سند العروة الوثقی (كتاب الاجتهاد و التقلید) المجلد 1

هوية الکتاب

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان قراردادی:العروة الوثقی .شرح

عنوان و نام پدیدآور:سندالعروةالوثقی (كتاب الاجتهاد والتقلید)/ تقریرا لابحاث محمد السند؛ بقلم زهیربن الحاج علی الحكیم.

مشخصات نشر:تهران: دارالكوخ، 2015 م.= 1394.

مشخصات ظاهري:2 ج.

شابك:دوره 978-600-6701-13-4 : ؛ ج.1 978-600-6701-14-1 : ؛ ج.2 978-600-6701-12-7 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج.2 (چاپ اول: 2015 م. = 1394).

یادداشت:كتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران متفاوت منتشر شده است.

یادداشت:عنوان دیگر: كتاب الاجتهاد والتقلید (سند العروة الوثقی).

یادداشت:كتاب حاضر شرحی بر كتاب «العروة الوثقی» تالیف عبدالكاظم یزدی است.

یادداشت:كتابنامه.

عنوان دیگر:كتاب الاجتهاد والتقلید.

عنوان دیگر:كتاب الاجتهاد والتقلید (سند العروة الوثقی).

موضوع:یزدی، سیدمحمدكاظم بن عبدالعظیم، 1247؟ - 1338؟ ق . العروه الوثقی-- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 14

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- 20th century

موضوع:اجتهاد و تقلید

موضوع:*Ijtihad and taqlid

شناسه افزوده:حكیم، زهیر

شناسه افزوده:یزدی، سید محمد كاظم بن عبدالعظیم، 1247؟ - 1338؟ ق . عروه الوثقی. شرح

رده بندی كنگره:BP183/5/ی4ع402153 1394

رده بندی دیویی:297/342

شماره كتابشناسی ملی:4885843

ص :1

اشارة

ص: 2

سند العروة الوثقی (كتاب الاجتهاد والتقلید)

تقریرا لابحاث محمد السند

بقلم زهیر بن الحاج علی الحكیم

ص: 3

ص: 4

مقدمه

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

والصلاة والسلام علی أشرف المرسلین محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین، واللعن الدائم المؤبد عل أعدائهم ومنكري فضائلهم من الآن إلی یوم الدین

وبعد:

إن بحث الاجتهاد والتقلید من المباحث المهمة في حد ذاته، وقد أشار شیخنا الأستاذ (حفظه اللّه) إلی ربط كثیر من مباحثه بالمعارف الضرورية والتي منها (ضرورة الواسطة) التي من أدوارها: البیان للفرائض الإلهیة والسنن النبویة، وهو سنخ بیان یحفظ الأسس والأركان الدینية بحیث مهما اختلفت أفهام الفقهاء وتعددت قراءتهم، لا یتجاوز ذلك الفهم تلك الأسس والثوابت الدینية ولا یتعداها... وهو یعتمد علی الاعتقاد بضرورة الحلقة المعصومة التي لها الوظیفة من تبیین الفرائض الإلهیة والفرائض النبویة - الشاملة للثوابت والأسس الدینية التي لا یخضع تغییرها لتغییر الفهم البشري - ببیان مهما اختلف فهمه، فهو لا یوجب خلخلة تلك الثوابت والأسس... وإلا لتشعبت وضاعت الأسس والأركان، ونشأت المذاهب وتكثّرت بحدّ یضیع الإسلام بضیاع أسسه

ص: 5

ومبدأه، سواء في المعارف أم في أصول الفروع، كما هو حاصل لبقیة الفرق التي مالت عن أهم فریضة من فرائض اللّه ورسوله - وهي وساطة أهل البیت (علیهم السلام) بجمیع كل ما یتعلق بالمنظومة الدینية حیث جعلوا عِدل القرآن الذي لا ینفك عنهم ولا ینفكون عنه - حیث انحرفوا عنها وهجروها، وانتهجوا منهجاً مخالفاً لتلك الضرورة والواسطة التي جعلها اللّه تعالی ورسوله (صلی اللّه علیه و آله) لأهل البیت (علیهم السلام) ، فكان اعتقادهم علی مستوی التنظیر بعدم ضرورة تلك الحلقة الإلهیة التي من شأنها الحفظ والتسدید، إلا أنهم اتعقدوا - عملاً - بضرورتها، إذا لا محیص عنها، ولهذا اختلقوا تمذهب تلك تلك المذاهب الأربعة، ووقفوا حتی یكون فهم من یأت بعدهم لا یخرج فهمهم واستنباطهم عن فهم تلك المذاهب، حتی یحفظوا أساس الدین وثوابته، فعبّدوا الناس بفهم أئمة المذاهب الأربعة فهماً سقیماً یعتمد علی الظن والقیاس والتسییس من قِبل أئمة الجور، حتی أقحمت كثیر من المبادئ التي تخدم السلاطین والشیاطین في المنظومة الدینية التي لا یقبلها أي ذوق وعقل، فجعلوا بیان الدین في رقبة هؤلاء، مع اعترافهم بأنهم خطّائین وغیر معصومین، إلاّ أنهم عاملوهم معاملة المعصومین الذين لا یتخطی بیانهم، مع اعترافهم بعدم المزیّة فیهم علی غیرهم بالعصمة، ولعل غیرهم أفضل منهم إذ لا دلیل أصلاً علی جعل بیانهم الذي لا یُتجاوز ولا یُتعدی، لأنه لا یعدو كونه فهماً بشریاً لا وحیانیاً كبیان أهل البیت (علیهم السلام) ، إلا أنهم تنبّهوا إلی هذه

ص: 6

المعضلة إذ لو فتحوا هذا الباب لكل من هبّ ودب - كما تقتضیه مسألة التنظیر عندهم - لتشعّبت المذاهب ولم تقف عند حد أصلاً... وبه تنمحي تلك الثوابت الدینية فلا یبقی للدین من باقیة، حیث أخضع الدین للفهم البشري ولم یُحصّن بسیاج العصمة الذي یهدف للحفاظ علی الثوابت مهمی اختلفت الأفهام والأنظار والقراءات من الفقهاء وأهل الاختصاص .

وبهذه النكتة یندفع كثیر من إشكالات الحداثة بمختلف ألوانها، كأرخنة النص الدیني وتغیّره بحسب تغیر الفهم الفقهي من أفهام الفقهاء وأشكال التمییز بین الدین والفهم الدیني، وأن ما هو موجود هو فهم الدین لا الدین نفسه، هذا أولاً .

وثانیاً: قد بلور شیخنا الأستاذ كثیراً من المباحث المصیریة علی مستوی الأدلة والأحكام الأصولية والفقهية وتنقیح الموضوعات بل وذكر ضوابط كثیر من المباحث والنتائج الفكریة والمسائل المعرفیة المرتبطة بالاجتهاد والتقلید والتي منها (حقیقة منصب المرجعیة) ، أما ما ذكره في الأدلة كجعل شكر المنعم أحد الأدلة في سلسلة العلل علی وجوب التقلید، كما هو في سلسلة المعلولات .

أما ما ذكره في الأحكام الأصولية - كعدم المعارضة التامة بین الأدلة، وإن كانت النسبة هي التباین - وبیان ثمرات المعارضة التامة وغیر التامة, وجریان الاستصحاب في الحجة الناقصة، ومن هنا كان المانع في عدم

ص: 7

حجیة فتوی المیت ابتداءً أمر آخر غیر عدم الاستصحاب وإلاّ فالاستصحاب جارٍ بلا خلاف .

وأما ما ذكره في الأحكام والنتائج الفقهية فمثاله: ما ذكره في سعة وضیق المناصب التي تتولاها المرأة، وأما تنقیح المواضیع فقد جعلها مادة صالحة للاستدلال بها علی النتائج، مثل: تنقیح معنی الاحتیاط وذكر أقسامه الستة والتي لها دخالة في تحدید المعنی الذي یكون في عرض الاجتهاد والتقلید وتنقیح معنی الفقاهة، وأنها لیست طریقاً محضاً لاستشراق الواقع، بل أخذ في مفهومها معنی الولایة والرئاسة والنیابة، وبها اشترط الرجولة في مرجع التقلید، والإیمان والعدالة بنفس هذه النكتة التي اعتبرها في مفهوم الفقاهة .

وثالثاً: ما ذكره من مناهج الاستنباط الفقهية وكیفیة الاستفادة منها في الاستنباط، كمنهج الملازمات ومنهج التحلیل، ومنهج التشقیق... وغیرها مما لها دخالة في استشراف نفس الأدلة علی الفروض الفقهية وتنقیح موضوعها ووضوحها واستكشاف الأركان وغیر الأركان مما لها دخالة في التفریعات والتشقیقات في نفس الفرض الفقهي ومعرفة نظائره من الفروض الفقهية .

وقد أشار كذلك إلی نكات جلیلة، منها: ممیزات الأعلمیة، والجهات العدیدة التي لها دخالة في التنظیر والتطبیق وتحدید المفاهیم ومواضیعها... وغیره من النكات الجدیرة باتأمل .

ص: 8

أتوسل إلی اللّه تعالی أن یحفظ شیخنا الأستاذ وأن یمدّ في عمره الشریف بخیر وعافیة، وأن لا یحرمنا من إفاضاته . اللّهم وفقنا لمراضیك وخدمة دینك، إنك سمیع مجیب .

26 من ذي القعدة سنة 1435

ص: 9

ص: 10

الاجتهاد والتقلید

(مسألة 1) یجب (1) علی كل مكلف في عباداته ومعاملاته أن یكون مجتهدا، أو مقلدا، أو محتاطاً.

المسألة الاولی: وفیها عدة جهات:

اشارة

(1) في المقام عدة جهات بعضها یبحث في هذه المسألة والبعض الآخر یبحث في بقیة المسائل إلی المسألة السابعة:

الأولی: في المكلف:

الثانية: في عموم التقلید:

الثالثة: في حقیقة الوجوب:

الرابعة: في كون الاحتیاط في عرض الاجتهاد والتقلید أو طولهما.

الخامسة: في اقسام الاحتیاط:

الجهة الأولی: في المكلف:

الصحیح أن المكلف هو مطلق ما یصح في حقه التكلیف وهو الممیز تبعاً للشهید الأول (قدّس سرّه) وصاحب الجواهر (قدّس سرّه) في بعض الأبواب وذلك لشمول العمومات غایة الأمر أن حدیث رفع القلم كما ذكرناه في بحث البراءة دال علی رفع التنجیز لا رفع أصل فعلیة الحكم فضلا عن المرحلة الانشائیة للحكم وهي التي یقع فیها التخصیص فلیس حدیث الرفع وغیره من هذه الاخبار مخصصا لأدلة التكالیف ... ، نعم نلتزم برفع

ص: 11

الفعلیة التامة وإن لم ترتفع الفعلیة الناقصة وقد بینا هذا المطلب في الذيل الوارد بسند معتبر في أبواب الدیات باب ما یغرمه الصبي:«بأن عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة» فإن مفاده أن اردة الصبي ارادة غیر مستقلة وغیر تامة، فخطأه تحمله العاقلة ومفاده لیس خاصا بباب الحدود بل هو تنزیل عام یستفاد منه عدم تمامیة ارادة الصبي... وعلیه فالخطاب تجاه الصبي لیس علی حذو خطاب البالغین إلا أن القدر المشترك بینهما هو وجود أصل الفعلیة والملاك ... والعمومات والمطلقات لا دلیل علی تخصیصها أو تقییدها بالبالغ إلا في مرحلة الخطاب الشرعي وهي مرحلة التنجیز والتحریك والفاعلیة للحكم فإن مرحلة الخطاب اسم لمرحلة فاعلیة التكلیف ومحركیته وهذه المرحلة غیر تامة النصاب في حق الصبي لأن عمد الصبي خطأ... فتحریكه بالإرادة الشرعية لیس كتحریك البالغ ومن ثم إذا كانت الفاعلیة في التكلیف مرفوعة بشكل ناقص في الصبي فالفعلیة التامة أیضا مرفوعة لأن الفعلیة التامة ملازمة للفاعلیة التامة...

ومن هنا نعرف الملاك للأمر بالأمر فأمر الشارع لأولیاء الامور أن یأمروا صبیانهم بالصلاة مثلا لكون الباعثیة والمحركیة بالأدلة الأولیة فیها قصور تجاه الصبي في هذه المرحلة، ومن هنا صححنا ما استظهره عدة من الأعلام قدیما وحدیثا من أن الامر بالامر یفید مشروعیة عبادات

ص: 12

الصبي وهو وسیلة لتحریك الصبي نحو الملاك الموجود لدی البالغین... فتكون هذه الاخبار علی وفق القاعدة من وجود الملاك والفعلیة خلافاً لمن خصها بالصلاة والصیام ولم یعممها لبقیة الأبواب إلا أننا قد استندنا إلی العمومات الدالة علی أن الروافع لیست بمخصصة للتشریع والانشاء وأما هذه الاخبار - أي الأمر بالأمر - فهي مؤیدة لما قرره الشیهد الأول من كون العمومات شاملة للصبي علی حدو شمولها للبالغین وقد التزم بهذا المبنی باصرار استاذنا المیرزا هاشم الأملي (قدّس سرّه) وإن كان التزامه برفع التنجیز فقط ولم یلتزم برفع الفعلیة التامة وإن كان الصحیح هو رفع الفعلیة التامة أیضاً.

وعلی أي تقدیر فعمومات التكلیف شاملة للصبي وغیر قاصرة وإن كانت الفعلیة ناقصة وغیر تامة فالصبي اجمالا مشمول للتشریع ، وعلیه فالتقلید یصح منغیر البالغین كما یصح من البالغین ویترتب علی هذا شمول مسائل البقاء لتقلید المیت للصبي وأن تعلیم أولیاء الأمور أبناءهم نوع من التقلید وما شابه ذلك ... فالتكلیف لیس بمعنی تسجیل العقوبة حتی یختص بالتنجیز بل هو شامل للفعلیة أیضاً فهي شاملة لكل ما فیه كلفة وإن كانت من المستحبات إذ لا عقوبة فیها.

ص: 13

الجهة الثانية: في عموم التقلید للعبادات والمعاملات والعادیات:

اشارة

المبحوث عنه في قوله: (في عباداته ومعاملاته) هو أن التقلید یختص بالعبادات والمعاملات أو یشمل كل عادیاته كما ذكره بعض المحشّین علی العروة بل ذكر بعضهم في كل أعمال المكلف عدا الضروريات والیقینيات؟

والصحیح أنه یعم الكل عدا الضروريات والیقینيات كأصل وجوب الصلاة والصوم وغیرها للعلم بها بدون الاجتهاد والتقلید فهي خارجة عن محل التقلید ولیست العادیات كلها ضرورية بل فیها ما هو ضروري وفیما ما هو غیر ضروري والضروري أمره نسبي إذ لعل أمراً ضرورياً بالنسبة لشخص غیر ضروري لآخر وذلك لأن الضرورة حالة اداركیة تختلف من مكلف لآخر أو لفئة كالفقهاء غیر ضروري لدی عامة الناس، فكل ما لیس بضروري واحتمل فیه التكلیف الالزامي تعین فیه الاجتهاد أو التقلید...

والمراد من المعاملات لیس التعاقد فقط بل تشمل جمیع العقود والایقاعات والاحكام كالقضاء وتولي القضاء بالنیابة وغیرها بل هي شاملة لجمیع الأعمال حتی العادیات غیر العقود والمعاملات والاحكام كالأفعال العادیة المعیشیة المعتادة والمباحة...

ص: 14

التقلید في تفاصیل الاعتقادات:

وأما التقلید في تفاصیل الاعتقادات لا في الأسس كتفاصیل البرزخ والجنة وغیرها - كما یأتي في م67-فأثیر عند الأعلام في بحث الانسداد

في الاصول والمعروف عند الاكثر منهم أنه لا تقلید في الاعتقادات وقد ذهبت جماعة من أعلام الامامیة لمنع الدلیل الظني المعتبر في تفاصیل الاعتقادات وذهبت جماعة أخری إلی قبوله منهم الشیخ الطوسي والخواجة نصیر الدین الطوسي والشیخ البهائي والمجلسیان والمقدس الأردبیلي والمیرزا القمي صاحب القوانین والمحقق الأصفهاني والسید الخوئي (رحمهم اللّه جمیعاً) وقد بنوا علی إمكان اعتبار الظن في تفاصیل الاعتقادات ولم یصرحوا بهذا في باب التقلید وإنما نقلناه هنا لأجل تصریحهم بالاكتفاء بعموم الظن المعتبر في تفاصیل الاعتقادات الشامل للتقلید، وقد حررنا البحث في ذلك في الانسداد من الاصول وفي كتاب الامامة الالهیة وهذا البحث یعتمد في تصویره علی عدة نقاط:

النقطة الأولی: تعتمد علی أن أصل معنی التعبد في الاعتقادات ممكن ثبوتا أم لا؟ ومشهور الكلاميین بنوا علی عدم التعبد في الاعتقادات وهذا بحث في الحكم الفقهي وهو امكان فریضیة الایمان ووجوبه التكلیفي فالبحث في امكان كون الایمان فریضة بل حتی الایمان باللّه تعالی وتعرضنا للأدلة علی ذلك مع دفع المحاذیر.

ص: 15

النقطة الثانية: في الحكم الاصولي وهو امكان اعتبار الظن في تفاصیل الاعتقادات، ومن ثم لا یشكل في ثبوت اسم الامام بالتعبد الظني

لانه لا مانع منه فبعد ضرورة الامامة مثلاً لا مانع من ثبوت اسم الامام بالظن معأن أصل الإمامة وتسمیته ثابتة بالضرورة والقطع أیضا إلا أن العقل لا یحیل ذلك.

النقطة الثالثة وجود الأدلة الاثباتیة التأسیسیة غیر الارشادیة علی التعبد بالعقائد والایمان بها:

منها قوله : (فَآمِنُوا بِاللّه وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الذي أَنْزَلْنا وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ) (1) وغیرها من أدلة حجیة الظن في تفاصیل العقائد كعموم أدلة حجیة الظن وحجة الظواهر وغیرها من أدلة حجیة الظن.

النقطة الرابعة دفع الموانع المتصورة علی التعبد في تفاصیل العقائد.

وتحریر هذه المسائل تصورا وتصدیقاً موكول إلی محله(2).

الجهة الثالثة: في حقیقة الوجوب :

اشارة

وقع الكلام في ماهیة هذا الوجوب الجامع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط ، وقد ذهب الحلبیون وابن زهرة في «الغنیة» إلی أن وجوب

ص: 16


1- سورة التغابن، الآیة 8.
2- سیأتي شیء من هذه البحوث في مسألة 67 .

الاجتهاد وجوب عیني وعلیه كیف یكون من أفراد الوجوب التخییري في المسألة؟!

ویمكن تخریج ما ذكروه باختصاصه بامكان تأتي العلم بالاحكام الشراعیة إذ معه لا تصل النوبة للظن المعتبر فلابد من مراعاة الاجتهاد قبل التقلید لأن التقلید في طوله وأما الاحتیاط فمعلوم من الشارع رفضه للحرجیة فالتعین للاجتهاد.

وفیه:

أولاً: أن الاجتهاد علی الجمیع وعموم المكلفین لا یقل في حرجیته عن الاحتیاط.

وثانیاً: أن وجوب الاجتهاد كفائي لاستفادته من قوله تعالی : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) (1) فهذا المفاد بنفسه رد علی دعوی الوجوب العیني ومن ثم حمل بعض كلام الحلبیین كابن زهرة علی العیني في الاجتهاد علی خصوص من له القابلیة والاستعداد للمواصلة والدفاع عن بیضة الاسلام ومن هنا نقل عن بعض الأعلام : "أن من راهق الاجتهاد یتبدل الحكم في حقه من الكفائي إلی العیني" وأیضاً لا یسوغ لصاحب ملكة الاجتهاد أن یقلد في المسائل التي لم یستنبطها مع

ص: 17


1- سورة التوبة 122.

سهولة الرجوع إلی مدراكها.

ما یحتمل في حقیقة الوجوب الجامع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط:

الاحتمال الأول: أن یكون هذا الوجوب شرعيا نفسيا طریقیا:
اشارة

وهو ما یظهر من أدلة وجوب التعلم من الآیات والروایات مثل قوله تعالی (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (1) .

ومن الاخبار التي وردت في قوله تعالی: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِینَ)(2): وما رواه الشیخ المفید في أمالیه : «أفلا تعلمت»(3). وقد حمل بعض الأعلام هذه الأدلة الشرعية علی الارشاد لتنجیز الأحكام بالعلم الاجمالي .

وفیه :

أولاً : اطلاق الأدلة الشاملة لموارد العلم الاجمالي وغیره.

وثانیاً أنه أخص من المدعی إذ العلم الاجمالي لیس في جمیع المسائل بل له حدود ومجال وبالتالي یمكن دعوی الانحلال فیرجع

ص: 18


1- سورة النحل، الآیة 43.
2- سورة الأنعام، الآیة 149.
3- الأمالي : ص 128 .

الشك بدویاً، وأضف إلی ذلك إلی أن هذا العلم الاجمالي متفاوت عند المكلفین.

ومنهم من حملها علی امضاء الشارع للسیرة القائمة علی منجزیة الاحتمال في الشبهات الحكمیة بدون الفحص، فلا تجري الأصول المؤمنة في حقه بدونه فالاحتمال بدون الفحص منجز فضلاً عن العلم الاجمالي، وهذا هو الوجه للوجوب في هذه المسألة وهو متین ووجیه إلا أنه لا یُلزم برفع الید عن ظاهر الأدلة في الوجوب الشرعي غایة الأمر أن هذا الجوب الشرعي لیس ذاتیاً نفسياً بل هو وجوب طریقیاً - وهو ما یكون ملاكه درك الواقع المنجز - فهو واجب في نفسه شرعا إلا أن ملاك وجوبه درك الواقع ولیس هو بنفسه كاشفا عن الواقع.

الوجه في عدم رفع الید عن الوجوب الشرعي النفسي الطریقي :

من جهة أنه لیس الكل یسلم بعدم جریان الاصول المؤمنة قبل الفحص، فالاصول الشرعية عند هؤلاء تجري حتی قبل الفحص لنفس اطلاقها فهي كافیة للتأمین من السیرة المدعاة أو دالة علی عدم امضاءها، فلا مقید لاطلاقات ادلة الأصول الشرعية المؤمنة إلا أدلة وجوب التعلم فیتنجز علی الجاهل الاحتمال ولا یرتفع إلا بالتعلم فلا تجري الاصول المؤمنة إلا بعد الفحص لأطلاق أدلة وجوب التعلم.

وعلی هذا ، یكون أحد معاني هذا الوجوب الجامع بین الاجتهاد

ص: 19

والتقلید هو الوجوب الشرعي الطریقي النفسي والصحیح أن هذا الوجوب یشمل الاحتیاط أیضاً ولكن لا لنفس الاحتیاط بل من جهة تعلم كیفیة الاحتیاط لأن التعلم - كما سیأتي - لفراغ الذمة وهو یتحق أما بالاجتهادا أو بالتقلید أو بتعلم كیفیة الاحتیاط حتی یتمكن من الاحتیاط نفسه.

فلا یبعد أن یكون أحد تفاسیر هذا الوجوب هو الوجوب النفسي الطریقي الشرعي؛ وذلك لحمل الآیات والروایات الدالة علی وجوب التعلم علی المولویة وأن المؤاخذة علی الواقع لا علی التعلم بما هو هو كما هو مفاد ما رواه المفید(1) من قوله (علیه السلام) :«إن اللّه تعالی یقول للعبد یوم القیامة : عبدي أكنت عالما ؟ فإن قال :نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلمت حتی تعمل ؟ فیخصمه ، وذلك الحجة البالغة» .

وبقرینة أن الأصول المؤمنة من التعلم والفحص لا یقف أمامها إلا هذه الأدلة الشرعية، ولا سیما أن الاصول العقلية المؤمنة علی ما ذكرناه في مبحث البراءة من أنه لا وجود للبراءة العقلية في موارد الشك في التكلیف لاختصاصها بموارد الجهل المركب بالتكلیف . أما في موراد

ص: 20


1- الأمالي : ص 228 .

الجهل البسیط والشك فالبراءة العقلائیة تحتاج إلی امضاء، فتخریج الوجوب الذي دلت علیه الآیات والروایات بالوجوب الشرعي متین.

الاحتمال الثاني: كونه نفسيا عقلیا أو نفسيا شرعيا ذاتیا لا طریقیا:
الوجوه في تصویر الوجوب العقلي:

فقد صور الوجوب بعدة وجوه:

الوجه الأول: الوجوب المقدمي:

لأنه مقدمة للامتثال وبعضهم قال بالوجوب المقدمي من باب فراغ الذمة، فالتعلم مقدمة وجودیة لایجاد العمل فلا یمكن ایجاده بدون التعلم مثل تعلم الصلاة واجزاءها وشرائطها، فالتعلم مقدمة وجودیة للواجبات، فالوجوب في المسألة جامع بین الأقسام الثلاثة الاجتهاد والتقلید والاحتیاط.

وهذا صحیح ومتین في الجملة إلا أنه غیر مطرد في جمیع الموارد أما لأجل حصول العلم لدی المكلف لا من باب الاجتهاد ولا من باب التقلید بل من باب العادة مثل ترك بعض ما یحتمل حرمته بدون تعلم كیفیة الاحتیاط، ومثل ما تعارف علیه الناس مع الغفلة أصلاً عن حكمه مثل رد السلام مع أنه واجب ومع ذلك یتحقق من المكلفین وهم لا یعلمون بحكمه فلا یتم كون وجوبه مقدمیاً عقلیاً لتحقق الامتثال في بعض الموارد بدونه.

ص: 21

الوجه الثاني: تنجز العلم الاجمالي بالتكالیف:

حكم العقل بالوجوب من باب تنجیز العلم الاجمالي بالتكالیف، فلابد من احراز الامتثال عقلاً لأن الاشتغال الیقیني یستدعی الفراغ الیقیني، والفراغ الیقیني أما بالیقین الوجداني وهو الاحتیاط أو التعبدي وهو الاجتهاد والتقلید، وهذا الوجه لا بأس فیه في خصوص موارد العلم الاجمالي إلا أنه غیر مطرد في كل المسائل بعد انحلال العلم الاجمالي بالوقوف علی قدر متیقن من الاحكام في كل الأبواب، فالخارج عن دائرة القدر المتیقن من الابواب - كتفاصیل فروع المسائل - لا یتأتی فیه هذا الدلیل.

فهذا الوجه صحیح في الجملة لا بالجملة إلا أن یتمم بأن الاحتمال قبل الفحص في غیر دائرة القدر المتیقن بنفسه منجز، وقبل الفحص لا تجري الاصول المؤمنة عقلیة أو شرعية وهذا التتمیم یرجع إلی ما ذكرناه سابقا.

الوجه الثالث: منجزیة صرف الاحتمال:

من باب منجزیة صرف الاحتمال مع عدم المؤمن لدفع الضرر الاخروي المحتمل.

ص: 22

الوجه الرابع: من باب شكر المنعم:
الاستدلال بشكر المنعم في سلسلة العلل والمعلولات:

وتخریج هذا الوجوب من هذه الجهة یحتاج إلی تأمل من جهة أن شكر المنعم الذي یحكم به العقل في بدایة الاحكام، هل هو واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي؟ أي بعد الحكم الشرعي یحكم العقل بوجوب طاعته من باب شكر المنعم أو الواقع في سلسلة علله بمعنی أنه هو المولد للحكم أو الكاشف عنه... فالمراد به هو ما یكون في سلسلة العلل التي تولد وتوجب الحكم الشرعي أو علة اثباتیة متلازمة ومتزامنة مع الحكم الشرعي مثل كلما حكم به العقل حكم به الشرع كحرمة قبح الكذب وحسن العدل فمثل هذه العلل یعبر عنها في اصطلاح الأصوليین بسلسلة العلل. بینما وجوب الطاعة والامتثال واحرازه هو من الاحكام في سلسلة معلولات الحكم الشرعي یعني أنها متأخرة عن الحكم الشرعي ومترتبة علیه فلا موضوع لها إلا بعد تحقق الحكم الشرعي.

فیقع الكلام في أن وجوب شكر المنعم هل هو في سلسلة المعلولات كما هو ظاهر كلام الأصوليین في جملة من الموارد حیث أنصب البحث عندهم علی وجوب طاعة الاحكام أو في سلسلة العلل؟

والحق هو الثاني لأن شكر المنعم - یعني فیما یعنیه - اظهار التعظیم

ص: 23

أو اظهار الحرمة والاحترام وما أشبه ذلك وهذا في الحقیقة یقع في سلسلة علل الحكم لأنه مع غض النظر عن الحكم الشرعي العقل یقضي بوجوب شكر المنعم أما كیفیاته ومصادیقه فهذا شیء آخر وإلا لو كان من سلسلة معلولات الحكم لتوقف علی وجود حكم شرعي وإذا كان شكر المنعم من سلسة العلل فهو قابل للملازمة مع الحكم الشرعي، فعلیه تنطبق قاعدة «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» لأن موردها هو ما یحكم به العقل في سلسلة العلل.

الاحكام في سلسلة العلل علی قسمین وفي المعلولات علی نحو واحد:

والاحكام في سلسلة العلل علی قسمین:

مستقلات عقلیة

وغیر مستقلات.

أما في سلسلة المعلولات فهي دائماً غیر مستقلات عقلیة لأنها دائما وأبداً تحتاج إلی مقدمة شرعية ولو كانت قضیة تكلیفیة مثل وجوب الصلاة، فغیر المستقلات العقلية هي ما یكون حكم الشارع موضوعا لحكم العقل مثل وجوب الامتثال واحراز الامتثال وأما إذا كان الحكم العقلي موضوعا للحكم الشرعي وهو أن یحكم الشارع علی وفق حكم العقل فهي من المستقلات العقلية.

ص: 24

نعم قد طبق الأعلام شكر المنعم علی طاعة الاحكام وأمتثالها... أي في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية فطاعة المولی في احكامه وامتثال أوامره أحد مصادیق شكر المنعم التي هي من سلسلة معلولات الحكم لا من علله، وعلیه فیكون شكر المنعم واقعاً في سلسلة العلل تارة وسلسلة المعلولات آخری.

وعلیه فلا تجري قاعدة الملازمة: «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» في كل مورد ثبت فیه وجوب شكر المنعم إذ لا مسرح لهذه القاعدة في سلسلة المعلولات بخلاف ما لو كانت في سلسلة علل الحكم الشرعي؛ لأنه قد تقدم أن شكر المنعم لا یتوقف علی ارادة شرعية وحكم شرعي فإن العقل یحكم بوجوب شكر المنعم وإن لم یكن هناك ما یتوعد علی مخالفته بالعقاب، بل العقل یحكم بشكر المنعم بعد التوحید.

وأما ثبوت شكر المنعم في سلسة المعلولات لانطباقه علی الطاعة ففیه نظر، وذلك لعدم توقف شكر المنعم علی الحكم الشرعي أصلاً حتی یدرج في غیر المستقلات العقلية فلا موجب لجعله في سلسلة المعلولات، إلا أنه یمكن أن یوجه كون وجوب شكر المنعم حكماً عقلیاً في سلسلة العلل تارة وسلسلة المعلولات أخری بأن شكر المنعم دائماً في سلسلة العلل، غایة الأمر أن وجوب شكر المنعم في سلسلة

ص: 25

العلل من مصادیقه الخارجية ایجاد الطاعة والعبادة فالشكر باعث وزاجر ویستكشف منه الجعل الشرعي للحكم بمقتضی الملازمة بین ما حكم به العقل حكم به الشرع، فحكم العقل المستكشف منه الجعل الشرعي یكون باعثاً نحو أمتثال حكم الشرع المستكشف . وهذا شبیه بعض الاحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الحكم الشرعي كایجاب العدل واقامته خارجاً فإنه واجب عقلاً من جهة الحكم العقلي الواقع في سلسلة علل الاحكام الشرعية. وهو أیضاً محرك وباعث لامتثال الحكم الشرعي، فالحكم العقلي في سلسلة العلل كما یستدل به علی الجعل الشرعي یستدل به أیضاً علی الباعثیة أو ما یستوجب الزاجریة نحو الحكم الشرعي،ومعه لا نحتاج إلی احكام عقلیة تقع في سلسلة المعلولات وإن أمكن وجودها في سلسلة المعلولات فتكون مؤكدة.

فالموارد التي یحكم بها العقل في سلسلة علل الحكم الشرعي - بملازمة كل ما حكم به العقل حكم به الشرع یستدل به علی الباعثیة نحو الحكم الشرعي فالاستدلال علی المحركیة والباعثیة لاحراز الامتثال بحكم العقل في سلسلة العلل - كافیة فلا حاجة في هذه الموراد إلی الاستدلال بحكم عقلي في سلسلة المعلولات وذلك لأن الحاجة والغایة - من الاحكام العقلية في سلسلة المعلولات هي الباعثیة والمحركیة لامتثال الاحكام الشرعية - آتیة من الاحكام العقلية في سلسلة العلل

ص: 26

وهذا لم ینبه علیه الأصوليون، فمع وجود هذه الاحكام العقلية في سلسلة العلل للحكم الشرعي لا تزید المحركیة المستفادة من حكم عقلي آخر في سلسلة المعلولات إلا مؤكدیة للباعثیة لا تأسیسیة فكیف یحتاج إلیها في الاستنباط الاحكام مع أن حكم العقل في سلسلة المعلولات لا یثبت حكما شرعيا حتی بقاعدة الملازمة أصلاً.

ووجوب شكر المنعم من هذا القبیل فكما هو من الاحكام العقلية الواقعة في سلسة علل الاحكام الشرعية هو بدوره یؤدي إلی الاحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الحكم الشرعي. فما یظهر من الأصوليین - من أن آثار الحكم العقلي في سلسلة العلل یجب أن تختلف عن آثار الحكم العقلي في سلسلة المعلولات - لیس بتام .

نعم یوجد تغایر في الرتبة إلا أن هذه المیزة والخاصیة - وهي الفاعلیة والباعثیة والمحركیة أو الزاجریة - تؤدیها الاحكام العقلية التي في سلسلة العلل أیضاً.

والحكم العقلي في سلسلة المعلولات نتیجته حكماً شرعياً مثل وجوب الصلاة من باب شكر المنعم والصوم وغیرها، وأما الحكم العقلي في سلسلة المعلولات فنتیجته حكما عقلیا مثل لزوم الطاعة لأحكام اللّه.

فما اعتمده بعض الأعلام من أن الوجوب بین الاجتهاد والتقلید

ص: 27

والاحتیاط من باب وجوب شكر المنعم باعتبار بدایة الشریعة وبدایة الدخول في الاسلام فصحیح إلا أنه لیس من الاحكام العقلية في سلسلة المعلولات بل بما وجهناه من كونه من الاحكام العقلية في سلسلة العلل، إذ أن هذا الوجوب هو الأصل الذي یحتّم علی الملتفت لبدایة الأخذ بالشریعة فتتفرع علیه وتنحدر منه بقیة الوجوبات الشرعية بحكم الملازمة، وبالتالي یمكن أن یكون شكر المنعم وجه لاثبات الوجوب الشرعي في مسألة وجوب الاجتهاد أوالتقلید أو الاحتیاط فیكون الوجوب نفسيا . وهذا الوجوب العقلي أیضاً باعث ودافع نحو الطاعة بل ونحو احراز فراغ الذمة فما صوروه من مخالفة سنخ آثار الحكم العقلي في سلسلة المعلولات عن آثار الحكم العقلي في سلسلة العلل غیر تام، بل أثار الحكم العقلي في سلسلة العلل تتحد مع آثار الحكم العقلي فی

سلسلة المعلولات مثل المحركیة نحو امتثال الاحكام، والتنجیز یكون أیضا للحكم العقلي في سلسلة العلل، فمضافاً لآثار الحكم العقلي في سلسلة العلل الخاصة مثل استكشاف أصل الاحكام، أیضا یستفاد منه الآثار المستفادة من الحكم العقلي في سلسلة المعلولات من الباعثیة والمحركیة والتنجیز.

وما ذكره الأصوليون من ثبوت شكر المنعم في سلسلة المعلولات لا یوجب مغایرة سنخ الحكم العقلي، إلا أنه إذا كان من سلسلة العلل

ص: 28

فتجري الملازمة - كل ما حكم به العقل حكم به الشرع - وإذا كان من سلسلة المعلولات فلا تجري، إلا أن الأصوليین لم یرتضوا وحدة وطبیعة الاحكام في سلسلة العلل مع الاحكام في سلسلة المعلولات، فعبروا عن الاحكام العقلية في سلسلة المعلولات بغیر المستقلات العقلية مثل وجوب الطاعة واحراز التكلیف فهي غیر مستقلات عقلیة، لأنه متوقف علی ثبوت الحكم الشرعي، وعبرواعن ما في سلسلة العلل بالمستقلات العقلية وغیر المستقلات العقلية، فالمستقلات مثل شكر المنعم وغیر المستقلات مثل الأمر بالشیء یقتضي النهي عن ضده، ووجوب الشیء یقتضی وجوب مقدمته وغیرها.

فلنا أن نخرج الوجوب - في مسألتنا - من باب الوجوب الشرعي ومن باب الوجوب العقلي فالصلاة والصوم مثلاً لهما وجوب شرعي في نفسهما بعنوان أنهما مصداقان من مصادیق شكر المنعم فیوجد عندنا وجوب عام تنشعب وتتفرع منه أحكام عدیدة، وهذا الوجوب یتفق مع الوجوب العقلي الذي هو في سلسلة المعلولات كما ینبسط علی الذي هو في سلسة المعلولات.

وما تصوره الأعلام من منع جریان شكر المنعم - لاثبات الوجوب في موارد ثبت وجوبها بأدلة شرعية أخری - غیر تام لعدم امتناع اجتماع دلیلین وموجبین فإنها كما تجب من طریقها الخاص أیضا تجب من

ص: 29

جهة شكر المنعم فلا یمنع من تصادق عدة وجوبات، فالوجوب بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط وجوب شرعي نفسي ذاتي في سلسلة العلل، وهذا تصویر ثاني للوجوب الشرعي غیر التصویر الأول بأدلة وجوب التعلم.

عدم اختصاص دلیل دفع الضرر بسلسلة المعلولات:

ومن هنا یتأمل في ما صوره الأعلام من كون وجوب دفع الضرر منحصراً في سلسلة المعلولات ؛ وذلك لأن وجوب دفع الضرر قد قرره المتكلمون في أصل داعویة العقل للایمان بل للفحص عن معرفة اللّه، فوجوب دفع الضرر العقلي قد تقرر في مراحل سابقة ومتقدمة حتی علی الایمان باللّه والنبوة وغیرها من الاصول ثم یتنزل شیئا فشیئا ...فیصل وجوب دفع الضرر إلی الفروع من وجوب دفع كل ما فیه احتمال الضرر . وعلی هذا یكون تخریج وجوب الاجتهاد والتقلید والاحتیاط من باب دفع الضرر لیس من معلولات الحكم الشرعي بل من علله، والكلام هو الكلام في شكر المنعم من أن الاحكام العقلية في سلسلة العلل قابلة لأن یحصل منها احكام وآثار الحكم العقلي في سلسلة المعلولات كالباعثیة والمحریكة والزاجریة والتنجیز.... فهذه الخاصة متینة وفریدة في سلسلة علل الاحكام الواقعة قبلها التي لم یذكرها ولم ینبه علیها الأصوليون.

ص: 30

فإذا استند وجوب الاجتهاد أو التقلید أو الاحتیاط إلی شكر المنعم أو لدفع الضرر یستفاد منه وجوب شرعي نفسي ذاتی ولو كان طریقیا، وأیضا یستفاد منه وجوب نفسي عقلي ذاتي. فإنه یقع في سلسلة العلل ویستثمر منه آثار في الاحكام العقلية الواقعة في سلسلة المعلولات.

وقد تحصل: أن تخریج الوجوب بالوجوب الشرعي إما من جهة وجوب التعلم الذي بنینا علی أنه وجوب نفسي طریقي وإما من جهة وجوب شكر المنعم وإماوجوب دفع الضرر المحتمل، فإنها وإن كانت وجوه عقلیة إلا أنها مناشئ للاحكام العقلية في سلسلة العلل التي یستكشف منها أحكام شرعية، غایة الامر أن هذا الحكم الشرعي من الأسس والاصول التي تنطبق علی بقیة الوجوبات وبالتالي یتولد منه وجوب وباعثیة احراز بأحد الطرق الثلاثة بالاجتهاد أو التقلید أو بالاحتیاط.

فالوجوب یمكن أن یخرج عقلیاً كأن یخرج بنفس شكر المنعم وبدفع الضرر المحتمل ویمكن أن یخرج فطریاً أي وجوباً فطریاً جبلیا یستلزم احكاما من الشریعة المقتضي لعدم جریان الاصول المؤمنة عقلیة كانت أو شرعية قبل الفحص ولكنه في حدود العلم الاجمالي أو الاحتمال المنجز علی ما تقدم، فالفطرة تقضي وتحكم بلزوم تقصي وتتبع مراضیي اللّه المالك المطلق إلا أنّ حدوده في موارد العلم الاجمالي

ص: 31

أو الاحتمال المنجز وغیرها من الوجوه العقلية ككون التعلم مقدمة وجودیة ... هذا مجمل الكلام في وجه الوجوب.

فیختلف الوجوب الناشئ من شكر المنعم ودفع الضرر المحتمل - فإنه بنفسه یستفاد منه الوجوب العقلي أو الشرعي علی ما تقدم بیانه من دون أي ضمیمة - عن الوجوب الفطري الموجب لتتبع مرضاة المولی فإنه إذا لم یرجع إلی وجوب شكر المنعم أو دفع الضرر المحتمل، فسعته وحدوده لا تتم إلا بضمیمة منجزیة العلم الاجمالي أو الاحتمال المنجز وعدم جریان الاصول المؤمنة قبل الفحص.

الجهة الرابعة: في ثمرة نوع الوجوب الجامع بین الاصناف الثلاثة:

اشارة

الثمرة مترتبة علی الاختلاف في نوع الوجوب بین الاصناف الثلاثة من كونه عقلیا أو شرعيا أو فطریا بل هذه الثمرة غیر مترتبة علی هذا الجهة الثالثة فقط بل تتوقف علی مجموع الجهات في هذه المسألة، فالاحتیاطات في الرسائل العملية التي یبدیها المفتي المعروف فیها جواز العدول إلی مجتهد ومفتی آخر مع أن التعبیر بالعدول فیه مسامحة من جهة، وإن لم یكن مسامحة من جهة أخری، ووجه المسامحة هو أن المجتهد لم یفت فیها حتی یقال إنه عدل منه إلی غیره، فالتعبیر بأنه یجوز له العدول بعد ذلك مسامحي لأنه لم یقلد فیها حتی یعدل، وإنما

ص: 32

المجتهد ابقی تلك الاحتیاطات في المسالة علی الاحتیاط الذي في التخییر في أصل الرسائل العملية أما أن یجتهد أو یقلد أو یحتاط، فسدید التعبیر بأنه یعدل من الاحتیاط إلی التقلید لا أنه یعدل من مفتي إلی آخر لأنه لم یقلده أصلاً، فهو عدول من الاحتیاط إلی التقلید، نعم لو كان من الفتوی بالاحتیاط فإنه یعدُّ عدولا من المجتهد المفتي بالاحتیاط إلی غیره وهو غیر الاحتیاط في الفتوی، فإن الاحتیاط في الفتوی هو أنه یحتاط بأن لا یفتي فیرجع المكلف إلی بقیة الخصال الثلاث : إما أن یجتهد أو یقلد أو یحتاط ، بخلاف الفتوی بالاحتیاط، فإنه إفتاء بلزوم الاحتیاط مثل موارد العلم الاجمالي المنجز كالافتاء بلزوم القصر والتمام.

وأما تسمیة هذا الوجوب بالفتوی بالاحتیاط أو تبني المجتهد هذا اللزوم بالاحتیاط مع أنه مستند إلی العلم الاجمالي الصغیر في المسألة مع أن الاحتیاط المقابل للاجتهاد والتقلید لم یُسَمَّ بالفتوی بالاحتیاط مع أنه أیضا مستند ومعتمد علی العلم الاجمالي الكبیر كما تقدم في أدلة الوجوب التخییري للاجتهاد والتقلید والاحتیاط؟ .

والفرق بین هذین الوجوبین والاحتیاطین أن الاحتیاط - في موارد العلم الاجمالي الأولی الكبیر أو موارد الاحتمال بضمیمة العلم الاجمالي الكبیر الذي تقدم - واجب قبل فرض الفحص عن أدلة الاجتهاد أو التقلید، وهو لیس بفتوی إذ لا استنباط فیه بل احتیاط في الفتوی ولیس

ص: 33

افتاء بالاحتیاط لأنه قبل الفحص والاستنباط والاجتهاد.

الفرق بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی ثبوتا:

واما الفتوی بالاحتیاط فالمفروض أن المجتهد فحص وتتبع واستقصی واستقرأ واستنبط فوجد أن الأدلة الاجتهادية والاصول المؤمنة شرعية أو عقلیة قاصرة فلیس في البین إلا العلم الاجمالي المنجز، وأما الوجوه الأخری في المسألة فكلها قاصرة، فهذا العلم الاجمالي الصغیر قد توصل إلیه المجتهد بعد الفحص فهو علم قد توصل إلیه بعد الفحص وغربلة الأدلة وتحقیقها وتنقیحها، فهو یفتي ویخبر حدسا واستنباطاً بأن الأدلة الموجودة والمتصورة في المسالة عقیمة غیر صالحة للاعتماد علیها، فلا یسوغ الرجوع إلیها ولا الرجوع إلی فتوی من أعتمد علیها وأنه توصل إلی وجود علم اجمالي، فالمتعین هو الرجوع إلیه.

فوجوب الاحتیاط للعلم الاجمالي الصغیر مما وصل إلی المكلف عن طریق فتوی المجتهد - بعد فحصه واستنباطه - فهو فتوی بالاحتیاط، فثبوتا الفرق بین الفتوی بالاحتیاط وبین الاحتیاط في الفتوی مقرر فالفتوی بالاحتیاط فتوی واخبار واستنباط بأن مقتضی الوجه في تلك المسألة هو الاحتیاط بالوجوب العقلي، وهذا بخلاف العلم الاجمالي الكبیر الأول فإن المجتهد لم یعمل اجتهاده واستنباطه وإنما هو علم اجمالي أولی لكل مكلف یعلم بمقتضیات الشریعة.

ص: 34

فالفتوی بالاحتیاط في موارد العلم الاجمالي الصغیر استنباط واستقراء واخبار بوجود منشأ العلم الاجمالي وقصور بقیة الأدلة فهو استنباط وفتوی بالاحتیاط لا یصح الرجوع إلی الغیر لعلمه بأن رجوع المقلد للمجتهد الأعلم بعده خطأ لأن الادلة مثلا في تردد الصلاة بین القصر والتمام لم تتم لا في القصر ولا في التمام، فلا یستند في المقام لأدلة الاجتهادية ولا للاصول العملية المؤمنة بل یستند إلی العلم الاجمالي بوجود منشأه، فهو یفتي بالاحتیاط ویخبر أنه یوجد استنباط یقود إلی الاحتیاط فلا یسوغ للمجتهد أن یجوز الرجوع إلی غیره لأنه افتی للمكلف وبین له حكمه وفتواه وهو مخالف للاحتیاط في الفتوی لأنه لم یستنبط ولم یفحص، فهذا هو الفارق الثبوتي.

الفرق بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی اثباتا:

وأما اثباتا فالتمییز بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی هو أن دأب الفقهاء - من الشیخ الطوسي والشیخ المفید إلی یومنا هذا - علی التعبیر عن الفتوی بالاحتیاط بالوجوب مطلقا من دون تقییده بالوجوب العقلي فلا یقولون:«یجب عقلاً» فلا یقیدون الفتوی بالاحتیاط بالوجوب العقلي بل یبدونه كوجوب شرعي كقولهم: «یجب علی الحائض الجمع بین تروك الحائض وافعال المستحاضة ویجب الجمع بین القصر والتمام، ففي هذه الموارد یبینون الوجوب وصیغ الاحتیاط

ص: 35

بدون تقیید بالوجوب العقلي، وما ذلك إلا لأنها فتوی وفي الفتوی لا یُلزم الفقیه ببیان نوع المستند والدلیل الذي اعتمد علیه من كونه دلیلا اجتهاديا أو أصلا عملیا أو ظهورا أو انقلاب نسبة أو غیرها فلیس اللازم علی المجتهد في مقام الفتوی أن یبین مستند فتواه وإن كان للمجتهدین اصطلاحات یبینون فیها درجة الدلیل ونوعه وخصوصیاته، وهذه المصطلحات لا یلتفت إلیها إلا الفقهاء والمراهقین للاجتهاد كقولهم: "علی الأظهر" و"علی الظاهر" و "الأقوی" و "یجب علی وجه" و"لا یخلو الوجوب من وجه" وغیرها، فهذه العبائر یذكرها الفقیه لتذكیر نفسه وغیره بأن في المقام مثلا وجوها متعددة ومختلفة وإن استند إلی أحدها أو لفذلكة توصل إلی كذا..، فإن هذه كلها اصطلاحات تفید المجتهد إذا رجع إلی فتواه وتفید غیره من وجود محتملات أو تحقیقات وقف علیها المجتهد فمثلاً صاحب العروة(قدّس سرّه) عبّر في مسألة: "ویجب علی الاظهر وأما كذا فلا اشكال في وجوبه" فإن معنی الأول انه توجد عدة احتمالات وهو استظهر أحدها، وأما قوله فلا اشكال في وجوبه لعدم تعدد الاحتمالات" فالتعبیر ب- "الأظهر" و "لا اشكال في وجوبه" وغیرها بلحاظ الأدلة لا بلحاظ مقام الفتیا وهذه الاصطلاحات موجودة عند الفقهاء قدیماً وحدیثاً.

فالمهم أن الفتوی بالاحتیاط فتوی بخلاف الاحتیاط في الفتوی إذ لا

ص: 36

افتاء ولا استناد ولا استنباط، فیرجع إلی العلم الاجمالي الكبیر وهو الاحتمال الأول الموجود في أصل الشریعة فلا تتعین الوظیفة في التقلید بل التخییر بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط، فإذن في موارد الاحتیاط یفتي بالوجوب وأما في موارد الاحتیاط في الفتوی فیقول: الاحوط بمعنی أنه لا فتوی له.

وهذا اصطلاح عام لدی الفقهاء إلا أن بعض الفقهاء لا یدرجون ولایسیرون علی هذا الاصطلاح مثل السید أحمد الخونساري (قدّس سرّه) فإنه یقول : «حتی في موارد الاحتیاط في الفتوی لا یسوق الرجوع إلی الغیر» لان الاحتیاط في الفتوی عنده نوع من الفتوی بالاحتیاط وذلك لأنه لا یكون الاحتیاط في الفتوی إلا لعظال وعقدة لم تحل في المسألة وبعبارة أخری أن الفقیه فحص وتتبع واسنتبط ومع ذلك لم یجترأ علی الفتوی مثلاً لمخالفتها شهرة یحتمل بلوغها درجة التسالم فإن هذه الشهرة لا یمكن رفع الید عنها بالاستناد إلی الأدلة الاجتهادية وغیرها من الوجوه.

فما تقدم كله مقدمة لما نذكره من الثمرة .

الوجوب التخییري حدوثي أو استمراري؟:

والثمرة - من كون الوجوب لاحدی الخصال استمراريا أو حدوثيا وبعبارة أخری الثمرة في بقاء التخییر بین الخصال الثلاث وبالتالي صحة وقوع التقلید وصیرورته ابتدائيا بعد الاحتیاط - أنه علی القول بالوجوب

ص: 37

العقلي أنه یجوز العدول من الاحتیاط في الفتوی إلی التقلید أو الاجتهاد فإن الوجوب العقلي وجوب استمراري ولیس ابتدائياً بخلافه علی الوجوب الشرعي فإنه ابتداءا لا بقاءا، وقد یقال إنه أیضا علی القول بالوجوب الشرعي، فالوجوب التخییري الشرعي استمراري بین هذه الامور الثلاثة بل ولو قلنا بأنه حدوثي، لأن المقلد یجوز له أن یجتهد لكون الاجتهاد رافعا لموضوع التقلید، ومن هنا لا یكون التقلید مانعا من الاجتهاد وكذا من قلّد یجوز له أن یحتاط لأن الاحتیاط لا ینافي التقلید. نعم وقع الكلام في أن المقلد إذا احتاط هل هو عدول عن التقلید أم لا ؟ وهو مبني علی تعاریف التقلید ، وقد ذهب البعض إلی أن الاحتیاط لیس بعدول عن التقلید لأن الاحتیاط عمل بجمع الأقوال التي من ضمنها قول المفتي وعلیه فلیس في البین عدول...، إلا أن الصحیح هو أن تبني الاحتیاط نحو عدول عن التقلید كما حررناه في بحث الاجتهاد والتقلید الاصولي ومن أحتاط یسوغ له التقلید لعدم منافاة الاحتیاط للتقلید وسیأتي هذا البحث مفصلاً في العدول من إحدی هذه الخصال الثلاث إلی الأخری .. فسواء كان الوجوب بین التقلید والاجتهاد والاحتیاط عقلیا أو شرعيا فالتخییر استمراري لا حدوثي وعلیه فیجوز للمجتهد والمقلد الاحتیاط ویجوز للمحتاط أن یجتهد أو یقلد إلا أن المجتهد لا یجوز له التقلید لمنافاة الاجتهاد له لكونه رافعالموضوعه لأن موضوع

ص: 38

التقلید الجاهل والمجتهد عالم غیر جاهل. نعم من فسر الاحتیاط مطلقا بأنه فتوی بالاحتیاط لا احتیاط في الفتوی فإن العدول من الاحتیاط إلی التقلید والعكس فیه اشكال... .

الجهة الخامسة كون التخییر بین هذه الثلاثة عرضي أو طولي :

والمراد من العرضي كما هو مشهور عمدة متأخري الأعصار هو أن للمكلف الذي لم یبلغ مرتبة الاجتهاد أن یختار أحدی هذه الامور الثلاثة فالاحتیاط في عدل الاجتهاد والتقلید، والطولي عند من ذهب إلیه هو أن المكلف غیر المجتهد، یتعین علیه الاجتهاد أو التقلید، وإن لم یتمكن فتصل النوبة إلی الاحتیاط، فلیس الاحتیاط عدل الاجتهاد

والتقلید، ولا مشروعیة للاحتیاط مع امكان الاجتهاد والتقلید فلا عرضیة.

فالأمر في هذه الجهة متوقف علی اثبات أن مشروعیة الاحتیاط مطلقة أو مقیدة بالعجز عن الاجتهاد والتقلید.

وقد تعرض الماتن (قدّس سرّه) إلی مشروعیة الاحتیاط في المسائل اللاحقة من زوایا عدیدة . فبناءاً علی مشروعیته مطلقا یكون عرضیا وأما بناء علی عدم الاطلاق في مشروعیته - كما ذهب إلیه المیرزا القمي صاحب القوانین (قدّس سرّه) والمیرزا النائیني (قدّس سرّه) - فطولي وهو الصحیح كما سنبینه، وهذا هو رأي مشهور القدماء بل رأی كل من قال بقصد الوجه والتمییز في العبادات بل والاجماع الذي نقله السید الرضي والسید المرتضی علی

ص: 39

بطلان تارك الاجتهاد والتقلید واقعاً لفقدانه شرط الوجه والتمییز... .

وقد خدش المتأخرون في الاجماع بالمدركیة؛ لأنه مبني علی مدرك كلامي عندهم باعتبار أنهم فقهاء ومتكلمون وقد بنوا البحث الفقهي علی مبناهم الكلامي وهو لزوم قصد الوجه والتمییز في العبادات فلیس هو باجماع تعبدي، بل الخلاف واقع في عرضیة الاجتهاد والتقلید، إذ الحلبیون یذهبون إلی عدم عرضیة التقلید للاجتهاد، إذ المتعین عندهم الاجتهاد علی نحو الوجوب العیني التعیني، فالاجتهاد مقدم علی كل من التقلید والاحتیاط والنكتة في تأخیر الاحتیاط هي نكتة القدماء والحلبیین منهم.

هذا قبل تحقق أحدها وأما مع تحقق الاجتهاد فینتفي موضوع التقلید فلا یمكن العدول إلی التقلیدإلا أنه لا ینتفي موضوع الاحتیاط، وكذا العكس لبقاء موضوعه لكل منهما مع تحقق الآخر ففي الجملة یوجد توارد بین افراد هذا الوجوب التخییري ولا أقل بین الاجتهاد والتقلید وإن كان قبل تحقق أحد الواجبات الثلاثة لا تقدم ولا توارد... .

وقد یقال توجد عرضیة بین الصور الثلاثة إلا أنها لبّا مترتبة علی الاجتهاد، فالمسار متعین في واحد وهو الاجتهاد، وأما نفس الاجتهاد فمشروعیته واضحة وأما التقلید فأصل مشروعیته لا یمكن للمكلف أن یقلد فیها لعدم امكان أن تكون حجیة التقلید تقلیدیة؛ لأنه دور ، فأصل

ص: 40

التقلید ومسائله لا یمكن التقلید فیها كما ذكر بل لابد من الاجتهاد في مشروعیة التقلید ولو بأدلة بسیطة وكذا التقلید في أصل مشروعیة الاحتیاط لأنها خلافیة لاشتراط قصد الوجه وغیره كما سنبینه.

والشیخ (قدّس سرّه) في الرسائل لدفع شبهة القدماء وشبهة المیرزا القمي(قدّس سرّه) حاول أن یصور صیغة للاحتیاط جامعة بین الاجتهاد والاحتیاط وبین التقلید والاحتیاط بأن یجتهد لكي یتحقق قصد التمییز وتندفع الاشكالات ثم یزید ویضیف علی ما توصل إلیه من اجتهاد أو تقلید بمراعاة بقیة محتملات الاحتیاط .

وهذه الصیغة التي ذكرها الشیخ الأعظم (قدّس سرّه) في الحقیقة تسمی بالاحتیاط الاكبر أو الأعظم فلو كان اجتهاده أدی إلی القصر مثلا فهو یأتي بالقصر علی مقتضی اجتهاده وبالتمام بمقتضی الاحتیاط ولو كان مقتضی اجتهاده الاكتفاء بتسبیحة واحدة أو عدم اعادة الوضوء فلا مانع من الاتیان بالتسبیحات الأربع ثلاثاً بمقتضی اجتهاد واثنتین بمقتضی الاحتیاط وهكذا الكلام لو أراد أن یجمع بین التقلید والاحتیاط.

فهذه الصیغة للاحتیاط في الحقیقة لیست مقابلة للاجتهاد والتقلید بل هي صیغة جامعة بین خیارین من الخیارات الثلاثة: الاحتیاط وأحد العدلین. فلیست هي صیغة احتیاط مقابل للاجتهاد والتقلید، فأصل مسألة الاحتیاط لابد فیها من الاجتهاد أو الاحتیاط أي یجمع بین الاجتهاد

ص: 41

والاحتیاط أو بین التقلید والاحتیاط فلا یصح للمقلد أن یجتهد إلا بعد احراز مشروعیة الاجتهاد.

فهذا القول ینكر العرضیة بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط، ولیس هناك إلا الاجتهاد لا غیر، غایة الأمر إما أن یجتهد بالتفصیل في المسائل أو یجتهد بمشروعیة التقلید أو یجتهد بمشروعیة الاحتیاط أو یجمع بین الاجتهاد والاحتیاط أو التقلید والاحتیاط.

فالعرضیة في المقام مختلفة، هل هي عرضیة حكمیة أو موضوعية أو صوریة؟ فهي تختلف باختلاف الأقوال والحالات والاشخاص.

الجهة السادسة في مشروعیة الاحتیاط وأقسامه :

اشارة

والكلام یقع في هذه المسألة من زوایا عدیدة وسیأتي تفاصیلها في المسائل اللاحقة والأفضل أن نختصر المطلب في المقام وسیأتي تفصیله وزاویاه عند تعرض الماتن لها.

والجدیر بالذكر والاشاره إلیه هو أن الاحتیاط علی اقسام :

الأول الاحتیاط بحسب الواقع، الثاني الاحتیاط في التقلید، والثالث الاحتیاط في الاجتهاد الرابع الاحتیاط في الاجتهاد والتقلید، والخامس ما ذكره الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) وهو الجمع بین الاجتهاد والاحتیاط أو التقلید والاحتیاط، والسادس الاحتیاط بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط.

والمراد من الاحتیاط - من هذه الأقسام والمقابل للاجتهاد والتقلید -

ص: 42

هو القسم الأول وهو الاحتیاط بحسب محتملات الواقع الذي لا تنحصر محتملاته في الأقوال وفتاوی الاحیاء والاموات بل یعم جمیع الاحتمالات والوجوه المحتمله في الاستدلال التي ابرزوها، بل حتی التي لم یبرزها الأعلام من الاحتمالات العقلية، فهذا الاحتیاط وسیع جداً.

وبهذا تعرف صحة ما ذهب إلیه بعضهم من أن هذا الاحتیاط لا یتمكن منه المجتهد الذي لم یمارس الاستنباط فضلا عن المراهق والفاضل والعامي إذ لا یتمكن من هذا الاحتیاط إلا الفقیه الخائض في عبابها وتفاصیلها فإنه یدرك - بعد الخوض في عباب المسائل والتفاصیل

المحتملة - وجوها لجمیع تلك المحتملات إذ الوجدان خیر شاهد علی أن زوایا المسألة ومحتملاتها لا یمكن أن تتضح إلا بالغور والتعمق في الأدلة. والكلام فعلاً في بیان أقسام الاحتیاط.

بیان أقسام الاحتیاط:
القسم الأول :الاحتیاط بحسب الواقع:

إن الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع لا یتسنی لكل أحد من المجتهدین فضلا عن العوام وذلك لأن الوقوف علی وجه الاحتیاط لا یكفي فیه وجود الملكة لدی العالم بل لا بد من الخوض في سبر الأدلة وغورها وتمحیصها حتی یلتفت إلی كیفیة حقیقة الاحتیاط في هذه المسألة أو هذا الباب فلا یدرك كیفیة الاحتیاط إلا بممارسة الاستنباط في أبواب

ص: 43

الكتب الفقهية مضافاً إلی وجود اختلاف كثیر في صیغة الاحتیاط وكیفیته في الابواب الفقیهة، فمثلا في باب الحیض صیغته وكیفیته هل هي الجمع بین تروك الحائض وافعال المستحاضة أو یتعین علیها الفحص والاستظهار، فالنظر وتشخیص الاحتیاط متباین لخضوعه للاجتهاد والمباني والاقوال فمثلا من یبني علی حرمة صلاة الحائص حرمة ذاتیة تختلف صیغة الاحتیاط عنده عمن یبني علی كون حرمة صلاتها حرمة تشریعیة لأن البناء علی الحرمة التشریعية یحدد الاحتیاط بالجمع بین تروك الحائض وأفعال المستحاضة؛ لأن الحائض إذا لم تقصد الأمر الجزمی لم تكن مشرعة؛ لكون التشریع مبنیاً علی دعوی الأمر الجزمي، بینما مشهور القدماء یبنون علی أن حرمة صلاتها حرمة ذاتیة فلا یتأتی الاحتیاط بالاتیان باعمال المستحاضة، ومثل مسألة نیابة الفقیه وصلاحیاته فإن جماعة من متأخري الأعصار رأوا أن الحیطة بعدم القول بنیابة الفقیه لتعویلهم علی قاعدة الحسبة في قبال من عوّل علی اطلاق صلاحیاته ونیابیته فإن جهة الاحتیاط بقاعدة الحسبة - كما حررناه في كتاب الامامة الالهیة - مخالفة للاحتیاط من جهات عدیدة وخطیرة لارتباطه بالأمور العقائدیة. والحاصل أن تحدید وتشخیص الاحتیاط یحتاج إلی ممارسة ومطالسة في الاستنباط مضافا إلی أن أكثر الأبواب تختلف كیفیة الاحتیاط فیها باختلاف المباني فربَّ احتیاط عند

ص: 44

فقیه هو خلاف الاحتیاط عند آخر.

القسم الثاني: الاحتیاط في التقلید:

الاحتیاط في التقلید: وهذا أسهل من سابقه إذا أرید منه التقلید في ضمن دائرة الاحیاء المتصدین أو من كان علی تقلیده ثم مات، وأما لو أرید به الاحتیاط بالنسبة إلی كافة الأقوال فهو أمر لیس بالیسیر بل یحتاج إلی تتبع ومهارة في الاستظهار من أقوالهم وعبائرهم وذلك لوجود الاختلاف غالبا في اصطلاحات كل طبقة من الفقهاء عن الطبقة الأخری، بل لعل الفقیه لا یلتفت إلی بعض الاستظهارات فضلا عن غیره، فمثلاً بعض الأعلام ینكر وجود من یقول بالحرمة الذاتیة لصلاة

الحائض، والحال أن تصریحات كتب العلاّمة وغیرها طافحة بذلك، وعلی كل حال فإن كیفیة الاستظهار أمر لیس بالهین إلا أنه أخف من القسم الأول.

وهذا الاحتیاط یرجع في الحقیقة إلی التقلید، وذلك لأنه احتیاط مبني علی حجیة التقلید غایته أن للمكلف أن یحتاط بین الأحیاء والأموات، وذلك لأن هذ الاحتیاط لیس بمجانب للتقلید بل اصله قائم علی التقلید لأن احتیاطه لو كان موافقا للاموات فإنه لیس تقلیداً للمیت ابتداءا لأن الاحیاء یقولون بمعذریة ما یفتون هم به لا بحصریة العمل به،وعلیه فلا باس بالأخذ بما هو أشد وأعظم وهو أحوط الأقوال الذي

ص: 45

هو في الحقیقة جمع بین جمیع الأقوال فهو عمل بالتقلید ولكن بصیغة احتیاطیة.

ومن باب الاستطراد فأنه یمكن تصویر صیغة احتیاطیة في عملیة الاجتهاد والاستنباط یستنتج الفقیه المسالة بصیغة احتیاطیة بمعنی أنه یراعي جمیع محتملات الدلالة في الدلیل والروایة فهو یقطع ببراءة ذمته في كیفیة الاستنباط، فاستنباطه یتكون بمرعاته للموازین وزیادة بحیث یكون استنباطه بالجمع بین محتملات الدلالة وهذا لا مانع منه، وهذه نكتة صناعیة واجتهادية مهمة وهي أن الانسان له أن یعتمد علی حجة من الحجج وطریق من الطرق بمراعاة الموازین مع إضافة المحتملات الموجودة... فیخرج بنتیجة احتیاطیة. ولا یلزم منه نسبة شیء إلی اللّه من دون علم، مثل ما لو لم یدل الدلیل علی حرمة لحم الارنب ولكن مع مراعاة المحتملات تكون النتیجة الاحتیاطیة هي الحرمة، فلابد له من صیاغة لا تدل علی نسبة الحرمة إلی اللّه وهذا ما یحتاج إلی فن في صیاغة الفتوی وهو شیء آخر غیر الاستنباط.

القسم الثالث: الاحتیاط في الاجتهاد:

الاحتیاط في الاجتهاد: ومعناه أنه في الاستدلال یستنتج استنتاجاً احتیاطیاً بحیث یلم بمحتملات الاستنباط المتعددة ویحیط بمحتملات الأدلة ویجمع بینها بحیث لا تتصادم مع الواقع، وهذا ما یحتاج إلی مهارة

ص: 46

وتضلع وتسلط في الصناعة الفقهية لا الأصولية فقط حتی یستطیع الفقیه أن یصل إلی هذا الاستنتاج الاحتیاطي، فلیس كل مجتهد یستطیع الوصول إلی هذا الاحتیاط لما عرفت من أن للاجتهاد مراتباً ودرجات ولا یصل إلی هذا المقام إلا الفقیه المخضرم الذي یلتفت إلی هذه الخصائص بواسطة ممارسته وتضلعه في الفقه.

القسم الرابع: الاحتیاط بین الاجتهاد والتقلید:

وهو ما یجمع بین الاجتهاد والتقلید: بمعنی أن یجمع بین ما یتوصل إلیه وبین ما یقوله الأعلم، فهو في الواقع جمع بین حجتین وهذا ما یحصل غالبا عند مراهقة المجتهد للاجتهاد لعدم جزمه عادة بحصول الملكة لدیه فتراه مثلا یعمل بأحوط القولین، ولیس من اللازم أن یعمل بالاحتیاط الكبیر بل له علم اجمالي بین الاجتهاد والتقلید ولیس مما یبتلی به المراهق للاجتهاد فقط بل نری أن بعض الأعاظم عند استنباطهم للاحكام مع عدم اسعاف الوقت لاستیفاء جمیع جوانب الاستنباط سواء في النتیجة أو في بعض مقدمات الاستنباط فتراه یكوّن الرأي نتیجة أو استدلالا في الواقع بین اجتهاده وتقلیده، فمثلا یعتمد علی رأیه واجتهاده ولكنه في النتیجة یراعي فتوی الأعلم وتارة یعتمد في استدلاله علی بعض المقدمات تقلیدا لغیره فیها كبعض المسائل الرجالیة وغیرها فیأخذ بأحوط الأقوال في مقدمات الاستدلال، كما لو لم

ص: 47

یر حجیة الروایة إلا أنه یراعیها في الاستنباط والاستدلال، وهذا ما نشاهده كثیرا من الأعلام عند استدلالاتهم الفقهية والأصولية.

القسم الخامس: الاحتیاط بالجمع بین الاجتهاد والاحتیاط أو التقلید والاحتیاط :

وهو ما ذكرها الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) من الجمع بین الاجتهاد والاحتیاط أو التقلید والاحتیاط وسماه الاحتیاط الأكبر - وهو غیر القسم الأول المسمی بالاحتیاط الكبیر الذي معناه العمل بالاجتهاد مع ضم محتملات الواقع - وهو أنه یقلد إلا أنه بعد أن یأتي بالعمل بمقتضی تقلیده یضیف إلیه ما یفرضه علیه الاحتیاط في نفس العمل من دون تكرار أو أن یكرر العمل إذا لم یمكن اضافة ما یقتضیه الاحتیاط إلی نفس العمل، ... فإن من أشكل من الفقهاء علی الاحتیاط بالتكرار قد أوجب الاجتهاد والتقلید إلا أن هذا القسم من الاحتیاط لیس بمجانب للاجتهاد أو التقلید حتی یرد اشكاله إلا أنه لكي یمتثل العمل یحتاط فیه أیضاً، فقد نقل بعض السادة من خواص تلامیذ السید الخوئي(قدّس سرّه) من الطبقة الثانية عنه أنه قال: "مدة عمري لم اغتسل غسل بدون مراعاة ترتیب بین الأیمن والأیسر" مع أنه یفتي بهذا طول عمره فهذا من الجمع بین الاجتهاد والاحتیاط.

ص: 48

القسم السادس: الاحتیاط بالجمع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط:

الاحتیاط بالجمع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط: كأن یكون الشخص مجتهدا ویراعي في فتواه فتوی غیره أضافة إلی مراعاته بعض الأمور المحتمل دخالتها في الواقع، مثل المجتهد یقلد في بعض المقدمات ویجتهد في البعض ومع ذلك یراعي محتملات الواقع. ومثل العامي الذي هو مجتهد في أصل مسألة التقلید ویقلد في مسألة تقلید الأموات لكي لا یكون تقلیده دوري، وأما في بعض المسائل وتفاصیل التقلید یتكون عنده دلیل ولكنه یراعي بعض المحتملات فیكون بذلك جمع بین التقلید والاجتهاد والاحتیاط وتجنب اشكالات عدیدة.

فحاصل الجهة الخامسة هي أن أقسام وصیغ الاحتیاط متعددة جدا وصناعیة وفذلكیة وهي تفید في نقاش مشروعیة أصل الاحتیاط الكبیر الذي هو في مقابل الاجتهاد والتقلید.

وستأتي جهات عدیدة في الاحتیاط تُذكر في المسائل اللاحقة.

ص: 49

(مسألة 2) : الأقوی جواز(1) العمل بالاحتیاط مجتهداً كان أو لا ،

المسألة الثانية: جواز العمل بالاحتیاط

اشارة

(1) مقصودهم من الاحتیاط في هذه المسألة وغیرها من المسائل الآتیة هو القسم الاول من أقسام الاحتیاط. وقد وقع الكلام في هذا الجواز أهو من المسائل التقلیدیة أو من المسائل الاجتهادية حتی علی المكلف العامي؟، وقد ذهب بعض الأعلام إلی وجوب الاجتهاد أو التقلید فیها فلا یجوز له ابتداءا الاحتیاط، فیكون من الاجتهاد أو التقلید في المسألة الكلية وهي جواز الاحتیاط، فإن اجتهد فیها أو قلد - بعد اجتهاده في مسألة جواز التقلید - من یجوز الاحتیاط جاز له الاحتیاط في أعماله. فاجتهاده في مشروعیة التقلید وتقلیده في مسالة آخری وهي مشروعیة الاحتیاط .

وقد تقدم أن للاحتیاط ستة أقسام مع أن المصنف (قدّس سرّه) والأعلام عموما لم یتعرضوا إلا إلی القسم الأول كما هو واضح في أول رسائلهم العملية، وعلیه یقع السؤال عن المانع من عدم تعرضهم لبقیة الاقسام؟ مع أن الغرض من (الاحتیاط) هو ممارسة سلوك عملي یبرأ الذمة (من الواقع المجهول) وبقیة أقسام الاحتیاط أكثر سهولة وعملاً عند المكلفین، أما ممارسة الاحتیاط بقول مطلقاً وبالنسبة إلی جمیع الأقوال فنادر جداً وعلیه لا ینقضی العجب لذكر الأعلام هذا القسم النادر دون

ص: 50

غیره من أقسام الاحتیاط الشائعة! فالصحیح التركیز والتنبیه أكثر علی تلك الاقسام المهمة ذات الأثر العلمي .

وعلی كل حال فالظاهر من هذه المسألة والثالثة والرابعة هو جواز العمل بالاحتیاط في قبال من منع من الاحتیاط بتفاصیله المختلفة، فقول الماتن(قدّس سرّه) هنا:" بأن الأقوی جواز العمل بالاحتیاط" في مقابل القول المانع من الاحتیاط مطلقا لأن منهم من منعه مطلقا ومنهم من منعه في خصوص ما إذا استلزم التكرار كالمیرزا النائیني(قدّس سرّه) بنكتة المنع عن الانبعاث الاحتمالي مع تأتي الانبعاث الجزمي، ومنهم من منعه في خصوص ما إذا استلزم العبث بأمر اللّه، وهذا لا یلزم من تحققه بصرف التكرار مرتین بل لعله لا یتحقق إلا بكثرة التكرار، فالاحتیاط الممنوع هو خصوص ما یستلزم العبث والاستهزاء عرفاً بأمر المولی مثل أن من جهل القبلة واعلم بنجاسة ثوبیه وعلم بنجاسة أحد الانائین مع امكان استعلام القبلة والوضوء من اناء ثالث والصلاة بثوب ثالث فیلزمه لو أراد أن یحتاط أن یصلي لكل جهة أكثر من مرة فیلزمه الكثیر من الصلوات حتی یتأتی منه الاحتیاط .

والحاصل أن المانعین من الاحتیاط اعتمدوا علی وجوه متعددة ومختلفة وباختلافها تختلف دائرة المنع من الاحتیاط سعة وضیقا، والمتصور في موانع الاحتیاط وجوه:

ص: 51

القسم الأول من أقسام الاحتیاط والوجوه المانعة منه:

الوجه الأول: المانع الموضوعي الجاري في جمیع الاعمال:

وحاصله أن الاحتیاط بالنسبة إلی محتملات الواقع والأقوال والأدلة لابد فیه من العلم بكیفیته وهو أمر یمتنع حصوله في العادة إلا من الفقیه المتمرس لاقتضاء العادة بأن المسألة الواحدة تحتاج إلی معرفة مظانها في الأبواب الفقیهة لأنه بالوقوف علی تلك المظان تتضح كثیر من الوجوه... وهذا أمر طبیعي لوجود الترابط والتشابك بین الابواب الفقهية وبما فیها من النكات المصیریة في أصل المسألة فهذا مانع موضوعي أي لا موضوع له باعتبار العجز، وذلك لأن التكلیف بالاحتیاط أو بغیره مشروط بالقدرة ولا قدرة علیه إلا عند الفقیه المتمرس فلیس للمكلفین القدرة علی تحصیل كیفیته وعلیه فلا موضوع لجواز الاحتیاط إذ هو مشروط بالقدرة ولا قدرة كما هو واضح.

ویمكن أن یصاغ هذا الوجه بعبارة مانع حكمي وهو أن العامل بالاحتیاط بدون علم بالكیفیة لا یحصل له العلم بفراغ ذمته بما اشتغلت به أجمالاً وعلیه فتجري قاعدة الاشتغال وهي من الاحكام لا الموضوعات.

وهذا الوجه عام لجمیع موارد الاحتیاط عبادات أو معاملات - بخلاف غیره من الوجوه الآتیة - وهذا هو حقیقة ما ذكره الماتن (قدّس سرّه)

ص: 52

وارتضاه حیث قال : لكن یجب أن یكون عارفا بكیفیة الاحتیاط بالاجتهاد أو بالتقلید. وعلیه فلا یكون الاحتیاط في عرض الاجتهاد والتقلید بل في طولهما لأنه متوقف علیهما فهذا الوجه صحیح ومتین كماارتضاه السید الماتن (قدّس سرّه) . وقد تقدم في الجهة الرابعة اثبات طولیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید.

فإن قلت: في بعض المسائل الیسیرة التي لا تحتاج إلی كلفة من جهة الأدلة فتشخیصها متأتي حتی للمكلف العادي، فالتخییر فیها بین الاجتهاد و التقلید والاحتیاط بمكان من الامكان ومعه لا وجود للمانع الموضوعي المزبور والمفروض أنه لا یوجد مانع شرعي فتثبت عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید.

قلت: أولاً إن هذا النوع من الاحتیاط یسیر جدا فهو نظیر خروج بعض الضروريات عن الاجتهاد والتقلید وهذا لا ینافي الغالب.

وثانیاً: أن المنع لیس محصوراً في المحذور الموضوعي وهو عدم القدرة علیه بل هناك صیاغة حكمیة وهي عدم احراز الامتثال القطعي الاجمالي فیجري الاشتغال الیقیني الموجب للفراغ الیقیني وسهولة المسائل الیسیرة لا ترفع وجوب الاحتیاط.

وثالثا: أنه حتی الموارد الیسیرة نمنع الجزم والقطع بحصول الاحتیاط إلا أن یكون له نسبة من الاجتهاد أو التقلید هذا فیما لو كان الاحتیاط

ص: 53

بالنسبة إلی محتملات الواقع لا بالنسبة إلی الاحتیاط في التقلید.

وهذا الوجه الأول تام ومتین إلا أنه لا یقتضي عدم مشروعیة الاحتیاط بل یقتضي وجوب استناد الاحتیاط إلی الاجتهاد أو التقلید.

وعلیه فالاجتهاد والتقلید والاحتیاط لا عرضیة بینها لا من جهة الحكم أي الجواز - أي جواز الاجتهاد وجواز التقلید وجواز الاحتیاط - ولا من حیثیة الموضوع وذلك لأن مقتضی هذا الوجه توقف موضوع الاحتیاط علی الاجتهاد أو التقلید، وإذا كانت موضوعية الاحتیاط مستندة إلی عدلیه لزم استناد حكمه إلیهما أیضا لتوقف الحكم علی موضوعه.

فالنتیجة: أن المكلف أما أن یكون مجتهداً أو مقلداً وهما أما أن یكتفیا بالاجتهاد أو التقلید وأما أن یحتاطا، والجدیر بالذكر أن حجم النتیجة یختلف باختلاف مقتضیات الادلة مع أن المشاهد في الكتب الاستدلالیة هو الغفلة عن هذه الحقیقة من اختلاف حجم النتیجة سعة وضیقا باختلاف الدلیل.

وأیضا العمل باحتیاط القسم الأول - وهو الذي لا یرجع إلی الاجتهاد والتقلید - موجب لترك العلم التفصیلي، والعلم التفصیلي له أغراض كثیرة لا تقتصر علی براءة الذمة وفراغها ... ففوائده كثیرة لا تحفظ إلا بالعلم الفصیلي... مثل الحفاظ علی أحكام الشریعة المقدسة...

وهذا هو الوجه متین، مضافاً إلی أن هذا القسم من الاحتیاط فیه

ص: 54

خلاف بین الأعلام، فمنهم من یقول بوجوب تحصیل العلم التفصیلي وعدم صحة الاكتفاء به وهم مشهور القدماء،فقد ذهبوا إلی بطلان العمل باحتیاط القسم الأول، وعلیه فالاحتیاط یقتضي العمل بموافقة جمیع المجتهدین في كیفیة الاحتیاط، فتتعین بقیة أقسام الاحتیاط المتفق علیها، لأن الاحتیاط بهذه الكیفیة خلاف الاحتیاط لما فیه من الخلاف الموجب لعدم القطع بالموافقة، فمن تمسك بصحة هذا الاحتیاط نظر إلی جمع المحتملات ومن قال: بأن جمع المحتملات في نفسه، محقق للاحتیاط ولیس الاشكال علی نفس جمع المحتملات في نفسه فلیس اشكال المیرزا النائیني (قدّس سرّه) مثلاً وغیره علی نفس جمع المحتملات، وإنما الاشكال في أن الانبعاث في طرف من أطراف الاحتیاط لا یكون انبعاثا عن الأمر ولا وقوفا علیه، فالبطلان المحتمل في المقام بطلان واقعي لا ظاهري، وذلك لاختلال شرطه كما لو أتی بالزكاة ریاءاً فإنها تبطل. وهذه الاشكالات نشأت من عدم تحدید موضع النزاع هل هو تحریم الاحتیاط الذي معناه الجمع بین المحتملات أو هو عدم الاكتفاء باحتیاط القسم الأول وترك الامتثال التفصیلي. ولا یخفی أنه لا ینبغي أن یقع البحث في تحریم الاحتیاط بمعنی الجمع بین المحتملات لأن الجمع بینها موجود في بقیة أقسام الاحتیاط التي ذكرناها وإنما الكلام في الاكتفاء بالقسم الأول مع ترك الامتثال التفصیلي.

ص: 55

الوجه الثاني: لزوم الانبعاث عن احتمال الأمر لا عن نفس الأمر كما في موارد التكرار

ویأتي بیانه في المسألة اللاحقة.

الوجه الثالث: لزوم الاخلال بقصد الوجه والتمییز:

هو القول الذي تبنّاه جملة المتقدمین لأخذ قصد الوجه وقصد التمییز، وهذا القول قد نقله السید الرضي (رحمه اللّه) وقرره علیه أخوه السید المرتضی (رحمه اللّه)وهذا مانع من الاحتیاط لعدم تأتي قصدهما.

الوجه الرابع: استلزام اللعب والعبث بأمر المولی:

اشارة

استلزام الاحتیاط العبث في أمر المولی عرفاً، إلا أنه لا یستلزم العبث في جمیع موارد الاحتیاط وإنما یلزم ذلك لو كان التكرار كثیر بحیث یعده العرف تلاعبا وعبثا بأمر المولی.

والكلام یقع في الوجه الثالث، وأما الثاني والرابع فیأتي الكلام عنهما في المسائل الآتیة تبعا للمصنف في المسألة الثالثة والرابعة.

ومنشأه أن الطاعة عندهم لا تصدق إلا بقصد سنخ ونوع أمر المولی من وجوب أو ندب من ذلك لما للعناوین من اضفاء الحسن والقبح علی الافعال وكذا تمییزه ككونه شرطاً او جزءا فلا بد أن تكون النیة تفصیلية وذلك لما تحتویه النیة من محاور في نفسها من أن قصد تلك

ص: 56

العناوین یضفي الحسن أو القبح علی الافعال تارة وفي متعلقها تارة أخری .

فالمعروف أن استدلال متكلمین القدماء بأن الطاعة لا تصدق إلا بالنیة التفصیلية فلا تصدق بقصد المكلف سنخ أمر المولی بدون قصد الوجوب أو النذب أو الشرطیة أو الجزئیة وغیرها من العناوین الخاصة، فالمعتبر هو النیة التفصیلية، وقد فسرت النیة التفصیلية بقصد الوجه والتمییز. ومحصل تفسیر قصد النیة وقصد الوجه هو أن النیة تتكون من عدة محاور: المحور الأول: المقصود كالصلاة، المحور الثاني: الداعي إلی المقصود كالامر الوجوبي وقصد الوجه والتمییز هي مشخصات النیة من حیث الداعي والمقصود، المحور الثالث: هو كون القصد ارتكازیا أو اجماليا.

وما وقع في كلام المتقدمین هو عن الأول والثاني أي أن قصد الوجه والتمییز بالنسبة إلی خصوصیات المقصود وخصوصیات الداعي.

فالداعي هو قصد الامر وتحدید نفس المقصود كتعنونه بعنوان صلاة الظهر أو صلاة العصر من التمیز وقصد الوجوب والندب من وجوه الداعي، فالتمیز هي مشخصات المقصود من قصد عنوان الجزئیة والشرطیة وغیرها مما له دخالة في تمییز المقصود عن غیره، وقصد الوجه من مشخصات الداعي الذي یدعو إلی المقصود... ، فامتثال أمر

ص: 57

المولی داعي یقصده المكلف وقصد الوجه هي مشخصات أمره تعالی كقصد الاتیان بالصلاة بداعي أمرها الوجوب أو الندبي.

وباعتبار أن المتقدمین بنوا علی أن لكل ارادة مولویة طاعة، والطاعة للاردة المولویة لابد أن تكون من العبد بقصد الخضوع والخشوع لتلك الارادة المولویة، فلكل ارادة طاعة .

والوجه في اعتبار قصد الوجه والتمییز هو أن المتقدمین رحمهم اللّه بنوا علی أن لكل أرادة مولویة طاعة والطاعة للارادة المولویة لابد أن تصدر من العبد بقصد الخضوع والامتثال والانقیاد لتلك الارادة المولویة، فلكل ارادة طاعة سواء كانت لزومیة أو ندبیة ....

بیان المختار یحتاج إلی تقدیم مقدمتین:
المقدمة الأولی: في بیان عنوان الاداء والامتثال:

وحاصلها أنه یوجد في باب سقوط الأمر عنوان الأداء وعنوان الامتثال والاختلاف بینهما:

الفرق بین الأداء والامتثال وآثارهما :

إن منشأ اعتبار قصد الوجه والتمییز وهو أن الطاعة من مقامات سقوط الامر لا ثبوته، وفي مقامات السقوط یوجد سببان لسقوط الأداء والأمتثال والفارق بینهما هو أن الأداء یتحقق باتیان المأمور به وإن لم

ص: 58

یقصد الأمر فلا یكون امتثالاً له، كما هو في التوصیلات فإن الاتیان بالمأمور به أداء له ولیس بالامتثال وذلك لأن الامتثال یتقوم بقصد الانبعاث عن الأمر لیكون اتیان العبد بالمأمور به مثولاً لارادة مولاه والمثول هو الخضوع والانقیاد لأمر المولی.

وقد صور المتقدمون الأداء والامتثال في التوصليات وكأنهم لم یصوروا في العبادات إلا الامتثال وهو عكس ما بنی علیه متأخرو الاعصار من تصویر الاداء في العبادات أیضا؛ وذكروا في وجه ذلك أن تحقق العبادية لیس بمحصور في قصد امتثال الأمر، وعلیه تتحقق العبادية بقصد غیر قصد الأمر كالإتیان بالصلاة بقصد المحبوبیة والتذلل بها للمولي، وهذا لون من ألوان العبادة، فعبادیتها متحققة من غیر قصد أمرها فلا یكون الاتیان بها أمتثالاً لأمرها نعم هو أداء له.

ومثال ذلك: ما إذا كان یوم الخمیس هو النصف من شعبان وهو أیضا یوم النیروز فإن قصد بالصیام أمتثال أمرهما كان أمتثالاً ویثاب علیهما وإن قصد أحدهما فقط كان أمتثالاُ بالنسبة إلی ماقصده وأداءا إلی ما لم یقصده فیثاب علی الامتثال دون الأداء ، بل ولو قصد مطلق الصیام المستحب فإنه لا یثاب علی شیء منهما ، بل یثاب عن الامر بطبیعي الصوم ؛ لأنه قد امتثل أمره ولم یمتثل غیره ، وعلیه فكل أمر یثاب علیه الانسان إذا كان قاصداً له بالخضوع والانقیاد والاتباع لأرادة المولی فی

ص: 59

ذلك الامر. فهذا أداء في العبادة عند متأخري الأعصار وإن لم یكن امتثالا وعلیه فالأداء لا یشترط فیه قصد خاص بخلاف الامتثال فإنه لا یتحقق إلا بقصد خاص وهو قصد أمر المولی.

وأما المتقدمون فیمنعون الأداء في العبادات ویقولون بعدم امكان تصوره فیها فلا یمكن فیها إلا الامتثال ؛ وقد استدلوا علی ذلك بأن اللطف الموجود في ملاك العبادة لا یتحقق إلا بقصد ذلك الأمر أي بالامتثال لا بالآداء ولهذا لا یترتب الثواب إلا علی الامتثال وهو الانبعاث عن خصوص ارادة المولی.

أما متأخروا الاعصار فلم ینظروا ولم یلحظوا تحصیل الثواب وإنما نظروا إلی دفع العقاب أما الثواب فكمال وزیادة فضل... والفقیه نظره لدفع العقاب، وعلیه فمع تحقق الأداء لا یعاقب لأنه أدی ما علیه وإن لم یمتثل إذ فرق بین عدم الامتثال والعصیان وبین عدم الامتثال والأداء والأداء دافع للعقاب وإن لم یترتب علیه ثواب لاختصاص الثواب بالامتثال والعقوبة مترتبة علی الترك والمعصیة والمخالفة وهو لم یعص ولم یخالف لأن المفروض انه أدی ما علیه، وأما قصد القربة فلا ینحصر عند متأخري الاعصار في قصد أمتثال الامر بل یتأتي في العبادة بغیره كالخوف من العقاب.

وما نذهب إلیه هو أن العبادات طرا اضافاتها إلی اللّه ذاتیة لا تحتاج

ص: 60

إلی قصد وراء قصدها نفسها مثل الركوع والسجود والذكر أو قراءة القرآن فإن المتأخرین ذهبوا إلی أن نفس السجود والركوع عبادة بنفسه ولا یحتاج في عبادیته إلی أكثر من قصده، وأما المتقدمون علی ما استوحیناه واستظهرناه من كلامهم فقد ذهبوا إلی أن جمیع العبادات مضافة إلی اللّه ولا یحتاج إلی قصد زائد وراء قصدها كما بنینا علی ذلك ایضاً فالقیام والاستقبال إلی القبلة كذلك فیه إضافة ذاتیة إلی اللّه فإن القیام أمام المولی مستقبلاً ومتوجها إلیه نوع من المثول والخضوع والوقوف وكذا وقفة العبد ذلیلا بین یدي الرب الجلیل أیضا نوع من العبودیة وكذا التشهد والسورة وغیرها من الاذكار فكلها في الواقع مثول وخضوع للمولی، فالاضافة الذاتیة إلی اللّه متحققة بنفس قصد الآتیان بها فمجرد قصد عنوان التشهد كافِ في الاضافة إلی اللّه، فالنتجیة أن العبادات لا تنحصر اضافتها العبادية بقصد أمتثال أمرها فإذا جاء بالفعل العبادي ولم یقصد الأمر یكون مؤدیاً لا ممتثلاً هذا ما صوَّره المتأخرون فالنتیجة أن المتأخرین یصورون في العبادة الاداء والامتثال خلافا للمتقدمین.

وأما المتقدمون فیذهبون إلی لابدیة الامتثال في العبادات دون الاداء ، ونحن أیضا نبني علی لابدیة الامتثال في العبادة، وفي الحقیقة أن الوجه الذي بنی علیه المتقدمون - من لزوم قصد الوجه والتمییز -

ص: 61

نرتضیه بمقدار ما یُفسر بأنه لزوم قصد الأمر بشخصه فنحن نوافقهم في أصل ضرورة قصد الأمر بشخصه؛ وذلك لأن المثول والامتثال مأخوذ فیه الطوعانیة والانقیاد للأمر وعلیه فلا یصح في العبادات الاكتفاء بالاداء دون الطوعانیة المتقومة بامتثال الأمر إذ طبیعة العبادة تطویع وانصیاع وانقیاد من العبد لأرادة مولاه وعلی الرغم من وجود مناشئ متعددة للعبادة ذهب المحققون من متقدمي الأعصار إلی لزوم قصد الأمر، وقد استشكلوا في كفایة المحبوبیة وغیرها، ولازم هذا عدم الاكتفاء بالأداء ولابدیة المثول الذي هو عبارة عن الانبعاث والانقیاد عن نفس الأمر وارادة المولی، فالاكتفاء بالأداء في العبادة محل تأمل وذلك لأن الآداء لیس بطاعة وإن كان مسقطاً للأمر كخروج الوقت وانتفاء الموضوع فلا یقال للأداء طاعة للأمر الذي لم یقصده ولم ینبعث منه فهو معصیة بمعنی عدم الامتثال لا ترك الاداء فقصد الوجه بهذا المقدار نقبله أي بمقدار الانبعاث عن شخص الارادة لا الانبعاث عن غیرها كالخوف من العقاب وقصد المحبوبیة مع تضییع وعدم حفظ شخص هذه الارادة لمولاه وإن حفظ ارادة آخری له.

فحاصل هذه المقدمة اختلاف الاداء عن الامتثال وإن الاداء یجتمع مع عصیان الامتثال .

ص: 62

ولربط هذه المقدمة بمسألة عدم الاكتفاء بالاحتیاط ولو لم یستلزم التكرار مع امكان الاجتهاد والتقلید نذكر المقدمة الآخری :

المقدمة الثانية تقوم الامتثال بالاقبال والحضور:

حاصلها أن امتثال العبد أمام إرادة المولی عرفاً متقوم باقباله وحضوره عند ارادة مولاه ولیس المراد به الحضور الجسماني بل حضوره باقباله بتعلم ارادة المولی والانفعال والانبعاث عنها والانقهار لها.

وهذا أمر عرفيٌّ فلو أن عبداً أراد منه مولاه شیئاً ولكنه من دون أن یستعلم ارادته تفصیلاً ذهب وأدّی محتملات ما أراده من دون أن یقبل علی مولاه ویعلم بمراده تفصیلا مع تمكنه ... فلا ریب یعدُّ عند العرف نحواً من التقصیر في الطاعة ونوع من الصد والابتعاد عن مولاه، مع أن متأخري الأعصار یعتبرون الاحتیاط خضوعاً وانقیاداً بشكل اشد في امتثال الطاعة... والصحیح أن هذه الأشدیة في الطاعة والانقیاد بالاحتیاط لیست علی اطلاقها بل هي خاصة بمن إنسد علیه باب تحصیل العلم التفصیلي، أما مع انفتاح باب العلم له فاحتیاطه في هذه الحالة یعتبر نوع من الابتعاد وعدم الحضور عند ارادة مولاه. فوجه في التأمل - في جواز الاحتیاط من القسم الأول مع التمكن من الاجتهاد أو التقلید أي الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصیلي - هو ما ذكرناه من أن الاحتیاط الذي هو امتثال اجمالي مع التمكن من الامتثال التفصیلي

ص: 63

یَشْكُل في كونه مثولا وأمتثالا وطاعة للمولی.

ولتوضیح هذا المطلب أكثر نقدم مقدمة حاصلها أنه وقع بحث بین الأعلام: أن الاوامر التعبدية هل یوجد فیها نوع من التوصل أو هي خالصة في التعبدية فمعنی الأول هو امكان تحقق امتثال الامر العبادي بدون قصد أمتثال أمره بأن یتحقق عبادیته بشیء آخر كقصد المحبوبیة وغیرها فإن بنی علی صحة هذا المعنی فإن الأداء یعد طاعة للعبادة وهذا تصویر لنوع من التوصلية في الأمر العبادي فلو امكن تصویره لتحققت العبادة بدون امتثال وأما لو بنی علی عدم صحة هذا الاتیان وقیل بلزوم انبعاث المكلف في فعله عن أمر مولاه فإنه لا محالة یشترط في الفعل العبادي أن یكون خالصا من كل شائبة التوصلية فتكون عبادیته مضاعفة لإضافة العبادية من حیثیتین حیثیة المحبوبیة وحیثیة قصد امتثال الامر .

والأعلام یصورون الأداء في باب العبادات كمن تعددت علیه عدة اصناف من الصوم في یوم واحد وقصد بعضها فإنه یكون امتثالاً وطاعة لما قصده وأداء إلی ما لم یقصده.

ومن هذا یتضح ما نصبو إلیه في الاحتیاط الذي هو امتثال اجمالي مع امكان الامتثال التفصیلي وذلك لأن الاحتیاط مع الامكان لا یكون امتثالاً وانقیادا لأمر المولی لعدم تحقق قصد الأمر، فیكون اداء لا امتثالاً وذلك لأن المثول والامتثال متقوم بحضور المكلف واطلاعه تفصیلا

ص: 64

علی أمر مولاه فعلی هذا یكون العلم التفصیلي بمراد المولی بالاجتهاد أو التقلید لیس بمقدمة علمیة لأحراز الفراغ بل مقدمة وجودیة خارجية لمتن العمل كالعلم بشرائط الحج لتوقف وجودها علی العلم بها بل العلم مطلوب بما له دخالة في تحقق المثول والامتثال لا بما هو طریق لفراغ الذمة وعلیه یكون ما قرره الأصوليون في مقدمة الواجب من كون العلم بأمر المولی مقدمة لیس علی اطلاقه لاختصاصه بباب التوصليات لكون المطلوب فیها هو صرف الوجود بخلافه في العبادات فإن العلم بأمر المولی یعتبر في حكم العقل والعقلاء نوع من الوقوف عند ارادة المولی فهو دخیل في عنون الامتثال والمثول لأن اللازم في باب العبادات لیس الاداء كالتوصليات فحسب بل اللازم فیها هو عنوان الامتثال والعلم بارادة المولی دخیل في وجود عنوانه فمثلاً لو كان للمولی عبدان وعلم كل منهما أجمالاً بأمر المولی فجاء أحدهما وتعلم من مولاه والآخر لم یأت بل عمل بالمحتملات التي بها یدرك أمر مولاه فلا ریب عند العقل والعقلاء انهما لیس في رتبة واحدة في المثول امام ارادة المولی مع أن العمل صحیح لم یختلف ولم یتخلف منه شیء وأن الممتثل أجمالاً قد أتی به ولكنه رغم ذلك یفرق بینهما فإن رتبة المستعلم أعلی لما عنده من الانقیاد والمثول لمولاه دون تارك الاستعلام الذي لیس عنده إلا الأداء.

ص: 65

وهذا شبیه من یأتي بالافعال التوصلية فإن هناك من ینبعث عن أمر وإرادة المولی وهناك من ینبعث لأمور أخری كما لو أنبعث حذرا من العقاب فكل منهما اسقط الأمر بحققق الغرض بدرجة ما إلا أنه فرق بینهما فالأول أتی به بنحو الامتثال والثاني أتی به بنحو الأداء.

فلا تتحقق العبادات بمجرد الامتثال الاجمالي (بالاحتیاط)مع فرض التمكن من الامتثال التفصیلي (بالاجتهاد أوالتقلید)

وذلك لأن العلم بارادة المولی نوع من حضور وعندیة وقرب العبد لدی ارادة مولاه وهذه العندیة والحضور دخیلة في الامتثال والانقیاد لأن الانقیاد نوع من المتابعة والاتصال والارتباط بالمولی فالمثول یوجب عنوانا رابطا ومقرباً بین العبد ومولاه فالذي یعلم بارادة مولاه أقرب من الذي لا یعلم، وعلیه فلا محالة یكون العلم وجدانیاً أو تعبدیاً مقدمة وجودیة لتحقق ذلك الامتثال.

فكما توجد مقدمات وجودیة للاجزاء والشرائط كذلك توجبالمقدمات الوجودیة لأصل ماهیة العبادة كما مثلنا بالاداء في الصیام والغسل عند اجتماع أوامر متعددة فإنه لا یكون ممتثلا إلا لما قصده ومؤدیا لما لم یقصده فلا فرق بین الأداء والامتثال في الاجزاء والشرائط إذ الاجزاء والشرائط في الامتثال هي عینها في الأداء إلا أن عنوان الأداء یختلف عن عنوان الامتثال ، فعنوان الامتثال عنوان یقضي ویحكم به

ص: 66

العقل بمقتضی حقیقة العبادية وهویتها، فقصد الأمر لا دخل له في الاجزاء والشرائط فهو لیس بمقدمة وجودیة لها، وإنما العلم كمقدمة وجودیة دخیل في عنوان الامتثال بمقتضی هویة العبادية وحقیقتها بحكم العقل والعقلاء والمتشرعة بمعنی أنه لا یتحقق الامتثال بحكم العقل والعقلاء والمتشرعية إلا بالعلم بالأمر الخاص.

فالنتیجة هي أن العلم التفصیلي وجدانیا أو تعبدیا مقدمة وجودیة لعنوان وطبیعة الامتثال. فالانبعاث عن شخص الارادة المولویة بواسطة العلم بها تفصیلا دخیل كمقدمة وجودیة في المثول والامتثال. وبهذه النكات یتضح أن الاحتیاط لا یسوغ مع التمكن من الامتثال التفصیلي بالاجتهاد أو التقلید.

بیان آخر لبیان اشتراط العلم التفصیلي في الامتثال:

نستطیع أن نبین اشتراط العلم في الامتثال ببیان آخر وهو أن الإرادة المولویة تسمی بالمولویة في باب العبادات بمعنی أن المولی أعمل مولویته في هذه الارادة وهذه المولویة إذا اعملت فلابد أن یقابلها من طرف العبد انكسار وتذلل وخضوع، فالارادة المولویة الموجودة في الاوامر العبادية لا یتحقق ملاكها إلا بالانبعاث والانصیاع لخصوص تلك الإرادة المولویة، نعم یمكن أن یحصل انصیاع لإرادة أخری إلا أنه یكون عصیاناً وتمرداً علی شخص تلك الارادة الالزامية الأولی ، فلو اتفق أنه

ص: 67

أتی بنفس متعلق تلك الارادة بالاداء أي بارادة أخری فإنه وإن اسقط الأمر والمأمور به ولكنه لیس بامتثال إذ سقوط الأمر بالأداء أو بخروج وقته أو بارتفاع موضوعه شیء والامتثال شیء آخر.

فهنا إذا لم ینطلق العبد وینصاع لهذه الارادة اللازمة فلا یكون ممتثلا لتلك الارادة بل عاصیا ومتمرداً... إذ أمام كل إرادة مولویة انصیاع وتذلل من العبد فإذا انصاع إلی ارادات أخری ولم ینصع لهذه الارادة فهو غیر منصاع ومتمرداً علی مولاه. وإذا تقررت هذه المقدمة یتضح أن العلم التفصیلي بالارادة دخیل في تحقیق الانبعاث والانقیاد لتلك الارادة.

ما أورده متأخرو الاعصار بأن الامتثال الاجمالي أشد انصیاعا من الامتثال التفصیلي:

وحاصله أن الامتثال الاجمالي فیه انصیاع وانقیاد أشد من الامتثال التفصیلي فإنه فیه مشقة وكلفة وهو بخلاف الامتثال التفصیلي وإن تنزلنا فهو علی أقل تقدیر مساوٍ للامتثال التفصیلي ولیس بأرجح منه، هكذا اشكل بعض متأخري الأعصار.

وهذا الاشكال في غیر محله وذلك لأن الذي یمتثل تفصیلا أعمل كلفة الحضور والانصیاع لشخص ارادة مولاه فذهابه إلی مولاه وبحثه حتی أضحی عالماًبارادته یقتضي الحضور والعندیة أي القرب بخلاف الجهل فإنه یقتضي البُعد، وأما المحتاط وإن سلمنا بأن الامتثال الاجمالي

ص: 68

بالاحتیاط فیه زیادة مشقة ولكنها زیادة صوریة لا أثر لها من جهة القرب، وأما من جهة حقیقة العمل وحقیقة الانقیاد فهي نقص في الانبعاث لعدم انبعاثه عن الارادة.

ولتوضیح المطلب أكثر نذكر ما ذكر في علم الكلام وعلم الفقه: من أن الامتثال الاجمالي لیس فیه انبعاث تام مع التمكن من الامتثال التفصیلي ومثاله الاوامر الامتحانیة فإنها تفترق عن غیرها من الأوامر حیث إن المصلحة لیست في متعلق الأمر بل في الأمر نفسه كما ذكره بعضهم، ومعنی ذلك أن نفس الأمر یحقق المصلحة بمعنی أنه بمجرد الأمر یحصل غرض المولی وهو الامتحان فالغرض من الامر هو وجود الامتحان والابتلاء وهو یحصل بمجرد وجود الأمر.

وقد ذكروا في باب الأوامر الامتحانیة أن الأوامر الحقیقية فیها ما في الاوامر الامتحانیة وزیادة فإن الابتلاء والامتحان متحقق في الاوامر الحقیقية وفیها مصلحة قائمة بالمتعلق أیضا وهذا بخلاف الاوامر الامتحانیة الصرفة فلیس فیها إلا الإبتلاء.

وما نرید أن نصل إلیه من هذه المقدمة هو أن الاوامر الامتحانیة حتی یتحقق الامتحان فیها لابد من العلم بخصوص إرادة المولی حتی یتحدد موقف العبد من الامتحان والابتلاء ونتیجة ذلك كون العبد انقیادیّا وانصیاعیّا أو متجریّا وعاصیّا فالامتحان بعد العلم فالجاهل لا یمتحن إلا

ص: 69

بالعلم بارادة مولاه ولایخفی أن العباداتكما ذكروا لیس الملاك فیها مثل التوصليات أمر تكویني في المتعلق، بل روح وملاك ومصلحة العبادة في عبودیة العبد أي في طوعانیته وانقیاده فهي شبیه بالامتحانیات.

إذن في الامتحان یوجب إنبعاث وخضوع وانقیاد لنفس الارادة المولویة وهذا الانقیاد والانبعاث مع العلم الاجمالي لا یستوفي تمام الملاك لأن حقیقة الامتحان لا تتحقق بشكل تام مع العلم الاجمالي لما فیه من عدم امكان انبعاثه من الجهة التي یجهلها فهو مثل الجاهل بجمیع الجهات لا یمكن امتحانه حتی مع وجود الأمر بالنسبة إلیه لكي یعرف أنه مطیع أو عاصي.

فمع العلم الاجمالي لا یتحقق ما هو عمدة الامتحان وقوامه بل یوجد قصور معه في توفیة الغرض وهو عدم انبعاثه من تلك الجهة التي هو جاهل بها.

فما ذكره الأعلام من أن الممتثل إجمالاً أخضع وأطوع من الممتثل تفصیلياً لیس بصحیح لما تقدم من قصور الامتثال الاجمالي في الطوعانیة عن الامتثال التفصیلي الذي تتحقق به تمام الطوعانیة والانقیاد.

ومما یؤید ما ذكرناه من عدم جواز العمل بالاحتیاط هو ما ذكره استاذنا المیرزا هاشم الأملي (قدّس سرّه) عن بعض متأخري الأعصار: أنه یری مع تمكن المكلف من طریق الاجتهاد أوالتقلید یتعین العمل بهما عزیمة

ص: 70

فلا یسوغ تركهما ولیس برخصة فعدم جواز العمل بالاحتیاط عزیمة مثل ما وقع في قاعدة الفراغ والتجازو وغیرهما من الامارات الموضوعية بأنها علی نحو الرخصة أو علی نحو العزیمة، فجملة من الأعلام یرون العمل بها عزیمة فلا یسوغ الاحتیاط بتدارك المشكوك مثلاً وعلیه فلا یسوغ الامتثال الاجمالي بترك الامتثال التفصیلي.

خلاصة القول في عدم عرضیة الاحتیاط لأخویه أما في العبادات فلاعتبار العلم التفصیلي في الامثتال وفي المعاملات فلعدم الصغری..

والحاصل أن الوجه الذي نستند إلیه في عدم عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید هو أن العلم التفصیلي عقلاً وعقلائیا ومتشرعيا یُعدُّ دخیلاً في تمام أو كمال الامتثال فلا یتحقق الامتثال بدونه. وعلیه فاحتیاط القسم الأول - وهو ما كان بلحاظ جمیع محتملات الواقع - مشروعیته في طول الاجتهاد والتقلید عقلا وعقلاءا ومتشرعيا سواء استلزم التكرار أم لا. وهذا واضح بالنسبة إلی العبادات ، وأما بالنسبة إلی التوصليات من المعاملات وغیرها فیكفی في كون الاحتیاط في طول الاجتهاد والتقلید هو ما ذكرناه من الوجه الأول المانع من الاحتیاط من حیث الصغری وهو تعسره وتعذره علی المجتهد غیر المتمرس فضلاً عن غیر المجتهد، فلا یمكن تحصیل الاحتیاط إلا بالاجتهاد والتقلید.

ص: 71

أما لو اجتهد في كیفیة الاحتیاط بعد الفراغ عن مشروعیته فإنه لیس من الاحتیاط بل من الاجتهاد أو التقلید كما نبّه علیه الماتن (قدّس سرّه) - من أن صغری الاحتیاط لا یمكن إلا بتوسط الاجتهاد أو التقلید - بقوله: «لكن یجب أن یكون عارفا بكیفیة الاحتیاط بالاجتهاد أو بالتقلید» . وهذا القسم راجع لكیفیة الاحتیاط بخلاف احتیاط القسم الأول الذي منعنا عرضیته للاجتهاد والتقلید ومع ذلك فلا نضایق في عرضیة هذا القسم من الاحتیاط للاجتهاد والتقلید حكماً وإن كان متولداً منهما. وبعبارة أخری هذا الاحتیاط من موالید التقلید أو الاجتهاد ولیس قسما منحازا ومبائنا لهما من حیث الموضوع إلا أنه في عرضهما من حیث الحكم، أي جواز الأخذ به في عرض جواز الاجتهاد وجواز التقلید.

فتلخص أن عمدة المنع بنحو عام عن عرضیة جمیع صور الاحتیاط للاجتهاد والتقلید سواء كان في العبادات أو المعاملات، أما في العبادات فواضح لأجل تقومها بالامتثال والأقبال والانصیاع للإرادة المولویة، المتوقف علی العلم التفصیلي الذي له دخالة في الامتثال.

وأما الدلیل علی لزوم العلم التفصیلي في الامتثال هو ما قرره الأصوليون من أن صدق الامتثال وعدم صدقه بحكم العقل إذ عنوان الامتثال من شؤون حكم العقل، نعم یمكن للشارع أن یتصرف فیه صغرویاً - كما في موارد الفراغ والتجاوز من جعل الشاك في الاجزاء

ص: 72

والشرائط بمنزلة العالم - ولهذا ذكر صاحب الكفایة في مبحث التعبدي والتوصلي أن أخذ قصد القربة بحكم العقل لعدم امكان أخذه جعلاً ومع قطع النظر عما ذكره (قدّس سرّه) في الكفایة في بحث التوصلي من البحث الصغروي فإن استدلاله بأصل الكبری - بأن الامتثال من أحكام العقل وشؤونه - صحیح وبالتالي نقول عقلا وعقلاء وتشرعا: إن الاقبال علی العلم التفصیلي بارادة المولی دخیل في التعبدية والطوعانیة مع التمكن وبدونه لا یحصل الامتثال بنظر العقل إذ الحاكم بالاكتفاء وعدمه في هذه المرحلة هو العقل، وبدونه فلا امتثال إلا بتصرف الشارع بالتخصص لا التخصیص لتعلیق الحكم العقلي.

وأما في التوصليات فالحال واضح أیضاً بالنسبة إلی القسم الاول الذي ذكرناه من عدم تیسر الاحتیاط إلا بالاجتهاد أو التقلید كما صرح بها السید الماتن (قدّس سرّه) من اعتبار الاجهتاد أو التقلبید في كیفیة الاحتیاط.

الوجه الرابع: كون الأدلة ظاهرة في تعین الاجتهاد والتقلید:
اشارة

الاعتماد علی ظاهر أدلة الأمارات، مثل: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ). (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا

ص: 73

رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) .

والحاصل أنه توجد عندنا أدلة تأمر باتباع الأمارات في الشریعة الأسلامیة للجاهل وهذه الأدلة علی نحوین: أمارات مخاطب بها المجتهد مثل قوله (علیه السلام) : «لیس لأحد التشكیك فیما یرویه عنّا ثقاتنا» وأمارات مخاطب بها المقلد كالفتاوی، أو فقل: إن المكلف مخاطب بنمطین من الأمارات وهو یستطیع أن یدرج نفسه في الأولی باجتهاده ویستطیع أن یدرج نفسه في الثانية بتقلیده، فلا بد من ادراج نفسه في أحداهما إذ ظاهر الأمر - سواء كان أمراً واقعياً أو ظاهرياً - العینية والتعیینیة والنفسية وغیره، ورفع الید عن هذا الأمر لا وجه له ولو بالاحتیاط.

عدم اختصاص الحكمة من نصب الامارة بالكاشفیة عن الواقع:

نعم خالف متأخروا العصر مشهور المتقدمین بنفي العینية والتعینیة والنفسية استنادا إلی أن هذه الأوامر طریقیة لأجل درك الواقع، والاحتیاط مما یدرك به الواقع! وهذا الوجه فیه تأمل إذ ربما تعبد الشارع بالامارات لمصالح غیر مسألة درك الواقع مثل ما ذكروه في بحث الجمع بین الحكم الظاهري والواقعي ففي هذا البحث ذكر متأخرو الاعصار بأن هناك حٍكَماً وغایات عدیدة منها : عدم اختلال النظم . ومنها : المصلحة

ص: 74

السلوكیة... وغیرها مما ذكره الأعلام كحٍكَم لا كعلل.

ومع ثبوت هذه الحكم كیف استظهروا بأن الامارات متمحضة في مجرد الطریقية ومن ثم تترك ویؤتی ببدیل عنها كالاحتیاط إذ یلزم منه وفوات تلك الحكم والغایات فالاستعاضة عنها بالاحتیاط بتعلیل انها للطریقیة المحضة فیه تامل واضح.

هذا في امارات الشبهة الحكمیة بل إن بعضهم كصاحب الجواهر (قدّس سرّه) استشكل في رفع الید عن الامارات الظاهرية والعمل بالاحتیاط في الشبهات الموضوعية التي مواردها جزئیة ولایلزم منها محذور فكیف بالشبهات الحكمیة التي هي رسم نظام التشریع إذ إحدی حكم وفلسفات هذه الطرق الظنية هي أن من تراكمها یتولد العلم بالاحكام الشرعية حتی قالوا: «لو بنی علی الاحتیاط لاندرس الدین» ، والمراد بالاحتیاط هو الملازم لترك العلم التفصیلي مع التمكن منه لا الاحتیاط القسم الثاني والثالث و.... فلیس كلامنا في حیثیة أصل الجمع بین المحتملات بل الكلام في حیثیة ترك العلم التفصیلي إذ العزوف والتجنب عن العلم التفصیلي یؤدی إلی كثیر من المحاذیر.

فالخلاصة: أن الكلام في الاحتیاط لیس في أصل الجمع بین محتملاته بل في ترك العلم التفصیلي بالاحكام الشرعية فما اعتمدوه من قرینة علی عدم التعیین في أوامر الطرق الشرعية غیر تامة وغیر ملائمة

ص: 75

وهي حصرهم التعبد واتباع الامارات بالطریقية لتفریغ الذمة مع أنهم أقروا وجود الحكمة التي ذكروها في باب الجمع بین الحكم الظاهري والواقعي وفي باب الانسداد.

فهذا الوجه متین في العبادات والمعاملات ومؤید لمشهور القدماء. ویستدل له أیضا بأدلة وجوب التعلم المستفیضة من الأخبار والآیات كآیة أهل الذكر : (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (1) ، وبآیة النفر وذلك لأن أدلة وجوب التعلم هي نفسها أدلة وجوب العمل بالاحكام الظاهرية أي تعلم تلك الطرق المشتملة علی الاحكام الظاهرية سواء كانت الطرق المخاطب بها المجتهد أو المخاطب بها المقلد.

فعندنا أوامر باتباع الطرق للمجتهد والمقلد وعندنا أدلة لعموم أصل التعلم أي وجوب الفحص عن تلك الطرق والعمل بها وإن كان كثیر من أدلة وجوب التعلم في الحقیقة متحدة ومنطبقة جملة منها مع نفس ادلة العمل بالطرق فمثلا قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ....) (2) ،فكما أنها دلیل علی وجوب التعلم فهي أیضا دلیل علی حجیة قول الراوي ودلیل علی

ص: 76


1- سورة الأنبیاء الآیة 7.
2- سورة النحل، الآیة 43 .

حجیة فتوی المفتي للمقلد فهي في الجامع بین هذه الأمور. وكذا آیة النفر وما ورد من الاخبار في باب صفات القاضي من الباب الرابع إلی الباب الثامن، وما ورد في فضل العلم في الباب الأول من أمالي الصدوق (قدّس سرّه) والشیخ الطوسي (قدّس سرّه) ، وهي روایات «هلا عملت؟ فیقول: لم أعلم فیقال له: هلا تعلمت!» ، وروایات وجوب أصل التعلم المستفیضة .

فلسان وجوب اتباع الطرق ولسان وجوب أصل التعلم التفصیلي متعاضدان إذ بینهما عموم وخصوص من وجه فإن بعض أدلة اتباع الطرق تدل علی وجوب التعلم وبعض أدلة وجوب التعلم تدل علی وجوب اتباع الطرق، وتوجد أدلة من كلا الطائفتین خاصة بموردها وهي قلیلة .

فالمهم أن أدلة وجوب التعلم هي لسان آخر موجود في الأدلة، بعضها متمیز وبعضها مندمج في نفس أدلة الطرق سواء كانت للمجتهد أو للمقلد.

والمختار في هذه الأدلة تبعاً للمتقدمین ولصاحب المدارك وما أخترناه في تنبیهات البراءة أن وجوب التعلم فیها وجوب نفسي طریقي لا طریقي محض حتی یكون الاحتیاط في عرض الاجتهاد والتقلید.

الوجه الخامس لزوم محاذیر باب الانسداد:

وهو عام للعبادات والمعاملات بالمعنی الأعم، وحاصله أنه یلزم من

ص: 77

عرضیته لهما المحاذیر التي ذكرت في باب الانسداد، منها أن الاحتیاط القسم الاول - أي ما یكون بحسب محتملات الواقع والأقوال - یلزم منه تعطیل نظام الدین ونظام المعاش ومن ثم قالوا: «بعدم مشروعیته» للزومه اختلال نظام الفرد والمجتمع عند عملهم به.

وإن قیل: إن المراد منه مشروعیة الاحتیاط في الجملة أي في بعض الموارد التي لا یلزم منها اختلال نظام الفرد والمجتمع.

ففیه: أنه یلزم منه أن یكون أخص من عموم البحث، إذ البحث في أن المكلف بالنسبة إلی جمیع أفعاله وتروكه إما مجتهد أو مقلد أو محتاط لا في بعض أفعاله وتروكه دون البعض فلیس هذا هو الاحتیاط المعادل والموازي لأحتیاط القسم الأول.

مضافاً إلی أنه لو لم یلزم منه اختلال النظام فإنه یستلزم عدم مراعاة حقوق الآخرین إذ لو أراد مراعاة نفسه تصادم مع الآخرین وإذا أراد مراعاة الآخرین تصادم مع حقوق نفسه.

وهذا بلحاظ احتیاط القسم الأول أما بقیة أقسام الإحتیاط فلا یرد علیه اشكال من هذه الاشكالات.

وتحصل أننا نمنع الاحتیاط الملازم لترك العلم التفصیلي وعلیه فالمكلف أما أن یكون مجتهدا أو مقلدا أو محتاطاً مع أحدهما أو معهما كما مر في غیر القسم الأول من الاحتیاط.

ص: 78

اعتبار القسم الثاني من أقسام الاحتیاط :

هو ما كان بلحاظ جمیع أقوال المجتهدین احیاءا وأمواتا أو بین خصوص الأحیاء نوع من الاحتیاط في التقلید لأن فیه تحصیل العلم التفصیلي بالتقلید وزیادة أي تحصیل العلم بالإرادة المولویة وهي فتوی من یجب الرجوع إلیه مع الاحتیاط بالمحتمل الأخر من فتاوی الآخرین.

وعلیه فالامتثال الاجمالي یحصل في كنف الامتثال التفصیلي. وهذا لا مانع منه لتحقق العلم بالارادة المولویة تفصیلاً فلا یمانع الاجمال العلم التفصیلي ولا قصد الوجه والتمییز .

ولعل هذا هو مراد الأعلام من الاحتیاط وإلا فاحتیاط القسم الأول مستعصي صغرویا علی المجتهد غیر الممارس فضلا عن العوام وممتنع كبرویا لما ذكرناه.

ولا یبعد أن ارتكازهم في الفتاوی والممارسات العملية هو هذا القسم من الاحتیاط أي الاحتیاط في الاقوال إلا أنهم بلورة وقالباً یذكرون القسم الأول مع أن المنتشر والفاشي بین المقلدین هو هذا القسم إذ لا یلتفتون إلی القسم الأول لتعصیه وتعسره علیهم وظهور عجزهم عن تقصي جمیع دائرة الاحتیاط بل یحتاطون بالنسبة إلی أقوال المجتهدین، وهذا القسم تام صغرویا وكبرویا لأنه من موالید التقلید.

ص: 79

اعبتار القسم الثالث من أقسام الاحتیاط :

وهو الاحتیاط في الاجتهاد ومعناه أنه في الاستدلال یستنتج استنتاجاً احتیاطیاً بحیث یلم بمحتملات الاستنباط المتعددة ویحیط بمحتملات الأدلة ویجمع بینهما بحیث لا تتصادم مع الواقع، وهذا ما یحتاج إلی مهارة وتضلع وتسلط في الصناعة الفقیهة لا الأصولية فقط حتی یستطیع الفقیه أن یصل إلی هذا الاستنتاج الاحتیاطي، فلیس كل مجتهد یستطیع الوصول إلی هذا الاحتیاط لما عرفت من أن للاجتهاد مراتباً ودرجات ولا یصل إلی هذا المقام إلا الفقیه المخضرم الذي یلتفت إلی هذه الخصائص بواسطة ممارسته وتضلعه في الفقه.

وهذا القسم تام صغرویا وكبرویا لأنه من موالید الاجتهاد ولیس في عرضها إلا أنه صغرویا لا یتاتی إلا من الفقیه المتمرس.

اعتبار القسم الرابع من أقسام الاحتیاط :

وهو ما یكون في الاجتهاد والتقلید كأن یعمل علی طبق اجتهاده ومع النظر إلی ما افتی به غیره بحیث ینطلق من العلم التفصیلي التعبدي الذي توصله إلیه باجتهاده، وزیادة وهو مراعاة الاحتمال الناشئ من فتوی الغیر .

وهذا أیضا لا ضیر فیه لأنه لیس شیئا وارء الاجتهاد والتقلید فهو امتثال اجمالي في كنف العلم التفصیلي.

ص: 80

اعتبار القسم الخامس من اقسام الاحتیاط :

وهو أن یجمع بین الاجتهاد والاحتیاط ، أو بین التقلید والاحتیاط ولا اشكال في جوازه لكون امتثالا اجماليا في كنف التفصیلي.

اعتبار القسم السادس من اقسام الاحتیاط :

وهو الجمع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط كأن یجمع بین رأیه وبین تقلید غیره الأعلم وبین المحتمل الواقعي الأقوی عنده رتبة بعد مختاره الاجتهادي ، وهذا أیضا لا ریب فیه لأنه امتثال اجمالي في كنف الامتثال التفصیلي.

تنبیه:

في باب التعارض بعض القدماء یصوغ قالباً للجمع بین الخبر الراجح والخبر المرجوح بحیث لا تتصادم هذه الصیاغة مع الواقع مثل المعارضة بین الخبرین علی نحو العموم والخصوص من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق فإن مورد التعارض مع العالم الفاسق مع أن الراجح هو اكرام العلماء فتكون الفتوی تجمع بین هذین الخبرین ولا تخالف الواقع، وكذا لو كان أحد الدلیلین یقتضي القصر والآخر یقتضي التمام فإنه أیضاً یصیغ الفتوی - مثلاً - بالجمع بین الوظیفتین فیفتي علی نحو بوجوب الجمع بین الراحج والمرجوح لا لأنهما الواقع بل لرجاء ادراك الواقع .

ص: 81

لكن یجب أن یكون عارفا بكیفیة الاحتیاط بالاجتهاد أو بالتقلید(1).

(مسألة 3) : قد یكون الاحتیاط في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجبا وكان قاطعا بعدم حرمته ، وقد یكون في الترك كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعا بعدم وجوبه(2)،...................................

وهذه الصیغة العلمية الاحتیاطیة صعبة في الاستنباط وصعوبتها من حیث الجمع بین المتنافیین المخالف أحدهما للواقع من دون أن ینسب أو یسند إلی الشارع خلاف الواقع اجمالاً مع ما استنتجه.

وعلیه فالاحتیاط في الاستنباط یتأتی في باب التعارض سواء كانت النتیجة هي الترجیح أو التخییر فإنه یصیغ قالبا لا یتنافی مع الواقع وهذا ما یحتاج إلی مهارة وتضلع.

(1) لا یخفی امكان الاحتیاط في كلتا الصورتین الأولیتین إذ لا محذور فیهما .

المسألة الثالثة: الاحتیاط بالفعل والاحتیاط بالترك

اشارة

(2) لا یخفی أن الصورة الأولی والثانية من صور الاحتیاط الكلام فیهما هو الكلام في ما تقدم من أقسام الاحتیاط فیمتنع فیهما ما امتنع ویجوز فیهما ما جاز وأما الصورة الثالثة فقد منعها المحقق النائیني(قدّس سرّه) ویأتي بیان ذلك في المسألة الرابعة .

ص: 82

وقد یكون في الجمع بین أمرین مع التكرار(1).........................................

بقیة الوجوه المانعة من احتیاط القسم الأول التي استند إلیها المیرزا النائیني (قدّس سرّه) :

اشارة

(1) ذهب المیرزا النائیني (قدّس سرّه) إلی عدم جواز الاحتیاط المستلزم للتكرار بل الظاهر من تعلیقته علی العروة أنه یمنع من العمل بالاحتیاط مطلقاً في العبادات... وأستدل علیه بوجوه تقدم بعضها ونذكرها أیضا من لما فیها من مزید بیان:

المانع الأول: هو ما تقدم من كون الانبعاث عن احتمال أمر لا عن نفس الأمر:

فقال (قدّس سرّه) : إن الانبعاث في موارد التكرار لا یكون عن متن الأمر بل عن احتمال الأمر، والانبعاث عن نفس الأمر لا یكون إلا في كنف العلم التفصیلي أما الانبعاث عن احتمال الأمر ففي كنف الظن والعلم الاجمالي، وبین الامتثالین بون وفرق كبیر وذلك لأن الانبعاث عن متن الامر مقدم عن الانبعاث عن احتمال الأمر بدلیل أن الانبعاث عن متن الامر أمتثال وطاعة لنفس الأمر وأما الانبعاث عن احتمال الامر فلیس طاعة للأمر نفسه وإنما هو نوع من الانقیاد للاحتمال - ولیس بطاعة إذ الطاعة متقومة بالانبعاث عن نفس أمر المولی لا عن أحتماله وإلا فالأمر غیر المعلوم لو قصد اطاعته للزم منه إسناده إلی المولی وهو تشریع - فهو كالانبعاث عن درجة الادراك لا عن ذات المدرك وهو الأمر .

ص: 83

وببیان آخر لتقدم الانبعاث عن متن الأمر علی الانبعاث عن احتماله هو إن الانبعاث عن الامر طاعة للأمر، أما الانبعاث عن احتمال الأمر فهو انبعاث عن داعي وراء الأمر لا الامر نفسه. وهذا خاص بصورة دوران الحال بین الوجوب والاباحة لأنه مورد للتردد بین الأمر وعدمه، أما لو دار بین الوجوب والاستحباب فإنه یصح الانبعات من نفس الأمر للقطع به، نعم وجه الأمر مجهول وهذا غیر اشكال الانبعاث عن احتمال الأمر في حال أن المطلوب هو الانبعاث عن متن ونفس الأمر ...

المانع الثاني: اقتضاء التعین عند الدوارن بین التعیین والتخییر:

وعند الشك یكون المورد من موارد دوران الأمر بین التعیین والتخییر في مقام الامتثال وهو یقتضي التعیین. لأنه بعد اشتغال الذمة بالتكلیف یشك بأن المفرغ لها الامتثال التفصيلي تعیناً أو مخیراً بینه وبین الامتثال الاجمالي والامتثال الاجمالي لا یرفع الشك في الفراغ .

وقد اعترض علی المیرزا النائیني (قدّس سرّه) بأن دلیله هو عین الدعوی فلیس وراء هذه الدعوی دلیل، وذلك لأن الامتثال الاجمالي المنبعث عن احتمال الأمر یوازي ویساوي عند العرف الانبعاث عن نفس الأمر فما هو الفرق؟ ومع وجود الوجه العرفي للتساوي فلا تصل النوبة إلی الشك ولو سلمنا الشك فلیس الأصل هو التعین وذلك لأن الشك یرجع إلی أخذ واعتبار خصوصیة في متعلق الحكم وهي لابدِّیة قصد ذات الأمر،

ص: 84

وعلیه فنجري البراءة عن الاعتبار الزائد.

هذا ما اشكله بعض الأعلام علی المیرزا النائیني (قدّس سرّه) إلا أن الصحیح هو ارجاع الوجه الذي ذكره المیرزا النائیني إلی الوجه الذي أخترناه من أن الانبعاث عن نفس الأمر أدخل في الطوعانیة - والامتثال وصدق الأقبال علی أمر المولی وارادته - ممن ینبعث عن احتمال الأمر فالذي ینبعث عن الاحتمال كأنما ینبعث عن حجاب أو عن صد أو عن ابتعاد بخلاف الحضور عند المولی الحاصل بالعلم وذلك لأن الحضور عند المولی والأطلاع علی أمره یعدُّ أدخل في الطوعانیة، وبعبارة أخری ان الامتثال الاجمالي لأمر المولی یعتبر قلة اكتراث بأمر المولی!

فإن قلت: وكیف یكون قلة اهتمام مع أنه امتثال قطعي اجمالي فأین قلة الاكتراث؟

قلت: إن المقصود من قلة الأكتراث هو عدم وقوفه علی ارادة المولی وعدم اقباله علیها فلم یكن حاضرا عنده فمعنی الطاعة الماخوذ فیها الامتثال هي المثول والحضور والكینونة عند ارادة المولی، ولا ریب في عدم تحققها مع عدم الاطلاع تفصیلا علیها لأنه احتجاب عن المولی بجهالته فهو درجة من التولي والفرار عن ارادة مولاه وإن كان في الحقیقة مؤدیا للمأمور به.

وقد أیَّدنا هذا الوجه بما التزم به المتأخرون من أن الانبعاث لابد

ص: 85

أن یكون من قصد الأمر أعم من قصد نفس الامر أو قصد احتمال الأمر لا عن اضافة عبادیة أخری، ووجه التأیید هو أن اعتبار قصد الأمر عبارة عن الطوعانیة لهذه الإرادة المولویة الخاصة فكل أرادة مولویة خاصة لابد أن تقابل بطوعانیة وانصیاع خاص من العبد ولا یكفي الطوعانیة من جهات أخری لإرادات أخر لمولاه وإلا فهو تمرد وعصیان بالنسبة إلی خصوص هذه الارادة المولویة.

فالوجه الذي ذكره المیرزا النائیني (قدّس سرّه) متین بالوجوه التي ذكرناها والمختار من أن الانبعاث عن متن الأمر یختلف عقلاً وعقلائیاً عن الانبعاث عن احتمال الأمر.

وأما الوجه الثاني من الدوارن بین التعیین والتخییر - لو وصلت النوبة إلی مقام الشك - فالصحیح هو جریان قاعدة الاشتغال عند قصد احتمال الأمر؛ لأن الشك في المقام لیس شكاً في جعل شرعي من جزء وشرط كي تجري البراءة الشرعية أو العقلية بل الشك في مقومات صدق الامتثال في حكم العقل، وعند الشك في صدق الامتثال في حكم العقل فهو شك في الامتثال لا شك في المكلف بهولا شك في نفس التكلیف الذي هو مجری البراءة وذلك لأن ضابطة البراءة هي أن یكون المنشأ الأول والأصلي للشك راجعاً إلی التكلیف أو المكلف به علی صعید الجعل لا علی صعید الامتثال والعمل، فالمرجع هو البراءة ، ولأن

ص: 86

الضابطة في الاحتیاط والاشتغال أن یكون المنشأ الأصلي للشك في السقوط والامتثال الخارجي وعلیه فلا تجری البراءة بل یجری الاشتغال والاحتیاط لأن الاشتغال الیقیني یقتضي الفراغ الیقیني.

وعلی كل حال فلا تصل النوبة إلی الشك، ولو وصلت فهو من دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلي في مقام التفریغ والسقوط الذي هو مجری الاشتغال.

ولهذا لما بنی الآخوند (قدّس سرّه) - في الشك في التعبدية والتوصلية في الأمر - علی قاعدة الاشتغال أجابه الأعلام بأنه لو كان الشك في التعبدية والتوصلية راجع إلی السقوط والأمتثال لتمَّ كلامه (قدّس سرّه) إلا إذا رجع إلی الشك في خصوصیة نفس الأمر وفي كیفیة من كیفیاته فهو مجری البراءة. فهم یقررون لصاحب الكفایة أنه لو رجع الشك إلی الأمتثال العقلي وما شبه ذلك لكان مجری الاشتغال، فلیس حكم العقل بعدم احراز الامتثال بل حكمه بعدم تحقق نفس الامتثال لاختلال شرط من الشروط العقلية للامتثال. وأیضا لیس الكلام والاشكال في الاحتیاط بمعنی الجمع بین المحتملات فإن هذا لا اشكال فیه كما صححناه في القسم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس من اقسام الاحتیاط وإنما الاشكال في الاكتفاء بالقسم الاول من أقسام الاحتیاط مع ترك الامتثال التفصیلي، فهذا هو محط البحث فالاشكال هو عدم تحقق

ص: 87

الامتثال باحتیاط القسم الأول وبالامتثال الاجمالي لا ظاهرا ولا واقعاً. نعم یسقط ولكنه بالأداء لا بالامتثال.

فعدم تحقق الامتثال في المقام عقلاً لیس من جهة عدم احراز الامتثال وعدم الاجزاء بل لاجل حكم العقل بعدم تحقق الامتثال.

فلیس المقام من مقامات الشك في الامتثال بل من مقامات القطع بعدم الامتثال فإن الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصیلي یحكم العقل بعدم تحقق اصل الامتثال وإن تحقق الأداءوسقط الأمر به وعلیه فتوجد فیه درجة من المعصیة.

المانع الثالث: اللعب والعبث بأمر المولی:

وهذا خاص بالتكرار الكثیر الموجب للعب والعبث بأمر المولی وهما عنوانان مضادان للعبادیة إلا أنهما لا یتحققان بالتكرار القلیل.

وهذه المانعیة مختصة بفرض التمكن من الامتثال التفصیلي وإلا ففي فرض عدم التمكن فإن النوبة تتأتی للأمتثال الاجمالي الذي لا یجتزء به في فرض التمكن من الامتثال الظني فضلا عن العلم.

ومثل هذا المانع لیس شرعيا لأن البحث في المقام لیس في الشروط والاجزاء الشرعية بل البحث في كیفیة المأمور به عقلاً وللعقل اعتبارات وشروط خاصة في تحقق المأمور به كالتذلل والخضوع وقصد القربة وعدم التقرب بالمبعد فاشتراط خلو العبادة من السفه باللعب والعبث

ص: 88

وإن لم یجعل شرعا إلا أن العقل یحكم به لحكمه بلزوم صدور العبادة بحسن فاعلي وفعلي، وبخلوها من قبحهما ومع اختلال هذه الشروط لا تتحقق العبادية بنظره.

فعلاوة علی ما یحكم به الشرع من أجزاء وشرائط یحكم العقل بشرائط في كیفیة الامتثال التي لها دخل في الحسن الفعلي أو الفاعلي، وكذا الموانع المتقدمة كالاقبال والعلم التفصیلي الذي أعتبروه مقدمة علمیة فقط،ولیس هو مجرد مقدمة علمیة بل هو دخیل في صدق الامتثال والطوعانیة والاقبال علی المولی في نظر العقل عند التمكن منه.

وأشكل الأعلام علی فرض التسلیم بهذا الاشكال بأن اللعب والعبث عنوانان قائمان بمجموع الاطراف أو لأكثر الاطراف فلا یتحقق اللعب والعبث بطرف واحد فهما لیس بلازمین للطرف الذي به یتحقق الامتثال في متن الواقع، لأن مركبهما جمیع الاطراف علی نحو العموم المجموعي وما یتحقق به الواقع هو الطرف المطابق فقط وبین الأمرین فرق، نعم لو كان اللعب والعبث عنوانین ملازمین لكل طرف علی حده لبطلت عبادیة الطرف المطلوب الواقعي، وعلیه فالطرف المطلوب واقعاً لیس بنفسه لعب وعبث بأمر المولی إذ لیس عنوان اللعب والعبث منطبق علیه حتی یكون منهیاً عنه بل منطبق علی المجموع بما هو أو علی الأكثر... فلیس متعلق الامر والنهي واحدا فما تعلق به النهي هو المجموع

ص: 89

وما تعلق به الأمر هو الطرف المطابق... فاللعب والعبث عنوانان ولیدان للأتیان بجمیع الاطراف لا الطرف المطلوب بعینه بل للهیئة المجموعية وعلیه فیقع صحیحاً، فما یلزم منه اللعب والعبث وهو المجموع غیر مطلوب فلا یخلُّ بالعبادة فلیس مركب الأمر والنهي واحدا.

وهذا الاشكال غیر تام وذلك لأن اللعب والعبث وإن كانا عنوانین ولیدین لمجموع الاطراف إلا أنهما في الحقیقة متحدان مع حیثیة ایجاد الفعل إلا أن المتصف بهما لیس هو الفعل بل هو الفاعل - یعني اللعب والعبث من اقسام الفعل الذي یتصف به الفاعل نفسه فإن فاعلهما هو الذي لیس له غایة راجحة بل غایة مرجوحه فللفاعل داعي مرجوح وعلیه فهذا الداعي - وهو اللعب والعبث الذي یدعو الفاعل لتحقیق الفعل - لصیق ومجاور للداعي القربی فیتنافي معه ویناقضه فهما في مرحلة الداعویة لا تقدم ولا تأخر بل هما في عرض واحد ولصیقان فیتنافیان فلا یمكن تحقق قصد القربة مع وجود هذا الداعي ... نعم هما بلحاظ الوجود الخارجي للفعل العبادي متأخران لأنهما لا یتحققان في الخارج إلا بعد وجود أكثر أو أغلب الأفراد، هذا بلحاظ وجود الفعل العبادي المطلوب وأما بلحاظ مرحلة الداعویة والمحركیة للفاعل فهما متحدان ولصیقان فیتحد الداعي العبثي بالداعي القربی فیتنافیان إذ الدواعي تارة في نفسها مباحة فلا تسبب مناقضة للداعویة القربیة وتارة

ص: 90

تكون مباحة ولكنها تضاد الداعویة القربیة .

فالحاصل أن عنوانی اللعب والعبث ولیدان ومتأخران عن مجموع الاطراف التي یحصل بها التكرار بلحاظ الوجود الخارجي وأما بلحاظ الداعي للفاعل فهما متقدمان ودخیلان في داعویة الفاعل وحیث أن هذا الداعي یناقض الداعویة القربیة فلا محالة یوجب الخلل.

وببیان آخر أن الغایة من حیث الوجود الخارجي متأخرة وأما من حیث الوجود الذهني والداعویة فهي متقدمة علی الوجود الخارجي - كما قرر بأن الغایة متقدمة ذهنا ومتأخرة خارجاً - فاللعب والعبث من حیث تحققهما في الخارج متأخران عن جمیع الأطراف وعلیه فلا یجتمع في كل طرف علی حده لعب وعبث لكن من حیث الوجود الذهني والداعویة فهما متقدمان ومجتمعان في رتبة قصد القربة والامتثال.

وعلیه فالممتثل - بهذه الكیفیة مع التمكن من العلم - له داعیان الأول داعي امتثال الأمر والثاني داعي احراز امتثال الأمر والداعي الثاني متضمن للعب والعبث - لأن التكرار لاحراز فراغ الذمة من التكلیف - وهو ما یناقض وینافي قصد امتثال الامر أي ینافي القربیة وعلیه فیتداخل الداعیان في نفس الطرف الواقعي أیضاً لأن الاتیان به مشتمل علی كلا الداعیین أي الامتثال واحراز الامتثال ویتحقق احراز الامتثال بالتكرار.

ص: 91

فالأشكال تام لو كان النظر إلی الوجود الخارجي لأن اللعب والعبث لا یحصلان إلا بعد الاتیان بالمجموع وأما بالنسبة إلی مرحلة الداعي فهي لا تتوقف علی الأتیان بالمجموع وعلیه فیجتمع في كل فرد من افراد التكرار داعي الامتثال وداعي احراز امتثاله - وذلك لأنه كما أن العقل یحكم بلزوم الامثال یحكم بلزوم احراز الامتثال - وداعي الاحراز الذي یتضمن اللعب والعبث فهو مضاد للقربیة فیجتمع داعیان متضادان في الطرف الواقعي المطلوب، فهذا الوجه متین بل إن العرف یری أن بعض رتب الكثرة ماحیة لصورة العبادية وأن صاحبها مستخف بكیفیة العبادة.

إلا أن المؤاخذ علی هذا الوجه أنه أخص من المدعي لأنه لا یمنع إلا بعض الرتب من التكرار وهي خصوص التكرار الكثیر الذي یلزم منه اللعب والعبث بأمر المولی، وكذا ما ذهب إلیه المشهور من قصد الوجه والتمییز وما ذهبنا إلیه من كون الاقبال دخیل في الامتثال فإنه یختص بالعبادات فلا یعم الجمیع إلا الوجه الأول وهو توقف الاحتیاط علی العلم بكیفیة الاحتیاط اجتهادا وتقلیدا فیرجع إلی أحد أقسام الاحتیاط غیر القسم الأول من أقسام الاحتیاط المتقدمة، وأیضا یوجد وجه آخر للمعاملات وهو أن القسم الأول من الاحتیاط - وهو ما كان بلحاظ محتمالات الواقع والأقوال شاذها ومعروفها - لو عمل به فیها لاقتضی

ص: 92

تعطیل النظام الدیني والمعاشي سواء الفردي أو الاجتماعي لكون هذه الفتوی مخاطب به الفرد والمجموع ومن ثم قالوا بعدم مشروعیته للفرد أو المجموع.

ولا یقال إن هذا الاحتیاط لا یتم بالجملة ولكنه یمكن أن یتحقق في الجملة إذ یقتصر فیه علی ما لا یلزم منه الحرج والتعطیل النظام الدیني.

أقول: إن هذا یخرجه عن كونه عدلاً للاجتهاد والتقلید بالجملة كما هو ظاهر من جعله عدلا لهما فیكون الدلیل أخص من المدعی لأن المدعي جعله عدلا مطلقاً . مضافا إلی أن احتیاط القسم الاول لو لم یستلزم اختلال النظام فإنه في المعاملات یوجب التزاحم لأنه إذا احتاط لنفسه خالف الاحتیاط بالنسبة للآخرین لما یلزمه من ضرره علیهم وإذا احتاط للآخرین خالف الاحتیاط بالنسبة لنفسه لما في وقوع الضرر علی نفسه وقد ذكرت في باب الانسداد محاذیر علی الاحتیاط في المعاملات غیر لزوم اختلال النظام .

ولو فرض تضییق الاحتیاط وتقلیصه ولو بمقدار یسیر فهو یحتاج إلی العلم بكیفیته وبالتالي لا یعود إلی كونه احتیاطا من القسم الأول وعدلا للاجتهاد والتقلید بل راجع لهما وهو من أقسام الاحتیاط الأخری.

المانع الرابع ظواهر الأدلة وهو عام یشمل العبادات والمعاملات:

وحاصله: أن ظاهر ادلة الامارات الدالة علی وجوب اتباع الامارات

ص: 93

للجاهل مثل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ...)(1) ،وقوله تعالی: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا ...)(2) فإنه توجد أدلة تدل علی الأمر باتباع الامارات في الشبهات الحكمیة للشخص الجاهل.

والمكلف بالنسبة إلی الامارات علی نمطین فهو یستطیع أن یدرج نفسه في أحدهما ولا یجوز له أن یخرج عنهما مثل القصر والاتمام لكل منهما موضوع والمكلف مخیر بین ادراج نفسه في أیهما ولا یجوز له الخروج عنهما وذلك لأن المكلف إما مخاطب بالأمارات الاجتهادية وموضوعها المجتهد وإما مخاطب بالفتاوی وموضوعها المقلد وحیث إن ظاهر الأمر الظاهري أو الواقعي - كما قالوا في بحث الأوامر - الوجوب التعیني والعیني والنفسي وغیرها ورفع الید عن هذا الظهور لا وجه له ولو بالاحتیاط المقابل لهما بخلاف التابع لهما.

وقد أشكل متاخرو العصر خلافا لمشهور المتقدمین في ظهور هذه الأوامر في النفسية - وإن كان ملاكها طریقیا - والعینية والتعینیة بأن الأمر هنا ظاهر في الطریقية لدرك الواقع والاحتیاط مما یدرك به الواقع ایضاً وعلیه فالاحتیاط في عرض الاجتهاد والتقلید.

ص: 94


1- سورة النحل، الآیة 43.
2- سورة التوبة، الآیة 122.

أقول: وهو كما تری وذلك لأن للشارع من تشریعه الأحكام الظاهرية غایات وحكم كثیرة لیست كلها راجعة لدرك الواقع - قد نص علیها في باب الانسداد وفي باب الجمع بین الحكم الظاهري والواقعي - مثل حفظ الشریعة من الاندراس ومثل التسهیل ومثل المصلحة السلوكیة وغیرها الكثیر مما ذكر في أصل تصویر امكان الحكم الظاهري وفي مسألة الجمع بین الحكم الظاهري والواقعي فلیست المصالح للحكم الظاهري كامنة في درك الواقع فقط وفقط وإذا كانت تلك الاحتمالات والوجوه من الغایات والحكم موجودة فمن أین حصر المتأخرون غایة الأمر الظاهري في درك الواقع لا غیر؟!.

فرفع الید عن ظواهر هذه الاوامر في النفسية والعینية والتعینیة لتوهم حصر الغرض والغایة من الاومر الظاهرية في درك الواقع محل تأمل بل البعض یستشكل كصاحب الجواهر في رفع الید في الشبهات الموضوعية عن الامارات الظاهرية والعمل بالاحتیاط فكیف بالشبهة الحكیمة التي هي رسم نظام التشریع .

وإحدی الحكم الموجبة لترك الاحتیاط والملزمة للعمل بالامارة هي اندراس الدین فإن القنوات الظاهرية بتراكمها یخلق العلم بالاحكام وبالتالي یحفظها من الاندراس بخلاف لو بنی علی الاحتیاط بترك العلم التفصیلي أي الاحتیاط في القسم الأول فإنها تندرس شیئاً فشیء.

ص: 95

وهذا الوجه متین وهو أن الظاهر من الأوامر الظاهرية - ولا سیما في الشبهات الحكمیة - في النفسية والعینية والتعینیة ورفع الید عنها بالاحتیاط الذي هو ترك العلم التفصیلي بالحكم بالاجتهاد أو التقلید - لا بمعنی ضم المحتملات إلی الطریق التعبدي فإن ضم المحتملات لا كلام فیه ولا قبح - وإنما الكلام في الاحتیاط الموجب لترك العلم التفصیلي بالحكم عن طریق الاجتهاد أو التقلید وإلا فضم المحتملات بدون ترك العلم التفصیلي حسن ولا مانع منه وهو المعبر عنه الامتثال الاجمالي في كنف العلم التفصیلي كالاحتیاط في غیر القسم الأول من أقسام الاحتیاط.

فاحتیاط القسم الأول مرفوض للزومه ترك العلم التفصیلي، فهذ الوجه متین في العبادات والمعاملات ومعاضد لدعوی مشهور القدماء.

المانع الخامس: أدلة وجوب التعلم:

إن أدلة وجوب التعلم كقوله :"...هلا تعلمت ..." - وقد ذكرنا مصادر أدلة وجوب التعلم في بحث البراءة في الاصول - هي نفسها أدلة العمل بالاحكام الظاهرية أي تعلم تلك الطرق والعمل بالاحكام الموجودة في مؤداها سواء الطرق المخاطب بها المجتهد أو المخاطب بها المقلد فالاوامر باتباع الطرق شاملة للمجتهد والمقلد ولدینا أدلة

ص: 96

ناظرة إلی عموم التعلم وهي بدورها موجبة للفحص عن تلك الطرق والعمل بها وإن كان الكثیر من أدلة وجوب التعلم في الحقیقة متحدة مع نفس أدلة العمل بالطرق مثل قوله تعالی: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإن هذه الآیة تعتبر دلیلا علی وجوب التعلم وهي دلیل علی حجیة قول الراوي ودلیل یخاطب به المجتهد وهي دلیل حجیة فتوی المجتهد أیضاً، وكذا قوله تعالی: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ ...) فهي دلیل علی وجوب التعلم ودلیل علی حجیة روایة الرواة وحجیة الفتوی، فعدة طرق مجموعة بلسان ودلیل واحد وقد بیّنّا كیفیة جمعها في لسان دلیل حجیة خبر الواحد وسنبینه هنا إن شاء اللّه .

وظاهر هذه الأدلة - كما مر أن المختار تبعا للمتقدمین ولصاحب المدراك - وأدلة وجوب التعلم هو الوجوب النفسي الطریقي كما بیّناه في الاصول العملية ...

فقوله تعالی : (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ،وقوله: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ،وقوله: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا

ص: 97

فِي الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) .ومن الاخبار ما ورد في أبواب صفات القاضي(1) وهي روایات متعددة ومستفیضة دالة علی وجوب التعلم . وأیضا ما نقله تفسیر البرهان ونور الثقلین في آخر تفسیر آیة(2): (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(3) .

وأیضاً روایات التعلم التي منها : «هلا تعلمت؟ قال لم أعلم...» المعتبرة، فأدلة وجوب التعلم مستفیضة ومتعددة(4).

فادلة التعلم تعاضد أدلة وجوب العمل بالطرق إذ بعض أدلة الطرق یدل علی وجوب التعلم بالالتزام وبعض أدلة التعلم یدل علی وجوب العمل بالطرق بالالتزام أیضا.

والظاهر من هذه الأدلة هو الوجوب النفسي الطریقي ولا یرفع الید عن النفسية لوجود حكم عدیدة في التعبد بالطرق والامارات غیر إصابة الواقع.

والحاصل هو منع عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید فللمكلف أن

ص: 98


1- الباب الرابع إلی الباب الثامن من وسائل الشیعة .
2- لاحظ: أمالي الصدوق، الباب الأول من أبواب فضل العلم، وأمالي الشیخ الطوسي .
3- تفسير البرهان: ج 1 ص 560، وعنه في البحار ج 2 ص 29 و 180.
4- سورة الأنعام، الآیة 149 .

یجتهد أو یقلد ویجوز له أن یضم لهما الاحتیاط، وتختلف صیغه علی ما تقدم من الاحتیاط في التقلید أو الاحتیاط في الاجتهاد أو بینهما ....وأما ترك الاجتهاد أو التقلید والاقتصار علی الاحتیاط فمحل تأمل واشكال.

وخلاصة الوجوه المانعة من عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید خمسة:

الوجه الاول: توقف الاحتیاط علی العلم بموارده وهو لا یتحقق إلا بالاجتهاد أوالتقلید وهذا عام للعبادات والمعاملات بالمعنی الأعم.

الوجه الثاني: وهو خاص بالعبادات من أن الاكتفاء بالعلم الاجمالي مع التمكن من العلم التفصیلي یعدُّ تولي وصد عن طاعة المولی والمثول عنده بخلاف العلم التفصیلي فإنه اقبال ومثول علی المولی فالعلم التفصیلي بالتكلیف مقدمة وجودیة عقلاً للأمتثال، وعلیه فالعلم مقدمة وجودیة عقلاً ولیس كما ذهب إلیه المتأخرون من كون العلم مقدمة علمیة بحتة، وقد أرجعنا ما ذكره المحقق النائیني (قدّس سرّه) إلی هذا الوجه وأیضا ما ذكره المتقدمون من اشتراط قصد التمییز والوجه إلی هذا الوجه أیضا لانطباقه علیه بقرائن ذكرناها.

الوجه الثالث: هو وجود الأوامر الظاهرة في وجوب اتباع الطرق والامارات وجوباً تكلیفیاً نفسيا عینیا تعینیاً للمجتهد أو المقلد فلا یرفع الید عنها بالاحتیاط إذ لا مسوغ له، وتدل علیه أیضاً الأوامر الدالة علی

ص: 99

كما إذا لم یعلم أن وظیفته القصر أو التمام(1).

(مسألة 4) : الأقوی جواز الاحتیاط ، ولو كان مستلزما للتكرار (2)، وأمكن الاجتهاد أو التقلید .

وجوب أصل التعلم، وبما ذكرناه هنا وفي تنبیهات البراءة من استفادة وجوب التعلم وجوبا نفسيا طریقیاً.

الوجه الرابع: وهو عام للعبادات والمعاملات وما ذكرناه من قیام المصالح بذات الأمارات بقطع النظر عن متعلقها في باب الانسداد من جهة اختلال النظام بالاحتیاط العام فیعلم منه عدم ارتضاء الشارع للاحتیاط فضلاً عن كونه عدلا للاجتهاد والتقلید.

والوجه الخامس: عدم رفع الید عن النفسية في الأمر بوجوب التعلم لما ذكروه في الجمع بین الحكم الواقعي والظاهري من وجوه وحكم مختلفة فلا تمحض للأوامر الظاهرية في الاستطراق والاستكشاف المحض بل لها حكم كثیرة وعلیه فلا وجه لصرفها عن النفسية.

(1) تقدم ما فیه علی رأي المشهور وما ذكرناه من التوجیه لكلامهم.

المسألة الرابعة: العمل بالاحتیاط المستلزم للتكرار

(2) قد تقدم ما فیه مفصلاً من استلزامه ترك العلم التفصیلي بإرادة المولی الذي لابد منه علی ما بیّناه.

ص: 100

(مسألة 5) : في مسألة جواز الاحتیاط یلزم أن یكون مجتهدا أو مقلدا، لأن المسألة خلافیة(1).

(مسألة 6): في الضروريات لا حاجة إلی التقلید (2)،.......................

المسألة الخامسة: التقلید في موضوع الاحتیاط وحكمه

(1) ما تقدم في المسألة الثانية من وجوب معرفة موارد الاحتیاط بالاجتهاد أو التقلید فإنه ناظر إلی متعلق الاحتیاط وأما مسالة حكم الاحتیاط في نفسه ففي جوازه لابد أیضا من الاجتهاد أو التقلید فالاحتیاط موضوعا وحكما یتوقف علی الاجتهاد أو التقلید فلا یتوصل لحكم الاحتیاط أو متعلقه إلا بهما لأن الاحتیاط لیس من المسائل المسلمة لما فیه من المحاذیر المتصورة كترك العلم التفصیلي واللعب وفوات قصد الوجه والتمییز فلیس للعقل حكم بحسن ترك العلم التفصیلي مثلاً ، نعم من جهة جمع وضم المحتملات هو حسن عقلاً وهذا لا كلام فیه. وإنما الكلام في حكم الاحتیاط فلابد من التوصل إلیه بواسطة الاجتهاد أو التقلید للاختلاف فیه وكذا من جهة الموضوع فلابد من تحدید كیفیته سعة دائرته أو ضیقها .

المسألة السادسة: التقلید في الضروريات

(2) الضروري هو البدیهي الذي لا یحتاج إلی برهان بخلاف الیقیني وهو ما قام علیه الدلیل ولا یخفی أن الضروري یخلتف باختلاف نسبته فتارة یكون ضرورياً مذهبیاً ، أو أخری ضرورياً دینیاً ، وثالثة ضرورياً

ص: 101

كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما ، وكذا في الیقینيات إذا حصل له الیقین ، وفي غیرهما یجب التقلید إن لم یكن مجتهدا إذا لم یمكن الاحتیاط ، وإن أمكن تخیر بینه وبین التقلید .

(مسألة 7) : عمل العامي بلا تقلید ولا احتیاط باطل(1).

أنسانیاً ، وأخری یكون ضروري أدیانیاً وغیر ذلك، هذا من جهة الموضوع ، أما من جهة الحكم فهو لا یتعلق به الاجتهاد ولا التقلید إذ موضوعهما الظن والشك.

المسألة السابعة: بطلان عمل العامي بلا تقلید ولا احتیاط

(1) البطلان المتصور في المقام إما ظاهري وهو المقابل للصحة الظاهرية التي معناها احراز فراغ الذمة بما اشتغلت به وإما واقعي المقابل للصحة الواقعية وهي تمامیة أجزاء العمل وشرائطه والمراد من البطلان في كلام الماتن (قدّس سرّه) هو الظاهري أي عدم احراز الفراغ وعلیه فیجب الإتیان ببقیة المحتملات لاحرازه، وهذا واضح في التوصليات لعدم اشتراط الاستناد المعتبر في الحسن الفعلي أو الفاعلي حتی یتوقف علی الامارات العلمية، وأما في التعبديات فمن لم یشترط العلم التفصیلي في الامتثال وجوّز الاحتیاط واكتفی بالاحتمال فالبطلان أیضاً ظاهري وأما من اشترط العلم التفصیلي في تحقق الامتثال فالبطلان عنده واقعي لأنه أتی بعمل غیر قاطع بأمره وهو خُلف اعتبار العلم التفصیلي في تحقق

ص: 102

(مسألة 8) : التقلید: هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معین(1) وإن لم یعمل بعد ، بل ولو لم یأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فیها كفی في تحقق التقلید.

امتثاله وعبادیته وذلك لأن العمل بدون اجتهاد أو تقلید محتمل فلا علم وجداني أو تعبدي بالمأمور به، فهذه المسألة لها ارتباط بما تقدم في مسألة الاحتیاط من جهة بعض الوجوه المانعة من عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید وهي الوجوه التي ترجع للاخلال بالنیة كالوجه الثاني الذي ذكرناه من اشتراط العلم وما ذكره النائیني (قدّس سرّه) من الاستناد إلی نفس الأمر في الطاعة لا إلی احتماله وما ذكره المشهور من قصد الوجه والتمییز وأما ما یرجع إلی وجوه احرازیة كالعلم بكیفیة الاحتیاط كالوجه الأول - من وجوه منع عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید - بصیغتیه الموضوعية والحكمیة فهو لا یقتضي إلا البطلان الظاهري لا الواقعي كما هو ظاهر لرجوعه إلی الاحراز. فالعبرة في البطلان الظاهري: عدم إحراز الفراغ وعلیه فمن یقول بالاكتفاء بالاحتیاط له أن یحرز الفراغ بالاحتیاط كما له أن یحرزه بالتقلید وبدونهما لا یكتفی بالعمل بمجرد الاحتمال.

المسألة الثامنة: تعریف التقلید

اشارة

(1) عُرِّفَ التقلید بتعاریف كثیرة:

التعریف الأول: ما ذكره الماتن (قدّس سرّه) من أنه الالتزام - وهو تبني الشیء - بالعمل بقول مجتهد معین وإن لم یعمل بعدُ. فالتقلید عنده (قدّس سرّه)

ص: 103

یدور مدار الالتزام بالعمل ولو لم یعلم بفتاوی المجتهد تفصیلاً كما لو التزم وأخذ بفتاواه اجمالا.

التعریف الثاني: الاستناد وحقیقته اعتماد العمل علی الفتوی وهو نسبة بین العمل والفتوی.

التعریف الثالث: العمل مستنداً إلی فتوی المجتهد.

التعریف الرابع: أخذ الفتوی وهو قسمان:تفصیلي واجمالي والتفصیلي یساوي التعلم.

التعریف الخامس: التعلم بقصد العمل.

التعریف السادس: الالتزام وهو التبني - في ظرف العمل أو قبل العمل - . والالتزام علی نحوین اجمالي وتفصیلي والتفصیلي یساوي العلم بالفتوی مع الالتزام وهو یرجع إلی عدة من التصویرات إلی الأول.

التعریف السابع: صرف مطابقة العمل لفتوی المجتهد وإن لم یتعلم ولم یلتزم ولم یستند ولم یأخذ.

التعریف الثامن: تنصیب المفتي مفتیاً كما ذكرناه في مبحث الاجتهاد والتقلید الأصولي.

التعریف التاسع: التبعیة والاتباع للمجتهد،

التعریف العاشر : ما ذكره الآقا ضیاء الدین العراقي (قدّس سرّه) : أن التقلید

ص: 104

هو حجیة وأماریة فتوی المجتهد.

وغیرها من التفاسیر التي یمكن أن ترجع إلی أكثر من خمسة عشر

لو نظرنا إلی خصوصیاتها وإلا لو نظرنا إلیها في الجملة وبعناوین عامة فقد تصل إلی أقل من ذلك... لرجوع بعض التعاریف إلی بعض مع الغاء الخصوصیات... ومنشأ اختلاف التعاریف هي الآثار المختلفة والمتنوعة للتقلید الواردة في الأدلة كصدور العمل عن تقلید بالفعل وكالاجزاء وهو مطابقة العمل وإن لم یستند للتقلید بالفعل وكصحة تقلید المیت بقاءاً... ومسألة العدول و... وهكذا. فالأعلام رأوا أن الاثار والاحكام الواردة في الأدلة مختلفة في الموضوع المأخوذ لها فاختلفت تعاریفهم باختلاف الأثر المنظور إلیه، والأدلة كما هي متكفلة لبیان معنی التعریف وحقیقته تبیّن أیضاً آثاره وأحكامه بل هي أدلة علی حجیته أیضاً.

وجود أدلة مشتركة بین هذه التعاریف وأخری مختصة ببعضها والفرق بین العمل الاصولي والعمل الفقهي:

ومنشأ الأشتراك هو أن جملة من هذه الأقوال تبیّن أن التقلید عمل شبیه بالعمل الأصولي ولیس عملا فرعیا فقهیا بحتا بحیث یسبق العمل الفرعي الخارجي ولو رتبة مثل القول بالاستناد والقول بالأخذ والقول بالإلتزام والقول بالتبني فهذه الأفعال أصولية أي هي من سنخ الافعال التي تذكر في مسائل أحكام علم أصول الفقه ؛ لأن مسائل أصول الفقه

ص: 105

مسائل شرعية، الحكم فیها كحكم أصولي، والفعل مرتبط بعلم الأصول، وهي مرتبطة بالاحكام الظاهرية والامارات وأمثال ذلك مثل الاستصحاب كقوله (علیه السلام) :«لا تنقض الیقین بالشك» . أي ابنِ علي ما كان كما كان ، فإن تطبیقك للاستصحاب في الشبهة الموضوعية سنخ من الفعل الأصولي ولیس فعلا فرعیا فقهیا فكل ما یرتبط بالاحراز والاماریة یسمی فعل أصولي مثل «كل شیء لك طاهر» یعني ابنِ علي طهارته فالبناء علی الطهارة فعل أصولي وهو غیر نفس الطهارة.

فهذه الامور تسمی أفعالا أصولية ولا تسمی افعالا فقهیة فقوله (علیه السلام) :«خذ بما اشتهر بین أصحابك» ، وقوله (علیه السلام) :«خذ بما خالف العامة» ، فهذه الأفعال كلها أصولية فإنها مرتبطة بالامارات الاجتهادية فالمهم أن جملة من هذه التعاریف ترجع إلی الأفعال الأصولية، فالتقلید سابق العمل الفقهي ولیس من سنخ العمل الفقیهي... بینما جملة من هذه التعاریف قد ترجع إلی العمل الفقهي البحت مثل من عرفه بأنه تعلم أو ترشیح وانتخاب أو عمل.

بعض أدلة تعاریف التقلید:

الدلیل الأول وما فیه:

وهو ما ینفي كون التقلید هو نفس العمل وحاصله... أن التقلید یسبق

ص: 106

العمل لأنه یمهد للعمل فالعمل عن تقلید صحیح أي صدور العمل عن تقلید فهو لا محالة یسبق العمل فلا یكون التقلید هو نفس العمل إذ الشیء لا یتقدم علی نفسه.

وقد أشكل السید الخوئي بعدم اشتراط تقدم التقلید علی العمل لأنه لون من ألوان العمل فیكفي فیه التزامن بل قد یتأخر التقلید عن العمل مثل تصحیح العمل بعد وقوعه بالتقلید إذ لیست آثار التقلید مخصوصة في تقدمه علی العمل بل ربما یتحقق أثره مع تأخره عن العمل.

وفیه أن التقارن الزمني لا ینفي التقدم الرتبي فالتقلید غیر العمل لتقدمه ولو رتبة عن العمل وأما مسألة أن للتقلید آثار متقدمة علی نفس التقلید علی ما ذكره فهو صحیح كمسالة مطابقة العمل المأتي به لفتوی من یجب الرجوع إلیه ولكن هذا لا یقتضي أن یكون التقلید غیر سابق للعمل أو هو نفس العمل... وذلك لأن تصحیح العمل بالمطابقة أثر من آثار التقلید لا نفس التقلید.

الدلیل الثاني وما فیه:

أن التقلید هو الاستناد في مقام العمل، وهو ما ذهب إلیه السید الخوئي (قدّس سرّه) ؛ لأن عمل المقلد هو إلقاء المسؤولیة علی عاتق المفتي وأستدل علیه بأمور منها الاخبار:

1- صحیحة أبي عبید الحذاء عن أبي عبیدة قال: قال أبو جعفر (علیه السلام)

ص: 107

«من أفتی الناس بغیر علم ، ولا هدی من اللّه ، لعنته ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتیاه»(1).

2- صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : كان أبو عبد اللّه (علیه السلام) قاعدا في حلقة ربیعة الرأي ، فجاء أعرابي ، فسأل ربیعة الرأط عن مسألة ، فأجابه ، فلما سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربیعة ولم یرد علیه شیئا ، فأعاد المسألة علیه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابی : أهو في عنقك؟ فسكت ربیعة، فقال أبو عبد اللّه (علیه السلام) :

«هو في عنقه» ، قال : أو لم یقل : وكل مفتٍ ضامن ؟!(2).

وغیرها من الاخبار التي استشهد بها - والتي مضمونها أن الذي تقع علی عاتقه المسؤولیة برجوع الجاهل والعامي إلیه هو المفتي - لرأیه بأن المقلد یجعل أعماله كقلادة في عنق المفتي فالتقلید جعل القلادة وعلیه فالتقلید هو الإستناد إلی الغیر في مقام العمل.

وفیه :

أولاً: أن التقلید لیس بمعنی القلادة في عنق المفتي بل التقلید كما في استعمال اللغویین یرتبط بالقدرة والسلطنة والمنصب فهو نوع من

ص: 108


1- وسائل الشیعة، ج27 ص220 ب 7 من أبواب آداب القاضي ح 1 .
2- المصدر المتقدم، ح 2 .

الترشیح والتولیة قال اللّه تعالی: (لَهُ مَقالِیدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ یَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ یَشاءُ وَ یَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ) (1) .

فالتقلید عبارة عن بسط العامة ید المفتي في الولایة والسلطة الإفتائیة فالتقلید بمعنی القدرة أو الإقدار.

ثانیاً: كون التقلید بمعنی جعل القلادة لا یعني تعلیق الاعمال في عنق المفتي بل بمعنی جعل وسام ومنصب یتوّج به صاحب منصب السلطة والسیطرة فهذه هي مناسبة وضع القلادة مع التقلید.

ثالثاً: كون مسؤلیة العمل علی عنق المفتي أمر مسلم ولا ریب فیه إلا أن هذا الأثر من آثار التقلید ولیس هو حقیقة التقلید وحده وذلك لعدم كونه عین التقلید وحقیقته، نعم لو كان التعریف في المقام بالخاصة أو بغیر الحد لصح تعریفه بالأثر، وكلامنا في حقیقة التقلید وتعریفه بالكنه.

فهذه الاخبار تدل أن من آثار التقلید والرجوع هو الضمان والمسؤولیة أما أن تعریف التقلید هو الضمان فلا دلالة علیه نعم هو أثر وخاصة للتقلید ولیس كنهه .... مضافا إلی ما تقدم من أن التقلید متقدم علی العمل ولیس هو نفسه.

وقد اختلفت كلمات السید الخوئي (قدّس سرّه) في تفسیر التقلید ففي بعض

ص: 109


1- سورة الشوری، الآية 12.

المواضع یفسره بنفس العمل المتصف بكونه مستندا وفي بعضها الآخر یفسره بنفس استناد العمل وفي ثالثة یفسره بنفس التعلم والتذكر كما في مسألة البقاء علی تقلید المیت ....فتعبیره مضطرب لتباین هذه التفاسیر.

الدلیل الثالث :

وهو دلیل من قال: إن التقلید فعل أصولي وهو من الامور التي تسبق العمل الفرعي الخارجي وهذا یصلح لأن یكون دلیلا لجملة من التعاریف المتقدمة مثل الآخذ والتبني والالتزام ...، وحاصله علی نحو الاجمال هو أن التقلید یرتبط بالامارة الفتوائیة وهذا الارتباط فیه دلالة علی أنه یتعاطی مع الامارات قبل تعاطیه مع العمل وهذا من خواص الفعل الأصولي لا الفعل الفقهي البحت كما أشرنا إلیه، فالاجتهاد والتقلید لیسا من شؤون العمل بل هما سابقان علی العمل بخلاف الاحتیاط فإنه مقارن للعمل ومن شؤونه لأنه كیفیة في العمل.

وحاصل الاستدلال: أن التقلید مرتبط بالأمارة الفتوائیة ولا یُفسّره بصرف الامارة الفتوائیة أي بالأمارة الأصولية كما أختاره المحقق العراقي (قدّس سرّه) في أحد قولیه أو في بعض مسائل التقلید ، وذلك لأن بعض الآثار وإن كانت مترتبة علی نفس فتوی المجتهد مثل الحجیة والاجزاء إلا أنه توجد آثار كثیرة جدا في باب التقلید لا تترتب علی صرف الفتوی بل تترتب علی مجموع فعل المفتي وفتواه وفعل المقلد ...وبالتالي یكون

ص: 110

لفعل المقلد دخالة في التقلید فلا یصلح أن نعرف التقلید بصرف الامارة الفتوائیة... وهذا هو الداعي لمعرفة التقلید وحقیقته وذلك لأن الآثار إذا كانت مترتبة علی أعتبار شرطیة فعل المقلد في تحقق تلك الآثار فلابد من معرفة حدود فعل المقلد كي تتضح سعة وضیق ترتب تلك الآثار، وذلك لأن تقلید المكلف هو الجزء الثاني من موضوع ترتب تلك الآثار، والجزء الآخر هو فتوی المجتهد.

التقلید من سنخ المسائل الأصولية ویدل علیه عدة شواهد:

اشارة

الشاهد الأول: هو تقدم التقلید رتبة علی العمل.

الشاهد الثاني: أن التقلید یتعاطی مع أماریة الفتوی كالحجیة والإجزاء في بعض الصور والتعاطي مع الامارة تعاطي أصولي.

الشاهد الثالث: ما ورد في الروایات المستفیضة - إن لم تكون متواترة - علی تسمیة التقلید بالأخذ أو ما یقرب منه وهي علی طوائف:

الطائفة الأولی: الاخبار المعبرة بالأخذ وهي مستفیضة:

1- صحیح أحمد بن اسحاق : عن أبي الحسن (علیه السلام) قال : سألته وقلت : من أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل ؟ فقال :

«العمري ثقتي فما أدی إلیك عنی فعني یؤدي ، وما قال لك عنی فعني یقول ، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون» ، قال : وسألت أبا محمد (علیه السلام) عن مثل ذلك فقال:«العمري وابنه ثقتان فما أدیا إلیك عني فعني یؤدیان ،

ص: 111

وما قالا لك فعني یقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان» . الحدیث(1).

2- معتبرة اسحاق بن یعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن یوصل لي كتابا قد سألت فیه عن مسائل أشكلت علی ، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان (علیه السلام) :

«أما ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبتك .. - إلی أن قال : -

وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنهم حجتي علیكم وأنا حجة اللّه، وأما محمد ابن عثمان العمري (رضي اللّه عنه) وعن أبیه من قبل، فإنه ثقتي وكتابه كتابي» (2).

3- محسّنة علي بن المسیب الهمداني قال: قلت للرضا (علیه السلام) : شقتي بعیدة ، ولست أصل إلیك في كل وقت ، فممن آخذ معالم دیني ؟ قال : «من زكریا ابن آدم القمي المأمون علی الدین والدنیا» ، قال علي بن المسیب : فلما انصرفت قدمنا علی زكریا بن آدم ، فسألته عما احتجت إلیه(3).

4- معتبرة بل مصححة عبد العزیز بن المهتدي والحسن بن علي بن

ص: 112


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 236 ح 4 .
2- المصدر نفسه، ص 240 ح 9 .
3- المصدر نفسه، ص 246 ح 27 .

یقطین عن الرضا (علیه السلام) قال: قلت : لا أكاد أصل إلیك أسألك عن كل ما أحتاج إلیه من معالم دیني ، أفیونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دیني ؟ فقال : «نعم»(1)

5- حسنة عبد العزیز بن المهتدي قال :

قلت للرضا (علیه السلام) : إن شقتي بعیدة فلست أصل إلیك في كل وقت ، فآخذ معالم دیني عن یونس مولی آل یقطین ؟ قال : «نعم»(2).

6- صحیح عبد العزیز بن المهتدي، عن الفضل بن شاذان ، عن عبدالعزیز بن المهتدي - وكان خیر قمي رأیته، وكان وكیل الرضا (علیه السلام) وخاصته - قال : سألت الرضا (علیه السلام) فقلت : إني لا ألقاك في كل وقت ، فعمن آخذ معالم دیني؟ فقال : «خذ عن یونس بن عبد الرحمن»(3).

وتوجد ورایات أكثر من هذه ورد فیها لفظ الأخذ... وهو شاهد علی أن التقلید هو الأخذ ویتحقق الأخذ بالتعلم والتبني للعمل سواء بنحو الأخذ الاجمالي أو التفصیلي فالتقلید لیس بعمل إذ العمل غایة له.

ص: 113


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 247 ح 33 .
2- المصدر نفسه، ص248 ح 35 .
3- المصدر نفسه، ص248 ح 34 .

الطائفة الثانية الاخبار المعبرة بالتقلید:

اشارة

وأیضا في الاخبار وردت عناوین أخری مرادفة للأخذ مثل عنوان التقلید في قوله (علیه السلام) :

«فللعوام أن یقلدوه» (1)في حدیث أبي محمد العسكري (علیه السلام) في تفسیره، وهذا الحدیث معتمد عندنا في الجملة ، وذلك لترضی الصدوق (قدّس سرّه) علی محمد بن القاسم الأسترآبادي الخطیب، وترضیه علیه للعلم بجلالته واعتماده علیه فإنه قد أورد في كتبه كثیراً من هذا التفسیر وهي مبثوثة في جملة كتبه حتی كتابه الفقیه وغیره كعیون الأخبار والتوحید وهذا یبین اعتماد الصدوق (قدّس سرّه) علی المحدث الأستر آبادي (قدّس سرّه) .

نكتة مهمة رجالیة ودرائیة:

وتوجد هنا نكتة مهمة في معرفة أقوال القدماء في الجرح والتعدیل - غیر النجاشي والكشي والطوسي والبرقي وابن الغضائري - كآراء الكليني والصدوق والصفار في "بصائر الدرجات" والخزاز القمي في كفایة الأثر والراوندي في كتاب التراجم وسعد بن عبد اللّه صاحب بصائر الدرجات المختصر من قبل الشیخ الحلي وأراء ابن أبي زینب النعماني في الغیبة والحمیري في قرب الأسناد والبرقیي بل كل من عنونه

ص: 114


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 10 ص 130 ح 20 .

الصدوق في المشیخة من أصحاب الكتب وابتدأ به السند فكل الروایات التي رواها الصدوق أو الطوسي عن ابن محبوب، أخرجت من كتاب ابن محبوب، وكذا كل روایات أبتدأ بها بصفوان أخرجت كتاب صفوان وهلم جرا وعلی هذا نستطیع أن نقف علی الأصول الأربع مائة. بل حتی من عنده مهارة یستطیع أن یمیز روایات الكتب من روایات الكافي حتی مع اختلاطها بأسانید الكليني (قدّس سرّه) وهي تمییزه بین طریقه إلی الكتاب وبین نفس أسانید الكتاب فلا یعرف بسهولة مع اختلاطه لأنه لا یعرف من أین یبدأ الكتاب الذي استخرج الكليني منه الروایة من العطار (قدّس سرّه) أو ممن یلیه من الرواة أو ممن یلیه فیحتاج إلی مهارة ویمكن الاستفادة في تمیز ذلك بالاستعانة بملاحظة التهذیبین وكتب الصدوق (قدّس سرّه) وتوجد علامات آخری مذكورة في محلها فالمهم هي الاشارة .

والمقصود من هذا أننا بوقوفنا علی الكتب الروائیة لأصحابها نقف علی نكتة وهي أنا إذا وجدنا مثل صاحب كتاب ابن محبوب یعتمد علی شخص كأن یروي عنه كثیراً ومباشرة فعلی ضوء ذلك فلا تبقی جهالة بالنسبة إلینا لهذا الراوي وهذا یغایر كثرة روایة الأجلاء عنه بل هي مسألة اعتماد الثقة الجلیل الثبت من أصحاب الكتب علیه وهو یدل علی الجلالة والوثاقة.

وهذا یفتح لنا باباً جدیداً ومهماً وواسعاً في التوثیق بالتحلیل المذكور

ص: 115

ویفتح لنا باباً واسعاً في التعرف علی كثیر من المجاهیل الذين لم یذكروا في مصنف النجاشي وغیره من الأصول الستة الرجالیة.

مع أن الكتب الرجالیة هي جملة یسیرة جدا لدی الأقدمین من الاصحاب كما ینقل المحقق الطهراني في كتابه اسماء الرجال: أنه كان في مكتبة ابن طاووس أكثر من ماءة مصنف رجالي هذا في القرن السابع ولعل قبله أكثر فأكثر ومع ذلك لا توجد لدینا الآن إلا الأصول الستة! فأین الاصول الستة من تلك المصنفات الكثیرة التي تزید علی المائة، وعلیه فیوجد كثیر من الرواة لم یعرف خبرهم لضیاع مثل هذه الكتب فلابد من الوقوف علی منبع یوصلنا إلی أحول تلك الرجال المجهولة ومن تلك المنابع هذه الطریقة التي ذكرناها وهي أحد مناهج الرجالیین ولعلها متبعة ولكنها مهجورة حالیاً أو لم یفعَّل هذا المنهج طیلة القرون بشكل كبیر.

إذن فتفسیر العسكري (علیه السلام) نعتمده من جهة اعتماد الصدوق (قدّس سرّه) وهو أقرب عهداً ولا نستشكل فیه من جهة عدم توثیق النجاشي وغیره وذلك لعدم اطلاع الحوزة البغدادیة أو القمية علی جمیع ما في الحوزات الآخری ورجالاتها من الحوزات الشیعیة كالتي في شیراز ومشهد والموصل ومصر وهذا واضح من بعض أعلام الطائفة مما یشدون الرحال إلی كثیر من الامصار لجمع الأخبار مثل ما ینقل عن شیخ الطائفة

ص: 116

أبي محمد هارون بن موسی التلعكبري (قدّس سرّه) المعاصر للكلیني (قدّس سرّه) فلیس المدار حصریاً لدی الشیعة علی قم والكوفة وبغداد، وهذه الحوزة التي خرج منها هذا التفسیر هي حوزة جرجان إذ الأسترآبادي قریب من جرجان والراویان عن الامام العسكري (علیه السلام) من شیعة جرجان، فلیس من لا یعرفه النجاشي (قدّس سرّه) أو الشیخ الطوسي (قدّس سرّه) یشطب علیه ویترك بل یرجع إلی غیرهم ممن وقفوا علیهم واعتمدوهم، والصدوق (قدّس سرّه) قام بهذه الرحلة العظیمة في الأمصار حتی جمع الكثیر من تراث الأئمة وتعرف علی رجال الحوزات الآخری ومن ثم فالوزن الرجالي والحدیثي للصدوق (قدّس سرّه) لا یقاس به النجاشي (قدّس سرّه) لأنه ناقد للاخبار وبصیر ... وغیر ذلك من الاوصاف التي ذكرت للصدوق (قدّس سرّه) والكليني (قدّس سرّه) أیضاً لم تذكر للنجاشي فهؤلاء إذا بنوا علی مفردة روائیة رجالیة واعتمدوا علیه فإنا نبني علیه بل هي أمتن من توثقیات النجاشي (قدّس سرّه) والطوسي ومن غیرهما كابن الغضائري (قدّس سرّه) .

مضافاً إلی اعتماد الشیخ الطبرسي (قدّس سرّه) في تفسیره علیه في القرن الخامس، وایضاً هو متعمد في كتب الشیعة فتفسیر الامام العسكري (علیه السلام) نعتمد علیه أجمالاً بمعنی أن القرینیة المضادة له كاسرة لاعتبار الروایة الواردة فیه أو یحتاج إلی قرینة معاضدة كالشاهد من الكتاب أو السنّة في موارد تفردت الراویة الواردة فیه.

ص: 117

الطائفة الثالثة الاخبار المعبرة بالرجوع:

مصححة اسحاق بن یعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن یوصل لي كتابا قد سألت فیه عن مسائل أشكلت علی، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان (علیه السلام) :

«أما ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبتك - إلی أن قال : - وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتي علیكم وأنا حجة اللّه، وأما محمد ابن عثمان العمري رضي اللّه عنه وعن أبیه من قبل ، فإنه ثقتي وكتابه كتابي»(1).

الطائفة الرابعة : الاخبار المعبرة بالقبول والتصدیق والتحذیر من المخالفة:

مصححة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة في دین أو میراث ، فتحاكما إلی السلطان وإلی القضاة ، أیحل ذلك ؟ قال : «من تحاكم إلیهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلی الطاغوت ، وما یحكم له فإنما یأخذ سحتا ، وإن كان حقا ثابتا له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وما أمر اللّه أن یكفر به ، قال اللّه تعالی: (یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاكَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا

ص: 118


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 140 ح 9 .

أَنْ یَكْفُرُوا بِهِ)

»قلت : فكیف یصنعان ؟ قال : «ینظران من كان منكم ممن قد روی حدیثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فلیرضوا به حكما فاني قد جعلته علیكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم یقبل منه ، فإنما استخف بحكم اللّه ، وعلیه رد ، والراد علینا الراد علی اللّه ، وهو علی حد الشرك باللّه» الحدیث(1).

وما ورد في روایة تفسیر الامام العسكري (علیه السلام) :

«فلا تقبلوا منهم عنا شیئا ولا كرامة» (2).

الطائفة الخامسة: الاخبار المعبرة بالافتاء للناس:

مصححة معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال : «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟» ، قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فیجئ الرجل فیسألني عن الشئ فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما یفعلون ، ویجئ الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم ، ویجئ الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا ، وجاء عن فلان كذا ،

ص: 119


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي ، ب 11 ص 13 ح 7 .
2- تفسیر العسكر: ص 301 في تفسیر الآیة 79 من سورة البقرة .

فادخل قولكم فیما بین ذلك، فقال لي : «اصنع كذا فاني كذا أصنع»(1).

الطائفة السادسة الاخبار المعبرة بالسوال «عمن أسأل» :

صحیح شعیب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) : «ربما احتجنا أن نسأل عن الشئ فمن نسأل؟ قال: علیك بالأسدي، یعني أبا بصیر»(2).

وكلمة السؤال - كنتیجة وغایة للفعل - من العناوین التي وردت في أكثر من مورد ومن البیّن أن غایة السؤال ونتیجته هو التعلم والأخذ للالتزام.

فهذه جملة من العناوین الواردة في الاخبار بلسان یغایر عنوان العمل بعناوین أخری للتقلید كلها غیر العمل فالرجوع إلی رواة الحدیث غیر العمل وإنما هو عنوان مقارب للأخذ باعتبار أنه تعلم بقصد العمل، وكذا الأخذ یصدق علیه تعلم وكذا التصدیق والقبول فإنه تعلم مع البناء علی حجیته فالنتیجة أن هذه العناوین تبین بأن التقلید لیس بعمل فرعي فقهي بل هو عمل أصولي.

والظاهر من الأخذ مغایر للإلتزام إذ الالتزام هو نوع من البناء والعزم

ص: 120


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ، ص 248 ح 36 .
2- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 142 ح 15 .

-ولو إجمالاً - علی الرجوع والأخذ من مجتهد معین، والظاهر من عنوان الأخذ هو غیر ذلك إذ هو نوع من التعلم والأطلاع التفصیلي علی العمل لأجل التبني في مقام العمل وأما الالتزام فهو نوع من البناء فهو قید في التقلید ولیس هو التقلید نفسه.

المختار في تعریف التقلید:

فالصحیح المختار أن التقلید هو (الأخذ والتعلم لأجل التبني والالتزام بداعي العمل) ولیس صِرف الالتزام سواء كان تفصیلياً أو اجمالياً، ولیس هو عمل فقهي فرعي مقید أو مطلق بل هو عمل أصولي كما بیّنّاه. فالرجوع والأخذ والتصدیق المأخوذة في الاخبار كلها راجعة إلی التعلم تفصیلاً للالتزام فالتقلید هو تعلم الفتوی لأجل العمل وعلیه فبقدر ما یتعلم لأجل العمل یكون مقلدا.

ومجرد الالتزام لا یتحقق معه تقلید وكذا مجرد التعلم والاطلاع، وكذا مجرد التعلم الاجمالي لا یصدق علیه رجوع وأخذ فلابد في التقلید من الأخذ والتعلم التفصیلي ونیة الالتزام والتبني بداعي العمل.

وعلیه فصرف الالتزام الاجمالي لا یصدق علیه تقلید، وكذا الأخذ والتعلم الاجمالي كعنوان عرفي قابل للصدق ولكن في صدق كونه تقلیداً تأمل؛ لظهور بعض الاخبار، كقوله: «ممن أخذ معالم دیني» في أن التقلید فیه نوع من الاضافة والاسناد والربط التفصیلي لمعالم الدین.

ص: 121

وأیضا لا یصدق التقلید علی الاستناد في ظرف العمل كما ذكره

السید الخوئي إذ التقلید بالمعنی المتقدم یصدق علی الاستناد قبل ظرف العمل. لأنه یصدق علی فعل المكلف أنه رجع إلی المجتهد وألتزم فتواه وإن لم یأت وقت العمل، فالتقلید لیس هو الالتزام ولیس هو الاستناد ولیس هو العمل ولیس هو حجیة الفتوی ولیس هو بسط الید والتولیة إذ التولیة في الحقیقية من الاثار المترتبة علی التقلید فلیس هي عین التقلید لأن الأخذ من المجتهد هو نوع من بسط یده وتفعیل سلطته في الجانب الافتائي، وسیأتي أن بسط یده لا یختص بهذا بل یشمل مطلق ما یترتب علی الزعامة والمرجعیة الدینية النیابیة عن المعصوم، فلا تقتصر علی الفتوی بل تعم القضاء وانفاذ الاحكام الاجرائیة والتنفیدیة في مجریاتها الآخری. فالرجوع والارجاع إلیه لا یتمحض في أخذ الفتوی إلا أن الغرض هنا یقع في خصوص هذا الجانب.

وبهذا نخلص إلی أن تعریف التقلید في الفتیا هو رجوع المقلد إلی الطرق المنصوبة له - وهي فتاوی الفقهاء - ویتحقق بالأخذ والتعلم واالالتزام بداعي العمل وهو نفس العملية التي یقوم بها المجتهد في رجوعه إلی الطرق والاخذ والالتزام بها فهذا ملخص المختار في التقلید في باب الفتیا وهو یغایر التقلید في باب القضاء وباب انفاد الحكم وإن كان لا ینفك عن التقلید في باب الفتیا.

ص: 122

مناقشة القول بعدم الثمرة في تعریف التقلید:

ذكر السید الخوئي(قدّس سرّه) وغیره أن تعریف التقلید لا ثمرة له في المقام وذلك؛ لأن عنوان التقلید لم یرد في خبر معتبر، وعلیه فالبحث فیه بحث بلا جدوي .

نعم رود في روایة في تفسیر الإمام العسكري (علیه السلام) وهي روایة غیر معتبرة .

وبالتالي الاثار والاحكام الشرعية المترتبة علی مسائل التقلید لیست مترتبة علی عنوان التقلید وإن ذكر الأعلام عنوان التقلید في مسالتين مهمتین: الأولی في جواز التقلید بقاءا وعلیه فهذه المسألة تترتب علی معنی التقلید سابقاً لأن أخذهم عنوان التقلید في جواز البقاء یترتب علیه تعریف التقلید. والمسألة الآخری وهي ما إذا كان هناك جملة من الاحیاء متساوین أو أن أحدهم محتمل الأعلمیة علی نحو البدل أي كل واحد منهم فیه شبهة الأعلمیة ففي هذه المسألة قال بأن التقلید لأحدهم یعینه ولا یجوز العدول عنه بعد تقلیده من الحي إلی الحي، وهذه المسألة أیضا مترتبة علی معنی التقلید .

ومع ذلك یقول (قدّس سرّه) : إن ترتب هاتان المسألتان علی عنوان التقلید من فعل الفقهاء ولیس له في أدلة المسالتين وجود أصلاً كي یبحث عنه ویحقق معناه. هذا حاصل ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) .

ص: 123

وفیه :

أولاً: أن عنوان التقلید ورد في روایة تفسیرالامام العسكري (علیه السلام) وهو قابل للاعتبار أجمالاً بروایاته لا أنه یستقل بها. لكن یعتبر بها كقرینة یعضد بها أو تعضد بغیرها.

وأیضاً قد ورد عنوان التقلید في روایة محمد بن عبیدة قال : قال لي أبو الحسن (علیه السلام) :

«یا محمد أنتم أشد تقلیدا أم المرجئة؟» ، قال : قلت : قلدنا وقلدوا ، فقال : «لم أسألك عن هذا» ، فلم یكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول ، فقال أبو الحسن (علیه السلام) : «إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته وقلدوه ، وإنكم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه ، فهم أشد منكم تقلیدا»(1).

وثانیاً: أن الكلام في عنوان التقلید لیس في خصوص لفظ التقلید كما نبهنا علی ذلك في أول البحث وإنما الكلام في أن ما وراء فتوی الفقیه وترتب الحجیة علی فتواه وهي جملة من الآثار لا تترتب علی فتوی الفقیه فقط بل تترتب علی فعل المكلف أیضا، إذ هناك آثار آخری لم تترتب علی صرف فتوی الفقیه بل ترتبت علی فعل المكلف منضم إلی فتوی الفقیه.

ص: 124


1- وسائل الشیعة: ج27 أبواب صفات القاضي ب10 ص 125 ح 2 .

وعلیه فلابد من الرجوع إلی الأدلة التي أخذت هذا الفعل - كجزء ثاني لترتب الآثار - لمعرفة حقیقته . وبالتالي نلاحظ أن هذا الفعل الراجع للمكلف هل هو الأخذ أو الالتزام أو العمل أو التولیة وغیرها من العناوین التي مرت فالصحیح أن عنوان الأخذ هو الأكثر ورورداً.

وثالثاً: أن ما عنونوه في المسالتين یرجع إلی فعل المكلف لا إلی فتوی المجتهد فهذا الفعل ما هي حقیقته وماهیته. وكذا بالنسبة إلی المسألة الثانية وهي شبهة الأعلمیة في المجتهدین فإن الحجیة في المقام تكون تخییریة وتبدلها بعد الرجوع من التخییر إلی التعیین بواسطة فعل المكلف ولیس بصرف فتوی المجتهد، فالكلام یقع عن ماهیة هذه الفعل وحقیقته الذي یبدل الحجیة من التخییرية إلیالتعیینیة سواء سمیناه أخذاً أو تقلیداً أو رجوعاً كما هو الحال في تخیر المجتهد بین الخبرین المتعارضین علی مبنی التخییر حیث أن التخییر ابتدائي وأما بعد الأخذ فیكون تعینیاً.

ورابعاً: أن فعل المكلف لیس في خصوص هاتین المسالتين بل فعل المكلف معتبر في مسائل عدیدة من أحكام التقلید فهذه المسائل مترتبة علی كل من فتوی المفتي وفعل المقلد ولیس صرف فتوی المفتي فلابد من تحلیل ومعرفة فعل المكلف الذي وردت به الاخبار المتظافرة حیث عبر عنه بالأخذ تارة وبالسؤال أخری وتارة بالتعلم وتارة بالتصدیق وتارة

ص: 125

بالقبول وغیرها ...

والنتیجة: أن هذا البحث لیس بحثا لاغیاً لا ثمرة ولا فائدة فیه ولكنه بحث عن حقیقية فعل المكلف،وله ثمرات كثیرة فلهذا یكون التحقیق في معنی التقلید جدیراً بالبحث لما له من آثار جمة لم تفرز بل تركت مختلطة، إذ أن بعضها راجع إلی نفس فعل المفتي كالبحث عن حجیة الفتوی وبعضها راجع إلی فعل المقلد كالبحث عن معنی الأخذ والسؤال والقبول .... وما تقدم في حقیقة فعل المكلف... .

أدلة التقلید وحجیة الفتوی:

والكلام فعلا في حجیة الفتوی للمقلد أي فبعد الفراغ من معنی وحقیقية التقلید یقع الكلام في دلیله أي في حجیة الفتوی وهو فعل المفتي وأما حجیة التقلید المتقوم بفعل المقلد فهي صحة فعل المكلف بضمیمة حجیة فتوی المجتهد. ففي المقام فعل هو فتوی المجتهد وحكمه وأثره أنه حجة وفعل المقلد العامي - وهو أخذه أو التزامه أو استناده وغیرها من العناوین المختلف فیها - وأثره وحكمه هو صحة عمله أو براءة ذمته أو اجزاءه .

ونشرع في الأدلة - وإن كان ما تقدم من الأدلة من وجوه صناعیة ومن الأخبار في تحدید معنی التقلید هي أیضاً أدلة علی أثبات المحمول

ص: 126

وهو الحجیة غیر أنها اجمالية - ویقع البحث فیها مفصلاً، فالتصور بحتاج لاستدلال - كما هو الحال في الموضوعات المستنبطة - كمایحتاج إلیه التصدیق.

الأدلة علی حجیة التقلید:

الآیات الكریمة:

الآیة الأولی آیة النفر:

هي العمدة وهي قوله تعالی: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) (1).

وقد تعرضت هذه الآیة الشریفة لأحكام أفعال عدیدة: منها حكم الاجتهاد والتفقه ومنها حكم الرجوع والتقلید والمتابعة.

فالأول: في فتوی المفتي من حیث تعرضها للوجوب الكفائي لنفر جماعة لتعلم العلوم الدینية والتفقه ثم تتعرض لوجوب تصدیهم كفایة للانذار في مقام التعلیم والتربیة الدینية والفتیا وأعلی مراتب العلوم الدینية هو مقام الفتیا.

والثاني: تعرضهاللحذر لعموم المؤمنین من فتیا المفتین ووجوبه،

ص: 127


1- سورة التوبة، الآیة 122.

والوجوب عبارة عن حجیة الفتوی ویدل علی حجیة التقلید إذ حجیة فتوی المفتي مترتبة علیها الحذر الذي هو فعل المقلد وهو لا یحصل بدون تعلم وأخذ من المجتهد، وهذا كنایة عن صحة ولزوم رجوع المقلد إلی الفتوی إذ الحذر لا یحصل إلا بعد الرجوع والأخذ من الفقیه، ولا یقال: بأن الحذر هو عمل یقوم به المكلف وعلیه فالتقلید هو العمل لا الأخذ ولا التعلم؛ لأنه یقال بأن الآیة لیست بصدد بیان حقیقة التقلید وماهیته، غایة الأمر أن هذا الحذر مستبطن لمقدمة مطویة وحاصلها أن الحذر لا یتحقق إلا بصحة الرجوع والأخذ من الفقیه، وفي الآیة الكریمة نقاط لابد من الأشارة إلیها:

الأولی: أن الآیة بصدد حجیة فتوی الفقیه بما هي فتوی لا بما هي روایة راوي - لقوله تعالی (لِیَتَفَقَّهُوا) أي لیفهموا ولیس لیسمعوا أو لیرووا وإن كان السماع والتحدیث من أهم آلیات الفقاهة علی طبق الاصول القرآنیة وروایات أهل البیت (علیهم السلام) - فقد جعلت الآیة المباركة الحجیة مترتبة علی إنذار الفقیه بما هو فقیه أي بلحاظ فتیاه، فنفس فهمه وما استنتجه من مجموع الأدلة حجة وإن اختلفت مراتب الاستنتاج.

الثانية: قد أستدل بهذه الآیة أیضاً علی حجیة خبر الواحد - كما هو الصحیح علی مذهب أهل البیت (علیهم السلام) من أن الاجتهاد لیس تكوین

ص: 128

الرأي، بل هو فهم أحكام الدین عن طریق الكتاب والسنة المطهرة عن المعصومین (علیهم السلام) - وذلك لأن الفقاهة والفتیا تتضمن الاستناد إلی حجیة خبر الواحد فیكون خبر الواحد مما یعتمد ویستند علیه، وما تستند وتعتمد علیه الحجة حجة، وعلیه فالفتیا إخبار روائي وزیادة - وهي التنسیق بین مفاد الاخبار واستفادة النتیجة الخاصة منها - فلا محالة إذا كانت الفتیا حجة فإنها تتضمن حجیة المقدمة المطویة فیها. وهذا الاستدلال بهذا التقریب نظیر ما ذكرناه في الأصول من الاستدلال بأدلة نفوذ قضاء الفقیه ونفوذ أحكامه في الشؤون التنفیدیة العامة إذ هو بنفسه یدل علی حجیة فتواه وذلك لأن حجیة القضاء ونفوذ أحكامه التنفیذیة یستنبط منها حجیة ما یعتمد علیه القضاء والنفوذ وهو فتواه، إذ القضاء فتیا وتطبیق علی موارده فهو فتیا وزیادة، وعلیه فادلة حجیة القضاء أیضا من أدلة التقلید . فالآیة الكریمة بصدد حجیة الفتوی وبالتالي تتضمن صحة ومشروعیة التقلید وتتضمن حجیة خبر الواحد أیضا.

ودعوی أنه یوجد مانع من التمسك بالآیة الكریمة لأنها بصدد الحذر الذي موضوعه أنذار جمیع الفقهاء فالذي یقتضي حجیة ومشروعیة التقلید هو كون الرجوع إلی المجموع یفید الاطمئنان بل العلم فالحجیة له وللعلم لا للتقلید ؟

مدفوعة بأن إطلاق الانذار شامل لقول الفقیه منفرداً ولو لم یحصل

ص: 129

العلم، فالعمدة علی اطلاق الآیة الشامل لوجوب الانذار حتی ولو كان المنذر فقیها واحدا ومنفردا.

الثالثة: وهذه الآیة تأمر بالنفور والتفقه من زمن النبي (صلی اللّه علیه و آله) إلی الیوم الموعود فهي تثبت حجیة الفقهاء ولو في زمن المعصوم(علیه السلام) إلا أن مرجعیتهم في طول مرجعیة المعصومین (علیهم السلام) .

الآیة الثانية آیة السؤال:

الاستدلال بآیة : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (1) .

والوجه في دلالة الآیة علی جمیع هذه الامور المتقدمة هو أن الآیة تشیر إلی كبری كلیة ارتكازیة عقلائیة وهي أن الجاهل یرجع ویسال العالم وأهل الخبرة، فهذه الكبری مطویة في الآیة فالآیة الكریمة تمضی هذه الكبری الارتكازیة - في النظام البشري الاجتماعي والعلمي - التي حاصلها أن غیر العالم یرجع إلی العالم وإن كانت تعتبر وتأخذ مواصفات خاصة في المسؤول والعالم ولیست تمضیها علی اطلاقها.

وبمقتضی قواعد أصول القانون الذي - هو نصف علم الاصول المبثوث فیه فقواعد علم أصول القانون التي هي مبادیء الحكم والمباحث الراجعة للحكم والتي منها حقیقته ومراتبه - ومر بنا مرارا بأن

ص: 130


1- سورة النحل، الآية 43.

امضاء قاعدة منحدرة ومتنزلة من قاعدة فوقیة یدل اجمالا علی أمضاء تلك القاعدة الفوقانیة التي انحدرت منها هذه القاعدة لأن مثل هذه القاعدة المتولدة والمتنزلة مطوی فیها تلك القاعدة الفوقانیة فلا یمكن امضاءها وتقریرها إلا بامضاء ذلك الأصل القانوني الفوقاني فلیست القاعدة جزئیة ومصداقیة قد امضیت عفویا وبسذاجة بل هو في الحقیقة تولد استنتاجي تشریعي من ذلك القانون الممضي في الجملة، فهو نظیر ما یمارسه المجلس النیابي في تشریع استخراج مواد قانونیة من أصول دستوریة وكذا القوانین الوزاریة تستخرج من قوانین نیابیة.

فالنتیجة: أن في الاصول القانونیة إذا كانت قاعدة - منحدرة ومنشعبة ومتولدة من أصول فوقیة- ممضاة فإنه یدل علی امضاء تلك الاصول الفوقیة.

وعلیه فلو قلنا: إن المقصود من (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) هم أهل البیت (علیهم السلام) - كما هو الحق - أو هم أهل الكتاب من حیث وبلحاظ ما عندهم من الكتاب، فإن معناه هو امضاء ذلك القانون الفوقاني الموجود في هذه الكلية المنشعبة منه، فامضاء الرجوع إلی أهل البیت (علیهم السلام) هو أمضاء كلیة رجوع الجاهل إلی العالم.

نعم هذا الامضاء المنشعب - الذي هو في خصوص التعلیم الدیني - عن تلك الكلية الممضاة بامضاء مشروط بأن یكون مستقی العلم

ص: 131

الموجب للرجوع لصاحبه في التعلیم الدیني هو أن ینتهي إلی أهل العصمة والطهارة وهم محمد وآل محمد (علیهم السلام) . فیستفاد منها إجمالا امضاء هذه الكبری . وأیضا فیه أشارة إلی حقیقة التقلید وهو الأخذ والتعلم أما لنفسه كالعقائد أو للعمل كالفروع لا صرف الالتزام إذ هو ظاهر من السؤال. ونفس استفادة حجیة قول العالم سواء كان مستند علمه هو الروایة أو الروایة والدرایة والفهم ؛ ولهذا مرّ في حجیة خبر الواحد أن الآیة تفید حجیة قول العالم وأن فیها اشارات إلی شرائط قول العالم من كونه مستقی من أهل البیت (علیهم السلام) لا من الرأي والاستحسان وغیره فلا تفید حجیة قول الفقیه بقول مطلق.

وبهذا البیان یندفع إشكال وحاصله: أن المستفاد من الآیة هو خصوص حجیة أهل البیت (علیهم السلام) أو أهل الكتاب خاصة وذلك لأن المستدل علیه والمستفاد هو امضاء تلك الكبری ...

الاشكال علی الآیة باختصاصها بأهل العصمة وبالأصول:

نعم، قد أشكل علی جهة الاستدلال بالآیة بأنها واردة في العقائد التي یحتاج فیها إلی الدلیل الیقیني لا كالاحكام والاخبار والفُتیا التي یكفي فیها الدلیل الظني، فكیف یعمم مفاد الآیة إلی الفقهاء والعلماء ووجوب السؤال منهم فضلا عن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد!

ص: 132

الاعتبار الانضمامي:

وللجواب عن هذا الاشكال لا بد من الالتفات إلی بحث صناعي دقیق غیر مختص بالتقلید بل یعم الطرق والامارات كمباحث علم الاصول ومباحث علم الرجال وحاصله أن الأمارات تارة تلاحظ بمفردها وتارة تلاحظ منضمة إلی غیرها مثل حجیة خبر الثقة، فتارة یعتبر بما هو خبر ثقة كما هو الحال علی مبنی الوثاقة فیعتمد علیه لما هو المعروف من حجیة خبره وأخری یعتمد علی الخبر لا من جهة وثاقة الراوي بل من جهة الوثوق الحاصل من إخبار الراوي وقرائن أخری، وعلیه فمجموع القرائن تولد وثوقا یعتمد علیه وهذا هو مبنی الوثوق المقابل لمبنی الوثاقة.

وقد یقال: إن مبنی الوثوق هو الأشهر في حجیة خبر الواحد وإن كان الصحیح كما حققناه من حیث النسبة هو أن الأشهر هو حجیة كل منهما وارتضیناه من حیث المبنی.

والحاصل: أن عندنا تخریجین لحجیة خبر الواحد والامارة فتارة لحاظه بمفرده - كما هو مبنی حجیة الوثاقة - وأخری بلحاظه منضماً إلی غیره من القرائن - كما هو مبنی الوثوق - فالطرق والامارات تارة تلاحظ بمفردها وتارة تلاحظ بوصف ما.

ومثل الخبر الضعیف من حیث الصدور بانضمامها إلی غیرها یقبل

ص: 133

الاعتماد وكذا بالنسبة إلی الدلالة فإنه بانضمامها إلی غیرها من الدلالات التي لو نظر إلیها نظریة تجزیئیة وبمفردها لما وصلت إلی حد الظهور المعتد به في نفسه ولكن بانضمامه إلی غیره وتراكم الدلالة یحصل منه الوثوق بها - وهو الاطمئنان - أو الاستفاضة - وهو الظن المتاخم للعلم - أو تواتر في الدالة.

وأیضا مثل الاجماع المنقول أو الشهرة من الإمارات فالكثیر بحثها من جهة حجیتها بنحو مفرد ومستقل، وأما المشهور فذهب إلی أن الشهرة والاجماع المحصل والمنقول لیس بنفسه حجة منفردة عن غیرها بل هو جزء الحجة وهذا آخر ما انتهی إلیه الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) تبعا للمحقق التستري (قدّس سرّه) صاحب كشف القناع في الاجماع المنقول أو الاجماع المحصل والشهرة باقسامها من أنها وإن لم تتصف بالحجة بشكل منفرد ولكنها متصفة بها بشكل منضم علی أنها جزء الحجة.

ومثل توثیقات علم الرجال فإن السید الخوئي (قدّس سرّه) ناقش في هذه التوثیقات العامة والخاصة علی أنها بمفردها واستقلالها هل هي حجة أم لا؟ ولهذا اسقط كثیراً من التوثیقات العامة والخاصة عن الاعتبار مع أن اسقاطه لها بالجملة غیر صحیح وغفلة عن مسار مشهور الرجالیین في البحث عن حجیة هذه التوثیقات إذ مسارهم في حجیة هذه التوثیقات بما هي قرائن تفید بانضمامها إلی غیرها الاطمئنان بالوثاقة لا بما هی

ص: 134

حجج مستقلة یعتمد علیها بمفردها، وللأسف فقد راج مثل هذا النقاش في حجیتها وهو أجنبي عن مسار الرجالیین مع أن السید الخوئي(قدّس سرّه) التزم بتجمیع القرائن في موارد عدیدة كما هو مسار الرجالیین، وهذا هو المبنی الصحیح بخلاف ما التزم به كما هو مبناه الرسمي في كثیر من المواطن من أن هذه المفردات لا قیمة لها إلا مستقلة.

كما أن الامارة - التي تعامل بلحاظ استقلالي تارة وأخری بلحاظ مجموعي تراكمي - سواء لوحظ اعتبارها بشكل منفرد أو بشكل أنها جزء من مجموع قرائن لا بد من توفرها علی شرائط ما؛ وذلك لأن العقلاء - في النظرة المجموعية للامارات المفیدة للاطمئنان - لا یبنون ذلك علی منشأ عبطي واتفاقي غیر منضبط بل لابد من أن یكون انطلاقهم من منشأ منضبط وموزون بحیث تتراكم فیه الاحتمالات كمّا وكیفاً وهو تصاعد ضرب الاحتمال بالتراكم من الجهتین... إلی أن یحصل الوثوق.

فمع عدم اعتدادهم بكثیر من الطرق والامارات علی نحو الاستقلال إلا أنهم یبنون ویعتدون بدرجة ظنیتها وكاشفیتها ولذلك تری الرجالیین والمحدثین یعتنون بدرجة ضعف الخبر بخلاف مسلك الوثاقة فإنه لا قیمة عندهم لدرجة ظنیتها وكاشفیتها، ولكن علی مسلك الوثوق كما هو مسار الرجالین لدرجة الظن أهمیة كبیرة إذ إنهم لكي یعینون درجة

ص: 135

الكشف في هذه الامارات بحیث إذا انضمت إلی غیرها من الامارات كیف یتصاعد ویتكامل الاحتمال حتی یصل إلی درجة الاطمئنان وكذا اعتناؤهم بدرجة الاحتمال حتی لا یكون التصاعد عفویاً غیر مضبوط.

ولذلك تری النجاشي (قدّس سرّه) في الرجال یلاحظ درجة الضعف وزاویته لكي تعین وتستثمر في موارد الانضمام، وكذا التوثیقات العامة فإنها لیست علی درجة واحدة فلابد من تقییم درجتها الاحتمالیة حتی تستثمر بانضمامها إلی غیرها لتحصل النتیجة الاطمئنانیة المطلوبة.

وعلیه فلابد في موارد الاطمئنان من أن یكون المنشأ صحیحاً ومحلاً للمحاسبة في نظر العقل والعقلاء وهذا لیس في الاطمئنان فحسب بل حتی في القطع، إذ القطع لیس حجیته ذاتیة كما هو علی ألسنة كثیر من الأعلام فإن مقصودهم وارتكازهم كما ذكرناه في بحث القطع هو الیقین، والیقین حجیته ذاتیة أما القطع وهو الجزم والاعتقاد (قوله(علیه السلام) : فالبقین أقطع) فلابد أن یستند إلی منشأ صحیح بنظر العقل والعقلاء ولیست المسالة مسالة عفویة واتفاقیة بل هو محل محاسبة وموازنة عند العقل والعقلاء.

ولهذا تری العقلاء في بعض الامارات لا یعتبرونها منفردة ولا منضمة ومن تلك الامارات الممنوع الاعتماد علیها شرعا منفردة أو منضمة القیاس والتفسیر بالرأي والاستحسان.

ص: 136

والجواب عن اشكال اختصاص (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) بالعقائد أنه إذا كان الاعتماد والرجوع إلی أهل العلم في العقائد والأمور الركنیة المهمة التي تتطلب فیها العلم الوجداني بالامارة منفردة أو منضمة مقرراً شرعاً فهو یقتضي امضاء اصل الكبری وهي رجوع الجاهل إلی العالم حتی في غیر العقائد بالامارة المنفردة أو المنضمة.

وببیان آخر: أن الآیة تدل علی اعتبار سؤال أهل الذكر غایة الامر أن الخصوصیة في العقائد لا من لسان الآیة وإنما هو من مورد نزولها فالرجوع إلی أهل الذكر هو امضاء لتلك الكبری إلا أنه في مورد نزول الآیة مزیة وخصوصیة وهي قیام الدلیل المنفصل علی اعتبار تحصیل الیقین والعلم الوجداني في العقائد، فوجود دلیل منفصل - دال علی لزوم ضمیمة أخری من تحصیل الیقین والعلم الوجداني للعمل بتلك الكبری التي طبقت في ذلك المورد - لا یخدش في أصل تلك الكبری وبعبارة أخری أن الیقین الحاصل في العقائد من تراكمات ظنون لابد من كونها معتبرة في الجملة أو بالجملة منفردة أو منضمة ولا تكون نظیر القیاس المردوع عنه مطلقاً. إذ ظاهر الآیة هو اعتبار أصل الكبری مستقلة وأما كون اعتبار الشارع بعض الخصوصیات في تطبیقها فهو لا یخدش في أصل اعتبارها وهذا له نظائر كثیرة في الفقه، فإن اعتبار بعض الخصوصیات في تطبیق الكبریات لا یضرُّ بكبرویتها ولم یتوقف الأعلام

ص: 137

عن العمل بتلك الكبریات لأن ظاهر الدلیل أن الكبریات في اطارها مستقلة في الاعتبار عن موارد تطبیقها، غایة الامر في مورد النزول أو محل التطبیق تعبدنا الشارع ببعض الخصوصیات.

الآیة الثالثة والأحبار بما استحفظوا :

وهي قوله تعالی: (إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْكُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَ كانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ ...) (1) .

فإن هذه الآیة تدل علی صلاحیات الفقیه النیابیة في الحكم مطلقا لا في خصوص الفتوی، ونیابته في الحكم تدل علی نیابته في الفتوی لأن الحكم فتوی وزیادة. ونتعرض لها هنا في الجملة وسیأتي الحدیث عنها مفصلاً في صلاحیات الفقیه النیابیة.

ووجه الاستدلال: هو أن الحكم التنفیذي یقوم به الأنبیاء (علیهم السلام) ثم من بعدهم الاوصیاء (علیهم السلام) ثم من بعدهم العلماء وهم في الآیة الكریمة الاحبار وهي تدل علی أن لهم اقامة الحكم سواء كان سیاسیاً قضائیاً أو فتوائیاً ولهم الولایة التنفیذیة، وأما الوصف الأخیر في قوله تعالی: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَ كانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ ...» ، فللأنبیاء والأوصیاء

ص: 138


1- سورة المائدة، الآیة 44

وألحق بهم العلماء تبعاً فاستحفاظ الانبیاء والاوصیاء لدني واستحفاظ العلماء ظني تبعي. فالآیة في مورد نزول إقامة الحدود والقضاء في سورة المائدة وهي القضیة المعروفة التي جرت بین الیهود والنصاری فاتوا یحكِّموا رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) فیها وقد أخفوا حكم اللّه من الرجم وغیرها... فهي تشیر إلی أن الحكم القضائي والتنفیذي موكل إلی الأنبیاء وهذا لیس مختصاً بالتوراة بل سنة اللّه أنه تعالی إذا أنزل كتباً فیسند اقامة الحكم الألهي سیاسیاً أو قضائیاً أو فتوائیاً إلی انبیاء تلك الشریعة أولاً ثم إلی الاوصیاء ثم یأتي دور نیابی یعاضد ویساعد الانبیاء والاوصیاء وهو دور الاحبار والعلماء، فاجمالاً هذه الآیة تدل علی ولایة العلماء النیابیة.

وهناك أیضاً طائفة من الآیات الكثیرة نشیر إلیها إجمالاً وهي الآیات التي تذم علماء أهل الكتاب حیث یكتمون ویخفون ما أنزل اللّه فهي تدل علی حجیة فتاوی العلماء إذ یحرم علیهم الكتمان، فالمتحصل من الآیة أن حجیة فتاوی العلماء سنة دائمة في الشرائع السماویة.

فالآیات العدیدة تشیر إلی نفس الكبری وهي حجیة فتوی الفقیه.

الأخبار الدالة علی حجیة التقلید:

والاخبار علی طوائف في دلالتها علی حجیة الفتوی :

الطائفة الأولی: بلسان شرائط وموازین الاجتهاد بالمطابقة وبالالتزام:

ص: 139

فمنها ما لسانه شرائط وموازین الاجتهاد بالمطابقة وبالالتزام یدل علی حجیة الفتوی: فقد عنون صاحب الوسائل (قدّس سرّه) في الباب الرابع إلی الباب الرابع عشر من أبواب صفات القاضي موازین وضوابط وشرائط الافتاء والتي یصح أن یستند إلیها الفقیه في مقام الافتاء.

فالباب الرابع في عدم جواز القضاء والافتاء بغیر علم بورود الحكم عن المعصومین (علیهم السلام) وفیه (36) روایة، والباب الخامس في تحریم الحكم بغیر الكتاب والسنة ووجوب نقض الحكم مع ظهور الخطأ وفیه 15روایة ، والباب السادس في عدم جواز القضاء والحكم بالرأي ، والاجتهاد والمقاییس ونحوها من الاستنباطات الظنية في نفس الأحكام الشرعية وفیه 52 روایة ، والباب السابع في باب وجوب الرجوع في جمیع الأحكام إلی المعصومین (علیهم السلام) وفیه (43) روایة، والباب الثامن في باب وجوب العمل بأحادیث النبي (صلی اللّه علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) المنقولة في الكتب المعتمدة وروایتها وصحتها وثبوتها. وفیه (88) روایة ، والباب التاسع في وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة وكیفیة العمل بها وفیه (48) روایة، والباب العاشر في عدم جواز تقلید غیر المعصوم (علیه السلام) فیما یقول برأیه ، وفیما لا یعمل فیه بنص عنهم (علیهم السلام) وفیه (34) روایة، والباب الحادي عشر في وجوب الرجوع في القضاء والفتوی إلی رواة

ص: 140

الحدیث من الشیعة ، فیما رووه عن الأئمة (علیهم السلام) من أحكام الشریعة ، لا فیما یقولونه برأیهم وفیه (48) روایة، والباب الثالث عشر في عدم جواز استنباط الاحكام النظریة من ظواهر القرآن الا بعد معرفة تفسیرها من الأئمة (علیهم السلام) وفیه (82) روایة ، والباب الرابع عشر في عدم جواز استنباط الاحكام النظریة من ظواهر كلام النبي (صلی اللّه علیه و آله) المروي عن غیر جهة الأئمة (علیهم السلام) ما لم یعلم تفسیره منهم وفیه 4 روایات.

فهذه الروایات التي هي بالمئات فضلاً عن مئات الروایات التي ذكرها العلامة المجلسي (قدّس سرّه) في البحار في المجلد الثاني في باب العلم، فإن مفادها المطابقي - هو موازین الفتوی والاستنباط - ولكن له مدلول التزامي واضح وهو أن الفتوی علی طبق هذه الموازین جائزة ومعتبرة وبالتالي هي حجة في حق المقلد.

فالاخبار التي یستدل بها علی حجیة التقلید بمعنی الأخذ متظافرة حتی قال صاحب الجواهر : بأن الارجاع إلی الفقیه یدل علیه تواتر الأخبار بل حتی الآیات والاخبار التي تحث علی طلب العلم فإن لها دلالة علی حجیة الفتوی لأنها أحد الطرق العقلائیة للتعلم، وعلیه فالاخبار التي تدل علی طلب العلم أدلة امضائیة للطرق العقلائیة للتعلم.

وهذه الاخبار متعرضة لموازین كثیرة: منها موازین الفتوی التي هي موضع البحث، وهو بالالتزام یدل علی حجیة الفتوی .

ص: 141

والطائفة الثانية بلسانه حجیة الفتوی مطابقة:

وما یدل علی حجیة الفتوی مطابقة من الأخبار أنواع:

النوع الأول: وهو ما عبر فیه بالأخذ وهو مادل علی حجیة قضاء الفقیه ویتضمن حجیة الفتوی كما تقدم في مصححة عمر بن حنظلة، قال:

«ینظران إلی من كان منكم قد روی حدیثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فلیرضوا به حكما ، فإني قد جعلته علیكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم یقبل منه فإنه استخف بحكم اللّه ، وعلینا رد ، والراد علینا راد علی اللّه ، وهو علی حد الشرك باللّه» (1).

فقوله (علیه السلام) :

«نظر في حلالنا» فإن النظر في حلالنا لیس مثل النظر إلی حلالنا إذ النظر إلی الشیء حسي والنظر فیه الشیء عقلي نظري بتدبر وفهم واستنتاج وحركة فكریة.

النوع الثاني: وهو ما تضمن صحة الأخذ عن الفقهاء وهي كثیرة في (أبواب صفات القاضي)(2) وكلها بعنوان الأخذ:

ص: 142


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 137 ح 1 .
2- المصدر نفسه، ب 11 الأحادیث: 4 ، 9 ، 27 ، 33 ، 34 ، 35 وغیرها .

1- منها الصحیحة - بل مقطوعة الصدور - التي رواها أحمد بن إسحاق - وهو من الفقهاء الكبار ممن عاصر الامام الهادي (علیه السلام) والامام العسكري (علیه السلام) وبقي إلی زمن الغبیة الصغری - عن أبي الحسن (علیه السلام) قال : سألته وقلت : من أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال:

«العمري ثقتي فما أدی إلیك عني فعني یؤدي ، وما قال لك عني فعني یقول ، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون» ، قال : وسألت أبا محمد (علیه السلام) عن مثل ذلك فقال : «العمري وابنه ثقتان فما أدیا إلیك عني فعني یؤدیان ، وما قالا لك فعني یقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان...» الحدیث(1).

فهذه مأخوذ فیها عنوان الأخذ وإن كانت في خصوص النیابة الخاصة في عهد العسكريین والغیبة الصغری ولیست في خصوص حجیة الفتوی والقضاء.

2- ومنها : ما دل علیه التوقیع بسند الشیخ (قدّس سرّه) الصحیح - بل مقطوع الصدور - ولكن بلسان الرجوع عن إسحاق بن یعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن یوصل لي كتابا قد سألت فیه عن مسائل أشكلت علی ، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان (علیه السلام) :

ص: 143


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 138 ح 5 .

«أما ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبتك - إلی أن قال : - وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتي علیكم وأنا حجة اللّه، وأما محمد بن عثمان العمري (رضي اللّه عنه وعن أبیه من قبل) ، فإنه ثقتي وكتابه كتابي»(1).

فالمراد برواة الحدیث هم الفقهاء بقرینة الحوادث إذ إن أحكام الحوادث الواقعة هو لفظ آخر عن تطبیق العمومات علی الحوادث المستجدة وهذا ما یتطلب تفطن واستنتاج وملاحظة المناسبات وغیرها من آلیات الاستنباط، وهو یدلل علی أن البحث بحث تفقه ونظر ولیس بحث في نقل مجرد الروایة، نعم لابد أن یكون مصدر علمهم وفهمهم هو مما یصدر عن أهل بیت العصمة (علیهم السلام) كما عبرت مصححة عمر بن حنظلة :

«نظر في حلالنا حرامنا»

3- ومنها: معتبرة أبي خدیجة ابن مكرم(2): فقال (علیه السلام) :

«قل لهم : إیاكم إذا وقعت بینكم خصومة أو تدارئ في شئ من الاخذ والعطاء ، أن تحاكموا إلی أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بینكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته علیكم قاضیا ، وإیاكم أن

ص: 144


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 140 ح 9 .
2- المصدر نفسه، ص 139 ح 6 .

یخاصم بعضكم بعضا إلی السلطان الجائر» .

فالتعبیر بقوله:

«اجعلوا بینكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا» فالمعرفة غیر الروایة فاللفظة ظاهرة في جعل الفقهاء وهذه دلالتها بالمطابقة ولكنها غیر الطائفة المتقدمة التي أخذت لسان الأخذ بلبلسان جعل الفقهاء قضاة وحكاما، فقوله (علیه السلام) :

«اجعلوا بینكم رجلا» هي بسط ید الفقهاء وتولیتهم وسیأتي في ولایة الفقیه النیابیة أن لإختیار الناس دخلا في تفعیل صلاحیة الفقیه النیابیة عن المعصوم (علیه السلام) بدلیل نفس هذا التعبیر الوارد في هذه الاخبار فنفس تشخیص هذه الأوصاف المعتبرة في الفقیه موكل إلی الناس.

ومنها: الاخبار التي لسانها التعلیم كما ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه) .

وفي الباب الحادي عشر عدة طوائف من الاخبار :

منها: ما یدل علی حجیة الخبر .

ومنها: ما یدل حجیة الفتوی .

ومنها: ما یدل علی حجیة القضاء والحكم .

ومنها ما یدل علی حجیة النیابة الخاصة في الغیبة الصغری.

4- ومنها: الاخبار الصحیحة المتعددة الواردة بلسان وصف بعض الرواة كزرارة ومحمد ابن مسلم وأبي بصیر وبرید العجلي بأنهم امناء اللّه علی حلاله وحرامه .

ص: 145

والأُمناء یشمل جانب كونهم رواة وكونهم أصحاب فتیا ونظر، وهذا مثل التعبیر الوارد في العمري وابنه : «فإنهما الثقتان المأمونان» . فهو طریق مأمون وكاشف ومعتبر یأخذ منه حلال اللّه وحرامه.

5- منها بنفس المضمون المتقدم صحیحة شعیب العقرقوفي قال : قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) : ربما احتجنا أن نسأل عن الشئ فمن نسأل؟ قال :

«علیك بالأسدي» ، یعني أبا بصیر(1).

6- منها صحیحة ابن أبي یعفور قال : قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) : إنه لیس كل ساعة ألقاك ، ولا یمكن القدوم ، ویجئ الرجل من أصحابنا فیسألني ولیس عندي كل ما یسألني عنه ، فقال (علیه السلام) :

«ما یمنعك من محمد بن مسلم الثقفي ، فإنه سمع من أبي ، وكان عنده وجیها» (2) .

فقوله: «سمع من أبی» لیس هو كراوي، فهو بقرینة:«وكان عنده وجیهاً» باعتبار وثقاته وكونه طریقاً معتبراً.

وهذه الصحیحة لم یستدل بها أحد من المشایخ علی التقلید، ولكن یمكن الاستدلال علی جواز تقلید الفقیه للفقیه مع عدم استنباطه لسبب أو لآخر وهو عبد اللّه بن أبي یعفور، وهذا الخبر یدل علی فقاهته لكونه

ص: 146


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 142 ح 15 .
2- المصدر نفسه، ص 144 ح 23 .

موضع لمرجعیة الناس، وأیضا هناك قرائن خارجية تدل علی فقاهته مثل نقاشه مع المعلی بن خنیس.

وسیأتي جواز رجوع الفقیه لغیره في ظروف خاصة كما لو فقد مصادر الاستنباط وغیرها فلا یتعین علیه الاحتیاط بل یسوغ له التقلید وهذه الصحیحة سنبحثها في مسألة جواز تقلید الفقیه لغیره.

وأما أن قوله (علیه السلام) :

«فإنه سمع من أبي» فلا یشهد علی كون الرجوع لمحمد بن مسلم بما هو راوي لأن فهم الفقیه إنما یكون حجة إذا انطلق استنتاجه من المادة العلمية في الروایة عنهم .

واستدل بعض المشایخ علی رجوع الفقیه لغیره مع تعذر الاجتهاد علیه لسبب أو لآخر بصحیحة یونس بن یعقوب : قال : كنا عند أبي عبداللّه (علیه السلام) فقال:

«أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستریحون إلیه؟! ما یمنعكم من الحارث بن المغیرة النصري؟»(1).

مع أن یونس بن یعقوب لم یعرف بتلك المنزلة من الفقاهة فصحیحة ابن أبي یعفور أوضح في الاستدلال.

7- منها مصححة(2) جمیل بن دراج عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) - في حدیث - أنه ذم رجلا فقال :

«لا قدس اللّه روحه، ولا قدس مثله، إنه

ص: 147


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 145 ح 24 .
2- المصدر نفسه، ح 25 .

ذكر أقواما كان أبي (علیه السلام) ائتمنهم علی حلال اللّه وحرامه وكانوا عیبة علمه ، وكذلك الیوم هم عندي مستودع سري وأصحاب أبي حقا، إذا أراد اللّه بأهل الأرض سوءا صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شیعتي أحیاء وأمواتا، هم الذين أحیوا ذكر أبي (علیه السلام) ، بهم یكشف اللّه كل بدعة ، ینفون عن هذا الدین انتحال المبطلین ، وتأویل الغالین . ثم بكی ، فقلت: من هم؟ فقال : من علیهم صلوات اللّه، وعلیهم رحمته، أحیاء وأمواتا: برید العجلي ، وأبو بصیر، وزرارة، ومحمد بن مسلم» .

8- ومنها: روایة علي بن المسیب الهمداني قال: قلت للرضا (علیه السلام) : شقتي بعیدة ، ولست أصل إلیك في كل وقت ، فممن آخذ معالم دیني؟ قال :

«من زكریا ابن آدم القمي المأمون علی الدین والدنیا» ، قال علي بن المسیب : فلما انصرفت قدمنا علی زكریا بن آدم ، فسألته عما احتجت إلیه(1).

فالخبر فیه دلالة علی حجیة التقلید وقوله: (فسألته عما احتجت إلیه) فیه دلالة علی تعریف التقلید وأنه الأخذ والسؤال وفیه ایضا دلالة علی أن المقلد لا یصح منه العدول لأن السؤال فرع الحاجة ومن سأل واخذ حاجته لا موضوع له للتقلید لانتفاء الحاجة وسیأتي في المسائل اللاحقة.

ص: 148


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 145 ح 27 .

9- منها صحیحة عبد العزیز بن المهتدي والحسن بن علي بن یقطین جمیعا عن الرضا (علیه السلام) قال : قلت : لا أكاد أصل إلیك أسألك عن كل ما أحتاج إلیه من معالم دیني ، أفیونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دیني ؟ فقال : «نعم»(1).

ومنها ما دل علی النیابة الخاصة أیضاً والنیابة الخاصة لیست مختصة بعهد الامام الهادي والعسكري والغائب (علیهم السلام) بل توجد نصوص علی أن النیابة الخاصة عن الأئمة السابقین مثل سلمان المحمدي عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) وجابر الجعفي عن الامام الباقر (علیه السلام) بل عن النبي (صلی اللّه علیه و آله) ورد أن عتاب بن أسید أو أسید نائبه الخاص في مكة المكرمة وهو كثیر وشدید الولاء لأهل البیت (علیهم السلام) ولاه رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) علی مكة بعد عام الفتح فقال له: كیف أقضی فقال له لا علیك یسددك اللّه ... حتی بقی إلی عهد الأول والثاني فجمیع الأئمة لهم نواب خاصین إلا أن النیابة الخاصة في عصر الائمة السابقین لم تكن معلنة إلا بشكل محدود بخلافها النیابة الخاصة عن الهادي والعسكري والحجة (علیهم السلام) فهي أخذت مجالها الأعلامي، فراجع ما ذكرناه في الجزء الثالث من كتابنا (مباني علم الرجال) .

ص: 149


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 148 ح 35 .

نظیر ما رواه الكشي عن أحمد بن حماد المروزي: عن أبي عبد اللّه الصادق (علیه السلام) - في الحدیث الذي روي فیه أن سلمان كان محدثا - قال :

«إنه كان محدثا عن إمامه لا عن ربه ، لأنه لا یحدث عن اللّه إلا الحجة» (1). فإنها نیابة خاصة لكونه ملهما من امامه.

النوع الثالث ما دل علی حجیة الفتوی والخبر:

1- منها مصحح معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال :

«بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟» قلت: نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، إني أقعد في المسجد فیجئ الرجل فیسألني عن الشئ فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما یفعلون ، ویجئ الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم ، ویجئ الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا ، وجاء عن فلان كذا، فادخل قولكم فیما بین ذلك، فقال لي:

«اصنع كذا فاني كذا أصنع» (2).

فإنها تدل علی جواز الفتیا والتصدي لها وحجیة الخبر لدلالتها علی حجیة الخبر وتطبیقه علی موارده الخاصة فهي تدل علی حجیة الفتوی والخبر.

ص: 150


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 146 ح 28 .
2- المصدر نفسه، ص 148 ح 36 .

2- ومنها: خبر القاسم بن العلاء - وقد كان من النواب بالواسطة -عن أحمد بن إبراهیم المراغي قال: ورد علی القاسم بن العلاء - وذكر توقیعا شریفا یقول فیه:

«فإنه لا عذر لأحد من موالینا في التشكیك فیما یرویه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ، ونحملهم إیاه إلیهم» (1).وهذه تدل علی حجیة الروایة والفتوی والنیابة الخاصة في خصوص الغیبة الصغری.

ومنها: الاخبار التي تدل علی حجیة التقلید مطابقة إلا أن السؤال فیها من السائلین عن شرطیة الایمان في المفتي :

3- منها: موثوق الصدور لمحمد بن صالح الهمداني لتعدد طرقها: قال : كتبت إلی صاحب الزمان (علیه السلام) :

«إن أهل بیتی یقرعوني بالحدیث الذي روي عن آبائك (علیهم السلام) أنهم قالوا: خدامنا وقوامنا شرار خلق اللّه، فكتب ، ویحكم ما تقرؤون ! ما قال اللّه تعالی : (وَ جَعَلْنا بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ الْقُرَی التي بارَكْنا فِیها قُریً ظاهِرَةً)

فنحن - واللّه - القری التي بارك فیها ، وأنتم القری الظاهرة»(2).

فهي تدل علی النیابة العامة للفقهاء في الفتیا عن المعصومین (علیهم السلام) .

ص: 151


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 149 ح 40 .
2- المصدر نفسه، ص 151 ح 46 .

4- منها: روایة علي بن سوید - وهي كالمحسنة - قال : كتب إلی أبو الحسن (علیه السلام) وهو في السجن :

«وأما ما ذكرت یا علي ممن تأخذ معالم دینك ، لا تأخذن معالم دینك عن غیر شیعتنا ، فإنك إن تعدیتهم أخذت دینك عن الخائنین ، الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنهم ائتمنوا علی كتاب اللّه ، فحرفوه وبدلوه فعلیهم لعنة اللّه ولعنة رسوله ولعنة ملائكة، ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شیعتي إلی یوم القیامة...» الحدیث(1).

وهي تدل علی اشتراط الایمان والأخذ والتقلید والرجوع للفقهاء.

5- منها: روایة أحمد بن حاتم بن ماهویه: قال: كتبت إلیه - یعني أبا الحسن الثالث (علیه السلام) - أسأله عمن آخذ معالم دیني؟ وكتب أخوه أیضا بذلك، فكتب إلیهما:

«فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دینكما علی كل مسن في حبنا ، وكل كثیر القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء اللّه تعالی» (2) .

وهي تدل حجیة التقلید، إذ فیها (عمن أخذ معالم) دیني فاجابه الامام (علیه السلام) .

ص: 152


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 150 ح 42 .
2- المصدر نفسه، ص 151 ح 45 .

6- منها: صحیحة أبي بصیر قال : قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) : أرأیت الراد عليّ هذا الأمر كالراد علیكم ؟ فقال :

«یا أبا محمد، من رد علیك هذا الأمر فهو كالراد علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله)» (1).

وهي تدل علی مفروغیة الرجوع إلی الفقیه وعلی انفاذ حكمه .

فهذه جملة من طوائف الاخبار المستفیضة الدالة علی حجیة التقلید یجدها المتتبع بالسنتها المختلفة، فمنها ما لسانه بیان میزان الفتوی ومنها ما لسانه حجیة الفتوی مطابقة وهو علی انواع وانماط ومنها ما لسانه عموم ما دل علی طلب العلم، وفي الأخیر لم یستحدث فیه الشارع طرقاَ خاصة للعلم وإنما هو امضاء للطرق العقلائیة الموجودة لطلب العلم الذي منها الرجوع إلی أهل الخبرة ، وأهل الخبرة في الدین هم الفقهاء.

هذا ما یستدل به من الاخبار علی حجیة الفتوی.

الاستدلال بسیرة العقلاء والمتشرعة:

أما الاستدلال بالسیرة بقسمیها العقلائیة والمتشرعية فواضح، أما العقلائیة فقد بیَّنا أن دلالة الآیات والآخبار امضائیة إلا أن الشارع قام بتهذیبها بالتقیید والاشتراط، وأما السیرة المتشرعية فهي موجودة من زمن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) وزمن الأئمة (علیهم السلام) ، فلا یصغی لما یذكر بأن الفقاهة

ص: 153


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 153 ح 48 .

(مسألة 9) : الأقوی جواز البقاء علی تقلید المیت (1)، ولا یجوزتقلید المیت ابتداء(2).........................................................................

عند الامامیة مما استحدث في الغیبة الكبری أو الصغری، فهذا تعامي أو تغافل أو للجهل بالحقیقة التي هي مبدأ طبیعي اجتماعي انساني من انحدار وتفرع التثقیف والتعلیم بطبقاته من المنبع الأصلي بتوسط طبقات أهل الخبرة، بل نسنطیع الاستدلال بما قدمناه من الاخبار بصیاغة أخری غیر ما قدمناه علی أنها تعكس بوضوح تواتر وجود سیرة المتشرعة القائمة علی رجوع العوام في مسائل دینهم إلی أهل الخبرة من الفقهاء .

المسألة التاسعة: تقلید المیت اتبداءا وبقاءا

اشارة

(1) قدم الماتن (قدّس سرّه) حكم البقاء علی تقلید المیت علی حكم ابتداء تقلیده ونحن نقدم البحث عن تقلید المیت ابتداءا علی تقلیده بقاءا مراعاة للترتیب الطبعي.

الأدلة علی عدم جواز تقلید المیت:

(2) قد أستدل علی مسألة عدم جواز تقلید المیت بعدة أدلة :

الدلیل الأول دعوی الاجماع :

اشارة

والاجماع المنقول كثیر، إلا أن المحصل یحتاج إلی تقصٍ وتتبع أكثر كملاحظة كتاب (الاصول) للشیخ المفید (قدّس سرّه) و (الذریعة) للسید المرتضی (قدّس سرّه) و (العدة) للشیخ (قدّس سرّه) و (المعارج) للمحقق الحلي (قدّس سرّه)

ص: 154

و(التهذیب) للعلامة (قدّس سرّه) ، وكذا ملاحظة كتب الفقهاء في (باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن القدماء یذكرون بحث الاجتهاد والتقلید فیه عادة؛ بسبب تعرضهم لصلاحیات الفقیه فیه، وبعضٌ قلیل یذكره في باب القضاء.

ونقل الاجماع المحقق الثاني (قدّس سرّه) في (شرح الألفیة) وكذا الشهید الثاني (قدّس سرّه) في (المسالك) و (منیة المرید) بل إن له رسالة مستقلة في (عدم جواز تقلید المیت) في ضمن مجموعة رسائله، ونقله ابنه الشیخ حسن (قدّس سرّه) في (المعالم) ، والفیض الكاشاني (قدّس سرّه) في (الاصول الأصیلة) مع أن مذهب الأخیر أخباري.

والطرف المخالف هم الاخباریون فإنهم عموما یذهبون إلی جواز تقلید المیت ابتداءاً،فمنهم الاسترآبادي (قدّس سرّه) والفیض الكشاني (قدّس سرّه) وصاحب الحدائق (رحمه اللّه) والجزائري (قدّس سرّه) وصدر الدین القمي (قدّس سرّه) وقد نقل عن الفاضل التوني (قدّس سرّه) ذلك أیضاً، فإن كان المقصود الفاضل التوني صاحبة الوافیة ولابد من ملاحظة ومراجعة الوافیة، وحكی عن الأردبیلي والعلامة جواز ذلك إذا فقد الأحیاء من المجتهدین، والظاهر أن الحكم بالجواز في هذه الصورة لیس مختصا بالأردبیلي والعلامة.

ص: 155

تقریب تحقق الإجماع:

قُرِّب الاجماع علی المنع في هذه المسألة بأنه من معالم مذهب أهل البیت (علیهم السلام) ، وأما مخالفة الأخباریین والمیرزا القمي (قدّس سرّه) فقالوا: بأنها لیست مخالفة كبرویة وإنما هي مخالفة صغرویة؛ فأما الاخباریُّون فلأنهم یبنون علی أن الرجوع إلی الفقیه من باب الرجوع إلی الرواة ولا فرق في الرجوع إلیهم بین حیهم ومیتهم، ومن ثم لم یفصلوا بین المیت والحي، وعلیه فالاخباریُّون لا یخالفون في الكبری وهي أن الرجوع إلی الفقیه من باب الفهم والحدس الذي لا یرجع فیه إلا إلی الحي.

وأما المیرزا القمي (قدّس سرّه) فإنه یبنی علی الإنسداد فلا تكون مخالفته في الكبری بل في الصغری.

أهمیة وساطة أهل البیت (علیهم السلام) وضرورة فتح باب الاجتهاد في حفظ الدین:

ففتح باب الاجتهاد من ضرورة ومعالم مذهب أهل البیت (علیهم السلام) وهذه الضرورة في علمیة فتح باب الاجتهاد ومذهب أهل البیت (علیهم السلام) لا توجب أن یزیغ الدین عن الجادة لوجود مقومات تصونه عن الزیغ والانحراف بخلاف المذاهب الأخری؛ وذلك لأن أئمة المذاهب تركوا دور أهل البیت (علیهم السلام) في التشریع ، ورأوا بأنهم إذا فتحوا باب الاجتهاد

ص: 156

والتقلید لم یبق للدین قائمة تشریعاً، فالمدرسة المستنصریة هي التي حصرت المذاهب في أربعة وألزمت بها وأغلقت باب الاجتهاد، وهذه نقطة مهمة موجبة للتساؤل عن السبب الذي جعل الخلاف بین هؤلاء الفقهاء الاربعة اختلافاً مذهبیاً ولم یكن اختلافاً فقهیاً كاختلاف فقهاء الأمامیة.

وهذا دلیل برهاني علی أن الدور الذي قام به هؤلاء أو من اقامهم هذا المقام لیس بدورهم ولا من مقاماتهم بل هو دور المعصومین (علیهم السلام) ومن مقامتهم (علیهم السلام) ، ولهذا إذا لم یأت المعصومون (علیهم السلام) الذين هم ترجمان التشریع النبوي ویقومون بهذا الدور فإن التشریع ینفض أیادي سبأ فإنه لا یكون اختلافاً استنباطیاً بل اختلافاً مذهبیاً، ولهذا هم یقرّون بأن الاختلاف بین علماء الحنابلة لیس كاختلاف ابن حنبل وأبي حنیفة وذلك لأن هذا الدور الذي هو بین فرائض اللّه وسنة النبي (صلی اللّه علیه و آله) لا یشغله العلماء بل یشغله المعصومون (علیهم السلام) ولهذا سدوا باب الاجتهاد لما رأوا أن الاختلاف في هذا الدور یسبب مذهبیة لا اختلفاً فقیهاً.

وهذا دلیل علی أن هذا الدور وهو الأخذ عن فرائض اللّه وفرائض النبي (صلی اللّه علیه و آله) دور حساس ولهذا لا یعطون صلاحیاته إلی كل أحد وإلا لو اعطوه لأحد لكان الاختلاف مذهبیاً وكل ذلك لأن المذهب الفقهيي یعتمد علی أسس تشریعیة ولهذا عبروا عن المذهب الفقیهي مذهباً لا

ص: 157

اختلافاً فقهیاً بینما نجد أن الشیعة الأمامیة أربعة عشر قرناً لم یتمذهبوا وینقسموا مذهبیاً مع انفتاح باب الاجتهاد علی مصراعیه، ولیس هذا ولید الصدفة والاتفاق وإنما هو عبارة عن حقیقة نظام علمي محكمة بنیانه وأسسه وخطوطه العامة وهو بنفسه یولد ویفرز هذا المطلب، ولهذا تجد آلاف العلماء التي جاءت خلال مئات السنین ومع ذلك لم ینقسموا مذهبیاً فلا نخشي من فقهائنا الانقسام المذهبي، حتی نمنع الاجتهاد...

وذلك لان الواسطة بین التشریع الالهي والنبوي وبین الناس هو بیان المعصومین (علیهم السلام) المحافظ علی الهویة الدینية بحیث مهما اختلف من یأتي بعدهم من العلماء غیر المعصومین في بیان أهل العصمة (علیهم السلام) لا یخرجه ذلك الاختلاف عن الهویة الالهیة والنبویة أي عن أسس وأركان المنظومة الدینية الالهیة والنبویة فحقیقة بیانهم سنخ بیان مهما اختلف في فهمه لا یمس تلك الاسس الالهیة والنبویة فتبقی الشریعیة محفوظة مهما تكثر الاختلاف بین الفقهاء.... بخلاف ترك تلك الواسطة الوحیانية المعصومة بین المادة النبویة والالهیة وبین العلماء فانه یفضي لمحو الدین والاختلاف في نفس الاسس والاركان الالهیة والنبویة لان جعل تلك الاسس هي مادة الفهم البشري لا یبقي تلك الأسس علی هویتها فكل یدعي أن تلك الاسس والاركان الالهیة شي مغایر لما یدعیه الآخر... وهذا مما یمحي ویفني الهویة الدینية لمحو أسسها واركانها

ص: 158

لضیاعها بین الاجتهادات والاستنباطات فانكار تلك الواسطة المعصومة موجب لنسف هویة المادة الالهیة والنبویة حیث تتشتت ولا تبقی حقیقتها وهویتها بسبب اخضاعها للفهم الغیر المعصوم والغیر الوحیاني فتكون نفس المنظومة الالهیة والنبویة موزعة وضائعة بین تلك الافهام البشریة التي لا تمثل إلا قراءة اصحابها من الفقهاء ... فیكون كل اختلاف له أسسه المستقلة عن اسس الفهم الاخر فلا تبقی هویة للدین بین تلك الافهام غیر المعصومة وغیر الوحیانية ... ومن انكار ضرورة تلك الواسطة تنشأ نفس المذاهب التي لا حصر لها... ولهذا التفت المخالفون إلی الضرورة العلویة والحسنیة والحسینیة والسجادیة والباقریة والجعفریة والكاظمیة و... فجعلوا مقابلهم المذاهب الاربعة لانحرافهم عن خط أهل البیت (علیهم السلام) فأوقفوا الاجتهاد في الكتاب والسنة وإلا لم یبق عندهم من الدین باقیة فصار الاجتهاد ضمن هذه المذاهب... وسبب ذلك انحرافهم عن ضرورة تلك الواسطة الوحیانية حیث جعلوا ذلك الدور فیمن لا أهلیة له، مع أنهم في نفس الوقت یعترفون بأن هؤلاء الذين شغلوا هذا المنصب لیسوا بمعصومین ولیسوا بواجبي الاتباع فالسؤال أنهم إذا كانوا لیسوا بمعصومین ولیسوا بواجبي الاتباع، فلماذا لا یتبعون غیرهم...؟!

وهذا شبیه بالحلقة العقائدیة عندنا في عدم التعدي عن أصحاب الكساء وهم یقولون بعدم عصمة الصحابة ولا یقولون بالامامة شعارا

ص: 159

ومع ذلك لا یجرؤون علی مخالفة الصحابة وتخطئتهم وتخطیهم، مع أن الصحابة مختلفون في أنفسهم ولهذا لا یستطیعون مخالفة الأول والثاني والثالث فإنهم یتعاملون معهم تعامل عقائدي، لأنهم لوخالفوهم لم یبق حجر عندهم علی حجر حیث ینهار مبدأهم ودینهم وذلك لأن هذه لمرحلة دور بنیوي خطیر لا یقوم به إلا معصوم ومقدس فوق النقاش ولهذه تعرف ضرورة العصمة بین الكتاب والنبوة وبین الناس وهي الامامة حتی ینحفظ الدین من التمزیق والانحراف ولا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، وهذا برهان بیِّنٌ دامغ لمن أنكر تلك الواسطة المعصومة المقدسة التي هي فوق النقاش، ولیس هذا المبدأ ولید الصدفة والاختراع كما قدمنا بل هو ضرورة واقعية في النظام الدیني من لابدیة وجود حلقة معصومة بعد الرسول (صلی اللّه علیه و آله) ولیس هذا مجرد تسمیة وشعار بل هو واقع وضرورة ومعادلة منهجیة لا مفر منها.

ومن هنا یعلم أن حقیقة هذه الواسطة من البیان الوحیاني المعصوم له الدیمومة والثبات إلی یوم القیامة بخلاف الرأي فأن الرأي هو انحباس وانقهار بقیود الزمن والمكان وذلك لأن كل فهم ورأي فهو بشري خاضع لعوامل الزمان والمكان لأن الرأي لأي انسان غیر معصوم حتی الفقیه المستنبط رأي بشري قابل للخطأ فإن قام الدلیل علی اعتبار قوله ورأیه كالفقیه لقیام الدلیل علی اعتباره... یؤخذ به... وكذا اصحاب الرأي

ص: 160

غیر المستند إلی المادة المعصومة من أصحاب القانون الوضعي لابد أن یقدموا دلیلا علی رأیهم الذي لا یتعداهم ولا یستطرق التقنین الابدي كالقانون الوحیاني فمن هنا نقول بتعدد القراءات في البیان الوحیاني المعصوم ولكن لابد لكل قارئ من تقدیم الحجة علی قراءته.... فتری أن النص الوحیاني له امتداد إلی یوم القیامة بخلاف الفهم الذي هو علی طبق الموازین والحجة... فضلا عن غیره... وهذا لا یعني أن الدین ینسف ویتبدل ویتغیر لأنه دین الفقهاء وفهمهم حتی تأتي النظریات الغربیة التي تأثر بها بعض من الوسط الداخلي، لأن الواسطة الوحیانية المعصومة في بیان النص الوحیاني موجبة للحفاظ علی الهویة الدینية كما قدمنا وإنما یكون الاختلاف سنخ اختلاف لا ینال الهویة الدینية فمهما اختلف الفقهاء فان الهویة الدینية تبقی مهیمنة وثابتة لا زوال لها وذلك لأن مساحة الاختلاف بین الفقهاء لا تخرج عن الاطار العام للثوابت المقررة بل تضل سایرة ضمن المسار العام للشریعة ولمنهاجها رغم تغایر صیاغات وقولبة الفتوای المتعددة فالهویة الدینية لیست خاضعة للفهم والرأي حتی تتبدل وتزول بزوال الرأي.

وعلی هذا یكون من معالم هذا البرهان فتح باب الاجتهاد في كل زمان وأن المیت الفقیه لا یبقی قوله حجة دائماً، وهذا مخالف لما علیه المخالفون حیث قلدوا الفقهاء الأربعة في الفقاهة فقط إلا أنهم تعاملوا

ص: 161

معها معاملة الامامة فجوزوا تقلید المیت ابتداءاً.

وبهذا یمكن معاضدة الاجماع علی عدم تقلید المیت ابتداءا واستكشافه بهذا الفرق بین الضرورة المذهبیة عندنا والضرورة المذهبیة عندهم .

وجملة من العلماء استكشفوا هذا الاجماع بطرق أخری، فمن تلك الطرق ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) في غیر هذا المقام بل ذكره لشیئ آخر والحريُّ أن یذكر ههنا مستندا لاستكشاف الاجماع.

ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) في المقام من لزوم امام ثالث عشر :

فقد ذكر في الفقه والأصول: أننا لو بنینا علی جواز تقلید المیت ابتداءا لانحصر تقلید جمیع الطائفة في واحد طوال الدهر لأن الأعلم بین الأموات والأحیاء بحسب الواقع واحد، وعلیه فیجب علی كل الاجیال تقلیده، وإذا وجب تقلیده علی كل الأجیال لزم من ذلك أمام ثالث عشر.

التقریبات التي قرب بها قول السید الخوئي(قدّس سرّه):

اشارة

وعلی كل حال قد قرب ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) بتقریبات :

التقریب الأول:

أن ما ذكره (قدّس سرّه) یستكشف منه الاجماع وذلك لأن من ثوابت مذهب أهل البیت (علیهم السلام) هو الحجیة الثابتة المستمرة للمعصوم، أما غیر المعصوم

ص: 162

فلا ثبوت ولا دوام لحجیته. وعلی ضوء هذا الثابت من مذهب الامامیة یُعرف أن صلاحیات غیر المعصوم (علیه السلام) تنتفي بالموت وإلا لكانت صلاحیاته باقیة ولو كانت باقیة ولم تنتفٍ كان علی حد المعصوم (علیه السلام) .

وهذا مثل ما تقدم من تنظیر الفرق بین المذاهب الإسلامیة وبین مذهب أهل البیت (علیهم السلام) إذ أنهم یعطون الفقهاء الأربعة صلاحیات الامامة التي لا تتخطأ ولا تقتحم ویعطون أصحاب السقیفة منصب القداسة التي لا تتخطأ لا منصب العدالة الذي یمكن المناقشة فیما یصدر عنهم لأن العدالة تجتمع مع الخطأ .

وإلا فمع كون أبي حنیفة وغیره فقهاء فلماذا لا یتعدی ولا یحاكم نظرهم إذ الذي لا یتعدی هو منصب الامامة لا منصب الفقاهة. وأیضاً إذا كان الصحابة عدولاً فلماذا لا یخطأون فإن العدالة لا تتنافي مع الخطأً ولماذا یكون التعامل معهم معاملة المعصومین مع القطع بعدم عصمتهم، وبهذا تعرف ضرورة وأهمیة العصمة في تلك المرحلة - التي هي بین اللّه والنبوة وبین المكلفین - التي لابد منها في الحفاظ علی الدین الحنیف وأنهم لو تعدوا تلك الحلقة لما استقر لهم حجر علی حجر، وكل ذلك لتركهم أئمة أهل البیت (علیهم السلام) .

ص: 163

التقریب الثاني:

أن یقال إن البحث لیس في تقلید المیت من جهة الأعلمیة كأن نفترض أن الاعملیة متوفرة في المیت وجمیع الشروط مفروضة التحقق، وإنما البحث هنا في خصوص شرطیة الحیاة ومانعیة الموت من التقلید الابتدائي وعلیه فإذا كان واجداً لجمیع الشرائط وقلنا بأن الموت لیس بمانع تعین الرجوع إلیه ولا یصح أن یتخطی ویتجاوز، وهذا معلوم البطلان بالضرورة لأن مثل هذا هو شأن قول المعصوم (علیه السلام) وصاحب المذهب لا شأن الفقیه التابع لأصل ومقررات المعصوم(علیه السلام). وهذا محذور تعلیقي لكونه معلقاً علی توفر جمیع الشرائط من الأعلمیة وغیرها فیه ما عدا الموت فیلزم منه المحذور علی هذا الفرض وهو كاشف إنيٌّ عن بطلانه في نفسه.

التقریب الثالث:

أن یقال إن الأعلم في الأحیاء والأموات بحسب الواقع لا بحسب الاحراز واحد وعلیه فذاك الأعلم بحسب الواقع قوله لا یتخطأ، وهذا فیه محذور ... حاصله أن الذي قوله لا یتجاوز ولایتخطی هو صاحب المذهب والامام لا الفقیه وصاحب الفتوی.

وقد أجیب - علی ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) في تقریراته الأصولية والفقهيه - أنه مع اشتراط شروط كثیرة في المُقلَّد لا توجب الثبات ، بل

ص: 164

هي موجبة للتبدل والتغیر في الفقیه فلا یلزم ما ذكره السید الخوئي(قدّس سرّه) من كونه إماماً ثالثاً لتبدله وتغیره من زمان إلی زمان أو بوجود من هو أعلم منه بعد أن لم یكن، إلا أن ما ذكره یصح علی بعض الفروض التعلیقیة وهو كاشف إنِّيٌّ بعدم انسجامه مع أصول الامامیة كما ذكره السید الخوئي(قدّس سرّه) وقد اوضحناه في هذه التقریبات.

تقییم الاجماع:

إن هذا الاجماع المستكشف بهذه الطرق إن كان كاشفا عن سیرة متقدمة علی الغیبة الكبری عند الرواة فیعتمد علیه وإلا لكان الكلام في كاشفیة هذا الاجماع عن تلك السیرة.

وقد یشكل علی كاشفیة مثل هذا الاجماع بأن السیرة قائمة علی عكسه فإن كتاب الفضل بن شاذان یوم ولیلة وكتاب یونس بن عبد الرحمن عمل بهما مع وفاة اصحابها فقد عمل بهاالأصحاب.

والجواب أن كتب الاصحاب هي كتب أخبار ولیست بكتب فتاوی فعملهم بها بمعنی أخذهم روایاتهما.

وعلیه فإن كشف هذا الاجماع عن السیرة فهو حجة وإلا فلا، نعم الاجماع الذي ذكرناه وهو ما یرجع إلی أصول المذهب وضرورياته بالتقریبات التي تقدمت فهو حجة، وسنبین إن شاء اللّه أن الوجه - الذي نعتمده في عدم جواز تقلید المیت ابتداءا - هو رجوعه إلی بعض قواعد

ص: 165

المذهب وأصوله وإلا فمجرد دعوی الاجماع بدون كشفه عن السیرة المتلقاة من المعصوم (علیه السلام) أو غیر المردوع عنها لا عبرة به.

الدلیل الثاني ظهور الأدلة في اعتبار الحیاة:

اشارة

إن الأدلة الدالة علی حجیة فتوی الفقیه في مسألة جواز الرجوع ظاهرة في اعتبار الحیاة : كقوله تعالی: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ)(1).

فإن قوله: (لِیَتَفَقَّهُوا) ظاهرة في اعتبار الحیاة لعدم صحة الخطاب إلا للأحیاء.

ومن الأخبار: التوقیع الصادر من الناحیة المقدسة وهو ما جاء في قوله (علیه السلام) :

«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتي علیكم وأنا حجة اللّه» (2).

فإن الحوادث الواقعة أي المستجدة فالرجوع فیها إلی المیت لا معنی له إذ الحادثة المستجدة لابد فیها من الرجوع إلی الحي إذ المیت

ص: 166


1- سورة التوبة، الآية 122.
2- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 142 ح 9 .

لم یدرك الحادثة ولم یفتٍ فیها حتی یرجع إلیه، فالذين هم محل الارجاع هم خصوص الاحیاء .

وقد مرّ أن المراد من الرواة هم الفقهاء الذين مصدر فتواهم الروایة لأن تطبیق الروایة علی الحوادث المستجدة مما یحتاج إلی فهم ونظر وتأمل فاعتبار الفقاهة واضح فیه.

وكذا العناوین والصفات الواردة كقوله تعالی: (وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) وقوله تعالی: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .

وفي الأخبار كقوله (علیه السلام) :

«رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا» ، وقوله:

«أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ...» ، وقوله:

«اجعلوا بینكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته علیكم قاضیا» .

وقد استدل باشتراط واعتبار الحیاة في المفتي لظهور هذه العناوین في اعتبارها.

الاشكالات علی الدلیل الثاني:

الاشكال الأول:

إن ظهور دلالة الأدلة في الحي لا یعني نفي ما عداها واعتبارها بخصوصها فلا ینفي اطلاق الأدلة الأخری الأتیة، وذلك لأن كلاً من العام والخاص مثبت ولا تنافی بین المثبتین فلا یخصص المقید المطلق إلا بشروط وهي غیر متوفرة في المقام، وأیضاً عنوان الحیاة لم یؤخذ فی

ص: 167

هذه الأدلة كشرط إذ أن مورد هذه الأدلة خاص ولكن من دون أن یؤخذ فیها عنوان الخصوصیة فغایة الأمر في هذا النوع من الأدلة - التي موردها خاص وانحصرت فلم ترد في غیر هذه الموارد الخاصة - لا تنفي اطلاق نفسها فضلاً عن منافاتها لاطلاق الأدلة الأخری فلو سلم عدم شمولها المیت لعدم اطلاقها بهذه الخصوصیة الموردیة فلا تزاحم ما عداها من اطلاق الأدلة الأخری فهي لا تقوی علی تقییدها وذلك لأن التقیید لم یؤخذ من اللفظ بل أخذ من خصوصیة المورد والسیاق.

الاشكال الثاني:

أن هذه العناوین (لِیَتَفَقَّهُوا)، (وَ لِیُنْذِرُوا) ، «نظر في حلالنا وحرامنا» وما شابه ذلك، تطلق علی المیت بعد زمن التلبس كما تطلق علی الحي ولهذا یطلق علی الأوصیاء منذرین ومبشرین حتی بعد موتهم. وأما قوله (علیه السلام) : «وأما الحوادث فارجعوا فیها» فیمكن التأمل فیها أیضاً بأن الحوادث المستجدة ناظرة إلی المستجدة عند المكلف والمقلد بالكسر لا عند الفقیه إذ الفقیه قد أفتی فیها وفرغ عن حكمها.

الاشكال الثالث:

إن هذا الوجه كما یمكن أن یكون وجها مستقلاً یمكن أن یكون تقریباً للوجه الأول وهو الاجماع.

ص: 168

وحاصله: أن الفتوی متقومة بالرأي والتبني أي الاستنتاج والفهم من المدارك المقررة ولذلك لو جُنَّ أو أغمی علیه اغماء مستمرا أو غیر ذلك ففي جمیع هذه الموارد أتفقت الفتوی عند الجمیع بعدم جواز تقلیده، وهذا الرأي عند الموت ینتفي، وكذا لو تبدل رأیه إلی رأي آخر فإنه لا یجوز البقاء علی فتواه السابقة، فهذه الموارد دالة علی أن بقاء الرأي وهو الاستنتاج دخیل في الفتوی وهذا الرأي ینتفي بالموت ولذلك استدل الآخوند (قدّس سرّه) بهذا كدلیل یستدل به علی انتفاء موضوع حجیة الفتوی لیس فقط في الأصول العملية والاستصحاب بل یستدل به علی احراز انتفاء حجیة الموضوع وذلك لانعدام الرأي ، إلا أن الشأن في أن الموت هل هو رافع للرأي المقوم للفتوی أم لا؟

وقد أجیب عن هذا الاستدلال: بأن المسلم لو كنا نحن والقاعدة الصناعیة هو اعتبار الرأي حدوثا لا بقاءاً ، غایة الأمر أن الدلیل كالاجماع قام علی عدم جواز التقلید في موارد خاصة كموارد الجنون والاغماء وإلا فلیست حجیة الفتوی متقومة بالرأي بقاءا بل متقومة به حدوثاً فبحدوثه تحصل الفتوی وهي مستمرة عرفاً حتی مع انتفاء الرأي.

وأجیب أیضاً: أن الرأي للمیت غیر معلوم زواله حتی عرفاً لان الموت ارتحال إلی عالم أرفع وأرقی فتخرج النفس من عالم ضیق وصغیر إلی عالم واسع وكبیر ومن ثم یتصف الأنبیاء (علیهم السلام) بالنبوة حال

ص: 169

الموت فهو وصف كمال لا وصف نقص وإلا لما اتصف به الأنبیاء (علیهم السلام) وهو بخلاف الجنون والمرض والنسیان فالموت كمال لموضوع الرأي عرفاً وهو الروح، فصفات النفس والروح لا تزول ولا تضعف بالموت بل تقوی وتثبت.

وببیان آخر: أنه إذا مال الانسان إلی قول أو رأي معین یبقی عرفا أنه ینسب إلیه حقیقة وبدون تجوز حتی حال موته ولهذا یقال فتوی الشیخ الطوسي ورأي العلامة والمحقق الحلي، وقد یكون تخریج ذلك من جهة أن حدوث الرأي في حیاة المفتي حیثیة تعلیلیة عند العرف لبقاء الاسناد لا حیثیة تقییدیة حتی تحتاج إلیها حدوثا وبقاءا وقد یكون تخریجه من باب ما ذكره الأصفهاني من أن الرأي باقٍ بعد الموت لبقاء النفس.

وهذا بخلاف تبدل الرأي فإنه یختلف عن الموت إذ تبدل الرأي هو تخطئة نفسه... وسنتعرض للمزیدمن البحث إن شاء اللّه في بیان المختار.

الاشكال الرابع:

ما ذكره السید الحكم (قدّس سرّه) واعتمده السید الخوئي (قدّس سرّه) من أن أدلة جواز التقلید إذا شملت المیت ابتداءا یلزم منه التعارض الداخلي وذلك لأن المفروض أن البحث في جواز تقلید المیت ابتداءا في خصوص مخالفة المیت للاحیاء، وأما عند موافقته لهم فإنه یصح الاستناد للجمیع كما یأتي بحثه، فلا معنی للتخییر.

ص: 170

وعند المخالفة لا یمكن التمسك بالسیرة ولا بالاطلاقات وإلا لزم منه التعارض؛ وذلك لأنه في شمول السیرة والاطلاقات للأقوال المتخالفة یلزم الجمع بین المتنافیین وشمولها لأحدها دون الآخر ترجیح بلا مرجح، ویجاب عنه بجوابین نقضي وحلي:

الجواب النقضي:

وحاصله أن هذا لیس خاصاً بالأموات بل یشمل الاحیاء إذا اختلفوا فیما بینهم فالمفروض حصول المعارضة! مع أنهم یعالجون المعارضة فلا تتساقط الأدلة فهنا كذلك! بل یصار إلی التخییر كما سیأتي أو إلی ما ذكره السید الخوئي(قدّس سرّه) وهو الأخذ بأحوط القولین ولیس هذا الاحتیاط هو القسم الأول حتی یكون مقابلاً للتقلید بل هو منحدر عن التقلید ونوع منه.

الجواب الحلي:

وحاصله أیضا أن الكلام في تقلید المیت في نفسه بقطع النظر عن تخلف بعض الشرائط كشرائط المفتي أو الفتوی ككون المیت غیر أعلم أو كون فتوی المیت معارضة بما یخالفها وغیر ذلك، فلیس النظر في الطوارئ بل النظر في تقلید المیت في نفسه مع القطع عن الطوارئ والموانع بل في المقتضی.

ص: 171

الاشكال الخامس: استصحاب عدم الحجیة بتقریبیه:

استصحاب عدم الحجیة فكل حجة یشك فیها فالأصل عدمها، والقائلون بهذا الوجه في منع تقلید المیت ابتداءا التزموا بجواز تقلیده بقاءاَ وذلك لجریان الاستصحاب، وقد قرب وجه المنع بتقریبین:

الأول: إن كان المستصحب هو الحجیة الفعلیة فهذا مقطوع العدم إذ أن حجیة فتوی المیت في حق البالغ قبل وجوده لم تكن حجة فعلیة قطعاً حتی تستصحب بل المستصحب عدمها.

الثاني: إن كان المستصحب هو حجیة الفتوی الانشائیة وما هو علی نحو القضیة الحقیقية فهي وإن كانت متیقنة إلا أنها لیست بمورد للاستصحاب وذلك للشك في دائرة المنشأ سعة وضیقاً فهل الحجیة مجعولة في حیاة المیت فقط أو في حیاته وبعد موته وعلیه فلا یعلم أنها حجة علی خصوص من أدرك المجتهد في حیاته أو للاعم منه فلا علم لنا بثبوت الحجة بعد الممات لتستصحب حتی علی القول بجریان الاستصحاب في الأحكام الكلية .

وفیه:

أن الاسصحاب یجري في نفسه مع قطع النظر عن أي موانع في البین.

ص: 172

وأما ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) بتقریبیه فجوابه أنه قد قرر في محله أن استصحاب بقاء المجعول مقدم علی استصحاب عدم الجعل.

وأما استصحاب حجیة الفتوی الفعلیة الثابتة للمكلف في حیاة

المفتي علی نحو القضیة الخارجية فهي مقطوعة العدم فلا یجري فیها الاستصحاب وأما حجیة الفتوی الثابتة بلحاظ جمیع المكلفین علی نحو القضیة الحقیقة إذ كل مفروض الوجود تكون هذه الفتوی حجة في حقه وعلیه فبعد الموت نشك في زوال حجیة الفتوی علی المكلفین فتستصحب.

وأما ما ذكر من عدم جریان الاستصحاب من جهة اختلال بعض اركانه وهو عدم العلم بالحدوث وذلك للشك في سعة الحجیة وضیقها، فلا نعلم بأن الحجیة المنشأة من الشارع هل هي خاصة بمن أدرك المجتهد وهو حي أو أنها تعم من لم یدركه كذلك؟، وعلیه فلا علم لنا بثبوت الحجیة بعد الممات حتی نسنصحبها بل حتی علی القول بجریان الاستصحاب في الاحكام الكلية إذ في الاحكام الكلية لنا علم بثبوت وفعلیة الحكم في زمان ما وإنما نشك في استمراره وبقاءه وأما بالنسبة إلی ما نحن فیه فلا علم لنا بثبوت الحجیة علی المكلفین فعلاً في زمان ما كالذين لم یدركوا المفتي، ومثل ما نحن فیه احكام الشرائع السابقة فلا علم لنا بثبوتها لنا ولو في زمان ما حتی نستصحبها، فالشك هنا شك

ص: 173

في المقتضي لا الشك في الرافع.

وجوابه: أن ظاهر حجیة فتوی المفتي للمكلفین بنحو القضیة الحقیقة فإذا شككنا في سعة وضیق دائرة القضیة الحقیقية یكون من الشك في الرافع لأن القضیة الحقیقية تشمل كل مقدر الوجود، فالشك في شمولها لبعض مقدر الوجود لا من جهة حقیقيتها بل من جهة الرافع والمخرج بالتخصیص أو التقیید.

وأیضا الحالة السابقة التي هي ركن الاستصحاب لیس من الضروري أن تكون بلحاظ المكلف بل بلحاظ وجود الحجیة للفتوی في نفسها أي الحجیة المشرعة والثابتة والفعلیة التي فعلیتها بفعلیة نفس متعلقها وهي فعلیة ناقصة لا تقتضي التنجیز والتعذیر ، ولا تتوقف هذه علی وجود المكلف، بخلاف الفعلیة التامة فهي التي تقتضي التنجیز والتعذیر ولا تتحقق إلا بالبلوغ والوصول إلی المكلف فهي التي تتوقف علی وجود المكلف، فالفتوی مثلاً طریق معتبر كما في بقیة الامارت والحجج كالروایة فإن حجیتها ثابتة بإخبار الراوي فإن روایته وخبره حجة حتی وإن لم یوجد مكلف وهي الحجة الناقصة فلیس من الضروري أن تكون فعلیة الحجة مرهونة بالاضافة إلی المكلف بل قد تكون بالاضافة إلی نفس الفتوی ومتنها.

ص: 174

ومنشأ منع الأعلام للاستصحاب بدعوی عدم وجود موضوعه هو عدم التفریق بین الحجیة الفعلیة التامة والناقصة، فالتامة هي التنجیز والتعذیر وهذه لا تتحقق إلا بوجود الموضوع أي المكلفین والناقصة بلحاظ الفتوی في نفسها فإنها حجیة ناقصة مثل من عجز عن ترك الحرام فإنه لا تنجیز ولا تعذیر ولكن الحرمة المشرعة باقیة ولم ترتفع، ومثله وضوء الجاهل بالماء المغصوب فإنه لا تنجیز ولا تعذیر مع وجود حرمة التصرف في الماء المغصوب ولهذا حكموا ببطلان وضوءه .

وهذه النكتة التي اغفلها الأعلام بل ونفوها قد أثبتوها في التمسك بالأطلاق في تقلید المیت بقاءاً بنفس هذه النكتة التي صححنا بها الاستصحاب كما ننبه علیها هناك إن شاء اللّه.

الأدلة التي استدل بها علی جواز تقلید المیت ابتداءاً:

الدلیل الأول: سیرة العقلاء:

اشارة

فقد استدلوا باطلاق السیرة العقلائیة القائمة علی الرجوع إلی أهل الخبرة وربما قیل هو العمدة وبالتالي تنسحب إلی السیرة الشرعية ولا یفرق فیها بین الرجوع إلی الحي أو المیت ما دام المیت من أهل الخبرة في مجاله وهذا أمر مطرد عند العقلاء في كل موارد الرجوع إلی خبرویات أهل الخبرة سواء كان الرجوع له ابتداءاً أو بقاءاً.

ص: 175

الاشكال علیه:

أنه مخدوش بتمحیص حقیقة رجوع العقلاء في كل مجال إلی أهل الخبرة؛ لأن رجوعهم إلی المیت هل هو بالمباشرة وبدون الاستعانة بأهل الخبرة الاحیاء وتوسطهم؟ أم لابد في رجوعهم من اعتمادهم علی أهل الخبرة من الأحیاء أولاً وأهل الخبرة یرجعونهم إلیه ثانیاً؟

فالمشاهد أنهم لا یرجوع إلی المیت ابتداءا إلا بتوسط الاحیاء ففي العمليات الطبیة والهندسیة وغیرها لا یرجعون إلی الأموات إلا بتوسط أهل الخبرة وذلك لأنهم لا یعلمون هل نظریة الأعلم باقیة أو أن هذه النظریة أبطلت مثلا أم لم تبطل، طرأ علیها بعض التغیرات الهامة أو لا ؟وغیر ذلك من الامور التي یرجع في شؤونها ومعرفتها وتحدیدها إلی أهل الخبرة .

وهذا خاص كما هو واضح بالمسائل النظریة والباقیة علی نظریتها لا بالمسائل البدیهیة إذ لكل علم مسائل بدیهیة وأخری نظریة ففي المسائل البدیهیة لا یرجع فیها إلی أهل الخبرة أصلاً.

وسبب ذلك كله هو تكامل العلوم جیلاً بعد جیل وهو أمر طبیعي ملموس في قوافل العلوم سواء كان في الطب أو الهندسة أو الفیزیاء وغیرها، وبطبیعة العقلاء أنهم یسعون لاتباع الأكمل.

وعلی هذا فما قیل من قیام السیرة علی رجوع العقلاء للأموات

ص: 176

مباشرة لیس بصحیح بل لابد من توسط الرجوع إلی الاحیاء، نعم في بعض الموارد التي أخذوها من الأموات وأدركوا أثرها الایجابي فإنهم بقاءاً لا أبتداءاً لا یرجعون إلی الأحیاء إلا إذا كان الأمر خطیراً.

الدلیل الثاني: اطلاقات الأدلة والعناوین:

اطلاقات الأدلة والعناوین الواردة مثل قوله تعالی: (لِیَتَفَقَّهُوا في الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) .وقوله تعالی: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .ومثل قوله (علیه السلام) :

«رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا» ، وقوله:

«أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ...» ، وقوله:

«اجعلوا بینكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته علیكم قاضیا» .

وبیان ذلك: أن دعوی اطلاق هذه العناوین لشمولها للمیت والحي وعدم تقییدها بالحیاة مبنیة - بعد ظهور اختصاص هذه العناوین بالحي - علی أن اعتبار هذه العناوین حدوثا لا بقاء فتكون حیثیة تعلیلیة مثل وثاقة الرواي وحیاته في حجیة الروایة أو حدوثا وبقاءا فتكون حیثیة تقییدیة مثل عدم تكذیب الراوي نفسه، فإن الراوي تعتبر روایته بشرط أنه لا یكذب نفسه وهذا القید مأخوذ حدوثا وبقاءا.

فالسؤال الذي یطرح نفسه عن الحیاة المعتبرة في حجیة فتوی المفتي هل هي مأخوذة علی نحو التقیید أو التعلیل ؟

والجواب: أنه إذا كانت الجهة المأخوذة في الفتوی هي جنبة الأماریة

ص: 177

والكاشفیة المحضة فإنها تحصل بمجرد الحدوث ولا یشترط البقاء مثل وثاقة الروایة وعدالة الشاهد فإنه بمجرد ما یخبر الراوي أو یشهد الشاهد تحصل الكاشفیة بحدوث روایته أو شهادته حتی لو زالت الوثاقة والعدالة بعد ذلك؛ لوضوح أن الامارة لیست مرهونة ببقاء الصفات .

هذا لو كنّا نحن والجنبة الأماریة فالاطلاق المدعي تام لتوقف الكاشفیة والاماریة علی ثبوت الصفات حدوثاً فقط ولو كان لبقاء هذه الصفات موضوعية في حكم الشارع بالحجیة لاشترطه، فینفی اشتراطه بالاطلاق وعلیه أن الفتوی إذا صدرت من المفتي وهو واجد للصفات تحقق الكشف حتی لو زالت بعد ذلك ولا یفرق في سبب الاماریة والكاشفیة بین السبب الحسي والسبب الحدسي والملكة العلمية إذ الكاشفیة تحصل بمجرد حدوث تلك الصفات المأخوذة في الكشف.

وخیر شاهد علی ذلك كتاب الشلمغاني فإنه بعد انحرافه قال الحسین بن روح (قدّس سرّه) : أقول فیها ما قاله أبو محمد الحسن بن علی (صلوات اللّه علیهما) وقد سئل عن عن بني فضال فقالوا: كیف نعمل بكتبهم وبیوتنا منها ملاء؟ فقال (صلوات اللّه علیه) :«خذوا بما رووا وذروا ما رأوا» (1).

ص: 178


1- الغیبة (للطوسي) : ص390 ح 355 .

وأما لو قلنا: إن الجهة المعتبرة في الفتوی شیء آخر أیضا غیر الاماریة والكاشفیة المحضة كما هو الصحیح علی ما سیأتي بیانه من أن المناط في حجیة فتوی المفتي لیست الأماریة فقط بل توجد مناطات أخر ولذلك - من باب المثال - لو جن أو مرض أو فسق فإنه مع بقاء رأیه وعدم تبدله فلا یصح الرجوع إلیه والأخذ به ، فعدم صحة التقلید في هذه الأحوال منبه اجمالي علی أن المناط لیس هو الكاشفیة المحضة وإن كان الدلیل القائم علی ذلك في هذه الموارد الاجماع.

فادعاء الأطلاق أو التقیید ینقح أن استظهار حجیة فتوی المفتي أمارة محضة أو غیر محضة، فمن قال بالجواز فعلیه أن یقیم الشواهد علی أن الحیثیة المأخوذة في هذه العناوین تعلیلیة ومن قال بالمنع علیه أن یقیم الشواهد علی أن حیثیتها تقییدیة. فالتأمل في الاطلاق المدعي في المقام منشأه عدم تقدیم المستدل شواهد علی مدعاه.

الدلیل الثالث: استصحاب الحجیة الثابتة للفتوی بعد الموت

اشارة

وقد اعترض علیه بعدة اعتراضات:

الاعتراض الاول وجوابه:

الاعتراضات المتقدمة في أدلة المانعین من كونه لا حالة سابقة له، وقد تقدم الجواب عن كل ذلك.

ص: 179

الاعتراض الثاني وجوابه:

ما ذكره الآخوند (قدّس سرّه) من أن الحجیة معنی عقلي بمعنی التنجیز والتعذیر وهو منتزع من حكم آخر فلا یمكن استصحابه.

وفیه: أنه إشكال مبنائي، والصحیح هو ما ذكره المحقق النائیني (قدّس سرّه) - وإن كان ما ذكره له عدة صیاغات وبیانات - من أن الحجیة معنی وضعي معتبر في باب الامارة فهو قابل للاستصحاب.

الاعتراض الثالث وجوابه:

ما ذكره الآخوند (قدّس سرّه) من أن بین الحیاة والموت تبدل موضوع وذلك باعتبار أن العرف یری أن فتوی المفتي متقومة بالرأي وهو متقوم بالحیاة ومع الموت ینعدم موضوع الفتوی ویتحقق موضوع جدید .

وذكر (قدّس سرّه) شواهد فقهیة علی تقوم الفتوی بالرأي كتسالم الكل علی أن المفتي إذا جن أو فسق أو مرض أو غیرها من اختلال الشروط التي تعدم الرأي، فقد التزموا بعدم صحة البقاء علی تقلیده وهو حي إذا ذهب عقله أو صحته أو عدالته أو غیرها... وهذه الامور متقومة بالحیاة فإذا انتفت الحیاة ینعدم الرأي من باب أولی، فهذا شاهد علی تقوم الرأي بالحیاة.

وفیه: أن ما ذكره متین ، إلا أن الكلام فیما ذكره من الشواهد من أنها

ص: 180

لاتدل علی تقوم الفتوی بالرأي، بل تدل علی نكتة أخری - سنذكرها في بیان المختار - هي أن فتوی المفتي لیست متمحضة في الأماریة والكاشفیة بل لها عنصر ومناط آخر، وجملة من الأعلام في باب التقلید عندهم اغفال عن هذه الحیثیة التي سنذكرها وإن كانوا ارتكازا ملتفتین لها كما هو ظاهر منهم في بعض الفروع.

وبعبارة أخری: أن الاشكال علی الاستصحاب هو تبدل الموضوع بسبب الموت وذلك لما یأتي في معنی حجیة الفتوی من اشتمالها علی حیثیة تختلف عن الاماریة المحضة بحیث إن تلك الحیثیة تختل بالموت لا بسبب ما ذكره بعض الأعلام من الاشكالات السابقة من عدم العلم بالحالة السابقة أو أن الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الجعل، بل هو لأجل تلك الحیثیة المأخوذة في معنی الفتوی التي تنتفي بالموت ومن هنا یستشكل في جریان الاستصحاب.

فبعض هذه الاشكالات خاص بالتقلید الابتدائي كعدم العلم بالحالة السابقة وبعضها مشترك بینه وبین البقائي كالاشكال الثاني من كون الحجیة عقلیة منتزعة فلیست حكماً شرعيا أو موضوعاً لحكم شرعي فلا یجري الاستصحاب لعدم ترتب الأثر. نعم لو كانوضعها باعتبار من الشرع لترتبت علیها آثارها العقلية من صحة التنجیز والتعذیر.

وهذه الاشكالات لیست بتامة عندنا... والتام عندنا ما اختاره الآخوند

ص: 181

من تبدل الموضوع ولكن لا للنكتة التي ذكرها بل لما نختاره، وما نختاره مانع من جریان الاستصحاب بلا فرق فیه بین التقلید الابتدائي والبقائي.

هذا تمام الكلام في أدلة المانعین والمثبتین وقد ارتضینا من أدلة المانعین الاجماع بنكتة الضرورة المذهبیة.

بیان المختار في تقلید المیت ابتداءاً:

اشارة

ثم إن ما اعتمدناه من الادلة علی عدم جواز تقلید المیت ابتداءاً یتألف من مقدمات:

المقدمة الأولی: في اشتمال حقیقة الفتوی علی الأماریة والولایة:

أن الفتوی لیست اخبارا وامارة محضة بل هي نوع من الصلاحیة والولایة والنفوذ وقد تقدمت الشواهد علی ذلك من الآیات الروایات وغیرها فلا بد لها من التنصیب والأذن من اللّه.

المقدمة الثانية: في عدم الدلیل علی بقاء الولایة بعد الموت

اشارة

أن هذه الولایة والسلطة والصلاحیة لا دلیل علی بقاءها بعد الموت فلا بد من اعتبار الحیاة في تنفیذ واعمال هذه الولایة والسلطنة . هذا علی نحو الاجمال .

وأما بیانهما بنحو التفصل:

المقدمة الأولی وأدلتها:
اشارة

ص: 182

وحاصلها: أن مختارنا یعتمد علی بیان ماهیة وحقیقة الفتوی! فحقیقتها لیست اخبارا وأمارة محضة بل حقیقتها عملیة ممارسة السلطة التشریعية كما هو في علم القانون أیضاً . فالفتوی ممارسة التشریع والسلطة والحاكمیة من الفقهاء ولكنها لیست في عرض تشریع اللّه أو تشریع الرسول (صلی اللّه علیه و آله) أو تشریع أهل البیت (علیهم السلام) ، ولا یخفی أن كل مرتبة من هذه المراتب مختلفة عن الأخری سنخاً .

ویدل علی ذلك دلیلان:

الدلیل الأول: أن هذه الممارسة تحتاج إلی أذن من صاحبها بالأصل وتولیة منه وهي ولایة اللّه لقوله تعالی: (قُلْ اللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَی اللّه تَفْتَرُونَ) .فالمراد من الافتراء هو الكذب مع أن اللّه علق قولهم علی الأذن فقط مع قطع النظر عن مطابقة الواقع فإن إذن كان صدقاً وإن لم یأذن كان كذباً فلو فسرنا الفتوی بالاخبار المحض فلا ترتبط بالأذن وحیث إنها مربوطة به في الآیة فیكون معنی الأذن صلاحیة وترخیص فإذا أذن اللّه تكون الفتیا صدقاوإذا لم یأذن فهي افتراء.

وظاهر هذا أن الفتوی لیست أمارة بل هي انشاء حكم واعمال منصب التشریع ولو كانت أمارة محضة ولیست بتولیة من اللّه والنبي (صلی اللّه علیه و آله) وأهل بیته (علیهم السلام) ولا إنشاء حكم فإنه لا ربط لها بالأذن، وعلیه فالأذن یدل علی أن الفتیا مرتبطة بمنصب وسلطنة وولایة منحدرة من ولایة اللّه

ص: 183

ثم ولایة الرسول (صلی اللّه علیه و آله) ، ثم ولایة أهل العصمة (علیهم السلام) .

وبدون الأذن والصلاحیة والسلطنة المنحدرة من ولایة اللّه وأولیاءه فهي لیست بفتوی بل كذب وافتراء لأنه نوع من التعدي علی هذا المنصب.

وهذا ثابت أیضاً في مقام النبوة والوصیة فكما هي ابلاغ فهي تحتاج إلی صلاحیة واذن من اللّه، وكذا البشارة والنذارة من الانبیاء فإنه ابلاغ واخبار ولكنه یشترط فیه الأذن والصلاحیة لهذا المنصب فكذا الإبلاغ عن النبي (صلی اللّه علیه و آله) وأوصیاءه فهذا كله یحتاج إلی صلاحیة وأذن لكونه منصبا وسلطنة وولایة متفرعة.

بیان دور النبي في التشریع:

ولهذا یبتني جهالة وجحود مقولة :«حسبنا كتاب اللّه» وأن النبي (صلی اللّه علیه و آله) في دعواه ومقالته ساعي برید لا دور له إلا الواسطة المحضة ولا یعرف أن سنن النبي (صلی اللّه علیه و آله) حلقة لها موضوعية في تلقي سنن اللّه وكذا سنن أهل العصمة حلقة لها موضوعية في تحقق سنن النبي (صلی اللّه علیه و آله) للمكلفین.

ومع أن أتباع هذا القائل وافقوا صاحبهم في النظرة القاصرة المقصرة في معرفة مقام النبي (صلی اللّه علیه و آله) وخالفوه في أئمة المذاهب الأربعة حیث جعلوا لهم موضوعية في تحقق سنن النبي (صلی اللّه علیه و آله) بحیث لا یجتهد من

ص: 184

یأتي بعدهم إلا في فهم كلام هؤلاء الاربعة مع أنهم لم یقولوا حسبنا كتاب اللّه وسنة نبیناً إذ هي بین أیدهم ولو اخذوا بالكتاب وسنة النبي (صلی اللّه علیه و آله) لتركوا هؤلاء الأربعة مع أن هؤلاء فقهاء یمكن مخالفتهم ولیست مخالفتهم كفر إلا أن ضرورة وجود الواسطة المعصومة التي لا تخطأ - بل یكون الاجتهاد في كنفهم وأقوالهم - تحتم علیهم أن یتخذوا هؤلاء الفقهاء ویجعلوهم أئمة معصومین لا فقهاء فحسب وهذا عاقبة من أنكر وترك الواسطة بین الخلق والنبوة المتمثلة في أهل البیت (علیهم السلام) .

الدلیل الثاني: اعتبار الولایة والسلطنة في الفتوی وشواهده:
شواهد الآیات:

(إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْكُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَ كانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآیأتي ثَمَناً قَلِیلاً وَ مَنْ لَمْ یَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1).

فالترتب المذكور في الآیة بین الحاكمین بالتوراة طولي منصب النبیین ثم منصب الأوصیاء ثم منصب العلماء فالترتب باعتبار المناصب المجعولة فهو شاهد علی جعل المنصب للعلماء والفقهاء الذي في طول

ص: 185


1- سورة المائدة الآیة 44.

منصب الانبیاء والاوصیاء.

والمراد من الحكم عام ولیس المقصود به القضاء فقط بل المراد به مطلق الفتیا وقد ورد الحكم بمعنی الفتیا في الكتاب في آیات أخری وهي تدل علی أن الفتیا صلاحیة وسلطة ومنصب ولیست مجرد إخبار محض.

شواهد الاخبار:

منها صحیحة أحمد بن اسحاق:

«العمري ثقتي فما أدی إلیك عنی فعني یؤدي ، وما قال لك عني فعني یقول ، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون» ، قال : وسألت أبا محمد (علیه السلام) عن مثل ذلك فقال : «العمري وابنه ثقتان فما أدیا إلیك عني فعني یؤدیان ، وما قالا لك فعني یقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان»(1).

فإنها ظاهرة في السلطة التشریعية نیابة عنهم (علیهم السلام) .

وأیضاً صحیحة أبي بصیر قال : قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) : أرأیت الراد علی هذا الامر كالراد علیكم ؟ فقال :

«یا أبا محمد، من رد علیك هذا الامر فهو كالراد علی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله)»(2).

ص: 186


1- وسائل الشیعة: أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 137 ح 4 .
2- المصدر نفسه، ص 153 ح 48 .

فهي جعل مقام وسلطة وولایة ولیست مجرد امارة كاشفة. وأیضا ما دل علیه التوقیع بسند الطوسي (قدّس سرّه) قال :

«أما ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبتك - إلی أن قال : - وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتي علیكم وأنا حجة اللّه، وأما محمد ابن عثمان العمري (رضي اللّه عنه) وعن أبیه من قبل ، فإنه ثقتي وكتابه كتابي»(1).

وأیضاً في التوقیع الشریف:

«فإنه لا عذر لأحد من موالینا في التشكیك فیما یرویه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ، ونحملهم إیاه إلیهم» (2).

وهو واضح الدلالة علی أنه منصب ولیس مجرد نقل للاخبار والحكایة والكشف وهو لازم التعبد به ولایصح التشكیك فیه فهو تولیة منهم إلی الفقهاء واعطاءهم الصلاحیة .

وفي التوقیع الآخر الموثوق الصدور لمحمد بن صالح الهمداني لتعدد طرقها قال(علیه السلام) :

«ویحكم ما تقرؤون ما قال اللّه تعالی : (وَ جَعَلْنا بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ الْقُرَی التي بارَكْنا فِیها قُریً ظاهِرَةً) (3)، فنحن - واللّه -

ص: 187


1- وسائل الشیعة: أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 140 ح 9 .
2- المصدر نفسه، ص 150 ح 40 .
3- سورة سبأ، الآیة 18.

القری التي بارك فیها ، وأنتم القری الظاهرة»(1)

وهو دال علی نیابة الفقهاء في الفتیا عن المعصومین (علیهم السلام) .

ومنها: روایة علی بن سوید - وهي كالمحسّنة - عن أبي الحسن (علیه السلام) :

«لا تأخذن معالم دینك عن غیر شیعتنا ، فإنك إن تعدیتهم أخذت دینك عن الخائنین ، الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنهم ائتمنوا علی كتاب اللّه ، فحرفوه وبدلوه فعلیهم لعنة اللّه ولعنة رسوله ولعنة ملائكة ، ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شیعتي إلی یوم القیامة ...» الحدیث(2).

فإن الفتوی لو كانت امارة وكاشفة فقط لما كان للشیعة خصوصیة فلیس هو مجرد الكشف عن الواقع بل سلطنة تشریعیة مجعولة لفقهاء الشیعة .

ویدل علیها أیضا : أخبار القضاء إذ إن القضاء هو فتوی وزیادة وفي كثیر من الآیات عبرت عن الفتوی بالحكم:

منها: مصححة عمر بن حنظلة قال:

«ینظران إلی من كان منكم قد

ص: 188


1- وسائل الشیعة: أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 151 ح 46 .
2- المصدر نفسه، ص 150 ح 42 .

روی حدیثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فلیرضوا به حكما ، فإني قد جعلته علیكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم یقبل منه فإنه استخف بحكم اللّه ، وعلینا رد ، والراد علینا الراد علی اللّه ، وهو علی حد الشرك باللّه»(1).

فإن القضاء فتوی وزیادة ، والامام (علیه السلام) قد قلده هذه الولایة .

ومنها: معتبرة أبي خدیجة سالم بن مكران : فقال (علیه السلام) :

«قل لهم: إیاكم إذا وقعت بینكم خصومة أو تداري في شئ من الاخذ والعطاء ، أن تحاكموا إلی أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بینكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فاني قد جعلته علیكم قاضیا، وإیاكم أن یخاصم بعضكم بعضا إلی السلطان الجائر» (2).

فجعل (علیه السلام) للقاضي الفقیه ولایة ومنصباً في طول ولایة ومنصب المعصومین (علیهم السلام) ولیس قضاء القاضي مجرد امارة محضة.

منها مصححة جمیل بن دراج عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) - في حدیث - أنه ذم رجلا فقال :

«لا قدّس اللّه روحه ، ولا قدّس مثله ، إنه ذكر أقواما كان أبي (علیه السلام) ائتمنهم علی حلال اللّه وحرامه وكانوا عیبة علمه

ص: 189


1- وسائل الشیعة: أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 139 ح 7 .
2- المصدر نفسه، ص 150 ح 42 .

،وكذلك الیوم هم عندي مستودع سري وأصحاب أبي حقا ، إذا أراد اللّه بأهل الأرض سوءا صرف بهم عنهم السوء ، هم نجوم شیعتي أحیاء وأمواتا ، هم الذين أحیوا ذكر أبي (علیه السلام) ، بهم یكشف اللّه كل بدعة ، ینفون عن هذا الدین انتحال المبطلین ، وتأویل الغالین ، ثم بكی ، فقلت : من هم ؟ فقال : من علیهم صلوات اللّه (وعلیهم رحمته) أحیاء وأمواتا : برید العجلي ، وأبو بصیر ، وزرارة ، ومحمد بن مسلم»(1) .

وتقریب الاستدلال أن الأمانة ولایة وتولیة وكذلك عنوان الحافظ للودیعة والمستودع فتفید أن الفقاهة ولایة وأمانة.

وقد یعترض بأن هذه المصححة تفید الاعتماد علی تقلید الأموات ابتداءا وهذا معنی كونهم نجوم أي مما یهتدي بهم أي ما استنبطوا وفهموه، فهم نجوم وطرق هدایة أحیاء وأمواتا.

وقرینة أخری قوله عن هذا الدین ومعروف أن هذا الدین أبدي إلی یوم القیامة فهم نجومه.

وأیضا تعبیره بالصیغة المضارعة: ینفون عن هذا الدین انتحال.... فإنه یدل علی استمرار هذا النفي منهم حتی إلی ما بعد موتهم.

ص: 190


1- وسائل الشیعة: أبواب صفات القاضي، ب 11 ص 145 ح 25 .

وفیه: أن استئمانهم لم یذكر فیه أحیاءا وأمواتاً بل كونهم نجوم الشیعة وأن الصلاة علیهم ذكر فیه احیاءاً وأمواتاً وهذا مقرر لأن اشتهارهم ومقامهم في الفضیلة وأثر ذلك من الصلوات علیهم مستمر إلی ما بعد حیاتهم وهذا بخلاف استیداعهم واستحفاظهم فإنه لم یطلق فیه إلی مماتهم بل خص بحیاتهم.

ومن الشواهد علی اعتبار المنصبیة والولایة: العلم

أن الفقهاء علماء والعلم دائما هو مصدر للقوة والقدرة فمع كونه علما وكاشفا فهو یولد صفة عملیة كمالیة وهي القدرة والقوة وهما تستبطنان نوعا من التصرف والسلطنة والصلاحیة.

ومن الشواهد: حقیقة ما یقوم به الفقیه المفتي

تعبیر الأعلام عن المرجعیة بالزعامة، وذلك لأن المفتي هو الذي یتحكم في مسیر الطائفة والمؤمنین وكل ذلك لكون الفتوی تسبب تحكم وتنظیم وهیمنة وتصرف في مسیر الأمة، فحتی القضاء فإنه وإن كان خاصاً برفع النزاعات إلا أنه یتوقف علی الافتاء لأن مورد القضاء فرع مخالفة الفتوی - التي هي عبارة عن النظام والقانون - وإلا لو كانت الامة مطیعة للنظام الشرعي وغیر متمردة علیه لما احتجنا إلی القضاء وإقامة الحدود، فالفتوی هي المسار الطبیعي الأولی لأنها هي أصل القانون والنظام ، فالآثار الأخری كالمحاكمة القضائیة والعقوبة وغیرها

ص: 191

فرع وجود النظام إذ علی قراره تحصل المحاكمة والعقوبات علی فرض مخالفته والتعدي علیه، فالسلطنة في الأصل هي سلطة التشریع والافتاء.

ومن الشواهد: عدم وجود الإخبار المحض والانشاء المحض:

وهو ما قررناه في المباحث الأصولية من عدم وجود إخبار محض كما أنه لیس لنا إنشاء محض بل دائما یكون إخبار مقترنا بإنشاءما یشتد أو یضعف وكذا الانشاء لیس إنشاءاً محضاً بل یقترن باخبارما یشتد أو یضعف.

وبیانه: أن الإخبار هو عبارة عن التزام المخبر بأن ما یحكیه مطابق للواقع وصادق وهذا الالتزام انشاء، ولهذا یطلب من الشاهد في مقام الشهادة انشاء الشهادة فیقال له: انشئ الشهادة. وتسمیتها انشاء لما تحتویه من الالتزام فإن المخبر أو الشاهد لو لم یلتزم بصدق مضمون ما یخبره أو یشهده فلا یعتمد علی خبره أو شهادته إذ لا تصدیق فیه بل لا یدل إلا علی مجرد الدلالة التصوریة، فالاخبار دائماً فیه جنبة انشاء إلا أنها ضعیفة في الخبر وتشتد في الروایة وتزید شدة في البینة وتزید في الفتوی وأكثر في الامامة وفي النبوة.

ولهذا تری أن الناطق الرسمي مخبر، وأما كونه رسمیاً فبما له من ولایة ولابد من الصلاحیة والأذن والترخیص الخاص بأنه المخول لأن یخبر ویعتمد علی خبره دون غیره بحیث لو لم ینطق لا یتفعل الحكم

ص: 192

والقانون أي لا تعتبر شرعيته، وهذا هو مضمون الخبر المعروف عن جبرائیل عن اللّه مخاطبا للنبي (صلی اللّه علیه و آله) قائلاً :

«یا محمد، إن اللّه یقول لك : إنه لا یبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك» (1) في حادثة تبلیغ سورة البراءة.

منها: صحیح الحارث بن المغیرة ، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال : سألته عن قول اللّه (عز وجل) : (وَ أَذانٌ مِنَ اللّه وَ رَسُولِهِ إِلَی النّاسِ یَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (2) فقال: «اسم نحله اللّه (عز وجل) علیاً (صلوات اللّه علیه)

من السماء؛ لأنه هو الذي أدی عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) براءة وقد كان بعث بها مع أبي بكر أولا فنزل علیه جبرئیل (علیه السلام) فقال: یا محمد، إن اللّه یقول لك: "إنه لا یبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك" فبعث رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) عند ذلك علیاً (علیه السلام) فلحق أبا بكر وأخذ الصحیفة من یده ومضی بها إلی مكة فسماه اللّه تعالی أذانا من اللّه ، إنه اسم نحله اللّه من السماء لعلي (علیه السلام)»(3) .

فالنّطق عن السماء لیس هو إخبار محض بل هو مقام ومنصب إلهي یحتاج إلی أذن وترخیص ولهذا

«لا یبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك».

ص: 193


1- المستدرك (الحاكم) : ج ص 51 ، شواهد التنزیل: ج 1 ص 318 ، الفصول المهمة (ابن الصبّاغ) : ج 1 ص 232 .
2- سورة التوبة، الآیة 3 .
3- معاني الأخبار: ص 298 ح 2 .

فعزل الاخبار عن الانشاء والولایة التي تحتاج إلی أذن وترخیص كما سطره العامة في بحوثهم الكلامية والفقهية لعدم فهمهم أن الرسالة والامامة مقام ومنصب إلالهي ولیس الحاكي لها مجرد ناقل وساعي برید - والعیاذ باللّه - وكذلك من یأتي بعد الرسول لیس هو مجرد مخبر محض، فقد قالوا في الصحابة: إنهم مخبرون فقط ولكنهم عملیاً لا یتعاملون معهم إلا بأنهم أصحاب مقام وقداسة وكذلك أئمتهم الاربعة أعطوهم ذلك المقام بحیث لم یخالفوهم أزید من عشرة قرون فالاجتهاد في كنف هؤلاء ولا یخرج عنهم فهم عملیا یقرّون ویرون من ضرورة الدین ونسیجه وجود تلك الحلقة الحاویة للولایة والمنصب بین المكلفین والنبي (صلی اللّه علیه و آله) .

وحاصل هذا الشاهد: هو أن الفتیا هي انشاء التزام - بما ورد عن الشارع المقدس - فهو یحتاج إلی ترخیص وأذن ولیست أخباراً محضاً.

ومن الشواهد أنه توجد عندنا حجة في باب العقل النظري وحجة في باب العقل العملي، فهي في العقل النظري لا توجب إلا الكشف والیقین والاذعان كالبرهان ولا علاقة لها بالعمل، أما في العقل العملي فهي ممتزجة من الجانبین الاماري الكاشف والعملي الباعث وقد ذكرنا في المباحث الأصولية أن الحجیة الأصولية لیست حجیة العقل النظری

ص: 194

بل هي حجیة العقل العملي لأن أصل المنجزیة والمعذریة معناها حجیة العقل الباعث علی العمل، وهذا لیس بخاص بحجیة الفتوی بل جمیع الحجج في أبواب الأصول والفقه والشریعة فهي من حجیة العقل العملي إلا ما دل الدلیل علی خروجه فحتی حجیة الروایة ذكرنا في محله - كبحث حجیة خبر الواحد في الاصول وكذا في علم الرجال وعلم الكلام والعقائد - أن حجیتها حجیة العقل العملي وفیها جنبة صلاحیة ولائیة وسلطة وحاكمیة خلافاً لمن قال بأنها إمارة محضة لتكون حجیتها من حجج العقل النظري إذ لیس فیه إلا الحكایة والكشف عن الواقع، وتشتد هذه الجنبة الولائیة في الفتوی بشكل واضح وعلیه تكون في حجیة الفتوی جنبة ولائیة وحاكمیة وسلطة.

المقدمة الثالثة: لبیان المختار في الاحتیاج إلی ولایة الحي :

إن هذه الولایة والسلطة والصلاحیة لا دلیل یقتضي بقاءها بعد الموت فلا بد في تنفیذ واعمال هذه الولایة والسلطنة من ولایة الحي، ویدل علی اعتبارها أمور:

الأول: ما ذكرناه من صیغ الاجماع علی منع التقلید ابتداءا مؤشر لهذه المقدمة الثانية.

الثاني: حیث ثبت في المقدمة الأولی بأن الفتوی لیست إمارة محضة

ص: 195

بل فیها جنبة ولائیة وحاكمیة فهي شبیه بقضاء القاضي فلابد أن یتعامل معها كما یتعامل مع قضاء القاضي فإنه لو مات تنقطع وتنتهي ولایته وحاكمیته بالموت فیما یستجدُّ من احكام ومن ثم تنقطع صلاحیته الفقیهة وكذلك المجتهد بموته في مقام الفتوی باعتبار أن طبیعة الفتوی متضمنة للولایة والحاكمیة فهي تنقطع بموته كقضاء القاضي، نعم بالنسبة إلی ما أنفذه من الأحكام فسیأتي في مسألة البقاء علی تقلید المیت.

والثالث: دأب الأعلام وتسالموا في بحث الصلاحیات والولایات النیابیة للفقیه أنها تنقطع بالموت كاستلام الخمس والزكاة وإدارة الأمور وحیث أن الفتوی لها تلك الصلاحیة الولائیة والحاكمیة فهي كذلك بلا فرق، فبعد موت الفقیه لا دلیل یقتضي بقاء الحجیة لفتواه وذلك لتضمنها الولایة والحاكمیة والسلطة التشریعية وهذه كلها تنعدم وتنقطع بالموت ولا دلیل یوجب بقاءها بعده.

وهو یختلف عن حكم اللّه عز أسمه والنبي (صلی اللّه علیه و آله) والامام (علیه السلام) لعدم احتمال الخطأ في كلام الوحي ولعموم أحكام اللّه ورسوله وأوصیائه صلوات اللّه علیه وعلیهم أجمعین وولایتهم لجمیع البشریة إلی یوم القیامة وذلك لعموم الدین وكل ذلك لأن ولایة المعصوم لا تبدل فیها بل هي الواقع المحفوظ الذي لا یتعدي ولا یخطئ، بخلاف ولایة الفقهاء فإنها في معرض الخطأ والصواب ، فهي قابلة للتبدل والتخطي والنقد

ص: 196

بالموازین فهي غیر مستمرة، فدرجتها وخصوصیتها لیست بدرجة ولایة المعصوم (علیه السلام) .

ولیس في نطاق الأدلة ما یبقی ولایة الفقیه بعد الموت، نعم بالنسبة إلی من قلدهم سیأتي التعرض له في تقلید المیت بقاءا، وأیضا توجد مؤشرات علی ذلك:

منها: أن نفس تأمل بعض الأعلام - كما تقدم في أن الحجیة الفعلیة الثابتة في حق المكلف زمان حیاة المقلد بالفتح هل هي بنحو القضیة الحقیقية بمعنی أنها تشمل الأحیاء في زمانه ومن سیأتي بعد موته - منشأه أن هذه الحجیة لیست أماریة فقط بل هي ولائیة وابقاؤها لابد له من بقاء الولایة وحیث أن ظاهر الأدلة هو عدم جعل الولایة والحاكمیة للمیت استشكلوا في عدم سعة نطاق الحجیة المجعولة لفتوی الحي إلی ما بعد موته وهذا التأمل والاستشكال منهم متین.

وأیضا ذهاب بعض الأعلام للحكم ببقاء الحجیة بعد الموت لذهابهم إلی أن الفتوی إمارة محضة كالروایة إلا أن الروایة حسیة والفتوی حدسیة بل هي حسیة محضة علی رأي الاخباریین أیضاً - ومن هنا قالوا ببقاءها بعد الموت ولو التفتوا إلی أنها لیست كذلك بل لها جنبة ولائیة وحاكمیة كما لها جنبة اماریة لما قالوا ببقاءها بعد الموت! وهذا كله دلیل علی انقطاع الولایة والحاكمیة بالموت اتفاقاً وتسالما فالصحیح أنها

ص: 197

لیست بأمارة محضة كما تقدم في المقدمة الأولی، ولهذا ضممنا إلی أدلة حجیة الفتوی حجیة أدلة الحاكمیة كقوله (علیه السلام) : «إني جعلته حاكما» .

وحجیة صلاحیة القضاء للفقیه وذلك لان جعل الفتوی للفقیه جعل حاكمیة له ولكنها متشعبة وذلك لأن القضاء هو حاكمیة للفقیه وزیادة فعلی هذا یكون عزل أدلة الفتوی عن الأدلة النیابیة للفقیه عن المعصوم (علیه السلام) - لكنها نیابة بشكل محدود - غیر صحیح؛ وذلك لأنهم نظروا إلی الفتوی كامارة محضة أما حسیة ممزوجة بالحدس أو حسیة محضة. والصحیح أنها لیست بامارة محضة كما تقدم في المقدمة الأولی.

فلابد أن یكون الاستظهار من أدلة الفتوی عین الاستظهار من الأدلة النیابیة للفقیه عن المعصوم (علیه السلام) من أنها ظاهرة في الحي - لا لكون الفتوی امارة محضة وإلا لأشكل بما أشكل - بل لأنها نوع من النیابة والولایة والسلطنة وهي لا بقاء لها بعد الموت.

وأیضا لو تنزلنا وقلنا بأن حجیة الفتوی كحجیة الروایة فمن قال إن حجیة الروایة بمفردها باقیة بعد موت الرواي وذلك لأن حجیة الروایة عن المیت لا تثبت إلا إذا كان الواسطة بیننا وبین المیت راوی حي، وكذا التواتر لابد أن یكون بین من ندركهم من الأحیاء وإلا لكانت وجادة وهي لیست بحجة ، فحتی حجیة الروایة لا تثبت إلا بواسطة

ص: 198

مشروطة بالحیاة فلا تثبت الروایة إلا عن حي عن حي وإلا لو كان میتاً لكانت الروایة عن المیت مرسلة لا اعتبار بها وذلك لانقطاع الطریق بیننا وبین المیت، فثبوت قول زرارة بقول العلاء بن رزین وهو یثبت بقول صفوان - مثلاً - وهكذا،ثم تواتر كتب الحدیث یدا بید إلی زماننا،ولهذا یمكن لمرجع التقلید الحي أن یرجع المقلدین الأحیاء إلی المیت... ولكن لا مباشرة بل بواسطته. فبالموت تنقطع حجیة روایته بین الأحیاء والأموات فكذا الفتوی.

تقلید المیت بقاء:

ثمرة:

أن الشروط المأخوذة في الفقیه المفتي كالایمان والحیاة والرجولة والعدالة والأعلمیة وغیرها هل هي شروط عند الاختلاف مع بقیة العلماء أو عند الاتفاق؟

فالكثیر قالوا - وهو صحیح علی مبنی حجیة الفتوی من باب الاماریة المحضة - : إن هذه الشروط مأخوذة عند الاختلاف لأنه عند الوفاق تكون من قبیل تعاضد الامارات المختلفة كما لو أراد الفقیه أن یستدل علی أمر بروایات متفقة المضمون وفیها الضعیف والحسن والصحیح والموثق فإن له الاستناد إلی مجموعها إذ كلها كاشفة وأمارة كما یصح أن یستند إلی أحدها وإن لم تتوفر فیه الشروط ، ولهذا قالوا

ص: 199

بجواز تقلید غیر الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة فضلاً عن العلم بالموافقة، نعم في موارد الاختلاف یكون لهذا الشروط موضوع لكي تتمیز الحجة من اللاحجة عند التنافي والتعارض ، وعلیه فالبعض جوّز جوز الرجوع ابتداءا إلی المیت في موضوع الوفاق مع الاحیاء.

والبعض یصور وجوب الرجوع للجمیع في موارد الوفاق لكون جمیعها حججاً وإن اختلفت درجات حجیتها ولا معنی لترك بعضها دون البعض، هذا علی فرض كل منها حجة سواء بنفسه او بالانجبار وغیره. وأما في فرض المخالفة فلابد من الترجیح للتعارض.

وكل هذا علی فرض كون حجیة الفتوی من باب الأماریة المحضة وأما بناءا علی كون حجیتها مشتملة علی الولایة والزعامة والسلطة التشریعية فالمفروض أنه لا یفرق بین الوفاق والاختلاف لانقطاع الولایة والسلطنة بالموت وأما بالنسبة إلی بقیة الشروط فیفرق ویفصل بین شروط وشروط كما سیأتي فالصحیح هو البناء علی التفصیل بین الشروط.

وقد انقسم الأعلام إلی قسمین: بین قائل بالجواز وقائل بالمنع .

أدلة القائلین بجواز البقاء علی تقلید المیت:
الأول: اطلاق الأدلة اللفظیة:

ص: 200

وهذا الاطلاق المدعی في المقام لیس بلحاظ الأفراد - أي بلحاظ أفراد الفقهاء - بل بلحاظ الأحوال والأزمان ، فمثلاً بعد شمول الأدلة فعلاً لزید من المجتهدین هل تشمله بقاءاً أیضاً أي حتی إلی ما بعد موته أم لا؟ فیتمسك باطلاق الأدلة في زمان ما بعد موته لعدم تقید من شملته هذه الأدلة بزمن الحیاة أو التمسك بالاطلاق الأحوالي هو عدم تقید التقلید بالحیاة فتشمل جمیع الأحول حتی حال الممات.

تنبیه:

قد اشرنا إلیه سابقاً في أدلة المانعین من تقلید المیت ابتداء في آخر دلیل الاستصحاب من أن مدعاهم أنه لا حجیة فعلیة لفتوی الفقیه حال عدم وجود المكلف فبعد وجوده لم یتحقق ركن الاستصحاب وهو فعلیة حجیة الفتوی لهذا المجتهد في حق هذا المكلف حتی تستصحب؟!.

وحیث تمسكوا بالاطلاق هنا، والأطلاق تارة یكون أفرادیاَ وأخری أحوالیاً وثالثة أزمانیاً وقالوا بأن الاطلاق هنا لیس بافرادي بل هو أحوالي وأزماني أي بلحاظ القیود والخصوصیات الخارجية عن ذات وطبیعة الفتوی، وإذا كان إطلاق الدلیل المثبت لحجیة الفتوی أحوالي لا أفرادي فالمفروض أن أصل الدلیل مثبت لحجیة ذات الفتوی بتحقق فردها وهو أصل فتوی الفقیه ، ومع قطع النظر عن وجود المقلد أو عدمه فإن أصل

ص: 201

فردیة الفتوی محرز ومفروغ عنها، وهذا ما یثبته الأطلاق، وعلیه فهذا كاشف عن أن حجیة الفتوی تتحقق بأصل وجودها ولا دخل لوجود المكلف، فیها إذ لا علاقة لوجود المكلف في حجیة واعتبار الفتوی.

نعم جواز الأخذ بحجیة الفتوی یتوقف علی وجود المكلف وهذا ما أوجب الخلط عند من منع الاستصحاب إذ المستصحب هو حجیة الفتوی الفعلیة والمستشكل اشكل بعدم تحقق جواز الأخذ فعلاً بهذه الفتوی حتی یستصحب.

والخلاصة: أن التمسك بالاطلاق الأحوالي أو الأزماني یتنافی مع ما قرره الأعلام - منهم السید الخوئي (قدّس سرّه) - من منع استصحاب حجیة فتوی المجتهد بعدم العلم بفعلیتها في ظرف عدم بلوغ المكلف وبعد موت المجتهد وبلوغ المكلف لا علم بحدوثها حتی تستصحب؟.

فإن ما قرروه في الاستصحاب یتنافی مع ما تمسكوا به - هنا - من كون الاطلاق هنا الأحوالي أو الأزماني إذ التمسك به یعنی أن أصل ما یثبته الدلیل الأطلاق هو أفراد الطبیعة، والطبیعة الأفرادیة هي نفس وأصل فتوی المفتي فأصل الحجیة تثبت بوجود فرد الطبیعة وهي فتوی المفتي فحجیتها مفروغ عن تحققها ولا دخل للقیود الأحوالية والأزمانية التي بلحاظ المجتهد نفسه والتي بلحاظ المكلف وإلا لما كان الأطلاق أحوالیاً أو أزمانیاً بل كان أفرادیاً ، فبلوغ المكلف لا دخل له في حقیقة

ص: 202

الفتوی بل هو أجنبي عنها فأصل الدلیل یثبت حجیة الفتوی مع قطع النظر عن بلوغ المكلف وعدمه وإلا لما كان الاطلاق أحوالیاً أو أزمانیاً.

ومنشأ الاختلاف وهو ما قدمناه من اختلاف آثار التقلید فإنها تارة متعلقة بفتوی المجتهد وأخری متعلقة بمجموع فتوی المجتهد ورجوع وتقلید العامي، فالحكم وهو جواز الرجوع متقوم بالأمرین وجود المكلف البالغ ووجود فتوی المجتهد أما حجیة الفتوی فهي متعلقة بوجود فتوی المجتهد لا غیر. فما قالوه سابقاً في منع استصحاب حجیة الفتوی لعدم فعلیتها في ظرف عدم بلوغ المكلف لیس بصحیح إذ موضوع الحجیة هو نفس وجود فتوی الفقیه وتحققها ولا علاقة لها بتحقق بلوغ المكلف وعدمه...

فعدم التفریق بین موضوع جواز تقلید العامي - وهذا لا علم لنا به حال حیاة الفقیه بل نعلم بعدمه لتوقفه علی وجود المكلف في حیاة المجتهد - وبین موضوع حجیة الفتوی الذي هو متحقق بوجود فتوی الفقیه وإن لم یوجد المكلف في زمن المجتهد وإلا لما كان الاطلاق أحوالیاً أو أزمانیاً.

نعم جواز التقلید متعلق بوجود المكلف ووجود حجیة فتوی الفقیه ووجودها یثبت بالاستصحاب فیتحقق موضوع جواز التقلید.

والخلاصة أن التمسك باطلاق الأدلة اللفظیة یتدافع مع ما ذكروه فی

ص: 203

منع الاستصحاب في التقلید الابتدائي وذلك لأن الاطلاق هنا لیس افرادیاً إذ الفردیة ثابتة بأصل الدلیل بل بالاطلاق الأحوالي أو الأزماني وذلك لأن فردیة الفتوی بالفقیه نفسه أي بلحاظ افراد الفقیه لا بلحاظ المكلفبل ولا بلحاظ أحوال الفقیه نفسه، فاماریة وحجیة فتوی المفتي تتحقق فعلیتها بنفس المفتي نفسه وإن لم یكن المكلف العامي بالغا ومثال سوق المسلمین فإنه أمارة فعلیة وهي تتحقق بنفس تحقق سوق المسلمین وإن لم یوجد المكلف.

فحجیة فتوی المفتي لیس مأخوذاً فیها وجود المكلف العامي لا في الحكم ولا في متعلقه ولا في قیوده وهي تثبت بأصل الدلیل لا باطلاقه فما قالوه سابقاً أن حجیة الفتوی لم تكون فعلیة لیس بصحیح إذ هي فعلیة بفعلیة موضوعها وهو نفس فتوی الفقیه.

وذلك لأن كون الاطلاق أحوالیا أو أزمانیا دلیل واضح علی أنه لا كلام في أصل وجود فرد الطبیعة إذ هو مفروغ عن وجوده، وحجیته ثابته بأصل الدلیل لا باطلاقه وإنما الكلام في الاطلاق بحسب أحوال الطبیعة وأزمانها وإلا فهي محرزة الوجود، وهنا أیضا كذلك فالفرد وهو حجیة فتوی الفقیه الفعلیة مثبتة بأصل الدلیل الذي موضوعه أصل فردیة الطبیعة وحیث لا اطلاق في مورد الاستصحاب فالاستصحاب مثبت للشمول الأزماني والأحوالي ؛ إذ الاستصحاب بدیل الاطلاق الأحوالي

ص: 204

والأزماني فیما إذا كان هناك قصور في الادلة اللفظیة.

وهذا لا یعني أننا نری جریان الاستصحاب في تقلید المیت ابتداءا بل نقول: إنما ذكروه من مانع لجریان الاستصحاب لیس بمانع ، وإنما المانع هو ما ذكرناه من احتواء الفتوی علی الامارة والولایة والحاكمیة وبالموت لا یبقی موضوع الاستصحاب لارتفاع الحاكمیة بموته.

الدلیل الثاني: اطلاق سیرة العقلاء وما فیه:

اطلاق السیرة وهي قائمة علی أن العقلاء إذا رجعوا إلی قول أهل الخبرة وعملوا بما قالوه فإنهم یبقون علی العمل به حتی بعد موت.

وفیها: أن هذه السیرة إما مع اتفاق الأموات للأحیاء من أهل الخبرة وأما مع اختلافهم، فمع الاتفاق فلا كلام لأنه نوع من التقلید للجمیع وأما مع مخالفتهم للأحیاء ففي قیام السیرة علی الرجوع من غیر توسط الأحیاء تأمل كما في تقلید المیت ابتداءا إلا أن تكون للمقلدین لهم نوع من الخبرة كالمتجزئ وهو أخص من المدعي.

فلا سیرة للعقلاء - وخصوصا في مورد الشك - قائمة علی البقاء علی تقلید الاحیاء.

الدلیل الثالث: سیرة المتشرعة وما فیه:

وهي تستند إلی أخبار ذكرها صاحب الوسائل (قدّس سرّه) - وقد اشرنا إلیها في تقلید المیت ابتداءاً - في الأبواب 6 و 7 و 8 و9 و... مع أن أصحاب

ص: 205

هذه الكتب قد أُخذ عنهم ثم ماتوا بل إن بعضهم رُجع إلیهم بعد موتهم.

وأجیب عن هذا : أنه رجوع إلی كتب الاصحاب الروائیة ولیس من الرجوع إلی كتب الاصحاب الفتوائیة ككتاب یونس بن عبد الرحمن (قدّس سرّه) یوم ولیلة وفیه وظائف الیوم واللیلة وكتاب الفضل بن شاذان (قدّس سرّه) في یوم ولیلة وكتاب الصلاة لحریز السجستاني (قدّس سرّه) وغیرها فإنها كلها متون روایات، وإن قلنا: إن في كتبهم الروائیة نوع من الاجتهاد كتبویب الروایات وعنونة أبواب الاخبار واختیار بعض الروایات وإضافتها وطرح المخالف لها فإنه نوع ترجیح لبعض الأخبار علی بعض وتقطیعه للاخبار بجعل قسم منها في باب وقسم في آخر، فإن كل هذا اجتهاد لما فیه من إعمال الفهم ومع ذلك أن جنبة الروایة في هذه الكتب لیست بقلیلة فالأخذ بها من هذه الجنبة لا من الجنبة الاجتهادية، فالاستشهاد بهذه الاخبار علی قیام السیرة المتشرعية فیه تأمل.

الدلیل الرابع: الاستصحاب وما فیه:

باعتبار أن حجیة الفتوی فعلیة في حق المكلف وبعد موت الفقیه نشك في بقاءها فتستصحب.

وقد أشكل الآخوند الخراساني (قدّس سرّه) علی الاستصحاب بالشك في بقاء الموضوع بل بالتأمل نحرز عدم بقاء الموضوع عرفاً وذلك لأن الرأي دخیل في الفتوی والمیت لا رأي له عرفا وإن كان عقلاً له رأي ؛

ص: 206

لكون الحامل له الروح والنفس وهي باقیة بعد الموت إلا أن المعول علی العرف.

ویستشهد (قدّس سرّه) بموارد الجنون والاغماء أو تبدل الرأي فإنه لا یُعْتدُّ بالرأي السابق فالرأي مأخوذ فیها حدوثا وبقاءا.

وقد أجابوا عن هذا الجواب: بأن الحامل لرأیه هو نفسه أو روحه فهو صحیح لزوالها بالموت وأما لو كان الحامل للرأي كتبه أو تلامیذه أو حفظ الناس لفتواه فالرأي موجود لكون الحامل غیره.

وفیه نظر: من جهة كون المعتبر في حجیة الفتوی وجود الرأي حدوثاً وبقاءا عند صاحب الرأي بحیث یكون صاحب الرأي حاملاً لرأیه ولهذا لو تبدل رأیه فإنه لا یقال أنه رأیه حتی مع وجوده عند الناس أو في الكتب. وأما بالنسبة إلی المقیس علیه من الجنون والاغماء والنسیان فإنها لا تسلب عنه أنه صاحب فتیا بل هو بدلیل خاص، فخروج هذه الموارد بالتخصیص مع صدق بقاء الفتوی فهو من قیود الحكم لا الموضوع ولیس خروج هذه الموارد بالتخصص حتی یكون من قیود الموضوع وعلیه فلا یتم القیاس علی ما نحن فیه.

ویستدلون علی ذلك بأنه عرفا یقال فتاوی المحقق الحلي (قدّس سرّه) وأقواله ومسلكه ورأیه، فالفتوی موضوعا لیست متقومة ببقاء الرأي بل متقومة بحدوثه وأما في موارد تبدل الرأي فإنه ینكشف خلل في السابق

ص: 207

فهو من الخلل في أصل الحدوث لا من الخلل في البقاء.

أما ما أشكله السید الخوئي (قدّس سرّه) علی الاستصحاب فهو اشكاله المعروف في جریانه في الشبهات الحكمیة من تعارض استصحاب عدم الجعل مع استصحاب المجعول. فهو اشكال مبنائي وقد أجیب عنه في محله.

والصحیح في الاشكال : ما ذكرناه في تقلید المیت ابتداءاً وذلك لمقدمتین:

المقدمة الأولی:

أن الفتوی لیست بامارة محضة وتقدمت الشواهد علی ذلك - وإلا لثبت التأمل في الوجوه التي ذكرها الأعلام لمنع الاستصحاب - بل هي بنفسها نوع من الولایة والسلطة لا أنها تستلزم السلطة وذلك لأن نفس التقنین والتشریع بنفسه سلطة وولایة لا أن السلطة لازمة للتقنین.

المقدمة الثانية:

أن هذه السلطة تنقطع بالموت، وذكرنا ما یدل علی ذلك فلا بقاء لها بعد موت المفتي وعلیه فلا یجری الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع، هذا فیما لم یبرم ولم یمض من التصرفات كالتصرفات اللاحقة بعد الموت وأما فیما أبرم من تصرفاته حال حیاته فلا یصح نقضه، وسیأتي التعرض لها عند الكلام عن صلاحیات الفقیه النیابیة في المسائل الآتیة.

ص: 208

بل حتی لو بنینا علی كون الفتوی امارة محضة فإن التأمل واضح في دعوی قیام السیرة في الرجوع إلی المیت مباشرة من دون توسیط الرجوع إلی الأحیاء مع الاختلاف؛ إذ أن أقوی الامارة التواتر كتواتر الروایة فإنه لو لم تكن هناك حلقة وسیطة متصفة بالحیاة بیننا وبین تلك الطبقة لما نفع التواتر من جهة اماریته وإذا كان الأخذ بالتواتر بتوسیطهم فهو رجوع للأحیاء لا للأموات وقد تقدم كل هذا في تقلید المیت ابتداءا فلاحظ.

المختار:

هو عدم جواز الرجوع إلی المیت ابتداءاً و بقاءاً لانقطاع ولایته بالموت بل حتی مع عدم انقطاع ولایته بالموت بناءا علی كون فتواه أمارة محضة فإنه لا قیام للسیرة - عند الاختلاف - علی الرجوع للمیت دون توسیط الحي ومع التوسیط فهو من الرجوع للحي لا للمیت؛ لأن أدلة الرجوع إلی أهل الخبرة امضائیة والأدلة الامضائیة لا تؤسس موضوع الامارة بل موضوعها ثابت بنفسه عند العقلاء تكویناً بل وكذا الأدلة التأسیسیة لحجیة الامارة فإنها لا تُوجِد موضوعها أیضاً فالدلیل الامضائي یمضي حكم الامارة والتأسیسي یؤسس حكمها ولا ربط له بالموضوع نعم یمكن أن تكون الادلة التأسیسیة مؤسسة لموضوع الامارة مثل سوق المسلمین من حیث الطهارة والتذكیة بمعنی كاشفة عن وجود

ص: 209

تكویني لإمارة لم یلتفت إلی وجودها العقلاء ولم یتعاطوا معها. وعلی هذا تكون حدود الامارة عند العقلاء هي موضوع الأدلة الواردة فلا تتعداها وحیث إن سیرة العقلاء عند الاختلاف قائمة علی عدم الرجوع إلا بتوسط الحي فالادلة الممضاة أو المؤسسة أیضا كذلك.

والحاصل إلی هنا كان بلحاظ المقلد نفسه، والمختار عدم حجیة فتوی المیت ابتدءا وبقاءا.

تقلید المیت بواسطة الحي:

وأما حجیة قول المیت المستندة إلی الحي ابتداءاً أو بقاءاً فهل للحي أن یجیز أو یوجب علی المقلد البقاء علی تقلید المیت أم لا؟

وبما أنه قد تقرر أن السیرة قائمة علی الرجوع إلی الأموات بواسطة الأحیاء وتقرر أن الأدلة الشرعية في اعتبار الامارات امضائیة لما علیه العقلاء وعلیه یكون موضوع الأدلة وحدوده هو نفس موضوع الامارات الذي انعقدت علیه السیرة ولیس وظیفة الشارع إلا امضاء حكمها أو تأسیسه فحقیقتها هي ما قامت علیه السیرة ولا دخل للشارع في ایجاد تلك الحدود فحتی علی القول بكون حجیة الامارات من باب الطریقية المحضة فإنه یثبت بالأدلة أن موضوع الامارت التي اعتبرها الشارع هو ما قامت علیه السیرة ومما قامت علیه السیرة هو الرجوع إلی الاموات بواسطة الاحیاء.

ص: 210

وأما علی مختارنا من انقطاع ولایته بالموت إلا أن للحي بمقتضی ولایته وصلاحیته أن یجیز تقلید المیت ابتداء أو بقاءا، وقد وقع الاختلاف بسبب اختلاف مؤدی الأدلة، فبعضهم یجیز مطلقاً وبعضهم یوجب وكل منهما في فرض ما لو تعلم الفتاوی وعمل بها أو تعلمها فقط أو التزم بها وغیر ذلك.

والمختار هو وجوب البقاء لمن أخذ بالفتوی في حیاة الفقیه وعمل بها ولم ینسها إلا أن الوجه في ذلك غیر ما اختاره الأعلام وذلك لما ذهبنا إلیه من أن الفتوی ولایة وسلطة تشریعیة.

والنكتة في ذلك هو أن معنی التقلید له تأثیر فیما نحن فیه إذ حقیقة التقلید نوع تولیة من العوام والناس للفقیه، وذلك لأن تقلید المقلدین نوع تولیة وانتخاب منهم للفقیه وبسطهم یده، فقوله (علیه السلام) : «فارجعوا» ، وغیرها ، فیها نوع تخویل الناس لبسطهم ید الفقیه فالناس هم من یمكنون الفقیه لبسط یده وتمكینهم له في طول ولایة المعصوم (علیه السلام) فقوله:

«فلیرضوا به حكما، فإني قد جعلته علیكم حاكما» ، أن نفس تخویل الناس في احراز من یجب الرجوع إلیه نوع تخویل لهم في تعیین الفقیه فالولایة أولاً للمعصوم (علیه السلام) ، وهو (علیه السلام) اشترط في تعین الفقیه مشاركة الناس وولّاهم إذ قبل تولیة الناس للفقیه وبسطهم یده لا

ص: 211

تنفذ تصرفاته وبتولیتهم له تنفذ تصرفاته ولا تنقض، وهي بعد الموت علی حالها . فنفس الأخذ منه نوع تولیة وبسط لیده علیهم .

وعلیه، فالآخذ الجدید بمثابة جعل تولیة أخری علیه، فحینئذ یكون الرجوع إلیه - ابتداءا بعد الموت أو بقاءا بعد نسیان فتاواه - رجوع ووتولیة وبسط جدید ابتدائي لا دلیل علیه .

وبعد نفوذ تلك التولیة من العوام بالرجوع إلیه، لیس للفقیه الحي رفعها إلا مع اختلال الشرائط ككون الحي أعلم مثلاً .

فالمحور في هذه المسألة هو نفس التقلید فإن معناه وحقیقته له تأثیر في هذه المسألة فإن في نفس التقلید - علی ما بیناه - نوع تولیة وتنصیب من المقلد للفقیه فتولیة المیت ابتداء لا مسوغ لها .

فقوله (علیه السلام) :

«فعلی العوام أن یقلدوه» أي یعطوه ویولوه زمام الامور فولایة التنصیب هي للمعصومین (علیهم السلام) إلا أنهم بعد أن قننوا ضوابط التنصیب والاختیار ثم اشترطوا أن یكون تطبیقها بید الناس فالناس لهم نصیب ومشاركة في التنصیب فلا تكون تصرفات الفقیه نافذة إلا بعد رجوع الناس وبسطهم یده .

وواضح أن تولیتهم في خصوص البدیهات بأن لا ینصبوا إلا العادل لا الفاسق باعتبار أن الفسق أمر ضروري یدركه الناس بخلاف الامور النظریة كالاجتهاد فهو لیس بیدهم.

ص: 212

نعم ، لو نسی من رجع إلیه في حیاته فإنه لا یحق له الرجوع بعد مماته لأنه نفوذ وتصرف وتولیة جدیدة من الحي للمیت ولا تولیة للمیت بعد الموت لعدم قبول المیت للتولیة والتنصیب .

فالفرق بین تجویز الحي البقاء علی تقلید المیت دون تقلیده ابتداءا لیس هو عدم فعلیة فتوی الفقیه في الابتداء وفعلیتها في البقاء بناءا علی الاماریة المحضة فإن هذه التفرقة لیست بصحیحة بناء علی كون فتوی الفقیه امارة محضة وذلك لما ذكرناه من أن حجیة الفتوی موضوعها الذي تتحقق به فعلیتها هو نفس مصداق الامارة وهي فتوی المفتي ولا دخل لوجود المكلف أو عدمه في اماریتها وإنما الفرق في تقلید المیت ابتداءا هو تصرف جدید أما في تقلید المیت بقاءا فهو انفاذ التصرفات النافذة ومن ثم لا یصح رفعه إلا باختلال الشرائط كوجود الأعلم المخالف للمیت.

وخالف في هذا السید الخوئي (قدّس سرّه) وقال: بأن تعریف التقلید ومعناه لا دخل له هنا أصلاً بل المدار علی مقدار ما دل علیه الدلیل فیؤخذ بمقدار دلالته فالسیرة والاطلاقات مثلا قائمة علی البقاء علی تقلید المیت لمن أخذ ولم ینس سواء عمل أو لم یعمل.

وهذا غریب منه حیث إنه في مسألة: (من عدل عن تقلید المیت ثم أراد الرجوع إلیه) منع من ذلك، وعلله بأنه من التقلید الابتدائي، وهذا ما

ص: 213

یدلل علی ما هو مرتكز عنده من أن لمعنی التقلید دخالة في حقیقية وماهیة التقلید البقائي المخالف لحقیقة التقلید الابتدائي، فما قام علیه الدلیل هو خصوص التقلید البقائي بحدوده أي بما له من معنی مباین للتقلید الابتدائي فبعد اخراج الدلیل للتقلید الابتدائي عن التقلید المعتبر یكون التقلید المعتبر فیه مساحة خاصة لابد من تحدیدها وإلا فلا معنی لتفرقته بین نوعي التقلید، إذن فتعریف التقلید له دور في هذه المسألة. ولا یكفي النظر إلی الدلیل بل لابد من ملاحظة ما قام علیه من معنی التقلید حتی یعرف المعتبر دون غیره من أقسام التقلید.

والتقلید كما فسرناه بالرجوع إلیه والأخذ والتعلم منه فحقیقته تولیة من العوام له فقوله (علیه السلام) :

«فعلی العوام أن یقلدوه» أي یبسطوا حكمه ویولوه السلطة التشریعية فمعنی قلدت زیداً أي ولیته وجعلته والیاً .

وبالجملة: أن معنی التقلید لابد من ملاحظته لما له من تأثیر؛ إذ بعد انفاذ تصرفاته حال حیاته یبقی ذلك النفوذ وتلك التولیة للاصل بخلاف ما لو نسی ما تعلمه أو عدل عنه ولو خطأ بل حتی لو ترك تقلیده واحتاط ثم رجع إلیه - كما سیأتي تفصیل ذلك في المسألة الآتیة - فإنه من الرجوع الابتدائي لأنه تولیة جدیدة من عوام الناس للفقیه ولا دلیل علی اعتبارها فلم تنفذ ولم تمض لأن المیت غیر قابل للتولیة.

وقد یقال: إذا كانت التولیة لا قابلیة لها إلا للحي فكیف للمجتهد الحی

ص: 214

یبقي تلك التولیة للمیت ألیس هو من ابقاء تولیة لموضوع وهو الحي إلی موضوع آخر وهو المیت ؟

وفیه: أن البقاء علی تقلید المیت لیس تولیة للحي الذي یسوغ البقاء علی المیت كما سیأتي بیانه.

خلاصة البحث في مسألة تقلید المیت ابتداء و بقاءا ثلاثة جهات:

الجهة الأولی: في حجیة نفس فتوی المیت سواء كان الرجوع ابتداءا أو بقاءا وقد مرّ عدم الجواز لانقطاعها بعد الموت بدلیل ما تقدم من أن الفتوی لیست بأمارة محضة بل هي نوع من السلطة التشریعية والولایة التي تنقطع بالموت بل ولو سلمنا أن حجیتها من باب الأماریة فلابد في الأخذ بها من توسط الرجوع إلی الحي وقلنا إن هذا جار في التواتر وخبر الواحد أیضاً.

الجهة الثانية:دعوی أن حجیة فتوی المفتي بلحاظ نفس المكلف وقد مرّ أنه غیر صحیح أیضاً لانقطاع ولایته.

الجهة الثالثة: حجیة توسط فتوی الحي للرجوع للمیت وحقیقة التقلید في هذه الجهة أنها تتكون من فتویین فتوی المیت وفتوی الحي فهو اماراة علی أمارة وقد أخترنا بأن هذا یسوغ في التقلید البقائي لأنه انفاذ لتصرفات العوام سابقاً ولا یسوغ في التقلید الابتدائي لأنه تولیة وتصرف جدید من العوام.

ص: 215

اشكالان علی الارجاع للمیت وجوابهما:

اشارة

وحاصله في اشكالین ذكرتهما لبعض الأعلام قدیماً من أن الفقیه حینا یُرجع عموم المكلفین إلی المیت بقاءا أو ابتداءا یرد اشكالان:

الاشكال الأول: ارجاع الحي إلی المیت مع علمه بمخالفته

أن ارجاع عموم المكلفین بالبقاء علی تقلید المیت - مع علمه بأن المیت مختلف كثیراً مع الحي المرجع - موجب لأمرهم بما هو في نظره غیر صحیح وعلیه كیف یرجعهم إلی ما یخالف فتواه فیحصل التعارض الداخلي في فتاوی الحي.

الاشكال الثاني: ارجاع الحي إلی المیت المختلف معه في مسألة البقاء

وهو خاص بمسألة التقلید وهو أن الحي عندما یرجع المكلفین إلی المیت بقاءا مع أن المیت یختلف مع الحي في مسألة البقاء أو في السعة أو الضیق مثل السید الخوئي یخص التقلید البقائي في خصوص المسائل التي تعلمها وعمل بها ولا یسوغه في غیرها وبعض تلامذته یوسع دائرة التقلید البقائي إلی جمیع مسائله لأنه یری أنه مطلق الالتزام فیحصل التنافي كما هو واضح فإن المیت لا یسوغ الرجوع إلیه في مطلق الالتزام وغیره یسوغ ذلك... وعلیه فهل یسوغ الرجوع للحي في هذه المسألة.

ص: 216

الجواب الأول: أن فتوی الفقیه بالرجوع بنحو القضیة الكلية الحقیقية التي یمكن أن لا یكون لها مصداق بنظره وإذا كانت بنحو القضیة الحقیقية الكلية فلا یلزم التنافي لأنه لا یلزم من فتواه بالبقاء أن یكون لها مصداق إذ لعل في قناعته أنه أعلم من الأموات فلا یصح إلا الرجوع إلیه...

الجواب الثاني: أن فتوی الحي لیست في عرض فتاوی المیت بل مثل باب القضاء مترتب ومتفرع علی بقیة الأبواب الفقهية فإن بعض الأبواب الفقهية مترتبة ومتفرعة علی بعض الأبواب ... فكذلك باب الحجیة في باب التقلید متقدم علی الابواب الفقیة الأخری فتكون فتاوی المجتهد في باب الطهارة والصلاة مثلاً محددة بما ذكره في باب التقلید أي هذه المسألة في الطهارة المخالفة للمیت لخصوص من رجع إلینا ولا تشمل من رجع للمیت بقاءا.

التأمل في الجوابین:

فأما الأول: فالقضیة وإن كانت علی نحو القضیة الكلية الحقیقية ولا تنظر إلی تحقق مصادیقها إذ لعله لا یوجد لها مصداق بنظره أصلا إلا أن المفروض أن الفقیه یتحمل مسؤولیة هذه الكلية التي ألقاها للمكلفین فكما جاء: ب"أنه ضامن" لأن هذه المسألة الكلية تطبیقها بید المكلفین علی الفرض الجزئي فلم تبقَ هذه المسألة علی كلیتها بل طبقت علی

ص: 217

مصادیقها الجزئیة استناداً إلی فتواه فلیس الكلام علی فرض الكلية وإنما الكلام في استناد المكلفین إلیها، فواضح التدافع بحسب نظره حیث إنه عبَّد المكلفین بأمر بنظره باطل وغیر صحیح.

وأما الثاني: من أن الرجوع إلیه في مسألة التقلید سابق علی الرجوع إلیه في المسائل الآخری مسلم ویحل المشكلة المذكورة ... إلا أن الموجب للرجوع إلیه في مسألة التقلید هو كونه أعلم الأحیاء فلماذا لم یرجع إلیه بنفس هذا الاعتبار في بقیة المسائل حتی یخص الرجوع بتلك المسألة دون بقیة المسائل ؟

وقد أجیب: بأن تخصیص الرجوع إلی الحي في هذه المسألة هو باعتبار تخصیص الحي الرجوع إلیه في هذه المسالة دون غیرها فإن الحي لا یری نفسه حجة فالمسألة لمن قلد غیره سابقاً.

وقد أشكل علیه أیضاً: بأن هذا لا یأتي فیما لو كان المیت أعلم حتی في مسألة البقاء فمعه كیف یرجع إلی الحي؟

وأجیب: بأن المیت انقطعت حجیته في هذه المسألة للشك فیها بموته ولا یمكن الاعتماد علیها للزوم الدور فلا یجوز الرجوع إلیه فیها بل یتعین الرجوع في هذه المسألة إلی الفقیه الحي.

ص: 218

وأما بقیة المسائل المخالفة لفتاوی الحي فلا دور فیها؛ لأن الرجوع إلیها بتوسط الرجوع إلیه إلا أنها تتدافع مع فتاواه، فیرجع المحذور.

فالطولیة لا ترفع التدافع وذلك لأن جمیع فتاوی المیت مطویة في وجوب أو جواز البقاء فهي شاملة للمسائل المخالفة لفتاوی الحي ؟

والصحیح أن الفتاوی إذا كانت من باب الامارة فالتعارض والتنافي محكم وذلك لأنه مع تقدیم إحدی الأمارتین علی الأخری لا یخلو أما أن یقدم اماریة فتوی وجوب تقلید المیت والمفروض أن یتنازل عن فتاواه المخالفة للمیت في بقیة الأبواب وأما أن یقدم فتاواه فلابد أن یتنازل عن مسالة وجوب البقاء علی تقلید المیت.

وأما دعوی أن الأماریة مخصصة للمقلدین الذين لم یرجعوا إلی المیت سابقاً فالتنافي علی فرض عدم التخصیص مع أن الفقیه یخصص فتاواه بمن لم یرجع إلی المیت.

فیدفعها اطلاق مفاد أدلة المسائل في الأبواب.

وأما علی ما ذهبنا إلیه من كون الفتوی ولایة ولیست امارة محضة مثل باب القضاء من أن القاضي اللاحق إذا جاء لا یرفع ما أبرمه السابق فعلی ما نبني علیه من أن الفتوی تصرف ولائي والتقلید هو تصرف واتباع وأخذ ولا یمكن للفقیه الغاء حكم القاضي السابق لأنه قد أمضي وأقر .

ص: 219

(مسألة 10) : إذا عدل عن المیت إلی الحي لا یجوز له العود إلی المیت(1).

فلیس للفقیه أن یرفعه وأما مسألة التقلید فلا یأخذ بها للمانع الثبوتي وهو الدور . وهذا بحث آخر.

المسألة العاشرة: الرجوع للمیت بعد العدول عنه

اشارة

(1) بین هذه المسألة والمسألة الآتیة جهة اشتراك في عدم جواز العدول وجهة افتراق لكون العدول في هذه المسألة من الحي إلی المیت وفي المسألة الأتیة من الحي إلی الحي إلا أن العدول من المیت حتی علی فرض عدم صحته لا یسوغ له الرجوع إلیه بعد ذلك لأنه من التقلید الابتدائي وهذا بخلاف العدول من الحي فإنه علی فرض عدم صحته یسوغ له الرجوع إلی من عدل عنه.

والبحث في هذه المسألة یقع في كون العدول قاطعا للتقلید أم لا؟

فقد ذهب كثیر من الأعلام إلی أنه العدول لا یتحقق إلا إذا كان سائغاً.

والصحیح أن العدول بنفسه محقق لانقطاع التقلید وإن كان العدول باطلا.

والوجه في قاطعیة العدول للتقلید وإن كان غیر سائغ: هو أن حقیقة العدول هي ترك التقلید ، فیكون العدول تابعا لمعنی التقلید ولا ملازمة

ص: 220

بین حجیة الفتوی والتقلید، فإن حجیة الفتوی شیء والرجوع إلیه وتقلیده شیء آخر فبالعدول ینقطع التقلید وإن كانت الفتوی حجة... وإذا كان العدول یلزم منه انقطاع التقلید بأي معنی فسر فیكون التقلید بعده تقلیداً جدیداً، ولهذا لو عدل عن تقلید المیت وأراد الرجوع إلیه بعد ذلك لم یشرع له لأنه من التقلید الابتدائي ولأجل هذه النكتة ذكر السید الخوئي : (أن التعلم من المیت بعد النسیان من التقلید الابتدائي) ، فالنكتة هي أن العدول قاطع للتقلید بأي معنی فسر فمن فسره بالتعلم والأخذ بداعی العمل تنقطع الداعویة بالعدول بترك العزم علی الأخذ والتعلم بهذا الداعي ومن فسره بالالتزام ینقطع بتركه الالتزام ومن فسره بالاستناد ینقطع بترك الاستناد ...وهكذا،ویتحقق العدول أیضا بتعلم فتاوی غیره بداعي العمل أو الالتزام بفتاوی غیره أو بالاستناد إلی فتاوی غیره. ولهذا لو قلد زیدا فمات ورجع إلی سعید وأجازه في الرجوع في خصوص المسائل التي تعلمها وعمل بها ثم قلد قیساً وهو یقول بأن التقلید هو الالتزام فإن قیساً یرجعه إلی الأول مطلقا مع أنه عدل عنه في غیر دائرة ما قلده بفتوی سعید وهو عدول كما بیَّنّا فیكون الرجوع إلیه من تقلید المیت ابتداءاً.

العدول یتحقق ببعض صور الاحتیاط :

وأیضا من مات مرجعه وأحتاط فإن الاحتیاط عدول عن مقلده... نعم

ص: 221

یمكن أن یقع النقاش في الصغری هو كون الاحتیاط أو الرجوع إلی سعید عدولا في غیر تلك الدائرة التي احتاط فیها أو رجع إلی سعید فیها أم لا؟ وهذا شیء آخر.

وأما الاحتیاط المكتنف في التقلید فلیس هو عدول عن مرجعه الذي مات فهو یحتاط بین من یقلده مع غیره فهذا الاحتیاط لا یتنافي مع التقلید علی ما تقدم بیناه.

وعدم كون العدول سائغا شرعاً لا یعنی عدم تأثیره وكونه كعدم عدول كما ذهب إلیه بعض الأعلام بل له تأثیر وإن لم یكن سائغا لأنه أمر واقعي حقیقي لا ربط له بالجواز والمنع بل موضوع وفعل خارجي مربوط بالوقوع مثل من دخل بمطلقته في العدة الرجعیة وتحقق الرجوع وإن لم یكن قاصدا للرجوع فضلا عما لو كان مقصودا إلا أنه غیر مشروع فهو مغیر للموضوع كاراقة الماء الذي للوضوء فإنها وإن كانت غیر مشروعة إلا أنها تغیر الموضوع من الواجد إلی الفاقد وعلیه فیجب التيمم. ولهذا قال السید الماتن (قدّس سرّه) : (وإذا عدل عن المیت لا یجوز له الرجوع) ، وقد وافقه أكثر المحشین (رضوان اللّه علیهم) .

والعجیب من البعض ممن یری أن التقلید هو الالتزام - كبعض المعاصرین - ومع ذلك یقول بعدم تحقق الانقطاع بالعدول مع تحقق ترك الالتزام! نعم لو عرفنا التقلید بصرف المطابقة أوثبوت الحجیة كما

ص: 222

(مسألة 11) : لا یجوز العدول عن الحي إلی الحي ، إلا إذا كان الثاني أعلم(1).

ذهب إلی الثاني المحقق العراقي (قدّس سرّه) فإنها لا تزول ولا تنقطع بالعدول .

هذا بالنسبة إلی جهة الاختلاف بین المسالتين ، وأما جهة الاشتراك

وهي أصل مشروعیة العدول وعدمها فتأتي في المسألة الآتیة.

المسألة الحادیة عشر: عدم جواز العدول إلا إلی الأعلم

اشارة

(1) قد مر في المسألة السابقة أن العدول من المیت إلی الحي وكذا العدول من الحي إلی الحي إلا انه توجد خصوصیة فیما إذا كان المعدول عنه هو المیت فإنه وإن كان العدول في بعض الصور غیر جائز إلا أنه یوجب محذور في المعاودة لتقلیده، وحاصله: أن المعاودة للمیت تقلید ابتدائي لانقطاع التقلید بالعدول عنه وأما العدول عن الحي فإنه وإن حصل انقطاع للتقلید إلا أن الرجوع والمعاودة إلیه من التقلید الابتدائي للحي الذي لا محذور فیه، وقد ذهب إلی هذا أكثر المحشین علی العروة وفاقاً للماتن (قدّس سرّه) إلا أن البعض ذهبوا إلی أنه من التقلید البقائي، ومرَّ أن هذا لا یتناسب مع مبناهم من كون التقلید هو الالتزام، نعم علی مبنی أن التقلید هو المطابقة أو الحجة فهو من التقلید البقائي كما أشرنا إلیه في المسألة السابقة، فحاصل المسألة السابقة أنها متعرضة إلی العدول وآثاره وأما في هذه المسألة فالكلام في حكم العدول من الجواز وعدمه بقطع النظر عن آثاره.

ص: 223

وقد ذكر الماتن (قدّس سرّه) في هذه المسألة عدم جواز العدول أصلاً إلا إذا كان المعدول إلیه أعلم.

ثلاث صور للعدول:

الصورة الأولی: العدول إلی غیر الأعلم

وظاهر متأخري الأعصار الاتفاق علی المنع.

الصورة الثانية العدول إلی أعلم

والمتعین فیها العدول مع العلم بالمخالفة.

الصورة الثالثة: العدول إلی المساوي:

وهل یتحقق التساوي مع الفوارق الیسیرة أو بالفوارق غیر الیسیرة؟ وسیأتي أن الفوارق الیسیرة لا تعد فارقاً في الأعلمیة.

وتقلید أحد المتساویین تارة یكون في جمیع الأبواب وأخری في بعضها، والتخییر في الرجوع إلی أحد المتساویین هل هو في مجموع الابواب أو في بعض الابواب دون البعض كأن یقلد أحدهما في بعض الأبواب ویرجع إلی الآخر في البعض الآخر؟

وإذا اتفقوا في الفتوی یجوز الرجوع إلی الجمیع ویصح أن یقلد البعض غیر الأعلم فإن قلت أنه لا فائدة فیه ولا ثمرة في رجوعه إلی الجمیع أو إلی غیر الاعلم بخصوصه.

ص: 224

قلت: توجد ثمرة وفائدة بعد الموت كما لو قلد غیر الأعلم ثم مات الأعلم وغیر الأعلم، ورجع إلی الحي الأعلم الذي یوجب علیه البقاء إذا

كان المیت أعلم من الحي مع أنه لم یقلد المیت الأعلم من الحي فیجب علیه الرجوع إلی الحي دون الأعلم المیتمنه بخلاف ما لو قلد الأعلم ، فإنه یجب علیه الرجوع إلی المیت دون الحي، وأما لو قلد الجمیع فإنه یجب علیه الرجوع إلی المیت الأعلم أیضا لأنه قلده هذا بعد موته وأما ثمرة تقلید الجمیع قبل الموت فمنها أنه یصح له أن یعطي الحقوق الشرعية فیما إذا كانوا متفقین في باب الخمس فإنه یجوز أن یعطي الحق لأي واحد منهما ولو بنی علی وجوب أعطاء الخمس إلی من یقلده.

والكلام في التخییر بین الأحیاء هل هو ابتدائي أو استمراري فهو متوقف علی وجه التعارض المختلف عن تعارض الامارات.

المباني عند اختلاف المتساویین:

اشارة

وكلامنا في خصوص ما إذا كان المجتهدان متساویین فیكون الرجوع إلیهما ابتداء - في موارد التخالف في الفتوی علی الاماریة - من التعارض في الفتوی فتوجد مبانٍ:

المبنی الأول: القاعدة التعارض والتساقط

المبنی الثاني: التعارض فقط في مرحلة الفعلیة وعدم التساقط:

اشارة

ص: 225

وهذا مذهب مشهور المتقدمین هو أن الأصل في تعارض الامارات هو في مرتبة الفعلیة التامة وتبقی الامارتان علی أصل الفعلیة الناقصة فاقتضاء الحجیة لكل منهما باق.

الحجیة الاقتضائیة عند القائلین بالتساقط وعند القائلین بعدمه:

والفرق بین الحجیة الاقتضائیة عند القائل بالتساقط وبین الحجیة الاقتضائیة عند القائل بعدم التساقط هو أن الحجیة الاقتضائیة عند القائل بالتساقط هو شمول دلیل الحجیة للأمارة علی صعید الدلالة الاستعمالیة وأما عند مشهور المتقدمین فالحجیة الاقتضائیة هو شمول الدلیل للأمارة علی صعید الدلالة الجدیة فضلاً عن الاستعمالیة.

فالاقتضاء عند المتأخرین لولائي بمعنی لولا المانع لأثر دلیل الحجیة أثره بمعنی اقتضاء شمول الدلیل لولا التعارض.

الحجیة الاقتضائیة عند الآخوند (قدّس سرّه)

وهناك معنی آخر للاقتضاء ذكره الآخوند (قدّس سرّه) في الكفایة یستعمل في الحكم الفقهي الواقعي ویستعمل في الحكم الظاهري الأصولي وهو أن دلیل الحجیة شامل للامارة علی صعید الدلالة الاستعمالیة والدلالة الجدیة وتحققه خارجاً وفعلاً ولكن لیس بتام الفعلیة مثل خطاب النائم، ومعنی الفعلیة الناقصة هي أن یكون للحكم فعلیة إلا أنها لم تبلغ مرتبة الفاعلیة والباعثیة والمحركیة ، مثل شمول دلیل وجوب الصلاة للنائم فإن

ص: 226

الحكم له اقتضاء أي فعلیة إلا أنه لا یبعث ولا یحرك فهذا هو الاقتضاء عند المتقدمین.

المبنی الثالث ببیان الأصفهاني لرأي المتقدمین بالحجیة الازدواجیة وأن التعارض في التنجیز لا في التعذیر:

وقد أوضح الأصفهاني (قدّس سرّه) مراد المتقدمین ببیان لطیف وحاصله : أنه بین الامارتین المتعارضتین كالفتویین المتعارضتین أو الخبرین المتعارضین تكاذبا وتناقضا كما لو كانت احدهما تثبت الوجوب والأخری تنفیه.

والحجیة تاتي بمعنی التنجیز والتعذیر وتنجیز المتنافیین غیر معقول

وعلیه فلابد من التساقط أو غیره وأما تعذیر المتنافیین فلا تناقض فیه ولا امتناع وعلی التعذیر یكون الأصل عند التعارض هو التخییر وتكون أدلة واطلاقات الحجیة - بمعنی التعذیر - اقتضائیة.

والمحقق الأصفهاني - لم یذكر هذا المبنی في التعارض وإنما ذكره هنا - ولم ینبه علی ملاك الاماریة والكاشفیة الذي لا یمكن أن تكون الفتویان والخبران المتنافیان یكشفان عنه إذ الواقع واحد فیستحیل كشف المتكاذبان عنه لاستحالة صدق المتناقضین بل بناه علی مسلك التنجیز والتعذیر في حقیقة الحجیة وقد صب بحثه في متن الحجیة.

ص: 227

فذهب إلی أن تنجیر المتناقضین غیر معقول فإذا تعارضت الامارتان لا تبقی الحجیة بمعنی التنجیز ویتحقق التنافي والتناقض فیمتنع البقاء.

وأما إبقاء الحجیة في حیثیة التعذیر فلا مانع منه بحیث یكون مرخصاً للمكلف أن یأتي بأحد هذین الطرفین ولا تنافي ولا استحالة في ابقاء الحجیة في جانب التعذیر فللشارع أن یقول لك: سواء جئت بهذا أو هذا فإنت معذور علی فرض مخالفة الواقع.

فإن اجتماع كلتا الامارتین المتعارضتین المثبتتین للتعذیر لا استحالة فیه ، فلهذا نبّه الأصفهاني (قدّس سرّه) علی أن من قال - : إن الامارتین المتعارضتین الاصل فیهما التساقط - نظره إلی جنبة التنجیز فیهما.

وقال (قدّس سرّه) : لیس الكلام في أثبات إمكان التخییر بالنظر إلی جانب التعذیر فقط بل هو المتعین واللازم المصیر إلیه - بحسب الاثبات أیضاً - في كل الامارات المتعارضة بمقتضی اطلاق أدلة حجیة الامارات بلا فرق بین الفتاوی و الأخبار.

فاطلاق دلیل الحجیة یفید أن الأصل في الامارت عند التعارض لیس التساقط، وذلك لوجود حیثیة التعذیر التي هي من الخصائص الماهویة لمفهوم الحجیة المجعول بأدلة الحجیة وهو باق، ولیس المجعول هو خصوص المنجزیة حتی یقال بسقوط الأمارة بجمیع خصائصها عن الحجیة.

ولایقال: إذا امتنع التنجیز ارتفع التعذیر ؛ لأن الجاعل لهما هو نفس

ص: 228

أدلة حجیة الامارات وهي منبثّة لكلا الأمرین فإن استحال أحدهما لا یلزم منه عدم وجود الآخر ولا تلازم بینهما ولا كونه خلاف ما جعلته الامارة.

لأنه یقال: أن المنجزیة والمعذریة من الأمور المجعولة للامارة التي لا قابلیة للأمارة إلا الاتصاف بأحدهما ویستحیل اتصافها بكلیهما في مورد واحد؛ وذلك لاستحالة اجتماع جعل أدلة حجیة الامارة لهما في مورد واحد للتناقض، إذ التنجیز مجعول للامارة في مورد اصابة الواقع والتعذیر مجعول في مورد مخالفة الواقع. فلا یعقل اجتماعهما فلا ملازمة بینهما بل الملازمة بین وجود أحدهما وعدم الآخر.

ففي مورد استحالة التنجیز لا مانع من التمسك باطلاق الأدلة لاثبات التعذیر علی فرض المخالفة للواقع، فلا معنی لاسقاط الحجیة في موارد التعذیر، نعم بالنسبة إلی حیثیة التنجیز یتحقق التساقط ولا ملازمة بین سقوطها في حیثیة التنجیز وبین سقوطها في مورد حیثیة التعذیر فلا تساقط في جنبة التعذیر بل الضروري الالتزام بعدم التساقط لاطلاق الأدلة في حجیة خبر الواحد واطلاق الأدلة في حجیة الفتوی واطلاق الأدلة في حجیة الظهور وغیرها من الامارات.

وهذا خلاف ما قرره متأخرو الأصحاب ولكنه وفاق لمتقدمیهم فهو شرح منه (قدّس سرّه) لمسلك المتقدمین ، لكن علی مبنی تفسیر معنی الحجیة بالتنجیز والتعذیر وإن كان لا یتم علی مبنی الكاشفیة في الامارات

ص: 229

والحجیة علی صعید ملاك الامارات من تتمیم الكشف أو غیره، نعم یتم توجیه مسلك المتقدمین من عدم التساقط عند التعارض علی الكاشفیة بما مرَّ من أن التساقط إنما هو في الفعلیة التامة والتنجیز لا في أصل الفعلیة الاقتضائیة. فالصحیح أنه بأي معنی فسرنا الحجیة سواء بالتنجیز والتعذیر أو الكاشفیة والطریقية التكوینة أو الاعتباریة أو من جهة ملاك الامارات فإنه لیس الأصل في التعارض التساقط.

بیان حقیقة الحجیة التخیریة وأثره في النتیجة

وهذا وجه لطیف للمشهور حیث ذهبوا إلی أن في حجیة الامارة ازدواجیة فإن طابقت الواقع فمنجزة وإن أخطأت فمعذرة من مخالفة الواقع، فلیست الحجیة خاصة بجانب التنجیز حتی یلزم التساقط لأجل تناقضه والتنافي بین الامارتین بل لها جانب التعذیر وهو لا تنافي فیه.

وقد أضاف الأصفهاني (قدّس سرّه) بأن الالتزام بأحد الامارتین لا یقلب الحجیة التخییرية إلی حجیة تعینیة بل تبقی الامارة علی ما هي علیه من التخییر وهو نظیر التخییر في الحكم الفقهي كخصال الكفارة فإنه إذا اختار المكلف أحد الخصال لا ینقلب إلی واجب تعییني بل یبقی واجب تخییري.

ومعنی التخییرية أنه لو أخذ بها فهو معذور، فالعمل بأحد الحجتین التخیریتین لا یقلبها إلی التعیین ، وهذا هو معنی بقاء الحجیة التخیریة

ص: 230

استمراراً .

ثم قال (قدّس سرّه) : وعلی هذا البیان الذي ذكرناه لا حاجة إلی ما تكلفه الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) باثبات استمرار الحجیة التخیریة بعد الاختیار بواسطة الاستصحاب ودفع معارضه بالحكومة.

وبیانه: إنه بعد الأخذ بأحد الامارتین یشك في بقاء التخییر فیستصحب. وقد أشكل علیه باستصحاب حجیة الامارة المأخوذ بها فإن لزومها في حقه یشك في بقاءه ومنشأ الشك هو الأخذ بالامارة الآخری فتستصحب ونتیجته الحجیة التعیینیة، فیتحقق التعارض.

وقد دفع الشیخ الأعظم (قدّس سرّه) هذا التعارض بحكومة استصحاب

الحجیة التخیریة علی استصحاب الحجیة التعینیة وذلك لأنه باثبات التخییر یرتفع التعیین، فأمد التعیین إلی أن یختار الطرف الآخر فبمجرد اختیارالطرف الآخر یرتفع ذلك التعیین.

وأما الاستغناء عن الاستصحاب ببیان الأصفهاني(قدّس سرّه) لأنه یقول من أول الأمر أن الحجیة بمعنی التعذیر لا التنجیز وعلیه فلا الزام من أول الأمر بالتقلید الأول والأخذ به من أول الأمر لیس بمعنی الالزام بل بمعنی التعذیر والتأمین، فأخذ فتوی زید من الفقهاء لا تنقلب حجیتها من معذریة لا یؤاخذ علیها إلی منجزیة یؤاخذ علیها. فالأخذ بفتوی الفقیه الأول لا یعدم معذریة وحجیة فتوی الفقیه الآخر ولا یثبت

ص: 231

المؤاخذة علی ترك فتوی الفقیه الأول. فاستصحاب الفتوی الاولی لیست بتعینیة بل هي تخیریة لأنها تعذیریة لا تنجیزية. وعلیه فمقتضی كلامه - في مطلق تعارض الامارات سواء من نوع واحد كخبرین أو من نوعین كحجیة ظهور خبر مع حجیة صدور سند - أنه لا یحكم بالسقوط بل بالحجیة التخییرية من حیث التعذیر وهي باقیة ومستمرة.

فالتخییر هو الصحیح ما لم یكن بینهما تفاضل في الراجحیة أو بینهما تقدم رتبي وقد قررناه في بحث التعارض من علم الاصول سواء كانت الامارتان فردین لنوع واحد أو فردین لنوعین كصدور روایة

یتعارض مع ظهور آیة وقد ألتزم بذلك الطبقة اللاحقة للمتقدمین وهم المتأخرون، وعدم التساقط تارة یكون مقتضاه التخییر إذ لم یكن ترجیح في البین وأخری الترجیح من فرض المرجح وهو أیضاً لیس بتساقط للمتعارضین.

ما أورده السید الخوئي (قدّس سرّه) علی الأصفهاني (قدّس سرّه) :

الایراد الاول:

أن ما ذكره (قدّس سرّه) من أن الاصل في تعارض الطرق هو الحجیة التخیریة ممتنع في الطرق وذلك لأن الامارتین المتعارضتین متناقضتین في الطریقية والكاشفیة فلا یتصور التخییر في الخبرین المتنافیین في الحكایة إذ لا حكایة.

ص: 232

الایراد الثاني:

بأن الحجیة لیست معناها التنجیز والتعذیر فإنهما أثر عقلي لها ومعنی الحجیة هو الطریقية ولا طریقیة في المتعارضین.

الایراد الثالث:

أن الأخذ والالتزام بأحد المتعارضین بناء علی الحجیة التخییرية مؤثر وموجب لأنقلاب وتبدل الحجیة التخییرية إلی حجیة تعینیة لأن التخییر عدم حجیة كل أمارة بخصوصها والأخذ بأحدهما یسبب تعیینها وهنا لا معنی للحجة التخییرية لأن معنی الحجیة التخییرية أن یكون هناك جامع بینهما بخلاف ما ادعاه الأصفهاني(قدّس سرّه)، والتردید في الطریقية غیر ممكن ولا معنی له في الطریقية فالأخذ معین وفرق بین مقام التخییر في خصال الكفارة وبین ما نحن فیه وذلك لأنه في خصال الكفارة الحجیة التخییرية ثابتة قبل الاختیار وأما فیما نحن فیه فالحجیة غیر ثابتة للأمارتین المتعارضتین بل بالأخذ تتولد الحجیة وأما قبل الأخذ فلا تتصف كل منهما بالحجیة، وهذا معنی التخییر في الامارات والأخذ هو المسبب لتعینها في الحجیة.

ولا یخفی أن هذا الاشكال من السید الخوئي (قدّس سرّه) مبنائي لا بنائي فإنه مبنی علی مختاره في الحجیة التخییرية فعنده - في تعارض الطریقين - لا معنی حقیقي للحجیة التخییرية إذا كان الطریقان أو

ص: 233

الامارتان متعارضتین لأن حقیقة الحجیة التخییرية هو الجامع بین المتنافیین فلا معنی للجامع بین الطریقين والمفادین المتنافیین.

والحجیة الطریقية والكاشفیة لا تنسجم مع التخییر وذلك لأن الحجیة بهذا المعنی مفادها تعین المكشوف بتوسط هذا الكاشف فمع التخییر لا تعین للمكشوف بواسطة الكاشف فالتخییر ینفی الاراءة وكذا علی مفاد التنجیز إذ لا تنجیز، لأن التنجیز نوع من التعیین وبالتخییر ینتفي التنجیز لانتفاء التعیین.

فلا یعقل التخییر في الحجة الطریقية أو المنجزیة نعم التخییر في الحكم الفقهي متصور وأما في الحكم الوضعی لا سیما الحجة والامارة التخییرية فممتنع، إذ الحكم التكلیفي قابل لتصویر تعدد الملاكات ،

بخلاف الكاشفیة ، إذ الواقع واحد فلا یعقل أن یتعاكس ویتخالف الكاشف والمنكشف عن الواقع الواحد ولا جامع بین الكاشفین المتنافیین عن الواقع.

نعم لا مانع من أن یوجب الشارع وظیفیا هذا التخییر بین الامارات بأن یختار هذه الامارة أو تلك فإنه ایجاب تكلیفي من الشارع علی المكلف بالأخذ بفتوی أحد المجتهدین وهو غیر الحجة التخییرية في الامارات.

ومن هذا: وجوب الفحص فإنه لیس في نفسه أمارة وإنما هو متعلق

ص: 234

لایجاب شرعي وإن كان الغرض منه الوصول إلی الطرق والامارات فیكون من الاحكام التكلیفية الطریقية التي ملاكها في المطروق والمنكشف فلیس وجوب الفحص طریقا وكاشفا إذ لا إراءة ولا كاشفیة له مثل وجوب الاحتیاط فإنه لیس فیه اراءة وإنما ملاكها فیما تؤدي وتوصل إلیه.

خلاصة المباني في الحجیة التخیریة :

فمعنی التخییر في حجیة الامارات لیس بحقیقي إذ لا تخییر فیها كما عرفت بل المراد منه أن هناك حكم شرعي بمثابة التخییر وهو یمهد ویوجد الحجیة لأحد الامارتین المتعارضتین بنحو تعیني بتوسط الأخذ وبدون الأخذ لا حجیة. وما اختاره السید الخوئي (قدّس سرّه) هو مختار أكثر المتأخرین، وقد تمّ استعراض ثلاثة مبانٍ في الحجیة التخییرية:

الأول: الحجیة التخییرية التي فسرناها لمشهور المتقدمین وإن لم یذكروها وسنوضحها في المختار أكثر.

الثاني: الحجیة التخییرية علی مختار الأصفهاني (قدّس سرّه) .

الثالث: ما اختاره السید الخوئي (قدّس سرّه) .

الرابع: - ما ذكره السید الخوئي ورده - وهو حجیة عنوان أحدهما وهو الجامع العنواني، وهذا لم أجد من ذهب إلیه ولعله یذكر كاحتمال إذ لا یتصور أن یكون الجامع العنواني طریقاً وكاشفا فإن الجامع الذاتی

ص: 235

بین المتنافیین یمتنع أن یكون طریقاً كما تقدم في رد الأصفهاني (قدّس سرّه) إذ الاعتبار دوماً علی وفق التكوین وقد حررنا ذلك في أصول الفقه في مقدمة الواجب - في أقسام مقدمة الواجب عقلیة وشرعية وعادیة - .

وأما مبنی مشهور المتأخرین الذي ذهب إلیه السید الخوئي (قدّس سرّه) فعلی نفي الحجیة التخیریة وإنما هناك تخییر قبل الحجة وهو الوجوب الطریقي للأخذ بأحد الامارتین وبهذا الأخذ تتعین الحجة المأخوذة.

وعلی هذا المبنی إذا التزم المكلف بأحد الطرفین تتبدل الحجیة التخییرية الصوریة أو یتبدل الحكم الطریقي التخییري إلی حجیة تعینیة.

فالتخییر علی هذا المبنی ابتدائي - وهو الوجوب الطریقي لأجل تحصیل أحد الحجتین بالأخذ - في تعارض الامارات سواء في الاخبار

أو في باب التقلید أو باب القضاء، وذلك لعدم التردد في الكاشفیة والاراءة.

وحتی لو أغمضنا النظر عن كون هذا التخییر ابتدائي لا استمراري فاستصحاب التخییر الذي قیل به لا یجري؛ لعدم وحدة الموضوع، وذلك لأن المخاطب قبل الأخذ بأحد الحجتین مخاطب بالوجوب التخییري ولم تكن أحدی الامارتین حجة لأن شرط حجیتها هو أخذها وبعد الأخذ تكون أحدی الامارتین حجیة تعینیة.

فقبل الأخذ لا حجیة وبعده فحجیة تعینیة فالمفروض هو اسصحاب

ص: 236

الحجة التعینیة لكونها حجیة فعلیة. ففي باب الطرق لا حجیة تخییریة حتی تستصحب وإنما هو وجوب طریقي اعدادي للحجیة الفعلیة التعینیة، وهذا الوجوب شرطي للحجیة مثل بقیة شرائط التقلید كالعدالة والاجتهاد وغیرهما إلا أن الأخذ والالتزام شرط للحجیة الفعلیة في صورة التعارض مثل الأعدل والأفقه فإنها شروط في موضع التعارض.

فدلیل الحجیة لم یجعل ولم یعین ولم یخیر ابتداء فلا حجیة، وبعد ذلك جاء دلیل آخر وقال خذ بأحدهما فالأخذ مثبت للحجیة في مقام التعارض فهو لا یختلف عن شرائط الترجیح.

وهنا ثلاث نقاط لابد من الاشارة لها:

النقطة الأولی: في عدم سقوط الكاشفیة تكوینا عن التعارض:

فالمختار في تصویر الحجیة التخییرية هو غیر ما ذكره متأخرو الاعصار بل علی وفق ما ذكره مشهور المتقدمین وقد أشرنا إلیه سابقا ونذكره الآن تفصیلاً.

بیان امكان الجامع بین الامارات المنتافیة:

بقاء الاراءة التكوینية عند تنافي الامارتین وتقدم الاعلاج الموضوعي علی المحمولي:

أن في موارد تنافي الامارات تكوینا امكانیة وقابلیة لتصویر الجامع بین الامارتین المتنافیتین وبیان ذلك: هو أن الطریقية حتی التكونیة قابلة

ص: 237

للتصور لأنها لا تنعدم في موارد التعارض والتنافي وهذا یخالف ما ذهب إلیه متأخرو الاعصار في موارد التعارض من انعدام الطریقية والكاشفیة التكونیة.

والصحیح أنها لا تنعدم فیما هو موجود تكوینا فتلاحظ الارائتین بالجمع بینهما والتوفیق والعلاج التفسیري، فمثلا تحمل الامارة المثبتة علی أن أحد المنظارین والكاشفین أقوی فیری كثیرا من حیثیات المنكشف والمرئي، وتحمل الامارة النافیة علی قصور قوة الطریق الثاني أو غیر ذلك من الوجوه والمحتملات التي قد تسمی بالتبرعیة المحتملة غیر الممتنعة ومن هذا القبیل إلی ما شاء اللّه في الفحص الطبي والبحث الجنائي وفي المسح المكانیكي فإن الطرق المختلفة المتنافیة في بادئ الأمر لدیهم إذا اختلفت وتدافعت فإنهم لا یسقطون الاراءة بل یقال إن هذا تشخیص صحیح إلا أن تشخیصه ناقص لأنه لاحظ أثر وغفل عن بقیة الأثار وأما التشخیص الثاني فهو تام لأنه لاحظ العلة مثلاً.

فبدل أن یكونا متعارضیین یكشف بینهما التشاهد والتكافل - وقد ذكرنا هذا في بحث التعارض - وهو ما أشار إلیه المتقدمون وهو العلاج الموضوعي وهو مقدم علی القواعد العلاجية المحمولیة، والمتأخرون ركزوا دوماً علی قواعد العلاج المحمولیة ، والحال أن تقدم القواعد العلاجية الموضوعية علی القواعد العلاجية المحمولیة نسبة تقدم الأدلة

ص: 238

الاجتهادية علی الأدلة الفقاهتیة. والمتقدمون یزیلون التعارض موضوعاً علی وفق الضوابط والموازین. وقد أثبتنا أن الترجیح التبرعي له نكتة صناعیة والمراد بالتبرعي هو الحمل علی أحد المحتملات الواقعية بخلاف التمحّل والتكلّف وهو أن یحمل أحد الدلیلین في مقام التعارض علی مالا یكون أحد محتملاته واقعاً.

ففي الاراءة التكونیة كثیرما تكون علی خلاف الحقیقة مثل رؤیة منتهی الأفق في الصحراء فإنك تری السماء تلتقي مع الارض في خط وهو مخالف للواقع وایضا رؤیة العصا في الماء منكسرة وأیضا رؤیة الشعلة الناریة إذا حركت بحركة سریعة تراها متصلة وكل هذا خلاف الواقع فإنه مع ذلك لم یكذبوا هذه الامور وحاولوا أن یرجعوها إلی أسباب معینة ومقبولة.

وبیان ذلك: أن في الاراءة التكونیة یكون التنافي بینها وبین اراءة أخری غیر موجب عند العقلاء لتساقط الاراءتین والحكایتین في المرائي والمناظیر وفي المجهر وما شابه ذلك وإنما هو بالعكس، بل ینبرئ لمعالجة التنافي البادي لدی العقل أو الحس في الوهلة الأولی والنظرة الأولی فإنهم الآن یحصون خمسمائة نوع من الموارد التي یلتقطها الحس علی خلاف الحقیقة فمثلا التقاء جانبي الشارع في نهایة الافق عند البصر ، فكأنهما یلتقیان في نقطة واحدة والحقیقة غیر ذلك .

ص: 239

أو رؤیة البصر الشعلة الجوالة كأنها حلقة ناریة مع أنها لیست حلقة ناریة أو رؤیة مجرات من بعد كأنها ذرات رمال مع أنها كبیرة ... وهكذا من الامور التي یخطأالحس فیها ... ومع ذلك فإن العقلاء لم یبنوا في هذه الموارد علی سقوط هذا الادراك الحسي وإنما بنوا علی تكییفه ومعالجته علی وفق قواعد أخری والسبب أن الحس یری خلاف الحقیقة. ومنه اكتشفوا حقائق أخری عجیبة في البصریات، أي ولدت هذه الامور معلومات ومدركات أخری بخلاف ما لو بنوا علی سقوطها وأهمالها.

ففي الحقیقية أن التنافي - في الحكایات والحواكي وما أشبه ذلك لدی العقل - لا یوجب السقوط بل یوجب زیادة التحري والفحص لتولید كاشفیة أقوی وأكثر وأكبر. وهذا هو دیدن اساطین الفقه - كما ذكرنا في بحث القواعد الموضوعية لعلاج التعارض في أصول الفقه - علی جعل موارد التعارض منبهات ومناشئ لمزید من الفحص والتحري وأن هناك لا محالة في البین نكتة هي التي بلحاظها یلاحظ وجود التنافي في الوهلة الأولی، ولذلك ذكرنا في مراتب العلاج أن الفقیه كل الفقیه هو الذي یتجنب حتی مثل التخصیص والتقیید أي مهما أمكن للفقیه - بحسب الموازین - أن لا یتصرف في دلیل علی حساب دلیل آخر فإنه یعتبر من المهارة الفقهية فضلا عن اسقاطه من رأس .

ص: 240

فإذن تكوینا في النقطة الأولی الامارات والحكایات المختلفة لا توجب التساقط بل بالعكس فإنها تكون منشأ للفحص بدرجة أكبر.

الأثر المشترك بین الامارتین المتنافیتین وعدم سقوط ما فیه اقتضاء الكشف:

مضافاً إلی أن العقل - في الصورتین التكونیتین المتنافیتین في الوهلة الاولی - یضم إحداهما إلی الأخری ویلفق منهما ما یكون مشتركاً، وأما ما یكون منهما متنافیاً فإن لم یظفر العقل بعلاج لتلك الظاهرة فإنه یوجب التوقف لإثارة مزید باعث وموجب للفحص والتحري لمزید من التحید والتوقف غیر التساقط والاهمال؛ إذ التوقف یعني وجود حجة بنحو الحجة الاقتضائیة غیر المفعلة وغیر المنجزة فتحتاج إلی مزید علاج لازالة الموانع كي تصل إلی حد الفعلیة التامة والتنجیز، وهو شبیه بما هو مقرر في الاحكام الفقهية في موارد التزاحم الإمتثالي وهو التزاحم الملاكي الذي یقرر في اجتماع الأمر والنهي بناءا علی الاجتماع أو بناء علی الامتناع، وهو غیر التزاحم الامتثالي، فإنه عائق عن تمامیة فعلیة الحكم أو عن تنجزه وإن لم یعدم أصل فعلیة الحكم فكذلك في الامارات فلیس مبناهم علی التساقط، بل علی التوقف مع عدم الترجیح والتخییر في العلاج المحمولي وهو العلاج في حجیة الروایة صدوراً فضلاً عن العلاج الموضوعي - وهو العلاج للتعارض والتنافي بلحاظ

ص: 241

مضمون الروایتین - وإلا فالعلاج الموضوعي موجب لازالة التعارض موضوعاً فعلی أي تقدیر لیس البناء عندهم علی التساقط وأثر عدم التساقط - علی أقل تقدیر - فیهما نفي القول الثالث وأن لا یفتي بخلافهما بل یحتاط بمفادهما والاحتیاط مبنی علی الحجیة لكلیهما وإن لم تكن بتلك الحجیة التامة الاقتضاء.

فالتنافي في الامارات لا یوجب التساقط ولا التكاذب من جهة الملاك ولا من جهة الاراءة التكوینية وإنما یوجب الفحص والتأمل بشكل أكثر حتی یصل إلی المفاد الأصلي.

وما یتوهم أن التعارض مستقر فلیس بمستقر بل لعل التعارض غیر موجود أصلا وإنما الباحث عاجز عن رفعه، فلا یوجب التساقط الذي هو غیر التوقف لأن التساقط عدم الجعل وعدم شمول الدلیل وأما التوقف فهو قول بالجعل وشمول الدلیل له إلا أن الجعل انطبق علی مورد جزئي إلا أن الفعلیة غیر تامة ووجود الفعلیة الناقصة لها ثمرات وأقلها نفي الثالث، فلهذا لا یشكل بأن المدلول المطابقي غیر ثابت فكیف یثبت مدلوله الالتزامي وهو نفي الثالث وذلك لأن المدلول المطابقي ثابت إلا أنه لم یصل إلی مرحلة الفعلیة التامة والتنجیز وعلیه فیثبت لازمه وهو نفي الثالث.

إذن فالتنافي بین الامارتین لا یوجب اسقاط المادة التي فیها اقتضاء

ص: 242

الحجیة واقتضاء الكشف والاراءة لأنها رأس مال عند العقلاء، نعم في موارد العلم بكذب أحد الخبرین تخرج الصورة عما نحن فیه وأما لو كان الخبرین غیر مقطوع بكذب أحدهما بل محتمل كاحتمال أن یكذب العادل والكاذب قد یصدق فما لم یحصل العلم بالكذب - كالخبر المدلس أو الموضوع أو المدسوس ولیس هو مطلق الخبر الضعیف الذي لم تتم فیه شرائط الحجیة في علم الداریة وإنما هو خصوص الخبر الذي علم وقطع بشواهد قامت علی تزیفه وزخرفته وما شابه ذلك، فاحتمال الدس في الخبر غیر الخبر المدسوس فإن هذا الاحتمال موجود حتی في الخبر الصحیح الأعلائي لاحتمال الاشتباه في كتابته بصورة الصحیح الأعلائي.

فكان مقتضی الحجیة موجود لكونه خبر ثقة مثلاً غایة الأمر أن أدلة الجعل الثانوي - كالمرجحات في مقام التعارض - ترفع الفعلیة التامة الجزئیة ولا ترفع الفعلیة الاقتضائیة الكلية، ولا یخفی أن متأخري الاعصار یثبتون المرتبة الاقتضائیة للادلة المتعارضة، لكن المرتبة الاقتضائیة المثبتة عند متأخري الأعصار هي شمول الدلیل بمرحلة مدلوله الاستعمالي دون مدلوله الجدي وهذا بخلاف الاقتضائیة عند المتقدمین فإن الاقتضائیة بمعنی شمول الدلیل بمرحلة مدلوله الجدي.

ص: 243

بیان ارتكازیة عدم تساقط المتعارضین عند الأعلام:

وهذا لیس بأجنبي عند القوم بل هو مرتكز عندهم وإن لم یصرحوا به في مقام التنظیر، فمثلا انظر إلی ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) في تساوي المجتهدین في العلمية أو كون أحدهما محتمل الأعملیة فإنه یحتاط بالأخذ بأحوط الأقوال، مع أن الأمر یدور بین التعارض وبین الحجة واللاحجة فكیف یأخذوا بأحوط الأقوال منها إلا أن ارتكازه هو بقاء حجیة كل الامارات إلا أنها لم تصل إلی حد الفعلیة التامة، فالتعارض لا یوجب التساقط من جهة الملاك والاراءة التكوینية وكذا من جهة الاعتبار،وهذا شبیهبما ذكره الأصفهاني (قدّس سرّه) من أن التخییر في بین الامارتین لیس علی صعید التكوین ولا علی صعید ملاك الحجیة وإنما هو علی صعید نفس اعتبار متن الحجیة وتقریبه جداً متین، غایة الامر لنا تتمة وتكمیل لما ذكره.

فإنه علی ما سبق قال: بأنَّا نأخذ الحجیة بمعنی التعذیر في كلا الطرفین ولا نأخذها بمعنی التنجیز لأنه سبب التنافي والتكاذب والحجیة مفهوم ازدواجي المعنی ففي أي مورد یمتنع أحد المعنیین تتعین الحجیة في المعنی الآخر فامتناع التنجیز في مقام التعارض والتنافي یثبت مفاد الحجیة بالمعنی الأخر فمثلا لو لم یكن تعارض في البین فإن أصاب الخبر أو الظهور الواقع فهو تنجیز في علم اللّه لا تعذیر وإن أخطات فهو

ص: 244

تعذیر في علم اللّه تعالی فلیس موردهما واحدا، فمفاد الحجیة هو معنی ازدواج أو ثنائ.

وفائدة الثنائیة لمعنی الحجیة أنه إذا امتنع أحدهما ثبت الآخر فكل منهما معذر بالفعل، فما ذكره متین إلا أنه یحتاج إلی تتمة وهي أنه في مقام التعارض یصح التنجیز بلحاظ مجموع الخبرین فإنه لو كان معنی الخبرین أو الظهورین أو غیرهما من الامارات التعذیر فقط لما كان من اللازم العمل بهما لأن مفادهما التعذیر بینما الأصفهاني (قدّس سرّه) بصدد الالزام بالعمل بمجموعهما أو أحدهما والالزام لا یأتي فقط من معنی التعذیر فلابد أن یوجد في المقام معنی تنجیزي ولو بلحاظ مجموعهما كي یتعین العمل بهما أو بأحدهما أو الاحتیاط.

وهذا ما ذكرناه في الحیثیة التكوینية في الامارات - في التعارض في الامارات التكوینية والاراءة الذاتیة - من أن الاراءاة الاجمالية موجودة مبهمة وهي نوع ودرجة من التنجیز بلحاظ نفي الثالث أو الاحتیاط علی وفقهما؛ غایة الامر لیس تنجیزا تعیینیا لخصوص كل منهما بل تنجیز مجموعي لاجتماع الحجیة مثل إجتماع صحیحة وصحیحة وصحیحة یتولد استفاضة فإن الاستفاضة اثر تنجیزي یتولد من اجتماع الحجج.

ص: 245

النقطة الثانية:

لو سلمنا مع السید الخوئي (قدّس سرّه) أن الحجیة لیست بمعنی المنجزیة والمعذریة بل الحجیة بمعنی العلم وتتمیم الكشف إلا أنه من آثاره المنجزیة والمعذریة، وبالتالي بحث التنجیز والتعذیر الذي رسمه الأصفهاني (قدّس سرّه) لابد منه - وإن لم یكن ما ذكره الأصفهاني كل الدلیل إلا أنه جزء الدلیل - سواء جعلنا معنی الحجیة هو التنجیز والتعذیر أو معناها العلم فاسقاط التنجیز بمقدار التعارض لا یلزم منه اسقاط التعذیر كما ذكره الأصفهاني (قدّس سرّه) إلا أنه یبقی لنا إشكالیة في كیفیة تخریج الالزام بالأخذ مع عدم التنجیز وقد اتممناه باثبات التنجیز المجموعي.

النقطة الثالثة:

ابتناء امتناع تصویر العلاج بین المتناقضین والمتنافیین علی تفسیر الحجیة بمعنی الطریقية وقد بیّنا أنه غیر ممتنع لأن العقل یتنبه في الحقیقة إلی أنه لیس هناك تناقض حقیقي بل صورة تناقض وتنافي في الادراك أي في المعلوم والمدرك بالذات وأما في المدرك بالعرض وهو الخارج فإنه لا تناقض، فلابد من خصائص إدراكیة هي التي أوهمت التنافي فیوفق بین ما یدركه الحس وبین ما یدركه العقل لا أن ما یدركه الحس یعدم ما یدركه العقل ولا ما یدركه العقل یعدم ما یدركه الحس.

فالمشكلة في الادارك لا في الواقع نفسه ولیس معنی ذلك أن

ص: 246

الادراك متكاذب ومتعادم كأن یعدم أحدهما الآخر وذلك لأن أي ادراك لا یتولد إلا من منشأ مغایر لمنشأ الإدراك الآخر نعم المشكلة في كیفیة التوفیق بین منشأي الادارك وكیفیة الادراكین وهو محل للبحث والعلاج، لا أن هناك تصادم، فالطریقية للامارتین والارائتین التكوینيتن المتنافیتین لا تستلزم التصادم والتكاذب، فكیف بالطریقية للامارتین الاعتباریتین أو التي إحداهما اعتباریة والأخری تكوینية فالامر فیها أسهل لأنه كما مرّ بنا غیر مرة أن الاعتبار منضبط بالتكوین وحیث أنه صح وأمكن في التكوین فیصح ویمكن في الاعتبار.

فتری مثلاً من باب الشيء بالشيء یذكر ان قوله تعالی: (اجْتَنِبُوا كَثِیراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(1) فإنه رتب الاجتناب عن كثیر من الظن لكون بعضه أثما ولم ینه عن جمیع الظن... وذلك لان الظن له مقدار من الكاشفیة في الاستدلال.

فالظن لا یعني البطلان بل یعني أن لاراءته وكاشفیته حجما ومقدارا معینا في الاستدلال فلیس الظن ملغی الكاشفیة والاراءة بل له كاشفیة یعتمد علیها... وغالب الامور التي ینهی عنها الشارع من الطرق مثلاً لا لأنها لا اعتبار بها من رأس بل لها اعتبار إلا أن الانسان یخطأ ویرید أن

ص: 247


1- سورة الحجرات، الآیة 12.

یحمل هذه المادة فوق طاقتها كأنه یرید أن یصل من الظن الصرف إلی القطع فإن القطع لا یتولد من الظن بما هو ظن ولذلك الحكیم لا یتسرع في الاستنتاج لأن بعض المواد الاستدلالیة أقل حجما من المستخرج والنتیجة وهذا الاستنتاج بالاعتماد علی ما هو أقل حجما من نتیجته موجود عند الجن أیضاً بل حتی عند الملائكة لأن الملائكة ذات طبقات فلابد من الالتفات إلی الموازین فإن الذي لا یغیب عنه شیء هو ذلك العالم الحفیظ وكل ذلك بسبب تقییم الادراكات وحجمها في الاستنتاج مع المستنتج. فوجود الحجج المتعارضة التي لم یعلم كذبها واقعاً فإن الاستدلال بها لاثبات الامرین المتنافیین غیر صحیح لأنه استدلال بأزید من حجمها، وأما الاستدلال بها لنفي الثالث أو للاحتیاط علی وفقها أو الاراءة الاجمالية فهو استدلال لا یزید علی حجمها وحكمها وهكذا ...

خلاصة الكلام في تنافي الامارتین

الأول: إن منشأ التنافي تكویني إلا أنه صوري ففي التكویني یوجد أیضا تنافي صوري ولیس صوریته هي الاعتبار فقط كما بیناه في الامثلة المتقدمة.

الثاني: وجود الملاك التكویني للمتنافیین قابل للتصویر وعلیه فلا یلزم التساقط من التنافي.

ص: 248

الثالث: وجود آثار لهذا الملاك التكویني لعدم التساقط مثل نفي الثالث والاحتیاط والاراءة الاجمالية یتبعها العقلاء وهذا علی صعید الملاك والبعد التكویني والموضوعي في الامارتین المتعارضتین وذكرنا البعد الاعتباري كمفهوم الحجیة، وقد تقدّمت عدة من الآثار والنقاط.

الرابع: ماذكرناه من الفرق بین التوقف وبین التساقط .

الخامس: ما ذكرناه من أن مراتب الحجیة كمراتب الحكم الفقهي وهي قابلة للتصویر فامتناع بعض المراحل لا یزعزع البعض الآخر وقد ذهب المیرزا النائیني (قدّس سرّه) ومن تبعه من تلامیذه إلی أن المشكلة التي تطرأ علی مرحلة الحكم اللاحقة كمرحلة الفعلیة والتنجیز تؤثر في المرحلة السابقة كالانشاء والمفروض أنه یقتصر علی موضع تأثیرها ولا یتعداه تصاعدیاً إلی مرحلة الانشاء السابقة كما بیناه.

السادس: ما ذكره الأصفهاني (قدّس سرّه) متین وقد أضفنا إلی نكتته تكملة أخری وهي تنجز العلم الاجمالي.

السابع: إن كون الحجیة بمعنی الطریقية لا تتنافی لأنها موازیة للطریقیة التكوینية.

الاشكالات الواردة علی مسلك متأخري الاعصار في تساقط الامارتین المتنافیتین:

اشارة

ومبنی القوم بأن مقتضی القاعدة عند التعارض هو التساقط ؛ لانعدام

ص: 249

الطریقية عند التنافي والتناقض فلا یمكن تصور جامع طریقي ولهذا بنوا علی التساقط، إلا أن الدلیل العلاجي هو الذي یقرر حجیة تخییریة تعبدیة وباختیار إحداهما تتعین فتكون حجیة تعینیة بواسط الاختیار.

الاشكال الاول:

إنه إذا كان عقلا وثبوتا ممتنع تصویر الطریقية مع التعارض والتنافي فسواء أنقلبت بهذا الأخذ إلی التعییني أو بقت علی ما هي علیه من التخییر، فالسؤال الذي یطرح نفسه: كیف یمكن تصویر الحجیة الطریقية مع التنافي؟ وهو عین ما أشكله المتأخرون علی المتقدمین ؟! فوجوب الأخذ فسره الأكثر بالوجوب التكلیفي وهو ما یكون التخییر فیه وهو التخیری فیه، ثم بعدما یختار ویلتزم یكون حجة تعینیة في أحد الطرفین، فنفس الإشكال یرد علی مختار متأخري الاعصار وهو إذا كانت الطریقية ممتنعة عند التنافي وزائلة في غیر صورة الترجیح - إذ في صورة الترجیح قد یكون هناك علاج من الشارع یبین أن الراجح حاوي الطریقية - وأما في صورة عدم الترجیحوبقاء التخییر یرد الإشكال في كیفیة تصویر بقاء الطریقية المبنیة علی ملاك الكاشفیة والاراءة في ظل التنافي والتعارض والتكاذب .

فتعبیر السید الخوئي (قدّس سرّه) مثلاً بقوله : (لا محالة أن یجعل الشارع الحجیة بید المكلف یأخذ بها) وهذا تعبیر أغرب من سابقه!

ص: 250

وإذا كانت الطریقية عند التنافي ممتنعة ومضمحلة وزائلة، فكیف تتصور ولو بدلیل علاجي آخر، وذلك لأنه إما أن لا یوجد مانعا ثبوتیا فالدلیل الأول المثبت لهذه الامارة كاف في تلك الحجیة والكاشفیة بمقدار وبحجم مخصوص وإن وجدت حجة أخری تنافیها وتكاذبها فإنه ثبوتا غیر ممتنع، وأما أن یكون في المقام مانعا ثبوتیاً والمانع إن كان ثبوتیا فهو مانع عن الدلیل العلاجي أیضاً ولا یكفي قیام الدلیل العلاجي الاثباتي علی وجوب الأخذ لأنه مع امتناعه ثبوتا لا تصل النوبة للاثبات.

وببیان آخر: أنه إن كان جعل الكاشفیة للإمارتین المتنافیتین المتكاذبتین ممكناً، فالدلیل الأول المثبت لجعل كل أمارة كاف لحجیتها بدون حاجة لقیام دلیل علاجیفنفس جعل حجیة الاخبار كاف في أثبات هذا المطلب وهذا لو كان له امكان ثبوتي وإما إذا لم یكن له امكان ثبوتي فكیف یتصور أن الدلیل العلاجي یأتي ویقرر حجیة تعینیة بتخییر تكلیفي أو حجیة تخییریة، وإذا كانت الطریقية یمكن أن تبقی ثبوتا مع التعارض فالمانع اثباتي لا ثبوتي إلا أن یقال بأن الحجیة - من الوجوب التكلیفي أو التخییر في الحجیة - أصل عملي أي وظیفة تعبدیة والحال أنهم لا یلتزموا بهذا التخییر في الاصل العملي بل یخصون هذا التخییر بالاخبار والفتوی لكونه من شؤون الامارة لا الوظیفة العملية, وعلیه فیقع التساؤل عن كیفیة امكان تصویر الطریقية في ظل التنافي ولو بدلیل

ص: 251

تعبدي خاص توقیفي، فهذا مما یدلل علی أن الطریقية یمكن لها أن تبقی لكلا الطرفین في ظل التنافي والتعارض، فالتنافي صوري في الادراك بحسب الوهم لا في حقیقية الادراك وذلك لأنه یمكن التوفیق بعدم التنافي بینهما بحجم الكاشفیة الموجودة ولو لنفي الثالث.

الاشكال الثاني:
اشارة

المعروف عند المتأخرین أن حجیة الامارات بجمیع مراتبها كحجیة الظواهر والاخبار وغیرها مطلقا لیست تأسیسیة بل إمضائیة - ومعنی الامضائیة المقابلة للتأسیسیة علی نحوین:

معنی الحجیة الامضائیة:

الأول: أنه في كل امارة عندنا لها طرفان طرف المحمول وطرف الموضوع فإذا كان المحمول ثابتا لدی العقلاء فیكون اعتبار الشارع له إمضاءا في طرف المحمول، وإذا كانت قضیة الامارة والكاشفیة موجودة إلا أن العقلاء لا یعملون بها فیكون اعتبار الشارع لها تأسیسا للمحمول.

الثاني:أن تكون الامضائیة من ناحیة الموضوع فلا یقال لها تأسیسة وذلك لأن الامارات لها وجود تكویني في افادتها الظن فإن تولید الامارة للظن لیس بالاعتبار من المعتبر بل بالتكوین فالامارات التي هي موضوع الاعتبار وعدمه أمور تكوینية لیست خاضعة لاعتبار المعتبر، وعلیه فالامضائیة أو التأسیسیة من جهة المحمول لا من جهة الموضوع.

ص: 252

نعم یوجد معنی التأسیس في الموضوع بمعنی أن الشارع قد یكشف عن وجود امارة مغفول عنها لم یلتفت إلیها العقلاء ولم یكتشفوها فالتأسیسیة لیست بالمعنی الأول الایجادي بل بمعنی أن الشارع كشف عنها، وعندنا من هذا النمطمن الامارات أمثلة كثیرة مثل سوق المسلمین أو المیت في أرض المسلمین بمعنی أن الشارع كشفها وأعتبرها.

فعند متأخري الاعصار أنه إذا كان مقتضی القاعدة لدیهم في تعارض الامارات هو اضمحلال الاماریة وتساقطها وزوالها فما هو الباقي حتی یرجح ویثبت بأدلة العلاج؟! فإنه إذا زال الظن لا معنی للاعتبار؛ لأن الظن من الامور التكوینية فإذا كانت اراءة الامارتین ممتنعة فأي شیء یعتبر في مورد الأدلة العلاجية إلا أن یفرض أن الموضوع بعد باق، فالظن والاراءة تكویناً لم یزل ولا یزال غایة الامر یوجد محذور في المحمول فالاراءة التكوینية موجودة ولكن فیها نوع من الاجمال والتزاحم في الاراءة وهذا باعتبار الارائتین وإلا فكل اراءة تفصیلية لا اجمال فیها ولكن عند ضم أحدی الارائتین إلی الآخری یسبب الاجمال والضبابیة وهذه الضبابیة لا تعنی زوال الاراءة تكوینياً وأدلة العلاج تنصب علیه، غایة الامر یوجد في الاعتبار تصادم وتنافي، وحله یمكن بما ذكره المحقق الأصفهاني (قدّس سرّه) أو بما ذكرناه من الاراءة الاجمالية فالتنافي بین الامارتین لیس في أصل الفعلیة بل في تمام الفعلیة ، وقد

ص: 253

ذكرنا هذا في بحث التعارض تأییداً للمتقدمین وإشكالاً علی المتأخرین.

الاشكال الثالث:

دخالة التخییر ودخالة أخذ المكلف في مراتب الحكم المتأخرة:

أن الحجیة - ولا سیما علی تصویر أن التخییر في الحكم التكلیفي وهو وجوب الأخذ بأحدی الامارتین - كیف تتحق بمجرد صرف الأخذ حتی یولد الاماریة أي كیف یكون الأخذ من شرائط الحجیة في مقام الفعلیة ؟! فإن معنی هذا أن الأخذ یولد أصل موضوع الامارة وهو الكاشفیة وهو باطل لما تقدم في الاشكال الثاني من عدم دخالة فعل المكلف في موضوع الاماریة إذ هو من الامور التكوینية التابعة لمناشئها التكوینية ولا ربط لها بفعله.

نعم إذا أرید بدخالة الأخذ هو دخالته في التنجیز وأطوار أخری لاحقة للحكم فلا بأس كما في الحكم الفقهي وذلك لأن فعل المكلف یؤثر في بعض المراحل اللاحقة للحكم لا في إنشاءه وأصل فعلیته، كالتنجیز مثل انقاذ الغریق في وقت الصلاة فإنه یرفع تنجیز الامر الأدائي بالصلاة فیقضیها، ففعل المكلف یؤثر في مراحل الحكم اللاحقة وأما لو أختار الصلاة فیعاقب علی ترك أهمیة انقاذ النفس المحترمة.

وإن كان أخذ المكلف في المتساویین یجعل التنجیز في طرف والتعذیر في الآخر فممنوع ؛ لأن أصل الملاك وأصل الفعلیة مرهونة

ص: 254

بنفس الموضوع المأخوذ في الدلیل العام لا بفعل المكلف، نعم مرحلة الامتثال لها صلة بفعل المكلف، وإذا كان هذا هو مرادهم فالمتأخرون یتفقون مع المتقدمین؛ وذلك لأن المتقدمین یقولون إن أصل الفعلیة وأصل الحجة في الامارة مفروغ عنه بنفس دلیل الجعل الأولی وأما التنجیز وما شابهه فبحث آخر فإن قوله (علیه السلام) :

«بأیهم أخذت من باب التسلیم وسعك» لا أنه بأیهما أخذت من باب التسلیم تحقق أصل الاعتبار والجعل؛ وذلك لأن حجیته واراءته في الرتبة السابقة وفي الأساس والأصل موجودة، إنما التعذیر یكون بید المكلف في المتنافیین والمتزاحمین أما في أصل الفعلیة وأصل الموضوع وغیرها من المراحل الاولی للحكم فلیس شیء منها بید المكلف، ولا سیما الامارة فإنهلا ربط لها بالاختیار أصلا إذ الكشف والاراءة وأصل الحجیة متحقق وموجود أختار المكلف أم لم یختر ، نعم تنجیز الامارة وتعذیرها یمكن أن یكون مرهونا بید المكلف لأنه وقع في حیرة الامارتین المتنافیتین فحینئذ یؤثر اختیاره في تعذیر وفي تنجیز طرف دون آخر، فمرحلة الامتثال مرهونة بفعل المكلف كما في باب التزاحم سواء الملاكي أو الامتثالي أما أصل فعلیة المجعول الشرعية فهي بالجعل في الأدلة الأولیة للإمارات ولیست بالدلیل العلاجيولا مرهونة بفعل المكلف إلا أن یكون فعل المكلف مثل الاستطاعة فإنه من الاصل قد جعل شرط لموضوع المجعول ولأصل

ص: 255

فعلیته فبعض أفعال المكلف تأخذ قیداً أولیاً في أصل الدلیل كقید أو جزء علی فرض وجوده في الموضوع وهو أمر آخر إذ الفرض - ولا سیما في الامارت - أن فعل المكلف لیس موضوعا لا شرطاً ولا جزءا في الامارة إلا أنه بسب التعارض صار له دخل في التنجیز والتعذیر بعد أصل الفعلیة، فأي صلة بین الاماریة والظن وتخییر المكلف فهو بمثابة فعل أجنبي ینضم إلی شیء آخر أجنبي.

فالخلاصة أن إخبار المكلف له صلة بالامارایة، ودلالة الالفاط لها صلة بالاماریة وفتوی الفقیه لها صلة بالاماریة، وسوق المسلمین كفعل له صلة بها وأما التخییر - البحت الخالي عن الترجیح - عند التعارض والتنافي لا صلة له بالاماریة؟! .

فالاشكال هو أن الأخذ والتخییر لا یولد الحجیة ولا مناسبة بین الأخذ أو التخییر وبین الاماریة فلا یمكن أن یكون التخییر والأخذ شرط في اماریة المتعارضین إذ لا مناسبة ولا علاقة بینهما، وهذا علی مبنی الكاشفیة المحضة لا المصلحة السلوكیة التي لم یرتضوها بل علی السلوكیة أیضاً لا یتم لأن الكلام في أن الحجیة المجعولة بحسب الدلیل الأولی هي نفسها التي في ظرف التعارض والتخییر لا أن التعارض والتخییر یوجد سنخا آخرا جدیدا من الحجیة بل هي نفس الحجیة المجعولة أولاً.

ص: 256

وبتعبیر متأخري الاعصار أن الدلیل الاثباتي كان قاصر الشمول لمورد التعارض وبسبب الدلیل العلاجي دفع قصور الدلیل الاثباتي للحجیة لا أنه أنشأ حجیة جدیدة مغایرة للحجیة الأولی التي أثبتها الدلیل الأول، فالأعلام بحسب الاستظهار یثبتون أن الدلیل العلاجي یكشف عن أن نفس الحجیة التي قررت في غیر التعارض هي نفسها الحجیة الموجودة في التعارض وإذا كانت هي نفس الحجیة، فالتخییر والأخذ غیر دخیل فیها، والأمر كذلك وجداناً لأن الدلیل العلاجي نستظهر منه عدم تقریره لحجیة جدیدة. وهذا ما ذهب إلیه أكثر متأخري الاعصار.

وهذا الاشكال - علی ما أتذكّر - ذكره الاستاذ السید الروحاني (قدّس سرّه) في الاجتهاد والتقلید وهو غیر مطبوع.

وهذه الاشكالات إذا تأملناها فهي ترد علی القول الآخر عند بعض متأخري الاعصار غیر الوجه الذي قرر السید الخوئي (قدّس سرّه) لأكثر متأخریهم وتصویر ذلك الوجه: هو أن الدلیل العلاجي یثبت الحجیة البدلیة أو الجامع العنواني كأحدهما أو هذا بشرط ترك ذاك فهو تخییر في نفس الحجیة أو عنوان جامع للحجیة وكل ذلك بواسطة الأدلة العلاجية .

فإن هذا یرد علیه ما ورد علی أكثر متأخرین الاعصار، فیرد علیه ما ورد علی الأول، ویرد أیضاً الایراد الثالث؛ لأن حجیة الامارة الموجودة

ص: 257

في البین عند التعارض نفس الامارة الموجودة قبل التعارض - ولیس في المقام انشاء أمارة جدیدة بالادلة العلاجية - فهي قبل التعارض لیست الحجیة بعنوان البدلیة ولا العنوانیة الجامعیة فكیف تكون حجیة أحدهما بعد التعارض بدلیة أو عنوانیة أو بشرط ترك الأخری، فإن سنخها واحد فكیف یكون الترك أمارة دخیل في اماریة أمارة أخری فإن الفرض أن المستفاد من الأدلة العلاجية لیس بأمارة جدیدة بل هي نفس الطبیعة الاولیة للحجیة وعلیه فالأدلة العلاجية لا تنشأ امارة جدیدة .

وعلیه فهل الأدلة العلاجية دخیلة في أصل الفعلیة كما یقوله متأخرو الاعصار أو في التنجیز كما یذهب إلیه المتقدمون.

فإن هناك قیوداً لأصل الفعلیة وقیوداً لتمام الفعلیة وقیوداً للتنجیز، وهذه القیود علی نمطین قیود شرعية وقیود عقلیة، فلیس كل القیود الشرعية في أصل الفعلیة بل بعضها في أصل الفعلیة وبعضها في تمامیة الفعلیة وبعضا في التنجیز وبعضها في الامتثال، وبعضها في احراز الامتثال فإن الكثیر من كبار الأعلام ذهبوا إلی رجوع القید للفعلیة بمجرد شرعيته أو رجوعه للتنجیز لمجرد كونه عقلیا.

والمفروض الالتفات إلی التناسب بین القیود وبین مراحل الحكم فحیث إن التخییر والبدلیة لا یتناسب مع أصل الفعلیة وأصل الانشاء وأیضا لا تناسب بین التخییر والوجوب التكلیفي ، وبین مرتبة الانشاء

ص: 258

وأصل الفعلیة كقاعدة الفراغ والتجاوز فإنهما ناظرتان إلی مرتبة الاحراز من مراتب الحكم لا إلی أصل الفعلیة، ولهذا لو انكشف له نقصان الركن المشكوك مع عدم التدارك وجب علیه الاعادة لعدم سقوط فعلیة الركن، وإلا لو كان مفاد قاعدتي التجاوز والفراغ راجع لأصل الحكم لخصصت أدلة أعادة الصلاة من ترك الركن في مورد الشك - وعلیه فلیس كل ما یرفع ویحل التعارض والتنافي یؤخذ به، فإن اللیل والنهار مثلاً یحلان التعارض بأن تحمل هذه الامارة علی ظرف اللیل أي مما یعمل بها في اللیل وتلك نهارا وأیضا الرجل یعمل بالأولی والثانية تعمل بها المرأة وغیر ذلك من التمحولات والتكلفات لحلحلة التعارض، فإنها ترفع وتحل التعارض والتنافي إلا أنها لاربط ولا مناسبة بینها وبین الدلیلین لانها أجنبیة عن اصل الحكم وعن مراتبه فكذا قیود كل مرتبة تكون أجنبیة عن المرتبة الأخری

وعلیه فروایات التخییر حیث إنها لا تتناسب مع أصل الحجیة وأصل الفعلیة فتحمل علی ما تتناسب معه من مراتب الحكم التي بها یرفع التعارض مثل التنجیز في مراحل حجیة الامارة حیث إن التخییر والأخذ یتناسب مع مرتبة التنجیز ومرتبة الامتثال إذ لا ربط لها بأصل موضوع الححیة والاماریة ، وحیث كان التخییر والأخذ یتناسب مع مرتبة التنجیز والفعلیة التامة فبأدلة العلاج تكون إحدی هاتین الحجتین منجزة علیك

ص: 259

بالأخذ بها مع عدم التصرف في أصل الحجیة للفتوی الأخری.

وعلیه فتبقی أصل الحجیة علی ما هي علیه وذلك لأن ترك إحدی الامارتین لا یكون شرطاً في حجیة الأخری إذ لا ربط للحجیة بالترك، نعم ترك أحدی الامارتین شرط في تنجیز هذه الامارة كما هو في الاحكام الفقهية في المتزاحمة فإن ترك الأهم شرط في تنجیز وتمامیة الفعلیة للمهم.

وهذه جملة الاشكالات لم یتنبه لها متأخرو الأعصار في غیر هذه الموارد إلا الأستاذ السید الروحاني (قدّس سرّه) فقد ذكرها في باب التخییر إلا أنه لم یلفت إلی مبنی المتقدمین الذي ذكرناه، وهو صحیح وسدید.

وبهذا یتبین أن القائل بالجواز في مسألة العدول والقائل بعدمه فیها یتوقف علی تصویر حقیقة الحجة التخییرية فجمیع البحوث المذكورة هنا تعتمد علی حقیقية الحجیة التخییرية.

نكتة صاعنیة في عموم البحث مع قطع النظر عن خصوص هذه المسألة

إن الاستدال بأدلة المثبتین لجواز العدول من الاطلاق وغیره في مقابل الحرمة من الاسصحاب وغیره هو هندسة وصورة لسیر استدلالي تختلف عن الصورة والهندسة التي سلكناها وسرنا علیها، إذ أول ما سلكناه هو بیان حقیقة الحجیة التأخییریة وكما هو واضح من أن هذا

ص: 260

البحث مقدم علی عواض وأحكام الحجیة التخییرية ،... فالنكتة الصناعیة في هیئة وهندسة استدلالنا متقدمة موضوعاً علی ما ذهب إلیه الآخرون، فاختلاف هیئة وهندسة مسار البحث یؤثر في النتیجة وبیان تقدم مسار بحثنا علی مسار بحث المسلك الآخر بأمور:

الاول: أن ما ذهبنا إلیه - من بیان حقیقة الحجیة التخییرية - مقدم علی بحث ما سلكه غیرنا ومؤثر، وتأثیره من جهة أن البحث في حقیقة الحجیة التخییرية بحث فقهي اجتهادي وأما بحث استصحاب بقاء الموضوع أو كون الاطلاق موجودا أم لا - مع أن الاطلاق دلیل اجتهادي وقد مر بنا أن الادلة الاجتهادية علی مراتب فبعضهااجتهادي بالنسبة إلی الآخر فتتقدم علیه كتقدم الدلیل الاجتهادي علی الدلیل الفقاهتي، فتحدید وتقریر مفاد الأدلة بالنسبة إلی اطلاق الأدلة من قبیل الموضوع والمحمول لأن الاطلاق حالة عرضیة علی ذات مفاد الدلیل، فتحدید وتقریر مفاد الدلیل مقدم علی الاطلاق فتحدیده وتقریر مضمونه مهم جداً وبهذا یتضح أن مسلكنا في البحث بمثابة الموضوع بالنسبة إلی ما سلكه الآخرون.

وأیضاً الاطلاق مورده الشك - لا موضوعه الشك وفرق بین أخذ الشك في الموضوع وكونه ظرفاً وموردا للشك فالشك ماخوذ عقلاً في الامارت ومأخوذ شرعاً في الاصول - وأما تقریر مفاد وتحلیل الطبیعة

ص: 261

التي یراد اجراء الاطلاق فیها فهو متقدم علی نفس الاطلاق لأنه بحث في أصل تقرر مفاد الدلیل، وأما الاطلاق ففي مرتبة الشك وهي متأخرة عن أصل تقرر مفاد الطبیعة وتحدید معناها كي یصح التمسك باطلاقها في مورد الشك فلابد من تحدید معناها أولاً.

وهذا هو مسلك المتقدمین ومنهجهم من تقدیم بیان حقیقة الدلیل قبل البحث عن عوارضه وهذا مؤثر في الأدلة الاجتهادية فإن الفحص والتتبع في نفس الاخبار بل حتی آیات الاحكام قد أوجب تفطن المتأخرون لآیات أحكام أخر علی ما یزید عن العدد المعروف بكثیر ولم یتنبه لها المتقدمون وفي منهجیة الاستدلال حیث إن منهجیة المتقدمین هي تحلیل الأدلة وقد توصلوا إلی نكات في الأدلة مما جعلها ذات عمومیة لموارد كثیرة حتی قال المتأخرون تعلیقا علی بعض نتائج المتقدمین: ولم نجد له دلیلا ...» وكل ذلك للبحث والتحقیق والتحلیل في نفس الادلة الاجتهادية فنفس الادلة الاجهادیة بعضها مقدم علی بعض،وبعضها فیه نكات عامة ونكات حاكمة ونكات ذات أثر بالنسبة إلی الأدلة الأخری... .

وهكذا في المعارف فإن الأصول العقلية بمنزلة الاصول العملية متأخرة وإلا ففي القرآن ببیان أخبار أهل البیت (علیهم السلام) مضامین برهانیة عقلیة لا یتفطن إلیها العقل إلا بتوسط الوحي ، فیكون التعاطي والتعامل

ص: 262

مع أخبار أهل العصمة (علیهم السلام) علی أقل تقدیر أنها منبه ومرشدة لتلك البراهین العقلية التي لم تعنون في كتب المتكلمینو العرفاء والمفسرین والفلاسفة.

بیان المختار:

فنعود لما نحن فیه وهو أن حقیقة الحجیة التخییرية مؤثرة في كون التخییر ابتدائيا أو استمرارياً، والمختار لنا وفاقاً للمتقدمین من عدم التساقط في مورد تنافي الامارتین بل الأصل هو التخییر أو التوقف إلی أن یحصل الترجیح، وقد مرّ بنا معنی التخییر وأن مورده الفعلیة التامة ومرحلة التنجیز، وذلك لأن عند تعارض الامارتین لا تسقطان بل تكونان حجة في المشترك وحتی في مورد التنافي لا بالنسبة إلی شیء بعینه، فالأصل فیه التخییر وهذا التخییر لیس في أصل فعلیة الحجیة بل في تمامیتها أو في التنجیز ، وهل هذا التخییر استمراري أو ابتدائي؟

الصحیح أنه ابتدائي ولیس استمراريا مع أن معنی التخییر الذي نذهب إلیه مغایر لما یذهب إلیه المتأخرون،فإن ما یذهب إلیه المتأخرون من كونه ابتدائياً لا استمرارياً لأن الحجیة التعینیة عندهم تتولد بالأخذ وبالتالي یكون نوع من تبدل الحجیة التخییرية إلی التعیینة كما مر شرحه مفصلا ًوذلك لكون الأخذ شرطاًفلا بقاء للحیرة حینئذ ومن ثم لا یجري الاستصحاب لتبدل الموضوع بتبدل الحجیة التخییرية

ص: 263

إلی تعینیة، فما كان سابقا هو الحجیة التعینیة فیجری استصحاب التعینیة عند الشك ولا یعارض باستصحاب الحجیة التخییرية لانتفاء موضوعها وتبدله من الحیرة إلی رفعها.

فهذا مسلك في تصویر معنی الحجیة واضحالآثار في الاصول العملية كعدم جریان الاستصحاب لتبدل الموضوع فالأمر علی مسلك المتأخرین من تبدل الحجیة التخییرية إلی تعینیة أنه ابتدائي لا استمراري واضح.

وأما علی مسلك المتقدمین الذين یذهبون إلی أن الحجیة التخییرية لیس مفادها تساقط الحجتین وانشاء حجیة جدیدة بل علی مسلكهم أن نفس الحجیة لكلا الفتویین والامارتین باقیة علی حالها غایة الامر أنه حصل بتعارضهما تنافي في التنجیز وتمامیة الفعلیة... وعلی هذا المسلك یصح تصویر الحجیة التخیریة بقاءا لأن المفهوم من مقتضی التخییر في المقام لیس هو الحیرة ولا التردید بل هو وجود الحجیة الاقتضائیة في كلا الطرفین ومع ذلك ذهبوا إلی أن التخییر ابتدائي لا استمراري؟

والوجه في ذلك هو أن معنی التخییر عند المتقدمین هو الجمع بین الأدلة وهذا هو معنی الترجیح والتوقف أوالاحتیاط بالنسبة إلی الحجج والتقلید لا الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع بل الاحتیاط بالنسبة إلی الحجج، فالاحتیاط تبعي للحجیة وذكرنا أن ما التزمه السید الخوئي (قدّس سرّه) وجملة

ص: 264

من تلامیذه - منالأخذ بأحوط القولین - لیس باحتیاط وإنما هو مبنی علی حجیة التقلید فهذااحتیاط تابع لحجیة الفتوی وإلا لو لم یكن تابعا لكان الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع لا بالنسبة إلی أحوط القولین، ولا یكون احتیاطا بالنسبة إلی القولین إلا مع فرض بقاءهما وعدم سقوطهما حتی في فرض التعارض ولهذا خص الاحتیاط بأحوط القولین، إلا أن یقال: أن الاحتیاط بین القولین باعتبار الانسداد، فنعلم بأن الامارة غیر ساقطة وهو أیضا یقتضي ویدل علی عدم سقوط الفتویین.

والحاصل: أنه توجد نقطة مشتركة في المعالجة بین الترجیح والتخییر والتوقف عند المتقدمین - وهي غیر مسألة أن أحدهما فعلي والأخر غیر فعلي - وهي بعطف المرجوح علی الراحج أي تاویله به والعلاج في الاحتیاط بعطف مفاد غیر الأحوط علی مفاد الاحوط والعلاج في التوقف هو استخلاص الاحتیاط من مجموعهما ... والعلاج في التخییر هو عبارة عن عطف الدلالة في أحدهما علی الأخری وهذا نوع من أنواع العلاج.

فالعلاج في الترجیح ابتدائي لأنه جمع بین الأدلة واستكشاف وكذا التوقف والاحتیاط نوع جمع بین الادلة إلا أنه مختلف عن جمع الترجیح في مراتب الادلة وكذا التخییر نوع جمع من الجمع الدلالي وعلیه فلا معنی للتخییر ؛ وذلك لأن الثابت من الحجیة بمجموعهما هو

ص: 265

الأخذ بهما لا بأحدهما كي یتصور التخییر بأخذ أحدهما مستقلاً عن الآخر إذ هو خلاف كون التخییر هو جمع وعلاج بین المتساویین بحیث یكون الجمع بینهما أمارة واحدة، وعلیه فلا تخییر بأخذ أحدهما دون الآخر وذلك لأن التخییر عند المتقدمین هو التوصل والاستكشاف بهما لا بأحدهما واسقاط الآخر فلا ترفع الید عن هذا الاستكشاف.

وعلیه فأدلة التخییر یفسرها المتقدمون بغیر ما فسرها المتأخرون، فإن التخییر عند متأخري الاعصار في أصل الحجیة والمتقدمون یفسرونه - في التوقف والاحتیاط والتخییر - بعطف أحد الدلالتين علی الأخری وتأویل أحدهما بالآخر كالترجیح وحمل العام علی الخاص وحمل المطلق علی المقید. فالترجیح مثلاً عندهم لیس بتولید حجیة جدیدة بل هو نوع من الجمع بین الأدلة بدون اسقاط للمرجوح فتكون المرجحات شواهد علی التصرف في دلالة المرجوح وفقا لدلالة الراجح، فالتخییر عند المتقدمین علاج دلالي كأن یكون أحدهما قرینة علی الآخر وعند المتأخرین علاج صدوري بل حتی المرجحات الصدوریة عند المتقدمین قرائن دلالیة لا صدوریة وقد بینا ذلك في مبحث التعارض.

وتوجد ثمار عجیبه تترتب علی تفسیر الترجیح باسقاط المرجوح والعمل بالراجح، وبین أن نفسره بالجمع الدلائلي والاستكشافي بكلا الدلیلین مع عدم اسقاط المرجوح فعند متأخري الاعصار لا یقام

ص: 266

للمرجوح وزناً بخلافه عند المتقدمین فللمجموع من الاخبار المتعارضة آثار،وآثار مجموعها غیر آثار أحدها بعینه وربما لا یكون لأحدها أثر بعینه ولكن أثره بانضمامه إلی غیره.

فإلی هنا تقررأن التقلید التخییري ابتدائي لا استمراري بالأدلة الاجتهادية من الطبقة الاولی من بین الأدلة الاجتهادية التي هي في مفاد الدلیل الذي هو بمثابة الموضوع للأدلة الأخری من الأدلة الاجتهادية كالاطلاق الذي هو من الطبقة الثانية من الأدلة الاجتهادية.

وقد تمت مسألة العدول من الحي إلی الحي والآن نتعرض للأدلة المذكورة في المقام للقائلین بالجواز أو الامتناع.

أدلة جواز العدول وعدمه:

الدلیل الأول: الاستصحاب:

والبحث فیه لیست استصحابیاً بل البحث فیه بحسب مفاد الأدلة الخاصة الواردة في نفس معنی الحجیة التخییرية فإذا قربت الحجیة التخییرية بنمط التخییر بتقلید أحد المتساویین ولم تتبدل فیكون الاستصحاب لنفس الحجیة التخییرية، أما لو قربت الحجیة التخییرية بتبدلها إلی تعینیة بتقلید أحد المتساویین فیكون متعلق الاستصحاب هو الحجیة التعینیة لا التخییرية لتبدلها ونتیجة بقاء الحجة التعینیة هو حكم فقهي مثل من قلد أحد المتساویین في وجوب صلاة الجمعة فبالإمكان

ص: 267

استصحاب الحجیة التعینیة أو استصحاب وجوب الصلاة.

فالبحث في الاستصحاب رهین تمحیص مفاد الادلة الفقهية الواردة في هذا الباب أو في هذه المسألة من هذا الباب فإن كثیراً من المناقشات لیست راجعة لنفس الاستصحاب واختلاف المباني فیه كالاختلاف في الاستصحاب التعلیقي بل أكثرها یرجع إلی صغریات مورده وإلی المستفاد من الأدلة كالمداقة في الفرض الفقهي أو في تطبیق شروط الاستصحاب، نعم یمكن أن یكون الكلام في الاستصحاب مبنائیا كقول: إن الاستصحاب لا یجري في الشبهة الحكمیة، إلا أن الصحیح جریانه. وكما تبین أن الحجیة التخییرية لیست باقیة لا علی مبنی المتأخرین ولا علی مبنی المتقدمین فالصحیح جریانه في الحجیة التعینیة.

الدلیل الثاني: لزوم المخالفة للقطعیة:

اشارة

لو لم یكن التخییر ابتدائيا للزم منه العلم بالمخالفة القطعیة من الاستمراري.

وبیان ذلك: هو أن لازم جواز العدول أن یحصل العلم بالمخالفة القطعیة مثل لو قلد في هذا المكان من یقول بالقصر وقلد من یقول بالتمام فإنه یعلم بالمخالفة القطعیة لو عمل بالفتویین وهذا دلیل علی أن التخییر بین المتساویین ابتدائي لا استمراري. وهذا الاستدلال یبتني علی أن الاطلاقات - في الأدلة تشمل أحد الفتویین حتی بعد العمل بالفتوی

ص: 268

الأخری - مقیدة بعدم لزومه المخالفة القطعیة، وهذا نوع من القرائن العقلية المقیدة، وذلك لأن المخالفة القطعیة لا تصادم الأدلة الظاهرية إذ الأدلة الظاهرية مقیدة وجعلت للوصول للواقع... ومع العلم بالمخالفة لا موضوع لها.

الجواب الأول للسید الخوئي (قدّس سرّه) :

أن هذا غیر مختص بموارد جواز العدول بین المتساویین بل هو لازم حتی في موارد وجوب العدول، فمثلاً من قلد الاعلم فوجد من هو أعلم منه فإنه یجب علیه الرجوع إلی الأعلم وعلیه فاطلاق حجیة فتوی الأعلم یقتضي المخالفة القطعیة وكذا بقیة اطلاق أدلة الشرائط المأخوذة في الفقیه، فمع تبدلها وتحققها في فقیه آخر یلزم هذا المحذور أیضاً.

ومع هذا فالأعلام لم یلتزموا بالتقیید لمجرد المخالفة القطعیة وعلیه فلا تكون المخالفة القطعیة ملازمة لتقیید أطلاقات الأدلة، وقد اشتهر أن الأحكام الظاهرية تفكك بین المتلازمات في الواقع فلا ینبغی الحكم بالتقیید بمجرد العلم بالمخالفة القطعیة.

وعلیه لو قلد زیداً من الناس ثم وجد من هو أعلم منه فقلده ثم وجد من هو أعلم منه فقلده فهذا لا یعني أن الاول والثاني والثالث لیست بحجج علیه بل كلها حجج ظاهرية، مع أن المخالفة بینها لا تكاد تخفی ومع ذلك لم یلتزم أحد بعدم شمول الدلیل لها.

ص: 269

وقد التزم بعلاج موضوعي آخر حاصله أنه إذا عدل إلی فتوی علی وفق الشرائط وهكذا... فكل تقلید كان علی وفق الحجة ثم ثبتت له حجة أخری رافعة لتلك الحجة بعد ثبوتها،فیقع البحث في الاجتزاء باعماله الموافقة للحجة السابقة والمخالفة لحجیة اللاحق أم لا؟

وقد ذهب مشهور القدماء إلی الإجزاء وهو الصحیح كما سیأتي في صورة عدم العلم والقطع بانكشاف الخطأ، وذهب متأخرو الاعصار إلی عدم الاجزاء ووجوب الاعادة أو القضاء إلا في الابواب الجاریة فیها بعض القواعد المصححة كقاعدة لا تعاد أو لا تنقض السنة الفریضة هذه بالنسبة للاعادة في الوقت.

وأما بالنسبة للقضاء فینبغي أن یكون البطلان وعدم الاجزاء لتغیر الفتوی والحجة لا لأصالة الاشتغال والاحتیاط وإلا لما وجب القضاء لأنه بأمر جدید و موضوعه الفوت ومع الاتیان بالعمل علی وفق الحجة الشرعية لا یحرز الفوت بوجه لاحتمال أن یكون ما أتی به مطابقاً للواقع ومع عدم احرازه یرجع إلی اصالة البراءة عن وجوب القضاء، وعلیه ففي موارد الشك وعدم احراز الاطلاق في القضاء لا یجب القضاء للبراءة.

ویحتمل عدم القضاء من جهة أن دلیل القضاء مثل قوله (علیه السلام) :

«اقض ما فات كما فات» یحتمل عدم شموله لمطلق الخلل حتی الناشئ بسبب الشارع كما لو كان الاشتباه في الشبهة الحكمیة من الشارع

ص: 270

نفسه؟ وعلیه فتجري البراءة عن قضاء الواجب الذي فات بسببه.

فخلاصة مبنی متأخري الاعصار علی مبنی الطریقية في الامارات فالعمل باطل وتجب اعادته إن كان في الوقت ولم تجر بعض القواعد المصححة، وأما القضاء فیجب إلا إذا كان منشأ التبدل هو الاشتغال أو الاحتیاط فلا یجب، وأیضا لا یجب لو كان منشأ الشك في شمول الاطلاق لوجوب القضاء في الشبهة الحكمیة بسبب الشارع.

وسیأتي أنه مع تبدل الاجتهاد والتقلید علی وقف الحجة لا یجب الاعادة ولا القضاء اكتفاءا من الشراع بما امتثله المكلف وهو موافق للمتقدمین إذ الفتوی اللاحقة بالبطلان ظن معتبر ولیست آثاره آثار العلم الوجداني.

الجواب الثاني علی لزوم المخالفة القطعیة:

أن هذا الاستدلال لیس بمانع من التخییر الاستمراري بجواز العدول لان العدول لعله یتعلق بالموارد التي یكتفي فیها الشارع بالناقص عن التام فعلی قول متأخري الاعصار یكون هذا الدلیل اخص من المدعي وإما علی قول المتقدمین فهو مخالف لهم.

وشبیه بهذا الاستدلال في عدم تمامیته هو العدول إلی أحد المتساویین الذي یلزم منه التبعیض في المسألة الكلية أو نقض الآثار السابقة وهذا نفس الاستدلال السابق إلا أنه ببیان آخر... وحاصله أن لازم

ص: 271

العدول هو أما التبعیض في المسألة الكلية أو نقض الاثار السابقة... .

وبیان ذلك: أنه لو قلد من یفتي بالتخییر بین القصر والتمام في توسعة المدینة المنورة وصلی تماما ثم قلد من یقول بوجوب القصر وصلی قصراً فهنا صار تبعیض في مسألة حكم الصلاة لأنها في الواقع إما قصراً وقد صلی تماماً في الزمان الأول وإما تماما فقد صلی قصرا في الزمان الثاني فالمسألة الواحدة الكلية لا یمكن التبعیض فیها لأن حكم الشارع في كل الواقعة واحد أو أنه یبعض في المسألة إلا أنه ینقض عمله السابق ویرتب آثار النقض من وجوب الاعادة أو القضاء، وهذا الاستدلال لیس مغایرا للوجه المتقدم الراجع للعلم والقطع بالمخالفة، لأن التبعیض في المسألة الواحدة مع ضمیمة أن للشارع في كل واقعة حكم واحد فقط وهو علمه الاجمالي بالمخالفة القطعیة.

والجواب عنه هو الجواب.

الدلیل الثالث: الاجماع:

وقد أجیب بأن هذه المسألة مستجدة ولیست معاصرة للمعصوم (علیه السلام) فكیف یدعی فیها الاجماع.

وهذا جواب غیر تام؛ وذلك لتحقق الصغری في زمنهم (علیهم السلام) برجوع أصحابهم (علیهم السلام) من أحدهم إلی الآخر فهي مسألة واقعة في زمانهم (علیهم السلام)

ص: 272

نعم، تعنون هذه المسألة عندهم بهذا العنوانفأمر آخر.

الدلیل الرابع: الدوران بین التعیین والتخییر وما فیه:

اشارة

عدم جواز العدول لأنه من دوران الامر بین التخییر والتعیین والتخییر مشكوك الحجیة والشك فیها مساوق لعدمها لأنه لما قلد أحد المتساویین وأراد العدول عنه إلی الآخر یشك في حجیته ومنشأ الشك أن التخییر إذا كان باقیا فیجوز وإن لم یكن باقیا فلا یجوز، فلو كان الثابت هو التخییر أو التعیین فالأول السابق حجة علی كل تقدیر والثاني المعدول إلیه مشكوك وأما لو كان الثابت هو التعیین فلا یجوز العدول فحجیة المعدول إلیه علی تقدیر دون تقدیر فهو مشكوك الحجیة والشك فیها مساوق لعدمها. فحجیة الأول بقاءا بین التخییرية والتعینیة متیقنة وأما حجیة الآخر فثابتة علیفرض ثبوت التخییر و غیر ثابتة علی فرض التعیین فهي مشكوكة والشك فیها مساوق لعدمها.

وفیه عدة أشكالات:

الاشكال الاول:

أن هذا الاستدلال بناء علی عدم وجود الاطلاق ومع وجوده فلا معنی للدوران .

الاشكال الثاني:
اشارة

یتوجه علیه الاشكال الذي ذكره المحقق العراقي في انحلال العلم

ص: 273

العلم الاجمالي بعلم تفصیلي متولد منه وشك بدوي فینحل... .

وحاصله: أن العلم القطعي بحجیة الاول أي من قلده أولا مبنی علی أن أحد طرفي العلم الاجمالي هو الحجیة التخییرية فلیس لنا علم بحجة تعینیة بمجرد ثبوت الحجة لمن قلده أولاً لكون حجیته من أخذ بقوله أولاً مرددة بین التخییرية والتعینیة فلا یلزم من ثبوت الحجیة ثبوت التعینیة لكون الحجیة أعم وثبوته لا یقتضي الأخص، فلا علم لنا بالتعین لاحتمال التخییر فالإجمال علی حاله وعلیه فكیف یقول الأعلام بأن المرجع الاول لا محالة مع بقاء الاجمال علی حاله وهو أن حجیة من رجع إلیه أولاً هل هي تخییریة أو تعینیة فما زال العلم الاجمالي بأحد الحجتین علی حاله فهل یقصدون بحجیة الأول أنه حجة تعینیة أو تخیریة أم ماذا؟! فإن كان مرادهم أنه مبرؤ للذمة فغیر تام لأنه لیس كل ما هو مبرؤ هو تعینی لازم كما في الأقل والأكثر مع أن الأكثر مبرؤ جزما إلا أنه لیس بلازم... فالمفروض أن ما نحن بصدده هل هو شك في التكلیف أو في الفراغ منه والظاهر منهم أنه یصورونه علی أنه شك في الفراغ بعد العلم الاجمالي بالاحكام الشرعية بالتكلیف وأما تحقق ما یتحقق به الفراغ فهو تقلید الأول وعدم الاكتفاء بالعدول...

ص: 274

الاشكال علی انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصلي المتولد منه وجوابه:

وهذا البحث أوردوه في مباحث كثیرة : كتعارض الاخبار ، بل هذا

البحث لیس مختصاً بالحجج بل یقرر في تولد علم تفصیلي متوقف من علم اجمالي وهذا سواء في الحجج أو غیرها، فالكلام یقع في قوة العلم التفصیلي علی حل هذا العلم الاجمالي الذي تولد منه التفصیلي أو هو نفسه.

وهذا ما ذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه) ولم یذكره في الحجج بل ذكره في أحكام الخلل من الصلاة في تولد العلم التفصیلي من العلم الاجمالي، وذهب إلی عدم انحلال العلم الاجمالي بالتفصیلي المتولد منه وأن الانحلال دور أو خلف لأن التفصیلي متوقف علی الاجمالي فإذا أوجب زواله وانحلاله لزم زوال التفصیلي نفسه وهذا خلف ما ذهب إلیه النائیني والأصفهاني وغیرهما حیث ذهبوا إلی الانحلال.

فأن الأصل العملي في مقام الشك في جواز العدول كما لو قلد الأول وأراد أن یعدل إلی الثاني فالحجیة إما تخییریة فیسوغ له العدول أو تعینیة فلا یجوز فیتعین تقلیده السابق وعلیه فیدور الأمر بین التخییر والتعیین. فینحل العلم الاجمالي بالتعیین.

ص: 275

إلا أنه یقال: إن المقام من مقامات العلم الاجمالي بأحدی الحجتین وهو موجب للتخییر مع عدم الترجیح وبعد الاختیار یشك في تعیین المختار أو مخیر بینه وبین الطرف الآخر فیكون العلم التفصیلي بحجیة محتمل التعیین محلاً للعلم الاجمالي..

فیرد علیه: أن دوران الأمر بین التعیین والتخییر معتمد علی نفس العلم الاجمالي بحجیة أحد القولین الموجب للتخییر وما كان معتمدا علی العلم الاجمالي في تحققه كیف یعقل أنه یوجب انحلال ما تولد منه؛ إذ لو لم یكن لنا علم اجمالي لم یحصل العلم التفصیلي بالحجیة التعینیة إذ ینقلب تصویر الفرض من الدوران بین التعیین والتخییر إلی الدوارن بین الحجیة التعینیة وبین اللاحجة هذا الاشكال الأول.

والاشكال الثالث:

الوارد علی قاعدة الدوران بین التعیین والتخییر هو أن كثیراً ما یسجل علی تعارض الاخبار وتعارض الامارات من أن الدلیل أخص من المدعي فتكون قیمته مثبتة بقدر ما یختص به فلا یثبت المدعي بوسعه الوسیع حتی یعمم إلی التعارض في الاخبار وفي باب التقلید ویرجح به من جهة أن أحدهما مفرغ للذمة یقینا دون الآخر.

وكذا یشكل في المقام علی هذا التقریب بهذه السعة بأن الشك هل هو في التكلیف الذي هو مجری البراءة أو في المكلف به الذي هو

ص: 276

مجری الاشتغال، فإن التصویر متوقف علی أنه لدینا اشتغال بالتكلیف أمر مسلم ومقطوع به ونرید أن نفرغ الذمة منه بهذه الامارة أو بتلك فلیس تنجیز التكلیف بالامارة بل هو بواسطة العلم الاجمالي مع أنه لیس لدینا علم اجمالي في جمیع الفصول والابواب الفقهية وعلیه فلا علم لنا باشتغال الذمة وعلیه فتكون الامارة إما منجزة لهذا الفرد المحتمل تعینه فیكون شبیه التعیین والتخییر في باب الفقه الذي هو مجری البراءة وذلك لأن أصل الكلفة بالطبیعي محرز وأما التكلیف بقید زائد فهو مجری البراءة وذلك لأن الشك یرجع إلی الشكفي أصل التكلیف فالتعیین مشكوك اعتباره وهو مجری البراءة.

وببیان آخر :

أنه في باب الامارات والحجج افترضوا علم اجمالي كبیر بالتكلیف فبحثهم لیس في أصل التكلیف وتنجیزه بل في المفرغ للذمة والمعذر فیكون التنجیز مفروغا عنه وإنما البحث في المعذر والمبرئ للذمة فیكون الأول مقطوع التعذیر والثاني مشكوك التعذیرفالمتعین ما هو معذر یقینا ...وهذا كله في موارد تحقق العلم الاجمالي الكبیر أو الصغیر بوجود أصل التكلیف.

وأما إذا لم یكن لنا علم اجمالي لا كبیراً ولا صغیراً كما في كثیر من تفاصیل الأبواب بعد العلم بالاتفاقیات في أكثر المسائل فإنه لا علم لنا لا

ص: 277

كبیر ولا صغیر بعد الانحلال بوجود تكالیف ودوران الأمر بین التعیین والتخییر لا یثبت خصوصیة هذه الأمارة علی غیرها إذ هو أول الكلام للشك في أصل الخصوصیة وهو مجری البراءة... فهذا الدلیل أخص ولا یجري إلا في موراد وجود علم اجمالي كبیر. وعلیه فیكون المدعي في مقام التعیین أوالتخییر بلحاظ المنجزیة لا بلحاظ التعذیر أي أن كل من الامارتین ترید أن تنجز مؤداها الذي لم یتنجز بعدُ والأصل هو التخییر لا التعیین لعدم الدلیل علی اعتبار الخصوصیة في أحد الدلیلین إذ الأصل عدمها. نعم، لو كانت الحجتان كالفتویین بلحاظ المعذریة وهي قبل إنحلال العلم الاجمالي الكبیر مثلاً فالتكلیف والتنجیز مفروغ عنه وإنما المراد منه هو تفریغ الذمة وتعذیر المكلف من الواقع المنجز بمنجز سابق فتكون حجیة الامارة بمعنی افراغها للذمة وهو لا یتحقق بالمشكوك. وهذا معنی قولنا (لو كانت الحجیة تخییریة واختار أحدهما فالمفروض أن الطرف الآخر لا یكون له استمرار بلحاظ المنجزیة)، فأصالة التعیین في موارد الدوران بین التعیین والتخییر خاصة بموارد عدم انحلال العلم الاجمالي الكبیر كما في بعض المسائل التي یعلم بالتكلیف الالزامي تجاهها بخلاف المسائل التي یشك في التكلیف الواقعي تجاهها... وإن قامت الحجة علی أحد شقیها فلا یتأتی دوران الحجة بین التخییر والتعیین. فهو خاص بموارد وجود علم اجمالي كبیر

ص: 278

(مسألة 12) : یجب تقلید الأعلم مع الإمكان علی الأحوط ویجب الفحص عنه(1).

فهو أخص من المدعي فلا یجری في كل مورد یدور بین التعیین والتخییر .

والحاصل: أن المانع من استمرار التخییر في تعارض الامارات هو

العلم بالمخالفة للواقع كما لو قلد من یقول بوجوب القصر وصلی ثم قلد من یقول بوجوب التمام وصلی فإنه یعلم ببطلان أحدی الصلاتین... فالتخییر ابتدائي لا بقائي.

المسألة الثانية عشر: وجوب تقلید الأعلم

اشارة

(1) إن التقلید تارة في صورة وفاق الأعلم مع غیر الأعلم والظاهر من الوفاق في بعض العبائر أن الوفاق في جمیع المسائل وهذا لیس بصحیح بل المراد بالوفاق في كل مسألة مسألة أو في كل باب باب باعتبار ترابط مسائل الباب الواحد في الأغلب ولیس المراد به في جمیع الأبواب، وأخری في صورة الاختلاف:

صور التقلید عند تعدد المجتهدین :

اشارة

أما في صورة الوفاق فهل یستند المقلد إلی الجمیع أو إلی المجموع أو إلی واحد منهم علی نحو البدل؟

وقد ذكر الأعلام أن له الاستناد إلی الجمیع بأن یستند إلی كل فرد فرد مستقل، والصحیح أن الاستناد أیضاً إلی المجموع والأثر المترتب

ص: 279

علی الجمیع مترتب أیضاً علی المجموع والدلیل هو المجموع، وإن كان بعضها أقوی من الآخر وذلك للوفاق ...واعتبار الاقوائیة والترجیح بها في خصوص صورة التعارض الذي هو مانع من الأخذ بالمجموع ، وأما مع صورة الوفاق فلا مانع من شمول الحجیة للمجموع.

وقد مرّ بنا أن تقلید الأعلم لزوماً یمكن أن یفرض في ثلاثة صور:

الأولی: صورة الوفاق. والثانية: صورة العلم بالخلاف. والثالثة: صورة احتمال الخلاف والوفاق .

منهجیة الاجتهاد والاسنباط:

الصورة الأولی: التقلید مع العلم باتفاق الفقهاء

ففي صورة العلم بالوفاق، هل یلزم تقلید الأعلم أو لا؟

وقد ذكرنا أن الأعلام في تعلیقات العروة في هذا المقام بینوا هذا بمنزلة وقوف المجتهد علی عدة روایات مختلفة في درجة الاعتبار، كأن تجتمع موثقة وصحیحة وحسنة بمضمون واحد فعندما یستند الفقیه إلی الادلة فلا معنی لحصر استناد الفقیه بالصحة وذلك لأن شمول أدلة الاعتبار لها بدون مانع كالمعارضة، فالأدلة الدالة علی اعتبار الامارات شاملة لها بنحو الاستغراق بل كما قلنا إن مقتضی المنهج الصحیح هو النظر إلیها نظرة مجموعية...

ص: 280

خطورة النظرة التجزئیة في الاستدلال:

فالصحیح في منهج الاستدلال أن تكون نظرة استغراقية ونظرة مجموعية فضلا عن الاكتفاء بالنظرة البدلیة بأن یستدل بروایة صحیحة فقط مع وجود المعتبر غیر الصحیح، بل بینا في علم الرجال بأن الامارات غیر المعتبرة مثل الاخبار الضعیفة بالنظرة الاستقلالیة أما بالنظرة الانضمامیة فهي معتبرة بقدر ما تحمله من درجة الاحتمال، وأن مشهور المتقدمین یعتمدون علی المعتبر وغیره وإن لم یفد التواتر بالنظرة المجموعية لا الحصر بالنظرة الجمعیة والاستغراقية المتضمنة لكون كل خبر بنفسه مثبت للمطلوب لأن غیر المعتبر لیس في نفسه حجة، وهذه نكتة مهمة قد أهملها جملة من أهل هذا العصر وذلك لأن ضم الضعیف إلی الخبر المعتبر یزید من اعتباره، فالمعتبر المنضم إلیه أخبار ضعیفة أقوی وأوغل في الحجیة وجداناً من الخبر المعتبر المنفرد.

المنهج الرجالي:

فالسید الخوئي (قدّس سرّه) مثلاً في بحث الحجج كحجیة الشهرة یصرح بأنها لا عبرة بها ولا تساوي قلامة ظفر في اشكاله علی مشهور المتقدمین، وفي الرجال لم یعتبر أیضا الوكالة ومشیخة الاجازة وغیرها من الامارات ذات القیمة الاحتمالیة لأنها لا تغني من الحق شیئا إلا أن المؤاخذة علیه (قدّس سرّه) أنه في وادي والمشهور في وادی آخر إذ المشهور

ص: 281

بحثه في الامارات بحث ضمیمي في المنهج التراكمي المجموعي والسید الخوئي (قدّس سرّه) بحثه بحث إستقلالي انفرادي لكل إمارة.

نعم ذكر أن الشهرة غیر جابرة - فظاهره أنه ناظر في اعتراضه علی المشهور إلی النظرة الانضمامیة - واستثنی ما إذا أفادت الاطمئنان، ومبنی المشهور هو هذا لا شیء آخر؛ إذ هي معتبرة بقدر ما تثبته من درجة الاعتبار حتی یصل بنفسه إلی درجة الاطمئنان أو بانضمام غیره إلیه.

وقد ذكرنا في الاصول في (بحث الحجج) أن الاطمئنان المعتبر لیس بدون ضابطة وظاهرة عفویة بلا میزان بل هو علی وفق موازین یقرها العقلاء وذلك لأن مناشیء الاطمئنان والاعتبار عندهم تارة علی نحو الاسقلال وأخری علی نحو الانضمام وعدم الاستقلال.

فالحجیة علی قسمین حجیة استقلالیة وغیر استقلالیة بالانضمام إلی غیرها مثل حجیة الاجماع فإن الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) یذهب إلی ما ذهب إلیه صاحب المقابیس (قدّس سرّه) من أن للاجماع حجیة ضمنیة لا استقالیة ویعبر عنه بجزء الحجة.

ومسلك المشهور في الشهرة هي حجة انضمامیة وكذا التوثیقات العامة والخاصة في علم الرجال فإنها من الحجج الضمنیة مع أن السید الخوئي(قدّس سرّه) في بحثه الرجالي یناقشهم علی أساس الحجة الاستقلالیة.

ص: 282

النظرة المجموعية للأدلة في العلوم الدینية:

وهذه نكتة هامة صناعیة ومنهجیة أصولية لها دخالة في الفقه في الاستظهار في علم الدلال والاستنباط وفي علم الرجال وعلم المعارف الاعتقادیة لأنها منهجیة استدلالیة برهانیة أصولية، فتركها یسبب آفة خطیرة لأن خاصیة الأدلة بشرط المجموع لها خواص ودلالات تختلف عن صفاتها علی نحو البدلوالانفراد.

ولیس طریقة القدماء هي تراكم الاحتمالات عشوائیا بل لهم ترتیب ومنهجیة في الاستدلال فهم أولا یحصلون التقییم الأنفرادي لكل مادة من الأدلة ثم الاستغراقي ثم المجموعي والمجموعي لا یتحقق وزنه إلا بعد وزن كل فرد فرد وبیان قیمته الاحتمالیة. ولذا تری المتقدمین مثل النجاشي لا یكتفون بالضعف بل یحددون درجة الضعف ومع كونه ضعیفا فلماذا یحددون درجة ضعفه؟! فإن مثل هؤلاء الذين یعتبرون من الرجالین المتشددین یعنون ویهتمون بتحدید درجة الضعف، فإن درجة الضعف في النظرة الأنفرادية والاستغراقية لا تنفع ولا قیمة لها إلا أنها بالنظرة المجموعية هي من مقومات الاستدلال.

الوجه في كثرة أقسام الخبر عند القدماء وأهمیتها:

ولهذا تجد تقسیمات الخبر عند المتقدمین لیست باربعة بل هي أكثر فلیس أول من قسم هو العلامة الحلي (قدّس سرّه) ، وقد ترتب علی ترك هذه

ص: 283

الاقسام غفلات وشطحات كثیرة عند المتأخرین وذلك لأنه مع تشخیص درجات الضعف تتحقق درجة الوهن الذي لابد من علاجه من هذه الحیثیة فمثلا درجات الضعف عندهم اربع فإذا كان الراوي ضعیف في جهة فإنهمیعتمدون علی بقیة الجهات التامة ویجبرون خلل تلك جهة بروایة وخبر آخر... وكذا لو كان الخبر ضعیفا في جهتین فإنهم لا یتركون الجهتین الاخریتین بل یجبرون ما هو محتمل بخبر آخر.فإن صفات الرواة عندهم مختلفة فتارة تلحظ بلحاظ علمه وهي ضبطه وتارة بلحاظ سلوكه العملي الصدق والامانة وهي وثاقته وتارة بلحاظ مضمون ما یرویه أي عقیدته وتارة بلحاظ نظرة الآخرین له.

فالمنهج التجزیئي خطیر جداً وهو لیس بمنهج موضوعي شمولي علمي إذ المنهج العلمي هو المنهج المجموعي وهو الذي یرتقیمن الاحتمال إلی الاطمئنان ومنه إلی التسالم أو الاستفاضة أو التواتر سواء هذه الدرجات علی صعید الصدور أو الدلالة أو جهة الصدور. مع أن السید الخوئي (قدّس سرّه) الذي یتبنی المنهج التجزیئي عملاً فإنه قد أعتمد (قدّس سرّه) في العروة علی خمس روایات ضعاف وقال بالوثوق.

وعلی كل حال فالجانب الوفاقي لیس بعدیم الأثر فإذا توافق المجتهدون في فتوی معینة فلا تعارض... فاطلاقأدلة التقلید یشمل جمیع الفتاوی ولا معنی للمكلف أن یأخذ أحدها دون الآخری . نعم لو

ص: 284

استند إلی أحدها أجزأت ولم تتعین الحجیة فیها وأما أجزاءها فلأن الحجیة ثابتة للجمیع وإن لم یقلد الجمیع إذ لا ملازمة بین عدم التقلید وعدم الحجیة. وهذا له أثار منها الامور التي تحتاج إلی الأذن والاجازة من المقلد وإذا كان یرجع للجمیع فیصح أن یأذن له غیر الأعلم فیمضی تصرفه فلا ینحصر الاستئذان بالأعلم.

فاتضح أن الموجب للبحث عن تقلید الأعلم هو التنافي والتعارض وإلا فحجیة غیر الأعلم لا مانع من الأخذ بها لشمول الدلیل لها في عرض الأخذ بقول الأعلم فلا تعین لتقلید الأعلم في المسائل الوفاقیة لاطلاق الأدلة بل الصحیح أن میزان التقلید حینئذ هو المجموع.

الصورة الثانية: التقلید مع العلم باختلاف الفقهاء:

ولا یخفی أن عبائرهم موهمة بأن الاختلاف في الجملة یعین الرجوع إلی الأعلم مطلقا مع أن أن المسائل الوفاقیة لا موجب ولا معین للرجوع فیها للأعلم وإنما الكلام والنزاع في خصوص المسائل الخلافیة فهل یتعین الرجوع فیها للأعلم أو یكون مخیراً بینه وبین غیره؟

أدلة تقلید غیر الأعلم في صورة الاختلاف:

اشارة

وقد استدل في المسائل الخلافیة بأمور:

الدلیل الأول: الاجماع

ونقل عن السید المرتضی (قدّس سرّه) في الذریعة ، والمحقق الثاني (قدّس سرّه) فی

ص: 285

حواشیه علی كتاب الشرائع في باب الجهاد - ویذكر هذا البحث في بحث الاجتهاد والتقلید وفي بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي بحث الحدود - وقد أدعی الأجماع آخرون أیضاً.

ویوجد من الأصوليین والأخباریین من ذهب إلی التخییر في تقلید غیر الأعلم في المسائل الخلافیة منهم: صاحب الجواهر في باب القضاء ج 40 ص 44 و 46 ، وفیه استعرض مبانیه في الاجتهاد والتقلید .

وقد خدش صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في هذا الاجماع بوقوع الخلط بین البحث العقائدي والبحث الفقهي في باب الفقه السیاسي، إذ من البدیهیات من مذهب الأمامیة لزوم تقدیم الافضل في الخلافة العظمی والامامة وأما الرجوع إلی غیر المعصوم فهو مبحث فرعی - وإن كان مرتبط بالشأن العام - والاجماع والبداهة في الامامة لا في هذا المبحث الفقهي الفرعیوهذه النكتة منه (قدّس سرّه) قد اعتمدها كثیر من متأخري الاعصار وخدشوا بها في الاخبار المستدل بها علی وجوب تقلید الأعلم.

أقول: إن نظام المرجعیة مرتبط بالزعامة وهو مرتبط بقواعد السیاسة الاجتماعیة وهو العلم الباحث عن النظام الاجتماعي كفعل جماعي وكتدبیر... وعلیه لابد من استظهار واستنطاق الاخبار لمعرفة الفروض والصور وأقسام طبائع الأنظمة السیاسیة لأن المفروض أن هذه أحكام واردة في طبیعة النظام ، فلابد من معرفة طبیعة النظام بین الأئمة (علیهم السلام)

ص: 286

وبین الفقهاء للتعرف علی طبیعة اقسام الانظمة السیاسیة، هل هي من نظام رئاسة الجمهوریة والفقهاء بمثابة رؤساء محافظات أو بمثابة رئیس وزراء مع وزراءه أو نظام فدرالي أو نظام ملكي أوغیرها...؟

فقبل الخوض فیها لابد من تحریر موضوع البحث الفقهي... وحیث إن الأدلة تعرضت للحكم - وهو وجوب الرجوع إلی الفقیه - فلابد من معرفة ذلك الفقیه، وقد حدده صاحب الجواهر (قدّس سرّه) من جهة حدود الولایة والصلاحیات التي أعطاها الأئمة (علیهم السلام) إیاه فهل هي لخصوص الأعلم من الفقهاء أو هي عامة لمطلق الفقهاء، وأیضا هل حدود تلك الصلاحیات خاصة بالولایة التنفیدیة أي انفاذ الأحكام أو تعم غیرها وهذا البحث مقدم علی بحث الحكم وهذا تحریر للفرض والموضوع.

وزیادة علی ذلك لابدّ من الالتفات إلی أن الفتیا سلطة ولیست اخباراً محضاً - كما تقدم في بحث تقلید المیت - والبحث لیس بخاص بالفتیا وذلك لأن صاحب الفتیا له ولایة في التشریع وهذا ما یعبر عنه في علم القانون الحدیث بالسلطة التشریعية وكونالفقیه ذا سلطة نافذة وادارة وتدبیر وقدرة فرض علی الآخرین ولو تحت عنوان التشریع والقانون وهي في قبال السلطة القضائیة والسلطة التنفیذیة ولیس هذا باصطلاح خاص قد تواضعوا علیه بل هي حقیقة لمسوها وأدركوها بالتحلیل والفحص العلمي.

ص: 287

فالخلاصة: أن صاحب الجواهر (قدّس سرّه) قد استشكل علی الاجماع المدعي في كلام السید المرتضی (قدّس سرّه) والمحقق الكركي (قدّس سرّه) باختصاص قیامه بمورد الامامة العظمی وأما في مورد نیابة الفقهاء فمسلم أنه لا یشترط فیها الأفضلیة والأعلمیة بل هي ثابتة لكل واجد للشرائط.

الدلیل الثاني: وجود المانع من تقلید الاعلم وما فیه

أن القول بلزوم تقلید الأعلم یلزم منه التفرد والتوحد:

وفیه: أن اشتراط الأعملیة لا یبدل الأدلة من عموم استغراقي إلی عموم بدلي، فاشتراط الشروط لا تنافي العموم الاستغراقي؛ فالانسباق الذهني من اشتراط الاعلمیة لزوم توحد الأعملیة مع أنه انسباق خاطئلأنه لا ملازمة بین شرط الأعلمیة والتفرد والتوحد وذلك لأن الأعلمیة لیس بتمام الشروط إذ أن من الشروط القدرة علی التصدي وهي متفاوته لعدم القدرة علی التصدي من الجمیع في جمیع الجهات وجمیع المجالات وجمیع الثغور، فتری البعض متصدیا لبلد دون بلد أو لكونه لیس له فتوی في باب ما أو غیر ذلك أو الاختلاف في التشخیص فإن الاختلاف في التشحیص لا یؤدي إلی التوحد ولا یجتمع مع التفرد أو عدم بسط الید والنفوذ الشامل أو غیرها من الأسباب العدیدة الموضوعية والحكمیة.

ص: 288

ومن ثم یكون استشهاد صاحب الجواهر (قدّس سرّه) - في الاشكال علی دعوی الاجماع من أنهم تسالموا علی أن المجتهدین لهم منصب النیابة حتی ولو لم یكن لهم صفة الأعلمیة - واضح الدفع وذلك لأن مسألة التعدد لا تعني عدم اشتراط الأعلمیة لعدم ملازمة هذا الشرط لتبدل العموم الاستغراقي - في أدلة نصب الفقیه للفُتیا وغیرها - إلی العموم البدلی باعتبار الأعلمیة وذلك لأمكان التعدد بسبب آخر كما ذكرنا كاختلاف حدود التصدي أو بسسب عدم استنباطه بعض الفتاوی ... فیمكن أن نقول بوجوب تقلید الأعلم ومع ذلك یتحقق تقلید الغیر مع مراعاة الأعلم فالأعلم، نعم ما أدعاه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) صحیح في نفسه من جهة الامامة العظمی لأنها أحادیة إلا أن الاحادیة لا تلزم في الفقاهة باعتبار الأعلمیة... بل التعدد وعدم التفرد والاحادیة أمر ضروري لعدم امكانیة تغطیة جمیع الامور والمجالات تكویناً بخلاف الامامة العظمی فإنها انحصاریة في نقطة المركز لكل الدوائر فلا مجال لنقطتین مركزیتین ولا یكون إمامان في زمان إلا أحدهما ناطق والآخر صامت وذلك لتزود المعصوم (علیه السلام) بشمولیة عامة بما عنده من علم لدُنِّي (وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ في كِتابٍ مُبِینٍ ...) وتاییده بجنود اللّه تعالی فهو یعي جمیع الامور بخلاف غیره الذي تكوینا لا شمولیة عنده.

ص: 289

وقد یشكل علیه بلزومه اعتبار تقلید غیر الأعلم من باب حجیة مطلق الظن لأنه علی هذا القول یلزم أن غیر الأعلم لیس بحجة فیكون الرجوع إلیه مع عدم التمكن من الأعلم من باب حجیة مطلق الظن إلا أن هذا الاشكال لایرد في جمیع الفروض كفرض ما لم یكن للأعلم فتوی.

والجواب: أنه من باب تحقق الموضوع بعد ارتفاع موضوع الأعلم السابق إلی الأعلم اللاحق فالأعلم وهكذا... وعدم تحقق الموضوع لأسباب عدیدة قد مرّ بعض أمثلتها.

الدلیل الثالث: اطلاق الادلة

ارجاع الأدلة الشرعية للفقهاء مع تفاضلهم في الأعلمیة ولم تقید بها:

وتقریر هذا الاستدلال: أن الدلیل العام أو المطلق یتمسك بعمومه أو باطلاقه لظهوره تارة وبصراحته ونصیته أخری، فدلالة المطلق علی الاطلاق ظاهرية وأما دلالته علی مورده الذي ورد فیه فبالصراحة والنصیة لا بالظهور فدلالة العموم والمطلق علی مورده لا یكون بالظهور بل بالصراحة فلو جاء مقید أوخاص في مقابله فإنه لایخرج هذا الفرد بالتقید أو التخصیص بل یكون معارضا له ومباین له فإن المقید والخاص یعارض العام والمطلق في مورده.

ص: 290

وهنا كذلك فإن غالب موارد نیابة الفقهاء في الفتیا هو في مورد تفاوتهم في الأعلمیة فالدلیل نص وصریح فیه فالأمر بالرجوع للأعلم وغیره هو مورد الدلیل فكیف یخصص باخراج مورده.

وأجاب السید الخوئي (قدّس سرّه) بأن الكلام في التفاوت في العلمية مع العلم بالخلاف وأما مع عدم العلم فلا مانع من شمول الدلیل، فصورة العلم بالخلاف لیست متیقنة من مورد اختلاف الأعلمیة حتی یكون صریح ونص بل هو ظاهر وقابل للتضییق.

وهذا الأشكال یرد علی صاحب الجواهر (قدّس سرّه) أجمالاً ولا بأس به فإنه یدل علی تعدد نصب الفقهاء في آن واحد.

الدلیل الرابع: ارجاع الائمة (علیهم السلام) إلی بعض اصحابهم مع القطع باختلافهم وما فیه

اشارة

إن أخبار ارجاع الائمة (علیهم السلام) إلی أصحابهم - كمحمد بن مسلم وزرارة وأبي بصیر ویونس بن عبد الرحمن - وردت في زمان واحد مع القطع باختلافهم في الأعلمیة ولا سیما مع وجود المعصوم (علیه السلام) الذي ارجع إلی غیره ممن هو دون المعصوم(علیه السلام) .

وفیه: أن الارجاع إلی أصحابه المتعددین لا ینافي اعتبار الأعلمیة مع الارجاع إلی الكثرة لأن الكثرة لا تنافي اعتبار الأعلمیة، كما أن اعتبار الأعملیة لا ینافي الكثرة ولا یلزم منه التوحد والتفرد ؛ والسبب في ذلك

ص: 291

هو أن اشتراط الأعلمیة لا ینافي التكثر والتعدد لما مرَّ من كون التعدد بسبب تعدد الأبواب وبلحاظ اختلاف تشخیص الأعلم وبأسباب عدیدة أخری فالكثرة لا تنفي اشتراط الأعلمیة ولا اشتراط الاعملیة یلزم منه نفي الكثرة فهذا لا یصلح دلیلاً، خصوصاً لتفرق شیعة أهل البیت (علیهم السلام) في الأزمنة والامكنه وعدم تمكن رجوع المكلفین إلی جمیعهم فلم یحرز أن المكلفین لهم القدرة علی الرجوع إلیهم في عرض واحد في باب ومسألة واحدة ومع ذلك أرجعهم المعصوم (علیه السلام) إلی ما هو أعم من الأعلم. والشواهد علی عدم قدرة المكلفین هو ما ورد من ذم زرارة من الامام الصادق (علیه السلام) فإن ذمه كان للتقیة والحفاظ علی اصحابه فإن كونه أعلم لا یعني أنه یمكنه التصدي بل یتصدی غیره وإن كان دونه في العلم.

الفرق بین حقیقة الدور التشریعي للمعصوم (علیه السلام) والدور التشریعي للفقیه

وأما الارجاع مع وجود المعصوم (علیه السلام) فهو ارجاع إلی الفقهاء بعد استناد علمهم إلی ما یتلقونه من المعصوم (علیه السلام) ، فیدل علی عدم اشتراط الأفضلیة والاعلمیة في الفقیه.

وفیه: أن دور المعصوم (علیه السلام) في التشریع یختلف عن دور الفقهاء وهذا كما أن دور اللّه جل شأنه في التشریع یختلف عن دور النبي (صلی اللّه علیه و آله)

ص: 292

فإنه متعلق بالفرائض الألهیة ثم دوره (صلی اللّه علیه و آله) في السنن ثم دور الأئمة في سنن المعصوم (علیه السلام) فهي قضیة طولیة بین هذه المراتب ثم دور الفقهاء هو في ما یستكشفونه من المعصومین (علیهم السلام) . فدور النبي (صلی اللّه علیه و آله) هو تفصیل لفرائض اللّه ثبوتاً بنحو التولید والتفصیل ودور المعصومین هو تفصیل لسنن النبي (صلی اللّه علیه و آله) ثبوتاً ودور الفقهاء هو تفصیل وتحلیل وتولید ما ورد عن أهل العصمة ثبوتاً، وهذا ما نعبّر عنه بعلم أصول الحكم أو المبادئ الاحكامیة أو أصول القانون أو أسس الحكم والذي هو القسم الأعظم من علم الاصول. وأما مسألة الاستكشاف فالائمة یمكن أن تستعمله لتعلیم الآخرین ومن استكشافهم (علیهم السلام) یتعلم الفقهاء كیفیة استعمال آلیات الاستكشاف التي قام الدلیل علی اعتبارها.

فما استشهد به علی عدم اعتبار الاعلمیة - من ارجاع المعصوم (علیه السلام) حال وجوده إلی الفقهاء - خلط بین دور المعصوم (علیه السلام) وبین دور الفقهاء فإن دورهم دور الموصل للأئمة فلیسوافي عرض الأئمة (علیهم السلام) حتی یلغی التفضیل ویستفاد عدم اعتبار الأعملیة فإن المعصوم (علیه السلام) مفصل ومحلل ما أجملته الشریعة والفقیه دوره دور الكاشف لما فصله الامام (علیه السلام) من أحكام الشریعة كما هو الحال في دور الفقهاء في العهد الأول عهد رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) حیث نزلت آیة النفر والتفقه فإن دور الفقهاء

ص: 293

لم یكن في عرض دور النبي (صلی اللّه علیه و آله) بل ولا في عرض علی وفاطمة وأهل البیت (علیهم السلام) فإن باب مدینة رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) كان علیا وأهل البیت (علیهم السلام) حیث رتبت آیات الولایة أولاً لله تعالی ثم للرسول (صلی اللّه علیه و آله) ثم لعلی (علیه السلام) وأهل البیت (علیهم السلام) في قوله تعالی: (إِنَّما وَلِیُّكُمُ اللّه وَ رَسُولُهُ وَ الذينَ آمَنُوا الذينَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ)(1) وغیرها من الآیات في الفیئ في سورة الحشر وغیرها... فلیس دورهم في عرض واحد حتی یقال: إن هذا یدل علی جواز الرجوع إلی غیر الأفضل مع وجود الأفضل، نعم یتم الاستدلال لوكانت وظیفتهما واحدة إذ یكون التفضیل بالنسبة إلیها... أما مع كون الوظیفة مختلفة فلا یدل علی عدم اعتبار التفضیل ویمكن تنظیر الفرق بمثال عصري في علم القانون فإن الفرق بین ما یمارسه فقهاء القانون الدستوري یختلف سنخاً عما یمارسه فقهاء قانون المجالس النیابیة وكذلك یختلف سنخاً عن الدور التشریعي الذي یمارسه فقهاء القانون الوزاري وهم عن البلدي وذلك لأن علم القانون وقواعده وآلیاته علی طبقات دستوري ونیابي ووزاري وبلدي وهي علوم مختلفة عن بعضها البعض، وهذا مثل دور الرواة فإن وظیفتهم غیر وظیفة المعصوم ، فهم یبلّغون ما جاء به المعصوم ، وإما

ص: 294


1- سورة المائده، الآية 55.

المعصوم فهو لیس بمبلغ كقناة عن الحس الظاهري بل هو مفرع ومولد ومفصل لمجمل السنن النبویة المتفرعة من مجمل الفرائض الألهیة. نعم یمكن للفقیه أن یكون له دور التفصیل والتحلیل والتفریع والتولید إذا أراد الفقیه أن یستعمله بحسب قدرته عن أحكام المعصومین (علیهم السلام) إلا أنه محدود ضمن آلالیات وضوابط وموازین معتبرة شرعاً بحسب ما تمكن الفقیه من اثباته وتحلیله من قواعد وأصول الأحكام الثبوتية وقد أشرنا إلی هذا البحث مفصلاً في علم الاصول في أول بحث مقدمة الواجبوهو المسمی بأصول الحكم .

الدلیل الخامس: سیرة العقلاء علی عدم اعتبار الأعلمیة

قیام السیرة العقلائیة علی عدم اشتراط الأعلمیة في الرجوع إلی أهل الخبرة وإلا لبار وتعطل غیر الأعلم من أهل الخبرة مع وجود الأعلم.

وفیه: أن سیرة رجوع الناس إلی المختلفین في الفضیلة صحیح إلا أن السبب في ذلك عدة أمور أخریلا مساس لها بعدم اعتبار الأعلم، فتعدد الرجوع لا یدل علی عدم اعتبار الأعلمیة وذلك لأسباب:

منها: أن الناس مختلفون في تعیین الأعلم فبعض یقول زید وآخر یقول سعد وهكذا فالرجوع إلی المتعدد لایدل علی ذلك بل یدل علی اختلاف الناس في تعیین الأعلم وهذا إن لم یدل علی اعتبار الأعلم فهو لایدل علی عدمه، ومنها أن الأعلم یختلف في الأبواب .

ص: 295

ومنها: عدم الاطلاع علی الأعلم ومنها كون الرجوع إلی الأعلم فیه كلفة لا تتحمل عادة في كل المواردومنها كون الرجوع إلی غیر الأعلم لعدم أهمیة ما یرجع إلیه فیه.

ومنها: الاطمئنان بتوافق المتفاوتین في الفضیلة في تلك الموارد بعد عدم إحراز ووصول الاختلاف وغیرها من الأسباب.

فالمفروض أن یقرر وجود السیرة في مورد رفع جمیع هذه الموانع كأن یكون المراجع إلی أهل الخبرة متمكن من الرجوع إلی الجمیع علی حد سواء ومطلع علی الأعلم ومورد ما یرجع إلیه فیه بالغ الأهمیة، ولا مجال لإدعاء سیرة علی ذلك بل السیرة علی التعیین فإنه والحال هذا لو رجع إلی غیر الأعلم لذمه العقلاء ووبّخوه علی رجوعه لغیر الأعلم.

الدلیل السادس: إطلاق أدلة حجیة فتوی المفتي وما قیل فیه وجوابه:

اشارة

مما استدل به عدم اشتراط الأعملیة: إطلاق أدلة حجیة فتوی المفتي وعدم التقیید بالأعلمیة، وهو غیر الأدلة الخاصة الدالة علی عدم شرطیة الأعلمیة كالارجاع إلی ابن أبي یعفور مع وجود زرارة (قدّس سرّه) .

وقد أجابوا عن هذا بأن الاطلاق لا یشمل الفتاوی المتنافیة للتعارض الداخلي من شمول الاطلاق.

ص: 296

وفیه:

أن هذا الجواب تام علی مسلك المتأخرین القائلین بالتساقط بخلاف مسلك المتقدمین القائلین ارتكازاً بالحجیة الفعلیة الناقصة أي التي لمتصل إلی مرحلة التنجیز إذ التعارض لا ینفي الحجیة الفعلیة فالاطلاق لیس بقاصر عن شمول الحجیة استعمالا وتفهیما وجِدّاً، غایة الأمر أن هذا التعارض لابد له من علاج وإلا فتبقی الحجتان فعلیتین ناقصتین، ویتحقق علاج التعارض بینهما بروایات اشتراط الأعلمیة كمصححة ابن حنظلة، وعلیه یثبت كون الأعلمیة شرطاً في التنجیز لا في الفعلیة.

اختلاف حقیقة الترجیح بین المتأخرین والمتقدمین ورجوعه إلی مراتب الدلالة:

وذلك لأن حقیقة الترجیح عند المتأخرین تختلف عن حقیقة الترجیح عند المتقدمین إذ لیس معناها عندهم فقد المرجوح للحجیة وثبوتهاللراجح خاصة.

نعم عند المتأخرین معناها فقد المرجوح للحجیة وثبوتها للراجح، فشرائط الامارة عندهم كخبر الواحد وفتوی المفتي والظهور في غیر مورد التعارض شرائط عامة وأما عند التعارض فیعتبر في حجیتها شرائط زائدة خاصة بظرف التعارض وهي نفس المرجحات إلا أنها لا تخرج عن كونها شرائط خاصة بظرف التعارض.

ص: 297

فشأنیة الحجیة عند المتقدمین بمعنی الحجیة الاقتضائیة الجزئیة وهي علی صعید المراد الجدی والتي وجد لها موضوع، غایة الأمر أنها تنافی وتزاحم بحجیة آخری، أما الحجیة الشأنیة عند متأخرین الأعصار فثابتة للمدلول الاستعمالي أو التفهیمي دون المراد الجدي ، ومن ثم كانت الحجیة الشأنیة عند المتأخرین خاصة بالدلالة الاستعمالیة وأما بلحاظ المدلول الجدي فلا حجیة لها ولهذا قالوا بالتساقط لعدم وجود الحجیة الجزئیة فالاقتضاء عندهم في مرحلة الدلالة لا في مرحلة الملاك، بخلافه عند المتقدمین لثبوت الحجیة الشأنیة بمعنی ثبوت الحجیة الجزئیة حقیقة للمراد الجدي بوجود موضوعها، فالاقتضاء عندهم في مرحلة الفعلیة إلا أنها فعلیة ناقصة أي غیر منجزة ولهذا یعبر عنها بالشأنیة أي لولا شمول الدلیل لفرد آخر لتمت فعلیتها وتنجزت.

الأعلمیة من شرائط التنجیز لحجیة الفتوی لا من شرائط الفعلیة

فشرط الأعلمیة من شرائط التنجیز لحجیة الفتوی لا من شرائط الفعلیة، فعند المتقدمین الترجیح لیس من شرائط أصل الحجیة وإنما هو من شرائط تنجیزها كالترجیح بالأهمیة في المتزاحمین فإن الأهمیة لیست من شرائط أصل الفعلیة للحكمین المتزاحمین وكذا لیست من شرائطالحجیة بل هي باقیة علی ما هي علیه بل هو من شرائط التنجیز فلا تساقط في المراتب التي قبل مرتبة التنجیز، فتبقی الحجیة الاقتضائیة

ص: 298

بما لها من آثار.

الدلیل السابع: مقتضی الأصل العملي وما قیل فیه وجوابه:

بتقریب أن المقام من دوران الامر بین التعیین والتخییر والأصل البراءة من التعیین فیثبت التخییر.

وقد أجیب: بأن الأصل التعیین لا التخییر لأن فتوی الأعلم متیقن الحجیة ومبرؤ للذمة بینما فتوی غیر الأعلم مشكوك ومن الواضح أن متیقن الابراء للذمة متعین.

وقد تقدم منا رد هذا الاستدلال بما حاصله أن هذا الاستدلال یصح لو كان في البین علم اجمالي منجز فیصح التعیین أما إذا لم یكن لنا علم اجمالي ودار الامر بین حجیة تعینیة أو تخییریة فالجامع منجز إما أن خصوص فتوی الأعلم منجزة فهو أول الكلام لعدم وجود علم اجمالي كبیر ولا صغیر. فالصحیح إذن أن هذا الاستدلال نافع في موارد العلم الاجمالي.

والصحیح هو التفصیل بین وجود علم اجمالي منجز بمنجز سابق فالحجة المطلوبة كفتوی المجتهد ...وظیفتها التعذیر وتفریغ الذمة من هذا التكلیف فالأصل التعیین وبین عدم وجود علم اجمالي فالحجیة وظیفتها التنجیز بأصل الدلیل والاصل التخییر لعدم خصوصیة لتنجیز أحدها المحتمل علی الآخر.

ص: 299

أدلة اشتراط الأعملیة عند العلم بالاختلاف:

الدلیل الأول: الاجماع

وهو الإجماع الذي ذكره السید المرتضی (قدّس سرّه) .

وفیه: ما ذكره صاحب الجواهر (قدّس سرّه) من خلط بین مسألة الامامة العظمی وبین نیابة الفقهاء التي هي ولایة متفرعة من تلك الولایة.

الدلیل الثاني: سیرة العقلاء وسیرة المتشرعة وما فیها

دعوی قیام السیرة العقلائیة علی أنه في الموارد الخطیرة یذم الرجوع إلی غیر الأفضل التي من شؤونها الأعلمیة، وما نحن فیه من الامور الاخروية وهي خطیرة بنفسها لأنها من الامور المصیریة وهذا الذم یمثل عدم المعذوریة فلا یقطع بالأمن من العقاب وهذه السیرة تامة... ودعوی قیام السیرة المتشرعية علی عدم اعتبارها وذلك لأن أهل الشرع من العلماء یطرحون أنفسهم مع وجود من هو أعلم منهم ولا من معترض.

وفیه: أنهم یتصدون في تلك الأزمنة المعاصرة للمعصوم(علیه السلام) في الاماكن التي لا یتصدی لها الأعلم للخوف أو للبعد المكاني وغیرهما فهو من توزع الأدوار التي تقتضیها وتفرضها الحاجة وهو ما یقتضیه عموم أدلة نصب الفقهاء نواباً كما هو الحال في كل الأعصار إلی یومنا هذا، فهذه السیرة تامة أیضاً.

ص: 300

الدلیل الثالث الاخبار:

اشارة

الأخبار الدالة علی اعتبار الأعلمیة وهي كثیره:

الخبر الأول: مصححة عمر بن حنظلة
اشارة

عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة في دین أو میراث - إلی أن قال - فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یكونا الناظرین في حقهما واختلف فیهما حكما وكلاهما اختلفا في حدیثكم؟ فقال (علیه السلام) :

«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحدیث وأورعهما ، ولا یلتفت إلی ما یحكم به الاخر» ، قال : فقلت : فإنهما عدلان مرضیان عند أصحابنا لا یفضل واحد منهما علی صاحبه...»(1).

أما كونها صحیحة أو مصححة فلوقوفنا علی قرائن مسندة دالة علی أنه من اتراب محمد بن مسلم وزرارة بل في روایة صحیحة مسندة أن استفتاءات البیوت الكبیرة من الشیعة كانوا یرجعون إلیه ویقدموه علی محمد بن مسلم ، ولیس هذا بالغریب إذا ما لاحظنا جملة ما یرویه عمر ابن حنظلة فالروایة صحیحة أو مصححة عندنا وقد حررنا رسالة - قد طبعت - في جلالته وعدالته.

ص: 301


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 9 ص 106 - 107 ح 1 .

وهي تدل إجمالا علی أن الأعملیة مما یرجح بها.

وقد خدش صاحب الجواهر (قدّس سرّه) وغیره باختصاص هذه الروایة بمورد القضاء لكون موردها نزاع یحتاج إلی حسم والنزاع لا یمكن رفع غائلته ومفاسده إلا بتعین أحدهما إذ التخییر لا یرتفع به غائلة النزاع! وكم فرق بین غائلة القضاء وغائلة الفتیا.

اشكالان علی اختصاص المصححة بالقضاء :

الاشكال الأول: أن القضاء ولایة فلابد فیها من التعیین أما باب الافتاء فأماریة محضة، والحاصل أن موازین القضاء غیر موازین الفتیا فلیس كل ما هو معتبر في القضاء یمكن تعدیته للفتیا.

الاشكال الثاني: أنه (علیه السلام) قد رحج بالأعدلیة والأورعیة مع أن هذه صفات سلوكیة لا علاقة لها بالاماریة والكاشفیة، فهذه الروایة بصدد مرجحات الجانب العملي في سلوك القاضي ولا علاقة لها بأماریة فتوی الفقیه.

تقوّم الحكم القضائي بالفتوی

إلا أن كلا الاشكالین قابلان للدفع:

الجواب عن الاشكال الاول:

أما الأول فقد ذكروه في بحث التعارض علی هذه الصحیحة ، وقد

ص: 302

أجبنا عنه هناك بعدة أمور:

منها: ما نعتمده في دفع هذا الاشكال وهو أن حقیقة القضاء والحكم القضائی وإن كان حكما جزئیا یُنْشٍئُه القاضي لحل النزاع وفصل الخصومة إلا أنه هذا الحكم الجزئي یعتمد علی الاجتهاد في الشبهة الحكمیة، فهو یعتمد علی الفتیا فالقضاء هو تطبیق الحكم الفتوائي علی حسب موازین تطبیقیة خاصة تسمی بالموازین القضائیة وإلا فالحكم في موارد القضاء هو حكم كلي فقهي في الشبهات الحكمیة. وعلیه فإذا كانت الشرائط المعتبرة في القضاء مناسبة إلی موازین التطبیق فهذا خاص بالجهة القضائیة.

وأما إذا كانت تلك الجهات في القضاء معتبرة في تعیین الحكم الكلي ولا ربط لهابموازین التطبیق فإنها لا تخص الجهة القضائیة بل ترتبط بالجهة الفتوائیة في القاضي. فالقضاء فتوی وزیادة فالقضاء مطوي فیه الفتیا، ولهذه الحیثیة فوائد:

منها: اعتبار أهلیة القاضي وصلاحیته للفتیا، فلا یكون القاضي قاضیاً إذا لم یكن مفتیاً . وأما كیفیة تمیز الشرائط المعتبرة في الجهة القضائیة أو المعتبرة في الجهة الفتوائیة فإن كانت راجعة إلی موازین التطبیق فهي خاصة بالجهة القضائیة وإن كانت راجعة إلی موازین تعیین الحكم الكلي الفقهي فهي راجعة للفتیا.

ص: 303

فإذا اتضحت هذه الضابطة فإن ما جاء في هذه الصحیحة هو اختلاف رجلین في مسألة الارث وهي شبهة حكمیة، فمورد الخبر هو النزاع في الشبهة الحكمیة وتحسم تلك الشبهات الحكمیة بموازین الفتیا لا بالموازین القضائیة من بینة أو قَسَم أو غیره، فهذه الموازین المذكورة في الخبر لا ربط لها بموازین الجهة القضائیة التطبیقیة بل هي لها تمام الربط بموازین الجهة الفتوائیة وشرائط المفتي ومن ثَمَّ ذهب مشهورالمتقدمین والمتأخرین إلی ارتباطهابموازین الفتوی.

الجواب عن الأشكال الثاني:

بأن الاعدلیة والأورعیة تارة تفرض في السلوك العملي البعید عن الفحص العلمي فلاصلة لها بالفتیا وأما إذا كانت الأورعیة راجعة إلی الجهة العلمية كأن تكون جهة الأورعیة من جهة التثبت والتفحص والدقة في موازین الاستنباط والتتبع الوافر والتروي الملئ،فمع كون الملكة موجودة إلا أنه قد لا یتورع في الاستدلال، فمراعاة الامانة في خطوات الاستنباط والأعدلیة لیست من الصفات المحضة بل من الصفات التي لها ربط وصلة بالوظیفة التي یتقلدها وهي الفقاهة ولا یخفی ارتباطها بالمقام العلمي إذ لا معنی للترجیح بأمور لا ربط لها بجهة الاختلاف.

وأما أن الفرق بین الفتیا والقضاء وهو كون الفتیا أمارة محضة والقضاء ولایة فلیس بصحیح، بل الفتیا ولایة أیضاً وذلك لأنها مرجعیة

ص: 304

ونفوذ ولهذا تسمی في العلوم الحدیثة بالسلطة التشریعية، وأیضا القضاء لیس ولایة محضة بل فیه أماریة زیادة علی كونه ولایة وذلك لكاشفیته عن الحكم الكلي المطبق في مقام المنازعة.

فالصحیحة تدل علی اشتراط الأعلمیة في القاضي والمفتي عند الاختلاف . وهو لا ینافي التكثر والتعدد وذلك لتعدد مناشئ التعدد كعدم تمكن الأعلم من التصدي للجمیع أو عدم تمكن وصول المكلفین إلیه وغیرها من الموانع فیكون مع مراعاة الأعلم فالأعلم.

الخبر الثاني: عهد أمیر المؤمین(علیه السلام) لمالك الأشتر
روی الشیخ (قدّس سرّه) بسند صحیح - علاوة علی كونه في نهج البلاغة، هذا الكتاب المعتبر - عن علی (علیه السلام) قال: «واختر للحكم بین الناس أفضل رعیتك في نفسك ، ممن لا تضیق به الأمور»

(1)

وهذه مطلقة حتی مع عدم الاختلاف إلا أنه بقرینة ما تقدم من أنه في موارد الوفاق تتعاضد الحجیة وتتكافل وتشتد فلا معنی لكونه شرطا في موارد الاتفاق إذ لا معنی للترجیح مع الاتفاق إذ لا تنافي بینها.

والاشكال والجواب هو ما مرّ في مصححة أو مصححة عمر بن حنظلة (قدّس سرّه) فلا نعید.

ص: 305


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 8 ص 224 ح 9 .

ملاحظة:

إن الأخذ بقول الأفضل لا یدل علی التفرد والتوحد بل

یمكن أن یختار الأفضل في شیء ویختار الأفضل دونه لشیء آخر لیس للأفضل الأول القدرة في الشیء الآخر والكلام هو الكلام في مصححة عمر بن حنظلة .

الخبر الثالث: موثقة داود بین الحصین

روی داود بن الحصین - واقفي من أصحاب الصادق والكاظم - عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما في حكم، وقع بینهما فیه خلاف، فرضیا بالعدلین، فاختلف العدلان بینهما، عن قول أیهما یمضی الحكم؟ قال :

«ینظر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما ، فینفذ حكمه ، ولا یلتفت إلی الاخر» (1).

الخبر الرابع: حسنة ذبیان بن حكیم
اشارة

روی ذبیان بن حكیم(2)الذي لم یُضعّف، وقد روی عنه غیر واحد من الثقات منهم ابن محبوب وابن فضال ومحمد بن الحسین الخطاب - عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال: سئل عن رجل یكون بینه وبین أخ منازعة فی

ص: 306


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 9 ص113 ح20 .
2- المصدر نفسه، ص123 ح45 .

حق فیتفقان علی رجلین یكونان بینهما، فحكما فاختلفا فیما حكما، قال: «وكیف یختلفان؟» قال: حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال:

«ینظر إلی أعدلهما وأفقههما في دین اللّه، فیمضی حكمه» .

وقد أجبنا عن اشكال اختصاص هذین الخبرین بالقضاء دون الفتیا.

ومنها: صحیحة الفضیل بن یسار قال : سمعت أبا عبد اللّه (علیه السلام) یقول :

«من خرج یدعو الناس وفیهم من هو أعلم منه فهو ضال مبتدع ، ومن ادعی الإمامة ولیس بإمام فهو كافر» (1).

وهناك أخبار أخری بنفس السیاق ونفس المضمون أشكل علیها: بأنها واردة في الامامة العظمی والخلافة الكبری ولیست واردة في الفتیا.

منها: مرفوعة العزرمي إلی رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) قال :

«من أم قوما وفیهم من هو أعلم منه لم یزل أمرهم إلی السفال إلی یوم القیامة» (2).

ورواه الصدوق (قدّس سرّه) في أكثر كتبه، وقد قطع به؛ لأن هذا المضمون لا یتناسب مع مباني العامة فهو مأمون من الدس مع أن رواته عامة(3).

ص: 307


1- وسائل الشیعة: ج 28 أبواب صفات القاضي، ب 10 ص 350 ح 36 .
2- وسائل الشیعة: ج 8 أبواب صلاة الجماعة، ب 26 ص 346 ح 1 .
3- ثواب الأعمال: ص 246 ح 1 ، علل الشرائع: ص 326 ح 4 .

ومنها: مرسل الصدوق بأنه من دین الامامیة وهي بمثابة سیرة الأمامیة:

«من صلی بقوم وفیهم من هو أعلم منه لم یزل أمرهم في سفال إلی یوم القیامة» (1).

ومنها: ما هو باللسان المتقدم كصحیحة عبد الكریم بن عتبة بن الهاشمی عن عن أبي عبد اللّه قال أن الرسول (صلی اللّه علیه و آله) :

«من ضرب الناس بسیفه ودعاهم إلی نفسه وفي المسلمین من هو أعلم منه فهو ضال متكلف» (2).

نعم في باب الجماعة لم یلتزموا بالحرمة بل بالكراهة لمناسبة ندبیة مقام صلاة الجماعة فیناسب الكراهة أما لو كان المقام غیر مقام الندب كمقام الإلزام وما شابههفبالأولویة القطعیة وذلك لأن صلاة الجماعة لیست بذلك المنصب ولا خطورة الشؤون الكثیرة والكبیرة ومع ذلك جعل فیها الكراهة فكیف إذا كان منصباً ولائیاً فالأولیة القطعیة ثابتة بدلالة نفس التعلیل بقوله: لم یزل أمرهم إلی سفال أي یتردی ... بینما الحكمة في تشریع الولایات علی اختلافها لیس هو التسافل بل التعالي والتكامل .

ص: 308


1- من لا یحضره الفقیه: ج 1 ص 378 ح 1102 ، الأمالي: ص 348 .
2- وسائل الشیعة: ج 15 أبواب جهاد العدو، ب 9 ص40 ح 2 .

ومنها مرسلة الصدوق، عن الرضا قال (علیه السلام) :

«من دعا الناس إلی نفسه وفیهم من هو أعلم منه، فهو مبتدع ضال» (1).

ومنها: الصحیحة إلی داوود بن أبي زید عمن سمع - وهذا إرسال خفیف - عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) :

«إذا كان الحاكم یقول لمن عن یمینه وعن یساره ماذا تری ما تقول فعلی ذلك لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعین ألا یقوم من مجلسه ویجلسهم مكانه» (2).

وهذه الروایة لا تنافي استحباب الاستشارة في القضاء واستحباب اجلاس ذوي العلم والفضیلة في مجلس القضاء ولكن الخبر في مورد عدم العلم وعدم التمكن من القضاء فیشتبه علیه الحكم، فیستعین بغیره... فقال (علیه السلام) :

«فعلیه لعنة اللّه والناس أجمعین ألا یقوم من مجلسه ویجلسهم في مكانه» .

ومنها: عن الامام جعفر الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) :

ما ولت أمة یعني أمرها رجلاً قط فیهم من هو أعلم منه إلا لم یزل أمرهم یذهب سفال حتی یرجعوا إلی ما تركوا» (3).

ص: 309


1- مستدرك الوسائل: ج11 أبواب جهاد العدو، ب 8 ص 29 ح 3 .
2- وسائل الشیعة ج27 أبواب آداب القاضي، ب 4 ص 215 ح 1 .
3- مستدرك الوسائل ج11 أبواب جهاد العدو، ب 8 ص 30 ح 4 .

ومنها: عن النبي (صلی اللّه علیه و آله) قال:

«من تعلم به علما یماري به السفهاء أویباهي به العلماء ویصرف الناس إلی نفسه یقول: "أنا رئیسكم" فلیتبوء مقعده من النار أن الرئاسة لا تصلح إلا إلی أهلها فمن دعی الناس إلی نفسه وفیهم من هو أعلم منه لم ینظر اللّه إلیه یوم القیامة» (1).

ومنها: ما عن الامام الجواد (علیه السلام) مرسلة، قال مخاطباً عمه - والظاهر أنه لیس علي بن جعفر بل من إخوة علي بن جعفر - :

«یا عم، إنه عظیم عند اللّه أن تقف بین یدیه فیقول لك لم تفتی عبادي بما لا تعلم وفي الامة من هو أعلم منك» (2).

برهان الضرورة العلمية لدور العصمة في التشریع

طبعا هذه الروایات تعم الامامة الكبری وغیرها فقوله (علیه السلام) :«من تعلم علما لیمارئ به السفهاء ویقول: أنا رئیسكم ...» . فقوله: «فمن دعی الناس»فإن الدعوی أعم سواء في الامامة الكبری أو غیرها ولا سیما أنها مترتبة علی عدم تعلم العلم فهي لا تخص الامامة الكبری.

ولا یخفی أنه یوجد من أدعی الامامة في الفقه مثل أبي حنیفة وغیره

ص: 310


1- بحار الأنوار: ج 2 ص 110 .
2- بحار الأنوار: ج 50 ص 100 .

وبعضهم یدعیها في التفسیر كقتادة وغیره وبعضهم یدعیها في العقیدة كواصل بن عطاء وكثیر من الاخبار علی تندید أهل العصمة (علیهم السلام) بمن تقمص غیر منصب الخلافة السیاسیة من المناصب الدینية الأخری.

وبعضها مختصة بالامامة الكبری كقوله (علیه السلام) : «من خرج بالسیف» .

فالاخبار الصادرة عن المعصومین (علیهم السلام) لا یمكن حملها علی خصوص الامامة الكبری وذلك لوجود من كان یتصدی لمقامات أهل البیت (علیهم السلام) كمقام مرجعیة الفقه والتفسیر والعقائد، فلسان الاخبار ناظر - علی أقل تقدیر - إلی ما هو متواجد في زمن المعصومین (علیهم السلام) وما هو متواجد من الدعاوي من أئمة الجور وأئمة الضلال عموماً ولا یختص بمدعي بالامامة السیاسیة.

ولهذا تری النهي والاحتجاجات علی من تصدی للامامة في الفقه والامامة في التفسیر والأمامة في العقائد ومن هنا نعرف الفرق بین أصحاب الائمة (علیهم السلام) وأصحاب أئمة أهل الخلاف من أبي حنیفة وغیره وذلك لأن أبا حنیفة في قبال الامام الصادق (علیه السلام) وأما أصحاب ائمة أهل البیت (علیهم السلام) لیسوا مقابلین لأئمتهم بخلاف علماء العامة فإنهم یمارسون الامامة في الفقه ولیست الفقاهة وهذا فرق صناعي یبیّن أن ما یمارسه الائمة لیس فقاهة واستنباط وإنما هو دور بیان الاحكام بلسان الوحي الذي لا یخطأ ولا تزل قدمه في هذه المرحلة التي هي من مراحل بناء

ص: 311

الشریعة سواء في الأصول أو الفروع... ومن ثمة اضطر العامة أن یحصروا المذاهب الفقهية في أربعة والعقائد في اثنین أو ثلاثة... وذلك لأن تلك المرحلة والحقبة حقبة تأسیس أطر وحیانیة... ولیست هي استنباط اجتهادي بعید عن الاطر الوحیانية، ولا ینافیه كون زرارة یمارس الفقاهة إلا أنه في طول البیانات الوحیانية لأهل البیت (علیهم السلام) وكهشام بن الحكم في العقائد فإنه یمارس الفقاهة العقائدیة لا الامامة العقائدیة لأنه یمارس الاستنباط في الأُطر التي یتلقاها من أهل البیت (علیهم السلام) ولا یمارس بناء الأطر الوحیانية وكذا المفسرین من الامامیة فإنهم لا یمارسون الامامة التفسیریة بل یمارسون الفقاهة في البیانات الوحیانية.

وهذا بخلاف ما یفعله أئمة أهل الخلاف في تلك الحقبة فإنهم في كل مجالات الدین یمارسون ویصطنعون ویقتحمون بناء دعائم الامامة الوحیانية الالهیة من حیث یشعرون أو لا یشعرون، ولهذا من یأتي بعدهم لا یتخطاهم فتراهم یحصرون الفقاهة في اجتهادات هؤلاء ولا یتعدونهم وكذا في التفسیر بالنسبة إلی أئمة التفسیر وهكذا. وإلا لو كان باب الامامة في الفقاهة والعقائد ظل مفتوحاً عندهم لرأیتهم یتكثرون في مذاهبهم باختلافاتهم إلی ما لایحصیه إلا اللّه فیكون عدد المذاهب بحسب كل من یأتي ویتولی مهمة اقتحام بناء الأطر البیانات الوحیانية فالمفروض علی أسسهم أن یسمحوا لكل أحد بالاجتهاد ولا یحصرونه

ص: 312

في الأئمة الاربعة لأنهم لیسوا أئمة بما تولوه من تلك المقامات ولا معین لهم إلا تجویز تولیهم هذا الوظیفة وهذا التجویز یشترك جمیع أهل الخلاف فیه فلكل واحد یصح لدیهم أن یصنع له مذهب بتولیه تلك المقامات الالهیة إلا أن من حاد عن هذه الضرورة اللزومیة التي لابد منها - وهي الواسطة بین الناس وبین شرع السماء - وهو ما جاء به النبي (صلی اللّه علیه و آله) محمد (صلی اللّه علیه و آله) المتمثلة هذه الوساطة في أئمة الشیعة المنصوص علیهم من السماء بحیث لا یمكن أن یتعداهم لمكان عصمتهم (علیهم السلام) بخلاف أهل الخلاف فإنهم مع اعترافهم بعدم عصمة أئمتهم ومع ذلك لا یستطیعون أن یتعدوهم فیعاملونهم معاملة المعصومین شاؤوا أم أبوا !! وهذا یكشف عن ضرورة هذا الحلقة المعصومة بین شرع السماء الذي جاء به النبي محمد (صلی اللّه علیه و آله) وبین خلقه.

وعلی هذا یمكن أن یخدش الاستدلال بهذه الاخبار بأنها ناظرة إلی مدعی الامامة في الفقه والتفسیر والقضاء ولیس في خصوص السیاسة مع أن الكلام في خصوص بحث الاستنباط والفقاهة .

احتملان في معنی الاخبار:

الاحتمال الأول: تصدیها لمن أدعی الامامة في المجالات الدینية.

الاحتمال الثاني: من أدعی الفقاهة والاستنباط، وبقرینة الكثرة في تلك الحقبة الزمنیة یتعین الاحتمال الأول وهو كون نظرها إلی مدعین

ص: 313

الامامة في جمیع الامور الدینية ولورود الاخبار الكثیرة في التندید بمن أدعی الأمامة في الفقه كأبي حنیفة والامامة في التفسیر كقتادة والامامة في العقائد كواصل بن عطاء وغیره .

ولیس هذا من غلبة الوجود لأنه مراد جدي قطعاً ولیس من باب القدر المتیقن وذلك لأن القدر المتیقن هو ما یعلم شمول الدلیل له قطعا لكن لا بخصوصه بل في كنف الظن بغیره أي غیر المعلوم إلا أن الغیر مجهول فیقتصر في الدلیل علی تلك الحصة المعلومة وترك المجهول وهذا مخالف لما نحن فیه، فإنا نقطع بارادة المعصوم (علیه السلام) بخصوصه، نعم اللفظ بما له من معنی له قابلیة شمول معنی آخر إلا أنه لا ینفی الظهور في خصوص المعنی المراد، وبعبارة أخری الروایات ناظرة لأولئك الذين یجعلون من أنفسهم مركز قطب الرحي لعلم من علوم الدین ولا یرجعون إلی أهل البیت (علیهم السلام) وهو معنی تصدیهم كأئمة في الدین وهذه لیست في العلماء والفقهاء الذين یرجعون ویأخذون علومهم من أهل البیت (علیهم السلام) ویسلموا لهم بالحق .

نعم بعض الاخبار الواردة مثل: «من صلی بقوم...» شامل لما نحن فیه بالأولیة إلا أنها مرسلة ، وأما صحیحة الفضیل :

«من خرج یدعو الناس وفیهم من هو أعلم منه» فهي ناظرة إلی الامامة السیاسیة.

ص: 314

وأما مسألة أن الامامة هل هي مختصة بالامامة السیاسیة أو تشمل الامامة في الفقه و الامامة في التفسیر والامامة في العقائد» فإن الامامة في جمیع هذه المقامات أمر خطیر لا یمكن أن یقاس منصب النواب من الفقهاء الذين هم سواعد للأمام(علیه السلام) بمنصب الامامة في الدین أصلاً، فإن هذه المحاذیر التي تذكر في الاخبار قد ذكرتكقرینة أخری علی مفاد هذه الاخبار للضلال والابتعاد عن الدین فهذه الاخبار - بما تحمل من خطورة - ظاهرة في الامامة في الدین.

فإن تصدی بعض الفقهاء كابن أبي یعفور مع وجود زرارة لا یجعله مبتدعا في الدین أو مضلا وهوما یدلل علی أن منصب الفقهاء لیس بهذه الخطورة حتی یتشدد فیه، ومصححة عمر بن حنظلة صریحة في نیابة الفقهاء فإن التعبیر فیها ب- «الحكم ما حكم به أعدلهما أو أعلمهما» فإنها لم تخطّأولم تشر وتلفت إلی حال من یحكم من غیر الأعدل والأعلم ولم تصفه بكونه مبتدعا أو ضالا أو إلی سفال.

نعم لو كان غیر عالم یفتي بغیر علم لشمله النهي لكون الفتوی بغیر العلم من الأمور المهلكة الخطیرة والاخبار في ذلك كثیرة إلا أن المجتهد الواجد للفقاهة مع مخالفته لغیره من المجتهدین لیس - عند الرواة من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) - بتلك المثابة والدرجة التي یوصف فیها المخالف للأعلم بأنه ضال ومبتدع.. بل حتی مع قیام السیرة المتشرعة علی تخطئة

ص: 315

الرجوع إلی غیر الأعلم إلا أنه عندهم لا تصل إلی نسبته إلی الضلال والابتداع.

وأیضاً الابتداع والاضلال - في علم الكلام والفقه - لا ینسب إلا إلی من خالف ما هو قطعي وضروري غیر متوغل في النظریة، أما الامور المختلف فیها التي هي محل أخذ ورد فلا یضلل من أجلها بل حتی الامور النظریة الخفیة.

والنتیجة: أن شرطیة الأعلمیة عند الاختلاف تدل علیها مصححة ابن حنظلة (قدّس سرّه) وعهد أمیر المؤمنین (علیه السلام) لمالك الأشتر (قدّس سرّه) وبعض الاخبار المرسلة، وأما بقیة الاخبار فهي ناظرة إلی الامامة في الدین سواء كانت في العقائد أو الفقه أو التفسیر أو السیاسة.

الدلیل الرابع: أقربیة فتوی الأعلم إلی الواقع من غیره وإشكال السید الخوئي، والتأمل فیه

ومن الوجوه التي استدل بها علی وجوب تقلید الأعلم: أقربیة فتوی الأعلم للواقع من غیره، والاقربیة مرجحة، وقد صاغ المحقق الأصفهاني (قدّس سرّه) هذا الدلیل بأن فتوی الأعلم بالنسبة إلی غیر الأعلم بمثابة فتوی العالم إلی الجاهل لأن الأعلم فیما یعلمه من زیادة لا یعلمها غیر الأعلم فهو عالم بما لا یعلمه غیره، فالنسبة بینهما نسب العالم إلی الجاهل.

ص: 316

ولا یخفی أن ما ذكره المرحوم الأصفهاني (قدّس سرّه) مقتضاه التعیین لا الترجیح وذلك لأنه قرر أن فتوی الاعلم لغیر الاعلم بمثابة فتوی العالم إلی الجاهل.

وقد أشكل السید الخوئي (قدّس سرّه) علی وجه الأقربیة حتی علی بیان الأصفهاني (قدّس سرّه) أي سواء كان المراد من الأقربیة الطبعیة أو النوعیة أو الأقربیة بالفعل في كل مسألة مسألة لأنه قد یكون الأعلم في بعض الموارد لا یصل إلی النتیجة التي وصل إلیها غیر الأعلم لحسن سلیقته مثلا في بعض الموراد.

فإن دعوی أقربیة فتوی الأعلم في كل مورد وعلی نحو الدوام أول الكلام، نعم قد تكون أقربیة طبعیة ونوعیة باعتبار الملكة وهذا صحیح إلا أن التقدیم بالاقربیة الطبیعية باعتبار الملكة أول الكلام فیحتاج إلی دلیل،وهذایرد علی نفس بیان المحقق الأصفهاني (قدّس سرّه) من كون ما تمیز به غیر الأعلم علی الأعلم في تلك المسائل التي تكون سلیقته أحكم من سلیقة الأعلم - یتعین تقلیده لأن فتواه في هذه الموارد بالنسبة إلی الأعلم نوعاً بمثابة فتوی العالم إلی الجاهل - أو كموافقة فتوی غیر الاعلم للمشهور ومخالفة فتوی الأعلم له فإن فتوی غیر الأعلم أقرب علی الواقع.

فالأعلمیة هي باعتبار آلیات وأدوات الاستنباط والملكة لا في النتائج،

ص: 317

فالأعلمیة تكون في مقدمات النتائج، لا في النتائج فقد تكون نتیجة غیر الأعلم أقرب لموافقتها للاحتیاط أو لقول المشهور بخلاف فتوی الأعلم.

إلا أن الاعتراض بهذا البیان الذي ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) قابل للتأمل، وذلك لأنه لا یمتنع أن یكون باعتبار النتیجة وذلك لأن التعمق في الاستدلال، یعطي الاحاطة بنتیجة أعمق وأصوب وذلك لأن النتائج إن كانت دلائل مقدماتها مطلقة أو قواعد رصینة فالنتیجة قویمة ورصینة وإن كانت لا یلتفت إلی عمق ودقة ورصانة مقدماتها إلا بالمهارة والتضلع في الاستدلال فإن النتیجة تختلف قوة وضعفاً لأن التضلع والتعمق في المقدمات موجب لمعرفة حدود النتیجة من شروط وأجزاء وموانع واقعية أو ذكریة أو علمیة وهكذا وماهیتها ومقوماتها وقیودها ورصانتها، فالاحاطة بالدلائل الموصلة للنتیجة مؤثرة كثیراً بالاحاطة بالنتیجة فإذا لم یحط بتلك الدلائل لم یحط بحدود النتیجة.

فدعوی أن غیر الأعلم بلحاظ الحكم الظاهري المستنبط مع الأعلم سواء فیها مسامحة، ومن المسامحة دعوی أن الاختلاف في المقدمات والدلائل لا في نفس النتیجة لأن المشاهد من الاختلاف بین الفقهاء في عمق النتیجة بسبب اختلافهم في الاحاطة بالدلائل الموصلة لها وأن النتیجة مرهونة من جهة الحكم التكلیفي أو الوضعي من كونها مطلقة مثلاً أو مقیدة بالدلائل الموصلة فإن التعمق في الدلیل یؤثر في طبیعة

ص: 318

النتیجة من كونها قاعدة أو سبب أول أو سبب ثاني أو حكم كلي له تأثیر علی جمیع فروع هذا الباب الفقهي أو هو شرط واقعي أو ذكري أو علمي وشرط في الفعلیة التامة أو الناقصة أو في التنجیز أو في الامتثال وغیر ذلك من الامور التي تضفي علی النتیجة تلك الحیثیات المهمة والمصیریة بسبب التعمق في أدلة النتیجة ومقدماتها.

والحاصل: أن الاحاطة بحدود النتیجة وعمقها وما یتفرع علیها مما له دخالة في الاعلمیة وإن كانت النتیجة موافقة صورة لفتوی غیر الأعلم فضلاً عن مخالفتها له، فمثلاً أن یعرف أن الشرط راجع إلی أي مرحلة من مراحل الحكم فرجوعه لفعلیة الحكم یختلف عن رجوعه لتنجیز الحكم ویختلف عن رجوعه لاحراز امتثال الحكم وغیرها من النتائج التي تتفرع علیها فروع كثیرة ومهمة وغیرها من الأمور المؤثرة كما سیأتي في تحدید الأعلم.

وأما الاشكال - علی الأقربیة بأنها غیر فعلیة في كل المسائل أو في كل باب فهي لیست مطردة - فهو لا ینفي الترجیح بالأقربیة عند العقلاء وإن لم تكن دائما مطردة خصوصاً وأن هذه النكتة مؤثرة عند من اعتمد علی السیرة العقلائیة في تقلید الأعلم عند الاختلاف.

إلا أن السید الخوئي (قدّس سرّه) یذهب إلی أن شرطیة الأعلم لعله عند الاختلاف أو العلم بالاختلاف في قبال من ذهب إلی أنه لیس من باب

ص: 319

الشرطیة الأولیة بل من باب الترحیج المسقطیة لحجیة المرجوح.

وقد تقدم أن حقیقة الترحیج عند المتأخرین تختلف عن حقیقته عند المتقدمین إذ هي عند المتقدمین لیس معناها فقد المرجوح للحجیة ووجدان الراجح لها بخلافه عند المتأخرین من فقد المرجوح لهاوثبوتها للراجح، فعندهم شرائط الامارة كخبر الواحد وفتوی المفتي والظهور في غیر مورد التعارض هي شرائط عامة وعند التعارض یعتبر في حجیتها شرائط زائدة خاصة بظرف التعارض وتلك الشرائط هي المرجحات.

فعند المتأخرین الترجیح لیس شرطاً في أصل الحجیة وإنما هو شرط في تنجیزها مثل الترجیح بالأهمیة في المتزاحمین فإن الأهمیة لیست شرطاً في أصل الفعلیة أو أصل الحجیة بل في التنجیز فلا تساقط، فتبقی الحجیة الاقتضائیة ولها آثارها.

ومع بقاء الحجیة الفعلیة الناقصة في موطن التعارض تكون الأقربیة مرجحة عند العقلاء فتتمم الحجیة علی صعید التنجیز لقول الأعلم وتبقی حجیة غیر الأعلم علی فعلیتها الناقصة لعدم سقوطها وهذا بخلافه عند المتاخرین فإنه لا حجیة لفتوی غیر الأعلم لسقوطها عن الفعلیة .

هذا تمام الكلام في تقلید الأعلم في صورة العلم بالخلاف وقد تبین أن القول باشتراط الأعملیة لا یستلزم عدم تكثر المتصدین ولا یلزم منه سلب منصب النیابة عن غیر الأعلم.

ص: 320

الصورة الثالثة: إذا لم یعلم بالاختلاف بین الفقهاء

اشارة

وهي ما إذا لم یعلم الاختلاف في الفتوی بین الأعلم وغیره، وقد مرَّ وجود الخلاف بین المتأخرین وبین المتقدمین إذ فتوی غیر الأعلم علی مبنی المتأخرین ساقطة وأما عند المتقدمین فلا تسقط وتبقی علی فعلیتها الناقصة إلا أنها غیر منجزة، وهذا الفارق بین المتقدمین والمتأخرین. وعلیه فالاطلاق في نفسه غیر ساقط في شموله لفتوی غیر الأعلم عند المخالفة.

تعین تقلید الأعلم أو التخییر بینه وبین غیره

اشارة

وقد ذهب إلی كلٍ جماعةٌ:

فقد استدل علی وجوب تقلید الأعلم في هذه الصورة بجمیع ما استدل به علی تعیین تقلید الأعلم عند العلم بالاختلاف وذلك لاحتمال الاختلاف في الفتوی وعلیه فجمیع ما تقدم یتأتی في هذه الصورة.

والصحیح أن بعض ما تقدم من الأدلة علی تعیین تقلید الأعلم لا یدل علی التعیین في هذه الصورة.

فمثلاً: أشترط في مصححة عمر بن حنظلة العلم بالاختلاف فلا اطلاق فیها لاحتماله، وأیضا في مثل: «من أمّ قوماً وفي المسلمین أعلم منه...» و «من صلی بجماعة وفیهم من هو أعلم منه...» .

الدلیل الأول: عهد أمیر المؤمنین(علیه السلام) لمالك الاشتر وما فیه:

ص: 321

نعم ما جاء في عهد الأشتر (قدّس سرّه) ونحوه غیر مقید بالعلم بالاختلاف وعلیه فاطلاقها یقتضي لزوم تقلید الأعلم بل قد یقال أنه لو بنی علی اطلاق تلك الروایات وكون مفادها لزوم تقلید الأعلم حتی مع احتمال الاختلاف أقتضی تعمیمها حتی مع العلم بالوفاق ولدلّ علی لزوم تقلید الأعلم في الصورة الثالثة حتی في موضوع الوفاق.

ویمكن أن یقرب هذا الاطلاق بتقریب آخر، حاصله: أن المرجعیة في الفقه هي زعامة وولایة وصلاحیة فإذا كانت كذلك فهي مقام ذو قدرة ومنصب فتشملها الاخبار التي تقول اختر للناس أفضل رعیتك.

وعلیه فإذا كان النظر إلی الفتوی علی نحو الاماریة المختصة فقط فتشملها الأدلة وأما لو كان الملحوظ أیضا المنصب والزعامة والسلطة فتتعین الأعلمیة لأن هذا المنصب یقدم فیه الأفضل والأعلم والأكفأ.

والجواب عن هذا : أن عموم أدلة نصب الفقهاء - كقوله (علیه السلام) :

«أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا» ، قوله (علیه السلام) :

«فانظروا إلی رجل نظر في حلالنا وحرامنا» ، وقوله (علیه السلام) :

«وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ...» - من المسلم أنها لیست بنحو صرف الوجود والعموم البدلي بل بنحو العموم الاستغراقي، وعلیه فجعل هذا المنصب كسلطة وقدرة في نیابة الفقهاء عن المعصوم (علیه السلام) لیس بنحو

ص: 322

صرف الوجود بل بنحو العموم الاستغراقي. وقد مرّ أنه یوجد فرق بین مسألة الامامة الكبری وبین نیابة الفقهاء فإن نیابة الفقهاء منظومة نظام تأتي بعد القیادة المركزیة للمعصوم (علیه السلام) وعلیه قد قرر أن شواهد الأدلة كلها دالة علی أن الجعل بنحو العموم الاستغراقي وعلیه فتكون الأدلة الواردة بلسان من أمّ المسلمین وفیهم من هو أعلم منه وما أشبه ذلك لا یمكن أن یستفاد منها نفي ومنصب صلاحیة غیر الاعلم بل هي علی حالها تحت العموم غایة الأمر في الفتیا عند العلم بالاختلاف للتعارض ونحو ذلك یتعین تقلید الأعلم أو الاختلاف في التصرف والتنافي بین الأعلم وغیره فإنه یتعین تصرف الأعلم، أما في مورد التوافق أوعدم العلم بالاختلاف فیشملها عموم الأدلة. وسیأتي ما فیه عند التعرض لأشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقیة.

الدلیل الثاني: السیرة القائمة علی الرجوع للأعلم في مورد احتمال الخلاف

السیرة القائمة علی تعیین الرجوع الی الأعلم في مورد احتمال الخلاف.

وقد منع غیر واحد هذه السیرة بدعوی أن السیرة علی لزوم الرجوع إلی الأعلم مع احتمال الخلاف مخالفة للوجدانإذ المشاهد من السیرة في مورد احتمال الخلاف هو الرجوع إلی أهل الخبرة مع العلم باختلافهم

ص: 323

بالأعلمیة، فعموم العقلاء علی الرجوع إلی غیر الأعلم وإلا لتعطل سوق أهل الخبرات من غیر الأعلم، مع قیام سیرة العقلاء علی مراجعتهم والأخذ بأقوالهم.

والصحیح أنه لا یبعد قیام السیرة في مورد احتمال الخلاف في الأمور الخطیرة علی تعین رجوعهمللأعلم مع القدرة والتمكن فإن العقلاء مع تمكنهم وقدرتهم علی الرجوع للفقیه بكلا قسمیه لا یساوون في الامور الخطیرة بین الأعلم وغیره فإنهم یذمون من یرجع إلی غیر الأعلم في الموارد الخطیرة مع تمكنه من الرجوع للأعلم لو تیبن أنه مخالف للواقع .

فالسیرة العقلائیة علی أقسام سیرة عقلائیة قائمة علی التعذیر والتنجیز وسیرة عقلائیة قائمة علی ادراك الواقع مهما أمكن أي قائمة علی الاحتیاط. فالمورد الأول قائم علی تفریغ الذمة وأما المورد الثاني قائمة علی ادراك الواقع والوصول إلیه، ففي المورد الثاني لا یكتفی العقلاء بتفریغ ذمته دون الوصول إلی الواقع فمثلاً في موارد التجارات فإن المدیر المفوّض له تحصیل الارباح لا یكتفي منه بتفریغ ذمته من جهة اعتماده بكون هذه الصفقة مربحة من قول الثقة مثلاً بل المطلوب منه الوصول لادراك الربح ولهذا لو خسر یلام ولا یعذر لأن المفروض علیه في هذه المقامات أن لا یكتفي بخبر الثقة - مثلا - بل المطلوب منه

ص: 324

تحصیل الربح بنباهته ومهارته والفحص عن أفضل السبل للاستثمار فیبذل وسعه حتی یصل علی تلك الارباح. فالعقلاء علی انماط في سیرهمفمثلا في هذین القسمین أي السیرة العقلائیة في الامور الخطیرة وغیر الخطیرة فمن الخطأ تقریر السیرة العقلائیة علی أجمالها بل لابد من تحریر ما یستدل علیه بها ككونه من الأمور الخطیرة أو غیرها. فما أوقع بعض الأعلام - بدعواه قیام السیرة علی الرجوع إلی غیر الأعلم مع احتمال الاختلاف وإلا لبارت اسواق ذوي الخبرة من غیر الأعلم - منشأه أنه لم یفرق بین الامور الخطیرة وغیرها مع امكان الرجوع إلی كل منهما علی حد سواء هذا مضافاً لما ذكرناه سابقاً من أن اشتراط الأعلمیة لا یحصر مرجع التقلید في واحد وذلك لأمور تقدمت منها اختلاف قدرات المكلفین في الوصول إلیه، فعلیهم مراعاة غیر الأعلم ممن یمكنهم الوصول إلیه. فلابد من محاذاة وموازنة القوانین الشرعية لما عند العقلاء من كونها من الامور الخطیرة أو غیر الخطیرة، أو من موارد التعذیر وموارد التنجیز أو موارد المطلوب فیها الوصول إلی الواقع.

هذا ما ذكروه للزوم تقلید الأعلم في مورد عدم العلم بالخلاف.

الأدلة علی عدم لزوم تقلید الأعلم في صورة احتمال الخلاف

اشارة

وقد استدل علی عدم لزوم تقلید الأعلم في صورة احتمال الخلاف بعدة أدلة:

ص: 325

الدلیل الأول: الاطلاقات وما قیل فیها وجوابه
اشارة

وهي التي دلت علی حجیة فتوی الفقیه مطلقاً سواء الأعلم وغیره، نعم في مورد العلم بالاختلاف یقع التعارض وأما في غیره فلا تعارض.

وقد اشكل علی هذا الاستدلال: بأن المطلقات مقیدة بعدم اختلاف الفتاوی ولیس مقیدا بعدم العلم بالاختلاف فالإطلاق مقید یقیناً.

والتمسك بالعموم أو الاطلاق مع احتمال الاختلاف فإنه یكون من الشبهة المصداقیة للمخصص والمقید وعلیه یكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقیة.

وقد أجیب عن هذا الاشكال: بأن المخصص في المقام لبي ولیس لفظیا وإذا كان المخصص لبي یصح التمسك بالعام في موطن الشبهة المصداقیة للمخصص اللبي.

وقد أعترض علیه: بأنه مبنائي فلا یأتي هذا الاشكال علی من كان یعامل المخصص اللبي كاللفظي في المنع من التمسك بالعام.

وقد تمسك السید الخوئي (قدّس سرّه) بالاطلاق بواسطة اجراء الاصول الموضوعية باستصحاب العدم الأزلي فهنا نشك في الاختلاف قبل وجودهما فنستصحب عدم الاختلاف في موارد احتمال الاختلاف .

وقد أشكل السید الخوئي (قدّس سرّه) بوجهین علی ما قربه وأجاب عنه:

ص: 326

الوجه الأول:

حاصله أن التمسك بالعام - لو بضمیمة استصحاب العدم الأزلي أو علی مبنی عدم مانعیة المخصص اللبي - مشروط بالفحص عن المخصص أو المعارض وما أشبه ذلك إذ الفحص شرط في حجیة العمومات والاطلاقات بل شرط في الخاص آخر، لأن الخاص قد یعارضه خاص فالأدلة الاجتهادية والفقاهتیة عموماً مشروطة بالفحص حتی الخاص یجب الفحص لاحتمال وجود المعارض له ولا تصل النوبة للتخصیص.

وكذا فتوی المجتهدین ففي صورة احتمال الخلاف لا بد من الفحص فإن وجد الاختلاف فتندرج الصورة الثالثة في الثانية ومع عدم الاختلاف تندرج الصورة الثالثة في الأولی وذلك لأن أحد شرائط الحجیة الفحص وبعد الفحص تندرج صورة احتمال الاختلاف في أحدی الصورتین الأولیتین فلا استقلال للصورة الثالثة.

وقد أجاب السید الخوئي(رحمه اللّه) بأن الفحص شرط في حجیة الأدلة فیما لو كانت الشبهة حكمیة وأما في مورد الشبهة الموضوعية فالفحص لیس بشرط في حجیة التمسك بالعمومات وهنا الشبهة الموضوعية فیصح التمسك بها قبل الفحصوذلك لأن في الموضوع الخارجي وهو هل أن فتوی غیر الأعلم مخالفة لفتوی الأعلم أم لا ؟ ولیس الشك فی

ص: 327

تشریع الشارع حتی یكون من الشبهة الحكمیة. وعلیه فیصح التمسك بالعمومات مع عدم العلم بالمخصص.

ولزیادة بیان هذا التقریب یقول السید الخوئي (قدّس سرّه) : إن القول بلزوم الفحص في الشبهة الحكمیة هو لوجود العلم بتدرج وتكثر الادلة القرآنیة أو النبویة أو الولویة فالحكم الواحد لیس في بیان واحد بل هو في مجموع منظومة الأدلة فلابد من الفحص فیها للكشف عنه.

وهذا الوجه لیس بمفروض في المقام وذلك لأن فتوی الفقیهین لیس بنحو تدرجي ولا بكونهما من منظومات الاحكام.

الدلیل الثاني: عدم وجود ما یوجب الفحص وما فیه

وحاصله أن الموجب للفحص هو العلم الاجمالي ولا علم اجمالي هنا؛ لكون الصورة الثالثة هي احتمال الخلاف لا العلم به تفصیلا أو أجمالا .

ویرد علی التمسك بالعام غیر ما مرّ :

أولاً: وجد أدلة لفظیة مخصصة للعمومات مثل مصححة عمر بن حنظلة وعهد أمیر المؤمنین(علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه اللّه) وروایات من أمّ قوماً... باعتبار استفاضتها وإن كانت مراسیل.

ثانیاً: أن التعبیر عن الشبهة هنا بموضوعية فیه مسامحة؛ لأن الشك

ص: 328

هنا بالنسبة إلی المكلف شبهة حكمیة لأنها ترتبط بالحكم الكلي للمكلف ولا ترتبط بالموضوع الخارجي وإن كان منشأ الاشتباه في حجیة فتوی غیر الأعلم هو احتمال وجود مخالف لها؛ وذلك لأن المكلف یرید أن یحدد حكمه الكلي الموجه إلیه بالنسبة إلی فتوی غیر الأعلم، وهذا كالراوي المشترك في روایة فإذا أراد الفقیه تمییزه بأنه فلان أو فلان فإن اشتراك الراوي بحث موضوعي إلا أن هذا البحث الموضوعي والفردي لیس شبهة موضوعية لأن مآل الروایة ومفادها تنظیر وتقریر حكم الكلي كما هو في مقامنا مع الفتوی ، فتسمیته بالشبهة الموضوعية فیه مسامحة واضحة غایة الامر أن الشك في مصداق الحجیة فالصحیح تسمیته بالشبهة المصداقیة لا الموضوعية.

وإذا كانت شبهة حكمیة فالوجه في وجوب الفحص فیها واضح ولا ینحصر في الوجهین اللذین ذكرهما السید الخوئي (قدّس سرّه) بل یوجد وجه آخر في لزم الفحص في الشبهات الحكمیة وهو أن حجیة العمومات والظواهر عند العقلاء قاصرة عن شمولها لموارد ما قبل الفحص فإن العقلاء یتوقفون في التمسك بالظواهر والاطلاقات والعمومات من دون فحص وعلیه فلا تتم حجیة هذه الظواهر عندهم إلا بعد الفحص والظن بعدم المعارض وعدم الدلیل الأقوی، فلا یمكن التمسك بالاطلاق من دون الفحص وبالتالي ترجع هذه الصورة إلی الصورة الأولی أو الثانية.

ص: 329

الدلیل الثالث: الاخبار الخاصة وما فیها:

الدالة علی الرجوع إلی غیر الأعلم مع احتمال الاختلاف، فإنهم (علیهم السلام) أرجعوا إلی مثل محمد بن مسلم وأبی بصیر مع احتمال وجود الاختلاف، ففي بعض الاخبار الامام الصادق (علیه السلام) أرجع إلی زرارة ومحمد بن مسلم وأبی بصیر و... ، وبعضها أن الامام الرضا (علیه السلام) أرجع إلی زكریا ابن آدم ویونس بن عبد الرحمن وهما متعاصران واحتمال الاختلاف موجود ، فلو سلم وجود السیرة العقلائیة علی تعیین الأعلم مع احتمال الاختلاف فالدلیل علی خلافها من النصوص الخاصة. وأما الأدلة الخاصة مثل من أم الناس وفیهم من هو أعلم منه... فلابد من الجمع بینها وبین هذه الاخبار.

والصحیح أن هذه الروایات لیست دلالتها محصورة بما ذكر حتی تكون نصّا خاصاً في عدم اشتراط الأعلمیة وذلك لشمولها علی معاني أخر، فمثلاً یونس بن عبد الرحمن في بغداد و زكریاء بن آدم في قم فارجاع البغدادیین للاول أمر وارجاع القميین للثاني أمر آخر وذلك لعدم التمكن من رجوع الجمیع لواحد بخصوصه،وبعبارة أخری أن هذه الروایات الخاصة واردة في صورة عدم التمكن من رجوع الجمیع إلی كل واحد منهما بعینه مع التمكن من الآخر وإرجاع الامام الصادق (علیه السلام)

ص: 330

لعدم التمكن من الوصول إلی كل منهما وخصوصا للتقیة الشدیدة حتی أن الامام (علیه السلام) یوقع بینهما الاختلاف، وعلیه فالاخبار شاملة لصورة عدم التمكن من الوصول إلی كل منهما وشاملة لصورة التمكن وللعلم بالوفاق وشاملة لصورة احتمال الاختلاف فهي لیست بخاصة كما أدعي بل هي عامة فلا یكون التمسك بها من الأدلة الخاصة بل من الأدلة المطلقة. فیرد علیها ما تقدم علی العمومات والمطلقات من التمسك بالعام في الشبهة المصداقیة ونحوه.

وأیضا لو وجد من الأدلة ما هو خاص ودال علی لزوم الأعلمیة عند احتمال المخالفة كالسیرة مثلاً أو بعض الاخبار مثل أختر للحكم أفضل رعیتك، فلا تقف هذه الاخبار أمام الاخبار المانعة وذلك لصناعة الاطلاق والتقیید.نعم أن هذه الاخبار تدل علی أن عموم جعل الفقهاء بنحو متكثر واستغراقي لا بنحو صرف الوجود ولا بنحو العموم البدلي..

الاختلاف في تفسیر شرط الأعلمیة:

إلا أنه قد اختلف في تفسیر شرطیة الأعلم عند المتأخرین وتفسیرها عند المتقدمین فعند المتأخرین في صورة العلم بالاختلاف فتوی غیر الأعلم لیست بحجة أصلاً، وأما عند المتقدمین فشرطیة الأعلمیة من قبیل أهمیة المتزاحمین الفعلیین فهي دخیلة في التنجیر أو في تمام الفعلیة ولیست شرطیة الاعلمیة تلغی أصل الفعلیة حتی الناقصة ، وذلك

ص: 331

لأن المرجحات المزیلة للتعارض عند المتقدمین لیست شرائط لأصل الحجیة حتی یكون عدمها نافیا لأصل الحجیة بل إن المرجحات شرائط للتنیجز أو لتمامیة الفعلیة لا في أصل الحجیة.

فمع احتمال الاختلاف یقع الكلام في مرجحیة الاعلمیة وذلك لعدم احراز التنافي والتعارض فیتمسك بالاطلاق علی مبنی المتقدمین إلا أنه لا یصح العمل بالامارة إلا بعد الفحص وعلیه ففتوی الأعلم تامة الفعلیة والمنجزیة وأما فتوی غیر الأعلم فلا تكون تامة الفعلیة إلا بعد الفحص عن عدم المنافي والمعارض، وهذا بحسب مقتضی القاعدة وذلك لأن مؤدی دلالة الاخبار المتعرضة للأعلمیة لیس اثبات أصل شرطیة الأعلمیة بل اثبات الترجیح بها في مورد التزاحم. فعلی مبنی المتقدمین الاطلاق تام بالنسبة لفتوی الأعلم وغیره ومع الفحص ترجع إلی الصورة الاولی أو الثانية كما تقدم.

مضافاً إلی وجود اخبار تثبت التحري والفحص من الرواة في موارد الخلاف مثل الاختلاف في تحدید وقت الظهر وكیفیة حج التمتع وغیرها من الأبواب - فظاهر هذه الاخبار وإن كان ورودها في صورة العلم بالخلاف - إلا أن الاصحاب لیس من دیدنهم الرجوع إلی غیر الأعلم بل كانوا یتفقدون عن فتوی الأعلم حتی إذا وجدوا اختلاف رجعوا إلی الامام (علیه السلام) ، فهذه الاخبار تثبت وجود السیرة من الرواة علی

ص: 332

البحث والفحص والتحري ، فدیدن الرواة علی التحري والفحص عن عدم وجود المخالف، فاستظهار عدم الفحص في موارد احتمال الاختلاف فیه تأمل.

فالصحیح في الصورة الثانية والثالثة یلزم تقلید الاعلم بمعنی ترجیحه علی غیر الأعلم ولیس بمعنی عدم حجیة غیر الأعلم من رأس.

ثلاث صور وجوب الفحص:

والكلام في وجوب الفحص وفي المقام صور:

الاولی: أن یعلم بالتفاوت في الأعلمیة إلا أنه یشك في الاختلاف في الفتاوی وهذه هي الصورة الثالثة التي مرت بنا .

والثانية: أن یعلم باختلاف الفتاوی ویشك في التفاوت في الأعلمیة وفي هذه الصورة أیضاً یجب علیه الفحص للترجیح بالأعلمیة لكون الفحص شرط للعمل بالامارات وقد ذهب البعض إلی عدم وجوب الفحص والتخییر بین المختلفیین تمسكاً بالاطلاقات.

والثالثة: أن یعلم بالأعلمیة ویعلم بالاختلاف في الفتاوی ولكنه یجهل أیهما أعلم فهنا یجب الفحص أیضاً سواء علی مبنی المتقدمین لترحیج الحجیة الفعلیة أو المتأخرین لاثبات أصل الحجیة لفتوی الأعلم.

ص: 333

كیفیة الاحتیاط في عملیة الاستنباط:

ولا یخفی أن وجوب الفحص شرط وضعي لصحة الاستناد لا وجوب شرعي تكلیفي فهو شرط لحجیة الحجج إذ له أن یعمل بأحوط القولین وهذا لا یتنافی مع ما تقدم منا من كون الاحتیاط في طول التقلید وذلك لكون هذا من الاحتیاط في كنف التقلید، وهذا حكم أصولي إذ هو بلحاظ الحجج كالاحتیاط في عملیة الاستنباط فإنه یستنتج النتائج بكیفیات احتیاطیة بحیث یدرك الواقع ولا ینسب لله تعالی بغیر علم - مثل العمل بالعلم الاجمالي في كل الأبواب فمثلا أن من دار أمره بین القصر والتمام فإنه یجب علیه الاتیان بالقصر والتمام ولا یلزم منه نسبة الحكم لله تعالی بغیر علم ففي حین أنها فتوی إلا أنها لا تنسب إلی اللّه تعالی بل فتوی احتیاطیة ففي حین الاستناد للدلیل یحتاط بالنسبة إلی الدلیل ولهذا كثیر من الاعلام لا یعبرون في هذه الموارد بكلمة الاحتیاط بل یعبرون: بوجوب الجمع وهو المعبر عنه بالفتوی بالاحتیاط... ومثل ذلك بعض العیوب الی یشك الفقیه بأنها من اسباب حقالفسخ في عقد النكاح أم لا؟ ومثل طرو الخصاء بعد العقد فإن بعضهم یفتي بأنه إذا فسخ یلزم الجمع بینه وبین الطلاق والتراضي في المهر لأنه إذا كان موجبا للفسخ فهو بلا مهر وإذا لم یكن من موارد الفسخ فیجب علیه الطلاق وثبوت المهر.

ص: 334

ففتواه بالجمع هو فتوی بصیغة احتیاطیة - لا مجرد الاحتیاط في المسألة الفقهية الذي هو بلحاظ الواقع وهو الذي وقع البحث في عرضیته للاجتهاد والتقلید، وأما هذا الاحتیاط فهو لیس باحتیاط قائم بنفسه بل هو قائم تبعاًلنفس الاجتهاد والتقلیید فاعتباره قائم علی اعتبار نفس الاجتهاد أو التقلیید ولیس اعتباره مستقلاً عن اعتبارهما، فملاك الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع هو الیقین بالفراغ وأما ملاك حجیة الاحتیاط في الاجتهاد أو التقلیید بلحاظ نفس مستند حجیة الاجتهاد والتقلید في المسألة، فیكون هذا الاحتیاط اجتهاداً أو تقلیداً مع اضافة اتقان وزیادة اتباع وهو اتباع أحوط الأقوال مثلاً أو الجمع بین الأقوال .

فهذا الاحتیاط في ضمن الاجتهاد أو في ضمن التقلید فالاحتیاط في الاجتهاد جمع بین الحجج، فتری بعض الفقهاء یفتي مثلاً في صلاة المیت بصیغة مخصوصة، مع أنه یری إجزاء بقیة الصیغ إلا أنه احتیاط في ضمن الاجتهاد ومثله ما إذا تعارض عنده خبران وأفتی بفتوی جامعة بین الفتویین المتعارضتین إلا أنه یحتاج إلی مهارة في استخراج سبك وقالب إطار جامع ولا یكون من نسبة شیء إلی الشرع بدون علم.

نعم، إذا أراد العمل بأحد الحجج فلابد من قیام الادلة علی ذلك فیجب علیه الفحص ، وأما لو أراد العمل بالجمیع بحیث یأتي بصیغة جامعة بین هذه الحجج فإنه لا یجب علیه الفحص.

ص: 335

ومثل هذا ما یحصل إلی بعض الفقهاء في تحدید موضوع بعض الأصول أو القواعد فإنه إذا لم یسهل علیه تحدید موضوع الاصول أوالقواعد تراه یأتي بنتیجة موافقة لجمیع ما یحتمل جریانه فلو كان من مورد الاستصحاب فالنتیجة موافقة له أو قاعدة ما فالنتیجة أیضا موافقة لها فإنه یفتي بالوجوه العامة المتفقة مع بقیة الأدلة ولا یفتي بما یختص ببعض الادلة دون البعض.

ومراتب الفحص من جهة الزیادة والنقیصة هي شرائط استتمام تفاصیل الحجج، فكلما زاد الفحص قل الاحتیاط وكلما قل الفحص ازداد الاجمال واشتد الاحتیاط.

فلو أراد العمل بالادلة بنحو تفصیلي لابد له من الفحص عن جمیع الخصوصیات والتفصیلات حتی یثبت المطلوب تفصیلاً وأما لو أراد الوصول اجمالاً فبمقدار ما یفحص یرتفع الاجمال.

ولهذا لو لم یفحص أصلاً فلعل المتعین علیه الاحتیاط الأصلي وهو الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع بجمیع محتملاته، فكثرة الفحص تقلل من دائرة الاحتیاط؛ لتبین المطلوب أكثر فأكثر «وكلما قل الفحص زاد الاجمال . فبمقدار ما یفحص یرتفع الاحتیاط بالنسبة إلی الواقع بمقدار فحصه ویكون احتیاطه بعد ذلك غیر أصلي بل محدودبخصوص ما أنجزه من الفحص.

ص: 336

وبالجملة إذا أراد المكلف الاحتیاط في التقلید فلا یحتاج إلی الفحص لأن فیه موافقة للواقع وتقلیدا للأعلم لأن احتیاطه مستند لتقلید الأعلم فهو مقلد للأعلم.

وهذا المبنی یؤید مبنی المتقدمین من جهة أن الفتاوی من الامارات كمجموع واجدة لشرائط الحجیة ولذا له أن یكتفي بموافقة فعله لهذه الحجج، وبخلافه علی مبنی المتأخرین فإن إحداهما ساقطة عن الحجیة فلا یكون من الاحتیاط في التقلید بین هذه الفتاوی التي احدها ساقطة وكیف یحتاط بالجمع بین الحجة واللاحجة إلا أن یكون احتیاط بلحاظ الواقع.

وقد یعترض بأن مبنی المتقدمین لا یختلف عن مبنی المتأخرین فیما لو كان أحوط الأقوال هو قول غیر الأعلم فالمفروض أنه لم یستند إلی فتوی الأعلم حتی یكون قلد الأعلم فهو احتیاط بین الحجة الفعلیة والأخذ بالحجیة الاقتضائیة التي هي أحوط الأقوال.

والجواب: أن هذا الاحتیاط یبین أن المجموع من الطرق معذر قطعاً وهو معنی الحجیة للمجموع.

ص: 337

(مسألة 13) : إذا كان هناك مجتهدان متساویان في الفضیلة یتخیر بینهما إلا إذا كان أحدهما أورع فیختار الأورع(1).

المسألة الثالثة عشر: التقلید عند تساوي المجتهدین والترجیح بالأوعیة

(1) التقلید المجموعي، وفیه صور:

الصورة الأولی: مع العلم بالوفاق بین المستاویین:

العلم بالوفاق بین المتساویین والحكم فیه بالاستناد للجمیع لاطلاق دلیل الحجیة لعدم المانع الذي هو التنافي والتعارض فجمیعها أي كل واحدة واحدة من هذه الروایات یستدل بها وكذا بمجموعها وهو یشكل درجة من الاعتبار لأنه یكون لمجموع الأدلة صفة اعتباریة تختلف عن صفة الاعتبار لآحاد الأدلة بنحو استقلال كل واحد عن الآخر ولقد مرّ بنا أن دیدن القدماء - بل المشهور عدا متأخري الاعصار عند الاستدلال في مسألة - أن یحشدوا ویضموا في الاستدلال الروایات الضعاف للروایات الصحاح وذلك لأن الروایات الضعاف بمفردها واستقلالها ضعیفة وأما بلحاظ انضمامها إلی الصحاح تشكل نوع من الاستفاضة وما شابه ذلك، وذلك لأن الأدلة بالصفة المجموعية تتصف وتكتسب صفة اعتباریة تقوی علی الصفة الاعتباریة الموجودة لآحادها بشكل مستقل، فالنظر في الأدلة تارة بنحو استغراقي وتارة بنحو مجموعي ولیس الحكم في هذه

ص: 338

الصورة هو التخییر بأخذ أحدها.

الصورة الثانية العلم بالتساویة في الاعلمیة مع احتمال الخلاف:

وهي صورة العلم بالتساوي في العلمية مع احتمال الخلاف فی الفتاوی وقد بنی جماعة منهم السید الخوئي (قدّس سرّه) علی جواز التخییر لاطلاق الأدلة فإنه شامل لهذا الفرد من الفقهاء وعلیه فیسوغ له أن یقلد كل منهما ولا سیما السید الخوئي (قدّس سرّه) الذي بنی علی جواز الرجوع إلی كل منهما بما ذكره سابقاً من جواز الرجوع إلی فتوی كل منهما مع العلم باعلمیة أحدهما وعدم العلم بالخلاف فتجویز الرجوع لكل منهما تخییرا في صورة التساوي أولی من صورة الاختلاف في الاعلمیة.

ویتبني (قدّس سرّه) هنا التخییر ولكن هذه الحجیة التخییرية بالمعنی الذي ذهب إلیه الأصفهاني (قدّس سرّه) في رسالته في الاجتهاد والتقلید فقد التزم بأن الاصل في التعارض عدم التساقط والتزم بوجود حجة تخییریة بصناعة لطیفة وقد اختارها السید الخوئي (قدّس سرّه) في المقام مع عدم العلم بالتعارض وهي صورة التساوي في الأعلمیة مع احتمال الاختلاف فذهب السید الخوئي (قدّس سرّه) إلی التخییر بنفس النكتة التي ذكرها الأصفهاني (قدّس سرّه) في التعارض وهي أن الحجیة معنی وما هي مزدوجة من تنجیز وتعذیر والتكاذب والتنافي بین المتعارضین من جهة التنجیز، وأما لو نظرنا لها من جهة التعذیر والعمل بأي الخبرین بمعنی التعذیر فلا

ص: 339

تكاذب فیه فكل منهما متصفا بالحجیة الفعلیة بمعنی التعذیر ومقتضی هذا التقریب تعیین الحجیة لكل منهما بالفعل فكیف یتصور التخییر مع ثبوت الحجیة لكل منهما بالفعل، نعم التخییر الذي لدی القدماء بمعنی لك أن تستند إلی كل منهما.

فالتعارض لایعدم الحجیة - بمعنی التعذیر - الثابتة لكل أمارة بنفس الأدلة الأولیة من دون معونة الأدلة العلاجية وهذا في كل الأمارات.

غایة الأمر انه لیس لنا العمل بغیرهما، وذلك لتنجز الواقع أما بالعلم الاجمالي أو باحتمال التكلیف قبل الفحص فلا تفرغ الذمة من الواقع إلا بالعمل بأحدهما فالتخییر في العمل بأحدهما لا لأن حقیقة الحجة في المقام التخیرلا التعیین... فهذه ثابتة لها الحجة وتلك أیضا ثابتة لها فلا معنی لثبوت الحجة التعینیة وذلك لأن ثبوتها في شیء لا ینفیها عما عداها. والسید الخوئي (قدّس سرّه) یختار هذا المبنی عند احتمال الاختلاف بین الفتویین وذلك لاطلاق الأدلة وأصالة عدم التعارض. وهذا لا یعني التصویب لأن كلاً من الامارتین معذرة والمعذوریة لیس معناها الاصابة والخطأ.

وأما أختیاره هنا التعذیر دون التنجیز لاحتمال الخلاف بینهما لأنه علی فرض التنافي بینهما یلزم منه تنجیز المتناقضین، فالمتعین هو تفسیر الحجیة بما ذهب إلیه الأصفهاني (قدّس سرّه) .

ص: 340

فیرد علیه (قدّس سرّه) : عدم الوجه في التفرقة بین تفسیره للحجیة هنا بالتعذیر دون موارد العلم بالتعارض والتنافي حیث أنه لم یفسرها بذلك

بل حكم بالتساقط ، ولا فرق في استحالة اجتماع النقیضین علی نحو القطع أو الاحتمال لان احتمال المستحیل مستحیل كالقطع به وإذا كان حمل الحجیة علی التعذیر رافع للاستحالة في مورد الاحتمال فلماذا لا یرفعها في مورد القطع بالتنافي والتناقض فما الفرق؟ فما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) صحیح إلا أنه لا یوافق مبناه في صورة العلم بالخلاف إذ المحذور في صورة العلم هو المحذور في صورة الاحتمال ومع إنتفاءه في أحدهما ینتفي في الآخر إذ لا تخصیص في حكم العقل .

والمختار هنا التخییر تبعا للمختار في صورة العلم بالاختلاف وذلك لأن الأصل عند القدماء كما مرّ بنا في موارد التعارض والعلم بالاختلاف لیس التساقط ولا فقدانالامارات للحجیة وإنما یكون التنافي بین الامارات في تمامیة الفعلیة والتنجیز لا في أصل الفعلیة والاقتضاء، فلا تساقط وعلیه فیجوز له أن یقلد أي منهم حتی في موراد العلم بالاختلاف فضلاً عن الاحتمال.

الصورة الثالثة: التساوي في الاعلمیة مع العلم بالاختلاف في الفتاوی:

وإذا كان المتساویان في الاعلمیة مع العلم بالاختلاف في خصوص

ص: 341

الفتاوی في المسائل الخلافیة، فقد ذهب المشهور - لاسیما المتقدمین - إلی تخییر المكلف بینهما، بینما ذهب جماعة من محشي العروة - ومنهم السید الخوئي (قدّس سرّه) - إلی لزوم العمل بأحوط القولین .

أدلة القائلین بالتخییر بین المتساویین:

الدلیل الأول: اطلاق أدلة الحجیة وما قیل فیه وما فیه.

وقد أشكل علیه أصحاب القول الثاني كالسید الخوئي أن شمول الاطلاق لموارد التناقض والتنافي ممتنع فالاطلاق ساقط.

وفیه:

أولاً: ما ذكرناه سابقا من عدم الفرق بین التمسك بالاطلاق في موارد احتمال الاختلاف .

وثانیاً: التناقض مع العلم بالتناقض. فالمحذور هو المحذور.

الحجیة الاقتضائیة بمعنیین عند المتقدمین والمتأخرین:

الدلیل الثاني: أن التعارض لا یوجب التناقض والتكاذب...

أن التعارض لا یوجب التناقض والتكاذب لا في الملاك ولا في الانشاء ولا في أصل الفعلیة وهذا جار في كل أمارات حتی في المتجانستین من نوع واحد أو من نوعین أوجنسین فالامارات في مورد التعارض باقیة علی الاقتضاء بمعنی بلوغ الحكم الجزئي مرتبة الفعلیة

ص: 342

الناقصة وأما الاقتضاء عند المتأخرین فهو اقتضاء الدلالة بمعنی شمول دلیل الجعل للامارتین في مرحلة الدلالة الاستعمالیة أو التفهیمیة دون الجدیة، وعلیه فلا تتساقط الامارات المتعارضة عند المتقدمین حتی بلحاظ ملاك الامارایة والارائیة تكویناً إذما یحدث بینها من تخالف وتنافي فهو في النظرة الظاهرية البدویة من دون تدبر وتروی وهو لا یسبب ولا یوجب التفریط بكلا الحكایتین تكویناً ، بل تكوینا وعقلائیا یستثمر كلا الحكایتین ویحاول التوفیق بینهما وتفسیر التنافي في الظاهرة الطبیعية بینهما وعلیه فملاك التعارض في الامارات لیس بمعنی انعدام الاماریة كما یصوره متأخرو الاصحاب فإنه تكوینا لا تنعدم الكاشفیة فكیف بالاعتبار الصرف أو الاعتبار الممزوج بالتكوین.

وهذا مثل منظار یریك كوكبا بعیدا ومنظار لا یریك شیئ فإنهم لا یرون أن بینهما تنافي بل یوفق بینهما بأن الأول یصل إلی البعید دون الثاني بل یستكشفون أشیاء أخری كأن یستكشف أن المنظار الأول أقوی من الثاني فلا تنعدم الرؤیتان بل یستثمر التنافي للوصول إلی تنائج أكثر فأكثر وهذا أسلوب ورؤیة عقلائیة.

ولیس هناك تنافی وتعارض بل المشاهد أنه لا یوجب التنافي من جهة الملاك، إذ تتعاضد الامارات المتعارضة ولا تتساقط وأما من جهة صیغة الحجیة فبمثل ما أجاب به المحقق الأصفهاني من انقلاب الحجیة

ص: 343

المنجزیة إلی حجیة معذریة وذلك لكون الامارة ذات معنی مزدوج أي ذات جنبتین وهي مانعة خلو ومانعة جمع حیث أنه إذا ارتفع التنجیز تعین التعذیر وكذا العكس وحیث أن التنجیز هنا مستحیل للتكاذب فتتعین الحجیة التعذیریة.

وإن ما ذهب إلیه السید الخوئي (قدّس سرّه) من قیام السیرة علی اعتبار أحوط القولین لیس معناه - علی ما مرّ - اسقاط اعتبار فتوی الفقیهین المتساویین ولیس هو خروج عن التقلید بل هو في ضمن سیاق التقلید وعلیه فلیس لزوم أحوط القولین من باب التعارضوالتساقط والتزامه بذلك ولو في بعض موراد التعارض... وحقیقة أحوط القولین عنده (قدّس سرّه) ترجع إلی عدم اسقاطهما فكیف بنی في موارد عدیدة علی تساقط المتعارضین؟!

الأصل العقلائي عدم تساقط الامارات المتعارضة

فلو قدرنا أن السیرة قائمة في المتساوین علی العملبأحوط القولین فهذا في الحقیقية نوع من اعتبار كلا الامارتین المتساویتین غایة الأمر أنه یتخذ الاحتیاط كمرحج بناءا علی أن أحد المرجحات في الامارات المتعارضة هو الاحتیاط وهذا مسلك موجود وبناء علی أن الترجیح في تعارض الاخبار لیس تأسیسا من الشارع بل إمضاءا وتهذیباً وتشییداً من الشارع وبالتالي یتعد من المرجحات المنصوصة إلی غیرها وأن الترجیح

ص: 344

كله من باب ما هو جار لدی العرف.

فلو تعدي من الترجیح في تعارض الاخبار إلی تعارض بقیة الامارات بدعوی عموم السیرة في الامارات - وهو غیر بعید - إذ عمومیة السیرة العرفیة لدی العرف علی الترجیح في الامارات المتعارضة ولو لم تكن تلك الامارات أخباراً مثل الظهورین ومثل فتوی الفقیهین فحینئذٍ یمكن أن تقرر دعوی أن الاحتیاط أحد المرحجات ، إلا أنه لا بد من التأمل في أن الاحتیاط هو بلحاظ كل فتوی فتوی أو الاحتیاط بمعنی ما سیأتي وهو الأورعیة بمعنی أن أحدهما أكثر تقیداً بالاحتیاط في كل فتوی فتوی وهذا حقیقة ما یبحث في أن الاورعیة مرجحة أم لا وهذا هو القسم الثاني من هذه المسالة التي نحن بصددها وهو الترجیح بالأورعیة بین المتساویین كما یرجح بفضیلة العلم أو لا؟

فتلخص أن مقتضی الأدلة من سیرة وأدلة أولیة دالة علی اعتبار فتوی الفقیهین كالامارات فلیس مقتضی التعارض هو التساقط بل مقتضاه التخییر فالتخییر علی مقتضی القاعدة وهو لیس بخاص بالاخبار المتعارضة بل هو شامل لبقیة الامارات كالفتاوی والظهورات سواء بحسب اطلاق الأدلة الأولیة التي لا توجب التساقط لا ملاكاً ولا صیاغة أو بحسب السیرة وعلیه فلا موجب لاسقاط المتعارضین. وأما ما هو المرجح في البین للمتعارضین الباقیین غیر المتساقطین بحیث یقدم علی

ص: 345

التخییر فهو بحث آخر إذ الكلام في اثبات بقاء أصل الاعتبار.

الترجیح بالأورعیة:

رجّح الماتن (قدّس سرّه) في المتساویین بالأورعیة ، والأورعیة تفسر تارة في جملة السلوك العملي للفقیه كمكلف متقید بالاحكام الشرعية وتارة تفسر بالأورعیة في مهتنه وعمله العلمي في مراعاة الاستنباط أو أنه أورع في الأداء الوظیفي والمرجعي كأن یسؤسس العباد في الفتوی أي في كیفیة ترتبیته للمجتمع بالفتاوی بحیث لا یجرأ الناس علی الشبهات ولا یحرج الناس في الضیق وذلك بصیاغة الفتاوی ومراعاة الوقت والأحوال وغیرها فالقانون الشرعي هو هو إلا أن تزریقه للمجتمع أو ترویض المجتمع یحتاج إلی نوع من التدبیر، مثل أن هذا الامر حلال ولكن یصرح الفقیه بالحلیة مطلقاً بسبب استعمال الناس له في مآرب محرمة مثلاً فالفتیا آلة تربویة ، (مثل ما نُقل عن أن السید (أبو الحسن) الأصفهاني (قدّس سرّه) استُفتي لبیع فرش المسجد - ولعل السؤال كان من وزارة الاوقاف آنذاك - فاجاب بعدم الجواز ، واستُفتیی فقیه آخر في زمنه فأجاب بنالجواز، وفي الیوم التالي صودر المسجد بحجة التعدیل والترمیم فسال ذلك المجتهد المجیزُ السیدَ الأصفهاني (قدّس سرّه) : كیف التفتَّ إلی ما یصبون إلیه؟! فقال له: إن بیع الوقف بهذا الشروط حكمه واضح وإنما هولاء یریدون شیئا آخر وراء ذلك) .

ص: 346

ونُقل أیضاً: (أنّ جماعة في أصفهان اختلفوا مع أحد المراجع وقد باع مدرسة وقفا واستبدلها بوقف آخر، فسألوا السید الأصفهاني (قدّس سرّه) عن حكم ذلك - لاسقاط ذلك المرجع - فاجاب یُنظر من البایع!) .

وهكذا، فمعروف عن السید (قدّس سرّه) حُسن تدبیره وتربیته للمجتمع.

الاخبار الواردة في هذا الباب:

منها: محسّنة اسماعیل بن مهران، عن أبي سعید القماط، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال :

«قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) : ألا أخبركم بالفقیه حق الفقیه؟ من لم یقنط الناس من رحمة اللّه ، ولم یؤمنهم من عذاب اللّه ، ولم یرخص لهم في معاصي اللّه ، ولم یترك القرآن رغبة عنه إلی غیره ، ألا لا خیر في علم لیس فیه تفهم ، ألا لا خیر في قراءة لیس فیها تدبر ، ألا لا خیر في عبادة لیس فیها تفكر ، وفي روایة أخری : ألا لا خیر في علم لیس فیه تفهم ، ألا لا خیر في قراءة لیس فیها تدبر ، ألا لا خیر في عبادة لا فقه فیها ، ألا لا خیر في نسك لا ورع فیه»(1) .

ومنها: ما في الجعفریات: أخبرنا محمد ، حدثني موسی ، حدثنا أبي، عن أبیه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده علي بن الحسین

ص: 347


1- الكافي: ج 1 كتاب فضل العلم باب صفة العلماء، ح 3 .

،عن أبیه، عن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) ، عن النبي (صلی اللّه علیه و آله) أنه قال :

«ألا أخبركم بالفقیه كل الفقیه؟ قالوا: بلی یا رسول اللّه، قال: من لم یقنط الناس من رحمة اللّه، ومن لم یؤمنهم مكر اللّه، ومن لم یرخص لهم في معاصي اللّه...»الحدیث(1).

ومنها: عن علي (علیه السلام) قال:

«الفقیه كل الفقیه من لم یقنط الناس من رحمة اللّه ، ولم یؤیسهم من روح اللّه، ولم یؤمنهم من مكر اللّه» (2).

التثبت في الموضوعات وأثره في الفتیا:

فالفتیا نوع من تربیة الناس ولاینحصر الغرض والأهمیة في الوصول إلی مطلق الكشف عن الواقع وهذه التفاتة ذات أهمیة كبیرة لكل من یقوم بالارشاد والتبلیغ والوعظ الدینيكطلاب العلوم المبلغین للناس الفتاوی فإن كثیراً من الناس عندما یسأل عن بعض الفتاوی ویصوّرها في حالته كمورد للتزاحم - مثلاً - فلابد من التدقیق والتمحیص والاستفسار من السائل وبیان أن المورد لدیه لیس بمورد للتزاحم یتعذر ویتملص من الحكم الالزامي، وهكذا في تحري الفروض الفقهية التي یطرحها المكلفون لابد من تفرس المبلغ إلی مداخل ومخارج تلك

ص: 348


1- مستدرك الوسائل: ج 4 أبواب قراءة القرآن ولو في غیر الصلاة، ص 242 ح 9 .
2- نهج البلاغة: باب (المختار من الحكم) ، ص 483 الحكمة رقم 90 .

الموضوعات وعدم التسرع في بیان الاحكام إلا بعد تمحیص الفرض الفقهي بعمق، وهذا نوع من الحیطة في الأداء الوظیفي لمنصب المرجعیة وهذا أعم من أصل الاستنباط الكلي إذ المعنی الثاني المعهود من عملیة الاجتهاد هو استفراغ الوسع والصبر وعدم العجلة في الافتاء والاستنتاج الكلي التنظیري للأحكام .

ما یستدل به علی اعتبار الاورعیة

ویستدل علی اعتبار الترجیح بالأورعیة بأمور:

الأول: الأخبار:

الخبر الأول: مصححة عمر بن حنظلة:

اشارة

عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة في دین أو میراث - إلی أن قال - ، فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یكونا الناظرین في حقهما واختلف فیهما حكما وكلاهما اختلفا في حدیثكم؟ فقال:

«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحدیث وأورعهما ، ولا یلتفت إلی ما یحكم به الاخر» ، قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضیان عند أصحابنا لا یفضل واحد منهما علی صاحبه... (1).

ص: 349


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 9 ص 106 - 107 ح 1 .

فمنشأ الاختلاف هو الاستناد إلی أحادیثهم وهو مما یدل علی أن الشبهة حكمیة والنزاع في القضاء تارة یكون في الشبهة الموضوعية كمثل أحدهما سدد الدین والاخر ینكر وتارة تكون شبهة حكمیة في القضاء وهو متصور بین شخصین متنازعین مثل أحد الورثة یقول الزوجة لا ترث من العقار ، والزوجة تقول : أنا أقلد من یجیز الأرث من العقار فهذا من الشبهة الحكمیة وهذا من الشواهد الموجودة في هذه الصحیحة علی أن موردها من الشبهة الحكمیة التي تُحلُّوتبیّن بموازین الفتوی لا القضاء، فلا یشكل علی الصحیحة أنها أجنبیة عن مورد الفتیا إذ ما یذكر من ضوابط فیه هو خاص بالمیزان الفتوائي وهذا من القرائن الأخری في مفادها.

فقد قال (علیه السلام) : «أورعهما» فهنا ذكر الترجیح بالأورعیة بین الفقیهین.

عدة اشكالات علی الاستدلال بمصححة بن حنظلة:
اشارة

وقد أشكل علی هذا الخبر بأمور:

الاشكال الأول: ضعف السند

وقد مرَّ أنه توجد شواهد صحیحة علی أن الرجل من الأجلاء ومن أتراب الأركان الأرابعة من الرواة كأبي بصیر وزرارة ومحمد بن مسلم وبرید العجلي.

ص: 350

الاشكال الثاني: اختصاصه باب القضاء

أن هذا الخبر خاص بباب القضاء . وقد مرَّ بأن مفاد الروایة في موازین الفتوی بقرائن:

منها: كون النزاع بین المتخاصمین وهو المیراث وهو شبهة حكمیة وهذا لا یفصل بالبینة والیمین بل یفصل بموازین الفتوی ومدارك الاستنباط.

ومنها: تصریح الرواي أن منشأ الاختلاف لیس التشخیص الموضوعي بل هو نفس أحادیث أهل البیت (علیهم السلام) .

ومنها: أن المرجحات التي یذكرها الإمام في وسط الروایة وأواخرها مرجحات في میزان الاستنباط وتشخیص الحكم الكلي لا موازین للترجیح في القضاء.

فالمشهور وموافقة الكتاب وأصدقهما بالحدیث هي أمور یشخص بها الحكم الكلي لأنها راجعة لمبادئ الحكم الشرعي لا لتطبیقه.

ومنها: ما ذكرناه: من أن الحكم القضائي لیس إلا حكما فتوائیا وزیادة وإلا لما أمكن للقاضي أن ینشأ حكم قضائی من دون أن یتنقح لدیه الحكم الفتوائي، فالحكم القضائي لیس مباینا ومنافیا للحكم الفتوائی لأنه فتوی وزیادة وعلیه فجملة من الموازین في الحكم القضائي ترجع علی الحكم الفتوائي وبعضها ترجع إلی تطبیق الحكم الفتوائي فالمیزان

ص: 351

والضابطة ترجع إلی تطبیق الحكم الفتوائي الكلي بالموازین القضائیة وهو مختص بباب القضاء وأما لو رجعت تلك الموازین لتشخیص الحكم الكلي فهي لیست خاصة بباب القضاء بل بالحكم الكلي والقرائن عدیدة في هذه الروایة قائمة علی تشخیص الحكم الكلي وهي مما تدفع هذا الاشكال الذي تبناه كثیر من الاكابر. نعم، لابد من الالتفات إلی أن الترجیح المذكور في الاخبار لیس ترجیحاً فقط في مصادر الاستنباط بل هو ترجیح في نفس الفتاوی كطرق وإمارات قائمة في طول بعضها البعض ، وإن قوله :

«الحكم ما حكم به أصدقهما وأروعهما» فهنا الترجیح لیس فقط في الروایات بل في الفتاوی بماهی فتاوی وإن كانت مستندة إلی روایات أیضا.

الاشكال الثالث: عدم ربط الاورعیة بالأماریة وما فیه:

وقد تبناه بجزم وصرامة المرحوم الأصفهاني (قدّس سرّه) وجماعة : بأن الأورعیة أي ربط لها بأماریة فتوی الفقیه فلا صلة لها بمقام الافتاء بل بمقام القضاء والتطبیق وأضاف السید الخوئي (قدّس سرّه) إلی ذلك بأنه قد رجح بالأعدلیة أولاً قبل الافقهیة مع أنه في باب الفتیا لم یلتزم أحد بأن الأعدلیة مقدمة في الترجیح علی الأعلمیة والأفقهیة، وهذا مما یدلل علی أن هذا الترجیح مختص باب القضاء لا الفتیا.

ص: 352

وفیه:

أولاً: أن هذین الاشكالین مبنیان علی أن الأورعیة والاعدلیة هي صفة في السلوك العام لا الأورعیة والأعدلیة في الاستنباط نفسه بحیث یجهد نفسه أكثر مع أن المناسب للمقام هو الثاني إذ أي مقایسة وموازنة بین الورع في الاستنباط وبین الورع في السلوك العام فإن الأورعیة في الاستنباط دخیلة في الاماریة والعلم ولما تبتني علیه هدایة الناس وترشید المسار الدیني، فالورع في الاستنباط أعظم وأهم بكثیر من الورع في السلوك العلمي الشخصي بعد فرض كل منهما عادل وذلك لأن ذلك الورع موثر في الوظیفة الاجتهادية والمرجعیة المؤثرة في السلوك الاجتماعي لكل مجتمع وهو هدایة الناس وترشید المسار الدیني والورع السلوكي تأثیره غالباً فردي لا یتجاوز صاحبه فالذي یجهد نفسه أكثر في التتبع والتدقیق والتحلیل لا محالة یؤثر ذلك في الأعلمیة والأفقهیة وسر التعبیر بالأفقهیة تارة وبالاورعیة أخریهو أن بعض مقدمات الاستنباط لیست تبتني علی فطانة الفقیه وفراسته وفهمه بل تبتني علی تقیده بالتتبع وهذا لیس ببحث فطانة وفراسة فإنه یتقید قبل أن یستنبط ویفتي ببذل الجهد اللازم فهو سلوك علمي عملي وهذا هو سر التغایر بین التعبیر بالأورعیة والأفقهیة فیوجد میزان لازم في التتبع والتحري ومراجعة المصادر وتحریر وتحلیل الفروض الفقیهة وهذالا ربط لها بالفطانة والفراسة والفقاهة ولا بالقوة الصناعیة نعم تراكم الموارد

ص: 353

والاحاطة بأبواب الابحاث تؤثر في الفطانة والعارضة والفقاهة وتصب في نتیجة البحث إلا أنها في المرحلة الأولی لیست بفطانة وفقاهة حتی یعبر عنها بالأفقهیة فلابد أن یعبر عنها بالأورعیة.

فعلی أي تقدیر المعنی الثاني والثالث له ربط بالأقربیة إلی الواقع والقرینة علی أن المراد بالثاني أو الثالث نفس المرجحات هوتعبیره (علیه السلام) :

«وأصدقهما في الحدیث» إذ لیس المراد مطلق الصدق بل بما هو مرتبط بما یصب في الحدیث أیالذي له كاشفیة لا صدقه في السلوك العملي العام ، فالاورعیة كذلك لیست في السلوك العام بل الاورعیة التي تصب في عمل المجتهد بما هو اجتهاد واستنباط وهو شبیه ما ذكره الأصوليون في الوثاقة هي الوثاقة اللسانیة لا الوثاقة في العمل السلوكي العادي فلو كان لا یتجنب النظر إلی المحارم إلا أنه صدوق في لسانه فإنهم لم یعمموا الوثاقة المرجحة إلی مجالات أخری عملیة بل خصوها بما یصب باثبات الروایة وهي الوثاقة اللسانیة، لأنها هي الجهة التي تصب في نقله واخباره وكذا الأعدلیة في مقامنا فإنها تفسر بما تصب فیما هو وظیفة الفقیه وشأنه وهي الفقاهة والاجتهاد وأداء وظیفته فلا معنی لحمل الأورعیة إلی معنی بعید عن مناسبته للاجتهاد وأداء الوظیفة التي هو استنباط وتدبیر ولائي.

ص: 354

وإذا تبین معنی الأورعیة في المقام فلا معنی لاستبعاد هذا المعنی والقول باجنبیته فلا حاجة إلی ما تكلفه الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) بارجاع دخالة الأعدلیة بمعنی السلوك العام في الاجتهاد والفقاهة إذ لا وجه لحملها علی السلوك العام إذا لم یكن له أي ارتباط بمقام الاجتهاد والاستنباط فیتعین حملها علی السلوك المرتبط بمقام الاستنباط والفقاهة.

بل لو بنینا علی السلوك العام فإن الوظائف تختلف باختلاف الاشخاص فخطابات المجتهد بوظائفه لیس مثل الخطابات الموجهة إلی الناس وسلوك المجتهد العام في هدایة الناس وارشادهم أیضا یتوقف علی التتبع والتحري في الاستنباط؛ لأنها من وظائفه، وعلیه فالصحیح أن هذا الاشكال غیر وارد ، وكذا اشكال السید الخوئي (قدّس سرّه) من تقدیم الأورعیة علی الأفقهیة لأن تقدیمها علی الأفقهیة - كما یذكره جملة من المحققین - هو أن الاستنباط لیس رسم فروض خیالیة واستنتاجات محضة لأنه ذات مراتب وأول تلك المراتب هو التتبع والفحص والتحری لنفس الفروض الفقهية وهذه مرحلة لا مساس لها بفطانة الفقیه وفراسته بل هي مرحلة قبلها وهي مؤثرة بشكل كبیر في عملیة الاستنباط لأنه من الوظائف العملية المقدمیة للوظیفة الفقهية فمن الطبیعي أن تتقدم علی الافقهیة.

وأیضا بالنقض فإن اشكال تقدیم الأورعیة علی الأفقهیة والأعلمیة وارد علی تخصیص الروایة بباب القضاء فإن الاعلمیة في القضاء مقدمة

ص: 355

ومرجحة علی الأعدلیة والأورعیة...؟ والحل هو ما ذكرناه من أن الأورعیة والأعدلیة تصب في الجانب العلمي أو الآداء الوظیفي للمرجعیة بقرینة مناسبات الحكم والموضوع علی ما قدمناه مفصلاً. وهذه الروایة أیضا ترجح بالاعلمیة ولكنه من زاویة التتبع والتحري.

الخبر الثاني: موثق داوود بن الحصین:

عن داود بن حصین عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) : في رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما في حكم ، وقع بینهما فیه خلاف ، فرضیا بالعدلین، فاختلف العدلان بینهما، عن قول أیهما یمضي الحكم؟ قال:

«ینظر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما، فینفذ حكمه، ولا یلتفت إلی الآخر» (1).

وفي هذه المعتبرة قدمت الافقهیة والاعلمیة علی الأورعیة وهذا التقدیم بمنزلة وبمثابة جواب عن الاشكال الوارد في مصححة عمر بن حنظلة أي أنه یوجد من الروایات ما یدل علی تقدیم الأعلمیة علی الأورعیة مع أن الورعیة علی ما مرّ أنها مما ترتبط بموازین الاستنباط، وقد أفصح أیضا في هذه المعتبرة عن متعلق الاعلمیة وهي الاحاطة بالروایات بفطانة علی مضامینها ویلتفت إلی مظان الاخبار في أی

ص: 356


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 9 ص 113 ح 20 .

الأبواب إذ كم من خبر ذكره أصحاب الكتب كصاحب الوسائل في غیر بابه فالفقیه هو الذي یفطن إلی مظان ما یمكن أن یذكر من الاخبار في الابواب الفقیهیة وذلك بالالتفات إلی مناسبات بین الابواب الفقهية.

وقد مرَّ بنا في بحث الاجتهاد والتقلیید في الأصول أن متابعة أصحاب كتب الحدیث - كالمحمدون أو صاحب الوسائل أو أي كتاب من كتب الحدیث في كمیة الاستقصاء للروایات المناسبة لعنوان الباب - من التقلیید وإن سمي بالاجتهاد وذلك لأن إدراج هذه الاخبار وتصنیفها في الأبواب فإنه بهذا المقدار اجتهاد منهم إذ ربما روایة تذكر في باب وهي لا ربط لها به إلا أنهم استنبطوا ذلك فالمتابعة لكتب المحدثین من العلماء في استقصاء الاحادیث تقلید لهم ومن ثم كانت حقیقة الكتب الاربعة لیست صرف تدوین حدیثي فحسب بل هي افتاء واجتهاد لأن انتقاء الاخبار للباب وعنونته بعنوان كلها استنتاجات ونوع من مراحل الاستنباط وعلی أیة حال قال:

«وأعلمهما بأحادیثنا» فإذن الاحاطة والفطنة بأبواب الروایات وتفصیلها مهم.

وهنا الترجیح بالأورعیة یرد علیه ما أورد علی مصححة عمر بن حنظلة والجواب هو الجواب، إلا أن الاستدلال بمصححة ابن حنلظة أوضح لأنها صریحة في كون مورد النزاع هو الشبهة الحكمیة ، والنزاع فیها لا یفصل إلا بالموازین الفتوائیة لا بالموازین الخاصة القضائیة.

ص: 357

الخبر الثالث: حسنة ذبیان بن حكیم:

اشارة

ذبیان بن حكیم لروایة غیر واحد من الثقات عنه كابن محبوب وابن فضال... ، عن موسی بن أكیل ، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال : سئل عن رجل یكون بینه وبین أخ منازعة في حق فیتفقان علی رجلین یكونان بینهما ، فحكما فاختلفا فیما حكما ، قال : «وكیف یختلفان؟» قال : حكم كل واحد منهما للذی اختاره الخصمان ، فقال :

«ینظر إلی أعدلهما وأفقههما في دین اللّه ، فیمضي حكمه» (1).

وواضح أن العدالة هنا في مراعاة تطبیق الموازین الاجتهادية ولیس الأعدلیة فقط في السلوك العام.

وبهذا البیان یتبین أن الأورعیة تصب في الأعلمیة وبالتالي لا نخالف الاعلام في عدم كون الاورعیة في السلوك العام مرجحا في خصوص ما لا دخالة له في الاستنباط وأما الأورعیة في السلوك العام الراجعة إلی الأعدلیة في الاستنباط فهي من المرجحات.

الدلیل الثاني: سیرة العقلاء علی الترحیج بالأورعیة:

فبعد ما تبین أن مقتضی التساوي لیس هو التعارض والتساقط بل هو اقتضائیة كلتا الامارتین . ففي الامارات المتساویة المتعادلة بعد تنقیح أن

ص: 358


1- وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضي، ب 9 ص 123 ح 45 .

دیدن العقلاء والمتقدمین من الأصحاب هو عدم التساقط بل هو التوسل بكل مرجح معتد به ولا ریب عند العقلاء أن الذي یتحفظ في خبرویته - أكثر من غیره فیما یمارسه من مهنة أو مهارة في مجال معین - أرجح لدیهم في صورة التساوي في الفضیلة والعلمية فمثلا لو كان عندنا مهندس أوطبیب بنفس درجته في العلمية بالنسبة إلی الآخر إلا أن هذا یتحفظ ویتحري أكثر فلا ریب أن هذا عامل مرجحبنظر العقلاء .

لا ما ذكره السید الخوئي (قدّس سرّه) من اتباع العقلاء أحوط الأقوال وإن لم یكن أورع، وذلك لأن العقلاء یعتبرون الأورع أكثر تحفظا وحیطة في مهنته فعمله بنظرهم مطابق للاحتیاط بتحفظه في الموازین لا في صرف النتائج، والعرف یفرق بین من یحتاط في نتائجة دون موازین فالعقلاء حینما یتبعون أحوط الأقوال في المتساویین علی ماذكره السید الخوئي فإن التوجیه الصناعي له كما مر بنا أنه من باب التقلید لا من باب الاحتیاط غایة الأمر ترجیح من قوله أحوط وإلا فهو تقلید، وهذا التفسیر للسید الخوئي (قدّس سرّه) - إذا اتأملناه - في هذه الدعوی سوف نستوضح أن أحوط الأقولین الذي یُدعی مراعاة العقلاء له بین المتساویین هل هو احتیاط في النتیجة فقط أو في الموازین الموصلة للنتیجة.... فالاستباط سواء كان اجتهاديا او طبیا أو هندسیایؤثر فیه عند العقلاء أن یكون السلوك العلمي أحوط واتقن وأثبت في الموازین للوصول للنتیجة هو

ص: 359

من یكون اتباعه موافقا للاحتیاط فبهذا التفسیر للأورعیة والاحوطیة تكون الأورعیة مرجحة لا صرف كون النتیجة أحوطكما یظهر من السید الخوئي (قدّس سرّه) بل الاحوطیة من حیث مراعاة الموازین في الخبرة.

فالمراد بالأورعیة في الاستنباط لا في السلوك العام ویدل علیه أیضا مصحح عبد الأعلی بن أعین - وقد وثّقه المفید، وقال عنه: إنه من فقهاء أصحاب الصادقین، ومن الأجلاء والرؤساء المأخوذ عنه الحلال والحرام - قال: سأل علي بن حنظلة أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن مسألة وأنا حاضر فأجابه فیها ، فقال له علي : فإن كان كذا وكذا... فأجابه بوجه آخر ، حتی أجابه بأربعة أوجه ، فقال علي بن حنظلة : یا أبا محمد، هذا باب قد أحكمناه فسمعه أبو عبد اللّه (علیه السلام) فقال

:«لا تقل هكذا یا أبا الحسن

فإنك رجل ورع ، إن من الأشیاء أشیاء مضیقة ، لیس یجري إلا علی وجه واحد ، منها وقت الجمعة لیس وقتها إلا حد واحد حین تزول الشمس ، ومن الأشیاء أشیاء موسعة ، تجري علی وجوه كثیرة وهذا منها واللّه إن له عندي لسبعین وجها»(1).

فقوله: (هذا باب أحكمناه) یعني تمكّنا منه، فقال(علیه السلام) :

«لا تقل كهذا یا أبا الحسن فإنك رجل ورع» .

ص: 360


1- المحاسن (للبرقي) : ج 2 كتاب العلل، ص 299 - 300 ح 4 .

فالإمام (علیه السلام) ههنا یوصیه بالورع في عدم التسرع في الاستنتاج وعدم

التسرع في البناء المنهجي في الاستدلال؛ لكونه أحكم هذا الباب، وذلك لأن التسرع بسبب عدم الفحص اللازم وعدم التزود من وجوه أخری لها علاقة بالبحث، فقال له: «یا أبا الحسن إنك رجل ورع» فلا یتسرع في البناء المنهجي وهو یسبب الكسالة وعدم الجهد في الاستنتاج وتحصیل المطالب الحقة، فهو یوصیه بالتحفظ والورع في نفس النهج الاستدلالي بعدم التسرع والحكم بأنه قد أحكم هذا الباب، وإن من الأشیاء ما هو مضیّق لیس یجري إلا علی وجه واحد ، منها وقت الجمعة لیس وقتها إلا حد واحد حین تزول الشمس ، ومن الأشیاء أشیاء موسعة ، تجري علی وجوه كثیرة وهذا منها واللّه إن له عندي لسبعین وجها.

فكیف تتسرع بحصره في أربع فإن الورع قد استعمل بلحاظ الاستنباط.

ص: 361

(مسألة 14) : إذا لم یكن للأعلم فتوی في مسألة من المسائل یجوز في تلك المسألة الأخذ من غیر الأعلم(1)، وإن أمكن الاحتیاط .

المسألة الرابعة عشر: إذا لم تكن للأعلم فتوی

النظام النیابي للفقهاء مجموعي واستغراقي وبدلي في حیثیاته المختلفة:

(1) الوجه في الجواز واضح وإن استشكل بعض المحشین (قدّس سرّه) باعتبار أن الاعلم غیر متصدي في تلك المسألة فیتصدی الأعلم الذي بعده وكما تقدم أن اشتراط الأعمیلة لا یستلزم أحادیة المرجعیة ونفي الكثرة وذلك لعدم امكان تصدي المرجع الواحد لكل شؤون الأمة وهذا من اعجاز نظام أهل البیت (علیهم السلام) وهو النظام النیابي للفقهاء عن المعصوم (علیه السلام) فهم كأیاد وسواعد جعلت بشكل منتشر ومتوزع كي یمكن القیام بالمسؤلویة، وواضح أنه مع عدم فتوی الأعلم یتحقق موضوع ومجال تقلید للأعلم الذي بعده.

الوجه في عدم الرجوع إلی الغیر في بعض المسائل الاحتیاطیة:

نعم، في صورة معنیة وهي ما إذا كان الأعلم الذي لم یفت بسبب اطلاعه علی اشكالیة وعضال الأدلة في المسالة، فهنا رجوع المكلف إلی غیره یكون محل اشكال لأن الحل الذي یرتأیه الاعلم بعده هو لعدم التفاته لجهة العضال في المسألة ، ومن ثم بعض المحشین لا یجوز

ص: 362

لرجوع للغیر في موارد الاحتیاط الوجوبي إلا أن الصحیح أنه یوجد فرق بین الفتوی بالاحتیاط وبین الاحتیاط في الفتوی فإنه إذا أفتی بالاحتیاط كأنه شخَّص وأخبر وأعلم عموم المكلفین بأن هذا المورد یلزم فیه الاحتیاط لكون المسألة ذات عظال - إلا في الاصطلاح الدارج عند الأعلام في الكتب الفقیهة فإنه قائم علی التفرقة في التعبیر بین الاحتیاط في الفتوی والفتوی بالاحتیاط وإن كان یوجد بعض الاصطلاحات الدارجة الأخری .

وبعضهم قد یغیر الاصطلاح ویبني علی اصطلاح خاص، فمثلا یقول بعضهم : إذا قلت : (احتیاط لا یترك) فهو الاحتیاط اللزومي الذي یمكن العدول وإذا قلت: (احتیاط فهو فتوی بالاحتیاط) مع أن المعروف أن الأول اصطلاح للفتوی بالاحتیاطونقل عن بعض الأعلام (قدّس سرّه) من هو لصیق به ومن مجلس الاستفتاء أنه سأله مشافهة وأجابه - قال: إنه إذا عبر بأحوط - وارفقه - بلا یترك، فهو استحبابي مع أنه عند غیره وجوبي، إلا أنا لسنا بصدد بیان الفاظ الاحتیاط بل بصدد بیان المعني فأي فقیه إذا أفتی بالاحتیاط فإنه لا یسوغ الرجوع إلی غیره وأما لو احتاط في الفتوی فمعناه عدم تصدیه للفتوی - وإن كان عنده في المسألة عضال ولم یعلم المكلفین ومعه یسوغ للمكلفین الرجوع إلی الاعلم الذي بعده وذلك لأن المكلف غیر مطلع فلابد أن یتبني ویعتمد

ص: 363

(مسألة 15) : إذا قلد مجتهدا كان یجوز البقاء علی تقلید المیت فمات ذلك المجتهد ، لا یجوز البقاء علی تقلیده في هذه المسألة، بل یجب الرجوع إلی الحي الأعلم في جواز البقاء وعدمه(1).

علی أمارة معنیة والمفروض أن المجتهد الأعلم لم یفت بالاحتیاط ولم یحتط في الفتوی أو أحتاط فیها وأما مسألة التمییز بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی فهو راجع إلی اصطلاح كل فقیه في أول الرسائل العملية.

المسألة الخامسة عشر: عدم جواز البقاء علی تقلید المیت في مسألة البقاء

اشارة

(1) مسألة البقاء علی تقلید المیت لا یجوز الرجوع فیها للمیت وعلیه فلابد من الرجوع إلی الأعلم من الأحیاء فنفس الموت یسقط حجیة الفتوی في مسألة البقاء؛ وذلك لرجوع هذه المسألة إلی أصل التقلید في الواقع وقد مر - في أصل التقلید جواز تقلید المیت أو عدمه - وأنه لا یجوز تقلید المیت بفتوی نفسه للزوم الدور، إذ لا یعقل الاستناد إلی المیت بفتواه المشكوكة حجیتها من جهة كونها فتوی المیت بخلاف ما لو رجع إلی الحي الأعلم.

واجمال ما مرّ هو أن أصل مسألة التقلید لیست تقلیدیة فلابد أن یحتاط المكلف أو یجتهد فیها وإلا كان تقلیده في مسألة التقلید دور

ص: 364

فلابد من قیام الدلیل اجمالا علی صحة التقلید وعلیه فالمكلف أما أن یجتهد في المسائل أو یحتاط وحینئذ یدور أمر التقلید بین تقلید الحي والمیت أو تقلید الاعلم وغیر الاعلم وفي موارد احتمال اشتراط شروط في المجتهد... فالقدر المتیقن هو اللازم اتباعه وذلك لأنه لو قلد المیت لا یعلم شموله دلیل التقلید له بینما لو قلد الحي وقد أذن له في تقلید المیت فلا محذور لا ثبوتي كالدور ولا شرعي كبراءة ذمته وهكذا الحال لو قلد الأعلم وإذن له في تقلید غیره فإن تقلید غیر الأعلم غیر معلوم الحجیة فإذا سوّغ الأعلم الرجوع إلی لغیره صح وهذا بخلاف ما لو أراد الرجوع ابتداءا لغیر الأعلم فلا یصح لعدم العلم والشك في شمول الدلیل للمیت ولغیر الأعلم مثلا. وإذا أراد البقاء - علی تقلید المیت في الفتاوی في باب الطهارة والصلاة مثلاً - بفتوی المیت فهو دور واضح لان من المسائل التي یرید البقاء فیها علی تقلید المیت هي نفس مسألة البقاء.

اختلاف المیت والحي في مسألة البقاء :

وإنما الكلام وقع في شقوق هذه المسألة فمنها أنه لو قلد الحي الجدید في البقاء علی تقلید المیت فتارة یمنع عن البقاء فیسد الباب ویجب العدول إلی الحي، وتارة یجوز له البقاء والمیت یفتی بعدم البقاء علی تقلید المیت، وأخری الحي یوجب البقاء والمیت یجوز البقاء، فالحي یفتي بتعین البقاء والمیت یفتي بالتخییر، وقد ینعكس الأمر، وتارة

ص: 365

یتفقان في حكم البقاء ویختلفان في سعة دائرة التقلید كأن تكون فتوی المیت جواز البقاء في جمیع المسائل وفتوی الحي بخصوص ما عمل به فدائرته أضیق. وقد یكون العكس.

فالاختلاف یرجع إلی أمور ثلاثة:

اشارة

الاول: في أصل حكم البقاء.

الثاني: في نوع حكم البقاء.

الثالث: في دائرة حكم البقاء سعة وضیقاً.

الأمر الأول: الاختلاف في حكم أصل البقاء علی تقلید المیت

اشارة

وله صورتان:

الصورة الأولی: لو منع الحي وجوز المیت أو أوجب فلا أثر لتجویز المیت

إذ لا حجیة لفتوی المیت بنفسها للدور بل الحجیة لفتوی الحي .

الصورة الثانية لو انعكس الأمر فجوز الحي ومنع المیت

فقد ذهب كثیر من الأعلام إلی أن الاعتبار بفتوی الحي دون المیت ویجوز العمل أو یجب في جمیع المسائل إلا في هذه المسألة.

وقد استدل علیه بأن فتاوی المیت كلها ساقطة عن الحجیة ولا یؤخذ بها إلا بفتوی الحي وفتوی الحي لا تشمل مسألة البقاء علی تقلید

ص: 366

المیت لأنه یلزم من تقلید الحي في هذه المسألة عدم تقلیده وما یلزم من وجوده عدمه محال.

الامر الثاني: الاختلاف في نوع الحكم البقائي:

اشارة

وهو الاختلاف في نوع الحكم البقائي تخییرا أو تعیینا كأن یفتي الحي بوجوب البقاء تعییناً، وفتوی المیت بجواز البقاء تخییراً.

فإن شملت فتوی الحي بالتعیین لجمیع فتاوی المیت حتی مسالة جواز البقاء فإنه یجوز العدول إلی الحي ویرجع إلی الحي في بقیة الأبواب، ولا تناقض ولا تنافي فیه للطولیة وذلك لان الحي أوجب البقاء علی تقلید المیت باعتبار حكم مسألة البقاء في نفسها وأما أن فتواه سببت التخییر بعنوان ثانوی وهو شمول فتواه لفتوی المیت فأحد الفتویین في طول الأخری ولا یلزم المحذور السابق، بل هذا الوجه یلزم منه محذور آخر وهو أن فتوی الحي وفتوی المیت لیستا من العناوین التكوینية الثانویة الطارئة المقابلة للعناوین الاولیة مثل عنوان الضرر والحرج بل فتوی الحي والمیت من الامارات كان المحكي بهما متناقضاً فالامارتان متعارضتان وهذا جارٍ في كل الصور. نعم العجیب من متأخری هذا العصر من محشي العروة قدس اللّه اسرارهم أنهم ذكروا - كما سیأتي في مسائل تبدل التقلید كما لو قلد فترة مجتهدا ثم مات أو تغیرت فتواه أو قلد من استجدت أعلمیته - أن أعماله السابقة إذا كانت

ص: 367

موافقة للاحق فصحیحة وإلا فباطلة إلا مع جریان لا تعاد مثلاً.

وقد أستدلوا بأن فتاوی الفقهاء أمارات ولیست أحكاما حقیقية ولا

سببیة یعني أن العمل الفقهي یلاحظ في نفسه بقطع النظر عن قیام فتوی أو امارة وغیرها من العنوانین غیر التكوینية علیه بخلاف العنوانین التكوینية كالنسیان والحرج بل هي اماراة فإذا تبین أنها لیست بحجة وقامت حجة آخری انكشف خلاف الواقع ولو ظاهراً فیحكم ببطلان العمل. نعم مشهور القدماء یفتون بالاجزاء وذلك لنكتة عندهم حاصلها أن الحكم الظاهري له تقرر في بیئة الظاهر وإن كان أماراة وقوامه بالحكایة عن الواقع إلا أن له نمط من التقرر وإن لم یكن ذلك التقرر علی نحو السببیة ، ومبنی مشهور القدماء هو الصحیح.

التعارض الطولي بین الأمارات كالتعارض العرضي:

إلا أنه علی مبنی متأخری العصر من أن الحكم الظاهري لیس له أي وجود وتقرر ولیس له حكم مماثل وإنما هو صرف حكایة واراءة وحكایة ولیس بعنوان تكویني ثانوي وعلیه فأي معنی لما یقال بأن البقاء بما هو هو واجب تعییني والبقاء بما هو مورد فتوی المیت تخییری فإن فتوی المیت لیست بعنوان ثانویة تكویني حتی یغیر ویبدل بل هو مجرد أمارة طارئة مخالفة للامارة السابقة، وعلیه فلماذا لا یكون هذا المورد من تعارض الامارتین؟

ص: 368

وفي صورة فتوی الحي بتعین البقاء وفتوی المیت بالتخییر فقد ذهب جماعة من محشي العروة في الابتداء یعمل بفتوی الحي فیبقی علی فتوی المیت بالبقاء لأنه نفس متعلق فتوی الحي هو البقاء علی تقلید المیت وأما بعد رجوع المكلف للمیت بسبب فتوی الحي یثبت له التخییر فجعل فتوی المیت من العناوین الثانویة الطارئة علی مسألة البقاء فمسألة البقاء بطرؤ فتوی المیت علیها أصبحت تخیریة بعدما كانت تعینیة بعنوانها الأولی وقد مر التأمل في ذلك من أن الفتوی والفتیا دورها الطریقية والاماریة ولیست من العنوانین التكوینية الطارئة والمغیرة لاحكام الاشیاء بسبب طرو العناوین الطریقية علیها نعم لو بنینا علی مبنی المتقدمین وهو الصحیح من أن الحكم الظاهري له تقرر في مرتبة الظاهر لا في الواقع كما یقول به المصوبة بل كما یقول به العلامة الحلي (قدّس سرّه) : إن ظنیة الطریق لا تنافي قطعیة الحكم" فالحكم الظاهري علی مبنی المتقدمین له نحو تقرر وأما علی مسلك متأخري العصر فلا یتصور الجمع بین الطریقية المحضة والأخذ بكلا الفتویین علی نحو الطولیة حیث إن فتوی الحي تكشف عن الواقع وفتوی المیت أیضا تكشف عن الواقع وهما متخالفتین والواقع واحد فیلزم علی مبناهم التساقط للتعارض والتنافي في الاراءة .

ص: 369

وهذا الاشكال یعم مطلق فتوی الحي بالبقاء علی فتاوی المیت فمثلا الحي یفتی بلزم البقاء علی تقلید المیت في جمیع الابواب وهذه الفتاوی للمیت مخالفة للحي فكیف یفتي الحي بالبقاء علی تقلید المیت لأنه علی الاماریة یلزم منه التنافي مع فتوی الحي في الابواب الأخری وذلك للقاعدة التي أشرنا لها من أن الامارة لا فرق في تنافیها بین كونها في عرض واحد أو في طول لأنها كاشفة عن الواقع الذي هو واحد لا تعدد فیه وطرو عنوان حجیة الحي أو حجیة المیت وإن كانت طولیة إلا أنها لا توجب تعدد الواقع لعدم كونها من العناویین التكوینية المرتبطة بالواقع مثل الحرج والضرر المغیرة للحكم لتغییر موضوعه فإن مثل هذه العناوین مغیرة ومعددة للموضوع بل ما نحن فیه من تعدد الكواشف عن الواقع ولا أثر لها في واقعية الواقع، وسواء اتفقت فیها أو أختلفت فالتنافي والتعارض مفروض. نعم بناءا علی التبعیض في التقلید یمكن حل هذه المشكلة في بقیة الأبواب فإنه یقلده في غیر مسائل الخلاف وعلیه فلا تضارب ولا تنافي.

أما في مسألتنا هذه فإنه لاامكان للتبعیض في التقلید وذلك لأنها مسالة واحدة فاردة فمسألة البقاء حیث یفتي الحي بتعین الرجوع للمیت والمیت یجوز الرجوع إلی الحي فالتنافي والتناقض لا مفر منهوتكثر الفتاوی لا یسبب تكثر المسائل لأنها من كثرة الطرق مع وحدة المطروق

ص: 370

فالواقع واحد وهو أما التعیین أو التخییر وعلیه فیستحكم الاشكال إذ لایعقل أن الواقع كالمتباینین. فما ذهب إلیه جماعة من المتأخرین ومنهم السید الخوئي (قدّس سرّه) - من أن مسألة البقاء بما هي فتوی الحي لها حكم بما هي هي - هو نوع من التسلیم بأن الحكم الظاهري له تقرر ولیس بسراب محض أو طریق محض لا تقرر له في مرتبة الظاهر.

الأمر الثالث: الاختلاف في سعة وضیق دائرة الحكم:

اشارة

وهو ما إذا كان الاختلاف في سعة وضیق دائرة الحكم كما لو كان الحي یری أن مسألة البقاء في خصوص ما تعلمه وعمل به والمیت یجوز في كل ما التزم به حتی ولو لم یتعلمه وهذه المسألة تتوقف علی مسألة معنی التقلید أو بالعكس كأن یفتي الحي بالتوسعة والمیت بالضیق فالتزموا بجواز البقاء في خصوص ما لم یفت الحي بعدم جواز البقاء في السعة أما لو احتاط في السعة فیفتون بجوازه. كما لو أفتی الحي بالضیق - كأن أفتی بخصوص ما تعلمه وعمل به وأفتی بعدم جوازه في السعة - وأفتی المیت بالسعة - كأن أفتی بما تعلمه أو التزم به وإن لم یعمل - فإنه لا یجوز البقاء بفتوی الحي علی تقلید المیت مطلقا كما تقدم في الامر الاول لأن اكتساب الحجیة لفتوی المیت بواسطة حجیة فتوی الحي فهي تابعة لها فإذا منع أمتنعت أما لو كان الحي یری الضیق ولا فتوی له في غیره كأن یحتاط فلا مانع من تقلید المیت في تلك المنطقة الخارجة

ص: 371

عن تقلید الحي.

والحاصل: إذا كان الحي یضیق والمیت یوسع فإن كان للحي فتوی في عدم التوسیع فلا یمكن التوسع وإن لم یكن للحیفي التوسیع فتوی بل احتیاط فیجوز التوسیع بفتوی المیت، هكذا فصل (قدّس سرّه) .

ما یرد علی الأعلام في جمیع ما تقدم من الصور:

وملخص الاشكال في جمیع ما تقدم من الصور هو أن العمل بفتوی الحي في مسألة واحدة مع العمل بفتوی المیت بینهما تنافي اجمالا سواء توسعة وضیق أو تخییر وتعیین أو حرمة وجواز.

وحاصله أن تقلید المیت في هذه المسألة أو شمول فتاوی الحي لمسألة البقاء محل تأمل ؛ وذلك لأن هذه المسألة رجع فیها إلی الحي فكیف یرجع فیها إلی غیره؟! إذ بتقلیده ورجوعه للحي یكون عالما فهل یعني أنه یعدل عن تقلیده إلی غیره. والأعلام قالوا: إن هذا لیس عدولاً بل توالد الحكم مثل ترامي الأخبار والحجج كروایة الحجة عن الحجة.

وفیه:

أنه في مسألة البقاء قد قلد وثبتت الحجة فیها فكیف یعاود ویقلد غیره فیها؟! ومسألة البقاء في نفسها لیست متعددة الحیثیة حتی یصح ما ذكروه بل هي مسألة واحدة ذات حیثیة فاردة ، فإنه وإن كان تحصیلاً

ص: 372

للحاصل ولا أمنع منه في الحجج إلا أنه یلزم منه تقلیدان مختلفان في مسألة واحدة، وأما مسألة الطولیة في العناوین التي ذكرها السید الخوئي (قدّس سرّه) فإنه لا اعتبار بها وإنما الطولیة المعتبرة هي خصوص الطولیة في العناوین التكوینية وأما مسألة البقاء بما هي واحدة وفاردة فطرو عنوان فتوی الحي علیها أو المیت لا یغیر من واقعها شیء.

فمسألة البقاء تارة یقلد فیها الحي وطولا یقلد فیها المیت فالطولیة في الحجیة لا في موضوع الحجة وهو مسألة البقاء فإن مسالة البقاء لا طولیة فیها لعدم التعدد فیها بحسب الفتاوی بخلاف العناوین التكوینية فإنها موجبة لتعدد الموضوع فإن الصلاة بعنوان الاختیاریة مغایر للصلاة بعنوان الحرج ولدی لا مانع من الطولیة بینهما وأما مسالة البقاء فهي مسألة واحدة وفاردة وهي موضوع واحد تارة یعرض علیه عنوان فتوی الحي وأخری یعرض علیه عنوان فتوی المیت وهذان العنوانان لا یوجبان التعدد والطولیة. فتكون الحجتان طولیتین من جهة المحمول وهو حجیة مسألة البقاء لا من جهة الموضوع وهو نفس مسألة البقاء إذ هي واحدة لا تعدد فیها وعلیه فیتحقق التنافي والتناقض علی موضوع واحد وذلكلما تقدم في الاشكال الأول من أن التعارض والتنافي في الامارات لا یفرق فیه بین الطولیة والعرضیة إذ هو باعتبارالواقع المنكشف واحد لا تعدد فیه وتعدد الكاشفیة والحجیة لا توجب تعدد

ص: 373

المنكشف - حتی یرفع التنافي بتعدد الموضوع - لأن عنوان الحجیة لیس من العناوین التكوینية مثل الضرر والحرج حتی یتعدد معه الموضوع.

فالتشبث بالطولیة مدفوع فیبقی السؤال عما لو قلد من تعین تقلیده في مسألة هل یصح الرجوع إلی غیره المخالف له في تلك المسألة؟ فلا رافع للاشكال لأن تقلیده للثاني رفع لتقلید الأول فیكون من العدول غیر الجائز وهذا في جمیع الفروع ، أما لو قلد الحي في البقاء وقلد المیت - بواسطة تقلید الحي - في الطهارة لم یكن رفعا لیده عن التقلید الأول؛ وذلك لتعدد موضوع المسالتين وهذا غیر ما نحن بصدده، هذا كله في المسائل الخلافیة وأما في الوفاقیة فلا مانع كما تقدم في تقلید المتوافقین في الفتوی، وأما علی مبنی المتقدمین من كون للحجیة والحكم الظاهري نوع تقرر وثبوت فسیأتي تفصیله في بحث تبدل التقلید.

ص: 374

(مسألة 16) : عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقا للواقع. وأما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حین العمل وحصل منه قصد القربة، فإن كان مطابقا لفتوی المجتهد الذي قلده بعد ذلك كان صحیحا، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوی المجتهد الذي كان یجب علیه تقلیده حین العمل(1)...........................

المسألة السادسة عشر: بطلان عمل العامي بدون تقلید

اشارة

(1) فإن عمل المكلف بدون تقلید باطل إذا كان ملتفتا ومقصرا وأما الغافل الذي تحقق منه قصد القربة مع مطابقة عمله لفتوی من یجب الرجوع إلیه حین الرجوع لا حین العمل فصحیح.

والوجه فیه: أن المكلف غیر المبالي لعمله والذي لم یقلد وبعد ذلك أراد الرجوع والاكتفاء بعمله السابق، فهل المعتبر هو مطابقة عمله لفتوی المجتهد المعاصر لعمله أو مطابقته لفتوی المجتهد الذي یجب الرجوع إلیه حین الرجوع؟

وقد ذهب السید الماتن (قدّس سرّه) إلی اعتبار مطابقة عمله حین الرجوع إلا أن الاحوط مطابقة الاثنین لا الثاني فقط.

أما الملتفت غیر القاصر فأعماله باطلة وإن كانت مطابقة للمجتهد الأول والثاني إن تعددا. وأما بطلان عمل الجاهل المقصر فخاص بالعبادات دون التوصليات إذ لا یمكن للماتن(قدّس سرّه) أن یقول به وذلك لكفایة المطابقة في التوصلي.

ص: 375

وقد أستدل بادلة متعددة لحكم الماتن ببطلان العمل بغیر تقلید:

الدلیل الأول: عدم تأتي قصد القربة وما فیه:

عدم تأتي قصد القربة من الملتفت وقد أجیب بأن كثیرا من المقصرین یأتي منه قصد القربة كأن یأتي بالعمل رجاءا.

الدلیل الثاني: عدم الجزم بالنیة وما فیه:

فإن المقصر الملتفت لیس عنده جزم بالنیة والجزم في العبادات شرط لصحتها، ومعنی الجزم بالنیة هو الاتیان بالعمل منبعث عن الأمر المقطوع بخلاف الاتیان بالفعل مع الجهل والشك بالأمر نعم مع عدم التمكن من الامر الجزمی لا تشترط الجزم بالنیة.

وقد أجیب عنه بعدم الدلیل علی اعتبار الجزم بالنیة، إلا أن بعض المعلقین علی العروة قال: إذا كانت مع التفاته فیمنع ذلك لأنه یلزم منه التجري المعتد به وهو القبح الفاعلي فلا تتحقق منه العبادة لاشتراط العقل الحسن الفعلي والفاعلي في العبادة فهو مانع من العبادة عقلاً ولو لم نقل بحرمة التجري. إلا أن الاستدلال بالتجري أخص من المدعي إذ لا ملازمة بین الجهل التقصیري والتجري والتمرد لأمكان أن یأتي الجاهل القاصر الملتفت بالفعل انقیاداً ولو بهذا الفرد المشكوك.

والصحیح أن یستدل لما ذهب إلیه الماتن بما تقدم في الاحتیاط فی

ص: 376

صورة التمكن من الاجتهاد أو التقلید، ببیان : أنه یمكن أن یستدل بدلیل العقل من حیث إن العقل یعتبر أن المكلف یكون مقبلاً علی أمر المولی بتعلمه ومعرفته ماثلاً أما العبد الذي یصد عن الاقبال علی تعلم أمر مولاه وینحرف عن الامتثال والانطلاق عن شخص أمره إلی الامتثال بالكیفیة الاحتیاطیة فإن العقل یعتبره نوع من الادبار عن الانقیاد لإرادة المولی والقطیعة والجفاء وذلك لأن أمتثال الانسان - غیر القادر عن تحصیل العلم بالامر - عین الطوعانیة وأما مع تمكنه من الانبعاث من شخص أمر مولاه فترك التعلم وعدم الاقبال علی أمره مع تمكنه من تعلمه فهو إحجام وابتعاد واعراض عن مولاه فیكون عمله ممزوجاً بممانعته للاقبال التام، بخلاف التعلم منه ولو كان العلم تعبدیاً فهو نوع من المثول والحضور والقرب بخلاف الجهل فإنه ابتعاد وعدم حضور في مقام المثول عند المولی وهذا الذي أوجب ذهابنا إلی منع الاحتیاط الأصلي دون الاحتیاط الراجع إلی الاجتهاد والتقلید، وعلیه یكون عمل العامل الجاهل المقصر الملتفت غیر صحیح، ولعله لهذه النكتة ذهب المیرزا النائیني (قدّس سرّه) إلی المنع عن الاحتیاط إلا أنه لم یبلور المنع بهذه البلورة.

وقد توهم جماعة بأن العلم أجنبي عن المطلوب لأنه مجرد كاشف وهو غیر صحیح لأنه وإن كان من خواص العلم الكشف إلا أنه من خواصه أیضاًالقرب والحضور والمثول في ساحة المولی.

ص: 377

فالجاهل الملتفت المقصر لا یتأتی منه قصد القربة لأنه ممزوج بالاعراض عن ساحته والمثول بین یدیه ولیس معنی هذا هو عدم تحقق صورة النیة عنده بل هي موجودة إلا أن صدق التقرب عقلاً علی هذه النیة شئ آخر.

هذا بالنسبة للجاهل الملتفت المقصر وهو الجاهل جهلاً بسیطا،

وأما الجاهل جهلاً مركب:

فإن تحقق منه قصد القربة فهو إذ لا مانع من تحقق قصد القربة منهوهذا لا كلام فیه وإنما الكلام في أن المدار في صحة عمله هل هو علی مطابقته لمن یجب الرجوع إلیه حین العمل أو من یجب الرجوع إلیه فعلاً فقد ذهب الماتن (قدّس سرّه) إلی الثاني واحتاط بمطابقته أیضا لمن یجب الرجوع إلیه حین العمل.

الأمارة مكشوفها مطلق وكاشف موقت وآثاره:

جملة من المحشین في المقام علی حسب المبنی من أن الفتاوی أمارات وطرق محضة فالمدار علی المطابقة للواقع والمفروض أن الواقع انكشف له بالتقلید الثاني بنحو یغایر عمله الذي أتی به وإن كان هذا المعنی مطابقا لفتوی من یجب الرجوع إلیه حین العمل.

وذلك لأن فتوی الفقیه تكشف الواقع بما هو هو أي تكشف عن

ص: 378

الواقع بنحو كلي ولا یحدده بزمان فلما كان المجتهد الثاني یفتي في باب الصلاة بأن القٍران في السورة مبطل للسورة أو واجبات الركوع أركان والأول لا یفتی بركنیتها فلو تركها سهوا بطلت وإن لم تبطل عند الأول فإن هذه الفتوی بنحو كلي وبلا حد زماني فإن مفادها أن الحكم بالبطلان هو من أول الشریعة إلی یومنا هذا فما یستكشفه الفقیه لیس مقیداً بزمن وعمر الامارة فإن هذا الحكم المستكشف عمره بعمر اللوح المحفوظ.

فالاحكام المستكشفة باخبار الفقیه عمرها بعمر اللوح المحفوظ فالمكشوف بالامارات لیس عمره بعمر الامارة وإنما عمره بعمر الواقع هذا مبنی أعلام متأخري العصر في الامارات.

ولهذا تكون العبرة بالصحة والفساد بالامارة المتأخرة وعدم الاعتناء بالمتقدمة التي قامت أمارة أخری علی خلافها وهذا مخالف لما علیه مشهور المتقدمین فإنهم یفتون بصحة أعماله الموافقة للأمارة المتقدمة وحكمهم بالصحة لمطابقة عمله فتوی مقلده حین العمل سواء في التوصليات أو العباديات نعم یشترط في صحة أعماله اللاحقة - التي یرید أن یعمل بها - مطابقتها لفتوی المجتهد المتأخر وهو من یجب الرجوع إلیه فعلاً .

والنكتة عندهم بعد تسلیم كلیة الحكم بنحو أزماني إلا أن أماریته

ص: 379

لیست بسعة الحكم بل هي بسعة ظرفها فظرف وعمر الامارة غیر ظرف وعمر الحكم فصحیح أن الامارة تكشف عن الواقع الذي عمره غیر مقید بعمر الامارة إلا أن الكلام هل لهذه الامارة قوة كشف واعتبار تزید علی عمر نفسها فالحكم المكشوف وإن كان عمره بعمر اللوح المحفوظ إلا أنه یمنع كون اعتبار كشفها وحجیة كشفها یتجاوز عمرها.

ففرق بین عمر الحكم الفقهي وبین عمر الحكم الأصولي فعمر اعتبار وحجیة الامارة من حین اثبات حجیتها فاعتبار الامارة في خصوص هذا الظرف محدود بهذا الظرف ولا یسري إلی غیره من الظروف السابقة فالحكم المكشوف بالامارة ثابت من الأزل إلا أن اعتبار الامارة والكاشف عنه هو في زمن مخصوص.

فالمشهور یقر بأن الامارة ناظرة للحكم الواقعي إلا أن الامارة فیها جنبتان لا جنبة واحدة الأولی الحكم الواقعي المنكشف بها والثانية نفس اعتبار الامارة ولیس لهذا الاعتبار سعة بسعة الواقع الوسیع بل هو مضیق ومقصور بظرفه فلا یرتب علیه آثار أوسع منه وخارجة عن دائرته.

وما یذهب إلیه المشهور من صحة العمل الموافق للحجة في ظرف العمل والمخالفة للحجة الفعلیة هذا فیما إذا كان العمل السابق مستندا إلی الاجتهاد أو التقلید وإلا فالمعتبر هو قول المجتهد الفعلي؛ لأنه لیس من تبدل الحجة بالحجة بل من موارد وجود الحجة في موردٍ خالٍ عنها.

ص: 380

(مسألة 17) : المراد من الأعلم من یكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة ، وأكثر إطلاعا لنظائرها وللأخبار ، وأجود فهما للأخبار ، والحاصل أن یكون أجود استنباطا(1).

ویبقی أمر آخر وهو أنه ثبت في باب الحج وباب الصلاة - وإن لم نحققه بشكل تدقیقي في بقیة الابواب بل تعرضنا له بشكل تعلیقي - : جریان قاعدة لا تعاد بأنه حقق في أدلة كلا البابین باثبات الأركان وتمییزها عن غیرها من الواجبات ففي الصلاة إذا لم یكن الخلل في الاركان صحت الصلاة بلا تعاد وكذا الحج فإنه ورد عندنا بعض الادلة تبین نفس النكتة الموجبة لجریان لا تعاد في الصلاة من أن الحج هو المشعر وغیرها من الاخبار المثبت لوجود أركان وغیرها فإذا لم یقع الخلل فیها فالحج صحیح، واستثنوا من ذلك الجاهل الملتفت المقصر وهو الشاك لعدم شمول لا تعاد له لأنه بحكم العمد لأن المقصر الملتفت عند العرف شبیه بالعامد بخلاف الجاهل المركب، ولعل في الصوم وغیره من العبادات تقرر هذه النكتة والضابطة أیضاً.

المسألة السابعة عشر: تعریف الأعلم

اشارة

(1) ذكر للأعلم عدة تعاریف، وأُخذت حیثیات متعددة:

الأعلمیة ومراحل الاستنباط :

الحیثیة الأولی :أنه الأعرف بالقواعد والكبرویات

الحیثیة الثانية: أنه الأعرف بالمدارك أي الأدلة التفصیلية للمسألة

ص: 381

الحیثیة الثالثة: أن یكون الأكثر إحاطة بالأبواب لمعرفة النظائر:

فالاحاطة بالأبواب الفقهية تؤثر - لا ما ذكره بعض الأعلام(قدّس سرّه)من كونها أجنبیة عن الاستنباط - وذلك لأن الأحاطة بالأبواب توجب تسلط الفقیه علی عناصر تحلیلیة فقهیة مشتركة دخیلة في استنباط مسألة في باب آخر فإن معرفة النظائر توقف الباحث علی خصوصیات القواعد وموانع جریانها. وكونالفقیه أعرف بالمدارك الدخیلة في استنباط مسألة خاصة فإنما یحصل له بكثرة تتبعه للأقوال في هذه المسألة أو بموارد عنونة المسألة في الأبواب المختلفة.

وأما قول بعض الأعلام - بأنه أي أثر لمعرفته بوجود المسألة في أكثر من باب فهو من قبیل العارف بالاستفتاءات والجاهل بالأدلة فإنه أجنبي عن الاجتهاد والاستنباط - فتام علی تقدیر إلا أنه لیس كل معرفة بالأبواب من قبیل حفظ الاستفتاءات بل إن الاحاطة بالمسألة في أبواب مختلفة بمداركها وأدلتها التفصیلية له تأثیر كبیر في الاستنباط والوقوف علی خصوصیاتها لا یقف علیها غیر العارف بموارد تلك المسألة في الأبواب المختلفة.

الحیثیة الرابعة: كونه أكثر أطلاعا علی الاخبارلأمور:

اشارة

وأضاف الماتن قیدا آخر حاصله أن یكون أكثر اطلاعا علی الأخبار ولا یكفي مراجعة باب تلك المسألة فقط وذلك لأمور:

ص: 382

الأمر الأول: الاجتهاد في التبویب

وذلك لأن المدونین للاخبار یدونونها باجتهادهم فالمتابعة لهم في هذا التبویب والاقتصار علیه تقلید محض فكثیر من الأخبار تذكر في باب مع أن لها من الدلالة علی حیثیات أخری في مسائل أخری من أبواب أخری ولها دخالة في تلك الابواب بشكل مؤثر. فالاستقصاء والتتبع مؤثر في عملیة الاستنباط.

وقد وجدنا كثیراً من المتأخرین تنظروا في بعض المسائل التي ذكرها المتقدمون بسبب عدم وجود نص علیها مع جودها في أبواب متفرقة وأیضا اختلاف الاسانید فإن بعض الروایات واردة بأكثر من سند منها الصحیح والسقیم فیغفل بعض أصحاب الحدیث عن الصحیحة ویدوّن السقیمة في الباب المختص.

الأمر الثاني: التقطیع

وایضا عملیة التقطیع في الاخبار من أصحاب الحدیث وهو كثیر عند الكليني(قدّس سرّه) والصدوق(قدّس سرّه) بحسب نظرهم بحیث یرون أن الصدر لا ربط له بالذيل فیجعل الصدر في مورد والذيل في مورد آخر بحسب ما یراه وما هذا إلا اجتهاد منه وإلا فالظهور غالبا یتأثر بتمام الربط بین الصدر والذيل وهذا مما یؤثر في علمیة الاستنباط بشكل واضح.

ص: 383

فمثلاً الایهام في الروایات الدالة علی طهارة أهل الكتاب بسبب التقطیع وإلا فعند مراجعة الباحث أو المتتبع بقیة قطعهایجدها بصدد شیء آخر وهي تدل علی المفروغیة من نجاستهم.

وكذا دلالة الروایات علی عدم انفعال الماء القلیل مع وجود الاخبار الكثیرة بالانفعال فإنه بسبب تقطیع الاخبار.

فلابد من متابعة مورد الاخبار ومناسبات ذكرها... فمثلا إذا لاقي الممسوخ ماءا قلیلاُ فلا بد من مراجعة هذا الخبر في المیاه وفي بحث الاطعمة لما فیه من المناسبتین.

الأمر الثالث: الاختصار في نقل الاخبار:

فإن بعض الرواة یروي لتلامذته تارة بشكل مختصر ولآخر بمتن مطول وبعض أصحاب الكتب یرویها في باب مختصر وفي آخر بشكل مطول ومفصل بطریق آخر عن ذلك الرواي. فمراجعة الأبواب والاحاطة مهمة جداً، فمثلا الأعلام في أصالة الطهارة لدیهم بحث طویل في عموم قاعدة الطهارة هل تجري في الشبهات الحكمة أم لا؟ومثل الممسوخ نجس أم لا؟

فهل هي نظیر البراءة تجري في الشبهة الحكمة والموضوعية وإذا جرت في الشبهة الحكمیة فهي علی أقسام كثیرة ككون الشك في الطهارة الذاتیة أو في العرضیة ومن أقسامها : الشك في الطهارة فی

ص: 384

الشبهة الصدقیة الحكمیة أوالشبهة الحكمیة المفهومیة.

فقد وقع البحث بینهم بینما الروایة موجودة في التهذیب مطولة ومفصلة ومستوعبة بتنصیصها علی جمیع الفروع وهي صفحة ونصف فیها كل الشقوق من المعصوم (علیه السلام) ، بخلاف ما نقله الصدوق (قدّس سرّه) في الفقیه فقد نقلها مقطّعة وهي موثقة عمار الساباطي ورواها الكليني (قدّس سرّه) مقطعة أیضا.

فالتتبع في اخبار الأبواب له من الفوائد الكثیرة التي لها أثر كبیر في الاستنباط، والنظر إلی تتبع الأخبار في أول وهلة أمر سهل لا صعوبة فیه إلا أن له من الآثار الجلیلة في الاستنباط والدرجة الكبیرة فكثیر مما خالف فیه المتأخرون المتقدمین بعدم وجود نص فإنه یوجد النص الذي لم یلتفت إلیه المتأخرون وأحد الأمور التي ساهم فیها صاحب الحدائق (قدّس سرّه) أنه استطاع أن یرشد إلی أخبار عدیدة في كثیر من المسائل الفقهية التي تناستها الكتب الفقهية قبل صاحب الحدائق (قدّس سرّه) بقرن وقرنین، والسبب في اختلاف المتأخرین عن المتقدمین هو الغفلة عن النصوص لما مرت به عملیة الاستنباط من مراحل في حقبتها التاریخیة حیث إن الظاهرة التاریخیة لدی بدایات الامامیة في الكتب الفقیهة أنها لم تكن بكتب فقیهة بل كانت متونا روائیة وبعد ذلك تحولت إلی متون فتوائیة مجردة عن الاستدلال وبعد ذلك - وهي طبقة العلامة- طعّمت

ص: 385

الاستدلال إلا أنها غیر مستوعبة لكل الأبواب ولكل المسائل وبعد الشهیدین تمسكوا بالانسداد فاعتمدوا الاجماع والشهرة فلم یعتن بتحصیل الاخبار ذلك الاعتناء وقد سبب هذا اختلاف المتأخرین عن المتقدمین حتی جاء أمثال صاحب الحدائق (قدّس سرّه) وأشار إلی تلك الاخبار فعلی أي تقدیر فالتتبع في الاخبار أمر مهم جداً.

الحیثیة الخامسة: أن یكون الأجود فهما للأخبار:

وهذه الحیثیة مهمة ویكون ذلك بدقته واحاطته بكتب شروح متون الاخبار؛ وذلك لأن تحصیل الظهورات والمواد الأولیة لبیان مفاد الحدیث أمر مهم وتحصیل المعاني اللغویة بلفظ الحدیث أو بملاحظة استعمال نفس الالفاظ في أخبار أخر فإنه یؤثر في تحدید هویة المعنی وبالتالي یؤثر في كثیر من النتائج الاستنباطیة.

الحیثیة السادسة: مطالسة الاخبار بالتمعن وسبر جمیع روایات باب المسألة:

فإنه مما یجعل للباحث أنسا بذلك الباب بحیث یعرف لحن تعریض الشارع وما یدور حول المسألة ویوقفه علی قرائن مؤثرة في نتیجة الاستدلال ویوقفه علی أمور دقیقة بالمقارنة بین متون الاخبار.

الحیثیة السابعة: أن یكون ملما بفتاوی الأعلام حدیثا وقدیما:

ص: 386

ومن الامور التي تؤثر في فهم الاخبار هو الالمام بفتاوی الأعلام قدیما وحدیثا ولیس المراد بالجمع التراكمي العشوائي التزیني لبحث المسألة الذي لا نفع فیه بل یظهر نفعه إذا ضم إلیه التحلیل والتدقیق في كل فتوی بحیث تقرأ كل فتوی علی أنها نحو استظهار للأخبار وبالامعان والتدقیق لكیفیة استفادة تلك الفتاوی من الاخبار وعلیه فتعود معرفة الأقوال والفتاوی إلی استظهارات متعددة من الاخبار هي بمنزلة الشروح لتلك الاخبار.

فالاقوال والفتاوی بحسب العصور المختلفة یلاحظ فیها كیفیة انتزاعها واستظهارها من الاخبار، وأیضا أن كل قول هو عبارة عن حصیلة جمع دلالی بین الاخبار المتعددة وهي في الوهلة الأولی تبدوا متنافیة فإذا نظر إلی تلك القیود التي في الفتاوی وخصوصیاتها التي بها تختلف عن الفتاوی الأخری فستكون الاقوال وجوها أحتمالیة متعددة لقراءة الخبر وهذا ما یزید في فهم المجتهد في عملیة الاستنباط.

فإنه إذا أعمل هذه المهارة والممارسة یتوفر للفقیه وجوها عدیدة في فهم الاخبار ، وشدد العلامة (قدّس سرّه) في وصیته لفخر المحققین (قدّس سرّه) علی عدم حسم الاستنباط في مسألة من المسائل من دون مراجعة أقوال من تقدمه لانه قدیبني علی استدلال وقد فنّده ونفاه غیره، وقد یتوصل المتقدمون والآخرون إلی دلیل ودلائل لا یلتفت إلیها الشخص الواحد

ص: 387

بنفسه فهذا أمر مهم فلابد من الالتفات إلی نكات أقول المتقدمین.

الحیثیة الثامنة: أن یكون متضلعا في فهم الفرض الفقهي تصورا:

التضلع في فهم ومعرفة نفس الفرض الفقهي وهي مرحلة تصوریة لأصل الفرض الفقهي... ویحصل هذا التضلع من سبر كلمات المتقدمین في تصویر فرض المسألة فكثیر ممن یمارس الاستنباط ینساب عفویا في الوهلة الأولی ویظن أن الفرض الفقهي بهیكلة خاصة والحال أن حقیقته شیء آخر مغایر تماما لحیثیات الفرض المنساب إلیه، فالبحث عن حیثیات وفروع المسألة وغیرها یعطي الباحث حصانة ورصانة في الاستنباط حیث یحدد علی الأقل مورد النص من الروایة أو الآیة مثلاً، فالتسرع یفقد الباحث تركیزه في الفهم، وهذا لیس في خصوص البحث الفقهي بل عام لجمیع العلوم، ومن هذا قولهم: "اعرف ماترید كي تحصل علی ما ترید" ولا یخفی تأثیر هذا في الاستنباط إلا أن الاستنباط لیس محصورا فیه.

ثم قال الماتن (قدّس سرّه) : (والحاصل أن یكون أجود استنباطاً) فقد جعل هذه الحیثیة هي حصیلة الحیثیات السابقة، والبعض ذهب إلی أن هذه حیثیة أخری مستقلة عن الحیثیات السابقة وهذا تام صحیح وقد ذكر السید الخوئي (قدّس سرّه) : أنه الأجود في تطبیق الكبریات علی الصغریات؛ إذ ربما یكون الفقیه فحلا في أصل تنظیر الكبری الأصولية أو الفقهية إلا أنه

ص: 388

یكون ممجوج الذوق والفطنة في ارجاع الصغریات علی الكبریات فلا یكون نبیهاً في معرفة موارد الكبریات كملاحظة خصوصیات بعضها دون بعض فیقدم كبری حقها التأخیر ویؤخر كبری حقها التقدیم.

فتری كثیراً من الأعلام لیس له تشیید لكبرویات أصولية وفقهیة بل یقرر ما قرّره غیره ولكنه له باع ودربة ومهارة ونباهة في مقام التطبیق واندراج الصغری تحت أكثر من كبری وتقدم وتأخر الكبرویات في التطبیق علیها یفوق غیره بكثیر فالقوة في نفس تنظیر الكبرویات شیء والتطبیق شیء آخر. وعلی هذا الأخیر یكون الأجود استنباطاً هو الأعلم إلا أن مختارنا - كما یأتي - في الاعلم هو من توفرت فیه جمیع الحیثیات المتقدمة والآتیة.

الحیثیة التاسعة: أن یكون الأجود في صیاغة وقولبة وحبك النتائج الفقهية:

فضبط النتائج بصیاغتها التدوینیة بعد مهارة تطبیق الكبرویات یحتاج إلی مهارة وخبرة ونباهة أكثر فأكثر فتراه فحلا في الاستنباط وهو غیر ضبط في تحریر النتائج بحدودها ورسم عنوان یوصل إلی متن النتیجة التي توصل إلیها فیكون العنوان المصاغ للنتیجة یحدد ذات النتیجة التي توصل إلیها بحیث لا تتخالف هذه النتیجة - من جهة ضبط صیاغتها - مع بقیة المسائل التي حررها فضبط النتائج یحتاج إلی قدرة

ص: 389

ونباهة خاصة بملاحظة جمیع ما یتعلق بهذه المسألة بشكل مباشر وغیر مباشر حتی لا یحصل التنافي بین صیاغة نتائج الاستنباط في جمیع رسالته العملية، فانظر إلی صاحب الشرائع (قدّس سرّه) فإنه جزل في صیاغة الفتاویوإذا صاغها یحدد ما توصل إلیه من نتائج بحدودها حتی لا یدخل فیها فروع مغایرة لنفس المسألة ولا تشتبه نفس المسألة بغیرها بل في التعلیق علی المتون الفقهية یحتاج الفقیه إلی مرحلة من المراحل العلمية إلا أنه لا یبلغ قدرة وقوة مرتبة صیاغة النتائج والمتون الفقهية المستقلة. فصیاغة القانون غیر التقنین نفسه وغیر المنظّر للمدارسة القانونیة، فإن المنظّر یستطیع أن یقنن إلا إنه لیس من الضروري باستطاعته أن یصیغ مدرسته القانونیة بصیاغة تامة الحدود، فهو یستعین بأهل القانونیة، وهذه الحیثیة أیضاً مما لها دخل في الترجیح والأعلمیة.

الحیثیة العاشرة: قوة الاستنباط وهي تارة موضوعية وأخری ذاتیة:

فالأولی: كأن یكون هو الاقوی استنباطا من جهة النتیجة بنحو القطع والیقین، وذلك لأنه قد یوجد من یستنتج بنحو القطع والیقین وفي قباله من یسنتنج بنحو الظن المعتبر.

ولم یرتض بعض الأعلام هذه الحیثیة فقال بعدم دخل هذه الحیثیة

ص: 390

في الاعلمیة؛ لأن القاطع والظان قد وصلا إلی النتیجة بطریق صحیح وإن كان أحد الطریقين أقوی من الطریق الآخر فلا فرق بینهما في الأعلمیة.

والصحیح تأثیر هذه الحیثیة في قوة الاستنباط وضعفه في الاعلمیة وذلك لأن المراد بقوة الاستنباط وضعفه تارة من منشأ واحد یحصل لأحدهما جزم والآخر ظن معتبر فهذه حالة نفسية لكون أحدهما جزاماً وقاطعاً بخلاف الآخر أو العكس قد یكون الآخر لیس عنده قوة في التنقیح فلا یحصل لدیه الجزم، وتارة یكون منشأ القطع والجزم هو كثرة الأدلة المتعددة التي توصله إلی القطع بالنتیجة بخلاف من عنده منشأ واحد فلم یحصل له إلا الظن المعتبر. فإنه یوجد فرق وجدانا فإن من یستند علی عشرة أخبار یختلف عمن یستند علی خبر واحد ، وتارة لكون الدلالة هي منشأ القوة كما لو كان أحدهما حلل مفاد الروایات حتی إلتفت إلی عدة نكات أوصلته إلی صراحة ونصیة الخبر ، والآخر حلل الدلالة بدرجة الظهور والظن فلم یصل إلی حد النصیة والصراحة فالثاني لو أبتلی بظهور آخر معارض لما استظهر بخلاف من وصل إلی صراحة الدلیل فإن الظني لا یرقی إلی معارضته فهذه الحیثیة مؤثرة حقیقة في الأعلمیة فإذا كانت قوة الاستنباط وضعفه من مناشئ موضوعية معتبرة كانتالمقدرة علی الوصول إلی القطع من الأدلة بحسب الموازین مما تدل علی أن صاحبها هو الأكفأ من غیره ، فمثلاً : لو كان

ص: 391

فقیهان عند أحدهما عشرة أخبار ولم یصل بها إلا إلی درجة الظن والآخر عنده خبر واحد ، واستطاع بحسب الموازین أن یصل به إلی القطع فهو أقوی استنباطاً من الأول.

والثانية: كأن یكون معتدلا في نفس الاستنباط وهذه الحیثیة من مناشئ قوة الاستنباط وضعفه فالاعتدال في نفس الاستنباط حیثیة معتبرة في قوته فمثلا لو كان أحدهما غیر معتدل في الوصول للنتیجة والآخر معتدل كأن یكون أحدهما سریع بلا موازین والآخر بطیء بحسب الموازین فإن السرعة والبطئ إذا كانتا من مناشئ غیر موضوعية فهي ضعف، وإذا كانتا من مناشئ موضوعية فقوة، وأیضا إذا كانت تابعة لنفس صفة الاستنباط ككون البطئ اعتدال في الاستنباط فقوة وعدم الاعتدال فضعف.

والحاصل: أن قوة الاستنباط إن رجعت إلی صفة موضوعية فهي تؤثر في الأعملیة وإن رجعت إلی صفة ذاتیة بمعنی الاعتدال وعدم الاعتدال فهي أیضا مؤثرة.

الحیثیتان الحادیة عشر والثانية عشر: وهما قوة الصناعة الأصولية وقوة الصناعة الفقهية والفرق بینهما:

والفرق بین الصناعتین: أن الصناعیة الأصولية هي كونه لبقاً وحاذقاً

ص: 392

ودقیقاً في تشخیص الكبرویات الأصولية واستعمالها والتناسب بینها والمقصود من التناسب هو الارتباط والترتیب فیما بین القواعد والعلاقة بین كل قاعدة أصولية وبین الأخری من حیث تقدم البعض وتأخر البعض الآخر والحكومة والورود والظاهر والواقع فهذه المعرفة - أي معرفة خصائص القواعد بقیودها وكیفیة تطبیقها ومعرفة منظومة المناسبات بین القواعد الأصولية فیما بینها - یطلق علیه صناعة أصولية.

وأما الصناعة الفقهية فهي ترتبط بالقواعد الفقهية في الأبواب العدیدة ومعنی القاعدة والوجوه المذكورة فیها وكیفیة تطبیقها والتناسب فیما بینها والاحاطة بكل القواعد الفقهيه ومعرفة سعة بعضها لجمیع الأبواب أو اختصاصها بعضها فإن هذا كله مؤثر في الصناعیة الفقهية، ولا یخفی تفاضل الفقهاء في هاتین الصناعتین أو تمیز بعضهم بأحدی الصناعتین دون الأخری.

الحیثیة الثالثة عشر: أن یكون ذا ذوق عرفي:

وهو مؤثر في تحدید الفرض الفقهي والمسألة الفقهية فالذوق هو الوصول إلی الشیء ادراكا من دون اعمال الفكر بحیث یصل إلی مرام العرف ویتحقق الذوق بواسطة التعایش مع العرف بدرجة یعرف مراداتهم ومقاصدهم وما یبنون من آثار مثل التفرقة عندهم بین الزفاف وبین عقد النكاح وذلك لأن الخصوصیات الموضوعية التي یتغیر الحكم

ص: 393

لتغییرها موضوع الحكم ولا یلتفت ویفطن إلیها إلا صاحب النباهة والفطانة بما علیه العرف من واقع سواء عرف عام أو خاص أو خصوصیات فهو یرجع إلی تشخیص صغریات الحكم الفقهي بل وقد یرتبط الذوق العرفي بتشخیص أصل الكبرویات كما هو في تحدید معقد السیرة العقلائیة بإنها تنجیز أوتعذیر أو سیرة احتیاطیة أو غیرها. ولهذا یحكی عن بعض الفقهاء أنهم یتتبعون أخبار وأحوال زمانهم كما عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال :

«یا مفضل... والعالم بزمانه لا تهجم علیه اللوابس» (1) ،إذ له تأثیر كبیر في تحدید الصغری ومن ذلك ما ذكرناه من مصادرة وزارة الاوقاف لمسجد الشیخ الكليني(رحمه اللّه) فقد استفتی السید أبو الحسن الأصفهاني(قدّس سرّه) عن بیع فرش المسجد إذا كان قدیماً فأجاب بعدم الجواز،ثم استفتی مجتهد آخر معاصر له فأجاز وفي الیوم التالي صادروا المسجد وغیروا اسم الشیخ الكليني ونسبوا قبره إلی آخر ، فالغایة التي وراء السؤال عن بیع الفرش وتمییز أن المقصود هو غیر السؤال یحتاج إلی فراسة وذوق عرفي یتعرف به علی طبیعة السائلین ومن ذلك ما ینقل عنه (قدّس سرّه) أنه استُفتي من قبل أهل اصفهان في بیع وقف علی مدرسة فأجاب إذا كان البائع

ص: 394


1- الكافي : ج 1 ص 26 - 27 ح 29 .

مجتهدا فیحمل فعله علی الصحة وإذا كان عامیا فلا، وكان هؤلاء السائلون یریدون اسقاط بعض المجتهدین في اصفهان.

الحیثیة الرابعة عشر: الاحاطة بالعلوم والبحوث التخصصیة والمیدانیة المرتبطة بالموضوعات:

وهي تصب في الذوق العرفي في الموضوعات وهي الاطلاع الموضوعي بتوسط العلوم التخصصیة في الموضوعات فهذه لا تؤثر فقط في الجزئیات والتطبیقات بل یؤثر في استنباط الكليات. مثل المسائل المتعلقة بعلم الفلك فیرجع في تحدید الموضوع إلی الرأي الرسمي وهو رأي النخبة من أهل ذلك العلم ومثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ما یتعلق بموضوعه هو علم الاجتماع فمن عنده فلسفة علم الاجتماع ویلم بعلم النفس الاجتماعي یكون أكثر تبحراً بباب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن بیئته بیئة اجتماعیة فإذا رأي الفقیه ظاهرة معینة من المنكر فالمفروض اختیار الالیة المثلي في رفع وقلع المنكر وهذه لا تتم إلا بالاطلاع علی العلوم التخصصیة في تحدید الموضوعات فهذه الحیثیة مهمة جداً.

وبالجملة فالاطلاع علی موضوعات الابواب بمصادرها التخصصیة والمیدانیة مؤثر، وهو شبیه بالذوق العرفي، غایة الأمر أن هذه بحوث تفصیلية تخصیصة علمیة ، وأما الذوق العرفي فهو آلیات اجمالية فی

ص: 395

بیئات الممارسة العرفیة.

الحیثیة الخامسة عشر: أن یكون ذا عارضة فقهیة:

ولا یقال أن العارضة الفقهية تندرج تحت عنوان الأكثر اطلاعا في أخبار المسألة ونظائرها إلا أنه یوجد فرق دقیق بینهما فالعارضة تحصل - لدی الفقیه من ممارسته للاستنباط في الأبواب الفقهية - اتقان اجمالي وموزون ومرتب وهي غیر جودة الاستنباط وحسن السلیقة فالمراس الفقهي یولد له خبرة ویولد لدیه تلقائیاً انتظام وسداد في استعمال القواعد الفقهية وقد تبیّن هذه الخاصیة بالعلم بالملازمات بین قواعد الأبواب الفقهية وارتباطها والتلازم بینها .

وبسبب العارضة الفقهية یتنبه إلی لوازم المسألة واسبابها وتداعیاتها وحقیقة هذه العارضة هي كون صاحبها ذي عرض عریض في التجربة والممارسة الفقهية إلا أنها لیست الاستنباط النهائي بل هي عبارة عن مرحلة متوسطة من مراحل الاستنباط أو من المراحل الأولیة وهي مرحلة ترتبط بالالتفات إلی بدء هیكلة المسألة وتشقیقها وتحییثها إلی حیثیات. وارتباط المسألة بالابواب - بحیث یلتفت إلی الارتباط العضوي بینها وبین المسائل في أبواب متفرقة- واستكشاف لوازمها فمثلا ًكاشف الغطاء (قدّس سرّه) أشكل علی من بنی أن المعاطاة لیست بیعاً بثمانیة اشكالات

ص: 396

في أبواب مختلفة وذلك لعلمه بالارتباط العضوي بین هذا الفرع وتلك الفروع، وهذا كله بسبب العارضة الفقهية، وبعد ذلك تأتي مسألة التنظیم والاستنتاج وما شابه ذلك.

الحیثیة السادسة عشر: الاحاطة الفقهية:

وهي الالمام للموارد كالاحاطة بالاخبار والرجال وغیرها وهذا بخلاف العارضة الفقهية فإنها قوة علمیة تحلیلیة والاحاطة الفقهية لیس من الضروري أن تكون علمیة بل هي المام وارشیف للمواد وهي بمفردها لا تؤثر ألا أنها كرصید ینظم قوة التحلیل وتسدید السلیقة فتؤثر بل كل الحیثیات السابقة لا تؤثر بمفردها تأثیراً تاماً إلا إذا انضمت إلی غیرها من الحیثیات.

فالصحیح عندنا أن الأعلمیة لیست حیثیة واحدة تنفرد فقط وفقطبل هي مجموع هذه الحیثیات الستة عشر أو أزید منها.

ویختلف تأثیر هذه الحیثیات باختلاف الأبواب ففي بعضها تكون بعض الحیثیات أكثر تأثیرا مثل الصناعة الفقهية مؤثرة جدا في باب كبرویات المعاملات والذوق الفقهي مؤثر في الاستفتاءات الجزئیة وهكذا. فعلی هذا یكون الأعلم مكسرا - أي بلحاظ الكسر والانكسار - من درجات جملة الحیثیات فهو كالمعدل النهائي للطالب المدرسي أو الجامعي فإن مستواه یحصل بالنظر إلی جمیع الأبواب وبالنظر إلی طبیعة المسائل واختلافها من باب إلی باب أو اختلاف مراحل الاستنباط

ص: 397

لمسألة واحدة فكثیرا ما تكون بعض المراحل تتدخل فیها حیثیة الإلمام بالكبرویات الأصولية ، والبعض الآخر تتدخل فیها حیثیة الإلمام بالكبرویات الفقهية وبعضها یتدخل فیها الصناعة الفقیهة وبعضها الصناعة الأصولية أو الالمام بأكثریة مدارك المسألة أو قوة الاستنباط أو الاطلاع علی نظائر المسألة والأجود فهماً والعارضة الفقهية والعارضة العرفیة أو الاحاطة وهلمّ جرا، فإن هذه كلها مؤثرة علی كل حال.

فالمحصل في الحقیقية هو المجموع المكوّر من تلك الحیثیات ومن هنا یمكن تعدد الأعلمیة في الأبواب بل في المسائل لاسیما إذا كان التفاوت في الاعلمیة لیس كثیرا بل قلیلا ففي هذه الموارد یلاحظ أنه یوجد تعدد في الأعلمیة بحسب الابواب وبحسب المسائل فالأمر حیثي ویعتمد علی الأبواب وطبائعها ومسائلها فإذا فسرنا الاعلمیة بهذا البیان فإن الغالب تعدد الأعلمیة بحسب بالأبواب. بخلاف ما لو فسرناه بحیثیة واحدة فقط مثل الأعلم هو الأعلم في الصناعة الأصولية فقط فهذا یوجب الانحصار وعدم التعدد.

مناهج الاستدلال:

اشارة

ولا بأس بالتعرض لمناهج الفقهاء المختلفة لأن معرفة هذه المناهج أیضاً تطلعنا علی حیثیات عدیدة تؤثر في الاعلمیة ومن هذه المناهج منهج الشهید الأول (قدّس سرّه) والشیخ كاشف الغطاء (قدّس سرّه) ونستطیع أن نعبر عنه

ص: 398

بمنهج الملازمات ولیس هو الحیثیة المتعلقة بمعرفة النظائر التي مرت بل المراد منه شیء یغایر اجمالا حیثیة النظائر.

1- منهج الملازمات:

منهج الملازمات یعتمد علی یقظة الفقیه في تحریر عناصر هامة فقهیة - لا أصولية - في مسألة أو في باب من الأبواب بحیث لو صیغت تلك العناصر العامة في مسألة أو باب بقالب معین تلفت هذه الصیاغة والقولبة إلی تداعیات في أبواب ومسائل أخری أو في تأثیر وتأطیر هذا القالب والصیاغة علی قواعد أخری في أبواب أخری، فالفطنة إلی العناصر العامة في البحث الفقهي وكیفیة تطبیقاتها في موارد عدیدة أخری أو ارتباط هذا العنصر العام مع قواعد أو عناصر عامة أخری یعبر عنه بمنهج الملازمة، وقد تمیز بهذا المنهج الشهید الأول (قدّس سرّه) والشیخ كاشف الغطاء (قدّس سرّه) بكثرة ولهذا نری أن الشهید الأول في كتاب القواعد والفوائد تصیّد العناصر العامة الفقیهة في المباحث الفقهية ومن ثم یلتفت إلی تطبیق العنصر العام، ولا ریب أن الالتفات إلی تطبیق العنصر العام في موراد عدیدة وكثیرة یصقل علمیة الفقیه ویصقل التحریر والتنقیح الذي یمارسه لتأطیر أو قولبة ذلك العنصر وبالتالي یعطیه بصیرة أكثر في حدود هذا العنصر العام وأثاره وتداعیاته وما شابه ذلك .

فهذا المنهج مفید ومؤثر من هذه الجهة بشكل جید ، وهو یتوقف

ص: 399

علی عدة أمور:

منها : احاطة الفقیه بالابواب .

ومنها : سرعة الالتفات والفطنة إلی العناصر الهامة الكلية في كل مسألة كأن یجرد العنصر العام في المسألة عن خصوصیات تلك المسألة فیلتفت إلی نفس حدود ذلك العنصر العام لأنه إذا لم یلتفت إلی العنصر المجرد عن تلك الخصوصیات فإنه لن یلتفت إلی كیفیة تطبیقاته وعلاقته مع القواعد الأخر أو المسائل الأخری وبطبیعة الحال لا یلتفت إلی منهج الملازمات.

ولهذا نستطیع أن نعتبر هذا الحیثیة سابعة عشر من الحیثیات ، وهي كما تقدم سرعة تفطن الفقیه وتلقفه والتفاته ووقوفه علی العناصر العامة والقواعد الفقهية التي هي مغیبة في تضاعیف بحوث المسالة وغیابها لعدم الالتفات إلیها ، فالعناصر العامة قد لا تكون قواعد فقهیة بشكل مصطلح فالتعبیر عنها باللوازم العامة أسلم ومثال ذلك ما یتوصل إلیه الفقیه من مصطلح یستخدمه الشارع في الحكم الوضعي لا التكلیفي فهذه لا یسمی قاعدة فقهیة وایضا مثل كلمة «لا أحب» مستعملة في لسانه كثیرا في الحرمة فهذه عنصر مشترك إلا أنه لا یسمی قاعدة فقهیة لعدم كونها أحكاما ولا قاعدة أصولية لعدم اشتراكه في جمیع الأبواب

ص: 400

وغیرها من أدوات الاستظهار العامة التي یمكن أن یتمسك بها في كثیر من الأبواب ، كما لو قال : «لا تصل في النجس» ، وقال : «لا تصلِّ بالنجس» فهل هذا القید مع الباء یفید الانضمام ومع "فی" یفید الاتحاد فتصح الصلاة وضعا بالتعبیر الأول وتبطل بالثاني... وهكذا. فهذه العناصر مؤثرة إلا أنها لا تسمی قاعدة فقهیة ولا أصولية ولا قاعدة لغویة وذلك لاختصاصها بلغة ولسان الشارع مثلاً.

وأیضا قاعدة الملازمات لیست خاصة بالعناصر العامة بل تشمل القواعد الفقهية لكن من حیثیة التطبیق كتطبیق البراءة في موارد متعددة فتوجد بعض الخصوصیات المشتركة في تطبیقها فتنسحب تلك الخصوصیات إلی موارد أخری من موارد البراءة فهذه عناصر تطبیقیة عامة لا تدخل في القواعد الفقهية ولا في المسائل الأصولية.

والمشاهد من بعض الفقهاء هو قوة حدسه وحاسته بالوقوف علی تلك القواعد الفقهية الجدیدة فهذه الحیثیة مؤثر جدا في الاستنباط وذلك لمساهمة هذا العنصر المشترك في البحث العلمي في مسائل عدیدة وتساهم أیضا في نفس ترتب مراحل الاستنباط لنفس المسألة بشكل مترتب.

والمشاهد من البعض أیضا أنه لیست له هذه القدرة إلا أنه إذا التفت إلی عنصر عام عند آخرین استطاع أن یؤطره ویشیِّده ویعمقه أكثر

ص: 401

ممن التفت إلیه، فكل من هذین النمطین من قوة الاستنباط له دخل في الحیثیة العلمية زیادة علی الحیثیات المتقدمة.

فالنكتة المهمة أن الفقیه إذا التزم باستنباط معین في مسألة معینة فلیكن علی فطنة أن ما التزم به من استنباط في هذه المسألة إذا اعتمد علی قواعد عامة وقواعد فقهیة فلیلتفت إلی أن هذا النمط من الاستنباط والاستنتاج إذا اعتمد علی قواعد عامة أو قواعد فقهیة ینسحب وینجر إلی أبواب عدیدة فإذا التفت إلی أنه لا یمكن أن یلتزم به في أبواب عدیدة فإنه یدل علی وجود خلل في استنباطه.

وهذه الحیثیة لازمة لهذا المنهج وأما ما سیذكر في منهج التشقیق فهو بلحاظ صور الباب نفسه وحالته.

2- منهج التشقیق في الاستنباط:

ومن تلك المناهج التي یسلكها الفقهاء في الاستنباط منهج التشقیق:

والشقیق منهج یتمیز به الشهید الثاني، بأن یشقق المسألة التي توصل إلیها إلی عدة شقوق لیستعلم ویستوضح صحتها ودقتها وسدادها فإذا رأي النتیجة العامة في هذه المسألة لا یمكن أن تتطرد في جمیع شقوق المسألة مع عدم خصوصیة للشقوق التي جرت واطردت فیها تلك النتیجة فیستعلم عدم تمامیة النتیجة العامة في المسألة وإنها ذات خلل وذلك لان المفروض أن الشقوق وهي حالات ومصادیق ولیس لها

ص: 402

خصوصیة فإذا لم تطّرد النتیجة العامة في شقوقها یعلم بطریق الإن بوجود خلل في النتیجة الاجمالية أو یتنبه الفقیه إلی أن بعض الشقوق ذات خصوصیة بحیث خرجت من النتیجة العامة وهذا أیضا مفید وبهذا لا یسحب الفقیه النتیجة في المسألة إلی كل حالات وصور المسألة فیلتفت إلی الاستثناءات... حتی إذا أفتی مثلاً لا تكون فتواها باطلاقها، فمنهج التشقیق منهج مهم.

ومثال التشقیق: ما یذكر في الزوجین النصرانین إذا جعلا المهر خمرا أو خنزیرا ثم اسلما فهل یصح المهر؟ فتارة نفترض في هذه المسألة حصولتسلیم المهر قبل الأسلام، وتارة نفترض أحدهما أسلم أو كلیهما أسلما وتارة نفترض أن مرادهما من عنوان الخمر والخنزیر آلیة إلی القیمة وتارة عنوان أصلي... وهكذا، فهذه الشقوق تضفي نوعیة دقة وعمق في نتیجة المسألة وأن الروایات الخاصة الواردة في هذه المسألة هل هي شاملة لكل الشقوق أو أن بعضها ناظرة إلی حیثیة معینة أو خاصة ببعض الشقوق أو ناظرة إلی الطبیعة المشتركة في جمیع الشقوق فهذه حیثیة مهمة ومفیدة فإنها تعطي ضبط ومسح دقیق لحقیقة المسألة وخصوصیاتها المؤثرة في دقة وصحة النتیجة الاجمالية التي توصل إلیها الفقیه... فقدرة التشقیق تبین مدی دقة الاستنتاج وسداده ومدی احاطة نفس الفقیه بما استنتجه وهل أحاط به بشكل عمیق أو بشكل عفوي

ص: 403

فهذه القدرة تعطي الوصول إلی حقیقة نفس المسألة من كونها عامة أو فیها بعض الخصوصیات أو هي ذات حالة واحدة أو ذات حالات.

فالفقیه القادر علی التشقیق أضبط للمسألة من غیره، وخصوصا إذا كانت المسألة من المسائل الام في نفس الباب فمثلا ربما تری استنباط من الفقیه أن السعي واجب بین الصفة والمروة ولكنه لم یلج في التشقیق مثالذلك مسألة السعي من الطابق الثالث أو مما هو تحت الأرض أو من جهة العرض الذي هو محل ابتلاء الآن فهذه الشقوق تجعل الفقیه یدقق في الالفاظ والأدلة التي وردت في السعی وحدوده هل هي حرف جر أو جملة أسمیة ومن كون سعي النبي (صلی اللّه علیه و آله) علی الجمل هل له ارتباط بالنتیجة وبالمسألة أم لا؟ فنفس استنطاق أدلة المسألة والتدقیق فیها والتنوع وتعدد الأدلة في المسألة مما یلفت إلی مطلوبیة التدقیق والتعمق بغزارة بالتشقیق فالتشقیق یعطي الفقیه تعمق وقوة وضبط وتسلط أقوی في نفس المسألة فهذه الحیثیة مؤثرة ولهذا تری بعض الفقهاء یتمیزون بهذه الخاصیة وهي غیر الحیثیة التي تقدّمت.

فمثلا بعض الأعلام (قدّس سرّه) توصل من كثرة التفریع والشقوق في الخمس إلی قواعد خاصة بباب الخمس فمثلاً في مسألة لو لم یخمس سنین وأراد أن یخمس من مال لم یتعلق به الخمس فإنه یفتي باخراج

ص: 404

الربع والصحیح أنها لیست بفتوی وذلك لأن دلیلها ومدركها الاحتیاط وذلك لأن حسابها لا یصل إلی الربع بالدقة الریاضیة بل هو انقص .

نعم الزیادة علی الخمس فتوی إلا أن تحدیدها بالربع من باب الاحتیاط لأنه بالدقة الریاضیة لا یصل إلی حد الربع بل هو أزید من الخمس وأنقص من الربع ولعل النسبة لا تلاحظ في الخمس القلیل أما في خمس الملیارات تكون قدرا كبیرا جداً.

وفي بحث الهلال مثلاً هل یشترط في وحدة الحكم وحدة الأفق أویختلف الحكم باختلاف الافاق فإن هذه المسألة من المسائل التي مرت علیها أطوار علمیة... وبحمد لله تراكمت جهود ومتابعة فیها فما تقارب بین مختار المشهور عند متأخرین العصرمن أن اختلاف ثبوت الهلال باختلاف الآفاق وسببه شقوق معینة وأدلة معینة أوردها البعض (قدّس سرّه) لمختاره وجلها معتمد علی الطرق الاثباتیة الآلیة للهلال فأوردت شواهد أثباتیة معاكسة تماما لما أورده البعض (قدّس سرّه) وأن ما استشهد به قابل للجواب في نفسه ومن ثم استضعف ما أختاره وقد حررناه في الطبعة الثالثة من كتاب الهلال وسببه الالتفات إلی شروح جدیدة في المسألة بلحاظ العرض الشمالي فالبلدان التي تقع علی العرض شمالي بخمسین درجة فما فوق لا یری عندهم الهلال إلا بعد یوم أو یومین من مناطق ذات العرض المتوسط - سواء في الخلیج وایران والعراق وغیرها

ص: 405

أو في امریكا باعتبارها عرض متوسط بخلاف لندن وفلندا والنرویج فإنها ذات عرض شمالي - والهلال یُری فیها بعد یوم ثاني أو ثالث بعد امریكا مع أن الهلال رؤي ویری في بلاد ذات أفق وقت متقدم أووقت متأخر راوه ایضاً مع أن بلدان الوقت المتوسط لم یروه...وقد ذهب حفظه اللّه إلی أن الهلال یثبت عند المتوسطین بعد یوم أو یومین!

فإن هذه الشقوق وغیرها تلفت الباحث إلی أدلة ثبوتیة تصب في أحد الوجوه دون الأخر بل توجب التدقیق والتأمل في نسبة اختلاف الآفاق إلی المشهور، نعم هو لمتأخری المتأخرین أما ثبوته للمتقدمین ففیه تأمل.

فالشقوق والتشقیق تنبه الباحث الفقهي علی سلامة النتیجة وسدادها فلا یستهان بالشقوق لأنها قد تسبب تغییر ما التزمه رأساً علی عقب، لالتفاته إلی خلل في النتیجة فمنهج التشقیق رغم سهولته إلا أنه خطیر التأثیر وهو في بعض الشقوق لیس بسهل الالتفات مثل الالتفات إلی العرض الشمالي والعرض المتوسط فإن هذا لم یذكر في كلام السید الخوئي (قدّس سرّه) ولا في كلام أبي تراب الخوانساري (قدّس سرّه) الذي استند إلیه ولا في كلام مستند الشیعة (قدّس سرّه) ولا كلام الشهیدین الذين لهما باع في الفلك ولا في كلام الشیخ البهائي (قدّس سرّه) ولا في الردود التي وردت بل وما استدل به سجلت علیه نقاشات إلا أن بعض الشقوق التي التفت

ص: 406

إلیها في الاستفتاءات الفقهية صارت سبباً لتنقیح جدید فالتشقیق أمر بالغ الثمرة والأهمیة.

3- منهج الحلیل:

اشارة

وهو عند القدماء نظیر السید المرتضی (قدّس سرّه) وخصوصا عند المحقق الحلي (قدّس سرّه) والعلامة مع أن العلامة معروف بالدقة في المعاملات إلا أنه مع تتبعه عنده مهارة التحلیل ومن المتأخرین المحقق الكركي (قدّس سرّه) فإنه ممن برع في منهج التحلیل. والتحلیل والتركیب صناعة منطقیة قدیمة، فالمعاني المركبة هي في الحقیقية مدمجة والذهن له قدرة علی دمج المعاني وتفكیكها وتحلیلها فمثلا تصور معنی الانسان فإنه معنی وحدوي ومع ذلك یستطیع العقل أن یحلله إلی اجناسه وفصوله فللذهن القدرة علی تحلیل ذلك المعنی الفردي إلی عدة معانی وایضا للذهن أن یجمع تلك المعانی التفصیلية التحلیلیة ویدمجها في معنی فردي .

فتحلیل المعاني أي ماهیات موضوعات الاحكام الشرعية سواء في باب المعاملات والعبادات وفي أبواب آخر أمر هام جداً ویكشف عن نكات كثیرة جدا في ماهیة الموضوع وماهیة الحكم وبالتالي یتوفر المستنبط علی مواد استدلالیة كثیرة من خلال تفكیك المعنی وهذا دلیل برهاني لأنه یصل إلی عناصر من نفس الماهیة الذاتیة للشیء المأخوذة في الدلیل فهو أسلوب دقیق ومهم ویحتاج إلی تروي وتدبر ومراجعة

ص: 407

المعاني اللغوي ومراجعة الخواص والاثار واللوازم فإنها تكشف إناً عن وجود ملزوماتها في بطن المعنی فكثیر من المعاني تكون مطویة في معنی وحداني قابل للتفكیك واستخراج تلك المعاني منه في غایة الأهمیة. وإذا كان المنهج والاسلوب الاستدلالي سریعاً وسطحیاً وتعلیقیاً كأن یلاحظ المستدل فقط صورة المعنی فإنه یحكم بعدم دلالة الدلیل - الذي ركن إلیه أصحاب المنهج التحلیلي - علی المطلب وذلك لأنه لم یلاحظ تلك المعانی المطویة.

فالمنهج التحلیلي یوفر للفقیه الباحث جملة وافرة من الأدلة بواسطة صناعة التحلیل الخاضعة للموازین والشواهد لا التحلیل التخبطي غیر الخاضع للموازین فالمعنی بواسطة صناعة التحلیل كالبئر یستقی منه معاني عدیدة ... فهذه الصناعة تثري الباحث بالمواد الاستدلالیة التي لا یتفطن إلیها اصحاب المنهج السطحي.

مطلب في الشعائر الدینية:

ومن باب المثال لو أردت أن تستدل علی مطلب معین في عنوان مسألة لكن لدیك أدلة دالة علی جنس عنوان الموضوع أو جنس جنسه فإنك تستطیع الاستدلال علی ذلك المطلب بواسطة دلیل الجنس ؛ وذلك لأن الدلیل الذي یدل علی مشروعیة الجنس بالعموم مثلا یدل علی مشروعیات الافراد المندرجة التحتانیة والأنواع ، فمثلاً : لو اردنا

ص: 408

الاستدلال علی الشعیرة الدینية بالأدلة الواردة فیها لفظ الشعیرة فإنها قلیلة جداً وأما لو حللنا معنی الشعیرة علی وفق الموازین: بأنها علامة تذكیریة تشیدیة تعظیمیة فسوف نری أن كل جزء من هذه الحقیقة له دلیل فالإعلام له دلیل والتذكیر له دلیل والاشادة بالمعالم الدینية لها دلیل والتعظیم له دلیل، فستصبح لنا أدلة كثیرة جداً علی الشعیرة.

وأما غیر الملتفت فإنه یظن أن استدلال المستدل لا علاقة له بالمطلوب وذلك لعدم تفطنه بحقیقة معنی الشعیرة وغفلته عن هذا المنهج كبری أو صغری فالشعیرة المعتبرة لیست هي الشین والعین والیاء والراء بل حقیقة معنی الشعیرة من كونها ممارسة اجتماعیة جانبها إعلامي وغایتها تجذیر وتشیید المعاني المقدسة في الدین فالتحلیل یكشف عن أجزاء كثیرة فمثلاً إذا ورد في الدلیل : عظّموا هذا الأمر أو أحیوا هذا الامر فإن هذا الدلیل بنفسه یدل علی تعظیم الشعائر وذلك لأن التعظیم والاحیاء یتحققان بتوسط الممارسة التذكیریة والإعلامیة الاشادیة بذلك المعنی فهذا هو إحیاء له كي لا یموت وینقطع وجوده وبالتالي لا ینكر علی الاستدلال بأدلة إحیاء مجالس البكاء علیهم (علیهم السلام) أنها تدل علی أحیاء الشعائر وتلك الممارسة التذكیریة للمعاني الجلیلة والعظیمة هي أحد فقرات وأجزاء معنی الشعائر ومن هذا الباب قول:«أحیوا أمرنا» یطبقها علی ذكر مصائبهم، فالباحث غیر الملتفت لهذا

ص: 409

الصناعة یحسب أن هذه الاخبار تعبد خاص باحیاء الشعائر ، إلا أن المتفت إلی المنهج التحلیلي یلتفت إلی أن هذا لیس بتعبد خاص بل هو علی مقتضی القاعدة فالامام (علیه السلام) یطبق تلك القاعدة ولیس هو في مقام التعبد الخاص، وكذا قوله تعالی : "وذكرهم بأیام اللّه" فما معنی أیام اللّه وما معنی ذكرهم فذكرهم أي أعلمهم بتلك الأیام وأشد بها إحیاءا والزمها فهذه أیضا من أدلة تعظیم الشعیرة.

فمنهج التحلیل منهج ضروري جداً لأنه بمراعاته وممارسته ینبه الباحث أنه لا توجد لدیه مسألة لا تتوفر علی أدلة بل یشذ أن تقع له حالة بدون أدلة ومواد استدلالیة لأنه بالتحلیل یستطیع أن یتحرك في عملیة استنباطیة واسعة الدائرة طبعا شریطة أن تكن المعاني التي ینطلق منها في عناوین الأدلة قائمة علی أدلة وشواهد لغویة وأدبیة معتبرة من نفس المعنی.

ولا یخفی أن الممشي التعلیقي السطحي منهج أخباري لأنه یتقید بحرفیة حروف العنوان الموجود في الدلیل وهذا منهج سطحي وقشري لانه یعتمد علی حرفیة الالفاظ وربما یطعن أصحاب المنهج التعلیقي علی المنهج التحلیلي بأنه استحساني وتخرصي وهذا صحیح فإن المنهج التحلیلي إذا لم یتعمد علی شواهد وموازین واضحة تبیّن ما توصل إلیه فهو استحسان ، وأما لو كان یعتمد علی شواهد بینة وموازین مضبوطة

ص: 410

فهو برهاني استدلالي.

فمسلك التعلیقي یسبب ضیاع كثیر من الأحكام وطمسها ومسلك التحلیل یوجدها، وقد أرشد إلیه في أخبار أهل البیت (علیهم السلام) زیادة علی أنه علی مقتضی القاعدة فمثلا أحدهم سال أمیر المؤمنین (علیه السلام) ما هو العقل؟ فشرحه له ، فقال له: ما الجهل فقال: «قد بینت» .

فكثیر من سلبیات المنهج التعلیقي الحرفي الجمودي الذي - هو الرائج لدی جماعة - یشكل به علی كثیر من القواعد الفقهية المسلمة عند القدماء بأن لا دلیل علیها مع أنها مشهورة عند المتقدمین فكم من قاعدة اسقطت بدعوی عدم الدلیل.

فالاشكال كما تقدم في عدم رعایة الموازین والمعاییر التي هي بالتالي شواهد ودلائل وأما من كان یستند ویحتكم إلی الشواهد والقرائن فلا مانع ولا محذور تجاهه ، فالسفسطیّون بذریعة دعاوي وأن كلاً یدعی الوصل بلیلي فلا یحتكمون إلی شیء،وهذا افراط، وأما المخالفون للمنهج التحلیلي فهم بذریعة عدم الدلیل الحرفي سدوا هذا الباب، والصحیح هو لزوم الفحص عن الحقائق ولكن بمیزان وبمعیار. فمثلا: لو نظرنا إلی الأصفهاني (قدّس سرّه) لوجدناه قد استطاع بتحلیل معنی الحجیة أن یصل إلی الأصل في التعارض وهو عدم التساقط كما مر علینا بل هو شیء آخر فهذا تحلیل جید ومتین.

ص: 411

بیان مختصر في رد شبه لاتدع أحدا دون اللّه:

فكثیرا ما تتبدد وتزول الشبهات والنظریات الخاطئة بالتحلیل، فمثلا : یرفع الوهابیون والسلفیون شعار "لا تدع أحداً من دون اللّه" حتی لو كان - والعیاذ به تعالی - رسول اللّه (صلی اللّه علیه و آله) .

ولكن لما نأتی ونحلل معنی "دون اللّه" ما المقصود منه هل هو دون ذات اللّه وبالتالي ینطبق حتی علی الصلاة وبقیة العبادات وعلیه تكون شركاً فالمراد من دون اللّه كل ما عدا اللّه فالكعبة وكل شیء هو دون اللّه وبالتالي یلتفت إلی المغالطة في تفسیر المعنی وأما لو كان المراد بدون اللّه هوما لا یوصل إلی اللّه فإن الصلاة توصل إلی اللّه وأولیاء اللّه ایضا یوصلون إلی اللّه، نعم نمرود وفرعون وغیرهم فهولاء لا یدلون ولا یوصلون إلی اللّه تعالی.

والفقهاء الكبار القدماء یمارسون هذا المنهج، وهذا لیس في خصوص علم الفقه بل هو مهم في كل العلوم وهو أحد معاني حسن السؤال نصف الجواب" فالتحلیل لما یسأل عنه قبل السؤال هو یهدیك إلی الجواب، وهو أیضا مما یؤثر في سیطرة الانسان علی الحالات التي تنتابه من الغم والحزن والكآبة أو بالعكس كالفرح الشدید فإذا حللها یستطیع ان یسیطر علیها، فهذه الصناعة تفید في البحوث العلمية والعملية، ولا یخفی أن اختلاف الأذواق بین الباحثین - وبعضهم ذوقه

ص: 412

عقلي تجریدي وبعضهم ذوقه وجداني وغیرها - توجب التغییر والاختلاف في التحلیلات والكلام في أن الموازین بین الكل هي المنطلقات المشتركة بین الكل كمباحث الحجیة التي یسلم بها الجمیع، وهذا المنهج یختلف عن الحیثیات التي لها دخالة في الأعلمیة.

4- منهج عملیة شرح الفرض الفقهي:

اشارة

وشرح الفرض الفقهي وهو یقرب من منهج التحلیل إلا أنه یختلف عنه فهو عبارة عن التثبت كثیرا في تفسیر شرح الفرض الفقهي وهو یفید في الوصول إلی سلامة ودقة استنباط النتائج... فرسم وتحدید ذلك الفرض المسؤول عنه في الاخبار مهم جداً لأن بتحدید معناه یرفع التناقض والتعارض بین هذا الخبر وغیره من الاخبار لكون الفرض في الخبرین متغایر فتستطیع الاستدلال علیه ببعض الاخبار المتحدة في الفرض فمثلا تحدید معنی البطلان المأخوذ في قولهم "إن الصلاة بلا تقلید باطلة" هل هو بطلان واقعي ثبوتي أو ظاهري أحرازي وضعي أو تكلیفي... فهذه كلها لها آثار مهمة جداً، وهي تعطي الفقیه الهیمنة علی المسألة بتحدید فرضها ولوازمه. فشرحوتحدید الفرض الفقهي هي ملاحظة ما یحویه من الفروع واللوازم وهو مغایر للتشقیق المتقدم إذ حقیقة التشقیق هي ملاحظة الحالات المتفرعة بما هي متفرعة وهل لها حكم المتفرع علیه أم لا.؟

ص: 413

ومن ضمائم هذا المنهج تتبع الأقوال و شرحها في المسالة الفقهية فبعض الاعلام یتعرض إلی الأقوال بما أنها متون وشروح للروایات في الفقه وهذه مهمة جدا إذ بقطع النظر عن أصحاب الأقوال فهي تعطي الهیمنة علی احتمالات ومحتملات محیط المسألة أكثر فأكثر.

مطلب في الحرمة الأبدیة للزنا بذات البعل:

فنفس عملیة تحلیل الفروض الفقهية وأقوال الفقهاء هو تحلیل للنظریات الفقهية وتنفع كثیرا لأنها توقف الباحث علی لوازم وخصوصیات كشروط وأشطار في ذلك الفرض الفقهي بل لو لم تنفع في خصوص الفرض المبحوث عنه فإنها تنفع في فروض أخری وتلفت إلی قواعد كثیرة وعدیدة بل وإلی أدلة كثیرة لأنه من تحلیل الفرض یلتفت إلی صلوح كثیر من الادلة للاستدلال بل بمراجعة الاقوال وشرحها یعرف مظان الاخبار المتعلقة بهذا الفرض الفقهي في أبواب مختلفة فمثلاً مسألة: "من زنی بذات بعل فإنها تحرم علیه مؤبدا". فلم یوقف إلی الآن علی نص مختص إلا روایة مرسلة تنسب إلی كتاب الطبرسیات للسید المرتضی (قدّس سرّه) الذي لم یطبع إلا أنه موجود في المكتبة الرضویة والظاهر أن هذا الروایة مرسلة فبعض المتأخرین عنده الاحوط وجوباً والبعض النادر ربما یجوز ، وقد تفطنت للنكتة قبل مراجعة ما ذكره المتقدمون كابن دراج (قدّس سرّه) في أحد كتبه فإنه یشیر إلی

ص: 414

النكتة وهي الموضوع الوارد في أخبار تنص علی حرمة من نكح ذات بعل عالماً ، ولا یخفی أن النكاح لو حمل علی الأعم من الوطئ والعقد صح الاستدلال به علی الحرمة الأبدیة بمن زنی بذات بعل ؛ لأن الزاني ناكح أي واطئٌ بذات البعل فتحرم علیه وتفصیل ذلك في كتاب النكاح.

ومن ثمار تتبع الأقوال بإمعان وتحلیلها فأنهیوقف الباحث علی جملة من الأدلة وطوائف من الاخبار ما كان للباحث أن یصل إلیها بمفرده لولا التتبع فالتتبع لیس تراكمیاً لزخرف من احصاء الأقوال بل سعة في آفاق الاحتمالات والمحتملات وتنوع الوجوه.

فحیثیات الاعلمیة عدیدة جداً وبعضهم یضیف علی ذلك العلوم التي لها ارتباط وثیق في الاستنباط مثل علم اللغة كالصرف والنحو والبلاغة وعلم الرجال وعلم الحدیث والصحیح أنها تؤثر في الأعلمیة وإن لم یتوقف علیها الاجتهاد فإنهم یبنون علی فقاهته وإن لم یكن مجتهدا في هذه العلوم إلا أنها تؤثر من بعید في الأعلمیة إجمالاً، وأیضا مما یؤثر الاطلاع العام للفقیه علی العلوم المتخصصة بموضوعات الأبواب مثل مسألة الهلال والتفصیل فیها فإن الاطلاع علی العلم الفلكي المتعلق بالهلال یوثر في فهم الاخبار كالرجوع إلی اللغوي بحیث إن اللغوي یهدي ویوصل إلی المعنی إلا أنه لا یكشف عن حقیقته وهویته فإن هذا یحتاج فیه إلی توسط أهل الخبرة بذلك الموضوع من

ص: 415

المتخصصین في الموضوعات كالموضوعات الطبیة ومثل تحدید حقیقة الكعبین في الوضوء، فإن كثیراً من علمائنا كصاحب الجواهر (قدّس سرّه) والشیخ هادي الطهراني (قدّس سرّه) وآقا رضا الهمداني (قدّس سرّه) في الرد علی العامة استندوا في التحدید إلی علم التشریح ومثل بحث حقیقية النقد المالي والصیرفة النقدیة وتأثیر ذلك علی بحوث حرمة الربا، فالمقصود أن الرجوع إلی أهل الاختصاص في تحدید الموضوعات مؤثر جداً وخصوصاً الرجوع في الرأي الرسمي عندهم، وعلیه فالأطلاع علی موضوعات الأبواب في العلوم المختلفة مؤثر جداً، وأما مسألة هل أن اصطلاح أهل الخبرة هو نفسه اصطلاح المأخوذ في الاخبار أم لا؟ فهذا بحث آخر یحتاج إلی تحقیق الفقیه في لسان ومفاد الأدلة.

المختار في تحقق الأعلمیة:

فالرأي المختار هو أن الأعلمیة تؤثر فیها جهات عدیدة تختلف بحسب الأبواب والمسائل و بحسب مراحل الاستنباط في المسألة الواحدة ولا سیما المسائل الأم وهي المسائل البنیویة في كل باب وكل فصل فكلها مؤثرة غایة الأمر أن الأعلمیة تتأثر بالمجموع وبالتالي قد تتنوع فیكون في هذا الباب هذا أعلم وفي باب آخر ذاك أعلم وهكذا ولیس من المحال القول بأن في المسألة الواحدة تتبعض الأعلمیة كأن یكون أحدهم أعلم في تنقیح الموضوع والآخر أعلم في تنقح المحمول

ص: 416

والمرجع في تعیینه أهل الخبرة والاستنباط(1).

إلا أن تمییزه لغیر المتضلعین في الاجتهاد صعب جداً إلا أنه واقع كثیرا، فتری أحدهم في بعض قیود قاعدة فقهیة أعلم من غیره وغیره أعلم منه في موضوعها والآخر أعلم منهما في الحكم وهكذا... فضلا عن التفاوت في الأبواب. نعم، النتیجة هي الفارق بین المعدل المؤثر في المجموع یؤثر علی الاعلیمة وأجمالاًُ أن الاعملیة لدینا لیست بالتفاوت الیسیر فالتقارب في العلمية ولو في اختلاف یسیر دقي لا یعول علیه في التقدیم والتعویل علی التفاوت الكثیر وذلك لأن التفاوت الیسیر من الصعب استیضاحه واستعلامه فالعقلاء یرجحون بالأعلمیة البینة والواضحة لا بالأعلمیة الخفیة التي لا یلتفت إلیها وخصوصا مع وجود الكسر والانكسار في تلك الحیثیات فلو ظهر أنه متمیز بدرجات قلیلة في بعض الحیثیات وغیره متمیز عنه في حیثیات أخری ومع صعوبة التحدید لا یلتفت العقلاء إلی مثل هذا التفاوت وعلیه فلا یصدق عند العرف بأن أحدهما أفقه من الآخر.

أهل الخبرة المعتمد علیهم في معرفة الفقیه الجامع:

(1) ذهب الكثیر إلی أن أهل الخبرة هم أهل الاستنباط إلا أن بعض الفقهاء یفرق بین أهل الخبرة وبین أهل الاستنباط فالفاضل المراهق هو من یطلق علیه أنه من أهل الخبرة وهو غیر المجتهد ، وهذا هو الصحیح

ص: 417

(مسألة 18) : الأحوط عدم تقلید المفضول ، حتی في المسألة التي توافق فتواه فتوی الأفضل(1).

طبعاً هذا مع الاطلاع والحیادیة وغیرهما كعدم تدخل الأهواء والمعرفة بالأعلم وغیره، والبعض الآخر یفسر أهل الخبرة بالمجتهد إلا أن الكثیر كما ذكرنا یفسره بالفاضل اللوذعي كالسید الخوئي (قدّس سرّه) إذ إن بعض الفضلاء لیس له قدرة الاستنباط إلا أن له قدرة الفهم والتمیز ، فلیس له جرأة علی الاستنباط أو لیس له قدرة الصنع والاستدلال، وبعض المجتهدین غیر المتصدین یستطیع من الفتاوی والرسالة العملية أن یلتفت إلی قدرة عمل صاحب الرسالة وخصائص علمیته وقدرته العلمية وهذا لیس بغریب فإن المشتغل بجدارة في باب من الأبواب یعرف ویمیز المشتغل بقوة من غیره. وعند اختلاف أهل الخبرة وتعارض أقوالهم فالمتعین هو الأخذ بالأقوی خبرة كیفاً وكماً فأما كیفاً فواضح وأما كمّا فلوجود أخبار الترجیح بالكم كما سیأتي عند تعارض البیّنات.

المسألة الثامنة عشر: تقلید المفضول في المسائل الوفاقیة

اشارة

(1) أحتاط الماتن (قدّس سرّه) في تقلید المفضول حتی في المسائل الوفاقیة لفتوی الأفضل، وقد تقدم منا حیثیة هذه المسألة في المسائل السابقة أكثرة من مرة وستأتي أیضاً والضابطة التي نعول علیها خلافاً لبعض الأعلام هي أن الامارات إذا كانت متوافقة في النتیجة ومتفاوته

ص: 418

في الدرجة یكون الاستناد للجمیع فهي شبیهة بحال المجتهد إذا وقف في مسألة علی أدلة متفاوتة بعضها صحیح أعلائي وبعضها صحیح وبعضها معتبر وبعضها مؤید وغیرها... فقد ذهب المشهور بأنه یستند إلی ماشاء منها .

والصحیح أنه یستند إلی الجمیع وذلك لأن كل خبر واجد لشرائط الحجیة فالمقتضی موجود ولا مانع من الأخذ بهإلا التعارض وهو مفقودفالمقتضی لشمول الدلیل لهذه الحج علی حد سواء بدون ترجیح خبر علی آخر لكونها متوافقة... لأنها واجدة لشرائط الحجیة فیستند إلیها جمیعا لا علی نحو البدل بل علی نحو العموم الاستغراقي والعموم المجموعي أیضا وهذا لیس بأمر اختیاري بل تعییني وذلك لأن عموم فرض الحجیة یشمله استغراقا ومجموعاً بل وذكرنا نكتة أخری حاصلها : أن في العموم المجموعي یدخل فیه ما لیس بحجة بمفرده .

فمثلاً : إذا كان لدینا اخبار صحیحة معتبرة ولدینا اخبار ضعاف وكلها متوافقة فالاستناد إلی المجموع - إذ الخبر الضعیف لایستند إلیه بمفرده - لكون الضعیف بالانضمام موجب الاعتبار والاطمئنان بوثوقه، وهو أیضا مؤثر في الاستفاضة أو التواتر وغیرها من حیث الطریقية وهذا مسلك القدماء وهو أیضاً یوجب مزیة في بحث الدلالة فمثلا لو تفرد الخبر الضعیف بقید - مثلا - یؤخذ به لأنه بضمیمة الصحیح إلیها یحصل

ص: 419

وثوق بصدوره وبالتالي تكون دلالته ثابتة علی مسند الحجیة، فالصحیح هو العموم الاستغراقي والمجموعي ولا موجب للاخذ والترك بعد شمول دلیل الحجیة له ولزوم التعبد شرعاً بالامارات، ولا لغویة بلزوم الأخذ بالجمیع لما بنینا علیه من أن المتنجز یتنجز فكلما ازدات الشواهد علی أمر ازدادت الحجة علی العباد وكلّما ازدادت الحجیة ازداد التنجیز وكلّما ازدادت التنجیز ازداد ثوابه أو عقابه، ومن هذا القبیل أحد تفاسیر قوله تعالی: (یا نِساءَ النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ)(1) .

نعم یبقی اشكال وتساؤل به یتوجه كلام السید الیزدي (قدّس سرّه) ارتكازا نظرا إلی أن التقلید ولایة نیابیة، وبعتبیر الشیخ محمد حسین كاشف الغطاء (قدّس سرّه) في تعلیقته علی العروة بأن التقلید بیعة من المكلف إلی نائب المعصوم (علیه السلام) ، وهذا صحیح كما مر بنا في بدایات البحوث من أن الفتیا والمرجعیة منصب ولائي وربما یأتي له زیادة تفصیل وبیان لكونه منصبا ولائیا ولا ضرورة في أن یكون المنصب الولائي ولائیاً محضاً كما لا ضرورة أن تكون الامارة أمارة محضة بل تمتزجة بجنبة الولائیة وجنبة الاماریة كما في القضاء فالجنبتان معتبرتان الاماریة والولائیة...

ص: 420


1- سورة الإحزاب، الآية 32.

التوازن بین الجنبة الولائیة والطریقية باختلاف مراحل القانون والتوازن بین ما یتركب منه الخبر من الانشاء والتعهد والكاشفیة بلاحاظ الالتزام:

نعم یمكن أن تغلب جنبة الاماریة علی جنبة الولائیة كما هو في منصب الفتیا، وأیضا یمكن أن تغلب جنبة الولایة علی جنبة الاماریة مثل السلطة التنفیذیة ویمكن أن تتساوي الجنبتان مثل القضاء. فلا ضرورة لتمحض الامارات في الأماریة كما أنه لا ضرورة لتمحض الحكم في السلطنة الولائیة وشبیه بهذا المطلب ما عند البلاغیین وعلماء الأدب من أن الجملة خبریة أو انشائیة وقد قلنا بوجود جمل كثیرة خلیطة من الاخبار والانشاء مثل قوله (علیه السلام) : أقسم صادقاً - فإن الصبغة الظاهرة في القسم هیالانشاء وأما اللون والصبغة التبعیة فیه هي أخبار عن حاجته وكذا الدعاء وقد یكون بالعكس فمثلاً المعتر والفقیر لا یقول اعطنی بل یقول: فاقتي شدیدة فإنه أخبار إلا أنه بداعي الانشاء بل ذكرنا أن الجملة لها جنبتان مركوزتان ومرتكزتان فالفقیه لما یخبر بأن الفقاع حرام أو ماء الشعیر إذا بقی إلی أن ینشُّ حرم ... فإنها فتوی استنباطیة وفي حین اخباره بالحكم الواقعي هو إنشاء للحرمة التي یلتزم بانشائها ویفتي بها بمقتضی منصبه الولائي النیابي وهو شبیه بالقاضي فمالم یبرز ویخبر لا تثبت حجیته فالاخبار مركز فیها كما في الانشاء، ومثل الراوي المتحمل

ص: 421

لروایة یعتدُّ بها ویعتبرها ونحن نعلم به إلا أنه لم یحدث ولم یخبر بها فحینئذ لا یعتمد علیها ولا یصح نسبتها له نعم عندما یخبرنا بها بعدُ فإنه یخبر ویتعهد بكونها صادرة وصادقة فهو اخبار له لون وصبغة أخباریة وإنشائیة.

ومن هذا ما قد یوجد في الأخبار أنه (علیه السلام) یخبر شخصا بخبر وإذا أفشاه ذلك الشخص یقول (علیه السلام) : «كذب علیّ» لأن الامام (علیه السلام) لم یتعهد له بأن یخبر الآخرین فالخبر الذي أخبره به الامام (علیه السلام) وتعهد به هو مخصوص بهذا الفرد من الناس وعلیه لو نقله إلی غیره فللأمام(علیه السلام) أن یكذبه لأنه لم یتعهد بهذا الاخبار لغیره من الناس فإذا أخبرت زیداً من الناس وقلت له هذا خاص بك ولا اتعهده ولا أذن لك في اخبارك عني للغیر ثم أخبربه فلك أن تكذبه حقیقة ومن هذا القبیل أنه تعالی حیث لم یأذن لهم في الاخبار رماهم بالافتراء فقال عز من قال: (قُلْ اللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَی اللّه تَفْتَرُونَ) ،فإنه تعالی جعل القول غیر المأذون كذباًوافتراءاً وإن كان مطابقاً للواقع ..وهذا بحث شائك له شواهد كثیرة تعرضنا لها في علم الأصول في بحث الدلالة، وعلیه فلا مانع من اشتمال الاخبار علی الانشاء بل هو دائما هكذا ...

ص: 422

(مسألة 19) : لا یجوز تقلید غیر المجتهد وإن كان من أهل العلم، كما أنه یجب علی غیر المجتهد التقلید وإن كان من أهل العلم(1).

طبیعة منصب الفقهاء استغراقي لا مجموعي ولا بدلي:

فدعوی السید الیزدي (قدّس سرّه) بتقدیم الفاضل عن المفضول بموجب كون منصب الفتیا فیه جنبة ولائیة وهي تختلف عن بقیة الامارات لما فیها من الجنبة الولائیة فیتعین الأخذ بالفاضل دون المفضول حتی في الوفاقیات؟ فیه تأمل وذلك لأن طبیعة نصب الفقهاء- كما سیأتي في المسائل اللاحقة - هو ما یستفاد من الأدلة الواردة وما علیه الأمامیة جیلاً بعد جیل من تصدی الفقهاء المتعددین في زمن واحد كما هو في الكوفة في تلك الازمان یكون بنحو استغراقي لا بدلي ولا مجموعي فظهور قوله (علیه السلام) : «من كان من الفقهاء...» ، وقوله (علیه السلام) : «فاجعلوه حكما...» ، وغیرها، وعلیه فیبقی التخییر علی ما هو علیه في الوفاقیات. نعم في الموارد التي فیها تصادم وتدافع فیقدم الأعلم.

المسألة التاسعة عشر: عدم جواز تقلید غیر المجتهد

(1) المسألة تطبیق لما تقدم ولا یفرق في المقام بین الوفاقیات وغیرها وذلك لأن قول غیر المجتهد كلا قول، إلا أنه هل یجوز للمجتهد الذي لم یمارس الاستنباط التقلید أم لا ؟ وهل یجب علیه الاحتیاط وهل یحضر من التقلید؛ لعدم شمول السیرة والأدلة له؟ وإن كان بعض

ص: 423

(مسألة 20) : یعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني، كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص(1) وكذا یعرف بشهادة عدلین من أهل الخبرة(2) إذا لم تكن معارضة.........................

الأعلام استظهر جواز التقلید له من بعض الأخبار، ومنها ما استند إلیه الشیخ التبریزي (قدّس سرّه) - ولنا فیهما تأمل - كخبر ارجاع یونس بن یعقوب إلی الحارث بن المغیرة النظري مع كون یونس فقیهاً وفیه تأمل لأن هذا الارجاع في زمن الصادق (علیه السلام) ویونس كان شاباً، وفتی فلعله قبل فقاهته وإن قال الشیخ التبریزی (قدّس سرّه) أنه : لا منافاة بین كونه فتی وكونه فقیهاً، وعدم المنافاة مسلمة إلا أن احتمال صغره وقبل وصوله إلی الفقاهة لا یولد الاطمئنان بدلالة الخبر علی ارجاع المجتهد إلی فقیه آخر... ونص آخر فیه ارجاع ابن أبي یعفور الفقیه للحارث... والكلام هو الكلام .

المسألة العشرون: یعرف الاجتهاد بالعلم و

اشارة

(1) قد تقدم وقلنا: إنه یمكن للمراهق أن یمیز ویفهم الاستنباط قوة وضعفاً وإن لم یكن له القدرة علی الاستنباط .

الأدلة علی حجیة البینة :

اشارة

(2) وقد استدل علی حجیة البینة بعدة أدلة:

الدلیل الاول: التسالم وبیان حقیقته وفرقه عن الاجماع:

فالتسالم - وهو السیرة المتعاطیة یدا بید عند المؤمنین والمسلمین

ص: 424

بل والعقلاء - لیس هو إجماع حتی یقال: بأنه اجماع مدركي أو محتمل المدركیة فإن السیرة لا یخدش فیها بالمدركیة فالاجماع الذي یرجع إلی السیرة العملية لایخدش فیها بالعلم بالمدرك فضلا عن احتماله وذلك لأن معنی السیرة هو قیامها علی عمل متصل بعصر المعصوم(علیه السلام) وهو كاشف عن رأیه أو عن تقریره ولذلك تری الفقهاء حین یستدلون بالآیات والروایات یضمون إلی استدلالهم الاستدلال بالسیرة وذلك لأن التقریر من المعصوم (علیه السلام) لا ینافي قوله المتمثل في الآیات والروایات .

الدلیل الثاني: ما یستظهر من أدلة القضاء:

فما یظهر من أدلة القضاء - وهي روایات مستفیضة ومتعددة بین الفریقین - كقوله (صلی اللّه علیه و آله) :

«إنما أقضی بینكم بالبینات والأیمان» (1)، أن البیّنة هي الشیء البین في نفسه هو الذي یستعمله ویستخدمه النبي (صلی اللّه علیه و آله) في باب القضاء للحكم به، فالبینات في نفسها بینات غایة الامر أنها تستخدم وتستثمر وتستعمل في باب القضاء لأجل الحكم كمیزان شرعي، لا أن بینیتها وكاشفیتها تنشأ بالقضاء فهي مثل یمین الحالف فإنه في نفسه یمین ودلیل مشروعیته من بحث سابق، غایة الامر أن دلیل مشروعیته في باب الایمان والقَسم والیَمین له آثار عامة في المیزان

ص: 425


1- وسائل الشیعة: ج أبواب كیفیة الحكم، ب 2 ص ح 1 .

الفتوائي حیث ورد أن صاحب الحق إذا استحلف المدیون... ، فهنا في باب القضاء رتب علیه أثر قضائي خاص لا أن حلفیة الحلف هي بالقضاء وذلك لأن موضوع الحكم متقرر دائماً في رتبة سابقة علی الحكم والحكم لا یتكفل بایجاد موضوعه ، فقوله (صلی اللّه علیه و آله) «أقضی» هو حكم موضوعه البینة المفروغ عن كونها بینة وطریق معتبر قبل تعلق الحكم بها.

الدلیل الثالث: استقراء موارد النفی والاثبات في الاخبار:

إن المستقرئ لروایات حجیة البینة المتعرضة لأثبات شیء أو نفیه یراها آخذة حجیة البینة مفروغ عنها فالمتصفح في الأبواب الروائیة الفقهية یجد كمّا هائلا من الاخبار التي تدل علی حجیة البینة بدلالة الاقتضاء وما یظهر من الآیات والروایات في الأبواب المختلفة أن شهادة العدلین بینة ومعتبرة .

وهذه الوجوه الثلاثة متقاربة جدّا .

الدلیل الرابع: موثقة مسعدة بن صدقة:

موثقة مسعدة بن صدقة - وإن كان بتریاً إلا أنه ثقة، وهي نفس قاعدة الحِل - عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال : سمعته یقول :

«كل شیء هو لك حلال حتی تعلم أنه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل

ص: 426

الثوب یكون علیك قد اشتریته وهو سرقة ، أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبیع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضیعتك ، والأشیاء كلها علی هذا حتی یستبین لك غیر ذلك ، أو تقوم به البینة»(1) .

وتقریب دلالتها فإن قوله (علیه السلام) :

«حتی تقوم به البینة» لو كان المراد من البینة مطلق البیان فكیف یعطف

«أو یستبین علی البینة» فالتقابل ظاهر في أن المراد من البینة هنا هي شهادة العدلین المعتبر في كل الأبواب فهي تثبت وتحرز غیر ما هو ظاهر بقاعدة الید أو بسوق المسلمین أو بغیرها من بقیة الامارات الموضوعية، وهو یدل علی أن البینة أقوی من امارة الید وبقیة الامارات الموضوعية، وأیضا یستفاد من روایات باب القضاء أن البینة حجة وحجیتها متقدمة علی الامارات الموضوعية والامارات ذات الجنبة العملية ، فالبینة أقوی الامارت عدا الأقرار فإنه أقوی من البینة فإنه سید الأدلة والامارت الموضوعية وأما مع عدم الاقرار فالبینة أقوی. نعم قد أشكل شیخنا المیزرا هاشم الأملي (قدّس سرّه) علی هذا الوجه الرابع: بأن البینة التي هي قاعدة وممتدة في كل الابواب لا یناسب الاستدلال لها بخبر واحد .

ص: 427


1- وسائل الشیعة: ج17 أبواب ما یكتسب به، ب 4 ص89 ح 4 .

بشهادة آخرین من أهل الخبرة ینفیان عنه الاجتهاد(1).........................

تناسب حجیة كل شي وحجمه:

ومراده (قدّس سرّه) الاشارة إلی نكتة - وإن لم یبلورها وقد نقحناها في علم الاصول - وهي أن حجیة كل شیء تتناسب مع حجمه فمثلا في أصول العقائد یذكرون أنه لابد أن یستند إلی ما یفید القطع لا الظن المعتبر وذلك لأن أصول العقائد أمر خطیر فكیف یثبت بالظن المعتبر... وهكذا.

فهناك تناسب طردي بین الشیء الذي یراد إثباته وبین الحجة الدالة فإذا كان حجمه أكبر من الحجة المعتبرة فإنه من زیادة الفرع وهي النتیجة علی أصل مقدمات الاستدلال إذ الفرع لابدّ أن یكون مقطوعاً فكیف یكون ما یثبته ظنیاً فلا یثبت في باب الدماء والقصاص قاعدة مثلا بمجرد روایة وذلك لخطورته، نعم یمكن أن یثبت بالروایة الواحدة فرعا لا قاعدة فلابد من التناسب الطردي بین متعلق الحجیة والحجیة.

فالاشكال من هذه الجهة صحیح لو أرادنا الانفراد استدلالاً بهذه الموثقة كما هو الظاهر من مستمسك العروة وأما لو أردنا تأیید الأدلة المتقدمة بها فلا اشكال.

(1) للتعارض ولیس الأصل في تعارض الامارات هو التساقط كما تقدم وعلیه یعمل بكل عامل یرجح به الجانب الكیفي أو الكمي كالأشد خبرة.

ص: 428

وكذا یعرف بالشیاع المفید للعلم . وكذا الأعلمیة تعرف بالعلم أو البینة غیر المعارضة ، أو الشیاع المفید للعلم(1).

حقیقة الشیاع:

(1) واضح أن حقیقة الشیاع هي كثرة اخبار بواسطة وهو نوع من التواتر أو الاستفاضة وهو مما یولد العلم العرفي المعبر عنه بالاطمئنان - وقد ذكرناه في بحث الحجج من الاصول - وذلك لان الحجج تارة الاعتبار لها والاحتجاج بها بنحو افرادي وتجزیئي بلحاظ كل فرد فرد وتارة بنحو مجموعي بلحاظ مجموع الامارات والقرائن فكل أمارة امارة وإن كانت لیست حجة في نفسها ولم یقم دلیل علی اعتبارها بنحو فردي واستقلالي إلا أن مجموعها یولد الاطمئنان المعول علیه عند العقلاء، وهذا هو مبنی القدماء من عدم التعویل دائما علی الحجج الافرادیة بما هي مستقلة بل یعولون علی الحجج المجموعية فلا یرونها حججا مستقلة بل یرونها حججا أنضمامیة وغیر مستقلة، فالكشف الحاصل من مجموع امارات وقرائن أكثر درجة من الكشف الحاصل حتی من خبر الواحد الصحیح الأعلائي إذ الخبر الصحیح لا تصل درجته إلی الخبر المستفیض.

فالفرق بین الحجیة الافرادیة والحجیة المجموعية التراكمیة أنه في الحجیة الأفرادیة یشترط ثبوت الحجیة والاعتبار لكل فرد فرد من الاماراتوأما الحجة المجموعية فهي أعم إذ قد یتكوّن من تراكم أفراد كل

ص: 429

فرد منها حجة في نفسه وقد یتكوّن من تراكم أفراد غیر حجة في نفسها ولكن المجموع منها بما هو مجموع حجة .

فمثلا ذهب الشیخ الانصاري (قدّس سرّه) في حجیة الاجماع المنقول بخبر الواحد أنه لیس حجة بنفسه وإنما یعبر عنه بجزء الحجة وقصده هو هذا النهج المجموعي التراكمي وهو مختار صاحب المقابیس (قدّس سرّه) .

هل یثبت الاجتهاد بخبر الواحد أم لا؟:

الصحیح لدینا أن خبر الواحد حجة في اثبات الموضوعات في الجملة لا بالجملة وهو مسلك العلامة الحلي والقدماء بخلاف متأخري العصر فإن خبر الواحد عندهم حجة إلا ما خرج بالدلیل والصحیح هو التفصیل بین اثبات الموضوع المجرد الذي لا یترتب علیه استحقاق طرف علی طرف فخبر الواحد حجة وبین الموضوع الذي یترتب علیه اثبات استحقاق لطرف علی طرف وإن لم یكن بینهم نزاع، نعم في بعض موارد القضاء جعل الشارع حجیة خبر الواحد مع الیمین.

وهذه النكتة جاریة في سیرة الأعراف البشریة التي لا تنتمي إلی دیانات السماء فهو عرف عقلائي متفشي فإنهم في مسائل الحقوق لا یعولون علی العدل الواحد. ففي موارد استحقاق طرف علی طرفولو مع الوفاق وعدم التنازع لا یؤخد بخبر الواحد عندهم بل بالبینة.

ص: 430

(مسألة 21) : إذا كان مجتهدان لا یمكن تحصیل العلم بأعلمیة أحدهما ولا البینة ، فإن حصل الظن بأعلمیة أحدهما تعین تقلیده(1)،

وعلی ضوء هذا فإن الاجتهاد والمرجعیة من المناصب الشرعية والزعامات القیادیة الدینية الالهیة فهو من الامور الخطیرة جداً والصحیح فیها أن لا یثبت الاجتهاد أو الفقاهة إلا بالعلم أو بالبینة ولا یكفي فیه خبر الواحد ولا الوثوق الذي هو بدرجة الوثوق الحاصل من خبر الواحد بل لابد من الوثوق الموجب للاطمئنان.

المسألة الحادیة والعشرون: الاكتفاء بالظن بالأعلمیة مع تعذر العلم والعلمي

أصالة التعیین عند الدوران مع التخییر من باب الترجیح لا الاشتغال:

(1) هذا خاص بموارد الاختلاف وحاصله أن الظن بأعلمیة أحدهما بل احتمالها مع عدمه في الآخر مرجح فإذا ظننا أو احتملنا أعلمیة أحدهما المعین فإننفس الظن والاحتمال في حالة عدم العلم مرجح.

وقد یشكل بشمول الاطلاقات لكلا الفتویین ونفي التعیین بالبراءة فالنتیجة هي التخییر؟

ص: 431

بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمیة یقدم ، كما إذا علم أنهما إما متساویان أو هذا المعین أعلم ، ولا یحتمل أعلمیة الآخر ، فالأحوط تقدیم من یحتمل أعلمیته.

والجواب: أن الأخذ بمظنون الأعلمیة أو محتملها في مقام الشك لیس من التمسك بأصالة التعیین وذلك لما في التمسك بها من شبهة الدور بل البناء علی التعیین من باب الترجیح بین المتعارضین كما هو في المقام وذلك لأن المخالفة بین نفس الفتویین علی حسب الفرض باضافة ما نذهب إلیه في التعارض من عدم التساقط فالمرجع هو الترجیح،والظن والاحتمال - في مقام الشك وعدم العلم - مرجح عند العقلاء فأصل الترجیح قاعدة عقلائیة وإن تصرف الشارع في تهذیب بعض مرجحاتها.

ص: 432

فهرس مطالب الكتاب

المسألة الاولی: وفیها عدة جهات: 444

الجهة الأولی: في المكلف: 444

الجهة الثانية: في عموم التقلید للعبادات والمعاملات والعادیات: 448

التقلید في تفاصیل الاعتقادات: 449

الجهة الثالثة: في حقیقة الوجوب : 450

ما یحتمل في حقیقة الوجوب الجامع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط: 454

الاحتمال الأول: أن یكون هذا الوجوب شرعيا نفسيا طریقیا 18

الوجه في عدم رفع الید عن الوجوب الشرعي النفسي الطریقي : 455

الاحتمال الثاني: كونه نفسيا عقلیا أو نفسيا شرعيا ذاتیا لا طریقیا 20

الوجوه في تصویر الوجوب العقلي: 457

الوجه الأول: الوجوب المقدمي: 457

الوجه الثاني: تنجز العلم الاجمالي بالتكالیف: 458

الوجه الثالث: منجزیة صرف الاحتمال: 458

الوجه: الرابع من باب شكر المنعم: 459

الاستدلال بشكر المنعم في سلسلة العلل والمعلولات: 459

الاحكام في سلسلة العلل علی قسمین وفي المعلولات علی نحو واحد: 460

ص: 433

عدم اختصاص دلیل دفع الضرر بسلسلة المعلولات: 466

الجهة الرابعة: في ثمرة نوع الوجوب الجامع بین الاصناف الثلاثة: 468

الفرق بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی ثبوتا: 470

الفرق بین الفتوی بالاحتیاط والاحتیاط في الفتوی اثباتا: 471

الوجوب التخییري حدوثي أو استمراري؟: 473

الجهة الخامسة كون التخییر بین هذه الثلاثة عرضي أو طولي : 476

الجهة السادسة في مشروعیة الاحتیاط وأقسامه : 480

أقسام الاحتیاط: 482

القسم الأول: الاحتیاط بحسب الواقع: 482

القسم الثاني: الاحتیاط في التقلید: 485

القسم الثالث: الاحتیاط في الاجتهاد: 486

القسم الرابع: الاحتیاط بین الاجتهاد والتقلید: 487

القسم الخامس: الاحتیاط بالجمع بین الاجتهاد والاحتیاط أو التقلید والاحتیاط : 488

القسم السادس: الاحتیاط بالجمع بین الاجتهاد والتقلید والاحتیاط: 490

المسألة الثانية: جواز العمل بالاحتیاط 491

القسم الأول من أقسام الاحتیاط والوجوه المانعة منه: 494

الوجه الأول: المانع الموضوعي الجاري في جمیع الاعمال: 494

الوجه الثاني: لزوم الانبعاث عن احتمال الأمر لا عن نفس الأمر كما فی

ص: 434

موارد التكرار. 499

الوجه الثالث: لزوم الاخلال بقصد الوجه والتمییز: 499

الوجه الرابع: استلزام اللعب والعبث بأمر المولی: 499

المقدمة الأولی: في بیان عنوان الاداء والامتثال... 58

بیان المختار یحتاج إلی تقدیم مقدمتین: 501

الفرق بین الأداء والامتثال وآثارهما : 501

المقدمة الثانية لبیان المختار: تقوم الامتثال بالاقبال والحضور: 506

بیان آخر لبیان اشتراط العلم التفصیلي في الامتثال: 510

ما أورده متأخرو الاعصار بأن الامتثال الاجمال أشد انصیاعا من الامتثال التفصیلي: 511

خلاصة القول في عدم عرضیة الاحتیاط لأخویه في العبادات: فلاعتبار العلم التفصیلي في الامثتال، ولعدم الصغری في المعاملات... 516

الوجه الرابع: كون الأدلة ظاهرة في تعین الاجتهاد والتقلید: 519

عدم اختصاص الحكمة من نصب الامارة بالكاشفیة عن الواقع: 521

الوجه الخامس لزوم محاذیر باب الانسداد: 525

اعتبار القسم الثاني من أقسام الاحتیاط: 528

اعبتار القسم الثالث من أقسام الاحتیاط: 530

اعتبار القسم الرابع من أقسام الاحتیاط: 530

اعتبار القسم الخامس من اقسام الاحتیاط: 531

ص: 435

اعتبار القسم السادس من اقسام الاحتیاط: 531

تنبیه: في صیاغة الجمع بین التعارضین ... 81

لمسألة الثالثة: الاحتیاط بالفعل والاحتیاط بالترك 532

بقیة الوجوه المانعة من احتیاط القسم الأول التي استند إلیها المیرزا النائیني (قدّس سرّه) : 533

المانع الأول: هو ما تقدم من كون الانبعاث عن احتمال أمر لا عن نفس الأمر: 533

المانع الثاني: اقتضاء التعین عند الدوارن بین التعیین والتخییر: 535

المانع الثالث: اللعب والعبث بأمر المولی: 541

المانع الرابع ظواهر الأدلة وهو عام یشمل العبادات والمعاملات: 546

المانع الخامس: أدلة وجوب التعلم: 549

وخلاصة الوجوه المانعة من عرضیة الاحتیاط للاجتهاد والتقلید خمسة: 552

المسألة الرابعة: العمل بالاحتیاط المستلزم للتكرار 553

المسألة الخامسة: التقلید في موضوع الاحتیاط وحكمه. 554

المسألة السادسة: التقلید في الضروريات . 554

المسألة السابعة: بطلان عمل العامي بلا تقلید ولا احتیاط. 555

المسألة الثامنة: تعریف التقلید. 556

وجود أدلة مشتركة بین هذه التعاریف وأخری مختصة ببعضها والفرق بین العمل الأصولي والعمل الفقهي: 559

ص: 436

بعض أدلة تعاریف التقلید: 561

الدلیل الأول وما فیه: 561

الدلیل الثاني وما فیه: 562

التقلید من سنخ المسائل الأصولية ویدل علیه عدة شواهد: 568

الشاهد الأول: هو تقدم التقلید رتبة علی العمل: 568

الشاهد الثاني: أن التقلید یتعاطی مع أماریة الفتوی: 568

الشاهد الثالث: ما ورد في الروایات المستفیضة علی تسمیة التقلید بالأخذ، وهي علی طوائف: 568

الطائفة الأولی: الاخبار المعبرة بالأخذ وهي مستفیضة: 568

الطائفة الثانية الاخبار المعبرة بالتقلید: 571

نكتة مهمة رجالیة ودرائیة: 571

الطائفة الثالثة الاخبار المعبرة بالرجوع: 578

الطائفة الرابعة : الاخبار المعبرة بالقبول والتصدیق والتحذیر من المخالفة: 578

الطائفة الخامسة: الاخبار المعبرة بالافتاء للناس: 579

الطائفة السادسة الاخبار المعبرة بالسوال «عمن أسأل» : 580

المختار في تعریف التقلید: 582

مناقشة القول بعدم الثمرة في تعریف التقلید: 584

أدلة التقلید وحجیة الفتوی: 588

ص: 437

الأدلة علی حجیة التقلید: 589

الآیات الكریمة: 589

الآیة الأولی آیة النفر: 589

الآیة الثانية آیة السؤال: 594

الاشكال علی الآیة باختصاصها بأهل العصمة وبالأصول: 596

الاعتبار الانضمامي: 597

الآیة الثالثة .... والأحبار بما استحفظوا : 603

الأخبار الدالة علی حجیة التقلید: 605

الطائفة الأولی: بلسان شرائط وموازین الاجتهاد بالمطابقة وبالالتزام: 605

والطائفة الثانية بلسانه حجیة الفتوی مطابقة: 609

النوع الثالث ما دل علی حجیة الفتوی والخبر: 618

الاستدلال بسیرة العقلاء والمتشرعة: 622

المسألة التاسعة: تقلید المیت اتبداءا وبقاءا. 624

الأدلة علی عدم جواز تقلید المیت: 624

الدلیل الأول دعوی الاجماع : 624

تقریب تحقق الإجماع: 628

أهمیة وساطة أهل البیت (علیهم السلام) وضرورة فتح باب الاجتهاد في حفظ الدین: 628

ما ذكره السید الخوئي(قدّس سرّه) في المقام من لزوم إمامٍ ثالث عشر : 638

ص: 438

التقریبات التي قرب بها قول السید الخوئي(قدّس سرّه): 638

التقریب الأول: 638

التقریب الثاني: 641

التقریب الثالث: 641

تقییم الاجماع: 643

الدلیل الثاني ظهور الأدلة في اعتبار الحیاة: 645

الاشكالات علی الدلیل الثاني: 646

الاشكال الأول: 646

الاشكال الثاني: 647

الاشكال الثالث: 647

الاشكال الرابع: 650

الجواب النقضي: 652

الجواب الحلي: 652

الاشكال الخامس استصحاب عدم الحجیة بتقریبیه: 653

الأدلة التي استدل بها علی جواز تقلید المیت ابتداءاً: 657

الدلیل الأول سیرة العقلاء: 657

الاشكال علیه: 658

الدلیل الثاني: اطلاقات الأدلة والعناوین: 659

الدلیل الثالث: استصحاب الحجیة الثابتة للفتوی بعد الموت . 661

الاعتراض الاول وجوابه: 661

ص: 439

الاعتراض الثاني وجوابه: 662

الاعتراض الثالث وجوابه: 662

بیان المختار في تقلید المیت ابتداءاً: 665

المقدمة الأولی: في اشتمال حقیقة الفتوی علی الأماریة والولایة: 665

المقدمة الثانية: في عدم الدلیل علی بقاء الولایة بعد الموت. 665

المقدمة الأولی وأدلتها: 665

الدلیل الأول: 665

بیان دور النبي في التشریع: 665

الدلیل الثاني: اعتبار الولایة السلطنة في الفتوی وشواهده: 670

شواهد الآیات: 670

شواهد الاخبار: 672

ومن الشواهد علی اعتبار المنصبیة والولایة: العلم . 678

ومن الشواهد: حقیقة ما یقوم به الفقیه المفتي . 678

ومن الشواهد عدم وجود الإخبار المحض والانشاء المحض: 679

المقدمة الثالثة لبیان المختار في الاحتیاج إلی ولایة الحي : 683

تقلید المیت بقاء: 687

أدلة القائلین بجواز البقاء علی تقلید المیت: 688

الأول: اطلاق الأدلة اللفظیة: 688

الدلیل الثاني اطلاق سیرة العقلاء وما فیه: 693

ص: 440

الدلیل الثالث سیرة المتشرعة وما فیه: 693

الدلیل الرابع الاستصحاب وما فیه: 695

المختار: 700

تقلید المیت بواسطة الحي: 701

خلاصة البحث في مسألة تقلید المیت ابتداء و بقاءا ثلاثة جهات: 706

اشكالان یردان علی الارجاع للمیت وجوابهما: 707

الاشكال الثاني: ارجاع الحي إلی المیت المختلف معه في مسألة البقاء. 707

التأمل في الجوابین: 708

المسألة العاشرة: الرجوع للمیت بعد العدول عنه. 711

العدول یتحقق ببعض صور الاحتیاط: 712

المسألة الحادیة عشر: عدم جواز العدول إلا إلی الأعلم. 714

ثلاث صور العدول: 715

الصورة الأولی: العدول إلی غیر الأعلم 715

الصورة الثانية: العدول إلی الأعلم. 715

الصورة الثالثة: العدول إلی المساوي: 715

المباني عند اختلاف المتساویین: 225

المبنی الأول: القاعدة التعارض والتساقط. 716

المبنی الثاني: التعارض فقط في مرحلة الفعلیة وعدم التساقط: 716

الحجیة الاقتضائیة عند القائلین بالتساقط وعند القائلین بعدمه: 717

الحجیة الاقتضائیة عند الآخوند (قدّس سرّه) 717

ص: 441

المبنی الثالث: بیان الأصفهاني لرأي المتقدمین بالحجیة الازدواجیة وأن التعرض في التنجیز لا في التعذیر: 719

بیان حقیقة الحجیة التخیریة وأثره في النتیجة 723

ما أورده السید الخوئي (قدّس سرّه) علی الأصفهاني (قدّس سرّه) : 726

خلاصة المباني في الحجیة التخیریة : 729

بیان امكان الجامع بین الامارات المنتافیة: 732

عدم انعدام الاراءة التكوینية عند تنافي الامارتین وتقدم الاعلاج الموضوعي علی المحمولي: 732

الأثر المشترك بین الامارتین المتنافیتین وعدم سقوط ما فیه اقتضاء الكشف: 736

بیان ارتكازیة عدم تساقط المتعارضین عند الأعلام: 739

خلاصة الكلام في تنافي الامارتین 744

الاشكالات الواردة علی مسلك متأخري الاعصار في تساقط الامارتین المتنافیتین: 745

الاشكال الأول: 748

الاشكال الثاني: 748

معنی الحجیة الامضائیة: 748

الاشكال الثالث: 751

دخالة التخییر ودخالة أخذ المكلف في مراتب الحكم المتأخرة: 751

ص: 442

نكتة صاعنیة في عموم البحث مع قطع النظر عن خصوص هذه المسألة 757

بیان المختار: 762

أدلة جواز العدول وعدمه: 767

الدلیل الأول: الاستصحاب: 767

الدلیل الثاني: لزوم المخالفة للقطعیة: 768

جواب السید الخوئي (قدّس سرّه) : 769

الجواب الثاني علی لزوم المخالفة القطعیة: 771

الدلیل الثالث: الاجماع: 772

الدلیل الرابع: الدوران بین التعیین والتخییر وما فیه: 774

اشكال انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصلي المتولد منه وجوابه: 776

المسألة الثانية عشر: وجوب تقلید الأعلم. 780

صور التقلید عند تعدد المجتهدین : 780

منهجیة الاجتهاد والاسنباط: 781

خطورة النظرة التجزئیة في الاستدلال: 782

المنهج الرجالي: 782

النظرة المجموعية للأدلة في العلوم الدینية: 786

الوجه في كثرة أقسام الخبر عند القدماء وأهمیتها: 786

الصورة الثانية التقلید مع علم باختلاف الفقهاء: 790

أدلة تقلید غیر الأعلم في صورة الاختلاف: 790

الأول: الاجماع 790

ص: 443

الدلیل الثاني: وجود المانع من تقلید الاعلم وما فیه 796

الدلیل الثالث: اطلاق الادلة 799

الدلیل الرابع: ارجاع الائمة (علیهم السلام) إلی بعض اصحابهم مع القطع باختلافهم وما فیه 800

الفرق بین حقیقة الدور التشریعي للمعصوم (علیه السلام) والدور التشریعي للفقیه 801

الدلیل الخامس: سیرة العقلاء علی عدم اعتبار الأعلمیة 806

الدلیل السادس: إطلاق أدلة حجیة فتوی المفتي وما قیل فیه وجوابه: 807

اختلاف حقیقة الترجیح بین المتأخرین والمتقدمین ورجوعه إلی مراتب الدلالة 808

الأعلمیة من شرائط التنجیز لحجیة الفتوی لا من شرائط الفعلیة 810

الدلیل السابع مقتضی الأصل العملي وما قیل فیه وجوابه: 811

أدلة اشتراط الأعملیة عند العلم بالاختلاف: 812

الدلیل الأول: الاجماع. 812

الدلیل الثاني: سیرة العقلاء وسیرة المتشرعة وما فیها. 812

الدلیل الثالث الاخبار 813

الخبر الأول: مصححة عمر بن حنظلة. 813

اشكالان علی اختصاصالمصححة بباب القضاء 814

تقوّم الحكم القضائي بالفتوی 814

ص: 444

الجواب عن الاشكال الاول: 814

الجواب عن الأشكال الثاني: 816

الخبر الثاني: عهد أمیر المؤمین(علیه السلام) لمالك الأشتر. 817

الخبر الثالث: موثقة داود بین الحصین. 818

الخبر الرابع: حسنة ذبیان بن حكیم. 818

برهان الضرورة العلمية لدور العصمة في التشریع 824

احتملان في معنی الاخبار: 829

الدلیل الرابع: أقربیة فتوی الأعلم إلی الواقع من غیره وإشكال السید الخوئي، والتأمل فیه. 833

الصورة الثالثة: إذا لم یعلم بالاختلاف بین الفقهاء. 840

تعین تقلید الأعلم أو التخییر بینه وبین غیره. 840

الدلیل الأول: عهد أمیر المؤمنین (علیه السلام) لمالك الاشتر وما فیه: 840

الدلیل الثاني: السیرة القائمة علی الرجوع للأعلم في مورد احتمال الخلاف. 842

الأدلة علی عدم لزوم تقلید الأعلم في صورة احتمال الخلاف 844

الدلیل الأول: الاطلاقات وما قیل فیها وجوابه. 845

الدلیل الثاني: عدم وجود ما یوجب الفحص وما فیه. 847

الدلیل الثالث: الاخبار الخاصة وما فیها: 850

الاختلاف في تفسیر شرط الأعلمیة: 851

ثلاث صور وجوب الفحص: 853

ص: 445

كیفیة الاحتیاط في عملیة الاستنباط: 854

المسألة الثالثة عشر: التقلید عند تساوي المجتهدین والترجیح بالأوعیة. 858

صور التقلید المجموعي: 858

الصورة الأولی: مع العلم بالوفاق بین المستاویین: 858

الصورة الثانية العلم بالتساوي في الاعلمیة مع احتمال الخلاف: 859

الصورة الثالثة: التساوط في الاعلمیة مع العلم بالاختلاف في الفتاوی 863

أدلة القائلین بالتخییر بین المتساویین 864

الحجیة الاقتضائیة بمعنیین عند المتقدمین والمتأخرین 864

الأصل العقلائي عدم تساقط الامارات المتعارضة 866

الترجیح بالأورعیة: 868

الاخبار الواردة في هذا الباب: 869

التثبت في الموضوعات وأثره في الفتیا: 871

ما یستدل به علی اعتبار الاورعیة 872

الخبر الأول: مصححة عمر بن حنظلة: 872

عدة اشكالات علی الاستدلال بمصححة بن حنظلة: 873

الاشكال الأول: ضعف السند. 873

الاشكال الثاني: اختصاصه باب القضاء. 874

الاشكال الثالث: عدم ربط الاورعیة بالأماریة وما فیه: 875

الخبر الثاني: موثق داوود بن الحصین: 881

ص: 446

الخبر الثالث: حسنة ذبیان بن حكیم: 883

الدلیل الثاني: سیرة العقلاء علی الترجیح بالأورعیة 883

المسألة الرابعة عشر: إذا لم تكن للأعلم فتوی. 888

النظام النیابي للفقهاء مجموعي واستغراقي وبدلي في حیثیاته المختلفة: 888

الوجه في عدم الرجوع إلی الغیر في بعض المسائل الاحتیاطیة: 888

المسألة الخامسة عشر: عدم جواز البقاء علی تقلید المیت في مسألة البقاء. 890

اختلاف المیت والحی في مسألة البقاء : 891

فالاختلاف یرجع إلی أمور ثلاثة: 893

الأمر الأول: الاختلاف في حكم أصل البقاء علی تقلید المیت وله صور 893

الصورة الأولی: لو منع الحي وجوز المیت أو أوجب فلا أثر لتجویز المیت. 893

الصورة الثانية لو انعكس الأمر فجوز الحي ومنع المیت. 893

الامر الثاني: الاختلاف في نوع الحكم البقائي: 894

التعارض الطولي بین الأمارات كالتعارض العرضي: 895

الأمر الثالث: الاختلاف في سعة وضیق دائرة الحكم: 898

ما یرد علی الأعلام في جمیع ما تقدم من الصور: 899

المسألة السادسة عشر: بطلان عمل العامي بدون تقلید. 902

الأمارة مكشوفها مطلق وكاشف موقت وآثاره: 906

ص: 447

المسألة السابعة عشر: تعریف الأعلم. 909

الأعلمیة ومراحل الاستنباط: 909

الحیثیة الأولی: أنه الأعرف بالقواعد والكبرویات. 909

الحیثیة الثانية: أنه الأعرف بالمدارك أي الأدلة التفصیلية للمسألة . 909

الحیثیة الثالثة: أن یكون الأكثر إحاطة بالأبواب لمعرفة النظائر: 910

الحیثیة الرابعة: كونه أكثر أطلاعا علی الاخبار...لأمور: 910

الأمر الأول: الاجتهاد في التبویب. 911

الأمر الثاني: التقطیع. 911

الأمر الثالث: الاختصار في نقل الاخبار: 913

الحیثیة الخامسة أن یكون الأجود فهما للأخبار: 916

الحیثیة السادسة: مطالسة الاخبار بالتمعن وسبر جمیع روایات باب المسألة: 916

الحیثیة السابعة: أن یكون ملما بفتاوی الأعلام حدیثا وقدیما: 916

الحیثیة الثامنة: أن یكون متضلعا في فهم الفرض الفقهي تصورا: 919

الحیثیة التاسعة: أن یكون الأجود في صیاغة وقولبة وحبك النتائج الفقهية: 921

الحیثیة العاشرة: قوة الاستنباط وهي تارة تكون من جهة موضوعية وأخری ذاتیة: 922

الحیثیتان الحادیة عشر والثانية عشر: وهما قوة الصناعة الأصولية وقوة

ص: 448

الصناعة الفقهية والفرق بینهما: 924

الحیثیة الثالثة عشر: أن یكون ذا ذوق عرفي: 925

الحیثیة الرابعة عشر: الاحاطة بالعلوم والبحوث التخصصیة والمیدانیة المرتبطة بالموضوعات: 928

الحیثیة الخامسة عشر أن یكون ذا عارضة فقهیة: 929

الحیثیة السادسة عشر الاحاطة الفقهية: 930

مناهج الاستدلال: 931

1- منهج الملازمات: 933

2- منهج التشقیق في الاستنباط: 937

3- منهج الحلیل: 945

مطلب في الشعائر الدینية: 947

بیان مختصر في رد شبه لاتدع أحدا دون اللّه: 952

4- منهج عملیة شرح الفرض الفقهي: 953

مطلب في الحرمة الأبدیة للزنا بذات البعل: 954

المختار في تحقق الأعلمیة: 957

أهل الخبرة المعتمد علیهم في معرفة الفقیه الجامع: 959

المسألة الثامنة عشر: تقلید المفضول في المسائل الوفاقیة. 960

التوازن بین الجنبة الولائیة والطریقية باختلاف مراحل القانون والتوازن بین ما یتركب منه الخبر من الانشاء والتعهد والكاشفیة

ص: 449

بلاحاظ الالتزام 967

طبیعة منصب الفقهاء استغراقي لا مجموعي ولا بدلي: 967

المسألة التاسعة عشر: عدم جواز تقلید غیر المجتهد. 967

المسألة العشرون: یعرف الاجتهاد بالعلم و ... 968

الأدلة علی حجیة البینة : 968

الدلیل الاول: التسالم وبیان حقیقته وفرقه عن الاجماع: 968

الدلیل الثاني: ما یستظهر من أدلة القضاء: 969

الدلیل الثالث: استقراء موارد النفي والاثبات في الاخبار: 970

الدلیل الرابع: موثقة مسعدة بن صدقة: 970

تناسب حجیة كل شي وحجمه: 972

حقیقة الشیاع: 973

هل ثبت الاجتهاد بخبر الواحد أم لا: 974

المسألة الحادیة والعشرون: الاكتفاء بالظن بالأعلمیة مع تعذر العلم والعلمي 975

أصالة التعیین عند الدوران مع التخییر من باب الترجیح لا الاشتغال: 975

*****

ص: 450

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.