعل ضمیر نخوفهم علی هذا لما کان له أولاداً أو شجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمیة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، والفروج المحصنة ، وأخذ الأموال من غیر حلها ، ومنع الحقوق عن أهلها ، وتبدیل الأحکام ، والحکم بغیر ما أنزل الله تبارک وتعالی علی نبیه علیه الصلاة والسلام ، إلی غیر ذلک من القبایح العظام والمخازی الجسام التی لاتکاد تنسی ما دامت اللیالی والأیام ، وجاء لعنهم فی القرآن إما علی الخصوص کما زعمته الشیعة ، أو علی العموم کما نقول فقد قال سبحانه وتعالی: إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ . وقال عز وجل: فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ . أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ .. إلی آیات أخر ....

ص: 55

وقوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من طریق أبی ذر: إذا بلغت بنو أمیة أربعین اتخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله نحلاً ، وکتاب الله دغلاً . وقوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من طریق حمران بن جابر الیمامی: ویل لبنی أمیة ، ثلاثاً ! أخرجه ابن مندة کما فی الإصابة 1: 353 ، وحکاه عن ابن مندة وأبی نعیم السیوطی فی الجامع الکبیر ، کما فی ترتیبه 6 :39 ، 91 .

وقوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من طریق أبی ذر: إذا بلغ بنو أبی العاص ثلاثین رجلاً اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودین الله دغلاً . قال حلام بن جفال: فأنکر علی أبی ذر فشهد علی بن أبی طالب رضی الله عنه: إنی سمعت رسول الله یقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء علی ذی لهجة أصدق من أبی ذر ، وأشهد أن رسول الله(ص) قاله . أخرجه الحاکم من عدة طرق وصححه هو والذهبی کما فی المستدرک 4: 480 ! وأخرجه أحمد ، وابن عساکر ، وأبو یعلی ، والطبرانی والدار قطنی ، من طریق أبی سعید ، و أبی ذر ، وابن عباس ، ومعاویة ، وأبی هریرة ، کما فی کنز العمال 6/39 ،90 .

وذکر ابن حجر فی تطهیر الجنان هامش الصواعق 147 بسند حسن: أن مروان دخل علی معاویة فی حاجة وقال: إن مؤنتی عظیمة أصبحت أبا عشرة وأخا عشرة وعم عشرة ثم ذهب ، فقال معاویة لابن عباس وکان جالساً معه علی سریره: أنشدک بالله یا بن عباس أما تعلم أن رسول الله(ص)قال: إذا بلغ بنو أبی الحکم ثلاثین رجلاً اتخذوا آیات الله بینهم دولاً ، وعباد الله خولاً ، وکتابه دخلاً فإذا بلغوا سبعة وأربعمائة کان هلاکهم أسرع من کذا ؟ قال: اللهم ، نعم). انتهی.

وقال ابن الأعثم فی الفتوح:7/85 ، یصف تجهیز عبد الملک بن مروان لحرب عبد الرحمن بن الأشعث لما خرج علیه من کرمان:(ثم نزل عن المنبر ودخل الی منزله فجعل یعطی الناس ویجهزهم الی العراق ، وبعث الی خالد بن یزید بن معاویة فدعاه ، وکان خالد بن یزید علامة بأیام الناس عارفاً بکتب الفتن ، فقال له: ویحک یا أبا هاشم ، هل تتخوف علینا من الرایات السود شیئاً ، فإنا نجد فی

ص: 56

الکتب أن ذهاب ملکنا علی أیدیهم؟ قال له خالد: وما اسم بلد هذا الرجل الذی خرج علیک یا أمیر المؤمنین؟ قال: سجستان ، قال خالد: الله أکبر ، لاتخف یا أمیر المؤمنین مالم یأتک الأمر من قعر مرو ! قال وجعل عبد الملک بن مروان لاینام اللیل من الفکر والغم ، وربما هجع ثم یستیقظ کالفزع المرعوب وهو یقول: لقد ترکنی ابن الأشعث فی هجوع !) . انتهی .

ص: 57

11 - ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا غلب أهل باطلها !

نقرأ فی مصادر الشعیة قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی(علیه السّلام): (یا علی، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون کرهاً ، فسلط الله الذین أسلموا کرهاً علی الذین أسلموا طوعاً فقتلوهم لیکون أعظم لأجورهم !

یا علی ، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا ظهر أهل باطلها علی أهل حقها ، وإن الله قضی الفرقة والإختلاف علی هذه الأمة ، ولو شاء الله لجعلهم علی الهدی حتی لا یختلف اثنان من خلقه ولا یتنازع فی شئ من أمره ، ولا یجحد المفضول ذا الفضل فضله . ولو شاء عجل النقمة فکان منه التغییر حتی یکذب الظالم ، ویعلم الحق أین مصیره . ولکن جعل الدنیا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار ، لِیَجْزِیَ

الَّذِینَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَیَجْزِیَ الَّذِینَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَی ).( کتاب سُلیم(رحمه الله)ص137) .

ورواه الطبرانی فی المعجم الأوسط:7/370: (عن موسی بن عبیدة ، عن عبد الله بن دینار ، عن ابن عمر قال قال رسول الله(ص): ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا ظهر أهل باطلها علی أهل حقها . لم یرو هذا الحدیث عن عبد الله بن دینار إلا موسی بن عبیدة ، ولا عن موسی إلا أبو بکر بن عیاش ، تفرد به منصور بن أبی نویرة) . ورواه السیوطی فی الجامع الصغیر:2 /481 ، والهندی فی کنز العمال:1/183.

لکن الهیثمی ضعفه فقال فی مجمع الزوائد:1/157: (رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه موسی بن عبیدة وهو ضعیف ). انتهی .

وضعفه الألبانی فی ضعیف سنن الترمذی ص137، قال عن حدیث آخر: (هذا حدیث لا نعرفه إلا من حدیث موسی بن عبیدة . وموسی بن عبیدة یضعف فی الحدیث من قبل حفظه وهو صدوق . وقد روی عنه شعبة والثوری).

ص: 58

وقال فی إرواء الغلیل:5/222: ( قلت: وعلته موسی بن عبیدة هذا فإنه ضعیف کما جزم الحافظ فی التقریب . وقال الذهبی فی الضعفاء والمتروکین: ضعفوه ، وقال أحمد: لا تحل الروایة عنه ) . انتهی .

ویبطل العجب عندما تعرف أن موسی بن عبیدة شیعی ، وأنهم اتهموه بالوهم وحرموا الروایة عنه ، مع شهادتهم بأنه صدوق ! قال فی مستدرکات علم رجال الحدیث:8/21: (موسی بن عبیدة أبوحسان العجلی الکوفی: من أصحاب الصادق (علیه السّلام)، عُدَّ مجهولاً ، وروی عنه صفوان الجمال. تقدم فی علقمة بن محمد ما یدل علی مدحه وجلالته. وما یفید حسنه فی کفایة الأثر باب 3 و 16 ، والإکمال باب 21 ). انتهی .

ومما یکشف تعصبهم فی تضعیفهم لموسی بن عبیدة ، أن الذهبی وغیره رووا هذا الحدیث عن الشعبی وهو إمام عندهم ، ولا عذر لهم بأن الشعبی لم یرفعه ، لأنه لایتکلم من عنده ، بل ینقل قاعدة وسنة من سنن التاریخ لایعرفها إلا نبی !

قال الذهبی فی سیر أعلام النبلاء:4/311: (روی عطاء بن السائب ، عن الشعبی قال: ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا ظهر أهل باطلها علی أهل حقها ) .

ورواه عن الشعبی أیضاً فی تذکرة الحفاظ:1/87 وذکر مصدره فی هامشه: الحلیة:4/313.

ونظراً الی خطر هذا الحدیث الشریف علیهم لأنه یهدم أساس السقیفة القرشیة وخلافتها ، فقد حاولوا أن یعارضوه بإثبات عصمة الأمة ، وأن الله تعالی ضمن لها أن یغلب فیها أهل الحق علی أهل الباطل دائماً ، وسیأتی أن معاویة أقر بهذا الحدیث لکنه استثنی منه أمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! ولا یتسع المجال لتفصیله هنا .

ص: 59

ص: 60

الفصل الأول : الموجة الأولی من اضطهاد عترة النبی’وشیعتهم !

اشارة

ص: 61

ص: 62

فهرس لموجات الظلم والإضطهاد علی أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم !

إن معرفة الجذور التاریخیة للقضایا الفکریة والعقائدیة ، تکشف لنا حقیقة الواقع المعاصر فی مجتمعاتنا الإسلامیة . لذلک نحتاج الی فهرس لأهم موجات الظلم والإضطهاد التی تعرض لها أهل بیت النبی(علیهم السّلام) وشیعتهم الأبرار .

لکن هل یمکن تلخیص تأریخ معارضة امتدت أربعة عشر قرناً فی کتاب ؟! وکیف نضع یدنا علی جذور ظلامة أئمة وطائفة علی مدی قرون ، کان اضطهادهم برنامجاً ثابتاً لحکومات تفننت فی تطویره والمبالغة فیه ؟!

وکیف نُعدِّد موجات اضطهادهم الکبری ، ونحدد الأصلیة منها والفرعیة ؟ والتاریخ ملئٌ بها طافح ، ناطقةٌ صفحاته بمآسیها وقیمها ونبلها ، حتی صار الشیعی یعنی المعارضة والظلامة ، وصار الحسین وکربلاء مثلاً عالمیاً فی ضمیر کل الشعوب لظلامة الإنسان !

اخترت تقسیم تاریخ اضطهاد أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم ، الی الأقسام الخمسة عشر التالیة ، لأنها أشد الموجات التی شنَّها علینا المخالفون ، ووصل إلینا قسم من تاریخها فیما سلم من مصادرنا ، وفیما تضمنته ثنایا مصادرهم .

الموجة الأولی: موجة السقیفة ، والهجوم القرشی علی أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

الموجة الثانیة: ثورة قریش علی إسلام علی(علیه السّلام)، بقیادة عائشة وطلحة والزبیر.

ص: 63

الموجة الثالثة: فتنة بنی أمیة ، وهی موجة قتل الإمام علی والإمام الحسن(علیهماالسّلام) وتسلط معاویة علی أمة الرسول (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

الموجة الرابعة: قتل الإمام الحسین(علیه السّلام)، وخطة الأمویین لاستئصال البیت النبوی وشیعتهم ، ثم قتل الإمام زین العابدین ، والإمام محمد الباقر(علیهماالسّلام) !

الموجة الخامسة: موجة المنصور العباسی ، أول خلیفة عباسی تبنی خط بنی أمیة ونشر فی العامة تقدیس أبی بکر وعمر ، واضطهد شیعة علی وأبنائه(علیهم السّلام) ، وأسس المذاهب ضدهم ، وقتَل الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام) .

الموجة السادسة: فعالیات هارون الرشید العباسی ، الذی عمل لترسیخ مذهب المنصور ، وقتَل الإمام الکاظم(علیه السّلام)، وقتَل ابنُه المأمون الإمام الرضا(علیه السّلام) .

الموجة السابعة: فعالیات المعتصم العباسی والد المتوکل ، الذی نقض قرارات أخیه المأمون المعادیة لبنی أمیة ، واللینة مع أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم ، وقتل الإمام محمد الجواد(علیه السّلام) .

الموجة الثامنة: فعالیات المتوکل العباسی ، الذی تبنی التجسیم بنی أمیة ونصبهم بأشد منهم ، وخطط لإبادة التشیع والشیعة ، وقتل هو ومن بعده الإمام علی الهادی(علیه السّلام) ، والإمام الحسن العسکری(علیه السّلام)، وحاولوا قتل الإمام المهدی(علیه السّلام).

الموجة التاسعة: فعالیات حزب المتوکل الذین عرفوا باسم حنابلة بغداد ، فی تکفیر الشیعة وهدر دمائهم ، ومهاجمة مراسمهم فی عاشوراء ، وقد امتد ذلک من بعد المتوکل الی حکم السلاجقة !

الموجة العاشرة: فعالیات السلاجقة، فی مناصرة مجسمة الحنابلة حزب المتوکل، طیلة حکمهم الذی امتد نحو قرن ونصف .

ص: 64

الموجة الحادیة عشرة: فعالیات صلاح الدین الأیوبی ، فی القضاء علی الدولة الفاطمیة فی مصر وبلاد الشام ، وعلی التشیع والشیعة عموماً .

الموجة الثانیة عشرة: فعالیات الممالیک الشراکسة ، فی تکریس المذاهب الأربعة واضطهاد الشیعة .

الموجة الثالثة عشرة: فعالیات العثمانیین الأتراک ، فی محاربة التشیع ، وإبادة الشیعة .

الموجة الرابعة عشرة: فعالیات الروس والإنکلیز والغربیین ، ضد الشیعة خاصة .

الموجة الخامسة عشرة: فعالیات أتباع ابن تیمیة الجدد ، الذین أحیوا حزب المتوکل ، ونشروا النصب والتجسیم فی المسلمین ، وکفَّروا من خالفهم ، وهدروا دماءهم ، وخاصة الشیعة ، وتبنوا مهاجمة مراسمهم ومشاهد أئمتهم(علیهم السّلام) !

وبعض هذه الموجات طویلٌ یمتد قروناً ، أو قصیرٌ یمتد سنین ، لکنی اعتبرت المیزان فی وحدة الموجة أن تکون خطة واحدة یبدأ بها شخص أو دولة أو جهة ویتابعها الذین بعده ، حتی لو امتدت طویلاً ، مالم تتغیر خطتها .

وعلی هذا الأساس اعتبرت الموجة القرشیة اثنتین: لأن أولاهما بدأت فی عهد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکان هدفها غصب الخلافة وعزل أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). بینما کان هدف الثانیة إسقاط حکم علی(علیه السّلام)الذی جاءت به موجة غضب شعبی قادها الصحابة والتابعون ضد ظلم الخلیفة القرشی الأموی عثمان .

واعتبرت الفتنة الأمویة فی حکم معاویة ویزید وبنی مروان ، موجتین أیضاً ، لأن الهدف العملی لمعاویة کان نفس الهدف القرشی ، وهو إسقاط حکم علی والعترة(علیهم السّلام) ، بینما کان هدف ابنه یزید اجتثاث البیت النبوی وإبادته وإبادة شیعته

ص: 65

بالکامل ! ثم لم یختلف هذا الهدف عند بنی مروان إلا بقدر ما سمحت لهم به الظروف ، أو لم تسمح !

ثم اعتبرت أن موجة الظلم العباسی بدأت بالمنصور الدوانیقی ، لأن أخاه السفاح کان متسامحاً یحمل قدراً من الروح الهاشمیة ، بینما کان المنصور سفاحاً مسرفاً فی سفک الدماء ! وقد ساءه أن یری المرجعیة الفکریة للأمة متمرکزة فی الأئمة من ذریة الحسین(علیه السّلام)فقرر تأسیس مذهب فی مقابلهم وأمر مالک بن أنس أن یکتب له کتاباً موطأً لیلزم به المسلمین ، وحصر الفتوی بمالک ، ومنع أئمة أهل البیت(علیهم السّلام) وفقهاء المدینة أن یفتوا مادام مالک موجوداً ، حتی صار قراره مثلاً: (لایفتین أحد ومالک فی المدینة) ، وقام باضطهاد الإمام جعفر الصادق (علیه السّلام)وقتله ، وقتل الکثیر من شیعته ، وأمر المحدثین والفقهاء والولاة أن لایرووا شیئاً فی فضائل علی(علیه السّلام) ، ولا شیئاً یطعن بأبی بکر وعمر ، وأن یفضلوهما علی علی(علیه السّلام) ! ثم ابتدع مدح أبی بکر وعمر فی خطبة الجمعة وقال: (والله لأرغمن أنفی وأنوفهم ، وأرفع علیهم بنی تیم وعدی) . (منهاج الکرامة ص69) .

وکان السبب فی عمل المنصور هذا أن شرکاءهم الحسنیین اتهموهم بسرقة الثورة وثاروا ضدهم وسیطروا علی الحجاز والیمن والبصرة ، وکاد جیشهم أن یطیح بالمنصور فی الکوفة ، فانتصر علیهم ونکَّل بهم وقتَّلهم وشردهم ! ثم اتخذ قراراته غیظاً من أبناء علی(علیه السّلام) کلهم ، بتغییر الخط الفکری لثورة العباسیین ، وإعادة الإعتبار للخلفاء القرشیین ، بعد أن قامت الثورة الهاشمیة علی البراءة منهم ، ورفعت فی مقابل الأمویین شعار: یالثارات الحسین(علیه السّلام) ، وفی مقابل قریش: الدعوة الی الرضا من آل محمد . وقد استمرت خطة المنصور فی أولاده خلفاء بنی العباس ، لکن هارون الرشید اتخذ إجراءات عملیة واسعة فی اضطهاد

ص: 66

أئمة أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم وقام بهدم قبر الحسین(علیه السّلام)، وسجن الإمام الکاظم (علیه السّلام)وقتله ، ونکَّل بالشیعة ، فجعلنا عهده موجة ظلم جدیدة .

ثم جاء بعده المأمون فاتبع سیاسة مرکبة غریبة ، فکان فی النظریة قریباً من مذهب أهل البیت(علیهم السّلام) ، خاصة فی التنزیه ومحاربة التشبیه والتجسیم ، ومحاربة النواصب لأهل البیت(علیهم السّلام) المحبین لبنی أمیة ! أما فی التطبیق فکان عدواً لدوداً لأهل البیت(علیهم السّلام) ، فقد أجبر الإمام الرضا(علیه السّلام) علی أن یکون ولیَّ عهده ، لیسکِّت بذلک ثورات العلویین ، ویغیض بنی العباس الذین أیدوا أخاه الأمین فی عزله عن ولایة العهد ! لکنه بعد انتصاره علی أخیه الأمین وقتله ، تصالح مع العباسیین وأعاد العاصمة من طوس الی بغداد وأقدم علی سم الإمام الرضا(علیه السّلام) !

لذلک اعتبرنا ظلم المأمون للعترة النبویة وشیعتهم امتداداً لسیاسة أبیه الرشید .

واعتبرنا أخاه المعتصم بدایة موجة جدیدة ، لأنه نقض قرارات أخیه المأمون وأعاد ظلم أبیه الرشید ، واضطهد الشیعة وقتل الإمام الجواد(علیه السّلام) !

واعتبرنا المتوکل بن المعتصم بدایة موجة اضطهاد جدیدة ، لأنه بالغ فی نقض مقررات عمه المأمون ، وزاد علی أبیه المعتصم وجده الرشید فکوَّن (میلیشیا) عقائدیة سیاسیة لمعاداة أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم سماهم أهل الحدیث ! وقتل الإمام علی الهادی(علیه السّلام)ومنع زیارة الإمام الحسین(علیه السّلام)وقام بهدم قبره !

الی آخر المبررات الموضوعیة ، التی قسمنا علی أساسها اضطهاد أهل البیت الطاهرین(علیهم السّلام) وشیعتهم الأبرار ، الی مراحل أو موجات !

ص: 67

تاریخ البشریة قام علی ثقافة الغارة والحق لمن غلب !

لا بد من الإعترف بأن تاریخ البشریة من عصر أبینا آدم(علیه السّلام)الی الیوم ، ملئٌ بنقض التعلیمات الإلهیة والقیم الإنسانیة ، وأن الخط الحاکم فیه کان وما زال: ثقافة الغارة والقتل، وقانون: الحق لمن غلب ! لافرق فی ذلک بین قدیم وجدید ولا شرق وغرب ، ولا عرب وعجم ، وبدو وحضر !

نعم ، یوجد فی تاریخ البشریة ظواهر وقیمٌ إنسانیة رائعة ، تجسدت فی شخصیات أو جماعات ، لکنها استثناءات لا عموم لها ، والعموم لضدها !

إن تاریخ الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) وکفاحهم المریر یتلخص فکریاً ، بأنه صراعٌ الهدی الإلهی مع الضلال البشری ، فی النظرة الی الکون والحیاة والإنسان .

ویتلخص عملیاً بأنه صراعٌ بین الهدی الإلهی الذی یرید احترام الإنسان وحقوقه ، وبین الطغیان البشری الذی یصرُّ علی هدر إنسانیته ، والتشبث بثقافة الغارة والقتل وقانون الغلبة !

وفی تاریخنا الإسلامی تمکَّن نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مدة حکمه القصیرة أن یوقف سلوکیة القتل والغارة ، ویفرض بدلها(حرمة دم الإنسان وماله وعرضه ، والمعتدی یعاقب) ، وأن یوقف عملیاً قانون الجاهلیة العالمی(الحق لمن غلب) ویفرض بدله قانون: (الحق لصاحب الحق ، والمعتدی یعاقب). وکان ما حققه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إنجازاً وإعجازاً فی مجتمعات قبلیة جائعة ، تقوم حیاتها علی الغارة والقتل والغلبة !

ولم یقتصر الإعجاز النبوی فی تطبیقه مبادئ حقوق الإنسان فی قوله وفعله طوال حیاته الشریفة ، بل فی اهتمامه الشدید بتوعیة المسلمین علی احترام هذه المبادئ ، وترسیخ ثقافة القرآن والوحی فی أصلها وحدودها وتطبیقها .

فنحن نلاحظ فی سنته وسیرته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تأکیداته المتواصلة علی هذه المبادئ

ص: 68

وتوصیاته بها ، خاصة فی خطبه الست فی حجة الوداع ، التی تضمنت درراً نبویة حول حقوق الإنسان ، نلخص عناوینها فی الأسس التالیة :

1 - أساس المساواة الإنسانیة .

- مبدأ الوحدة الإنسانیة بین البشر ، وإلغاء التمایز القومی .

- مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن .

2 - أساس وحدة الأمة الإسلامیة .

- مبدأ إلغاء آثار الجاهلیة ومآثرها وتشریعاتها المخالفة للإسلام .

- مبدأ الأخوة والتکافؤ بین المسلمین .

- مبدأ احترام حیاة المسلم ، وتحریم دماء المسلمین علی بعضهم .

- مبدأ احترام عرض المسلم وکرامته، وتحریم أعراضهم علی بعضهم.

- مبدأ احترام الملکیة الشخصیة ، وتحریم أموال المسلمین علی بعضهم .

- مبدأ من قال لاإله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .

- مبدأ ختام النبوة به(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وختام الأمم بأمته .

- مبدأ شهادة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی الأمة فی الآخرة ، وموافاتها له علی الحوض .

- مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال التی تجر إلی الإنحراف .

- مبدأ التحذیر من الکذب علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ووجوب التحقق فیما ینقل عنه .

3 - أساس وحدة الشریعة ووحدة ثقافة المسلمین .

- مبدأ أداء الأمانة .

- قوانین الإرث .

- قوانین الدیات والقصاص .

- تشریعات مناسک الحج ( خذوا عنی مناسککم ) .

4 - مبادئ مسیرة الدولة والحکم بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

- مبدأ البشارة بالأئمة الإثنی عشر من عترته(علیهم السّلام) .

ص: 69

- مبدأ التأکید علی الثقلین القرآن وأهل البیت(علیهم السّلام) .

- مبدأ إعلان أن علیاً(علیه السّلام)ولی الأمة بعده والإمام الأول من الإثنی عشر(علیهم السّلام) .

- مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .

- مبدأ تخلید تعاهد قریش وکنانة علی حصار بنی هاشم .

- مبدأ تحذیر قریش من أن تطغی بعد وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

- مبدأ تحذیر الصحابة من الإرتداد بعده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والصراع علی السلطة .

5 - أساس عقوبة المخالفین للخط النبوی .

- مبدأ تحذیر الصحابة من تسبیب انهیار الأمة بصراعهم علی السلطة .

- مبدأ تحذیرهم من العقوبة الإلهیة ، یوم یلاقون نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی الحوض .

- مبدأ لعن من ادعی إلی غیر أبیه ، أوتولی غیر موالیه صلوات الله علیهم .

وفی کل واحد من هذه المبادئ آیات وأحادیث نبویة ، تشکل مع نصوص خطب الوداع منظومةً فی الحقوق یکمل بعضها بعضاً ، فی وحدة عقیدیة وتشریعیة فریدة ، من بناء صرح الإسلام الربانی .

وقد استوعبنا نصوص الخطب النبویة فی حجة الوداع فی (آیات الغدیر) ، وغرضنا هنا أن نوضح أن أولی موجات الإضطهاد علی أهل البیت النبوی(علیهم السّلام) وشیعتهم ، بدأت بعودة ثقافة الغارة والقتل وقانون الغلبة !

ص: 70

الموجة الأولی: الهجوم القرشی علی بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

اتفق الرواة والمؤرخون أن الذی حصل فی الیوم الثانی لوفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )هو أن مجموعة من الصحابة جاؤوا الی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام) ، لا لکی یعزُّوهم بوفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، بل کانوا حاملین سیوفهم وأکداساً من الحطب ومشعل نار، ووضعوا الحطب علی باب الدار ، وأنذروا المجتمعین فیه أن یخرجوا ویبایعوا أبا بکر ، وإلا أحرقوا الدار بمن فیه ! وکان فی الدار فاطمةُ بنت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) سیدة نساء أهل الجنة ، وعلیٌّ عضد رسول الله وابن عمه وصهره ، والحسنُ والحسینُ سبطا رسول الله ، وسیدا شباب أهل الجنة ، وعدد من کبار الصحابة ، من المهاجرین والأنصار !

وکان جرمهم أنهم کانوا مشغولین بمراسم تجهیز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ودفنه ، فتفاجؤوا بأن عدداً من الصحابة الذین ترکوا مراسم جنازة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وذهبوا خلسة عنهم واجتمعوا فی سقیفة ، وتحاجٌّوا فیمن هو الأحق بوراثة سلطان محمد ، فبادر عمر وبایع صاحبه أبا بکر وبایعه بضعة أشخاص ، وتجمع معهم الطلقاء شاهرین سیوفهم یطلبون من المسلمین البیعة (بکامل اختیارهم وإرادتهم الحرة) !

فلما سمع علی(علیه السّلام)والمشغولون بدفن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )اجتمعوا یتداولون فیما یفعلون فاستحقوا المهاجمة والتهدید بالقتل وحرق الدار علی من فیه إن لم یبایعوا!!

معنی هذا: أنه بمجرد أن أغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عینیه عاد قانون: الحق لمن غلب وعادت ثقافة الغارة والقتل ، وأسلوب حرق البیوت علی من فیها من أحیاء !

ولم تقف المسألة عند عودة ثقافة الغارة والقتل وقانون الغلبة ! فالأفظع منها أن الحکومات القرشیة ربَّت أجیال المسلمین علی تقدیس ذلک العنف والإفتخار به!

ص: 71

فصرت تقرأ تمجید حادثة الهجوم علی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام)لشاعر العرب حافظ إبراهیم ، فی قصیدته العمریة المشهورة ، التی یقول فیها:

وقولةٌ لعلی قالها عمرٌ

أکرم بسامعها أعظم بملقیها

حرَّقتُ دارک لا أبقی علیک بها

إن لم تبایعْ وبنتُ المصطفی فیها

ما کان غیر أبی حفص بقائلها

أمام فارس عدنان وحامیها !

فکان ذلک تربیة باسم الدین علی شرعیة دیکتاتوریة الحاکم ، وشرعیة اضطهاده للمعارضة ! بل زادت ثقافة الخلافة فی الطنبور نغمة ، فجعلت قمع المعارضة مفخرة دینیة یرتلها المسلمون شعراً ونثراً !

فلماذا نعجب إذا رأینا حکامنا لایتحملون المعارضة ، ویقمعونها بوحشیة ؟!

ص: 72

الفصل الثانی : رفض قریش للعهد النبوی وترتیبها بیعة السقیفة

اشارة

ص: 73

ص: 74

الظلامات الهائلة فی سقیفة قریش !

اشارة

إن ما قام به الحزب القرشی فی مرض النبی من منعه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یکتب عهداً یؤمِّن به مستقبل أمته ، ویضمن هدایتها وتفوَّقها الی یوم القیامة !

ثم ماقام به بمجرد أن أغمض النبی عینیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من إعلانه أبا بکر خلیفة ، بدون مشورة المسلمین ، وتهدیده آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بحرقهم أحیاء إن لم یبایعوا !

کان عملاً تاریخیاً هائلاً ! تمَّ فیه حَرْف سفینة الإسلام من مسارها الربانی النبوی المشرق ، الی مسارٍ قبلی قرشی مظلم !

وقد اعتبرناهما عملاً واحداً ، لأن وقوفهم ضد کتابة العهد النبوی ومواجهتهم الخشنة للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوم الخمیس ، لیست إلا مقدمة لسقیفتهم یوم الإثنین ، بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بساعة واحدة ! وغرضنا هنا تسلیط ضوء علی ظلامة هذا العمل ، ظلامة الإسلام ، وأمته ، ونبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وعترته الطاهرین(علیهم السّلام) :

1 - أکبر الظلامات فی السقیفة مصادرتهم لولایة الله تعالی

فالحزب القرشی عندما رفض الترتیب النبوی لوضع الأمة ، ومنع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) من کتابة عهده لتأمین مستقبلها ، قد نصب نفسه ولیاً علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!فمن الذی أعطاه هذه الولایة علی سید الأنبیاء والمرسلین(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟!

إن إیمانهم بنبوته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یعنی إیمانهم بعصمته الشاملة ، کما قال الله تعالی: وَمَا

ص: 75

یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی إِنْ هُوَ إِلا وَحْیٌ یُوحَی ، وطلبه منهم أن یلتزموا بتنفیذ ما سیکتبه لهم ، إنما هو أمر الله تعالی ! فالتعارض فی الحقیقة بین إرادتهم وإرادة الله تعالی ورفضهم للعرض النبوی رفضٌ لإرادة الله تعالی وفرضٌ لإرادتهم بدلها !

فمن الذی أعطاهم هذه الولایة علی الأمة ونبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقرآنها مقابل الله تعالی؟ بل من أعطاهم الولایة علی رب العالمین عز وجل ؟!!

إن کل حجتهم علی عملهم هی أن بنی هاشم لایصح أن یجمعوا بین النبوة والخلافة لأن ذلک ظلمٌ لقبائل قریش ! فهل النبوة قسمةُ قبائل ! ومن الذی أخبرهم أن کتابة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعهده ظلم لقریش، بینما سقیفتهم حقٌّ وعدل لقریش وللعالمین؟! أَهُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بعضاً سُخْرِیّاً وَرَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ ) . (الزخرف:32)

فی تاریخ الطبری:3/288، عن ابن عباس ، وفی شرح النهج:6/50 ، عن عبد الله بن عمر ، ولفظهما متقارب ، قال: (کنت عند أبی یوماً ، وعنده نفر من الناس ، فجری ذکر الشعر ، فقال: من أشعر العرب ؟ فقالوا: فلان وفلان ، فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس ، فقال عمر: قد جاءکم الخبیر ، من أشعر الناس یا عبد الله؟ قال: زهیر بن أبی سلمی .

قال: فأنشدنی مما تستجیده له.

فقال: یا أمیر المؤمنین ، إنه مدح قوماً من غطفان یقال لهم بنو سنان ، فقال:

لو کان یَقْعُد فوق الشمس من کرم

قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حین تنسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

إنسٌ إذا أمنوا ، جنٌّ إذا فزعوا

مرزَّؤون بها لیلاً إذا جهدوا

محسَّدون علی ما کان من نعم

لا ینزع الله منهم ما لهُ حسدوا

فقال عمر: والله لقد أحسن ، وما أری هذا المدح یصلح إلا لهذا البیت من

ص: 76

هاشم لقرابتهم من رسول الله(ص). فقال ابن عباس: وفقک الله یا أمیر المؤمنین ، فلم تزل موفقاً . فقال: یا بن عباس ، أتدری ما منع الناس منکم ؟ قال: لا ، یا أمیر المؤمنین . قال: لکنی أدری . قال: ما هو یا أمیر المؤمنین ؟ قال: کرهت قریش أن تجتمع لکم النبوة والخلافة ، فتُجْخفوا جخفاً (تتکبروا

تکبراً ) ، فنظرت قریش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت ! فقال ابن عباس: أیمیط أمیر المؤمنین عنی غضبه فیسمع؟ قال: قل ما تشاء . قال: أما قول أمیر المؤمنین: إن قریشاً کرهت ، فإن الله تعالی قال لقوم: ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . وأما قولک: إنا کنا نجخف ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولکنا قومٌ أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی قال الله تعالی: وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ ، وقال له: وَاخْفِضْ جَنَاحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ . وأما قولک: فإن قریشاً اختارت ، فإن الله تعالی یقول: وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَایَشَاءُ وَیَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ ، وقد علمت یا أمیر المؤمنین أن الله اختار من خلقه لذلک من اختار ، فلو نظرت قریش من حیث نظر الله لها لوفقت وأصابت قریش !!

فقال عمر: علی رسلک یا ابن عباس ، أبت قلوبکم یا بنی هاشم إلا غشاً فی أمر قریش لا یزول ، وحقداً علیها لا یحول ! فقال ابن عباس: مهلاً یا أمیر المؤمنین ، لا تنسب هاشماً إلی الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی طهره الله وزکاه ، وهم أهل البیت الذین قال الله تعالی لهم: إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً . وأما قولک: حقداً فکیف لایحقد من غصب شیئه ویراه فی ید غیره ! فقال عمر: أما أنت یا بن عباس فقد بلغنی عنک کلام أکره أن أخبرک به فتزول منزلتک عندی . قال: وما هو یا أمیر المؤمنین؟ أخبرنی به فإن یک باطلاً فمثلی أماط الباطل عن نفسه ، وإن یک حقاً فإن منزلتی لاتزول به . قال: بلغنی أنک لاتزال تقول: أخذ هذا الأمر منکم حسداً وظلماً .

ص: 77

قال: أما قولک یا أمیر المؤمنین: حسداً ، فقد حسد إبلیس آدم ، فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود . وأما قولک: ظلماً ، فأمیر

المؤمنین یعلم صاحب الحق من هو ! ثم قال: یا أمیر المؤمنین ، ألم تحتج العرب علی العجم بحق رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، واحتجت قریش علی سائر العرب بحق رسول الله ! فنحن أحق برسول الله من سائر قریش ! فقال له عمر: قم الآن فارجع إلی منزلک ! فقام ، فلما ولی هتف به عمر: أیها المنصرف إنی علی ما کان منک لراع حقک ! فالتفت ابن عباس فقال: إن لی علیک یا أمیر المؤمنین وعلی کل المسلمین حقاً برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ، ثم مضی ! فقال عمر لجلسائه: واهاً لا بن عباس ما رأیته لاحی أحداً قط إلاخصمه)!انتهی .

أقول: لابن عباس(رحمه الله)عدة محاورات مع عمر من نوع هذه المحاورة ، روتها المصادر ، وقد روی هذه المحاورة أو جزء منها: (جمهرة الأمثال للعسکری:1/ 339 ، والعقد الفرید ص1378 ، ونثر الدرر للآبی ص238 ، وجمهرة أشعار العرب للقرشی ص29 ، ونضرة الإغریض فی نصرة القریض للمظفر بن الفضل ص105. وفی هامش المراجعات للسید شرف الدین ص395: (نقلناه من التاریخ الکامل لابن الأثیر بعین لفظه ، وقد أورده فی آخر سیرة عمر من حوادث سنة 23 ص24 من جزئه الثالث ، وأوردها علامة المعتزلة فی سیرة عمر أیضا ص107 من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة . وفی هامش مواقف الشیعة للأحمدی:1/154: (ابن أبی الحدید : 12/52 ، والإیضاح ص169، والبحار:8 ط الکمبانی ص292 عن ابن الأثیر وابن أبی الحدید . وفی هامش المناظرات فی الإمامة ص74: شرح النهج لابن أبی الحدید:12/52 ، تاریخ الطبری:4/223 ، الکامل لابن الأثیر:3/62 (فی حوادث سنة23) ، الإیضاح لابن شاذان ص87 . وفی هامش مجلة تراثنا عدد 58 ص 88: شرح نهج البلاغة:12/5 ، قصص العرب:2/6 ، الکامل فی التاریخ:6 /288).

ص: 78

2 - ظلامة الإسلام فی السقیفة

اشارة

ونقصد بها الظلامة الفکریة للإسلام ! لأن الإسلام علمٌ بکل معنی الکلمة ، بل هو علم العلوم ، لأن وظیفته أن یدیر حیاة الإنسان بکل علومه ، ویوجهها الی هدفها المعنوی والمادی الأسمی . لذلک یتوقف تحقیق أهدافه فی مجتمعه والعالم علی شخص متخصص فیه یطبقه بعلم ، ولا یکفی أن یقول شخص إنی سمعت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یبلغ کتاب ربه ووحیه ، فأنا أستطیع أن أحکم بالإسلام وأطبقه! بل یحتاج الخلیفة أو الإمام الی إعداد وإلهام إلهی ، ولذلک أعدَّ الله عترة نبیه (صلّی الله علیه و آله وسلّم )لهدایة الأمة بهذا العلم وأورثهم علم الکتاب الذی هو تبیان کل شئ فقال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا.(فاطر:32) . ثم أمر الصحابة والأجیال بطاعتهم لعصمتهم فقال:یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأمر مِنْکُمْ. (النساء:59) . فالذین یأمر الله الأمة بطاعتهم أناسٌ خاصون ، ومن المحال أن یأمر بطاعة کل من تغلب علی الأمة وصار صاحب أمر !

وقد أجمع المسلمون علی تمیُّز علی(علیه السّلام)فی علمه ، ورووا أن الله تعالی کما أقْرَأَ الله رسوله فلا ینسی: سَنُقْرِئُکَ فَلا تَنْسَی(الأعلی:6) ، فقد أمره أن یعدَّ علیاً(علیه السّلام) ویعلمه فلا ینسی ! قال السیوطی فی الدر المنثور:6/260: (وأخرج سعید بن منصور ، وابن جریر ، وابن المنذر ، وابن أبی حاتم ، وابن مردویه ، عن مکحول قال: لما نزلت: وتعیها أذن واعیة ، قال رسول الله(ص): سألت ربی أن یجعلها أذن علیّ. قال مکحول: فکان علیٌّ یقول:ما سمعت من رسول الله شیئاً فنسیته !

وأخرج ابن جریر ، وابن أبی حاتم ، والواحدی ، وابن مردویه ، وابن عساکر ، وابن النجاری ، عن بریدة قال: قال رسول الله(ص) لعلی: إن الله أمرنی أن أدنیک

ص: 79

ولا أقصیک وأن أعلمک وأن تعی ، وحق لک أن تعی ، فنزلت هذه الآیة: وَتَعِیَهَا أُذُنٌ وَاعِیَةٌ) (الحاقة:12). وأخرج أبو نعیم فی الحلیة عن علی قال: قال رسول الله(ص): یاعلی إن الله أمرنی أن أدنیک وأعلمک لتعی ، فأنزلت هذه الآیة: وتعیها أذن واعیة ، فأنت أذن واعیة لعلمی ). انتهی .

وقد عرف الجمیع علم علی(علیه السّلام)الذی أبعدوه بالسقیفة ، وضآلة علم أبی بکر وعمر وعثمان ، الذین أتوا بهم من السقیفة ، ورووا أخطاءهم الفظیعة فی تفسیر أولیات القرآن ، وجهلهم بأولیات أحکام الشریعة ،کتفسیر آیة: وفاکهةً وأبًّا ، وآیة الکلالة ، وآیة الربا ، وآیة التیمم ، وإرث الجدة ، وعشرات الأمثلة !

قال فی فتح الباری:9/323:( قوله: وقال علیٌّ: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتی یفیق ، وعن الصبی حتی یدرک ، وعن النائم حتی یستیقظ . وصله البغوی فی الجعدیات عن علی بن الجعد ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن أبی ظبیان ، عن ابن عباس ، أن عمر أتیَ بمجنونة قد زنت وهی حبلی ، فأراد أن یرجمها ! فقال له علی: أما بلغک أن القلم قد وضع عن ثلاثة.. فذکره ، وتابعه بن نمیر، ووکیع وغیر واحد ، عن الأعمش، ورواه جریر بن حازم عن الأعمش فصرح فیه بالرفع . أخرجه أبو داود ، وابن حبان

من طریقه ، وأخرجه النسائی من وجهین آخرین.... وأخذ بمقتضی هذا الحدیث الجمهور ) ! انتهی .

فالذی حدث فی السقیفة: أن أول أئمة العترة ، الذی عنده علم الکتاب قد أقصیَ وأُجبر علی البیعة لشخص لایعرف حکم العاقل من المجنون ، ویأمر بقتل امرأة وجنینها بدون حق ، باسم الإسلام ! فأی ظلم لعلم وقانون تخصصی کالإسلام ، أکبر من أن تقوم بسجن الخبیر المتخصص به ، وتأتی بمن یجهله لیطبقه ویحکم به ؟!

ص: 80

الدولة العلمانیة القرشیة تؤسس فصل الدین عن الدولة

کان ما تقدم کان فی ظلامة الإسلام فی شخص الخلیفة أو رئیس الدولة الإسلامیة المکلف من الله بتطبیق أهداف الإسلام ، وأحکام شریعته الربانیة .

لکن الأمر فی السقیفة کان أبعد من شخص الخلیفة وتطبیق الإسلام ! فقد جاء عملهم نسفاً لنظام الدولة الربانیة ودولة النص الرسولی ، وتأسیساً لنظام دولة علمانیة تدور بین قبائل قریش ، مقابلین بها جعل الله النبوة لبنی هاشم !

إنه نظام حکم علمانی بمنطق قبلی محض ، وفعلٌ بشریٌّ لاعلاقة له بالوحی الإلهی والنص النبوی ، ولم یدَّع أحد من مؤسسیه استناده الی نص النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

وتسمیته خلافةً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتسمیة رئیسه خلیفة ، لایغیر منه شیئاً ولایجعله نظاماً دینیاً ! فالخلیفة هنا لاتعنی أکثر من البعدیة الزمنیة المحضة ، کما تصف شخصاً أو نظاماً بأنه خلیفة لنظام سابق ، ولو کان مضاداً له !

وعلیه ، فکل الحقوق التی افترضها القرشیون علی المسلمین لخلیفة نظامهم ، لا أساس لها فی الإسلام ! وغایة ما یمکنهم أن یثبتوه له حق الحاکم الزمنی علی الرأی الفقهی القائل بوجوب طاعته فی تنفیذ شریعة الإسلام ، وفی حدود ما سرط الناخبون علیه . هذا ، إذا انتخبوه بمحض إرادتهم بدون إجبار !

ص: 81

3 - ظلامة الأمة فی السقیفة

اشارة

حیث تمَّ نقلها من المسار النبوی الی المسار القبلی! فقد أنشأ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )هذه الأمة بعین ربه وتوجیهه ، ووضع سفینتها فی بحر العالم ، وأطلق مدَّها الحضاری الإنسانی فی مسیرة البشریة ، فی أقصر وقت وأقل کلفة ! فتمَّ له ذلک فی عشر سنوات ، ولم یزد عدد القتلی فی کل حروبه من المسلمین وأعدائهم علی ست مئة شخص ! فکانت أمته خیر أمة أخرجت للناس ، لأنها مُنشأة بوحی ربها العلیم الحکیم سبحانه ، وإدارة رسوله المطیع الذی لاینطق عن الهوی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

وقد وضع الله تعالی لهذه الأمة برنامجاً لتبقی خیر أمة ، بقیادة الأئمة من عترة نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فکان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یکرر علی أسماع المسلمین فی مناسبات عدیدة: إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی ، وهو حدیث متواتر عند الجمیع .

ولکن قریشاً رفضت وصیة نبیها بإمامة عترته ، لنفس السبب الذی رفضت نبوته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! واتهم منافقوها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بنفس ما اتهموه به علی النبوة ! فکانوا یهمسون بینهم بأن محمداً یرید أن یؤسس ملکاً لبنی هاشم کملک کسری وقیصر ! فالیوم ابن عمه علی ابن الثلاث وثلاثین سنة ، وبعده أولاد ابنته فاطمة وهم الآن دون العاشرة (علیهم السّلام) ! کانوا یقولون: إذا دخلت الخلافة فی بنی هاشم فلن تخرج منهم أبداً ، وسینتظر بها الحبالی ، ولن یصل الی بقیة القبائل شئ ! وهذا ظلم لقبائل قریش ما بعده ظلم !!

نعم ، لقد تبنت قریش هذا المنطق القبلی البعید عن الدین ، واتخذت قرارها بإجماع طلقائها ومن وافقهم من مهاجریها بأن بنی هاشم تکفیهم النبوة ، أما الخلافة فیجب أن تکون لقبائل قریش الأخری ! واتخذوا قراراً بأن علی زعماء قریش بتأیید الطلقاء الذین حشدوهم فی المدینة ، أن یبادروا بمجرد وفاة النبی

ص: 82

(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ویأخذوا خلافته ، ویعزلوا عترته !

ولهذا السبب بادر الحزب القرشی بالرفض الخشن الشرس عندما جمعهم النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مرض وفاته ، وعرض علیهم أعظم عرض قدمه نبی لأمته ، أن یضمن لهم بقاءهم علی الهدی ، وأن یکونوا سادة العالم الی یوم القیامة ! بشرط أن یلتزموا بتنفیذ ما سیکتبه لهم بأمر ربه ، فتصدی له عمر نیابة عن قریش ورفض کتابة العهد بصلافة ! فأطاعوه وصاحوا: القول ما قاله عمر ! وهذا معناه أنا لا نرید أن تکتب لنا عهداً ، لأنک ستسمی فیه الأئمة من عترتک ! ولا نرید أمانک من الضلال ! وها نحن نعلن أنه غلب علیک الوجع ، فلا اعتبار لکلامک وکتابتک!!

قال البخاری:1/36: (عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبی(ص) وجعه قال: إئتونی بکتاب أکتب لکم کتاباً لاتضلوا بعده . قال عمر: إن النبی غلبه الوجع وعندنا کتاب الله حسبنا ! فاختلفوا وکثر اللغط قال(ص): قوموا عنی ولا ینبغی عندی التنازع ! فخرج ابن عباس یقول: إن الرزیئة کل الرزیئة ، ما حال بین رسول الله(ص) وبین کتابه ) ! انتهی .

وفی مسند أحمد:3/346: (عن جابر أن النبی(ص)دعا عند موته بصحیفة لیکتب فیها کتاباً لایضلون بعده ، قال فخالف علیها عمر بن الخطاب حتی رفضها)!انتهی.

وقال لهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما فی البخاری:4/31:(دعونی،فالذی أنا فیه خیر مما تدعونی إلیه) ! یعنی أن ما أنا فیه من قرب لقاء ربی ، خیرٌ مما تریدون أن تجرُّونی الیه من إعلانکم الکفر ! لذلک أنهی النقاش معکم ، وآمرکم بالخروج من بیتی !

وقوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):(خیر مما تدعونی إلیه)یدل علی أن لهم هدفاً خطیراً یعملون له و(یدعون)النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الیه وأن إصرار النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی کتابة العهد سیحقق هدفهم الخطیر ! وأن هذا الهدف أسوأ من ترک الأمة بدون ضمانة مستقبلها !!

ص: 83

ولا یمکن تفسیر ذلک إلا أنهم أرادوا أن یصرَّ النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی کتابة الکتاب وتسمیة الأئمة من بعده ، فیصرُّون هم علی أنه وحاشاه أخذ یهجر ویهذی ، ویرید فرض عترته علی قریش والعرب ، ویعلنون الردة !!

وقد مهدوا لذلک بقولهم إنه یهجر ! وخففها البخاری فقال:4/66:(ماله أهَجَر ، إستفهموه) ! ولعل بعضهم قال إنه یهجر ، وقال بعضهم: إستفهموه لتروا صحة کلامنا ! فأمر الله نبیه (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن لایضغط علی قریش فتکفر ، وکان جبرئیل حاضراً عنده ، فأمره أن ینهی المجلس ویطردهم ! فإنما علیه البلاغ عن ربه ، وقد بلَّغ وأتم علیهم الحجة !!

إنها قضیة واضحة کوضوح الشمس فقد اضطر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یصرف النظر عن کتابة العهد ویتنازل عن تأمین مستقبل أمته ، لأن ذلک أفضل مما یدعونه الیه !

فکانت المعادلة عنده أن قبولهم بنبوته وقرآنه دون سنته وعترته ! خیرٌ من أن تعصف عاصفتهم بالإسلام من أصله ، فتعلن قریش ردتها وتطیعها بعض قبائل العرب ، وتشن الحرب علی آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومن یبقی علی الإسلام من الأنصار ، وتقضی علیهم !

أما الحزب القرشی ، فلم یهتم لطرد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لهم من بیته ! بل کانوا فرحین بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یتخذ إجراء عملیاً ضدهم ، وبأنهم حققوا نتیجة هائلة من ذلک المجلس حیث تراجع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أمامهم فانتزعوا منه قیادة الأمة ووضعوها فی ید زعیمهم الجدید عمر ! وأن عمر سیضعها فی مسار قبلی یخضع لقانون الغلبة ، بدل المسار الربانی وقانون النص !

وقد أثمر قانون الغلبة آنیاً ، أن حکم أبو بکر سنتین وشهرین ، ثم نص علی عمر فحکم عشر سنین ، ونص عمر علی عثمان فحکم اثنتی عشرة سنة !

وعندما تفاقم ظلم عثمان اضطر نفس الصحابة أن یثوروا علیه ویقتلوه ،

ص: 84

ویختاروا علیاً(علیه السّلام)لیحکم خمس سنین ، ثم لتعید قریش قانون الغلبة فیحکم الأمة ، ولا یفارقها الی یومنا هذا !

لقد فتح قانون قریش صراعاً دمویاً علی السلطة ، لم تعرف أمةٌ بعد نبیها أسوأَمنه ، ولا خلافةٌ لنبی أکثر منه سفکاً للدماء منه ! فلو أحصینا حروب الأمة وصراعاتها علی السلطة لبلغت المئات ، وبلغ قتلاها عشرات الملایین ! وخساراتها المادیة والمعنویة فوق التصور !

وکانت آخر ثمار قانون الغلبة: أن خلافة قریش وصلت الی غلمان بنی أمیة وبنی العباس ، ثم الی غلمان الشراکسة والعثامنة ، حتی ضعفت الأمة ثم انهارت بید الغربیین ، فدفنوا خلافة قریش فی استانبول ، بلا مراسم تودیع ولا تشییع !

قد یقال: إن هذه النظرة الی تاریخ أمتنا الإسلامیة خاطئة ، لأنها تری السلبیات وتنسی الإیجابیات ، فالأمة الإسلامیة کانت وما زالت خیر أمة أخرجت للناس ، وقد فتحت أکثر العالم ، وأقامت أقوی دولة ، ونشرت نور الإسلام وحضارته .

ویقال: إن الصراع علی السلطة وبعض الظلم للناس کالذی حدث لأهل البیت النبوی(علیهم السّلام) ، أمرٌ طبیعی فی حیاة الأمم وتاریخها ! کما أن ضعف الأمة وانهیارها سنة إلهیة فی الدول ونشوئها وزوالها ، والأمة الإسلامیة لیست بدعاً من الدول ، فلا عجب أن تجری علیها سنن التاریخ !

والجواب: أنا قد نقبل هذا الکلام لو لم یقل الله تعالی:(هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ). (التوبة:33) ولم یقل النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )لصحابته: إیتونی بدواة وقرطاس أکتب لکم کتاباً لن تضلوا بعدی أبداً !

أمَّا وقد قال لهم ذلک ورفضوه ! فإن مسار الأمة بدون ذلک العهد النبوی لم یعد طبیعیاً ، بل هو المسار الی وضعها فیه الرافضون للتأمین النبوی ، ومهما

ص: 85

تصورت أنهم ربحوا للأمة فهی الخاسرة !

إن مثل الأمة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کسفینة قال لرکابها رَبَّانهم الحکیم المأمون: أعطونی عهداً بالتنفیذ لأعطیکم خریطة توصلکم الی بر النجاة والنصر ، فقال له أصحابه: لانرید خریطتک ونحن نقودها الی بر الأمان ! فقادوها من بعده واختلفوا فی قیادتها واقتتلوا ، حتی وصلت الی صخور شاهقة وأمواج عاتیة !

فهل یصح أن یقال إنهم مصیبون ! وإن رکاب السفینة ربحوا ولم یخسروا !

إن المسلم المؤمن بنبوة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبأنه معصومٌ مؤیدٌ من ربه: (وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی.إِنْ هُوَ إِلا وَحْیٌ یُوحَی) یری نفسه ملزماً بالإعتقاد بأن قریشاً مهما حققت للأمة بعد نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد أوقعت بها أعظم خسارة منیت بها أمة فی التاریخ ! وکیف یمکن لأحد أن یغفر لقریش أنها عصت نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن سبق إصرار وصادرت منه قیادة أمته ، ووضعتها فی مسار الغلبة والصراع القبلی !

ص: 86

ذهول البراء بن عازب من انقلاب السقیفة

قال الجوهری فی کتابه(السقیفة) ص48 ، وهو من أقدم الکتب فی هذا الموضوع: ( سمعت البراء بن عازب ، یقول: لم أزل لبنی هاشم محباً ، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قریش علی إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذنی ما یأخذ الوالهة العجول مع ما فی نفسی من الحزن لوفاة رسول الله ! فکنت أتردد الی بنی هاشم وهم عند النبی فی الحجرة وأتفقد وجوه قریش ، فإنی کذلک إذ فقدت أبا بکر وعمر وعثمان ، وإذ قائل یقول: القوم فی سقیفة بنی ساعدة ، وإذ قائل آخر یقول: قد بویع أبو بکر ! فلم ألبث وإذا أنا بأبی بکر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبیدة وجماعة من أصحاب السقیفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانیة لا یمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا یده فمسحوها علی ید أبی بکر یبایعه شاء ذلک أو أبی!

فأنکرت عقلی !! وخرجت أشتد حتی انتهیت الی بنی هاشم والباب مغلق ، فضربت علیهم الباب ضرباً عنیفاً وقلت: قد بایع الناس لأبی بکر بن أبی قحافة ، فقال العباس: تربت أیدیکم إلی آخر الدهر ، أما إنی قد أمرتکم فعصیتمونی!

(عندما أغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عینیه قال العباس لعلی: مد یدک أبایعک لیقال عم رسول الله بایع ابن أخیه ، فلم یقبل علی(علیه السّلام)لأنه کان یعلم أن قریشاً جمعت الطلقاء فی المدینة وهی حاضرة أن تعلن الردة)!

فمکثت أکابد ما فی نفسی ، ورأیت فی اللیل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهیثم بن

التیهان ، وحذیفة ، وعماراً ، وهم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین ! فلما کان بلیل ، خرجت الی المسجد ، فلما صرت فیه تذکرت أنی کنت أسمع همهمة رسول الله بالقرآن ، فامتنعت من مکانی فخرجت الی الفضاء فضاء بنی قضاعة ، وأجد نفراً یتناجون فلما دنوت منهم سکتوا فانصرفت عنهم ، فعرفونی وما أعرفهم ، فأتیتهم فأجد المقداد بن

ص: 87

الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسی ، وأبا ذر ، وحذیفة ، وأبا الهیثم بن التیهان ، وإذا حذیفة یقول لهم: والله لیکونن ما أخبرتکم به ، والله ما کذبت ولا کُذبت ، وإذ القوم یریدون أن یعیدوا الأمر شوری بین المهاجرین ! ثم قال: إئتوا أبی بن کعب فقد علم کما علمت ، قال فانطلقنا الی أبی فضربنا علیه بابه حتی صار خلف الباب فقال: من أنتم؟ فکلمه المقداد فقال: ما حاجتکم؟ فقال له: ما أنا بفاتح بابی وقد عرفت ما جئتم له کأنکم أردتم النظر فی هذا العقد ؟ فقلنا: نعم ، فقال: أفیکم حذیفة ؟ فقلنا: نعم ، قال: فالقول ما قال! وبالله ما أفتح عنی بابی حتی تجری علی ما هی جاریة ، ولَمَا یکون بعدها شرٌّ منها ، والی الله المشتکی ! وبلغ الخبر أبا بکر وعمر ، فأرسلا الی أبی عبیدة والمغیرة بن شعبة ، فسألاهما عن الرأی ، فقال المغیرة: الرأی أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصیباً فیکون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحیة علی ،ویکون لکم حجة عند الناس علی علی إذا مال معکم العباس . فانطلق أبو بکر وعمر وأبو عبیدة والمغیرة ، حتی دخلوا علی العباس ، وذلک فی اللیلة الثانیة من وفاة رسول الله ، فحمد أبو بکر الله وأثنی علیه وقال: إن الله ابتعث لکم محمداً نبیاً ، وللمؤمنین ولیاً ، فمنَّ الله علیهم بکونه بین ظهرانیهم ، حتی اختار له ما عنده ، فخلی علی الناس أمورهم لیختاروا لأنفسهم ، متفقین غیر مختلفین فاختارونی علیهم والیاً ولأمورهم راعیاً ، فتولیت ذلک وما أخاف بعون الله وتسدیده وهْناً ولا حیرة ولا جبناً ، وما توفیقی إلا بالله علیه توکلت والیه أنیب ، وما انفکَّ یبلغنی عن طاعن یقول بخلاف قول عامة المسلمین ، یتخذ لکم لجأً فتکونوا حصنه المنیع وخطبه البدیع ، فإما دخلتم فیما دخل فیه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إلیه ، فقد جئناک ونحن نرید أن نجعل لک فی هذا الأمر نصیباً ولمن بعدک من عقبک ، إذ کنت عم رسول الله ،

ص: 88

وإن کان المسلمون قد رأوا مکانک من رسول الله ومکان أهلک ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنکم ، وعلی رسلکم بنی هاشم ، فإن رسول الله منا ومنکم .

فاعترض کلامه عمر ، وخرج الی مذهبه فی الخشونة والوعید وإتیان الأمر من أصعب جهاته فقال: إی والله وأخری أنا لم نأتکم عن حاجة الیکم ، ولکن کرهنا أن یکون الطعن فیما اجتمع علیه المسلمون منکم ، فیتفاقم الخطب بکم وبهم فانظروا لأنفسکم وعامتهم ، ثم سکت) . انتهی .

أقول: البراء بن عازب صحابی مجمع علی جلالته وبطولته فی معارک الإسلام قال الذهبی فی سیره:3/194: (البراء بن عازب بن الحارث ، الفقیه الکبیر ، أبو عمارة الأنصاری الحارثی المدنی ، نزیل الکوفة ، من أعیان الصحابة . روی حدیثاً کثیراً ، وشهد غزوات کثیرة مع النبی(ص) ). انتهی .

وتدل شهادة البراء علی أمور کثیرة ، من أهمها أن خلافة أبی بکر کانت بعیدة کل البعد عن النص النبوی ، وعن مشورة الأمة وحریتها ، وأنها کانت متزلزلة أیاماً ، حتی غلبت فیها تهدیدات قریش الطلقاء وإرهابهم ، وتخاذل الأنصار !

ص: 89

4 - ظلامة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )برفضهم عهده لأمته !

وهی أعجب ظلامة فی تاریخ الأنبیاء جمیعاً(علیهم السّلام) وأسوأ تصرف من صحابتهم معهم!

فلو أن نبی الله موسی(علیه السّلام)قال للیهود: (إیتونی بدواة وقرطاس أکتب لکم کتاباً لاتضلون بعدی أبداً ، ولاتغلبکم أمة أبداً ، بل تحکمون العالم الی یوم القیامة) . فقال له أحدهم: کلا ، لا نرید عهدک (حسبنا التوراة) ! ورفضوا أن یکتب لهم نبیهم عهده وعهد ربه ، وفضلوا علیه شخصاً من صحابته فصاحوا: القول ما قال صاحبنا ولیس قولک یاموسی؟! فماذا نحکم علیهم ؟!

لابد أننا سنحکم علیهم بأشد الأحکام ، لأن عملهم من أسوأ الأعمال !!

لکن المسلم المسکین ، المُشْرَب من طفولته حبَّ عمر بن الخطاب ، یخاف من محیطه أن یسأل نفسه: ما معنی رفض عمر لکتابة العهد النبوی والشعار الذی رفعه فی وجه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):حسبنا کتاب الله ! ألا یعرف أن أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لهم بأن یقبلوا عهده لمستقبل الأمة ، واجبُ الإطاعة کالقرآن ؟!

أو یسأل نفسه: کیف أید أغلب(الصحابة)عمر عندما صادر حق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی رسم مستقبل أمته ، وصاحوا فی وجه نبیهم: القول ما قاله عمر؟!

وکیف أیدوه عندما صادر حق النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کمسلم فی أن یوصی بما یرید ؟!

وصادر حقه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کصاحب بیت علی فراش مرضه ، أن یتصرف کما یرید ؟!

وصادر حقه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی تفسیر القرآن ، وبیان من هم أولوا الأمر ؟!

روحی فداک یارسول الله ، فما أعظم جهادک ، وما أعجب ظلامتک؟!

لقد جاهدت ثلاثاً وعشرین عاماً فی أصعب الظروف وأخطرها ، وبَلَّغْتَ رسالة ربک علی رغم قریش وعداوتها وحسدها ، لک ولأسرتک بنی هاشم !

ص: 90

وأنشأت خیر أمة ، علی رغم قریش والیهود وعداوتهم وحسدهم !

وبنیت دولة قویة ، علی رغم قریش والیهود وحروبهم ومؤامراتهم !

وکنت رحیماً بالقریب والبعید ، والعدو والصدیق..

حتی حان منک لقاء ربک وفراق أمتک ، وأردت وضعها فی المسار الربانی بعدک ، واجهک طلقاؤک من قریش ، الذین مننت علیهم بالحیاة قبل سنتین ، فقالوا لک بقیادة عمر: نقبل بنبوتک لکن بدون سنتک وعترتک ، فنحن قبائل قریش أولی من بنی هاشم ، فالدولة لنا ، ومستقبل الأمة بیدنا ! فإن أبیت ذلک أعلنا الردة ، وأعلناها بعدک حرباً علی عترتک کحرب بدر وأحد والخندق ، والنصر بعدک لنا !

فأمرک الله أن تقیم الحجة علیهم فقط ، فإنما علیک البلاغ ولیفعلوا ما یشاؤون: لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیَی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِیعٌ عَلِیمٌ. (الأنفال:42)

هل رأیتم ظلامةً لزارع یزرع شجرة وینمیها بجهد جهید ، ویدفع عنها الآفات والحیوانات والسراق ، حتی إذا کبرت وأثمرت ، وحضر زارعها الأجل ، جاءه شخص وقال له: هذه الشجرة لی وإلا قطعتها من جذورها ! ومعه جماعة یحملون فؤوساً ومعاول ویقولون: القول ما قال صاحبنا !

قال عمر ، وهو یروی جانباً من الجلسة الصاخبة یوم الخمیس بطریقته الخاصة وهو یهون من فداحة الأمر: ( لما مرض النبی(ص)قال: أدعوا لی بصحیفة ودواة أکتب کتاباً لاتضلون بعدی أبداً ! فکرهنا ذلک أشد الکراهة ! ثم قال: أدعوا لی بصحیفة أکتب لکم کتاباً لاتضلون بعده أبداً!فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون ما یقول رسول الله(ص)؟! فقلت: إنکن صواحبات یوسف إذا مرض رسول الله(ص)عصرتنَّ أعینکن ، وإذا صح رکبتنَّ رقبته ! فقال رسول الله: دعوهنَّ فإنهنَّ خیرٌ منکم ) !! انتهی. (مجمع الزوائد:9/33).

ص: 91

نعم والله إنهن خیر منهم ، وخیرهنَّ أم سلمة صاحبة هذا القول رضی الله عنها .

وفی المقابل وصف الطبری عمر عند وفاة أبی بکر ، وبیده عصا من جرید النخل یسکِّت بها الناس ویقول إسمعوا وأطیعوا یرید أن یکتب لکم کتاباً !

قال الطبری فی تاریخه:2/618: (عن إسماعیل ، عن قیس قال: رأیت عمر بن الخطاب وهو یجلس والناس معه ، وبیده جریدة وهو یقول: أیها الناس إسمعوا وأطیعوا قول خلیفة رسول الله(ص)إنه یقول إنی لم آلکم نصحاً ! قال: ومعه مولی لأبی بکر یقال له شدید ، معه الصحیفة التی فیها استخلاف عمر !

قال أبو جعفر: وقال الواقدی: حدثنی إبراهیم بن أبی النضر ، عن محمد بن إبراهیم بن الحارث قال: دعا أبو بکر عثمان خالیاً ، فقال له: أکتب: بسم الله الرحمن الرحیم . هذا ما عهد أبو بکر بن أبی قحافة إلی المسلمین . أما بعد ، قال ثم أغمی علیه . فذهب عنه فکتب عثمان: أما بعد فإنی قد استخلفت علیکم عمر بن الخطاب ولم آلکم خیراً منه! ثم أفاق أبو بکر فقال إقرأ علیَّ ، فقرأ علیه فکبَّر أبو بکر وقال: أراک خفت أن یختلف الناس أن افتلتت نفسی فی غشیتی؟! قال: نعم . قال: جزاک الله خیراً عن الإسلام وأهله . وأقرها أبو بکر من هذا الموضع).

لک الله یارسول الله ، فقد صدقت إذْ قلت: ما أوذی نبی بمثل ما أوذیت !!

(راجع کتاب ألف سؤال وإشکال ج2 المسألة: 159: انقلاب الأمة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حیاته) !

ص: 92

5 - ظلامتهم للعترة النبویة(علیهم السّلام) وأنصارهم

بدأت قریش ظلمها لآل الرسول فی عهده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وقد زاد نشاطها ضدهم بعد أن فتَح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مکة وأجبر قریشاً علی خلع سلاحها ، وأعلن زعماءها وجنودهم أسری حرب له ولأهل بیته ، وأعلن أنه أطلقهم وسماهم الطلقاء ، ولم یُعتقهم !

ثم کان الله یخبره بخطط قریش ورئیسها الجدید سهیل بن عمر ، ومن یتعاون معه من المنافقین فی المدینة ، ویأمره أن یتابع تبلیغه عن ربه ، ویبیِّن لأمته مقام عترته أهل بیته(علیهم السّلام) ، وأن الله فرض علیهم مودتهم وطاعتهم .

وأخبره الله تعالی أنه لا بد لقضائه أن یمضی ، وأن قریشَ الطلقاء ستتغلب وتنحرف بالإسلام ، وتظلم أهل بیته الطاهرین(علیهم السّلام) أفدح ظلامة !

وبلَّغ الرسول الأمین(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رسالات ربه فی عترته ، وأنهم کالقرآن أمانة الله وأمانة رسوله فی الأمة: (إنی تارک فیکم الثقلین: کتاب الله وعترتی أهل بیتی) .

وحدد مصطلح عترته وأهل بیته بأنهم: علیٌّ وفاطمة والحسن والحسین وتسعة من ذریة الحسین ، فهؤلاء دون سواهم آله وأهل بیته وعترته الذین طهرهم الله تطهیراً ، وأدار علیهم کساء للتأکید ، فسألته أم سلمة هل هی منهم ، فقال: کلا !

وبلَّغ أمته أن الله أکرم عترته فحرَّم علیهم الزکاة ، وشرَّع لهم میزانیة خاصة فی مالیة الدولة الإسلامیة ، هی الخمس !

وبلغ أمته ، أنهم أولو القربی ،الذین أمر الله الأمة بکتابه بحبهم ومودتهم .

وبلغها أنهم أولو الأمر ، الذین فرض الله فی کتابه طاعتهم .

وأنهم مع الحق لایحیدون عنه ، وإن حادت عنه الأمة !

وأن علیاً أولهم ، وبه یعرف المؤمن من المنافق ، فلن یحبه إلا مؤمن ولن یبغضه

ص: 93

إلا منافق ! وأنه مع الحق والحق معه ، ومع القرآن والقرآن معه !

وفی حجة الوداع کان أکبر همِّ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یُرکز فی الأمة إمامة عترته أهل بیته(علیهم السّلام) من بعده ، فقد خطب خمس خطب فی مکة وعرفات ومنی ، وأکَّد فی جمیعها بصورة وأخری علی أن عترته هم الضمانة الوحیدة من بعده . وفی خطبته بعرفات بشَّر الأمة بأن الله اختار لها بعده اثنی عشر إماماً ربانیاً من عترته !

ثم خطب السادسة فی طریق عودته الی المدینة فی غدیر خم ، فأمر أن یعمل له منبر مرتفع من الأحجار وأحداج الإبل ، وأصعد علیاً(علیه السّلام)معه علی المنبر ورفع بیده ، وبلَّغ الأمة أن الولایة التی جعلها الله له علی الأمة جعلها لعلی بعده ! فقال: (أیها الناس: ألست أولی بکم من أنفسکم ؟ قالوا: بلی یا رسول الله . فقال: من کنت مولاه فعلی مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) ! وجاء فی روایة صحیحة روتها مصادرهم عن أبی هریرة: (فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لک یا ابن أبی طالب أصبحت مولای ومولی کل مسلم فأنزل الله عز وجل: الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ

نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإسلام دِیناً) . (راجع تصحیح الحدیث فی کتاب آیات الغدیر للمؤلف ) .

نعم ، هذا کلام عمر وهذه تهنئته لعلی یوم الغدیر حیث أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بنصب خیمة لعلی(علیه السّلام)وأمر المسلمین أن یبایعوه فبایعوه ، وأمر زوجاته فجئن الی خیمة علی وبایعنه ، فغمس علی(علیه السّلام)یده فی سطل ماء ، ثم غمسن فیه أیدیهن !

ویطول الکلام حتی لو أردنا الإکتفاء بفهرس لتبلیغات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مکانة أهل بیته وحقهم علی کافة الأمة ، وقد روت ذلک مصادر الجمیع !

فی هذا الجو ، نقرأ فی مصادر الطرفین أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان یبکی لمستقبل أهل بیته الطاهرین ، وظلامتهم الفادحة المأساویة أمته ! والتی ستطول حتی یبعث الله ولده

ص: 94

المهدی(علیه السّلام) ، فینهی الظلم عن أهل البیت النبوی وعن أهل الأرض !

فقد بکی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی ، وبکی لفاطمة ، وبکی للحسن ، وبکی للحسین ، وبکی لبقیة العترة الطاهرة ، مرات عدیدة ! لظلامتهم الفادحة التی أخبره بها جبرئیل عن ربه عز وجل ! ونقلت مصادر الشیعة والسنة علی السواء أحادیثه فی ذلک وصححتها ، فمنها: ما رواه ابن حماد فی کتاب الفتن ص84 ، عن عبد الله بن مسعود قال: (بینما نحن عند رسول الله (ص)إذ جاء فتیة من بنی هاشم فتغیر لونه ، قلنا: یا رسول الله ، ما نزال نری فی وجهک شیئاً نکرهه ! فقال: إنا أهل بیت اختار الله لنا الآخرة لنا علی الدنیا ، وإن أهل بیتی هؤلاء سیلقون بعدی بلاء وتطریداً وتشریداً حتی یأتی قوم من ها هنا من

نحو المشرق ، أصحاب رایات سود ، یسألون الحق فلا یعطونه ، مرتین أو ثلاثاً ، فیقاتلون فینصرون ، فیعطون ماسألوا فلا یقبلوه ، حتی یدفعوها إلی رجل من أهل بیتی، فیملؤها عدلاً کما ملؤوها ظلماً ، فمن أدرک ذلک منکم فلیأتهم ولو حبواً علی الثلج فإنه المهدی).

وفی روایة الحاکم:4/464:(أتینا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فخرج إلینا مستبشراً یعرف السرور فی وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سکتنا إلا ابتدأنا ، حتی مرت فتیة من بنی هاشم فیهم الحسن والحسین، فلما رآهم التزمهم وانهملت عیناه فقلنا...الخ.) .

وفی روایة دلائل الإمامة ص233: (کنت عند النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إذ مرَّ فتیةٌ من بنی هاشم کأنَّ وجوههم المصابیح ، فبکی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، قلت: ما یبکیک یا رسول الله؟

قال: إنا أهل بیت قد اختار الله الآخرة علی الدنیا ، وإنه سیصیب أهل بیتی قتلٌ وتطریدٌ وتشریدٌ فی البلاد ، حتی یتیح الله لنا رایة تجئ من المشرق ، من یهزها یهزّ ، ومن یشاقها یشاقّ ، ثم یخرج علیهم رجل من أهل بیتی اسمه کاسمی وخلقه کخلقی ، تؤوب إلیه أمتی کما تؤوب الطیر إلی أوکارها ، فیملأ الأرض عدلاً کما ملئت جوراً ).

ص: 95

وفی تفسیر فرات ص164، عن أنس بن مالک: إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أتی ذات یوم ویده فی ید علی بن أبی طالب ولقیه رجل إذ قال له: یا فلان لاتسبوا علیاً فإنه من سبه فقد سبنی ومن سبنی فقد سب الله ! إنه والله یا فلان لایؤمن بما یکون من علی فی آخر الزمان إلا ملک مقرب ، أو عبد قد امتحن الله قلبه للإیمان ! یا فلان إنه سیصیب ولد عبد المطلب بلاءٌ شدیدٌ وإثرةٌ وقتلٌ وتشریدٌ ! فالله الله یا فلان فی أصحابی وذریتی وذمتی ، فإن لله یوماً ینتصف فیه للمظلوم من الظالم) !!

(راجع مصادره العدیدة فی معجم أحادیث الإمام

المهدی(علیه السّلام)ج1 ، رقم الحدیث245، وما بعده ).

هکذا کانت الإرادة الإلهیة فی هذه الأمة ، أن یعطیها الحریة فی أن تضلَّ بعد نبیها إن شاءت ، وتهتدی إن شاءت ! وأخبر نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنها ستختار الضلال وستظلم عترته ، لکن ما علی الرسول إلا البلاغ ، ولیس له من الأمر شئ !

فی تفسیر فرات ص392 ، بسنده عن عطاء بن أبی رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسین: أخبرینی جعلت فداک بحدیث أحدث به ، وأحتج به علی الناس . قالت: نعم ، أخبرنی أبی أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان نازلاً بالمدینة ، وأن من أتاه من المهاجرین کانوا ینزلون علیه ، فأرادوا أن یفرضوا لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فریضة یستعین بها علی من أتاه ، فأتوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقالوا: قد رأینا ما ینوبک من النوائب ، وإنا أتیناک لتفرض فریضة تستعین بها علی من أتاک .

قال: فأطرق النبی طویلاً ، ثم رفع رأسه فقال: إنی لم أؤمر أن آخذ منکم علی ماجئت به شیئاً ، إنطلقوا فإنی لم أؤمر بشئ ، وإن أمرت به أعلمتکم .

قال: فنزل جبرئیل(علیه السّلام)فقال: یا محمد إن ربک قد سمع مقالة قومک وما عرضوا علیک ، وقد أنزل الله علیهم فریضة: قُلْ لا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی...

قال فخرجوا وهم یقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشیاء وتخضع

ص: 96

الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبنی عبد المطلب !

قال: فبعث رسول الله إلی علی بن أبی طالب أن أصعد المنبر وادع الناس إلیک ثم قل: أیها الناس من انتقص أجیراً أجره فلیتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعی إلی غیر موالیه فلیتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفی من والدیه فلیتبوأ مقعده من النار !

قال: فقام رجل وقال: یا أبا الحسن ما لهنَّ من تأویل؟ فقال: الله ورسوله أعلم . فأتی رسول الله فأخبره فقال رسول الله: ویل لقریش من تأویلهن ! ثلاث مرات ! ثم قال: یاعلی إنطلق فأخبرهم أنی أنا الأجیر الذی أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولی المؤمنین، وأنا وأنت أبَوَا المؤمنین ! ثم خرج رسول الله فقال: یامعشر قریش والمهاجرین والأنصار ، فلما اجتمعوا قال: یا أیها الناس ، إن علیاً أولکم أیماناً بالله وأقومکم بأمر الله ، وأوفاکم بعهد الله ، وأعلمکم بالقضیة ، وأقسمکم بالسویة ، وأرحمکم بالرعیة ، وأفضلکم عند الله مزیة .

ثم قال: إن الله مثَّل لی أمتی فی الطین ، وعلمنی أسماءهم کما علم آدم الأسماء کلها ثم عرضهم فمرَّ بی أصحاب الرایات فاستغفرت لعلی وشیعته وسألت ربی أن تستقیم أمتی علی علی من بعدی ، فأبی إلا أن یُضلَّ من یشاء ویهدی من یشاء) !

إنما هذا جزءٌ من أخبار رفض قریش للعهد النبوی ، ومسارعتهم الی أی مکان غیر مسجد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للصفق علی ید أبی بکر وإعلانه خلیفة ! ثم هجومهم ومعهم حَمَّالة الحطب والسیوف ، علی أهل البیت النبوی لإجبارهم علی البیعة !

ص: 97

ص: 98

الفصل الثالث : مأساة العترة النبویة(علیهم السّلام) علی ید قریش

اشارة

ص: 99

ص: 100

شهادة فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)

اشارة

کانت الخلافة هی الثأر الأول الذی أخذته قریش الطلقاء من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وقد رأوا أن ثأرهم لایکتمل إلا بالهجوم علی بیت عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وإجبارهم علی بیعة أبی بکر ! فکان هجوماً قاسیاً ، تکرر عدة مرات !

وفی مرة منها خرجت الزهراء(علیهاالسّلام)الی الدار ، وصاحت من وراء الباب: یارسول الله ماذا لقینا من ابن أبی قحافة وابن الخطاب بعدک ؟! یاعمر جئت لتحرق علینا دارنا ؟! فدفعوا باب الدار بشدة وهی خلفه ، فکسروا بعض أضلاعها ، وسبَّبَوا إسقاط جنینها ، ثم مرضها وشهادتها ! صلوات الله علیها !

وطبیعی أن ینفی ذلک رواة الخلافة ویقولوا إنها مرضت بشکل طبیعی وتوفیت بُعَیْد وفاة أبیها ، مع أنها کانت سالمة فی العشرینات من عمرها !

لکن أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم یؤکدون أن مرضها وشهادتها کانا بسبب ضغط الباب علیها ، وهی بینه وبین الحائط ، ثم بسبب ضربها ! ولذا قال الإمام موسی بن جعفر(علیه السّلام): ( إن فاطمة(علیهاالسّلام)صدیقة شهیدة ) . (الکافی:1/458) .

الروایة الرسمیة للخلافة لحادثة الهجوم علی آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

اتفق رواة الخلافة علی أن عمر حمل الحطب وقبس النار وهدد بحرق الدار بمن فیه ، إذا لم یخرجوا ویبایعوا ! وقد تقدم افتخار الشاعر حافظ ابراهیم بذلک !

ص: 101

ثم اختلفوا فی وصف أحداث الهجوم ونتائجه ! فبعضهم توسع قلیلاً ، وبعضهم قال کان الهجوم مختصراً ، واقتصر علی کسر سیف الزبیر وإجبار المعتصمین علی البیعة ، إلا علی(علیه السّلام)فقد عفا عنه أبو بکر عفواً موقتاً مادامت فاطمة علی قید الحیاة ! وقد تبنی البخاری أن أبا بکر أمرهم بعدم إجبار علی(علیه السّلام) علی بیعته حتی تموت فاطمة ! وکأنه کان یعرف قرب موتها وهی شابة !

ویمکننا اعتبار روایة ابن قتیبة التالیة روایة الخلافة الرسمیة ، قال فی کتابه الإمامة والسیاسة:1/30: (إن أبا بکر تفقد قوماً تخلفوا عن بیعته عند علی ، فبعث إلیهم عمر ، فجاء فناداهم وهم فی دار علی فأبوا أن یخرجوا ، فدعا بالحطب وقال: والذی نفس عمر بیده لتخرجن أو لأحرقنها علی من فیها ! فقیل له: یا أبا حفص إن

فیها فاطمة ! فقال: وإنْ !! فخرجوا فبایعوا إلا علیاً ، فوقفت فاطمة علی بابها فقالت: لاعهد لی بقوم حضروا أسوأ محضر منکم ، ترکتم رسول الله جنازة بین أیدینا ، وقطعتم أمرکم بینکم ، لم تستأمرونا ولم تروا لنا حقاً ! فأتی عمر أبا بکر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنک بالبیعة ؟ فقال

أبو بکر لقنفذ وهو مولی له: إذهب فادع لی علیاً ، قال فذهب إلی علی فقال له: ما حاجتک ؟ فقال: یدعوک خلیفة رسول الله ، فقال علی: لسریع ما کذبتم علی رسول الله ، لا أعلم لرسول الله خلیفة غیری ! فرجع فأبلغ الرسالة قال: فبکی أبوبکر طویلاً . فقال عمر الثانیة: لاتمهل هذا المتخلف عنک بالبیعة ، فقال أبو بکر لقنفذ: عد إلیه فقل له: خلیفة رسول الله یدعوک لتبایع ، فجاءه قنفد فأدی ما أمر به ، فرفع علیٌّ صوته فقال: سبحان الله ! لقد ادعی ما لیس له ! فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبکی أبوبکر طویلاً !

ثم قام عمر فمشی معه جماعة حتی أتوا باب فاطمة فدقوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلی صوتها: یا أبت یا رسول الله ، ماذا لقینا بعدک من ابن

ص: 102

الخطاب وابن أبی قحافة ! فلما سمع القوم صوتها وبکاءها ، انصرفوا باکین وکادت قلوبهم تنصدع وأکبادهم تنفطر ! وبقی عمر ومعه قوم فأخرجوا علیاً ، فمضوا به إلی أبی بکر ، فقالوا له: بایع ، فقال: إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا: إذاً والله الذی لا إله الا هو نضرب عنقک ، قال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ! قال عمر: أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بکر ساکت لا یتکلم ! فقال له عمر: ألا تأمر فیه بأمرک ، فقال: لا أکرهه علی شئ ما کانت فاطمة إلی جنبه ، فلحق علی بقبر رسول الله یصیح ویبکی وینادی: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی ! فقال عمرلأبی بکر: انطلق بنا إلی فاطمة ، فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا جمیعاً فاستأذنا علی فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتیا علیاً فکلماه فأدخلهما علیها ، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلی الحائط ، فسلما علیها فلم ترد علیهما السلام ! فتکلم أبو بکر فقال: یا حبیبة رسول الله ! والله إن قرابة رسول الله أحب إلی من قرابتی ، وإنک لأحب إلی من عائشة ابنتی ، ولوددت یوم مات أبوک أنی متُّ ولا أبقی بعده ، أفترانی أعرفک وأعرف فضلک وشرفک وأمنعک حقک ومیراثک من رسول الله ، إلا أنی سمعت أباک رسول الله یقول: لا نورث ، ما ترکنا فهو صدقة . فقالت: أرأیتکما إن حدثتکما حدیثاً عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتکما الله ألم تسمعا رسول الله یقول: رضا فاطمة من رضای ، وسخط فاطمة من سخطی ، فمن أحب فاطمة ابنتی فقد أحبنی ، ومن أرضی فاطمة فقد أرضانی ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطنی؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله(ص) ! قالت: فإنی أشهد الله وملائکته أنکما أسخطتمانی وما أرضیتمانی ، ولئن لقیت النبی لأشکونکما إلیه !

فقال أبو بکر: أنا عائذ بالله تعالی من سخطه وسخطک یا فاطمة ، ثم انتحب أبو بکر یبکی حتی کادت نفسه أن تزهق ، وهی تقول: والله لأدعون الله علیک فی کل

ص: 103

صلاة أصلیها ! ثم خرج باکیاً فاجتمع إلیه الناس فقال لهم: یبیت کل رجل منکم معانقاً حلیلته مسروراً بأهله ، وترکتمونی وما أنا فیه ! لا حاجة لی فی بیعتکم أقیلونی بیعتی ! قالوا: یا خلیفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا یستقیم ، وأنت أعلمنا بذلک ، إنه إن کان هذا لم یقم لله دین . فقال: والله لولا ذلک وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت لیلة ولی فی عنق مسلم بیعة ، بعدما سمعت ورأیت من فاطمة ! قال: فلم یبایع علی کرم الله وجهه حتی ماتت فاطمة رضی الله عنهما ، ولم تمکث بعد أبیها إلا خمساً وسبعین لیلة ) . انتهی .

روایة أهل البیت(علیهم السّلام) لحادثة الهجوم علی العترة !

وقد رووا أحداثاً عدیدة ، لأکثر من هجوم:

منها: ما رواه سُلیم بن قیس الهلالی العامری المتوفی76 هجریة ، فی کتابه المعروف ب- (کتاب سُلَیْم) قال ص147: (وقال عمر لأبی بکر: أرسل إلی علی فلیبایع ، فإنا لسنا فی شئ حتی یبایع ولو قد بایع أمناه . فأرسل إلیه أبو بکر: أجب خلیفة رسول الله ، فأتاه الرسول فقال له ذلک . فقال له علی: سبحان الله ما أسرع ما کذبتم علی رسول الله ، إنه لیعلم ویعلم الذین حوله أن الله ورسوله لم یستخلفا غیری ! وذهب الرسول فأخبره بما قال له . قال: إذهب فقل له: أجب أمیر المؤمنین أبا بکر ، فأتاه فأخبره بما قال . فقال له علی: سبحان الله ما والله طال العهد فینسی ! فوالله إنه لیعلم أن هذا الإسم لا یصلح إلا لی ، ولقد أمره رسول الله وهو سابع سبعة فسلموا علی بإمرة المؤمنین ! فاستفهم هو وصاحبه عمر من بین السبعة فقالا: أحقٌّ من الله ورسوله ؟ فقال لهما رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): نعم ، حقاً حقاً من الله ورسوله ، إنه أمیر المؤمنین وسید

المسلمین وصاحب لواء الغر المحجلین، یقعده الله عز وجل یوم القیامة علی الصراط فیدخل أولیائه الجنة وأعداءه النار !

ص: 104

فانطلق الرسول فأخبره بما قال . قال: فسکتوا عنه یومهم ذلک !

فلما کان اللیل حمل علی فاطمة علی حمار وأخذ بیدی ابنیه الحسن والحسین فلم یدع أحداً من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلا أتاه فی منزله ، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلی نصرته ، فما استجاب منهم رجل غیرنا الأربعة ، فإنا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا ، وکان الزبیر أشدنا بصیرة فی نصرته ! فلما رآی علی خذلان الناس إیاه وترکهم نصرته واجتماع کلمتهم مع أبی بکر وطاعتهم له وتعظیمهم إیاه لزم بیته ، فقال عمر لأبی بکر: ما یمنعک أن تبعث إلیه فیبایع ، فإنه لم یبق أحد إلا وقد بایع غیره وغیر هؤلاء الأربعة !

وکان أبو بکر أرق الرجلین وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً ، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما ، فقال أبو بکر: من نرسل إلیه ؟ فقال عمر: نرسل إلیه قنفذاً ، وهو رجل فظ غلیظ جاف من الطلقاء أحد بنی عدی بن کعب ! فأرسله إلیه وأرسل معه أعواناً وانطلق فاستأذن علی علی فأبی أن یأذن لهم ! فرجع أصحاب قنفذ إلی أبی بکر وعمر وهما جالسان فی المسجد والناس حولهما ، فقالوا: لم یؤذن لنا. فقال عمر: إذهبوا ، فإن أذن لکم وإلا فادخلوا علیه بغیر إذن ! فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة (علیهاالسّلام): أحرِّج

علیکم أن تدخلوا علی بیتی بغیر إذن ! فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا: إن فاطمة قالت کذا وکذا فتحرَّجْنا أن ندخل بیتها بغیر إذن ! فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء ! ثم أمر أناساً حوله أن یحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل علی وفاطمة وابنیهما ! ثم نادی عمر حتی أسمع علیاً وفاطمة: والله لتخرجن یا علی ولتبایعن خلیفة رسول الله وإلا أضرمت علیک بیتک النار ! فقالت فاطمة: یا عمر ، ما لنا ولک؟ فقال: إفتحی الباب وإلا أحرقنا علیکم بیتکم ! فقالت: یا عمر أما تتقی الله

ص: 105

تدخل علیَّ بیتی ! فأبی أن ینصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها فی الباب ، ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة وصاحت: یا أبتاه یا رسول الله ! فرفع عمر السیف وهو فی غمده فوجأ به جنبها فصرخت: یا أبتاه ! فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: یا رسول الله ، لبئس ما خلفک أبو بکر وعمر ! فوثب علیٌ فأخذ بتلابیبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله، فذکر قول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وما أوصاه به ، فقال: والذی کرَّم محمداً بالنبوة یا بن صهاک لولا کتاب من الله سبق وعهدٌ عهده إلیَّ رسول الله لعلمت إنک لا تدخل بیتی . فأرسل عمر یستغیث ، فأقبل الناس حتی دخلوا الدار وثار علی إلی سیفه ، فرجع قنفذ إلی أبی بکر وهو یتخوف أن یخرج علی إلیه بسیفه ، لما قد عرف من بأسه وشدته ، فقال أبو بکر لقنفذ: إرجع فإن خرج وإلا فاقتحم علیه بیته فإن امتنع فاضرم علیهم بیتهم النار ! فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغیر إذن ، وثار علی إلی سیفه فسبقوه إلیه وکاثروه وهم کثیرون ، فتناول بعضهم سیوفهم فکاثروه وضبطوه ، فألقوا فی عنقه حبلاً وحالت بینهم وبینه فاطمة(علیهاالسّلام)عند باب البیت فضربها قنفذ بالسوط ! فماتت حین ماتت وإن فی عضدها کمثل الدملج من ضربته ، ثم انطلقوا بعلی یُعتل عَتْلاً حتی انتهیَ به إلی أبی بکر ، وعمر قائم بالسیف علی رأسه ، وخالد بن الولید وأبو عبیدة بن الجراح وسالم مولی أبی حذیفة ومعاذ بن جبل والمغیرة بن شعبة وأسید بن حضیر وبشیر بن سعید وسائر الناس ، جلوسٌ حول أبی بکر علیهم السلاح !

قال قلت لسلمان: أدَخلوا علی فاطمة بغیر إذن؟ قال: إی والله ، وما علیها من خمار فنادت: وا أبتاه ، وارسول الله ، یا أبتاه فلبئس ما خلفک أبو بکر وعمر... قال فانتهوا بعلی إلی أبی بکر وهو یقول: أما والله لو وقع سیفی فی یدی لعلمتم أنکم لن تصلوا إلیَّ هذا أبداً . أما والله ما ألوم نفسی فی جهادکم ، ولو کنت استمکنت من

ص: 106

الأربعین رجلاً لفرقت جماعتکم ، ولکن لعن الله أقواماً بایعونی ثم خذلونی .

ولما أن بصر به أبو بکر صاح: خلوا سبیله ! فقال علی: یا أبا بکر ما أسرع ما توثبتم علی رسول الله ! بأی حق وبأی منزلة دعوت الناس إلی بیعتک؟ ألم تبایعنی بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله ؟!

وقد کان قنفذ لعنه الله ضرب فاطمة(علیهاالسّلام)بالسوط حین حالت بینه وبین زوجها ، وأرسل إلیه عمر: إن حالت بینک وبینه فاطمة فاضربها ، فألجأها قنفذ لعنه الله إلی عضادة باب بیتها ودفعها فکسر ضلعها من جنبها فألقت جنیناً من بطنها ! فلم تزل صاحبة فراش حتی ماتت صلی الله علیها من ذلک شهیدة .

قال: ولما انتهی بعلی إلی أبی بکر انتهره عمر وقال له: بایع ودع عنک هذه الأباطیل ، فقال له: فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا: نقتلک ذلا وصغاراً ! فقال: إذاً تقتلون عبد الله وأخَ رسوله . فقال أبو بکر: أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسول الله فما نقر بهذا ! قال: أتجحدون أن رسول الله آخی بینی وبینه؟! قال: نعم! فأعاد ذلک علیهم ثلاث مرات . ثم أقبل علیهم علی(علیه السّلام)فقال: یا معشر المسلمین والمهاجرین والأنصار، أنشدکم الله أسمعتم رسول الله یقول یوم غدیر خم کذا وکذا، وفی غزوة تبوک کذا وکذا؟ فلم یدع شیئاً قاله فیه رسول الله علانیة للعامة إلا ذکرهم إیاه . قالوا: اللهم نعم !

فلما تخوف أبو بکر أن ینصره الناس وأن یمنعوه ، بادرهم فقال له: کل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ، ولکن قد سمعتُ رسول الله یقول بعد هذا: إنا أهل بیت اصطفانا الله وأکرمنا واختار لنا الآخرة علی الدنیا ، وإن الله لم یکن لیجمع لنا أهل البیت النبوة والخلافة ! فقال علی: هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذا معک ؟! فقال عمر: صدق خلیفة رسول الله ، قد سمعته منه کما قال . وقال أبو عبیدة وسالم مولی أبی حذیفة ومعاذ بن جبل: صدق ، قد

ص: 107

سمعنا ذلک من رسول الله ! فقال لهم علی: لقد وفیتم بصحیفتکم الملعونة التی تعاقدتم علیها فی الکعبة: إن قتل الله محمداً أو مات لتَزْوُنَّ هذا الأمر عنا أهل البیت ! فقال أبو بکر: فما علمک بذلک ؟ ما أطلعناک علیها ؟ فقال: أنت یا زبیر ، وأنت یا سلمان ، وأنت یا أبا ذر ، وأنت یا مقداد ، أسألکم بالله وبالإسلام أما سمعتم رسول الله یقول ذلک وأنتم تسمعون: إن فلاناً وفلاناً حتی عد هؤلاء الخمسة قد کتبوا بینهم کتاباً وتعاهدوا فیه وتعاقدوا أیماناً علی ما صنعوا إن قتلت أو مت ؟! فقالوا: اللهم نعم ، قد سمعنا رسول الله یقول ذلک لک: إنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا علی ما صنعوا ، وکتبوا بینهم کتاباً إن قتلت أو مت أن یتظاهروا علیک وأن یزووا عنک هذا یا علی . قلت: بأبی أنت وأمی یا رسول الله ، فما تأمرنی إذا کان ذلک أن أفعل؟ فقال لک: إن وجدت علیهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً فبایع واحقن دمک. فقال علی: أما والله لو أن أولئک الأربعین رجلاً الذین بایعونی وفوا لی لجاهدتکم فی الله ، ولکن أما والله لا ینالها أحد من عقبکما إلی یوم القیامة . وفیما یکذب قولکم علی رسول الله قوله تعالی: أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُمْ مُلْکاً عظیماً ، فالکتاب النبوة ، والحکمة السنة ، والملک الخلافة ، ونحن آل إبراهیم .

فقام المقداد فقال: یا علیُّ بمَ تأمرنی؟ والله إن أمرتنی لأضربن بسیفی وإن أمرتنی کففتُ . فقال علیٌّ: کفَّ یا مقداد واذکر عهد رسول الله وما أوصاک به . فقمت وقلت: والذی نفسی بیده ، لو أنی أعلم أنی أدفع ضیماً وأعز لله دیناً لوضعت سیفی علی عنقی ثم ضربت به قدماً قدماً ! أتثبون علی أخی رسول الله ووصیه وخلیفته فی أمته وأبی ولده ! فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء !

وقام أبو ذر فقال: أیتها الأمة المتحیرة بعد نبیها المخذولة بعصیانها ، إن الله یقول: إِنَّ اللهَ اصْطَفَی آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِیمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالَمِینَ . ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا

ص: 108

مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ. وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهیم من إبراهیم والصفوة والسلالة من إسماعیل . وعترة محمد أهل بیت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائکة ، وهم کالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والکعبة المستورة والعین الصافیة ، والنجوم الهادیة ، والشجرة المبارکة ، أضاء نورها وبورک زیتها. محمد خاتم الأنبیاء وسید ولد آدم ، وعلی وصی الأوصیاء وإمام المتقین ، وقائد الغر المحجلین ، وهو الصدیق الأکبر ، والفاروق الأعظم ، ووصی محمد ووارث علمه ، وأولی الناس بالمؤمنین من أنفسهم کما قال الله: النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللهِ . فقدِّموا من قدم الله ، وأخِّروا من أخر الله ، واجعلوا الولایة والوراثة لمن جعل الله...الخ). انتهی .

ومنها: ما رواه العیاشی:2/66، والإختصاص للمفید ص185: (عن عمرو بن أبی المقدام ، عن أبیه ، عن جده قال: ما أتی علی علی(علیه السّلام) یوم قط أعظم من یومین أتیاه ، فأما أول یوم فالیوم الذی قبض فیه رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأما الیوم الثانی فوالله إنی لجالس فی سقیفة بنی ساعدة عن یمین أبی بکر

والناس یبایعونه ، إذ قال له عمر: یا هذا لیس فی یدیک شئ ما لم یبایعک علی ! فابعث إلیه حتی یأتیک یبایعک ، فإنما هؤلاء رعاع ، فبعث إلیه قنفذ فقال له: إذهب فقل لعلی: أجب خلیفة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبی بکر: قال لک ما خلف رسول الله أحداً غیری! قال: ارجع إلیه فقل: أجب ، فإن الناس قد أجمعوا علی بیعتهم إیاه ، وهؤلاء المهاجرون والأنصار یبایعونه وقریش ، وإنما أنت رجل من المسلمین لک ما لهم وعلیک ما علیهم ، فذهب إلیه قنفذ ، فما لبث أن رجع فقال قال لک: إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال لی وأوصانی إذا واریته فی حفرته لا

ص: 109

أخرج من بیتی حتی أؤلف کتاب الله ، فإنه فی جراید النخل وفی أکتاف الابل . قال عمر: قوموا بنا إلیه، فقام أبو بکر ، وعمر ، وعثمان وخالد بن الولید، والمغیرة بن شعبة، وأبو عبیدة بن الجراح ، وسالم مولی أبی حذیفة ، وقنفذ ، وقمت معهم فلما انتهینا إلی الباب فرأتهم فاطمة(علیهاالسّلام)فأغلقت الباب فی وجوههم ، وهی لاتشک أن لایدخل علیها إلا بإذنها ، فضرب عمر الباب برجله فکسره وکان من سعف ، ثم دخلوا فأخرجوا علیاً ملبباً ! فخرجت فاطمة فقالت: یا أبا بکر أترید أن ترمِّلنی من زوجی ، والله لئن لم تکفَّ عنه لأنشرن شعری ولأشقنَّ جیبی ولآتین قبر أبی ولأصیحنَّ إلی ربی ، فأخذت بید الحسن والحسین وخرجت ترید قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال علی لسلمان: أدرک ابنة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فإنی أری جنبتی المدینة تکفیان ، والله إن نشرت شعرها وشقت جیبها وأتت قبر أبیها وصاحت إلی ربها ، لایناظر بالمدینة أن یخسف بها وبمن فیها ، فأدرکها سلمان فقال: یا بنت محمد إن الله إنما بعث أباک رحمة فارجعی ، فقالت: یا سلمان یریدون قتل علی ! ما علی علیٍّ صبر ، فدعنی حتی آتی قبر أبی فأنشر شعری وأشق جیبی وأصیح إلی ربی ! فقال سلمان: إنی أخاف أن یخسف بالمدینة ، وعلیٌّ بعثنی الیک ویأمرک أن ترجعی إلی بیتک وتنصرفی ، فقالت: إذاً أرجع وأصبر ، وأسمع له وأطیع .

قال: فأخرجوه من منزله ملبباً ومروا به علی قبر النبی علیه وآله السلام قال: فسمعته یقول: یا (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی) إلی آخر الآیة . وجلس أبو بکر فی سقیفة بنی ساعدة وقَدِم علیٌّ فقال له عمر: بایع ! فقال له علی: فإن أنا لم أفعل فمَهْ ؟ فقال له عمر: إذا أضرب والله عنقک ! فقال له علی: إذاً والله أکون عبد الله المقتول وأخا رسول الله . فقال عمر: أما عبد الله المقتول فنعم ، وأما أخو رسول الله فلا ، حتی قالها ثلاثاً ! فبلغ ذلک العباس بن عبد المطلب فأقبل

ص: 110

مسرعاً یهرول فسمعته یقول: إرفقوا بابن أخی ولکم علیَّ أن یبایعکم ، فأقبل العباس وأخذ بید علی فمسحها علی ید أبی بکر ، ثم خلوه مغضباً فسمعته یقول: ورفع رأسه إلی السماء: اللهم إنک تعلم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قد قال لی: إن تموا عشرین فجاهدهم، وهو قولک فی کتابک:

إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ . قال: وسمعته یقول: اللهم وإنهم لم یتموا عشرین ، حتی قالها ثلاثاً ، ثم انصرف) . انتهی.

ومنها: ما رواه فی الإختصاص ص184 ، من حدیث فدک: ( فقال علی(علیه السّلام)لها: إئت أبا بکر وحده فإنه أرق من الآخر وقولی له: ادعیت مجلس أبی وأنک خلیفته وجلست مجلسه ولو کانت فدک لک ثم استوهبتها منک لوجب ردها علیَّ ! فلما أتته وقالت له ذلک قال: صدقت قال: فدعا بکتاب فکتبه لها برد فدک ، فقال: فخرجت والکتاب معها ، فلقیها عمر فقال: یا بنت محمد ما هذا الکتاب الذی معک ، فقالت: کتاب کتب لی أبو بکر برد فدک ، فقال: هلمیه إلی ، فأبت أن تدفعه إلیه فرفسها برجله! وکانت حاملة بابن اسمه المحسن فأسقطت المحسن من بطنها ثم لطمها ! فکأنی أنظر إلی قرط فی أذنها حین نقفت ! ثم أخذ الکتاب فخرقه، فمضت ومکثت خمسة وسبعین یوماً مریضة مما ضربها عمر ، ثم قبضت). انتهی. ( راجع کتاب: مأساة الزهراء(علیهاالسّلام) ، للعلامة السید جعفر مرتضی) .

ص: 111

عشرة مواقف لفاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)یکفی الواحد منها لمن کان له قلب !

1 - یوم بکت وأبکت أباها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

کان ذلک أکثر من مرة ، فی مجالس شهدها الصحابة ونطق فیها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالغیب ، فکانت نوراً نبویاً تلقاه رواة أهل البیت(علیهم السّلام) ونقلوه بأمانة .

روی الخزاز فی کفایة الأثرص124عن عمار قال: (لما حضرت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الوفاة دعا بعلی(علیه السّلام)فسارَّه طویلاً ، ثم قال:یا علی أنت وصیی ووارثی قد أعطاک الله علمی وفهمی ، فإذا متُّ ظهرت لک ضغائن فی صدور قوم وغصب علی حقد ! فبکت فاطمة وبکی الحسن والحسین فقال لفاطمة: یاسیدة النسوان مم بکاؤک؟ قالت: یا أبة أخشی الضیعة بعدک ! قال: أبشری یا فاطمة فإنک أول من یلحقنی من أهل بیتی ، ولاتبکی ولاتحزنی فإنک سیدة نساء أهل الجنة ، وأباک سید الأنبیاء ، وابن عمک خیر الأوصیاء ، وابناک سیدا شباب أهل الجنة ، ومن صلب الحسین یخرج الله الأئمة التسعة ، مطهرون معصومون ، ومنا مهدی هذه الأمة ) .

وروی الصدوق فی کمال الدین ص662، عن سلمان قال:(کنت جالساً بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی مرضته التی قبض فیها فدخلت فاطمة (علیهاالسّلام)فلما رأت ما بأبیها من الضعف بکت حتی جرت دموعها علی خدیها ، فقال لها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): مایبکیک یا فاطمة؟ قالت:یارسول الله أخشی علی نفسی وولدی الضیعة بعدک ! فاغرورقت عینا رسول الله بالبکاء ثم قال: یا فاطمة أما علمت أنا أهل بیت اختار الله عز وجل لنا الآخرة علی الدنیا ، وأنه حتم الفناء علی جمیع خلقه ، وأن الله تبارک وتعالی اطَّلع إلی الأرض إطلاعة فاختارنی من خلقه فجعلنی نبیاً ، ثم اطلع إلی الأرض إطلاعة

ص: 112

ثانیة فاختار منها زوجک ، وأوحی إلیَّ أن أزوجک إیاه ، وأتخذه ولیاً ووزیراً ، وأن أجعله خلیفتی فی أمتی . فأبوک خیر أنبیاء الله ورسله ، وبعلک خیر الأوصیاء ، وأنت أول من یلحق بی من أهلی .

ثم اطَّلع إلی الأرض إطلاعة ثالثة فاختارک وولدیک ، فأنت سیدة نساء أهل الجنة وابناک حسن وحسین سیدا شباب أهل الجنة ، وأبناء بعلک أوصیائی إلی یوم القیامة کلهم هادون مهدیون ، وأول الأوصیاء بعدی أخی علی ، ثم حسن ، ثم حسین ، ثم تسعة من ولد الحسین فی درجتی ، ولیس فی الجنة درجة أقرب إلی الله من درجتی ودرجة أبی إبراهیم ! أما تعلمین یا بنیة أن من کرامة الله إیاک أن زوجک خیر أمتی ، وخیر أهل بیتی ، أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً ، وأکثرهم علماً . فاستبشرت فاطمة (علیهاالسّلام)وفرحت بما قال لها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )...الحدیث وهو طویل).انتهی.

(ورواه القاضی النعمان فی شرح الأخبار:1/122، عن أبی سعید الخدری ، والطبری الشیعی فی المسترشد ص613، بتفصیلات أخری..الخ.).

یارسول الله أخشی علی نفسی وولدی الضیعة بعدک !

ممن؟ من هؤلاء الجالسین حول أبیها ، الذین حدثها بما هم فاعلون !

فاغرورقت عینا رسول الله بالبکاء ! ممن؟ من زعماء قریش الجالسین حوله ! الذین أخبره ربه أن عاصفتهم بالباب ، تنتظر أن یغمض عینیه لتعصف بالإسلام وبالترتیبات الربانیة له ! وأن بیت فاطمة(علیهاالسّلام)سیکون أول هدفهم فیهددونهم بإحراق البیت علی من فیه ، إن لم یعترفوا بشرعیة إمام بطون قبائل قریش !!

لقد أعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أهل بیته فاطمة وعلیاً والحسنین(علیهم السّلام) لمرحلة ما بعده..فلا تنقصهم المعلومات ولا التوجیهات ، ولا الیقین بما سیکون ، فقد حکاه الله لنبیه مفصلاً فحکاه لهم ، فآمنوا به علی مستوی الحس لا الحدس ، وأخذ علیهم النبی العهد والمیثاق أن یصبروا ویعملوا لإنقاذ ما یمکن ، وأعطوه العهد علی ذلک عن

ص: 113

إیمان ورضا ، ووطنوا أنفسهم علی العطاء لله من حقهم وکرامتهم حتی یرضی !

لکن هذا الیقین لا یمنع فاطمة(علیهاالسّلام)أن تستشرف صور الفتنة ، وعواصفها المزمجرة ، کلما اقتربت أیام وصولها ، فتبکی لأبیها العطوف الحنون ، لکی یشارکها بدمعة قبل أن یرحل ! ویقول لهؤلاء فی أنفسهم قولاً بلیغاً ، فیسمع موقفه من أصحابه من لم یسمعه ، لعل ذلک یخفف من موج العاصفة !

أخبرها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن الله تعالی قضی علی هذه الأمة کما قضی علی الأمم السابقة ، أن یعطیها الحریة لاختیار الضلال إن شاءت ، ما دامت لم ترتفع الی مستوی من التقوی فتفرق عملیاً بین القیادة المعینة من الله تعالی ، والمعینة من القبائل المتغلبة ! وأن امتحان العترة قریب ! وأن عاصفة قریش الطلقاء لا تبعد أکثر من ساعة عن وفاته حتی تزمجر ! فقد ذهبا الی السقیفة یتعادیان لیصفق عمر علی ید أبی بکر ویعلنه خلیفة ، بعد أن ناقشا لنصف ساعة أو أقل سعد بن عبادة المریض وبضعة نفر حوله ! ثم جاء دور ألوف الطلقاء الذین حشدوهم فی المدینة لثبیت السلطة الجدیدة ، وتنفیذ اضطهاد

آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

أخبرها أنهم سیفتحون علیهم باب الإضطهاد حتی یضج منه التاریخ ! فیعیشون وشیعتهم مظلومین مقهورین، مابین مقتول ومسموم ومسجون ومشرد وخائف علی دمه ، حتی یظهر مهدیهم الموعود .

بکی النبی لبکاء فاطمة ، وقال لها نعم سیکون ماتخشیْن ، لکن ربنا عز وجل أکرمنا وفضلنا ، وعلینا أن ندفع ضریبة العبودیة الکاملة له ، وهی ضریبة لأیام قلیلة تعقبها راحة طویلة . إن عمر الدنیا القصیر یسهل الأمر ، یا بنیة !

کانت فاطمة تری الأمور تسیر نحو الکارثة علی الاسلام وعترة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بمجرد أن یغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عینیه ویلاقی ربه !

ص: 114

فأیدها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبکی لها ، وهدَّأها ، طمأنها بأن ذلک ضریبة عبودیة هذه الأسرة المصطفاة لربها عز وجل ، ففرحت الحزینة ! تقول فی فرحها لنعم الله : سمعاً وطاعة یا أبتاه.. تدمع العین ویحزن القلب ، ولا نقول إلا ما یرضی الرب فرضا الله رضانا أهل البیت ، ولیقترف الناس ما هم مقترفون !

أما رواة الحکومات ، فرووا من هذا المشهد النبوی البلیغ نتفاً مبتورة وصححوا بعضها ! ورووا منه فقرات طویلة ولم یضعفها أحد غیر الذهبی تحکماً وتعصباً فاتبعوه وغطوا علیه ! رواه الطبرانی فی الکبیر:3/57 ، والصغیر:1/67، وابن عساکر:42/130، والطبری فی ذخائر العقبی ص135،

وابن الأثیر فی أسد الغابة:4/42 ، والهیثمی فی مجمع الزوائد: 8/253 ، وقال: (وهو بتمامه فی فضل أهل البیت ، رواه الطبرانی فی الأوسط والکبیر وفیه الهیثم بن حبیب ، وقد اتهم بهذا الحدیث ! ورواه فی:9/164، وقال: رواه الطبرانی فی الکبیر والأوسط ، وفیه الهیثم بن حبیب ، قال أبو حاتم منکر الحدیث وهو متهم بهذا الحدیث )!

ولایتسع المجال لتفصیل تهافتهم وتعصبهم فی هذا الحدیث ، فیکفی أن تعرف أن الهیثمی نفسه قال فی الزوائد:3/190: وأما الهیثم بن حبیب فلم أر من تکلم فیه غیر الذهبی(القرن الثامن) اتهمه بخبر رواه ، وقد وثقه ابن حبان). انتهی .

وهو یقصد قول الذهبی فی میزان الإعتدال:4/320: (الهیثم بن حبیب عن سفیان بن عیینة بخبر باطل فی المهدی ، هو المتهم به . رواه أبو نعیم ، عن الطبرانی ، عن محمد بن رزیق بن جامع عنه). انتهی .

وواضح أن اتهام الذهبی لهذا الراوی بالوضع ، لاحجة له إلا أن الحدیث لم یعجب الذهبی المتعصب ، لأنه یکشف سقیفة قریش ، وینص علی إمامة علی والحسنین وبقیة العترة الی المهدی(علیهم السّلام) ! ولا بد أن الذهبی رأی أن الهیثم من أصحاب الإمام الصادق(علیه السّلام)الموثقین عندنا وعندهم ! فازداد غیظاً !

ص: 115

أما قول الهیثمی: (قال أبو حاتم منکر الحدیث) فهو خطأ أو کذب ! لأن أبا حاتم وثق ابن حبیب بنص الذهبی فی میزان الإعتدال:4/320 قال:(فوثقه أبو حاتم). وفی تهذیب التهذیب:11/81: أن أبا عوانة وثقه وقال:(قال لی شعبة: إلزم الهیثم الصیرفی . وقال الأثرم: أثنی علیه أحمد وقال: ما أحسن أحادیثه وأسد استقامتها ، لیس کما یروی عنه أصحاب الرأی . وقال إسحاق بن منصور عن ابن معین: الهیثم بن حبیب الصراف ثقة . وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة فی الحدیث صدوق ، وذکره ابن حبان فی الثقات ). انتهی . وکذا فی تهذیب الکمال:30/369 ، وفی سؤالات الآجری لأبی داود:1/191: سألت أبا داود عن الهیثم بن حبیب ، قلت: یتقدم عبد الملک بن حبیب؟ قال: نعم . وقد روی شعبة عنهما . وفی شرح مسند أبی حنیفة للقاری ص 398: الهیثم بن حبیب الصرفی أحد التابعین الأجلاء).

لکن لا تعجب من هرب إمامهم الذهبی الشرکسی من هذا الحدیث وهجومه علیه وارتکابه الکذب من أجله ، ولا من حذوهم حذوه وتغطیتهم علیه ! لأن نص الحدیث ثقیلٌ علی أعصابهم وأعصاب بطون قریش ، مع أنهم حذفوا منه ذکر بقیة الأئمة الإثنی عشر(علیهم السّلام) ! وهذا نصه من مجمع الزوائد :

(عن علی بن علی الهلالی عن أبیه قال دخلت علی رسول الله(ص)فی شکاته التی قبض فیها فإذا فاطمة رضی الله عنها عند رأسه ، قال فبکت حتی ارتفع صوتها فرفع رسول الله(ص)طرفه إلیها فقال: حبیبتی فاطمة ما الذی یبکیک ؟فقالت أخشی الضیعة بعدک ! فقال: یا حبیبتی أما علمت أن الله عز وجل اطَّلع إلی الأرض اطلاعةً فاختار منها أباک فبعثه برسالته ، ثم اطَّلع إلی الأرض اطلاعةً فاختار منها بعلک وأوحی إلی أن أنکحک إیاه ! یا فاطمة ونحن أهل بیت قد أعطانا الله سبع خصال لم تعط لأحد قبلنا ولا تعطی أحداً بعدنا: أنا خاتم النبیین وأکرم النبیین علی الله، وأحب المخلوقین إلی الله عز وجل وأنا أبوک ، ووصیی خیر الأوصیاء وأحبهم إلی الله وهو بعلک ،

ص: 116

وشهیدناخیر الشهداء وأحبهم إلی الله وهو عمک حمزة بن عبد المطلب وعم بعلک ، ومنا من له جناحان أخضران یطیر مع الملائکة فی الجنة حیث شاء وهو ابن عم أبیک وأخو بعلک ، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناک الحسن والحسین وهما سیدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذی بعثنی بالحق خیر منهما .

یا فاطمة والذی بعثنی بالحق إن منهما مهدی هذه الأمة ، إذا صارت الدنیا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن ، وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم علی بعض ، فلا کبیر یرحم صغیرا ولا صغیر یوقر کبیراً ، فیبعث الله عز وجل عند ذلک منهما من یفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ! یقوم بالدین آخر الزمان کما قمت به فی أول الزمان ، ویملأ الدنیا عدلاً کما ملئت جوراً .

یا فاطمة لاتحزنی ولاتبکی ، فإن الله عز وجل أرحم بک وأرأف علیک منی وذلک لمکانک من قلبی ، وزوجک الله زوجاً وهو أشرف أهل بیتک حسباً وأکرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعیة وأعدلهم بالسویة وأبصرهم بالقضیة ، وقد سألت ربی عز وجل أن تکونی أول من یلحقنی من أهل بیتی !

قال علی رضی الله عنه: فلما قبض النبی(ص)لم تبق فاطمة رضی الله عنها بعده إلا خمسة وسبعین یوماً ، حتی ألحقها الله عز وجل به(ص). انتهی .

إنها واحدة من الححج النبویة التی أفلتت من سیطرة رواة قریش ! فلا ینفعهم أن الذهبی فی القرن الثامن غضب منها ، وسعی فی خرابها !

ص: 117

2 - یوم بکی أبوها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لظلامتها .. وبکت لفقده !

فی أمالی الشیخ الطوسی ص188: (عن عبد الله بن العباس قال: لما حضرت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الوفاة بکی حتی بلَّتْ دموعه لحیته فقیل له: یارسول الله مایبکیک؟ فقال: أبکی لذریتی ، وما تصنع بهم شرار أمتی من بعدی ! کأنی بفاطمة ابنتی وقد ظلمت بعدی وهی تنادی یا أبتاه یا أبتاه ، فلا یعینها أحد من أمتی ! فسمعت ذلک فاطمة فبکت فقال لها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):لم تبکین یابنیة؟ فقالت: لست أبکی لما یصنع بی من بعدک ، ولکن أبکی لفراقک یا رسول الله ! فقال لها: أبشری یا بنت محمد بسرعة اللحاق بی ، فإنک أول من یلحق بی من أهل بیتی) .

من بعد حجة الوداع ، لم یکن أحدٌ یعانی کما عانت فاطمة وعلیٌّ والحسنان (علیهم السّلام) .کان وداع النبی بالنسبة لهم وداعاً لعالم أعلی فیه کل شئ ، واستعداداً للدخول فی عالم ملئ بالآلام والأحزان ، ومقارعة العواصف والأفاعی !

کانوا یدرکون أن کل تأکیدات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )واحتیاطاته لم تؤثر فی قریش التی رکبت رأسها وأصرت علی مؤامرتها ، وهیأت الأجواء فی قبائلها وقبائل العرب وحتی فی بعض أوساط الأنصار ، لمقولتها أن بنی هاشم تکفیهم النبوة ، ولیس من العدل أن یجمعوا بین النبوة والخلافة ، ویحرموا منها بطون قریش !!

لقد شاهدت فاطمة(علیهاالسّلام)فی حجة الوداع صوراً من الصراع بین الهدی النبوی والضلال القرشی ، ورأت أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خطب خمس خطب ، وأوضح للأمة مراراً موقع عترته وأهل بیته من بعده ، بأسالیبه المبتکرة وبلاغته النبویة ، وأنه کلما وصل الی تعیین الولاة بعده ، وأن الله غرسهم فی هذا البیت من بنی هاشم ، لغطت قریش وشوش أتباعها المبثوثون فی مجلسه ، وصاحوا وقاموا وقعدوا

ص: 118

وکبروا ! ثم قالوا: إن النبی قال: الأئمة من قریش ، کل قریش ، کل قریش !!

لقد أقام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الحجة لربه بینةً صریحةً فی مکة وعرفات ومنی ، ثم لم یُبْقِ یوم الغدیر لأحد عذراً ، علی حد تعبیر فاطمة(علیهاالسّلام)!

لکن قریشاً کانت صماء ، وکأن حجة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لاتعنیها بشئ ! فهذا سهیل بن عمر یمسک بزعامتها فی مکة ویتصرف کأنه رئیس دولة مقابل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ویقول نحن ، ومحمد ! ویرسل جابر بن النضر العبدری لیعترض علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، لأنه بزعمه لم یکتف بما فرضه علی الناس من صلاة وصوم وزکاة وحج ، حتی أخذ بضبع ابن عمه قائلاً: من کنت مولاه فعلی مولاه !

وهؤلاء طلقاء النبی من قریش صاروا ألوفاً فی المدینة ، وهم ملتفون حول أبی بکر وعمر ، وعائشة وحفصة تواصلان تظاهرهما علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتفشیان لهم سره ! وکلما علَّمَ جبرئیل النبی خطةً لترتیب الوضع لوصیه وعترته من بعده ، عملت قریش فی إبطالها وتخریبها !!

ومن أواخر ما خربوه أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عرض علیهم ما لم یعرضه نبی علی أمته قط وطلب منهم أن یلتزموا له بعهد یکتبه لیؤمِّن الأمة من الضلال الی یوم القیامة ، ویجعلها سیدة العالم الی یوم القیامة ! فبادروا الی رفضه ، ودفعوا عمر لمواجهة النبی بکل صلافة: لاحاجة لنا بکتابک ، ومنعوه من کتابته !!

ثم أراد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن تفرغ المدینة من دعاة الفتنة وأرسلهم جمیعاً فی جیش أسامة الی فلسطین ، وفیهم سبع مئة رجل من قریش ! وأمره بالتحرک ، ولعن من تخلف عن جیش أسامة ! فافتعلوا المشاکل والأعذار حتی سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج أسامة ، وتسللوا من معسکره من الجرف لواذاً عائدین الی المدینة !

کانت فاطمة(علیهاالسّلام)تشاهد ذلک ، وتسمع کلام أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن عاصفة قریش التی تنتظر عترته ، وتری دموعه الغزار من أجلهم ، ومن أجلها خاصة ! لکنها کانت الیوم تبکی

ص: 119

لأعظم من کل ذلک ، لفراق أبیها !

بعین الله ماسألقاه بعدک یا أبتی ! یُغصب زوجی حقه ، ویَهجمون علینا ویُضرمون النار فی دارنا ، وأُهانُ أنا وأضربُ ویُسقطُ جنینی ، ویُقاد زوجی بحمائل سیفه ! رضاً برضا الله ورضاک یا رسول الله ، فکل هذه المصائب دون مصیبة فراقک یاخیر الرسل وخیر الآباء !

ص: 120

3 - یوم واجهت المهاجمین لدارها !

فخاطبتهم من وراء باب الدار کما تقدم فی روایة ابن قتیبة: (لاعهد لی بقوم حضروا أسوأ محضر منکم ! ترکتم رسول الله جنازة بین أیدینا ، وقطعتم أمرکم بینکم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقاً ) ! ولما کرروا تهدیدهم بإحراق الدار صاحت: (یارسول الله ماذا لقینا من ابن أبی قحافة وابن الخطاب بعدک ! یاعمر جئت لتحرق علینا دارنا !) . ثم تفاقم الأمر وأشعلوا النار بالباب ، ودفعوه والزهراء(علیهاالسّلام)خلفه !!

قال السید جعفر مرتضی فی کتاب مأساة الزهراء(علیهاالسّلام):2/96: ( نقل جماعة سیأتی فی الموضع المذکور ذکر أسامیهم ، والکتب التی نقلوا فیها ، منهم الطبری ، والجوهری ، والقتیبی ، والسیوطی ، وابن عبد ربه ، والواقدی ، وغیرهم خلق کثیر: أن عمر بن الخطاب وجماعة معه ، منهم خالد بن الولید ، أتوا بأمر أبی بکر إلی بیت فاطمة ، وفیه علی والزبیر ، وغیرهما ، فدقوا الباب ، وناداهم عمر ، فأبوا أن یخرجوا . فلما سمعت فاطمة أصواتهم نادت بأعلی صوتها باکیة: یا أبتاه ، یا رسول الله ، ماذا لقینا بعدک من ابن الخطاب ، وابن أبی قحافة .

وفی روایة القتیبی وجمع غیره: أنهم لما أبوا أن یخرجوا دعا عمر بالحطب ، وقال: والذی نفس عمر بیده لتخرجن ، أو لأحرقنها علیکم علی ما فیها . فقیل له: إن فیها فاطمة؟! فقال: وإن !! وفی روایة ابن عبد ربه: أن فاطمة قالت له: یا ابن الخطاب أجئتنا لتحرق دارنا ؟

قال: نعم . وفی روایة زید بن أسلم: أنها قالت: تحرق علیَّ وعلی ولدی؟ قال: إی والله ، أو لیخرجن ولیبایعن .

ثم إن القوم الذین کانوا مع عمر لما سمعوا صوتها وبکاءها انصرف أکثرهم باکین ، وبقی عمر وقوم معه فأخرجوا علیاً . حتی فی روایة أکثرهم: أن عمر دخل البیت وأخرج الزبیر ثم علیاً . واجتمع الناس ینظرون ، وصرخت فاطمة

ص: 121

وولولت ، حتی خرجت إلی باب حجرتها ، وقالت: ما أسرع ما أغرتم علی أهل بیت نبیکم . وقد ذکر الشهرستانی فی کتاب الملل والنحل: أن النظام نقل أن عمر ضرب بطن فاطمة ذلک الیوم حتی ألقت المحسن من بطنها وکان یصیح: أحرقوها بمن فیها . وفی روایات أهل البیت(علیهم السّلام) : أن عمر دفع باب البیت لیدخل وکانت فاطمة وراء الباب ، فأصابت بطنها ، فأسقطت من ذلک جنینها المسمی بالمحسن ، وماتت بذلک الوجع . وفی بعض روایاته: أنه ضربها بالسوط علی ظهرها . وفی روایة: أن قنفذ ضربها بأمره ..الخ). انتهی .

وفی کتاب مظلومیة الزهراء للسید المیلانی ص62: (فی العقد الفرید لابن عبد ربه المتوفی سنة328: وأما علی والعباس والزبیر ، فقعدوا فی بیت فاطمة حتی بعث إلیهم أبو بکر (ولم یکن عمر هو الذی بادر) بعث أبو بکر عمر بن الخطاب لیخرجوا من بیت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار علی أن یضرم علیهم الدار فلقیته فاطمة فقالت: یا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟! قال: نعم أو تدخلوا ما دخلت فیه الأمة )! .(الإستیعاب:3/975وهو فی العقد الفرید:5/12 ).

ونقل المیلانی عبارة البلاذری فی الأنساب:1/586: (فجاء عمر ومعه فتیلة ، فتلقته فاطمة علی الباب فقالت فاطمة: یا بن الخطاب أتراک محرقاً علی بابی؟! الخ.).

وفی تاریخ أبی الفداء:1/197: (وکذلک تخلف عن بیعة أبی بکر أبو سفیان من بنی أمیة ، ثم إن أبا بکر بعث عمر بن الخطاب إلی علی ومن معه لیخرجهم من بیت فاطمة رضی الله عنها وقال: إن أبوا علیک فقاتلهم !! فأقبل عمر بشیء من نار علی أن یضرم الدار ! فلقیته فاطمة رضی الله عنها وقالت: إلی أین یا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟! قال: نعم أو تدخلوا فیما دخل فیه الأمة ! فخرج علیٌّ حتی أتی أبا بکر فبایعه ، کذا نقله القاضی جمال الدین بن واصل وأسنده إلی ابن عبد ربه المغربی . وروی الزهری عن عائشة قالت: لم یبایع علی أبا بکر حتی ماتت فاطمة ، وذلک بعد ستة أشهر لموت أبیها). انتهی .

ص: 122

4 - یوم أخذوا علیاً(علیه السّلام)فخرجت خلفه لتمنعهم من قتله !

فی الکافی:8/237: (عن أبی هاشم قال: لما أُخرج بعلی(علیه السّلام)خرجت فاطمة (علیهاالسّلام) واضعة قمیص رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی رأسها ، آخذة بیدی إبنیها فقالت: مالی ومالک یا أبا بکر ، ترید أن تؤتم ابنی وترملنی من زوجی ، والله لولا أن تکون سیئة لنشرت شعری ولصرخت إلی ربی ! فقال رجل من القوم: ما نرید إلی هذا ، ثم أخذت بیده فانطلقت به ) ! انتهی .

وفی الإختصاص ص186: (فخرجت فاطمة(علیهاالسّلام)فقالت:یا أبا بکر وعمر تریدان أن ترمِّلانی من زوجی ! والله لئن لم تکفَّا عنه لأنشرن شعری ولأشقَّن جیبی ، ولآتین قبر أبی ولأصیحن إلی ربی ! فخرجت وأخذت بید الحسن والحسین متوجهة إلی القبر ! فقال علی لسلمان: یا سلمان أدرک ابنة محمد..الخ.).

وفی الإحتجاج:1/113: عن الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)أنه قال: ( لما استُخرج أمیر المؤمنین(علیه السّلام)من منزله خرجت فاطمة صلوات الله علیها خلفه ، فما بقیت امرأة هاشمیة إلا خرجت معها ، حتی انتهت قریباً من القبر فقالت لهم: خلوا عن ابن عمی فوالذی بعث محمداً أبی بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعری ولأضعن قمیص رسول الله علی رأسی ، ولأصرخن إلی الله تبارک وتعالی ، فما صالحٌ بأکرمَ علی الله من أبی ، ولا الناقةُ بأکرم منی ، ولا الفصیلُ بأکرم علی الله من ولدیَّ !

قال سلمان رضی الله عنه: کنت قریباً منها ، فرأیت والله آساس حیطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتی لو أراد رجل أن ینفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها فقلت: یا سیدتی ومولاتی إن الله تبارک وتعالی بعث أباک رحمةً فلا تکونی نقمة، فرجعت ورجعت الحیطان حتی سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت فی خیاشیمنا ) . انتهی .

ص: 123

وفی مثالب النواصب ص141: (عن عدی بن حاتم وعمرو بن حریث ، قال واحد منهما: ما رحمت أحداً کرحمی علی بن أبی طالب ، رأیته حین أتی به إلی بیعة الأول ، فلما نظر إلی القبر قال:یا ابن أم إن القوم استضعفونی وکادوا یقتلوننی! فقال بایع ، فقال: إن لم أفعل ؟ قال إذاً نقتلک !

قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ! فبایع وأصابعه مضمومة) !

ص: 124

5 - یوم دارت مع علی(علیهماالسّلام)علی زعماء الأنصار وأقامت علیهم الحجة

فی کتاب سُلیم ص216، من جواب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)للأشعث بن قیس ، قال: (ثم حملتُ فاطمة وأخذت بید ابنی الحسن والحسین ، فلم أدَع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرین والأنصار إلا ناشدتهم الله فی حقی ودعوتهم إلی نصرتی . فلم یستجب لی من جمیع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبیر ، ولم یکن معی أحد من أهل بیتی أصول به ولاأقوی به، فقلت کما قال هارون لأخیه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی ! فلی بهارون أسوة حسنة ولی بعهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حجة قویة...الخ.) .

وفی الإختصاص ص183 ، من حدیث فدک: (ثم خرجَتْ وحَمَلها علیٌّ علی أتان علیه کساء له خمل ، فدار بها(أربعین صباحاً)فی بیوت المهاجرین والأنصار والحسن والحسین معها وهی تقول: یا معشر المهاجرین والأنصار أنصروا الله فإنی ابنة نبیکم ، وقد بایعتم رسول الله یوم بایعتموه أن تمنعوه وذریته مما تمنعون منه أنفسکم وذراریکم ، ففوا لرسول الله ببیعتکم ! قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها ! قال: فانتهت إلی معاذ بن جبل فقالت: یا معاذ بن جبل إنی قد جئتک مستنصرة وقد بایعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی أن تنصره وذریته وتمنعه مما تمنع منه نفسک وذریتک ، وأن أبا بکر قد غصبنی علی فدک وأخرج وکیلی منها ! قال: فمعی غیری؟ قالت: لا ، ما أجابنی أحد . قال: فأین أبلغ أنا من نصرتک؟ قال: فخرجت من عنده ودخل ابنه فقال: ما جاء بابنة محمد إلیک ؟ قال: جاءت تطلب نصرتی علی أبی بکر فإنه أخذ منها فدکاً ، قال: فما أجبتها به؟ قال قلت: وما یبلغ من نصرتی أنا وحدی؟ قال: فأبیتَ أن تنصرها! قال: نعم ، قال: فأیُّ شئ قالت لک؟ قال: قالت لی: والله لانازعنک الفصیح من رأسی حتی أرد علی رسول الله ، قال فقال: أنا والله لانازعتک الفصیح من رأسی حتی أرد علی

ص: 125

رسول الله إذ لم تجب ابنة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! قال وخرجت فاطمة من عنده وهی تقول: والله لاأکلمک کلمة حتی أجتمع أنا وأنت عند رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم انصرفت)!

أقول: قولها(علیهاالسّلام)لا نازعتک الفصیح من رأسی: معناه لا کلمتک کل عمری .

ولعل معاذاً کان یراجع حسابه فی خذلانه لأهل بیت النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی هذه الروایة التی روتها مصادرهم وصححوها ، وهی أن عمر رآه عند قبر النبی یبکی فقال له: (ما یبکیک یا معاذ؟ قال: یبکینی شئ سمعته من صاحب هذا القبر ! قال: وما سمعته ؟ قال: سمعته یقول: إن الیسیر من الریاء شرک ، وإن من عادی ولی الله فقد بارز الله تعالی بالمحاربة ، وإن الله یحب الأتقیاء الأخفیاء الذین إن غابوا لم یفتقدوا وإن حضروا لم یعدوا ولم یعرفوا ، قلوبهم مصابیح الهدی ، یخرجون من کل غبراء مظلمة ).(الحاکم:4/328 ، وصححه ، والکبیر للطبرانی:20/154، ومسند الشهاب:2/148، و252) .

وقال ابن قتیبة فی الامامة والسیاسة:1/29:

(وخرج علی کرم الله وجهه یحمل فاطمة بنت رسول الله(ص)علی دابة لیلاً فی مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فکانوا یقولون: یا بنت رسول الله قد مضت بیعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجک وابن عمک سبق إلینا قبل أبی بکر ماعدلنا به ، فیقول علی کرم الله وجهه: أفکنت أدع رسول الله(ص)فی بیته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟! فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما کان ینبغی له ، ولقد صنعوا ما الله حسیبهم وطالبهم ).

وفی الخصال للصدوق ص173:(قالت سیدة النسوان فاطمة(علیهاالسّلام)لما مُنعت فدک وخاطبت الأنصار فقالوا: یا بنت محمد لو سمعنا هذا الکلام منک قبل بیعتنا لأبی بکر ماعدلنا بعلی

ص: 126

أحداً، فقالت:وهل ترک أبی یوم غدیر خم لأحد عذراً)!

6 - یوم أقامت مجالس العزاء والبکاء علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأصرت علیها !
اشارة

روت مصادر الجمیع أن فاطمة (علیهاالسّلام)کانت تندب أباها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتبکیه ، وروت فقرات مؤثرة من نوحها علیه ، وأبیات شعر بلیغة .

قال البخاری:5/144:(عن أنس قال لما ثقل النبی(ص)جعل یتغشاه فقالت فاطمة: واکرب أباه ! فقال لها: لیس علی أبیک کربٌ بعد الیوم ! فلما مات قالت: یا أبتاه أجاب رباً دعاه . یا أبتاه من جنة الفردوس مأواه . یا أبتاه إلی جبریل ننعاه . فلما دفن قالت فاطمة(علیهاالسّلام): یاأنس أطابت أنفسکم أن تحثوا علی رسول الله التراب!). انتهی.

وروت مصادر الحدیث والسیرة أحادیث أخری تهزُّ قلب الإنسان ، من ذلک (أنها أخذت قبضة من تراب النبی(ص) فوضعتها علی عینیها ثم قالت:

ماذا علی من شمَّ تربة أحمدٍ

أن لا یشمَّ مدی الزمان غوالیا

صُبَّتْ عَلیَّ مصائبٌ لو أنها

صُبَّتْ علی الأیام عُدْنَ لیالیا

(مسند أحمد:2/489 )

أین کانت تقیم فاطمة(علیهاالسّلام)مجالس عزائها علی أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟

تدل الروایات علی أنها کانت تقیمها عند قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفی بیتها وفی البقیع ، وکانت تذهب الی قبر عمها حمزة(رحمه الله) کل یوم خمیس وإثنین . واستمر برنامجها هذا طوال مدتها بعد النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وهی کما فی روایاتنا نحو ثلاثة أشهر وفی روایة البخاری ستة أشهر ، وفیما یلی بعض الضوء علی هذه المجالس:

من الطبیعی أن تکون نساء الأنصار والمهاجرین قد أقمنَ مجالس ندب علی

ص: 127

النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی أحیائهن کما فعلن یوم شهادة حمزة(رحمه الله)وغیره وأن یحضر غالبهن مجلس فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)فیعزینها ویندبن معها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

وطبیعی أن یکون لهذه المجالس دورٌ اجتماعی وسیاسی فی ذلک الظرف الحساس ، الذی حدثت فیه بیعة السقیفة ، وخالفها بنو هاشم وغیرهم ، وهاجم الطلقاء بیت فاطمة وعلی(علیهماالسّلام)لإجبار من فیه علی البیعة .

والسؤال الذی یفرض نفسه: ما بال رواة السلطة لم یرووا أخبار هذه المجالس؟

والجواب: أن الوضع لم یکن طبیعیاً لا فی المسجد ولا فی بیت علی وفاطمة ! فالحزب القرشی بعد بیعة أبی بکر جعلوا السقیفة مرکز نشاطهم ، بعد أن أهانوا سعد بن عبادة المریض ، فحمله أولاده الی بیته ، وترکوا لهم السقیفة !

لکنهم بعد الهجوم علی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام)جعلوا مسجد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مرکزهم! واتخذوا إجراءات مشددة فی المسجد وحول القبر النبوی الشریف ، شبیهاً بالأحکام العرفیة ، ومنعوا إقامة مجالس العزاء ، ومطلق التجمع عند قبر النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقد کان خوف السلطة القرشیة الجدیدة من أمرین:

الأول ، مجالس الندب التی تقیمها فاطمة(علیهاالسّلام) ، أن توظفها لتألیب الأنصار وبعض المهاجرین ضد بیعة أبی بکر .

والثانی ، أن تستجیر فاطمة وعلی بقبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما هی عادة العرب ، معلنین أنهم أهل الوصیة والخلافة ، مطالبین بالوفاء لهم بالبیعة ورد بیعة أبی بکر !

فکان الحل عند القرشیین أن أطلقوا نصاً دینیاً یمنع التجمع عند قبر النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حتی للصلاة ! وقالوا إن ذلک آخر ما قاله النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی آخر لحظات حیاته ، وأنه لعن الیهود والنصاری لأنهم اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد ، أی صلوا عندها ! وفرضواتنفیذ هذه (الوصیة النبویة) بالقوة !

ص: 128

قالت عائشة: (لما نزل برسول الله (ص)طفق یطرح خمیصة له علی وجهه فإذا اغتم بها کشفها عن وجهه فقال وهو کذلک: لعنة الله علی الیهود والنصاری اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد ، یحذر ما صنعوا . البخاری:1/422 ، 6/386 ، 8/116 ، ومسلم:2/67 ، والنسائی:1/115، والدارمی:1/326 ، والبیهقی:4/80 ، وأحمد:1/218 ، 6 /34 ، 229 ، 275) . (الألبانی فی أحکام الجنائز ص216)

وقالت عائشة: (قال رسول الله (ص) فی مرضه الذی لم یقم منه: لعن الله الیهود والنصاری اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد . قالت: فلولا ذاک أُبْرِزَ قبرُه ، غیر أنه خشی أن یتخذ مسجداً ). البخاری:3/156 ، 198 ، 8 / 114، وأبو عوانة:2 / 399 ، وأحمد: 6 / 80 ، 121 ، 255 ). ( الألبانی فی أحکام الجنائز ص216) .

وقال السرخسی فی المبسوط:1/206: (ورأی عمر رجلاً یصلی باللیل إلی قبر فناداه: القبر القبر ، فظن الرجل أنه یقول القمر ، فجعل ینظر إلی السماء ، فما زال به حتی بینه). انتهی .

والی یومنا هذا لم یستطع عالم من أتباع الخلافة القرشیة أن یثبت أن الیهود والنصاری اتخذوا قبراً لنبی من أنبیائهم مسجداً ! اللهم إلا المؤمنون الذین مدحهم الله بأنهم اتخذوا مسجداً علی قبور أهل الکهف فقال تعالی: وَکَذَلِکَ أَعْثَرْنَا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَیْبَ فِیهَا إِذْ یَتَنَازَعُونَ بَیْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَیْهِمْ بُنْیَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلَی أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیْهِمْ مَسْجِدًا ). (الکهف:21).

فقد غفل واضعوا الحدیث فکذبوا علی تاریخ الیهودوالنصاری ، کما غفلوا عن هذه الآیة التی تکذب زعمهم ! لأن همهم کان منع مجالس فاطمة(علیهاالسّلام) !

الأحکام العرفیة فی مسجد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعند قبره !

ثم اخترع القرشیون حدیثاً للتأکید علی تحریم التجمع عند قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومنع

ص: 129

استجارة بنی هاشم به فقالوا إن النبی نفسه نهی أن یجعل قبره صنماً ومجمعاً ولو للعبادة فقال: (لاتتخذوا قبری عیداً أو

وثناً)! وفسروه بالنهی عن قصد قبره(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی أوقات معینة ، أو مطلقاً للتعبد عنده أو لغیر ذلک! (أحکام الجنائز للألبانی ص219) !

وبذلک ضمنوا(التبریر الشرعی) لمنع علی(علیه السّلام)إن أراد أن یستجیر بقبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ویطالب بالخلافة ! لأن الإستجارة بالقبر عند العرب تفرض الإستجابة لمطلب المستجیر ، وإلا لحق العار بذوی صاحب القبر ومن یعز علیهم !

ولکنهم لم یکونوا یعرفون أن حرمة قبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عند علی وفاطمة(علیهماالسّلام) أعظم من الخلافة ، وأنهما لیسا حاضرین لکسر حرمته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأی ثمن !

قد یقال: إن عادة الإستجارة بالقبر قد نسخها الإسلام .

وجوابه: أن التاریخ یثبت أن العرب ما زالوا فی الجاهلیة والإسلام یستجیرون بقبور عظمائهم فینصبون خیمة ویقیمون عند القبر حتی یلبی طلبهم ! وقد روت المصادر استجارة جماعة بقبر غالب جد الفرزذق ، وهو بکاظمة قرب الکویت ، قال فی المستطرف:217: (وکان الفرزدق یجیر من عاذ بقبر أبیه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبیه أجاره ، وإن امرأة من بنی جعفر بن کلاب خافت لما هجا الفرزدق بنی جعفر أن یسمیها وینسبها ، فعاذت بقبر أبیه ، فلم یذکر لها إسماً ولا نسباً ، ولکن قال:فلا والذی عاذت به لا أضیرها...عجوزٌ تصلی الخمسَ عاذت بغالبِ

(راجع أنساب الأشراف للبلاذری:2/3037 ، الإشتقاق لابن درید ص147، والتذکرة الحمدونیة ص317 ، والأعلام:5/114، وغیرها) .

کما رووا استجارة الکمیت بقبر معاویة بن هشام ، بعد أن قبض علیه الأمویون وأرادوا قتله فأجاره عبد الملک بن مروان: (فقال مسلمة للکمیت: یا أبا المستهل؟ إن أمیر المؤمنین قد أمرنی بإحضارک ! قال أتسلمنی یا أبا شاکر؟ قال: کلا ولکنی أحتال لک . ثم قال له: إن معاویة بن هشام مات قریباً وقد جزع علیه جزعاً

ص: 130

شدیداً ، فإذا کان من اللیل فاضرب رواقک علی قبره ، وأنا أبعث إلیک بنیه یکونون معک فی الرواق ، فإذا دعا بک تقدمت علیهم أن یربطوا ثیابهم بثیابک ویقولون: هذا استجار بقبر أبینا ونحن أحق بإجارته ! فأصبح هشام علی عادته متطلعاً من قصره إلی القبر فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعله مستجیر بالقبر ! فقال: یجار من کان إلا الکمیت فإنه لا جوار له . فقیل: فإنه الکمیت . فقال: یحضر أعنف إحضار ! فلما دعی به ربط الصبیان ثیابهم بثیابه ، فلما نظر هشام إلیهم اغرورقت عیناه واستعبر وهم یقولون: یا أمیر المؤمنین استجار بقبر أبینا وقد مات وما حظه من الدنیا ، فاجعله هبة له ولنا ، ولا تفضحنا فیمن استجار به ! فبکی هشام حتی انتحب ثم أقبل علی الکمیت فقال له....) (الغدیر:2/207 ) وذکر عتابه للکمیت علی قصائده المدویة فی ذم بنی أمیة ، واعتذار الکمیت ، وعفوه عنه .

ورووا قصة استجارة عجرد الشاعر بقبر سلیمان بن علی العباسی وعفو المنصور عنه ، ذکر ذلک الصولی فی (أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ص2) . الی آخر قصص الإستجارة بالقبر فی الجاهلیة والإسلام .

إجراء جدید لمنع مجلس فاطمة(علیهاالسّلام)

رغم کل هذه الإجراءات ، بقی مجلس فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)مصدر قلق للحکومة الجدیدة ، فعملت لمنعه بحدیث روته عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ینهی عن أصل البکاء علی المیت ، لأن الله یعذبه ببکاء أهله علیه ! قال البخاری:2/85: (وإن المیت یعذب ببکاء أهله علیه. وکان عمر یضرب فیه بالعصا ویرمی بالحجارة ویحثی بالتراب)!

لکن حدیث عمر وتشدده فی تطبیقه لم ینفع فی إیقاف مجالس فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام) ! خاصة أن نساء الأنصار کنَّ ینحن فی عهد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلم ینههنَّ بل أقمنَ مجلس نیاحة علی حمزة عند باب المسجد یعزین بذلک النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی عمه

ص: 131

حمزة (رحمه الله)! فقد روی أحمد فی مسنده:2/40 ، عن ابن عمر أن رسول الله لما رجع من أحد فجعلت نساء الأنصار یبکین علی من قتل من أزواجهن ، قال فقال رسول الله(ص): ولکن حمزة لا بواکی له ! قال ثم نام فاستنبه وهنَّ یبکین ، قال: فهنَّ الیوم إذا یبکین یندبن بحمزة ). انتهی .

وفی مسند ابن راهویه:2/599: ( فقال رسول الله(ص): لکن حمزة لا بواکی له ! قال فأمر سعد بن معاذ نساء بنی ساعدة أن یبکین عند باب المسجد علی حمزة ، فجعلت عائشة تبکی معهن ، فنام رسول الله(ص)فاستیقظ عند المغرب ، فصلی المغرب ثم نام ونحن نبکی ، فاستیقظ رسول الله(ص)العشاء الآخرة فصلی العشاء ، ثم نام ونحن نبکی ، فاستیقظ رسول الله ونحن نبکی ، فقال: ألا أراهن یبکین حتی الآن؟ مروهن فلیرجعن ، ثم دعا لهنَّ ولأزواجهن ولأولادهن).انتهی.

لکن رواة السلطة حرفوا هذا الحدیث ووضعوا فیه أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عاملَ نساء الأنصار بفظاظة وسوء خلق ! مع أنهنَّ جئن من أجله ، وأقمن مجلس النیاحة علی عمه أمام باب داره ومسجده ! ففی مسند أحمد:2/84 ،عن عبد الله بن عمر أیضاً ! (أن رسول الله(ص) لما رجع من أحد سمع نساء الأنصار یبکین علی أزواجهن فقال: لکن حمزة لا بواکی له ، فبلغ ذلک نساء الأنصار فجئن یبکین علی حمزة ، قال فانتبه رسول الله(ص)من اللیل فسمعهن وهن یبکین فقال: ویحهن لم یزلن یبکین بعد منذ اللیلة ؟! مروهن فلیرجعن ولایبکین علی هالک بعد الیوم) ! انتهی .

ولا یمکن لعاقل أن یقبل أنه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خرَّب مجلسهن أو أنهاه بهذه الفظاظة ، فوبخهنَّ علی تطویل النیاحة ، ثم نهاهن عن البکاء علی أی میت !!

والخلاصة ، أن هذا الحدیث العُمری لم ینفع فی منع مجلس فاطمة(علیهاالسّلام)، لکن یبدو أنها نقلته بعد المسجد الی دارها !

ص: 132

وربما کان مجلسها فی الفترة الأولی لوفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )صباحاً ومساءاً ، وبعد انتهاء المجالس فی أحیاء الأنصار ، کان هو المجلس الوحید الذی تقصده نساء الأنصار وبعض نساء المهاجرین ، وربما بعض نساء الطلقاء !

هنا یأتی دور ما ذکرته مصادرنا من أن (بعض أهل المدینة) شَکوْا من استمرار مجالس فاطمة(علیهاالسّلام)لیلاً ونهاراً ! قال الإمام الصادق (علیه السّلام): (البکاؤون خمسة: آدم ، ویعقوب ، ویوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعلی بن الحسین(علیهم السّلام) .

فأما آدم فبکی علی الجنة حتی صار فی خدیه أمثال الأودیة !

وأما یعقوب فبکی علی یوسف حتی ذهب بصره ، وحتی قیل له: تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضاً أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ .

وأما یوسف فبکی علی یعقوب حتی تأذی به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبکی اللیل وتسکت بالنهار ، وإما أن تبکی النهار وتسکت باللیل ، فصالحهم علی واحد منهما .

وأما فاطمة فبکت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حتی تأذی بها أهل المدینة فقالوا لها: قد آذیتنا بکثرة بکائک ! فکانت تخرج إلی المقابر فتبکی حتی تقضی حاجتها ثم تنصرف .

وأما علی بن الحسین فبکی علی الحسین(علیه السّلام)عشرین سنة ما وضع بین یدیه طعام إلا بکی حتی قال له مولی له: جعلت فداک یا ابن رسول الله إنی أخاف علیک أن تکون من الهالکین ، قال: إنما أشکو بثی وحزنی إلی الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنی ما أذکر مصرع بنی فاطمة إلا خنقتنی لذلک عبرة). انتهی . (الخصال للصدوق ص272ورواه أیضاً فی الأمالی ص 204 ، والنیسابوری فی روضة الواعظین ص 451 ، وابن شهراشوب فی المناقب: 3/104).

وقال المجلسی فی بحار الأنوار:43/177: (واجتمع شیوخ أهل المدینة وأقبلوا إلی

ص: 133

أمیر المؤمنین فقالوا له: یا أبا الحسن إن فاطمة تبکی اللیل والنهار فلا أحد منا یتهنأ بالنوم فی اللیل علی فرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار علی أشغالنا وطلب معایشنا ، وإنا نخبرک أن تسألها إما أن تبکی لیلاً أو نهاراً ، فقال: حباً وکرامة ، فأقبل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)حتی دخل علی فاطمة وهی لاتفیق من البکاء ولا ینفع فیها العزاء ، فلما رأته سکنت هنیئة له ، فقال لها: یا بنت رسول الله إن شیوخ المدینة یسألونی أن أسألک إما أن تبکین أباک لیلاً وإما نهاراً . فقالت: یا أبا الحسن ما أقل مکثی بینهم وما أقرب مغیبی من بین أظهرهم ، فوالله لا أسکت لیلاً ولا نهاراً ، أو ألحق بأبی رسول الله ! فقال لها علی: إفعلی یا بنت رسول الله ما بدا لک . ثم إنه بنی لها بیتاً فی البقیع نازحاً عن المدینة یسمی بیت الأحزان ، وکانت إذا أصبحت(علیهاالسّلام) قدمت الحسن والحسین أمامها ، وخرجت إلی البقیع باکیة ، فلا تزال بین القبور باکیة، فإذا جاء اللیل أقبل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إلیها وساقها بین یدیه إلی منزلها) !

أقول: ینبغی الإلفات الی أن تأذی بعض أهل المدینة أو جماعة السلطة ، لایمکن أن یکون من مجرد بکاء فاطمة(علیهاالسّلام)وذویها فی بیتها أو فی البقیع ، بل من مجلسها الذی کان یحضره نساء الأنصار فیأخذ قسماً من النهار وجزءاً من اللیل ، وتندب فیه النادبات ، ویقرأنَ فیه القرآن والشعر ، وربما تحدثت فیه فاطمة ! ثم تنعکس

أخباره وأجواؤه علی مدینة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحکومتها الجدیدة !

أراکة الأحزان.. وبیت الأحزان !

یقع مشهد الأئمة من أهل البیت(علیهم السّلام) فی أعلی نقطة فی البقیع علی یمین الداخل ، وقد هدمه الوهابیون فی سنة 1348هجریة ، وما زال قسم من جداره الشرقی موجوداً . وموضع بیت الأحزان فی البقیع خلف هذا المشهد الشریف من جهة الشرق ، وقد شمله الهدم ، ففی الذریعة:7/52: (ولکن انهدم بیت الأحزان

ص: 134

فی بقیع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشیعة(علیهم السّلام) ، وذلک لأجل أنه قد یؤخذ الجار بجرم الجار ) . انتهی .

وقال السید شرف الدین فی النص والإجتهاد ص301: (وهنا نلفت أولی الألباب إلی البحث عن السبب فی تنحی الزهراء(علیهاالسّلام)عن البلد فی نیاحتها علی أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وخروجها بولدیها فی لُمَّة من نسائها إلی البقیع یندبن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فی ظل أراکة کانت هناک ، فلما قطعت بنی لها علی(علیه السّلام)بیتاً فی البقیع کانت تأوی إلیه للنیاحة یدعی بیت الأحزان ، وکان هذا البیت یزار فی کل خلف من هذه الأمة ، کما تزار المشاهد المقدسة ، حتی هدم فی هذه الأیام بأمر الملک عبد العزیز بن سعود النجدی ، لما استولی علی الحجاز وهدم المقدسات فی البقیع ، عملاً بما یقتضیه مذهبه الوهابی ، وذلک سنة 1344 للهجرة . وکنا سنة 1339 تشرفنا بزیارة هذا البیت بیت الأحزان ، إذ منَّ الله علینا فی تلک السنة بحج بیته وزیارة نبیه ، ومشاهد أهل بیته الطیبین الطاهرین(علیهم السّلام) فی البقیع) .

وقال صاحب الذریعة: 7 /52: ( أقول: إن دار تمیم الداری معروفة بالمدینة وهو مشهد یزار حتی الیوم ، وکذا دار أبی بکر وعثمان ، ولکن انهدم بیت الأحزان فی بقیع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشیعة(علیهم السّلام) ، وذلک لأجل أنه: قد یؤخذ الجار بجرم الجار ) ! انتهی .

ورحم الله صاحب الذریعة علی حسن ظنه ، فقد تصور أن غرضهم هدم المشهد فقط ، وأن بیت الأحزان لم یکن مقصودهم بالأصل بل بالعرض!

لکن الذی یعرف تفکیرهم أکثر یجزم بأن بیت الأحزان کان مقصوداً لهم بالأصل کالمشهد وضریحه وقبته ، إن لم یکن مقصوداً بالکره أکثر منه !

لقد أصدر عمر الحکم بإعدام أراکة البقیع أو سدرته فقطعوها ، ولم یکن ذنبها إلا أن الزهراء(علیهاالسّلام)ونساء الأنصار استظللنَ بها وندبنَ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تحتها . أما بیت

ص: 135

الأحزان الذی بناه علی(علیه السّلام)لهذا الغرض فیظهر أنهم لم یستطیعوا هدمه یومذاک ، ثم توارث المسلمون تجدیده ، مَعْلَماً وشاهداً !

ولئن کان بیت الأحزان وسدرة البقیع ، اختصت شهرتهما بالشیعة ، وناقش فی أصل قصتهما مخالفوهم ، فإن شجرة الرضوان عمَّ خبرها ورواه حتی رواة الحکومة ! واعترفوا بأن حکم الإعدام صدر فی حق الشجرة ومن یصلی تحتها !

قال السید شرف الدین(رحمه الله)فی النص والإجتهاد ص368:

( المورد65 قطعة شجر الحدیبیة: شجرة الحدیبیة هذه بویع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بیعة الرضوان تحتها ، فکان من عواقب تلک البیعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحاً مبیناً ونصره نصراً عزیزاً ، وکان بعض المسلمین یصلون تحتها تبرکاً بها ، وشکراً لله تعالی علی ما بلغهم من أمانیهم فی تلک البیعة المبارکة . فبلغ عمر ما کان من صلاتهم تحتها فأمر بقطعها ! وقال(1): ألا لا أوتی منذ الیوم بأحد عاد إلی الصلاة عندها إلا قتلته بالسیف ، کما یقتل المرتد ! (519) .

سبحان الله وبحمده والله أکبر ! یأمره بالأمس رسول الله بقتل ذی الخویصرة وهو رأس المارقة ، فیمتنع عن قتله احتراماً لصلاته ثم یستلُّ الیوم سیفه لقتل من یصلی من أهل الإیمان تحت الشجرة شجرة الرضوان؟!

وَیْ ، ویْ ! ما الذی أرخص له دماء المصلین من المخلصین لله تعالی فی صلاتهم؟إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أکلها فی نجد(حیث یطلع قرن الشیطان)!

وقال فی هامشه: (1) کما فی السطر الأخیر من ص59 من المجلد الأول من شرح النهج الحمیدی (منه قدس) . ( 519 ) الغدیر للأمینی:6/146 ، شرح النهج الحدیدی:3/122 ، سیرة عمر لابن الجوزی ص107 ، الطبقات الکبری لابن سعد ، السیرة الحلبیة ج 3 / 29 ، فتح الباری: 7 /361 وقد صححه ، إرشاد الساری:6/337 ، شرح المواهب للزرقانی:2/207 ، الدر المنثور:6/73 ، عمدة القاری:8/284 وقال: إسناد صحیح ..الی آخر ماذکره من مصادر .

ورحم الله الشاعر الحلی الکواز حیث قال ، کما فی بیت الأحزان للقمی ص128:

ص: 136

الواثبین لظلم آل ومحمد

ومحمد ملقیً بلا تکفینِ

والقائلین لفاطم آذیتنا

فی طول نوح دائمٍ وحنینِ

والقاطعین أراکةً کیما تقیلَ

بظلِّ أوراقٍ لها وغصون

ومُجمِّعی حطبٍ علی البیت الذی

لم یجتمع لولاه شملُ الدین

والهاجمین علی البتولة ببیتها

والمسقطین لها أعزَّ جنین

والقائدین إمامهم بنجاده

والطهر تدعو خلفه برنین

خلوا ابن عمی أولأکشف فی الدعا

رأسی وأشکو للإله شجونی

ما کان ناقة صالح وفصیلها

بالفضل عند الله إلا دونی

ورنَت إلی القبر الشریف بمقلة

عبری وقلبٍ مُکمَد محزون

قالت وأظفار المصاب بقلبها

غوثاه قلَّ علی العداة معینی

أبتاه هذا السامری وعجله

تُبعا ومال الناس عن هارون

أیَّ الرزایا أتقی بتجلدی

هو فی النوائب مُذْ حییت قرینی

فقدی أبی أم غصب بعلی حقه

أم کسر ضلعی أم سقوط جنینی

أم أخذهم إرثی وفاضل نحلتی

أم جهلهم حقی وقد عرفونی

قهروا یتیمیک الحسین وصنوه

وسألتهم حقی وقد نهرونی

ص: 137

مواظبة فاطمة(علیهاالسّلام)علی زیارة قبر عمها حمزة(رحمه الله)

کان برنامج الصدیقة الزهراء(علیهاالسّلام)بعد وفاة أبیها خاصاً ، أبرز ما فیه التودیع والتأکید ! تودیعهاُ لعلیٍّ والحسن والحسین وزینب وأم کلثوم وأبرار الأمة ، وتأکیدها قولاً وعملاً علی ثوابت الإسلام أن تُغیَّر وتُبَدَّل ! خاصة الترتیب الربانی لنظام الحکم الذی نقضته قریش ، وإجراءاتهم التحریفیة حول قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

لقد أصرت علی مجالسها فی النوح والندب علی أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فی مسجده عند قبره ، وفی بیتها ، وفی والبقیع ، وفی أحُد ! فآتت المجالس ثمارها .

وکانت تزور قبر أبیها الحبیب(صلّی الله علیه و آله وسلّم )باستمرار وتبکی عنده ، ثم تقیم مجلس عزائه وندبه فی البقیع ، وتزور عمها حمزة(رحمه الله)والشهداء فی أحُد کل اثنین وخمیس ، فهذان الیومان عزیزان علیها ، کان یصومهما أبوها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتصومهما معه ، وفیهما تُعرض الأعمال علی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وفیهما تفتح أبواب الجنة . (منتهی المطلب للعلام الحلی:2/614، ومجموع النووی:6/386 عن الترمذی وحسنه ) .

قال الإمام الصادق(علیه السّلام):( عاشت فاطمة بعد أبیها خمسة وسبعین یوماً لم تُرَ کاشرةً ولا ضاحکة ، تأتی قبور الشهداء فی کل جمعة مرتین الإثنین والخمیس فتقول: هاهنا کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )هاهنا کان المشرکون. وفی روایة: کانت تصلی هناک وتدعو حتی ماتت(علیهاالسّلام)) . انتهی. (الکافی:3/228) .

تقول بذلک صلوات الله علیها: من هاهنا وبهذه الدماء الطاهرة ، وأغلاها دماء بنی هاشم ، وبهذه الجهود المتواصلة وأغلاها جهود بنی هاشم ، جاء هذا الفتح ، وبُنِیَ هذا المجد ، الذی صادرته قریش ، واستحلت حرق بیوتنا علینا ، طمعاً فیه !

فهذا هو أبی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )المؤسس لهذه الأمة ، والشاهد علی أعمالها .

وهذا هو حمزة عمی(رحمه الله)، وزیر النبی وناصره ، یثوی هنا شاهداً .

وذاک هو علیٌّ زوجی(علیه السّلام)وزیر النبی ووصیه ، الذی قام الإسلام علی أکتافه ،

ص: 138

یتجرع الغصص من قریش الی الیوم ، یقولون له بایع وإلا قتلناک !

وذاک أخوه ابن عمی جعفر(رحمه الله)یثوی شهیداً وشاهداً فی مؤتة ، علی مشارف القدس ، داخل مملکة الروم ! فأین کانت قریش وطلقاؤها ؟!

أرادت فاطمة(علیهاالسّلام)أن تُفهم الأمة أن ارتباطها برسول الله وعترته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والعیش فی أجوائهم ، ضرورة لإیمانها ، وإلا انحرفت بعیداً !

وأن حقهم علیها أمواتاً کحقهم أحیاء ، وأن الإنتقاص من حقهم والمنع من زیارة قبورهم للرجال والنساء ، بدایة طریق قرشیة ، لإبعاد الأمة عنهم !

فی کشف الإرتیاب للسید الأمین ص339: (کانت تزور قبر عمها حمزة فی کل جمعة فتصلی وتبکی عنده... وابن تیمیة یقول لم یذکر أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفی مشاهدها مستحبة ) !!

وفی کشف الإرتیاب ص379: (ویظهر أن الوهابیة بعدما أباحوا للنساء زیارة القبور فی العام الماضی منعوهن منها فی هذا العام ! فقد أخبرنا الحجاج أن النساء منعت من الدخول إلی البقیع فی هذا العام بدون استثناء ، وکأنهم بنوا علی هذا الإحتمال الضعیف الذی ذکره السندی وقال به صاحب المهذب والبیان من بقائهن تحت النهی ، فظهرت لهم صحته هذا العام بعدما خفیت عنهم فی العام الأول "یمحو الوهابیة ما یشاؤن ویثبتون وعندهم أم الکتاب".

لسنا نعارضهم فی اجتهادهم أخطأوا فیه أم أصابوا ، ولکننا نسألهم ما الذی سوغ لهم حمل المسلمین علی اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب ، بل هو إلی الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم یقل به إلا الشاذ کما سمعت ! والأمور الإجتهادیة لا یجوز المعارضة فیها کما بیناه فی المقدمات !

وما بالهم یسلبون المسلمین حریة مذاهبهم فی الأمور الإجتهادیة ، ویحملونهم علی اتباع معتقداتهم فیها بالسوط والسیف .

ص: 139

کما زادوا فی طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات ، فعاقبوا الناس علی البکاء عند زیارة قبر البنی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أو أحد القبور ومنعوهم منه ! والبکاء أمر قهری اضطراری لا یعاقب الله علیه ، ولا یتعلق به تکلیف لاشتراط التکلیف بالقدرة عقلاً ونقلاً ومنعوا من القراءة فی کتاب حال الزیارة ، ومن إطالة الوقوف ! فمن رأوا فی یده کتاب زیارة أخذوه منه ومزقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه ! ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه !

حدثنی بعض الحجاج الثقات أنه تحیَّل لقراءة الزیارة من الکتاب بأن فصل أوراقاً منه وجعلها فی القرآن وجلس یظهر

قراءة القرآن ویزور ، فاتفق أنه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فدفعوه حتی أخرجوه من المسجد ، وأخذوا تلک الأوراق ومزقوها ! وأمثال هذا مما صدر منهم فی حق الحجاج فی مسجدیْ مکة والمدینة ومسجد الخیف والبقیع وغیرها ، مما سمعناه متواتراً من الحجاج ، کثیرٌ یطول الکلام بنقله )!! انتهی .

وقد أورد السید مهدی الروحانی فی کتابه فی أحادیث أهل البیت(علیهم السّلام) :1/548 ، تحت عنوان: باب زیارة فاطمة(علیهاالسّلام)قبر عمها حمزة(رحمه الله)مجموعة مصادر سنیة روت ذلک ، منها مصنف عبد الرزاق:3/572 وص574 ، وفیه: (کانت تأتی قبر حمزة وکانت قد وضعت علیه علماً) وطبقات ابن سعد:3/19 ، وتاریخ المدینة:1/132 ، وفیهما:(ترمه وتصلحه). ونوادر الترمذی ص24، وفیه (فی کل عام فترمه وتصلحه) (وفی نسختنا: 1/126) ، والحاکم:3/28 ، وفیه (فی الأیام فتصلی وتبکی عنده . هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه) .وإحیاء الغزالی:4/474 (وفی نسختنا:4/490) ، وسنن البیهقی:4/ 78 ، وفیه: (کل جمعة فتصلی وتبکی عنده). انتهی .

راجع أیضاً: التمهید لابن عبد البر:3/234: وفیه: (کل جمعة وعلمته بصخرة) . وشرح الزرقانی:3/101، ودراری الشوکانی ص197، وحاشیة الطحطاوی علی مراقی الفلاح ص412 ، وأنساب الأشراف للبلاذری ص1080. ومن مصادرنا: دعائم الإسلام:1/239، وکفایة الأثر ص198).

ص: 140

سُبحة الزهراء(علیهاالسّلام)من تربة حمزة(رحمه الله)

ابتکرت الزهراء المهدیة من ربها ، المعصومة بلطفه (علیهاالسّلام) ، عملاً بسیطاً ، لکنه بلیغ لربط الأمة بالنبی وآله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فاتخذت من تربة قبر حمزة سبحة من أربع وثلاثین حبة ، لکی تَعُدَّ بها تسبیحها لربها بعد کل صلاة !

تقول بذلک للأمة لقد علمکم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کیف تذکرون الله تعالی ذکراً کثیراً بعد صلواتکم ، فتکبروا الله أربعاً وثلاثین مرة ، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثین ، ویسبحوه ثلاثاً وثلاثین ، وسمی هذا التسبیح باسمی تسبیح فاطمة ، لکی تذکرونی ولا تنسونی ، کما سمی صلاة جعفر باسمه لکی تذکروه ولا تنسوه ، وها أنا أتخذ سبحة من تربة قبر عمی حمزة(رحمه الله) ، لکی تذکروه فلا تنسوه ، حتی یستشهد ولدی الحسین ، فتتخذوا سبحة من تربته ولا تنسوه !

فی مستدرک الوسائل:5/56: عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال(وتکون السبحة بخیوط زرق ، أربعاً وثلاثین خرزة ، وهی سبحة مولاتنا فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)لما قتل حمزة عملت من طین قبره سبحة ، تسبح بها بعد کل صلاة ) . انتهی .

وفی کتاب المزار للمفید ص150: (عن الصادق جعفر بن محمد(علیهماالسّلام)أن فاطمة (علیهاالسّلام)کانت مسبحتها من خیط من صوف مفتَّل، معقود علیه عدد التکبیرات، فکانت بیدها تدیرها تکبِّر وتسبِّح ، إلی أن قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته وعملت التسابیح فاستعملها الناس . فلما قتل الحسین(علیه السّلام)عُدل بالأمر علیه فاستعملوا تربته لما فیها من الفضل والمزیة) . ( ورواه فی جامع أحادیث الشیعة:5م268، عن مکارم الأخلاق ص147 ، والحدائق الناضرة:7/261 ، و وسائل الشیعة (آل البیت):6/455

وقصده بالمزیة لتربة الحسین(علیه السّلام)ما تواتر عند المسلمین من أحادیث رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی فضل تربة کربلاء ، وأن جبرئیل أخبره بأن سبطه الحسین(علیه السّلام)سیقتل

ص: 141

فیها ،وجاء له بقبضة من ترابها ، فأودعها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عند أم سلمة فوضعتها فی زجاجة ، وأخبرها أنه حین یقتل ستظهر لله فیها آیة وتتحول الی دم صاف !

(راجع: مسند أحمد:6/294 روی عدة أحادیث بعضها رجاله رجال الصحیح ، والحاکم:3/177 و:4/398، روی أحادیث علی شرط الشیخین ، ومجمع الزوائد:9/ 185، باب مناقب الحسین بن علی).

ص: 142

7 - یوم جاء أبو بکر وعمر لزیارتها لیعتذرا منها !

اتفقت روایاتهم علی أن موقف فاطمة(علیهاالسّلام)فی إدانة السقیفة واتهام أبی بکر وعمر ، کان أشدَّ من مواقف الجمیع حتی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) !

وروت مصادرنا ، ومصادرهم کابن قتیبة ، أنها(علیهاالسّلام)أدانتهما بالقول والفعل ، وعندما طلب أبو بکر المجئ الی بیتها للإعتذار منها لهجومهم علی بیتها ، لم تقبل دخولهما بیتها، فتوسط لهما علی(علیه السّلام)ودخلا فلم تردَّ علیهما السلام وأدارت وجهها الی الحائط ، وناشدتهما وهی غاضبة ، ما سمعا من النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی من أغضبها فشهدا بذلک ، فأعلنت غضبها علیهما ومقاطعتها لهما ، وأنها ستشکوهما الی الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتدعو علیهما بعد کل صلاة !

فی کتاب سُلیم ص391: (فدخلا وسلَّما وقالا: إرضیْ عنا رضی الله عنک . فقالت: ما دعاکما إلی هذا ؟ فقالا: اعترفنا بالإساءة ، ورجونا أن تعفی عنا وتخرجی سخیمتک . فقالت: فإن کنتما صادقین فأخبرانی عما أسألکما عنه فإنی لا أسألکما عن أمر إلا وأنا عارفة بأنکما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنکما صادقان فی مجیئکما . قالا: سلی عما بدا لک . قالت: نشدتکما بالله هل سمعتما رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول:فاطمة بضعة منی فمن آذاها فقد آذانی؟ قالا: نعم. فرفعت یدها إلی السماء فقالت: اللهم إنهما قد آذیانی فأنا أشکوهما إلیک وإلی رسولک. لا والله لا أرضی عنکما أبداً حتی ألقی أبی رسول الله وأخبره بما صنعتما فیکون هوالحاکم فیکما ! قال:

فعند ذلک دعا أبو بکر بالویل والثبور وجزع جزعاً شدیداً. فقال عمر: تجزع یاخلیفة رسول الله من قول امرأة) . انتهی

وفی روایة علل الشرائع:1/187: (قالا نعم . قالت: الحمد لله ، ثم قالت: اللهم إنی أشهدک فاشهدوا یا من حضرنی أنهما قد آذیانی فی حیاتی وعند موتی ! والله لا

ص: 143

أکلمکما من رأسی کلمة حتی ألقی ربی فأشکوکما بما صنعتما بی وارتکبتما منی ! فدعا أبو بکر بالویل والثبور وقال: لیت أمی لم تلدنی ! فقال عمر: عجباً للناس کیف ولوک أمورهم وأنت شیخ قد خرفت ! تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها وما لمن أغضب إمرأة ! وقاما وخرجا ) !

وفی الغدیر:7/228، عن الإمامة والسیاسة:1/14، وأعلام النساء للجاحظ:3/1214: (قالت: فإنی أشهد الله وملائکته إنکما أسخطتمانی وما أرضیتمانی ، ولئن لقیت النبی لأشکونکما إلیه . فقال أبو بکر: أنا عائذ بالله تعالی من سخطه وسخطک یا فاطمة ! ثم انتحب أبو بکر یبکی حتی کادت نفسه أن تزهق ، وهی تقول: والله لأدعون علیک فی کل صلاة أصلیها . ثم خرج باکیاً فاجتمع الناس إلیه فقال لهم: یبیت کل رجل معانقاً حلیلته مسروراً بأهله وترکتمونی وما أنا فیه لاحاجة لی فی بیعتکم ، أقیلونی بیعتی ...). انتهی.

وفی البخاری:4/210، قال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):(فاطمة بضعة منی فمن أغضبها أغضبنی) !

وفی البخاری:4/41 ، عن عائشة: (فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بکر فلم تزل مهاجرته حتی توفیت . وعاشت بعد رسول الله(ص)ستة أشهر).

ص: 144

8 - یوم خطبت فی المسجد النبوی فهزَّت حتی الجماد !
اشارة

بلغت مواقف فاطمة(علیهاالسّلام)أوجها ، عندما خرجت خلف علیٍّ(علیه السّلام)وهددتهم بالدعاء بالعذاب علیهم ، إن قتلوه ، وهم یعلمون أن دعاءها لایُرد !

وعندما جاءا الی بیتها لیعتذرا ویقولا للناس إنا اعتذرنا من فاطمة فرضیت عنا وترکت دعاءها علینا ، فسلما علیها فلم ترد علیهما السلام ، وأدارت وجهها الی الحائط ! وسألتهما فشهدا بأنهما سمعا من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن من أغضب فاطمة فقد أغضبه ، ومن أغضبه فقد أغضب رب العلمین ، فشهدا بذلک !

فأعلنت وأشهدت المسلمین الی یوم الدین أنها غاضبة علیهما ، وأنها ستدعو علیهما بعد کل صلاة تصلیها حتی تلقی ربها وأباها ، فتشکوهما أمرَّ شکوی وأشدها| ، وتخاصمهما عند الله ورسوله !

علی أن أوج مواقفها(علیهاالسّلام)التی وصلت الینا کلاماً مکتوباً شاملاً ، خطبتها فی المسجد النبوی فی حشد المهاجرین والأنصار ! وقد أعدَّت بنت أبیها لهذا الموقف واستعدت ، فأبلغت بالخطاب ، وأتمت الحجة ، وهزت حتی الجماد !

وهی خطبة مشهورة ، روتها المصادر المختلفة ، وشرحها العلماء والمؤرخون فی رسائل خاصة ، وقد أدانت فیها الزهراء(علیهاالسّلام)نظام السقیفة القرشی ، وصرحت بأنه مؤامرة علی الإسلام ، ودعت الأنصار الی مقاومته بالسلاح !

کما أدانت قرارات أبی بکر الإقتصادیة لإضعاف أهل البیت(علیهم السّلام) ، ومنها منع الخمس عنهم ، ومصادرة أوقاف النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهی سبعة بساتین، ومصادرة مزرعة فدک التی منحها النبی لفاطمة ، ومنعه إیاها من إرث أبیها !

فی مواقف الشیعة للأحمدی:1/458: (روی عبد الله بن الحسن بإسناده ، عن

ص: 145

آبائه(علیهم السّلام) أنه لما أجمع أبو بکر وعمر علی منع فاطمة(علیهاالسّلام)فدکاً وبلغها ذلک ، لاثت خمارها علی رأسها واشتملت بجلبابها ، وأقبلت فی لُمَّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذیولها ، ماتخرم مشیتها مشیة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، حتی دخلت علی أبی بکر وهو فی حشد من المهاجرین والأنصار وغیرهم ، فنیطت دونها ملاءة ، فجلست ثم أنت أنَّةً أجهش القوم لها بالبکاء ، فارتجَّ المجلس ! ثم أمهلت هنیئة حتی إذا سکن نشیج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الکلام بحمد الله والثناء علیه والصلاة علی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فعاد القوم فی بکائهم ، فلما أمسکوا عادت فی کلامها ، فقالت(علیهاالسّلام):

الحمد لله علی ما أنعم ، وله الشکر علی ما ألهم ، والثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن أولاها ، جم عن الإحصاء عددها ، ونأی عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراک أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشکر لاتصالها واستحمد إلی الخلائق بإجزالها ، وثنی بالندب إلی أمثالها . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له ، کلمة جعل الإخلاص تأویلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار فی التفکر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤیته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام کیفیته ، ابتدع الأشیاء لامن شئ کان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها . کونها بقدرته، وذرأها بمشیته ، من غیر حاجة منه إلی تکوینها ، ولا فائدة له فی تصویرها ، إلا تثبیتاً لحکمته وتنبیهاً علی طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، تعبداً لبریته ، وإعزازاً لدعوته ، ثم جعل الثواب علی طاعته ، ووضع العقاب علی معصیته ، ذیادةً لعباده من نقمته ، وحیاشة لهم إلی جنته

وأشهد أن أبی محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عبده ورسوله ، اختاره قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغیب مکنونة ، وبستر الأهاویل مصونة، وبنهایة العدم مقرونة ، علماً من الله تعالی بمآیل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ،

ص: 146

ومعرفة بمواقع الأمور .

ابتعثه الله إتماما لأمره ، وعزیمة علی إمضاء حکمه ، وإنفاذا لمقادیر رحمته ، فرأی الأمم فرقاً فی أدیانها ، عکفاً علی نیرانها ، عابدةً لأوثانها ، منکرةً لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبی محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ظُلمها ، وکشف عن القلوب بُهمها ، وجلی عن الأبصار عماها، وقام فی الناس بالهدایة ، فأنقذهم من الغوایة ، وبصرهم من العمایة ، وهداهم إلی الدین القویم ودعاهم إلی الطریق المستقیم .

ثم قبضه الله إلیه قبض رأفة واختیار ، ورغبة وإیثار ، فمحمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من تعب هذه الدار فی راحة ، قد حُفَّ بالملائکة الأبرار ، ورضوان الرب الغفار ، ومجاورة الملک الجبار ، صلی الله علی أبی نبیه وأمینه وخیرته من الخلق وصفیه ، والسلام علیه ورحمة الله وبرکاته .

ثم التفتت إلی أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله ! نصب أمره ونهیه ، وحملة دینه ووحیه ، وأمناء الله علی أنفسکم وبلغاؤه إلی الأمم ، زعیم حق له فیکم ، وعهد قدمه إلیکم ، وبقیة استخلفها علیکم: کتاب الله الناطق ، والقرآن

الصادق ، والنور الساطع ، والضیاء اللامع ، بینة بصائره ، منکشفة سرائره ، منجلیة ظواهره ، مغتبطة به أشیاعه ، قائد إلی الرضوان اتباعه ، مؤد إلی النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المحذرة ، وبیناته الجالیة ، وبراهینه الکافیة ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المکتوبة .

فجعل الله الإیمان تطهیراً لکم من الشرک ، والصلاة تنزیهاً لکم عن الکبر ، والزکاة تزکیةً للنفس ونماء فی الرزق ، والصیام تثبیتاً للإخلاص ، والحج تشییداً للدین ، والعدل تنسیقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا أماناً للفرقة ، والجهاد عزاً للإسلام ، والصبر معونة علی استیجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبر الوالدین وقایة من السخط، وصلة الأرحام منسأةً فی العمر ومنماةً للعدد ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعریضاً للمغفرة ، وتوفیة المکائیل والموازین تغییراً

ص: 147

للبخس، والنهی عن شرب الخمر تنزیهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، ترک السرقة إیجاباً للعفة ، وحرم الله الشرک إخلاصاً له بالربوبیة فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وأطیعوا الله فیما أمرکم به ونهاکم عنه فإنه إِنَّمَا یَخْشَی اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .

ثم قالت: أیها الناس إعلموا أنی فاطمة وأبی محمداً ، أقول عوداً وبدواً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل شططاً لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبی دون نسائکم وأخا ابن عمی دون رجالکم ، ولنعم المعزی إلیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشرکین ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بأکظامهم ، داعیاً إلی سبیل ربه بالحکمة والموعظة الحسنة ، یجف الأصنام ، وینکث الهام ، حتی انهزم الجمع وولوا الدبر ، حتی تفری اللیل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعیم الدین ، وخرست شقاشق الشیاطین ، وطاح وشیظ النفاق ، وانحلت عقد الکفر والشقاق ، وفهتم بکلمة الإخلاص فی نفر من البیض الخماصر ، وکنتم علی شفا حفرة من النار ، مُذقةَ الشارب ، ونهزةَ الطامع ، وقبسةَ العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرَق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة خاسئین ، تخافون أن یتخطفکم الناس من حولکم ، فأنقذکم الله تبارک وتعالی بمحمد بعد اللتیا والتی ، وبعد أن مُنی ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الکتاب ، کُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ، أو نجم قرن الشیطان أو فغرت فاغرة من المشرکین ، قذف أخاه فی لهواتها ، فلا ینکفئ حتی یطأ صماخها بأخمصه ، ویخمد لهبها بسیفه ، مکدوداً فی ذات الله ، مجتهداً فی أمر الله ، قریباً من رسول الله ، سیداً فی أولیاء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً کادحاً ، لا تأخذه فی الله لومة لائم ، وأنتم فی رفاهیة من العیش وادعون فاکهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوکفون الأخبار ، وتنکصون عند النزال، وتفرون من القتال !!

فلما اختار الله لنبیه دار أنبیائه ومأوی أصفیائه ، ظهرت فیکم حسیکة النفاق ،

ص: 148

وسمل جلباب الدین، ونطق کاظم الغاوین ، ونبغ خامل الأقلین، وهدر فنیق المبطلین ، فخطر فی عرصاتکم ، وأطلع الشیطان رأسه من مغرزه هاتفاً بکم ، فألفاکم لدعوته مستجیبین ، وللغرة فیه ملاحظین، ثم استنهضکم فوجدکم خفافاً ، وأحمشکم فألفاکم غضاباً ، فوسمتم غیر إبلکم ، ووردتم غیر شربکم .

هذا ، والعهد قریب ، والکلم رحیب ، والجرح لما یندمل ، والرسول لما یُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْکَافِرِینَ . فهیهات منکم ، وکیف بکم ، وأنی تؤفکون ! وکتاب الله بین أظهرکم ، أموره ظاهرة ، وأحکامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهورکم ، أرغبة عنه تریدون ، أم بغیره تحکمون؟بِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلاً ! وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الأِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ !

ثم لم تلبثوا إلا ریث أن تسکن نفرتها ، ویسلس قیادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهیجون جمرتها ، وتستجیبون لهتاف الشیطان الغوی ، وإطفاء أنوار الدین الجلی ، وإهمال سنن النبی الصفی ، تشربون حسواً فی ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده فی الخمرة والضراء ، ویصبر منکم علی مثل حز المدی ووخز السنان فی الحشا . وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! أَفَحُکْمَ الْجَاهِلِیَّةِ (تبغون) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ ؟!

أفلا تعلمون؟! بلی ، قد تجلی لکم کالشمس الضاحیة إنی ابنته أیها المسلمون ! أأغلب علی إرثی یا ابن أبی قحافة ! أفی کتاب الله أن ترث أباک ولا أرث أبی؟ لقد جئت شیئاً فریاً ! أفعلی عمد ترکتم کتاب الله ونبذتموه وراء ظهورکم إذ یقول وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ ، وقال فیما اقتص من خبر یحیی بن زکریا(علیهماالسّلام)إذ قال: فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیّاً یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ ، وقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللهِ ، وقال: یُوصِیکُمُ اللهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَیَیْنِ ، وقال: إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ وَالأَقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حقاً عَلَی الْمُتَّقِینَ .

ص: 149

وزعمتم أن لاحظوة لی ولا إرث من أبی ولارحم بیننا ، أفخصکم الله بآیة أخرج منها أبی! أم تقولون أهل ملتین لایتوارثان! أو لست أنا وأبی من أهل ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبی وابن عمی؟!

فدونکها مخطومة مرحولة ، تلقاک یوم حشرک ! فنعم الحکم الله ، والزعیم محمد ، والموعدالقیامة، وعند الساعة یخسر المبطلون! ولاینفعکم إذ تندمون ، لِکُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ .

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: یامعشر الفتیة ، وأعضاد الملة ، وحضنة الإسلام ! ما هذه الغمیزة فی حقی والسنة عن ظلامتی ! أما کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أبی یقول: المرء یحفظ فی ولده ؟! سرعان ما أحدثتم ! وعجلان ذا إهالة ! ولکم طاقة بما أحاول ، وقوة علی ما أطلب وأزاول ، أتقولون مات محمد ؟ فخطبٌ جلیل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغیبته ، واکتأبت خیرة الله لمصیبته ، وکسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصیبته ، وأحدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضیع الحریم ، وأزیلت الحرمة عند مماته ، فتلک والله النازلة الکبری والمصیبة العظمی لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها کتاب الله جل ثناؤه یهتف فی أفنیتکم فی ممساکم ومصبحکم ، هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحاناً ! ولقبله ما حلت بأنبیاء الله ورسله ، حکم فصل وقضاء حتم ، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللهَ شیئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ .

إیهاً بنی قَیْلة ! أأهضم تراث أبی وأنتم بمرأی منی ومسمع ومنتدی ومجمع ، تلبسکم الدعوة وتشملکم الخبرة ، وأنتم ذووا العدد والعدة والأداة والقوة ، وعندکم السلاح والجنة ، توافیکم الدعوة فلا تجیبون ، وتأتیکم الصرخة فلا تغیثون ، وأنتم موصوفون بالکفاح ، معروفون بالخیر والصلاح ، والنخبة التی انتخبت ، والخیرة التی اختیرت لنا أهل البیت ! قاتلتم العرب ، وتحملتم الکد والتعب ، وناطحتم الأمم ،

ص: 150

وکافحتم البهم ، لا نبرح أو تبرحون نأمرکم فتأتمرون ، حتی إذا دارت بنا رحی الإسلام ، ودر حلب الأیام ، وخضعت ثغرة الشرک ، وسکنت فورة

الإفک ، وخمدت نیران الکفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدین ، فأنی حزتم بعد البیان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونکصتم بعد الإقدام ، وأشرکتم بعد الإیمان ؟!

بؤساً لقوم نَکَثُوا أَیْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ !

ألا قد أری أن قد أخلدتم إلی الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم بالضیق من السعة ، فمججتم ما وعیتم ، ودسعتم الذی تسوغتم ! فإن تَکْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِی الأَرْضِ جمیعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ ! وقد قلت ما قلت هذا علی معرفة منی بالجذلة التی خامرتکم ، والغدرة التی استشعرتها قلوبکم ، ولکنها فیضة النفس ، ونفثة الغیظ ، وخور القناة ، وبثة الصدر ، وتقدمة الحجة ، فدونکموها ! فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقیة العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التی تطلع علی الأفئدة ! فبعین الله ما تفعلون وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ !

أنا ابنة نذیر لکم بین یدی عذاب شدید فاعملوا إِنَّا عَامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ !

فأجابها أبو بکر وقال: یا ابنة رسول الله ! لقد کان أبوک بالمؤمنین عطوفاً کریماً رؤوفاً رحیماً ، وعلی الکافرین عذاباً ألیماً وعقاباً عظیماً ، إن عزوناه وجدناه أباک دون النساء ، وأخا إلفک دون الأخلاء ، آثره علی کل حمیم ، وساعده فی کل أمر جسیم ، لا یحبکم إلا سعید ولا یبغضکم إلا شقی بعید ، فأنتم عترة رسول الله الطیبون الخیرة المنتجبون ، علی الخیر أدلتنا وإلی الجنة مسالکنا ، وأنت یا خیرة النساء وابنة خیر الأنبیاء صادقة فی قولک ، سابقة فی وفور عقلک ، غیر مردودة عن حقک ، ولا مصدودة عن صدقک ، والله ما عدوت رأی رسول الله

ص: 151

ولا عملت إلا بإذنه ، وإن الرائد لا یکذب أهله ، فإنی أشهد الله وکفی به شهیداً أنی سمعت رسول الله یقول: نحن معاشر الأنبیاء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الکتاب والحکمة والعلم والنبوة ، وما کان لنا من طعمة فلولیِّ الأمر بعدنا أن یحکم فیه بحکمه. وقد جعلنا ما حاولته فی الکراع والسلاح یقاتل بها المسلمون ویجاهدون الکفار ویجالدون المردة الفجار ، وذلک بإجماع من المسلمین لم أنفرد به وحدی ، ولم أستبد بما کان الرأی فیه عندی ، وهذه حالی ومالی هی لک وبین یدیک لا نزوی عنک ولا ندخر دونک ، وإنک وأنت سیدة أمة أبیک ، والشجرة الطیبة لبنیک ، لا یُدفع مالک من فضلک ، ولا یُوضع فی فرعک وأصلک ، وحکمک نافذ فیما ملکت یدای ، فهل ترین أن أخالف فی ذلک أباک ؟!

فقالت(علیهاالسّلام):سبحان الله ! ماکان أبی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن کتاب الله صادفاً ، ولا لأحکامه مخالفاً ، بل کان یتبع أثره ، ویقفو سوره ، أفتجمعون إلی الغدر اعتلالاً علیه بالزور ! وهذا بعد وفاته شبیهٌ بما بُغی له من الغوائل فی حیاته !! هذا کتاب الله حکماً عدلاً وناطقاً فصلاً یقول: یرثنی ویرث من آل یعقوب ، ویقول: وورث سلیمان داود ، فبین عز وجل فیما وزع من الأقساط ، وشرع من الفرائض والمیراث ، وأباح من حظ الذکران والإناث ، ما أزاح به علة المبطلین ، وأزال التظنی والشبهات فی الغابرین !

کلا ! َبلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَی مَا تَصِفُونَ !

فقال أبو بکر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته ! أنت معدن الحکمة وموطن الهدی والرحمة ، ورکن الدین ، وعین الحجة ، لا أبعد صوابک ، ولا أنکر خطابک ، هؤلاء المسلمون بینی وبینک قلدونی ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غیر مکابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلک شهود !

ص: 152

فالتفتت فاطمة(علیهاالسّلام)إلی الناس وقالت: معاشر الناس المسرعة إلی قیل الباطل ، والمغضیة علی الفعل القبیح الخاسر ! أفلا یتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها ؟ کلا بل ران علی قلوبکم ما أسأتم من أعمالکم ، فأخذ بسمعکم وأبصارکم ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه اغتصبتم ، لتجدن والله محمله ثقیلاً وغبه وبیلاً ، إذا کشف لکم الغطاء وبان ما وراءه الضراء ، وبدا لکم من ربکم ما لم تکونوا تحتسبون ، وخسر هنالک المبطلون . ثم عطفت علی قبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقالت:

قد کان بعدک أنباءٌ وهنبثةٌ

لو کنت شاهدها لم تکثر الخطبُ

أبدت رجالٌ لنا نجوی صدورهم

لما مضیتَ وحالت دونک التربُ

تجهمتنا رجال واستخف بنا

لما فُقدتَ وکل الأرض مغتصبُ

وکنت بدراً ونوراً یستضاء به

علیک ینزل من ذی العزة الکتبُ

وکان جبرئیل بالآیات یؤنسنا

فقد فُقدتَ وکل الخیر محتجبُ

فلیت قبلک کان الموتُ صادفنا

لما مضیت وحالت دونک الکثبُ

ثم انکفأت وأمیر المؤمنین یتوقع رجوعها إلیه ویتطلع طلوعها علیه ، فلما استقرت بها الدار قالت لأمیر المؤمنین:

یا ابن أبی طالب ! اشتملت شملة الجنین ، وقعدت حجرة الظنین ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانک ریش الأعزل ، هذا ابن أبی قحافة یبتزنی نحلة أبی وبلغة ابنی ، لقد أجهد فی خصامی ، وألفیته ألدَّ فی کلامی ، حتی حبستنی قیْلةُ نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضت الجماعة دونی طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجْتُ کاظمة وعُدْتُ راغمة ! أضرعتَ خدک یوم أضعت حدک ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما کففتَ قائلاً ولا أغنیتَ طائلا ، ولا خیارَ لی ! لیتنی متُّ قبل هنیئتی ودون ذلتی ، عذیری الله منه عادیاً ومنک حامیاً ، ویلایّ فی کل شارق ! ویلای فی کل غارب ! مات العمد ووهن العضد ، شکوایَ إلی أبی وعدوایَ إلی ربی ! اللهم إنک أشد منهم قوةً وحولاً ، وأشد بأساً وتنکیلا .

ص: 153

فقال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): لا ویلَ لک ، بل الویلُ لشانئک ، ثم نهنهی عن وجدک یا ابنة الصفوة ، وبقیة النبوة ، فما ونیتُ عن دینی ، ولا أخطأتُ مقدوری ، فإن کنت تریدین البلغة فرزقک مضمون وکفیلک مأمون ، وما أعد لک أفضل مما قطع عنک ، فاحتسبی الله . فقالت: حسبی الله ، وأمسکت ). انتهی .

وقال فی شرح النهج:16/252: (فما رأینا یوماً أکثر باکیاً أو باکیة من ذلک الیوم).

ولهذه الخطبة وأجزائها مصادر عدیدة نکتفی منها بما ذکرنا وبالإحتجاج:1/131 .

تأثیر خطبة الزهراء(علیهاالسّلام)علی السلطة القرشیة !

من الثابت أن وضع السلطة القرشیة کان ضعیفاً فی الأسابیع الأولی ، وقد اعترف عمر بأن عامة الأنصار کانوا معارضین لهم ، فقال کما فی البخاری:8/26: (إنه قد کان من خبرنا حین توفی الله نبیه أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم فی سقیفة بنی ساعدة ، وخالف عنا علی والزبیر ومن معهما ). انتهی .

وعدَّ المؤرخون عشرات الصحابة من الأنصار والمهاجرین ، أدانوا السقیفة ، أو امتنعوا عن البیعة ، وإنما کان المعتصمون فی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام)بعضهم !

وقد هزَّت هذه الخطبة الفاطمیة وضع السلطة القرشیة الجدیدة ، وذکر الرواة أن البکاء عمَّ الناس ذلک الیوم ، وأن بعض الأنصار هتفوا باسم علی(علیه السّلام)للخلافة فخاف أبو بکر وعمر أن یتحرک الأنصار لنصرة عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والإطاحة بهم ! ولذلک بادر أبو بکر وخطب فنال من علی(علیه السّلام) بدون أن یسمیه ، وهدد الأنصار بطلقاء قریش المتکاثرین فی المدینة ! ولا بد أنهم قاموا بأعمال أخری حتی استطاعوا أن یهدئوا الوضع ، ویسکتوا أنصار فاطمة والعترة النبویة !

قال الجوهری فی السقیفة ص104: (فلما سمع أبو بکر خطبتها شق علیه مقالتها فصعد المنبر وقال: أیها الناس ما هذه الرعة إلی کل قالة ، أین کانت هذه الأمانی فی عهد رسول الله ، ألا من سمع فلیقل ، ومن شهد فلیتکلم ، إنما هو ثعالة

ص: 154

شهیده ذنبه ، مُرِبُّ لکل فتنة ، هو الذی یقول کرُّوها جذعة بعد ما هرمت ، یستعینون بالضعفه ، ویستنصرون بالنساء ، کأم طحال أحب أهلها إلیها البغی ، ألا إنی لو أشاء أن أقول لقلتُ ، ولو قلتُ لبُحْتُ ، إنی ساکت ما ترکت .

ثم التفت إلی الأنصار فقال : قد بلغنی یا معشر الأنصار مقالة سفهائکم ، وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءکم فآویتم ونصرتم ، ألا إنی لست باسطاً یداً ولا لساناً علی من لم یستحق ذلک منا . ثم نزل !). انتهی .

وقال فی شرح النهج:16/214، بعد نقل کلام أبی بکر هذا بروایة الجوهری :

(قلت: قرأت هذا الکلام علی النقیب أبی یحیی جعفر بن یحیی بن أبی زید البصری وقلت له: بمن یعرِّض؟ فقال: بل یصرح . قلت: لو صرح لم أسألک ! فضحک وقال: بعلی بن أبی طالب . قلت: هذا الکلام کله لعلی یقوله ! قال: نعم ، إنه الملک یا بنیَّ ، قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذکر علیٍّ فخاف من اضطراب الأمر علیهم ، فنهاهم .

فسألته عن غریبه ، فقال: أما الرِّعة بالتخفیف ، أی الإستماع والإصغاء ، والقالة: القول ، وثعالة: اسم الثعلب علم غیر مصروف ، ومثل ذؤاله للذئب ، وشهیده ذنبه أی لا شاهد له علی ما یدعی إلا بعضه وجزء منه ، وأصله مثلٌ ، قالوا: إن الثعلب أراد أن یغری الأسد بالذئب ، فقال: إنه قد أکل الشاة التی کنت قد أعددتها لنفسک وکنتُ حاضراً ، قال: فمن یشهد لک بذلک ؟ فرفع ذنبه وعلیه دم ، وکان الأسد قد افتقد الشاة . فقبل شهادته وقتل الذئب . ومُرب: ملازم ، أربَّ بالمکان .

وکرُّوها جذعة: أعیدوها إلی الحال الأولی ، یعنی الفتنة والهرج . وأم طحال: امرأة بغیٌّ فی الجاهلیة ویضرب بها المثل فیقال: أزنی من أم طحال). انتهی .

ص: 155

9 - یوم اشتد مرضها فجاءت نساء الأنصار والمهاجرین لعیادتها

فی معانی الأخبار للصدوق ص354:عن فاطمة بنت الحسین(علیه السّلام)قالت: ( لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله صلوات الله علیها ، اجمتع عندها نساء المهاجرین والأنصار فقلن لها: یا بنت رسول الله کیف أصبحت من علتک؟ فقالت:

أصبحت والله عائفة لدنیاکم قالیة لرجالکم ! لفظتهم قبل أن عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحد وخور القناة ، وخطل الرأی ، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله علیهم وفی العذاب هم خالدون !

لاجرم لقد قلَّدَتْهم ربقتها وشنَّنَت علیهم عارها ، فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمین ! ویحهم أنی زحزحوها عن رواسی الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحی الأمین ، والطبین بأمر الدنیا والدین ، ألا ذلک هو الخسران المبین ، وما نقموا من أبی حسن ؟! نقموا والله منه نکیر سیفه ، وشدة وطأته ، ونکال وقعته ، وتنمره فی ذات الله عز وجل ! والله لو تکافُّوا عن زمام نبذه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لاعتلقه ، ولسار بهم سیراً سُجحاً ، لایُکلم خشاشه ولا یُتعتع راکبه، ولأوردهم منهلاً نمیراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تخیَّر لهم الریَّ غیر متحل منه بطائل إلا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ولفتحت علیهم برکات السماء والأرض، وسیأخذهم الله بما کانوا یکسبون !

ألا هلمَّ فاسمع وما عشت أراک الدهر العجب وإن تعجب وقد أعجبک الحادث ، إلی أی سناد استندوا ؟ وبأیة عروة تمسکوا ؟ استبدلوا الذنابی والله بالقوادم ، والعجز بالکاهل ، فرغماً لمعاطس قوم یحسبون أنهم یحسنون صنعاً ! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَکِنْ لا یَشْعُرُونَ..أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لایَهِدِّی إِلا أَنْ یُهْدَی فَمَا لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ !

أما لعمری والله لقد لقحت ، فنظرةً ریثما تنتجوا ، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبیطاً وزعافاً ممقراً ، هنالک یخسر المبطلون ویعرف التالون غِبَّ ما أسس الأولون!

ص: 156

ثم طیبوا عن أنفسکم نفساً ، واطمأنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسیف صارم ، وهرج شامل واستبداد من الظالمین، یدع فیئکم زهیداً ، وزرعکم حصیداً ! فیاحسرتی لکم ، وأنی بکم وقد عُمِّیَت علیکم ، أنلزمکموها وأنتم لها کارهون) ! (ورواه الطوسی فی الأمالی ص374 ، والجوهری فی السقیفة ص120) .

ص: 157

10 - یوم أوصت علیاً أن یدفنها لیلاً سراً ولایأذن لهما بالصلاة علیها
اشارة

فی معانی الأخبار ص356 ، عن علی(علیه السّلام)قال: لما حضرت فاطمة الوفاة دعتنی فقالت: أمنفذٌ أنت وصیتی وعهدی؟ قال قلت: بلی أنفذها فأوصت إلیَّ وقالت: إذا أنا متُّ فادفنی لیلاً ، ولا تؤذننَّ رجلین ، ذکرتهما ).

وفی کتاب سلیم بن قیس ص392:(قال ابن عباس: فقبضت فاطمة من یومها فارتجَّت المدینة بالبکاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس کیوم قبض فیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). فأقبل أبو بکر وعمر یعزیان علیاً ویقولان له: یا أبا الحسن لاتسبقنا بالصلاة علی ابنة رسول الله.... فلما کان فی اللیل دعا علی العباس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعماراً ، فقدم العباس فصلی علیها ودفنوها . فلما أصبح الناس أقبل أبو بکر وعمر والناس یریدون الصلاة علی فاطمة(علیهاالسّلام)فقال المقداد: قد دفنا فاطمة البارحة . فالتفت عمر إلی أبی بکر فقال: ألم أقل لک إنهم سیفعلون؟! قال العباس: إنها أوصت أن لاتصلیا علیها ! فقال عمر: والله لاتترکون یا بنی هاشم حسدکم القدیم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التی فی صدورکم لن تذهب والله لقد هممت أن أنبشها فأصلی علیها ! فقال علی: والله لو رمت ذلک یابن صهاک لارجعتْ إلیک یمینک ! والله لئن سللت سیفی لا أغمدته دون إزهاق نفسک ، فَرُمْ ذلک ! فانکسر عمر وسکت ، وعلم أن علیاً إذا حلف صدق). انتهی .

وفی أمالی المفیدص281:عن الحسین(علیه السّلام)قال: ( فلما حضرتها الوفاة أوصت أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أن یتولی أمرها ویدفنها لیلاً ویعفی قبرها ! فتولی ذلک أمیر المؤمنین (علیه السّلام)ودفنها وعفی موضع قبرها ، فلما نفض یده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه علی خدیه ، وحول وجهه إلی قبررسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال:

السلام علیک یا رسول الله منی ، والسلام علیک من ابنتک وحبیبتک وقرة عینک وزائرتک ، والبائتة فی الثری ببقعتک ، والمختار لها الله سرعة اللحاق بک .

ص: 158

قلَّ یا رسول الله عن صفیتک صبری ، وضعف عن سیدة النساء تجلدی ، إلا أن فی التأسی لی بسنتک والحزن الذی حل بی بفراقک ، موضع التعزی ، فلقد وسدتک فی ملحود قبرک ، بعد أن فاضت نفسک علی صدری ، وغمضتک بیدی ، وتولیت أمرک بنفسی. نعم وفی کتاب الله أنعم القبول: إنا لله وإنا إلیه راجعون . لقد استرجعت الودیعة ، وأخذت الرهینة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء .

یا رسول الله ! أما حزنی فسرمد ، وأما لیلی فمسهد ، لا یبرح الحزن من قلبی ، أو یختار الله لی دارک التی أنت فیها مقیم . کَمَدٌ مُقیح ، وهَمٌّ مُهیج ، سرعان ما فرق بیننا وإلی الله أشکو! وستنبئک ابنتک بتضافر أمتک علیَّ ، وعلی هضمها حقها ، فاستخبرها الحال ، فکم من غلیل معتلج بصدرها لم تجد إلی بثه سبیلاً ! وستقولُ ویحکم الله ، وهو خیر الحاکمین .

سلام علیک یا رسول الله سلام مودع ، لا سئم ولا قالٍ ، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرین ، والصبر أیمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولین علینا لجعلت المقام عند قبرک لزاماً ، واللبث عنده معکوفاً ، ولأعولت إعوال الثکلی علی جلیل الرزیة ! فبعین الله تدفن ابنتک سراً ، وتهتضم حقها قهراً ، وتمنع إرثها جهراً ، ولم یطل العهد ولم یخل منک الذکر ! فإلی الله یا رسول الله المشتکی ، وفیک أجمل العزاء . وصلوات الله علیک وعلیها ، ورحمة الله وبرکاته ).

وفی روایة روضة الواعظین للنیسابوری ص151: ( فقالت: یا ابن عم إنه قد نعیت إلی نفسی لأری ما بی لا أشک ، إلا أننی لاحقة بأبی ساعة بعد ساعة ، وأنا أوصیک بأشیاء فی قلبی . قال لها علی: أوصنی بما أحببت یا بنت رسول الله ......

ثم قالت: جزاک الله عنی خیر الجزاء ، یا ابن عم أوصیک أولاً أن تتزوج بعدی بابنة أختی أمامة ، فإنها تکون لولدی مثلی، فإن الرجال لابد لهم من النساء...

ثم قالت: أوصیک أن لایشهد أحد جنازتی من هؤلاء الذین ظلمونی وأخذوا حقی فإنهم أعدائی وأعداء رسول الله ، وأن لایصلی علیَّ أحد منهم ولامن أتباعهم ،

ص: 159

وادفنی فی اللیل إذا هدأت العیون ونامت الأبصار . ثم توفیت صلوات الله علیها وعلی أبیها وبعلها وبنیها ، فصاحت أهل المدینة صیحة واحدة واجتمعت نساء بنی هاشم فی دارها ، فصرخن صرخة واحدة کادت المدینة أن تزعزع من صراخهن وهن یقلن: یاسیدتاه یا بنت رسول الله ! وأقبل الناس مثل عُرْف الفرس إلی علی وهو جالس والحسن والحسین بین یدیه یبکیان ، فبکی الناس لبکائهما ، وخرجت أم کلثوم وعلیها برقعة وتجر ذیلها متجللة برداء علیها تسحبه وهی تقول: یا أبتاه یا رسول الله ، الآن حقاً فقدناک فقداً لا لقاء بعده ، واجتمع الناس فجلسوا وهم یرجون وینظرون أن تخرج الجنازة فیصلون علیها .

وخرج أبو ذر فقال: إنصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها فی هذه العشیة فقام الناس وانصرفوا ، فلما أن هدأت العیون ومضی من اللیل أخرجها علی والحسن والحسین وعمار والمقداد وعقیل والزبیر وأبو ذر وسلمان وبریدة ، ونفر من بنی هاشم وخواصهم صلوا علیها ودفنوها فی جوف اللیل ، وسوَّی علیٌّ حوالیها قبوراً مزورة مقدار سبعة ، حتی لایعرف قبرها ) . انتهی.

أین هو قبر فاطمة ؟

لا أعرف أحداً استثمر موته وجنازته وموضع قبره فی معارضة السلطة ، کما استثمرت ذلک فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام) !

تقول بذلک للأجیال: إفهموا وفکروا لماذا غضبت فاطمة علیهم ، فقاطعتهم ولم تکلمهم حتی لقیت ربها وأباها ؟

ولماذا أوصت أن تدفن سراً حتی لا یحضروا جنازتها ولا یصلوا علیها ؟!

ولماذا أوصت أن یعفَّی قبرها ولا یعرف مکانه ؟

ولماذا عمل الأئمة من أولادها بوصیتها ، فلم یحددوا قبرها ولم یبنوه ؟

ص: 160

فاطمة الزهراء.. أعطاها الله ورسوله مقاماً عظیماً: سیدة نساء العالمین ، وسیدة نساء أهل الجنة ، واعترف به القریب والبعید ، وأثبتت بسمو شخصیتها وتمیز سلوکها ، أنها أهلٌ لهذا المقام ، وأنها حقاً أمَةُ الله الطیبة الطاهرة المبارکة ، التی بشرت بها التوراة والإنجیل ، وأن ذریة النبی الخاتم ستکون منها !

فما لها وقفت أشدَّ موقف من السلطة القرشیة بعد وفاة أبیها ؟ ورکزت غضبها علی زعامة قریش الجدیدة أبی بکر وعمر وصاحبهم فی مکة سهیل بن عمرو ؟! فاتهمتهما بأشد التهم ، ولم تقبل لهما عذراً ، ولاردَّت علیهما السلام عندما جاءاها معتذرین لها من الهجوم علی دارها ، ومصادرة أوقاف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفدک ومنعها من إرث أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! مع أن ردُّ سلام المسلم واجبٌ ، وقبول عذره لازم !

ولا نظنها کانت ستقبل لهم عذراً حتی لو أرجعوا لها الأوقاف وفدک ، فقضیتها معهم لیست أوقاف أبیها ولا مزرعة فدک !

فماذا تصنع فاطمة بفدک والأوقاف ، وهی من هی زهداً وعبادة ، وقد أخبرها أبوها أنها ستلتحق به عن قریب ؟!

فقضیتها أن تثبت للمسلمین أن الذی جلس مکان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لایؤتمن علی الدین والأمة ، لأنه سرق مزرعة من بنت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فأرسل مسلحین أخرجوا منها وکیلها ووضعوا وکیله بدله ! فیاویل بنات المسلمین ، ویا ویل الأمة !

قضیتها أنها تراهم غاصبین للخلافة التی هی حقٌّ من الله لزوجها وولدیها الحسن والحسین ، وبعدهما للأئمة من ذریتها الموعودین علی لسان أبیها !

تری سقیفتهم مؤامرةٌ وردَّةٌ قرشیة عن الإسلام ! ( فلما اختار الله لنبیه دار أنبیائه ومأوی أصفیائه ، ظهرت فیکم حسیکة النفاق... هذا والعهد قریب ، والکلْم رحیب ، والجرح لما یندمل ، والرسول لما یُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْکَافِرِینَ!...ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهیجون جمرتها ،

ص: 161

وتستجیبون لهتاف الشیطان الغوی ، وإطفاء أنوار الدین الجلی ، وإهمال سنن النبی الصفی ، تشربون حسواً فی ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده فی الخمرة والضراء ) !!

وتری الخسارات العظمی التی أوقعوها بالإسلام والأمة والعالم ، بإبعادهم علیاً عن الخلافة: (والله لو تکافُّوا عن زمام نبذه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لاعتلقه ، ولسار بهم سیراً سُجحاً ، لایکلم خشاشه ، ولایتعتع راکبه، ولأوردهم منهلاً نمیراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ، ولأصدرهم بطاناً قد تخیر لهم الریَّ غیر متحل منه بطائل ، إلا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ، ولفتحت علیهم برکات السماء والأرض، وسیأخذهم الله بما کانوا یکسبون )!

وقد سخرت الزهراء(علیهاالسّلام)من منطقهم القبلی الذی برروا فیه اختیارهم لأبی بکر فقالت: ( ألا هلمَّ فاسمع وما عشت أراک الدهر العجب... إلی أیِّ سِنَادٍ استندوا ، وبأیة عروة تمسکوا ، استبدلوا الذُّنابی والله بالقوادم ، والعجزَ بالکاهل ، فرغماً لمعاطس قوم یحسبون أنهم یحسنون صنعاً! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَکِنْ لایَشْعُرُونَ.. أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لایَهِدِّی إِلا أَنْ یُهْدَی فَمَالَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ وقد بلغت قضیتها المدی ، عندما دعت الأنصار علناً فی خطبتها القاصعة الی نصرتها ومقاومة سقیفة قریش وخلیفتها بقوة السلاح ، وإلا فهم ناکثون لبیعتهم لرسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یحموه ویحموا عترته ، ولا ینازعوا الأمر أهله الشرعیین ! فقد قالت لهم صراحةً:

( إیهاً بنی قَیْلة ! أأهضم تراث أبی وأنتم بمرأی منی ومسمع ، ومنتدی ومجمع ، تلبسکم الدعوة وتشملکم الخبرة ، وأنتم ذووا العدد والعدة ، والأداة والقوة ، وعندکم السلاح والجنة ، توافیکم الدعوة فلا تجیبون ، وتأتیکم الصرخة فلا تغیثون...) !!

ثم عرفتهم فداحة ما حدث ، وأنذرتهم غبَّ ما عملوا فقالت: ( أما لعمری والله لقد لقحت ، فنظرةً ریثما ننتجوا ، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبیطاً ، وزعافاً ممقراً ،

ص: 162

هنالک یخسر المبطلون ! ویعرف التالون غِبَّ ما أسس الأولون...! أنا ابنة نذیر لکم بین یدی عذاب شدید فاعملوا إِنَّا عَامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ !) .

إن وصیة فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)فی تجهیزها ودفنها وقبرها ، کانت عملاً من سلسلة أعمالها المقصودة فی خدمة قضیتها مع قریش الطلقاء ، أرادت أن تثیر به السؤال فی الأجیال لعلها تفهم ما أسسه الأولون وتردد مع الشاعر:

ولأی الأمور تدفن سراً

بضعة المصطفی ویعفی ثراها

بنتُ مَنْ أمُّ مَنْ حلیلةُ مَنْ

ویلٌ لمن سنَّ ظلمَها وأذاها

ص: 163

ص: 164

الفصل الرابع: الأحداث التی غطتها الحکومة أیام وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

اشارة

ص: 165

ص: 166

فهرس لأحداث أیام وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

حاولتُ أن أضع تقویماً زمنیاً لمراسم تغسیل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وتکفینه والصلاة علیه ودفنه ، یضم الأحداث الخطیرة التی وقعت أثناء ذلک وبعده ، الی أسبوعین من وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فوجدت ذلک مهمة صعبة ، لأن رواة الخلافة القرشیة حرصوا علی التعتیم علیها وتشویشها ! فجاءت نصوصها متضاربة ، ینفی بعضها الآخر !

وتذکرت ماجری للشیخ متولی شعراوی عندما قرأ فی محاضرته فی التلفزیون المصری کلام علی فی وداع فاطمة بعد دفنها(علیهماالسّلام)، وعلَّق علیه الشعراوی بأنه یدل علی وجود أحداث خطیرة بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ینبغی أن نکشفها !

والکلام الذی قرأه الشعراوی هو کلام أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الذی تقدم بعد دفنه فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام): (السلام علیک یارسول الله ، عنی وعن ابنتک النازلة فی جوارک....

وستنبئک ابنتک بتضافر أمتک علی هضمها ، فأحفها السؤال واستخبرها الحال ! هذا ولم یطل العهد ، ولم یخل منک الذکر...الخ. ). (وهو فی نهج البلاغة:2/182، وغیره) .

وفی الیوم الثانی لکلام الشعراوی خرجت صحیفة مصریة تتساءل: هل تشیع الشعراوی ؟! وبذلک أسکتوه عن البحث فی تلک الأحداث ، بل عن ذکرها !

فإذا کانت هذه حال عالم سنی معروف کالشعراوی ، وبعد ألف وأربع مئة سنة من الحادثة ، وفی مصر التی یحب شعبها أهل البیت وفاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)خاصة ! فما بال من یحاول کشف تلک الأحداث فی عصور حکم الخلافة القرشیة ؟!

ص: 167

إن العجیب حقاً هو ما وصل الینا ، ولیس العجیب ما أخفوه ولم یصل !

وهذا تقویم تقریبی لتلک الأحداث ، وهو قابل للإتساع:

1- یوم الأحد لَدَّتْ عائشة وحفصة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أی سقتاه(دواء)فی حال إغمائه رغم نهیه المشدد عن ذلک کما فی البخاری ! فلما أفاق من إغمائه غضب من فعلهما ، وأمر أن یسقی کل من کان موجوداً غیر بنی هاشم من ذلک الدواء ! وتدهورت حالة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعد ذلک حتی توفی فی ظهر یوم الإثنین ! (راجع صحیح البخاری:5/143و7/17، وغیره).

2 - کان عدد الطلقاء الذین أرسلهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی جیش أسامة سبع مئة نفر وأرسل أبا بکر وعمر وغیرهم ، وقد تباطأ قسم منهم عن الإلتحاق بمعسکر أسامة فی الجرف ، ثم ترک المعسکر من التحق منهم یوم الأحد ، وعادوا الی المدینة !

قال فی فتح الباری:8/116:(وعند الواقدی أیضاً أن عدة ذلک الجیش(جیش أسامة) کانت ثلاثة آلاف ، فیهم سبعمائة من قریش) . انتهی.

3 - باشر علی(علیه السّلام)بمراسم تجهیز النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعد ظهر الإثنین الی صباح الثلاثاء وأذن للمسلمین أن یصلوا علی جنازته فرادی ، من ضحی ذلک الیوم الی العصر ، ثم أخذ یواجه ضغط أبی بکر وعمر ومبعوثیهما ، ثم مجیئهما الی بیته یطالبونه ومن معه بالبیعة لهم ، ویهدودنه بالهجوم علی بیته إن لم یبایع !!

4 - دبَّر الحزب القرشی بیعة أبی بکر فی السقیفة بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بساعة أوساعتین فقط ! وساعدهم بعض الأوس حسداً لسعد بن عبادة رئیس الخزرج أن یصیر هو الخلیفة ! ولم یثبت أن سعداً أو أحداً من الأنصار دعا الی اجتماع فی السقیفة لبحث خلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، بل کانت السقیفة محل ضیافة سعد ، وهی

ص: 168

فسحة من الشارع مسقوفة سمیت باسم جیرانها بنی ساعدة الخزرجیین ، وکان سعد مریضاً نائماً فیها یزوره الناس ، فاختارها الحزب القرشی مکاناً للصفق علی ید أبی بکر لوجود سعد وبعض الأنصار حوله ، فترکا جنازة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأسرعا الی السقیفة ، وفتحا الموضوع وناقشا سعداً ومن حضر ، فقال بعض الأنصار لانبایع إلا علیاً ، وقال بعضهم إن لم تریدوا علیاً فالأنصار وسعد أولی منکم ، فبادر أبو بکر الی القول إنی رضیت لکم أحد الرجلین عمر أو أبا عبیدة فبایعوا أحدهما ! فقال عمر لا نتقدم علیک ، وأخذ یده وصفق علیها هو ثم أبو عبیدة ، ثم بایعه ثلاثة أشخاص من الأوس المضادین لسعد! ولم یعیروا بالاً لاعتراض سعد بن

عبادة زعیم الأنصار ! وهکذا أعلنوا بیعة أبی بکر التی بحیلة من غیر مشورة ، وساندهم کل القرشیین الطلقاء وکانو ألوفاً فی المدینة !

وقد سمع عمر فی أواخر خلافته أن بعضهم سیبادر بعد وفاته الی الصفق علی ید أحد وبیعته بالخلافة کما فعل هو فی السقیفة ، فخطب ووصف بیعة أبی بکر بأنها کانت فلتة ونجحت ، وأصدر أمراً بقتل من بادر الی مثلها !( البخاری:8/25) !

5 - اعترض سعد بن عبادة زعیم الأنصار وصاح رغم شدة مرضه ، وأدان تصرفهم ، لکن الحزب القرشی تغلبوا علیه وشتموه وداسوا بطنه ، فحمله أولاده الی بیته ! فاستولوا علی السقیفة وجعلوها مقراً لبیعة أبی بکر ، ومرکزاً لجلوسهم وعملیاتهم !

6 - ترک أبو بکر وعمر وکافة القرشیین الطلقاء جنازة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعترته ، وعشیرته بنی هاشم! حتی أن مسجد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومحیطه کان بعد وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) شبه خال ! وانشغل الصحابة إلا المنقطعون الی أهل البیت(علیهم السّلام) بتأیید بیعة أبی بکر أو معارضتها ، وانشغلت فعالیات الحزب القرشی وهم: أبو بکر ، وعمر ، وعائشة

ص: 169

وحفصة ، وأبو عبیدة ، وسالم مولی حذیفة ، ومعهم بعض الأوس ، بمعالجة موقف الأنصار ، وکانوا یزورون زعماءهم فی أحیائهم لإقناعهم ببیعة أبی بکر ، ومنع تأثیر سعد وعلی(علیه السّلام)علیهم !

7 - فی الیوم الثانی جاء أنصار أبی بکر وعمر من الطلقاء الی مسجد النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )مشمِّرین أزرهم یزفون أبا بکر زفةً مسلحة ، ویأخذون له البیعة بقوة السلاح ویهددون من لم یبایع بالقتل! وأصعد عمر أبا بکر علی منبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبایعه بعض الناس ، وصلی بهم المغرب ثم عاد الی السقیفة ، ولم یزوروا بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ولم یصلوا علی جنازته !

8 - مساء الثلاثاء لیلة الأربعاء قام علیٌّ(علیه السّلام)بدفن جنازة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعد منتصف اللیل ، وحضر مراسم الدفن بنو هاشم وبعض الأنصار ، ولم یحضرها أحد من قادة الحزب القرشی وجمهوره الطلقاء !

9 - فی لیلة الخمیس قام أمیر المؤمنین ومعه فاطمة والحسنان(علیهم السّلام) بجولة علی بیوت الأنصار وطالبوهم بالوفاء ببیعتهم للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وشرطه علیهم النصرة وأن یمنعوه وأهل بیته وذریته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مما یمنعون منه أنفسهم وذراریهم.. فاستجاب له منهم أربعة وأربعون رجلاً ، فطلب منهم أن یأتوه غداً محلقین رؤوسهم مستعدین للموت ، فلم یأته إلا أربعة !

ثم أعاد جولته علی الأنصار وبعض المهاجرین لیلة الجمعة ثم لیلة السبت ! فلم یأته غیر أولئک الأربعة: المقداد ، وعمار ، وأبو ذر ، وسلمان !

10 - فی هذ المدة أرسل الحزب القرشی الی أسامة وهو فی معسکره بالجرف خارج المدینة ، أن یغلق المعسکر ویأتی ومن بقی معه الی المدینة ،

ص: 170

ویبایعوا أبا بکر لأن المسلمین بایعوه ، فاحتج علیهم أسامة بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )توفی وأنا أمیر علی أبی بکر ، فأبو بکر ما زال جندیاً تحت إمرتی !

قال الطبرسی فی إعلام الوری:1/269: (فما کان بین خروج أسامة ورجوعه إلی المدینة إلا نحو من أربعین یوماً ، فلما قدم المدینة قام علی باب المسجد ثم صاح: یا معشر المسلمین ، عجباً لرجل استعملنی علیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فتأمَّر علیَّ وعزلنی ) ! انتهی .

11 - تخوف الحزب القرشی من علی(علیه السّلام)أن یجد أنصاراً وینهض ضدهم ، لذا تتابعت الیه رسل أبی بکر بالحضور الی السقیفة لیبایعه ، فکان یتعلل بأنه مشغول بمراسم دفن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم بجمع القرآن . لکنهم واصلوا الضغط علیه ، وصعَّدوا تهدیدهم ، وجاؤوا مسلحین فی جمع من الطلقاء الی باب داره مرات ، فتلاسن معهم بعض أنصاره ، لکنهم تغلبوا علیهم واقتحموا البیت بالقوة ، وأخذوا علیاً مقیداً الی السقیفة ، فحاججهم بقوة ، فسکتوا عنه ذلک الیوم .

وهذه الحادثة هی الهجوم الأول علی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام) ، وقد یکون وقتها یوم الأربعاء أو الخمیس !

12 - اتفق اثنا عشر صحابیاً من المهاجرین والأنصار علی أن یخطبوا فی المسجد النبوی فی یوم الجمعة التی تلت وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ویقیموا الحجة علی أبی بکر وعمر ، فتکلموا جمیعاً وبینوا وصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی(علیه السّلام)وبیعة المسلمین له یوم الغدیر ، وأدانوا مؤامرة السقیفة ! ففی الإحتجاج للطبرسی:1/97: (عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیهماالسّلام): جعلت فداک هل کان أحد فی أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أنکر علی أبی بکر فعله وجلوسه مجلس رسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ قال: نعم کان الذی أنکر علی أبی بکر اثنا عشر رجلاً: من

ص: 171

المهاجرین خالد بن سعید بن العاص ، وکان من بنی أمیة ، وسلمان الفارسی ، وأبو ذر الغفاری ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن یاسر، وبریدة الأسلمی .

ومن الأنصار: أبو الهیثم بن التیهان ، وسهل وعثمان ابنا حنیف ، وخزیمة بن ثابت ذو الشهادتین ، وأبی بن کعب ، وأبو أیوب الأنصاری .

قال: فلما صعد أبو بکر المنبر تشاوروا بینهم فقال بعضهم لبعض: والله لنأتینه ولننزلنه عن منبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلک إذاً أعنتم علی أنفسکم ، فقد قال الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ ، فانطلقوا بنا إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لنستشیره ونستطلع رأیه ، فانطلق القوم إلی أمیر المؤمنین بأجمعهم فقالوا: یا أمیر المؤمنین ترکت حقاً أنت أحق به وأولی به من غیرک ، لأنا سمعنا رسول الله یقول:علی مع الحق والحق مع علی یمیل مع الحق کیفما مال . ولقد هممنا أن نصیر إلیه فننزله عن منبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فجئناک لنستشیرک ونستطلع رأیک فما تأمرنا ؟ فقال أمیر المؤمنین: وأیم الله لو فعلتم ذلک لما کنتم لهم إلا حرباً ، ولکنکم کالملح فی الزاد وکالکحل فی العین.....

فانطلقوا بأجمعکم إلی الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبیکم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، لیکون ذلک أوکد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )إذا وردوا علیه .

فسار القوم حتی أحدقوا بمنبر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکان یوم الجمعة ، فلما صعد أبو بکر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتکلموا ، فقال الأنصار للمهاجرین: بل تکلموا وتقدموا أنتم ، فإن الله عز وجل بدأ بکم فی الکتاب.....

فأول من تکلم به خالد بن سعید بن العاص ، ثم باقی المهاجرین ، ثم بعدهم الأنصار.... فقام إلیه خالد بن سعید بن العاص (ابن العاص الأموی) وقال:

إتق الله یا أبا بکر ، فقد علمت أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال ونحن محتوشوه یوم بنی قریظة حین فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علی بن أبی طالب(علیه السّلام)یومئذ عدة

ص: 172

من صنادید رجالهم وأولی البأس والنجدة منهم: یامعاشر المهاجرین والأنصار إنی موصیکم بوصیة فاحفظوها ومودعکم أمراً فاحفظوه:ألا إن علی بن أبی طالب أمیرکم بعدی وخلیفتی فیکم بذلک أوصانی ربی . ألا وإنکم إن لم تحفظوا فیه وصیتی وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم فی أحکامکم واضطرب علیکم أمر دینکم ، وولیکم أشرارکم ! ألا وإن أهل بیتی هم الوارثون لأمری والعالمون لأمر أمتی من بعدی . اللهم من أطاعهم من أمتی وحفظ فیهم وصیتی فاحشرهم فی زمرتی ، واجعل لهم نصیباً من مرافقتی یدرکون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتی فی أهل بیتی فاحرمه الجنة التی عرضها کعرض السماء والأرض ! فقال له عمر بن الخطاب: أسکت یا خالد ، فلست من أهل المشورة ، ولا ممن یقتدی برأیه ! فقال

له خالد: بل أسکت أنت یا ابن الخطاب ، فإنک تنطق علی لسان غیرک ! وأیم الله لقد علمت قریش أنک من ألأمها حسباً ، وأدناها منصباً ، وأخسها قدراً ، وأخملها ذکراً ، وأقلهم غناءاً عن الله ورسوله ، وإنک لجبان فی الحروب ، بخیل بالمال ، لئیم العنصر ، مالک فی قریش من فخر ، ولا فی الحروب من ذکر ، وإنک فی هذا الأمر بمنزلة الشیطان: إِذْ قَالَ لِلإنسان اکْفُرْ فَلَمَّا کَفَرَ قَالَ إِنِّی بَرئٌ مِنْکَ إِنِّی أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِین . فَکَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِی النَّارِ خَالِدَیْنِ فِیهَا وَذَلِکَ جَزَاءُ الظَّالِمِینَ !! فأبلس عمر ! وجلس خالد بن سعید.....).الخ .

13 - من المرجح أن الهجوم الثانی وقع بعد احتجاج وجهاء الصحابة یوم الجمعة فی المسجد ، وهو الهجوم الذی أشعلوا فیه النار حول البیت ، ثم دفعوا الباب علی الزهراء(علیهاالسّلام)، وضربوها وأسقطوا جنینها ، ثم أخذوا علیاً(علیه السّلام)ثانیةً الی السقیفة وهددوه بالقتل إن لم یبایع أبا بکر !

14 - کان تأثیر احتجاج الصحابة الإثنی عشر فی المسجد قویاً ، فقد أحدث

ص: 173

موجة ضد مؤامرة السقیفة ، وضعف أبو بکر وانکسر أمام خطبهم ، ولزم بیته ثلاثة أیام ، وأخذ یلوم عمر علی توریطه فی الأمر ، حتی أنه وآخرون من الحزب القرشی فکروا أن یعیدوا الخلافة شوری بین المسلمین! لکن عمر وبخهم ودبَّر موجة لمصلحة الحزب القرشی ، فاتفق مع جماعة من البدو القریبین أن یدخلوا المدینة ویبایعوا أبا بکر! قال الطبری فی تاریخه:2/458:

(حدثنی أبو بکر بن محمد الخزاعی أن أسلمَ أقبلت بجماعتها حتی تضایقت بهم السکک فبایعوا أبا بکر، فکان عمر یقول: ماهوإلا أن رأیت أسلم فأیقنت بالنصر)!

15 - فی یوم الجمعة الثانیة لوفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خطب علی(علیه السّلام) فی مسجد النبی خطبته البلیغة القویة المعروفة ب- (خطبة الوسیلة) ! وکانت تأکیداً لإقامة الحجة علی أهل السقیفة وغیرهم ، بیَّن فیها مقام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأهل بیته(علیهم السّلام) عند الله ، ویوم القیامة ، وواجب الأمة تجاههم . وجاء فی مقدمتها قول الإمام الباقر(علیه السّلام)لجابر بن یزید الجعفی(رحمه الله): إسمع وع وبلغ حیث انتهت بک راحلتک إن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) خطب الناس بالمدینة بعد سبعة أیام من وفاة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وذلک حین فرغ من جمع القرآن وتألیفه ، فقال: الحمد لله الذی منع الأوهام أن تنال إلا وجوده ، وحجب العقول أن تتخیل ذاته ، لامتناعها من الشبه والتشاکل ، بل هو الذی لایتفاوت فی ذاته ولایتبعض بتجزئة العدد فی کماله...)الخ. وهی طویلة بلیغة . ( الکافی:8 /18).

16– أما مجئ الصدیقة الزهراء(علیهاالسّلام)الی المسجد ، وخطبتها القویة المشهورة ، فوقتها بعد أحداث السقیفة وهجومهم علی بیتها وضربها وإسقاط جنینها ! وبعد أن أجبروهم علی البیعة ، وشنوا علیهم حرباً اقتصادیة لإفقارهم ، فحرموهم الخمس الذی لهم ، وصادروا منهم أوقاف النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهی سبعة بساتین وکانت بیدهم، وصادروا منهم مزرعة فدک التی أعطاها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للزهراء(علیهاالسّلام)عندما نزل

ص: 174

قوله تعالی (وَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ) ، ومنعوها أن ترث من أبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أی شئ ، فرأت الصدیقة الزهراء(علیهاالسّلام)فی ذلک مناسبةً لأن تخطب فی المسجد ، وتؤکد إقامة الحجة علیهم ، وتفضح مؤامرتهم ، وقد تقدم ذلک !

17 - یبدو أن حادثة ضرب عمر للصدیقة الزهراء(علیهاالسّلام)کانت فی الطریق بعد یوم أو أکثر من خطبتها فی المسجد النبوی ، فقد ذهبت الی أبی بکر وکان وحده واحتجت علیه ، فکتب لها کتاباً بإرجاع فدک الیها ، فبلغ ذلک عمر ، فلحقها فی الطریق وضربها وأخذ منها الکتاب ومزقه !

ص: 175

أهل البیت(علیهم السّلام) ارتفعوا علی جراحهم

تعامل أهل البیت(علیهم السّلام) مع مقاطع هذه الموجة بنبل رسالی ، ونفذوا ما أمرهم به حبیبهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وسجلوا صبراً لا نظیر له ، فکظموا غیظهم وصبَّروا أنصارهم .

ثم ارتفعوا علی جراحهم ، فعملوا مخلصین فی تسییر سفینة الإسلام وفتوحاته !

قال علیٌّ(علیه السّلام)فی کتابه إلی أهل مصر مع مالک الأشتر لما ولاه إمارتها: ( أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وآله نذیراً للعالمین ، ومهیمناً علی المرسلین ، فلما مضی تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ماکان یلقی فی روعی ولا یخطر ببالی أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن أهل بیته ولا أنهم مُنَحُّوهُ عنی من بعده ، (یقصد(علیه السّلام)أن هذا کان أمراً غیرمعقول لایتصور) فما راعنی إلا انثیال الناس علی فلان یبایعونه ، فأمسکت یدی حتی رأیت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، یدعون إلی محق دین محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فخشیت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أری فیه ثلماً أوهدماً ، تکون المصیبة به علیَّ أعظم من فوت ولایتکم ، التی إنما هی متاع أیام قلائل ، یزول منها ما کان کما یزول السراب ، أوکما یتقشع السحاب ، فنهضت فی تلک الأحداث ، حتی زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدین وتَنَهْنَهْ).( نهج البلاغة:3/118).

وقال(علیه السّلام): ( اللهم إنی أستعدیک علی قریش ، فإنهم قد قطعوا رحمی ، وأکفؤوا إنائی ، وأجمعوا علی منازعتی حقاً کنت أولی به من غیری ، وقالوا ألا إن فی الحق أن تأخذه وفی الحق أن تُمنعه ، فاصبر مغموماً أومت متأسفاً ، فنظرت فإذا لیس لی رافد ولا ذابٌّ ولا مساعد إلا أهل بیتی ، فضننت بهم عن المنیة ، فأغضیت علی القذی ، وجرعت ریقی علی الشجی ، وصبرت من کظم

الغیظ علی أمَرِّ من العلقم ، وآلمِ للقلب من حزِّ الشفار ) . ( نهج البلاغة:2/202 )

وقال(علیه السّلام): (اللهم إنک تعلم أنه لم یکن الذی کان منا منافسة فی سلطان ، ولا

ص: 176

التماس شئ من فضول الحطام ، ولکن لنردَّ المعالم من دینک ، ونُظهر الإصلاح فی بلادک ، فیأمن المظلومون من عبادک ، وتقام المعطلة من حدودک . اللهم إنی أول من أناب وسمع وأجاب ، لم یسبقنی إلا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالصلاة وقد علمتم أنه لاینبغی أن یکون الوالی علی الفروج والدماء والمغانم والأحکام وإمامة المسلمین البخیل ، فتکون فی أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فیضلهم بجهله ، ولا الجافی فیقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول فیتخذ قوماً دون قوم ، ولا المرتشی فی الحکم فیذهب بالحقوق ویقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فیهلک الأمة). (نهج البلاغة:2/13) .

وقال(علیه السّلام): (ما رأیت منذ بعث الله محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) رخاءً فالحمد لله ، والله لقد خفت صغیراً ، وجاهدت کبیراً ، أقاتل المشرکین وأعادی المنافقین ، حتی قبض الله نبیه (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فکانت الطامة الکبری ! فلم أزل حذراً وجلاً أخاف أن یکون ما لایسعنی معه المقام ، فلم أرَ بحمد الله إلا خیراً . والله ما زلت أضرب بسیفی صبیاً حتی صرت شیخاً . وإنه لیصبِّرنی علی ما أنا فیه ، أن ذلک کله فی الله ورسوله ، وأنا أرجو أن یکون الروح عاجلاً قریباً ، فقد رأیت أسبابه ! قالوا: فما بقی بعد هذه المقالة إلا یسیراً حتی أصیب(علیه السّلام)).انتهی. (الإرشاد:1/284 وأضاف له فی المناقب:1/387: کنت أحسب صبیاً أن الأمراء یظلمون الناس ، فإذا الناس یظلمون الأمراء) !!

ص: 177

یصلون علی آل محمد فی صلاتهم ، ویهدرون دماءهم

کانت أول نتائج هذه الموجة: أن عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذین نزلت فیهم آیات الوحی ورووا فی أصح کتبهم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علمهم أن یقرنوهم به فیصلوا علیهم معه فی صلاتهم فقال: (قولوا اللهم صلِّ علی محمد وعلی آل محمد کما صلیت علی إبراهیم وعلی آل إبراهیم) ! (البخاری:6/345

، و:4/118).

ورووا احتفاءه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بنزول آیة التطهیر فیهم وأنه حددهم بأشخاصهم فأدار علیهم کساء وقال: (اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتک وبرکاتک علی محمد وعلی آل محمد إنک حمید مجید . قالت أم سلمة: فرفعت الکساء لأدخل معهم فجذبه من یدی وقال: إنک علی خیر) . (مسند أحمد:6/292و298).

هؤلاء العترة النبویة العظماء صلوات الله علیهم ، الذین کانت الأمة وما زالت تصلی علیهم فی صلواتها ، کان نصیبهم الهجوم علی دارهم والتهدید بالقتل إن لم یبایعوا ! فی غارة مبکرة ، افتتح بها القرشیون تاریخ الإسلام بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

ثم کان نصیبهم جمیعاً القتل تحت نجوم السماء ، فلم یمت منهم واحدٌ موتة طبیعیة ! ثم کان نصیب شیعتهم التکفیر والتقتیل والإضطهاد ، الی یومنا هذا !

والبادئ فی ذلک هو تحالف بطون قریش الذی هدر دم آل الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قبل أن تدفن جنازته ! وکان مستعداً لأن یحرق الدار علیهم ثمناً لبیعة رئیس عشیرة تیم ، بیعةً بلا نص ولا مشورة ، سماها عمر فلتة ، ودبرتها قریش خلسةً ، واختاروا لها وقت ذهول المسلمین بموت نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وذهول

أهل بیته(علیهم السّلام) وانشغالهم بمراسم جنازته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

وأعجب من ذلک: أن علیاً والزهراء(علیهماالسّلام) ، نفَّذا ما عاهدا علیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فاکتفیا بتسجیل ظلامتهما وحُجَّتهما ، فلم تَدْعُ الزهراء(علیهاالسّلام)علیهم بالعذاب ، وهی

ص: 178

المستجابة الدعاء ! ولم یستجر بنو هاشم بقبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )طالبین رفع ظلامتهم ، وهو من عادات العرب التی یحسبون لها حساباً !

ولم یجرِّد علیٌّ(علیه السّلام)ذا الفقار ، بل رأینا بطلَ بدرٍ وأحُدٍ والخندق وفاتح خیبر ، انقاد لأشخاص لا هم فرسان ولا شجعان ، یجرُّونه الی السقیفة بحمائل سیفه ، ولم یدفعهم عن نفسه بیده ولا سیفه ! ولو فعل لفرُّوا منه کالبغاث ! لکنه وفی بما التزم به لحبیبه المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أن لایدع التاریخ یجری بما هو أکثر سوءاً !

علی(علیه السّلام)یصف عهود أبی بکر و عمر و عثمان

وصف(علیه السّلام)فترة الثلاثین سنة التی تحمَّل فیها أهل البیت النبوی وشیعتهم أقسی مأساة جرت علی عترة بعد نبیها ، فقال فی خطبته المعروفة بالشقشقیة :

( أما والله لقد تقمصها ابن أبی قحافة وإنه لیعلم أن محلی منها محل القطب من الرحی ، ینحدر عنی السیل ولا یرقی إلی الطیر ، فسدلت دونها ثوباً وطویت عنها کشحاً ، وطفقت أرتئی بین أن أصول بید جذاء ، أوأصبر علی طخیة عمیاء ، یهرم فیها الکبیر ، ویشیب فیها الصغیر ، ویکدح فیها مؤمن حتی یلقی ربه !

فرأیت أن الصبر علی هاتا أحجی ، فصبرت وفی العین قذی ، وفی الحلق شجی ، أری تراثی نهباً ! حتی مضی الأول لسبیله فأدلی بها إلی ابن الخطاب بعده! ثم تمثل بقول الأعشی: شتانَ ما یومی علی کورها ویومِ حیانَ أخی جابرٍفیا عجباً بینا هو یستقیلها فی حیاته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشد ما تشطَّرا ضرعیها ! فصیرها فی حوزة خشناء یغلظ کلامها ویخشن مسها ، ویکثر العثار فیها ، والإعتذار منها ، فصاحبها کراکب الصعبة إن أشنق لها خَرَم ، وإن أسلس لها تقحَّم ، فمنی الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض ، فصبرت علی طول المدة وشدة المحنة . حتی إذا مضی لسبیله ، جعلها فی جماعة زعم أنی أحدهم ! فیا لله وللشوری متی اعترض الریب فی مع الأول منهم حتی صرت أقرن إلی هذه النظائر !

ص: 179

لکنی أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا ، فصغی رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره ، مع هَنٍ وهن !

إلی أن قام ثالث القوم نافجاً حضنیه ، بین نثیله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبیه یخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربیع ! إلی أن انتکث فتله ، وأجهز علیه عمله ، وکبت به بطنته ، فما راعنی إلا والناس کعرف الضبع إلیَّ ، ینثالون علی من کل جانب ، حتی لقد وطئ الحسنان وشُقَّ عطفای ، مجتمعین حولی کربیضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة ومرقت أخری وقسط آخرون ،کأنهم لم یسمعوا کلام الله حیث یقول :تِلْکَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأرض وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ . بلی والله لقد سمعوها ووعوها ، ولکنهم حلیت الدنیا فی أعینهم ، وراقهم زبرجها !

أما والذی فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقیام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقارُّوا علی کِظَّة ظالم ولا سَغَب مظلوم ، لألقیت حبلها علی غاربها ، ولسقیت آخرها بکأس أولها ، ولألفیتم دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز ) ! انتهی .

وقام إلیه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلی هذا الموضع من خطبته فناوله کتاباً فأقبل ینظر فیه . قال له ابن

عباس: یا أمیر المؤمنین لو اطَّرَدْتَ خطبتک من حیث أفضیت ؟ فقال: هیهات یا ابن عباس ، تلک شقشقة هدرت ثم قرت ! قال ابن عباس: فوالله ما أسفت علی کلام قط کأسفی علی هذا الکلام أن لا یکون أمیر المؤمنین بلغ منه حیث أراد ) !! (نهج البلاغة:1/31) .

هذه خلاصة موجزة لموجة الظلم والإضطهاد الأولی علی أهل البیت النبوی(علیهم السّلام) وأنصارهم! امتدت ثلاثین سنة، حتی جاءت الخلافة الی علی(علیه السّلام)خاضعة، واضطرت قریش أن تبایعه طائعة ، فکیف جرت الأحداث ؟!

ص: 180

الفصل الخامس: الموجة الثانیة من عداوة قریش للعترة

اشارة

ص: 181

ص: 182

الصحابة یثورون علی عثمان لتسلیطه قبیلته بنی أمیة علی مقدرات المسلمین !

عانت الأمة فی کل أقالیمها من تسلیط عثمان لأقاربه وقبیلته بنی أمیة علی أموال المسلمین وأبدانهم ، فقد کوَّنَ من مقربیه طبقة (قوارین) استاثرت بأموال الدولة والفتوحات ، حتی کان بعضهم یکسر الذهب بالفؤوس ! فی حین کان عامة المسلمین یعیشون الفاقة ، وبعضهم یعانون جوعاً حقیقیاً وعریاً حقیقیاً ! حتی کان أبرار الأمة کأویس القرنی(رحمه الله)یعتذرون الی الله تعالی من موت من یموت من المسلمین من الجوع والعری !

وقد استنکر الصحابة فی المدینة هذا الوضع ، وجاؤوا من الأمصار معترضین ! ونصحوا عثمان نصحاً ، ثم وبخوه توبیخاً ! ولما رأوا أن ذلک لاینفع ثاروا علیه وحاصروه فی دار الخلافة لأکثر من شهر ، طالبین منه أن یتوب ویصحح الأوضاع أو یخلع نفسه ، فلم یفعل فقتلوه ومنعوا دفنه فی مقابر المسلمین ! وخرجوا متظاهرین مطالبین علیاً(علیه السّلام)أن یتولی الخلافة .

قال علیٌّ(علیه السّلام)واصفاً هتاف المسلمین ومجیئهم الی بیته بعد مقتل عثمان:

( فأقبلتم إلیَّ إقبال العوذ المطافیل علی أولادها تقولون البیعة البیعة . قبضت کفی فبسطتموها ، ونازعتکم یدی فجاذبتموها) . ( نهج البلاغة:2/20) .

ومعنی العوذ المطافیل: الأمهات من الظباء والإبل وغیرها ذوات الأطفال ، التی تهرع من أجل أطفالها ، أوعند فقدها !

ص: 182

صور من الظلم فی عهد عثمان:

صحابة یکسرون الذهب بالفؤوس ، وناس یموتون من الجوع !

روی المحدثون والمؤرخون السنیون کثیراً من أعمال عثمان فی تسلیط بنی أمیة علی المسلمین ، وقصصاً من توزیعه أموال الدولة علی المقربین الیه من بنی أمیة وغیرهم کصهره عبد الرحمن بن عوف ، الذی اختاره للخلافة !

قال ابن سعد فی الطبقات:3/136:(إن عبد الرحمن بن عوف توفی وکان فیما ترک ذهبٌ قطع بالفؤوس ، حتی مَجَلت أیدی الرجال منه ). انتهی .

وجاء فی هامش بحار الأنوار:31/222: (قال الحلبی فی سیرته:2/87: وکان من جملة ما انتقم به علی عثمان أنه أعطی ابن عمه مروان بن الحکم مائة ألف ، وخمسین أوقیة . وروی البلاذری فی الأنساب:5/25 ، وابن سعد فی الطبقات:3/44: أن عثمان کتب لمروان بخمس مصر ، وأعطی أقرباءه المال ، وتأول فی ذلک الصلة التی أمر الله بها ، واتخذ الأموال (المزارع والعقارات)واستسلف من بیت المال ).

وقال ابن الأثیر فی الکامل:3/38: (وظهر بهذا أن عثمان أعطی عبد الله بن سعد خمس الغزوة الأولی ، وأعطی مروان خمس الغزوة الثانیة ، التی افتتحت فیها جمیع

إفریقیة ).

وفی روایة الواقدی وابن کثیر فی تاریخه:7/152: (صالح عثمان خمس إفریقیة بطریقها علی ألفی ألف دینار ، فأطلقها کلها عثمان فی یوم واحد لآل الحکم ، ویقال: لآل مروان ).

وفی تاریخ الطبری:5/50: (کان الذی صالحهم علیه ألفی ألف دینار وخمسمائة ألف دینار وعشرین ألف دینار.... إلی أن قال: کان الذی صالحهم عبد الله بن سعد علی ثلاثمائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحکم ، قلت: أو لمروان ؟

ص: 184

قال: لا أدری...). وقال الیعقوبی فی تاریخه:2/145: زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسید وأمر له بستمائة ألف درهم ، وکتب إلی عبد الله بن عامر أن یدفعها إلیه من بیت مال البصرة ! وجاء فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید: 1/67: أن عثمان أعطی أبا سفیان بن حرب مائتی ألف من بیت المال فی الیوم الذی أمر لمروان بن الحکم بمائة ألف من بیت المال . وأورد فیه أیضاً أنه أعطی عبد الله بن أبی سرح جمیع ما أفاء الله علیه فی فتح إفریقیة بالمغرب ، وهی من طرابلس الغرب إلی طنجة ، من غیر أن یشرکه فیه أحد من المسلمین !

وأورد البلاذری فی الأنساب:5/49 وابن کثیر فی تاریخه:7/157وغیرهما: أنه بعث عثمان إلی ابن أبی حذیفة بثلاثین ألف درهم وبجمل علیه کسوة ، فأمر فوضع فی المسجد وقال: یا معشر المسلمین ألا ترون إلی عثمان یخادعنی عن دینی ویرشونی علیه ! کما وقد ذکره شیخنا الأمینی فی غدیره:9/144 ، وأدرج فی:8/286 قائمة بجملة من هباته مع مصادرها ،( فقد أعطی لمروان500000 دینار ذهب ، و100000 درهم فضة ، ولابن أبی سرح 100000 دینار ، ولطلحة ضعفه مع ثلاثین ملیون درهم مرة ، وملیونین ومئتین ألف درهم فضة ، ولعبد الرحمن2560000 دینار ، ولیعلی بن أمیة نصف ملیون دینار ، ولزید بن ثابت مائة ألف دینار. . وهکذا دوالیک للحَکَم وآل الحَکَم ، والحارث ، وسعید ، والولید ، وعبد الله ، وأبی سفیان ، والزبیر وابن أبی الوقاص ، وغیرهم من حزبه وأعوانه یطول علینا درجها فضلا من إحصائها ). انتهی.

أقول: لا مانع شرعاً أن یملک الصحأبی ویتاجر فیکون من کبار الأثریاء ، لکن یجب أن یکون مصدر ماله من حلال ، وأن یراعی حالة الفقر الشدیدة التی کان المسلمون یعیشونها فی عصر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعده ! فقد کان الفقر عاماً فی عصر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی حد أن بعضهم لم یکن یملک ثوباً ستراً مناسباً ! روی الصدوق فی

ص: 185

مصادقة الإخوان ص36 بسنده قال: (أبطأ علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رجلٌ فقال: ما أبطأ بک ؟ فقال: العُرْیُ یا رسول الله ! فقال: أما کان لک جار له ثوبان فیعیرک أحدهما ؟ فقال بلی یا رسول الله ، فقال: ما هذا لک بأخ ) . انتهی .

لکن هل تغیر الحال بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی عامة الناس بالرغم من ملایین الفتوحات وصنادیق ذهبها فی عصر أبی بکر وعمر وعثمان ، وتحول الدولة الإسلامیة الی دولة کبری ؟!

تقول الشواهد التاریخیة الکثیرة إن حالة الغنی والیسر کانت محصورة بالخلیفة وبطانته ، وقادة الفتوحات وبطانتهم التی حولهم .

ونکتفی من الأمثلة بأویس القرنی الذی کان معاصراً لأبی بکر وعمر وعثمان ، والذی بشر به رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قبل أن یراه المسلمون ، وأوصاهم أن یبلغوه سلامه وأن یحرص أحدهم علی أن یحصل منه علی کلمة دعاء: (غفر الله لک) ! وقد دعا لبعض الصحابة ، ولم یدع لبعضهم ، فقد سجل الرواة مجتمع الکوفة فی عصره کان شدید الفقر ، ونصوصهم فی ذلک کثیرة وصحیحة ، وقد استعرضنا سیرته فی أول المجلد الرابع من العقائد الإسلامیة.

(کان إذا أمسی تصدق بما فی بیته من الفضل من الطعام والشراب ثم قال: أللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذنی به ، ومن مات عریاً فلا تؤاخذنی به).(حلیة الأولیاء:2/87).

( إن کان أویس القرنی لیتصدق بثیابه ، حتی یجلس عریاناً لایجد ما یروح فیه الی الجمعة ). (سیرأعلام النبلاء:4/29 وحلیة الأولیاء:2/83 ) .

(اللهم إنی أعتذر إلیک من کل کبد جائعة وجسد عار ، ولیس لی إلا ما علی ظهری ، وفی بطنی) .(مستدرک الحاکم:3/406 :والبیهقی فی شعب الإیمان:1/524) .

وفی لسان المیزان:1/280 وسیر أعلام النبلاء:33/294:(کان أویس یجالس رجلاً من فقهاء الکوفة یقال له یسیر ففقده ، فإذا هو فی خُص له قد انقطع من العری) !

ولذلک قال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن من أمتی من لایستطیع أن یأتی مسجده أومصلاه من

ص: 186

العری ، یحجزه إیمانه أن یسأل الناس ، منهم أویس القرنی).(أعلام النبلاء:4/29)

وهذا یدل علی أن ثروة الدولة والفتوحات کانت دُولةً بین فئة قلیلة ! أما عامة الناس ، خاصةً الذین لایداهنون

الخلیفة ورجاله کأویس القرنی ، فکانوا فی فقر مدقع ، وقد یعانی بعضهم من العری ، وقد یموت من الجوع !

والأخطر من الجوع والعری أن المسلم لم یکن له أمن علی حیاته ودمه من السلطة ، فقد یقتل الصحأبی أو التابعی بتلفیق شکایة علیه بأنه طعن فی الخلیفة !

وإذا کانت السلطة لاتعرف حرمةً للدم والکرامة فکیف تعرف حرمةً للمال ؟!

قال الحاکم فی المستدرک:3/405: (جاء رجل من مراد الی أویس القرنی فقال: السلام علیکم ، قال: وعلیکم . قال: کیف أنتم یا أویس؟ قال: الحمد لله . قال: کیف الزمان علیکم؟ قال: لا تسأل ! الرجل إذا أمسی لم یر أنه یصبح ، وإذا أصبح لم یر أنه یمسی ! یا أخا مراد ، إن الموت لم یبق لمؤمن فرحاً .

یا أخا مراد ، إن عرفان المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة ولا ذهباً .

یا أخا مراد ، إن قیام المؤمن بأمر الله لم یبق له صدیقاً ! والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنکر فیتخذوننا أعداء ، ویجدون علی ذلک من الفاسقین أعواناً ، حتی والله لقد یقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا یمنعنی ذلک أن أقول بالحق )! . انتهی .وقال ابن حبان فی المجروحین:3/151: (وکان ابن عم له یلزم السلطان تولع به ، فإن رآه مع قوم أغنیاء قال ما هوإلا یشاکلهم ! وإن رآه مع قوم فقراء ، قال ما هوإلا یخدعهم ! وأویس لایقول فی ابن عمه إلا خیراً)!.انتهی.

وقد تسأل لماذا قال أویس(رحمه الله): اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذنی به ، ومن مات عریاً فلا تؤاخذنی به ! فهل یموت أحدٌ من العری ؟!

والجواب: أن العریَ والجوع متلازمان ، وقد یجرُّ العریَ الی الجوع ، فیکون هو السبب الأساس للموت !

ص: 187

صورة من محاصرة الصحابة لعثمان وقتلهم إیاه !

قال ابن سعد فی الطبقات:3/71: (کان المصریون الذین حصروا عثمان ستمائة ، رأسهم الصحأبی عبد الرحمن بن عدیس البلوی ، وکنانة بن بشر بن عتاب الکندی ، وعمرو بن الحمق الخزاعی .

والذین قدموا من الکوفة مائتین ، رأسهم مالک الأشتر النخعی . والذین قدموا من البصرة مائة رجل ، رأسهم حکیم بن جبلة العبدی ) .

وقال ابن عبد البر فی الإستیعاب:2/411: (عبد الرحمن بن عدیس البلوی ، مصری شهد الحدیبیة ... ممن بایع تحت الشجرة رسول الله (ص) قال أبوعمر: هوکان الأمیر علی الجیش الذین حصروا عثمان وقتلوه ) . انتهی .

وفی مجمع الزوائد:9/95: (عن مالک یعنی ابن أنس قال: قتل عثمان فأقام مطروحاً علی کناسة بنی فلان ثلاثاً ، وأتاه اثنا عشر رجلاً منهم جدِّی مالک بن أبی عامر ، وحویطب بن عبد العزی ، وحکیم بن حزام ، وعبد الله بن الزبیر وعائشة بنت عثمان ، معهم مصباح فی حُق ، فحملوه علی باب وإن رأسه تقول علی الباب طَقْ طَقْ ، حتی أتوا البقیع فاختلفوا فی الصلاة علیه فصلی علیه حکیم بن حزام أوحویطب بن عبدالعزی ، شک عبدالرحمن . ثم أرادوا دفنه فقام رجل من بنی مازن فقال: لئن دفنتموه مع المسلمین لأخبرن الناس غداً !! فحملوه حتی أتوا به حِشَّ کوکب ، فلما دلوْه فی قبره صاحت عائشة بنت عثمان فقال لها ابن الزبیر: أسکتی فوالله لئن عدت لأضربن الذی فیه عینک ، فلما دفنوه وسووا علیه التراب ، قال لها ابن الزبیر: صیحی ما بدا لک أن تصیحی). انتهی. وقال: (رواه

ص: 188

الطبرانی وقال الحش البستان ، ورجاله ثقات ). (راجع المعجم الکبیر للطبرانی:1/78 ، وتاریخ دمشق:39/532 ، وتهذیب الکمال:19/457، وتلخیص الحبیر لابن حجر:5/275 ).

وهذا النص الموثق ، یدل علی مدی ما وصلت الیه نقمة الصحابة علی عثمان ، حیث ترکوا جنازته مرمیة ثلاثة أیام فی مکان غیر مناسب ، وحرَّموا الصلاة علیها ودفنها ! حتی تجرأ بضعة أشخاص فی اللیلة الثالثة فأخذوا جنازته لیلاً سراً عن المسلمین لیدفنوه فی البقیع ، وکانوا علی عجلة وخوف أن یشعر بهم المسلمون ، فرآهم شخص وهددهم بأنهم إن صلوا علیه أودفنوه فی مقابر المسلمین فسیخبر الصحابة والتابعین غداً ! فخافوا وهربوا بجنازته الی خارج البقیع ، وکسروا جدار بستان نخل لیهودی(حش کوکب)ودفنوه فیه طمّاً بلا لحد ولا لبن ، ولم یسمح ابن الزبیر لابنة عثمان أن تبکی أباها حتی لایسمع المسلمون بکاءها ، فیحضروا ویأخذوا الجنازة منهم ویرمونها !

وینبغی التحفظ فی أسماء الذین حضروا دفنه ، لأنهم کانوا یزعمون ذلک فیما بعد تقرباً الی معاویة ! وکذلک عدم ذکرهم حمایة علی(علیه السّلام)للذین دفنوه !

وفی روایة ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة:1/64: (فاحتملوه علی باب وإن رأسه لیقول: طق طق ، فوضعوه فی موضع الجنائز ، فقام إلیهم رجال من الأنصار فقالوا لهم: لا والله لاتصلون علیه....فاحتملوه ثم انطلقوا مسرعین.... فدفنوه ولم یلحدوه بلبن ، وحَثَوْا علیه التراب حثواً ). انتهی .

قال الأمینی(رحمه الله)فی الغدیر:9/93:(روی المدائنی فی کتاب مقتل عثمان: أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أیام ، وإن علیاً لم یبایع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أیام ، وأن حکیم بن حزام أحد بنی أسد بن عبد العزی ، وجبیر بن مطعم بن الحرث بن نوفل استنجدا بعلی علی دفنه ، فأقعد طلحة لهم فی الطریق ناساً بالحجارة

ص: 189

فخرج به نفر یسیر من أهله وهم یریدون به حائطاً بالمدینة یعرف بحش کوکب کانت الیهود تدفن فیه موتاهم ، فلما صار هناک رجم سریره وهموا بطرحه ، فأرسل علی إلی الناس یعزم علیهم لیکفوا عنه ، فکفوا فانطلقوا به حتی دفنوه فی حش کوکب . وأخرج المدائنی فی الکتاب قال: دفن عثمان بین المغرب والعتمة ، ولم یشهد جنازته إلا مروان بن الحکم وابنة عثمان وثلاثة من موالیه ، فرفعت ابنته صوتها تندبه وقد جعل طلحة ناساً هناک أکمنهم کمیناً فأخذتهم الحجارة وصاحوا: نعثل نعثل ! فقالوا: الحائط الحائط ، فدفن فی حائط هناک !

أخرج الواقدی قال: لما قتل عثمان تکلموا فی دفنه فقال طلحة: یدفن بدیر سلع. یعنی مقابر الیهود. ورواه الطبری فی تاریخه:5/143غیرأن فیه مکان طلحة: رجل). انتهی.

أقول: المرجح عندی روایة المدائنی،وقد رواها الطبری فی تاریخه:3/439 ، وجاء فی روایة أخری له: (حتی انتهوا إلی نخلات علیها حائط ، فدقوا الجدار ثم قبروه فی تلک النخلات...فذهبت نائلة ترید أن تتکلم فزبرها القوم وقالوا أنا نخاف علیه من هؤلاء الغوغاء أن ینبشوه ، فرجعت نائلة إلی منزلها ). انتهی .

وفی تاریخ الطبری:3/440 ، عن أبی عامر قال: (کنت أحد حملة عثمان حین قتل حملناه علی باب ، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به ، وإن بنا من الخوف لأمراً عظیماً حتی واریناه فی قبره فی حش کوکب ) . انتهی .

ص: 190

من نبل علی (علیه السّلام)فی محاصرة المسلمین لعثمان !

قال ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسیة:1/34: (أقام أهل الکوفة وأهل مصر بباب عثمان لیلاً ونهاراً ، وطلحة یحرض الفریقین جمیعاً علی عثمان . ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان لا یبالی ما حصرتموه ، وهویدخل إلیه الطعام والشراب ، فامنعوه الماء أن یدخل علیه ) !

وفی شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی:1/344: ( عن الزبیر أنه قیل له (أی لطلحة) إن عثمان محصور وإنه قد منع الماء ! فقال: وَحِیلَ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَا یَشْتَهُونَ کَمَا فُعِلَ بِأَشْیَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ کَانُوا فِی شَکٍّ مُرِیبٍ ) !

وفی أمالی الطوسی ص714: ( وقیل لعلی: إن عثمان قد منع الماء ، فأمر بالروایا فعُکمَت ، وجاء للناس علیٌّ فصاح بهم صیحةً فانفرجوا ، فدخلت الروایا ، فلما رأی علی اجتماع الناس ووجوههم ، دخل علی طلحة بن عبیدالله وهومتکئ علی وسائد ، فقال: إن هذا الرجل مقتول فامنعوه . فقال: أما والله ، دون أن تعطی بنوأمیة الحق من أنفسها ) !

أرسل عثمان وهو محاصر رسالة مع عبد الله بن عباس الی علی(علیه السّلام)، یسأله فیها الخروج إلی أرضه بینبع لیقلَّ هَتْفُ الناس باسمه للخلافة ، بعد أن کان سأله مثل ذلک من قبل ، فقال(علیه السّلام): یا ابن عباس ما یرید عثمان إلا أن یجعلنی جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل وأدبر !

بعث إلیَّ أن أخرج ، ثم بعث إلیَّ أن أقدم ، ثم هوالآن یبعث إلیَّ أن أخرج ! والله لقد دفعت عنه حتی خشیت أن أکون آثماً ).( نهج البلاغة:2/233).

وقال الشیخ محمد عبده فی هامشه: (کان الناس یهتفون باسم أمیر المؤمنین

ص: 191

للخلافة ، أی ینادون به وعثمان محصور ، فأرسل إلیه عثمان یأمره أن یخرج إلی ینبع ، وکان فیها رزق لأمیر المؤمنین فخرج ، ثم استدعاه لینصره فحضر ، ثم عاود الأمر بالخروج مرة ثانیة ) ! انتهی .

أقول: وقد نصح أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عثمان مرات ، نصیحة مشفق علی المسلمین وعلیه ، کما توسط مرات بینه وبین الصحابة والتابعین الشاکین ، وکان(علیه السّلام)یعطی الرأی الشرعی فی حل المشکلة ، ولکن حاشیة عثمان خاصة مروان بن الحکم ، کانوا یخربون ما یصلحه علی(علیه السّلام) ! وکانت آخر وساطات علی(علیه السّلام)بین عثمان والوفد المصری الواسع الذی جاء شاکیاً تعسف الوالی الأموی مطالباً بتغییره ، فخضع عثمان لمطلبهم ، وکتب مرسوماً بتعیین محمد بن أبی بکر حاکماً علی مصر ، وسافر الوالی الجدید مع الوفد ، لکنهم بعد مسافة قصیرة قبضوا علی مبعوث من عثمان یحمل رسالة الی الوالی الأموی فی مصر ، یأمره فیها بضرب أعناق الوفد المصری ومحمد بن أبی بکر ! فرجع المصریون الی المدینة غاضبین وانضم الیهم الناقمون من الصحابة وأهل الکوفة ، وحاصروا دار الخلافة مطالبین باستقالة عثمان !

ویظهر أن طلب عثمان الثانی من علی(علیه السّلام)أن یخرج من المدینة ، کان فی أواخر حصاره ، وأن علیاً(علیه السّلام)أطاعه ، فخرج الی بستان أنشأه خارج المدینة .

ففی أنساب الأشراف للبلاذری: ص206 ،(عن أبی المتوکل ، قال: قتل عثمان وعلی بأرض له یقال لها البغیبغة ، فوق المدینة بأربعة فراسخ ، فأقبل علیٌّ فقال له عمار بن یاسر: لتنصبنَّ لنا نفسک أولنبدأن بک ، فنصب لهم نفسه فبایعوه).انتهی.

وما نقله عن عمار قد یکون کلام غیره ، فعمار(رحمه الله)أجلُّ من ذلک .

وفی کمال الدین للصدوق ص546 ، عن أبی الدنیا: (لما حوصر عثمان بن عفان

ص: 192

فی داره دعانی فدفع إلی کتاباً ونجیباً وأمرنی بالخروج إلی علی بن أبی طالب وکان غائباً بینبع فی ضیاعه وأمواله ، فأخذت الکتاب وسرت حتی إذا کنت بموضع یقال له: جدار أبی عبایة فسمعت قرآناً فإذا أنا بعلی بن أبی طالب یسیر مقبلاً من ینبع وهو یقول: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاکُمْ عَبَثاً وَأَنَّکُمْ إِلَیْنَا لا تُرْجَعُونَ ، فلما نظر إلی قال: یا أبا الدنیا ما وراءک ؟ قلت: هذا کتاب أمیر المؤمنین عثمان ، فأخذه فقرأه فإذا فیه: فإن کنتُ مأکولاً فکن أنت آکلی...وإلا فأدرکنی ولما أمزَّقِ

فإذ قرأه قال: برَّ سرَّ ، فدخل إلی المدینة ساعة قتل عثمان بن عفان فمال إلی حدیقة بنی النجار ، وعلم الناس بمکانه فجاؤوا إلیه رکضاً وقد کانوا عازمین علی أن یبایعوا طلحة بن عبید الله ، فلما نظروا إلیه ارفضُّوا إلیه ارفضاض

الغنم یشد علیها السبع ، فبایعه طلحة ثم الزبیر ، ثم بایع المهاجرون والأنصار ) . انتهی.

وفی الأنساب للبلاذری:5/81: عن ابن سیرین: لم یکن من أصحاب النبی(ص) أشد علی عثمان من طلحة ) !

وفی شرح نهج البلاغة:9/35: (روی أن عثمان قال: ویلی علی ابن الحضرمیة یعنی طلحة ، أعطیته کذا وکذا بهاراً ذهباً ، وهویروم دمی یحرض علی نفسی ! اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغیه ) . انتهی .

والبهار جلد ثور ، یوضع فیه الذهب غیر المسکوک ، وقد یصل الی300 کیلو .

قال الأمینی فی الغدیر:9/96: (أخرج البلاذری من طریق یحیی بن سعید قال: کان طلحة قد استولی علی أمر الناس فی الحصار ، فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، إلی علی بهذا البیت:

وإن کنتُ مأکولاً فکن أنت آکلی

وإلا فأدرکنی ولمَّا أمَزَّقِ

ص: 193

وقال أبومخنف: صلی علی بالناس یوم النحر وعثمان محصور فبعث إلیه عثمان ببیت الممزق ، وکان رسوله به عبد الله بن الحارث ، ففرق علی الناس عن طلحة ، فلما رأی ذلک طلحة دخل علی عثمان فاعتذر ، فقال له عثمان: یا ابن الحضرمیة ! ألَّبْتَ علیَّ الناس ودعوتهم إلی قتلی ، حتی إذا فاتک ما ترید جئت معتذراً ، لا قبل الله ممن قبل عذرک .

الأنساب:5/77 ). انتهی .

وفی کتاب الجمل للمفید ص232: (وروی محمد بن إسحاق عن أبی جعفر الأسدی ، عن أبیه عن عبد الله بن جعفر، قال: کنت مع عثمان وهومحصور ، فلما عرف أنه مقتول بعثنی وعبد الرحمن بن أزهر إلی علی(علیه السّلام)وقد استولی طلحة علی الأمر وقال: إنطلقا وقولا له: إنک أولی بالأمر من ابن الحضرمیة ، فلا یغلبنک علی أمر ابن عمک ).انتهی.

علی(علیه السّلام)یستجیب لإصرار الصحابة والتابعین علی بیعته !

بعد خمسة أیام أوثمانیة أیام من مقتل عثمان ، وإصرار الصحابة علی علی (علیه السّلام)أن یقبل البیعة وینهض لإصلاح الأمور أجابهم(علیه السّلام)وبایعه فی المسجد الذین بایعوا أبا بکر ، وخطب فقال(علیه السّلام):

( ذمتی بما أقول رهینة وأنا به زعیم ، إن من صرحت له العبر عما بین یدیه من المثلات ، حجزته التقوی عن تقحم الشبهات . ألا وإن بلیتکم قد عادت کهیئتها یوم بعث الله نبیکم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! والذی بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ، ولتغربلن غربلة ، ولتساطن سوط القدر ، حتی یعود أسفلکم أعلاکم وأعلاکم أسفلکم ، ولیسبقن سابقون کانوا قصروا ، ولیقصرن سباقون کانوا سبقوا ! والله ما کتمت وشمة ، ولا کذبت کذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا الیوم ! ألا وإن الخطایا خیل شمس حمل علیها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم فی النار . ألا وإن التقوی مطایا ذلل حمل علیها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة. حقٌّ وباطلٌ ولکل أهل ، فلئن أمر الباطل لقدیماً فعل،

ص: 194

ولئن قل الحق فلربما ولعل ، ولقلما أدبر شئ فأقبل ) . ( نهج البلاغة:1/46 ) .

وروی فی کنز العمال:5/747 ، عن اللالکائی عن محمد بن الحنیفة قال: لما قتل عثمان استخفی علیٌّ فی دار لأبی عمرو بن حصین الأنصاری فاجتمع الناس فدخلوا علیه الدار ، فتداکُّوا علی یده لیبایعوه تداکک الإبل البُهْم علی حیاضها... وقالوا إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد لهذا الأمر أحق منک ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب برسول الله برحم منک . قال: لاتفعلوا فإنی وزیراً لکم خیراً لکم منی أمیراً ، قالوا: والله ما نحن بفاعلین أبداً حتی نبایعک ! وتداکُّوا علی یده ، فلما رأی ذلک قال: إن بیعتی لا تکون فی خلوة إلا فی المسجد ظاهراً ، وأمر منادیاً فنادی المسجد ، فخرج وخرج الناس معه فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه ، ثم قال: حق وباطل ولکل أهل ، ولئن کثر الباطل لقدیماً فعل....الخ. فهی أول خطبة خطبها بعد ما استخلف ). انتهی.

ص: 195

علی(علیه السّلام)یعید العهد النبوی فی احترام حقوق الإنسان !

لا إجبار عند علیٍّ علی بیعة، ولاحطبٌ عنده ، ولا حرقُ بیوت !

فواجبه الأول هو إعادة الإرادة الحرة للإنسان المسلم ، التی صادرها زعماء قریش بمجرد أن أغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عینیه !

وکیف یجبر علیٌّ أحداً علی بیعته ، وهو الإنسان الصافی الإنسانیة ، أباً عن جد من أبی طالب الی إبراهیم ، والی آدم(علیهم السّلام) ، والمؤمن بمحمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وما أنزل علیه والمستوعب لقضیة الإنسان وحقوقه المقدسة فی شریعة الإسلام .

کیف یجبر أحداً علی بیعته وهو التقی الذی یخاف من معصیة ربه فی نملة یسلبها جلب شعیر ، فکیف بالتعدی علی حق إنسان له کرامته وحرمته عند الله ؟!

وهو الصادق عندما قصَّ للمسلمین علی المنبر قصة الأشعث زعیم کندة ، الذی أراد أن یرشیه لیولیه علی منطقة من مناطق المسلمین ، فوسط له الوسطاء ، وتملق الیه بالکلام ، وجاءه بطبق حلوی !

قال(علیه السّلام): (وأعجب من ذلک طارق طرقنا بملفوفة فی وعائها ، ومعجونة شنئتها ، کأنما عجنت بریق حیة أوقیئها (یقصد قطر السکَّر فیها) ، فقلت أصلةٌ أم زکاةٌ أم صدقة ، فذلک محرم علینا أهل البیت . فقال: لا ذا ولا ذاک ولکنها هدیة . فقلت: هبلتک الهبول ، أعن دین الله أتیتنی لتخدعنی ، أمختبط أنت أم ذوجنة أم تهجر ! والله لو أعطیت الأقالیم السبعة بما تحت أفلاکها علی أن أعصی الله فی نملة أسلبها جلب شعیرة ما فعلت ، وإن دنیاکم عندی لأهون من ورقة فی فم جرادة تقضمها ! ما لعلیٍّ ولنعیم یفنی ولذة لاتبقی) !(نهج البلاغة:2/18)

لقد کان علی(علیه السّلام)الخلیفة الوحید الذی لم یجبر أحداً علی بیعته ، ففضح بذلک اضطهاد مَن قبله ومَن بعده للمسلمین ، ومصادرتهم لحریاتهم !

ص: 196

قالوا له: إن عبدالله بن عمر وسعد بن وقاص وأسامة بن زید تخلفوا عن بیعته ، واستأذنه عمار بن یاسر أن یأتی بهم لیجبرهم علی البیعة کما جرت سنة قریش ! فقال له: (دع عنک هؤلاء الرهط الثلاثة ، أما ابن عمر فضعیف فی دینه ، وأما سعد بن أبی وقاص فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبی إلیه أنی قتلت قاتل أخیه ، مرحباً یوم خیبر) . ( المعیار والموازنة للإسکافی ص108) .

وکان علی(علیه السّلام)الخلیفة الوحید ، الذی أعطی الحریة لمعارضیه وناقدیه والعاملین ضده ، ولم ینقص من حقوقهم من بیت المال ولا غیره شیئاً ، حتی لودعوا الی الخروج علیه والثورة ، مالم یباشروا فی ذلک !

(کان(علیه السّلام)جالساً فی أصحابه ، فمرت بهم امرأة جمیلة فرمقها القوم بأبصارهم ! فقال(علیه السّلام): إن أبصار هذه الفحول طوامح ، وإن ذلک سبب هُبابها ، فإذا نظر أحدکم إلی امرأة تعجبه فلیلامس أهله ، فإنما هی امرأة کامرأة !

فقال رجل من الخوارج: قاتله الله کافراً ما أفقهه ! فوثب القوم لیقتلوه ، فقال(علیه السّلام): رویداً ، إنما هوسبٌّ بسب ، أوعفوٌ عن ذنب ) . ( نهج البلاغة:4/98 )

وبهذه الحریة التی أعطاها أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لخصومه ، فضح القرشیین الذین بطشوا بالناس للتهمة والظنة ، وقتلوهم علی الکلمة ، وجعلوا رئیس الدولة أعظم حرمةً من الله تعالی ورسله !

وکان علی(علیه السّلام)الخلیفة الوحید الذی لم یجبر أحداً من المسلمین علی الحرب معه ، بل ندب المسلمین الی نصرته ، وأوضح لهم حقه وباطل أعدائه ، فاستجاب له من أراد ، وتخلف عنه من أراد ! ولم یُنقص من حقوقهم شیئاً !

ففضح بذلک سیاسة إجبار الناس علی القتال ، التی وجدت قبل حکمه ، ثم

ص: 197

تفاقمت بعده ، حتی وصلت الی أن: ( بشر بن مروان بن الحکم کان إذا ضرب البعث علی أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمرکزه ، أقامه علی کرسی ثم سمَّر یدیه فی الحائط ثم انتزع الکرسی من تحت رجلیه ، فلا یزال یتشحط حتی یموت ! وإنه ضرب البعث علی رجل حدیث عهد بعرس ابنة عمه ، فلما صار فی مرکزه کتب إلی ابنة عمه کتاباً ، ثم کتب فی أسفله:

لولا خلافةُ بشرٍ أو عقوبتُه

وأن یری حاسدٌ کفی بمسمار

إذاً لعطلت ثغری ثم زرتکم

إن المحب إذا ما اشتاق زوَّار ) .

(تاریخ دمشق:10/256)

ص: 198

علی(علیه السّلام)یلغی تمییز عمر بین المسلمین فی العطاء

وعلی(علیه السّلام)هو الخلیفة الوحید الذی أعاد العدالة النبویة فی التسویة بین المسلمین فی العطاء ، بعد أن میزوا بینهم بعناوین ألبسوها ثوباً دینیاً وشرفاً قبلیاً ! فمن کلام له(علیه السّلام)فی أواخر خلافته لما عوتب علی التسویة فی العطاء: (أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولیت علیه ، والله ما أطُورُ به ما سمَر سمیر ، وما أمَّ نجمٌ فی السماء نجماً . لوکان المال لی لسویت بینهم ، فکیف وإنما المال مال الله . ألا وإن إعطاء المال فی غیر حقه تبذیر وإسراف ، وهو یرفع صاحبه فی الدنیا ویضعه فی الآخرة ، ویکرمه فی الناس ویهینه عند الله ! ولم یضع امرؤ ماله فی غیر حقه ولا عند غیر أهله إلا حرمه الله شکرهم ، وکان لغیره ودهم ، فإن زلت به النعل یوماً فاحتاج إلی معونتهم ، فشرُّ خدین وألامُ خلیل ! ) . (نهج البلاغة:2/6) .

ولم یمیز نفسه ولا عشیرته بنی هاشم عن فقراءالمسلمین

وعلی(علیه السّلام)هو الخلیفة الوحید ، الذی لم یمیز نفسه وقبیلته عن عامة المسلمین بدرهم واحد ، وکان بعضهم فی حاجة ماسة ! فمن کلام له(علیه السّلام):

(والله لأن أبیت علی حسک السعدان مسهداً ، وأجرًّ فی الأغلال مصفداً ، أحبُّ إلی من أن ألقی الله ورسوله یوم القیامة ظالماً لبعض العباد ، أوغاصباً لشئ من الحطام . وکیف أظلم أحداً لنفس یسرع إلی البلی قفولها ، ویطول فی الثری حلولها ! والله لقد رأیت عقیلاً وقد أملق ، حتی استماحنی من برکم صاعاً ، ورأیت صبیانه شعث

الشعور غُبر الألوان من فقرهم ، کأنما سُوِّدت وجوههم بالعِظْلم ، وعاودنی مؤکداً وکرر علی القول مردداً ، فأصغیت إلیه سمعی فظن أنی أبیعه دینی وأتبع قیاده مفارقاً طریقتی ، فأحمیت له حدیدة ثم أدنیتها من جسمه لیعتبر بها ، فضج ضجیج ذی دنف من ألمها وکاد أن یحترق من میسمها ! فقلت له: ثکلتک الثواکل یا عقیل أتئن من

ص: 199

حدیدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرنی إلی نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذی ولا أئن من لظی). (نهج البلاغة:2/216) .

وفی تاریخ الیعقوبی:2/183: (وأعطی الناس بالسویة لم یفضل أحداً علی أحد ، وأعطی الموالی کما أعطی الصلبیة ، وقیل له فی ذلک فقال: قرأت ما بین الدفتین

فلم أجد لولد إسماعیل علی ولد إسحاق فضل هذا ، وأخذ عوداً من الأرض ، فوضعه بین إصبعیه) . انتهی .

وروی فی دعائم الإسلام:1/384: أن علیاً(علیه السّلام)أمر عمار بن یاسر ، وعبید الله بن أبی رافع ، وأبا الهیثم بن التیهان ، أن یقسموا فیئاً بین المسلمین ، وقال لهم: إعدلوا فیه ولا تفضلوا أحد علی أحداً . فحسبوا فوجدوا الذی یصیب کل رجل من المسلمین ثلاثة دنانیر ، فأعطوا الناس . فأقبل إلیهم طلحة والزبیر ومع کل واحد منهما ابنه ، فدفعوا إلی کل واحد منهم ثلاثة دنانیر ، فقال طلحة والزبیر: لیس هکذا کان یعطینا عمر ، فهذا منکم أو عن أمر صاحبکم ؟ قالوا: بل هکذا أمرنا أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، فمضیا إلیه فوجداه فی بعض أمواله قائماً فی الشمس علی أجیر له یعمل بین یدیه ، فقالا: تری أن ترتفع معنا إلی الظل؟ قال: نعم ، فقالا له:

إنا أتینا إلی عمالک علی قسمة هذا الفئ ، فأعطوا کل واحد منا مثل ما أعطوا سائر الناس ، قال: وما تریدان ؟ قالا: لیس کذلک کان یعطینا عمر . قال: فما کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یعطیکما؟ فسکتا ، فقال: ألیس کان(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقسم بالسویة بین المسلمین من غیر زیادة ؟ قالا: نعم . قال: أفسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أولی بالإتباع عندکما أم سنة عمر؟ قالا: سنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولکن یا أمیر المؤمنین لنا سابقة وغَنَاء وقرابة ، فإن رأیت أن لا تسوینا بالناس فافعل ، قال: سابقتکما أسبق أم سابقتی؟ قالا: سابقتک ، قال: فقرابتکما أقرب أم قرابتی؟ قالا: قرابتک ، قال:

ص: 200

فغَنَاؤکما أعظم أم غَنَائی؟ قالا: بل أنت أعظم غَنَاء ، قال: فوالله ما أنا وأجیری هذا فی هذا المال إلا بمنزلة واحدة ، وأومی بیده إلی الأجیر الذی بین یدیه !

قالا: جئنا لهذا وغیره ، قال: وما غیره؟

قالا: أردنا العمرة فأذن لنا ، قال: إنطلقا فما العمرة تریدان ! ولقد أُنبئت بأمرکما وأُریت مضاجعکما ! فمضیا ، وهو یتلو وهما یسمعان: فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّمَا یَنْکُثُ عَلَی نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَی بِمَا عَاهَدَ عَلَیْهُ اللهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْراً عظیماً ) !

وفی نهج البلاغة:2/185، فی کلام له(علیه السّلام)مع طلحة والزبیر:(وأما ما ذکرتما من أمر الأسوة ، فإن ذلک أمرٌ لم أحکم أنا فیه برأیی ، ولا ولیته هوی منی ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قد فُرغ منه ، فلم أحتج إلیکما فیما فرغ الله من قسمه وأمضی فیه حکمه ، فلیس لکما والله عندی ولا لغیر کما فی هذا عتبی . أخذ الله بقلوبنا وقلوبکم إلی الحق ، وألهمنا وإیاکم الصبر ). انتهی .

ص: 201

وکان عمر میَّز بین المسلمین بالعطاء تمییزاً فاحشاً !

وقد أدی ذلک الی فساد الصحابة حکام الولایات الذین اختارهم هو ، فحکم علیهم بالخیانة وصادر نصف أموالهم ، لأنهم بتعبیره أکثروا من السرقة !

قال فی أسد الغابة:4/330: (محمد بن مسلمة.... وهوکان صاحب العمال أیام عمر کان عمر ، إذا شکی إلیه عامل أرسل محمداً یکشف الحال ، وهو الذی أرسله عمر إلی عماله لیأخذ شطر أموالهم ).

وقال الیعقوبی فی تاریخه:2/15: ( وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم . قیل إن فیهم سعد بن أبی وقاص عامله علی الکوفة ، وعمرو بن العاص عامله علی مصر ، وأبا هریرة عامله علی البحرین ، والنعمان بن عدی بن حرثان عامله علی میسان ، ونافع بن عمروالخزاعی عامله علی مکة ، ویعلی بن منیه عامله علی الیمن . وامتنع أبو بکرة من المشاطرة وقال: والله لئن کان هذا المال لله ، فما یحل لک أن تأخذ بعضاً وتترک بعضاً ، وإن کان لنا فما لک أخذه ) !

وفی تاریخ دمشق:55/278 ، وتاریخ ابن خیاط ص81 وغیرهما: (بعث عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة إلی عمرو بن العاص وکتب إلیه: أما بعد فإنکم معشر العمال تقدمتم علی عیون الأموال، فجبیتم الحرام، وأکلتم الحرام، وأورثتم الحرام! وقد بعثت إلیک محمد بن مسلمة الأنصاری فیقاسمک مالک،فأحضره مالک.والسلام).

وقال ابن کثیر فی النهایة: 7/23: (وکتب عمر إلی أبی عبیدة: إن أکذبَ خالد نفسه فهو أمیر علی ما کان علیه، وإن لم یکذب نفسه فهو معزول ، فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفین!.... فقاسمه أبوعبیدة حتی أخذ إحدی نعلیه وترک له الأخری ) !! انتهی . ومعنی أکذب نفسه أی تراجع عن الطعن فی حسب عمر !

وقال عمر لأبی هریرة: (یا عدو الله وعدو الإسلام خنت مال الله ! قال قلت: لست عدو الله ولا عدو الإسلام ، ولکنی عدو من عاداهما ولم أخن مال الله

ص: 202

ولکنها أثمان إبلی وسهام اجتمعت . قال فأعادها علیَّ ، وأعدت علیه هذا الکلام ! قال فغرَّمنی اثنی عشر ألفاً ) !! (مستدرک الحاکم:2/347) .

وفی العقد الفرید:1/45 ، أن عمر عزل أبا موسی الأشعری عن البصرة وشاطره ماله ، وعزل الحارث بن وهب وشاطره ماله ، وکتب الی عمرو بن العاص: بلغنی أنه قد فشت لک فاشیة من خیل وإبل وبقر وعبید ، فمن أین لک هذا ؟ فکتب: إنی أعالج من الزراعة ما لا یعالجه الناس ، فشاطره ماله حتی أخذ إحدی نعلیه ، فغضب ابن العاص وقال: قبح الله زماناً عمل فیه ابن العاص لابن الخطاب ، والله إنی لأعرف الخطاب یحمل علی رأسه حزمة من حطب ، وعلی ابنه مثلها ) .

وفی کنز العمال:5/851: (کان سبب مقاسمة عمر بن الخطاب مال العمال أن خالد بن الصعق قال شعراً ، کتب به إلی عمر بن الخطاب :

أبلغ أمیر المؤمنینَ رسالةً

فأنت ولیُّ اللهِ فی المالِ والأمر

فلا تدعن أهل الرَّساتیقِ والجزا

یشیعون مالَ اللهِ فی الأدم الوفرِ

فأرسِل إلی النعمانِ فاعلم حسابَهُ

وأرسِل إلی جزءٍ وأرسِل إلی بشرِ

ولا تنسَیَنَّ النافقین کلیهما

وصهرَ بنی غزوان عندک ذو وفرِ

ولا تدعونی للشَّهادةِ إنَّنی

أغیبُ ولکنِّی أری عجبَ الدهرِ

من الخیل کالغزلان والبیض والدمی

وما لیس ینسی من قرام ومن سترِ

ومِن ریطةٍ مطویة فی صوانها

ومِن طیِّ أستارٍ معصفرةٍ حمرِ

إذا التَّاجرُ الهندیُّ جاءَ بفأرةٍ

من المسکِ راحت فی مفارقِهم تجری

نبیعُ إذا باعوا ونغز وإذا غزوا

فأنَّی لهم مال ولسنا بذی وفرِ

فقاسمهم نفسی فداؤک إنَّهم

سیرضونَ إن قاسمتَهم منک بالشَّطرِ

فقاسمهم عمر نصف أموالهم ، وفی روایة فقال: فإنا قد أعفیناه من الشهادة ونأخذ منهم النصف ) !! انتهی .

ص: 203

والی الآن لم یستطع قانونی ولا فقیه أن یبین الوجه الشرعی لعمل عمر هذا !

أما الذین کان یثق عمر بأمانتهم من قادة الفتوحات وعمال الأمصار ، فهم شیعة علی(علیه السّلام) ! کعمار ، وسلمان ، وحذیفة ، وخالد بن سعید بن العاص الأموی وأخیه أبان ، وعثمان بن حنیف ، وهاشم المرقال ، وعمرو بن الحمق ، والأشتر ، وغیرهم من القادة الفرسان ، فهؤلاء فوق التهمة ولیس عندهم ما یقاسمهم إیاه !

نعم ، ذکرت المصادر اثنین من الحکام خصهما عمر بالإعفاء من مصادرة نصف أموالهما ، هما معاویة الأموی وقنفذ العدوی ! أما معاویة فکان الوحید من بین أصدقائه وأولاده ، الذی لم یوبخه عمر یوماً علی أعماله ولم یحاسبه علی أمواله ! وکان یعجبه بذخه ویقول هذا کسری العرب ! (أسد الغابة:4/386 )

وأما قنفذ العدوی ، فلم یحاسبه عمر لأنه کلفه بمهمة خاصة جداً لایجسر علیها أحد من المسلمین ، فنفذها ، وکان معروفاً بالقسوة ! (فقال العباس لعلی: ما تری عمر منعه من أن یغرم قنفذاً کما أغرم جمیع عماله؟ فنظر علیٌّ إلی من حوله ثم اغرورقت عیناه بالدموع ثم قال: شکر له ضربةً ضربها فاطمة بالسوط ، فماتت وفی عضدها أثره کأنه الدملج ! ثم قال(علیه السّلام): العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ، والتسلیم له فی کل شئ أحدثه ! لئن کان عماله خونة وکان هذا المال فی أیدیهم خیانة ما کان حل له ترکه ، وکان له أن یأخذه کله فإنه فیئ المسلمین ، فما له یأخذ نصفه ویترک نصفه؟! ولئن کانوا غیر خونة فما حل له أن یأخذ أموالهم ولاشیئاً منهم قلیلاً ولا کثیراً ، وإنما أخذ أنصافها . ولو کانت فی أیدیهم خیانة ثم لم یقروا بها ولم تقم علیهم البینة ما حل له أن یأخذ منهم قلیلاً ولا کثیراً! وأعجب من ذلک إعادته إیاهم إلی أعمالهم ! لئن کانوا خونة ما حل له أن یستعملهم، ولئن کانوا غیرخونة ماحلت له أموالهم).(کتاب سلیم ص 223).

ص: 204

وعلی(علیه السّلام)هو الخلیفة الوحید الذی لم تشتک رعیته من ظلمه

بل کان هو یشکو هو من ظلم رعیته له ویقول:

(أما والذی نفسی بیده لیظهرن هؤلاء القوم علیکم ، لیس لأنهم أولی بالحق منکم ولکن لإسراعهم إلی باطل صاحبهم وإبطائکم عن حقی !

ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعیتی !

إستنفرتکم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتکم فلم تسمعوا ، ودعوتکم سراً وجهراً فلم تستجیبوا، ونصحت لکم فلم تقبلوا . أشهودٌ کغیاب ، وعبیدٌ کأرباب ! أتلو علیکم الحِکَم فتنفرون منها ، وأعظکم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها ! وأحثکم علی جهاد أهل البغی فما آتی علی آخر القول حتی أراکم متفرقین أیادی سبا ، ترجعون إلی مجالسکم وتتخادعون عن مواعظکم ! أقوِّمکم غَدْوةً وترجعون إلیَّ عشیة کظهر الحیة عجز المقوِّم وأعضل المقوَّم ! أیها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلی بهم أمراؤهم ! صاحبکم یطیع الله وأنتم تعصونه ! وصاحب أهل الشام یعصی الله وهم یطیعونه ! لوددتُ والله أن معاویة صارفنی بکم صرف الدینار بالدرهم ، فأخذ منی عشرة منکم وأعطانی رجلاً منهم) . (نهج البلاغة:1/187) .

ص: 205

الموجة الثانیة ضد العترة وشیعتهم حروب قریش علی إسلام علی(علیه السّلام)

قاد الفئة التی خرجت علی علی(علیه السّلام)فی خلافته: عائشة بنت أبی بکر ، وابن عمها طلحة التیمی ، وزوج أختها الزبیر بن العوام من بنی أسد عبد العزی ، ومعاویة الأموی وارث أبیه أبی سفیان ، ووالی الشام لعمر وعثمان . ثم الخوارج . ودبروا له ثلاثة حروب هی: حرب الجمل ، وحرب صفین ، وحرب النهروان !

کانت عائشة ترید الخلافة لبنی تیم !

نقمت عائشة علی عثمان حتی حرضت المسلمین علیه بفتواها المشهورة: (أقتلوا نعثلاً فقد کفر) ! وکان هدفها أن تتفاقم النقمة علیه فیقتله الصحابة والناقمون من الأمصار ، ویبایع المسلمون قرابتها طلحة التیمی ، ثم یعهد طلحة بالخلافة الی أحد إخوتها من أبناء أبی بکر !

وکان حسابها فی ذلک مبنیاً علی مکانة أبی بکر ، وأن طلحة من کبار الصحابة وصاحب ثروة خیالیة ، فهو یستطیع بمساعدة ابنة عمه أم المؤمنین ، أن یطرح نفسه عند مقتل عثمان ، ویقنع الصحابة ببیعته !

وقد استعانت عائشة لهدفها بکل وسیلة ، ومنها حدیث تفردت بروایته ، قالت فیه: ( قال لی رسول الله (ص) فی مرضه: أدعی لی أبا بکر أباک وأخاک حتی أکتب کتاباً ، فإنی أخاف أن یتمنی متمنٍّ ویقول قائل: أنا أولی)!(مسلم:7/110) .

ولا بد أن یکون کلامها هذا بعد وفاة عمر ، لأن أبا بکر وعمر لم یحتجَّا بالنص أبداً ، وإنما احتجَّا بأن محمداً من قریش وهما یمثلان قبائل قریش فهما أولی بسلطانه ، قال عمر: (ولنا بذلک علی من أبی من العرب الحجة الظاهرة والسلطان

ص: 206

المبین . من ذا ینازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولیاؤه وعشیرته ، إلا مدلٍ بباطل أومتجانفٌ لإثم أومتورطٌ فی هلکة ). ( تاریخ الطبری:2/457 ) .

ومع أن حدیث عائشة فی صحیح مسلم ، فلو کان صحیحاً لکان أکبر حجة لأبی بکر وعمر! ولاحتج به طلحة علی أبی بکر عندما اعترض علیه کیف أخرج الخلافة من بنی تیم وأوصی بها الی عمر !

قال السید ناصر حسین الهندی فی إفحام الأعداء والخصوم ص100:

(قال ابن تیمیة ، فی منهاج السنة ، فی ضمن کلام له یذکر فیه عمر ما لفظه: ولهذا لما استخلفه أبو بکر کره خلافته طائفة ، حتی قال له طلحة: ماذا تقول لربک إذا ولیت علینا فظاً غلیظاً ؟! فقال: أبا لله تخوفونی ، أقول: ولیت علیهم خیر أهلک ) . (منهاج السنة 2: 170 ط بولاق ) .

بل کان عمر الی آخر حیاته یؤکد أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یوص ولم یستخلف أبداً !

قال البخاری:8/126: ( قیل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هوخیر منی أبو بکر ، وإن أترک فقد ترک من هوخیر منی رسول الله).

ولکن عائشة رأت أن الخلافة ذهبت بعیداً عن عشیرتها بنی تیم ، مع أن منها أبو بکر وابنته أم المؤمنین عائشة ، وإخوتها أولاد أبی بکر ، وابن عمها طلحة بن عبیدالله ! فنقمت علی عثمان ثم علی علی(علیه السّلام) ، وأیدت هدفها بهذا الحدیث ، تضاهی فیه حدیث الدواة المتواتر حیث أمرهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یلتزموا له بالتنفیذ لیکتب لهم کتاباً بخلافة علی والعترة الطاهرة من ذریته(علیهم السّلام) فلا یضلوا بعده أبداً !

أفتت عائشة بقتل عثمان..ثم طالبت بثأره !

یظهر أن طلحة هو الذی کان ینفق علی عائشة ، بعد أن قطع عثمان میزانیتها الشخصیة الکبیرة التی میزها بها عمر ، فقد روی الطبری (الشیعی) فی المسترشد

ص: 207

ص507: ( أن عائشة وحفصة أتتا عثمان بن عفان تطلبان منه ما کان أبواهما یعطیانهما ، فقال لهما: لا والله ولا کرامة ، ما زاد لکما عندی ! فألحَّتا ، وکان متکئاً فجلس وقال: ستعلم فاطمة أیُّ ابن عم لها أنا الیوم ! ثم قال لهما: ألستما اللتین شهدتما عند أبویکما ولفقتما معکما أعرابیاً یتطهر ببوله ، مالک بن أوس بن الحدثان ، فشهدتما معه أن النبی(ص)قال: لا نورث ما ترکناه صدقة ؟! فمرةً تشهدون أن ما ترکه رسول الله صدقة ، ومرةً تطالبون میراثه) ! انتهی.

وفی أمالی المفید ص125: ( فقال لها: لا أجد لک موضعاً فی الکتاب ولا فی السنة ، وإنما کان أبوک وعمر بن الخطاب یعطیانک بطیبة من أنفسهما ، وأنا لا أفعل . قالت

له: فأعطنی میراثی من رسول الله(ص) فقال لها: أولم تجیئی أنت ومالک بن أوس النصری فشهدتما أن رسول الله(ص) لایورث ، حتی منعتما فاطمة میراثها وأبطلتما حقها ، فکیف تطلبین الیوم میراثاً من النبی(ص)؟!

فترکته وانصرفت ! وکان عثمان إذا خرج إلی الصلاة أخذت قمیص رسول الله(ص)علی قصبة فرفعته علیها ثم قالت: إن عثمان قد خالف صاحب هذا القمیص ، وترک سنته !! ). انتهی .

وقال الرازی فی المحصول:4/343: (الحکایة الثانیة أن عثمان عنه أخر عن عائشة بعض أرزاقها فغضبت ثم قالت: یا عثمان أکلت أمانتک وضیعت الرعیة وسلطت علیهم الأشرار من أهل بیتک ! والله لولا الصلوات الخمس لمشی إلیک أقوام ذووا بصائر یذبحونک کما یذبح الجمل !

فقال عثمان: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ کَانَتَا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَیْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ یُغْنِیَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شیئاً وَقِیلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِینَ . فکانت عائشة تحرض علیه جهدها وطاقتها وتقول: أیها الناس هذا

ص: 208

قمیص رسول الله(ص)لم یَبْلَ وقد بلیت سنته ! أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً .

ثم إن عائشة ذهبت إلی مکة ، فلما قضت حجها وقربت من المدینة أخبرت بقتل عثمان فقالت: ثم ماذا؟ فقالوا: بایع الناس علی بن أبی طالب ، فقالت عائشة: قتل عثمان والله مظلوماً وأنا طالبة بدمه، والله لیومٌ من عثمان خیر من علی الدهر کله !! فقال لها عبید بن أم کلاب: ولمَ تقولین ذلک ، فوالله ما أظن أن بین السماء والأرض أحداً فی هذا الیوم أکرم علی الله من علی بن أبی طالب ، فلمَ تکرهین ولایته ؟ ألم تکونی تحرضین الناس علی قتله فقلت: أقتلوا النعثل فقد کفر؟!

فقالت عائشة: لقد قلت ذلک ، ثم رجعت عما قلت ! وذلک أنکم أسلمتموه حتی إذا جعلتموه فی القبضة قتلتموه ، والله لأطلبن بدمه !

فقال عبید بن أم کلاب: هذا والله تخلیط یا أم المؤمنین). انتهی .

وینبغی الإشارة الی أن الفخر الرازی من ذریة أبی بکر ، فعائشة عمته !

وفی شرح النهج:6/215: (وروی المدائنی فی کتاب الجمل ، قال: لما قتل عثمان کانت عائشة بمکة وبلغ قتله إلیها وهی بسراف ، فلم تشک فی أن طلحة هو صاحب الأمر ، وقالت: بعداً لنعثل وسحقاً ! إیهٍ ذا الإصبع ! إیهٍ أبا شبل ! إیهٍ یا ابن عم ! لکأنی أنظر إلی إصبعه وهویبایع له: حُثُّوا الإبل ودعدعوها .

قال: وقد کان طلحة حین قتل عثمان أخذ مفاتیح بیت المال ، وأخذ نجائب کانت لعثمان فی داره ، ثم فسد أمره فدفعها إلی علی بن أبی طالب !

وقال أبو مخنف لوط بن یحیی الأزدی فی کتابه: إن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهی بمکة أقبلت مسرعة وهی تقول: إیهٍ ذا الإصبع لله أبوک ! أما إنهم وجدوا طلحة لها کفواً . فلما انتهت إلی سراف استقبلها عبید بن أبی سلمة اللیثی ، فقالت له: ما عندک؟ قال: قتل عثمان ،

قالت: ثم ماذا ؟ قال: ثم حارت بهم الأمور إلی خیر محار ، بایعوا علیاً ، فقالت: لوددت أن السماء انطبقت علی الأرض إن

ص: 209

تم هذا ! ویحک ! أنظر ما تقول ؟! قال: هوما قلت لک یا أم المؤمنین ، فولولت ! فقال لها: ما شأنک یا أم المؤمنین ! والله ما أعرف بین لابَّتیها أحداً أولی بها منه ولا أحق ، ولا أری له نظیراً فی جمیع حالاته ، فلماذا تکرهین ولایته ؟ قال: فما ردت علیه جواباً ! قال: وقد روی من طرق مختلفه أن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهی بمکة ، قالت: أبعده الله ! ذلک بما قدمت یداه ، وما الله بظلام للعبید .

قال: وقد روی قیس بن أبی حازم أنه حج فی العام الذی قتل فیه عثمان وکان مع عائشة لما بلغها قتله ، فتُحْمَلُ إلی المدینة ، قال: فسمعها تقول فی بعض الطریق: إیهٍ ذا الإصبع ! وإذا ذکرت عثمان قالت: أبعده الله ! حتی أتاها خبر بیعة علی فقالت: لوددت أن هذه وقعت علی هذه ! ثم أمرت برد رکائبها إلی مکة فردت معها ، ورأیتها فی سیرها إلی مکة تخاطب نفسها ، کأنها تخاطب أحداً: قتلوا ابن عفان مظلوماً ! فقلت لها: یا أم المؤمنین ، ألم أسمعک آنفاً تقولین: أبعده الله ، وقد رأیتک قبل أشد الناس علیه وأقبحهم فیه قولاً !

فقالت: لقد کان ذلک ، ولکنی نظرت فی أمره ، فرأیتهم استتابوه حتی إذا ترکوه کالفضة البیضاء ، أتوه صائماً محرماً فی شهر حرام فقتلوه !

قال: وروی من طرق أخری أنها قالت لما بلغها قتله: أبعده الله ، قتله ذنبه ، وأقاده الله بعمله ! یا معشر قریش لایسومنکم قتل عثمان ، کما سام أحیمر ثمود قومه ! إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع (تقصد طلحة ، وکانت إصبعه مشلولة ) فلما جاءت الأخبار ببیعة علی قالت: تَعِسُوا تَعِسُوا ! لایردُّون الأمر فی تَیْمٍ أبداً !!

وکتب طلحة والزبیر إلی عائشة وهی بمکة کتاباً: أن خذِّلی الناس عن بیعة علی وأظهری الطلب بدم عثمان ، وحملا الکتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبیر فلما قرأت الکتاب کاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان !!) .

ص: 210

وأکد الطبری روایة المدائنی ، فقال فی تاریخه:3/476: (إن عائشة لما انتهت إلی سرف راجعة فی طریقها إلی مکة ، لقیها عبد بن أم کلاب وهو عبد بن أبی سلمة ینسب إلی أمه فقالت له: مهیم ؟ قال: قتلوا عثمان فمکثوا ثمانیاً . قالت: ثم صنعوا ماذا ؟ قال: أخذها أهل المدینة بالإجتماع فجازت بهم الأمور إلی خیر مجاز ، إجتمعوا علی علی بن أبی طالب ! فقالت: والله لیت أن هذه انطبقت علی هذه إن تمَّ الأمر لصاحبک ! ردونی ردونی ! فانصرفت إلی مکة وهی تقول: قتل والله عثمان مظلوماً والله لأطلبن بدمه! فقال لها ابن أم کلاب: ولمَ ، فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ، ولقد کنت تقولین: أقتلوا نعثلاً فقد کفر !

قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقدقلت وقالوا ، وقولی الأخیر خیر من قولی الأول ! فقال لها ابن أم کلاب:

فمنک البداءُ ومنک الغِیَرْ

ومنک الریاح ومنک المطرْ

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنه قد کفر

فهبنا أطعناک فی قتله

وقاتله عندنا من أمر

فلم یسقط السقف من فوقنا

ولم تنکسف شمسنا والقمر

وقد بایع الناس ذا تَدْرُإٍ

یزیلُ الشبا ویقیم الصَّعَرْ

ویلبس للحرب أثوابها

وما من وفی مثل من قد غدر

فانصرفت إلی مکة فنزلت علی باب المسجد ، فقصدت للحِجْر فسُترت ، واجتمع إلیها الناس فقالت:یا أیها الناس إن عثمان قتل مظلوماً ووالله لأطلبن بدمه)!.

ص: 211

طلحة ویعلی یموِّلان حرب الجمل ضد علی(علیه السّلام)!

تحدث الرواة عن ثروة عثمان ، وطلحة ، والزبیر ، وابن عوف ، وبقیة الصحابة أرکان حکم أبی بکر وعمر وعثمان ، فقال ابن خلدون فی تاریخه:1/204: (فی أیام عثمان اقتنی الصحابة الضیاع والمال ، فکان له یوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دینار ، وألف ألف درهم ، وقیمة ضیاعه بوادی القری وحنین وغیرهما مائتا ألف دینار ، وخلف إبلاً وخیلاً کثیرة .

وبلغ الثمن الواحد من متروک الزبیر بعد وفاته خمسین ألف دینار ، وخلَّف ألف فرس وألف أمة . وکانت غلة طلحة من العراق ألف دینار کل یوم ، ومن ناحیة السراة أکثر من ذلک . وکان علی مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعیر ، وعشرة آلاف من الغنم ). انتهی .

وقال ابن سعد فی الطبقات:3/222: (کانت قیمة ما ترک طلحة بن عبید الله من العقار والأموال وما ترک من الناض ثلاثین ألف ألف درهم ، ترک من العین ألفی ألف ومائتی ألف درهم ، ومائتی ألف دینار ، والباقی عروض . . . قال عمرو بن العاص: حدثت أن طلحة بن عبید الله ترک مائة بهار ، فی کل بهار ثلاث قناطر ذهب ، وسمعت أن البهار جلد ثور ). انتهی .

أقول: ینبغی الإلتفات الی أن هذه الثروة ترکها طلحة بعد أن أنفق ملایین منها علی حرب الجمل ، التی قتل قبل بدایتها ! ویتعجب الإنسان من حرصه حیث استقرض أربعین ألف دینار من أحد ولاة عثمان الأمویین ، الذین جاؤوا بأموال المسلمین التی کانت بأیدیهم ، لمساعدة الخارجین علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) !

قال ابن حبان فی الثقات:2/279: (وقدم یعلی بن أمیة من الیمن وقد کان عاملاً علیها ، بأربعمائة من الإبل فدعاهم إلی الحِملان (أن ینقل الجنود الی البصرة مجاناً ) ، فقال له الزبیر: دعنا من إبلک هذه ، ولکن أقرضنا من هذا المال ! فأعطاه ستین

ص: 212

ألف دینار وأعطی طلحة أربعین ألف دینار ، فتجهزوا وأعطوا من خفَّ معهم) !

ویعلی ابن أمیة ویقال له ابن منیة وهی أمه ، وهو تمیمی حلیف لبنی أمیة ، کان عاملاً لعمر وعثمان علی الیمن، وهو من رجال البخاری) (التاریخ الکبیر:8/255) ویظهر أن تمویله لحرب الجمل کان أساسیاً ، وقد یکون کله عن طریق طلحة !

فقد قال علی(علیه السّلام)فی العهد الذی کتبه لیقرأ علی المسلمین کل جمعة: (وأعانهم علیَّ یعلی بن منیة بأصوع الدنانیر ، والله لئن استقام أمری لأجعلن ماله فیئاً للمسلمین )! ( نهج السعادة:5/194)

وینبغی أن تعرف أن القوة الشرائیة للدرهم أن الشاة کانت فی عصر النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بخمسة دراهم ، فالأربعون شاة فی الزکاة تقابل مئتی درهم. ( تذکرة الفقهاء:2/208، ومبسوط السرخسی:2/150). وفی أعلام النبلاء:2/320: (أن عمر وجه عثمان بن حنیف علی خراج السواد، ورزقه کل یوم ربع شاة وخمسة دراهم). فراتب الوالی علی خراج العراق ألف وخمس مئة درهم ، مع ربع ذبیحة یومیاً لعائلته وضیوفه .

وقد استمرت هذه القوة الشرائیة الی القرن الثالث ، فقد جاء فی الطبری:8/166 فی قصة هجوم الخلیفة العباسی علی بنی شیبان فی الموصل: (فأوقع بهم فقتل منهم

مقتلة عظیمة وغرق منهم خلق کثیر فی الزابین ، وأخذ النساء والذراری ، وغنم أهل العسکر من أموالهم ما أعجزهم حمله ، وأخذ من غنمهم وإبلهم ما کثر فی أیدی الناس ، حتی بیعت الشاة بدرهم ، والجمل بخمسة دراهم!).انتهی.

یقصد أن هذا السعر غیر العادی کان بسبب کثرة الغنائم ، وإلا فمعدل ثمن الشاة خمسة دراهم ، والجمل مئة درهم ، فهو معدل ثابت من زمن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وقد ینقص الثمن عنه أو یزید تبعاً لجودة السلعة ، ورغبة المشتری ، والظرف الطارئ . (راجع البخاری:3/15 ، وفتح الباری:5/234، وکنز العمال:6/573 ).

أما ثمن جمل عائشة فکان استثنائیاً أکثر من ألف درهم ، کما سیأتی !

ص: 213

طلحة والزبیر .. الی العمرة .. أم الغدرة ؟!

کل شئ صار جاهزاً ! فقد أعلنت عائشة الثورة علی علی(علیه السّلام)بشعار المطالبة بدم الخلیفة الشهید المظلوم عثمان ! والتحق بها بعض ولاة عثمان الذین عزلهم علی(علیه السّلام)أوعرفوا أنه سیعزلون ، فترکوا ولایاتهم وجاؤوا بملایینهم !

وأخذت عائشة وطلحة والزبیر یجمعون الرجال ، ویشترون السلاح والجمال ، ویتجمع الثائرون فی مکة حول أم المؤمنین التی نصبت خیمة فی حجر إسماعیل ولم یبق إلا أن یحضر القائدان الآخران طلحة والزبیر من المدینة ، التی لا فائدة فیها للخارجین علی علی(علیه السّلام)لأن

أهلها معه !

فی خصائص الأئمة للشریف الرضی ص61: عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال:( لما قدم عبد الله بن عامر بن کریز المدینة لقی طلحة والزبیر فقال لهما: بایعتما علی بن أبی طالب ! فقال: أما والله لا یزال ینتظر بها الحبالی من بنی هاشم ، ومتی تصیر الیکما؟! (أی سوف لاتخرج الخلافة من بنی هاشم بل سیُنتظر بها المولود أن یولد) !

أما والله علی ذلک (شهید) ما جئت حتی ضربت علی أیدی أربعة آلاف من أهل البصرة کلهم یطلبون بدم عثمان ، فدونکما فاستقبلا أمرکما ! فأتَیَا علیاً فقالا له: إئذن لنا فی العمرة ، فقال: والله إنکما تریدان العمرة وما تریدان نکثاً ولافراقاً لأمتکما ، وعلیکما بذلک أشد ما أخذ الله علی النبیین من میثاق؟ قالا: اللهم نعم. قال: أللهم اشهد ، إذهبا وانطلقا ، والله لا أراکما إلا فی فئة تقاتلنی) .

ص: 214

صاحبة الجمل الأدبب..تنبحها کلاب الحوأب !

قال ابن حجر فی فتح الباری:13/45: (عن ابن عباس أن رسول الله(ص)قال لنسائه: أیتکن صاحبة الجمل الأدبب (بهمزة مفتوحة ودال ساکنة ثم موحدتین الأولی مفتوحة) تخرج حتی تنبحها کلاب الحوأب ، یقتل عن یمینها وعن شمالها قتلی کثیرة ، وتنجو من بعد ماکادت . وهذا رواه البزار ورجاله ثقات..... محمد بن قیس قال ذکر لعائشة یوم الجمل ، قالت: والناس یقولون یوم الجمل؟! قالوا: نعم ، قالت: وددت أنی جلست کما جلس غیری ، فکان أحب الیَّ من أن أکون ولدت من رسول الله(ص)عشرة).انتهی. وقد حذفوا من الحدیث قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):(کلهم فی النار)!

وفی تاریخ الیعقوبی:2/180: ( أتاه طلحة والزبیر فقالا: أنا نرید العمرة ، فأذن لنا فی الخروج . وروی بعضهم أن علیاً قال لهما ، أولبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة ، ولکنهما أرادا الغدرة ! فلحقاً عائشة بمکة فحرضاها علی الخروج ، فأتت أم سلمة بنت أبی أمیة زوج رسول الله(ص)فقالت: إن ابن عمی وزوج أختی أعلمانی أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن أکثر الناس لم یرض ببیعة علی ، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا ، فلو خرجت بنا لعل الله أن یصلح أمر أمة محمد علی أیدینا ؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدین لا یقام بالنساء ، حمادیات النساء غضُّ الأبصار وخفض الأطراف وجر الذیول . إن الله وضع عنی وعنک هذا ، ما أنت قائلة لوأن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عارضک بأطراف الفلوات قد هتکت حجاباً قد ضربه علیک! فنادی منادیها: ألا إن أم المؤمنین مقیمة ، فأقیموا .

وأتاها طلحة والزبیر وأزالاها عن رأیها ، وحملاها علی الخروج ، فسارت إلی البصرة مخالفة علی علی ، ومعها طلحة والزبیر فی خلق عظیم ، وقدم یعلی بن منیة بمال من مال الیمن قیل: إن مبلغه أربعمائة ألف دینار ، فأخذه منه طلحة

ص: 215

والزبیر فاستعانا به وسارا نحو البصرة . ومرَّ القوم فی اللیل بماء یقال له: مُرُّ الحوأب فنبحتهم کلابه فقالت عائشة: ما هذا الماء ؟ قال بعضهم: ماء الحوأب . قالت: إنا لله وأنا إلیه راجعون ! ردونی ردونی ! هذا الماء الذی قال لی رسول الله: لا تکونی التی تنبحک کلاب الحوأب . فأتاها القوم بأربعین رجلاً فأقسموا بالله أنه لیس بماء الحوأب ) ! انتهی .

وفی تاریخ الطبری:3/475: (عن العرنی صاحب الجمل(الذی باعه لعائشة)قال: بینما أنا أسیر علی جمل إذ عرض لی راکب فقال: یاصاحب الجمل تبیع جملک؟ قلت: نعم ، قال: بکم؟ قلت: بألف درهم ! قال: مجنونٌ أنت ! جملٌ یباع بألف درهم ؟! قال قلت: نعم ، جملی هذا ! قال: وممَّ ذلک ؟ قلت: ما طلبت علیه أحداً قط إلا أدرکته ولا طلبنی وأنا علیه أحد قط إلا فُتُّه . قال: لوتعلم لمن نریده لأحسنت بیعنا . قال قلت: ولمن تریده ؟ قال: لأمک . قلت: لقد ترکت أمی فی بیتها قاعدة ما ترید براحاً! قال: إنما أریده لأم المؤمنین عائشة . قلت: فهو لک فخذه بغیر ثمن ! قال: لا ، ولکن إرجع معنا إلی الرحل فلنعطک ناقة مهریة ونزیدک دراهم . قال: فرجعت فأعطونی ناقة لها مهریة ، وزادونی أربعمائة أوستمائة درهم . فقال لی: یا أخا عرینة ، هل لک دلالة بالطریق؟ قال قلت: نعم ، أنا من أدرک الناس . قال: فسر معنا فسرت معهم ، فلا أمرُّ علی واد ولا ماء إلا سألونی عنه ، حتی طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا کلابها ! قالوا: أی ماء هذا ؟ قلت: ماء الحوأب ! قال: فصرخت عائشة بأعلی صوتها ، ثم ضربت عضد بعیرها فأناخته ، ثم قالت: أنا والله صاحبة کلاب الحوأب ، طروقاً ردونی ! تقول ذلک ثلاثاً ! فأناخت وأناخوا حولها ، وهم علی ذلک وهی تأبی حتی کانت الساعة التی أناخوا فیها من الغد ، فجاءها ابن الزبیر فقال: النجاء النجاء ، فقد أدرککم

ص: 216

والله علی بن أبی طالب ! قال فارتحلوا وشتمونی ، فانصرفت فما سرت إلا قلیلاً وإذا أنا بعلی ورکب معه نحومن ثلثمائة ، فقال لی علی: یا أیها الراکب ، فأتیته ، فقال: أین أتیت الظعینة ؟ قلت فی مکان کذا وکذا وهذه ناقتها وبعتهم جملی . قال: وقد رکبته ؟ قلت: نعم وسرت معهم حتی أتینا ماء الحوأب فنبحت علیها کلابها فقالت کذا وکذا ! فلما رأیت اختلاط أمرهم انفلتُّ وارتحلوا ) ! انتهی .

وفی الکافئة فی رد توبة الخاطئة ص18: (کتبت أم الفضل بنت الحارث مع عطاء مولی ابن عباس إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بنفیر طلحة والزبیر وعائشة من مکة بمن نفر معهم من الناس ، فلما وقف أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی الکتاب قال محمد بن أبی بکر: ما للذین أوردوا ثم أصدروا ، غداة الحساب من نجاة ولا عذر .

ثم نودی من مسجد رسوالله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الصلاة جامعة ، فخرج الناس وخرج أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد ، فإن الله تبارک وتعالی لما قبض نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قلنا: نحن أهل بیته وعصبته وورثته وأولیائه وأحق الخلق به ، لا ننازع حقه وسلطانه ، فبینما نحن کذلک إذ نفر المنافقون وانتزعوا سلطان نبینا منا وولوه غیرنا . فبکت والله لذلک العیون والقلوب منا جمیعاً معاً ، وخشنت له الصدور ، وجزعت النفوس منا جزعاً أرغم . وأیم الله لولا مخافتی الفرقة بین المسلمین ، وأن یعود أکثرهم إلی الکفر ویُعَوَّر الدین ، لکنا قد غیرنا ذلک ما استطعنا .

وقد بایعتمونی الآن وبایعنی هذان الرجلان طلحة والزبیر علی الطوع منهما ومنکم والإیثار، ثم نهضا یریدان البصرة لیفرقا جماعتکم ویلقیا بأسکم بینکم ، اللهم فخذهما لغشهما لهذه الأمة، وسوء نظرهما للعامة . ثم قال: إنفروا رحمکم الله فی طلب هذین الناکثین القاسطین الباغیین ، قبل أن یفوت تدارک ما جنیاه ).

وفی الکافئة: ص19: (لما اتصل بأمیر المؤمنین صلوات الله علیه مسیر عائشة وطلحة والزبیر من مکة إلی البصرة ، حمد الله وأثنی علیه ثم قال: قد سارت

ص: 217

عائشة وطلحة والزبیر کل منهما یدعی الخلافة دون صاحبه ! ولایدعی طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة ، ولا یدعیها الزبیر إلا أنه صهر أبیها ! والله لئن ظفرا بما یریدان لیضربن الزبیر عنق طلحة ، ولیضربن طلحة عنق الزبیر ، ینازع هذا علی

الملک هذا ! ولقد علمت والله أن الراکبة الجمل لاتحل عقدة ولاتسیر عقبة ولاتنزل منزلة إلا إلی معصیة الله حتی تورد نفسها ومن معها مورداً یقتل ثلثهم ویهرب ثلثهم ویرجع ثلثهم ! والله إن طلحة والزبیر لیعلمان أنهما مخطئان وما یجهلان ، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لاینفعه . والله لتنبحنها کلاب الحوأب ! فهل یعتبر معتبر ویتفکر متفکر ، لقد قامت الفئة الباغیة فأین المحسنون ؟ مالی و لقریش ! أما والله لأقتلنهم کافرین ، ولأقتلنهم مفتونین ، وإنی لصاحبهم بالأمس ومالنا إلیها من ذنب غیر أنا خُیِّرنا علیها فأدخلنا هم فی خیرنا ! أما والله لا أترک الباطل حتی أخرج الحق من خاصرته إن شاء الله ، فلتضجَّ منی قریش ضجیحاً )!

وفی مناقب آل أبی طالب:2/336:(ذکر ابن الأعثم فی الفتوح، والماوردی فی أعلام النبوة ، وشیرویه فی الفردوس ، وأبویعلی فی المسند ، وابن مردویه فی فضایل أمیر المؤمنین ، والموفق فی الأربعین ، وشعبة ، والشعبی ، وسالم بن أبی الجعد فی أحادیثهم ، والبلاذری والطبری فی تاریخهما: أن عائشة لما سمعت نباح الکلاب قالت أی ماء هذا ؟ فقالوا الحوأب ، قالت إنا لله وإنا إلیه راجعون ، إنی لهیَهْ ! قد سمعت رسول الله (ص)وعنده نساؤه یقول: لیت شعری أیتکن تنبحها کلاب الحوأب؟ وفی روایة الماوردی: أیتکن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها کلاب الحوأب ، یقتل من یمینها ویسارها قتلی کثیر ، وتنجو بعد ما کاد تقتل ؟!

فلما نزلت الخریبة قصدهم عثمان بن حنیف(حاکم البصرة من قبل علی(علیه السّلام)) وحاربهم ، فتداعوا إلی الصلح ، فکتبوا بینهم کتاباً أن لعثمان دار الإمارة وبیت المال والمسجد إلی أن یصل إلیهم علی . فقال طلحة لأصحابه فی السر: والله لئن

ص: 218

قدم علی البصرة لنؤخذن بأعناقنا ، فأتوا علی عثمان بیاتاً فی لیلة ظلماء وهو یصلی بالناس العشاء الآخرة ، وقتلوا منهم خمسین رجلاً واستأسروه ونتفوا شعره وحلقوا رأسه وحبسوه ، فبلغ ذلک سهل بن حنیف فکتب الیهما: أعطی الله عهداً لئن لم تخلوا سبیله لأبلغن من أقرب الناس الیکما ! فأطلقوه .

ثم بعثا عبد الله بن الزبیر فی جماعة إلی بیت المال فقتل أبا سلمة الزطی فی خمسین رجلاً ، وبعثت عائشة إلی الأحنف تدعوه فأبی واعتزل بالجلحاء من البصرة فی فرسخین ، وهوفی ستة آلاف ) . انتهی .

ص: 219

انتصرت عائشة جزئیاً فی البصرة

فاختلف طلحة والزبیر علی إمامة الصلاة !

قال الیعقوبی فی تاریخه:2/181: (وقدم القوم البصرة ، وعامل علی عثمان بن حنیف ، فمنعها ومن معها من الدخول فقالا: لم نأت لحرب وإنما جئنا لصلح ، فکتبوا بینهم وبینه کتاباً أنهم لایحدثون حدثاً إلی قدوم علی ، وأن کل فریق منهم آمن من صاحبه . ثم افترقوا ، فوضع عثمان بن حنیف السلاح ، فنتفوا لحیته وشاربه وأشفار عینیه وحاجبیه ، وانتهبوا بیت المال وأخذوا ما فیه ، فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبیر ، وجذب کل واحد منهما صاحبه ، حتی فات وقت الصلاة ، وصاح الناس: الصلاة الصلاة یا أصحاب محمد ! فقالت عائشة: یصلی محمد بن طلحة یوماً وعبد الله بن الزبیر یوماً ، فاصطلحوا علی ذلک !!

فلما أتی علیاً الخبر سار إلی البصرة ، واستخلف علی المدینة أبا حسن بن عبد عمرو أحد بنی النجار ، وخرج من المدینة ومعه أربعمائة راکب من أصحاب رسول الله ، فلما صاروا إلی أرض أسد وطئ تبعه منهم ستمائة ، ثم صار إلی ذی قار ، ووجه الحسن وعمار بن یاسر ، فاستنفر أهل الکوفة ، وعامله یومئذ علی الکوفة أبو موسی الأشعری فخذَّل الناس عنه ، فوافاه منهم ستة آلاف رجل ، ولقیه عثمان بن حنیف فقال: یا أمیر المؤمنین ، وجهتنی ذا لحیة فأتیتک أمرد ! وقص علیه القصة ). انتهی .

وفی نهج السعادة للمحمودی:1/266: (ومن کلام له(علیه السّلام)قاله لما قدم علیه بذی قار ، عامله علی البصرة عثمان بن حنیف الأنصاری رحمه الله ، وقد نکل به طلحة والزبیر ونتفوا جمیع ما فی وجهه من الشعر ، فنزل علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) وهو باک فقال له: یا عثمان بعثتک شیخاً فرددت إلی أمرد ! اللهم إنک تعلم أنهم

ص: 220

اجترؤا علیک واستحلوا حرماتک . اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شیعتی ، وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخلیفتی) .(کتاب الجمل ص 154 وقریب منه فی تاریخ الطبری). انتهی .

نتیجة معرکة الجمل الأولی !

وقعة الجمل الصغری ، أوالجمل الأصغر ، غسم للأحداث التی وقعت فی البصرة منذ وصول أصحاب الجمل الیها ، الی وصول أمیر المؤمنین(علیه السّلام). فقد کان لأصحاب الجمل أنصار فی البصرة ، فنزلوا فی ضاحیتها والتحق بهم أنصارهم ، وجرت محادثات بینهم وبین والی البصرة الصحابی الجلیل عثمان بن حنیف ، واتفقوا معه علی الهدنة ، وتجنب الحرب حتی یصل علی(علیه السّلام) ، وکتبوا بینهم عهداً بذلک ! لکن طلحة أشار علیهم بالغدر ونقض العهد والغارة لیلاً علی الوالی وبیت المال ! فهاجموهم وهم یصلون فی المسجد ! وقتلوا منهم أربعین رجلاً وأخذوا بیت المال ، وأخذوا الوالی أسیراً ، ثم واصلوا الحرب فی الیوم الثانی ، وقابلهم حکیم بن جبلة رئیس بنی عبد القیس ومعه جماعة من ربیعة ، فقتلوه وابنه الأشرف وأخاه رعل فی سبعین رجلاً ، وأرادوا قتل الوالی

عثمان بن حنیف الأنصاری فهددهم بأن أخاه سهل بن حنیف والی المدینة سیثأر له من ذویهم هناک! فاکتفوا بضربه ونتفوا شعر لحیته ورأسه وشاربیه وحاجبیه ، وطردوه من البصرة !

وفی الکافئة ص17: (رووا أنه(علیه السّلام)لما بلغه وهو بالربذة خبر طلحة والزبیر وقتلهما حکیم بن جبلة ورجالاً من الشیعة ، وضربهما عثمان بن حنیف وقتلهما السبابجة(حراس بیت المال) قام علی الغرائر(أکیاس الحنطة المحمولة معهم للخبز) فقال: إنه أتانی خبر متفظع ونبأ جلیل ، أن طلحة والزبیر وردا البصرة فوثبا علی عاملی فضرباه ضرباً مبرحاً وتُرک لایدری أحی هو أم میت ! وقتلا العبد الصالح حکیم بن جبلة فی

ص: 221

عدة من رجال المسلمین الصالحین ، لقوا الله موفین ببیتعتهم ماضین علی حقهم ! وقتلوا السبابجة خزان بیت المال الذی للمسلمین ، قتلوهم صبراً ، وقتلوهم غدراً ! فبکی الناس بکاء شدیداً ورفع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یدیه یدعو ویقول: أللهم اجْزِ طلحة وزبیراً جزاء الظالم الفاجر ، والخفور الغادر) . انتهی .

کتبت عائشة الی حفصة تبشرها بالنصر فاحتفلت حفصة !

فی الکافئة فی إبطال توبة الخاطئة ص16: (ولما بلغ عائشة نزول أمیر المؤمنین (علیه السّلام)بذی قار کتبت إلی حفصة بنت عمر: أما بعد ، فإنا نزلنا البصرة ونزل علی بذی قار ، والله دُقَّ عنقه کدق البیضة علی الصفا ، إنه بذی قار بمنزلة الأشقر ، إن تقدم نحر ، وإن تأخر عقر ! فلما وصل الکتاب إلی حفصة استبشرت بذلک ، ودعت صبیان

بنی تیم وعدی وأعطت جواریها دفوفاً ، وأمرتهن أن یضربن بالدفوف ویقلن: ما الخبر ما الخبر ! علیٌّ کالأشقر ! إن تقدم نُحر ، وإن تأخر عُقر !

فبلغ أم سلمة رضی الله عنها اجتماع النسوة علی ما اجتمعن علیه من سب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)والمسرة بالکتاب الوارد علیهن من عائشة ، فبکت وقالت: أعطونی ثیأبی حتی أخرج إلیهن وأقع بهن ! فقالت أم کلثوم بنت أمیر المؤمنین(علیه السّلام): أنا أنوب عنک فإننی أعرف منک ، فلبست ثیابها وتنکرت وتخفرت ، واستصحبت جواریها متخفرات ، وجاءت حتی دخلت علیهن کأنها من النظارة ، فلما رأت ما هن فیه من العبث والسفه ، کشفت نقابها وأبرزت لهن وجهها ، ثم قالت لحفصة: إن تظاهرت أنت وأختک علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فقد تظاهرتما علی أخیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من قبل ، فأنزل الله عز وجل فیکما ما أنزل ! والله من وراء حربکما ! فانکسرت حفصة وأظهرت خجلاً وقالت: إنهن فعلن هذا بجهل ، وفرقتهن فی الحال ، فانصرفن من المکان) !

ص: 222

مسیر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إلی البصرة !

فی کفایة الأثر فی النص علی الأئمة الإثنی عشر ص114، فی حدیث طویل عن حرب الجمل: (ونزل أبو أیوب فی بعض دور الهاشمین ، فجمعنا إلیه ثلاثین نفساً من شیوخ أهل البصرة فدخلنا إلیه وسلمنا علیه وقلنا: إنک قاتلت مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ببدر وأحد المشرکین ، والآن جئت تقاتل المسلمین ! فقال: والله لقد سمعت من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول لی: إنک تقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین ، مع علی بن أبی طالب(علیه السّلام)!قلنا: آلله إنک سمعت من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی علی؟قال: سمعته یقول: علی مع الحق والحق معه ، وهو الإمام والخلیفة بعدی ، یقاتل علی التأویل کما قاتلت علی التنزیل ، وابناه الحسن والحسین سبطای من هذه الأمة ، إمامان إن قاما أوقعدا ، وأبوهما خیر منهما ، والأئمة بعد الحسین تسعة من صلبه ، ومنهم القائم الذی یقوم فی آخر الزمان کما قمت فی أوله ، ویفتح حصون الضلالة...والحدیث طویل فیه معراج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وذکر الأئمة الإثنی عشر(علیهم السّلام) ، جاء فی آخره: قلنا: فما لبنی هاشم؟ قال: سمعته یقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدی . قلنا: فمن القاسطین والناکثین والمارقین؟ قال: الناکثین الذین قاتلناهم ، وسوف نقاتل القاسطین والمارقین ، فإنی والله لا أعرفهم غیر أنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: فی الطرقات بالنهروانات ! قلنا: فحدثنا بأحسن ما سمعته من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، قال:سمعته یقول: مثل مؤمن عند الله عز وجل مثل ملک مقرب ، فإن المؤمن

عند الله تعالی أعظم من ذلک ، ولیس شئ أحب الی الله عز وجل من مؤمن تائب أومؤمنة تائبة . قلنا: زدنا یرحمک الله . قال: نعم سمعته یقول: من قال لا إله إلا الله مخلصاً فله الجنة . قلنا: زدنا یرحمک الله . قال: نعم سمعته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: من کان مسلماً فلا یمکر ولا یخدع ، فإنی سمعت جبرئیل(علیه السّلام)یقول: المکر والخدیعة فی النار . قلنا: جزاک الله عن نبیک وعن الإسلام خیراً ) . انتهی .

ص: 223

وفی نهج البلاغة:3/2: (ومن کتاب له(علیه السّلام)إلی أهل الکوفة عند مسیره إلی البصرة: من عبد الله علی أمیر المؤمنین إلی أهل الکوفة ، جبهة الأنصار ، وسنام العرب ، أما بعد: فإنی أخبرکم عن أمر عثمان حتی یکون سمعه کعیانه: إن الناس طعنوا علیه ، فکنت رجلاً من المهاجرین أکثر استعتابه وأقل عتابه ، وکان طلحة والزبیر أهون سیرهما فیه الوجیف ، وأرفق حدائهما العنیف ، وکان من عائشة فیه فلتة غضب ، فأتیح له قوم فقتلوه ، وبایعنی الناس غیر مستکرهین ولا مجبرین بل طائعین مخیرین. واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جیش المرجل ، وقامت الفتنة علی القطب ، فأسرعوا إلی أمیرکم وبادروا جهاد عدوکم ، إن شاء الله ).

وفی مناقب آل أبی طالب:2/336: ( فأمَّر علی(علیه السّلام)سهل بن حنیف علی المدینة وقثم بن العباس علی مکة ، وخرج فی ستة آلاف إلی الربذة ، ومنها إلی ذی قار. وأرسل الحسن وعمار إلی الکوفة وکتب: من عبد الله وولیه علی أمیر المؤمنین إلی أهل الکوفة جبهة الأنصار وسنام العرب ، ثم ذکر فیه قتل عثمان وفعل طلحة والزبیر وعائشة.... فلما بلغا الکوفة قال أبوموسی الأشعری: یا أهل الکوفة إتقوا الله ولا تقتلوا أنفسکم إن الله کان بکم رحیماً ، ومن یقتل مؤمناً متعمداً.. الآیة . فسکَّته عمار ، فقال أبوموسی: هذا کتاب عائشة تأمرنی أن تکف أهل الکوفة ، فلا تکونن لنا ولا علینا ، لیصل إلیهم صلاحهم . فقال عمار: إن الله تعالی أمرها بالجلوس فقامت ! وأمرنا بالقیام لندفع الفتنة فنجلس؟!

فقام زید بن صوحان ومالک الأشتر فی أصحابهما وتهددوه.....فخرج قعقاع بن عمرو ، وهند بن عمر ، وهیثم بن شهاب ، وزید بن صوحان ، والمسیب بن نجبة ویزید بن قیس ، وحجر بن عدی ، وابن مخدوج ، والأشتر ، الیوم الثالث فی تسعة آلاف ، فاستقبلهم علی(علیه السّلام)علی فرسخ وقال مرحباً بکم أهل الکوفة وفئة الإسلام ، ومرکز الدین . فی کلام له...

ص: 224

وخرج إلی علی(علیه السّلام)من شیعته من أهل البصرة من ربیعة ثلاثة آلاف رجل . وبعث الأحنف إلیه إن شئت أتیتک فی مائتی فارس فکنت معک ، وإن شئت اعتزلت ببنی سعد فکففت عنک ستة آلاف سیف ، فاختار علیٌّ اعتزاله ).

أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یؤکد الحجة قبل الحرب !

فی نهج البلاغة:3/111: ( ومن کتاب له(علیه السّلام)إلی طلحة والزبیر: أما بعد فقد علمتما وإن کتمتما أنی لم أرد الناس حتی أرادونی، ولم أبایعهم حتی بایعونی ، وإنکما ممن أرادنی وبایعنی ، وإن العامة لم تبایعنی لسلطان غالب ولا لعرض حاضر ، فإن کنتما بایعتمانی طائعین فارجعا وتوبا إلی الله من قریب ، وإن کنتما بایعتمانی کارهیْن فقد جعلتما لی علیکما السبیل بإظهارکما الطاعة وإسرارکما المعصیة ، ولعمری ما کنتما بأحق المهاجرین بالتقیة والکتمان ، وإن دفعکما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فیه کان أوسع علیکما من خروجکما منه بعد إقرارکما به .

وقد زعمتما أنی قتلت عثمان ، فبینی وبینکما من تخلف عنی وعنکما من أهل المدینة ، ثم یلزم کل امرئ بقدر ما احتمل . فارجعا أیها الشیخان عن رأیکما ، فإن الآن أعظم أمرکما العار ، من قبل أن یجتمع العار والنار . والسلام ).

وفی کشف الغمة فی معرفة الأئمة للإربلی:1/240: (وکتب علی(علیه السّلام) إلی عایشة: أما بعد فإنک خرجت من بیتک عاصیة لله تعالی ولرسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )تطلبین أمراً کان عنک موضوعاً ، ثم تزعمین انک تریدین الإصلاح بین الناس فخبرینی ما للنساء وقَوْدُ العساکر ! وزعمت أنک طالبة بدم عثمان ، وعثمان رجل من بنی أمیة وأنت امرأة من بنی تیم بن مرة ! ولعمری إن الذی عرضک للبلاء وحملک علی المعصیة لأعظم الیک ذنباً من قتله عثمان ، وما غضبت حتی أغضبت ، ولا هجت حتی هیجت فاتقی الله یاعایشة وارجعی إلی منزلک ، واسبلی علیک سترک . والسلام .

فجاء الجواب إلیه(علیه السّلام): یا ابن أبی طالب جل الأمر عن العتاب ، ولن ندخل فی طاعتک أبداً ، فاقض ما أنت قاض. والسلام .

ص: 225

ثم تراءی الجمعان وتقاربا ، ورأی علی(علیه السّلام)تصمیم القوم علی قتاله ، فجمع أصحابه وخطبهم خطبة بلیغة قال(علیه السّلام)فیها: واعلموا أیها الناس أنی قد تأنیت هؤلاء القوم ، وراقبتهم وناشدتهم کیما یرجعوا ویرتدعوا ، فلم یفعلوا ولم یستجیبوا ، وقد بعثوا إلیَّ أن ابرز إلی الطعان واثبت للجلاد ! وقد کنت وما أهدد بالحرب ولا أدعی إلیها ، وقد أنصف القارة من راماها ، منها: فأنا أبو الحسن الذی فللت حدهم وفرقت جماعتهم ، فبذلک القلب ألقی عدوی ، وأنا علی بینة من ربی ، لما وعدنی من النصر والظفر ، وإنی لعلی غیر شبهة من أمری . ألا وإن الموت لایفوته المقیم ولایعجزه الهارب ،ومن لم یقتل یمت فإن أفضل الموت القتل . والذی نفس علی بیده لألفُ ضربة بالسیف أهون علیَّ من میتة علی الفراش . ثم رفع یده الی السماء وقال: اللهم إن طلحة بن عبید الله أعطانی صفقة یمینه طائعاً ثم نکث بیعتی ، اللهم فعاجله ولا تمهله . وإن زبیر بن العوام قطع قرابتی ونکث عهدی وظاهر عدوی ونصب الحرب لی ، وهو یعلم أنه ظالم لی ! اللهم فاکفنیه کیف شئت .

ثم تقاربوا وتعبَّوْا لابسی سلاحهم ودروعهم متأهبین للحرب ، کل ذلک وعلی (علیه السّلام)بین الصفین علیه قمیص ورداء وعلی رأسه عمامة سوداء ، وهو راکب علی بغلة ، فلما رأی أنه لم یبق إلا مصافحة الصفاح والمطاعنة بالرماح صاح بأعلی صوته: أین الزبیر بن العوام فلیخرج إلیَّ؟ فقال الناس: یا أمیر المؤمنین أتخرج الی الزبیر وأنت حاسر وهومدجج فی الحدید؟ فقال(علیه السّلام): لیس علیَّ منه بأس، ثم نادی ثانیة: فخرج إلیه ودنا منه حتی واقفه فقال له علی(علیه السّلام): یا أبا عبد الله ما حملک علی ماصنعت؟ فقال: الطلب بدم عثمان ، فقال(علیه السّلام): أنت وأصحابک قتلتموه فیجب علیک أن تقید من نفسک ! ولکن أنشدک الله الذی لا إله إلا هو الذی أنزل الفرقان علی نبیه محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أما تذکر یوماً قال لک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):یا زبیر أتحب علیاً ؟ فقلت: وما یمنعنی من حبه وهو ابن خالی ، فقال لک: أما إنک ستخرج علیه یوماً

ص: 226

وأنت له ظالم ؟! فقال الزبیر: اللهم بلی فقد کان ذلک ! فقال علی(علیه السّلام): فأنشدک الله الذی أنزل الفرقان علی نبیه محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أما تذکر یوماً جاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من عند ابن عوف وأنت معه وهوآخذ بیدک ، فاستقبلته أنا فسلمت علیه فضحک فی وجهی وضحکت أنا إلیه ، فقلت أنت: لا یدع ابن أبی طالب زهوه أبداً ! فقال لک النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ): مهلاً یازبیر فلیس به زهو، ولتخرجن علیه یوماً وأنت ظالم له ؟!

فقال الزبیر: اللهم بلی ، ولکن أنسیت ! فأما إذْ ذکرتنی ذلک فلأنصرفن عنک ، ولو ذکرت ذلک لما خرجت علیک ! ثم رجع الی عایشة فقالت: ما وراءک یا أبا عبد الله؟ فقال الزبیر: والله ورائی أنی ما وقفت موقفاً فی شرک ولا إسلام إلا ولی فیه بصیرة ، وأنا الیوم علی شک من أمری ، وما أکاد أبصر موضع قدمی! ثم شق الصفوف وخرج من بینهم ونزل علی قوم من بنی تمیم ، فقام إلیه عمرو بن جرموز المجاشعی فقتله حین نام، وکان فی ضیافته ، فنفذت دعوة علی(علیه السّلام) فیه .

وأما طلحة فجاءه سهم وهو قائم للقتال فقتله ، ثم التحم القتال .

وقال علی(علیه السّلام)یوم الجمل: (وَإِنْ نَکَثُوا أَیْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِی دِینِکُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ ، ثم حلف حین قرأها أنه ما قوتل علیها منذ نزلت حتی الیوم ) ! انتهی .

وفی الإحتجاج:1/237:(عن سلیم بن قیس الهلالی قال: لما التقی أمیر المؤمنین (علیه السّلام)أهل البصرة یوم الجمل، نادی الزبیرَ یا أبا عبد الله أخرج الیَّ: فخرج الزبیر ومعه طلحة . فقال لهما: والله إنکما لتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبی بکر: أن کل أصحاب الجمل ملعونون علی لسان محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقد خاب من افتری! قالا:کیف نکون ملعونین ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة ! فقال(علیه السّلام): لوعلمت أنکم من أهل الجنة لما استحللت قتالکم ، فقال له الزبیر: أما سمعت حدیث سعید بن عمرو بن نفیل وهو یروی أنه سمع رسول الله یقول: عشرة من

ص: 227

قریش فی الجنة؟ قال علی(علیه السّلام): سمعته یحدث بذلک عثمان فی خلافته! فقال الزبیر: أفتراه کذب علی رسول الله(ص)؟! فقال له علی(علیه السّلام): لستُ أخبرک بشئ حتی تسمیهم ؟ قال الزبیر: أبو بکر ، وعمر، وعثمان ، وطلحة ، والزبیر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبی وقاص ، وأبو عبیدة بن الجراح، وسعید بن عمرو بن نفیل . فقال له علی(علیه السّلام):عددتَ تسعة فمن العاشر؟ قال له: أنت ! قال علی(علیه السّلام): قد أقررتَ أنی من أهل الجنة ، وأما ما ادعیت لنفسک وأصحابک فأنا به من الجاحدین الکافرین ! قال له: أفتراه کذب علی رسول الله ؟! قال(علیه السّلام): ما أراه کذب ، ولکنه والله الیقین ! فقال علی(علیه السّلام): والله إن بعض من سمیته لفی تابوت فی شعب فی جب فی أسفل درک من جهنم ، علی ذلک الجب صخرة إذا أراد الله أن یسعر جهنم رفع تلک الصخرة ، سمعت ذلک من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وإلا أظفرک الله بی وسفک دمی علی یدیک ، وإلا أظفرنی الله علیک وعلی أصحابک وسفک دمائکم علی یدی ، وعجل أرواحکم إلی النار ! فرجع الزبیر إلی أصحابه وهویبکی)!! انتهی .

وقد أورد نحوه فی کفایة الأثر ص114 ، ثم قال: فرجع الزبیر وهو یقول:

نادی علیٌّ بصوت لست أجهله

قد کان عمرُ أبیک الحق من حین

فقلت حسبُک من لومی أبا حسنٍ

فبعضُ ما قلته ذا الیوم یکفینی

فاخترتُ عاراً علی نارٍ مؤججة

أنَّی یقوم لها خلو من الطین

فالیوم أرجع من غیٍّ الی رشَد

ومن مغالطة البَغْضا الی اللین

ثم حمل علی(علیه السّلام)علی بنی ضبة ، فما رأیتهم إلا کرماد اشتدت به الریح فی یوم عاصف ، ثم أُخذت المرأة فحُملت الی قصر بنی خلف) .

وفی قرب الإسناد للحمیری ص96: عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال:( دخل علیَّ أناس من أهل البصرة فسألونی عن طلحة والزبیر ، فقلت لهم:کانا من أئمة الکفر، إن علیاً(علیه السّلام)یوم البصرة لما صف الخیول ، قال لأصحابه: لاتعجلوا علی القوم حتی

ص: 228

أُعذر فیما بینی وبین الله عز وجل وبینهم! فقام إلیهم فقال: یا أهل البصرة هل تجدون علی جوراً فی حکم ؟ قالوا: لا . قال: فحیفاً فی قسم ؟ قالوا: لا . قال: فرغبةً فی دنیا أخذتها لی ولأهل بیتی دونکم فنقمتم علی فنکثتم بیعتی؟ قالوا: لا. قال: فأقمت فیکم الحدود وعطلتها عن غیرکم؟ قالوا: لا . قال: فما بال بیعتی تنکث وبیعة غیری لا تنکث ! إنی ضربت الأمر أنفه وعینه فلم أجد إلا الکفر أوالسیف... ؟! ).

وفی شرح الأخبار:1/394: (عن أبی البختری ، قال: لما انتهی علی صلوات الله علیه إلی البصرة خرج إلیه أهلها مع طلحة والزبیر وعائشة ، فعبأ علی صلوات الله علیه أصحابه . ثم أخذ المصحف وبدأ بالصف الاول ، فقال: أیکم یتقدم إلی هؤلاء ویدعوهم إلی ما فیه ، وهومقتول ؟ فخرج إلیه شاب یقال له: مسلم فقال: أنا یا أمیر المؤمنین . فترکه ، ومال إلی الصف الثانی ، فقال: من منکم یأخذ هذا المصحف ویمضی إلی هؤلاء القوم ویدعوهم إلی ما فیه ، وهومقتول؟ فلم یجبه أحد ! وجاءه مسلم فقال: أنا أخرج إلیهم به یا أمیر المؤمنین . فأعرض عنه . وتقدم إلی الصف الثالث ، وقال لهم مثل ذلک . فلم یخرج الله منهم أحد ، وعرض له مسلم ، فقال: أنا یا أمیر المؤمنین ! فلما رأی أنه لم یخرج إلیه أحد دفع إلیه المصحف فمضی نحوالقوم ، فلما رأوه رشقوه بالنبل ، وقرأه علیهم ودعاهم إلی ما فیه ، ثم خرج إلیه رجل منهم فضربه بالسیف علی حبل عاتقه من یده الیمنی التی فیها المصحف فأخذ المصحف بیده الیسری فضربه الرجل حتی قتله !). انتهی. وفی هامشه عن کتاب الجمل ص182: وکانت أمه حاضرة وحملته وجاءت به إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وهی تبکی وتقول:

یا رب إن مسلماً دعاهم

یتلوکتاب الله لا یخشاهم

فخضبوا من دمه فناهم

وأمهم قائمة تراهم

تأمرهم بالقتل لا تنهاهم !

ص: 229

ورموا أصحاب علی صلوات الله علیه بالنبل . قالوا: یا أمیر المؤمنین أما تری النبل فینا کالقطر ، وقد قتلوا مسلماً . فقال لهم علی صلوات الله علیه: قاتلوهم ، فقد طاب لکم القتال ). انتهی.

الزبیر ینسحب من المعرکة ، ویُقتل فی الطریق !

قال ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة:1/91: ( فخرج طلحة والزبیر وعائشة ، وهی علی جمل علیه هودج ، قد ضرب علیه صفائح الحدید ، فبرزوا حتی خرجوا من الدور ومن أفنیة البصرة ، فلما تواقفوا للقتال ، أمر علیٌّ منادیاً ینادی من أصحابه: لایرمین أحد سهماً ولا حجراً ، ولا یطعن برمح ، حتی أعذر إلی القوم فأتخذُ علیهم الحجة . قال: فکلم علی طلحة والزبیر قبل القتال ، فقال لهما: إستحلفا عائشة بحق الله وبحق رسوله علی أربع خصال ، أن تصدِّق فیها: هل تعلم رجلاً من قریش أولی منی بالله ورسوله ، وإسلامی قبل کافة الناس أجمعین ، وکفایتی رسول الله کفارالعرب بسیفی ورمحی ، وعلی براءتی من دم عثمان ، وعلی أنی لم أستکره أحداً ، وعلی أنی لم أکن أحسن قولاً فی عثمان منکما .

فأجابه طلحة جواباً غلیظاً ورقَّ له الزبیر..الخ. قال: وذکروا أن الزبیر دخل علی عائشة فقال: یا أماه ما شهدت موطناً قط فی الشرک ولا فی الإسلام إلا ولی فیه رأی وبصیرة ، غیر هذا الموطن فإنه لا رأی لی فیه ولا بصیرة ، وإنی لعلی باطل ! قالت عائشة: یا أبا عبد الله ، خفت سیوف بنی عبد المطلب ! فقال: أما والله إن سیوف بنی عبد المطلب طوال حداد ، یحملها فتیة أنجاد ! ثم قال لابنه عبد الله: علیک بحزبک ، أما أنا فراجع إلی بیتی ! فقال له ابنه عبد الله: الآن حین التقت حلقتا البطان واجتمعت الفئتان؟! والله لا نغسل رؤوسنا منها ! فقال الزبیر لابنه: لا تعد هذا منی جبناً ، فوالله ما فارقت أحداً فی جاهلیة ولا إسلام ، قال: فما یردک ؟

ص: 230

قال: یردنی ما إن علمته کسَرک ! فقام بأمر الناس عبد الله بن الزبیر ) ! انتهی.

وقال ابن حجر فی مقدمة فتح الباری ص290: (وقاتل الزبیر فی یوم الجمل هوعمرو بن جرموز التمیمی ، قتله غدراً وهو نائم ، وکان قتل الزبیر فی شهر رجب سنة ست وثلاثین انصرف من وقعة الجمل تارکاً للقتال ، فقتله عمرو بن جرموز بضم الجیم والمیم بینهما راء ساکنة وآخره زای ، التمیمی ، غیلة ، وجاء إلی علی متقرباً إلیه بذلک ، فبشره بالنار ! أخرجه أحمد والترمذی وغیرهما ، وصححه

الحاکم من طرق بعضها مرفوع) . انتهی. (الحاکم:3/360 ، وأحمد:1/89 ).

وفی الکافئة ص40: (وأما قول علی: بشر قاتل ابن صفیة بالنار . لقول رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ): بشر قاتل ابن صفیة بالنار ، وکان ممن خرج یوم النهروان ، ولم یقتله أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بالبصرة ، لأنه علم أنه یقتل فی فتنة النهروان ).

مروان الأموی یغتال طلحة التیمی قبل بدء المعرکة !

ترک الزبیر المعرکة بعد اصطفاف الصفوف للحرب ، لکنه کان وفیاً لعائشة أخت زوجته وخالة ابنه عبدالله ! فبعد لقائه المؤثر مع علی(علیه السّلام)اکتفی بالقول لعائشة إنه یشک ولایری نفسه علی الحق ، وإنه قرر الإنسحاب والعودة الی المدینة ! ولما سأله ابنه عبدالله کما تقدم عن ابن قتیبة: ( قال: فما یردُّک ؟ قال: یردنی ما إن علمته کَسَرَک ) ! فقد أراد من ابنه وخالته وشریکه طلحة ، أن یواصلوا المعرکة ضد علی(علیه السّلام)! ولذا لم یخبرهم بحدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الذی ذکَّره به علی(علیه السّلام)ولا طلب منهم تجنب إراقة دماء المسلمین والصلح مع علی(علیه السّلام) !

وقد حاولت عائشة وابنه عبدالله أن یثیروا نخوته فاتهموه بالجبن أمام سیوف بنی عبد المطلب ! لکنه لم یخضع لذلک ، وأجابهم أنی سأثبت لکم الآن أنی

ص: 231

لست جباناً ورکب فرسه وأغار علی جیش علی(علیه السّلام)فعرف علی(علیه السّلام)أنه هجوم لإثبات الشجاعة ! فأمر الجیش أن یفتحوا له الطریق ولایقاتلوه ، فشق الزبیر الجیش وأکمل طریقه عائداً الی المدینة ! وخسرت عائشة به رکناً من أرکانها ، ولکنها تعزت بولده عبدالله ، فهوأشد بغضاً لعلی وبنی هاشم !

وفی صباح نفس الیوم وقبل نشوب المعرکة انهدَّ الرکن الثانی لعائشة ، حیث بادر مروان الی تنفیذ خطته فی قتل طلحة! قال ابن سعد فی الطبقات:3/223: (عن محمد بن سیرین أن مروان اعترض طلحة لما جال الناس بسهم فأصابه فقتله.... عن عبد الملک بن مروان یقول: لولا أن أمیر المؤمنین مروان أخبرنی أنه هو الذی قتل طلحة ما ترکت من ولد طلحة أحداً إلا قتلته بعثمان بن عفان) !

وفی أحادیث عائشة للعسکری:1/228: (وروی ابن أعثم تفصیل قتل طلحة هکذا قال: قال مروان لغلامه: إنی لأعجب من طلحة فإنه لم یکن أشد منه علی عثمان ، فقد کان یحرض أعداءه ویسعی حثیثاً فی إراقة دمه ، والیوم جاء یطلب ثاره ! أرید أن أرمیه وأریح المسلمین من شره ، فلوتقدمت أمامی وحجبتنی کی لاأری فیعلم أنی رمیته ، فأنت حرٌّ ، ففعل ، فأخرج مروان سهماً مسموماً من کنانته فرماه فشک قدمه إلی رکابه . فقال طلحة لغلامه: فخذنی إلی الظل فقال: لا أری ها هنا ظلاً ، فقال طلحة:سبحان الله! لاأری فی قریش الیوم أضیع دماً منی)!

ص: 232

عائشة قادت معرکة الجمل وحدها لسبعة أیام !

قال الطبری فی تاریخه:3/530: (عن أبی البختری الطائی قال أطافت ضبة والأزد بعائشة یوم الجمل ، وإذا رجال من الأزد یأخذون بعر الجمل فیفتونه ویشمونه ویقولون: بعرُ جمل أمنا ریحه ریح المسک ) !

وقال ابن کثیر فی النهایة:7/272: (وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة ، فکان لا یأخذ الرایة ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف ، فیَقْتل من قصده ثم یُقتل بعد ذلک ، وقد فقأ بعضهم عین عدی بن حاتم ذلک الیوم ، ثم تقدم عبد الله بن الزبیر فأخذ بخطام الجمل وهو لا یتکلم ، فقیل لعائشة إنه ابنک ابن أختک فقالت: واثکل أسماء ! وجاءه مالک بن الحارث الأشتر النخعی فاقتتلا فضربه الأشتر علی رأسه فجرحه جرحاً شدیداًً ، وضربه عبد الله ضربة خفیفة ثم اعتنقا وسقطا إلی الأرض یعترکان ، فجعل عبد الله بن الزبیر یقول: أقتلونی ومالکاً واقتلوا مالکاً معی ! فجعل الناس لا یعرفون مالکاً من هو ، وإنما هو معروف بالأشتر ، فحمل أصحاب علی وعائشة فخلصوهما ، وقد جرح عبد الله بن الزبیر یوم الجمل بهذه الجراحة سبعاً وثلاثین جراحة ). انتهی .

أقول: یبدو أن ابن الزبیر أخذ بزمام الجمل بعد أن اشتدت حملات أصحاب علی(علیه السّلام)وقلَّ الآخذون بزمامه من ضبة وترکوه ملقی ، قال الطبری:3/533: (وانتهی إلی الجمل الأشتروعدی بن حاتم ، فخرج عبدالله بن حکیم بن حزام إلی الأشتر فمشی إلیه الأشتر ، فاختلفا ضربتین فقتله الأشتر ، ومشی إلیه عبدالله بن الزبیر فضربه الأشتر علی رأسه فجرحه جرحاً شدیداً ، وضرب عبدالله الأشتر ضربة خفیفة ، واعتنق کل واحد منهما صاحبه وخرَّا إلی الأرض یعترکان ، فقال

ص: 233

عبدالله بن الزبیر: أقتلونی ومالکاً). انتهی ، وهو یدل علی أن الأشتر(رحمه الله)وصل الی مرکز القیادة وقتل القری صاحب الخطام ، فبقی الخطام ملقی فجاء ابن الزبیر !

وفی مواقف الشیعة للأحمدی:1/266: (دخل عمار بن یاسر ، ومالک بن الحارث الأشتر علی عائشة بعد انقضاء أمر الجمل . فقالت عائشة: یا عمار من معک ؟ قال: الأشتر . فقالت: یا مالک ! أنت الذی صنعت بابن أختی ما صنعت ؟

قال: نعم ، ولولا أننی کنت طاویاً ثلاثة لأرحت أمة محمد منه ! فقالت: أما علمت أن رسول الله قال: لایحل دم مسلم إلا بإحدی أمور ثلاث: کفر بعد إیمان أوزنا بعد إحصان ، أوقتل نفس بغیر حق؟ فقال الأشتر: علی بعض هذه الثلاثة قاتلناه یا أم المؤمنین ! وأیم الله ما خاننی سیفی قبلها ، ولقد أقسمت ألا یصحبنی بعدها ! قال أبومخنف: ففی ذلک یقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذی ذکرناه:

أعائش لولا أننی کنت طاویاً

ثلاثاً لألفیت ابن أختک هالکا

غداة ینادی والرجال تحوزه

بأضعف صوت أقتلونی ومالکا

فلم یعرفوه إذ دعاهم وغمه

خدب علیه فی العجاجة بارکا

فنجاه منی أکله وشبابه

وأنیَ شیخ لم أکن متماسکا

وقالت علی أیِّ الخصال صرعته

بقتل أتی أم ردة لا أبا لکا

أم المحصن الزانی الذی حل قتله

فقلت لها لابد من بعض ذلکا. انتهی .

(راجع الغدیر:11/64 . وشرح ابن أبی الحدید:6/83 ) .

ومعنی قوله:(لولا أننی کنت طاویاً ثلاثاً) ، أنه کان صائماً ثلاثة أیام ، فلم یُرد الأشتر(رحمه الله)أن یذکر صیامه فذکر أنه کان جائعاً . وأصل الطاوی صفة للظبی عندما یشبع فیطوی عنقه وینام(لسان العرب:15/18) واستعملوه فی الجائع من باب التفاؤل ،کتسمیتهم الصحراء الصعبة مفازة ، واسمها فی الأصل مَهْلکة .

ص: 234

ومن طرائف ما قرأته فی قیادة عائشة للمعرکة: أن مشایخ المملکة العربیة السعودیة أفتوا بحرمة قیادة المرأة للسیارة ، فعلق أحدهم قائلاً:أم المؤمنین عائشة قادت حرباً ، وهؤلاء یحرمون قیادة المرأة للسیارة !

عائشة تتلقی فی الیوم السابع هزیمة مرة !

وصف ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة:1/96، أیام حرب الجمل فقال: (وأقبل علی وعمار والأشتر والأنصار معهم یریدون الجمل فاقتتل القوم حوله ، حتی حال بینهم اللیل ! وکانوا کذلک یروحون ویغدون علی القتال سبعة أیام ، وإن علیاً خرج إلیهم بعد سبعة أیام فهزمهم ).

ووصف حملة علی(علیه السّلام)فی الیوم السابع من الحرب فقال: (ثم تقدم علیٌّ فنظر إلی أصحابه یهزمون ویقتلون ، فلما نظر إلی ذلک صاح بابنه محمد ومعه الرایة أن اقتحم ، فأبطأ وثبت ، فأتی علیٌّ من خلفه فضربه بین کتفیه ، وأخذ الرایة من یده ثم حمل فدخل عسکرهم ، وإن المیمنتین والمیسرتین تضطربان ، فی إحداهما عمار ، وفی الأخری عبد الله بن عباس ومحمد بن أبی بکر ، قال: فشق علیٌّ فی عسکر القوم یطعن ویقتل ، ثم خرج وهو یقول: الماء الماء ، فأتاه رجل بإداوة فیها عسل فقال له: یا أمیر المؤمنین أما الماء فإنه لا یصلح لک فی هذا المقام ، ولکن أذوقک هذا العسل فقال: هات ، فحسا منه حسوة ، ثم قال: إن عسلک لطائفی ، قال الرجل: لعجباً منک والله یا أمیر المؤمنین لمعرفتک الطائفی من غیره فی هذا الیوم ، وقد بلغت القلوب الحناجر ! فقال له علی: إنه والله یابن أخی ما ملأ صدر عمک شئ قط ولا هابه شئ ! ثم أعطی الرایة لابنه وقال: هکذا فاصنع ، فتقدم محمد بالرایة ومعه الأنصار حتی انتهی إلی الجمل والهودج وهزم ما یلیه ، فاقتتل الناس ذلک الیوم قتالاً شدیداً حتی کانت الواقعة والضرب علی الرکب) .

ص: 235

وفی کتاب الجمل للمفید ص196: (وروی محمد بن عبد الله بن عمر بن دینار قال قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لابنه محمد خذ الرایة وامض ، وعلی(علیه السّلام)خلفه فناداه یا أبا القاسم ؟ فقال لبیک یا أبهْ ، فقال: یا بنی لا یستفزنک ما تری ، قد حملت الرایة وأنا أصغر منک فما استفزنی عدوُّی ، وذلک أنی لم أبارز أحداً إلا حدثتنی نفسی بقتله ، فحدث نفسک بعون الله تعالی بظهورک علیهم ، ولا یخذلک ضعف النفس من الیقین ، فإن ذلک أشد الخذلان . قال: قلت یا أبَهْ ، أرجوأن أکون کما تحب إن شاء الله . قال فالزم رایتک فإن اختلفت الصفوف قف فی مکانک وبین أصحابک ، فإن لم تبین من أصحابک فاعلم أنهم سیرونک .

قال: والله إنی لفی وسط أصحأبی فصاروا کلهم خلفی وما بینی وبین القوم أحد یردهم عنی، وأنا أرید أن أتقدم فی وجوه القوم ، فما شعرت إلا بأبی خلفی قد جرد سیفه وهو یقول لاتَقَدَّمْ حتی أکونَ أمامک ، فتقدم بین یدیَّ یهرول ومعه طائفة من أصحابه ، فضرب الذین فی وجهه حتی نهضوهم ، ولحقتهم بالرایة فوقفوا وقفة ، واختلط الناس وکدَّت السیوف ساعة ، فنظرت إلی أبی یفرج الناس یمیناً وشمالاً ویسوقهم أمامه ، فأردت أن أجول فکرهت خلافه ووصیته لی: لا تفارق الرایة ، حتی انتهی إلی الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل من بنی ضبة والأزد وتمیم وغیرهم ، وصاح إقطعوا البطان ، فأسرع محمد بن أبی بکر فقطعه وأطلع الهودج ! فقالت عائشة من أنت؟ قال أبغض أهلک الیک! قالت ابن الخثعمیة؟ قال نعم ، ولم تکن دون أمهاتک !.....

ونادی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)محمد بن أبی بکر فقال: سلها هل وصل إلیها شئ من الرماح والسهام؟ فسألها قالت: نعم وصل إلی سهم خدش رأسی ، وسلمت من غیره . الله بینی وبینکم . فقال محمد: والله لیحکمن علیک یوم القیامة ما کان بینک وبین أمیر المؤمنین حتی تخرجی علیه وتؤلبین الناس علی قتاله ، وتنبذی کتاب

ص: 236

الله وراء ظهرک ؟! فقالت: دعنا یا محمد وقل لصاحبک یحرسنی ، وکان الهودج کالقنفذ من النبل! فرجعتُ إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وأخبرته بما جری بینی وبینها وما قلت وما قالت ، فقال(علیه السّلام): هی امرأة والنساء ضعاف العقول ، فتول أمرها واحملها إلی دار عبد الله بن خلف ، حتی ننظر فی أمرها . فحملتها إلی الموضع وإن لسانها لا یفتر من السب لی ولعلی(علیه السّلام)والترحم علی أصحاب الجمل )!!

وفی الأخبار الطوال ص150: (قالوا: ولما رأی علی لوثَ أهل البصرة بالجمل ، وأنهم کلما کشفوا عنه عادوا فلاثوا به ، قال لعمار وسعید بن قیس وقیس بن سعد بن عبادة والأشتر وابن بدیل ومحمد بن أبی بکر ، وأشباههم من حماة أصحابه: إن هؤلاء لا یزالون یقاتلون ما دام هذا الجمل نصب أعینهم ، ولو قد عقر فسقط لم تثبت لهم ثابتة ، فقصدوا بذوی الجد من أصحابه قصد الجمل حتی کشفوا أهل البصرة عنه ، وأفضی إلیه رجل من مراد الکوفة ، یقال له أعین بن ضبیعة فکشف عرقوبه بالسیف ، فسقط وله رغاء ، فغرق فی القتلی ، ومال الهودج بعائشة ، فقال علی لمحمد بن أبی بکر: تقدم إلی أختک ، فدنا محمد ، فأدخل یده فی الهودج ، فنالت یده ثیاب عائشة ، فقالت: إنا لله ، من أنت ثکلتک أمک ، فقال: أنا أخوک محمد !

ونادی علی رضی الله عنه فی أصحابه: لاتتبعوا مولیاً ، ولا تجهزوا علی جریح ، ولاتنتهبوا مالا ، ومن ألقی سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . قال: فجعلوا یمرون بالذهب والفضة فی معسکرهم والمتاع ، فلا یعرض له أحد إلا ما کان من السلاح الذی قاتلوا به ، و الدواب التی حاربوا علیها ، فقال له بعض أصحابه: یا أمیر المؤمنین ، کیف حلَّ لنا قتالهم ولم یحلَّ لنا سبیهم وأموالهم؟! قال علی رضی الله عنه: لیس علی الموحدین سبی ، ولا یغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعلیه ، فدعوا مالا تعرفون ، والزموا ما تؤمرون ) .

ص: 237

وفی تاریخ الطبری:3/538: (أن محمد بن أبی بکر وعمار بن یاسر أتیا عائشة وقد عقر الجمل فقطعا غرضة الرحل ، واحتملا الهودج فنحیاه حتی أمرهما علی فیه أمره بعد . قال: أدخلاها البصرة ، فأدخلاها دار عبدالله بن خلف الخزاعی).

وفی الکافئة ص34: (عن الأصبغ بن نباته قال: لما عقر الجمل وقف علی(علیه السّلام) علی عائشة فقال: ما حملک علی ما صنعت؟ قالت: ذَیْتَ وذیت! فقال: أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة لقد ملأت أذنیک من رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهو یلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ! أما أحیاؤهم فیقتلون فی الفتنة ، وأما أمواتهم ففی النار علی ملة الیهود ) ! وفی الکافئة ص36: (قال أبو رافع: سأحدثکم بحدیث سمعته أذنای لا أحدثکم عن غیری: سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول لعلی: قاتل الله من قاتلک وعادی الله من عاداک . فقالت عائشة: یا رسول الله من یقاتله ومن یعادیه؟ قال: أنتِ ومن معک ، أنتِ ومن معک ) .

وفی الکافئة ص29: (عن حبة العرنی أن أمیر المؤمنین صلوات الله علیه بعث إلی عائشة محمداً أخاها رحمة الله علیه ، وعمار بن یاسر رضوان الله علیه: أن ارتحلی والحقی ببیتک الذی ترکک فیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأخبراه بقولها ، فغضب ثم ردهما إلیها وبعث معهما الأشتر ، فقال: والله لتخرجن أولتُحْمَلنَّ احتمالاً .

ثم قال أمیر المؤمنین صلوات الله علیه: یا معشر عبد القیس أندبوا إلیَّ الحرة الخیرة من نسائکم ، فإن هذه المرأة من نسائکم ، فإنها قد أبت أن تخرج ، لتحملوها احتمالاً . فلما علمت بذلک قالت لهم: قولوا فلیجهزنی! فأتوا أمیر المؤمنین صلوات الله عیه فذکروا له ذلک ، فجهزها وبعث معها بالنساء....

عن محصن بن زیاد الضبی قال: سمعت الأحنف بن قیس یقول: فقالت: لا أفعل ! فقال لها: لئن لم تفعلی لأرسلن إلیک نسوة من بکر بن وائل بشفار حداد یأخذنک بها . قال: فخرجت حینئذ ) !

ص: 238

وفی تاریخ الیعقوبی:2/183: (وأتاها علی ، وهی فی دار عبد الله بن خلف الخزاعی وابنه المعروف بطلحة الطلحات ، فقال: إیهاً یا حمیراء ! ألم تُنْهَیْ عن هذا المسیر ! فقالت: یا ابن أبی طالب قدرتَ فاسجحْ ! فقال: أخرجی إلی المدینة وارجعی إلی بیتک الذی أمرک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن تقری فیه . قالت: أفعل . فوجه معها سبعین امرأة من عبد القیس فی ثیاب الرجال ، حتی وافوا بها المدینة ).

فی رقبة مَن..قتلی حرب الجمل؟!

فی تاریخ الطبری:3/543: (کان قتلی الجمل حول الجمل عشرة آلاف ، نصفهم من أصحاب علی ونصفهم من أصحاب عائشة ). انتهی .

ووصلت بهم الروایات الی خمسة وعشرین ألفاً ! ففی تاریخ خلیفة بن خیاط ص 139 ، عن جدة المعلی أبی حاتم قالت: (خرجنا إلی قتلی الجمل فعددناهم بالقصب عشرین ألفاً....عن خالد بن العاص عن أبیه قال: قتل ثلاثة عشر ألفاً ، من أصحاب علی ما بین الأربع مائة إلی الخمس مائة ). انتهی.

وفی مستدرک الوسائل:11/59: فی حدیث عن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، قال فیه: (ومسیرها من مکة إلی البصرة ، وإشعالها حرباً قتل فیه طلحة والزبیر وخمسة وعشرون ألفاً من المسلمین ، وقد علمتم أن الله عز وجل یقول: وَمَنْ یَقْتُلْ مؤمناً متعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِیهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَیْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عذاباً عَظِیماً).

وفی کشف الغمة:1/243: ( وکان عدة من قتل من جند الجمل ستة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعین إنساناً ، وکانوا ثلاثین ألفاً ، فأتی القتل علی أکثر من نصفهم ، وقتل من أصحاب علی(علیه السّلام) ألف وسبعون رجلاً ، وکانوا عشرین ألفاً ). انتهی.

أقول: المرجح عندی مارواه فی الکافئة: ص19عن علی(علیه السّلام)قال: (ولقد علمت والله أن الراکبة الجمل لاتحل عقدة ولاتسیر عقبة ولاتنزل منزلة إلا إلی معصیة الله ، حتی

ص: 239

تورد نفسها ومن معها مورداً یقتل ثلثهم ویهرب ثلثهم ویرجع ثلثهم) . انتهی.

وقد رووا أن جنود فتنة عائشة کانوا ثلاثین ألفاً ، فیکون قتلاهم نحوعشرة آلاف جزاهم الله بسوء فعالهم ، وقد وصف علی(علیه السّلام)قتلهم بأنه فقٌْ لعین الفتنة ، ففی کشف الغمة:1/244:(عن زر أنه سمع علیاً(علیه السّلام)یقول:أنا فقأت عین الفتنة ، ولولا أنا ما قتل أهل النهروان وأهل الجمل ، ولولا أننی أخشی أن تترکوا العمل لأنبأتکم بالذی قضی الله علی لسان نبیکم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لمن قاتلهم مستبصراً ضلالهم ، عارفاً للهدی الذی نحن علیه). انتهی.

أما الشهداء من جنود علی(علیه السّلام)فکانوا نحوألفین ، رضوان الله علیهم .

ص: 240

من نبل علی(علیه السّلام)وعدالته فی حرب الجمل

فی تاریخ الطبری:3/543: ( ودخل علی البصرة یوم الإثنین فانتهی إلی المسجد فصلی فیه ثم دخل البصرة فأتاه الناس ، ثم راح إلی عائشة علی بغلته فلما انتهی إلی دار عبدالله بن خلف وهی أعظم دار بالبصرة ، وجد النساء یبکین علی عبدالله وعثمان ابنی خلف مع عائشة ، وصفیة ابنة الحارث مختمرة تبکی ، فلما رأته قالت: یا علی یا قاتل الأحبة یا مفرق الجمع ، أیتم الله بنیک منک کما أیتمت وُلد عبدالله منه ! فلم یردَّ علیها شیئاً ، ولم یزل علی حاله حتی دخل علی عائشة فسلم علیها وقعد عندها ، وقال لها جَبَهتنا صفیة ، أما إنی لم أرها منذ کانت جاریة حتی الیوم ! فلما خرج علی أقبلت علیه فأعادت علیه الکلام ، فکف بغلته وقال: أما لهممت - وأشار إلی الأبواب من الدار - أن أفتح هذا الباب وأقتل من فیه ، ثم هذا فأقتل من فیه ، ثم هذا فأقتل من فیه ! وکان أناس من الجرحی قد لجؤوا إلی عائشة فأخبر علیٌّ بمکانهم عندها فتغافل عنهم ، فسکتت !

فخرج علی فقال رجل من الأزد: والله لا تفلتنا هذه المرأة ! فغضب وقال: صه ، لا تهتکنَّ ستراً ، ولا تدخلنَّ داراً ، ولا تَهیجنَّ امرأة بأذی ، وإن شَتَمْنَ أعراضکم وسفَّهْنَ أمراءکم وصلحاءکم ، فإنهن ضعاف ! ولقد کنا نؤمر بالکف عنهن وإنهن لمشرکات ، وإن الرجل لیکافئ المرأة ویتناولها بالضرب فیعیر بها عقبه من بعده ، فلایبلغنی عن أحد عرض لامرأة ، فأنکِّلُ به شرار الناس)! انتهی .

أقول: صفیة هذه ، معروفة بأم طلحة الطلحات ، هی بنت الحارث بن طلحة بن أبی طلحة من بنی عبد الدار(تهذیب التهذیب:12/380 ) ، ولذلک أجابها أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، عندما أعادت دعاءها علیه کما فی مناقب آل أبی طالب:2/98: (إنی

ص: 241

لا ألومک أن تبغضینی یا صفیة وقد قتلت جدک یوم بدر وعمک یوم أحد ، وزوجک الآن ، ولوکنت قاتل الأحبة لقتلت من فی هذه البیوت)!!

وروی الإربلی فی کشف الغمة:/242، قصة قتل علی(علیه السّلام)لزوجها ابن خلف فی حرب الجمل ، وأن ابن خلف کان البادئ حیث تحدی علیاً(علیه السّلام)وأراد قتله ، قال:

(خرج رجل مدجج یظهر بأساً ، ویعرِّض بذکر علی(علیه السّلام)حتی قال:

أضربکم ولوأری علیَّا

عمَّمتُه أبیض مشرفیَّا

فخرج إلیه علیٌّ(علیه السّلام)متنکراً وضربه علی وجهه فرمی بنصف قحف رأسه! فسمع صائحاً من ورائه فالتفت فرأی ابن أبی خلف الخزاعی من أصحاب الجمل فقال: هل لک فی المبارزة یا علیّ؟ فقال علیّ(علیه السّلام)ٌ: ما أکره ذلک ، ولکن ویحک یا ابن أبی خلف ، ما راحتک فی القتل وقد علمت من أنا؟ فقال: ذرنی یا ابن أبی طالب من بذخک بنفسک ، وادنُ منی لتری أیُّنا یقتل صاحبه ! فثنی علیٌّ(علیه السّلام) عنان فرسه إلیه فبدره ابن خلف بضربة فأخذها علی فی جحفته، ثم عطف علیه بضربة أطار بها یمینه ، ثم ثنی بأخری أطار بها قحف رأسه) !

وذکر القاضی المغربی فی دعائم الإسلام:1/394

، أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)قال لإحدی النساء(عائشة):( ألا تبعدین هؤلاء الکلبات عنی! یزعمن أنی قاتل الأحبة ، ولوقتلت الأحبة لقتلت من فی هذه الحجرة ، ومن فی هذه الحجرة ، وأومی إلی ثلاث حجرات ، فما بقی فی الدار صائحة إلا سکتت ، ولا قائمة إلا جلست !

قال الأصبغ: وهو صاحب الحدیث: وکان فی إحدی الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفی الأخری مروان بن حکم وشباب من قریش ، وفی الأخری عبد الله بن الزبیر وأهله . فقیل له: فهلا بسطتم أیدیکم علی هولاء فقتلتموهم؟ ألیس هؤلاء کانوا أصحاب القرحة ، فلمَ استبقاهم ؟ قال الأصبغ: قد ضربنا والله بأیدینا علی قوائم السیوف ، وحددنا أبصارنا نحوه لکی یأمرنا فیهم بأمر ، فما

ص: 242

فعل ووسعهم عفوه ! وذکر باقی الحدیث بطوله ). انتهی .

وفی تاریخ الطبری:3/541: (وأوی عبدالله بن الزبیر إلی دار رجل من الأزد یدعی وزیراً وقال: إئت أم المؤمنین فأعلمها بمکانی ، وإیاک أن یطلع علی هذا محمد بن أبی بکر ! فأتی عائشة فأخبرها فقالت علیَّ بمحمد ، فقال: یا أم المؤمنین إنه قد نهانی أن یعلم به محمد ، فأرسلت إلیه فقالت: إذهب مع هذا الرجل حتی تجیئنی بابن أختک ، فانطلق معه فدخل الأزدی علی ابن الزبیر قال: جئتک والله بما کرهت وأبت أم المؤمنین إلا ذلک ! فخرج عبدالله ومحمد وهما یتشاتمان ! فذکر محمد عثمان فشتمه ، وشتم عبدالله محمداً ، حتی انتهی إلی عائشة فی دار عبدالله بن خلف ! وأرسلت عائشة فی طلب من کان جریحاً فضمت منهم ناساً ، وضمت مروان فیمن ضمت فکانوا فی بیوت الدار ). انتهی .

أقول: هذا یدل علی أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أمر محمد بن أبی بکر أن یکون مع أخته عائشة ویتحمل سبها وشتمها ، ویطیعها فی خدماتها ویعفو عن أنصارها !

وفی تاریخ الطبری:3/547: (وجهز علیٌّ عائشة بکل شئ ینبغی لها من مرکب أو زاد أو متاع ، وأخرج معها کل من نجا ممن خرج معها ، إلا من أحب المقام . واختار لها أربعین امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وقال: تجهز یا محمد فبلَّغها ، فلما کان الیوم الذی ترتحل فیه جاءها حتی وقف لها ، وحضر الناس فخرجت علی الناس وودعوها وودعتهم وقالت:

یا بَنِیَّ ، تَعتُّبُ بعضنا علی بعض استبطاءٌ واستزادة ، فلا یَعْتَدَّنَّ أحد منکم علی أحد بشئ بلغه من ذلک ، إنه والله ما کان بینی وبین علیٍّ فی القدیم إلا ما یکون بین المرأة وأحمائها ، وإنه عندی علی معتبتی من الأخیار ) ! انتهی .

ومعنی کلامها: یا أولادی ، نحن الصحابة قد یعتب بعضنا علی بعض ، لأنه

ص: 243

یستبطئ منه ما یراه لازماً ، أو لأنه یرید منه المزید من الخیر الذی فعله ، فإن بلغکم من بعضنا غضب علی بعض فلا تجعلوه سبباً للنزاع والحرب ! وأنا رغم عتبی علی علی فهو عندی من الأخیار ، ولم یکن بینی وبینه إلا ما یکون بین الزوجة وأقارب زوجها من أمور صغیرة !!

فهذا اعتراف عائشة بأن علیاً رجل صالح وأن حربها له وألوف القتلی کانت بسبب حساسیة الزوجة من أقارب زوجها ! أما علی(علیه السّلام)فله فیها رأی آخر !!

وفی تاریخ الطبری:3/545: (عن محمد بن راشد عن أبیه قال: کان من سیرة علی: أن لا یقتل مدبراً ، ولا یدفف علی جریح ، ولا یکشف ستراً ، ولا یأخذ مالاً ، فقال قوم یومئذ: ما یحلل لنا دماءهم ویحرم علینا أموالهم ؟!فقال علی: القوم أمثالکم ، من صفح عنا فهو منا ونحن منه ، ومن لجَّ حتی یصاب فقتاله منی علی الصدر والنحر ، وإن لکم فی خمسه لغنی . فیومئذ تکلمت الخوارج)! انتهی .

ومعنی قوله: (فیومئذ تکلمت الخوارج): أنهم تشکلوا فی ذلک الیوم کفئة لها متکلمون باسمهم ، وکان أول اعتراضهم علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أنه أحلَّ قتال البغاة وحرَّم سبیهم وغنائمهم ، إلا ما حوی معسکرهم !

وفی الإحتجاج:1/246:عن عبدالله بن الحسن قال:(کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یخطب بالبصرة بعد دخوله بأیام فقام إلیه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین أخبرنی مَنْ أهل الجماعة ، ومَن أهل الفرقة ، ومَن أهل البدعة ومَن أهل السنة ؟ فقال: ویحک أما إذا سألتنی فافهم عنی ، ولا علیک أن تسأل عنها أحداً بعدی:

أما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعنی وإن قلوا ، وذلک الحق عن أمر الله تعالی وعن أمر رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). وأهل الفرقة المخالفون لی ولمن اتبعنی وإن کثروا . وأما أهل السنة فالمتمسکون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا . وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولکتابه ولرسوله ، العاملون برأیهم وأهوائهم ، وإن کثروا ، وقد مضی منهم الفوج

ص: 244

الأول وبقیت أفواج ، وعلی الله قبضها واستیصالها عن جدد الأرض .

فقام إلیه عمار فقال: یا أمیر المؤمنین إن الناس یذکرون الفیئ ویزعمون أن من قاتلنا فهو وماله وولده فیئٌ لنا . فقام إلیه رجل من بکر بن وائل یدعی عباد بن قیس ، وکان ذا عارضة ولسان شدید ، فقال: یا أمیر المؤمنین والله ما قسمت بالسویة ، ولا عدلت بالرعیة . فقال: ولمَ ویحک؟! قال لأنک قسمت ما فی العسکر وترکت الأموال والنساء والذریة . فقال: أیها الناس من کانت به جراحة فلیداوها بالسمن ! فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات !

فقال له أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إن کنت کاذباً فلا أماتک الله حتی یدرکک غلام ثقیف(یقصد الحجاج) ! قیل: ومن غلام ثقیف؟ فقال: رجل لا یدع لله حرمة الا انتهکها ! فقیل: أفیموت أویقتل؟فقال: یقصمه قاصم الجبارین بموت فاحش یحترق منه دبره لکثرة ما یجری من بطنه ! یا أخا بکر أنت أمرؤ ضعیف الرأی ، أوَما علمت أنا لا نأخذ الصغیر بذنب الکبیر ، وأن الأموال کانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا علی رشدة ، وولدوا علی فطرة ، وإنما لکم ما حوی عسکرهم ، وما کان فی دورهم فهومیراث، فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه وإن کف عنا لم نحمل علیه ذنب غیره! یا أخا بکر لقد حکمت فیهم بحکم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی أهل مکة ، فقسم ماحوی العسکر ، ولم یتعرض لما سوی ذلک ، وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل !

یا أخا بکر أما علمت أن دار الحرب یحل ما فیها ، وأن دار الهجرة یحرم ما فیها إلا بالحق فمهلاً مهلاً رحمکم الله . فإن لم تصدقونی وأکثرتم علیَّ - وذلک أنه تکلم فی هذا غیر واحد - فأیکم یأخذ عائشة بسهمه؟! فقالوا: یا أمیر المؤمنین أصبت وأخطأنا ، وعلمت وجهلنا ، فنحن نستغفر الله تعالی! ونادی الناس من کل جانب: أصبت یا أمیر المؤمنین ، أصاب الله بک الرشاد والسداد ، فقام عمار فقال:

أیها الناس إنکم والله لواتبعتموه واطعتموه لن یضل بکم عن منهل نبیکم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

ص: 245

حتی قیْسَ شعرة ، وکیف لایکون ذلک وقد استودعه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علم المنایا والقضایا وفصل الخطاب علی منهاج هارون ، وقال له: أنت منی بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لانبی بعدی ، فضلاً خصه الله به وإکراماً منه لنبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حیث أعطاه ما لم یعط أحداً من خلقه.....

ثم قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام):أنظروا رحمکم الله ما تؤمرون فامضوا له..... وأما عائشة فأدرکها رأی النساء ، ولها بعد ذلک حرمتها الأولی والحساب علی الله ، یعفو عمن یشاء ویعذب من یشاء ). انتهی .

ص: 246

أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یرتب وضع البصرة ویواصل فتح إیران والهند

فی تاریخ الیعقوبی:2/183: (ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبیرة بن أبی وهب المخزومی إلی خراسان ) .

وفی شرح نهج البلاغة:18/308: (هبیرة بن أبی وهب ، کان من الفرسان المذکورین ، وابنه جعدة بن هبیرة ، وهو ابن أخت علی بن أبی طالب ، أمه أم هانی بنت أبی طالب ، وابنه عبد الله بن جعدة بن هبیرة ، هو الذی فتح القهندر وکثیراً من خراسان ، فقال فیه الشاعر:

لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندرکم ولا خراسانُ حتی ینفخ الصور . انتهی.

أقول: فی معجم البلدان:4/419 ، وصحاح الجوهری:1/433: قهندز بالزای .

وقال الطبری فی تاریخه:4/46: (فانتهی إلی أبر شهر وقد کفروا وامتنعوا فقدم علی علی فبعث خلید بن قرة الیربوعی فحاصر أهل نیسابور حتی صالحوه وصالحه أهل مرو ، وأصاب جاریتین من أبناء الملوک نزلتا بأمان فبعث بهما إلی علی فعرض علیهما الإسلام وأن یزوجهما ، قالتا زوجنا ابنیک فأبی ، فقال له بعض الدهاقین إدفعهما إلیَّ فإنه کرامة تکرمنی بها ، فدفعهما إلیه فکانتا عنده یفرش لهما الدیباج ویطعمهما فی آنیة الذهب ، ثم رجعتا إلی خراسان ). انتهی .

وقد وضعنا عنوان مواصلة علی(علیه السّلام)للفتوحات عن قصد ، لإثبات أنه(علیه السّلام)رغم أن أعداءه شغلوه بثلاث حروب داخلیة ، فقد واصل اهتمامه بالفتوحات ، وفتح ولاته مناطق کثیرة من خراسان والهند وإفریقیا .

قال خلیفة بن خیاط فی تاریخه ص143، فی حوادث سنة36: ( وفیها ندب الحارث بن مرة العبدی(من البحرین)الناس إلی غزو الهند ، فجاوز مکران إلی

ص: 247

بلاد قندابیل ووغل فی جبال الفیقان ...) .

وفی فتوح البلدان للبلاذری:3/531: (فلما کان آخر سنة ثمان وثلاثین وأول سنة تسع وثلاثین فی خلافة علی بن أبی طالب رضی الله عنه ، توجه إلی ذلک الثغر الحارث بن مرة العبدی متطوعاً بإذن علی ، فظفر وأصاب مغنماً وسبیاً ، وقسم فی یوم واحد ألف رأس ). انتهی .

إن من ظلامات قریش لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)أنهم نسبوا الفتوحات لأبی بکر وعمر وعثمان ، وأخفوا دوره ودور تلامیذه وشیعته الفرسان أمثال: خالد بن سعید بن العاص وإخوته أبان وعمرو ، وبریدة الأسلمی ، وعمار ، وحذیفة ، وسلمان ، والمقداد ، وحجر بن عدی ، والأشتر ، وهاشم المرقال ، وأبی ذر ، وعبادة بن الصامت ، والبراء بن عازب ، وأبی أیوب الأنصاری ، وبلال ، وعبدالله بن خلیفة البجلی ، وعدی بن حاتم الطائی ، وبدیل بن ورقاء الخزاعی ، وأبو عبیدة بن مسعود الثقفی...وغیرهم وغیرهم ، من القادة المیدانیین الذین قامت الفتوحات علی قیادتهم وجهودهم وبطولاتهم .

فقد حدث أن انهزم المسلمون فی معرکة الجسر فی أوائل فتح العراق ، وأرسل حذیفة الی عمر إن الفرس جمعوا مئة وخمسین ألف جندی وهم قاصدون الی المدینة فخاف عمر فنهض علی(علیه السّلام)وطمأنه، فأطلق عمر یده فی إدارة الفتوحات الی حد ، فأخذ یرسل القادة ویوجههم ، حتی أزال الأخطار وحقق الإنتصارات ، لکن قریشاً کانت تنسب الفتوح الی عمر وعثمان والمقربین الیهم !

وقد حدث أن جمعت الروم أکثر من مئة ألف مقاتل لمعرکة فاصلة مع المسلمین فی الشام ، وکان القادة الفرسان الذین حققوا النصر للمسلمین علیهم تلامیذ علی(علیه السّلام)مثل خالد بن سعید ، ومالک الأشتر ، وهاشم المرقال..الخ.

ص: 248

قال ابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغة:20/298: (قال له قائل: یا أمیر المؤمنین أرأیت لوکان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ترک ولداً ذکراً قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أکانت العرب تسلم إلیه أمرها؟ قال: لا ، بل کانت تقتله إن لم یفعل ما فعلت ، ولولا أن قریشاً جعلت إسمه ذریعة إلی الریاسة، وسلماً إلی العز والأمرة ، لما عبدت الله بعد موته یوماً واحداً، ولارتدت فی حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بکرًا ، ثم فتح الله علیها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن فی عیونها من الإسلام ما کان سمجاً ، وثبت فی قلوب کثیر منها من الدین ما کان مضطرباً ، وقالت: لولا أنه حق لما کان کذا ، ثم نسبت تلک الفتوح إلی آراء ولاتها وحسن تدبیر الأمراء القائمین بها، فتأکد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرین، فکنا نحن ممن خمل ذکره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصیته ، حتی أکل الدهر علینا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فیها ، ومات کثیر ممن یعرف ، ونشأ کثیر ممن لا یعرف .

وما عسی أن یکون الولد لوکان ! إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یقربنی بما تعلمونه من القُرْب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصیحة ، أفتراه لوکان له ولد هل کان یفعل ما فعلت! وکذاک لم یکن یَقْرُب ما قَرُبْتُ ، ثم لم یکن عند قریش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة .

اللهم إنک تعلم أنی لم أرد الأمرة ، ولا علو الملک والریاسة ، وإنما أردت القیام بحدودک ، والأداء لشرعک ، ووضع الأمور فی مواضعها ، وتوفیر الحقوق علی أهلها والمضی علی منهاج نبیک ، وإرشاد الضال إلی أنوار هدایتک ). انتهی .

وقد أشرنا الی موضوع المفتوحات استطراداً ، وهو یحتاج الی دراسة خاصة ،

کما ینبغی التنبیه علی أن إمضاء أمیر المؤمنین(علیه السّلام)للفتوحات لایعنی قبوله(علیه السّلام) لأخطاءها الکثیرة ، ومنها أخطاء فادحة علی مستوی الإسلام والتاریخ !

ص: 248

کیف استجابت الأمة لعلی(علیه السّلام)وقاتلت معه قریشاً !

یتعجب الإنسان کیف تخلَّت أمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن أهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أیام وفاته فلم تَقُمْ بردة فعل علی هجوم الحزب القرشی علی بیت علی وفاطمة(علیهماالسّلام)حتی فعلوا ما فعلوا ، وأجبروا أهل البیت(علیهم السّلام) علی بیعة أبی بکر ! ثم کیف لم یستجب الأنصار لعلی(علیه السّلام)حین استعمل معهم أقوی وسائل التحریک وهی (الجاهة) التی یحسب لها العرب کل حساب ! فقد حَمَل علیٌّ فاطمة الزهراء علی دابة بعد الهجوم علی دارها ، وکانت مریضة ، وأخذ معه ولدیه الحسن والحسین(علیهم السّلام) ، وطرق أبواب زعماء الأنصار واحداً واحداً ، وذکَّرهم هو وفاطمة(علیهماالسّلام)ببیعتهم له یوم الغدیر وبیعتهم للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قبل عشر سنوات بیعة العقبة ، یوم قالوا للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یارسول الله أشرُطْ لنفسک ولربک ما شئت ، فأمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً فأخذ علیهم البیعة علی أن یحموا النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )حتی یبلغ رسالة ربه مما یحمون منه أنفسهم ، ویحموا أهل بیته مما یحمون منه أهلیهم وذراریهم ، ولا ینازعوا الأمر أهله !!

فلم تؤثر فیهم هذه الجاهة أکثر من وعدهم لعلی(علیه السّلام)أن یوافوه غداً لدفع الظلم عنه والطلب بحقه ، فلم یحضروا !!

یتعجب ، عندما یری هؤلاء أنفسهم أو أولادهم ، یهتفون فی زمن عثمان باسم علیّ(علیه السّلام)للخلافة ، ویحتشدون بعد مقتل عثمان راجین أن یقبل بیعتهم بالخلافة !

وعندما خرجت علیه عائشة وطلحة والزبیر استجابوا لدعوته الی قتالهم !

وعندما خرج علیه معاویة ومعه کل قبائل قریش ، استجابوا له وقاتلوا معه قریشاً کلها فی صفین؟!

فما الذی تغیر فی هذه الثلاثین سنة ، حتی صار قتال قریش سائغاً عند الأمة؟!

الذی حدث ، أولاً: أن قبائل قریش حکمت فی عهد أبی بکر وعمر اثنتی عشرة

ص: 250

سنة ، ثم سلَّمت الخلافة الی بنی أمیة فاستأثروا وظلموا ، فضجَّت الأمة من ظلم قریش! وصار

مطلب عامتها فی المدینة والولایات ، إصلاح ما أفسدته قریش ، ولا یوجد شخص عادل قوی یستطیع إصلاحه مثل علی(علیه السّلام) .

والذی حدث ثانیاً: أن جمهور الطلقاء الذی حشدتهم قریش فی المدینة عند وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعلموهم أن یصیحوا: القول ما قاله عمر ، لایوجدون الآن !

وحتی لو کانوا موجودین فصیاحهم الیوم لا ینفع ، لغیاب قادة قریش المحنکین المخططین وهم: سهیل بن عمرو ، وأبو بکر بن أبی قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبیدة بن الجراح ، وسالم الفارسی مولی حذیفة الأموی !

والذی حدث ثالثاً: أن شعور الأمة بتأنیب الضمیر لظلامتها لأهل بیت نبیها(علیهم السّلام) قد نما فیها ، فأرادت أن تکفر عن ذلک ببیعتها لعلی(علیه السّلام) !

فهذه العوامل الثلاثة کانت أسباباً فی استجابة الأمة لعلی(علیه السّلام) ، لکن العامل الأساسی الذی یعادلها جمیعاً هو شخصیة علیٍّ الفریدة ، فی تجسیده للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وتاریخ جهاده العظیم ، وشجاعته ، وبلاغته ، وعدله(علیه السّلام) !

ویعادل کل هذه العوامل والصفات: المعجزات التی رأتها الأمة من علی(علیه السّلام) فخشعت لها قلوب المؤمنین ، وخضعت لها أعناق المنافقین ! فقد کان(علیه السّلام) یخبرهم بما سیکون من أحداث ، ویریهم آیات الله تعالی وآیات رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد بلغت معجزاته التی رأتها الأمة فی خلافته أکثر من خمس مئة !!

ومن خصائص شخصیة علی(علیه السّلام)التی کانت تعجب الأمة ، قوة قلبه وبصیرته ، بحیث استطاع أن یخوض الحرب مع الناکثین والقاسطین والمارقین ، بإمکانات بسیطة بالقیاس الی إمکانات طلحة والزبیر وعائشة ومعاویة ! فقد تقدم أن طلحة وحده کان یمکنه أن یموِّل ثلاث حروب کحرب الجمل ، مضافاً الی أن بیوت

ص: 251

أموال المسلمین فی الأمصار کانت فی ید الولاة الأمویین فجاء بعضهم بها الی عائشة وطلحة والزبیر ، کیعلی بن أمیة والی الیمن ! (ثقات ابن حبان:2/279).

لقد استطاعت عائشة وشرکاؤها بهذه الثروات أن یجندوا مئة وعشرین ألفاً !

وقد تقدم فی روایة الأخبار الطوال ص150: (ونادی علی رضی الله عنه فی أصحابه: لاتتبعوا مولیاً ، ولا تجهزوا علی جریح ، ولاتنتهبوا مالاً ، ومن ألقی سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . قال: فجعلوا یمرون بالذهب والفضة فی معسکرهم والمتاع ، فلا یعرض له أحد...) . انتهی .

فهذا حال معسکرهم بعد الهزیمة! فی حین کان بیت مال المسلمین فی عاصمة الخلافة فارغاً لیس فیه ما یجهز جیشاً ، فاستعان علی(علیه السّلام)ببعض الصحابة ( ثعلبة بن عمیر بدری ، وهو الذی أعطی علیاً یوم الجمل مائة ألف درهم أعانه بها ، قتل یوم صفین). (شرح الأخبار:2/21 ) .

کما أن سیاسته(علیه السّلام)فی احترام الإنسان المسلم وعدم إجباره علی القتال معه ، قللت من عدد جیشه ، فلم یزد فی حرب الجمل علی اثنی عشر ألفاً !

أما فی حرب صفین فقد کانت ثروة معاویة وحدها کافیة لتمویل عدة جیوش! فقد کان الحاکم المدلل الذی أطلق عمر ثم عثمان یده فی بیت مال بلاد الشام ولم یحاسباه أبداً ، وکان مع ذلک یتاجر حتی فی الخمور ! وقصة الصحابیین عبادة بن الصامت وعبدالله بن سهل مع قوافل معاویة المحملة بالخمر ، مشهورة !

وقد بالغ معاویة فی تجهیز جیشه لحرب علی(علیه السّلام)فی صفین عدداً وعُدةً ، فبلغ مئة وعشرین ألفاً ، بینما بلغ جیش علی(علیه السّلام)تسعین ألفاً . (التنبیه والإشراف ص 255).

وقد وردت هذه الحقائق عن لسان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فی جوابه للأشعث بن قیس عندما سأله مادمت وصی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وصاحب الحق ، فلماذا لم تقاتل أبا

ص: 252

بکر وعمر؟ فقال(علیه السّلام): (أخبرنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما الأمة صانعة بی بعده! فلم أک بما صنعوا حین عاینته بأعلم منی ولا أشد یقیناً منی به قبل ذلک ، بل أنا بقول رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أشد یقیناً منی بما عاینت وشهدت . فقلت: یارسول الله فما تعهد إلیَّ إذا کان ذلک؟ قال: إن وجدتَ أعواناً فانبذ إلیهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاکفف یدک واحقن دمک ، حتی تجد علی إقامة الدین وکتاب الله وسنتی أعواناً ....

ویلک یا ابن قیس ، کیف رأیتنی صنعت حین قتل عثمان إذ وجدت أعواناً؟! هل رأیت منی فشلاً أو تأخراً أو جبناً أو تقصیراً فی وقعتی یوم البصرة ، وهم حول جملهم ، الملعون من معه ، الملعون من قتل حوله ، الملعون من رجع بعده لا تائباً ولا مستغفراً ، فإنهم قتلوا أنصاری ونکثوا بیعتی ومثلوا بعاملی وبغوا علیَّ !

فسرت إلیهم فی اثنی عشر ألفاً وهم نیفٌ علی

عشرین ومائة ألف ! فنصرنی الله علیهم ، وقتلهم بأیدینا وشفی صدور قوم مؤمنین .

وکیف رأیت یا ابن قیس وقعتنا بصفین ، وما قتل الله منهم بأیدینا خمسین ألفاً فی صعید واحد إلی النار !

وکیف رأیتنا یوم النهروان ، إذ لقیتُ المارقین وهم مستمسکون یومئذ بدین الذین ضل سعیهم فی الحیاة الدنیا وهم یحسبون أنهم یحسنون صنعا ؟ فقتلهم الله بأیدینا فی صعید واحد إلی النار ، لم یبق منهم عشرة ، ولم یقتلوا من المؤمنین عشرة !

ویلک یا ابن قیس ، هل رأیت لی لواءً رُدَّ ، أو رایة رُدَّت؟! إیایَ تعیر یا ابن قیس؟ وأنا صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی جمیع مواطنه ومشاهده ، والمتقدم إلی الشدائد بین یدیه ، لاأفر ولا أزول ، ولاأعیا ولا أنحاز ، ولاأمنح العدو دبری ، لأنه لاینبغی للنبی ولا للوصی إذا لبس لأمته وقصد لعدوه أن یرجع أوینثنی حتی یقتل أو یفتح الله له....

یا ابن قیس ، أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنی لو وجدت یوم بویع أخو تیم الذی عیرتنی بدخولی فی بیعته ، أربعین رجلاً کلهم علی مثل بصیرة الأربعة الذین قد وجدت ، لما کففت یدی ولناهضت القوم ، ولکن لم أجد خامساً فأمسکت ) ! (کتاب سلیم بن قیس ص 215 )

ص: 253

لماذا کان الأمر یدور بین القتال أو الکفر

استفاض الحدیث عن علی(علیه السّلام)بأنه کان یقول إن قتاله للناکثین والقاسطین والمارقین فریضةٌ مشددة ، وتنفیذٌ للعهد النبوی الیه ، وأن أمره یدور بین تنفیذ هذا العهد ، وبین أن یعصی الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ویکفر بما أنزله الله تعالی علیه !

ففی علل الشرائع:1/222: (إنی قلَّبت أمری وأمرهم ظهراً لبطن ، فما وجدت إلا قتالهم أو الکفر بما جاء به محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )) !

وفی تاریخ دمشق:42/439: (فوالله ما وجدت إلا السیف أو الکفر بما أنزل علی محمد). وفی:42/474: (ما وجدت إلا القتال أو الکفر بما أنزل علی محمد) . ونحوه فی أسد الغابة:4/31 ، وأنساب الأشراف ص236 .

وجاء فی صفین لابن مزاحم ص474 ، وفی المعیار والموازنة للإسکافی145، والأخبار الطوال للدینوری ص187 ، واللفظ له: (وبرز رجل من أهل الشام مقنعاً بالحدید ، ونادی: یا أبا الحسن ، أدن منی أکلمک ، فدنا منه علیٌّ حتی اختلفت أعناق فرسیهما بین الصفین ، فقال: إن لک قدماً فی الإسلام لیس لأحد ، وهجرة مع رسول الله(ص)وجهاداً ، فهل لک أن تحقن هذه الدماء ، وتؤخر هذه الحرب برجوعک إلی عراقک ، ونرجع إلی شامنا الی أن تنظر وننظر فی أمرنا؟ . فقال علی: یا هذا ، إنی قد ضربت أنف هذا الأمر وعینیه ، فلم أجده یسعنی إلا القتال أو الکفر بما أنزل الله علی محمد ، إن الله لا یرضی من أولیائه أن یعصی فی الأرض وهم سکوت لایأمرون بمعروف ولاینهون عن منکر ، فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال فی

جهنم . قال: فانصرف الشامی وهو یسترجع).انتهی .

وهکذا کان علیٌّ(علیه السّلام)مأموراً من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما فعل ، کما کان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مأموراً من الله تعالی ! فلماذا ؟

ص: 254

لاتفسیر لذلک إلا أن الله تعالی علم بعلمه المطلق أن قریشاً علی رغم فتح عاصمتها مکة وإخضاعها عسکریاً ، ما تزال تشکل فی المستقبل القریب خطراً علی أصل الإسلام ، وأن بنی أمیة أقدر القبائل علی قیادة قریش ، وأن تسلیم قبائل قریش قیادتها الی سهیل بن عمرو السهمی ، وأبی بکر التیمی ، وعمر العدوی ، لیس إلا حالة طارئة قصیرة تعود بعدها قیادتها الی أمیة !

وأن نقمة الصحابة والأمة علی عثمان لیست إلا مقطعاً قصیراً أیضاً ، بإمکان بنی أمیة أن یحتووه ، أما طلحة والزبیر وعائشة فلو نجحوا فی إسقاط حکم علی (علیه السّلام)وأخذوا الخلافة ، فهم متناقضون عجولون ، لیست لهم القدرة علی قیادة قریش ، وسرعان ما ینتهون ولایکونون إلا کالزوج المحلِّل لرجوع الخلافة الی بنی أمیة ، کما کان حال سهیل وأبی بکر وعمر !

لذلک کانت وصیة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لعلی(علیه السّلام)أن یستثمر نقمة الأمة علی عثمان ویقاتل بنی أمیة علی التأویل کما قاتلهم مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی التنزیل ، وبذلک یتمُّ بعثُ العهد النبوی مجدداً لیبقی ماثلاً فی تاریخ الأمة وضمیرها ، حتی لو لم یتحقق لعلی(علیه السّلام)النصر الکامل علی قریش وأمیة !

وهذا یفسر لنا تأکیدات أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وأبرار الصحابة علی أن بنی أمیة ما أسلموا ولکن استسلموا ! وأنهم أصحاب مشروع خفی لتشویه شخصیة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وضرب أصل الإسلام! فقد کان عمار بن یاسر (رحمه الله)ینادی: ( أیها الناس والله ما أسلموا ، ولکنهم استسلموا وأسروا الکفر ! فلما وجدوا أعواناً أظهروه) ! ( صفین لابن مزاحم ص243 ، وشرح الأخبار:2/157، وعلل الشرائع:1/222).

وقد أخذ عمار ذلک من إمامه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الذی أخذ من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ففی نهج البلاغة:3/16:(وکان(علیه السّلام)یقول لأصحابه عند الحرب: لاتشتدن علیکم فرَّةٌ بعدها کرة ، ولا جولة بعدها حملة وأعطوا السیوف حقوقها ، ووطئوا للجنوب مصارعها ،

ص: 255

واذمروا أنفسکم علی الطعن الدعسی والضرب الطلحفی، وأمیتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل . فوالذی فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولکن استسلموا وأسروا الکفر ، فلما وجدوا أعواناً علیه أظهروه ) !

وقال نصر بن مزاحم ص215:(کنا مع علی بصفین ، فرفع عمرو بن العاص شقة خمیصة سوداء فی رأس رمح فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلم یزالوا کذلک حتی بلغ علیاً ، فقال: هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إن عدو الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله هذه الشقة فقال: من یأخذها بما فیها؟ فقال عمرو: وما فیها یارسول الله ؟ قال: فیها أن لاتقاتل به مسلماً ، ولاتفر به من کافر ! فأخذها ، فقد والله فرًّ به من المشرکین ، وقاتل به الیوم المسلمین !! والذی فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولکن استسلموا وأسروا الکفر ، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلی عدواتهم لنا إلا أنهم لم یدعوا الصلاة ) . انتهی.

ص: 256

عهدٌ معهودٌ من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

لتقاتلنَّ بعدی علی تأویل القرآن الناکثین والقاسطین والمارقین

روی المسلمون أحادیث صحیحة أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أخبر قریشاً بأنهم یحتاجون الی من یقاتلهم بعده علی تأویل القرآن ، کما قاتلهم هو علی تنزیله !

ففی مستدرک الحاکم:2/138:(لما افتتح رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )مکة أتاه ناس من قریش فقالوا: یا محمد إنا حلفاؤک وقومک ، وإنه لحق بک أرقاؤنا لیس لهم رغبة فی الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علینا ! فشاور أبا بکر فی أمرهم فقال: صدقوا یا رسول الله ! فقال لعمر: ما تری ؟ فقال مثل قول أبی بکر !

فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا معشر قریش لیبعثن الله علیکم رجلاً منکم امتحن الله قلبه للإیمان ، فیضرب رقابکم علی الدین ! فقال أبو بکر: أنا هو یا رسول الله ؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو یا رسول الله؟ قال: لا ، ولکنه خاصف النعل فی المسجد! وقد کان ألقی نعله إلی علی یخصفها. هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم ، ولم یخرجاه).

وفی مجمع الزوائد:7/238: (عن علی قال عهد إلیَّ رسول الله(ص)فی قتال الناکثین والقاسطین والمارقین. رواه البزار والطبرانی فی الأوسط وأحد إسنادی البزار رجاله رجال الصحیح غیر الربیع بن سعید ووثقه ابن حبان) .

وفی أمالی الصدوق463 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: بلغ أم سلمة زوجة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن مولی لها یتنقص علیاً(علیه السّلام)ویتناوله فأرسلت إلیه ، فلما أن صار إلیها قالت له: یا بنیَّ بلغنی أنک تتنقص علیاً وتتناوله ! قال لها: نعم یا أماه . قالت: أقعد ثکلتک أمک حتی أحدثک بحدیث سمعته من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثم اختر لنفسک... الی أن قالت: فدخلتُ وعلیٌّ جاثٍ بین یدیه ، وهو یقول: فداک أبی وأمی یا رسول الله ، إذا کان کذا وکذا ، فما تأمرنی؟ قال: آمرک بالصبر . ثم أعاد علیه القول الثانیة ، فأمره بالصبر ، فأعاد علیه القول الثالثة ، فقال له: یا علی یا أخی، إذا

ص: 257

کان ذاک منهم فسُلَّ سیفک وضعه علی عاتقک واضرب به قُدُماً قدماً ، حتی تلقانی وسیفک شاهر یقطر من دمائهم ! ثم التفت(علیه السّلام)إلیَّ فقال لی: ما هذه الکآبة یا أم سلمة؟ قلت: للذی کان من ردک لی یا رسول الله . فقال لی : والله ما رددتک من مَوْجَدة وإنک لعلی خیر من الله ورسوله لکن أتیتنی وجبرئیل عن یمینی وعلیٌّ عن یساری ، وجبرئیل یخبرنی بالأحداث التی تکون من بعدی ، وأمرنی أن أوصی بذلک علیاً ! یا أم سلمة إسمعی واشهدی: هذا علی بن أبی طالب ، أخی فی الدنیا وأخی فی الآخرة. یا أم سلمة إسمعی واشهدی ، هذا علی بن أبی طالب ، وزیری فی الدنیا ووزیری فی الآخرة . یا أم سلمة إسمعی واشهدی ، هذا علی بن أبی طالب ، حامل لوائی فی الدنیا وحامل لوائی غداً فی القیامة . یا أم سلمة إسمعی واشهدی ، هذا علی بن أبی طالب وصیی وخلیفتی من بعدی، وقاضی عداتی ، والذائد عن حوضی. یا أم سلمة إسمعی واشهدی ، هذا علی بن أبی طالب ، سید المسلمین ، وإمام المتقین ، وقائد الغر المحجلین، وقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین. قلت: یا رسول الله من الناکثون؟ قال: الذین یبایعونه بالمدینة وینکثون بالبصرة. قلت: من القاسطون؟ قال: معاویة وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان. فقال مولی أم سلمة: فرجت عنی فرج الله عنک ، والله لا سببت علیاً

أبداً) .

وفی من لایحضره الفقیه:4/419: (عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فی بعض خطبه:أیها الناس إسمعوا قولی واعقلوه عنی فإن الفراق قریب : أنا إمام البریة ووصی خیر الخلیقة ، وزوج سیدة نساء الأمة ، وأبو العترة الطاهرة والأئمة الهادیة.أنا أخو رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ووصیه وولیه، ووزیره وصاحبه وصفیه، وحبیبه وخلیله أنا أمیر المؤمنین وقائد الغر المحجلین وسید الوصیین ، حربی حرب الله ، وسلمی سلم الله ، وطاعتی طاعة الله وولایتی ولایة الله، وشیعتی أولیاء الله ، وأنصاری أنصار الله . والذی خلقنی ولم أک شیئاً لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن الناکثین والقاسطین والمارقین ملعونون علی لسان النبی الأمی وقد خاب من افتری) .

ص: 258

علی(علیه السّلام)یعید العهد النبوی ویضمِّد جراح العهد العثمانی

عمل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی خلافته علی جبهات متعددة ، بفعالیة عجیبة !

فعلی صعید نقل عاصمة الخلافة الی الکوفة: اتخذ إجراءات فی تخطیط الکوفة وتنظیم مجتمعها ، وتعیین مسؤولین علی أرباعها ، وکان یعقد الجلسات مع فقهائها وزعمائها ، ویتجول فی مناطقها ، ویتفقد أسواقها ویوجه العاملین فیها.

وعلی صعید الحریات العامة: أعاد حریات المسلمین المصادرة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وفی أولها حریة الرأی والتعبیر ، والإمتناع عن البیعة ، وحریة نقد الحکومة ونظام الحکم ورئیسه ، بل أعطی الحریة لمعارضیه الخوارج أن یتسلحوا ویتجمعوا فی معسکرات ، وأعلن أنه لا یَنقص أحداً منهم من حقه فی بیت المال ، ولا یتعرض لهم ، إلا إذا بدؤوا باعتداء ، أو قتال !

وعلی صعید تقسیم الثروة: طبَّق(علیه السّلام)عدالة العهد النبوی ، فساوی بین المسلمین فی العطاء وفرص العمل ، وساوی بین نفسه وخادمه ، فکان یشتری قمیصین ویعطی قنبراً أحسنهما ، لأنه شابٌّ والشاب یحب الزینة ! (المناقب:2/97) .

وکان یقسم الغنائم ، وما فی بیت المال حتی یفرِّغه ، ثم یصلی رکعتین ویقول: الحمد لله الذی أخرجنی منه کما دخلته . (المناقب:1/364) .

وعلی صعید العمال والضمان الإجتماعی: طبق

العدالة النبویة ، فشرع الضمان الإجتماعی من بیت المال ، وحکم به للمواطنین حتی الیهود والنصاری ، فقد رأی شیخاً کبیراً یستعطی فقال: ماهذا؟ فقالوا: یاأمیر المؤمنین نصرانی. فقال(علیه السّلام): استعملتموه حتی إذا کبر وعجز منعتموه! أنفقوا علیه من بیت المال).(التهذیب:6/293، ونلاحظ أنه هذه البادرة من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی الضمان الإجتماعی سرقها الرواة ونسبوها لعمر!) .

وعلی صعید تعیین ولاة الأمصار: قام باستبدال ولاة عثمان الأمویین ، وأصدر

ص: 259

مراسیم عیَّن بموجبها حکاماً لآذربیجان ، ومصر ، والیمن ، والمدینة ، ومکة ، والبصرة ، وفتوح خراسان ، والبحرین ، وفتوح الهند ، ومناطق أخری من بلاد الدولة الإسلامیة ، فلم یکن خارجاً عن سلطته إلا منطقة الشام .

وعلی صعید منع الفساد الإداری ورقابة حکام الولایات: کان یتابع عماله ویراسلهم باستمرار ، وأسس جهاز المراقبین ، وطبَّقه بحزم علی العمال ، وعزل بعضهم کالأشعث بن قیس عن آذربیجان ، وعاقب حاکم الأهواز وفضحه !

وأمر مالک الأشتر عندما ولاه مصر أن یشکل هذا الجهاز لمراقبة حکام المحافظات ، فکتب له: (ثم انظر فی أمور عمالک فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما جماع من شعب الجور والخیانة ، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحیاء من أهل البیوتات الصالحة ، والقدم فی الإسلام المتقدمة ، فإنهم أکرم أخلاقاً وأصح أعراضاً ، وأقل فی المطامع إشرافاً ، وأبلغ فی عواقب الأمور نظراً .

ثم أسبغ علیهم الأرزاق ، فإن ذلک قوة لهم علی استصلاح أنفسهم ، وغنی لهم عن تناول ما تحت أیدیهم ، وحجة علیهم إن خالفوا أمرک أو ثلموا أمانتک . ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العیون من أهل الصدق والوفاء علیهم ، فإن تعاهدک فی السر لأمورهم حدوة لهم علی استعمال الأمانة والرفق بالرعیة .

وتحفَّظ من الأعوان ، فإن أحدٌ منهم بسط یده إلی خیانة اجتمعت بها علیه عندک أخبار عیونک ، اکتفیت بذلک شاهداً ، فبسطت علیه العقوبة فی بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخیانة وقلدته عار التهمة) . (نهج البلاغة:3/95) .

ووضع لنفسه ولحکام ولایاته برنامج سلوک ، کشفت عنه رسالته إلی حاکم البصرة عثمان بن حنیف ، عندما بلغه أنه دُعِیَ إلی ولیمة رجل ثری فأجاب ، فکتب الیه: ( أما بعد یا ابن حنیف ، فقد بلغنی أن رجلاً من فتیة أهل البصرة دعاک

ص: 260

إلی مأدبة فأسرعت إلیها، تُستطابُ لک الألوان ، وتنقل إلیک الجفان ! وما ظننت أنک تجیب إلی طعام قوم عائلهم مجفوّ ، وغنیهم مدعوٌ ، فانظر إلی ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه علیک علمه فالفظه ، وما أیقنت بطیب وجهه فنل منه .

ألا وإن لکل مأموم إماما یقتدی به ویستضئ بنور علمه . ألا وإن إمامکم قد اکتفی من دنیاه بطمریه ، ومن طعمه بقرصیه . ألا وإنکم لا تقدرون علی ذلک ، ولکن أعینونی بورع واجتهاد ، وعفة وسداد ، فوالله ما کنزت من دنیاکم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولاأعددت لبالی ثوبی طمراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، ولا أخذت منه إلا کقوت أتان دبرة ، ولهی فی عینی أوهی من عفصة مَقِرة !

إلی أن قال(علیه السّلام): ولو شئت لاهتدیت الطریق إلی مصفی هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولکن هیهات أن یغلبنی هوای، ویقودنی جشعی إلی تخیر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو الیمامة من لاطمع له فی القرص ولا عهد له بالشبع أوَأبیتُ مبطاناً وحولی بطون غرثی وأکباد حری ؟ أو أکون کما قال القائل:

وحسبک داءً أن تبیتَ ببطنةٍ

وحولک أکبادٌ تحنُّ إلی القِدِّ

أأقنع من نفسی بأن یقال أمیر المؤمنین ولا أشارکهم فی مکاره الدهر ، أو أکون أسوة لهم فی جشوبة العیش ! فما خُلقت لیشغلنی أکل الطیبات کالبهیمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمُّمُها ، تکترش من أعلافها وتلهو عما یراد بها . أوَأترکُ سدی أو أهمل عابثاً ، أو أجرُّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طریق المتاهة .

وکأنی بقائلکم یقول: إذا کان هذا قوت ابن أبی طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ! ألا وإن الشجرة البریة أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرق جلوداً ، والنباتات البدویة أقوی وقوداً وأبطأ خمودا ، وأنا من رسول الله کالصنو من الصنو والذراع من العضد . والله لو تظاهرت العرب علی قتالی لما ولیت عنها ، ولو أمکنت الفرص من رقابها لسارعت إلیها ، وسأجهد فی أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعکوس والجسم المرکوس ، حتی تخرج المدرة من بین حب الحصید .

ص: 261

إلیک عنی یا دنیا فحبلک علی غاربک ، قد انسللتُ من مخالبک ، وأفلتُّ من حبائلک ، واجتنبت الذهاب فی مداحضک. أین القرون الذین غررتهم بمداعبک؟ أین الأمم الذین فتنتهم بزخارفک؟ هاهم رهائن القبور ومضامین اللحود . والله لو کنت شخصا مرئیاً وقالباً حسیاً لأقمت علیک حدود الله فی عباد غررتهم بالأمانی ، وأمم ألقیتهم فی المهاوی ، وملوک أسلمتهم إلی التلف ، وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر . هیهات من وطأ دحْضک زلق ، ومن رکب لججک غرق ، ومن ازْوَرَّ عن حبائلک وُفق ، والسالم منک لایبالی إن ضاق به مناخه ، والدنیا عنده کیوم حان انسلاخه . أُعْزُبی عنی ، فوالله لا أذلُّ لک فتستذلینی ، ولا أسلس لک فتقودینی . وأیم الله یمیناً أستثنی فیها بمشیئة الله ، لأروضن نفسی ریاضة تهش معها إلی القرص إذا قدرت علیه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدَعَنَّ مقلتیَّ کعین ماء نضب معینها ، مستفرغة دموعها ! أتمتلئ السائمة من رعیها فتبرک ، وتشبع الربیضة من عشبها فتربض ، ویأکل علیٌّ من زاده فیهجع ! قرَّتْ إذاً عینه إذا اقتدی بعد السنین المتطاولة بالبهیمة الهاملة والسائمة المرعیة .

طوبی لنفس أدت إلی ربها فرضها ، وعرکت بجنبها بؤسها . وهجرت فی اللیل غمضها ، حتی إذا غلب الکری علیها افترشت أرضها وتوسدت کفها، فی معشر أسهر عیونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذکر ربهم شفاههم ، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم: أُولَئِکَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . فاتق الله یا ابن حنیف ، ولتکفک أقراصک لیکون من النار خلاصک) . (نهج البلاغة:3/72)

وعلی صعید الثقافة: ألغی علی(علیه السّلام)حظر تدوین السنة الذی فرضه أبوبکر وعمر وعثمان ، وأمر بروایة السنة النبویة وتدوینها ، وشجع علیه . وأطلق(علیه السّلام) للعلماء والطلبة البحث فی تفسیر القرآن ، وألغی المنع الذی فرضه عمر .

کما أبعد عن المسلمین مصادر الکذب والتخریب الثقافی ، من الحاخامات

ص: 262

والقساوسة وتلامیذهم ، الذین قربهم عمر وعثمان وولاتهم ، وأطلقوا أیدیهم فی تشویه ثقافة الإسلام ، ونشر ثقافة الیهود والنصاری !

إن تفصیل الکلام فی أعماله(علیه السّلام)وتوثیق مصادره یحتاج الی أکثر من کتاب ، فقد تنفَّسَ المسلمون فی عهده(علیه السّلام)وتنسَّموا نسیم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعدله ، وصار حکم علیٍّ ، وأحکام علیّ ، وطریقة عمل علیّ ، وکلمات علیّ ، ومناقب علیّ وصفاته الممیزة ، صلوات الله علیه ، مثلاً حیاً للمسلمین ، ونموذجاً طالب به کل الذین عانوا من ظلم بنی أمیة فیما بعدُ وثاروا علیه !

ص: 263

ص: 264

الفصل السادس : استعدادات قریش لحرب صفین

اشارة

ص: 265

ص: 266

بعد حرب الجمل:تجمعت قریش الطلقاء تحت قیادة معاویة لحرب علی (علیه السّلام)!

لایمکن لباحث أن یفهم تاریخ الإسلام ، سواءً فی عصر النبوة أو بعده ، حتی یفهم الترکیبة القبلیة لقریش ، وقوة تأثیر الإنتماء القبلی علی سلوک أشخاصها ومواقفهم السیاسیة إلا من عصم الله ! فعندما بُعث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کانت قریش أکثر من عشرین قبیلة صغیرة وکبیرة ، وکان عدد نفوسها جمیعاً لا یزید عن ثلاثین ألفاً ، وبعض القبائل صغیرة لایزید عددها عن مئتی نسمة أو ثلاث مئة ، کبنی تیم وعدی ، قبیلتی أبی بکر وعمر .

فالقبائل المؤثرة معدودة ، والباقون تابعون لها ، فعندما بَنَتْ قریش الکعبة واختلفت مَن یضع الحجر الأسود فی مکانه ، مثلتها کلها خمس قبائل ورضی الجمیع بها . ففی الکافی:4/218: (فلما بلغ البناء إلی موضع الحجر الأسود تشاجرت قریش فی موضعه ، فقال کل قبیلة نحن أولی به نحن نضعه ، فلما کثر بینهم تراضوا بقضاء من یدخل من باب بنی شیبة ، فطلع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقالوا: هذا الأمین قد جاء فحکموه ، فبسط رداءه ، وقال بعضهم کساء طارونی کان له(یعنی کساء خز)ووضع الحجر فیه ثم قال: یأتی من کل ربع من قریش رجل ، فکانوا عتبة بن ربیعة بن عبد شمس ، والأسود بن المطلب من بنی أسد بن عبد العزی ، وأبو حذیفة بن المغیرة من بنی مخزوم ، وقیس بن عدی من بنی سهم ، فرفعوه ووضعه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی موضعه ) . انتهی .

ص: 267

وذکر المؤرخون والمحدثون ترتیب أهم قبائل قریش حسب ما رآه عمر ، من أجل عطاءات الدولة وتحمل الدیة کالتالی:1 - بنی هاشم وبنی المطلب . 2 - بنی عبد شمس وبنی نوفل. 3 - بنی أسد بن عبد العزی. 4 - بنی عبد الدار. 5 - بنی زهرة . 6 - بنی مخزوم ، وألحق بهم بنی تیم عشیرة أبی بکر. 7 - بنی سهم ولم یقبلوا بإلحاق بنی عدی بهم . 8 - بنی جمح. 9 - بنی عامر بن لؤی أو بنی فهر. 10- بنی عدی.(الشافعی فی کتابه الأم:4/166).

وکانت قبائل العرب تحترم قریشاً ، لمکانة الکعبة عندها ، وکان لها نفوذ فیها وتحالفات مع بعضها ، من أبرزها تحالف بنی هاشم مع خزاعة ، وتحالف بنی عبد الدار وعبد شمس مع کنانة . وتکشف روایة ابن سعد التالیة عن نفوذ قبائل قریش المعادیة للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی قبائل العرب ، حیث شارکت معها فی معرکة الأحزاب أو الخندق ، قال فی الطبقات:2/66: (وتجهزت قریش وجمعوا أحابیشهم ومن تبعهم من العرب فکانوا أربعة آلاف ، وعقدوا اللواء فی دار الندوة ، وحمله عثمان بن طلحة بن أبی طلحة ، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس ، وکان معهم ألف وخمسمائة بعیر ، وخرجوا یقودهم أبو سفیان بن حرب بن أمیة ووافتهم بنو سلیم بمَرِّ الظهران وهم سبعمائة یقودهم سفیان بن عبد شمس حلیف حرب بن أمیة ، وهو أبو أبی الأعور السلمی الذی کان مع معاویة بصفین، وخرجت معهم بنو أسد یقودهم طلحة بن خویلد الأسدی ، وخرجت فزارة فأوعبت وهم ألف بعیر یقودهم عیینة بن حصن ، وخرجت أشجع وهم أربعمائة یقودهم مسعود بن رخیلة ، وخرجت بنو مُرَّة وهم أربعمائة یقودهم الحارث بن عوف ، وخرج معهم غیرهم...فکان جمیع القوم الذین وافوا الخندق ممن ذکر من القبائل عشرة آلاف ، وهم الأحزاب ، وکانوا ثلاثة عساکر . وعِنَاجُ الأمر (القیادة والإدارة العامة ) إلی أبی سفیان بن حرب ) . انتهی.

ص: 268

هذه هی کل قریش ، التی واجهت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ووصفها الله تعالی فی قرآنه بأنهم الفراعنة وجنودهم ، وأئمة الکفر وأتباعهم ! وأخبر بأن أکثرهم حق علیهم القول فلن یؤمنوا فی المستقبل أبداً ! ( لِتُنْذِرَ قوماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَی أَکْثَرِهِمْ فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ ). (سورة یس:6 - 7 )

وهذه هی قریش ، التی حاربت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعترته وأنصاره بکل ما استطاعت ، حتی انتصر علیها ودخل مکة فاتحاً ، فدخلت فی الإسلام مرغمة ، ثم سیطرت علی دولته بعد نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعزلت عترته(علیهم السّلام) واضطهدتهم وشیعتهم الی یومنا هذا !

وهذه هی قریش ، التی صنعت تاریخ الإسلام الرسمی وأسست مذاهبه ودوَّنت فقهه ، وجعلت ولایة زعمائها جزءً منه ربَّتْ علیه أجیال المسلمین الی یومنا هذا !

قریش المشرکة نزحت کلها الی ابن أبی سفیان فی الشام !

تجمَّعت عند معاویة بن أبی سفیان کل قبائل الطلقاء ، وهم نفس قبائل قریش المشرکة المعادیة تاریخیاً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبنی هاشم ، وفیهم عدد هم نفس الزعماء المشرکین والطلقاء السابقین ، والباقون أولادهم وجنودهم ! وقد نزحوا من مکة والمدینة بنسائهم وعیالهم الی معاویة ابن قائدهم بالأمس أبی سفیان ، ووزیره یومذاک ، وخلیفته الیوم !

قال التستری فی الصوارم المهرقة ص74:( فی الفتوح وغیره أنه فی حرب صفین کان من قریش مع علی(علیه السّلام)خمسة نفر وهم..... وکان مع معاویة ثلاث عشر قبیلة من قریش ، مع أهلهم وعیالهم) . انتهی .

وفی اختیار معرفة الرجال:1/281: عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (کان مع أمیر

ص: 269

المؤمنین(علیه السّلام)من قریش خمسة نفر ، وکانت ثلاثة عشر قبیلة مع معاویة ! فأما الخمسة فمحمد بن أبی بکر رحمة الله علیه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عمیس ، وکان معه هاشم بن عتبة بن أبی وقاص المرقال ، وکان معه جعدة بن هبیرة المخزومی ، وکان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)خاله وهو الذی قال له عتبة بن أبی سفیان: إنما لک هذه الشدة فی الحرب من قبل خالک ! فقال له جعدة: لو کان خالک مثل خالی لنسیت أباک ! ومحمد بن أبی حذیفة بن عتبة بن ربیعة ، والخامس سلف أمیر المؤمنین ابن أبی العاص بن ربیعة ، وهو صهر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أبو الربیع ). انتهی .

والثلاث عشرة قبیلة هی کل قریش ، فلا ثقل ولا عدد فی قبائلها الباقیة ! وتجمُّعها ضد علی(علیه السّلام)وبنی هاشم ،هو نفس تجمعها ضد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فقد کان القرشیون یفکرون أنهم فوجؤوا بنتائج ثورة الصحابة علی عثمان ووصول الخلافة الی بنی هاشم ، وأن هذا خطأ تارخی یجب علی قریش أن تصححه !

کانوا یرون أن سهیل بن عمرو وأبا بکر وعمر وزعماءهم فی زمن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کانوا أکثر یقظة حیث منعوا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من کتابة عهده بالخلافة لأهل بیته بنی هاشم ، وبذلک ضمنوا الخلافة لقریش ، وعزلوا بنی هاشم . لکن طلحة والزبیر کانا غبیین إذ سمحا ببیعة الصحابة لعلی(علیه السّلام)بعد عثمان ، بل کانا أول المبایعین !

ولهذا سارعت قریش لإجابة دعوة عائشة وطلحة والزبیر لحرب علی(علیه السّلام) وإسقاط حکمه ، وخاضوا ضده حرب الجمل الشرسة لسبعة أیام متوالیة !

ولئن انهزموا فی حرب الجمل ، فیجب أن یخوضوا حرباً جدیدة بقیادة معاویة وینتصروا ، ویجب أن تکون قیادة قریش لبنی أمیة ، فهم قادة قریش التاریخیون وهم خیر من بنی هاشم ، أما ما یقوله المسلمون عن عثمان فهو کذب ، فعثمان

ص: 270

خلیفة شرعی بنص عمر بن الخطاب ، وقد قتل مظلوماً وشارکت هاشم فی قتله !

وفی المقابل تجمَّعَ مع علی(علیه السّلام)الصحابة البدریون ، وکل الأنصار وبنی هاشم ! وبذلک عاد بنو هاشم وبنو أمیة وحدهما قطبی صراع الخیر والشر ، والهدی والضلال.. الی یومنا هذا ، والی ظهور الإمام المهدی الموعود(علیه السّلام) !

فمن عجائب التاریخ أن الجهود الضخمة التی بذلها سهیل بن عمرو وأبو بکر وعمر وبقیة زعماء قریش ، لنزع الخلافة من بنی هاشم ، وجعلها تدور بین قبائل قریش حسب تصورهم ، لم تکن نتیجتها إلا نقل الخلافة من بنی هاشم غنیمة باردة الی بنی أمیة ! ولم یکن سهم القبائل الأخری منها إلا سهم أبی بکر سنتین وسهم عمر عشر سنوات ! شبیهاً بسهم المحلل للزوجة المطلقة ثلاثاً ! فقد عادت

قیادة الصراع بقیادة بنی أمیة وبنی هاشم ! وعاد عِنَاجُ أمر قریش الی أمیة !

وصدق الله تعالی ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حیث أخبر الأمة وحذَّرها من أن قریشاً ستسیطر علی دولة الإسلام وتنحرف بها ، الی أن تضعف وتنهار ! وأن عترته ستلاقی منها الظلم ! وأن الطرف المقابل لهم فی المستقبل إنما هم بنو أمیة !

کانت خلافة علی(علیه السّلام)خمس سنین ، واجهوه فیها بثلاث حروب ! انتصر فی اثنتین منها ، وتعادل فی الثالثة ، وکان یستعد لمعاودتها ، فاستشهد(علیه السّلام)!

واستطاع صلوات الله علیه أن یحقق فی خلافته وحروبه ، وما بینها ، نموذجاً فی السلم والحرب ، ومثلاً فی العدل ، سمَّته الأمة: حکم علی ، وبقی حیاً فی ضمیرها ، یطالب به عقلاؤها ، ویرفع شعاره ثوارها ، تطلعاً الی العهد النبوی !

لو سألنا القرشیین: لماذا ثلاثة حروب کبیرة علی خلیفة بایعوه هم بحریتهم ؟!

ص: 271

فالجواب: أن الصحابة اختاروه فی موجة غضبهم علی عثمان ، واضطرت قریش أن ترضی به وتبایعه ، لکنها الآن ندمت وأفاقت !!

نعم ، أفاقت قریش علی أنها هزمت أربع مرات :

أولها عندما نَقَم الصحابة والتابعون علی خلافة عثمان بن عفان ، فثاروا علیه وقتلوه ، وبذلک هزموا نظام حکم قبائل قریش المتحالفة ضد العترة النبویة !

ثم هُزمت زعامة قریش ثانیةً ببیعتهم لعلی(علیه السّلام) وإعراضهم عن طلحة والزبیر!

ثم هزمهم علیٌّ(علیه السّلام)ثالثةً ، بانتصاره الکاسح علی جیش الجمل القرشی !

ثم هزمهم علی(علیه السّلام)رابعةً عندما أخذ یعمل جاداً لإعادة عهد النبی وعترته (صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ویستبعد الحکام القرشیین الفاسدین ، ویعیِّن بدلهم صحابة صالحین من الأنصار والمهاجرین ، ویلغی امتیازات أبناء بطون قریش فی الفتوحات والتجارات ، ویساوی بینهم وبین کافة المسلمین أحمرهم وأسودهم !

فهل تسکت قریش وتهدأ؟! وهل هدأت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعد فتح مکة ، حتی تهدأ علی ابن عمه ووصیه علی(علیه السّلام)؟!

وکیف تهدأ ، والشام بیدها ، وابنها معاویة خاتلٌ فی کمینه فیها یرقب الأحداث ، منذ الحصار الأول لعثمان ، الی حصاره الثانی ، الی خروج عائشة وطلحة والزبیر للحرب ، ولم یتدخل رغم استغاثة عثمان به وهو محاصر !

قال الحافظ محمد عقیل فی النصائح الکافیة لمن یتولی معاویة ص40: (ذکر أهل السیر ، واللفظ للبلاذری ، أن معاویة لما استصرخه عثمان تثاقل عنه ، وهو فی ذلک یعده ، حتی إذا اشتد به الحصار ، بعث إلیه یزید بن أسد القسری وقال له: إذا أتیت ذا خشب فأقم بها ، ولا تقل الشاهد یری ما لا یری الغائب ، فأنا الشاهد وأنت الغائب ! قالوا: فأقام بذی خشب حتی قتل عثمان ، فاستقدمه حینئذ معاویة

ص: 272

فعاد إلی الشام بالجیش الذی کان معه ! فکان فی الظاهر نصرةً لعثمان ببعث الجیش وهو فی الحقیقة خذلان له لحبسه الجیش کی یقتل عثمان فیدعو إلی نفسه کما وقع بالفعل ) !! انتهی .

وفی تاریخ المدینة لابن شبة:4/1288 ، بسنده عن جویریة: ( أرسل عثمان إلی معاویة یستمده ، فبعث معاویة یزید بن أسد جد خالد القسری وقال له: إذا أتیت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها ، ولا تقل الشاهد یری ما لا یری الغائب قال: أنا الشاهد وأنت الغائب . فأقام بذی خشب حتی قتل عثمان! فقلت لجویریة: لم صنع هذا؟ قال: صنعه عمداً لیقتل عثمان فیدعو إلی نفسه)!! انتهی .

ولم یکن حظ عائشة من استنصار معاویة بأحسن من حظ عثمان ، وإن کانت أقل حاجة الی جیشه من عثمان ! فقد قال لها عمرو بن العاص بعد هزیمتها: (لوددت أنک قتلت یوم الجمل! قالت: ولمَ لا أباً لک ! قال: کنت تموتین بأجلک وتدخلین الجنة ونجعلک أکبر التشنیع علی علی بن أبی طالب)! (شرح النهج:6/322).

أما بعد حرب الجمل ، فقد أجمعت قریش الطلقاء علی تسلیم عِناج أمرها الی معاویة ، فما علیه إلا أن یستعدَّ لحرب علی(علیه السّلام) ، وهذه أفلاذ أکبادها من کل القبائل غیر بنی هاشم ، أخذت تتوافد علیه وتنضم الی معسکره !

وفی المقابل کان بقیة الصحابة الأبرار من المهاجرین والأنصار ، یقفون الی جنب علی(علیه السّلام) ویتوافدون الی معسکره .

وقد سأل معاویة عقیل بن أبی طالب عن رأیه فی معسکره بصفین ومعسکر أخیه علی(علیه السّلام)؟ فقال عقیل(رحمه الله): ( مررت علی عسکر علیٍّ فإذا

لیل کلیل النبی ونهار کنهار النبی إلا أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیس فیهم ! ومررت علی عسکرک فإذا

ص: 273

أول من استقبلنی أبو الأعور وطائفة من المنافقین والمنفرین برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلا أن أبا سفیان لیس فیهم) ! (الغارات للثقفی:2/936 ، وأمالی الطوسی ص724 ).

ومعنی قول عقیل: (المنافقین المنفِّرین برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )): القرشیین الذین تآمروا علی قتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیلة العقبة ، عندما کان عائداً بجیشه من غزوة تبوک ، وعرفوا أن الجیش سَیَمُرُّ من طریق حول الجبل ، وأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )سیمرُّ من طریق مختصر فی الجبل ، فدبروا مؤامرة اغتیاله وکانوا سبعة عشر منافقاً ، وصعدوا لیلاً الی الجبل وکمنوا فی مکان مشرف علی طریق العقبة ولما وصل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )دحرجوا الصخور الضخمة علیه فجفلت ناقته وأنجاه الله من شرهم ،وأضاء الجبل وکشفهم ، فعرَّفهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لحذیفة وعمار اللذین کانا معه ، فهربوا وغیبوا أنفسهم فی الجیش ! وکتم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أسماءهم حتی لاتأخذ قریش العزة بالإثم وتعلن ردتها عن الإسلام !

ص: 274

الفصل السابع : خلاصة حرب صفین

اشارة

ص: 275

ص: 276

سعة حرب صفین وکثرة أخبارها

دوَّن المحدثون والمؤرخون القدماء والجدد ، مؤلفات خاصة بکل من حرب الجمل وصفین والنهروان ، کما قام الباحث السید جعفر مرتضی أخیراً بدراسة الخوارج فی مجلدین ، باسم (علی(علیه السّلام)والخوارج) .

وغرضنا هنا أن نسجل عنها صورةً تبین معالم نبل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وبقیة العترة الطاهرة(علیهم السّلام) وشیعتهم الأبرار ، وظلامتهم علی ید قریش الطلقاء وأتباعهم !

وقد رأینا کیف سارعت قریش الی نقض بیعتها لعلی(علیه السّلام)وأعلنت خروجها علیه ، لا لسبب إلا لأنه علی بن أبی طالب بن عبد المطلب بن هاشم !

وکیف استطاع طلحة زعیم تیم ، والزبیر زعیم عبد العزی ، أن یقنعا عائشة ، أو استطاعت هی أن تقنعهما ، بوجوب حرب علی(علیه السّلام)قبل أن یثبِّت نظام حکمه !

وانهزم أصحاب الجمل وانتهت قیادتهم لکن قریشاً لم تقبل بخلافة علی(علیه السّلام)! فسرعان ما جمعت فلولها عند معاویة ، وشجعته علی فتح حرب جدیدة أکبر وأطول ضد خلافة بنی هاشم ! فکانت حرب صفین الکبری ، التی وقعت قرب الحدود السوریة العراقیة ، وکادت أن تختم بنصر علی(علیه السّلام)وهزیمة معاویة ، لولا أن قسماً من جیش علی(علیه السّلام) ، هم الخوارج فیما بعد ، أصروا علیه أن یقبل الهدنة وتحکیم حکمین ، عندما رفع

معاویة المصاحف طالباً إیقاف القتال !

ثم سرعان ما ندم الخوارج وقالوا لقد کفرنا بقبولنا تحکیم الرجال فی دین الله ! وخرجوا علی علی(علیه السّلام)مطالبین أن یعترف بأنه کفر لقبوله رأیهم فی التحکیم !!

ص: 277

حریة الناس أصل عند أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وإن أساؤوا استغلالها !

کان عمرو بن حریث شاباً قرشیاً مترفاً ، فی الثلاثینات من عمره ، فقد کان ابن ست سنین عند فتح مکة ، وهو مخزومی من قبیلة أبی جهل وخالد بن الولید ، وکان من رجال دولة بنی أمیة فی الکوفة .

ولم یجبره أمیر المؤمنین(علیه السّلام) علی بیعته ، بل بایعه مختاراً کغیره من کبار موظفی عثمان . ولم یجبره علی القتال معه فی حرب الجمل أو صفین ، لکنه تهیأ مع المستنفرین الی صفین ، وکان له (شلة) أصدقاء من نوعه کالأشعث بن قیس وشبث بن ربعی ، وحجر بن حجر ، وجریر بن عبدالله النخعی ، فقالوا لبعضهم إن الناس یسیرون یوم الأحد ونحن علی خیولنا ، فلنتأخر عنهم أیاماً ، ثم نلتحق بهم فی المدائن قبل صلاة الجمعة !

فخرجوا للنزهة والصید وشرب الخمر فی شاطئ الفرات بالحیرة ، وکان مرکزهم فی قصر الخورنق قرب النجف ، قصر الأشعث بن قیس رئیس کندة .

(عن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بالمسیر إلی المدائن من الکوفة فسرنا یوم الأحد ، وتخلف عمرو بن حریث فی سبعة نفر فخرجوا إلی مکان بالحیرة یسمی الخورنق فقالوا: نتنزه فإذا کان یوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علیاً قبل أن یُجَمِّع ، فبینما هم یتغذون إذ خرج علیهم ضبٌّ فصادوه ، فأخذه عمرو بن حریث فنصب کفه وقال: بایعوا هذا أمیر المؤمنین فبایعه السبعة وعمرو ثامنهم ، وارتحلوا لیلة الأربعاء فقدموا المدائن یوم الجمعة وأمیر المؤمنین(علیه السّلام)یخطب ، ولم یفارق بعضهم بعضاً وکانوا جمیعاً حتی نزلوا علی باب المسجد ، فلما دخلوا نظر إلیهم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فقال: یا أیها الناس إن

ص: 278

رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أسرَّ إلیَّ ألف حدیث فی کل حدیث ألف باب لکل باب ألف مفتاح ، وإنی سمعت الله جل جلاله یقول: یَوْمَ نَدْعُو کُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ، وإنی أقسم لکم بالله لیبعثن یوم القیامة ثمانیة نفر یدعون بإمامهم وهو ضبٌّ ولو شئت أن أسمیهم لفعلت ! قال: فلقد رأیت عمرو بن حریث قد سقط کما تسقط السعفة حیاءً ولوماً)! (الخصال ص644، وبصائر الدرجات ص326) .

وفی الهدایة الکبری للخصیبی ص134:(وخرج القوم إلی الخندق وذهبوا ومعهم سُفرة وبسطوا فی الموضع وجلسوا یشربون الخمر ، فمر بهم ضبٌّ فأمروا غلمانهم فصادوه لهم وأتوهم به ، فخلعوا أمیر المؤمنین وبایعوا الضب وبسطوا یده ، وقالوا له: أنت والله إمامنا ما بیعتنا لک ولعلی بن أبی طالب إلا واحدة ، وإنک لأحب إلینا منه) ! انتهی .

أقول: یظهر أولاً ، أن هذه الصیغة لحدیث الألف باب من العلم ، من أدقِّ الصیغ فالأحادیث التی علمه إیاها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أوالموضوعات: ألف حدیث ، وفی کل حدیث منها ألف باب ، ولکل باب ألف مفتاح ! وکلها سرٌّ لایمکن للإنسان العادی أن یستوعبها ، أو یؤتمن عیها ولایسئ استعمالها ! فهذا المستوی من القدرة علی الإستیعاب ، والأمانة والتحمل ، لایتحقق إلا فی أناس نادرین ، یصیر أحدهم أهلاً لأن یصطفیه الله تعالی ، فیطوِّر قدراته العقلیة والنفسیة ، ویضع فی شخصیته جنبة ملائکیة یتلقی بها هذه العلوم !

وعندما یعطیه هذه العلوم یجعل معه ملائکة یحفظونها ویحفظونه ، لیعیش حیاته الطبیعیة بالعلم الظاهری، ویستعمل طرفاً من العلم اللدنی فی وقته المناسب! وهذا هو معنی قوله تعالی: عَالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلَی غَیْبِهِ أَحَداً . إِلا مَنِ ارْتَضَی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . (الجن:26 -27)

ویظهر ثانیاً ، مقام النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وما أعطاه ربه عز وجل ، وأنه فوق تصور أذهاننا

ص: 279

وإدراک عقولنا ! فقد استطاع أن یلقن تلک العلوم لعلی(علیه السّلام)فی جلسة واحدة ، لم تزد علی ساعة أو ساعتین ، فقد روی المسلمون أن هذا الحدیث کانت فی مرض وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأنه دعا علیاً(علیه السّلام)وناجاه بمفرده طویلاً ، وکان المسلمون ینتظرونه خارج الغرفة ! وهذا مقام یشبه مقام جبرئیل(علیه السّلام)فی تلقینه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!!

ویظهر ثالثاً ، من نصوص الألف باب أن جزءً منها علم المنایا والبلایا وفصل الخطاب ، فهی إذن أعظم من ذلک .

ویظهر أن هذه المعجزة التی أظهرها علی(علیه السّلام)فی ابن حریث وأصحابه ، أنها إحدی ثمرات الألف باب ، وأن باستطاعته(علیه السّلام)وهو یخطب علی منبر المدائن أن یوجه نفسه الشریفة لمعرفة حال عمرو بن حریث وحزبه ، الذین وصلوا لتوهم من الکوفة ، فیریه الله تعالی سبب تأخرهم ، ومشهدهم عندما أخذ ابن حریث ید الضب وأعلن خلع علی(علیه السّلام)وبیعة الضب أمیراً لهم ، وطلب منهم أن یبایعوه بإمرة المؤمنین ، فبایعوه کلهم سخریة بأمیر المؤمنین والدین !

ثم یریه الله تعالی مشهد هؤلاء فی المحشر یوم یدعو کل أناس بإمامهم ، وأنهم یدعون وإمامهم الضب الذی بایعوه !!

ویظهر رابعاً ، أن تأثیر هذه المعجزة وأمثالها من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)کان بلیغاً فی إفحام المنافقین وخشوع المؤمنین ! ولکن المنافقین کانوا مع ذلک یتمادون فی عنادهم ! وهذه سنة الله تعالی، فقد واجهت قریش معجزات النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالقول إنها سحر ، وإن بنی عبد المطلب کلهم سَحَرَة !! وکذلک واجه أبناؤهم وأتباعهم عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! فکان الأشعث بن قیس یقول لمعاویة إن علیاً ساحر کذاب !

ویلاحظ أخیراً وأولاً ، أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لم یتخذ أی إجراء ضد ابن حریث وجماعته ! ولعله اعتبر عملهم من ناحیة حقوقیة عملاً استسرَّوا به ،

ص: 280

فعقوبتهم علیه کشفهم فقط ! أما مقاضاتهم فلا تصح إلا علی ما أعلنوه ، أو أضروا به الآخرین ! (راجع أحادیث الألف باب من العلم فی: بصائر الدرجات ص325، و333 ، و334، و411 ، والکافی:1/96، و792، والخصال للصدوق ص643، و نفحات الأزهار :14/249 وما بعدها ، ومواقف الشیعة:3/116. ومن مصادر غیرنا: کنز العمال:13/114 ، وفتح الملک العلی ص 48 ، وتاریخ دمشق:42/385 ، وقد حاولوا تضعیف الحدیث فلم یجدوا إلا تضعیف بعضهم لابن لهیعة بدون حجة إلا تهمته بالتشیع ! مع أن العدید منهم وثقوه ورووا عنه . کما روت صحاحهم أصل هذا الحدیث مبتوراً وبقی منه فیها أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال أدعوا لی علیاً(علیه السّلام) فدعت عائشة أباها ودعت حفصة أباها ! فنظر الیهما وأعرض عنها.. الی آخره:کما فی مسند أحمد:1/356 ، وابن ماجة:1/391 ، وغیرهما ).

ص: 281

السماحة وبذل الماء والطعام فی بنی هاشم والضد فی بنی أمیة وقریش !

قال نبی الله إبراهیم(علیه السّلام): رَبَّنَا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ . (ابراهیم:37) ، فأعطاهم الله سقیا زمزم فی مکة ، وجبل الطائف !

وبعد ثلاثة آلاف سنة ، کانت زمزم غارت وضاعت ، فأعطاها الله ثانیةً هدیةً لوارث إبراهیم(علیه السّلام) ، عبد المطلب رضی الله عنه ، مقدمةً لبعثة سید الرسل(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

فقد أراه الله بئر زمزم فی المنام ، فحفرها عبد المطلب مع أولاده ، وأهل مکة یسخرون من عملهم ! حتی إذا انفجر نبعها طمعت فیها قریش فنازعوه فیها فغلبهم عبد المطلب ، لکنه بذل ماءها للناس ! وصار بنو عبد المطلب سُقاة قریش والحجیج ! کما کانوا من زمن هاشم أهل الرفادة وإطعام الحجیج !

وعندما حاصر المسلمون عثمان لأکثر من شهر ، ومنعوا عنه الماء بأمر طلحة التیمی ! أرسل علیٌّ ولدیه الحسن والحسین(علیهم السّلام) بقِرَب الماء الی دار الخلافة ، ففکوا الحصار وسقوا عثمان ومن معه ! (تاریخ الطبری:3/416 ، وغیره).

وفی أمالی الطوسی ص715: (وقیل لعلی(علیه السّلام)إن عثمان قد منع الماء ، فأمر بالروایا

فعُکمت ، وجاء للناس علی(علیه السّلام) فصاح بهم صیحة فانفرجوا ، فدخلت الروایا ، فلما رأی علی(علیه السّلام)اجتماع الناس ووجوههم ، دخل علی طلحة بن عبید الله وهو متکئ علی وسائد فقال له: إن هذا الرجل مقتول فامنعوه . فقال: أما والله دون أن تعطی بنو أمیة الحق من أنفسها )!!

ص: 282

وعندما ثار أهل المدینة علی یزید بعد مجزرة کربلاء ، وأرادوا قتل الوالی ورجال الدولة من بنی أمیة ، أخذ رجالهم بالهرب من المدینة ، وبحثوا عمن یأوی نساءهم وأطفالهم ، فآواهم الإمام زین العابدین(علیه السّلام)وأطعمهم وسقاهم کعائلته ، وحماهم حتی بلَّغهم مأمنهم ! قال الطبری فی تاریخه:4/372: ( وقد کان علی بن الحسین لما خرج بنو أمیة نحو الشام ( أی هربوا بسبب ثورة أهل المدینة علیهم ) آوی إلیه ثقل مروان بن الحکم وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان ، وهی أم أبان بن مروان ! وقد حدثت عن محمد بن سعد عن محمد بن عمر قال: لما أخرج أهل المدینة عثمان بن محمد من المدینة کلم مروان بن الحکم ابن عمر أن یغیِّب أهله عنده فأبی ابن عمر أن یفعل ! وکلم علی بن الحسین وقال: یا أبا الحسن إن لی رحماً وحرمی تکون مع حرمک فقال: أفعلُ ، فبعث بحرمه إلی علی بن الحسین ، فخرج بحرمه وحرم مروان حتی وضعهم بینبع ). انتهی .

فالسماحة والبذل والنبل والشهامة وأخواتها من الصفات الإنسانیة ، خلقٌ ودینٌ فی بنی هاشم . والصفات المضادة للقیم الإنسانیة طبعٌ فی بنی أمیة وقریش ! وقد جسدت کربلاء أعلی الدرجات فی هؤلاء ، وأحطَّ الدرکات فی أولئک!

وقبل کربلاء أیضاً ،کانت هذه الحادثة بین علی(علیه السّلام)ومعاویة فی صِفِّین . فقد وصل جیش معاویة الیها قبل جیش علی(علیه السّلام) ، وماء الفرات فی أرض صفین سهل التناول ، بینما یصعب الإستقاء من غیرها لعمق مجری النهر أو وعورته . ولذا بادر معاویة فحمی أماکن الورود لیمنع علیاً(علیه السّلام)وأنصاره منه ، لیموتوا عطشاً بظنه ! وجرت بینهم مداولات فأصرَّ معاویة علی منعهم ، فحمل جیش علی(علیه السّلام) وحرروا الفرات ، لکن علیاً(علیه السّلام)بذله لهم لأن الناس فی الماء والکلأ والنار سواء !

ص: 283

فی نهج السعادة:2/149: ( فوافی صفین قبل مجئ علی(علیه السّلام)فعسکر فی موضع سهل علی شریعة ، لم یکن علی الفرات فی ذلک الموضع أسهل منها للورود علی الماء ، وما عداها أخراق عالیة ومواضع إلی الماء وعرة ، ووکل أبا الأعور السلمی بالشریعة مع أربعین ألفاً...وأخذوا الشریعة فهی فی أیدیهم ، وقد صفَّ أبو الأعور علیها الخیل والرجالة وقدم المرامیة ومعهم أصحاب الرماح والدرق ، وعلی رؤوسهم البیض ، وقد أجمعوا أن یمنعونا الماء ، ففزعنا إلی أمیر المؤمنین فأخبرناه بذلک فدعا صعصعة بن صوحان فقال: إئت معاویة فقل إنا سرنا مسیرنا هذا ، وأنا أکره قتالکم قبل الأعذار إلیکم ، وإنک قد قدمت بخیلک فقاتلتنا قبل أن نقاتلک وبدأتنا بالقتال ، ونحن من رأینا الکف حتی ندعوک ونحتج علیک ، وهذه أخری قد فعلتموها حتی حُلتم بین الناس وبین الماء ، فخلِّ بینهم وبینه حتی ننظر فیما بیننا وبینکم ، وفیما قدمنا له وقدمتم . وإن کان أحب إلیک أن ندع ما جئنا له وندع الناس یقتتلون علی الماء حتی یکون الغالب هو الشارب ، فعلنا . فأجابه معاویة: لا سقانی الله ولا سقی أبا سفیان إن شربتم منه أبداً حتی تقتلوا بأجمعکم علیه !! قال نصر...: فبقی أصحاب علی یوماً ولیلة بلا ماء....قالٍ: خطب علی(علیه السّلام)یوم الماء فقال: أما بعد فإن القوم قد بدؤوکم بالظلم ، وفاتحوکم بالبغی واستقبلوکم بالعدوان ، وقد استطعموکم القتال حیث منعوکم الماء ، فأقروا علی مذلة وتأخیر محلة ، أو رووا السیوف من الدماء تُرووا من الماء ، فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین . ألا وإن معاویة قاد لُمَّةً من الغواة ، وعَمَّس علیهم الخبر ، حتی جعلوا نحورهم أغراض المنیة ). انتهی .

وفی البحار:32/439 ، عن نسخة نصر بن مزاحم الصحیحة عنده: ( قال عبد الله بن عوف: فوالله ما راعنا إلا تسویة الرجال والصفوف والخیل ، فأرسل إلی أبی الأعور إمنعهم الماء ، فازدلفنا والله إلیهم فارتمینا واطَّعنا بالرماح واضطربنا

ص: 284

بالسیوف فطال ذلک بیننا وبینهم حتی صار الماء فی أیدینا فقلنا: لاوالله لا نسقیهم! فأرسل علی أن خذوا من الماء حاجتکم وارجعوا معسکرکم ، وخلوا بینهم وبین الماء ، فإن الله قد نصرکم علیهم ببغیهم وظلمهم....

قال: ولما غلب أهل الشام علی الفرات فرحوا بالغلبة وقال معاویة: یا أهل الشام هذا والله أول الظفر لا سقانی الله ولا أبا سفیان إن شربوا منه أبداً حتی یقتلوا بأجمعهم علیه ، وتباشر أهل الشام . فقام إلی معاویة رجل من أهل الشام همدانی ناسک یقال له المعری بن الأقبل فقال: یا معاویة سبحان الله ألأن سبقتم القوم إلی الفرات تمنعونهم الماء؟ أما والله لو سبقوکم إلیه لسقوکم منه ، ألیس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعونهم فرضةً من الفرات فینزلون علی فرضة أخری فیجازونکم بما صنعتم ! أما تعلمون أن فیهم العبد والأمة والأجیر والضعیف ومن لا ذنب له ؟ هذا والله أول الجهل ! فأغلظ له معاویة ! قال نصر: ثم سار الرجل الهمدانی فی سواد اللیل حتی لحق بعلی ، ومکث أصحاب علی بغیر ماء واغتمَّ (علیه السّلام)بما فیه أهل العراق من العطش فأتی الأشعث علیاً فقال: یا أمیر المؤمنین أیمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فینا والسیوف فی أیدینا ! خلِّ عنا وعن القوم ، فوالله لا نرجع حتی نرده أو نموت ، ومُر الأشتر یعلو بخیله ویقف حیث تأمر . فقال علی: ذاک إلیکم . فنادی الأشعث فی الناس من کان یرید الماء أو الموت فمیعاده موضع کذا فإنی ناهض ، فأتاه إثنا عشر ألفاً من کندة وأفناء قحطان واضعی سیوفهم علی عواتقهم ، فشد علیه سلاحه ونهض بهم حتی کاد أن یخالط أهل الشام ، وجعل یلقی رمحه ویقول لأصحابه: بأبی وأمی وأنتم تقدموا إلیهم قاب رمحی هذا ، فلم یزل ذلک دأبه حتی خالط القوم وحسر عن رأسه ونادی: أنا الأشعث بن قیس خلوا عن الماء ! فنادی أبو الأعور: أما والله حتی

ص: 285

تأخذنا وإیاکم السیوف ، فقال الأشعث:قد والله أظنها دنت منا ومنکم .

وکان الأشتر قد تعالی بخیله حیث أمره علی فبعث إلیه الأشعث: أقحم الخیل فأقحمها حتی وضعت بسنابکها فی الفرات وأخذت أهل الشام السیوف فولوا مدبرین.... قال نصر: فروی لنا عمر بن سعد أن علیاً قال ذاک الیوم: هذا یوم نصرتم فیه بالحمیة ). انتهی .

وفی شرح النهج:1/23: (وحمل علی عساکر معاویة حملات کثیفة ، حتی أزالهم.... وصار أصحاب معاویة فی الفلاة لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشیعته: أمنعهم الماء یا أمیر المؤمنین کما منعوک ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسیوف العطش ، وخذهم قبضاً بالأیدی فلا حاجه لک إلی الحرب ، فقال: لا والله لا أکافئهم بمثل فعلهم ، إفسحوا لهم عن بعض الشریعة ، ففی حد السیف ما یغنی عن ذلک . فهذه إن نسبتها إلی الحلم والصفح فناهیک بها جمالاً وحسناً ، وإن نسبتها إلی الدین والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله(علیه السّلام)).

وکانت أخلاق علی(علیه السّلام)معروفة لأعدائه، فقد روی نصر بن مزاحم ص185، أن ابن العاص قال: یامعاویة ما ظنک بالقوم إن منعوک الماء الیوم کما منعتهم أمس ، أتراک تضاربهم علیه کما ضاربوک علیه؟ قال: دع عنک ما مضی منه ما ظنک بعلی؟ قال: ظنی أنه لایستحل منک ما استحللت منه وأن الذی جاء له غیر الماء) !

ص: 286

سیاسة أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فی إتمام الحجة علی أعدائه

ربما زادت الرسائل المتبادلة بین علی(علیه السّلام)ومعاویة علی عشرین رسالة ، مع أن المدة الفاصلة بین بیعته بالخلافة وبین حرب صفین کانت نحو سنة ! وقد اشتهر إسم جریر بن عبد الله البجلی ، الصحأبی الذی کان مبعوثه الی معاویة .

ومن المفید أن یقوم أحد بجمع نصوص الرسائل والمحادثات ، التی جرت بین علی(علیه السّلام) وأعدائه: معاویة ، والخوارج ، وطلحة والزبیر وعائشة ، وفی المصادر کثیر منها ، فیدرسها من حیث العدد والتوقیت والمضامین ، لتوضیح وحدة وجه الحق عند علی(علیه السّلام)والنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ووحدة سیاستهما فی إتمام الحجة !

فالقضیة عند النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأمیر المؤمنین(علیه السّلام)لیست خصومةً ، ولا قتالاً من أجل الغلبة والسلطة ، بل قضیة دقیقة ومسؤولیة شرعیة أمام الله تعالی ، لا بد فیها من الإعذار فی دعوة الخصم الی الحق وإتمام الحجة علیه ، کما لا بد من توجیه المقاتلین لأن تکون دوافعهم ونیاتهم لنصرة الله تعالی ، ولیس للحمیة والغلبة والتعصب لقائدهم وقبیلتهم وبلدهم .

وقد تقدم آنفاً قول أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لجیشه عندما قاتلوا جیش معاویة علی الماء:(هذا یوم نصرتم فیه بالحمیة)فالقضیة عنده(علیه السّلام)لیست من یشرب من الفرات بل مَن یشرب من الکوثر ، وهو الذی یقاتل لله تعالی لا لشخصه وقومه !

وکذلک قوله(علیه السّلام)لصعصعة عندما بعثه الی معاویة:(إئت معاویة فقل إنا سرنا مسیرنا هذا ، وأنا أکره قتالکم قبل الإعذار إلیکم ، وإنک قد قدمت بخیلک فقاتلتنا قبل أن نقاتلک وبدأتنا بالقتال ، ونحن من رأینا الکف حتی ندعوک ونحتج علیک ).

ومما نلاحظه أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقَّت وصول جیشه الی صفین قرب شهر محرم الحرام ، الذی هو هدنة إجباریة لحرمة القتال فیه ، وذلک من أجل إتمام

ص: 287

الحجة علی معاویة وأهل الشام ، ورفع مستوی أصحابه لیکون قتالهم لهم خالصاً لله تعالی ، بعیداً عن التعصب للعراق والشام وشخص علی ومعاویة .

وهذا الأسلوب المتأنی من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لم یعجب کثیرین من جیشه فاشتکوا من تأخیر القتال ، بل تجرأ الخشنون منهم وکانوا کثرة ، فأشاعوا أن علیاً یکره الموت ! وأنه یشک فی مشروعیة قتال أهل الشام !

ففی نهج البلاغة:1/104: ( ومن کلام له(علیه السّلام)وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم فی القتال بصفین: أما قولکم أکلُّ ذلک کراهیة الموت؟ فوالله ما أبالی أدخلت إلی الموت أو خرج الموت إلیَّ . وأما قولکم شکاً فی أهل الشام ، فوالله ما دفعت الحرب یوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بی طائفة فتهتدی بی وتعشو إلی ضوئی ، وذلک أحبُّ إلیَّ من أن أقتلها علی ضلالها وإن کانت تبوء بآثامها ).

وقد استعمل علیٌّ(علیه السّلام)أسلوبه الخاص فی إتمام الحجة ، لیثبت لمن کان له قلب أن معاویة علی الباطل ، وأنه نفسه یعرف ذلک ! فدعا معاویة مراراً أن یجنب المسلمین المعرکة ، وأن یبارزه شخصیاً ، لتکون المبارزة مباهلةً أمام الله تعالی لینصر المحق ویقتل المبطل منهما ! فقد کتب الیه ذلک فی رسائله ، وبعث الیه مع مبعوثیه ، ونادی به فی مقاطع من الحرب فی صفین !

کتب له کما فی نهج البلاغة:3/11: ( وقد دعوت إلی الحرب ، فدع الناس جانباً واخرج إلیَّ وأعف الفریقین من القتال ، لیُعلم أیُّنا المَرینُ علی قلبه ، والمغطی علی بصره ! فأنا أبو حسن قاتل جدک وخالک وأخیک شدخاً یوم بدر ، وذلک السیف معی ، وبذلک القلب ألقی عدوی ، ما استبدلت دیناً ، ولا استحدثت نبیاً ، وإنی لعلی المنهاج الذی ترکتموه طائعین ودخلتم فیه مکرهین ). انتهی .

وقد کرر(علیه السّلام)دعوته هذه لمعاویة فی صفین حتی صارت فضیحة روی المؤرخون لها قصصاً بین معاویة وابن العاص وبقیة الطلقاء وشخصیات الشام!

ص: 288

أرقام من حرب صفین

کثرت المؤلفات فی حرب صفین من زمن وقوعها ، کما تجد فی تراجم الرواة ، والکتب المختصة ، کفهرست ابن الندیم ، والذریعة للطهرانی .

قال ابن الندیم ص105، وبعدها: (وکان مخنف بن سلیم من أصحاب علی ، وروی عن النبی وصحبه....وله من الکتب کتاب الردة. کتاب فتوح الشام . کتاب فتوح العراق. کتاب الجمل. کتاب صفین. کتاب أهل النهروان والخوارج.....

أبو الفضل نصر بن مزاحم من طبقة أبی مخنف ، من بنی منقر... وله من الکتب کتاب الغارات . کتاب صفین . کتاب الجمل . کتاب مقتل حجر بن عدی . کتاب مقتل الحسین بن علی..... إسحاق بن بشر من أصحاب السیر والأحداث . وله من الکتب ، کتاب المبتدأ . کتاب الردة . کتاب الجمل . . . کتاب صفین . ..

وقال عن الواقدی: وله من الکتب....کتاب الجمل.....کتاب صفین .

وقال فی ص122: (محمد بن زکریا بن دینار الغلأبی ، أحد الرواة للسیر والأحداث والمغازی وغیر ذلک . وکان ثقة صادقاً ، وله من الکتب: کتاب مقتل الحسین بن علی . کتاب وقعة صفین . کتاب الجمل . کتاب الحَرَّة...

أبو إسحاق إسماعیل بن عیسی العطار ، من أهل بغداد ...وله من الکتب:کتاب المبتدأ . کتاب حفر زمزم...کتاب الجمل . کتاب صفین ). انتهی .

وذکر النجاشی فی رجاله ص11:کتاب أبان بن تغلب فی صفین ، وکتاب إبراهیم بن هلال الثقفی ص16 ، وکتاب عبد العزیز الجلودی ص240 .

وأورد فی الذریعة:5 /141، نحو عشرین کتاباً لمؤلفین قدماء ، منهم ابراهیم بن دیزیل الهمدانی الذی ینقل عنه ابن مزاحم . وعدَّ فی:22/229: ثلاثة کتب لابن

ص: 289

السائب الکلبی:کتاب من شهد صفین مع علی من الصحابة ، کتاب من شهد صفین مع علی من الأنصار ، کتاب من شهد صفین مع علی من البدریین ).انتهی.

کان جیش علی(علیه السّلام)تسعین ألفاً ، فیهم عامة الصحابة من المهاجرین والأنصار وروی أنه کان معه(علیه السّلام)سبع مئة صحأبی فیهم أکثر من مئة من أهل بیعة الرضوان وثلاثون من البدریین . وقد استشهد معه(علیه السّلام)فی صفین خمسة وعشرون بدریاً . وکان جمهور جیشه من قبائل العراق والحجاز والیمن .

وکان جیش معاویة مئة وعشرین ألفاً ، وعمدتهم من أهل الیمن والشام ، وفیهم طلقاء قریش کلهم لکن القادة فیهم أکثر من الجنود ! ولم یکن معه من الصحابة أحدٌ إلا من سموه صحابیاً وهو طلیقٌ أسلم تحت السیف ، ولا من الأنصار إلا شخصان: النعمان بن بشیر ومسلمة بن مخلد ! قال ابن الأعثم فی الفتوح:2/110: ( ولم یکن معه من الأنصار غیرهما) !!

وقد اشتشهد من أصحاب علی(علیه السّلام)خمسة وعشرون ألفاً ، وقتل من أصحاب معاویة نحو خمسین ألفاً ، وسبب هذه الکثرة أن قادة جیش معاویة کان همهم نجاة أنفسهم ، فإذا حمی الوطیس فرُّوا وترکوا جنودهم ، فتکثر فیهم القتلی !

قال ابن الأعثم فی الفتوح:3/132( وأقبل الی معاویة رجل من أجلاء أهل الشام حتی وقف بین یدیه فقال: یا معاویة إنه قتل منا فی هذا الیوم سبع مئة رجل ، ولم یقتل من أصحاب علی إلا أقل من ذلک ، وأنت الذی تفعل بنا ذلک ! لأنک تولی علینا من لایقاتل معنا ، مثل عمرو بن العاص ، وبسر بن أرطاة ، وعبد الرحمن بن خالد ، وعتبة بن أبی سفیان ، وکل واحد من هؤلاء إنما یقاتل ساعة ثم یخرج من الغبار ) !!

ص: 290

لیلة الهریر ویوم الهریر

ذکر بعض الرواة أن مدة إقامة الجیشین فی صفین مئة وعشرة أیام ، وأن الوقائع کانت تسعین وقعة ، لکن ذلک مبالغة ، فهو لایستقیم إلا بأن یقصدوا مجموع سفرهم من أول مقدمة الجیش التی أرسلها علی(علیه السّلام) .

والظاهر أن الحرب استمرت اثنی عشر یوماً فقط ، من یوم الأربعاء أول شهر صفر سنة37 ، الی لیلة الهریر لیلة الجمعة الثانی عشر من صفر ، وفی صبیحتها رفع معاویة المصاحف داعیاً الی وقف القتال وتحکیم حکمین !

فقد کانت بیعة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بالخلافة یوم الثلاثاء الرابع والعشرین من ذی الحجة سنة35 هجریة ، وکان الزمن صیفاً فی شهر حزیران . (الیعقوبی:2/176).

وکان ذلک بعد مقتل عثمان بستة أیام ، حیث قتل فی الثامن عشر من ذی الحجة سنة 35 هجریة (الطبری:3/411). بعد أن حاصره الصحابة والتابعون فی دار الخلافة نحو شهرین ، طالبین من أن یخلع نفسه فلم یفعل

وبعد خمسة أشهر من بیعتهم لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)أشعلوا ضده حرب الجمل فی البصرة ، واستمرت سبعة أیام ، کان أولها یوم الخمیس العاشر من جمادی الآخرة سنة 36 . ( التنبیه والإشراف ص255).

وبعد معرکة الجمل قرر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)نقل العاصمة الإسلامیة من المدینة الی الکوفة ، فسار الیها من البصرة فی یوم الإثنین12 رجب سنة36 ، ووصل الی الکوفة یوم الإثنین22 رجب ، واستقر بها شهوراً ، ثم توجه مع من استجاب له الی صفین، فوصلها فی أواخر ذی الحجة ، ولم یقاتل فی محرم لحرمته .

أما فی ذی الحجة فقد تکون حصلت مناوشات وقتال جزئی بین مقدمات

ص: 291

الجیشین ، والذی أرجحه أنه لم یکن بینهم قبل صفر معرکة إلا علی الماء ، وأن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)تعمد تأخیر المعرکة لیقوم بعمله فی إتمام الحجة علی معاویة وأهل الشام ، وتوعیة أصحابه ورفع مستواهم ، وأن أول أیام المعرکة کان یوم الأربعاء أول شهر صفر سنة37 . ویدل علی ذلک أن جیش الإمام(علیه السّلام)ضجروا وشکوْا له طول المقام وعدم إذنه (علیه السّلام)لهم ببدء الحرب کما تقدم .

وفی شرح النهج:4/13: (لما ملک أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الماء بصفین ثم سمح لأهل الشام بالمشارکة فیه والمساهمة رجاء أن یعطفوا إلیه ، واستمالة لقلوبهم وإظهاراً للمَعْدلة وحسن السیرة فیهم ، مکث أیاماً لا یرسل إلی معاویة ، ولا یأتیه من عند معاویة أحد ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم فی القتال ، وقالوا: یا أمیر المؤمنین خلفنا ذرارینا ونساءنا بالکوفة ، وجئنا إلی أطراف الشام لنتخذها وطناً ! إئذن لنا فی القتال فإن الناس قد قالوا ! قال لهم(علیه السّلام): ما قالوا ؟ فقال منهم قائل: إن الناس یظنون أنک تکره الحرب کراهیةً للموت ، وإن من الناس من یظن أنک فی شک من قتال أهل الشام ! فقال(علیه السّلام): ومتی کنتُ کارها للحرب قط ! إن من العجب حبی لها غلاماً ویفعاً ، وکراهیتی لها شیخاً بعد نفاد العمر وقرب الوقت ! وأما شکِّی فی القوم ، فلو شککت فیهم لشککت فی أهل البصرة ! والله لقد ضربت هذا الأمر ظهراً وبطناً ، فما وجدت یسعنی إلا القتال أو أن أعصی الله ورسوله ، ولکنی أستأنی بالقوم عسی أن یهتدوا أو تهتدی منهم طائفة ، فإن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال لی یوم خیبر: لأن یهدیَ الله بک رجلاً واحداً خیر لک مما طلعت علیه الشمس) .

ویؤید ذلک أن الرویات التی ذکرت قتالاً فی ذی الحجة لم تذکر غیر القتال علی الماء ، وقد تکون أحداثه وحربه استغرقت بضعة أیام .

ولعل أصل الروایات التی تذکر أن شهر ذی الحجة کان کله قتالاً ، قول نصر ص196فی سیاق الحرب علی الماء: (فاقتتل الناس ذا الحجة کله ، فلما مضی ذو

ص: 292

الحجة تداعی الناس أن یکف بعضهم عن بعض إلی أن ینقضی المحرم ، لعل الله أن یجری صلحاً واجتماعاً . فکف الناس بعضهم عن بعض). انتهی .

لکن قوله: (ذا الحجة کله) لا یعنی أکثر من أن حرب الماء امتدت الی نهایته .

کانت طریقة الحرب بأن یعبؤوا الجیش بعد صلاة الفجر ویتقدموا الی مواجهة بعضهم ، فربما تقدم فارس یطلب المبارزة فیبرز الیه فارس من الطرف الآخر فیقف الناس یتفرجون علیهما ، وربما حملت مجموعة علی من یقابلها ، وربما کانت الحرب زحفاً من الجیش جله أو کله . لکن القتال کان ینتهی عند الغروب فیحجز بینهم اللیل ، ویدفنون قتلاهم ، ویعود کلٌّ الی معسکره .

وقد اشتدت الحرب فی الأیام الثلاثة الأخیرة ، کما ذکر ابن سعد فی الطبقات :3/261: ( وکان القتال الشدید ثلاثة أیام ولیالیهن ، آخرهن لیلة الهریر) .

وقال البلاذری فی أنساب الأشراف ص318: (وقال الواقدی فی إسناده: کان القتال الشدید بصفین ثلاثة أیام ولیالیهن ، آخرهن لیلة الهریر ). انتهی .

وسمیت لیلة الهریر لکثرة أصوات المقاتلین وهمهمتهم وهرَّهم علی بعضهم ، وفیها استشهد عمار بن یاسر(رحمه الله)بید الفئة الباغیة کما أخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، واتصلت فیها الحرب طول اللیل تقریباً ، وفی صبیحتها رفع معاویة المصاحف ، وکان علی اتفاق فی ذلک مع أحد قادة جیش علی(علیه السّلام)وهو الأشعث بن قیس رئیس قبیلة کندة الیمانیة الکبیرة ، وصاحب النفوذ فی عدد من قبائل الیمن !

قال فی فتح الباری:11/104: (وقتل بین الفریقین تلک اللیلة عدة آلاف وأصبحوا وقد أشرف علیٌّ وأصحابه علی النصر ، فرفع معاویة وأصحابه المصاحف فکان ما کان من الإتفاق علی التحکیم ، وانصراف کل منهم إلی بلاده ).

ص: 293

وقال ابن کثیر فی النهایة:7/301:(وتوجه النصر لأهل العراق علی أهل الشام ، وذلک أن الأشتر النخعی صارت إلیه إمرة المیمنة ، فجعل بمن فیها علی أهل الشام وتبعه علیٌّ فتنقضت غالب صفوفهم وکادوا ینهزمون ، فعند ذلک رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بیننا وبینکم قد فنی الناس فمن للثغور ؟ ومن لجهاد المشرکین والکفار ) .

وفی تاریخ الیعقوبی:2/188: (وزحف أصحاب علیٍّ وظهروا علی أصحاب معاویة ظهوراً شدیداًً حتی لصقوا به ، فدعا معاویة بفرسه لینجو علیه ، فقال له عمرو بن العاص:إلی أین؟ قال: قد نزل ما تری ، فما عندک؟ قال: لم یبق إلا حیلة واحدة أن ترفع المصاحف فتدعوهم إلی ما فیها ، فتستکفَهم وتکسر من حدهم وتَفُتَّ فی أعضادهم . قال معاویة: فشأنک ! فرفعوا المصاحف ودعوهم إلی التحکم بما فیما ، وقالوا: ندعوکم إلی کتاب الله ! فقال علی:إنها مکیدة ، ولیسوا بأصحاب قرآن ! فاعترض الأشعث بن قیس الکندی ، وقد کان معاویة استماله وکتب إلیه ودعاه إلی نفسه ، فقال: قد دعا القوم إلی الحق ! فقال علی: إنهم إنما کادوکم وأرادوا صرفکم عنهم . فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفت عنک . ومالت الیمانیة مع الأشعث ، فقال الأشعث: والله لتجیبنهم إلی ما دعوا إلیه ، أو لندفعنک إلیهم برُمَّتک ! فتنازع الأشتر والأشعث فی هذا کلاماً عظیماً حتی کاد أن یکون الحرب بینهم ، وحتی خاف علیٌ أن یفترق عنه أصحابه !

فلما رأی ما هو فیه أجابهم إلی الحکومة ، وقال علیٌّ: أری أن أوجه بعبد الله بن عباس . فقال الأشعث: إن معاویة یوجه بعمرو بن العاص ، ولا یحکم فینا مضریان ، ولکن توجه أبا موسی الأشعری ، فإنه لم یدخل فی شئ من الحرب. وقال علی:إن أبا موسی عدوٌّ وقد خذَّل الناس عنی بالکوفة ونهاهم أن یخرجوا معی! قالوا: لا نرضی بغیره ) ! انتهی .

ص: 294

وقد جرت أحداث عدیدة یوم الجمعة صبیحة لیلة الهریر، وفی الأیام الخمسة التی تلتها ، غلب فیها الذین أرادوا إیقاف الحرب بزعامة الأشعث وزعماء الخوارج فیما بعد ، وهددوا الأشتر وأمیر المؤمنین(علیه السّلام)بالقتال إن لم یقبلوا !

وتم توقیع کتاب الهدنة بعد خمسة أیام ، فی یوم الأربعاء لثلاث عشرة (بقیت) من صفر سنة سبع وثلاثین ، کما روی ابن مزاحم ص511: ( وکتب عمیرة یوم الأربعاء لثلاث عشرة بقیت من صفر سنة سبع وثلاثین) ، وکذا فی الأخبار الطوال ص 154، وشرح الأخبار:2/138، فتکون کلمة: (خلت) فی روایة بعضهم وقعت اشتباهاً بدل: بقیت ، ولعل هذا السبب فی تردد الطبری فی تاریخه:4/40 قال: (فکتب کتاب القضیة بین علی ومعاویة فیما قیل یوم الأربعاء لثلاث عشرة یوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر ، سنة سبع وثلاثین من الهجرة ، علی أن یوافی علی موضع الحکمین بدومة الجندل فی شهر رمضان ، ومعاویة ومع کل واحد منهما أربعمأة من أصحابه وأتباعه). انتهی.

ومهما فرضنا یوم کتابة وثیقة الصلح فقد انتهی القتال یوم الهریر ، وکانت بعده المفاوضات ، وکتابة الوثیقة وإعلان انتهاء الحرب .

ص: 295

عمار وأویس .. من أعلام الهدی التی وضعها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأمته

حاشا لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یدع أمته دون أن یبین لها طریق الهدی بعده ! فقد بیَّنه لها وأکد علیها أن طریق أمنها من الضلال منحصرٌ فی اتباع عترته أهل بیته(علیهم السّلام) ، وأکد وصیته لها بالثقلین القرآن والعترة ، فی مواطن عدیدة وأحادیث کثیرة ، وبشرها فی حجة الوداع بأن الله حلَّ مشکلة القیادة فیها ، کما حلها فی الأمم بعد إبراهیم(علیه السّلام)فاختار من عترته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )اثنی عشر إماماً ربانیاً ، وخطب یوم الغدیر ثم دعا علیاً(علیه السّلام)وأصعده معه علی المنبر ورفع بیده ونصبه خلیفةً من بعده ، وأعلن أن الولایة التی جعلها الله له هی لعلی ما عدا النبوة ! (من کنت مولاه فعلی مولاه).

وأخبر أمته بأنها ستنحرف من بعده ، وتغدر بأهل بیته وتظلمهم وتقتلهم وتشردهم فی البلاد ! وأن ذلک سیطول حتی تضعف الأمة فتتداعی علیها الأمم وتتغلب علیها ، حتی یبعث الله المهدی المنتظر من عترته فیعید الحق الی نصابه ، وینهی الظلم علی الأرض بإذن ربه ، ویظهر الله به دینه علی الدین کله ، فتمتد دولة العدل الإلهی الی یوم القیامة !

ومضافاً الی هذه الأعلام الصریحة التی نصبها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأمر ربه ، وضع لأمته أعلاماً خاصة کثیرة ، اهتدی بها من کتب الله لهم الهدایة من أجیالها . وکان من هذه الأعلام: عمار بن یاسر ، وأویس القرنی ، رحمهما الله ، فقد روی الجمیع أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )شهد بأنهما مع الحق ومن خالفهما مع الباطل والضلال !

أما أویس القرنی فقد روی فی الطبقات:6/161: (قال رسول الله (ص): خلیلی من هذه الأمة أویس القرنی....أن عمر قال لأویس: إستغفر لی . قال: کیف أستغفر لک وأنت صاحب رسول الله(ص)؟قال: سمعت رسول الله(ص):إن خیر التابعین رجل یقال له أویس) !

ص: 296

وفی حلیة الأولیاء:2/86:(نادی رجل من أهل الشام یوم صفین:أفیکم أویس القرنی ؟ قال قلنا: نعم ، وما تریده منه؟ قال: إنی سمعت رسول الله(ص) یقول: أویس القرنی خیر التابعین بإحسان. وعطف دابته فدخل مع أصحاب علی رضی الله تعالی عنهم). ورواه الحاکم فی:3/402 وأحمد:3/480 نحوه ، وقال فی مجمع الزوائد: 10/ 22: رواه أحمد وإسناده جید .

وفی مستدرک الحاکم:2/365: (فنادی علیٌّ یاخیل الله ارکبی وأبشری. قال: فصفَّ الثلثین لهم ، فانتضی صاحب القطیفة أویس سیفه حتی کسر جفنه فألقاه ، ثم جعل یقول: یا أیها الناس: تِمُّوا تِمُّوا ، لتُتِمَّنَّ وجوهٌ ثم لاتنصرف حتی تری الجنة. یا أیها الناس تِمُّوا تِمُّوا ، جعل یقول ذلک ویمشی إذ جاءته رمیة فأصابت فؤاده فبرد مکانه ، کأنما مات منذ دهر....هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم ) . انتهی .

وفی میزان الإعتدال:1/281: (ثم عاد فی أیام علی فقاتل بین یدیه فاستشهد بصفین ، فنظروا فإذا علیه نیفٌ وأربعون جراحة). انتهی .

وفی خصائص الأئمة(علیهم السّلام) للشریف الرضی(رحمه الله)53:(عن الأصبغ بن نباتة قال: کنت مع أمیر المؤمنین بصفین فبایعه تسعة وتسعون رجلاً ، ثم قال: أین تمام المائة؟ فقد عهد إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنه یبایعنی فی هذا الیوم مائة رجل ! قال فجاء رجل علیه قباء صوف متقلد سیفین فقال: هلم یدک أبایعک . فقال: علی مَ تبایعنی؟ قال: علی بذل مهجة نفسی دونک ! قال: ومن أنت؟ قال:أویس القرنی ، فبایعه فلم یزل یقاتل بین یدیه حتی قتل ، فوجد فی الرجالة مقتولاً ).

ونحوه فی اختیار معرفة الرجال:1/315 ، وقال:(وفی روایة أخری قال له أمیر المؤمنین(علیه السّلام):کن أویساً . قال: أنا أویس . قال:کن قرنیاً ، قال: أنا أویس القرنی).

وفی البحار:29/583: (وأتی أویس القرنی متقلداً بسیفین ویقال:کان معه مرماة

ص: 297

ومخلاة من الحصی ، فسلم علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وودعه ، وبرز مع رجالة ربیعة فقتل من یومه ، فصلی علیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ودفنه ). انتهی .

وفی المناقب/249:(وفی روایة: قتل من أصحاب أمیرالمؤمنین(علیه السّلام)فی ذلک الیوم واللیلة ألفاً رجل وسبعون رجلاً ، وفیهم أویس القرنی زاهد زمانه ، وخزیمة بن ثابت الأنصاری ذو الشهادتین ، وقتل من أصحاب معاویة فی ذلک الیوم سبعة آلاف رجل) . انتهی .

وتدل النصوص علی أن أویساً(رحمه الله)ملهمٌ من الله تعالی حیث قال فی بیعته لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)یوم الجمل: (علی السمع والطاعة والقتال بین یدیک حتی أموت أو یفتح الله علیک) فکان الفتح . بینما قال یوم صفین: (علی بذل مهجة نفسی دونک) ولم یذکر الفتح ، فاستشهد ! وتدل علی مقادیر الله تعالی لأویس، أن یکون تمام الألف فی حرب الجمل ، ثم تمام المئة فی صفین ، مبایعاً علی الموت فی سبیل الله تعالی . (راجع سیرة أویس القرنی(رحمه الله)فی أول المجلد الرابع من کتابنا العقائد الإسلامیة ).

وأما عمار(رحمه الله)فقد أجمعت الأمة علی أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أخبر أنه ستقتله الفئة الباغیة الذین یدعون الی النار . وتقدم من البخاری:1/122قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): (ویح عمار تقتله الفئة الباغیة، یدعوهم إلی الجنة ویدعونه إلی النار). انتهی .

قال السید المیلانی فی نفحات الأزهار:3/50: (وقال فی شرح الشفاء فی فصل الإخبار بالغیوب: وإن عماراً وهو ابن یاسر تقتله الفئة الباغیة . رواه الشیخان ، ولفظ مسلم: قال النبی(ص)لعمار: تقتلک الفئة الباغیة . وزاد: وقاتله فی النار . فقتله أی عماراً ، أصحاب معاویة أی بصفین ، ودفنه علی رضی الله تعالی عنه فی ثیابه وقد نیَّف علی سبعین سنة ، فکانوا هم البغاة علی علی بدلالة هذا الحدیث ونحوه ، وقد ورد: إذا اختلف الناس کان ابن سمیة مع الحق ، وقد کان مع علی

ص: 298

رضی الله تعالی عنهما . وأما تأویل معاویة أو ابن العاص بأن الباغی علیٌّ وهو قتله حیث حمله علی ما أدی إلی قتله ، فجوابه: ما نقل عن علی کرم الله وجهه أنه یلزم منه أن النبی(ص)قاتل حمزة عمه ). انتهی .

وقد اشتهر هذا الحدیث النبوی لأن عمرو بن العاص کان یرویه قبل صفین ویکرره ، فطالبه به عددٌ من أصحاب معاویة فی صفین ، وأنه هو الذی رواه لهم وهذا عمار مع علی(علیه السّلام) ! فأجابهم ابن العاص بأنه سوف یکون معنا !!

وقد روی نصر بن مزاحم فی کتاب وقعة صفین ، وابن الأعثم فی الفتوح ، مناظرة عمار فی صفین مع ابن العاص ، وأنها استغرقت یوماً تقریباً من المعرکة !

قال فی الفتوح:3/71:(ذکرماجری من المناظرة بین أبی نوح وذی الکلاع الحمیری:

فأصبح القوم فدنا بعضهم من بعض ومع علی بن أبی طالب رضی الله عنه یومئذ رجل من حمیر یکنی بأبی نوح وکان مفوهاً متکلماً ، وکان له فضل وقدر وطاعة فی الناس ، فقال لعلی: یا أمیر المؤمنین أتأذن لی فی کلام ذی الکلاع فإنه رجل من قومی وهو سیدٌ عند أهل الشام ، فلعلی أشککه فیما هو فیه؟

فقال له علی: یا أبا نوح إن ردَّ مثل ذی الکلاع شدیدٌ عند أهل الشام ، فإن أحببت لقاءه فالقه بالجمیل ، وإیاک والکتب ! قال: فبعث أبو نوح إلی ذی الکلاع: إنی أرید لقاءک فاخرج إلیَّ أکلمک . قال: فجاء ذو الکلاع إلی معاویة فقال: إن أبا نوح یرید کلامی ولست مکلمه إلا بإذنک ، فما تری فی کلامه أکلمه أم لا ؟ فقال معاویة: وما ترید إلی کلامه ؟ فوالله ما نشک فی هداک ، ولا فی ضلالته ، ولا فی حقک ولا فی باطله !

فقال ذو الکلاع: علی ذلک إئذن لی فی کلامه ، فقال معاویة: ذاک إلیک.....

وأقبل أبو نوح حتی وقف بین الجمعین ، وخرج ذو الکلاع حتی وقف قبالته ،

ص: 299

فقال أبو نوح: یا ذا الکلاع ! إنه لیس فی هذین الجمعین أحد أولی بنصیحتک منی ، إن معاویة بن أبی سفیان أخطأ وأخطأتم معه فی خصال کثیرة ، لخطأة واحدة إنه من الطلقاء الذین لاتحل لهم الخلافة ، فأخطأ بادعائه إیاها وأخطأتم باتباعه . وأخطأ فی الطلب بدم عثمان وأخطأتم معه ، لأن غیره أولی بطلب دم عثمان منه . وأخطأ أنه رمی علیاً بدم عثمان وأخطأتم بتصدیقکم إیاه ونصرکم له وهذا أمر قد شهدناه وغبتم عنه ، فاتق الله ویحک یا ذا الکلاع ، فإن عثمان بن عفان أتیح له قوم فقتلوه بدعوی ادعوا علیه ، والله الحاکم فی ذلک یوم القیامة ، وقد بایعت الناس علیاً برضاء منه ومنهم ، لأنه لم یک للناس بدٌّ من إمام یقوم بأمرهم ، ولیس لأهل الشام مع المهاجرین والأنصار أمر . فإن قلت: إن علیاً لیس بخیر من معاویة ولا بأحق منه بهذا الأمر ، فهات رجلاً من قریش ممن ترضی دینه حتی یعدل بینهم فی شئ من الدین والشرف والسابقة فی الإسلام .

فقال له ذو الکلاع: إننی قد سمعت کلامک أبا نوح ولم یخف علی منه شئ ، ولکن هل فیکم عمار بن یاسر؟ فقال أبو نوح: نعم هو فینا ، قال: فهل یتهیأ لک أن تجمع بینه وبین عمرو بن العاص فیتکلمان وأنا أسمع ؟

فقال أبو نوح: نعم ، ثم ولی إلی عسکره ، فصار إلی عمار وطلب إلیه وسأله أن یلقی عمرو بن العاص . قال: فخرج عمار فی ثلاثین رجلاً من المهاجرین والأنصار لیس فیهم رجل إلا وقد شهد بدراً مع رسول الله(ص)غیر رجلین: عمرو بن الحمق الخزاعی ، ومالک بن الحارث الأشتر . (وهذا دلیل علی أن الأشتر صحابی).

قال: وقام الصباح الحمیری إلی معاویة ، فقال له: إنی أری لک أن لا تأذن لذی الکلاع أن یلقی أبا نوح فإنه قد طمع فیه ، وأخاف أن یشککه فی دینه ! فقال معاویة: إنی قد نهیته فلم ینته عن ذلک ، وهو رجل من سادات حمیر ، وأنا أرجو

ص: 300

أن لا یخدع . قال: فأقبل ذو الکلاع إلی عمرو بن العاص إذ هو واقف یحرض الناس علی القتال فقال له: أبا عبد الله ، هل لک فی رجل ناصح صادق لبیب شفیق یخبرک عن عمار بن یاسر بالحق ؟ فقال له عمرو: ومن هذا معک ؟ فقال: هذا ابن عم لی من أهل العراق غیر أنه جاء معی بالعهد والمیثاق علی أنه لا یؤذی ولا یهاج حتی یرجع إلی عسکره .

فقال عمرو: إنا لنری علیه سیماء أبی تراب ! فقال أبو نوح: بل سیماء محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأصحابه علیَّ ، وعلیک سیماء جهل بن أبی جهل وسیماء فرعون ذی الأوتاد ! قال: فوثب أبو الأعور السلمی فسلَّ سیفه ثم قال: أری هذا الکذاب الأثیم یشاتمنا وهو بین أظهرنا ، وعلیه سیماء أبی تراب !

فقال ذو الکلاع: مهلاً یا أبا الأعور !

لأقسم بالله لو بسطت یدک إلیه لأخطمن أنفک بالسیف ! ابن عمی وجاری قد عقدت له ذمتی وجئت به إلیکم لیخبرکم عما تماریتم فیه ، فتسل علیه السیف ؟!

قال: فسکت أبو الأعور وتکلم عمرو بن العاص ، فقال: ألست أبا نوح؟ فقال: بلی أنا أبو نوح ! قال عمرو: فأنا أذکرک الله أبا نوح إلا صدقتنا ولم تکذبنا ، أفیکم عمار بن یاسر ؟ قال أبو نوح: ما أنا بمخبرک حتی تخبرنی لم تسألنی عنه ، فإن معنا من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وکلهم جادٌّ فی قتالکم ، فقال عمرو: لأنی سمعت رسول الله وهو یقول لعمار: تقتلک الفئة الباغیة ، وإنه: لیس ینبغی لعمار بن یاسر أن یفارق الحق ولا تأکل النار منه شیئاً !

فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أکبر ! إن عماراً معنا وإنه لجاد فی قتالکم ، فقال عمرو: إنه والله لجاد علی قتالنا ؟! فقال أبو نوح: والله لقد حدثنی یوم الجمل إننا سنظهر علیهم ، فکان کما قال: ولقد حدثنی بالأمس أن لو هزمتمونا حتی

ص: 301

تبلغونا إلی سعفات هجر لعلمنا بأننا علی حق وأنکم علی باطل ، وأن قتلانا فی الجنة وقتلاکم فی النار ! فقال عمرو: فهل تستطیع أن تجمع بینی وبینه؟

قال أبو نوح: نعم وها هو واقف فی ثلاثین رجلاً من أصحاب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب . فأقبل عمرو بن العاص حتی وقف قریباً من أصحاب علی ، ومعه نفر من أصحاب معاویة . قال ونظر إلیهم عمار ، فأرسل إلیهم برجل من عبد القیس یقال له عوف بن بشر ، فأقبل حتی إذا کان قریباً منهم نادی بأعلی صوته: أین عمرو بن العاص؟ فقال عمرو: ها أنا فهات ما عندک ، فقال: هذا عمار قد حضر ، فإن شئت فتقدم إلیه . قال عمرو: فسر إلینا حتی نکلمک ، فقال: أنا أخاف غدراتک . قال عمرو: فما الذی جرأک وأنت علی هذه الحالة ؟ فقال له عوف بن بشر: الله جرأنی علیک وبصرنی فیک وفی أصحابک ، فإن شئت نابذتک وإن شئت التقیت أنت وخصماؤک !

فقال له عمرو: من أنت یا أخی؟ قال: أنا عوف بن بشر الشنی رجل من عبد القیس . قال عمرو: فهل لک أن أبعث لک بفارس یوافقک ؟ فقال له عوف: ما أنا بمستوحش من ذلک ، فابعث إلی أشقی أصحابک . فقال عمرو لأصحابه: أیکم یخرج إلیه فیکلمه ؟ فقال أبو الأعور: أنا إلیه أسیر ، ثم أقبل إلیه أبو الأعور حتی واقفه فقال له عوف: إنی لأری رجلاً لا أشک أنه من أهل النار إن کان مصراً علی ما أری ، فقال له أبو الأعور: لقد أعطیت لساناً حدیداً ، أکبک الله فی نار جهنم ! فقال عوف: کلا والله إنی لا أتکلم إلا بالحق ولا أنطق إلا بالصدق ، وإنی أدعو إلی الهدی ، وأقاتل أهل الضلال وأفر من النار ، وأنت رجل تشتری العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدی ، فانظر إلی وجوهنا ووجوهکم وسیمانا وسیماکم ، واسمع إلی دعوانا ودعواکم ، فلیس منا أحد إلا وهو أولی بمحمد

ص: 302

(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأقرب إلیه منکم . فقال أبو الأعور: أکثرت الکلام وذهب النهار ، فاذهب وادع أصحابک وأدعو أصحأبی وأنا جار لک حتی تأتی موقفک هذا الذی أنت فیه ، ولست أبدأک بغدر حتی تأتی أنت وأصحابک .

قال: فرجع عوف بن بشر إلی عمار بن یاسر ومن معه ، فأخبرهم بذلک ، وأقبل عمار ومعه الأجلاء من أهل عسکره ، وتقدم عمرو بن العاص فی أجلاء عسکره حتی اختلفت أعناق الخیل ، فنزلوا هؤلاء وهؤلاء عن خیولهم واحتبوا بحمائل سیوفهم ، وذهب عمرو یتکلم التشهد ، فقال عمار: أسکت ! وقد ترکتها فی حیاة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعد موته ، ونحن أحق بها منک ، فاخطب بخطبة الجاهلیة ، وقل قول من کان فی الإسلام دنیَّاً ذلیلاً وفی الضلال رأساً محارباً ، فإنک ممن قاتل النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حیاته وبعد موته ، وفَتَنَ أمته من بعده ، وأنت الأبتر بن الأبتر شانئ محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وشانئ أهل بیته !!

قال: فغضب عمرو ثم قال: أما إن فیک لهنات ! ولو شئت أن أقول لقلت . فقال عمار: وماعسی أن تقول: إنی کنت ضالاً فهدانی الله ووضیعاً فرفعنی الله ، وذلیلاً فأعزنی الله ، فإن کنت تزعم هذا فقد صدقت ، وإن کنت تزعم أنی خنت الله ورسوله یوماً واحداً ، أو تولینا غیر الله یوماً واحداً فقد کذبت ! ولکن هلمَّ إلی ما نحن فیه الآن ، فإن شئت کانت خصومة فیدفع حقنا باطلک ، وإن شئت کانت خطباً فنحن أعلم بفصل الخطاب منک ، وإن شئت أخبرتک بکلمة تفصل بیننا وبینک ، وتکَفِّرُک قبل القیام من مجلسک ، وتشهدُ بها علی نفسک ، ولا تستطیع أن تکذبنی: هل تعلم أن

عثمان بن عفان کان علیه الناس بین خاذل له ومحرض علیه وما هم فیه من نصره بیده ولا نهی عنه بلسانه؟ وقد حصر أربعین یوماً فی جوف داره لیس له جمعة ولا جماعة ، وتظن ما کان فیه قبل أن یقتل ما کان من

ص: 303

طلحة والزبیر وعائشة بنت أبی بکر حین منعها أرزاقها ، فقالت فیه ما قالت وحرضت علی قتله ، فلما قتل خرجت فطلبت بدمه بغیر حق ولا حکم من الله تعالی فی یدها ؟! ثم إن صاحبک هذا معاویة قد طلب إلی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أن یترک له ما فی یده ، فأبی علیٌّ ذلک ، فانظر فی هذا ، ثم سلط الحق علی نفسک فاحکم لک وعلیک .

قال: فقال عمرو: صدقت أبا الیقظان ، قد کان ذلک کما ذکرت فی أمر عائشة وطلحة والزبیر . وأما معاویة فله أن یطلب بدم عثمان ، لأنه رجل من بنی أمیة وعثمان من بنی أمیة ولیس لهذا جئت إذا رَسَّلَ هذا الأمر الذی قد شجر بیننا وبینکم ، لأنی رأیتک أطوع هذا العسکر ، فاذکرک الله إلا کففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرضت علی ذلک ، ویحک أبا الیقظان علی ماذا تقاتلنا ! ألسنا نعبد الله واحداً ؟ ألسنا نصلی إلی قبلتکم وندعو بدعوتکم ونقرأ کتابکم ونؤمن بنبیکم ؟!

فقال عمار: الحمد لله الذی أخرجها من فیک ! القبلة والله لی ولأصحأبی ، ولنا الدین والقرآن وعبادة الرحمن ، ولنا النبی والکتاب من دونک ودون أصحابک ، وإن الله تبارک وتعالی ، قد جعلک ضالاً مضلا ، وأنت لا تعلم أهاد أنت أم ضال ، ولقد أمرنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن أقاتل الناکثین فقد فعلت ، وأمرنی أن أقاتل القاسطین فأنتم هم ، وأما المارقون فلا أدری أدرکهم أم لا .

أیها الأبتر ! ألست تعلم أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: من کنت مولاه فعلی مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله؟ فأنا مولی لله ولرسوله وعلیٌّ مولای من بعده ، وأنت فلا مولی لک . فقال عمرو بن العاص: ویحک أبا الیقظان ! لم تشتمنی ولست أشتمک ؟ فقال عمرو: فما تری فی قتل عثمان ؟

ص: 304

فقال عمار: قد أخبرتک کیف قتل عثمان . فقال عمرو: فعلیٌّ قتله ، فقال عمار: بل الله قتله . قال عمرو: فهل کنت فیمن قتله ؟ قال عمار: أنا مع من قتله وأنا الیوم أقاتل لمن قتله ، لأنه أراد أن یقتل الدین فقتل !

فقال عمرو: یا أهل الشام إنه قد اعترف بقتل عثمان أمامکم ! فقال عمار: قد قالها فرعون لقومه: (ألا تسمعون)! أخبرنی

یا ابن النابغة ! هل أقررت أنی أنا الذی قتلت عثمان حتی تُشهد علیَّ أهل الشام؟! فقال عمرو یا هذا: إنه کان من أمر عثمان ما کان ، وأنتم الذین وضعتم سیوفکم علی عواتقکم وتحربتم علینا مثل لهب النیران حتی ظننا أن صاحبکم لا بقیة عنده ، فإن تنصفونا من أنفسکم فادفعوا إلینا قتلة صاحبنا وارجعوا من حیث جئتم ، ودعوا لنا ما فی أیدینا ، وإن أبیتم ذلک فإن دون ما تطلبون منا والله خرط القتاد !

قال: ثم تبسم عمار ثم قال: لیس أول کلامک هذا یا ابن النابغة ، یا دعیُّ یا ابن الدعی! یا ابن حرار قریش ! یا من ضرب علی خمسة بسهامهم کل یدعیک حتی قاربک شرهم ! أفی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب تغتمز ؟ أما والله لقد علمت قریش قاطبة أن علیاً لایجلس له علا ، ولا یقعقع له بالشنان ، ولایغمز غمز التین! قال: فقام أهل الشام فرکبوا خیولهم ولهم زَجَلٌ فصاروا إلی معاویة ، فقال له معاویة: ما وراءکم؟ فقالوا: وراءنا والله إننا قد سمعنا من عمار بن یاسر کلاماً یقطر الدم! ووالله لقد أخرس عمرو بن العاص حتی ماقدر له علی الجواب!

فقال معاویة: هلکت العرب بعد هذا ورب الکعبة !

قال: ورجع عمار فی أصحابه إلی علی بن أبی طالب فأخبره بالذی دار بینه وبین عمرو بن العاص ، فأنشأ رجل من أصحاب علی یقول:

ما زلت یا عمرو قبل الیوم مبتدراً

تبغی الخصومة جهراً غیر سَرَّارِ

ص: 305

حتی رأیت أبا الیقظان منتصباً

لله درُّ أبی الیقظان عمار

ما زال یقرعُ منک العظم منتقیاً

مخَّ العظام بحق غیر إنکار

حتی رمی بک فی بحر له لججٌ

یرمی بک الموج فی لجٍّ من النار

قال: وقد کان مع معاویة رجل من حمیر یقال له: الحصین بن مالک ، وکان یکاتب علی بن أبی طالب رضی الله عنه ، ویدله علی عورات معاویة ، وکان له صدیق من أصحاب معاویة یقال له الحارث بن عوف السکسکی ، فلما کان ذلک الیوم قال الحصین بن مالک للحارث بن عوف: یا حارث إنه قد آتاک الله ما أردت ، هذا عمرو وعمار وأبو نوح وذو الکلاع قد التقوا ، فهل لک أن تسمع من کلامهم ؟ فقال الحارث بن عوف: إنما هو حق وباطل ، وفی یدی من الله هدی ، فسر بنا یا حصین . قال:فجاء الحصین والحارث حتی سمعا کلام عمرو وعمار ، فلما سمع الحارث بن عوف کلام عمار وتظاهر الحجة علی عمرو بقی متحیراً ، فقال له الحصین: ما عندک الآن یا حارث؟ فقال الحارث: ما عندی وقعة والله بین العار والنار ، ووالله لا أقاتل مع معاویة بعد هذا الیوم أبداً ! فقال له: ولا أنا أقاتل علیاً بعد هذا الیوم أبداً . قال: ثم هربا من عسکر معاویة جمیعاً فصار أحدهم إلی حمص وأظهر التوبة ، وصار الحارث بن عوف إلی مصر تائباً من قتال علی رضی الله عنه ، وأنشأ یقول:

قال الحصینُ ولم أعلم بنیته

یا حارِ هل لک فی عمرو وعمارِ

یا حارِ هل لک فی أمر له نبأٌ

فیه شریکان من عوف وإنکار

فاسمع وتسمع ما یأتی ا لعیان به

إن العیان شفاء النفس یا حار

لما رأیت لجاج الأمر قلت له

قولاً ضعیفاً نعم والکره إضماری

سرنا إلی ذلک المرأین مع نفر

شم کرام وجدنا زندهم واری

لما تشهد عمرو قال صاحبه

أسکت فإنک من ثوب الهدی عاری

ص: 306

فارتد عمرو علی عقبیه منکسراً

کالهر یرقب ختلاً عازم الفار

ما زال یرمیه عمارٌ بحجته

حتی أقر له من غیر إکثار

قال الحصین لما أبصرت حجته

غراء مثل بیاض الصبح للساری

ما بعد هذین من عیب لمنتظر

فاختر فدی لک بین العار والنار

قلت الحیاة فراق القوم معترفاً

بالذنب حقاً ولیس العار کالنار ]

قال: وأقبل نفر من أصحاب معاویة إلی عمرو بن العاص ، فقال له بعضهم: أبا عبد الله ، ألست الذی رویت لنا أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: یدور الحق مع عمار حیث ما دار؟ فقال عمرو: بلی قد رویت ذلک ولکنه یصیر إلینا ویکون معنا . فقال له ذو الکلاع: هذا والله محال من الکلام ! والله لقد أفحمک عمار حیث بقیت وأنت لا تقدر علی إجابته ! قال عمرو: صدقت وربما کان کلام لیس له جواب.....

قال: فأنشأ رجل من بنی قیس یقول فی ذلک:

والراقصات برکب عامدین له

إن الذی کان فی عمرو لمأثور

قد کنت أسمع والأنباء شائعة

هذا الحدیث فقلت الکذب والزور

حتی تلقیته عن أهل محنته

فالیوم أرجع والمغرور مغرور

والیوم أبرأ من عمرو وشیعته

ومن معاویة المحذو به العیر

لا لا أقاتل عماراً علی طمع

بعد الروایة حتی ینفخ الصور

ترکت عمرواً وأشیاعاً له نکراً

إنی بترکهم یا صاح معذور

یا ذا الکلاع فدع لی معشراً کفروا

أو لا فدیتک دین فیه تعزیر

ما فی مقال رسول الله فی رجل

شک ولا فی مقال الرسل تحییر

قال: ثم هرب صاحب هذا الشعر حتی لحق بعلی بن أبی طالب فصار معه .

قال: فدعا معاویة عمرو بن العاص ، فقال: یا هذا إنک أفسدت أهل الشام علیَّ ، أکلَّ ما سمعت من رسول الله تقوله وترویه؟! ما أکثر ما سمعنا منه فلم نروه !

ص: 307

فقال عمرو: یا هذا والله لقد رویت هذا الحدیث وأنا لا أظن أن صفین تکون ، ولست أعلم الغیب! ولقد رویت أنت أیضاً فی عمار مثل الذی رویت أنا)! انتهی.

وفی کفایة الأثر فی النص علی الأئمة الإثنی عشر ص120عن أبی عبیدة بن محمد بن عمار عن أبیه عن جده عمار(رحمه الله)قال: ( کنت مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بعض غزواته وقتل علی(علیه السّلام)أصحاب الألویة وفرق جمعهم ، وقتل عمرواً بن عبد الله الجمجمی ، وقتل شیبة بن نافع ، أتیت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقلت له: یا رسول الله ، صلی الله علیک إن علیاً قد جاهد فی الله حق جهاده. فقال: لأنه منی وأنا منه ، وهو وارث علمی وقاضی دینی ومنجز وعدی والخلیفة بعدی ، ولولاه لم یعرف المؤمن المحض. حربه حربی وحربی حرب الله ، وسلمه سلمی وسلمی سلم الله ، ألا إنه أبو سبطیَّ والأئمة من صلبه یخرج الله تعالی منه الأئمة الراشدین ، ومنهم مهدیُّ هذه الأمة . فقلت:بأبی أنت وأمی یا رسول الله ، ما هذا المهدی؟ قال:یاعمار إن الله تبارک وتعالی عهد إلیَّ أنه یخرج من صلب الحسین تسعة والتاسع من ولده

یغیب عنهم ، وذلک قوله عز وجل: قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُکُمْ غَوْراً فَمَنْ یَأْتِیکُمْ بِمَاءٍ مَعِینٍ ، یکون له غیبة طویلة یرجع عنها قوم ویثبت علیها آخرون ، فإذا کان فی آخر الزمان یخرج فیملأ الدنیا قسطاً وعدلاً ، ویقاتل علی التأویل کما قاتلت علی التنزیل ، وهو سمیی ، وأشبه الناس بی .

یاعمار ستکون بعدی فتنة ، فإذا کان ذلک فاتبع علیاً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه . یاعمار إنک ستقاتل بعدی مع علی صنفین: الناکثین والقاسطین ، ثم تقتلک الفئة الباغیة . قلت:یا رسول الله ألیس ذلک علی رضا الله ورضاک؟ قال:نعم علی رضا الله ورضای ، ویکون آخر زادک من الدنیا شربة من لبن تشربه .

فلما کان یوم صفین خرج عمار بن یاسر إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فقال له: یاأخا رسول الله ، أتاذن لی فی القتال؟ قال: مهلاً رحمک الله ، فلما کان بعد ساعة أعاد

ص: 308

علیه الکلام فأجابه بمثله فأعاد علیه ثالثاً ، فبکی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقال:إنه الیوم الذی وصفه لی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فنزل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عن بغلته وعانق عماراً وودعه ، ثم قال: یا أبا الیقظان جزاک الله عن نبیک خیراً ، فنعم الأخ کنت ، ونعم الصاحب کنت ! ثم بکی(علیه السّلام)وبکی عمار ثم قال: والله یا أمیر المؤمنین ما تبعتک إلا ببصیرة ، فإنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول یوم خیبر: یا عمار ستکون بعدی فتنة ، فإذا کان ذاک فاتبع علیاً وحزبه فإنه مع الحق والحق معه ، وستقاتل الناکثین والقاسطین ، فجزاک الله یا أمیر المؤمنین عن الإسلام أفضل الجزاء ، فلقد أدیت وأبلغت ونصحت . ثم رکب ورکب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ثم برز إلی القتال ثم دعا بشربة من ماء ، فقیل له: ما معنا ماء ،فقام إلیه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن ، فشربه ثم قال: هکذا عهد إلیَّ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یکون آخر زادی من الدنیا شربة من لبن . ثم حمل علی القوم فقتل ثمانیة عشر نفساً ، فخرج إلیه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل(رحمه الله) .

فلما کان فی اللیل طاف أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی القتلی ، فوجد عماراً ملقی بین القتلی ، فجعل رأسه علی فخذه ثم بکی(علیه السّلام)وأنشأ یقول:

ألا أیها الموت الذی لست تارکی

أرحنی فقد أفنیت کلَّ خلیل

أراک بصیراً بالذین أحبهم

کأنک تمضی نحوهم بدلیل). انتهی.

أقول: صدق الله تعالی حیث قال فی الأنبیاء والأوصیاء وأنصارهم الربانیین: (لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِی الأَلْبَابِ مَا کَانَ حدیثاً یُفْتَرَی وَلَکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَئْ وَهُدیً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ). (یوسف:111)

ص: 309

الراهب شمعون .. شاهدٌ من أهل الکتاب فی حرب صفین

روی فی الخرائج والجرائح:1/222: ( عن أبی سعید عقیصا قال: خرجنا مع علی (علیه السّلام)نرید صفین ، فمررنا بکربلاء فقال: هذا موضع الحسین(علیه السّلام)وأصحابه .

ثم سرنا حتی انتهینا إلی راهب فی صومعة ، وتقطع الناس من العطش وشکوا إلی علی(علیه السّلام)ذلک ، وأنه قد أخذ بهم طریقاً لا ماء فیه من البر ، وترک طریق الفرات فدنا من الراهب ، فهتف به وأشرف إلیه فقال: أقُرْبَ صومعتک ماء ؟ قال: لا . فثنی رأس بغلته فنزل فی موضع فیه رمل ، وأمر الناس أن یحفروا هذا الرمل فحفروا فأصابوا تحته صخرة بیضاء ، فاجتمع ثلاثمائة رجل فلم یحرکوها . فقال(علیه السّلام): تنحوا فإنی صاحبها ، ثم أدخل یده الیمنی تحت الصخرة فقلعها من موضعها حتی رآها الناس علی کفه فوضعها ناحیة ، فإذا تحتها عین ماء أرق من الزلال وأعذب من الفرات ، فشرب الناس وسقوا واستقوا وتزودوا ، ثم رد الصخرة إلی موضعها وجعل الرمل کما کان ! وجاء الراهب فأسلم وقال: إن أبی أخبرنی عن جده وکان من حواری عیسی: إن تحت هذا الرمل عین ماء ، وإنه لا یستنبطها إلا نبی أو وصی نبی! وقال لعلی(علیه السّلام): أتأذن لی أن أصحبک فی وجهک هذا؟ قال(علیه السّلام):إلزمنی ودعا له ، ففعل فلما کان لیلة الهریر قتل الراهب فدفنه(علیه السّلام) بیده وقال: لکأنی أنظر إلیه وإلی منزله فی الجنة ودرجته التی أکرمه الله بها).( البحار:42/1، ومدینة المعاجز ص200) .

وفی المناقب لمحمد بن سلیمان:1/144: (عن

حبة العرنی قال: لما أن خرجنا مع علی بن أبی طالب(علیه السّلام)فی مسیره إلی صفین حتی نزلنا ب-"البلیخ" وکان فیه دیر فیه راهب یقال له شمعون ، فنزل إلی علی فقال: یا أمیر المؤمنین إنه کان عند آبائی کتاب کتبه لهم أصحاب عیسی بن مریم فإن شئت تلوته علیک ؟ قال: قد

ص: 310

شئت قال شمعون: وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحیم الذی قضی فیما قضی وصدر فیما کتب أنه باعث فی الأمیین رسولاً یتلو علیهم آیاته ویدلهم علی سبیل الجنة لا فظٌّ ولا غلیظٌ ولا صخابٌ فی الأسواق ، لایجزی بالسیئة سیئة ، ولکن یعفو ویصفح . أمته الحامدون یحمدون الله علی کل حال ، تذل ألسنتهم بالتهلیل والتکبیر ، تنصر نبیهم علی کل من ناواه ، فإذا توفی ذلک النبی اختلفت أمته ، ثم اجتمعت ، ثم اختلفت ، فیمر رجل من أمته یجر الجیش بشاطئ هذا الوادی وهو أولی الناس بذلک النبی الأمی فی الدین والقرابة ، یقضی بالحق ولا یرتشی فی الحکم ، یخاف الله فی السر وینصحه فی العلانیة ، ویأمر بالمعروف وینهی عن المنکر ، لا تأخذه فی الله لومة لائم الدنیا ، أهون علیه من رماد عصفت به الریح والموت ، أهون علیه فی جنب الله من شربة الماء العذب علی الظمآن . فمن أدرک ذلک النبی فلیؤمن به ، ومن أدرک ذلک العبد الصالح فلیتبعه ، فإن القتل معه شهادة .

ثم قال: فلما سمعت بالنبی آمنت به ولم أره ، ولما مررت بی أنت الآن یا أمیر المؤمنین نزلت إلیک وأنت صاحبی ولست أفارقک حتی یصیبنی ما أصابک ! قال: فبکی علی(علیه السّلام)طویلاً وبکی أصحابه لبکائه ثم قال: الحمد لله الذی لم یجعلنی عنده نسیاً منسیاً ، الحمد لله الذی ذکرنی فی کتاب الأبرار .

قال حبة العرنی: کان شمعون رفیقی وکان علیٌّ إذا تعشی أو تغدی أرسل إلیه فلما کان یوم الهریر أصبح الناس یطلبون قتلاهم ، قال علیٌّ: أطلبوا لی شمعون . فطلبوه فوجدوه مقتولاً بین القتلی ، فصلی علیه ودفنه ، ثم التفت إلینا فقال: هذا منا أهل البیت ). (راجع أیضاً: شرح الأخبار:2/369 والهدایة للحضینی ص148)

ص: 311

معاویة والروم فی حرب صفین !

کان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یدعو الناس فی مکة الی الإسلام ویخبرهم بأن الله تعالی وعده أن یورِّث أمته ملک کسری وقیصر ! فکل من قرأ سیرته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یجد أن فتح فارس والروم کانا وعداً نبویاً من أول إعلان الدعوة ، وکان المشرکون یسخرون من ذلک! واستمر هذا الوعد عنصراً ثابتاً فی مراحل دعوته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فکان برنامجاً إلزامیاً للسلطة الجدیدة بعد وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، أیّاً کانت تلک السلطة .

وفی رأیی أن السلطة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خافت من حرب مسیلمة التی یسمونها حروب الردة ، کما خافت من التوجه الی فتح بلاد فارس والشام ، وأن الفضل فی دفعها الی الفتوحات یعود الی علی(علیه السّلام)وتلامیذه الفرسان ، الذین لم تعطهم السلطة مناصب قیادیة ، لکنهم کانوا القادة المیدانیین الذین حققوا الإنتصارات !

وکان بقیة هؤلاء القادة مع علی(علیه السّلام)فی صفین ، وهم کثرٌ منهم الأشتر بطل معرکة الیرموک الذی برز الی فارس الروم وقتله ، فغیَّر میزان المعرکة ! وهاشم المرقال الذی أبلی فیها بلاء ممیزاً...الخ.! وأشرنا الی ذلک فی آخر الفصل الثانی .

وفی السنة السابعة والثلاثین للهجرة وهی سنة صفین ، کان الفُرْس قد یئسوا من العراق وقسم من إیران ، وکان المسلمون یواصلون فتح بقیة إیران وما وراءها فی حالة کرٍّ وفرٍّ مع الفرس . فوجَّه علیٌّ(علیه السّلام)بعدحرب البصرة ابن أخته جعدة بن هبیرة ، وکان فارساً بطلاً ، وقد تقدم ذکر فتحه لبقیة خراسان وما وراءها .

کما کانت الشام وفلسطین ومصر استقرت فی حکم المسلمین ، وقد یئس منها الروم ، لکن عاصمتهم القسطنطینیة (استانبول)کانت قویة ، وکان أکثر ترکیا

ص: 312

الحالیة فی حکمهم ، والمسلمون یغزونهم ، وربما غزا الروم المسلمین .

وعندما تفاقمت نقمة الصحابة علی عثمان وحاصروه ، کانت خطة معاویة أن لایدخل فی معرکة مع الصحابة من أجل عثمان ، بل یصبر حتی یقتلوه ، فیطالب بدمه ! ویکون قتل الخلیفة الأموی حجةً له لادعاء الخلافة ! فقد تقدم أن عثمان استصرخه فلم ینصره علی قرب المسافة بینهما ، بل أرسل جیشاً الی ذی خُشب ، وهو علی مسیرة ساعات من المدینة! (معجم البلدان:2/372). وحرَّم علی قائده أن یدخل المدینة مهما کان السبب ! قال ابن شبة فی تاریخ

المدینة:4/1288: ( أرسل عثمان إلی معاویة یستمده ، فبعث معاویة یزید بن أسد جد خالد القسری وقال له: إذا أتیت ذا خُشب فأقم بها ولاتتجاوزها ، ولا تقل الشاهد یری ما لا یری الغائب قال: أنا الشاهد وأنت الغائب ! فأقام بذی خشب حتی قتل عثمان ! فقلت لجویریة: لم صنع هذا؟ قال: صنعه عمداً لیقتل عثمان فیدعو إلی نفسه) !! انتهی

وعندما أشعلت عائشة وطلحة والزبیر حرب الجمل علی علی(علیه السّلام)تعمَّد معاویة الإنتظارأیضاً ، وقد ساءه انتصار علی(علیه السّلام)، لکن وزیره ابن العاص کان یصرح بأنهما کانا یتمنیان أن یقتل علی(علیه السّلام)عائشة لیستفیدا من ذلک ! فقد بلغت وقاحة ابن العاص أن قال لعائشة: (لوددت أنک قتلت یوم الجمل ! قالت: ولمَ لا أباً لک ! قال: کنت تموتین بأجلک وتدخلین الجنة ، ونجعلک أکبر التشنیع علی علی بن أبی طالب).(شرح النهج:6/322 ، وعن الکامل للمبرد ص 151).

فقد کانت سیاسة معاویة إذن ، إعداد قوته وتوفیرها استعداداً لمعرکة الخلافة مع علی(علیه السّلام) ! فمن الطبیعی أن یعقد اتفاقیة هدنة مع الروم ، بل من الطبیعی أن نقرأ أنها کانت أکثر من هدنة ووصلت الی شبه اتفاقیة بینه وبینهم أنه إذا انهزم

ص: 313

فی معرکته مع علی(علیه السّلام)یتدخل الروم الی جانبه فی حربه لعلی(علیه السّلام)!

فقد نقل ابن الأعثم شهادة علی(علیه السّلام)بذلک ! قال فی الفتوح:2/539:(فنادی علیٌّ فی الناس فجمعهم: أیها الناس إن معاویة بن أبی سفیان قد وادع ملک الروم ، وسار الی صفین عازماً علی حربکم ، فإن غلبتموهم استعانوا علیکم بالروم ! وإن غلبوکم فلا عراق حجاز ولا عراق) . انتهی.

ویؤید مضمون هذا النص مؤشران:

أولهما: أن بیت معاویة کان علی صلة بالروم وکان أبو سفیان لایخفی إعجابه بهم ! وعندما أرسل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رسالة الی هرقل یدعوه فیها الی الإسلام ، کان أبو سفیان فی الشام ، فأحضره هرقل یسأله عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فتنقص أبو سفیان من النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیحرک

هرقل علیه ، فرد علیه زمیله علقمة بن عُلاثة العامری !

قال ابن الاثیر فی النهایة:2/478: (لما بلغه(ص)هجاء الأعشی علقمة بن علاثة العامری نهی أصحابه أن یرووا هجاءه وقال: إن أبا سفیان شعث منی عند قیصر فرد علیه علقمة وکذَّب أبا سفیان . یقال شعثت من فلان إذا غضضت منه وتنقصته).

(ونحوه فی تاریخ دمشق:41/148، ولسان العرب:2/161)

وقال البخاری:1/6:( قال أبو سفیان فلما قال(هرقل)ما قال ، وفرغ من قراءة الکتاب کثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخرجنا ، فقلت لأصحأبی حین أخرجنا: لقد أمرَ أمرُ ابن أبی کبشة ! إنه یخافه ملک بنی الأصفر ). انتهی .

وأبو کبشة مولی للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان کفار قریش لعنهم الله ، ینبزونه به !

وقال ابن عقیل فی النصائح الکافیة ص109:(کان أبو سفیان فی الجاهلیة أشد قریش عداوة للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأعظمهم حرصاً علی إطفاء نور الله ، وهو ممن أنزل الله فیهم قوله تعالی: فَقَاتِلُوا

أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمَانَ لَهُمْ . ولم یزل ذلک دأبه ودیدنه إلی أن أرغم الله أنفه بفتح مکة ودخل فی الإسلام مکرهاً هو وبنوه وزوجته ، ثم

ص: 314

حضر مع المؤلفة غزوة حنین وکانت الأزلام فی کنانته ! ولما انهزم المسلمون قال: لاتنتهی هزیمتهم دون البحر ، والله قد غلبت هوازن !! فقال له صفوان: بفیک الکثکث ، أی الحجارة والتراب .

قال ابن عبد البر فی الإستیعاب: وقد اختلف فی حسن إسلامه ، فطائفة تری أنه لما أسلم حسن إسلامه... قال: ونقل عن سعید بن المسیب . وطائفة تری أنه کان کهفاً للمنافقین منذ أسلم ، وکان فی الجاهلیة زندیقاً .

ثم قال: وفی خبر ابن الزبیر أنه رآه یوم الیرموک قال: فکانت الروم إذا ظهرت قال: أبو سفیان إیه بنی الأصفر ! وإذا کشفهم المسلمون قال أبو سفیان:

وبنو الأصفر الملوک ملوکُ

الروم لم یبق منهم مذکورُ

فحدث به ابن الزبیر أباه لما فتح الله علی المسلمین ، فقال الزبیر: قاتله الله یأبی إلا نفاقاً ، أولسنا خیراً له من بنی الأصفر؟! ) . انتهی .

لهذه الأسباب وغیرها ، من الطبیعی أن یفضل الروم بیت أبی سفیان الذی قاد الحرب علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی آخر نفس ، علی آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!ویفضلوا معاویة علی علی(علیه السّلام)لأنه کان محباً للیهود والنصاری ألیفاً لهم ، فقد تزوج منهم وأعطاهم مناصب مهمة فی دولته !

والمؤشر الثانی: أن کعب الأحبار وقف الی جانب معاویة وجاء الی صفین !

قال ابن الأعثم فی الفتوح:3/138: (وأصبح القوم وقدم کعب علی معاویة من حمص ، فقرَّبه معاویة وأدناه وکساه ، فجعل کعب یحدث معاویة بالرخص ، ولا ینکر ما هو فیه من قتاله علیاً ) . انتهی . وکعب الأحبار صاحب ثقافة یهودیة یعمل لها ، فهو متعاطف بطبعه مع الروم !

ومن هنا نعرف کم هو التزویر فی خطة معاویة والأشعث بن قیس لوقف القتال

ص: 315

فی صفین عندما لاحت الهزیمة لمعاویة ، فقد خطب الأشعث لیلة الهریر أو قبلها بلیلة فی جیش علی (علیه السّلام)وطالب بوقف القتال بحجة الخوف من الروم والفرس !

قال نصر بن مزاحم ص481: (قال صعصعة:فانطلقت عیون معاویة إلیه بخطبة الأشعث فقال:أصاب ورب الکعبة ، لئن نحن التقینا غداً لتمیلن الروم علی ذرارینا ونسائنا ، ولتمیلن أهل فارس علی نساء أهل العراق وذراریهم . وإنما یبصر هذا ذووا الأحلام والنهی . إربطوا المصاحف علی أطراف القنا ) !!

یقول ذلک معاویة وقد عقد هدنة مع الروم ، بل عقد اتفاقیة معهم أنه إذا انهزم فی صفین ، تدخلوا وفتحوا جبهة الی جانبه ضد علی(علیه السّلام) !

ص: 316

من نبل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وفروسیته فی صفین

فی مناقب آل الرسول لابن طلحة ص223: (خرج العباس بن ربیعة بن الحارث (بن عبد المطلب) فأبلی ، وخرج إلیه من أصحاب معاویة فارس معروف یقال له غرار بن أدهم فقال: یا عباس هل لک فی المبارزة ؟ فقال له العباس: هل لک فی النزول فإنه أیسر من القفول؟ فقال: نعم ، فرمی بنفسه عن فرسه وسلم فرسه إلی غلام له فأخذه ، ورمی غرار بن أدهم بنفسه عن فرسه ، ثم تلاقیا وکفَّ أهل الجیشین أعنة خیولهم ینظرون إلی الرجلین! ثم تضاربا بسیفیهما فما قدر أحدهما علی صاحبه لکمال لأمته وعلیٌّ یراهما . ونظر العباس إلی وهن فی درع الشامی فضربه العباس علی ذلک الوهن فقدَّهُ باثنین ! فکبر جیش علی(علیه السّلام)وجیش معاویة ثم عطف العباس فرکب فرسه . فقال معاویة لأصحابه: من خرج منکم إلی هذا فقتله فله عندی من المال کذا وکذا ، فوثب رجلان من بنی لخم من الیمن فقالا نحن نخرج إلیه . فقال: أخرجا فأیکما سبق إلی قتله فله من المال ما بذلت له ، وللآخر مثل ذلک ! فخرجا جمیعاً ووقفا فی مقر المبارزة ، ثم صاحا بالعباس ودعواه . فقال: أستأذن صاحبی وأبرز إلیکما . وجاء إلی علی لیستأذنه فقال له علی(علیه السّلام): ودَّ معاویة أنه لا یبقی من بنی هاشم نافخ ضرمة . ثم قال: إلی هاهنا ، أدنُ منی ، فلما دنا منه أخذ منه سلاحه وأخذ فرسه ، وخلع علیٌّ(علیه السّلام)لباسه ولبس سلاح العباس وماکان علیه ، ورکب فرس العباس وخرج إلی بین الصفین کأنه العباس ، فقال له اللخمیان: استأذنت فأذن لک مولاک؟ فتحرَّج علی(علیه السّلام)من الکذب فقرأ: أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَی نَصْرِهِمْ لَقَدِیر !

فتقدم إلیه أحد الرجلین فالتقیا بضربتین فضربه علی علی مراق بطنه فقطعه

ص: 317

باثنتین ، فظن الناس بأنه أخطأه فلما تحرک الفرس سقط الرجل قطعتین ، وعاد فرسه وصار إلی عسکر علی(علیه السّلام) ! فتقدم الآخر فضربه علیٌّ فألحقه بصاحبه ، ثم جال(علیه السّلام)جولة ثم رجع إلی موضعه !

وعلم معاویة أنه علیٌّ فقال: قبَّح الله اللجاج إنه لقُعُودٌ ما رکبته إلا خُذلت . فقال له عمرو بن العاص: المخذول والله اللخمیان لا أنت . فقال له معاویة: أسکت أیها الإنسان لیس هذه الساعة من ساعاتک . قال عمرو: فإن لم تکن من ساعاتی فرحم الله اللخمیان ، ولا أظنه یفعل). انتهی. ( راجع تفصله فی ابن الأعثم:3/140)

وفی وقعة صفین لابن مزاحم ص315:(عن صعصعة بن صوحان أن علی بن أبی طالب صافَّ أهل الشام حتی برز رجل من حمیر من آل ذی یزن ، اسمه کریب بن الصباح ، لیس فی أهل الشام یومئذ رجل أشهر شدةً بالبأس منه ، ثم نادی: من یبارز؟ فبرز إلیه المرتفع بن الوضاح الزبیدی ، فقَتَلَ المرتفع . ثم نادی: من یبارز؟ فبرز إلیه الحارث بن الجلاح فقتله؟ ثم نادی:

من یبارز؟ فبرز إلیه عائذ بن مسروق الهمدانی فقتل عائذاً ، ثم رمی بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثم قام علیها بغیاً واعتداء ثم نادی: هل بقی من مبارز؟! فبرز إلیه علی(علیه السّلام)ثم ناداه: ویحک یاکریب ، إنی أحذرک الله وبأسه ونقمته وأدعوک إلی سنة الله وسنة رسوله ، ویحک لایدخلنک ابن آکلة الأکباد النار ! فکان جوابه أن قال: ما أکثر ما قد سمعنا هذه المقالة منک فلا حاجة لنا فیها ، أقدم إذا شئت. من یشتری سیفی وهذا أثره؟ فقال علیه(علیه السّلام): لاحول ولاقوة إلا بالله . ثم مشی إلیه فلم یمهله أن ضربه ضربة خرَّ منها قتیلاً یتشحط فی دمه . ثم نادی(علیه السّلام): من یبارز؟ فبرز إلیه الحارث بن وداعة الحمیری فقَتَلَ الحارث . ثم نادی: من یبارز؟ فبرز إلیه المطاع بن المطلب القینی فقتل مطاعاً ، ثم نادی: من یبارز؟ فلم یبرز إلیه أحد !

ص: 318

ثم إن علیاً نادی: یامعشر المسلمین: الشَّهْرُ

الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَی عَلَیْکُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ . ویحک یا معاویة هلمَّ إلیَّ فبارزنی ولایُقتلنَّ الناس فیما بیننا !

فقال عمرو: إغتنمه منتهزاً قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإنی أطمع أن یظفرک الله به . فقال معاویة: ویحک یا عمرو ، والله إن ترید إلا أن أقتل فتصیب الخلافة بعدی ! إذهب إلیک ، فلیس مثلی یخدع) !

وفی وقعة صفین ص457: (أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحمیری قام فقال: ویلکم یا معشر أهل الیمن ، والله إنی لأظن أن قد أذن بفنائکم ، ویحکم خلوا بین هذین الرجلین فلیقتتلا ، فأیهما قتل صاحبه مِلنا معه جمیعاً . وکان أبرهة من رؤساء أصحاب معاویة . فبلغ ذلک علیاً فقال: صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سروراً منی بهذه .

وبلغ معاویة کلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله: إنی لأظن أبرهة مصاباً فی عقله . فأقبل أهل الشام یقولون: والله إن أبرهة لأفضلنا دیناً ورأیاً وبأساً ولکن معاویة کره مبارزة علی . فقال أبرهة فی ذلک...) انتهی .

ثم أورد أبیاتاً لأبرهة یظهر منها أنه ترک معاویة ، ولو بقی معه لقتله !

قال ابن أبی الحدید: (وأما العبادة ، فکان أعبد الناس ، وأکثرهم صلاة وصوماً ، ومنه تعلم الناس صلاة اللیل وملازمة الأوراد وقیام النافلة ! وما ظنک برجل یبلغ من محافظته علی ورده أن یبسط له نطع بین الصفین لیلة الهریر فیصلی علیه ورده والسهام تقع بین یدیه ، وتمر علی صماخیه یمیناً وشمالاً فلا یرتاع لذلک ، ولا یقوم حتی یفرغ من وظیفته ! وما ظنک برجل کانت جبهته کثفنة البعیر لطول

ص: 319

سجوده ! وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت علی ما فیها من تعظیم الله سبحانه وإجلاله ، وما تتضمنه من الخضوع لهیبته والخشوع لعزته و الإستخذاء له عرفت ما ینطوی علیه من الإخلاص ، وفهمت من أی قلب خرجت ، وعلی أی لسان جرت!) . ( شرح النهج:1/27)

وفی کشف الغمة لابن أبی الفتح الإربلی:1/254 :(وأمیر المؤمنین فارس ذلک الجمع وأسده ، وإمامه ومولاه وسیده ، وهادی من اتبعه ومرشده ، یهدر کالفحل ویزأر کالأسد ، ویفرقهم ویجمعهم کفعله بالنقد ، لایعترضه فی إقامة الحق وإدحاض الباطل فتور ، ولا یلمُّ به فی إعلاء کلمة الله وخزی أعدائه قصور ، یختطف النفوس ویقتطف الرؤوس ، ویلقی بطلاقة وجهه الیوم العبوس ، ویذل بسطوة بأسه الأسود السود ، والفرسان الشؤوس ، ویخجل بأنواره فی لیل القتام الأقمار والشموس ، فما لقی شجاعاً إلا وأراق دمه ، ولا بطلاً إلا وزلزل قدمه ، ولا مریداً إلا أعدمه ، ولا قاسطاً إلا قصر عمره وأطال ندمه ، ولا جمع نفاق إلا فرقه ، ولا بناء ضلال إلا هدمه ، وکان کلما قتل فارساً أعلن بالتکبیر فأحصیت تکبیراته لیلة الهریر فکانت خمسمائة وثلاثاً وعشرین تکبیرة ، بخمسمائة وثلاث وعشرین قتیلاً من أصحاب السعیر ! وقیل: إنه فی تلک اللیلة فتق نَیْفَقَ درعه ، لثقل ما کان یسیل من الدم علی ذراعه ! وقیل: إن قتلاه عرفوا فی النهار ، فإن ضرباته کانت علی وتیرة واحدة ، إن ضرب طولاً قد ّ! أو عرضاً قطّ ! وکانت کأنها مکواة بالنار) !

وقال العلامة الحلی فی کشف الیقین ص158: (وفی لیلة الهریر باشر الحرب بنفسه خاصة ، وکان کلما قتل قتیلاً کبَّرَ ، فعُدَّ تکبیره فبلغ خمسمائة وثلاثاً وعشرین تکبیرة ، وعد قتلی الفریقین فی صبیحة تلک اللیلة ، فبلغت ستة وثلاثین

ص: 320

ألف قتیل. واستظهر حینئذ أصحاب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وزحف مالک الأشتر حتی ألجأهم إلی معسکرهم . فلما رأی عمرو بن العاص الحال قال لمعاویة: نرفع المصاحف وندعوهم إلی کتاب الله . فقال معاویة:أصبتَ . ورفعوها فرجع القراء عن القتال . فقال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): إنها خدیعة عمرو العاص ، لیسوا من رجال القرآن ! فلم یقبلوا وقالوا:لا بد أن تردَّ الأشتر وإلا قتلناک أو سلمناک إلیهم !! فأنفذ یطلب الأشتر فقال: قد أشرفت علی الفتح ولیس وقت طلبی ! فعرَّفه اختلال أصحابه وأنه إن لم یرجع قتلوه أو سلموه إلی معاویة ! فرجع وعنَّف القراء وضرب وجه دوابهم فلم یرجعوا ! فوضعت الحرب أوزارها....!

فعین معاویة عمرو بن العاص ، وعیَّن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عبد الله بن العباس ، فلم یوافقوا قال: فأبو الأسود ، فأبوا واختاروا أبا موسی الأشعری . فقال(علیه السّلام): أبو موسی مستضعف وهواه مع غیرنا . فقالوا: لا بد منه ، وحکَّموه ، فخدع عمرو بن العاص أبا موسی وحمله علی خلع أمیر المؤمنین وأنه یخلع معاویة ، وأمره بالتقدم حیث هو أکبر سناً ففعل أبو موسی ذلک ، ثم قال:یا عمرو قم فافعل کذلک . فقام وأقرها فی معاویة ، فشتمه أبو موسی وتلاعنا ) !

ص: 321

من خساسة أعداء أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی صفین

یعرف القرشیون جیداً السموَّ الأخلاقی الذی یتصف به بنو هاشم ، ولذلک ابتکر فرسان قریش أسلوباً فی الدفاع عن أنفسهم عند مبارزتهم لبنی هاشم .

روی ابن کثیر فی السیرة: 3/39 ، ناقلاً عن ابن هشام: ( لما اشتد القتال یوم أحد ، جلس رسول الله(ص)تحت رایة الأنصار ، وأرسل إلی علیٍّ أن قدِّم الرایة ، فقدم علیٌّ وهو یقول: أنا أبو القضم ، فناداه أبو سعد بن أبی طلحة ، وهو صاحب لواء المشرکین: هل لک یا أبا القضم فی البراز من حاجة ؟ قال: نعم. فبرزا بین الصفین فاختلفا ضربتین ، فضربه علیٌّ فصرعه ثم انصرف ولم یجهز علیه ! فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت علیه؟ فقال: إنه استقبلنی بعورته فعطفتنی علیه الرحم ، وعرفت أن الله قد قتله ! وقد فعل ذلک علی رضی الله عنه یوم صفین مع بُسر بن أبی أرطاة ، لما حمل علیه لیقتله أبدی له عورته ، فرجع عنه .

وکذلک فعل عمرو بن العاص حین حمل علیه علی فی بعض أیام صفین ، أبدی عن عورته ، فرجع علی أیضاً . ففی ذلک یقول الحارث بن النضر :

أفی کل یوم فارسٌ غیر منتهٍ

وعورته وسط العجاجة بادیهْ

یکفُّ لها عنه علیٌّ سنانه

ویضحک منها فی الخلاء معاویهْ!!

انتهی کلام ابن کثیر ، لکنه لم یورد بقیة أبیات الحارث بن النضر ، وهی:

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه

وعورة بسر مثلها حذو حاذیه

فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا

سبیلکما لا تلقیا اللیث ثانیه

ولا تحمدا إلا الحیا وخصاکما

هما کانتا والله للنفس واقیه

فلولا هما لم تنجوا من سنانه

وتلک بما فیها عن العود ناهیه

متی تلقیا الخیل المشیحة صبحةً

وفیها علیٌّ فاترکا الخیل ناحیه

ص: 322

وکونا بعیداً حیث لا یبلغ القنا

وحمَّی الوغی إن التجارب کافیه

وإن کان منه بعد فی النفس حاجة

فعودا إلی ما شئتما هی ماهیه

فکان بسر بعد ذلک إذا لقی الخیل التی فیها علی تنحی ناحیة ). انتهی .

وقد روی هذه التکملة نصر بن مزاحم ص462 وجاء فی القصة: (فغدا علیٌّ منقطعاً من خیله ومعه الأشتر ، وهو یرید التل....فاستقبله بسر قریباً من التل وهو مقنع فی الحدید لا یُعرف ، فناداه: أبرز إلیَّ أبا حسن ، فانحدر إلیه علیٌّ علی تؤدةً غیر مکترث ، حتی إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه علی الأرض ، ومنع الدرع السنان أن یصل إلیه ، فاتقاه بسر بعورته وقصد أن یکشفها یستدفع بأسه ، فانصرف عنه علی مستدبراً له ، فعرفه الأشتر حین سقط فقال: یا أمیر المؤمنین ، هذا بسر بن أرطاة ، عدو الله وعدوک . فقال: دعه علیه لعنة الله ، أبَعْدَ أن فعلها ؟!

....وقام بسر من طعنة علی مولیاً وولت خیله وناداه علی: یا بسر ، معاویة کان أحق بهذا منک . فرجع بسر إلی معاویة فقال له معاویة: إرفع طرفک قد أدال الله

عمراً منک . فقال فی ذلک النضر بن الحارث.... الخ.).

أما قصة ابن العاص فقد أوردها العلامة الحلی(رحمه الله)فی کشف الیقین ، قال157: (وخرج أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یوماً آخر متنکراً وطلب البراز ، فخرج إلیه عمرو بن العاص وهو لا یعلم أنه علی ، وعرفه علی(علیه السّلام)فاطَّرد بین یدیه لیبعده عن عسکره فتبعه عمرو ، ثم عرفه فولی رکضاً ! فلحقه علی(علیه السّلام)فطعنه فوقع الرمح فی فضول درعه فسقط وخشی أن یقتله ، فرفع رجلیه فبدت سوءته ! فصرف أمیر المؤمنین (علیه السّلام)عنه وجهه ، وانصرف إلی عسکره ! وجاء عمرو إلی معاویة فضحک منه. قال: ممَّ تضحک ؟ والله لو بدا لعلی من صفحتک ما بدا له من صفحتی إذاً لأوجع قذالک ، وأیتم عیالک ، وانتهب مالک )! انتهی .

ص: 323

نجاح الأشعث والمنافقین فی إجبارأمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی إیقاف الحرب !

قال البلاذری فی أنساب الأشراف ص337: (عن علقمة بن قیس قال: قلت لعلی: أتُقاضی معاویة علی أن یَحْکمَ حکمان ! فقال: ما أصنع؟ أنا مضطهد ! ) .

وفی تاریخ دمشق:32/94، عن ابن عباس: ( قلت لعلی یوم الحکمین: لاتحکِّم الأشعری... قال: یا ابن عباس ما أصنع ؟! إنما أوتی من أصحأبی ، قد شَعَفَت نیتهم وکَلُّوا فی الحرب . هذا الأشعث یقول: لایکون فیها مضریان أبداً حتی یکون أحدهما یمان ! قال ابن عباس: فعذرته وعرفت أنه مضطهد ، وأن أصحابه لا نیة لهم فی الحرب) . انتهی. (ونسبه الذهبی فی سیره:2/216 الی ابن سعد ، ولم نجده فی الطبقات).

وقال ابن مزاحم ص509: (فکتبت: هذا ما صالح علیه محمد رسول الله سهیل بن عمرو ، فقال . لو شهدت أنک رسول الله لم أقاتلک . قال علی: فغضبت فقلت: بلی والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفک . فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أکتب ما یأمرک ، إن لک مثلها ، ستعطیها وأنت مضطهد) .

وقال ابن مزاحم ص478: عن تمیم بن حذیم قال ( لما أصبحنا من لیلة الهریر نظرنا فإذا أشباه الرایات أمام صف أهل الشام وسط الفیلق ، من حیال موقف معاویة ، فلما أسفرنا إذا هی المصاحف قد ربطت علی أطراف الرماح...!!

فقال علیٌّ: اللهم إنک تعلم أنهم ما الکتاب یریدون ، فاحکم بیننا وبینهم ، إنک أنت الحکم الحق المبین ). انتهی .

وفی تاریخ الطبری:4/35: عن جندب الأزدی (أن علیاً قال: عبادَ الله أمضوا علی حقکم وصدقکم قتال عدوکم، فإن معاویة وعمرو بن العاص وابن أبی معیط وحبیب

ص: 324

بن مسلمة وابن أبی سرح والضحاک بن قیس ، لیسوا بأصحاب دین ولا قرآن ! أنا أعرف بهم منکم ، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فکانوا شر أطفال وشر رجال، ویحکم إنهم رفعوها ولایعلمون بما فیها ، وما رفعوها لکم إلا خدیعة ودهناً ومکیدة! فقالوا له: ما یسعنا أن ندعی إلی کتاب الله عز وجل فنأبی أن نقبله ! فقال لهم: فإنی إنما قاتلتهم لیدینوا بحکم هذا الکتاب ، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فیما أمرهم ، ونسوا عهده ونبذوا کتابه ! فقال له مسعر بن فدکی التمیمی وزید بن حصین الطائی ثم السنبسی فی عصابة معهما من القراء الذین صاروا خوارج بعد ذلک: یا علی أجب إلی کتاب الله عز وجل إذ دعیت إلیه وإلا ندفعک برمتک إلی القوم ، أو نفعل کما فعلنا بابن عفان ! إنه علینا أن نعمل بما فی کتاب الله عز وجل فقبلناه ، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بک !! قال قال: فاحفظوا عنی نهیی إیاکم واحفظوا مقالتکم لی ! أما أنا فإن تطیعونی تقاتلوا وإن تعصونی فاصنعوا ما بدا لکم ! قالوا له: أما لا ، فابعث إلی الأشتر فلیأتک....قال فأرسل علیٌّ إلی الأشتر یزید بن هانئ السبیعی أن ائتنی فأتاه فبلَّغه فقال: قل له لیس هذه الساعة التی ینبغی لک أن تزیلنی فیها عن موقفی ، إنی قد رجوت أن یفتح لی فلا تعجلنی ! فرجع یزید بن هانئ إلی علی فأخبره ، فما هو إلا أن انتهی إلینا ، فارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر ! فقال له القوم: والله ما نراک إلا أمرته أن یقاتل! قال: من أین ینبغی أن تروا ذلک رأیتمونی ساررته ألیس إنما کلمته علی رؤسکم علانیة وأنتم تسمعونی ! قالوا: فابعث إلیه فلیأتک وإلا والله اعتزلناک ! قال له: ویحک یا یزید قل له أقبل إلیَّ فإن الفتنة قد وقعت ! فأبلغه ذلک فقال له: لرفع المصاحف؟! قال نعم . قال: أما والله لقد ظننت حین رفعت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة ، إنها مشورة ابن العاهرة ! ألا تری ما صنع الله لنا ، أینبغی أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم ! وقال یزید بن هانئ: فقلت له أتحب أنک ظفرت هاهنا ، وأن أمیر المؤمنین بمکانه

ص: 325

الذی هو به یفرج عنه أو یُسْلَم؟! قال: لا والله ، سبحان الله ! قال: فإنهم قد قالوا لترسلن إلی الأشتر فلیأتینک أو لنقتلنک کما قتلنا ابن عفان !! فأقبل حتی انتهی إلیهم فقال: یا أهل العراق یا أهل الذل والوهن ! حین علوتم القوم ظهراً وظنوا أنکم لهم قاهرون ، رفعوا المصاحف یدعونکم إلی ما فیها ، وقد والله ترکوا ما أمر الله عز وجل به فیها ، وسنة من أنزلت علیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلا تجیبوهم ! أمهلونی عَدْوَ الفرس ، فإنی قد طمعت فی النصر ! قالوا: إذاً ندخل معک فی خطیئتک ! قال فحدثونی عنکم وقد قتل أماثلکم وبقی أراذلکم: متی کنتم محقین أحین کنتم تقاتلون وخیارکم یقتلون ، فأنتم الآن إذ أمسکتم عن القتال مبطلون ، أم الآن أنتم محقون فقتلاکم الذین لا تنکرون فضلهم فکانوا خیراً منکم فی النار إذاً ؟!! قالوا: دعنا منک یا أشتر قاتلناهم فی الله عز وجل

وندع قتالهم لله سبحانه ، إنا لسنا مطیعیک ولا مطیعی صاحبک فاجتنبنا !

فقال: خدعتم والله فانخدعتم ودعیتم إلی وضع الحرب فأجبتم ! یاأصحاب الجباه السود ! کنا نظن صلواتکم زهادةً فی الدنیا وشوقاً إلی لقاء الله عز وجل ، فلا أری فرارکم إلا إلی الدنیا من الموت ! ألا قبحاً یا أشباه النیب الجلالة ! وما أنتم برائین بعدها عزاً أبداً ! فأبعدوا کما بعد القوم الظالمون ! فسبوه فسبهم ، فضربوا وجه دابته بسیاطهم ، وأقبل یضرب بسوطه وجوه دوابهم ! وصاح بهم علی فکفُّوا ، وقال للناس: قد قبلنا أن تجعل القرآن بیننا وبینهم حکماً .

فجاء الأشعث بن قیس إلی علی فقال له: ما أری الناس إلا قد رضوا وسرهم أن یجیبوا القوم إلی ما دعوهم إلیه من حکم القرآن ، فإن شئت أتیتُ معاویة فسألته ما یرید فنظرتَ ما یسأل !! قال: إئته إن شئت فسله ! فأتاه فقال یا معاویة لأی شئ رفعتم هذه المصاحف؟ قال لنرجع نحن وأنتم إلی ما أمر الله عز وجل به فی

ص: 326

کتابه ، تبعثون منکم رجلاً ترضون به ونبعث منا رجلاً ، ثم نأخذ علیهما أن یعملا بما فی کتاب الله لا یَعْدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا علیه !

فقال له الأشعث بن قیس: هذا الحق ، فانصرف إلی علی فأخبره بالذی قال معاویة ، فقال الناس: فإنا قد رضینا وقبلنا .فقال أهل الشام: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص ، فقال الأشعث وأولئک القوم الذین صاروا خوارج بعد: فإنا قد رضینا بأبی موسی الأشعری . قال علی: فإنکم قد عصیتمونی فی أول الأمر فلا تعصونی الآن! إنی لا أری أن أولی أبا موسی ! فقال الأشعث وزید بن حصین الطائی ومسعر بن فدکی: لا نرضی إلا به فإنه ما کان یحذرنا وقعنا فیه . قال علی: فإنه لیس لی بثقة قد فارقنی وخذل الناس عنی ثم هرب منی حتی آمنته بعد أشهر ، ولکن هذا ابن عباس نولیه ذلک . قالوا: ما نبالی أنت کنت أم ابن عباس ، لا نرید إلا رجلاً هو منک ومن معاویة سواء، لیس إلی واحد منکم بأدنی منه إلی الآخر !

فقال علی: فإنی أجعل الأشتر ، قال أبو محنف حدثنی أبو جناب الکلبی أن الأشعث قال: وهل سعَّر الأرض غیر الأشتر ! قال أبو محنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبیه أن الأشعث قال: وهل نحن إلا فی حکم الأشتر؟ قال علی: وما حکمه؟ قال: حکمه أن یضرب بعضنا بعضاً بالسیوف حتی یکون ما أردت وما أراد! قال: فقد أبیتم إلا أبا موسی؟! قالوا: نعم ، قال: فاصنعوا ما أردتم ) !!

وفی الطبری:4/40:(أن علیاً قال للناس یوم صفین: لقد فعلتم فعلةً ضَعْضَعَتْ قوة ، وأسقطت مِنَّة ، وأوهنت وأورثت وهناً وذلة ، ولمَّا کنتم الأعلین وخاف عدوکم الإجتیاح ، واستحرَّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف ودعوکم إلی ما فیها لیفتؤوکم عنهم ، ویقطعوا الحرب فیما بینکم وبینهم ، ویتربصوا ریب المنون خدیعة ومکیدة ، فأعطیتموهم ما سألوا ، وأبیتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا ! وأیم الله ما أظنکم بعدها توافقون رشداً ، ولا تصیبون باب حزم ) !!

ص: 327

وفی نهج البلاغة:2/186: (ومن کلام له(علیه السّلام)قاله لما اضطرب علیه أصحابه فی أمر الحکومة:

أیها الناس ، إنه لم یزل أمری معکم علی ما أحب حتی نهکتکم الحرب ، وقد والله أخذت منکم وترکت ، وهی لعدوکم أنهک . لقد کنت أمس أمیراً فأصبحت الیوم مأموراً ! وکنت أمس ناهیاً فأصبحت الیوم منهیاً ! وقد أحببتم البقاء ولیس لی أن أحملکم علی ما تکرهون ) !

ص: 328

نص وثیقة التحکیم فی صفین

فی تاریخ الطبری:4/37: (فبعثوا إلیه (یعنی أبا موسی الأشعری)وقد اعتزل القتال وهو یعرض ، فأتاه مولی له فقال إن الناس قد اصطلحوا ، فقال: الحمد لله رب العالمین ، قال: قد جعلوک حکماً ، قال: إنا لله وإنا إلیه راجعون . وجاء أبو موسی حتی دخل العسکر ، وجاء الأشتر حتی أتی علیاً فقال: لُزَّنی بعمرو بن العاص ، فوالله الذی لا إله الا هو لئن ملأت عینی منه لأقتلنه !

وجاء الأحنف فقال: یا أمیر المؤمنین إنک قد رمیتَ بحجر الأرض وبمن حارب الله ورسوله أنفَ الإسلام ، وإنی قد عجمتُ هذا الرجل وحلبتُ أشطره فوجدته کلیل الشفرة قریب القعر ، وإنه لایصح لهؤلاء القوم إلا رجل یدنو منهم حتی یصیر فی أکفهم ، ویبعد حتی یصیر بمنزلة النجم منهم ، فإن أبیتَ أن تجعلنی حکماً فاجعلنی ثانیاً أو ثالثاً ، فإنه لن یعقد عقدة إلا حللتها ولن یحل عقدة أعقدها إلا عقدت لک أخری أحکم منها ! فأبی الناس إلا أبا موسی والرضی بالکتاب ، فقال الأحنف: فإن أبیتم إلا أبا موسی فأدفئوا ظهره بالرجال...

فکتبوا: بسم الله الرحمن الرحیم ، هذا ما تقاضی علیه علی أمیر المؤمنین ، فقال عمرو: أکتب اسمه واسم أبیه ، هو أمیرکم ، فأما أمیرنا فلا . وقال له الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنین ، فإنی أتخوف إن محوتها ألا ترجع إلیک أبداً ، لاتمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبی ذلک علیٌّ ملیاً من النهار ، ثم إن الأشعث بن قیس قال: أمحُ هذا الإسم ترَّحهُ الله ! فقال علی: الله أکبر سنةٌ بسنة ، ومَثَلٌ بمثل ! والله إنی لکاتب بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوم الحدیبیة إذ قالوا لست رسول الله ولا نشهد لک به ، ولکن اکتب اسمک واسم أبیک فکتبه ، فقال عمرو بن العاص: سبحان الله ومثلٌ هذا أن نُشَبَّهَ بالکفار ونحن مؤمنون ! فقال علی: یا ابن

ص: 329

النابغة ومتی لم تکن للفاسقین ولیاً وللمسلمین عدواً ، وهل تشبه إلا أمک التی وضعت بک ! فقام فقال: لا یجمع بینی وبینک مجلس أبداً بعد هذا الیوم ! فقال له علی: وإنی لأرجو أن یطهر الله عز وجل مجلسی منک ومن أشباهک) !

وفی صفین لابن مزاحم ص509: أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام) قال: ( إنی والله لأنا کتبت الکتاب بیدی یوم الحدیبیة ، وکتبت: بسم الله الرحمن الرحیم ، فقال سهیل: لا أرضی أکتب: باسمک اللهم ، فکتبت: هذا ما صالح علیه محمد رسول الله سهیل بن عمرو ، فقال . لو شهدت أنک رسول الله لم أقاتلک . قال علی: فغضبت فقلت: بلی والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفک . فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أکتب ما یأمرک ، وإن لک مثلها ستعطیها وأنت مضطهد) !

وفی تاریخ الطبری:4/38: (وکُتب الکتاب: بسم الله الرحمن الرحیم . هذا ما تقاضی علیه علی بن أبی طالب ومعاویة بن أبی سفیان ، قاضی علیٌّ علی أهل الکوفة ومن معهم من شیعتهم من المؤمنین والمسلمین ، وقاضی معاویة علی أهل الشأم ومن کان معهم من المؤمنین والمسلمین: أنَّا ننزل عند حکم الله عز وجل وکتابه ، ولا یجمع بیننا غیره ، وأن کتاب الله عز وجل بیننا من فاتحته إلی خاتمته ، نحیی ما أحیا ونمیت ما أمات ، فما وجد الحکمان فی کتاب الله عز وجل وهما أبو موسی الأشعری عبد الله بن قیس وعمرو بن العاص القرشی عملا به ، وما لم یجدا فی کتاب الله عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غیر المفرقة .

وأخذ الحکمان من علی ومعاویة ومن الجندین من العهود والمیثاق والثقة من الناس ، أنهما آمنان علی أنفسهما وأهلهما ، والأمة لهما أنصار علی الذی یتقاضیان علیه ، وعلی المؤمنین والمسلمین من الطائفتین کلتیهما عهد الله ومیثاقه أنا علی ما فی هذه الصحیفة ، وأن قد وجبت قضیتهما علی المؤمنین ، فإن الأمن والإستقامة ووضع السلاح بینهم أینما ساروا ، علی أنفسهم وأهلیهم وأموالهم

ص: 330

وشاهدهم وغائبهم . وعلی عبد الله بن قیس وعمرو بن العاص عهد الله ومیثاقه أن یحکما بین هذه الأمة ، ولا یرداها فی حرب ولا فرقة ، حتی یعصیا . وأجَلُ القضاء إلی رمضان وإن أحبا أن یؤخرا ذلک أخراه علی تراض منهما ، وإن توفی أحد الحکمین فإن أمیر الشیعة یختار مکانه ولا یألو من أهل المعدلة والقسط ، وإن مکان قضیتهما الذی یقضیان فیه مکان عدل بین أهل الکوفة وأهل الشأم . وإن رضیا وأحبا فلا یحضرهما فیه إلا من أرادا ، ویأخذ الحکمان من أرادا من الشهود ، ثم یکتبان شهادتهما علی ما فی هذه الصحیفة ، وهم أنصار علی من ترک ما فی هذه الصحیفة ، وأراد فیه إلحاداً وظلماً .

اللهم إنا نستنصرک علی من ترک ما فی هذه الصحیفة . شهد من أصحاب علی: الأشعث بن قیس الکندی ، وعبد الله بن عباس ، وسعید بن قیس الهمدانی ، وورقاء بن سمی البجلی ، وعبد الله بن محل العجلی ، وحجر بن عدی الکندی ، وعبد الله بن الطفیل العامری ، وعقبة بن زیاد الحضرمی ویزید بن حجیة التیمی ، ومالک بن کعب الهمدانی . ومن أصحاب معاویة: أبو الأعور السلمی عمرو بن سفیان ، وحبیب بن مسلمة الفهری ، والمخارق بن الحارث الزبیدی ، وزمل بن عمرو العذری ، وحمزة بن مالک الهمدانی ، وعبد الرحمن بن خالد المخزومی ، وسبیع بن یزید الأنصاری ، وعلقمة بن یزید الأنصاری ، وعتبة بن أبی سفیان ، ویزید بن الحر العبسی ). انتهی.

ملاحظة: تقدم من فتوح ابن الأعثم:2/110: أن بقیة الصحابة غیر الطلقاء والأنصار کلهم کانوا مع علی(علیه السّلام)فی صفین ، وأنه لم یکن مع معاویة من الأنصار إلا النعمان بن بشیر ومسلمة بن مخلد . بینما وصفت روایة الطبری المتقدمة سبیع بن یزید وعلقمة بن یزید بالأنصاریین ، وهو وصف غیر دقیق أو

ص: 331

مکذوب ، فقد نص البلاذری فی أنساب الأشراف ص335 ، علی أنهما أخوان وحضرمیان ، قال: (ومن أهل الشام أبو الأعور عمرو بن سفیان السلمی... وسبیع بن یزید الحضرمی وعلقمة بن یزید أخو سبیع هذا ). انتهی.

وکذا وصفهما ابن عساکر فی تاریخه:2/140 ، و41/201، بالحضرمییْن وأنهما من وجوه أصحاب معاویة . ووصف ابن مزاحم ص507 سبیعاً بالهمدانی وعلقمة بالجرمی . وورد فی الغارات ص275 إسم سبیع الحضرمی وأنه مولی لمعاویة !

فلا تصح نسبتهما الی الأنصار !

وقال نصر بن مزاحم ص512 ، والطبری:4/84: ( لما کتبت الصحیفة دُعی لها الأشتر فقال: لاصحبتنی یمینی ولا نفعتنی بعدها الشمال ، إن کُتب لی خطٌّ فی هذه الصحیفة إسمٌ علی صلح ولا موادعة ! أوَلستُ علی بینة من ربی ، ویقینٍ من ضلالة عدوی؟! أو لستم قد رأیتم الظفر إن لم تجمعوا علی الخوَر؟!

فقال له الأشعث بن قیس:إنک والله رأیت ظفراً ولا خوراً ، هلمَّ فاشهد علی نفسک ، وأقرر بما کُتب فی هذه الصحیفة ، فإنه لا رغبة بک عن الناس . قال: بلی والله ، إن بی لرغبة عنک فی الدنیا للدنیا وفی الآخرة للآخرة . ولقد سفک الله بسیفی هذا دماء رجال ما أنت بخیر منهم عندی ولا أحرم دماً . فقال عمار بن ربیعة: فنظرت إلی الأشعث وکأنما قُصِعَ علی أنفه الحمم ! ثم قال (الأشتر): ولکن قد رضیت بما صنع علیٌّ أمیر المؤمنین ، ودخلت فیما دخل فیه ، وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا یدخل إلا فی هدی وصواب) ! انتهی.

ومعنی قوله: (وکأنما قُصِعَ علی أنفه الحمم):کأنما فُرِک أنف الأشعث بالفحم !

ص: 332

زار علیٌّ کربلاء ومعه الحسین(علیهماالسّلام) فی ذهابهم الی صفین وإیابهم منها !

روت ذلک مصادرهم ومصادرنا ، ففی مسند أحمد بن حنبل:1/85: ( عن عبد الله بن نجی عن أبیه ، إنه سار مع علی کرم الله وجهه وکان صاحب مطهرته ، فلما حاذی نینوی وهو منطلق إلی صفین فنادی علی: إصبر أبا عبد الله ! إصبر أبا عبد الله بشط الفرات ! قلت وماذا ؟ قال: دخلت علی النبی(ص) ذات یوم وعیناه تفیضان قلت: یا نبی الله ، أغضبک أحد ؟ ما شأن عینیک تفیضان؟ قال: بل قام عندی جبریل فحدثنی أن الحسین یقتل بشط الفرات. قال فقال: هل لک أن أشمک من تربته؟ قال قلت: نعم . فمد یده فقبض قبضة من تراب فأعطانیها فلم أملک عینیَّ أن فاضتا). (ورواه ابن أبی شیبة:15/98).

وروی ابن أبی شیبة:15/98: ( عن أبی هرثمة قال: بَعَرت شاة له فقال لجاریة له: یا جرداء لقد أذکرنی فی هذا البعر حدیثاً سمعته من أمیر المؤمنین (علیه السّلام)وکنت معه کربلاء فمر بشجرة تحتها بعر غزلان ، فأخذ منه قبضة فشمها ثم قال: یحشرون من هذا الظهر سبعون ألفاً یدخلون الجنة بغیر حساب ).(قال فی الزوائد: 9/191: رواه الطبرانی ورجاله ثقات ).

وروی ابن أبی شیبة أیضاً:5/97: ( عن هانئ بن هانئ ، عن علی کرم الله وجهه قال: لیقتلن

الحسین(علیه السّلام)قتلاً، وإنی لأعرف تربة الأرض التی بها یقتل یقتل قریباً من النهرین ولیقتلن الحسین ظلماً).(وثق رجاله الزوائد:9/190وکذا الآتی عن الطبرانی).

وروی الطبرانی فی المعجم الکبیر:3/110: (عن علی کرم الله وجهه قال: لیقتلن الحسین وإنی لأعرف التربة التی یقتل فیها قریباً من النهرین ).

ص: 333

وروته مصادرناً مفصلاً، ففی إرشاد المفید:1/332: (عن جویریة بن مسهر العبدی قال: لما توجهنا مع أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)إلی صفین فبلغنا طفوف کربلاء وقف(علیه السّلام) ناحیة من العسکر ، ثم نظر یمیناً وشمالاً واستعبر ، ثم قال: هذا والله مناخ رکابهم وموضع منیتهم! فقیل له: یا أمیر المؤمنین ما هذا الموضع؟ قال: هذا کربلاء ، یقتل فیه قوم یدخلون الجنة بغیر حساب ! ثم سار . فکان الناس لا یعرفون تأویل ما قال حتی کان من أمر أبی عبد الله الحسین بن علی(علیهماالسّلام)وأصحابه بالطف ما کان ، فعرف حینئذ من سمع مقاله مصداق الخبر فیما أنبأهم به(علیه السّلام) ).

وفی کامل الزیارات ص453 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: (مرَّ أمیر المؤمنین(علیه السّلام) بکربلاء فی أناس من أصحابه ، فلما مر بها اغرورقت عیناه بالبکاء ، ثم قال: هذا مناخ رکابهم وهذا ملقی رحالهم ، وهنا تهرق دماؤهم ، طوبی لک من تربة علیک تهرق دماء الأحبة ) . (ورواه فی قرب الاسناد ص 26، وخصائص الأئمة ص47)

وفی أمالی الصدوق ص199: (عن جرداء بنت سمین ، عن زوجها هرثمة بن أبی مسلم قال: غزونا مع علی بن أبی طالب صفین ، فلما انصرفنا نزل کربلاء فصلی بها الغداة ، ثم رفع إلیه من تربتها فشمها ، ثم قال: واها لک أیتها التربة ، لیحشرن منک أقوام یدخلون الجنة بغیر حساب . فرجع هرثمة إلی زوجته ، وکانت شیعة لعلی فقال: ألا أحدثک عن ولیک أبی الحسن؟ نزل بکربلا فصلی ثم رفع إلیه من تربتها وقال: واهاً لک أیتها التربة ، لیحشرن منک أقوام یدخلون الجنة بغیر حساب ! قالت: أیها الرجل ، فإن أمیر المؤمنین لم یقل إلا حقاً . فلما قدم الحسین(علیه السّلام)قال هرثمة: کنت فی البعث الذین بعثهم عبید الله ابن زیاد ، فلما رأیت المنزل والشجر ذکرت الحدیث ، فجلست علی بعیری ، ثم صرت إلی الحسین(علیه السّلام)، فسلمت علیه وأخبرته بما سمعت من أبیه فی ذلک المنزل الذی نزل به الحسین (علیه السّلام)فقال: معنا أنت أم علینا ؟ فقلت: لا معک ولا علیک ، خلفت صبیة أخاف

ص: 334

علیهم عبید الله بن زیاد . قال: فامض حیث لا تری لنا مقتلاً ، ولا تسمع لنا صوتاً ، فوالذی نفس الحسین بیده ، لا یسمع الیوم واعیتنا أحد فلا یعیننا ، إلا کبه الله لوجهه فی جهنم) . انتهی . ( راجع أیضاً:کامل الزیارات: 108 / 3 ، وشرح الأخبار:3/141 ،والبحار:44: 255، 257، 284 ، والمناقب لمحمد بن سلیمان:2/26 ، وشرح الأخبار:3/141).

ورواه ابن مزاحم فی وقعة صفین ص140، ثم روی ( عن أبی جحیفة قال جاء عروة البارقی إلی سعید بن وهب فسأله وأنا أسمع فقال: حدیث حدثتنیه عن علی بن أبی طالب؟ قال: نعم ، بعثنی مخنف بن سلیم إلی علی فأتیته بکربلاء: فوجدته یشیر بیده ویقول: هاهنا هاهنا . فقال له رجل: وما ذلک یا أمیر المؤمنین ؟ قال: ثقل لآل محمد ینزل هاهنا فویلٌ لهم منکم ، وویلٌ لکم منهم . فقال له الرجل: ما معنی هذا الکلام یا أمیر المؤمنین؟ قال: ویلٌ لهم منکم: تقتلونهم ! وویلٌ لکم منهم: یدخلکم الله بقتلهم إلی النار.... عن الحسن بن کثیر عن أبیه: أن علیاً أتی کربلاء فوقف بها ، فقیل یا أمیر المؤمنین هذه کربلاء . قال: ذات کرب

وبلاء . ثم أومأ بیده إلی مکان فقال: هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ رکابهم ، وأومأ بیده إلی موضع آخر فقال: هاهنا مهراق دمائهم ) !!

ص: 335

محکمة لاهای القرشیة فی دومة الجندل !

الدومة: واحة الشجر الضخام . (

النهایة لابن الاثیر:2/141) ، والجندل: الصخر .

وفی معجم البلدان:2/487: (دومة الجندل... وحصنها مارد ، وسمیت دومة الجندل لأن حصنها مبنی بالجندل ، وقال أبو عبید السکونی: دومة الجندل حصن وقری بین الشام والمدینة ، قرب جبلی طئ) . انتهی .

وفی التنبیه والإشراف ص255: (وبین وقعة صفین والتقاء الحکمین أبی موسی الأشعری وعمرو بن العاص بدومة الجندل فی شهر رمضان سنة 38 ، سنةٌ وخمسة أشهر وأربعة وعشرون یوماً . وبین التقائهما وخروج علی إلی الخوارج بالنهروان وقتله إیاهم ، سنة وشهران ).

وفی تاریخ الیعقوبی:2/190، عن عبد الرحمن بن حصین بن سوید ، قال: إنی لأسایر أبا موسی الأشعری علی شاطئ الفرات ، وهو إذ ذاک عامل لعمر ، فجعل یحدثنی ، فقال:إن بنی إسرائیل لم تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضاً بعد أرض حتی حکموا ضالَّیْن أضلا من اتبعهما . قلت: فإن کنت یا أبا موسی أحد الحکمین ، قال فقال لی: إذاً لاترک الله لی فی السماء مصعداً ولا فی الأرض مهرباً إن کنت أنا هو . فقال سوید: لربما کان البلاء موکلاً بالمنطق ! ولقیته بعد التحکیم ، فقلت: إن الله إذا قضی أمراً لم یغالب !). انتهی .

وروی نحوه فی المناقب:2/363 ، قال: (وروی ابن مردویه بأسانیده ، عن سوید بن غفلة أنه قال: کنت مع أبی موسی علی شاطئ الفرات فقال سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: إن بنی إسرائیل اختلفوا فلم یزل الإختلاف بینهم حتی بعثوا حکمین ضالین ضلَّ من اتبعهما، ولاتنفک أمورکم تختلف حتی تبعثوا حکمین یضلان ویضل

ص: 336

من تبعهما ! فقلت أعیذک بالله أن تکون أحدهما قال: فخلع قمیصه فقال: برأنی الله من ذلک کما برأنی من قمیصی): (ونحوه فی شرح النهج:13/507 ).

وفی تاریخ خلیفة بن خیاط ص144: ( فبعث علیٌّ ابن عباس ولم یحضره ، وحضر معاویة . فلم یتفق الحکمان علی شئ ، وافترق الناس وبایع أهل الشام لمعاویة بالخلافة فی ذی القعدة سنة سبع وثلاثین ).انتهی . والصحیح أنه عام 38.

وفی تاریخ الیعقوبی:2/188: (ووجه علیٌّ بعبد الله بن عباس فی أربعمائة من أصحابه ، ونفذ معاویة أربعمائة من أصحابه ، واجتمعوا بدومة الجندل فی شهر ربیع الأول سنة 38 . فخدع عمرو بن العاص أبا موسی ، وذکر له معاویة فقال: هو ولیُّ ثأر عثمان وله شرف فی قریش ، فلم یجد عنده ما یحب ، قال: فابنی عبد الله؟ قال: لیس بموضع لذلک . قال: فعبد الله بن عمر؟ قال:إذاً نحیی سنة عمر الآن حیث به . فقال: فاخلع علیاً وأخلع أنا معاویة ، ویختار المسلمون .

وقدم عمرو أبا موسی إلی المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلی عبد الله بن قیس فدنا منه فقال:إن کان عمرو فارقک علی شئ ، فقدمه قبلک فإنه غُدُر . فقال:لا ، قد اتفقنا علی أمر ، فصعد المنبر ، فخلع علیاً ، ثم صعد عمرو بن العاص فقال: قد ثبتُّ معاویة کما ثبتُّ خاتمی هذا فی یدی . فصاح به أبو موسی: غدرت یا منافق ، إنما مثلک مثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث !

قال عمرو:إنک مثلک مثل الحمار یحمل أسفاراً !! وتنادی الناس:حکم والله الحکمان بغیر ما فی الکتاب ، والشرط علیهما غیر هذا ! وتضارب القوم بالسیاط وأخذ قوم بشعور بعض ! وافترق الناس ونادت الخوارج: کفر الحکمان ، لاحکم إلا لله . وقیل: أول من نادی بذلک عروة بن أدیة التمیمی قبل أن یجتمع الحکمان وکانت الحکومة فی شهر رمضان سنة 38 ). انتهی .

ص: 337

وروت شبیهاً بما تقدم کل مصادر التاریخ والحدیث ، بتفصیلات عدیدة ، کالطبری :4/ 48 ، وجاء فیه: ( قال وشهد جماعتهم تلک عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبیر ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومی ، وعبد الرحمن بن عبد یغوث الزهری ، وأبو جهم بن حذیفة العدوی ، والمغیرة بن شعبة الثقفی...

قال أبو موسی: أما والله لئن استطعت لأحیین إسم عمر بن الخطاب ، فقال له عمرو: إن کنت تحب بیعة ابن عمر فما یمنعک من ابنی وأنت تعرف فضله وصلاحه؟! فقال إن ابنک رجل صدق ، ولکنک قد غمسته فی هذه الفتنة ) !

وقال الطبری :4/52: ( أخذ عمرو یقدم أباموسی فی الکلام یقول: إنک صاحب رسول الله ، وأنت أسن منی فتکلم وأتکلم ! فکان عمرو قد عوَّد أبا موسی أن یقدمه فی کل شئ ، اغتره بذلک کله أن یقدمه فیبدأ بخلع علی !

قال فنظر فی أمرهما وما اجتمعا علیه فأراده عمرو علی معاویة فأبی ، وأراده علی ابنه فأبی ، وأراد أبو موسی عمرواً علی عبد الله بن عمر فأبی علیه ، فقال له عمرو: خبرنی ما رأیک؟ قال رأیی أن نخلع هذین الرجلین ونجعل الأمر شوری بین المسلمین فیختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ، فقال له عمرو: فإن الرأی ما رأیت....!! فتقدم أبو موسی لیتکلم فقال له ابن عباس: ویحک والله إنی لأظنه قد خدعک ، إن کنتما قد اتفقتما علی أمر فقدمه فلیتکلم بذلک الأمر قبلک ، ثم تکلم أنت بعده ، فإن عمراً رجل غادر ، ولا آمن أن یکون قد أعطاک الرضا فیما بینک وبینه ، فإذا قمت فی الناس خالفک ! وکان أبو موسی مغفلاً ، فقال له إنا قد اتفقنا ! فتقدم أبو موسی فحمد الله عز وجل وأثنی علیه ثم قال: یا أیها الناس إنا قد نظرنا فی أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد جمع رأیی ورأی عمرو علیه ، وهو أن نخلع علیاً ومعاویة وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر

ص: 338

فیولوا منهم من أحبوا علیهم ، وإنی قد خلعت علیاً ومعاویة ، فاستقبلوا أمرکم وولوا علیکم من رأیتموه لهذا الأمر أهلاً ! ثم تنحی .

وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنی علیه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه کما خلعه ، وأثبت صاحبی معاویة ! فإنه ولیُّ عثمان بن عفان والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه .

فقال أبو موسی: مالک لا وفقک الله غدرتَ وفجرتَ ؟! إنما مثلک کمثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث ! قال عمرو: إنما مثلک کمثل الحمار یحمل أسفاراً ! وحمل شریح بن هانئ علی عمرو فقنعه بالسوط ! وحمل علی شریح ابن عمرو فضربه بالسوط ! وقام الناس فحجزوا بینهم ، وکان شریح بعد ذلک یقول ما ندمت علی شئ ندامتی علی ضرب عمرو بالسوط ، ألا أکون ضربته بالسیف آتیاً به الدهر ما أتی ). انتهی .

ومن الطبیعی أن أحداً من المسلمین لم یقبل نتیجة هذه المهزلة التی دبرها معاویة وابن العاص فی دومة الجندل ، فکانت نتیجتها أن المسلمون تمسکوا بخلافة علی(علیه السّلام) ، لکن معاویة اعتبر ا لنتیجة شرعیة وأن الحکمین حکما بکتاب الله تعالی ، وبدأ بأخذ البیعة لنفسه بالخلافة وإمرة المؤمنین من أهل الشام !

أما انعکاس محکمة دومة الجندل فی أصحاب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فکان إدانةً غاضبةً لأبی موسی وعمرو العاص ، وتمسکاً بخلافة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وتجدیداً لبیعته ، وقد اسثمر ذلک(علیه السّلام)فی دعوتهم الی الإستعداد لحرب معاویة ، وتحرک بالفعل الی معسکر الکوفة بالنخیلة، وبدأت استجابة الناس وتجمعهم فی النخیلة.

قال(علیه السّلام)فی خطبته بعد التحکیم:کما فی نهج البلاغة:1/84:

ص: 339

(الحمد لله وإن أتی الدهر بالخطب الفادح والحدث الجلیل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له لیس معه إله غیره وأن محمداً عبده ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

أما بعد فإن معصیة الناصح الشفیق العالم المجرب تورث الحسرة ، وتعقب الندامة. وقد کنت أمرتکم فی هذه الحکومة أمری ، ونخلت لکم مخزون رأیی ، لو کان یطاع لقصیر أمر، فأبیتم علیَّ إباء المخالفین الجفاة والمنابذین العصاة ! حتی ارتاب الناصح بنصحه ، وضن الزند بقدحه ، فکنت وإیاکم کما قال أخو هوازن:

أمرتکم أمری بمُنْعَرج اللِّوی

فلم تستبینوا النصح إلا ضحی الغد ) !!

وقال(علیه السّلام)کما فی نهج البلاغة:2/96:( فأجمع رأی ملئکم علی أن اختاروا رجلین ، فأخذنا علیهما أن یجعجعا عند القرآن ولا یجاوزاه ، وتکون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه. فتاها عنه وترکا الحق وهما یبصرانه ، وکان الجور هواهما ، والإعوجاج دأبهما، وقد سبق استثناؤنا علیهما فی الحکم بالعدل والعمل بالحق سوء رأیهما وجور حکمهما ، والثقة فی أیدینا لأنفسنا حین خالفا سبیل الحق ، وأتیا بما لا یعرف من معکوس الحکم ) . انتهی .

لکن المشکلة فی العراق کانت استفحال أمر الخوارج ، الذین رأوا فی لعبة ابن العاص وغباء أبی موسی الأشعری دلیلاً علی صحة موقفهم فی تکفیر الذین قبلوا بالتحکیم وأولهم هم ، ولم ینفع معهم حث الإمام لهم علی التوجه معه الی حرب معاویة ، بل أخذوا یتجمعون فی معسکرات مطالبین علیاً(علیه السّلام)بأن یشهد علی نفسه بالکفر ویتوب مثلهم لکی یبایعوه ویتوجهوا معه الی حرب معاویة !

ففی نهج البلاغة:1/233: (من کلامه(علیه السّلام)وقد قام إلیه رجل فقال:نهیتنا عن الحکومة ثم أمرتنا بها ، فما ندری أیُّ الأمرین أرشد ! فصفق(علیه السّلام)إحدی یدیه علی الأخری ثم قال: هذا جزاء من ترک العقدة ! أما والله لو أنی حین أمرتکم بما أمرتکم به حملتکم علی المکروه الذی یجعل الله فیه خیراً، فإن استقمتم هدیتکم، وإن اعوججتم قومتکم، وإن أبیتم تدارکتکم ، لکانت الوثقی ، ولکن بمن وإلی من؟ أرید أن أداوی بکم

ص: 340

وأنتم دائی ، کناقش الشوکة بالشوکة وهو یعلم أن ضَلَعَها معها . اللهم قد ملَّت أطباء هذا الداء الدویّ ، وکلَّت النزعة بأشطان الرکیّ .

أین القوم الذین دعوا إلی الإسلام فقبلوه ، وقرأوا القرآن فأحکموه ، وهیجوا إلی القتال فولهوا وَلَهَ اللقاح إلی أولادها ، وسلبوا السیوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفّاً صفّاً . بعضٌ هلک وبعضٌ نجا ، لایبشرون بالأحیاء ، ولا یعزون عن الموتی ! مُرْهُ العیون من البکاء ، خُمصُ البطون من الصیام ، ذُبْلُ الشفاه من الدعاء ، صُفْرُ الألوان من السهر ! علی وجوههم غُبْرةُ الخاشعین . أولئک إخوانی الذاهبون ، فحقٌّ لنا أن نظمأ إلیهم ، ونعض الأیدی علی فراقهم ! إن الشیطان یُسْنی لکم طرقه ، ویرید أن یحل دینکم عقدة عقدة ، ویعطیکم بالجماعة الفرقة ، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته ، واقبلوا النصیحة ممن أهداها إلیکم ، واعقلوها علی أنفسکم) .

وفی نهج البلاغة:1/56: من کلامه(علیه السّلام)للأشعث بن قیس عندما اعترض علیه فی خطبته المتقدمة فقال له: ( یا أمیر المؤمنین هذه علیک لا لک ! فخفض(علیه السّلام)إلیه بصره فقال: ما یدریک ما علیَّ مما

لی؟! علیک لعنة الله ولعنة اللاعنین ! حائک بن حائک منافق بن کافر ! والله لقد أسرک الکفر مرة والإسلام أخری ، فما فداک من واحدة منهما مالک ولاحسبک ! وإن امرأً دلَّ علی قومه السیف ، وساق إلیهم الحتف لحریٌّ أن یمقته الأقرب ، ولا یأمنه الأبعد ) .

وفی شرح النهج:1/296: ( فصفق(علیه السّلام)بإحدی یدیه علی الأخری ، وقال: هذا جزاء من ترک العقدة. وکان مراده(علیه السّلام)هذا جزاؤکم إذ ترکتم الرأی والحزم وأصررتم علی إجابة القوم إلی التحکیم ، فظن الأشعث أنه أراد: هذا جزائی حیث ترکت الرأی والحزم وحکَّمت.... فلما قال له: هذه علیک لا لک ، قال له: وما یدریک ما علیَّ مما لی ، علیک لعنة الله ولعنة اللاعنین ) !

وقال الشیخ محمد عبده فی شرحه: (کان الأشعث فی أصحاب علی کعبد الله

ص: 341

بن أبی بن سلول فی أصحاب رسول الله(ص)کلٌّ منهما رأس النفاق فی زمنه ! أسر مرتین مرة وهو کافر فی بعض حروب الجاهلیة وذلک أن قبیلة مراد قتلت قیساً الأشج أبا الأشعث فخرج الأشعث طالباً بثأر أبیه فخرجت کندة متساندین إلی ثلاثة ألویة علی أحدها کبش بن هانئ ، وعلی أحدها القشعم بن الأرقم وعلی أحدها الأشعث فأخطأوا مراداً ، ووقعوا علی بنی الحارث بن کعب ، فقتل کبش والقشعم ، وأسر الأشعث وفدی بثلاثة آلاف بعیر ! لم یفد بها عربی قبله ولا بعده ، فمعنی قول أمیر المؤمنین: فما فداک لم یمنعک من الأسر .

وأما أسر الإسلام له ، فذلک أن بنی ولیعة لما ارتدوا بعد موت النبی(ص)وقاتلهم زیاد بن لبید البیاضی الأنصاری لجؤوا إلی الأشعث مستنصرین به فقال: لا أنصرکم حتی تملِّکونی ، فتوجوه کما یتوج الملک من قحطان ! فخرج معهم مرتداً یقاتل المسلمین ! وأمد أبو بکر زیاداً بالمهاجرین أبی أمیة ، فالتقوا بالأشعث فتحصن منهم فحاصروه أیاماً ، ثم نزل إلیهم علی أن یؤمنوه وعشرة من أقاربه حتی یأتی أبا بکر فیری فیه رأیه ، وفتح لهم الحصن فقتلوا کل من فیه من قوم الأشعث إلا العشرة الذین عزلهم ، وکان المقتولون ثمانمائة! ثم حملوه أسیراً مغلولاً إلی أبی بکر فعفا عنه وعمن کان معه ، وزوجه أخته أم فروة بنت أبی قحافة !... وکان نساء قومه یسمینه: عُرْف النار ، وهو اسم للغادر عندهم)!

وفی تاریخ الطبری:2/548: ( وبعث به إلی أبی بکر مع السبی فکان معهم یلعنه المسلمون ویلعنه سبایا قومه ! وسماه نساء قومه عُرْف النار کلام یمانٍ یسمون به الغادر.... فقدم القوم علی أبی بکر......فتجافی له عن دمه وقبل منه.... فزوجه أم فروة ابنة أبی قحافة ). انتهی . وفی تاریخ دمشق:9/128 ، تفصیلات عن ردته!

وقال ابن أبی الحدید فی شرح النهج:2/279: (کل فساد کان فی خلافة علی

ص: 342

وکل اضطراب حدث فأصله الأشعث ، ولولا محاقته أمیر المؤمنین فی معنی الحکومة فی هذه المرة لم تکن حرب النهروان ، ولکان أمیر المؤمنین ینهض بهم إلی معاویة ، ویملک الشام فإنه حاول أن یسلک معهم مسلک التعریض والمواربة ، وفی المثل النبوی صلوات الله علی قائله: الحرب خدعة ، وذاک أنهم قالوا له: تب إلی الله مما فعلت کما تبنا ننهض معک إلی حرب أهل الشام ، فقال لهم کلمة مجملة مرسلة قالها الأنبیاء والمعصومون ، وهی قوله: أستغفر الله من کل ذنب ، فرضوا بها وعدوها إجابة لهم إلی سؤلهم ، وصفت له نیاتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غیر أن تتضمن تلک الکلمة اعترافاً بکفر أو ذنب ، فلم یترکه الأشعث ، وجاء إلیه مستفسراً وکاشفاً عن الحال ). انتهی .

وفی تاریخ الیعقوبی:2/137: قال أبوبکر فی مرضه الذی توفی فیه وهو یتحسَّر علی أشیاء لیته لم یفعلها منها هجومه علی بیت فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)، وأشیاء لیته لم یفعلها منها قتل الأشعث قال: ( فلیتنی قدمت الأشعث بن قیس تضرب عنقه ، فإنه یخیل إلیّ أنه لا یری شیئاً من الشر إلا أعان علیه ! ) . انتهی

وتاریخ الأشعث ملئٌ بالغدر والنفاق ، فقد جاء فی وفد کندة الی النبی فی سنة وفاته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ثم أعلن ارتداده مع قبیلة بنی ولیعة فی حضرموت کما رأیت ، ثم استطاع بدهائه أن ینال عفو أبی بکر ویتزوج أخته أم فروة !

وکان علی(علیه السّلام)یعرف نفاقه وعمله مع معاویة ، لکنه کان مجبوراً علی مداراته بسبب قبیلته ، وکان یقول له فی نفسه قولاً بلیغاً !

وقد تآمر الأشعث مع معاویة فی صفین علی علی(علیه السّلام) ، ثم تآمر مع الخوارج وربما مع معاویة علی قتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ! ففی الکافی:8/ 167: عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: ( إن الأشعث بن قیس شَرِکَ فی دم أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، وابنته جعدة سمَّت الحسن(علیه السّلام) ، ومحمد ابنه شرک فی دم الحسین(علیه السّلام)) !!

ص: 343

ص: 344

الفصل الثامن : خلاصة حرب النهروان

اشارة

ص: 345

ص: 346

بذرة الخوارج وغرستهم وشجرتهم

اتفق الجمیع علی أن بذرة الخوارج هو حرقوص بن زهیر التمیمی ، الذی اعترض علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حنین ! وروی الجمیع قصته ، وعرف بإسم المخدَّج ، وذی الخُوَیْصرة ، وذی الثَّدِیة ، لأن إحدی یدیه کانت کثدی المرأة !

روی البخاری:4/179، عن أبی سعید الخدری قال: ( بینما نحن عند رسول الله (ص)وهو یقسم قسماً إذ أتاه ذو الخویصرة ، وهو رجل من بنی تمیم فقال: یا رسول الله (یامحمد) إعدل ! فقال: ویلک ومن یعدل إذا لم أعدل ! قد خبت وخسرت إن لم أکن أعدل ! فقال عمر: یا رسول الله إئذن لی فیه فأضرب عنقه ، فقال: دعه فإن له أصحاباً یحقر أحدکم صلاته مع صلاتهم وصیامه مع صیامهم ، یقرؤن القرآن لا یجاوز تراقیهم ، یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیة ، ینظر إلی نصله فلا یوجد فیه شئ ، ثم ینظر إلی رصافه فلا یوجد فیه شئ ، ثم ینظر إلی نضیه وهو قدحه فلا یوجد فیه شئ ، ثم ینظر إلی قذذه فلا یوجد فیه شئ ، قد سبق الفرث والدم . آیتهم رجل أسود غحدی عضدیه مثل ثدی المرأة أو مثل البضعة تدردر ، ویخرجون علی حین فرقة من الناس ! قال أبو سعید: فأشهد أنی سمعت هذا الحدیث من رسول الله(ص)وأشهد أن علی بن أبی طالب قاتلهم وأنا معه ، فأمر بذلک الرجل فالتمس فأتی به حتی نظرت إلیه علی نعت النبی(ص)الذی نعته) !

ورواه البخاری بنحوه فی مواضع متعددة ، ورواه غیره من رواتهم ورواتنا بتفاصیل أکثر ومدیح عظیم لمن یقتلهم ، ففی مجمع الزوائد:6/228: (عن شریک

ص: 347

بن شهاب قال کنت أتمنی أن ألقی رجلاً من أصحاب رسول الله(ص)یحدثنی عن الخوارج فلقیت أبا برزة فی یوم عرفة فی نفر من أصحابه ، فقلت یا أبا برزة حدثنا بشئ سمعته من رسول الله(ص)یقوله فی الخوارج . قال: أحدثک بما سمعت أذنایَ ورأت عینای: أُتِیَ رسول الله(ص)بدنانیر فکان یقسمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر علیه ثوبان أبیضان بین عینیه أثر السجود ، فتعرض لرسول الله(ص)فأتاه من قبل وجهه فلم یعطه شیئاً ، فأتاه من قبل یمینه فلم یعطه شیئاً ، ثم أتاه من خلفه فلم یعطه شیئاً ، فقال: والله یا محمد ما عدلت فی القسمة منذ الیوم ! فغضب رسول الله(ص)غضباً شدیداً ثم قال: والله لا تجدون بعدی أحداً أعدل علیکم منی قالها ثلاثاً ! ثم قال: یخرج من قبل المشرق رجال کأن هذا منهم هدیهم هکذا ، یقرؤون القرآن لایجاوز تراقیهم ، یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیة ، لا یرجعون إلیه ووضع یده علی صدره ، سیماهم التحلیق لا یزالون یخرجون حتی یخرج آخرهم ، فإذا رأیتموهم فاقتلوهم ! قالها ثلاثاً ، شر الخلق والخلیقة ، قالها ثلاثاً . وقال حماد لا یرجعون فیه ، وفی روایة لا یزالون یخرجون حتی یخرج آخرهم مع الدجال . رواه أحمد والأزرق بن قیس وثقة ابن حبان ، وبقیة رجاله رجال الصحیح). انتهی . (راجع فتح الباری:12/253) .

وفی الإرشاد:1/148: (ولما قسم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )غنائم حنین أقبل رجل طوال آدم أجنأ ، بین عینیه أثر السجود ، فسلم ولم یخص النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثم قال: قد رأیتک وما صنعت فی هذه الغنائم . قال: وکیف رأیت ؟ قال: لم أرک عدلت ! فغضب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقال: ویلک ! إذا لم یکن العدل عندی فعند من یکون ؟! فقال المسلمون: ألا نقتله؟ فقال: دعوه سیکون له أتباعٌ یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیة، یقتلهم الله علی ید أحب الخلق إلیه من بعدی. فقتله أمیر المؤمنین

ص: 348

علی بن أبی طالب(علیه السّلام)فی من قتل یوم النهروان من الخوارج ) .

ویظهر أن حرقوصاً أجاد العمل فی البصرة والأهواز وکرمان ، فصار له حزب وأتباع ، فقد ظهروا فی حرب الجمل عندما نادی منادی أمیر المؤمنین (علیه السّلام)بعد النصر: ( أن لایُقتل مدبرٌ ، ولا یُدفَّف علی جریح ، ولا یُکشف سترٌ ، ولا یُؤخذ مالٌ ، فقال قوم یومئذ: ما یُحلل لنا دماءهم ویحرم علینا أموالهم؟! فیومئذ تکلمت الخوارج ! وکان متکلمهم رجل إسمه عباد بن قیس ، قال: یا أمیر المؤمنین والله ما قسمتَ بالسویة ، ولاعدلتَ بالرعیة ! فقال: ولمَ ویحک ؟! قال: لأنک قسمت ما فی العسکر وترکت الأموال والنساء والذریة . فقال: أیها الناس من کانت به جراحة فلیداوها بالسمن ! (أی أعرض عنه ، وعلَّم المسلمین مداواة الجراحة) فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات! فقال له أمیر المؤمنین(علیه السّلام): إن کنت کاذباً فلا أماتک الله حتی یدرکک غلام ثقیف.... یا أخا بکر أنت أمرؤ ضعیف الرأی ، أوَما علمت أنا لا نأخذالصغیر بذنب الکبیر، وأن الأموال کانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا علی رشدة ، وولدوا علی فطرة ، وإنما لکم ما حوی عسکرهم ، وما کان فی دورهم فهو میراث ، فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن کف عنا لم نحمل علیه ذنب غیره... فمهلاً مهلاً رحمکم الله ، فإن لم تصدقونی وأکثرتم علیَّ ، وذلک أنه تکلم فی هذا غیر واحد ، فأیکم یأخذ عائشة بسهمه؟ فقالوا: یا أمیرالمؤمنین أصبت وأخطأنا وعلمت وجهلنا ، فنحن نستغفر الله تعالی) ! انتهی.

لکن حرقوصاً ، وعبَّاداً ، ومسعر بن فدکی ، وعبدالله بن وهب الراسبی ، وغیرهم من قیادات الخوارج ، لم یقتنعوا ! وواصلوا عملهم فی نشر أفکارهم ووجدوا أتباعاً علی شاکلتهم ، وکثروا فی البصرة والکوفة والأهواز ومناطق أخری ، یحملون أفکارهم العنیفة التی تُکفِّر من خالفهم ، ثم وصلوا الی تکفیر

ص: 349

أنفسهم ! وکانت صفین فرصة لهم لإعلان وجودهم کطائفة لها قادتها وجنودها ومنطقها الخشن ، ومیلها الدائم الی القتال وإثبات الذات ! وکانوا الجمهور الذین لعب بعقولهم الأشعث فی صفین ودفعهم الی مواجهة علی(علیه السّلام)فطالبوه أن یوقف القتال وقبول التحکیم والحکمین ، وإلا قتلوه أو سلموه الی معاویة !

لکنهم بعد توقیع وثیقة التحکیم التی أجبروا علیاً(علیه السّلام)علیها ، قلبوا موقفهم رأساً علی عقب ، وقالوا إنهم کفروا بقبولهم تحکیم الرجال فی دین الله ، وإنهم تابوا ورجعوا الی الإسلام ، وطلبوا من علی(علیه السّلام)وشیعته أن یعترفوا مثلهم علی أنفسهم بالکفر ، ویتوبوا لیصیروا مسلمین ! وتدل الروایة التالیة علی أن تغییر موقفهم حدث بعد توقیع الوثیقة مباشرة ، وأنهم واجهوا به صاحبهم وعرابهم الأشعث !

قال الطبری فی تاریخه:4/38: (خرج الأشعث بذلک الکتاب یقرؤه علی الناس ویعرضه علیهم فیقرؤنه ، حتی مرَّ به علی طائفة من بنی تمیم فیهم عروة بن أدیة وهو أخو أبی بلال ، فقرأه علیهم ، فقال عروة بن أدیة: تحکِّمون فی أمر الله عز وجل الرجال ! لاحُکْمَ إلا لله ، ثم شدَّ بسیفه فضرب به عجز دابته ضربةً خفیفة ، واندفعت الدابة وصاح به أصحابه: أن املک یدک ، فرجع فغضب للأشعث قومه وناسٌ کثیر من أهل الیمن ، فمشی الأحنف بن قیس السعدی ، ومعقل بن قیس الریاحی ، ومسعر بن فدکی ، وناس کثیر من بنی تمیم ، فتنصلوا إلیه واعتذروا فقبل وصفح) ! انتهی.

ویمکن أن نفسر هذا التغیر الحاد فی موقفهم ، بعد إصرارهم الحاد علی إیقاف الحرب والقبول بالتحکیم ، بأن (ماکنة) أذهانهم تعمل بشکل غیر متناسق ، فقد توصلت أذهانهم بعد خطبة الأشعث وتوجیه بعض رؤسائهم الی وجوب التحکیم ، ثم توصلت بتوجیه بعض رؤسائهم الی أن التحکیم کفرٌ محض !

ص: 350

کما یمکن أن نفسره بأن معاویة أرسل أموالاً الی الأشعث فوزع منها علی بعض رؤسائهم فوقفوا معه ، ثم غلب علی جوهم الرؤساء الذین لم یقبضوا ، وکان أکثرهم حماساً عروة بن أدیة التمیمی الذی صاح بشعار (لاحکم إلا لله) ونهض الی الأشعث لیقتله ! وهذا الذی أرجحه !

وقد وصف نصر بن مزاحم فی صفین ص517 ، سرعة تغیر موقفهم بعد إمضاء وثیقة الهدنة ، فقال:(فنادت الخوارج أیضاً فی کل ناحیة: لا حکم إلا الله ، لا نرضی بأن نحکم الرجال فی دین الله ، قد أمضی الله حکمه فی معاویة وأصحابه أن یقتلوا أو یدخلوا معنا فی حکمنا علیهم ، وقد کانت منا خطیئة وزلة حین رضینا بالحکمین ، وقد تبنا إلی ربنا ورجعنا عن ذلک ، فارجع کما رجعنا وإلا فنحن منک براء . فقال علی(علیه السّلام): ویحکم أبعد الرضا والعهد والمیثاق أرجع؟! أو لیس الله یقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاتَنْقُضُوا الإیمان بَعْدَ تَوْکِیدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَیْکُمْ کَفِیلاً إِنَّ اللهَ یَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . قال: فبرئوا من علی وشهدوا علیه بالشرک ، وبرئ علی منهم ) ! (راجع ایضاً کتاب صفین ص514 و518 ).

ص: 351

أهم صفات الخوارج وأفکارهم

یسهل علی المسلم المعاصر أن یفهم أفکار الخوارج ، لأنه شاهد ورثتهم المتطرفین السلفیین ! ورأی أن دینهم وسلوکهم یقوم علی (العیون الأربعة): العجب ، والعنف ، والعامیة ، والعشوائیة فی انتقاء أدلتهم المزعومة !

1 - فعامیتهم تظهر لک فی أنهم جمیعاً مجتهدون ! فهم یتکلمون فی المسائل ویفتون ، ویَحْطِبُ أحدهم من الکتاب والسنة وأقوال الرواة ما یتصور أنه یسند رأیه المتطرف ، فیفرح بذلک ویردده ، دون أن یتعمق وینظر إلی مجموع الآیات والأحادیث ، وآراء أهل العلم فی المسألة !

فباب الإجتهاد عندهم مفتوح لکل أحد ! وحتی نساؤهم تجتهد وتفتی فی الفقه والعقائد ، وتحکم بالکفر ، وتهدر الدماء ، وتبیح الأعراض !

وقد کان هذا الإفراط والتطرف هو السبب لما وقع بینهم من اختلاف وانشقاق وتکفیر بعضهم لبعض وتکاثر فرقهم باستمرار ! حتی زادت علی المئة !

ونلاحظ أنها زادت فی زمن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی العشرین ، شبیهاً بتکاثر فرقهم فی عصرنا الی أکثر من عشرین طائفة وحزب ومجموعة !

2 - ویتمثل العنف عندهم فی تکفیرهم لکل من خالفهم من المسلمین ، وهدرهم دمائهم ، وإباحتهم أعراضهم !

وأسباب التکفیر عندهم سهلة وکثیرة ! فیکفی أن تخالفهم فی تفسیر آیة ، أو فی رایهم بشخص ، حتی یکفروک ویهدروا دمک !

قال الطبری:4/60: ( فخرجت عصابة منهم فإذا هم برجل یسوق بامرأة علی حمار ، فعبروا إلیه فدعوه فتهددوه وأفزعوه ، وقالوا له: من أنت ؟ قال: أنا عبد الله

ص: 352

ابن خباب صاحب رسول الله(ص)ثم أهوی إلی ثوبه یتناوله من الأرض وکان سقط عنه لما أفزعوه ، فقالوا له: أفزعناک ؟ قال: نعم ، قالوا: له لا روع علیک فحدثنا عن أبیک بحدیث سمعه من النبی(ص)لعل الله ینفعنا به . قال: حدثنی أبی عن رسول الله(ص)أن فتنة تکون یموت فیها قلب الرجل کما یموت فیها بدنه یمسی فیها مؤمناً ویصبح فیها کافراً ، ویصبح فیها کافراً ویمسی فیها مؤمناً . فقالوا: لهذا الحدیث سألناک ، فما تقول فی أبی بکر وعمر؟ فأثنی علیهما خیراً قالوا: ما تقول فی عثمان فی أول خلافته وفی آخرها قال: إنه کان محقاً فی أولها وفی آخرها . قالوا: فما تقول فی علی قبل التحکیم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منکم وأشد توقیاً علی دینه وأنفذ بصیرة . فقالوا: إنک تتبع الهوی وتوالی الرجال علی أسمائها لا علی أفعالها ! والله لنقتلنک قتلةً ما قتلناها أحداً ! فأخذوه فکتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهی حبلی متمّ حتی نزلوا تحت نخل مواقر فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها فی فمه ، فقال أحدهم: بغیر حلها وبغیر ثمن ! فلفظها وألقاها من فمه ! ثم أخذ سیفه فأخذ یمینه ، فمر به خنزیر لأهل الذمة فضربه بسیفه ، فقالوا: هذا فساد فی الأرض ! فأتی صاحب الخنزیر فأرضاه من خنزیره ! فلما رأی ذلک منهم ابن خباب قال: لئن کنتم صادقین فیما أری فما علیَّ منکم بأس ، إنی لمسلم ما أحدثت فی الإسلام حدثاً ، ولقد آمنتمونی قلتم لاروع علیک ! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه وسال دمه فی الماء ! وأقبلوا إلی المرأة فقالت إنی إنما أنا امرأة ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها !

وقتلوا ثلاث نسوة من طیئ وقتلوا أم سنان الصیداویة ! فبلغ ذلک علیاً ومن معه من المسلمین من قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس ، فبعث إلیهم الحارث بن مرة العبدی لیأتیهم فینظر فیما بلغه عنهم ، ویکتب به إلیه علی وجهه ولا یکتمه ، فخرج حتی انتهی إلی النهر لیسائلهم فخرج القوم إلیه فقتلوه ! وأتی

ص: 353

الخبر أمیر المؤمنین والناس فقام إلیه الناس فقالوا: یا أمیر المؤمنین علامَ تدع هؤلاء وراءنا یخلفوننا فی أموالنا وعیالنا ، سر بنا إلی القوم فإذا فرغنا مما بیننا وبینهم سرنا إلی عدونا من أهل الشأم....

ثم جاء مقبلاً إلیهم ووافاه قیس وسعد بن مسعود الثقفی بالنهر ، وبعث إلی أهل النهر: إدفعوا إلینا قتلة إخواننا منکم نقتلهم بهم ، ثم أنا تارککم وکاف عنکم حتی ألقی أهل الشأم ، فلعل الله یقلب قلوبکم ویردکم إلی خیر مما أنتم علیه من أمرکم ، فبعثوا إلیه فقالوا: کلنا قتلتُهم ، وکلنا نستحل دماءهم ودماءکم )!! انتهی .

فقد رأینا أنهم لم یستوعبوا فی حرب الجمل التفریق بین جواز قتال البغاة ، وتحریم أموالهم إلا ما حواه معسکرهم ، فطالبوا أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بإباحة أموال أنصار عائشة ونساءهم ، لأن جواز قتالهم حسب فهمهم یستوجب إباحة نسائهم !

ورأینا أنهم کفَّروا الصحأبی عبد الله بن خباب(رحمه الله)لأنه خالف رأیهم فی علی(علیه السّلام) ولم یتبرأ منه ! ثم قتلوا امرأته وجنینها من شدة تقواهم !

ثم رأینا استحلالهم لدم علی(علیه السّلام)ودماء المسلمین الذین خالفوهم جمیعاً .

وفی نفس الوقت رأیناهم یحرمون علی أنفسهم التمرة الساقطة من النخلة ! ویحکمون علی صاحبهم بأنه مفسدٌ فی الأرض لأنه قتل خنزیراً اعترضه !

أما لماذا صار التکفیر عندهم سهلاً محبباً إلی قلوبهم کالماء البارد فی الصحراء القاحلة؟! فجوابه: أن الجماعة لشدة تقواهم یعیشون شوقاً قویاً إلی( الجهاد فی سبیل الله تعالی) والرواح الی الجنة ! وجهاد من خالفهم یتوقف علی تکفیرهم واستحلال قتلهم ! فهم مضطرون إلی ترتیب مواد (شرعیة) متعددة ، إذا انطبقت واحدة منها علی المسلم یصیر کافراً واجب القتل شرعاً ، ویکون قتاله جهاداً !!

وهذا نفس منهج خوارج عصرنا ، لافرق فیه إلا فی تغییر بعض مواد التکفیر !

ص: 354

3 - وتظهر لک عشوائیتهم ، من انتقائهم لعقائدهم وفتاواهم وأفکارهم ، فهم یبحثون عن أی شئ یوافق أمزجتهم المتطرفة ، فی أی مصدر من حدیث أو فقه أو تفسیر ، أو کلام شخص مهما کان ، فیأخذونه علماً ویزینونه لأنفسهم !

ویکفیک لذلک أن الأصل الذی قامت علیه دعوتهم کلها (لاحکم إلا لله) والذی صار شعارهم أخذوه من قوله تعالی: قُلْ إِنِّی عَلَی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی وَکَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِی مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُکْمُ إِلا للهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَیْرُ الْفَاصِلِینَ) (الأنعام:57).

وقوله تعالی: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُکْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلا إِیَّاهُ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ) (یوسف:40) .وقوله تعالی:(وَقَالَ یَا بَنِیَّ لاتَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِی عَنْکُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَئْ إِنِ الْحُکْمُ إِلا للهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَعَلَیْهِ فَلْیَتَوَکَّلِ الْمُتَوَکِّلُونَ) . (یوسف:67).

ففهموا من هذه الآیات أن تحکیم رجلین فی الحرب بین المسلمین کفرٌ ، ویجب علی المسلمین قتال من یفعله ! مع أن الله تعالی أمر بتحکیم شخصین بین الزوجین فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَیْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَکَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ یُرِیدَا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللهُ بَیْنَهُمَا إِنَّ اللهَ کَانَ عَلِیماً خَبِیراً). (النساء:35) .

وأمر بتحکیم شخصین فی تقدیر کفارة صید المحرم فقال: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاتَقْتُلُوا الصَّیْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْکُمْ متعمداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ یَحْکُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْکُمْ هَدْیاً بَالِغَ الْکَعْبَةِ أَوْ کَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاکِینَ أَوْ عَدْلُ ذَلِکَ صِیَاماً لِیَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَیَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِیزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة:95) ولکنهم کانوا وما زالوا عندما یصطدمون بآیات وأحادیث وأدلة تخالف آراءهم ، یعرضون عن نصها الصریح ویؤولونها ، ویتشبثون بمتشابهات تؤید آراءهم فی العنف والتکفیر والقتل والقتال !

ص: 355

4 - أما عجبهم بأنفسهم فهو الداءُ الدویُّ حسب تعبیر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وهو أصل بلائهم وأبرز(جینات)شخصیاتهم ! فهم من أبرز من قال الله تعالی فیهم: (إِنَّ الَّذِینَ یُجَادِلُونَ فِی آیَاتِ اللهِ بِغَیْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِی صُدُورِهِمْ إِلا کِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِیهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ). (غافر:56).

ویکفی دلیلاً علی ذلک أن حرقوصاً مؤسس مذهبهم واجه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حنین بمقولته المتکبرة: إعدل یامحمد ! أو : لم تعدل یامحمد! وفی روایة البخاری: 4/179: یا رسول الله إعدل ! ومعناها أنک لست عادلاً وأنا أعدل منک وآمرک أن تعدل ! وقد عرف الله تعالی رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأن مصیبة حرقوص هذا من عجبه بنفسه حتی انه لیری أنه أفضل من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والناس أجمعین !

ففی مسند أبی یعلی:1/90: (فبینما نحن نذکره إذ طلع الرجل قلنا: ها هو ذا ! قال(ص): إنکم لتخبرونی عن رجل إن علی وجهه سفعة من الشیطان ، فأقبل حتی وقف علیهم ولم یسلم ! فقال له رسول الله: أنشدتک بالله هل قلت حین وقفت علی المجلس: ما فی القوم أحد أفضل منی أو أخیر منی؟ قال: اللهم نعم !!

ثم دخل یصلی ! فقال رسول الله: من یقتل الرجل؟ فقال أبو بکر أنا ، فدخل علیه فوجده قائماً یصلی فقال: سبحان الله أقتل رجلاً یصلی وقد نهی رسول الله عن قتل المصلین ! فخرج ! فقال رسول الله: ما فعلت؟ قال: کرهت أن أقتله وهو یصلی وقد نهیت عن قتل المصلین ! قال عمر: أنا ، فدخل فوجده واضعاً وجهه فقال عمر: أبو بکر أفضل منی فخرج ! فقال رسول الله: مَهْ ؟ قال وجدته واضعاً وجهه فکرهت أن أقتله ! فقال: من یقتل الرجل؟ فقال علی: أنا ، قال: أنت إن أدرکته . قال فدخل علیٌّ فوجده قد خرج فرجع إلی رسول الله ، فقال: مه ؟ قال

وجدته قد خرج ! قال: لو قتل ما اختلف فی أمتی رجلان ،کان أولهم آخرهم .

ص: 356

قال موسی سمعت محمد بن کعب یقول: هو الذی قتله علی ذا الثدیة)! انتهی. (وهو حدیث موثق علی موازینهم رواه الدارقطنی:2/41 ، ومجمع الزوائد:6/ 226، وغیرهما).

فالذی یزاید علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی التدین ، ویری أنه أعدل منه وأفضل منه ! إنما هو صاحب مشروع دنیوی ، لا یعرف رباً ولا نبیاً إلا نفسه ! مهما ظهر تقیاً !

ولذلک کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ینصحهم بأن لا یقاتلوا من أجل الدنیا !

قال الطبری فی تاریخه:4/52: (أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائی وحرقوص بن زهیر السعدی فدخلا علیه فقالا له: لاحکم الا لله ! فقال علی: لا حکم إلا لله . فقال له حرقوص: تُبْ من خطیئتک وارجع عن قضیتک واخرج بنا إلی عدونا نقاتلهم حتی نلقی ربنا . فقال لهم علی: قد أردتکم علی ذلک فعصیتمونی وقدکتبنا بیننا وبینهم کتاباً وشرطنا شروطاً وأعطینا علیها عهودنا ومواثیقنا وقد قال الله عز وجل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاتَنْقُضُوا الإیمان بَعْدَ تَوْکِیدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَیْکُمْ کَفِیلاً إِنَّ اللهَ یَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ .

فقال له حرقوص: ذلک ذنب ینبغی أن تتوب منه ! فقال علی: ماهو ذنب ولکنه عجز من الرأی وضعف من الفعل ، وقد تقدمت إلیکم فیما کان منه ونهیتکم عنه . فقال له زرعة بن البرج: أما والله یا علیُّ لئن لم تدع تحکیم الرجال فی کتاب الله عز وجل قاتلتک أطلب بذلک وجه الله ورضوانه ! فقال له علی: بؤساً لک ما أشقاک کأنی بک قتیلاً تسفی علیک الریح ! قال: وددت أن قد کان ذلک !

فقال له علی: لو کنت محقاً کان فی الموت علی الحق تعزیةً عن الدنیا ! إن الشیطان قد استهواکم فاتقوا الله عز وجل ، إنه لاخیر لکم فی دنیاً تقاتلون علیها ! فخرجا من عنده یحکِّمان ). انتهی .

وللإمام الصادق(علیه السّلام)تعلیل عمیق لشجاعتهم ودعوتهم الی المبارزة ، فقد سأله

ص: 357

جمیل بن دراج هل یری أنهم شکاکٌ لایقین لهم ؟ فقال نعم . فقال بعض أصحابه: کیف وهم یدعون إلی البراز؟ قال: ذلک مما یجدون فی أنفسهم). (تهذیب الأحکام:6/145) . یقصد(علیه السّلام)أن ادعاءهم وتصورهم الخیالی عن أنفسهم ، وکبْرَهم الذی ماهم ببالغیه ، یولِّد فیهم مرکب نقص یدفعهم لإثبات أنهم علی یقین ! وقد ظهر ذلک فی رئیسهم ابن وهب الراسبی ، عندما دعا أصحابه الی بدء القتال ونادوا: (روحوا بنا رَوْحةً إلی الجنة . فقال عبد الله بن وهب الراسبی: لعلها رَوْحةٌ إلی النار ! قالوا: شککت ! قال: أتألون علی الله؟ فاعتزل منهم فروة بن نوفل الأشجعی بألف رجل ! فقال لهم أصحابهم: أشککتم؟ أما لو أن تبقی منا عصابة من بعدنا یدعون إلی أمرنا لبدأنا بکم).(شرح الأخبار:2/55).

إنها عقدة إثبات الذات بالمزایدة فی الدین حتی علی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )! ولایختلف المعاصرون منهم عن أسلافهم إلا بأن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیس حاضراً لیقف ضدهم ، فتظهر عند ذلک أضغانهم !

ص: 358

تحرکات الخوارج الی معرکة النهروان !

ظهر رئیسهم حرقوص فی عهد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حنین قرب الطائف ، ثم فی المدینة ، ثم سکن البصرة ، ثم کان من وفد البصرة المعترضین علی عثمان والمحاصرین له ، وبعد قتل عثمان عاد الی البصرة ، وعندما وصلت عائشة وطلحة والزبیر الی البصرة حاربهم مع حکیم بن جبلة دفاعاً عن البصرة !

وذلک فیما سمی معرکة الجمل الصغری ، قبل وصول أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، فقتل جیش عائشة کل المدافعین ما عدا حرقوص ، الذی هرب الی عشیرته بنی سعد !

قال الطبری فی تاریخه:3/487: (فکان حکیم بحیال طلحة ، وذریح بحیال الزبیر وابن المحرش بحیال عبد الرحمن بن عتاب ، وحرقوص بن زهیر بحیال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فزحف طلحة لحکیم وهو فی ثلثمائة رجل....

وقتل ذریح ومن معه ، وأفلت حرقوص بن زهیر فی نفر من أصحابه ، فلجأوا إلی قومهم ، ونادی منادی الزبیر وطلحة بالبصرة: ألا من کان فیهم من قبائلکم أحد ممن غزا المدینة فلیأتنا بهم ، فجئ بهم کما یجاء بالکلاب فقتلوا ، فما أفلت منهم من أهل البصرة جمیعاً إلا حرقوص بن زهیر ، فإن بنی سعد منعوه ! وکان من بنی سعد فمسهم فی ذلک أمر شدید ، وضربوا لهم فیه أجلاً ، وخشنوا صدور بنی سعد ، وإنهم لعثمانیة حتی قالوا: نعتزل !). انتهی.

أی أن بنی سعد حموْا حرقوصاً مع أنهم عثمانیون مع عائشة وطلحة ، وهددوا إن أصروا علی تسلیمه وقتله کالباقین أن لا یشارکوا فی الحرب مع عائشة !

وعندما وصل علی(علیه السّلام)الی البصرة لم یحارب حرقوص فی حرب الجمل مع بنی سعد الذین حموه ! بل شارک ضدهم مع علی(علیه السّلام) ! ثم کان مع علی(علیه السّلام)فی

ص: 359

حرب صفین ، ثم کان من قادة الخوارج الذین هددوا أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی قبول التحکیم ، ثم غیروا رأیهم بعد توقیع کتاب الهدنة !

وعندما رجعوا من صفین الی الکوفة مع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)اختلفوا هل یدخلون الی الکوفة أم یبقون فی معسکر خارجها ! فبقی بعضهم فی النخیلة وهی المعسکر العام لأهل الکوفة ، ونشطوا لأکثر من سنة فی تشکیل أنفسهم والدعوة الی مذهبهم ، وعملوا بکل وسیلة لإبطال الهدنة قبل موعد التحکیم ، لکنهم اصطدموا بإصرار أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی احترام عهده ، ولما أرسل أبا موسی الی التحکیم فی دومة الجندل ذهب بعضهم معه ، ورفضوا حیلة عمرو بن العاص فی التحکیم کغیرهم من المسلمین .

وکان المفترض فیهم أن یتفقوا مع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لأنه رفض مثلهم نتیجة التحکیم ودعا الی مواصلة قتال معاویة ، لکن ذلک لم یُرض(حضراتهم) حتی یشهد علی(علیه السّلام)والمسلمون علی أنفسهم بالکفر ویتوبوا مثلهم !!

وفی تلک الفترة اختارت طائفة منهم أن یتجمعوا فی قریة حروراء قرب الکوفة فسموا الحروریة ، وخرجت طائفة أخری من الکوفة راکبة رأسها تخبط الأرض! کما وصفها أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی حدیثه للیهودی عندما سأله عما امتحنه الله به فی حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وبعد وفاته ، وهو فی الخصال ص381 ، وسنورده إن شاء الله .

قال الطبری:4/46:(فنزل بها (حروراء) منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادی منادیهم إن أمیر القتال شبث بن ربعی التمیمی وأمیر الصلاة عبد الله بن الکواء الیشکری ، والأمر شوری بعد الفتح ، والبیعة لله عز وجل ، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ).

وقد أرسل الیهم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ابن عباس وذهب هو الیهم واحتج علیهم ،

ص: 360

ونورد فیما یلی بعض احتجاجه(علیه السّلام)من نهج البلاغة:2/7: (فإن أبیتم إلا أن تزعموا أنی أخطأت وضللت! فلم تضللون عامة أمة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بضلالی وتأخذونهم بخطئی وتکفرونهم بذنوبی؟! سیوفکم علی عواتقکم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم یذنب ! وقد علمتم أن رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )رجم الزانی المحصن ثم صلی علیه ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث میراثه أهله، وقطع السارق وجلد الزانی غیر المحصن ، ثم قسم علیهما من الفئ ونکحا المسلمات ، فأخذهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذنوبهم وأقام حق الله فیهم ، ولم یمنعهم سهمهم من الإسلام ولم یخرج أسماءهم من بین أهله....

وإنما حکم الحکمان لیحییا ما أحیا القرآن ویمیتا ما أمات القرآن ، وإحیاؤه الإجتماع علیه ، وإماتته الإفتراق عنه ، فإن جرَّنا القرآن إلیهم اتبعناهم ، وإن جرَّهم إلینااتبعونا ! فلم آت لا أباً لکم بَجْراً ، ولا ختلتکم عن أمرکم ولا لبَّسته علیکم ، إنما اجتمع رأی ملئکم علی اختیار رجلین أخذنا علیهما أن لایتعدیا القرآن فتاها عنه ، وترکا الحق وهما یبصرانه ، وکان الجور هواهما فمضیا علیه ! وقد سبق استثناؤنا علیهما فی الحکومة بالعدل ، والصمْد للحق ).

وقد تقدمت خطبته له(علیه السّلام)بعد التحکیم من نهج البلاغة:1/84 التی قال فیها:( أما بعد فإن معصیة الناصح الشفیق العالم المجرب تورث الحسرة ، وتعقب الندامة. وقد کنت أمرتکم فی هذه الحکومة أمری ، ونخلت لکم مخزون رأیی ، لو کان یطاع لقصیر أمر، فأبیتم علیَّ إباء المخالفین الجفاة والمنابذین العصاة ! حتی ارتاب الناصح بنصحه ، وضن الزند بقدحه ، فکنت وإیاکم کما قال أخو هوازن:

أمرتکم أمری بمُنْعَرج اللِّوی فلم تستبینوا النصح إلا ضحی الغد ) !!

وفی نهج البلاغة:1/235:(ومن کلام له(علیه السّلام)قاله للخوارج وقد خرج إلی معسکرهم وهم مقیمون علی إنکار الحکومة ، فقال(علیه السّلام): أکلُّکم شهد معنا صفین؟ فقالوا: منا من شهد ومنا من لم یشهد . قال: فامتازوا فرقتین ، فلیکن من شهد صفین فرقة ، ومن لم

ص: 361

یشهدها فرقة حتی أکلم کلاً بکلامه . ونادی الناس فقال: أمسکوا عن الکلام وأنصتوا لقولی وأقبلوا بأفئدتکم إلیَّ ، فمن نشدناه شهادة فلیقل بعلمه فیها .

ثم کلمهم(علیه السّلام) بکلام طویل ، منه: ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حیلة وغیلة ، ومکراً وخدیعة: إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراحوا إلی کتاب الله سبحانه ، فالرأی القبول منهم والتنفیس عنهم ، فقلت لکم: هذا أمر ظاهره إیمان وباطنه عدوان وأوله رحمة وآخره ندامة ، فأقیموا علی شأنکم ، والزموا طریقتکم ، وعضوا علی الجهاد بنواجذکم ، ولا تلتفتوا إلی ناعق نعق: إن أجیب أضل ، وإن ترک ذل .

وقد کانت هذه الفعلة وقد رأیتکم أعطیتموها ! والله لئن أبیتها ما وجبت علی فریضتها ولاحملنی الله ذنبها ، ووالله إن جئتها إنی للمحق الذی یتبع ، وإن الکتاب لمعی ما فارقته مذ صحبته ! فلقد کنا مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وإن القتل لیدور علی الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد علی کل مصیبة وشدة إلا إیماناً ومضیاً علی الحق ، وتسلیماً للأمر ، وصبراً علی مضض الجراح .

ولکنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا فی الإسلام علی مادخل فیه من الزیغ والإعوجاج والشبهة والتأویل . فإذا طمعنا فی خصلة یلمُّ الله بها شعثنا ونتدانی بها إلی البقیة فیما بیننا ، رغبنا فیها وأمسکنا عما سواها). انتهی .

وفیما یلی فقرات من تاریخ الطبری:4/54 ، فی تحرکاتهم الی معرکة النهروان:

(لما بعث أبا موسی لإنفاد الحکومة لقیت الخوارج بعضها بعضاً فاجتمعوا فی منزل عبد الله بن وهب الراسبی ، فحمد الله عبد الله بن وهب وأثنی علیه ، ثم قال: أما بعد فوالله ما ینبغی لقوم یؤمنون بالرحمن وینیبون إلی حکم القرآن ، أن یکون هذه الدنیا التی الرضا بها والرکون بها والإیثار إیاها عناء وتبار ، آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والقول بالحق . وإن من وضَرَ فإنه فی یُمْن ویُضَرُّ فی هذه الدنیا ، فإن ثوابه یوم القیامة رضوان الله عز وجل والخلود

ص: 362

فی جناته. فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القریة الظالم أهلها إلی بعض کور الجبال أو إلی بعض هذه المدائن ، منکرین لهذه البدع المضلة !

فقال له حرقوص بن زهیر: إن المتاع بهذه الدنیا قلیل ، وإن الفراق لهاوشیک ، فلا تدعونکم زینتها وبهجتها إلی المقام بها ، ولا تلفتنکم عن طلب الحق وإنکار الظلم ، فإن اللهَ مَعَ الَّذِینَ اتَّقَوْا وَالَّذِینَ هُمْ مُحْسِنُونَ .

فقال حمزة بن سنان الأسدی: یا قوم إن الرأی ما رأیتم ، فولوا أمرکم رجلاً منکم فإنه لابد لکم من عماد وسناد ، ورایة تحفون بها وترجعون إلیها .

فعرضوها علی زید بن حصین الطائی فأبی ، وعرضوها علی حرقوص بن زهیر فأبی ، وعلی حمزة بن سنان وشریح بن أوفی العبسی فأبیا ، وعرضوها علی عبدالله بن وهب فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة فی الدنیا ، ولا أدعها فرقاً من الموت ! فبایعوه لعشر خلون من شوال ، وکان یقال له ذو الثفنات !

ثم اجتمعوا فی منزل شریح بن أوفی العبسی فقال ابن وهب: إشخصوا بنا إلی بلدة نجتمع فیها لإنفاد حکم الله ، فإنکم أهل الحق . قال شریح نخرج إلی المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونُخرج منها سکانها ، ونبعث إلی إخواننا من أهل البصرة فیقدمون علینا . فقال زید بن حصین: إنکم إن خرجتم مجتمعین اتُّبِعتم ، ولکن أخرجوا وحداناً مستَخْفِین ، فأما المدائن فإن بها من یمنعکم ، ولکن سیروا حتی تنزلوا جسر النهروان ، وتکاتبوا إخوانکم من أهل البصرة . قالوا: هذا الرأی ، وکتب عبد الله بن وهب إلی من بالبصرة منهم یعلمهم ما اجتمعوا علیه ویحثهم علی اللحاق بهم ، وسیَّر

الکتاب إلیهم فأجابوه أنهم علی اللحاق به !

فلما عزموا علی المسیر تعبدوا لیلتهم وکانت لیلة الجمعة ویوم الجمعة ، وساروا یوم السبت ، فخرج شریح بن أوفی العبسی وهو یتلو قول الله تعالی:

ص: 363

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً یَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ .وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْیَنَ قَالَ عَسَی رَبِّی أَنْ یَهْدِیَنِی سَوَاءَ السَّبِیلِ ....

وسار جماعة من أهل الکوفة یریدون الخوارج لیکونوا معهم فردَّهم أهلوهم کرهاً ، منهم القعقاع بن قیس الطائی عم الطرماح بن حکیم ، وعبد الله بن حکیم بن عبد الرحمن البکائی ، وبلغ علیاً أن سالم بن ربیعة العبسی یرید الخروج فأحضره عنده ونهاه ، فانتهی .

ولما خرجت الخوارج من الکوفة أتی علیاً أصحابه وشیعته فبایعوه وقالوا: نحن أولیاء من والیت وأعداء من عادیت ، فشرط لهم فیه سنة رسول الله(ص)فجاءه ربیعة بن أبی شداد الخثعمی ، وکان شهد معه الجمل وصفین ومعه رایة خثعم ، فقال له: بایع علی کتاب الله وسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال ربیعة: علی سنة أبی بکر وعمر ! قال له علیٌّ: ویلک لو أن أبا بکر وعمر عملا بغیر کتاب الله وسنة رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یکونا علی شئ من الحق ! فبایعه ، فنظر إلیه علیٌّ وقال: أما والله لکأنی بک وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، وکأنی بک وقد وطئتک الخیل بحوافرها ! فقتل یوم النهر مع خوارج البصرة ! وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا فی خمسمائة رجل وجعلوا علیهم مسعر بن فدکی التمیمی ،فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلی فلحقهم بالجسر الأکبر فتواقفوا حتی حجز بینهم اللیل وأدلج مسعر بأصحابه وأقبل یعترض الناس وعلی مقدمته الأشرس بن عوف الشیبانی ، وسار حتی لحق بعبد الله بن وهب بالنهر .

لما خرجت الخوارج وهرب أبو موسی إلی مکة(بعد التحکیم وخوفه من غضب الناس علیه) قام(علی(علیه السّلام)) فی الکوفة فخطبهم فقال: الحمد لله وإن أتی الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجلیل... وقد تقدم بعضها من نهج البلاغة ، وزاد الطبری فیها:

ألا إن هذین الرجلین اللذین اخترتموها حکمین قد نبذا حکم القرآن وراء ظهورهما

ص: 364

وأحییا ما أمات القرآن ، واتبع کل واحد منهما هواه بغیر هدی من الله ، فحکما بغیر حجة بینة ولا سنة ماضیة ، واختلفا فی حکمهما وکلاهما لم یرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنین.إستعدوا وتأهبوا للسیر إلی الشام ، وأصبحوا فی معسکرکم إن شاء الله یوم الإثنین . ثم نزل وکتب إلی الخوارج بالنهر:

بسم الله الرحمن الرحیم . من عبد الله علی أمیر المؤمنین إلی زید بن حصین وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس . أما بعد ، فإن هذین الرجلین اللذین ارتضینا حکمهما قد خالفا کتاب الله واتبعا أهواءهما بغیر هدی من الله ، فلم یعملا بالسنة ولم ینفذا للقرآن حکماً، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون. فإذا بلغکم کتأبی هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلی عدونا وعدوکم ، ونحن علی الأمر الأول الذی کنا علیه والسلام .

وکتبوا إلیه: أما بعد فإنک لم تغضب لربک إنما غضبت لنفسک ، فإن شهدت علی نفسک بالکفر واستقبلت التوبة ، نظرنا فیما بیننا وبینک ، وإلا فقد نابذناک علی سواء إن الله لا یحب الخائنین ! فلما قرأ کتابهم أیس منهم ، فرأی أن یدعهم ویمضی بالناس إلی أهل الشأم حتی یلقاهم فیناجزهم....

ثم روی الطبری تباطأ أهل البصرة وأنه لم یلتحق منهم بمعسکرعلی(علیه السّلام)فی النخیلة إلا ثلاثة آلاف ومئتا نفر ، مع أن والیه ابن عباس حثهم !

ثم قال الطبری: (وبلغ علیاً أن الناس یقولون لو سار بنا إلی هذه الحروریة فبدأنا بهم فإذا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلک إلی المحلین ، فقام فی الناس فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أما بعد ، فإنه قد بلغنی قولکم لو أن أمیر المؤمنین سار بنا إلی هذه الخارجة التی خرجت علیه فبدأنا بهم فإذا فرغنا منهم وجهنا إلی المحلین ، وإن غیر هذه الخارجة أهم إلینا منهم ، فدعوا ذکرهم وسیروا إلی قوم یقاتلونکم کیما یکونوا جبارین ملوکاً ویتخذوا عباد الله خولا....

فبلغ ذلک علیاً ومن معه من المسلمین من قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم

ص: 365

الناس ، فبعث إلیهم الحارث بن مرة العبدی لیأتیهم فینظر فیما بلغه عنهم ، ویکتب به إلیه علی وجهه ولا یکتمه ، فخرج حتی انتهی إلی النهر لیسائلهم فخرج القوم إلیه فقتلوه ! وأتی الخبر أمیر المؤمنین والناس ، فقام إلیه الناس فقالوا: یا أمیر المؤمنین علامَ تدع هؤلاء وراءنا یخلفوننا فی أموالنا وعیالنا؟! سرْ بنا إلی القوم فإذا فرغنا مما بیننا وبینهم سرنا إلی عدونا من أهل الشام ، وقام إلیه الأشعث بن قیس الکندی فکلمه بمثل ذلک....

فنادی بالرحیل ، وخرج فعبر الجسر فصلی رکعتین بالقنطرة ، ثم نزل دیر عبد الرحمن ، ثم دیر أبی موسی ، ثم أخذ علی قریة شاهی ، ثم علی دباها ، ثم علی شاطئ الفرات.... وبعث إلی أهل النهر: إدفعوا إلینا قتلة إخواننا منکم نقتلهم بهم ، ثم أنا تارککم وکافٌّ عنکم حتی ألقی أهل الشام ، فلعل الله یقلب قلوبکم ویردکم إلی خیر مما أنتم علیه من أمرکم . فبعثوا إلیه فقالوا: کلنا قتلتهم ، وکلنا نستحل دماءهم ودماءکم !!... قیس بن سعد بن عبادة قال لهم: عباد الله أخرجوا إلینا طلبتنا منکم وادخلوا فی هذا الأمر الذی منه خرجتم ، وعودوا بنا إلی قتال عدونا وعدوکم ، فإنکم رکبتم عظیماً من الأمر: تشهدون علینا بالشرک والشرک ظلم عظیم ، وتسفکون دماء المسلمین ، وتعدُّونهم مشرکین !! فقال عبد الله بن شجرة السلمی: إن الحق قد أضاء لنا ، فلسنا نتابعکم أو تأتونا بمثل عمر ! فقال: ما نعلمه فینا غیر صاحبنا فهل تعلمونه فیکم؟! وقال: نشدتکم بالله فی أنفسکم أن تهلکوها فإنی لأری الفتنة قد غلبت علیکم ! وخطبهم أبو أیوب خالد بن زید الأنصاری فقال: عباد الله إنا وإیاکم علی الحال الأولی التی کنا علیها ، لیست بیننا وبینکم فرقة ، فعلامَ تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو بایعناکم الیوم حکَّمتم غداً ! قال: فإنی أنشدکم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما یأتی فی قابل !!

ص: 366

معرکة النهروان !

قال الطبری:4/62: عن زید بن وهب أن علیاً أتی أهل النهر ، فوقف علیهم فقال: أیتها العصابة التی أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدها عن الحق الهوی وطمح بها النزق ، وأصبحت فی اللبس والخطب العظیم ، إنی نذیرٌ لکم أن تصبحوا تُلفیکم الأمة غداً صرعی بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط ، بغیر بینة من ربکم ، ولا برهان بیِّن ! ألم تعلموا أنی نهیتکم عن الحکومة ، وأخبرتکم أن طلب القوم إیاها منکم دهن ومکیدة لکم ، ونبأتکم أن القوم لیسوا بأصحاب دین ولا قرآن ، وأنی أعرف بهم منکم ، عرفتهم أطفالاً ورجالاً ، فهم أهل المکر والغدر ، وأنکم إن فارقتم رأیی جانبتم الحزم ، فعصیتمونی ! حتی إذا أقررتُ بأن حکَّمت ، فلما فعلت شرطت واستوثقت ، فأخذت علی الحکمین أن یحییا ما أحیا القرآن ، وأن یمیتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حکم الکتاب والسنة ، فنبذنا أمرهما ونحن علی أمرنا الأول ، فما الذی بکم ومن أین أتیتم؟!

قالوا: إنا حکَّمنا فلما حکمنا وأثمنا وکنا بذلک کافرین ! وقد تُبنا فإن تُبت کما تبنا فنحن منک ومعک ، وإن أبیت فاعتزلنا فإنا منابذوک علی سواء ، إن الله لایحب الخائنین ! فقال علیٌّ: أصابکم حاصب ، ولا بقیَ منکم وابر ، أبعد إیمانی برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهجرتی معه وجهادی فی سبیل الله ، أشهد علی نفسی بالکفر ، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدین . ثم انصرف عنهم....

...أن علیاً قال لأهل النهر: یا هؤلاء إن أنفسکم قد سولت لکم فراق هذه الحکومة التی أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها کاره ، وأنبأتکم أن القوم سألوکموها مکیدة ودَهَناً ،

فأبیتم علیَّ إباء المخالفین ، وعدلتم عنی عدول النکداء العاصین ، حتی صرفت رأیی إلی رأیکم ، وأنتم والله معاشرُ أخفَّاءُ الهام سفهاء الأحلام ، فلم آت لا

ص: 367

أباً لکم حراماً . والله ما خبَلتکم عن أمورکم ولا أخفیت شیئاً من هذا الأمر عنکم ، ولا أوطأتکم عشوة ، ولا دنَّیت لکم الضراء ، وإن کان أمرنا لأمر المسلمین ظاهراً فأجمع رأی ملئکم علی أن اختاروا رجلین ، فأخذنا علیهما أن یحکما بما فی القرآن ولایعدواه ، فتاها وترکا الحق وهما یبصرانه ، وکان الجور هواهما ، وقد سبق استیثاقنا علیهما فی الحکم بالعدل والصَّمْد للحق ، بسوء رأیهما وجور حکمهما والثقة فی أیدینا لأنفسنا حین خالفا سبیل الحق وأتیا بما لا یعرف ، فبینوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار الناس رجلین أن تضعوا أسیافکم علی عواتقکم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفکون دماءهم ؟! إن هذا لهو الخسران المبین ! والله لو قتلتم علی هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ، فکیف بالنفس التی قتلها عند الله حرام ؟!

فتنادوا: لاتخاطبوهم ولاتکلموهم ، وتهیؤا للقاء الرب ! الرواح الرواح إلی الجنة ! فخرج علیٌّ فعبأ الناس ، فجعل علی میمنته حجر بن عدی ، وعلی میسرته شبث بن ربعی أو معقل بن قیس الریاحی ، وعلی الخیل أبا أیوب الأنصاری ، وعلی الرجالة أبا قتادة الأنصاری ، وعلی أهل المدینة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل ، قیس بن سعد بن عبادة . قال: وعبأت الخوارج فجعلوا علی میمنتهم زید بن حصین الطائی ، وعلی المیسرة شریح بن أوفی العبسی ، وعلی خیلهم حمزة بن سنان الأسدی ، وعلی الرجالة حرقوص بن زهیر السعدی .

قال: وبعث علیٌّ الأسود بن یزید المرادی فی ألفی فارس حتی أتی حمزة بن سنان وهو فی ثلثمائة فارس من خیلهم . ورفع علیٌّ رایة أمان مع أبی أیوب فناداهم أبو أیوب: من جاء هذه الرایة منکم ممن لم یَقتل ولم یَستعرض ، فهو آمن ، ومن انصرف منکم إلی الکوفة أو إلی المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصیب قتلة إخواننا منکم فی سفک دمائکم !

ص: 368

فقال فروة بن نوفل الأشجعی: والله ما أدری علی أی شئ نقاتل علیاً؟! لا أری إلا أن أنصرف حتی تنفذ لی بصیرتی فی قتاله أو اتباعه ! وانصرف فی خمسمائة فارس حتی نزل البندنیجین والدسکرة . وخرجت طائفة أخری متفرقین فنزلت الکوفة . وخرج إلی علی منهم نحو من مائة ، وکانوا أربعة آلاف .

فکان الذین بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفین وثمانمائة ، وزحفوا إلی علی وقدم علی الخیل دون الرجال ، وصفَّ الناس وراء الخیل صفین ، وصفَّ المرامیة أمام الصف الأول وقال لأصحابه: کفوا عنهم حتی یبدؤوکم ، فإنهم لو قد شدوا علیکم وجلهم رجال لم ینتهوا إلیکم إلا لاغبین ، وأنتم رادون حامون .

وأقبلت الخوارج.... ثم تنادوا الرواح الرواح إلی الجنة ، فشدوا علی الناس والخیل أمام الرجال ، فلم تثبت خیل المسلمین لشدتهم ، وافترقت الخیل فرقتین فرقة نحو المیمنة وأخری نحو المیسرة ، وأقبلوا نحو الرجال ، فاستقبلت المرامیة وجوههم بالنبل ، وعطفت علیهم الخیل من المیمنة والمیسرة ، ونهض إلیهم الرجال بالرماح والسیوف ، فوالله ما لبثوهم أن أناموهم .

ثم إن حمزة بن سنان صاحب خیلهم لما رأی الهلاک نادی أصحابه أن أنزلوا فذهبوا لینزلوا ، فلم یتقارُّوا حتی حمل علیهم الأسود بن قیس المرادی ، وجاءتهم الخیل من نحو علی ، فأهمدوا فی الساعة....

حدثنی عبد الملک بن أبی حرة أن علیاً خرج فی طلب ذی الثدیة ، ومعه سلیمان بن ثمامة الحنفی أبو جبرة ، والریان بن صبرة بن هوذة ، فوجده الریان بن صبرة بن هوذة فی حفرة علی شاطئ النهر فی أربعین أو خمسین قتیلاً . قال فلما استخرج نظر إلی عضده فإذا لحم مجتمع علی منکبه کثدی المرأة له حلمة علیها شعرات سود ، فإذا مدت امتدت حتی تحاذی طول یده الأخری ، ثم تترک

ص: 369

فتعود إلی منکبه کثدی المرأة ، فلما استخرج قال علی: الله أکبر ، والله ما کَذبت ولا کُذِّبت ! أما والله لولا أن تنکلوا عن العمل لأخبرتکم بما قضی الله علی لسان نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لمن قاتلهم مستبصراً فی قتالهم ، عارفاً للحق الذی نحن علیه !

قال: ثم مرًّ وهم صرعی فقال: بؤساً لکم لقد ضرکم من غرکم ! فقالوا یا أمیر المؤمنین من غرهم؟ قال: الشیطان وأنفسٌ بالسوء أمارة غرتهم بالآمانی ، وزینت لهم المعاصی ، ونبأتهم أنهم ظاهرون !...

قال: وطلب من به رمق منهم فوجدناهم أربعمائة رجل ، فأمر بهم علیٌّ فدفعوا إلی عشائرهم وقال: إحملوهم معکم فداووهم فإذا برئوا فوافوا بهم الکوفة ، وخذوا ما فی عسکرهم من شئ ، قال: وأما السلاح والدواب وما شهدوا به علیه الحرب فقسَّمه بین المسلمین ، وأما المتاع والعبید والإماء ، فإنه حین قدم رده علی أهله !

وطلب عدی بن حاتم ابنه طرفة فوجده فدفنه ، ثم قال: الحمد لله الذی ابتلانی بیومک علی حاجتی إلیک ). انتهی

وقد اختصر الطبری المعرکة ، واختصرناها منه ، وقد روت المصادر نقاطاً مهمة ومفیدة ، وهذه نماذج منها :

تهیَّب المسلمون أن یقاتلوا الخوارج بسبب مظهرهم الخادع ، وقداستهم المزیفة ! فظاهرهم الصلاح وأنهم عُبَّادٌ وقرَّاء قرآن ، وأهل تدیُّن وتنسُّک ! فلم یکن باستطاعة أحد أن یسفک دم هذه القداسة المزیفة إلا صاحب القداسة الحقیقیة علی(علیه السّلام)، المشهود له من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بمعجزاته التی رآها منه المسلمون فی فتنة الخوارج وغیرها ، فخشعوا لها وکبروا ، ومنها هذا النموذج:

فی مجمع الزوائد:6/241: (عن جندب قال: لما فارقَتِ الخوارج علیاً خرج فی طلبهم وخرجنا معه ، فانتهینا إلی عسکر القوم وإذا لهم دویٌّ کدوی النحل من

ص: 370

قراءة القرآن ، وإذا فیهم أصحاب الثفنات وأصحاب البرانس ، فلما رأیتهم دخلنی من ذلک شدة ، فتنحیت فرکزت رمحی ونزلت عن فرسی ووضعت برنسی فنثرت علیه درعی ، وأخذت بمقود فرسی فقمت أصلی إلی رمحی ،وأنا أقول فی صلاتی: اللهم إن کان قتال هؤلاء القوم لک طاعة فائذن لی فیه ، وإن کان معصیة فأرنی براءتک ! قال: فأنا کذلک إذ أقبل علی بن أبی طالب علی بغلة رسول الله(ص)فلما حاذانی قال: تعوَّذ بالله ، تعوَّذ بالله یا جندب من شر الشک ! فجئت أسعی إلیه ونزل فقام یصلی ، إذ أقبل رجل علی برذون یقرب به ، فقال یا أمیر المؤمنین؟ قال: ما شأنک؟ قال ألک حاجة فی القوم؟ قال: وما ذاک ؟ قال: قد قطعوا النهر . قال: ما قطعوه ! قلت: سبحان الله !

ثم جاء آخر أرفع منه فی الجری فقال یا أمیر المؤمنین؟ قال: ما تشاء ؟ قال ألک حاجة فی القوم؟ قال: وما ذاک؟ قال: قد قطعوا النهر فذهبوا . قلت: الله أکبر . قال علیٌّ: ما قطعوه ، ثم جاء آخر یستحضر بفرسه فقال یا أمیر المؤمنین؟ قال: ما تشاء ؟ قال ألک حاجة فی القوم قال: وما ذاک ؟ قال: قد قطعوا النهر . قال: ما قطعوه ولا یقطعونه ولیقتلن دونه ، عهدٌ من الله ورسوله ! قلت: الله أکبر ، ثم قمت فأمسکت له بالرکاب فرکب فرسه ، ثم رجعت إلی درعی فلبستها ، والی قوسی فعلقتها وخرجت أسایره ، فقال لی: یا جندب ، قلت لبیک یا أمیر المؤمنین قال: أما أنا فأبعث إلیهم رجلاً یقرأ المصحف یدعو إلی کتاب الله ربهم وسنة نبیهم فلا یقبل علینا بوجهه حتی یرشقوه بالنبل ! یا جندب أما إنه لا یقتل منا عشرة ولا ینجو منهم عشرة ! فانتهینا إلی القوم وهم فی معسکرهم الذی کانوا فیه لم یبرحوا ! فنادی علی فی أصحابه فصفَّهم ، ثم أتی الصف من رأسه ذا إلی رأسه ذا مرتین

وهو یقول: من یأخذ هذا المصحف فیمشی به إلی هؤلاء القوم فیدعوهم إلی کتاب

ص: 371

الله ربهم وسنة نبیهم وهو مقتول وله الجنة ؟ فلم یجبه إلا شاب من بنی عامر بن صعصعة ، فلما رأی علی حداثة سنه قال له: إرجع إلی موقفک ، ثم نادی الثانیة فلم یخرج إلیه إلا ذلک الشاب ، ثم نادی الثالثة فلم یخرج إلیه الا ذلک الشاب ، فقال له علیٌّ: خذ ، فأخذ المصحف فقال له: أما إنک مقتولٌ ولست مقبلاً علینا بوجهک حتی یرشقوک بالنبل ! فخرج الشاب بالمصحف إلی القوم فلما دنا منهم حیث یسمعون ، قاموا ونشبوا الفتی قبل أن یرجع ! قال: فرماه إنسان فأقبل علینا بوجهه فقعد فقال علیٌّ: دونکم القوم ! قال جندب فقتلت بکفی هذه بعد ما دخلنی ما کان دخلنی ثمانیة قبل أن أصلی الظهر ، وما قتل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة کما قال ! رواه الطبرانی فی الأوسط من طریق أبی السابغة عن جندب ، ولم أعرف أبا السابغة ، وبقیة رجاله ثقات ). انتهی

فی تاریخ بغداد:14/368: (فقال علی لأصحابه: لاتبدؤوهم . قال فبدأ الخوارج فرموا فقیل یا أمیر المؤمنین قد رموا ، قال فأذن لهم بالقتال . قال: فحملت الخوارج علی الناس حملة حتی بلغوا منهم شدة ، ثم حملوا علیهم الثانیة فبلغوا من الناس أشد من الأولی ، ثم حملوا الثالثة حتی ظن الناس أنها الهزیمة . قال: فقال علیٌّ: والذی فلق الحبة وبرأ النسمة لایقتلون منکم عشرة ولا یبقی منهم عشرة . قال: فلما سمع الناس ذلک حملوا علیهم) .

فی مناقب آل أبی طالب:2/371: (فلما أتاهم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فاستعطفهم فأبوا إلا قتاله ، وتنادوا أن دعوا مخاطبة علی(علیه السّلام)وأصحابه وبادروا الجنة ، وصاحوا الرواح الرواح إلی الجنة ، وأمیر المؤمنین یعبئ أصحابه ، ونهاهم أن یتقدم إلیهم أحد ، فکان أول من خرج أخنس بن العیزار الطائی فقتله أمیر المؤمنین(علیه السّلام).....

ص: 372

وخرج إلی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الوضاح بن الوضاح من جانب وابن عمه حرقوص من جانب ، فقتلَ الوضاح ، وضرب ضربةً علی رأس الحرقوص فقطعه ، ووقع رأس سیفه علی الفرس فشرد ورجله فی الرکاب ، حتی أوقعه فی دولاب ).

وفی شرح النهج:2/276: (قال علیٌّ: نقتل الیوم أربعة آلاف من الخوارج ، أحدهم ذو الثدیة ، فلما طُحن القوم ورام استخراج ذا الثدیة ، أمرنی أن أقطع له أربعة آلاف قصبة ، ورکب بغلة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقال: إطرح علی کل قتیل منهم قصبة فلم أزل کذلک وأنا بین یدیه وهو راکب خلفی ، والناس یتبعونه حتی بقیت فی یدی واحدة ، فنظرت إلیه وإذا وجهه ارْبَدَّ وإذا هو یقول: والله ما کذبتُ ولا کُذِّبت ، فإذا خریر ماء عند موضع دالیة فقال: فتش هذا ، ففتشته فإذا قتیل قد صار فی الماء ، وإذا رجله

فی یدی فجذبتها وقلت: هذه رجل إنسان ، فنزل عن البغلة مسرعاً ، فجذب الرجل الأخری وجررناه ، حتی صار علی التراب ، فإذا هو المخدج ! فکبر علیٌّ بأعلی صوته ثم سجد ، فکبَّر الناس کلهم ).

قال الیعقوبی:2/193: (فرجع یومئذ من الخوارج ألفان وأقام أربعة آلاف ، والتحمت الحرب بینهم مع زوال الشمس فأقامت مقدار ساعتین من النهار ، فقتلوا من عند آخرهم وقتل ذو الثدیة ، ولم یفلت من القوم إلا أقل من عشرة ، ولم یقتل من أصحاب علی إلا أقل من عشرة . وکانت وقعة النهروان سنة 39 ).

وقال الیعقوبی فی تاریخه:2/193: (ولما قدم علی الکوفة(بعد النهروان)قام خطیباً فقال بعد حمد الله والثناء علیه والتذکیر لنعمه والصلاة علی محمد وذکره بما فضله الله به: أما بعد أیها الناس فأنا فقأت عین الفتنة ولم یکن لیجترئ علیها أحد

ص: 373

غیری ، ولو لم أکن فیکم ما قوتل الناکثون ولا القاسطون ولا المارقون ، ثم قال: سلونی قبل أن تفقدونی فإنی عن قلیل مقتول فما یحبس أشقاها أن یخضبها بدم أعلاها ! فوالذی فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألونی عن شئ فیما بینکم وبین الساعة ، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدی مائة ، إلا أنبأتکم بناعقها وقائدها وسائقها إلی یوم القیامة ).

فی کتاب علی والخوارج:1/200:(یقال إن هؤلاء الذین أفلتوا من القتل کانوا تسعة ، وقد أصبحوا بذرات أخری للخوارج فی مناطق عدیدة فیما بعد.. فقد سار منهم رجلان إلی سجستان ، ورجلان إلی عمان ، ورجلان إلی الیمن ، ورجلان إلی ناحیة الجزیرة ، ورجل إلی تل مورون فی الیمن ، ف-الخوارج فی هذه البلاد من أتباع هؤلاء.(راجع: الملل والنحل:1/117 والفرق ص80 و81 والفتوح لابن أعثم:4/132)....

فاختلط القوم ، فلم تکن إلا ساعة حتی قتلوا بأجمعهم وکانوا أربعة آلاف ، فما فلت منهم إلا تسعة نفر . فهرب منهم رجلان إلی خراسان إلی أرض سجستان وفیها نسلهما إلی الساعة ، ورجلان صارا إلی بلاد الجزیرة إلی موضع یقال له سوق التوریخ ، وإلی شاطئ الفرات ، فهناک نسلهما إلی الساعة . وصار رجل إلی تلّ یقال له: تل موزن). (الفتوح لابن أعثم:4/132).

ص: 374

عائشة تروی أن علیاً(علیه السّلام)أفضل الأمة !

فرح المسلمون بالآیات والمعجزات التی رأوها من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی أمر الخوارج ، وخاصة بمقتل حرقوص بن زهیر ، أو المخدج ، أو ذی الخویصرة ، أو ذی الثدیة ، أو ذی الثندوة ، أو سفعة الشیطان ، أو شیطان الردهة ، أو شیطان الوهدة ، وکلها أسماء لحرقوص الذی کانوا رووا حدیثه عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأنه وحزبه (شرُّ الخلق والخلیقة) ! لکن بقی النصف الآخر من الحدیث وأنه (یقتلهم خیر الخلق بعدی ، أو خیر الخلق والخلیقة وأقربهم الی الله وسیلة) ! فقد غصَّ به رواة الخلافة القرشیة وتحیروا به؟! فکیف یعترفون لعلی(علیه السّلام) بأنه خیر الخلق بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فیُدینون السقیفة وما تعبت قریش علی إشاعته من أن أبا بکر وعمر وعثمان خیر الخلق بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟! لکنهم فی نفس الوقت یحتاجون الی هذا الحدیث فی شرعیة قتال الخوارج ، لیکون حجة لمعاویة ومن بعده فی قتالهم إیاهم ! لهذا السبب ، صرتَ تجد العجائب فی مصادرهم !

فبعضهم یروی الحدیث ، ویحذف نصفه الأخیر !

وبعضهم یستبدل آخره بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال:(طوبی لمن قتلهم) !

وبعضهم یستبدله بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: (تقتلهم أقرب الطائفتین الی الحق) !

وبعضهم یبدل کلمة: خیر الخلق بخیار الخلق ، حتی لاتختص بعلی(علیه السّلام)!

وبعضهم یروی أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وصف عبد الله بن مسعود بأنه أقرب الخلق وسیلة الی الله ! فلیس هذا الوصف لعلی(علیه السّلام) ، أو لیس مختصاً به !

أما مَن یرویه کاملاً ، فتراه یُعْمِلُ معوله فی تأویله لیفرغه من معناه !

وقد شاء الله تعالی أن تروی عائشة هذا الحدیث کاملاً ! وأن یکون السبب أن عمرو بن العاص کذب علیها فکتب لها أنه هو قتل ذا الثدیة بمصر ولیس علیاً ! ففی شرح النهج:2/268: (وفی کتاب صفین أیضاً للمدائنی عن مسروق ، أن

ص: 375

عائشة قالت له لما عرفت أن علیاً قتل ذا الثدیة: لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه کتب إلیَّ یخبرنی أنه قتله بالإسکندریة ! ألا أنه لیس یمنعنی ما فی نفسی أن أقول ما سمعته من رسول الله (ص)یقول: یقتله خیر أمتی من بعدی).

وفی فتح الباری:12/253: (وعند البزار من طریق الشعبی عن مسروق عن عائشة قالت: ذکر رسول الله(ص)الخوارج فقال هم شرار أمتی یقتلهم خیار أمتی وسنده حسن . وعند الطبرانی من هذا الوجه مرفوعاً هم شر الخلق والخلیقة یقتلهم خیر الخلق والخلیقة . وفی حدیث أبی سعید عند أحمد: هم شر البلیة !).

وقد نقل فی شرح النهج:2/267، عن مسند أحمد ، أی عن نسخة أحمد فی القرن السابع ، عن مسروق قال قالت لی عائشة: إنک من وُلدی ومن أحبهم إلیَّ فهل عندک علم من المخدج؟ فقلت: نعم

قتله علی بن أبی طالب علی نهر یقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان ، بین لخافیق وطرفاء ، قالت: أبغنی علی ذلک بینة ، فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلک ، قال: فقلت لها: سألتک بصاحب القبر ما الذی سمعت من رسول الله (ص)فیهم؟ فقالت: نعم سمعته یقول: إنهم شر الخلق والخلیقة ، یقتلهم خیر الخلق والخلیقة ، وأقربهم عند الله وسیلة ). انتهی .

ولا وجود له فی نسخة أحمد فی عصرنا ! فربما حذفوه منها ! ولعل أحمد رواه فی غیر المسند . (ورواه القاضی النعمان فی شرح الاخبار:1/141، عن مسروق عن عائشة ، ومحمد بن سلیمان فی المناقب:2/534 ، والشریف المرتضی فی تنزیه الأنبیاء(علیهم السّلام) ص202 ).

وقال الصدوق فی علل الشرائع:1/222: (وهذا سعد بن أبی وقاص لما أنهیَ إلیه أن علیاً صلوات الله علیه قتل ذا الثدیة ، أخذه ما قدم وما أخر ، وقلِق ونزِق ، وقال: والله لو علمت أن ذلک کذلک لمشیت إلیه ولو حبواً ) . انتهی .

(راجع کتاب علی(علیه السّلام)والخوارج للسید جعفر مرتضی:1/241، فصل: موقف عائشة من الخوارج. وکتابنا العقائد الإسلامیة :4/344 ، عنوان: علی(علیه السّلام)أقرب الخلق الی الله وسیلة ).

ص: 376

الخوارج بعد النهروان

قال السید جعفر مرتضی فی کتاب علی والخوارج: (إن هناک أقواماً من الناس قد یکون أکثرهم من أولئک الذین استأمنوا فی النهروان ، أو أنهم رجعوا بسبب احتجاجات علی(علیه السّلام)وأصحابه علیهم ، أو ممن یشبهون الخوارج فی عقلیاتهم ، ونظرتهم إلی الأمور..إن هذه الجماعات والأقوام قد جنح بهم شذوذهم وجهلهم وحماسهم الأعمی إلی أن یغامروا بحیاتهم وبمستقبلهم ، فیعلنوا العصیان ، ویخرجوا عن الطاعة ، فکانت لهم بعد النهروان خَرْجات علی الإمام (علیه السّلام)فی شراذم قلیلة ، فی بضعة مئات ، أو أقل أو أکثر ، وخرج فی بعضها علیه ألفان منهم.. فکان یقضی علی تلک الحرکات الواحدة تلو الأخری بیسر وسهولة.. فخرجوا علیه بالإضافة الی النخیلة فی: الأنبار ، وماسندان ، وجرجرایا ، والمدائن وسواد الکوفة. (راجع الفرق بین الفرق ص81، ومقالات الإسلامیین:1/195/196 وتاریخ ابن خلدون:3/142 والکامل لابن الأثیر:2/372/373 وغیر ذلک) . وحین خرج أبو مریم وظفر بهم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فآمن خمسین رجلاً منهم استأمنوا ، وقتل سائرهم) (راجع أنساب الأشراف بتحقیق المحمودی:2/486). انتهی .

ص: 377

آخر خارجة علی أهل البیت(علیهم السّلام) فی منطقة النهروان !

من أحادیث الملاحم ما رواه ابن أبی شیبة فی مصنفه:8/673: (عن عبید الله بن بشیر بن جریر البجلی قال قال علی: إن آخر خارجة تخرج فی الإسلام بالرمیلة رمیلة الدسکرة ، فیخرج إلیهم ناس فیقتلون منهم ثلثاً ، ویدخل ثلث ، ویتحصن ثلث فی الدیر دیر مرمار ، فمنهم الأشمط ، فیحضرهم الناس فینزلونهم فیقتلونهم فهی آخر خارجة تخرج فی الإسلام ). انتهی . ( وعنه فی کنز العمال:11،260)

وأصل هذا الحدیث أن هذه الخارجة تکون علی الإمام المهدی(علیه السّلام) ، وقد روت أحادیثها مصادرنا:

منها هذا الحدیث فی مروج الذهب:2/418: ( ثم رکب ومر بهم وهم صرعی ، فقال: لقد صرعکم من غرکم ، قیل ومن غرهم ؟ قال: الشیطان وأنفس السوء ، فقال أصحابه: قد قطع الله دابرهم إلی آخر الدهر ، فقال: کلا والذی نفسی بیده ، وإنهم لفی أصلاب الرجال وأرحام النساء ، لا تخرج خارجة إلا خرجت بعدها مثلها ، حتی تخرج خارجة بین الفرات ودجلة مع رجل یقال له الأشمط ، یخرج إلیه رجل منا أهل البیت فیقتله ، ولا تخرج بعدها خارجة إلی یوم القیامة). انتهی.

والأشمط: من خالط بیاض رأسه سواد ، وقد تقال للطویل .

وفی بصائر الدرجات ص336 ، عن یونس بن ظبیان عن الإمام الصادق(علیه السّلام): (أول خارجة خرجت علی

موسی بن عمران بمرج دابق وهو بالشام ، وخرجت علی المسیح بحران ، وخرجت علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) بالنهروان ، وتخرج علی القائم بالدسکرة دسکرة الملک . ثم قال لی: کیف مالح دیر بین ماکی مالح ، یعنی عند قریتک وهو بالنبطیة ، وذاک أن یونس کان من قریة دیر بین ما . یقال: الدسکرة

ص: 378

التی عند دیر بین ما ). انتهی . ولعله سقط من هذا الحدیث وصفهم بأنهم آخر خارجة . ودسکرة الملک من توابع النهروان قرب شهرابان ، من محافظة بعقوبة .

وفی الأنساب للسمعانی:2/476: (یقال لها دسکرة الملک ، وهی قریة کبیرة تنزلها القوافل ، نزلت بها فی التوجه والانصراف وبت بها لیلتین) .

وفی معجم البلدان:2/455: (والدسکرة أیضاً: قریة فی طریق خراسان قریبة من شهرابان ، وهی دسکرة الملک ، کان هرمز بن سابور بن أردشیر بن بابک یکثر المقام بها فسمیت بذلک ) .

وفی معجم البلدان:5/324: ( نهروان: وأکثر ما یجری علی الألسنة بکسر النون ، وهی ثلاثة نهروانات: الأعلی والأوسط والأسفل ، وهی کورة واسعة بین بغداد وواسط من الجانب الشرقی حدها الأعلی متصل ببغداد وفیها عدة بلاد متوسطة، منها: إسکاف وجرجرایا والصافیة ودیر قنی ، وغیر ذلک ، وکان بها وقعة لأمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب رضی الله عنه مع الخوارج مشهورة ، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب ، فمن کان من مدنها نسب إلی مدینة ومن کان من قراها الصغار نسب إلی الکورة ، وهو نهر مبتدؤه قرب تامرا أو حلوان ، فإنی لا أحققه ولم أر أحداً ذکره ، وهو الآن خراب ومدنه وقراه تلال یراها الناس بها والحیطان قائمة ، وکان سبب خرابه اختلاف السلاطین وقتال بعضهم بعضاً فی أیام السلجوقیة ، إذ کان کل من ملک لایحتفل بالعمارة إذ کان قصده أن یحوصل ویطیر (یجمع الحاصل قبل أن یعزل)! وکان أیضاً فی ممر العساکر فجلا عنه أهله واستمر خرابه ، وقد استشأم الملوک أیضاً من تجدید حفر نهره ، وزعموا أنه ما شرع فیه أحد إلا مات قبل تمامه ، وکان قد شرع فیه نهروان الخادم وغیره فمات وبقی علی حاله ، وکان من أجمل نواحی بغداد وأکثرها دخلاً ، وأحسنها منظراً ، وأبهاها مخبراً ).

ص: 379

وفی معجم البلدان:1/181:(کان قد انسد نهر النهروان واشتغل الملوک عن إصلاحه وحفره باختلافهم ، وتطرقها عساکرهم ، فخربت الکورة بأجمعها ) !!

أقول: إن لله تعالی أسراراً کثیرة فی أحداث الماضی وأماکنها ، وأحداث المستقبل وأماکنها ، نعرف أصل وجود الحکمة والسر ولا نعرف تفصیلها ، ویبدو منها أن هناک دورة فی التاریخ کدورة تأسیس القدس وإعادة الکعبة الشریفة علی ید إبراهیم(علیه السّلام)، مقدمة لبعثة نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ودورة عودة العراق بعد نوح وإبراهیم(علیهماالسّلام)الی عاصمة الإسلام علی ید علی(علیه السّلام) ، ثم الوعد الإلهی بأن یکون العراق

عاصمة العالم علی ید الإمام المهدی(علیه السّلام) ، وأن یکون یخر الخوارج علیه فی نفس المکان الذی کان الخوارج علی علی(علیه السّلام)!

هذا ، وتوجد روایة أخری تذکر أن آخر خارجة علی الإمام المهدی(علیه السّلام) تکون فی الکوفة ، ففی تفسیر العیاشی:2/56 ، عن عبد الأعلی الحلبی ، عن الإمام الباقر(علیه السّلام)من حدیث طویل: ( والله لکأنی أنظر إلیه وقد أسند ظهره إلی الحجر ، ثم ینشد الله حقه ثم یقول: یا أیها الناس من یحاجنی فی الله فأنا أولی الناس بالله ومن یحاجنی فی آدم فأنا أولی الناس بآدم ، یا أیها الناس من یحاجنی فی نوح فانا أولی الناس بنوح ، یا أیها الناس من یحاجنی فی إبراهیم فأنا أولی بإبراهیم ، یا أیها الناس من یحاجنی فی موسی فأنا أولی الناس بموسی ، یا أیها الناس من یحاجنی فی عیسی فأنا أولی الناس بعیسی ، یا أیها الناس من یحاجنی فی محمد فأنا أولی الناس بمحمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، یا أیها الناس من یحاجنی فی کتاب الله فأنا أولی بکتاب الله ، ثم ینتهی إلی المقام.... قال أبو جعفر(علیه السّلام): یقاتلون والله حتی یوحد الله ولا یشرک به شیئاً ، وحتی تخرج العجوز الضعیفة من المشرق ترید المغرب ولا ینهاها أحد ، ویخرج الله من الأرض بذرها ، وینزل من السماء قطرها.....

ص: 380

فبینا صاحب هذا الأمر قد حکم ببعض الأحکام وتکلم ببعض السنن ، إذ خرجت خارجة من المسجد یریدون الخروج علیه ، فیقول لأصحابه: انطلقوا فتلحقوا بهم فی التمارین فیأتونه بهم أسری لیأمر بهم فیذبحون ، وهی آخر خارجة تخرج علی قائم آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )) . انتهی .

ویمکن أن یکون خوارج مسجد الکوفة جزء من خوارج دسکرة بعقوبة ، فیقبض علیهم قبل أن یصلوا الیهم . وتوجد احتمالات أخری، لامجال لذکرها .

أما أول خارجة علی الإمام المهدی(علیه السّلام)فی العراق فهم البتریة الذین یزعمون أنهم یتولون أهل البیت(علیهم السّلام) وظالمیهم ! ففی دلائل الإمامة ص241 ، عن أبی الجارود أنه سأل الإمام الباقر(علیه السّلام): (متی یقوم قائمکم؟ قال: یا أبا الجارود لاتدرکون . فقلت: أهل زمانه؟ فقال: ولن تدرک أهل زمانه ، یقوم قائمنا بالحق بعد إیاس من الشیعة یدعو الناس ثلاثاً فلا یجیبه أحد ، فإذا کان الیوم الرابع تعلق بأستار الکعبة ، فقال: یا رب انصرنی ، ودعوته لاتسقط ، فیقول تبارک وتعالی للملائکة الذین نصروا رسول الله یوم بدر ولم یحطوا سروجهم ولم یضعوا أسلحتهم ، فیبایعونه ، ثم یبایعه من الناس ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ! یسیر إلی المدینة فیسیر الناس.... ویسیر إلی الکوفة فیخرج منها ستة عشر ألفاً من البتریة شاکین فی السلاح ، قراء القرآن فقهاء فی الدین ، قد قرحوا جباههم وسمروا ساماتهم وعمهم النفاق ، وکلهم یقولون: یابن فاطمة إرجع لاحاجة لنا فیک ، فیضع السیف فیهم علی ظهر النجف عشیة الإثنین من العصر إلی العشاء ، فیقتلهم أسرع من جزر جزور ، فلا یفوت منهم رجل ولا یصاب من أصحابه أحد ! دماؤهم قربان إلی الله !

ثم یدخل الکوفة فیقتل مقاتلیها حتی یرضی الله تعالی . قال: فلم أعقل المعنی فمکثت قلیلاً ثم قلت: جعلت فداک وما یدریه جعلت فداک متی یرضی الله عز

ص: 381

وجل؟ قال: یا أبا الجارود إن الله أوحی إلی أم موسی وهو خیر من أم موسی ، وأوحی الله إلی النحل وهو خیر من النحل ، فعقلت المذهب؟ فقال لی: أعقلت المذهب؟ قلت: نعم . فقال: إن القائم لیملک ثلاثمائة وتسع سنین کما لبث أصحاب الکهف فی کهفهم ، یملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً ویفتح الله علیه شرق الأرض وغربها ). انتهی .

لا تقاتلوا الخوارج بعدی !

نلاحظ فی موقف أمیر المؤمنین(علیه السّلام)من الخوارج أنه نهی عن قتالهم بعده لأن غیرهم ممن سیحکم الأمة بعده أحق بالقتال منهم ، حتی یظهر المهدی(علیه السّلام)!

ففی نهج البلاغة:1/107:(ولما قتل الخوارج فقیل له یا أمیر المؤمنین هلک القوم بأجمعهم . قال(علیه السّلام):کلا والله إنهم نُطَفٌ فی أصلاب الرجال وقرارات النساء ! کلَّما نَجَمَ منهم قرنٌ قُطع ، حتی یکون آخرهم لصوصاً سلابین ) !

وقال(علیه السّلام): لاتقاتلوا الخوارج بعدی ، فلیس من طلب الحق فأخطأه ، کمن طلب الباطل فأدرکه . یعنی معاویة وأصحابه ).

وفی تهذیب الأحکام للطوسی(رحمه الله):6/144، عن الإمام الصادق عن آبائه(علیهم السّلام) قال: (لما فرغ أمیر المؤمنین(علیه السّلام)من أهل النهروان قال: لایقاتلهم بعدی إلا من هم أولی بالحق منه ). انتهی .

ص: 382

الفصل التاسع: تراجع الأمة عن مشروع إعادة العهد النبوی

اشارة

ص: 383

ص: 384

تعبت الأمة من العمل مع علی×لإعادة العهد النبوی !

فی السنة التاسعة والثلاثین للهجرةکان علی(علیه السّلام)قد ذرَّف علی الستین من عمره الشریف ، وأمضی أکثر من نصف قرن فی الجهاد منذ بعثة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

والذی یقرأ الخط البیانی لشخصیتة(علیه السّلام)یتعجب من عظمة هذه النفس الکبیرة وثبات حیویتها فی جمیع فصول حیاته الحافلة بالتغیرات !

إن علیاً(علیه السّلام)إنسان من نوع آخر ، لایتعامل مع الأشیاء من أفُق حاجاته ، ولا من أفُق الأرض وحطامها ! بل من أفُقِه الشامل للدنیا والآخرة ، المشرف علی الدنیا من أعلی! أرأیت کیف کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أکبر من الدنیا ، فکذلک علی(علیه السّلام)؟!

لهذا لا فرق فی حیویة علیٌٍ وزخمه الفکری والروحی والعملی ، وهو محاصر فی شعب أبی طالب یحرس النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیل نهار من شیاطین قریش..وحیویته وهو یقطف النصر للإسلام فی بدر وأحد وخیبر وحنین، ویهزم قریشاً ویهود وهوازن!

ولا فرق فی حالته وقد هاجمت قریش بیته وأجبرته علی بیعة صاحبها ! وحالته وقد جاءته الأمة بعد مقتل عثمان معتذرة الیه ، راجیةً أن یقبل خلافتها !

ولا فرق بین علیٍّ الذی تحزبت علیه قریش وأشعلت الحرب لإسقاط نظامه ، فلم یستطع أن یجند فی حرب الجمل إلا اثنی عشر ألفاً ، مقابل مئة وعشرین ألف مقاتل مجهز مع طلحة والزبیر وعائشة.. وبین علیٍّ الذی اکتسح فی الیوم السابع لحرب الجمل جیش عائشة فی موجات متتالیة قادَ فیها مجموعة فرسان

ص: 385

اختارهم من أصحابه ، یشقُّ أمامهم صفوف مئة وعشرین ألفاً فیضرب بسیفه قدماً ویمیناً وشمالاً یجدِّل الأبطال ویبری بسیفه الرماح ! حتی ولَّوْا فراراً وصاح الباقون منهم: (آمنا یا ابن أبی طالب) ! فکفَّ عنهم وأعطاهم الأمان علی دمائهم وأموالهم ، وما بقی من کرامتهم !

وکما تجد أفق علی(علیه السّلام)وحیویته علی السواء فی حالتی خوفه وأمنه، کذلک تراه فی فقره وغناه ! فعلیٌّ الذی کان یجوع فی شعب مکة فلا یجد القرص ، ویضطر فی المدینة لاقتراض صاع شعیر من یهودی لیطعم زوجته وأولاده.. هو علیٌّ الذی صار یملک بساتین واسعة عدیدة فی المدینة وذی الحلیفة وینبع ، استبنط عیونها المتدفقة بعلمه ومعوله ، وغرسها ورباها حتی اشتبکت أشجارها وأینعت ثمارها ، فأوقفها فی سبیل الله ، وأطعم أولاده منها کما یأکل الفقراء !

وهو نفسه الذی صار حاکماً لدولة مترامیة الأطراف ، فکان یقول لعمَّاله حکام الولایات: (ألا وإن لکل مأموم إماما یقتدی به ویستضئ بنور علمه . ألا وإن إمامکم قد اکتفی من دنیاه بطمریه ومن طعمه بقرصیه... ولو شئت لاهتدیت الطریق إلی مصفی هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولکن هیهات أن یغلبنی هوای ، ویقودنی جشعی إلی تخیر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو الیمامة من لاطمع له فی القرص ولا عهد له بالشبع . أوَأبیت مبطاناً وحولی بطون غرثی وأکباد حرَّی؟! ).

العجب من علیٍ الذی کان مشغولاً بمراسم دفن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فرأی ید طلقاء قریش تخطف دولة الإسلام ، ووجد نفسه معزولاً مهدداً بالقتل مع بقیة عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! کیف بقی نفسه علیاً الذی آمن بالنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعمل معه من صباه فکان عضده ووزیره فأرسی معه رسالةً ، وبنی أمةً ، وأسس دولةً ، ووهب لها کل وجوده وإخلاصه ! فلم یتغیر همُّه ولا همته بإقصائهم له ، ولا اهتزَّ عالمه الذی

ص: 386

یعیش فی آفاقه العلیا !!

یقول(علیه السّلام):(فوالله ماکان یلقی فی روعی ولا یخطر ببالی أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بیته ، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عنی من بعده ، فما راعنی إلا انثیال الناس علی فلان یبایعونه ، فأمسکت یدی حتی رأیت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام یدعون إلی محق دین محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فخشیت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أری فیه ثلماً أوهدماً تکون المصیبة به علیَّ أعظم من فوت ولایتکم ، التی إنما هی متاع أیام قلائل یزول منها ما کان ، کما یزول السراب ، أوکما یتقشع السحاب ، فنهضت فی تلک الأحداث ، حتی زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدین وتَنَهْنَهْ).( نهج البلاغة:3/118).

وفی السنة التاسعة والثلاثین للهجرة بقی علیٌّ علیاً ، فی سموه وقوته وحیویته ، رغم أنه کان یری أمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )التی استجابت لمشروعه فی إعادة النبوی ، وخَطَتْ معه خطوات مهمة ، یراها ضعفت عن همته ، وأخلدت الی الأرض ، وتحولت بین یدیه الی تراب ! وأبت أن تتحمل معه تعب سنة واحدة ، فتزیح أصعب عقبة من طریقها ، وتجتث أخبث شجرة حذرها منها الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ولعنها الله فی قرآنه ، والرسول علی منبره !

فمنذ رجع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)من صفین مجبراً ، ومنذ انکشفت للناس حیلة معاویة فی التحکیم والتستر بالقرآن ، ما زال یخطب ویبیِّن ، وینذر ویحذِّر ، ویفیض عن لسان أخیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ویظهر للأمة مکنون علمه وآیاته ، ویحثها علی جهاد عدوها ، الذی أمرها نبیها بجهاده ، وأخبرها بأن أخوف ما یتخوفه علیها فتنة معاویة وبنی أمیة ، الذین ستتجمع فیهم أخطار قریش والیهود والروم للقضاء علی الإسلام ، وکل ذلک باسم الإسلام وخلافة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!

کانت الأولویة فی سیاسة علی(علیه السّلام)بعد حرب صفین ، أن یکشف للأمة خطر

ص: 387

معاویة ، ویوجه المسلمین الی المعرکة الفاصلة معه ، وقد واصل(علیه السّلام)العمل لهذا الهدف فی عاصمة الخلافة ، وکتب الی عماله فی مناطق الدولة الإسلامیة .

ثم تحرک(علیه السّلام)قبل حرب النهروان ، الی معسکر الکوفة بالنخیلة ، وأمر الناس بالتحرک معه الی حرب معاویة ، فاستجاب له قلیلٌ منهم ، وأرسل الی البصرة وراسل الخوارج أن یوافوه الی النخیلة للتوجه الی صفین ، فوافاه الأحنف بن قیس فی بضعة ألوف من البصرة .

وعندما کان(علیه السّلام)مُعَسْکِراً فی النخیلة ، توالت علیه أخبار الخوارج ، وطلب منه المسلمون أن یتوجه الی حربهم قبل معاویة ، فلم یقبل حتی وجب علیه ، بل کان یؤکد فی خطبه ورسائله علی أن العدو الأساس لهم: بنو أمیة .

ففی تاریخ الطبری:4/57: (فاتقوا الله وقاتلوا من حادَّ الله وحاول أن یطفئ نور الله . قاتلوا الخاطئین الضالین القاسطین المجرمین ، الذین لیسوا بقراء للقرآن ولا فقهاء فی الدین ، ولا علماء فی التأویل ، ولا لهذا الأمر بأهل فی سابقة الإسلام . والله لو ولوا علیکم لعملوا فیکم بأعمال کسری وهرقل ! تیسروا وتهیؤا للمسیر إلی عدوکم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلی إخوانکم من أهل البصرة لیقدموا علیکم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ). انتهی .

ثم زادت شکایات المسلمین من إفساد الخوارج ، واستحلالهم قتل کل من خالفهم حتی النساء والأطفال ، فطلبوا منه أن یتوجهوا الی حربهم قبل معاویة حتی لایعیثوا فساداً فی البلاد فی غیاب حماتها ، فأرسل الیهم رسولاً فقتلوه ! عند ذلک توجه الیهم !

وبعد انتصاره علی الخوارج حث المسلمین علی مواصلة سیرهم من هناک الی صفین ، فتعللوا بأنهم یحتاجون الی فترة استراحة ! فرجع الی معسکر النخیلة ، وأمرهم أن یقلوا المکث عند عوائلهم فی الکوفة ، ویعودوا الی المعسکر:

ص: 388

قال الطبری:4/67: (عن أبی الدرداء قال: کان علیٌّ لما فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنی علیه ثم قال: إن الله قد أحسن بکم وأعز نصرکم ، فتوجهوا من فورکم هذا إلی عدوکم . قالوا: یا أمیر المؤمنین نفدت نبالنا ، وکلَّت سیوفنا ونصلت أسنة رماحنا ، وعاد أکثرها قصداً ، فارجع إلی مصرنا فلنستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمیر المؤمنین یزید فی عدتنا عدة من هلک منا ، فإنه أوفی لنا علی عدونا ! وکان الذی تولی ذلک الکلام: الأشعث بن قیس !

فأقبل حتی نزل النخیلة فأمر الناس أن یلزموا عسکرهم ویوطنوا علی الجهاد أنفسهم ، وأن یقلوا زیارة نسائهم وأبنائهم ، حتی یسیروا إلی عدوهم ، فأقاموا فیه أیاماً ثم تسللوا من معسکرهم ، فدخلوا إلا رجالاً من وجوه الناس قلیلاً ، وتُرک العسکر خالیاً ، فلما رأی ذلک دخل الکوفة ) ! انتهی .

وفی الغارات:1/28:(أقاموا بالنخیلة مع علی أیاماً ، ثم أخذوا یتسللون ویدخلون المصر ، فنزل وما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قلیل ، وتُرک المعسکر خالیاً ، فلا من دخل الکوفة خرج إلیه ، ولا من أقام معه صبر ! فلما رأی ذلک دخل الکوفة ) ! .

وقد ذکر المحدثون مداولاته(علیه السّلام)مع رؤساء القوم ، وخطبه العصماء وکلماته البلیغة ، التی تشحذ همة المسلم والإنسان ، لو کانت بقیت فیهم مسکة ! ثم صعَّد لهجته معهم الی الشکوی المرة ، والتوبیخ ، وإتمام الحجة ، کما یأتی .

ص: 389

مخزون الأمة النبوی نفد.. ولم تستجب لعلی(علیه السّلام)لتجدید شحنتها !

المتأمل فی حیاة الأمة الإسلامیة ، یری أنها استسلمت بمجرد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بل فی مرض وفاته الی زعماء قریش وجمهورهم الطلقاء ، الذین کانوا حشدوهم فی المدینة ! فقد استخذی الأنصار عن نصرة نبیهم عندما طلب من الأمة أن یلتزموا بتنفیذ عهده الذی یرید أن یکتبه لهم ، فمنعته قریش الطلقاء !

واستخذی الأنصار عن نصرة عترة نبیهم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وتراجعوا أمام نشاط عمر وحزبه ! وساعد علی ذلک اشتداد الإختلاف بین الأوس والخزرج ، ومرض رئیس الخزرج القوی سعد بن عبادة(رحمه الله).

وغایة ما فکر فیه الأنصار أن قریشاً مادامت قررت أن تصرف الخلافة عن أهل بیت نبیها، فلماذا لایطالبون بها لأنفسهم فهم أحق بخلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من القرشیین الطلقاء الذین دخلوا فی الإسلام بالأمس ، بسیوف الأنصار !

لکن خطة سهیل بن عمرو وأبی بکر وعمر کانت أقوی من خطتهم ، فعندما أغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عینیه کان عمر متقلداً سیفه یصیح لاتقولوا مات النبی ! ویقسم إنه لم یمت وإنه سیرجع ! وأنه سیقتل من یقول إنه مات ! وکان ینتظر مجئ أبی بکر فلما جاء دخل الی الحجرة وکشف عن وجه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال نعم إنه مات ! وغطی وجهه وقال لبنی هاشم (دونکم صاحبکم) وخرج هو وعمر(یتعادیان) الی السقیفة ، لیصفق عمر علی یده فی مجلس سعد بن عبادة المریض!

(ثم قام(أبو بکر) فقال:عندکم صاحبکم ، یغسلونه.. ثم خرج)!(مجمع الزوائد:5/182) (فانطلق أبو بکر وعمر یتعادیان حتی أتوهم فی السقیفة).(سیرة ابن کثیر:4/490) . وغلب عمر وأبو بکرسعداً وابنه قیساً بأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من قریش وهم أولی بسلطانه!

ص: 390

وصفق عمر علی ید أبی بکر ، وصفق معه أبو عبیدة بن الجراج القرشی واثنان من الأوس أحضروهما لهذا الغرض ، فاعترض سعد فعنفوه وأرادوا قتله !

فالنتیجة: أن الأنصار استسلموا لجو الإرهاب القرشی ، وبایعوا أبا بکر !

واستمر خضوعهم لقریش طیلة عهد أبی بکر وعمر وعثمان ، حتی طفح کیل عثمان ، فانضموا الی الناقمین علیه من الأمصار ، والمطالبین بخلافة علی(علیه السّلام) !

إن الأحداث التی جاءت بخلافة علی(علیه السّلام)کانت استثناء فی مسار الأمة الذی خضع للحزب القرشی الحاکم! وقد وظَّف علی(علیه السّلام)هذا الإستثناء أحسن توظیف لإعادة العهد النبوی فی العدالة ، وتصحیح مسار الأمة .

لکن معاویة استطاع أن یحرک الشخصیات المنافقة التی ستخسر امتیازاتها بإعادة العهد النبوی ، وفی طلیعتهم الأشعث بن قیس ، رئیس قبیلة کندة الیمانیة ، وصاحب النفوذ علی أکثر القبائل الیمانیة ! وقد خدم الأشعث معاویة خدمات کبیرة ، وأوقع بعلی(علیه السّلام)ومشروعه أضراراً بلیغة ، فقد أجبر علیاً(علیه السّلام)علی إیقاف حرب

صفین وهو قاب قوسین من النصر ! کما حرک الخوارج ضد علی(علیه السّلام) ، وخذَّل الناس عن الإستجابة له لحرب صفین الثانیة ! ولذلک قال معاویة: (حاربت علیاً بعد صفین بغیر جیش ولا عناء ) !!

قال البلاذری فی أنساب الأشراف ص383: (قالوا وخطبهم بعد ذلک خطباً کثیرة وناجاهم وناداهم فلم یربعوا إلی دعوته ، ولا التفتوا إلی شئ من قوله ! وکان یقول لهم کثیراً: إنه ما غزی قوم فی عقر دارهم إلا ذلوا . وقام أبو أیوب الأنصاری وذلک قبل تولیة علی إیاه المدینة بیسیر فقال: إن أمیر المؤمنین قد أسمع من کانت له أذنان وقلب حفیظ ، إن الله قد أکرمکم به کرامة بینة فاقبلوها حق قبولها، إنه أنزل ابن عم نبیکم بین ظهرانیکم یفقهکم ویرشدکم ، ویدعوکم إلی ما فیه الحظ لکم....).

ص: 391

ویضیف البلاذری: (إن معاویة لما بویع وبلغه قتال علی أهل النهروان ، کاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قیس وغیره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتی مالوا إلیه ، وتثاقلوا عن المسیر مع علی ، کان یقول فلا یلتفت إلی قوله ، ویدعو فلا یسمع لدعوته ! فکان معاویة یقول: لقد حاربت علیاً بعد صفین بغیر جیش ولا عناء أو قال: ولاعتاد !

ثم وصف البلاذری استعدادات معاویة وإطاعة أهل الشام له فقال: (لما بلغ معاویة أن علیاً یدعو الناس إلی غزوه وإعادة الحرب بینه وبینه ، هاله ذلک فخرج من دمشق معسکراً ، وبعث إلی نواحی الشام الصرخاء ینادون أن علیاً قد أقبل إلیکم ظالماً ناکثاً باغیاً ، ومن نکث فإنما ینکث علی نفسه ، فتجهزوا رحمکم الله للحرب بأحسن الجهاز ، وکتب إلیهم کتباً قال فیها: إنا کنا کتبنا بیننا وبین علی کتاباً واشترطنا فیه شروطاً ، وحکمنا الرجلین لیحکما بحکم الکتاب علینا ، وإن حَکَمِی أثبتنی وخلعه حَکَمُه ، وقد أقبل إلیکم ظالماً ناکثاً باغیاً ، فمن نکث فإنما ینکث علی نفسه ، فتجهزوا رحمکم الله للحرب بأحسن الجهاز ، واستعدوا لها بأکمل العدة ، وانفروا خفافاً وثقالاً ! فاجتمعوا له من کل أوب ، وأرادوا المصیر إلی صفین ثانیة ، حتی بلغهم اختلاف أصحاب علی ، وکتب إلیه بذلک عمارة بن عقبة ، فعسکر ینتظر ما یکون ، إلی أن جاءه خبر مقتله(علیه السّلام)) .

ص: 392

غزو الجیش الأموی لمصر وشهادة محمد بن أبی بکر(رحمه الله)

کان أهل مصر من أشد الثائرین علی عثمان لتسلیطه بنی أمیة علیهم ، وقد شارک منهم ست مئة مقاتل فی محاصرة عثمان وقتله .

وعندما أرسل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)قیس بن سعد بن عبادة حاکماً علی مصر ، لم یخضع لحکمه أنصار عثمان ، کما لم یستطیعوا مقاومته ، فاعتزلوا فی قریة عند الإسکندریة ، وشکلوا قاعدة لبنی أمیة ، فساندهم معاویة !

وبعد صفین أخذ معاویة یدبر مع ابن العاص لانقلابٍ فی مصر ، أو لغزوها .

قال الطبری:3/462: (ولما دخلت سنة36 فرَّق علیٌّ عماله.....علی الأمصار فبعث عثمان بن حنیف علی البصرة ، وعمارة بن شهاب علی الکوفة وکانت له هجرة ، وعبید الله بن عباس علی الیمن ، وقیس بن سعد علی مصر ، وسهل بن حنیف علی الشام . فأما سهل فإنه خرج حتی إذا کان بتبوک لقیته خیل فقالوا: من أنت؟ قال: أمیر. قالوا: علی أی شئ ؟ قال: علی الشام قالوا: إن کان عثمان بعثک فحیهلاً بک ، وإن کان بعثک غیره فارجع . قال: أوما سمعتم بالذی کان ؟ قالوا: بلی ! فرجع إلی علی .

وأما قیس بن سعد فإنه لما انتهی إلی أیلة لقیته خیل فقالوا: من أنت؟ قال: من فلِّ عثمان ، فأنا أطلب من آوی إلیه وانتصر به ! قالوا: من أنت ؟ قال قیس بن سعد ! قالوا: إمض فمضی حتی دخل مصر ، فافترق أهل مصر فرقاً ، فرقة دخلت فی الجماعة وکانوا معه ، وفرقة وقفت واعتزلت إلی خربتا ، وقالوا إن قتل قتلة عثمان فنحن معکم ، وإلا فنحن علی جدیلتنا ، حتی نُحرک أو نُصیب حاجتنا . وفرقة قالوا نحن مع علی ما لم یُقِدْ إخواننا ، وهم فی ذلک مع الجماعة ، وکتب قیس إلی أمیر المؤمنین بذلک ). انتهی .

ص: 393

ومعنی قول قیس(رحمه الله):(من فلِّ عثمان) أی من فلول الخلیفة الهاربین بعد قتله جاؤوا یطلبون ملجأً فی مصر ! قال ذلک لیتخلص من تلک الحامیة التی کانت موالیة لعثمان ! فلما دخل الی مصر أظهر أمره ، کما ذکر ابن خلدون وغیره .

ومعنی قولهم (مالم یُقِدْ إخواننا) ، أی نحن مع علی مالم یقتص من المصریین الذین شارکوا فی حصار عثمان وقتلة .

وقد نشطت المجموعة العثمانیة فی مصر ، وکانوا بقیادة مسلمة بن مخلد ، ومعاویة بن حدیج ، وبسر بن أرطاة ، وسیطروا علی قریة خَرَبْتا ، وراسل معاویة قیس بن سعد ، واستطاع أن یسکته عنهم ، فکانوا دولة داخل الدولة ، فأرسل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الی سعد أن یعرض علیهم الدخول فی الطاعة أو یناجزهم فلم یفعل قیس !

أمام ذلک بعث أمیر المؤمنین(علیه السّلام)محمد بن أبی بکر حاکماً علی مصر فتسلم ولایتها من قیس وأخذ یعالج وضعها ، وکان جماعة معاویة وصلوا الی عشرة آلاف مقاتل !

وتسارعت الأحداث فی مصر ضد محمد بن أبی بکر (رحمه الله)وخاض صراعاً سیاسیاً مع جماعة معاویة ، ثم خاض معهم مواجهات عسکریة .

ومع تفاقم الخطر علی محمد ، بادر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الی إرسال شخصیة قویة فی الإدارة والحرب ، هو مالک الأشتر(رحمه الله) ، لکن معاویة وعمراً دبَّرا له السم عند مشارف القاهرة ، فاستشهد(رحمه الله)قبل أن یتسلم عمله من محمد بن أبی بکر .

وقام معاویة بإرسال جیش الی مصر بقیادة عمرو بن العاص ، للسیطرة علیها وجعلها طُعْمَةً لابن العاص کل حیاته ، کما کان شرَط له !

قال الیعقوبی فی تاریخه:2/193: (ووجه معاویة بن أبی سفیان عمرو بن العاص علی مصر علی شرط له ، فقدِمها سنة38 ، ومعه جیش عظیم من أهل الشأم ،

ص: 394

فکان علی أهل دمشق یزید بن أسد البجلی ، وعلی أهل فلسطین شمیر الخثعمی وعلی أهل الأردن أبو الأعور السلمی ، ومعاویة بن حدیج الکندی علی الخارجة فلقیهم محمد بن أبی بکر بموضع یقال له المسنَّاة ، فحاربهم محاربة شدیدة ، وکان عمرو یقول: ما رأیت مثل یوم المسناة ، وقد کان محمد استذمَّ إلی الیمانیة فمایل عمرو بن العاص الیمانیة ، فخلفوا محمد بن أبی بکر وحده ! فجالد ساعة ثم مضی فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حدیج الکندی فأخذه وقتله ، وأدخله جیفة حمار ، وحرقه بالنار فی زقاق یعرف بزقاق الحوف .

وبلغ علیاً ضعف محمد بن أبی بکر وممالأة الیمانیة معاویة وعمرو بن العاص فقال: ما أُتیَ محمد من حرض) ! انتهی . ومعناه لم تکن غلبة أعدائه علیه من ضعف فی دینه أو عقله أوبدنه ، ولکنها المقادیر .

وفی الغارات:1/285: (فلما بلغ ذلک عائشة أم المؤمنین جزعت علیه جزعاً شدیداًً ، وقنتت فی دبر کل صلاة تدعو علی معاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص ومعاویة بن حدیج ، وقبضت عیال محمد أخیها وولده إلیها ، فکان القاسم بن محمد بن أبی بکر فی عیالها....عن أبی إسحاق: أن أسماء بنت عمیس لما أتاها نعیُ محمد بن أبی بکر وماصنع به ، کظمت حزنها وقامت إلی مسجدها حتی تشخبت دماً ). انتهی . وفی روایة تشخب ثدیاها دماً ، وقد یفسر ذلک إن صحت الروایة بارتفاع ضغط الجسم من الحزن !

أما (أم المؤمنین)أم حبیبة بنت أبی سفیان فزادت حقداً علی أخیها معاویة وابتکرت أسلوباً لئیماً فی الشماتة بعائشة لمقتل محمد بن أبی بکر التیمی !

ففی الغارات للثقفی:2/757: (لما قتل ووصل خبره إلی المدینة مع مولاه سالم ومعه قمیصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء! فأمرت أم حبیبة بنت أبی سفیان زوج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بکبش فشوی وبعثت به إلی عائشة وقالت: هکذا قد شُوِیَ أخوک ! فلم تأکل عائشة بعد ذلک شواء حتی ماتت)!!(والحیوان للدمیری:1/404).

وفی الغارات:1/287: (حلفت عائشة لا تأکل شواءً أبداً ، فما أکلت شواءً بعد مقتل محمد(سنة 38)حتی لحقت بالله(سنة57) !وما عثرت قط إلا قالت: تعس معاویة بن أبی

ص: 395

سفیان وعمرو بن العاص ومعاویة بن حدیج).(ونحوه أنساب الأشراف ص403 ).

لکن مع ذلک لم تقم عائشة بالتحریض علی معاویة کما فعلت مع عثمان !

ففی سیر الذهبی:2/186: (إن معاویة لما حج ، قدم فدخل علی عائشة ، فلم یشهد کلامها إلا ذکوان مولی عائشة ، فقالت لمعاویة: أأمنت أن أخبئ لک رجلاً یقتلک بأخی محمد؟ قال: صدقت ! وفی روایة أخری قال لها: ما کنت لتفعلین).

وفی الإستیعاب:1/238: (قالت له: یا معاویة أأمنت أن أخبئ لک من یقتلک بأخی محمد بن أبی بکر؟ فقال: بیت الأمان دخلت ! قالت: یا معاویة أما خشیت الله فی قتل حجر وأصحابه ؟ قال إنما قتلهم من شهد علیهم) ! (ونحوه فی الطبری:4/205).

وفی شرح الأخبار:2/171: (أما خفت أن أقعد لک رجلاً من المسلمین یقتلک ؟ فقال لها معاویة: لا أخاف ذلک لأنی فی دار أمان ، لکن کیف أنا فی حوائجک؟! قالت: صالح . قال: فدعینی وإیاهم حتی نلتقی عند الله) . انتهی .

والصحیح أن معاویة لایخاف منها لأنه أرضاها بالمال فجعلها تقول عنه (صالح) ولأن معه جیشه من الشام ، بل علیها هی أن تحذر منه علی نفسها ، فقد کان قتلها علی یده ، کما ستعرف !

وفی کتاب الشیعة فی مصر لصالح الوردانی ص109: (قال صاحب النجوم الزاهرة: أعدم محمد بن أبی بکر حرقاً فی جیفة حمار میت ، بعد أن وقع فی أسر جند معاویة عام 37 ه- . وقیل إنه قطعت رأسه وأرسلت الی معاویة بدمشق

ص: 396

وطیف به وهو أول رأس طیف به فی الإسلام ! ویقع مرقده فی بلدة میت دمسیس التابعة للمنصورة ، وهناک قبر ناحیة الفسطاط یقال له محمد الصغیر ، والعامة یعتقدون أنه محمد بن أبی بکر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحیة المنصورة ). انتهی .

ص: 397

سیاسة معاویة فی الغارات علی العراق والحجاز والیمن !

اشارة

بدأ معاویة بعد صفین بتطبیق سیاسة الغارات علی أطراف العراق والحجاز والیمن ، فکان یرسل جیشاً صغیراً من ألف مقاتل أو أکثر ، ویأمرهم بقتل کل من صادفوه من أتباع علی(علیه السّلام) ، وسلب کل ما وصلت الیه أیدیهم !

وتزایدت غارات معاویة فی سنة 38 ، بعد حیلة الحکمین ، وبعد أن أخذ لنفسه البیعة بالخلافة من أهل الشام . ثم اشتدت سنة 39 ، بعد أن استولی علی مصر ، وبعد تزاید نشاط عملائه فی تخذیل المسلمین فی العراق عن الحرب !

وکان القتل والنهب والتخریب أهدافاً مقصودة من هذه الغارات ، یؤکد علیها معاویة لقادتها ! وقد حققت أهدافها فی إرعاب الناس من معاویة !

وکان الأسوأ وقعاً فیها تخاذل المسلمین عن مقاومتها ، إلا قلیلاً ! وأمیر المؤمنین(علیه السّلام)یحثهم ویتحرق ألماً من تخاذلهم !

وقد فصَّل المحدثون والمؤرخون ذلک ، وکتب المؤرخ الثقفی کتابه (الغارات) فی الأصل للتأریخ لها ، ونکتفی هنا بذکر نماذج منها :

(1) غارة الضحاک بن قیس علی السماوة والثعلبیة

فی الغارات للثقفی:2/421: (دعا معاویة الضحاک بن قیس الفهری وقال له: سر حتی تمر بناحیة الکوفة وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب فی طاعة علی فأغر علیه ، وإن وجدت له مسلحة أو خیلاً فأغر علیها ، وإذا أصبحت فی بلدة فأمس فی أخری ، ولا تقیمنَّ لخیل بلغک أنها قد سرحت إلیک لتلقاها فتقاتلها ، فسرحه فیما بین ثلاثة آلاف إلی أربعة آلاف ، جریدة خیل(بدون جمال).

ص: 398

قال: فأقبل الضحاک یأخذ الأموال ویقتل من لقی من الأعراب ، حتی مر بالثعلبیة فأغار خیلَه علی الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقی عمرو بن عمیس بن مسعود الذهلی ، هو ابن أخی عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقتله فی طریق الحاج عند القطقطانة ، وقتل معه ناساً من أصحابه !

قال أبو روق: فحدثنی أبی أنه سمع علیاً(علیه السّلام)وقد خرج إلی الناس وهو یقول علی المنبر: یا أهل الکوفة أخرجوا إلی العبد الصالح عمرو بن عمیس وإلی جیوش لکم قد أصیب منها طرف، أخرجوا فقاتلوا عدوکم وامنعوا حریمکم إن کنتم فاعلین. قال: فردوا علیه رداً ضعیفاً ورأی منهم عجزاً وفشلاً ، فقال: والله لوددت أن لی بکل مائة منکم رجلاً منهم ، ویحکم أخرجوا معی ثم فروا عنی إن بدا لکم ! فوالله ما أکره لقاء ربی علی نیتی وبصیرتی ، وفی ذلک روْحٌ لی عظیم وفرج من مناجاتکم ومقاساتکم ومداراتکم مثل ماتداری البکار العَمِدة (الناقة المجروح سنامها) والثیاب المتهترة ، کلما خیطت من جانب تُهتک علی صاحبها من جانب آخر !!

ثم نزل فخرج یمشی حتی بلغ الغریین ، ثم دعا حجر بن عدی الکندی من خیله فعقدله ثم رایة علی أربعة آلاف ثم سرحه ، فخرج حتی مر بالسماوة وهی أرض کلب ، فلقی بها امرؤ القیس بن عدی بن أوس بن جابر بن کعب بن علیم الکلبی ، أصهار الحسین بن علی بن أبی طالب(علیهماالسّلام)، فکانوا أدلاءه علی طریقه وعلی المیاه ، فلم یزل مغذاً فی أثر الضحاک حتی لقیه بناحیة تدمر ، فواقفه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاک تسعة عشر رجلاً ، وقتل من أصحاب حجر رجلان ، عبد الرحمن وعبد الله الغامدی ، وحجز اللیل بینهم فمضی الضحاک فلما أصبحوا لم یجدوا له ولأصحابه أثراً).(أیضاً:تاریخ الطبری:4/103)

ص: 399

(2)غارة النعمان بن بشیر علی عین التمر

وفی الغارات:2/450: ( فأقبل النعمان بن بشیر فی ألف رجل حتی أغار علی العین(عین التمر) ، فاستعان مالک بن کعب مخنف بن سلیم ، وکان معه ناس کثیر کانوا متفرقین . قال عبد الله بن مخنف: فندب معی أبی مخنف خمسین رجلاً ولم یوافه یومئذ غیرهم ، فبعثنی علیهم فانتهیت إلی مالک بن کعب وهو فی مائة والنعمان وأصحابه قاهرون لمالک ، فانتهینا إلیه مع الماء فلما رأونی ظنوا أن ورائی جیشاً فانحازوا ، فالتقیناهم فقاتلناهم وحجز اللیل بیننا وبینهم وهم یظنون أن لنا مدداً فانصرفوا ، فقتل من أصحاب مالک بن کعب عبد الرحمن بن حرم الغامدی ، وضرب مسلم بن عمرو الأزدی علی قمته فکسر ،وانصرف النعمان . فبلغ الخبر علیاً فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: یا أهل الکوفة ، المنسر من مناسر أهل الشام إذا أظل علیکم أغلقتم أبوابکم وانجحرتم فی بیوتکم انجحار الضبة فی جحرها ، والضبع فی وجارها ! الذلیل من نصرتموه ، ومن رمی بکم رمی بأفوق ناصل ، أفٍّ لکم لقد لقیت منکم تَرَحاً ، ویحکم یوماً أناجیکم ویوماً أنادیکم ، فلا أجاب عند النداء ، ولا إخوان صدق عند اللقاء ، أنا والله منیت بکم ، صمٌّ لا تسمعون، بکمٌ لاتنطقون، عمیٌ لا تبصرون! فالحمد لله رب العالمین ! ویحکم أخرجوا الی أخیکم مالک بن کعب فإن النعمان بن بشیر قد نزل به فی جمع من أهل الشام لیس بالکثیر ، فانهضوا إلی إخوانکم لعل الله یقطع بکم من الظالمین طرفاً ، ثم نزل . فلم یخرجوا ! فأرسل إلی وجوههم وکبرائهم فأمرهم أن ینهضوا ویحثوا الناس علی المسیر ، فلم یصنعوا شیئاً !.....

لما دخل علی(علیه السّلام)منزله قام عدی بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبیح ، هذا والله الخذلان غیر الجمیل ، ما علی هذا بایعنا أمیر المؤمنین ! ثم دخل علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السّلام)فقال: یا أمیر المؤمنین إن معی ألف رجل

ص: 400

من طئ لا یعصوننی ، فإن شئت أن أسیر بهم سرت ؟ قال: ما کنت لأعرض قبیلة واحدة من قبائل العرب للناس ، ولکن أخرج إلی النخیلة فعسکر بهم ، فخرج فعسکر وفرض علی(علیه السّلام)سبعمائة لکل رجل ، فاجتمع إلیه ألف فارس عدا طیئاً أصحاب عدی بن حاتم ، فسار بهم علی شاطئ الفرات فأغار فی أدانی الشام ، ثم أقبل ). ( أیضاً تاریخ الطبری:4/102والیعقوبی:2/195).

(3)غارة ابن مسعدة التی لم تصل الی المدینة ومکة

تاریخ الیعقوبی:2/196: ( وبعث معاویة عبد الله بن مسعدة بن حذیفة بن بدر الفزاری فی جریدة خیل وأمره أن یقصد المدینة ومکة، فسار فی ألف وسبعمائة فلما أتی علیاً الخبر وجه المسیب بن نجبة الفزاری ، فقال له: یا مسیب إنک ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصیحته ، فتوجه إلی هؤلاء القوم وأثر فیهم ، وإن کانوا قومک . فقال له المسیب: یا أمیر المؤمنین إن من سعادتی أن کنت من ثقاتک ، فخرج فی ألفی رجل من همدان وطئ وغیرهم وأغذ السیر ، وقدم مقدمته فلقوا عبد الله بن مسعدة فقاتلوه ، فلحقهم المسیب فقاتلهم حتی أمکنه أخذ بن مسعدة فجعل یتحاماه ، وانهزم ابن مسعدة فتحصن بتیماء وأحاط المسیب بالحصن ، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثاً فناداه: یا مسیب ! إنما نحن قومک فلیمسَّک الرحم ، فخلی لابن مسعدة وأصحابه الطریق ونجا من الحصن ! فلما جنهم اللیل خرجوا من تحت لیلتهم حتی لحقوا بالشام ، وصبح المسیب الحصن فلم یجد أحداً . فقال عبد الرحمن بن شبیب: داهنتَ والله یا مسیب فی أمرهم ، وغششت أمیر المؤمنین ، وقدم علی علی فقال له علی: یا مسیب کنت من نصاحی ثم فعلت ما فعلت ! فحبسه أیاماً ثم أطلقه وولاه قبض الصدقة بالکوفة ). انتهی . (أیضاً: تاریخ الطبری:4/103).

ص: 401

(4) غارة بسر بن أرطاة علی المدینة ومکة والیمن

وهی أشرس غارات معاویة وأکثرها فتکاً وتخریباً ونهباً وحرقاً وتقتیلاً ، فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً ! قال الیعقوبی:2/197: (ووجه معاویة بُسر بن أبی أرطاة ، وقیل ابن أرطاة ، العامری من بنی عامر بن لؤی ، فی ثلاثة آلاف رجل ، فقال له: سر حتی تمر بالمدینة فاطرد أهلها ، وأخف من مررت به ، وانهب مال کل من أصبت له مالاً ممن لم یکن دخل فی طاعتنا ، وأوهم أهل المدینة أنک ترید أنفسهم ، وأنه لابراءة لهم عندک ولا عذر ، وسر حتی تدخل مکة ولا تعرض فیها لأحد ، وأرهب الناس فیما بین مکة والمدینة ، واجعلهم شرادات ، ثم امض حتی تأتی صنعاء ، فإن لنا بها شیعة ، وقد جاءنی کتابهم .

فخرج بسر ، فجعل لا یمر بحی من أحیاء العرب إلا فعل ما أمره معاویة ، حتی قدم المدینة ، وعلیها أبو أیوب الأنصاری فتنحی عن المدینة ، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال: یا أهل المدینة ! مثل السوء لکم ، قَرْیَةً کَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً یَأْتِیهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ کُلِّ مَکَانٍ فَکَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا کَانُوا یَصْنَعُونَ ، ألا وإن الله قد أوقع بکم هذا المثل وجعلکم أهله ، شاهت الوجوه . ثم ما زال یشتمهم حتی نزل ! قال: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاری إلی أم سلمة زوج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: إنی قد خشیت أن أقتل وهذه بیعة ضلال ! قالت: إذاً فبایع ، فإن التقیة حملت أصحاب الکهف علی أن کانوا یلبسون الصلُب ، ویحضرون الأعیاد مع قومهم .

وهدم بسر دوراً بالمدینة ، ثم مضی حتی أتی مکة ، ثم مضی حتی أتی الیمن ، وکان علی الیمن عبید الله بن عباس عامل علی .

وبلغ علیاً الخبر ، فقام خطیباً فقال: أیها الناس إن أول نقصکم ذهاب أولی النهی

ص: 402

والرأی منکم الذین یحدثون فیصدقون ویقولون فیفعلون ، وإنی قد دعوتکم عوداً وبدأً ، وسراً وجهراً ، ولیلاً ونهاراً ، فما یزیدکم دعائی إلا فراراً ، ما ینفعکم الموعظة ولا الدعاء إلی الهدی والحکمة ، أما والله إنی لعالم بما یصلحکم ، ولکن فی ذلک فسادی ، أمهلونی قلیلاً ، فوالله لقد جاءکم من یحزنکم ویعذبکم ویعذبه الله بکم ، إن من ذل الإسلام وهلاک الدین أن ابن أبی سفیان یدعو الأراذل والأشرار فیجیبون ، وأدعوکم وأنتم لاتصلحون فتراعون ! هذا بسر قد صار إلی الیمن وقبلها إلی مکة والمدینة ! فقام جاریة بن قدامة السعدی فقال: یا أمیر المؤمنین ! لا عدمنا الله قربک ، ولا أرانا فراقک ، فنعم الأدب أدبک ، ونعم الإمام والله أنت ، أنا لهؤلاء القوم فسرحنی إلیهم! قال: تجهز فإنک ما علمتک رجل فی الشدة والرخاء ، المبارک المیمون النقیبة، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمی فقال: أنا أنتدب یا أمیر المؤمنین. قال: إنتدب بارک الله علیک . فخرج جاریة فی ألفین ووهب ابن مسعود فی ألفین وأمرهما علی أن یطلبا بسراً حیث کان حتی یلحقاه ، فإذا اجتمعا فرأس الناس جاریة ، فخرج جاریة من البصرة ووهب من الکوفة حتی التقیا بأرض الحجاز ، ونفذ بسر من الطائف حتی قدم الیمن وقد تنحی عبید الله بن عباس عن الیمن ، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثی ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه مالک بن عبد الله ، وقد کان عبید الله خلف ابنیه عبد الرحمن وقثم عند جویریة ابنة قارظ الکنانیة وهی أمهما ، وخلف معها رجلاً من کنانة ، فلما انتهی بسر إلیها دعا ابنی عبید الله لیقتلهما ، فقام الکنانی فانتضی سیفه وقال: والله لأقتلن دونهما فألاقی عذراً لی عند الله والناس فضارب بسیفه حتی قتل !

وخرجت نسوة من بنی کنانة فقلن: یا بسر ! هذا ، الرجال یقتلون فما بال الولدان ؟! والله ماکانت الجاهلیة تقتلهم ، والله إن سلطاناً لایشتد إلا بقتل الصبیان ورفع الرحمة لسلطان سوء ! فقال بسر: والله لقد هممت أن أضع فیکن السیف !

ص: 403

وقدم الطفلین فذبحهما(بیده بخنجر)! فقالت أمهما ترثیهما:

ها من أحس بنیی اللذین هما

سمعی وقلبی فقلبی الیوم مختطف

ها من أحس بنیی اللذین هما

مخ العظام فمخی الیوم مزدهف

ها من أحس بنیی اللذین هما

کالدرتین تشظی عنهما الصدف

نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا

من قولهم ومن الإفک الذی اقترفوا

أنحی علی ودجی ابنی مرهَّفةً

مشحوذة وکذاک الأمر مقترف

من دل والهة حری وثاکلة

علی صبیین ضلا إذ غدا السلف

ثم جمع بسر أهل نجران فقال: یا إخوان النصاری ! أما والذی لا إله غیره لئن بلغنی عنکم أمر أکرهه لأکثرن قتلاکم . ثم سار نحو جیشان ، وهم شیعة لعلی ، فقاتلهم فهزمهم وقتل فیهم قتلاً ذریعاً ، ثم رجع إلی صنعاء .

وسار جاریة بن قدامة السعدی حتی أتی نجران وطلب بسراً ، فهرب منه فی الأرض ولم یقم له ، وقتل من أصحابه خلقاً ، وأتبعهم بقتل وأسر حتی بلغ مکة ، ومر بسر حتی دخل الحجاز لا یلوی علی شئ ، فأخذ جاریة بن قدامة أهل مکة بالبیعة ، فقالوا: قد هلک علیٌّ فلمن نبایع؟ قال: لمن بایع له أصحاب علیٍّ بعده....

حدثنی أبو خالد الوالبی قال: قرأت عهد علی لجاریة بن قدامة:

أوصیک یا جاریة بتقوی الله ، فإنها جموع الخیر ، وسر علی عون الله ، فالق عدوک الذی وجهتک له ، ولا تقاتل إلا من قاتلک ، ولا تجهز علی جریح ، ولا تسخرن دابة وإن مشیت ومشی أصحابک ! ولاتستأثر علی أهل المیاه بمیاههم ، ولاتشربن إلا فضلهم عن طیب نفوسهم ، ولاتشتمن مسلماً ولامسلمة فتوجب علی نفسک ما لعلک تؤدب غیرک علیه ، ولاتظلمن معاهداً ولامعاهدة ، واذکر الله ولا تفتر لیلاً ولا نهاراً ، واحملوا رجالتکم ، وتواسوا فی ذات أیدیکم ، وأجدد السیر ، وأجل العدو من حیث کان ، واقتله مقبلاً واردده بغیظه صاغراً ، واسفک الدم فی الحق واحقنه فی الحق ،

ص: 404

ومن تاب فاقبل توبته . وأخبارک فی کل حین بکل حال، والصدق الصدق ، فلا رأی لکذوب . قال وحدث أبو الکنود أن جاریة مر فی طلب بسر فما کان یلتفت إلی مدینة ولایعرج علی شئ حتی انتهی إلی الیمن ونجران ، فقتل من قتل . وهرب منه بسر ، وحرَّق تحریقاً فسمی محرقاً ). انتهی.

وذکر المؤرخون أن أبا هریرة ساعد بسراً علی ظلم أهل المدینة فنصبه والیاً علیها من قبل معاویة ! ولما قدم جاریة بن قدامة (رحمه الله)هرب منه أبو هریرة !

قال الطبری فی تاریخه:4/107: (وهرب بسر وأصحابه منه واتبعهم حتی بلغ مکة فقال لهم جاریة: بایعونا ، فقالوا: قد هلک أمیر المؤمنین فلمن نبایع؟ قال لمن بایع له أصحاب علی ، فتثاقلوا ثم بایعوا . ثم سار حتی أتی المدینة وأبو هریرة یصلی بهم فهرب منه ، فقال جاریة: والله لو أخذت أبا سنَّوْر لضربت عنقه ، ثم قال لأهل المدینة: بایعوا الحسن بن علی فبایعوه ، وأقام یومه ثم خرج منصرفاً إلی الکوفة ، وعاد أبو هریرة فصلی بهم)! . انتهی . (ومثله فی النهایة لابن کثیر:7/357 ).

(5) غارة سفیان بن عوف الغامدی علی الأنبار

فی تاریخ الطبری:4/103: ( ووجه معاویة فی هذه السنة سفیان بن عوف فی ستة آلاف رجل ، وأمره أن یأتی هیت فیقطعها ، وأن یغیر علیها ، ثم یمضی حتی یأتی الأنبار والمدائن فیوقع بأهلها ، فسار حتی أتی هیت فلم یجد بها أحداً ثم أتی الأنبار وبها مسلحة لعلی تکون خمسمائة رجل وقد تفرقوا فلم یبق منهم إلا مائة رجل ، فقاتلهم فصبر لهم أصحاب علی مع قلتهم ، ثم حملت علیهم الخیل والرجالة فقتلوا صاحب المسلحة وهو أشرس بن حسان البکری فی ثلاثین رجلاً ، واحتملوا ما کان فی الأنبار من الأموال وأموال أهلها ،ورجعوا إلی

ص: 405

معاویة ! وبلغ الخبر علیاً فخرج حتی أتی النخیلة، فقال له الناس: نحن نکفیک ! قال: ما تکفوننی ولاأنفسکم ، وسرح سعید بن قیس فی أثر القوم ، فخرج فی طلبهم حتی جاز هیت فلم یلحقهم فرجع ).

وفی نهج البلاغة:4/62: (وقال(علیه السّلام)لما بلغه إغارة أصحاب معاویة علی الأنبار فخرج بنفسه ماشیاً حتی أتی النخیلة ، فأدرکه الناس وقالوا یا أمیر المؤمنین نحن نکفیکهم ، فقال: والله ما تکفوننی أنفسکم فکیف تکفوننی غیرکم ! إن کانت الرعایا قبلی لتشکو حیف رعاتها ، وإننی الیوم لأشکو حیف رعیتی ، کأننی المقود وهم القادة ، أو الموزوع وهم الوزعة ! فلما قال(علیه السّلام)هذا القول فی کلام طویل قد ذکرنا مختاره فی جملة الخطب ، تقدم إلیه رجلان من أصحابه فقال أحدهما: إنی لا أملک إلا نفسی وأخی فمرنا بأمرک یا أمیر المؤمنین ننفذ له . فقال: وأین تقعان مما أرید ) ! انتهی . والخطبة التی أشار الیها الشریف الرضی أوردها فی نهج البلاغة:1/67 ، وهی: ( أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أولیائه ، وهو لباس التقوی ودرع الله الحصینة وجنته الوثیقة ، فمن ترکه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء ، ودیث بالصغار والقماءة ، وضرب علی قلبه بالأسداد ، وأدیل الحق منه بتضییع الجهاد ، وسیم الخسف ، ومنع النصف . ألا وإنی قد دعوتکم إلی قتال هؤلاء القوم لیلاً ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لکم أغزوهم قبل أن یغزوکم ، فوالله ما غزیَ قوم فی عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواکلتم وتخاذلتم حتی شنت الغارات علیکم ومُلکت علیکم الأوطان . وهذا أخو غامد قد وردت خیله الأنبار ، وقد قتل حسان بن حسان البکری وأزال خیلکم عن مسالحها ! ولقد بلغنی أن الرجل منهم کان یدخل علی المرأة المسلمة والأخری المعاهدة فینتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ، ما تمتنع منه إلا بالإسترجاع والإسترحام ! ثم انصرفوا وافرین ، ما نال رجلاً منهم کلْم ، ولا أریق لهم دم ! فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد

ص: 406

هذا أسفاً ما کان به ملوماً ، بل کان به عندی جدیراً . فیا عجباً والله یمیت القلب ویجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علی باطلهم وتفرقکم عن حقکم ! فقبحاً لکم وترحاً حین صرتم غرضاً یرمی، یُغار علیکم ولا تَغیرون، وتُغزون ولاتَغزون، ویعصی الله وترضون ! فإذا أمرتکم بالسیر إلیهم فی أیام الحر قلتم هذه حَمَارَّةُ القیظ أمهلنا یسبِّخ عنا الحر ، وإذا أمرتکم بالسیر إلیهم فی الشتاء قلتم هذه صَبَارَّةُ القر ، أمهلنا ینسلخ عنا البرد ، کل هذا فراراً من الحر والقر !! فإذا کنتم من الحر والقر تفرون ، فإذاً أنتم والله من السیف أفر ! یا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال ! لوددت أنی لم أرکم ولم أعرفکم ! معرفةً والله جرت ندماً وأعقبت سدماً! قاتلکم الله لقد ملأتم قلبی قیحاً ، وشحنتم صدری غیظاً ، وجرعتمونی نغب التهمام أنفاساً ، وأفسدتم علی رأیی بالعصیان والخذلان ، حتی لقد قالت قریش إن ابن أبی طالب رجل شجاع ولکن لاعلم له بالحرب ! لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراساً ، وأقدم فیها مقاماً منی ، لقد نهضت فیها وما بلغت العشرین ، وها أنا ذا قد ذرفت علی الستین ، ولکن لارأی لمن لا یطاع). انتهی.

وأضاف فی دعائم الإسلام فی آخرها:1/391: (أبدلنی الله بکم من هو خیر منکم ، وأبدلکم بی من هو شر لکم . أصبحت والله لا أرجو نصرکم ولا أصدق قولکم ، وما سهم من کنتم سهمه إلا السهم الأخیب !

فقام إلیه جندب بن عبد الله فقال: یا أمیر المؤمنین هذا أنا وأخی أقول کما قال موسی: رَبِّ إِنِّی لا أَمْلِکُ إِلَّا نَفْسِی وَأَخِی ، فمرنا بأمرک فوالله لنضربن دونک وإن حال دون ما تریده جمر الغضا وشوک القتاد . فأثنی علیهما علیٌّ صلوات الله علیه خیراً وقال: وأین تبلغان رحمکما الله مما أرید ؟ ثم انصرف ).

ص: 407

تحریک معاویة موالی أبی بکر وعمر ضد علی (علیه السّلام)!

کان معاویة یری أن فی أوساط المسلمین قبولاً لأبی بکر وعمر ، وأن علیاً (علیه السّلام)له موقف سلبی منهما ، لذلک عمل کل ما فی وسعه لاستغلال هذه النقطة ! وسجلت مصادر السنة وأکثر منها مصادرنا ، أن الأشعث بن قیس رجل معاویة فی الکوفة، کان یعترض علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أمام الناس فی المسجد ، ویقطع خطبه وکلامه بأسئلته وإشکالاته ، ویثیر موضوع أبی بکر وعمر بمناسبة ودون مناسبة لیعبئ الخوارج وغیرهم بالحقد علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)لموقفه السلبی منهما ! ومن المعروف أن الخوارج کانوا یقدسون أبا بکر وعمر ویکفِّرون عثمان ومعاویة وعلیاً ! وقد اشتهر مذهبهم القائل: (نتولی الشیخین ونتبرأ من الصهرین) !

نقرأ فی الطبری:4/56: (فجاءه ربیعة بن أبی شداد الخثعمی ، وکان شهد معه الجمل وصفین ومعه رایة خثعم فقال له: بایع علی کتاب الله وسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال ربیعة: علی سنة أبی بکر وعمر ! قال له علیٌّ: ویلک لو أن أبا بکر وعمر عملا بغیر کتاب الله وسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یکونا علی شئ من الحق ! فبایعه فنظر إلیه علیٌّ وقال: أما والله لکأنی بک وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، وکأنی بک وقد وطئتک الخیل بحوافرها ! فقتل یوم النهر مع خوارج البصرة) ! انتهی.

وینبغی أن نتساءل هنا: ما معنی أن یأتی الآن رئیس قبیلة یمانیة کانت بایعت أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقاتلت معه فی حربی الجمل وصفین ، لیجدد بیعته مع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی شرط جدید هو:سنة أبی بکر وعمر؟! لا سبب له إلا تحریک الأشعث وأمثاله من المنافقین عملاء معاویة !

وفی روایة ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة:1/166: ( فأبی الخثعمی إلا سنة أبی

ص: 408

بکر وعمر ، وأبی علی أن یبایعه إلا علی کتاب الله وسنة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ... فقال له علیٌّ: أما والله لکأنی بک قد نفرت فی هذه الفتنة ، وکأنی بحوافر خیلی قد شدخت وجهک ، فلحق بالخوارج فقتل یوم النهروان ! قال قبیصة: فرأیته یوم النهروان قتیلاً قد وطأت الخیل وجهه وشدخت رأسه ومثلث به ، فذکرت قول علی وقلت: لله در أبی الحسن! ما حرک شفتیه قط بشئ إلا کان کذلک ). انتهی .

وهذا یدل علی أن الأشعث وزمرته استطاعوا أن یحرکوا أشخاصاً وقبائل لمطالبة علی بالبیعة علی سنة أبی بکر وعمر ، أو یتبرؤوا منه ویقاتلونه !

وتوجد ظواهر أخری کهذا الخثعمی ، فقد جاء شخص الی أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فقال له: (إنی أحبک فی السر والعلانیة . فنظر إلیه وقال: کذبت ، لا والله ما تحبنی ولا أحببتنی قط . فبکی الرجل فقال: تستقبلنی بهذا وقد علم الله خلافه ، أبسط یدک أبایعک . فقال له(علیه السّلام): علی ماذا؟ قال: علی ما عمل علیه أبو بکر وعمر ، ومد یده نحوه فقال(علیه السّلام): إقبض یدک ! والله لکأنی بک قد قتلت علی ضلالک)!! (الإختصاص للمفید ص 312) .

وفی مقابل ذلک کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یجامل الذین یقدسون أبا بکر وعمر عن جهل ، ویعرف غرض الذین یثیرونهم علیه ! لکنه کان فی نفس الوقت یری أن طرحهم للموضوع فرصةٌ لبیان الحق ، وتوعیة الأمة علی مؤامرة قریش فی السقیفة ، وأنها صادرت السلطة من عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وسلمتها الی بنی أمیة ، وأن عثمان الذی نقمت علیه الأمة فقتلته ، ومعاویة الذی یقاتله بقیة الصحابة وأبرار الأمة ، إنما هما ثمرة سقیفة قریش ! فقدَّم أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بذلک لأجیال الأمة والتاریخ ، مجموعة نصوص ومناقشات ، ملیئة بالحقائق ، تکشف أمر السقیفة وأصحابها ، وتبین فداحة ظلامة العترة النبویة(علیهم السّلام) علی ید القرشیین ! نقتطف فیما

ص: 409

یلی بعض فقراتها:

فمن ذلک: منشورٌ کتبه بعد النهروان ، وأمر أن یقرأ علی الناس کل أسبوع ، وقد روته مصادرنا ومنها کتاب الرسائل للکلینی(رحمه الله)، وروت مصادرهم أجزاءً منه کالبلاذری وابن قتیبة وغیرهما ، وسنذکر مصادره التی ذکرها الباحث الشیخ المحمودی فی کتابه نهج السعادة ، وهی أوسع مما ذکره ، ونورد العهد بتمامه باستثناء فقرات نقدر أنها تعلیقات وهوامش ، أدخلها النساخ فی متنه .

روی الکلینی(رحمه الله)عن علی بن إبراهیم(رحمه الله)بسنده قال: (کتب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)بعد منصرفه من النهروان کتاباً ، وأمر أن یقرأ علی الناس ، وذلک أن الناس سألوه عن أبی بکر وعمر وعثمان ، فغضب(علیه السّلام)لذلک وقال: قد تفرغتم للسؤال عما لایعنیکم وهذه مصرُ قد افتتحت وقتل معاویة بن خدیج محمد بن أبا بکر ! فیا لها من مصیبة ما أعظمها مصیبتی بمحمد، فوالله ما کان إلا کبعض بنیَّ . سبحان الله ، بینا نحن نرجو أن نغلب القوم علی ما فی أیدیهم، إذ غلبونا علی ما فی أیدینا ، وأنا أکتب لکم کتاباً فیه تصریح ما سألتم إن شاء الله تعالی ، فدعا کاتبه عبید الله بن أبی رافع فقال له: أدخل علیَّ عشرةً من ثقاتی ، فقال: سمِّهم یا أمیر المؤمنین ، فقال: أدخل أصبغ بن نباتة ، وأبا الطفیل عامر بن واثلة الکنانی ، وزر بن حبیش الأسدی ، وجویریة بن مسهر العبدی ، وخندف بن زهیر الأسدی ، وحارثة بن مضرب الهمدانی ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمدانی ، ومصابیح النخعی ، وعلقمة ابن قیس، وکمیل بن زیاد ، وعمیر بن زرارة ، فدخلوا إلیه فقال لهم: خذوا هذا الکتاب ولیقرأه عبید الله بن أبی رافع وأنتم شهود ، کل یوم جمعة ، فإن شغب شاغب علیکم فأنصفوه بکتاب الله بینکم وبینه .

بسم الله الرحمن الرحیم. من عبد الله علی أمیر المؤمنین ، إلی شیعته من المؤمنین والمسلمین ، فإن الله یقول: وَإِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لإِبْرَاهِیمَ ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالی فی

ص: 410

الکتاب ، وأنتم شیعة النبی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما أنه من شیعة إبراهیم . إسمٌ غیر مختص ، وأمر غیر مبتدع ، وسلام الله علیکم ، والله هو السلام ، المؤمِّن أولیاءه من العذاب المهین ، الحاکم علیکم بعدله .

أما بعد ، فإن الله تعالی بعث محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأنتم معاشر العرب علی شر حال ، یغذو أحدکم کلبه ، ویقتل ولده ! ویغیر علی غیره ، فیرجع وقد أغیر علیه ! تأکلون العلهز والهبید والمیتة والدم ! تنیخون علی أحجار خُشْن ، وأوثان مضلة ، وتأکلون الطعام الجشب ، وتشربون الماء الآجن ، تَسافکون دماءکم ، ویسبی بعضکم بعضاً !

وقد خص الله قریشاً بثلاث آیات وعمَّ العرب بآیة ، فأما الآیات اللواتی فی قریش فهی قوله تعالی: وَاذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِی الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَکُمُ النَّاسُ فَآوَاکُمْ وَأَیَّدَکُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَکُمْ مِنَ الطَّیِّبَاتِ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ .

والثانیة: وَعَدَ اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضَی لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِکُونَ بِی شیئاً وَمَنْ کَفَرَ بَعْدَ ذَلِکَ فَأُولَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

والثالثة: قول قریش لنبی الله تعالی حین دعاهم إلی الإسلام والهجرة ، فقالوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَی مَعَکَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، فقال الله تعالی: أَوَلَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبَی إِلَیْهِ ثَمَرَاتُ کُلِّ شَئْ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ .

وأما الآیة التی عمَّ بها العرب فهی قوله تعالی: وَاذْکُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَکُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ .

فیا لها من نعمة ما أعظمها إن لم تخرجوا منها إلی غیرها ، ویا لها من مصیبة ما أعظمها إن لم تؤمنوا بها وترغبوا عنها . فمضی نبی الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقد بلغ ما أرسل به ، فیا لها مصیبة خصت الأقربین ، وعمت المؤمنین ، لن تصابوا بمثلها ، ولن تعاینوا بعدها مثلها ! فمضی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لسبیله وترک کتاب الله وأهل بیته ، إمامین لایختلفان ، وأخوین لا

ص: 411

یتخاذلان ، ومجتمعین لایتفرقان . ولقد قبض الله محمداًنبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولأنا أولی الناس به منی بقمیصی هذا ، وما ألقیَ فی روعی ، ولا عرضَ فی رأیی ، أن وجه الناس إلی غیری ، فلما أبطأوا عنی بالولایة لهممهم ، وتثبط الأنصار وهم أنصار الله وکتیبة الإسلام وقالوا: أما إذا لم تسلموها لعلی فصاحبنا أحق بها من غیره! (یقصد(علیه السّلام)أن هذا کان أمراً غیرمعقول لایتصور ، وإلا فقد أخبره النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما سیجری وصرح هو بذلک مراراً ).

فوالله ماأدری إلی من أشکو ، فإما أن تکون الأنصار ظلمت حقها ، وإما أن یکونوا ظلمونی حقی ، بل حقی المأخوذ وأنا المظلوم ، فقال قائل قریش: الأئمة من قریش ، فدفعوا الأنصار عن دعوتها ومنعونی حقی منها ! فأتانی رهطٌ یعرضون علیَّ النصر ، منهم ابنا سعید ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاری ، وعمار بن یاسر ، وسلمان الفارسی ، والزبیر بن العوام ، والبراء بن عازب ، فقلت لهم: إن عندی من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عهداً وله إلیَّ وصیة لست أخالفه عما أمرنی به ، فوالله لو خزمونی بأنفی لأقررت لله تعالی سمعاً وطاعة ، فلما رأیت الناس قد انثالوا علی أبی بکر بالبیعة أمسکت یدی ، وظننت أنی أولی وأحق بمقام رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )منه ومن غیره ، وقد کان نبی الله أمر أسامة بن زید علی جیش وجعلهما فی جیشه ، وما زال النبی إلی أن فاضت نفسه یقول: أنفذوا جیش أسامة ، أنفذوا جیش أسامة !

فلما رأیت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام تدعو إلی محو دین محمد وملة إبراهیم(علیهماالسّلام) ، خشیت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أری فیه ثلماً وهدماً تکون المصیبة علی فیه أعظم من فوت ولایة أمورکم ، التی إنما هی متاع أیام قلائل ثم تزول وتنقشع کما یزول وینقشع السحاب ! فنهضت مع القوم فی تلک الأحداث حتی زهق الباطل ، وکانت کلمة الله هی العلیا ، وإن رغم الکافرون....

فولیَ أبو بکر فقارب واقتصد ، فصحبته مناصحاً وأطعته فیما أطاع الله فیه جاهداً ، حتی إذا احتضر قلت فی نفسی لیس یعدل بهذا الأمر عنی ، ولولا خاصةٌ بینه وبین عمر ، وأمرٌ کانا رضیاه بینهما ، لظننت أنه لایعدله عنی ، وقد سمع قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

ص: 412

لبریدة الأسلمی حین بعثنی وخالد بن الولید إلی الیمن ، وقال: إذا افترقتما فکل واحد منکما علی حیاله وإذا اجتمعتما فعلی علیکم جمیعاً ، فغزونا وأصبنا سبیاً فیهم خولة بنت جعفر جار الصفا، فأخذت الحنفیة خولة ، واغتنمها خالد منی وبعث بریدة إلی رسول الله مُحَشِّراً علیَّ ، فأخبره بما کان من أخذی خولة فقال: یابریدة حظه فی الخمس أکثر مما أخذ ، إنه ولیکم بعدی ! سمعها أبو بکر وعمر ! وهذا بریدة حی لم یمت ، فهل بعد هذا مقال لقائل .

فبایع عمر دون المشورة ، فکان مرضی السیرة من الناس عندهم ، حتی إذا احتضر قلت فی نفسی لیس یعدل بهذا الأمر عنی ، للذی قد رأی منی فی المواطن ، وسمع من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فجعلنی سادس ستة ! وأمر صهیباً أن یصلی بالناس ، ودعا أبا طلحة زید بن سعد الأنصاری فقال له: کن فی خمسین رجلاً من قومک فاقتل من أبی أن یرضی من هؤلاء الستة !...(وقال) هؤلاء الرهط الذین قبض رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهو عنهم راض، فکیف یأمر بقتل قوم رضی الله عنهم ورسوله، إن هذا لأمر عجیب! ولم یکونوا لولایة أحد منهم أکره منهم لولایتی ، کانوا یسمعون وأنا أحاجُّ أبا بکر وأقول: یا معشر قریش إنا أحق بهذا الأمر منکم ما کان منا من یقرأ القرآن ویعرف السنة ویدین بدین الله الحق ، وإنما حجتی أنی ولیُّ هذا الأمر من دون قریش أن نبی الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال:الولاء لمن أعتق، فجاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعتق الرقاب من النار وأعتقها من الرق ، فکان للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولاء هذه الأمة ، وکان لی بعده ما کان له ، فما جاز لقریش من فضلها علیها بالنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جاز لبنی هاشم علی قریش ، وجاز لی علی بنی هاشم بقول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یوم غدیر خم: من کنت مولاه فعلی مولاه ، إلا أن تدعی قریش فضلها علی العرب بغیر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فإن شاؤوا فلیقولوا ذلک .

فخشی القوم إن أنا ولیتُ علیهم أن آخذ بأنفاسهم وأعترض فی حلوقهم ، ولا یکون لهم فی الأمر نصیب ! فأجمعوا علیَّ إجماع رجل واحد ، حتی صرفوا الولایة عنی إلی عثمان ، رجاء أن ینالوها ویتداولوها فی ما بینهم... فدعونی إلی بیعة عثمان

ص: 413

فبایعتُ مستکرهاً وصبرت محتسباً... فقال عبد الرحمن بن عوف: یا ابن أبی طالب إنک علی هذا الأمر لحریص ! فقلت: لست علیه حریصاً وإنما أطلب میراث رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحقه وأن ولاء أمته لی من بعده وأنتم أحرص علیه منی ، إذ تحولون بینی وبینه ، وتضربون وجهی دونه بالسیف .

اللهم إنی أستعدیک علی قریش ، فإنهم قطعوا رحمی وأضاعوا أیامی ، ودفعوا حقی ، وصغروا قدری وعظیم منزلتی ، وأجمعوا علی منازعتی حقاً کنت أولی به منهم فاستلبونیه ، ثم قالوا إصبر مغموماً أو مت متأسفاً !

وأیم الله لو استطاعوا أین یدفعوا قرابتی کما قطعوا سببی فعلوا ، ولکنهم لن یجدوا إلی ذلک سبیلاً ! وإنما حقی علی هذه الأمة کرجل له حق علی قوم إلی أجل معلوم ، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبله حامداً ، وإن أخروه إلی أجله أخذه غیر حامد ، ولیس یعاب المرء بتأخیر حقه ، إنما یعاب من أخذ ما لیس له ، وقد کان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عهد إلیَّ عهداً فقال: یا ابن أبی طالب لک ولاء أمتی فإن ولوک فی عافیة وأجمعوا علیک بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا علیک فدعهم وما هم فیه ، فإن الله سیجعل لک مخرجاً . فنظرت فإذا لیس لی رافد ولا معی مساعد إلا أهل بیتی فضننت بهم عن الهلاک ، ولو کان لی بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عمی حمزة وأخی جعفر لم أبایع مکرهاً ، ولکنی بلیت برجلین حدیثی عهد بالإسلام العباس وعقیل ، فضننت بأهل بیتی عن الهلاک ، فأغضیت عینی علی القدی ، وتجرعت ریقی علی الشجی ، وصبرت علی أمَرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزِّ الشفار .

وأما أمر عثمان فکأنه علم من القرون الأولی عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّی فِی کِتَابٍ لا یَضِلُّ رَبِّی وَلا یَنْسَی ، خذله أهل بدر ، وقتله أهل مصر ، والله ما أمرت ولا نهیت ، ولو أنی أمرت کنت قاتلاً ، ولو أنی نهیت کنت ناصراً ، وکان الأمر لاینفع فیه العیان ، ولا یشفی منه الخبر ، غیر أن من نصره لایستطیع أن یقول خذله من أنا خیر منه ، ولا یستطیع من خذله أن یقول نصره من هو خیر منی .

وأنا جامع لکم أمره: إستأثر فأساء

ص: 414

الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع ، والله یحکم بینکم و بینه. والله ما یلزمنی فی دم عثمان تهمة ، ما کنت إلا رجلاً من المسلمین المهاجرین فی بیتی ، فلما قتلتموه أتیتمونی تبایعونی فأبیت علیکم وأبیتم علیَّ ، فقبضت یدی فبسطتموها وبسطتها فمددتموها ، ثم تداککتم علی تداکَّ الإبل الهیم علی حیاضها یوم ورودها ، حتی ظننت أنکم قاتلیَّ ، وأن بعضکم قاتل بعض ، حتی انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعیف ، وبلغ من سرور الناس ببیعتهم إیای أن حُمل إلیها الصغیر ، وهدج إلیها الکبیر ، وتحامل إلیها العلیل ، وحسرت لها الکعاب فقالوا: بایعنا علی ما بویع علیه أبو بکر وعمر ، فإنا لانجد غیرک ولانرضی إلا بک ، بایعنا لانفترق ولا نختلف ! فبایعتم علی کتاب الله وسنة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )دعوت الناس إلی بیعتی فمن بایعنی طائعاً قبلت منه ، ومن أبی ترکته ، فکان أول من بایعنی طلحة والزبیر فقالا: نبایعک علی أنا شرکاؤک فی الأمر ! فقلت: لا، ولکنکما شرکائی فی القوة ، وعونای فی العجز ، فبایعانی علی هذا الأمر ، ولو أبیا لم أکرههما کما لم أکره غیرهما ! وکان طلحة یرجو الیمن ، والزبیر یرجو العراق ، فلما علما أنی غیر مولیهما استأذنانی للعمرة یریدان الغدرة ، فأتیا عایشة واستخفاها مع کل شئ فی نفسها علیَّ...وقادهما عبد الله بن عامر إلی البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال، فبیناهما یقودانها إذ هی تقودهما، فاتخذاها فئة یقاتلان دونها ! فأیُّ خطیئة أعظم مما أتیا ، أخرجا زوجة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من بیتها فکشفا عنها حجاباً ستره الله علیها ، وصانا حلائلهما فی بیوتهما، ولاأنصفا الله ولارسوله من أنفسهما ! فمنیت بأطوع الناس فی الناس عایشة بنت أبی بکر، وبأشجع الناس الزبیر وبأخصم الناس طلحة بن عبید الله ، وأعانهم علیَّ یعلی بن منیة بأصوع الدنانیر ، والله لئن استقام أمری لأجعلن ماله فیئاً للمسلمین !

ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون علی بیعتی وطاعتی ، وبها شیعتی خزان بیت مال الله ومال المسلمین ، فدعوا الناس إلی معصیتی وإلی نقض بیعتی وطاعتی ، فمن أطاعهم أکفروه ومن عصاهم قتلوه ! فناجزهم حکیم بن جبلة فقتلوه فی سبعین رجلاً

ص: 415

من عباد أهل البصرة ومخبتیهم ، یسمَّوْنَ المثفنین کأن راح أکفهم ثفنات الإبل ، وأبی أن یبایعهم یزید بن الحارث الیشکری فقال: إتقیا الله ، إن أولکم قادنا إلی الجنة فلا یقودنا آخرکم إلی النار ، فلا تکلفونا أن نصدق المدعی ونقضی علی الغائب ، أما یمینی فشغلها علی بن أبی طالب ببیعتی إیاه ، وهذه شمالی فارغة فخذاها إن شئتما ! فخنق حتی مات رحمه الله . وقام عبد الله بن حکیم التمیمی فقال: یاطلحة هل تعرف هذا الکتاب؟ قال: نعم هذا کتابی إلیک . قال: هل تدری ما فیه؟ قال: إقرأه علیَّ . فقرأه فإذا فیه عیبُ عثمان ودعاؤه إلی قتله ! فسیروه من البصرة !

وأخذوا عاملی عثمان بن حنیف الأنصاری غدراً فمثلوا به کل مثلة ، ونتفوا کل شعرة فی رأسه ووجهه ! وقتلوا شیعتی طائفة صبراً ، وطائفة غدراً ، وطائفة عضواً بأسیافهم حتی لقوا الله !

فوالله لو لم یقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لی به دماؤهم ودماء ذلک الجیش لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أکثر من العدة التی قد دخلوا بها علیهم ، وقد أدال الله منهم ، فبعداً للقوم الظالمین . فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله ، وأما الزبیر فذکرته قول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إنک تقاتل علیاً وأنت ظالم له ! وأما عایشة فإنها کانت نهاها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن مسیرها ، فعضت یدیها نادمة علی ما کان منها !

وقد کان طلحة لما نزل ذا قار قام خطیباً فقال: أیها الناس إنا أخطأنا فی عثمان خطیئة ما یخرجنا منها إلا الطلب بدمه ، وعلیٌّ قاتله وعلیه دمه... !

فلما بلغنی قوله وقول کان عن الزبیر قبیح ، بعثت إلیهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتیتمانی وأهل مصر محاصرو عثمان فقلتما: إذهب بنا إلی هذا الرجل فإنا لا نستطیع قتله إلا بک ، لما تعلم أنه سیَّر أبا ذر رحمه الله ، وفتق عماراً ، وآوی الحکم بن أبی العاص وقد طرده رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأبو بکر وعمر ، واستعمل الفاسق علی کتاب الله الولید بن عقبة ، وسلط خالد بن عرفطة العذری علی کتاب الله یمزقه ویحرقه ، فقلت: کل هذا قد علمت ولا أری قتله یومی هذا ، وأوشک سقاؤه أن

ص: 416

یخرج المخض زبدته ! فأقرَّا بما قلت ! وأما قولکما إنکما تطلبان بدم عثمان ، فهذان ابناه عمرو وسعید ، فخلوا عنهما یطلبان دم أبیهما ، ومتی کان أسد وتیم أولیاء بنی أمیة ، فانقطعا عند ذلک ! فقام عمران بن حصین الخزاعی صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وقال:یا هذان لا تخرجانا ببیعتکما من طاعة علی ، ولا تحملانا علی نقض بیعته فإنها لله رضی، أما وسعتکما بیوتکما حتی أتیتما بأم المؤمنین ! فالعجب لاختلافها وإیاکما ومسیرها معکما ، فکفَّا عنا أنفسکما وارجعا من حیث جئتما ، فلسنا عبید من غلب ، ولا أول من سبق ! فهمَّا به ثم کفَّا عنه !

وکانت عایشة قد شکَّت فی مسیرها وتعاظمت القتال ، فدعت کاتبها عبیدالله بن کعب النمیری فقالت أکتب: من عایشة بنت أبی بکر إلی علی بن أبی طالب ، فقال: هذا أمر لایجری به القلم . قالت: ولمَ ؟ قال: لأن علی بن أبی طالب فی الإسلام أول وله بذلک البدء فی الکتاب . فقالت: أکتب: إلی علی بن أبی طالب من عایشة بنت أبی بکر ، أما بعد فإنی لست أجهل قرابتک من رسول الله ، ولا قدمک فی الإسلام ، ولا غَنَاءک عن رسول الله ، وإنما خرجت مصلحة بین بنیَّ لا أرید حربک إن کففت عن هذین الرجلین ، فی کلام لها کثیر ، فلم أجبها بحرف ، وأخرت جوابها لقتالها .

فلما قضی الله لی الحسنی سرتُ إلی الکوفة ، واستخلفت عبد الله بن عباس علی البصرة ، فقدِمتُ الکوفة وقد اتسقت لی الوجوه کلها إلا الشام ،فأحببت أن أتخذ الحجة وأفضی العذر ، أخذت بقول الله تعالی: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیَانَةً فَانْبِذْ إِلَیْهِمْ عَلَی سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ الْخَائِنِینَ ، فبعثت جریر بن عبد الله إلی معاویة معذراً إلیه ، متخذاً للحجة علیه ، فردَّ کتأبی وجحد حقی ودفع بیعتی ، وبعث إلیَّ أن ابعث إلیَّ قتله عثمان ، فبعثت إلیه ما أنت وقتلة عثمان ؟ أولاده أولی به ، فادخل أنت وهم فی طاعتی ثم خاصم القوم لأحملکم وإیاهم علی کتاب الله ، وإلا فهذه خدعة الصبی عن رضاع الملیّ ! فلما یئس من هذا الأمر بعث إلی أن اجعل الشام لی حیاتک ، فإن حدث بک حادث من الموت لم یکن لأحد علیَّ طاعة ، وإنما أراد بذلک أن یخلع

ص: 417

طاعتی من عنقه ، فأبیتُ علیه ، فبعث إلیَّ إن أهل الحجاز کانوا الحکام علی أهل الشام ، فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحکام علی أهل الحجاز ! فبعثتُ إلیه إن کنت صادقا فسمِّ لی رجلاً من قریش الشام تحل له الخلافة ، ویُقبل فی الشوری ، فإن لم تجده سمیت لک من قریش الحجاز من یحل له الخلافة ویُقبل فی الشوری .

ونظرت إلی أهل الشام فإذا هم بقیة الأحزاب ، فراش نار وذباب طمع ، تجمَّع من کل أوب ، ممن ینبغی أن یؤدب ویحمل علی السنة ، لیسوا مهاجرین ولا أنصار ، ولا تابعین بإحسان ، فدعوتهم إلی الطاعة والجماعة فأبوا إلا فراقی وشقاقی ، ثم نهضوا فی وجه المسلمین ینضحونهم بالنبل ویشجرونهم بالرماح ! فعند ذلک نهضت إلیهم ، فلما عضتهم السلاح ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف فدعوکم إلی ما فیها ، فأنبأتکم أنهم لیسوا بأهل دین ولا قرآن ، وإنما رفعوها مکیدة وخدیعة فامضوا لقتالهم ، فقلتم إقبل منهم واکفف عنهم فإنهم إن أجابوا إلی ما فی القرآن ، جامعونا علی ما نحن علیه من الحق ، فقبلت منهم وکففت عنهم ، فکان الصلح بینکم وبینهم علی رجلین حکمین لیحییا ما أحیاه القرآن ، ویمیتا ما أماته القرآن ،

فاختلف رأیهما واختلف حکمهما ، فنبذا ما فی الکتاب ، وخالفا ما فی القرآن وکانا أهله .

ثم إن طائفة اعتزلت فترکناهم ما ترکونا ، حتی إذا عاثوا فی الأرض یفسدون ویقتلون ، وکان فیمن قتلوه أهل میرة من بنی أسد ، وخباباً وابنه وأم ولده، والحارث بن مرة العبدی ، فبعثت إلیهم داعیاً فقلت إدفعوا إلینا قتلة إخواننا ، فقالوا: کلنا قتلتهم ، ثم شدت خیلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمین .

فلما کان ذلک من شأنهم ، أمرتکم أن تمضوا من فورکم ذلک إلی عدوکم فقلتم: کلَّت سیوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أکثرها قصیداً ، فأذن لنا فلنرجع ولنستعد بأحسن عدتنا ، وإذا نحن رجعنا زدنا فی مقاتلتنا عدة من قتل منا ، حتی إذا أظللتم علی النخیلة أمرتکم أن تلزموا معسکرکم ، وأن تضموا إلیه نواصیکم ، وأن توطنوا علی الجهاد نفوسکم ، ول اتکثروا زیارة أبناءکم ونساءکم ، فإن أصحاب الحرب

ص: 418

مصابروها ، وأهل التشمیر فیها الذین لایتوجدون من سهر لیلهم ولا ظمأ نهارهم ، ولا فقدان أولادهم ولا نساءهم ! فأقامت طائفة منکم معدة ، وطائفة دخلت المصر عاصیة ، فلا من دخل المصر عاد إلیَّ ، ولا من أقام منکم ثبت معی ولا صبر ، فلقد رأیتنی وما فی عسکری منکم خمسون رجلاً ، فلما رأیت ما أنتم علیه دخلتُ علیکم فما قدر لکم أن تخرجوا معی إلی یومکم هذا !

لله أبوکم ألا ترون إلی مصر قد افتتحت ، وإلی أطرافکم قد انتقصت ، وإلی مسالحکم تُرقی ، وإلی بلادکم تُغزی ، وأنتم ذووا عدد جم ، وشوکة شدیدة ، وأولوا بأس قد کان مخوفاً ! لله أنتم أین تذهبون ، وأنی تؤفکون ، ألا وإن القوم قد جدوا وتآسوا وتناصروا وتناصحوا ، وإنکم قد أبیتم وونیتم وتخاذلتم وتغاششتم ، ما أنتم إن بقیتم علی ذلک سعداء ، فنبهوا رحمکم الله نائمکم ، وتجردوا وتحروا لحرب عدوکم ، فقد أبدت الرغوة عن الصریح ، وأضاء الصبح لذی عینین ،

فانتبهوا إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأهل الجفاء ومن أسلم کرهاً ، وکان لرسول الله آنفاً وللإسلام کله حرباً ! أعداء السنة والقرآن ، وأهل البدع والإحداث ، ومن کانت نکایته تتقی ، وکان علی الإسلام وأهله مخوفاً ، وآکلة الرشا ، وعبید الدنیا !

ولقد أنهیَ إلیَّ أن ابن النابغة لم یبایع معاویة حتی شرط له أن یؤتیه أتیَّةً هی أعظم مما فی یدیه من سلطانه ، فصفرتْ ید هذا البائع دینه بالدنیا ، وخزیتْ أمانة هذا المشتری بنصرة فاسق غادر بأموال المسلمین ، وأیُّ سهم لهذا المشتری بنصرة فاسق غادر ، وقد شرب الخمر وضرب حداً فی الإسلام ، وکلکم یعرفه بالفساد فی الدین وإن منهم من لم یدخل فی الإسلام وأهله حتی رضخ له علیه رضیخة ! فهؤلاء قادة القوم ، ومن ترکت لکم ذکر مساویة أکثر وأبور ! وأنتم تعرفونهم بأعیانهم وأسمائهم کانوا علی الإسلام ضداً ، ولنبی الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حرباً ، وللشیطان حزباً ، لم یقدم إیمانهم ولم یحدث نفاقهم !

وهؤلاء الذین لو ولوا علیکم لأظهروا فیکم الفخر والتکبر ، والتسلط بالجبریة ،

ص: 419

والفساد فی الأرض ! وأنتم علی ما کان منکم من تواکل وتخاذل خیر منهم وأهدی سبیلاً ، منکم الفقهاء والعلماء والفهماء ، وحملة

الکتاب والمتهجدون بالأسحار ، ألا تسخطون وتنقمون أن ینازعکم الولایة السفهاء البطاء عن الإسلام ، الجفاة فیه ؟!

إسمعوا قولی یهدکم الله إذا قلت ، وأطیعوا أمری إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتمونی لاتغوون ، وإن عصیتمونی لاترشدون ! قال الله تعالی: أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلا أَنْ یُهْدَی فَمَا لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ . وقال الله تعالی لنبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِکُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ، فالهادی بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هاد لأمته علی ماکان من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فمن عسی أن یکون الهادی إلا الذی دعاکم إلی الحق ، وقادکم إلی الهدی ! خذوا للحرب أهبتها ، وأعدوا لها عدتها ، فقد شبَّت وأوقدت، وتجرد لکم الفاسقون لکیما یطفئوا نور لله بأفواههم ، ویغروا عباد الله .

ألا إنه لیس أولیاء الشیطان من أهل الطمع والجفاء ، أولی بالحق من أهل البر والإحسان والإخبات فی طاعة ربهم ومناصحة إمامهم !

إنی والله لو لقیتهم وحدی وهم أهل الأرض ما استوحشت منهم ولا بالیت ، ولکن أسفٌ یریبنی وجزعٌ یعترینی من أن یلی هذه الأمة فجارها وسفهاؤها ، فیتخذون مال الله دولاً ، وکتاب الله دغلاً ، والفاسقین حزباً ، والصالحین حرباً !

وأیم الله لولا ذلک ما أکثرت تأنیبکم وتحریضکم ، ولترکتکم إذ أبیتم حتی حمَّ لی لقاؤهم ، فوالله إنی لعلی الحق، وإنی للشهادة لمحب، وإنی إلی لقاء الله ربی لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر ، إنی نافرٌ بکم فانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالکم وأنفسکم فی سبیل الله ، ولاتثاقلوا فی الأرض فتغموا بالذل، وتقروا بالخسف ، ویکون نصیبکم الأخسر! إن أخا الحرب الیقظان الأرق ، إن نام لم تنم عینه ، ومن ضعف أوذی ، ومن کره الجهاد فی سبیل الله کان المغبون المهین .

إنی لکم الیوم علی ما کنت علیه أمس ، ولستم لی علی ما کنتم علیه ، من تکونوا ناصریه أخذ بالسهم الأخیب ! والله لو نصرتم الله لنصرکم وثبت أقدامکم ، إنه حقٌّ

ص: 420

علی الله أن ینصر من نصره ، ویخذل من خذله ، أترون الغلبة لمن صبر بغیر نصر ، وقد یکون الصبر جبناً ویکون حمیة ، وإنما النصر بالصبر ، والورد بالصدر ، والبرق بالمطر . اللهم اجمعنا وإیاهم علی الهدی ، وزهدنا وإیاهم فی الدنیا ، واجعل الآخرة خیرا لنا من الأولی). انتهی. (نهج السعادة للمحمودی: 5/194، وذکر من مصادره فی: 5/258: کشف المحجة لثمرة المهجة للسید ابن طاووس ص173 ، و البحار:8/184، ط الکمبانی، ....ثم قال: وممن روی هذا الکتاب بألفاظه من أهل السنة إلا فی ألفاظ نادرة وجمل یسیرة هو ابن قتیبة فإنه رواه فی الجزء الأول من الإمامة والسیاسة ص154 ، ط مصر . فی عنوان: ما کتبه علی لأهل العراق قبل بیان مقتله(علیه السّلام) . ورواه أیضاً بمغایرة طفیفة فی بعض ألفاظه وجمله إبراهیم بن محمد الثقفی فی الغارات ، کما فی بحار الأنوار: 8 /615، فی عنوان: الفتن الحادثة بمصر ، وشهادة محمد بن أبی بکر. وأشار إلی هذا الکتاب أحمد بن یحیی البلاذری ، أنساب الأشراف ص400... ورواه أیضاً محمد بن جریر بن رستم الطبری المتوفی أوائل القرن الرابع فی آخر الباب الرابع من کتاب المسترشد ، 77 قال: وروی الشعبی عن شریح بن هانئ قال: خطب علی بن أبی طالب(علیه السّلام)بعدما افتتحت مصر ، ثم قال: وإنی مخرج إلیکم کتاباً فیه جواب ما سألتم عنه وکتب: ( من عبد الله علی أمیر المؤمنین ، إلی من قرئ علیه کتأبی من المؤمنین والمسلمین ، أما بعد فإن الله بعث محمداً....ثم ساق الکتاب کما تقدم بروایة ثقة الإسلام باختلاف طفیف فی بعض ألفاظه ). انتهی .

ومن ذلک: أجوبته(علیه السّلام)علی اعتراضات الأشعث بن قیس الخبیثة ، وهی متعددة ، نذکر منها قوله(علیه السّلام)ذات: (إنی کنت لم أزل مظلوماً مستأثراً علیًّ حقی ، فقام إلیه الأشعث بن قیس فقال: یا أمیر المؤمنین لمَ لم تضرب بسیفک ولم تطلب بحقک؟ فقال: یا أشعث قد قلتَ قولاً فاسمع الجواب وعهْ واستشعر الحجة: إن لی أسوة بستة من الأنبیاء صلوات الله علیهم أجمعین . أولهم نوح حیث قال: رب إنی مغلوب فانتصر...الخ...). (الإحتجاج:1/279)

وفی کتاب سُلیم(رحمه الله)ص213: (فقام وخطب فقال: ألا إنی قد استنفرتکم فلم تنفروا، ونصحتکم فلم تقبلوا ، ودعوتکم فلم تسمعوا ! فأنتم شهود کغیَّاب وأحیاء کأموات ،

ص: 421

وصم ذوو أسماع ! أتلو علیکم الحکمة وأعظکم بالموعظة الشافیة الکافیة ، وأحثکم علی الجهاد لأهل الجور ، فما آتی علی آخر کلامی حتی أراکم متفرقین حلقا شتی ، تتناشدون الأشعار وتضربون الأمثال ، وتسألون عن سعر التمر واللبن !

تبَّت أیدیکم ، لقد سئمتم الحرب والإستعداد لها ، وأصبحت قلوبکم فارغة من ذکرها ، شغلتموها بالأباطیل والأضالیل والأعالیل! ویحکم ، أغزوهم قبل أن یغزوکم فوالله ما غزی قوم قط فی عقر دارهم إلا ذلوا ! وأیم الله ماأظن أن تفعلوا حتی یفعلوا ثم وددت أنی قد رأیتهم فلقیت الله علی بصیرتی ویقینی واسترحت من مقاساتکم ومن ممارستکم ! فما أنتم إلا کإبل جمة ضل راعیها ، فکلما ضمت من جانب انتشرت من جانب . کأنی بکم والله فیما أری ، لو قد حمس الوغی واستحر الموت ، قد انفرجتم عن علی بن أبی طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن ولدها ، لا تمنع ید لامس !! قال الأشعث بن قیس الکندی: فهلا فعلت کما فعل ابن عفان ؟!

فقال علی(علیه السّلام): یا عرف النار ، أوَکما فعل ابن عفان رأیتمونی فعلت؟ أنا عائذٌ بالله من شر ما تقول ! یا ابن قیس والله إن الذی فعل ابن عفان لمخزاةٌ لمن لا دین له ولا الحق فی یده ، فکیف أفعل ذلک وأنا علی بینة من ربی وحجته فی یدی والحق معی؟ والله إن امرءً مکَّن عدوه من نفسه حتی یجزَّ لحمه ویفری جلده ویهشم عظمه ویسفک دمه ، وهو یقدر علی أن یمنعه ، لعظیم وزره وضعیف ما ضمت علیه جوانح صدره ! فکن أنت ذلک یا ابن قیس فأما أنا فدون والله أن أعطی بیدی ضربٌ بالمشرفی تطیر له فراش الهام ، وتطیح منه الکف والمعصم ویفعل الله بعد ما یشاء . ویلک یا بن قیس ، المؤمن یموت بکل موتة غیر أنه لایقتل نفسه ، فمن قدر علی حقن دمه ، ثم خلا بینه وبین قاتله ، فهو قاتل نفسه...

فقال الأشعث بن قیس وغضب من قوله: فما یمنعک یا ابن أبی طالب حین بویع أخو تیم بن مرة وأخو بنی عدی بن کعب وأخو بنی أمیة بعدهما ، أن تقاتل وتضرب بسیفک ؟ وأنت لم تخطبنا خطبة منذ کنت قدمت العراق إلا وقد قلت

ص: 422

فیها قبل أن تنزل عن منبرک: والله إنی لأولی الناس بالناس وما زلت مظلوماً منذ قبض الله محمداً . فما منعک أن تضرب بسیفک دون مظلمتک؟!

فقال له علی(علیه السّلام): یا ابن قیس قلت فاسمع الجواب: لم یمنعنی من ذلک الجبن ولا کراهیةٌ للقاء ربی ، وأن لا أکون أعلم أن ما عند الله خیر لی من الدنیا والبقاء فیها، ولکن منعنی من ذلک أمرُ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعهدُه إلیَّ !!

أخبرنی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما الأمة صانعة بی بعده ، فلم أکُ بما صنعوا حین عاینته بأعلم منی ولا أشد یقیناً منی به قبل ذلک ، بل أنا بقول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أشد یقیناً منی بما عاینت وشهدت . فقلت: یارسول الله فما تعهد إلیَّ إذا کان ذلک؟ قال: إن وجدت أعواناً فانبذ إلیهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاکفف یدک واحقن دمک حتی تجد علی إقامة الدین وکتاب الله وسنتی أعواناً .

وأخبرنی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن الأمة ستخذلنی وتبایع غیری وتتبع غیری وأخبرنی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنی منه بمنزلة هارون من موسی، وأن الأمة سیصیرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه..... فلما قبض رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مال الناس إلی أبی بکر فبایعوه وأنا مشغول برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بغسله ودفنه ، ثم شغلت بالقرآن ، فآلیت علی نفسی أن لا أرتدی إلا للصلاة حتی أجمعه فی کتاب ، ففعلت .

ثم حملت فاطمة وأخذت بید ابنی الحسن والحسین ، فلم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرین والأنصار إلا ناشدتهم الله فی حقی ، ودعوتهم إلی نصرتی ، فلم یستجب لی من جمیع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبیر ، ولم یکن معی أحد من أهل بیتی أصول به ولا أقوی به.... فقلت کما قال هارون لأخیه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی ! فلی بهارون أسوة حسنة ولی بعهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حجة قویة....

الی أن قال(علیه السّلام):ویلک یا ابن قیس کیف رأیتنی صنعت حین قتل عثمان إذ وجدت أعواناً ؟ هل رأیت

منی فشلاً أو تأخراً أو جبناً أو تقصیراً فی وقعتی یوم البصرة وهم

ص: 423

حول جملهم ، الملعون من معه ، الملعون من قتل حوله ، الملعون من رجع بعده لا تائباً ولا مستغفراً ، فإنهم قتلوا أنصاری ونکثوا بیعتی ومثلوا بعاملی وبغوا علیَّ ، وسرت إلیهم فی اثنی عشر ألفاً وهم نیف علی عشرین ومائة ألف ، فنصرنی الله علیهم ، وقتلهم بأیدینا وشفی صدور قوم مؤمنین !

وکیف رأیت یا ابن قیس وقعتنا بصفین وما قتل الله منهم بأیدینا خمسین ألفاً فی صعید واحد إلی النار ! وکیف رأیتنا یوم النهروان إذ لقیتُ المارقین وهم مستمسکون یومئذ بدین الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً، فقتلهم الله بأیدینا فی صعید واحد إلی النار ، لم یبق منهم عشرة ولم یقتلوا من المؤمنین عشرة .

ویلک یا ابن قیس هل رأیت لی لواء رُدَّ أو رایة ردت؟ إیای تعیر یا ابن قیس ! وأنا صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی جمیع مواطنه ومشاهده ، والمتقدم إلی الشدائد بین یدیه لا أفر ولا أزول ، ولا أعیا ولا أنحاز ، ولا أمنح العدو دبری ، لأنه لاینبغی للنبی ولا للوصی إذا لبس لأمته وقصد لعدوه أن یرجع أو ینثنی حتی یقتل أو یفتح الله له ! هل سمعت لی بفرار قط أو نَبْوَة ؟

یا ابن قیس ، والذی فلق الحبة وبرء النسمة ، لو أن أولئک الأربعین الذین بایعوا وفوا لی وأصبحوا علی بابی محلقین رؤوسهم قبل أن تجب لعتیق فی عنقی بیعته ، لناهضته وحاکمته إلی الله عز وجل ! ولو وجدت قبل بیعة عثمان أعواناً لناهضتهم وحاکمتهم إلی الله ، فإن ابن عوف جعلها لعثمان واشترط علیه فیما بینه وبینه أن یردها علیه عند موته ! وأما بعد بیعتی إیاهم فلیس إلی مجاهدتهم سبیل !

فقال الأشعث: والله لئن کان الأمر کما تقول لقد هلکت أمة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )غیرک وغیر شیعتک ! فقال له علی(علیه السّلام): فإن الحق والله معی یا

ابن قیس کما أقول ، وما هلک من الأمة إلا الناصبون والناکثون والمکابرون والجاحدون والمعاندون ، فأما من تمسک بالتوحید والإقرار بمحمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والإسلام ولم یخرج من الملة ولم یظاهر علینا

ص: 424

الظلمة ولم ینصب لنا العداوة ، وشک فی الخلافة ولم یعرف أهلها وولاتها ، ولم یعرف لنا ولایة ولم ینصب لنا عداوة ، فإن ذلک مسلم مستضعف یرجی له رحمة الله ویتخوف علیه ذنوبه .

قال أبان: قال سلیم بن قیس: فلم یبق یومئذ من شیعة علی(علیه السّلام)أحد إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته ، إذ شرح أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الأمر وباح به وکشف الغطاء وترک التقیة . ولم یبق أحد من القراء ممن کان یشک فی الماضین ویکفَّ عنهم ویدع البراءة منهم ورعاً وتأثماً ، إلا استیقن واستبصر وحسن رأیه ، وترک الشک یومئذ والوقوف . ولم یبق حوله ممن أبی بیعته إلا علی وجه ما بویع علیه عثمان والماضون قبله ، إلا رُئِیَ ذلک فی وجهه وضاق به أمره وکره مقالته . ثم إنه استبصر عامتهم وذهب شکهم . قال أبان عن سلیم: فما شهدت یوماً قط علی رؤوس العامة کان أقرَّ لأعیننا من ذلک الیوم ، لما کشف أمیر المؤمنین(علیه السّلام)للناس من الغطاء ، وأظهر فیه من الحق ، وشرح فیه من الأمر والعاقبة ، وألقی فیه من التقیة ، وکثرت الشیعة بعد ذلک المجلس من ذلک الیوم وتکلموا ، وقد کانوا أقل أهل عسکره ، وسائر الناس یقاتلون معه علی غیر علم بمکانه من الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وصارت الشیعة بعد ذلک المجلس أجل الناس وأعظمهم).انتهی.

ص: 425

ص: 426

الفصل العاشر: شهادة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)

اشارة

ص: 427

ص: 428

شاهد العصر..یروی ظلامته قبیل شهادته !

نورد هذا النص بکامله لأنه شهادةٌ کاملة من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی عصره ، وخلاصةٌ لسیرته بکلامه ، وهی عقیدة الشیعة فی تلک الأحداث وشخصیاتها .

روی الصدوق فی الخصال ص365، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال:(أتی رأس الیهود علی بن أبی طالب(علیه السّلام)عند منصرفه عن وقعة النهروان ، وهو جالسٌ فی مسجد الکوفة فقال: یا أمیر المؤمنین إنی أرید أن أسالک عن أشیاء لا یعلمها إلا نبیٌّ أو وصی نبی ! قال: سل عما بدا لک یا أخا الیهود ؟ قال: إنا نجد فی الکتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبیاً أوحی إلیه أن یتخذ من أهل بیته من یقوم بأمر أمته من بعده ، وأن یعهد إلیهم فیه عهداً یحتذی علیه ویعمل به فی أمته من بعده ، وأن الله عز وجل یمتحن الأوصیاء فی حیاة الأنبیاء ویمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرنی کم یمتحن الله الأوصیاء فی حیاة الأنبیاء ، وکم یمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ، وإلی ما یصیر آخر أمر الأوصیاء إذا رضی محنتهم؟

فقال له علی(علیه السّلام):والله الذی لا إله غیره الذی فلق البحر لبنی إسرائیل وأنزل التوراة علی موسی(علیه السّلام) ، لئن أخبرتک بحق عما تسأل عنه ، لتُقِرَّنَّ به؟ قال: نعم .

قال: والذی فلق البحر لبنی إسرائیل وأنزل التوراة علی موسی(علیه السّلام)، لئن أجبتک لتُسْلِمَنَّ؟ قال:

نعم .

فقال له علی(علیه السّلام): إن الله عز وجل یمتحن الأوصیاء فی حیاة الأنبیاء فی سبعة مواطن لیبتلی طاعتهم ، فإذا رضی طاعتهم ومحنتهم ، أمر الأنبیاء أن یتخذوهم أولیاء فی

ص: 429

حیاتهم وأوصیاء بعد وفاتهم ، ویصیر طاعة الأوصیاء فی أعناق الأمم ممن یقول بطاعة الأنبیاء(علیهم السّلام) . ثم یمتحن الأوصیاء بعد وفاة الأنبیاء(علیهم السّلام) فی سبعة مواطن لیبلو صبرهم ، فإذا رضی محنتهم ختم لهم بالسعادة لیلحقهم بالأنبیاء وقد أکمل لهم السعادة .

قال له رأس الیهود: صدقت یا أمیر المؤمنین فأخبرنی کم امتحنک الله فی حیاة محمد من مرة ؟ وکم امتحنک بعد وفاته من مرة ؟ وإلی ما یصیر أخر أمرک ؟

فأخذ علی(علیه السّلام)بیده وقال: إنهض بنا أنبئک بذلک ، فقام إلیه جماعة من أصحابه فقالوا: یا أمیر المؤمنین أنبئنا بذلک معه ، فقال: إنی أخاف أن لا تحتمله قلوبکم ، قالوا: ولمَ ذاک یا أمیر المؤمنین؟ قال: لأمور بدت لی من کثیر منکم ، فقام إلیه الأشتر فقال: یا أمیر المؤمنین أنبئنا بذلک ، فوالله إنا لنعلم أنه ما علی ظهر الأرض وصی نبی سواک ، وإنا لنعلم أن الله لایبعث بعد نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )نبیاً سواه ، وأن طاعتک لفی أعناقنا موصولة بطاعة نبینا ، فجلس علی(علیه السّلام)وأقبل علی الیهودی فقال:

یا أخا الیهود ، إن الله عز وجل امتحننی فی حیاة نبینا محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی سبعة مواطن فوجدنی فیهن من غیر تزکیة لنفسی ، بنعمة الله له مطیعاً قال: وفیم یا أمیر المؤمنین؟

قال: أما أولاهن، فإن الله عز وجل أوحی إلی نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بیتی سناً ، أخدمه فی بیته وأسعی بین یدیه فی أمره ، فدعا صغیر بنی عبد المطلب وکبیرهم إلی شهادة أن لاإله إلاالله وأنه رسول الله، فامتنعوا من ذلک وأنکروه علیه وهجروه ونابذوه ، واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس ، مقصین له ومخالفین علیه ، قد استعظموا ماأورده علیهم مما لم تحتمله قلوبهم وتدرکه عقولهم ، فأجبت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحدی إلی ما دعا إلیه مسرعاً مطیعاً موقناً ، لم یتخالجنی فی ذلک شک ، فمکثنا بذلک ثلاث حجج ، وما علی وجه الأرض خلق یصلی أو یشهد لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما آتاه الله غیری وغیر ابنة خویلد رحمها الله!ثم أقبل(علیه السّلام)علی أصحابه فقال: ألیس کذلک قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین . فقال(علیه السّلام):

ص: 430

وأما الثانیة یا أخا الیهود ، فإن قریشاً لم تزل تخیل الآراء وتعمل الحیل فی قتل النبی حتی کان آخر ما اجتمعت فی ذلک یوم الدار دار الندوة وإبلیس الملعون حاضر فی صورة أعور ثقیف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتی اجتمعت آراؤها علی أن ینتدب من کل فخذ من قریش رجل ، ثم یأخذ کل رجل منهم سیفه ثم یأتی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهو نائم علی فراشه فیضربونه جمیعاً بأسیافهم ضربة رجل واحد فیقتلوه، وإذا قتلوه منعت قریش رجالها ولم تسلمها فیمضی دمه هدراً ! فهبط جبرئیل(علیه السّلام)علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فأنبأه بذلک وأخبره باللیلة التی یجتمعون فیها والساعة التی یأتون فراشه فیها، وأمره بالخروج فی الوقت الذی خرج فیه إلی الغار فأخبرنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالخبر وأمرنی أن أضطجع فی مضجعه وأقیه بنفسی ، فأسرعت إلی ذلک مطیعاً له مسروراً لنفسی بأن أقتل دونه ، فمضی(علیه السّلام)لوجهه واضطجعت فی مضجعه ، وأقبلت رجالات قریش موقنة فی أنفسها أن تقتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلما استوی بی وبهم البیت الذی أنا فیه ، ناهضتهم بسیفی فدفعتهم عن نفسی بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل(علیه السّلام)علی أصحابه فقال: ألیس کذلک ؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین . فقال(علیه السّلام): وأما الثالثة یا أخا الیهود ، فإن ابنی ربیعة وابن عتبة کانوا فرسان قریش ، دعوا إلی البراز یوم بدر ، فلم یبرز لهم خلق من قریش ، فأنهضنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مع صاحبیَّ رضی الله عنهما وقد فعل ، وأنا أحدث أصحأبی سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بیدی ولیداً

وشیبة ، سوی من قتلت من جحاجحة قریش فی ذلک الیوم ، وسوی من أسرت ، وکان منی أکثر مما کان من أصحأبی ، واستشهد ابن عمی فی ذلک رحمة الله علیه . ثم التفت إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال علی(علیه السّلام):

وأما الرابعة یا أخا الیهود، فإن أهل مکة أقبلوا إلینا علی بکرة أبیهم قد استحاشوا من یلیهم من قبایل العرب وقریش ، طالبین بثأر مشرکی قریش فی یوم بدر، فهبط جبرئیل(علیه السّلام)علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فأنبأه بذلک فذهب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعسکر بأصحابه فی سدِّ

ص: 431

أحُد ، وأقبل المشرکون إلینا فحملوا إلینا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمین من استشهد وکان ممن بقی من الهزیمة، وبقیت مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومضی المهاجرون والأنصار إلی منازلهم من المدینة کل یقول: قتل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقتل أصحابه ! ثم صرف الله عز وجل وجوه المشرکین، وقد جرحت بین یدی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )نیفاً وسبعین جراحة منها هذه وهذه ، ثم ألقی رداءه وأمرَّ یده علی جراحاتی ، وکان منی فی ذلک ما علی الله عز وجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

وأما الخامسة یا أخا الیهود ، فإن قریشاً والعرب تجمعت وعقدت بینها عقداً ومیثاقاً لاترجع من وجهها حتی تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بنی عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحدیدها حتی أناخت علینا بالمدینة ، واثقةً بأنفسها فیما توجهت له ، فهبط جبرئیل(علیه السّلام)علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فأنبأه بذلک ، فخندق علی نفسه ومن معه من المهاجرین والأنصار ، فقدمت قریش فأقامت علی الخندق محاصرةً لنا ، تری فی أنفسها القوة وفینا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یدعوها إلی الله عز وجل ویناشدها بالقرابة والرحم فتأبی ، ولا یزیدها ذلک إلا عتواً ، وفارسها وفارس العرب یومئذ عمرو بن عبد ود ، یهدر کالبعیر المغتلم ، یدعو إلی البراز ویرتجز ویخطر برمحه مرة ،وبسیفه مرة ، لایقدم علیه مُقدم ، ولایطمع فیه طامع ، ولا حمیة تهیجه ولا بصیرة تشجعه ، فأنهضنی إلیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعممنی بیده وأعطانی سیفه هذا ، وضرب بیده إلی ذی الفقار ، فخرجت إلیه ونساء أهل المدینة بواکٍ إشفاقاً علیَّ من ابن عبد ود ، فقتله الله عز وجل بیدی ، والعرب لاتعدُّ لها فارساً غیره ، وضربنی هذه الضربة وأومأ بیده إلی هامته ، فهزم الله قریشاً والعرب بذلک ، وبما کان منی فیهم من النکایة . ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک؟ قالوا: بلی یاأمیر المؤمنین فقال(علیه السّلام):وأما السادسة یا أخا الیهود ، فإنا وردنا مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مدینة أصحابک خیبر علی رجال من الیهود وفرسانها من قریش وغیرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من

ص: 432

الخیل والرجال والسلاح ، وهم فی أمنع دار وأکثر عدد ، کل ینادی ویدعو ویبادر إلی القتال ، فلم یبرز إلیهم من أصحأبی أحد إلا قتلوه حتی إذا احمرت الحدق ، ودعیت إلی النزال وأهمت کل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحأبی إلی بعض وکل یقول: یا أبا الحسن انهض ، فأنهضنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی دارهم فلم یبرز إلی منهم أحد إلا قتلته ، ولا یثبت لی فارس إلا طحنته ، ثم شددت علیهم شدة اللیث علی فریسته ، حتی أدخلتهم جوف مدینتهم مسدداً علیهم ، فاقتلعت باب حصنهم بیدی حتی دخلت علیهم مدینتهم وحدی ، أقتل من یظهر فیها من رجالها ، وأسبی من أجد من نسائها حتی افتتحها وحدی ، ولم یکن لی فیها معاون إلا الله وحده ، ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک ؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

وأما السابعة یا أخا الیهود، فإن رسول لله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لما توجه لفتح مکة ، أحب أن یُعذر إلیهم ویدعوهم إلی الله عز وجل آخراً ، کما دعاهم أولاً ، فکتب إلیهم کتاباً یحذرهم فیه وینذرهم عذاب الله ، ویعدهم الصفح ویمنیهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم فی آخره سورة براءة لیقرأها علیهم ، ثم عرض علی جمیع أصحابه المضیَّ به فکلهم یری التثاقل فیه ، فلما رأی ذلک ندب منهم رجلاً فوجهه به فأتاه جبرئیل فقال: یا محمد لایؤدی عنک إلا أنت أو رجل منک ، فأنبأنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذلک ووجهنی بکتابه ورسالته إلی أهل مکة ، فأتیت مکة وأهلها من قد عرفتم لیس منهم أحد إلا ولو قدر أن یضع علی کل جبل منی إرباً لفعل ، ولو أن یبذل فی ذلک نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقرأت علیهم کتابه ، فکلهم یلقانی بالتهدد والوعید ویبدی لی البغضاء ، ویظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فکان منی فی ذلک ما قد رأیتم ! ثم التفت إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک ؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین . فقال(علیه السّلام):

یا أخا الیهود هذه المواطن التی امتحننی فیه ربی عز وجل مع نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فوجدنی فیها کلها بمنه مطیعاً ، لیس لأحد فیها مثل الذی لی ، ولو شئت لوصفتُ ذلک ،

ص: 433

ولکن الله عز وجل نهی عن التزکیة . فقالوا: یا أمیر المؤمنین: صدقت والله ، ولقد أعطاک الله عز وجل الفضیلة بالقرابة من نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأسعدک بأن جعلک أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسی ، وفضلک بالمواقف التی باشرتها، والأهوال التی رکبتها، وذخر لک الذی ذکرت وأکثر منه مما لم تذکره ، ومما لیس لأحد من المسلمین مثله یقول ذلک من شهدک منا مع نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومن شهدک بعده ، فأخبرنا یا أمیر المؤمنین ما امتحنک الله عز وجل به بعد نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فاحتملته وصبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلک لوصفناه ، علماً منا به وظهوراً منا علیه ، إلا أنا نحب أن نسمع منک ذلک ، کما سمعنا منک ما امتحنک الله به فی حیاته فأطعته فیه . فقال(علیه السّلام):

یا أخا الیهود إن الله عز وجل امتحننی بعد وفاة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی سبعة مواطن فوجدنی فیهن ، من غیر تزکیة لنفسی ، بمنه ونعمته صبوراً .

أما أولهن یا أخا الیهود ، فإنه لم یکن لی خاصة دون المسلمین عامة أحد آنس به أو أعتمد علیه أو أستنیم إلیه أو أتقرب به ، غیر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، هو ربانی صغیراً وبوأنی کبیراً ، وکفانی العیلة ، وجبرنی من الیتم ، وأغنانی عن الطلب ، ووقانی المکسب . وعال لی النفس والولد والأهل ، هذا فی تصاریف أمر الدنیا ، مع ما خصنی به من الدرجات التی قادتنی إلی معالی الحق عند الله عز وجل ، فنزل بی من وفاة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ما لم أکن أظن الجبال لو حملته عنوة کانت تنهض به ، فرأیت الناس من أهل بیتی ما بین جازع لا یملک جزعه ولایضبط نفسه ، ولا یقوی علی حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بینه وبین الفهم والإفهام والقول والإسماع ! وسائر الناس من غیر بنی عبد المطلب بین معز یأمر بالصبر ، وبین مساعد باک لبکائهم جازع لجزعهم ، وحملت نفسی علی الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والإنشغال بما أمرنی به من تجهیزه وتغسیله وتحنیطه وتکفینه ، والصلاة علیه ، ووضعه فی حفرته ، وجمع کتاب الله وعهده إلی خلقه ، لایشغلنی عن ذلک بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولاجزیل مصیبة ، حتی أدیت

ص: 434

فی ذلک الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیَّ ، وبلغت منه الذی أمرنی به ، واحتملته صابراً محتسباً . ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین . فقال(علیه السّلام):

وأما الثانیة یا أخا الیهود ، فإن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمَّرنی فی حیاته علی جمیع أمته ، وأخذ علی جمیع من حضره منهم البیعة والسمع والطاعة لأمری ، وأمرهم أن یبلغ الشاهد الغائب ذلک، فکنت المؤدی إلیهم عن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أمره إذا حضرته والأمیر علی من حضرنی منهم إذا فارقته ، لا تختلج فی نفسی منازعة أحد من الخلق لی ، فی شئ من الأمر فی حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولا بعد وفاته . ثم أمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بتوجیه الجیش الذی وجهه مع أسامة بن زید عند الذی أحدث الله به من المرض الذی توفاه فیه ، فلم یدع أحداً من أفناء العرب ولا

من الأوس والخزرج وغیرهم من سائر الناس ممن یخاف علیَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن یرانی بعین البغضاء ممن قد وترته بقتل أبیه أو أخیه أو حمیمه ، إلا وجهه فی ذلک الجیش ، ولا من المهاجرین والأنصار والمسلمین والمؤلفة قلوبهم والمنافقین . لتصفوَ قلوب من یبقی معی بحضرته ، ولئلا یقول قائل شیئاً مما أکرهه ، ولا یدفعنی دافع من الولایة والقیام بأمر رعیته من بعده ، ثم کان آخر ما تکلم به فی شئ من أمر أمته ، أن یمضی جیش أسامة ولا یتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم فی ذلک أشد التقدم ، وأوعز فیه أبلغ الإیعاز ، وأکد فیه أکثر التأکید ! فلم أشعر بعد أن قبض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلا برجال من بعث أسامة بن زید وأهل عسکره قد ترکوا مراکزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فیما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إلیهم من ملازمة أمیرهم، والسیر معه تحت لوائه ، حتی ینفذ لوجهه الذی أنفذه إلیه ! فخلفوا أمیرهم مقیماً فی عسکره وأقبلوا یتبادرون علی الخیل رکضاً إلی حل عقدة عقدها الله عز وجل لی ولرسوله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنکثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم ، من غیر مناظرة لأحد منا بنی عبد المطلب

ص: 435

أو مشارکة فی رأی ، أو استقالة لما فی أعناقهم من بیعتی !

فعلوا ذلک وأنا برسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مشغول وبتجهیزه ، عن سائر الأشیاء مصدود ، فإنه کان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فکان هذا یا أخا الیهود أقرح ما ورد علی قلبی ، مع الذی أنا فیه من عظیم الرزیة وفاجع المصیبة ، وفقد من لاخلف منه إلا الله تبارک وتعالی، فصبرت علیها إذ أتت بعد أختها علی تقاربها وسرعة اتصالها، ثم التفت(علیه السّلام) إلی أصحابه فقال: ألیس کذالک ؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

وأما الثالثة یا أخا الیهود ، فإن القائم بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان یلقانی معتذراً فی کل أیامه ، ویلوم غیره علی ما ارتکبه من أخذ حقی ونقض بیعتی ، وسألنی تحلیله ، فکنت أقول: تنقضی أیامه ، ثم یرجع إلیَّ حقی الذی جعله الله لی عفواً هنیئاً من غیر أن أحدث فی الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلیة ، حدثاً فی طلب حقی بمنازعة ، لعل فلاناً یقول فیها نعم وفلاناً یقول لا ، فیؤول ذلک من القول إلی الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولکتابه ودینه الإسلام یأتونی عوداً وبدءاً وعلانیة وسراً فیدعونی إلی أخذ حقی ، ویبذلون أنفسهم فی نصرتی ، لیؤدوا إلیَّ بذلک بیعتی فی أعناقهم ، فأقول رویداً وصبراً لعل الله یأتینی بذلک عفواً بلا منازعة ولا إراقة دماء ، فقد ارتاب کثیر من الناس بعد وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وطمع فی الأمر بعده من لیس له بأهل فقال کل قوم: منا أمیر ، وما طمع القائلون فی ذلک إلا لتناول غیری الأمر ، فلما دنت وفاة القائم وانقضت أیامه صیَّر الأمر بعده لصاحبه ، فکانت هذه أخت أختها ، ومحلها منی مثل محلها ، وأخذا منی ماجعله الله لی ، فاجتمع إلی من أصحاب محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ممن مضی وممن بقی ممن أخره الله من اجتمع ، فقالوا لی فیها مثل الذی قالوا فی أختها ، فلم یعد قولی الثانی قولی الأول ، صبراً واحتساباً ویقیناً ، وإشفاقاً من أن تفنی عصبة تألفهم رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )باللین مرة وبالشدة أخری ، وبالنذر مرة ، وبالسیف أخری ! حتی لقد کان من تألفه لهم أن کان الناس فی الکر والفرار والشبع والری ، واللباس والوطاء والدثار ،

ص: 436

ونحن أهل بیت محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لاسقوف لبیوتنا ، ولا أبواب ولاستور إلا الجرائد ، وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علینا ، یتداول الثوب الواحد فی الصلاة أکثرنا ، ونطوی اللیالی والأیام عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاءه الله علینا وصیره لنا خاصة دون غیرنا ، ونحن علی ماوصفت من حالنا، فیؤثر به رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم ، فکنت أحق من لم یفرق هذه العصبة التی ألفها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولم یحملها علی الخطة التی لاخلاص لها منها ، دون بلوغها أو فناء آجالها ، لأنی لو نصبت نفسی فدعوتهم إلی نصرتی کانوا منی وفی أمری علی إحدی منزلتین إما متبع مقاتل ، وإما مقتول إن لم یتبع الجمیع ، وإما خاذل یکفر بخذلانه إن قصر فی نصرتی أو أمسک عن طاعتی ، وقد علم الله أنی منه بمنزلة هارون من موسی ، یحل به فی مخالفتی والإمساک عن نصرتی ما أحل قوم موسی بأنفسهم فی مخالفة هارون وترک طاعته . ورأیت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ، ولزوم الصبر حتی یفتح الله أو یقضی بما أحب ، أزیَد لی فی حظی ، وأرفقَ بالعصابة التی وصفت أمرهم ، وکان أمر الله قدراً مقدوراً . ولو لم أتق هذه الحالة یا أخا الیهود ثم طلبت حقی ، لکنت أولی ممن طلبه ، لعلم من مضی من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومن بحضرتک منه بأنی کنت أکثر عدداً وأعز عشیرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة ، وأکثر فی هذا الدین مناقب وآثاراً ، لسوابقی وقرابتی ووراثتی ، فضلاً عن استحقاقی ذلک بالوصیة التی لامخرج للعباد منها ، والبیعة المتقدمة فی أعناقهم ممن تناولها ، وقد قبض محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وإن ولایة الأمة فی یده وفی بیته ، لا فی ید الألی تناولوها ولا فی بیوتهم ، ولأهل بیته الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً أولی بالأمر من بعده من غیرهم فی جمیع الخصال ، ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک ؟ فقالو: بلی یا أمیر المؤمنین فقال(علیه السّلام):

وأما الرابعة یا أخا الیهود ، فإن القائم بعد صاحبه کان یشاورنی فی موارد الأمور فیصدرها عن أمری ، ویناظرنی فی غوامضها فیمضیها عن رأیی ، لا أعلم أحداً ولا

ص: 437

یعلمه أصحأبی یناظره فی ذلک غیری ، ولا یطمع فی الأمر بعده سوای ، فلما أن أتته منیته علی فجأة بلا مرض کان قبله ، ولا أمر کان أمضاه فی صحة من بدنه ، لم أشک أنی قد استرجعت حقی فی عافیة بالمنزلة التی کنت أطلبها ، والعاقبة التی کنت التمسها ، وأن الله سیأتی بذلک علی أحسن ما رجوت ، وأفضل ما أملت ، وکان من فعله أن ختم أمره بأن سمی قوماً أنا سادسهم ، ولم یستونی بواحد منهم ، ولا ذکَر لی حالاً فی وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقی ولا أثر من آثاری ، وصیَّرها شوری بیننا وصیر ابنه فیها حاکماً علینا ، وأمره أن یضرب أعناق النفر الستة الذین صیَّر الأمر فیهم إن لم ینفذوا أمره ، وکفی بالصبر علی هذا یا أخا الیهود صبراً، فمکث القوم أیامهم کلها کل یخطب لنفسه وأنا ممسک ، حتی سألونی عن أمری فناظرتهم فی أیامی وأیامهم وآثاری وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم یجهلوه من وجوه استحقاقی لها دونهم ، وذکرتهم عهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلیهم وتأکید ما أکده من البیعة لی فی أعناقهم ، دعاهم حب الإمارة وبسط الأیدی والألسن فی الأمر والنهی والرکون إلی الدنیا ، والإقتداء بالماضین قبلهم ، إلی تناول ما لم یجعل الله لهم ، فإذا خلوتُ بالواحد ذکَّرته أیام الله وحذرته ما هو قادمٌ علیه وصائرٌ إلیه ، التمس منی شرطاً أن أصیِّرها له بعدی ! فلما لم یجدوا عندی إلا المحجة البیضاء والحمل علی کتاب الله عز وجل ووصیة الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وإعطاء کل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم یجعل الله له ، أزالها عنی إلی ابن عفان ، طمعاً فی الشحیح معه فیها ! وابن عفان رجل لم یستو به وبواحد ممن حضره حال قط ، فضلاً عمن دونهم ، لاببدر التی هی سنام فخرهم ، ولاغیرها من المآثر التی أکرم الله بها رسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ومن اختصه معه من أهل بیته(علیه السّلام)! ثم لم أعلم القوم أمسوا من یومهم ذلک حتی ظهرت ندامتهم ، ونکصوا علی أعقابهم ، وأحال بعضهم علی بعض ، کل یلوم نفسه ویلوم أصحابه !

ثم لم تطل الأیام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتی أکفروه وتبرؤوا منه ، ومشی (یقصد

ص: 438

ابن عوف) إلی أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عامة ،یستقیلهم من بیعته ویتوب إلی الله من فلتته ، فکانت هذه یا أخا الیهود أکبر من أختها وأفظع ، وأحری أن لایصبر علیها ! فنالنی منها الذی لایبلغ وصفه ولا یحد وقته ، ولم یکن عندی فیها إلا الصبر علی ما أمضَّ وأبلغ منها ، ولقد أتانی الباقون من الستة من یومهم کل راجعٌ عما کان رکب منی ! یسألنی خلع ابن عفان والوثوب علیه وأخذ حقی ، ویؤتینی صفقته وبیعته علی الموت تحت رایتی ، أو یرد الله عز وجل علیَّ حقی .

فوالله یا أخا الیهود ما منعنی منها إلا الذی منعنی من أختیها قبلها ، ورأیت الإبقاء علی من بقی من الطائفة أبهجَ لی وآنسَ لقلبی من فنائها ، وعلمت أنی إن حملتها علی دعوة الموت رکبته ، فأما نفسی فقد علم من حضر ممن تری ومن غاب من أصحاب محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن الموت عندی بمنزلة الشربة الباردة فی الیوم الشدید الحر من ذی العطش الصدی ! ولقد کنت عاهدت الله عز وجل ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أنا وعمی حمزة وأخی جعفر وابن عمی عبیدة علی أمر وفینا به لله عز وجل ولرسوله ، فتقدمنی أصحابی وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فینا: مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلاً. حمزة وجعفر وعبیدة ، وأنا والله والمنتظر یا أخ الیهود وما بدلت تبدیلاً ، وما سکَّتنی عن ابن عفان وحثَّنی علی الإمساک عنه إلا أنی عرفت من أخلاقه فیما اختبرت منه بما لن یدعه حتی یستدعی الأباعد إلی قتله وخلعه فضلاً عن الأقارب ، وأنا فی عزلة ، فصبرت حتی کان ذلک ، لم أنطق فیه بحرف من لا ، ولا نعم .

ثم أتانی القوم وأنا علم الله کاره ، لمعرفتی بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح فی الأرض ، وعلمهم بأن تلک لیست لهم عندی ، وشدید عادة منتزعة ، فلما لم یجدوا عندی تعللوا الأعالیل! ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال:ألیس کذلک؟ فقالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

وأما الخامسة یا أخا الیهود ، فإن المتابعین لی لما لم یطمعوا فی تلک منی ،

ص: 439

وثبوا بالمرأة علیَّ ، وأنا ولیُّ أمرها والوصیُّ علیها ، فحملوها علی الجمل وشدوها علی الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفیافی وتقطع البراری وتنبح علیها کلاب الحوأب، وتظهر لهم علامات الندم فی کل ساعة وعند کل حال ، فی عصبة قد بایعونی ثانیة بعد بیعتهم الأولی فی حیاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! حتی أتت أهل بلدة قصیرة أیدیهم طویلة لحاهم، قلیلة عقولهم عازبة آراؤهم، وهم جیران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم یخبطون بسیوفهم من غیر علم ، ویرمون بسهامهم بغیر فهم ، فوقفت من أمرهم علی اثنتین ، کلتاهما فی محلة المکروه ، ممن إن کففت لم یرجع ولم یعقل ، وإن أقمت کنت قد صرت إلی التی کرهت ، فقدمت الحجة بالإعذار والإنذار ، ودعوت المرأة إلی الرجوع إلی بیتها ، والقوم الذین حملوها علی الوفاء ببیعتهم لی ، والترک لنقضهم عهد الله عز وجل فیَّ ، وأعطیتهم من نفسی کل الذی قدرت علیه ، وناظرت بعضهم فرجع وذکرته فذکر ، ثم أقبلت علی الناس بمثل ذلک فلم یزدادوا إلا جهلاً وتمادیاً وغیاً ، فلما أبوا إلا هی رکبتها منهم فکانت علیهم الدبرة وبهم الهزیمة ولهم الحسرة ، وفیهم الفناء والقتل، وحملت نفسی علی التی لم أجد منها بداً ، ولم یسعنی إذ فعلت ذلک وأظهرته آخراً مثل الذی وسعنی منه أولاً ، من الإغضاء والإمساک ، ورأیتنی إن أمسکت کنت معیناً لهم علیَّ بإمساکی علی ما صاروا إلیه وطمعوا فیه ، من تناول الأطراف وسفک الدماء وقتل الرعیة ، وتحکیم النساء النواقص العقول والحظوظ علی کل حال ، کعادة بنی الأصفر ومن مضی من ملوک سبأ والأمم الخالیة فأصیر إلی ما کرهتُ أولاً وآخراً ، وقد أهملتُ المرأة وجندها یفعلون ما وصفت بین الفریقین من الناس ، ولم أهجم علی الأمر إلا بعدما قدمت وأخرت ، وتأنیت وراجعت وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطیت القوم کل شئ یلتمسونه بعد أن عرضت علیهم کل شئ لم یلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلک أقدمت علیها فبلغ الله بی وبهم ما أراد ، وکان لی علیهم بما کان منی إلیهم شهیداً ، ثم التفت (علیه السّلام)إلی أصحابه فقال: ألیس کذلک ؟ قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

ص: 440

وأما السادسة یا أخا الیهود ، فتحکیمهم الحکمین ومحاربة ابن آکلة الأکباد ، وهو طلیق معاند لله عز وجل ولرسوله والمؤمنین ، منذ بعث الله محمداً إلی أن فتح الله علیه مکة عنوة ، فأُخِذَت بیعته وبیعة أبیه لی معه فی ذلک الیوم ، وفی ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالأمس أول من سلم علیَّ بإمرة المؤمنین ، وجعل یحثنی علی النهوض فی أخذ حقی من الماضین قبلی ، ویجدد لی بیعته کلما أتانی !

وأعجب العجب أنه لما رأی ربی تبارک وتعالی قد ردَّ إلیَّ حقی وأقر فی معدنه ، وانقطع طمعه أن یصیر فی دین الله رابعاً ، وفی أمانة حملناها حاکماً ، کرَّ علی العاصی بن العاص فاستماله فمال إلیه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، وحرام علیه أن یأخذ من الفیئ دون قسمه درهماً ، وحرام علی الراعی إیصال درهم إلیه فوق حقه ، فأقبل یخبط البلاد بالظلم ویطأها بالغشم ، فمن بایعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلی ناکثاً علینا مغیراً فی البلاد شرقاً وغرباً ویمیناً وشمالاً ، والأنباء تأتینی والأخبار ترد علیَّ بذلک ، فأتانی أعور ثقیف فأشار علیَّ أن أولیه البلاد التی هو بها لأداریه بما أولیه منها ، وفی الذی أشار به الرأی فی أمر الدنیا ، لو وجدت عند الله عز وجل فی تولیتی له مخرجاً ، وأصبت لنفسی فی ذلک عذراً ، فأعملت الرأی فی ذلک ، وشاورت من أثق بنصیحته لله عز وجل و لرسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولی وللمؤمنین ، فإن رأیه فی ابن آکلة الأکباد کرأیی ، ینهانی عن تولیته ویحذرنی أن أدخل فی أمر المسلمین یده ، ولم یکن الله لیرانی أتخذ المضلین عضداً ، فوجهت إلیه أخا بجیلة مرة وأخا الأشعریین مرة ، کلاهما رکن إلی الدنیا وتابع هواه فیما أرضاه ، فلما لم أره

یزداد فیما انتهک من محارم الله إلا تمادیاً ، وشاورت من معی من أصحاب محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )البدریین والذین ارتضی الله عز وجل أمرهم ورضی عنهم بعد بیعتهم ، وغیرهم من صلحاء المسلمین والتابعین ، فکل یوافق رأیه رأیی فی غزوه و محاربته ومنعه مما نالت یده ، وإنی نهضت إلیه بأصحابی ، أنفذ إلیه من کل موضع کتبی وأوجه إلیه رسلی ، أدعوه إلی الرجوع عما هو فیه ، والدخول فیما فیه الناس معی ، فکتب یتحکم علیَّ ویتمنی علیَّ الأمانی ویشترط علیَّ شروطاً لا یرضاها الله عز وجل

ص: 441

ورسوله ولا المسلمون ، ویشترط فی بعضها أن أدفع إلیه أقواماً من أصحاب محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أبراراً ، فیهم عمار بن یاسر وأین مثل عمار؟! والله لقد رأیتنا مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وما یعد منا خمسة إلا کان سادسهم ، ولا أربعة إلا کان خامسهم ، اشترط دفعهم إلیه لیقتلهم ویصلبهم ! وانتحل دم عثمان ! ولعمر والله ما ألب علی عثمان ولا جمع الناس علی قتله إلا هو وأشباهه من أهل بیته ، أغصان الشجرة الملعونة فی القرآن ، فلما لم أجب إلی ما اشترط من ذلک کرَّ مستعلیاً فی نفسه بطغیانه وبغیه ، بحمیر لاعقول لهم ولابصائر ، فموَّه لهم أمراً فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنیا ما أمالهم به إلیه ، فناجزناهم وحاکمناهم إلی الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار ، فلما لم یزده ذلک إلا تمادیاً وبغیاً لقیناه بعادة الله التی عودَناه من النصر علی أعدائه وعدونا ، ورایة رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأیدینا ، لم یزل الله تبارک وتعالی یفلُّ حزب الشیطان بها حتی یقضی الموت علیه ، وهو مُعْلم رایات أبیه التی لم أزل أقاتلها مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی کل المواطن ، فلم یجد من الموت منجی إلا الهرب فرکب فرسه وقلب رایته ، لایدری کیف یحتال فاستعان برأی ابن العاص ، فأشار علیه بإظهار المصاحف ورفعها علی الأعلام والدعاء إلی ما فیها ، فرفع المصاحف یدعو إلی ما فیها بزعمه ! فمالت إلی المصاحف قلوب من بقی من أصحأبی بعد فناء أخیارهم ، وجهدهم فی جهاد أعداء الله وأعدائهم علی بصائرهم ! وظنوا أن ابن آکلة الأکباد له الوفاء بما دعا إلیه ، فأصغوا إلی دعوته وأقبلوا بأجمعهم فی إجابته ، فأعلمتهم أن ذلک منه مکرٌ ومن ابن العاص معه ، وأنهما إلی النکث أقرب منهما إلی الوفاء ، فلم یقبلوا قولی ولم یطیعوا أمری ، وأبوا إلا إجابته کرهت أم هویت ، شئت أو أبیت ، حت أخذ بعضهم یقول لبعض: إن لم یفعل فألحقوه بابن عفان ، أو ادفعوه إلی ابن هند برمته ! فجهدت علم الله جهدی ، ولم أدع غلة فی نفسی إلا بلغتها ، فی أن یخلُّونی ورأیی فلم یفعلوا ، وراودتهم علی الصبر علی مقدار فواق الناقة أو رکضة الفرس فلم یجیبوا ، ما خلا هذا الشیخ وأومأ بیده إلی الأشتر وعصبة من أهل بیتی ، فوالله ما منعنی أن أمضی علی بصیرتی إلا مخافة أن یقتل هذان ، وأومأ بیده إلی الحسن والحسین(علیهماالسّلام)، فینقطع

ص: 442

نسل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وذریته من أمته ، ومخافة أن یقتل هذا وهذا وأومأ بیده إلی عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفیة ، فإنی أعلم لولا مکانی لم یقفا ذلک الموقف فلذلک صبرت علی ما أراد القوم مع ما سبق فیه من علم الله عز وجل ، فلما رفعنا عن القوم سیوفنا تحکموا فی الأمور وتخیروا الأحکام والآراء ، وترکوا المصاحف وما دعوا إلیه من حکم القرآن ، وما کنت أحکم فی دین الله أحداً ، إذ کان التحکیم فی ذلک الخطأ الذی لا شک فیه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلک أردت أن أحکم رجلاً من أهل بیتی أو رجلاً ممن أرضی رأیه وعقله ، وأثق بنصیحته ومودته ودینه ، وأقبلت لا أسمی أحداً إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلی شئ من الحق إلا أدبر عنه ، وأقبل ابن هند یسومنا عسفاً ، وما ذاک إلا باتباع أصحأبی له علی ذلک فلما أبوا إلا غلبتی علی التحکم تبرأت إلی الله عز وجل منهم ، وفوضت ذلک إلیهم فقلدوه امرءً فخدعه ابن العاص خدیعة ظهرت فی شرق الأرض وغربها وأظهر المخدوع علیها ندماً ! ثم أقبل(علیه السّلام)علی أصحابه فقال: ألیس کذلک قالوا: بلی یا أمیر المؤمنین فقال(علیه السّلام):

وأما السابعة یا أخا الیهود ، فإن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کان عهد إلی أن أقاتل فی آخر الزمان من أیامی قوماً من أصحأبی یصومون النهار ویقومون

اللیل ویتلون الکتاب ، یمرقون بخلافهم علیَّ ومحاربتهم إیای من الدین مروق السهم من الرمیة ، فیهم ذو الثدیة ، یختم لی بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلی موضعی هذا (یعنی بعد الحکمین) ، أقبل بعض القوم علی بعض باللائمة فیما صاروا إلیه من تحکیم الحکمین ، فلم یجدوا لأنفسهم من ذلک مخرجاً إلا أن قالوا: کان ینبعی لأمیرنا أن لا یبایع من أخطأ وأن یقضی بحقیقة رأیه علی قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد کفر بمتابعته إیانا وطاعته لنا فی الخطأ ، وأحل لنا بذلک قتله وسفک دمه ! فتجمعوا علی ذلک وخرجوا راکبین رؤوسهم ینادون بأعلی أصواتهم: لاحکم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخیلة وأخری بحروراء ، وأخری راکبة رأسها تخبط الأرض شرقاً ، حتی عبرت دجلة ، فلم تمرَّ بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحیته ، ومن خالفها قتلته ! فخرجتُ إلی الأولیین واحدة بعد أخری أدعوهم إلی طاعه الله عز وجل والرجوع إلیه ، فأبیا

ص: 443

إلا السیف لایقنعهما غیر ذلک ! فلما أعیت الحیلة فیهما حاکمتهما إلی الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وکانوا یا أخا الیهود لولا ما فعلوا رکناً قویاً وسداً منیعاً ، فأبی الله إلا ما صاروا إلیه ! ثم کتبت إلی الفرقة الثالثة ووجهت رسلی تتری وکانوا من جلة أصحأبی وأهل التعبد منهم والزهد فی الدنیا ، فأبت إلا اتباع أختیها والإحتذاء علی مثالهما ، وأسرعت فی قتل من خالفها من المسلمین وتتابعت إلیَّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتی قطعت إلیهم دجلة ، أوجه السفراء والنصحاء وأطلب العتبی ، بجهدی بهذا مرة وبهذا مرة ، أومأ بیده إلی الأشتر ، والأحنف بن قیس ، وسعید بن قیس الأرحبی ، والأشعث بن قیس الکندی ، فلما أبوا إلا تلک رکبتها منهم ، فقتلهم الله یا أخا الیهود عن آخرهم ، وهم أربعة آلاف أو یزیدون حتی لم یفلت منهم مخبر! فاستخرجت ذا الثدیة من قتلاهم بحضرة من تری ، له ثدی کثدی المرأة ! ثم التفت(علیه السّلام)إلی أصحابه فقال ، ألیس کذلک؟ قالوا ، بلی یا أمیر المؤمنین ، فقال(علیه السّلام):

قد وفیت سبعاً وسبعاً یا أخا الیهود وبقیت الأخری وأوشک بها فکأنْ قَدْ ! فبکی أصحاب علی(علیه السّلام)وبکی رأس الیهود وقالوا: یا أمیر المؤمنین أخبرنا بالأخری فقال: الأخری أن تخضب هذه ، وأومأ بیده إلی لحیته ، من هذه ، وأومأ بیده إلی هامته ، قال: وارتفعت أصوات الناس فی المسجد الجامع بالضجة والبکاء ، حتی لم یبق بالکوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً ! وأسلم رأس الیهود علی یدی علی(علیه السّلام)من ساعته ، ولم یزل مقیماً حتی قتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وأُخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل رأس الیهود حتی وقف علی الحسن(علیه السّلام)والناس حوله وابن ملجم بین یدیه فقال له: یا أبا محمد أقتله قتله الله ، فإنی رأیت فی الکتب التی أنزلت علی موسی(علیه السّلام)أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخیه ، ومن القدار عاقر ناقة ثمود ). .

ص: 444

مقادیر الله تعالی لرسوله وعترته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام):(إن العرب کرهَتْ أمر محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحسدته علی ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أیامه حتی قذفت زوجته ، ونفَّرت به ناقته ، مع عظیم إحسانه إلیها ، وجسیم مننه عندها ! وأجمعت مذ کان حیاً علی صرف الأمر عن أهل بیته بعد موته) ! (شرح النهج:20/298) .

لکن الله تعالی شاء أن یحفظ مکانة نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فلا تقتله قریش طمعاً فی ملکه ، ولا ترتد علیه فی حیاته ، وأن یتحمل نکسة الأمة من بعده وصیه علی(علیه السّلام) !

وکذلک الأمر فی علیٍّ(علیه السّلام)فقد رتبت قریش ضده السقیفة ، وأجبرته أن یبایع صاحبها ، وبعد خمس وعشرین سنة نقمت الأمة علی حکم قریش حیث استأثر عثمان الأموی بمقدراتها وأساء الإستئثار ، فثار علیه بقیة الصحابة والأمة وقتلوه ، وتوجهوا الی علی(علیه السّلام)وبایعوه بالخلافة ، فبدأ علی(علیه السّلام)مشروعه فی إعادة العهد النبوی ، واستجابت له الأمة فعملت معه فیه ، حتی نفد مخزونها فی الجهاد ، وصارت بین یدیه کالتراب !

وفی المقابل أخذت الموجة القرشیة الجدیدة بقیادة معاویة تلاقی استجابة من الأمة ! وکانت خطط دهاة قریش والعرب: معاویة ، وعمرو العاص ، والأشعث والمغیرة بن شعبة ، أن یجبروا علیاً(علیه السّلام)علی تسلیم الخلافة الی معاویة ، أو یعتقله المنافقون فی صفین ، أو العراق ، ویسلموه الی معاویة ، فیکون أسیر معاویة وعبده ، وربما منَّ علیه معاویة وأطلقه جزاءً لأسر النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أباسفیان وزعماء قریش عند فتح مکة ومنه علیهم بالحیاة ، فتکون واحدة بواحدة !

لکن حکمة الله تعالی شاءت أن تبقی شخصیة علی(علیه السّلام)محفوظة ، ومشروعه لإعادة العهد النبوی مصوناً فی ضمیر الأمة وتاریخها ، وأن یتحمل انهیار الأمة

ص: 445

بالکامل واستسلامها الی بنی أمیة ، وصیه الإمام الحسن(علیه السّلام) !

کما کان من حکمة الله تعالی أن یکون قتْلُ علی(علیه السّلام)بید طرف ثالث غیر قریش خارج عن الأمة التی تعلن قریش انتماءها لها ، وإن کان المحرک الأصلی له معاویة وعمیله الأشعث !

مرآة غیب الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یخبر علیاً عن مستقبله

فی السنة الثانیة للهجرة ، فرض الله تعالی فریضة الصوم فی شهر رمضان فبلغ النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رسالة ربه ، وخطب فیهم فی آخر جمعة من شعبان یهیؤهم لاستقبال شهر الله تعالی ، وبعد الخطبة سأله علی(علیه السّلام): یا رسول الله ما أفضل الأعمال فی هذا الشهر؟ فقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا أبا الحسن أفضل الأعمال فی هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل ، ثم بکی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! فقال له علی(علیه السّلام): یا رسول الله ما یبکیک؟ فقال: یا علی أبکی لما یستحل منک فی هذا الشهر ! کأنی بک وأنت تصلی لربک وقد انبعث أشقی الأولین والآخرین ، شقیق عاقر ناقة ثمود فضربک ضربة علی قرنک ، فخضب منها لحیتک . فقال(علیه السّلام): یا رسول الله وذلک فی سلامة من دینی؟ فقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): فی سلامة من دینک ، ثم قال: یا علی من قتلک فقد قتلنی ، ومن أبغضک فقد أبغضنی ، ومن سبک فقد سبنی ، لأنک منی کنفسی ، روحک من روحی ، وطینتک من طینتی ، إن الله تبارک وتعالی خلقنی وإیاک ، واصطفانی وإیاک ،

واختارنی للنبوة واختارک للإمامة ، فمن أنکر إمامتک فقد أنکر نبوتی . یا علی، أنت وصیی ، وأبو وُلدی ، وزوج ابنتی ، وخلیفتی علی أمتی فی حیاتی وبعد موتی ، أمرُک أمری ، ونهیُک نهیی أقسم بالذی بعثنی بالنبوة وجعلنی خیر البریة إنک لحجة الله علی خلقه ، وأمینه علی سره ، وخلیفته علی عباده ). (أمالی الصدوق ص 155)

قال علی(علیه السّلام):(لقد خبرنی حبیب الله وخیرته من خلقه ، وهو الصادق المصدوق عن یومی هذا ، وعهد إلیَّ فیه فقال: یا علیُّ، کیف بک إذا بقیت فی حثالة من

ص: 446

الناس تدعو فلا تجاب ، وتنصح عن الدین فلا تعان ، وقد مال أصحابک وشنف لک نصحاؤک ، وکان الذی معک أشد علیک من عدوک ، إذا استنهضتهم صدوا معرضین وإن استحثثتهم أدبروا نافرین ، یتمنون فقدک لما یرون من قیامک بأمر الله عز وجل ، وصرفک إیاهم عن الدنیا ...). ( نهج السعادة:8/370).

قال له رجل بعد خطبة فی البصرة بعد افتتاحها:(یا أمیر المؤمنین أخبرنا عن الفتنة ، هل سألت عنها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ قال(علیه السّلام): نعم ، إنه لما نزلت هذه الآیة من قول الله عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا یُفْتَنُونَ ، علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حیٌّ بین أظهرنا ، فقلت: یا رسول الله ما هذه الفتنة التی أخبرک الله بها؟ فقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): یا علی، إن أمتی سیفتنون من بعدی . قلت: یارسول الله أو لیس قد قلت لی یوم أحُد حیث استشهد من استشهد من المسلمین وحیزت علی الشهادة ، فشق ذلک علیَّ فقلت لی: أبشر یا صدِّیق فإن الشهادة من ورائک؟فقال لی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): فإن ذلک لکذلک فکیف صبرک إذا خضبت هذه من هذه؟ وأهوی بیده إلی لحیتی ورأسی؟ فقلت: بأبی وأمی یا رسول الله لیس ذلک من مواطن الصبر ، ولکن

من مواطن البشری والشکر . فقال لی: أجل ، ثم قال: یا علی إنک باق بعدی ومبتلی بأمتی ، ومخاصم یوم القیامة بین یدی الله تعالی فاعدد جواباً . فقلت: بأبی أنت وأمی ، بین لی ما هذه الفتنة التی یبتلون بها؟ وعلی مَ أجاهدهم بعدک؟ فقال: إنک ستقاتل بعدی الناکثة والقاسطة والمارقة . وجلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ثم قال لی: وتجاهد أمتی علی کل من خالف القرآن ، ممن یعمل فی الدین بالرأی ، ولا رأی فی الدین، إنما هو أمر من الرب ونهیه). (الإحتجاج:1/290 )

قال علی(علیه السّلام): (کنت أمشی مع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بعض طرق المدینة ، فأتینا علی حدیقة ، فقلت: یا رسول الله ما أحسنها من حدیقة . قال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ما أحسنها ،

ص: 447

ولک فی الجنة أحسن منها.... فلما خلاله الطریق اعتنقنی ثم أجهش باکیاً وقال: بأبی الوحید الشهید ! فقلت: یا رسول الله ما یبکیک؟ فقال: ضغائن فی صدور أقوام لایبدونها لک إلا من بعدی ! أحقاد بدر وتِراتُ أحد..... یا علیٌّ ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون کرهاً ، فسلط الله الذین أسلموا کرهاً علی الذین أسلموا طوعاً ، فقتلوهم لیکون أعظم لأجورهم !

یا علیُّ ، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا ظهر أهل باطلها علی أهل حقها ، وإن الله قضی الفرقة والإختلاف علی هذه الأمة ، ولو شاء الله لجعلهم علی الهدی حتی لا یختلف اثنان من خلقه ، ولایُتنازع فی شئ من أمره ، ولا یُجحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء عجَّل النقمة ، فکان منه التغییر حتی یُکذب الظالم ، ویعلم الحق أین مصیره . ولکن جعل الدنیا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار ، لِیَجْزِیَ

الَّذِینَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَیَجْزِیَ الَّذِینَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَی . فقلت: الحمد لله شکراً علی نعمائه ، وصبراًعلی بلائه ، وتسلیماً ورضاً بقضائه ) . ( کتاب سلیم ص137).

مایحبس أشقاها أن یخضب هذه من هذا ؟

(أما والله لوددتُ أن ربی أخرجنی من بین أظهرکم إلی رضوانه ! وإن المنیة لترصدنی ، فما یمنع أشقاها أن یخضبها؟! عهدٌ عهده إلی النبی الأمی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقد خاب من افتری ، ونجی من اتقی وصدق بالحسنی .

یا أهل الکوفة: قد دعوتکم إلی جهاد هؤلاء القوم لیلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً ، وقلت لکم أغزوهم قبل أن یغزوکم ، فإنه ما غُزیَ قوم فی عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواکلتم وتخاذلتم ، وثقل علیکم قولی واستصعب علیکم أمری ، واتخذتموه وراءکم ظهریاً ، حتی شُنت علیکم الغارات ، وظهرت فیکم الفواحش والمنکرات تمسیکم وتصبحکم! کما فُعل بأهل المثلات من قبلکم ، حیث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاة الطغاة المستضعفین الغواة ، فی قوله تعالی: یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ وَفِی ذَلِکُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَظِیمٌ . أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة لقد حلَّ بکم الذی توعدون !

ص: 448

یا أهل الکوفة: عاتبتکم بمواعظ القرآن فلم أنتفع بکم ! أدَّبتکم بالدُّرة فلم تستقیموا لی ، وعاقبتکم بالسوْط الذی یقام به الحدود فلم ترْعَوُوا ، ولقد علمت أن الذی یصلحکم هو السیف ! وما کنت متحریاً صلاحکم بفساد نفسی ! ولکن سیُسلَّط علیکم سلطانٌ صعبٌ لایوقر کبیرکم ولایرحم صغیرکم ولایکرم عالمکم ، ولا یقسم الفئ بالسویة بینکم ، ولیضربنکم ولیذلنکم ، ولیجرینکم فی المغازی ، ولیقطعن سبیلکم ولیحجبنکم علی بابه ، حتی یأکل قویکم ضعیفکم ! ثم لا یبعد الله إلا من ظلم ، وما أدبر شئ فأقبل ! إنی لأظنکم علی فترة ، وما علیَّ إلا النصح لکم .

یا أهل الکوفة: مُنیتُ منکم بثلاث واثنتین: صمٌّ ذوو أسماع ، وبکمٌ ذوو ألسن ، وعمیٌ ذوو أبصار ، لا إخوانُ صدق عند اللقاء ، ولا إخوانُ ثقة عند البلاء !

اللهم إنی قد مللتهم وملونی ، وسئمتهم وسئمونی ! اللهم لا تُرض عنهم أمیراً ، ولا تُرضهم عن أمیر ، وأمثْ قلوبهم کإیماث الملح فی الماء ! ....

یا أهل الکوفة قد أتانی الصریخ یخبرنی أن ابن غامد قد نزل بالأنبار علی أهلها لیلاً ، فی أربعة آلاف فأغار علیهم...الخ.). (الإرشاد:1/283).

یشکو لحبیبه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

قال الحسن بن علی یوم قتل علی(علیهماالسّلام): (خرجت البارحة وأبی یصلی فی مسجد داره ، فقال لی: یا بنی إنی بتُّ أوقظ أهلی لأنها لیلة الجمعة صبیحة بدر ، فملکتنی عینای فنمت فسنح لی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقلت: یا رسول الله ماذا لقیت من أمتک من الأوَدِ والَّلدَد ! (الإعوجاج والجدل) فقال لی: أدع علیهم . فقلت: اللهم أبدلنی بهم من هو خیرٌ منهم ، وأبدلهم بی من هو شرٌّ منی). (نهج السعادة:7/121 )

(فشکوت إلیه ما أنا فیه من مخالفة أصحأبی ، وقلة رغبتهم فی الجهاد ، فقال: أدع الله أن یریحک منهم ، فدعوت الله ). (العقد الفرید:3/124).

ص: 449

یعلم أجله ویعرف قاتله !

نحن بسطاء فی فهم کثیر من الأمور ، ومنها تصورنا عن الحیاة والأجَل ! وبسطاء عندما نقیس حیاة المعصوم(علیه السّلام)بحیاتنا ولا نفهم العالم الذی یحیط به !

نتصور أن غیب الله تعالی یشبه معلوماتنا التی نعرفها ولا یعرفها الآخرون وأن إخبار الله للنبی أو للوصی(علیهم السّلام) علی شئ من غیبه ، یشبه أن نخبر شخصاً عن حدث فی المستقبل !

لکن الموضوع والمحمول والشروط فی الغیب الإلهی ، مختلفة تماماً ! وقد أعطانا الله تعالی صورة عنها بقوله عز وجل: عَالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلَی غَیْبِهِ أَحَداً ، إِلا مَنِ ارْتَضَی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . (الجن:26 - 27) .

فلا بد أن یکون الشخص بدرجة الرسول المرتضی ، حتی یتحمل غیب الله تعالی ، وحینئذ یخصص له الله ملائکةً یرافقونه ویسددونه ، حتی لایتضرر بالغیب الإلهی ، وحتی یستعمله فی غرضه الرسالی بشکل صحیح !

ولا بد أن یکون هذا الغیب الذی یظهره الله لخاصة أولیائه(علیهم السّلام) من نوع الأمر الإلهی المقضی الذی لابداء فیه ، فقد سأل حمران بن بکیر الإمام الباقر(علیه السّلام)عن الغیب فی هذه الآیة ، فأجابه: ( إِلا مَنِ ارْتَضَی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، وکان والله محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ممن ارتضی ، وأما قوله: عالم الغیب فإن الله تبارک وتعالی عالم بما غاب عن خلقه ، فما یقدر من شئ ویقضیه فی علمه قبل أن یخلقه وقبل أن یقضیه إلی الملائکة ، فذلک یا حمران علم موقوف عنده إلیه فیه المشیة ، فیقضیه إذا أراد ویبدو له فیه فلا یمضیه . فأما العلم الذی یقدره الله ویمضیه، فهو العلم الذی انتهی إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ثم إلینا).(بصائر الدرجات ص133) .

وبهذه الإشارة الی هذا البحث المفصل ، نفهم أیَّ غیب انضمَّت علیه جوانح أمیر المؤمنین والأئمة من العترة النبویة الطاهرة(علیهم السّلام) ، وأیَّ عالم یحیط بأحدهم

ص: 450

من ملائکة تحرسه وترصده ، وترصد له ما ینبغی قوله وفعله وما لاینبغی !

وبه نعرف معنی الجُنَّة الحصینة التی کانت ترافق أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وتمنع عنه الموت قبل أجَله ! فقدکان مطمئناً الی أنه لن یقتل فی حرب وإن جُرح بجروح خفیفة أو بلیغة ! وقد تضاعف خطر الإغتیال علیه بعد النهروان ، فخوَّفه الناس من فتک الخوارج فقال: (وإن علیًّ من الله جنة حصینة ، فإذا جاء یومی انفرجت عنی وأسلمتنی ، فحینئذ لا یطیش السهم ، ولا یبرأ الکلْم ) . (نهج البلاغة:1/283)

وبذلک نتصور المستوی الذی بلغه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعترته(علیهم السّلام) ! فهم مع علمهم بآجالهم وابتلاءاتهم ، یعیشون بالعلم الظاهر ویتعاملون به ، ویستعملون الوسائل العادیة لا أکثر ، لتجری مقادیر الله تعالی !

(عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا(علیه السّلام): إن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)قد عرف قاتله واللیلة التی یقتل فیها ، والموضع الذی یقتل فیه ، وقوله لما سمع صیاح الإوز فی الدار: صوائح تتبعها نوائح ، وقول أم کلثوم: لو صلیت اللیلة داخل الدار وأمرت غیرک یصلی بالناس فأبی علیها ، وکثر دخوله وخروجه تلک اللیلة بلا سلاح ، وقد عرف(علیه السّلام)أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسیف ، کان هذا مما لم یجز تعرضه ! فقال: ذلک کان ، ولکنه خُیِّرَ فی تلک اللیلة ، لتمضی مقادیر الله عز وجل). (الکافی:1/259) وبهذا ینتفی السؤال لماذا لم یحبس أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ابن ملجم ، بل استبشر بقدومه ، کما یستبشر المحبوس بمجئ من یطلقه من سجنه ؟!

( وقدم عبد الرحمن بن ملجم المرادی الکوفة لعشر بقین من شعبان سنة أربعین فلما بلغ علیا(علیه السّلام) قدومه قال: أوَقَدْ وافَی؟ أما إنه ما بقی علیَّ غیره ، وهذا أوانه ! قال: فنزل علی الأشعث بن قیس الکندی ، فأقام عنده شهراً یستحدُّ سیفه). (تاریخ الیعقوبی:2/ 222).

ص: 451

إفطار أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عند ابنته أم کلثوم

(قالت أم کلثوم رضی الله عنها: کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یفطر فی شهر رمضان الذی قتل فیه لیلة عند الحسن ، ولیلة عند الحسین ، ولیلة عند أم کلثوم . فلما کانت لیلة تسع عشرة من شهر رمضان ، قدمت إلیه عند إفطاره طبقاً فیه قرصان من خبز الشعیر وقصعة فیها لبن وملح جریش ، فلما فرغ من صلاته أقبل علی فطوره.... فأکل قرصاً واحداً بالملح الجریش ، ثم حمد الله وأثنی علیه ، ولم یزل تلک اللیلة قائماً وقاعداً وراکعاً وساجداً ، یخرج ساعة بعد ساعة یقلِّب طرفه فی السماء وینظر فی الکواکب وهو یقول: والله ما کذبت ولا کذبت ، إنها اللیلة التی وعدت ! ثم یعود إلی مصلاه ویقول: اللهم بارک لی فی الموت ، ویکثر من قول لا إله إلا الله ، إنا لله وإنا إلیه راجعون ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم ، ویصلی علی النبی وآله ویستغفر الله کثیراً .

قالت أم کلثوم: فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتیته ومعی إناء فیه ماء ، ثم أیقظته فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثیابه وفتح بابه ، ثم نزل إلی الدار وکان فی الدار إوَزٌّ قد أهدی إلی أخی الحسین ، فلما نزل خرجن ورائه وصحن فی وجهه ، وکنَّ قبل تلک اللیل لم یصحن ! فقال(علیه السّلام): لا إله إلا الله ، صوائح تتبعها نوائح ، وفی غداة غدٍ یظهر القضاء ، فقلت له: یا أبهْ هکذا تتطیر ، قال: یابنیة

مامنا أهل البیت من یَتَطیَّرُ ولا یُتطیر به .

ولما أراد الخروج تعلقت حدیدة من الباب علی مئزره ، فشد إزاره وهو یقول:

أشدد حیازیمک للموت

فإن الموت لاقیکا

ولا تجزع من الموت

إذا حلَّ بوادیکا . ( نهج السعادة:7/120)

(ورآه عدی بن حاتم وبین یدیه ماء قراح وکسیرات من خبز الشعیر ، فقال: لا

ص: 452

أری لک یا أمیر المؤمنین أن تظل نهارک صائماً مجاهداً ، وباللیل ساهراً مکابداً ثم یکون هذا فطورک ! فقال: عَلِّل النفسَ بالقلیل وإلا طلبت منک فوق مایکفیها !

ولم یزل هذا دأبه وهذه سجیته ، حتی ضربه أشقی الآخرین علی رأسه فی مسجد الکوفة صبیحة لیلة الأربعاء لتسعة عشر مضین من شهر رمضان المبارک وهو ساجد لله فی محرابه ، فبلغ السیف موضع السجود من رأسه ، فقال:

بسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملة رسول الله ، فزتُ ورب الکعبة لا یفوتنکم ابن ملجم ، واصطفقت أبواب الجامع ، وهبت ریح سوداء مظلمة ، ونادی جبرائیل بین السماء والأرض: تهدمت والله أرکان الهدی ، وانطمست والله أعلام التقی ، وانفصمت والله العروة الوثقی ، قتل ابن عم المصطفی ، قتل الإمام المجتبی ، قتل علی المرتضی ، وجعل الدم یجری علی وجهه ، فیخضب به لحیته الشریفة ). ( المجالس الفاخرة ص309)

دخوله(علیه السّلام)قبل الفجر الی مسجد الکوفة

وجاء أمیر المؤمنین(علیه السّلام)حتی دخل المسجد والقنادیل قد خَمُدَ ضوؤها ، فصلی فی المسجد وِرْدَهُ وعقَّبَ ساعة ، ثم قام وصلی رکعتین ، وکان فی المسجد عدد من الناس یُحیون لیله أو قسماً منه بالعبادة .

وجاء ابن ملجم فی تلک اللیلة الی قطام فی خبائها الذی نصبته فی المسجد بحجة أنها معتکفة لعبادة ربها ! ودخل علیها ابن ملجم وشریکه شبیب بن بجرة ، فدعت لهما ولوردان ، وعصَّبَتْ صدورهم بحریر ! (فأقبل به حتی دخلا علی قطام ، وهی معتکفة فی المسجد الأعظم قد ضربت لها قبة ، فقالا لها: قد أجمع رأینا علی قتل هذا الرجل ، قالت لهما: فإذا أردتما ذلک فالقیانی فی هذا الموضع فانصرفا من عندها فلبثا أیاماً ثم أتیاها ، ومعهما وردان بن مجالد ، الذی کلفته مساعدة ابن ملجم ) . (شر النهج:6/114)

ص: 453

وأمضی ابن ملجم لیلته ساهراً یتحدث مع الأشعث فی مسجد الضرار الذی بناه الأشعث قرب بیته ، فکان یصلی فیه مع جماعته المنافقین ، ولایصلون خلف علی(علیه السّلام)فی مسجد الکوفة الأعظم ! وجاء الأشعث مع ابن ملجم الی المسجد لیساعده ، وسمعه حجر بن عدی یقول له: النجاء النجاء لحاجتک ، فقد فضحک الصبح ! فرکض حجر نحو المسجد فسبقه ابن ملجم وشبیب وکمنوا لأمیر المؤمنین(علیه السّلام) مقابل السدة والمحراب ، خلف أسطوانات المسجد .

کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یصلی نافلة الفجر ، فلما کان فی السجدة الثانیة من الرکعة الثانیة ، هاجمه اللعینان فضربه شبیب بن بجره علی رأسه فأخطأه ووقعت ضربته فی الطاق ، ثم ضربه اللعین ابن ملجم وهو یقول: الحکم لله لا لک یا علی ولا لأصحابک ! فوقعت الضربة علی قرنه علی مکان ضربة عمرو بن وُدّ ، وأخذت من مفرق رأسه إلی موضع السجود ! فلم یصرخ(علیه السّلام)ولم یتأوه ، بل قال: بسم الله وبالله وعلی ملة رسول الله ، هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فزت ورب الکعبة ، ثم صاح: قتلنی ابن ملجم ، لا یفوتنکم !

فلما سمع الناس الضجة قام کل من فی المسجد وأحاطوا بأمیر المؤمنین(علیه السّلام) وهو یشد رأسه بمئزره ، والدم یجری علی وجهه ولحیته ، وقد خضبت بدمائه ، وهو یقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

وارتفعت صرخات الناس ونداؤهم فی المسجد: وا إماماه وا أمیر المؤمنیناه ، فلما سمعها الحسن والحسین(علیهماالسّلام)نادیا: وا أبتاه وا علیاهْ لیت الموت أعدمنا الحیاة ! وجاء الحسن(علیه السّلام)فصلی بالناس وأمیر المؤمنین(علیه السّلام)یصلی إیماء من جلوس ، وهو یمسح الدم عن وجهه ولحیته الشریفة .

فما کان إلا ساعة وإذا بزمرة من الناس جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مکتوفاً ، هذا

ص: 454

یلعنه وهذا یبصق فی وجهه ، ویقولون له: یا عدو الله ماذا صنعت ؟ أهلکت أمة محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقتلت خیر الناس ! وهو صامت وبین یدیه رجل یقال له حذیفة النخعی بیده سیف مشهور یردُّ الناس عن قتله وهو یقول: هذا قاتل أمیر المؤمنین! فلما نظر إلیه الحسن(علیه السّلام)قال له: ویلک یا عدو الله أنت قاتل أمیر المؤمنین ومُثْکِلُنا بإمام المسلمین ، هذا جزاؤه منک ؟! فقال له اللعین: یا أبا محمد فأنت تنقذ من فی النار! فعند

ذلک ضجَّ الناس بالبکاء والنحیب فأمرهم الحسن(علیه السّلام) بالسکوت).

أمرهم أن یحملوه الی البیت

قال محمد بن الحنفیة: ثم إن أبی قال: إحملونی إلی موضع مصلای فی منزلی . قال: فحملناه إلیه وهو مدنف ، والناس حوله ، وهم فی أمر عظیم ، وقد أشرفوا علی الهلاک من شدة البکاء والنحیب ! ثم أدخل إلی حجرته(علیه السّلام)فی محرابه . وأقبلت زینب وأم کلثوم تندبانه وتقولان: یا أبتاه من للصغیر حتی یکبر ، ومن للکبیر بین الملأ ، یا أبتاه حزننا علیک طویل ، وعبرتنا لا ترقأ !

فضج الناس بالبکاء من وراء الحجرة ، وفاضت دموع أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وجعل ینظر إلی أهل بیته وأولاده .

وجاؤا باللعین ابن ملجم مکتوفاً ، فقالت له أم کلثوم وهی تبکی: یا ویلک أما أبی فأرجو أن لا یکون علیه بأس ، وأن الله یخزیک فی الدنیا والآخرة ، وأن مصیرک إلی النار خالداً فیها . فقال اللعین: إبک إن کنت باکیة ، فوالله لقد اشتریت سیفی بألف وسممته بألف ، ولو کانت ضربتی هذه لجمیع أهل الکوفة ما نجا منهم أحد ! فصرخت أم کلثوم ونادت: وا أبتاه وا علیاه !

وأدخلوا ابن ملجم الی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فقال: أطیبوا طعامه ، وألینوا فراشه ، فإن أعش فأنا ولیُّ دمی ، إما عفواً وإما قصاصاً ، وإن أمتْ فألحقوه بی ضربة بضربة

ص: 455

ولا تعتدوا إن الله لا یحب المعتدین . یا بنی عبد المطلب لا ألفینکم تخوضون دماء المسلمین خوضاً تقولون قتل أمیر المؤمنین ، لا یُقتلن فی إلا قاتلی ، أنظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة ، ولا یُمَثَّلْ بالرجل ، فإنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: إیاکم والمثلة ولو بالکلب العقور .

ثم دعا أمیر المؤمنین الحسن والحسین فکلمهما وحضنهما وقبلهما ، ثم أغمی علیه ساعة طویلة وأفاق ، فناوله الحسن قعباً من لبن فشرب منه قلیلاً ، ثم نحاه عن فیه ، وقال: إحملوه إلی أسیرکم ) ! (الأنوار العلویة للنقدی ص383) .

استدعوا طبیب الجراحات الصعبة

قال حبیب بن عمرو: دخلت علی سیدی ومولای أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وعنده الأشراف من القبائل وشرطة الخمیس ، وما منهم أحد إلا وماء عینیه یترقرق علی سوادها حزناً لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)، ورأیت الحسن والحسین(علیهماالسّلام)ومن معهما من الهاشمیین ، وما تنفس منهم أحدٌ إلا وظننت أن شظایا قلبه تخرج مع نفسه ، وقد أرسلوا خلف أثیر بن عمرو الجراح ، وکان یعالج الجراحات الصعبة ، فلما نظر أثیر إلی جرح أمیر المؤمنین(علیه السّلام)دعا برئة شاة حارة ، فاستخرج منها عرقاً وأدخله فی الجرح ، ثم نفخه ثم استخرجه ، وإذا علیه بیاض الدماغ . فقال الناس: یا أثیر کیف جرح أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فخرس أثیر عن جوابهم وتلجلج . ثم قال: یا أمیر المؤمنین إعهد عهدک فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلی أم رأسک ! فدعا علی(علیه السّلام)عند ذلک بدواة وصحیفة ، وکتب وصیته:

هذا ما أوصی به أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ، أوصی بأنه یشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدی ودین الحق لیظهره علی الدین کله ولو کره المشرکون ، صلوات الله وبرکاته علیه ، إن صلاتی ونسکی ومحیای ومماتی لله رب العالمین ، لا شریک له وبذلک أمرت وأنا أول المسلمین.

ص: 456

أوصیک یا حسن وجمیع ولدی وأهل بیتی ومن بلغه کتابی هذا ، بتقوی الله ربنا وربکم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولاتفرقوا ، فإنی سمعت رسول الله یقول: صلاح ذات البین أفضل من عامة الصلاة والصیام ، وإن المبیرة حالقة الدین: إفساد ذات البین ، ولا قوة إلا بالله العلی العظیم .

أنظروا إلی ذوی أرحامکم فصلوها ، یهوِّن الله علیکم الحساب .

واللهَ اللهَ فی الأیتام ، فلا تَغَیَّرَنَّ أفواهُهم بجفوتکم .

والله الله فی جیرانکم، فإنها وصیة نبیکم(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فما زال یوصینا بهم حتی ظنننا أنه سیورثهم الله .

والله الله فی القرآن ، فلا یسبقنکم بالعمل به غیرکم .

والله الله فی الصلاة ، فإنها عماد دینکم .

والله الله فی صیام شهر رمضان ، فإنه جنة من النار .

والله الله فی الجهاد بأموالکم وأنفسکم .

والله الله فی زکاة أموالکم ، فإنها تُطفئ غضب ربکم .

والله الله فی أهل بیت نبیکم ، فلا یُظلمُنَّ بین أظهرکم....الخ.

وکانت هذه هی وصیته العامة صلوات الله علیه .

فعند ذلک یئس الناس من أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقام لهم بکاء وعویل ، فسکتهم الحسن(علیه السّلام)لکیلا تهیج النساء ویضطرب أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فسکتوا وصاروا ینشجون نشیجاً خفیفاً ، إلا الأصبغ بن نباتة شرق بعبرته وبکی بکاء عالیاً ، فأفاق أمیر المؤمنین من غشوته فقال: لا تبک فإنها والله الجنة ، فقال نعم یا أمیر المؤمنین وأنا أعلم والله أنک تصیر إلی الجنة ، وإنما أبکی لفراقک یا سیدی .

قال حبیب بن عمرو: فما أحببت أن الأصبغ یتکلم بهذا الکلام مع أمیر المؤمنین(علیه السّلام) ، فأردت أن أرفع ما وقع فی قلب أمیر المؤمنین من کلام الأصبغ

ص: 457

فقلت: لا بأس علیک یا أبا الحسن ، فإن هذا الجرح لیس بضائر ، وما هو بأعظم من ضربة عمرو بن عبد ود ، فإن البرد لا یزلزل الجبل الأصم ، ولفحة الهجیر لا تجفف البحر الخصم ، واللیث یضری إذا خدش ، والصل یقوی إذا ارتعش ! فنظر إلیَّ نظرة رأفة ورحمة وقال: هیهات یا ابن عمرو ، نفذ القضاء ، وأبرم المحتوم ، وجری القلم بما فیه ، وإنی مفارقک . فسمعت أم کلثوم کلامه فبکت ، فقال لها أمیر المؤمنین: یا بنیة لو رأیت مثل ما رأیت ، لما بکیت علی أبیک . قال حبیب فقلت له: وما الذی تری یا أمیر المؤمنین؟ قال: یا حبیب أری ملائکة السماوات والنبیین بعضهم فی أثر بعض ، وقوفاً إلیَّ یتلقونی ، وهذا أخی محمد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جالسٌ عندی یقول: أقدم فإن أمامک خیر لک مما أنت فیه ، قال: فما خرجت من عنده حتی توفی صلوات الله علیه ). (الأنوار العلویة للنقدی ص332) .

لیلة العشرین من رمضان

قال محمد بن الحنفیة: بتنا لیلة عشرین من شهر رمضان مع أبی ، وقد نزل السم إلی قدمیه ، وکان یصلی تلک اللیلة من جلوس ، ولم یزل یوصینا بوصایا یعزینا عن نفسه ، ویخبرنا بأمره إلی حین طلوع الفجر ، فلما أصبح استأذن الناس علیه فأذن لهم بالدخول فدخلوا وأقبلوا یسلمون علیه وهو یردُّ علیهم ویکلمهم ، ثم قال: أیها الناس سلونی قبل أن تفقدونی ، وخففوا سؤالکم ، لمصیبة إمامکم ! قال فبکی الناس بکاء شدیداً وأشفقوا ان یسألوه تخفیفاً ، فقام إلیه حجر بن عدی الطائی وقال:

یا أسفی علی المولی التقیِّ

أبی الأطهار حیدرةِ الزکیِّ

قتیلاً قد غدا بحسام نغل

لعین فاسق رجس شقی

فلما بصر به(علیه السّلام)وسمع شعره قال له:کیف بک یا حجر إذا دعیت إلی البراءة منی فما عساک أن تقول؟ فقال: والله یا أمیر المؤمنین لو قطعت بالسیف إرباً إرباً

ص: 458

وأضرم لی النار وألقیت فیها ، لآثرت ذلک علی البراءة منک ! فقال: وفقت لکل خیر یاحجر ، جزاک الله خیراً عنا أهل البیت ). (الأنوار العلویة للنقدی ص384) .

(قال الأصبغ بن نباتة: لما ضرب علی(علیه السّلام)الضربة التی مات فیها ، کنا عنده لیلاً فأغمی علیه فأفاق فنظر الینا ، فقال: ما یجلسکم؟ فقلنا: حبک یا أمیر المؤمنین . فقال: أما والذی أنزل التوراة علی موسی والإنجیل علی عیسی والزبور علی داود والفرقان علی محمد رسول الله:(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لایحبنی عبد إلا رآنی حیث یسرُّه ، ولایبغضنی عبد إلا رآنی حیث یکرهه. إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أخبرنی أنی أضرب فی لیلة تسع عشرة من شهر رمضان فی اللیلة التی مات فیها موسی(علیه السّلام) ، وأموت فی لیلة إحدی وعشرین تمضی من شهر رمضان ، فی اللیلة التی رفع فیها عیسی(علیه السّلام) .

قال الأصبغ: فمات والذی لا إله إلا هو ، فیها ). (شرح الأخبار:2/446) .

لیلة إحدی وعشرین من رمضان

قال محمد بن الحنفیة: لما کانت إحدی وعشرین وأظلم اللیل ، وهی اللیلة الثانیة من الکائنة ، جمع أبی أولاده وأهل بیته وودعهم ، ثم قال لهم: الله خلیفتی علیکم وهو حسبی ونعم الوکیل ، وأوصی الجمیع بلزوم الإیمان والأحکام التی أوصی بها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

وفی الکافی:1/297:(عن سلیم بن قیس قال:شهدت وصیة أمیر المؤمنین(علیه السّلام) حین أوصی إلی ابنه الحسن ، وأشهد علی وصیته الحسین(علیهماالسّلام) ومحمداً وجمیع ولده ، ورؤساء شیعته وأهل بیته ، ثم دفع إلیه الکتاب والسلاح وقال لابنه الحسن: یا بنیَّ أمرنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن أوصی إلیک وأن أدفع إلیک کتبی وسلاحی ، کما أوصی إلیَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )ودفع إلیَّ کتبه وسلاحه ، وأمرنی أن آمرک إذا حضرک الموت أن تدفعها إلی أخیک الحسین ، ثم أقبل علی ابنه الحسین فقال: أمرک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن تدفعها إلی ابنک هذا ، ثم أخذ بید علی بن الحسین ، ثم قال

ص: 459

لعلی بن الحسین: وأمرک رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن تدفعها إلی ابنک محمد بن علی ، واقرأه من رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )ومنی السلام) .

(قال الأصبغ بن نباتة: عدونا علی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)أنا والحرث بن سوید بن غفلة وجماعة ، فقعدنا علی الباب ، فسمعنا البکاء فبکینا ، فخرج إلینا الحسن بن علی(علیه السّلام)فقال: یقول لکم أمیر المؤمنین إنصرفوا إلی منازلکم ، فانصرف القوم غیری ، واشتد البکاء فی منزله فبکیت ، وخرج الحسن فقال: ألم أقل لکم إنصرفوا؟ فقلت لا والله یا بن رسول الله ما تتابعنی نفسی ولا تحملنی رجلای أن أنصرف حتی أری أمیر المؤمنین(علیه السّلام) . قال: فدخل ولم یلبث أن خرج فقال لی أدخل ، فدخلت علی أمیر المؤمنین فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف دمه واصفر وجهه ، ما أدری وجهه أصفر أم العمامة ! فأکببت علیه فقبلته وبکت ، فقال لی: لا تبک یا أصبغ ، فإنها والله الجنة ، فقلت له: جعلت فداک إنی أعلم والله أنک تصیر إلی الجنة ، وإنما أبکی لفقدانی إیاک یا أمیر المؤمنین ! ثم زاد ولوج السم فی جسده الشریف ، حتی نظرنا إلی قدمیه وقد احمرَّتا جمیعاً ، فکبر ذلک علینا وأیسنا منه ، ثم أصبح ثقیلاً ، فدخل الناس علیه فأمرهم ونهاهم ، ثم أعرضنا علیه المأکول والمشروب فأبی أن یأکل أو یشرب ، فنظرنا إلی شفتیه وهما یختلجان بذکر الله تعالی ، وجعل جبینه یرشح عرقاً وهو یمسحه بیده قلت: یا أبتاه أراک تمسح جبینک ، فقال: یا بنی إنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقول إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبینه وصار کاللؤلؤ الرطب وسکن أنینه . ثم قال(علیه السّلام):یاأبا عبدالله ویاعون، ثم نادی أولاده کلهم بأسمائهم صغیراً وکبیراً واحداً بعد واحد ، وجعل یودعهم ویقول: الله خلیفتی علیکم ، أستودعکم الله وهم یبکون.... ثم التفت إلی أولاده الذین هم من غیر فاطمة(علیهاالسّلام) وأوصاهم أن یطیعوا الحسن والحسین(علیهماالسّلام)ثم قال: أحسن الله لکم العزاء ، ألا وإنی

ص: 460

منصرف عنکم وراحل فی لیلتی هذه ولاحقٌ بحبیبی محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما وعدنی، وما زال یتشهد الشهادتین ، ثم استقبل القبلة وغمَّض عینیه ومدَّ رجلیه وأسبل یدیه ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم قضی نحبه صلوات الله علیه .

وارتفعت الصیحة فی بیت الإمام(علیه السّلام)وحوله فی منطقة القصر ، فعلم أهل الکوفة أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)قد قبض ، فأقبل النساء والرجال یُهرعون أفواجاً أفواجاً ، وصاحوا صیحة عظیمة فارتجت الکوفة بأهلها ، وکثر البکاء والنحیب والضجیج بالکوفة وقبائلها ودورها وأقطارها ، فکان ذلک کیوم مات فیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وکنا نسمع جلبة وتسبیحاً فی الهواء فعلمنا أنها أصوات الملائکة ، فلم یزل کذلک إلی أن طلع الفجر ). (الأنوار العلویة للنقدی ص383) .

أوصی(علیه السّلام)أن یدفنوه سراً لئلا ینبش قبره بنو أمیة !

أوصی أمیر المؤمنین ولده الإمام الحسن(علیه السّلام)فقال له: (إذا أنا مت فغَسِّلنی وکفِّنی وحنِّطنی ببقیة حنوط جدک رسول الله ، فإنه من کافور الجنة جاء به جبرئیل(علیه السّلام)إلیه ، ثم ضعنی علی سریری ، ولایتقدم أحد منکم یحمل السریر ، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه ، فأی موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر ، فحیث أقام سریری فهو موضع قبری ، ثم تقدم یا أبا محمد وصلِّ علیَّ یا بنیَّ یاحسن وکبِّر علیَّ سبعاً ، واعلم أنه لا یحلُّ ذلک لأحد غیری ، إلا علی رجل یخرج فی آخر الزمان اسمه القائم المهدی من ولد الحسین(علیه السّلام) ، یقیم إعوجاج الحق . فإذا أنت صلیت علیَّ فنحِّ السریر عن موضعه ، ثم اکشف التراب عنه فتری قبراً محفوراً ولحداً مثقوباً وساجةً منقورة ، فأضجعنی فیها ، فإذا أردت الخروج من قبری فافتقدنی فإنک لاتجدنی وإنی لاحق بجدک رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، واعلم یا بنیَّ ما من نبی یموت وإن کان مدفوناً بالمشرق ویموت وصیه بالمغرب إلا ویجمع الله عزوجل بین روحیهما وجسدیهما ثم یفترقان

ص: 461

فیرجع کل واحد منهما إلی موضع قبره والی موضعه الذی حُطَّ فیه ، ثم أشرج اللحد وأهل التراب علی ، ثم غیِّب قبری .

قال محمد بن الحنفیة: أخذنا فی جهازه لیلاً ، وکان الحسن یغسله والحسین یصبُّ علیه الماء ، وکان جسده یتقلب کما یرید الغاسل یمیناً وشمالاً ، وکانت رائحته أطیب من رائحة المسک والعنبر . ثم نادی الحسن(علیه السّلام)أخته زینب وقال یا أختاه هلمی بحنوط جدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأتته به ، فلما فتحته فاحت الدار وجمیع الکوفة وشوارعها من رائحة طیبه ، ثم لفَّوه بخمسة أثواب کما أمر ثم وضعوه علی السریر ، وتقدم الحسن والحسین(علیهماالسّلام)ورفعا السریر من مؤخره ، وإذا مقدمه قد ارتفع ولا یُری حامله ، وکان حاملاه من مقدمه جبرئیل ومیکائیل ، والله لقد نظرت إلی السریر وإنه لیمر بالحیطان والنخل فتنحنی له خشوعاً ، فلما انتهینا إلی قبره وإذا مقدم السریر قد وُضع ، فوضع الحسن(علیه السّلام)مؤخره وصلی علیه والجماعة خلفه ، فکبر سبعاً کما أمر به أبوه ، ثم زحزحنا سریره وکشفنا التراب فإذا نحن بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقورة مکتوب علیها: هذا ما ادخره نوح النبی للعبد الطاهر المطهر علی بن أبی طالب ، فلما أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً یقول: أنزلوه إلی التربة الطاهرة ، فقد اشتاق الحبیب إلی حبیبه ، فدهش الناس عند ذلک . وألحد أمیر المؤمنین عند طلوع الفجر . فدفناه فیها وانصرفنا ونحن مسرورون بإکرام الله لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)). (البحار:42/294).

ص: 462

رثاء الخضر لأمیر المؤمنین(علیهماالسّلام)

(عن أسید بن صفوان صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: لما کان الیوم الذی قبض فیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)ارتج الموضع بالبکاء ، ودهش الناس کیوم قبض النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )وجاء رجل باکیاً وهو مسرعٌ مسترجعٌ وهو یقول: الیوم انقطعت خلافة النبوة حتی وقف علی باب البیت الذی فیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام) فقال:

رحمک الله یا أبا الحسن ، کنت أول القوم إسلاماً ، وأخلصهم أیماناً ، وأشدهم یقیناً ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم عناءً ، وأحوطهم علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وآمنهم علی أصحابه ، وأفضلهم مناقب ، وأکرمهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأشبههم به هدیاً وخلقاً وسمتاً وفعلاً ، وأشرفهم منزلة ، وأکرمهم علیه ، فجزاک الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمین خیراً .

قویتَ حین ضعف أصحابه ، وبرزتَ حین استکانوا ، ونهضتَ حین وهنوا ، ولزمتَ منهاج رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إذ همَّ أصحابه ، وکنت خلیفته حقاً ، لم تُنازع ولم تَضرع برغم المنافقین وغیظ الکافرین وکره الحاسدین وصَغَر الفاسقین! فقمت بالأمر حین فشلوا ، ونطقت حین تتعتعوا ، ومضیت بنور الله إذ وقفوا ، فاتبعوک فهدوا . وکنت أخفضهم صوتاً ، وأعلاهم قنوتاً ، وأقلهم کلاماً ، وأصوبهم نطقاً ، وأکبرهم رأیاً ، وأشجعهم قلباً ، وأشدهم یقیناً ، وأحسنهم عملاً ، وأعرفهم بالأمور .

کنت والله یعسوباً للدین أولاً وآخراً: الأول حین تفرق الناس ، والآخر حین فشلوا ! کنت للمؤمنین أباً رحیماً ، إذ صاروا علیک عیالاً ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ، وحفظت ما أضاعوا ، ورعیت ما أهملوا ، وشمرت إذ اجتمعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ أسرعوا ، وأدرکت أوتار ما طلبوا ، ونالوا بک ما لم یحتسبوا .

کنت علی الکافرین عذاباً صباً ونهباً ، وللمؤمنین عمَداً وحصناً ، فطرت والله بنعمائهاوفزت بحبائها ، وأحرزت سوابقها ، وذهبت بفضائلها ، لم تُفلل حجتک ،

ص: 463

ولم یَزُغ قلبک ، ولم تضعف بصیرتک ، ولم تَجْبَنْ نفسک ولم تًخُرْ .

کنت کالجبل لاتحرکه العواصف ، وکنت کما قال: أمِن الناس فی صحبتک وذات یدک ، وکنت کما قال: ضعیفاً فی بدنک قویاً فی أمر الله ، متواضعاً فی نفسک عظیماً عند الله ، کبیراً فی الأرض جلیلاً عند المؤمنین .

لم یکن لأحد فیک مهمز ، ولا لقائل فیک مغمز ، ولا لأحد فیک مطمع ، ولا لأحد عندک هوادة ، الضعیف الذلیل عندک قوی عزیز حتی تأخذ له بحقه ، والقوی العزیز عندک ضعیف ذلیل حتی تأخذ منه الحق ، والقریب والبعید عندک فی ذلک سواء ، شأنک الحق والصدق والرفق ، وقولک حکمٌ وحتم ، وأمرک حلمٌ وحزم ، ورأیک علمٌ وعزم فیما فعلت .

وقد نهجت السبیل ، وسهلت العسیر ، وأطفأت النیران ، واعتدل بک الدین ، وقوی بک الإسلام ، فظهر أمر الله ولو کره الکافرون ، وثبَتَ بک الإسلام والمؤمنون ، وسبقت سبقاً بعیداً ، وأتعبت من بعدک تعباً شدیداًً ، فجللت عن البکاء ، وعظمت رزیتک فی السماء ، وهدت مصیبتک الأنام ، فإنا لله وإنا إلیه راجعون ، رضینا عن الله قضاه ، وسلمنا لله أمره ، فوالله لن یصابَ المسلمون بمثلک أبداً .

کنت للمؤمنین کهفاً وحصناً ، وقِنَّةً راسیاً ، وعلی الکافرین غلظة وغیظاً ، فألحقک الله بنبیه ، ولا أحرمنا أجرک ، ولا أضلنا بعدک .

وسکت القوم حتی انقضی کلامه ، وبکی وبکی أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم طلبوه فلم یصادفوه ). (الکافی:1/454)

رثاء صعصعة بن صوحان لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)

لما ألحد أمیر المؤمنین وقف صعصعة بن صوحان العبدی علی القبر ، ثم قال:

بأبی أنت وأمی یا أمیر المؤمنین . هنیئاً لک یا أبا الحسن ، فقد طاب مولدک

ص: 464

وقویَ صبرک ، وعظم جهادک ، وظفرتَ برأیک ، وربحتْ تجارتُک ، وقد قَدِمتَ علی خالقک ، فتلقاک الله ببشارته ، وحفتک ملائکته ، واستقررت فی جوار المصطفی ، فأکرمک الله بجواره ، ولحقت بدرجة أخیک المصطفی ، وشربت بکأسه الأوفی . فأسأل الله أن یمن علینا باقتفاء أثرک ، والعمل بسیرتک ، والموالاة لأولیائک والمعاداة لأعدائک ، وأن یحشرنا فی زمرة أولیائک ، فقد نلت ما لم ینله أحد ، وأدرکت ما لم یدرکه أحد ، وجاهدت فی سبیل ربک بین یدی أخیک المصطفی حق جهاده ، وقمت بدین الله حق القیام ، حتی أقمت السنن وأبرت الفتن ، واستقام الإسلام وانتظم الإیمان ، فعلیک منی أفضل الصلاة والسلام .

بک اشتد ظهر المؤمنین ، واتضحت أعلام السبل وأقیمت السنن ، وما جُمع لأحد مناقبُک وخصالُک ، سبقتَ إلی إجابة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مُقدِماً مؤثراً ، وسارعت إلی نصرته ، ووقیته بنفسک، ورمیت بسیفک ذا الفقار فی مواطن الخوف والحذر، وقصم الله بک کل جبار عنید ، وذلَّ بک کل ذی بأس شدید ، وهدم بک حصون أهل الشرک والبغی والکفر والعدوان والردی ، وقتل بک أهل الضلال من العدی، فهنیئا یا أمیر المؤمنین ، کنت أقرب الناس من رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأولهم سلماً ، وأکثرهم علماً وفهماً .

فهنیئاً لک یا أبا الحسن ، لقد شرف الله مقامک ، وکنت أقرب الناس إلی رسول الله نسباً ، وأولهم إسلاماً ، وأکثرهم علماً ، وأوفاهم یقیناً ، وأشدهم قلباً ، وأبذلهم لنفسه مجاهداً ، وأعظمهم فی الخیر نصیباً ، فلا حرمنا الله أجرک ولا أضلنا بعدک ، فوالله لقد کانت حیاتک مفاتح للخیر ومغالق للشر ، وإن یومک هذا مفتاح کل شر ، ومغلاق کل خیر ، ولو أن الناس قبلوا منک لأکلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولکنهم آثروا الدنیا علی الآخرة !! ثم بکی بکاء شدیداً

ص: 465

وأبکی کل من کان معه ، وعدلوا إلی الحسن والحسین(علیهماالسّلام)ومحمد وجعفر والعباس وعون وعبد الله فعزوهم فی أبیهم(علیه السّلام)).(الأنوار العلویةص288).

من رثاء الشعراء لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)

قال أبو الأسود الدؤلی(رحمه الله)

ألا یا عینُ ویحَک فاسعدینا

ألا أبکی أمیر المؤمنینا

قتلتم خیرَ من رکب المطایا

وأکرمَهم ومن رکب السفینا

ومن لبس النعالَ ومن حذاها

ومن قرأ المثانی والمئینا

إذا استقبلتَ وجه أبی حسین

رأیت البدر راع الناظرینا

یقیم الحدَّ لا یرتاب فیه

ویقضی بالفرایض مستبینا

ألا أبلغ معاویة بن حرب

فلا قرَّتْ عیون الشامتینا

أفی الشهر الحرام فجعتمونا

بخیر الناس طراً أجمعینا

ومن بعد النبیِّ فخیرُ نفس

أبو حسن وخیرُ الصالحینا

کأنَّ الناسَ إذ فقدوا علیاً

نعامٌ جالَ فی بلد سنینا

وکنا قبل مهلکه بخیر

نری فینا وصیَّ المسلمینا

فلا والله لا أنسی علیاً

وحسن صلاته فی الراکعینا

لقد علمتْ قریشٌ حیث کانت

بأنک خیرهم حسباً ودینا

فلا تشمتْ معاویةُ بن حرب

فإن بقیة الخلفاء فینا

ص: 466

وقال المصری(رحمه الله)

غصبتم ولیَّ الحق مهجة نفسه

وکان لکم غصبُ الأمانة مُقنعا

وألجمتمُ آل النبی سیوفکم

تُفَرِّی من السادات سُوقاً وأذرعا

ضغائنُ بدر أظهرتْها وجاهرت

بما کان منها فی الجوانح مودعا

لوی عذره یوم الغدیر بحقه

وأعقبه یوم البعیر واتبعا

وحاربه القرآن عنه فما ارعوی

وعاتبه الإسلام فیه فما رعا

وقال دعبل الخزاعی(رحمه الله)

سلامٌ بالغداة

وبالعشیِّ علی جدثٍ بأکناف الغریِّ

ولا زالت غزالُ النور تُزجی

إلیه صبابةَ المُزن الرویِّ

ألا یا حبذا تربٌ بنجد

وقبرٌ ضمَّ أوصال الوصیِّ

وصیُّ محمد بأبی وأمی

وأکرمُ من مشی بعد النبیِّ

(مناقب آل أبی طالب:3/97 – 101)

ص: 467

فرح معاویة وتأسفه لمقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)!

فی نهج السعادة:8/507: (ولما بلغ نعی أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إلی معاویة فرح فرحاً شدیداً... وفی روایة الراغب عن شریک أنه کان متکئاً فاستوی جالساً ، ثم قال: یاجاریة غنینی ، فالیوم قرت عینی ). انتهی .

أقول: لکن العبارة المشهورة عن معاویة أنه لما بلغه مقتل علی(علیه السّلام)تأسف علی موت العلم والفقه بموته ! وکلا الروایتین طبیعیتان .

أما فرحه وإقامته مجلس غناء وشراب فواضح ، لأن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)کان أکبر عقبة أمام مشروعه الدنیوی وهو إقامة إمبراطوریة أمویة !

وأما تأسفه علی خسارة الأمة للعلم والفقه ، فهو تأسفٌ علی خسارته هو لأنه کان کلما أشکلت علیه مسألة ، أو سأله عنها الروم والنصاری والیهود ، لجأ الی علی(علیه السّلام)وأرسل الیه بواسطة أحد وسأله عنها ! وکان علی(علیه السّلام)یعرف ذلک ، لکنه یرید نصرة الإسلام وتطبیق شرع الله تعالی ، حتی لو استفاد منه معاویة !

ففی کتاب فتح الملک العلی للحافظ المغربی ص74: ( ذکر ابن عبد البر أنه کان یکتب فیما ینزل به لیسأل علی بن أبی طالب ، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبی طالب ) . ( الإستیعاب2/463) .

وذکر السید الأمین فی عجائب أحکام أمیرالمؤمنین(علیه السّلام)ص139، أن معاویة بعث رجلاً متخفیاً لیسأل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عن مجموعة مسائل مشکلة .

وقال فقیه إیمانی فی آراء الخلفاء فی الإمام علی(علیه السّلام)ص162:(أخرج الإمام مالک والشافعی ، وسعید بن منصور بن شعبة المروزی ، وعبد الرزاق ، والبیهقی بإسنادهم جمیعاً عن سعید بن المسیب قال: إن رجلاً من أهل الشام یقال له ابن

ص: 468

خیبری وجد مع امرأته رجلاً فقتله أو قتلهما معاً ، فأشکل علی معاویة بن أبی سفیان القضاء فیه ، فکتب إلی أبی موسی الأشعری یسأل له علی بن أبی طالب عن ذلک . فسأل أبو موسی عن ذلک علی بن أبی طالب ، فقال له علی: إن هذا الشئ ما هو بأرضی عزمت علیک لتخبرنی ! فقال له أبو موسی: کتب إلیَّ معاویة بن أبی سفیان أن أسألک عن ذلک . فقال علی: أنا أبو الحسن القرم ، إن لم یأت بأربعة شهداء فلیعط برمته ). انتهی .

وقال المناوی فی فیض القدیر:4/469، فی شرح قول النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )(علی عَیْبَةُ علمی): (أی مظنة استفصاحی وخاصتی ، وموضع سری ، ومعدن نفائسی . والعیبة ما یحرز الرجل فیه نفائسه . قال ابن درید: وهذا من کلامه الموجز الذی لم یسبق ضرب المثل به فی إرادة اختصاصه بأموره الباطنة التی لا یطلع علیها أحد غیره ، وذلک غایة فی مدح علی، وقد کانت ضمائر أعدائه منطویة علی اعتقاد تعظیمه . وفی شرح الهمزیة: أن معاویة کان یرسل یسأل علیاً عن المشکلات فیجیبه ، فقال له أحد بنیه: تجیب عدوک؟! قال: أما یکفینا أن احتاجنا وسألنا). انتهی .

وفی نفس الوقت نجد أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)تأسف عندما وقعت الکتب التی کتبها لمحمد بن أبی بکر(رحمه الله)فی ید معاویة ، لأنه سیستطیل بها ویسئ استغلالها !

قال الثقفی فی الغارات:1/250: ( فلما ظهر علیه (محمد بن أبی بکر(رحمه الله))وقتله ، أخذ عمرو بن العاص کتبه أجمع ، فبعث بها إلی معاویة بن أبی سفیان ، وکان معاویة ینظر فی هذا الکتاب ویعجبه(کتاب القضاء الذی کتبه له علی(علیه السّلام))فقال الولید بن عقبة وهو عند معاویة لما رأی إعجاب معاویة به: مُرْ بهذه الأحادیث أن تحرق ، فقال له معاویة: مه یا ابن أبی معیط ، إنه لا رأی لک ، فقال له الولید: إنه لا رأی لک ! أفمن الرأی أن یعلم الناس أن أحادیث أبی تراب عندک تتعلم منها وتقضی بقضائه ! فعلام تقاتله ! فقال معاویة: ویحک أتأمرنی أن أحرق علماً مثل هذا !

ص: 469

والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحکم ولا أوضح ! فقال الولید: إن کنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله ! فقال معاویة: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ، ثم أفتانا لأخذنا عنه ! ثم سکت هنیئة ثم نظر إلی جلسائه فقال: إنا لا نقول إن هذه من کتب علی بن أبی طالب ولکنا نقول: إن هذه من کتب أبی بکر الصدیق کانت عند ابنه محمد ، فنحن نقضی بها ونفتی ! فلم تزل تلک الکتب فی خزائن بنی أمیة حتی ولی عمر بن عبد العزیز فهو الذی أظهر أنها من أحادیث علی بن أبی طالب ! فلما بلغ علی أبی طالب أن ذلک الکتاب صار إلی معاویة اشتد ذلک علیه . قال أبو إسحاق.....صلی بنا علیٌّ فلما انصرف قال:

لقد عثرت عثرة لا أعتذر...سوف أکیس بعدها وأستمر...وأجمع الأمر الشتیت المنتشر

قلنا: ما بالک یا أمیر المؤمنین سمعنا منک کذا ؟ قال: إنی استعملت محمد بن أبی بکر علی مصر ، فکتب إلی أنه لا علم لی بالسنة ، فکتبت إلیه کتاباً فیه السنة فقتل وأخذ الکتاب ). انتهی .

أقول: فی هذا النص دلالات عدیدة ، منها: اعتراف معاویة بعلم أمیر المؤمنین (علیه السّلام)وأنه ظالمٌ فی منازعة من هو أعلم منه .

ومنها: أن معاویة الذی شهد له النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما فی البخاری بأنه إمام الفئة الباغیة الداعیة الی النار ، هو أیضاً إمام فی التزویر ونسبة کتب العلم الی غیر أصحابها !

ومنها: أن خطة النبی والعترة(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أن یصونوا العلم عن الأئمة المضلین ، إلا قلیلاً منه ، حتی لا یسیئوا استغلاله ، وینکشف للمسلمین جهلهم وتسلطهم بغیر حق ! أما قول الراوی إن ابن عبد العزیز أظهر أنها أحادیث علی(علیه السّلام) ، فیکذبه الواقع !

ص: 470

فرح عائشة بمقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وعدم تأسفها !

وقد وصلت الینا نصوص عن فرحها أکثر مما وصل عن فرح معاویة !

قال المفید(رحمه الله)فی الجمل ص83: (هذا مع الأخبار التی لا ریب فیها ولا مریة فی صحتها لاتفاق الرواة علیها ، أنها لما قتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)جاء الناعی فنعی أهل المدینة ، فلما سمعت عائشة بنعیه استبشرت وقالت متمثلة:

فإن یک ناعیاً فلقد نعاهُ

لنا من لیس فی فیه الترابُ

فقالت لها زینب بنت أبی سلمة: ألعلی تقولین هذا ؟! فتضاحکت ، ثم قالت: أنسی ، فإذا نسیت فذکرونی ! ثم خرت ساجدة شکراً علی ما بلغها من قتله ، ورفعت رأسها وهی تقول:

فألقت عصاها واستقر بها النوی

کما قر عیناً بالإیاب المسافرُ

هذا وقد روی عن مسروق أنه قال: دخلت علیها فاستدعت غلاماً باسم عبد الرحمن ، قالت عبدی . قلت لها: فکیف سمیته عبد الرحمن؟ قالت: حباً لعبد الرحمن بن ملجم ، قاتل علی) !

وقال الشیخ الطوسی فی الإقتصاد ص228: (وروی الطبری فی تاریخه أنه لما انتهی قتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)إلی عائشة قالت:

فألقت عصاها واستقر بها النوی

کما قر عینا بالإیاب المسافر

ثم قالت: من قتله ؟ فقیل: رجل من مراد . فقالت:

فإن یک نائیاً فلقد نعاه غلامٌ لیس فی فیه التراب

وهذا کله صریح بالإصرار وفقد التوبة ).

وفی تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی ص411:

(وقولها: وقد بشرها بعض عبیدها بقتل علی صلوات الله علیه:

فإن یک نائیاً فلقد نعاه

ناع لیس فی فیه التراب !

ص: 471

ثم قالت للعبد: من قتله ؟ قال: عبد الرحمن بن ملجم ، قالت: فأنت حر لوجه الله ، وقد سمیتک عبد الرحمن . ثم تمثلت ببیت آخر:

وألقت عصاها واستقر بها النوی

کما قر عیناً بالإیاب المسافر

مجاهرة بعداوة أمیر المؤمنین ، وغبطة بقتله ! ).

وشبیه به فی الشافی:4/355، عن الطبری ، وهو فی تاریخه:5/150 ، وقال الشریف المرتضی: (وهذه سخریة منها بزینب وتمویه علیها ، تخوفاً من شناعتها ، ومعلوم ضرورةً أن الناسی الساهی لایتمثل بالشعر فی الأغراض التی تطابق مراده ، ولم یکن ذلک منها إلا عن قصد ومعرفة ). انتهی. (وذکر له فی نهج السعادة:8/507 ، مصادر متعددة ، وکذا فی شرح إحقاق الحق:8/803 ، منها الإستیعاب:2/469 . وأورده السید العاملی فیخلفیات مأساة الزهراء:5/42 ، وکتاب علی والخوارج:1/250 وذکر فی مصادره: الطبقات:3/40 ط سنة 1405ه-. وتلخیص الشافی:4/157 ، وأخبار الموفقیات ص131. وذکر سجود عائشة شکراً السید شرف الدین فی النص والإجتهاد ص471 والمراجات 319 ).

ص: 472

شرکاء الجریمة: ابن ملجم والأشعث وقطام !

قال ابن سعد فی الطبقات:3/35: ( انتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم المرادی ، وهو من حمیر وعداده فی مراد ، وهو حلیف بنی جبلة من کندة والبرک بن عبد الله التمیمی ، وعمرو بن بکیر التمیمی ، فاجتمعوا بمکة وتعاهدوا وتعاقدوا لیقتلن هؤلاء الثلاثة: علی بن أبی طالب ومعاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص ، ویریحُنَّ العباد منهم . فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا لکم بعلی بن أبی طالب ، وقال البرک: وأنا لکم بمعاویة ، وقال عمرو بن بکیر: أنا أکفیکم عمرو بن العاص ، فتعاهدوا علی ذلک وتعاقدوا وتواثقوا لا ینکص رجل منهم عن صاحبه الذی سمی ویتوجه إلیه حتی یقتله ، أو یموت دونه !

فاتعدوا بینهم لیلة سبع عشرة من شهر رمضان ، ثم توجه کل رجل منهم إلی المصر الذی فیه صاحبه . فقدم عبد الرحمن بن ملجم الکوفة فلقی أصحابه من الخوارج ، فکاتمهم ما یرید وکان یزورهم ویزورونه ، فزار یوماً نفراً من تیم الرباب فرأی امرأة منهم یقال لها قطام بنت شجنة بن عدی بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تیم الرباب ، وکان علیٌّ قتل أباها وأخاها یوم نهروان فأعجبته فخطبها فقالت: لا أتزوجک حتی تسمی لی ، فقال لا تسألیننی شیئاً إلا أعطیتک ! فقالت: ثلاثة آلاف وقتل علی بن أبی طالب ! فقال: والله ما جاء بی إلی هذا المصر إلا قتل علی بن أبی طالب ، وقد آتیتک ما سألت .

ولقی عبد الرحمن بن ملجم شبیب بن بجرة الأشجعی فأعلمه ما یرید ودعاه إلی أن یکون معه ، فأجابه إلی ذلک ، وبات عبد الرحمن بن ملجم تلک اللیلة التی عزم فیها أن یقتل علیاً فی صبیحتها ، یناجی الأشعث بن قیس الکندی فی مسجده ، حتی کاد أن یطلع الفجر فقال له الأشعث: فضحک الصبح فقم ، فقام

ص: 473

عبد الرحمن بن ملجم وشبیب بن بجرة ، فأخذا أسیافهما ثم جاءا حتی جلسا مقابل السدة التی یخرج منها علی.... فقال بعض من حضر ذلک: فرأیت بریق السیف وسمعت قائلاً یقول لله الحکم یا علی لا لک ، ثم رأیت سیفاً ثانیاً فضربا جمیعاً ، فأما سیف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلی قرنه ووصل إلی دماغه ، وأما سیف شبیب فوقع فی الطاق ، وسمعت علیاً یقول لا یفوتنکم الرجل وشد الناس علیهما من کل جانب ، فأما شبیب فأفلت ، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم فأدخل علی علی فقال: أطیبوا طعامه وألینوا فراشه ، فإن أعش فأنا أولی بدمه عفواً أو قصاصاً ، وإن أمت فألحقوه بی أخاصمه عند رب العالمین ) !

وفی مناقب آل أبی طالب:3/95:.(وأما شبیب بن بجرة ، فإنه خرج هارباً فأخذه رجل فصرعه وجلس علی صدره ، وأخذ السیف من یده لیقتله ، فرأی الناس یقصدون نحوه ، فخشی أن یعجلوا علیه فوثب عن صدره وخلاه

، وطرح السیف عن یده ففاته ، فخرج هارباً حتی دخل منزله ، فدخل علیه ابن عم له فرآه یحل الحریر عن صدره ، فقال له: ما هذا ؟ لعلک قتلت أمیر المؤمنین ! فأراد أن یقول: لا ، فقال: نعم ، فمضی ابن عمه فاشتمل علی سیفه ثم دخل علیه فضربه حتی قتله). انتهی .

وفی أنساب الأشراف للبلاذری ص487: (فقدم ابن ملجم الکوفة وجعل یکتم أمره ، فتزوج قطام بنت علقمة من تیم الرباب ، وکان علیٌّ قتل أخاها ، فأخبرها بأمره ، وکان أقام عندها ثلاث لیال ، فقالت له فی اللیلة الثالثة: لشد ما أحببت لزوم أهلک وبیتک ، وأضربت عن الأمر الذی قدمت له! فقال: إن لی وقتاً واعدتُ علیه أصحأبی ، ولن أجاوزه . ثم إنه قعد لعلی فقتله ، ضربه علی رأسه ، وضرب ابن عم له عضادة الباب ، فقال علیٌّ حین وقع به السیف: فزت ورب الکعبة ) .

ص: 474

الأشعث یتأکد من نجاح مؤامرته !

اتفقت الروایات علی أن ابن ملجم من بنی مراد ، وکان عداده فی کندة ، أی تسجیل نفوسه ومسؤولیته الحقوقیة والجنائیة فی کندة ورئیسها الأشعث بن قیس!

وأن ابن ملجم دخل الکوفة قبل شهر من اغتیاله لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)ونزل ضیفاً عند الأشعث ! واتفقت الروایات علی أن الأشعث کان رجل معاویة الأول فی العراق ، وأنه عمل بکل قدرته لإنجاح مؤامرة ابن ملجم

فی قتل أمیر المؤمنین (علیه السّلام)وأشرک عدداً من رجاله فیها ! فهل یعقل أن لا یکون معاویة وراءها أو فی مجراها ؟! قال فی مقاتل الطالبیین ص20: (وللأشعث بن قیس فی انحرافه عن أمیر المؤمنین أخبار یطول شرحها...). انتهی .

وقال البلاذری فی أنساب الأشراف ص496: (وبعث الأشعث ابنه قیس بن الأشعث صبیحة ضرب علی فقال: أیْ بنیَّ أنظر کیف أصبح الرجل وکیف تره؟ فذهب فنظر إلیه ثم رجع فقال: رأیت عینیه داخلتین فی رأسه ، فقال الأشعث: عینیْ دمیغ ورب الکعبة). انتهی. (ومثله فی طبقات ابن سعد:3/144 ،

وقال ابن الأثیر فی النهایة:2/133: (ومنه حدیث علی: رأیت عینیه عینی دمیغ. یقال رجل دمیغ ومدموغ إذا خرج دماغه ). (ومثله فی لسان العرب:8/424 ، وغیره ).

ولم یتهنأ الأشعث بقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)، فقد هلک بعده بأیام یسیرة (تهذیب التهذیب:1/313وتاریخ دمشق:9/144) تارکاً فرخیه جعدة ومحمد بن الأشعث ، لیواصلا تآمر أبیهما علی العترة النبویة ، ویشترکا فی قتل الإمامین الحسن والحسین(علیهماالسّلام)!

ص: 475

مَن الذی انتصر..معاویة أم علی(علیه السّلام)؟

کان معاویة یتصور أنه سیاسی عبقری ، یعرف کیف تؤکل الکتف !

1 - فقد استطاع أن یثبت أقدامه علی حکم بلاد الشام فی زمن عمر وعثمان ، واستطاع أن یتجنب موجة النقمة علی عثمان من الصحابة وأهل مصر والعراق والحجاز ، وفی نفس الوقت أن یکون وارث عثمان والمطالب بدمه ! ثم استطاع أن یتجنب حرب الجمل ومقتل طلحة والزبیر وهزیمة عائشة ، ویستثمر ذلک لمصلحته ، فیجمع الیه کل قبائل قریش الطلقاء !

2 - واستطاع أن یتهم علیاً(علیه السّلام)بدم عثمان أو بحمایة قاتلیه ، فقد رفع قمیص عثمان الملطخ بدمه علماً وشعاراً ، ودار به فی بلاد الشام ، وعقد له مجالس النوح والبکاء ، وأقنع أغلب أهل الشام بذلک أو جعلهم یشکون فی مسؤولیة علی(علیه السّلام)!

3 - وفی السنة الثانیة لمقتل عثمان استطاع معاویة أن یُعِدَّ جیشاً من تسعین ألفاً ، من أهل الشام وأهل الیمن الشامیین ، وطلقاء قریش وأتباعهم ، ویشن بهم حرباً علی علی(علیه السّلام)فی صفین !

4 - ثم عندما شارف علی الهزیمة وتهیأ للفرار فی صفین ، استطاع بمساعدة عمرو بن العاص الداهیة ، ونفوذ الأشعث بن قیس علی جیش علی(علیه السّلام) ، أن یوقف الحرب برفع المصاحف ، ویفرض الحکمین اللذین یرتضیهما ، ویعود الی الشام ومعه مهلة سنة وخمسة أشهر ، حتی یجتمع الحکمان !

5 - ثم استطاع أن یجعل الحکم الذی یمثل طرف علی(علیه السّلام)وهو أبو موسی الأشعری مَضْحَکةً للناس ! فقد أقنعه ابن العاص أن یخطب فی نهایة المحکمة

ص: 476

ویخلع علیاً(علیه السّلام)من الخلافة لعدم صلاحیته لها کما یخلع خاتمه من یده ! وجاء بعده الحکم الذی یمثل طرف معاویة ، وهو ابن العاص لیثبت معاویة فی الخلافة کما یثبت خاتمه فی یده !

6 - کما کان معاویة یری نفسه أنه حقق نجاحات باهرة علی علی(علیه السّلام)فقد أوقع الخلاف بین أصحابه ، فانشق منهم الخوارج ، ثم أعدًّ لابن العاص جیشاً فغزا مصر وانتصر علی حاکمها محمد بن أبی بکر وقتله(رحمه الله) ، وبذلک وفی بوعده لابن العاص ، وصارت مصر وکل المناطق المفتوحة من إقریقیا تبعاً لها ، تحت حکمه ، طعمةً له کل حیاته لا یأخذ معاویة شیئاً من خراجها !

7 - ثم بدأ سیاسة الغارات علی الحجاز والعراق والیمن ، فأوجد الرعب فی نفوس المسلمین الذین تحت حکم علی(علیه السّلام) ، ونشط عملاؤه فی تخذیل المسلمین وعصیان دعوة علی(علیه السّلام)واستنفاره إیاهم للحرب .

8 - کان معاویة یری أن نجمه فی صعود ، ودولته تزداد قوة ، فقد بایعه أهل الشام بالخلافة ، وهم مطیعون له ، جاهزون لتنفیذ أوامره مهما کانت !

بینما نجم علی(علیه السّلام)فی أفول ، فقد خسر النصر المحقق فی صفین ، ثم خسر حکم لجنة التحکیم ، ثم خسر مصر ووزیره الأشتر ومعاونه محمد بن أبی بکر !

والأهم من ذلک أنه خسر طاعة أصحابه الذین هم ثقل الجیوش الإسلامیة فی الکوفة والبصرة ، فالخوارج صار لهم ثأر عنده ، وهم فاتکون یطلبون رأسه ، وبقیة الناس أکثرهم انحسروا عنه خوفاً من جیش الشام ، أو شکاً فی علی بفعل دعایات معاویة وجماعته من رؤساء أصحاب علی(علیه السّلام)وفی طلیعتهم الأشعث بن قیس رئیس قبائل کندة ، وصاحب النفوذ المتزاید علی قبائل الیمن !

9 - اهتم معاویة بالنشاط السیاسی السری ضد علی(علیه السّلام)حتی کان یقول:(حاربت

ص: 477

علیاً بعد صفین بغیر جیش ولاعناء) !(أنساب الأشراف ص383 ) وکانت مراسلاته وأمواله تصل الی عملائه المنافقین فی الکوفة وغیرها ، خاصة رئیسهم الأشعث ، لأغراض تحریک الخوارج علی علی(علیه السّلام)، وتقویة المعترضین علیه علناً فی المسجد ، والذین یبثون الدعایة ضده فی الناس !

وکانت أهم دعایة معاویة ضده أنه شریک فی دم عثمان ، وأنه عدو لأبی بکر وعمر ، وأنه یکذب علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! ویخبر عن المستقبل کأنه یعلم الغیب !

وهذا التصور لمعاویة عن نفسه ونجاحه السیاسی ، یشارکه فیه الکتَّاب الغربیون والأمویون ، ومن تأثر بهم من المسلمین .

وهو تصور صحیح بناء علی الرؤیة المادیة التی تسقط من حسابها الآخرة ، وتسقط کل القیم الإسلامیة والإنسانیة !

أما أهل النظرة الأعمق الذین ینظرون الی الأمور بمیزان الدین والعقل ، والقیم الإنسانیة ، فیرون أن معاویة هو الخاسر ، وعلیاً(علیه السّلام)هو الرابح .

فمعاویة بمیزان الدین والإنسانیة: شخص وصولی (میکافیلی) طالب حکم ، وإمام فئة شهد فی حقها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنها فئة باغیة داعیة الی النار ، فهو باغٍ خارجٌ علی إمام عصره ، سفاکٌ لدماء ألوف مؤلفة من خیار الصحابة والتابعین ، منتهکٌ لحرمات الإسلام ، آکلٌ للمال الحرام !

ولئن استطاع أن یتغلب بالقتل والغدر والمکر ویحکم المسلمین عشرین سنة ، فقد ذهب الی ربه یحمل أوزاراً کافیة لتخلیده فی عذاب جهنم ، وبقیت أعماله وأسالیبه مضرب مَثَل فی مخالفة قیم الدین والإنسانیة ، من أجل هدف دنیوی!

فکل من قرأ معاویة یوافق علی شهادة هؤلاء النسوة البدویات اللواتی صحن

ص: 478

فی وجه بُسر بن أرطاة لمنعه من قتل طفلین هاشمیین: ( وخرجت نسوة من بنی کنانة فقلن: یا بُسر ما هذا ! الرجال یقتلون فما بال الولدان ! والله ماکانت الجاهلیة تقتلهم ، والله إن سلطاناً لا یشتد إلا بقتل الصبیان ورفع الرحمة ، لسلطانُ سوء ! فقال بُسر: والله لقد هممت أن أضع فیکن السیف) ! (تاریخ الیعقوبی:2/197).

أما علی(علیه السّلام) فکان یفکر بشکل أرقی ویعمل لهدف أسمی:

1 - کان یری أن الله تعالی سمح أن تجری

فی هذه الأمة بعد نبیها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )سنن التاریخ فی الأمم السابقة، وأن تتآمر قریش علی أوصیاء النبی الشرعیین من عترته(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وتغصب خلافة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )منهم وتعزلهم وتضطهدهم ! (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ ، وَلَکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ کَفَرَ ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَکِنَّ اللهَ یَفْعَلُ مَا یُرِیدُ). (البقرة:253)

وقد أخبره النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذلک وفصَّل له أحداثه ، وأمره أن یستنهض الأمة ویذکرها ببیعة الغدیر ، وبوصیة النبی المؤکدة بالقرآن والعترة ، وأن یستنهض الأنصار خاصة ویذکرهم ببیعتهم للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی أن لاینازعوا الأمر أهله ، وأن یحموه وأهل بیته مما یحمون منه أنفسهم وأهلیهم ! فإن لم یجد أنصاراً ، فعلیه أن یحفظ نفسه وأهل بیته من القتل ویصبر ، فإنه ستأتیه فرصة فتولیه الأمة أمرها وسیقاتل المنحرفین علی تأویل القرآن ، کما قاتلهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی التنزیل !

2 - کان علی(علیه السّلام)یری أن ماحققته السلطة القرشیة بعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من فتوحات ونشر للإسلام ، فهو بسبب ضغطه علیها وتدبیره ، وجهاد الفرسان القادة من شیعته والجنود المخلصین من الأمة ، وقد تقدم کلامه فی ذلک .

3 - وکان یری أن الأمة فی زمن عثمان تحصد ما زرعه أبو بکر وعمر

ص: 479

وسهیل بن عمرو ، فقد کانت نتیجة سقیفتهم أن نقلوا قیادة أمة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ودولته من عترته الی بنی أمیة ، الذین قادوا الحروب ضده

حتی عجزوا !

وکان(علیه السّلام)یری أن عثمان أمویٌّ الی العظم قبل أن یکون صحابیاً وخلیفة للنبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ولیس عنده فهمُ بنی عبد شمس ولادهاؤهم ، فهو ینقاد لمروان الی حتفه کما ینقاد الجمل من خزامته ! ومروان شیطان ملعون علی لسان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !

قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی وصف عثمان وخلافته: ( إلی أن قام ثالث القوم نافجاً حضنیه ، بین نثیله ومعتلفه ، وقام معه بنوأبیه یخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربیع ! إلی أن انتکث فتله ، وأجهز علیه عمله ، وکبت به بطنته) ! ( نهج البلاغة:1/31 ).

4 - کان(علیه السّلام)یری فی نقمة الصحابة والأمة علی عثمان ، ومحاصرته وقتله ، ومجیئهم الیه مطالبین أن یقبل بیعتهم بالخلافة ، أنها الفرج الذی وعده به النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وأنه جاء الوقت لکی یقدم الی الأمة مشروع التصحیح وإدانة الإنحراف الأموی والقرشی ، وإعادة العهد النبوی ، وترکیز خط أهل البیت(علیهم السّلام) . فکان یقول: (أخبرنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بما الأمة صانعة بی بعده ، فلم أکُ بما صنعوا حین عاینته بأعلم منی ولا أشد یقیناً منی به قبل ذلک ، بل أنا بقول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أشدُّ یقیناً منی بما عاینت وشهدت)!(کتاب سلیم بن قیس ص213).

والسبب فی ذلک أن الکشف عن الواقع بما فیه المستقبل الذی یخبر به النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )إنما هو وحیٌ من رب العالمین عز وجل، فلا یرد فیه أدنی احتمال خلاف ، فهو أعلی درجةً وأرقی فی الکشف عن الواقع عن طریق المعاینة ، مهما کان مستجمعاً لشروط

الجزم والیقین !

5 - یری علیٌّ(علیه السّلام)وهو التلمیذ الأول للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )والإسلام أن (میکافیلیة) معاویة والمکر والدهاء والعنف ، مهما کانت وسائل نافعة ومفضلة عند أصحاب

ص: 480

المشاریع الدنیویة ، ومهما حققت من أهداف قریبة ، فهی لاتصلح وسائل عمل لمن یتقی الله تعالی ویرید الفوز برضوانه ، ولا لمن یرید إرساء مبادئ رسالة إلهیة فی الأمة والعالم ، ویعلم أجیالها علی تطبیقاتها النظیفة .

وبما أن قضیته(علیه السّلام)هی الغلبة الرسالیة علی خصومه ولیست الدنیویة ، وغلبة العقائد والقیم الإسلامیة علی مفاهیمهم المادیة الجاهلیة ، فلا یصح أن یستعمل معهم وسائلهم التی یحاربها ، ویدعو الأمة للإبتعاد عنها !

کان یری(علیه السّلام)أنه وإن غلبه خصومه آنیاً وانتصرت وصولیتهم القرشیة علی الإنسانیة والنزاهة الإسلامیة الهاشمیة ، فهو فی الحقیقة المنتصر ، لأنه بسلوکه وسیاسته یُتِمُّ الحجة علی الأمة ، لیحیی من حیَّ عن بینه ، ویعرف العالم وأجیاله رسالة الإسلام وقیمه ، حتی یأتی أمر الله تعالی ! قال(علیه السّلام)فی خطبة له: (إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جنة أوقی منه ، ولا یغدر من علم کیف المرجع . ولقد أصبحنا فی زمان قد اتخذ أکثر أهله الغدر کیْساً ، ونسبهم أهل الجهل فیه إلی حسن الحیلة ! ما لهم قاتلهم الله ! قد یری الحُوَّل القُلَّبُ وجه الحیلة ودونه مانع من أمر الله ونهیه ، فیدعها رأی عین بعد القدرة علیها وینتهز فرصتها من لاحریجة له فی الدین). (نهج البلاغة:1/92) .

وقال(علیه السّلام):(والله مامعاویة بأدهی منی ولکنه یغدر ویفجر ! ولولا کراهیة الغدر لکنت من أدهی الناس ، ولکن کل غدرة فجرة ، وکل فجرة کفرة ، ولکل غادر لواء یعرف به یوم القیامة ! والله ما أستغفل بالمکیدة ، ولا أستغمز بالشدیدة).(نهج البلاغة:1/180) .

وزیادة علی هذا ، فإن علیاً وأهل بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یرون أن الذی یستعمل أسالیب غیر مشروعة ، لا عقل له ، مهما کان داهیة فی الوصول الی هدفه ! فقد سأل رجلٌ الإمام الصادق(علیه السّلام): ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واکتسب به الجنان . قال قلت: فالذی کان فی معاویة ؟ فقال: تلک النکراء ، تلک الشیطنة !

ص: 481

وهی شبیهة بالعقل ، ولیست بالعقل ). انتهی . (الکافی:1/11) !

والسبب فی ذلک أن الدهاء والمکر الذی تکون نتیجته حکم الناس عشرین سنة ، أو ألف سنة ، ثم الخلود فی عذاب الجحیم ، والسمعة السیئة عند خیار الناس.. لیس من العقل فی شئ !

6 - کان باستطاعة علی(علیه السّلام)أن یجبر الناس علی بیعته کما فعل أبو بکر وعمر لنفسیهما ولعثمان ! ولکنه لم یفعل لأن الواجب عنده إعادة الإرادة الحرة للإنسان المسلم التی صادرتها قریش بمجرد أن أغمض النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عینیه ! فلا إجبار عنده علی بیعة ، ولا حطب عنده ولاحرق بیوت ، مهما کانت الخسارة علیه !

وکان باستطاعته أن یمنع طلحة والزبیر من مغادرة المدینة للتآمر مع عائشة ، فقد کان علی علم بذلک وأخبرهم به ! ولکنه لا یفعل ، بل یعطی الحریة لمن خالف النظام أن یفعل ما یرید ، ولا یحرمه من شئ من حقوقه المدنیة حتی یرفع السیف علی النظام أو المجتمع ! وهکذا کانت سیاسته مع کل الخوارج علیه !

7 - القضیة عند علی(علیه السّلام)لیست أن یحکم ویکون خلیفة ، بل أن ینفِّذ أمر ربه وأمر نبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، والفرق عمیقٌ وشاسع بین من یطلب الملک لنفسه ، ومن یطلبه لرسالة ربه ! إنهما یبدوان فی المظهر سواء ، لکن أین الثریا من الثری؟!

فلو کان علیٌّ یطلب الحکم لنفسه لقبل الخلافة عندما قدمت الیه علی طبق من ذهب ، طعاماً شهیاً یسیل له لعاب طلاب الحکم ، فرآها مِیتَةً ونَفَرَ منها !

کان ذلک فی الشوری التی رتبها عمر ، وجعل لعبد الرحمن بن عوف صهر عثمان حق النقض فیها ، فعرَضَ ابن عوف علی علیٍّ أن یبایعه علی کتاب الله وسنة رسوله وسنة أبی بکر وعمر ! فبادر علیٌّ بالرفض ولم یحتج الی تفکیر لیجیب بالنفی ! لأنه یری أن قبوله بذلک إقرارٌ بأن سنة شیخی قریش جزءٌ من

ص: 482

الإسلام ، وإن ألْفَ ضربةٍ بسیف أهون علی علیٍّ(علیه السّلام)من أن یأتی ربه یوم القیامة فیسأله: لماذا جعلت سنة هذین جزءً من دینی؟!

روی أحمد فی مسنده:1/75: (عن عاصم عن أبی وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف کیف بایعتم عثمان وترکتم علیاً؟ قال: ما ذنبی ! قد بدأت بعلیٍّ فقلت أبایعک علی

کتاب الله وسنة رسوله وسیرة أبی بکر وعمر ، قال فقال: فیما استطعت ، قال: ثم عرضتها علی عثمان ، فقبلها ).

وفی شرح النهج:1/188: (فبدأ بعلی وقال له: أبایعک علی کتاب الله وسنة رسول الله وسیرة الشیخین أبی بکر وعمر . فقال: بل علی کتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأیی . فعدل عنه إلی عثمان فعرض ذلک علیه فقال: نعم ، فعاد إلی علی فأعاد قوله ، فعل ذلک عبد الرحمن ثلاثاً ، فلما رأی أن علیاً غیر راجع عما قاله وأن عثمان ینعم له بالإجابة ، صفق علی ید عثمان وقال: السلام علیک یا أمیر المؤمنین ، فیقال: إن علیاً قال له: والله ما فعلتها إلا لأنک رجوت منه ما رجا صاحبکما من صاحبه ، دقَّ الله بینکما عطر مَنْشِم . قیل: ففسد بعد ذلک بین عثمان وعبد الرحمن ، فلم یکلم أحدهما صاحبه حتی مات عبد الرحمن) !!

وفی الطبری:4/56:(فجاءه ربیعة....فقال له: بایع علی کتاب الله وسنة رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال ربیعة: علی سنة أبی بکر وعمر ! قال له علیٌّ:ویلک لو أن أبا بکر وعمر عملا بغیر کتاب الله وسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لم یکونا علی شئ من الحق) !

فعلیٌّ إنما یرید الخلافة لیصحح المسار القرشی القبلی الذی وضعوا فیه الإسلام والأمة ! وهو الذی یقول:(إنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: کیف أنتم إذا لبستم فتنة یربو فیها الصغیر ، ویهرم فیها الکبیر ، یجری الناس علیها ویتخذونها سنة ، فإذا غُیِّر منها شئ قیل قد غیرت السنة ، وقد أتی الناس منکراً ! ثم تشتد البلیة وتسبی الذریة وتدقهم الفتنة کما تدق النار الحطب وکما تدق الرحا بثفالها ،ویتفقهون لغیر الله

ص: 483

ویتعلمون لغیر العمل ، ویطلبون الدنیا بأعمال الآخرة !

ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بیته وخاصته وشیعته ، فقال: قد عملت الولاة قبلی أعمالاً خالفوا فیها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )متعمدین لخلافه ، ناقضین لعهده ، مغیرین لسنته ، ولو حملتُ الناس علی ترکها وحولتها إلی مواضعها وإلی ماکانت فی عهد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، لتفرق عنی جندی حتی أبقی وحدی ! أو قلیل من شیعتی الذین عرفوا فضلی وفرض إمامتی من کتاب الله عز وجل وسنة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! أرأیتم لو أمرت بمقام إبراهیم(علیه السّلام)فرددته إلی الموضع الذی وضعه فیه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ورددت فدک إلی ورثة فاطمة(علیهاالسّلام).... .الی أن قال(علیه السّلام):والله لقد أمرت الناس أن لایجتمعوا فی شهر رمضان إلا فی فریضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم فی النوافل بدعة ، فتنادی بعض أهل عسکری ممن یقاتل معی: یا أهل الإسلام غُیِّرت سنة عمر ! ینهانا عن الصلاة فی شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن یثوروا فی ناحیة جانب عسکری! ما لقیتُ من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلی النار). (الکافی:8/59).

8 - وکان باستطاعة علی(علیه السّلام)أن یستعمل أسلوب معاویة وعثمان ، وأبی بکر وعمر ، فی إجبار الناس وتخویفهم ، والتمیز بینهم فی العطاء ، واستمالة رؤساء القبائل بالمال ، وترویضهم بالإذلال ، وبذلک یُحکم قبضته علی العالم الإسلامی الذی کان بیده ما عدا الشام ، ویعطی معاویة مطلبه فیجعله حاکم الشام من قبله مدی حیاته ، ثم یدبر قتله بعد شهور !

ولعلیٍّ من شخصیته وشجاعته وعلمه وتاریخه ، کل المقومات التی تجعل إسمه مرعباً للناس کحاکم ، کما کان صوته مرعباً للأبطال !

ولو فعل علیٌّ ذلک ، لخضعت له العرب والعجم ، وکان أمبراطوراً دونه أبَّهة کسری وقیصر ! ولرأیت کل المنافقین المعترضین علیه ، والمعارضین الطامعین فی الحکم إمَّعاتٍ متزلفین له ، آخذین بالرکاب ، أو مقتولین تحت التراب !

ص: 484

فما أسهل لعلی(علیه السّلام)أن (یصلح) شعبه بالقوة والإضطهاد والقتل، کما فعل غیره ! لکنه لا یستحل ذلک ، ولا هو قضیته ، ولا من هدفه !

لیس هدف علی من الأمة مجرد الطاعة ، بل القناعة بالطاعة ! فطاعة الخوف طاعة أبدان وأبشار ، وغرض علی فی العقول والأفکار !

نعم ، کان باستطاعة علیٍّ(علیه السّلام)أن یؤسس ملکاً عریضاً لبنی هاشم ، ویورَّث الحسن والحسین أمبراطوریة أعظم مما ورث الأکاسرة والقیاصرة لأبنائهم ! لکنها أمبراطوریة کغیرها تقوم علی الدماء والأشلاء ، وظلم العباد والبلاد ، والغارة علی أموال الفقراء ، دونها غارة الذئاب الکاسرة علی المعزی الکسیرة !

ونتیجتها فی الدنیا أن یعتمل الظلم فی نفوس الشعوب بعد حین ، فیستغله ثوار محترفون ، ویحدثون موجةً کاسحة علی بنی هاشم ، کما حدثت علی بنی أمیة الذین أخذهم طوفان ظلمهم بعد ثمانین سنة ، حتی قال شاعر الثوار لقائدهم:

لا یغرَّنْکَ ما تری من رجال

إن تحت الضلوع داء دویَّا

فضعِ السیفَ وارفع السوطَ حتی

لا تری فوق ظهرها أمویا

ودخل علیه آخر: (وقد أجلس ثمانین من بنی أمیة علی سمط الطعام ، فأنشده:

أصبح الملکُ ثابت الآساسِ

بالبهالیل من بنی العباسِ

طلبوا وتر هاشم وشفوْها

بعد میْل من الزمان ویاس

لا تقیلنَّ عبد شمس عثاراً

واقطعن کل رَقْلة وأواسی

ذُلُّها أظهر التوددَ منها

وبها منکم کحزِّ المواسی

ولقد غاظنی وغاظ سوائی

قربها من نمارق وکراسی

أنزلوها بحیث أنزلها الله

بدار الهوان والإتعاس

واذکروا مصرع الحسین وزید

وقتیلاً بجانب المهراس

والقتیل الذی بحران أضحی

ثاویاً بین غربة وتناسی

ص: 485

فأمر بهم عبد الله فشُدخوا بالعمد ، وبسطت البسط علیهم وجلس علیها ، ودعا بالطعام ، وإنه لیسمع أنین بعضهم حتی ماتوا جمیعاً)!(شرح النهج:7/128 - 127) .

فلو استعمل علیٌّ هذا الأسلوب ، لکانت النتیجة القریبة أمبراطوریة بنی هاشم ! لکن لم یکن أثرٌ ولا خبرٌ عن مبادئ دین إلهی ، ولا قیم إنسانیة ولا عربیة !

ثم لا تسأل کیف سیلاقی علی(علیه السّلام) ربه ونبیه وحبیبه المصطفی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !!

فهل هذا هدف علی(علیه السّلام)؟ کلا ثم کلا ، وحاشا لأصفی معدن إنسانی من سلالة إبراهیم الخلیل(علیه السّلام) ، ووصیِّ أکرم الخلق وسید المرسلین(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وحامل لواء النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لواء رئاسة المحشر یوم القیامة ، وقسیم الجنة والنار بأمره !

قال(علیه السّلام): (والله قد دعوتکم عوداً وبدءً وسراً وجهاراً ، فی اللیل والنهار والغدو والآصال ، فما یزیدکم دعائی إلا فراراً وإدباراً ، أما تنفعکم العظة والدعاء إلی الهدی والحکمة ! وإنی لعالم بما یصلحکم ویقیم أودکم ، ولکنی والله لا أصلحکم بإفساد نفسی ! ولکن أمهلونی قلیلاً ، فکأنکم والله قد جاءکم من یحزنکم ویعذبکم ، فیعذبه الله کما یعذبکم ! إن من ذل المسلمین وهلاک الدین أن ابن أبی سفیان یدعو الأراذل والأشرار فیجاب ، وأدعوکم وأنتم الأفضلون الأخیار فتراوغون وتدافعون ، ما هذا بفعل المتقین ) . (الغارات للثقفی:2/624، وتاریخ الیعقوبی:2/197) .

9 - أخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)بأن التناسب بین حالة الأمة ومن یتولی علیها قانونٌ وسنة إلهیة ! فالهبوط الذی تشهده الأمم بعد أنبیائها(علیهم السّلام) یعنی أن کمیة الخیر ومعدله الکلی فیها لیس مرتفعاً لتستحق به أن یحکمها وصی نبیها ، فیجب أن یغلب علی قیادتها من هو بمستواها أو دونه !

فقیادة النبوة فرضٌ علی الأمة ، أما قیادة الإمامة فهی فرضٌ واستحقاق ! (تِلْکَ آیَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَیْکَ بِالْحَقِّ وَإِنَّکَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ . تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی

ص: 486

بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ، وَآتَیْنَا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّنَاتِ وَأَیَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ ، وَلَکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ کَفَرَ ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَکِنَّ اللهَ یَفْعَلُ مَا یُرِیدُ ). (البقرة:252 - 253) .

وقد کان أمیر المؤمنین(علیه السّلام)یتعجب من هذا الهبوط الذی کشف عنه موت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حتی بمیزان عادی ، فضلاً عن میزان النص النبوی وبیعة الغدیر ، فیقول: (ألا إن العجب کل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلی النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول عوداً وبدءاً: ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفیهم أعلم منه إلا لم یزل أمرهم یذهب سفالاً حتی یرجعوا إلی ما ترکوا ! فولوا أمرهم قبلی ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا یدعی أن له علماً بکتاب الله ولا سنة نبیه ! وقد علموا یقیناً أنی أعلمهم بکتاب الله وسنة نبیه وأفقههم وأقرؤهم لکتاب الله ، وأقضاهم بحکم الله . وأنه لیس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولا غَنَاء معه فی جمیع مشاهده ، فلا رمی بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسیف ، جبناً ولؤماً ورغبة فی البقاء ) . (کتاب سلیم ص247) .

وکان(علیه السّلام)یعتبر أن دفعة الإیمان التی شهدتها الأمة فی انتفاضها علی عثمان وبیعته(علیه السّلام) ، کانت استثناءً من ذلک بتدبیر إلهی ، لیدخل فی تاریخها وثقافتها مشروع عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقتالهم علی التأویل ، تکمیلاً لقتاله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی التنزیل !

10 - هذه الأمور تعنی أن أمیر المؤمنین(علیه السّلام)حقق فی مدة حکمه القصیرة رغم الحروب الثلاث التی شنت علیه ، إنجازاً غیر عادی !

فقد قدم للأمة المشروع الذی أوکله الیه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی تصحیح الإنحراف وقتال الناکثة والقاسطة والمارقة . وأعاد بذلک الحیویة والزخم الدینی للإسلام ، فثبت فی الأمة کدین من عند الله ، ودخل عمله فی تاریخها وثقافتها ، فصار

ص: 487

حکم علی وعدل علی(علیه السّلام)میزاناً بید عامة الناس ، وشعاراً للطامحین للإصلاح والثائرین علی الفساد ! ولم یکن غیره لیستطیع أن یحقق ذلک !

لقد کشف علی(علیه السّلام)للأمة بعمله خطورة الفتنة الأمویة علی الإسلام، وفقأ عینها! وعرف أجیال الأمة مدی الظلامة التی أوقعتها السقیفة بالإسلام والأمة !

قال(علیه السّلام):(أما بعد أیها الناس ، فأنا فقأت عین الفتنة ، ولم یکن لیجترئ علیها أحد غیری ، ولو لم أکن فیکم ما قوتل الناکثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون ! ثم قال: سلونی قبل أن تفقدونی ، فإنی عن قلیل مقتول ، فما یحبس أشقاها أن یخضبها بدم أعلاها ، فوالذی فلق البحر وبرأ النسمة لاتسألونی عن شئ فیما بینکم وبین الساعة ، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدی مائة ، إلا أنبأتکم بناعقها وقائدها وسائقها ، إلی یوم القیامة ).(نهج البلاغة:1/182، وتاریخ الیعقوبی:2/193).

فصلوات الله علی رسول الله ، وعلی وصیه وکبیر تلامیذه

وأول عترته علی أمیر المؤمنین .

ص: 488

ص: 489

فهرس الموضوعات

تمهید فی القوانین والسنن الإلهیة فی الهدایة والضلال 13

1 - قانون: اقتران کل نبوةٍ بأئمة مضلین !.................14

2 - قانون الضلال..............................................16

3 - قانون الإضلال..............................................20

4 - قانون الإحباط................................................21

5 - قانون الفتنة الفردیة والإجتماعیة........................22

6 - قانون الإبتلاء والإختبار.................................24

7 - سنة الله فی اقتتال الأمم بعد رسلها(علیهم السّلام) .........................................26

8 - آیة انقلاب الأمة علی أعقابها بعد رسولها(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!..............................28

ثلاث مسائل فی تفسیر آیة الإنقلاب.........................34

المسألة الأولی: فی أقسام المسلمین فی الآیات وأهم صفاتهم........................................34

المسألة الثانیة: حالة الصحابة المنقلبین فی معرکة الخندق وحجة الوداع...................................40

المسألة الثالثة:هل أن آیة الإنقلاب تحذیر أم إخبار بوقوعه؟ .....................................................42

9 - فتنة هذه الأمة بالأئمة المضلین ، علی سنن من قبلها ! ..........................................................45

10 - فتنة هذه الأمة بالشجرة الملعونة فی القرآن..53

11 - ما اختلفت أمة بعد نبیها إلا غلب أهل باطلها ! .58

ص: 490

الفصل الأول: الموجة الأولی من اضطهاد عترة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وشیعتهم !

فهرس لموجات الظلم والإضطهاد علی أهل البیت(علیهم السّلام) وشیعتهم ! ............................63

تاریخ البشریة قام علی ثقافة الغارة والقتل وقانون الحق لمن غلب !..........68

الموجة الأولی: الهجوم القرشی علی بیت النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )................................71

الفصل الثانی : رفض قریش للعهد النبوی وترتیبها بیعة السقیفة الظلامات الهائلة فی سقیفة قریش ! ........75

1 - أکبر الظلامات فی السقیفة مصادرتهم لولایة الله تعالی...............75

2 - ظلامة الإسلام فی السقیفة...........................79

الدولة العلمانیة القرشیة تؤسس فصل الدین عن الدولة.............................81

3 - ظلامة الأمة فی السقیفة................82

ذهول البراء بن عازب من عملیة انقلاب السقیفة......87

4 - ظلامة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )برفضهم عهده لأمته ! ....................90

5 - ظلامتهم للعترة النبویة(علیهم السّلام) أنصارهم.....93

الفصل الثالث : مأساة العترة النبویة(علیهم السّلام) علی ید قریش شهادة فاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)..........................101

الروایة الرسمیة للخلافة لحادثة الهجوم علی آل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) !..................101

روایة أهل البیت(علیهم السّلام) لحادثة الهجوم علی العترة ! ...........................104

ص: 491

عشرة مواقف لفاطمة الزهراء(علیهاالسّلام)یکفی الواحد منها لمن کان له قلب ! ....................................112

1 - یوم بکت وأبکت أباها رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! .................................112

2 - یوم بکی أبوها لظلامتها..وبکت لفقده ! ............118

3 - یوم واجهت المهاجمین لدارها ! .................121

4 - یوم أخذوا علیاً(علیه السّلام)فخرجت خلفه لتمنعهم من قتله !.........123

5 - یوم دارت مع علی(علیهماالسّلام)علی زعماء الأنصار وأقامت علیهم الحجة........................................125

6 - یوم أقامت مجالس النوح والبکاء علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وأصرت علیها ! .........127

الأحکام العرفیة فی مسجد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعند قبره ! ...........129

إجراء جدید لمنع مجلس فاطمة(علیهاالسّلام)...................131

أراکة الأحزان.. وبیت الأحزان ! ...................134

مواظبة فاطمة(علیهاالسّلام)علی زیارة قبر عمها حمزة(رحمه الله).................138

سُبحة الزهراء(علیهاالسّلام)من تربة حمزة(رحمه الله)............................141

7 - یوم جاء أبو بکر وعمر لزیارتها لیعتذرا منها !

.........................143

8 - یوم خطبت فی المسجد النبوی فهزَّت حتی الجماد ! .............................145

تأثیر خطبة الزهراء(علیهاالسّلام)علی السلطة القرشیة !

..............................154

9 - یوم اشتد مرضها فجاءت نساء الأنصار والمهاجرین

لعیادتها................156

10 - یوم أوصت علیاً أن یدفنها لیلاً سراً ولایسمح لهما بالصلاة علیها....................158

أین هو قبر فاطمة ؟...............160

الفصل الرابع : الأحداث التی غطتها الحکومات أیام وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

فهرس لأحداث أیام وفاة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )!............................................167

ص: 492

أهل البیت(علیهم السّلام) ارتفعوا علی جراحهم......................................................176

یصلون علی آل محمد فی صلاتهم ، ویهدرون دماءهم................................178

الفصل الخامس : الموجة الثانیة من عداوة قریش للعترة شن الحروب ضد علی(علیه السّلام)

الصحابة یثورون علی عثمان لتسلیطه قبیلته بنی أمیة علی مقدرات المسلمین !...........................183

صور من الظلم فی عهد عثمان ......................184

صحابة یکسرون الذهب بالفؤوس ، وناس یموتون من الجوع !.............184

صورة من محاصرة الصحابة لعثمان وقتلهم إیاه !........188

من نبل علی (علیه السّلام)فی محاصرة المسلمین لعثمان ! ................191

علی(علیه السّلام)یستجیب لإصرار الصحابة علی بیعته ! ..........................194

علی(علیه السّلام)یعید العهد النبوی فی احترام حقوق الإنسان ! ..................196

علی(علیه السّلام)یلغی تمییز عمر بین المسلمین فی العطاء...............199

وکان عمر میَّز بین المسلمین بالعطاء تمییزاً فاحشاً ! .....................202

وعلی(علیه السّلام)هو الخلیفة الوحید الذی لم تشتک رعیته من ظلمه .......................205

الموجة الثانیة ضد العترة وشیعتهم: حروب قریش علی إسلام علی(علیه السّلام)...................................206

کانت عائشة ترید الخلافة لبنی تیم ! .............206

أفتت عائشة بقتل عثمان..ثم طالبت بثأره ! ..............207

طلحة ویعلی التمیمی یموِّلان حرب الجمل ضد علی(علیه السّلام)!............212

طلحة والزبیر..الی العمرة..أو الغدرة ؟! ............214

صاحبة الجمل الأدبب..تنبحها کلاب الحوأب ! .....215

انتصرت عائشة جزئیاً فی البصرة..................220

ص: 493

فاختلف طلحة والزبیر علی إمامة الصلاة ! .................220

نتیجة معرکة الجمل الأولی !..221

کتبت عائشة الی حفصة تبشرها بالنصر فاحتفلت حفصة ! ...........222

مسیر أمیر المؤمنین(علیه السّلام)الی البصرة ! .......223

أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یؤکد الحجة قبل الحرب ! .....................225

الزبیر ینسحب من المعرکة ، ویُقتل فی الطریق ! ........................230

مروان الأموی یغتال طلحة قبل بدء المعرکة ! .231

عائشة قادت معرکة الجمل وحدها لسبعة أیام !..233

عائشة تتلقی فی الیوم السابع هزیمة مرة !

..235

فی رقبة مَن..دیات قتلی حرب الجمل ؟..........239

من نبل علی (علیه السّلام)وعدالته فی حرب الجمل....241

أمیر المؤمنین(علیه السّلام) یرتب وضع البصرة ویواصل فتح إیران والهند.............................................247

کیف استجابت الأمة لعلی(علیه السّلام)وقاتلت معه قریشاً !...................................250

لماذا کان الأمر یدور بین القتال أو الکفر.................254

عهد معهود من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لتقاتلنَّ بعدی علی تأویل القرآن الناکثین والقاسطین والمارقین........257

علی(علیه السّلام) یعید العهد النبوی ویضمِّد جراح العهد العثمانی ........................261

الفصل السادس: استعدادات قریش لحرب صفین بعد حرب الجمل تجمعت قریش الطلقاء تحت قیادة معاویة لحرب علی (علیه السّلام)!................................267

قریش المشرکة نزحت کلها الی ابن أ بی سفیان فی الشام ! ..........................269

ص: 494

الفصل السابع : خلاصة حرب صفین سعة حرب صفین وکثرة أخبارها............. ....277

حریة الناس أصل عند أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وإن أساؤوا استغلالها !..............................................278

السماحة وبذل الماء والطعام فی بنی هاشم والضد فی بنی أمیة وقریش !....282

سیاسة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی إتمام الحجة علی أعدائه.............................287

أرقام من حرب صفین.......................289

لیلة الهریر ویوم الهریر......................291

عمار وأویس..من أعلام الهدی التی وضعها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأمته............296

الراهب شمعون ..شاهدٌ من أهل الکتاب فی حرب صفین...........310

معاویة والروم فی حرب صفین ! .................312

من نبل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وفروسیته فی صفین........................317

من خساسة أعداء أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فی صفین.........................322

نجاح الأشعث والمنافقین فی إجبار أمیر المؤمنین(علیه السّلام)علی إیقاف الحرب !.............................324

نص وثیقة التحکیم فی صفین.........................329

زار علی کربلاء ومعه الحسین(علیهماالسّلام) فی ذهابهم الی صفین وإیابهم منها ! ...................................333

محکمة لاهای القرشیة فی دومة الجندل !......336

الفصل الثامن : خلاصة حرب النهروان بذرة الخوارج وغرستهم وشجرتهم.......................................347

أهم صفات الخوارج وأفکارهم.................352

ص: 495

تحرکات الخوارج الی معرکة النهروان ! ..........359

معرکة النهروان ! .....................................367

عائشة تروی أن علیاً(علیه السّلام)أفضل الأمة ! ......................375

الخوارج بعد النهروان...................377

آخر خارجة علی أهل البیت(علیهم السّلام) فی منطقة النهروان !...................378

لا تقاتلوا الخوارج بعدی !..........382

الفصل التاسع : تراجع الأمة عن مشروع إعادة العهد النبوی

تعبت الأمة من العمل مع علی(علیه السّلام)لإعادة العهد النبوی ! .........................................................385

مخزون الأمة النبوی نفد.. ولم تستجب لعلی(علیه السّلام)لتجدید شحنتها ! .390

غزو الجیش الأموی لمصر وشهادة محمد بن أبی بکر(رحمه الله)......................393

سیاسة معاویة فی الغارات علی العراق والحجاز والیمن !.............398

(1) غارة الضحاک بن قیس علی السماوة والثعلبیة....398

(2)غارة النعمان بن بشیر علی عین التمر..........400

(3)غارة ابن مسعدة التی لم تصل الی المدینة ومکة.....401

(4) غارة بسر بن أرطاة علی المدینة ومکة والیمن......402

(5) غارة سفیان بن عوف الغامدی علی الأنبار......405

تحریک معاویة محبی أبی بکر وعمر ضد علی (علیه السّلام)!.......408

الفصل العاشر : شهادة أمیر المؤمنین(علیه السّلام)

شاهد العصر..یروی ظلامته قبیل شهادته !.........429

ص: 496

مقادیر الله تعالی لرسوله وعترته(صلّی الله علیه و آله وسلّم )..................................445

مایحبس أشقاها أن یخضب هذه من هذا ؟.......448

یشکو لحبیبه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! .....................449

کان یعلم أجله ، ویعرف قاتله ! .........................450

إفطار أمیر المؤمنین(علیه السّلام)عند ابنته أم کلثوم............452

دخوله(علیه السّلام)قبل الفجر الی مسجد الکوفة....453

أمرهم أن یحملوه الی البیت............................455

استدعوا طبیب الجراحات الصعبة ..................456

لیلة العشرین من رمضان ...........................458

أوصی(علیه السّلام)أن یدفنوه سراً لئلا ینبش قبره بنو أمیة ! .......................461

رثاء الخضر لأمیر المؤمنین(علیهماالسّلام)..............463

رثاء صعصعة بن صوحان لأمیر المؤمنین(علیه السّلام)...464

من رثاء الشعراء لأمیر المؤمنین(علیه السّلام).....466

فرح معاویة وتأسفه لمقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)!......................468

فرح عائشة بمقتل أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وعدم تاسفها ! .................471

شرکاء الجریمة: ابن ملجم والأشعث وقطام !

.............473

الأشعث یتأکد من نجاح مؤامرته ! ...............475

مَن الذی انتصر..معاویة أم علی(علیه السّلام)؟..................................476

تمَّ المجلد الأول من کتاب: جواهر التاریخ

ویلیه المجلد الثانی إن شاء الله تعالی

ص: 497

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.