سند الاصول بحوث فی اصول القانون و مبانی الدلاله المجلد الثانی

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962-م.

عنوان و نام پدیدآور:سندالاصول بحوث فی اصول القانون و مبانی الدلاله/ تقریرا لابحاث محمد السند ؛ بقلم جعفر السید عبدالصاحب الحکیم.

مشخصات نشر:قم: فاروس: دار زین العابدین، 1438ق= 2017م= 1395 -

مشخصات ظاهری:2 ج

شابک:800000 ریال:دوره: 978-600-8383-50-5 ؛ ج.1: 978-600-8383-48-2 ؛ ج.2: 978-600-8383-49-9

یادداشت:عربی.

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

موضوع:مباحث الفاظ

موضوع:Semantics (Islamic law)

شناسه افزوده:حکیم، جعفر، 1352 -

رده بندی کنگره:BP159/8/س927س9 1396

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5032997

ص :1

اشارة

ص :2

سندالاصول بحوث فی اصول القانون و مبانی الدلاله

تقریرا لابحاث محمد السند

بقلم جعفر السید عبدالصاحب الحکیم

ص :3

ص :4

مباحث الظن

اشارة

ص:5

ص:6

1 . الإعتبار

اشارة

ص:7

ص:8

و بسط الکلام فیه عبر نقاط کالتالی:

1 . المنهج الصحیح فی ترتیب مباحث الأصول

اشارة

صدّر أکثر الأعلام حدیثهم فی الظن بمسألة إمکان التعبد بالظن، وعقّبه بالحدیث عن الوقوع، و ذیّله بعض منهم بالحدیث عن السیرة العقلائیة، وثالث تحدّث عن الإطمئنان قبل الحدیث عن الظن بعد أن کان یختلف موضوعاً ومحمولاً [ الحجّیة ] عن الظن [ وإن کان فی واقعه ظناً، إلاّ أنه الدرجة العالیة منه المتآخمة للعلم المکتسبة لآثاره. ]

فی حین أنّا سنتحدّث فی إمکان التعبد بالظن [ سیّما مع وجود شبهات مهمّة أثیرت حوله ] ولکن بعد الحدیث عن الإعتبار العقلائی الذی أحد مصادیقه الإطمئنان.

موقع باب الحجج
اشارة

المعروف فی الوسط الأصولی أنّ متن الأصول باب الحجج، مع اختلافهم فی مباحث الألفاظ فی أنها من علم الأصول أو بحث فی صغریات الحجج؟ والثانی أقرب عندهم. ومعه یکون البحث فی الألفاظ مقدمیاً، و إن کانت هناک محاولات من المشهور [ والحقّ معهم ] لتصویرها من الأصول.

وکذا اختلفوا فی بحوث موزّعة فی مباحث الألفاظ بدرجة أکبر، وفی الحجج بدرجة أقلّ، [ بعد اتفاقهم علی أنها من المبادئ ] هل هی من المبادئ الأحکامیة کما علیه البعض، أو من المبادئ

ص:9

التصدیقیة أو التصوریة کما علیه بعض آخر؟

صغرویة مباحث الحجج لکبری الإعتبار

الحقّ أنّ مباحث الحجج مباحث صغرویة لبحوث کبرویة أثیرت فی مباحث الألفاظ غالباً، وهی تلک البحوث التی تناولت الإعتبار بما هو، وتحدیداً تلک التی أسماها المیرزا بالمبادئ الأحکامیة، ومقابلوه بالمبادئ التصوریة أو التصدیقیة، [ مع أنّ تسمیتها بالمبادئ مسامحة؛ لأنها من صلب بحث الأصول، بل من أهمّ أبوابه ] کالبحث عن الحکم ومراحله وقیوده وأنواعه واصطکاکه مع حکم آخر وأشکاله.

فالمبادئ [ علی حدّ تعبیرهم ] المذکورة کبریات أصولیة، مصادیقها الحجج، ومصادیق بحث الحجج بعض مباحث الألفاظ، [ وتحدیداً قسم الدلالات، کدلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم وعدمه، ودلالة صیغة الأمر وأدوات العموم و غیرها. ]

ولا ضیر أن یدرج فی مسائل علم واحد کبری وصغراها وصغری صغراها، فإنه ملحوظ فی کثیر من العلوم کالفلسفة والنحو و غیرها.

السیر المنهجی الصحیح لمباحث الأصول
اشارة

نعم، یؤاخذ علی الأصولیین عدم السیر المنهجی فی بحث هذه المسائل، حیث إنّه لابدّ من البحث فی:

المرحلة الأولی: عن الحکم العقلی النظری والعملی المستقل وغیر المستقل، وکبدیل فی الوقت نفسه عن بحث القطع أیضاً.

المرحلة الثانیة: البحث عن الإعتبار [ المَقسَم والعام ] بما هو، وعن الإعتبار العقلائی والشرعی، کلٌ بما هو.

والبحوث التی أسموها بالمبادئ هی فی الواقع [ وکما ألفتنا ] بحوث عن الإعتبار من حیث هو الإعتبار، وإن طبّقها الأعلام علی الحکم الواقعی، وجعلوها مقدّمات لها، کما نلحظ ذلک فی بحث

ص:10

اجتماع الأمر والنهی، واقتضاء النهی عن الفساد، مع أنها کبرویة وتنطبق حتی علی الحکم الظاهری، ومن ثمّ نجدهم یستعینون بما حققوه فی هذه المسائل فی مباحث الحجج والحکم الظاهری، کبحث الجمع بین الحکم الظاهری الواقعی، مما یکشف عن أنّ زاویة البحث فی هذه المبادئ [ علی حدّ تسمیتهم ] فی الجهة الأعم، وإن کانت صورة وعلی مستوی التطبیق مرتبطة بالحکم الواقعی.

المرحلة الثالثة: الحدیث عن صغریات الحکم العقلی، [ وإنما لم تقدّم علی المرحلة السابقة بسبب تأثیر العقل والإعتبار فیها. ]

المرحلة الرابعة: البحث عن الظنون الخاصة المعتبرة، وعن تعارض الأدلّة الشرعیة [ وهی وإن کانت اعتبارات ولکن یتمّ فرزها لأهمیتها. ]

المرحلة الخامسة: فی الدلالات اللفظیة

وما ذکرناه [ حسب فهمنا ] هو المنهج السلیم لعلم الأصول، لا ما ذکره الأعلام و جروا علیه. وعلی کلّ التعدیلات والتطور الذی حصل فی المنهج، ولکن یبقی المنهج والتسلسل المنتظم للفکر الأصولی هو الشکل الذی ذکرناه وإن کان للأصولیین مبرّرهم أیضاً فی الجری علی المنهج المألوف عندهم.

سرّ تقدیم بحث الإعتبار

إنّ السرّ فی التعدیل الذی ذکرناه لمنهج علم الأصول، وسلامة المنهج المقترح، [ حیث قدّمنا مباحث العقل - النظری والعملی، المستقل وغیر المستقل - علی البحث فی الحجج، وأوضحنا السرّ فی لابدّیة استبدال بحث القطع به، وأنّه هو الموصوف بالحجّیة التکوینیة لا القطع، بعد بیان مساحة کلّ منهما المستقل وغیره، فی قبال من أهمل الحدیث عنه بشکل مبوّب ومبلور؛ کما تحدّثنا وقدّمنا البحث أیضاً فی الإعتبار فی زاویة من زوایاه، وسنتحدّث عن باقی شؤونه قبل الحدیث فی الظن الخاص ]، إنّ السر فی کلّ هذا [ وبالذات

ص:11

تقدیم بحث الإعتبار علی الظن، وترکیز الحدیث عنه ] هو الخلل الموجود فی المنهجة المألوفة، ویمکن ضبطه فی أمور خمسة:

1. إنّ الأصولیین لخّصوا موضوع الحجج فی الظنون مع أنّ هناک غیرها.

2. إنّ الأصولیین صوّروا السیرة العقلائیة [ والتی هی عنوان الإعتبار العقلائی ومتنه ] فی عرض الظن، ومن ثمّ بحثوها فی ذیل الظن، مع أنّ الأمر لیس کذلک؛ لأنّ الظنون تکشف عن مرادات الشارع بشکل ظنی، والإعتبار العقلائی طریق قطعی لاستکشاف مراد الشارع، ومن ثمّ کان من حقّه أن یتقدم الظن ویلحق بالقطع.

3. إنّ الأصولیین اختزلوا البحث فی السیرة عن الإعتبار العقلائی، مع أنّنا سنری أنها من الطرق الهامة لإثبات الأحکام الشرعیة.

4. إنّ الإعتبار العقلائی [ الذی یقع محمولاً علی موضوعاته ] ینقسم إلی واقعی وظاهری، والأصولیون حصروا بحثهم الأصولی فی الإعتبار العقلائی الظاهری، فبحثوا عن حجّیته الشرعیة وإمضائه من قبل الشارع من دون البحث عن الواقعی، فی حین أنّ الإعتبار العقلائی الواقعی وإن کان فقهیاً، ولکن هناک بُعد أصولی فیه لابدّ من إثارته فی الأصول، وهو البحث فی آلیة اکتشاف الإمضاء، أو تحدید الضابطة والکیفیة التی علی أساسها یتمّ تحصیل الإمضاء والقطع به.

5. إنّ الأصولیین الذین تحدّثوا عن السیرة، تحدّثوا فی الواقع عن الإعتبار العقلائی [ المحمول ] فبحثوا عن إمضائه شرعاً وکیفیة اکتشافه، وأهملوا الإعتبار العقلائی فی الموضوعات، کاعتبار الإطمئنان علماً، فی حین أنه لابدّ من الحدیث عن إمضاء مثل هذا الإعتبار وعدمه أیضاً، ومن هنا تتضح وجاهة منهج مَن قدّم الحدیث فی الإطمئنان علی الظن.

کما أنّ بحثهم فی السیرة جاء عن بُعد عرضی علی الإعتبار،

ص:12

ولیس عن کنهه کما سیتبیّن.

ص:13

2 . المنهج المقترح فی البحث عن الإعتبار

اشارة

المرحلة الأولی: البحث عن الإعتبار من حیث هو اعتبار.

المرحلة الثانیة: البحث فی الإعتبار العقلائی، ومحاولة التعرف علی أقسامه.

المرحلة الثالثة: البحث عن ما اتصف من الإعتبار العقلائی بالإعتبار الشرعی، أو بتعبیر آخر: البحث عن الحجّیة والإمضاء الشرعی للإعتبار العقلائی.

وأمّا حقیقة الإعتبار الشرعی فتفهم [ کما تفهم حقیقة الإعتبار العقلائی ] من فهم حقیقة الإعتبار؛ لأنّ صفة (الشرعی والعقلائی) یکتسبها الإعتبار من خلال معتبرِه، وإلاّ فهما من حیث الحقیقة والکنه واحد.

کما أنّ أقسام الإعتبار الشرعی تتبلور أیضاً وتنضبط فی المرحلة الثانیة من البحث؛ لأنه یشترک مع العقلائی فی کلّ الأقسام، [ بل سیتضح أکثر من ذلک، مع اتضاح نکتة الإشتراک ]، وعلی هذا الأساس لم یفرد البحث مستقلاً عن الإعتبار الشرعی.

المرحلة الأولی: البحث فی حقیقة الإعتبار

تقدّم الحدیث عن المرحلة الأولی من بحث الإعتبار وبشکل مسهب فی بحث القطع، حیث تحدّثنا عن حقیقته وضرورته وعلاقته مع التکوین من أکثر من جهة، کما تحدّثنا عن مساحته وحدوده.

وقد انتهینا هناک إلی أنّ الحاجة إلی الإعتبار حاجة فطریة، بعد أن کان طریق تکامل الإنسان الإختیاری و رقیّه الذی فطر علیه، من خلال الإعتبار وبواسطته، ومن هنا کانت الحاجة إلی القانون کالحاجة إلی البیان حاجة بشریة عامة تقضی بها الفطرة.

والشارع جری فی تعامله مع البشر بِلُغَتَیهم [ البیانیة والقانونیة ]، فکما لم یستحدث لغة بیانیة خاصة وإنما اعتمد علی لغة الناس التی

ص:14

فطروا علیها، کذلک لم یستحدث نظاماً اعتباریاً ولغة قانونیة جدیدة خاصة به، وإنما وسّط لغة الإعتبار عند البشر فی بیان اعتباراته.

المرحلة الثانیة: البحث فی الإعتبار العقلائی
اشارة

(1)

و سیتمرکز حدیثنا فی هذه المرحلة عن الإعتبار العقلائی ضمن مجموعة نقاط:

1. تعریف الإعتبار العقلائی.

2. وجه الحاجة إلی الإعتبار العقلائی، وموقعه من التشریع والعقل.

3. تقسیمات الإعتبار العقلائی.

النقطة الأولی: تعریف الإعتبار العقلائی

والمقصود منه اعتبار العقلاء «بما هم عقلاء»، فی قبال بما هم متشرعة، أو بما هم فی زمن خاص، أو بما هم من قطر خاص، أو بما هم عرق خاص، أو بما هم مجتمع أو فئة خاصة.

ولا یراد منه [ کما عن البعض ] خصوص الإعتبار المتولّد من عقلهم النظری الیقینی البدیهی، وإن کان یعمّه.

وبعبارة أخری: اعتبارهم بأنهم حقیقة بشریة، سواء نشأ من عاداتهم أو انفعالاتهم أو مقبولاتهم أو خلقیاتهم أو وهمهم أو عقلهم. ومن ثمّ کان الأولی استبدال العنوان ب-«اعتبار البشر بما هم بشر».

بل هو کما ذکر البعض: اعتبار البشر بما هم لیسوا بمتشرعة المتزامن مع وجود المعصوم (علیه السلام) حتی لو کان خاصاً، کما إذا کان عرقیاً أو فئویاً، فإنه کلّه یدخل تحت مصطلح إعتبار العقلاء، وإن لم یکن عاماً لکلّ البشر، حیث یکفی أن یکون إعتباراً وفی عصر المعصوم (علیه السلام) .

تعدد التسمیات

ص:15


1- (1) . وستأتی «المرحلة الثالثة» من البحث فی صفحة 26.

هذا وقد تعددت التسمیات للإعتبار العقلائی کالسیرة العقلائیة، والبناء العقلائی، والإرتکاز العقلائی، أو العرفی، وحکم العقلاء، إلاّ أنها جمیعاً تشیر بالإلتزام إلی حقیقة واحدة وهی الإعتبار العقلائی، وإن کانت مطابقة تحکی صفة عرضیة له وهی الإعتیاد والتجذر والسلوک.

ومن ثمّ ذکرنا أنّ بحث الأصولیین لم یتناول الإعتبار مباشرة، بل یبحث عن کنهه و حقیقته من خلال أعراضه. ومن البدیهی أنّ البحث عن کنه الشیء مباشرة أجدر من البحث عنه بواسطة أعراضه. وعلی هذا الأساس کان هذا واحداً من العوامل التی جعلتنا نعنون البحث بالإعتبار، ونبحث فی صلبه ومتنه مباشرة بدلاً من البحث عن السیرة والإرتکاز.

النقطة الثانیة: وجه الحاجة إلی الإعتبار العقلائی وموقعه من التشریع والعقل

فقد یتساءل: إنّ ظاهرة النبوة رافقت البشریة من بدایة وجودها، وإنّ العقل الإنسانی بعد أن وجد نفسه عاجزاً عن إدراک ملاکات الأفعال وکمالاتها [ عدا البدیهیات العامة منها ] یحکم بضرورة الرجوع إلی العقل الکلّی المحیط، ومع هذا کیف وجد الإعتبار العقلائی مجالاً لنفسه؟

ثم إنّ دور الإعتبار الشرعی هل یتلخص فی تکمیل الإعتبار العقلائی وترمیمه، أو أنه تأسیسی؟

والجواب: من الواضح أنّ البشریة جمیعاً لم یتابعوا الأنبیاء فکانوا [ بحکم ضرورة الإعتبار والحاجة إلیه ] بحاجة إلی قانون هم یضعوه یلبّی حاجاتهم ویسدّ الفراغ فی مجتمعاتهم، ومن هنا لم یکن کلّ الموروث البشری من القانون المشترک موروثاً دینیاً.

و بتعبیر آخر: إنّ البشریة وجدت وهی تحمل رسول الباطن [ أی العقل ] وهو قادر علی إدراک الکلّیات من العقل النظری والعملی، وعلی ضوء هذا الإدراک تتحرک إرادته.

ص:16

ولکن عندما تأخذ هذه الکلّیات بالنزول یعجز العقل عن إدراکها، فتبدأ منطقة الإعتبار ویکون هو الباعث للإنسان نحو تحصیل حاجاته، فإمّا أن یلتجئ إلی خالق العقل أو یتوجّه نحو العقلاء. ومن هنا وجدت ظاهرة اعتبار العقلاء التی هی نتیجة التمرد علی اعتبار الشارع، هذا أولاً.

وثانیاً: ألفتنا فی الفقرة السابقة وفی بحث الإعتبار أنّ التشریع الإلهی قد ملأ کلّ الفراغات التی لا یصل إلیها العقل بالیقین الإدراکی، ولکن طبیعة التشریع السماوی أنه لا یتناول کلّ مدرجات الفعل الإنسانی، وإنما یقتصر علی کلّیاتها أیضاً کالعقل، ولکن بفارق أنّ الکلّیات التی یتناولها التشریع أخص من الکلّیات التی یدرکها العقل، ومن التی یعجز العقل عن إدراک کمالها.

فما یتبقی من الأفعال التی لم تنلها ید التشریع ولم یدرکها العقل متروکة لاعتبار العقلاء وتقنینهم لها.

فالإعتبار العقلائی یأتی فی الرتبة الثالثة بعد الشرع والعقل، ومن لم یتقید منهم بالشرع الظاهر یوسّع دائرة اعتباراته لتلک المساحة أیضاً.(1)

ص:17


1- (1) . [س] فی بحث الإعتبار ذکرتم أنّ مساحة العقل والشرع تتحدّد بأنه فی حالة عجز العقل ندخل منطقة الإعتبار الشرعی وبایعاز وتوجیه من العقل، وحدّدتم عجز العقل فی ما عدا الکلّیات العالیة، ولکن لم تحدّد مساحة کلّ من الشرع والعقلاء، وأنّ الأمر متروک للعقلاء وفی حالة عدم وجود تشریع أو ماذا، والسؤال تحدیداً عن الضابطة؟ [ج] فی کلّ واقعة یوجد حکم شرعی، ولکن هناک بعض الأحکام الشرعیة إمضاءات لأحکام عقلائیة أخذت موضوعاً لها، فهی ومصادیقها العقلائیة من مساحة وشؤون اعتبار العقلاء. وبعبارة أخری: الضابطة هی کلّ حالة لا یوجد فیها تشریع مباشر مع صغرویتها بشکل وبآخر لاعتبارالشرع هی من شؤون العقلاء. فإنّ أمهات و جوامع الشرعی الظاهری هی مدرکات العقل الباطن، وإنّ الإعتبارات العقلائیة قد تؤخذ موضوعاً لاعتبار الشارع ومن ثمّ لا یمکن أن تعارض الإعتبار الشرعی.

ومن هنا یعرف أنّ الدین والشریعة لا یمکن أن تناقض مدرکات العقل البدیهیة لأنها صرحها، وأنّ الإعتبار العقلائی لا یمکن أن یناقض التشریعی لأنه صرحه.

النقطة الثالثة: تقسیمات الإعتبار العقلائی

التقسیم الأول: ینقسم الإعتبار العقلائی إلی واقعی و ظاهری ، وبالتالی سیأخذ کلّ الأقسام التی ینقسم إلیها الواقعی [ من تکلیفی ووضعی، تعبدی وتوصلی ] أوالظاهری [ من أمارة وأصل ].

وهذا طبیعی بعد أن نعرف أنّ هذا التقسیم إنما هو للإعتبار ولا یخص الشرعی، وأنّ تقیید الإعتبار بالشرعی أو العقلائی أو أی فئة أخری إنما هو بلحاظ المعتبر.

بل هذه التقسیمات نلحظها فی العقل الذی هو مبدء الإعتبار، بعد أن کان الإعتبار علی صلة بالتکوین ومقتنص منه، فأقسامه مستلّة عن التکوین ولیست هی من اختراع المعتبر.

ومن هنا ما ذکرناه من أقسام للحکم الشرعی و مراحل وقیود کلّها نجدها فی الإعتبار العقلائی، حتی التعبدیات حیث نلمس عند العقلاء قوانین تخص هذا المجال ولکن بمعناه الأعم [ الاحترام والتعظیم ].

التقسیم الثانی: [ الذی بلوره الشهید الصدر ] إنّ العقلائی تارة یکون تأسیساً لحکم واقعی أو ظاهری کاعتبار خبر الواحد حجّة، أو اعتبار الضمان علی المباشر مع أقوائیته، ومثل هذا الإعتبار هو الذی یکون موضوعاً مباشرة لإمضاء الشارع لو أمضاه.

وأخری یوجد الإعتبار العقلائی صغری لکبری شرعیة، کالمؤمنون عند شروطهم، فیتبانی العقلاء علی شرط معیّن کعدم الغبن عند المعاملة.

ولعلّ المثال الصحیح لهذا القسم هو الحقوق المستجدة علی کثرتها، فإنها جمیعاً اعتبارات عقلائیة لاعتبار شرعی وهو

ص:18

(المؤمنون عند شروطهم»، الذی أخذ فی موضوعه الشروط عند العقلاء.

و إمضاء مثل هذه الإعتبارات [ علی فرضه ] یکون من هذا الطریق وهو صغرویتها للإعتبار الشرعی، وإن کان هناک طریق آخر لاکتشاف إمضاء هذه المستجدات من الإعتبارات العقلائیة، و هو النقل التجزیئی والتبعیضی للملکیة، بمعنی أنّا إذا فتحنا باب التبعیض فی الملکیة والنقل المبعّض، فالحقّ العقلائی صغری للبعض، فإنّ نقله نقل تبعیضی. وهذا القسم مهم جداً؛ لأنّ عامل تغیّر الزمان و المکان مقبول فی الفقه فی هذا الشق، فإنّ ما یستجد من اعتبارات صغرویة لاعتبار شرعی یکون شرعیاً وممضی.

وهذا غیر باب تجدّد الموضوعات، فإنه أضیق ومحدود بالنسبة إلی القسم المشار إلیه الذی یشمل الموضوعات الصغرویة والجزئیة بعناوینها المختلفة والمتنوعة المندرجة تحت عنوان عام کبروی کالشروط، فإنه یضم تحته أنواع متعددة وأسناخ متکثرة، فی حین أنه لا یقصد من استجداد الموضوعات واستحداثها سوی تجدّد مصادیق مماثلة للمصادیق الأخری فی العنوان، کحدوث بیع جدید.

وهناک قسم ثالث یشترک مع سابقه فی أنه ایجاد صغری لکبری شرعیة، إلاّ أنه یختلف عنه فی عدم عمومیته لکلّ العقلاء وملزمیته لهم، بمعنی أنه تابع للإختیار فیمکن الخروج عنه بخلاف الثانی فإنه یکون ملزماً ولا یمکن لأحد الخروج منه.

ومثال الثالث الغبن الذی صنّفه السیّد الصدر مثالاً للثانی، حیث یمکن للبائع أن یخرج من هذا الإعتبار بإسقاطه فی العقد.

ومثال الثانی [ بالإضافة إلی ما ذکرناه ] معاشرة الزوجة بالمعروف، فإنّ کلّ معروف صغروی یتبانی علیه العقلاء فی زمن أو مکان معیّن یدخل تحت الکبری الشرعیة التی أخذ فی موضوعها المعروف عند العقلاء، فیکون ممضی وملزماً للزوج.(1)

ص:19


1- (1) . [س] نحن نلحظ [ وکما ذکرتم فی بحث الفقه ] أنّ عملیة التطبیق علی المصادیق تارة تکون عقلیة فالمصداق العقلی التکوینی هو المصداق لا غیر، وأخری العرفیة وبتشخیص منهم کما إذا اکتفی الشارع بذلک وإن لم یکن عقلاً مصداقاً، کما فی باب الطهارات، وربما یکون هذا المثال من القسم الثانی، وأنّ المطلوب من الزوج المعاشرة بالمعروف بنظر العرف وتشخیصهم إذ لا یوجد قانون عقلائی للمصادیق، وإنما یوجد مصادیق عرفیة لیس أکثر؟ [ج] لمّا کان موضوع الحکم المعروف عند العقلاء وهو مما یتناوله التقنین، وکان له مصادیق متنوعة کلّها قوانین عقلائیة فی العشرة وکیفیتها، ولیست صرف مصادیق عرفیة، لم یکن من القسم الثانی، وإنما کان قسماً ثالثاً فی المصداق.

و شقّ رابع [ هام للغایة لم یذکره السیّد الصدر ] وهو الإعتبارات العقلائیة الصغرویة المندرجة تحت اعتبار عقلائی کبروی قدیم ومتجذر ممضی فی غالب أمثلته(1)، وقد لا نحرز مثل الإطمئنان علی ما سیأتی تفصیله بعدُ إن شاء اللّه.

وننوّه إلی أنه لا یقصد من الصغرویة الجزئی الحقیقی أو الإضافی المحدود بباب فقهی فقط، وإنما الجزئی الإضافی مطلقاً، ولو کان وسیعاً منتشراً فی أبواب متعددة.

التقسیم الثالث: [ الذی بلوره بعض المعاصرین ] إنّ الإعتبار تارة یکون أدبیاً ، وأخری قانونیاً .

والأول: الذی یعتبره المتکلّم کشأن من شؤون دلالات الکلام، کالإعتبارات الموجودة فی باب الإستعارة والتمثیل وغیرها من الأبواب.

والثانی: مرتبط بالجعل والحکم، وقد أَلْفَتَ هذا العَلَم إلی فوائد هذا التقسیم والخلط الذی وقع فیه الکثیر من الأعلام فی کثیر من الأمثلة.

والحق أنّ جذر هذا التقسیم [ حسب تتبعنا ] نجده فی کلمات الشیخ العراقی حین فرّق بین الحکومة الدلالیة والحکومة من سنخ الجعل،

ص:20


1- (1) . [س] فی القسم الثانی والثالث ذکرتم أنه هناک اعتبار شرعی موضوعه اعتبار عقلائی کالشروط والمعاشرة بالمعروف والإعتبارات العقلائیة تحقق صغری لهذا الموضوع، ومعه ما فرقها عن القسم الرابع فإنه ایضاً اعتبار عقلائی صغروی لکبری عقلائیة ممضاة؟ [ج] إنّ الإمضاء فی القسم الثانی والثالث لفظی، بینما فی القسم الرابع لیس لفظیاً.

وفرّق بین آثار کلّ منهما، فهو الذی فتح الطریق للتفرقة بین العالمین وآثارهما.

الفوارق بین الإعتبار الأدبی والإعتبار القانونی

ولإیضاح مساحة کلّ منهما نشیر إلی الفوارق التالیة بینهما:

1. إنّ الإعتبار فی عالم الدلالة والظهور لیس إنشاء، وفی عالم الجعل والقانون إنشاء ومنشأ.

2. إنّ خاصیة الإعتبار فی عالم الدلالة الکاشفیة، فی حین أنّ الإعتبار القانونی اعتبار فی نفسه، وله موضوعیة حتی الظاهری منه، فإنه مع طریقیته له موضوعیة، وتترتب علیه آثار کالإجزاء والتعذیر والتنجیز.

3. إنّ الإعتبار الأدبی من شؤون فهم أصل مراد الشارع، فی حین أنّ القانونی هو مراد الشارع المنکشف النهائی.

4. إنّ الإعتبار الأدبی من صغریات الظهور، بمعنی أنه بمجموعه موضوعاً ومحمولاً یشکّل عقد الوضع فی قضیة (الظهور حجّة»؛ فی حین أنّ الإعتبار القانونی یتناول المحرک وأجزاء الموضوع المأخوذ فیه.

5. إنّ الإعتبار الأدبی أول ما یواجه الفقیه فی مراحل استنباطه، ثمّ یتجاوزه إلی عالم المعنی الذی هو إمّا تکوینی أو اعتبار قانونی.

اقتصار العامة علی البُعد الأدبی

والمتأمل فی طریقة المفسّرین وأهل الحدیث من علماء العامة یجدهم أنهم یقتصرون فی بحوثهم علی البُعد الأدبی وتحدید الدلالات اللفظیة، مع الإغماض عن المرحلة الثانیة وهی البحث فی عالم المعنی، والذی هو لبّ البحث وذو المقدمة، وربما کان ذلک بسبب شعورهم أنّ هذه المرحلة تقودهم إلی خلاف مذهبهم وتوصلهم إلی الحق الذی أعرضوا عنه.

وقد یقال: إنّ هذا الفصل الدقیق بین نوعی الإعتبار الأدبی

ص:21

والقانونی یوصلنا إلی أنّ البحث فی الإعتبار الأدبی لیس من الأصول بعد أن کان الأصول قراءة فی لغة القانون فیخص الإعتبار القانونی.

فالجواب: لابدّ من إضافة نکتة نصلح بها الکلّیة التی ذکروها [ من أنّ کلّ شأن دلالی أدب ] وهی:

دور علم المعانی فی علم الأصول

أنه لابدّ من استثناء شطر من علوم البلاغة [ کحدّ أدنی، وهو علم المعانی من العلوم الأدبیة وعالم الظهور والدلالة ]؛ لأنه سنخ علم یبحث عن المعنی بما هو هو، وعن الإنتقال من معنی إلی معنی. وقد أقرّ هذه الحقیقة خبراء الأدب الفارسی؛ حیث ذکروا أنّ علم المعانی فی العربیة خدم اللغة الفارسیة أیضاً، فهو جزء من لغة القانون ونواة علم الأصول، حیث إنّ علم الأصول بدء بحوثاً موسّعة فی علم المعانی بعد أن وجد أنها تعنی بالقراءة القانونیة أو المعانی التکوینیة الخبریة.

مبرّرات منهج الأصول السائد فی تصدیر مباحث الألفاظ

وبهذا یفهم واحدة من مبرّرات منهجة الأصول السائدة وتصدیرها بمباحث الألفاظ التی جلّها بحوث معانی موسّعة، فلیس إلاّ المبرّر التاریخی؛ حیث إنّ البحوث المشار إلیها کانت بدایة الأصول و أمّا الحجج فلا تجد لها مساحة تذکر فی کتب الأقدمین.

ومبرّر آخر: إنّ مباحث الألفاظ تنقّح موضوع الحجّیة وهو الظهور، ومن ثَمّ قدّمت.

ثمرة تقسیم الإعتبار إلی أدبی وقانونی

بعد کلّ هذا یتساءل عن الثمرة فی تقسیم الإعتبار إلی أدبی وقانونی، وترکیز الفرق بینهما وتأکیده.

فالجواب: تظهر الثمرة فی مثل «رفع ما لا یعلمون» حیث کان

ص:22

یفهمها الأعلام أنّ مفادها المطابقی جعل، حتی ذکر الشیخ الإصفهانی (رحمه الله) أنّ الأعلام خلطوا بین البُعد الأدبی والقانونی فی المفاد المطابقی، فإنه بُعد دلالی والمنکشف النهائی و الإعتبار القانونی هو معنی کنائی وهو الترخیص. ومثل ما ذکره الآخوند من خلط الأعلام بین البعدین فی «کُلّ شَیءٍ لَکَ طاهر» فی المفاد المطابقی، حیث تصوّروه هو المجعول، وبالتالی سیکون حکماً ظاهریاً، فی حین أنّ المجعول معنی کنائی [ وهو توسعة ما هو شرط فی الصلاة أو جواز الأکل وأنّه عدم العلم بالنجاسة، ومن ثمّ فهو أخذ للطهارة الظاهریة فی الشرط الواقعی ] وأنّ المفاد المطابقی شأن دلالی لیس مراداً جدّاً ولا المنکشف النهائی.

ومن خلال ما تقدّم یمکن فهم مقولة الشیخ الإصفهانی من أنّ السِیَر والإرتکازات کالأحکام العقلیة لا تعارض بینها ولا تخصیص [ والتی ارتضاها کثیر ممن جاء بعده ] فإنّ هذه المقولة ترجع إلی أنّ الإعتبارات العقلائیة من سنخ القانون ومن ثمّ لا تقع التنافیات المذکورة بینها؛ لأنها من شؤون الدلالة والإعتبار الأدبی.

ومثل هذا الکلام یأتی فی الحکم الشرعی، فإنه لا یوجد فیها تعارض وتخصیص ما وراء الدلالة.

نعم، توجد تنافیات خاصة بها، کالتزاحم الملاکی والحکومة والورود، فإنها من شؤون القانون، ومن هنا یفهم لِمَ لا یوجد تخصیص فی الأحکام العقلیة ولا تعارض، وذلک لأنها متن الواقع لا دلالة.

علم المعصوم بالحکم الشرعی

ومن هنا تذکر نکتة فی بحث العقائد وهی: أنّ المعصوم (علیه السلام) حینما ینقل حکماً معیناً من قناة النور، أو من الجامعة، أو من مصحف فاطمة (علیهاالسلام) هل ینقلها عبر قنوات الدلالة، ومنها یصل إلی متن الحکم، فیعمل حینها التخصیص وقواعد التعارض وکلّ شؤون الدلالة،

ص:23

فیکون المتن المنکشف ظنیاً؟ أو أنه یصل إلی متن الحکم مباشرة لا من خلال الألفاظ وإنما من خلال التسدید والعلم اللدنی؟

الحق هو الثانی، وستنفع هذه الأمارة فی معالجة إشکالیة حدیثة تتناول کیفیة استنباط الفقهاء، یأتی ذکرها لاحقاً.

التقسیم الرابع: لمّا کان شأن الإعتبار العقلائی شأن بقیة الإعتبارات ینقسم مثلها إلی قوانین عقلائیة ثابتة (التشریعات الدستوریة) و متوسطة کالتشریعات البرلمانیة وتشریعات خاصة بفصل الخصومات (الإعتبارات القضائیة) وتشریعات خاصة بالقوة الإجرائیة التنفیذیة، والتی یعتمدها الوالی فی أحکامه الولویة.

وکلّ قسم له اعتبارات ظاهریة و واقعیة، وقد أخذ هذا التقسیم طریقه إلی الفقه علی مستوی التمییز والإثبات بعد أن لم یکن الفقهاء یمیّزون بین التشریعات المرتبطة بالولاة والتشریعات الثابتة، فیتعاملون مع الجمیع علی اساس أنه تشریع ثابت.

والبحث فی الإمضاء لا یخص التشریعات العقلائیة الثابتة، ومن هنا قیل: إنّ أکثر من نصف کتاب القضاء للمحقق الحلّی اعتبارات عقلائیة ممضاة، وفی کتاب الجهاد والأمر بالمعروف تجد الکثیر من القواعد المرتبطة بالقوة الإجرائیة عقلائیة ممضاة.

المرحلة الثالثة: فی الإمضاء الشرعی للاعتبار العقلائی

(1)

نبحث فی هذه المرحلة عن أمور:

الأول: البحث عن الإمضاء فی التقسیم الأول بعد أن کانت الأقسام الأخری تدخل فیه بنحو.

الثانی: عرض موجز للأدلّة التی ذکرت فی الإمضاء.

1. رجوعه إلی حکم العقل النظری أو العملی، وهو حجّة فی نفسه.

ص:24


1- (1) . تقدّم البحث عن «المرحلة الثانیة» فی صفحة 15.

2. الإنسداد.

3. التمسک بقوله تعالی: (خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ) (1)، ولم نعثر علی أحد قد ذکر هذا الدلیل.

4. ما ذکره الشیخ الإصفهانی من أنّ الإعتبارات المستجدة ترجع إلی إعتبارات عقلائیة کلیة فطر علیها البشر، والشارع قد أمضاها.

5. إنها صغریات الإعتبار الشرعی.

6. إنّ الشارع أَوْکَل ما زاد علی تشریعه إلی اعتبار العقلاء.

7. إنّ الشارع أمضی اعتبار العقلاء بملاک حجّیة الإطمئنان، وبالتالی کلّ ما یولّد اطمئناناً من اعتبارات العقلاء فهو حجّة، فیکون الإطمئنان مَصنَعَ حجج.

* * *

وبدءاً نؤکّد أنّ واحدة من الشروط الأساسیة فی حجّیة الإعتبار العقلائی هو عدم مخالفته ومضادّته للکتاب والسنّة. وقد ألفت الفقهاء فی بحث الخیارات [ قسم أحکام الشروط ] إلی هذا الشرط، و اختاروا هذا الموقع لذکر هذا الشرط لأنّ الشروط واحدة من البوّابات التی تستوعب الإعتبارات المستجدة، ومن هنا جاء بحثهم أصولیاً وخلفیةُ ذلک هو رجوع البحث إلی الإعتبار العقلائی.

ویؤکّد ذلک ما ذکره الأعلام من أنّ الضابطة المذکورة للمخالفة للکتاب والسنّة لا تخص الشروط، وإنما تعمّ العناوین الثانویة الطارئة، فإنّ ذلک یؤکّد أصولیة البحث، خاصة بعد الإلتفات إلی أنّ العناوین الطارئة بوّابة أخری تستوعب جملة من الإعتبارات المستجدة. هذا کلّه شطر من البحث. (2)

ص:25


1- (1) . الأعراف/ 199
2- (2) . [س] أشعر أنّ البحث فی الفقه یختلف عن البحث فی الأصول ولیس جمیعه عن الردع، أو لیس جمیعه من زاویة واحدة؟ [ج] منهج الحدیث تأخیر الکلام عن الردع، والحدیث أولاً عن أدلّة الإمضاء، ومن ثمّ سنصوغ السؤال بشکل أعمق، ونترک الإجابة عنه عند الحدیث عن الردع.

والشطر الآخر من هذا البحث تم فی خبر الواحد عند الحدیث عن شروط الردع فی سیاق الکلام الناهیة عن العمل بالظن، حیث ادّعی فیها نهیها عن العمل بالسیرة.(1)

ص:26


1- (1) . ما الفرق بین ما بُحث فی علم الأصول فی بحث کیفیة استکشاف أنّ السیرة مردوعة أو لا [الذی تم بحثه فی خبر الواحد أو فقل: کیف نکتشف أنّ الأدلّة اللفظیة رادعة أو لا] وبین ما بحث فی علم الفقه فی ضابطة المخالفة للکتاب والسنّة. فإنّ الظاهر أنّهما بحث واحد، إلاّ أنّا نجد أنّ الأقوال والمبانی تختلف حتی عند العَلَم الواحد.

3 . عرض أدلّة الإمضاء

الدلیل الأول: درک العقل
اشارة

إنّ العقل یدرک الکبریات العالیة؛ مثل حسن العدل وقبح الظلم، والعقلاء باعتباراتهم یحاولون إرساء هذه المدرکات العقلیة بتطبیقها علی الأفعال الجزئیة التی ترجع إلیها.

وبتعبیر آخر: إنّ العقلاء ینزّلون الأحکام العقلیة الأمّ إلی الجزئیات بواسطة اعتباراتهم، وبما أنّ مدرکات العقل حجّة، کانت الإعتبارات المذکورة حجّة؛ لأنها تطبیقیة لیس أکثر، فحجّیتها مستمدة من حجّیة الکبریات.

نقد الدلیل الأول

1. إنّنا لو سلّمنا جدلاً أنّ ظاهرة الإعتبار عند العقلاء کلها بسبب الدافع العقلی، ومن ثمّ فهی ظاهرة تطبیقیة، إلاّ أننا لابدّ أن لا ننسی أنّ عملیة التنزیل والتطبیق وتصنیف الأفعال تحت العناوین العامة لیست فی متناول العقلاء، ومن ثمّ کانت الحاجة إلی الشریعة الظاهرة المعصومة التی تتلافی عجز البشر وتخبطهم بسبب جهلهم ووقوعهم فی الخطأ.

ومن ثمّ نحن لا نقبل هذا الدلیل، وفی خصوص الإعتبارات التی تکون بدافع عقلی إلاّ فی الجملة، وهی التی تکون خارج مساحة التشریع الإلهی.

2. مع الإلتفات إلی أنّ کثیراً من الإعتبارات العقلائیة لیست بدافع عقلی وبما لهم عقل [ کما ألفتنا إلی ذلک فی تعریف الإعتبار العقلائی ] وإنما بما هم بشر، والبشر فیه ما فیه من الإنفعالات والعادات والخلفیات. والدلیل المذکور لا یشمل مثل هذه الإعتبارات، مع أنّ فیها ما هو الحجّة قطعاً کما سیتبیّن.

ص:27

الدلیل الثانی: دلیل الإنسداد
اشارة

وهو لا یختلف عن سابقه فی کلّ الجهات وإنما فی بعضها، وهو دلیل سدید وقویم، وقد اعتمده الفقهاء دلیلاً علی مجموعة من الإعتبارات العقلائیة، فأثبتوا به حجّیة قول اللغوی وأهل الخبرة وتوثیقات علم الرجال، بل استفادوا منه حتی فی الموضوعات.

والمعروف أنّ دلیل الإنسداد یتألف من عدّة مقدّمات:

[ 1 ] العلم یلزم العمل، [ 2 ] إنسداد باب العلم والعلمی، [ 3 ] عدم مشروعیة الإحتیاط، [ 4 ] عدم جریان البراءة؛ ینتج تعیّن ما هو راجح.

والتمسک بالإنسداد لا یختص بالظن، وإنما ظاهرة توصّل بها الأعلام عند إعواز الإعتبار التأسیسی للشارع، فیثبت بتوسط مقدّماته الممهّدة لحکم العقل، إما إمضاء الشارع للإعتبار العقلائی [ وهو مبنی الکشف ] أو التنجیز والتعذیر [ وهو مبنی الحکومة ] وهو إمضاء العقل.

فهو محاولة لتخریج حجّیة الإعتبار العقلائی، والذی أحد مصادیقه الظن، ونتیجة هذه المحاولة هی الإمضاء علی کلّ حال، إما الشرعی أو العقلی.(1)

والإمضاء الشرعی یمکن التعبیر عنه بأنه تطبیق الکلّیات الشرعیة علی اعتبارات العقلاء بتوسط الإنسداد.(2)

ص:28


1- (1) . [س] نجد فی کلمات الأعلام أنهم طبقوا الإنسداد علی الظنون والأحکام الظاهریة، لا علی الأعم وهو الإعتبار العقلائی؟ [ج] نعم، ولکنّه بما أنه مصداق. إلاّ عندما نتأمل فی کلماتهم عند عرضهم للمقدمات نجد أنها عن الإعتبار العقلائی مطلقاً.
2- (2) . [س] الإمضاء الشرعی هو اعتبار خاص من الشارع لما وصل إلیه العقل من تعیّن الأرجح، ولیس فیه تطبیق الکلّیات المتنوعة علیه؟ [ج] لیس شرطاً فی التطبیق أن یکون الإعتبار صغری للإعتبار الشرعی أو إنما ولو کان مساویاً، کما فی (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) فإنه تطبیق لکلّی شرعی علی کلّی عقلائی.

والإمضاء العقلائی هو تطبیق الکبریات العقلیة علی الإعتبارات العقلائیة.

ساحة حجّیة الإعتبارات فی ضوء دلیل الإنسداد

فیتلخص: أنّ الإنسداد دلیل سلیم علی حجّیة الإعتبارات العقلائیة وإمضائها، فی المساحة التی لا یوجد فیها تشریع ولکن لا بنحو الموجبة الکلّیة، وإنما فی خصوص انطباق المقدّمة الأولی والتی هی ذات شقّین:

الشقّ الأول: العلم الإجمالی بوجود أحکام إلزامیة، وقد رکّز علیه الأعلام وهو الذی یوصلنا إلی حجّیة الظن والإعتبار العقلائی الظاهری.

الشقّ الثانی: کلّ غرض وحکم نعلم أنّ الشارع لم یترکه سدی. وتوضیحه: إنّ غالب الإعتبارات العقلائیة الواقعیة تنوجد لتلبیة حاجات ضروریة وأغراض اجتماعیة وکمالات مفقودة لا یمکن للشارع أن یترکها نتیجة أهمیتها وترتب نتائج فاسدة علی إهمال التقنین فیها، کما فی قوانین المرور والأمور الحسبیة.

وفی مثل هذه وبتوسط باقی المقدّمات [ من عدم إمکان الإحتیاط والبراءة وعدم وجود حکم شرعی ] ینتج إمضاء هذه الإعتبارات الواقعیة.

شمول الإنسداد للإعتبارات المستجدة

ومع تمامیة الدلیل فی هذا الشق یشمل حتی الإعتبارات المستجدة إذا کان سنخ الغرض فیها مما لا یمکن إهماله. ومن هنا یفهم إرتکاز الأعلام فی استنادهم إلی هذا الدلیل فی المسائل المستحدثة.

وواضح أنّ تشخیص نوع الغرض لا یتسنّی لکلّ أحد، وإنما یحتاج إلی فقیه مجرّب وبارع وذی إلمام وإحاطة بالأبواب الفقهیة ومدارکها، کی یتمکّن من تشخیص درجة الملاکات ومعرفة مذاق الشارع الأقدس.

ص:29

رتبة دلیل الإنسداد فی جنب سائر الأدلّة

وختاماً نذکر: أنّ ما انتهینا إلیه من الإمضاء إنما هو بتوسط الإنسداد، ومن ثمّ یأتی فی رتبة متأخرة عن باقی الأدلّة علی الإمضاء، حیث إنّها لو ثبتت فهی من العلم أو العلمی.

کما أنّ غایة ما أوصلنا إلیه الدلیل هو الإمضاء الشرعی، فیبقی مشروطاً بعدم الردع والمخالفة للکتاب والسنّة.

وممّا تقدّم یعرف السرّ فی تقدیم دلیل الإنسداد علی الظن؛ لأنّ بحثنا لیس فی مورد خاص [ وهو الظن، نطبّق علیه دلیل الإنسداد ] کی نصل إلی حجّیته وإمضائه وإنما فی دلیل الإنسداد بما هو هو، الذی ینتج نتیجة قطعیة، وهی الإمضاء، وإن کانت بعض موضوعاته ظنیة، ومن ثمّ قدّم علی الظن بلحاظ المفاد القطعی الذی ینتجه.

وبما أنّ الإنسداد یفید الحجّیة فی کلّیة موارد الإعتبار کان وثیق الصلة به، ومن ثمّ ادرج فیه.

ومع کلّ هذا وحفاظاً علی منهج الأعلام ترکنا الحدیث التفصیلی فی کلّ مقدّمة إلی هناک.

الدلیل الثالث: العرف
اشارة

والمقصود منه ما تفشّی وتعورف بین جماعة من البشر، ولیس هو إلاّ الإعتبار العقلائی، والأمر بمثل هذا إمضاؤه وقبوله.

وما یتوهّم من أنه إمضاء مطلق للإعتبار العقلائی بنحو الموجبة الکلّیة.

جوابه: أنه مخصَّص بمساحة لا یوجد فیها شریعة وعلی شرط أن لا یکون مخالفاً للکتاب والسنّة، فیتلخص بالأمر بالعرف فی التطبیقات الجزئیة.

تفسیر آخر للآیة

ص:30

وهناک قول آخر عند بعض مفسّری العامة والخاصة وهو: إنّ المقصود من ( بِالْعُرْفِ ) فی الآیة الکریمة «المعروف»، وهو تارة یحکم به العقل وأخری الشرع وثالثة العقلاء، ولکن لا یمکن إحراز أنه معروف إلاّ عند الإصابة، فلا تدلّ الآیة علی إمضائه.

وإنما علی هذا التفسیر تکون الآیة من الآیات الآدابیة والأخلاقیة، جامعة لأصول الأخلاق والمکارم، أو أنها واردة کتوجیه الرئیس فی إداریاته وتعامله مع رعیته.

وهناک تقریبات أخری ترجع إلی الثانی فی روحها ومحتواها، فلا داعی لذکرها.

ترجیح التفسیر الأول

وبالإلتفات إلی ظاهرة فی سیرة المعصومین (علیهم السلام) یرجّح التفسیر الأول، وتکون الآیة دالّة علی الإمضاء، وهذه الظاهرة هی: أنّهم (علیهم السلام) لم یکن دأبهم وطریقتهم مخالفة السیرة العقلائیة والردع عنها بشکل مفاجئ ودفعة، [خاصة فی تلک الإعتبارات المرتبطة بالآداب ]، لئلاّ یستنکر علیهم من قبل العقلاء وینفر الناس منهم، وإنما کانت عملیة الردع والتغییر تدریجیة، کما نشاهد ذلک فی مسألة إطالة الشعر من قبلهم (علیهم السلام) مجاملة لما هو السائد آنذاک، مع أنّ هناک روایات تدلّ علی أنّ الحلق هو الراجح. فهذه الظاهرة تشکّل قرینة علی أنّ المقصود من العرف ما یأنس به الناس.(1)

ظهور الآیة فی وظیفة الحاکم

ولکن الظاهر من الآیة علاوة علی ما ذکرناه: هی أنها فی صدد

ص:31


1- (1) . [س] ولکن هذه القرینة تدلّ علی الردع، غایته أنه تدریجی لا الإمضاء؟ [ج] نحن فی صدد بیان المقصود من مفردة العرف، وأنّه ما یأنس به الناس، المعروف بالقرینة المذکورة، ولسنا فی صدد بیان المحمول وهو الإمضاء وعدمه من خلال هذه القرینة.

بیان وظیفة الحاکم والرئیس والمتصدّی [ بغضّ النظر عن أنها وظیفة إلزامیة أو آدابیة ] حین تطبیقه القانون وإجرائه بین الناس.

فالآیة فی فقرة (وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ) توصی الرئیس بأنه إذا أراد إقامة أحکام الدین وإرسائها لابدّ أن یکون ذلک من خلال ما تعارف علیه الرعیة واعتادوا علیه بعد أن بنی عقلاؤهم واعتبروه، فیستیفد من العادات الموجودة فی ایجاد المفاهیم الشرعیة بدلاً من استحداث عرف جدید وعادة جدیدة.

فالحاکم - مثلاً - إذا أراد أن یطبّق المفهوم الشرعی عند اختلاط النساء بالرجال، فلیطبّقه مع وفی العادات المألوفة فی وسط الرعیة آنذاک، لا باستحداث مظاهر جدیدة وأعراف مبتکرة لم یألفها هؤلاء ولم یأنسوا بها.

عدم دلالة الآیة علی إمضاء الإعتبار

من هنا لم تکن الآیة دالّة علی إمضاء الإعتبار والقانون العقلائی من رأس، لنظرها إلی خصوص الإعتبارات السائدة والقوانین المتجذرة بین الناس، وقبولها فی مجال تطبیق الشرعیة من خلالها.

وإن شئت فقل: هی إمضاء للإعتبار العقلائی بما هو مجری لتنزیل الأحکام الشرعیة الکلّیة وتطبیقها.

بعد هذا الفهم للآیة یثار سؤال نترک الإجابة عنه إلی حین، و هو کیف نمیّز فی مجال الإستظهار من الأدلّة بین العادة التی طبّق الحکم الشرعی فیها [ والتی تکون بمثابة الموضوع القابل للتبدل ]، وبین الحکم الشرعی الکلّی الخالد والباقی حتی مع انتفاء العادة وتغیّرها؟

الدلیل الرابع: إنها صغریات لاعتبارات شرعیة
اشارة

یکفی فی إمضاء الإعتبارات العقلائیة المستجدة [ غیر المعاصرة ] کونُها صغری لاعتبار عقلائی معاصرٍ کلّی أعم من المستجدات وهی ممضی من قبل الشارع.

ص:32

مشکلة هذا التصویر

و المشکلة التی تواجه هذا التصویر هی أنه ما هو الدلیل علی أنّ الإمضاء [ الذی تناول الإعتبار المعاصر ] قد أمضی الطبیعی الموجود فی ضمن ذلک الشخص، ولم یقتصر علی شخص ذلک الإعتبار المعاصر [الذی هو فی عرض المستجدات ]؟ کما فی إمضاء الشارع لاعتبار خبر الثقة حجّةً عند العقلاء، فهل إنّ الإمضاء اقتصر علی حجّیة خبر الثقة أو الإمضاء تعلّق بالإعتبار الکلّی الطبیعی الموجود بوجود فرده [ أی الخبر ] وهو حجّیة الإطمئنان المرتکز وغیر المصرّح به فی دلیل الإمضاء؟

وتتبلور ثمرة هذه المشکلة بعد معرفة أنّ امضاء المستجدات معلّق علی کون الممضی المعاصر هو الطبیعی الأعم [ الذی تندرج تحته المستجدات ] لا شخص خبر الثقة مثلاً [ لأنه فی عرض المستجدات ] فلا یتناول إمضاؤُه إمضائَها.

تقریب لصلاحیة الإمضاء للطبیعی

ویمکن حسم المشکلة لصالح الإمضاء للطبیعی بالإلتفات إلی أنّ إعتبار العقلاء لحجّیة خبر الثقة لم یکن بسبب أنه خبر ثقة، وإنما من جهة أنه یفید الإطمئنان، ولکنّهم فی حینه لم یجدوا مصادیق إلاّ خبر الثقة والظهور مثلاً فاعتبروهما حجّة. والشارع حیث یعلم أنّ هذا الإعتبار یمکن تطبیقه علی مصادیق أخری فمعاصرته وعدم الردع عنه یکشف عن إمضائه لها.

وبتعبیر آخر: کلّ مخزون فی العقل الإجتماعی من الإعتبارات الکلّیة المعاصر للشارع هو مدعاة لأن یعمل به اللاحقون [ بعد أن کان کلّ جیل لاحق یحمل المخزون الحضاری للجیل السابق، کما ذکر علماء الإجتماع ] فعدم ردع الشارع عنه مع التفاته إلیه دلیل إمضائه له.

علماً أنّ هذا التصویر مقتض لا أکثر؛ حیث إنّه مشروط بعدم

ص:33

المانع [ وهو المخالفة للکتاب والسنّة والردع ].

حینئذ إذا ثبت إمضاء الکبری العقلائیة نستفید منه إمضاء المستجدات من المصادیق التی اعتبرها العقلاء، وهذا هو الوجه الذی ذکره المحقق الإصفهانی (رحمه الله).

إن قلت:

أولاً: هذا الوجه الذی ذکره الإصفهانی (رحمه الله) هل یتقوم بکون الإمضاء لفظیاً؟ فی حین أنّ الإعتبار عقلائی فی عرض المستجدات. فأیّ مشکلة فی ما إذا قلنا: إنّ الکلّی والطبیعی الموجود فی الإعتبار المعاصر [ مثل خبر الثقة ] ملحوظ فی نظر العقلاء بلا داعٍ لفرض اعتبار خبر الثقة بخصوصه، فإنه مصداق تکوینی لکلّی الإطمئنان، فالإمضاء ینال الإطمئنان مباشرة لا بتوسط خبر الثقة؟

ثانیاً: بعد فرض أنّ الإمضاء قد نال خبر الثقة بملاک «الإطمئنان» الموجود فیه، کیف نکتفی بإمضاء الإطمئنان فی إمضاء المستجدات؟ وبعد أن کان هناک اعتبار عقلائی للکلّی وآخر للمصداق، کیف أمکن الإکتفاء باعتبار شرعی واحد للکلّی دون المصداق، مع أنّ الإعتبار الشرعی من حیث الإعتبار لا یختلف عن العقلائی، فکما کانت هناک حاجة للتعدد فی العقلائی کانت حاجة للتعدد فی الشرعی؟

ثمّ فی المستجدات، بل وحتی فی خبر الثقة، هل العقلاء یعتبرون هذا الموضوع الإطمئنان أو المحمول [ الحجّیة العقلائیة ]؟

قلت:

أولاً: لا یشترط أن یکون الإمضاء لفظیاً أخذ فی موضوعه خبر الثقة، وإنما حیث لم یوجد معاصراً للشارع غیر خبر الثقة والظهور مصداقاً للإطمئنان، یقع السؤال هل إنّ الإمضاء یتعلّق بهما خاصة أو بالطبیعی الموجود فیهما وإن لم یکن الإمضاء لفظیاً؟ فیتساءل: إنّ سکوت الشارع مثلاً وعدم ردعه لهذا المعاصر مع کونه مدعاة

ص:34

للعمل به فی الشرعیات یدلّ علی إمضائهما أو إمضاء البعد المشترک الموجود بوجودهما؟

وأما وجه الحاجة إلی اعتبار العقلاء لخبر الثقة مصداقاً، ولیس هو مصداق تکوینی؛ لأنّ الإطمئنان المعتبر هو النوعی لا الشخصی، ومن ثمّ کان سبباً فی الحاجة إلی اعتبار المصداق، وحیث کان هناک اعتباران من العقلاء أحدهما فی بطن الآخر، کان تحلیل موضوع إمضاء الشارع ضرورةً لمعرفة أنه إمضاء للمصداق المعتبر أو للکلّی الموجود فیه.

ثانیاً: فی الإعتبار العقلائی للإطمئنان هناک اعتباران؛ اعتبار الموضوع [ وهو الکاشفیة النوعیة ]، واعتبار المحمول [ وهو اعتباره علماً ]، وهناک اعتبار ثالث هو اعتبار المصداق. و الإمضاء الشرعی یکون للإعتبار علماً، کذا فی المصداق علی مبنانا من حاجة کلّ جعل عقلائی إلی جعل شرعی یحتاج إلی اعتبار، ولکن لا کلّ مصداق مصداق کی نقع فی إشکال عدم إمضاء المستجدات، وإنما کلی المصداق بأن یمضی الشارع کلی ما یعتبره العقلاء مصداقاً.

الدلیل الخامس: کونها صغریات لکبریات شرعیة
اشارة

أن تکون هناک کبریات شرعیة لفظیة، موضوعاتها اعتبارات عقلائیة؛ مثل (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) ، ومثل هذه الکبریات فی الوقت الذی تدلّ علی إمضاء موضوعاتها العقلائیة، یستفاد منها فی امضاء الإعتبارات المستجدة، شریطة أن تکون صغری للإعتبار الذی أخذه الشارع موضوعاً للإمضاء.

من هنا وحیث انتهینا إلی أنّ مجموعة من الحقوق المستجدة [ بعد تحلیلها ] بیوع تجزیئیة، وکان واحد من أدلّة إمضائها کبری (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) فهذا الدلیل سلیم ویسیر، إلاّ أنه یتطلب خبرة عملیة عالیة فی

ص:35

فهم هذه المستجدات وتحلیلها، کی یتمّ تصنیفها تحت کلّیاتها بشکل

صحیح.

الخبرویة الموضوعیة

وقد ألفتنا سابقاً إلی مقولة الشعرانی وتوصیته بأنّ علم الفقه من أصعب العلوم؛ لأنه من زاویة المحمول فقه، وأمّا من زاویة الموضوع فکلّ بابٍ علمٌ، فلابدّ من إلمام الفقیه [ ولو إجمالاً ] بهذه العلوم کی یتمکن أن یستنطق الأدلّة بشکل سلیم.

ومن هنا ذکر الفقهاء بأنّ المحقق أوسع باعاً من العلاّمة فی العبادات، والعلاّمة أوسع باعاً فی المعاملات لخبرته الموضوعیة.

إن قلت: لابدّ علی هذا إمّا من الإجتهاد فی الموضوعات أو التقلید فیها لأهل الخبرة والإختصاص، وصِرفُ الإلمام والثقافة العامة لا یکفی؟

قلت: نعم، خاصة أننا نؤمن أنّ الامام (علیه السلام) خاطب أهل الإختصاص والخبرة، ولم یخاطب العموم إلاّ ما استثنی، کما فی الطهارة والنجاسة؛ حیث اکتفی بتشخیص العرف، مع الإلتفات إلی أننا نؤمن أنّ الإمام (علیه السلام) بحکم خبرته بالموضوعات قد اعتمد نکات علمیة لا یلتفت إلیها إلاّ من کانت له إحاطة بالموضوع، فإنه یؤثر فی فهم الدلیل جنباً إلی جنب الدقة الأدبیة التی لها مدخلیة کبیرة فی جودة الإستظهار وقد لمسنا غفلة البعض فی فهم بعض نکات الأدلّة فی بعض الأبواب، کالهلال نتیجة عدم خبرتهم الکافیة بالموضوع فلکیاً، ممّا فوّت علیهم نکات أساسیة لها مدخلیة کبیرة فی تشکیل الظهور.

الدلیل السادس: ایکال الأمر إلی العقلاء
اشارة

إنّ الحکم العقلی یحتلّ المرتبة الأولی فینال الکلّیات العالیة، و الإعتبار الشرعی یأتی فی الدرجة الثانیة لیلفت إلی مصادیق الکلّیات التی یدرکها العقل، حیث یعجز العقل عن تشخیصها.

ثم فی المساحة التی یترک الشارع الإعتبار فیها [ وهی مصادیق

ص:36

الکلّیات الشرعیة ] أوکل الأمر فی تشخیصها إلی الإعتبار العقلائی، بعد أن وجد أنّهم قادرون علی تشخیصها وتصنیفها بتجربتهم.

ومن ثمّ کان هذا الایکال إمضاءً، ولیس ذلک تعبیراً عن نقص الشریعة وعدم استیعابها، وإنما تعبیر عن مرونتها وتجاوبها مع المستجدات علی مرّ الظروف والازمان.

هذا حصیلة ما یدور فی کلمات الأعلام وبشکل خفی وفی زوایا کلماتهم. وقد ینسب إلی السیّد أبی الحسن الإصفهانی (قدس سره) وغیره.

ولمعرفة حال هذا الدلیل نلفت النظر إلی مقدّمتین:

حقیقة الإمضاء

المقدّمة الأولی: [ التی کان من حقّها أن تتقدم علی عرض الأدلّة ] إنّ حقیقة الإمضاء الشرعی هی الجعل والإعتبار من قبل الشارع، إذ مع عدم الجعل والإعتبار لا تنجیز ولا تعذیر ولا بیان من الشارع لکمال الفعل وعدمه.

وبعبارة أخری: بدون الجعل لا یترتب أی شیء من المترتبات علی الجعل الشرعی. نعم، فی الحکم العقلی القطعی النظری یترتب علیه حکم العقل بالتنجیز والتعذیر، حتی لو أنکرنا الملازمة بینه وبین حکم الشارع؛ لأنّ العقل بنفسه منجّز ومعذّر، فلا یحتاج إلی توسیط الشارع.

نعم، لا فرق فی الجعل الإمضائی بین أن یکون لفظیاً أو لا.(1)

ص:37


1- (1) . [س] التنجیز والتعذیر فی الأحکام العقلیة من أحکام العقل العملی المترتب علی العقل النظری ولیس من مدرکات العقل النظری نفسه، کما أنه لیس شرعیاً، وفی تصوری أنّ العقل العملی یحکم بالتنجیز والتعذیر فی حالة تفسیر الإمضاء بالمتابعة والتعاطی وأنّه لیس جعلاً، کما أنّ بیان الکمال وتشخیصه فی الفعل یحصل باعتبار العقلاء وتصویب الشارع لهم بمتابعته وتعاطیه، فتفسیر الإمضاء بالجعل والإعتبار مع الإصرار علی ذلک لحدّ الآن بدون دلیل، بل ربما یکون لغواً مع وجود الإعتبار العقلائی وکفایته فی الإلفات إلی کمال الفعل بعد تصویب الشارع له؟ [ج] نحن وإن قبلنا التنجیز والتعذیر فی مدرکات العقل، ولکنّه لا یعنی ذلک عدم الحاجة إلی الإعتبار، فإنه یؤمن جوانب أخری لا یؤمنها صرف إدراک العقل کما أشرنا إلی ذلک، ولکن فی الإعتبار العقلائی لا نقبل حتی إدراک العقل العملی للتنجیز والتعذیر بدون توسیط الشرع، وأنّ التعاطی والتصحیح من قبل الشرع یرجع فی واقعه إلی جعله واعتباره، وإلاّ لم یکن إمضاءً.
الفرق بین التأسیس والإمضاء

فما تصوّره البعض فی أنّ الفرق بین التأسیس والإمضاء هو أنّ الأول جعل دون الثانی، فإنه متابعة وتعاطی من قبل الشارع من دون إنشاء [کما قد یظهر من عبارات بعض المتقدّمین ] فی غیر محله.

کذا ما تصوّره البعض من أنّ الفرق بینهما دالّی، حیث إنّ التأسیس ما ورد فیه نص لفظی، والإمضاء ما لم یرد فیه شیء، وإنما یحصل بمثل التقریر اللبی أیضاً فی غیر محله.

والصحیح: إنّ کلاً منهما جعل، وکلاً منهما قد یکون بلفظ وقد لا یکون بلفظ، وأنّ الفرق الحقیقی بینهما هو أنّ التأسیس اعتبار من رأس غیر مسبوق باعتبار العقلاء، وأنّ الثانی اعتبار لا من رأس، وقد یتصادقان فی مورد واحد من جهتین، فیکون الجعل من جهة من الجهات تأسیسیّاً ومن جهة أخری إمضائیاً، ومن ثمّ ذکر المتأخرون أنّ (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) دلیل إمضائی مع أنه لفظی.

وممّا تقدّم یعرف: إنّ السکوت وعدم الردع [ الذی قَبِلَه البعض إمضاءً ] لا یعنی عدم الجعل، وأنه شیء مقابل للإمضاء [ لو قلنا به ] وإنما هو کاشف إثباتی عن رضا الشارع القانونی واعتباره الشرعی. فالإختلاف بین السکوت والتصریح القولی أو الفعلی إثباتی، وإلاّ فکُنه المستکشف وهو الإعتبار وامضاء ما اعتبره العقلاء واحد.(1)

ص:38


1- (1) . [س] کیف نتصوّر الإعتبار مع السکوت، مع أنه متقوم باللفظ کما تقدّم؟ کیف نصوّر أنّ السکوت کالتصریح فی کون کلّ منهما دالاً، مع أنّ الثانی هو الإعتبار، وبه یتقوم ولیس دالاً؟ [ج] السکوت کالفعل وکاللفظ آلة انشاء، والإعتبار متقوم بالمبرز [سواء کان لفظاً أم فعلاً أم قولاً] فی قبال رأی السیّد الخوئی من أنّ المبرز کاشف بحت ولیس مقوماً للإعتبار.
کاشفیة السکوت عن الإمضاء

نعم، یبقی السؤال : هل نقبل السکوت وعدم الردع دالاً علی الإمضاء، أو لابدّ من التصریح قولاً أو فعلاً به؟

وبعبارة أخری: هل فی السکوت وعدم الردع دلالة وکاشفیة علی الإمضاء أو لا؟

الحق فی الجواب : التفصیل بین الإعتبار العقلائی المتجذر والمتفشی والمنتشر فیکفی سکوت الشارع وعدم ردعه فی إمضائه، وبین غیر المتجذر والمتفشی فیحتاج فی إمضائه إلی تصریح، ولا یکفی فی الدلالة والکشف صِرفُ السکوت وعدم الردع.

وهناک تفصیل آخر [ هو فی الواقع تتمیم للسابق ] وهو أنّ الإعتبارات العقلائیة المرکبة [ ترکیباً معقّداً من أسباب ومسبّبات، وبُعدین وضعی وتکلیفی ] تحتاج إلی إمضاء لفظی [ حتی لو کانت متجذرة ] لأجل أن یوضّح اللفظُ معالمَ الإعتبار الممضی، فلو لم یرد (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) لا یمکن التمسّک بإطلاق الإمضاء فی کلّیة موارد البیع العقلائی حتی المشکوک منها إمضاءُ الشارع لها.

وأمّا الإعتبارات الأخری فیکفی فیها الإمضاء غیر اللفظی.

المقصود من الإیکال

المقدمة الثانیة: إنّ الإعتبار العقلائی بما هو هو لا یکون منجّزاً ولا معذّراً ولا محرزاً یقینیاً للملاک، ومن هنا کان بحاجة إلی توسیط اعتبار الشرع کی یحرز الکمال ویحصل التنجیز والتعذیر وتتحقق الغایة من الإعتبار.

فالإعتبار العقلائی بدون الإمضاء لا ینفع، والإمضاء بدون تفسیره بالجعل لا ینفع.

بعد هذا نتساءل من القائل بالایکال، هل یقصد من الإیکال:

ص:39

[ 1 ] إننا نستکشف رضا الشارع القانونی بهذه الإعتبارات العقلائیة فی منطقة ما وراء التشریع؟ فهذا جیّد ومقبول، ولکنّه لا ینسجم مع تقریب القائل بالایکال؛ لأنه افترض محدودیة مساحة التشریع وأنّ ما وراءها من شأن العقلاء، فتصویر وجود إمضاء واعتبار شرعی یغطّی المساحة المتروکة للعقلاء ویمنحها الشرعیة خلاف الفرض.

[ 2 ] إنّ هناک کبریات شرعیة خصیصتها أنها قابلة للإنطباق علی مصادیق مستجدة معتبرة عند العقلاء؟ فهذا لا مانع منه، إلاّ أنه یرجع إلی بعض ما تقدّم من الوجوه و لا یکون وجهاً مستقلاً.

والظاهر من دلیل الإیکال هو هذا الإحتمال، بقرینة تقسیمه الکلّیات إلی مدارج ثلاثة والترتب الذی وضعه العقل والشرع والعقلاء.

[ 3 ] تخویل الشارع العقلاء فی التشریع والتقنین، بمعنی أنّ لهم التولیة فی التشریع ضمن مساحة ونطاق معیّن؟

فهذا مرفوض؛ لأنّ الشارع لم یخوّل أحداً بالتشریع فی عرضه، وإنما إذا کان هناک تخویل فهو فی طوله، والطولیة تعنی التطبیق ووجود اعتبارات عقلائیة تطبیقیة للإعتبارات الشرعیة، کما أنّ الإعتبارات الشرعیة تطبیق للکبریات العقلیة. وهذا کما تری یرجع إلی الإحتمال السابق.(1)

ص:40


1- (1) . [س] یظهر منکم قبول التولیة فی التشریع فی طول الشارع، وهنا لا نحتاج إلی إمضاء الشارع لکلّ اعتبار عقلائی مستجد، وإنما تکفی التولیة علی شرط أن لا یکون مصادماً للکبریات الشرعیة، کما فی حکم الشرع والعقل، فإنّ الشرع بعد أنّ له التولیة یکفی فی قبول قوله أن لا یصادم کبریات العقل من دون حاجة إلی أن نتعرف علی الموافقة، وأن نضع ضوابط لها کالإنسداد وأمثاله؟ [ج] نعم، کنهاً یرجع إلی التولیة، ولکن ضمن الضابطة الموضوعیة، وهی أن یکون الإعتبار العقلائی تطبیقاً وجعلاً لمصادیق موضوع عقلائی معتبر شرعاً، وبهذا یفترق عن الشارع، فإنه وإن کان تطبیقاً لموضوعات الحکم العقلی، إلاّ أنه لمّا کان معصوماً کان التشخیص إلیه، ولم یحدّد فی ضمن ضابطة وقالب موضوعی لا یخرج عنه.

وبالتأمل فی الوجوه السابقة نلاحظ أنها لا تدلّ إلاّ علی إمضاء الإعتبار العقلائی [ الذی هو تطبیق موضوعی للإعتبار الشرعی ]. نعم، هی فی الوقت الذی دلّت علی إمضاء هذا النوع من الإعتبارات العقلائیة کلٌ منها وضع ضابطة و حَدّ للتطبیق الذی یمضیه الشارع.

فدلیل الإنسداد مثلاً یدلّ علی أنّ ضابطة إمضاء التطبیق هی حالة الإنسداد، لا کلّ تطبیق ولا کلّ اعتبار من العقلاء حتی لو لم یکن تطبیقاً.

الدلیل السابع: حجّیتها من باب الإطمئنان
اشارة

إنّ الإطمئنان حیث اعتبره العقلاء حجّة والشارع أمضاه، سیکون مَصنَعاً مولّداً للحجج الشرعیة؛ حیث إنّ کلّ مصداق مستجد یفید الإطمئنان سیکون حجّة شرعاً.

ومن الواضح أنّ کنه هذه الدعوی تلتقی مع الوجه الذی ذکره الشیخ الإصفهانی، مع فارق سنشیر إلیه.

وقفة فی هذا الدلیل

ولکن مع ذلک لنا وقفة مع هذا الدلیل [ خاصة بعد الإلتفات إلی أنّ البحث فی الإطمئنان بوّابة البحث فی کلّ الحجج ] وهی:

إنّ الإطمئنان [ الذی اعتبره العقلاء حجّة وعلماً ] لیس هو الإطمئنان الشخصی وإنما هو النوعی.

والنوعی هو الذی یحصل عند الأکثر، وکلّ الحجج هی مصادیق الإطمئنان النوعی، حتّی الخبر الموثوق به، فإنّ القول بحجّیته یقصد منه النوعی لا الشخصی [ کما توهّم البعض ].

ومن هنا فالمغایرة بین القول بحجّیة خبر الثقة والموثوق به، بالنوعیة والشخصیة فاسدة جداً، وإنما الفرق هو أنّ مبنی حجّیة خبر الثقة یحصر المنشأ بصدق لهجة المخبر، وأمّا حجّیة الخبر الموثوق به فمناشؤه غیر محصورة، فالنسبة بینهما العموم والخصوص المطلق، لا من وجه [ کما تصوّره البعض ].

ص:41

دور الإطمئنان الشخصی فی حصول النوعی

والشخصی یکون طریقاً لمعرفة حصول النوعی؛ لأنّ المنشأ لا یکون إلاّ نوعیاً، وعلی أساسه حصل الشخصی وإلاّ لم یبن علیه، فمنه یعرف أنه نوعی.

توضیح ذلک: إنّ الإنسان فی عقله الإجتماعی ومخزون ذاکرته [ المسمّی بالعلم الإرتکازی والإجمالی والبسیط ] یحمل علوماً جمّة، جاءته من الموروث البیئی وبشکل تلقائی عَفَوی ارتکازی ومن دون تحلیل. والخبرةُ والتخصص والفن والإجتهاد کلّه مطلوب فی الإلتفات المرکب لا فی العلم البسیط، ومن ثمّ لم یکن حکراً علی البعض دون البعض الآخر، بل کان مفتوحاً للجمیع.

والإتصال بالآخرین یکون عبر العقل الإجتماعی والمخزون المشترک [ وإلاّ لم یکن صالحاً للإحتجاج به بینهم ]، ومعه من الطبیعی یتمّ اکتشاف العام والنوعی والمشترک من خلال الشخصی؛ لأنّ ما لدی الشخص لیس إلاّ الموروث الإجتماعی، وهو لا یمتاز به عن غیره.

فالإطمئنان وسکون النفس [ المتولّد من نوع المنشأ لنوع العقلاء وأکثریتهم ] هو الذی اعتبرت له الحجّیة العقلائیة، وکلّ هذا هو الذی یمضی من قبل الشارع.

ولمّا کان النوعی هو المعتبر، کان بحاجة إلی اعتبار مصادیقه، والمصادقةِ علیها من قِبَلهم، ولا یکفی صِرفُ کونه مصداقاً تکوینیاً ما لم یتفشَّ بینهم وینتشر، وهو لا یکون إلاّ باعتبارهم له.(1)

ولا یخفی أنّ هذا الدلیل ینفع فی خصوص الإعتبارات الظاهریة؛

لأنّ ذاتی الإطمئنان وحقیقَتَه الکاشفیةُ علی خلاف دلیل الشیخ الإصفهانی (رحمه الله)، فإنه دلیل عام غایته أنّا طبّقناه فی مجال التمثیل له

ص:42


1- (1) . [س] ما الفارق بین المنشأ والمصداق؟ [ج] المنشأ هو المصداق ولکن باختلاف اللحاظ، فالذی یولّد تکویناً درجة معینة من الإحتمال ویکون سبباً فی تبانی العقلاء علیه هو المنشأ وبعد التبانی علیه واعتباره من العقلاء یکون مصداقاً للمعتبر الکلّی.

بالخبر والإطمئنان.

خلل أخری فی دلیل الإطمئنان

وممّا تقدّم نستطیع أن نشخّص الخلل فی ثلاث طروحات فی الإطمئنان:

الأولی: إنّ حجّیة الإطمئنان لیست عقلائیة، وإنما باعتباره مصداقاً من مصادیق العلم، وهو حجّیة ذاتیة تکوینیة لا جعلیة اعتباریة.

الثانیة: إنّ هناک عرضیّة بین الإطمئنان وبقیة الأمارات العقلائیة کالخبر والظهور، لا أنّ هذه مصادیق للإطمئنان وأنها اعتبرت لاستبطانها الکلّی، [ وهو الإطمئنان المعتبر قبلاً من العقلاء ].

الثالثة: إنّ خصوص حجّیة الظهور لمّا کانت مسلّمة، کانت کأنها لیست بمسألة أصولیة؛ ثمّ تطوّرت هذه الدعوی حتی قیل بأنّ الظهور لا یکون حجّة إلاّ إذا ولّد العلم الشخصی بالمراد، وعلی هذا الأساس یخرج من مباحث الحجج.

وقد راجت هذه الدعوی، سیّما مع تأییدها بما نراه من الأخذ بالظهور عند حصول العلم فی حالة المشافهة مع الآخرین، وأنّ أیّ احتمال للخلاف یمنع من الأخذ به ویوجب سؤال المخاطب من المتکلّم حتی یتأکّد من مراده.

عدم انضباط الإطمئنان الشخصی

ووجه الخلل فی الطرحة الثانیة والثالثة: أنّ الشخصی فی حدّ نفسه لا یصلح للمحاجّة بین العقلاء؛ لأنه ذاتی غیر منضبط بمناشئ معینة، فلا یکون لغة خطاب مشترکة ما لم یکن أمراً نوعیاً منضبطاً متبانیاً علیه. ومن هنا کانت ظاهرة الحجج بعد أن وجدها العقلاء مناشئ تکوینیة توجب الإطمئنان عند النوع، فاعتبروها کمصادیق للکلّی النوعی الذی اعتبروه لغةَ تخاطبٍ و تفاهمٍ وتحاور بینهم.

ص:43

وفی الواقع أنّ الدعوی الثالثة حصل فیها خلط، حیث إنّ صاحب الطرح أحسّ أنّ القیمة لیست للظهور بما هو ظهور، وإنما من جهة ما یستبطنه من إفادته الإطمئنان.

وهذا الإحساس صحیح جداً، ولکنّه لیس الإطمئنان الشخصی، وإنما النوعی لما ذکرناه من أنّ الشخصی لا یصلح لغة مشترکة یحتجّ بها أحدهم الآخر، ویجعلها وسیلة لنقل مقاصده إلی الآخرین، وإنما خصوص ما کان من نوع المنشأ لنوع العقلاء.

ولا یخفی خطورة الأطروحة الثالثة، فإنّ النزاع وإن کان بدواً بین الشخصیة والنوعیة، ولکنّه تترتب علیه آثار خطیرة؛ حیث إنّ البناء علی أنّ الظهور الحجّة هو الذی یفید الإطمئنان أو العلم الشخصی، یجرّنا إلی تجمید کثیر من المعالجات الظهوریة الدلالیة، کتقدیم الأظهر علی الظاهر وانقلاب النسبة وحمل المطلق علی المقید وغیرها الکثیر، فإنّها مع عدم تولیدها العلم الشخصی لابدّ من عدم قبولها.

حجّیة الإطمئنان النوعی

وممّا تقدم یعرف الخلل فی الأطروحة الأولی، حیث ظهر أنّ الإطمئنان غیر العلم، وبحاجة إلی مشارکة العقلاء واعتبارهم حجّیته حتی یصلح للمحاجّة.

والنتیجة: إنّ الإطمئنان النوعی هو الحجّة، وأنّ الخبر والظهور وسائر الحجج هی فی طوله لا فی عرضه، مصادیق لا مباینات له.

ومن هنا وعلی ضوء ما انتهینا إلیه سیکون لنا عنایة فی بحث الحجج فی استنطاق أدلّتها لفهم حجّیة کبری الإطمئنان العقلائی، علاوة علی دلالتها علی حجّیة المورد والمصداق.

جریان سیرة العقلاء علی العمل بالإطمئنان الشخصی وتحلیل هذه السیرة

إن قلت: إنّ آحاد العقلاء لا یجرون علی العمل بالإطمئنان ما لم یصل درجة الشخصیة، ومجرد نوعیته لا یکفی فی العمل به، فنحن

ص:44

نقبل أنّ المعتبر هو النوعی، ولکن علی شرط أن یوصل إلی اطمئنان شخصی، وإلاّ لا یصلح للإحتجاج، وکأنّ المعتبر هو الشخصی المنضبط، الذی یکون من منشأ نوعی.

قلت: هذا التساؤل ربما کان دلیل واحد من الطروحات المتقدّمة.

وجوابه: لماذا لا یبنی العقلاء علی الإطمئنان مع عدم الشخصیة؟ هل:

[ 1 ] لالتباس فی المورد من جهة وجود أمارة مقابلة [ وإن لم تکن فی نفسها حجّة، إلاّ أنها تمنع من شخصیة الإطمئنان فحجّیته، ومن ثمّ أخذ عدمها فی حجّیة الإطمئنان.

[ 2 ] أو لأنّ الشخصی لم یحصل لایحاءات نفسیة، لأسباب ذاتیة غیر موضوعیة؟

فعلی الأول: فإنه یعنی أنّ المنشأ النوعی مقیّد بعدم مضاد له، فمع وجوده لا اطمئنان شخصی، ولکن لعدم الإطمئنان النوعی لا معه، ومع عدم القرینة المضادة یحصلان معاً الشخصی والنوعی.

وعلی الثانی: یحاجّ من قبل العقلاء حتماً، ولا یعتنی بالأسباب الشخصیة التی حالت دون حصول الإطمئنان النوعی له.

النتائج التی انتهینا إلیها من أدلّة الإمضاء

[ 1 ] إمضاء الإعتبارات العقلائیة التی تکون محلاً لتطبیق الحکم الشرعی، أو فقل: إمضاء المنطبق العقلائی علی الإهمال مع ترک تشخیصه وتحدیده للوالی، [ والذی یشمل المرجع أیضاً ] وقد ظهر ذلک من الدلیل الثالث.

[ 2 ] إمضاء الإعتبارات المستجدة الصغرویة التطبیقیة التی تکون مصداقاً لموضوع عقلائی کلّی أخذ فی الدلیل الشرعی، کما ظهر ذلک من دلیل الشیخ الإصفهانی.

[ 3 ] إمضاء الإعتبارات الصغرویة للأغراض التی نعلم أنّ الشارع لا یرید إهمالها، کما ظهر ذلک من دلیل الإنسداد.

[ 4 ] إمضاء حجّیة الإطمئنان ومصادیقه المعاصرة والمستجدة،

ص:45

کما ظهر ذلک تفصیلاً من الدلیل السابع، وعموماً من دلیل الشیخ الإصفهانی والإنسداد. کما تبلورت حقیقة الإمضاء، وحقیقته النوعیة وضرورتها.

الإعتبار الشرعی بنحو الإقتضاء

وختاماً نذکر أنّ غایة ما تثبته أدلّة الإمضاء هو الإعتبار الشرعی بنحو الإقتضاء، ومن ثمّ فهو معلّق علی عدم المانع؛ وهو الردع عن الإعتبار العقلائی الذی دلّ الدلیل علی إمضائه، وعلی عدم مخالفته للکتاب والسنّة.

وفی الواقع أنّ هذه المرحلة من البحث الأصولی عن الإعتبار العقلائی [وهی المرحلة الثالثة ] ذات بُعدین:

البعد الأول: فی حقیقة الإمضاء الشرعی للإعتبار العقلائی وأدلّته. وقد استوفینا البحث عنه.

البعد الثانی: فی الردع والمخالفة.

ص:46

4 . فی الردع الشرعی وعدمه

اشارة

ویکون البحث فیه ضمن نقاط:

النقطة الأولی: الحدیث عن عدم الردع فی الأصول

قد وقع هذا البحث بشکل متناثر؛ حیث تکلّم عنه الأصولیون فی مواضع عدیدة عند الحدیث عن الردع عن السیر وخبر الواحد وأمثالهما.

وکذا عدم المخالفة للکتاب والسنّة لم یبحث عنه [ مع أنه بحث کلّی ] إلاّ فی بحث الشروط فی الفقه.

کما بحث الأصولیون فی باب التعارض عن شرطیة عدم المخالفة عند بیان أنه شرط لحجّیة الخبر فی نفسه، وشرط لحجّیة الخبر وتقدّمه علی الخبر الآخر عند التعارض.

فعُرِضت مسألة الردع والمخالفة ضمن مسائل أربع:

[ 1 ] شرطیة عدم مخالفة الکتاب والسنّة فی الشرط والصلح والنذر وأمر الوالد [ الذی تم بحثه فی الفقه فی مسألة الشروط ].

[ 2 ] الردع [ والذی تم بحثه فی السیرة وخبر الواحد وغیرهما فی الأصول ].

[ 3 ] شرطیة عدم مخالفة الکتاب والسنّة فی حجّیة الخبر فی نفسه، بمعنی أنّ حجّیته الإقتضائیة [ أصل الحجّیة ] مشروطة بعدم المخالفة.

[ 4 ] شرطیة عدم المخالفة فی حجّیة الخبر عند الترجیح، [ وقد تم بحث هذه المسألة وسابقتها فی بحث التعارض ].

النقطة الثانیة: البُعد المشترک بین المسائل الأربعة
اشارة

هناک سؤال آثرناه فی هذه المرحلة وهو السؤال عن الفرق بین حیثیتی البحث فی المسألة الأولی والثانیة، وکذلک بین المسائل

ص:47

الأخری وقبل الدخول فی البحث نلفت إلی البُعد المشترک بین المسائل ضمن أمور:

أولاً: أشرنا سابقاً إلی التدرّج بین العقل والشرع والعقلاء، ویترتب علی هذا: أنّ ضابطة مایمکن قبوله من النقل أن لا یصطدم بعقل بدیهی [باتفاق الجمیع ]، ولا یتنافی مع النظری [ عند الأصولیین علی اختلافهم فی الحدود، دون الأخباریین ].

کذا العقلائی لابدّ أن لا یصطدم مع الکتاب والسنّة [ القطعیین والظنیین ] حتی یمکن أن یکون مورداً للقبول. والقطعی متیقن، والظنی مختلف فی حدوده.

کلّ هذا بعد فرض وجود مقتضٍ لاعتباره شرعاً من خلال أدلّة الإمضاء، فعدم المخالفة شرط.

وثانیاً: ألفتنا إلی أنّ کلاًّ من الدلیل النقلی والعقلائی، حجّیته مشروطة بعدم المخالفة القطعیة للعقل والکتاب والسنّة بالإتفاق وإنما الإختلاف جری فی المخالفة الظنیة علی صعید الکبری [ حیث لم یعتن الأخباری - مثلاً - فی مخالفة النقل للعقل النظری، فی حین أخذ الأصولی عدم المخالفة هذه أیضاً شرطاً فی الحجّیة ].

أو علی صعید الصغری کالإختلاف بین الأصولیین فی حدود شرطیة عدم المخالفة الظنیة للعقل.

والسرّ فی هذا الإتفاق والإختلاف: أنّ قوام حجّیة الدلیل الظنی [ النقل والعقلاء ] هو الکشف و الطریقیة إلی الواقع، وواضح أنّ مثل هذا إذا اصطدم بکشف قطعی لا یعتنی به.

وأما مع المخالفة الظنیة؛ فحیث إنّ کلاًّ منهما ظنی وقع الخلاف فی الإشتراط وعدمه، ومع الإشتراط جری البحث فی حدوده، [ فهل یُعمل بالظن الأقوی أو لا، وما هو معیار الأقوائیة؟ ]

وقد اتضح [ من کلّ ما تقدّم ] فلسفةُ الترتب الطبعی بین العقل والشرع والعقلاء علی مستوی الجعل وعلی مستوی الإحراز

ص:48

والکشف.

هیمنة الکتاب والسنّة

ثالثاً: بل الکتاب والسنّة [ القطعیان ] لیسا ضابطتان لما یقبل وما لا یقبل من الإعتبار العقلائی فقط، وإنما هما ضابطتان لما یقبل وما لا یقبل من النقل الظنی أیضاً. فشرط قبول النقل الظنی هو أن لا یخالف العقلَ البدیهی والنظری [ علی الخلاف ] والنقلَ القطعی.

فالکتاب والسنّة [ القطعیان ] یتلو العقل فی الهیمنة علی ما عداه [ أعم من أن یکون نقلاً ظنیاً أو اعتباراً عقلائیاً ].

قوة الدلالة وأهمیة الحکم

ورابعاً: إنّ هناک تناسباً طردیاً غالباً بین درجة إحراز الدلیل وبین درجة أهمیة الحکم ومتن الجعل فالملاک؛ لأنّ المقنّن [ أعم من أن یکون الشارع أو العقلاء ] یوظّف الدلالات بحسب درجة اهتمامه بالملاکات، فکلّما کان الملاک مهماً شدّد فی الدلالة علیه لیضمن وصوله أکثر.

ثمرات قاعدة التناسب الطردی

ومن هذه القاعدة یتبلور:

[ 1 ] إنّ قوة دلالة الدلیل دلیل أهمیة ملاکه ومحوریته فی التشریع، فالکتاب والسنّة [ القطعیان ] دلیل إنّی علی أهمیة الأحکام المدلولة ومحوریتها، ومن ثمّ کان لها الهیمنة والإشراف علی ما عداها من الأحکام، فأُخذ عدم مخالفتها شرطاً فیها ومرجّحاً عند التعارض.

[ 2 ] تری الفقهاء فی تعاطیهم مع الأدلّة القطعیة بشکل وفی تعاطیهم فی الأدلّة الأخری بشکل آخر. فتراهم فی مسألة الربا وقتل النفس وأمثالهما یتعاملون مع أدلّتها بمنتهی الدقة علی مستوی تحدید القیود وتطبیق موازین الدلالة وحلّ التعارضات، بخلاف تعاملهم مع

ص:49

الأحکام العادیة.

کان ذلک نتیجة إدراکهم أنّ الشارع فی أمهات التشریع وکلّیاته وکبریاته وأساسیاته یوظّف الدلالة علیها بشکل آکد، ومن ثمّ فهو یؤطّر الدلیل الدالّ مؤکّداً علی هذا المحور ویقولبه بدقة خالیة من الإیهام والإلتباس والإهمال.

[ 3 ] إنّ سرّ ما ذکره الآخوند فی اجتماع الأمر والنهی [ من أنّ الدلیل الأقوی هو الفعلی، والأضعف هو الإقتضائی ] هو ما ذکرناه من أنّ قوة الدلالة دلیل الأهمیة، فیکون هو الفعلی والآخر یجمَّد ویکون اقتضائیاً.

وبهذا یرتفع العجب وإشکال الکثیر علی الآخوند فی أنه لا علاقة بین قوة الدلالة وضعفها، بین قوة الملاک وضعفه.

ضوابط المخالفة

[ 4 ] ذکرت مجموعة ضوابط للمخالفة وعدمها فی المسألة الأولی، وعندما نمعن النظر فیها نجد أنها جمیعاً ضوابط أصولیة مما یشهد لعمومیة البحث، [ وإن ذکر فی الفقه وفی موارد خمسة لا غیر ]، وهذه الضوابط هی:

الأولی: ضابطة الشیخ الأعظم فی المخالفة المانعة عن الحجّیة هی المخالفة للحکم الفعلی المطلق فی دلیله، دون المخالفة للحکم الطبعی [ الذی لا یدلّ إلاّ علی ترتب الحکم علی موضوعه، من دون إطلاق فی الدلیل وبغضّ النظر عن الطوارئ والعناوین الثانویة. ]

وواضح أنّ هذه الضابطة أصولیة، وإن طبّقت علی موارد محدودة، وذلک لتنوع ما یترتب علیها من الأحکام.

الثانیة: کلّ اعتبار فیه دوام المباینة مع الحکم المستفاد من الکتاب والسنّة، فهو مخالف للکتاب والسنّة؛ کنذر صلاة المستحب طول العمر، وأما إذا لم یکن بنحو الدوام بل کان التباین اتفاقیاً و لبُرهة،

ص:50

فلم یکن مانعاً.

الثالثة: إن کانت المخالفة لحکم إلزامی فهی المانعة، دون ما إذا کانت لحکم مباح.

والظاهر أنّ المقصود من المباح، اللاإقتضائی منه، المعبّر عنه فی کلماتهم بمنطقة الفراغ.

الرابعة: إن کان الإشتراط بلسان جعل الحکم بعنوانه، فهو یخالف للکتاب والسنّة؛ مثل «أشترط أن یکون هذا لک واجباً»، دون ما إذا لم یکن کذلک؛ مثل «أشترط أن تفعل أو أن لا تفعل».

الخامسة: ما یعدّ عرفاً مخالفاً فهو مخالف وإلاّ فلا.

السادسة: إن کانت المخالفة لحکم تکلیفی مترتب علی حکم وضعی فهی مخالفة ممنوعة؛ لأنّ الأحکام الوضعیة لا تسلب عنها آثارها؛ مثل «أشترط علیک أن لا تتصرف فی العین المشتراة» وجواز التصرف مرتب علی الشراء.

السابعة: فی صورة وقوع التعارض مع الکتاب والسنّة کان المورد مخالفاً وإلاّ فلا. وهذه الصیاغة تصریح برجوع هذه المسألة إلی المسألة الثالثة والرابعة.

الثامنة: إن کانت المخالفة لمتن الحکم الشرعی فهی ممنوعة، وإن کانت للدلیل فلا مانع منها. [ ذکرها الیزدی محتملاً لها من کلام الشیخ الأنصاری. ]

إلی غیر ذلک مما ذکر من الضوابط للمخالفة الممنوعة، وکلّها [ کما هو واضح ] لا تخص الشرط، وإنما هی عامة لها ولغیرها مما یدلّل علی أنها ضوابط أصولیة.

فکان الأنسب ذکرها فی الأصول، سیما أنه أخذ فی خبر الواحد - بل فی کلّ حجّة کما ذکرنا - نفس العنوان، ومن ثمّ تتأتی فیه کلّ ما ذکر فی الفقه.

نعم، الشواهد الفقهیة التی ذکرت مع کلّ ضابطة لها أثرها فی تأمین صحة الضابطة وخَطَئِها.

ص:51

النقطة الثالثة: بیان المائز بین المسائل الأربعة
اشارة

بعد هذه المقدّمات [ والتی رکّزت علی بیان البُعد المشترک بین المسائل ] نشیر إلی المائز بین المسألة الثانیة والأخریات.

المائز بین المسألة الثانیة والمسائل الأخری

إنّ الحدیث حول الردع عن السیرة وعدمه، یفتقر إلی أمر زائد علی ماذکر فی ضابطة المخالفة، لابدّ من التوفّر علیه کی یتمّ الردع عن السیرة، وإن انطبقت علیها ضابطة المخالفة إلاّ أنها [ بدون تواجد هذه النکتة ] تکون حجّة، فی حین أنه لو کان غیرها لما کان حجّة لتحقّق المانع وهو المخالفة.

توضیح ذلک: إنّ السیرة وسائر القوانین العقلائیة المتجذرة لا یکفی فی المنع عن حجّیتها صِرفُ مخالفتها للکتاب والسنّة، وإنما لابدّ أن تکون دلالة المخالف من القوة بقدر یوازی التجذر الموجود فی القانون العقلائی کی یکون صالحاً للمنع والردع عنه، وبدونه یکون القانون المتجذر حجّة من دون أن یتأثر بهذه المخالفة.

التناسب بین قوة دلیل الردع ودرجة التجذر

وهذا القید الزائد علی ضابطة المخالفة بُعد إثباتی لابدّ منه فی تقدیم الدلیل المخالف علی المخالف المتجذر.

وذلک أولاً: إنّ البناء المتجذر یصبح کالأمر البدیهی فی حیاة العقلاء، ومن ثمّ یکون صالحاً لأن یعتمده الشارع کقرینة فی کلامه، فإذا أراد الشارع العکس [ بالمنع عنه لا باعتماده قرینة ] فَعَلَیه تأکید دلالة دلیل المخالفة کی تکون صالحة للمنع والردع.

ومن هنا کان من الضروری التناسب الطردی بین قوة دلیل الردع ودرجة التجذر، وهذا بخلاف ما لو لم یکن متجذراً؛ فإنّ صِرف مخالفته [ بإحدی الضوابط ] کاف فی المنع والردع وعدم الإعتبار الشرعی

ص:52

للمخالف.

وثانیاً: إنّ دور الشارع لایتلخّص فی التقنین والتبیین، وإنما یربّی العقلاء علی الشریعة، ومع مخالفة قانون من قوانینهم للکتاب والسنّة فهو منکر قانونی، فلابدّ للشارع أن یقتلعه من جذوره وهو لا یکون إلاّ بالردع المرکّز عنه بشکل یتناسب مع تجذره.

مائز المسألة الثالثة عن الرابعة

إنّ المخالفة المانعة من حجّیة الخبر فی نفسه هی المخالفة المستقرة، أی تعارض الخبر مع الکتاب أو السنّة القطعیة بشکل مستقر، یکون مانعاً من حجّیة الخبر، ویکون ذلک فی حالة التباین أو العموم من وجه.

وأمّا المخالفة المانعة من حجّیة الخبر عند تعارضه المستقر مع خبر آخر [ الموجب لتقدیم الآخر علیه ] هی المخالفة غیر المستقرة مع الکتاب، کما إذا کان هناک عام قرآنی وخبر خاص [ فإنه مخالف غیر مستقر، بحیث لولا تعارضه مع الخبر الآخر لخَصَّص القرآن ] وآخر غیر مخالف أصلاً معارض للخبر الأول، فإنه یتقدم علیه ویطرح المخالف غیر المستقر.

المائز بین المسألة الثالثة و الرابعة وبین المسألة الأولی

البحث فی المسألة الأولی [ المذکورة فی الفقه ] عن ماهیة المخالفة المانعة وحقیقتها، من دون فرق بین أن یکون المخالف جعلاً فقهیاً أو أصولیاً، ومن ثمّ کان البحث أصولیاً وإن ذکر فی الفقه، والبحث فی المسألتین الثالثة والرابعة فی أنه کیف تتحقق وتثبت ماهیة المخالفة المانعة، هل مع الحکومة أو مع الورود أو مع التخصیص أو مع العموم من وجه أو مع التباین أو غیر ذلک؟

الإمضاء وعدم الردع

و یبقی تساؤل أخیر: أنه لِم احتجنا إلی الإمضاء وعدم الردع، ولِم

ص:53

لا یکتفی بأدلّة الإمضاء عن البحث فی عدم الردع؟

وجوابه: إنّ الإمضاء فی نفسه بمنزلة الحجّة الإقتضائیة، والمخالفة مانع، ومن هنا کانت ضرورة البحث عن البُعدین.

ص:54

5 . سریان الإمضاء فی عمود الزمان

اشارة

وهذا البحث تذییل لبحث الإمضاء والردع ولا ینحصر فی زاویة واحدة، وإنما یکون فی زوایا متعددة.

زوایا بحث إمضاء الإعتبارات العقلائیة أو ردعها

الزاویة الأولی: البحث فی تبدّل الموضوع [ الموجب لتبدّل الحکم ] التی قد یکون بظهور مصادیق جدیدة، أکثر تعقیداً مما کانت علیه فی عصر تشریع الحکم.

الزاویة الثانیة: فی البحث عن المحمول من جدید لمعرفة أنه من أیّ سنخ؟ [ هل هو تنفیذی ولائی أو قضائی أوتشریعی ثابت، بعد أن کان التصور السابق عنها أنها جمیعاً أو فی بعضها المعیّن تشریعیة ثابتة. ]

الزاویة الثالثة: البحث عن طروّ عناوین ثانویة علی القضیة الشرعیة، ومعه یتمّ البحث عن طبیعة العلاقة بینهما، وأنّ التنافی دائمی أو اتفاقی وغیر ذلک من الحیثیات.

الزاویة الرابعة: البحث فی موضوع الحکم الشرعی ثانیة للتأکد من أنّ المدلول المطابقی هو الموضوع حقیقة [ کما کان یفهم ]، أو أنّ الموضوع هو الطبیعی الموجود فیه؟ [ کما لاحظنا ذلک فی خبر الثقة والإطمئنان. ]

الزاویة الخامسة: [ والتی ستکون محور حدیثنا هنا ] هل الموضوع الذی تم إمضاؤه أو ردعه کالربا [ الذی هو المفاد المطابقی للدلیل ] هو الموضوع الذی أنیط به الحکم الشرعی [ کما کان یتصور ] أو لا، بل الموضوع شیء آخر کان یصدق علی الربا آنذاک، و هذا التشریع مما أوجب حرمة الربا، وأما الآن فالربا [ الذی هو المفاد المطابقی للدلیل ] و إن کان موجوداً إلاّ أنه لیس مصداقاً للموضوع الأصلی بعدُ فلا یکون حراماً حینئذ؟

ص:55

الزاویة السادسة: تغیّر الحکم وثباته بلحاظ الدرجة الإحرازیة للحکم؛ فإذا کانت ظنیة کالظهور کان قابلاً للتبدل، وإذا کانت قطعیة بحسب الدلیل المحرز فی نفسه لا بحسب وقوع الإختلاف فیه لم یکن قابلاً للتبدل.

وبعبارة أخری: إنّ موضوع الحرمة هل هو الذی أخذ فی لسان الدلیل وهو الربا [ ومن ثمّ تکون حرمته ثابتة فی کلّ زمان ومکان ] أو الموضوع عدم استئصال رؤوس الأموال الضعیفة، أو إضعاف رأس مال المسلمین [ أعم من بیت المال أو الأموال الخاصة ] وهو کان ینطبق علی الربا آنذاک [ بعد أن کانت العملة بید غیرهم ولم یکن الإقتصاد مقنَّناً ]، وأمّا الیوم فالربویات لیس فیها إضعاف لرأس مال المسلمین، حیث صار الإقتصاد مقنَّناً ومنضبطاً ومغلقاً، فیبقی الحرام ما کان فیه إضعاف لا الربا السائد آنذاک.

ومثله دیة العاقلة، فهل هی حکم شرعی فی نفسها، أو أنّ الحکم الشرعی هو عقد ضمان الجریرة الذی کان أحد مصادیقه ضمان العشیرة، وأمّا الآن وبعد تفکک العلاقة الأسَریة، فلا تکون العشیرة مصداقاً للحکم الکلّی؟

مناط الإمضاء الشرعی للإعتبار العقلائی
اشارة

لابدّ من الإلتفات [ قبل الدخول فی بحث الزاویة الخامسة ] إلی أنّ القضیة العقلائیة الممضاة لا یلزم دوماً أن تکون صغری لکبری [ وإن ذکرنا أنّ الإعتبار العقلائی یکون فی الرتبة الثالثة - حسب التسلسل الطبعی بین العقل والشرع والعقلاء - وبالتالی فهو تطبیق للشرع، کما أنّ الشرع تطبیق بالنسبة إلی العقل ]؛ وذلک لما ذکرناه من أنّ لفیفاً من العقلاء لم یتقید بالدین، ومن ثمّ اضطروا إلی تقنین مجموعة من القوانین یملأ بها المساحة الخاصة بالشرع، والشرع لم یلغ کلّ هذه الإعتبارات [ بأن یؤسّس شیئاً جدیداً ] وإنما نظمها

ص:56

وهذّبها وأمضاها.

ومثل هذه الإعتبارات الممضاة هی فی عرض الشارع وفی مصاف القضایا الشرعیة، لا فی طولها ومن صغریاتها، [ نظیر الأحکام الشرعیة التی تکون فی مصاف الأحکام العقلیة ولیست من صغریاتها، کالأحکام اللازمة للحکم العقلی بناء علی الملازمة ]، والإمضاء الذی یتناول مثل هذه الإعتبارات لیس أکثر من اعتبار شرعی مطابق لهذه الإعتبارات العقلائیة، ومن ثمّ لو نسخ العقلاء اعتبارهم لا یتأثر اعتبار الشارع ویبقی ثابتاً لا یزول(1)؛ لأنّ الإمضاء لا یلزمه التقید باعتبار العقلاء والدوران مداره وجوداً وعدماً، حدوثاً وبقاءً؛ حیث إنّ الإمضاء قد یکون لموضوع الحجّیة العقلائیة و المعتبر هو أیضاً من قبلهم، فیرهن الشارع اعتباره بالموضوع العقلائی، فإنه هو الموضوع لحکمه، ومعه لو غیّر العقلاء محمولهم لا یتأثر اعتبار الشارع بعد أن کانت ماهیة البیع مازالت موجودة عند العقلاء، غایتها أنها بلحاظ المحمول أضحت فاسدة بنظرهم.(2)

أو أنّ الإمضاء یکون للبیع الصحیح عقلائیاً، ولکن لا بنحو الأبد بحیث یعلّق بقاء الصحة الشرعیة علی بقاء الصحة العقلائیة، وإنما الصحیح المعاصر له، وإن تبدّل اعتبارهم للصحة إلی فساد بعد ذلک.

ص:57


1- (1) . [س] وهل یعنی کلامکم أنه فی الإعتبارات التطبیقیة یتحقق الإنعدام دائماً بانعدام الإعتبار العقلائی دون الإعتبارات العرضیة، وإلاّ لم بدأتم الکلام بالتنبیه علی وجود اعتبارات عقلائیة عرضیة؟ [ج] لأنّ شبهة انعدام الإمضاء بانعدام الإعتبار العقلائی تأتی فی التطبیقی، ومن ثمّ نوّهنا بوجود الإعتبارات العرضیة، وأنها لا تستلزم الإنعدام دوماً، وإن کان الحق أنّ الإعتبار التطبیقی أیضاً لا یستلزم انعدام الإمضاء بانعدامه فی کلّ الحالات، وإنما فی حالة دون أخری.
2- (2) . [س] فی مثل هذه الحالة الإمضاء یکون لاعتبار الموضوع من قبل العقلاء، ومن ثمّ نحتاج إلی جعل شرعی آخر للحجّیة وهو بطبیعة الحال سیکون تأسیسیاً؟ [ج] نعم، ویسمّی بالإمضاء بالمعنی الأعم فی قبال الإمضاء بالمعنی الأخص الذی یکون إمضاءً للمحمول العقلائی، وفی قبال التأسیس البحت.

ومن هنا لابدّ أن ندقّق جیداً فی أنّ الشارع بأیّ نحو أناط إمضاءه للإعتبار السابق [ للموضوع أو للمحمول أو لهما معاً، دائماً أو خصوص المعاصر؟ ] حینئذ نتمکن أن نحکم أنه من الإمضاء الثابت أو الممکن الزوال.(1)

فقه المقاصد

وأیضاً لابدّ من الإلتفات إلی مسألة أثیرت من قدیم فی أوساط الأصولیین والمتکلّمین، وهی أننا هل نبنی علی فقه المقاصد أو فقه الأحکام؟ بمعنی أننا عندما نستظهر هل نجمّد علی المفاد المطابقی [ وهو فقه الأحکام ] أو نفتّش عما وراء ذلک الحکم من مقصد وغایة وملاک [ وهو فقه المقاصد ] بنحو یکون المدلول المطابقی مجرد تطبیق للملاک؟

وقد تبنّتْ مدرسة الرأی هذه الوجهة وإن کان المقصد ظنیاً، فی حین أنّ مدرسة الإمامیة لم تقبل المقصد الظنی، وأنّ العلة إنما یؤخذ بها إذا ذکرت فی لسان الشارع.

وقد أجاد المیرزا النائینی (قدس سره) فی صیاغة هذه الوجهة فی قالب فنی، حیث ذکر أنّ العلّة التی یؤخذ بها لابدّ من ذکرها فی الدلیل الشرعی، ومع حرف التعلیل، ومع شرط فهم العرف لها أنها علّة کقوله: لأنه مسکر.

ولا یخفی أنّ هذه المسألة وثیقة الصلة بالزاویة التی نروم البحث عنها وإن کانت أعم؛ حیث لا یخصّصون البحث بالإعتبارات العقلائیة الممضاة وإنما یجرونها فی عموم الأحکام الشرعیة، فی

ص:58


1- (1) . [س] إذن فی مثل هذه الحالة لابدّ من قرینة معینة لکیفیة الإمضاء ومتعلّقه، ومعه لا معنی لما ستذکروه من أنّ الأصل الأولی الثبات والدیمومة؟ [ج] بل هذا هو الأصل الأولی مع الشک بأدلّة عدم النسخ المثبتة عدم تقیده بالزمان ودوامه واستمراره، والقرینة إن کانت علی أنّ الإمضاء متعلّق بالمحمول العقلائی مطلقاً تکون مخصصة لأدلّة النسخ.

حین أنّ مسألتنا خاصة فی الموضوعات العقلائیة الممضاة؛ حیث یبحث عن أنّ الإمضاء هل کان لها أو لموضوع آخر کان الموضوع المطابقی قد صادف أنه مصداقه عند التشریع؟

الأصل الأولی هو الثبات

الأصل الاولی فی کلّ دلیل شرعی الثبات بمفاده المطابقی من دون فرق بین أن یکون تأسیساً أو إمضاءً، بدلیل «حلال محمد (صلی الله علیه و آله) حلال إلی یوم القیامة وحرام محمد (صلی الله علیه و آله) حرام إلی یوم القیامة» وأمثاله من الأدلّة علی العموم الأزمانی وعدم النسخ.

فرفع الید عن المفاد المطابقی یحتاج إلی قرینة مخصصة لأدلّة النسخ، وإلاّ مع عدم وجود القرینة وعند الشک فالمرجع هو الأصل الأولی.

قرائن عدم عمومیة الإمضاء
اشارة

وقد تذکر مجموعة من القرائن التی یمکن الإعتماد علی أحدها فی مسألتنا لاستظهار أنّ الموضوع غیر ما ذکر مطابقةً فی الدلیل، وبالتالی فإمضاؤه لیس عاماً، وإنما مادام یصدق علیه الموضوع الأصلی المستظهر بواسطة القرینة، وهی:

1. قرینة الملاک والغرض [ فقه المقاصد ].

2. استظهار أنّ الموضوع الممضی هو الطبیعی الموجود فی المذکور مطابقة، کما زعمناه فی الإطمئنان وخبر الثقة.

3. قرینة الإرشاد، وأنّ المطابقی لم یجعل وإنما مرشد إلیه.

4. انعدام مصداقه واستحداث مصداق جدید.

تقییم تلک القرائن

ومدی صلوحها للقرینیة علی عدم إرادة المفاد المطابقی جداً.

أما القرینة الأولی: فقد قَبِلَها الأعلام بشرط أن تصاغ فی دلیل الشارع وتجعل بشکل صریح فی التعلیل وبعنوان مفهوم فی العلّة،

ص:59

ولا یکفی صرف الحدس والظن بها فی تقیید الحکم وتخصیصه أو العکس.

وغالب الإثارات الفقهیة الجدیدة [ التی تلتقی تحت عنوان تأثیر الزمان والمکان فی تغیّر الأحکام الشرعیة ] تنطلق من هذه القرینة، ولکن المؤسّف أنها کثیراً مّا تعتمد الظن والحدس فی اقتناص هذه القرینة، وهو لا یکفی فی التلاعب بالحکم.

وما تردّد فی کلمات بعض الأعلام [ کالشهید الصدر وغیره، من التعبیر بروح الشریعة وجعله معیاراً فی تقیید بعض الأحکام ] لیس هو من قبیل الإعتماد علی الظن بالملاک والحدس به، وإنما هو من التمسک بجعل عام فوقانی فی تقیید جعول تحتانیة نازلة تصادفه أو تنافیه. فلیس هو من رفع الید عن المفاد المطابقی بقرینة التکهّن بالملاک، وإنما ینطلق من قانون التنازع بین القوانین، وضرورة عدم مصادمة التشریعات الفرعیة لکلّیات الشریعة وأساسیاتها.

فإذا وجدنا أنّ التمسک بإطلاق قانون فرعی من قبیل «من حاز ملک» و«من أحیی أرضاً فهی له» یصطدم مع حکم مصرف الأنفال، وأنه لسدّ حاجة المسلمین، فلابدّ من تقنینه بشکل لا یصادم سدّ الحاجة، فلا یسمح والحالة هذه لأصحاب رؤوس الأموال بأن یحوزوا کیف یشاءوا أو متی شاءوا.

وأما القرینة الثانیة: فهی مقبولة أیضاً، ولکن علی شرط الإلتزام الدقیق بقواعد الظهور المدونة فی الأصول، من قبیل قاعدة احترازیة القیود وأمثالها.

وأما القرینة الثالثة: فتقبل مع القرینة الخاصة وضمن الضبط الأصولی [بعد أن کانت القاعدة الاولیة لصالح المولویة بل شطر منه، کما ذکروا، وهو التعیینی التعینی النفسی ]، والقرینة علی الإرشاد من قبیل وجود حکم عقلی مستقل، فنعلم أنّ الشارع لیس فی صدد تأسیس مستقل، خاصة إذا کان البیان الشرعی فیه بُعد تطبیقی لذلک المستقل.

وأما القرینة الرابعة: فنحن نقبل أنّ هناک کثیراً من الموضوعات

ص:60

الشرعیة قد حصل خلط بین ماهیتها ومصادیقها التی کانت آنذاک، ومن هنا کان من الضروری تحریر ماهیة الموضوع وتجریدها عن مصادیقها، لأنها هی الموضوع لا غیر، ومن ثمّ یمکن تطبیقها علی کلّ مصداق جدید لظهور الماهیة فیه، ولکن کلّ هذا لابدّ أن یتمّ بحذر أصولی دقیق.

وأما غیر هذه الخطوة کتوسعة الماهیة من جانب وتضییقها من جانب آخر، [ کما ذکر فی الربا؛ حیث قیّد بالمجحِف، ومن ثمّ حرّم - فی عصرنا هذا - الربا الخارجی دون الداخلی ] فلا دلیل علیه.

نتیجة ما تقدّم

ومما تقدّم یعرف: أنّ الجمود ورفض کلّ المحاولات الجدیدة و إبقاء ما کان علماً، کان غیر صحیح.

وبالمقابل لابدّ أن تکون المحاولات منهجیة، وعلی ضوابط علم الأصول وأسسه لا مرتجلة ومن دون غطاء أصولی، وإنما تنطلق من الإستسحان والتجاوب مع متطلبات العصر کیف ما کان، ولو کان ذلک علی حساب الفقه الإمامی. (1)

ص:61


1- (1) . [س] إنّ کلامکم انصبّ علی تقییم الظاهرة الفقهیة الجدیدة، وإلاّ قد یقال بضرورة إعادة النظر فی کثیر من المعاییر الأصولیة وکثیر من الأصول الأولیة، فیعاد النظر فی العموم الأزمانی مثلاً ومدی صلاحیة الإعتبار المعاصر المتجذر لکونه قرینة حالیة مقیدة للعموم الأزمانی، کذا المخصصات المنفصلة - بالمعنی الأعم - الواردة بعد العمل بالعام وغیر ذلک؟ [ج] نحن لا نمنع من إعادة النظر فی ما ذکرت، وإنما کنّا فی صدد بیان أنّ هناک ظاهرة حدیثة وهی فقهیة وإن هذه کانت بلا غطاء أصولی فهو تفقه من دون منهج، فلابدّ من اخضاعها للقواعد الأصولیة التی أشرنا إلیها، أو مراجعتها أولاً وتحدیدها ثمّ النزول لحلبة الفقه.

ص:62

2 . التعبد بالظن

اشارة

ص:63

ص:64

1 . معانی إقتضاء الحجّیة

ألفت الآخوند صاحب الکفایة إلی أنّ الظن لا یتصف بالحجّیة العقلیة والشرعیة بالذات، بمعنی أنه لیس هو علّة تامة للحجّیة [ بقسمیها الشرعیة والعقلیة ] بل ولا مطلقاً [ أی ولا مقتضی أیضاً للحجّیة ]، علماً أنّ اقتضاء الحجّیة یقع علی معان:

1. وجود دلیل بالفعل یدلّ علی حجّیته بعمومه بعد عدم وجود المانع.

فإن کان الآخوند أراد نفی هذا المعنی من الإقتضاء للحجّیة فی خصوص الحجّیة الشرعیة، فهو مقبول بل قَبِلَه أغلب الأعلام.

2. ما ذکره الفشارکی من أنّ صرف الإحتمال [ فضلاً عن الشک والظن ] فیه درجة من الکاشفیة، وعلی هذا الأساس کان فیه اقتضاء التنجیز عقلاً، ما لم یأت مؤمّن یؤمّن عنه یکون مانعاً من هذا الإقتضاء. وقد قرّر الخوئی هذا المعنی فی بدایة أصالة الإشتغال ولم یذکره هنا.

وهذا المعنی سلیم ونقبله فی الظن، وبالتالی نقول: إنّه مقتض للحجّیة عقلاً، بمعنی أنّ فیه درجة من الکاشفیة توجب التنجیز لولا المؤمّن.

3. وجود ملاک فی الظن یجعله صالحاً لأن یعتبره الشارع.

وهذا المعنی أیضاً نقبله فی الظن، فهو مقتض للحجّیة الشرعیة بمعنی أنّ فیه ملاکاً اقتضائیاً یجعله مؤهّلاً لأن یعتبره الشارع ویجعله.

ص:65

کما أنّ هناک بحثاً فی موضوع الحجّیة، هل هو الدرجة من الکاشفیة [ الظن ] أو منشؤه وموجبه [ خبر الواحد والظهور ]؟ وتحدید أنّ المعتبر من الظن هو النوعی أو الشخصی یتوقف فی الجملة علی تحدید موضوع الحجّیة، وأنّه الظن أو موجبه. وقد أثار الأعلام هذا البحث فی تضاعیف کلماتهم فی الظن، علماً أنا قد انتهینا فی بحث القطع إلی أنّ الحجّیة للدلیل لا لدرجة کاشفیة القطع خلافاً لما یظهر [ وإن لم یقصدوه ] من کلمات الأعلام.

ص:66

2 . إمکان التعبد بالظن

اشارة

إنّ حدیث الأعلام فی هذا البحث یکون فی الإمکان العقلی، فیقع بحثهم - حصراً - عن وجود أدلّة عقلیة مانعة من التعبد وتقییمها، بعد أن کان الإقتضاء موجوداً [ کما تقدّم فی الرقم الأول ].

ولکن یلاحظ: أنهم فی بحث حجّیة خبر الواحد والظواهر یشیرون إلی دعوی للأخباریین، وهی وجود أدلّة شرعیة مانعة عن العمل بالظن بشکل مطلق لا فی خصوص خبر الواحد أو الظهور [ کالآیات الناهیة عن العمل بالظن التی ادّعی إباؤها عن التخصیص ]، ومع هذا کان الأنسب استقدام ذلک البحث وجعله شقاً ثانیاً لبحث إمکان التعبد بالظن، وهو إمکان التعبد بالظن شرعاً.

محاذیر ابن قبة
اشارة

و ابن قبة ألفت إلی إشکالین فی التعبد بالظن یمنعان من القول بالإمکان العقلی:

الإشکال الأول: لو جاز الإخبار عنهم (علیهم السلام) بخبر واحد ظنی لجاز الإخبار عنه تعالی کذلک، وهو معلوم البطلان إجماعاً فالملزوم مثله.

وتقریب الملازمة: إنّ حکم المعصوم (علیه السلام) حکم اللّه تعالی، فمع إمکان الإخبار والظن عنه، معناه إمکان الخبر عنه تعالی ظناً وهو باطل إجماعاً.

الإشکال الثانی: لزوم تحلیل الحرام وعکسه، ومنه انفتح البحث فی کیفیة الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی.

جواب الشیخ الأعظم عن الإشکال الأول

هناک إجماع - لو تم - علی عدم الوقوع، وهو دلیل تعبدی فیقتصر فیه علی مورده وهو الإخبار عنه تعالی، هذا أولاً .

وثانیاً: إنّ الإخبار الظنی عن النبی (صلی الله علیه و آله) محال إذا کان بنحو الموجبة

ص:67

الکلّیة، بما فی ذلک أسس الدین وأصوله، وأمّا إذا کان بنحو الموجبة الجزئیة فی تفاصیل العقیدة والفروع فلا مشکلة فی الإخبار الظنی بها عنه (صلی الله علیه و آله).

وثالثاً: بل إنّ الدین [ بنحو الموجبة الکلّیة ] بُلّغ وبُثّ واُعلن بنحو القطع، وأما الظن فهو فی الإخبار عنهم بالواسطة وهو غیر محال.

هذه أجوبة الشیخ المختصة بالإشکال الأول، وسنری أنها أجوبة قانونیة عقلیة قد اعتمد علیها الأعلام فی الفقه.

جواب آخر من الشیخ

هناک جواب آخر منه إلاّ أنه مشترک بین الإشکالین وهو التزام العقلاء بالإمکان حتی یثبت المانع، وهو تطبیق القاعدة الشهیرة التی ذکرها ابن سینا، ولو ثبتت فی القانون - کما ذکر الشیخ - ترتبت علیها آثار جمّة، ولا تخص الطرق وإنما تعمّ حتی الإعتبارات الواقعیة.

ولابدّ من الإلتفات إلی أنه قد ذکرت تفسیرات ثلاثة لهذه القاعدة، واحدة للشیخ وأخری للآخوند وثالثة للسیّد الخوئی وسنعرض لها بعدئذ.

کما أنه لا تنافی بین إمکان التعبد بالظن وبین کون الأصل العملی حرمة العمل بالظن کما سنوضّح.

عرض آخر من البحث
اشارة

هناک عرض آخر حدیث ذکر فی مجلة تراثنا حاول أن یستفید من هذه الشبهة فی التسویة بین التجربة البشریة والقانونیة وبین القانون الدینی، وهو: إننا إذا فتحنا باب الظن والتخمین فی الشریعة وتناسینا وأغفلنا سماویة الشریعة وخلودها وسرّ وجودها الذی هو عجز البشر عن الإهتداء للکمالات الواقعیة، لا یصبح فرق بینها وبین التجربة البشریة، فإنها مثلها تصیب وتخطئ ولا معنی لأولویة الشریعة

ص:68

الظنیة ونسبتها إلی السماء.

والسیّد الجلالی أجاب عن هذه الشبهة: أنه من قال إنّا نعتمد الظن فی الشریعة؟ بل إنما مسلکنا مسلک السیّد المرتضی و ابن ادریس و ابن قبة، و هو العمل بالإطمئنان و الموثوق به.

عرض الشبهة بلسان الفخر الرازی

عرض ثالث للشبهة أرسله أحد مشایخ الشام لأحد علماء البحرین یستهدف منها ضرب العصمة المطلقة التی یقول بها الإمامیة للرسول والأئمة (علیهم السلام) .

وهذا العرض مقتبس من الفخر الرازی، وهو: أنّ الإمامیة إذا سوّغت العمل بالظن یلزمهم القول بالعصمة النسبیة فی الإمام لا المطلقة، وذلک لأنّ الإمامیة یستدلّون علی إطلاق العصمة بأنّ الحق إذا نصب شخصاً وکان یحتمل الخطأ والزلل فی حقه، فأمر عبیده باتّباعه مطلقاً أمر منه تعالی بمعصیته، وهو ممتنع، ومن ثمّ کانت العصمة ضرورة فی السفیر الإلهی، حینئذ علیهم أن لا یعملوا بالظن لوجود المحذور فیه عینه، أو یرفعوا الید عن ضرورة العصمة.

وأجاب عنه الشیخ البحرانی بأنّ العمل بالظن مع الضرورة والإضطرار کأکل المیتة لا ابتداءً.

الصیغة الحدیثة للشبهة

وعرض رابع صیغ حدیثاً: أنّ الإمامیة أجابوا عن شبهة ابن قبة بأنّ الإصابة الغالبیة فی الظن کافیة عن قبح الأمر باتّباعه، ومن ثمّ یقال لهم: هلاّ قلتم بذلک بعینه فی الإمام بدلاً من اشتراط عصمته، فإنّ إصابته الغالبة تکفی فی الأمر باتّباعه ولیس شرطاً أن یکون دائم الإصابة.

وهذا العرض استهدف إبطال شرطیة النص علی الإمام بالإستعاضة عنه بالعدالة والفقاهة، حیث إنّهما یؤمّنان الإصابة الغالبة فی الزعیم العلمی أو الإداری.

ص:69

عمق الشبهة الأولی

من الصیاغات المتقدّمة یتّضح عمق الشبهة الأولی التی أثارها ابن قبة وما یترتب علیها من لوازم ونتائج خطیرة، والغریب أنّ کثیراً من الأعلام بعد الشیخ أهمل الحدیث حولها، مع أنّ خطورتها من جهة وأهمیة الأجوبة التی ذکرها الشیخ [ بما تستبطنه من قواعد قانونیة هامة فی نفسها لا یستغنی عنها ] تستدعی اهتمام الأعلام بها علی حدّ اهتمامهم بالشبهة الثانیة.

تقییم الجواب الأول من الشیخ

فی الجواب الأول للشیخ مسامحة؛ حیث یقبل الإمکان العقلی فی الإخبار عن اللّه تعالی ظناً وأنّه لا مانع عقلی منه، غایة الأمر یمنع عنه الإجماع التعبدی. وحیث إنّ حقیقة الإخبار عنه تعالی هی السفارة الإلهیة، فکلامه یعنی عدم شرطیة المعجز لولا الإجماع، مع أنهم ذکروا أدلّة متعددة علی ضرورة المعجز، وأنها هی التی تکسب الخبر عنه تعالی صفة العلمیة، وبدونه یمتنع عقلاً أن یکون الخبر عنه تعالی حجّة.

تعلیق المحقق العراقی

وقد علّق الشیخ العراقی علی جواب الشیخ بإمکان التفکیک فی الخبر عن اللّه تعالی بین الخبر بالحکم التکلیفی عنه تعالی فیمکن التعبد، وبین الخبر الذی یلزمه الإخبار عن نبوة نفسه فلا یکفی الظن ویمتنع التعبد به، ولابدّ من العلم الوجدانی، إلاّ أنه استدرک علی الشق الأول بأنه لا یکون حجّة، لأنه حدسی لا حسی.

وفی الواقع إنّ هذا الإستدراک منه (قدس سره) تخطئة لما ذکره أولاً من إمکان التفکیک، وأنّ الخبر عنه تعالی مهما کان المخبر به لا یکون إلاّ من خلال قناة النبوة والإمامة، ومعه لابدّ من العلم ولا یکفی الظن.

ص:70

تقییم الجواب الثانی للشیخ

الحق أنه جواب متین، وهو عین ما أثرناه فی بحث الإعتبار من أنّ هناک تناسباً طردیاً بین درجة الملاک ودرجة الدلالة علیه وإحرازه.

ویدلّ علی ذلک:

الأول: حکم العقل العملی بأنّ الغرض والحکم [ من دون فرق بین أن یکون عقائدیاً أو فرعیاً ] کلّما ازداد أهمیةً کان التحفظ علیه أکثر بالضرورة لضمان تحصیله وتحقیقه، ولا یکون إلاّ بالعلم. وأساسیات العقیدة والفروع بدرجة من الأهمیة تستوجب أن یکون حفظها بالعلم.

والثانی: تقدّم أنّ الإعتبار علی وزان التکوین، والتکوین کلما کان أشدّ وجوداً کان أشدّ أثراً وظهوراً وجلاءً. ومن ثمّ نلاحظ أنّ الأدلّة علی التوحید والمعاد [ لقاء اللّه ] أجلی من الأدلّة علی النبوة، والأدلّة علی النبوة العامة أجلی من الأدلّة علی النبوة الخاصة، والأدلّة علی النبوة أجلی من الأدلّة علی الإمامة. کلّ ذلک تناسباً مع الترتب الطبیعی بین هذه الحقائق من حیث الدرجة الوجودیة.

وبحکم موازاة الإعتبار للتکوین لابدّ أن یکون الإحراز له أشدّ ظهوراً فی الأهمّ ملاکاً.

والثالث: فی الإعتبار العقلائی نجد ظاهرة التناسب الطردی واضحة، فإنهم یعیدون أهمیة کبری لأساسیات اعتباراتهم دون الجزئیات والتفاصیل فتجدهم أنهم یعتنون بها ویبالغون فی حفظها ودیمومتها بنفس الدرجة.

وبما أنّ الإعتبار الشرعی یوازی الإعتبار العقلائی لا یشذّ عنه فی هذه الحیثیة. والإستقراء کفیل فی إثبات ذلک، وأنّ الشارع جری علی ما جری علیه العقلاء.

إتقان جواب الشیخ

وممّا تقدّم یتضح أنّ ما أجاب به الشیخ لیس بدعاً فی الفکر الدینی

ص:71

والشریعة، وإنما هو مقتضی القانون العقلی والعقلائی، وموافق للظاهرة التکوینیة، والذی یرصد حرکة الفقه یلاحظ بوضوح أنّ الفقهاء لا یعتمدون علی القاعدة الفقهیة ذات الفروع والشعب الکثیرة إذا کان دلیلها روایة واحدة عامة ما لم تعضد بالشهرة وأمثالها، انطلاقاً من أنّ الدلیل لابدّ أن یتناسب طرداً مع قوّتها ومحوریتها.

من هنا کان من الضروری تصنیف الحجج والأمارات إلی درجات بعد أن کان بعضها لا یصلح دلیلاً علی إثبات قواعد أساسیة یبنی علیها فی أبواب کثیرة، وإنما تحتاج إلی نمط قوی من الأدلّة یتناسب طرداً مع قوّتها، بعد الإلتفات إلی أنّ عملیة التصنیف ممارسة وبشکل ارتکازی فی الفقه، ومن هنا تجدهم یعبّرون: کیف یثبت هذا الحکم ولیس فیه إلاّ روایة ذکرها الشیخ ولم یذکرها الکلینی و الصدوق، ولم یفت بها أحد؟(1)

نتائج کلام الشیخ

ویستفاد من جواب الشیخ هذا:

أولاً: التدلیل علی مدّعی الآخوند فی بحث اجتماع الأمر والنهی وهو: أنّ الدلیل الأقوی دلالة أقوی ملاکاً فالحکم فیه فعلی، والأضعف دلالة أضعف ملاکاً فالحکم فیه اقتضائی.

ص:72


1- (1) . [س] ما ذکره الشیخ تصنیف للأحکام إلی صنفین علمی وظنی، والحجج بهذا القدر مصنّفة؟ [ج] ما ذکره الشیخ وما هو واقع فی الفقه أکثر من صنفین؛ فإنّ الأحکام العلمیة علی درجات والظنیة علی درجات، وهذا لم یبلور فی الأصول، إلاّ أنّ الحجج مصنفة، والذی یحتاج إلی تصنیفٍ هی درجات الحکم وتمییز أسسه وتفاصیله فی الفقه لکی نضع إزاء کلّ درجة ما یوازیها من الحجج المذکورة فی الأصول [المقرّر] ما ذکرته صحیح، ولکن هناک خلل أصولی، فخبر الواحد - مثلاً - لیس حجّة مطلقاً و لم یثر التقیید فی الأصول، و کذا لم یثر فی الأصول - مثلاً - لابدّیة توفر حجّتین فی بعض المسائل الفقهیة، بل لم یثر أنّ الظن درجات.

ثانیاً: الإجابة عن الشبهة التی أثیرت حدیثاً(1) حیث إنّ الشریعة لم تشذ عن التکوین والإعتبارات العقلائیة فلم تعتمد الظن فی کلّ تفاصیلها کی یکون حالها حال التجربة القانونیة البشریة، وإنما اعتمدت العلم فی أسسها تارکة الظن للجزئیات والتفاصیل.(2)

ثالثاً: الإجابة عن شبهة الرازی التی نقلها الشیخ الشامی، حیث اتضح أنّ العصمة ضرورة لتأمین العلم فی المساحة التی أشرنا إلیها علی الأقل، [ وهی أسس العقیدة والفروع ] فلابدّ من معصوم بعد أن لم تکن کلّ الشریعة علی وتیرة واحدة، کما یقرّ هو أنّ هناک أصولاً وفروعاً، وأنّ منها الضروری والأساسی وغیره، ونحن لم نقبل الظن فی الجمیع، وإنما فی خصوص التفاصیل والجزئیات.

رابعاً: ضرورة مدارسة معارف الدین، لحفظه عن اندراسه و لبقاء أسسه علمیة جیلاً بعد جیل، ومنه یتضح أنّ واحدة من أهمّ مسؤولیات الحوزات العلمیة هی حفظ هذه الأسس علی مستوی العلم.

فتلخّص مما تقدّم:

[ 1 ] إنّ أساسیات الدین لابدّ أن تکون قطعیة علی صعید الأصول والفروع، فلا یکفی فیها الإخبار الظنی، ویمتنع التعبد بالظن فیها دون التفاصیل والجزئیات علی الصعیدین فیکفی الظن فیها.

[ 2 ] ومنه تتضح ضرورة تعیین الإمام بالنص السماوی وضرورة عصمته لتأمین العلم فی الأخذ عن السماء فی الأساسیات.

ص:73


1- (1) . مجلة تراثنا، عدد 35 و 36
2- (2) . [س] ما زالت الشریعة تساوی التجربة البشریة؛ حیث إنّ فی الثانیة أیضاً علمیات وظنیات، وبالتالی لم یوضّح الفرق عنها کی تکون الأولویة لها؟ [ج] الفرق أنّ القانون البشری علی مستوی السَّنّ (مقام الثبوت) ظنی، والقطعی فیه یتلخص فی مقام الإثبات والتبلیغ، فی حین أنّ قطعیات الشریعة مضمونة الحقّانیة والصواب؛ لأنها قطعیة علی مستوی سَنّ القانون باعتراف المستشکل فإنه من ربّ السماء، وعلی مستوی التبلیغ، کما أنّ الظن فی الشریعة غالب المطابقة - کما سیتضح - فی حین أنّ الظن فی القانون البشری لا تحرز مطابقته الغالبیة، بدلیل أنّ هناک مجموعة من الظنون لم یعتمدها الشارع.

[ 3 ] بل ضرورة تأمین القنوات والوسائل العلمیة حفظاً لهذه الأسس من الضیاع، وصیانة لها من الإندراس، بل إدامتها علمیة کما هو المطلوب فیها المناسب لأهمیتها ومحوریتها.(1)

تقییم الجواب الثالث من الشیخ

فالحق أنه متین جداً ومکمّل لسابقه؛ حیث إنه یلخص ظاهرة التعبد بالظن بالتفاصیل علی صعید الأصول والفروع فی الإخبار بواسطة عن اللّه تعالی، أی فی الإخبار عن المعصوم (علیه السلام)، وأما فی الإخبار الأول الذی هو الإخبار عن اللّه تعالی فلابدّ أن یکون قطعیاً، مع ضرورة استمرار القطعیة فی الأحکام الأساسیة إلی قیام الساعة.

وبتعبیر آخر: هذا الجواب یلفت إلی نکتة أخری وهی ضرورة کون الملقی الأول قطعیاً «لا یؤدّی عنک إلاّ أنت أو رجل منک» حتی فی أدق التفاصیل، وأما کیفیة الإلقاء والملقی إلیه فلا مانع أن تکون ظنیة، ولکن فی التفاصیل دون الأسس.

المائز بین الجواب الثانی والثالث

وبهذا یتبلور الفرق بین هذا الجواب وسابقه، حیث إنّ السابق کان فی صدد بیان ضرورة القطعیة فی الأسس [ من دون فرق بین الخبر عنه تعالی مباشرة أو بالواسطة، ومن کلّ الجهات علی مستوی الملقی والملقی إلیه وکیفیة الإلقاء ] فلابدّ أن یکون الملقی فیها قطعیاً بأن یکون معصوماً

ص:74


1- (1) . [س] الظاهر من جواب الشیخ أنّ تأمین العلم من مهام الإمام بأن یعرضها بکیفیة تبقی معها علمیة إلی الأبد لا من مسؤولیة الرعیة، فی حین یظهر منکم أخیراً أنّ المسؤولیة مشترکة، فلولا دور الحوزات العلمیة لتأثرت هذه الأسس ولزالت قطعیتها علی الأقل. [ج] المسؤولیة مشترکة، ولکن الحال نظیر (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) ففی التقدیر الکلّی الإلهی وجود حَفَظَة للقرآن، کذا ما یرتبط بالأسس ففی التقدیر أن تبقی علمیة بِیَد الأتباع وجهودهم، ودور الفرد أن یکون مصداقاً «اجعلنی ممن تنتصر به لدینک ولا تستبدل بی غیری».

[ کما فی الخبر عن السماء ] أو تواتراً [ کما فی الخبر عن المعصوم ] کذا لابدّ أن تکون الکیفیة قطعیة بأن تکون نصاً فی المضمون، ومثله لابدّ أن یکون الملقی إلیه قطعیاً بأن یکون مجموعة من الناس یتحقق من نقلهم التواتر.

وأما الجواب الثالث فیتحدث عن خصوص الملقی دون الملقی إلیه ودون کیفیة الإلقاء، وعن خصوص الأول الذی ینقل عن السماء مباشرة دون من ینقل بالواسطة.

الإستدلال علی رأی الشیخ (قدس سره)

والدلیل علی ما ذکره:

[ 1 ] إنّ دور الملقی الأول یختلف عن دور من ینقل عنه، فإنّ الأول مهمّته الصدع بالرسالة والبثّ والنشر والإعلان الرسمی عن الفکرة والحکم، فهو الناطق الرسمی عن السماء، بخلاف غیره فإنه مجرد ناقل ومخبر و راوٍ.

ومن البیّن أنّ الناطق الرسمی منزّل فی عالم الإعتبار بمنزلة المقنّن، ومن هنا جاء «أنّ الرسول دلیل عقل المرسل»(1) فهو لسان المقنّن، وهو نوع استخلاف له فی المقنّن، فحدیثه لیس إخباراً صرفاً وإنما اعتبار ممزوج بالإخبار.

وعلی هذا الأساس کان من الضروری وجود نوع من السنخیة بین الملقی الأول والملقی عنه، وفی ما نحن فیه المقنّن هو اللّه تعالی، فلابدّ فی خلیفته أن یکون قطعیاً حتی فی الجزئیات الصغیرة.

[ 2 ] ثبت فی الفلسفة والعرفان والروایات أنّ التلقّی عن اللّه

ص:75


1- (1) . کما ورد فی کلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی غرر الحکم / 81 ح1272 «بعقل الرسول وأدبه یستدل علی عقل المرسل». وورد بمضمونه فی نهج البلاغة/ 528 ح301 «رسولک ترجمان عقلک وکتابک أبلغ ما ینطق عنک»، وفی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 328/20 ح761 «عقل الکاتب فی قلمه». وقد ورد فی الحکم المنظومة:إذا کنت فی حاجة مرسلاً فأرسل حکیماً ولا توصه

تعلی من سنخ خاص وهو التلقی الإنبائی، وهذا لا یتسنّی لکلّ أحد، وإنما لخصوص من ترقّت روحه إلی درجة خاصة یؤهّل فیها للإنباء. وفی هذه الدرجة یکون معصوماً عن الخطأ بحدّ لا یعقل، ولا موضوع للخطأ فیه، فیکون قطعیاً بحیث یعرفه الآخرون أنه قطعی. ومن خلال ذلک یمکن اشتراط عدالة خاصة والأعلمیة فی مرجع التقلید بقانون السنخیة أو بعنوان أنه أول مُلقٍ عن المعصوم.

وبهذا الجواب تتضح المغالطة فی شبهة الرازی؛ حیث إنّا لا نقبل المجتهد فی أداء الأول، علاوة علی عدم قبولنا لتقلیده فی الأسس والضروریات، فلا معنی للنقض علی الشیعة فی عقیدتهم بالعصمة بقبولهم بظاهرة الإجتهاد بعد أن تبلور أنّ القبول بظاهرة الإجتهاد فی دائرة ضیّقة وفی ما عداها لا نقبل سوی العلم، ولا طریق له فی الخبر الأول عن السماء سوی العصمة.

الإجابة عن الشبهة الرابعة

ومن هدی هاتین الإجابتین یمکن علاج الشبهة الرابعة، حیث عرفت أنّ الإمامیة لا تکتفی بغلبة الإصابة بشکل مطلق، وإنما فی خصوص التفاصیل والجزئیات، وأمّا الأسس فلابدّ فیها من العلم، وکذا مطلقاً فی الخبر المباشر عن السماء.

ونضیف: أنّ معیار الإصابة الغالبة فی الظن والحکم الظاهری هو الحکم الواقعی، فإصابة الظن غالباً تکون بلحاظه، وأمّا مع عدم انضباط الواقع فلا موضوع للظن الغالب الإصابة، نظیر التصویب المطلق فإنّه ممتنع؛ لأنه یلزم من فرضه انتفاؤه بعد أن لم یکن هناک واقع [ حسب فرض التأمل ] کذا مع استبدال العصمة المطلقة بالنسبیة، واستبدال العلم بالظن یلزم عدمهما [ عدم العصمة والظن ] لعدم وجود میزان واقعی یقاس إلیه.

فتلخّص: أنّ الإمام والعصمة المطلقة فالنص ضرورة، وأنّ مقولتنا فی إمکان التعبد بالظن لیست مطلقة وإنما فی خصوص

ص:76

التفاصیل، وفی التفاصیل یکون فی خصوص الإخبار عن المعصوم (علیه السلام) من دون أن یلزم منه جواز الإخبار ظناً عن اللّه تعالی، للفرق بین الحالتین؛ لأنّ الإخبار عن المعصوم صرف خبر وحکایة وروایة وکشف، والخبر عنه تعالی فیه حالة الصدع والبثّ والإعلان الرسمی.

صیاغة أخری للشبهة

نعم، بقیت هناک صیاغة خامسة لشبهة تستهدف إلغاء شرطیة العصمة فالإمامة فی الجانب العملی [ الحکومة والسلطة ] وهی مع إمکان نیابة الفقیه عن الإمام فی الحکومة یلزمه عدم لزوم العصمة فی هذا الجانب، فیکفی الفقیه العادل دوماً، أو ننکر الولایة للفقیه.

ردّ الشبهة

والجواب:

أولاً: إنّ العصمة والإمامة ضرورة حتی فی زمن الغیبة الکبری، وفی حال نیابة الفقیه؛ لأنّا نعتقد أنّ واحدة من أهمّ أدوار الإمام (علیه السلام) دوره الوجودی والتکوینی وهو الهدایة الإیصالیة [ بالتصرف فی النفوس وهدایتها من جانب وأرشدة الطائفة عن الإعوجاج بحیث لا تزیغ جمیعها ] وهذا المقام لا یمکن أن ینوب عنه أحد فیه لا الفقیه ولا غیره، وإنما هو (علیه السلام) الذی یقوم بهذه المهمّة مباشرة، ونحن ننتفع به ولو من وراء حجاب.

وعلیه فولایة الفقیه ونیابته نسبیة لا مطلقة فی جانب دون آخر، کیف وهو (علیه السلام) محور حیاتنا، وما زلنا نعتصم به فی مجال العمل.

ثانیاً: إنّ قبولنا لنیابة الفقیه وولایته النسبیة وفی حیثیة معینة من باب الإضطرار وانسداد باب الوصول إلیه (علیه السلام)، ونحن من جملة أسباب غیبته وکنّا وراء غیبته ووراء تأخیر ظهوره، وإلاّ مع وجود الإمام [ الذی هو الوضع الطبیعی المفروض ] فلا موضوع لولایة غیره إطلاقاً.

ص:77

لزوم العصمة علماً وعملاً

ثالثاً: ما ذکره الشیخ فی جوابه الثالث لابن قبة یأتی بنفسه هنا وفی البعد العملی، حیث إنّه لابدّ من أمان، فکما أنّ المؤدّی الأول لابدّ أن یکون معصوماً، کذلک فی جانب العمل لابدّ أن یکون المنفّذ الأول معصوماً. فمهمّة الإمام لا تتلخّص فی حفظ الدین علماً وإنما حفظه عملاً أیضاً، فهو (علیه السلام) الأمان من انحراف الأمة علی مستوی الفکر وعلی مستوی العمل والتطبیق، وبدونه لا مانع من انحراف الأمة علی کلّ الصعیدین بشکل کامل.

ولو فتّشنا فی أوراق علماء السنّة لوجدنا أنهم یؤمنون بالعصمة من دون تصریح، ومن ثمّ قالوا: إنّ مجموع الأمة لا تجتمع علی خطأ.

والحفظ العملی یتحقق بالجانب الملکوتی، والمحفوظ للإمام حتی فی زمن غیبته لا ینوب عنه أحد کما سلف، کذا یتحقق باستلام السلطة العامة علی الأمة، أو السلطة الخفیة کما کان فی عهد الأئمة (علیهم السلام) حیث کانوا یمارسون الجانب العملی من خلال سلطتهم علی شیعتهم وأتباعهم، فکانوا أشبه بالدولة فی ضمن الدولة، ولم تکن دولة بنی أمیة والعباس الوحیدة وإنما کان الإمام یمارس السلطة بشکل خفی غیر معلن.

وقد انتقلت هذه الظاهرة فی الحفظ إلی المرجعیة، فهی لیست مقاماً علمیاً فقط، وإنما فیه جانب الحفظ العملی والسلطة والحکومة، والدراسات السیاسیة الحدیثة أقرّت هذا الفهم للمرجعیة الشیعیة کما أنّ بعض التقاریر التاریخیة یؤیّد ذلک إلاّ أنّ دور الفقیه دون دور المعصوم(علیه السلام).(1)

تقییم جواب الشیخ المشترک عن إشکالی ابن قبة

ص:78


1- (1) . قد بحث شیخنا الأستاذ عن النظام السیاسی عند الشیعة الإمامیة فی دراسة مستوعبة جداً قد قرّره الشیخ مصطفی الإسکندری وقد طبع تحت عنوان «أسس النظام السیاسیّ عند الإمامیة».

وقد اشتهر فی لسان المحققین بقاعدة الإمکان وینسب إلی الشیخ الرئیس حیث قال فی آخر النمط العاشر من الإشارات والتنبیهات: «بل علیک الإعتصام بحبل التوقف وإن أزعجک استنکار ما یوعاه سمعک ما لم تتبرهن استحالته إلیک. فالصواب أن تسرح أمثال ذلک إلی بقعة الإمکان ما لم یذدک عنه قائم البرهان.»(1)

واختار الشیخ الأعظم إمکان التعبد بالظن بدعوی أنّ بناء العقلاء علی الحکم بالإمکان ما لم تثبت الإستحالة.

مناقشة صاحب الکفایة

واستشکل علیه صاحب الکفایة بوجوه ثلاثة:

أحدها: إنّه لم یثبت بناء من العقلاء علی ترتیب آثار الإمکان عند الشک فیه.

ثانیها: إنّ هذا البناء العقلائی یحتاج إلی إمضاء، والقطعی منه غیر موجود، والظنی منه غیر مفید؛ إذ لا یمکن إثبات إمکان العمل بالظن بنفس الظن.

و ثالثها : مع التنزّل لا فائدة فی هذا البحث أصلاً؛ إذ مع قیام الدلیل علی الوقوع لا نحتاج إلی البحث عن الإمکان، فإنّ الوقوع أخص من الإمکان. ومع عدم الدلیل علی الوقوع لا فائدة فی البحث عن الإمکان؛ إذ البحث أصولی لابدّ فیه من ترتّب ثمرة علیه.

والظاهر أنّ الإمکان فی عبارة ابن سینا بمعنی الإحتمال البدوی، ویقصد من مقولته هذه عدم المسارعة فی الحکم علی شیء أنه ممتنع، وإنما إبقاؤه مردّداً حتی یتضح أمره.

نقد المناقشة الثالثة

إنّ الوقوع إنما یکون أدلّ دلیل علی الإمکان حالة کون الدلیل الدالّ علی الواقع قطعیاً وبدیهیاً، وأما مع کونه ظنیاً فلا یصلح دلیلاً علی الإمکان، سیّما مع وجود شبهة فی الإمکان. ومن ثمّ یفهم تأویل

ص:79


1- (1) . شرح الإشارات 418/3

البعض للدلیل الظنی علی الواجب المعلّق أو المشروط مع وجود دلیل علی الإمتناع والإستحالة، مع أنّ الوقوع والتعبد حاصل بمنطق الآخوند.

بل حتی مع الدلیل القطعی النظری علی التعبد لا یصلح دلیلاً علی الإمکان بحدّ یغنی عن البحث فیه لقبوله التزلزل حتی بالظن وإن لم یکن معتبراً [ کما أوضحناه فی بحث القطع فی البحث مع الأخباریین ].

إتقان إثارة الشیخ

ومن هنا وبعد أن اتضح أنّ الوقوع لیس دائماً دلیلاً علی الإمکان، تأتی إثارة الشیخ فی محلّها، وهی أنه فی الدلیل الحجّة فی نفسه [ من دون فرق بین أن یکون فی الأصول أو فی الفروع، قطعیاً نظریاً أو ظنیاً ] هل یتابع من دون حاجة إلی إثبات الإمکان بمعنی بیان زیف الأدلّة المعارضة المثبتة للإمتناع [ سواء الذاتی أم الوقوعی ] بل إنّ إثارته عامة لکلّ اعتبار، ولیست خاصة بالظاهری. فالدلیل الدالّ علی قاعدة فقهیة مثلاً هل یؤخذ به بنفسه ویکتفی به أو لابدّ من إحراز إمکان هذه القاعدة بتفنیذ الأدلّة الدالّة علی امتناعها وبطلانها؟

بل هذه الإثارة منطقیة مرتبطة بکلّ معرفة [ دینیة کانت أو غیرها ] فهل یستند إلی الدلیل المعتمد فی نفسه فی إثبات شیء أو لابدّ من بیان إمکان الشیء ببیان فساد الأدلّة المانعة والمعارضة؟ فما ذکره الآخوند من أنّ الوقوع دلیل کاف علی الإمکان، ومن ثمّ لا نحتاج إلی دلیل آخر علیه مرفوض فی الوقوع الظنی والقطعی النظری، وغالب التعبد من هذین القسمین.

وإنما یکون لإثارة الشیخ معنی وموقع إذا فرضنا [ کما هو الحق ] أنّ الحجّیة لا تسند إلی الحالة النفسیة [ من قطع أو ظن ] و إنما للمقدّمات والدلیل فی الأول، وللمنشأ [ من ظهور وخبر واحد ] فی الثانی؛ إذ لو کانت للحالة النفسیة لم تکن قابلة لحالة مقابلة. فالقطع

ص:80

إذا کان هو الحجّة کان تمام الموضوع ولا معنی لتعلیقه علی بیان زیف ما قیل فی الإمتناع.(1)

وعلی أساس ما اخترناه [ وهو المرتکز عند الأعلام ] کان البحث مع الأخباریین فی تحدید العلاقة بین العقل والنقل والذی هو بحث عویص؛ إذ أنّ کلاًّ من الفریقین کان علی حق فی زاویة من زوایا البحث. وقد انتهینا هناک إلی أنّ العلاقة هی الإنطلاق من بدیهیاتهما إلی نظریاتهما. ومن دون کون الحجّیة للمقدّمات لم یکن مجال للموازنة المذکورة. وسیوافینا بحث لا یقلّ إشکالاً وتعقیداً عن البحث فی العلاقة بین النقل والعقل وهو البحث عن کیفیة الجمع بین الثقلین، الکتاب والسنّة اللّذین هما رمز الثقلین.

بعد هذه الإثارة اختار الشیخ (قدس سره) الإمکان استناداً إلی بناء العقلاء، علماً أنّ حدیثه (قدس سره) فی الإمکان الوقوعی لا الماهوی الذاتی؛ لأنّ الإعتبار خفیف المؤونة فلا مانع منه، بالإضافة إلی ما تقدّم فی الأمر الأول من اقتضاء الظن للحجّیة عقلاً وشرعاً، والإشکال کله فی الإمکان الوقوعی، کما أنّ بناء العقلاء بعد الفحص عن المانع الوقوعی وعدم الوجدان من دون فرق بین عدم العثور علی دلیل أو مع العثور علیه وعدم کونه مقنعاً و إن لم یتمکن من بیان زیفه، فیبنون علی الإمکان ولا یشترطون عدم الوجود.

تقریب الإصفهانی لمختار الشیخ

والشیخ الإصفهانی قرّب مختار الشیخ بالإلفات إلی أنّ المعرفة الدینیة عقائدیة وعملیة. و الأول یطلب فیه معرفة الشیء بما هو هو، فالکمال فی نفس العلم نظیر الحکمة النظریة. و الثانی نظیر الحکمة

ص:81


1- (1) . [س] لم یتضح لِمَ أنّ هذه البحوث تجد مجالها مع فرض أنّ الحجّیة للمقدّمات والمنشأ لا للحالة النفسیة، هل لعدم إمکان تعلیق القطع أو الظن أو لعدم إمکان تعلیق حجّیتها؟ [ج] لأنه وهو ظان لا یحتمل أن ینعکس ظنه وینقلب، کذا وهو قاطع، إلاّ أن نقول إنّ الحجّة هو الظن والقطع المستقر، وهذا عبارة أخری عن ملاحظة المنشأ.

العملیة، فإنّ المطلوب فیه العمل والجری، لا معرفة الشیء بما هو هو.

وفی القسم الأول لا یعقل الجزم بثبوته إلاّ مع الجزم بإمکانه، فلا یجامع احتمال الإستحالة، وفی الثانی یکفی صِرف وجود الحجّة علیه من دون حاجة للجزم بتحققّه فلا ینافی احتمال الإستحالة، فإنه لیس بحجّة، والحجّة لا یزاحمها إلاّ الحجّة. وهذا التقریب جیّد، ولکنّه یحتاج إلی تعمیق وإصلاح.

تعمیق فی تقریب الإصفهانی

التعمیق هو أنّ المعرفة العقائدیة تتعلّق بالتکوینیات والخارج، والمعرفة العملیة تتعلّق بالإعتبارات.

وقد ألفتنا إلی أنّ ملاک الإعتبار لا یصل إلیه العقل [ ومن ثمّ کان الإعتبار ضرورة لسدّ الفراغ الذی یعجز العقل عن ملئه ] وعلی هذا لا معنی لمطالبة العقل أن لا یتابع الإعتبار إلاّ بعد معرفة ملاکه. وشرطیة معرفة الإمکان الوقوعی وتعلیق التعبد بالظن أو بأیّ اعتبار علیه، هو عبارة أخری عن تعلیق التعبد علی معرفة ملاکه وأنّه صحیح ولیس بلغو ولا خاطئ. نعم، المقنّن لابدّ أن یعرف صواب الملاک وأثره، دون العامل سوی علمه الإجمالی بالملاک، من جهة حجّیة نفس المقنّن لدیه.

فالشیخ حینما قال ببناء العقلاء علی الإمکان لا یقصد الإمکان الماهوی ولا الإحتمال وإنما یقصد الإمکان الوقوعی فی الإعتباریات، وهو عبارة عن بنائهم علی تمامیة الحجّة وبلوغ نصابها عند عدم وجدان المانع من دون حاجة إلی إثبات عدم الوجود المعلّق علی اکتناه الملاک ومعرفته، وهو مما لا سبیل للعقل إلیه. نعم، لابدّ من الفحص، فلربّما یصل العقل إلی موانع فی حالات معینة، ولکن یکتفی بعدم ثبوتها وعدم وجدان موانع أخری فی البناء علی الإمکان.

ص:82

وهذه اللفتة من الشیخ هی تعبیر عما أکّد علیه أهل البیت (علیهم السلام) من «أنّ دین اللّه لا یصاب بالعقول» لعجزها ومحدودیتها.

نقد المناقشة الثانیة للآخوند

من هنا یتبلور ما فی مناقشة الآخوند الثانیة للشیخ من ضعف؛ حیث اتضح أنّ هذا البناء هو نفس البناء علی لغة القانون أو أصل الإعتبار دلیل إمضائه عقلی وهو إدراک العقل لعجزه، ومن ثمّ إدراکه لضرورة الإعتبار، فلا یحتاج إلی إمضاء شرعی خاص.

وبتعبیر آخر: إنّ بناء العقلاء علی الإمکان بعد الفحص وعدم الوجدان هو نتیجة بنائهم علی لغة الإعتبار کبدیل وکتعویض عن عجز العقل. فاشتراط عدم الوجود نقض لخلفیة تأسیس لغة الإعتبار وهی عجز العقل؛ لأنّ عدم الوجود یحتاج إلی إحاطة بالملاک والواقع التکوینی وهو مسدود.

قاعدة الإمکان ولیدة قاعدة التناسب

هذه القاعدة هی فی الواقع ولیدة قاعدة التناسب الطردی بین أهمیة الحکم ودرجة الدلالة علیه، فالجذر العقلی لقاعدة الإمکان فی الإعتباریات هو التناسب المذکور، وعلی أساسه کان بناء العقلاء، بعد أن عرفت أنه لا یکون جزافاً وإنما ینطلق من نکتة عقلیة مع خلفیة البناء.

ففی الدلیل العقائدی لابدّ من التثبت من الإمکان وعدم الإعتماد علیه لوحده بخلاف الفروع لأنها دون الإعتقادیات فی الأهمیة.

نعم، تفاصیل العقیدة کالفروع فالظن المعتبر حجّة فیها ویکفی فیها

عدم الوجدان فی البناء علی الإمکان، ولیس شرطاً العلم بعدم الوجود. وهذا هو إصلاح فی بیان الشیخ الإصفهانی.

جریان قاعدة الإمکان فی العقیدة

بل بعد الإلتفات إلی الجذر العقلی أمکن إجراء قاعدة الإمکان [

ص:83

ولکن بحکم العقل لا ببناء العقلاء ] فی أساسیات العقیدة أیضاً، بل فی مجمل المعرفة العقلیة، وأنّه لیس شرطاً العلم بعدم وجود المانع وإنما یکفی عدم الوجدان [ سواء کان عدم العثور أم عدم وضوح ما ذکر مانعاً وإن لم یتمکن من بیان زیفه ] نعم، لابدّ من وضوح الأدلّة المثبتة وصراحتها مع الفحص الکافی والمفعم عن المانع وفیه. حینئذ یحکم العقل بالإمکان ویدعو الإنسان إلی الإلتزام بالأدلّة المثبتة [ والتی هی الأرجح ] وعدم اللهث وراء احتمال المانع المرجوح والإلتزام به، وإنکار ما دلّ الدلیل علیه أو التشکیک فیه الذی یستبطن الحطّ من قیمة دلالة الدلیل المثبت، وترجیح کفة القوی الدونیة المشاغبة.

وقد أهمل منطق أرسطو البحث فی هذه الزاویة [ وهی بیان طبیعة العلاقة بین العقل النظری والعملی بالقوی الدونیة المشاغبة ] فی حین أنّ مدرسة أهل البیت نظرت لهذه العلاقة، حیث ذکرت الروایة: «لا تجعلوا یقینکم ظناً ولا ظنکم یقیناً» فإنّها تعنی: أنّ المقدّمات التی تقرب من البدیهیات أو المفعمة بالفحص قد تعارض بقوة مشاغبة تحول بین هذه المقدّمات ونتائجها حیث تملی علی الإنسان أن یرفع یده عنها وتدعوه للایمان بها.

فعلی الإنسان فی مثل هذه الحالة البناء علی الإمکان الوقوعی - بحکم العقل - استناداً إلی هذه المقدّمات التی لم تفد علماً بسبب الموانع التی لم یتمکن من علاجها والإکتفاء بالظن وبالبناء علیه بدلاً من الشطب علیها وعدم الأخذ بها مستبدلاً إیاها بالشبهات الواهیة المرجوحة فی قبال الأدلّة المثبتة.

ص:84

3 . الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی

اشارة

ألفتنا سابقاً إلی الإشکال الثانی لابن قبة المانع عن التعبد بالظن، وهو لزوم تحلیل الحرام وتحریم الحلال.

وقد ذکرت محاذیر ذلک فی أربعة محاور:

[ 1 ] محور الحکم، حیث یلزم اجتماع المتقابلین أو الضدین.

[ 2 ] محور الإرادة، حیث یلزم اجتماع الإرادة والکراهة.

[ 3 ] محور الملاک، حیث یؤدّی إلی الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة.

[ 4 ] محور الإمتثال، حیث لا یعقل الجمع بین الإنبعاث وعدمه.

علماً أنّ إشکال ابن قبة لا یخص الإعتبار الشرعی وإنما هو عام لکلّ اعتبار، کما أنه لا یخص الحکم الظاهری الأصولی وإنما هو إشکال علی الحکم الظاهری فی نفسه، سواء کان أصولیاً أم فقهیاً، کأصالة الطهارة والحل.

ومن هنا یعرف أنّ هذا البحث فی الواقع فصل من فصول بحث الإعتبار العام ولیس خاصاً بالظن وبالشرعی منه. ویعرف أیضاً أنّ الجواب عن إشکال ابن قبة لیس هو کلّ البحث وإنما واحدة من أهدافه الجزئیة، وإلاّ فهناک ثمرات تترتب علی هذا البحث أهمّ بکثیر من ثمرة الإجابة عن ابن قبة، وهی:

1. بحث طبیعة العلاقة بین الحکم الظاهری والواقعی فی نفسها بغضّ النظر عن إشکال ابن قبة.

2. ارتباط بحث الإجزاء والقول به وعدمه بالفقرة السابقة.

3. معرفة سنخ الحکم الظاهری وأنّه واحد أو متعدّد؟

4. معرفة أنّ درجات الأحکام الظاهریة ورتبها مختلفة أو أنها جمیعاً فی رتبة واحدة؟

5. معرفة مراتب الحکم الواحد، وبالتالی لابدّ أن یرصد التنافی بین الأحکام أنه فی أیّ مرتبة؟

ص:85

6. معرفة أنّ التنافی فی کلّ مرتبة یختلف ماهیة، وبالتالی علاجاً عن التنافی فی مرتبة أخری.

الأقوال فی حقیقة الحکم الظاهری
اشارة

القول الأول: إنه الحکم الطریقی، أو الحکم المماثل، أو الواقع التنزیلی [علی اختلاف تعبیرات القوم ] ویجمع کلّ هذه أنّ جعل الحکم الظاهری هو جعل المؤدّی .

القول الثانی: الأمر باتّباع الأمارة أو متابعتها. ویختلف عن سابقه أنّ هذا وجوب تکلیفی طریقی، متعلّقه اتّباع الأمارة فی کلّ الأمارات ومهما کان مفادها، فی حین أنّ السابق یتبع المؤدّی، فیختلف باختلافه؛ إن کان حرمةً فحرمةٌ وإن کان وجوباً فوجوبٌ وهکذا، فهو نسخة بدل عن الواقع.

القول الثالث: إنه طریق محض، بمعنی أنه حکم وضعی یسمّی الطریقیة أو العلم التعبدی أو إلغاء احتمال الخلاف أو تنزیل الظن منزلة العلم، [ وهو الذی تبنّاه المیرزا وذکره الشیخ فی إحدی تنبیهات الإنسداد بشکل مفصل وفی أول بحث التعارض بشکل موجز ].(1)

والفرق بین هذا القول وسابقه: أنّ الطریقیة هی عین الجعل وهی حکم وضعی، فی حین أنّ الأول یفسّر الظاهری بأنه حکم تکلیفی فرعی، ملاکه الإستطراق والکاشفیة لا أنّ المجعول هو الإستطراق.

علماً أنّ الحکم الطریقی لا ینحصر بهذا القسم، وإنما هناک قسم آخر ملاکه الحفظ والوجوب الإحتیاط فی الفروج والدماء، وقسم ثالث ملاکه التسهیل کأصالة الحلّ علی قول، وأقسام أخر، وإن

ص:86


1- (1) . [س] الطریقیة أمر تکوینی فما معنی جعلها، فهی لیست سوی الکشف عن الواقع وهو أمر تکوینی لا یقبل الجعل إلاّ بمعنی الأمر باتّباعه أو جعل الحکم الطریقی فیعود إلی الثانی أو الأول حینئذ؟ [ج] هذه واحدة من الشبهات علی مبنی المیرزا التی لم یعالجها أحد من تلامذته سوی السیّد محمود الشاهرودی وسیأتی الحدیث عنها.

سمّیت مثل هذه بالحکم الطریقی لأنّ فی ملاکها شائبة من الإستطراق ولکن لیس هو فقط. وجامع الکلّ أنّ متنها لیس الکشف وإنما المعتبر مظنون الظن ومنکشف الکاشف.

القول الرابع: إنه حکم وضعی وهو الحجّیة لا الطریقیة، وهو ما یصحّ الإحتجاج به.

القول الخامس: [ علی کلامٍ أنه قول مستقل عن الرابع أو لا ] إنه جعل المنجّز والمعذّر.

القول السادس: [ أیضاً علی کلامٍ فی اختلافه عن الأول ] إنه حکم طریقی متأخر رتبة عن الواقع.

القول السابع: إنه المنجّز والمعذّر العقلی، بمعنی أنّ الطرق غیر مردوع عنها شرعاً، وهو کاف فی منجّزیتها ومعذّریتها عقلاً.

التصویب والتخطئة

هذه مقدّمة لعرض نظریة الشیخ وهی البحث عن حقیقة التصویب وأقسامه وفرقه عن التخطئة، ومنه ینجرّ الحدیث إلی اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل والاستدلال علیه.

التصویب المنسوب إلی جلّ الأشاعرة

[ مع تشکیک المیرزا فی هذه النسبة وأنّه لم یقل به إلاّ القلیل ] هو خلوّ الواقع عن الحکم وعدم شریعة واقعیة فی مساحة الظن، وإنما هی مؤدّی الحکم الظاهری، الذی هو مؤدّی رأی المجتهد.

وقد نوقش ذلک:

أولاً: بامتناعه شرعاً للإجماع علی وجود واقع [ قد یصاب وقد لا یصاب ] لا أنه یصاغ علی ضوء ما یصل إلیه المجتهد، بالإضافة إلی الروایات الکثیرة جداً علی وجود واقع، من قبیل: «مَا مِنْ شَیْ ءٍ یُقَرِّبُکُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَ یُبَاعِدُکُمْ مِنَ النَّارِ إِلاّ وَ قَدْ أَمَرْتُکُمْ بِهِ وَ مَا مِنْ

ص:87

شَیْ ءٍ یُقَرِّبُکُمْ مِنَ النَّارِ وَ یُبَاعِدُکُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاّ وَ قَدْ نَهَیْتُکُمْ عَنْهُ.»(1)

ثانیاً: باستحالته عقلاً [ بالعقل غیر المستقل ] لأنّ الطریق الشرعی والحکم الظاهری - أیّاً کان - إنما شرّع لأجل طریقیته، وإنما یؤخذ به لأجل إصابته وتنجیزه، فلابدّ من فرض واقع یطابقه.

وبعبارة أخری: لِمَ یفحص المجتهد ویحاول أن یصوغ فهماً لنفسه لولا وجود واقع یحاول اکتناهه واکتشافه؟ وما قد یقال جواباً: إنّ الشارع أوجب علیه ذلک؛ فإنه یقال : إنه یعنی أنه مع عصیانه لهذا الوجوب لا یوجد سوی عصیان واحد لا عصیانات متعددة بعدد أحکام الشریعة، وهو خلاف الضرورة.

وثالثاً: باستحالته بحکم العقل المستقل؛ حیث ألفتنا إلی أنّ فی کلّ فعل للإنسان کمالاً أو نقصاً [ غایته أنّ الإنسان یعجز عن إدراکه بعقله فیستعین بالشرع سدّاً لهذا النقص ] فالواقع أمر تکوینی منحفظ، والإعتبار الشرعی لیس إلاّ وسیلة کشف عن ذلک الواقع بشکل غالبی من دون أن یتخطاه. وعلی هذا الأساس کانت النبوة والشریعة ضرورة، وبهذا یبطل التصویب القائم علی فرض إنکار الواقع فالإعتبار الشرعی.

وجذر نظریة التصویب هذه إنکار الحسن والقبح العقلیین، وأنه تعالی یفعل ما یشاء لا عن سابق حکمة.

ورابعاً: إذا کانت الشریعة تصاغ علی ضوء فهم المجتهدین، وهم یختلفون بالوجدان، فینتج أنّ الشریعة متناقضة متخالفة وهو باطل بالضرورة.

التصویب المنسوب إلی المعتزلة

إنّ هناک واقعاً للشریعة، ولکن [ بعد فهم المجتهد علی خلاف الواقع ] ینقلب الواقع فی حقه وحق تابعیه إلی ما فهمه.

ص:88


1- (1) . الکلینی، الکافی 74/2 (کتاب الایمان والکفر، الباب 36: باب الطاعة والتقوی، الحدیث2).

ولم یتضح مرادهم بالدقة من کلماتهم، فبقی مردداً بین أمرین:

الأول: إنّ التشریع والإنشاء والإعتبار معلّق علی عدم فهم المجتهد علی خلافه.

الثانی: إنّ الحکم فی طور وجوده الفعلی معلّق علی عدم فهم المجتهد علی خلافه.

والأول نظیر ما التزم به المیرزا فی «لا تعاد» من تقیید تشریع الأجزاء غیر الرکنیة بالعالم، وهو یرجع إلی تقیید الأحکام بالعالم، وأنّ الجاهل لا واقع فی حقه.

ویناقش فیه:

1. الإجماع علی الإشتراک فی الأحکام بین العالم والجاهل.

2. الروایات الکثیرة جداً الدالّة علی وجود واقع مشترک بین الجاهل والعالم.

3. إنشاءات الأحکام جمیعاً لم تقیّد بالعالم، فرفع الید عن مثل هذا الإطلاق غیر معقول.

وتوهّم استحالة الإشتراک وبالتالی تقیّد مرحلة الخطاب والتنجیز وأنّ ذلک عین تقیید التشریع، أکل الدهر علیه وشرب؛ حیث إنّ فیه خلطاً بین مراحل الحکم [ بین التشریع والإنشاء وبین التنجیز ].

4. دلیل الحاجة إلی الإعتبار نفسه [ الذی استفدنا منه فی إبطال التصویب الأشعری وإثبات أنّ هناک واقعاً، کذلک ] نستفید منه فی إثبات أنّ هذا الواقع مشترک بین الجمیع، إلاّ إذا دلّ دلیل خاص علی الإختصاص فی حالة معینة.

والثانی یرجع إلی أنّ الحکم الإنشائی لم یقیّد بشی، وبالتالی الفعلی الناقص ومن قِبَل المولی مثله لمطابقة هذه المرحلة لمرحلة الإنشائی تماماً، والفارق هو أنّ القیود التی أخذت فی الإنشاء من قبل الشارع قد تحققت فی الفعلیة الناقصة.

وحینئذ سیکون قید العلم راجعاً إلی الفعلیة التامّة، وهی لا مانع من أن تتخالف مع الفعلیة الناقصة، فقد تقیّد بعدم الحرج وعدم

ص:89

الضرر، کذا قد تقیّد بعدم فهم المجتهد لخلاف الواقع.

وبهذا القدر من التصویب لا دلیل عقلی علی بطلانه، بل التزم به الآخوند کما سیتضح، ومن ثمّ نترک تقییمه إلی حین عرض کلام الآخوند.

نظریة الشیخ فی الحکم الظاهری

المبنی الرسمی للشیخ فی الحکم الظاهری أنه حکم طریقی أو جعل المؤدّی. والحلّ الذی اقترحه لعلاج الإشکال الثانی لابن قبة هو المصلحة السلوکیة [ الذی سبقه إلیه القمی والفصول، بل هو (قدس سره) ینقل عن العلاّمة أنه یلتزم بها تبعاً للشیخ ] وهذا الحلّ [ کما سنری ] یعالج المحذور علی صعید الملاک، وأنّه مستلّ من الروایات.

وقد ذکره الشیخ حلاً فی صورة انفتاح باب العلم حیث لا یکفی غلبة إصابة الظن حلاً للمشکل، فلابدّ من تتمیم ملاکی لتلافی محذور ابن قبة یتدارک به ما یفوت من الملاک، فی حین أنّ الظاهر من الآخرین أنها حلّ مطلقاً مع الإنفتاح ومع الإنسداد.

کنه المصلحة السلوکیة

وکُنه المصلحة السلوکیة أنّ فی المتابعة والإنقیاد والبناء العملی والإلتزام والتقید بالحکم الظاهری مصلحة یتدارک بها ما یفوت من کمال الفعل.

وبعبارة أخری: فی التسلیم والإنقیاد [ الذی هو فعل جانحی ] مصلحة تعوض ما یفوت مع الخطأ، فهی تتدارک مصلحه الوقت الفائتة بسبب الحکم الظاهری لو انکشف الخلاف خارج الوقت، وتتدارک مصحلة فضیلة أول الوقت لو انکشف الخلاف أثناء الوقت، وترمم المفسدة والنقص الذی وقع فیه المکلّف لارتکابه الحرام الواقعی بسبب خطأ الحکم الظاهری.

المناقشة فی النظریة

ص:90

وقد نوقش هذا الحلّ بأنه صیاغة أخری للتصویب الباطل بالإجماع؛ إذ مع عدم انکشاف الواقع إلی الأبد ستکون المصلحة السلوکیة بدیلاً لمصلحة الواقع، فیکون الواقع ذا مصلحتین، فیکون الحکم الواقعی تخییریاً بالنسبة للظان بخلافه وهو نحو من أنحاء التصویب.

جواب الشیخ عن المناقشة

وأجاب عنه الشیخ [ فی تفسیر من تفسیرات کلامه ] أنّ المصلحة السلوکیة لم تغیّر الواقع عما هو علیه؛ لأنّ المصلحة فی سلوک الحکم الظاهری والإلتزام والإنقیاد له والتسلیم به لا فی المتعلّق(1)، فإنّ

ص:91


1- (1) . [س] ذکرتم أنّ الإنقیاد موجود فی صورة الإصابة وعدمها، کذا فی صورة الإنفتاح وعدمه. وأضیف: أنه موجود فی صورة العلم بالواقع المصیب. حینئذ تصبح الفروض: أ - علم مصیب. ب - حکم ظاهری مصیب. ج- - حکم ظاهری مخطئ ومن الواضح أنّ المکلّف فی صورة الإصابة یحصل علی کمالین، کمال الفعل وکمال الإنقیاد للحکم الواقعی فی حالة إصابة العلم، وکمال الإنقیاد للحکم الظاهری فی حالة إصابته. ومعه کیف یعقل - والسؤال علی صعید الإمکان - أن یکون الإنقیاد للحکم الظاهری المخطئ یتدارک ما یفوت، مع أنه کمال واحد والفائت کمالان کمال الإنقیاد وکمال الفعل. وإن شئت قل: إنّ الإنقیاد فی صورة الخطأ یوازی الإنقیاد فی صورة الإصابة، فیبقی کمال الفعل الفائت من دون مقابل، اللّهم إلاّ أن نقول: إنّ الإنقیاد فی صورة الخطأ ضعفی الإنقیاد فی صورة الإصابة الزائد فیه یکون قبال ما فات من الفعل. وهذا خلاف الوجدان أولاً، خاصة مع انفتاح باب العلم وإمکانه الإنقیاد للحکم الظاهری یدلّ علی حالة من الإهمال وعدم المبالاة بالواقع. وثانیاً: إنّ المکلّف لا یعرف حین العمل أنّ حکمه مصیب ومخطئ کی نتصور تفاوت الإنقیاد بینها، بل قد لا ینکشف له إلاّ فی الآخرة؟ [ج] الإنقیاد الموجود فی صورة العلم یختلف سنخاً مع الإنقیاد الموجود فی الحکم الظاهری مع الخطأ، لأنه فی الأول انقیاد للحکم الواقعی دون الثانی، بالإضافة إلی اختلاف آخر هو: أمّا فی الظاهری المصیب والمخطئ: فإنّهما وإن اشترکا فی الإنقیاد للحکم الظاهری [مع امتیاز المصیب بالحصول علی کمال الفعل الواقعی] إلاّ أنّ المقابلة لیست بین انقیادیهما وإنما بین المصلحة الکامنة فی الفعل عند الإصابة والإنقیاد فی المخطئ، ومعه یمکن تصور تدارک هذا الإنقیاد ولما فات من مصلحة الفعل ولیس بمستحیل، والإمکان کاف فی حلّ الإمتناع الذی ذکره ابن قبة، والوقوع متروک الروایات. [ما زال التهافت علی حاله، وهو نظیر ما یقال من أنّ التجری علی المعصیة وهی لیست بمعصیة أشدّ قبحاً من التجری علی المعصیة فی صورة تحققها، فمن تجری علی الخمر بکوب ماء أکثر تجریاً ممّن تجری علی الخمرة بالخمر، مع أنه بالوجدان غیر معقول؟] [المقرّر]

الإنقیاد فعل جانحی یتدارک بمصلحته ما فات المکلّف من کمال الفعل، فلا علاقة له بالتصویب.(1)

ولا یخفی أنّ الإنقیاد والتسلیم والإخبات بیّن الکمال والمصلحة؛ لأنه تسخیر للقوی الدونیة لقوة العقل، وإن کان فی الفعل مفسدة. ومن ثمّ فهو [ هذا الکمال وتلک المصلحة ] موجود حتی فی مورد

ص:92


1- (1) . [س] علی المستوی النظری أقبل الفرق بین التصویب والمصلحة السلوکیة، فنسلم أنّ الواقع - علی الثانی - هو هو ولم یتغیر، ولکن لا تختلف الآثار بین التصویب المعتزلی والمصلحة السلوکیة لا علی مستوی الدنیا من وجوب القضاء وأمثاله کالضمان والحدّ، ولا علی مستوی الآخرة من ترتب الإثم وعدمه، بعد الإلتفات إلی أنّ کلاً منهما مقیّد بالفحص إلی حدّ استفراغ الوسع والجهل القصوری، فعلی المصلحة السلوکیة واستمرار الجهل إلی الأبد لا یترتب أیّ أثر سوی القول بأنّ هناک واقعاً مجهولاً ولکنّه منفک عن الأثر، فهو والتصویب واحد من هذه الجهة؟ [ج] إنّ القائل بالتصویب استهدف تصویب الکلّ فی الأصول والفروع، فی حین أنّ القائل بالتخطئة استهدف تخطئة الکلّ عدا فرقة جاء ذلک من خلال قول الأول بتبدل الواقع حسب نظر المجتهد، وقول الثانی إنّ الواقع علی حاله، وبالتالی فهناک ضلال وإن کان عن قصور. [ولکن تصویب الکلّ لم یأت من التنظیر للتصویب المعتزلی، وإنما من سوء استفادتهم من النظریة حیث لم یلتزموا بشرطیة الفحص واستفراغ الوسع والجهل القصوری، وإلا لو التزموا بذلک لما صوّبوا الکلّ بل خطئوهم عدا فرقة. فالنتائج المختلفة التی انتهی إلیها کلّ منهما لیست بسبب اختلاف النظریة وإنما بسبب عدم الدقة فی تطبیق النظریة وإقحام الجانب السیاسی فی الجانب العلمی، فلا فرق علی مستوی التنظیر فی الجانب العملی والأثر، فی حین أنّ الإجماع علی بطلان التصویب والقول بالتخطئة یفهم منه أنّ هناک واقعاً وأنّه منشأ أثر لا أنّ هناک واقعاً وإن لم یکن له أثر، والمصلحة السلوکیة لا تؤمن هذا الهدف] [المقرّر]

انسداد باب العلم، کذا فی مورد مطابقة الحکم الظاهری للواقع لوجود الإنقیاد.

بل لحسن الإنقیاد کان التقید بشریعة سماویة [ وإن لم تکن الإسلام ] أو عقلائیة أفضل وأکمل من عدم التقید والإنضباط، مع أنّ المدرک شیء باطل، ولکنّه من حیث الإنقیاد والإنضباط وتسخیر قواه الدونیة للعقل کان أکمل من التحرر وانفلات القوی النازلة، بل وتسخیر العقل لها.

نتائج البحث

ویتلخّص:

[ 1 ] إنّ المصلحة السلوکیة یمکن لها أن تعالج إشکال ابن قبة علی مستوی الملاک بأن تتدارک ما یفوت من مصلحة الفعل.

[ 2 ] وتدارکها لما یفوت لا یخص صورة إمکان العلم بالواقع وانفتاحه، بل یعمّ الإنسداد أیضاً.

[ 3 ] وهی غیر التصویب الباطل؛ حیث إنّها تحفظ الواقع علی واقعیته ولا تتلاعب به.

[ 4 ] والکمال والمصلحة فی الإنقیاد بیّن لا یحتاج إلی دلیل.

الدلیل علی وقوع هذا التدارک

نعم، وقوع هذا التدارک من قبل الشارع [ لما یفوت من مصلحة الفعل علی تقدیر خطأ الحکم الظاهری ] یحتاج إلی دلیل، وبه یکون هذا الحلّ المقترح واقعیاً.

والدلیل هو الروایات المتظافرة المذکورة فی کتاب وسائل الشیعة(1)؛ فإنّ جملة منها کالروایة السادسة والثالثة عشر والتاسعة عشر وغیرها دلّت علی أنّ السعة فی الأخذ بالحکم الظاهری إنما هو لنکتة التسلیم، وهذا یعنی أنها لیست فی صدد بیان المعذّریة فقط،

ص:93


1- (1) . فی أبواب صفات القاضی، الباب 9: باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة وکیفیة العمل بها (ج27، ص 106 وما بعدها)

وإلاّ لقال: «بأیهما عَمِلتَ»، وإنما التسلیم وراء هذه السعة.

وقد ذکرنا أنّ التسلیم بیّن المصلحة، فإلفات الإمام إلیه یدلّ علی أنّ فیه تعویضاً عمّا یفوت من الواقع. (1)

وفی الوقت نفسه تدلّ هذه الروایات علی التخییر عند التعارض [بغضّ النظر عن کونه فقهیاً أو أصولیاً ] الذی أنکره السیّد الخوئی وأنکر وجود روایات معتبرة علیه. (2)

ص:94


1- (1) . [س] الإنقیاد والتسلیم للأمارة علی وزان واحد، فی حین أنّ الکمال الواقعی فی الأفعال مختلف علی نحو التشکیک، فکیف یتدارک کلّ من الفائت الکبیر والقلیل بالإنقیاد للأمارة الذی هو متواطی وبشکل واحد؟ [ج] أولاً: إننا لا نقبل أنّ الإنقیاد علی مشاکلة واحدة، وإنما یختلف شدّة وضعفاً باختلاف الأفعال سواء أصاب الحکم الظاهری أم لا. ثانیاً: لا یخفی أنّ ملاک الفعل إذا کان من الأهمیة بمکان لا یکفی فیه الظن، وإنما لابدّ من العلم کما تقدم، فیبقی الظن حجّة فی دائرة الملاکات المتقاربة.. [یلاحظ علی الإجابة الأولی - وإن أصرّ الشیخ الأستاذ علیها وحاول أن یبیّنها ببیانات وعبارات متعددة وأمثلة متکثرة - أنّ التشکیک فی الإنقیاد و إن کان إلاّ أنه لیس بسبب التشکیک فی الواقع فقط، و إنما تربیة الإنسان ومزاجه ودرجة عقله وإیمانه والمجتمع و غیر ذلک کلّه دخیل فی اختلاف الإنقیاد وباختلاف الأفعال. فالحکم الظاهری - کفتوی المجتهد - إن کان حرمة الجهاد فی شرائط معینة لم یحتج الإنقیاد إلی الترک إلی کثیر مؤونة عند البعض، مع أنّ الجهاد من الأفعال الأساسیة والمهمة، فإنه إن کان واجباً واقعاً فی هذا المورد لم یعوض الإنقیاد للحرمة الظاهریة عنه. من هنا أمکن القول: إنّ المصلحة السلوکیة بالبیان الذی بیّنه الشیخ الأستاذ عن الشیخ لا یصلح جواباً علی صعید الإمکان عن شبهة ابن قبة، ولا حلاًّ لمشکلة الأثر الوضعی، ولا بدیلاً کافیاً لنظریة التصویب المعتزلی. کما أنّ تعمیم البعض لها کحلّ للمشکل فی صورة الإنسداد جیّد إن کانت هناک مشکلة، وهی غیر واضحة، نعم شبهة الأثر الوضعی تتأتی فی صورة الإنسداد. وقد لوّح الأستاذ إلی أنّ هناک بیاناً وعرضاً آخر للمصلحة السلوکیة، وهو الذی ذکره القمی وینسجم مع الروایات، عسی أن یکون شافیاً لحلّ الأسئلة العالقة.] [المقرّر]
2- (2) . [س] إنّ ظاهر ما عرضتموه من الروایات کون موردها هو صورة الإنسداد [بقرینة التعارض إذ مع الإنفتاح لا موضوع للتعارض ولکان بدویاً] ومع کونها فی صورة الإنسداد لا تدلّ علی التدارک؟ [ج] هناک روایات ظاهرة فی الإنفتاح لوجود المعصوم وإمکان الوصول إلیه، هذا أولاً. وثانیاً: إنّ التعارض لیس دلیلاً - عند البعض - علی الإنسداد إذ حتی مع الإنفتاح قد یتصور التعارض إذا قلنا بأنّ الظن فی عرض العلم، وأنّه لا یجب الفحص عن الواقع بحدّ العلم. [یلاحظ علیه: أنّ العرضیة فرع تصویر المصلحة السلوکیة وثبوتها، وإلاّ کان الظن فی طول العلم کما صرّح بذلک الشیخ، والروایات لا دلالة فیها علی المصلحة السلوکیة کی یقال إنّ التعارض لا یدلّ علی الإنسداد] [المقرّر] وثالثاً: إنّ إلفات الإمام (علیه السلام) إلی التسلیم، والذی هو بیّن المصلحة دلیل علی أنّ فیه تعویضاً، سواء فی حالة الإنسداد أم الإنفتاح. [ولکن قد یکون التعویض عن ما فات من الملاک الملزم دون الزائد مما یمکن تدارکه أو لا یمکن] [المقرّر]

إن قلت: القول بالمصلحة السلوکیة وثبوتها فی الروایات یدلّ علی إجزاء الحکم الظاهری عن الواقعی کقاعدة عامة إلاّ ما دلّ الدلیل علی استثنائه؟

قلنا: کلاّ إلاّ بمقدار ما فات، ومن ثمّ لو انکشف الخلاف فی الوقت فلن یفته إلاّ فضیلة الأداء فی أوّل الوقت، فتتدارکها المصلحة السلوکیة، و لو انکشف بعد الوقت فلن یفته سوی فضیلة الوقت، فتتدارکها المصلحة السلوکیة، وأمّا القضاء فلم یفته حتی یتدارک، فلا تدلّ المصلحة السلوکیة علی الإجزاء.

العرض الصحیح للمصلحة السلوکیة

الحق فی المصلحة السلوکیة ما ذکره القمی فی القوانین [ وهو الذی یظهر من الروایات، ویختلف عن بیان الشیخ لها ] وهی:

إنّ المصلحة والکمال فی سلوک الأمارة والحکم الظاهری لا لموضوعیة له، وإنما بما هو مصداق أوجده الشارع للتسلیم والإخبات والإنقیاد العام للرسول والمعصومین (علیهم السلام)، فی حین أنّ الشیخ صوّر المصلحة فی نفس الإنقیاد للحکم الأصولی بما هو هو، مع أنّ الظاهر من الروایات أنّ المصلحة إما کانت فی الأخذ بالحکم الظاهری [ من جهة أنّ الأخذ به أخذ بقول المعصوم الذی أمرنا باتّباعه ] فهو مصداق من مصادیق التسلیم والردّ إلیهم ونوع من

ص:95

أنواع امتثال الأمر العام الواقعی فی نفسه [ أی الأمر بالتسلیم لهم ] وإن کان من حیث مصداقیته هو الحکم الظاهری [ لأنّ مصداقیته کانت بتوسط الشارع وجعله له ].

وبعبارة أخری: إنّ المصلحة لیست فی الإنقیاد إلی القانون الظاهری، وإنما الإنقیاد له بما أنه یحقّق صغری الإنقیاد للمقنّن.(1)

نتائج العرض الصحیح

وبهذا العرض للمصحلة السلوکیة یتبلور أمران:

الأمر الأول: الفرق بین الصیاغتین

إنّ صیاغة التصویب هی کون الواقع علی ضوء ما فهمه المجتهد، وقد جاءت أکثر المناقشات للتصویب علی ضوء صیاغته [

ص:96


1- (1) . هذا العرض کسابقه لا یعالج الأُمور التالیة: الأول: حسن الإحتیاط عقلاً، إذ لا معنی له مع التدارک. والثانی: عدم تقدیم تصویر معقول للتدارک، فکما لا یعقل فی التجری من دون معصیة أن یکون أکثر شدة فقبحاً من التجری مع الإصابة کذا فی الإنقیاد، ومن ثمّ ومع عدم تمامیة بیان التدارک لا یمکن القول بالحجّیة مع الإنفتاح، وسیکون الظن فی طول العلم. والثالث: إذا کان الإنقیاد یتحقق فی حالة تخیل الحکم الظاهری بحجّة أنه یتقوم بالعنوان [بعد أن کان فعلاً جانحیاً وإن تخلف الواقع] کذا وبنفس البیان یمکن تصویره علی تصویر الشیخ. والرابع: إنه مع الخطأ وعدم التسلیم لا یحصل تدارک، فی حین أنه مع الإصابة أو العلم حتی لو لم یکن تسلیم یحصل علی کمال الواقع. وقد أجاب الشیخ الأستاذ عن الثالث: أنّ الظاهر من کلام الشیخ أنّ متعلّق الأمر حصة من الإنقیاد، وهی الإنقیاد للحکم الظاهری الموجود، فمع عدم وجوده وإن کان هناک انقیاد إلاّ أنه لیس المأمور به، بخلافه فی عَرض القمی فإنّ الإنقیاد لقول الرسول عبارة عن الإنقیاد لمقام الرسالة، ومثل هذا یتحقق حتی لو لم یکن للمصداق وجود، وإنما تخیله فقط، ولا یقید بالواقع. وأجاب عن الرابع: نعم، مع عدم التسلیم لمقام الرسالة ولعدم الإلتفات لا یحصل التدارک. [إذن بقی هناک فرق عن الواقع، ولم یتکفل تصویر التدارک مطلقاً] [المقرّر]

بما فی ذلک مناقشة الشیخ له، ودفاعه عن المصلحة السلوکیة بتصویره أنها لیست تصویباً لأنّ الواقع علی ما هو علیه وأنّ المصلحة فی الإنقیاد للحکم الظاهری ] فی حین أنّ جذر التصویب وخلفیته هو وضع تفسیر وتبریر قانونی لممارسات الصحابة فی قبال الرسول (صلی الله علیه و آله) [ بجعل موضوعیة لاجتهادهم وفهمهم فی قبال النص ] فجاء هذا التفسیر بالصیاغة التی أشرنا إلیها.

وکان الحریّ أن یؤخذ بعین الإعتبار هذا الجذر فی مناقشة التصویب بإلغاء کلّ محوریة وموضوعیة للمجتهد وتلخیصها وحصرها بالواقع بما هو هو، والإنقیاد لقول المعصوم بما هو هو.

والصیاغة التی ذکرناها للمصلحة السلوکیة تکفلت هذا الأمر حیث إنها حفظت الواقع علی ما هو علیه، وألغت موضوعیة الحکم الظاهری [ ومنه رأی المجتهد ] بتصویر أنّ المصلحة فی الإنقیاد إلی قول الرسول(صلی الله علیه و آله)، فقالت بالتخطئة علی الصعیدین، وتنفی موضوعیة الحکم الظاهری من زاویتین.

أما بالنسبة لصیاغة الشیخ فإنّها رکّزت علی حفظ التخطئة بالنسبة إلی الواقع والحکم الفقهی بتصویر أنّ المصلحة فی الإنقیاد، ولکنّها علی صعید الحکم الظاهری جعلت موضوعیة للحکم الظاهری [ والذی منه رأی المجتهد وفتواه ] وبالتالی فهو نوع تصویب بالنسبة إلی الحکم الأصولی، فی حین أنّا ذکرنا أنّ مفاد الروایات [ عندما قالت إنّ هناک مصلحة فی سلوک الحکم الظاهری ] لم تکن فی صدد حفظ التخطئة بالنسبة إلی الواقع فقط [ بتصویر أنّ المصلحة فی الإنقیاد ] وإنما ترید بیان أنّ منشأ المصلحة من جهة أنّ الأخذ بالأمارة أخذ وتسلیم لقول المعصوم (علیه السلام)، وإن لم یکن امتثالاً للواقع المجهول.

الأمر الثانی: تصویر الإنقیاد فی صورة الخطأ

ص:97

إنّ متعلّق الأمر هو الإنقیاد، ومتعلّق المتعلّق هو الحکم الظاهری بما أنه مصداق لقول المعصوم (علیه السلام)، من هنا قد یتصور أنه مع عدم قول الرسول [ وخطأ الحکم الظاهری ] لا مجال للإنقیاد علی حدّ ما لو أخطأ الحکم الظاهری الواقع، فإنه لا یتحقق امتثالٌ للواقع. کذا مع عدم صدور هذا الحکم الظاهری من الرسول لابدّ أن لا یتحقق انقیاد فیه، ومن ثمّ لا تدارک فی صورة الخطأ لعدم المصلحة.

ولکن الحق تحقق الإنقیاد لأنه فعل جانحی، ومن ثمّ فهو کسائر الأفعال الجانحیة یتقوم بالصورة الذهنیة للحکم الظاهری، وهو حاصل فی صورة الخطأ ولا یتخلف أبداً، وإن لم یکن هناک واقع وخارج له.

توضیح ذلک: إنّ الحکم الظاهری تارة یکون مصیباً وأخری مخطئاً وثالثة لا یکون له وجود وإنما یتخیل الإنسان أنه حکم ظاهری [ کما لو کان المجتهد مشتبهاً فی استدلاله أو تصوّر أنّ السند صحیح ولم یکن کذلک، وغیر ذلک من الحالات التی ترجع إلی التقصیر فی السعی وعدم استفراغ الوسع بالشکل المطلوب ] وفی هذه الحالة علی تصویر الشیخ للمصلحة السلوکیه لا یتحقق الإنقیاد لعدم وجود حکم ظاهری، فلا یتحقق الإنقیاد للحکم الظاهری، بخلافه علی ما صوّرناه؛ فإنّ الإنقیاد لمّا کان لقول الرسول [ الذی هو فی الواقع انقیاد لمقام الرسالة ] أمکن تحققه ولو مع التخیّل؛ لعدم تقیده بالواقع. ومعه حتی لو لم یکن هناک واقع للحکم الظاهری أمکن تصور الإنقیاد لمقام الرسالة نتیجة تصور الحکم الظاهری وتخیله.

عرض نظریة صاحب الکفایة

الآخوند عالج الإشکال علی مستوی الملاک بأنه فی موارد العسر والحرج تکفی أغلبیة الإصابة مسوّغاً لجعل الحکم الظاهری، فلا ملاک فی عرض ملاک الفعل الواقعی کی یلزم المحذور عند خطأ

ص:98

الحکم الظاهری، وإنما الملاک هو التحفظ علی الواقع، والفائت الیسیر لا قبح فیه إزاء حفظ الکثیر. هذا فی الأمارات والأصول المحرزة.

وأمّا فی الأصول غیر المحرزة فالمصلحة فیها هی التسهیل ورفع الحیرة وانتظام المعیشة، وهی ستکون مزاحمة لمصلحة الواقع إلاّ أنها [ لمّا لم تکن فی الفعل، وإنما کانت فی جعل الحکم الظاهری ] لم یحصل کسر وانکسار فی ملاک الواقع فیبقی علی حاله.

وهذا العلاج یتماشی مع مجموعة من التفسیرات التی سیذکرها للحکم الظاهری.

اختلاف کلمات الآخوند فی تفسیر الحکم الظاهری

وفی علاجه للمحذور علی مستوی متن الحکم، فقد اختلفت کلماته فی تفسیر الحکم الظاهری، وعلی ضوء ذلک اختلف الحل.

ففی بعض کلماته أنه جَعلُ التنجیز والتعذیر، وفی بعض آخر أنه جَعلُ مفهوم الحجّیة کحکم وضعی، وفی ثالثة أنه جَعلُ الحجّیة بمعنی جعل الأمر التکلیفی باتّباع الأمارة، وفی رابعة أنه جَعلُ الحکم الطریقی کالشیخ الأعظم (رحمه الله).

نتائج التفسیرات علی صعید اجتماع الحکمین

وعلی کلّ هذه التفسیرات لا مشکلة علی صعید اجتماع الحکمین؛ لأنه فی الأول والثانی والثالث المجعول هو الحکم الأصولی، ولا جعل للحکم الفقهی کی یلزم اجتماع المتماثلین أو الضدین.

وفی الرابع، وإن کان المجعول هو الحکم الفقهی إلاّ أنه طریقی، وقد ذکروا أنه فی صورة الخطأ لا وجود له، وفی صورة الإصابة فهو ظلّ الحکم الفقهی الواقعی وفی طولِه، لا فی عرضه ومماثل له.

نتائج التفسیرات علی صعید التنافی فی الإرادة

وأما محذور التنافی فی الإرادة فهو (قدس سره) تارة صوّره فی خصوص

ص:99

الأصول العملیة غیر المحرزة [ کأصالة الحلّ ] مع کون الواقع إلزامیاً، و أخری صوّره فی کلّ حکم ظاهری حتی لو کان هو إلزامیاً والواقع ترخیصیاً.

رفع التنافی بذکر حلّین

وقد اقترح حلّین لهذا التنافی [ بعد أن لم یکن الحلّ المذکور لتنافی الحکمین کافیاً ] عدل من الأول منهما إلی الثانی لسبب سنذکره.

الحلّ الأول: الواقع فی مرحلة الإرادة إنشائی مجمّد وبالتالی فلا یصل نفس الحکم الواقعی إلی مرحلة الفعلیة حتی الناقصة.

الحلّ الثانی: الواقع فی مرحلة الإرادة والحکم، فعلی ناقص من قبل الولی.

والإرادة الإنشائیة إرادة تعلیقیة [ معلّقة علی الموضوع ] لا وجود لها إلاّ بالقوة ومن ثمّ لا تنافی الإرادة الموجودة الفعلیة فی الحکم الظاهری، والإرادة الفعلیة الناقصة تجتمع مع إرادة أخری فعلیة تامّة إذا کان التضاد بینهما اتفاقیاً لا غالبیاً ولا دائمیاً، وإلاّ وقع التعارض بینهما.

وسرّ الإجتماع أنّ الفعلیة الناقصة عبارة عن الشوق الفعلی للحکم الواقعی غیر الواصل لدرجة تحریک العضلات، والفعلیة التامّة عبارة عن الشوق الذی بلغ حدّاً لا یتخلّف عند معلوله.

سرّ عدوله من الحلّ الأول إلی الثانی

الأول: إنّ الفعلی الناقص یطابق الإنشائی، فکلّ قید یؤخذ فی الإنشائی إذاً ذلک القید یتحقق الفعلی الناقص، والفرض أنّ القیود الشرعیة للحکم الواقعی قد تحققت، فلا معنی حینئذ لأن نفرض الحکم الواقعی إنشائیاً غیر فعلی.

والثانی: إنّ الإنشائی لا یترتب علیه أی أثر [ لما ذکرناه من أنّ

إرادته لولائیة، والحکم لا وجود له سوی علی مستوی الصیاغة، والفعل لا یتصف بالملاک ] فالقول بأنّ الحکم الواقعی إنشائی صرف

ص:100

نوعٌ من التصویب؛ إذ الأمارات [ بعد أن لم یکن للواقع خارجیة ] تصیب إلی أی شیء وتخطی عن أی شیء؟

فالمتعیّن هو الحلّ الثانی بعد الإلتفات إلی أنّ الشیخ ألفت إلیه بشکل خاطف، وإن لم ینبّه إلی ذلک الأعلام.

والدلیل علیه أنّ التنافی بین الإرادتین کاشف إنّی عن أنّ الشارع أخذ فی الفعلیة التامّة للحکم الواقعی عدم کون الظاهری علی خلافه.

أطروحة المحقق الإصفهانی (قدس سره) فی حلّ التنافی

الإصفهانی نفی التضاد بین الأحکام أنفسها لأنها اعتباریة، والإعتبار خفیف المؤونة، لا یجری فیه أحکام التکوین [ وقد قَبِلَ ذلک الشیخ العراقی وکلّ من جاء بعد الإصفهانی ].

ونفی أیضاً وجود التنافی فی مقام الإمتثال؛ وذلک لوصول الظاهری وعدم وصول الواقعی.

کما نفی التنافی علی صعید الملاک بما ذکره الآخوند، وعالج التنافی علی صعید الإرادة بالحلّ الثانی للآخوند.

حقیقة الحکم الظاهری عند الإصفهانی (قدس سره)

ذهب فی أکثر مواضع من أصوله إلی أنه جَعلُ الحجّیة کحکم وضعی وفی بعض کلماته إلی أنه جَعلُ الحکم المماثل.

وفی أکثر مواضع من فقهه أنه جَعلُ الحکم المماثل وفی تعبیرٍ أنه اعتبار الشارع للخبر بحیث یصحّ أن یحتج به، وربما یقصد منه جعل الحجّیة.

اختلاف ألسنة الأدلّة علی حجّیة خبر الواحد

مع إلفاتة مهمة منه [ وهی صحیحة ] وهی أنّ ألسنة الأدلّة علی حجّیة خبر الواحد والأمارات لیست موحّدة وإنما بعضها بلسان جعل الحجّیة، وآخر بلسان جعل الحکم المماثل، وثالث بلسان جعل الأمر بالإتّباع، ورابع بلسان جعل التنجیز والتعذیر.

ص:101

وجه اتخاذ القول بجعل الحکم المماثل عند الإصفهانی

والذی ألجأه إلی القول بجعل الحکم المماثل فی الأمارة، مبناه [ حسب الکثیر من کلماته ] فی الحکم الشرعی الفقهی من أنّ فعلیته بوصوله، حیث یفترض أنّ الحکم الشرعی له مراتب ثلاث:

الأولی: جعل ما یمکن أن یکون داعیاً وهی مرتبة الإنشاء.

الثانیة: مرحلة تحقق الموضوع.

الثالثة: الفعلیة، وهی متقومة بالوصول، وإلاّ لم یکن داعیاً وباعثاً فعلاً بعد أن کانت الدعوة فعلاً متقومة بالوصول.

وهذا عین ما ذکره الکثیر من الأعلام فی الحکم الأصولی بحجّة أنّ الحجّیة [ مهما فسّرت ] فهی لأجل التنجیز والتعذیر، وقوام ذلک بالوصول.

وهذا هو الذی اضطر الشیخ الإصفهانی لأن یقول بأنّ الحکم الأصولی هو الحکم المماثل بعد أن وجد أنّ کلّ الصیاغات الأُخری فی تفسیر الحجّیة لا تحقّق الوصول.

أطروحة النائینی فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری

المیرزا [ کما هو المعروف عنه ] رفع التنافی بین الحکم الواقعی والظاهری بذهابه إلی عدم وجود حکم ظاهری فی الأمارات والأصول المحرزة.

وهل المقصود من ذلک عدم وجود حکم ظاهری فقهی مماثل [ وإن کان هناک حکم أصولی وهو العلم التعبدی ] أو عدم وجود حکم ظاهری مطلقاً حتی الأصولی وإنما هناک علم؟

الظاهر هو الأول؛ لأنه فی صدد نفی کلام الشیخ، فالحکم الظاهری الأصولی موجود حتماً لوجود جعل وتعبد للظن علماً، وهو الذی یعبّر عنه بجعل الطریقیة.

إلاّ أنّ السیّد الشاهرودی (رحمه الله) ینفرد فی تفسیر مبنی المیرزا ، أنه

ص:102

ینفی الحکم الظاهری الفقهی والأصولی معاً، وإن کان هناک جعل وتعبد.

مقدمة فی خصائص العلم التکوینی

وقبل الدخول فی تفاصیل هذه الزاویة لابدّ من التنبه إلی مقدمة ألفت إلیها المیرزا وهی: إنّ العلم التکوینی له ثلاث خصائص:

الأولی: کونه صفة قائمة بنفس العالم [ من حیث إنشاء النفس فی صقعها صورةً علی طبق ذی الصورة وتلک الصورة هی المعلومة بالذات.]

الثانیة: الکاشفیة التامّة عن المعلوم والمحرزیة له [ وهی جهة إضافة الصورة لذی الصورة ] وهذه الخصیصة مترتبة علی الأولی؛ لأنّ إحراز الواقع وکشفه إنما یکون بتوسط الصورة.

الثالثة: الجری والبناء العملی علی وفق العلم [ وهو ولید العلم وأثره].

معنی اعتبار الشیء علماً

ویسمّی العلم بلحاظ الخاصیة الأولی بالقطع الصفتی التکوینی، وبلحاظ الخاصیة الثانیة بالقطع الطریقی التکوینی. والمجعول فی باب الطرق والأمارات هی الخاصیة الثانیة من خصائص العلم، وفی باب الأصول المحرزة هی الثالثة.

وتوضیحه: حیث إنّ الأمارات والأصول المحرزة بدیل اعتباری للمحرز التکوینی [ وهو العلم ] وإنّ الإعتبار علی وزان التکوین، کان من الضروری فی اعتبار شیء بدیلاً للعلم، أن یلحظ فیه أحد جهات العلم وخاصیاته.

نعم، لو لم ینزّل منزلة العلم ولم یعتبر کبدیل عنه فلیس شرطاً ملاحظة أحد خواصه. أما الحیثیة الأولی فلم تلحظ فی أی اعتبار من الشارع وأما الحیثیة الثانیة فقد لوحظت فی اعتبار الأمارات، فالمجعول فیها هو نفس الطریقیة والمحرزیة والکاشفیة؛ حیث

ص:103

اعتبرها الشارع کاشفة وجَعَلَها عِلماً من حیث کاشفیته تعبداً. وقد استشهد لذلک بصحّة احتجاج العقلاء علی من قامت عنده الأمارة أنه: ألم یقم عندک علم؟ وما ورد فی وجوب التعلّم؛ حیث جعل مصداقه الفحص فی أخبار الثقات.

وأمّا الخاصیة الثالثة فقد لوحظت فی:

اعتبار الأصول المحرزة [ کالإستصحاب ] ولیداً من الکشف، ومن ثمّ کان البناء إحرازیاً.

وفی اعتبار الأصول التنزیلیة [ کأصالة الطهارة ] ولکنّه لا بما أنه متولّد من الکاشفیة، فإنّ المجعول فیها هو الطهارة البنائیة لا الطهارة فی نفسها، بقرینة «کلّ شیء لک طاهر» فهی طهارة أصولیة بنائیة لا فقهیة، ومن ثمّ اختلفت عن الإستصحاب.

وإنما سمّیت تنزیلیة لأنّ الحکم المنشأ فیها حکم منزّل منزلة الواقع، فالطهارة المجعولة فی الأصل من سنخ الطهارة الواقعیة، فهو من سنخ الحکم الطریقی الذی إن أصاب کان مطابقاً للواقع، أو من سنخ الحکم الطریقی الذی هو فی صورة الحکم الواقعی.

وأمّا الأصول العملیة التعبدیة المحضة [ کأصالة البرائة الشرعیة ] فلم یجعل فیها حتی البناء، وإنما جعل منشأ التعذیر والتنجیز فهی لرفع الحیرة والتردد فقط.

فاتضح أنّ الجعل فی الأصل المحرز هو للبناء، ولکنّه البناء المتولّد من الکشف ولکن العبارات حول تفسیر رؤیة المیرزا فی حقیقة المجعول فی الأصول المحرزة تعددت واضطربت؛ حیث تجد أنّ البعض یعبّر أنّ المجعول فیها أماریتها [ لأنه یعبّر فی الإستصحاب أنّ الیقین السابق اعتبر أمارة ] وآخر یحکی عن المیرزا أنّ المجعول هو البناء وحرمة النقض.

والحقّ بعد تتبع طویل أنّ المجعول فی الأصول المحرزة عند المیرزا هو البناء العملی المتولّد من الکاشفیة، وبالتحدید هو حکم تکلیفی [ الوجوب ] متعلّق بفعل أصولی [ البناء ].

ص:104

نعم، بالتبع أو بالعرض أو بالإنتزاع یکون الجعل لأماریته [ وهو جعل وضعی، نظیر جعل الجزئیة والشرطیة ] فهو نحو اعتبار له بواسطة أثره وهو البناء، مع الإلتفات إلی أنّ کاشفیة غالب الأصول المحرزة فعل، وهو أقل کاشفیة من اللفظ، ومن ثمّ سمّی أمارة، إلاّ أنها أمارة فعلیة، علاوة علی تسمیته بالأصل.

المائز بین الأمارة والأصل المحرز

وبهذا یتبلور الفرق بین الأمارة والأصل المحرز، فإنّ الأصل المحرز برزخ بین الأمارة والأصل، فهی فرش الأمارات وعرش الأصول، بالإضافة إلی فرق آخر وهو أنّ الأمارة لم یؤخذ فی موضوعها الشک وعدم العلم شرعاً، وإنما أخذ عقلاً بخلافه فی الأصل فإنّ الشک مأخوذ شرعاً فی موضوع الأصل.

الأصل المحرز عند الآخوند

إلاّ أنّ الآخوند والإصفهانی یؤکّدان علی أنّ حقیقة الأصل المحرز جَعلُ المؤدّی أو الحکم المماثل.

وهذا یعنی إرجاعه إلی الأصل التنزیلی الذی هو صورةً حکم فقهی، ولبّاً حکم أصولی؛ لأنه مجعول فی ظرف الشک، حیث أخذ فی موضوعه شرعاً.

مناقشة العراقی فی الأصل التنزیلی

ثمّ إنّ الشیخ العراقی ناقش فی الأصل التنزیلی بأنّ العقل یحکم بضرورة إحراز المصلّی یقیناً أو تعبداً لشرائط الصلاة حتی یسوّغ له الدخول والفراغ منها، وکثیر من الأحیان یُحرَز الشرط بأصالة الطهارة مع أنه أصل تنزیلی.

ومن ثمّ إمّا أن نقول: إنّها أصل إحرازی [ وهو مما لا یلتزم به أحد ] أو أنّ ما هو شرط الصلاة، هی الطهارة الأعم من الواقعیة والظاهریة [ ولازمه القول بالإجزاء حیث حقق ما هو شرط الصلاة

ص:105

واقعاً وهو الطهارة الظاهریة. ]

الإجابة عن مناقشة العراقی

وقد حاول الأعلام الإجابة عن هذا الإشکال، یعثر علیه القارئ فی خفایا کلماتهم.

وخلاصته: إنّ الأصل التنزیلی مثل «کلّ شیء لک طاهر» لا یستفاد من حکم واقعی کما فعله الآخوند تبعاً للنراقی، وذلک بقرینة «لک» [ التی تشکّل قرینة علی أنّ الشارع جعل هذا الحکم البنائی مستهدفاً فی ذلک رفع الحیرة بالبناء تنزیلاً علی وجود الطهارة لکی ترتب علیها الآثار].

وبعبارة أخری: جعل لرفع الحیرة تجاه تحقیق شروط الصلاة، فالشارع یعذر عن حکم العقل بالإحراز.

وببیان آخر أکثر وضوحاً وعمقاً: إنّ العقل یحکم بضرورة إحراز الطهارة إما یقیناً أو تعبداً، ولکنّه من دون أن یقید الطهارة بالواقعیة، وأصالة الطهارة توفّر إحرازاً وجدانیاً للطهارة الظاهریة [ لا إحرازاً تعبدیاً للطهارة الواقعیة ] وهذا لا یعنی الإجزاء؛ لأنّ غایة ما یفیده «لک طاهر» البناء علی وجود الشرط الظاهری المجعول بلسان التنزیل والإناطة والتعلیق والرهن بالواقع فهو جعل مراعی ومغیّی بعدم انکشاف الواقع «لک طاهر حتی تعلم»، لا بلسان الواقع وتوسعة الشرط کی یحصل إجزاء.

وأخیراً فرق الأصل الشرعی العملی المحض عن العقلی أنّ العقلی لا بناء فیه وإنما تعذیر وتنجیز صرف، و فی الشرعی بناء عملی. وقیل: إنّ الفرق فقط أنّ هذا شرعی وذاک عقلی. ولکن الحق هو الأول.

تقریر الشاهرودی لمبنی النائینی (قدس سرهما)

بعد هذه المقدّمة، وبعد أن اتضح أنّ المجعول فی الأمارات

ص:106

الکاشفیة نرجع إلی ما ذکره السیّد الشاهرودی، فقد أثار تساؤلاً حول ما یظهر من الکلمات عن المیرزا فی جعل الأمارة علماً تعبداً أنه کیف یعتبر الشیء الذی لیس بعلم علماً، إن کان بلحاظ التنجیز والتعذیر أو البناء عادت الأمارة أصلاً؟

وببیان آخر: إنّ التنجیز منوط بالعلم، وقبح العقاب معلّق علی عدم العلم، فالتعبد کیف یوجد الظن علماً حقیقة کی یترتب التنجیز ویرتفع قبح العقاب؟

علم تعبدی أو علم وجدانی حاصل من التعبد

من هنا ذکر (قدس سره) أنّ مبنی المیرزا هو أنه لا یرید أن یقول إنّ المجعول حکم وضعی [ هو مفهوم الطریقیة والعلم ] لأنّ کلّ الطرق بناءات عقلائیة ممضاة من قبل الشارع [ وهی نکتة أساسیة نستفید منها فیصلاً للأمر، وقد قبلها الشیخ الإصفهانی ] فلا جعل تأسیسی فیها وإنما الجعل إمضائی، والإمضاء یکون سبباً تکوینیاً فی حصول حالة العلم العادی والإطمئنان عند العقلاء، وأنّ ما اعتادوا به من أمارات لیست إصابتها غالبیة وإنما أکثر من الغلبة. فالعلم التعبدی یقصد منه علم وجدانی بسبب التعبد [ أی إنّ الإضافة نشویة، فهو علم ناشئ من التعبد. ]

تساؤلات حول تقریر الشاهرودی لمبنی النائینی

هذا وقد أثیرت مجموعة من التساؤلات حول نظریة المیرزا:

التساؤل الأول: إن کان الظن علماً فاعتبار الشارع له علماً

ص:107

تحصیل للحاصل، وإن لم یکن علماً فلا معنی لصیرورته علماً بالإعتبار والجعل.

وقد أجاب السیّد الشاهرودی عن الشق الثانی من السؤال وقد تقدّم.

وأما الشق الأول فیدفعه: أنّ اعتبار الشارع إن کان تأسیساً فهو تحصیل للحاصل، وأما إذا کان إمضاءً لما اعتبره العقلاء فلا تحصیل للحاصل؛ إذ هو جعل شرعی إمضائی للعلم العقلائی.

التساؤل الثانی: هل اعتبار العقلاء للظن علماً من جهة الکاشفیة أو من جهة الإذعان والوثوق؟ والکاشفیة هل تزداد فی الظن باعتبار العقلاء وتتبدل أو لا؟

ومصبّ هذا التساؤل [ کما هو واضح ] هو الإعتبار العقلائی، فی حین أنّ الأول موجّه للحجّیة الشرعیة.

اعتبار الأمارة حکم تکلیفی

التساؤل الثالث: [ والذی أثاره المحقق العراقی ] أنّ اعتبار الأمارة علماً حکم وضعی، وقانون الحکم الوضعی أن یکون بلحاظ حکم تکلیفی یکون موضوعاً له، فلا یمکن [ والحالة هذه ] حصر اعتبار الأمارة علماً فی إطار جعل وضعی فقط وإنما لابدّ من جعل تکلیفی أیضاً یکون الجعل الوضعی بلحاظه.

ومن ثمّ ذهب الشیخ الأنصاری إلی أنّ الحکم الوضعی غیر متأصل بالجعل، وأنّ المتأصل هو التکلیفی.

وآخرون تمکّنوا من تصویر تأصّله، ولکنّهم مع ذلک اشترطوا ترتّب الأثر التکلیفی علیه.

وهذا هو المنسجم مع تعریف الفقه بأنه العلم الباحث عن الإقتضاء واللاإقتضاء فی فعل المکلّف، الدالّ علی انحصار محمولات الفقه بالحکم التکلیفی.

ولکن مع کلّ هذا، خالف السیّد الشاهرودی هذا الإتّجاه تماماً حیث

صوّر أنّ المتأصل هو الوضعی وأنّ التکلیفی یکون بلحاظه.

صیاغات للتساؤل الثالث

ویضیف المحقق العراقی أنّ الحکم التکلیفی المجعول فی مورد الأمارات هو وجوب إتّباع الأمارة والإستناد إلیها کفعل أصولی.

وفی صیاغة أخری لتساؤله إنّ جعل الأمارة علماً تنزیل، والتنزیل لابدّ أن یکون بلحاظ أثر المنزّل علیه، ولیس هو إلاّ الحکم التکلیفی

ص:108

باتّباع الأمارة؛ إذ لم یعهد تنزیل بدون أثر ووجه شبه.

وصیاغة ثالثة: إنّ جعل الأمارة علماً من دون جعل تکلیفی لغو.

وهذه الصیاغات الثلاث تختلف سنخاً؛ فإنّ الأولی تنطلق من فهم کلام المیرزا أنّ الجعل فی الأمارات حکم وضعی، و الثانیة من فرض أنّ الجعل من خلال التنزیل اللفظی البیانی، و الثالثة تنطلق من قانون الجعل مهما کان نوعه لابدّ له من مصحح وإلاّ کان لغواً.

ملاحظات علی التساؤل الثالث

ویلاحظ علی الصیاغة الأولی: إنّ القاعدة منخرمة فی عدّة موارد من الفقه، حیث إنّ هناک جملة من الأحکام الوضعیة لا یترتب علیها أی أثر تکلیفی، وإنما تقع موضوعاً مباشراً للحکم العقلی، فلیکن ما نحن فیه من تلک الموارد، فلا حاجة إلی فرض جعل تکلیفی علاوة علی الجعل الوضعی للأمارة علماً.

ویلاحظ علی ما ذکر فی تعریف الفقه: بأنّ الحکم الوضعی أیضاً مرتبط بفعل المکلّف فهو من المحمولات کالإقتضاء واللاإقتضاء.

أقسام التنزیل

ویلاحظ علی الصیاغة الثانیة: إنّ التنزیل [ وکما أشرنا سابقاً تبعاً للمحقق العراقی وتفصیل السیّد الصدر ] علی قسمین:

أحدهما: بمعنی التشبیه، وهو شأن لفظی بلاغی دلالی. وفیه یذکر الأعلام أنه لابدّ أن یکون بلحاظ کلّ أو أهم آثار المنزّل علیه، مع بناء الأکثر علی الثانی [ أهمّ الآثار ] مع العلم بأنّ المجعول فی هذا القسم هو الأثر، وأمّا التنزیل فلیس بجعل، وإنما هو تشبیه لا أکثر.

ثانیهما: أن یکون من سنخ الحکم والجعل لا من سنخ الدلالة علی الجعل، فهو بنفسه جعل وإن جاء فی لسان الشارع بصورة تشبیه، إلاّ أنه لبّاً وکنهاً جعل، ولساناً وشکلاً تنزیل.

ویظهر الفرق بین القسمین فی ترتب أهمّ الآثار أو کلّها، حیث إنّه

ص:109

فی القسم الأول یکون الجعل لأهمّ الآثار وأبرزها. وفی القسم الثانی لکلّ الآثار.

والضابطة فی التمییز بین القسمین أنّ المشبه به إن کان حکماً وجعلاً فهو تنزیل من القسم الثانی، وإن لم یکن من سنخ الجعل بأن کان أمراً تکوینیاً فهو تنزیل من القسم الأول، أی إنه تنزیل لفظی بیانی دلالی.(1)

اعتبار الأمارة من أیّ أقسام التنزیل؟

والمحقق العراقی فهم من تنزیل الأمارة منزلة العلم [ علی تقدیر کونه تنزیلاً ] أنه تنزیل من القسم الأول؛ لأنّ المشبه به أمر تکوینی وهو العلم. [ومن ثمّ فرّع علیه أنه لابدّ أن یکون بلحاظ أهمّ آثاره، ویکون ذلک الأثر هو المجعول ولیس إلاّ الحکم التکلیفی بالإتّباع. ]

وهذا صحیح إن کان التنزیل من القسم الأول، إلاّ أنه یمکن أن

ص:110


1- (1) . [س] بعد أن کان اللسان فی القسم الثانی التنزیل واللب الجعل لم یبق فرق بینه وبین سابقه، لأن القسم الأول لسانه تنزیل ولبه جعل الأثر؟ [ج] بغض النظر عن کیفیة بیان القسمین والفرق بینهما، فإنّ واقع المطلب أنّ فی کلمات الشارع نجد نحوین من التنزیل، أحدهما یکون المشبه به جعلاً شرعیاً کالمیتة، فالتنزیل علیه یکون من سنخ الجعل بمعنی أنه جعل للموضوع للمنزل وبالتالی تترتب علیه کلّ الآثار، وأخری لا یکون کذلک بأن یکون المشبه به - مثلاً - أمراً تکوینیاً، فلابدّ من وجه شبه، وقد ذکروا فی البلاغة أنّ التشبیه لا یکون بلحاظ کلّ أوجه الشبه وإنما بلحاظ الأثر المهم والبارز، وبالتالی لا یثبت من الجعل سوی جعل هذا الأثر.

یکون من القسم الثانی بالإلتفات إلی أنّ هناک حالاتٍ جُعِلَ فیها العلمُ الإعتباری [ کما فی البیّنة حیث إنها ظن إلاّ أنها جعلت بیّنة وعلماً ] ومعه یمکن أن یکون تنزیل الأمارة من باب الجعل والتوسعة فی الوجود الإعتباری للعلم.

وبعبارة أخری: لیس دوماً [ إذا کان المشبه به عنواناً تکوینیاً ] یکون التنزیل لفظیاً وبلحاظ أهمّ آثاره، وإنما إذا کان العنوان التکوینی له أفراد اعتباریة مجعولة أمکن أن یکون التنزیل بلحاظها، ومن ثمّ یکون من سنخ الجعل. وحیث إنّ بعض الظنون [ کشهادة عدلین ] قد اعتبرت علماً وبیّنة، أمکن أن یکون تنزیل باقی الظنون من الأمارات من سنخ الجعل وتوسعة الوجود الإعتباری للعلم.

والمتأمل فی کلمات المیرزا یجد قرائن علی أنه یفهم أنّ جعل الأمارة وضعی لا تنزیلی کی یطالب بالأثر.

الفرق بین مصحّح الجعل وأثره

ویلاحظ علی الصیاغة الثالثة: إنّ المتأخرین میّزوا بین مصحّح الجعل وأثره؛ حیث یکفی فی المصحّح أن یکون أثراً عقلیاً. ففی الإستصحاب مثلاً ذکروا أنه لابدّ أن یجری إما فی أثر شرعی أو فی موضوع أثر شرعی، ولکنّه مع ذلک نجد أنّ الإستصحاب یجری فی الطهارة لتصحیح الصلاة مع أنه استصحاب فی مقام الإمتثال، مما أوجب أن یتنبه الأعلام لنکتة وهی أنه لیس شرطاً فی الإستصحاب أن یکون فی أثر أو موضوع أثر شرعی، وإنما شرط الجعل إما الأثر أو المصحّح وإن کان أثراً عقلیاً.

إذا اتضح هذا نقول: یکفی فی جعل الأمارة علماً المصحّح، وهو الأثر العقلی [ التنجیز والتعذیر ] واللغویة مع عدم المصحّح لا مع عدم الأثر.

ومع وجود المصحّح لا یلزم وجود جعل تکلیفی جنباً إلی جنب جعل الأمارة علماً، فلا یثبت مطلوب المحقق العراقی.

المختار فی المسألة

الحق مع المیرزا فی تفسیره لحقیقة جعل الحکم الظاهری، إمّا لامتناع الوجوه الأخری أو لعدم موافقتها للأدلّة الشرعیة؛ وذلک لأنّ الحکم الواقعی یتنجّز علی المکلّف بالعلم، وهذه قضیة عقلیة موضوعها الحکم الواقعی المعلوم ومحمولها التنجیز.

وجعل الحجّیة [ مهما فسّر ] لا یعقل أن یکون جعلاً للتنجیز

ص:111

والتعذیر؛ لأنهما شأنان عقلیان، فی حین أنّ هذا الجعل لا یخرج عن کونه نیابة وبدیلاً عن القطع فی المنجّزیة والمعذّریة. ومن ثمّ ذکروا أنّ ملاک جعل الحجّة هو التنجیز والتعذیر، ومع هذا لا بد أن یکون الجعل للحیثیة التی تکون بدیلاً عن موضوع القضیة العقلیة وهو العلم.

عدم إمکان تصرف الشارع فی موضوع القضیة العقلیة

إلاّ أنّ هذا البیان یواجه إشکالاً أشار إلیه الأعلام وهو: أنّ الشارع کما لا یمکنه التصرف فی محمول القضیة العقلیة لأنه عقلی، کذا لا معنی للتصرف فی الموضوع، لأنّ العقل یحکم علی ضوء ما یراه هو موضوعاً وعلّة، وإلاّ لم یحکم.

جواب الأعلام

وقد أجاب الأعلام عن هذا الإشکال: أنّ حکم العقل بالتنجیز والتعذیر من حکم العقل غیر المستقل المنبثق عن حکم الشرع وإرادته، وبالتالی فهو منوط بإرادة الشارع، فله أن یجعل بدائل للعلم فی استعلام شریعته، کما أنّ له أن یمنع من الإعتماد علی بعض حالات العلم کطریق إلی شرعیته.

إلاّ أنّ هذه الإجابة غیر وافیة بعد أن کان إدراک العقل وحکمه قد علّقه علی العلم بحکم الشارع، فأیّ بدیل لا یکون علماً لا یعتنی به العقل، ومن ثمّ جاءت نظریة المیرزا جواباً وحلاً لهذا المشکل، حیث صوّرت أنّ بدائل الشارع قد اعتبرها علماً، ومن ثمّ یتحقق موضوع حکم العقل وهو العلم بالحکم الواقعی، ولکنّه علم تعبدی لا وجدانی.

وأمّا المبانی الأخری فإن کانت فی صدد وضع تفسیر للحجّة بما أنها منجّزة للحکم الواقعی فهی غیر موفقة لعدم تصویرها وجود علم بالحکم الواقعی لا وجداناً ولا تعبداً.

وإن کانت فی صدد وضع تفسیر بلحاظ تنجّز الحکم الظاهری [ والذی یستبطن تنجیز الواقع بشکل ] فهی ممکنة ثبوتاً لوصول الحکم

ص:112

الظاهری [ مهما کان تفسیره ] وجداناً، إلاّ أنها خلاف ظاهر الأدلّة الدالّة علی حجّیة الأمارات.

ولو لاحظنا الأدلّة اللفظیة علی حجّیة خبر الواحد - مثلاً - لوجدنا أنّ ألسنتها مختلفة، فبعضها یدلّ علی الحکم المماثل مثل «فعنّی یؤدّی»، وآخر یدلّ علی أنه واجب الإتّباع مثل «خذ ما اشتهر بین أصحابک»، وثالث یدل علی أن کنه الظاهری جعله علماً مثل «لیس له التشکیک»، ورابع علی أنه مفهوم الحجّیة مثل «إذا قامت علیه الحجّة».

ولکن لمّا کانت کلّ هذه الأدلّة إمضائیة لا تأسیسیة، وتشیر إلی ما تبانی علیه العقلاء لابدّ من ملاحظة ما حصل علیه التبانی وهو جعل الأمارة علماً، بشهادة صحة الإحتجاج علی من قام عنده الخبر «ألم یقم عندک علم؟» بعد الإلتفات إلی أنّ الجعل لا یمکن أن یکون لکلّ الألسنة وإنما لواحد منها.(1)

هذا ما کنّا نبنی علیه سابقاً فی الأصول.

منجّزیة الإحتمال

هناک لفتة رائعة ألفت إلیها الأعلام فی الأصول العملیة وهی أنّ صرف الإحتمال منجّز، ولا یرتفع تنجیزه إلاّ مع مؤمّن ومعذّر. ومعه لا حاجة إلی ادعاء أنّ الظن علم، وإنما نفس کونه ظناً منجّز، بل ذکرنا سابقاً أنّ الإحتمال درجة نازلة من العلم، وهو العلم

ص:113


1- (1) . [س] إذن ما هو مبرر اختلاف الألسنة إذا لم تکن هی المجعولة؟ [ج] ظاهرة طبیعیة نجدها فی کثیر من الأدلّة وهی أنّ الشارع ینوّع فی تعبیره عن الحقیقة، ویکون ذلک من خلال الآثار واللوازم، وفی ما نحن فیه کذلک، فإنّ واقع جعل الأمارة هو جعلها علماً، إلاّ أنّ الشارع استخدم تعبیرات متعددة وتشیر إلی تلک الحقیقة. [س] وهذا یعنی أنّ الحکم المماثل ومفهوم الحجّیة ووجوب الإتّباع کلّها تلازم جعل الأمارة علماً؟ [ج] نعم، ولکنها ملازمات عقلیة کالجزئیة والشرطیة.

التصوری فی قبال الجهل المرکب. وخبر الواحد وأمثاله من الأمارات سیکون سبباً تکوینیاً فی حصول العلم التصوری بالواقع والذی یکفی فی حصول التنجیز.

ثمرات هذا المبنی

هذا المبنی لو تمّ لا یواجه إشکال کیفیة تصرف الشارع فی القضیة العقلیة، ومن ثمّ لا یحتاج إلی إجابة السیّد الشاهرودی المتقدمة، کما أنّ هذا المبنی الذی ذکروه فی الأصول العملیة لا ینسجم مع محاولات الأعلام فی وضع تفسیر للحکم الظاهری لا یواجه إشکال ابن قبة وإشکال محذور التصرف فی القضیة العقلیة.

ومن جهة ثالثة أنّ هذا المبنی سیجعل من مسار تصور الحجج شکلاً آخر غیر ما ذکره الأعلام.

تساؤلات حول مبنی منجّزیة الإحتمال

القول بمنجّزیة مطلق العلم [ حتی أضعف درجاته وهو العلم التصوری الوهمی باصطلاح المنطق ] یواجه مجموعة من الأسئلة:

السؤال الأول: کیف نفسّر الأمارات علی ضوء هذا المسلک، حیث إنّه قد یقال بعدم الحاجة إلی جعل الحجّة الإعتباریة بعد أن کان الإحتمال منجّزاً، والأمارة بنفسها توجب الإحتمال تکویناً، فلا تحتاج إلی جعل شرعی، ومع تصویر الحاجة یقع السؤال عن حقیقة هذا الجعل؟ وبعبارة أخری: السؤال عن الملاک ثمّ عن الحقیقة.

السؤال الثانی: ما هو تفسیر جعل البراءة الشرعیة؟ إذ یقع السؤال عن طبیعة علاقتها مع العلم المنجّز بقول مطلق.

السؤال الثالث: ما هی فائدة الإحتیاط الشرعی بعد أن کان الإحتمال منجّزاً؟

السؤال الرابع: کیف نفلسف البراءة العقلیة، فهل هی من عرض إدراک العقل لمنجّزیة الإحتمال أو فی طوله وکیف؟

السؤال الخامس: من الواضح إمکان تصرّف الشارع مع

ص:114

الإحتمال، ومن ثمّ یتساءل لِمَ أمکن؟ مع أنّ الإحتمال منجّز عقلاً، ولم یمکن تصرفه فی العلم التصدیقی الجازم مع أنّ کلاًّ منهما منجّز ذاتاً؟

السؤال السادس: هل الحجّیة والتنجیز فی الإحتمال والظن وما بعده من المراتب علی نسق واحد أو مشکک؟

السؤال السابع: الإحتمال دوماً یقابله ترجیح الطرف الآخر، فلِمَ کان الإحتمال منجّزاً ولم یکن الترجیح المقابل له معذّراً مع أنه أقوی درجة منه.

الفرق بین نظریة حق الطاعة ونظریة منجّزیة الإحتمال

قد یتصور أنّ نظریة الشهید الصدر [ حق الطاعة ] هی عین ما ذکره الأعلام فی الأصول العملیة من منجّزیة حتی الإحتمال، إلاّ أنّ الصحیح أنّ هذا التصور خاطئ، وأنّهما مسلکان متباینان، مع الإقرار بأنّ الشهید الصدر قد خطا خطوات إیجابیة بالقیاس إلی ما نظره الأعلام هنا، ولکنّه لم یبیّن حقیقة الحکم الظاهری، کما أنه لم یُجِب علی مجموعة من الأسئلة المتقدمة بالإضافة إلی ملاحظاتنا علی أصل نظریته.

بیان نظریة حق الطاعة

ولابدّ من بیان نظریته کی یتبلور الفرق بینها وبین ما نظره الأعلام فی الأصول العملیة.

الشهید الصدر یدّعی أنّ تفرقة الأعلام بین وجوب الطاعة والتنجیز فی غیر محلّها، وأنّ الصحیح هو أنّ التنجیز عین وجوب الطاعة، فالذی تجب طاعته هو الذی یستحق العقوبة علی مخالفته؛ لا ما ذکره الأعلام من أنّ وجوب الطاعة مرحلة سابقة علی مرحلة التنجیز ثبوتاً ومتأخرة عنها إثباتاً، لأنّ التنجیز هو الذی یکشف عنها کشفاً إنّیاً.

وقد خطّأ السیّد الصدر الأعلام فی جعلهم موضوعیة للکاشف [ والتی علی أساسها فرّقوا بین التنجیز ووجوب الطاعة ] وأنّ

ص:115

الصحیح هو أنّ الموضوعیة للمنکشف، وأنّ عیار التنجیز هو المحتمل، غایته أنّ وجوب الطاعة یختلف من مولی إلی آخر؛ ففی المولی العرفی وجوب طاعته متوسط، [ و بتبعه یکون التنجیز متوسطاً، ومن ثمّ کان بحاجة إلی منجّز قوی ] بخلافه فی مولی الموالی فإنّ وجوب طاعته غایة فی الشدة [ فکذا تنجیزه، ومن ثمّ یتحقق بأدنی احتمال. ]

ثمّ بعدئذ یناقش فی صحّة قبح العقاب بلا بیان [ وقد سبقه إلی ذلک المحقق الإصفهانی بحجّة أنّ الحسن والقبح اعتباریان لا عقلیان ] إلا أنّ الشهید الصدر لم یدخل فی المناقشة من خلال المحمول، وإنما من خلال الموضوع، حیث ذکر أنّ العدل و الظلم یعنیان عدم تجاوز الحق وتجاوزه، والحق أمر اعتباری؛ فالمحمول [ وهو الحسن والقبح ] اعتباریان، فالقاعدة تجری فی الحقوق الإعتباریة، وهی مختصة حینئذ فی الموالی العرفیین، حیث إنّ حقوقهم اعتباریة، وأمّا مولی الموالی فحقه لمّا کان ذاتیاً فالإحتمال منجّز لأحکامه ولا تجری القاعدة فیها.

المناقشة فی نظریة حق الطاعة

إلاّ أنه لم یُجِب عن معنی جعل الأمارات ومبرّره، وما هی حقیقته، إذ لا نحتاج إلی أکثر من مخصّص ومضیّق للبراءة الشرعیة، ولیس شرطاً أن یکون بصیغة الجعل، وإنما یمکن أن یکون بلسان التحدید؛ بالإضافة إلی أنّ ما ذکره من العینیة غیر مقبول، فإنّ استحقاق العقوبة غیر وجوب الطاعة الذی یعنی حق المولی علی العبد أن یطیعه؛ فإنّ الأول غیر منوط بالعلم، والثانی منوط به، وهذا دلیل المغایرة.

منشأ نظریة حق الطاعة

ولعلّ السبب فی تصوّر الشهید الصدر العینیة ما ذکر فی العقل العملی من أنّ حسن العدل واستحقاق المدح علیه، عین قبح الظلم

ص:116

واستحقاق الذم علیه، واستحقاق الذم والمدح عند الشارع عقوبته ومثوبته وبما أنّ وجوب الطاعة یقصد منه حسن الطاعة واستحقاق المدح علیها، فهی عین قبح المعصیة واستحقاق الذم علیها.

إلاّ أنّ الحق عدم العینیة، وأنها إدراکان وحکمان؛ فإنّ القبح معلّق علی العلم دون الحسن. ففی شکر المنعم یترتب الکمال علی فاعله وإن لم یلتفت، وأمّا فی المعصیة فإنّها متقدمة بالطغیان والجموح والعصیان، وکلّها متقومة بالعلم. وبعبارة أخری: الحسن یعنی الکمالات، والقبح یعنی الدرکات، فهما شیئان لا شیء واحد.

نعم، هما حکمان یترتب التنجیز فیهما علی وجوب الطاعة، ولیسا فی عرض واحد.

والنتیجة: أنّ التنجیز وإن أخذ فیه الواقع الواصل فالمحتمل غیر مغفول عنه، ولکن لابدّ من الوصول، فهو جزء من موضوع التنجیز وبدونه لا یتحقق التنجیز، بخلافه فی وجوب الطاعة.

وأمّا ما ذکره من أنّ الحق اعتباری، ومن ثمّ بنی علی اعتباریة قاعدة القبح، فجوابه قد تقدّم فی بحث القطع، حیث ألفتنا إلی أنّ الحق تکوینی فلا یصلح دلیلاً علی الإعتبار.

کما أنّ ما ألفت إلیه من عدم أهمیة تحدید وبیان حقیقة الجعل فی الأمارات [ لأنّ کلّ المبانی تبرز أهمیة الواقع عند الشارع، ومن ثمّ یکفی ذلک فی التنجیز ] یلاحظ علیه أنّ العلم الحاصل باهتمام الشارع:

إن کان یعنی العلم بجعل الإحتیاط الشرعی، فهو حکم ظاهری یرد علیه ما أوردناه علی الأعلام.

وإن کان یعنی العلم بجعلها علماً اعتباریاً، فهو یرجع إلی مبنی المیرزا لا غیر.

وإن کان یوجب العلم الوجدانی فهو یرجع إلی کلام السیّد الشاهرودی وقد أوضحنا ما فیه.

وإن کان یرجع إلی الإحتیاط العقلی فجوابه أنّ المجعول نفسه

ص:117

منجّز لا الإحتیاط العقلی، ومن ثمّ یتضح أهمیة بیان حقیقة الجعل، وإن کان کلام الشهید الصدر یعالج إشکال ابن قبة علی صعید الملاک.

مدّعیاتنا

مدّعیاتنا التی تجیب عن ما تقدّم من التساؤلات وترسم خارطة الحجج، ومن ثمّ یظهر الفرق مع ما نظّره الشهید الصدر هی:

1. إنّ التنجیز دوماً تکوینی ولیس بالجعل، ویحصل حتی مع الإحتمال، وأنه لیس متواطیاً وبدرجة واحدة، وإنما مشکک.

2. الشارع اعتبر الأمارات وجعلها، وحقیقة هذا الجعل جعلها علماً، ولکنّه لیس تصرفاً فی التنجیز، لا فی محموله ولا فی موضوعه، وإنما تصرف فی قضیة شرعیة أخری.

3. قاعدة قبح العقاب بلا بیان لیست عقلیة، وإنما عقلائیة. ولکن لا ببیان الشیخ الإصفهانی ولا ببیان السیّد الصدر، وإنما ببیان آخر ألفت إلیه فی الجملة المیرزا الکبیر، وبالتالی فالبراءة الشرعیة إمضاء لها.

الإستدلال علی المدّعیات

ویبدأ من بیان علاقة البراءة الشرعیة مع الحکم الواقعی، وأنه کما ذکر الآخوند قید شرعی فی الفعلیة التامة للحکم الشرعی، بمعنی أنها رفع شرعی لعزیمة الحکم الواقعی، حیث لا طریق للجمع بینها وبینه إلاّ بهذه الکیفیة، بعد أن کان الحکم فعلیاً من قبل المولی لتمامیة ملاکه بتحقق قیود الإتصاف، وبعد أن لم یمکن التصرف فی الأطوار العقلیة للحکم لا موضوعاً ولا محمولاً، خلافاً لما تقدم منّا من إمکان التصرف فی الموضوع.

فالإحتمال منجّز ولکن علی شرط أن یکون المحتمل هو الحکم الشرعی الفعلی التام، فإنه هو الذی یکون فاعلاً وبالتالی منجّزاً.

وفی مورد البراءة الشرعیة [ الجهل القصوری ] لیس هناک حکم

ص:118

فعلی تام کی یکون منجّزاً؛ لأنّ الفعلی التام مقید شرعاً بعدم الجهل التصدیقی تقصیراً، فمع العلم التصوری لم یتحقق القید، فلم یکن الحکم فعلیاً تاماً. وهذا التصویر لا یلزم منه التصویب بعد أن کان ملاک الواقع علی ما هو علیه من دون أیّ تصرف فیه.

الجمع بین إدراک العقل للبراء وإدراکه لمنجّزیة الإحتمال

وأمّا البراءة العقلیة فهی تواجه إشکالاً عویصاً أشار إلیه الأعلام فی آخر بحث البراءة، وأشرنا إلیه فی التساؤلات، وهو أنه کیف نفسّر إدراک العقل للبراءة وقبح العقاب مع إدراکه لمنجّزیة الإحتمال واستحقاق العقوبة معه ووجوب دفع الضرر المحتمل؟

المقصود من البیان

وقد تصدّی الأعلام [ ابتداءً من الشیخ ] للإجابة عن هذا الإشکال، فکانت النتیجة أجوبة متعددة إلاّ أنّ عمدتها هو: أنّ المقصود من البیان لیس مطلق العلم حتی التصوری الإحتمالی بعد الفحص، وإنما ما تبانی علیه العقلاء وسیلة للتفهیم والتفاهم، وهو العلم التصدیقی النوعی الموضوع فی أیدی عموم الناس بحیث یمکنهم تحصیله. فالعلم التصوری لیس بیاناً، وکذلک العلم التصدیقی الذی لا یتمّ الحصول علیه بالفحص لیس بیاناً، ومن ثمّ فلو فحص عن العلم التصدیقی بالنحو المتعارف ولم یحصل علیه کان بلا بیان، فیقبح معاقبته وإن حصل له علم تصوری.

ولو دقّقنا فی هذه الإجابة لوجدنا أنها تحلّل القاعدة إلی قضیتین، عقلیة مترتبة علی قضیة عقلائیة. العقلیة هی قبح العقاب بلا حکم إلزامی موجود، والعقلائیة هی أنّ إلزامیة الحکم [ فعلیته التامّة ] مقیدة بالعلم التصدیقی الموضوع فی أیدی عموم الناس. ونسبة هذه القاعدة إلی الإحتمال المنجّز کنسبة البراءة الشرعیة إلی الإحتمال المذکور، بل إنّ البراءة الشرعیة إمضاء لما بنی علیه العقلاء. ومع هذا لا تتدافع البراءة مع وجوب دفع الضرر المحتمل؛ إذ لا ضرر

ص:119

محتمل فی مورد البراءة لعدم وجود حکم إلزامی محتمل الذی هو موضوع البراءة العقلیة، وعدم الحکم الإلزامی الفعلی التام لعدم توفّر قیده، وهو العلم الخاص الذی أخذه العقلاء قیداً، وکان للشارع أن یتخطی بناء العقلاء هذا فلا یمضیه ویجعل الإحتیاط منجّزاً.

ومما تقدّم فُهمَ السرّ فی جعل البراءة شرعاً، حیث کان له الردع عن البراءة العقلائیة وجعل العکس وهو جعل الإحتیاط منجّزاً.(1)

ومنه یبزغ ضرورة جعل الأمارة بل وجعلها علماً، من أجل أن یوفّر الشارع قید الفعلیة التامة وهو العلم، فهی تعبدات بلحاظ القضایا

الشرعیة، لا بلحاظ القضیة العقلیة.

کما یظهر السبب فی عدم کون الإحتمال [ المقابل لاحتمال الحکم الفعلی المتنجز والذی هو الإحتمال الأکبر ] معذراً؛ حیث إنّ منجّزیة الإحتمال حتی الضعیف لا تکون إلاّ مع فرض اعتبار الطریق وجعله حتی یکون المحتمل هو الحکم الفعلی، وفی مثل هذه الحالة لا یقابله إلاّ احتمال عدم وجود الحکم من رأس؛ إذ لا یعقل احتمال الفعلی الناقص بعد فرض أنّ الطریق معتبر.

فیختص الإحتمال المعذّر فی ما إذا کان متعلّقه غیر الفعلی التام، ولم یکن الفعلی التام محتملاً.

علی هذا یکون احتمال الحکم الفعلی منجّزاً، ومعناه احتمال الحکم

ص:120


1- (1) . [س] البراءة عقلائیة لا عقلیة، ومن ثمّ کانت بحاجة إلی إمضاء شرعی، ولکن احتمال الضرر ووجوب دفعه عقلی، ومعه لا حاجة إلی جعل الإحتیاط الشرعی، بل یکفی عدم إمضاء البراءة العقلائیة فی أن یلعب الإحتمال دوره فی التنجیز، ویتضح السؤال أکثر بالإلتفات إلی ما ذکرتموه من أنّ البراءة العقلائیة تقیید فی الفعلیة التامة، فیکفی فی الشارع أن لا یقید فعلیة أحکامه التامة، فیکون احتمالها عندئذ منجزاً من دون حاجة إلی جعل الإحتیاط الشرعی؟ [ج] نعم، لا معنی لجعل الإحتیاط الشرعی. نعم، لابدّ من الردع الشرعی عن بناء العقلاء علی البراءة، و إلاّ فالسکوت مع مثل هذا البناء القوی المتجذر إمضاء، وهو المقصود من الإحتیاط الشرعی، الذی هو احتیاط عقلی وتنجیز فی موارد البراءة العقلائیة التی ردع الشارع عنها فی قبال الإحتیاط العقلی الصرف الذی هو فی غیر موارد البراءة العقلائیة.

المعلوم تعبداً أو وجداناً، وهو لا یخلو من تهافت خاصة فی العلم الوجدانی. نعم، مع تقیید العلم بالنوعی أو ما یمکن حصوله قد تنحلّ المشکلة؟

قلت: مع العلم الوجدانی بالحکم الواقعی لا معنی للإحتمال المنجّز لوجود العلم، وفی العلم التعبدی فلا یوجد غیر احتمال الحکم الواقعی کی یکون منجّزاً، إذ مع العلم التعبدی لا نعلم بالحکم الواقعی الفعلی وجداناً، وإنما نحتمله وجداناً لا أکثر لاحتمال خطأ العلم، فلا فعلیة تامة عندئذ. (1)

ثمرات نظریتنا

ثمّ إنّ هناک مشکلات أخری ستنحلّ علی ضوء ما نظّرناه فی المقام، لم نشر إلیها فی التساؤلات:

منها: الفحص، حیث وقع الأعلام فی مشکلة من حیث تخریج لزومه ومنجّزیته بعد أن کان دلیل البراءة مطلقاً، فی حین أنا لا نواجه مثل هذه المشکلة علی نظریتنا؛ لأنّ جعل البراءة لا إطلاق فیه

ص:121


1- (1) . [س] الفعلی التام هو الحکم المعلوم وجداناً أو تعبداً، فالبراءة علی هذا تعبیر آخر عن جعل الأمارات، ولیس جعلاً فی طول الأمارات، أو تعبیر عن عدم وجودالحکم الفعلی التام فی مورد عدم العلم الوجدانی والتعبدی الذی هو لازم طبیعی لقیدیة العلم بقسمیه فی الحکم الفعلی التام؟ أو یقال: إنّ البراءة هی صیغة التقیید العقلائی أو الشرعی للفعلیة التامة بعلم خاص، والأمارات من باب جعل المصداق، فلیس الفرق حینئذ أنّ الأمارة أخذ فی موضوعها الشک عقلاً، والأصل [بما فی ذلک البراءة] أخذ فی موضوعه الشک شرعاً. ولا معنی للقول: إنّ البرءاة أصل عملی، وإنما هی صیغة تقیید للحکم الشرعی کأی قید شرعی آخر؟ [ج] ما ذکر فی السؤال سلیم جداً لو لم تکن البراءة الشرعیة جعلاً شرعیاً علاوة علی کونها تقییداً وتحدیداً، إلاّ أنّ الحق کما علیه المحقق الإصفهانی أنها فی الوقت التی هی تقیید هی جعل للترخیص، وعلی هذا الأساس کانت أصلاً وقد أخذ فی موضوعها الشک شرعاً. وقد ألفتنا سابقاً إلی أنّ التخصیص کذلک کما یکون تحدیداً بحتاً قد یکون بصیغة الجعل کما فی مثل «لا تکرم العالم الفاسق».

وإنما هو لبیان أنّ العلم الخاص قید الفعلیة التامة.

ومنها: مع کون الإحتمال منجّزاً لا مؤونة کبیرة فی التدلیل علی منجّزیة العلم الإجمالی، حیث یتکفل التنجیز أصل الإحتمال، وأمّا العلم فله فائدة أخری وهی أنه یسبّب تعارض الأصول، بل إنّ مبنی منجّزیة الإحتمال یساهم فی حسم الخلاف فی أنّ التنجیز بنحو الإقتضاء أو العلّیة.

ومنها: إنّ الأحکام الطریقیة التی لا تکون بیاناً للواقع علی مستوی الصیاغة القانونیة، وإن کانت ملاکاً من أجل الواقع، ستکون هی المنجّزة بالعلم الوجدانی بها، وتنجّزها تنجّز للواقع لبّاً وملاکاً علی فرض إصابتها.

ومن ثمّ من فسّر حقیقة جعل الأمارة بأنها جعل الحکم الطریقی سیکون المنجّز قانوناً هو الحکم الطریقی لا الواقع، وإن کان یستبطن لبّاً تنجیز الواقع بعد وجود العلم الوجدانی به.

ومنها: إنّ قاعدة «قبح العقاب بلا بیان» قاعدة عقلائیة مخصوصة بالأحکام العقلائیة، فلا تعذر فی الأحکام الشرعیة، نعم حیث إنّ الشارع أمضی تلک البراءة وحذا حذوهم فی أحکامه کان التعذیر شرعیاً.

عود إلی شبهة ابن قبة

إنّ المبنی الذی اخترناه فی حقیقة جعل الأمارة [ وهو جعلها علماً ] یعالج المحذور علی مستوی الحکم والإرادة؛ إذ لا حکم ظاهری متعلّق بالفعل [ الذی تعلّق به الحکم الواقعی ] کی یصطدم الحکمان أو الإرادتان، ولکنّه قاصر عن حلّ الشبهة علی صعید الملاک، وقد سبق أنّ المصلحة السلوکیة حلّ جیّد للمشکلة فی الملاک وتدلّ علیه الروایات.

أقسام التزاحم

وهناک حلّ آخر جیّد [ أشار إلیه الشیخ العراقی وبلوره الشهید

ص:122

الصدر] حاصله: إنّ التزاحم تارة یکون إمتثالیاً، وهو الذی یکون بین الأطوار العقلیة للحکم الشرعی [ الفاعلیة أو التنجیز ] ومثل هذا لا یتکفل الشارع علاجه، وإنما متروک للعقل.

وأخری یکون التزاحم ملاکیاً [ ألفت إلیه الآخوند فی مسألة اجتماع الأمر والنهی وشیّدناه ] ویکون بین الحکمین فی طورهما الشرعی الفعلیة التامة، وقد یظهر من کلمات الآخوند أنه فی الفعلیة الناقصة.

وثالثة یکون التزاحم حفظیاً [ علی حدّ اصطلاح السیّد الصدر ] وهو تزاحم ملاکی من صنف آخر وهو أنّ بعض الأحکام الواقعیة تکون ملاکاتها بدرجة من الأهمیة تجعل الشارع یبادر إلی حفظها حتی فی ظرف جهل المکلّفین بعد أن وجد أنّ الإنشاء الواقعی وإن لم یقید قانوناً بالعلم إلاّ أنه لبّاً وواقعاً وعملاً لا یتحفظ علی الملاک إلاّ فی ظرف العلم. وذلک کما فی مثل الدماء والفروج عند الجمیع، والأموال عند المتقدّمین.

فی قبال بعض الملاکات الملزمة والتی لا تستدعی إلاّ إنشاء حکم شرعی واقعی علی ضوئها لا غیر، أو أنّ التحفظ علیها فی ظرف الجهل یسبب ضیاع الأهم فی أفعال أخری.

فعلی هذا الأساس جاء تشریع الحکم الظاهری، ومعه لا یبقی لشبهة ابن قبة علی صعید الملاک موقع.(1)

ص:123


1- (1) . [س] هذه النظریة نظریة لا یصدّقها الواقع الموجود فی الأمارات، حیث إنّها تناولت أدقّ الجزئیات فی کلّ الأبواب، فأین هو حفظ شیء علی حساب شیء؟ نعم بجعل الحجج تحفظ أکثر الأحکام الواقعیة لأنها غالبیة الأصابة إلاّ أنّ هذا بُعد کمی، والنظریة تناولت البعد الکیفی وهوحفظ الأهم علی حساب المهم؟ [ج] هناک الأهمیة المجموعیة وهی الأکثریة، فإنّ مثل هذا الکمّ یکون أهم بلحاظ المجموع بالقیاس إلی الأقل. فواحدة من زوایا التزاحم الحفظی حفظ الأکثر؛ لأنه بمجموعه أهم. وهناک الأهم الفردی کالدماء والفروج ویتمّ حفظها بالأمارات وإلاّ فبأصل ملزم. وهناک الأهم المجموعی کالتسهیل والسماحة التی أکّدت علیه الروایات فی الشریعة الإسلامیة، ویتمّ حفظه بالأصول الترخیصیة. ومن الواضح أنّ الأهم الفردی أهم من ما بعده، ومن ثمّ لا یکون مورداً للأصول الترخیصیة.

وبعض فسّر التزاحم الحفظی بالتزاحم بین الأحکام الملزمة وغیر الملزمة، وأنّ الحیطة فی کلّ حکم فی ظرف الجهل متعذر أو متعسر، فیوظفها ا لشارع من خلال جعل الحجّة لحفظ الأحکام الإلزامیة. وهذا التفسیر یرجع إلی التزاحم الحفظی الإحرازی، وهو التزاحم فی مقام إحراز الإمتثال.

التشکیک فی التنجیز

وأخیراً نلفت إلی أنّ التنجیز تشکیکی فی قبال دعوی الأعلام أنّ المتنجّز لا یتنجّز، فی حین أنّ الحق أنه یتنجّز لقابلیته للإشتداد، نظیر تعدد البراهین وتنوعها علی إثبات واقع واحد. وبتبعه یختلف الیقین بالنتیجة ویکون ذا درجات. ومن البدیهی عند العقل أنه کلّما ازداد العلم اشتدّت المؤاخذة علی مخالفة المعلوم، فیشتدّ استحقاق المؤاخذة. فالعقل لا یساوی بین من لدیه حجّة واحدة ومن لدیه حجج کثیرة.

نعم، علی مبنی السیّد الصدر من أنه لا دخالة للإحتمال وأنّ معیار التنجیز هو المحتمل، سیکون التنجیز کله علی درجة واحدة، سواء احتمل الواقع أو علم به، وهو کما تری مخالف لضرورة العقل.

الحکم الصوری

أشرنا إلی أنّ مَن ذهب إلی أنّ حقیقة الحکم الظاهری [ فی الجملة أو بالجملة ] الحکم الطریقی والمماثل، یعالج شبهة ابن قبة بتصویر أنّ التنجیز للحکم المماثل المعلوم وجداناً.

إلاّ أنهم ذکروا أنه فی موارد عدم إصابة الحکم الطریقی للواقع، هناک صورة حکم لا حکم حقیقی ولا إرادة تشریعیة له، وذلک تفادیاً لشبهة التصویب.

من هنا ینبثق هذا السؤال: إنّ هذا یعنی أنّ الحکم الطریقی منوط

ص:124

بالواقع، وحیث لا طریق لنا إلی الواقع فلا یکون الحکم الطریقی منجّزاً للشک فی وجوده النابع من الشک فی الواقع.

وهذا التساؤل وجیه مع المبنی المتقدّم، ولکن الحق أنّ الحکم الطریقی موجود حتی مع عدم الواقع، حیث لا ینحصر دفع التصویب بإنکار وجود الحکم الطریقی.

کیف وإشکال التصویب یأتی حتی مع وجود الواقع، ووجهه وجود الحکم الطریقی حقیقة مع الحکم الواقعی فی فعل واحد، فهو نوع من التصویب أو اجتماع المتماثلین. ومن ثمّ ما یقدم هنا من حلّ هو بعینه حلّ لحالة عدم الواقع.(1)

والحل: أنّ إرادة الحکم الطریقی لیست فی نفس الفعل المتعلّق للحکم الواقعی، وإنما نابعة من التحفظ علی الواقع، فهو شبیه بالإحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی، ومثل هذه الإرادة موجودة فی الحالین مع الإصابة وبدونها.

خلاصة ما تقدّم

1. حقیقة جعل الأمارة جعلها علماً.

2. والعلم التعبدی قید فی الفعلیة التامة للأحکام الواقعیة ملحق بالعلم الوجدانی.

3. والعلم الوجدانی أخذ قیداً فی البراءة الشرعیة الدالّة علی جعل الترخیص فی الوقت نفسه.

4. والبراة الشرعیة إمضاء فی الأحکام الشرعیة لبناء العقلاء

ص:125


1- (1) . [س] هل تفترق علاقة التنجیز الظاهری بالتنجیز الواقعی عن علاقة الحکم الظاهری بالواقعی، علماً أنّ الحکم الظاهری یجتمع مع الحکم الواقعی فی حالة إصابته؟ [ج] من حیث الکنه لا یختلفان، ولکن الحکم الظاهری یجتمع مع الواقعی، أما التنجیز الظاهری فلا یجتمع مع الواقعی، وذلک لأنّ الواقعی معلّق علی الوصول الصائب أعم من أن یکون احتمالاً أو علماً، والظاهری معلّق علی الوصول غیر الصائب أعم من أن یکون علماً أو احتمالاً. ومن الواضح أنّ الوصول الصائب وغیر الصائب لا یجتمعان.

علی تقیید فعلیة الأحکام العقلائیة التامة بالعلم الوجدانی.

5. ومن ثمّ قبح العقاب بلا بیان حکم العقل بقبح العقاب بلا حکم فعلی تام.

6. ومع الفعلیة التامة لا یقبح العقاب بل یحسن حتی مع الإحتمال.

7. شبهة ابن قبة علی مستوی الملاک معالجة بالمصلحة السلوکیة والتی دلّ الدلیل علیها وبالتزاحم الحفظی الذی لوحظ فیه الأهم فی تشریع الحجّة.

8. علی الأصعدة الأُخری لا مشکلة بعد أن کان الحکم الظاهری جعلاً وضعیاً اصولیاً وهو جعل العلم التعبدی.

9. ظاهرة الحکم الطریقی نقبلها فی الجملة، حیث إنّ له وجوداً متفرقاً فی الفقه، کما أنه حقیقة بعض الأصول العملیة کما سیأتی.

10. الحکم الطریقی موجود مع وبدون الحکم الواقعی، ولا تصویب فی الحالتین.

11. موضوع التنجیز الحکم الطریقی، ومن ثمّ فالعلم به یحقق التنجیز وهو یستبطن تنجیز الواقع.

12. المختار فی جعل الأصول العملیة

فی مثل أصالة الحلّ والطهارة حکم تنزیلی طریقی مماثل.

وفی البراءة الشرعیة حکم تنزیلی بالإباحة تبعاً للشیخ الإصفهانی ولیس أصلاً محضاً.

والإستصحاب والأصول المحرزة مردّد بین الأمارة والحکم المماثل ووجوب الأخذ والبناء، والأخیر هو الصحیح، فإنه لیس حکماً مماثلاً ولا طریقاً وإنما برزخ بینهما. وتفاصیل کلّ منهما متروک إلی محلّه.

مشکلة الإسناد فی الأمارات

انتهینا إلی أنّ الجعل الشرعی للأمارة تصرف فی قضیة اعتباریة شرعیة، ولیس تصرفاً فی القضیة العقلیة.

ص:126

حینئذ یتوجه هذا السؤال : کیف نسند الحکم إلی الشارع مع أنه منوط بالعلم والإحراز، فی حین أنّ صرف الإحتمال منجّز؟

وبعبارة أخری: مع قیام الأمارة وعلم المفتی بها وجداناً، لا یعلم المفتی وجداناً بالفعلیة التامة، وإنما یحتملها فقط [ وهذا الإحتمال منجّز ] لأنّ العلم التعبدی أخذ فی موضوع الفعلی التام بنحو الطریقیة، فمع خطئه لا فعلی تام، وهو غیر مضمون الإصابة، ومن ثمّ لا یعلم المجتهد بالفعلی التام، وإنما یحتمله فقط، ومعه لا یجوز له إسناد هذا المحتمل إلی الشارع، لأنه مشروط بالعلم به وإحرازه، والشارع لم یتعبدنا بشیء فی العلم والإحراز.

والجواب: حرمة الإسناد والإفتاء قضیة شرعیة قیدّت فعلیتها التامة بعدم العلم الوجدانی أو التعبدی بالحکم الواقعی، أی قیّدت بعدم الفعلیة التامة للحکم الواقعی، فمع التعبد بالحکم الواقعی وفعلیته التامة لا حرمة فی الإسناد والإفتاء.

الفروق بین الحکم الظاهری والتخیلی

المیرزا فرّق بین الحکم الظاهری والتخیلی، وقد أثیرت فی بحث الإجزاء مسألة إجزاء الحکم الواقعی وإجزاء الحکم الظاهری وإجزاء الحکم التخیلی، فیتساءل عن الفرق بین الحکم الظاهری والتخیلی.

فالمجتهد مثلاً إذا تمسک بعام بعد الفحص عن الخاص [ من دون تقصیر وعدم العثور علیه ] ثمّ بعد فترة عثر علی الخاص، فهل تمسکه بالعام ظاهری أو تخیلی؟

ومثله من کان یبنی علی صحة أسناد کامل الزیارة ثمّ عدل، أو من کان یری ضعف راوٍ فلا یعتمد روایته، ثمّ تبیّن له بقرائن أنه ثقة أو عدل، أو کان یبنی علی أنّ «إذا» أداة شرط، ومن ثمّ قال بالمفهوم، ثمّ تبیّن أنها أداة ظرف، أو کان یفهم من کلمة «لا ینبغی» فی الروایات أنها دالّة علی الحرمة، ثمّ تغیّر رأیه، وهکذا عشرات الأمثلة. فهل ما کان یبنی علیه من حکم [ قبل عدوله عن المبنی أو

ص:127

البناء ] ظاهری أو تخیلی؟ وما هی ضابطة الفرق بینهما علی فرض أنهما اثنان؟

الحق هو الفرق، ویمکن أن نجمل الفروق فی الزوایا التالیة:

الفرق الأول: إنّ الحکم التخیلی صرف تخیل لا وجود فیه للحکم حتی علی مستوی الإنشاء لا واقعاً ولا ظاهراً، فی حین أنّ الظاهری [ فی صورة عدم إصابته ] له وجود إنشائی وإن لم یکن الحکم الواقعی موجوداً أصلاً حتی علی مستوی الإنشاء.

الفرق الثانی: إنّ التخیلی کالظاهری قد یکون منجّزاً ومعذّراً، ولکن التنجیز فی التخیلی [ مع عدم الإصابة تقصیراً ] للتقصیر، و[ مع الإصابة للإحتمال التکوینی ] للواقع الفعلی التام؛ لأنه بلا مؤمّن، والتعذیر [ فی صورة عدم الإصابة قصوراً ] للجهل القصوری بالواقع، کما إذا بذل المجتهد قصاری جهده فی الفحص، ولکنّه غفل فی تطبیق بعض موازین الاستدلال، فلا دخل للحکم التخیلی فی التنجیز والتعذیر إطلاقاً، فی حین أنه فی الحکم الظاهری یستند التنجیز والتعذیر إلیه حقیقة [ مهما فسّرنا حقیقة الجعل فیه ] لأنه هو الذی یری الواقع، ومن ثمّ أخذ فی فعلیته التامة.

الفرق الثالث: إنّ الشارع یرتب آثاراً علی الحکم الظاهری فی الأبواب الفقهیة، مثل نفوذ حکم الحاکم فی القضاء والحدود اعتماداً علی الشهادة المستندة للحکم الظاهری وجواز الإئتمام بإمام یستند إلی حکم ظاهری، وعدم وجوب النهی عن المنکر إذا کان فاعله قد استند إلی حجّة، بخلافه فی التخیلی، فإنّ فاعل المنکر وإن کان معذوراً، إلاّ أنه یجب تعلیمه، کما لا یحق الإئتمام بمن استند إلی حکم تخیلی ولا القضاء علی ضوء الشهادة المستندة إلی حکم تخیلی.

الفرق الرابع: إنّ الحکم التخیلی لا یجزی عن الواقع، فی حین أنّ الحکم الظاهری قد یقال بإجزائه عن الواقع.

الفرق الخامس: [ وهو فرق ثبوتی وإثباتی ] إنّ الظاهری هو الذی استتمت فیه موازین الحجّیة والاستدلال، والتخیلی عکسه وإن

ص:128

کان قصوراً.

ومعرفة تمامیة موازین الاستدلال وعدمها لا تتحقق إلاّ لمن أحاط إحاطة تامة بعلم الأصول ومقدمات الإستنباط حتی یتمکن من تشخیص أنّ الحکم الذی توصل إلیه المجتهد ظاهری وتخیلی.

هذه مجمل الفروق بین الحکمین، وحینما ترجع إلی کلام القدماء تجد أنهم فی عین کونهم مخطئة لا یقولون بصوریة الحکم الظاهری فی نفسه مع عدم الإصابة وإنما له وجود، خلافاً للمتأخرین حیث تحاشوا التصریح بذلک.

ومن ثمّ أسماه الوحید البهبهانی أنه حکم واقعی ثانوی، علی حدّ «لا ضرر ولا حرج»، فکما أنها عناوین طارئة کذا الشک عنوان طارئ، غایته أنّ الشک فیه إراءة دون مثل الضرر والحرج، فالحکم الظاهری نوع من أنواع الأحکام الواقعیة الثانویة.

هذا وللحدیث تتمة نترکها بعد استعراض المقام الثانی من البحث لتوقفها علیه کما سیتبیّن.

ص:129

4 . الشک فی الحجّیة

اشارة

بعد أن انتهینا من إثبات إمکان التعبد بالظن وبیان حقیقة هذا التعبد، یقع الحدیث فی النقطة المقابلة للبحث السابق [ وهو حالة الشک فی التعبد والحجّیة مهما کان تفسیرها وحقیقتها ]. فما هو الحکم الظاهری عند الشک فی جعل الشارع لحکم ظاهری ما؟

ومن ثمّ یعرف أنّ الحکم الظاهری یترامی، حیث إنّ هناک حکماً ظاهریاً للحکم الظاهری. فلا ینحصر الحکم الظاهری بمرتبة واحدة وهو الحکم الظاهری عند الشک فی الحکم الواقعی.

نظریة مدرسة الوحید

مدرسة الوحید البهبهانی ذکرت أنّ الحکم الظاهری یختلف عن الواقعی فی أنّ فعلیته مقیدة شرعاً بالعلم؛ لأنّ الغرض منه والملاک فی جعله هو التنجیز والتعذیر، فمع عدم العلم لا ملاک، وهو التنجیز والتعذیر لتقیدهما بالعلم، فلا وجود ولا فعلیة ولا خارجیة للحکم الظاهری.

وقد تبنّی الآخوند والشیخ الإصفهانی هذه النظریة؛ وعلیه فلو نقب المجتهد عن الحجّة ولم یعثر علیها لم یکن لها فعلیة ووجود فی الخارج.

نظریة أخری
اشارة

وتقابل هذه النظریة نظریة أخری تفترض أنّ الحکم الظاهری کالواقعی لم تقیّد فعلیته بالعلم، وإنما العلم قیّد فعلیته التامة فتنجیزه، ومن ثمّ حتی لو لم یعلم به المجتهد ولم یصل إلیه کان له وجود خارجی وفعلیة.

واستشهد أصحاب هذه النظریة بما ذکره الأعلام [ من أنّ المجتهد لو لم یفحص وکان هناک خبر واحد یکون منجّزاً علیه ] ممّا یدلل

ص:130

علی أنّ فعلیة الحجّیة غیر مقیّدة بالعلم، وإلاّ لم یکن معنی للتنجیز فی هذه الحالة.

وذکروا أیضاً إنه بناء علی تعریف التقلید بالمطابقة [ مطابقة عمل العامی لفتوی الأعلم الحی ] لابدّ من عدم تقیید فعلیة الأمارة بالعلم کی یمکن القول بالإجزاء لو طابق عمله فتوی الأعلم الحی، وإن لم یکن ملتفتاً وعالماً بأماریته، وإلاّ کان تفسیر التقلید هذا غیر صحیح، أو لا یمکن تصحیح العمل لعدم کون الأعلم الحی مع الجهل به أمارة.

تحدید دائرة العلم

نحن نتساءل من أصحاب النظریتین: هل یراد من العلم [ المختلف فی قیدیته للفعلیة التامة ] العلم بالموضوع [ وهو ذات الأمارة ] أو العلم بالحکم [ وهو الجعل الظاهری للأمارة ] ؟

الظاهر من عبارات الأعلام أنه العلم بالموضوع، بمعنی أنهم اختلفوا فی أنّ وصول الأمارة والعلم بها، هل هو قید فی فعلیتها أو لا؟

ونتساءل ثانیاً: هل العلم المختلف فیه هو العلم النوعی أو العلم الشخصی؟

والجواب عن هذا السؤال یتوقف علی الإلتفات لصور الجهل:

[ 1 ] عدم الدلیل فی أیدینا، کما نراه بوضوح فی فتاوی القدماء التی لا نعلم مدرکها.

[ 2 ] عدم عثور المجتهد علی الحکم الظاهری [ کالخاص ] بعد الفحص المضنی مع وجوده واقعاً.

[ 3 ] الجهل به لعدم الفحص.

ویلاحظ أنّ المفقود فی الصورة الأولی هو العلم النوعی والشخصی، والمفقود فی الصورة الثانیة هو العلم الشخصی مع وجود العلم النوعی، والمفقود فی الصورة الثالثة هو العلم الشخصی

ص:131

مع إمکان تحققه فضلاً عن وجود العلم النوعی.

حینئذ نقول: إن کان المراد هو الوصول النوعی للموضوع فلا ریب فی مدخلیته وشرطیته فی فعلیة الحکم الظاهری؛ إذ مع وجود خبر زرارة مثلاً عند القدماء وضیاعه وعدم وصوله إلینا، لا معنی للقول بأنه موجود ولکنّه غیر منجَّز، حیث إنّه عدم الوصول إلینا یعنی أنّ ذات الحکم الظاهری وماهیته مفقودة وهی الکاشفیة، فهی کانت موجودة والآن لا وجود لها.

والنظریة الثانیة أیضاً تقبل مدخلیة العلم النوعی فی الفعلیة، وأنّه بدونه لا وجود للحکم الظاهری، ففی الصورة الأولی من الجهل لا کلام فی عدم فعلیة الحکم الظاهری، کما أنه لاریب فی عدم مدخلیة العلم الشخصی الفعلی فی فعلیة الحکم الظاهری، حتی عند أصحاب النظریة الأولی.

وفی الصورة الثالثة من الجهل لاریب فی فعلیة الحکم الظاهری ومنجّزیته؛ لأنه لیس المطلوب من الشارع إلاّ أن یعبّدنا بأمارة یمکن العلم بها نوعاً، بمعنی أنه یضعها فی متناول العموم.

والنزاع إنما یکون فی الصورة الثانیة من الجهل، بمعنی أنّ شرط الفعلیة هل هو النوعی فقط، أو النوعی مع إمکان الشخصی؟ فعلی الأول فالحکم فعلی إلاّ أنه غیر منجّز، وعلی الثانی غیر فعلی وغیر منجّز، لعدم إمکان العلم الشخصی.

مختارنا فی شرط الفعلیة
اشارة

والحق أنّ شرط الفعلیة فی الحکم الظاهری لیس إلاّ الوصول النوعی، فمعه یصحّ أن یقال: إنّ الشارع قد أخبر، وإن کان من لم یتمکن وقوعاً من الوصول الشخصی إلیها معذوراً، إلاّ أنها [ أی الحجّة ] موجودة ولکنّها لیست منجّزة.

قد یقال بالنسبة إلی من لم یتوفر علی العلم الشخصی بالحجّة: إنه لم تقم لدیه الحجّة ولکن لا یقصد من ذلک الفعلیة، وإنما ما بعد الفعلیة

ص:132

من مراحل، فالظاهری یشارک الواقعی فی مراحله، فله فعلیة وله تنجیز کما للواقعی.(1)

وما ذکرناه هو الذی علیه العقلاء فی تقنیناتهم، فإنه یضبطون ذلک بالعلم النوعی، والشارع جری فی ذلک مجری العقلاء ولم یؤسس شیئاً جدیداً فی هذا المضمار، بالإضافة إلی أنّ الشک فی الحجّیة یستبطن إراءة للواقع إلاّ أنها إراءة تصوریة لا تصدیقیة، فهو نحو وصول شخصی تصوری للحکم الظاهری، وهذا کاف فی انوجاد الحکم الظاهری مع أنه لیس منجّزاً وإن کنّا نقبل أنّ هناک حالات لا علم بالحکم الظاهری فیها حتی بمقدار التصور کما فی حالات الغفلة، إلاّ أنه العلم الشخصی فی غالب الحالات فی الصورة الثانیة موجود والمفقود هو العلم التصدیقی مع إمکانه ذاتاً لا وقوعاً.

ولا تظن أنّ القائل بتقیید الفعلیة فی الحکم الظاهری بالعلم الشخصی یجرؤ علی المبالغة فی القول بأنه العلم التصدیقی.

وبناء علی ما اخترناه من انفکاک فعلیة الظاهری عن تنجیزه یعرف أنّ الشک فی الحجّیة له محصّل، حیث یتصور حینئذ لزوم الفحص لتحصیل العلم الشخصی بعد أن کان یحتمل الفعلیة المساوق

ص:133


1- (1) . [س] علی مبناکم فی الحکم الظاهری لا تنجیز له، وإنما هو جعله قیداً فی الفعلیة التامة للواقعی وهو الذی یکون منجزاً، بل هذا علی کلّ المبانی عدا مبنی جعل الحکم المماثل، فلیس هناک علی مبناکم إلاّ جعل أصولی وضعی، وهو جعل العلمیة الذی بواسطة البراءة الشرعیة یجعل قیداً فی الفعلیة التامة للحکم الواقعی؟ [ج] نحن قبلنا الحکم الطریقی المماثل فی الجملة فی بعض الأصول وأما فی الأمارات [علی ما اخترناه أنها جعلت علماً] فهی ستکون منجّزة [بالکسر] للواقع بواسطة أخذها قیداً فی الفعلیة التامة للواقع کما ذکر فی السؤال، وصحیح أنها لا تنجیز لها إلاّ أنه یصح أن یقال عنها: إنّها منجزة [بالفتح] وإن کانت حکماً وضعیاً، إلاّ أنه بلحاظ أثرها، و هو تنجیز الواقع وجواز الإسناد والإستناد. وعدم کون الحجّیة منجّزة بالذات لا یمنع من أنّ لها فعلیة کسائر الأحکام الوضعیة، ولا یمنع من البحث إنّ العلم الشخصی دخیل فی فعلیتها أو لا، أو أنّ العلم الشخصی بها دخیل فی قیدیتها ولو بلحاظ بعض الآثار کجواز الإسناد والتعذیر وکذا جواز الإستناد.

لاحتمال وجوده، حیث إنّ وجوده غیر معلّق علی العلم الشخصی لا أنه ینوجد بعد الفحص کما هو علی القول الآخر.

آثار الحکم الظاهری

من کلّ ما تقدّم تبلور محور النزاع فی هذه المسألة والأقوال فیها ومختارنا تصوراً. وقبل الإنتقال إلی عرض الأدلّة وتقییمها نذکّر بما ألفتنا إلیه فی الفرق بین الحکم الظاهری والتخیلی من أنّ الحکم الظاهری قد رتّب علیه الشارع آثاراً أصولیة وفقهیة، وقد أشرنا هناک إلی جملة من الآثار ونضیف هنا:

[ 1 ] جواز الإفتاء والإسناد إلی الشارع.

[ 2 ] جواز الإستناد إلیها فی مقام العمل.

[ 3 ] الإجزاء عند المشهور، وقبله المتأخرون فی الجملة. وهذه آثار أصولیة.

وأمّا الآثار الفقهیة فهی:

[ 4 ] شرطیة قیام الحجّیة المنجّزة عند المتأخرین، والفعلیة عند المشهور فی کفر منکر الضروری.

[ 5 ] جواز تعامل المتعاملین علی أساس الحکم الظاهری.

من هنا لابدّ من الإلتفات إلی الأدلّة التی سنذکرها و إنها فی صدد نفی وجود الحجّیة مع عدم العلم الشخصی، أو نفی أثر من آثارها، ونفی الأثر لایلازم نفی الحجّیة.

أدلّة تعلیق الحجّة علی العلم
اشارة

هناک ستة أدلّة ألفت إلیها الأعلام مدّعین دلالتها علی تعلیق وجود الحجّة بالعلم والوصول الشخصی.

الدلیل الأول: ذکره الشیخ الأنصاری

ص:134

الآیة المبارکة (قُلْ أَ رَأَیْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ) (1)

والتقریب: إنّ الإفتراء إسناد ما لم یعلم، واختلاف الشیء من نفسه أعم من أن یکون موجوداً فی الواقع أو لا. وبعبارة أخری: الإفتراء عدم الإستناد علی الواقع فی الإسناد، وإنما هو یبنی علی إیجاده ووجوده، فإسناده من دون مراعاة الواقع.

وتقریبه: أنّ التبکیت فی الآیة لیس علی واقع التحریم ولا علی وصوله النوعی وإنما علی وصوله الشخصی بقرینة الإذن، وإلاّ لعبّر «آللّه حرّم أو هناک من أخبر». وبمقابلة الفریة للإذن یفهم عدم جواز إسناد ما لم یعلم وجوازه مع العلم.

وأیّد استدلاله بروایة «القضاة أربعة»(2) الظاهرة فی أنّ العلم الشخصی شرط جواز القضاء، وبحکم موازاة القضاء مع الفتیا کانت الروایة مؤیّدة.

مناقشة الآخوند فی تقریب الشیخ

وناقشه الآخوند: بأنّ الآیة فی صدد تحریم الإسناد والإفتاء مع الشک لا فی صدد نفی الحجّیة عند الشک، والإسناد لیس لازماً للحجّیة لا وجوداً ولا عدماً، فالظن علی الحکومة أمارة علی الفراغ وحجّة، ولکن لا یسوّغ إسناد مفاده إلی الشارع، وإنما یفتی بالمفرغ عندئذ لا بالمثبت للأحکام.

ومثله [ کما أضاف الشیخ العراقی ] الإحتیاط قبل الفحص، فإنه حجّة ومنجّز، ولکن لا یجوز إسناد مؤدّاه إلی الشارع، فحرمة الإسناد لا تعنی دوماً عدم الحجّیة.

ص:135


1- (1) . یونس/ 59
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 22/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4: عدم جواز القضاء والإفتاء بغیر علم بورود الحکم عن المعصومین(علیهم السلام)، الحدیث 6).
ملاحظة علی مناقشة الآخوند

ویلاحظ علی الآخوند والشیخ العراقی: أنّ کلام الشیخ لیس فی مطلق المنجّز والمعذّر کی ینقض علیه بالأصول وإنما فی الأمارات ولم ینقض العَلَمان بأمارة لا تلازم جواز الإسناد.

الحق فی الإشکال علی الشیخ

فالحق فی الإشکال علی الشیخ ما ذکرناه آنفاً من أنّ الإسناد قضیة شرعیة أخذ فی موضوعها الحجّة الناجزة الواصلة شخصیاً [ کما یظهر من الآیة وحکم العقل بقبح إسناد ما لم یعلم ]، ونفی الإسناد یلازم نفی تلک المرتبة والأثر وهی التنجیز، لا نفی فعلیة الحجّة التی لم یؤخذ فی موضوعها إلاّ الوصول النوعی.(1)

ص:136


1- (1) . [س] فی أواخر بحث إمکان التعبد بالظن ذکرتم أنّ حرمة الإسناد قضیة شرعیة قیّدت الفعلیة التامة فیها بعدم العلم النوعی بالحکم الواقعی، [الذی هو قید الفعلیة التامة للحکم الواقعی] فی حین أنّ الذی یظهر منکم هنا أنها مقیّدة بعدم العلم الشخصی بالحکم الظاهری. فهل هذا هو قید إضافی أو نفس ما تقدّم؟ لأنّ العلم الشخصی بالحکم الظاهری هو الذی یحقّق العلم النوعی بالحکم الواقعی فیکون فعلیاً تاماً، ومن ثمّ یکفی الإحتمال التکوینی لمثل هذا الحکم الواقعی فی تنجیزه. أو أنّ الکلام هنا - ولا أظن - فی إسناد الظاهری، وهناک فی اسناد الواقعی. ومعه لِمَ اختلفت القیود فی الظاهری عن الواقعی؟ [ج] هناک قضیتان لابد من التفکیک بینهما: الأولی: التنجیز، وهو یتحقق بالإحتمال التکوینی للفعلیة التامة، والفعلیة التامة للحکم الواقعی تتحقق بالعلم النوعی الوجدانی أو التعبدی من دون فرق بین أن یحصل علم شخصی أو لا. فما دام هناک علم نوعی متحقق الفعلیة التامة فاحتمالها یکون منجّزاً، والعلم الشخصی لا یضیف للإحتمال شیئاً، حیث یبقی الإحتمال علی حاله حتی مع العلم الشخصی، ولا یضیف للتنجیز شیئاً حیث إنه حاصل بدونه. والثانیة: الإسناد فإنه مقیّد فی فعلیته التامة بالعلم الشخصی بالحجّة والعلم النوعی، ولا یکفی صرف تنجیز الحکم فی جواز الإسناد، فقد یکون الحکم منجزاً إلاّ أنه یجوز إسناده لعدم العلم الشخصی، کما أنه لیس قید الإسناد والعلم الشخصی وحده کیفما کان، وإنما الشخصی المأخوذ فی مقدمات اعتمدها الشارع، أی المأخوذ من نوعی.

وبعبارة أخری: إنّنا فی صدد الاستدلال علی نفی وجود الحجّیة مع الشک، فی حین أنّ الدلیل الذی ذکره الشیخ نفی آثار الحجّیة وهی التنجیز والإسناد. ولابدّ بموجب هذا الدلیل البناء علی عدم هذه الآثار مع الشک فی الحجّیة، لا نفی کلّ الآثار [ بما فی ذلک جواز الإستناد إلی هذه الحجّة ] حیث إنّ هناک فرقاً بین إحراز عدم الحجّیة [ الذی یترتب علیه نفی کلّ آثارها الأصولیة والفقهیة ] وبین عدم احراز الحجّیة [ الذی یترتب علیه بدلالة الآیة حرمة الإسناد ] بل الآیة [ وبقرینة الإذن ] تدلّ علی أکثر من ذلک، وأنّ العلم الشخصی بالحجّة وحده لیس کافیاً فی جواز الإسناد، وإنما لابدّ من اقترانه بالإذن، وأنّ الفتیا لیست مجرد حکایة بحتة وخبر عن الواقع فیکون کذبها وصدقها مرهوناً بالحجّة واللاحجّة. وإنما لابدّ من الإذن، والإذن یکشف عن أنّ المأذون به مورد سلطة الآذن، فالفتیا تصرف فی مورد ولایة الغیر، فصرف الإجتهاد والعلم الشخصی بالحجّة لا یسوغ الإفتاء بعد أن تبیّن أنه لیس حکایة بحتة عن واقع قد اکتشف بالإجتهاد، وإنما هو حق وولایة.

ومن هنا کان الأصل الأولی فی جواز إفتاء المرأة وعدمه مع الشک، العدم لا الجواز.

کما یفهم تخریج ما ارتکز عند فقهاء الشیعة من شرطیة حیاة المجتهد، حیث إنّ المیّت یفقد منصب ولایة الإفتاء، فجعل ولایته نافذة یحتاج إلی دلیل بالإضافة إلی الأدلّة والجهات الأُخری حول هذا الشرط.

ویفهم أیضاً ما علیه الأکثر من التفرقة بین الرأی والفتوی، وأنّ الثانی متقوم بالإنشاء وصرف معرفة الرأی غیر کافیة فی جواز التقلید، لأنه لا یعدو عن کونه خبراً عن الواقع، وهو لیس حجّة علی المکلّف.

تلخیص المطلب

ص:137

فیتلخص: أنّ قرینة الفریة تدلّ علی ضرورة العلم الشخصی بالحجّة الناجزة فی جواز الإسناد، وأنّ قرینة الإذن تدلّ علی قید إضافی فی جواز الإسناد وهو الإذن، وأنّ صرف العلم الشخصی لا یکفی فی جواز الإسناد.

ومنه فهم أنّ مقام الإفتاء مقام ولایة کمقام المرجعیة والحکم والقضاء، ومن ثمّ فالفتوی مزیج من الخبر والإنشاء.

ولو رجعنا إلی القانون العقلائی لوجدنا الحال نفسه؛ فإنّ القوة التشریعیة [ التی توازی الإفتاء ] نوع ولایة تحتاج إلی إذن لا أنها مفتوحة لکلّ من علم بالحجّة.

العلاقة بین حرمة الإسناد وحرمة التشریع

ثمّ إنه قد یتساءل عن طبیعة العلاقة بین حرمة الإسناد وحرمة التشریع.

فالجواب: أنّ الظاهر من تعریف التشریع المحرم [ البدعة: إدخال ما لیس فی الدین فیه ] هو إدخال ما لا وجود له ولا أساس فی الدین، ومن ثمّ فالإسناد مع وجود واقع وإن کان محرماً [ لأنه فریة ولا إذن ] إلاّ أنه لیس تشریعاً.

إلاّ أنّ النراقی ذکر أنّ حرمة التشریع لا تدور مدار ما ذکر، فإنه غیر مانع [ کما فی فتوی المجتهد بالحکم الظاهری غیر المصیب ] وغیر جامع [کما لو کان هناک حکم و أفتی بغیر علم ] فالتشریع وعدمه یدور مدار عدم العلم المعذِّر وجوده، لا مدار ما ذکره المشهور، ومعه تنطبق موارد حرمة الإسناد مع حرمة التشریع، فتکون الآیة دالّة علی جواز الفتیا وحرمة التشریع حینئذ.

الدلیل الثانی: ذکره الآخوند

إنّ الشک فی الحجّیة مساوق لعدم الحجّیة [ لأنها غیر واصلة ] بمعنی أنه لا یرتب علیها الآثار [ لأنها غیر فعلیة ] فلا تسند ولا

ص:138

یستند إلیها الآثار.

المناقشة فی الدلیل الثانی

ویلاحظ علیه بما أشکله علی الشیخ من أنّ انتفاء الآثار یساوق انتفاء التنجیز لا انتفاء الوجود والفعلیة. ولعلّ مراده (قدس سره) هو نفی الآثار لا الفعلیة، لأنّ الحدیث فی حالة الشک وتحدید الوظیفة لترتیب الآثار وعدمه.

الدلیل الثالث: ذکره الشیخ

استصحاب عدم الحجّیة عند الشک فیها.

ملاحظة المیرزا علی الشیخ

ولاحظ علیه المیرزا بأنه تحصیل للحاصل بل من أردأ أنواعه؛ لأنّ الإستصحاب غایة ما ینفع أنه ینفی الآثار من قبیل جواز الإسناد والإستناد، وهذا حاصل بحکم العقل عند الشک فلا حاجة إلی الإستصحاب. وإنما کان أردأ لأنه تحصیل اعتباری لما هو حاصل عقلاً وتکویناً.

تتابع الملاحظات

الشیخ العراقی والشیخ الإصفهانی أجابا المیرزا: إنّ استصحاب عدم الحجّیة یرفع موضوع حکم العقل وهو الشک، فإنّ التعبد الشرعی یلغی الشک ویحرز عدم الحجّیة.

إلاّ أنّ الشیخ العراقی [ فی موضع آخر ] لم یرتض هذه الإجابة؛ حیث ذکر أنّ موضوع حرمة الإستناد والإسناد هو «ما لم یُعلم» لا «الشک»، و«ما لم یعلم» أعم من المعلوم و عدمه والمشکوک، فلم یرتفع موضوع حکم العقل بالإستصحاب.

ولکنّه رجع وقال: إنّ «ما لم یعلم» له فردان: أحدهما وجدانی وهو الشک وهو موضوع حکم العقل، والشارع یحرز الفرد الآخر،

ص:139

ومنه یرتفع موضوع حکم العقل وهو لا یدرکه العقل فلا تحصیل

للحاصل.

کذا ذکرت مجموعة من النقوض حول ما ذکره المیرزا من تحصیل الحاصل:

النقض الأول: البراءة الشرعیة والعقلیة.

النقض الثانی: استصحاب الطهارة الرافع لأصالة الطهارة، مع أنّ الشارع قد تعبّدنا بها [ أصالة الطهارة ] بمجرد الشک، فجریان الإستصحاب تحصیل الحاصل.

النقض الثالث: مع امتثال أحد أطراف العلم الإجمالی أو تلفه یبقی التنجیز قائماً فی الأطراف الأُخری بقاعدة الإشتغال، ولکنّه مع ذلک قالوا بجریان الإستصحاب فی الأطراف الأُخری، وهو استصحاب التکلیف المعلوم بالإجمال.

النقض الرابع: جریان الإشتغال عند الشک فی أداء الصلاة فی الوقت مع جریان استصحاب بقاء التکلیف.

النقض الخامس: استصحاب الحِلّ مع جریان أصالة الحلّ بنفس البیان المتقدّم فی النقض السابق.

ملاحظات حول النقض الخامس

الشیخ العراقی أجاب عن النقض الخامس: بأنّ جریان الإستصحاب ثمرة ولیس تحصیلاً للحاصل، لأنّ هناک خلافاً فقهیاً فی أنّ صحة الصلاة معلّقة علی کون اللباس مما یحلّ أکله ظاهراً أو واقعاً، وأصالة الطهارة أصل تنزیلی وهو لا یثبت أکثر من الحلّ الظاهری، فی حین أنّ الإستصحاب یحرز الحلّ ویکشف عنه بحکم کونه أمارة فعلیة.

والمیرزا أجاب بکیفیة أخری وهی: أنّ أصالة الحلّ لا تجری فی اللباس المشکوک، لأنها لا تفید إلاّ الحِلّ بحسب الوظیفة والبناء العملی لرفع الحیرة ولا تثبت الحِلّ الطبعی وإنما یثبته الإستصحاب،

ص:140

والصلاة مشروطة بکون اللباس مما یحلّ أکله طبعاً.

کذا ذکر فی أصالة الطهارة، وإنها لا تجری عند الشک فی طهارة حیوان مذبوح، وذلک کما بنی علیه من أنّ التذکیة تکون للحیوان الطاهر بطبعه، وأصالة الطهارة لا تثبت الطهارة الطبعیة لهذا الحیوان المذبوح بطریقة شرعیة، وإنما الذی یثبت ذلک الإستصحاب إن جری. فلا تحصیل للحاصل فی جریانه.

ولکن الشیخ العراقی فی بحث اللباس المشکوک لم یقبل أنّ مفاد أصالة الطهارة والحل هو الحلّ والطهارة العملیان فقط، و إنما المجعول فیها مطلق یشمل الطبعی، فکلّ شیء لک حلال أو طاهر لیس بلحاظ الشک والحیرة الفعلیة فقط، وإنما بلحاظ الشک فی الحلیة والطهارة الطبعیة أیضاً.

بعض الحدیث حول الحکم الطبعی والفعلی

وحیث انجرّ الکلام إلی الحکم الطبعی والفعلی یحسن تسلیط الضوء علیها بعض الشیء و إن کان الحدیث عنهما قد تقدّم مفصلاً فی بحث اجتماع الأمر والنهی.

فالحکم الطبعی: ما حکم الشارع علی شیء بصورته النوعیة والطبعیة کحلّیة شرب الماء وحرمة شرب الخمر.

والحکم الفعلی: هو حکم الشارع علی الشیء لا بصورته النوعیة، وإنما علی حیثیة من حیثیاته کحرمة التصرف بالمغصوب.

والأحکام الثانویة [ من قبیل لا حرج ولا ضرر ] کلّها من الحکم الفعلی، إلاّ أنها علی قسمین: ما یکون طروّه اتفاقیاً کالحرج، وما یمکن أن یکون دائمیاً کالغصب.

وعندما نرجع إلی الفقه نجد الکثیر من الأمثلة للحکم الفعلی أو علی الأقلّ یمکن أن یکون الحکم فیها فعلیاً، من قبیل تحریم الصادق (علیه السلام) المتعة علی کبار صحابته فی المدینة، ومثل تحریم الرسول (صلی الله علیه و آله) لأکل

ص:141

الخیل والبغال، وکذا «إغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل

لحمه»(1) حیث وقع الحدیث أنه بلحاظ الطبعی فلا یعمّ الجلاّل لأنه بطبعه حلال الأکل أو ما یشمل الفعلی فیجب التطهر من بول الجلاّل.

الحکم المطلق والحکم الحیثی

ثم إنّ هناک تقسیماً آخر أشار إلیه الأعلام وهو انقسام الحکم إلی مطلق وحیثی، وهو تقسیم مغایر لما تقدّم وإن کان یقرب منه کثیراً، ویراد من المطلق هو الذی لا یرفع الشارع عنه الید فی أیّ حال من الأحوال [ ومن هنا کان یقرب من الفعلی ] ویراد من الحیثی [ الذی قد یصطلحوا علیه بالمقیّد ] هو الذی رتبه الشارع علی حیثیة من الحیثیات [ وعلی هذا کان یقرب من الطبعی. ]

العودة إلی البحث

بعد کلّ هذا نرجع إلی جواب المیرزا علی النقضین الثانی والخامس: بأنّ فی جریان الإستصحاب ثمرة وهی إحراز الحکم الطبعی [ الذی أخذ شرطاً فی الصلاة ] بعد أن کانت غالب الأصول العملیة غیر الإحرازیة من التنزیلیة والمحضة لا تُعیّن الواقع بما هو، وإنما تستخدم فی رفع حیرة المکلّف والقضاء علی تردده.

وأما النقض الرابع فقد منع المیرزا من جریان استصحاب بقاء التکلیف عند الشک فی الإمتثال لأنه تحصیل للحاصل، فلا یصلح النقض نقضاً علیه.

ویضاف لإشکال المیرزا إشکال آخر: أنّ الشک فی بقاء الحکم فی الحالة المذکورة لیس بسبب الشک فی بقائه شرعاً لاحتمال انتفاء موضوعه، وإنما للشک فی تحقق الإمتثال المسقط له عقلاً، و فی

ص:142


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 405/3 (کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب8: باب نجاسة البول والغائط من الإنسان ومن کلّ ما لا یؤکل لحمه إذا کان له نفس سائلة، الحدیث 2).

مثله لا یجری الإستصحاب لأنه أثر عقلی، کما أنّ استصحاب عدم الإمتثال لا یترتب علیه شرعاً بقاء التکلیف وإنما عقلاً، فهو مثبت.

وأما النقض الثالث: فالکلام فیه عین الکلام فی الرابع، فلم یجر المیرزا الإستصحاب کی ینقض علیه، وذلک لأنه تحصیل للحاصل بعد حکم العقل بالمنجّزیة فی أطراف العلم الإجمالی کما یرد علیه إشکال آخر وهو أنّ الشک فی منجّزیة باقی الأطراف مسبَّب عن الشک فی الإمتثال.

ولکن لابدّ من الإلتفات إلی أنّ الإشکال فی جریان الإستصحاب فی بقاء التکلیف فی الوقت وباقی أطراف العلم الإجمالی یختلف عن الإشکال فی جریانه عند الشک فی الحجّیة، حیث إنّ الإشکال فیهما أنّ المستصحب أمر عقلی لا شرعی فی حین أنّ الحجّیة أمر شرعی، فالمستصحب هو عدم الأمر الشرعی. نعم، أثر هذا المستصحب عقلی وهو قبح الإسناد والإستناد.

وأما النقض السادس: فقد ذکر أنّ استصحاب عدم التکلیف لا یرجع إلی محصّل، لأنه إمّا أن یراد من الیقین السابق ما کان قبل الشریعة، أو قبل البلوغ، أو قبل الوقت فی المؤقتات. وفی الأول لا یجری الإستصحاب لعدم وحدة الموضوع، فما بعد شریعة الإسلام یؤخذ المکلّف بما هو مسلم، وما قبله یؤخذ بما هو لیس کذلک. ومن ثمّ استشکلوا فی استصحاب أحکام الشرائع السابقة، أو قالوا بجریانه إلاّ أنه یحتاج إلی إمضاء. وبالتالی فاستصحاب عدم التکلیف إن کان یقصد منه الإباحة الشرعیة فهی بحاجة إلی إمضاء، وإن کان یقصد الإباحة الأصلیة فهی عقلیة لا تستصحب.

والکلام نفسه یأتی فی الثانی؛ فإنّ تبدّل الموضوع واضح فیه.

نعم، قَبِلَ البعض الإستصحاب فی الثالث، ولکن - وهو الحق - أشکل الآخر بأنّ قبل الوقت ومعه موضوعان.

وأمّا النقض الأول: فعلی ما حقّقناه فی حقیقة البراءة العقلیة [ وأنها عقلائیة لا تجری فی الأحکام الشرعیة ] لا إشکال بل لا خیار

ص:143

إلاّ البراءة الشرعیة.

وأمّا علی القول بأنها عقلیة فقد أجاب الشیخ بأنّ البراءة العقلیة وإن کانت موجودة، إلاّ أنّ الشارع لما کان له رفعها برفع موضوعها [ وکما فعل ذلک فی الفروج والدماء عند الجمیع، والأموال عند المتقدّمین والحق معهم ] بجعل الإحتیاط الشرعی، کان لجعل البراءة الشرعیة فائدة [ وهی رفع توهّم الإحتیاط، وإذْنٌ فی رفع الحق بجعل الإحتیاط. ]

جریان استصحاب عدم الحجّیة من دون محذور تحصیل الحاصل

مما تقدّم اتضح أنّ فی جریان الإستصحاب فی بعض الحالات لیس تحصیلاً للحاصل، وفی البعض الآخر التزم المیرزا بعدم جریان الإستصحاب أیضاً ولنفس السبب المذکور فی عدم جریانه عند الشک فی الحجّیة وهو تحصیل الحاصل.

ولکن الحقّ أنّ إشکال المیرزا علی الشیخ غیر صحیح، وأنّ الصحیح جریانُ استصحاب عدم الحجّیة ولا تحصیل للحاصل. ویتّضح ذلک بعد الإلتفات إلی مقدّمة هی:

إنّ العقل قد یحکم ببعض الآثار التی تترتب علی الحکم الظاهری، ولکن لما کانت هناک آثار أخری شرعیة لا یدرکها العقل، کفی فی جعل الحکم الظاهری وجریانه. و وجود الحکم فی مثل هذه الحالة لا یکون حیثیاً [ وبلحاظ خصوص الأثر الذی لم یدرکه العقل ] وإنما بلحاظ کلّ الآثار. وذلک: لأنّ الإستصحاب - مثلاً - لیس استصحاباً للأثر، وإنما استصحاب لذی الأثر. اللّهم إلاّ علی مقولة أنّ الإستصحاب فی الموضوعات لباً وحقیقة استصحاب للأحکام المترتبة علیه، وصورة وشکلاً استصحاب للموضوع، فإنه حینئذ یمکن القول بأنّ الأثر المترتب خصوص الأثر الذی لم یدرکه العقل؛ لأنّ استصحاب الآثار التی أدرکها العقل تحصیل للحاصل. إلاّ أنّ هذه المقولة لا نصیب لها من الصحة کما سبق ویأتی. کما أنها لو

ص:144

تمّت فإنما تتمّ فی الموضوعات غیر المجعولة شرعاً، فلا تشمل محور البحث وهو الحجّیة لأنها مجعولة شرعاً.

ولا یخفی علی اللبیب خطورة هذه المقولة حیث إنها تغیّر خارطة الإستصحاب وتترتب علیها ثمرات مهمّة؛ من قبیل أنّ الآثار إذا کانت متعدّدة ستجری استصحابات متعدّدة، ومثل ما إذا کان هناک دلیل یعارض الإستصحاب فی أثر واحد فسینحصر التعارض فی خصوص الأثر بناءاً علی هذه المقولة، بخلاف ما لو قیل من واقعیة استصحاب الموضوع، فإنّ التعارض سیکون مع الجمیع.

کذا لا معنی لحکومة الإستصحاب أو وروده إذا لم یجر فی الموضوع، بخلاف ما لو جری؛ فإنه سیکون أسبق رتبة فیکون حاکماً.

إذا اتضح ما تقدّم نقول: إنّ أثر عدم الحجّیة لیس أصولیاً فقط کی نقول: إنّ العقل یحکم به فلا حاجة إلی الإستصحاب، وإنما هناک آثار فقهیة لا یدرکها العقل، فیجری الإستصحاب الموضوعی، وهو استصحاب عدم الحجّیة وبلحاظ کلّ الآثار.

الدلیل الرابع: جریان البراءة فی الحجّیة عند الشک فیها

وقد یلاحظ علی جریان البراءة بعد حکم العقل بأنه تحصیل للحاصل بل أردأ أنواعه کما ذکر فی الإستصحاب، إلاّ أنّ الجواب هنا کالجواب هناک.

ولکن هناک ملاحظة أخری ربما تسجّل علی جریان البراءة، بل وحتی علی الإستصحاب وهی: إنّ تنجیز الحجّة إنما هو بلحاظ الواقع، سواء قلنا: إنّ الحجّة واسطة ثبوت وحیثیة تعلیلیة لتنجیز الواقع [ کما هو ذلک علی کلّ المبانی فی حقیقتها عدا مبنی الحکم المماثل ] أم واسطة عروض، بمعنی أنها هی المنجّزة حقیقة [ کما هو علی مبنی الحکم الطریقی المماثل، إلاّ أنّ تنجیزها یکون واسطة فی عروض التنجیز للواقع. ] ومع کون التنجیز بلحاظ الواقع، فمع

ص:145

الشک فی جعل الحجّة لابدّ من إجراء المؤمّنات والمعذّرات سواء کانت إجتهادیة أم عملیة فی الواقع لا فی الحجّة والحکم الظاهری.

وبصیاغة أعمق: إننا لو أجرینا المؤمّن عن الحکم الظاهری یبقی الشک فی الواقع علی حاله، فنحتاج إلی مؤمّن آخر؛ إذ تأمین الواقع من خلال تأمین الظاهر مثبت، ومع جریانه فی الواقع یلغو جریانه فی الظاهر.

ولو تنزّلنا فعلی الأقلّ یمکن جریان البراءة من الواقع فتکون مغنیة عن جریانها فی الحکم الظاهری.

عدم لغویة تنجّز المنجَّز ثانیاً

وهذه الملاحظة وجیهة مع المبنی الذی یصرّح به الأعلام من دون أن یلتزموا به وهو: أنّ المنجّز لا یتنجّز، ولکن الصحیح [ کما أشرنا سابقاً فی بحث إمکان التعبد بالظن ] أنه یتنجّز لقابلیته للإشتداد. بل حتی مع عدم قبوله للإشتداد فهو یقبل أن یتنجّز، ولا لغویة فی التنجیز الثانی، وذلک لأنّا لا نقبل ما یظهر من الأعلام من أنّ تداخل الأسباب مطلق، وإنما نقبل التداخل الکبیر دون الصغیر.

معنی التداخل الکبیر

والتداخل الکبیر هو وحدة المسبب وعدم تعدّده [ الذی یعنی تداخل الأسباب وتأثیرها وإیجادها مسبباً واحداً ] فی قبال عدم التداخل الذی یعنی أنّ لکلّ مسبب سبباً.

التداخل الصغیر

والتداخل الصغیر هو أنه مع تداخل الأسباب الکبیر ووحدة المسبب لا یصح نسبة المسبب إلی السبب الآخر لو وجد بعد السبب الأول، ولا یصح إسناد المسبب إلی کلّ سبب بنحو الإستقلال لو وجد دفعة، فی مقابل عدم التداخل [ الذی یقبل وحدة المسبب والتداخل السابق ] إلاّ أنه یصح نسبة هذا المسبب الوجدانی لکلّ سبب علی

ص:146

نحو الإستقلال [ بقاءً فی حالة تعاقب انوجاد الأسباب، وحدوثاً وبقاءً فی حالة انوجادها دفعة ] بمعنی أنّ کلّ سبب یصلح بنفسه [ وبشکل مستقل ] لإیجاد المسبب، وإن کان الآن مع انضمامه إلی الأسباب الأخری جزء السبب؛ نظیر الحکم بقتل الجانی وتنفیذ الحکم فی حقه لارتکابه ثلاث جرائم قتل عمدیة وبشکل متعاقب، فإنّ القتل [ المسبب ] وإن کان واحداً ولا یقبل التعدّد ولا الإشتداد، إلاّ أنه یصح نسبته إلی کلّ سبب بشکل مستقل، فلو ظهر أنّ واحدة أو اثنتین من جرائمه کانت من القتل الخطأ کفی الآخر فی ترتب المسبب المذکور.

معنی اشتداد التنجیز وعدم اشتداده

إذا اتضح ما تقدّم یفهم أنّ القول باشتداد التنجیز یساوی القول بعدم التداخل الکبیر لأسباب التنجیز، والقول بعدم اشتداده یساوی القول بالتداخل الکبیر. وقد أوضحنا سابقاً أن لا تداخل کبیر وأنّ التنجیز یشتدّ، وإلاّ لم یکن هناک تفسیر معقول لحرص الأعلام علی الإستدلال فی کلّ مسألة بأکبر قدر ممکن من الأدلّة، فلیس ذلک إلاّ لقبولهم [ ارتکازاً ] أنّ العلم یشتدّ، فالمسؤولیة بتبعه تشتدّ.

کما یفهم أنّ القول بالتداخل الصغیر أیضاً [ جنباً إلی جنب التداخل الکبیر ] یساوی أنّ المتنجّز لا یتنجّز، وأمّا مع القول بعدم التداخل الصغیر [ وهو الحق ] فالمتنجّز یتنجّز حتی لو قلنا بعدم اشتداده [ أی حتی لو قلنا بالتداخل الکبیر ].

التعذیر مثل التنجیز یقبل الإشتداد

إذن فالواقع یقبل التنجیز بطرق مختلفة متعدّدة، ولمّا کان التعذیر ملازماً للتنجیز فهو مثله. فالواقع کما یتنجّز بالحجّیة المشکوکة [ والإحتمال التکوینی المتعلّق بالواقع مباشرة ] فالتعذیر مثله قد یکون من خلال تلک الحجّة المشکوکة بإجراء البراءة فیها، وقد یکون بإجراء البراءة فی الواقع مباشرة، فکلّ منهما یصلح سبباً مستقلاً

ص:147

للتعذیر، والمتعذّر یتعذّر؛ إذ لا تداخل صغیر باعترافهم فی فروعاتهم الفقهیة بل علی مبانیهم لابدّ من إجراء براءتین بعد ما کان هناک سببان مستقلان للتنجیز، ولم یکن هناک تداخل بین السببین. فالتعذیر عن الواقع المنجّز بالإحتمال لا یعذّر عن الواقع المنجّز من حیث الحجّة الواصلة إلاّ بإجراء البراءة فیها أو استصحاب عدمها أو أی مؤمّن آخر، لا لغویة وإنما هی ضرورة.

فتلخص: إنه علی مبنی الأعلام من عدم التداخل [ ولا أقل الصغیر والذی لمسناه من خلال ممارستهم الفقهیة علی مستوی التطبیق وإن ظهر منهم خلافه فی الأصول علی صعید التنظیر ] یکون التنجیز وکذا التعذیر قابلاً للإشتداد ولا أقل قابلاً للتنجیز والتعذیر ولو من دون اشتداد.

وعلی مبناهم من أنّ الإحتمال للواقع منجّز والحجّة المشکوکة منجّزة، تکون النتیجة أنّ التعذیر عن الحجّة لیس لغواً، وإنما ضرورة لابدّ منها؛ حیث لا یکفی التعذیر عن الواقع.

نعم، علی فرض أنّ الإحتمال التکوینی بالواقع المنجّز متولّد من الحجّة المشکوکة، کان التنجیز واحداً، فالتعذیر کذلک ولا حاجة إلی التعدّد.

ملاحظة وجواب

کلّ هذا مع مبانی الأعلام، وهناک ملاحظة [ یمکن أن تسجّل علی جریان البراءة ] تعتمد علی ما أسّسناه [ من أنّ العلم النوعی قید الفعلیة التامة للأحکام الواقعیة و الظاهریة ] حیث یتساءل عن کیفیة تصویر الشک فی الحجّیة أوّلاً لکی نری ثانیاً أنه مجری البراءة أو لا.

والجواب: أنّ هناک نحوین من الشک:

الأول: الشک فی وجود العلم النوعی وعدم وجوده، مع القطع بعدم وصوله إلینا علی فرض وجوده.

ص:148

الثانی: [ وهو کثیراً مّا یواجهه المجتهد ] الشک فی وصول الحجّة إلینا وعدم وصوله، وهذا یستبطن الشک فی وجوده وعدمه، إلاّ أنّا لا نقطع بعدم وصوله النوعی إلینا علی فرض وجوده.

وکیفیة التعذیر فی النحو الأول من الشک تختلف عن الثانی [ مع أنّ الأعلام یوحّدون ذلک انطلاقاً مما حققناه ] فتجری البراءة فی النحو الأول من الفعلیة التامة [ بمعنی أنّ قطعه بعدم وصوله النوعی إلینا قطع بعدم وجود القید للفعلیة التامة للحکم الواقعی، و هو مفاد البراءة، أو فقل: هو قطع بعدم وجود و فعلیة الحکم الظاهری. ]

وأما فی النحو الثانی فلا تجری البراءة حتی بعد الفحص والیأس عن العثور والعلم الشخصی، وذلک لأنّ البراءة تقیّد الفعلیة التامة بالبیان النوعی، والفرض أنه فی شک من وصول البیان، وهو شبهة مصداقیة للبراءة فلا تجری.(1)

بل حتّی مع تفسیر الأعلام للبراءة [ من أنها قید التنجیز ] یبقی النحو الثانی من الشبهة المصداقیة، فلابدّ أن لا تجری البراءة، وإن کان تصریحهم خلاف ذلک، إلاّ أنّ ارتکازهم یوافق ما ذکرناه، حیث نلمح فی تعبیراتهم أنّ المجتهد معذور لعجزه وغفلته من دون أن یعلّلوه من جهة الجهل و«رفع ما لا یعلمون»، و إنما لاستنادهم علی

ص:149


1- (1) . إنّ هذا یعنی أنّ البراءة لا تجری فی صورة الشک، و إنما هی العلم الشخصی بعدم البیان النوعی، والعلم التعبدی فی أیدینا والشک فی وجوده سابقاً وعدمه لا أثر له، إذ حتی مع العلم بوجوده آنذاک والعلم بعدم وصوله إلینا هو البراءة، کما ذکرتم ذلک فی تحریر النزاع فی المسألة (الشک فی الحجّیة). ویؤکّد ذلک عدم جریانه فی النحو الثانی من الشک الوجدانی، مع أنه شک فی وجود القید وعدمه فی أیدینا. اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ المعلوم وجداناً عدمه هو وجود القید (الحکم الظاهری، العلم التعبدی) ولکن هناک شک وجدانی بالواقع، وبدلیل البراءة یحصل علم تعبدی ورفع ظاهری لفعلیة الواقع التامة، إلاّ أنه یقال: إنّه علی مبناکم أنّ البراءة تقیید لفعلیة الحکم الواقعی التامة بالعلم وبدلیل الأمارة وجعلها علماً یتوسع القید للعلم التعبدی، فمع العلم بعدم القید مضافاً إلی عدم العلم الوجدانی بالحکم الواقعی نعلم بعدم الفعلیة التامة للواقع وجداناً، فلا شک تعبداً ولا وجداناً بالواقع، فالبراءة لیست أصلاً عملیاً أخذ فیه رفع الحیرة إذ لا حیرة.

فقرة الخطأ وأمثالها.

الدلیل الخامس: دلالة البدائل علی عدم حجّیة المشکوک

إنّ هناک بدائل للحجّة المشکوکة بلحاظ الحکم الذی تناولته، إما متأخرة عنها رتبة [ کالأصول ] أو فی عرضها [ کالعمومات والحجج الثابتة الأخری ]، وهی تنقّح الحال فی ذلک الحکم، ومن ثمّ تدلّ بالإلتزام علی عدم حجّیة المشکوک. فالحجّة الثابتة البدیلة تنقّح الحال من بُعدین: من الواقع ومن الحجّة المشکوکة.

ویلاحظ علی هذا الدلیل

1. إنه أخص من المدّعی؛ لأنّ مورده صورة تخالف الحجج مع الحجّة المشکوکة فی الحکم، و إلاّ فمع التوافق لا تنفی حجّیة المشکوک، وعلی الأقل لا تظهر الثمرة.

2. أشرنا سابقاً إلی أنّ الدلیل إنما یکون حجّة فی مدلوله الإلتزامی إذا کان المدلول لازماً لطبیعة الدلیل عموماً وفی کلّ أفراده أو للطبیعة بما هی هی التی هی قالب المدلول المطابقی، وأما المدلول اللازم لفرد من الطبیعة فلیس بحجّة، لأنه لیس التزامیاً للدلیل ومدلولاً له وإنما لازم وجود الفرد، ولا دلیل علی حجّیة مثل هذه اللوازم.

وفی ما نحن فیه نفی الحجّة المشکوکة لازم الفرد لا الطبیعی، فلا یکون حجّة مثل هذا النفی، فالعموم دوماً یخالف الخاص، إلاّ أنه لا ینفیه إلاّ عند الشک فی حجّیة الخاص.(1)

ص:150


1- (1) . [س] الأصل العملی لا یدلّ التزاماً علی نفی الحجّیة المشکوکة إذا کانت أمارة، لأنه هو فی طولها؟ [ج] هذا السؤال یثار بدقة وعمق فی البراءة، وجوابه یعتمد علی التفرقة بین المدلول الإلتزامی لمؤدّی الدلیل (المدلول) وبین المدلول الإلتزامی للدلیل. وإن شئت قل: التفرقة بین المدلول الإلتزامی للجعل وبین المدلول الإلتزامی للمجعول، وکیفیة الفرز بین المدلولین متروک إلی محلّه.
الدلیل السادس: التمسک بالآیات الناهیة عن العمل بالظن

بتقریب: أنّ الشارع قد أسّس عموماً لفظیاً یرجع إلیه عند الشک فی التخصیص، وهو عدم حجّیة الظن.

وقد لاحظ علیه المیرزا: بأنّ دلیل اعتبار الحجّة [ لو قدّر وجوده ] حاکم علی هذا العموم، لأنّ الدلیل یقول: «هذا الظن علم»، فیتصرف فی موضوع «لا تتبع الظن». ومع الشک فی اعتبار الحاکم یکون التمسک بالعام من باب التمسک به فی الشبهة المصداقیة؛ لأنّ الحکومة إخراج المصداق من موضوع الدلیل، والدلیل العام [ حیث لا یتکفل إثبات موضوعه ] لا یکون حجّة حینئذ فی هذه الحالة.

وقد ذکر البعض: أنّ نسبة دلیل اعتبار الظن الخاص إلی عموم النهی نسبة الورود لا الحکومة، إلاّ أنه کالحکومة لا یمکن التمسک بالعام مع الشک فی الإعتبار.

ولا یخفی أنّ هذه الملاحظة یمکن تسجیلها علی الوجه السابق، حیث أنّ الحجّة المشکوکة [ لو قدر حجّیتها ] لکانت مقدّمة علی الحجّة البدیلة، لأنها علم، فمع الشک فی اعتبارها یکون شکاً فی المصداق.(1)

الفرق بین الشک فی الخاص والشک فی الحاکم

وقد یتساءل عن الفرق بین الشک فی الخاص والمقیّد، والشک فی الحاکم والوارد، فلِمَ صح التمسک بالعام فی الأولین دون الشک فی الحاکم والوارد؟

جواب النائینی (قدس سره)

فالجواب: علی مبنی المیرزا أنّ التخصیص إخراج حکمی لا

ص:151


1- (1) . [س] إنّ هذا یبتنی علی أنّ العلاقة بین الحجج الطولیة أیضاً علاقة الحکومة، کعلاقة الحجّة مع عموم النهی؟ [ج] نعم، المعروف عن غیر الآخوند أنه ورود أو حکومة، و أمّا الآخوند فیقول بالتوفیق العرفی والذی یرجع لباً إلی التخصیص، ومن ثمّ یمکن التمسک بالعموم.

موضوعی، فلا شبهة مصداقیة، بخلاف الحکومة والورود؛ فإنّ الشک فیهما نظیر الشک فی المصداق [ أنه فاسق أو لا ] مع القطع بوجود الخاص.

وقد أجاب الأعلام بأجوبة متعدّدة عن إشکال المیرزا، تلتقی جمیعاً فی النتیجة، وهی إمکان التمسک بالعموم مع الشک.

جواب السیّد الخوئی (رحمه الله)

وأحد الأجوبة ما ذکره السیّد الخوئی من أنّ قوام الحکومة والورود بالوصول، إذ مع عدم العلم بالحاکم و الوارد لا علم بالخروج عن الموضوع.

وهذا الجواب غیر تام وذلک لأنّ فعلیة الحجّة لیست بالعلم الشخصی، حیث إنّ وزانها وزان بقیة الأحکام، فوجودها یعنی العلم النوعی دون الشخصی.

جواب السیّد الصدر (قدس سره)

والجواب الآخر [ ما ذکره المیرزا وبلوره الصدر ]: أنّ الحکومة والورود علی قسمین:

[ 1 ] حکومة و ورود دلالی لا یکون التصرف فی الموضوع حقیقیاً وإنما صوری، فالإخراج فیهما لسانی شکلی لا أکثر، وأمّا لباً وواقعاً فالحکومة تخصیص والورود تخصص.

[ 2 ] حکومة و ورود فی الجعل ومتن القانون، الذی یکون للشارع فیهما جعل حقیقی للمصداق ولیس للحکم فقط.

وللتفرقة بینهما إثباتاً [ وبشکل غالب لا دائم ] یلحظ ما ذکرناه سابقاً فی التنزیل من أنّ الموضوع إذا کان حکماً وضعیاً فالتنزیل [ ومثله الحکومة والورود ] حقیقی، وإن کان تکوینیاً فهو دلالی بلحاظ ما له من الأثر الشرعی.

بعد الإلتفات إلی أنّ ما ذکره المیرزا [ فی إشکاله فی المقام ] ذو بعد کلّی وهو أنّ کلّ حالة یکون الشک فیها فی الحاکم لا یمکن

ص:152

التمسک بالعام [لأنّ الشبهة مصداقیة ] یتضح الجواب المذکور، وهو أنّ الإشکال الکلّی یخص ما إذا کانت الحکومة من سنخ الجعل لا الدلالة لا یمکن التمسک بالعام، وأمّا إذا کانت من سنخ الدلالة، فحیث إنها لباً تخصیص أمکن التمسک بالعام، لعدم کون الإخراج موضوعیاً وإنما حکمی فلا شبهة مصداقیة.

ولکن هذه الإجابة تحکّم الإشکال فی ما نحن فیه؛ لأنّ مبنی المشهور فی تفسیر جعل الأمارة علماً وأنه تصرف فی موضوع القضیة العقلیة بتوسعة، فالحکومة عندهم فی جعل الأمارة من باب الجعل لا الدلالة.

مختارنا فی الجواب

ومن ثمّ فالجواب الحق فی المسألة عن الإشکال علی صعید الکبری والصغری هو أنّ هناک فرقاً بین الإخراج التعبدی والخروج التکوینی؛ فإنّ التعبدی لا یعدم تکویناً مصداقیة الفرد لموضوع العام، وإنما یعدمها تعبداً فقط، ومن ثمّ تبقی مصداقیته التکوینیة علی حالها، فالشک فی اعتبار الحاکم أو الوارد لیس شکاً فی مصداقیة المشکوک لموضوع العام تکویناً کی یمنع من التمسک بالعام، وإنما المصداقیة التکوینیة معلومة، والشک فی إخراج الفرد من حکم العام بلسان إخراجه التعبدی من الموضوع، فیمکن التمسک بالعام لأنّ الشبهة حکمیة لا مصداقیة.

والفرق بین الحکومة الدلالیة والجعلیة وان کان حقاً إلاّ أنه لا تظهر ثمرته هنا، لأنّ الإخراج فیهما تعبدی فالشک فیهما لباً شک فی الإخراج الحکمی، والمانع من التمسک بالعام الشک فی الخروج التکوینی.

فتلخّص: أنه مع الشک فی اعتبار حجّة یمکن التمسک بعموم الآیات الناهیة عن العمل بالظن لنفی الحجّیة.

ص:153

3 . الظهورات

اشارة

ص:154

ص:155

تمهید

اشارة

بعد أن انتهینا من إمکان التعبد بالظن، یقع الکلام فی الظنون الخاصة [ وأنه هل حصل التعبد بها أو لا، وعلی فرض حصوله ما هی حدوده ] وطریقة الأعلام أنهم یبدأون الحدیث بالأمارات المرتبطة بالمضمون، وبعدها یتحدّثون عن الأمارات المرتبطة بالصدور والنقل وبالتبع جهة الصدور.

أصعدة البحث فی الظهور

القدماء کانوا یبحثون فی الظهور علی ثلاثة أصعدة:

الصعید الأول: البحث فی أصل حجّیة الظهور [ وأنّ النص خارج منه لأنّ دلالته قطعیة، والصریح داخل فیه لأنه ظهور ولکنّه قوی. ] و قد ذکر الکثیر أنّ أصل الحجّیة لیس محل نزاع، فلا موضوع للبحث فیه.

الصعید الثانی: البحث فی أمارات الظهور من جهة الوضع وتحدید المعنی الموضوع له، کالبحث عن حجّیة قول اللغوی.

الصعید الثالث: البحث فی أمارات الظهور من جهة تعیین المراد، وهی الأصول اللفظیة النافیة للقرائن [ من قبیل أصالة الحقیقة والعموم وعدم القرینة. ]

والشیخ الأعظم غیّر خارطة القدماء للبحث، والآخوند [ والحق معه ] غیّر خارطة الشیخ.

أقسام الظهور

ص:156

الظهور الذی سیتم البحث عن حجّیته أعم من:

[ 1 ] ظهور اللفظ فی المدلول الإستعمالی [ وهو المدلول الآحادی لکلّ کلمة کلمة. ]

[ 2 ] ظهوره فی المراد التفهیمی [ وهو المتحصل من ترکیب الکلام. ]

[ 3 ] ظهوره فی المراد الجدی.

وقد أشرنا فی بحوث الألفاظ إلی أنّ هذه المدالیل قد تتطابق [ بأن یکون المراد الإستعمالی والتفهیمی والجدی واحداً ] وقد تختلف، فیکون المراد التفهیمی غیر المراد الإستعمالی [ کما فی الکنایة والمجاز فی الإسناد ] وقد یکون للکلام مراد تفهیمی من دون إرادة جدیة [ کما فی حدیث الهازل ].

علماً أنه لا یقصد من المراد الجدی بیان الواقع فی قبال التقیة، فإنه مرتبط بجهة صدور الکلام لا بالظهور بعد أن کان المتکلّم یرید جداً من المخاطب البناء علی کلامه.

أنواع القرائن
اشارة

یعرف من إمکانیة اختلاف مرادات الکلام أنّ القرائن علی أنواع. فهناک قرائن للمراد الإستعمالی فی حالة اختلافه مع المدلول الوضعی، وهناک قرائن للمراد التفهیمی فی حالة اختلافه مع سابقه، وهناک قرائن المراد الجدی.

کما یعرف أنّ الأصول اللفظیة [ سواء کانت وجودیة أم عدمیة ] موزّعة، وفی قبال القرائن التی هی بصدد نفیها خلافاً للشیخ والآخوند حیث وحّدوا بینهما، وتلخص الخلاف بینهما فی أنها وجودیة أو عدمیة.

فأصالة الإطلاق والعموم مثلاً مرتبطة بالمدلول التفهیمی أو الجدی، ولا علاقة لها فی تحدید المراد الإستعمالی فی حین أنّ أصالة عدم القرینة علی المجاز و أصالة الحقیقة قبال المجاز

ص:157

المشهور مرتبطة بالمدلول الإستعمالی، وأمّا أصالة الظهور مثلاً فهی مرتبطة بالمراد الجدی.

دور علم اللغة والنحو والبلاغة فی شؤون الکلام

حیث اتضح أنّ للکلام مراحل وأنها قد تختلف، یتضح أنّ کلّ واحد من علوم اللغة المعنیّة بشؤون الکلام یتکفل مرحلة من المراحل. فعلم اللغة بالمعنی الأخص معنی بالمدلول التصوری وشیء من الإستعمالی، خلافاً لما هو السائد من أنّ اللغوی لا یعنی بضبط المعنی الحقیقی وفرزه عن غیره، وإنما دوره ضبط ما استعمل فیه اللفظ.

وعلم النحو والصرف یتکفّلان الشطر الباقی من المدلول الإستعمالی والمدلول التفهیمی؛ لأنّ البحث فیهما عن الهیئة الترکیبیة وامتزاج المادة بالهیئة وهما مرتبطان بالمراد التفهیمی.

وهناک علم الإشتقاق الکبیر والأکبر وعلم النحت وهی جمیعاً تتکفل ضبط المدلول التصوری والإستعمالی من جهات غیر الجهة التی تکفّلها علم اللغة.

وعلم البلاغة بأقسامه الثلاثة [ المعانی - وهو أهمها - والبیان والبدیع ] یتکفّل رصد القرائن العامة التفهیمیة، ومن الخطأ بمکانٍ الإعتقادُ باختصاص هذا العلم باللغة العربیة، حیث إنه لا علاقة له باللغة أصلاً، وإنما هو مرتبط بالإنتقال من معنی إلی معنی [ أی من المدلول الإستعمالی إلی التفهیمی ] فهو وثیق الصلة باللغة من دون أن تکون موضوعَه ومحورَ بحثه.

وشاهد آخر علی عدم اختصاص البلاغة باللغة العربیة [ بل لا علاقة لها باللغة ] هو أنّ کثیراً من المسائل البلاغیة تمّ بحثها فی علم المنطق والأصول حتی أنّ بدایة البحث الأصولی کانت عبارة عن تعمیق لبحوث علم المعانی.

ومن الواضح أنّ علم المنطق والأصول لا یخصان لغة معینة،

ص:158

وإنما الأول منها مرتبط بلغة الفکر وهی عامة، وثانیهما مرتبط بلغة القانون وهی عامة. فبحث المسائل البلاغیة فیهما یعبّر عن عمومیة علم البلاغة أیضاً.

فهم النص فی ظلّ دراسة ظروف النص

وأمّا المراد الجدی فیعتنی به شطر من علم البلاغة، ولکن الشطر الأکبر تتکفّله الدراسات المرتبطة بمعرفة البیئة الفکریة والزمانیة والسیاسیة والتاریخیة للنص التی تشکّل رصیداً لفهم النص والمراد الجدی منه.

ومن هذه الدراسات شروح الأحادیث التی قام بها أمثال المجلسی ومِن قَبْله الصدوقُ وإلی حدٍ مّا الطوسی 4.

وقد اهتمّ القدماء [ وبتبعهم من المتأخرین شیخ الشریعة الإصفهانی وتلمیذه السیّد البروجردی وأتباعه ] بدراسة ظروف النص ومناخه وأجوائه. وبعد أن انتهوا إلی أنّ السنّة لها نظر شرح وتفسیر للکتاب العزیز، وأنّ روایات الأئمة (علیهم السلام) لها نظر لروایات النبی (صلی الله علیه و آله)، ولها نظر إلی الجوّ العلمی الذی کان سائداً آنذاک حتی أنّ کثیراً من الفقه الشیعی کان بمثابة التعلیق علی الفقه السنّی، لم یتناولوا النص إلاّ مع مراجعة الکتاب والسنّة النبویة و فقه العامة، لأنها جمیعاً تساهم فی فهم المراد الجدی لکلام الإمام (علیه السلام) .

وبهذه الرؤیة وطریقة فهم النص ینحلّ کثیر من حالات التعارض؛ حیث إنّ لکلّ طائفة جوّاً وبیئة خاصة بها، فیراد منها ما لا یتنافی مع الطائفة الأخری.

وهذه مرحلة أساسیة فی عملیة الإستنباط، ولکن علی شرط أن تکون جنباً إلی جنب إعمال القواعد والصناعة من أجل أن تأتی العملیة الفقهیة متکاملة.

خارطة الظهورات فی نظام الشیخ

ألفتنا إلی أنّ الشیخ الاعظم غیّر أسلوب القدماء فی بحث

ص:159

الظهورات وجعله بالشکل التالی:

[ 1 ] البحث فی کبری حجّیة الظهور وفی ذلک لا یختلف عن القدماء.

[ 2 ] الشک فی المدلول مطلقاً [ سواء کان وضعیاً أم استعمالیاً أم تفهیمیاً أم تصدیقیاً ] فیبحث فی هذا المقام عن ما یرفع الشک [ کحجّیة قول اللغوی والنحوی والبلاغی وسائر العلوم التی أشرنا إلیها المعنیّة بوضع ضوابط تحدّد مدلول الکلام علی کلّ أصعدته ] خلافاً للقدماء حیث خصّوا هذا المقام بما یرتبط بتحدید الموضوع له.

[ 3 ] الشک فی الترکیب الدالّ [ وأنه هل نصب قرینة علی التخصیص أو المجاز أو الکنایة أو لا ] فیبحث فی هذا المقام عن الأصول اللفظیة الرافعة لهذا الشک بنفیها للقرائن [ من قبیل أصالة الحقیقة والعموم والإطلاق وعدم القرینة ] خلافاً للقدماء حیث جعلوا المقام الثالث فی معالجة الشک فی المراد، واعتبروا الأصول اللفظیة تجری لتحدید المراد ونفی الشک فیه، مع أنّ الأصول اللفظیة أمارات تعالج الشک فی الترکیب الدالّ الذی یستتبع للشک فی المدلول المراد، وإلاّ فمع الشک ابتداءً فی المراد بعد إحراز الدالّ لا تجری هذه الأصول.

ومن هنا تعرف وجاهة تغییر الشیخ لمقامات البحث بعد أن أهمل القدماء الشک فی الدالّ، وبعد أن کانت الأصول تجری فیه لا فی الشک فی المراد، وهو یعالج بالعلوم المختصة علی حدّ علاج الشک فی الوضع، فلا مبرّر لحصر المقام الثانی فیه.

ولا یخفی أنّ البحث فی المقام الثالث فی صغری صغری الظهور [ أی تحدید الدالّ علیه ] وفی المقام الثانی فی صغری الظهور [ أی فی تحدید المعنی الظاهر ] وفی المقام الأول فی أصل حجّیة الظهور وکبراها.

وسنبحث علی أساس خارطة الشیخ فی مقامات.

ص:160

1 . المقام الأول: البحث فی حجّیة الظهور

منشأ حجّیة الظهور
اشارة

ذکر الشیخ أنّ حجّیة الظهور عند الشارع بدیهیة لا تحتاج إلی دلیل. وفی تعبیر آخر له ذکر أنّ دلالة الظاهر علی المراد دلالة قطعیة مع العلم بعدم القرینة فی الترکیب الدالّ، ولکن [ لمّا کان غالباً یتمّ إحراز الدالّ عبر الأصول اللفظیة وهی ظنیة، وبضمّ أنّ النتیجة تتبع أخسّ المقدّمتین ] تکون دلالة الظاهر ظنیة، فالدلالة القطعیة تعلیقیة علی إحراز الدالّ وجداناً وبالعلم.

والآخوند استدلّ علی الحجّیة بسیرة العقلاء غیر المردوعة من الشارع، بل التی تعاطی بها و جری علیها.

وعلی أساس الإتفاق علی الحجّیة أخرجها السیّد الخوئی من علم الأصول، بحجّة أنّ العلم یبحث فی المسائل المتنازع علیها.

معنی تقنین العقلاء

والحق فی المسألة أنّ مسیرة العقلاء ترجع إلی تقنین العقلاء، وتعبیرُهم عن التقنین بالسیرة لأجل بیان أنها مورست عملیاً ولأجل بیان السرّ فی حجّیته.

وعندما نقول: إنّ للعقلاء تقنیناً فی باب الظهور، فلابدّ أن یعرف أنه یضمّ فصولاً وأبواباً، ولا یقتصر علی قضیة «الظهور - بعد تمامیته - حجّة» [ والتی هی المقام الأول من البحث ] وإنما تشکّل الظهور، وتمامیتُه یتمّ أیضاً بتقنین العقلاء وفهم الذین اعتبروا العلقة الوضعیة وقواعد اللغة والأصول اللفظیة، کلّ ذلک لتأمین موضوع الحجّیة العقلائیة وهو الظهور.

فقضیة «الظهور حجّة» تعنی «الظهور - بما له من کیان وقوام اعتباری عند العقلاء - حجّة عندهم.» وهذه القضیة بهذا الحجم هی

ص:161

الممضاة من قبل الشارع.

حجّیة الظهور من باب الضرورة الفطریة
اشارة

بل یمکن الإستدلال علی حجّیة الظهور بالضرورة الفطریة، بتقریب: أنّ الفطرة التی دعت البشر إلی وضع الألفاظ للمعانی هی التی تدعوهم إلی التعامل والتفاهم من خلال الظهور؛ لأنه أقرب وسیلة لاختزال الجهود والطاقات، والشارع أقرّ هذه الفطرة.

وهذا الاستدلال یرجع إلی [ ما ذکرناه سابقاً من ] قاعدة الملازمة بین حکم العقل النظری والشرع، أی بین الإرادة التکوینیة والإرادة التشریعیة.(1)

فتلخّص: أنّ دلیل حجّیة الظهور هو السیرة والفطرة، وأنّ الحجّیة تثبت للظهور ککیان وباب قانونی.

ومن ثمّ فغایة ما یلزمنا من البحث فی المقام الثانی والثالث، هو ضبط المفردات والصغریات، وأنها من ضوابط الظهور وبنوده وفصوله من دون حاجة للبحث عن حجّیتها.

توجیهٌ لناجزیة دلالة الظهور القطعیة فی المدلول التصوری

ألفتنا إلی أنّ الشیخ قال بأنّ دلالة الظهور قطعیة إلاّ أنها تعلیقیة ولیست ناجزة.

وهنا من ذهب إلی أنها قطعیة ناجزة کالنص حتی لو کان إحراز الدالّ ظنیاً.

والحق أنه یمکن توجیه الدلالة القطعیة الناجزة فی المدلول

ص:162


1- (1) . [س] مع وجود الدلیل الفطری ما هو مبرّر اعتبار العقلاء وتقنینهم حیث یکون لغواً؟ [ج] إنّ الدلیل الفطری یثبت لنا الحجّیة فی الجملة، وإن شئت قل: أصل الحجّیة، وأمّا تفاصیل وحدود الظهور الحجّة فیتکفلها الإعتبار والتقنین، وقد ألفتنا سابقاً إلی أنّ العقل النظری یدرک المسائل الکلّیة العامة، ویدرک أنّ الشارع لم یتجاوز بتشریعه ما صمّم علیه التکوین والفطرة، دون التفاصیل والجزئیات فإنّها لیست فی متناول إدراک العقل وقدراته.

التصوری [ الوضعی ] بعد البناء [ وهو الحق ] علی الملازمة التکوینیة بین اللفظ والمعنی الموضوع له بسبب القرن الأکید، وإن کان مبدأ العلاقة اعتباریاً، حینئذ ستکون الدلالة ذاتیة قطعیة.

کذا یمکن توجیه الدلالة القطعیة الناجزة فی المدلول الإستعمالی، فإنّ العلاقة کذلک تکوینیة غایته أنها مقیّدة بإرادة المتکلّم.

الدلالة التعلیقیة فی المدلول التفهیمی والجدی

وأمّا المدلول التفهیمی؛ فحیث إنّه مستحصل من مجموع ترکیب الجملة فنقبل القطعیة التعلیقیة لا غیر، بمعنی أنه علی تقدیر العلم بالترکیب الدالّ، وأنّ علاقته بالمعنی تکوینیة وإن بدأت اعتباریة فهو یدلّ علی المعنی المقصود وإفهامه بشکل قطعی.

وأمّا المدلول الجدی کالتفهیمی نقبل قطعیته التعلیقیة دون الناجزة. ویدلّنا علی ذلک أمور ثلاثة:

الأمر الأول: [ ما ذکره الشیخ و صاحب المنتقی من ] أنّ إحراز تمامیة الترکیب الدالّ یتمّ عبر الأصول اللفظیة، فهو إحراز ظنی [ من دون فرق فی المتکلّم بین أن یکون معصوماً أو غیره، بعد أن کان السامع ومن نقل إلیه الکلام لیس معصوماً. ]

وما ذکر فی المنتقی [ من أنّ الأصول لیست مرتبطة بالظهور الذی هو الدلالة، وإنما مرتبطة بالدالّ فتبقی الدلالة قطعیة ] مرفوض؛ لأنّ الأصول من العناصر المکونة للظهور، حیث تتکفل ضبط حدود الدالّ، والظهور لا یتلخص بالدلالة، وإنما یبدأ بالدالّ وینتهی بالدلالة علی المراد الجدی الواقعی.

الأمر الثانی: کذا أصالة الجدّ النافیة لکون المتکلّم فی مقام الهزل أو التوریة أو الإمتحان أو أیّ داع آخر [ غیر التقیة فإنها غیر مرتبطة بالظهور ] وأنّه قد نصب قرینة علی أحدها، فإنّها ظنیة، وبالتالی ستکون دلالة الکلام علی المراد الجدی ظنیة، بل أکثر ظنیة لأنها فی

ص:163

الوقت الذی تتوقف علی جریان الأصول الظنیة فی المراحل السابقة تحتاج إلی جریان أصالة الجدّ الظنیة، ومن ثمّ لا یمکن قبول قطعیة الدلالة سوی التعلیقیة.

الأمر الثالث: [ ولم یذکره الشیخ ] أنّ الإنتقال من المدلول الإستعمالی إلی التفهیمی، ومن المدلول التفهیمی إلی الجدی یحتاج إلی فنون ونکات ومداقة وتعمّق فی علوم متعددة تساهم فی استنطاق النص وبلورة ظهوره، وتطبیق مثل هذه العلوم الظنیة [ فالظهور المستحصل من الکلام بعد إعمال الإنسان غایة جهده فی تطبیق الموازین ] ظنی.

وما یقال [ من أنّ کلام الوحی والمعصوم ملقی إلی عموم الإنسان، ویخاطب به فهم البقال والعطار، ومن ثمّ فالظهور الحجّة ما یفهم هؤلاء لا الظهور المستخلص من إجراء مجموعة معادلات علمیة ومعقدة بحیث لا یفهمه إلاّ القلّة من البشر، ومن ثمّ فالظهور العام والحجّة قطعی ] فیجیء جوابه فی النقطة اللاحقة.

أیّ ظاهر هو الحجّة؟
اشارة

السائد بین الأعلام أنّ الظهور حجّة، ولکن مع التعمق فی الآیة والروایة والمداقّة فیهما بإعمال شتّی العلوم الأدبیة، فهل یکون مثل هذا الظهور حجّة، أو أنّ الحجّة خصوص الظهور العرفی؟

حجّیة الظهور العرفی

نفی البعض الحجّیة عن المعنی المفهوم إذا خرج عن الظهور العرفی:

[1] لبناء العقلاء علی أنّ الحجّة هو الذی یستفیده عموم الناس، فإذا خرج عن القدرة العامة لم یکن ظهوراً، فلم یکن حجّة، وإنما کان تحدّساً أو قراءةَ ما خَلف النص.

ولذا بعض الأعلام نفی حجّیة أدلّة الإستصحاب فی استصحاب العدم الأزلی، بدعوی أنّ استفادته منها لیس عرفیاً، وإنما بالعلوم

ص:164

الغریبة.

ونشاهد أنّ السیّد الصدر أعرض عن وجه فنی دقیق [ یصوّر وصول النوبة إلی الأصل الطولی فی أحد الأطراف بعد تساقط الأصول فی الأطراف لتعارضها ] بحجّة أنه وإن کان صحیحاً فی نفسه إلاّ أنه بعید عن أذهان العرف فاستفادته من الأدلّة لیس من الظهور الحجّة.

وفی الفقه یلحظ من الکثیر التحاشی عن الفذلکات الصناعیة والأصولیة الدقیقة.

[ 2 ] وآخر ذکر أنّ الشریعة والقرآن الکریم قد خوطب بها الجمیع، فاستفادة شیء من نصوصها غیر ما یستفیده العامی خُلف اشتراک الخطاب، ومن ثمّ فهو تأویل لا ظهور. ومثله ما ذکر: أنّ کثیراً من السائلین للمعصوم (علیهم السلام) لم یکونوا من ذوی الإختصاص والخبرة والفقاهة، فحمل الروایة علی معنی لا یفهمه السائل لا معنی له.

حجّیة الظهور الدقّی

والحقّ أنّ الشواهد النقلیة والأدبیة علی خلاف ما ذکر، وأنّ العمق والدقة [ مهما بلغا ] لا یؤثّران علی الظهور وحجّیته ما داما علی الموازین الأدبیة ولیست هی تحمیلاً علی الأدب وتأویلاً فی الکلام، وإنما لمس بواسطتها النکات التی کانت خفیة علی العموم.

أمّا الشواهد النقلیة فمثل: «أَعْرِبُوا حَدِیثَنَا فَإِنَّا قَوْمٌ فُصَحَاءُ»(1)، «وَلا یَکُونُ الرَّجُلُ مِنْکُمْ فَقِیهاً حَتَّی یَعْرِفَ مَعَارِیضَ کَلامِنَا»(2)، «أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ مَا عَرَفْتُمْ مَعَانِیَ کَلامِنَا إِنَّ کَلامَنَا لَیَنْصَرِفُ عَلَی

ص:165


1- (1) . الکلینی، الکافی 52/1 (کتاب فضل العلم، الباب 17: باب روایة الکتب والحدیث وفضل الکتابة والتمسک بالکتب، الحدیث 13، عن أبی عبدالله(علیه السلام).
2- (2) . المجلسی، بحار الأنوار 184/2 (کتاب العلم، الباب 26: إنّ حدیثهم(علیهم السلام) صعب مستصعب وإنّ کلامهم ذو وجوه ...، الحدیث 5: عن أبی عبدالله(علیه السلام).

سَبْعِینَ وَجْهاً»(1)، «إِنَّ فِی أَخْبَارِنَا مُحْکَماً کَمُحْکَمِ الْقُرْآنِ وَمُتَشَابِهاً کَمُتَشَابِهِ الْقُرْآن»(2)، «عَلَیْنَا إِلْقَاءُ الأُصُولِ وَعَلَیْکُمُ التَّفْرِیعُ»(3)، «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَی مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»(4)، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ) (5) والتفقه یعنی الفهم، وهو لا یستعمل فی الفهم المتوسط. والآیات الکثیرة المذیلة بأولی الألباب، وما ورد بالنسبة إلی القرآن «الْعِبَارَةُ لِلْعَوَامِ وَ الإِشَارَةُ لِلْخَوَاصِّ وَ اللَّطَائِفُ لِلأَوْلِیَاءِ وَ الْحَقَائِقُ لِلأَنْبِیَاءِ.»(6)

کلّ هذه تدلّ علی أنّ العمق لا یؤثّر علی الظهور، بل هو مطلوب؛ لأنّ الکلام مع أنه وسیلة التفاهم الفطریة التی أودعها اللّه الإنسان إلاّ أنه یتحمل ویستبطن معان عمیقة ومتعددة، وقد لا یفهم السامع والسائل من کلام الإمام إلاّ بقدر مستواه، ولکن یبقی فی کلامه حینئذ بطون ونکات یلتفت إلیها المختص والخبیر بفنون الکلام فقط.

وأمّا الشواهد الأدبیة فعلم النقد الأدبی خیر دلیل علی أنّ العلم

ص:166


1- (1) . المجلسی، بحار الأنوار 199/2 (کتاب العلم، الباب 26: إنّ حدیثهم(علیهم السلام) صعب مستصعب وإنّ کلامهم ذو وجوه ...، الحدیث 57، عن أبی عبدالله(علیه السلام).
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 115/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9: باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة وکیفیة العمل بها، الحدیث 22، عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام).
3- (3) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 62/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6: باب عدم جواز القضاء والحکم بالرأی والإجتهاد والمقاییس ونحوها من الإستنباطات الظنیة فی نفس الأحکام الشرعیة، الحدیث 52، عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام).
4- (4) . الکلینی، الکافی 403/1 (کتاب الحجّة، الباب 103: باب ما أمر النبی(صلی الله علیه و آله) بالنصیحة لأئمة المسلمین واللزوم لجماعتهم ومَن هُم؟، الحدیث 1، عن أبی عبدالله(علیه السلام).
5- (5) . التوبة/ 122
6- (6) .المجلسی، بحار الأنوار 278/75 (کتاب الروضة، أبواب المواعظ، الباب 23: مواعظ الصادق(علیه السلام)، الحدیث 112).

المرکب والحذلقة فی النص الأدبی أمر طبیعی بل ضروری، ومن ثمّ نشهد تطوّر هذا العلم والتنافس فیه، وتاریخ هذا العلم یرجع إلی الجاهلیة، حیث یحدّثنا التاریخ أنّ الشعراء فی سوق عکاظ کانوا یحتکمون إلی شخص خبیر - وربما هو امرأة - فی هذا المجال یحکم من هو أشعر العرب.

ویلاحظ أنّ المتکلّم فی کثیر من الأحیان قد لا یکون ملتفتاً إلی ما یذکره الناقد تفصیلاً، وإنما جری علیه بشکل إنسیابی وارتکازی، بحیث لو اطّلع علیه لقال: نعم، أنا قصدتُ ذلک.

فتبلور أنّ الظهور الحجّة هو ما یفهم من الکلام علی طبق الموازین والمعاییر الأدبیة، مهما کان عمیقاً وخفیاً علی عموم الناس.

إن قلت: إنّ ما ذکر معقول فی کلام الإمام (علیه السلام) حیث إنّه محیط بکلّ شیء فیمکن أن یقصد المدالیل المترامیة والخفیة التی تحتاج إلی لون من الدقة، وأمّا المتکلّم العادی فحیث إنّه یفقد خصوصیة الإحاطة فلا معنی لإعمال الدقة فی کلامه والوصول إلی مدالیل لم یلتفت إلیها ولم یقصدها.

قلت: لا یشترط فی حجّیة الظهور إلتفات المتکلّم [ المرکب والتفصیلی] للمدلول وقصده، وإنما یکفی الإلتفات الإرتکازی البسیط والدمجی، وهو موجود فی المتکلّم العادی [ الذی نشأ مع اللغة وربّی علیها حتی أصبحت جزءاً من وجوده ] ولکن فی صورة انطباق الموازین الأدبیة، لا یتم ذلک إلاّ مع توفر القرائن الکافیة.

ومن هنا یتبلور الفرق بین کلام المعصوم [ وبدرجة ثانیة کلام خبراء اللغة ] وبین کلام الشخص العادی، فإنّ الثانی [ وکنتیجة لعدم إحاطته التامة بمدالیل الکلام ] لا یقیم قرائن علی مجموعة من المدالیل ویقیمها المعصوم. وبإعمال الموازین فی دراسة کلام کلّ منها تظهر النتیجة مختلفة، حیث إنّ لکلام المعصوم ظهوراً أوسع من کلام غیره.

إن قلت: إنّ الروایات وإن دلّت علی أنّ فی کلامهم بطوناً، ولکن

ص:167

مع النقل عنهم بالمعنی وعدم نقل نص کلماتهم لا یمکن الإستظهار منه علی حدّ الإستظهار من کلمات المعصوم، لوضوح اختلاف المستوی.

قلت: إنّ الکثیر [ إن لم یکن أکثر ] من روایات الشیعة قد نقلت بالنص، بل کان دیدنهم [ وحتی من أمثال زرارة ] تدوین الحدیث، بالإضافة إلی مهارة کثیر فی حفظ الألفاظ ونقلها کما هی.

وأمّا الشطر الیسیر الذی لم یدوّن ولم یحفظ وإنما نقل بالمعنی فجوابه یأتی بعدئذ.

ص:168

2 . المقام الثانی: تحدید دائرة حجّیة الظهور عند المحقق القمی

اشارة

نُقِل عن المیرزا القمی (قدس سره) أنه یفصّل فی الحجّیة بین من قُصِد إفهامه وبین من لم یُقصَد، فقال بالحجّیة فی الأول دون الثانی. ولکن عند مراجعة کلماته فی القوانین وجدنا أنه یذکر عدّة نقاط یحاول من خلالها القضاء علی حجّیة الظهور أو تقلیص مساحة الحجّیة.

التفصیل بین من کان فی عصر النص وبین من لم یکن

النقطة الأولی: التفصیل بین من کان فی عصر النص وصدور الکلام [ سواء قصد إفهامه أو لا ] وبین من لم یکن فی عصر النص [ قصد إفهامه أو لا ] فالأول حجّة دون الثانی.

واستدلّ لهذا التفصیل بعدم إمکان الجزم لمن لم یکن فی عصر النص بالجوّ العلمی وغیره من القرائن الحالیة الجمّة التی اعتمدها المتکلّم، مما یشکّل عقبةً أمام حجّیة الظهور بالنسبة له، إذ لا ظهور محرز فی حقه.

وقد عمّقت بعض الإتجاهات العلمانیة هذا الدلیل واعتمدته فی شلّ النص الدینی بالنسبة لنا.

والذی یتأمل فی منهج السیّد البروجردی أنه یبغی معالجة هذه الشبهة وتلافیها بالکیفیة التی ذکرها (قدس سره) .

التفصیل بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد
اشارة

النقطة الثانیة: التفصیل بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد، فالأول حجّة دون الثانی.

واستدلّ لهذا التفصیل بأنّ المتکلّم یعتنی لنصب القرائن لمن یقصد إفهامَه والمخاطِب بکلامه جداً [ بقرینة أنه متکلّم حکیم عاقل بصدد الإفهام ] وأمّا من لم یقصد إفهامه فلا دلیل علی نصب القرائن له

ص:169

حتی یکون الکلام حجّة بالنسبة له.

ولا یخفی أنّ عباراته هنا تتراوح بین أمرین:

الأول: تمییزه بین الخطاب الجدی القانونی والتفهیمی، حیث قال بعمومیة الأول للکلّ وخصوصیة الثانی لمن قصد إفهامه، ومن ثمّ یوصل من لم یقصد إفهامه إلی الإنسداد فی الخطاب القانونی مع عمومیته لهم، إلاّ أنه لا طریق لهم إلیه بعد أن کان التفهیمی خاصاً بجماعة ولیس الجمیع.

والثانی: [ وهو الأوجه ] أنّ الخطاب الجدی القانونی لخصوص من قصد إفهامه، بمعنی أنه متطابق مع الخطاب التفهیمی ولا یعمّ عامة المکلّفین، وإنما سنّ لهم القانون وشرّعت لهم الشریعة بخطاب آخر وهو قاعدة الإشتراک، نظیر ما یقوله الأعلام فی الخطابات الموجهة للذکور أنها تعمّ للنساء بقاعدة الإشتراک لا بنفس الخطاب.

وحیث إنّا [ نحن الذین لم یقصد إفهامنا ] لم نعرف بالضبط أنّ المکلّف المقصود بالإفهام ماذا فهم من الکلام کی نعمّمه بقاعدة الإشتراک ستکون النتیجة هی الإنسداد.

حجّیة الظن الشخصی

النقطة الثالثة: الملاحَظُ اختلاف الأفهام فی قراءة النص الدینی؛ ففی آیة الوصیة مثلاً هناک عدّة تفسیرات للتعبدیة فی قوله تعالی: (مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصِی بِها أَوْ دَیْنٍ) (1) وبما أنّ الظهور [ الذی هو ظن نوعی ] واحد واقعاً لا یمکن القول بأنّ هذه جمیعاً حجّة من باب الظهور، فإنّ واحداً من هذه التفسیرات هو الظهور والباقی خاطئ وإن تخیّل أصحابها أنها هی الظهور. ومع ذلک نجد أنّ کلّ تفسیر حجّة علی صاحبه، مما یدلّ علی أنّ الحجّیة لیست للظهور، وأنّ موضوعها شیء آخر غیر الظهور وهو الظن الشخصی بالظهور، فبعد أن انسدّ باب الوصول إلی الظهور مع الایمان بحجّیته لم یکن

ص:170


1- (1) . النساء/ 11

طریق سوی فتح باب الحجّیة للظن الشخصی بالظن النوعی.

بعض موانع الوصول إلی الظهور

النقطة الرابعة: إنّ الکثیر من القواعد الأصولیة والفقهیة [ التی تدخل فی عملیة الإستنباط من النص ] لیست من عناصر الظهور، من قبیل حجّیة العام بعد الفحص وحجّیة العام فی الباقی بعد التخصیص، فإنّ هذه وأمثالها لا یمکن دعوی أنّ الظهور الذاتی للکلام الواحد شامل لها، فهی قواعد أسّست لأجل الظن بالمراد الواقعی لا لأجل إحراز الظهور.

وبعبارة أخری: لمّا کان الوصول إلی الظهور مسنداً، شیّدت هذه القواعد لأنها تساهم فی حصول الظن الشخصی المتراکم بالواقع، لاسیّما إذا التفتنا إلی أنّ الأخبار الشریفة قد طرأ علیها سوانح، من قبیل التقطیع فی الروایات الذی مارسه المحدّثون کالکلینی والصدوق.

ونضیف إنا عثرنا علی تقطیعٍ مارَسَهُ نفس الرواة المباشرین عن الأئمة (علیهم السلام) حیث نری أنه یروی فقرة لشخص ویرویها مع إضافة لشخص آخر وهکذا.

ونضیف أیضاً: أنّ واحدة من السوانح ضیاع کثیر من الکتب الحدیثیة من قبیل کتاب مدینة العلم وکذا إحراق الکثیر من المکتبات.

هذه السوانح وغیرها تکون سبباً فی حصول العلم الإجمالی بأنّ المضمون لیس علی ما هو علیه الذی یشکل عائقاً عن الوصول إلی الظهور، ومن ثمّ ما نحصل علیه بعد الفحص لیس سوی الظن الشخصی بالواقع، وهو الحجّة علینا من باب الإنسداد.

موجز عوامل العجز عن الوصول إلی ظهور النص الدینی

ویتلخّص مما تقدّم: أنّ الظهور حجّة، إلاّ أنّ الطریق للوصول إلیه انسدّ علینا، للملاحظات الأربعة التی أشیر إلیها والتی یمکن تلخیصها:

ص:171

الأولی: عوامل التفسیر فی الفهم اللغوی للسامع المانع من الوصول إلی ظهور النص الدینی.

الثانیة: عوامل عدم الوصول إلی عین متن النص الدینی.

الثالثة: کثرة الإختلاف المعبّرة عن أنها أفهام ولیست متن القانون الشرعی.

الرابعة: السوانح والطوارئ التی اعتورت النص الدینی.

کلّ هذه تنبئ عن العجز عن الوصول إلی الظهور ومراد الشارع الواقعی، وأنّ الحجّة بتوسط الإنسداد هی أفهامنا [ إی الظنون الشخصیة]، فنحن معبَّدون بالشریعة من وراء حجاب الفهم.

وکلّ هذا فی المسائل النظریة الظنیة لا الضروریة. (1)

ملاحظات علی حجّیة الظهور

(2)

مجموعة من المفکّرین المعاصرین [ إسلامیین وغیرهم ] أثاروا الملاحظات التی سجّلها المیرزا القمی علی الظهور أو ما یقرب منها وبشکل معمّق، ومن ثمّ وجدنا الأنسب وقبل الإجابة علی ملاحظات المیرزا القمی عرض کلمات هؤلاء ومؤاخذاتهم، ثمّ الإجابة عنها دفعة واحدة.

تأثیر البیئة علی فهم النص

ص:172


1- (1) . [س] بعد أن کان (قدس سره) یری حجّیة ما وصل إلیه المجتهد کما یراه القائل بإمکان حصول الظهور، فالفارق بین الفریقین سیکون علمیاً لا عملیاً؟ [ج] هناک فارق عملی ولیس فقط علمیاً، وهو أنّ المیرزا القمی حیث انتهی إلی الإنسداد فهو یطبق موازین الإنسداد، ومن ثمّ لم یقتصر فی تشخیص مدلول الکلام علی الموازین الأدبیة، وإنما یعمم إلی مثل جبر الدلالة بفهم الفقهاء. کما أنه قال بأنّ کلّ ظن حجّة بما فی ذلک الإجماع المنقول وأمثاله، بخلاف القائل بالإنفتاح وإمکان الحصول علی الظهور. نعم، قد یشترک مع القائل بالإنفتاح فی فهم نص أو أکثر ولکن علی مستوی الإستظهار العام وعلی مستوی الحجج یختلفان.
2- (2) . أنظر الأجوبة عن تلک الملاحظات فی صفحة 209 وما بعدها.

المؤاخذة الأولی: [ والتی سجّلها المحدّثون بقوة فی البحث الأدبی ] هی عین الملاحظة الأولی للقمی ولکن بصیاغة جدیدة مع تعمیق، مع الإلتفات إلی أنّ بعض الأعلام قد استشکل فی جریان أصالة عدم النقل (الإستصحاب القهقری) لقناعته بوجاهة هذه الملاحظة.

وحاصل هذه المؤاخذة: أنّ هناک عوامل عدیدة جداً توجب نحت المعنی وتغییر معانی أصل اللسان الواحد بالزیادة والنقیصة، بل ربما تأتی علی جذر المعنی وتستبدله بمعنی آخر. وخلفیة هذه العوامل هی الرسوبات الإجتماعیة والحضارات المتعددة التی تتناوب علی اللغة الواحدة، فالمجتمع الذی تطغی علیه حماسة الحرب تتأثر بها لغة ذلک المجتمع، فتنصرف إلی معانی تتناسب وثقافة الحرب، والخلق الذی یسود بیئة تتداعی المعانی المناسبة له من لغة أهل تلک البیئة، وهکذا کلّ الظروف السیاسیة والإجتماعیة والثقافیة والصحیة کلّها تلقی بظلالها علی اللغة فتنصرف إلی ما یناسب الجوّ العام لأهل تلک اللغة.

ویزید المشکلة تعقیداً أنّ الإنسان إذا استعمل اللفظ فی مصداق المعنی الکلّی، یتداعی ذلک المصداق بعدئذ، وقد ینتقل إلی مصداق آخر ومنه إلی معنی کلّی آخر. فمع مثل هذا الکمّ الهائل من الظروف المتنوعة المتغیرة وبشکل سریع التی مرّ بها المجتمع الإسلامی تتبدل اللغة حتماً من معنی إلی آخر، ومن ثمّ یشکل مانعاً من قراءة النص الدینی علی ما هو علیه، وسیکون کلّ تفسیر وقراءة لیس سوی فهم یتناسب مع جوّ القارئ المحیط به لیس أکثر، ومن هنا لا یمکن جریان أصالة عدم النقل لإثبات أنّ ما وصلنا إلیه هو ما فهمه المعاصرون للنص، وهو المراد الواقعی للمتکلّم.

ویعزّز ما ذکرنا ما یلحظ من اختلاف فهم الترکیب الواحد من بلد إلی آخر المعبّر عن تأثیر البیئة فی فهم اللفظ.

تأثیر الجوّ الذهنی علی فهم النص

ص:173

المؤاخذة الثانیة: إنّ الإنسان [ وهو یدرّس نصّاً دینیاً ] مهما ادّعی من تجرید نفسه والموضوعیة فی تطبیق المعاییر العلمیة، إلاّ أنه مع ذلک لا یأتی إلی النص إلاّ مع جوّه الذهنی الخاص المؤثّر علی استظهاره. فلیس هناک قنوات ذهنیة مشترکة إلی معنی النص، وإنما دوماً یتلوّن الفهم بلون القناة، ودوماً إلی جنب موضوعیته مهما کانت بُعد ذاتی، وبالتالی لیس هناک ظهور موضوعی خالص، وإنما دوماً مشوب بالذاتیة الشخصیة.

تأثیر العلوم علی فهم النص

المؤاخذة الثالثة: من مسلّمات کیفیة قراءة النص والإستنباط مراعاة القرینة العقلیة والمسلّمة القطعیة، بمعنی أنه یؤقلم ظهور النص معه، والمعرفة فی العلوم التجریبیة تؤثر فی صیاغة القرینة العقلیة، وکلّما تبدّلت هذه المعرفة وتطوّرت، تغیّرت المسلّمات القطعیة فی العلوم العقلیة فضلاً عن النقلیة، فمثلاً هناک بعض النظریات الجدیدة فی الذرة لازمها أنّ أبعاد الجسم عشرة لا أربعة کما هی علیه الآن، ویتنبأ الباحثون أنّ العلوم علی مدی خمسین سنة ستتغیر بشکل هائل علی فرض صحة هذه الفرضیة.

تأثیر معرفة الموضوع علی فهم النص

ویضاف إلی هذا الإشکال إشکال مسانخ له هو أنّ موضوعات الحکم الشرعی تکوینیة وتندرج تحت علوم متعددة، ومن البدیهی أنّ ضبط الموضوع وفهمه بشکل دقیق یؤثّر علی فهم الحکم من النص واستظهاره من الدلیل فضلاً عن فهم نفس الموضوع ومراد المعصوم منه.

وطبیعی أنّ العلوم التجریبیة متحرکة متکاملة، وبالتالی ففهم الموضوعات سیتغیر مما یؤثّر علی فهم النص بموجب أنّ النص محکوم بالقرائن العقلیة المحیطة به.

ص:174

تأثیر اختلاف الآراء فی فهم النص

المؤاخذة الرابعة: من الظواهر البارزة فی العلوم الدینیة ظاهرة الإختلاف ابتداءً بعلوم العقیدة من الکلام والفلسفة والعرفان ومروراً بالتفسیر والأخلاق والحدیث وانتهاء بعلوم الفقه من أصول وفقه ودرایة ورجال. وهذه الإختلافات تبدأ من الإختلاف المنهجی وتنتهی بأدق التفاصیل، فیلاحظ مثلاً أنّ موسوعة البحار محاولة تفسیریة لکلام المعصوم (علیه السلام) فی کلّ المعارف الدینیة بمنهج کلامی، فی حین تجد أنّ الأحسائی یشرح معارف المعصوم بلغة عرفانیة، ویأتی ثالث ویتناولها بلغة فلسفیة کملاّ صدرا فی أسفاره وشرح أصول الکافی.

ولم یقف الإختلاف حتی وصل إلی ساحة مسألة الحکومة الإسلامیة فی عصر الغیبة، فاختلف فیها بین رافض بالکلّیة وبین من یراها ضرورة، کما اختلف فی صیغتها وتفاصیلها.

تفسیر ظاهرة الإختلاف

وفی الحقیقة أنّ هذه الظاهرة مشهورة من القدیم إلی یومنا هذا، ولا یختلف علیها اثنان، ومن ثمّ لا تحتاج إلی مزید من الأمثلة. فالإختلاف هو الذی أوصل الإنسان إلی السفسطة والإلحاد، أو أرسله إلی الغلو أو إلی التوحید بمراتبه. ومن ثمّ لا یخلو الحال: إمّا أن تکون الآراء المختلفة فی القضیة الواحدة حقاً فیلزم أن تکون الشریعة متعدّدة ولا معنی للتخطئة حینئذ، وإمّا أن یکون واحد منها حقاً والباقی خطأً فالأفهام تیه وضیاع، وإمّا أن تکون معبّرة عن حالة تکاملیة متطورة وأنّ کلّ رأی لا یعنی أنه آخر أفق الواقع، وإنما هو اکتشاف لجزء من الحقیقة [ یکمله ویطوّره الرأی الآخر ] وحینئذ لا قداسة لرأی ولا مبرّر لإلغاء الآخرین وحذفهم. وعدمُ إمکان الجمع بین المختلفات لا یدلّ علی تقاطعها سلباً، حیث یمکن للعلم أن یتطوّر فیجمع ویلائم بینها.

والإحتمال الأخیر هو الحق؛ لأنّ التناقض ینشأ من نظر المتابع

ص:175

للإختلاف بین الآراء وأنها متباینة، فی حین أنه قد لا یکون هناک تباین فی الواقع. فالتقابل فی العدم والملکة والضدین والمتضایفین وإن کان یرجع لباً إلی تقابل التناقض، إلاّ أنّ لمس التناقض یکون من خلال لمس التقابلات الأُخری، فَمَن لمس التنافر بین (أ) و (ب) یفهم التلازم بین (أ) و عدم (ب) وإلاّ لزم اجتماع النقیضین (ب) وعدمه، ولکن لا یمکن الجزم بالتنافر بین (أ) و (ب) لاحتمال أنّ کلاًّ منهما یحکی جزء الواقع.

تأثیر العلوم فی المعرفة الدینیة

المؤاخذة الخامسة: واحدة من المسلّمات عند الجمیع أنّ العلوم متکافلة یخدم بعضها بعضاً، وهو مشهور لکلّ من مارس البحث فی علم من العلوم.

والفهم البشری للطبیعة والکون [ فی شتی أبعاده وجوانبه ] فی تطوّر دائم وبشکل سریع وملحوظ. ومعه لا یمکن دعوی ثبات العلوم العقلیة فضلاً عن ثبات فهم النص الدینی، وإنما لابدّ أن تتغیر.

وبصیاغة ثانیة [ تنسجم مع ما تقدّم منا ] أنّ الدین فی کلّ أبعاده المعرفیة والقانونیة نسخة أخری عن الکون، فالفروع نسخة أخری عن حقائق الأفعال وملاکاتها التکوینیة، والمعارف نسخة عن حقائق الکون، ومن هنا کان الدین معرفة کونیة، وکان القرآن ذا وجودات أربع: کتبی ولفظی وذهنی وعینی، ووجوده العینی هو الکون، و وجوده الکتبی یحکی الکونی.

ومن ثمّ کلّما ازدادت معرفتنا الکونیة بتوسط العلوم التجریبیة الإنسانیة والعقلیة، أثّر ذلک علی المعرفة الدینیة لأنهما وجهتان لشیء واحد، فتغیُّرُ أحدها یؤثّر علی الآخر لا محالة؛ ومثله العکس [ کما اعترف به البعض ] فإنّ ذا العقل الفلسفی الدینی تنعکس خبرته هذه علی نتائج تجاربه.

لا رأی یمثّل الحقیقة

ص:176

المؤاخذة السادسة: واحدة من أسباب تولّد الضروریات والمتواترات أن یصوغ مفکّرٌ نظریةً ذاتَ أسس ضعیفة، ولکنّه لقوة شخصیته وهیمنته توحی لمعاصریه بمتابعته بل والدفاع عنه أحیاناً، وتأتی الطبقة الثانیة وتذعن إجلالاً وإکباراً من دون أن تتعمق فی هذه النظریة. ویزید فی النظریة رسوخاً وانتشاراً أنّ العامة فی کلّ طبقة تتبع علماءها، وهکذا حتی تأخذ هذه النظریة طابع المسلّمات وتتجذّر فی النفوس خاصة فی الطبقات اللاحقة وبعد مرور عشرات السنین فضلاً عن المئات منها، حتی تصل الحالة إلی حدّ لا یلتفت إلیها أحد تفصیلاً، وإنما یتم التعامل معها ارتکازاً، ولو التفت أحد وأخذ یفکّر فإنه یواجه کونها مسلّمة ضروریة.

ومع هذا کیف یمکن الحکم بأنّ کلّ الضروریات صائبة؟ وکیف یمکن قبول مسلّمات وهی فی بدء وجودها خاطئة؟

من کلّ ما تقدّم یتلخّص: أن لا رأی یمثّل الحقیقة علی إطلاقها، وأن لا ثبات فی الفهم البشری، وبالتالی لا قداسة لرأی، ولا خطوط حمراء یحظر تجاوزها، وإنما کلّ شیء یمکن نقده وإعادة التفکیر به وتطویره وتجدیده.

نتائج تلک المؤاخذات

وفی الختام أنّ النتائج التی یَتَوَخّونها من هذه المؤاخذات یمکن تلخیصها ضمن:

[ 1 ] وجوب حذف فکرة التخطئة والتناقض والتدافع من قاموس الفکر البشری.

[ 2 ] کلّ ما توصل إلیه الإنسان متغیّر، ولا معنی للثبات بعد أن کان قابلاً للتغییر زیادة ونقیصة، بل التخطئة من رأس. ومن ثمّ لابدّ أن لا یحصل یقین وإذعان و إخبات وإنما کلّ ما هو منهجی هو إبداء احتمالات وتصورات، ولا یخفی أنّ هذا نوع من السفسطة وإن نفوا عن أنفسهم ذلک.

ص:177

[ 3 ] دوام النقد والفحص والتنقیب. وهو جیّد لولا أنهم جعلوه نتیجة للأمر الثانی، وأنه مع الجزم لا یبقی مجال للسؤال ولتحجّر الإنسان، ویعمّ ذلک حتی الضروریات العلمیة والدینیة.

[ 4 ] عدم اعتماد الفهم الدینی إلاّ بعد الإحاطة بالعلوم المعاصرة، وإلاّ کان فهماً متخلفاً، وهم یعتبرون هذا المحورَ مغزی فکرتهم.

تهیئة للجواب عن الملاحظات

ومقدّمة له نلفت النظر إلی مجموعة من الأمور المنهجیة فی کیفیة التعاطی مع هذه الإشکالات وأجوبتها:

الأمر الأول: إنّ النفس الإنسانیة ذات جنبتین: إدراکیة وعملیة [ وعلی أساسهما تنقسم صفاتها إلی قسمین ] وقابلیات النفوس فی کلتا الجنبتین مختلفة؛ فقد تکون قابلیة النظریة واسعة دون العملیة، وقد یکون العکس، وقد تکون ضعیفة فی الجنبتین، وقد یکون العکس.

ومعالجة الإنسان للمسائل النظریة غالباً مّا تتأثر بأمراض الإدراک وبالجانب العملی، ومن ثمّ [ بالإضافة إلی سلامة الموازین وسلامة التطبیق] احتاج فی تأمین سلامة معالجاته إلی الصحة النفسیة والموازنة بین الصفات وعدم إفراط بعضها وضمور الآخر، وإلاّ فقد یدخل الإنسان فی متاهات الإشکالات وأجوبتها، ویصاب بمرض الشک وعدم الجزم والإستقرار حتی علی ما هو صائب.

وقد التفتت النصوص إلی مساوئ الجدال [ عموماً حتی ما کان علی حق ] إلاّ أن تکون هناک مُکنة علمیة وعملیة.

الأمر الثانی: یلاحظ أنّ مجموعة من المفکّرین المعاصرین [ الذین سمحوا لأنفسهم نقد المعرفة الدینیة وتحلیل النص الدینی ] لیسوا من ذوی الإختصاص فی هذا الجانب، أو أنهم مختصون فی شعبة إلاّ أنهم توسّعوا فی دراساتهم لکلّ الشعب، فتجد البعض یتناول الخلاف الأخباری الأصولی من زاویته العلمیة، فیحلّله ویدرس خلفیته ویحکم لصالح أحد الطرفین، أو یحاول التوفیق بینهما، أو

ص:178

ینقدهما معاً من دون أن یکون مختصاً بعلم أصول الفقه.

الأمر الثالث: لم یَجْرِ جُهد بشری مثل ما جری حول اللغة العربیة، فهی التی کانت فی الهجرة من حیث الممارسة الإرتکازیة فی أوج قمّتها الأدبیة، ومن ذلک الحین وعلی مدی أربعة عشر قرناً تظافرت الجهود العلمیة الأدبیة فی تحلیل هذه اللغة ودراستها.

الأمر الرابع: النص الدینی الإسلامی کان محور دراسة مجموعة من العلوم من تفسیر وفقه وکلام وشرح الحدیث و غیر ذلک، وهذا لا نجده فی نص دینی آخر کالتوراة والإنجیل.

الأمر الخامس: مسائل ومواد الفلسفة مجموعة من مسائل الأدب وأصول الفقه وعلم النقد الأدبی، ولیست هی علماً فی قبال هذه العلوم.

الأمر السادس: إنّ هناک بوناً شاسعاً من حیث الکیف والعمق والدقة بین أصول فقه الشریعة [ الذی یعتمد فی الحوزات العلمیة ] وبین أصول فقه القانون [ بما فی ذلک القانون الفرنسی ] بشهادة مجموعة من طلبتنا الذین مزجوا بین الدراسة الحوزویة والجامعیة، کما لمسنا ذلک شخصیاً فی بعض المواد المطروحة فی أصول فقه القانون؛ حیث وجدنا أنها أقلّ من ابتدائیات کتب الحوزة.

و سرّ ذلک هو تراکم الجهود فی حوزاتنا بشکل مکثَّف ومن تأریخ بعید الذی خرّج نوابغ فی مجال القراءة القانونیة.

الأمر السابع: إنّ علم أصول الفقه [ علی حدّ تعبیر بعض الأعاظم ] هو العلم الحارس لفهم الدین، وقد سبق منّا فی بحث القطع توضیح هذه المقولة والتدلیل علیها.

** *

عرض الأجوبة

بعد هذه المقدّمة ندخل فی الإجابة عن الإشکالات والمؤاخذات

التی تناولت النص الدینی والظهور والظن النوعی وحاولت أن

ص:179

تلخّص المعرفة الدینیة بالفهم الشخصی.

الجواب الأول: معطیات الإختلاف

إنّ الإختلاف منطقیاً علی قسمین: اختلاف تقابل [ والذی یحمل فی طیاته التناقض ] واختلاف مخالفة [ وهو لا یحمل فی طیاته التناقض، بل هو ظاهرة صحیة لأنه یعنی التطور، ومن البدیهی أنّ النظریة المطوَّرة لیست ناقضة لسابقتها، وإنما تبتنی علیها معمّقة لها وشارحة ومفصّلة، مثل علم الریاضیات من یوم أسّس، والذی یرجع تاریخه إلی ما قبل المسیح وإلی یومنا هذا. فقد قفز قفزات نوعیة، إلاّ أنّ ما وصل إلیه الیوم لا یدلّ علی فشل الآراء القدیمة والشطب علیها، کیف وهی الحجر الأساس الذی هداهم إلی ما وصلوا إلیه الیوم. ]

وغالب الإختلافات فی العلوم الإسلامیة هی من قبیل المخالفة، فإنّ اللاحق یعدّ تدقیقاً وتعمیقاً وتفریعاً وضرب القاعدة للسابق، [ وإن کنّا لا ننکر أنّ هناک تجدیداً ونقضاً إلاّ أنه محدود. ]

فالإختلاف أسلوب منطقی تقتضیه طبیعة البحث العلمی فهو لا یعبر عن العلمی ولا الإبتعاد عن الحقیقة، وإنما هو الذی یقرب نحو الحقیقة ویساعد علی اکتشافها أکثر وأکثر ویعمّق المعرفة البشریة. فلابدّ منه للإحاطة بکلّ زوایا الحقیقة. ومثل هذه المعطیات لا یمکن أن تأتی من الإختلاف التناقضی ویستحیل أن یؤدّی إلی هذه النتیجة. وإنما یأتی من الإختلاف بنحو التخالف، حیث یکون فی کلّ من الطرفین صواب وحقانیة، وإلاّ لما التزم به قائل لو کان بطلاناً محضاً، ومن ثمّ فالإختلاف بینهما لیس فی کلّ شیء.

الإختلاف عبور عن حدود السذاجة فی إدراک الواقع

ومن ثمّ ذکرنا مراراً أنّ واحدة من مناهج المعرفة استلال حیثیة الصواب فی کلّ نظریة وتجمیعها کی تصبح نظریة أکثر شمولیة وتعبیراً عن الحقیقة. ومن الخطأ تخطئة نظریة بشکل کامل فی مسألة

ص:180

من المسائل، وإنما لابدّ من البحث فی کلّ منها عن جهة المطابقة للواقع وفرزها عن الجهات الأُخری التی لم توفّق فیها. فمثلاً: الخلاف الأصولی الأخباری ظاهرة صحیة بعد أن کان کلّ من الإتجاهین یشیر إلی بُعد من الحقیقة. فالنزعة الأصولیة لمّا کانت تجریدیة إلی حدّ أوصلت إلی الإنسداد أبعدت أصحابها عن جوّ الروایات مما جاء التشدّد الأخباری فی وقته ومحلّه حیث أعاد المسیرة العلمیة إلی توازنها، ومن جهة أخری کانت فائدة الإتجاه الأصولی من الشیخ المفید و إلی البهبهانی [ أی مرحلة ما قبل إفراطه ] أنها قضت علی مساوئ الإتجاه الأخباری من الجمود والتخلیط وعدم الدرایة فی الحدیث.

وحینما نستنطق الروایات نجد أنها تدلّ علی ما ذکرناه وبوضوح من قبیل: «إضربوا بعض الرأی ببعض یتولّد منه الصواب»(1)، وأمثال ذلک من التوصیات المنطقیة التی أهملها المنطق الأرسطی حیث رکّز علی الموازین الإدراکیة وأهمل البحث فی القوی العملیة، مع أنّ لها مدخلیة فی سلامة النتائج.

والخلاصة: إنّ عدم الإختلاف نکبة بشریة حیث توقف الإنسان عند حدود السذاجة والبساطة فی إدراک الواقع، والشیء المثالی هو الجمع بین المناهج والآراء، فهو الذی یجنّب الإنسان الإفراط، وبالتالی یفتح له الطریق للإلمام بالواقع أکثر وأکثر.

فمطلق التعدد لا یعبر عن التناقض، بل غالباً ما یکون علامة علی التطور، مع العلم أنّ کلاً من النافی والمثبت یحتاج لتعزیز رأیه إلی الإستقراء، ونحن قد لمسنا ما ندّعیه من خلال ممارستنا فی العلوم الدینیة.

الجواب الثانی: هو النقض

علی البشریة جمعاء بمختلف لغاتها أن لا تعتمد علی ما تفهمه من

ص:181


1- (1) . الآمدی، غرر الحکم ودرر الکلم/ 10063

تراثها التاریخی [ علی أساس الإشکالات المتقدّمة ] فی حین أنّا نری العکس تماماً، حیث نشهد توجهاً لفک رموز اللغات الحجریة والمسماریة من أجل التوفر علی قراءة الآثار ودراستها. ومثل هذه المحاولات وإن کانت غالباً ظنیة إلاّ أننا لم نسمع من أحد أنه ادّعی أنها مضطربة مشوشة لا تعبر عن الواقع شیئاً.

الجواب الحلّی

وحلّه أنّ قوالب اللغة وقواعدها موجودة مذ کانت اللغة وما دامت، واللغة مهما تغیّرت تبقی هناک ثوابت لم تتغیر، فقواعد اللغة والنحو والصرف لم تتغیر کلها.

کذا نفس المعانی التی هی قوالب ذهنیة للحقائق الخارجیة، فیها ثوابت لم تتغیر. نعم، تزداد وتتکاثر مع بقاء السابق علی حاله، فماهیة التراب هی هی حتی بعد اکتشاف أنه لیس عنصراً، بل مرکب من مجموعة عناصر.

فالألفاظ وموازینها والمعانی وقوالبها هی الجسور لتولید المعانی الجدیدة، ولولاها لما أمکن التطور، مع قبولنا ظاهرة النحت والتغیر والخطأ، إلاّ أنها تبقی محدودة. ومع ذلک هناک رقابة ورصد ومنهج من قبل الباحثین وبشکل دؤوب لفرزها وتشخیصها، ولیست حالة معدمة مشوشة مضطربة. ومع کلّ هذا لا یمکن لمثل هذه الإختلافات أن تسلب النتائج قیمتها ووزنها.

ویؤکّد ما ذکرنا أنّ خبراء الأدب والقانون جمیعاً یقفون بشکل مضاد للإشکالات المذکورة، فی قبال أصحاب الإشکالات الذین هم غالباً لیسوا من ذوی الإختصاص فی علوم قراءة النص.

الجواب الثالث: ظهور بطون القرآن تدریجیاً

هناک حقیقة صعبة [ کما دلّت الروایات علی ذلک ] وهی ظهور تأویل القرآن علی صعید التأویل الخارجی العیانی، ویقصد منه مجیء البطون علی منصّة الظهور بحیث یکون ظاهراً للجمیع بعد

ص:182

أن کان خاصاً بالبعض.

والإعتقاد بالتأویل من أعرق العقائد الإسلامیة عند جمیع الفرق والطوائف، غایته أنّ البعض خصّ التأویل باللّه تعالی.

من جانب آخر: تسالم العقل البشری علی استمرار مسیر المعرفة البشریة ودوامه وأنّ الحقائق لا تقف عند حدٍّ، حتی أنّ بعض الفلاسفة یعتقد أنّ المسیرة لا تنقطع مادام الخالق خالقاً والمخلوق مخلوقاً؛ لأنّ الخالق لا متناه.

وقد ألفتنا إلی أنّ القرآن بوجوده الکتبی یوازی الکون فهو صفحة عنه، فکما أنّ المعرفة البشریة الکونیة فی حرکة مستمرة، کذا فی المعرفة القرآنیة و الدینیة، فیظهر تدریجیاً من بطون القرآن ما لم یکن ظاهراً. ومن ثمّ قیل: إنّ الظهور نسبی.

ومن هنا کان الشک والتساؤل منهجیاً إذا کان من أجل الوصول إلی نتائج أکبر وإذعانات جدیدة وحقائق لم یتوصل إلیها بعد؛ إذ بدونه یراوح الإنسان فی مکانه عند الحقیقة الناقصة المبتورة. کذا النقد والشک الذی یحدّ من معرفة الإنسان، بل یربک علیه حتی معلوماته القدیمة ویحولها إلی مجموعة تصورات وشکوک فهو غیر منهجی ومرفوض، بل یخالف ما فطر الإنسان علیه من أنّ الشک مقدمة للیقین.

بین حدّین: الشک والیقین

من هنا فالباحث بین حدّین خطیرین، حیث لا یمکنه أن یتنازل عن الشک والسؤال فالفحص والتنقیب إلاّ أنه فی معرض الإرتکاس فی هذا الشک وعدم الخروج منه إلی حقائق جدیدة، کما ابتلی به البعض، حیث افترض أنّ ما یتوصل إلیه الإنسان لا یتصف بالثبات والقداسة، فلا یمکن الإذعان به والعمل علی أساسه.

ثبات معرفة الواقع

ولکن الحق أنّ هذا الوصول النسبی للواقع ومعرفة شیء من

ص:183

الحقیقة بمقدار ما هو وصول، له ثبات وقداسة لا یمکن تقویضه والإستهانة به؛ لأنّ غایة ما یثبته الدلیل هو تطوّر الفهم، وهو یعنی عدم التناقض بین النتائج و إن تناقضت فی الحدود، أی فی بُعد (بشرط لا) وأمّا علی مستوی الماهیة اللاّبشرط فلا تناقض. وبالتالی فالإخبات لابدّ منه بمقدار ما وصل إلیه الإنسان، ویکون مقدساً بهذا القدر. نعم، لیس من حقه أن یلغی وینفی ما عداه من دون دلیل؛ إذ وصوله لابدّ أن لا یؤثر علی عدم وصوله وبالعکس، فلابدّ أن یبقی علی حالة الفاحص المتأمل المتدبر لا علی حالة الشک والتردد والحیرة، کما لا علی حالة الجزم المطلق وأنّ ما وصل إلیه هو کلّ شیء. والطرف المقابل یذعن بالوصول النسبی إلاّ أنه یأخذ نتیجة مناقضة، وهی حالة التردد والشک التی لا تنسجم إلاّ مع فرض التناقض لا مع الوصول النسبی، وإلاّ فهو لا ینسجم مع عدم الجزم بتاتاً وعدم التوقیر وعدم الحرمة لفکر أو اتجاه.(1)

التردد مع وجود الدلیل وکذا الرفض من دون دلیل غیر منهجی

وقد ألفت الأئمة (علیهم السلام) إلی ما ذکرناه، حیث ورد: «لا تَجْعَلُوا عِلْمَکُمْ جَهْلاً وَ یَقِینَکُمْ شَکّاً»(2) وهو عبارة عن أنّ التردد [ والذی قد یصل

ص:184


1- (1) . ما ذکرتموه صحیح بالنسبة إلی عدم الجزم المطلق الذی هو سفسطة مبطنة، ولکن ذلک الطرف یدعو علی ضوء نظریته وإشکالاته إلی عدم إلغاء الآخر بالتفسیق والتکفیر والتسخیف، لأنّ کلّ الإتجاهات الأخری صحیحة نسبیة، نظیر ما هو موجود فی العلوم التجریبیة. وقد أقررتم ذلک حیث منعتم من الإنکار، وإن ذیّلتموه بقولکم من دون دلیل، فهل مع الدلیل یعنی أنّ الفکرة أخری مناقضة، فالإتجاه السنی بکلّ حیثیاته - مثلاً - یعدّ مناقضاً للإتجاه الشیعی، ومثله الإتجاه الإلحادی مع الإتجاه الدینی، والإتجاه الإسلامی مع غیره من الإتجاهات، فإنّ فی هذا وأمثاله نحن ننکر ما یتبناه الطرف الآخر ومع الدلیل أو بلا دلیل، وهل حینئذ مناقضة أو لا؟ ومع مناقضتها فکیف کانت غالب الإختلافات لیست بنحو المناقضة؟ [المقرر]
2- (2) . المجلسی، بحار الأنوار 36/2 (کتاب العلم، الباب 9: استعمال العلم، والإخلاص فی طلبه وتشدید الأمر علی العالم، الحدیث 41، عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام).

إلی حالة الإنکار مع وجود الدلیل الموصل ] غیر منهجی، بالمقابل إلغاء الآخر ورفضه من دون دلیل غیر منهجی أیضاً.

بل ألفتنا سابقاً إلی أنّ الإذعان والإخبات والإعتقاد کمال وجودی للإنسان، ومن ثمّ لا نغالی فی القول إذا قلنا: إنّ الإعتقاد والجزم والرکون من مقدمات غیر صحیحة [ کما فی العقائد الفاسدة ] أسلم من التردد الشاک مع المقدمات الصحیحة، علی کلّ من السلبیات الموجودة فی مثل هذا الإعتقاد والمرافقة له من التقصیر فی البحث إلی غیر ذلک، إلاّ أنه توفر علی ایجابیة الإخبات التی تعنی إذعان قوی الإنسان العملیة الغریزیة للعقل النظری. وهذا کمال نسبی دنیوی یفتقده المتردد، المعبّر عن انفلات قواه العملیة وعدم السیطرة علیها.

فیتلخّص: أنّ تحلیل الطرف الآخر لظاهرة الإختلاف صحیح، ولکن النتائج والأهداف التی تبناها جاءت مناقضة لما ذکره، بل هی سفسطة مبطنة.

الجواب الرابع: الإختلاف دلیل علی وجود میزانٍ للفهم

قبول الإختلاف والتعدد ثمّ الدعوةُ إلی التنقیب والفحص هو بنفسه دلیل وجود میزان نوعی، وإلاّ لم یکن معنی للإختلاف والتخاصم والتحاکم ومناقشة البعض للآخر.

وبعبارة أخری: نفس کلام المیرزا القمی [ عدم إمکان وجود مدالیل متعددة لآیة واحدة ] آیة وجود مشترک فی الفهم ومیزان نوعی، علی ضوئه تمّ الحکم بعدم وجود مدالیل متعددة، بل الجزم بتطبیق ذلک المشترک علی الآیة، وإلاّ لم یحکم بخطأ الأکثر من الواحد. ومثله تعبیر المعاصرین بتبدل الأفهام دلیل وجود المشترک، کذا الإذعان بالتطور یلازم وجود الوحدة والقاسم المشترک. وذلک لأنه مع التکثّر البَحت والمغایرة الصرفة والتباین التام لم تکن نسبة بینها ولا سنخیة ولا علاقة، فلم یکن معنی للتحول والتبدل والتغیر،

ص:185

کما لم یکن معنی للإختلاف بالتخطئة والتناقض. (1)

بل ذکر الأعلام [ وهو الحق ] أنّ الکثرة بما هی کثرة [ من دون أن ترجع إلی وحدة ] مستحیلة لا وجود لها فی واقع ولا فی حقل من حقول المعرفة، ولکان دالاً علی عدم وحدانیة اللّه؛ لأنها آیات متخالفة السنخ، وأنها وجود نازل من سلاسل مختلفة المبدأ.

بل هم فی عین نفیهم للوحدة أذعنوا بها، وفی عین نفیهم للتقید بالخطوط الحمراء أذعنوا به، وفی عین نفیهم للمطلق آمنوا به، وذلک فی القضیة التی أسّسوها وهی (لا ثابت ولا مطلق، وإنما کلّ فهم متغیر وشخصی) وفرضوها هی القضیة الأمّ لکلّ العلوم.

الجواب الخامس: تأثیر البیئة فی قراءة النص

ما ذکر [ من أنّ قارئ النص الدینی لا یتمکن من التجرد فی قراءته، وإنما یأتی إلیه مع ما یحمله من ثقافة ورواسب اجتماعیة وبیئیة ] صحیح ولکنّه لیس أمراً سلبیاً وإنما هو إیجابی.

فی جانب الموضوع

بل هو ضرورة لابدّ منها فی قراءة النص القانونی فی طرف الموضوع؛ لأنّ الفقه یعنی بملاحقة الموضوعات المستجدة وتصنیفها فی الموضوعات الکلّیة لمعرفة أحکامها [ انطلاقاً من شمولیة الشریعة ] والموضوعات المستجدة هی ولیدة البیئة والمجتمع والظروف المتنوعة المحیطة بالإنسان.

ومن هنا نُقلَ عن العلاّمة الطباطبائی أنّ الأمّة تحتاج فی کلّ عقد

ص:186


1- (1) . [س] الإختلاف دلیل وحدة الواقع واضح، أمّا کونه دلیل وحدة المیزان والطریق فما زال غیر واضح، والذی هو محور حدیثنا؟ [ج] بل دلیل وحدة الطریق والمیزان أیضاً، إذ مع فرض تخالف الأفهام سنخاً لکانت معلومتین منفصلتین، فلا معنی للإختلاف وتخطئة البعض للآخر والتناقض، ومن ثمّ ذکروا لتحقق التناقض وحدات لابدّ من توفّرها کی یتحقق التناقض، ومع عدم توفّرها ولو فی الجملة لم یکن تناقضاً، ولکانت کلّ قضیة صادقة.

إلی تفسیر جدید. ولا یقصد من ذلک خطأ السابق وإنما یستنطق منه الحلول لما استجد من موضوعات ومفاهیم هی نتائج بیئة الإنسان وثقافاته الجدیدة.

فی جانب المحمول

وأمّا من جانب المحمول فالقارئ الذی یأتی إلی النص [ مع ما یحمله من رواسب ] إن کان من دون مراعاة الموازین الأدبیة والقانونیة فما یخرج به من نتائج لا یمکن الأخذ بها واعتبارها، لافتقادها الغطاء العلمی، وإنما هی فهم ذاتی شخصی لیس أکثر. وإن کان مع مراعاة الموازین ومع ذلک کانت الثقافة الخاصة لها تأثیر فی استنطاق النص فهو لا یکون إلاّ مع تشکیل هذه الخلفیة قرینة قطعیة. ومثل هذه لا مشکلة فیها بل لابدّ منها کی تکون دراسة النص مستوعبة وکاملة.

التخطئة فی الجملة لا بالجملة

علی أساس هذه الضابطة یفهم أنّ التخطئة المطلقة للآراء غیر صائبة، کما أنّ التصویب المطلق وأنّ أفهام الجمیع صائبة حتی ما لم یکن برهانیاً غیر صائب، وإنما الحق ما علیه الإمامیة من التخطئة فی الجملة لا بالجملة. نعم، دائرة العذر لا تخص الرأی الصائب، وإنما تعمّ الآراء الخاطئة إذا کانت مع استفراغ الوسع.

وقد ألفتنا سابقاً إلی أنّ حیویة الفحص ومحفزه یکون مع التخطئة ولکن لا المطلقة، إذ التصویب المطلق ومثله التخطئة المطلقة یشلاّن الحرکة العلمیة ویؤثران علی نموّها.

دور العلوم فی تشکیل قرینة الفهم

فالنتیجة أنّا نقبل ما ذکره هؤلاء [ من تأثیر تکافل العلوم والرواسب الفکریة والإجتماعیة وغیرها فی استنطاق النص القانونی ] ولکن بمقدار ما تشکّل قرینة قطعیة، وإلاّ کان المیزان هو المحکّم

ص:187

فی تخطئة مثل هذه الأفهام الشخصیة. کذا نقبل تغیّر القرائن العقلیة ولکن لا نتنازل عن قرینة قطعیة إلاّ إلی أخری نظیرها، لا أنّ کلّ فهم ولو کان بقرائن استحسانیة نحکم بصحته، کما لا نحکم بخطئه وعدم حجّیته مع مثل هذه القرائن.

دور المعرفة البشریة فی مستوی المراد الجدی

وأمّا علی صعید المعارف فمع تطوّر المعرفة البشریة یحصل تغییر علی مستوی المراد الجدی، بمعنی أنه تتفصل بعض الأمور المبهمة وتظهر جنبات لم تکن من قبل مکتشفة. وأمّا أصل المعنی بما له حدّ وعلی مستوی المدلول الإستعمالی والتفهیمی فلا یتغیر.

فقوله تعالی: (بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (1) - مثلاً - حیث کانت واحدة من التفسیرین لها أنه بدون عمد مرئی، وکان یتصور آنذاک أنه حطب وما شاکل ذلک، وبعد اکتشاف قانون الجاذبیة وأنّه هو العمد لم یؤثر ذلک علی ظهور الآیة فی مرادها الإستعمالی والتفهیمی، نعم أثّر علی المراد الجدی.

الجواب السادس: المعرفة لیست علی وزان واحد

ألفتنا فی بحث الإعتبار إلی أنّ المعرفة العقلیة النظریة والعملیة لیست کلها علی نمط واحد من حیث الوضوح والخفاء. فهناک دائرة البدیهیات [ التی هی قمّة فی الوضوح مع حفظ التفاوت بینها طبعاً ] ثمّ کلّما قربت المعلومة من البداهة کانت أوضح، وکلّما ابتعدت عنها کانت أکثر خفاء وأکثر نظریة.

وأشرنا هناک إلی أنّ معیار القرب والبعد هو الکلّیة والجزئیة بمعنی السعة والضیق [ حیث إنّ القضیة کلّما کانت أکثر سعة کانت أکثر وضوحاً ] حتی تصل إلی البدیهیات التی هی الکلّیات العامة فی

ص:188


1- (1) . الرعد/ 2 و لقمان/ 10

المعرفة البشریة. و هذا المعنی نلحظه فی الحضوری والحصولی، حیث إنّ الأول أکثر وضوحاً من الثانی مع حفظ التفاوت فی الأول کما هو فی الثانی.

تغایر شاکلة الإعتبارات

کما نلحظه فی الإعتبارات [ أعمّ من کونها شرعیة ووضعیة ] حیث إنها لیست علی شاکلة واحدة، وإنما منها الإعتبارات الفوقانیة الأمّ [ والتی هی بمنتهی الوضوح، وأدلّتها قطعیة ] وتأخذ بالنزول فالإبتعاد عن الوضوح، مع الإلتفات إلی أنّ منطقة الإعتبار هی فی المساحة التی یعجز العقل عن اکتشافها [ وهی الجزئیات بحدٍّ لا ینالها حتی العقل النظری. ]

ومن ثمّ یتلخّص: أنّ المعرفة البشریة لیست علی وزان واحد، وإنما تتفاوت بالوضوح والخفاء. فالمعرفة الحضوریة أوضح من المعرفة الحصولیة [ لأنها من دون واسطة، والحصولی بواسطة المفهوم ] والمعرفة الحصولیة العقلیة أوضح من المعرفة ذاتها الإعتباریة.

کما أنّ لکلّ واحد من الثلاث [ الحضوری والحصولی والإعتباری ] بدیهیاته ونظریاته وکلّیاته وجزئیاته، وأنّ النظریة تتعمق کلّما ابتعدت عن المرکز والمحور. والإختلاف فی المنهج والرأی وبالتالی الفهم وما یرافقه من ظواهر حادة کالشجار والنزاع والخصومة یشتدّ کلّما کانت المسألة نظریة أکثر.

وهذه سنّة کونیة فی کلّ علم بما فی ذلک الشریعة فی بُعدها القانونی والمعرفی.

وإنما أشرنا إلی ذلک لبیان خطأ المنهج الذی یطلب وضوح کلّ المعارف البشریة علی حدّ وضوح البدیهیات، فإنّ ما یطلبه هذا المنهج غیر ممکن لما ذکرناه من أنّ العلم الحصولی أقلّ وضوحاً من العلم الحضوری، وهو علی درجات ثمّ ینقل للآخرین عبر الألفاظ،

ص:189

فکیف نطلب من اللفظ أن یکون واضح الدلالة علی حدّ العلم الحضوری؟!(1)

فالدلیل الظنی وإن کان فی أدنی درجات الظن، إلاّ أنه مع توفّر المیزان یکفی فی إثبات المسألة، لأنّ المبنی هو الإکتفاء بالدلالة الظنیة، فهی تکفی فی الفتوی وتکون معذّرة.(2)

الظاهر والباطن فی کلام الله علی مقتضی السنّة الکونیة

ویعرف ممّا تقدّم أنّ ما ورد [ من أنّ فی کلام اللّه سبحانه ظاهراً وباطناً] هو علی مقتضی السنّة الکونیة، فلا یتوقع أن یکون کلّ المراد بدرجة الظاهر. وأنّنا نجد فی ما ورد فی بیان حکمة امتحان الحق سبحانه عباده بالفتنة والشبهة [ (إِنْ هِیَ إِلاّ فِتْنَتُکَ) (3) والذی دلّت علیه الروایات ] ما ذکرناه من أنّ طبیعة ترامی المسائل أنها کلّما ابتعدت عن المرکز کانت أقلّ وضوحاً وأکثر خفاءً فاختلافاً الموجب للشبهة والفتنة فیها.

وعندما نرجع إلی القرآن نجد بوضوح أنه تعالی یوبخ الکفار علی

ص:190


1- (1) . [س] الألفاظ وإن کانت بطبیعتها أضعف کشفاً عن الواقع [لأنها تعبر عن العلم الحصولی وهو یحکی الواقع] ولکن الإشکالیة المثارة فی الألفاظ أنها منقولة لنا من مئات السنین، وبالتالی لا یمکن فهمها علی حدّ فهم بعضنا للآخر فی ألفاظه. ومثل هذه المشکلة لیست سنّة تکوینیة حیث لا نظیر لها کی نقول: إنّ غایة ما یمکن هو هذا النمط من الوضوح، ومن ثمّ یمکن أن یدّعی أنه لا یحصل منها وضوح إطلاقاً؟ [ج] لها نظیر وهو دراسة اللغات القدیمة جداً التی هی أقدم من لغة الإسلام کالسریانیة.
2- (2) . إلاّ أنه غایته أنه معذّر وهو لا یعنی أنه الواقع، ومن هنا فی تصوری أنّ حلّ هذه الشبهات فی ما یرتبط بالقانون أنّنا لا ندّعی الوصول إلی الواقع، وإنما کلّ ما هناک حکم ظاهری منجّز ومعذّر قد یکون فی الواقع مصیباً وقد لا یکون. فما بأیدینا هو اجتهاد وفهم للإسلام لا واقع الإسلام، إلاّ أنه فهم منضبط یکون معذّراً فی قبال الفهم الذاتی الذی لا یخضع لضابطة فلا یکون معذّراً؟ [المقرر]
3- (3) . الأعراف/ 155

مطلبهم [ أن تکون المعارف فی الوضوح علی وتر واحد ] فالقرآن یرد علیهم أنّ المعرفة لیست علی وتر واحد، فالغیب لیس کالحس مثلاً فلا یتوقع أحد أن یکون وزان الوضوح فی کلّ الإعتقادات بشکل واحد، وأنّ مثل هذا المطلب اقتراح علی اللّه تعالی بما یخالف سنّته التکوینیة، فهو ضلال ما بعده ضلال (أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً) .(1)

والخطر الذی وقع به البعض الیوم أنه ما إن تطرح مسألة فی المعرفة الدینیة لیس الدلیل فیها کالدلیل علی التوحید فی وضوحه یستخف بها، فی حین أنّ السیر المنهجی یفرض الخضوع للسنّة الکونیة والإقتصار علی المتاح تکویناً لنا، بدلاً من الرفض والإنکار الذی هو عین السفسطة، وبدلاً من التصویب المطلق. وفی ذلک کله نوع من الکبر الذی هو وضع الذات فی غیر محلّها.

کیف والنبی (صلی الله علیه و آله) یتلقی المعرفة حضوریاً، ولکن علی شکل درجات [ وحی، ومن وراء حجاب وبواسطة الرسول جبرئیل ] ومعه لا أساس لمثل هذا المطلب فی التکوین وهو أن تکون تفاصیل العقیدة بوضوح أصل التوحید.

الجواب السابع: التقطیع والنقل بالمعنی

إنّ التقطیع یشبه النقل بالمعنی، حیث یلاحظ أنه من الظواهر السائدة عند العقلاء، فإنّ الحادثة الواحدة ینقلها العقلاء بشکل مُقَطّع لکلّ شخص بحسبه. بل کما ألفتنا أنّ هذا العمل مارسه الرواة المباشرون عنهم (علیهم السلام). (2) وصرفُ احتمال الخطأ لا یؤثر علی ظهور المقطع، فإنه

ص:191


1- (1) . المدثر/ 52
2- (2) . [س] ما هو الفرق بین النقل بالمعنی والإجتهاد بالدقة؟ وعلی أی أساس أُلحق التقطیع بالنقل بالمعنی دون الإجتهاد، مع أنّ فیه إعمالاً للفهم، فهو حجّة علی صاحبه لا غیر؟ [ج] إنّ الإجتهاد یتکفّل الوصول إلی المراد الواقعی للمتکلم من خلال ملاحظة ودراسة مجموع کلماته ومقولاته حتی المنفصلة والجمع بینهما، فی حین أنّ النقل بالمعنی لا یعنی إلاّ بالمقولة الواحدة. ولیس معنی ذلک أنّ إعمال الفهم وتحدید مدلول الکلام الواحد [کما نلاحظه فی طریقة الفقهاء عندما یتناولون النصوص واحدة واحدة ودراسة مفاد کلّ منها علی حدة قبل الجمع والمقارنة بینها] کلّه من النقل بالمعنی؟ کلاّ، وإنما الإجتهاد یتصور فی الکلام الواحد عندما یکون بصدد استخراج المرادالواقعی النسبی من الروایة، والنقل بالمعنی مرتبط بالمدلول الإستعمالی والتفهیمی لا غیر، ومثله التقطیع.

موجود فی النقل بالمعنی أیضاً(1) بل وحتی فی نقل اللفظ. والأصل اللفظی العقلائی هو الذی ینفی مثل هذا الإحتمال بعد الإلتفات إلی أنّ الراوی مارس التقطیع مع التفاته وأمانته.

نعم، إذا لمسنا قرائن توجب الظن بوجود خطأ فی عملیة التقطیع أو النقل بالمعنی لابدّ من الفحص؛ إذ لا تجری حینئذ أصالة عدم الإشتباه کما هو الحال فی روایات عمار الذی کان مبتلی بالعجمة.

عدم وجاهة بعض التفاصیل

ومن هنا یتضح عدم وجاهة تفصیل البعض بین العلم بالتقطیع وعدمه بنفی الحجّیة فی الأول دون الثانی، اللّهم إلاّ أن یکون التقطیع المعلوم بسبب العلم بغفلة الراوی أو العلم بضیاع ورقة من الوصیة - مثلاً - فإنّ الأصل لا یجری والظهور لا یعتمد.

کما تتضح عدم وجاهة التفصیل أیضاً بین فقاهة الراوی وعامیته، فیؤخذ بتقطیع الأول دون الثانی، لما عرفت من أنّ التقطیع لا یعتمد علی فهم الإجتهادی و الملکة فی الإستنباط، و إنما یعتمد علی فهم القول المرتبط بالمعنی الإستعمالی والتفهیمی وهو متوفّر فی العامی. نعم، لابدّ من التفات المقطّع [ فقیهاً کان أو عامیاً ] إلی ممارسته

ص:192


1- (1) . [س] هل یمکن أن ننظر إلی النقل بالمعنی کالترجمة بلغة أخری کما ینقل شخص ما سمعه بالعربیة إلی الفارسیة؟ [ج] فی الترجمة لابدّ من توفّر عنصر الخبرویة بالإضافة إلی خبر الواحد، فلابدّ أن یکون المترجم ملمّاً بمرادفات اللغة الفارسیة للعربیة، ولا نحتاج إلیه فی النقل بالمعنی بعد أن کان بلغة واحدة، والتعامل مع اللغة إرتکازی فطری.

للتقطیع فی حجّیة ظاهر المقطع.

بل بالتأمل أکثر یمکن القول بأنّ التقطیع أرقی من النقل بالمعنی؛ لأنه بمثابة الإخبارات المتعددة، حیث کان الخبر ذو الفقرات المتعددة فی قوة أخبار متعددة، فتقطیعه لا یؤثر شیئاً علی ظهور المقطع، ولیس فیه أی إعمال للإجتهاد وإنما هو نقل لخبر من جملة أخبار بتمام ألفاظه.

وبهذه الأجوبة یتضح الوهن فی کلّ التفصیلات التی ذکرها القمی التی استهدفت القضاء علی حجّیة الظهور من باب الظن الخاص، فلابدّ من تحکیم موازین الإنسداد، کما ظهر الجواب عن الإشکالات المعاصرة مع بیان جملة من المغالطات والإلتباسات التی وقع بها أصحابها.

دعوی الإنصراف من دون دلیل

وفی الختام ولا یفوتنا أن نعرض بظاهرة جری علیها البعض وهی دعوی الظهور أو الإنصراف أو التبادر من دون التدلیل علیه ومن دون تقریب وذکر للقرائن والشواهد والضوابط التی ارتکز علیها فی دعواه هذه، ویأتی آخر ویدّعی العکس من دون أن یستطیع کلّ منهما إلزام الآخر، مما یوحی عدم وجود ضابطة صغرویة لتمییز النوعی عن الشخصی والموضوعی عن الذاتی، فی حین أنّ الأمر لیس کذلک؛ إذ [وکما ألفتنا ] أنّ هناک موازین لفظیة حرّر بعضها فی علوم الأدب وآخر فی الأصول لابدّ أن یستند إلیها الظهور کی یکتسب صفة النوعیة فالحجّیة، ومثله الإنصراف لابدّ أن یستند إلی شاهد من حال أو مقال کی یأخذ طابعاً علمیاً.

وقد أشرنا سابقاً إلی نکتة ألفت إلیها صاحب الفصول (قدس سره) وهی أنّ هناک نمطین من المجتهدین: الأول: الذی یلتفت ارتکازاً وإجمالاً إلی النتیجة، ولکنّه یحلّل ویدلّل علی ما التفت إلیه إجمالاً، والثانی: یدخل إلی الموازین مباشرة وینساق معها إلی حیث تقوده.

ص:193

وقد صوّب (قدس سره) الطریقة الأولی وهو علی حق؛ لأنّ الطریقة الثانیة تحدّ من أفق المجتهد فتؤطره فی إطار ضیق، بخلاف الأولی فإنّها بفضل إحساسه وارتکازه یذهب وراء کلّ ما یمکن أن یکون صالحاً لتأطیر هذا الإرتکاز وتشخیص حدوده.

الظن الشخصی فی حجّیة الظهور

حجّیة الظهور هل هی مشروطة بالظن الشخصی به أو بعدم الظن الشخصی بخلافه؟

صاحب الکفایة أجاب [ وهو علی حق ] أنه لا یشترط، وذلک لما ذکرناه من أنّ الظهور لیس أمراً عشوائیاً، وإنما هو منضبط بالعلوم والموازین. وما یقال: من أنّ الظن بالخلاف قد یعبّر عن اتکازٍ ما، جوابه: أنه مع عدم إمکان التدلیل علیه لا یمکن اعتماده واتّباعه.

و ما یقال: إنّ مثل هذا الإرتکاز یوجب التوقف عن الأخذ بالظهور، جوابه: کلاّ، بعد أن کان الظهور مستدلاً، إلاّ أن یستشهد علی الخلاف بشواهد ارتکازیة توجب الإطمئنان بأنّ ارتکازه لغوی، وإن لم یستطع تحلیل هذا الفهم والتنظیر له، نظیر استشهاد فقهاء الفرس بفقهاء الحلة وجبل عامل إذا أجمعوا علی فهم متن لغة، وإن لم یستطع فقهاء الفرس تحلیل کیفیة فهم الفقهاء العرب لذلک. وأما صرف الإرتکاز من دون تنظیر له وتحلیل، ومن دون تعزیز له بشواهد إرتکازیة فلا قیمة له؛ لاحتمال أن یکون ذاتیاً لا موضوعیاً.

ص:194

3 . المقام الثالث: حجّیة ظواهر الکتاب

الآراء حول ظواهر الکتاب
اشارة

هناک مجموعة نظریات:

النظریة الأولی: [ المنسوبة إلی الأخباریین ] النافیة لحجّیة ظواهر الکتاب، ویمکن أن نعبّر عنه بنظریة «حسبنا السنّة».

النظریة الثانیة: [ لصاحب تفسیر المیزان وأتباعه ] وهی معاکسة للأولی تماماً ویمکن التعبیر عنه بنظریة «حسبنا کتاب اللّه » فی فهمه مآلاً لا ابتداءً.

النظریة الثالثة: [ لبعض العلمانیین ] ومفادها تفخیم شأن العقل فی هذا المیدان ویمکن أن نعبّر عنه بنظریة «حسبنا العقل».

النظریة الرابعة: [ لمشهور الأصولیین ]

النظریة الخامسة: [ للسیّد البروجردی تبعاً للعلاّمة المجلسی صاحب موسوعة بحار الأنوار ] ومفادها: أنّ متن القانون هو القرآن، وسنّة الرسول(صلی الله علیه و آله) متممة للقانون، وسنّة الأئمة (علیهم السلام) شرح لهما.

ومن الحری فرز جهات الصواب والخطأ فی تلک النظریات ثمّ صیاغة نظریة متکاملة تعبّر عن الحقیقة بشکل أکبر.

العلاقة بین الکتاب والسنّة

ثمّ إنّ واحدة من أسباب التوجه إلی هذا البحث هو تأمین الإجابة للسؤال التالی: ما هی طبیعة العلاقة بین الکتاب والسنّة؟ هل إنّ کلاًّ منهما دلیل مستقل أو أنّهما دلیل بنحو المجموع، وعلی الثانی فهل یکون بنحو الطولیة أو العَرْضیة؟

بعدها یقع السؤال عن طبیعة العلاقة بین العقل والنقل و مساحة حرکة کلّ منهما وحدود فاعلیة کلّ منهما.

والشواهد القرآنیة والروائیة القطعیة المتضاربة کانت وراء تعدد

ص:195

النظریات واختلافها إلی حدّ التقابل.

من هنا کان من المنهجی تصدیر الحدیث بهذه الشواهد، ثمّ الدخول لعرض النظریات ومناقشتها الحساب.

شواهد الأخباریین:

الشاهد الأول: جملة من الآیات القرآنیة من قبیل: (وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ) (1) و (إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ*فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ*ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا بَیانَهُ) (2) و (وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ) (3) و (فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ*لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (4) و (یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ) (5) المکررة فی سور متعددة، و (بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ) .(6)

الشاهد الثانی: طوائف من الروایات من قبیل الروایات الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی إلاّ بالتوریث(7)، والروایات الناهیة عن ضرب القرآن بعضه ببعض(8)، والروایات الناهیة عن اتّباع المتشابه

ص:196


1- (1) . النحل/ 44
2- (2) . القیامة/ 17 - 19
3- (3) . آل عمران/ 7
4- (4) . الواقعة/ 78 - 79
5- (5) . البقرة/ 129 وآل عمران/164 والجمعة/2
6- (6) . العنکبوت/ 49
7- (7) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 188/27 و 182 و 179 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 13: باب عدم جواز استنباط الأحکام النظریة من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسیرها من الأئمة:، الحدیث 34: عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام)، والحدیث 19: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، والحدیث 6، عن أحدهما(علیهماالسلام).
8- (8) . کما ورد عن أبی عبد الله(علیه السلام) عن أبیه(علیه السلام): ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ کفر. (الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 183/27 * کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 13: باب عدم جواز استنباط الأحکام النظریة من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسیرها من الأئمة(علیهم السلام)، الحدیث 22).

القرآنی(1)، وحدیث الثقلین الدالّ علی أنّ القرآن وحده لیس بحجّة، فلابدّ أن یشفّع ظهوره بروایة.

وما ورد من أنّ: لیس شیء أبعد من عقول الرجال من تفسیر القرآن.(2) أو: لا یفسّر القرآن إلاّ من عرف ناسخه من منسوخه ومحکمه من متشابهه. (3)

الشاهد الثالث: العلم الإجمالی بوجود مخصصات ومقیدات کثیرة للعمومات القرآنیة، وأنها لم تصل إلینا کلّها، ممّا یوجب التوقف عن الأخذ بالظاهر القرآنی.

الشاهد الرابع: دعوی وقوع التحریف فی القرآن.

وهذه الشواهد وإن لم تصلح دلیلاً علی مدّعاهم، إلاّ أنها ذات قیمة علمیة فی نفسها، حیث تدفع مدّعی العلاّمة المعاکس لمدّعی الأخباریین.

وقد خرّج الأخباریون من هذه الشواهد بنتیجة کلّیة هی عدم حجّیة القرآن لنا، بمعنی أنّ دلالته لیست حجّة مطلقاً لغیر الأئمة (علیهم السلام). فلو عثرنا علی ظاهر لیس فی ذیله روایة لا یصح التمسک به، وأمّا مع

ص:197


1- (1) . المجلسی، بحار الأنوار، 237/2 (کتاب العلم، الباب 29: علل اختلاف الأخبار وکیفیة الجمع بینها والعمل بها ووجوه الإستنباط وبیان أنواع ما یجوز الإستدلال به، الحدیث 29: عن أبی عبد الله(علیه السلام) و191/23 (کتاب الإمامة، الباب 10: باب أنهم(علیهم السلام) أهل علم القرآن والذین أوتوه والمنذرون به والراسخون فی العلم، الحدیث 12: عن أبی عبد الله(علیه السلام).
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 192/27 و203 و204 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 13: باب عدم جواز استنباط الأحکام النظریة من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسیرها من الأئمة(علیهم السلام)، الحدیث 41: عن أبی جعفر(علیه السلام)، والحدیث 73: عن أبی جعفر(علیه السلام)، والحدیث 74: عن أبی عبد الله(علیه السلام).
3- (3) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 183/27 و191 و197 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 13: باب عدم جواز استنباط الأحکام النظریة من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسیرها من الأئمة(علیهم السلام)، الحدیث 23: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، والحدیث 39: عن أبی جعفر(علیه السلام)، والحدیث 51: عن أبی الحسن(علیه السلام).

وجود روایة فالتمسک صحیح، ولکنّه فی الواقع تمسک بالروایة لا بالآیة. وتظهر الثمرة فی حالة عموم الآیة وخصوص الروایة، فإنه لا یمکن التمسک بالعموم، کما نلحظ ذلک فی الآیات الواردة فی ذیل الآیة الناهیة عن اللهو.

نعم، قد یظهر من بعض کلماتهم أنّ الروایة إذا دلّت علی أنّ ظاهر الآیة مراد فی الجملة [ کما فی حالة کونها مفسّرة أو مطبقة لا مؤولة ] أمکن التمسک بالظاهر القرآنی بکلّ خصوصیاته وإن کانت مفقودة فی الروایة.

شواهد العلاّمة الطباطبائی

الشاهد الأول: بعض آیات الکتاب العزیز مثل: (إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا) (1) و (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ*عَلی قَلْبِکَ لِتَکُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ*بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ) (2) لا مجمل، و (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ) (3) و (أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ أَقْفالُها) (4) و (إِنّا أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ لِلنّاسِ) (5) و (هذا بَیانٌ لِلنّاسِ) (6) ووصفه بأنه ( هُدیً ) (7) و (هُدیً لِلْمُتَّقِینَ) (8) و ( النُّورِ ) (9) و (ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ) (10) و أنّه یکون ( تِبْیاناً

ص:198


1- (1) . الزخرف/ 3
2- (2) . الشعراء/ 193 - 195
3- (3) . إبراهیم/ 4
4- (4) . محمّد (صلی الله علیه و آله)/ 24
5- (5) . الزمر/ 41
6- (6) . آل عمران/ 138
7- (7) . البقرة/ 97 و 185
8- (8) . البقرة/ 2
9- (9) . المائدة/ 15
10- (10) . یوسف/ 104 * ص/ 87 * القلم/ 52 * التکویر/ 27

لِکُلِّ شَیْ ءٍ) (1) و (تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ) .(2)

الشاهد الثانی: الروایات من قبیل حدیث الثقلین، الدالّ علی أنّ القرآن حجّة فی نفسه، وإلاّ کان تمسکاً بالسنّة فقط.

وما دلّ علی عرض الأخبار علی القرآن(3) فی مقام استعلام حجّیة الخبر، بمعنی أنه علاوة علی حجّیته فی نفسه لابدّ أن لا یناقض القرآن.

وفی مقام التعارض لابدّ فی تمامیة حجّیته وترجیحه علی الآخر أن لا یخالف القرآن.(4)

رأی العلاّمة فی المتشابه

وعلی أساس هذه الشواهد صاغ العلاّمة نظریته التی أشار إلیها فی حاشیته علی الکفایة ومقدّمة تفسیر المیزان وفی ذیل آیة المحکم والمتشابه، بعد استعراضه للأقوال الکثیرة فی معنی المتشابه

ص:199


1- (1) . النحل/ 89
2- (2) . یوسف/ 111
3- (3) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ح10 * ج28، ص109، ح10 * ص110، ح11 * ص110، ح12 * ص111، ح14 و 15 * ص112، ح18 و 19 * ص118، ح29 * ص119، ص35 * ص120، ح37 * ص123، ح47 و 48 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9: باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة وکیفیة العمل بها).
4- (4) . [س] کیف نصوّر الفرق بین المقامین، حیث إنّه مفروض أنه لم یخالف الکتاب فی المقام الأول، فما معنی عرضه ثانیة؟ وکیف نفسّر مخالفته مع عدم مخالفته فی المقام الأول؟ [ج] المخالفة فی المقام الأول یقصد منها المعارضة والمناقضة المستقرة، وفی المقام الثانی یقصد منها المخالفة غیر المستقرة کالتخصیص، فإنّ الخبر إن کان مخصصاً للقرآن، وکان الآخر موافقاً للقرآن فی عمومه رجّح الثانی، ومخالفة الأول لیست مخالفته لولا التعارض.

وتخطئتها جمیعاً لعدم انسجامها مع إعجاز القرآن وبلاغته وعربیته، بل سمّیت العربیة بالعربیة لظهورها، فکیف وقد وصفت عربیة القرآن بالمبین.

ومن ثمّ استقرّ رأیه (قدس سره) علی أنّ المتشابه لیس فی مجال الألفاظ ودلالتها علی معانیها، وإنما فی الإنتقال من معنی إلی آخر، المسبب عن انصراف أذهاننا عن المعانی الشامخة الرفیعة إلی خصوص المصادیق المادیة [ لألفة الذهن لها وأنسه بها. ]

وبعبارة أوضح: أنّ سرّ التشابه هو الغفلة عن وضع الألفاظ لروح المعانی، الذی ألفت إلیه الآخوند مقتبساً إیاه من الروایات، من قبیل إنّ الله «سَمِیعٌ بِغَیْرِ جَارِحَةٍ»(1) الدالّة علی انطباق السمع علی المجرد، الکاشف عن عدم اختصاصه - بالوضع - بالمصداق المادی، فتفطن الآخوند إلی أنّ اللفظ لم یوضع للمعنی المضیق بفرده المادی، وإنما للمعنی بما هو هو الشامل للمصداق المادی و المجرد.

والخطأ الذی یقع فیه الإنسان هو فی تطبیقه المعنی علی الفرد المادی انطلاقاً من رواسبه الذهنیة وأُلفته لعالم المادة.

افتراق نهج القرآن عن نهج المحاورات العرفیة

وسرّ آخر للتشابه هو تصنیف القرآن فی الکلام والمحاورات العرفیة، مع أنّ نهج القرآن یختلف عن نهج المحاورات العرفیة الأخری؛ فإنّ نهج القرآن هو عدم إمکان الوصول إلی المراد الجدی لآیة إلاّ بعد ملاحظة کلّ الآیات التی تتعرض لموضوع الآیة أو لمفردة منها، سواء کانت بنفس اللفظ أم بلفظ آخر، لأنّ القرآن جامع لکلّ العلوم ویخاطب کلّ المستویات ویعالج کلّ المشکلات، ممّا أوجب اختلافه عن سائر المحاورات التی یمکن معرفة المراد الجدی فیها من دون حاجة لمراجعة القرائن المنفصلة.

ص:200


1- (1) . الکلینی، الکافی 83/1 (کتاب التوحید، الباب2: باب إطلاق القول بأنه شیء، الحدیث 6: عن أبی عبد الله(علیه السلام).
النقطتان الهامّتان فی تفسیر القرآن عند العلاّمة

فالتفسیر الحق لا یکون إلاّ بمراعاة هاتین النقطتین، ولابدّ من حصول الملکة علی التجرد عن المصداق المادی، وتشخیص القرائن القرآنیة المنفصلة وضمّ بعضها إلی الآخر. ومثل هذه الملکة لا تحصل إلاّ بالخوض التام فی روایات أهل البیت (علیهم السلام) و قد نقل أنه (قدس سره) لم یدخل التفسیر إلاّ بعد أن قرأ البحار مرّتین، فإنّها توقفه علی موارد تطبیقیة صحیحة متکثرة تخلصه من الرواسب الذهنیة، کما أنها تطلعه علی منهج القرآن وکیفیة الإستفادة منه.

المعنی الصحیح للروایات الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی عند العلاّمة

وکلّ الروایات الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی وعن ضرب بعضه ببعض، فی رأی العلاّمة کانت بلحاظ المنهج الخاطئ لا بلحاظ أصل التفسیر المستلزم لهجر القرآن، ومنه یعرف «مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْیِهِ إِنْ أَصَابَ لَمْ یُؤْجَرْ».(1)

ویشهد لذلک الروایات الکثیرة علی عرض الأخبار علی القرآن(2) والتمسک به فی الفتن والأهواء والمشکلات، وهی لا تنسجم مع فهم الروایات الناهیة أنها ناهیة عن أصل التفسیر المستتبع لهجر القرآن والإکتفاء بالسنّة.

وبعد حصول الملکة لا یحتاج التفسیر عند العلاّمة إلی أی روایة وبیان عن الرسول، فضلاً عن أهل البیت!؛ لأنّ دورهم دور التعلیم و الإرشاد إلی الطریق لفهم القرآن لا إیجاد الطریق فضلاً عن إیجاد إمکان فهم القرآن.

شواهد لنظریة العلاّمة

ص:201


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 202/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 13: باب عدم جواز استنباط الأحکام النظریة من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسیرها من الأئمة(علیهم السلام)، الحدیث 66: عن أبی عبدالله(علیه السلام).
2- (2) . قد مرّ فی الصفحة السابقة قِسمٌ من مصادرها.

ویدلّ علی ذلک قوله تعالی: (وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ) (1) حیث یعنی أنّ هناک شیئاً موجوداً یرشد إلیه النبی (صلی الله علیه و آله) ویربی أمّته علی الاستفادة منه فی فهم القرآن. ومنه یتضح أنّ المفسّر یحتاج إلیهم (علیهم السلام) فی البدء کی لا یرتکب ضرب القرآن بعضه ببعض، وکی لا یکون تفسیره بالهوی، حتی یتوفّر علی الملکة وحینها یسیر بمفرده.

ویضیف (قدس سره): إنّ القرآن لا ینسخ بالسنّة القطعیة، لأنه ینافی قوله تعالی: (لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ) (2) والنسخ إبطال، بالإضافة إلی أنّ حجّیة السنّة بالقرآن.

بعدها یشکل علی نفسه: إذن أین التمسک بالعترة؟ ثمّ یجیب: إنّ التمسک بهم فی البدء وأما بعد التوفّر علی الملکة فإنّا نکتفی بالقرآن، ولکن فی المعارف وأمّا فی تفاصیل المعاد وتفاصیل الأحکام الشرعیة فلابدّ من الإستعانة بهم؛ لأنّ القرآن لم یتصدّ لبیانها.

تلخیص النظریة

[ 1 ] حجّیة ظاهر القرآن بل حتی ما وراءه من البطون من دون أن یکون مشروطاً حجّیته بالثقل الآخر، وإنما هو حجّة مستقلة فهو یتکفل بیان نفسه بنفسه.

[ 2 ] دور العترة التعلیم والإرشاد إلی کیفیة الفهم المنهجی للقرآن، فلابدّ من الرجوع إلیهم قبل الدخول فی التفسیر لتحصیل الملکة علی ذلک، و إلاّ لم یکن فهمه حجّة ولا تفسیره صائباً.

[ 3 ] ضرورة الرجوع إلیهم فی تفاصیل المعاد والأحکام الفرعیة.

[ 4 ] النسخ لا یکون إلاّ بالقرآن.

ملاحظات علی العلاّمة

ص:202


1- (1) . البقرة/ 129 وآل عمران/ 164 والجمعة/ 2
2- (2) . فصّلت/ 42

ویلاحظ علی نظریة العلاّمة:

أولاً: دور المعلّم فی إراءة الطریق

لا ریب فی أنّ علم الریاضیات [ الذی یتوصل إلی نظریاته من بدیهیاته من دون أن یحتاج إلی علم آخر ] قد تظافرت جهود جبّارة علی هذا العلم، ولکن ما زالت بعض مسائله من دون حلّ لحدّ الآن، مضافاً إلی أنّ مسلّماته [ التی هی عبارة عن ستة معادلات ] ما زالت غیر مستدلة، وقد قبلها العقل البشری اضطراراً مع أنّ أدلّتها موجودة فی داخل نفس العلم، مما یکشف عن أنّ بداهته لا تغنی عن الحاجة إلی المعلّم المعصوم، فإنّ طریق الحلّ وإن کان موجوداً لا یخلقه المعلّم، ولکن تبقی الحاجة إلیه فی هدایته و إراءته لهذا الطریق.

والظاهرة نفسها نجدها فی کلّ العلوم البشریة البدیهیة المستغنیة عن غیرها کالفلسفة، فإنّها فی عین بداهتها لم تعالج الکثیر من معضلاتها.

تفسیر القرآن بالقرآن یحتاج إلی عصمة الفهم

ومن ثمّ فما ذکره العلاّمة من تفسیر القرآن بالقرآن، وإن کان منهجیاً یمکن المشی معه(1) إلاّ أنّه رهین العصمة، وأمّا غیر المعصوم فلابدّ أن یرجع فی تفسیره القرآن بالقرآن إلی المعصوم (علیه السلام).

ثانیاً: فهم خفایا القرآن یحتاج إلی الإحاطة بمراتب الخلقة

من المتسالم علیه بین کثیرین أنّ المصحف المکتوب وجود نازل

ص:203


1- (1) . یمکن أن یستشمّ هذا المعنی من بعض الروایات، کما ورد عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام): وَ یَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ یَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَی بَعْضٍ. (نهج البلاغة، الخطبة 133)، وما ورد عن أبی جعفر الباقر(علیه السلام) فی حدیث طویل: ثُمَّ قَالَ(علیه السلام): لَوْ وَجَدْتُ لِعِلْمِیَ الَّذِی آتَانِیَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمَلَةً لَنَشَرْتُ التَّوْحِیدَ وَ الإِسْلامَ وَ الإِیمَانَ وَ الدِّینَ وَ الشَّرَائِعَ مِنَ (الصَّمَدِ). (التوحید/ 92، ح6)

اعتباری یحکی وجوداً حقیقیاً تکوینیاً، ویستفاد هذا المعنی من الکتاب والسنّة والعقل. والوجود الحقیقی ذو مراتب أعلاها مرتبة أم الکتاب [ التی هی نور النبی - کما فی روایة جابر - أو مرتبة أدنی منها ] فالقرآن مجموع عالم الخلقة. ومن البدیهی أنّ إحاطة الجمیع بعالم الخلقة واکتناه خفایاه لیست علی شاکلة واحدة، فکانت الحاجة إلی الإمام لإحاطته بتلک المرتبة العلیا، بل بعض المراتب العلیا مغلقة علی البشریة ولا یمسها إلاّ الإمام (علیه السلام) .

وجملة من الروایات التی تمسک بها الأخباریون لنفی حجّیة القرآن هی فی الواقع تشیر إلی بطون القرآن لا ظهوره. فکون القرآن نوراً وبیاناً وتبیاناً لکلّ شیء دلیل علی ضرورة الهادی القیّم (آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (1) فلابدّ من الرجوع إلی الثقل الآخر فی فهم القرآن من دون أن یعنی ذلک عزل القرآن وهجره.

بل حتی فروع الدین موجودة کلّها فی القرآن، وقد استدل الأئمة (علیهم السلام) علی مجموعة من الأحکام به، وقد ورد أنه «إِذَا حَدَّثْتُکُمْ بِشَیْ ءٍ فَاسْأَلُونِی عَنْهُ مِنْ کِتَابِ اللَّهِ»(2) ومثله تفاصیل المعاد، ولا طریق للتعرف علیها من القرآن إلاّ بمراجعة المعصوم، کما نقل العلاّمة ذلک وقد أحسن، ولیته فعل ذلک فی الجمیع.

ثالثاً: قول النبی9 فی عرض القرآن من حیث الحجّیة

إنّ لازم ما ذکره من عدم نسخ القرآن بالسنّة القطعیة، أنّ من کان معاصراً للرسول (صلی الله علیه و آله) وأخبره أن آیة کذا منسوخة، لابدّ أن لا یعمل بقوله. ومثل هذا بعید وغریب عن بدیهیات المسلمین.

والحق أنّ حجّیة کلام النبی (صلی الله علیه و آله) لیست منحصرة بالقرآن فقط،

ص:204


1- (1) . العنکبوت/ 49
2- (2) . المحاسن 269/1 ح358

ویشهد لذلک أنه (صلی الله علیه و آله) حینما قام بالدعوة کان دلیل صدقه صفاته المعروفة بین الناس (الصادق الأمین) بالإضافة إلی معاجزه الأُخر، من قبیل شقّ القمر.

بل هناک مجموعة من الآیات تشیر إلی أنّ واحدة من أدلّة حجّیة القرآن صفاته (صلی الله علیه و آله)، من قبیل: (أَمْ لَمْ یَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْکِرُونَ) (1) بناء علی واحدة من تفاسیر الآیة، ولیس هو بغریب بعد معرفة أنّ الحجج متکافلة. فحینما نلاحظ مطلع الزیارة الرضویة نجد أنّ واحدة من أدلّة صدق الرسول (صلی الله علیه و آله) صفات الأئمة علی مستوی العلم والعمل، فی الوقت الذی کان دلیل إمامتهم هو نص الرسول (صلی الله علیه و آله).

بالإضافة إلی أنه المؤتمن علی القرآن، فکیف لا یکون نسخه حجّة؟! بالإضافة إلی أنه (وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی) (2) و (وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (3)، بالإضافة إلی أنّ حقیقة النسخ تخصیص أزمانی، فلِمَ یقبل العلاّمة التخصیص الأفرادی بالسنّة ولا یقبل التخصیص الأزمانی؟!

فالنتیجة: إنّ کلامه (صلی الله علیه و آله) لیس دون القرآن فی الحجّیة بل فی عرضه، فلیس شرطاً أن یکون نسخ القرآن بلغة القرآن، وإنما یمکن أن یکون بکلامه (صلی الله علیه و آله) بل هو مهیمن علی القرآن، والمعجزة أثر من آثاره.

ولعلّ نظر العلاّمة فی منع النسخ بالسنّة إلی نسخ التلاوة، وهو الذی لم یقل أحد من الشیعة بوقوعه، ومع ذلک فهو ممکن أیضاً لما تقدّم.

رابعاً: أقسام الروایات الواردة فی ذیل الآیات

إنّ الروایات الواردة فی ذیل الآیات المبارکة علی أنحاء:

منها: من نحو التطبیق علی المصادیق، ومعه یبقی الظهور علی

ص:205


1- (1) . المؤمنون/ 69
2- (2) . النجم/ 3
3- (3) . الحشر/ 7

حاله ولا تخص الآیة المصداق المذکور فی الروایة.

ومنها: تأویلیة، وهی أیضاً لا تسقط الظهور عن الحجّیة، کما أشار إلی ذلک العلاّمة خلافاً لما کان سائداً من حصر الآیة بالمعنی التأویلی.

ومنها: التفسیری الذی یفسّر القرآن بالقرآن.

ومنها: التفسیری الذی یحدّد ظهور الآیة وإن کان خلاف الظاهر حسب ما بأیدینا من موازین اللغة والأدب. فالعمل یکون علی الروایة لا علی الظاهر اللغوی [ سواء تمکنّا من العثور علی شواهد کنّا غافلین عنها - تقرب ما حدّدته الروایة - أم لم نعثر ] خلافاً للعلاّمة حیث قدّم الظاهر اللغوی، فی حین أنّ الصحیح هو تقدیم الروایة بعد الإلتفات إلی عصمة الأئمة (علیهم السلام) وأنّهم أخبر بالوضع وشؤون الترکیب، فهم أفصح من نطق بالضاد.

فتلخّص: أنّ الروایات لیست جمیعاً تفسیریة، کما توهّمه جملة من القدماء، ومن ثمّ رتّبوا علی ذلک حصر الآیات بمورد الروایات.

کما أنّ التفسیری منها لیس جمیعاً من باب تفسیر القرآن بالقرآن وتحدید الظهور ضمن مقاییس الأدب المألوفة.

نظریة العلمانیین

یمکن عنونة هذه النظریة بنظریة «حسبنا عقولنا»، وترمی لإسقاط حجّیة القرآن واعتباره.

جذور النظریة فی کلمات العرفاء

نجد جذور هذه النظریة فی کلمات بعض العرفاء من قبیل شمس تبریزی. ومن ثمّ فهی لیست بکراً، سوی أنها صیغت بصیاغات متعددة تلتقی جمیعاً فی روحها.

فهی فی صیاغة العرفاء: إنّ اللّه عزّوجلّ لا محدود، وفیضه دائم مستمر، والقرآن لیس إلاّ مَبْلغ قابلیة النبی (صلی الله علیه و آله). وإن شئت قل: هو الکشف المحمدی، فمقدار ما استوعبه (صلی الله علیه و آله) هو القرآن، ولکن فیضه

ص:206

تعالی أوسع من ذلک، فلیس القرآن هو منتهی فیضه، وما زالت قناة القلوب والعقول أوعیة لاغتراف فیوضات جدیدة.

وهناک صیاغة أخری لتلک النظریة وهی: إنّ العقول کانت تحتاج إلی النبی (صلی الله علیه و آله) لقصورها، وقد رشدت الآن، فهی تتکئ علی الإلهامات الذاتیة العقلیة للأفراد. فختم النبوة لا یعنی خلود الدین وإنما ختم حاجة البشر للنبوة.

وبأیدینا صیاغة ثالثة حدیثة وهی: یلحظ أنّ شطراً من القرآن یخص ویعالج ویناظر الثقافة البیئیة التی نزل فیها [ من قبیل الأمثلة والأعراف والسنن والآداب ] وهی لیست صالحة لمعالجة مشاکل الیوم. فیقتصر فیه علی المعانی العقلیة. وبتعبیر آخر: لابدّ من التفکیک بین اللسان العقلانی واللسان البیئی فی القرآن.

ملاحظات علی الصیاغة العرفانیة

أولاً: إنها تشتمل علی مغالطة، حیث افترضت أنّ فعل اللّه سبحانه لا محدود، وهو وإن کان صحیحاً، إلاّ أنّ دورتنا البشریة التی ابتدأت بآدم وتنتهی بالقیامة محدودة. ومن ثمّ لا فیض لا محدود علی منطقه، والحال أنّ هذا الفعل محدود. ولابدّ أن یفرض فیه إمکان وجود واحد قد سبق الجمیع علی مستوی قابلیته وعلی مستوی ما حصله من الکمال. وسبقه لا یلزم منه تأخره زماناً عن الجمیع، وإنما أن یکون فی وسط الدورة أو بدایتها، وهناک شواهد علی وقوع مثل هذا السبق وتحققه فی النبی محمّد (صلی الله علیه و آله) .

ثانیاً: بالنقض بالأسماء الإلهیة، التی تبنّی عرفاء الإمامیة [ تبعاً لما نظّره أهل البیت (علیهم السلام) ] أنها مخلوقة، وأنها مظاهر الذات المقدسة لا عینها، وهم یقبلون أنّ هناک اسماً جامعاً محیطاً بکلّ الأسماء، مع أنها لا محدودة أزلاً وأبداً.

وقبل ذکر الحلّ یجدر الإشارة إلی أنّ هناک روایات بألسنة متعددة

ص:207

تشیر إلی أنّهم (علیهم السلام) الأسماء الحسنی وکلمات اللّه التامات، والقرآن الکریم یدلّ أیضاً علی هذا المعنی.

والإسم لغة هو العلامة، وبالتالی مصداقه الحقیقی لیس هو اللفظ، وإنما ما کان ذاتاً وتکویناً علامة، فَهُم (علیهم السلام) آیات اللّه وکلماته وعلاماته.

غایته أنّ وجود الشیء إن نُظر إلیه بما أنه رابط کان آیة وعلامة واسماً لعلّته، وإن نُظر إلیه مستقلاً ذا ماهیة کان محمّداً و علیاً و... (علیهم السلام) الخ.

من هذه المقدمة یتضح الحلّ؛ حیث إنّ النبی (صلی الله علیه و آله) ممرّ ومجری وقناة یمرّ من خلالها الفیض الأزلی، فلا یقف تکامله عند حدّ، وإنما یکامل کلّما مرّ فیه فیض، فما أن یفرض فیض وهو الوجود الرابط، فالحقیقة المحمدیة بحکم وساطتها تکون هی المتفیضة. فدوماً هو الأکمل وبالتالی دوماً هو المرجع ولا یستغنی عنه.

ثالثاً: یذکر الأعلام [ وأشرنا سابقاً ] أنّ للقرآن بطوناً ودرجات ومراتب أعلاها أمّ الکتاب، وهو الوجود التکوینی الجامع لکلّ کمالات عالم الإمکان. ومن ثمّ لا یشذّ منه کمال، أی إنّ کلّ کلمة نجدها فیما بأیدینا من القرآن المکتوب هو وجود اعتباری للقرآن التکوینی اللاّمحدود، فهو وجود نازل لأمّ الکتاب، وحیث تنزّلت تلک المعانی والوجودات التکوینیة فکانت نهایة تنزّلها بالألفاظ القرآنیة. وهذه الألفاظ قد استوعبت کلّ ما یمکن تنزّلها، وإن کانت محدودة بالدفّتین.

فلا یعقل أن تنوجد کمالات متنزّلة لم یستوعبها اللفظ القرآنی کی نقول: إنّه محدود لا یعبّر عن التکاملات البشریة اللامتناهیة. وحتی ما قاله الرسول إنشاءً، وما جاء بصیغة حدیث قدسی، أو ما تفوه به أئمتنا من معارف، کلّها موجودة فی القرآن ومحدودیة ألفاظ القرآن لا تمنع من استیعاب ما یمکن تنزّله علی سعته، وإلاّ فحروف اللغة العربیة ومفرداتها محدودة أیضاً لا یمکنها استیعاب المتنزّلات

ص:208

المستمرة باستمرار البشریة.(1)

وإذا تصفّحنا - مع تأمل - آیات الکتاب العزیز لوجدنا أنها تشیر وبوضوح إلی کلتا النقطتین:

الأولی: حقیقة القرآن ومراتبه ودرجاته التی أعلاها أمّ الکتاب.

الثانیة: إنّ کلّ ما یمکن تنزّله من المراتب قد تنزّل فی ألفاظ المصحف الشریف علی محدودیة ألفاظه.

فقد وصفها القرآن فی القرآن بأنه (أُمُّ الْکِتابِ) (2) و ( فِی لَوْحٍ

ص:209


1- (1) . [س] حروف العربیة وإن کانت محدودة، والمفردات ا لمستعملة وان کانت محدودة، ولکن تبقی دائرتها أوسع بکثیر من اللفظ القرآنی بالبداهة والوجدان، ومن هنا یمکن أن یدّعی المستشکل أنّ اللفظ والتراکیب القرآنیة لا تستوعب کلّ ما یمکن تنزله لمحدودیتها بالقیاس إلی ما یمکن ترکیبه من الحروف ومفردات اللغة، ومن ثمّ نتیجة تطور وتکامل البشر هناک درجات نازلة مستجدة لا تعبّر عنها الصیاغة القرآنیة، فلابد من صیاغات جدیدة، ولیس هو بصدد نفی درجات القرآن وأم الکتاب، وأنما إشکالیته منصبة علی الوجود اللفظی للقرآن، وعدم شمولیته لما تنزل من الکمالات؟ [ج] أولاً: لابدّ من الإلفات إلی نکتة ظریفة ألفت إلیها الفلاسفة وهی أنّ المادة لا تستوعب اللاّمحدود بشکل دفعی، وأمّا بشکل تدریجی فیمکنها استیعابه. ثانیاً: أننا إذا جرّدنا المعانی عن مصادیقها المادیة وتمسکنا بنظریة روح المعانی، أمکن لهذه المعانی علی محدودیتها أن تغطی کلّ المستجدات علی کثرتها وعدم وقوفها عند حدّ، بل ذکر الفلاسفة أنّ المجردات لا تزداد ولا تنقص، وإنما هی ثابتة علی حدّ، فالزیادة والجدة دوماً فی المصادیق لا فی المعانی الکلّیة، وهی مهما کثرت وتغیّرت وتبدّلت تبقی مصادیق لتلک الکلّیات، من دون حاجة إلی استحداث ألفاظ جدیدة بمعان جدیدة، بل لا یمکن. نعم، الأعلام الشخصیة هی التی تزداد، لأنّ ما یوجد منها لا یغطی تلک المصادیق. ویحدّد العلم أنّ هناک نزاعاً حاداً بین أُدباء اللغة فی تغطیة اللغة القدیمة لما استجد من موضوعات وآلات وظواهر ونمط معیشة ومدنیة وعدم تغطیتها، وبالتالی لابدّ من استحداث ألفاظ جدیدة بتراکیب جدیدة تعبّر عن هذه المستجدات. وقد جنحت الکثرة الکاثرة منهم إلی کفایة اللغة القدیمة لتغطیة کلّ المستجدات لأنها لا تعدد المصادیق، ولکن شریطة تدخل وتوسط الأخصائیین فی تصنیف المصادیق تحت کلّیاتها. کلّ ذلک بسبب أنّ الألفاظ قد وضعت للمعانی لا للمصادیق، والمعانی الکلّیة ثابتة فی عددها لتجردها لا تزداد ولا تنقص.
2- (2) . آل عمران/ 7 والرعد/ 39 والزخرف/ 4

مَحْفُوظٍ ) (1) و (الْکِتابِ الْمُبِینِ) (2) و (مُهَیْمِناً عَلَیْهِ)(3) و (ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ) (4) و (قُرْآنٌ مَجِیدٌ) (5) والمجد یعنی العظمة، فلا یبلی ولا یندثر، و (تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ) (6) و فیه (تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ) (7) و (وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِی هذَا الْقُرْآنِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ) .(8)

کما وَصَفَ القرآنُ الرسولَ الأعظم ودینَه بأنه (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ) (9) و (خاتَمَ النَّبِیِّینَ) (10) الدالة علی الهیمنة و (آیة المیثاق) الدالّة علی الهیمنة أیضاً، وأنّه (رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ) (11) فما کان من کمال للعالمین یکون من خلاله، و (لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) (12)(أَ فَغَیْرَ دِینِ اللّهِ یَبْغُونَ) (13)(وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ) .(14)

ص:210


1- (1) . البروج/ 22
2- (2) . یوسف/ 1 والشعراء/ 2 والقصص/ 2 والزخرف/ 2 والدخان/ 2
3- (3) . المائدة/ 48
4- (4) . یوسف/ 104 وص/ 87 والقلم/ 52 والتکویر/ 27
5- (5) . البروج/ 21
6- (6) . النحل/ 89
7- (7) . یوسف/ 111
8- (8) . الإسراء/ 89
9- (9) . التوبة/ 33 والفتح/ 28 والصف/ 9
10- (10) . الأحزاب/ 40
11- (11) . الأنبیاء/ 107
12- (12) . آل عمران/ 83
13- (13) . آل عمران/ 83
14- (14) . آل عمران/ 85

هذه الآیات وغیرها الکثیر تدلّ علی أنّ الشریعة لا تنسخ، وأنّ قوانین الإسلام لا تتغیر، وأنّ الحاجة مازالت إلی القرآن، فلیس هو بحق نسبی جزئی، وإنما حق مطلق إلی قیام الساعة، وأنّ معرفة الإنسان دوماً من خلال النبوة الخاتمة فلا یصل إلی الحقیقة من دون واسطة، کیف! وهی نبوّة وإن لم یسمّوها بذلک فهی لا تنسجم مع النبوّة الخاتمة.

رابعاً: إننا نقرّ ما ذکر فی نظریة هؤلاء من أنّ البشریة لا یقف سعیها ولا تسکن حرکتها وهی دوماً فی حالة تکامل، ولکن لابدّ من الإلتفات إلی أنّ هذه الظاهرة البدیهیة لازمة أمرین بدیهین، هما:

الأول: وجود حقیقة وکمال یبغی البشر الوصول إلیه، وإلاّ لما أمکن تفسیر سعی البشر وحرکتهم.

الثانی: إنّ البشریة لن تصل فی یومٍ مّا إلی تمام الحقیقة، لا علی صعید فکرها ولا علی صعید سلوکها ما دامت فی عالم الدنیا، وإلاّ لوقف السعی.

من ثمّ [ وبقاعدة اللطف المرتبطة بالعقل العملی، والعنایة المرتبطة بالعقل النظری ] یثبت أنه من الواجب عن اللّه تعالی تسدید البشریة بوضع المنهج النظری المرسل إلی تمام الحقیقة وجعله فی متناول الجمیع، لأجل إتاحة الفرصة لهم بالوصول إلی تمام الحقیقة.

خامساً: إنّ البشریة عاجزة عن وضع شریعة کاملة تستوعب کلّ تفاصیل الحیاة ومستجداتها، ولکن لما کان الواضع هو اللّه سبحانه المحیط بالجمیع أمکن أن یضع شریعة کلیة جامعة تستوعب کلّ الجزئیات. بل یمکنه وضع شریعة کاملة وبنحو القضیة الخارجیة لکلّ الجزئیات، وإلاّ إننا بحکم محدودیتنا لا یمکن لنا استیعاب مثل هکذا شریعة، بالإضافة إلی أنّ بیان الکلّیات یغنی عن بیان الجزئیات.

سادساً: النقض والحل بمدرکات العقل النظری والعملی البدیهیة المحدودة، ولکن من دون أن یشذّ عنها واقعة من الوقائع، فحیث

ص:211

أمکن هنا فلیمکن فی الشریعة علی محدودیتها أن تستوعب کلّ الوقائع من دون أن یشذّ عنها شیء، ومن دون أن نحتاج إلی بیان جدید وقانون جدید، خاصة بعد الإلتفات إلی موقع الإعتبار والقانون من العقل، وأنّه یأتی فی الدرجة الثالثة بعد العقل العملی والنظری، بل العقل النظری، فالعملی یعتبر لبّ الشریعة الدینیة، ومع ذلک فهو ثابت ومحدود، ومع استیعابه للمصادیق التی لا تقف عند حدّ، فالشریعة مثله.

سابعاً: یستحیل وجود متغیر من دون ثابت، وقد أخطأ أصحاب القول بالتغیّر بنفیهم لکلّ ثبات، حیث إنّ فی الإنسان بُعدین؛ أحدهما ثابت، والآخر متغیر. والثابت لم یزل ولا یزال هو هو من یوم وجد الإنسان إلی حین قیام الساعة، علی کثرة ما حصل من تغیرات، بل قفزات فی حیاة البشریة فی کلّ جوانبها، ولکن مع کلّ هذا نجد فی کلّ زاویة أیضاً ثابتاً لا یتغیر سواء فی الجانب الإقتصادی أم الإجتماعی أم غیرهما کالحاجة إلی الأکل والتعاون والنظم والجنس وطلب الحقیقة. والذی نفی الثبات رکّز علی الجانب المتغیر فی الإنسان من دون التفات إلی جانب الثبات.

والقانون والشریعة تعالج الجانب الثابت فی حیاة البشریة، والتغیر یؤمن مصادیق لذلک الثابت. فالثابت هو الموجود فی المتغیرات کلّها، وهو القاسم المشترک بین کلّ أفراد الإنسان، والإنسان یطبّق الثابت علی المتغیر وینفّذ الشریعة فیه.

ومن هنا یظهر الجواب عمّا ذکر فی القرآن من أنه یعالج المشاکل الخاصة لمجتمع مکة والمدینة فی بعض آیاته، وبالتالی فهو لا ینفعنا الیوم، حیث إنّ ما ذکر صحیح ولکن لابدّ أن یعرف أنّ القرآن إنما عالج المشاکل الخاصة وعرض الأمثلة الخاصة بالبیئة العربیة من زاویة ثباتها، وبما أنه مصداق کلی، لا من حیث خصوصیتها کی تکون عدیمة الفائدة الیوم.

ولو طالعنا مثل القانون الإنکلیزی [ الذی یعتمد فی صیاغته علی

ص:212

جمع تجارب القضاة واستخلاص الکلّیات منها ] لوجدناه أنه یعتمد التجارب القضائیة لعهد ما قبل المسیح التی بقیت محفوظة، مع أنّ التغیر الحاصل من ذلک العهد إلی عهدنا لا یمکن أن یوصف، ولکنّه مع ذلک لم یتغافل عن تلک التجارب علی خصوصیتها، وإنما استفاد منها من جهة ثباتها. فالتغافل عن الثبات تغافل عن وجه اللّه وتغافل عن التوحید.

ثامناً: نحن نلمس جهة حق فی نظریة هؤلاء وهی أنّ صرف سلامة القوانین الکلّیة وأحکامها ووفائها وتغطیتها لکلّ المستجدات، مع کون المتغیرات شدیدة الإلتباس والتعقید لا یکفی حلاً للمشکلة ما لم تتنزل تلک الکلّیات فی المتغیرات الملتبسة المعقدة بصواب وسداد، وإلاّ ما زلنا ندور فی الفراغ، إذ صرف معالجة الشریعة لجهات الثبات، وتصویر استیعاب الکلّیات للجزئیات، وأنّ القرآن تنزّل لکلّ ما یمکن تنزّله، وأنّ الرسول دوماً أکمل من البشر، کلّ ذلک وغیره مما ذکر لا یعالج المشکلة فی بُعدها التطبیقی العملی، وإن عالجها علی المستوی التجریدی النظری.

ومعه للمستشکل أن یسجّل هذه المؤاخذة وهی أن هناک نقصاً فی الرسالة والشریعة حیث لم تردم هذا الفراغ مما یضطر البشریة إلی إعمال فکرها واجتهادها الشخصی وسنّ قوانین بشریة لهذه التغیرات.

والحقّ أنّ ما تقدّم من الأجوبة لم یعالج هذه الزاویة من الإشکال، ولکن إقرار المشکلة لا یعنی إقرار الحلّ الذی وضعوه، فإنه خطأ بعد أن کان هناک قرآن ناطق جنباً إلی جنب القرآن الصامت یرافق البشریة ما دامت موجودة، وهو المعصوم (علیه السلام) فإنّ واحدة من مهامه وشؤونه هی تنزیل الکلّی علی مصداقه، وإیصال إرادات اللّه الجزئیة وتحکیمها علی إرادة النفس.

والإشکال الحق - لولا ما ذکرناه من الحلّ - بدلیل (الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ

ص:213

لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً) (1) فمن دون الإمامة لم یکن الدین کاملاً، ومن ثمّ جاء: (یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (2) لأنها لیست صرف التنظیر الکلّی.

من الملاحظات التی سجّلناها علی کلّ من النظریات الثلاث تبلور ضرورة معیّة القرآن والسنّة، ومعیّتهما مع العقل. ویشهد لذلک حدیث الثقلین؛ حیث دلّ علی أنّ التمسک لابدّ أن یکون بهما معاً لتلازمهما، ومن ثمّ فالتمسک بأحدهما یعنی عدم التمسک بهما معاً، فمقولة: «حسبنا کتاب اللّه» وإن کانت برّاقة، إلاّ أنّ محتواها کما تبیّن: «حسبنا ما نتخیّله کتاب اللّه»، ومثله: «حسبنا السنّة».

کما أنّ قوله (صلی الله علیه و آله): «إنی تارک فیکم الثقلین » أی: فی العقلاء، ومن ثمّ یظهر أهمیة العقل، وأنّه بدونه لا یحصل تمسک.

ففی فهم القرآن لابدّ من ملاحظة السنّة القطعیة [ وهو صواب رؤیة الأخباریین ] مع ملاحظة القرائن القرآنیة الأخری [ وهو صواب رؤیة العلاّمة. ]

مع ملاحظة القرائن العقلیة، ومع مزج هذه الأمور الثلاثة یأتی فهم القرآن متعادلاً، ولا یکون من التفسیر بالرأی، ولا یؤدّی إلی ضرب القرآن بعضه ببعض.

وسنذکر بعد عرض رؤیة السیّد البروجردی (قدس سره) إلی طبیعة النسبة بین هؤلاء الثلاثة: (القرآن والسنّة والعقل) وبیان مدی کلّ منها فی فهم القرآن والإعتماد علی السنّة والعقل.

والذی أردنا تأشیره فی هذه الفقرة من البحث هو أنّ النتیجة التی خلّصنا إلیها من دراسة ا لنظریات المذکورة هی أنها جمیعاً تتأرجح بین الإفراط والتفریط، وأنّ تعطیل السنّة أو العقل أو الکتاب غیر

ص:214


1- (1) . المائدة/ 3
2- (2) . المائدة/ 67

صحیح ولیس منهجیاً.

نظریة السیّد البروجردی

إنّ هناک معیّة بین القرآن والسنّة، إلاّ أنّ هناک طولیة إثباتیة بینهما.

فالقرآن الکریم متن القانون (الدستور) و سنّة الرسول (صلی الله علیه و آله) بعض منها متمم للمتن والآخر شرح المتن إلاّ أنه جوامع الشرح، وسنّة الإمام (علیه السلام) شارحة لمتن القانون و متممة مع شرحها للشرح فهی تفاصیل الشرح.

وقد استقی نظریته هذه من ممارسة العلاّمة المجلسی (قدس سره) عملیاً لها فی البحار، ومن قبله شیخ الطائفة الطوسی (قدس سره) .

والممارس لهذه الطریقة فی الفقه یلحظ أثرها بوضوح، وأنّ هناک بوناً شاسعاً فی الإستظهار واستنطاق الأدلّة بین هذه الطریقة والطریقة الأُخری التی غیّب القرآن فیها، کما نشیر إلی ذلک فی نقطة لاحقة.

وبالإلتفات إلی الفرق الأصولی بین النظریتین یتبلور الفرق أکثر. فالدلیل الناظر إلی دلیل آخر بنحو تکون علاقته معه علاقة الحکومة التفسیریة یختلف عمّا لو فرضناه فی عرض الدلیل الآخر وأجنبیاً عنه فی کیفیة التعامل معه والاستفادة منه.

السنّة ناظرة إلی القرآن

و السیّد البروجردی یرید أن یقول: إنّ السنّة ناظرة إلی القرآن، وإن لم تکن الروایة فی ذیل الآیة فهی القرینة والقرآن ذو القرینة، بل فی الوقت التی هی قرینة شارحة للآیة ومفسّرة لابدّ من المعیّة؛ لأنّ القرینة لا یفهم معناها إلاّ مع ذی القرینة. ومن ثمّ ذکروا أنّ الحاکم من دون محکوم لغو، غایته أنّ القرینة أقوی من ذی القرینة ومفسّرة لها لا أنها تغنی عنها، بل العلاقة بینهما أعمق من ذلک، فإنّ القرینیة متبادلة بینهما، أی إنّ ذا القرینة [ وهو القرآن ] أیضاً قرینة علی

ص:215

السنّة فی عین أنه مشروح ومفسَّر بها؛ لأنّ الروایة صدرت فی جوّ القرآن، ومن ثمّ قد یکون فهمها لوحدها عکس ما لو لوحظ القرآن معها.

وهو نظیر ما قاله (قدس سره) من أنّ السنّة ناظرة إلی فقه العامة، مما یعنی أنّ فقه العامة یشکّل قرینة علی فهم الروایات.

وعلی هذا الأساس ستتحدد الروایة بما یلائم الآیة وسترتفع کثیر من التعارضات، وسیتبلور سرّ إعراض المشهور عن بعض الروایات الصحیحة فی بعض المسائل لمخالفتها للقرآن. فَهُما باختصار قرینتان مزدوجتان، کلّ منهما قرینة علی الآخر.

تصوّر المعیة علی صعید الحجّیة

وأنت خبیر بارتباط هذه الصیاغة الأصولیة لتصویر المعیة بینهما بالدلالة، وهناک صیاغة أخری أصولیة تصوّر المعیة بینهما علی صعید الحجّیة، وهی: أنّهما حجّتان مشروطتان کلّ منهما بالأخری، بمعنی أنّ حجّیتهما مجموعیة لا استغراقیة، فلیس حجّیة کلّ منهما مستقلة، وإنما حجّیة کلّ منهما بنحو الإستغراق معلّقة علی الآخر، فلابدّ من مراعاة ذلک فی الممارسة الآحادیة للکتاب والسنّة.

وما قد یقال من أنّ القرآن لم یستوعب کلّ التفاصیل [ ومن ثمّ نجد کثیراً من الروایات لا یوجد مضمونها فی القرآن، وقد یحصل العکس ] فلا معنی للمعیة وتقیید حجّیة کلّ منهما بالآخر.

فإنه یقال: لو سلّمنا ما ذکر فلابدّ من المعیة فیما وجد مضمونه فی الاثنین، علی أنّ مراد السیّد البروجردی من المعیة هو أنّ التفاصیل و إن لم یوجد تفصیلاً فی القرآن إلاّ أنّ قواعدها وعموماتها موجودة فیه، فلابدّ من المعیة حینئذ.(1)

ص:216


1- (1) . [س] یمکن أن نخلص إلی أنّ الفرق بین الصیاغة الأصولیة والفقهیة هو أنّ الأصولیة صوّرت المعیة فی الحجّیة والمعیة فی الدلالة، والفقهیة صوّرت تفصیل هذه المعیة، وأنها بنحو الطولیة لا العرضیة (متن، شرح، شرح الشرح)؟ [ج] هذا فارق، وفارق آخر: أنّ البُعد الأصولی بُعد إثباتی کاشف عن القانون، والبعد الفقهی مرتبط بکنه المدلول المنکشف فی نفسه، لا بما هو منکشف.
دلیل صیاغة المعیة

الدلیل الأول لهذه الصیاغة اتفاق علماء الإمامیة علی أنّ أحد شرائط حجّیة الخبر المنفردة موافقة مضمونه لکتاب اللّه، وهذا هو الذی ذکر فی المعاملات من أنّ صحة الشرط مشروطة بأن لا یکون مخالفاً لکتاب اللّه [فی تعبیر ] أو أن یکون موافقاً للکتاب [ فی تعبیر آخر ].

والإختلاف فی التعبیر جاء من اختلاف فهم شرط الحجّیة وصحة الشرط فی المعاملات بین أن لا یکون مضاداً للکتاب، وبین ضرورة موافقته للکتاب باندراجه تحت عموم قرآنی.

ویقصد من الموافقة فی الفهم الثانی تطابق الإجمالی مع التفصیلی لا المطابقة التامة، وإلاّ أغنی أحدهما عن الآخر، بل یصعب تحصیله غالباً بینهما، وإنما نظیر من یری شبحاً ویراه الآخر تفصیلاً، فإنّ المرئی الثانی مطابق للأول مطابقة الإجمالی للتفصیلی. و هذا القدر یمکن تحصیله فی الکتاب العزیز، فلابدّ أن لا تخرج تفاصیل السنّة عن الحدود العامة فی الکتاب العزیز.

والدلیل إلی هنا یثبت تعلیق حجّیة السنّة علی الکتاب، ولکن بضمیمة ما ذکره الأخباریون من الروایات الدالّة علی خطأ التفرد فی فهم القرآن یتکامل الدلیل علی معیة حجّیتهما واشتراط کلّ منهما بالآخر.

الدلیل الثانی: التأبید الوارد فی حدیث الثقلین ظاهر فی المعیة فی کلّ المراحل.

والجدیر بالإنتباه أنّ حدیث الثقلین أیضاً موجود فی القرآن فی قوله تعالی: (وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ) (1) و ( بَلْ هُوَ

ص:217


1- (1) . النحل/ 89

آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (1) و (قُلْ کَفی بِاللّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ) (2) وآیات أخری جمعناها فی بحث الإمامة.

والمؤسف أننا لم نعثر علی أحد من المتکلّمین والمحدّثین قد نبّه علی أنّ سند حدیث الثقلین فی القرآن.

کما أنّ دلیل الصیاغة الأصولیة الأولی والصیاغة الفقهیة هو الإستقراء فی أبواب المعارف والفقه، حیث نلاحظ هناک أنّ الکثیر من القواعد والعمومات قرآنیة والروایات مذیلة لها شارحة ومفصلة ومفسّرة ومستنطقة.

فالخلاصة: أنّ منهج السیّد البروجردی هو معیة الکتاب والسنّة، فکما أنّ العام لا یکون حجّة إلاّ بعد الفحص عن الخاص، کذلک الخاص لا یکون حجّة إلاّ بملاحظة نسبته إلی العام، لأنّ التخصیص شأن دلالی فلا یمکن فهمه إلاّ بملاحظته للعام، و إن کان فیه جعل إلاّ أنه من سنخ الجعل الواقعی، فلیس هو المخصص. کذلک الإنفراد فی فهم القرآن أو السنّة من دون ملاحظة الآخر لا ینهی إلی معنی محصل.

آثار نظریة المعیة

ومن یمارس هذه النظریة فی الفقه والمعارف یلمس آثارها المهمة، فمثلاً فی بحث الحج بعد أن حکّمنا الآیات الثلاثة الدالّة علی وجوبه علی الطوائف المتعارضة فی روایات الإستطاعة، انحل التعارض بعد أن انتهینا إلی أنّ الإستطاعة قید تنجیز لا وجوب، ومن ثمّ لو حجّ غیر المستطیع أجزأه عن حجّة الإسلام وقد التزم بذلک المشهور عملاً لا تصریحاً.

ص:218


1- (1) . العنکبوت/ 49
2- (2) . الرعد/ 43

ومن الثمرات: أنّ التشریعات العامة فی القرآن المبیّنة لحدود اللّه وفرائضه لا تقبل النسخ ولا التضاد ولا التزاحم، وقد علّل الإعادة فی الخمس فی حدیث «لا تعاد» بأنّ الخمس فریضة فی القرآن والباقی سنّة والسنّة لا تنقض الفریضة، وهذا الفهم لم یتشکل إلاّ بعد مراجعة القرآن، وقد حاول البعض تعمیم مفاد الحدیث لغیر الصلاة کالحج لنفس النکتة.(1)

وما ذکره (قدس سره) تفصیل لما بنی علیه الأصولیون مجملاً فی قبال الأخباریین والعلاّمة من معیة القرآن والسنّة، وعدم الإنفراد بأحدهما وإهمال الآخر، بل ولا حتّی الاستقلال بأحدهما أیضاً، وإنما حجّیتهما بنحو المجموعیة، کما أوضحنا ذلک مفصلاً.

العلاقة بین الکتاب والسنّة والعقل

اختلف الأعلام [ القائلون بحجّیة کلّ من ظواهر الکتاب والسنّة والعقل ] فی تصویر وبیان العلاقة بین هذه الحجج بین:

قائل: بالحجّیة بنحو الاستغراق، فکلّ منها حجّة استقلالاً.

وآخر: أنها حجّة بنحو المجموع.

وثالث: أن نأخذ بمجموع محکمات القرآن والسنّة والعقل ونعرض متشابهات کلّ منها علی الجمیع.

ورابع: ما ذکره السیّد البروجردی فی العلاقة بین الکتاب والسنّة، ودور العقل أنه المخاطب. فمتن الحکم القرآن، والسنّة شارحة، والعقل المخاطب، بمعنی أنه فی باب المعارف لم تخاطب الذهنیة البشریة علی مستوی الحس والوهم، وفی الفروع لم یخاطب الذهن العام، وإنما الذهن الإختصاصی، ومن ثمّ لا یحمل الدین علی

ص:219


1- (1) . [س] لمّا کانت تشریعات القرآن کلّها فریضة و هی ممّا لا تنسخ، تکون النتیجة عدم إمکان نسخ القرآن بالسنّة؟ [ج] الإجماع علی إمکان النسخ بالسنّة فی الوقت الذی قام الإجماع علی عدم وقوعه، وما ذکرناه تفسیر لما هو واقع، وأنّه لیس من شأن السنّة نسخ فرائض اللّه.

مستوی النازل من المعرفة.

وخامس: إنّ العقل ومثله القلب لغة، واللغة ما یکون التصور بسببها، وأمّا التصدیق الذی هو إذعان بالنسبة فهو شأن القرآن والسنّة.

من هنا قد یقال: إنّ العقل علی هذا لیس بحجّة.

فالجواب: بل هو حجّة بعد الإلتفات إلی ما ذکره المناطقة من أنّ الحدود [ التعاریف ] هی حدود وسطی فی البرهان، ویفترق هذا عن سابقه بالتفصیل مع کونه ذا طابع أصولی أکثر.

وسادس: إنّ أولیات المعرفة علی مستوی العقیدة والفروع عقلیة [وهذه هی المسماة بالشریعة الفطریة ] وما بعد هذه الأولیات من الکلّیات النازلة تکون الحاجة إلی القرآن والسنّة مع حفظ دور العقل کمخاطب.

والروایة الأخیرة من کتاب العقل والجهل فی أصول الکافی [ علی نسخة الصفوانی لا النعمانی ] تشیر إلی هذه العلاقة.

وسابع: إنّ الصراط والمسلک هو القرآن والسنّة، والمستطرق السالک هو العقل.

وبصیاغة أخری [ ترجع إلی الرابع ] أنّ النور هو القرآن والمستفید المستضیء المستنیر هو العقل، والروایة التی أشرنا إلیها فی النظریة السابقة تشیر إلی هذه الصیاغة.

وثامن: القرآن عقل ظاهر، والعقل قرآن باطن، والرسول رسولٌ ظاهر، والعقل رسولٌ باطن.

وصیاغة هذه النظریة صناعیاً أنّ العقل لو اطّلع علی نمط تسلسل العلوم فی القرآن لأذعن بها والرأی أنها مبرهنة عقلیاً، لأنّ التسلسل منطقی برهانی لمّی.

وبعبارة أخری هناک طریق لمّی یمکن الإستغناء به عن کلّ علم، ولکن لعجز عقولنا لا یمکن لنا معرفة ذلک الطریق، وأنّ هذا الطریق هو العلم الإلهی الحقیقی، وما یوجد من فلسفة فهی تعبر عن قصور

ص:220

العقل البشری، حیث لا تتعدی الکشف الإنّی. وقد أشار إلی هذا المعنی ابن سینا فی الشفاء.

بالمقابل ما یدرکه العقل لا ینفیه القرآن، کیف! وأنّ الدین دین الفطرة. وقد استدلّ علی ذلک فی بحث الملازمة (کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع وبالعکس).

وتاسع: إنّ متن الواقع واحد والحقائق واحدة، وکلٌّ من القرآن والسنّة والعقل کواشف عن ذلک المتن الواحد.

وهذه الرؤیة تقارب الرؤیة السابقة التی قرّرها ابن سینا.

وعاشر: ما ذکره العلاّمة فی المیزان من أنّ المعارف - ما عدا المعاد - من مدرکات العقل والقرآن والسنّة، والمعاد مختص بالقرآن والسنّة.

وشبیه بهذه النظریة ما ذکره الآخوند و کثیرون: أسس المعارف وأرکانها من إدراکات العقل علاوة علی القرآن والسنّة، وأمّا تفاصیل المعارف کلّها فهی من شأن النقل، علی شرط أن لا یضاد المحکمات العقلیة.

وحادی عشر: إنّ القرآن والسنّة القطعیین [ بعد حقّانیة الدین بالدلیل العقلی فحقّانیة مؤدیاتهما ] یقعان حداً وسطاً فی البرهان، کما أشار إلی ذلک الآخوند، وکذا ابن سینا فی المعاد الجسمانی.

ومن ثمّ لابدّ فی المعارف من الفحص عن قطعیات الکتاب والسنّة، وإن کانت المسألة نظریة.

وتوسّع البعض فقال: بإمکان التعبد بالظن فی تفاصیل المعارف [ وهو الحق تبعاً لکبار الأعلام کالشیخ الطوسی والمحقق الطوسی والبهائی والمجلسی والمیرزا القمی ] فیؤخذ الظن المعتبر حداً أوسطاً ینتج نتیجة ظنیة إلاّ أنها معتبرة.

وعلی هذا سیکون الرجوع إلی الکتاب والسنّة والفحص فیها أکثر ضرورة وأوسع نطاقاً.(1)

ص:221


1- (1) . الصیاغة الأخیرة وإن کانت جامعة وتعالج إشکالیات مهمة فی العلاقة، ولکن مازالت هناک بعض الفراغات تحتاج إلی معالجة مثل: هل العقل قرینة علی فهم القرآن أو العکس فقط؟ وما هو القرینة هل خصوص العقل البدیهی أو النظری أیضاً؟ هل هناک طولیة بین العقل النظری [ قبال البدیهی ] والقرآن، کما بین السنّة والقرآن فی عین أنهما قرینتان مزدوجتان؟ هل ینحصر دور العقل فی المسائل النظریة باستلال الأدلّة العقلیة التی ذکرها القرآن، أو من حقّه أن یفکر لوحده، وأن یصوغ أدلّة لم تذکر فی القرآن ولا السنّة، ولکن یراعی الموافقة العامة للقرآن؟ فی عملیة فهم القرآن، السنّة ناظرة وحاکمة، ومن ثمّ تحمل علی القرآن مع بقائها ضمن الجوّ القرآنی، فهل العقل یحمل علی القرآن أو العکس؟
ضرورة الرجوع إلی الظن ولو غیر المعتبر منه

بل یمکن أن یقال بضرورة مراجعة حتی الظن غیر المعتبر، لدخالته فی توسعة أفق الباحث والأحاطة باحتمالات المسألة کلّها، ممّا یقربه أکثر إلی إصابة الواقع والوصول إلی الحقیقة والخروج بنتائج متکاملة.

وتوضیحه: إنّ من المعروف أنّ العقل حینما یرید أن یصل إلی التعرف علی مجهول یقوم بالفحص، ثمّ الإدراک، ثمّ الإذعان.

ومن البدیهی أنّ هناک تناسباً طردیاً بین سعة دائرة الفحص وبین سلامة القوانین وإحکامها، ووضوح الإدراک وعمق الایمان، فکلّما کانت رقعة الفحص أوسع ومتنوعة کانت حرکة الفکر أسلم، وکان الإدراک للنتیجة أکثر وضوحاً، وکان الایمان أشدّ عمقاً ورسوخاً.

وقد أشارت الروایات الشریفة إلی هذا من قبیل: «أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النَّاسِ إِلَی عِلْمِهِ»(1) و«مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَکَهَا فِی عُقُولِهَا»(2) بالإضافة إلی الروایات الناهیة عن الإستبداد بالرأی.

وفی عملیة الفحص هناک مباد تصوریة وأخری تصدیقیة، وکلّ منها معین للوصول إلی النتیجة، فقد تسولم فی العلوم أنّ الإحتمال أول درجات العلم، وأنّ التصور مهم بل بالغ الأهمیة، وأنّ التصدیق

ص:222


1- (1) . الأمالی للشیخ الصدوق/ 72، ح4
2- (2) . نهج البلاغة/ 500 ح161

لا یکون إلاّ عن تصوّر مسبق. وکثیر من حالات الجهل هی فی الواقع بسبب فقدان التصوّر وغیابه لا بسبب عسر التصدیق.

من ثمّ المقولات المنسوبة إلی الوحی أو إلی المعصوم وإن لم تکن حجّة، إلاّ أنه لاریب فی إحداثها تصورات واحتمالات لم یلتفت إلیها الفکر البشری، بالإضافة إلی أنها تحدث مزعمة معینة غیر مضمونة الخطأ، فلابدّ من التأکد من مدی صحّتها.

علی هذا فعدم استیعاب الفحص فضلاً عن عدم الفحص بالمرة، لا تکون النتیجة منطقیة ومنهجیة وإن حصل إذعان.

ولهذه النکتة لم یقتصر الآخوند بل ولا حتی الإشراق علی ما اقتصر علیه المشّاء من الإستبداد بالعقل وعدم الرجوع إلی الکتاب والسنّة، بل وتحمیل ما وصل إلیه العقل علیهما.

تحصیل التواتر المعنوی فی روایات المعارف

ومن المؤسف أن تهجر روایات المعارف مع کون واحدة من آلیات القطع التواتر المعنوی، وهو ممّا یمکن الحصول علیه ولکن بعد سبر طویل یرافقه خبرة وفقاهة فی استنطاق النصوص، بالإضافة إلی ما تحدثه من تصوّرات وتثیره من احتمالات.

فمثلاً روایة «نحن حجج اللَّه علی خلقه و جدّتنا فاطمة حجة اللَّه علینا»(1) یمکن القول أنها متواترة معنی، یعرف ذلک من خلال ما تذعن به الإمامیة بمصحف فاطمة(علیهاالسلام) [ الذی هو تلقّی عن الغیب ] فإنه کان مصدراً للأئمة، ومن ثمّ فهی واسطة بین الغیب وبینهم (علیهم السلام) ولکن لا یعنی ذلک أنّ الإمام یفتح مصحف فاطمة(علیهاالسلام) ویفحصه علی حدّ فحصنا، حیث إنّ علمهم لدنّی حضوری، وإنما فی تلقّیهم الغیبی للقرآن الواقعی، ومصحف فاطمة(علیهاالسلام) یکون بتوسط النبی (صلی الله علیه و آله) وفاطمة روحی فداها.

فهو یتنزّل علی النبی وفاطمة(علیهماالسلام) ومنه یتنزّل إلی الإمام (علیه السلام).

ص:223


1- (1) . تفسیر أطیب البیان 225/13

والروایات فی مصحف فاطمة(علیهاالسلام) وأنّه واسطة للأئمة کثیرة، فینتج تواتر الروایة المزبورة معنی.

ومثال آخر: التستری فی مقدّمة کتاب الأوائل یقول: إنّ خبر «نزّهونا عن الربوبیة وقولوا فینا ما شئتم»(1) موضوع، فی حین أنه لیس موضوعاً، بل یمکن دعوی التواتر المعنوی فیه، بعد ملاحظة أمثال «یاعلی، ما عرفک إلاّ اللّه وأنا»(2) الدالّ علی أنّهم (علیهم السلام) بالنسبة إلی البشر غیر محدودین و «أول ما خلق اللّه نور نبیک»(3) بضمیمة القاعدة العقلیة أنّ الصادر الاول جامع لکلّ کمالات عالم الإمکان، وغیرها من الروایات.

بالإضافة إلی کلّ هذا: أنّ المعارف کلّها مستلّة من القرآن والسنّة مما یضیف ضرورة إضافیة للفحص، ومن قبل أصحاب الملکة والخبرة فی الشؤون العقلیة حتی یمکنهم استلال هذه الأدلّة والنکات من النص.

ومع عدم الفحص والإعتماد علی الخبرة البشریة فقط لا تکون النتائج البرهانیة مجزیة، فلا یکون معذوراً عقلاً فی المعارف النظریة. (4)

بهذا العرض تتبلور المعیة - مع تفصیل ذلک - بین الحجج الثلاث، والصیاغات المتقدّمة صحیحة جمیعاً بعد أن کان کلّ منها قد وضع إصبعه علی جانب من الحقیقة.(5)

ص:224


1- (1) . مشارق أنوار الیقین/ 101
2- (2) . تأویل الآیات/ 145
3- (3) . المجلسی، بحارالأنوار 24/15 (تاریخ نبیّنا(صلی الله علیه و آله)، الباب1: بدء خلقه وما جری له فی المیثاق و ...، الحدیث 43).
4- (4) . [س] بهذا البیان لابدّ من فتح باب التقلید فی العقائد علی مصراعیه کما فی الفروع، حیث یعجز العامی من اکتناه الحقیقة من الأدلّة التفصیلیة بنفسه؟ [ج] نعم، فی تفاصیل العقائد دون أسسها.
5- (5) . [س] حینما نلاحظ تأکید القرآن علی المعارف وآلاف الروایات فیها، کیف ینسجم مع مقولة البعض: إنّه لا یجب الإعتقاد بها إلاّ إذا علم بها، فهل یقبل أن یتکلّم الأئمة بهذا القدر، ولا یجب علی أحد السعی للمعرفة والایمان. ألیس تذکرون فی الفقه أن التأکید بالتکرار یعبر عن أهمیة الحکم عند الشارع؟ [ج] التعلّم واجب علی العلماء بنحو الکفایة کی لا تندرس معالم الدین ویوجد من یدافع عن شریعة سید المرسلین، وأمّا علی العوام فلا یجب علیهم الإعتقاد إلاّ إذا علموا. وهذا نظیر ما یذکر فی الفروع أنّ العامی یجب علیه أن یتعلم ما یمکن أن یبتلی به لا کلّ الفقه، مع الوجوب الکفائی لتعلم البعض واجتهادهم فی کلّ الفقه. [س] ولکن تصویر الوجوب الکفائی من أجل أن لا تندرس معالم الدین مازال لا یتناسب مع حجم هذه الروایات؟ [ج] هناک ندب عینی واستحباب للتعلم، فالایمان موجّه للجمیع، وسنبحث هذه المسألة فی ذیل حجّیة خبر الواحد إن شاء اللّه.

4 . المقام الرابع: البحث فی تواتر القراءات القرآنیة وعدمه

سرّ البحث فی تواتر القراءات

من البدیهی فی حجّیة القرآن [ علاوة علی قطعیة سنده ] أن یکون متنه قطعیاً کی یکون ظهوره ودلالته الظنیة حجّة.

وبعبارة أوضح: کون الدلالة ظنیة فالنتیجة ظنیة لا ینافی ضرورة قطعیة المتن جنباً إلی جنب قطعیة السند و إلاّ أخل بحجّیة الظهور. وإن شئت قل: إنّ حجّیة ظهور القرآن مشروطة بقطعیة المتن جنب قطعیة السند.

من هنا قد یقال: إنّ اختلاف القراءات یزعزع قطعیة المتن القرآنی، وبالتالی سیؤثر علی ظهور القرآن صغرویاً، فلا یمکن البناء علی حجّیة ما یظهر لنا، للشک فی کونه ظهوراً قرآنیاً.

وعلی هذا الأساس یفهم حرص علماء المسلمین لتصویر تواتر هذه القراءات تفادیاً لهذه المشکلة، فکان المشهور علی أنها متواترة.

التشکیک فی تواتر القراءات من السیّد الخوئی (قدس سره)
اشارة

ولکن البعض کالسیّد الخوئی شکّک فی هذا التواتر بأنها مرویة بروایات آحاد، أو أنّ القرآن نزل علی الرسول (صلی الله علیه و آله) بلفظ واحد

ص:225

والإختلاف نشأ من عدم ضبط النص القرآنی فی الذاکرة أو من اختلاف اللهجات أو من خلوّ المصاحف آنذاک من النقط والتشکیل الإعرابی، أو أنّ قراءات السبعة أو العشرة اجتهادات، أو لطعن أحمد بن حنبل فی وثاقة بعض السبعة، أو للعلم الإجمالی بعدم صدور بعض القراءات عنه، للقطع بأنه نزل علی حرف واحد وأنّ ما ورد بأنه نزل علی سبعة أحرف لا یعمل به لضعفه أو لاحتمال التقیة.

تقویة تواتر القراءات

بالمقابل تصدّی البعض لمناقشة هذه الإشکالیات لیصبّ فی صالح القول بتواتر القراءات، حیث ذکر أنّ عملیة الحصر بالسبعة أو العشرة ارتکبها «مجاهد» [ وهو من أفذاذ الفن فی أوائل القرن الثالث أی آخر الغیبة الصغری ] مستدلاً بأنّ أمصارهم مجمعون علی قراءتهم والإعتماد علیهم، بالإضافة إلی کونهم من أهل الفن فی علوم القرآن والأدب والحدیث.

و أنّ سبب الإختلاف لیس اجتهادیاً [ لخلوّ المصاحف عن النقط ] بل الصحابة کانوا مختلفین، وکلّ من القرّاء روی عن صحابی غیر من روی عنه الآخر.

و أنّ تضعیف ابن حنبل یکون فی خبرویتهم فی الحدیث لا فی صدق لهجتهم، وهو لا یؤثر علی الإعتماد علی قراءاتهم بعد أن کانوا من أهل الإختصاص والخبرة فیها.

وهذه لفتة مهمة جداً أخذت تغیب فی هذه الأعصار وهی أنّ توثیق الراوی یکون من جهتین: عدم تعمّده الکذب مع ضبطه، وعدم تخلیطه. وطعن الرجالیین قد یتناول إحدی الجهتین دون الأخری، ومن ثمّ فالطعن فی الجهة الثانیة لا یؤثر علی قبول روایاته فضلاً عن قراءته، إلاّ مع الشک فلا یعمل بالروایة بمقدار منطقة الشک.

بل نقول إنّ کثیراً من طعن الرجالیین إنما هو فی الجهة الثانیة لا

ص:226

فی صدقه. ونقول: إنّ مصطلح الضعیف کان یعنی عند القدماء عدم الضبط لا تعمّد الکذب، خلافاً لما یفهم منه الیوم.

فما ذکره هذا البعض جیّد فی نفسه، إلاّ أنه لا یثبت له مطلوبه کما ستری. ویضیف أنّ سرّ اختلاف الصحابة فی القراءات هو انتماؤهم لقبائل عربیة مختلفة ذات لهجات متعددة، إلاّ أنّ قراءتهم کانت بمحضر منه (صلی الله علیه و آله) وقد أُمضیتْ وأُقرّتْ، فهی وإن لم یکن منشؤها الوحی إلاّ أنها مع ذلک قبلها الرسول (صلی الله علیه و آله) ولو للتسهیل، بل إنّ الرسول (صلی الله علیه و آله) قد قرأ بلهجات متعددة تسهیلاً علی تلک القبائل، بعد أن کان المعنی منحفظاً و واحداً فی الجمیع.

أربع نقاط لبیان الحقّ فی المسألة
اشارة

بهذا و غیره ینتهی إلی تواتر القراءات، ولکن الحقّ أنّ ما ذکره من شواهد وإن کان متیناً، إلاّ أنها لا تثبت التواتر، فی الوقت الذی لا نرتضی فیه مبنی السیّد الخوئی. ومن أجل بلورة الحقّ فی المسألة نلفت النظر إلی أربعة نقاط کمقدّمة.

قطعیة القرآن سنداً ومتناً لا دلالةً

النقطة الأولی: إنّ سند القرآن قطعی وکذلک متنه قطعی لما دلّ من الآیات والروایات علی أنه مصون عن التحریف. وأمّا دلالاته فمنها القطعی، ومنها الظنی، ومنها المتشابه وهو غیر حجّة.

اختلاف القراءات لا یستلزم التحریف

النقطة الثانیة: اختلاف القراءات یؤثر علی دلالة النص القرآنی لا علی متنه، حیث إنّ غالب الآیات التی اختلف فی قراءتها لم یتبدل فیها جوهر اللفظ فضلاً عن جوهر المعنی، وبالتالی فالقول بعدم تواتر القراءات لا یستلزم القول بالتحریف.

وتوضیح ذلک: یقال فی علم اللغة إنّ أصل المتن هو المادة التی

ص:227

یصاغ بأشکال مختلفة، و أمّا الإعراب مثلاً فهو علی هامش المتن لا من صمیمه [ بل هو منتفٍ فی بعض اللغات ] وکذا أصل المعنی فی ضمن المتن، ومن ثمّ المعنی الإعرابی والترکیبی یُعدّ من هوامش المعنی لا من أصله.

کذا فی علم المکتبات یذکر أنّ أصل المتن هو المادة [ وهی النسخة الخطیة مثلاً أو الطبعة الأولی ] و هی ما دامت محفوظة لم یتلاعب بها فالکتاب لا یعدّ محرّفاً، فإن حصل تغییر فی بعض طبعاته فهو تحریف فی تلک الطبعة لا فی الکتاب.

تأثیر اختلاف القراءات فی الدلالة

ونحن لا ننکر أن تفسیر الإعراب أو الهیئة الترکیبیة بسبب اختلاف القراءات له أثر إلاّ أنّ أثره دلالی مرتبط بتشکّل المادة لا بأصلها ومتنها وجوهرها، وإلاّ لو کان اختلاف القراءات بضمیمة عدم تواترها تحریفاً لکان الإختلاف فی تشخیص الإسم المرفوع أنه مبتدأ أو فاعل، أو فی تشخیص کون الواو عاطفة أو استئنافیة فی مثل قوله تعالی: (وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ) (1) تحریفاً؛ لأنّ فرض الواو عاطفة یعنی وحدة الکلام، وفرض کونها استئنافیة یعنی تعدّده، مع أنه لم یختلف اثنان فی أنه لیس تحریفاً.

فتبیّن:

[ 1 ] إنّ اختلاف القراءة أجنبی عن التحریف، وبالتالی فعدم تواترها لا یشکّل مشکلة علی هذا الصعید.

[ 2 ] وإنّ القرآن مصون عن التحریف ومصون وجوده اللفظی ومحفوظ فی الأمّة بمادته، بالإضافة إلی حفظه بکلّ مراتبه [ بما فی ذلک وجوده النازل واللفظی ] کما نزل علی قلب محمّد (صلی الله علیه و آله) عند المعصوم المنتظر * .

ص:228


1- (1) . آل عمران/ 7

[ 3 ] ومن ثمّ یفهم اجماع المسلمین علی عدم التحریف جنباً إلی

جنب قبولهم لظاهرة اختلاف القراءات، مع ذهاب کثیر إلی عدم تواترها.

مناشئ اختلاف القراءات

النقطة الثالثة: إنّ جملة من مناشئ اختلاف القراءات [ تاریخیاً ] سیاسیة دینیة عقائدیة، حیث نشأت هذه الظاهرة بعد إدبار المسلمین عن الرجوع إلی المصدر الحافظ المنصوب من قبل الخاتم (صلی الله علیه و آله) وهو أمیرالمؤمنین (علیه السلام) وعدم توحّدهم علی اتّباعه، مع أنه کان من المسلّم عندهم [ کما فی روایاتهم ] أنه کان لدیه مصحف وأراد أن یطلعهم علیه فأبوا، فاحتفظ به هو (علیه السلام) وبقی ینتقل فی ذریته الطاهرة.

بالإضافة إلی أنّ خطوة عثمان بحرق ما کان من مصاحف وتوحیدها بمصحف واحد، کان واقعها أنّ جملة من المصاحف الموجودة آنذاک یخطئ ما ابتدعه من أحکام فی الوضوء وغیره، و إلاّ بمَ نفسّر إقدام عثمان الفردی وعدم تنسیقه مع کبار الصحابة فی مثل هذا المشروع الهام والخطیر. وکذا جمع المصحف عند الأول والثانی، إنما هو لتألیف السور والآیات فی کلّ سورة بالشکل الذی یخدمهم، لا بالشکل الذی نزلت ولیس کما یعلن أنه بسبب خدمة القرآن والدین.

ونجد فی بعض الروایات «من أراد أن یقرأ القرآن غضّاً کما أنزل فلیقرأه علی قراءة ابن أُم عبد»(1) أی ابن مسعود وذلک من جهة أنه حافَظَ علی واقع ما نزل، فی حین نجد الحساسیة بینه وبین عثمان علی أشدّها، وأنّ قراءته قد هجرت هجراً تاماً مما یؤکّد ما ذکرناه من أنّ إخفاء کثیر من القراءات کان بدافع سیاسی مذهبی لعدم انسجامها مع المنهج السیاسی آنذاک.

ص:229


1- (1) . المجلسی، بحار الأنوار 213/31 - 218 (کتاب المطاعن، الباب 25/ تفصیل مثالب عثمان و ....، الطعن السابع نقلاً عن مصادر العامة کالاستیعاب).
بطون القرآن

النقطة الرابعة: إنّ المقصود من ما ورد من «أنّ للقرآن سبعة أحرف أو سبعین حرفاً» أنه نزل علی مراتب من المعانی الغزیرة العمیقة والبطون لا القراءات المتعددة، کما حقّق ذلک المفسّرون.

نتیجة النقاط الأربع عدم إثبات تواتر القراءات

بعد هذه المقدّمة نلاحظ علی من أثبت تواتر القراءات أنّ ما ذکره من شواهد لا یدلّ علی التواتر؛ لأنّ مشجرة الطرق للقراءات السبعة أو العشرة تنتهی فی النتیجة إلی صحابی أو اثنین، فلا تواتر فی الطبقة الأولی، کما أنّهم غیر معصومین.

وعبارة مجاهد وغیره تدلّ علی أنّ أهل المصر أجمع علی القراءة لا أنّ القراءة کانت بسبب إجماع أهل المصر، ومثل هذا ینفع فیما سنختار لا فی إثبات التواتر.

بل حذف کثیر من القراءات من مجاهد تستلفت الإنتباه، حیث إننا نجد فی روایاتنا ترجیح الأئمة لقراءة علی أخری فی آیة، أو تعیین القراءة الصحیحة لآیة مما لا وجود لها الآن، ممّا یدلّل علی أنّ هناک تعتیماً علی حقیقة و إقصاءً لحقّ قام به مجاهد، علی حدّ ما قام به سلفه من إلغاء بعض المصاحف وعدم فسح المجال لها لأن تأخذ طریقها بین المسلمین.

والغریب من بعض الأعلام إعراضه عن مثل هذه الروایات بحجّة أنها من روایات التحریف المجمع علی بطلانه، أو أنها لا توافق المتواتر من القراءات، کیف؟! والقراءات کانت کثیرة جداً، وبعضها ذات سند صحیح، واختلافها لا علاقة له بالتحریف فلِمَ لا یؤخذ بها؟!

بالإضافة إلی کلّ ما تقدّم: أنّ انتخاب السبعة من بین القراءات لا ینسجم مع کونها متواترة، إذ معه لا معنی للإنتخاب، فهو و إن لم

ص:230

یکن اجتهاداً محضاً وحدساً فی کیفیة القراءة، ولکنّه یدلّ علی عدم التواتر، و إعمال الإجتهاد فی الترجیح بین روایات القراءات.

کما أنه مع تباین المعنی الموجود فی القراءات [ وهو العلم الإجمالی الذی أشار إلیه الخوئی ] کما فی مثل (یِطْهُرْنَ ویَطَّهَّرْنَ) ومثل (خیر أمة، وخیر أئمة، علی قراءة ابن مسعود) کیف یمکن دعوی أنّ الرسول (صلی الله علیه و آله) أمضی کلا المعنیین المتباینین.

وما ذکره البعض فی تفسیر اختلاف القراءات أنه بسبب تمادی الوقت وخیانة الذاکرة، یدلّ علی أنها لم تمض کلها، مع قبولنا أنّ بعضها کان بسبب اختلاف اللهجات.

بعد کلّ هذا یتبلور عدم صحة دعوی التواتر، ولکن لا نقبل رأی السیّد الخوئی أیضاً.

دعوی الإجماع والمناقشة فیها

کما لا نقبل محاولة بعض الأعلام المتأخرین إثبات الإمضاء الشرعی للقراءات السبعة أو العشرة، من خلال الإجماع المؤکد الذی ذکره أقطاب الطائفة کالطوسی فی التبیان والطبرسی وآخرین.

ووجه عدم القبول هو أنّ المتیقن من الإجماع هو إجزاء القراءة بهذه القراءات فی الصلاة، وهو بهذا المقدار لا یدلّ علی القرآنیة، وإنما یدلّ علی إجزاء ما هو موجود. فاستظهار الحکم الشرعی والمعرفة الدینیة حینئذ غیر متیقن من الإجماع، خاصة بعد ملاحظة ترجیح الأعلام لقراءة علی أخری فی مقام الإستظهار، وإن کان یمکن أن یقال: إنّه ترجیح لمتواتر علی متواتر آخر، او لما هو سنده صحیح علی ما هو سنده صحیح.

والخلاصة: أنّنا نقبل أنّ الإجماع فی الجملة، وأمّا بالجملة فلم یثبت لنا.

بیان المختار
اشارة

ومن ثمّ تصل النوبة لبیان المختار:

ص:231

تقدّم أنّ عدم القول بالتواتر لا یستلزم القول بالتحریف وأنّ من مناشئ اختلاف القراءات [ مع حصرها بالعدد المذکور ] البُعد السیاسی والعقائدی.

والمهم أنّ فی الباب الرابع و السبعین من أبواب القراءة فی الوسائل مجموعة روایات، من ضمنها ما هو تام سنداً [ علی مبانینا الرجالیة ] تدلّ علی:

[ 1 ] تخطئة کلّ القراءات عدا قراءة أبیّ، وسند هذه الروایة لا بأس به، وفی الکافی إضافة وجود ربیعة الرأی من مشاهیر فقهاء العامة.

[ 2 ] إمضاء القراءات التی علیها الناس [ أی التی کانت شائعة آنذاک ] بالإضافة إلی الشواهد الدالّة علی شهرتها وشیوعها فی زمنهم (علیهم السلام) مما یکشف عن إمضائهم (علیهم السلام) لها.

[ 3 ] إنّ موردها أعم من القراءة فی الصلاة، لأنّ القرآن إنما سمّی قرآناً لأنه مقروء، فحینما یعبّر (علیه السلام) «اقْرَءُوا کَمَا عُلِّمْتُمْ»(1) یکون ظاهراً فی أنه اجعلوا القرآن کما علّمتم، ومن ثمّ یستفاد منه فی الصلاة، والإستظهار والحجاج و غیر ذلک. ویؤکّد ذلک أنّ أسئلة الرواة لیست عن التلاوة، وإنما عن قرآنیة القرآن.

حصول إمضاء القراءات فی زمن الأئمة (علیهم السلام)

والذی نفهمه [ بعد الإلتفات إلی المواد التی أشرنا إلیها ] أنّ الإمضاء حصل فی زمن الأئمة (علیهم السلام) لا فی زمن الرسول (صلی الله علیه و آله)، وما ذکره من الشواهد علی التواتر تدلّ علی شیوعها فی زمن الأئمة (علیهم السلام) لا فی زمن الرسول (صلی الله علیه و آله)، وهم (علیهم السلام) لم یردعوها، وهو کاف فی الإمضاء فی مثل هذه الأمور الخطیرة، بل حتی الردع الضعیف لا یکفی ما لم یکن موازیاً

ص:232


1- (1) . الکلینی، الکافی 631/2 (کتاب فضل القرآن، الباب 14: باب النوادر، الحدیث 15: عن أبی عبدالله(علیه السلام).

فی قوته لحجم السیرة ومدی رسوخها وتجذرها.

الإمضاء ظاهری

ولکن هذا الإمضاء إمضاء ظاهری لا واقعی، فهو یتحدد بمستوی الفهم والإستظهار الفقهی ولا یشمل بعض المسائل ذات البُعد العقائدی أو القرآنی الذی له صلة بالعقیدة، من قبیل اعتقاد الإمامیة بأنّ قرآن علیّ هو الصحیح. ویظهر ذلک بوضوح من ردعهم (علیهم السلام) وتخطئتهم لکلّ القراءات عدا قراءة أبیّ، وأمثال ذلک.

فالروایات أمضت القراءات ولو لحکمة التقیة، وفی الأعم من القرآن والصلاة بعد أن دلّت علی شیوع هذه القراءات فی زمنهم (علیهم السلام). (1)

ثمرة بحث تواتر القراءات

وفی الختام: ننوّه إلی أنّ الثمرة تظهر علی مبنی تواتر القراءات فی الحکم بتعارض القراءتین علی حدّ تعارض الآیتین.

و أمّا علی مبنی صحة السنّة أو السیرة الممضاة [ کما هو المختار ] فمع تعدّد القراءة یقع التعارض إلاّ أنه علی حدّ تعارض الطریقین الظنیین.

وأمّا علی مبنی السیّد الخوئی الذی أنکر التواتر وصحة السند، ولم یقل إلاّ بالإجزاء فی قراءة الصلاة، فمع اختلاف القراءات یؤخذ بالقدر المتیقن فی مقام الإستظهار.

ص:233


1- (1) . [س] کیف استفدنا استمرار حکم التقیة وعدم کونه موقتاً؟ [ج] لأنّ السیرة قویة، فالرادع لابدّ أن یکون قویاً، فإذا لم توجد إلاّ روایة واحدة کما فیما نحن فیه لا تصلح للمعارضة، وسیکون الإمضاء من دون قید، ومن ثمّ فهمنا من روایة الأمر بقراءة أبیّ عدم الإمضاء فی خصوص المسائل العقائدیة. ویمکن الإستفادة من ذیل: «یأتی من یعلّمکم» علی استمرار التقیة إلی حین ظهوره (علیه السلام)؟

5 . المقام الخامس: الأصول اللفظیة

اشارة

قد بحث الشیخ عن الأصول اللفظیة فی بحث الحجج [ خلافاً لسابقیه حیث ذکروها فی مباحث الألفاظ ] والسرّ فی ذلک [ مع کون البحث صغرویاً ] أنها أصول ظنیة، فکانت بحاجة إلی البحث عن وجه حجّیتها ومداه، خاصة بعد أن کانت سیّالة جداً فی بحث الإستنباط.

معنی الأصل اللفظی
اشارة

قد یقال: إنّ الأصل اللفظی [ بحکم کونه لفظیاً ] دلیل اجتهادی و [بحکم کونه أصلاً ] وظیفة رافعة للتحیر فی مقام العمل، وهما لا یجتمعان.

فالجواب: إنّ الأصل اللفظی لیس لفظاً، وإنما هو قرینة نوعیة غیر ملفوظة قد تبانی علیها العقلاء، تنضم إلی اللفظ فی صیاغة الظهور وتشکیله. فالتبانی لیس مجرداً کی تکون من الأصول العملیة، و إنما مرتبط باللفظ.

فمن حیث البناء کانت أصلاً بالإضافة إلی أنّ النوبة لا تصل إلیها إلاّ بعد فقد القرینة اللفظیة الجزئیة الخاصة، ومن حیث ارتباط هذا البناء باللفظ کان لفظیاً.

الأصل اللفظی هل هو تعبدی أم لا؟

قد یتساءل: أنّ الأصل اللفظی هل هو تعبدی [ بمعنی أنّ بناء العقلاء وتقنینهم للأصول اللفظیة للحجاج والتنجیز والتعذیر لا للإراءة و الحاکویة، وإن شئت قل: إنّ التقنین هذا یرجع إلی مولویة المجموع علی الأفراد ولابدّیة التسلیم للقانون لا من باب الکشف. ] أو غیر تعبّدی [ بمعنی أنّ غرض التقنین هو الإراءة والحاکویة أیضاً، ولیس

ص:234

صرف التنجیز والتعذیر. ]

ولا یخفی أنّ هذا السؤال قریب الأفق إلی السؤال الأول أو له ارتباط به.

ثمرة هذا البحث

کما لا یخفی الثمرة المترتبة علی هذا التساؤل، حیث إنّه مع الشک فی قرینیة الموجود أو مع وجود القرینة المجملة فی الجملة یؤخذ بظاهر الکلام بناءً علی التعبدیة، ولا یؤخذ به بناءً علی الأماریة لعدم بنائهم علی الأماریة فی هذه الحالة.

ثم إنّ هذا التساؤل ینسحب علی کلّ البناءات العقلائیة الظاهریة [ سواء الأصولیة منها أم الفقهیة ] فهل إنّ هذا النمط من التقنین کان لصرف المتابعة [ و من باب الموالی والعبید علی حدّ تعبیر الفقهاء ] أو الأماریة؟ فالید - مثلاً - هل هی قانون قنّنه العقلاء للإحتجاج وقطع العذر وحکمته وخلفیته الحاکویة، أو أنّ الأماریة والحاکویة هی المجعولة؟ ومثله فی الإقرار وتظهر الثمرة فی ما لو أقرّ علی نفسه بإقرارین، فإنّهما یتساقطان علی الأماریة، ولا یتساقطان مع التعبدیة.

استخدام لغة القانون فی الشرع
اشارة

ونذکّر ثانیاً بما بیّناه سابقاً من أنّ علاقة القانون الشرعی بالقانون العقلائی تشبه علاقة القرآن الکریم باللغة العربیة، فکما أنّ اللغة العربیة لیست مجعولة ومع ذلک نزل القرآن بها، فهو فی عین أنه لم یؤسس اللغة ولم یحددّها بما لها من علوم مرتبطة بها، وهو معجز وأبرز مراتب إعجازه لعامة الناس هو البُعد الأدبی البلاغی.

وبعبارة أخری: ما زال الإبتکار محفوظاً للقرآن، فی عین أنه لم یستحدث لغة جدیدة.

کذا فی لغة القانون، فإنّ جری الشارع علی تلک اللغة وعدم تأسیسه للغة جدیدة لا یعنی أنّ الشریعة فی متناول الجمیع و أننا فی

ص:235

غنی عنها حیث یمکن وصول العقلاء إلی أسرارها، کلاّ و إنما الشارع استخدم هذه اللغة فی بیان قضایاه وتصدیقاته القانونیة التی یعجز البشر عن نیلها وإدراکها بنفسه.

المراد من الإمضاء فی باب المعاملات

ثم إنّ ما ذکره الأعلام فی باب المعاملات أنها إمضائیة یقصدون منه شیئاً آخر غیر إمضاء لغة القانون المرکوزة وجریه علیها، وإنما للعقلاء قوانین تصدیقیة وقضایا قانونیة أقرّها الشارع علاوة علی إقراره لأصل اللغة والمبادئ التصوریة للقانون، ومن ثمّ حتی لو ردع عن کلّ هذه التصدیقات الإعتباریة یبقی جاریاً وممضیاً للغة القانون بدلیل أنه لم یبتکر لغة جدیدة.

ضرورة الإلمام بالمبادئ التصوریة القانونیة

وعلی أساس هذه اللغة لابدّ أولاً [ وقبل الدخول فی أیّ باب فقهی کالفقه الجنائی ] الإلمام بالمبادئ التصوریة القانونیة لذلک الباب، حیث یؤثر جداً فی فهم تشریعات الباب، نظیر ضرورة الإلمام بعلوم اللغة والأدب والدخول إلی القرآن والروایة کما أنّ علی الفقیه أن یقدم تعریفاً قانونیاً لموضوع کلّ مسألة، کالغناء - مثلاً - جنباً إلی جنب التعریف اللغوی والعرفی.

وانطلاقاً من هذه الضرورة أخذ متأخرو الأعلام بالتفکیر بإلحاق باب جدید لعلم الأصول هو باب اللغة القانونیة جنباً إلی جنب مباحث الألفاظ والحجج والدلیل العقلی.

وبعد کلّ هذا یتضح مرة أخری أنّ السیرة والبناء العقلائی هما نتیجة وثمرة للتقنین العقلائی، وبالتالی یتضح أنّ الأصول اللفظیة حینئذ قوانین سنّها العقلاء لمعالجة مشکلات المحاورة وتنظیم عملیة التفاهم، ولکن هل فقط جعلت للحجاج وقطع العذر أو جعلت أمارة؟

أقسام الأصول اللفظیة

ص:236

الأصول اللفظیة علی أقسام؛ فبعضها لتشخیص الوضع [ کأصالة الحقیقة عند المرتضی بعد إحراز المراد وقول اللغوی إذا کان ظنیاً ] وبعضها لتشخیص مراد المتکلّم.

والثانی منها ما یشخّص المراد الإستعمالی [ کأصالة الحقیقة وأصالة عدم القرینة علی المجاز اللغوی ] وآخر یشخّص المراد التفهیمی بعد الإلتفات إلی أنه لا یتطابق هذا مع سابقه [ کما فی الکنایة والمجاز السکاکی. ]

وثالث لتحدید المراد الجدّی وهو أیضاً قد لا یتطابق مع سابقه [ کما فی الإستفهام التعجیزی، حیث إنّ المراد التفهیمی منه التحدی، والمراد الجدی إلفاتهم إلی عجزهم لا التحدی لعلمه بعدم قدرتهم. ]

ولا یخفی أنّ ثمرة عدم التطابق هی تقدیم المراد المتقدّم رتبة عند التعارض.

وأصالة العموم مرتبطة بتحدید المراد التفهیمی لوجود دالّ علی العموم، بینما أصالة الإطلاق تحدّد المراد الجدّی عند الأکثر.

مرجع الأصول اللفظیة

یظهر من الشیخ أنّ الأصول الوجودیة علی اختلاف مراتبها ترجع إلی عدمیة، ویظهر من الآخوند العکس.

والحقّ أنّهما أصلان لا یرجع أحدهما إلی الآخر، فإنّ الأصل الوجودی بمثابة المقتضی، والأصل العدمی بمثابة عدم المانع.

والدلیل علی ما نقول: إنّ للعموم أدواته ودوالّه وللتخصیص کذلک، وبالتالی لابدّ من أصل یؤمّن وجود أداة العموم ودلالتها، ومن آخر ینفی التخصیص، وهکذا فی سائر الأصول الوجودیة ومقابلاتها العدمیة، ف-«الحقیقة» لها مقتضیها [ وهو العلقة الوضعیة ] ولها موانع [ وهی القرینة ] فأصالة الحقیقة تؤمّن لنا إرادة العلقة الوضعیة، وأصالة عدم القرینة تؤمّن لنا عدم القرینة الصارفة.

بیان الإصفهانی لعدم التعارض بین الأصول اللفظیة

ص:237

الشیخ الإصفهانی أشکل علی فکرة التعارض بین الأصول اللفظیة فتقدیم أحدها علی الآخر، وذلک لأنّ الأصول هذه مجعولة من العقلاء، ولا یتعقل التعارض بین جعول العقلاء بعد فرض إلتفاتهم إلی جعولهم، نظیر جعولات الشارع الواقعیة فإنّها لا یعقل تعارضها بعد أن کان الشارع الأقدس ملتفتاً ومحیطاً بالواقع، فینحصر التعارض فی الکواشف.

تعمیم الإشکال إلی کلّ الجعول العقلائیة

ولا یخفی أنّ دلیل الشیخ الإصفهانی هذا لا یخص الأصول اللفظیة، وإنما هو شامل لکلّ الجعولات العقلائیة سیما الظاهریة منها، فلا تعارض بین الخبرین بعد فرض أنّ دلیل حجّیته سیرة العقلاء، کما لا تعارض بین حجّیتن، وإنما یعمل مباشرة بالراجح منهما، بمعنی أنّ جعلهم ینصبّ علی الأمارة الأقوی، و أمّا الأضعف فلا یجعلونها.

وبعبارة أخری: إنهم من البدایة یقنّنون الکلّیات بشکل محدود بحیث لا یصطدم بعضها مع بعض.

وفیما نحن فیه مع دوران الأمر بین العموم و الشک فی المخصص لا تعارض بین حجّیتن وإنما هناک أمارة واصلة وأخری غیر واصلة، والعمل یکون علی الواصلة ولا یعتنی بغیر الواصلة سیما فی الحکم الأصولی، حیث إنّ روحه الوصول والتنجیز، فلا تحیر عند العقلاء کی یرفعوا تحیرهم من خلال جعل الأصول اللفظیة.(1)

ملاحظات علی الإصفهانی

ص:238


1- (1) . [س] بیان هذا لا ینفی فکرة الأصل، وإنما یثبت رجوع الأصل العدمی إلی وجودی؟ [ج] کلاّ، لأنه لا شک حتی نتمسک بالأصل ونحتاج إلیه، لأنّ العلقة الوضعیة وأداة العموم مثلاً بنفسها أمارات، فلا تصل النوبة إلی الأصل کی یجعل من قبلهم.

أولاً: إنّ التضاد المنفی فی جعول العقلاء ما کان بسبب جهلهم وعدم إلتفاتهم [ کما ذکر فی الدلیل ] وأمّا التضاد الذی یحصل بسبب تنزّل الکلّیات واصطکاک المصادیق وتزاحمها [ والذی لابدّ منه سواء کان المقنّن الهیاً أم عقلائیاً ] فلم ینفه فی دلیله.(1)

ثانیاً: إنّ العقلاء لیست لهم الحیطة الکاملة بالحقیقة والواقع، والملاحق القانونیة التی تذیل بها القوانین دلیل محدودیتهم وتطوّرهم تدریجیاً واکتشافهم للحقیقة أکثر وأکثر مع الزمن [ وهاتان الملاحظتان مرتبطتان بالکبری. ](2)

ص:239


1- (1) . [س] هذا البیان معناه أنه لا معنی للتساقط مع التعارض، بعد أن کان التعارض فی المصادیق بسبب التنزل، فلا یکون إلاّ فی العموم من وجه، ولا یتحقق تعارض بنحو التباین بین الکلّیات، بل لا موقع للتکاذب، وإنما یکون من التزاحم وأمثاله؟ [ج]الغرض کما تقدم أنّ التشریع غالبی، أی أنّ الشریعة ظاهرة، فالشارع ملتفت إلی الإصطکاک، ومع ذلک صاغ الجعل کلّیاً لمصلحة، ففی مورد الإلتقاء یمکن تصور التکاذب. [س] مع التکاذب فالتساقط فی مورد الالتقاء یعنی تقیید القضیة الشریعة الواقعیة ولا تبقی علی کلیتها، وهو عین ما ذکره الاصفهانی؟ [ج] نعم، ولکن حینئذ فی الجعول الظاهریة الکواشف یقع التکاذب. فی حین یظهر من کلامه أو لازم کلامه نفی التعارض فی الکواشف أیضاً ما دامت مجعولة من قبل العقلاء.
2- (2) . [س] ولکن هذا متصور فی القوانین الخاصة لا فی قوانین العقلاء بما هم عقلاء، ومن ثمّ إمضاء الشارع مع التهذیب بالزیادة والنقیصة فی القوانین الخاصة، وأما فی القوانین العامة بما هم عقلاء فهی تمضی وتفصل من قبل الشارع لا تخَطّئ؟ [ج] العقلاء بما هم عقلاء یشمل القوانین الخاصة، وبالتالی فهی قابلة للتخطئة والزیادة والنقیصة والإمضاء والردع. [س] ولکن أفهم أنّ العقلاء بما هم عقلاء اصطلاح یشمل القوانین العامة التی لا یختلف اثنان من العقلاء علیها، وأما القوانین الخاصة فهی للعقلاء بما هم قوم أو قبیلة أو عرف أو أبناء منطقة أو عرف أو غیر ذلک، وهی قد یمضیها الشارع وقد لا یمضیها، وقد یهذّبها بالزیادة والنقیصة، وأما القوانین العامة [أی بسبب کونهم عقلاء] فهو ممضی حتماً والشارع لا یخطئه، وإنما یفصله؟ [ج] نحن لا ننکر أنّ فی القوانین الخاصة ما کان بسبب العرف والعادة، ولکن فی هذه الأقسام یمکن أن توجد للعقلاء بما هم عقلاء تقنینات وبناءات، فالمشهورات بکلّ أقسامها فی المنطق یمکن أن نجد فیها بناءات عقلائیة من حیث هم عقلاء.

ثالثاً: [ وهی ملاحظة مرتبطة بتطبیقه الکبری علی المقام ] إنّ متعلّق الشک فی الأصول اللفظیة هو أنّ الأمارة هل هی العلقة الوضعیة أو القرینة المتصلة، لا أنّ کلتا الأمارتین موجودتان ومتعلّق الشک فی الواصل منهما.

وبعبارة أخری: إنّ الشک فی إحراز الترکیبة الخاصة للکلام الواحد، فنجری الأصل لإحرازها، لا أنّ الترکیب محرز وشک فی القرینة المنفصلة.

وجه حجّیة الأصول اللفظیة

ممّا تقدم لاح وجه حجّیة هذه الأصول، وهو أنها قوانین عقلائیة لإحراز صغری الظهور ظناً بعد تعذره قطعاً، قد تجذرت ولم یردع الشارع عنها الکاشف عن إمضائه لها، ومن ثمّ مَن ظنّ بالظهور عبر قناة الأصل اللفظی فهو مصداق لحجّیة الظهور جنباً إلی جنب الظهور القطعی.

ولیلتفت إلی أنّ حجّیة الأصول لا من باب اندراجها تحت حجّیة الظواهر کما توهّمه البعض.

شرط حجّیة الأصول اللفظیة

کلمة أخیرة: إنّنا ألفتنا إلی أنّ جریان الأصول اللفظیة لرفع حیرة المخاطب و شکّه فی ظهور الکلام الواحد، فهی تعینه فی رفع الإجمال عن الکلام، حیث تنقح له صغری الظهور بالظن النوعی المعتبر من قبل الشارع ولا علاقة لها بالقرائن المنفصلة، والتی هی تعارض ذا القرینة فی حجّیته لا فی ظهوره، ومن ثمّ لابدّ من الفحص الکامل عن القرائن المنفصلة، و إلاّ أثر علی حجّیة الظهور وإن انعقد بتوسط الأصل.

کما ألفتنا إلی أنّ حجّیة الأصول مشروطة بالشک بعد الفحص التام

ص:240

والمستوعب عن القرائن المتصلة لفظیة وحالیة، وإلاّ لم تصل النوبة إلیها ولا تکون حجّة، فلا یکون الظهور الظنی المنعقد بها صغری لکبری الظهور حجّة.

بل من المنهجی الفحص عن القرائن والأدلّة المنفصلة الخاصة علی المراد [ الموافقة فی النتیجة للأصل ] ولا یکتفی بالأصل اللفظی، فمثلاً فی بیع المعاطاة تمسک البعض بعموم (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) (1) فی کونها بیعاً بعد أن لم یعثر علی قرائن من الخارج تنفی ذلک، فأجری الأصل وانعقد الظهور فی العموم وبنی علی حجّیته، بینما لم یکتف کاشف الغطاء حتی وجد سبع أو أکثر قرائن خاصة تؤکد العموم. وقد کان دأب المتمرسین فی العمل الفقهی والضلیعین فی الإستنباط ذلک.

وأشرنا ونؤکد أنّ هذا المنهج هو الصحیح، لما عرفت أنّ النوبة لا تصل إلی الأصل مع وجود الدلیل، مع قبولنا عدم استناد کلّ الفقه علی الأدلّة الخاصة، وأنّ للأصل مجالاً ومساحة، والمساحة التی یفقد فیها الدلیل الخاص.

ص:241


1- (1) . البقرة/ 275

6 . المقام السادس: حجّیة قول اللغوی

أهمیة هذا البحث

إنّ صغری الظهور ومتنه والدالّ بدلالة ظنیة علی المراد؛ إمّا أن تحرز بالقطع [ من خلال التبادر مثلاً ] أو تحرز بالظن [ من خلال قول اللغوی.]

ومنه یعرف أهمیة البحث عن حجّیته؛ لأنه [ علی فرض الحجّیة ] سیتأمن لدینا ظن نوعی لإثبات المتن عند الشک فی الدالّ علی الظهور من جهة العلقة الوضعیة، نظیر الأصول اللفظیة فإنها وسائل ظنیة.

تعمیم البحث لکلّ علوم الأدب
اشارة

البحث لیس عن حجّیة قول اللغوی فقط [ علم وضع اللفظ لمعناه ] وإنما عن کلّ علوم الأدب. فیقع البحث عن حجّیة قول النحوی والبلاغی و أمثالهما وإن کان ظاهر عبارة الأعلام الأول.

مهمّة اللغوی

المعروف بین الأعلام أنّ همّ اللغوی تجمیع المعانی التی استعمل فیها اللفظ من دون فرز للمعنی الحقیقی عن المجازی.

ولکن حین مراجعة کتب فقه اللغة التی ألّفها القدماء کالمزهر للسیوطی یصرّحون بأنّ مهمة اللغوی تشخیص المعنی الحقیقی وفرزه عن المجازی.

ونحن حین تتبعنا الأمر وجدنا أنّ الصحیح ما ذکره السیوطی، وأنّ جمعاً من اللغویین یصرّحون بالمعنی الحقیقی و المجازی، من قبیل ابن فارس فی مقاییس اللغة و الزمخشری فی أساس اللغة، وابن درید فی الإشتقاق و الجمهرة وابن جنی فی الإختصاص و أبی علی

ص:242

الفارسی وقبلهم جمیعاً الخلیل فی العین.

أضف إلی ذلک أنّ علماء الإشتقاق بأقسامه، المعنییّن فی دراسة المادة بکلّ تقلّباتها الإشتقاقیة یشخّصون بالدقة المعنی الحقیقی، بل هم یلاحقون ظاهرة اشتراک مادتین فی حرف أو أکثر والإختلاف فی الباقی، فانتهوا فی دراستهم إلی ضرورة و لابدیة الإشتراک المعنوی بینهما فی الجملة.

بل کلّ کتب اللغة تمیّز المعنی الحقیقی عن المجازی ولکن من دون تصریح، وإنما حرصت علی ذکر المعانی المجازیة جنباً إلی جنب المعنی الحقیقی لإدراکهم عدم کفایة الوصول إلی المعنی الظاهر بصرف الحیطة بالوضع لإمکان احتفاف الکلام بقرائن عامة تصرفه عن ظهوره فی معناه الحقیقی، وهم من خلال ذکرهم للمعانی الأُخری یحاولون وضع الید علی تلک القرائن العامة واستلالها ووضعها فی خدمة الباحث.

فما ینسب إلی اللغویین من عدم اعتنائهم بتمییز المعنی الحقیقی ناش من عدم المداقة فی حقیقة مهنتهم.

عدم اعتناء اللغویین بذکر السند

إنّ البعض قد صنّف اللغویین فی المحدّثین والنقلة فی الجملة أو بالجملة علی اختلاف النسبة علی حدّ محدّثی الأخبار.

ولکن هذا غیر صحیح؛ لأنّنا لا نجد أنّ المتأخر منهم ینقل عن المتقدّم حتی تصل السلسة إلی مثل الخلیل و سیبویه، فلا نجدهم یعتنون بذکر السند ولا یظهر منهم النقل عن أحد دائماً، وإنما استفادوا ذلک بخبرتهم من کلام العرب، بل قد لا یأتی بعضهم حتی بمثال من العرب وإنما هو یمثّل مثالاً من نفسه أو یوضّح الفکرة بما ینسجم مع کلام العرب.

فلیس کلّ کلمة نقلوها عن غیرهم، ولیس کلّ کلمة لها شواهد جاءت فی کلامهم بصیغة نقل وکمحدّثین.

ص:243

أدلّة حجّیة قول اللغوی وتقییمها

ذکرتْ جملة أدلّة علی حجّیة قول اللغوی:

الأول: الإجماع، وحاله وضاح لا یحتاج إلی کلام.

الثانی: سیرة المتشرعة المعاصرة لهم (علیهم السلام) من دون ردع، الکاشف عن الإمضاء.

ولکنّه مجمل، حیث لا نعرف أنّ رجوعهم إلی اللغوی هل کان من جهة أنه یورث القطع أو الظن المعتبر؟ سیما أنهم کانوا من أبناء اللغة وکانوا قریبی عهد باللغة الأصیلة.

الثالث: إنه یوجب الظن، وهو أولی بالحجّیة بعد حجّیته فی الأحکام، ولکنّه حدس ظنّی لا یمکن الأخذ به.

الرابع: إنه حجّة من باب الإنسداد الکبیر أو الصغیر ولکن لو قلنا بعدم الحجّیة فلا انسداد کبیر لإمکان تحصیل القطع والجزم [ بالفحص ] فی کثیر من الحالات. والإنسداد الصغیر [ فی بعض الأبواب أو المسائل ] لا یستلزم حجّیة الظن بعد أن لم یکن الإحتیاط متعذراً.

الخامس: إنهم من أهل الخبرة، والعقلاء بنوا علی الرجوع لهم فی کلّ المجالات، وهو بناء کبروی ممضی من قبل الشارع.

وهذا هو العمدة، فلو کانت هناک تساؤلات حول إمضاء الکبری لابدّ من الإجابة عنها، وإشکالات علی الصغری لابدّ من حلّها.

فالتساؤلات حول إمضاء الکبری من قبیل: هل نحتاج فی الإمضاء إلی ممارسة العقلاء وتطبیقهم للقانون علی جزئیاته فی عهد المعصوم أو یکفی تطبیقهم بنحو الموجبة الجزئیة فی إمضاء الکبری بحیث تشمل ما یستجد من صغریات لم تکن فی عهده (علیه السلام)؟

ومن قبیل: هل تشترط ممارسة العقلاء للقانون بمرأی وبمسمع من الإمام وفی أمور لها صلة بالشرعیات حتی یکون ممضی أو لا یشترط ذلک؟

وأمّا الإشکالات علی الصغری فهی:

ص:244

الأول: إنّ القدر المتیقن من حجّیة قوله ما أورث الإطمئنان هنا أو الجزم.

الثانی: اللغوی لا یمتهن نقل الأوضاع اللغویة غالباً، حیث یعتنی غالباً بتجمیع ما استعمل فیه اللفظ وتدوینه.

الثالث: إنّ اللغوی لیس عالماً خبیراً وإنما محدّث راوٍ ناقل للآثار، لأنه ما نقل کان حسیاً لا یحتاج إلی توسیط فهم وبالتالی فملاک حجّیته کونه ثقة لا یتعمد الکذب.

الرابع: إنّ البناء علی الحجّیة وإن کان من باب أنه خبیر، ولکنّه لا ینفع الفقیه المجتهد بعد أن کان شرط ملکته أن یکون لغویاً أدیباً. ورجوع أهل الخبرة لأهل الخبرة ممنوع؛ لأنّ العقلاء بنوا علی رجوع الجاهل للعالم، لا العالم للعالم.

ملاحظة حول الإشکال الأول

یلاحظ أنّ الإشکال الأول یتکرر فی کثیر من المسائل، وبالتأمل فیه نجد أنه ناش من أخذ موضوع الحجّیة وموصوفها القطع والإذعان، ومثله الإطمئنان، مع أنّا ذکرنا فی بحث القطع والإطمئنان أنّ الحجّیة للمقدّمات [ الموجبة للعلم ] والمنشأ [ الموجب للإطمینان ]. فلا تدور الحجّیة مدار القطع والإطمئنان وإنما مدار سببهما، غایته أنّ منشأ الإطمئنان استلزام ظنی اعتدّ به الشارع أو العقلاء، ومنشأ العلم استلزام ضروری لابدی.

ومن ثمّ ذکرنا أنّ ما اشتهر من کون حجّیة القطع ذاتیة لا أساس له، وأنّ الأعلام یبنون عملاً علی ما ذکرنا وإن جاءت تصریحاتهم خلاف ذلک.

وممّا تقدّم یعرف أنّ التردید فی الحجّیة بین الظن أو الإطمئنان النوعی أو الشخصی أو ما قیل من أنّ الحجّة هو الإطمئنان الشخصی، لأنه مردف وملحق بالعلم فمع عدمه لا معنی لأن یکون حجّة ناشئ من جعل الحجّیة وصفاً للدرجة الإذعانیة، وأمّا مع

ص:245

إرجاعها وصفاً إلی المنشأ والمقدمات لا معنی للتردید بین النوعی والشخصی فضلاًعن التعیین فی الشخصی.

معنی الإطمئنان الشخصی

إذا اتضح ما تقدّم نلفت النظر إلی نکتة مهمة وهی أنّ المنشأ قد یضبط عند العقلاء ویقنون ویجعل رسمیاً مثل خبر الثقة، فی قبال مناشئ لم یعتدّ بها العقلاء فلم یقنّنوها، إمّا لعدم کثرتها أو عدم ابتلاء النوع بها أو عدم إصابتها الغالبة أو غیر ذلک.

ولکن مثل هذه المناشئ إذا انضم بعضها إلی بعض تولّد الظن أو الإطمئنان أو العلم عند النوع، فإنّ مثل هذا التراکم حجّة اعتدّ به العقلاء، مع ضبطهم وتأطیرهم له.

وربما یکون مراد الأعلام من الإطمئنان الشخصی [ الذی أخذوه موصوف الحجّیة ] هو الذی لم یرجع إلی منشأ منضبط خاص، وإنما ولید قرائن متراکمة تجمّعت عنده ولم تتجمّع عند غیره. ولو تجمّعت لغیره لحصل له الإطمئنان أیضاً لأنه المنشأ من النوع الموجب للإطمئنان عند النوع، غایته أنه لم یتلفت إلیه إلاّ هذا الشخص.

فتلخّص:

[ 1 ] إنّ الحجّیة فی العلم والإطمئنان والظن للمنشأ لا للحالة الإذعانیة.

[ 2 ] بل الحجّیة للمنشأ بما هو لا بما هو موجب لإذعان النوع، وإنما خصیصته کقضیة واقعیة هی أنه موجب لإذعان النوع وإلاّ فالعقلاء لم یلحظوا الدرجة الإذعانیة أصلاً وإنما اعتبروه لدرجة الإصابة.

[ 3 ] إنّ المنشأ یکون خاصاً کخبر الثقة وقد یکون عاماً، أی عبارة عن مجموع مناشئ لم یعتدّ بها العقل والعقلاء إلاّ أنه اعتدّ بها کمجموع؛ لأنّ درجة إصابتها حینئذ علی حدّ درجة إصابة المنشأ

ص:246

الخاص.

الأمارات العقلائیة المستجدّة

هناک جملة من الأمارات التی اعتبرها العقلاء لم تکن فی عهد المعصوم (علیه السلام) وإنما استجدّت نتیجة الحاجة فی عصر متأخر عنه، وغالبها مرتبط بالشبهات الموضوعیة من قبیل ما تبانی علیه العقلاء فی ضبط النسخ. فهل هناک تخریج أصولی لحجّیتها وإمضائها من قبل الشارع أو لا؟

تخریج أصولی لحجّیتها

أشرنا فی بحث الإعتبار إلی أنّ هناک قوانین ممضاة من قبل الشارع تصلح لأن تستوعب الحقوق والموضوعات الجدیدة العقلائیة، فیمکن العثور علی أحکام کلّیة عقلائیة أمضِیتْ من قبل الشارع تستوعب کلّ ما یستجدّ من مصادیق کلّیة لها.

إمضاء الشارع هل یکون للکبری أو للصغری؟

وإمضاء الشارع تارة یکون لنفس الکبری، ومن ثمّ تشمل کلّ ما یستجدّ لها من مصادیق [ شریطة أن یکون اعتبار العقلاء للمصداق من جهة أنه مصداق للکبری الممضاة فقط، و إلاّ لو کان اعتبارهم لحیثیات متعددة، أحدها صغرویته للکبری الممضاة لم یمکن إثبات إمضائه حینئذ من خلال امضاء الشارع لکبراه. ] وأخری لا یکون مصبّ إمضاء الشارع الکبری مباشرة، وإنما یمضی صغری من صغریاته، فهل یرجع مثل هذا الإمضاء إلی إمضاء الکبری [ ومنه نستفید إمضاء کلّ الصغریات حتی المستجدة ] أو لا؟ فمثلاً لو أمضی حجّیة قول اللغوی؛ فهل هو إمضاء له لأجل کونه لغویاً أو لأجل أنه من أهل الخبرة، فإمضاؤها إمضاء للنکتة التی علی أساسها اعتمد العقلاء قوله؟

وإنما یکون لهذا التساؤل معنی إذا کانت الحیثیة التی اعتمدها

ص:247

العقلاء فی قول اللغوی هی حیثیة الخبرویة فقط، وإلاّ لم یکن معنی للسؤال إذا کان اعتمادهم لخبرویته وشیء آخر.

شواهد دالّة علی إمضاء الکبری

محققو الأصول المتأخرون ألفتوا إلی عدّة شواهد تدلّ علی إمضاء الکبری:

الشاهد الأول: إنّ اعتبار الصغری للعقلاء لم یکن إلاّ لصغرویتها لکبراهم، فالإمضاء لها لم یکن إلاّ لنفس الحیثیة، وهو یعنی إمضاء الکبری.

الشاهد الثانی: لیس شرط الإمضاء الشرعی للقانون العقلائی معاصرته للمعصوم مع اتصاله وتماسّه مع الشرعیات، إذ یکفی فی استکشاف الإمضاء والرادعیة کونه فی معرض الإتصال بالشرعیات ولو فی غیر زمن المعصوم؛ لأنّ مهمة المعصوم (علیه السلام) لیست منحصرة بمعالجة خصوص القوانین المتصلة بقوانینه المعاصرة له، وإنما تعمّ ما کان مؤهّلاً وقابلاً لذلک ولو فی غیر عصره، ومن ثمّ فعدم ردعه کاشف عن الإمضاء.

الشاهد الثالث: نلاحظ أنّ الأعلام بنوا علی إمضاء الشارع لقوانین لم تکن فی عصره متصلة بالشرعیات من خلال عدم ردعه، ولم یکن ذلک إلاّ لکونها فی معرض الإتصال بالشرعیات.

الشاهد الرابع: إنّ الشریعة [ فی بُعدها الفقهی والأصولی ] استوعبت کلّ أفعال المکلّف [ علی تنوعها واختلافها ] وواحدة من أفعاله تشریعاتُه القانونیة، فلابدّ أن یکون للشارع فیها نظر، إنْ بالقبول وإنْ بالردع. وواضح أنّ تقنینات العقلاء إن کانت شریعة فی قبال شریعة الدین فهی مردوع عنها، کذا إن کانت تُصادِم التشریع الدینی فهی مردوع عنها، وأمّا إذا لم تکن کذلک فإمضاؤه لصغری [ کالفتوی وقول اللغوی ] إمضاء للکبری.(1)

ص:248


1- (1) . [س] یلاحظ علی الشاهد الأول أنّ إمضاء الصغری وان کان إمضاءً للکبری إلاّ أنه لا یدلّ إلاّ علی إمضاء النکتة الکبرویة جزئیاً فی خصوص هذه الصغری، وأمّا الباقی فمسکوت عنه، وهو کاف فی عدم الإمضاء، أو نقول: إنّ عدم ردعه کاشف عن الإمضاء کما هو الظاهر من کلّ الشواهد، ولکنّه أول الکلام، إذ عدم الردع إنما یکشف عن الإمضاء حینما کان متصلاً بالشارع فی زمانه، وأمّا ما لم یکن کذلک فلا دلالة لعدم الردع علی الإمضاء، والإمضاء الجزئی لا یدلّ علی الإمضاء للکلّی ما لم ینضم إلیه عدم الردع. وبعبارة أخری: إنّنا نقبل أنّ إمضاء الکلّی إمضاء لکلّ جزئیاته حتی المستجدة. ونقبل إمکانیة إمضاء الکلّ مباشرة باللفظ، بأخذه موضوعاً للإمضاء، ولکن الکلّی حیث لا وجود له إلاّ بوجود مصادیقه، فلا یتصور إمضاؤه المباشر بالسکوت والتقریر وعدم الردع، وإنما یتمّ ذلک - لو تم - من خلال المصادیق، فأهل الخبرة لا وجود له إلاّ فی اللغوی والمفتی والمنجّم و غیرهم هذا أولاً. وثانیاً: فی إمضاء المصداق بالتقریر وعدم الردع فهو غایة ما یکشف عن إمضاء الکلّی المتشخص فیه، فإمضاء قول اللغوی یکشف عن إمضاء الخبیر اللغوی وأمّا مطلقاً خاصة ما لم یکن، وإنما یستجدّ، فالسکوت دلیل لبی کالإجماع لا إطلاق فیه فیؤخذ بالمتیقن وهو الجزئی. وثالثاً: مع فرض الردع عن صغری من صغریات أهل الخبرة مثلاً لِمَ کان هذا هو الإستثناء، ولِمَ لا نقول: إنّ ردع الصغری ردع للکبری، وبالتالی إمضاء الصغری الأُخری یکون تخصیصاً واستثناءً؟ [ج] لابد من النظر إلی قانون العقلاء کشریعة وهرم متکامل، لم یترک شیئاً إلاّ واعتبر فیه ومن ثمّ لا معنی للتعامل مع قانون من قوانین هذه الشریعة بطریقة اقتطاعیة تجزیئیة. فالشارع حینما یتعامل مع قانون ما یتعامل مع الشریعة القانونیة، لأنّ واقع هذا القانون هو أنه بعض من کلّ متکامل ومترابط، حینئذ إذا کانت ماهیة الجزئی من قبیل الموضوع المستنبط للکبری، فهو وإن کان بحاجة إلی جعل التقنین إلاّ أنه لیس مبتدءاً، لأنّ التقنین نال الکلّی أولاً وهذه من تطبیقاته، ومن ثمّ ذکر الفقهاء خطأ التعامل مع روایات إحیاء الموات وحدها و تطبیقها قبل إرجاعها إلی کبریاتها، وإلاّ أدّی ذلک إلی استغلال شخص لأراضی مدینة کاملة جراء إمکاناته. فالمنهجی دراسة القوانین الجزئیة بعد إرجاعها إلی کبریاتها التی تنزلّت عنها وتعدّ تفصیلاً لها. وفی إمضائه أیضاً لا معنی لتجریده عن کلیه، وإلاّ لم ننظر إلیه بعد أن کان واقعه الکلّی إلاّ مع التصریح بذلک، وبدونه مع فرض مخاطبة الشارع للعقلاء بلغتهم وهو یعلم أنهم یفهمون أنّ هذا الجزئی وذاک واحد فی الماهیة القانونیة، فإمضاء هذا یفهموه إمضاء لذاک أیضاً، کان إمضاء الشارع للجزئی کاشفاً عن إمضاء الکلّی.

ص:249

تأثیر إحراز الملاک فی الإمضاء

قد یقال: إنّ الإعتبار الشرعی التأسیسی یشمل الإعتبارات الشرعیة الموافقة لاعتبار العقلاء فی الصیاغة القانونیة المختلفة معه ملاکاً، وبالتالی فالإمضائی یخص ما کان موافقاً فی ملاکه ملاک العقلاء علاوة علی التوافق فی الصورة. وقد ألفت الشیخ العراقی فی بحث الصحیح والأعم فی المعاملات إلی أنّ إمضاء الشارع لا یشترط أن یکون بنفس ملاک العقلاء.

ومن ثمّ فإمضاء الشارع لبعض الصغریات لا یمکن أن یکشف عن إمضاء الکلّی بعدُ، ما لم نحرز وحدة الملاک قبلاً، وإلاّ کان یحتمل أن یکون اعتباراً تأسیسیاً، وهو یمنع من التعدی إلی غیره إذ لا یتأتّی فیه البیان السابق فی کیفیة التعمیم.

بل فی مثل قول أهل الخبرة نجد نهیاً عن بعض الصغریات [ کقول المنجّم فی الهلال ] جنباً إلی جنب إمضائه لصغریات أخری، مما یکشف عن عدم اتفاقه معهم فی الکبری وملاک جعلها.

تخطئة المصداق لا الملاک

والجواب: إنّ ما ذکر وجیه جداً علی صعید الإمکان بل هو واقع کموجبة جزئیة، ولکن من ناحیة إثباتیة یحمل الإمضاء مع عدم القرینة علی الإختلاف فی الملاک مع العقلاء علی التطابق معهم ملاکاً وصورة معاً. وذلک:

1. لأنّ إقرار الصغری کقول اللغوی والمفتی ظاهر فی إقراره بما له من تقرّر ماهوی عند العقلاء، ولیس هو إلاّ کونه من أهل الخبرة، فیکون ظاهراً فی إمضاء قانونیة وحجّیة قول أهل الخبرة، وإلاّ کان علیه أن ینصبّ قرینة علی خلاف ذلک.

2. لأنّ إمضاء الکبری عموم کسائر العمومات قابل للتخصیص،

ص:250

واستثناء قول المنجّم بالردع عنه من التخصیص، والذی یرجع إلی تخطئة الشارع للعقلاء فی المصداق لا فی الملاکات.

3. إنّ الردع عن قول المنجّم لیس من زاویة کونه خبیراً ولم یعتدّ به الشارع [ بدلیل ما ذکره الفقهاء من حجّیة قوله مع غیم السماء أو السجن، بل تقدّمه علی کلّ ظن ] وإنما الردع من جهة أنّ العلم متیسر وفی متناول الجمیع، واعتبار العقلاء لقول أهل الخبرة إنما هو فی حالة تعسّر العلم ولزوم اختلال النظام بالتکلیف به.

ومن ثمّ ذکرنا أنّ تخطئة الشارع فی المصداق لا الملاک.

حجّیة قول اللغوی من باب أنه من أهل الخبرة

ومن کلّ ما تقدّم یتلخص: أنّ حجّیة قول اللغوی عقلائیاً من باب أنه من أهل الخبرة لیس أکثر، وانتهی البحث إلی:

[ 1 ] أنّ إمضائه إن حصل وثبت فهو إمضاء لکبراه، لما عرفت أنّ إمضاء الإرتکاز لیس لمورده وإنما لعمومه.

[ 2 ] وبالتالی کلّ الأمارات المستجدّة التی تندرج تحت تلک الکبری فهو حجّة لحجّیة کبراها، بل کبری قول أهل الخبرة هی صغری لکبری تشملها وتشمل غیرها [ کخبر الواحد والظهور والإستفاضة و غیرها ] وهی حجّیة الإطمئنان الذی اعتبره العقلاء [ ولکن لا الإطمئنان بما هو درجة إذعانیة فضلاً عن کونه الشخصی، وإنما درجة معینة من الکاشفیة والإصابة مع عدم وجود مفسدة. ] فإمضاء قول أهل الخبرة وخبر الواحد والظهور وأمثالها یرجع إلی إمضاء هذه الکبری لا إلی إمضائها کمصادیق. ومن ثمّ فکلّ ما یستجدّ من أمارات موضوعیة عند العقلاء [ بل الحکمیة أیضاً ] فهی ممضاة من الشارع من خلال إمضاء کبراها، ولکن علی شرط أن لا یکون اعتبار العقلاء لها إلاّ من جهة اندراجها تحت الکبری المذکورة.

فالبحث فی الحجج من باب الدرج علی ما درج علیه العقلاء، وإلاّ فهی صغریات لتلک الکبری الممضاة، لا فی عرضها وإن کانت

ص:251

الصغری أیضاً تحتاج إلی تقنین [ لأنها أشبه ما تکون بالموضوع المستنبط فلا یمکن ترک تحدیدها لعامة الناس. ]

ومثل هذا نجده فی التشریع الدینی، حیث لم یکتف بتشریع الکلّیات حتی تصدّی لتشریع صغریات ذلک التشریع الکلّی، کما فی مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) فإنه تصدّی للعقود المندرجة تحت هذا الکلّی أیضاً، ولم یترکها بید المکلّف.

فتبلور أنّ فی الأحکام الأصولیة (الأمارات) هناک کبری أُمّ [ تندرج تحتها کبریات أصغر منها ] وتحت هذه الکبریات کلیات أنزل منها، وقد تناول العقلاء فی تقنینهم کلّ هذه السلسلة، والإمضاء الشرعی للجزئی یکشف عن ترامی الإمضاء حتی الکبری التی ما بعدها کبری.

وقد صرّح الجمیع بإمضاء الشارع للإطمئنان الناشئ من تراکم القرائن غیر المعتبرة فی نفسها، وإن کانت أو بعضها مستجدّة، والذی أسماه البعض بالإطمئنان الشخصی فی قبال الإطمئنان النوعی الناشئ من مناشئ خاصة، کالظهور وخبر الواحد.

إلاّ أنّا ألفتنا ونکرر:

الإمضاء لیس للإذعان بل لمنشأه

[ 1 ] إنّ الحجّیة والإمضاء [ وقبله جعل العقلاء ] لیس للحالة الإذعانیة [ وهی الإطمئنان الشخصی ] وإنما للمنشأ، غایته أنّ المنشأ لیس خاصاً وإنما هو منشأ عام تراکمی اعتبر من قبل العقلاء وأقرّ من قبل الشارع عند وصول هذا التراکم حدّاً تکون درجة کشفه وإصابته کالمنشأ الخاص.

الخطأ فی تعبیر الإطمئنان الشخصی

[ 2 ] إنّ هذا المنشأ التراکمی یوجب الظن والإطمئنان النوعی،

ص:252


1- (1) . المائدة/ 1

وإنما عُبّر عنه بالإطمئنان الشخصی خطأً، أو کما ذکرناه من أنّ هذه القرائن توفّرت لهذا المطمئن دون غیره، ولو توفّرت للجمیع لکانت سبباً فی اطمئنان النوع.

وأمّا الإطمئنان والظن الناشئ من مناشئ خاصة فلم یجزم الجمیع بإمضاء المستجدّ منه، وإن جزم بعض المتأخرین بذلک وهو الحقّ کما أسلفنا.

وقد نبّهنا أیضاً إلی أنّ الممضی لیس هو السیرة والشیوع فی أوساط العقلاء، وإنما القانون العقلانی الذی کان سبباً فی السیرة و الإنتشار.

قانون العقلاء شریعة کاملة

ونبّهنا کذلک إلی أنّ قانون العقلاء شریعة کاملة تضم کلّ أبواب الفقه، بل تعمّ الأحکام الأصولیة، فلیست هی عبارة عن جملة قوانین مبعثرة ومتناثرة، ومن ثمّ فالشارع یواجه مثل هذه الحقیقة، فسکوته وعدم ردعه عنها یکشف عن قبوله بها بضمیمة إمضائه اللفظی العام إلاّ ما ردع عنه.

وجه إمضاء الکبری من خلال الصغری

ومن هنا یتساءل عن الحاجة إلی معرفة إمضاء الکبری من خلال إمضاء الصغری، بعد أن أمکن معرفة إمضائها مباشرة؟

فالجواب: أنّ الکبریات لیست مواد للتعاطی والتنفیذ والإجراء المباشر، وإنما تحتاج إلی جعل من العقلاء لموضوعاتها وصغریاتها کی تکون قابلة للعمل، فالأوثق فی الدلالة علی الإمضاء وقبول الشارع بها أن یکون من خلال الصغری التی هی تفصیل للکبری، ولا یکتفی بصرف کون الکبری معلومة للمعصوم (علیه السلام) وأنها فی معرض الإبتلاء فی الکشف عن إمضائها.

وأنت خبیر بثمرة معرفة الکلّیات المتسلسلة للصغریات المندرجة تحتها حیث إنّها تساهم فی معرفة أهمیة حکم الصغری ودرجة ملاکه

ص:253

لوضوح ملاک الکبریات لقربها وتماسها مع حِکَم الشریعة العقلیة الفطریة.

وبالإضافة إلی مساهمتها فی تحدید نطاق الصغریات، فبعد التعرف علی أنّ إحیاء الموات یندرج تحت کبری «العدل حسن»، یمکن التعرف علی عدم شرعیة الإحیاء، وأنّه لا یوجب الملک فی بعض الحالات التی تتناقض مع العدالة.

وقد حاول البعض تحدید عموم «من حاز ملک» أو «من أحیی أرضاً میتة فهی له» من خلال مصادقة العموم لروح الشریعة أو من خلال المقاصد، إلاّ أنه لا یخفی أنّ مثل هذا غیر منضبط بحدّ، ربما یکون استحسانیاً فی بعض تطبیقاته، بخلاف ما ذکرناه، فإنّ الکبری القانونیة ترسم بدقة حدود صغریاتها.

من جمیع ما تقدّم تبلور: أنّ الإشکال الأول علی حجّیة قول اللغوی [الذی حاول إرجاع الحجّیة إلی الإطمئنان الشخصی من باب تراکم القرائن ] فی غیر محلّه بعدما عرفت أنه صغری لکبری الخبرویة.

الملاحظة علی الإشکال الثانی

کما یلاحظ علی الإشکال الثانی ما ذکرناه فی المقدمة من عدم التفات الأعلام إلی مهمة اللغوی، وربما یکون السبب فی ذلک عدم الإلمام بلغة اللغوی ومصطلحاته.

بالإضافة إلی أنّ الإشکال لو تم [ وأنّ مهمة اللغوی تجمیع المعانی التی استعمل فیها اللفظ لا أکثر ] لا یعنی ذلک سقوط قوله عن الحجّیة و الثمرة، لأنه نوع من ایصال العرف الإرتکازی العربی القدیم إلینا، فهو حلقة الوصل بیننا وبین لغة النص، ولا تخفی أهمیة مثل هذا، حیث إنّ منه نتعرف علی التبادر والإشتراک والقرائن وغیر ذلک.

الملاحظة علی الإشکال الثالث

ص:254

ومثله فی الضعف الإشکال الثالث، حیث یلاحظ علیه ما ذکرناه فی المقدّمة من أنّ الکثیر من نقولاتهم غیر مسندة وکثیراً من أمثلتهم مرتجلة، مع وضوح إعمالهم للحدس الملحوظ فی تخطئة بعضهم للبعض، فکلّ هذا یکشف عن أنّهم لیسوا رواة محدّثین.

الملاحظة علی الإشکال الرابع

وأخیراً یلاحظ علی الإشکال الرابع أنه لا یشترط فی الإجتهاد أن یکون مجتهداً فی المقدّمات البعیدة، فلیس من شروط المجتهد أن یکون أدیباً بل ولا رجالیاً ولا محدّثاً. وقد غالی البعض فقال بعدم شرطیة اجتهاده فی بعض مسائل الأصول، إلاّ أنه مسامحة بعد أن نعرف أنّ الأصول باب من أبواب الفقه.

نعم، لابدّ فی اجتهاده إلمامُه بالمقدمات القریبة بحدّ یکون من أصحاب الرأی فیها، وما عدا ذلک یمکن له التقلید بالرجوع إلی أهل الخبرة، إلاّ إذا کان من ذوی الملکة فی الأدب، فلا یکون قول الأدیب فی حقه حجّة حینئذ؛ إذ سیکون من قبیل فتوی المجتهد بالنسبة إلی مجتهد آخر.

ولکنّا نقول: إنّه مع ملکته إذا لم یستنبط بالفعل فی مسألةٍ مّا کمبرّر وجیه أمکنه الرجوع إلی المجتهد الأدیب أیضاً فی تلک المسألة.

ولم یشترط العقلاء فی حجّیة قول الأدیب [ بل فی مطلق قول أهل الخبرة] شیء علاوة علی خبرویته عدا عدم مظنة الکذب، وأمّا الوثاقة والرجولة والحیاة فلیس شرطاً. ومثلها الأعلمیة إلاّ مع التعارض مع الإختلاف الفاحش، وأمّا مع الإختلاف الیسیر والتساوی فالحکم هو التساقط.(1)

ص:255


1- (1) . [س] ولکن لِمَ اشترط العقلاء فی خبر الواحد والذی یکون عن حس الوثاقة، أو وثاقة الصدور، واکتفوا فی أهل الخبرة الحدسی بعدم مظنة الکذب، فما هو الفرق الفارق بینهما؟ [ج] ربما یکون السبب أنّ الحس یکثر معه احتمال الکذب والاشتباه، ومن ثمّ أخذت الوثاقة بمعنی عدم تعمّد الکذب مع الثبت شرطاً، أمّا فی أهل الخبرة فالضبط والثبت محرز بحکم کونه من أهل الخبرة، واحتمال الکذب أقل فی المسائل العلمیة.
أصناف سیر العقلاء

وفی الختام لابدّ من الإنتباه إلی أنّ سیر العقلاء علی صنفین:

الأول: ما کان لأجل استیفاء الأغراض والحصول علیها [ أی أنّ قانونهم جاء لأجل تحصیل الواقع لا للتعذیر والتنجیز ] ومعه یتقیدون بأکثر الشروط حتّی قیل: إنّه مع وجود عام وخاص لا یقدَّم الخاص، أو لا یقدَّم بعد العمل بالعام، بل إنّ الظهور لیس بحجّة وإنما لابدّ من حصول الإطمئنان.(1)

الثانی: الحصول علی الفرض والواقع ولکن من قناة التنجیز والتعذیر، وحجّیة قول الأدیب من هذا الصنف.

علماً أنّ هذا الصنف [ الثانی ] علی شکلین:

الشکل الأول: أن یکون التقنین من باب الأمارة والإراءة عن الواقع، ومثاله قول اللغوی.

الشکل الثانی: أن یکون من باب التعبد والتحاجّ من دون نظر إلی الإراءة والحکایة.

ص:256


1- (1) . [س] هل الإحتیاط فی الشریعة فی الأموال والدماء والفروج من سنخ هذا النوع من القانون العقلائی؟ [ج] نعم، من سنخه ولکن لیس عینه، والتفاصیل فی بحث الفقه. [س] فهل معنی ذلک أن لا یتقدم الخاص علی العام، أو بعد العمل به علی الأقل فی مثل أدلّة الدماء والفروج والأموال؟ [ج] کلاّ، یعمل بالخاص حتی بعد العمل بالعام، وقد ذکرنا أنه من سنخ السیرة المزبورة لا عینه، وبالتالی لا یعنی اشتراکهما فی کلّ الأحکام.

4 . الإجماع

اشارة

ص:257

ص:258

1 . نقاط تمهیدیة فی الإجماع

الأولی: سرّ اختصاص البحث بالإجماع المنقول بخبر الواحد

عنون الأعلام البحث فی الإجماع «بالإجماع المنقول بخبر الواحد» أو «حجّیة خبر الواحد فی نقل الإجماع»، والسرّ فی ذلک [ بعد أن کان محور البحث الإجماع لا خبر الواحد ] ما ذکره الشیخ من أنّ کشف الإجماع عن رأی المعصوم قطعی فلا بحث فی حجّیته، فینحصر البحث فی خبر الواحد الناقل له، أی إنّ البحث فی الواقع فی الإجماع المنقول لا المحصَّل.

وتوجیه آخر: إنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة [ والتی منها الإجماع ] إلاّ أنّ البحث لیس عن متنها وإنما عن کواشفها، والخبر کاشف ظنی عنه.

والحقّ أنّ ما ذکر من توجیه لا یعدو کونه توجیهاً للتعبیر الذی أخذ عنواناً للبحث، وإلاّ فإنّ واقع بحث الأعلام لم یقف عند خصوص الخبر الناقل، وإنما بحثوا حتی عن حجّیة الإجماع المحصَّل جنباً إلی جنب بحثهم عن شمول حجّیة الخبر الواحد للخبر الناقل للإجماع باعتبار الإشکالات الناجمة من هذا النقل؛ لأنّ المنقول لیس حکماً شرعیاً، بالإضافة إلی أنه لیس أمراً حسیاً وإنما هو الکاشف عن رأی المعصوم [ بالتصویرات المختلفة ] فهو مختلف عن المنقولات الأخری بخبر الواحد من الأحکام وموضوعاتها.

ومن ثمّ کان من الضروری مثل هذا البحث، والملفت أنّ الأعلام

ص:259

نبّهوا علی شرائط مهمة فی حجّیة خبر الواحد هنا لم یلفتوا لها هناک.

الثانیة: دور المعصوم فی حجّیة الإجماع

لا حجّیة للإجماع عند الإمامیة وراء المعصوم وفی عرضه خلافاً للعامة، بل العامّة أیضاً لا یدّعون حجّیة ذاتیة للإجماع وإنما حجّیته مستمدة من قوله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمتی علی خطأ» أو «ضلالة»(1)، ولکن مع ذلک یبقی فرق بیننا وبینهم فی نظرتنا للإجماع؛ إذ علی فرض صحة الحدیث فإنّنا نفهمه أنّ المجموع إنما لا یخطأ لأنه شامل للمعصوم، فالعبرة لیست للکمّ [ کما فهمه هؤلاء ] وإنما للمعصوم.

والدراسات الحدیثة تؤکّد علی عدم القیمة الذاتیة للظواهر الإجتماعیة فی المسائل النظریة ما لم یکن هناک ضمان ومؤمّن لصوابها.

والقرآن الکریم ذمّ الکثرة العددیة؛ لأنها غالباً مّا تنساق خلف الغرائز، [کما فی وصیة الإمام الکاظم (علیه السلام) لهشام(2) )، فالمعیار للکیف والنوع لا للکمّ.]

وما ورد فی الروایات [ مِن أنّ مَن خالف الجماعة ضلّ ] قد فسّرت «الجماعة» ب- «علی أمیرالمؤمنین وأهل بیته(علیهم السلام)» (3) والروایات

ص:260


1- (1) . الطبرانی، المعجم الکبیر 342/12 ورماه کثیر من محدّثیهم بالضعف کما فی عون المعبود 117/7.
2- (2) . الکلینی، الکافی 15/1 (کتاب العقل والجهل، الحدیث 12) یا هشام، ثمّ مدح القلة فقال عزّ وجل: (وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ)، وقال: (وَ قَلِیلٌ ما هُمْ)، وقال: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ یَقُولَ رَبِّیَ اللّهُ)،وقال: (وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِیلٌ)، وقال: (وَ لکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ)، وقال: (وَ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ)، وقال: (وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ ).
3- (3) . المجلسی، بحار الأنوار 221/32 و 257 (أبواب ما جری بعد قتل عثمان من الفتن والوقائع والحروب وغیرها، الباب 4: باب احتجاجه(علیه السلام) علی أهل البصرة وغیرهم بعد انقضاء الحرب وخُطَبه(علیه السلام) عند ذلک، الحدیث 173 و199) * الکلینی، الکافی 403/1 (کتاب الحجّة، الباب 103: باب ما أمر النبی(صلی الله علیه و آله) بالنصیحة لأئمة المسلمین واللزوم لجماعتهم ومَن هم؟، الحدیث 2).

تصرّح أنّ الجماعة هی مَن کانوا علی الحق وإن قلّوا. (1)

وهذه الروایات صریحة فی أنّ الجماعة هی مَن کانوا علی الحق وإن قلّوا.

الثالثة: ما هو المنکشف بالإجماع؟

إنّ المنکشف بالإجماع تارة یکون رأیَ المعصوم، وأخری قولَه المروی بروایة وقعت فی أیدی المجمعین وخفیت علینا، وثالثة تقریرَ المعصوم للسیرة.

وقد ادّعی الأعلام خصوص الأول، ولکن الواقع هو أحد الثلاثة مع الإلتفات إلی ارتباط الثالث بالسیرة، والثانی بخبر الواحد، فیبقی الأول مورد البحث هنا.

ومن ثمّ فما ذکره المرحوم المظفّر من أنّ الإجماع کاشف عن السنّة فی غیر محلّه، لأنّ السنّة اصطلاحاً هی قول المعصوم وفعله وتقریره، والإجماع قد یکشف عن رأیه (علیه السلام) وهو غیر قوله.

الرابعة: الإجماع فی الإستعمالات المختلفة

قد یطلق الإجماع ویراد منه الإتفاق المطبق المعبِّر عن ضرورة الطائفة، وقد یطلق ویراد منه الإتفاق المطبق بین الفقهاء المساوی لکونه ضرورة فقهیة، وقد یطلق ویراد منه تسالم الفقهاء، وقد یطلق ویراد منه اتفاق الفقهاء، وقد یطلق ویراد منه الشهرة العظیمة جداً بین الفقهاء.

والفرق بین التسالم والإتفاق أنّ الثانی مجرد انطباق رأی أحدهم علی الآخر، والأول یزید علیه بإذعانهم بأنه کذلک، وأنّه ثابت لا یخدش فیه من دون أن یصل إلی حدّ الضرورة لأنه استدلالی لا بدیهی. وبالدقة الفرق بین التسالم والضرورة کالفرق المذکور فی

ص:261


1- (1) . المجلسی، بحار الأنوار 266/2 (کتاب العلم، الباب 32: البدعة والسنّة والفریضة والجماعة والفرقة ...، الحدیث 23).

المنطق بین المسلّمات والیقینیات.

ولا نزاع فلا بحث فی الإجماع بمعنی الضرورة [ سواء الفقهیة أم المذهبیة] ومن ثمّ فسّقوا المخالف للإجماع بهذین المعنیین.

وقد جاء فی روایة مولانا الإمام الکاظم (علیه السلام) المبینة لأصول الإستدلال: (إجماع الأمة) ویقصد منه الضرورة.

ومن ثمّ فلیس کلّما ورد تعبیر الإجماع فهو یعنی قابلیته للبحث وبالتالی القبول أو الرد، فالبحث ینحصر فی الإجماع بمعنی الإتفاق والشهرة، وأمّا بمعنی التسالم فهل هو مورد بحث، وهل یمکن مخالفته مع الإلتفات إلی أنه مدرکی أو لا؟ جملة من الأعلام أیضاً فسّق من یخالفه.

الخامسة: الإجماع القولی والعملی

الإجماع قد یکون قولیاً وقد یکون عملیاً. ویقصد من الإجماع القولی وقوع الإجماع علی قالب لفظی، ویترتب علیه إمکان التسمک بالإطلاق لأنّ معقد الإجماع لفظی إن کان للفتوی اللفظیة إطلاق.

ویقصد من العملی تارة الإتفاق غیر الملفوظ [ مثل استنادهم إلی کتاب علی بن جعفر ] و أخری إتفاق الفقهاء علی قاعدة فقهیة [ ویترتب علیه دعوی الإجماع فی تطبیق هذه القاعدة علی صغریاتها، کما نشاهده فی جملة من إجماعات الشیخ فی المبسوط وابن زهرة فی الغنیة و المرتضی فی بعض کتبه وغیرهم. ویقصد من الإجماع هذا الإجماع التقدیری الذی یحصل لمقتضی القاعدة، وإلاّ فالفقهاء لم یجمعوا إلاّ علی القاعدة. ] و ثالثة إجماع السیرة، حیث یعبّر عنه بالعملی أیضاً [ ویقصد منه سیرة المتشرعة فیقال: إجماع العقلاء وإجماع المتشرعة. ]

السادسة: الإجماع منشأ خاص أو منشأ عام؟

فی بحث الإجماع وکذلک الشهرة وشطر من خبر الواحد تم البحث عنها من زاویتین: الأولی: إنها منشأ خاص [ یوجب الظن النوعی

ص:262

کالظهور ] أو لا، و الثانیة إنها منشأ عام [ یوجب الظن النوعی من جهة تراکم القرائن وتراکم الإحتمال ].

السابعة: رتبة الإجماع فی الحجّیة
اشارة

إنّ الإعتماد علی الإجماع والشهرة فی وسط علماء الإمامیة أکثر ما ظهر عند مدرسة الوحید البهبهانی، حیث بنی علی الإنسداد وحجّیة الظن المطلق، ولما کان کلّ ظن حجّة [ والإجماع والشهرة یوجبان الظن ] اعتمد علیه.

وقد نجم عن هذا [ مع قبول أهمیة مراجعة کلمات الأعلام فی تحریر الفرض الفقهی والتعرف علی نکات المسألة ] عدم التضلع بالفقه الروائی والقرآنی، مما شکّل فجوة فقهیة واضحة فی الاستدلال.

وبتعبیر آخر: إنّ هؤلاء القائلین بالإنسداد اکتفوا بمثل هذه الظنون [ الموجَبَة من الإجماع والشهرة ] عن مراجعة أعمق وأشمل للنصوص لتحصیل الظنون منها.

وتلاحظ هذه الظاهرة بوضوح فی مثل الریاض و الخزائن و الجواهر بل وحتی فی المستمسک و التنقیح بشکل مخفف، و هی ظاهرة خطیرة بعد الإلتفات إلی أنّ رتبة الإجماع فی الحجّیة متأخرة عن رتبة الدلیل الإجتهادی [ وتحدیداً ظواهر الکتاب والروایات الشریفة ] وأنّ علاقته معهما کعلاقة الأصل العملی مع الدلیل الإجتهادی [ لا تصل النوبة إلیه إلاّ بعد فقده. ] فالإغراق فی الإعتماد علی الإجماع یوجب تدریجاً ضیاع المعالم الروائیة وضیاع الدلالات القرآنیة، من دون أن یعنی ذلک ضرب هذه الإجماعات علی الجدار، وإنما نستفید منها کمنبّهات علی وجود أدلّة روائیة أو قرآنیة علی معقد الإجماع.

وراء کلِ ّ إجماعٍ دلیلٌ

ولا نغالی إن قلنا: إنّ وراء کلّ الإجماعات أدلّة قرآنیة وروائیة،

ص:263

و إنّ ما نقل عن السیّد الیزدی فی حوار له مع الشیخ العراقی «أنّ هناک أکثر من مائتی فرع لا دلیل علیه سوی الإجماع» لا نقبله، وقد لاحظنا فی تجربتنا الفقهیة المحدودة فی کتاب الطهارة ما یقرب من عشرین مورداً لحدّ الآن ادّعی فیها الإجماع فقط، مع أنّنا عثرنا لها بأدلّة روائیة وشواهد قرآنیة.

وحینما نرجع إلی إجماعات المتقدّمین نلحظ أنّهم لا یستدلّون بالإجماع غالباً إلاّ فی حالة کون معقده من الضروریات أو من المتسالم علیه أو من باب تطبیق القواعد المجمع علیها علی صغریاتها، سیما المحدّثین کالصدوق و الطوسی فی کتب حدیثیة کالتهذیب.

وفی ما عدا ذلک یذکرون دلیلاً روائیاً أو قرآنیاً، ولم یستدلّوا بالإجماع وحده إلاّ فی قبال العامة، کما نلحظ ذلک فی الخلاف للشیخ الطوسی و انتصار السیّد المرتضی وأمثالهما من کتب الفقه المقارن.

الثامنة: الإجماع الکاشف عن السبب أو المسبب

الإجماع قد یکون کاشفاً عن المسبب وهو رأی الامام (علیه السلام)، وقد یکون کاشفاً عن السبب کاتفاق الأعلام.

وهذا الإنقسام نجده فی المحصّل والمنقول معاً؛ فالمحصّل من الإجماعات ینقسم إلی إجماع تم تحصیله کاشفٍ عن السبب وآخر عن المسبب، والمنقول من الإجماعات ینقسم أیضاً إلی الکاشف عن السبب وآخر عن المسبب.

ص:264

2 . الإجماع المحصَّل

أدلّة حجّیة الإجماع المحصَّل بمعنی الإتفاق وتطابق الآراء بعضها مع البعض الآخر
اشارة

الدلیل الأول: قوله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمّتی علی خطأ أو علی ضلالة»(1)، وقوله تعالی: (وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّی) (2) وقد استدلّ بذلک العامة.

ویلاحظ علیه: إنّ الآیة بحکم سیاقها [ حیث جاءت بعد مجموعة من الآیات التی ذمّت المنافقین والمعاندین من المسلمین ] ظاهرة فی حجّیة طریقة النخبة من المؤمنین [ الذین صدق إیمانهم وخلص اعتقادهم ] فإنّ متابعتهم متابعة لمنهج الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأنّ ما اتخذوه من طریقة متلقّی من المعصوم.

وهذا نظیر ما ورد عنهم (علیهم السلام) من أنّ الجماعة هم جماعة الحقّ وإن قلّوا. فهو فی صدد بیان حجّیة سیرة المتشرعة لا حجّیة الإجماع [ بما هی ظاهرة جماعیة وبما هی کثرة کمّیة ] أو أنها ظاهرة فی التوجیه المنطقی لمَن قامت عنده المقدّمات وتمّت إلاّ أنه لم یذعن بالنتیجة لوسوسة. فالآیة تقول: إنّ التزام المؤمنین من ذوی المتانة واللّب کاف فی القضاء علی مثل هذا التردد وتوفیر جوّ من الإطمئنان والإستقرار بحدّ قاطع للعذر.

الدلیل الثانی: أن یکون مفاد الإجماع المطابقی بنحو قطعی هو رأی المعصوم (علیه السلام)، ولکن بدلاً من التعبیر بأنه رأی المعصوم عبّر عنه بمثل: أنه دین الإمامیة، أو أنه مذهب الإمامیة، أو أنّ مذهبنا کذا، وما شاکل هذه التعبیرات الحاکیة عن رأی الإمام (علیه السلام) وبنحو قطعی. ونجد مثل هذا فی کلمات الأقدمین کالصدوق والکلینی وابن

ص:265


1- (1) . الطبرانی، المعجم الکبیر 12/ 342
2- (2) . النساء/ 115

قولویه و الطوسی.

الدلیل الثالث: أن یکون مفاده کاشفاً بنحو قطعی عن اتفاق أصحاب الأئمة والرواة اللصیقین بهم (علیهم السلام)، ومثل هذا الإتفاق المنکشف کاشف بالملازمة عن رأیه (علیه السلام) . ومثل هذه الإجماعات نجدها أیضاً فی کتب القدماء مثل الغیبة للشیخ الطوسی.

قاعدة اللطف

الدلیل الرابع: قاعدة اللطف لإثبات حجّیة الإجماع والإتفاق الصرف فی عصر من العصور. وقد ألفت الی ذلک الشیخ الطوسی وتوبع به إلی القرن العاشر. وهذا الدلیل لیس علی مذاق المحدّثین وإنما علی مذاق الفقهاء والمتکلّمین. ومن ثمّ لم نجده فی کتب الشیخ نفسه الحدیثیة وإنما ذکره فی کتبه الأخری.

وتقریب هذا الدلیل: إنّ اللطف واجب عن اللّه تعالی والرسول والإمام [ وقد کان یستدلّ به فی الحکمة النظریة الی عهد الفارابی، حتی جاء ابن سینا ومَن بعده فلم یستدلّوا بالعقل العملی فی الحکمة النظریة ] فاللازم علی المعصوم إرشاد أتباعه [ علی الأقل ] الی الصواب فیما إذا اتفقوا علی خطأ فی تکلیف فعلی غیر ساقط حتی لا تنطمس معالم الدین ولا تندرس أحکامه. فمع عدم حصول الخلاف یکشف عن موافقة ما اتفق علیه لرأیه (علیه السلام) .

مناقشة السیّد المرتضی فی قاعدة اللطف

ولم یرتض السیّد المرتضی تطبیق قاعدة اللطف علی ما نحن فیه؛ لأنّ وجوده وبذله نفسه وإن کان لطفاً إلاّ أنّ الحرمان منه کان منّا، لأنه لو بقی (علیه السلام) ظاهراً لقتل. وبغیبته حُرّمنا من ألطاف کثیرة من قبیل إقامة

الدولة والحکومة وإقامة العدل وتوزیع الحقوق وهدایة العقول. ولیس خفاء الحکم الواقعی وضیاعه علینا بأعظم من تلک الألطاف التی

ص:266

حُرّمنا منها.

ونضیف الی مناقشة السیّد ما ورد من روایات دالّة علی خفاء جملة من الأحکام حتی یظهر الإمام (علیه السلام).

وتتالت النصوص علی تطبیق الشیخ لقاعدة اللطف من قبیل کفایة الخلاف السابق علی عصر الإتفاق، ولیس شرطاً فی اللطف أن یتحقق الخلاف فی عصر الإتفاق، فلا یکشف الإتفاق حینئذ عن موافقة رأی المعصوم (علیه السلام).

ومن قبیل أنه لو حصل اتفاقان متعاکسان فی عصرین، فأیّهما الحجّة الکاشف عن رأی الإمام (علیه السلام)؟!

الدلیل الخامس: [ وذکره الشیخ الطوسی أیضاً فی بعض کتبه ولم یلفت إلیه الأعلام ] وهو: أنّ الإمام (علیه السلام) حافظ للدین یردّ عنه شُبَه المبطلین فی کلّ عصر. وهذا مستفاد من الروایات التی ربما تکون متواترة، والآیات الدالّة علی أنّ الإمام لا یسمح باندراس الدین فی کلّ عصر إلی یوم القیامة.

فإذا حصل اتفاق فی عصر کشف عن رأی الامام، وإلاّ لو کان علی باطل لتدخل الإمام (علیه السلام) بإلقاء الخلاف وإظهار الحقّ ولو من خلال واحد.

والحقّ أنّ کلا الدلیلین للشیخ لا یمکن الإعتماد علیهما کلّیاً [ للنقوض والإشکالات التی ذکرها الأعلام ] ولکن فی المقابل لا ننفیهما کلّیاً، وإنما نعتمدها جزئیاً فی حالة وصول الإتفاق فی عصر إلی درجة التسالم بحیث أصبح قریباً من البداهة، المستلزم لانطماس شیء من أرکان الدین وأساسیاته لو کان باطلاً بحدّ قد تؤول معه کلمات الأوائل. ومثل هذا لا یکون - مورداً - إلاّ فی فروع الدین البارزة لا فی الجزئیات التی لا یوجب الإتفاق الباطل علیها اندراس الدین.

فمثل هذه الإجماعات حجّة وکاشفة عن رأی المعصوم بدلیلی الشیخ، من قبیل ما ذکره بحرالعلوم [ وغیره الذین ینکرون انطباق

ص:267

قاعدة اللطف علی الإجماع ] أنّ ما تعتقده الإمامیة الآن فی ما یرتبط بشؤون الإمام [ من علمه بأعمال العباد جمیعاً وأنّ للإمام عموداً من نور یری فیه العوالم جمیعاً] أصبح من الضروریات فی الوقت الذی کان یعدّ ذلک سابقاً من الغلو.

دلیل تراکم القرائن

الدلیل السادس: [ وهو العمدة فی إثبات الکلّیة ] الذی سمّی بتراکم القرائن [ کما جاء ذلک فی کلمات الشیخ و صاحب المقابیس و الکاظمینی التستری ] وحساب الإحتمالات [ کما جاء فی تعبیر السیّد الصدر ] والطریق الحدسی [ وإن کان الإنصاف أنه قریب من الحس بسبب تصاعد الإحتمال. ]

والإجماع بهذا الدلیل قد یکشف عن رأی المعصوم، وقد یکشف عن نص کان بأیدی المجمعین خفی علینا، وقد یکشف عن السیرة.

والسیرة المنکشفة بهذا الإجماع هی سیرة المتشرعة، وهی تمتاز عن سیرة العقلاء ولا تخضع لضوابطها، حیث إنها تلقی من الشارع بنحو الفعل أو القول أو التقریر أو التربیة، بخلاف سیرة العقلاء فإنّها ناشئة من تقنین العقلاء ولا علاقة لها بالشارع، غایته أنّ الشارع أقرّ شطراً منها و ردع عن شطر مع استعماله نفس اللغة. ومن ثمّ وقع البحث عن حقیقة الإمضاء والردع وکیفیة اکتشافهما، مع البحث عن حقیقة هذه اللغة ونظامها وموقعها من التکوین للتعرّف من خلالها علی الإعتبار الشرعی وموقعه وأقسامه.

وکثیر من المتأخرین رکّزوا علی أنّ الإجماع [ بمعنی الإتفاق ] إن کان له صورة فهو یرجع إلی سیرة المتشرعة من الأقدمین والمتقدّمین، فإنّها هی التی تکشف عن رأیه، خاصة بعد الإلتفات إلی أنّ الأقدمین لم یکونوا اجتهادیین کثیراً، ممّا یبعد احتمال کون اتفاقهم حدسیاً.

شروط کشف الإجماع عن وجود نص خفی علینا

ص:268

أما کشف الإجماع هذا عن وجود نص خفی علینا بحساب الإحتمال وتراکم القرائن؛ فقد ذکروا [ خاصة مدرسة السیّد البروجردی ] أنه حاصل ولکن بشروط لابدّ أن تتوفّر مجتمعة وهی:

الشرط الأول: أن یکون هناک عموم قرآنی أو روائی أو روایات کثیرة [ وإن لم تکن مستفیضة ] لم یعمل الفقهاء به بل اتفقوا علی عکسه، من دون أن یذکروا دلیلاً علی هذه المخالفة سوی وجه لا یعتدّ به، مع عدم وجود ابتلاء عملی کی یفترض أنّ هناک سیرة، فلا وجه حینئذ لمثل هذا الإتفاق [ مع توفّر باقی الشروط ] سوی وجود نص خفی علینا لسبب کالضیاع أو ما یشبه ذلک.

الشرط الثانی: أن یکون معقد الإجماع من المسائل المتلقاة لا من المسائل التفریعیة [ ویعنی من المتلقاة أنها تلقّیتْ من عصر الأئمة، حیث اثیرت آنذاک، وبالتالی فهی تعبدیة توقیفیة، فی قبال المسائل التی لم تکن مثارة آنذاک، وإنما استحدثها الفقهاء بتفریعهم وتشقیقهم، ویصطلح علیها بالمسائل الإجتهادیة ] وأهمیة الإجماع تظهر فی النوع الأول دون الثانی لعدم وجودها فی عصر المعصوم (علیه السلام).

وغالب کتب المتقدّمین مسائلها متلقاة کالنهایة والمقنعة والهدایة والمقنع والمراسم و الوسیلة والمهذب وجمل العلم والعمل والإنتصار وغیرها. وقد شدّد السیّد البروجردی علی طباعتها ونشرها لهذا السبب، وهو أنّ مسائلها متلقاة، فهی تنفع خاصة فیما لا نص علیه منها.

قرائن تزید درجة الکشف المزبور

وهذان الشرطان إذا توفّرا کان الإجماع کاشفاً بدرجة الإطمئنان عن وجود نص معتبر خفی علینا، ولکن مع الإلتفات إلی جملة قرائن تصعد من درجة الکشف المزبور، وهی:

[ 1 ] إنّ المتقدّمین قد وقعت فی أیدیهم مصادر روائیة حُرّمنا منها نحن، وبشکل کاف ومستوعب، من قبیل مدینة العلم للصدوق

ص:269

وکتاب الرحمة للأشعری وغیرهما من الکتب التی أشار إلیها المحقق فی المعتبر فی المقدمة الرابعة منه.

[ 2 ] إنّ إفتاء المتقدّمین عادة کان بنصوص الروایات لا بإنشاء منهم، [ کما یلاحظ ذلک فی فتاوی الصدوقین و الشیخ فی النهایة. ]

[ 3 ] إنّ فتاوی المتقدّمین عادة کانت من الروایات لا من أدلّة اجتهادیة [ کما ذکر ذلک الشیخ فی دیباجة المبسوط. ]

[ 4 ] إنّ المتقدّمین لم یکتبوا کتباً استدلالیة بل کانت کتاباتهم بشکل کتب الفتوی، ومن ثمّ یتعقل أن نجد اتفاقاً منهم علی فتوی من دون أن نجد النص، لعدم ذکره مع الفتوی وإنما یذکر فی کتب الحدیث وقد ضاع جملة منها.

وما ذکر من القرائن لیس حصراً وإنما أمثلة بارزة، وتحصیل غیرها من القرائن العامة أو الخاصة متروک إلی سعة باع المجتهد فی علوم الرجال والفقه والحدیث مع إحاطته بالفروع الفقهیة، فإنه ربما یطلع علی کمّ معتدّ به من القرائن التی تصعد من قیمة هذه الإتفاقات أو بعضها بحدّ یکون کاشفاً نوعیاً عن النص المعتبر.

کاشفیة الإجماع عن السیرة

وأمّا کشفه عن السیرة فقد ذکر متأخرو الأصولیین أنه مشروط بوجود شواهد علی وقوع السیرة فی أوساط المتقدّمین أو الأقدمین أو أصحاب الأئمة (علیهم السلام) الرواة، وذلک لأنّ سیرة المتأخرین بما أنها مبتلاة بموانع فیضعف احتمال کونها متلقاة من الأئمة (علیهم السلام). وهذه الموانع [ علی سبیل المثال لا الحصر ] احتمال کونها متولّدة من فتاوی الفقهاء، واحتمال کونها ناشئة عن تقصیر ولا مبالاة المتشرعة.

وهذا علی العکس من اکتشاف رأی المعصوم من الإجماع، فإنّهم لم یشترطوا فی کاشفیته إجماع المتقدّمین، بل [ علی حدّ تعبیر بعض المتأخرین ] إنّ اتفاق المتأخرین فی المسائل النظریة قد یکون

ص:270

أصوب من اتفاق المتقدّمین بل حتی المعاصرین للإمام (علیه السلام) [ کالمدرسة القمّیة ] لأنّ المتأخرین أدقّ نظراً أو أشمل إطّلاعاً وإحاطة بالروایات؛ إذ الحوزات الروائیة آنذاک لم تلم بکلّ الروایات. ومن ثمّ قد تظهر جملة من الإتفاقات عندهم لیست مدرکیة، وإنما هی نتیجة جملة من المعادلات بین القواعد الفقهیة والإنتقال من لازم إلی آخر. ومثل هذه الإتفاقات وبحساب الإحتمال تکشف عن رأی المعصوم (علیه السلام).

الحس الفقهی

وعلی هذا الأساس قیل: إنّه لو أجمع الفاضلان والشهیدان والمحققان والکرکی علی مسألة نظریة یقطع بأنه رأی المعصوم (علیه السلام) . وسرّه ما ذکرناه من أنّ واحدة من مناهج الاستدلال ما یسمّی بالحس الفقهی، وهو الحرکة من خلال اللوازم الفقهیة والإستنتاج من معادلة القواعد بمنطق عقلیة استنطاق المراد.

موانع تضعف من درجة الکشف المزبور

ولکن بالمقابل هناک عدّة موانع تضعف من درجة الکشف المطلوبة فی الحجّیة ما لم یحرز الباحث المحصّل للإجماع عدم وجودها، وقد ذکرت هذه الموانع فی حاشیتین علی إجماع القوانین لعَلَمین فی الأصول، خلاصتها: إنّ فتاوی الفقهاء ترجع إمّا إلی النص، أو إلی إعمال الإجتهاد [ کالجمع العرفی ] أو إلی عدم وجدان الدلیل الخاص، فتحکیم العمومات الفوقانیة جداً أو الأصل العملی أو إلی الغفلة عن نکتة دالّة علی الخلاف. ولأجل هذا ذکرنا أنه لا یعتمد علی المتقدّمین حتی لو اتفقوا فی المسائل النظریة لاحتمال الغفلة.

والإتفاق الکاشف عن رأی المعصوم أو السیرة أو النص إنما یکون إذا أحرز عدم اعتمادهم فی الفتوی علی الأسباب الثلاثة الأخیرة.

ص:271

إعمال النظر من المتقدّمین

والحق أنّ المتقدّمین أیضاً عندهم إعمال للنظر، حتی من مثل الصدوق والکلینی کما نلاحظ ذلک فی مثل إرث المجوسی حیث تقیّد الطوسی بإطلاق النص، ولکن الصدوق فصّل فیه عن اجتهاد وإعمال نظر.

ونلاحظ فی موارد أخری یرفع الید عن العمل بالروایات لقواعد معینة، ممّا یکشف عن أنّ الرجل قد مارس الترتیب الصناعی بین الأدلّة.

ونری الکلینی فی أبواب متعددة کالطلاق والعدّة یکتفی بکلام الفضل بن شاذان ویبیّن فروعاً متعددة ورد النص فیها، إلاّ أنه یخرّجها علی القواعد.

بالإضافة إلی التقطیع فی الروایات الذی مارسه (قدس سره) بکثرة، فإنه دلیل إعمال الإجتهاد، وهو ما لا نجده عند الطوسی الذی هو [ علی حدّ تعبیر البعض ] أخباری أکثر من الأخباریین، حیث یورد الروایة کلّها، ولو أوجب ذلک أن یکرّرها أکثر من مرّة.

ومن ثمّ فاتفاقهم صرفاً لا یدلّ علی التلقّی من المعصوم، وإنما لابدّ من التأکد أولاً من أنّهم لم یعملوا مقدّمات إجتهادیة، وإلاّ کان الإتفاق مدرکیاً.

ومن الموانع أیضاً أنّ کتب المتقدّمین فتوائیة فقط لا استدلال فیها، وبالتالی یصعب مع الفحص الیسیر السریع معرفة أنّ الإتفاق لیس مدرکیاً، ولیس مستنداً إلی عدم وجدان الدلیل علی الخلاف، ولیس عن اجتهاد، وإنما لابدّ من الفحص المضنی حتی یقترب من الواقع أکثر، ویتجاوز الموانع المحتملة التی تحول دون کشف الإتفاق عن رأی المعصوم (علیه السلام).

ومن الموانع مطابقةُ الفتوی التی اتفقوا علیها لعموم، بمعنی أنّهم التزموا فی المورد الخاص بمفاد العموم ولو مع الزیادة، مع وجود روایات مخصصة، ولکنّها لیست صریحة، وإنما فیها فذلکة صناعیة

ص:272

تحتاج إلی فحص وتأمل حتی یلتفت إلیها. فمثل هذا الإتفاق لا یکشف عن رأیه (علیه السلام) ما لم یحرز عدم مثل هذا الدلیل.

ومن الموانع [ التی لابدّ من أخذها بعین الإعتبار ] ما نلحظه فی فترةٍ مّا بعد الشیخ الطوسی إلی ابن ادریس [ فإنّها فترة الهیمنة العلمیة للشیخ ] ممّا یضعّف قیمة الإتفاقات آنذاک [ لأنها لا تکشف عن رأی المعصوم (علیه السلام) وإنما هی نتیجة لتأثر بالشیخ ] ما لم یحرز بعد الفحص وبتریّث أنه اتفاق عن قناعة لا عن تقلید مبطن.

وهذه الظاهرة نلحظها فی بعض تلامذة السیّد الخوئی، حیث جاءت فتاواهم فی الجملة مطابقة لفتاوی أستاذهم نتیجة التأثر به وهیمنته علیهم.

ونلحظها فی مبانی الصدوق الرجالیة حیث تابع شیخه ابن الولید فی ذلک [ کما صرّح هو (قدس سره) بذلک ] وإن کان الظاهر أنّ ذلک کان فی النصف الأول من حیاته العلمیة الشریفة، وأمّا فی النصف الثانی منها فإنه تحرّر من هذه التبعیة.

تکافؤ القرائن الموجبة للتقویة أو للتضعیف

وممّا تقدّم نخلص إلی هذه النتیجة وهی: أنّ القرائن الموجبة لتقویة کشف الإجماع یقابلها قرائن معاکسة بحجمها، وما ذکرناه کان من باب الأمثلة والشواهد البارزة لا الحصر، فلابدّ من التحری جیّداً واستفراغ الوسع فی الفحص قبل الإستقرار علی نتیجة فی اتفاق من الإتفاقات.

التمسک بالروایات

الدلیل السابع: التمسک بما ورد من روایات قد یفهم منها الدلالة علی الحجّیة للإجماع بالمعنی الذی قرّره الإمامیة لا العامة.

منها: صحیحة عمر بن حنظلة المذکورة فی الکافی(1) ونقلها

ص:273


1- (1) . الکلینی، الکافی 67/1 (کتاب فضل العلم، الباب 21: اختلاف الحدیث، الحدیث 10).

الوسائل(1) أیضاً فی أبواب صفات القاضی إلاّ أنه لم ینقلها کلّها.

والروایة صحیحة لا مصححة فضلاً عن کونها مقبولة، لأنّ عمر بن حنظلة [ بقرائن متعددة تقرب من العشرین أشرنا إلیها فی کتاب هیویات فقهیة ] من أتراب محمّد بن مسلم بل أفقه منه، کما یشیر إلی ذلک نفس محمّد بن مسلم فی روایة صحیحة عنه.

وتفصیل الکلام فی هذه الروایة والروایة الأُخری المذکورة فی الوسائل مرسلة فی أبواب صفات القاضی(2) [ ورواها المفید مسندة فی الإختصاص مع اشتمال السند علی مجهولین ] نوکله إلی بحث الشهرة لاستدلال البعض بروایة ابن حنظلة علی حجّیة الشهرة، فکان حدیث الأعلام عنها هناک، ومنه تتضح قیمة هذا الدلیل.(3)

هل یمکن الإستدلال علی حجّیة الإجماع بخبر الواحد؟

ص:274


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 106/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9: باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة وکیفیة العمل بها، الحدیث 1).
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 103/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8: باب وجوب العمل بأحادیث النبی(صلی الله علیه و آله) والأئمة(علیهم السلام) المنقولة فی الکتب المعتمدة وروایتها وصحتها وثبوتها، الحدیث 84: عن أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السلام).
3- (3) . [س] یمکن تلخیص ما اخترتموه وجمعه بالتالی: إنّ الإجماع بادئ ذی بدء منبّه علی الدلیل، فلابدّ أن یتعقّبه فحص مضن، وعلی فرض عدم العثور فهو حجّة بنفسه فی الموارد التالیة: إجماع جمیع المحدّثین القدماء فضلاً عن المتأخرین، وهو کاشف قطعی عن الضرورات المذهبیة والفقهیة والمتسالمات. الإجماع فی عصر الموجب للإندراس، وهو حجّة بقاعدة اللطف ودلیل کون الإمام حافظاً. إجماع المتقدّمین حجّة علی النص بدلیل تراکم الإحتمال. إجماع المتقدّمین حجّة علی سیرة المتشرعة بدلیل تراکم الإحتمال. إجماع المتأخرین فی المسائل النظریة حجّة علی رأی المعصوم بدلیل تراکم الإحتمال. فالإجماع قیمته استدراک ما ضاع أو قَصُرَ باعُنا عن الوصول إلیه؟ [ج] جیّد وصحیح ولکن لا یمکن لنا أن ندّعی الکلّیة فی حجّیة الإجماع المحصّل.

تذییل: ألفتنا إلی أنّ العامة استدلّوا علی حجّیة الإجماع بروایة أو روایتین عنه (صلی الله علیه و آله)، وقد أشکل الإمامیة [ علاوة علی الإشکال فی الدلالة ] بأنه لا یمکن أن یکتفی فی حجّیة الإجماع بروایة أو روایتین.

ومن هنا ینبثق سؤال: لِمَ لا یکفی فی إثبات الحجّیة بالروایة والروایتین بعد أن کان خبر الواحد حجّة، وبعدما ألفت السیّد بحرالعلوم إلی إمکان ترامی الحجج بمعنی أن تثبت حجّة معتبرة حجّیة حجّة أخری.

وحینما نفتّش فی کلمات الأعلام نلحظ حالة أکثر مشابهة لما تقدّم، فالشیخ الطوسی فی سجالاته مع العامة ینقض علیهم بأنّ الدلیل خبر واحد وهو لا یعوّل علیه، مع أنه قائل بحجّیته فی قبال السیّد المرتضی مستدلاً بأنّ دلیله خبر واحد.

ونظیره إباء الفقهاء العمل بخبر الواحد المخالف للقاعدة إذا کانت محکمة جداً فی سندها أو مضمونها. فلِمَ کلّ هذا بعد أن کان الخبر حجّة معتبرة من قبل الشارع؟

الترتب بین الحجج

والجواب: من البدیهی أُصولیاً أنّ هناک تسلسلاً رتبیاً بین الحجج، فالأمارة متقدّمة رتبة علی الأصل العملی الشرعی، وهو متقدّم رتبة علی الأصل العملی العقلی. وفی الأصل الشرعی یتقدّم المحرز منه علی غیر المحرز، وهکذا.

کذلک هناک ترتب بین الأمارات اللفظیة، ولیست هی فی عرض بعضها البعض، إلاّ أنّ الأعلام لم یحدّدوا معالم هذا الترتب ولم یضعوا له ضابطة. نعم، فی الظهور ذکروا تقدّم الأظهر علی الظاهر [ کالخاص علی العام والصریح علی الظاهر وأمثالها ] وأمّا فیما عدا ذلک فلا نجد سوی أمثلة متناثرة وبعض الضوابط الجزئیة فی باب التعارض.

ضرورة التناسب بین الدلیل وبین المدّعی

ص:275

ونحن قد أشرنا فی بحث الإعتبار إلی ضابطة کلّیة فی القانون وهی لابدّیة التناسب بین الدلیل وبین المطلوب إثباته، فکلّما کانت القاعدة القانونیة أوسع کان المفروض فی دلیلها أن یکون أبین وأصرح من أدلّة القاعدة الأضیق فضلاً عن تفریعاتها، خاصة مع وجود فاصلة مراتب بین القاعدة الأصل والفرع.

ضرورة التناسب بین مقام الثبوت وبین مقام الإثبات

وهذا التناسب کما هو بین الأدلّة کذلک بین الملاکات أیضاً. ومن ثمّ ملاک القاعدة الأصل أهمّ من ملاک الفرع، فالملاکات لیست فی عرض واحد، وإنما هی متدرجة مترتبة. کذا أدلّة الأحکام والقواعد الکاشفة عن الملاکات لیس فی عرض واحد وإنما متدرجة مترتبة. فهناک تناسب بین الثبوت والإثبات، فکلّما کان الملاک أهمّ کان الدلیل أعرف وأبین وأشدّ وضوحاً.

وبحکم أنّ الإعتبار علی وزان التکوین یعرف أنّ جذر هذا القانون تکوینی، فحینما نقایس بین أدلّة التوحید والإمامة نجد أنّ الأولی أبین من الثانیة، وما ذلک إلاّ لأنّ الوجود کلّما کان أقوی کان ظهوره أشدّ.(1)

ص:276


1- (1) . [س] قانون التکوین (کلّما کان الوجود أقوی کان ظهوره أقوی) لا یثبت أکثر من أنه کلّما کان الملاک أهم کان القانون الفقهی أهم وأقوی، بأنّ یکون وجوباً لا استحباباً أو وجوباً مغلظاً لا وجوباً عادیاً وهکذا، ولا یثبت ضرورة أقوائیة الدلیل الأصولی والذی هو المراد إثباته، وهو الترتب بین الحجج. وبعبارة أخری: ما هو الموازی التکوینی للدلیل الأصولی والذی یعدّ ظهوراً للوجود التکوینی؟ [ج] الموازی التکوینی هو أثر الأثر، فکلّما کان الوجود أقوی کان ظهوره وظهور ظهوره وهکذا أقوی. ولکن إذا لاحظنا ترامی الآثار فلیس هناک موجبة کلّیة فی التکوین، إذ لیس إلاّ الوجود الواجب مسلسلة آثاره المترامیة، فالوجود حقیقة واحدة مشککة، والموجبة الکلیة تنعقد من فرض کثرة عرضیة. وهذا صحیح مع ملاحظة جهة «ما منه الوجود»، فإنّ کلّ عالم الإمکان آثاره تعالی، ولکن بملاحظة حیثیة «ما به الوجود»، فإنّ الفواعل متکثرة، ومنها تصاغ الموجبة الکلّیة، وإن کانت بلحاظ هی روابط وآثار للمبدء.

ولم یحالفنا التوفیق لحدّ الآن لتنظیم الأمارات علی أساس هذه الضابطة، سوی أنّ ما ذکره الأعلام من مفردات هی تطبیقات لهذه الضابطة.(1)

لا یمکن إثبات حجّیة الإجماع السنّی بروایة

فالإجماع بالمعنی السنّی یراد منه أن یکون حجّة فی عرض خبر الواحد بل فی عرض المعصوم، فلا یمکن أن تثبت حجّیته بروایة أو روایتین، ولیس هذا تنازلاً عن حجّیة الخبر وإنما حجّیة الخبر.

کذا فی مثل حجّیة الشهرة لا یمکن أن نثبتها بروایة عمر بن حنظلة فقط إذا کنّا نرید أن تکون فی مصاف خبر الواحد فی إثبات

الحکم الشرعی بل أوسع، کما رام البعض ذلک. نعم، روایة عمر بن حنظلة [ لو کانت وحدها ] تنفع فی إثبات حجّیة الشهرة بمقدار کونها معاضدة وشرطاً لا حجّة مستقلة.

وفی الإستصحاب لم یقبلوا حجّیته إلاّ بخبر مستفیض، ومن ثمّ مَن لم یلتفت إلی الاستفاضة استشکل فی حجّیته فی الشبهات الحکمیة بروایة واحدة.

وفی حجّیة البیّنة لم یکتفوا بروایة مسعدة بن صدقة؛ لأنها قاعدة

ص:277


1- (1) . [س] ذکرتم سابقاً أنّ النظریات تفصیل للبدیهیات، فمع فرض أنّ البدیهیة الأولی هی وجوده تعالی کان ما ذکرتموه من قانون التکوین واضحاً، ولکن مع القول إنّ البدیهیة الأولی هی استحالة اجتماع النقیضین، کیف یستقیم أنّ کلّ ما کان وجوده أقوی علی مستوی العلم الحصولی؟ [ج] نعم، البدیهیة الأولی هی العلم الحصولی بوجوده تعالی بعلم إرتکازی بسیط لا المرکب، وهو یعنی أنّ کلّ الأدلّة التی ذکرت علی وجوده منبّهات لا أکثر وکذا إنّ إنکار البدیهیة الأولی یلزمها الوقوع فی السفسطة الکلّیة، وهو حاصل فی إنکار استحالة اجتماع النقیضین وإنکاره تعالی، فإنه یلزم منه السفسطة فی کلّ العلوم. وهناک بحث فلسفی یذکر فیه أنّ إنکار أی حقیقة بما هی حقیقة یلزم منه السفسطة کلّیة، وبه یتفسر ما ورد من أنّ إنکار الرسول (صلی الله علیه و آله) یستلزم إنکار کلّ الرسل، وما ورد من أن مَن أنکر حجریة الحجر فقد کفر. وهو واضح بعد أن کان الدلیل الذی یعتمده فی الإنکار یتأتی فی کلّ حقیقة.

شرعیة واسعة، ومن ثمّ عنّف البعض علی المستمسک فی اکتفائه بذلک.

وممّا تقدّم یتضح أیضاً عدم صحة مقولة إنّ المتنجّز لا یتنجّز، حیث تبیّن أنّ بعض القواعد تقتضی تظافر التنجیز وتأکده، بعد أن کانت تتطلب حججاً أکبر وأدلّة أکثر.(1)

ص:278


1- (1) . [س] ولکن التنجیز لیس للدلیل (الحکم الأصولی) وإنما لمفاده (الحکم الفقهی) فکثرة الأدلّة لا تقتضی تأکد التنجیز، اللّهم إلاّ بالواسطة، حیث إنّ تکثّر الأدلّة یکشف عن تأکد الحکم وأهمیته وبالتالی تأکد تنجیزه واشتداده؟ [ج] تأکد الأدلّة وتکثرها یوجب اشتداد التنجیز مباشرة للقانون الکلامی، وهو أنّ الحجج کلّما کانت أکثر کانت العقوبة أشدّ، بالإضافة إلی أنّ کثرة الحجج تثبت أهمیة الحکم الفقهی، وأهمیته توجب شدة تنجیزه. وفی القرآن ما یدلّ علی ذلک، مثل قوله تعالی: (إِنِّی مُنَزِّلُها عَلَیْکُمْ فَمَنْ یَکْفُرْ بَعْدُ مِنْکُمْ فَإِنِّی أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِینَ) [المائدة/ 115].

3 . الإجماع المنقول بخبر الواحد

اشارة

إنّ البحث فی الإجماع المنقول بحث فی خصوصیات الخبر الواحد، أکثر مما هو بحث عن الإجماع.

شرط حجیّة خبر الواحد
اشارة

خبر الواحد حجّة فیما إذ کان مستند الناقل فی ما یخبره الحس أو الحدس القریب من الحس.

وشرط الحجّیة أن یتوفّر أمران فی الناقل: أحدهما مرتبط بالجانب العلمی [ وهو الضبط والخبرة ] والآخر مرتبط بالجانب العملی [ وهو الصدق والأمانة ] ولکن الشرط الثانی هو الأهم، وهو الرکن للحجّیة والأول تابع له علی العکس من حجّیة الخبرة، فإنّ الشرط الأول هو الرکن الأهم والثانی تابع له.(1)

وعلی هذا الأساس کانت حجّیة خبر الواحد مخصوصة بما کان مستنداً إلی الحس أو القریب منه، وأمّا إذا انضمت إلیه مقدّمات حدسیة فلیس بحجّة. ومن ثمّ فإن کان النقل للإتفاق کاشفاً عن السبب کالنص أو کان المنقول هو السبب کسیرة أصحاب الأئمة فهو نقل حسیّ حجّة من هذه الجهة، وإن کان کاشفاً عن المسبب فهو حدسی لا یتناوله دلیل حجّیة الخبر الواحد، ما لم یکن المسبب مستنداً إلی سبب تام جداً، بحیث یجعل من المسبب قریباً من الحس کاتفاق کلّ علماء الطائفة فإنّ الخبر حجّة فیه، لأنه مدلوله الإلتزامی.

ما هو دلیل توفّر الشرطین فی حجّیة الخبر؟

ص:279


1- (1) . [س] ماذا یقصد من الأهمیة والتبعیة، هل ما ذکر فی قول اللغوی أنه لا یشترط إحراز الشرط فی التابع بالظن النوعی به، وإنما یشترط عدم مظنة الکذب فی الخبیر وعدم مظنة الإشتباه فی خبر الواحد؟ [ج] نعم، وتفصیله یأتی.

أشرنا إلی ضرورة توفّر أمرین کی یکون خبر الواحد حجّة: الأمانة والضبط. ومنه ینبثق هذا السؤال: إنّ نفس أدلّة الحجّیة دالّة علی الحجّیة فی نطاق هذین الشرطین، أو أنّ الشرطیة ثبتت بأدلّة أخری؟

رأی الشیخ الأعظم (رحمه الله)

الشیخ الأعظم أصرّ علی أنّ أدلّة الحجّیة لم تأخذ إلاّ شرطیة الأمانة، خصوصاً آیة النبأ، وأمّا الضبط فإذا کان الراوی متصفاً بالضبط وشک فی اشتباهه فنجری أصالة عدم الاشتباه العقلائیة لنفی مثل هذا الشک، وأمّا شرطیة الضبط [ کصفة لابدّ من توفّرها فی الراوی کی یکون خبره حجّة ] فأیضاً تثبت بأصالة عدم الاشتباه، فإنّها وإن کانت تجری فی الصغری إلاّ أنّ العقلاء لم یقنّنوها إلاّ لحالات الشک الصغرویة فی اشتباه الراوی الثبت بدرجة متعارفة.

ویستشهد لذلک [ والصحیح ما ذکر ] أنّ القدماء من أعلام الرجال کانوا یصنّفون الرواة درجات فی الثبت، ممّا یکشف عن شرطیة صفة الثبت.

ونحن تأییداً للشیخ نضیف أنّ غالب الرجالیین القدماء حینما یعبّرون «ضعیف» لا یقصدون منه عدم الأمانة وإنما عدم الضبط.

وکما لا یجری العقلاء الأصل المذکور مع عدم کون الراوی ثبتاً، کذا لا یجرونه مع کونه مستنده حدسیاً؛ إذ أنّهم قنّنوا هذا الأصل فی نطاق ما لم یکن مثار الاشتباه، والحدسی مثار الاشتباه.

وناتج ما تقدّم: أنّ الإخبار عن الإجماع إن کان إخباراً عن المسبب ولم یکن قریباً من الحس فهو لیس بحجّة، وإن کان إخباراً عن السبب فیمکن أن یکون حجّة من هذه الزاویة.(1)

ص:280


1- (1) . [س] ولکن المنقول هو الإجماع وهو حسی، سواء کان بمعنی الکاشف عن السبب أو عن المسبب؟ [ج] الإجماع والإتفاق هو السبب، فتارة یکون النقل له، و أخری للمسبب مباشرة من دون أن ینقل کلمات الأعلام، بل قد لا توجد لهم کلمات، کما إذا لم تکن المسألة معنونة، وإنما یحکی بالإجماع رأی المعصوم الذی حدس به من خلال اتفاق الأعلام علی قاعدة تنطبق علی معقد الإجماع بفذلکة صناعیة اجتهادیة.
عویصة فی حجّیة الخبر الناقل للإجماع
اشارة

من زاویة أخری قد یمنع من حجّیة الخبر الحسی الناقل للسبب وذلک: لأنّ الخبر الحجّة هو المنتهی إلی أثر شرعی [ بأن یکون إخباراً بالمطابقة أو بالإلتزام عن الحکم أو عن موضوعه. ]

والإخبار عن اتفاق جملة من العلماء لا یلازم رأی الإمام [ کی یکون إخباراً عن حکم شرعی أو موضوعه ] وإنما هو مع ضمیمة جملة أخری من الآراء یحصل علیها، یلازم المجموع رأی الإمام.

أمّا لو کان الإخبار عن اتفاق کاشف عن رأی المعصوم کان مدلول الخبر الإلتزامی حکماً شرعیاً فیمکن فرض حجّیة الخبر فیه.

ولکن ألفت المیرزا وفصّل المظفر بأنّ حجّیة الخبر فی مدلوله الإلتزامی مشروط بکون اللزوم بیّناً بالمعنی الأخص أو الأعم [ کما علیه الأکثر فی قبال مَن خصه بالبیّن بالمعنی الأخص ] من دون فرق بین أن یکون منشأ الملازمة عقلیاً أو عرفیاً، وأما إذا لم یکن بیّناً فالخبر لیس حجّة فیه من باب الظهور. وفیما نحن فیه غالب الإجماعات المنقولة لا ملازمة بیّنة بینها وبین رأی المعصوم، وإنما هی ملازمة نظریة یتمّ الوصول إلیها بمقدّمات لابدّ من إضافتها [ یحصّلها المجتهد بنفسه أو بضمّ إجماعات أخری فی مجال آخر. ]

فهل خبر الواحد حجّة فی مثل هذه الحالة [ بعد أن کان مفاده المطابقی والإلتزامی البیّن لیس حکماً شرعیاً ولا موضوعاً له؟ ]

تسریة العویصة إلی موارد أخری

وهذه المشکلة نجدها فی خبر الواحد بالواسطة، کخبر الکلینی فإنه لیس حکماً شرعیاً ولا موضوعاً له لأنه إخبار لخبر الراوی.

ونجدها فی أسئلة الرواة للإمام، فإنّ السؤال لیس حکماً ولا موضوعاً، لا بمفاده المطابقی ولا بمفاده الإلتزامی.

ص:281

ونجدها فی الفعل الذی یحکیه الراوی عن نفسه ویقرّه الإمام، فإنه لیس حکماً ولا موضوعاً.

حلّ العویصة فی تلک الموارد

والحقّ أنّ سؤال الراوی وإن لم یکن موضوعاً لحکم فقهی ولا حکماً فقهیاً إلاّ أنه موضوع الحکم الأصولی [ وهو الظهور ] لأنّ حاکمیة دلالة السؤال علی الجواب من جهة، وبالعکس من جهة أخری، ووحدة السؤال والجواب من عناصر صیاغة الظهور الذی هو متعلّق الحجّیة.

ومثله خبر الواحد بالواسطة، فإنّ مفاد خبر الکلینی هو وجود خبر العطّار، فهو موضوع لحکم أصولی وهو وجوب تصدیق خبر العطّار. فحجّیة خبر الکلینی تثبت لنا موضوع وجوب تصدیق خبر العطّار، وهو وجود خبر العطّار.

وأمّا الفعل الذی قرّره الإمام (علیه السلام) فهو یرجع إلی الظهور إن کان نقل التقریر ظنیاً، وأمّا إذا کان قطعیاً فلا کلام لنا فیه؛ لأنّ البحث فی حدود حجّیة الظن الخاص وکیفیة شمولها للموارد المذکورة.(1)

حلّ العویصة فی نقل الإجماع

وأما نقل الإجماع [ السبب ] بالخبر فالحقّ هو التفصیل بالقول بالحجّیة فی بعض الحالات وعدمها فی الحالات الأُخری ولکن من دون أن یکون لغواً.

فإن کان الإجماع المحکی والمنقول بخبر الواحد أو سیرة أصحاب الأئمة (علیهم السلام) أو الضرورة المذهبیة أو الفقهیة أو کان المنقول هو الإتفاق الخاص الموجب لاندراس مَعْلَم من معالم الدین فبقاعدة

ص:282


1- (1) . [س] لم لا نقول: إنّ فعل الراوی موضوع للحکم الشرعی المستفاد من التقریر، فالنقل له نقل للموضوع الشرعی؟ [ج] فعل الراوی فعل خارجی جزئی دالّ علی الموضوع الکلّی للتقریر، وهو ما ذکرناه من رجوعه إلی الظهور، فلیس هو الموضوع، وإنما هو مصداقه وفرده.

اللطف أو اللطف الشرعی یکشف عن موافقة الإمام (علیه السلام)، فمثل هذا الخبر حجّة؛ لأنّ مفاده الإلتزامی البیّن هو رأی المعصوم (علیه السلام) فإنّ الإتفاقات المذکورة تلازم رأیه (علیه السلام) بملازمة بیّنة عادیة.

ولو أبیت إلاّ عن کون الملازمة نظریة [ کما فی اللطف ] فسیأتی فی تنبیهات خبر الواحد صیاغة وجه للحجّیة لم یبلور فی کلماتهم.

التفصیل هو المختار

خلاصته: انّ ما اشتهر بین الأعلام [ من وجوب کون مفاد الأمارة إمّا حکماً شرعیاً أو موضوعه ] لم یُلتزم به فی الفقه عملاً، حیث وجدنا أنّهم وسّعوا الحجّیة للموضوع العقلی لأثر شرعی أو عقلی تابع للشرعیات کالإمتثال وبراءة الذمة والفراغ، أی أنّهم وسّعوا الحجّیة للوازم البیّنة وإن لم تکن شرعیة ولکنّها من شؤون الشرعیات.

بل توسّعوا أکثر من ذلک، حیث قالوا بحجّیة الأمارة والأصل فی الموضوع العقلی الذی یترتب علیه حکم شرعی بالملازمة النظریة، ولکن لا من جهة أنّ من مدالیلها ومفادها اللازم النظری [ فإنّها مقصورة علی مفادها ] وإنما من جهة توسعة مصححیة الحجّیة، ومصحح الحجّة غیر مفاد الحجّة [ کالأصل العملی یجری فی شیء یترتب علیه عقلاً أثر عقلی أو شرعی. ]

وفیما نحن فیه لو قال قائل: إنّ رأی المعصوم لیس لازماً بیّناً للإجماعات المذکورة، فیمکن لنا تصویر حجّیة الخبر الناقل لمثل هذه الإجماعات بالتوسّع الثانی [ أی من خلال مصحح الحجّیة. ]

وأمّا نقل الإجماع الحدسی الذی یحتاج إلی ضمائم فهو لیس بحجّة؛ لأنّ رأی المعصوم (علیه السلام) لیس لازماً بیّناً لمفاد الخبر وهو الإجماع کی یکون حجّة فیه من باب الظهور.

کذا لیس رأی المعصوم بمفرده لازماً نظریاً للإجماع یترتب علیه بحکم العقل کی یشمله مصحح الحجّیة.

ص:283

ولکن یبقی لمثل هذا النقل ثمرة؛ لأنه و إن کان ظناً تکوینیاً غیر معتبر إلاّ أنه لا یخرج عن کونه قرینة یضمّ إلیه بقیة القرائن فیحصل قطع.

فما ذکره الشیخ من حجّیة نقل الإجماع [ السبب ] مطلقاً لا نقبله، کما لا نقبل ما ذکره المظفر من عدم الحجّیة مطلقاً واللغویة.

وإنما الحق هو التفصیل، مع الثمرة والفائدة فی مورد عدم الحجّیة.

تنبیهات بحث الإجماع

وقبل الخروج من الموضوع لابدّ من التنبیه علی أمور:

الأوّل: هناک جملة من الآیات [ غیر ما ذکرناه ] استدلّ بها العامة علی حجّیة الإجماع [ بالمعنی الذی قررّوه ] وقد أجاب عنها الشیخ الطوسی فی العدّة، کذا أجیب عنها فی کتب الکلام، ومن ثمّ نکتفی بالإشارة إلی مواقع هذه الآیات تارکین التفاصیل إلی المراجعة.

والآیات: البقرة/ 143، آل عمران/ 110، لقمان/ 15، الأعراف/ 181، النساء/ 59.

وهذه الآیات کسابقتها تدلّ علی ضرورة الإمام وحجّیة ما نهجه حواریو الإمام وأصحابه، وأجوبة الشیخ وإن لم تشر إلی ذلک إلاّ أنّ الروایات أرشدت إلی هذا البُعد العقلی فی الآیات.

الثانی: إنّ الإجماع [ ومثله الشهرة ] من متممات الأدلّة علی حدّ الإستصحاب، بمعنی أنّهما دلیلان لبیّان تصل النوبة إلیهما عند إعواز الدلیل اللفظی، فعند توفّر الدلیل اللفظی لا قیمة لها بعد أن کانت زوایا المسألة مستوعبة، فإنّ الإجماع حینئذ سیکون مدرکیاً لا حجّیة له سیما أنه فی طول السنّة [ أی إنه کاشف عن رأی المعصوم. ]

الثالث: الإجماع المرکب إن رجع إلی إجماع بسیط علی نفی الثالث فهو حجّة فی نفی الثالث، ومن المسامحة القول بأنه یرجع إلی

ص:284

بسیط لأنه فی الواقع إجماع بسیط مع اختلاف بین المتفقین فی جهاتٍ مّا، وأمّا إن لم یرجع إلی إجماع بسیط فهو لیس بحجّة.

ص:285

ص:286

5 . الشهرة

اشارة

ص:287

ص:288

مصبّ البحث

البحث فی الشهرة بحث عن حجّیتها المستقلة علی حدّ حجّیة خبر الواحد والإجماع، ومن ثمّ سیقتصر علی الشهرة الفتوائیة لوضوح عدم حجّیة الشهرة العملیة والروائیة بمفردهما.

نعم، فی ذیل هذا البحث سنبحث عن قیمة الشهرة التی لیست بحجّة، و هل أنها جابرة وکاسرة لضعف الخبر وقوّته فی سنده أو دلالته؟ وهل أنها جابرة للخبر مع اختلاف النسخ؟ وهل أنها جابرة لجهة صدوره؟ وغیر ذلک من الحیثیات.

ص:289

1 . أقسام الشهرة

الشهرة إما فتوائیة أو روائیة أو عملیة.

[ 1 ] شهرة الفتوی: هو توافق جماعة کثیرة علی فتوی، أعم من أن یکونوا قد استندوا فیها إلی مستند واحد أو مختلف، مصرح به أو غیر مصرح به.

[ 2 ] شهرة الروایة: کثرة الطرق إلی روایة واحدة، ولها أقسام ذکرت فی علم الدرایة.

[ 3 ] الشهرة العملیة: العمل بروایة معینة أو دلالة خاصة وان اختلفت فتاواهم لاختلاف اجتهادهم فی الدلیل المذکور.

شهرة الفتوی قریبة الأفق من الإجماع لا تختلف عنه إلاّ بالمرتبة، وبالتالی فهی تشترک معه فی ما ذکرناه من مقدّمات وأقسام.

ص:290

2 . أدلّة حجّیة الشهرة وتقییمها

اشارة

استدلّ للحجّیة بأدلّة متعددة:

الأول: أولویة الشهرة فی الحجّیة من خبر الواحد، لتوفّرها علی ملاک حجّیته [ وهو الظن النوعی ] بدرجة أرفع.

ولوحظ علیه: أنها أولویة ظنیة لعدم القطع بملاکیة ما ذکر، بل لا یوجد حتی الظن بعد أن نری أنّ الشارع قد نهی عن ظنون أرجح من خبر الواحد، واعتبر ظنوناً أدنی من ظن خبر الواحد [ کالأمارات الفعلیة ] ممّا یکشف عن أنّ معیار الحجّیة لیس هو الظن وإنما کثرة الإصابة. (1)

الثانی: صحیحة عمر بن حنظلة، وتحدیداً قوله (علیه السلام): «فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه» بتقریب: أنه لا یراد من «المجمع» الإجماع [ بعد أن طبّقه (علیه السلام) علی المشهور بقرینة الشاذ ] وبقرینة سؤال الراوی [ حیث یدلّ علی أنّ المجمع علیه لیس قطعیاً و إلاّ لم یکن معنی للسؤال ] وبقرینة الحکم الذی هو الفتوی یکون المراد من الشهرة هی الشهرة الفتوائیة وهی حجّة متأخرة عن الأدلّة اللفظیة؛ لأنها جعلت مرجّحاً لأحد الخبرین المتعارضین، ولو کانت حجّیتها فی عرض الخبر لما کانت مرجّحاً.

ویلاحظ علی ما ذکر: أنه لا یعدو الإحتمال، لوجود احتمالات معاکسة متکافئة، فلا ظهور فی الشهرة الفتوائیة وإنما کلّ الشهرات الثلاث محتملة.

فالضمیر فی قوله (علیه السلام) «المجمع علیه» یحتمل رجوعه إلی الخبر بقرینة «یؤخذ به ویترک الشاذ»، فالشهرة روائیة أو عملیة، سیما أنّ

ص:291


1- (1) . [س] قیاس الشهرة علی الخبر خطأ؛ لأنّ ملاک حجّیة الشهرة هو الخبرویة والحدس، والخبر مرتبط بالحس، فأحدهما أجنبی عن الآخر؟ [ج] بعد أن کان موضوع الحجّیة الظن النوعی وکانت الشهرة تفید الظن بشکل أقوی، کان معنی للقیاس.

ابن حنظلة فهم الشهرة الروائیة [ کما هو فی ذیل الروایة «فإن کان الخبران مشهورین» بتقریب أنه جعل الشهرة وصف الخبر، والفتوائیة لا تصلح وصفاً للخبر ] وبقرینة قوله: «قد رواهما الثقات عنکم».

لا بتقریب الشیخ من «أنّ شهرتین فتوائیتین فی مسألة واحدة لا یعقلان» فإنّ ذلک غیر صحیح، وذلک لوجودهما وفی عصر واحد ومتعدّدة.

ردّ الملاحظة

ولکن مع کلّ هذه القرائن المضادة، هناک قرینة دامغة لصالح المستدلّ [بعد أن یجاب علی فهم ابن حنظلة بأنه لیس بحجّة ] هی أنّ قوله (علیه السلام): «إنّ المجمع علیه لا ریب فیه» ظاهرٌ فی الحجّیة المستقلة [ بقرینة «لا ریب فیه» فإنه مطلق لا نسبی، وبقرینة ما ذکره (علیه السلام) بعدئذ من الحلال البیّن ] ولا یصلح شیء للحجّیة المستقلة من الشهرات سوی الشهرة الفتوائیة [ لأنّ الشهرة الروائیة والعملیة لا تقبل الحجّیة المستقلة حیث إنّ ماهیتها غیر مستقلة ] فالإمام (علیه السلام) استدلّ بالحجّیة المستقلة علی الحجّیة غیر المستقلة وهی المرجّح.

ومن هنا ولشدّة وضوح ما ذکر لم یناقش السیّد الخوئی فیه وإنما فسّر «المجمع علیه» بالإجماع القطعی و«الشاذّ» بالمخالف للسنّة القطعیة.

ولکن القائل بدلالة الفقرة علی حجّیة الشهرة یرد علی السیّد الخوئی بأنّ «المجمع» جعل مرجّحاً فی الرتبة الخامسة أو السادسة، فلو کان بمعنی الإجماع القطعی لکان مقدّماً - علی الأقل - علی الترجیح بالصفات [ لأنها ظنیة ] بالإضافة إلی أنه طبّق علی المشهور.

ومن ثمّ وتخلصاً من هذه القرینة فهم السیّد الخوئی وغیره الشهرة

ص:292

بمعناها اللغوی وهو الوضوح.

عدم دلالة المقبولة علی الحجیّة المستقلة للشهرة الفتوائیة

وبعد کلّ هذا نقول: إنّ الروایة الشریفة لا تدلّ علی الحجّیة المستقلة للشهرة الفتوائیة، وذلک لوجاهة ما ذکر من القرائن علی العدم، وضعف قرائن المستدلّ علی الحجّیة.

فبحکم رجوع الضمیر فی قوله «فیؤخذ به» وباقی الضمائر إلی الخبر، مع ضمیمة أنّ الأوصاف یتلو بعضها بعضاً، سیکون الظهور من ضمیر «علیه» فی قوله «فالمجمع علیه» أنه یرجع إلی الخبر، وعلی الأقل أنه یحتمل قویاً ذلک، یضاف إلیه فهم عمر بن حنظلة ذلک. فلو کان الإمام فی صدد بیان حجّیة الشهرة الفتوائیة، لما انتقل عمر فی تسلسل سؤاله للإمام إلی فرض «فإن کان الخبران عنکم مشهورین» أی فرض توفّر کلّ منهما علی المرجّح المذکور، وبالتالی یسأل عن المرجّح الذی یلیه.

وقد یجاب: بأنّ الإمام (علیه السلام) أراد المطلق، إلاّ أنّ عمر سأله عن فردین الروائیة والعملیة.

إلاّ أنه یلاحظ علیه: أنه لا یمکن أن یرید الإمام بیان الحجّیة المستقلة لمطلق الشهرات، بعد أن عرفت أنّ ماهیة الروائیة والعملیة قاصرة عن الإستقلال.

کذا نجد أنّ الإمام (علیه السلام) لم یعبّر عن الإجماع أو الشهرة ب-«لا ریب فیه»، وإنما «المجمع علیه»، والمجمع علیه هو الخبر، فهو وصف الخبر مما یعنی أنّ حدیثه (علیه السلام) فی المرجّح لا فی تأسیس حجّیة مستقلة.

مضافاً إلی أنه (علیه السلام) کما طبّق البیّن علی «المجمع علیه»، طبّق «المشکل» علی «الشاذ»، فهو قرینة علی أنّ البیّن لیس بقول مطلق، وإنما قبال «المشکل» فهو البیّن النسبی، ومعه یکون مرجّحاً لا حجّة مستقلة، لأنه وإن کان لا ریب فیه إلاّ أنه بالنسبة لا فی نفسه.

ص:293

دعوی وحدة الملاک فی حجّیة الخبر وحجّیة الشهرة الفتوائیة

ألفت الآخوند إلی أنّ مَن یبنی علی أنّ حجّیة الخبر بالإمضاء الشرعی للسیرة العقلائیة، أمکنه القول بحجّیة الشهرة الفتوائیة، فإنّ الملاک فیها واحد لو لم یکن فی الشهرة أقوی.

وتوضیحه [ سیما علی ما التزمنا به من أنّ الحجج العقلائیة مصادیق مجعولة من قبلهم لحجّة کلّیة عقلائیة هی التی أمضاها الشارع - وهی حجّیة الإطمئنان النوعی الحاصل من منشأ عام کتراکم القرائن أو من منشأ خاص ] إنّ العقلاء قد جعلوا الشهرة مصداقاً للموضوع الکلّی الحجّة الممضی من قبل الشارع بما أنها من منشأ خاص کخبر الواحد وقول الخبیر الواحد، بل هی أولی منهما لأقوائیة الظن فیهما.

ولکن یلاحظ علیه: إنّ هذا الجعل لا یخدم فی المقام؛ لأنّ الکلام لیس فی رجوع الجاهل إلی العالم الخبیر، وإنما فی رجوع الخبیر إلی الخبیر. والعقلاء اعتبروا الشهرة الفتوائیة مصداقاً للکلّی الحجّة علی العامی الممضاة من قبل الشارع، ولا دلیل علی وجود اعتبار عقلائی علی مصداقیة الشهرة لکلّی الحجّة علی الخبیر.

وقد یقال: إنّ الشهرة الفتوائیة مصداق للمنشأ العام الحجّة عند العقلاء والشارع؛ لأنها عبارة عن کتلة قرائن.(1)

وهو حق بمقدار أنها جزء الحجّة، لأنّ التراکم فیها غایة ما ینتج الظن، والکلّی الحجّة هو الإطمئنان. نعم، مع ضمّ قرائن أخری إلیها [ بحیث ینتج المجموع الإطمئنان النوعی ] هی نافعة.

أدلّة عدم حجّیة الشهرة
(1 ) استدلال النراقی علی عدم حجّیة الشهرة

ص:294


1- (1) . [س] لکن کونها جزء الحجّة [کما ستذکرون] تکوینی لا یحتاج إلی جعل من العقلاء أو یحتاج؟ [ج] نعم، تکوینی أفادتها الظن، ولکن للعقلاء مدخلیة فی تحدید الدرجة الإحرازیة وعدم الإفراط والتفریط فیها.

استدلّ النراقی علی عدم حجّیة الشهرة الفتوائیة المستقلة بأنّ المسلّم من الأدلّة [ ولو لعدم الدلیل علی الجواز ] حرمة رجوع المجتهد إلی مجتهد آخر، والرجوع لشهرة الفتوی لباً رجوع المجتهد إلی أقرانه.

ملاحظة نقدیة من النراقی

ثمّ أشکل علی هذا الإستدلال بالفرق الموضوعی بین رجوع الفقیه إلی الفقیه [ فإنه تعویل علی فتوی واحدة ومن حیث هی فهم المفتی ] وبین رجوعه إلی الفقهاء [ فإنه تعویل علی تظافر الفهم، وهو خصیصة مفقودة فی فتوی الفقیه الواحد. ]

إجابة عن إشکال النراقی

ویلاحظ علی هذا الإشکال: بأنّ التقلید لا یتقوّم بالرجوع إلی مجتهد واحد [ وإن درج ذلک فی عصرنا ] وإنما یتحقق بالرجوع إلی جماعة متفقین، فالرجوع إلی الشهرة لا یعدو التقلید.

ملاحظة أخری علی الإستدلال

نعم، یمکن الملاحظة علی الاستدلال بأنه وإن کان تقلیداً إلاّ أنه من نمط خاص، لا دلیل علی حرمته، أو أنّ رجوع الخبیر إلیهم من جهة خاصة وهی التظافر لا غیر، أو أنّ حرمة التقلید قابلة للتخصیص کما عند الإنسدادی.

ومع هذا لیس الرجوع إلی الشهرة من باب تقلید الخبیر للخبیر المحرّم.

وجاهة إستدلاله

ولکن یبقی استدلاله وجیهاً بعد أن لم یکن هناک دلیل خاص علی الجواز یسمح للمجتهد أن یرجع إلی المجتهد بهذا القدر.

ص:295

(2 ) القول بحجّیتها یستلزم عدم حجّیتها

دلیل آخر علی عدم الحجّیة: القول بحجّیة الشهرة الفتوائیة یستلزم عدم حجّیتها؛ لأنّ مشهور علماء الأصول و الفقه علی عدم حجّیة الشهرة الفتوائیة.

ولا یخفی أنّ هذا الاستدلال من باب شمول القضیة لنفسها، وهو ممتنع قانوناً لا ملاکاً، بل قال بعض بالإمتناع الکلّی. وتفصیل الکلام فیه فی خبر الواحد.

(3 ) عدم إمکان إثبات حجّیتها بروایة واحدة

دلیل ثالث علی عدم الحجّیة: إنّ المطلوب هو إثبات حجّیتها فی کلّ الأبواب ولو کمتمّم للأدلّة عند إعواز النص، ومثل هذا لا یمکن أن یثبت بروایة واحدة، خاصة مع عدم صراحة دلالتها وذلک لما ذکرناه فی بحث الإجماع من ضرورة تناسب الدلیل مع أهمیة المطلوب إثباته.

ص:296

3 . جابریة الشهرة وکاسریتها

تغایر ماهیة الشهرة الروائیة والعملیة مع ماهیة الشهرة الفتوائیة

ماهیة الشهرة الروائیة والعملیة لیست مستقلة؛ لأنّ مصبها ومتعلّقها لیس الحکم الشرعی، وإنما هو صدور الروایة وسندها وطریقها، ومن ثمّ لا معنی للحدیث عن حجّیتهما المستقلة، بخلاف الشهرة الفتوائیة، فإنّ متعلّقها هو الحکم الشرعی، وبالتالی أمکن الحدیث عن حجّیتها المستقلة إضافة علی الحدیث فی حدّ حجّیة خبر الواحد والظهور.

معنی الجبر

الجبر هو الترمیم لنقص فی شیء، وبالتالی فهو الانضمام والجزئیة، لا الاستقلال والکلّیة، علماً أنه کثیراً مّا لا یتمّ الوصول إلی المطلوب [ الحکم الفقهی ] إلاّ بعد طی حجج متعددة ینضمّ بعضها إلی الآخر [ کخبر الواحد والظهور ] حتی یمکن التعرف علی الحکم الفقهی.

ولکن لا یعنی ذلک أنّ خبر الواحد أو الظهور فی مثل تلک الحالات لیس حجّة مستقلة؛ لأنّ الحجّة المستقلة لا تعنی إمکان الإستنباط منها وحدها، وإنما تعنی أنها لیست حجّة أفقیة وفی عرض حجّة أخری. فهی وإن لم تکشف عن الواقع مباشرة ولکنّها تبقی مستقلة؛ لأنّ علاقتها مع الحجج الأخری [ التی لابدّ منها معها فی استنباط الحکم ] علاقة طولیة. فخبر الواحد یکشف عن الظهور، والظهور یکشف عن الواقع، فهو کاشف عن الکاشف ولیس ضمنیاً وغیر مستقل. فالطولیة نحو انضمام وحاجة وتکافل، ولکن لیست من نحو الضمیمة والجزء العرضی.

ص:297

عدم الملازمة بین الحجّیة المستقلة وغیر المستقلة

الحجّیة المستقلة و غیر المستقلة سنخان [ أحدهما أجنبی عن الآخر ] فلا یلازم أحدهما الآخر، لا طرداً ولا عکساً. فکلّ منهما یحتاج إلی دلیل یثبته. فخبر الواحد حجّة مستقلة، إلاّ أنه لا یصلح مرجّحاً عند التعارض، وقاعدة الید حجّة مستقلة من دون أن یعنی ذلک أنها مرجح عند التعارض، والشهرة الفتوائیة [ عند القائل بحجّیتها المستقلة ] لا یلازم کونها جابرة وکاسرة، وإنما لابدّ من استئناف دلیل علی ذلک.

بالمقابل، صفات الراوی - مثلاً - حجج غیر مستقلة، یُرجّح بها عند التعارض من دون أن یلزم ذلک حجّیتها المستقلة.

وباختصار: الدلیل علی حجّیة أحدهما أو عدم حجّیته لا یدلّ علی حجّیة الآخر أو عدم حجّیته.

مما تقدّم یتبلور اللبس الذی وقع به البعض من أنّ الشهرة لمّا لم تکن حجّة مستقلة فهی لیست جابرة کاسرة [ إذ لا یعقل أن یکون غیر الحجّة کاسراً للحجّة أو جابراً للضعیف بحیث یرقی به إلی مصاف الحجّة. ]

وجه اللبس: أنه دمج بین الحجّتین المستقلة وغیر المستقلة مع أنّهما سنخان علی صعید المحمول. توضیحه: أنّ الشهرة الروائیة والعملیة ماهیة غیر مستقلة فلا یعقل أن تکون حجّة مستقلة، وأنّ الحجّة المستقلة [ الشهرة الفتوائیة ] لا یتأتی منها الجبر والکسر فإنها متأخرة رتبة عن خبر الواحد، الذی یؤکد عدم ملازمتها للجبر والکسر.

معنی حجّیة الشهرة
اشارة

یتلخص: أنّ الشهرة [ إن کانت حجّة ] فهی جزء الحجّة ماهیة ومحمولاً. نعم، قد یکون بعض أقسامها [ وهو الشهرة الفتوائیة ] حجّة مستقلة، ولکن فی مقام آخر [ وهو الجبر والکسر ] هی حجّة

ص:298

غیر مستقلة علی حدّ المرجّح بین المتعارضین ولکن مع فارق أنّ المرجّح جزء الحجّة من طرف المحمول، وأنّ الشهرة جزء الحجّة من طرف الموضوع [ أی إنها تحقق صغری لموضوع کبری وهی الوثاقة ] هذا فی الجبر، وفی الکسر تفعل العکس [ أی أنها تعدّ صغری الموضوع.(1) ]

تقریب لجابریة الشهرة

یمکن الإستدلال بصحیحة عمر بن حنظلة علی جابریة الشهرة وکاسریتها؛ لأنّ الصحیحة دلّت علی أنها حجّة غیر مستقلة [ بمعنی المرجّح ] والمرجّح إما مساو للجابریة والکاسریة أو أعمّ منهما [ لأنه مرتبط بالمحمول، والجبر والکسر مرتبط بالموضوع ] وفی الحالین یمکن القول بحجّیة الشهرة غیر المستقلة بمعنی الجبر والکسر أیضاً.

هذا علی صعید الحجّیة للشهرة کمنشأ خاص [ یحرز تعبداً أو یعدم تعبداً صغری الموضوع الکلّی. ]

وأمّا علی صعید حجّیتها کمنشأ عام [ من جهة أنها عبارة عن قرائن متراکمة توجب الوثوق والإطمئنان ] فإن بنینا فی حجّیة خبر الواحد علی «حجّیة الخبر الموثوق بصدوره»، فدور الشهرة واضح فی أنها توجد تکویناً صغری الموضوع أو تعدمه.

وإن بنینا علی «حجّیة خبر الثقة» فدور الشهرة یتضح مع القول بأنّ حجّیة خبر الثقة مشروطة بعدم الظن بالخلاف [ لا لمعارضته ومن باب تدافع الظنون ] وإنما لقصور دلیل اعتبار الحجّیة عن شموله لمثل هذه الحالة نظیر ما یبحث من أنّ حجّیة الظهور هل هی

ص:299


1- (1) . علی هذا فالأدلّة [سواء الأمارات أو الأصول] التی تحرز لنا وجود موضوع الحکم الشرعی وصغراه لابدّ أن تکون جزء الحجّة، فخبر الواحد إذا کان حجّة فی الموضوعات، حجّیته غیر مستقلة، و الأصول المحرزة أو المنقحة لصغری الموضوع لابدّ أن تکون حجّیتها غیر مستقلة، مع أنه لم یسمع أخبر أنّ الواحد مثلاً حجّة غیر مستقلة؟

مشروطة بعدم الظن بالخلاف أو لا؟ فإنّ الظن وإن لم یکن حجّة مستقلة ولکنّه قد یکون جزء الحجّة [ بمعنی أنّ دلیل اعتبار الظهور حجّة لا إطلاق فیه، وإنما مقیّد بعدم الظن بالخلاف أولاً. ]

متعلّق الجبر والکسر

الشهرة تجبر وتکسر السند والطریق وقیل: إنها قد تجبر وتکسر:

[ 1 ] المتن: کما قیل فی روایات قاعدة المیسور، بأنّ هناک شهرةً علی وجود تقدیر خفی علینا بحدّ من سعة دلالتها.

[ 2 ] فهم الظهور (الدلالة): کما تبنّاه المحقق الإصفهانی فی (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حیث اعتمد فی فهمها علی فهم فقهاء العرب.

[ 3 ] جهة صدور الروایة: کما إذا کانت الروایة بحسب الظاهر لیست مختلفة فی جهة صدورها، إلاّ أنّ المشهور بنی علی أنها صدرت تقیة أو العکس، کما إذا کانت هناک قرائن علی التقیة، إلاّ أنّ المشهور لم یبن علی ذلک.

[ 4 ] مفردات الطریق کالشهرة علی وثاقة رجل.

تصحیح ما قد قیل

والصحیح عدم جود علاقة بین هذه الأقسام وبین جبر الشهرة وکسرها. أما فی فهم الظهور [ الرقم 2 ] فلم یعتمد علی شهرة فقهاء العرب من جهة کونها جابرة، وإنما من جهة الإستشهاد بارتکازهم وتبادرهم بما أنّهم من أهل اللغة، حیث لا یعقل تقدیم تبادر الأجنبی عن اللغة علی تبادر أهل اللغة.

وأما فی القسم الأخیر [ الرقم 4 ] فیرجع إلی توثیق الرجل لا إلی جبر الشهرة [ لأنّ المبنی العمدة عند الرجالیین فی الجرح والتعدیل هو تحصیل الإطمئنان، والشهرة توجب الإطمئنان. ]

کذا فی جهة الصدور [ الرقم 3 ] لیس الإعتماد علی الشهرة من جهة أنها حجّة غیر مستقلة [ جابرة وکاسرة ] وإنما من جهة أنّ

ص:300

أصالة الصدور أصل عقلائی، فمع بناء المشهور علی أنّ خبراً مّا للتقیة لا یجری الأصل العقلائی، لأنه إنما یجری مع الشک العادی لا الشک المستند إلی جمهرة فقهاء. فدور الشهرة هو أنها تزعزع أصالة البیان، وهو أجنبی عن کونها جابرة وکاسرة.

وأما المتن [ الرقم 1 ] فیشکل البناء علیه مطلقاً، کما یشکل ردّه مطلقاً؛ لأنه یحتمل فی الشهرة رجوعها إلی الإخبار عن اللفظ الساقط، أو ترجیح نسخة، أو الإجمال فی الإطلاق وأنّ الإمام (علیه السلام) لیس فی مقام البیان للإطلاق.

فمع الإحتمال الاول والثانی فقد ذکروا أنها لیست بحجّة ما لم تتوفّر فیها شرائط الخبر؛ لأنّ حقیقتها ترجع إلی الإخبار عن المعصوم (علیه السلام).

ومع الإحتمال الثالث فهی معتمدة إذا کانت شهرة متقدّمین، حیث یمکن فی حقهم إطّلاعهم علی قرینة حالیة خفیت علینا، فلا تجری حینئذ أصالة الإطلاق وعدم التقیید ولکن اعتمادها لا من باب الجبر والکسر، وإنما من باب أنها قرینة مجملة، أو کاشفة عن قرینة تمنع من الإطلاق.(1)

ص:301


1- (1) . [س] إنکم فی الأقسام الأربعة اعتبرتم الشهرة فما معنی قولکم «لا من حیث الجبر و الکسر»؟ [ج] الشهرة الجابرة الکاسرة [الحجّة غیر المستقلة] هی التی توجد صغری لکبری حجّة. هذه الصغری هی فی نفسها لیست حجّة [أی أنها لیست صغری کالخبر الضعیف] وإنما بترمیم الشهرة تکون صغری وحجّة، أو أنّ الصغری فی نفسها حجّة وصغری، ولکن الشهرة تعدم صغرویتها وحجّیتها. [س] هذا المعنی نجده فی توثیق الرجل، فإنّ ما ذکرتموه من أنها تفید الإطمئنان لا یخرجها عن کونها جابرة أو کاسرة، لأنّ دلیل جبرها وکسرها هو إفادتها الإطمئنان نتیجة تراکم القرائن؟ [ج] کلاّ، لأنّ وثاقة الرجل لیست صغری لکبری حجّیة الخبر. ومن ثمّ مَن لم یبن علی أن مدرک الجرح والتعدیل الإطمئنان، وإنما الشهادة مثلاً لا یعتدّ بالشهرة.

ص:302

6 . خبر الواحد

اشارة

ص:303

ص:304

1 . نقاط تمهیدیة

النقطة الأولی: أقسام الخبر
اشارة

ینقسم الخبر إلی الخبر المتواتر والمستفیض والواحد.

والأول والثانی خارجان عن بحث الحجّیة [ الذی سیتمّ الکلام عنه هنا ] ولکن حیث إنه قد یقع الخلط صغرویاً کان المحبّذ الوقوف عندهما شیئاً مّا.

الخبر المتواتر

فالتواتر هو تعدّد الخبر بحدّ یحصل القطع بعدم تواطئهم علی الکذب [ بتخریجات مختلفة منها ما ذکره السیّد الصدر وهو تخریج ریاضی یسمّی بحساب الإحتمالات. ]

ویلاحظ من التعریف أنه لم یؤخذ الصحة والإعتبار فی عناصر التواتر وأجزائه وآحاده، فهو یتشکل حتی من الاخبار الضعاف؛ لأنّ انتاج الحجّیة التکوینیة بسبب تراکم الإحتمالات والظنون لا بسبب الحجّیة المعتبرة، فلا معنی لمقولة: إنّه من ضمّ ضعیف إلی ضعیف لا تتولد حجّة.

وهی مغالطة خطیرة؛ لأنها تنتهی إلی التشطیب علی الاخبار الضعیفة فی تراثنا وعدم الإستفادة منها إطلاقاً، فی حال أنّنا لو التفتنا إلی ما ذکره المحقق الخراسانی صاحب الکفایة واحداً من أقسام التواتر [ وهو التواتر الإجمالی الذی لا یعنی سوی القطع بصدور

ص:305

بعض الأخبار، کالقطع بصدور بعض أخبار الوسائل الضعیفة ] وأنّ مثل هذا القطع منجّز، فتکون النتیجة هی الإعتناء بکلّ الأخبار [ بالإحتیاط بالعمل بمضمونها الفقهی ] وهی نتیجة معاکسة تماماً لما استهدفه البعض من طرح الضعاف وإهمالها تماماً.

التواتر المعنوی

واحدة من أقسام التواتر هو التواتر المعنوی، وهو اتفاق مجموعة من الروایات فی مدلولها الإلتزامی مع اختلافها لفظاً وفی المدلول المطابقی. ومثل هذا النوع لیس فی متناول کلّ أحد [ بما فیهم المجتهدون ] ما لم ینضمّ إلی فقاهتهم واجتهادهم إحاطة وتتبع مستوعب فی الأبواب والروایات. فالخبیر الرجالی والمحدّث وفقیه الفروع والمعارف من دون تتبع وإحاطة لا یحقّ لهم منهجیاً نفی التواتر المعنوی فی مسألة أو فرع.

ومن هنا یعرف الخطأ الذی ارتکبه التستری [ وهو خبیر رجالی لیس أکثر وله جهود مشکورة فی هذا المضمار ] حینما وصف حدیث «نزّهونا عن الربوبیة وقولوا فینا ما شئتم»(1) بالوضع مع أنّه مستفیض بألفاظ متقاربة، ومتواتر معنی.

ومثل التستری معذور فی عدم اکتشافه إلاّ أنه فی الوقت نفسه لا یحقّ له أن یصف الحدیث بالوضع.

الخبر المستفیض

والخبر المستفیض یشارک المتواتر فی النکات المذکورة، ویفترق

ص:306


1- (1) . الموجود فی مصادرنا هو هکذا: «إجعلونا مخلوقین وقولوا فینا ما شئتم فلن تبلغوا» المجلسی، بحار الأنوار 279/25 (کتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه وما ینبغی أن ینسب إلیه وما لا ینبغی، الباب 9: باب نفی الغلو فی النبی والأئمة صلوات الله علیه وعلیهم وبیان معانی التفویض وما لا ینبغی أن ینسب إلیهم منها وما ینبغی، الحدیث 22) وکذلک: «إجعل لنا ربّاً نؤب إلیثه وقولوا فینا ما شئتم» (نفس الباب، الحدیث 30) وکذلک: «قولوا فینا ما شئتم واجعلونا مخلوقین» (نفس الباب، الحدیث 45).

عنه فی أنه عبارة عن تعدّد الخبر بنحو یطمئن بعدم تواطئهم علی الکذب.

درجات التواتر

ثمّ إنّ واقع کلّ من المتواتر والمستفیض ذو دوائر تتسع وتضیق، فهناک تواتر عند البشریة، وقد یکون عند أمّة معینة، وقد یکون عند مدینة [ کالمسائل المرتبطة بتراثها وحضارتها ] وقد یکون بین أهل الإختصاص [ کبعض خصائص اللغة المتواترة عند اللغویین. ] وخلفیة هذا التنوع هو اختلاف درجات الیقین ومراتبها.

ولا یؤثر علی التواتر الخاص [ کتواتر أهل علم أو ملّة ] الشکُ الخارج عن دائرتهم، کما لا یؤثر علی التواتر عدمُ التواتر عند کلّ راو؛ لأنّ غایة ما یتفق هو انتفاء التواتر عند الأمة وعند البشریة دون التواتر الخاص.

وقد یبدأ التواتر وسیعاً ویتقلص فی الدرجات الدنیا وقد یکون بالعکس، بل قد یتحول من تواتر إلی خبر واحد فی طبقات لاحقة، وبالعکس.

التواتر متکفل لتأمین الطریق وأجنبی عن المضمون

وقبل أن ننتهی من الحدیث عن التواتر ننوّه إلی أنّ التواتر [ فی أی مورد فرض وجوده ] لا یتکفل أکثر من تأمین الطریق، و أمّا المضمون فقد یکون عن معصوم وقد یکون عن غیره، وقد یکون حسیاً وقد یکون ممزوجاً بالفهم، وهکذا. ولکلّ من هذه الحالات حکمها الخاص بها، والتواتر أجنبی عنها حیث إنّه لا یعنی سوی عصمة الطریق لا أکثر.

الخبر الضعیف

ص:307

خبر الواحد ینقسم إلی معتبر وغیر معتبر [ مع اختلاف بین الأعلام فی حدود المعتبر ومساحته. ]

وغیر المعتبر هو الخبر الضعیف، وله إطلاقان:

الأول: الضعیف بالمعنی الأعم، الشامل للخبر الموضوع والمدلّس والمدسوس والمکذوب.

الثانی: الضعیف بالمعنی الأخص [ الذی لم تتوفّر فیه شرائط الحجّیة ] فی قبال المدسوس [ الذی علم أو قامت أمارة علی الدس فیه. ]

والظاهر من الضعیف حینما یطلق فی کلمات الأعلام من دون قرینة هو الثانی لا الأوّل.

أحکام الخبر الضعیف

ومن الضروری أن نؤشر إلی جملة من أحکام الخبر الضعیف المهمة:

الحکم الأول: ما ذکرناه فی التواتر من أنه مادة خصبة لتشکیل التواتر والإستفاضة.

الحکم الثانی: أنه یحرم ردّه باتفاق الأصولیین والأخباریین. وقد وردت روایات بهذا الأمر، وفیها تنبیه علی أنّ المخالفة للکتاب [ التی تؤثر علی الحجّیة ] هی المخالفة المستقرة، علماً أنّ حرمة الرد لا تلازم الحجّیة؛ لأنها لیست أکثر من حرمة الحکم علیه بأنه باطل.

الحکم الثالث: الخبر الضعیف لا یخرج عن کونه احتمالاً علمیاً، فلا معنی لإهماله وتهمیشه، فکما یعتنی برأی رائد من روّاد العلم لاحتمال إصابته الواقع لابدّ من الاعتناء بما یحتمل کونه من السماء.

بل ذکرنا أنه حتی لو بنینا فی العقائد علی عدم حجّیة الظن مطلقاً أو الخبر الضعیف فقط، یمکن الإستفادة منه فی مجال الإستقراء والفحص فی کلّ محتملات المسألة.

وبتوضیح أکثر: العلم إما تصدیق أو تصور [ وإنما عبّر عن

ص:308

التصور الإحتمالی علماً لأنه یقابل الجهل المرکب، ومن ثمّ کان مرتبة من مراتب العلم ] والخبر الضعیف یوجب تصوراً، فهو درجة من درجات العلم ینفع علی صعید المبادئ التصوریة للمسألة، حیث یوسّع من أفق الباحث ویکوّن له احتمالات إضافیة لابدّ منها فی استفراغ الوسع.

الحکم الرابع: الخبر الضعیف ینفع فی العناصر الفقهیة المحضة، کتشخیص مدلول کلمة فی عصر النص. فإنّ الضعیف وإن کان مدسوساً إلاّ أنه حیث صدر فی ذلک العصر فهو جار علی استعمالات ذلک العصر. کذا ینفع فی معرفة جوّ المسألة وظروفها والمنحی الفکری لتلک الفترة.

هذه نبذة عن فوائد الخبر الضعیف، وقد عرفت أنها جمیعاً إلزامیة.

الخبر المدسوس

هناک دعوی علم إجمالی بوجود دسّ فی الروایات [ ممّا حدا ببعض الإمامیة التوقف فی الصغری، حیث لا طریق إلی إحرازها، مع بنائه کبرویاً علی حجّیة خبر الواحد، وقد یبدو من کلمات الشیخ تمایله لذلک. ]

وقد قوبلَتْ هذه الدعوی بدعوی انحلال مثل هذا العلم لغربلة الأصحاب الحدیثَ.

ومن هنا لابدّ من وضع حلّ لهذا المشکل، کما سنفعل فی تنبیهات البحث، وسنعرف هناک المائز الدقیق بین الخبر الصحیح والمدسوس بعد أن کان محتملاً فیه الدس، بل ألصق به من الخبر الضعیف.

والمدسوس صغری خبر ملفقة، فهو لیس خبراً، ومن ثمّ فمن الخطأ جعله مقابل الضعیف فقط، حیث إنّه قسیم المقسم وهو الخبر. ومن هنا کانت البدایة المنهجیة التمییز بین الخبر وعدمه، وبیان کیفیة معرفة ذلک.

ص:309

النقطة الثانیة: تخریجات العمل بروایات الکتب الأربعة

روایات الکتب الأربعة والکتب المشهورة صغری خارجیة لخبر الواحد من دون شک. وهذه الصغری قد أجمع الشیعة علی العمل [ بها فی الجملة أو بالجملة ] مع اختلافهم فی تخریج ذلک:

[ 1 ] فالسیّد المرتضی ومَن نحی منحاه فی إنکار حجّیة خبر الواحد قالوا بأنّ غالب موارد الصغری من خبر الواحد هو المحفوف بالقرینة القطعیة.

[ 2 ] الأخباریون ذهبوا إلی قطعیة أخبار الکتب الأربعة أو موثوقیتها [ علی اختلاف بینهم ] بالجملة، وقطعیة ما فی غیرها [ من الکتب المشهورة ] فی الجملة.

[ 3 ] المیرزا النائینی [ تبعاً للمحدّث النوری ] ذهب إلی أنّ روایات الکافی معتبرة بالجملة.

[ 4 ] یلوح من السیّد البروجردی [ الذی بنی علی حجّیة خبر الواحد الإطمئنانی ] أنّ غالب أخبار الکتب الأربعة قد حصل الإطمئنان بها.

[ 5 ] مَن بنی علی حجّیة خبر الثقة أو الخبر الموثوق الظنی خرّج العمل بالکتب الأربعة علی هذا الأساس و خرّج العمل بالکتب المشهورة من باب الإنسداد. وإنما ذهب إلی الإنسداد لشبهة التدلیس، أو لعدم تمامیة حجّیة خبر الواحد، أو لعدم کفایة ما هو حجّة فی انحلال العلم الإجمالی.

هذه تخریجات العمل بما فی الکتب الأربعة والکتب المشهورة، و لابدّ من التدقیق فی الواقع الموضوعی للصغری لمعرفة أنها مع أیّ تخریج تلتئم.

وسنبیّن ذلک عند الحدیث عن التدلیس وبعد الفراغ عن الکبری، ولکن لابدّ من التنبه إلی أنّ حسم هذا الأمر یحتاج إلی خبرة درائیة حدیثیة رجالیة.

ص:310

النقطة الثالثة: الفرق بین درجات الحکایة ( الروایة والفتوی والحکم )
اشارة

أشرنا سابقاً إلی أنّ التقنین یبدأ بکلّیات عالیة وتتنزّل حتی یصل إلی الجزئیات. ونلفت هنا إلی أنّ الحکایة عن مدارج الإعتبار أیضاً ذات درجات؛ فهناک حکایة حسّیة کالإخبار بالروایة، وهناک حکایة حدسیة کالإخبار بالفتوی، وهناک حکایة حدسیة أکثر کالحکایة بالحکم [ حکم الحاکم والقاضی ... ]

وحکایة الحس غالباً مّا تکون حکایة عن الکلّیات الشرعیة الفوقانیة، والتناسب واضح؛ لأنّ الحس أوثق فی النقل من الوسائل الأخری، والکلّیات أهمّ مما هو تحتها فهی تطلب الوثاقة أکثر.

والفتوی [ التی هی حکایة وإخبار بواسطة الفهم ] غالباً مّا تتعلّق بالکلّیات المتوسطة؛ حیث لم تنقل بالحس وإنما یتصیدها الفقیه من خلال المعادلات.

والحکم إخبار بواسطة الفهم أیضاً یتعلّق بالوقائع الجزئیة بالتنزّل إلیها من خلال تطبیق الکلّیات علیها، ومن ثمّ کان أبعد عن الحس من الفتوی.

وبهذه المقابلة بین أقسام الخبر والإعتبار یتحدّد موقع الخبر الحسی وفرقه الماهوی عن الخبرین الآخرین. ومن ثمّ عندما نَدخُل الأدلّة نکون علی بیّنة فلا نخلط بینهما. فالأدلّة بعضها فی دائرة حجّیة الفتوی، وآخر فی دائرة حجّیة الحکم القضائی، وثالث فی دائرة حجّیة الخبر الحسی.

فماهیة الإخبار الحسی [ حتی لو کان بالمعنی ] نقلُ ما سمعه من دون اعتماد علی ملکة الإجتهاد، وإنما یقتصر علی الحافظة أو علی الفهم اللغوی عندما یکون النقل بالمعنی. ومن ثمّ یکون المنقول عادة قوالب شرعیة؛ لأنها هی التی صدرت عن المعصوم [ سواء قوالب لفظیة أم ذهنیة کما فی النقل بالمعنی. ]

بینما ماهیة الفتوی هی إخبار المجتهد عن الحکم الکلّی الشرعی بواسطة ما فهمه من الأدلّة.

ص:311

وماهیة الحکم القضائی إنشاء حکم جزئی من باب تطبیق الحکم الکلّی علی الجزئی، ومن ثمّ کان مستبطناً للفتیا لتوقفه علی تحدید الکلّی أولاً وهو فتوی.

تقریبٌ لحجّیة الخبر الحسی

حینئذ یمکن القول بأنّ أدلّة حجّیة الحکم والفتوی دالّة علی حجّیة الخبر الحسی مع وضوح عدم إمکان العکس، بتقریب:

إنّ القاضی لا یقضی فی الجزئی إلاّ بعد فهمه، فالدلیل الدالّ علی حجّیة حکمه دالّ علی حجّیة فتواه، وإذا اؤتمن علی التطبیق والإستنباط دلّ بدلالة الإقتضاء علی حجّیة خبره، ومثله الحدیث فی أدلّة حجّیة الفتوی.

وهذه المقولة جیّدة سوی أنها لا تخدم؛ لأنّ غایة ما یثبته حجّیة إخبار القاضی والمفتی بالشرائط المقررة فیهما، فی حین أنّ المتوخی إثبات حجّیة الخبر بنحو أوسع [ الشامل لغیرها من العدول بل الثقات أو الموثوق بصدوره أو کلیهما. ]

بالإضافة إلی أنّنا لا نعلم أنّهما هل استندوا فی الفوقانیات علی الخبر الظنی أو علی العلم. فالفتوی والحکم لا یکشفان عن إخبار المفتی والقاضی عن الفوقانیات.

فالتقریب المذکور جیّد فی حدود إثبات الحجّیة فی الجملة.

النقطة الرابعة: مراحل عملیة الإستنباط

واحدة من الفوارق أیضاً بین الخبر الحسی والفتوی هی أنّ عملیة الإستنباط فی المسألة الواحدة تعتمد علی ثمان مراحل لابدّ من طَیّها [ الأربعة الأول منها فقهیة والباقی أصولیة صناعیة. ]

والفقهیة تبدأ أولاً بتحریر الفرض الفقهی بشکل دقیق وبکلّ أبعاده وحیثیاته.

ثمّ ثانیاً : تجمیع الأقوال فی المسألة وتحقیقها، فإنّها تجعل من الفقیه ممسکاً بخیوط المسألة ومدی ارتباطها بالمسائل الأُخری،

ص:312

بالإضافة إلی أنّ الأقوال شرح معمّق للحدیث. والمرحلتان المذکورتان تُوَطِّئان للمرحلة اللاحقة، حیث إنّه بعد الإلتفات إلی مناسبات المسألة قد یحصل الفقیه علی جملة من الأدلّة علی مطلوبه هناک.

ثالثاً: تجمیع المواد الفقهیة للمسألة، ومنه یتبیّن مفاد الحدیث علی صعید مدلوله التصوری والإستعمالی.

رابعاً: الصناعة الفقهیة، وإن شئت قل: مرحلة تکییف القواعد الفقهیة مع مواد المسألة. والبحث فی هذه المرحلة لا یرتبط بالظهور العام والخاص والدلالات، وإنما هو بحث فی الملازمات بین القوانین الفقهیة، فمساحته ودائرة حرکته فی عالم الإعتبار ومتن الأحکام وواقع القانون.

ثم تصل النوبة إلی المراحل الأصولیة وهی:

أولاً: تحدید الأصل الأولی اللفظی والعملی.

ثانیاً: إعمال النکات الأصولیة فی ما تم تجمیعه من مواد، وهی مرحلة مرتبطة بالمدلول التفهیمی والجدی.

ثالثاً: ملاحظة مدی انسجام النتائج مع شقوق وفروض المسألة بعد ملاحظة استیعابها لها.

رابعاً: تحدید لوازم النتائج ومدی انسجامها مع أبواب أخری، أعم من أن تکون اللوازم فقهیة أو أصولیة.

وحینما نطالع فقه الأعلام نلحظ أنّ البعض قد تنمّر فی مرحلة أو أکثر، بل قد یصبح بعضهم صاحب مدرسة مع کونه متوسطاً فی باقی المراحل بل ربما یکون حتی دون المتوسط.

فالشهید الثانی تمیّز فی المرحلة السابعة، والشهید الأول و کاشف الغطاء تمیّزا فی المرحلة الثامنة، والکرکی و الشیخ الأنصاری فی المرحلة السادسة، و صاحب الحدائق أبدع فی المراحل الثلاث الأولی [ لا نغالی إن قلنا: إنّه خدم مَن بعده خدمة جلیلة، حیث حقّق قفزة فی المسار الفقهی فی هذه المراحل ] و السیّد الخوئی وتلامذته

ص:313

تمیّزوا وبشکل ملفت فی المرحلتین الخامسة والسادسة، و السیّد البروجردی وأتباعه فی المرحلة الأولی والثالثة، والحکیم والگلپایگانی فی المراحل الأربعة الأولی.

وبعد کلّ هذا یتضح أنّ بین الخبر الحسی والنتیجة الفتوائیة مراحل، فالخبر یوصل إلی مشارف المقولة الملفوظة من المعصوم (علیه السلام) ولا یرسل إلی متن القانون.

ولابدّ من التمییز بین عالم الدلالة والقانون، حیث قد تترامی الطرق حتی تصل النوبة إلی القانون، ولا یخفی أنّ علم الأصول مع معونة علم القواعد الفقهیة یخدم البُعدین الدلالی والقانونی.

النقطة الخامسة: جهات البحث عن حجّیة الخبر

هناک عدّة جهات فی الحجّیة للخبر الحسی، وأدلّة حجّیة الخبر لا تؤمّن إلاّ حجّیة الطریق والصدور والوصول، بل حتی الصدور له جهتان: جهة عدم تعمد الکذب وجهة عدم الاشتباه العلمی، ومن ثمّ یتساءل إنّ الدلیل علی الحجّیة هل یؤمّنهما معاً، أو یتکفل حجّیة الطریق من جهة عدم تعمد الکذب فقط؟

النقطة السادسة: تقسیمات الحدیث الأربعة
اشارة

ذکر البعض أنّ العلاّمة هو أوّل من قسّم الحدیث إلی أقسام أربعة [ الصحیح والموثق والحسن والضعیف ]، إلاّ أنّ الحق أنه کان موجوداً عند القدماء وبشکل مستوعب أکثر، والعلاّمة لم یفعل شیئاً سوی أنه نظّم الأقسام مع اختزالها، حیث جاء فی کلمات القدماء أربعة تقسیمات واقتصر العلاّمة علی تقسیم واحد.

وهذه التقسیمات [ باختصار ] هی:

التقسیم الأول: تقسیمه علی أساس الصفات العملیة. وهذا التقسیم هو الذی ذکره العلاّمة، إلاّ أنه اختزله بالصحیح والحسن والقوی والموثق والضعیف. وعندما نراجع إلی کلمات القدماء نلحظ أقساماً أخری فی هذا التقسیم ک-«الصحیح الأعلائی» و«العادل الإمامی فی

ص:314

لهجته» و«ثقة ثقة» وغیر ذلک.

التقسیم الثانی: علی أساس الصفات العلمیة، کانقسامه إلی «ضبط» و«ثبت» و«لیس براویة» و«ناقد للأخبار» و«فقیه» وغیرها.

التقسیم الثالث: تقسیمه علی أساس مضمون الخبر، مثل «أخباره کلّها متینة» أو «کلّها غلو».

التقسیم الرابع: علی أساس جهة الصدور، مثل إنّ الراوی الثقة «کان قاضیاً» أو «کاتباً عند السلطان» و«قریب الأمر لنا» و«وزیراً».

ولا یخفی أنّ هذه التقسیمات جمیعاً بلحاظ حجّیة الصدور، وإن کان أساس بعضها مرتبط بالمضمون أو جهة الصدور، إلاّ أنّ المقسم هو الخبر الحجّة من جهة صدوره وطریقه.

أهمیة تلک التقسیمات

وتظهر أهمیة هذه التقسیمات فی:

[ 1 ] الکون علی بیّنة عند الدخول فی الأدلّة المذکورة للتعرّف علی أنها تثبت الحجّیة لکلّ الأقسام أو لواحد أو أکثر دون الباقی.

[ 2 ] إنّ الحجّیة علی مراتب ودرجات، فهناک ترتب بین الأخبار بحسب الأقسام، کما ینفع ذلک فی الترجیح عند التعارض.

[ 3 ] فقه الروایة، فإنّ الراوی - مثلاً - إذا کان فقیهاً أمکن التمسک بإطلاق جواب الإمام [ لأنه فی مقام البیان ] بخلاف ما إذا کان وزیراً، وهکذا.

ولم یکتف الفقهاء بتقسیم الخبر الحجّة حتی وجّهوا عنایتهم للخبر الضعیف، فذکروا له أقساماً ودرجات ضمن نفس الأسس المتقدّمة والتقسیمات التی أشرنا إلیها ولم یترکوه علی إطلاقه.

فالضعیف المرسل مثلاً قسّموه إلی «شدید الإرسال» و«ضعیفة»

و«المظنون عدم إرساله».

ص:315

ومن جهة أخری قسّموه إلی «مخلّط» و«متساهل» و«یشتبه علیه الحدیث» وهکذا.

برکات تلک التقسیمات

وتظهر برکات هذا العمل [ بعد أن نعرف فائدة هذا التقسیم ] فی:

[ 1 ] تنظیم کیفیة نشوء الوثوق بالصدور والإستفاضة والتواتر؛ لأنّ التقسیم المذکور یحدّد الدرجة الإحتمالیة لکلّ قسم.

[ 2 ] إنّ خبر الواحد قد یکون ضعیفاً من جهة وصحیحاً من جهة أخری، ومن ثمّ یکون حجّة فی حالة فیعمل به، ولا یکون حجّة فی حالة أخری فلا یعمل به.

ومن هنا یفهم مثل موقف الصدوق من سماعة، حیث یطرح خبره لأنه واقفی إلاّ أنه فی مکان آخر یعمل بروایاته، و هذا الموقف لیس تناقضاً منه (قدس سره) إذ أنّ سماعة ضعیف فی جانبه العلمی، فإذا شک فی الخبر بحیث یرجع الشک إلی بُعده العلمی المنحرف لا یؤخذ بخبره و إلاّ عمل به.

وهکذا الأمر فی مثل سهل الذی ضعّف لأنه مخلّط فلا یُعمل بروایته مع الشک الراجح إلی تخلیطه لعدم جریان أصل عدم الاشتباه.

ویتلخص من کلّ ما تقدّم: أنّ زوایا الشک لما کانت متعدّدة لا معنی لحصر التقسیم بالصفات العملیة للراوی، وأنّ الضعف لما کان نسبیاً لا معنی لإهمال تقسیمه وترکه علی إطلاقه.

النقطة السابعة: وجوب حفظ الدین علی صعید العلم والعمل

لا یخفی أنّ مدارسة الدین واجبة بالحدّ الذی یحفظه عن الإندراس أولاً، ویجعل من النظریات ضروریات ثانیاً [ کما نلحظ ذلک فی مسألة بطلان التجسیم، فإنّها کانت مسألة نظریة، وبالمدارسة تحوّلت إلی ضروریة. ]

ص:316

والمدارسة واجبة بکلّ أشکالها [ کالدرس والخطابة والتبلیغ وحفظ الحدیث ونشره إلی غیر ذلک. ]

هذا علی صعید الحالة العلمیة، ومثله الحال علی مستوی الجانب العملی، فإنه یجب حفظ الدین فی هذا الجانب، وإن کان الأعلام قد تشدّدوا فی البُعد الأول أکثر، فکانوا حریصین علی حفظ الحالة العلمیة وإبقاء العلم بالدین علی نطاق وسیع.

وإنما أثرنا هذه النقطة تمهیداً لما سیأتی من نظر بعض الأدلّة لهذا الأمر، لا لإثبات حجّیة الخبر، فلأجل البصیرة وتجنب الخلط ذکرنا هذه اللفتة.

وبعد کلّ هذه التمهیدات نَدخُل صلب البحث فی خبر الواحد وسنبدأ من استعراض الأدلّة.

ص:317

2 . أدلّة المانعین

اشارة

ونکتفی بالمرور السریع علیها [ وسنقف عندها طویلاً عند الحدیث فی أدلّة الإثبات، حیث کانت بعض تلک الأدلّة متقومة بدفع أدلّة المنع، فبحثها الأعلام هناک بعمق. ]

الدلیل الأول: الکتاب العزیز

إنّ الکتاب فی آیاته المبارکة الناهیة عن العمل بالظن یصرّح بعدم الإعتناء بالظن بما فی ذلک: خبر الواحد. وقد تمّ التعرض لها وتحقیق دلالتها فی بحث سابق وهو بحث الشک فی الحجّیة.

الدلیل الثانی: طوائف من الروایات

هناک طوائف من الروایات من قبیل «ما خالف کتاب ربّنا لم نقله» و«خذوا ما وافق الکتاب» دالّة علی ضرورة وجود شاهد إلی جانب الخبر وغیر ذلک.(1)

وسیأتی أنّ بعضها متعرض لشرائط مضمون الخبر الحجّة.

وقد أشکل الشیخ و الآخوند علی هذا الدلیل بأنها أخبار آحاد لا معنی لاعتمادها فی نفی حجّیة أخبار الآحاد. نعم، هی متواترة إجمالاً فیؤخذ بالمتیقن منها، وهو أنّ الخبر الحجّة مشروط بعدم مخالفته للکتاب.

ویلاحظ علیهما: أنّ کلّ طائفة من هذه الطوائف مستفیضة، ولکن

لیست هی فی صدد نفی حجّیة الخبر، کما سیتبلور بعدُ.

ص:318


1- (1) . راجع: وسائل الشیعة، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4: باب عدم جواز القضاء والإفتاء بغیر علم بورود الحکم عن المعصومین(علیهم السلام)، الأحادیث 1، 2، 3، 5، (صلی الله علیه و آله)، 9، 10، 19، 29، 31، 32، 33، 3(صلی الله علیه و آله) * الباب 6: باب عدم جواز القضاء والحکم بالرأی والإجتهاد والمقاییس ونحوها من الإستنباطات الظنیة فی نفس الأحکام الشرعیة، الأحادیث 1، 2، 5، 6، 8، 9، 12، 32، 38، 42
الدلیل الثالث: الإجماع

وقد أقرّ الشیخ الطوسی وجود دعاوی إجماع من قبل متکلّمی الإمامیة، کما أنه لم یعثر (قدس سره) علی مصرِّح بالإجماع علی الحجّیة وإنما استند إلی الإجماع العملی.

وقد اتفق کلا الفریقین علی العمل بالأخبار المودعة فی الکتب المشهورة، مع اختلافهم فی تخریج ذلک کما سبق.

کما وجد الشیخ الطوسی دعاوی الإجماع علی عدم الحجّیة بأنّهم قالوه فی قبال العامّة [ لعدم استطاعتهم ردّ أخبارهم بحجّة فسق الرواة خاصة وضّاع الحدیث الذین برزوا فی عصر الدولة الأمویة. ] ویستشهد فی العدّة علی أنّ عملهم قائم علی خبر الواحد، ودعوی «أنّ الأخبار التی تمّ العمل بها، مستفیضة أو لها شواهد قرآنیة وغیر ذلک» جزاف.

وفصل الکلام سیکون عند البحث فی الإجماع علی الحجّیة.

الدلیل الرابع: العقل

بصیاغات متعدّدة من قبیل صیاغة ابن قبة، [ وقد تقدّم الحدیث عنها فی بحث إمکان التعبد بالظن ] وقبح إسناد شیء للّه تعالی من دون علم، وأنّ الإشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی والظن لیس فراغاً یقینیاً، وغیر ذلک.

وجواب الکلّ واحد، وهو أنه مع ثبوت الحجّیة واعتبار الشارع لها ینعدم موضوع هذه الأدلّة، فهی أدلّة تعلیقیة لا ناجزة.

ص:319

3 . أدلّة المثبتین

اشارة

لابدّ من التنبّه إلی وجود شرائع طولیة فطریة وعقلائیة وشرعیة.

و الشرعیة مبنیة علی الشریعة العقلائیة فی لغتها التصوریة، وکثیر من بنودها علی مستوی التصدیق.

من هنا دأب الأعلام عند وجود حکم فطری عقلی وورود حکم شرعی مطابق له، حمله علی الارشاد مطلقاً، أو فیما إذا کان فی سلسلة معلولات الحکم الشرعی کوجوب الطاعة.

والقائل بالإطلاق لم یکن بسبب قاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع، وإنما من باب کلّ ما حکم به العقل یغنی عن الشرع، فیصبح منجزاً ومعذراً وضمن الشریعة، کیف لا والشریعة شریعة الفطرة.(1)

فوجود الحکم العقلی - کما لاحظنا - یؤثر فی الإستظهار من الدلیل الشرعی، حیث ینفع فی رفع الید عن الظهور فی المولویة، بل حتی من یستظهر المولویة فی الجملة ینفع الحکم العقلی فی معرفة دائرة التشریع وحدوده.

کذلک الحکم العقلائی له أثر فی استظهار الدلیل الوارد فی الحجّیة علماً أنه لابدّ من حمله علی المولویة، ولکنّه مع ذلک یؤثر فی فهم قیوده وموضوعه وغیر ذلک من شؤونه.

وبعبارة أوضح: الدلیل النقلی یتأرجح بین کونه إمضاءً أو تأسیساً،

ص:320


1- (1) . [س] القائل بالإرشادیة مطلقاً لما ذکره من کفایة الحکم العقلی عن الشرعی مع وجود حکم العقل ینکر الملازمة، لأنها تعنی ثبوت حکم شرعی مولوی؟ [ج] مع القول بالإرشاد لا للقرینة الخاصة، وإنما لما ذکره من الإغناء لابد أنه ینکر الملازمة، إذ القول بالملازمة یلزمه القول بالمولویة. نعم، قد یقول أحد بالملازمة، ومع ذلک یحمل دلیلاً ما علی الإرشاد لقرینة خاصة. [س] ولکن منکر الملازمة هذا یبقی طرفاً للنزاع مع الأخباریین، لأنّهم أنکروا الملزوم وهو حکم العقل، وأنه مادة تشریع وهو یقبله؟ [ج] نعم.

ووجود تقنین من العقلاء له دور فی حسم الأمر.

ومن هنا یتضح النقص فی البحث التجریدی ومن دون مراعاة القرینة المؤثرة فی قراءة الدلیل وکیفیة علاجه. نعم، یمکن تبریر البحث التجریدی، ولکن کمقدمة لا إلی نهایة المطاف؛ لأنّ الدلیل النقلی من سنخ الأدلّة. فلابدّ أولاً من معالجة الدالّ فی نفسه وعلی مستوی دلالته التصوریة والإستعمالیة، ثمّ [ وعند تحدید المراد الجدی وحتی التفهیمی ] تلحظ القرائن المنفصلة ومنها الحکم العقلی والعقلائی.

ومن هنا کان الأسلم منهجیاً الدخول أولاً ببحث السیرة، ثمّ الإنتقال منه إلی النقل [ الذی هو إمضاء لها ] إن ثبت أنّ لها وجوداً و إلاّ کان تأسیساً. ولکن جریاً علی طریقة الأعلام سیتمّ البحث أولاً فی النقل بشقّیه [ الکتاب والسنّة ] ثمّ یتمّ البحث فی بناء العقلاء. ولکن کما عرفت سیکون البحث ناقصاً وتجریدیاً لعدم مراعاته لبناء العقلاء.

ص:321

الدلیل الأول: القرآن الکریم
اشارة

استدلّوا لحجّیة خبر الواحد بآیات من الکتاب الکریم.

الآیة الأولی: آیة النبأ

و هی قوله تعالی (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ) .(1)

سبب نزول الآیة

سبب نزول الآیة کما ذکره المفسّرون أنّ الرسول (صلی الله علیه و آله) أرسل الولید بن عقبة لجمع صدقات قوم کان بینه وبینهم دم، ومع ذلک قد خرج هؤلاء تکریماً له وإعطائه الصدقات إلاّ أنه توهّم أنّهم یریدون الثأر منه، فرجع إلی النبی (صلی الله علیه و آله) وأخبره بأنّهم ارتدّوا وامتنعوا من دفع الصدقة، فغضب (صلی الله علیه و آله) ومَن معه، واستقر الرأی علی غزوهم، إلاّ أنه (صلی الله علیه و آله) تریّث، کما تشیر الآیة إلی ذلک: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِیکُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ یُطِیعُکُمْ فِی کَثِیرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) .(2)

وقفة مع مفردات الآیة

ص:322


1- (2) . الحجرات/ 6
2- (3) . الحجرات/ 7

«إِنْ » أداة شرط ممحضة فی الشرطیة، بل هی من أدلّ أدوات الشرط. ومتلوّ «إن» مجیء الفاسق بنبأ، والنبأ لم یقید بشیء.

والجزاء حیث کان فعل أمر صدّر بالفاء.

«فَتَبَیَّنُوا» فیها کلام: إنها أمر إرشادی، غیری، نفسی، طریقی؟

«بِجَهالَةٍ » مردّدة بین عدم العلم والسفاهة وإن کان الثانی أقرب؛ لأنّ الجهل لغة أخذ مقابل العقل العملی، فهو صفة عملیة ممزوجة بالإدراک، ومن هنا عنون باباً فی الکافی تحت عنوان «کتاب العقل والجهل» وعنون کتاب العلم به وحده.

سیما الجهالة فإنه أوضح من الجهل فی السفاهة، و ربما یندر وقوعها بمعنی عدم العلم.

شرط الدلالة علی المفهوم

الدلالة علی المفهوم مشروطة بأن یکون الموضوع الأصولی للحکم غیر الشرط، و إلاّ لما کان للجملة مفهوم وإنما انتفی الحکم بانتفاء موضوعه.

الإستدلال بمفهوم الشرط

تقریب دلالة الآیة علی الحجّیة بمفهوم الشرط: إنّ الآیة اشترطت التبیّن، وأی شیء فسّرنا به التبیّن فهو یعنی عدم حجّیة خبر الفاسق، و إلاّ لم یکن معنی للتبیّن.

وشرط وجوب التبیّن هو مجیء الفاسق، فإذا لم یأت به هو وإنما جاء به العادل فهو حجّة لا یتبیّن خبره.

المناقشة الأولی فی هذا التقریب

وقد نوقش فی هذا التقریب بأنّ الآیة لا مفهوم لها؛ لأنها مسوقة لبیان الموضوع نظیر إن رزقت ولداً فاختنه.

وهذه المناقشة یمکن بیانها بشکلین:

الأول: إنّ الموضوع هو تمام الشرط [ وهو إنباء الفاسق بنبأ. ]

الثانی: إنّ الموضوع هو جزء الشرط [ وهو النبأ. ]

وعدم الدلالة علی المفهوم بالبیان الأول واضح. وأما علی البیان

ص:323

الثانی فلأنّ الشرط یتصور انعدامه کله بما فی ذلک الموضوع، ویتصور مع انعدام جزءه [ وهو ما عدا الموضوع ] بقاء الموضوع ومعه یتعقل المفهوم.

فالمتکلّم إن لم یرد التعلیق فی کلامه لم یثبت المفهوم فی الحالات الثلاث ولا مشکلة، وإن أراد التعلیق بکلامه الحاوی للحالات الثلاث فهو غیر معقول بعد أن کانت الحالتان لا یتعقل فیهما المفهوم.(1)

التفکیک بین الشرط والموضوع

وقبل تقییم هذه المناقشة لابدّ من توضیح ما ذکرناه فی النقطة الثالثة من أنّ الدلالة علی المفهوم مقیدة بعدم کون الموضوع هو الشرط.

إذ قد یتساءل: إنّ الشرط قید الحکم أیضاً کالموضوع، فهو جزء الموضوع الأصولی للحکم، کما أنّ الموضوع واحد من شروط الحکم وقیوده، فلا معنی للتفکیک بین الشرط والموضوع وتصویر أنّهما شیئان.

ص:324


1- (1) . [س] إنّ هذا یعتمد علی فرض عدم التعلیق مع کون الشرط هو الموضوع، لا أنّ التعلیق مقصود وأداة الشرط - خاصة المتمحضة به مثل إن - مستعمله فی معناها، لکن مع ذلک لا یثبت المفهوم. وبعبارة أخری: فی الجمل الشرطیة المسوقة لبیان الموضوع، هل هناک تعلیق من دون مفهوم؟ [وحینئذ لا مشکلة فی الشکل الثانی] أو لا مفهوم لعدم التعلیق؟ [ج] یذکر الأصولیون أنّ أداة الشرط حتی المتمحضة منها مع عدم المفهوم لم تستعمل فی التعلیق وإنما فی الظرفیة، فتدلّ علی صرف الترتب، ومن هنا کان المفهوم عندهم لیس مراداً جدیاً وتفهیمیاً فحسب، وإنما هو مراد استعمالی، حیث ذکروا أنه علی حافة المدلول المطابقی، فلیس مدلولاً إلتزامیاً؟ وبالتالی فأدوات الشرط حتی المتمحضة مستعملة استعمالاً مجازیاً فی مورد الجمل الشرطیة المسوقة لبیان تحقق الموضوع، وإنما سمیت شرطیة حینئذ بملاحظة صورتها، وإلاّ فإنّ واقعها هو الحملیة.

فالجواب: إنّ مرادهم من الموضوع قید الحکم وشرط الإتصاف، کما أنّ الشرط قید للحکم و الموضوع. وبهما معاً یوجد الحکم خارجاً ویتصف متعلّقه بالملاک. وبانتفاء کلّ منهما ینتفی الحکم، سوی أنّ القیود فی صیاغتها القانونیة علی نمطین:

[ 1 ] الذی یعدّ رکناً رکیناً فی موضوع الحکم وقیوده.

[ 2 ] الذی یعدّ هامشیاً ومن الذیول، کأن لا یکون قیداً مباشراً للحکم وإنما من قیود قیوده أو یکون قیداً مباشراً إلاّ أنه لیس محور القیود.

ثمرات تقسیم القیود

ولهذا التقسیم ثمرات:

منها: إنّ المشهور أفتی بوجوب إتمام الصلاة فیمَن طوی المسافة الشرعیة قاصداً للمعصیة وبعدها نوی الطاعة، کما أفتی بوجوب التمام فی العکس أیضاً [ أی فیمَن طوی المسافة الشرعیة قاصداً الطاعة ثمّ نوی المعصیة. ]

وقد سجّل الأعلام علی هاتین الفتویین أنّهما متناقضتان؛ لأنّ عدم قصد المعصیة إمّا أن یکون رکناً فی موضوع وجوب القصر کالمسافة الشرعیة، فالفتوی الثانیة صحیحة دون الأولی؛ وإمّا أن یکون من قیود المسافة، فالفتوی الأولی صحیحة دون الثانیة. وبهذا تتضح ثمرة کون القید رکناً أو لا.

ومنها: الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، فإنه یجری مع بقاء الموضوع الرکنی للحکم ویمکن أن یعدّ هذا ضابطاً إنّیاً للتمییز بین ما هو رکن عما هو لیس کذلک.

الفرق بین الشرط والموضوع

هذا بالإضافة إلی فارق آخر وهو: إنّ نحو ارتباط الشرط بالمشروط یختلف عن نحو ارتباط الموضوع بالحکم علی مستوی

ص:325

اللفظ والدلالة، فإنّ نحو الأول تعلیقی ونحو الثانی ترتبی، ومن ثمّ نحصّل علی المفهوم فی الأول دون الثانی.

وقد اتفق الأعلام علی هذا الفارق علی المستوی المذکور وإن اختلفوا فیه علی مستوی متن القانون، فقال بعضهم: إنّ کلّ القیود أخذت بنحو الترتب فی الحکم، فلا یوجد الحکم إلاّ بتوفّرها جمیعاً، وقال آخر کالسیّد بحرالعلوم و المحقّق العراقی ویلوح من کلمات الشیخ: إنّ ما یؤخذ بنحو التعلیقیة علی صعید الدلالة یؤخذ کذلک علی صعید القانون. ومن ثمّ تبلور قسم جدید من الحکم عندهم، وهو الحکم التعلیقی الذی أصرّ المحقّق النائینی علی إنکاره بشدة.

تقریب آخر للإستدلال بالشرط

وإذا اتضح ما تقدّم نقول: إنّ ظاهر الآیة المبارکة أنّ هناک شرطاً قد علّق الحکم علیه، وموضوعاً قد رتّب الحکم علیه.

فالشرط هو متلوّ الأداة [ وهو مجیء الفاسق وإنباؤه ] والموضوع الرکنی [ وهو طبیعی النبأ ] هو المحور لوجوب التبیّن وعدمه. وذکره قبل الجزاء لا یعنی أنه شرط أو جزء الشرط، بعد أن کانت هناک قرینة علی کونه موضوعاً [ باصطلاح الجملة الشرطیة ] لا شرطاً [ وهی أنه متعلّق المتعلّق] ولکن لا یجب تبیّنه مطلقاً، وإنما إذا کان محقّقه وموجده إنباء الفاسق.

وهذه الجملة نظیر ما لو قال: النبأ إن جاءکم فاسق به فتبیّنوه. فالنبأ متعلّق المتعلّق فهو جزء من الجزاء والجزاء قضیة حملیة ممّا یدلل علی أنّ نحو ارتباطه بالحکم ترتبی، کما یدلل علی أنه لیس جزءاً من الشرط فضلاً عن کونه هو الشرط کله.

ویدلّ علی ما ذکرناه إمکان جریان استصحاب وجوب التبیّن لو أنبأ الفاسق بنبأ وبعده صار عادلاً، فنشک أنّ الفسق حدوثاً شرط الوجوب، فیجب التبیّن فی نبئه حین فسقه إن صار عادلاً، أو أنّ الشرط هو الفسق حدوثاً وبقاءً فلا یجب التبیّن؟ وبما أنّ رکن

ص:326

الإستصحاب [ وهو الموضوع الرکنی، أی النبأ ] موجود أمکن جریان استصحاب الوجوب مما یدلل علی أنّ الموضوع غیر الشرط.

بل لو دققنا أکثر لوجدنا أنّ الذی أخذ شرطاً هو الوصف [ وهو الفسق ] وهو لیس موجداً للنبأ لا حدوثاً ولا بقاءً، وإنما الموجد له المنبئ من دون أی مدخلیة لفسقه فی الإیجاد.

المناقشة فی التقریب

فیتبلور أنّ الآیة لیست مسوقة لبیان تحقق الموضوع، ولکن قد یقال: إنّ المشکلة لم تحسم بشکل کامل؛ لأنّ غایة ما انتهینا إلیه أنّ الموضوع الأصولی للحکم أصبح مرکباً من النبأ [ الذی هو الموضوع باصطلاح الجملة الشرطیة ] وإنباء الفاسق [ الذی هو الشرط باصطلاح الجملة الشرطیة. ]

أنماط الموضوعات الترکیبیة

وقد ذکر المحقّق النائینی أنّ الموضوعات الترکیبیة علی نمطین:

[ 1 ] ترکیبیة انضمامیة عرضیة، فلیس أحدها وصف الآخر وإنما کلّ من الجزئین قید الحکم مباشرة.

[ 2 ] ترکیبیة نعتیة طولیة، أی لیست تمام الأجزاء قیود الحکم مباشرة، وإنما واحد منها قید مباشر [ وهو الموصوف والمنعوت ] والوصف قید القید.

وقد أضاف (قدس سره): أنّ هذا التقسیم یتأتی فی المتعلّقات أیضاً.

ونضیف نحن: أنه قد عثرنا علی حالات تکون علاقة الجزء الاول مع الثانی نعتیة، کذا علاقة الأول مع الثالث، ولکن علاقة الثانی والثالث انضمامیة. وقد یکون الثالث نعت الثانی، والثانی نعت الأول، أی تترامی النعتیة.

ثمرة هذا التقسیم

ص:327

وتظهر الثمرة [ فی التقسیم إلی الإنضمامی والنعتی ] فی الإحراز، حیث یمکن إحراز کلّ من الجزئین علی حدة فی الإنضمامی [ کأن یحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ] دون النعتی.

تقریب لعدم المفهوم للجملة الشرطیة

هذا ولکن المحقق النائینی فی استصحاب العدم الأزلی قد ارتکب خلاف ما ذکره من التقسیم، حیث ذهب إلی أنّ الموضوعات الانضمامیة تؤدی نتیجة التحصیص؛ لأنّ الجزء الأول لا یترتب علیه الحکم مطلقاً، وإنما علی خصوص الحصة المقارنة للجزء الثانی. ومن ثمّ یتلخص الفارق بین النعتیة والانضمامیة أنّ فی الأول قد أخذ عنوان المعیة والتقارن والتقیید فی الموضوع دون الثانی، فإنّ المقنّن أخذ فیه واقع المتقارنین فی ظرف المقارنة.

ومع هذا فالموضوع فی الجملة الشرطیة وإن کان النبأ وکان ارتباطه مع الشرط بنحو الانضمام، إلاّ أنّ الواقع أنّ موضوع الحکم الأصولی سیکون هو الحصة، فلا مفهوم للجملة الشرطیة حینئذ؛ لأنها ستکون مسوقة لبیان تحقق الموضوع [ وهو الحصة. ]

جواب عن هذا التقریب

والجواب:

أولاً: إنّ ما ذکره المحقّق النائینی فی بحث استصحاب العدم الأزلی خُلف تقسیمه الموضوعات المرکبة إلی قسمین؛ لأنّ الإنضمامیة حینئذ [ وبالبیان الذی ذکره ] ستکون عین النعتیة، بعد الإلتفات إلی حقیقة النعتیة وأنّ ذات النعت غیر مأخوذ، وإنما المأخوذ هو تقیّد المنعوت به وکمعنی حرفی لا اسمی، فیرجع إلی أخذ واقع الضیق، وهو عین ما ذکره فی الإنضمامیة.(1)

ص:328


1- (1) . لازم بیانکم هذا أنّکم لا تقبلون فکرة متمم الجعل فی بحث التعبدی وأخذ العلم بالحکم فی موضوع الحکم الذی هو نتیجة التقیید، حیث ظهر منکم أنّ التقیید لیس إلاّ أخذ واقع الضیق. هذا أولاً. وثانیاً: إنّ الحدیث عن المفهوم مرتبط بالدلالة، وما ذکره المیرزا فی حقیقة الإنضمام ومآله مرتبط بالواقع ومتن القانون، مع قبوله الفرق علی صعید الدلالة، وربما یکون هو السبب فی عدم ذکره ما ذکره هناک فی هذا البحث، ویدلل ذلک قبول فکرة نتیجة التقیید بمتمم الجعل مع رفضه لإمکان التقیید لوجود مشکلة - هو رآها - علی صعید التقنین.

مع أننا بالوجدان نمیّز بین الأعمدة الثلاثة المقوّمة للسقف، وبین العمود الصلب المقوم له، ففی الأول لا ربط لعمود بعمود آخر، وإنما کلّ عمود مؤثر مطلقاً [ لا الحصة ] إلاّ أنّ تأثیره محدود وناقص یتمّ بانضمام العمودین الآخرین له، بخلاف الثانی فإنّ الصلابة دخیلة فی تمامیة فاعلیة الفاعل [ وهو تأثیر العمود فی رفع السقف. ]

وبعبارة أکثر وضوحاً: إنّ الموضوعات الإنضمامیة بمثابة الفواعل الناقصة، وأمّا الوصف فی الموضوعات النعتیة فهو متمم لفاعلیة الفاعل أو قابلیة القابل. ومن ثمّ کان الموضوع فی الإنضمامی هو المجموع، وفی النعتی هو الحصة.

وما ذکره المحقّق النائینی من أنّ الجزء فی الإنضمامی لا یوجد الحکم مطلقاً، وإن کان صحیحاً إلاّ أنه لا یعنی أنّ الموجد هو الحصة، وإنما هو مجموع العلل الناقصة.

ثانیاً: إنّ لازم ما ذکره هو منع المفهوم فی کلّ الجمل الشرطیة، لتحصص الموضوع بالشرط، ففی مثل: «إذا جاءک زید فأکرمه» لیس الموضوع مطلق حالات زید، وإنما زید فی حالة المجیء.

وهذا اللازم باطل لبداهة ثبوت المفهوم فی الجملة الشرطیة فی الجملة.

ثبوت المفهوم للجملة الشرطیة فی الجملة

فتلخّص: أنّ الجزء الإنضمامی مطلقاً موضوع لا حصة منه، إلاّ أنه موضوع ناقص، ومعه أمکن ثبوت المفهوم للجملة الشرطیة إذا کانت علاقة الموضوع مع الشرط علاقة الإنضمام.

ص:329

نعم، فی مورد تکون العلاقة فیه نعتیة سیکون الموضوع هو الحصة، فلا مفهوم عندئذ.

وعلی صعید الإثبات غالباً مّا تکون الأدوات الحرفیة کالواو والباء تعبّر عن الإنضمام، مع اختلافهم فی بعض الأدوات أنها تعبّر عن النعتیة أو الإنضمامیة. وإذا کانت معان اسمیة کانت معبّرة عن العلاقة النعتیة.

العلاقة بین الموضوع والشرط إنضمامیة فیثبت المفهوم

إذا اتضح ما تقدّم نأتی إلی ما نحن فیه: فقد عرفت أنّ هناک موضوعاً وشرطاً، فلیس الموضوع تمام الشرط، بل ولا حتی جزء منه.

ولکن ما هی طبیعة العلاقة بینهما بعد أن کانا موضوعاً أُصولیاً مرکباً للحکم، فهل هی الإنضمامیة أو النعتیة، فلا یثبت المفهوم مع الثانی دون الأول؟

الحقّ أنّ العلاقة انضمامیة بقرینة الباء الداخلة علی النبأ. وکون إنباء الفاسق أحد محقّقات وموجدات طبیعی النبأ لا یعنی أنه وهو لیسا جزئین إنضمامیین.

فتلخّص أنّ العلاقة بینهما [ بما أنهما جزءان من الموضوع الأصولی للحکم ] إنضمامیة، وأنّ المانع من المفهوم هی العلاقة النعتیة وکذا الإنضمامیة إذا آلت إلی التحصیص، وقد عرفت فساده وبهذا ارتفع أحد الموانع من ثبوت المفهوم، وربما أنّ أحدهما رکنی [ موضوع فی الجملة الشرطیة ] والآخر ذیل مع کونه قیداً مباشراً للحکم، فقد ارتفع المانع الآخر عن المفهوم.

وقد عرفت أنّ کلا المانعین یتوقف تصویر ارتفاعهما علی فرض أنّ النبأ لیس جزء الشرط فضلاً عن أن یکون هو، وقد تم تقریب ذلک.

وبهذا ینتهی الحدیث فی المناقشة الأولی ونقدها.

ص:330

المناقشة الثانیة فی الإستدلال بآیة النبأ

المناقشة الثانیة [ التی اعتمدها الشیخ الطوسی و الطبرسی وغیرهما ]: أنّ «أن تصیبوا» تعلیل لوجوب التبیّن، والعلّة تعمّم وتخصّص، فبما أنها موجودة حتی فی خبر الثقة والعادل یجب التبیّن فیهما لتغلّب العلّة علی المفهوم [ لأنّ المفهوم مدلول تبعی للمنطوق - بل قدیماً کان یصنّف فی المدلول الإلتزامی ] فی حین أنّ التعلیل مدلول مطابقی.

ولا یخفی أنه لابدّ من تکییف هذا القول مع ما اختاره فی العدة من إجماع الطائفة علی العمل بخبر الواحد.

ملاحظات علی هذه المناقشة

وقد ذکرت أجوبة متعدّدة لهذه المناقشة:

الجواب الأول: إنّ «أن تصیبوا» لیست تعلیلاً، وإنما متعلّق (احذروا) الذی یجب أداؤه.

الجواب الثانی: إنّ الجهالة لا تعنی «عدم العلم» وإنما تعنی «السفاهة» التی هی نقص فی العقل العملی جنباً إلی جنب نقص العقل النظری، ومن ثمّ لا یشمل التعلیل خبر العادل والثقة لعدم إیجابه السفاهة.

وما قد یقال: إنّ فی الجواب مصادرة؛ لأنه مبنی علی فرض حجّیة خبر العادل والثقة فی مرحلة سابقة، مع أنه المطلوب إثباته.

فجوابه: إنّ المطلوب إثباته هو الحجّیة الشرعیة، والثابت فی مرحلة سابقة هو الحجّیة العقلائیة.

ولکن یمکن القول حینئذ إنّ ثبوت الحجّیة العقلائیة فی مرحلة سابقة لا یکفی إلاّ فی إثبات أنه لیس سفاهة عند العقلاء، وإلاّ قد یکون سفاهة عند الشارع فی الوقت الذی لا یری العقلاء العمل به سفاهة.

إلاّ أنه یجاب عنه: بأنّ العناوین المأخوذة فی الموضوعات مع

ص:331

عدم القرینة کما تحمل علی معانیها اللغویة، کذا تحمل علی وجوداتها الإعتباریة والتکوینیة.

ویبقی إشکال هو أنّ ظاهر الآیة أنّ الأصحاب أقدموا علی ترتیب الأثر علی خبر الولید بالتهیؤ لغزو القوم، ومثل هذا الإقدام لا ینسجم إلاّ بتفسیر الجهالة بعدم العلم، إذ لا یتعقل إقدامهم علی سفاهة.

وجوابه: أنّ ذیل الآیة: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِیکُمْ رَسُولَ اللّهِ) دلیل علی أنّ الجهالة بمعنی السفاهة؛ لأنه توبیخ وهو لا یکون إلاّ علی العمل السفهی لا علی الجهل وحده.

الجواب الثالث: [ ذکره المحقّق النائینی ] إنّ خبر الثقة بعد اعتباره من خلال المفهوم یکون علماً تعبدیاً، فالسفاهة منفیة حینئذ لانتفاء احتمال الوقوع فی الخطأ.

وبعبارة أخری: إنّ المفهوم یکون حاکماً علی التعلیل لا أنّهما یتعارضان فیقدّم التعلیل لأنه أقوی دلالة.

ولاحظ المحقّق العراقی علی هذه الإجابة بأنّ التدافع بین التعلیل والمفهوم فی مرحلة الدلالة، وحیث یمکن العلاج الدلالی [ بتقدیم الأقوی دلالة وهو التعلیل ] لا تصل النوبة إلی معالجة المحقّق النائینی [ التی هی معالجة قانونیة مرتبطة بحلّ المشکل علی صعید المراد الجدی. ]

هل المعالجات القانونیة تکفی فی حلّ التعارض فی الأدلّة المتصلة؟

وهاهنا نکتة کلیة یجدر الإلتفات إلیها وهی أنّ المعالجات القانونیة تکفی فی حلّ التعارض بین الأدلّة المنفصلة، ولکن هل تکفی فی حلّ التعارض فی الأدلّة المتصلة؟

ظاهر المحقّق النائینی ذلک [ بدلیل ما ذکره فی حلّ تعارض الآیة ] وظاهر المحقّق العراقی العدم [ لأنّ الدلالة لا تکتمل ] فإن أمکن العلاج الدلالی فبها، وإلاّ کان الدلیلان مجملین فلا تصل النوبة إلی العلاج القانونی أبداً؛ لأنه فرع تصادم المرادین الجدیین، وهما فرع

ص:332

تشکل الظهور الإستعمالی والتفهیمی، وهو مفقود بسبب التصادم وعدم العلاج.

والحقّ التفصیل بین حالة وضوح کلّ من القضیتین فی الدلیل المتصل [ بحیث لو کانتا منفصلتین لکانتا تامتی الدلالة، فإنّ العلاج القانونی یؤثر عند فقد العلاج الدلالی.

ومثله ما کان التعارض بین بعض مصادیقهما التی انحلّ إلیها القضیتان، فإنّ الإنحلال أساساً مرتبط بالمراحل القانونیة، ولیس شأناً دلالیاً، وهو لاریب فی فائدة العلاج القانونی. ]

وبین ما إذا لم یکن الظهور تاماً، ولا التعارض بلحاظ الإنحلال، وإنما کان بلحاظ أصل المعنی التفهیمی أو الإستعمالی، فیشکل حینئذ العلاج القانونی.

وفیما نحن فیه حیث کان التعارض بین التعلیل والمفهوم علی صعید المعنی التفهیمی، وأمکن العلاج الدلالی بتقدیم التعلیل علی المفهوم لأقوائیته، کان الحقّ مع المحقّق العراقی، ولا تصل النوبة إلی معالجة المحقّق النائینی أبداً.

ملاحظة الصدر علی النائینی

ولاحظ السیّد الصدر علی إجابة المحقّق النائینی أیضاً: بأنّ مفاد کلّ من التعلیل والمفهوم فی رتبة واحدة؛ لأنّ مفاد المفهوم (خبر العادل علم) ومفاد التعلیل (خبر الواحد لیس علماً) ومعه لا معنی لفرض حکومة المفهوم علی التعلیل.

نقد ملاحظة الصدر

ویمکن نقد هذه الملاحظة: بأنّ مفاد التعلیل لا یخلو إمّا أن یکون اعتباراً لعدم علمیة خبر الواحد، أو إخباراً عن عدم علمیته، أو ردعاً عن حجّیته.

والإحتمال الأول لا معنی له کبرویاً؛ لأنّ عدم الإعتبار کاف فی

ص:333

العدم من دون حاجة إلی اعتبار العدم إلاّ فی مثل المانع، فإنه یحتاج إلی اعتبار عدمه، وما نحن فیه لیس من قبیل المانع.

کذا لا معنی للإخبار؛ لأنه تحصیل للحاصل فی الفاسق، والتعلیل فیه وفی العادل جاء بصیغة واحدة.

أما الردع فحقیقته فی الأفعال التکلیفیة الإنشاء والإعتبار، سیما مع تأکید البیانات، کما إذا کانت هناک سیرة علی فعل محرّم، فالردع یکون بصیغة التحریم.

وحقیقته فی السیر الوضعیة أیضاً الإنشاء، ولکن للتکلیف؛ لأنّ محض الوضع لا یکفی سیما فی السیر المتفشیة، ومثل هذا الإنشاء کاف فی الردع من دون حاجة إلی اعتبار لحکم وضعی.

ومنه یتضح أنّ فیما نحن فیه لا یوجد اعتبار لعدم الحجّیة، وإنما کلّ ما هو موجود هو عدم اعتبار الحجّیة، ویکون التعلیل إرشاد له.

وعدم الإعتبار لا یقاوم الإعتبار للحجّیة، والارشاد لا یکون لغواً بعدما کان عامّاً، وکان اعتبار الحجّیة خاصاً بالعادل الثقة.

الجواب الرابع: لو افترضنا تمامیة التعلیل، إلاّ أنه لامحالة منتقض فی کلیته فی مثل البیّنة [ التی هی حجّة فی الموضوعات التی هی مورد نزول الآیة ] ومنتقض بحجّیة خبر الثقة [ الثابت بأدلّة أخری ] مما یکشف عن أنّ الشارع لم یرد عموم التعلیل وإنما أراده عند وجود الشرط لا غیر.

و هذا الجواب ینطلق من نکتة کلّیة وهی أنّ أیّ دلیل إذا أردنا الوصول إلی دلالته النهائیة ومراده الجدی الواقعی لابدّ أن لا یتمّ دراسته بشکل تجریدی ثمّ مقایسة مراده الواقعی مع سائر مرادات الأدلّة الأخری الواقعیة والأقلمة بینها، وإنما المنهجی مراعاة نسبته وملاحظة مفاده بضمیمة مفادات الأدلّة الأخری، حیث قد تکشف عن توائم ذاتی بینها بالعثور علی نکات فی الأدلّة لا یتسنی العثور علیها لو أخذت مجردة، وقد لمسنا أثر المنهج هذا فی فقه المشهور فی

ص:334

مسائل متعددة ومتنوعة.(1)

المناقشة الثالثة فی الإستدلال بآیة النبأ

المناقشة الثالثة: لا ریب أنّ ثبوت کفر شخص لا یتمّ بخبر الواحد وإنما لابدّ من البیّنة، وفی کفر القوم لا تکفی حتی البیّنة [ خاصة مع ملاحظة ما یترتب علیه من جهاد وإراقة دماء ] فإنّ نهج مثل هذه المسائل العامّة لیس فقط قطع العذر، وإنما توخی الواقع بحسب وسع الحاکم [ کما فی مثل قضیة ثبوت الهلال، فإنه یکفی للشخص الإعتماد فی ثبوته علی البیّنة القاطعة للعذر، وأمّا الحاکم - الذی یرید الحکم بثبوته لعموم الناس - فلا تکفیه البیّنة المعذّرة وإنما لابدّ له من الفحص عن المعارضات بعد تجمیع أکبر قدر ممکن من الشهود وفی مناطق مختلفة والتدقیق فی تفاصیل رؤیتهم إلی أن یحصل له الإطمئنان بوجود الهلال، حینها یمکن له الحکم به.

ص:335


1- (1) . [س] لم استوعب الإخراج الأصولی لهذه النکتة علی ضوء ما تقدّم من مبانیکم من التفرقة بین القرینة المتصلة والمنفصلة، وأنّ الأولی تساهم فی تشکیل الظهور الإستعمالی والتفهیمی، وأمّا الثانیة فلها دور فی صیاغة ظهور المراد الجدی، ومن ثمّ هل تعنون من ملاحظة الأدلّة الأخری أنها قرائن منفصلة تؤثر فی صیاغة المراد الجدی القانونی کما هو الحال فی الدلیل الحاکم والمحکوم مثلاً، أو تقصدون ما ذکرتموه فی الخبر الضعیف فی المعارف فیکون الرجوع إلی الأدلّة الأخری کالرجوع إلی آراء العلماء سبباً فی الإلتفات والإلمام بکلّ احتمالات الروایة ونکاتها وزوایاها، مما یقصر عنه ذهن الإنسان لوحده، خاصة بالإلتفات إلی ما ذکرتموه من أنّ المشرع واحد والواقع واحد، والمشرع محیط بالواقع و بکلّ دلالاته علیه مما یشکل قرینة علی أنّ مراجعة الأدلّة الأخری ینفع فی العثور علی نکات فی داخل الدلیل، وبالتالی تتلائم الأدلّة فی ذاتها قبل الوصول إلی تعارض المرادات الواقعیة، ثمّ موائمتها بالحلول المذکورة هناک؟ [ج] الإحتمال الثانی، وثمرته: أولاً: یندر خروج إحدی الروایات المتعددة فی مفادها کمفاد ناشز، أی سیندر التعارض المستقر، وسیقلّ حجمه کثیراً. وثانیاً: عند ملائمة الروایة مع روایات أخری نلحظ وجود دلالات جدیدة وشقوق جدیدة، ماکنا نصل إلیها لو استعملنا الطریق الأصولی المحض من التقیید والإطلاق و غیرهما.

والعکس بالعکس، فإنه لا یکفیه فی الحکم بعدم ثبوته الإستصحاب مع عدم تصدّیه لجمع الشهادات، وإنما لابدّ له أن یتصل بالبلدان، ویتصدّی لمعرفة ما یوجد من شهادات، وحینئذ إذا لم یطمئن یحکم بعدم الثبوت. ]

وفیما نحن فیه مورد نزول الآیة کفر قوم، فمع دلالة الآیة علی حجّیة الخبر العادل تعنی ثبوت کفر هؤلاء به مع أنه لا یثبت بالبینة فضلاً عن ثبوته به، وتعنی ثبوت الموضوعات بخبر العادل مع أنها لا تثبت إلاّ بالبینة، ممّا یکشف عن عدم وجود مفهوم للآیة.

ملاحظات علی هذه المناقشة

قد أجیب عن هذه المناقشة بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: إنّ الضروری انسجام المنطوق مع مورد النزول [ الذی هو مصداق الموضوع ] دون المفهوم.

وهذه الإجابة فی الجملة صحیحة لا بالجملة؛ لما نلمسه من أقوائیة المنطوق من المفهوم.

الجواب الثانی: إنّ المفهوم یدلّ علی حجّیة خبر العادل مطلقاً، إلاّ أنه یقید بالأدلّة الأخری التی اشترطت البیّنة فی الموضوعات.

ویلاحظ علیه: أنه فی التنفیذیات لابدّ من العلم ولا تکفی حتی البیّنة، ومعه لا یفرق بین خبر العادل والفاسق.

الجواب الثالث: إنّ المنطوق فی بعض الأحیان قد لا یشمل المورد فضلاً عن المفهوم.

والحقّ فی المقام: أنّ مورد نزول الآیة فی الموضوعات الهامة التی لابدّ فیها من العلم کما ذکر فی تقریر الإشکال.

ولکن لا یعنی هذا عدم حجّیة خبر العادل فیها وفی الموضوعات التی اشترطنا فیها البیّنة، فهو حجّة یؤخذ به ولیس کالفاسق، غایته أنّ حجّیته وافتراقه عن الفاسق فی جهة دون جهة [ وهی الجهة العملیة ] حیث لا یجب التثبت فیه، وینحصر وجوب التثبت فیه فی

ص:336

الجانب العلمی فقط، حیث لا تجری أصالة عدم الاشتباه العقلائیة لخطورة الموضوع.(1)

المناقشة الرابعة فی الإستدلال بآیة النبأ ( الخبر مع الواسطة )

المناقشة الرابعة [ وهی لا تخصّ آیة النبأ وإنما تعمّ کلّ أدلّة حجّیة الخبر وتنصبّ هذه المناقشة علی حجّیة الخبر بالواسطة ] وتقرّرها:

من الواضح فی وسط الأعلام أنّ القضیة الشرعیة لا تتکفل إیجاد موضوعها وإنما الموضوع یوجد بآلیاته الخاصة فیترتب علیه المحمول الشرعی، فی حین أنّنا نلحظ أنّ قضیة «خبر الواحد حجّة» توجد أفراد موضوعها وتنطبق علیها. فعندما یخبر الکلینی عن ابراهیم بن هاشم [ وهکذا حتی یصل الإخبار عن قول الصادق (علیه السلام) بوجوب السورة ]

ص:337


1- (1) . [س] هذا التعلیل ینسجم مع فرض أنّ الأدلّة المثبتة لحجّیة الخبر تثبت حجّیته فی الجانب العملی فقط، وأمّا الجانب العلمی فتستقی حجّیته من دلیل آخر وهو بناء العقلاء، أمّا مع دلالة الأدلّة علی الحجّیة فی الجانبین لا نحتاج إلی الأصل العقلائی کی نعلل عدم حجّیته فی الجانب العلمی فی الأمور الخطیرة بعدم جریان الأصالة، وإنما لابدّ من التماس دلیل آخر مقید، کما قیدت أدلّة البیّنة حجّیته فی الموضوعات؟ [ج] صحیح، ونحن نبنی - وکثیر من الأصولیین - علی أنّ الأدلّة تتکفل بیان الحجّیة من الجانب العملی، وأمّا الجانب العلمی فدلیله سیرة العقلاء وبنائهم. [س] ألا یمکن القول بأنّ المفهوم یدلّ علی عدم وجوب التثبت فی خبر العادل، أمّا أنه یکفی فی العمل أن یکون به وحده أو یحتاج إلی ضمیمة، فهذا مما لا تثبته ولا تنفیه الآیة، فإنّها لیست فی مقام البیان من هذه الناحیة، وإنما یلتمس من مراجعة أدلّة الموارد واحدة واحدة، فما دلّ علی کفایته وحده أخذ به، وما دلّ علی لابدّیة التعدد فخبر العادل یؤمّن رکناً فی البیّنة وما دلّ علی لابدّیة العلم فخبر الواحد یؤمّن رقماً فی تأمین عناصر العلم، فی حین أنّ خبر الفاسق لا یکفی وحده فی مورد الوحدة، ولا یعدّ واحداً فی البیّنة، ولیس رقماً کرقم العادل فی مورد شرطیة العلم. وبهذا البیان یتضح الخلل فی الجواب الثانی، حیث لا تقیید حینئذ. ویتضح الخلل فی الملاحظة علی هذا الجواب؟ [ج] خلاف ظاهر المفهوم، حیث إنّه ظاهر فی أنه حجّة مطلقاً.

نلاحظ أنّ وجود خبر إبراهیم بن هاشم حصل ببرکة قضیة «خبر الواحد حجّة» [ المنطبق علی خبر الکلینی المعلوم لنا بالتواتر. ] فحجّیته تثبت لنا مفاده [ و هو وجود خبر ابراهیم بن هاشم ] و هو فرد من موضوع خبر الواحد أیضاً، هذا أولاً.

وثانیاً: إنّ حجّیة الخبر معلولة للوجود العلمی للأثر، والذی هو بدوره معلول بوجوده الخارجی للحجّیة فی حین أنّا نلحظ أنّ قضیة حجّیة الخبر موجدة لعلّتها؛ لأنّ الأثر من حجّیة خبر الکلینی هو ثبوت ووجود خبر ابراهیم بن هاشم.

ویمکن صیاغة هذا الشق من الإشکال بطریقة أخری: وهی أنّ الحجّیة جعل واعتبار، وکلّ اعتبار بملاحظة أثر له یخرج عن اللغویة، وفی الحجّیة رافع لغویتها هو الأثر الشرعی المتوخّی منها، وأمّا إذا لم یکن لها أثر سوی نفسها فجعلها لغواً. وفیما نحن فیه لا أثر من جعل حجّیة خبر الکلینی سوی ثبوت خبر ابراهیم بن هاشم وحجّیته، وهما من سنخ واحد، فیلزم أن یکون أثر حجّیة خبر الواحد هو حجّیة خبر الواحد وهو لغو.

حلول لهذه المناقشة

وقد تعدّدت تقریرات هذا الإشکال بشقّیه إلاّ أنّ محور الجمیع ما ذکرناه، کما تعدّدت الأجوبة عنه، ونحن بدورنا نعرض جملة منها وبیان المختار:

حلّ الشیخ الحائری

فی الشق الأول: إنّ المفاد المطابقی لخبر الکلینی هو خبر ابراهیم ولکن مفاده الإلتزامی قول الصادق (علیه السلام) بوجوب السورة، وخبر الواحد کما هو حجّة فی مفاده المطابقی هو حجّة فی مفاده الإلتزامی.

وکأنّه (قدس سره) یرید أن یقول: إنّنا لا نحتاج فی إثبات قول المعصوم (علیه السلام) إلی تولد حجج وتکرر انطباق، وإنما یکفینا حجّیة خبر الکلینی لحجّیته فی لوازمه.

ص:338

ومنه یتضح حلّ الشق الثانی بأنّ الأثر لیس هو حجّیة الخبر وإنما قول الصادق (علیه السلام) بوجوب السورة.

ملاحظة علی حلّ الحائری

ویلاحظ علی حلّه للشق الأول من الإشکال: أنّ الثابت هو حجّیة خبر الواحد فی اللوازم القطعیة الحسیة أو العقلیة، وقول الصادق (علیه السلام) لیس لازماً حسیاً لخبر الکلینی [ بمعنی أنّ تحمل الکلینی له کان عن حس ] کما أنه لیس لازماً عقلیاً قطعیاً له، وإنما لازم ظنی.

اللهمّ إلاّ أن یرید أنّ خبر علی بن ابراهیم لازم حسی لخبر الکلینی یخبر عنه [ بواسطة الدلالة الإلتزامیة ] عن حس، ولازم خبر علی بن ابراهیم الحسی خبر هاشم، وهکذا حتی یصل إلی قوله (علیه السلام) فیکون لازماً حسیاً لخبر الکلینی، ولکن بالواسطة.

إلاّ أنه یلاحظ علیه أیضاً أنّ هذه اللوازم إن لم تثبت حجّیتها لا تثبت الحجّیة للازم الأخیر، وإن کانت اللوازم المتوسطة حجّة فببرکة حجّیة خبر الواحد، فیعود الإشکال جذعاً.

ویلاحظ علی حلّه للشق الثانی من الإشکال: أنّ قوله (علیه السلام) وإن کان أثراً لحجّیة خبر الکلینی إلاّ أنه لیس أثراً مباشراً، وإنما الاثر المباشر هو خبر علی بن ابراهیم، وهو لا یصلح مصححاً لحجّیة نفسه.

حلّ الآخوند

للشق الأول یُعطی حَلّین:

[ 1 ] إنّ قضیة «خبر الواحد حجّة» قضیة کلّیة استغراقیة منحلّة إلی أفرادها، فحینما یقال: «إنّ القضیة لا تتکفل إیجاد موضوع نفسها» یقصد منه فی مثل قضیتنا المنحلّة أنّ کلّ فرد منها لا یوجد موضوع نفسه ویطبّق محموله علیه.

و حینما نأتی إلی مثل «خبر الکلینی حجّة» نجد أنّ الحجّیة منطبقة علیه من دون أن یکون موجداً لخبر الکلینی، وإنما موجد لخبر علی بن ابراهیم الذی تنطبق علیه حجّیته وهکذا.

ص:339

فکلّ فرد یکون موجداً لفرد آخر ومنطبقاً لمحموله، لا أنّ کلّ فرد یکون موجداً لنفسه کی یلزم المحذور، وإنما الموضوع الفرد بعد وجوده بقضیة أخری تنطبق علیه الحجّیة.

[ 2 ] وعلی فرض وجود مانع تقنینی أو دلیلی من انطباق کلّی حجّیة خبر الواحد علی الوسائط، إلاّ أنّ ملاک الجعل فی خبر الکلینی [ وهو کونه ثقة عادلاً ] موجود فی الوسائط، فتثبت حجّیة الوسائط بتنقیح المناط.

ولا یخفی متانة الحلّ الأول وإن کنّا لا نحتاجه کما سیتضح بعد قلیل.

وأمّا الحلّ الثانی فلنا وقفة معه؛ إذ أنّ تنقیح المناط (1) کالقرینة

ص:340


1- (1) . [س] لا جعل مماثل وإنما بتنقیح المناط یکتشف عموم الملاک، وإن کان الجعل قاصراً، فهو من نوع الکشف عن استوساع الجعل. ثمّ لم أفقه نکتة التساؤل، هل هی فی استعمال الإصطلاح وأنّ ما ذکره علی صحته ولکنّه لا یسمّی تنقیح مناط، أو أنّ ما ذکره لیس صحیحاً، ومن ثمّ کیف صحّ ما ذکروه فی تصحیح العبادة بقصد الملاک عند عدم إمکان الخطاب؟ [ج] أردنا الإشارة إلی أنّ هناک موردین لتنقیح المناط: أحدهما توسعة الجعل، والآخر الإستفادة من الملاک. ثمّ هل من ثمرة عملیة لهذا النزاع فی أصل المسألة أو أنّ الحجّیة فی الوسائط أمر مفروغ عنه، غایته أنّ الحدیث فی الإخراج العلمی الأصولی لذلک فالحدیث علمی صرف؟ مضافاً إلی أنّ الإشکال فی الشق الأول انطلق من قضیة أنّ القضیة الشرعیة لا تتکفل إیجاد نفسها ولکن لم یذکر ما هو المحذور فی ذلک، وهل هو خاص بالقضیة الشرعیة أو یعمّ کلّ القضایا؟ ثمّ هل المحذور سار فی الإحراز، أی أنّ القضیة لا تتکفل إحراز نفسها؟ [ج] إنّ هاهنا موردین لتنقیح المناط: احدهما توسعة الجعل، والآخر الإستفادة من الملاک. ثمّ النزاع فیما نحن فیه علمی صرف، نعم یثمر فی موارد أخری غیر الحجّیة من قبیل تصویر ترامی الشهادات فی القضاء، وترامی حکم الحاکم وسائر ترامیات المحمولات الشرعیة. وأیضاً إنّ المحذور عقلی فی کلّ قضیة، فإنه یستحیل فی القضیة أن تتکفل إیجاد موضوعها، وحتی فی الإحراز مستحیل، ولکن قد یوجد جعلان أحدهما ظاهری طریقی محرز موضوع الأول وهو لا ینفع فی الإیجاد، لأنه یحتاج إلی جعلین أصلیین.

الإثباتیة فی توسعة دلالة الدلیل، وأنّ المورد لا یخصص الوارد، فهو یوسّع الجعل لا أنه یکشف عن جعل مماثل، فی حین أنّ الظاهر من الآخوند أنه استفاد من تنقیح المناط فی اکتشاف جعل آخر مماثل.(1)

وأمّا حلّه للشق الثانی: کفایة وجود الأثر الشرعی المغایر ولو فی نهایة المطاف فلا لغویة، إذ لیس شرطاً فی المصحح أن یکون أثراً مغایراً بالمباشرة.

الحلّ المختار

للشق الأول: ما ذکره المحقّق العراقی من أنّ هناک مغالطة فی الإشکال وهی أنّ حجّیة الخبر لا تولّد تکویناً موضوعات الوسائط، وإنما هی موجودة فی واقعها وبغضّ النظر عن حجّیة الخبر. نعم، حجّیة الخبر تحرز تلک الموضوعات [ وهو الذی یعبّر عنه بالوجود التعبدی ] ومن ثمّ لا تصل النوبة إلی حلّ الآخوند الأول.

وأمّا حلّ الشق الثانی بصیاغته الأولی [ وهی أنّ القضیة الشرعیة توجد أثرها الذی هو متقدّم علیها رتبة؛ لأنه جزء من موضوعها ] فحلّ الآخوند وإن کان متیناً إلاّ أنّ الأمتن منه هو أنّ المصحح للحجّیة ضرورة، ولکن [ کما ذکرنا فی بحث القطع ] لیس شرطاً أن یکون متقدّماً رتبة وإنما یمکن أن یکون مقارناً أو متأخراً، وهو یکفی فی تصحیح جعل الحجّیة عقلاً.

وبعبارة أوضح: إنّ کلّ القیود العقلیة للأحکام الشرعیة [ الفقهیة

ص:341


1- (1) . [س] ما هو الفرق بین تنقیح المناط وفهم عدم الخصوصیة سنخاً ومورداً؟ [ج] تنقیح المناط مبنی علی القطع، ومن ثمّ یجری حتی فی الأدلّة اللبیة، بینما فهم عدم الخصوصیة مبنی علی الظهور. کذا تنقیح المناط یکون دلیلاً عاماً یوسّع دلیلاً عاماً آخر، فی حین فهم عدم الخصوصیة غالباً یکون دلیله خاصاً ویعمّم بفهم عدم الخصوصیة. کذا فی تنقیح المناط قد یکون إرجاع حکم إلی قاعدة کلّیة و قانونیة، بخلاف فهم عدم الخصوصیة. وتنقیح المناط معالجة قانونیة، وفهم عدم الخصوصیة بحث دلالی.

أو الأصولیة، الوضعیة أو التکلیفیة ] تختلف عن القیود الشرعیة، وإنّ القیود الشرعیة لیست جمیعاً لمرحلة واحدة عند الحکم، وإنما متنوعة [ کما سبق] وهو مرتکز المشهور خلافاً لمدرسة المحقّق النائینی و السیّد الخوئی.

وذکرنا سابقاً أنّ تسمیة القیود العقلیة قیوداً للحکم الشرعی تعبیر فیه تسامح کبیر؛ إذ لا معنی لأن یقیّد العقلُ جعلَ الشارع وحکمَه، وإنما هی قیود للاحکام العقلیة المرتبطة بالحکم الشرعی، یأخذها العقل فی موضوعات تلک الأحکام.

ومصحح الحجّیة لیس قیداً شرعیاً، وإنما قید عقلی للحکم الشرعی الأصولی [ أی قید عقلی للحکم العقلی المرتبط بالحکم الوضعی الأصولی وهو الحجّیة، المترتب علیه، الذی یعدّ من شؤونه وأطواره. ]

والحکم العقلی دوماً فی مرتبة متأخرة عن الحکم الشرعی کالفاعلیة والتنجیز، أو سابقة کما فی الحکم العقلی المرتبط بمبادئ الحکم الشرعی.

ومما تقدّم اتضح أنّ مصحح الحجّیة متأخر رتبة عنها. وأمّا حلّ الشق الثانی بصیاغته الثانیة فهو حلّ الآخوند.

فالخلاصة: تمامیة دلالة الآیة علی الحجّیة بمفهوم الشرط.

الإستدلال علی الحجّیة بمفهوم الوصف

کذلک قرّبتْ دلالة الآیة علی الحجّیة بمفهوم الوصف، وهو تقریب سلیم بعدما تقدّم منّا أنّ الوصف یدلّ علی المفهوم [ ولکنّه المفهوم الصغیر، وهو انتفاء الحکم عن طبیعی الموضوع ] ومن ثمّ تکون الآیة دالّةً علی عدم وجوب التبیّن فی مطلق الخبر.

الإستدلال علی الحجّیة بمفهوم التحدید

ویمکن تقریب دلالتها بمفهوم التحدید أیضاً [ والذی هو أقوی المفاهیم وقریب الأفق من الروایات البیانیة، بحیث یکون کالتصریح

ص:342

بأنّ الحدّ هذا ] لأنّ الآیة جاءت فی مقام التحدید والتفصیل و سنّ القاعدة، فإنّ المورد لا یخصص الوارد حتی فی الأحکام الجزئیة السیاسیة فتدلّ علی حجّیة خبر غیر الفاسق لتحدیدها وجوب التبیّن بالفسق.

التقریب الآخر لدلالة الآیة

إنّ الآیة ناظرة إلی السیرة السائدة من الرجوع إلی خبر الواحد [ کما یتضح ذلک بمراجعة المورد وتأهب المسلمین للجهاد إثر خبر الولید، المعبّر عن وجود السیرة علی المتابعة ] فهی فی صدد الردع والإمضاء [ الردع عن خبر الفاسق وإمضاء خبر غیره. ] ولکن لا یعنی الردع وجود سیرة عقلائیة علی متابعة خبر الفاسق، وإنما للتأکید علی فصل ما هو قانون عندهم عما هو غیره من الظواهر العادیة والأعراف والعصبیات التی تنشأ ملاصقة للسیرة وتختلط معها.

ومثل هذا الردع الجزئی بالشکل المذکور یلزمه إمضاء القانون العقلائی بعدما ذکرنا التداخل الموجود بین السیرتین، وعدم انفصال وأجنبیة کلّ منهما عن الآخر.

وهذا التقریب یثبت لنا الحجّیة حتی لو لم یکن شرط ووصف، ومن حقّه أنّ یذکر أولاً، ثمّ تذکر الدوال الأخری کالشرط والوصف لما ذکرناه فی بدایة البحث من أنّ الأدلّة لابدّ وأن تکون ناظرة إلی السیرة، فلا معنی لدراستها مجردة، فکما أنّ مورد نزول الآیة یؤثر فی فهم الآیة، کذا السیرة مؤثرة فی فهم الأدلّة.

دائرة حجّیة خبر العادل؛ لسانه أو أعماله؟

بعد أنّ تبلور دلالة الآیة علی الحجّیة فی خبر العادل ینبثق هذا السؤال: هل هی فی صدد إثبات حجّیة خبر العادل فی أعماله أو حجّیة خبر العادل فی لسانه؟

وبتعبیر آخر: هل یجب التبیّن فی خبر الفاسق فی أعماله حتی لو

ص:343

کان صادق اللهجة وبالتالی لا یجب التبیّن فی خبر العادل فی أعماله، أو یجب التبیّن فی خبر الفاسق فی لسانه فلا یجب فی خبر العادل فی لسانه وإن کان فاسقاً فی غیر لسانه.

فإن کان الأول فسوف تکون مخصصة لأدلّة حجّیة خبر الثقة، وإلاّ کانت متطابقة معها.

الحقّ هو الثانی، وذلک لأنّ أکثر الإستعمالات القرآنیة للفسق جاءت فی الفسق اللسانی مثل ( تبینوا ) فهو قرینة علی أنّ المراد هو الفسق اللسانی و (وَ کَرَّهَ إِلَیْکُمُ الْکُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْیانَ) قرینة علی أنّ المراد هو الفسق اللسانی، وإلاّ کان الکفر من الفسوق، وعصیان الرسول (صلی الله علیه و آله) منه، فی حین أنّ الظاهر تباین العناوین الثلاث، ولیس من عطف الخاص علی العام، والعام علی الخاص، فإنه إنما یکون فیما إذا کان هناک عنوانان لا ثلاثة.

و روایة الصدوق عن زید الشحام فی ذیل آیة الحجّ، فسّر الإمام (علیه السلام) الفسوق فیها بالکذب والقول علیه بآیه النبأ.

و کذا مناسبة الحکم والموضوع فی آیة النبأ [ حیث إنّ موضوعها الإخبار وهو یتناسب مع الکذب لا مع مطلق الفسق ] بل فی الإستعمالات القرآنیة استعمل الفسوق فی الکذب اللسانی الخاص کالکذب علی اللّه ورسوله والقذف و غیر ذلک.

الفرق بین التبیّن والطرح

منطوق الآیة وإن کان عدم حجّیة خبر الفاسق، ولکنّه لا بمعنی طرحه ونبذه وعدم الإعتناء به، وإنما عدم الأخذ به من دون تثبت وتبیّن. وهذا واضح، فإنّا ندرک بالوجدان الفرق بین ( تبینوا ) وبین «إطرحه» و«إنبذه»، و«اضربه علی الجدار» فإنّ التعبیر الأول یدلّ علی أنه ذو شأن، ومن ثمّ لابدّ من فحص قرائن توافقه تتعاضد جمیعاً بما فی ذلک هو فیحصل اطمئنان لا أنه کالعدم، کما هو مدلول

ص:344

التعبیر الثانی.

إذن من هنا یتضح الفرق بین الخبر المدسوس المدلّس والخبر الضعیف ببرکة منطوق الآیة، فإنّ الثانی لا یجوز طرحه وتکذیبه ما لم یثبت ذلک، وإلاّ لابدّ من فحص قرائن توافقه.

معنی وجوب التبیّن

ذکرت ستة احتمالات فی حکم التبیّن: وجوب طریقی، وجوب غیری، وجوب نفسی، حکم وضعی [ هو مفاد عدم الحجّیة ]، وجوب شرطی، إرشاد إلی حکم العقل بعدم الحجّیة.

والثلاثة الأولی واضحة الفساد، وأخریات لا تقاطُعَ فیما بینها.(1)

الآیة الثانیة: آیة النفر

وهی قوله تعالی (وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) .(2)

إنّ الآیة الکریمة تنفع أیضاً فی باب الإجتهاد والتقلید وتبلیغ الأحکام، وتکشف عن أنّ منصب الإفتاء کان من عهده (صلی الله علیه و آله) فلیس هو من المناصب المستحدثة فی عهد الغیبة.

تقریب الإستدلال

التقریب الإجمالی للآیة:

[ 1 ] إنها دلّت علی وجوب التفقه (لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ) ، فإنّ ( لو لا )

ص:345


1- (1) . [س] هل الإرشاد إلی الحجّیة فی خبر غیر الفاسق هو الإمضاء لسیرة العقلاء؟ [ج] الإمضاء لا یسمّی إرشاداً، لأنّ الإرشاد خبر لا غیر، بینما الإمضاء اعتبار وإنشاء.
2- (2) . التوبة/ 122

[ سواء کانت تهدیدیة أم تحضیضیة ] فهی مستبطنة للطلب، وهو مع عدم الإذن فی الترخیص ظاهر فی الوجوب.

[ 2 ] ودلّت علی وجوب الإنذار.

[ 3 ] بعدها رتّبت غایة وهی (لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) ، وهو دلیل حجّیة القول المنذر به، وإلاّ لم یکن معنی لوجوب الحذر.

ووجوب الحذر إما مستفاد من «لعلّ»، أو من أنّ غایة الواجب [ وهی الإنذار ] واجبة، أو من لزوم لغویة الحذر، إذ لا ینسجم إلاّ مع لزومه.

مجموعة من الإشکالات علی الإستدلال بآیة النفر

وقد واجه الإستدلال بالآیة صخباً من الإشکالات وعلی أصعدة متعدّدة:

الإشکال الأول: المناقشة فی معنی لعلّ

ذکره المحقّق العراقی والمحقّق الإصفهانی تبعاً للجوهری فی الصحاح، [ وهو یستهدف ما ذکر فی «لعلّ» من أنها أداة وضعت للترجی بوجوده الإنشائی، سواء کان بداعی وجوده الحقیقی التکوینی أم غیره ] وخلاصته: أنها لم توضع فقط للترجی، وإنما تستعمل أیضاً فی الشک والإحتمال والإمکان، ومع عدم القرینة [ کما هو الحال فی الآیة ] لا تتعین دلالتها علی الترجی بداعی الطلب.

تقییم الإشکال

ولکن الصحیح ما ذکره المشهور من أنها لا تستعمل فی صرف الإحتمال [ بدلیل الخلل المشهود فی المعنی لو استبدلت «لعلَّ» بکلمة «یحتمل» مثلاً ] وإنما هی المستعملة فی الإحتمال الذی یتعقبه صفة نفسانیة [ أعم مما یرغب حصوله أو یشفق من وقوعه ] فهی

ص:346

ترقب مع رغبة أو خشیة ومن ثمّ تبقی دلالتها علی الوجوب سلیمة من دون إجمال.

الإشکال الثانی: کیفیة ترتب الحذر علی الإنذار

بعد التسلیم بدلالة «لعلّ» علی الطلب إلاّ أنّ هناک إجمالاً فی الترتب بین الحذر والإنذار فهل هو ترتب استغراقی علی کلّ إنذار إنذار [ فیکون مقیداً لحجّیة الإنذار ] أو هو ترتب مجموعی [ بمعنی أنه یجب الحذر علی مجموع الإنذارات وتحدیداً حالة حصول العلم منها، بمعنی أنّ الإنذارات وسیلة لتأمین العلم للمکلّفین، لا أنّ کلاًّ منها بدیل شرعی عنه. ]

وهذا التردید نشأ من أنّ الإنذار الواجب إن کان هو الفتیا والروایة فالترتب استغراقی، و إن کان الواجب هو نشر الدین وإشاعته وإذاعته وإبقاؤه بدرجة العلم ولو فی وسط محدود فالترتب مجموعی.

تقییم الإشکال

وهذا الإشکال وجیه کتساؤل لابدّ من إثارته فی کلّ دلیل لتحدید مفاده، وأنّه لأیّ الواجبات ناظر.

وفی الآیة لا إجمال لما جاء فی ثنایا کلمات الأعلام من أنّ الإنذار یصدق فی مورد جهل المنذر فیکون من باب الایقاظ، وأمّا مع علم المنذر فلا یسمی إنذاراً وإنما هو تذکیر. ویلاحظ ذلک بوضوح فی قوله تعالی: (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) .(1)

ومع هذا لا ینسجم إلاّ مع کون الإنذار الواجب هو الفتوی أو الروایة، و حینئذ سیکون الترتب استغراقیاً، فدالاً علی الحجّیة، أمّا مع فرض أنّ الواجب هو نشر الدین وإبقاء الحالة العلمیة له فی وسط الأمة، فلا ینسجم مع الانذار، وإنما مع التذکیر کی لا یندرس

ص:347


1- (1) . یس/ 6

ولا ینسی(1).

الإشکال الثالث: لابدّ من علم المنذر

إنّ المنذر به لابدّ أن یکون واقعاً وحقیقة کی یکون للإنذار معنی، ومن ثمّ لابدّ من علم المنذر کی یحرز الواقع، فیکون الإنذار إنذاراً فیحذر، فلا تدلّ علی الحجّیة.

تقییم الإشکال

وجوابه: یکفی فی تحقّق الإنذار کون القائل ممن یعتدّ به، وإن لم یعلَم المنذَر بالواقع وإنما احتمله احتمالاً معتداً به.

وفی الواقع أنّ الجواب هذا تقریب آخر لدلالة الآیة علی الحجّیة، لأنها أطلقت الإنذار علی قول المتفقه، ممّا یدلّ علی أنه ممّن یعتدّ بهم، فقوله حجّة وإلاّ لم یکن إنذاراً.

ولا یخفی أنّ الإنذار وصف الأنبیاء، فجعْلُه وصفاً للفقهاء تشریف لهم وتعبیر عن علوّ مکانتهم.

الإشکال الرابع: عدم صدق الإنذار علی الروایة

إنّ الإنذار لا یصدق علی روایة الراوی، لما ذکرناه فی بحث

ص:348


1- (1) . [س] ولکن قد یقال: إنّ عملیة نشر الدین أول ما تبدأ ظنیة، ثمّ بعد الشیوع والذیوع تتحول إلی علمیة، ومن ثمّ یعقل الإنذار بها، بل بالإنذار المکثف والمجموعی تتحول إلی علم، وبالتالی یعقل الحذر فلا یرتفع الإجمال؟ [ج] الفتوی والروایة، الوعظ، الأمر بالمعروف، تعلیم الأحکام وغیرها کلها مفردات لنشر الدین، ولکنّنا قصدنا من نشر الدین [الذی أخذناه قبال الفتوی والروایة] هو نشر خاص، وهو حفظ وإدامة حالة التواتر للدین ولو فی وسط خاص. ومثل هذا لا یتحقق إلاّ بعد حصول العلم عند المنذر، فالحذر سیکون مترتباً علی العلم فی حین أنّ ظاهر الآیة ترتیب الحذر علی الإنذار. بالإضافة إلی ما ذکرناه فی المتن من أنه مع العلم لا یکون إنذار وإنما تذکیر وإدامة، وقبل العلم لیس هناک نشر الدین بالمعنی الخاص کی یتعلّق به إنذار، وإنما هناک نشر بالمعنی العام، وإذا تعلّق به الإنذار فهو استغراقی لا مجموعی، فالتفت.

القطع من عدم حجّیة الروایة علی العامی، أو حجّیتها فی حقّه ولکن لعجزه ینوب الفقیه منابه، فی حین أنّ الإنذار عام ممّا یدلّ أنه بالفتوی.

وقد أجاب الآخوند عن هذا الإشکال بجواب ضعیف [ للخلط الموجود فیه بین التذکیر والتنجیز ] بین مهمة الواعظ والراوی. ونحن سنؤجل الإجابة الحقة لحین، فانتظر.

الإشکال الخامس: الآیة تثبت حجّیة الفتوی لا الروایة

قد ورد فی الآیة التفقه، والفقه بمعنی الفهم، فالإنذار یکون بما فُهِم لا بما سمع وحفظ، فالآیة تثبت حجّیة الفتوی لا الروایة.

لا فرق بین الفتوی والروایة فی زمن النص

وقد أجاب البعض: بأنّ التفقه فی زمن النص لم یکن بالإتساع والتعقید الموجود الیوم، فلم یکن الإفتاء یحتاج إلاّ لفهمٍ مسوّغ للنقل بالمعنی، ومن ثمّ کانت أجوبة الإستفتاءات بنصوص الروایات. فالآیة وإن ذکرت التفقه إلاّ أنه مع الروایة واحد. فحجّیته تعنی حجّیة الروایة، ومن ثمّ یفهم قوله(علیه السلام) : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجّة اللّه»(1) و«... انْظُرُوا إلی مَنْ کان منکم قد روی حدیثَنا ونَظَرَ فی حلالِنا وحرامِنا وعَرَفَ أحکامَنا»(2).

ویلاحظ علی هذا الجواب: أنّنا عندما نطالع التأریخ وسیرة الرواة ونمارس الروایات نجد عشرات الشواهد تؤکد أنّ الأمر لیس کما ذکر فی الجواب، فقد ورد: «حدیث تدریه خیر من ألف حدیث

ص:349


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 140/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11: باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة فیما رووه عن الأئمة(علیهم السلام)، الحدیث 9: توقیع مولانا صاحب الزمان(علیه السلام).
2- (2) .الکلینی، الکافی 412/7 (کتاب القضاء والأحکام، الباب 8: کراهیة الإرتفاع إلی قضاة الجور، الحدیث 5: عن أبی عبدالله(علیه السلام).

ترویه»(1) و«اعرِفُوا مَنَازِلَ النَّاسِ علی قَدْرِ رِوَایَتِهِمْ عَنَّا»(2) و«ربّ حامل فقه إلی مَن هو أفقه منه»(3)، وغیرها الدالّة علی أنّ الروایة لیست عین الفقه.

کذا من خلال النظر فی أسئلة الرواة وتشقیقاتهم نلحظ التفاوت بینهم، ولیس هو إلاّ فی الفهم والفقه لا فی الروایة، وظاهر الإحتجاجات ظاهرة فقهیة لا روائیة، وانتقاء المحدّث لحدیث دون غیره فی مقام الإجابة علی سؤال نوع من الإجتهاد.

وسؤال البعض من الإمام: من أین یفهم هذا من کتاب اللّه؟ دلیل أنّ الفقه آنذاک غیر الروایة.

ومن ثمّ یعرف خطأ ما اشتهر بین المتأخرین من عدم وجود سیرة علی الرجوع إلی المجتهد فی زمن النص لتطابق الإجتهاد والروایة آنذاک. فالجواب الحق ما سنذکره بعد إن شاء اللّه.

الإشکال السادس: عدم حجّیة الظن فی الأصول

إنّ التفقه تعلّق بالدین، والدین أصول وفروع، وفی الأصول لا یتحمل الفقیه روایة، وإنما جزم ویقین. فإبلاغه وإعلامه الآخرین لابدّ أن یکون کذلک، ممّا یکشف أنّ الآیة لیست بصدد جعل الحجّیة الظنیة.(4)

ویؤکد ذلک ما ورد فی الحدیث فی ذیل الآیة أنّ من مواردها

ص:350


1- (1) . الصدوق، معانی الأخبار/ 2، الحدیث 3
2- (2) . الکلینی، الکافی 50/1 (کتاب فضل العلم، الباب 16: النوادر، الحدیث 13: عن أبی عبدالله(علیه السلام).
3- (3) . الکینی، الکافی 403/1 (کتاب الحجّة، الباب 103: ما أمر النبی(صلی الله علیه و آله) بالنصحیة لأئمة المسلمین واللزوم لجماعتهم ومَن هم؟، الحدیث 1: عن أبی عبدالله(علیه السلام) من خطبة رسول الله(صلی الله علیه و آله) فی مسجد الخیف).
4- (4) . [س] فی الفروع أیضاً لا یتحمل الروایة، وإنما ما فهمه منها، فلابد أن یکون إبلاغه للفتوی لا للروایة، فلِمَ خص الإشکال بالأصول؟ [ج] باعتبار أنّ الروایة حجّة علیه، ومنها یستنبط الحکم أمکن أن یبلغها، ولکن الروایة فی الأصول لیست حجّة، وإنما هی تشکّل قرینة لا أکثر.

أصول الدین، حیث ذکرت أنّ حکمة التفقه هی معرفة الإمام.(1)

وهذا الإشکال لا یخص آیة النفر وإنما یتأتی فی آیات وروایات أخری.

وهذه هی مجمل الإشکالات التی تواجه دلالة الآیة علی حجّیة خبر الواحد، وقد لاحظنا أنّ بعضها لا یخص الآیة، وقد تمت الإجابة عن بعضها، وترکنا جواب الباقی إلی عرض المختار.

المختار فی تقریب الإستدلال وحلّ المناقشات

لابدّ من الإجابة عن هذا السؤال أولاً [ کمقدّمة لحلّ الإشکالات المتقدّمة ] ثمّ تحدید مفاد الآیة. و السؤال هو: أنّ وجوب الفتوی والروایة والوعظ والنشر وغیرها، هل یمکن أن تجتمع فی جعل واحد ولسان واحد أو لا؟

وهذا السؤال یواجهنا فی حالات کثیرة ومتنوعة ولا یخص ما نحن فیه، فضلاً عن اختصاصه بالآیة. فالإستصحاب - مثلاً - فی الشبهة الحکمیة مسألة أصولیة وفی الشبهة الموضوعیة قاعدة فقهیة، وسنخ الحکم الأصولی مختلف عن سنخ الحکم الفقهی. وفی مثل «کلّ شیء طاهر» [ علی ما ذکره النراقی ] ثلاث قواعد هی: الطهارة الواقعیة والظاهریة والإستصحاب.

وعلی ما ذکره الآخوند فإنّ مفاد الحدیث حکم ظاهری، بالإضافة إلی توسعة موضوع الحکم الواقعی (لا صلاة إلاّ بطهور».

و نجیب أنّ هناک طریقین:

الأول: أن یکون هناک جعل عام تنضوی تحته الجعول المتعددة، ومثل هذا مشروط بإثبات مثل هذا الجعل العام مع عدم تباین الجعول الخاصة کی یمکن أن تلتقی فی القاسم المشترک وهو الجعل العام.

الثانی: أن تکون الجعول متعددة فی کلام واحد، وهذا أیسر من

ص:351


1- (1) . راجع: الکافی 378/1 (کتاب الحجّة، الباب 89: باب ما یجب علی الناس عند مضی الإمام)

سابقه لإمکان توفّر الکلام الواحد علی إنشاءات متعددة باستعمالات متعددة، کأن یکون صدر الجملة إنشاءً وذیلها کذلک، أو یکون مطابقها إنشاء والتزامها إنشاءً آخر.

فالحدیث کلّه یتمحور فی الطریق الأول، خاصة أنه لم یبلور فی کلمات الأعلام، فنقول:

استفادة الإمضاء من الکلّی الفوقانی

ذکرنا سابقاً أنه قد یکون هناک جعل عقلائی فوقانی ممضی یحتاج فی تنزّله إلی جعول حیث لا ینحلّ قهراً، فإذا وجدت جعول عقلائیة فی الکلّیات النازلة أمکن الإستفادة من إمضاء کلّیها فی إمضائها [ حتی لو کانت سیراً متجددة غیر معاصرة للمعصوم، فضلاً عما لو کانت السیر السائدة فی عهد المعصوم ] فاستفادة إمضائها من العموم الفوقانی أولی من دون حاجة إلی أن ینزّل الشارع جعله الفوقانی بجعول متعددة خاصة فیها. وذلک لتفشی السیر المذکورة فروعها یحتاج إلی تکثیف، فکیف وهناک عموم شرعی شامل لها فإنه یفید الإمضاء حتماً.

فمثلاً - فیما نحن فیه - هناک سیرة علی متابعة خبر الثقة، فمع جعل الشارع عموماً فوقانیاً [ وهو وجوب نشر الدین ] سیکون إمضاءً للسیرة المذکورة. فلو فرضنا أنّ آیة النفر فی صدد هذا الجعل الکلّی الفوقانی فستکون إمضاءً لسیرة العقلاء فی متابعة الخبر.

الإستدلال بالأولویة فی آیة النفر

وهناک تقریب آخر ینفع فی استفادة الحجّیة لخبر الواحد من الآیة وهی الأولویة. ذکرنا سابقاً أنّ مشهور الفقهاء قد استفاد للترجیح فی باب الروایة والفتوی، بالمرجحات المذکورة من روایة عمر بن حنظلة [ الواردة فی بیان مرجّحات الحکم القضائی عند التعارض ] ولم یذکر لهذه الخطوة تقریب سوی أنّ حجّیة الفتوی متقدّمة رتبة

ص:352

علی حجّیة الحکم، فما یأتی من إمضاء أو دلیل علی حجّیة حکم القاضی یدلّ بدلالة الإقتضاء علی حجّیة فتواه، کذلک ما یرد فی مقام التعارض.

والروایة کالفتوی فی تقدّمها رتبة علی الحکم، بل هی متقدّمة رتبة حتی علی الفتوی.

ومن ثمّ حتی لو کانت آیة النفر فی صدد جعل الحجّیة للفتوی، فهی تدلّ بدلالة الإقتضاء علی حجّیة الروایة له.

بعد هذه المقدّمة نرجع إلی معالجة الإشکالات المتقدّمة.

جواب الإشکال الرابع

إنّ مضمون الروایات یستبطن الإنذار، سواء کان بیان العقوبة الأخرویة أم الحکم الإلزامی، فإنّ الإلزامیة تدلّ علی ترتب العقوبة علی المخالفة وهو إنذار.

ویمکن الجواب بشکل آخر: بأنّ الروایة فیها إنذار للمجتهد؛ لأنها حجّة من الحجج وإن لم تکن نهائیة، إلاّ أنّ فیها تنجیزاً وتعذیراً.

جواب الإشکال الخامس

إنّ الإشکال متأثر من الإصطلاح السائد فی الفقه مع أنّ حقیقته لیست إلاّ الفهم، غایته أنه ذو عرض عریض. وحفظ الروایة وتحملها نوع من حفظ الدین وفهمه، وجهة الفهم وإن کانت غیر جهة السمع ولکن الراوی لیس ببغاء وإنما یحفظ مع إدراک، ومن هنا رُوِیَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَی النَّبِیِّ (صلی الله علیه و آله) لِیُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ فَانْتَهَی إِلَی قَوْلِهِ تَعَالَی ( فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ) (1) فَقَالَ: یَکْفِینِی هَذَا وَ انْصَرَفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): انْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ فَقِیهٌ.(2)

ص:353


1- (1) . الزلزلة/ 7 - 8
2- (2) . المجلسی، بحار الأنوار 107/92 (کتاب القرآن، الباب 9: فضل التدبر فی القرآن، الحدیث2).

فالتفقه شامل لروایة الحدیث علی حدّ شموله للفتوی علی اختلاف المرتبة بینهما.

جواب الإشکال السادس

إنّ الآیة المبارکة طبّقت فی الروایات علی موارد ظنیة، وهی نشر الأحکام التی تتعلّم عن الأئمة (علیهم السلام) کروایة الفضل بن شاذان فی علّة الحج.

بالإضافة إلی أنّ مورد نزولها لیس فی أصول الدین فلا معنی لتخصیصها به، بل أصل أصول الدین قطعی لا یحتاج إلی بثّ المتفقه له، حیث لا یکون الإسلام إلاّ به.

بل سنبیّن أنّ الدرجة الإحتمالیة فی الأصول أیضاً منجیة.

وأما تفاصیل أصول الدین فما اشتهر من لابدیة کونها قطعیة غیر صحیح کما سنبیّن.

الجواب عن الجهة المشترکة فی الإشکالات

هذا کلّه علی صعید الأجوبة الخاصة عن کلّ إشکال بمفرده، وأمّا الجهة المشترکة فی بعض الإشکالات [ من أنه کیف یمکن أن یکون الجعل متعدداً ] قد أجبنا عنه فی المقدّمة وبینّاه صغرویاً فی ثنایا الإجابات الخاصة حیث عرفت أنّ الفقه مطلق فهم الدین، ابتداءً من الروایة [ التی هی فهم مبسّط ] وانتهاءً بالفهم المعمّق [ وهو الإجتهاد ] وما بینهما متوسطات، وأنّ هذا الفقه بکلّ درجاته مطلوب، وأنّه بهذا الحجم یجب الإنذار به، وهو لیس إلاّ عبارة عن وجوب نشر الدین.(1)

ص:354


1- (1) . [س] إنّ وجوب نشر الدین ینحلّ بواسطة جعول عقلائیة، ومن ثمّ لابدّ من سیر عقلائیة فی هذه الصغریات کی تکون ممضاة بالجعل الکلّی ولکن الصغریات المذکورة کالفتوی لا توجد سیرة فیها بخصوصها [وإنما هی صغری لکبری عقلائیة وهی الرجوع إلی أهل الخبرة، وهی مع وجوب نشر الدین بینهما عموم من وجه] کیف نخرّج الإمضاء؟ [ج] التقریب الدقیق کالتالی: إنّ وجوب نشر الدین إنما یدلّ علی الحجّیة، لأنه خطاب للعقلاء بالنشر بالطرق المألوفة عندهم، حیث لم یستحدث طریقاً خاصاً، فهو یدلّ علی الإمضاء الصریح ولیس فقط عدم الردع، فتکون الآیة دالّة علی الحجّیة حینئذ.

وممّا تقدّم اتضح دلالة الآیة وبوضوح علی حجّیة الخبر، وقد کانت تقریبات الحجّیة أربعة، ذکر القوم ثلاثاً منها.

موضوع الحجّة هو الفهم العام للدین

وأمّا موضوع الحجّة ومتعلّقها، فإمّا أن یکون الفتوی [ وهو یستلزم حجّیة الروایة ] وإمّا أن یکون الفهم العام للدین [ وهو المختار ] بمفرداته التی منها الروایة.

وتقریب کون الموضوع هو الثانی أنّ هناک جعلاً فوقانیاً عاماً یکون إمضاء لسیرة عقلائیة وتقنیناتٍ لصغریاته معاصرةٍ للمعصوم، وأنّ هناک جعلاً فوقانیاً عاماً مستفاداً من الآیة [ وهو وجوب نشر الدین بعد الفهم] قد خوطب به العقلاء من دون تحدید لوسائله وطرقه [ ممّا یعنی أنه بالطرق المألوفة عندهم والتی أشهرها خبر الواحد ] فیکون إمضاءً صریحاً لتلک الطرق ولیس مجرد عدم الردع.

وبهذا العرض یتبلور أهمیة مفاد الآیة المبارکة وأنها مادة دستوریة أوجبت نشر الدین الذی تندرج تحته مفردات وطرق متعدّدة کالروایة والإفتاء، کما تدلّ علی أنّ الإفتاء منصب من عهد الرسول (صلی الله علیه و آله) قد أذن فیه وقد قنّنه ولیس مستحدثاً فی عصر الغیبة.(1)

الآیة الثالثة: آیة الکتمان

ص:355


1- (1) . [س] بعد دلالة الآیة علی وجوب نشر الدین لا الفتوی فهی لا تدلّ علی وجود الفتوی آنذاک، وإنما تدلّ علی أنّ الفتوی لو کانت فهی ممضاة، فنحتاج إلی دلیل آخر لإثبات وجود سیرة أو وجود ظاهرة الفتوی أیام المعصوم، لا أنّ الآیة تدلّ علی ذلک؟ [ج] بل الآیة تدلّ لأنها تشیر إلی مصادیق عقلانیة موجودة من دون شک، والروایة لیست أبرز المصادیق لفهم الدین، وإنما الفتوی، فإنها أکثر إراءة لواقع الدین.

وهی قوله تعالی (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ) .(1)

تقریب الإستدلال

إنّ مفاد الآیة الکریمة کمفاد آیة النفر [ بمعنی أنّ حرمة الکتمان تساوق وجوب الإنذار ] وبالتالی فهی دالّة علی وجوب نشر الدین بنفس التقریبات المذکورة فی الآیة السابقة.

فالدین بعدما بیّن للناس [ بمعنی أبلغ رسمیاً بحیث أصبح جاهزاً للعمل والتنفیذ والتطبیق لمَن یتوفّر فی حقه الموضوع ] لابدّ من نشره وإذاعته حیث یحرم کتمانه.

المراد من (ما بیّناه للناس)

ولا یقصد من بیانه للناس وصولُه إلیهم، وإلاّ لم یکن موضوع للکتمان وإنما ما ذکرناه هو علی حدّ صدور القانون فی الجریدة الرسمیة فی یومنا هذا، وهی مرحلة متوسطة بین الإنشاء والفعلیة، فإنّ صرف إنشاء الحکم من دون إبراز وإعلان رسمی وإبلاغ الجهات المعنیة کالرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) لا یکفی فی تفصیل القانون وجعله فی صراط التنفیذ.

عرض الإشکالات علی تقریب الإستدلال

ولکن دلالة الآیة إنما تتمّ بعد تجاوز ما ذکر من إشکالات حول دلالتها والإجابة عنها.

الإشکال الأول: الکتمان لا یتحقق فی مضمون خبر الواحد

إنّ الکتمان یتعقّل فی ما کان من طبعه الإنتشار فیقف أمامه سدّاً ویخفیه [ کما فعل علماء الیهود والنصاری حیث أخفوا التوراة

ص:356


1- (1) . البقرة/ 159

والإنجیل بل حرّفوها بمحو ما دلّ علی نبوة الخاتم (صلی الله علیه و آله) ] ومن ثمّ لا تدلّ علی حجّیة خبر الواحد؛ إذ مضامینه لیس من طبعها الإنتشار والظهور حتی یصدق معه الخفاء.

تقییم الإشکال

إنّ ما ذکر هو مورد من موارد الکتمان، والمورد الآخر هو ما لم یکن من طبعه الإنتشار، ولکنّه یکتمه أی لا یساهم فی نشره [ کما نلاحظ ذلک فی آیة الشهادة ( وَ مَنْ یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (1) فإنّ الشهادة لیست من طبعها الإنتشار. ]

وبعبارة أخری: إنّ الکتمان مستعمل فی ما مِن حقّه أن ینشر، سواء کان بطبعه الإنتشار أم لم یکن.

الإشکال الثانی: عنوان (فی الکتاب) لا یشمل الروایات

إنّ قوله تعالی: (فِی الْکِتابِ) قرینة علی أنها مرتبطة بتکلیف أهل الکتاب، وعلی فرض تعمیمه فیکون المراد منه جنس الکتاب فلا یشمل الروایات، فالآیة خاصة بما نزل من السماء من خلال الوحی.

تقییم الإشکال

إنّ موردها وإن کان علماء الکتاب إلاّ أنه لا یخصص الوارد خاصة مع ما یلحظ من استدلالهم (علیهم السلام) بالآیة فی حالات عدیدة فی غیر موردها بل وحتی فی غیر سیاقها.

فالخلاصة: تمامیة دلالة الآیة الشریفة علی الجعل الکلّی، فتشمل خبرَ الواحد علی حدّ دلالة آیة النفر.

الآیة الرابعة: آیة الذکر

ص:357


1- (1) . البقرة/ 283

و هی قوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .(1)

و قوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .(2)

التقریب الإجمالی

إیجاب سؤال أهل الذکر دلیل حجّیة قولهم فی مقام الجواب [ وإلاّ کان الإلزام بالسؤال لغواً، فمقتضی الإلزام بالسؤال حجّیة الجواب ] وأهل الفتوی أبرز مصداق لأهل الذکر [ فإنّهم رواة وزیادة ] وبالدرجة الثانیة الرواة [ فإنّهم مصداق أهل الذکر أیضاً. ]

عرض الإشکالات

ذکرت خمسة إشکالات استهدفت دلالة الآیة علی الحجّیة وهی:

[ 1 ] إنّ مورد نزول الآیة علماء أهل الکتاب، فَهُم أهل الذکر لا غیرهم.

[ 2 ] إنّ أهل الذکر هم الأئمة (علیهم السلام) [ بقرینة آیة أخری تدلّ علی أنّ الذکر هو الرسول (صلی الله علیه و آله) (قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَیْکُمْ ذِکْراً*رَسُولاً یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِ اللّهِ) (3) فأهله هم الأئمة. ]

[ 3 ] إنّ غایة السؤال تحصیل العلم بقرینة قوله (إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .

ص:358


1- (1) . النحل/ 43
2- (2) . الأنبیاء/ 7
3- (3) . الطلاق/ 10 - 11

[ 4 ] إنها فی صدد إیجاب السؤال عن أصول الدین ولابدّ فیه من تحصیل العلم مع أنّ الخبر ظنی.

[ 5 ] أهل الذکر هم أهل العلم، والراوی لا یعدّ من أهل العلم بالحکم الإلهی، و إنما الفقیه المجتهد هو العالم بالحکم الإلهی.

الجواب عن الإشکالات

أما عن الأول: فإنّ المورد لا یخصص الوارد بل حتی لو ذکر أهل الکتاب فی الآیة بدلاً من أهل الذکر لما خصص الوارد، کما نلاحظ ذلک فی آیة أخری، فکیف قد صرّح بعنوان عام کلّی.

وعن الثانی: إنّهم (علیهم السلام) أبرز المصادیق لا أنّ المعنی منحصر بهم.

فالحصر بهم (علیهم السلام) إضافی [ بمعنی أنّهم المرتبة العالیة ] بقرینة الحکم المذکور فی الآیة.

بالإضافة إلی أنّ الذکر لم یخصص فی الروایات بالنبی (صلی الله علیه و آله) ممّا یشکّل قرینة علی العموم أیضاً.

وعن الثالث: إنّ الجهل [ مع التقید حرفیاً بترکیب الآیة ] شرط وجوب السؤال لا غایته، فلیس مفاد الآیة «إسألوا کی تعلموا» وإنما «إذا لم تعلموا فاسألوا.»

وعن الرابع: إنّ اللّه سبحانه وتعالی أمرهم فی مجال معرفة نبوة النبی (صلی الله علیه و آله) بالرجوع إلی الحجّة المفروغ عنها [ وهی سؤال أهل الذکر ] فهی حجّة فطریة مسلّمة عامة لا تخصص وإن صرّح المورد فی الآیة.

وعن الخامس: إنّ الذکر کالتفقه، فما أجبنا به هناک نجب به هنا.

فرق آیة الذکر مع آیتی النفر والکتمان

بعد کلّ هذا أمکن القول بأنّ الآیة متعرضة لحکم جامع کآیة النفر والکتمان، ولکن مع فرقٍ هو أنّ الوجوب فی آیتنا ملقی علی عاتق عموم المکلّفین، حیث یجب علیهم التعلّم بالسؤال وأمّا فی آیة الکتمان فالوجوب ملقی علی عاتق الحوزات العلمیة، وفی آیة النفر تعرضت

ص:359

للواجبین وجوب التعلیم والتعلم.

الشارع تکلّم بلغة العقلاء

وما قد یدور فی بعض الأذهان من أنّ ما فهمناه من الآیات المبارکة لیس ظاهراً منها، وعلی الأقل لِمَ لم تکن الآیات أکثر صراحة فی المضمون الذی فهمناه مع أهمیته البالغة بحیث یکون فهمه أیسر وفی متناول العموم؟

جوابه: إنّ الخفاء الذی یحیط بالآیات المذکورة جاء نتیجة دراسة کلّ منها مجردة عن القانون العقلائی السائد، أمّا بعد دراستها فی جوّ لغة العقلاء تصوراً وتصدیقاً فتکون ظاهرة بوضوح فی ما ذکرناه.

و بتعبیر آخر: إنّنا لابدّ أن لا ننسی [ ونحن فی صدد تحدید مفاد الآیة ] أنّ الشارع تکلّم بلغة العقلاء کما تکلّم بلغة العرب، فکما أنّ دراسة کلامه بعیداً عن قوانین اللغة والأدب خطأ، کذا دراسته بمعزل عن قوانین لغة العقلاء خطأ.

وما ذکرناه نظیر ما نبّه علیه علماء الأصول من أنّ الشریعة الإسلامیة وإن نَسخَتْ رسمیاً الشرائع السابقة إلاّ أنها لم تبدّل کلّ ما کان فی تلک الشرائع، ومن ثمّ احتاج التغییر فی حکم من الأحکام السابقة إلی تنبیه وإلاّ کشف عن إقراره فی شریعتنا.(1)

ص:360


1- (1) . [س] الخفاء الملحوظ فی الآیات یرجع إلی البعد الأدبی، حیث فهمتم الفقه والسؤال من أهل العلم بشکل واسع لا تساعد علیه مرتکزات اللغة، ولیست المشکلة قانونیة حتی تکون مرتبطة بالدراسة التجریدیة عن قانون العقلاء؟ [ج] صحیح علی مستوی فهم الکبری، ولکن إنما ذکرنا الملاحظة هذه من أجل هضم فکرة أنه لو کان هناک جعل کبروی، فإنه یتنزل إلی الصغریات المتنوعة علی حدّ ما هو موجود فی قانون العقلاء. وبالإضافة إلی أنّ الکبری موجودة عند العقلاء، حیث إنّ واحدة من الواجبات النظامیة هی التفقه فی القانون ونشره وتعمیم ثقافته وبث وعی الإلتزام به و غیر ذلک. ولیعلم: أنّ التشریعات الدینیة کلّها ناظرة إلی تشریعی العقلاء وتقنینهم فتهذب وتحذف وتضیف لا أنها تنسخ ذلک.
الآیة الخامسة: آیة الأذن

و هی قوله تعالی: (وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ) .(1)

التقریب الإجمالی لدلالة الآیة

إنه (صلی الله علیه و آله) (یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ) واللام إذا تعلّقت بمادة الایمان تعنی الطریق فتعنی الإطمئنان. فهو (صلی الله علیه و آله) یطمئن للمؤمنین وبنحو الإستغراق سیما مع کونه (صلی الله علیه و آله) أذناً [ التی هی تعنی حسن الإستماع للآخرین، أو أنه یحدث کثیراً عما یسمع ] ممّا یدلّ علی حجّیة قول المؤمن.

المناقشة فی دلالة الآیة

ولکن ناقش عموم الأعلام فی دلالتها لوجود قرائن علی أنّ اللام لیست للإستطراق، وإنما لنفع المؤمن بنحو لا یضرّ الآخرین.

فمن القرائن أنّ مورد نزول الآیة سماعُه (صلی الله علیه و آله) لأطراف متناقضة متباغضة، فلاینسجم مع حجّیة أقوالهم، وإنما مع کونه یرتّب الأثر الذی ینفع کلّ واحد منهم من دون أن یتضرر الآخر.

ومن القرائن قوله تعالی: ( رَحْمَةٌ ) الدالّ علی أنّ المتابعة کانت للشفقة ومن باب الحمل علی الصحة وحسن الظن لا لحجّیة أقوالهم، مع الإلتفات إلی أنّ حسن الظن لا یعنی السذاجة وعدم الحذر. ومن ثمّ فالآیة تدلّ علی أنّ واحدة من وظائف المعصوم التعامل بالظاهر وإن کان یعلم الواقع من طرق أخری.

تقویة دلالة الآیة بروایتین

ص:361


1- (1) . التوبة/ 61

إلاّ أنّ جملة من الأعلام أصرّوا علی دلالتها علی الحجّیة لروایتین صحیحتین استدلّ فیهما الإمام بالآیة علی حجّیة الخبر. والروایتان هما صحیحة حریز فی الکافی(1)، وعمر بن یزید فی الوسائل(2).

عدم دلالة الروایتین علی المدّعی

إلاّ أنّ الحق عدم دلالة الروایتین علی الحجّیة لنکتة وهی أنّ

ص:362


1- (1) . الکلینی عن علی بن إبراهیم عن ابن أبی عمیر، عن حمّاد بن عیسی عن حریز قال: کانت لإسماعیل بن أبی عبد الله(علیه السلام) دنانیر وَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ قُرَیْشٍ أَنْ یَخْرُجَ إِلَی الْیَمَنِ فَقَالَ إِسْمَاعِیلُ یَا أَبَتِ إِنَّ فُلاناً یُرِیدُ الْخُرُوجَ إِلَی الْیَمَنِ وَ عِنْدِی کَذَا وَ کَذَا دِینَاراً فَتَرَی أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَیْهِ یَبْتَاعُ لِی بِهَا بِضَاعَةً مِنَ الْیَمَنِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام): یَا بُنَیَّ أَمَا بَلَغَکَ أَنَّهُ یَشْرَبُ الْخَمْرَ. فَقَالَ إِسْمَاعِیلُ: هَکَذَا یَقُولُ النَّاسُ. فَقَالَ: یَا بُنَیَّ لا تَفْعَلْ فَعَصَی إِسْمَاعِیلُ أَبَاهُ وَ دَفَعَ إِلَیْهِ دَنَانِیرَهُ فَاسْتَهْلَکَهَا وَ لَمْ یَأْتِهِ بِشَیْ ءٍ مِنْهَا فَخَرَجَ إِسْمَاعِیلُ وَقُضِیَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام) حَجَّ وَ حَجَّ إِسْمَاعِیلُ تِلْکَ السَّنَةَ فَجَعَلَ یَطُوفُ بِالْبَیْتِ وَیَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِی وَ أَخْلِفْ عَلَیَّ فَلَحِقَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام) فَهَمَزَهُ بِیَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ. فَقَالَ: لَهُ مَهْ یَا بُنَیَّ فَلا وَ اللَّهِ مَا لَکَ عَلَی اللَّهِ [هَذَا] حُجَّةٌ وَ لا لَکَ أَنْ یَأْجُرَکَ وَلا یُخْلِفَ عَلَیْکَ وَ قَدْ بَلَغَکَ أَنَّهُ یَشْرَبُ الْخَمْرَ فَائْتَمَنْتَهُ فَقَالَ إِسْمَاعِیلُ: یَا أَبَتِ إِنِّی لَمْ أَرَهُ یَشْرَبُ الْخَمْرَ إِنَّمَا سَمِعْتُ النَّاسَ یَقُولُونَ، فَقَالَ: یَا بُنَیَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ یَقُولُ فِی کِتَابِهِ (یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ) یَقُولُ یُصَدِّقُ اللَّهَ وَ یُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِینَ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَکَ الْمُؤْمِنُونَ فَصَدِّقْهُمْ وَ لا تَأْتَمِنْ شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ یَقُولُ فِی کِتَابِهِ (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ) فَأَیُّ سَفِیهٍ أَسْفَهُ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ إِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لا یُزَوَّجُ إِذَا خَطَبَ وَ لا یُشَفَّعُ إِذَا شَفَعَ وَ لا یُؤْتَمَنُ عَلَی أَمَانَةٍ فَمَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَی أَمَانَةٍ فَاسْتَهْلَکَهَا لَمْ یَکُنْ لِلَّذِی ائْتَمَنَهُ عَلَی اللَّهِ أَنْ یَأْجُرَهُ وَ لا یُخْلِفَ عَلَیْهِ. الکافی ج5، ص299، ح1 (کتاب المعیشة، باب آخر منه فی حفظ المال وکراهة الإضاعة)
2- (2) . محمّد بن الحسن الصفّار عن عبد الله بن محمد - یعنب ابن عیسی - عن محمّد بن الحسین بن أبی الخطّاب، عن محمد بن عبد الله، عن یونس، عن عمر بن یزید قال: قلت: لأبی عبد الله أَرَأَیْتَ مَنْ لَمْ یُقِرَّ (بِأَنَّکُمْ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ کَمَا ذُکِرَتْ) وَ لَمْ یَجْحَدْهُ قَالَ: أَمَّا إِذَا قَامَتْ عَلَیْهِ الْحُجَّةُ مِمَّنْ یَثِقُ بِهِ فِی عِلْمِنَا فَلَمْ یَثِقْ بِهِ فَهُوَ کَافِرٌ وَ أَمَّا مَنْ لَمْ یَسْمَعْ ذَلِکَ فَهُوَ فِی عُذْرٍ حَتَّی یَسْمَعَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام) (یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ). وسائل الشیعة، ج1، ص37، ح19 (کتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، الباب 2: ثبوت الکفر والإرتداد)

أصالة الصحة الأخلاقیة «ضع فعل أخیک علی أحسنه» وإن کان لا یترتب علیها أثر شرعی إلاّ أنه فی الجملة لا بالجملة، حیث نری فی بعض الحالات ترتّب الأثر کما فی الشاهد أو المخبر العادل قبل الشهادة والإخبار إلاّ أنه شک فی حصول الفسق بالشهادة والإخبار بأن کانتا زوراً أو کذباً، أو شک فی کون شهادة العادل عن عداوة وبغضاء. فتدفع هذه الإحتمالات الموجبة للشک فی مصداقیة الخارج للعموم بأصالة الصحة.

ولکن یمکن أن یقال: إنّ المفاد المطابقی للآیة هو أصالة الصحة بحمل فعل المؤمن علیها، ومورد نزولها الأقوال التی حدّثوا النبی بها، فما کان منه (صلی الله علیه و آله) إلاّ أنّ حملهم علی الصحة، من دون أن یعنی ذلک حجّیة قولهم، کما شاهدناه فی فعله (صلی الله علیه و آله) حیث التزم بالأصالة من دون ترتیب لآثار القول. فالأصالة أخلاقیة وتبقی أخلاقیة لا یترتب علیها أی أثر شرعی، فلا تکون أصالة فقهیة. نعم، هی قد تؤخذ فی موضوع حکم شرعی بمعنی أنها تحرز صغراه، کالعدالة التی هی صفة نفسانیة، فإنّها شرط فی حجّیة قول الشاهد، ولکن بما هی حاکیة عن استقامته فی أفعاله، بل الإستقامة هی العدالة حسب فهم البعض، ولابدّ لهذه الإستقامة الفعلیة أن تمتدّ حتی إلی فعله الأخیر وهو الشهادة، فمع الشک فی فعله هذا نتمسک بأصالة العموم للبناء علی أنّ شهادته لا عن کذب ولا عن عداوة لا أکثر، من دون أن تقول رتّب الأثر، حیث یقوله دلیل الحجّیة، نظیر استصحاب الدم - مثلاً- فإنه غایة ما یثبت لنا صغری الموضوع، من دون أن یقول «إنّه نجس» وإنما یتکفل ذلک دلیل «الدم نجس».

فتلخّص من مجموع ما تقدّم دلالة جمیع الآیات المذکورة علی الحجّیة.

ص:363

الدلیل الثانی: السنّة
إجمال ما ذکره الأعلام

إنّ الشیخ استعرض طوائف من الروایات علی حجّیة خبر الواحد مع مثال لکلّ طائفة.

والمحقّق الخراسانی اکتفی بالإشارة إلی أنّ هناک تواتراً [ علی الأقل، الإجمالی منه، الذی هو العلم بصدور بعضها من دون وجود اشتراک معنوی بینها، نظیر العلم الإجمالی بصدور بعض التکالیف. ]

وأضاف: أنّ المتیقن منها خبر العادل، ومن ثمّ یتوسع إلی غیره بروایات عدول مفادها حجّیة خبر الثقة.

وقد قام المتأخرون عنه بذکر صغریات تلک الروایات.

ملاحظات عامّة علی ما ذکره الأعلام

یلاحظ علی الأعلام:

[ 1 ] إنّ الطوائف غیر محصورة [ بمضمونها وأبوابها ] فیما ذکره الشیخ؛ حیث یلاحظ مثل هذه الروایات فی کتاب الکشی و خاتمة المستدرک و أصول الکافی، والأخبار الواردة فی حجّیة الخبر فی الموضوعات الدالّة علی حجّیته فی الشبهة الحکمیة بما ذکره المستمسک [ من أنّ التقسیم المذکور من اصطلاح الأعلام، وأنّ مفاد الخبر ثبوت کلام الإمام وصدوره منه وهو موضوع خارجی سواء کان مفاده الحکم أو الموضوع. ]

ص:364

[ 2 ] إنّنا لا نحتاج إلی التوسعة بالکیفیة التی جاءت فی کلام الآخوند [ وإن کنّا قد بنینا علیها سابقاً بعد أن ذکرنا أنّ القدر المتیقن هو الصحیح الأعلائی، وبواسطته نثبت حجّیة الصحیح المتوسط، وهو یثبت لنا حجّیة الصحیح العادی، وهو یثبت لنا حجّیة خبر الثقة. ولکنّا وجدنا بعدئذ أنّ هناک تواتراً علی خبر الثقة، واستفدنا ذلک من الإلتفات إلی نظر الروایات جمیعاً - إلاّ نادراً - إلی السیرة، وأنها لیست فی صدد تأسیس الحجّیة. ]

بل فی التوسعة المذکورة تأمل، وذلک لما ذکرناه [ تبعاً لأستاذنا المیرزا هاشم الآملی (قدس سره) فی حجّیة البیّنة ] من ضرورة تناسب الدلیل مع أهمیة المفاد والقانون، ومثل حجّیة خبر الثقة الذی تثبت به أحکام کثیرة من أول الفقه إلی آخره هو من الأهمیة بمکان لا یمکن أن یکتفی فی دلیلها بخبر أو خبرین.

تقییم الملاحظة

ولکن یمکن الملاحظة علی هذا التأمل:

1. إنّ الخبر أو الخبرین إمضاء لسیرة العقلاء، والمجموع صالح لإثبات حجّیة الخبر الثقة.

کیف والأعلام اکتفوا بعدم الردع فی اکتشاف الإمضاء، فکیف مع وجود التصریح ولو من خبر واحد.

2. إنّ الآخوند وأمثاله لم یقتصروا فی الدلیل علی حجّیة خبر الثقة بالخبر الصحیح الواحد أو الإثنین، وإنما استدلّوا بالآیات والإجماع أیضاً، والمجموع صالح لإثبات حجّیة خبر الثقة.

3. إنه یمکن العثور علی أخبار صحیحة تثبت حجّیة خبر الثقة أکثر ممّا ذکره الأعلام، وأضفناه نحن إلی حدّ الإستفاضة، ومن ثمّ لا مشکلة فی إثباتها حجّیة خبر الثقة لتناسبها معها.

عرض طوائف الروایات

ص:365

عرض طوائف الروایات [ التی ذکرها الشیخ وأکثرها فی أبواب صفات القاضی. ]

الطائفة الأولی [ وهی مستفیضة ]: الأخبار العلاجیة وتسمّی بأخبار التخییر والترجیح أیضاً وهی ما دلّ علی علاج المتعارضین، بتقریب أنّ ذلک دلیل علی کون کلّ واحد من الخبرین یؤخذ به لولا التعارض.(1)

الطائفة الثانیة: أخبار الإرجاع إلی آحاد الرواة کمحمّد بن مسلم وزرارة والحارث بن النضر وأبان ویونس [ وهی صحیحة السند وبعضها صحیح أعلائی، والمجموع مستفیض ] بتقریب أنه یظهر من هذه الطائفة أنّ العمل بخبر الثقة کان مفروغاً عنه وإنما المقصود من السؤال والجواب هو تعیین الصغری.(2)

الطائفة الثالثة: أخبار الإرجاع إلی عموم رواة الأحادیث أو ثقات الإمام، الدالّة بالأولویة علی الإرجاع إلی الراوی.(3)

الطائفة الرابعة: أخبار تَحُثّ علی تحمّل الحدیث وکتابته وحفظه ونقله [ وإن کان بالمعنی ] وبثّه بین الناس(4)، بتقریب أنه لو لم یکن الخبر حجّة لکان مثل هذه الروایات لغواً؛ لبداهة أنّ کثیراً من الأحکام لم تصل إلینا إلاّ عبر خبر أو خبرین، بالإضافة إلی ناظریة مثل هذه الروایات إلی السیرة مما یعنی أنها إمضاء تصریحی لها.

الطائفة الخامسة: أخبار عرض بعض کتب الأصحاب الحدیثیة علی الأئمة(علیهم السلام) وتأییدهم لجمیع ما فیه أو بعضه(5) ممّا یحکی عن حجّیة

ص:366


1- (1) . قد جمعها صاحب الوسائل، الحرّ العاملی، فی کتاب القضاء (الباب 9 من أبواب صفات القاضی) فراجع.
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27 (کتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضی)
3- (3) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27، (کتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضی)
4- (4) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27 (کتاب القضاء، الباب 8 من أبواب صفات القاضی)
5- (5) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27 (کتاب القضاء، الباب 8 من أبواب صفات القاضی)

خبر الواحد؛ لأنّ الأخبار المودعة فی تلک الکتب لم تکن متواترة.

الطائفة السادسة: الأخبار الدالّة علی أنّ هناک مَن یکذب علی الأئمة(علیهم السلام)(1)، فلو لم یکن خبر الواحد طریقاً متبعاً لما توسّل الکذّاب بالخبر الکاذب.

الطائفة السابعة: الأخبار الآمرة بالرجوع إلی الأئمة (علیهم السلام) فی الأحکام الشرعیة فإنهم مَصدرها وتدلّ بالإلتزام علی صحة الروایة والتحدیث عنهم (علیهم السلام)(2).

خلاصة الإستدلال بهذه الطوائف

[ 1 ] إنّ من البیّن وجود قانون عقلائی سائد علی العمل بخبر الواحد.

[ 2 ] من البدیهی أنّ وسائل النقل والإنتقال والتفاهم لا یمکن أن تکون بدرجة العلم بشتی المجالات، نعم یمکن ذلک فی ساحات محدودة ضیّقة.

ویؤکّد ما ذکرنا أنّا حینما نطالع ما بأیدینا من الأحکام نجد أنّ أکثرها ظنی.

[ 3 ] وجود طوائف [ أشرنا إلیها ] تدلّ بالمطابقة علی وجود آثار سابقة ومتفرعة تحوم حول الحجّیة. ومثل هذه الآثار لا معنی لها إلاّ مع حجّیة الخبر.(3)

ص:367


1- (1) . الطوسی، اختیار معرفة الرجال (المعروف برجال الکشی)، الحدیث 549، قال أبو عبدالله(علیه السلام): إنّا أهل بیت صادقون لا نخلو من کذّاب یکذب علینا فیسقط صدقنا بکذبه علینا عند الناس.
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج27 (کتاب القضاء، الباب 8 من أبواب صفات القاضی)
3- (3) . لابدّ من التفرقة بین قاعدة احترازیة القیود المثبتة للمفهوم الصغیر وبین الأخذ بالقدر المتیقن وهو الوصف عند إجمال الدلیل أو لبّیة الدلیل، فإنه لا یثبت المفهوم، ومن ثمّ لو ورد دلیل آخر یوسّع من دائرة الحکم فإنه ینافی الدلیل الذی یأخذ القید لتصادمه مع المفهوم، ولا ینافی الدلیل الذی یکون القید قدراً متیقنا منه. وفیما نحن فیه دلالة الروایات علی الصحیح من باب المتیقن لا من باب آخذ الوصف.

ولکن هذا التقریب لا یتمّ إلاّ مع فرض ناظریة الأخبار للقانون العقلائی وهو کذلک؛ إذ لا یمکن أن تکون ناظرة إلی الأخبار القلیلة المتواترة.

حدود حجّیة الخبر بحسب الأخبار

بعد أن اتضح دلالة الأخبار علی الحجّیة، یقع الحدیث فی حدود الحجّیة بحسب هذه الأخبار، علماً أنّنا فی راحة بعد أن فرضنا ناظریة الأخبار إلی السیرة [ التی هی جاریة علی حجّیة خبر الثقة والموثوق بصدوره کما سنبیّن. ]

ولکن علی مبانی الآخرین یمکن القول أنّ التواتر قام علی حجّیة خبر الثقة وأنّه هو المتیقن من الأخبار المتواترة بطوائفها المتنوعة. ومع غضّ النظر عن هذا التقریب والقول بأنّ المتیقن منها حجّیة الخبر الصحیح بل الصحیح الأعلائی، یقع السؤال عن وجود خبر صحیح یدلّ علی حجّیة ما دونه؟(1)

و الجواب: إنّ هاهنا أخباراً أدّعی أنها صحیحة وتامة وهی: 1. صحیحة حریز. 2. صحیحة عمر بن یزید. 3. صحیحة عبد العزیز. 4. صحیحة الحمیری. 5. حسنة إسماعیل الهاشمی.

وأما مفاد صحیحة حریز فهی حجّیة خبر الثقة، ومفاد صحیحة

ص:368


1- (1) . [س] یلاحظ أنّ جملة من الطوائف دلالتها أعم من حجّیة الخبر أو بقاء التراث محفوظاً بدرجة العلم، مثل طائفة الحفظ والتدوین والترخیص فی روایة الکتب الحقّة وغیرها؟ [ج] کلاّ، وذلک لتعذّر صلاحیة الطرق المذکورة لتوفیر العلم، بشهادة أنّ کثیراً من الأحکام التی بین أیدینا لم تصل إلاّ بخبر أو خبرین، مما یدلل علی أنّ جهود الرواة وعلی تنوعها لم توفّر الحالة العلمیة للشریعة، بل ولا یمکن ذلک، فیکون مجموع الطوائف کلّه للإلفات إلی حجّیة الخبر بالدلالة الإلتزامیة أو بدلالة الإقتضاء.

عمر بن یزید هی حجّیة خبر الثقة الإمامی.(1)

وهنا نکتة یجدر الإلتفات إلیها وهی أنّ الفرق بین الخبر الصحیح والموثق ثبوتی، فالاول ما تمحّض رواته فی الإمامی دون الثانی.

ولکن الفرق بین الصحیح والحسن وبین الموثق والقوی لیس ثبوتیاً، وإنما إثباتی فی درجة الإحراز. فتارة تحرز عدالة الإمامی أو صدق لهجته یقیناً أو اطمئناناً فهو الصحیح، وأخری یحرز أحدها بالإعتبار الشرعی فهو حسن.

کذا فی غیر الإمامی تارة یحرز صدق لهجته وجداناً فهو الثقة، وأخری تعبداً فهو القوی. هذا ما علیه مشهور الرجالیین وهو الحق، خلافاً لمَن جعل الفرق ثبوتیاً.

مفاد الصحیحتین

إذا اتضح ما تقدّم نقول: إنّ صحیحة عمر بن یزید تدلّ علی حجّیة الخبر الصحیح [ أی ما کان رواته إمامیین، عدولاً أو ثقات بالوجدان ] لأنه قال (علیه السلام) «أمّا إذا قامت علیه الحجّة ممن یثق به فی علمنا» فإنّ «یثق» بمعنی «یطمئن» فلا یدلّ علی حجّیة الخبر الحسن.

نعم، ذیلها «یؤمن باللّه» یدلّ علی الشمول حتی لغیر الإمامی.

وصحیحة حریز من جهة المورد أصرح فی شمولها لخبر الثقة دون الحسن والقوی.

روایة عبد العزیز بن المهتدی

ومثل هاتین الصحیحتین أخبار عبد العزیز بن المهتدی القمی الواردة فی حقّ یونس بن عبد الرحمن.

[ 1 ] ما رواه الکشی عن محمّد بن نصیر، عن محمد بن عیسی، عن عبد العزیز بن المهتدی والحسن بن علی بن یقطین جمیعاً عن الرضا (علیه السلام) قال: قلت: لا أکادُ أَصِلُ إِلَیْکَ أَسْأَلُکَ عَنْ کُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَیْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِینِی أَفَیُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَیْهِ

ص:369


1- (1) . قد تقدّم ذکرهما فی هامش صفحة 426 - 427

مِنْ مَعَالِمِ دِینِی؟ فَقَالَ: نَعَمْ.(1)

[ 2 ] ما رواه الکشی عن علی بن محمّد القتیبی عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِیزِ بْنِ الْمُهْتَدِی وَ کَانَ خَیْرَ قُمِّیٍّ رَأَیْتُهُ وَکَانَ وَکِیلَ الرِّضَا (علیه السلام) وَ خَاصَّتَهُ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (علیه السلام) فَقُلْتُ: إِنِّی لا أَلْقَاکَ فِی کُلِّ وَقْتٍ فَعَمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِینِی؟ فَقَالَ: خُذْ عَنْ یُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.(2)

[ 3 ] وما رواه الکشی عن جبرئیل بن أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِیسَی عَنْ عَبْدِ الْعَزِیزِ بْنِ الْمُهْتَدِی قَالَ قُلْتُ لِلرِّضَا (علیه السلام): إِنَّ شُقَّتِی بَعِیدَةٌ فَلَسْتُ أَصِلُ إِلَیْکَ فِی کُلِّ وَقْتٍ فَآخُذُ مَعَالِمَ دِینِی عَنْ یُونُسَ مَوْلَی آلِ یَقْطِینٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.(3)

فإنّ الظاهر منها المفروغیة عن کبری حجّیة خبر الثقة عند السائل، وأنّ السؤال عن صغرویة یونس ومصداقیته لتلک الکبری [ بسبب موقف القمیین من یونس وتکفیرهم له بالغلو لتبنّیه بعض الأفکار الکلامیة کانوا یرون أنها غلو. ]

المناقشة فی روایة عبد العزیز

ولکن لم تسلم هذه الصحیحة من الإشکالات علی صعید السند

والدلالة.

أمّا الإشکال السندی فهو فی محمّد بن عیسی بن عبید الیقطینی

ص:370


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج147/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11: باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة، الحدیث33).
2- (2) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 148/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11: باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة، الحدیث34).
3- (3) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 148/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11: باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة، الحدیث 35).

حیث ضعّفه الشیخ فی فهرسته(1) ورجاله ووصفه فی رجاله بأنه یونسی.(2)

والجواب: [ 1 ] إنّ الروایة عن عبد العزیز لا تنحصر بمحمّد بن عیسی بن عبید، بل الفضل بن شاذان، الثقة المعروف، یروی أیضاً هذا المضمون عن عبد العزیز بن المهتدی [ کما فی روایة الرقم 2 ].

[ 2 ] مضافاً إلی أنّ محمّد بن عیسی بن عبید ثقة، بعد مراجعة کلمات الأعلام وتجمیع القرائن فیه.

[ 3 ] خاصة وأنّ یونس ثقة.

[ 4 ] وأنّ روایته هذه لیست عن یونس، والصدوق توقّف فی روایته مع انفراده عن یونس.

أمّا الإشکال فی الدلالة

[ 1 ] فإنّ مراد الراوی من «ثقة» العدالة، بقرینة توثیق الإمام لیونس، فلا تدلّ إلاّ علی حجّیة خبر العدل.

والجواب: ما ذکرناه کتقریب لدلالة الروایة، وهو أنّ السؤال إنما هو عن یونس کصغری لکبری مفروغ عنها لا عن یونسیة یونس کی یکون للإشکال موقع.

[ 2 ] إنّ «معالم الدین» تشمل أصول الدین، ومن المقطوع عدم حجّیة الظن فیها، مما یشکّل قرینة علی أنّ السؤال عن یونس أنه یفید العلم أو لا.

والجواب: ما یأتی فی التنبیهات من أنّ خبر الواحد حجّة فی شطرواسع من تفاصیل أصول الدین، وسؤال الراوی لیس عن أصل التوحید والنبوة والإمامة والمعاد، وإنما عن تلک التفاصیل التی یعتمد

ص:371


1- (1) . محمد بن عیسی بن عبید الیقطینی، ضعیف، استثناه أبو جعفر ابنُ بابویه من رجال نوادر الحکمة وقال: لا أروی ما یختص بروایته. وقیل: إنه کان یذهب مذهب الغلاة. (الفهرست، الرقم 612)
2- (2) . محمد بن عیسی بن عبید الیقطینی، یونسی، ضعیف. (رجال الشیخ، باب المیم من أصحاب الإمام علی بن محمد الهادی(علیه السلام)، الرقم 5758)

فیها علی الخبر.

وعلی فرض إطلاق الروایة یرفع الید عن حجّیة الخبر بمقدار أصول أصول الدین.

[ 3 ] إنّ الروایة فی صدد حجّیة الفتیا بقرینة «ما أحتاج إلیه» ولم یقل «آخذ عنه ما یرویه؟»

والجواب: تقدّم فی سیاق الحدیث عن الآیات، حیث أشرنا إلی کیفیة تکفل الدلیل الواحد جعل حجّتین أو أکثر معاً.

صحیحة الحمیری

والصحیحة الرابعة: ما رواه الکلینی عن محمّد بن عبد الله الحمیری و محمّد بن یحیی [ جمیعاً ] عن عبد الله بن جعفر الحمیری، عن أحمد بن إسحاق، عن أبی الحسن (علیه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ وَقُلْتُ مَنْ أُعَامِلُ (وَ عَمَّنْ) آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ: الْعَمْرِیُّ ثِقَتِی فَمَا أَدَّی إِلَیْکَ عَنِّی فَعَنِّی یُؤَدِّی وَمَا قَالَ لَکَ عَنِّی فَعَنِّی یَقُولُ، فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ. قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (علیه السلام) عَنْ مِثْلِ ذَلِکَ، فَقَالَ: الْعَمْرِیُّ وَ ابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّیَا إِلَیْکَ عَنِّی فَعَنِّی یُؤَدِّیَانِ وَمَا قَالا لَکَ فَعَنِّی یَقُولانِ فَاسْمَعْ لَهُمَا وَ أَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ.(1)

وقد أشکل علی دلالة الراویة:

[ 1 ] إنّ توثیق المعصوم فوق العدالة، ویؤیده أنه (علیه السلام) فی صدد النیابة الخاصة التی تحتاج إلی مرتبة عالیة من العدالة.

والجواب: إنّ الإمام (علیه السلام) فی عین بیانه لعمریة العمری بإضافته إلی نفسه الشریفة إلاّ أنه ذیّل الحدیث بقوله «فإنّه الثقة المأمون» الظاهر فی تعلیله حجّیة قوله بکبری مفروغ عنها.

[ 2 ] إنها فی صدد حجّیة الفتوی أو الولایة الخاصة، بقرینة «فما أدّیا إلیک فعنی یؤدّی» وقرینة «فاسمع له وأطع».

ص:372


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة 138/27 (کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11: باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث من الشیعة، الحدیث 4).

والجواب: إنّنا لا ننفی ما ذکر من أنّ الروایة فی صدد الوکالة الخاصة فی عهد العسکریین، توطئة للنیابة الخاصة فی عهد الغیبة الصغری، إلاّ أنها فی الوقت ذاته متعرضة لحجّیة القول أیضاً بقرینة «ما قال لک عنی فعنی یقول» وتعلیله (علیه السلام) ب-«الثقة المأمون» الذی یتناسب مع الوثاقة فی القول. وأما قوله «فاسمع له وأطع» فلا یتنافی مع حجّیة الروایة، حیث إنّ فیها سماعاً وطاعة بالأخذ بها.

روایة إسماعیل بن الفضل الهاشمی

رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن إِسْمَاعِیلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) عَنْ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ: ألْقَ عَبْدَ الْمَلِکِ بْنَ جُرَیْجٍ فَسَلْهُ عَنْهَا فَإِنَّ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْماً. فَلَقِیتُهُ فَأَمْلَی عَلَیَّ شَیْئاً کَثِیراً فِی اسْتِحْلالِهَا وَکَانَ فِیمَا رَوَی فِیهَا ابْنُ جُرَیْجٍ أَنَّهُ لَیْسَ لَهَا وَقْتٌ وَ لا عَدَدٌ ... إِلَی أَنْ قَالَ: فَأَتَیْتُ بِالْکِتَابِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) فَقَالَ: صَدَقَ وَ أَقَرَّ بِهِ.(1)

وفی تلک الحسنة أحال الإمامُ إسماعیلَ بن الفضل علی فقیه من فقهاء العامة کان یمیل للصادق (علیه السلام) وهو عبد الملک بن عبد العزیز بن جریح الرومی الأموی، فإنّ ذلک یدلّ علی حجّیة خبر الثقة، إلی حدّ أنّ إسماعیل روی عنه بمقدار کتاب کامل عن المتعة من دون أن یقیده الإمام بعرضه علیه.

وقد یستشکل فی هذا التقریب أنّ الإمام کان یعلم أنّ عبدالملک صادق، فالراوی سیعلم بصدقه.

وجوابه: إنّ إسماعیل لم یحصل له علم بروایات عبد الملک جراء إحالة الإمام علیه، بدلیل عرضه ما أخذه من عبد الملک علی الصادق (علیه السلام) وکان جواب الإمام أنه صَدَق [ أی لم یکذب ] من دون أن یستنکر علیه عرضه بدعوی أنّ الإحالة معناها أنّ کلام عبد الملک یفید العلم

ص:373


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج138/27 (کتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5)

ویصیب الواقع.

ص:374

الدلیل الثالث: الإجماع
اشارة

ادّعی انعقاد الإجماع علی حجّیة خبر الواحد بأربعة أشکال:

1. الإجماع المنقول.

2. الإجماع المحصّل.

3. الإجماع العملی عند المتشرعة.

4. الإجماع العملی عند العقلاء.

والأخیران خارجان عن بحث الإجماع کما سنبیّن، حیث یدخلان فی باب جدید مع دلیل العقل و دلیل الإنسداد [ وهو باب العلاقة بین الشریعة السماویة والعقلائیة ] وهو بحث کبروی طبّق علی صغری هو خبر الواحد.

تدافع دعوی الشیخ والسیّد فی هذا الإجماع

أبرز ما فی الإجماع المنقول علی حجّیة خبر الواحد هو تدافع دعوی الشیخ والسیّد؛ حیث إنّ الشیخ الطوسی وأتباعه ادّعوا الإجماع علی حجّیة الخبر، مع دعوی السیّد المرتضی وأتباعه الإجماع علی العکس، مع تقارب عصرهما، بل شدّة العلاقة بینهما والتفات الشیخ الطوسی إلی دعوی أستاذه، فی الوقت الذی نلحظ الشیخ الطوسی کالطبرسی ینتهی إلی عدم الحجّیة فی ذیل آیة النبأ.

ما ذُکر فی حلّ هذا التدافع

وقد تصدّی الأعلام لتوجیه هذا الإختلاف ببیانات متعددة [ بعد الإلتفات إلی فائدة الإطالة فی هذا البحث، وأنها تکمن فی تشخیص

ص:375

نظرات الأعلام فی الصغری (روایات الکتب المعتبرة) وأنها إذا کانت محفوفة بقرائن، فما هی هویة تلک القرائن؟ ]

التوجیه الأول: [ وعلیه الأکثر ] إنّ الخلاف بینهما فی تخریج العمل بالروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة، بعد اتفاقهما علی أنّ ضرورة الطائفة علی العمل بما فی هذه الکتب.

فوجّه الشیخ الطوسی العمل بها علی أساس کبری حجّیة الخبر ووَجَّهه السیّد المرتضی علی أساس أنها أخبار آحاد حُفّت بالقرینة القطعیة.

ومع قبول هذا التوجیه للخلاف فهو یعنی أنّ الخلاف بین العلمین تجریدی نظری لا عملی.

التوجیه الثانی: إنّهما متفقان کبری وصغری؛ لأنّ مراد السیّد عدم حجّیة الخبر المروی من طرق العامة لا الخاصة، فإنّ الثانی خضع للجهود الجبارة التی بذلت فی غربلته وتصفیته، ومن ثمّ صار مأموناً عن الدس والتدلیس، ومحفوفاً بقرائن کفیلة بدفع مثل هذه الإحتمالات. ولیس مراد الشیخ الطوسی من حجّیته إلاّ هذا لا علی الإطلاق.

وبعبارة أوضح: هما متفقان علی حجّیة الخبر الموثوق بصدوره.

التوجیه الثالث: ذکر الشیخ الطوسی أنّ السیّد یرید نفی الحجّیة فی مقام الحجاج مع العامة، حیث لم یتمکن من التفوه بعدم حجّیة روایاتهم، خاصة وأنّ أکثر أرباب الجرح والتعدیل کانوا من النواصب، بالإضافة إلی عدم حجّیة الخبر الواحد فی المسائل الإعتقادیة بل الشیخ المفید کان لا یعمل بالخبر المستفیض فی مسائل اعتقادیة عدیدة.

التوجیه الرابع: إنّ الشیخ یکتفی بالخبر من دون حاجة إلی قرائن تعضد المضمون، أمّا الصدور فلابدّ من قرینة تعضده، والسیّد لم ینف حجّیة الخبر بمفرده إلاّ من جهة الصدور، کما یظهر من تعبیره «الخبر الواحد والخبر العلمی» فإنّ هذین التعبیرین مرتبطان بجهة

ص:376

الصدور لا بالمضمون.

فالنتیجة أنّهما متفقان فی حجّیة الخبر الموثوق بصدوره.

التوجیه الخامس: إنّ السیّد إنما أنکر حجّیة الخبر لعدم الدلیل [ کما یظهر من عبارة ابن زهرة الموافق للسیّد ] والإجماع الذی ادّعاه علی عدم العمل إجماع تقدیری [ بمعنی أنّ هناک إجماعاً علی کبری، وهی عدم جواز العمل من دون دلیل، وقد طبّقه علی خبر الواحد عند عدم وصوله إلی دلیل علی حجّیته ] و یعزّز هذا التوجیه کثرة الإجماعات التقدیریة فی کلمات السیّد و ابن زهرة.

الإلفات إلی نکتة مهمة

هاهنا نلفت إلی نکتة وهی: إنّ الأخباری والإنسدادی یستفیدان من اتفاق المثبِت لحجّیة خبر الواحد والنافی لها، علی لزوم العمل بما فی الکتب الروائیة المعتبرة، ومثل هذا الإتفاق حقیقته سیرة متشرعیة عند الطائفة ممضاة من الأئمة (علیهم السلام) ، والإختلاف منحصر فی تخریج هذا الوجوب واللزوم.

ومن ثمّ حتی لو لم یصل الباحث إلی نتیجة واضحة فی مسألة الحجّیة أو وصل إلی عدم الحجّیة لابدّ أن یعمل بما فی هذه الکتب، وإن لم یستطع تحلیل وجه لزوم العمل بهذه الطرق؛ إذ یکفی وجود الإتفاق الممضی من قبل المعصوم (علیه السلام) فی إثبات اللزوم.

ومثل هذا الإتفاق لیس مدرکیاً کی یخدش فی حجّیته؛ وذلک لأنه سیرة عملیة ودلیل لبّی وتسالم إجمالی. فکلّ التخریجات هی من قبیل الدلیل بعد الوقوع. ومن ثمّ لو اکتشف المستدلّ خطأ التخریج لا یرفع یده عن التسالم هذا، فیعمل به وإن لم یعرف وجهه.

والحقّ أنّ کلاً من النافی والمثبِت متفقان علی الکبری [ وهی حجّیة خبر الواحد ] إلاّ أنّ السیّد ادّعی الإجماع علی قضیة صغرویة یتفق معه الشیخ الطوسی فیها أیضاً [ وهی أنّ حجّیة خبر الثقة تدفع احتمال الکذب ، وأصالة عدم الإشتباه تدفع احتمال الخطأ العلمی. ]

ص:377

الشک فی التدلیس علی الثقة

وهناک شک ثالث لا یعالج إلاّ بالعلم [ بعد أن لم یؤمّنه حجّیة الخبر ولا أصالة عدم الإشتباه ] وهو الشک فی التدلیس علی الثقة، فإنّ السند [المذکور فی روایةٍ مّا ] صحیح علی شرط أن یکون سنداً حقیقیاً لا منتحلاً ومجعولاً، وهو ما لا نعلمه؛ إذ قد یکون هناک مَن جعل هذا السند بهذه الأسماء تمامها أو بعضها. ومثل هذا الشک لا سبیل إلی نفیه تعبّداً، وإنما ینتفی بالعلم بعدم التدلیس.

فکلّ خبر لا یمکن العمل به ما لم نعلم مسبقاً أنه خبر ثقة؛ إذ یمکن أن یکون مجعولاً باسمه. وهذا هو الذی یظهر من کلمات السیّد، لا أنّ الخبر لا یمکن العمل به ما لم نعلم بصدوره، بل یرید أن یقول: إنّ الخبر لا یمکن العمل به ما لم نعلم أنه خبر ثقة وصغری لکبری حجّیة خبر الثقة.

وعند مراجعة کلمات الشیخ الطوسی فی العدّة نجد أنه یقبل هذه الإلفاتة حیث قال: «بل اعتمادنا علی العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فیما بینهم» فإنّ هذه العبارة تعنی أنّ الخبر حتی لو کان حجّة [ کما هو کذلک ] وکان صحیحاً أعلائیاً صورةً، لا یمکن العمل به لوحده ما لم نعلم أنه حقاً صحیح، أی ما لم ننقح الصغری أولاً بالوجدان کی نطبّق الکبری التعبدیة.

بالإضافة إلی أنّ واحدةً من موجبات العلم بعدم التدلیس العلمُ بوثاقة صاحب الکتاب الروائی الذی یبدأ منه السند وضبطه علی درجة عالیة ولیس هذا لأجل إحراز وثاقته وعدم کذبه، إذ یمکن أن یثبت ذلک بالظن المعتبر، وإنما لأنّ مقتضی العلم ثبوت هذه الأوصاف العالیة له تحرزه فی کتابه عن التدلیس.

والجدیر بالإلتفات إنّ هذه الشبهة غیر شبهة العلم الإجمالی بالدس فی بعض الروایات؛ لأنّ المطروح هنا هو الشک المجرد فقط [ وسنعالج کلتا الشبهتین فی التنبیهات، وسنری أنّ بعض ما ذکره من علاج لشبهة العلم الإجمالی یصلح علاجاً لشبهة الشک المجرد. ]

ص:378

هذا وإنّ شبهة التدلیس جرّت البعض إلی القول بقطعیة ما فی الکتب الأربعة، وجرّت آخرین إلی القول بالإنسداد مع قبولهم کبری حجّیة الخبر.

بل فی یومنا هذا تأثر البعض بشبهة التدلیس إلی حدّ الإعراض عن الروایات والتشکیک فی صحتها وعدم الإعتماد علیها بالمرّة، مع أنّ المفروض لمن استحکمت عنده الشبهة ولم یجد فیها مخرجاً هو القول بالإنسداد فتطبیق قوانینه.

ص:379

الدلیل الرابع: السیرة
العلاقة بین التقنین الشرعی والبشری

سیکون حدیثنا عن السیرة المتشرعیة وکذا العقلائیة کدلیل علی حجّیة خبر الواحد کما صنع الأعلام، ثمّ فی ذیل کلّ منهما نجرّدهما عن خصوصیاتهما الصغرویة ونبحث فیهما بحثاً کبرویاً، وهو بحث هام جداً؛ حیث یعالج لنا إشکالیة العلاقة بین التقنین الشرعی والتقنین البشری.

والحال هو الحال فی الدلیل العقلی علی الحجّیة ودلیل الإنسداد، ومن ثمّ یمکن القول بأنّ صمیم البحث من هنا إلی آخر الإنسداد لیس عن خبر الواحد - علی أهمیته - وإنما عن کبری العلاقة المذکورة. وسیکون ترکیزنا علی النقاط المرتبطة بها، وأمّا ما یرتبط بالصغری فنکتفی بالمرور السریع بعد أن تمّ إثبات الحجّیة بالأدلّة الخاصة. علی العکس من الأعلام حیث لم یبلوروا الکبری و رکّزوا حدیثهم علی زاویة خبر الواحد.

تمییز سیرة المتشرعة عن سیرة العقلاء

ذکروا فی تمییز السیرة المتشرعیة عن العقلاء عدّة أمور:

[ 1 ] سیرة المتشرعة هی سیرة المتدینین بما هم متدینون، بمعنی أنها السیرة المتلقّاة من المعصوم، فهو الذی اعتبر القانون وتفشّی فی

ص:380

أوساط أتباعه، بینما سیرة العقلاء فإنّها بما هم عقلاء، أی إنّ واضع القانون وجاعله هو العقلاء.

[ 2 ] سیرة المتشرعة قد تکون علی حکم فقهی ومتفشیة فی أوساط عامّة المتدینین، وقد تکون سیرة علی حکم فقهی ومخصوصة بدائرة الفقهاء فقط، وقد تکون سیرة علی حکم أصولی وحجّةٍ من الحجج الإستنباطیة، ومن الطبیعی اختصاص مثل هذه السیرة بأجواء الفقهاء.

والقسم الأخیر هو المعبّر عنه فی کلام الأعلام - کصاحب الجواهر - بدیدن الأصحاب وطریقتهم.

[ 3 ] السیرة العقلائیة قد تکون مستجدة، و قد تکون معاصرة للمعصوم، أمّا المتشرعیة فهی معاصرة فقط.

[ 4 ] إنّ المتشرعیة لا تحتاج إلی إمضاء بل هی عین التشریع، بخلاف العقلائیة فإنّها تحتاج إلی إمضاء، وهذا هو الفارق الحکمی وسینعکس هذا الفارق علی تصویر السیرة علی خبر الواحد.(1)

تصادُقُ السیرتین فی مورد

إنّ سیرة المتشرعة والعقلاء قد یتصادقان فی مورد، لکن لما

ص:381


1- (1) . [س] البدایة فی سیرة المتشرعة [وهی تقنین الإمام] هل یتم باللفظ أو بالعمل أو بالتقریر؟ والأول لا یحتمل، والثانی یواجه مشکلة علی السیرة و علی الأحکام الأصولیة [حیث إنّه (علیه السلام) لیس مجتهداً کی یمارس الإستنباط من الحجج عملاً ومنه یتفشی بین الأصحاب؟ ] فیبقی التقریر. ولکن یبقی السؤال عن الصحابی الذی مارس الفعل أمام الإمام (علیه السلام)، علی أیّ أساس فعل؟ هل کان بشکل عفوی أو بنحو التجری أو ماذا؟ والسؤال خاص بالموارد التی لیس فیها سیرة عقلائیة، وإلاّ کانت ممارسة الأصحاب من وحی الارتکاز؟ [ج] یمکن أن تکون البدایة باللفظ، حتّی فی المسائل الأصولیة، ولکن لا لممارسة المعصوم الإستنباط، فإنه لیس بحاجة له، وإنما للتعلیم کما توجد شواهد علی ذلک من قبیل جوابه (علیه السلام) عن سؤال الراوی، أین یعرف هذا من کتاب اللّه، فأجاب (علیه السلام) : لمکان الباء، وأمثاله. المهم أنّا لا نملک دلیلاً لفظیاً فی المسائل سوی عمل الأصحاب الذی نقطع تبلیغهم ذلک من المعصوم.

کانت العقلائیة أقدم وأکثر تجذراً من المتشرعیة، فالسیرة المذکورة تسمّی عقلائیة وتکون محکومة لقانون السیرة العقلائیة، والمتشرعیة إمضاء لها. نعم، قد تکون هناک عنایة خاصة فی المورد کما فی خبر الثقة فتأخذ السیرة خصوصیات سیرة المتشرعة أیضاً.

تقریر دلیل سیرة المتشرعة لإثبات حجّیة الخبر

أفضل تقریر لدلیل السیرة هو التمسک بالممارسة العملیة للمسلمین بروایة الروایات التی لا یحتمل أنه کان لأجل تأمین التواتر و الإستفاضة [ لوجود الکثیر الکثیر منها الذی لم یبلغ الدرجة المذکورة ] وإنما کانت متشرعیة لأنّهم کانوا یتعاطون روایة الحدیث علی أساس أنه شأن دینی وشرعی.

بل فی موارد السیرتین ومصادیقها لا محالة تعود العقلائیة إلی متشرعیة؛ إذ سیرة المتدینین إنما کانت لإمضاء إمامهم لها وإلاّ لما وجدت السیرة العقلائیة طریقاً فی أوساط المتدینین، إلاّ أن تکون علی أمر لا علاقة له بشرعیاتهم.

أقسام السیرة العقلائیة

ومن ثمّ یطرح هذا السؤال وهو: أین مورد السیرة العقلائیة إذن؟ فهل تختص بالسیرة غیر المعاصرة أو ماذا؟

والجواب: إنّنا نتحفظ علی تعریف کلّ منهما المتقدم موضوعاً ومحمولاً، أقصاه أنّنا لابدّ من تقسیم السیرة العقلائیة إلی قسمین:

الأول: العقلائیة المعاصرة للشارع التی جرت علیها المتشرعة ولکن بما هم عقلاء، ولکن لم یوسّعوها إلی شرعیاتهم مع کونها فی معرض التوسعة. وعبّر عنه المحقّق الإصفهانی والسیّد الصدر بالأحکام العقلائیة المرکوزة فی بناءات المتشرعة [ لخفائها وقلّتها ] من دون أن یعملوا بها فی دائرة الشرعیات.

الثانی: العقلائیة المعاصرة التی جرت علیها المتشرعة فی

ص:382

شرعیاتهم، ولکنهم بنوا علیها بما هم عقلاء وبنوا علی حجّیتها بما هم متشرعة، أی أنهم مارسوها موضوعاً بما هم عقلاء ومحمولاً بما هم متشرعة.

فائدة التقسیم

وتظهر ثمرة هذا التقسیم فی أنّ القسم الثانی کالسیرة المتشرعیة لا یحتاج إلی إمضاء فنکتشف حجّیتها علی حدّ الکیفیة فی السیرة المتشرعیة.

فهذا القسم من السیرة العقلائیة سیرة متشرعیة حکماً، وسیرة عقلائیة موضوعاً. وبالتالی فحدیث الإمضاء والردع وأنه یکفی فی الإمضاء عدمُ الردع أو لابدّ من التصریح، خاص بالقسم الأول.

فلو بنینا علی أنّ عدم الردع یکفی فتکون الفائدة جمّة؛ لأنّ الإمضاء [ من هذا النوع ] للقانون العقلائی الکلّی یشمل کلّ أفراده حتی المستجدة، وغالب هذه السیر توجد فی قوانین کلّیة دستوریة لم تتنزل بعد، وإلاّ لکان قد عمل بها فی الشرعیات.

وعلی هذا فالإمضاء یتعلّق بالکبری المرکوزة ویمکن سرایة هذه العملیة إلی القسم الثانی من السیرة العقلائیة [ کما ألفت المحقّق الإصفهانی و السیّد الصدر ومارسه الشهید الأول ] فإنّ السیرة وإن کانت علی خبر الواحد إلاّ أنّ الإمضاء لها إمضاء للکبری التی یندرج تحتها بالاولویة.

ومن العرض المتقدّم نری أنّ دعوی وجود السیرة العقلائیة والمتشرعیة علی خبر الواحد مسامحة، بعد أن کانا موضوعاً متباینین، وإنما الحق أنها سیرة عقلائیة موضوعاً ومتشرعیة حکماً.

وجود السیرة علی العمل بخبر الثقة

بعد هذا نرجع إلی ما کنّا فی صدده من أنّ هناک سیرة علی العمل بخبر الثقة متلقّاة من المعصوم، ومن ثمّ تفشّت فی أوساط المتدینین

ص:383

علی أساس أنه شیء شرعی.

والسیرة هذه تکون علی العمل بخبر الثقة فضلاً عن الموثوق لصدوره، کما یشهد لذلک أنّ الأعلام اکتفوا فی کثیر من الفروع بخبر الثقة من دون شاهد یجعل منه موثوقاً بصدوره.

ویشهد أیضاً روایة أهل السنّة بما هم مسلمون عن نجوم رواة الشیعة لأنهم ثقات وکذا العکس حیث روت الشیعة عن غیرهم معلّلین ذلک بأنهم ثقات.

ومما تقدّم یتضح تقریر السیرة العقلائیة أیضاً، غایته أنّنا بحاجة إلی تصویر السیرة علی خبر الثقة والموثوق بصدوره. ویتضح ذلک بما ذکرناه فی بحث القطع من أنّ الحجّیة لیست للقطع وإنما للمقدّمات والمدرک [ الصغری والکبری ] کذلک فی خبر الثقة وسائر الظنون الخاصة فإنّ الحجّیة لم یجعلها العقلاء إلاّ لها باعتبارها مناشئ لاحظوا أنّ إصابتها غالبیة سواء حصل وثوق عند مَن حصل له المنشأ أم لم یحصل، فکما أنّ الحجّیة فی القطع للمقدّمات سواء حصل قطع منها أم لا، کذلک الحجّیة فی الظن للمنشأ الذی إصابته غالبة بتقدیر العقلاء سواء حصل منه ظن أم لا.

عدم حجّیة الخبر الموثوق بصدوره بالوثوق الشخصی

ومما تقدّم یمکن القول: إنّه لا سیرة علی حجّیة الخبر الموثوق بصدوره [ بعد أن کان یعنی الوثوق الشخصی بالصدور ] حیث ذکرنا أنّ العقلاء لم یجعلوا الحجّیة وصفاً للحالات النفسانیة. ولکن هذا کلّه فیما کان المنشأ منضبطاً، وأمّا ما لم یکن منضبطاً فالعقلاء اعتدّوا بتلک المناشئ بالنحو المجموعی بعد وضع قالب وضابط عام لها. فإنهم لم یعتدّوا بتلک المناشئ کلاًّ علی انفراد لما وجدوا أنّ إصابتها لیست غالبة إلاّ أنّهم لم یهملوها بالمرّة وإنما استفادوا منها منضماً بعضها

ص:384

إلی البعض بحدّ یشکّل مجموعها الإصابة الغالبة کالمناشئ الخاصة، ولمّا لم یکن ذلک منضبطاً ضبطوه بالإطمئنان النوعی.

ولذا کانت واحدة من فوائد بحث الإنسداد هو هذا البحث لا من جهة حجّیته [ حیث تتکفّله - علی الأقل - السیرة ] وإنما ینفع بابُ الإنسداد هذا القسمَ من جهة تفصیل الظنون غیر المعتبرة بتحدید درجة کلّ منها.

دعوی رادعیة الآیات (الناهیة عن الظن) عن السیرة

ذکر الأعلام إشکالاً [ لا یختص بخبر الواحد وإنما هو موجّه إلی کلّ سیرة عقلائیة علی الظنون ] وهو رادعیة الآیات [ الناهیة عن الظن ] عن السیرة، بتقریب أنّ النهی عن الظن هو باعتبار أنّ الظن ذاتاً لا یقبل الإعتبار، فکانت عموماتُ الآیات الناهیة آبیةً عن التخصیص وتشکّل رادعاً عن السیرة.

ردّ الدعوی

وأجیب بعدّة أجوبة:

الأول: إنّ السیرة علی خبر الواحد لیست عقلائیة فقط بل متشرعیة أیضاً وهی بنفسها دلیل فتخصِّص إطلاقَ الآیات. وهذا الجواب هو العمدة فی کلمات القوم، ونضیف أنه سیرة عقلائیة موضوعاً ومتشرعیة محمولاً. وهو جواب متین صغرویاً [ فی خصوص خبر الواحد ] إلاّ أنه لا یعالج جذر الإشکال وکبراه [ وهو رادعیة الآیات عن السیرة العقلائیة ] فتبقی الحاجة إلی الأجوبة الأخری.

الثانی: إنّ الآیات مختصة بالظنون المتعلّقة بالإعتقادات فلا یصلح التعویل علی الظن فی المسائل الإعتقادیة، وهو حق فی بعض الآیات.

بالإضافة إلی أنّ هاهنا نقطةً وهی أنّ الیقین والعلم والظن وکذلک الشک والوهم فی القرآن لیس یعنی درجة الکشف والإذعان وإنما هی

ص:385

أسماء للمناشئ [ التی هی الأدلّة. ] فالظن هو المنشأ الذی لیس تاماً وإنما هو صورة دلیل، والشک منشأ لا یشبه الدلیل، والوهم من دون منشأ وإنما هو تخیل وهوس لا أکثر.

الثالث: الآیات تنهی عن الإعتماد علی الظن المنفرد و أمّا إذا کان الإعتماد علیه بما وراءه من الدلیل القطعی فغیر مشمول بالآیات ویکون خارجاً عنها تخصصاً؛ لأنّ الإعتداد حینئذ لیس بالظن وإنما بالدلیل القطعی.

الرابع: إنّ القرآن شرّع مجموعة من الظنون [ سواء فی الشبهة الموضوعیة أم الحکمیة کما فی باب الشهادة وآیة النفر ] ممّا یدلل علی أنّ عدم الإعتداد بالظن لیس بملاحظة ذات الظن بما هو هو وإنما بما هو فاقد الإعتبار، فإذا وجد دلیل علی الإعتبار یعتمد علیه.

فالآیات بمثابة بیان الأصل العملی، وهو أنه مع عدم الدلیل لا یبنی علی الحجّیة لا أنّ الظن فی نفسه لا یصلح للإعتماد علیه.

وبعبارة أخری: إنّ مفاد الآیات یدور بین احتمالات ثلاث:

[ 1 ] إنّ الظن فی نفسه وبذاته لا یقبل الإعتبار کالوهم، ومع هذا الإحتمال یکون الجواب الرابع [ کمادّة نقض ] متیناً.

[ 2 ] إنّ الظن [ حیث لا دلیل علیه ] لا یحق اتّباعه [ وهو عین مفاد الأصل العملی إلاّ أنه خاص بمسألة معینة ونقیض للمفاد السابق ] ومعه یکون الجواب الثالث والأول متیناً، وأمّا الجواب الرابع فلا یتکفل التدلیل علی حجّیة السیرة علی الظن الخاص.(1)

[ 3 ] إنّ مفاد الآیات نفی حجّیة الظن لا بنحو عدم القابلیة وإنما بنحو العموم القابل للتخصیص.

ص:386


1- (1) . [س] ولکنّه ینفع فی نفی الفهم الأول للآیات، نعم هو لا یتکفل بیان الوجه فی حجّیة السیرة؟ [ج] نعم، ولکن بمقدار تعیین المفاد الثانی وترجیحه علی الأول، ولکن مَن یرید أن یستدلّ برادعیة الآیات - علی الفهم الثانی - عن السیرة لا یصلح الجواب الرابع لنفی الرادعیة عنها، وإنما عن خصوص الظنون المشرعة فی القرآن، بخلافه فی الجواب الأول والثالث.

ومن هنا یتضح أنّ الأجوبة متعدّدة المبانی فی فهم الآیات، فلابدّ من الإلتفات وفرز المحتملات وعلی ضوئها الأجوبة.

أمّا علی المفاد الأول فمن الواضح أنّ السیرة مردوعة، وعلی المفاد الثانی لا تصلح الآیات للردع؛ لأنّ مفادها لیس الردع وإنما نفی الحجّیة عن الظن المشکوک الحجّیة، وفی الظن المقنَّن من قبل العقلاء لا شک فی حجّیته [ بعد أن کان الکشف فی السیرة متوفّراً بنحو الإقتضاء ] فلا ردع [ وهو کاف فی الکشف عن الإمضاء الشرعی ] وعلی المفاد الثالث [ الذی علیه غالب مفادات العمومات ] یدور الأمر بین رادعیة الآیات عن السیرة ومخصصیة السیرة.

حکومة السیرة علی الآیات الناهیة

الخامس: [ ذکره المحقّق النائینی بناءً علی ما تبنّاه فی حقیقة الحجّیة من أنها علم تعبدی ] إنّ السیرة حاکمة علی الآیات الناهیة؛ لأنّ السیرة تجعل الخبر کالعلم، ومن ثمّ لایری العقلاء أنفسهم مشمولین للنهی.

وظاهر کلامه هذا أنّ التقنین العقلائی [ حتی لو لم یکن ممضی ] هو المتصرف فی الموضوع الشرعی، وفی بعض عباراته أنّ التقنین العقلائی کاشف عن أنه علم تعبدی عند الشارع، وهذا هو الحاکم علی الآیات.

ولمعرفة مدی تمامیة هذا الجواب لابدّ من معرفة مبانیه فی طبیعة العلاقة بین التقنین الشرعی والعقلائی، سیما مع ما ذکرناه سابقاً من أنّ لغة التقنین الشرعی هی لغة العقلاء، فإنه یوضح الکبری المطویة فی جوابه.

السادس: [ ذکره الحکیم و السیّد الصدر ] أنّ السیرة إذا کانت بنحو القرینة المتصلة حین صدور الآیات فإنّها تکون مخصصة، وأمّا إذا لم تکن متصلة فلا تکون حجّة ومخصصة.

وترجع هذه اللفتة إلی أنّ التقنین العقلائی إذا کان محتفاً بالقانون

ص:387

الشرعی یکون قیداً، من ثمّ یأتی السؤال أنه کیف یؤثر التقنین العقلائی فی الشرعی؟ وما هو وجه الفرق بین المتصل والمنفصل إذا کان کلّ واحد منهما ممضی، وکیف یمکن للمتصل التصرف فی الشرعی إذا لم یکن ممضی؟

تناسب الردع مع المردوع

السابع: [ واعتمده الأکثر ] إنّ الردع لابدّ أن یکون متناسباً مع حجم ما یکون بصدد الردع عنه، فإذا ورد شیء [ کالإطلاق والعموم ] لم یصل فی قوته إلی درجة کافیة، لا یصلح للردع عما یکون متجذراً.

وحیث کانت السیرة علی قسمین: عمیقة الممارسة متجذرة واسعة الإنتشار فی قبال التی تمارس هامشیاً أو فی أبواب قلیلة أو فی أحکام جزئیة فالردع لابدّ أن یکون متناسباً مع حجمها، بخلافه فی السیرة الهامشیة.

وعلی هذا الأساس من التفصیل قد اکتفی البعض فی الردع عن السیرة الإستصحابیة بعموم البراءة.

والوجه فیما ذکر أنّ وظیفة الشارع [ علاوة علی کونه شارعاً ] هو التربیة بالإضافة إلی کونه بلیغاً وحکیماً، فلابدّ فی التقنین المتجذر الذی لم یقبله الشارع أن یردع عنه بشکل یتناسب طرداً مع حجم السیرة کی یتنبه إلی ذلک کما نشهد ذلک فی القیاس.

وخبر الواحد أکثر تجذراً وتفشیاً من القیاس مع أنّا لم نلحظ ما یصلح للردع عنه بقدر ما ورد فی الردع عن القیاس.

والمحقّق النائینی یفصّل فی الکبری بأنّ السیرة إن کانت فی غیر المعاملات فالتفصیل فی محلّه، وأمّا إن کانت فی المعاملات فلا یکفی عدم الردع بل لابدّ من إمضاء لفظی ومن ثمّ یکفی فی الردع عنها [ حتی المتجذرة منها ] الرادعُ البسیط وإن لم یتناسب معها

طردیاً.

ص:388

وقد یستوحی من بعض کلماته الحاجة إلی إمضاء لفظی فی السیرة علی الأحکام الوضعیة مطلقاً حتی ما کان منها مرتبطاً بالعبادات. ویظهر من کلمات أخری الحاجة إلی الإمضاء الواصل فی التقنین الوجودی ولا یکفی فیه عدم الردع، بخلاف التقنینات العدمیة حیث یکفی فی الإمضاء عدم الردع.

ویظهر من المحقّق الخراسانی عدمُ الإلتزام بالتفصیل المزبور فی موارد متعدّدة کما فی بحث الإستصحاب؛ حیث أقرّ بوجود السیرة علیه وأنها متجذرة إلاّ أنها مردوعة بالآیات الناهیة عن الظن أو مردوعة بعمومات البراءة.

کذا الفقهاء لم یلتزموا بالتفصیل المذکور فی أبواب فقهیة عدیدة؛ حیث اکتفوا فی تقیید السیرة العقلائیة وتخصیصها بالخبر الواحد الصحیح، مع أنّ المساحة الملغاة أیضاً متجذرة بل اکتفوا بذلک حتی فی السیرة العقلائیة موضوعاً المتشرعیة حکماً.

من هنا ینبثق هذا التساؤل: إنّ العلاقة بین التقنین العقلائی والشرعی هل هی فی مرحلة الدلالة والإثبات [ بمعنی أنّ التقنین العقلائی الممضی کاشف عن الشرعی، وکیف نحرز أنه ممضی أو مردوع؟ ] أو فی مرحلة القانون [ أی نبحث العلاقة بین متنی القانونین؟ ]

وبعبارة أخری إنّ التقنین العقلائی تارة لا قیمة له سوی الکاشفیة عن التقنین الشرعی فالعلاقة بینهما إثباتیة لا أکثر، و أخری إنّ التقنین العقلائی داخل فی متن التقنین الشرعی علی حدّ موضوع الحکم ممّا یعنی أنّ الصلة بینهما ثبوتیة.

والحق أنّ کلتا العلاقتین موجودة کما سنبیّن.

کون الشارع رئیس العقلاء

الثامن: [ ذکره المحقّق الإصفهانی ] أنّ وجه کشف السیرة عن القانون الشرعی هو کون الشارع رئیس العقلاء، فدیدنه دیدنهم ومن ثمّ

ص:389

لا یحتاج إمضاؤها إلی مؤونة لفظیة بل یکفی فی استکشافه عدمُ الردع، وأما إذا أراد الشارع أن یخالف العقلاء فی شیء احتاج إلی قرینة صریحة. وبالتالی فکاشفیة السیرة العقلائیة لسیت تعلیقیة وإنما هی ناجزة فتکون مخصصة للعمومات.

وقد نوقش بأنّ هذا الجواب یذکره الأصولیون فی حجّیة الأحکام العقلیة [ التی هی بدیهیة أو نظریة قریبة منها ] لا العقلائیة [ التی هی جعولات مقترحة منهم لتقنین عادیاتهم ومسلّماتهم لتنظیم حیاتهم وسدّ حاجاتهم ] فهو یسدّ العقلاء فی أحکامهم العقلیة لا العقلائیة، فلا ضرورة فی مشارکة الشارع للعقلاء ووحدة مسلکه معهم.

ولتحلیل ما ذکره المحقّق الإصفهانی والتساؤل المثار حوله لابدّ من الإلتفات إلی أنّ أحکام العقل العملی لها تمام الصلة بالعمل، وأحکام العقلاء أیضاً مرتبطة بالعمل فهما متشابهان من هذه الجهة، بل إنّ المحقّق الإصفهانی یبنی علی أنّ أحکام العقل اعتباریة مشهورة، فلا فرق بینها وبین الأحکام العقلائیة من هذه الجهة، وإن کانت العقلائیة تعمّ کلّ المشهورات والعقل العملی یخص قسماً منها.

ونحن لا نقبل ما ذکره المحقّق الإصفهانی، إلاّ أنه لابدّ من الإلتفات إلی أنه (قدس سره) انطلق من العلاقة الثبوتیة بینهما واستفاد منها فی العلاقة الإثباتیة. وهو علی حقّ فیما ذکره من العلاقة الثبوتیة، وهی أنّ الشریعة العقلیة تشکّل البنیة التحتیة للتشریعات القانونیة برمّتها، فهی الغطاء الدستوری لکلّ التشریعات.

فیترتب علی ذلک أنّ الأحکام العقلائیة قریبة الأفق من الأحکام العقلیة بأن کانت مستلّة منها مباشرة أو بواسطة قریبة لم یردع عنها الشارع، بل قد یمتنع لأنّ مدرکها نفس الحکم العقلی بل نری فی ممارسات الفقهاء أنّهم یعرضون عن النهی والردع عن مثل هذه الأحکام، ولیس ذاک إلاّ لأنّهم یرونها آبیة عن التخصیص.

ومما تقدّم اتضح صواب ما ذکره المحقّق الإصفهانی فی الجملة بحدود المساحة التی ذکرناها لا مطلقاً کما رام ذلک (قدس سره).

ص:390

هذا ونحن لا نرتضی استدلال الأعلام بما ذکره المحقّق الإصفهانی علی حجّیة «کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع» خاصة ممن یری تکوینیة الحکم العقلی، فهو أنسب بالأحکام الجعلیة التواضعیة [ کما صنع المحقّق الإصفهانی ] غایته أنه لا ینفع مطلقاً وإنما فی خصوص السیرة العقلائیة المتوسطة فإنّها کالسیرة المتشرعیة، فکما أنها لا تحتاج إلی إمضاء [ لأنّ حجّیتها ذاتیة - إن صحّ التعبیر - متلقّاة من الشارع یداً بید ] کذا العقلائیة من هذا النمط. فإنّ المتشرعة وإن لم یمارسوها فی شرعیاتهم وبما أنّهم متشرعة إلاّ أنّهم مارسوها بما هم عقلاء وکانت معاصرة للمعصوم وفی معرض التعدّی إلی الشرعیات، فبما أنّ الشارع سیّدهم فهی متلقّاة یداً بید منه بما أنه سیّد العقلاء لا بما أنه شارع.

قضیة الدور فی الرادعیة

التاسع: الآیات لا یمکن أن تکون رادعة فإنّ فی رادعیتها دوراً واضحاً فتبقی السیرة بلا رادع ولکن یبقی السؤال بأنّ السیرة هل هی مخصِّصة بما أنها شرعیة ممضاة أو بما أنها تقنین عقلائی؟ وعلی الثانی یعود السؤال المثار فی الجوابین السابقین [ وهو أنه کیف یمکن للتقنین العقلائی التصرف فی التقنین الشرعی؟ ] اللّهم إلاّ أن یراد أنّ الکاشف عن الإمضاء الشرعی [وهو عدم الردع ] ذو حقیقة تعلیقیة.

وقد أشکل المحقّق الخراسانی صاحب الکفایة علی نفسه [ بعد ذکره هذا الجواب ] بأنّ حجّیة خبر الثقة بالسیرة أیضاً لا یکون إلاّ علی وجه دائر.

وأجاب بأنّ سیرة العقلاء علی العمل بخبر الواحد قبل نزول الآیات المذکورة کانت بلا رادع، وبعد نزول الآیات یدور الأمر بین تخصیص الآیات بها أو کون الآیات رادعة عنها [ کما هو الحال فی

الخاص المتقدّم علی العام، إذ یدور الأمر بین کونه مخصصاً للعام

ص:391

أو منسوخاً به. ] وقد سبق منه أنّ الأولی وهو التخصیص، وعلی فرض التوقف فالمرجع إلی استصحاب الحجّیة.

ولیلتفت إلی أنّ هذا الجواب یفترق عن جوابه بأنّ رادعیة الآیات دوری فإنه فی الجواب الأول [ دوریة الردع ] جعل متن السیرة [ أی التنقین العقلائی ] هو المخصص، لا محمولها [ الذی هو الإمضاء الشرعی ] وإلاّ کان الدور من الجانبین، وحیث خصّه فی جانب الرادعیة دون التخصیص کان قرینة علی ما ذکرناه.

وهو جواب ضعیف [ کما ذکر الأعلام ] إذ لا صلاحیة للعقلاء أن یتصرفوا فی التقنین الشرعی، کیف وحقیقة ردع الشارع عن سیرة العقلاء لا تعنی سوی نفی حجّیتها، وردع اتّباعه عن اتّباعها واستبدالها بحکم آخر بینما فی هذا الجواب جعل اعتبار الشارع للسیرة القبلی هو المخصص للإعتبار الشرعی العام المتأخر، وبه تخلص من إشکالیة الدور من الجانبین؛ لأنه لا یلزم إلاّ فی فرض التعاصر.(1)

ومن ثمّ یتضح أنّ فی جواب صاحب الکفایة هذا إلفاتاً إلی نکتة اصولیة مهمة وهی أنه (قدس سره) یعتبر أنّ حجّیة الأمارات الشرعیة [ بل شطر کبیر من الأحکام الظاهریة ] معلول ثبوتاً للحکم الشرعی، فی

ص:392


1- (1) . [س] ولکن إشکال الآخوند بالدور من الجانبین ذکره فی ذیل الجواب الأول، مع أنه لا یتصور إلاّ مع فرض المخصص هو الإعتبار الشرعی للسیرة مع المعاصرة، ممّا یدلّ علی أنّ الجواب الأول کان یفترض أنّ السیرة المخصصة هی السیرة محمولاً لا موضوعاً، غایته أنّ هذا الجواب لم یعتن بقضیة عدم المعاصرة الذی یعالج إشکال الدور من الجانبین، فجاء الإشکال. ومن جوابه یعرف أنّ هذا الإشکال لا یرد إلاّ مع فرض أنّ المخصص هو السیرة محمولاً مع التعاصر، وجاء الحلّ بتصویر عدم التعاصر بینهما ولکن العام المتأخر - علی فرض أنه لیس بناسخ وإنما مخصص - یکشف عن أنّ العموم من البدایة لا حین وروده، ومن ثمّ سیکون معاصراً مع السیرة المخصصة؛ فیلزم الدور من الجانبین؟ [ج] لزوم الدور من الجانبین إنما یکون مع تعاصر الکاشفین لا التعاصر بین المنکشفین، کما هو الحال فیما نحن فیه.

الوقت التی هی علل إثباتیة إنّیة. فما کنّا نعتبره أنه حکم شرعی هو فی الواقع معلول له أو تصرف شرعی فی الأحکام العقلیة المعلولة للحکم الشرعی.

وقد بنی جملة من الأعلام علی هذه النکتة إرتکازاً، فإنّ الظن فی الإنسداد علی مبنی الحکومة هو من معالیل الحکم الشرعی.

وعلی مبنی الکشف ذکروا أنه یکشف عن تکلیف شرعی، ولکن نلحظ أنّ المقدّمات التی استخدمت لإثباته هی نفس مقدّمات الظن علی الحکومة، وسرّه أنّ هذا التعبد الشرعی مرتبط بمعلولات الحکم وتعبّد الشارع بالظن ومقام الإمتثال.

کذا عندما ننظر إلی کلماتهم فی الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی نلحظ بوضوح تصنیف الحکم الظاهری فی سلسلة المعالیل.

خلافاً لابن قبة حیث افترض أنه حکم فی عرض الحکم الواقعی فی حین أنّ الواقع أنّ الأمارات قریبة السنخ من قاعدة الفراغ، فهی إحرازات للفراغ سوی أنها عقلائیة لا شرعیة، فما ورد من أدلّة شرعیة لا یعدو الارشاد، فهی لیست تأسیساً للحجّیة ولا إمضاء لما بنی علیه العقلاء.

نعم، للشارع أن یتصرف فیها ضیقاً وتوسعة، بعین التقریب المذکور فی قاعدة الفراغ وأمثالها من التصرفات فی منطقة الإمتثال.(1)

بعد هذا ذکر (قدس سره) تعلیلاً لجواز الإعتماد علی السیرة إذا لم یثبت الردع، فقال (قدس سره): «ضرورة أنّ ما جرت علیه السیرة المستمرة فی مقام الإطاعة والمعصیة وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو فی صورة المخالفة عن الواقع، یکون

ص:393


1- (1) . [س] عللّتم عدم حاجة مثل هذه السیر إلی الشرعیة، بأنّ المساحة عقلیة لا یمکن للشارع التصرف بها، ومعه کیف أمکن الردع الذی هو تضییق فهو تصرف. [ج] الردع کما قد یکون تضییقاً قد یکون توسعة، ولا نقصد من عدم تصرف الشارع عدم الإمکان، وإنما عدم الشانیة، وإلاّ له أن یتصرف بالکیفیة التی ذکرناها سابقاً، وذلک من خلال إعدام الموضوع.

عقلاً فی الشرع متبعاً مما لم ینهض دلیلاً علی المنع عن اتّباعه فی الشرعیات».

وظاهر هذا الکلام إنه (قدس سره) صنّف إحراز الحکم فی معالیل الحکم [ نظیر الإمتثال ووجوب الطاعة والتنجیز مما ذکره المحقّق النائینی فی تقسیمه للاحکام العقلیة إلی ما یقع منها فی سلسلة علل الحکم وما یقع منها فی سلسلة المعالیل. ] وهو مخالف لتصنیف المحقّق النائینی فی الأحکام العقلائیة المحرزة؛ حیث صنّفها المحقّق الخراسانی فی سلسلة المعالیل [ لأنها ولیدة وجوب الطاعة ومعلولة له ] فی حین صنّف المحقّق النائینی الحکم العقلی الإحرازی فی سلسلة العلل.

ثمّ إنه یرید (قدس سره) من کلامه جواباً آخر من إشکالیة الدور فی هذا الشطر من الأحکام ا لعقلائیة [ التی هی الأحکام الأصولیة بعد الإلتفات إلی أنه من خلال جوابیه یقبل إشکال الدور فی الطرفین فی أنفسهما لولا وجود المرجّح من خارج للسیرة ] وحاصله: إنّ هذا النمط من السیر حجّة من دون حاجة إلی الإمضاء؛ لأنّ جذرها حکم عقلی [ هو وجوب الطاعة، الواقع فی سلسلة معلولات الحکم التی هی مساحة عقلیة لا شرعیة ] وهی مساحة لیس یلزم أن یتصرف الشارع فیها ومن ثمّ لا یحتاج الحکم العقلی والعقلائی المتنزّل منه إلی إمضاء واعتبار شرعی.

العاشر: [ المختار فی الجواب ] ألفتنا إلی أنّ خوضنا فی هذا البحث من بُعدین:

[ 1 ] صغروی وهو ما یرتبط بخبر الواحد، وهو مهم لأنه إذا ثبت رادعیة الآیات عن الظن فی الإعتقادات فهو یعنی عدم إمکان الإعتماد علی الخبر وغیره من الظنون فی مطلق الإعتقادات حتی تفاصیلها.

[ 2 ] کبروی وهو البحث عن العلاقة بین التقنین العقلی والشرعی.

تصنیف الآیات الناهیة عن الظن

ص:394

والظاهر أنّ الآیات الناهیة عن الظن لا تنهی عن الظن بما هو ظن وإنما تنهی عنه من حیث أنه لا یتکئ علی دلیل قطعی أو من حیث توفّر الدلیل القطعی أو لأنّ المورد لا یکتفی به فی الظن وإنما لابدّ من تحرّی القطع کما فی أساسیات الإعتقادات، فیترکه ویذهب إلی الظن.

ویدلّ علی ذلک: إنّ قِسماً من الآیات تُقسّم الظنَ مما یعنی أنّ الظن فی نفسه لیس حجّة؛ وهی قوله تعالی (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (1) وقوله تعالی (وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ کُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (2) وقوله تعالی (یَظُنُّونَ بِاللّهِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِیَّةِ) (3) وقوله تعالی (الظّانِّینَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَیْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (4) بل فی قِسم آخر منها مدح نوعاً من الظن (الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (5) ومثله (أُولئِکَ یَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ) (6) وقوله تعالی (فَمَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (7) وقوله تعالی (لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللّهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ) .(8)

وآیات أخری ظاهرة فی أنّ النهی عن الظن فی العقائد لتوفّر الدلیل القطعی أو لأنّ القضیة لا یمکن إثباتها بالظن کما فی أساسیات العقائد کالتوحید.(9)

ص:395


1- (1) . الحجرات/ 12
2- (2) . الفتح/ 12
3- (3) . آل عمران/ 154
4- (4) . الفتح/ 6
5- (5) . البقرة/ 46
6- (6) . البقرة/ 218
7- (7) . الکهف/ 110
8- (8) . الأحزاب/ 21
9- (9) . [س] هل یعنی کلامکم أنه لا یمکن الإعتماد علی الظن الخاص مع إمکان الحصول علی دلیل قطعی کالتواتر أو الدلیل العقلی؟ ثمّ إنّ بعض الآیات الناهیة موردها أساسیات العقائد وقد ذکروا أنّ المورد لا یخصص الوارد. [ج] أولاً: ظاهر الآیة أنه مع توفر الدلیل القطعی البدیهی، الإعتماد علی الظن المخالف والإعراض عن هذا الدلیل الفطری منهی منه. وثانیاً: صحیح أنّ المورد لا یخصص الوارد الا أنه لا یخصصه شخصاً لا نوعاً وطبعاً، فالآیات الواردة فی التوحید لا یمکن التعدی منها إلی باقی العقائد فضلاً عن الفروع. وأما بالتعلیل فیسنده سیاق الآیات وهو الظن المخالف مع الدلیل القطعی لا یقبل ولیس بحجّة وهذا نقبله حتی فی الظن المعتبر فإنه مع توفر دلیل قطعی علی خلافه لا یعتمد الظن.

فالنتیجة فی الصغری عدم رادعیة الآیات عن السیرة العقلائیة علی العمل بخبر الثقة، بل الحق أنّ السیرة علی خبر الواحد سیرة عقلائیة موضوعاً، متشرعیة حکماً [ کما ذکر فی الجواب الأول ] فهی بنفسها دلیل فتکون مخصصة لإطلاق الآیات.

العلاقة الثبوتیة بین التقنین الشرعی والعقلائی

وأما البحث الکبروی فتارة یکون عن العلاقة الثبوتیة وأخری عن العلاقة بینهما إثباتاً.

ویعنی من العلاقة الثبوتیة أنّ التقنین العقلائی إما عین التقنین الشرعی أو یکتفی به عنه [ کما فی مسلک الآخوند فی التقنینات الأصولیة وکلّ من یظهر منه أنّ التقنین العقلائی الأصولی لا یحتاج إلی الإمضاء. ]

والعینیة بمعنی أنّ المبادئ التصوریة [ التی یعتمدها العقلاء فی تقنیناتهم ] هی التی یعتمدها الشارع فی تقنیناته وهو الذی یعبّر عنه بأنّ الشارع استعمل لغة العقلاء فی تقنیناته.

أما فی العلاقة الثبوتیة التصدیقیة فقد ذکرنا فی بحث الإعتبار أنّ بدء الأحکام وکلّیاتها العالیة هی شریعة العقل العملی وهی الشریعة الفطریة البدیهیة. وهذه الأحکام تتنزّل إلی اعتبارات عقلائیة وبدیلها الشرعیة، فشریعة العقل هی الدستور، وشریعة العقلاء والشارع

ص:396

تفصیل لذلک الدستور وتنزیل له.

من هنا یأتی السؤال: إنه هل یمکن فرض أنّ التقنین الشرعی یکون تنزیلاً للتقنین العقلائی؟

وهل یمکن فرض أنّ التقنین العقلائی یکون تنزیلاً للتقنین الشرعی الکلّی المتوسط؟

ویبقی السؤال: إنه هل یمکن مع فرض عدم ورود دلیل لفظی - فرض أن التقنین العقلائی یکون تنزیلاً للتقنین العقلی الفوقانی إذ لتقنین شرعی فوقانی جداً لم یتنزل بتقنین شرعی.

ثمّ هل هناک فرق بین التقنین العقلائی الوجودی والعدمی فی العلاقة مع التقنین الشرعی؟ [ بعد الإلتفات إلی أنّ الحدیث فی العلاقة سیکون فی خصوص التشریع الثابت دون الحکم الولوی والقضائی. ]

الفوارق بین العموم الفوقانی وما دونه من العمومات

وقبل الدخول فی صمیم البحث نشیر إلی جملة من الفوارق بین العموم الفوقانی الذی لا یتنزّل إلاّ من خلال جعل وتقنین وبین العموم الفوقانی المذکور فی باب العام والخاص الذی یتنزّل قهراً.

الفارق الأول: إنّ الفرد فی باب العام یکون تکوینیاً بیّناً وبالتالی یکون انطباق العموم علیه قهریاً وبیّناً، فی حین أنّ الفرد فی العموم الفوقانی [الذی یحتاج إلی تنزیل ] غیر بیّن فکان بحاجة إلی جعل لیکون مبیّناً.

الفارق الثانی: إنّ باب العام غالباً یکون إثباتیاً وبلحاظ عالم الدلالة، بخلاف العموم الآخر فإنّ عمومه ثبوتی وبلحاظ سعة القانون.

الفارق الثالث: إنّ ملاک الفرد فی العام عین ملاک العام لا یختلف عنه بشی، بینما ملاک الفرد المتنزّل بالجعل قد یختلف عن ملاک العام المتوفر فیه بزیادة بعض الخصوصیات، فجعل الفرد متمیّز عن

ص:397

جعل کلّیه ومتمیّز عن جعل الفرد الآخر بخصوصیات یختص بها وبدرجة الملاک وغیرهما.

الفارق الرابع: إنّ الجعل فی العام القانونی الفوقانی ینصبّ علی الماهیة النوعیة المتنزّلة، بینما انحلال العام تکویناً یکون إلی الطبیعی الموجود فی الخارج لا إلی فردیة الفرد.

ومن هنا یعرف سرّ الحاجة إلی الجعل فی الأول دون الثانی، فإنّ دخالة الخصوصیة المنوعة لا یمکن أن یتعرف علیها من دون جعل ومن ثمّ ینحلّ العام الفوقانی إلی کلّیات أدنی منه بالجعل ولکن العام ینحلّ إلی الجزئیات تکویناً.

الوجوه فی تفسیر العلاقة الثبوتیة بین التقنینین

بعد هذا ندخل فی صلب البحث ونبتدئ بعرض الوجوه فی تفسیر العلاقة الثبوتیة بین التقنینین [ بعد استثناء ما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) من القوانین العقلائیة الأصولیة فإنها لا تحتاج إلی إمضاء الشارع؛ لأنها ترتبط ثبوتاً بحکم العقل، المعلول للحکم الشرعی وبعد استثناء القانون العقلائی المتنزّل من حکم العقل مباشرة أو بواسطة قریبة؛ حیث لا یمکن الردع عنه. ]

الوجه الأول: الإنسداد ولا یخفی علیک إنه لیس دلیلاً لخصوص اعتبار الظن بل هو أحد تطبیقاته بل هو کبری عقلیة مرتبطة بالإعتبار العقلائی فی کیفیة کونه بدیلاً عن الإعتبار الشرعی علی الحکومة أو عینه علی الکشف.

ومن ثمّ تجدهم طبّقوا دلیل الإنسداد فی الرجال بل صرّح البعض بإمکان تطبیقه حتی فی بعض الأبواب الفقهیة بل سنری أنه المدرک الوحید لاعتبار بعض التقنینات العقلائیة.

وهذا الوجه هو الفذلکة فی العبارة التی تنسب إلی السیّد أبی الحسن الإصفهانی: «لو وقع فی أیدینا زمام الحکم فما وجد من تقنین للشارع أخذنا به وإلاّ نعمل بالتقنین العقلائی.»

ص:398

ومن هنا کان الحری ذکره فی ذیل دلیل العقل أو الإعتبار لا فی ذیل بحث الظن، کما أنّ بحثنا فی ذلک الدلیل [ المهجور الیوم ] سیکون استمراراً لکشف العلاقة بین التقنین العقلائی والشرعی لا من جهة تطبیقه علی الظن؛ حیث لا نحتاج إلی ذلک بعد أن انتهینا إلی حجّیة الخبر کبرویاً وعالجنا المشکلات المرتبطة بالصغری.

الوجه الثانی: بعض العمومات من قبیل «المؤمنون عند شروطهم» و(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بتقریب أنّ المعاقدة والمشارطة لا تخص المعاملات وإنما تعمّ کلّ العقود حتی السیاسیة والدولیة والقضائیة [ المعبّر عنها فی یومنا بالإتفاقیات. ]

فهی تدلّ علی شرعیة کلّ القوانین ما دامت مصداقاً للمشارطة والمعاقدة شرطیة أن لا تخالف الکتاب والسنّة.

وبتقریب آخر: إنّ عقد المدنیة والمواطنة یرجع إلی التعاقد والمشارطة علی الإلتزام بالقوانین العقلائیة المرتطبة بهذا الجانب ولکن شریطة أن لا یخالف الکتاب والسنّة وهو شرط ثابت وسار فی کلّ الوجوه.

الوجه الثالث: حکم العقل [ النظری والعملی ] والشرع علی ضرورة النظم «اللّه اللّه فی نظم أمرکم» و«إنّ اللّه لا یحب الفساد فی الأرض». وهذا النظم لأجل الوصول إلی الأغراض التکوینیة والشرعیة معاً مع الإلتفات إلی أنّ الغرض التشریعی منبسط یصبّ فی الغرض التکوینی. والنظم کما یتحقق بالصناعات [ ومن ثمّ وجبت کفایة ] کذا یتحقق بالتقنین والإلتزام به ومن ثمّ یجب ویکون منجّزاً ومعذّراً حیث کان شرعیاً من جهة کونه یحقق النظام.(1)

ص:399


1- (1) . [س] فهل وجوب التقنین ووجوب الإلتزام به من باب أنه مقدّمة لحفظ النظام أو مصداق علماً أنه ذکر البعض فی الصناعات أنها تجب لأنها مقدّمة ولکنّها مقدّمة تولیدیة ومن ثمّ فهی واجبة بالوجوب النفسی. [ج] لا فرق بین عدّها مصداقاً أو مقدّمة بعد أن کانت تولیدیة وبالتالی فهی واجبة بالوجوب الشرعی النفسی.

الوجه الرابع: (خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ) (1) وقد أشرنا فی بحث الإعتبار إلی وجه دلالتها فراجع.

الوجه الخامس: قد یقع التقنین العقلائی موضوعاً للمحمول الشرعی مما یعنی أنّ الشارع لم یستحدث شیئاً علی صعید الموضوع وإنما بالتقنین العقلائی. وهذا دلیل جزئی کما لا یخفی ولکن هناک أدلّة جزئیة أخری بضمّ بعضها إلی الآخر تکون الحصیلة وافرة.

ثمّ لا یخفی أنه بعد أن تحدّدت العلاقة الثبوتیة بین أنماط من القوانین العقلائیة والحکم الشرعی، لا نحتاج بعدُ إلی البحث الإثباتی فیها [ وأنها ممضاة أو لا؟ ] حیث اتضح شرعیة هذه الأنماط من خلال کونها مصداقاً لکلّی شرعی، أو موضوعاً لحکم شرعی، أو مقدّمة لوجود واجب شرعی، أو بدیلاً أو عین الحکم الشرعی، أو أنها موضوعاً عقلائیة إلاّ أنها حکماً ومحمولاً متشرعیة، [ واقعة فی سلسة معلولات الحکم الشرعی کالقوانین الأصولیة فی الجملة، قریبة الأفق من الحکم العقلی. ]

والبحث عن الإمضاء والردع إنما نحتاجه مع خفاء العلاقة الثبوتیة وکون القانون فی معرض الإبتلاء، عندها یتمّ التفتیش عن اعتبار شرعی مطابق لقانون العقلاء وعدمه.

ص:400


1- (1) . الأعراف/ 199
الدلیل الخامس: العقل
اشارة

وقد ذکرت أدلّة ثلاثة ونحن نتعرض لها للإستفادة من فذلکتها لا للترکیز علی إنتاجها وعدمه؛ حیث ذهب الکثیر إلی عدم إنتاجها مع عدم الإستعانة بدلیل الإنسداد.

الدلیل الأول: وجود العلم بصدور کثیر من الأخبار المتضمنة للتکالیف الشرعیة. ومثل هذا العلم ینبّهنا إلی حجّیة الأقرب للعلم فالأقرب إلی حدّ انحلال العلم الإجمالی المذکور [ من دون فرق بین کون الخبر مثبتاً أو نافیاً ما لم یکن المورد مورداً لقاعدة الإشتغال أو استصحاب التکلیف، فإنه لا یعمل بالخبر حینئذ. ]

وقد ناقش الشیخ فی هذا الدلیل بأنّ العلم الإجمالی الکبیر لا ینحلّ بالعلم الإجمالی المذکور، وذلک لأننا لو انتزعنا بعض الأخبار وجعلنا مکانها الأمارات الأخری لوجدنا أنّ العلم الکبیر لم ینحل.

ویمکن أن یخطر بالبال أنّ مناقشة الشیخ مصادرة؛ حیث إنّ التبدیل هو سرّ عدم الإنحلال لا أنه یکشف عن عدم الإنحلال بالعلم الإجمالی الصغیر. والملفت أنّ الأعلام کثیراً مّا یستخدمون التبدیل للتدلیل علی عدم انحلال الکبیر بالصغیر.

والحقّ أنه لا مصادرة؛ لأنّ الأعلام لا یریدون من التبدیل الإتیان ببدائل تخالف فی المفاد للمنتزع وإنما بدائل توافق ما ینتزع من العلم فی المفاد تختلف معه فی الدرجة الإحتمالیة بأن یکون البدیل أضعف إراءة، فیدلّ علی أنّ عدد المحتملات الموجودة فی العلم الصغیر لا تفی بالمحتملات الموجودة فی العلم الصغیر ومن ثمّ لابدّ من اتّساع دائرة الحجّیة إلی الأوسع من خبر الثقة بل لابدّ من الاحتیاط فی

ص:401

دائرة الضعاف أیضاً کی یضمن انحلال الکبیر.

وبعبارة أخری: إنّ الشیخ یرید أن یقول إنّ الإنحلال کما یتقوّم بالکیف یتقوّم بالکمّ أیضاً فلابدّ أولاً من وفاء عدد المحتملات فی العلم الصغیر للمحتملات فی العلم الکبیر کی یؤثر الکیف أثره.

وصاحب الکفایة أصرّ علی الإنحلال وانتصر له البعض ببناء صاحب المعالم علی هذا الوجه ومثله الأردبیلی، وبالتالی بناؤهما علی حجّیة الخبر الصحیح والأعلائی وأمثاله باعتباره القدر المتیقن ومع ذلک تمکّنوا من بناء فقه کامل من دون أیّ خلل وفراغ.

إلاّ أننا نقف إلی جانب الشیخ بعد أن وجدنا شذوذ مثل صاحب المعالم والأردبیلی فی کثیر من المسائل خلافاً لما أفتی به المشهور وما ذاک إلاّ بسبب مسلکهم. کذا نجدهم بنوا فی موارد بنی علیها المشهور من دون وجود صحیح أعلائی بل غایة ما یوجد هو الخبر الموثق.

ومثل هذا یصلح مؤاخذة علی مبنی السیّد الخوئی [ من عدم جابریة الشهرة وکاسریتها ] حیث وجدنا فی کثیر من الحالات اعتماده علی الشهرة فقط وإن استبدله بتعبیر التسالم.

ثمّ إنّ هناک تفسیراً آخر لکلمات الشیخ فی مناقشته [ ربما هو الأقرب لعبارته ] هو إننا نستبدل مجموعة من الاخبار بجمیع الأمارات الأخری الضعیفة [ سواء وافَقَتْها فی المفاد أم خالَفَتْها ] ومع ذلک یبقی العلم الإجمالی الصغیر مما یکشف عن أنّ دائرة العلوم أوسع مما ذکر ویعنی أنّ دائرة العلوم فی العلم الصغیر أضیق من دائرة العلم الکبیر فلا یحلّه.

الکشف والحکومة

وقد ناقش الآخوند فی الوجه الأول أنّ مؤدّی العلم هو الإحتیاط فی الأخبار المظنونة لا حجّیتها.

وتوضیحه أنّ عمدة دلیل الإنسداد [ الذی ننتهی به إلی تنجیز

ص:402

الظن ] هو العلم الإجمالی بوجود تکالیف [ ومن قبیله العلم الإجمالی بوجود تکالیف صادرة فی الأخبار. ]

وهناک مبنیان فی الإنسداد: أحدهما الظن علی الحکومة، وهو لا یعنی حجّیة الظن [ وإنما اکتفاء العقل بالإمتثال الظنی فی هذا المقام بدلاً من الإحتیاط فی الجمیع ] و الآخر الظن علی الکشف، وهو یعنی إحراز التکلیف وحجّیة الظن.

وعلی الأول لا مجال للتخصیص والتقیید والحکومة، فإنها من شؤون الحجّة. ومنه یظهر الفارق العملی الجوهری بین المبنیین. والذی یظهر من صاحب الکفایة اعتماده علی مبنی الحکومة.

ولکن قد یمکن المقاربة بین الحکومة والکشف بما ذکره صاحب الکفایة [ من أنّ إحراز الحکم یقع فی سلسلة معلولات الحکم الواقعی لباً وإن کان بصورة الحکم الشرعی ] فإنه علی ذلک یکون الکشف کالحکومة فی کونه واقعاً فی سلسلة معلولات الحکم، وثمرة الکشف والإحراز لیس إلاّ التنجیز والتعذیر فی مقام الإمتثال مما یعنی الحجّیة.

ولما لم یکن التخصیص والتقیید تصرفاتٍ فی الحکم الواقعی [ کی یشکّل فارقاً بین الکشف والحکومة ] وإنما هی تصرفات فی المحرزات للإمتثال لم یکن فارق بین المبنیین.(1)

ص:403


1- (1) . [س] مع مقاربتکم اللمیة بین الکشف والحکومة [استناداً إلی کون إحراز التکلیف واقعاً فی سلسلة المعلولات] لابدّ من المقاربة بین تفسیرات الحکم الظاهری فإنه ما دام الحکم الظاهری فی سلسلة المعلولات فهو لباً یرجع إلی التنجیز والتعذیر والإختلاف سیکون صوریاً لا یترتب علیه أثر ولا یشکّل فارقاً. ثمّ إنّ هذه المقاربة لا تثبت أکثر من کون التنجیز والتعذیر واحتراز الإمتثال من ثمرات إحراز التکلیف لا أنه هی لباً ومن ثمّ فالتخصیص مرتبط باحراز التکلیف ولا معنی لرجوعه إلی احراز الإمتثال لباً وإنما ثمرته احراز الإمتثال. ومعه تبقی کلّ مرتبة لها خواصها ولوازمها لا أنها تشترک جمیعاً فی اللوازم والآثار. فی هذا نظیر ما ذکرتموه فی الحکم الظاهری بأن غایة الجعل عند الجمیع هی التحفظ علی الواقع والتنجیز والتعذیر ولکن حقیقته اختلف فیها فکان واحداً من المبانی أنه التنجیز والتعذیر لا جمیعها ولم یقل أحد هناک بالوحدة بین الغایة والمغیی. [ج] سیأتی تفصیل الجواب فی بحث الإنسداد إن شاء الله تعالی.

کذا ألفت المحقّق العراقی إلی إمکان المقاربة بین الحکومة والکشف بالبیان التالی: إنّ التقیید والتخصیص یتصور أیضاً علی مبنی الحکومة ولکن علی شکل نتیجة التقیید والتخصیص لا بالتقیید والتخصیص اصطلاحاً؛ فإنّ الخبر المثبِت للتکلیف یرفع به الید [ ببرکة العلم الإجمالی ] عن العمومات القرآنیة النافیة من دون فرق بین الکشف والحکومة.

أما مع کون الخبر نافیاً فحیث إنّا نعلم بصدور الأخبار فهو ینتج علماً بالتخصیص والتقیید وهو ینتج علماً باختلال العمومات المثبتة وهو ینتج انتفاء حجّیتها الخاصة للتعارض الذی حصل بینها بالعرض فیتقدّم الخبر ویعمل به.

فالخلاصة: سواء قلنا بالکشف أو الحکومة فالنتائج واحدة ولکن الفذلکة مختلفة لا أکثر.

وتقییم هذه المقاربة [ والتی هی إنیة ] وسابقتها [ التی هی لمیة ] نترکه إلی بحث الإنسداد فانتظر.

الدلیل الثانی: إنّا نعلم وجوب إتیان الماهیات المرکبة [ سواء العبادیة أم المعاملیة ] بل نعلم ضرورة ذلک، والطریق الوحید لمعرفة ذلک هو خبر الواحد الموجود فی الکتب المعتبرة، فهو حجّة علی شرط عمل الأصحاب به.

الدلیل الثالث: إنّا نعلم وجوب الأخذ بالسنّة، وهو یولّد لنا علماً بوجوب العمل بالأخبار فی الجملة، المنتج لوجوب العمل بالأخبار المظنونة الصدور لأنها القدر المتیقن.

والفارق بین الأدلّة الثلاثة [ بعد أن تشترک فی العلم الإجمالی مع اختلافه فیها عن العلم الإجمالی الکبیر ] إنّ المعلوم فی الأول هو الحکم الظاهری، والمعلوم فی الثانی هو الضرورة الفقهیة الخاصة بالمرکبات، والمعلوم فی الثالث حکم طریقی [ وجوب التمسک بالسنّة

ص:404

الشریفة ] وهو أرفع شأناً من الوجوب المعلوم بالعلم الکبیر [ الذی هو التکالیف الواقعیة التی یترتب علیها مثوبة وعقوبة. ]

ومن ثمّ یتضح أنّ إشکال الشیخ علی الدلیل الثالث بأنه إما أن یرجع إلی الإنسداد أو إلی الوجه الأول فی غیر محلّه [ کما نبّه الآخوند ] إذ هو مختلف سنخاً عنهما کما عرفت.

ومع أنّ کلّ علم من هذه الثلاثة قد لا ینتج لنا حجّیة خبر الواحد إلاّ أنه تبقی قیمة لهذه العلوم وهی أنها تلفتنا إلی وجود أدلّة متعدّدة [ عقائدیة وفقهیة وأصولیة ] علی ضرورة العمل بأخبار الآحاد علاوة علی العلم الإجمالی الکبیر والأدلّة الخاصة، فالتفریط بهذا المدرک الشرعی تفریط بعدّة أحکام ومخالفة لأکثر من وجوب.

ص:405

4 . تنبیهات تتعلّق بخبر الواحد

التنبیه الأول: حجّیة خبر الثقة أو الموثوق به؟
اشارة

والمعروف أنّ مَن یختار أحدهما لا یختار الآخر [ بعد الإلتفات إلی تعریف الموثوق به بما یولّد الوثوق الشخصی، وأنّ خبر الثقة قد لا یحقق الوثوق الشخصی ] وبعض المتأخرین اختار الاثنین.

تعریف الخبر الموثوق به

ولکن التعریف المذکور للموثوق به خطأ؛ لأنّ العقلاء إن شارکوا الشخص فی وثوقه فهو نوعی، ومع عدم مشارکتهم فهو تخطئة له، فلا یمکن عدّه مصداقاً لبنائهم علی حجّیة الخبر [ الذی هو الأساس فی الحجّیة وسائر الأدلّة إمضاء لها. ] فلابدّ من حفظ الجهة النوعیة فی تعریفه، ومعه لا فرق بینه وبین خبر الثقة من هذه الجهة؛ لأنّ الخبر الموثوق به لیس أمارة أسّسها الشارع وإنما الشارع أسّس المحمول [ وهو الحجّیة ] أو أمضاها.

الفارق بین خبر الثقة والخبر الموثوق به

والفارق بینهما إنّ منشأ الوثوق النوعی فی الخبر الموثوق به لا ینحصر بوثاقة الراوی بل یحصل من مجموع قرائن متعدّدة [ حتی لو کانت أجنبیة کفتوی الفقهاء ] تتراکم وتتصاعد حتی یحصل الوثوق، ولکنّ المنشأ الذی اعتمده العقلاء فی خبر الثقة آحادی وهو وثاقة الراوی بینما فی الخبر الموثوق به فالمنشأ جملة مناشئ ینضمّ بعضها إلی الآخر فتولّد وثوقاً یعتنی به العقلاء.

وقد عنی علماء الدرایة بجمع تلک القرائن وتبوبیبها وتقسیمها وضبطها.(1)

ص:406


1- (1) . [س] قد یقال إنّ هذا التوجیه صحیح علی مبناکم من أنّ الحجّیة للمنشأ، وأما علی مبانی القوم من أنّ الحجّیة للحالة النفسانیة فیمکن فرض أنّ الحجّیة لهذا النوع من الوثوق الشخصی؟ [ج] فی الوصول إلی رأی عَلَم من الأعلام لابدّ من ملاحظة ارتکازه فی المسألة [والذی یتبلور فی الفروع والمسائل المتعددة والمتشتة] من دون الإکتفاء بالقولبة والتصریح، کما لاحظنا ذلک فی القطع فإنه علی مستوی التصریح جعلوا الحجّیة للحالة النفسانیة مع أنهم ارتکازاً [وهو الصحیح] جعلوها للمنشأ. وفیما نحن فیه کذلک فإنهم وإن عبّروا بالوثوق الشخصی إلاّ أنّ فی ممشاهم العملی جعلوا المدار للوثوق النوعی وتعاملوا مع الشخصی کطریق لا أکثر. والقرینة علی ذلک ما نراه من تخطئة بعضهم لبعض مما یدلّ علی وجود مشترک علی أساسه یتحاکمون، وکذلک ما صرّح به البعض من أنّ بناء العقلاء علی حجّیة الخبر الموثوق به یدلّ علی الوثاقة النوعیة.

وربما یکون هذا هو السرّ فی تعبیر الأعلام بالوثوق الشخصی باعتبار أنه أمارة علی الوثوق النوعی [ بمعنی أن یستعلم حصول الوثوق النوعی من خلال الوثوق الشخصی کما هو الحال فی الظهور بعد أن لم یکن المنشأ منضبطاً وآحادیاً. ] فهو طریق لا مدار، ومن ثمّ کان لزاماً علیه أن یبیّن المناشئ النوعیة التی اعتمدها فی الإستظهار والإستیثاق من أجل أن یأخذ طابع النوعیة والموضوعیة ویکون حجّة.

هذا هو الفارق الماهوی الموضوعی بینهما.(1)

وأما الفارق بینهما علی مستوی الأدلّة فالأدلّة [ النقلیة أو العقلیة ] التی تتعرض لحجّیة الخبر بما هو خبر هی فی صدد بیان حجّیة خبر الثقة. ولکن لا یعنی ذلک عدم وجود دلیل علی حجّیة الخبر الموثوق

ص:407


1- (1) . [س] لِمَ انصبّتْ أدلّة الإمضاء الکثیرة علی خبر الثقة دون الموثوق به، ألا یعنی ذلک [وهی فی مقام التحدید] الردعَ عن حجّیة خبر الموثوق به أو یعنی أنّ خبر الثقة لیس حجّة عقلائیة فالأدلّة تأسیسیة لا إمضائیة خاصة بعد الإلتفات إلی أنّ نسبة کبیرة من الأحکام تثبت بالخبر الموثوق به وإن کانت أقلّ من خبر الثقة؟ [ج] لمّا کان لخبر الثقة منشأ محدّد أمکن إمضاؤه، أما الخبر الموثوق به فلا یعنی سوی المطمئن به فلا یحتاج إلی إمضاء وراء إمضاء الإطمئنان. وفی الإطمئنان وإن کنّا لا نجد الأدلّة الوافرة علی إمضائه مع أنه أساس الحجج ولکنّه أساس کلّ شیء بعد أن کان الیقین المرکب نادراً جداً ومحصوراً بالبدیهیات وما یقرب منها، فلا بدیل سوی العلم العادی وإلاّ توقف کلّ شیء.

به نوعاً أیضاً؛ إذ یمکن الإستدلال علیه بحجّیة الإطمئنان، والخبر الموثوق به [بواسطة تراکم القرائن ] صغری من صغریات الإطمئنان، وبالتالی فهو حجّة علی حدّ حجّیة خبر الثقة [ أعنی أنه حجّة عقلائیة ممضاة من الشارع. ]

وعلیه فالتحقیقات القضائیة [ المعتمدة علی تجمیع القرائن ] إن وصلت إلی حدّ الإطمئنان فهی حجّة فی الموضوع وتحدید المدّعی والمنکر، ولکن القاضی یبقی فی حکمه معتمداً علی البیّنة والیمین. نعم، إذا أوصلت هذه الوسائلُ [ والتی یقوم بها المتخصصون ] القاضیَ إلی العلم أمکن له الحکم بعلمه إذا قبلنا کبری جواز حکم القاضی بعلمه.

ثمرة وجود الفارق بین خبر الثقة والخبر الموثوق به

ومن ثمرات هذا البحث أنّ الحدیث فی جبر الشهرة وکسرها للخبر ینفتح مع القول بحجّیة الخبر الموثوق به دون ما إذا قلنا بحجّیة خبر الثقة فقط کما سنبیّن ذلک فی تنبیه لاحق إن شاء اللّه.

وتلخص أنّ خبر الثقة یفید الظن تکویناً وإنما اعتمده العقلاء حیث اطمأنوا له عندما وجدوا أنّ إصابته غالبة. فغالبیة الإصابة حیثیة تعلیلیة لاعتبار العقلاء إیاه، بینما الخبر الموثوق به یولّد الإطمئنان تکویناً، والإطمئنان حجّة عند العقلاء لأنه غالب الإصابة، وکلاهما یحتاج إلی جعل لحجّیته.

ص:408

التنبیه الثانی: حجّیة الخبر أو عدم حجّیته فی الإعتقادیات
أهمیة المسألة وغموضها

ولا تخفی أهمیة هذا البحث وقد بحثه الأعلام فی تنبیهات الإنسداد مع أنّ موقعه هنا؛ لأنّ الإنسداد دلیل کبروی یوظّف لحجّیة الظنون لا خصوص الخبر، بل سیتضح أنه دلیل کبروی لإمضاء مطلق الإعتبارات العقلائیة سواء المعاصرة أم غیرها فهو لا یختص بالظنون وإنما لبیان طبیعة العلاقة بین الإعتبار العقلائی والشرعی.

والمسألة شائکة لأنّ مقدّماتها کلامیة والأخیرة منها أصولیة [ وهی لا تتضح إلاّ بفهم تلک المقدّمات ] وبالتالی فهی مسألة برزخیة وکثیراً مّا ظلمت أجواء مثل هذه المسائل نتیجة ترابط العلوم وحاجتها إلی التضلع فی کلّ منها، ونحن سنکتفی بالإلماح للبُعد الکلامی الفلسفی ونقف عند البُعد الأصولی.

[ 1 ] المعروف عند المتکلّم [ إمامیاً کان أو غیره ] عدم إمکان التمسک بالخبر حتی لو کان صحیحاً أعلائیاً بل وحتی لو کان مستفیضاً.

[ 2 ] وقلّة من المتکلّمین - وهُمْ أتباع المدرسة الظاهریة - والمحدّثون من الفریقین علی العکس من ذلک حیث یتمسکون بالخبر فی کلّ واردة وشاردة.

[ 3 ] وکثیر من الفقهاء ذو مشرب کلامی فکان منحاهم منحی المتکلّم.

[ 4 ] ولکن جملة منهم قبلوا الأخذ بالخبر فی الجملة لا بالجملة [ أی فی تفاصیل العقائد دون أسسها وبناها التحتیة ] ومن هؤلاء الشیخ الطوسی؛ حیث نسب إلیه أنّ المعتقد للحق [ بدلیل ظنی ] ناج وإن کان مقصراً، فإنه یستشعر من ذیلها جواز الإستناد إلی الخبر فی التفاصیل، ومنهم نصیرالدین الطوسی والبهائی والمجلسی الأول والثانی والأردبیلی وتلمیذه صاحب المدارک والمحقّق القمی.

ص:409

ویلاحظ فی هؤلاء جامعیتهم واختصاصهم فی الفقه والکلام.

[ 5 ] والشیخ الأنصاری صناعیاً تمایل إلی ذلک إلاّ أنه توقف بسبب الشهرة المانعة.

[ 6 ] والمحقّق الإصفهانی یقرّب بطریقة فلسفیة معقولیة ذلک من دون أن یَبُتّ بذلک إثباتاً.

[ 7 ] والمحقّق العراقی یستشکل تبعاً لأستاذه صاحب الکفایة.

[ 8 ] والسیّد الخوئی ارتضی الحجّیة لإطلاق الأدلّة ولکنّه فصّل بین الإعتقادیات التی تجب فیها المعرفة فالخبر لیس حجّة [ لأنه لا معنی لذلک کما سیتضح ] وبین الإعتقادیات التی لا تجب فیها المعرفة وإنما التبانی وعقد القلب فالخبر حجّة، وهذا التفصیل مأخوذ من المحقّق الإصفهانی.

ولم نعثر علی استدلال للمجوّزین القائلین بالحجّیة غیر هذا، حیث اکتفوا بإبداء الرأی أکثر من الترکیز علی الدلیل.

أدلّة المانعین

الدلیل الأول: إنّ المطلوب فی العقائد عقد القلب والیقین، والخبر ظنی لا ینتج الیقین فلا یعقل حجّیته فی هذا المضمار.

الدلیل الثانی: لزوم الدور؛ حیث إنّ مدرک حجّیة الخبر هو الشرع وهو لا یمکن ثبوته بالخبر وإلاّ دار. وواضح أنّ هذا الدلیل یخص جزءاً من أساسیات العقائد.

الدلیل الثالث: لا یتعقل الحجّیة فی العقائد؛ لأنّ المطلوب فی العقائد إن کان الیقین وحصل من خبر الواحد فرضاً فلا ثمرة بَعدُ للحجّیة، وإن لم یحصل فیأتی الدلیل الأول.

وإن کان المطلوب الظن فهو حاصل تکویناً فلا معنی للحجّیة؛ لأنّ التعبد والحجّیة [ علی تفسیراتها ] ذات جنبة عملیة والمطلوب فی العقائد الإدراک والمعرفة، وعلی هذا الدلیل اعتمد الشیخ الأنصاری.

الدلیل الرابع: إنه لا معنی للتعبد بعد أن کانت القضیة العقائدیة

ص:410

خارجیة تکوینیة.

الدلیل الخامس: الآیات الناهیة عن العمل بالظن والتقلید فإنّ الإعتقادیات هو القدر المتیقن من هذه الآیات فتکون الآیات مخصِّصة لأدلّة حجّیة الخبر والظن المعتبر علی فرض عمومها.

الدلیل السادس: ما ورد مستفیضاً «إنّ علی اللّه البیان»(1) فإنّ البیان یتقاطع مع کونه فریضة وتعبداً وتکلیفاً علی المکلّف وإنما هو شیء تکوینی.

المختار فی المسألة

والکلام یقع فی جهتین: ثبوتاً وإثباتاً.

ونعنی من الثبوت أنه هل یمکن تصویر الحکم الفقهی فی مجال الإعتقادیات أو لا؟ ونعنی من الإثبات أنه هل یمکن تصویر الحکم الأصولی فی الإعتقادیات أو لا؟

ولا یخفی أنّ الحدیث لا یخص خبر الواحد بل یجری فی مطلق الظن المعتبر کالظهور.

وکثیر من فلاسفة الإمامیة وغیرهم لم یتعقلوا التعبد [ بمعنی الحکم الفقهی ] فی العقائد ومن ثمّ لم یرتضوا بالدلیل النقلی تعبدیاً [ حتی القطعی منه ] وإنما ارتضوه کدلیل إثباتی برهانی، ویتضح منه أنهم لا یقبلون التعبد الأصولی أیضاً [ لما سیتبلور من أنّ إمکان التعبد الفقهی شرط فی إمکان التعبد الأصولی. ]

الفارق بین الحکم الفقهی والأصولی

إنّ فی الحکم الأصولی جنبة إراءة وحکایة عن حکم آخر بخلاف الأول.

ص:411


1- (1) . الکلینی، الکافی 163/1 (کتاب التوحید، الباب 32: باب البیان والتعریف ولزوم الحجّة، الحدیث 5: عن أبی عبدالله(علیه السلام) * المجلسی، بحار الأنوار 98/2 (کتاب العلم، الباب 14: من یجوز أخذ العلم منه ومن لا یجوز، وذمّ التقلید والنهی عن متابعة غیر المعصوم فی کلّ ما یقول ... ، الحدیث 51: عن أبی جعفر الباقر(علیه السلام).

وعلی ضوء هذا فإنّ فی الفقه دوماً التطبیق وفی الأصول الإستنباط. وبمراجعة الأدلّة ثانیة نلحظ أنّ مفاد الدلیل الخامس منع التعبد الأصولی، أما الأخری فهی تمنع التعبد الفقهی.

الجهة الأولی: تصویر الحکم الفقهی

محدّثوا الإمامیة قالوا بإمکان التعبد حتی فی أصل التوحید؛ حیث ذکرت الروایات أنّ أول الدین معرفته وأول الفرائض توحیده.

ولکنّ المتکلّمین والحکماء ذهبوا إلی استحالة التعبد الفقهی فی توحیده تعالی أو فی أساسیات العقائد للزوم الدور کما تقدّم بیانه.

والحقّ مع المحدّثین لظاهر بعض الآیات والروایات حیث تدلّ علی وجود التعبد.

وللإستیضاح نقول:

القوی الثلاثة للنفس

إنّ فی النفس قوی إدراکیة [ کالعقل النظری ] وقوی عملیة وقوة برزخیة بین القوة الإدراکیة والقوی العملیة [ وهو العقل العملی الذی هو درّاک وعمّال ].

وللنفس ثلاثة أفعال:

[ 1 ] فعل إدراکی [ الذی یحصل بالإنتقال والحرکة فی المعلومات والفحص والفکر. ]

[ 2 ] الإدراک [ الذی هو نتیجة الفعل السابق حیث یصل إلی المجهول ویعلم به ] وهذان الفعلان شأن القوی النظریة الدرّاکة.

[ 3 ] الإذعان والتصدیق والتسلیم والإخبات والبناء والإلتزام والإنقیاد، فإنها عناوین تشیر إلی فعل واحد أو مراحل فعل واحد.

ومثل هذا الفعل لا تقوم به النفس بقوة إدراکیة بحتة أو قوة عملیة بحتة وإنما تقوم به القوة البرزخیة الدرّاکة العمّالة، أی العقل العملی، فهی عمل ممزوج بالإدراک متعلّق به بحیث یتوقف علیه کنه وجوده.

ص:412

الایمان هو الفعل الإختیاری

وکأصل موضوعی من علم الکلام إنّ الایمان هو الفعل الثالث دون الأول والثانی، ومعه إذا قیل «إنّ أول الایمان معرفته» لا یتنافی مع کون الایمان الفعل الثالث بعدما عرفت أنه ممزوج بالإدراک.

وعلی ضوء هذا یتضح التعبیر بأنّ الایمان هو الحبّ والتولّی.

ثمّ إنّ النفس لها قدرة البحث فالإدراک من دون إیمان عناداً ولجاجاً وغیر ذلک مما یعنی أنّ الفعل الثالث اختیاری عند الإنسان، لا کما یبدو من کلام بعض الحکماء من أنه قهری الحصول.

وهذه اللفتة من روائع المحدّثین والمتکلّمین ولم یبلورها الفلاسفة ولابدّ من الإلتفات إلی نداءات علمیة تدعو إلی تکمیل المنطق الأرسطی؛ لأنه لا یؤمّن إلاّ الحفاظ عن الخطأ فی الفعل الأول إلی الثانی دون الثالث، ولکن التکمیل یحصل بتهذیب النفس ومعالجة أمراضها.

إمکان التعبد فی الایمان

بعد هذا یمکن القول بأنّ الفعل الثالث [ لما کان فعلاً اختیاریاً فهو من حیث الإمکان الثبوتی ] قابل لأن یکون متعلّقاً للحکم الفقهی حتی لو کان الفعل هذا هو الایمان بتوحید اللّه. وبمراجعة النصوص نلحظ المدح والذم علی الایمان بوحدانیته ونلحظ تسجیل المثوبة علی الایمان والعقوبة علی عدمه، والحکم الفقهی لیس إلاّ البعث والزجر بالمثوبة والعقوبة بالإضافة إلی ما ورد من أنه أول الفرائض وأهمّها.

فلا مشکلة فی تعلّق الحکم الفقهی ثبوتاً بالایمان مهما کان متعلّقه، بعد أن کان فعلاً اختیاریاً بل هو واقع کما ذکرنا ذلک.

بل العقل یدرک [ بعد فحصه وعلمه بوجود اللّه تعالی وتوحیده ] أنّ للّه تعالی إرادات وکراهات متعلّقة بالأفعال توجب المدح والذم والمثوبة والعقوبة، ولیس الایمان بالتوحید إلاّ واحداً من هذه الأفعال

ص:413

الإختیاریة فیثبت وجوبها الشرعی بتوسط إدراک العقل هذا؛ لأنّ الحکم الفقهی لیس أکثر من البعث بالمثوبة والزجر بالعقوبة مع کون متعلّقه فعلاً اختیاریاً وکلا الرکنین متوفّران فی الایمان بالتوحید. فالفقه والتشریع لا یخص الفروع وإنما یعمّ أصول الدین حتی التوحید.

وسبب الخلط الذی وقع فیه الأعلام هو دمجهم بین الأفعال الثلاثة للنفس؛ فجعلوا الإعتقاد والایمان کالفحص والإدراک حیث لا یقبلان التشریع فی التوحید، بینما اتضح أنه یمکن البعث نحو التسلیم والایمان بما أدرکه وإن لم یمکن ذلک فی الفحص والإدراک؛ لأنه یلزم الدور. فإذا کان الحال فی التوحید کذلک ففی ما عداه من الإعتقادیات کالنبوة والإمامة والمعاد یمکن تعلّق الحکم الفقهی بالایمان بها بالأولویة، بل تعلّق الحکم الفقهی بالفحص فیها [ بأن یبعث شرعاً نحو الفحص ] أیضاً معقول.(1)

شبهة الدور فی وجوب الفحص فی النبوة

نعم، قد تأتی شبهة الدور فی النبوة بالنسبة للحکم بالفحص.

ولکن یمکن الإجابة بأنّ الدور معقول فیما لو کان النبی واحداً، أما مع تعاقب النبوات فیمکن للسابق البعث نحو الفحص عن اللاحق.

وجواب آخر ذکره الکافی فی آخر حدیث من کتاب «العقل والجهل» علی نسخة الصفوانی: أنّ العقل الذی هو الحجّة الباطنة

ص:414


1- (1) . [س] إذن یمکن تصویر الحکم الفقهی فی الفحص عن وجوده تعالی وتوحیده. [ج] کلاّ، حیث لم یثبت الشرع والشریعة فی تلک المرحلة. وأما فی الفحص عن النبوة فإنه بعد إدراکه توحید اللّه تعالی وإیمانه یدرک أن للّه تعالی إرادات وکراهات وأنها یترتب علیها مدح وذم وأنّ مدح الشارع وذمَّه مثوبتُه وعقوبتُه ولیس الشرع والشریعة أکثر من هذا فهو قد أدرکها ومن ثمّ یدرک العقل أنّ الفحص عن حامل هذه الشریعة کمال یترتب علیه مدح وعلی ذمه عقوبة فیلازم وجود حکم شرعی فقهی بالفحص، لیس شرطاً فی المثوبة والعقوبة أن تکون أخرویة، وهناک بعض المثوبات والعقوبات الدنیویة کما یظهر من الروایات، وقد قیل إن مثل عقوبة الظهار دنیویة.

یمکن إدراک بعض التشریعات ولا ینحصر إدراک التشریع بالرسول الظاهر. ومن ثمّ یمکن أن تکون واحدة من مدرکاته الشرعیة هی لزوم الفحص عن النبی، کما کانت واحدة من مدرکاته لزوم الایمان باللّه الواحد ذی الصفات الثبوتیة الکمالیة.

خلاصة البحث فی الجهة الأولی

[ 1 ] إنّ الحکم الشرعی یتقوم بأن یکون متعلّقه فعلاً اختیاریاً.

[ 2 ] إنّ حقیقة الحکم الفقهی هو البعث بالمثوبة والزجر بالعقوبة.

[ 3 ] إنّ وصول الحکم لا ینحصر بالرسول الظاهر؛ حیث یمکن أن یصل إلیه العبد من خلال الحجّة الباطنة، فیمکن إدراکه قبل الایمان بالرسول الظاهر، ومن هنا کان العقل مصدراً من مصادر التشریع.

[ 4 ] علی ضوء [ 1 ] یمکن أن یتعلّق الحکم الفقهی بالایمان باللّه ورسوله باعتبار أنّ الایمان فعل یقوم به الإنسان باختیاره.

[ 5 ] وعلی ضوء [ 2 ] و [ 3 ] یمکن القول بوقوع ذلک وأنّ هناک وجوباً شرعیاً تعلّق بالایمان باللّه تعالی ورسوله.

[ 6 ] إنّ الفحص عن اللّه وعن النبی أیضاً فعل اختیاری فلا مانع من تعلّق الحکم الفقهی لولا إشکالیة الدور فی الأول دون الثانی.

[ 7 ] بل الحکم الشرعی الفقهی قد تعلّق بالفحص عن النبی ووقع بإدراک العقل بأنّ هناک أحکاماً فلابدّ أن یکون هناک نبی، فالفحص عنه کمال مراد للّه یترتب علیه مثوبة وعلی ترکه عقوبة فیثبت وجوبه الشرعی.

[ 8 ] ویمکن القول بوجود تعبد فقهی فی کلّ موارد الأحکام العقلیة العملیة التی استدل بها المتکلّم شریطة توفّر رکنی الحکم الفقهی [ الفعل الإختیاری والمدح والذم. ]

[ 9 ] بل حتی فی بعض موارد حکم العقل النظری یمکن القول بوجود التعبد الفقهی کما بیّناه فی بحث الملازمة.

ص:415

شبهة لغویة الحکم الفقهی بعد وجود حکم العقل فی التوحید

بقی تساؤل: أنه مع حکم العقل وإلزامه بالایمان بتوحید اللّه سیکون الحکم الشرعی الفقهی لغواً فکیف یمکن التخلص من هذه المشکلة؟

والجواب: إنّ هذا التساؤل ینسجم مع مبنی المحقّق الإصفهانی فی قاعدة الملازمة، حیث خالف المشهور القائل بالملازمة وقال: بعد أن کان فی الحکم العقلی باعثیةٌ وزاجریةٌ لم یبق مبرّر للحکم الشرعی؛ لأنّ حقیقة الحکم جعل واعتبار ما یمکن أن یکون باعثاً.

إلاّ أنه فی الوقت نفسه وافق المشهور فی أنّ روح الحکم العقلی وأثره کالحکم الفقهی [ أی المبادئ والماهیة والآثار واحدة سوی أنه لا یوجد اعتبار من قبل الشارع ] وبهذا تنحلّ المشکلة ویبقی التعبد الفقهی فی العقائد ممکناً بل وواقعاً فی الجملة.

مضافاً إلی اختلافنا معه فی المبنی، حیث أوضحنا فی محلّه عدم اللغویة فی اعتبار الشارع.

هذا کلّه بالنسبة إلی الحکم الفقهی، حیث انتهینا إلی إمکانه بل ووقوعه فی الایمان بالتوحید والفحص والایمان بالنبی وما شاکل.

الجهة الثانیة: الحکم الأصولی

قد ألفتنا إلی أنه مع استحالة الحکم الفقهی لا یُعقَل؛ لأنه قد أخذ فیه الناظریة والإحراز وحیث أمکن الحکم الفقهی ووقع فهل یعقل ویمکن التعبد بالحکم الأصولی [ أی الظن ] فی مجال العقیدة؟

عِدّة من الحکماء ذهبوا إلی استحالة الأخذ بالقطع الشرعی علی نحو التعبد فضلاً عن الظن، ولیس ذلک إلاّ لعدم معقولیة الحکم الفقهی عندهم فی العقائد [ ومن ثمّ یتعاملون مع القطعیات کواسطة إثبات وطریق برهانی لوجوب الإلزام العقلی ] فی حین أنّ القطعیات [ بعد تصویر الحکم الفقهی ] لها ثمرة فقهیة تعبدیة علاوة علی وسطیتها فی البرهان.

ص:416

وأما الظن [ أعمّ من الظاهر وخبر الواحد والمستفیض ] فإمّا أن یکون فی الأساسیات من قبیل التوحید والنبوة، أو فی الأساسیات من قبیل الإمامة والمعاد، أو فی تفاصیل المعارف کالرجعة والبرزخ وغیرهما.

وما ذکرناه سابقاً عن الأعلام القائلین بإمکان التعبد إنما هو فی القسم الثالث [ تفاصیل المعارف ] من دون أن یتکلّموا شیئاً فی الحکم الفقهی وأنه یمکن التعبد به فی العقائد أو لا؟ إلاّ أنا أوضحنا أنّ تسویغ الحکم الأصولی یستلزم القول بإمکان التعبد بالحکم الفقهی.

حقیقة التعبد بالظن فی العقائد

ذکرنا أنّ للنفس أفعالاً ثلاثة: الفحص والإدراک والإذعان. وأنّ الثالث یقوم به العقل العملی [ الذی هو قوة درّاکة عمّالة معاً ] وهذا الفعل الثالث هو منطقة التکلیف ونظرت إلیه الآیات والروایات.

وحیث أنّ الحجّیة تعنی الوسط فی الإثبات والعلم، فالحکم الأصولی لا یتعلّق مباشرة بالفعل الثالث بل یتعلّق بالفعل الأول والثانی ثمّ یترتب علیه الفعل الثالث.

ومن هنا یظهر واحدة من الفوارق بین الحکم الأصولی والفقهی حیث إنّ الحکم الفقهی یتعلّق بالایمان والحکم الأصولی بالعلم والإدراک، وبالتالی حینما نسأل أنّ الظن هل هو معتبر فی العقائد؟ یعنی هل یصلح أن یکون الظن مثبِتاً وحاکیاً وکاشفاً عن الواقع ومن ثمّ یترتب علیه الایمان أم لا؟(1)

المشهور شهرة عظیمة [ إن لم یکن اتفاقاً ] أنه لا یتأتی التعبد

ص:417


1- (1) . [س] الحکم الأصولی وإن کان مثبِتاً کاشفاً إلاّ أنه یکشف عن الحکم الفقهی المتعلّق بالایمان کما هو الحال فی الفروع لا أنه یثبت لنا واقع القضیة الایمانیة، وإنما یکشف لنا قول الإمام وأنّ مفاده الحکم بوجوب الإعتقاد. [ج] لیس شرطاً فی الحکم الأصولی الکشف مباشرة عن الحکم الفقهی وإنما یمکن أن یکون کاشفاً عن صغری وموضوع الحکم الفقهی کما هو الحال فیما نحن فیه حیث إنّ ما یثبته الحکم الأصولی هو صغری وجوب الایمان بالغیب کما سنذکر.

بالظن فی القسم الأول والثانی [ أی أساسیات العقائد مطلقاً ] أما الثالث [ أی تفاصیل المعارف ] فقد أجازه المحدّثون وجملة من الفقهاء والمتکلّمین.

ودلیلهم علی المنع فی القسم الأول لزوم الدور؛ لأنّ التعبد من الشرع ولمّا یثبت الشرعُ بعدُ.

وفی القسم الثانی وإن انتفت شبهة الدور ولکن هناک اتفاق علی المنع بسبب أنّ من یعتمد الظن فی هذا القسم لا یأمن من الإنحراف فلابدّ من تحرّی القطع لإحکام ایمانه والتأمین علیه إلی آخر عمره، وهو الحق.

نعم، من اعتمد الظن واعتقد فهل هو مؤمن أو لا؟ شیخ الطائفة الطوسی یجزم أنه مؤمن ناج ولکنّه قصّر وفرّط فی حکم شرعی وهو الفحص وکذا کثیر من المحققین قالوا بأنه ناج وهو الحق.

وفی القسم الثالث [ أی التفاصیل ] یقع البحث فی نقطتین:

[ 1 ] فی المقتضی [ إنه هل هناک دلیل علی التعبد الأصولی فی هذا القسم؟ ]

[ 2 ] فی المانع [ هل یمکن الإجابة عن أدلّة المنع؟ ]

البحث فی المقتضی

أما النقطة الأولی: فعموم دلیل حجّیة الخبر الواحد والظواهر وبقیة الظنون المعتبرة شامل لتفاصیل الإعتقادات [ کما ذکر ذلک السیّد الخوئی والمحقّق الإصفهانی ] لاسیما وأنّ تفاصیل العقیدة من سنخ فروع الدین.

إن قلت: هل هناک عموم فقهی یدلّ علی وجوب الایمان بتفاصیل الإعتقادات؟ ومع وجوده لِمَ لَمْ یذکره مَن صوّر وقوع التعبد الأصولی بالإعتقادات بعد أن کان وجود الحکم الأصولی فرع وجود الحکم الفقهی؟

قلت: نعم، هناک وجوب فقهی متعلّق بتفاصیل الإعتقادات إلاّ أنه

ص:418

لیس وجوباً مطلقاً بحیث یجب الفحص عن تلک التفاصیل وإنما هو مقید بالعلم والظن المعتبر.

وهذا العموم هو الآیات الدالّة علی وجوب الایمان بالغیب وبنبوة نبیّنا (صلی الله علیه و آله) و وجوب التسلیم بکلّ ما جاء به النبی (صلی الله علیه و آله) الذی یقتضی أنّ ما علمت أنه قد جاء به النبی (صلی الله علیه و آله) لابدّ من الایمان به، وربما لم یذکره الأعلام لوضوحه.

البحث فی المانع

وأما النقطة الثانیة فیمکن المناقشة فی الدلیل الخامس بما ذکره الأعلام:

[ 1 ] إنّ بعض الآیات تنهی عن الظن الذی لم یستند إلی یقین، والبعض الآخر تنهی عن العمل بالظن مع توفّر الیقین کالمعجزة، والثالث لسانها خاص بأساسیات العقیدة کالتوحید، والرابع مع إمکان تحصیل العلم.

[ 2 ] وجود آیات بالمقابل تمدح الإعتقادات الظنیة بل حتی ما کان ناشئاً من درجة احتمالیة کقوله تعالی (الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (1)، وقوله تعالی (فَمَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) .(2)

من هنا لابدّ من معرفة اصطلاح الظن والیقین، وهو الذی ذکرناه سابقاً من أنّ القیمة والحجّیة للمقدّمات ومن ثمّ یترتب علیها الدرجة الإدراکیة أو لم یترتب. وبالتالی فالآیات المادحة قد لُحِظَ فیها تمامیة المقدّمات، والآیات الناهیة یقصد منها ما کانت مقدّماته غیر تامة.

ومعه إذا لاحظ الشارع أنّ خبر الواحد مثلاً ذو إصابة غالبة فاعتبره حجّة فیمکن المناقشة فی الدلیل الثالث والأول من أدلّة المانعین بأنهما نتیجة الخلط بین أفعال النفس وعدم إمکان تصویر

ص:419


1- (1) . البقرة/ 46
2- (2) . الکهف/ 110

الحکم الفقهی فی العقیدة.

فالیقین یعبّر عن الدرجة الإدراکیة والقطع من درجات الفعل الثالث، والإحتمال یعبّر عن الدرجة الإدراکیة والشک من درجات الفعل الثالث، والظن یستعمل فی الإدراک والفعل سوی أنه فی الإصطلاح القرآنی یستعمل فی المقدّمات.

ومتعلّق الحکم الفقهی إن کان هو الإدراک فالإشکالان فی محلّهما، وإن کان المتعلّق هو الفعل الثالث [ والمفروض أنه اختیاری ومن ثمّ احتاجت النفس إلی البعث والزجر کی تقوم به ] فلا موقع للإشکال الثالث؛ إذ لا تحصیل للحاصل، کما لا موقع للإشکال الأول؛ إذ عقد القلب مشکل، له درجات فیمکن حصوله حتی مع عدم العلم.

ص:420

التنبیه الثالث: کیفیة تخریج الخبر الحسن والقوی
اشارة

الخبر الحسن ما رواه الإمامی الممدوح من دون توثیق، والخبر القوی هو ما رواه الممدوح من دون توثیق.

ولیس من الغلو إن قلنا إنّ هذا البحث یعادل بحث حجّیة خبر الثقة لکثرة الروایات الحسنة. والرأی السائد خاصة عند المتأخرین هو عدم الحجّیة، بینما نلحظ فی ممشی أکثر الفقهاء العمل بالخبر الحسن ما لم یعارض بأدنی معارضة.

والکلام یقع فی حجّیة الخبر الحسن منفرداً لا مع الضمیمة توجب صغرویته للخبر الموثوق به، من قبیل عمل الفقهاء به الموجب للوثوق کما حاول البعض تخریجه بذلک.(1)

والبعض الآخر حاول تخریج عمل الفقهاء علی مبنی الإنسداد، فإنّ الخبر الحسن یفید الظن، وهو جیّد ولکن منهم من لیس کذلک.

وجه العمل بخبر الحسن

وهذا البحث یمکن أن یحرّر بشکلین:

الأول: بحث کبروی فی حجّیة الخبر الحسن، کما بحثوا فی حجّیة خبر الثقة، وقد اتخذ الشهید الثانی هذا التحریر.

الثانی: بحث صغروی بمعنی أنا نلحق صغرویاً الخبر الحسن والقوی بإلحاق إحرازی لا حقیقی تکوینی بخبر الثقة والصحیح.

ص:421


1- (1) . [س] لکن کقضیة خارجیة لیس هناک خبر حسن غیر معارض بأدنی درجات التعارض إلاّ وقد عمل الفقهاء به مما یوجب الوثوق به ومعه ما یدرینا أنه حجّة منفرداً أو لأنه صغری للخبر الموثوق به، وما فائدة البحث فی کیفیة حجّیته؟ [ج] بل هناک حسن لم یعمل به إما لعدم تحریر الفرض الفقهی المرتبط به فی کلماتهم أو لذکره فی باب لا یرتبط بالمسألة وما شاکل ذلک من العوامل التی لا تجعل من الإعراض عنه معارضاً وموهناً له. بالإضافة إلی أنّا فی صدد معرفة الوجه فی استناد الفقهاء الأقدمین له حیث لم تسبقهم شهرة عمل کی یکون العمل به من باب الوثوق.

ومنهجیاً لابدّ أن یحرّر البحث بالشکل الثانی؛ لأنّ الدلیل القائم علی الحجّیة - کما سنری - دلّ علی الإلحاق الصغروی.

ولعلّ الوجه فی العمل بالخبر الحسن والقوی أنّ منطوق آیة النبأ یقصّر المنع علی الفاسق، والفاسق هو المعلن للمعصیة والمجاهر بها [ کما هو فی الإصطلاح الشرعی ] ومن ثمّ یشمل بمفهومه الخبر الحسن والقوی.

و یناقش أنّ المفهوم إمّا العادل أو الثقة بقرینة التعلیل الوارد فی ذیل الآیة، فإنّ هذا التعلیل ینتفی فی صورة الوثوق، وعلی الأقلّ لا یمکن الجزم بصحة هذا الدلیل ولا خطأه، لأنّ فی الآیة إشعاراً کحدّ أدنی بما ذکره الشهید.

وأما الدلیل علی الإلحاق الصغروی فقد ذکرت فی مبحث الشهادات مسألة مسلّمة عندما یترافع خصمان عند القاضی فی قضیة وأقام المدّعی البیّنة، فإنّ عدالة الشاهد إنما یحرز بحسن الظاهر وعدم الفسق المعلن ما لم یخدش المنکر فی عدالة الشاهد، فإن خدش فلا یکتفی القاضی عندئذ بحسن الظاهر. ومستند هذه الفتوی روایات جعلت حسن الظاهر أمارة موضوعیة لمعرفة العدالة.

ولازم هذه المسألة حجّیة الخبر الحسن والقوی بحسن الظاهر الذی جعله الشارع أمارة موضوعیة.(1)

توضیح المسألة

ولاتضاح المسألة وأدلّتها لابدّ من تقدیم مقدّمات:

درجات الإحراز لصفات الراوی

المقدّمة الأولی: لیس الفارق بین الخبر الصحیح والحسن والخبر

ص:422


1- (1) . [س] لماذا لم یستدلّ بحسن الظاهر الذی یکتفی به فی عدالة إمام الجماعة ومرجع التقلید؟ [ج] لأنّ هناک کلاماً فی کیفیة إثبات عدالة مرجع التقلید، وفی إمام الجماعة یکتفی بالظن بالعدالة، بخلاف المسألة التی ذکرناها فإنها متفق علیه.

الموثوق به والقوی ماهویاً خارجیاً وإنما هو تقسیم بلحاظ درجات الإحراز منه لصفات الراوی.

بخلاف الفارق بین الخبر الصحیح - مثلاً - والموثق فإنه ماهوی؛ لأنّ الراوی فی الأول إمامی وفی الثانی عامی موثق، أما الحسن الذی هو الإمامی الممدوح فقد یکون فی زمانه من العدول والثقات إلاّ أنه خفی علینا کما فی إبراهیم بن هاشم الذی کان لفترة ممدوحاً حتی اکتشف عدالته بل ظهر أنه من کبار الأجلاّء.

فالصحة والمدح والإهمال هی درجات إحرازنا فی هذه الأزمان لصفات الراوی ومثله الموثق والقوی والمجهول.

نعم، علی بعض التقادیر قد یصوّر الإختلاف ماهویاً ولکن الحالة العامة هی أنّ الإختلاف إحرازی.

أصالة العدالة

المقدّمة الثانیة: إنّ حسن الظاهر وإن کان أمارة علی العدالة فی الشاهد بالإتفاق، إلاّ أنها مشوشة جداً فی کلمات الفقهاء والرجالیین حیث تنوعت کلماتهم بین تعبیرات ثلاث: «أصالة العدالة» و«أصالة عدم الفسق» و«کلّ مسلم لم یثبت فسقه فهو عادل» مما أوجب النسبة إلیهم بأنّ مبناهم أنّ کلّ مسلم عادل حتی یثبت العکس، حتی أنّ مثل السیّد الخوئی توقّف فی بعض توثیقات القدماء خشیة اعتمادهم علی أصالة العدالة.

والصحیح أنه لا یلتزم أحد بأصالة العدالة وقد سبرنا کلّ ما ذکر من شواهد من قبل المتأخرین علی أنّ المتقدّمین یبنون علی أصالة العدالة ولم نجد ما تدلّ علی ما نسب إلیهم وإنما کلّ ما وجدناه هو اعتمادهم علی حسن الظاهر فی التوثیق صغرویاً، وقد صرّح بذلک صاحب الجواهر.

ویضمّ إلیه استصحاب عدم الفسق فتکتمل الأمارة الموضوعیة لا أننا نتمسک بأصالة عدم الفسق عند الشک من دون توفّر حسن الظاهر

ص:423

وإنما مع وجود فقرات من حسن الظاهر واستصحاب عدم الفسق یتمّ البناء علی العدالة أو الوثاقة.

حسن الظاهر مغایر للعدالة

المقدّمة الثالثة: إنّ حسن الظاهر مغایر للعدالة حتی مع مثل تفسیر السیّد الخوئی لها بأنها عبارة عن حسن السلوک والإستقامة فی جادة الشرع لا الملکة، فالعلم بالأول لا یعنی العلم بالثانی، وهو واضح بعد أن کان المراد من حسن الظاهر یخص استقامة السلوکیات التی من شأنها الظهور لا مطلق السلوک.

أدلّة أماریة حسن الظاهر

بعد کلّ هذا ندخل فی الأدلّة علی أماریة حسن الظاهر کأمارة موضوعیة إحرازیة تعبدیة.

الروایة الأولی: موثقة عبداللّه بن أبی یعفور

روی الصدوق فی الفقیه بإسناده عن عبد الله بن أبی یعفور، قال: قلت لأبی عبدالله (علیه السلام): بِمَ تُعْرَفُ عَدَالَةُ الرَّجُلِ بَیْنَ الْمُسْلِمِینَ حَتَّی تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ لَهُمْ وَ عَلَیْهِمْ؟ فَقَالَ: أَنْ تَعْرِفُوهُ بِالسَّتْرِ وَ الْعَفَافِ (وَ کَفِّ الْبَطْنِ) وَ الْفَرْجِ وَ الْیَدِ وَ اللِّسَانِ وَ یُعْرَفُ بِاجْتِنَابِ الْکَبَائِرِ الَّتِی أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَیْهَا النَّارَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَ الزِّنَا وَ الرِّبَا وَ عُقُوقِ الْوَالِدَیْنِ وَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَ غَیْرِ ذَلِکَ وَ الدَّلالَةُ عَلَی ذَلِکَ کُلِّهِ (أَنْ یَکُونَ سَاتِراً) لِجَمِیعِ عُیُوبِهِ حَتَّی یَحْرُمَ عَلَی الْمُسْلِمِینَ مَا وَرَاءَ ذَلِکَ مِنْ عَثَرَاتِهِ وَ عُیُوبِهِ وَ تَفْتِیشُ مَا وَرَاءَ ذَلِکَ وَ یَجِبُ عَلَیْهِمْ تَزْکِیَتُهُ وَ إِظْهَارُ عَدَالَتِهِ فِی النَّاسِ وَ یَکُونُ مِنْهُ التَّعَاهُدُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِذَا وَاظَبَ عَلَیْهِنَّ وَ حَفِظَ مَوَاقِیتَهُنَّ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِینَ وَ أَنْ لا یَتَخَلَّفَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فِی مُصَلاّهُمْ إِلاّ مِنْ عِلَّةٍ فَإِذَا کَانَ کَذَلِکَ لازِماً لِمُصَلاّهُ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ فِی قَبِیلِهِ وَمَحَلَّتِهِ قَالُوا مَا رَأَیْنَا مِنْهُ إِلاّ خَیْراً مُوَاظِباً عَلَی الصَّلَوَاتِ مُتَعَاهِداً لأَوْقَاتِهَا فِی مُصَلاّهُ فَإِنَّ ذَلِکَ یُجِیزُ شَهَادَتَهُ وَ عَدَالَتَهُ بَیْنَ الْمُسْلِمِینَ وَ

ص:424

ذَلِکَ أَنَّ الصَّلاةَ سِتْرٌ وَ کَفَّارَةٌ لِلذُّنُوبِ وَ لَیْسَ یُمْکِنُ الشَّهَادَةُ عَلَی الرَّجُلِ بِأَنَّهُ یُصَلِّی إِذَا کَانَ لا یَحْضُرُ مُصَلاّهُ وَ یَتَعَاهَدُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِینَ وَ إِنَّمَا جُعِلَ الْجَمَاعَةُ وَ الإجْتِمَاعُ إِلَی الصَّلاةِ لِکَیْ یُعْرَفَ مَنْ یُصَلِّی مِمَّنْ لا یُصَلِّی وَ مَنْ یَحْفَظُ مَوَاقِیتَ الصَّلاةِ مِمَّنْ یُضِیعُ وَ لَوْ لا ذَلِکَ لَمْ یُمْکِنْ أَحَدٌ أَنْ یَشْهَدَ عَلَی آخَرَ بِصَلاحٍ لأَنَّ مَنْ لا یُصَلِّی لا صَلاحَ لَهُ بَیْنَ الْمُسْلِمِینَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) هَمَّ بِأَنْ یُحْرِقَ قَوْماً فِی مَنَازِلِهِمْ لِتَرْکِهِمُ الْحُضُورَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِینَ وَ قَدْ کَانَ فِیهِمْ مَنْ یُصَلِّی فِی بَیْتِهِ فَلَمْ یَقْبَلْ مِنْهُ ذَلِکَ وَ کَیْفَ یُقْبَلُ شَهَادَةٌ أَوْ عَدَالَةٌ بَیْنَ الْمُسْلِمِینَ مِمَّنْ جَرَی الْحُکْمُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ مِنْ رَسُولِهِ (صلی الله علیه و آله) فِیهِ الْحَرَقُ فِی جَوْفِ بَیْتِهِ بِالنَّارِ وَ قَدْ کَانَ یَقُولُ لا صَلَاةَ لِمَنْ لا یُصَلِّی فِی الْمَسْجِدِ مَعَ الْمُسْلِمِینَ إِلاّ مِنْ عِلَّة.(1)

«بم تعرف» أی بِمَ تحرز.

«والدلالة علی ذلک کلّه» یدلّ علی أنّ العدالة أمر واقعی لا تتحقق إلاّ باجتناب المحرمات کلّها، ویکفی حسن الظاهر وعدم بروز الفسق فی ثبوت عدالته. وبالتالی فقولنا «ما رأینا منه إلاّ خیراً مواظباً علی الصلاة» لیس شهادة مباشرة علی العدالة [ سواء فسّرت بالملکة أو السلوک المستقیم. ]

«مواظباً» تمثیل لا حصر، أی أنه واحدة من السلوکیات الصالحة البارزة منه، لا أنّ بدوّ الصلاح منحصر فیها، والعمدة «ما رأینا منه إلا خیراً» أی ما برز منه إلینا سوی الخیر.

الروایة الثانیة: صحیحة حریز

روی الشیخ فی التهذیب بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبی أیّوب الخزاز، عن حریز، عن أبی عبدالله (علیه السلام) فِی أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَی رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِالزِّنَا فَعُدِّلَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَ لَمْ یُعَدَّلِ الآخَرَانِ فَقَالَ: إِذَا کَانُوا أَرْبَعَةً مِنَ الْمُسْلِمِینَ لَیْسَ یُعْرَفُونَ

ص:425


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج391/27 (کتاب الشهادات، الباب 41: ما یعتبر فی الشاهد من العدالة، الحدیث 1)

بِشَهَادَةِ الزُّورِ أُجِیزَتْ شَهَادَتُهُمْ جَمِیعاً وَ أُقِیمَ الْحَدُّ عَلَی الَّذِی شَهِدُوا عَلَیْهِ، إِنَّمَا عَلَیْهِمْ أَنْ یَشْهَدُوا بِمَا أَبْصَرُوا وَ عَلِمُوا وَ عَلَی الْوَالِی أَنْ یُجِیزَ شَهَادَتَهُمْ إِلاّ أَنْ یَکُونُوا مَعْرُوفِینَ بِالْفِسْق.(1)

جاء فیها «وعلی الوالی أن یجیز شهادتهم إلاّ أن یکونوا معروفین بالفسق» وهذا التعبیر قد یوهم أماریة عدم الفسق المعلن فقط، ومن ثمّ أعرض عنها السیّد الخوئی (قدس سره) وعمل بالروایات الأخری.

ولکنّ الصحیح أنّ هذه الفقرة دالّة علی أماریة حسن الظاهر وعدم کفایة عدم الفسق المعلن، بعد الإلتفات إلی أنّ محیط الإنسان یبدأ بمحیطه الخاص الذی هو محیط أسرته، ویأتی بعده محیط خاصّته وأصدقائه، ثمّ محیط محلّته وقبیلته.

والذی یرجع إلیه فی معرفة حسن الظاهر هو المحیط الثالث [ کما ورد فی الروایة السابقة ] فعندما لا یعرف فی ذلک الوسط بالفسق مع أنه یعاشرهم فهو یعنی أنّ سلوکه حسن؛ لأنّ معاشرته معهم علی مستوی الظاهر. فإذا لم یلحظ فی ذلک الوسط [ فی سلوکیات هذا الإنسان الظاهرة] فسق معلن [ أعمّ من فعل حرام أو ترک واجب کأداء حقوق الناس ] فهو حسن الظاهر.

وأما معروفیته بعدم الفسق فی الوسط الأول والثانی فهو أخص من حسن الظاهر.

کما أنّ عدم معروفیته بعدم الفسق فی غیر محلّته وقبیلته [ ممن هو أجنبی عنهم ولا یعاشرهم ] أعمّ من حسن الظاهر المطلوب الذی هو عدم ارتکاب الحرام المعلن مع اتصافه ببعض مظاهر الصلاح البارزة للناس فی ذلک الوسط.

ومثله فی الأعمّیة من حسن الظاهر عدم معروفیته فی الفسق فی

الأوساط التی لا یعیشها، کما لو اعتمد الشیخ الطوسی علی حسن

ص:426


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج397/27 (کتاب الشهادات، الباب 41: ما یعتبر فی الشاهد من العدالة، الحدیث 18)

الظاهر فی راو من جیل آخر، فإنّ حسن الظاهر هذا [ إن صحّ التعبیر عنه ] وعدم معروفیته بالفسق لا تعنی حسن الظاهر [ الأمارة التی صار الإمام (علیه السلام) فی صدد تشریعها فی هذه الروایة حتی یکون مفادها أصالة عدم الفسق الأعمّ من حسن الظاهر. ] وإنما الإمام (علیه السلام) صار فی صدد تشریع عدم المعروفیة بالفسق فی الوسط الثالث، وهذا هو حسن الظاهر الذی یقبله مثل السیّد الخوئی وغیر أصالة عدم الفسق التی لا یقبلها ولا نقبلها نحن بل ولا أی أحد.

الروایة الثالثة: موثقة ابن أبی یعفور

روی الشیخ فی التهذیب والإستبصار بإسناده عن أبی القاسم جعفر بن محمّد بن قولویه، عن أبیه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن الحسن بن علی بن فضّال، عن أبیه، عن علی بن عقبة وذبیان بن حکیم الأودی، عن موسی بن أکیل، عن عبد اللَّه بن أبی یعفور، عن أخیه عبد الکریم بن أبی یعفور، عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ وَ النِّسْوَةِ إِذَا کُنَّ مَسْتُورَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ مَعْرُوفَاتٍ بِالسَّتْرِ وَ الْعَفَافِ مُطِیعَاتٍ للأَزْوَاجِ تَارِکَاتٍ لِلْبَذَاءِ وَ التَّبَرُّجِ إِلَی الرِّجَالِ فِی أَنْدِیَتِهِمْ.(1)

جاء فیها: «إذا کنّ مستورات» أیضاً فی الوسط الثالث لا فی الأوساط الخاصة.

«من أهل البیوتات» إذا کان بیت کرامة وصلاح ومعروف بالتربیة.

«مطیعات للأزواج» قد یتخیل أنه فی الدائرة الأولی إلاّ أنه لا مشکلة؛ لأنه لم تتعلّق شهادة حسن السلوک علی هذه الدائرة وإنما هی قضیة واحدة وعلامة من علامات حسن الظاهر تضم إلی سائر العلامات المتقدّمة المرتبطة بحسن الظاهر فی محیط البیئة.

ص:427


1- (1) . الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج398/27 (کتاب الشهادات، الباب 41: ما یعتبر فی الشاهد من العدالة، الحدیث 20)

إلی هنا قد انتهینا إلی أنّ حسن الظاهر أمارة علی العدالة وهو مورد اتفاق من الجمیع، ومن ناقش [ کالسیّد الخوئی ] فی کلمات الأعلام أو أعرض عن روایة فلظنه أنهم یکتفون بأصالة العدالة وأصالة عدم الفسق.

ولازم هذا القول قبول الخبر الحسن والقوی لصغریین من صغریات الخبر الصحیح والموثق بأمارة حسن الظاهر التعبدیة المحرزة للموضوع وهو العدالة.

عدّة ملاحظات

ولاکتمال البحث نلفت إلی جملة ملاحظات:

الملاحظة الأولی: خلاف بین الفقهاء فی کیفیة تحقّق حسن الظاهر، هل هو بأربعة قرائن علی الصلاح أو ثلاثة أو غیر ذلک بالإضافة إلی عدم الفسق المعلن؟ ومثل هذا الخلاف لا یؤثر علی ما نروم إثباته وهو أماریة حسن الظاهر کما هو واضح.

الملاحظة الثانیة: علی مستوی الممارسة الفقهیة فمشهور الفقهاء عملوا بالخبر الحسن، وعمدة مستندهم ما ذکرناه. هذا ونؤکد علی أنّ من یبنی علی حجّیة حسن الظاهر فی الشبهات الموضوعیة لابدّ من البناء علیه فی الشبهات الحکمیة، والتفکیک بینهما ناجم من عدم تصور فذلکة المسألة.

الملاحظة الثالثة: إنّ مدرک حجّیة حسن الظاهر کأمارة موضوعیة لا ینحصر بالروایات وإنما هناک بناء عقلائی علی قبول تحقّق الظاهر فما ورد من روایات یکون إمضاءً لها.

الملاحظة الرابعة: بناءً علی أماریة حسن الظاهر یتبلور الفرق بین الخبر الصحیح والحسن، فإنّ الأول من أحرز وثاقته وجداناً والثانی تعبداً فالفارق إحرازی لا صفتی ماهوی، ومثله الفرق بین الموثق والقوی.

ومع تبنّی هذا المبنی والفرق نکون فی راحة فی علم الرجال؛ لأنّ

ص:428

المدح وإن لم یوصلنا إلی الصحة [ لأنه لیس توثیقاً ] ولکنّه یوصلنا إلی حسن ظاهر الرجل وبالتالی فهو ملحق صغرویاً بالثقة.

ص:429

التنبیه الرابع: حجّیة خبر الواحد أو عدم حجّیته فی الموضوعات
اشارة

والبحث وإن کان فقهیاً [ لارتباطه بالشبهة الموضوعیة فلا یقع فی طریق الإستنباط ] إلاّ أننا نذکره استطراداً، لشمول أدلّة حجّیة الخبر له.

عدم حجّیة خبر الواحد فی الموضوعات عند القدماء

ویظهر من عبارات القدماء عدم حجّیة الخبر فی الموضوعات، إلاّ أنّ الحلّی وآخرین بنوا علی الحجّیة مع تفصیل، وفی عصرنا بنوا علی حجّیته مطلقاً فی الموضوعات.

المختار فی المسألة

والحق الحجّیة مع التفصیل لا مع الإطلاق، لأنّ بناء العقلاء [ الذی هو أهمّ أدلّة الحجّیة ] قام علی اعتباره فی الموضوعات الساذجة [ علی حدّ تعبیر العلاّمة ] فی قبال الموضوعات غیر الساذجة بحیث تکون مدعاة للنزاع وإن لم یکن فیها نزاع فعلی إلاّ أنها صالحة لأنّ تکون موضوعاً قضائیاً، فإنّ العقلاء فی مثل هذه الموضوعات بنوا الإعتماد علی خبرین وما شاکل، لا علی خبر الواحد(1)، فالعقلاء یضیّقون وسیلة الإثبات فی الموضوعات التی تکون مدعاة للنزاع ولو بعیداً.

وهناک روایات متعددة تدلّ علی حجّیة الخبر فی الموضوعات، إلاّ أنها لا إطلاق فیها، بل ترجع إلی الموضوعات الساذجة.

ص:430


1- (1) . [س] المعروف أنّ خبر الواحد یشمل حتی المستفیض فاکتفاء العقلاء باثنین لا یخرجه عن خبر الواحد، ومن ثمّ یقع السؤال عن الفرق بین خبر الواحد والبینة فی الشهادة. وفی تصوری أنّ الشهادة فیها إنشاء واعتبار. [ج] الشهادة خبر حسی من دون وساطة وبالتالی فخبر الواحد یشمل الشهادة وزیادة واعتبار العقلاء البیّنة فی موارد التحاق اعتبار لخبر خاص وهو خبر واحد حسی من دون واسطة متعدد. وهناک رأی یفسّر الشهادة أنها اعتبار وانشاء یتحقق فی قوله «أشهد».

بالإضافة إلی عموم أدلّة حجّیة خبر الواحد فی الشبهات الحکمیة للشبهات الموضوعیة.(1)

تقریب المستمسک

بل یمکن القول [ کما ذکر فی المستمسک فی باب الإجتهاد والتقلید ] أن أدلّة حجّیة الخبر تشمل أولاً الشبهات الموضوعیة ثمّ بالتبع الشبهة الحکمیة؛ لأنّ الراوی عندما یروی «قال الصادق (علیه السلام)» فهو إخبار عن فعل جزئی خارجی، غایته أنّ هذا الفعل یترتب علیه أثر کلّی.

ص:431


1- (1) . [س] إن صحّ شمول دلیل الإمضاء الواحد لجعلین عقلائیین - کما ذکرتم - وقبلنا أنّ هناک تقنینین، أحدهما لخبر الواحد فی الشبهة الحکمیة والآخر لخبر الواحد فی الشبهة الموضوعیة فی الجملة ولکن ما هی القرینة علی أنّ الإمضاء لکلا الجعلین؟ إذ صرف العموم لا یکفی بعد أن کان فی الدلیل الشرعی نظر للسیرة فانه لا عموم حینئذ کی یمکن التمسک به. ثمّ إنه لما کان الردع الجزئی متعقلاً، فهلا یمکن الأخذ بالعموم الشرعی واثبات حجّیة الخبر فی الموضوعات مطلقاً حیث یعتبر رادعاً عن ذلک التفصیل والتضییق فی السیرة حتی یحصل التحاق والنزاع حینئذ قام الدلیل الشرعی علی ضرورة البیّنة. [ج] یمکن أن یکون الجعل والتقنین العقلائی فیهما واحداً إلاّ أنه مقید فی الشبهة الموضوعیة وهما مصداقان تکوینیان له. ویمکن أن یکونا جعلین إلاّ أنهما یندرجان تحت جعل فوقانی والإمضاء إنما هو له، بل حتی لو قلنا إنّ الإمضاء للصغری وهی الشبهة الحکمیة فی بعض والموضوعیة فی آخر، فقد تقدم أنّ إمضاء الصغری إمضاء للکبری. والأدلّة الشرعیة الإمضایة للقوانین العقلائیة تارة تکون موازیة للقانون العقلائی بأن یکون موضوعها تکوینیاً والمحمول شرعیاً إلاّ أنها ناظرة لامضاء المحمول العقلائی. وأخری یؤخذ الموضوع العقلائی موضوعاً فیها فتکون ممضیة له ولمحموله. ومثاله (أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) ومثال الأول خبر الواحد حجّة. وفی الحالین عموم الدلیل وحده لا یصلح للتوسعة وإلغاء القیود العقلائیة فلابدّ من موازنة اضافیة کیّ یدل علی ردع الشارع عن قید العقلاء، وذلک لأنّ فی العموم جنبة الإمضاء فمزجها مع التأسیس - فی مساحة الردع والغاء القید العقلائی - یحتاج إلی قرینة.

ولکن قد یلاحظ علی هذا التقریب: أنّ الجاری فی التقنین العقلائی من أمارات فی الشبهات الحکمیة وإن أمکن إرجاعها إلی شبهة موضوعیة ولکنّهم لم یلحظوا ذلک وافترضوا أنّ الأمارة قائمة علی الشبهة الحکمیة، ومن ثمّ قُسِّم الأمارات إلی قسمین ولم یحرز أحد علی التعمیم إلاّ بشاهد قوی، ولم یکتف أحد [ حتی سیّد المستمسک ] بالتعمیم من أحدهما للآخر بما ذکر من التقریب.(1)

ص:432


1- (1) . [س] التعمیم المذکور من الشبهات الحکمیة إلی الموضوعیة دون العکس؟ [ج] بالتأمل یتضح العکس فأصالة الطهارة مثلاً [مع فرض کونها موضوعیة] یمکن تعمیمها إلی الشبهة الحکمیة کالکتابی [إذ لم یصل الفقیه إلی رأی قاطع بشأنه وأنه نجس أو طاهر] بنکتة أنّ مآل الشبهات الحکمیة إلی الشبهات الموضوعیة، فیتمسک بأصالة الطهارة فی هذا الکتابی وذاک الکتابی. نعم، هذه النکتة فی التعمیم غیر نکتة المستمسک؟ فإنّ نکتة المستمسک خاص بالخبر وأنّ المخبر به فعل خارجی محتواه حکم کلّی ولکنّها قریبة منها. وذکر الأعلام أن لا عموم ولا إطلاق مع الشروط والقیود العقلائیة، فمع الشک فی أخذ قید أو شرط عند العقلاء لا یمکن التمسک بإطلاق وعموم الدلیل الشرعی لنفیه، نعم یمکن التمسک بالعموم والإطلاق لنفی القید الشرعی المشکوک لا غیر.
التنبیه الخامس: فی جبر الضعیف بالشهرة العملیة والفتوائیة وکسر الخبر الصحیح بهما
الآراء فی المسألة

[ 1 ] البعض خصّ الجبر بالشهرة العملیة دون الفتوائیة؛ لأنّ الفتوائیة لیست أکثر من الموافقة للخبر من دون إحراز لاستنادهم إلی الخبر [ إذ قد یکون استنادهم إلی نکات أخری کالعموم وما شاکل ] ومثله الکسر فهناک إعراض عن الخبر وهناک فتوی مخالفة للخبر من دون إحراز أنه لأجل توهین الخبر. ومن ثمّ یمکن أن یکون مستندهم الإعتماد علی أدلّة أرجح من الخبر الصحیح.

ومثل الشهرة الفتوائیة وجود خبر فی کتاب لم یکن فی متناول طبقة من الفقهاء أو لم یعرف تتبعهم للخبر أو لأنه مندرج فی باب لا یتناسب مع المسألة.

[ 2 ] والبعض الآخر خصّ الجبر والکسر بالشهرة العملیة عند القدماء أو بدایة المتأخرین دون من سواهم. وهذا هو الذی نعتمده بعد الإلتفات إلی أنّ الحدیث فی الجبر والکسر مرتبط بالسند لا بالمضمون والدلالة.

[ 3 ] وثالث اختار العکس، حیث خصّ الجبر والکسر بشهرة المتأخرین معلّلاً بأنهم أحذق وأثقب نظراً من المتقدّمین.

[ 4 ] ورابع بنی علی الجبر والکسر مطلقاً.

فی جبر الشهرة العملیة

الحقّ أن من یبنی علی حجّیة الخبر الموثوق به لابدّ أن یقبل جبر الشهرة خاصة من القدماء؛ لأنّ ممارستهم کانت أولاً وبالذات حدیثیة ولا یعتنون بالتفریع الصناعی، بالإضافة إلی قرب عهدهم سیما مع ما ذکرناه من تخریج صناعی للحجّیة وهو تراکم الإحتمال فإنّ عمل المشهور یوجب الوثوق من غیر تردید.

نعم، الشهرة العلمیة ذات درجات، منها ما تکون بنفسها جابرة،

ص:433

ومنها ما لا تکون بنفسها جابرة، کما إذا لم نطّلع علی سعة دائرة العمل ولکنه یبقی الإعتداد بهذا العمل المحدود کقرینة من القرائن التی تنفع فی حصول الوثوق.

علماً أنّ فکرة الجبر لا تعنی اصولیاً حجّیة الجابر مستقلاً ومنفرداً علی حجّیة خبر الواحد والظهور وإنما هو شبیه بحجّیة المرجّح والموهن فی باب التعارض، مما یکون له دور ودخالة فی الحجّیة بنحو الشرط أو عدم المانع.

مع فرق بین البابین وهو أنّ المرجّح والمانع شرط ومانع فی الحجّیة فی مورد تعارض الحجّتین الإقتضائیتین، أما الجابر والکاسر فهو شرط وعدم مانع بلحاظ الخبر فی نفسه.

المناقشة فی رأی السیّد الخوئی (قدس سره)

ومما تقدّم لا معنی للإشکال من مثل السیّد الخوئی علی الشهرة حیث أخذها علی أساس أنها حجّة مستقلة وناقش فیها.

فإنّ مسلک جمع القرائن لتحصیل الوثوق لا یتوخی فیه الإعتداد بالقرینة علی أساس أنها حجّة مستقلة کما لا یتوخی فیه علی کون هذه القرینة قرینة منفردة تضمّ إلی ذی القرینة فتوجب حجّیته وإن کانت قد تکون کذلک. وإنما دور القرینة أنها تساهم فی تصاعد الإحتمال وتراکمه وازدیاد نسبته فتحقق شرطاً أو ترفع مانعاً عن ذی القرینة.

وبعبارة أخری: القول بحجّیة الخبر الموثوق به وحجّیة الإطمئنان شبیه بالإنسداد الذی یعتمد فیه علی تجمیع الظنون وتقدیم الأقوی علی الأضعف ومن ثمّ لا یعتمد علی ظن بمفرده ویبحث فی کلّ الظنون حتی غیر المعتبرة عند من یری انفتاح باب العلمی.

بعد هذا نلاحظ علی السیّد الخوئی (قدس سره) أنّ البحث فی جبر الشهرة للخبر لیس کشرط وحید یوجب الحجّیة.

ومنه یلاحظ علیه أیضاً أنه یری حجّیة الإطمئنان وذکر استثناء

ص:434

فی مصباح الأصول فی بحث الشهرة وهو: «إلاّ أن یوجب الإطمئنان».

ومع مثل هذا المبنی لابدّ أن یقبل الشهرة جابرة بمفردها أو کجزء من القرائن التی تنضمّ إلی الخبر وترفع من ضعفه.

إلاّ أنّ الملاحظ فی فقهه یری أنه لم یعتمد الشهرة إلاّ نادراً وفی کثیر من الأحیان یطرحها بصورة التسالم فی حین أنه لا تسالم وإنما شهرة. فتلخّص [ بناء علی حجّیة الخبر الموثوق به ] الشهرة العملیة للقدماء جابرة للخبر.

أدلّة جابریة الشهرة وتقییمها

وقد یستدلّ أیضاً علی جابریة الشهرة بصحیحة عمر بن حنظلة، حیث ورد فیها «خذ بما اشتهر بین أصحابک».

وهو حسن بمقدار المتیقن منها وهو أنها مرجّح وشرط الحجّة فی مقام التعارض، ومنه یستأنس جابریة الشهرة بعد أن عرفت تخریج حجّیة الشهرة وأنها لیست حجّیة مستقلة وإنما شرط فهی تخلق مصداقاً للخبر الموثوق به.

وقد یستدلّ أیضاً بأنّ ضعف الخبر إن کان نتیجة ضعف الراوی ومجهولیته، فعمل القدماء بهذا الخبر یکشف عن توثیق القدماء له. وقد دأب بعض الرجالیین لملاحقة هذا النوع من العمل لکاشفیته عن توثیق مثل هؤلاء، ولا یخفی أنّ هذا التخریج ینهینا إلی تصنیف الخبر المنجبر بخبر الثقة.

والحقّ أنّ دیدن الرجالیین فی توثیق راوٍ [ مهمل أو مجهول ] عدمُ الإکتفاء بمجرّد عمل القدماء بروایة واحدة، وإنما مع تکرار عملهم بروایاته المتعدّدة، ومعه یخرج عن جبر الشهرة ویکون توثیقاً له، مثل ما ورد عن الشیخ الطوسی (قدس سره) أنه قد عملت الطائفة بروایات فلان فإنه وإن أفاد التوثیق إلاّ أنه لیس من باب جبر الشهرة.

ص:435

نعم، لا ینکر أنّ عمل الفقهاء بروایة ضعیفة یشکّل قرینة من قرائن توثیق الراوی، لا أنه توثیق مستقل یکتفی به فی التوثیق.

بل معنی الجبر یستبطن عدم وثاقة الراوی لا أنه یعنی ضعف الخبر وهو یجبره من باب أنه شرط الحجّیة لا من باب التوثیق للراوی وإلاّ لم یکن الخبر ضعیفاً.

فی جبر الشهرة الفتوائیة

فی الشهرة الفتوائیة حیث إنه لم یُعلَم استناد المشهور فی فتواهم هذا إلی هذا الخبر بخصوصه فهی لیست جابرة بانفرادها وإنما هی قرینة ضعیفة تحتاج إلی ضمّ قرائن أخر حتی یحصل الوثوق.

ومعاناتنا مع الفقهاء القدماء أنّ کثیراً من شهراتهم فتوائیة لا عملیة لعدم وجود کتب استدلالیة عندهم، حیث أنها کتب بین حدیثیة وفتوائیة وقلیلاً مّا توجد کتب استدلالیة.

إعراض المشهور عن الخبر الصحیح

إعراض المشهور عن الخبر الصحیح هل یوجب کسره أو لا؟

والسیّد الخوئی (رحمه الله) نفی الکسر بعد أن کان یبنی علی حجّیة خبر الثقة ولم یشترط فی حجّیته عدم الظن بالخلاف.

علماً أنّ الإعراض تارة عملی [ بمعنی أنهم نصّوا علی عدم اعتمادهم علی هذا الخبر ] وأخری فتوائی [ لا یعلم أنهم التفتوا لهذا الخبر وأعرضوا عنه، أو التفتوا إلیه ولکن لم یعملوا به لوجود معارض أقوی. ]

والشهرة العملیة المخالفة تضرّ بالخبر الموثوق به؛ لأنها قرینة معاکسة منصبّة علی تمریض صدور الخبر، ومثلها الفتوائیة إلاّ أنها معاکسة بدرجة أقلّ من سابقتها؛ لأنها قد تکون مبتنیة علی نکتة اجتهادیة لا نوافقهم علیها.

وأما خبر الثقة فما ذکره السیّد الخوئی (قدس سره) تام فی الجملة لا بالجملة؛ لأنّ الشهرة قد تصل إلی حدّ قریب من التسالم وفی مثل هذا الحال

ص:436

تنبئ عن وجود خلل صغروی فی سند الخبر.(1)

هذا تمام الحدیث فی جبر الشهرة وکسرها للخبر الموثوق به والثقة. وقد تلخص:

[ 1 ] جبر الشهرة العملیة للخبر الضعیف، بناء علی حجّیة الخبر الموثوق بصدوره.

[ 2 ] وهذا الجبر قد یحصل بها مستقلاً وقد تکون قرینة من بین قرائن أخری لابدّ من توفّرها.

[ 3 ] الشهرة العملیة تصلح قرینة من قرائن توثیق الراوی ومن ثمّ فهی لیست عدیمة الأثر بناء علی حجّیة خبر الثقة.

[ 4 ] الشهرة العملیة تکسر الخبر الصحیح الذی یکون صغری لحجّیة الخبر الموثوق به.

[ 5 ] الشهرة العملیة العظیمة قد تکشف عن وجود خلل صغروی فی سند الخبر.

[ 6 ] الشهرة الفتوائیة قرینة ضعیفة تساهم إلی جنب القرائن الأخری فی تحصیل الوثوق.

جبر الدلالة وکسرها بالشهرة

تارة یرجع الجبر فی الدلالة أو الکسر فیها إلی الصدور [ کوجود کلمة فی الخبر لیست فی سائر الأخبار، فإنّ مثل هذا الجبر یرجع إلی صدور هذه اللفظة، کذا فی الکسر فإنّ إعراضهم عن العموم قد یرجع إلی صدور تخصیص لم یصل إلینا ] فهذا النوع برجع بحثه إلی السابق.

وأخری یکون الجبر والکسر للدلالة وقد تقدّم الحدیث عنه فی

ص:437


1- (1) . [س] لِمَ لمْ تجعلوا الإعراض قرینة ضعیفة علی الخلل فی الراوی بناء علی حجّیة خبر الثقة؟ [ج] لأنّ الإعراض قد یکون لعامل غیر ضعف السند کالشذوذ وأمثاله، بینما فی الخبر الضعیف لما لم یکن حجّة إلاّ بوثاقة کلّ راوٍ راوٍ کانت الشهرة قرینة ضعیفة علی الوثاقة.

بحث حجّیة قول اللغوی فلیراجع.

والمائز أنّ التصرف إن کان علی مستوی اللفظ [ أی إحراز الألفاظ الصادرة ] فهو القسم الأول، وإن کان علی مستوی المراد [ التفهیمی والکبری ] فهو القسم الثانی.

ص:438

التنبیه السادس: فی حلّ شبهة الدس فی أخبار الإمامیة
اشارة

وسرّ ذکرها فی ذیل خبر الواحد أنّ مجرّد إثبات الکبریات لا ینفع للأصولی [ بعد أن کان هناک علم إجمالی بوجود الدس مما یُلزِم الباحث إحراز الصغری ] ومن ثمّ التجأ البعض إلی الإنسداد لهذه المشکلة الصغرویة.

والشیخ الأعظم عنون الشبهة وذکر مصادرها وهی روایات مذکورة فی أبواب صفات القاضی تصرّح بوجود الدس والکذب. ویبدو من ذکر الشیخ لهذه الشبهة أنه کان یبنی سابقاً علی هذه الشبهة فی الإنسداد.

حلّ شبهة الدس

[ 1 ] إنّ الأخباریین جمعوا قرائن کثیرة متنوعة علی قطعیة ما فی الکتب الأربعة وبعض الکتب الأخری، وهذه الشواهد صالحة لحلّ العلم الإجمالی بالدس. وهذه النتیجة هی الحدّ الأدنی لتلک الشواهد.

[ 2 ] هناک شواهد أخری [ غیر ما ذکره الأخباریون ] توصلنا إلی أنّ الأصحاب قاموا بجهد بالغ جداً فی تنقیة الروایات وغربلتها لعدّة مرّات [مرّة فی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) وثانیة فی عهد الإمام الرضا (علیه السلام) والإمام الجواد (علیه السلام) وثالثة فی بدایة الغیبة الصغری ورابعة فی آخر الغیبة الصغری. ] وقد کانت هذه الغربلة بدعوة من الأئمة (علیهم السلام) .

بل بمراجعة الشواهد یکاد یقطع الإنسان بضیاع بعض الروایات الصحیحة نتیجة تشرّدهم.

[ 3 ] إنّ بالتدبر فی نفس القرائن [ التی ذکرها الشیخ لشبهة الدس ] یلحظ أنها مذیّلة بوجود التصفیة وفی فترات تاریخیة متعدّدة، وإنّ الروایات المدسوسة والرواة الکاذبة والکذابة ظاهرة ومعلومة من قبل الأئمة (علیهم السلام).

ص:439

ومرّة ثانیة نؤکّد علی أنّ إثارتنا لهذا التنبیه مع أنه صغروی ورجالی، إنما هی للتأکید علی أنّ الأخذ بخبر الواحد والعمل به لا یحسم بمجرّد إثبات حجّیته کبرویاً ما لم تعالج هذه الأبعاد الصغرویة فیه.

ص:440

التنبیه السابع: فی ضرورة معرفة اصطلاحات علم الحدیث
اشارة

إنّ من الضروری معرفة تقسیمات الحدیث فی علم الدرایة، فإنّ لها دوراً فی معرفة الصغریات المعتبرة لخبر الواحد؛ إذ کثیر من الشبهات التی نلحظها فی الوسط العلمی [ فضلاً عن الثقافی ] هو الغفلة عن تلک الأقسام.

الضعیف والمدسوس

فمثلاً الضعیف بالمعنی الأخص یقابل کلاً من الخبر المعتبر و المدلّس ، فی حین تصوّر البعض أنه فی قبال المعتبر فقط، مع أنّ الضعیف بالمعنی الأعم [ الشامل للمدلّس وغیره ] هو یقع فی قبال الخبر المعتبر فقط.

والبعض الآخر أفرط وجعل الضعیف مساویاً للمدلّس ، وهذا خطأ فاحش؛ لأنّ الضعیف [ فی علم الدرایة ] هو ما لم تتوفّر فیه شرائط الحجّیة [ الذی غالباً یرجع إلی عدم إحرازنا للوثاقة کما فی المهمل والمجهول والمرسل. ]

نعم، فی بعض الموارد یکون الراوی فاقداً لشرائط الحجّیة کالضبط ولکن لا یعنی ذلک أنه کذب فی هذه الروایة، بل حتی لو صرّح أنه کذّاب وأنه أکذب البریة أو وضّاع للحدیث.

ومن ثمّ لیس المدسوس من وصف الراوی بأنه کذّاب وإنما قامت قرائن علی أنه خبر موضوع فیحکم علیه أنه مدسوس، وأما فیما عدا ذلک فإنه لا یوجب أکثر من التوقف فی روایته.

فتلخّص: إنّ الضعیف بالمعنی الأخص لا یعنی المدسوس وإنما یقابله ویقابل المعتبر ، وکذا الضعیف بالمعنی الأعمّ لا یساوی المدسوس وإنما یشمله، وأنّ المدسوس لا یعنی أکثر من خبرٍ حکم علیه بالدس لوجود القرائن، وإلاّ صرف کذب الراوی لا یلزم کون روایته هذه مدسوسة؛ إذ الکاذب قد یصدق. نعم، وصفه بالکذب یوجب التوقف فی روایته.

ص:441

الصحیح والمعتبر

مثال آخر: اصطلاح الصحیح عند المتأخرین یختلف عن الصحیح عند القدماء وقد غفل عنه الکثیر من الأکابر، فإنه فی اصطلاح القدماء [ کما ذکر الشیخ البهائی ] یعنی المعتبر ، وفی اصطلاح المتأخرین یعنی العدل الإمامی.

ونحن وإن کنّا نقرّ الفرق إلاّ أنه لا نقبل الفارق الذی ذکره البهائی، بل هو الذی أوجب الغفلة عند الأخباریین حیث قالوا بصحة روایات الکتب الأربعة واعتبارها لشهادة مؤلفیها أنهم لم یذکروا فیها إلاّ الخبر الصحیح. وعند المحقّق النائینی حیث جزم بصحة روایات کتاب الکافی، لشهادة الکلینی بصحته، وأوجب ذهاب السیّد الخوئی إلی صحة روایات کامل الزیارات وتفسیر علی بن ابراهیم؛ لأنهم صرّحوا بصحة روایاتهم.

فی حین أننا بالتتبع ورصد القرائن وجدنا أنّ اصطلاح القدماء [ بمعنی الأکثر استعمالاً وإن استعملوه قلیلاً فی المعتبر ] یعنی الخبر الخالی من شبهة الدس فضلاً عن الحکم به، فیشمل کلاً من المعتبر و الضعیف بالمعنی الأخص. وإنما جاء الإصطلاح بهذا الشکل لقیام الطائفة بعملیة الغربلة والتنقیة للروایات، فاصطلحت علی ما تبقی بالصحیح أی الخالی من شبهة الدس والتدلیس. هذا وقد نوّهنا سابقاً إلی أنّ غالب استعمال القدماء للضعیف إنما هو الضعیف فی الجانب العلمی لا العملی.

الرؤیة المجموعیة

مثال ثالث: إنّ المنهج الصحیح هو التعامل مع الروایات برؤیة مجموعیة، فی حین دأب البعض العکس حیث یقیم کلّ روایة علی حدة، والحال أنّ التواتر والإستفاضة والوثوق ولید الرؤیة المجموعیة. والإختلاف فی ضابطة التواتر والإستفاضة لا یعنی إهمال هذه الرؤیة.

ص:442

وهذه النظرة الآحادیة لم تخص الطریق وإنما تسرّبت إلی الدلالة أیضاً.

فالصحیح هو الإهتمام بالرؤیة المجموعیة بعد دراسة کلّ روایة روایة علی حدة ولکن بعدها لابدّ من عطف النظر إلی ملاحظتها ککلّ.

والتواتر کما یعتمد علی الجانب الکمی والکیفی لابدّ من الإلتفات إلی عدم انحصاره باللفظی وإنما قد یکون تواتراً معنویاً وقد یکون إجمالیاً [ الذی ابتکره صاحب الکفایة واختلف الأعلام فی تفسیره. ]

واختلاف الروایات والطرق حسب صفات الراوی بدیهی، فالمجهول له أقسام والمرسل له أقسام. ومن ثمّ لا معنی لمعاملة کلّ ضعیف علی أساس أنه فی منتهی الضعف؛ إذ من الضعیف ما یکاد أن یکون معتبراً بل نجدهم یعتنون حتی بتقسیم المعتبر إلی درجات ولیس ذلک إلاّ بُغیة فتح الطریق أمام التواتر والمستفیض.

وبما تقدّم یتضح هشاشة المقولات [ ومدی الجنایة فیها علی التراث ] التی وردت فی شأن مثل المستدرک والبحار [ بأنّ جمیع روایات المستدرک والکثیر من البحار ضعیف، فلا ینفعان ] حیث تبلور أنها تنفع فی تحصیل التوثیق والإستفاضة والتواتر بأقسامه، ولکن الغفلة نشأت من الرؤیة والتعامل الآحادی التجزیئی مع الروایات.

والذی صار سبباً فی صدور مثل هذه المقولات وسبباً فی إهمال الکثیر من الروایات، دعوی أنها ضعیفة، فکان ذلک وراء تضییع کثیر من الحقائق وخفاء جملة من الأحکام.

ویتضح أیضاً أنّ عدم اعتماد الفلاسفة والمتکلّمین علی النقل فی العقائد [ بغضّ النظر عن فساد إطلاق المبنی کما تقدّم ] فی غیر محلّه؛ إذ الخوض فی النقل ضرورة، لأنّ من لم یمنع التعبد الفقهی یمکنه تحصیله من التواتر المفید للقطع، فکما أنه یتوخّی العلم من

ص:443

الأدلّة العقلیة القطعیة کذا لابدّ أن یتوخّاه من النقل بالأولویة، مع الإلتفات إلی أنّ التواتر المعنوی یحتاج إلی مهارة وتضلّع فی الروایات وفقهها خاصة وأنّ بعض المفادات ربما لا تکون مصنفة فی نفس الباب أو تحتاج إلی عارضة فقهیة قویة وإحاطة بالروایات.

وحتی مَن منع التعبد الفقهی فإنّ التواتر ینفع فی کونه وسطاً برهانیاً فلابدّ من التضلّع فی النقل من أجل الوصول إلی معارفهم (علیهم السلام) العلمیة.

بل حتی لو لم نقبل فکرة الوسطیة، فإنّ ترتیب المقدّمات فی البرهان لا یتمّ إلاّ بعد الفحص والتنقیب واستفراغ الوسع واستقراء کافة الإحتمالات، وهو لا یتمّ إلاّ بمراجعة النقل حتی الضعیف فإنه علی الأقلّ یعطی صورة احتمالیة فی البحث، ربما تغیّر من منحاه أو توسّع له أفقه وتُلفِتُه إلی زوایا أو أدلّة جدیدة فی المسألة.

ص:444

التنبیه الثامن: أدلة حجّیة الخبر هل تشمل الجانب العلمی أیضاً؟

إنّ مطابقة خبر الواحد للواقع یخضع لعاملین: الصفات العملیة کالعدل والصدق فی الراوی، والصفات العلمیة کالضبط والثبت وخبرته فی الروایات. ومن المسلّم تکفُّلُ الأدلّة [ أدلّة حجّیة خبر الواحد ] للجانب العملی [ کعدالة الراوی وصدقه ووثاقته ] وأما الجانب العلمی [ کخبرویته وضبطه ] فهل الأدلّة تشمله أو لا؟ فهذا تساؤل أثاره الشیخ عبدالکریم الحائری والمیرزا الآشتیانی (قدس سرهما). والظاهر من توثیقات الرجالیین [ حیث أنهم لا یکتفون بالجانب العملی کوثاقة الراوی بل یردفونه بالجانب العلمی کضبطه أیضاً ] أنّ الخبرة العلمیة [ ولو بحدّ أدنی ] لابدّ منها.(1)

وإثبات حجّیة الخبر فی الجانب العلمی بالأدلّة المتقدّمة ینفع فی مجال التمسک بالإطلاق بخلاف ما لو ثبتناه بالسیرة فإنها دلیل لبی لا إطلاق فیه.

بالمقابل إنّ الحجّیة إذا کانت بالبناء العقلائی فلا یقتصر فی الترجیح بالصفات العملیة فی باب التعارض علی خصوص ما ورد فی الروایات وإنما کلّ الصفات العلمیة ستکون مرجّحات وما ورد فی الروایات مجرّد أمثلة تشیر إلی البناء العقلائی العام، وأما إذا کانت الحجّیة تأسیسیة فیقتصر علی الصفات الواردة فی النص.

ص:445


1- (1) . [س] ولکن لما کان الخبر عن حس فلا یحتاج إلاّ إلی حافظة وذاکرة فالخبرة المطلوبة ما هو حدّها وکیف ننظر لها، نعم النقل بالمعنی یحتاج إلی خبرة. [ج] نحن لا نشترط شیئاً فی الجانب العلمی أکثر من توفر الآلیات التی لابد منها فی کلّ اختصاص، مثلاَ حفظ القرآن یحتاج إلی خبرة فی مجاله ولا یکفی مجرد الحافظة والذاکرة بل یحتاج إلی شیء من الإلمام بعلم التجوید والعربیة أیضاً حتی لا یحصل منه تخلیط، کذلک فیما نحن فیه لا یکفی صرف کونه عادلاً فی أفعاله أو لسانه مع حفظ جید وإنما لابد من شیء من الفهم فی الحدیث والعربیة، خاصة مع السماح بالنقل بالمعنی.

والذی حدا بنا لإثارة هذا التنبیه [ بعد أن ذکرناه فی مطلع البحث عن خبر الواحد ] الإشارة إلی بُعد صغروی فیه وهی إنّ کثیراً من المتأخرین أغفلوا الجانب العلمی فی الراوی واقتصروا علی الصفات العملیة، مع أنّ علماء الرجال آنذاک کانوا یتحرکون علی المحورین: محور العلم ومحور العمل. ومن ثمّ جاءت تقییماتهم علی شکلین: شکل مرتبط بالصفات العلمیة وآخر بالصفات العملیة. فلو دقّقنا مثلاً فی الطعن الرجالی علی سهل بن زیاد نلحظ أنه مرتبط بخلل فی الرجل فی صفاته العلمیة.

ولا یخفی أنّ الحاجة إلی أصالة الضبط إنما نحتاجها فی حالة الشک فی صورة المتن أو السند وهی محددوة بالقیاس إلی الصفات العملیة، فإنّ الشک دوماً موجود فی وثاقة الراوی وصدقه مما یجعلنا بحاجة مستمرة إلی التوثیق.

ص:446

ص:447

7 . حجّیة الظن المطلق

اشارة

ص:448

ص:449

إنّ هذا البحث هو البحث فی البدیل عن الحجج الخاصة [ علی فرض عدم تمامیة أدلّتها وعدم ثبوت حجّیتها ] ففی تلک الحال ننتهی إلی حجّیة الظن المطلق. وبالتأمل فی کلمات القدماء نجد أنهم لا یریدون حجّیة مطلق ظن المجتهد کیفما حصل وإنما الظن الحاصل من مناشئ وموازین خاصة.

وعلیه فهذا البحث لکلّ من بنی علی حجّیة الظنون الخاصة تعلیقی فرضی، ولکن من الضروری الوقوف عنده لوجود فوائد عامة مهمة فی هذا البحث.

من فوائد هذا البحث

التمییز بین الحکم الأصولی والحکم الفقهی جاء بصورة رائعة فی کلمات المحقّق الإصفهانی [ حیث صوّر الحکم الأصولی محرزاً للحکم الفقهی وکاشفاً عنه وناظراً إلیه، بینما الحکم الفقهی یفقد خاصیة الإحراز حیث یتعلّق بالفعل لیس أکثر. ]

ولکن فی البحث عن الظن المطلق وخاصة فی دلیل الإنسداد تثار نکتة أروع تُوسِّعُ من مساحة الحکم الأصولی وتُعمّمه إلی المحرز للحکم الأصولی أو الفقهی [ وهو ما عبّرنا عنه بترامی الحجج ] من قبیل جریان الإستصحاب فی الحکم الأصولی، وملاک الأقوائیة فی ترجیح الظن الأقوی علی الضعیف. وقد جاءت هذه اللفتة فی کلماتهم بصیاغات متعدّدة من قبیل الظن علی الظن.

ص:450

1 . أدلّة حجّیة الظن المطلق

اشارة

الأعلام قد بذلوا غایة جهدهم فی تنقیح هذا البحث فأقاموا علی حجّیة الظن المطلق دلائل، رابعها هو المعروف بدلیل الإنسداد وسنقف عنده طویلاً بعد استعراض سریع لسائر الأدلّة.

الدلیل الأول: وجوب دفع الضرر المحتمل
اشارة

وهو دلیل قیّم یستدلّ به فی العقائد وفی بحث الإجتهاد والتقلید وفیما نحن فیه. و تقریبه أنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه [ من الحکم الوجوبی أو التحریمی ] مظنّة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغری فلأنّ الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقوبة علی مخالفته أو الظن بالمفسدة فیها [ بناء علی تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد ] وأما الکبری فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون.

التحقیق فی الظن بالعقوبة الأخرویة

وقد علّق صاحب الکفایة علی الکبری بأنها لا تعتمد علی التحسین والتقبیح فقط [ کما تخیله العضدی ] لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما فتوجد أدلّة أخری کالضرورة الفطریة والطبعیة الغریزیة التی یشترک فیها الإنسان والحیوان.

فالکبری مسلّمة، ولکن إلی حدٍّ مّا حیث ناقش السیّد الخوئی فی إطلاقها حیث لا یسلّم الکبری فی الضرر الدنیوی فی الجملة.

کما علّق صاحب الکفایة (قدس سره) علی الصغری [ وهو بحث حساس بوّابة للبحث فی الأصول العملیة ] بأنّ الملازمة بین الظن بالحکم والظن بالعقوبة الأخرویة ممنوعة، فإنّ صرف الظن بالحکم [ ولو لم یکن منجّزاً ] لا ینتهی إلی الظن بالعقوبة، وإنما الملازمة بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبة علیها، لا بین مطلق المخالفة

ص:451

والعقوبة بنفسها، وبمجرد الظن به بدون دلیل علی اعتباره لا یتنجّز به کی یکون مخالفته عصیانه.

ثمّ یتراجع صاحب الکفایة عن هذه الملاحظة بأنّ الظن بالحکم الشرعی [ علی الأقلّ ] یلازم الشک فی العقوبة، فتتحقق صغری الدلیل. فإنّ ظنّ المجتهد وإن لم تثبت حجّیته ولا منجّزیته إلاّ بعد إحراز الصغری، ولکن لم یقم دلیل أیضاً علی عدم الحکم الواقعی ومن ثمّ سنشک فی العقوبة لعدم المؤمّن لها.

ولا یخفی أنّ الأعلام قبلوا إشکال صاحب الکفایة وناقشوه فی تراجعه بأنّ مع وجود البراءة العقلیة لا یشک فی العقوبة.

التحقیق فی المسألة

ولتحقیق الحقّ نلفت الإنتباه إلی أمور:

[ 1 ] إنّ جملة من الأعلام لا یقبل البراءة العقلیة ونحن أیضاً نمنع البراءة العقلیة [ ولکن بدلیل یختلف عن دلیل المحقّق الإصفهانی والصدر، بدعوی أنّ حقیقتها عقلائیة ترجع إلی العقلیة ولم یعمّمها العقلاء إلی التقنین الشرعی، فلابدّ من براءة شرعیة وإلاّ فالإحتیاط، والتفاصیل لاحقاً فی بحث البراءة إن شاء اللّه ] وعلیه فیبقی تراجع صاحب الکفایة علی حاله.

[ 2 ] مع فرض فقدان الأدلّة الخاصة و وصول النوبة إلی الدلیل العام [ إذا کان بعض أدلّتها قرآنیة وصریحة فی عموم الشبهات الحکمیة ] فهل من المعقول التمسک بالبراءة العقلیة أو الشرعیة؟ لأنّ المفروض وجود شریعة معلومة یعدم موضوع البراءة العقلیة والشرعیة إجمالاً. ولیس هذا من باب منجّزیة العلم الإجمالی، بل نتمسک بالعلم الذی هو موضوع لا بمحموله الذی هو المنجّزیة.(1)

ص:452


1- (1) . [س] ولکن البیان فی قاعدة «قبح العقاب بلا بیان» یعنی الحجّة، والحجّة یعنی المنجّز، فالرافع لموضوع البراءة تنجیز العلم لا ذاته. وأما التعبیر ب-«الحجّة» فإن کان لتعمیمه إلی الظن الخاص فنسأل أنه قبل التعمیم کان العلم وبعد التعمیم أصبح المنجّز. ثمّ ما هو الإصرار علی تصویر أنّ الرافع لموضوع البراءة هو العلم لا منجّزیته. [ج] لا إصرار سوی أنه ورد فی النص هکذا حیث قال «بلا بیان» ولم یقل «بلا بیان منجّز».

وهذا هو سرّ مقولة صاحب الکفایة من أنه لا دلیل علی عدم الشک، ولکن لابدّ من التقیید ب-«اجمالاً»، کما قیّدنا نفی العلم لموضوع البراءة عموماً وإجمالاً، وذلک للتنویه علی أنه إذا امتثلت الأحکام المثبتة وانحلّ العلم الإجمالی لا یبقی علم بوجود شریعة فلا ینعدم موضوع البراءة فیمکن التمسک بها فی الباقی حیث یکون الشک فیه بدویاً.

[ 3 ] کیف صوّر الأعلامُ البرائةَ فی ردّ کلام صاحب الکفایة (قدس سره) مع أنّ هناک تدافعاً بین قاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» وقاعدة «قبح العقاب بلا بیان»، حیث یصوَّر ورود الأولی علی الثانیة [ لأنها بیان عقلی ] و ورود الثانیة علی الأولی [ بأنّ المقصود من البیان هو العلم. ]

وقد ذکر الشیخ الأنصاری (قدس سره) وجوهاً للحلّ من دون جزم، وإن کان الأعلام لا یبنون عملاً علی التعارض اعتماداً علی التسالم وما شابه، ومعه کیف قدّموا البراءة بضرس قاطع ولم یعکسوا؟ وعلی الأقلّ کان المفروض أن یترددوا بعد أن لم یکن هناک وجه قاطع للتقدیم.(1)

ص:453


1- (1) . [س] أولاً: إذا قبلنا قاعدة وجوب الدفع بیاناً فهی بیان علی متعلّقه [الضرر المحتمل] ومن ثمّ لم یتضح ورود قاعدة القبح علیها. ثانیاً: فی النتیجة الأعلام قد انتهوا إلی عدم التعارض وتقدیم البراءة ولو بالتسالم فلا معنی لترددهم هنا. ثالثاً: إنّ الإشکال نفسه یأتی علی الآخوند الذی جزم بالملازمة فانطباق قاعدة وجوب الدفع. [ج] أولاً: قاعدة الدفع تنجز الواقع المحتمل، وقاعدة القبح تقول إنه غیر منجّز ما لم یحصل علم بالواقع، فیبقی التدافع قائماً کما هو واضح. ثانیاً: ما ذکروه من وجوه للجمع هناک مثل إجراء قاعدة الدفع قبل الفحص وقاعدة البراءة بعدها لا ینسجم مع ما ذکروه هنا، بخلاف ما ذکره الآخوند خاصة بالبیان الذی شیّدنا به نظره. ثالثاً: ولکنّا بالتصویر الذی ذکرناه لتشیید کلام الآخوند یتضح وجه عدم تردده فی المقام.

فتبلور أنّ غایة ما یثبت بهذا الدلیل هو مقدّمة من مقدّمات الإنسداد فلا یثبت حجّیة الظن المطلق من دون ضمّ باقی مقدّمات الإنسداد.

وذلک لأنّ القاعدة تثبت ضرورة تجنّب الضرر المحتمل فینتج ضرورة الإحتیاط فی غالب الفروع لا الظن المطلق، فلابدّ من إبطال الإحتیاط وسائر الطرق الأخری کالأصول العملیة المثبتة وتقلید من قال بالإنفتاح حتی تصل إلی حجّیة الظن المطلق، وهذا هو دلیل الإنسداد.(1)

والغریب من الأعلام الخدشة فی هذا الدلیل مع أنهم یقبلوه دلیلاً علی مقدّمة من مقدّمات الإنسداد کما سیأتی.

التحقیق فی الضرر الدنیوی

وأما الضرر الدنیوی فقد علّق صاحب الکفایة علیه [ 1 ] بأنا وإن لم نکن أشعریة ولکن لیس شرطاً أن تکون المصلحة فی المتعلّق؛ إذ قد تکون فی التشریع ومن ثمّ لا ملازمة بین الظن بالحکم والظن بالضرر الدنیوی.

[ 2 ] مضافاً إلی أنه لو سلّمنا انحصار المصلحة فی المتعلّق

ولکن لا نسلّم أنّ فی تفویت مصلحة الأحکام الوجوبیة مفسدةً، ولا

ص:454


1- (1) . [س] ولکن بالبیان الذی ذکرتموه ینتج حجّیة الظن المطلق إذ به ینحل العلم الإجمالی ولا یبقی علم بوجود شریعة وإنما شک بدوی فلا حاجة إلی ضمّ باقی المقدّمات. [ج] ینتج لنا الإحتیاط فی الظن وإن شئت قل حکم العقل بضرورة الإمتثال الظنی ولیس هذا هو الظن علی الحکومة لأنه یعنی حجّیة الظن بما هو طریق وکاشف عن الواقع بحکم العقل وهذا یختلف بفارق دقیق عن الإحتیاط فی الظن جوهراً وأثراً کما سنبیّن. [وسیأتی من شیخنا الأستاذ فی المقدّمة الرابعة عدم الفرق بین الظن علی الحکومة والإحتیاط فی الطرق، وسیشیر هناک إلی الفارق الدقیق ویجیب عنه.] المقرّر

نسلّم أنّ ارتکاب الضرر الدنیوی والمفسدة فی الأحکام التحریمیة محرّم مطلقاً؛ إذ الضرر الذی یجب اجتنابه هو الضرر البالغ أو الإجتماعی النظامی. وقد تابع الأعلامُ صاحبَ الکفایة فی إشکالاته.

ولکن یرد علی الإشکال الأول أنّ غالب التشریعات مصالحها ومفاسدها فی متعلّقاتها؛ لأنّ الدلیل العقلی والنقلی علی إبطال مدّعی الأشاعرة یقتضی بنفسه کونها فی المتعلّقات غالباً.

ویرد علی الإشکال الثانی أنّ التشریعات النظامیة [ سواء کانت وجوبیة أم تحریمیة ] وإن ترتّب علیها الضرر الإجتماعی إلاّ أنه یعود فی الأخیر إلی الفرد ولو بوسائط، بل مع عدم عوده إلی الفرد إلاّ أنّ الإضرار بالمجتمع أیضاً حرام عقلاً ونقلاً «لا ضرر ولا ضرار»، کما أنه سیأتی فی بحث «لا ضرر» أنّ الصحیح حرمة الإضرار بالنفس وبالغیر کما علیه المشهور مطلقاً، لا مرتبة منه کما ذکر الآخوند والسیّد الخوئی (قدس سرهما).

تفویت المصلحة هل هو ضرر؟

وأما کون تفویت المصلحة ضرراً، فهو یرجع إلی أنّ التشریع الإلهی هل یتکفل إسعاد الفرد فی الدنیا والآخرة معاً أو فی الآخرة فقط؟ والتمرّد علی التشریع هل یسبّب شقاوة الإنسان فی الدنیا أیضاً أو فی الآخرة فقط؟

وعندما ندقّق فی کلام صاحب الکفایة [ من عدم شرطیة وجود المصلحة فی المتعلّق ] نلحظ أنه یری أنّ التشریع یهتمّ بعمارة الآخرة دون الدنیا إلاّ أنّ المعروف تقسیم التشریع إلی عبادات ثمّ ما یرتبط بعلاقة الإنسان بمجتمعه.

وفی الأول أثبتت الأدلّة وجود مصالح تبعیة تعود علی المجتمع من قبیل (تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ) (1). وفی الثانی دلّ الدلیل علی أنّ مصلحتها فی متعلّقاتها، وأنّ التشریع فیها یؤمّن سعادة الإنسان فی

ص:455


1- (1) . العنکبوت/ 45

دنیاه وآخرته. فالنتیجة أنّ هذا التقریب للملازمة تامّ فی نفسه إلاّ أنه کسابقه لا ینتج لنا إلاّ مقدّمة من مقدّمات الإنسداد لا أکثر.

هذا وإنّ الحدیث فی الکبری والصغری وإن جاء بطابع أصولی، إلاّ أنّ الوجه الآخر للبحث أو خلفیة البحث عقائدیة؛ حیث إنّ التقریب [ بعد أن کان تاماً فی نفسه علی صعید الکبری والصغری ] یصلح بیاناً لضرورة الدین والتشریع.

ومن ثمّ لیس البحث فی الضرر الدنیوی بما هو ضرر دنیوی بحت لا صلة له بالأحکام الشرعیة کالضرر المحتمل من مواجهة حیوان مفترس فیبحث عن حرمته، وإنما یصبّ مصبّ الضرر الأخروی فی صالح ضرورة الدین والشریعة.

نعم، الإستفادة من هذا الدلیل أصولیاً ینتج لنا نتیجة إثباتیة وهی ضرورة الإلتزام بالتشریع.

ثمّ انّ الدلیل یثبت لنا أنّ الدین والشریعة ضرورة بشریة حیث لا تستغنی عن الدین. وهذه الضرورة غیر الضرورة عنه وإن فعل التشریع مفروض صدوره عنه تعالی وإن کان یترتب وجود الدین علیها إلاّ أنّ الحیثیة مختلفة.

الدلیل الثانی: رجحان العمل بالظن

إنّ العمل بالظن عمل بالراجح وترکه عمل بالمرجوح وهو مما یقبحه العقل. وبالإلتفات إلی هذا الدلیل یتضح أنه یثبت مقدّمة من مقدّمات الإنسداد [ وهی المقدّمة الخامسة. ]

ویؤاخذ علیه أنه لم یثبت ضرورة الأخذ بالظن إذ لم یثبت المقدّمة الأولی [ وهی العلم بوجود أحکام شرعیة إلزامیة ] کذا لم یثبت المقدّمات الأخری حتی تصل النوبة إلی المقدّمة الخامسة.

الدلیل الثالث: ما ذکره صاحب الریاض

لا شک فی وجود أحکام إلزامیة فی الشریعة یلزم امتثالها

ص:456

والإحتیاط المطلق فیها [ الذی هو مقتضی العلم ] ولکنّه یعارض قاعدة العسر والحرج المنفیین فی الشریعة، فالجمع بین حکم العقل بالإحتیاط ودلیل نفی العسر والحرج هو الأخذ بالمظنونات.

ویلاحظ علیه أنه کسابقه لا یثبت أکثر من مقدّمة من مقدّمات دلیل الإنسداد، مضافاً إلی أنّ ما ذکره لا یوصل إلی حجّیة الظن؛ لأنّ مقتضی الجمع هو الإحتیاط فی المظنونات، وهو غیر حجّیة الظن بما أنه طریق معتبر، فإنّ الإختلاف بینهما جوهریاً وعلی صعید الآثار کما سیتضح فی دلیل الإنسداد، کما أنه لم یبیّن سرّ عدم جریان الأصول العملیة المثبتة والمفرّغة.

الدلیل الرابع: دلیل الإنسداد

مقدّمة فی بیان أهمیة دلیل الإنسداد وبیان عموم فائدته وأنه لا یتلخص بحدود ما استفید منه فی بحث الإنسداد [ وهو حجّیة الظن المطلق ] فإنه واحدة من صغریاته وجزئیاته وتطبیقاته. إنّا وإن اخترنا حجّیة الظنون الخاصة إلاّ أنّ ذلک لا یمنع عن الحدیث فی دلیل الإنسداد [ المثبِت لحجّیة الظن المطلق ] وذلک لوجود عدّة فوائد تترتب علیه، منها: تأمین دلیل أصولی إضافی مع لحاظ أنّ دیدن أساطین الفن عدم الإکتفاء بدلیل واحد فی المسألة سیما إذا کانت من المسائل الأم.

والجذر المنطقی لهذه العادة أنّ التعدّد [ مع فرض صحّة کلّ الأدلّة ] یکشف عن زوایا مختلفة للواقع، مما یفتح مجالاً لفرضیات أمتن وأکثر شمولیة.

وأما مع خطأ بعض الأدلّة أو صوابه فی نفسه إلاّ أنه لا یثبت المطلوب ففائدة تعدّد الأدلّة تتجلی أکثر.

إنّ دلیل الإنسداد صار سدّاً ومانعاً عن کثیر من الشبهات المعاصرة التی استهدفت التراث، فإنا لو سلّمنا جدلاً بما ذکر من

شبهات فإنها لا تنتج رفع الید عن الدین والأخذ بالطرق المعهودة

ص:457

وإنما تنتج الإنسداد فحجّیة الظن المطلق.

وقد سبق منّا عرض مجموعة من هذه الشبهات فی بحث الظهور، التی حاولت [ عن قصد أو لا عن قصد ] القضاءَ علی الطرق المعهودة فی عملیة استنباط الحکم الشرعی، وقد أجبنا عنها، ولکن نضیف هنا أنّ تلک الطروحات لو تمت لا تنتج حجّیة الإجتهاد الشخصی وتصویب کلّ الآراء؛ لأنّ النوبة تصل إلی الإنسداد المنتج لحجّیة الظن المطلق، بعد الإلتفات إلی أنّ المراد به الظن النوعی لا الشخصی، ومن ثمّ یبقی الإستنباط منوطاً بالنوع وبالتراث الذی خلّفه السلف وبالطرق التی شیّدها الأعلام.

ولکن مع کلّ هذه الفائدة فأهمیة بحث الإنسداد أوسع من ذلک بکثیر. وبیانه یتمّ عبر نقاط:

[ 1 ] إنّ الشارع کما لم یستحدث لغة لسانیة خاصة به فی خطابه مع الآخرین، کذا لم یستحدث لغة قانونیة خاصة به وإنما جری علی ما هو مرتکز قبل الإسلام، ومن ثمّ الخصوصیات والأقسام والأحکام الموجودة فی قانون الإسلام موجودة بعینها فی لغة القانون البشری.

ولا یعنی ذلک أنّ الشارع أمضی کلّ القضایا القانونیة، وإنما المفردات التصوریة القانونیة هی التی جری علیها الشارع، وأما علی المستوی التصدیقی فقد یمضی وقد یردع، بل قد یغیّر بعض المفردات التصوریة کما فی الحقیقة الشرعیة والصحیح والأعمّ.

[ 2 ] إنّ ما جری فی کلمات الأعلام من التعبیر بالسیرة العقلائیة ودیدن العقلاء وبنائهم وارتکازهم یقصد منه التقنین العقلائی الذی فشی وانتشر وشاع. فالسیرة صفة عرضیة للتقنین، ومراد الأعلام من السیرة هو الموصوف الذی اتصف بهذا الوصف. ومن ثمّ لابدّ أن تلحظ السیرة کقانون لا کعادة مسترسلة غیر منضبطة.

کما لابدّ حینئذ أن لا ینظر إلی بناءات العقلاء بشکل مجزّء ومبعثر وإنما لابدّ من دراستها ککلّ لمعرفة تناسبتها وتسلسلاتها الهرمیة؛ لأنّ القانون عبارة عن منظومة متکاملة.

ص:458

[ 3 ] بعد أن اتضح أنّ السیرة قانون والقانون شریعة ومنظومة، وأنّ الشارع لم یستحدث لغة جدیدة علی صعید القانون وبموجب ما ذکرنا فی نقطة [ 1 ] یظهر أنّ تنظیم العلاقة بین المنظومتین [ الشرعیة والعقلائیة ] یتمّ علی اشتراک البنیة التحتیة والحجر الأساس لها وهو الأحکام العقلیة النظریة والعملیة البدیهیة، وأیضاً أنّ المنظومة الشرعیة فی طول المنظومة العقلائیة وناظرة لها، حیث لم ینسخ الشارع شریعة العقلاء وإنما أقرّها مع تهذیب وإضافة.

وعلاقة ثالثة بینهما هی الإنسداد، فإنه یشکّل رابطاً بین التقنینین العقلائی والشرعی حیث أنه یوصلنا إلی إمضاء الشارع لتقنین العقلاء فی موارد متعدّدة التی منها الظن المطلق.

ومنها: نظم الحکم ونظم القضاء العقلائیة، فإنّ الإنسداد یلعب دوراً فی الکشف عن مطابقة الشارع وإمضائه لهذه القوانین شریطة عدم اصطدامها مع العمومات الشرعیة الواردة فی مجال الحکم والقضاء.

ومنها: الجهاد الإبتدائی حیث کانت واحدة من أدلّته [ التی أقامها السیّد الخوئی (قدس سره) ] هی الإنسداد.

ومنها: ولایة المؤمنین العدول، فإنّ الإنسداد وسیط فی إمضاء الشارع.

ومنها: باب النسب والأوقاف وغیرهما التی ورد فیها النص، إلاّ أنّ عدّة من الفقهاء اعتبروا مدرک العمل بالظن والشیاع فیها هو الإنسداد الذی یکشف عن إمضاء الشارع لموازین العقلاء وأنّ الروایة تقریر وإمضاء لا تأسیس.

ومنها: لزوم إقامة الحکم حیث یستدلّ علیه [ من بین أدلّته ] بالإنسداد.

ومنها: باب الظنون الرجالیة، حیث أثبتوا حجّیة الموازین العقلائیة بالإنسداد الصغیر.

هذا وإنّ کثیراً من سجالات الأعلام فی هذه الحالات وغیرها لیس

ص:459

فی حجّیة الإنسداد وعدمه وإنما فی أنّ مقدّمات الإنسداد هل هی متوفّرة أو لا؟ وفی کیفیة صیاغة مقدّمات الإنسداد.

وبتعبیر أکثر وضوحاً إنّ الإنسداد هو ضابطة لمعرفة الإمضاء الشرعی فی مجالات تقنینیة عقلائیة متعدّدة ولا یخص الظن ویتبلور ذلک أکثر عند مطالعة مقدّماته، ولکن الأعلام فی عرضهم للمقدّمات خلطوها بصغری مورد الظن.

ومن ثمّ سنعرض لهذه المقدّمات بشکل سریع ثمّ نأخذ بفرزها وتقشیرها عن الصغری لیتبلور کبرویة دلیل الإنسداد.

ص:460

2 . مقدّمات دلیل الإنسداد

اشارة

یتشکّل دلیل الإنسداد من مقدّمات:

المقدّمة الأولی: إنّ هناک علماً بالشریعة.

المقدّمة الثانیة: باب العلم والعلمی إلی معظم أحکام الشریعة منسدّ.

المقدّمة الثالثة: إنّ العلم بالشریعة منجّز عقلاً، وقد یعبّر: إنا نعلم أنّ الشارع لا یرضی بترک تلک الأحکام.

المقدّمة الرابعة: إنّ الإحتیاط التام والبراءة الشرعیة والعقلیة والأصول العملیة [ المثبتة والنافیة ] وتقلید من یری الإنفتاح کلّها غیر حجّة.

المقدّمة الخامسة: یدور الأمر بین الأخذ بالظن أو مقابله. والعقل یحکم بلزوم ترجیح الراجح علی المرجوح.

ینتج حجّیة الظن [ عقلاً أو شرعاً ] أو الإحتیاط فی الظن.

بعد هذا العرض السریع نأخذ بعملیة الفرز والتقشیر کی نصل إلی مقدّمات الإنسداد الکبروی.

ترمیم المقدّمات

أما المقدّمة الأولی فلابدّ أن تصاغ کالتالی: العلم بغرض شرعی مهم أو العلم بوجود أحکام شرعیة، ولا مبرّر للحصر فی الثانی.

وأما المقدّمة الثانیة فلابدّ من ترمیمها بانسداد الإعتبار الشرعی الواصل أعمّ من أن یکون أصولیاً أو فقهیاً.

وأما الثالثة فتکمل بأنّ العلم بالشریعة والغرض منجّز أو عدم رضا الشارع بترک الأحکام والأغراض عموماً وخصوصاً.

وأما الرابعة فصیاغتها الجدیدة هی إبطال الطرق والوظائف المذکورة فی المورد المطلوب إثباته.

و الخامسة تستبدل بتعین الأخذ بالقانون العقلائی المفروض فی

ص:461

ذلک المورد.

وجه اجراء التعدیلات

وإنما أجرینا التعدیل علی المقدّمة الأولی لأنّ الفقیه قد لا یعلم بالحکم وإنما یعلم بالأغراض [ المعبّر عنه فی کلمات أهل السنّة ] بالمقاصد أو روح الشریعة أو علّة الحکم أو فلسفة الأحکام ونعبّر عنه بالعمومات الفوقانیة بالمعنی الثانی تمیزاً له عن العموم الفوقانی فی الرائج الذی یمکن تطبیقه بسهولة علی مصداقه، بینما المعنی الثانی فهو یحتاج فی تطبیقه وتنزّله إلی تشریع وجعل لمصادیقه ] أی یعلم بالتشریعات الفوقانیة ولا یعلم بتنزّلاتها الشرعیة.

ثم إننا استبدلنا التعبیر لضبط المسألة وعدم الوقوع فی خداع تلک التعبیرات التی قادت البعض إلی المصالح المرسلة وأمثالها، فی حین أنّ تعبیرنا یعنی أنها تشریع ولکنّه من قسم التشریعات الدستوریة.

فلابدّ للفقیه من تحدید العمومات الفوقانیة فی کلّ باب ومن تشخیص الآیات والأحادیث النبویة المرتبطة بکلّ باب کی تأتی عملیة الإستنباط سلیمة.

بعد کلّ هذا یعرف أنّ الإنسداد یصلح وسیلةَ کشفٍ عن إمضاء الشارع لتقنینات العقلاء التی هی تنزّلات للعمومات الفوقانیة.

کما أنّ وجه التعدیل علی المقدّمة الثانیة أصبح واضحاً بعد أن عُرّف إمکان الإستفادة من دلیل الإنسداد فی المجال الفقهی أو فی مسائل اصولیة غیر الظن المطلق أو فی باب الرجال.

والمقدّمة الثالثة هی أساساً لأجل بیان التنجیز عقلاً أو شرعاً بأن یکون هناک علم آخر غیر المذکور فی المقدّمة الأولی [ وهو العلم بعدم رضا الشارع بترک الحکم أو الإهمال فی الأحکام ] ومن ثمّ فسعتها وضیقها تابعة للمقدّمة الأولی، وحیث قد وسّعناه فلابدّ من توسعة المقدّمة الثالثة.

ویمکن صیاغتها بصیاغة شرعیة أخری وهو أنه یلزم من ترک

ص:462

امتثال الأحکام محاذیر لا یرضی بها الشارع کالخروج عن الدین أو الهرج والمرج [ کما فی ترک القضاء والقصاص ] ومن ثمّ کانت واحدة من أدلّة الفقهاء علی لزوم إقامة الحدود فی عصر الغیبة هو دلیل الإنسداد بالصیاغة هذه للمقدّمة الثالثة.

وأما المقدّمة الرابعة [ والتی مضمونها إلغاء سائر الحلول القانونیة - أصولیة کانت أو فقهیة - عدا حلّ واحد کالظن فی مسألة حجّیة الظن المطلق ] فلا تخفی وُعُورة هذه المقدّمة؛ إذ تفرض علی الفقیه الإحاطة والتضلّع بکلّ القوانین المحتملة التی قد تکون موزّعة علی أبواب مختلفة وذات درجات مختلفة، فیحتاج الفقیه إلی خبرة عمیقة فی الحلول القانونیة والمعادلات الفقهیة، وهذا ما یفتقده الکثیر، بالإضافة إلی ضرورة استحضاره للشرائط العامة کشرائط التکلیف وشرائط العقود.

کما لابدّ من التفاته إلی العمومات الناهیة وشرائط المنع العامة کحرمة الربا وعدم الغرر فی المعاملات ودرء الحدود بالشبهات، وربما تفوق هذه العمومات علی العمومات السابقة فی الأهمیة.

مع الإلتفات إلی أنّ بعض العمومات الفوقانیة قد تنضوی تحتها جعول نازلة من دون أن یظهر منها هذا التنزیل الجعلی [ لتباین بعضها مع البعض ظاهراً. ]

هذه اللفتات وأمثالها لابدّ من مراعاتها وهو لا یکون إلاّ مع التضلّع والخبرة العالیة فی الفقه.

بعد کلّ هذا نکرر ثانیة صیاغة المقدّمة الرابعة للإنسداد الکلّی بإلغاء کلّ الإعتبارات الشرعیة الأخری سواء کان أصولیاً أم رجالیاً أم فقهیاً عدا الخیار المذکور فی المقدّمة الخامسة [ والذی هو الإعتبار العقلائی ] فیکتشف إمضاؤه شرعاً ببرکة هذا الإنسداد.

التحقیق فی المقدّمة الأولی

ص:463

صاحب الکفایة (قدس سره) [ ککثیر من المحقّقین ] ادّعی انحلال العلم الإجمالی الکبیر [ العلم بوجود تکالیف وأحکام شرعیة ] بالعلم الإجمالی الصغیر [ وهو العلم بوجود أحکام فی الروایات الواصلة إلینا المدونة فی الکتب الروائیة ] إذ لا علم بالتکالیف وراء هذا العلم.

ومع انحلال العلم وتبدّل المقدّمة الأولی لا تتوفّر باقی المقدّمات [ التی أهمّها إبطال الإحتیاط من خلال لزوم الحرج واختلال النظام ] إذ لا یلزم کلّ ذلک من الإحتیاط فی الأخبار.

والسیّد الأستاذ الروحانی (قدس سره) شیّد هذه اللفتة ببیانٍ یخرج به کلام صاحب الکفایة (قدس سره) عن مجرّد الدعوی إلی کلام رصین متین(1) و انتهی إلی أنّ دعوی العلم الإجمالی ثمّ وجوب الإحتیاط لا ینهض علی إثبات حجّیة الخبر بالمعنی المطلوب فی باب الحجّیة من صلاحیته لتقیید المطلقات وتخصیص العمومات وسائر وجوه التألیف الدلالی بین الأدلّة.(2)

فالنتیجة واحدة، سوی أنه لابدّ من علاج بعض الإشکالات:

[ 1 ] الإشکال بالفرق، حیث إنّ الدلیل الخاص صالح لتقیید المطلقات وتخصیص عمومات الکتاب والأحادیث النبویة المتواترة، بخلاف ما إذا لم یکن بحجّة.

والجواب: بل یمکن حتی مع الإحتیاط المزبور لوجود علم إجمالی بصدور مخصصات لعمومات الکتاب والأحادیث النبویة، ومثل هذا العلم یسقطها عن الحجّیة ولابدّ من الإحتیاط ولا یکون إلاّ بالتألیف بینها وبین الأخبار المقیدة.(3)

ص:464


1- (1) . منتقی الأصول، ج 4، ص 313 و 314
2- (2) . منتقی الأصول، ج4، ص 314
3- (3) . [س] ولکن إذا کان العام إلزامیاً فالإحتیاط یقتضی التمسک به لا تخصیصه بالخبر الدالّ علی الترخیص. [ج] هذا صحیح لو کان العلم الإجمالی هو العلم بوجود أحکام فی الواقع فی مورد الأخبار، أو بتعبیر آخر: العلم بالحکم فی مورد الأخبار بلحاظ الواقع، ولکن المدّعی لیس کذلک، وإنما العلم بالحکم فی الأخبار بلحاظ قناة الأخبار. والإحتیاط فی مثله لا یکون إلاّ بما ذکره السیّد. وهذا بالضبط نظیر ما یقوله الأخباریون من أنّ الحکم لا قیمة له من نفسه ما لم یکن من قناة الخبر وصادراً من فم المعصوم (علیه السلام)، فلا علم بالحکم فی غیر هذه الصورة، إذ الخبر وصدوره من فم المعصوم (علیه السلام) له موضوعیة. وعلیه فالعلم الإجمالی الصغیر هو العلم بوجود أحکام من قناة الخبر وهذه الأخبار التی یبلغ عددها عشرة آلاف مثلاً تصبح بالتألیف ألفین فقناة الخبر هی المحصل من هذا التألیف، بخلاف ما لو کان العلم متعلّقاً بوجود الأحکام فی الواقع فی مورد الاخبار ودائرتها فإنّ کیفیة الإحتیاط ستأخذ لوناً آخر حینئذ.

[ 2 ] إنّ مقتضی الإحتیاط العملُ بالأصول المثبتة فی مورد الروایات المرخصة.

والجواب: هناک علم إجمالی بصدور أخبار فی موردها یوجب سقوطها عن الحجّیة.

والحقّ قبول دعوی صاحب الکفایة (قدس سره) [ من انحلال العلم الکبیر بالعلم الصغیر ] ویکفی فی الدلیل علی ذلک إجماعُ الإمامیة العملی علی الإقتصار علی الأخبار وإجراء البراءة فی ما عداها، حتی الشیخ الذی أنکر الإنحلال یجری البراءة بل وحتی فی الخبر الضعیف.

بالإضافة إلی أنّ إشکال الشیخ علی الإنحلال لو تمّ یرد حتی علی القول باعتبار الظن الخاص، لأنّ صرف اعتبار الظن لا یکفی فی انحلال العلم ما لم یتطابق المعلوم الصغیر مع المعلوم الکبیر وقد نفاه الشیخ.

ولکن تختلف مع الآخوند فی نفیه العسر والحرج واختلال النظام فی الإحتیاط [ لوضوح وجوده فی المعاملات بالمعنی الأعمّ ] بل امتناعه؛ إذ لیس من المعقول إقامة النظام الإجتماعی بکلّ حیثیاته علی الإحتیاط واستبدال القانون به.

وأما فی العبادات فیمکن القول بانتفاء الحرج الشخصی، إلاّ أنّ تعمیمه [ بحیث یصبح ظاهرة عامة فی أوساط المکلّفین ] یوجب

العسر والحرج النوعی، وهو منفی فی الشریعة کما سنبیّن.

ص:465

کما یلاحظ علی السیّد الروحانی (رحمه الله) أنّ تحدید قدر الأحکام الواصلة لا یمکن أن یتمّ من خلال التألیف بین الأخبار؛ لأنه بعد فرض عدم اعتبار الظن الخاص والعام لا ینفی للتألیف شرعیة، فیکف نرتکب التخصیص مع أنّ العام یصدق علیه أنه خبر فی کلّ دائرته؟ لولا أنّ الخاص أقوی ظناً، وصرف الإحتیاط ومنجّزیة العلم لا تکفی فی تقدیم الأقوی ما لم نثبت جمیعاً بالإنسداد، ومن ثمّ لابدّ من مراعاة الإحتیاط فی العام سیما إذا کان مثبتاً.

بل حتی فی عمومات القرآن مقتضی الإحتیاط العمل بها إذا کانت مثبتة، لأنّ العلم الإجمالی غایة ما ینتج هو سقوط ظهورها عن الحجّیة الخاصة، والإحتیاط عسر فلابدّ من الإنسداد وحجّیة الظن المطلق.(1)

ولکن قد یقال: بأنّ هناک فرقاً بین الإحتیاط فی المسألة الأصولیة والإحتیاط فی المسألة الفقهیة وصاحب الکفایة (قدس سره) یرید من الإحتیاطِ الأولَ، وهو لا یوجب الحرج واختلال النظام وبه نستغنی عن دلیل الإنسداد.

والجواب: نقبل إنه فرق إلاّ أنه لا یکفی فی إثبات الإحتیاط الأصولی وإنما لابدّ من ترتیب جملة من مقدّمات الإنسداد أولاً حتی یثبت هذا الإحتیاط.

وسنبیّن ضرورة ترتیب مقدّمات الإنسداد علی المسألة الأصولیة قبل ترتیبها علی المسألة الفقهیة.

ص:466


1- (1) . [س] ولکن لا یمکن القول بانحلال العلم الإجمالی الصغیر بالعلم الإجمالی الأصغر بعد التألیف کما هو الحال عند القائل بالحجّیة الخاصة والعامة فإنه یری الإنحلال بما یصل إلیه من أحکام وهی هی من حیث القدر کالأحکام بعد التألیف، وفی مثل هذه الحالة مقتضی الإحتیاط فیها هو العمل بالمثبتات وهو لیس بعسر وهو عین نتیجة الحجّیة الخاصة للظن أو العامة؟ [ج] یمکن قبول الإنحلال المذکور کماً لا کیفاً، لأنّ الإحتیاط فی الدائرة الصغری فی المعاملات عسر ومتعذر ولیس حاله حال ما لو ثبت حجّیة الظن الخاص والعام، فإنّ النتائج ستکون مختلفة وإن کانت متقاربة فی القدر إلاّ أنّ العسر والحرج مفقود فیها دون ما إذا کان من خلال الإحتیاط.
التحقیق فی المقدّمة الثانیة

وهی دعوی انسداد باب العلم والعلمی ولکن بیّنا حجّیة الظن الخاص [ کبرویاً وصغرویاً ] حیث عالجنا شبهة الدس [ کما سبق فی تنبیهات خبر الواحد ] وأثبتنا حجّیة الظن الرجالی حیث عالجنا شبهة الإنسداد الرجالی بل آمنّا بانفتاح باب العلم فی الرجال، خلافاً للشیخ حیث یظهر منه التوقف فی حجّیة الخبر صغرویاً لشبهة الدس، وهو وإن أجاب عنها ولکن یبدو من مسلکه وکیفیة استدلالاته الفقهیة وعنایته بتصویر دلیل احتیاطی، أنّ فی نفسه شیئاً.

التحقیق فی المقدّمة الثالثة
اشارة

وهی دعوی تنجیز العلم الإجمالی الموجود فی المقدّمة الأولی.

والمحقّق العراقی یذکر أنّ هذه المقدّمة تؤثر مباشرة علی رسم النتیجة، [ هل هی الظن بنحو الکشف أو الحکومة ] وباقی المقدّمات کالمُعدّة، ببیان أنه إذا اعتمدنا علی المنجّز الشرعی فالظن حجّة من باب الکشف، وإذا اعتمدنا علی المنجّز العقلی فالنتیجة حجّیة الظن عقلاً أو التبعیض فی الإحتیاط ومع اعتمادنا علیهما معاً فالنتیجة تتبع أشرف المقدّمتین [ وهی حجّیة الظن من باب الکشف. ]

وما ذکره یأتی فی المقدّمة الثالثة للإنسداد الکبروی، فإنّ المعلوم فی المقدّمة الأولی [ الذی هو الجعل الفوقانی ] إما أن یکون عقلیاً أو شرعیاً، والأول ینتهی فی تنجیزه إلی حجّیة الإعتبار العقلائی، والثانی تنجیزه قد یقتضی الحجّیة الشرعیة وقد یقتضی الحجّیة العقلائیة. ولا یخفی أنّ الصیاغة الکبرویة تساهم فی تقییم صیاغة مقدّمات الصغری [ حجّیة الظن المطلق ] وکشف المغالطات إن کانت؛ إذ الأعلام انتهوا إلی حجّیة الظن شرعاً أو عقلاً من دون أن یثیروا احتمال کونها عقلائیة ممضاة.

آراء الأساطین فی هذه المقدّمة

ص:467

إنّ صاحب الکفایة نفی تمامیة المنجّز العقلی للعلم الإجمالی الموجود فی المقدّمة الأولی، لمبناه من سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز مع الإضطرار إلی بعض أطرافه مطلقاً [ معیناً کان أولا، سابقاً کان علی العلم أو مقارناً أو لاحقاً ] وذلک لأنه یری أنّ العلم الإجمالی علّة للتنجیز [ خلافاً للشیخ والمحقّق النائینی (قدس سرهما) ] فهناک تلازم بین الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، ففی أیّ مورد لا تجب الموافقة القطعیة لا تحرم المخالفة القطعیة [ وتابعه فی ذلک المحقّق الإصفهانی (قدس سره). ]

وفیما نحن فیه بمقتضی المقدّمة الرابعة الآتیة لا یجب الإحتیاط التام فلا تجب الموافقة القطعیة، فلا یمکننا البناء علی منجّزیة العلم الإجمالی وحرمة المخالفة القطعیة.

و المحقّق العراقی اختار علّیة العلم الإجمالی للتنجیز فیما إذا کان الإضطرار إلی غیر المعیّن، بخلاف ما إذا کان إلی معیّن، فإنه یسقط فیه عن التنجیز إذا کان مقارناً دون ما إذا کان متأخراً.

وفیما نحن فیه لمّا کان الإضطرار معیَّنَ المورد ومقارناً للعلم، کان العلم ساقطاً عن المنجّزیة العقلیة فتنحصر بالمنجّزیة الشرعیة علی مبنی المحقّق العراقی (قدس سره).

وأما الشیخ والمحقّق النائینی فاختارا التوسطَ فی التنجیز [ بمعنی اقتضاء العلم الإجمالی للتنجیز فی وجوب الموافقة القطعیة وعلّیته فی حرمة المخالفة القطعیة ومن ثمّ إمکان التفکیک بین وجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة. ]

فظهر أنّ الخلاف فی علّیة العلم واقتضائه إنما هو فی وجوب الموافقة القطعیة، وإلاّ علی مستوی المخالفة القطعیة فهناک اتفاق علی العلّیة.

ولکن الظاهر من العلاّمة المجلسی و المحقّق القمی (قدس سرهما) خلاف ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره)، بل قد یظهر ذلک من الآخوند فی تنبیهات القطع، والتفاصیل إلی وقتها.

ص:468

وفیما نحن فیه لا یسقط العلم عن المنجّزیة فی المخالفة القطعیة بعد تعذّر الإحتیاط والإضطرار الناشئ من اختلال النظام وما شاکل.

والحقّ أنّ العلم الإجمالی المذکور لیس علماً وجدانیاً وإنما هو مجموعة علوم لأننا نعلم فی کلّ باب بل فی کلّ مجموعة مسائل بوجود حکم أو أحکام فی الأخبار المترابطة بها، ومن ثمّ فطُرُوّ الإضطرار لا یصطدم مع العلم الواحد کی یحیل کلّ النتیجة علی مبناه.

بل حتی لو حصل الإضطرار فی کلّ باب إلی موهوماته ومشکوکاته [ لعدم إمکان الإحتیاط فیها ] لا ینتفی العلم فی الباقی، وإنما یبقی العلم بوجود أحکام إلزامیة فی مظنونات کلّ باب، فالتنجیز باق علی حاله علی کلّ المبانی.(1)

بالإضافة إلی أنّ ما ذکره المحقّق العراقی من أنّ الإضطرار فیما نحن فیه إلی المعیّن وهو الموهومات، وبالتالی رتّب علیه انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة فی غیر محلّه؛ لأنه لا مبرّر لتعیین الإضطرار فی دائرة الموهومات دون المظنونات سوی مقدّمات الإنسداد التی تعیّن قبح ترجیح المرجوح علی الراجح.

فالتعین آتٍ من دلیل الإنسداد فمثل هذا الإضطرار علی المعیّن

ص:469


1- (1) . [س] ما دام أنّ هناک علماً إجمالیاً فی مظنونات کلّ علم فحق الجواب تارة: بأنّ المعلومات متعددة ودائرتها أوسع من دائرة الإضطرار ومن ثمّ حتی إذا خرجت المشکوکات والموهومات یبقی علم إجمالی حقیقی بوجود أحکام فی المظنونات فهو منجز، بل لا داعی حینئذ لإثارة تعدّد العلم إذ العلم الإجمالی بالأحکام موجود فی ما عدا رقعة الإضطرار لنکتة تعدّد المعلوم. وأخری تعدّد العلم تبعاً لتعدّد المعلوم والإضطرار وإن کان فی کلّ علم ولکن یبقی المعلوم فی کلّ علم أوسع دائرة من الإضطرار. وما ذکرتموه قبل هذا الجواب من تعدّد العلم یصلح مقدّمة لجوابکم لا جواباً مستقلاً کما یبدو منکم. ثمّ بعد فرض وجود علم إجمالی فی المظنونات ومنجّزیته ینتج الإحتیاط فی المظنونات وهو غیر عسر، لا حجّیة الظن. [ج] صحیح ولکن بعدما یثبت التنجیز شرعاً لا أثر للتنجیز العقلی کما سنبیّن.

متأخر رتبة عن العلم الإجمالی ومثله لا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز کما صرّح (قدس سره).

وقد اتضح تمامیة منجّزیة العلم الإجمالی عقلاً.

المنشأ الشرعی لتنجیز العلم الإجمالی

قد ذکرنا أنّ المقدّمة الثالثة مبتنیة علی دعوی تنجیز العلم الإجمالی الموجود فی المقدّمة الأولی، ومنشأ تنجیز هذا العلم إما عقلی أو شرعی. وللشرعی منه صیاغات:

[ 1 ] إنّ الشارع لا یسوّغ إهمال الشریعة؛ لأنه خروج عن الدین.

[ 2 ] الإجماع القطعی علی عدم إمکان إهمال الأحکام الشرعیة. ودلیلُ الإنسداد وإن لم یکن محرراً فی کلمات المتقدّمین إلاّ أنه یکفی الإجماع التقدیری القطعی فی ما نحن فیه.

[ 3 ] إنّ مذاق الشارع فی التعامل مع الشریعة لیس علی أساس الإحتمال، وإنما امتثال کلّ حکم بعنوانه لا یمعنی قصد الوجه.

[ 4 ] دعوی اتحاد مرحلة الفعلیة والتنجیز [ کما هو مبنی المحقّق الإصفهانی (قدس سره) ] وسیأتی تفصیله إن شاء الله تعالی.

ونلقی الضوء فی هذا المقام علی تلک الصیاغات تباعاً.

الصیاغة الأولی

لزوم الخروج عن الدین بالبناء علی عدم منجّزیة التکالیف المعلومة بالعلم المذکور فی المقدّمة الأولی، حیث یرجع إلی إنکار نفس التکلیف.

وحدیث الأعلام لیس فی صِرف الترک العملی [ الموجب للفسق أو غیره ] وإنما حدیثهم فی الإهمال والترک [ المستند إلی البناء علی عدم التکلیف ] بقرینة أنّ هذا الخروج یحصل بسبب الإستناد إلی البراءة وأمثالها المنتج للبناء العملی علی عدم التنجیز والمسؤولیة.

ومن الواضح أنّ العلم فی هذه المقدّمة یختلف عن العلم فی المقدّمة الأولی بوجود تکالیف وعقوبات تترتب علی إهمالها؛ إذ العلم

ص:470

هنا هو العلم بشدّة اهتمام الشارع، نظیر حرمة الزنا وتشریع الجلد علی ممارسته فإنه یؤکّد حرمة الزنا، کذلک تشریع الردة وتسجیل العقوبة علیها، مع أنها عملاً لیست أکثر من الترک للتکالیف المشرّعة والتی سجّلت عقوبة علیها. کذا ما نحن فیه هناک تشریع معلوم وراء العلم بالتکالیف وهو حرمة إهمال الشریعة ککلّ الذی ینتج تشریع الإحتیاط الشرعی والتنجیز الشرعی.

وبعبارة مختصرة: إنّ الشارع لم یکتف بتسجیل العقوبة علی کلّ حکم حکم، حتی سجّلها علی الخروج علی المجموع اهتماماً وتأکیداً علی الإلتزام بتلک التکالیف، نظیر تسجیل العقوبة الدنیویة علی الزنا وراء حرمته.(1)

الصیاغة الثانیة

الإجماع بل الضرورة الفقهیة القائمة عند الفقهاء علی عدم جواز إهمال الشریعة ولزوم الرعایة الذی یعنی التنجیز. ولیس معقد کلامهم المبالاة واللامبالاة الخارجیة وإنما البناء وعدم البناء علی

ص:471


1- (1) . [س] لم نسمع من قبلُ حرمة الخروج عن الدین سوی بمعنی الردة، وأما الإهمال بسبب الإستناد إلی أصل شرعی أو عقلی مفرغ، وإن أوجب الخروج عن الدین إلاّ أنه لیس محرماً وراء حرمة ترک الواجبات وفعل المحرمات حیث نعلم بارتکابها مع إجراء البراءة. [ج] ما ذکر فی جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی لیس أکثر من المخالفة العملیة القطعیة. بینما هنا یراد القول إنّ جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی یوجب البناء علی عدم وجوبها وحرمتها ومن الواضح أنّ قسماً من هذه التکالیف من الضروریات والبناء علی عدم الإلزام فیها یساوق إنکارها وهو الخروج عن الدین. [س] ولکن بهذا البیان یتضح أنه مبنی علی أنّ صرف إنکار الضروری موجب للردة والخروج عن الدین لا بشرط أن یرجع إلی إنکار الرسالة وإلاّ لا یلزم من جریان البراءة فی الأطراف سوی المخالفة العملیة القطعیة وهو غیر الخروج من الدین. [ج] نعم، ومبنانا مبنی المشهور من أنّ صرف إنکار الضروری یوجب الخروج.

لابدیة الطاعة والتنجیز الذی هو لازم ذاتی للحکم الإلزامی.(1)

الصیاغة الثالثة

وهناک صیاغة ثالثة [ یعرضها المحقّق النائینی ] وهی أنّ الشیخ (قدس سره) نقل کلام عدّة من المتقدّمین والمتأخرین، ومفادها عدم تسویغ الرجوع إلی الأصول العملیة المثبتة والنافیة.

وهذا یدلّ علی أنّ إجماع الفقهاء یکشف عن عدم جواز امتثال الأحکام فی الشریعة بعنوان الإحتمال، أی إنّ مذاق الشارع فی التعامل مع الشریعة وامتثال أحکامها کُلّ بعنوانه.(2)

وقد تساءل المحقّق العراقی (قدس سره) عن مراد المحقّق النائینی، حیث إنّ تعبیره یوهم أنّ مذاق الشارع امتثال الحکم بقصد الوجه مع أنّ المحقّق النائینی کالمتأخرین لا یری شرطیة قصد الوجه.

والجواب: إنّ مراد المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ مذاق الشارع هو امتثال

ص:472


1- (1) . [س] ولکن هذا الإجماع بل الضرورة لیس حجّة مستقلة لأنّ مدرکه ما تقوم من حرمة الخروج عن الدین. [ج] لنذکر فی ذیل دلیل الإنسداد سلبیاته وایجابیاته، وأحد سلبیاته أنّ الشهرات والإجماعات والضرورات قد تعامل معها الأعلام علی أساس أنها تعبدیة مع أنها مدرکیة، ولیس ذلک تقلیلاً من شأنها وإنما العکس حیث یحفزنا علی العثور علی الدلیل کی لا یندرس عن المداولة العلمیة - کذا نتخلص عن لبّیته وبالتالی الإقتصار علی القدر المتیقن فیه. کذا نتخلص من سلبیة المبنی الذی یبنی علی عدم حجّیة الشهرة والإجماع وبالتالی یرجع إلی الأصل العملی. ونتخلص عن إشکالیة التقلید الخفی والمبطن الذی حکم المدرسة الفقهیة لقرون.
2- (2) . [س] من أین علمنا أنّ مذاق الشارع هذا بعد أن کان الهدف من التشریع تکامل الإنسان وتحقیق المصالح المخبوة فی المتعلّقات من خلال الإمتثال، فالتعبد مثلاً والنظم الإجتماعی یتحققان بأیّ صیغة کان الإمتثال، إنْ بالإمتثال الإحتمالی وإنْ بالإمتثال بالعنوان. ومن ثمّ نظر الکثیر لحسن الإحتیاط. نعم هو أسلوب غیر مألوف لیس أکثر. ثمّ إنّ المیرزا ذکر هذه اللفتة فی صیاغة الإجماع علی عدم الإحتیاط لا فی صیاغته الإجماع علی عدم إهمال الشریعة فهل یفرق الأمر أو لا؟[ج] سنبیّن کلا الشقین لاحقاً إن شاء الله تعالی.

الحکم بما هو ثابت ولو ظاهراً، لا أنّ قصد الوجه شرط وإنما الممتثل حین امتثاله یمتثل حکماً ثابتاً لا حکماً محتملاً.

وبالدقة إنّ المحقّق النائینی (قدس سره) یرید أنّ الإمتثال لابدّ أن یکون امتثالاً للحکم الاولی لا من باب الاحتیاط، وهذا لا علاقة له بقصد الوجه.

وبعبارة أخری إنّ العلم بالحکم واحتماله من أوصاف الحکم فتأثیره علی الإمثتال وإن أوحی أنه قصد الوجه ولکنّه لیس کذلک.

هناک مطلب ذکره المحقّق النائینی فی تنبیهات القطع عند دوران الأمر بین الإمثتال الإحتیاطی [ ولو کان قطعیاً وجدانیاً ] والتفصیلی [ ولو کان تعبدیاً ] فإنه لا یسوّغ الإحتیاط إلاّ مع تعذّر الإمتثال التفصیلی التعبدی اجتهاداً وتقلیداً.

ومثله ذکره فی العبادات بأنّ التعبد والإبتعاث عن الأمر الإحتمالی أدون طاعة وامتثالاً ومتأخر رتبة عن الإنبعاث عن الأمر التفصیلی ولو التعبدی.

ومراده (قدس سره) أنّ الباعث والملزم هو العلم التفصیلی فی قبال الإحتمالی لا أنه یرید قصد الوجه.

وربما یصلح هذا الإجماع دلیلاً للمیرزا (قدس سره) لما ذکره فی تنبیهات القطع.

هذا وانّ المحقّق النائینی قد ذکر هذا فی المقدّمة الرابعة، وإنما أقحمناه فی هذه المقدّمة؛ لأنّ صیاغة هذا الإجماع بهذا الشکل [ وهو رجوعه إلی لزوم امتثال الأحکام بعناوینها ] یعنی أنّ الملزم عنده والمنجّز علاوة علی ما ذکر هو لزوم الإمتثال بالکیفیة المذکورة.

وهذه الصیاغة تؤدّی إلی حجّیة الظن علی الکشف بنحو صریح بخلاف المنجّزات الشرعیة الأخری فإنّ إنتاجها الظن علی الکشف یحتاج إلی مؤونة.

الدلیل علی الصیاغة الأولی

ص:473

الدلیل علی حرمة الخروج عن الدین وعدم رضا الشارع بإهمال الشریعة [ الذی یعدّ من الأحکام الضروریة ] هو الآیات المتعدّدة علی أنّ حکمة بعث الرسل هو البلاغ والبیان المبین وإقامة الحجّة وما شابه ذلک، وهو یعنی ضرورة إقامة الحجّة والطریق بل وبنحو مبیّن لا مجرّد تشریع الأحکام وإنشائها وإنما علاوة علی ذلک تنجیزها وایصالها إلی الناس.

بل کلّ الأدلّة الکلامیة علی ضرورة النبوة والشریعة تستبطن ضرورة المنجّز لأنه الطریق والغایة التوسطیة للوصول إلی الغایة النهائیة من التشریع.

أدلّة الصیاغة الثالثة

کما یمکن الإستدلال علی ما ذکره المحقّق النائینی [ من أنّ مذاق الشارع لیس الإمتثال الإحتمالی ] بعدّة أدلّة:

الدلیل الأول: ما ذکره هو (قدس سره) فی خصوص العبادات من أنّ التعبد والإنبعاث عن الأمر الإحتمالی [ مع فرض توفّر التعبد التفصیلی إلاّ أنه تخلصاً من الفحص اکتفی بالإحتیاط ] أدون من التعبد والإنبعاث عن الأمر التفصیلی. ولیس محلّ هذا البحث وتنقیحه هاهنا.

الدلیل الثانی: ویتضح من خلال نقطتین:

[ 1 ] إنّ الشارع لم یستحدث لغة قانونیة خاصة به وإنما جری علی لغة العقلاء [ علی الأقلّ فی المبادئ التصوریة بل فی کثیر من القضایا التصدیقیة. ]

[ 2 ] نلحظ وجود مبدأ بدیهی فی القانون العقلائی وهو عدم کون الإحتیاط طریقاً لمتابعة القانون کمجموع للفرد فضلاً عن عموم المجتمع، وهی مادة أولیة فی فکرة القانون، وذلک لأنّ من الأغراض المهمة للتقنین هی النظم وهو لا یتحقق بالإحتیاط.

الدلیل الثالث: الآیات الکثیرة النافیة للعسر والحرج والمثبتة للتکلیف مع سهولة.

ص:474

وهذا الدلیل لیس رافعیة الحرج ومن ثمّ لم یستدلّ أحد من الأعلام بالآیة المبارکة (یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) (1) علی رافعیة الحرج الشخصی وإنما هذه الآیة فی صدد بیان خلفیة الشریعة وفلسفتها والأساس الذی بنیت علیه. ومن ثمّ لو کان باب الإحتیاط مفتوحاً لکانت الشریعة شریعة عسر وحرج.

الصیاغة الرابعة

وهناک صیاغة رابعة للتنجیز الشرعی للمحقّق الإصفهانی (قدس سره) تنطلق من مبناه من أنّ مرحلة الفعلیة فی الأحکام التکلیفیة الشرعیة عین مرحلة التنجیز. فإنّ العلم عنده مقوم لماهیة الحکم الشرعی وفعلیته ومن ثمّ اتحدت عنده المرحلتان.

نعم، أخذ القدرة فی التنجیز دون الفعلیة ومن هنا أمکن انفکاک التنجیز عن الفعلیة فی صورة العجز.

ومع هذا المبنی بالإضافة إلی مبناه فی سقوط التنجیز العقلی للعلم الإجمالی بالإضطرار [ فإذا سقط التنجیز سقطت الفعلیة ومعه یسقط الحکم ] فلا مفرّ من وجود منجّز شرعی.

وببیان آخر: یصرّح المحقّق الإصفهانی والمحقّق العراقی (قدس سرهما) أنّ الإضطرار حدّ التکلیف، فمع تحققه یسقط الحکم عن الفعلیة.

وفی العلم الإجمالی لما اضطر إلی بعض الأطراف، فَعَلی فرض أنها هی المحکومة بحکم إلزامی فالتکلیف ساقط لعدم العلم بوجود التکلیف واجد للحدّ.

فلا مفرّ من فرض وجود إلزام وتنجیز شرعی لوجود الإجماع الذی یعنی وجود الحکم ووصوله وتنجّزه ولا منجّز سوی الشرعی؛ إذ العلم الإجمالی غیر منجّز، والإحتیاط الشرعی وظیفة لا إراءة فیه فلا یوصل الحکم الشرعی بل هو متعلّق بفعل المکلّف لا بالطرق، غایته أنه فعل أصولی ملاکه التحفظ علی الفعل الفقهی فی حین أنّ

ص:475


1- (1) . البقرة/ 185

الإجماع یفرض وصولها وتنجّزها.

ومثله الشک والوهم فإنه غیر موصل، کذا الظن بحکم العقل لیس منجّزاً وإنما هو نتیجة وجود تنجیز سابق، فینحصر بحجّیة الظن شرعاً.

وقبل تقییم هذه الصیاغة نوضّح اصطلاحاً أشار إلیه المحقّق الإصفهانی (قدس سره) هنا، وهو «الطریق الواصل بنفسه، والطریق الذی اعتباره بطریق آخر».

ویقصد من الأول الطریقُ الواصل بدلیل قطعی، ومن الثانی الطریقُ الواصل بدلیل أصولی آخر.

ومن هنا یعرف أنّ المسائل الأصولیة قد تترامی، ولأجل أنْ تتبلور الفکرة أکثر، نشیر تساؤلاً ونجیب عنه:

التساؤل: من المعروف أنّ مثبتات الأصل العملی ولوازمه لیست حجّة، عکس الأمارة فإنّ لوازمها حجّة. ولکن قد یقال: إنّ الأصل الثابت حجّیته بدلیل لفظی، لوازمه مدلول إلتزامی للدلیل اللفظی، فلِمَ لا تکون حجّة؟

والجواب: یقصد من لوازمه فرد منه، فأصالة الحلّ فی مورد الإستصحاب فی حالة قد یکون من اللوازم، ومثل هذه اللوازم تعدّ لوازم مدلول الدلیل [ الذی هو الأصل ] لا لوازم دلیله [ الذی هو الروایة. ] وهذا هو المعبّر عنه فی کلمات البعض أنّ اللازم قد یکون للجعل وقد یکون للمجعول.(1)

وبدیهی تغایر المدلول مع الدلیل وإلاّ لما کان مثل أصل الطهارة أصلاً عملیاً وإنما کان خبراً واحداً صحیحاً مع أنه بدیهی البطلان،

ص:476


1- (1) . [س] علی هذا هل یمکن ضبط الفرق بین الجعل والمجعول أو الدلیل والمدلول بالفرق بین الطبیعة والفرد، بین المعنی والمصداق، بین المدلول المطابقی ومنطبقه، بین الحکم الإنشائی والفعلی؟ [ج] خبر زرارة فرد لکلّی حجّیة الخبر نظیر أصل الطهارة فی ثوب، فلم کان لوازم الأول حجّة دون الثانی، مع أنّ لوازم الأول لوازم فرد فلا یصلح مدلولاً إلتزامیاً لکلّ دلیل حجّیة خبر الواحد کی یکون حجّة.

فحجّیة الخبر لیس نفسه أصل الطهارة وإنما مؤدّی الخبر الأصل، ومن ثمّ ترامی القانون الأصولی طولاً.

وإثباتاً یمکن التفرقة بین لوازم الدلیل والمدلول، بأنّ اللازم إن کان للفرد فهو للمدلول وإن کان للطبیعة فهو مدلول إلتزامی للدلیل؛ لوضوح أنّ المدلول الإلتزامی ما کان لازماً للمعنی لا للمصداق.

ومن ثمّ إذا عثرنا علی لازم لکلّ أفراد الأصل فهو مدلول إلتزامی للدلیل اللفظی والأصل جعل الأصل العملی لا لفرده.

ثمّ إنّ الإصطلاح المذکور یفتح لنا أفقاً جدیداً فی بحث الإنسداد وهو أنّ مقتضی حجّیة الإنسداد هل هی حجّیة الظن بنفسه أو بطریقه؟ [ أی إنّ الظن الحجّة هل هو الظن علی الواقع الفقهی أو الظن علی الظن؟ ]

وبعبارة أخری: هل الظن الحجّة هو الظن فی المسألة الأصولیة أو الظن بالحکم الفقهی؟ فهل الظن الحجّة هو الظن المعیّن للطرق والظنون الخاصة، أو الظن المعیّن للحکم الشرعی الفقهی مباشرة؟

فإن کان الأول فهو حجّیة الظن الخاص بطریقه الذی هو الظن المطلق، وإن کان الثانی فهو حجّیة الظن المطلق الواصل بنفسه أی بدلیل قطعی وهو الإنسداد.

صاحب هدایة المسترشدین وصاحب الفصول أصرّا علی أنّ دلیل الإنسداد یجری فی المسألة الأصولیة لا الفقهیة، بینما الدارج هو الظن بالحکم الفقهی، والحقّ مع الأول کما سنبیّن.(1)

ص:477


1- (1) . [س] هذا غیر ما ذکرتموه سابقاً فی الإحتیاط وأنه الإحتیاط الأصولی أو الفقهی، فإن الأصولی والفقهی وصفان للإحتیاط فهو مرتبط بالمجتهد والمقلّد. أما هنا فالأصولی والفقهی کلاهما مرتبط بالمجتهد ویقصد منه حجّیة الظن المطلق لإثبات الواقع مباشرة أو لإثبات حجّیة الظن الخاص. وفی تطبیق الإصطلاح علی ما نحن فیه إن أخذنا الظن المطلق فهو ثابت بنفسه علی الشقین [سواء کان مفاده الواقع الفقهی أو الظن الخاص] وإن أخذنا الظن الخاص فهو وإن کان ثابتاً بطریقه إلاّ أنه لیس موضوع البحث، إضافة إلی أنه لا یتأتی فیه الإحتمال الآخر وهو ثابت بنفسه، لأنّ الثابت بنفسه فی دلیل الإنسداد علی فرضه هو الظن المطلق. فهذا الإصطلاح أجنبی عما نحن فیه سوی أنه ینفع فی نتیجته وهو فکرة الحجج المترامیة. [ج] توضیح ما ذکره الإصفهانی أنّ الإصفهانی بعد أن أبطل کلّ الخیارات المذکورة فی المقدّمة الرابعة للخروج عن عهدة العلم الإجمالی لم یبق إلاّ الظن حیث نعلم أنه طریق اعتبره الشارع. وهذا الظن الحجّة إما أن یکون الظن بالحکم الشرعی الفقهی، فالحکم الشرعی واصل بطریق واصل بنفسه. وإما أن یکون الظن الحجّة هو الظن بالحکم الأصولی - وهو الحق - . ببیان أننا توصلنا إلی العلم بوجود طریق معتبر اعتبره الشارع ولا طریق علمی لمعرفة هذا الطریق فنتوصل إلیه من خلال الظن فیکون الحکم الشرعی ثابتاً بطریق واصل بطریقه. وبعبارة أخری: إنّ صیاغة الإصفهانی تنهینا إلی حجّیة الظن شرعاً فی الجملة قطعاً، یبقی: هل إنّ مطلق الظن حجّة أو بعضه، وعلی الثانی یرجع فی تعیینه - البعض - إلی الظن.فتکون النتیجة هی الظن بالظن. ولا یخفی أنه علی هذا قد وظف دلیل الإنسداد الذی أقیم علی الأحکام الواقعیة لتجدید إقامته علی الحکم الأصولی، لأنه یؤدی إلی العلم بوجود طریق معتبرة ولا یمکن معرفتها وتشخیصها إلاّ من خلال الظن. وإن شئت قل: إنّ الإنسداد الفقهی أثبت لنا المقدّمة الأولی فی الإنسداد الأصولی. [س] الإنسداد الذی یثبت لنا حجّیة الظن بالحکم الفقهی أیضاً انسداد أصولی أی رتب لإثبات مسألة اصولیة وهی حجّیة الظن. [ج] نعم، هو انسداد أصولی بلحاظ النتیجة وبه یفترق عن الإنسداد الذی یقام لمثل قضاء الفوائت، ومسائل القضاء فإنه انسداد فقهی، ولکن إنما عبّرنا عن هذا الإنسداد الأصولی أنه فقهی، بلحاظ مقدّمته الأولی والثانیة حیث أخذ فیها الأحکام الفقهیة.
التحقیق فی المقدّمة الرابعة
اشارة

ألمح الأعلام إلی أنّ المقدّمة الرابعة والخامسة تنهینا إلی وجود حجّة ومنجّز [ وهو الظن ] فهل هو مفرغ عن التنجیز الذی تم إثباته فی المقدّمة الثالثة [ کما هو المطلوب ] أو أنه محرز للحکم الواقعی فهو منجّز آخر غیر المنجّز السابق.

إشکال وجواب

وتوضیحه: مع العلم بوجود صلاة الظهر وامتثالها، فالعلم بالوجوب هو الذی یحرز الحکم وینجّزه، وإحراز الإمتثال إما بالعلم

ص:478

أو قاعدة الفراغ، فالعلم وقاعدة الفراغ مفرغان والمفرغ متعلّقه الإمتثال، والمنجّز متعلّقه الحکم.

فهل وظیفة المقدّمتین أنهما یفرغان عن التنجیز الثابت فی المقدّمة الثالثة، ومعه لا یتلاءم مع تصویر أنّ الحجّة هو الظن بالحکم لا الإمتثال؟

والجواب: نعم، سوف نصل إلی منجّز آخر یوجب انحلال التنجیز الإجمالی فی المقدّمة الثالثة، إلاّ أن یصوّر مانع وهو ابتناء وجود المنجّز فی المقدّمة الرابعة والخامسة علی المنجّز فی المقدّمة الثالثة، فکیف یوجب والحالة هذه زواله، لأنّ المنجّز الأصغر مستند فی کیفیة إثباته وصیاغته ووجوده إلی المنجّز السابق، فلا یعقل أن یزیله.

ومع بقاء المنجّز علی حاله یعود السؤال إلی أنّ الحاجة إلی مفرغ لا منجّز.(1)

ص:479


1- (1) . [س] یمکن الإجابة عن السؤال فی المنجّز الشرعی بالبیان التالی: أنه بعد فرض عسر الإحتیاط وعدم إمکان الموافقة القطعیة لا یمکن أن تکون دائرة التنجیز الشرعی بسعة الدائرة السابقة التی کانت منجّزة عقلاً - مهما کانت صیاغة التنجیز الشرعی - ومع تضیقها لیست هی منجّزاً سابقاً علی منجّزیة الظن کی یرد السؤال وإنما هی عین منجّزیة الظن شرعاً، ومن هنا ذکر المیرزا صیاغته فی المقدّمة الرابعة ونحن إنما استقدمناها لأجل بیان صیغة التنجیز، وإلاّ فهو قد ذکرها فی الخیارات مما یؤکد أنّ التنجیز واحد. کما یمکن الإجابة عن السؤال فی المنجّز العقلی بالبیان التالی: إنّ امتثال کلّ حکم یتمّ بالإتیان بمتعلّقه، فامتثال الحکم الفقهی المتعلّق بالصلاة یتمّ بالإتیان بالصلاة. أما الحکم الأصولی فامتثاله یتمّ بالأخذ بمضمونه والبناء علیه والإلتزم به، فحجّیة خبر الواحد کحکم أصولی [سواء قلنا إنه وضعی کما هو مختارکم أو تکلیفی] متابعته أو امتثاله وتطبیقه یکون بالبناء علیه والأخذ به سواء جاء بمضمونه خارجاً أم لا، فإنه مرتبط بامتثال المضمون [الحکم الفقهی] ومن ثمّ سیکون أی خیار من الخیارات المذکورة فی المقدّمة الرابعة أو الخامسة مفرغاً عن الحکم المعلوم بالإجمال بالبناء علیها والأخذ بها ومنجّزاً للحکم الفقهی فلا مشکلة. [ج] نحن لم نتعقل لحدّ الآن ما یذکر فی کلمات الأعلام من أنّ امتثال الحکم الأصولی بالبناء والأخذ والإلتزام [کما یلحظ ذلک فی تعبیرهم فی التقلید] إذ الأمارة لیس إلاّ جعلها علماً، فکما أنّ العلم التفصیلی لا امتثال له وراء امتثال الواقع المعلوم کذا فی العلم التعبدی، ومن ثمّ لم یکن له عقوبة مستقلة ولا مثوبة کذلک. وسنشیر إلی ذلک إن شاء اللّه.

وجواب آخر: إنّ المنجّز الثانی وإن لم یکن مفرغاً إلاّ أنّ امتثاله یفرغ عن کلا التنجیزین، قطعی بالنسبة إلی الثانی وتعبدی بالنسبة إلی الأول.

وتوضیحه: إنّ إحراز التکلیف غایة ما یصنع أنه یوجب التنجیز، والتنجیز مرحلة تتلوها مرحلة وجوب الإمتثال، وهی یتلوها مرحلة وجوب إحراز الإمتثال والقطع بالموافقة.

ومن ثمّ یتضح أنّ إحراز الحکم یصبّ فی مراحل امتثال الحکم، فإذا کان حال المحرز هذا فالنتیجة تخرج بها من المقدّمتین الرابعة والخامسة هی الإمتثال لا الإنحلال؛ وذلک لأنّ إحراز الحکم سیما إذا کان تعبدیاً [ ومن ثمّ قیل إنّ ملاک الحکم الظاهری التحفظ علی الواقع جنباً إلی جنب کشفه واراءته عنه ] موطئ للزوم الإمتثال.

ومن هنا أغنی الإمتثال للإحراز التعبدی عن الإمتثال للإحراز الوجدانی الإجمالی کما إذا قامت بیّنة علی القبلة مع العلم الإجمالی بجهتها.

وهذا الإمتثال وجدانی للبینة [ الإحراز التعبدی ] وامتثال تعبدی ومطابقة تعبدیة للواقع.

فتبلور أنّ الإحراز التعبدی ینتظم فی سلک مراحل الإمتثال لا فی مراحل وجود الحکم، فثمرة إحراز الأحکام فی الشبهات الحکمیة [ التی غالباً مّا تکون مورداً للعلم الإجمالی ] الإمتثال التعبدی للواقع.

وهذا الإحراز وإن میّزه الأعلام عن إحراز الإمتثال بشکل یرجع إلی ارتباطه بمتن الحکم ووجوده، إلاّ أنّ الصحیح ما عرفت.

مؤاخذة علی التبعیض فی الإحتیاط

وبهذا العرض یمکن لنا أن نسجّل مؤاخذة علی أطروحة التبعیض فی الإحتیاط [ التی أصرّ علیها الشیخ وآخرون، بحجّة أنّ المقدّمة

ص:480

الثالثة تثبت التنجیز، والمقدّمة الرابعة تبطل الخیارات الأخری غیر الظن.

إلاّ أنّ الدلیل المبطل للإحتیاط لا یبطله من رأس وإنما غایة ما یثبت بطلانه کحالة عامة، أی یبطل ضرورة الإحتیاط فی الجمیع، أما التبعیض فی الإحتیاط فلا دلیل علی بطلانه فلا تصل النوبة إلی المقدّمة الخامسة وهی حجّیة الظن علی الحکومة أو الکشف. ]

والمؤاخذة: إنّ الشیخ یقبل الإقتصار علی الإمتثال الظنی للعلم الإجمالی بحکم العقل بالتبعیض بالإحتیاط، فی حین أنّ الإمتثال الظنی عبارة أخری عن کونه لازماً لملزوم سابق علیه [ وهو الظن الکاشف عن الحکم ] ومعه ما هو المائز بین هذا وبین حجّیة الظن علی الحکومة؟ حیث لا تعنی أکثر من حکم العقل بأنّ الظن محرز کاشف الذی یرجع إلی الإکتفاء والإقتصار بالإمتثال الظنی الذی هو امتثال وجدانی للظن وظنی للواقع.

بیان الفرق بین التبعیض فی الإحتیاط والظن علی الحکومة

وخلاصة السؤال: أنه ما الفرق بین القولین؟ [ التبعیض فی الإحتیاط والظن علی الحکومة الذی أصرّ الشیخ علی الأول وأنکر وصول النوبة إلی الثانی ] مع أنّ الأول لیس إلاّ حکم العقل فی مرحلة إحراز الإمتثال والثانی حکم العقل فی مرحلة إحراز الحکم وتنجیزه، وقد عرفت أنّ هذا الإحراز یصبّ فی مراحل الإمتثال.

وعندما ننظر القضیة من جانب أنها من وظائف المجتهد یتأکد السؤال أکثر؛ إذ الإحراز هو مهمة وهدف المجتهد لا الإمتثال الذی هو وظیفة مشترکة بین المجتهد والعامی، مما یکشف عن أنّ التبعیض فی الإحتیاط یرجع إلی الإستنباط والإحراز، ومعه یتساءل عن الفرق بین حجّیة الظن علی الحکومة.

وبالمقارنة بین هذه السؤال وسابقه [ بعد الإلتفات إلی أنّ السابق

ص:481

کان قد انبثق من توظیف الأعلام المقدّمة الرابعة والخامسة للخروج بمنجّز آخر، سواء تم ذلک أم لم یتم، فکان السؤال أنه کیف نخرج بمنجّز آخر مع وجود السابق، فإنه إن أوجب اللاحق انعدام السابق کان موجباً لانعدامه هو أیضاً کما بیّنا، وإن لم یوجب فإنا بحاجة إلی مفرغ لا منجّز ] یتبلور أنهما من واد واحد؛ لأنّ کلاًّ منهما یتعلّق من فرض المغایرة بین مرحلة إحراز الحکم ومرحلة امتثاله وأنّ الأول مرتبط بوجوده والثانی بالفراغ منه.(1)

توضیح السؤال ثانیاً

ولأجل أن یتبلور التساؤل الثانی نعیده ثانیة بشی من التوضیح:

إنّ إحراز الإمتثال علی درجات، والبحث قد یفرض فیه علی صعید الشبهة الحکمیة وأخری علی صعید الشبهة الموضوعیة، فامتثال الصلاة تارة یحرز بالظن المعتبر، وأخری یقطع بالفراغ عنها وثالثة یشک. والشک هذا من قسم الشبهة الموضوعیة.

وقد یکون الشک فی الإمتثال ناشئاً من شبهة حکمیة [ کما فی ما نحن فیه ] فان الإمتثال الظنی هو المستند إلی ظن فی الشبهة الحکمیة لا فی الشبهة الموضوعیة کما هو الحال فی الحالة السابقة.

ص:482


1- (1) . [س] هذا التساؤل وجیه عندی یبنی علی أنّ العلم الإجمالی المذکور فی المقدّمة الأولی منجّز عقلاً، ومن ثمّ یوجّه السؤال لمن ذهب إلی التبعیض فی الإحتیاط وأنه بم یفرق بینه وبین الظن علی الحکومة. أما من یری سقوط منجّزیة العلم الإجمالی عقلاً وأنّ المنجّز منحصر بالشرعی، أو مع وجود المنجّز الشرعی [والذی قبله الشیخ] ینتج الظن علی الکشف وإن کان المنجّز العقلی باقیاً لا معنی للتبعیض بالإحتیاط ولا الظن علی الحکومة فلا تصل النوبة للتفکیر بالفرق بینهما. فالبحث کلّه تقدیری، حیث أنکم تقبلون المنجّزیة وبالتالی حجّیة الظن علی الکشف. [ج] نعم، علی مبنانا ومبنی مثل المیرزا یکون البحث تقدیریاً، ولکن مثل الشیخ لم یفرض أنّ المقدّمة الثانیة ترسم النتیجة وبالشکل الذی ذکرناه وذکره المیرزا والإصفهانی. وهو فی عین قبوله للمنجّز الشرعی انتهی إلی التبعیض فی الإحتیاط، ومع هذا لابدّ أن یکون البحث العلمی مستوعباً لکلّ الآراء، بالإضافة إلی أهمیة هذه الإثارة فی بحث الإجتهاد والتقلید.

فإحراز الإمتثال فی حین أنه مرحلة أخیرة فی الحکم إلاّ أنه ینقسم بدوره إلی شبهة موضوعیة وحکمیة، والظن فیه تارة ظن فی الشبهة الموضوعیة وأخری فی الشبهة الحکمیة.

بل هذا التقسیم یجری فی کلّ مراحل الحکم عدا الإنشائیة، فإحراز الحکم یمکن أن یفرض علی نحو الشبهة الحکمیة [ کما فی العلم الإجمالی بوجود أحکام فی الشریعة ] وأخری بنحو الشبهة الموضوعیة [ کالعلم بتحقق الزوال ونجاسة الإناء. ]

والفعلیة إن کانت مقدّرة فهی حکمیة وإن کانت خارجیة فهی موضوعیة.

ومما تقدّم یتضح الحاجة إلی تشقیق البحث فی العلم الإجمالی إلی الشبهة الحکمیة والموضوعیة لاختلاف علاج کلّ منهما.

بل البحث فی کلّ شیء فی مرحلتین، الأولی: فی کون العلم منجزاً، والأخری: فی کیفیة امتثال العلم الإجمالی.

بعد هذا نرجع إلی التساؤل ثانیة: إنه قد فرّق الشیخ وغیره بین التبعیض فی الإحتیاط فی الشبهة الحکمیة والظن علی الحکومة، وکأنّ هذه التفرقة ترجع إلی أنّ التبعیض مرتبط بالشبهة الموضوعیة، والظن علی الحکومة مرتبط بالشبهة الحکمیة.

فی حال أنّ هذا غیر صحیح؛ لأن الإمتثال الظنی یرجع إلی الشبهة الحکمیة الناشئ من الظن بالحکم المنجّز ومن ثمّ لا یبقی فرق بین القولین.

وإن شئت قل: إنّ البحث فی الإحتیاط وتبعیضه فی الشبهة الحکمیة بحث أصولی لا فقهی، فهو بحث حججی إحرازی.

الجواب عن السؤال

وقد یجاب دفاعاً عن الفرق بأنه بناء علی حجّیة الظن یکون الظن منجّزاً ومعذّراً ولوازمه حجّة، بخلافه علی الإحتیاط فإنّ لوازمه لیست حجّة والظن بالإمتثال والحکم معذّر فقط والمنجّز هو العلم.

ص:483

إلاّ أنّ هذا الجواب غیر تام لأنه مبنی علی أنّ التبعیض فی الشبهة الموضوعیة لا الحکمیة وأنه احتیاط فقهی لا أصولی.

بیان المائز بین الإحتیاط الفقهی والأصولی

ومن أجل أن تتبلور ملاحظتنا علی الجواب لابدّ من التفرقة بین الإحتیاط الفقهی والأصولی:

[ 1 ] الإحتیاط الأصولی یختلف سنخه عن الإحتیاط الفقهی، فإنّ الأول فی الشبهات الحکمیة والثانی فی الشبهات الموضوعیة.

فالشبهة الحکمیة لما کانت تعالج بعلاج أصولی فالإحتیاط فیها أصولی، والشبهة الموضوعیة لما کانت تعالج لعلاج فقهی فالإحتیاط فیها فقهی.

[ 2 ] إنّ دائرة الإحتیاط الأصولی أضیق من دائرة الإحتیاط الفقهی، فإذا دار الأمر بین مجتهدین متساویین فهناک رأی بأنّ العمل یکون بأحوط القولین.

ومثل هذا الإحتیاط أصولی، وهو غیر الإحتیاط الذی یذکر فی أول الرسالة العملیة من أنّ الإنسان إما أن یکون مجتهداً محتاطاً أو مقلداً.

فإنّ الأول احتیاط فی الطریق [ ومن ثمّ یبقی محصوراً فی دائرة معینة ] بخلاف الإحتیاط فی الواقع بما هو واقع فإنّه لا یتمّ إلاّ بملاحظة کلّ احتمالات المسألة، وهو الإحتیاط الفقهی.(1)

ص:484


1- (1) . [س] ولکن هذا احتیاط فقهی فی الشبهة الحکمیة، وهو ینافی لما تقدّم منکم أنّ الإحتیاط الفقهی خاص بالشبهة الموضوعیة. [ج] نحن نستهدف أمرین فی بیان الفوارق الأول: التفرقة بین الإحتیاط الفقهی والأصولی. وقد تبین بهذا الفراق الذی ذکرناه. الثانی: اختصاص الفقهی بالشبهة الموضوعیة والأصولی بالحکمیة وهو مورد السؤال، والجواب: أن الإحتیاط الفقهی هذا لیس فی الشبهة الحکمیة کما هو الحال فی الإحتیاط الأصولی وإنما هو احتیاط فقهی عند الشبهة الحکمیة إلاّ أنه لم یعالج هذه الشبهة وإنما عالج الموضوع مباشرة فهو احتیاط فقهی عند الشبهة الحکمیة فی الشبهة الموضوعیة.

[ 3 ] إنّ الأصولی هو مراعاة الواقع من قناة الطریق الأصولیة [ أو فقل: هو التحفظ علی الواقع من طریق الحکایة والإحراز الأصولی ] فهو متعلّق بالواقع ولکن عبر الطریق والحکم الأصولی، بینما الفقهی هو التحفظ علی الواقع بما هو هو ومباشرة.

وهذا الفارق یعتمد علی فهم کُنه الحکم الأصولی، فإنه علی اختلاف المبانی فیه یشترک الجمیع فی أنّ ملاکه الإستطراق والتحفظ علی الواقع، فهو حکم طریقی.

ومن خواص الحکم الطریقی:

1. إنه لا عقوبة علیه فی نفسه [ علی ما هو الدارج بین الأعلام. ]

2. إنّ امتثاله وعصیانه بلحاظ الواقع.

ومن ثمّ فالإحتیاط فی الطرق لا یعدو التحفظ علی الواقع ولکن من خلال إطار الطریق؛ لأنّ الطریق معذّر [ بمعنی أنه لا یجب التحفظ علی الواقع وراءه ] ومنجّز [ بمعنی أنه لابدّ من الإتیان بالواقع من خلاله. ] فالإحتیاط الأصولی هو التحفظ علی الواقع بقدر ما یریه مجموعها.

[ 4 ] الأصولی یتولد من العلم بوجود جعل للطرق من الشارع، فیحتفظ علی الواقع بقدر ما یکشفه مجموعها فقط، أما الفقهی فهو یتولد من العلم بوجود أحکام فیتحفظ علی الواقع بقدر کلّ احتمالاته.

[ 5 ] الإحتیاط فی الطرق لا یختلف بتاتاً عما لو کان الطریق معلوماً تفصیلاً أنه حجّة بالأخذ بمدلوله المطابقی والإلتزامی والتخصیص به فکیفیة العمل وکمّیته واحدة والوجه مختلف، ففی الوقت الذی هو احتیاط هو عمل بالطریق ومتابعة له.

أما الإحتیاط الفقهی فهو وظیفة عملیة بحتة فلا تکون مثبتاته حجّة

وغیر ذلک فهو نظیر العلم التفصیلی بالحکم الفقهی.

وبعبارة أخری: إنّ الفرق بینهما کالفرق بین العلم التفصیلی

ص:485

بالحکم الأصولی والعلم تفصیلاً بالحکم الفقهی.(1)

الخلط بین القسمین من الإحتیاط فی کلمات الأعلام

وإذا اتضحت هذه الفوارق تتبلور ملاحظتنا علی الدفاع عن الفرق بین التبعیض بالإحتیاط والظن علی الحکومة، بل یبدو أنّ هناک خلطاً بین القسمین من الإحتیاط، وأنه هو السرّ فی عدم التنبه إلی وحدة القولین.

فالآخوند مثلاً ذکر انحلال العلم الکبیر بالعلم الصغیر، وأنّ الإحتیاط فیه لیس بعسر ومن ثمّ لا تصل النوبة إلی الظن.

واستشهد الآخوند وغیره علی عدم عسر الإحتیاط بأنه کما لم یلزم العسر بالعمل بالاخبار جمیعاً من باب الظن الخاص [ کما فعل ذلک الأخباریون ] کذا لا یلزم مع الإحتیاط.

وهذا یرجع إلی ما ذکرناه من أنّ کیفیة العمل واحدة والمستند مختلف فبعض جعله العلم التفصیلی وآخر العلم الإجمالی.

ولکن یلاحظ علیه أنّ العلم الإجمالی المذکور متعلّق بالأحکام الفقهیة فهو ینتج احتیاطاً فقهیاً، ما ذکر فی کلماتهم هو الإحتیاط الأصولی؛ لأنّ الإحتیاط الفقهی یعنی مراعاة کلّ احتمالات الواقع، بینما هم لم یصوغوا الإحتیاط بالشکل الفقهی بقرینة تنظیرهم إیاه بالعمل بالأخبار من باب الظن الخاص.

ص:486


1- (1) . [س] بل کالفرق بین الحکم الأصولی والحکم الفقهی، فإنّ الإحتیاط الأصولی هو حکم أصولی فهو کالعلم التعبدی، والإحتیاط الفقهی کالحکم الفقهی. ومن ثمّ لا تکون لوازم الإحتیاط الأصولی حجّة لأنّ مثبتات الأصل لیست حجّة کما أنه علی هذا لم یتضح وجه العینیة فی الکمیة حینئذ والکیفیة. وتصویرکم إیاه کالعلم التفصیلی بالحکم الأصولی إخراج له عن کونه حکماً أصولیاً. ومع هذا فآثار العلم التفصیلی تبقی مختلفة عن آثار العلم الإجمالی فی دائرة التنجیز وعلی مستوی الإمتثال. ثمّ الإحتیاط الفقهی هل هو عین العمل بالحکم الفقهی أو لا؟ [ج] لم نقصد من الملاحظة هذه سوی التنویه إلی أنّ الإحتیاط الفقهی عمل فقهی، والأصولی عمل أصولی، ولا نقصد من العینیة أکثر من ذلک.
المناقشة فی کلام الشیخ

بعد کلّ هذا تبلور أنّ تفرقة الشیخ بین التبعیض فی الإحتیاط والظن علی الحکومة فی غیر محلّه؛ لأنّ التبعیض المذکور متولد من الظنون المحرزة والطرق للواقع، فاعتباره یساوی اعتبار الظن والطریق.

وبعبارة أخری: الإمتثال الظنی فی الشبهة الحکمیة لابدّ أن یکون ناشئاً من ظن بالشبهة الحکمیة ومعه لا یبقی فرق مع الظن علی الحکومة.

وإن شئت قل: إنّ الإحتیاط المذکور فی کلمات الشیخ أصولی لا فقهی وإلاّ لزم العسر والحرج حتماً [ بعّضنا أو لم نبعّض ] حتی لو کان فی باب واحد.

والإحتیاط الأصولی یلازم العلم الإجمالی بنصب الطرق والإحتیاط فی دائرتها الذی یرجع إلی العمل کما لو کانت معلومة تفصیلاً، فلا یفترق عن حجّیة الظن علی الحکومة الذی هو اجتزاء العقل بهذا القدر من الموافقة للعلم الإجمالی بنصب الطرق.

إبطال الإحتیاط وسائر الخیارات الأخری عدا الظن

أما الإحتیاط الکلّی فقد ذکروا أنه یؤدّی إلی اختلال النظام، والبعض أضاف إلی أنه حتی لو کان جزئیاً فهو یوجب العسر والحرج.

وصاحب الکفایة یعلّق علی هذه الضمیمة بأنّ قاعدة العسر إنما تجری علی مسلک الشیخ [ الذی هو أنّ الأدلّة نافیة مباشرة للحکم الحرجی والضرری فلا حرج ولا ضرر أی: لا حکم ضرری. ] وأما مسلک الآخوند فهو رفع الفعل الضرری والحرجی وهو یرجع لباً إلی رفع أثره وهو حکمه.

وقد أشکل البعض علی رأی الآخوند بأنّ لازمه عدم رفع الآثار الاولیة وإنما لازمه رفع الآثار التی اتخذت من الحرج والضرر

ص:487

موضوعاً لها [ أی قید الحکم ] فالحرج قید حکم التکلیف الذی هو الکراهة، والضرر قید حکم حرمة الضرر فیحرم القیام بفعل یوجب الضرر، أما مثل الصلاة فلم یؤخذ فی موضوعها الحرج کی یرفع حکمها مآلاً.

ویلاحظ علیه: إنّ مراد صاحب الکفایة من ارتفاع الأثر لیس خصوص ما ذکر وإنما الأثر الاولی أیضاً بطروّ الحرج والضرر علی العقل، نظیر الخطأ والنسیان فإنّ الرفع للأثر الأولی للفعل لولا الخطأ والنسیان، لا رفع الأثر المترتب علی نفس الخطأ والنسیان.

وصاحب الکفایة ذکر أنه علی مسلکه فی قاعدة العسر والحرج لا تجری القاعدة إذا لزم من الإحتیاط فیما نحن فیه العسر والحرج؛ وذلک لأنّ الفعل المعلوم بالإجمال فی واقعة لیس حرجیاً وإنما الحرج تولد من مراعاة مجموع الأطراف وهی غیر نفس الفعل.

بخلافه علی مسلک الشیخ وذلک لأنّ الحکم المعلوم بالإجمال سبب للإحتیاط الذی هو أثر عقلی للحکم الشرعی، فیتصف الحکم الشرعی بأنه حرجی، فیرتفع بتوسط قاعدة العسر والحرج.

ومن ثم لا مشکلة علی مبنی الآخوند فی التبعیض بالإحتیاط، بخلافه علی مبنی الشیخ فإنّ ما هو عسر من التبعیض باطل دون ما هو لیس کذلک.

المیرزا النائینی والمحقّق الإصفهانی قالا ببطلان الإحتیاط شرعاً، کلّ بصیاغة. وکلتا الصیاغتین تبطل الإحتیاط من رأس حتی التبعیض بالإحتیاط.

مناقشات

ولنا ملاحظات علی کلام الأعلام جملة وتفصیلاً:

[ 1 ] إنّ المراد من الإحتیاط إن کان الفقهی [ کما یظهر من کلمات الأعلام ] فهو یؤدی إلی اختلال النظام مهما بعّضنا فیه حتی فی الباب الواحد من المعاملات بالمعنی الأعم.

ص:488

[ 2 ] إنّ الإحتیاط إذا کان اصولیاً [ کما قد یظهر من عبارة الآخوند ] لا یلزم منه اختلال النظام ولا عسر وحرج متی لو کان کلّیاً، لما ذکرناه من أنه عین العمل بالطرق لو کانت معلومة تفصیلاً.(1)

قاعدة الحرج الثانیة

[ 3 ] هناک قاعدة حرج أخری بتوسطها یرفع أصل الإحتیاط حتی الجزئی لا بمقدار الحرج الشخصی کما ذکره الشیخ.

وقاعدة الحرج الثانیة [ سیأتی بحثها مفصلاً فی قاعدة الحرج ] خلاصتها: [ مع العلم أنّ مشهور الفقهاء إلی صاحب الجواهر قد التزم بها ] أنّ المراد بالحرج: النوعی، وهو تارة یراد منه نوع الفعل، وأخری نوع الإنسان استفراغاً، وثالثة المجموع الغالب للمکلّفین.

والمراد بالنوعی فی الحرج المنفی هو النوع الثالث.

ومثاله موقف الشیعة فی عرفة، فإنه لو ألزم الشیعة بالموقف الواقعی للزمه الحرج النوعی، بمعنی أنّ المجموع یقعون فی حرج.

ص:489


1- (1) . [س] ألا یمکن تصویر الإحتیاط الأصولی نتیجة مباشرة للعلم الإجمالی بالحکم الفقهی، ومعه لا یکون العمل بالإحتیاط عین العمل بالطریق إذ لابدّ من الأخذ بکلّ العموم حینئذ، إذا کان مثبتاً من دون تخصیصه بالخاص المرخص، بخلاف ما إذا کان العلم الإجمالی متعلّقاً بالطرق فإنّ الإحتیاط فیه عین العلم بالطرق عندما تکون معلومة تفصیلاً، لأنّ متعلّقه الحجّة فعندما ینجّز ینجّز کلّ الحجج، ولکن بهذا البیان: ما فرقه عن تقریب السیّد الروحانی (قدس سره) المتقدّم فی المقدّمة الأولی، حیث یظهر منه الإحتیاط الأصولی وإن لم یصرح بذلک. [ج] الشیخ والآخوند صوّرا الإحتیاط الأصولی نتیجة مباشرة للعلم الإجمالی بالحکم الشرعی، ولکنه غیر صحیح کما سنبین فی التنبیه الأول، وعلی فرض صحته فهو أیضاً عین العمل بالطرق کما سیتضح. وأما تمایزه عن بیان السیّد الروحانی فإن کان یقصد الإحتیاط الأصولی فلا تمایز بینهما سوی أنه غیر مبلور وإنما هو ارتکازی [وهو ارتکاز الآخوند کما یظهر من عبارة أخری له] وأنه لا یثبت لمجرد انحلال العلم الإجمالی وإنما لابدّ من إثبات مقدّمات أخری.

وإن شئت قل: إنه یسبّب حرجاً للطائفة.(1)

أدلّة القاعدة

ولاتضاح هذا النوع من الحرج نلفت الانتباه إلی أدلّة هذه القاعدة:

منها: «بعثت بالحنیفیة السمحة.»(2)

ومنها: (یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) (3)، وغیرها مما هو ظاهر فی بیان أساس التشریع وفلسفة الأحکام.

وکثیر لم یستفد من هذه الأدلّة حکماً شرعیاً؛ لأنّ الظاهر منها هو بیان حکمة الأحکام لا علّتها.

إلاّ أنّ الحقّ ما ذکرناه سابقاً من أنّ العمومات الفوقانیة کلّها تشریعات ولیست فقط أنها بیان للمقاصد وروح الشریعة.(4)

ص:490


1- (1) . [س] لم یتضح الفرق بین النوع الإستغراقی والمجموعی، إلا أن نفسّر المجموعی بما به ضرر أو حرج للعنوان کالطائفة والمذهب والذی هو بالتالی استغراقی. [ج] نعم، وان شئت قل: إن الحرج النوعی المنفی بهذه الأدلّة هو فی المورد الذی یکون عام البلوی، أو التکلیف الإبتلائی الغالب أو ما یلزم منه الحرج فی الهیئة الإجتماعیة.
2- (2) . عوالی اللآلئ 381/1، الحدیث 3
3- (3) . البقرة/ 185
4- (4) . [س] ولکن ما هی القرینة علی أنها تشریعات ولیست بیانات للملاکات التی بنی علی أساسها التشریع، خاصة وأنکم تمیلون إلی ما نقلتموه عن العلاّمة من أنّ القرآن الکریم عادة ما یبین الرؤیة الکونیة ثمّ یتبعه ببیان الملاکات ثمّ ببیان التشریعات الدستوریة، فعلی الأقل لابد من ملاحظة سیاق هذه الآیات لمعرفة أنها فی صدد بیان أی شیء. [ج] أولاً: هذه الآیات لا یخلو أمرها إما أن تکون تشریعیة وإما أنها مرتبطة بجوّ التشریع وبیان ملاکاته، وبالتالی وعلی أی حال هی صادرة من اللّه تعالی من حیثیة کونه شرعاً. ثانیاً: أنّ الأصل الاولی فی البیانات الصادرة من هذه الحیثیة أنها تشریعات ما لم تقم قرینة علی الخلاف وأنها فی صدد بیان الملاک أو شیء آخر، ولم یختلف اثنان من الأعلام علی هذا الأصل، وإنما تردد البعض فی ما نحن فیه لعلة أخری وهی أنّ هذه العمومات فوقانیة جداً، علی فرض أنها تشریع - لا یمکن لنا الاستفادة منها حیث یعسر أو یتعذر تتنزیلها، مما شکل قرینة علی أنها لیست تشریعات. ثالثاً: نکتة هذا الأصل الاولی هی أنّ البیانات المتکفلة لعرض الملاک أقل القلیل وأن الغالب هو التشریع ومن ثمّ کان الأصل هو ما لم تقم قرینة علی العکس.

وقد استفاد منها الفقهاء القدماء فی موارد خمسة، بل زاد علیها المحقّق القمی، بل زاد علیها الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی قواعده الستة عشر.

والعمدة فی هذه القاعدة فهمها وفهم فذلکتها الأصولیة.

وملخصاً [ والتفاصیل فی قاعدة الحرج ] أنّ هذه القاعدة بحکم کونها عموماً فوقانیاً تکون مهیمنة علی التشریعات النازلة، بمعنی أنّ لها نوعاً من التقدیم إما علی إطلاق التشریع النازل أو بنحو آخر.

ومثله ما نحن فیه فإنّ الشریعة بحکم سهولتها لا یمکن أن تبنی علی الإحتیاط، بحیث تکون وظیفة عموم الأتباع هو الإحتیاط.

[ 4 ] ما قالوه فی قاعدة الحرج الأولی [ من التفصیل بین مبنی الشیخ والآخوند فی ما نحن فیه ] محلّ تأمل.

والوجه أننا لسنا فی صدد نفی الثمرات الأخری، ولکن فی خصوص ما نحن فیه لا تظهر الثمرة؛ لأنّ الحرج وصف یصح أن یسند إلی الحکم والفعل بالواسطة، فإنّ الحکم الشرعی لیس من نفسه حرجیاً لولا العلم الإجمالی والتنجیز العقلی، فهو حرجی بواسطة أثره، وهو التنجیز العقلی.

والفعل کذلک لیس فی نفسه حرجیاً ولکن حکم العقل بضرورة إحراز الإمتثال والفعل هو الذی سیکون وراء حرجیة الفعل بعد أن کان الفعل معلوماً بالإجمال.

فکلّ منهما یتصف بالحرجیة بالواسطة لا بالمباشرة. فلا معنی للتفصیل بین المبنیین فیما نحن فیه. هذا أولاً .

وثانیاً: إنّ أحد الأدلّة التی أعدّها الآخوند فی اختیاره هو أنّ الحرج وصف حقیقی للفعل ویسند مجازاً للحکم. ولازم هذا الدلیل أن لا یفرق الآخوند هنا بین المبنیین، وذلک لأنّ مختاره أنّ کلّ مورد

ص:491

یوصف به الحکم بالحرج فهو نابع من اتصاف الفعل حقیقة فی مرتبة سابقة، مع أنه قبل علی مبنی الشیخ ترتب الحرج علی الحکم دون الفعل.

والعمدة فی الملاحظات المذکورة الأولی والثانیة، حیث إن الإحتیاط الفقهی یلزم منه العسر والحرج بل اختلال النظام مهما بعض، وأنّ الإحتیاط الأصولی هو الصحیح وهو الذی نلحظه مرتکزاً بین الأعلام، وأنّ الملاحظة الثالثة کفیلة بإبطال الإحتیاط الفقهی حتی الجزئی.

فالخلاصة: 1. الإحتیاط الفقهی الکلّی مرفوع [ بالإتفاق وإن اختلفت الأدلّة ] بالإخلال بالنظام وبقاعدة الحرج النوعی والشخصی، ومرفوع بصیاغتین المحقّق النائینی والمحقّق الإصفهانی الشرعیتین.

2. الإحتیاط الفقهی الجزئی مرفوع بالحرج الشخصی والإخلال بالنظام فی المعاملات، والحرج النوعی، وصیاغتا المحقّق النائینی والمحقّق الإصفهانی.

3. الإحتیاط الأصولی الکلّی والجزئی لا یلزم منه شیء من المحاذیر السابقة، لا اختلال النظام ولا العسر والحرج الشخصی کذا النوعی ولا صیاغة المحقّق النائینی ولا صیاغة المحقّق الإصفهانی.

إبطال البراءة وسائر الأصول النافیة

ویکفی فیه ما ذکر دلیلاً علی التنجیز فی المقدّمة الثالثة بکلّ صیاغاته الشرعیة العقلیة.

إبطال الأصول المثبتة

صاحب الکفایة لم یمنع من الرجوع إلی الأصل المثبت لموافقته للتنجیز.

ومع ضمّ ما ثبت من أحکام بالأصل إلی ما علم ضرورة أنه من الدین فلا یبعد انحلال العلم الإجمالی الکبیر فیمکن الرجوع للأصل

ص:492

المفرغ فی الباقی.

وقد ضجّ الأعلام من هذه الدعوی؛ لأنّ مقدار ما یثبته الأصل أقلّ قلیل فی الفقه حتی مع ضمّ الضروریات الفقهیة ولیس فقط الضروریات الدینیة.

نعم، یمکن أن نوسّع الضرورة الفقهیة بما ذکره السیّد المرتضی (قدس سره) من عدم الحاجة للظن فی الفقه لثبوته بالعلم، ویقصد منه الإستفاضة والأخبار المقرونة بقرائن تفید الوثوق والإطمئنان. ومن ثمّ یمکن تفسیر کلام الآخوند (قدس سره) وتصحیحه.

ولکن ما ذهب إلیه السیّد المرتضی لا یمکن أن یدّعیه ویمارسه إلاّ أحد اثنین:

1. من کان قریب العهد من عهد النص کالسیّد المرتضی.

2. من کان متضلعاً فی الفقه وبشکل شمولی کالشیخ کاشف الغطاء بحیث یرسی المسائل علی أدلّة قریبة ومتآخمة للعلم ولا یکتفی بالظن، خاصة فی المسائل العامة والکبریات الأم.

فالنتیجة أنّ الأصل المثبت لا یبطل إلاّ أنه لا یغنی حیث لا ینحلّ به العلم الإجمالی.

إبطال القرعة

بعض ذکر اختصاصها بالشبهة الموضوعیة ولکن الحقّ عمومیتها للشبهة الحکمیة لمعتبرة محمّد بن حکیم.

وآخر ذکر أنّ طبیعة الجعل فی القرعة لیس کقاعدة عامة فی کلّ الفقه بحیث یرجع إلیها دوماً ویرسی الفقه علیها وإنما کشیء استثنائی جداً بل هی استثناء فی الحکم الثانوی ومن ثمّ کانت آخر الحلول.

من هنا یجدر الإلفات إلی أنّ الحکم الثانوی أیضاً ضیّق النطاق؛ إذ الشارع لا یریده بشکل دائم أو مستمر وإنما فی حالة الطوارئ. ومن ثمّ علی الفقیه أن لا یبرز الحکم الثانوی بصورة الحکم الاولی

ص:493

مما یجعله فی معرض سوء الإستفادة وعدم الدقة فی تشخیص موضوعه والتسامح فی إیجاد المخرج الموضوعی منه، مع أنّ المطلوب عند الشارع هو التحفظ قدر الإمکان علی ملاکات الأحکام الأولیة، وأن یستفرغ الوسع تماماً فی ذلک.

إبطال الرجوع إلی من یری الإنفتاح

وقد ذکروا أنّ الإنسدادی یری خطأ القائل بالإنفتاح.(1)

ولکن کیف نحکم بخطأ فتاوی القدماء بعد أن کانت المصادر عندهم أثری فلا یمکن تخطئة القائل بالإنفتاح آنذاک، إلاّ أن یمنع من الرجوع إلیهم من باب عدم جواز تقلید المیت بالقطع، وإلاّ إذا کانت هذه المسألة ظنیة فحالها حال المسائل الأخری.

نعم، یمکن إبطاله بما ذکر من أنّ أدلّة التقلید لا تتناول المجتهد، وهذا دلیل علی عدم حجّیة فتوی المجتهد علی المجتهد سواء کان معاصراً أم قدیماً.

کذا قد یقال فی إبطاله إنّ الظن الحاصل من فتوی المجتهد القدیم لیس أقوی من الظن الذی یستحصله الإنسدادی بل قد یکون أضعف.

ص:494


1- (1) . [س] قد یکون الإنسداد بسبب إجمال الأدلّة لدیه لا بسبب عدم دلالتها، وفی مثله یخطأ القائل بالإنفتاح. [ج] الإجمال الذی یستند علیه المجتهد علی شکلین: الأول: أن یناقش ویخطئ کلّ التقریبات لا یصل، ومن ثمّ مثله یری خطأ القائل بالإنفتاح. الثانی: أن لا یصل إلی نتیجة فی الدلیل بأن لم یتمکن من حله صناعیاً، ومثل هذا لیس مجتهداً. وعلی هذا الأساس لابدّ من التمییز بین الفتوی بالإحتیاط الذی هو من قبیل الأول، وبین الإحتیاط فی الفتوی الذی یرجع إلی الثانی، وفی مثل الأول لا یجوز الرجوع إلی غیره دون الثانی. وما یلحظ من کثرة الإحتیاطات من النوع الثانی وان کان یعبّر عن عدم الإجتهاد، إلاّ أنه غیر مغلق بعد أن تعرف ما ذکره الآخوند من أنه لا فقیه مطلق.

وذلک لأنّ فتوی المجتهد وإن کانت أمارة إلاّ أنها متأخرة رتبة عن الأمارات والأصول لأنها متولدة منها، حیث أنها ظن حاصل من تلک الظنون.

ونحن قد ذکرنا مراراً أننا نتعامل مع الإجماع والشهرة کمنبّه علی وجود دلیل فهی أمارة متأخرة ولیست أمارة مباشرة علی الحکم، فلابدّ من الفحص عن الأمارة السابقة علیها.

فی المقدّمة الخامسة

والمقدّمة الخامسة لا دور لها سوی تعیین الموضوع وأنه الظن فی قبال الوهم والشک لقبح ترجیح المرجوح علی الراجح.

وقد اکتفی الأعلام فی حدیثهم عن هذه المقدّمة بهذا القدر تارکین التفاصیل إلی التنبیهات، فإنها هی التی تتکفل تفصیل هذه النتیجة.

ص:495

3 . تنبیهات الإنسداد

التنبیه الأول: الظن بالطریق والظن بالواقع
اشارة

إنّ الشیخ والآخوند (قدس سرهما) یتوافقان علی أنّ مقتضی المقدّمات السالفة حجّیة الظن المتعلّق بالحکم الفقهی والأصولی.

والدلیل علیه أنه کلّ ما کان مفرغاً فی فرض العلم التفصیلی [ فی الإنفتاح ] فمع تعذّر العلم تصل النوبة إلی ما هو دونه فیکون مفرغاً؛ لأنّ همّ العقل إنما هو تحصیل الأمن من تبعة التکالیف المعلومة، کما لا شبهة فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمّن منها.

ولا شبهة أیضاً فی أنّ کلّ ما کان القطع به مؤمِّناً فی حال الإنفتاح، کان الظن به مؤمِّناً حالَ الإنسداد جزماً، وأنّ المؤمِّن فی حال الإنفتاح هو القطع بإتیان المکلّف به الواقعی بما هو کذلک [ لا بما هو معلوم ومؤدّی الطریق ] أو بإتیانه الجعلی. ولا یخفی ذلک أنّ قضیة ذلک هو التنزّل إلی الظن بکلّ واحد من الواقع والطریق.

بتلخیص منّا: إنّ المفرغ فی فرض الإنفتاح هو القطع [ سواء کان متعلّقاً بالحکم الأصولی أو الفقهی؛ لأنّ کلیهما یولّد القطع بالفراغ ] والإنسداد لا یفعل شیئاً سوی أن یجعل الظن بدیلاً عن القطع.

دعوی الإختصاص بالظن الواقع أو بالظن بالطریق

ثمّ یتصدی العلمان لردّ دعویین:

الدعوی الأولی: إنّ الظن الحجّة هو المتعلّق بالواقع [ أی الحکم الفقهی].

الدعوی الثانیة: إنّ الحجّة هو خصوص الظن المتعلّق بالطریق [ أی الحکم الأصولی ].

منشأ توهّم الإختصاص بالظن بالواقع

ص:496

واستدلّ للأولی بأنّ العلم المأخوذ فی المقدّمة الأولی هو العلم بالأحکام الشرعیة، فالمقدّمات ألّفت علی الإنسداد فی المسألة الفقهیة لا الأصولیة.

وأجابا بأنّ المستهدف فی دلیل الإنسداد هو تفریغ الذمة، وهو کما یحصل بالعلم بالواقع والحکم الفقهی، کذا یحصل بالظن بالطریق والحکم الأصولی، فإنّ الظن بالطریق یولّد الظن بالفراغ، وسنبیّن لاحقاً أنه هو ما ذکرناه من أنّ التبعیض فی الإحتیاط هو الظن علی الحکومة.

منشأ توهّم الإختصاص بالظن بالطریق

واستدلّ للثانیة بوجهین:

الأول: [ ولعلّه للمحقّق التستری فی کشف القناع ] إنّ لنا علماً إجمالیاً بنصب الطرق وبه ینحلّ العلم الإجمالی الحکم الشرعی، ومن ثمّ یؤلف دلیل الإنسداد علی المسألة الأصولیة لا الفقهیة، وینتج حجّیة الظن بالطریق والحکم الأصولی لا حجّیة الظن بالواقع والحکم الفقهی.

ولوحظ علیه من قبل الآخوند والشیخ (قدس سرهما):

[ 1 ] إنّ العلم الإجمالی هذا یقتضی الإحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال لا حجّیة الظن، ولا یلزم منه عسر وحرج [ بشهادة أنّ الأخباریین عملوا بکلّ الأخبار من دون أن یلزم شیء ] والإحتیاط لیس أکثر من العمل بتلک الطرق نظیر ما لو کانت معلومة تفصیلاً [ کما بیّنا ذلک عند الحدیث فی المقدّمة الرابعة. ]

هذا إذا کانت الطرق من سنخ واحد [ وهو خبر الواحد ] أما إذا کانت من سنخین [ کالشهرة والإجماع ] فإنّ الإحتیاط الأصولی یسقط عند التعارض.

[ 2 ] إنکار وجود علم إجمالی بنصب الطرق.

[ 3 ] علی فرض وجوده، هناک قدر متیقن؛ لأنّ العلم الإجمالی

ص:497

ورد بین الأقلّ والأکثر، ومعه لا یکون التنجیز إلاّ بحدود المتیقن، ومن ثمّ لا یلزم الإحتیاط فیه العسر والحرج.

وجود القدر المتیقن فی العلم الإجمالی بنصب الطرق

وتوضیحه: قد یثبت للأصولی دلیل عام علی ضرورة نصب الشارع للطرق أو وقوع نصب للطرق [ ولم یشر الأصولیون فی بحوث الظنون الخاصة إلی هذا، حیث اقتصروا علی الأدلّة الخاصة، بینما اللازم البحث عن الأدلّة العامة علی الضرورة أو الوقوع. ]

ومع وجود هذه الأدلّة العامة یرید الشیخ والآخوند (قدس سرهما) إلفات نظر المحقّق التستری (قدس سره) إلی أنّ قیمة هذا الدلیل العام عین قیمة الدلیل الخاص. ومن خلال القدر المتیقن [ والذی هو حجّیة خبر الواحد الثقة أو الموثوق به ] وبالتالی فالأدلّة العامة [ علی فرض وجودها ] یستدلّ علی حجّیة خبر الثقة أو الموثوق به، وبالتالی لا انسداد وإنما انفتاح فی خصوص المتیقن.

هذا ولا یراد من المتیقن الذی یحلّ العلم الإجمالی کلّ متیقن وإنما بمقدار حدّ المعلوم بالإجمال. وإلاّ کلّ قدر متیقن یمکن فرض أقلّ منه حتی تصل إلی واحد، وهو لا ینفع فی حلّ العلم الإجمالی ما لم یکن بقدر حدّ المعلوم حتی یمکن الإنحلال.

[ 4 ] علی فرض وجود علم إجمالی بالطرق وأنه لا یمکن الإحتیاط فیه وأن لا متیقن، فإنه لا ینتج خصوص حجّیة الظن بالطریق وإنما الأعمّ؛ لأنّ المستهدف من جعل الطرق هو تنجیز الواقع ثمّ الفارغ عنه. فالظن بالواقع أیضاً مفرغ منجّز، فإنّ الطریق طریق بحت لا موضوعیة له.

فالنتیجة عامة سواء رتّبنا مقدّمات الإنسداد فی المسألة الفقهیة أم الأصولیة، والوجه هو أنه کلما کان القطع مفرغاً فی حالة الإنفتاح [ سواء کان وجدانیاً أم تعبدیاً الذی هو القطع بالطریق ] کذا فی الظن فإنه بدیله.

ص:498

عبارة غامضة لصاحب الکفایة (قدس سره)

وفی ذیل هذا الجواب هناک عبارة لصاحب الکفایة (قدس سره) لا تخلو من غموض [ ولم یقف عندها تلامذته سوی الحائری ] والعبارة هی: «هذا، مع عدم مساعدة نصب الطریق علی الصرف ولا علی التقیید، غایته أنّ العلم الإجمالی بنصب طرق وافیة یوجب انحلال العلم بالتکالیف الواقعیة إلی العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبة من التکالیف الفعلیة، والإنحلال وإن کان یوجب عدم تنجّز ما لم یؤد إلیه الطریق من التکالیف الواقعیة، إلاّ أنه إذا کان رعایة العلم بالنصب لازماً، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز. وعلیه یکون التکالیف الواقعیة کما إذا لم یکن هناک علم بالنصب فی کفایة الظن بها حال انسداد باب العلم، کما لا یخفی.»

ویقصد منها أنّ ترتیب دلیل الإنسداد فی المسألة الأصولیة ولزوم مراعاة العلم الإجمالی بنصب الطرق إنما هو بعد انحلال العلم الإجمالی بالحکم الفقهی، وهو لا ینحلّ إلاّ إذا کانت مراعاة العلم الإجمالی بالطرق لزومیاً ومنجّزاً، والفرض عدم اللزوم بل عدم الجواز.

وقد علّل بعضُ الشراح عدمَ اللزوم بعسر الإحتیاط فلا یلزم فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وعلّل عدمَ الجواز بأنه خلاف مذاق الشارع.

وهذا التعلیل وإن کان جیداً إلاّ أنه یجعل کلام الآخوند جدلیاً؛ لأنه جواب حسب مسلّمات الآخر، حیث بنی علی عسر الإحتیاط [ وإلاّ فالآخوند لم یبن مع العسر فی الإحتیاط الأصولی ولا علی اختلال النظام ] فتصل النوبة إلی الظن بالطریق.

فالآخوند (قدس سره) یقول: إذا کان الإحتیاط عسراً [ کما یراه التستری ] فهو یوجب سقوط العلم عن المنجّزیة، بل لا یجوز؛ لأنه خلاف مذاق الشارع، ومع عدم منجّزیة العلم بالطریق فلا یوجب انحلال العلم الإجمالی بالواقع، فلابدّ من ترتیب مقدّمات الإنسداد علی أساسه.

ص:499

شرح الحائری (قدس سره)

ومن ثمّ شرحها الحائری (قدس سره) ینحو آخر برهانی بعد مقدّمة وهی: إنّ هناک بحثاً بین الأصولیین لم یعنون فی کلماتهم، وهو أنّ الأخذ بالطرق فی الشبهات الحکمیة هل هو عزیمة تعیینیة أو أنه رخصة یستطیع العمل بها أو الإحتیاط؟ ونظیر هذا البحث فی الأمارات القائمة فی الشبهات الموضوعیة وأنّ الأخذ بها عزیمة تعیینیة أو رخصة، له أن یترکها إلی الإحتیاط؟(1)

وباتضاح المقدّمة المذکورة یقول الحائری:

إنّ الأخذ بالطرق لیس عزیمة وإنما رخصة، ومعه لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، ولا ینفی العلم الإجمالی بالواقع.

وهذا الشرح جیّد فی تصویر عدم اللزوم، إلاّ أنه لم یشرح عدم الجواز.

شرح آخر لکلام الآخوند (قدس سره)

ص:500


1- (1) . [س] إنّ جذر هذا البحث هل یرجع إلی بحث سابق وهو أننا مسؤولون عن الحکم بما هو هو أو بما هو من طریق وقناة المعصوم، ثمّ فی ذلک البحث هل یعنی أنّ قول المعصوم له موضوعیة فی الحکم بنحو الطریقیة أو أنه طریق بحت. [ج] یظهر من الأخباریین [وإن کانت کلماتهم غیر منظمة] أنّ العلم التعبدی قید فعلیة، ویظهر من کلمات بعضهم أنّ العلم التعبدی أعم من قول المعصوم حیث یصل إلی ما فی اللوح المحفوظ. ومختارنا أنّ قول المعصوم القطعی سنداً ودلالة قید فعلیة، شریطة أن لا یکون من خلال العقل البدیهی فالملازمة وأنّ خبر الواحد وسائر الطرق بما هو علم تعبدی بقول المعصوم لا بما هو علم تعبدی بالواقع شرط صحة وقید واجب لأنه یرجع إلی المتابعة والتولی لهم، ونحن نری أنّ الولایة شرط صحة. هذا فی العبادات، وأما فی المعاملات فهو واجب شرعی إلا أنه لیس شرط صحة. وعلی هذا البیان یکون الأخذ بالطرق عزیمة ولیس رخصة. وبهذا یصلح أن نصوغه دلیلاً شرعیاً علی عدم مشروعیة الإحتیاط، یضاف إلی صیاغة المیرزا المستوحاة من الإجماع بأنه نعلم من مذاق الشارع عدم قبوله الإحتیاط فی مقام الإمتثال. بالبیان التالی: أنّ العلم الاجمالی لا ینجّز الأحکام بالإحتیاط الفقهی وإنما من خلال بیاناتهم.

وهناک شرح ثالث یعتمد علی مقدّمة وهی أنه هل للحکم الأصولی مراحل نظیر مراحل الحکم الفقهی، أو أنه ذو مرحلتین: إنشائیة، وفعلیة؟ [ وهی التنجیز کما علیه مشهور المتأخرین، استناداً إلی أنّ الحکم الأصولی حقیقته الإستطراق والایصال، فإذا لم یکن هو واصلاً کیف یکون موصلاً، فماهیته وفعلیته قائمة بالتنجیز ووصوله إلی المکلّف. ]

وعلی المسلک الثانی فالعلم الإجمالی بنصب الطرق یعتمد عدم فعلیتها لعدم وصولها تفصیلاً فهو لسی بمنجّز بل لا یجوز مراعاته لعدم فعلیة الطریق وتنجّزه.

وعلی هذا التقریب لا تختص المسألة بالإنسداد، وإنما الآخوند (قدس سره) یرید أن یقول إنّ العلم الإجمالی بالحکم الأصولی یختلف عن الحکم الفقهی، سواء فی باب الإنسداد الکبیر أم فی غیره کما إذا حصل فی باب من الأبواب.

فالإجمال فی الحکم الأصولی یجعله حکماً إنشائیاً ولا یکون فعلیاً ما لم یعلم به تفصیلاً فلا یکون منجّزاً بل لا تجوز مراعاته والبناء علی انحلال العلم الإجمالی الفقهی وإنما یبقی العلم الإجمالی الفقهی منعقداً ومنجّزاً.

إشکال وجواب

ومما تقدّم ینبثق هذا السؤال : إنا نلحظ أنّ الأصولیین قد التزموا بالتنجیز فی العلم الإجمالی بالحکم الأصولی فی عدّة موارد؛ کمورد تساوی المجتهدین، حیث ذهب البعض إلی منجّزیة العلم فالقول بالإحتیاط، وکموارد تعارض الخبرین، حیث ذهب المحقّق النائینی إلی أنّ مقتضی القاعدة الاولیة هو التنجیز، وهو نوع من الإحتیاط الأصولی کما سیأتی، وفی موارد اشتباه الحجّة باللاحجّة فقد اتفقوا علی الإحتیاط بما فیهم الآخوند (قدس سره).

والجواب: إنّ الآخوند (قدس سره) ذکر فی هامش ملحوظته هذه بأنّ عدم

ص:501

منجّزیة العلم الإجمالی بالحکم الأصولی فیما إذا کانت الأطراف کثیرة دون ما إذا کانت الأطراف قلیلة فإنه منجّز.

وهذا الترمیم یمکن تفسیره حتی یتمّ بأنّ الکثرة توجب التوغّل فی الإبهام ولو لم تصل حدّ عدم الحصر ولم تصل حدّ الخروج عن محلّ الإبتلاء، وإزدیاد الإبهام وشدّته لا ینسجم مع ماهیة الحکم الأصولی، بخلاف ما إذا کانت الأطراف محدودة.

درجات إراءة العلم الإجمالی عن الواقع

وهذا التفسیر یفتح لنا أفقاً فی بحث العلم الإجمالی وهو أنّ قلّة أطراف العلم الإجمالی وکثرتها توجب تفاوت حکایته عن الواقع تفاوتاً تشکیکیاً، فهو فی منتهی ضعف حکایته عند وصوله حدّ عدم الحصر وهذا الضعف دون الظن التفصیلی قطعاً.

وهکذا تتصاعد نسبة حکایته کلّما قلّت الأطراف فتصل الذروة إذا تلخّصت الأطراف فی اثنین، وفی مثله لا یکون الإراءة دون الظن التفصیلی ولو کان تعبدیاً، بل هو أرفع حکایة وإراءة.

ومع هذا کلّما ازدادت الإراءة ازدادت القیمة الإحتمالیة فی کلّ طرف، والعکس بالعکس. وما ذکرناه ینسجم مع ما ذکر فی المعقول من أنّ العلم لیس متواطیاً وإنما ذو درجات. بل نفس اختلاط الإجمال مع العلم دلیل أنّ العلم ذو مراتب ولیس حکراً علی التفصیلی.

وهذه اللفتة ستنفع کثیراً فی مبحث العلم الإجمالی حیث سنری أنّ کثیراً من الإشکالات هناک جاءت نتیجة التسویة فی درجات العلم.

استدلال هدایة المسترشدین لاختصاص نتیجة الإنسداد بالظن بالطریق

الوجه الثانی لاختصاص الحجّیة بالظن بالطریق [ الذی ذکره هدایة المسترشدین ] أنه لابدّ للإنسان [ کوظیفة أولیة ] إحراز الإمتثال بالعلم، ومع تعذّر العلم تصل النوبة إلی الظن بالفراغ ولکن بحکم الشارع [ کما فی قاعدة الفراغ فی الشبهة الموضوعیة فإنها ظن تعبدی بالفراغ. ]

ص:502

ومعه لابدّ من تحصیل الظن بحکم الشارع بفراغ عهدتنا من التکلیف فی الشبهة الحکمیة. وأحکام الشارع هی الأحکام الأصولیة، فالظنُ الحجّةُ هو الظن بالطریق والحکم الأصولی.

ولاحظ علیه الآخوند:

[ 1 ] إنّ الحاکم علی الإستقلال فی باب تفریغ الذمه بالإطاعة والإمتثال إنما هو العقل، ولیس للشارع فی هذا الباب حکم مولوی یتبعه حکم العقل، ولو حکم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه. وقد عرفت استقلاله بکون الواقع بما هو هو مفرغاً، وأنّ القطع به [ حقیقةً أو تعبداً ] مؤمِّن جزماً، وأنّ المؤمِّن فی حال الإنسداد هو الظن بما کان القطع به مؤمِّناً حال الإنفتاح، فیکون الظن بالواقع أیضاً مؤمِّناً حال الإنسداد.

فما ذکره من ضرورة الإستحصال علی حکم الشارع بالفراغ غیر وجیه؛ لأنّ المطلوب هو استحصال الحکم العقلی بالفراغ، والعقل لا یفرق بین الظن بالحکم والظن بالطریق علی مستوی الفراغ.

[ 2 ] سلّمنا وجوب الفراغ بحکم الشارع إلاّ أنه یشمل الظن بالحکم الفقهی أیضاً، وذلک لأنّ الظن الذی یتعلّق بالحکم الفقهی یلازم الظن بقیام طریق معتبر علیه.

وبعبارة أخری: إنه لو سلّمنا بحجّیة الظن بالطریق فقط، إلاّ أننا صغرویاً نتمکّن من التوسّع منجهة أنّ الظن بحکم فقهی یلازم الظن بوجود طریق.

وهذا نظیر ما صنعها الأصولیون مع الأخباریین، حیث أنّ الأخیر حصر الحجّة بما یصدر من المعصوم (علیه السلام)، دون ما حکم به العقل، وقد قبل الأصولیون هذه الکبری إلاّ أنهم حلّوا المشکلة صغرویاً، حیث قالوا: إنّ ما یدرکه العقل من الأحکام یلازم صدوره من فم المعصوم (علیه السلام).

ثمّ یستشکل صاحب الکفایة (قدس سره) علی نفسه بأنه علی هذا الأساس لابدّ من الأخذ بالحکم الفقهی المظنون بالقیاس مع أنّ القیاس مردوع

ص:503

عنه.

وأجاب: إنا لا نعمل بالظن لأنه ولید القیاس وإنما بما هو ملازم للظن بقیام طریق معتبر علیه.

تبیین استدلال صاحب الحاشیة (قدس سره)

ولایضاح عمق أطروحة صاحب هدایة المسترشدین (قدس سره) وضعف مناقشات صاحب الکفایة (قدس سره) نثیر تساؤلین ونجیب عنهما:

التساؤل الأول: إنّ التنجیز یصبّ فی مرحلة إحراز التکلیف، والتعذیر یصبّ فی مرحلة إحراز الإمتثال، فهما سنخان، فکیف اجتمعا فی الحجّة حیث أنها منجّزة ومعذّرة، ولم یستشعر الأعلام التنافی فی ذلک؟

التساؤل الثانی: عندما تکون أمارة معذّرة فهو یعنی وجود منجّز وراءها، إذ لولا التنجیز لم یکن للتعذیر معنی.

ومعه کیف یکون هذا المعذّر منجّزاً عند إصابته، إذ یلزم منه اجتماع منجّزین مع أننا بحاجة إلی مفرغ.

وهذا التساؤل عین التساؤل الأول الذی أثرناه فی مطلع الحدیث فی المقدّمة الرابعة ولم نجب عنه هناک علماً أنّ الإجابة عن هذین السؤالین ستبرز لنا خصیصة فی الحکم الأصولی فی الشبهة الحکمیة، مفقودة فی کلّ العلم من الحکم الفقهی، والأمارة فی الشبهة الموضوعیة.

والجواب: أنّ المنجّز ابتداءً لیس خصوص الأمارات والظنون الخاصة فضلاً عن الظنون العامة، وإنما الأدلّة العقلیة والنقلیة الموجبة للإعتقاد باللّه ورسوله والشریعة [ والتی کانت وراء حصول العلم الإجمالی بالأحکام الشرعیة. ]

وهذا العلم لا ینعدم تکویناً بتوسط الظن الخاص أو العام وإنما یبقی علی حاله سوی أنه ینحلّ حکماً [ بمعنی أنّ الظن الحجّة یعلّق منجّزیته ویضیقها به. ]

ص:504

وإن شئت قل: إنّ المنجّز التعبدی اللاحق یحدّ من دائرة المنجّز السابق ویلخّصها به، ومن ثمّ ففی صورة الظن الحجّة [ أصاب أو لم یصب ] یبقی العلم الإجمالی السابق علی حاله تکویناً ولکن منجّزیته تجمد [ بمعنی أنه ینحلّ حکماً ] أقصاه أنه فی حالة عدم إصابة الظن الواقع نحتاج إلی معذّر عن الواقع لوجود المنجّز السابق، والمعذّر هو الظن فإنه یکون بمنزلة المفرغ عن المنجّز السابق ومخرجاً عن عهدته.

وبالإلتفات إلی ما تقدّم [ من أنّ الحکم الأصولی یقع فی سلسلة معالیل الحکم الفقهی ثبوتاً، لا فی سلسلة علله وإن کان کذلک إثباتاً ] تتضح المسألة أکثر؛ حیث إنّ خصیصة الحکم الأصولی فی الشبهة الحکمیة التفریغ عن الحکم الفقهی المنجّز بالعلم الإجمالی فی صورة خطأه بل الظن مفرغ حتی فی صورة الإصابة.

ببیان: أنّ الإنسان لما کان مسؤولاً عقلاً عن الشریعة المعلومة، کان مسؤولاً عقلاً عن إحراز الإمتثال والفراغ، وهو إما أن یتمّ بالعلم الوجدانی به من خلال الإحتیاط، وإما أن یتمّ بالعلم التعبدی فی الشبهة الحکمیة، حیث یقوم بتشخیص التکالیف کخطوة أولی فی طریق الفراغ، فإن أصاب فیکون معذّراً عن الواقع.

وبالعرض هذا تبلور متانة أطروحة صاحب هدایة المسترشدین (قدس سره) وخلل مناقشة صاحب الکفایة (قدس سره) علیه من أنّا لا نحتاج إلی مفرغ شرعی، وذلک لأنّ تعذیر الحجّة لیس أکثر من کونها مفرغة، غایته أنّ مثل الآخوند فهم من صاحب الهدایة (قدس سره) أنه یتحدّث عن التفریغ الموضوعی الجزئی ومن ثمّ أشکل علیه، مع أن حدیث صاحب الحاشیة (قدس سره) فی التفریغ فی الشبهة الحکمیة، وهو یختلف عنه فی الشبهة الموضوعیة.(1)

ص:505


1- (1) . [س] نحن إما أن نتنازل عن منجّزیة الظن ونستبدلها بأنها مشخص تفصیلی تبعدی للتکالیف المنجّزة مسبقاً، وعلی فرض الخطأ فهو معذر. وبالتالی عندما یقال إنّ الظن منجّز، یعنی أنه مفصّل للإجمال ومشخّص للمنجّز، والإنحلال الحکمی یحصل من زاویة تعذیره وتفصیله التعبدی. وإما أن نقبل أنّ الظن منجز حقیقة، ولکن تنجیزه یختلف عن تنجیز العلم الإجمالی، فإنّ العلم الإجمالی بالتکالیف أو العلم بوجود رسول وشریعة مأخوذ فی موضوع التکلیف - قید فعلیة ووجود - والظن منجّز مفرغ، أو نقول إنّ للتنجیز مرحلتان إحداهما تقع فی طریق التفریغ عن الحکم والآخر مرتبط بوجود الحکم ثبوتاً أو شیء من هذا القبیل. [ج] لابدّ من الإلتفات إلی أنه مع وجود الإراءة هناک تنجیز، وفی الظن إراءة فهو منجّز، ومن ثمّ یشتد التنجیز فی مورد إصابته خلافاً للأعلام الذین قالوا: إن المتنجّز لا یتنجّز. وفی صورة خطأه یکون مفرغاً ومعذراً عن تنجیز العلم الإجمالی. إلا أنه مفرغ علی مستوی الشبهة الحکمیة لا الموضوعیة. ومن ثمّ اختلف مع مثل قاعدة الفراغ، فإنها تجری فی العمل الخارجی الجزئی الذی تم الإتیان به امتثالاً، فتحرّز امتثاله تعبداً، بینما الظن یجری فی الحکم المنجّز وقبل امتثاله فیعذر عن امتثاله.
التنبیه الثانی: الکشف والحکومة

الشیخ والآخوند (قدس سرهما) بنیا علی أنّ مقتضی مقدّمات الإنسداد هو التبعیض فی الإحتیاط بحکم العقل، فلا تصل النوبة إلی الکشف، فالظن لیس بمحرز وإنما هو مفرغ.

والمحقّق العراقی ذکر أنه مع حجّیة الظن علی الحکومة لا تصل النوبة إلی الکشف، والمحقّق النائینی والمحقّق الإصفهانی فرضا وصول النوبة إلی الکشف.

ویضیف الآخوند (قدس سره):

أولاً: إنّ قاعدة «کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع» لا تجری فی الأحکام العقلیة الواقعة فی سلسلة معلولات الحکم الشرعی وآثاره [ والتی أسماها البعض بالأطوار العقلیة للحکم الشرعی. ]

وعندما ندقق فی هذه اللفتة نلحظ أنها إنکار لقاعدة الملازمة فی الأحکام الأصولیة؛ لأنّ البحث لیس فی الشبهة الموضوعیة وإنما فی الشبهة الحکمیة، وحکم العقل فی الشبهة الحکمیة حکم أصولی.

والمیرزا الکبیر قبل القاعدة فی الحکم الأصولی، کما یلاحظ ذلک فی البراءة حیث استدلّ علی شرعیتها بحکم العقل بها الملازم لحکم الشرعی.

ص:506

ثانیاً: یشکل علی نفسه أنه مع إنکار قاعدة الملازمة کیف نفسّر إمکان أن یتعبدنا الشارع بنصب الطرق، حیث یعنی إمکان الحکم الشرعی. ومعه تجری قاعدة الملازمة.

ویجیب أنّ الحکم الشرعی الأصولی مع وجود حکم عقلی یصبح لغواً، لعدم ترتب آثاره علیه کتنجیز الواقع حیث حصل بالعلم الإجمالی، وکتعذیره الحاصل بحکم العقل بالتبعیض فی الإحتیاط.

ویفهم من کلامه أنه فی صدد بیان أنّ المانع من جریان قاعدة الملازمة هو لغویة الحکم الأصولی الشرعی.

ویلاحظ علی الشیخ والآخوند: أنّ ما ذکراه من التبعیض فی الإحتیاط یرجع کنهاً ولباً إلی حجّیة الظن علی الکشف ولیس قولاً فی قباله کما توهّمه الکثیر.

ومثله الظن علی الحکومة، فإنه یرجع فی الواقع إلی الظن علی الکشف، بل ذکرنا سابقاً أن لا فرق بین نظریة الظن علی الحکومة والتبعیض فی الإحتیاط إلاّ فی الإسم.

وتصویر الرجوع تقدّم سابقاً:

[ 1 ] إنّ المفرغ فی الشبهات الحکمیة یختلف سنخاً عن المفرغ فی الشبهات الموضوعیة فی أنّ الأول عین المنجّز دون الثانی.

[ 2 ] إنّ الحکم الأصولی یقع فی سلسلة الفراغ من الحکم الفقهی ثبوتاً.

[ 3 ] الفرق بین الإحتیاط الأصولی والفقهی.

وعلی ضوء هذه الأسس یتبلور ما ذکرناه؛ إذ أنّ الإحتیاط التام الذی أبطله الأعلام فی المقدّمة الرابعة هو الإحتیاط الفقهی، ومنه وصلت النوبة عندهم إلی تعیّن العمل بالظن، ونحن معهم.

إلاّ أنا قد ألفتنا سابقاً إلی أنّ الظن فی الشبهة الحکمیة حکم أصولی، وأنّ الفقهی هو المتعلّق بالشبهة الموضوعیة، فالإنتقال من الإحتیاط الکلّی الفقهی [ والخیارات الأخری ] إلی تعیّن العمل بالظن یساوی القول بحجّیة الحکم الأصولی وأنه معذور ومفرغ.

ص:507

لأنّ تعیّن العمل بالظن یعنی أنه مسؤول عن الحکم بحدود بدائرة الظن ومعذور عما وراءه، فهو غیر مرتبط بالإمتثال والفراغ والتطبیق الخارجی مباشرة، وإنما بإحراز الحکم، فالعمل بالظن فعل أصولی مرتبط بالإستنباط والإراءة. وهذا هو الحجّیة ولیست شیئاً آخر.(1)

بعد هذا یقع السؤال : إنّ الحجّیة هذه هل هی شرعیة أو عقلیة؟

والجواب: أنها شرعیة علی کلّ الأحوال، وتسمیتها بالعقلیة غفلة ولا یعدو الإسم، وذلک: لأنه إن بنینا فی المقدّمة الثالثة علی أنّ المنجّز شرعی، فالنتیجة هی حجّة الظن شرعاً، ولا مشکلة.

وإن بنینا علی أنّ المنجّز عقلی لیس غیر، فتعیّن العمل بالظن لا یتمّ إلاّ بإبطال کلّ الخیارات فی المقدّمة الرابعة، وهو لا یکون إلاّ بتوسط الشرع دون العقل فإنه یحکم بالإحتیاط التام.

وهذا کاف فی صیرورة النتیجة شرعیة، بل یکفی فی شرعیة النتیجة إثبات أو إبطال ولو شق واحد من أی مقدّمة بتوسط الشرع،

ص:508


1- (1) . [س] بعد فرض أنّ الإنتقال من منجّزیة العلم الإجمالی للحکم الفقهی لحجّیة الحکم الأصولی أعمّ من أن یکون حجّیة الظن بالواقع أو حجّیة الظن بالطریق، هل الحکم الأصولی المذکور هو الظن بالحکم الفقهی، ومعه فالبیان المذکور لا یصلح إلاّ لتصویر أنّ الحجّیة شرعیة، أما أن الحجّة هی الظن بالطریق دون الظن بالحکم فهذا ما لم یتم إثباته بعدُ. وإن کان الحکم الأصولی هو الظن بالطریق، فهذا لازم لتصریحهم أنّ الظن بالحجّة أعم من الظن بالواقع أو بالطریق، ولیس لازماً لخصوص تعین العمل بالظن. وإن شئت قل هو لازم ما ذکروه فی التنبیه الأول لا المقدّمة. ومن مجموع ما تقدّم یبدو أنّ الخلاف فی النتیجة وأنه الظن الشرعی أو الظن علی الحکومة أو التبعیض فی الإحتیاط، وکلّ من الأول والثانی حکم أصولی، والثالث فقهی بتصور الأعلام إلا أنکم صورتم أنه أصولی وأنه عین الظن بالواقع، ثمّ صوّرتم أنه کلّه شرعی. وهناک خلاف آخر: إنّ النتیجة هل هی الظن بالطریق أو الظن بالواقع أو کلاهما وناقشتم من خصه بالثانی إلاّ أنّ القضیة لم تحسم لصالح الأول فقط بعد؟ [ج] الحکم الأصولی المذکور هو حجّیة الظن بالحکم الفقهی، وإثبات حجّیة الظن بالظن یأتی الحدیث عنها.

وذلک لأنّ النتیجة العقلیة لابدّ أن تکون کلّ مقدّماتها قطعیة، ومع ظنیة شیء من المقدّمات لابدّ أن تکون النتیجة تعبدیة.

وإن شئت قل: إنّ العقل یحکم علی ضوء تعبد الشرع وبتبعه، ویقصد من حکمه اکتشافه النتیجة علی أساس أنها لازم التعبد.

وبعبارة أخری: إنّ النتیجة بعد کون بعض مقدّماتها تعبدیة لا یمکن أن تکون من مصادیق حکم العقل المستقل وإنما هی من غیر المستقلات العقلیة التی تکون الملازمة فیها عقلیة قطعیة واللازم شرعی، نظیر غیر المستقلات العقلیة کوجوب المقدّمة.(1)

ومما تقدّم یتضح أن لا موضوع لما ذکره الآخوند (قدس سره) من عدم

ص:509


1- (1) . [س] إنّ هذا یعنی أنّ کلّ الأطوار العقلیة للحکم الشرعی هی شرعیة والعقل یحکم بالملازمة لیس أکثر؟ [ج] نعم، هی لیست مصادیق للعقل المستقل. ولکن العقل غیر المستقل علی شکلین: الشکل الأول: أن یحکم العقل بالملازمة واللازم شرعی، أی أنّ العقل کاشف عن شرعیة اللازم بموجب لزوم الملزوم شرعی. والشکل الثانی: أن یحکم العقل باللازم، ومن ثمّ لا یکون اللازم شرعیاً ولکنه منبثق عن ملزوم شرعی. ومثال الثانی: وجوب الطاعة والتنجیز الخاص - أی للحکم الخاص - والإمتثال وإحرازه. ومثال الأول: وجوب المقدّمة - علی بعض المبانی - ومانحن فیه. فإنّ الشارع عندما یبطل کلّ الخیارات الأخری یکشف العقل عن اعتبار الشارع للظن، لا أنه هو الذی یحکم بحجّیته. [س] بل هو الذی یحکم، لأنه قد حکم العقل بمنجّزیة العلم الإجمالی، والشارع لم یفصل شیئاً سوی أنه قلّص أطراف العلم بحذف الموهومات والمشکوکات.فیبقی الباقی وهو المظنونات ضمن دائرة التنجیز ولا جدید إضافه الشارع. [ج] بالبیان المذکور لا یثبت إلاّ الإحتیاط الفقهی فی الجملة [فی دائرة الظن] وإن شئت قل: لا یثبت إلاّ الإمتثال الإحتمالی فی الدائرة المذکورة فی حین أنا نری أنّ هناک اعتباراً للارائة الموجودة فی الظن ومن ثمّ کان منجّزاً ومعذراً، ولم یقتصر فی التنجیز علی إرائة العلم الإجمالی، کما لم یقتصر فی التعذیر علی حذف الشارع ما عدا الظن، بل الظن منجّز ومعذر، ومثل هذا لا یحکم به العقل وإنما یکشف عن شرعیته العقل.

جریان قاعدة الملازمة، لأنّ حکم العقل لیس مستقلاً.

إضافة إلی أنه تصور أنّ البحث فی الإمتثال وإحرازه الفقهی، بینما الحدیث فی الإحراز الأصولی بقرینة أنّ البحث فی الشبهة الحکمیة.

نعم، ما ذکره من عدم جریان قاعدة الملازمة فی الحکم العقلی یحتاج إلی وقفة وتأمل وسنتعرض له مفصلاً فی بحث البراءة.

وعلی أی حال: فقد اتضح ضرورة التفکیک بین البُعد الفقهی والأصولی فی کلّ من الإحتیاط والظن والإمتثال العقلی؛ فإنّ الکثیر من الغفلات جاءت نتیجة الخلط بینهما.

التنبیه الثالث: تعمیم النتیجة بلحاظ الأسباب والموارد والمراتب
اشارة

ثم إنّ الآخوند (قدس سره) حاول تعمیم النتیجة بلحاظ الأسباب والموارد والمراتب، ویقصد من الأول الشهرة والإجماع وخبر الواحد والظهور.

إلاّ أننا سنری أنهم لا یلتزمون فی الأسباب أکثر من الأسباب المعهودة فی الإستنباط، أما مثل العلوم الغریبة فلا یعملون بها ومن ثمّ ربما یقصد من الأسباب هی التی یحتمل اعتبارها.

ویقصد من الثانی الأبواب الفقهیة طراً.

ویقصد من الثالث درجة الظن الحجّة أعمّ من الإطمئنان والظن الصادق فی کلّ درجاته.

أقسام الطریق

وهناک اصطلاحات ثلاثة أخری فی المقام:

1. الطریق الواصل بنفسه.

2. الطریق الواصل بطریقه.

3. والطریق غیر الواصل.

والوصول وصف لاعتبار الطریق أیضاً، لا وصف الطریق فقط، ومن ثمّ یقع السؤال أنه مع الإنسداد ما معنی کونه معتبراً؟

ص:510

والجواب: المقصود من الإعتبار ما هو الواصل بتوسط طریق الإنسداد لا بغضّ النظر عنه، فعندما نقیم دلیل الإنسداد تارة نتیقن باعتباره من دلیل الإنسداد فهو واصل بنفسه، وأخری: واصل بطریقه فی ظرف دلیل الإنسداد، أی أنّ دلیل الإنسداد لا یثبته وإنما لابدّ من إقامة طریق آخر علاوة علی دلیل الإنسداد، وذلک الطریق إنسداد ثان وقد یترامی إلی ثالث ورابع. أو إجماع أو قدر متیقن أو ما شاکل ذلک. ومثله یقام فی المسألة الأصولیة محضاً، وثالثة: مع فرض إقامة دلیل الإنسداد لا تصل لا به ولا بتوسط انسداد آخر. ومن ثمّ لابدّ من الإحتیاط فیها باحتیاط أصولی. وهذه الإصطلاحات أفرزَتْها مبان ثلاثة فصارت أقوالاً:

[ 1 ] إنّ البعض یصوغ دلیل الإنسداد بنحو یثبت لنا الأول.

[ 2 ] یصاغ دلیل الإنسداد بنحو ثبت لنا الثانی إما بخصوصه أو مع الأول.

[ 3 ] یصاغ دلیل الإنسداد بنحو یثبت لنا الثالث إما بخصوصه أو مع الأولین.

حقیقة الحجّیة

وتوضیحه یعتمد علی أنّ حقیقة الحجّیة [ الحکم الظاهری ] ما هی؟ هل هی نظیر الحکم الفقهی فی مراحله الثلاث الأساسیة [ الإنشائیة، الفعلیة، التنجیز ] أو أنّ له مرحلتین [ الإنشاء، التنجیز ] والفعلیة مندکّة فی التنجیز؟

ومَن یبنی علی الثانی لا محالة یثبت القول الأول [ وهو أنّ دلیل الإنسداد ینتج لنا حجّیة الطریق الواصل بنفسه ] أی أنّ الحجّة هو

خصوص الواصل بتوسط دلیل الإنسداد وإلاّ لم یکن فعلیاً.

أما مَن یلتزم بالأول فلا محالة أنه سیلتزم بالقول الثالث؛ لأنّ الحجّیة لم ترهن فعلیتها بالوصول، ومن ثمّ یصوغ دلیل الإنسداد بشکل یثبت الحجّیة لکلّ طریق موجود وصل أو لم یصل. وتکون

ص:511

الحجّة فعلیة ومن ثمّ یمکن أن تتنجّز بالعلم الإجمالی، بخلاف من التزم بالثانی فإنّ العلم الإجمالی لا یوجب الفعلیة، ومع عدم الفعلیة لا یعقل التنجیز، ومن ثمّ یمتنع الإحتیاط الأصولی فی الحکم الأصولی.

ولا یخفی أنّ البحث المذکور لا یختص بدلیل الإنسداد حیث یعمّ کلّ دلیل یثبت حکماً أصولیاً، فدلیل حجّیة الخبر هل یثبت لنا الخبر الواصل بنفسه؟

ومن ثمّ إذا فحص المجتهد بشکل تام ولم یعثر علی روایة موجودة واقعاً، لا تکون حجّة علی القول الأول، وحجّة علی القول الثالث.

کذا لو لم یبن علی حجّیة خبر الثقة لفترة ثمّ التفت إلی شمول الدلیل له، فاعتبار خبر الثقة لم یصل إلیه فی تلک الفترة فعلی القول الأول لیس بحجّة وعلی الثالث حجّة.

فهذا البحث فی الواقع عن العلاقة بین دلیل المسألة الأصولیة والحکم الأصولی.

وأما الفرق الثانی فیعتمد البناء علی أنّ الحجّیة ذات مرحلتین أیضاً، ولکن یمنع أن یکون الوصول التفصیلی بنفسه فقط؛ إذ یکفی الوصول التفصیلی بطریقه.

وإن شئت قل: لا ینحصر الوصول بالوصول الوجدانی، وإنما یعمّ الوصول التفصیلی التعبدی. ومنه یعرف أنّ الأحکام الأصولیة قد تترامی.

بعد هذا نرجع إلی الآخوند فی تعمیمه النتیجة إلی الأسباب والموارد والمراتب لنستمع إلی دلیله حیث یذکر وضوح تعمیم النتیجة إلی الأسباب والموارد علی القول بالتبعیض فی الإحتیاط، عدا ما یعلم من الشارع أنه لم یکتف فیها بالظن کالفروج والدماء.

وأما التعمیم بلحاظ المرتبة فالمعیار عدم العسر والحرج.

أما علی القول بالحجّیة [ أعمّ من الکشف والحکومة ] مع فرض أنّ النتیجة هی الحکم الأصولی الواصل بنفسه. فلا تکون النتیجة عامة لکلّ الأسباب وإنما یقتصر علی القدر المتبقی وهو خبر الثقة؛

ص:512

لأنه ما من قائل بالإنفتاح إلاّ قال بحجّیته، وما من قائل بالإنسداد إلاّ قَبِلَه حجّة.

نعم، یمکن التعمیم بلحاظ الموارد إلاّ مع الدلیل الخاص کالفروج والدماء، لذا یمکن التعمیم بلحاظ المراتب فی خبر الثقة إلاّ إذا حصل قدر متیقن فیقتصر علیه.

ومع فرض اختیار اعتبار الطریق ولو بطریقة فمع وجود المتیقن [ فی مجال الأسباب ] الواصل بنفسه ومع وفائه بالفقه یقتصر علیه، وإلا لابدّ من إجراء الإنسداد ثانیة أو أی دلیل آخر قطعی کالإجماع کی یتوصل لطرق تعین الطرق بقدر یفی بکلّ الفقه.(1)

وأما بلحاظ المراتب والموارد فکسابقه.

ومع فرض اختیار اعتبار الطریق ولو غیر الواصل فإنه یؤدی إلی الإحتیاط الأصولی، لأنّ العلم الإجمالی سیکون منجّزاً حینئذ.

التنبیه الرابع: فی کیفیة تعقّل عموم النهی عن القیاس فی حال الإنسداد
اشارة

وتقریره [ علی ما فی رسائل الشیخ ] أنه کیف یجامع حکم العقل

ص:513


1- (1) . [س] مادة الوفاء بالفقه جدیدة، فهل المقصود منها أن ما وراء المتیقن إذا کان لا یوجب العسر والحرج فالعلم الإجمالی منجّز فیه ومن ثمّ لابد من ظن آخر حجّة وهکذا حتی یصل الأمر إلی حالة العسر والحرج. [ج] نعم. [س] ثمّ إن العلم الإجمالی لما کان منجّزاً والمقدّمة الرابعة لم تحذف إلاّ المشکوک والموهوم فیبقی الظن بکلّ أشکاله منجّزاً وحجّة فلِمَ کان الإقتصار علی المتیقن أولاً من ناحیة الأسباب. حتی نحتاج إلی دلیل آخر للتوسعة؟ [ج] دلیل الإنسداد لبّیة لا إطلاق فیه، ومن ثمّ اتقصر علی القدر المتیقن. [س] ولکن الإقتصار علی القدر المتیقن فی ظرف الشک أما عدم الشک فلابدّ للإقتصار، وفیما نحن فیه نعلم ببرکة دلیل الإنسداد بأنّ التنجیز انحسر عن الشک والوهم وبقی فی دائرة الظن کله. [ج] التنجیز الذی کان للعلم الإجمالی بالأحکام والشریعة هو التنجیز الفقهی المستتبع للإحتیاط الفقهی. ودلیل الإنسداد لم یقلص من دائرة هذا التنجیز والإحتیاط فقط کی یصح ما ذکر فی السؤال. وإنما استبدل الإحتیاط الفقهی بالإحتیاط الأصولی، ولا علم بالإطلاق فیقتصر علی المتیقن لأنه لبی.

بکون الظن کالعلم مناطاً للإطاعة والمعصیة، ویقبح علی الآمر والمأمور التعدی عنه، ومع ذلک یحصل الظن أو خصوص الإطمئنان من القیاس، ولا یجوز الشارع العمل به، فإنّ المنع عن العمل بما یقتضیه العقل من الظن، أو خصوص الإطمئنان لو فرض ممکناً، جری فی غیر القیاس، فلا یکون العقل مستقلاً، إذ لعله نهی عن أمارة مثل ما نهی عن القیاس بل وأزید واختفی علینا، ولا دافع لهذا الإحتمال إلاّ قبح ذلک علی الشارع، إذ احتمال صدور ممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلاّ بقبحه، وهذا من أفراد ما اشتهر من أنّ الدلیل العقلی لا یقبل التخصیص.

وبجملةٍ: إنّ حکم العقل بلزوم اتّباع الظن لا یقبل التخصیص [ لأنّ موضوعه علّة تامة له ] فکیف اشتهر القطع بخروج القیاس عن عموم نتیجة دلیل الإنسداد؟

وأجاب الشیخ بأجوبة کثیرة، اختار منها الآخوند مجموعة وأمتنها: إنّ حکم العقل بلزوم اتّباع الظن لیس علی نسق حکم العقل بلزوم اتّباع العلم، فإنّ الثانی تنجیزی، والأول تعلیقی علی مقدّمات الإنسداد [ التی أحدها عدم وصول التعبد من الشارع فمع وجود التعبد لا موضوع لحکم العقل، کما هو الحال فی القیاس فإن النهی عنه ضروری. ]

والإشکال مبتنٍ علی أنّ تمام موضوع الحجّیة هو الإنسداد، مع أنّ الموضوع هو الظن مع عدم التعبد الواصل، فالتعبد بالنهی عن القیاس یدلّ بالإلتزام علی وجود تعبد خاص فی الأصل العملی یلزم الرجوع إلیه وأنّ ظنّه ک-«لاظن»، فهناک علمان بتعبدین.

ویضیف الآخوند أنّ الأحری أن یصاغ الإشکال بهذه الکیفیة: إنّ

ص:514

النهی عن القیاس عام شامل للإنسداد وغیره، کذا الموارد الإصابة وغیره.

ومن هنا قد یقال: إنّ النهی هذا یستلزم النهی عن الواقع وهو یستلزم تحلیل الحرام وتحریم الحلال. وهذا الإشکال وجیه فی أصل النهی عن القیاس، لا فی شموله للإنسداد بعد الفراغ عن صحته.

وجوابه نفس جواب ابن قبة.

إشکال آخر فی المقام

وهناک إشکال آخر فی عموم النهی عن الظن القیاسی لحال الإنسداد [ مع تسلیمه خروج الظن المزبور عن موضوع الحکم العقلی ] یلزمه أن لا یحکم العقل بلزوم اتّباع الظنون [ المحتمل أنها منهی عنها فی الواقع ] لأنه مع تعقّل مانعیة نهی الشارع عن حکم العقل، یکون احتماله أیضاً مانعاً عن حکم العقل. فإنّ الظنون [ بالقیاس إلی منع الشارع عنها ] علی ثلاثة أنماط: نمطٌ نهیُ الشارع عنه معلوم [ کالقیاس ] ونمطٌ عدمُ نهی الشارع عنه [ لا بالخصوص ولا بالعموم ] معلوم [ وإن کان محکوماً بعدم الإعتبار أیضاً من باب أنّ الأصل عدم الحجّیة ] ونمطٌ نهیُ الشارع عنه محتمل. ففی هذا النمط لو لم یکن فی البین قدر متیقن أو کان ولم یف بالفقه، فإنّ حکم العقل بالحجّیة یکون عاماً وشاملاً له أیضاً؛ إذ احتمال المنع لا یمنع عن حکم العقل؛ لأنه مع فرض عدم وفاء الظنون الأخری بالفقه، ستترتب مقدّمات الإنسداد ثانیة بالنسبة إلی الظن المحتمل، المنتج لحکم العقل بتاً بلزوم الإتّباع.

ولو ظهر أنها منهی عنها فی الواقع لا یؤاخذ علیها المکلّف فإنّ احتمال النهی لا یمنع من جریان مقدّمات الإنسداد، بخلاف العلم بالنهی فإنه یمنع من الجریان. وأما لو ظُن بالنهی عنه فلا یشمله دلیل الإنسداد للإکتفاء بالقدر المتیقن.

ما ذکره بعض المحققین فی الجواب عن الإشکال

ثم یتعرض الآخوند لجوابین ذکرهما الشیخ وعلّق علیهما الآخوند بأنهما جوابان للإشکال علی أصل النهی عن الظن لا علی الإشکال علی عمومیته.

والجواب الأول: أنّ النهی عن القیاس لغلبة خطئه.

ص:515

والجواب الثانی: أنّ النهی إنما کان لغلبة المفسدة علی المصلحة.

وبالتأمل یظهر أنّ هذین الجوابین یصلحان أیضاً جواباً علی إشکال التعمیم؛ لأنّ العقل إنما حکم بالظن لأقربیته للواقع، فمع غلبة خطئه أو مفسدته لا یحکم العقل بحجّیته بتوسط تعبد الشارع.

سرّ الإکتفاء علی الظنون المعهودة

ثمّ ما هو السر وراء اقتصار الأعلام علی الظنون المعهودة کالروایات والظهور ولم یتعدّوا إلی مثل الظنون الحاصلة من المنامات والإستخارات والعلوم الغریبة؟

وجوابه: إنّ الظنون المعهودة قدر متیقن، ولیس معناه الیقین باعتبارها بلحاظ ما قبل الإنسداد وإنما ما بعد ترتیب مقدّمات الإنسداد.

بتقریب أنها إما ظنون خاصة قد اعتبرها الشارع، أو یقطع بشمول دلیل الإنسداد لها. ومن ثمّ تری الإنسدادی والإنفتاحی متفقین فی العمل فی الأعم الأغلب.

وجواب آخر: ما ذکره الأصولی والأخباری فی تنبیهات القطع [ من أنّ العلم الحجّة هل یشمل ما کان متولّداً من مقدّمات عقلیة ] من وجود روایات متواترة تنهی عن الإستبداد بالرأی فی الوصول إلی حکم اللّه الواقعی، وتحصر الطریق والمصدر بالعقل البدیهی والکتاب والسنّة.

وهذه الروایات کما حصرت الطریق لحکم اللّه بالمعصوم کذلک حصرت الطریق للمعصوم بالروایات.

حیث جاء التعبیر فی تلک الروایات «بروایاتنا» مما یعنی أنّ الطریق إلی قول المعصوم (علیه السلام) لیس الجفر والمنام وإنما روایة الرواة عنهم.

ولم یستبعد المحقّق النائینی أنّ مفاد هذه الروایات تقیید الأحکام الواقعیة فی مرحلة التنجیز أو الفعلیة التامة بقول المعصوم [ أی إنّ

ص:516

المنجّز الوحید والمعذّر الوحید هو قول المعصوم. ]

ومثله الإخبار عن المعصوم، کما یظهر من مطاوی کلامه.

وجواب آخر: ما ذکره الأصولی فی بحث الموافقة الإلتزامیة [ من أنّ أحد معانیها التی لاقت قبول کلّ الأصولیین فی لزومها هی التسلیم لأئمة الدین وأخذ الأحکام عنهم، وهو أحد معانی ولایتهم والتولّی لهم. ]

وهذان الجوابان یفسّران السرّ فی حصر الجمیع الطریق بالظنون المعتادة بما فی ذلک الإنسدادیون وبما فی ذلک الأصولیون، فإنهم وإن اختلفوا مع الأخباریین إلاّ أنّ الإختلاف لم یکن فی هذه النقطة.

التنبیه الخامس: عدم الفرق بین أقسام الظن بالحکم

ذکر صاحب الکفایة (قدس سره) أنّ الظن الحجّة لا یختص بالظن بالحکم الشرعی وإنما یعمّ الظن بموضوع الحکم الشرعی.

ومن أمثلته: الظنون القائمة علی ألفاظ الروایات [ التی هی ظنون من سنخ علم اللغة ] ویذکر الآخوند (قدس سره) أنه حتی لو لم یکن فی اللغة انسداد، فالظن حجّة عند الإنسدادی، لأنه ظن بالحکم الشرعی بالواسطة.

ومن أمثلته: الظنون الرجالیة فإنه حتی لو لم یتمّ البناء علی الوجوه المذکورة لاعتبار قول الرجالی [ کما یظهر ذلک من الشیخ ] فإنّ الإنسداد الکبیر فی الفقه یکفی فی اعتبار الظنون الرجالیة؛ لأنها تحرز صغری للظن بالحکم الشرعی.

ومثال ثالث: الظنون المذکورة فی علم الدرایة والحدیث المرتبطة بکیفیة الکتب واعتبارها واختلاف السنخ وکیفیة الإجازة و ما شابه ذلک.

وباختصار: کلّ الظنون المرتبطة بمقدّمات الإستنباط حجّة؛ لأنها تولّد لنا ظناً بالحکم الشرعی وإن کانت هی غیر معتبرة فی تلک العلوم.

ص:517

التنبیه السادس: الظن فی الشبهات الموضوعیة

هل الظن فی الشبهات الموضوعیة حجّة عند الإنسدادی أو لا؟

فی الکفایة نفی الحجّیة، ومن ثمّ فالظن فی الوصایا والأوقاف والإقرارات لیس بحجّة؛ إذ لا دلیل علی حجّیته إلاّ فی الأبواب التی انسدّ فیها العلم بالموضوع الخارجی مع العلم بشدّة اهتمام الشارع بالباب أو القاعدة أو المسألة کما فی النسب وبعض الأوقاف العامة.

وهذا تمام الکلام فی تنبیهات دلیل الإنسداد التی ألفت إلیها الأعلام.

ص:518

4 . المختار فی دلیل الإنسداد

اشارة

بعد هذا نعرض للمختار فی أمور ثلاث:

الأمر الأول:صیاغة جدیدة لدلیل الإنسداد
اشارة

هناک صیاغة أخری لدلیل الإنسداد تمنع من وصول النوبة إلی الصیاغة السائدة، وهذه الصیاغة مبنیة علی العلم الإجمالی بنصب الطرق.

وقد سبق فی التنبیه الأول الإلفات إلی أنّ الشیخ (قدس سره) قد شکّک فی جعل الشارع للطرق وحاول أن یقرّب ذلک بشواهد.

ولکن لنا شواهد علی وجود العلم المذکور.

الشاهد الأول

[ 1 ] إنّ لغة القانون کلغة اللسان مشترکة بین قانون السماء وقانون البشر کما تمّت الإشارة إلی ذلک وبتفصیل.

[ 2 ] من أولیات وضروریات التقنین البشری العقلائی انقسامه إلی قوانین من سنخ القوانین الفقهیة ومن سنخ القوانین الأصولیة، بل لا یمکن تشریع القوانین الفقهیة من دون تشریع القانون الأصولی إلی جنبها. وذلک لأنّ طبیعة الأغراض لا یمکن التوصل لها بالتقنینات الفقهیة فقط.

[ 3 ] بموجب ما تقدّم یعرف أنّ الشارع قد شرّع أحکاماً أصولیة جنباً إلی جنب أحکامه الفقهیة.(1)

ص:519


1- (1) . [س] إنّ هذا غیر بیّن ولا مبیّن، بعد أن أمکن للشارع أن یستعیض عن نصب الطرق بالعلم والعلم العادی [الإطمینان المتاخم للعلم] وأن تکون حرکة الأئمة لبثّ علومهم وحثّهم علی حفظ وتدوین وتداول الحدیث لأجل هذا الغرض وهو توفیر قرائن متعددة بتراکمها یحصل الإطمئنان. اللّهمّ إلاّ أن یقال إنّ الإطمئنان یحتاج إلی جعل لأنه فی الأخیر قسم من الظن [کما هو مختارکم] ولکن مع ذلک یمکن القول إنّ الشارع اقتصر علی هذا الطریق فقط - ومن ثمّ لا الإنسداد وإنما انفتاح - ولم یتعدّ إلی الظنون النازلة، وکلّ ما یفعله العقلاء لا یکون ملزماً للشارع. بل یمکن القول بالعلم بنصب الشارع للطریق الا أنه یمکن أن یکون الطریق هو دلیل الإنسداد المثبت لحجّیة الظن شرعاً ومعه لا دلیل علی وجود علم أسبق بنصب الشارع للطرق. وصرف تقنین العقلاء للحکم الأصولی وجری الشارع علی لغتهم لا یعنی متابعته لهم فی التفاصیل وإنما فی أصل فکرة تشریع الحکم الظاهری، فلا علم إجمالی بنصب الطرق.
الشاهد الثانی

ومع ثبوت العلم الإجمالی بنصب الطرق، فإن کان هناک قدر متیقن فإنه یوجب انحلال العلم إلیه، ولیس ببعید دعوی القدر المتیقن بالبیان المتقدّم فی التنبیه الثالث.

ومع عدم القدر المتیقن أو عدم وفائه بالفقه، فلابدّ من ترتیب بقیة مقدّمات الإنسداد بالشکل المتقدّم.

وبهذا انتهی الحدیث فی الإنسداد وتنبیهاته، وقد تمّ إنجاز الحقائق التالیة:

[ 1 ] تصویر الإنسداد الکبروی أوتصویر الإنسداد کبرویاً.

[ 2 ] إرجاع التبعیض فی الإحتیاط الفقهی إلی الظن علی الحکومة، بعد التمییز بین الإحتیاط الأصولی والفقهی ومن ثمّ الإستقرار علی الحجّیة.

[ 3 ] إرجاع الظن علی الحکومة إلی الظن علی ا لکشف، بنکتة أنّ العقل غیر مستقل.

[ 4 ] إثبات عسر الإحتیاط الفقهی حتی بنحو الجزئیة.

[ 5 ] تصویر أنّ الإحتیاط الأصولی عین العمل بالطرق.

[ 6 ] تصویر وجود دلیل عام علی حجّیة الطرق [ علی فرض نصب طرق ].

[ 7 ] تصویر الإنسداد علی المسألة الأصولیة.

[ 8 ] بل إرجاع النتیجة فی الإنسداد الفقهی إلی الإنسداد

ص:520

الأصولی.(1)

[ 9 ] وبالتالی فالحجّة هو الظن بالطریق، لولا القدر المتیقن وهو خبر الثقة والموثوق.

[ 10 ] فالحصیلة: حجّیة خبر الثقة والموثوق شرعاً بالإنسداد.

الأمر الثانی: فی تاریخ الإنسداد

الشیخ جعل البدایة بالبهائی ارتکازاً وبذرة،، وبالخونساری تفصیلاً وبلورة إلاّ أنا بالتتبع وجدنا أنّ البذرة بذرها القدماء کالطوسی والمرتضی، حیث جاء فی کلماتهم تعبیر «لو کان لبان»، فی مجال الإستدلال علی إمضاء سیرة من سیر العقلاء، وهو یرجع بالتحلیل إلی الإنسداد.

وبقی الإنسداد مرتکزاً فی کلمات الفقهاء حتی الوحید البهبهانی الذی شیّده وبنی علیه، وتبعه فی ذلک کثیر ممن تأخر عنه بما فی ذلک الشیخ، فإنه وإن کان کبرویاً انفتاحیاً إلاّ أنه لإشکالات صغرویة نهج منهج الإنسداد ولکن من دون تصریح.

الأمر الثالث: فی فوائد الإنسداد وسلبیاته إلی حدّ الخطورة
اشارة

مقدّمة: عندما نستعرض تاریخ الفقه والفقهاء من زاویة التدوین نلحظ أنه مرّ بمراحل:

الأولی: مرحلة الأقدمین [ کالإسکافی وابن الجنید ] وهؤلاء کما یذکر الطوسی فی مقدّمة المبسوط: کانوا یتحاشون تحریر الفتوی عن الروایة فجاءت کتبهم روائیة.

ص:521


1- (1) . ولکن یبقی فرق، إذ الإنسداد الفقهی ینتهی إلی التعیین بحجّیة القدر المتیقن من الظن بالحکم الفقهی، بینما بالإنسداد الأصولی فینهینا إلی النتیجة بحجّیة القدر المتیقن من الظن علی الظن. هذا بالإضافة إلی أن تشخیص القدر المتیقن بالخبر الثقة والموثوق لم یبلور. بالإضافة إلی عدم تصویر القدر المتیقن، إذ المذکور یظهر منه أنه من قبیل الإجماع المرکب، مع أنّ المفروض تصویر أنه متیقن من نفس الدلیل لقرائن.

الثانیة: مرحلة المتقدّمین [ والتی تبدأ بالمفید وتنتهی بابن إدریس ] وهؤلاء فی الأعمّ الأغلب لم یکتبوا فیها استدلالیاً وإنما اختصروا علی کتب الفتوی جنباً إلی جنب کتب الروایة. وإن وجدت کتباً استدلالیة کالإنتصار والتهذیب فهی مختزلة جداً.

الثالثة: مرحلة المتأخرین [ والتی تبدأ من المحقّق الحلّی وتنتهی بالشهید الثانی ] وقد ظهرت فی هذه المرحلة الکتب الإستدلالیة إلاّ أنها لیست کاملة، مع اقتصار کثیر منهم علی کتاب واحد استدلالی والبنیة فتوائیة. وقد أخذ أعلام هذه المرحلة بصیاغة أدلّةٍ لتسالمات القدماء وشهراتهم من دون أن یؤخذ منهم. ولکن المشروع لم یأت مستوعباً لعدم تکامل کتبهم الإستدلالیة.

الرابعة: مرحلة متأخری المتأخرین [ والتی تبدأ بالمقدّس الأردبیلی وتنتهی إلی ما قبل الوحید وصاحب الحدائق ] وفی هذه المرحلة أخذ الفقه الإستدلالی المدوّن مجاله.

ظاهرة المرحلة الرابعة

ویلاحظ فی السیر الفکری لأعلام هذه المرحلة ظاهرة الإشکال بل المنع للعدید من الفتاوی التی تسالم علیها الفقهاء القدماء فضلاً عما اشتهر بینهم بحجّة عدم توفّر الدلیل الکافی، وأنّ ما ذکر من الأدلّة ضعیف فی الوقت الذی یجعل من تلک التسالمات مدرکیة.

تقییم تلک الظاهرة

ولتقییم هذه المنحة الفکریة لابدّ من الإلتفات إلی:

[ 1 ] إنّ کمیة الکتب الروائیة التی اعتمدها القدماء أکبر بکثیر من الکتب الروائیة التی اعتمد علیها المتأخرون، حیث حصروا مصادرهم الروائیة بالکتب الأربعة وبعض آخر.

کذا یختلف تبویب وفهرست جملة من الکتب الروائیة القدیمة جداً عن تبویب الکتب الأربعة وأمثالها المتأخرة عنها.

ولا یخفی أنّ الإختلاف الکمّی والتنظیمی ینعکس علی طبیعة

ص:522

الفحص ونتائجه.

[ 2 ] إنّ کیفیة تدریس الفقه الإستدلالی إلی زمن الشهید الثانی کانت بالشکل التالی: قراءة الکتب الروائیة من أولها إلی آخرها ودراسة فقه کلّ روایة بما هی وتحدید کلّ مفاداتها وإن کانت مختلفة السنخ ومرتبطة بمسائل متعدّدة.

ومن ثمّ یفهم ما ذکره المحدّث النوری (قدس سره) فی فائدة من خاتمة المستدرک: من أنّ بحوزته نسخة من التهذیب، علیها خطوط تلامیذ الشهید الثانی، حیث یعنی أنهم درسوا التهذیب روایة روایة فقهاً وسنداً.

کذا یفهم ما ذکره فخر المحققین فی روایة: أنّ أباه کان قد فسّرها عند قراءة التهذیب علیه أول مرّة بشکل یختلف عن تفسیره عندما درس التهذیب علیه ثانیة.

بینما اختلفت الکیفیة من بعد الشهید وإلی یومنا هذا حیث أنها صارت علی أساس المسائل ودراسة الروایة بما هی مرتبطة بالمسألة.

ولا تخفی إیجابیة الکیفیة الأولی حیث أنّ الباحث لا یتأطر بإطار معین فی دراسة الروایة ومن ثمّ سیدرسها من کلّ جوانبها ویستخرج کلّ ما فیها من مفادات.

ومن هنا أمکن أن نفسّر جملة من مسلّمات القدماء التی ترکوها من دون استدلال: إنّ ذلک بسبب وفرة الأدلّة المتفرقة والمتناثرة هنا وهناک ووضوح النتیجة التی تم العثور علیها بسبب المنهج الدراسی المتبع آنذاک.

[ 3 ] إنّ جملة من کتب القدماء کالإنتصار للمرتضی والخلاف للطوسی [ أعم من الکلامیة أو الفقهیة ] لم تؤسّس علی أساس من الإستدلال علی الطریقة الإمامیة، وإنما علی أساس الإستدلال الجدلی بالتی هی أحسن مع الآخرین بالإستفادة من القواسم المشترکة أو من مسلّماتهم.

ص:523

لهذا أمثاله أخذ المتأخرون بالتفکیر والبحث عن أدلّة لهذه التسالمات تنسجم مع المنهج الإمامی.

ولکن الأردبیلی وتلمیذیه صاحب المدارک والمعالم، کذا السبزواری بعدهم، صنّفوا هذه التسالمات مدرکیة بسبب الأدلّة مع تصورهم أنّ تمام الدلیل هو ما ذکره المتأخرون أو ما وجد فی کتبهم الخلافیة.

المرحلة الخامسة: متأخروا الأعصار [ وتبدأ من الوحید البهبهانی وتنتهی بالآخوند ] والوحید قد بنی علی الإنسداد بسبب الدقة المفرطة نتیجة صراعه مع الأخباریین.

وبسبب الإستناد علی الإنسداد تمّ البناء علی مطلق الظن المتعارف بما فی ذلک الإجماع والشهرة، ومن هنا تجد عنایة کبیرة بجمیع الأقوال لتحصیل الشهرة والإجماع فی الدورات المطولة التی کتبت فی هذه الحقبة.

وقد ترکت هذه المرحلة آثارها علی المرحلة السادسة فتجد فی المتسمسک مثلاً أنه یعتمد فی موارد عدیدة علی الإجماع والشهرة، سواء فی أصل الحکم أو جبر دلیل أوترجیحه أو...

المرحلة السادسة: [ وتمتاز بالتدقیق بسبب الأعلام الثلاثة، خاصة دقة المحقّق الإصفهانی التجزیئیة والتی انسحبت علی تلامذته ] وکانت سمة هذه المرحلة هی سمة المرحلة الرابعة فی موقفهم من الإجماع والشهرة عدا ما ذکرناه. هذا فی حاضرة النجف الشریف، وأما فی حاضرة قم فقد بقیت ملامح المرحلة الخامسة إلی یومنا هذا.

سلبیات الإنسداد

بعد هذا العرض ندخل فی صلب الموضوع:

إنّ تکریس المرحلة الخامسة وإشباعها فی البحث عن أقوال العلماء وآرائهم صار علی حساب البحث المعمّق فی الکتاب والسّنة، حیث یکتفی فی کثیر من المسائل علی الإجماع والشهرة [ والتی هی

ص:524

طریق غیر مباشر علی الحکم الشرعی ] وإذا قدر لهذه الحالة الإستمرار فسوف تظهر شذورات فی الفقه.

ایجابیات الإنسداد

نعم، هناک إیجابیة فی الإنسداد وهی:

[ 1 ] أحصی تسالمات الأصحاب وشهراتهم فی المراحل الأربعة.وهو مهم، لأنّ أقلّ فائدة یمکن أن تسجّل للإجماعات والشهرات أنها منبهة علی وجود روایات أو نکات فی الدلالة قد اعتمدها هؤلاء، ولم تسجّل لهم بسبب عدم وجود کتب استدلالیة لهم أو کیفیة دراستهم للفقه الإستدلالی وأمثال ذلک.

ومن ثمّ لابدّ فی مثل هذه الإجماعات والشهرات أن تکون سبباً فی لزوم الفحص للعثور علی الدلیل المباشر علی الحکم.

[ 2 ] إنّ فتاوی الفقهاء بمثابة الشروح للروایات، وقد أوصی العلاّمة ولده الفخر بالإعتناء بهذه الفائدة بل المعروف عن البعض أنّ الذی لا یلمّ بأقوال الفقهاء لا یجزیه اجتهاده حتی عن نفسه.(1)

[ 3 ] تحصیل السیر المتشرعیة المتصلة بالمعصوم، فلربما کثیر من الإجماعات والشهرات هی فی واقعها سیر متشرعیة.

فقاهة الفقیه بالتفطن علی الأدلّة الإجتهادیة

ومما تقدّم یتبلور أنّ فقاهة الفقیه إنما هی بالتفطن علی الأدلّة الإجتهادیة وعدم الإتکاء علی الأصل العملی، وکذا الإجماعات بما هی هی إلاّ مع الإضطرار.

فما یظهر من أعلام المرحلة الخامسة [ من الإعتماد علی الإجماعات والشهرات والإکتفاء بها، وظاهرة التوسع فی الأصول

ص:525


1- (1) . [س] ولکن المفروض أنّ الإجماعات لا روایات وراءها، فکیف صورت کلمات الفقهاء شروحاً لها وبیاناً لأکبر قدر من حیثیاتها. [ج] هذه الفائدة لمنهج المرحلة الخامسة وهو استقصاء آراء الفقهاء والإعتناء بکلماتهم والتدقیق فیها.

العملیة وضمور البحث فی الأدلّة الإجتهادیة إلی حدّ أن أخذ البعض بتأسیس قواعد مستجدة علی الأصول العملیة ] غیر مقبول علمیاً؛ لأنّ المفروض هو بناء الفقه علی الدلیل الإجتهادی بل الفقهاء المتضلعون یتسابقون فی توفیر أکبر قدر ممکن من الأدلّة الإجتهادیة إلی حدّ العلم إن أمکن. وهو منهج منطقی، فإنّ بناء القضیة علی العلم أضمن لصحتها ومطابقتها للواقع من بنائها علی الظن فضلاً عن الأصل العملی.

بل ألفتنا أکثر من مرّة إلی أنّ هناک تناسباً طردیاً بین مقام الثبوت والإثبات فکلّما کانت القضیة أساسیة وأمّ وقاعدة کانت بحاجة أکبر إلی أدلّة أوفر.

من ثمّ و لتفادی هذه السلبیة نلفت النظر إلی کیفیة الفحص ومعرفة مظانّ المسألة من أجل العثور علی دلیل اجتهادی علیها. فنقول:

مراحل الإستنباط الفقهیة

سبق أن بیّنا مراحل الإستنباط الثمانیة، وکانت الأربعة الأخیرة منها فقهیة، وهی:

المرحلة الأولی: تحریر الفرض الفقهی موضوعاً ومحمولاً ومخاطباً وما إلی ذلک. وقد اعتنی السابقون بهذه المرحلة اعتناء فائقاً، فی حین أهمل ذلک المتأخرون [ المرحلة الأخیرة ] مع أنها ضرورة سیّما فی المسائل الأمّ.

وتحلیل الفرض الفقهی قد یحلّ المسألة إلی مسائل من خلال تحلیل الموضوع أو المحمول، ومعه سیجد الفقیه نفسه أمام منافذ متعددة لمراجعة دلیل المسألة.

المرحلة الثانیة: ملاحقة رصد الأقوال فی المسألة.

وقد تقدّم فائدة ذلک بأنها تعدّ شروحاً للأحادیث وبیاناً لحیثیات متعددة فی الأدلّة والمسألة.

ص:526

بالإضافة إلی تنبیه المباحث إلی أنّ المسألة فی أیّ الأبواب قد عنونت.

وتنبیه الباحث أیضاً إلی قواعد جدیدة أصولیة وفقهیة مرتبطة بالمسألة علاوة علی الأدلّة الخاصة.

کذا قد یتنبّه إلی طوائف روایات لم یکن ملتفتاً إلی دلیلیتها.

بالإضافة إلی إسهام ذلک فی تحریر الفرض الفقهی، ولا فرق بین القول المستدل أو غیر المستدل، إذ الثانی لما کان یعنون بعنوان کانت ذات فائدة للباحث.

وقد عدّ البعض فقاهة الفقیه وبراعته فی هذه المرحلة.

وأما قول العامة فنری فقهائنا بین من یهمل مراجعتها وبین من یدّعی ذلک کالسیّد الفقیه البروجردی (قدس سره) بحجّة:

[ 1 ] إنّ روایات أهل البیت (علیهم السلام) وأسئلة الرواة تناولت المسائل التی کانت معنونة فی الأندیة العلمیة آنذاک، وبالتالی فالالمام بأقوال العامة قد یساهم فی معرفة خلفیات مرتکزات الأسئلة ومن ثمّ سنصل إلی المرمی الدقیق للسؤال فالجواب.

وبدون ذلک لا یمکن الوصول إلی حاق فرضیة المسألة فی الروایات لعدم معرفته للجوّ العلمی المحیط بالنص.

وعلی أساس هذه اللفتة قسّم المسائل إلی قسمین:

المتلقّاة الأصلیة [ التی تمّ تلقّیها من الأئمة من خلال السؤال والجواب أو مبادرة الإمام (علیه السلام) ] ومثل هذه أصلیة لأنها هی الغطاء للقسم الثانی.

التفریعیة [ التی فرّعها الفقهاء بعد عصر النص. ]

وکیفیة البحث تختلف فی القسمین، حیث یکفی الفحص بشکل معقول فی الثانیة ولکن تحتاج إلی مداقة وصناعة کبیرة. أما فی الأول فهو یحتاج إلی جهد کبیر وفحص مستوعب ومنه مراجعة أقوال العامة.

فعملیة الإستنباط تترکز فی الدرجة الأولی فی القسم الثانی،

ص:527

بخلاف القسم الأول حیث تتمظهر ظاهرة التبعیة للنقل والإستقراء والتتبع.

[ 2 ] إنّ هناک أدلّة مشترکة کالکتاب استدل بها العامة ومن ثمّ لا تخلو من فذلکات ولفتات ربما لم یشر إلیها فی فقهنا، ومن ثمّ لابدّ من مراجعتها کی تکون عملیة الفحص مستوعبة.

ومهما کان فهی جهود بذلت حول الکتاب وسنة الرسول (صلی الله علیه و آله) ومثل هذا مبرر للإعتناء والمراجعة.

المرحلة الثالثة: مرحلة تحصیل الآیات والروایات، وقد تبلور مدی تأثیر المرحلتین الأولی والثانیة فی التحصیل هذا.

توصیات للمرحلة الثالثة

ولکن مع ذلک تبقی توصیات من الجدیر الإلتفات إلیها: بادئ ذی بدء [ کما ذکر الکرکی ] أنه لابدّ من الرجوع إلی آیات الأحکام.

وهی بحقّ لفتة منهجیة بعد أن کان القرآن هو المحور؛ إذ سیکون الآیة قرینة علی الروایات المرتبطة بنفس المضمون، کما هو العکس بل قد یساهم القرآن فی تقسیم الروایات إلی طوائف کما یتضح ذلک بالممارسة.

وللعلامة المجلسی (قدس سره) فضل السبق فی هذا المنهج [ کما یظهر من البحار. ]

بعد هذا لابدّ من الرجوع إلی الروایات المفسّرة، والجوامع النبویة التی هی [ علی حدّ تعبیر السیّد البروجردی ] متممة للدستور، کلّ هذا قبل الدخول إلی تفاصیل الروایات.

وتوصیة ثانیة: معرفة منهج ودیدن المحدّثین فی کتبهم الروائیة، إذ بعضهم قد نهج منهج التقطیع للروایات - مثلاً - وربما تواجه الباحث مسائل لا تعالج بشکل صحیح إلاّ بالرجوع إلی الروایة کاملة.

وآخر لم یجعل کتاب الخمس فی الفروع وأنما فی أصول الکافی، ومن ثمّ تصوّر البعض أنّ الکافی خال من کتاب الخمس. وهو یعنی

ص:528

تعامل هذا الإنسان مع الکتب الروائیة بشکل رسمی ومن دون اعتیاد وألفة واستیناس.

توصیة ثالثة: عدم الإقتصار علی الوسائل، ولابدّیة الرجوع إلی الکتب الأربعة، فإن مراجعة التهذیب تعطی بصیرة فی فقه الروایات، وقد لاحظنا أنّ روایة یذکرها الوسائل فی باب الطهارة ولکن التهذیب ذکرها فی الإجارة.

ومن ثمّ جاءت توصیة الآخوند أنه لا یجزی الإقتصار علی الوسائل ولا تبرأ الذمة، ما لم یرجع الباحث إلیها فی مظانها، بل کان یوصی حتی بمراجعة المستدرک.

وباختصار: إنّ هذه المرحلة لیست عقلیة وإنما هی مرحلة تتبع واستقراء وفحص فلابدّ أن یأتی مستوعباً، وهو لا یکون بالإقتصار علی الوسائل، ولا بإهمال کتب العامة، ولا بالإکتفاء بالروایات دون الآیات.

وإنما لابدّ أن یستوفی الفحص کی تکون الحصیلة متکاملة.

المرحلة الرابعة: استحصال المفاد الفقهی من الأدلّة، وهو یتمّ عبر خطوات:

[ 1 ] تحصیل المفاد إجمالاً من الروایات والآیات.

[ 2 ] الإتیان بکلّ القواعد المناسبة لفرض المسألة، وهو المعبّر عنه فی کلماتهم بیان مقتضی القاعدة الاولیة فی المسألة.

[ 3 ] معالجة النسبة بین الخطوتین السابقتین. وقد یسمّی بمحاولة تطبیق مفاد القواعد علی مفاد الروایات.

[ 4 ] التشقیق فی فروع المسألة [ وهو منهج الشهید الثانی. ]

وضرورة الخطوة الأولی بیّنة، فإنه لابدّ من دراسة فقه الروایات بعد إعمال القواعد الأصولیة فی مباحث الألفاظ، وتحلیل المفاهیم الترکیبیة فی الروایات.

بعد هذا یأخذ الفقیه بملاحظة القواعد الفقهیة فی المسألة بمعزل عن الروایات ومع غضّ النظر عن الدلیل الخاص.

ص:529

حینئذ یخطو نحو التوفیق بین القواعد والروایات، وفی هذه المرحلة تمیّز فقهاء کالشهید الأول وکاشف الغطاء واللثام، حیث أنّ القاعدة الفقهیة تشمل أبواب متعدّدة ومن ثمّ أخذ هذا النوع من الفقهاء المقارنة بین الأبواب والقواعد.

بعدها یأتی دون التشقیق للمسألة الکلّیة وتصویر المسألة بصور متعدّدة، وتطبیق ما توصل إلیه بعد التوفیق بین الروایات والقواعد علی کل شق شق.

وقد یظهر هنا عدم انسجام النتیجة مع واحدة من الشقوق مما یفرض إعادة النظر فی صیاغة النسبة بین القواعد والروایات.

مثال ذلک: نفقة الزوجة حیث یظن للوهلة الأولی أنّ موضوعها التمکین [ نتیجة ظهور الروایات فی ذلک ] ولکن بعد تشقیق المسألة نلحظ أنها ثابتة فی حالة مرض الزوجة وسفرها الواجب، مما یعنی أنّ الموضوع لیس هو التمکین.

ومثال آخر: ما ذکره کاشف الغطاء من اللوازم الثمانیة الفاسدة أو البعیدة للقول بأنّ المعاطاة المقصود بها التملیک تفید الإباحة.

وهذا المنهج یوسّع أفق البحث ودائرته، کما یوفّر قواعد جدیدة لم تکن متوفّرة من قبل.

والحمد لله رب العالمین علی إتمام هذه المباحث تقریراً لما أفاده شیخنا ونرجو منه تعالی إنجاز هذا العمل بعونه ومنّه.

ص:530

ص:531

مباحث الظن

الإعتبار /7

المنهج الصحیح فی ترتیب مباحث الأصول 9

موقع باب الحجج 9

صغرویة مباحث الحجج لکبری الإعتبار 10

السیر المنهجی الصحیح لمباحث الأصول 10

سرّ تقدیم بحث الإعتبار 12

المنهج المقترح فی البحث عن الإعتبار 14

المرحلة الأولی: البحث فی حقیقة الإعتبار 14

المرحلة الثانیة: البحث فی الإعتبار العقلائی 15

النقطة الأولی: تعریف الإعتبار العقلائی 15

تعدد التسمیات 16

النقطة الثانیة: وجه الحاجة إلی الإعتبار العقلائی وموقعه من التشریع والعقل 17

النقطة الثالثة: تقسیمات الإعتبار العقلائی 18

الفوارق بین الإعتبار الأدبی والإعتبار القانونی 22

اقتصار العامة علی البُعد الأدبی 23

دور علم المعانی فی علم الأصول 23

مبرّرات منهج الأصول السائد فی تصدیر مباحث الألفاظ 24

ثمرة تقسیم الإعتبار إلی أدبی وقانونی 24

علم المعصوم بالحکم الشرعی 25

المرحلة الثالثة: فی الإمضاء الشرعی للاعتبار العقلائی 26

عرض أدلّة الإمضاء 29

الدلیل الأول: درک العقل 29

نقد الدلیل الأول 29

الدلیل الثانی: دلیل الإنسداد 30

ساحة حجّیة الإعتبارات فی ضوء دلیل الإنسداد 31

شمول الإنسداد للإعتبارات المستجدة 32

رتبة دلیل الإنسداد فی جنب سائر الأدلّة 32

الدلیل الثالث: العرف 33

ص:532

ظهور الآیة فی وظیفة الحاکم 34

عدم دلالة الآیة علی إمضاء الإعتبار 35

الدلیل الرابع: إنها صغریات لاعتبارات شرعیة 36

مشکلة هذا التصویر 36

تقریب لصلاحیة الإمضاء للطبیعی 36

الدلیل الخامس: کونها صغریات لکبریات شرعیة 39

الخبرویة الموضوعیة 39

الدلیل السادس: ایکال الأمر إلی العقلاء 40

حقیقة الإمضاء 41

الفرق بین التأسیس والإمضاء 42

کاشفیة السکوت عن الإمضاء 43

المقصود من الإیکال 44

الدلیل السابع: حجّیتها من باب الإطمئنان 45

وقفة فی هذا الدلیل 46

دور الإطمئنان الشخصی فی حصول النوعی 46

خلل أخری فی دلیل الإطمئنان 48

عدم انضباط الإطمئنان الشخصی 48

حجّیة الإطمئنان النوعی 49

جریان سیرة العقلاء علی العمل بالإطمئنان الشخصی وتحلیل هذه السیرة 50

النتائج التی انتهینا إلیها من أدلّة الإمضاء 51

الإعتبار الشرعی بنحو الإقتضاء 51

فی الردع الشرعی وعدمه 53

النقطة الأولی: الحدیث عن عدم الردع فی الأصول 53

النقطة الثانیة: البُعد المشترک بین المسائل الأربعة 54

هیمنة الکتاب والسنّة 55

قوة الدلالة وأهمیة الحکم 55

ثمرات قاعدة التناسب الطردی 56

ضوابط المخالفة 57

النقطة الثالثة: بیان المائز بین المسائل الأربعة 58

المائز بین المسألة الثانیة والمسائل الأخری 59

التناسب بین قوة دلیل الردع ودرجة التجذر 59

مائز المسألة الثالثة عن الرابعة 60

المائز بین المسألة الثالثة و الرابعة وبین المسألة الأولی 60

الإمضاء وعدم الردع 61

سریان الإمضاء فی عمود الزمان 62

زوایا بحث إمضاء الإعتبارات العقلائیة أو ردعها 62

ص:533

مناط الإمضاء الشرعی للإعتبار العقلائی 63

فقه المقاصد 65

الأصل الأولی هو الثبات 66

قرائن عدم عمومیة الإمضاء 67

تقییم تلک القرائن 67

التعبد بالظن / 71

معانی إقتضاء الحجّیة 73

إمکان التعبد بالظن 75

محاذیر ابن قبة 75

جواب الشیخ الأعظم عن الإشکال الأول 76

جواب آخر من الشیخ 76

عرض آخر من البحث 77

عرض الشبهة بلسان الفخر الرازی 77

الصیغة الحدیثة للشبهة 78

عمق الشبهة الأولی 78

تقییم الجواب الأول من الشیخ 78

تعلیق المحقق العراقی 79

تقییم الجواب الثانی للشیخ 79

إتقان جواب الشیخ 80

نتائج کلام الشیخ 81

تقییم الجواب الثالث من الشیخ 83

المائز بین الجواب الثانی والثالث 84

الإستدلال علی رأی الشیخ (قدس سره) 85

الإجابة عن الشبهة الرابعة 86

صیاغة أخری للشبهة 87

ردّ الشبهة 87

لزوم العصمة علماً وعملاً 88

تقییم جواب الشیخ المشترک عن إشکالی ابن قبة 89

مناقشة صاحب الکفایة 89

نقد المناقشة الثالثة 90

إتقان إثارة الشیخ 90

تقریب الإصفهانی لمختار الشیخ 92

تعمیق فی تقریب الإصفهانی 93

نقد المناقشة الثانیة للآخوند 94

قاعدة الإمکان ولیدة قاعدة التناسب 94

ص:534

جریان قاعدة الإمکان فی العقیدة 95

الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی 97

الأقوال فی حقیقة الحکم الظاهری 98

التصویب والتخطئة 100

التصویب المنسوب إلی جلّ الأشاعرة 100

التصویب المنسوب إلی المعتزلة 101

نظریة الشیخ فی الحکم الظاهری 103

کنه المصلحة السلوکیة 104

المناقشة فی النظریة 104

جواب الشیخ عن المناقشة 104

العرض الصحیح للمصلحة السلوکیة 110

نتائج العرض الصحیح 111

الأمر الأول: الفرق بین الصیاغتین 111

الأمر الثانی: تصویر الإنقیاد فی صورة الخطأ 113

عرض نظریة صاحب الکفایة 114

اختلاف کلمات الآخوند فی تفسیر الحکم الظاهری 114

نتائج التفسیرات علی صعید اجتماع الحکمین 115

نتائج التفسیرات علی صعید التنافی فی الإرادة 115

رفع التنافی بذکر حلّین 115

أطروحة المحقق الإصفهانی (قدس سره) فی حلّ التنافی 117

حقیقة الحکم الظاهری عند الإصفهانی (قدس سره) 117

اختلاف ألسنة الأدلّة علی حجّیة خبر الواحد 117

وجه اتخاذ القول بجعل الحکم المماثل عند الإصفهانی 118

أطروحة النائینی فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری 118

مقدّمة فی خصائص العلم التکوینی 119

معنی اعتبار الشیء علماً 119

المائز بین الأمارة والأصل المحرز 121

الأصل المحرز عند الآخوند 122

مناقشة العراقی فی الأصل التنزیلی 122

الإجابة عن مناقشة العراقی 123

تقریر الشاهرودی لمبنی النائینی (قدس سرهما) 124

علم تعبدی أو علم وجدانی حاصل من التعبد 124

تساؤلات حول تقریر الشاهرودی لمبنی النائینی 125

اعتبار الأمارة حکم تکلیفی 125

صیاغات للتساؤل الثالث 126

ملاحظات علی التساؤل الثالث 127

ص:535

أقسام التنزیل 127

اعتبار الأمارة من أیّ أقسام التنزیل؟ 128

الفرق بین مصحّح الجعل وأثره 129

المختار فی المسألة 130

عدم إمکان تصرف الشارع فی موضوع القضیة العقلیة 130

جواب الأعلام 130

منجّزیة الإحتمال 132

ثمرات هذا المبنی 132

تساؤلات حول مبنی منجّزیة الإحتمال 133

الفرق بین نظریة حق الطاعة ونظریة منجّزیة الإحتمال 134

بیان نظریة حق الطاعة 134

المناقشة فی نظریة حق الطاعة 135

منشأ نظریة حق الطاعة 136

مدّعیاتنا 137

الإستدلال علی المدّعیات 138

الجمع بین إدراک العقل للبراء وإدراکه لمنجّزیة الإحتمال 139

ثمرات نظریتنا 142

عود إلی شبهة ابن قبة 143

أقسام التزاحم 143

التشکیک فی التنجیز 145

الحکم الصوری 145

مشکلة الإسناد فی الأمارات 148

الفروق بین الحکم الظاهری والتخیلی 149

الشک فی الحجّیة 152

نظریة مدرسة الوحید 152

نظریة أخری 152

تحدید دائرة العلم 153

مختارنا فی شرط الفعلیة 155

آثار الحکم الظاهری 157

أدلّة تعلیق الحجّة علی العلم 157

الدلیل الأول: ذکره الشیخ الأنصاری 158

مناقشة الآخوند فی تقریب الشیخ 158

ملاحظة علی مناقشة الآخوند 159

الحق فی الإشکال علی الشیخ 159

العلاقة بین حرمة الإسناد وحرمة التشریع 162

الدلیل الثانی: ذکره الآخوند 162

ص:536

المناقشة فی الدلیل الثانی 162

الدلیل الثالث: ذکره الشیخ 163

ملاحظة المیرزا علی الشیخ 163

تتابع الملاحظات 163

بعض الحدیث حول الحکم الطبعی والفعلی 165

الحکم المطلق والحکم الحیثی 166

جریان استصحاب عدم الحجّیة من دون محذور تحصیل الحاصل 169

الدلیل الرابع: جریان البراءة فی الحجّیة عند الشک فیها 170

عدم لغویة تنجّز المنجَّز ثانیاً 171

معنی التداخل الکبیر 171

التداخل الصغیر 172

معنی اشتداد التنجیز وعدم اشتداده 172

التعذیر مثل التنجیز یقبل الإشتداد 173

الدلیل الخامس: دلالة البدائل علی عدم حجّیة المشکوک 176

ویلاحظ علی هذا الدلیل 176

الدلیل السادس: التمسک بالآیات الناهیة عن العمل بالظن 177

الفرق بین الشک فی الخاص والشک فی الحاکم 178

جواب النائینی (قدس سره) 178

جواب السیّد الخوئی (رحمه الله) 178

جواب السیّد الصدر (قدس سره) 178

مختارنا فی الجواب 179

الظهورات / 181

تمهید 183

أصعدة البحث فی الظهور 183

أقسام الظهور 184

أنواع القرائن 184

دور علم اللغة والنحو والبلاغة فی شؤون الکلام 185

فهم النص فی ظلّ دراسة ظروف النص 186

خارطة الظهورات فی نظام الشیخ 187

المقام الأول: البحث فی حجّیة الظهور 189

منشأ حجّیة الظهور 189

معنی تقنین العقلاء 189

حجّیة الظهور من باب الضرورة الفطریة 190

توجیهٌ لناجزیة دلالة الظهور القطعیة فی المدلول التصوری 191

ص:537

الدلالة التعلیقیة فی المدلول التفهیمی والجدی 191

أیّ ظاهر هو الحجّة؟ 193

حجّیة الظهور العرفی 193

حجّیة الظهور الدقّی 194

المقام الثانی: تحدید دائرة حجّیة الظهور عند المحقق القمی 198

التفصیل بین من کان فی عصر النص وبین من لم یکن 198

التفصیل بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد 198

حجّیة الظن الشخصی 199

بعض موانع الوصول إلی الظهور 200

موجز عوامل العجز عن الوصول إلی ظهور النص الدینی 201

ملاحظات علی حجّیة الظهور 202

تأثیر البیئة علی فهم النص 202

تأثیر الجوّ الذهنی علی فهم النص 204

تأثیر العلوم علی فهم النص 204

تأثیر معرفة الموضوع علی فهم النص 204

تأثیر اختلاف الآراء فی فهم النص 205

تفسیر ظاهرة الإختلاف 205

تأثیر العلوم فی المعرفة الدینیة 206

لا رأی یمثّل الحقیقة 207

نتائج تلک المؤاخذات 208

تهیئة للجواب عن الملاحظات 209

عرض الأجوبة 211

الجواب الأول: معطیات الإختلاف 211

الإختلاف عبور عن حدود السذاجة فی إدراک الواقع 212

الجواب الثانی: هو النقض 213

الجواب الحلّی 214

الجواب الثالث: ظهور بطون القرآن تدریجیاً 215

بین حدّین: الشک والیقین 216

ثبات معرفة الواقع 216

التردد مع وجود الدلیل وکذا الرفض من دون دلیل غیر منهجی 217

الجواب الرابع: الإختلاف دلیل علی وجود میزانٍ للفهم 218

الجواب الخامس: تأثیر البیئة فی قراءة النص 219

فی جانب الموضوع 219

فی جانب المحمول 220

التخطئة فی الجملة لا بالجملة 220

دور العلوم فی تشکیل قرینة الفهم 221

ص:538

دور المعرفة البشریة فی مستوی المراد الجدی 221

الجواب السادس: المعرفة لیست علی وزان واحد 222

تغایر شاکلة الإعتبارات 222

الظاهر والباطن فی کلام الله علی مقتضی السنّة الکونیة 224

الجواب السابع: التقطیع والنقل بالمعنی 225

عدم وجاهة بعض التفاصیل 226

دعوی الإنصراف من دون دلیل 227

الظن الشخصی فی حجّیة الظهور 228

المقام الثالث: حجّیة ظواهر الکتاب 230

الآراء حول ظواهر الکتاب 230

العلاقة بین الکتاب والسنّة 230

شواهد الأخباریین 231

شواهد العلاّمة الطباطبائی 234

رأی العلاّمة فی المتشابه 235

افتراق نهج القرآن عن نهج المحاورات العرفیة 236

النقطتان الهامّتان فی تفسیر القرآن عند العلاّمة 237

المعنی الصحیح للروایات الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی عند العلاّمة 237

شواهد لنظریة العلاّمة 238

تلخیص النظریة 239

ملاحظات علی العلاّمة 239

أولاً: دور المعلّم فی إراءة الطریق 239

تفسیر القرآن بالقرآن یحتاج إلی عصمة الفهم 240

ثانیاً: فهم خفایا القرآن یحتاج إلی الإحاطة بمراتب الخلقة 240

ثالثاً: قول النبی(صلی الله علیه و آله) فی عرض القرآن من حیث الحجّیة 241

رابعاً: أقسام الروایات الواردة فی ذیل الآیات 243

نظریة العلمانیین 244

جذور النظریة فی کلمات العرفاء 244

ملاحظات علی الصیاغة العرفانیة 245

نظریة السیّد البروجردی 254

السنّة ناظرة إلی القرآن 254

تصوّر المعیة علی صعید الحجّیة 255

دلیل صیاغة المعیة 256

آثار نظریة المعیة 258

العلاقة بین الکتاب والسنّة والعقل 259

ضرورة الرجوع إلی الظن ولو غیر المعتبر منه 262

تحصیل التواتر المعنوی فی روایات المعارف 264

ص:539

المقام الرابع: البحث فی تواتر القراءات القرآنیة وعدمه 267

سرّ البحث فی تواتر القراءات 267

التشکیک فی تواتر القراءات من السیّد الخوئی (قدس سره) 267

تقویة تواتر القراءات 268

أربع نقاط لبیان الحقّ فی المسألة 269

قطعیة القرآن سنداً ومتناً لا دلالةً 269

اختلاف القراءات لا یستلزم التحریف 270

تأثیر اختلاف القراءات فی الدلالة 270

مناشئ اختلاف القراءات 271

بطون القرآن 272

نتیجة النقاط الأربع عدم إثبات تواتر القراءات 273

دعوی الإجماع والمناقشة فیها 274

بیان المختار 275

حصول إمضاء القراءات فی زمن الأئمة (علیهم السلام) 276

الإمضاء ظاهری 276

ثمرة بحث تواتر القراءات 277

المقام الخامس: الأصول اللفظیة 278

معنی الأصل اللفظی 278

الأصل اللفظی هل هو تعبدی أم لا؟ 278

ثمرة هذا البحث 279

استخدام لغة القانون فی الشرع 279

المراد من الإمضاء فی باب المعاملات 280

ضرورة الإلمام بالمبادئ التصوریة القانونیة 280

أقسام الأصول اللفظیة 281

مرجع الأصول اللفظیة 282

بیان الإصفهانی لعدم التعارض بین الأصول اللفظیة 282

تعمیم الإشکال إلی کلّ الجعول العقلائیة 283

ملاحظات علی الإصفهانی 284

وجه حجّیة الأصول اللفظیة 285

شرط حجّیة الأصول اللفظیة 285

المقام السادس: حجّیة قول اللغوی 287

أهمیة هذا البحث 287

تعمیم البحث لکلّ علوم الأدب 287

مهمّة اللغوی 287

عدم اعتناء اللغویین بذکر السند 288

أدلّة حجّیة قول اللغوی وتقییمها 289

ص:540

معنی الإطمئنان الشخصی 291

الأمارات العقلائیة المستجدّة 292

تخریج أصولی لحجّیتها 293

إمضاء الشارع هل یکون للکبری أو للصغری؟ 293

شواهد دالّة علی إمضاء الکبری 294

تأثیر إحراز الملاک فی الإمضاء 296

حجّیة قول اللغوی من باب أنه من أهل الخبرة 297

الإمضاء لیس للإذعان بل لمنشأه 299

الخطأ فی تعبیر الإطمئنان الشخصی 299

قانون العقلاء شریعة کاملة 300

وجه إمضاء الکبری من خلال الصغری 300

أصناف سیر العقلاء 303

الإجماع / 305

نقاط تمهیدیة فی الإجماع 307

الأولی: سرّ اختصاص البحث بالإجماع المنقول بخبر الواحد 307

الثانیة: دور المعصوم فی حجّیة الإجماع 308

الثالثة: ما هو المنکشف بالإجماع؟ 309

الرابعة: الإجماع فی الإستعمالات المختلفة 310

الخامسة: الإجماع القولی والعملی 311

السادسة: الإجماع منشأ خاص أو منشأ عام؟ 311

السابعة: رتبة الإجماع فی الحجّیة 311

وراء کلِ ّ إجماعٍ دلیلٌ 312

الثامنة: الإجماع الکاشف عن السبب أو المسبب 313

الإجماع المحصَّل 314

أدلّة حجّیة الإجماع المحصَّل بمعنی الإتفاق وتطابق الآراء بعضها مع البعض الآخر 314

قاعدة اللطف 315

مناقشة السیّد المرتضی فی قاعدة اللطف 316

دلیل تراکم القرائن 317

شروط کشف الإجماع عن وجود نص خفی علینا 318

قرائن تزید درجة الکشف المزبور 319

کاشفیة الإجماع عن السیرة 320

الحس الفقهی 321

موانع تضعف من درجة الکشف المزبور 321

إعمال النظر من المتقدّمین 322

ص:541

تکافؤ القرائن الموجبة للتقویة أو للتضعیف 324

التمسک بالروایات 324

هل یمکن الإستدلال علی حجّیة الإجماع بخبر الواحد؟ 325

الترتب بین الحجج 326

ضرورة التناسب بین الدلیل وبین المدّعی 327

ضرورة التناسب بین مقام الثبوت وبین مقام الإثبات 327

لا یمکن إثبات حجّیة الإجماع السنّی بروایة 328

الإجماع المنقول بخبر الواحد 330

شرط حجیّة خبر الواحد 330

ما هو دلیل توفّر الشرطین فی حجّیة الخبر؟ 331

رأی الشیخ الأعظم (رحمه الله) 331

عویصة فی حجّیة الخبر الناقل للإجماع 332

تسریة العویصة إلی موارد أخری 333

حلّ العویصة فی تلک الموارد 333

حلّ العویصة فی نقل الإجماع 334

التفصیل هو المختار 335

تنبیهات بحث الإجماع 336

الشهرة / 339

مصبّ البحث 341

أقسام الشهرة 342

أدلّة حجّیة الشهرة وتقییمها 343

عدم دلالة المقبولة علی الحجیّة المستقلة للشهرة الفتوائیة 345

دعوی وحدة الملاک فی حجّیة الخبر وحجّیة الشهرة الفتوائیة 346

أدلّة عدم حجّیة الشهرة 347

( 1 ) استدلال النراقی علی عدم حجّیة الشهرة 347

ملاحظة نقدیة من النراقی 347

إجابة عن إشکال النراقی 348

ملاحظة أخری علی الإستدلال 348

وجاهة إستدلاله 348

( 2 ) القول بحجّیتها یستلزم عدم حجّیتها 348

( 3 ) عدم إمکان إثبات حجّیتها بروایة واحدة 349

جابریة الشهرة وکاسریتها 350

تغایر ماهیة الشهرة الروائیة والعملیة مع ماهیة الشهرة الفتوائیة 350

معنی الجبر 350

ص:542

عدم الملازمة بین الحجّیة المستقلة وغیر المستقلة 351

معنی حجّیة الشهرة 352

تقریب لجابریة الشهرة 352

متعلّق الجبر والکسر 353

خبر الواحد / 357

نقاط تمهیدیة 359

النقطة الأولی: أقسام الخبر 359

الخبر المتواتر 359

التواتر المعنوی 360

الخبر المستفیض 361

درجات التواتر 361

التواتر متکفل لتأمین الطریق وأجنبی عن المضمون 362

الخبر الضعیف 362

أحکام الخبر الضعیف 362

الخبر المدسوس 364

النقطة الثانیة: تخریجات العمل بروایات الکتب الأربعة 364

النقطة الثالثة: الفرق بین درجات الحکایة ( الروایة والفتوی والحکم ) 365

تقریبٌ لحجّیة الخبر الحسی 367

النقطة الرابعة: مراحل عملیة الإستنباط 367

النقطة الخامسة: جهات البحث عن حجّیة الخبر 369

النقطة السادسة: تقسیمات الحدیث الأربعة 370

أهمیة تلک التقسیمات 371

برکات تلک التقسیمات 372

النقطة السابعة: وجوب حفظ الدین علی صعید العلم والعمل 372

أدلّة المانعین 374

الدلیل الأول: الکتاب العزیز 374

الدلیل الثانی: طوائف من الروایات 374

الدلیل الثالث: الإجماع 375

الدلیل الرابع: العقل 375

أدلّة المثبتین 377

الدلیل الأول: القرآن الکریم 379

الآیة الأولی: آیة النبأ 379

سبب نزول الآیة 379

وقفة مع مفردات الآیة 380

ص:543

شرط الدلالة علی المفهوم 380

الإستدلال بمفهوم الشرط 380

المناقشة الأولی فی هذا التقریب 381

التفکیک بین الشرط والموضوع 382

ثمرات تقسیم القیود 383

الفرق بین الشرط والموضوع 383

تقریب آخر للإستدلال بالشرط 384

المناقشة فی التقریب 385

أنماط الموضوعات الترکیبیة 385

ثمرة هذا التقسیم 386

تقریب لعدم المفهوم للجملة الشرطیة 386

جواب عن هذا التقریب 387

ثبوت المفهوم للجملة الشرطیة فی الجملة 388

العلاقة بین الموضوع والشرط إنضمامیة فیثبت المفهوم 388

المناقشة الثانیة فی الإستدلال بآیة النبأ 389

ملاحظات علی هذه المناقشة 390

هل المعالجات القانونیة تکفی فی حلّ التعارض فی الأدلّة المتصلة؟ 391

ملاحظة الصدر علی النائینی 392

نقد ملاحظة الصدر 393

المناقشة الثالثة فی الإستدلال بآیة النبأ 395

ملاحظات علی هذه المناقشة 396

المناقشة الرابعة فی الإستدلال بآیة النبأ ( الخبر مع الواسطة ) 397

حلول لهذه المناقشة 398

حلّ الشیخ الحائری 399

ملاحظة علی حلّ الحائری 399

حلّ الآخوند 400

الحلّ المختار 402

الإستدلال علی الحجّیة بمفهوم الوصف 403

الإستدلال علی الحجّیة بمفهوم التحدید 403

التقریب الآخر لدلالة الآیة 404

دائرة حجّیة خبر العادل؛ لسانه أو أعماله؟ 405

الفرق بین التبیّن والطرح 406

معنی وجوب التبیّن 406

الآیة الثانیة: آیة النفر 407

تقریب الإستدلال 407

مجموعة من الإشکالات علی الإستدلال بآیة النفر 408

ص:544

الإشکال الأول: المناقشة فی معنی لعلّ 408

تقییم الإشکال 408

الإشکال الثانی: کیفیة ترتب الحذر علی الإنذار 408

تقییم الإشکال 409

الإشکال الثالث: لابدّ من علم المنذر 410

تقییم الإشکال 410

الإشکال الرابع: عدم صدق الإنذار علی الروایة 411

الإشکال الخامس: الآیة تثبت حجّیة الفتوی لا الروایة 411

لا فرق بین الفتوی والروایة فی زمن النص 411

الإشکال السادس: عدم حجّیة الظن فی الأصول 413

المختار فی تقریب الإستدلال وحلّ المناقشات 413

استفادة الإمضاء من الکلّی الفوقانی 415

الإستدلال بالأولویة فی آیة النفر 415

جواب الإشکال الرابع 416

جواب الإشکال الخامس 416

جواب الإشکال السادس 417

الجواب عن الجهة المشترکة فی الإشکالات 417

موضوع الحجّة هو الفهم العام للدین 418

الآیة الثالثة: آیة الکتمان 419

تقریب الإستدلال 419

المراد من (ما بیّناه للناس) 420

عرض الإشکالات علی تقریب الإستدلال 420

الإشکال الأول: الکتمان لا یتحقق فی مضمون خبر الواحد 420

تقییم الإشکال 420

الإشکال الثانی: عنوان (فی الکتاب) لا یشمل الروایات 421

تقییم الإشکال 421

الآیة الرابعة: آیة الذکر 421

التقریب الإجمالی 422

عرض الإشکالات 422

الجواب عن الإشکالات 423

فرق آیة الذکر مع آیتی النفر والکتمان 424

الشارع تکلّم بلغة العقلاء 424

الآیة الخامسة: آیة الأذن 425

التقریب الإجمالی لدلالة الآیة 425

المناقشة فی دلالة الآیة 426

تقویة دلالة الآیة بروایتین 426

ص:545

عدم دلالة الروایتین علی المدّعی 427

الدلیل الثانی: السنّة 429

إجمال ما ذکره الأعلام 429

ملاحظات عامّة علی ما ذکره الأعلام 429

تقییم الملاحظة 430

عرض طوائف الروایات 431

خلاصة الإستدلال بهذه الطوائف 433

حدود حجّیة الخبر بحسب الأخبار 434

مفاد الصحیحتین 435

روایة عبد العزیز بن المهتدی 435

المناقشة فی روایة عبد العزیز 437

صحیحة الحمیری 438

روایة إسماعیل بن الفضل الهاشمی 440

الدلیل الثالث: الإجماع 441

تدافع دعوی الشیخ والسیّد فی هذا الإجماع 441

ما ذُکر فی حلّ هذا التدافع 442

الإلفات إلی نکتة مهمة 443

الشک فی التدلیس علی الثقة 444

الدلیل الرابع: السیرة 447

العلاقة بین التقنین الشرعی والبشری 447

تمییز سیرة المتشرعة عن سیرة العقلاء 448

تصادُقُ السیرتین فی مورد 449

تقریر دلیل سیرة المتشرعة لإثبات حجّیة الخبر 449

أقسام السیرة العقلائیة 450

فائدة التقسیم 450

وجود السیرة علی العمل بخبر الثقة 451

عدم حجّیة الخبر الموثوق بصدوره بالوثوق الشخصی 452

دعوی رادعیة الآیات (الناهیة عن الظن) عن السیرة 453

ردّ الدعوی 453

حکومة السیرة علی الآیات الناهیة 455

تناسب الردع مع المردوع 456

کون الشارع رئیس العقلاء 458

قضیة الدور فی الرادعیة 460

تصنیف الآیات الناهیة عن الظن 464

العلاقة الثبوتیة بین التقنین الشرعی والعقلائی 466

الفوارق بین العموم الفوقانی وما دونه من العمومات 467

ص:546

الوجوه فی تفسیر العلاقة الثبوتیة بین التقنینین 468

الدلیل الخامس: العقل 472

الکشف والحکومة 474

تنبیهات تتعلّق بخبر الواحد 478

التنبیه الأول: حجّیة خبر الثقة أو الموثوق به؟ 478

تعریف الخبر الموثوق به 478

الفارق بین خبر الثقة والخبر الموثوق به 478

ثمرة وجود الفارق بین خبر الثقة والخبر الموثوق به 481

التنبیه الثانی: حجّیة الخبر أو عدم حجّیته فی الإعتقادیات 482

أهمیة المسألة وغموضها 482

أدلّة المانعین 483

المختار فی المسألة 485

الفارق بین الحکم الفقهی والأصولی 485

الجهة الأولی: تصویر الحکم الفقهی 485

القوی الثلاثة للنفس 486

الایمان هو الفعل الإختیاری 487

إمکان التعبد فی الایمان 487

شبهة الدور فی وجوب الفحص فی النبوة 489

شبهة لغویة الحکم الفقهی بعد وجود حکم العقل فی التوحید 490

الجهة الثانیة: الحکم الأصولی 491

حقیقة التعبد بالظن فی العقائد 492

البحث فی المقتضی 493

البحث فی المانع 494

التنبیه الثالث: کیفیة تخریج الخبر الحسن والقوی 496

وجه العمل بخبر الحسن 497

درجات الإحراز لصفات الراوی 498

أصالة العدالة 499

حسن الظاهر مغایر للعدالة 499

أدلّة أماریة حسن الظاهر 500

عدّة ملاحظات 504

التنبیه الرابع: حجّیة خبر الواحد أو عدم حجّیته فی الموضوعات 506

عدم حجّیة خبر الواحد فی الموضوعات عند القدماء 506

المختار فی المسألة 506

تقریب المستمسک 508

التنبیه الخامس: فی جبر الضعیف بالشهرة العملیة والفتوائیة وکسر الخبر الصحیح بهما 509

ص:547

الآراء فی المسألة 509

فی جبر الشهرة العملیة 509

المناقشة فی رأی السیّد الخوئی (قدس سره) 510

أدلّة جابریة الشهرة وتقییمها 511

فی جبر الشهرة الفتوائیة 512

إعراض المشهور عن الخبر الصحیح 513

جبر الدلالة وکسرها بالشهرة 514

التنبیه السادس: فی حلّ شبهة الدس فی أخبار الإمامیة 516

حلّ شبهة الدس 516

التنبیه السابع: فی ضرورة معرفة اصطلاحات علم الحدیث 518

الضعیف والمدسوس 518

الصحیح والمعتبر 519

الرؤیة المجموعیة 520

التنبیه الثامن: أدلة حجّیة الخبر هل تشمل الجانب العلمی أیضاً؟ 522

حجّیة الظن المطلق / 525

من فوائد هذا البحث 527

أدلّة حجّیة الظن المطلق 529

الدلیل الأول: وجوب دفع الضرر المحتمل 529

التحقیق فی الظن بالعقوبة الأخرویة 529

التحقیق فی المسألة 530

التحقیق فی الضرر الدنیوی 533

تفویت المصلحة هل هو ضرر؟ 534

الدلیل الثانی: رجحان العمل بالظن 535

الدلیل الثالث: ما ذکره صاحب الریاض 536

الدلیل الرابع: دلیل الإنسداد 536

مقدّمات دلیل الإنسداد 541

ترمیم المقدّمات 541

التحقیق فی المقدّمة الأولی 544

التحقیق فی المقدّمة الثانیة 548

التحقیق فی المقدّمة الثالثة 548

آراء الأساطین فی هذه المقدّمة 549

المنشأ الشرعی لتنجیز العلم الإجمالی 552

الصیاغة الأولی 552

الصیاغة الثانیة 554

الصیاغة الثالثة 554

ص:548

الدلیل علی الصیاغة الأولی 556

أدلّة الصیاغة الثالثة 557

الصیاغة الرابعة 558

التحقیق فی المقدّمة الرابعة 562

إشکال وجواب 562

مؤاخذة علی التبعیض فی الإحتیاط 565

بیان الفرق بین التبعیض فی الإحتیاط والظن علی الحکومة 566

بیان المائز بین الإحتیاط الفقهی والأصولی 569

إبطال الإحتیاط وسائر الخیارات الأخری عدا الظن 573

قاعدة الحرج الثانیة 575

أدلّة القاعدة 576

إبطال البراءة وسائر الأصول النافیة 579

إبطال الأصول المثبتة 579

إبطال القرعة 580

إبطال الرجوع إلی من یری الإنفتاح 581

فی المقدّمة الخامسة 582

تنبیهات الإنسداد 583

التنبیه الأول: الظن بالطریق والظن بالواقع 583

دعوی الإختصاص بالظن الواقع أو بالظن بالطریق 583

منشأ توهّم الإختصاص بالظن بالواقع 584

منشأ توهّم الإختصاص بالظن بالطریق 584

وجود القدر المتیقن فی العلم الإجمالی بنصب الطرق 585

عبارة غامضة لصاحب الکفایة (قدس سره) 586

شرح الحائری (قدس سره) 587

شرح آخر لکلام الآخوند (قدس سره) 589

درجات إراءة العلم الإجمالی عن الواقع 590

استدلال هدایة المسترشدین لاختصاص نتیجة الإنسداد بالظن بالطریق 591

تبیین استدلال صاحب الحاشیة (قدس سره) 592

التنبیه الثانی: الکشف والحکومة 595

التنبیه الثالث: تعمیم النتیجة بلحاظ الأسباب والموارد والمراتب 600

أقسام الطریق 600

حقیقة الحجّیة 601

التنبیه الرابع: فی کیفیة تعقّل عموم النهی عن القیاس فی حال الإنسداد 604

سرّ الإکتفاء علی الظنون المعهودة 607

التنبیه الخامس: عدم الفرق بین أقسام الظن بالحکم 608

ص:549

التنبیه السادس: الظن فی الشبهات الموضوعیة 609

المختار فی دلیل الإنسداد 610

الأمر الأول:صیاغة جدیدة لدلیل الإنسداد 610

الشاهد الأول 610

الشاهد الثانی 611

الأمر الثانی: فی تاریخ الإنسداد 612

الأمر الثالث: فی فوائد الإنسداد وسلبیاته إلی حدّ الخطورة 613

سلبیات الإنسداد 616

ایجابیات الإنسداد 617

فقاهة الفقیه بالتفطن علی الأدلّة الإجتهادیة 618

مراحل الإستنباط الفقهیة 619

الفهرست / 625

ص:550

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.